Professional Documents
Culture Documents
هذا الكتاب
هذا الكتاب من الكتب التي ح اولت فيه ا أن أص ور الواق ع
الس لفي عن طري ق القص ص الرمزي ة والواقعي ة ،ألن ه من
الصعب التعبير عن الكثير من القضايا الواردة فيه تعبيرا علمي ا
دقيقا من غير استعمال التصوير األدبي والفني.
ويه دف إلى بي ان الج ذور ال تي ينطل ق منه ا التش دد
والتطرف والخرافة في العقل السلفي ،وهو [التعطي ل] ..فالعق ل
الس لفي نتيج ة انبه اره الش ديد بس لفه ،وبآث ارهم وت راثهم،
وخضوعه المطلق لهم ،أعطى عقله إج ازة أو تقاع دا ،بحيث ال
يحتاج إلى استعماله ،وكيف يحتاج إلى ذلك ،وقد كفاه س لفه ك ل
شيء؟
وكيف يحتاج إلى ذلك ،وه و يعلم أن ه إن غ امر واس تعمله
فسيؤدي ب ه إلى التجهم أو التعطي ل أو التص وف أو ال رفض أو
يتبنى ما تبناه كل من استعملوا عقولهم من المواقف والرؤى؟
1
الدين ..والدجل
()16
عقول معطلة
قصص تصور العقل السلفي ومنهجه في التفكير
الطبعة األولى
2017 – 1438
4
المقدمة
هذا الكتاب من الكتب التي حاولت فيها أن أصور الواق ع الس لفي عن طري ق
القص ص الرمزي ة والواقعي ة ،ألن ه من الص عب التعب ير عن الكث ير من القض ايا
الواردة فيه تعبيرا علميا دقيقا من غير استعمال التصوير األدبي والفني.
ويهدف إلى بيان الجذور ال تي ينطل ق منه ا التش دد والتط رف والخراف ة في
العق ل الس لفي ،وه و [التعطي ل] ..فالعق ل الس لفي نتيج ة انبه اره الش ديد بس لفه،
وبآثارهم وتراثهم ،وخضوعه المطلق لهم ،أعطى عقل ه إج ازة أو تقاع دا ،بحيث ال
يحتاج إلى استعماله ،وكيف يحتاج إلى ذلك ،وقد كفاه سلفه كل شيء؟
وكيف يحت اج إلى ذل ك ،وه و يعلم أن ه إن غ امر واس تعمله فس يؤدي ب ه إلى
التجهم أو التعطي ل أو التص وف أو ال رفض أو يتب نى م ا تبن اه ك ل من اس تعملوا
عقولهم من المواقف والرؤى.
ولذلك كان األسلم له أن يعطيه إجازة أو تقاعدا ،ويستريح ،ليضمن لنفس ه أن
يدخل مع سلفه الفردوس األعلى ،وهناك يستمتع ب الجلوس على األرائ ك والض حك
على ك ل تل ك الف رق والجماع ات والحرك ات والش عوب ال تي اس تعملت عقوله ا،
فأدخلتها نيران جهنم ،وبئس المصير.
وهذه القصص تشمل معاني متعدد ،كل قصة منها تعالج مظه را من مظ اهر
تعطيل العقل ،أو تذكر سببا من أسبابه ..أو تجمع ذاك جمبعا.
وقد صيغت بلغة رمزية في ث وب واقعي ،ح تى يتم رن الق ارئ الك ريم على
استعمال عقله في فك الرموز وقراءة ما بين السطور..
ولذلك أنصح من ال قدرة له على ذلك ،أو ال يحب ذلك أال يقرأ هذه القص ص
ألنه سيتهمني بالكذب والدجل ،ويروح يستعمل الوسائل الكث يرة ليثبت أن ه ال يوج د
شخص اسمه العقل العجيب ..وال شخص اس مه ح رب ..وال ش خص اس مه س الم..
ولم تنظم محاضرة تحضر فيها هند أو زنيرة ..ولم تقف أميرة ذل ك الموق ف العظيم
لتثبت لهم أنه يمكن أن نخاطب رسول هللا وأن نطلب منه المدد.
وله ذا ف إني ال أج يز ألص حاب العق ول القاص رة المعطل ة أن يق رأوا ه ذه
القصص ،ألن معدة عقولهم ال تستطيع هضمها ،وقد يس بب لهم ذل ك عس ر هض م،
يؤدي بهم إلى الجنون ..وتعطيل العقل خير من الجنون.
لكنهم يمكن أن يتواض عوا قليال ،ويجلس وا ب أدب وذل ة م ع ال ذين يس تعملون
عقولهم ،ليقرؤوا لهم ،ويفسروا ما أودع في هذه القصص من أس رار ق د تنفعهم في
دنياهم وأخراهم ..عسى عقولهم تعود للعمل ،وعسى حياتهم تعود إلى الفط رة ال تي
فطرهم هللا عليها.
وأحب أن أنب ه إلى أن ه ذه القص ص على ال رغم مم ا يحمل ه بعض ها من
سخرية ،فإن ذلك ال يعني أنني أسخر من أحد من الناس ،حتى من أصحاب العق ول
5
المعطلة ..وكيف أفعل ذلك ،وقد قال تع الى ﴿ :يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل يَ ْس خَرْ قَ وْ ٌم ِم ْن
َس ى أَ ْن يَ ُك َّن خَ ْي رًا ِم ْنه َُّن﴾
َس ى أَ ْن يَ ُكونُ وا خَ ْي رًا ِم ْنهُ ْم َواَل نِ َس ا ٌء ِم ْن نِ َس ا ٍء ع َ
قَ وْ ٍم ع َ
[الحجرات]11 :
وإنما قصدي من ذلك أن أكون مرآة عاكس ة تع رض لهم ص ورهم وحقيقتهم
كما هي عساهم ينفروا منها ،وعساهم يعودون ل وعيهم ..ألنن ا أحيان ا كث يرة نحت اج
إلى نضح الماء على وجوهنا حتى نستفيق ونفطن ويعود لنا وعينا.
6
عقل عجيب
كان الكل يتحدث عن قدراته العقلية العجيبة إلى الدرجة ال تي جعلت ني أنبه ر
به قبل أن أراه أو أسمعه أو أقرأ له ..وقد جعلني ذل ك ،ولف ترة محترم ة من عم ري
أزكيه وأثني عليه مع أني لم أعرفه ..ال من قريب وال من بعيد..
ال تلوموني على ذلك ..فلست وحدي في هذا ..فالعقل الجمعي يس يطر أحيان ا
علينا من حيث ال نشعر ..فنقف المواقف الخطيرة ثقة منا بتلك العقول الكث يرة ال تي
اجتمعت وقررت وحكمت ..ولم يبق لغيرها من العقول سوى أن تخضع لها وتسلم،
اقتنعت أو لم تقتنع ..فيكفي أن يك ون الجمه ور ه و ال ذي تح دث ،وه و ال ذي حكم،
وهو الذي قرر ..وهل توازي عقولنا المفردة عقول الجماهير؟
لكني ،وبسبب موقف محرج وقع لي مع بعض طلبتي ق ررت أن أتم رد على
العقل الذي فرضه علي الجمهور..
وقد كان سبب الموقف أني ذك رت ص احب ذل ك العق ل العجيب عن د ذك ري
ألسماء المفكرين المعاصرين ..ويعلم هللا أن نيتي لم تكن صادقة في ذلك ..ب ل ك ان
قصدي هو أن يع رف طلب تي أن ني أحي ط بكث ير من األس ماء ،وأع رف الكث ير من
المفكرين ،وأن ذلك نتيجة الطالعي الواسع..
نعم زينت لي نفس ي األم ارة بالس وء حينه ا أن مقص دي نبي ل ..فالطلب ة
يحتاجون إلى ثقة مطلقة في أستاذهم ليستفيدوا من ه ..ول ذلك فال ح رج علي ه ـ كم ا
تفتي نفسي األمارة ـ أن يتكلف ـ في بعض األحيان ـ أمثال تلك الحيل.
لكن الحفرة التي حفرتها لهم وقعت فيها ،إذ برزت طالبة ذكية نجيب ة لي كم ا
يبرز األسد لضحاياه الجرحى ،وقالت لي بكل أدب :هل تع رف ه ذا العق ل العجيب
يا أستاذ؟
لم أجد ما أقول ،لكني احتلت لذلك بما تعلمته في فنون التعليم من حي ل ،فقلت
له ا :الك ل يتح دث عن ه ..والك ل يزكي ه ..والك ل يث ني علي ه ..وال يخفى ت أثيره في
الجماهير العريضة في وطننا العربي الكبير ..بل وصل تأثيره للعالم.
قالت :أنا ال أريد الكل ..أريدك أنت ..أريد أحكام عقلك أنت.
لم أجد مع هذه الجسارة ،سوى أن قلت لها -وأن ا أم ارس حيلي البيداغوجي ة
حتى ال تكتشف الطالبة تل ك الثغ رة األمني ة الخط يرة ال تي أوقعت ني نفس ي فيه ا :-
أشكرك أيتها الطالبة المحترمة على ه ذا الس ؤال الوجي ه ..وبم ا أن ال وقت ال يكفي
للحديث عن أفكاره التي جعلت ه محال إلعج اب الجمي ع ،فأع دكم أن نخص ص غ دا
حصة خاصة به..
قلت ذلك ،وأنا على ثقة من أن ني ق د ق د تخلص ت من الم أزق الخط ير ال ذي
أرادت الطالبة الذكية أن توقعني فيه ..لكني لم أعلم أنني -بذلك الموقف -زدت من
طينتي بلة ..بل رحت إلى الحف رة ال تي أوقعت ني فيه ا ،ف زدت فيه ا أمت ارا جدي دة،
7
ألنغمس فيها انغماسا كليا.
فبعد خ روجي من الجامع ة مباش رة ذهبت إلى المكتب ة ،وس ألت الكت بي عن
أعمال ذلك العقل العجيب ،فأجابني ،وهو يبتسم :عجب ا ..ه ل يمكن أن تك ون هن اك
مكتبة في الدنيا ،وال يوجد فيه ا أعم ال ذل ك العق ل العبق ري العجيب؟ ..إنن ا معش ر
الكتبيين من دونها سنغلق متاجرنا ،ونتوقف عن العم ل ،فليس هن اك أعم ال تس وق
مثل أعماله ..بورك له في شفتيه ..وبورك في تلك الكاميرات وأجهزة التسجيل التي
تتسابق على تسجيل صوته ،والتقاط صوره..
تعجبت من قوله ه ذا ،ألني كنت أطلب كتب ه ..وق د اح ترت في عالق ة كتب ه
بش فتيه وب أجهزة التس جيل والتص وير ..إال أني خش يت أن يض حك علي ص احب
المكتبة ..ويضحك معه عقل الجمهور الذي صرت مقيدا بقيوده.
م ا هي إال لحظ ات ح تى أحض ر لي ص احب المكتب ة مجموع ة أق راص
مضغوطة ..وهو يقول :تج د هن ا ك ل أعم ال ذل ك العق ل العجيب ..وص دقني فإن ك
ستنبهر بها انبهارا كليا ..وسترى عيناك ما لم تر مثله في حياتك.
تعجبت من قوله ذل ك ..وتعجبت قبل ه من تل ك األق راص المض غوطة ..ألني
كنت أتصور أنه سيأتيني بكتب ..لكني لم أستطع أن أسأله خش ية أن يض حك علي..
وقد قلت لنفسي مسليا :لعل كتبه موجودة بصيغة مصورة ..ال بأس..
دفعت الثمن ،وأنا أقول للكتبي :شكرا جزيال ..سأحاول أن أق رأ م ا اس تطعت
منها هذه الليلة.
ضحك الكتبي ملء فيه ،وهو يقول :تقرؤها..عجبا ل ك ..في أي عص ر تعيش
أنت؟
قلت :الكتب تقرأ في كل العصور ..أم أنك أعطيتني كتبا مسموعة؟
عاد الكتبي للضحك ،وهو يقول :ومن ذكر لك بأن العقل العجيب يكتب كتبا..
لقد تجاوزنا ذلك الزمان ..نحن في زمان الملتميديا أيها العقل القديم.
ابتسمت له ،وأنا أحاول أن أظهر له ب أني ال أزال أعيش ه ذا العص ر :ح تى
الملتميديا نحتاج أن نقرأها ..فاألفكار تقرأ مكتوبة أو مسموعة أو مرئية.
شعر الكتبي بالخجل ،وقال :معذرة لم أفهم قصدك.
وهكذا تخلصت من الطالبة والكت بي ..وذهبت إلى بي تي ألكتش ف أني لم أكن
أخادعهما ،بل كنت أخادع نفسي.
لقد رحت لتلك األقراص المضغوطة أشغلها ،فوجدت ما انبهرت له..
لقد اكتشفت سر العبقري ة في ذل ك العق ل العجيب ..واكتش فت مع ه س ر ذل ك
االنبهار الذي أصاب الجماهير ،فراح وا يس لمون ل ه ،ويخض عون ..واكتش فت م ع
ذلك كله سر تخلفنا عن ديننا وواقعنا.
لقد أمضيت سبع ساعات كاملة أتفرج على تلك األقراص المض غوطة -وأن ا
أحمل قلمي ودفتري -بحثا عن فكرة واحدة أنتجها ذل ك العق ل العجيب ،لعلي أطل ع
بها طلبتي وفاء بوعدي ،فلم أجد ،وال نصف فكرة.
8
فقد كان ذلك العقل العجيب في كل تل ك اللق اءات ال تي عق دت ل ه ال يس تعمل
سوى ذاكرته القوية العجيبة التي انبهرت لها الجماهير..
حتى أنه كان في ذكره لألحاديث ال يكتفي بأن ي ذكر نص الح ديث بحروف ه،
بل يضم إليه ذكر من خرجه من المحدثين ،وذكر سنده ،وأح وال ال رواة ،وم ا ق ال
فيهم علماء الجرح والتع ديل ،واالتص ال واالنقط اع ..ونح و ذل ك ،وكأن ه يق رأ من
كتاب..
ولذلك يمضي مع كل حديث يرويه ما يقارب ربع الحصة التي عقدت له..
أم ا ربعه ا الث اني ،في ذكر في ه كالم إس حق بن راهوي ة وس فيان الث وري
والبربهاري وابن بطة وابن بطال وغيرهم ليشرح به الحديث ،أو ليؤكده ،أو لي ذكر
فيه من المعاني الجديدة ما لم يتطرق له.
أما ربعها الثالث ،فكان يذكر فيه ما يحفظه من قصائد الس لف والخل ف برن ة
جميلة تهتز لها العقول والقلوب ..فقد وهب مع الذاكرة العجيب ة ص وتا جميال ح ول
به نونية القحطاني ونونية ابن القيم إلى أغنية جميلة ،وسمفونية لذيذة.
وأما ربعها الرابع ،فك ان يخصص ه لتل ك الخطب الراقي ة ال تي يحفظه ا هي
األخ رى ،والممتلئ ة ب أنواع االس تعارات والكناي ات والمحس نات البديعي ة ..وك ان
يردده ا بس رعة وبص وت جه وري تمتلئ ل ه ل ذة وطرب ا ،ول و لم تفهم من ه حرف ا
واحدا.
هكذا كانت كل حصصه تمضي ..فال يشعر المستمع لها بأي سآمة وملل ..بل
يظل فاغرا فاه منبهرا به إلى آخر لحظة..
وهكذا مضت سبع ساعات قضيتها في االستماع إليه ..لكن دفتري ظل فارغا
لم أسجل فيه حرفا واحدا ..ألني لم أجد كلمة واحدة من بنات فكره يمكنني أن أقوّل ه
إياها ،فهو يبدأ كالمه بالمنقول ،وينتهي بالمنقول ..وال حظ بينهما للمعقول.
لعلكم لم تصدقوني ..أو لعلكم تريدون نماذج عن ذل ك ..ال ب أس ..س أنقل لكم
مشهدا يختصر وصفي ،وه و عن حص ة خصص ها العق ل العجيب ألس ئلة النس اء،
وقد قدم لها بقوله :هذه الحص ة مخصص ة ألس ئلة النس اء اس تنانا فيه ا بم ا ورد في
الحديث الذي حدث به أبو صالح السمان -واسمه ذكوان -عن أبي سعيد ق ال :ق ال
النساء للنبي ( :غلبنا عليك الرجال ،فاجعل لنا يوم ا من نفس ك) ،فوع دهن يوم ا
لقيهن فيه ،فوعظهن وأمرهن ..وفي رواية مسدد عن أبي عوانة قال :ج اءت ام رأة
إلى رسول هللا ،فقالت :يا رسول هللا ،ذهب الرج ال بح ديثك ،فاجع ل لن ا من نفس ك
يوما نأتي فيه تعلمنا مما علمك هللا ،فقال ( :اجتمعن في يوم كذا وكذا ،في مكان ك ذا
وكذا) ،فاجتمعن ،فأتاهن رسول هللا فعلمهن مما علمه هللا ..وقال البخ اري :ق ال
شريك عن ابن األصبهاني قال :حدثني أب و ص الح عن أبي س عيد وأبي هري رة عن
النبي )1()..
9
وهكذا أخذ يسرد الكثير من األسانيد والرواي ات المتقارب ة للح ديث ..وبع دها
أخذ يتلقى االتصاالت ..والعجيب أنها ك انت من من اطق مختلف ة من الع الم ..وك أن
تأثيره عقله العجيب قد بل غ أقاص ي األرض ،ولم يكن قاص را على البل د ال ذي يقيم
فيه.
وكان أول اتصال ورده من أمريكا ،ومن امرأة أب دت – في مقدم ة كالمه ا -
إعجابها الكبير به ،ثم أخبرت ه أنه ا مقبل ة على الزف اف ،وأن الع ادة هن اك أن تلبس
المرأة لباسا أبيض ..وأنها تريد أن تفصل لباسا محتشما بذلك اللون.
فأجاب مباشرة -وكأنه يقلب صحفا أمامه -بقوله :لق د أف تى في ذل ك الع الم
الجلي ل ،والم ربي الكب ير ،والق دوة الص الح ،والط ود الش امخ في العلم والزه د
والص دق واإلخالص والتواض ع وال ورع والفت وى ،ش يخ التفس ير والعقي دة والفق ه
والسيرة واألصول والنحو وسائر العلوم ..الداعي إلى هللا على بصيرة المش هود ل ه
بصدق العمل ،ومواقف الخ ير وال دعوة واالرش اد واإلفت اء ،ال ذي أجمعت القل وب
على قبوله ومحبته وفضله وعلو مرتبته فضيلة شيخنا العالمة أبو عبد هللا محمد بن
صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن الع ثيمين الوهي بي التميمي المول ود في
ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المب ارك ع ام 1347هـ ،في مدين ة عن يزة
إحدى مدن القصيم ..بقوله( :إن األبيض في الحقيقة من التبرج بالزين ة ف إن اللب اس
األبيض للمرأة يكسوها جماالً ويوجب انطالق النظر إليها ،لذلك كونها تلبس اللباس
األسود مع العباءة أفضل لها وأكمل)()1
قال ذلك ،ثم ردد العبارة الالزمة ال تي يكرره ا بع د إجابت ه على ك ل س ؤال:
مرروا اتصاال آخر..
فاتصلت فتاة من ألماني ا ،وق الت :أن ا فت اة أقيم في ألماني ا ..وأري د االنض مام
للدراس ة في بعض جامعاته ا ..وق د طلب وا م ني ش هادة تثبت ق درتي على اللغ ة
األلمانية ..فهل يجوز لي تعلمها؟
فأجاب مباشرة من غير تريث :سؤالك يحوي على شقين..
أما أولهما ،فقد أجاب عليه الشيخ محمد ص الح المنج د التلمي ذ النجيب لكب ار
العلم اء الرب انيين في ه ذا العص ر من أمث ال الش يخ ص الح بن ف وزان آل ف وزان،
والشيخ عبد هللا بن محمد الغنيم ان ،والش يخ محم د ول د س يدي الح بيب الش نقيطي،
والشيخ عبد المحسن الزامل ،والشيخ عبد الرحمن بن ص الح المحم ود ..وه و ف وق
ذلك يعتبر التلميذ النجيب للشيخ عبد العزيز بن عبد هللا بن ب از ،وك انت عالقت ه ب ه
ممتدة على مدى خمس عشرة سنة ،وهو الذي دفعه إلى الت دريس وكتب إلى مرك ز
الدعوة واالرشاد بالدمام باعتماد التعاون معه في المحاض رات والخطب وال دروس
العلمية وبسبب الشيخ عبد العزيز بن باز أصبح خطيبا ً وإماما ً ومحاضراً.
لقد أجاب هذا الش يخ الجلي ل تلمي ذ مش ايخ اإلس الم الكب ار على س ؤال ش بيه
10
بسؤالك ،فقال( :وج ودك – أخ تي الس ائلة -في مدرسة مختلطة ح رام في الش رع؛
ألن الخلطة ال تي وص فتيها تك ون عُرضة وس ببا ً للفس اد المفضي إلى الف واحش
المنكرة ،وقد حذر الرسول في كثير من أحاديثه الرجال من فتنة النس اء ،وعظم
أمرهن حتى جعل فتنتهن أشد الفتن وأشد المضرات ..وفي الخلطة التي ذكرتها عدم
التمكن من غض البصر ،وفي ه م دخل كب ير لش هوة النس اء للرج ال وش هوتهم لهن
وهذا ال يجوز بل هو رأس الفساد ..فكيف بنا نسمح لنساء هذا الزمان الذي انتشرت
فيه أمراض القلوب وق َّل الوازع الديني أن تجلس المرأة مع الرج ل في مك ان واح د
مع عدم وجود المحرم وفي كل يوم لساعات طوال ..ف اتقي هللا تع الى ي ا أخ تي وال
تلتحقي بهذه المدرسة مهم ا كل ف األمر ..وليس هن اك ض رورة ت دعو إلى الخلطة،
فالدراس ة في ه ذه المدرس ة ليس ت ض رورة م ا دام أن الم رأة تس تطيع الق راءة
والكتابة ،وتعلم أمور دينها فهذا يكفي؛ ألنها خلقت لهذا ،أي :لعبادة هللا تع الى وليس
الذي بعد هذا ضرورة)()1
أما الشق الثاني ،فقد أجاب عليه العالمة الجليل أبو عب د هللا محم د بن ص الح
بن محمد بن س ليمان بن عب د ال رحمن الع ثيمين الوهي بي التميمي المول ود في ليل ة
السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك ع ام 1347هـ بقول ه في ش رحه ل زاد
المس تقنع ..( :ومعل وم أن اعتي اد التكلم بغ ير العربي ة ح تى يك ون ع ادة أم ر غ ير
مشروع ألن ي ورث محب ة أه ل تل ك اللغ ة من الكف رة وه و مخ الف لعقي دة ال والء
والبراء من الكف ار .ق ال ش يخ اإلس الم ابن تيمية( :واعلم أن اعتي اد اللغ ة ي ؤثر في
العقل والخلق والدين تأثيرًا قـويًا بينًا ،ويـؤثر أيضا ً في مشابهة صدر هذه األم ة من
الصحابة والت ابعين ،ومش ابهتهم تزي د في العق ل وال دين والخل ق) ..وال ذي أراه أن
الذي يعلم صبيّه اللغة اإلنجليزية منذ الصغر سوف يُحاسب علي ه ي وم القيامة؛ ألن ه
يؤدي إلى محبة الطفل لهذه اللغة ،ثم محبة من ينطق بها من الن اس؛ ه ذا من أدخ ل
أوالده منذ الصغر لتعلم اللغة اإلنجليزية أو غيره ا من اللغ ات ،فليت ق هللا من يري د
جلب هذه اللغة إلى أبناء المسلمين ،وهللا هللا أن يضيع من يعول ،وليتذكر قول ه :
(ما من عبد يسترعيه هللا رعية يموت ي وم يم وت وه و غ اشٌ لرعيت ه إال ح رم هللا
عليه الجنة) رواه مسلم .اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد)()2
وقياس ا على م ا ذك ره الش يخ من حرم ة تعلم اللغ ة اإلنجليزي ة ،ف إني أف تي
بحرمة تعلم اللغة األلمانية ،الستوائهما في العلة ،فكالهما يكتب بالحروف الالتينية،
التي هي حروف صليبية في األساس ..مرروا سؤاال آخر..
فاتصلت امرأة من بلدة عربية ال أذكرها ..وسألته عن ج واز اس تعمال بعض
المساحيق في البيت ،ولزوجه ا لطلب ه ذل ك منه ا ،فق ال الش يخ مباش رة ،ومن غ ير
11
تفكير وال تأمل ،فقد كان عقله يملك معالجا قويا ،ويملك معه ذاكرة عجيبة ..لقد ق ال
مجيبا لها :لقد أجاب عن سؤالك هذا العالمة الجهبذ والمحدث الكبير ،ناصر الس نة،
وقامع البدعة ،فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي األلباني المولود ع ام
1332هـ في مدينة اشقودرة عاص مة ألباني ا آن ذاك ..والف ائز بج ائزة المل ك فيص ل
العالمية لعام 1419هـ في فرع الدراسات اإلسالمية ،نظير جه ده واجته اده وتفاني ه
في خدم ة اإلس الم والعناي ة بس نة رس ول هللا ..فق ال( :ال يج وز للم رأة غ ير
المتحجبة فضال عن المتحجب ة أن تس تعمل المكي اج الك افر ،المكي اج الفاسق ،م تى
عرفتم شيء من زينة النساء يسمى باسم م اأنزل هللا ب ه من س لطان [المكي اج] ه ذه
لغ ة مانعرفه ا ال نحن وال أب اؤكم من قبل ،وإنم ا ه و لفظ ة أجنبي ة تع بر عن زين ة
لفساق ،نساء فاس قات ،نس اء أوربا ،فتش بهت نس اؤنا م ع األس ف إال من عص م هللا
منهن بالتزين به ذه الزين ة ال تي ت أثر المجتم ع اإلس المي به ا أال وهي المكي اج فال
يجوز للمرأة)( ..)1مرروا اتصاال آخر..
اتصلت امرأة من فرنسا تسأل عن الحق ائب اليدوي ة ال تي تحمله ا النس اء في
العادة ،فقال من غير حاجة للتكفير :لقد أجاب عن هذه المسألة الخطيرة ،وال تي تعم
به ا البل وى ش يخنا العالم ة المح دث مقب ل بن ه ادي بن قاي دة الهم داني ال وادعي
الخاللي من قبيل ة آل راش د بس ؤال فح واه( :ش اع في ه ذه األي ام بين النس اء عن د
خروجهن حمل حقائب يدوية وأحيانا ال يكون فيها ش يء وليس ت بحاج ة إليها ،فم ا
حكم هذه العادة ،وهل يكن متشبهات بالكافرات أم ال؟) ،فأجاب بقوله( :إذا كان ه ذا
األمر جاء من قبل أعداء اإلسالم فهو تش به بأع داء اإلس الم ،ومن تش به بق وم فه و
منهم)( ..)2مرروا اتصاال آخر..
اتص لت ام رأة من كن دا تس أل عن حكم لبس الم رأة الكعب الع الي ،فأج اب
العقل العجيب بقوله :لقد سئلت بمثل هذا السؤال اللجنة الدائمة للفتوى والمش كلة من
كبار العلماء السلفيين من أمثال عبد هللا بن قعود ،وعبد هللا بن غديان ،وعبد الرزاق
عفيفي ،وعب د العزي ز بن عب د هللا بن ب از ،وذل ك في الس ؤال ال ذي يحم ل رقم (
،)1678فأجابت بقولها( :لبس الكعب العالي ال يجوز؛ ألنه يعرض المرأة للسقوط،
واإلنسان مأمور شرعا بتجنب األخطار)( ..)3مرروا اتصاال آخر..
اتصلت امرأة من جنوب إفريقيا ،وسألت( :هل يجوز للمرأة ش رعا أن تقص
شعرها؟) ،فأجاب العقل العجيب بقوله :لقد سئلت بمث ل ه ذا الس ؤال اللجن ة الدائم ة
للفتوى والمشكلة من كبار العلماء السلفيين من أمثال عبد هللا بن قعود ،وعب د هللا بن
غديان ،وعبد الرزاق عفيفي ،وعبد العزي ز بن عب د هللا بن ب از ،وذل ك في الس ؤال
ال ذي يحم ل رقم ( )5007فأج ابت بقوله ا( :ال يج وز له ا أن تقص أو تحل ق ش عر
12
حواجبه ا أو ش عر رأس ها إال لض رورة ت دعو إلى ذل ك كعالج ج روح ب الرأس أو
الح اجب يتوق ف عالجه ا على قص الش عر أو بعض ه فيج وز ذل ك بق در الحاجة،
ويجب لها أن تزيل شعر وجهها وسائر جسدها بنتف أو نورة أو نح و ذل ك م ا ع دا
الرأس والحاجبين)( ..)1مرروا اتصاال آخر..
اتصلت امرأة من السودان ،وسألت( :ما حكم زغاريد النس اء في األف راح؟)،
فأجاب العقل العجيب من غير تردد :لقد أجاب على ذلك فض يلة ص الح بن ف وزان
بن عبد هللا من آل فوزان من أهل الشماس ية ال وداعين من قبيل ة الدواس ر ،المول ود
عام 1354هـ ،والذي توفي وال ده وه و ص غير ،ف تربى في أس رته ،وتعلم الق رآن
الكريم ،وتعلم مب ادىء الق راءة والكتاب ة على ي د فض يلة الش يخ :حم ود بن س ليمان
التالل ،الذي ت ولى القض اء أخ يرا في بل دة ض رية في منطق ة القص يم ..بقول ه( :ال
يجوز للمرأة رفع صوتها بحضرة الرجال؛ ألن في ص وتها فتنة؛ ال ب الزغردة ،وال
غيرها ،ثم إن الزغردة ليست معروفة عند كث ير من المس لمين ال ق دي ًما وال ح ديثًا؛
فهي من العادات السيئة التي ينبغي تركها ،ولما تدل عليه أيضًا من قلة الحياء)()2
هذا مجرد مشهد من المشاهد التي ظللت ساهرا معها تلك الليل ة ،وأن ا ممتلئ
إعجابا بذلك العقل الذي يحوي أك بر ذاك رة تخ زين في ال دنيا ،ويحم ل معه ا أك بر
برسيس ور ..عف وا ..مع الج في ال دنيا ..ويحم ل معهم ا أك بر رام ..عف وا ..ذاك رة
عشوائية في العالم أجمع..
لكني في الصباح وبعد استيقاظي أخذتني الحيرة كل مأخذ ،فم ا عس اي أق ول
لتلك الطالبة ،وكيف أواجه إلحاحها الشديد ..وما عساي أقول لزمالئها ،وقد وعدتهم
أن أخصص لهم حصة حول ذلك العقل العجيب..
لكني الفن ون ال تي تعلمته ا من زمالئي من األس اتذة راحت تت داركني ..وق د
نجحت في تطيبقها أيما نجاح..
لق د ذهبت إلى الحص ة ،وأن ا مرف وع ال رأس ،م ع أن ه لم يكن في عقلي أي
معلومة أقدمها لهم عن ذلك العقل العجيب ،وال عن غيره من العقول..
وبمجرد دخولي إلى القاعة طلبت من الطالبة ص احبة الس ؤال أن تص عد ،ثم
قلت لزمالئها :إن التعليم الجامعي ال يعتمد على التلقين بق در م ا يعتم د على تك وين
القدرات ،وتشكيل الكفاءات ..ولذلك فقد اخترت أحس ن عض و في ه ذا القس م ليق دم
لكم درسا ،وتناقشوه فيه ..وهو حول العقل العجيب الذي وعدتكم بتخصيص حص ة
عنه ..وقد آثرت أن يك ون الح ديث عن ه من ط رف زميلتكم الباحث ة العبقري ة ال تي
أعتقد جازما أن لها قدرات ال تقل عن أعجب العقول..
قلت ذلك ..ثم جلست مكان الطالبة ..وتركتها تقع في الحفرة التي حفرتها لي.
13
العبقري الغبي
كنت في إمارة الشارقة في دول ة اإلم ارات العربي ة المتح دة حين س معت أن
عالم ا عربي ا كب يرا اس تطاع أن يقض ي باألدل ة العقلي ة اليقيني ة القطعي ة على ك ل
النظري ات ال تي أتى به ا فيث اغورس اليون اني ،وأريس تاخورس اإلس كندرى،
وكوبرنيقس البولن دى ،وج اليليو جاليلي ه االيط الى ..وك ل من ج اء بع دهم ك نيوتن
وإنشتاين وغيرهم كثير.
كان كل الناس يسعون مهرولين لمركز األبحاث المتواجد في وسط اإلمارة..
وعندما وصلنا وج دنا ك اميرات القن وات الفض ائية كله ا تنتظ ر الح دث األك بر في
العالم لهذا القرن ..بل لقرون عديدة.
رأيت مراسل قناة بي بي سي يسأل بعض الن اس عن مش اعره ،وه و ينتظ ر
لحظة ظهور العبقري العربي الذي قضى على كل النظريات التي يعتقد أنها حق ائق
علمية ،فأجاب ،والفرحة بادية على كل كلمة يقولها :لقد كنت دائما أعتقد أن ما نم ر
به من التخلف ليس سوى مرحلة قصيرة ..وه ا ق د ع دنا بحم د هللا من جدي د لقي ادة
األمم ..وها قد بدأنا بتصحيح أخطائها العلمية ..وسترون بع د ذل ك كي ف تنه ار ك ل
اكتشافاتهم العلمية كأحجار الدومينو.
ورأيت مراسل قن اة س ي ان ان وه و يتكلم بس رعة ش ديدة ولهف ة ش ديدة في
انتظار الحدث األعظم..
ورأيت مدير الوكالة الفضائية األمريكي ة (ناس ا) يتح دث م ع بعض األم راء
طالبا منه أن يسمح للعبقري بالعمل في الوكالة لقاء ما يشاء من األموال..
وهكذا ك انت ك ل القل وب تخف ق لظه ور البط ل العبق ري ال ذي حق ق أخ يرا
المعجزة ،وقضى على الخرافات التي كانت البشرية وال زالت فترة طويل ة تعتق دها
حقائق ثابتة.
م ا هي إال لحظ ات ح تى أط ل البط ل العبق ري على المنص ة ،وبي ده ك رة
كبيرة ..فانهالت التصفيقات الحادة تحييه ..وتطلعت األعناق تشرئب لرؤيته.
استلم المكروفون ،وراح يقول :في البداية أه دي ثم رة اكتش افي العلمي لك ل
من تتلمذت عليه من العلماء النجباء الذين لوالهم لما وصلت إلى هذا المح ل ..ولم ا
استطعت أن أنجز ه ذا اإلنج از العلمي الض خم ابت داء من ش يخ اإلس الم ابن تيمي ة
وانتهاء بابن باز والعثيمين وغيرهم من علماء الدعوة السلفية النجدية العباقرة.
تعجبت لذكره كل هؤالء في مثل هذا المحل ..لكني اعتذرت له عن ذلك ب أن
هذا من وفائه وتدينه..
بعدها أخذ يق ول :اكتش افي أيه ا الس ادة األفاض ل يرتب ط به ذه األرض ال تي
نعيش عليها ..والتي احتقرها الكثير ممن يزعمون ألنفسهم العلم ،فتصوروها مجرد
ت ابع ذلي ل للش مس ..م ع أنه ا في الحقيق ة المرك ز ال ذي تط وف ب ه الش مس لتم دة
14
بأشعتها..
لقد أخطأ فيثاغورس في هذا حين استدل بدليل باهت ،وهو أن ه أن ه إذا ك انت
هناك حجرة ومصباح ..فإننا في الع ادة نض ع المص باح في وس ط الحج رة ..وبن اء
على ه ذا المث ال الب اهت اس تدل على أن الش مس هى الثابت ة ..ألنه ا المص باح..
واألرض هى التى تتحرك على خالف ما كان معروفا ً وقتذاك..
أما كوبرنيقس فقد اش تط ،وكأن ه ي دعو الى عب ادة الش مس فه و يقدس ها أيم ا
تق ديس ،ولم ي أت ب دليل ،ب ل ق ال ق وال مش ابها لق ول فيث اغورس حيث ق ال :ه ذا
المصباح من يستطيع أن يضعه فى هذا المعبد إال فى المنتص ف ..نفس الكالم ..ولم
يأت بدليل هو اآلخر.
لقد ألف كوبرنيقوس كتاب أسماه (حركة األجرام السماوية) ..جع ل ك ل ش ئ
يتحرك ما عدا الشمس فهى ثابته عنده ..وهذا الكت اب بش هادة بعض علم اء الغ رب
والشرق مسروق من كتاب لرجل رافضي خ بيث ه و نص ر ال دين الطوس ى واس م
كتابه (المجسطى) ..ونصر الدين الطوسى ألف كتابه قبل كوبرنيقس.
فكيف باهلل عليكم تأخذون علما ً من رجل سارق ومدلس يدلس العلم؟ ..وكي ف
تأخذون علماء من رافضي مجوسي خبيث؟
بعد هؤالء جاء الذي أسموه (رائد العلم) وهو جاليليو ال ذي أل ف كتاب ا س ماه
(الح وار) ..ووض ع في ه دفاع ه عن آراء ك وبرنيقس ،وأق ر ك ل م ا ج اء فى كتاب ه
(حركة األجرام السماوية) ،وقال بأن الكون عبارة عن فراغ شاسع..
يا هللا ..ما هذا الكفر والضالل ..ل و ت بينتم قول ه لعلمتم أن قول ه في ه كف ر بين
وإلحاد واضح ..ألن قوله معناه أن الفضاء ال نهائي ،بمعنى أنه ينكر وجود الس ماء.
ومعنى ذلك أنه ال جنة وال نار ..ألن الجنة فى السماء ..وأيض ا ً ال وج ود هلل ألن هللا
فوق السماء ،وقد ينزل منها كما في ثلث الليل اآلخر ..ولكن ه لم يكن ليص رح ب ذلك
لعلمه أن الكنيسه ستحرقه كما حرقت (جيردانو بورن و) من قب ل لقول ه ه ذا الكالم،
واكتفى بقوله :الكون عبارة عن فراغ شاسع..
هذا الرجل المدعو (جاليليو) لم يتزوج وله أوالد غير شرعيين ..وكان يعاقر
الخمر ..ويأتى المواخير ..باهلل عليكم ماذا تنتظرون من هذا الرجل الكافر الفاسق..
هل تنتظرون منه أن يعطيكم حقائق علمية ..حاشا هلل.
بعد أن فند العبقري باألدلة القطعية آراء كل العلم اء الس ابقين ..ص اح بعض
الحاضرين من المس لمين :هللا أك بر ..هللا أك بر ..أخبرن ا أيه ا ا لعبق ري الل بيب عن
اكتشافك العلمي العظيم الذي قضيت به على هذه اآلراء اإللحادية..
ق ال العبق ري :ش كرا ج زيال ..لق د أخجلتم وني به ذا ..أن ا في الحقيق ة تلمي ذ
لمشايخنا من علماء السلف الصالح ال ذين لم ينخ دعوا بأمث ال ه ذه األق وال ..وبن اء
عليها رحت أفكر منذ عشرين سنة حول األدلة العقلية التي تمكنني من إقن اع الن اس
بأخطاء أولئك الض الين والزنادق ة ..ألن مش كلتهم أنهم ال يقبل ون إال عق ولهم ..إنهم
يعرضون عن أعالمنا الكبار الذين استدلوا على دوران األرض حول الش مس بك ل
15
صنوف األدلة النقلية..
ولهذا رحت أبحث عن األدلة العقلي ة ال تي وج دتها جميع ا تؤك د م ا ورد في
األدلة النقلية..
ركزوا جيدا ..ألن األدلة العقلية تحتاج إلى تركيز كبير لفهمها..
استجمع العبقري أنفاسه ،قليال ،ثم شرب عصيرا غريبا كان بجانبه ،ثم ق ال:
سأبدأ بال دليل األول ..انظ روا ..عن دما ت رون الش مس مش رقة ،م اذا تقول ون :ه ل
تقولون :أشرقت الشمس ..أم تقولون :أشرقت األرض ..بالطبع س تقولون :أش رقت
الشمس ..إذن أنتم نس بتم الفع ل للش مس ،فهى ال تى تش رق ..إذن الش مس هى ال تى
تتحرك وتدور حول األرض وليس العكس..
انطلقت تكب يرات كث يرة من الحض ور المس لمين ..أم ا غ يرهم فق د ك انوا
ينظرون بعجب شديد له وهو يتحدث ،وكأنهم يرون كائنا جاءهم من ك وكب آخ ر..
أو من زمن آخر.
بعد أن أطنب في شرح الدليل األول ..راح يقول :اسمحوا لي من باب األمانة
العلمية أن أنسب الدليل ألصحابه ..فهذا الدليل استفدته من كالم البن القيم في كتاب ه
(مفتاح دار السعادة ) ،يق ول في ه( :ثم تأم ل الحكم ة في طل وع الش مس على الع الم
كيف قدره العزيز العليم سبحانه فإنها لو كانت تطل ع في موض ع من الس ماء فتق ف
فيه وال تعدوه لما وصل شعاعها الى كثير من الجهات ،ألن ظ ل أح د ج وانب ك رة
األرض يحجبها عن الجانب اآلخر وكان يكون الليل دائما س رمدا على من لم تطل ع
عليهم والنهار سرمدا على من هي طالعة عليهم ،فيفس د ه ؤالء وه ؤالء ،فاقتض ت
الحكم ة اإللهي ة والعناي ة الرباني ة أن ق در طلوعه ا من أول النه ار من المش رق،
فتشرق على ما قابلها من األفق الغربي ،ثم ال ت زال ت دور وتغش ى جه ة بع د جه ة
حتى تنتهي الى الغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار ،فيختل ف عن دهم
الليل والنهار فتنتظم مصالحهم)()1
واس تفدته من كالم للش يخ محم د بن ص الح الع ثيمين ح ول ه ذه المس ألة في
تفسيره لسورة الكهف يصلح أن يك ون منهج ا ً في التعام ل م ع مث ل ه ذه المس ائل..
زَاو ُر ع َْن َك ْهفِ ِه ْم َذاتَ س إِ َذا طَلَ َع ْ
ت تَ َ وه و عن د تفس ير قول ه تع الىَ ﴿ :وتَ َرى َّ
الش ْم َ
ال ﴾ [الكهف ،]17 :لقد اعتبر الش يخ أن ه ذه ضهُ ْم َذاتَ ال ِّش َم ِ ْاليَ ِمي ِن َوإِ َذا َغ َربَ ْ
ت تَ ْق ِر ُ
اآلية القرآنية (دليل على أن الش مس هي ال تي تتح رك ،وهي ال تي بتحركه ا يك ون
الطلوع والغروب خالفا ً لما يقوله الناس اليوم من أن الذي يدور ه و األرض ،وأم ا
الش مس فهي ثابت ة ..فنحن ل دينا ش يء من كالم هللا ،ال واجب علين ا أن نجري ه على
ظاهره ،وأال نتزحزح عن هذا الظاهر إاَّل بدليل بَيِّن ،فإذا ثبت ل دينا بال دليل الق اطع
أن اختالف الليل والنهار بس بب دوران األرض فحينئ ذ يجب أن ن ؤول اآلي ات إلى
المع نى المط ابق للواق ع ،فنق ول :إذا طلعت في رأي العين وإذا غ ربت في رأي
16
العين ،تزاور في رأي العين ،تقرض في رأي العين ،أم ا قب ل أن يت بين لن ا بال دليل
القاطع أن الشمس ثابتة واألرض هي التي تدور وب دورانها يختل ف اللي ل والنه ار)
()1
تعجبت من ليه ألعناق النص وص ..وأردت أن أق ول ب أن الق رآن الك ريم ل ه
أسلوبان في الحديث عن هذه المسائل :مطلق ..وهو ذكر الحقيقة كما هي في الواق ع
قكما قال تعالى ،وهو يصور الش مس في مس يرها ،وكأنن ا نراه اَ ( :وهُ َو الَّ ِذي َخلَ َ
ك يَ ْس بَحُونَ ) [األنبي اء ،]33 :وق ال( :اَل س َو ْالقَ َم َر ُك ٌّل فِي فَلَ ٍ الش ْم َاللَّي َْل َوالنَّهَ ا َر َو َّ
ك يَ ْس بَحُونَ ) ار َو ُك لٌّ فِي فَلَ ٍ ق النَّهَ ِ ك ْالقَ َم َر َواَل اللَّ ْي ُل َس ابِ ُ ال َّش ْمسُ يَ ْنبَ ِغي لَهَا أَ ْن تُ ْد ِر َ
س َو ْالقَ َم َر ُكلٌّ يَجْ ِري أِل َ َج ٍل ُم َس ّمًى أَاَل هُ َو ْال َع ِزي ُز (و َس َّخ َر ال َّش ْم َ[يس ،]40 :وقالَ :
ْال َغفَّارُ) [الزمر]5 :
واألسلوب الثاني :نسبي يمثل ما نراه بأعيننا ..مثل الجب ال ،نراه ا ثابت ة م ع
العلم أنها تتحرك بمعدل عش رات المليم ترات في الس نة ،كم ا ق ال تع الىَ ( :وتَ َرى
ص ْن َع هَّللا ِ الَّ ِذي أَ ْتقَنَ ُك َّل َش ْي ٍء إِنَّهُ خَ بِ ي ٌرب ُ ال تَحْ َسبُهَا َجا ِم َدةً َو ِه َي تَ ُمرُّ َم َّر الس ََّحا ِ ْال ِجبَ َ
بِ َما تَ ْف َعلُونَ ) [النمل]88 :
وهكذا ،فإن هللا تعالى أخبرنا في تل ك اآلي ات الكريم ة عن رؤيته ا للش مس..
ت س إِ َذا طَلَ َع ْ ﴿وتَ َرى َّ
الش ْم َ وليس عن الحقيقة المطلقة ..ولهذا عبر عن ذل ك بقول هَ :
ال ﴾ [الكهف]17 : ضهُ ْم َذاتَ ال ِّش َم ِ ت تَ ْق ِر ُ تَزَا َو ُر ع َْن َك ْهفِ ِه ْم َذاتَ ْاليَ ِم ِ
ين َوإِ َذا غ ََربَ ْ
لكن لم يكن ليسمعني أحد ..فقد كانت العي ون واألبص ار كله ا متوجه ة إلي ه،
متيمة به.
سكت العبقري قليال ،ثم شرب قليال من عصير الغريب الذي كان بجانب ه ،ثم
قال :بعد أن اقنعتكم بالدليل األول ..هاكم الدليل الثاني ..لقد أخبرنا هللا عز وجل بأنه
ثبت األرض بالجبال ،وأنها رواسى ،وأنها أوت اد لألرض ..فه ل يعق ل أن يثبت هللا
األرض بالجبال ثم تتحرك بعد ذلك؟
كبر الحضور من المسلمين ..وبهت الحضور من غيرهم..
طأطأ العبقري رأسه ،وقال :من باب األمانة العلمية ..فإني أريد أن أذك ر لكم
بأني استفدت هذا الدليل من كتاب سماحة الوالد الش يخ العالم ة ابن ب از المعن ون بـ
(األدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وس كون األرض وإمك ان الص عود إلى
الكواكب( ،والذي طبعته الجامعة االسالمية بالمدين ة المن ورة س نة 1395هجري ة،
فق د ورد في (ص )23من ه( :و كم ا أن ه ذا الق ول الباط ل -يقص د ثب وت الش مس
ودوران األرض -مخ الف للنص وص فه و مخ الف للمش اهد المحس وس ومك ابرة
للمعقول والواقع لم يزل الناس المسلمهم وكافرهم يش اهدون الش مس جاري ة طالع ة
وغاربة ويشاهدون األرض قارة ثابتة ،ويشاهدون ك ل بل د وك ل جب ل في جهت ه لم
يتغير من ذلك شيء ،ولو كانت الشمس تدور كما يزعمون لك انت البل دان والجب ال
17
واألش جار واألنه ار والبح ار ال ق رار له ا ،ولش اهد الن اس البل دان المغربي ة في
المشرق ،والمشرقية في المغرب ،ولتغيرت القبلة على الناس حتى ال يق ّر لها قرار)
وق ال في (ص ) 24من ه( :ثم ه ذا الق ول مخ الف للواق ع المحس وس فالن اس
يشاهدون الجبال في محلها لم تسيّر فهذا جبل النور في مكة في محله وهذا جبل أبي
قبيس في محله وهذا أُحــد في المدينة في محلّه وهكذا جبال الدنيا كلها لم تسيّر وكل
من تصور هذا القول يعرف بطالن ه وفس اد ق ول ص احبه وأن ه بعي د عن اس تعمال
عقله وفكره قد أعطى القياد لغيره كبهيمة األنع ام فنع وذ باهلل من الق ول علي ه بغ ير
علم ونعوذ باهلل من التقليد األعمى ال ذي ي ردي من اعتنق ه وينقل ه من م يزة العقالء
إلى خلق البهيمة العجماء)
شرب العبقري جرعات من العصير الغريب ،ثم راح يق ول ،وه و يف تر عن
ثغره بابتسامة عريضة :الشك أنكم تنتظرون بشغف الدليل الث الث ..رك زوا جي دا..
لقد أشار إلي ه هللا ع ز وج ل في اعتب اره األرض موض وعة ..لق د ق ال ي ذكر ذل ك:
ض َعهَا لِأْل َن َِام﴾ [الرحمن ..]10 :هل يعقل أن يتحرك الشئ الموض وع!؟ ض َو َ ﴿ َواأْل َرْ َ
وهل يمكن ألحد أن يضع شيئا ،ثم يأتى بعد ذلك ليجده قد تحرك بمفرده!؟
تأم ل في وج وه الحاض رين ..فوج د الوج وم ظ اهرا عليه ا ،وكأنه ا لم تفهم
مراده ،فقال :ال بأس ..سأوضح لكم أكثر ..الوضع له معنيان :أحدهما أنه جعلها فى
﴿وال َّس َما َء َرفَ َعهَ ا﴾ [ال رحمن: األسفل ..ألن الوضع يعنى السفول ،وجاءت فى مقابلة َ
..]7والثانى:الثبات ألن كلمة الوضع دليل على أن الواضع يضع فى مكان معين ال
تنفك األرض عن الحركة بعيداً عنها.
شرب من العصير الغريب قليال ،ثم قال :إن فهمتهم الدليل الثالث ..فسيمكنكم
بسهولة أن تفهموا الدليل الرابع ..لقد أشار إليه هللا س بحانه وتع الى في قول ه ﴿إِ َّن هَّللا َ
ض أَ ْن تَ ُزواَل َولَئِ ْن زَ الَتَ ا إِ ْن أَ ْم َس َكهُ َما ِم ْن أَ َح ٍد ِم ْن بَ ْع ِد ِه إِنَّهُ
ت َواأْل َرْ َ يُ ْم ِس ُ
ك ال َّس َم َ
اوا ِ
َكانَ َحلِي ًما َغفُورًا﴾ [فاطر ..]41 :هل يعق ل أن يتح رك الممس وك ،خاص ة إذا ك ان
الماسك هو هللا عز وجل.
شرب من العصير الغريب قليال ،ثم ق ال :الش ك أنكم ق رأتم الق رآن من أول ه
إلى آخره ..تدبروا جيدا ..لقد ذكرت األرض 460مره فى القرآن الكريم ،ومع ذلك
لم يأت معها أى فعل يدل على حركة األرض ..هل تعلمون لماذا ..الجواب ببس اطة
هو :أن السماء واألرض هما الثابتان الوحيدان فى هذا الكون ،وكل شئ م ا دونهم ا
يتحرك.
سأضرب لكم مثاال يبسط لكم هذا ..انظروا جي دا ..إن هللا س بحانه وتع الى لم
ي ذكر فى الق رآن الك ريم أن الس ماء واألرض تس جدان ..م ع أن هللا ذك ر أن م ابين
السماء واألرض من مخلوقات تسجد ..والش جر وال دواب وكث ير من الن اس وكث ير
حق عليه العذاب ..هل تعلمون لماذا!؟ ..الجواب بسيط ،وهو أن السجود يحت اج إلى
حركة باالنتقال من وضع ما إلى وضع آخر حسب كيفية كل مخلوق فى سجوده..
ت َو َم ْن فِي اسمعوا جيدا قوله تعالى﴿ :أَلَ ْم ت ََر أَ َّن هَّللا َ يَ ْس ُج ُد لَ هُ َم ْن فِي َّ
الس َما َوا ِ
18
الش ْمسُ َو ْالقَ َم ُر َوالنُّ ُج و ُم َو ْال ِجبَ ا ُل َو َّ
الش َج ُر َوال َّد َوابُّ َو َكثِ ي ٌر ِمنَ النَّ ِ
اس ض َو َّ اأْل َرْ ِ
ق َعلَ ْي ِه ْال َع َذابُ ﴾ [الحج ]18 :ركزوا جيدا ..اآلي ة الكريم ة ت ذكر أن م ا فى َو َكثِي ٌر َح َّ
السماوات وما فى األرض يسجد ،وليست السماء واألرض نفسها ..فى حين أن ك ل
شئ يسجد ما ع دا الس ماء واألرض ..وكم ا قلن ا ف إن هللا ق در على الس ماء واألض
الثبات مع أن هللا ذكر أن الس ماء واألض تس بحان م ع بقي ة المخلوق ات ،وذل ك ألن
التسبيح ال يحتاج الى حركه.
شرب من العصير الغريب قليال ،ثم ق ال :ال دليل الس ادس نص علي ه ح ديث
ورد فيه أن (ال بيت المعم ور في الس ماء يق ال ل ه الض راح ،وه و على مث ل ال بيت
الحرام بحياله ،لو سقط لسقط عليه ،يدخله ك ل ي وم س بعون أل ف مل ك ،ثم اليرون ه
قط ،وإن له في السماء حرمة على قدر حرمة مكة)
تأملوا جيدا في ه ذا الح ديث ..ه و ينص على أن في األرض توج د الكعب ة..
وفي الح ديث ذك ر الرس ول أن ال بيت المعم ور ف وق الكعب ة مباش رة ،وأن ل ه
منطق ة محرم ة في الس ماء بق در المنطق ة المحرم ة على األرض ،فوقه ا مباش رة،
وحدد النبي كالم ه بقول ه (:ل و س قط لس قط علي ه) ،ولم يق ل الرس ول ف وق
الكعبة دون تحديد وتثبيت مك ان وج ود ال بيت المعم ور وجع ل ل ه منطق ة محرم ة
بالسماء فوق المنطقة المحرمة ال تي ب األرض ،ومن المع روف أن ثب ات الس ماء لم
يختلف عليه أحد ،فلو كانت األرض تدور والسماء ثابتة لتغير موضع البيت الحرام
عن حيال البيت المعمور ،فلو سقط لم يسقط عليه ،وهذا واضح.
شرب من العص ير الغ ريب قليال ،ثم ق ال :ال دليل الس ابع من إب داعي ..وق د
أحضرت ه ذه الك رة لش رحه ..ال تس تغربوا فح تى نحن المس لمين عن دنا نظري ات
وعقول..
أشار إلى موضع في الخارطة ،وقال( :لو خرجنا مثال من مطار الشارقة في
رحلة دولي ة إلى الص ين ..ول و وقفت الط ائرة في الس ماء ،ف إن الص ين ،إذا ك انت
األرض ت دور ،ت أتي إلى الط ائرة ..أم ا ل و ك انت األرض هي ال تي ت دور لم ا
استطاعت الطائرة أن تلحق بالصين ،ألن الصين تدور وأنت تدور)()1
وبقي يكرر هذا ،ويأتي باألمثلة الكثيرة عنه ..وقد كانت الكاميرات تلتقط ك ل
نفس من أنفاسه ،وتحفظ كل كلمة يقولها خاصة إذا ارتبطت بالقرآن الكريم.
بعد أن انتهى سألت رجال كان بج واري ..ك ان يب دو علي ه اإلعج اب الش ديد
بالعبقري ،قلت له :هل أنت مقتنع بما ذكر من األدلة؟
نظر إلي متعجبا ،وقال :وأنت؟
قال التلميذ :لست أدري ..ولكني أرى أن ما ذكره من أدل ة ال يكفي لتفني د م ا
يذكره العلم في هذا الباب.
19
أخ ذ بتالبي بي بش دة ،وق ال :ويل ك ..أتري د أن تنك ر معلوم ا من ال دين
بالضرورة ..لقد نقل العالمة ابن باز اإلجماع على ثب وت األرض ،فق ال( :أجمعت
آراء السلف من أمثال شيخ اإلس الم ابن تيمي ة وابن كث ير وابن القيم ال ذين أجمع وا
على ثبوت األرض) ..ولهذا فإن القول بأن الشمس ثابتة وأن األرض دائرة هو قو ٌل
شني ٌع ومنكر ..ومن ق ال ب دوران األرض وع دم جري ان الش مس فق د كف ر وض ل..
ويجب أن يس تتاب ف إن ت اب وإال قت ل ك افراً مرت داً ،ويك ون مال ه فيئ ا ً ل بيت م ال
المسلمين.
أصابني الرعب من قوله هذا ،فقلت بلسان مرتج ف :م ا ب ك ي ا رج ل ..كنت
أمزح فقط ..وإال فأي عاقل في الدنيا يصدق أن األرض تدور؟
أطل ق ي ده ع ني ،ثم دفع ني ،وق ال :ال ب أس ..ولكن ال تكرره ا ..فال يج وز
المزاح في أمور الدين.
عندما ذهبت إلى البيت فوجئت ب القنوات الكث يرة ،وهي تع رض في نش رات
أخبارها خبر العبق ري الغ بي ،بع د أن نش رت أخب ار اإلره اب والتف رق والتم زق
والتخلف في بالد المسلمين ..لتقول للعالم :هذا هو اإلسالم.
وقد زاد من ألمي وغثائي أنها قامت بالبحث عن العصير الغريب ال ذي ك ان
يش ربه ك ل حين ..وال ذي ال أس تطيع أن أس ميه لكم ح تى ال يص يبكم الغث اء ال ذي
أصابني.
20
اللحى الطويلة ..والعقول
لس ت أدري لم أنف ر من اللحى الطويل ة ،فال أذك ر أني رأيت في ص باي من
آب ائي وأج دادي من ك ان ص احب لحي ة طويل ة ..ك ان الك ل يقص رون لح اهم ،أو
يحلقونها تماما ..ولهذا ال تنطبق علي آراء فرويد في عقدة الصبا.
ولكني بعد أن شببت عن الط وق ..وب دأت -وخصوص ا في الجامع ة -أرى
أصحاب اللحى الطويلة ،بدأ يص يني ه ذا الن وع من الره اب ..وزاد الره اب أك ثر
عندما بدأت تظه ر على شاش ات القن وات العالمي ة لحي ة أس امة بن الدن الطويل ة..
ولحى كثيرة جرعتنا في بالدنا كل أصناف المرارة.
وقد كنت أعاتب نفسي كثيرا على هذا الره اب خش ية أن أب وح ب ه ألح د من
الن اس ،فيتهم ني ب الكفر والزندق ة ،ألن اللحي ة لم تع د مج رد ش عرات تنبت على
الوجه ،وإنما صارت أصال من أصول الدين ،وأساسا من أسس ه ال تي يق وم عليه ا،
بل يقوم الجرح والتعديل على أساسها ..بل تقوم المعامالت المختلفة بين الناس على
اعتباره ا ..فمن ك ان ص احب لحي ة ،وخصوص ا الطويل ة ،وث ق في ه الن اس ،ولم
يحتاجوا ألي رهن أو سندات.
لكني بعد أن قرأت ما ق ال المح دثون في أص حاب اللحى الطويل ة زال ع ني
الحرج ،وصرت أصرح بذلك ،وال أبالي به ،فقد ق رأت عن بعض المح دثين قول ه:
(من طرائف جرح الرواة ،الجرح ألجل طول اللحية !! ،وقد تتبعتها فوج دتها قيلت
في أكثر من را ٍو للحديث) ،ثم ذكر أمثلة على ذل ك ،ال ب أس أن أس وقها هن ا ،لعله ا
تدعو إلى إجراء دراسات ميدانية أو بيولوجية أو طبية لقياس عالقة اللحية الطويل ة
بالمخ أو بالمخيخ أو بالمراكز العصبية أو مراكز الذكاء والفطنة.
فقد نقل عن سؤاالت اآلجري لالمام ابي داود قوله ( :وسئل أبو داود عن أبي
إسرائيل المالئي فقال ذكر عند حسين الجعفي فقال :كان طويل اللحية أحمق)
ونقل عن العجلي قوله ( :قال سعيد بن منصور قلت البن إدريس رأيت س الم
بن أبي حفص ة ؟ ،ق ال( :نعم رأيت ه طوي ل اللحي ة أحمقه ا) ،وق ال حس ين الجعفي:
(كان طويل اللحية أحمقها ).
ونقل عن ثقات ابن حبان في ترجمة موسى بن الس ندي ( :س معت أب ا حنيف ة
يقول يقولون( :من كان طويل اللحية لم يكن له عق ل) ،ولق د رأيت علقم ة بن مرث د
طويل اللحية وافر العقل )
ً
ونق ل عن ش فاء العلي ل ألبي الحس ن الم أربي توض يحا ل ذلك ،حيث ق ال:
( الوصف بطول اللحية يدل على الغفل ة ال تي ت ؤدي إلى رف ع الموقوف ات ،وإس ناد
المرسالت ،فهذا هو األصل ،وال يترك إال لقرينة أقوى من ذلك).
ونق ل عن الخطيب البغ دادي في ت اريخ بغ داد قول ه في ترجم ة أبي عب د هللا
العوفي ،وكان طويل اللحية جدا ،وقد مدحها بعضهم ،فقال:
21
م ا اختفى من حس ن لحي ة الع وفي أب دت
عري ش
ل ذوي متج ر بح ري هي ل و ك انت ش راعا
إلين ا نص ف ش هر جعل السير من الص ين
در لق دت ك تع ول وفي هي في الط
رض الع
ومن أخباره وأخبار لحيته م ا ح دث ب ه ابن أبي داود ق ال :ق امت ام رأة إلى
العوفي فقالت :عظمت لحيتك فافسدت عقلك وما رأيت ميتا يحكم بين األحياء قبلك،
قال :فتريدين ماذا ؟ ،قالت :وتدعك لحيتك تفهم ع ني ؟ ،فق ال بلحيت ه هك ذا ثم ق ال:
تكلمي يرحمك هللا.!!.
ومنها ما حدث به الساجي بالبصرة ،قال :اشترى رجل من أصحاب القاضي
العوفي جارية فغاضبته ولم تطع ه ،فش كا ذل ك إلى الع وفي فق ال :أنف ذها إلي ح تى
أكلمها فأنفذها إليه ،فقال لها :يا عزوب ي ا لع وب ي ا ذات الجالبيب ،م ا ه ذا التمن ع
المجانب للخيرات ،واالختيار لألخالق المشنوءات ،فقالت له :أيد هللا القاض ي :ليس
لي فيه حاجة فمره يبيعني ،فقال لها :يا مني ة ك ل حليم ،وبح اث عن اللط ائف عليم،
أم ا علمت أن ف رط االعتياص ات من الموموق ات على ط البي الم ودات والب اذلين
لك رائم المص ونات مؤدي ات إلى ع دم المفهوم ات؟ فق الت الجاري ة :ليس في ال دنيا
أصلح لهذه العثنونات على صدور أهل الركاكات من المواسي الحالقات ،وضحكت
وضحك أهل المجلس .وكان العوفي عظيم اللحية.
كانت هذه بعض أخبار لحى سلفنا الصالح ..أما أخبار خلفنا الفالح ،فهي أكثر
من أن تعد أو تحصى ..وسأحكي لكم قصة قد تدخل ضمن ما ذكره الي افعي وغ يره
عن اللحى الطويلة ،وأدع و الق راء الك رام لتس جيل مالحظ اتهم وحكاي اتهم في ه ذا
عسى أن نخرج موسوعة عن اللحى والعقول.
في ذل ك الي وم دخلت إلى مح ل المالبس ألش ترى بعض الل وازم ألهلي في
رمضان ،فوج دت ص احب المح ل ،وك ان ص احب لحي ة طويل ة ال تق ل عن لحي ة
الع وفي ،وق د رأيت الكث ير من الزب ائن يحلق ون إلى شاش ة التلف از الكب يرة ال تي
وضعت في مقدمة المحل ،ليراه ا ك ل من ي دخل ،وق د ع دت وخ رجت من المح ل
ألتأكد أني دخلت محل ثياب ال إلى دار سينما ..لكن تأكدت من ذلك ،فك ل ش يء م ا
عدا تلك الشاشة يدل على أنه محل ثياب.
سألت صاحب المحل عن سر الشاشة الكبيرة ،فقال :أنا ميس ور الح ال بحم د
هللا ،فلدي هذا المحل ،ولدي غيره كثير ..وقد جعلت بيني وبين هللا أن أجعله وس يلة
للدعوة إلى هللا ..فقد وضعت في كل محل شاشة كهذه الشاشة ،عس ى أن يس مع ك ل
داخل إليه ما قد يفيده ويوجه ه ،فأكس ب ث واب قول ه ( :ألن يه دي هللا ب ك رجال
22
النعم)()1 واحدا خير لك من حمر
قلت :فلتش ركني مع ك في األج ر ..فل دي بعض األش رطة العلمي ة اإليماني ة
المفي دة لل دكتور مص طفى محم ود ..ق د ك ان له ا دور كب ير في التوجي ه والتربي ة
وتعميق الحقائق اإليمانية.
قال :ال أحتاجها..
قلت :لم؟ ..أتنكر على الرجل شيئا؟
قال :ال ..قد كانت تعجب ني كث يرا ..ولكن المش كلة فيه ا أن مص طفى محم ود
حليق اللحية ..ومظهره ال يمثل الداعي ة المس لم ..ح تى أن ك ال تف رق بين ه وبين أي
شخص آخر.
قلت :ألهذا الحد تحتل اللحية كل هذه القيمة عندك؟
قال :أجل ..هي سنة رسول هللا ..وهي س مة اإلنس ان المس لم ال تي تفرق ه
عن اليهود والنصارى والشيوعيين والمالحدة.
قلت :ال بأس ..فلدي أشرطة أخ رى للش يخ محم د مت ولى الش عراوي ..وأنت
تعرف فضله وما رزقه هللا من فهوم جليلة للقرآن الكريم ..وهو ف وق ذل ك ص احب
لحية محترمة مهذبة.
ق ال :أج ل ..وأن ا أحترم ه كث يرا ..ولكن مش كلته هي في لحيت ه المحترم ة
المهذبة ..أصدقك القول ..لو أن لحيته كانت أطول قليال لكان ه و المفض ل عن دي..
ولكنت وضعت دروسه في جميع محالتي ..ولكن المشكلة أن الشيخ الشعراوي كان
يقصر لحيته كثيرا ..وأنت تعرف أن العالمة التويجري وإخوانه كث ير ق د كتب وا في
تحريم ذلك.
قلت :ال بأس ..فلنستمع اليوم إلى أصحاب اللحى الطويلة ..لعلن ا نج د عن دهم
ما ال نجده عند المردان أو المحلقين أو المقصرين.
استبشر صاحبي لقولي هذا ،وقال :وأخيرا أراك تنزل عند رأيي.
قلت :ال مندوحة لي من ذلك ..ولكن البد أن تجلس معي أنت أيضا لنسمع م ا
يردده أصحاب اللحى الطويلة الذين نسخوا من عداهم.
راح ص احبي يبحث في خزانت ه عن الشخص ية ال تي يتناس ب مظهره ا م ع
الدعوة إلى هللا ،فوجد شيخا معروفا ،بل هو أشهر من نار على علم ..ك ان ص احب
لسان فصيح ..وقامة فارعة ..ولحية كثة ..ولكني لم أر عقله ..ولهذا لست أدري هل
كان بطوله وطول لحيته ،أم كان أقصر من ذلك ..لكني بعد أن سمعته عرفت معنى
قول الشاعر:
ف زادت اللحي ة في ما أحد طالت له لحية
هيئته
أك ثر مم ا زاد في إال وم ا ينقص من
لحيته ه عقل
)(1رواه البخاري ومسلم.
23
وضع الشريط( ..)1وبدأ الشيخ يخاطبني ،ويخاطب ص احب المح ل ،وبعض
الزبائن الذين أعجبهم سمت الشيخ ..لكن المصيبة أن المعلومة ال تي اجته د بك ل م ا
أوتي من ق وة أن يوص لها لهم ،ويس تميت في ال دفاع عنه ا هي ملخص ة في رواي ة
مكذوبة مفادها أن (خديجة أرسلت إلى النبي تدعوه إلى نفس ها ،تع ني ال تزويج،
وكانت امرأة ذات شرف ،وكان كل قريش حريصا على نكاحها قد بذلوا األموال لو
طمعوا بذلك ..فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل ،ونح رت بق رة ،وخلقت ه بخل وق،
وألبسته حلة حبرة ،ثم أرسلت إلى رسول هللا في عمومته فدخلوا عليه ،فزوجه،
فلما صحا قال :ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا الحبير؟ قالت :زوجتني محم د
بن عبد هللا قال :ما فعلت أنى أفعل هذا ،وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل)()2
ما إن انتتهى من حديثه هذا حتى قام أحد الزب ائن ممن ك ان مش غوال بس ماع
الخطيب غاضبا ،وقال :أسكت عنا هذا األحمق ..فلو اجتمع جميع أعداء رس ول هللا
في تشويهه وتشويه أم المؤمنين خديجة ما بلغوا ما بلغ.
وقامت امرأة ،وقالت :أهذه هي خديجة التي يحدثوننا عنها ..كيف تجرؤ على
فعل هذا؟
قال آخر :وكيف يرضى رسول هللا أن يتزوج بهذه الطريقة؟
ثارت فوضى في المحل ..فأسرع صاحب المحل إلى الشريط يوقفه ،ويحاول
أن يستلطف الزبائن ..ثم التفت إلي ،وقال :ال تتسرع بالحكم من خالل مشهد واحد..
سأضع شريطا آخر لشخص آخر ..ألطف نبرة ،وأطول لحي ة ..وسينس خ عن ك تل ك
الصورة المشوهة التي تحملها.
وضع ش ريطا آخ ر لش يخ آخ ر ال يق ل ش هرة ..ك ان يتح دث عن الم رأة في
اإلسالم ،وما إن تحدث بعض الفقرات العاقل ة ح تى أص ابته لوث ة اللحي ة الطويل ة،
فقال – ولست أدري هل كان يشعر بما يقول أم ال( :-أيها اإلخوة الكرام! إن صالح
البني ان االجتم اعي ال يك ون إال بإع ادة النظ ر في أم ر الم رأة ،والب د لك ل دع وة
إص الحية من ش هداء ،أفال تك ون ش هيداً ،أفال تك ون طليع ة من طالئ ع الفتح ،إنن ا
نحتاج إلى مراجعة أنفسنا فيما يتعلق بالنساء ،إعادة النساء إلى البيوت مرة أخ رى،
نعلمهن كت اب هللا تب ارك وتع الى ،وس نة الن بي ص لى هللا علي ه وس لم وكفى بهم ا،
ف البنت ال تحت اج أن تتعلم اإلنجل يزي وال الفرنس ي ،وال جغرافي ا ،وال ت اريخ ،وال
تربية قومية ،وال حساب مثلثات ،وال كيمي اء ،البنت ال تحت اج إلى ه ذا كل ه ،ال في
الدنيا وال في اآلخرة ،نحن نحتاج إلى زوجات صالحات ،األمهات يعلِّمن البنات كل
شيء؛ ألنهن سيكن زوجات بع د ذل ك ،كث ير من البن ات يتع ثرن في بداي ة حي اتهن
24
الزوجية ،لماذا؟ ألن األم لم تعلمها كيف تطبخ ،وال كيف ت رعى ال زوج ،لم تعلمه ا
الكياسة ،وال الفطنة ،وال الذكاء ،تدخل على زوجه ا ومعه ا س الح ،ول و أن الم رأة
معها شهادة علي ا (ماجس تير) أو (ليس انس) ،وتق دم رج ل مع ه دبل وم ،وه و رج ل
صالح ،ورجل فاضل ،يقولون :ال .لم اذا؟ ألن هن اك تف اوت في الكف اءة ،أي كف اءة
هذه؟)()1
ثارت فوضى في المحل ،وقال بعضهم :من هذا المجنون الذي يتحدث؟
وقالت امرأة :ما هذا اإلسالم الذي يتحدثون عنه؟
لم ييأس صاحب اللحية الطويلة ،فوض ع ش ريطا آخ ر لداعي ة آخ ر ص احب
لحية أقل طوال ،فاستبشرت خيرا ،لكنه ما إن تحدث قليال حتى أتى بجميع الطام ات
والموبق ات ف ذكر – مجيب ا على أس ئلة وجهت ل ه -ج واز ت رك الرج ل زوجت ه
للصوص والمجرمين إذا خاف على حياته من القتل ..وج واز إغالق الرج ل الب اب
على زوجت ه وعش يقها إذا ش اهدهما في س ريره ،ب دون أن ي رى الفاحش ة كامل ة..
وج واز أن يتلص ص أو يتجس س الرج ل على الم رأة وهي تس تحم ،إذا أراد
خطبتها(.)2
ما إن وصل إلى هذا الحد من حديثه حتى ح دثت فوض ى كب يرة في المح ل،
وخرج الناس جميعا نساؤهم ورجالهم وأطفالهم ..ولم أبق إال أنا وه و ،ف التفت إلي،
وقال :خذ ما تشاء من الثياب ،أرجو منك فقط أن تقدم لي خدمتين.
قلت :أنا طوع أمرك.
قال :أما األولى فأن تحضر لي ما ذكرت من األشرطة.
قلت :والثانية؟
قال :أن تحضر لي معك مقصا أهذب به هذه اللحية ..فأظن أنها ق د أكلت من
عقلي ما أكلت من عقولهم.
)(1من شريط بعنوان (مؤامرة تحرير المرأة) للشيخ أبي إسحاق الحويني ،وهو على الرابط التالي:
()http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=92353
)(2انظر الفيديو على الرابط التالي:
.http://elaph.com/Web/News/2014/8/929686.html#sthash.rfMicRJ3.dpuf
25
العقيدة الصحيحة
إن نسيت كل شيء في حياتي ،فلن أنسى ذلك اليوم الذي زرت فيه صديقا لي
في العاصمة ،وهناك وعندما حضرت الصالة ذهبنا إلى مسجد ق ريب نص لي في ه،
وبعد أن انتهت الصالة نهض اإلمام ،وقال :سنصلي اآلن على جن ازة رج ل ..وإلى
هنا كان األمر عاديا ..لكن رجال آخر ق ام ،وق ال :ص لوا علي ه جميع ا ،فالرج ل ق د
مات على العقيدة الصحيحة.
تعجبت من هذه الكلمة ،وسألت ص احبي عن دما خرجن ا عن س ر قول ه ه ذا،
فقال :لقد تعودنا على هذا في مسجدنا هذا وغيره ،وقد أصبح من الظ واهر المألوف ة
في العاصمة ،والتي ال تثير أي استغراب.
قلت :أهم يقولون هذا عند كل جنازة؟
قال :ال ..ولو قالوها عند كل جنازة لفقدت معناها.
قلت :ولكن الذي أعلمه أن صالة الجنازة ال تقام إال على المسلمين ،ول ذلك ال
يحت اج اإلم ام وال غ يره لتنبي ه الن اس إلى عقي دة الميت ..فم ا دام مس لما ،فعقيدت ه
صحيحة.
ضحك صاحبي بصوت ع ال ،وق ال :ذل ك في معتق داتك أنت أيه ا الب دوي..
أنت تجهل التطورات التي وصلنا إليها نحن أهل المدن الكبرى..
قلت :أتعد هذا من التطورات؟
ق ال :أج ل ..ه ذا من التط ورات الك برى ..ف التطور ال يص يب الحي اة ال دنيا
وحدها ،بل هو يصيب أيضا الحياة الدينية.
لس ت أدري ه ل ك ان ص احبي يم زح حين ق ال ه ذا ،أم ك ان ج ادا ،لك ني
استمررت في سؤاله على كل حال ،وقلت :ال بأس أسلم لكم ـ معشر الحضر ـ بأنن ا
ال ن زال ب دوا ،وال زلن ا نجه ل التط ورات ال تي ج اء به ا رج ال الت دين الح ديث..
فأخبرني عن جدوى قوله( :إن الرجل عقيدته صحيحه)
فق ال :ه ذا وس ام عظيم وش هادة عظيم ة ..س يظل أهل ه وأقارب ه وأص دقاؤه
يفخرون بها ..وسيظل غيرهم يحن إلى أن يشهد له بمثلها ..فهي تشهد له أنه سيثبت
عند السؤال ،وسينجو من منكر ونكير ..بل ربما يتاح له أن يعاين منزلته من الجن ة
في ذلك اليوم،وبعد انصراف الناس مباشرة من الجنازة.
َ
﴿و َما أ ْد ِري َم ا
قلت مستغربا :ولكن ذلك هلل ،وقد قال تعالى عن أشرف خلقهَ :
يُ ْف َع ُل بِي َواَل بِ ُك ْم﴾ [األحقاف ،]9 :فاآلية الكريم ة تنص على أن رس ول هللا ك ان
يكل علم مصيره إلى هللا تعالى ،بل ورد في الحديث الشريف ما يدل على ه ذا ،فعن
أم العالء أنها قالت بعد وفاة عثمان بن مظعون ـ وه و من الص حابة األوائ ل ال ذين
ثبتوا مع رسول هللا في كل المحن التي مر به ا ـ( :رحم ة هّللا علي ك أب ا الس ائب
شهادتي عليك ،لقد أكرمك هّللا تع الى) ،فق ال له ا رس ول هّللا مص ححا وموجه ا:
26
(وما يدريك أن هّللا تعالى أكرمه؟) ،ثم قال( :أما هو فق د ج اءه اليقين من رب ه وأني
ألرجو له الخير ،وهّللا ما أدري وأنا رسول هّللا ما يفع ل بي) ،ق الت ،فقلت( :وهّللا ال
أزكي أحداً بعده أبداً)()1
ابتسم صاحبي ،وقال :لق د ذك رت ل ك أن ك ال ت زال ب دويا..فك ل اس تدالالتك
بدوية ..ومفاهيمك أيضا بدوية..
قلت :فما الجديد الذي طرأ ،ونسخ تلك النصوص المقدسة؟
ق ال :فه وم الس لف ..أال تعلم أن الق رآن والس نة غ ير ك افيين للهداي ة ..ب ل
يحتاجان منا إلى مراجعة السلف لنفهمهما الفهم الصحيح؟
قلت :فما قال السلف في هذا؟
قال :لقد نصوا على أنه يمكن الشهادة لمن صحت عقيدت ه بالجن ة ..والش هادة
لمن سقمت عقيدته بالنار.
قلت :عجبا ..هل تجرأوا على هذا؟
قال :بل اعتبروه من السنة ..لقد قال ذلك الذي يلقب بش يخ اإلس الم( :وك ذلك
من أجمعت األم ة على الثن اء علي ه ،فإنن ا نش هد ل ه بالجن ة ،فمثالً :األئم ة :أحم د،
والشافعي ،وأبو حنيفة ،ومالك ،وس فيان الث وري ،وس فيان بن عيين ه ،وغ يرهم من
األئمة رحمهم هللا ،أجمعت األمة على الثناء عليهم ،فنشهد لهم بأنهم من أهل الجن ة)
()2
وقد تبعه على قوله هذا كل المشايخ والعلماء ،وأض افوا إلى م ا ذك ره الكث ير
من أعيان العلماء ،فالش يخ ابن ع ثيمين ذك ر أن ه يش هد البن تيمي ة بالجن ة ،ويش هد
ألعدائه بالنار ،فقال في [شرح رياض الصالحين]( :وشيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه
هللا أجمع الناس على الثناء عليه إال من شذ ،والشاذ ش ذ في الن ار ،يش هد ل ه بالجن ة
على هذا الرأي) ()3
قلت :أرى أن للقوم من صكوك الغفران ما بزوا به غيرهم.
قال :وه ل ت رى أن يك ون ألولئ ك الص ليبيين الكف رة ص كوك غف ران ،ثم ال
يكون لنا مثلها معشر األمة المرحومة؟
قلت :ال بأس ..سلمت لك بما ذكرت ..لكن ما جدوى أن يعلم الناس بذلك..
قال :هم يقصدون أن يخبروا الناس بذلك لغرضين ..أم ا أولهم ا ف أن يص لوا
عليه جميعا..
انتفضت ،وقلت :وفي حال لم يذكر ذلك ..أال يصلون عليه جميعا؟
قال :طبعا ..إذا لم يذكر اإلمام ذلك ..فلن يصلي علي ه إال العام ة من الن اس..
أما أتباع السلف وأعيان الناس وأهل العلم منهم ،فيكره لهم الصالة عليه ..ألم تس مع
)(1رواه البخاري.
)(2مجموع الفتاوى ()314 /18
)(3شرح رياض الصالحين .573 – 570 /4
27
بأنه لما أدخلت جنازة محمد بن علوي المالكي الص وفي للح رم في ص الة المغ رب
لتصلى عليه الجنازة رأى الشيخ السديس زحمة الناس ،فسأل عن السبب ،فق الو ل ه:
هذه جنازة محمد علوي مالكي ..فرفض الشيخ الصالة علي ه ..وترك وا الجن ازة الى
صالة العشاء ..وقتها كان الشيخ ( ) ...يصلي بهم العشاء ،وكان عنده علم بص احب
الجنازة ..في البداية رفض الص الة علي ه ..وبع دها ك ثر اللغ ط من أتب اع الم الكي..
وقتها دخلت جنائز ،فواف ق الش يخ الص الة على ك ل الجن ائز ،ومن ض منهم جن ازة
المالكي.
قلت :ولكن ..أال ترى أن في هذا تشددا ،فصالة الجنازة عبادة ،وهي حق لكل
مسلم ..فكيف تأخذون دينكم ـ معشر الحضر ـ في هذا من رجل إنما هو قارئ قرآن
ال عالقة له بعلم وال بفقه؟
قال :بل نأخذ ديننا من سلفنا األول ..فقد ترك سلفنا الص الح الص الة على من
هو دونه ..فقد رفض سفيان الثوري الصالة على بعض المبتدع ة ،وق ال( :وهللا إني
ألرى الصالة على من هو دونه عن دي ،ولكن أردت أن أري الن اس أن ه م ات على
بدعة)
قلت :ال بأس ..فلنفرض أني اقتنعت بما قلت ..فما هي العقيدة الصحيحة ال تي
تمنحني تلك الصكوك ،وتضمن لي مصيري إلى الجنة؟
قال :ليس من السهل أن تعرفها في مجلس أو مجلسين ..ألنها عقي دة مؤسس ة
على الدليل ،وكل مسألة منها مشفوعة بما يدل عليها من أقوال السلف..
قلت :فأخبرني عن مجامعها.
أخ رج لي من جيب ه كتاب ا ص غيرا ،ثم ق ال :سأختص ر ل ك األم ر ..خ ذ ه ذا
الكتاب ،واحفظه عن ظهر قلب ،واعتقد بم ا في ه ..وإي اك أن تش ك في ح رف من ه،
فإن مت عليه مت على العقيدة الصحيحة.
أخذت الكتاب ،وكان اسمه (شرح السنة) ،وكان من تأليف أبي محمد الحس ن
البربهاري ،وقد تعجبت من الص ورة التجس يمية ال تي رس مها هلل ،وال تي امتأل به ا
كتابه ،وقد تعجبت أكثر عندما قرأت في خاتمته قوله بك ل ج رأة( :فمن أق ر بم ا في
هذا الكتاب وآمن به واتخذه إماما ،ولم يشك في حرف منه ،ولم يجحد حرفا واح دا،
فهو صاحب سنة وجماعة ،كامل ،قد كملت فيه السنة ،ومن جحد حرفا مما في ه ذا
الكتاب ،أو شك في حرف منه أو شك فيه أو وقف فهو صاحب هوى) ()1
28
مسجد ضرار
األص ل في المس اجد ال تي أقيمت على أس س من تق وى هللا أن تك ون مالذا
ألصحاب النفوس المشتتة لتطمئن ،وألصحاب العقول الحائرة لتهتدي ،وألص حاب
األرواح المسجونة في سجون األهواء لتتحرر وتسمو.
واألصل فيها أن تكون صماما ألمن المجتمع ووحدته ..فال يرتفع فيها صوت
إال صوت الوحدة والسالم والسكينة.
وعلى عكسها مساجد الضرار التي وصفها القرآن الكريم أدق وصف ،فق ال:
ب ض َرارًا َو ُك ْفرًا َوتَ ْف ِريقً ا بَ ْينَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َوإِرْ َ
ص ادًا لِ َم ْن َح ا َر َ ﴿ َوالَّ ِذينَ اتَّ َخ ُذوا َم ْس ِجدًا ِ
هَّللا َ َو َرسُولَهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَيَحْ لِفُ َّن إِ ْن أَ َر ْدنَا إِاَّل ْال ُح ْسنَى َوهَّللا ُ يَ ْشهَ ُد إِنَّهُ ْم لَ َكا ِذبُونَ ﴾ [التوب ة:
]107
ومساجد الضرار ال تتوق ف على ذل ك المس جد الوحي د ال ذي بن اه المن افقون
بمعونة المشركين في عهد رسول هللا ليكون وسيلة لخل ط القيم الش يطانية ب القيم
اإلسالمية ،بل هو مس جد ق د يب نى في أي مك ان ،وق د يوج د في أي زم ان ،بش رط
واحد ما أسهل توفره ،وهو أن يصبح محال للفتنة ،ال للسالم ..ولتش تيت القل وب ،ال
لطمأنينتها ..ولتفريق األمة ،ال لتوحيدها.
والمساجد التي تتوفر على هذا الوصف في عصرنا أكثر من أن تحصى ..بل
إنها تكاد تزاحم المساجد المؤسسة على التقوى ،وتنافسها ،وتلغيها..
فما أكثر الفتن التي انطلقت بأسماء مختلفة من المساجد ،وبعد صالة الجمعة،
لتشعل نيران الفتن في المجتمع ،وتحرق وتقتل وتكف ر وتب دع وتض لل وته دم باس م
هللا ،وباس م ال دين ،وتعطي ص ورة عن الت دين القاس ي الغلي ظ الممتلئ بك ل القيم
الشيطانية.
ربما أكون مخطئا في هذه األحكام ..لكني سأذكر لكم مشهدا من المشاهد عن
مسجد من المساجد ،ولكم أن تحكموا عليه بما شئتم ..لكن فق ط ..ال تخض عوا للعق ل
الجمعي في أحك امكم ..ب ل انطلق وا من كت اب هللا تع الى ال ذي ف رق بين مس اجد
الضرار ومساجد التقوى ..فجعل لألولى الفرقة والفتنة والتضليل والتشويه ..وجع ل
للثانية الوحدة والسالم والطمأنينة والسكينة.
وتبدأ قصتي مع ذلك المسجد من سفر حملت في ه بعض أهلي للت داوي ..وق د
ك ان مرض ه ش ديدا ،والحمى تغ رز في ه أنيابه ا الس امة لتجعل ه يتلظى من حره ا
وسمها ..لكني لورعي الشديد ،والممتلئ بالبرودة ،وبع د م روري ببعض المس اجد،
وس ماعي آلذانه ا ،طلبت من الس ائق أن يتوق ف بن ا ألداء الص الة ،لنكم ل بع دها
مسيرنا للمستشفى.
وقد كان في نيتي أن أدخل ،وأصلي مباشرة من دون انتظ ار الجماع ة ..لكن
األمر بعد دخولي إلى المس جد خ رج من ي دي ،وأص بح في ي د أولئ ك ال ذين لس ت
29
أدري ما أسميهم.
فبعد أدائي والسائق للصالة فرادى ،وعزمنا على الخ روج ،القان ا رج ل من
الذين تعرفون ..لست أدري ه ل كلفت ه إدارة المس جد بالحجاب ة ..أم أن ه ت ولى ذل ك
تطوعا ،فقد القانا ،وقال لنا بلغة غليظة :إلى أين ..الصالة لم تقم بعد؟
قلت :لقد صليناها فرادى ..ونحن اآلن مستعجلون ..نريد الخروج.
أوقفنا ،وقال :يا أخي ..هذا ال يص ح ..م ا ب الكم ..ألم تق رؤوا كتب الفق ه ..ألم
تسمعوا إلى المشايخ ..بعد سماع اآلذان ال يحق لكم أن تخرجوا من المس جد إال بع د
أداء صالة الجماعة فيه؟
قال ذلك ،ثم أخرج لنا مطوية ،وراح يقرأ لنا فتاوى العلماء في ذل ك ..لكن ني
تجرأت ،وقلت :ولكن..
فق اطعني بغض ب ش ديد ،وق ال :ي ا هللا ..ه ل هن اك من يعقب على أحك ام
الشريعة ..ما بالك يا رجل ..أال تفهم ..صالة الجماعة واجب ة حس ب األدل ة الكث يرة
الصحيحة ..وال يحق لكم أن تتركوا الواجب..
قلت متوسال :أرجوك اسمعني فقط..
قال بغلظة :كيف أسمعك ،وأنت تتحدى أوامر هللا ،وال تقيم دينه ..هل تحسب
أن المسجد ملعب ،تدخله متى تشاء ،وتخرج منه متى تشاء ..المس جد بيت هللا ،ول ه
حرمته..
أردت أن أتكلم ،لكن صاحبي السائق ،أخذ بيدي ،وق ال :ص دقني ..ال ج دوى
للحديث معه ..فلنصبر ،ولننتظر ص الة الجماع ة ..فنكس ب التخلص من ه ،ونكس ب
أجر الجماعة.
لم أجد إال أن أسلم له فيم ا ق ال ،ول و أن ك ل ثاني ة ك انت تم ر علي في ذل ك
المسجد ،وكأنها سنة كاملة ،ألن قلبي كان مع ذلك المريض الذي تك اد الحمى تفت ك
به.
انتحيت ناحي ة من المس جد ،ورحت أحم ل مص حفا ،وأخ ذت أق رأ الق رآن
الكريم ..لكن غليظا آخر ..ولست أدري كيف سمع ق راءتي الخافت ة ..اق ترب م ني،
وقال :لقد ارتكبت أخطاء كثيرة فاحشة في قراءتك لهذه اآلية..
قلت :شكرا جزيال ..أرجو أن توضح لي.
قال :لقد حولت المد الالزم إلى مد طبيعي ..وفوق ذلك لم تؤد الغن ة جي دا في
النون الساكنة ..ورققت الراء مع أنها ال ترقق في ذلك المحل..
وأخذ يعد علي أخطائي الكث يرة من ق راءتي آلي ة واح دة ..فقلت ل ه معت ذرا:
شكرا جزيال على المعلومات ..أنا في الحقيقة نسيت بعض األحكام التي ذكرتها.
غضب الرجل ،وقال :وهل تحسب أن أحكام الترتيل لعبة لك أن تنساها م تى
تشاء ،وتتذكرها متى تشاء ..أحكام الترتيل هي المدخل الذي تدخل ب ه إلى الق رآن..
وإال فال يص ح ل ك أن تحمل ه وال أن تق رأه ..أنت بقراءت ك ه ذه تح رف الق رآن من
حيث ال تشعر.
30
قال ذلك ،ثم أخرج من جيبه مطوية ،وراح يقرأ لي فتاوى العلم اء في ذل ك..
وأنا أكاد أنفجر ..لكني لم أملك إال أن أستسلم له ،وأقول ـ والغي ظ ق د أخ ذ م ني ك ل
مأخذ ـ :شكرا جزيال على النصيحة الغالية ،وسأعمل بها.
أخرج ورقة وقلما من جيبه ،وقال :ب ورك في ك ..الش ك أن ك رج ل ص الح..
ولهذا سأضمك إلى الفريق ال ذي أدرّس ه أحك ام الترتي ل ..أعط ني بطاقت ك ألس جل
اسمك في القائمة ..فلدي دورة هذا األسبوع.
قلت :ولكن أنا..
قاطعني ،وقال :ال تخف يا رجل ..فالدورة مجانية ..ولم نقمه ا إال لوج ه هللا..
أعطني بطاقتك فقط.
أردت أن أتكلم ،فقال :ما بك يا رجل ..هل تتصور أنني سأسلب مالك ..أقس م
لك أن الدورة مجانية ..أعطني بطاقتك فقط.
التفت إلى الس ائق ال ذي وض عني في ه ذه الورط ة ،فرأيت ه يخ رج بطاقت ه،
ويسلمها مستسلما لغليظ مثل الغليظ الذي بجانبي ،فلم أجد س وى أن أفع ل م ا فع ل..
وليتني ما فعلت ،فقد ق ام بمج رد أخ ذها ،وق ال :س أقوم بتس جيل بيانات ك في ال دفتر
المخصص لذلك ،وسنلتقي بعد الصالة ..وسأسلمك حينها البطاقة.
أخذت بي ده ،وقلت :أن ا مس تعجل اآلن ..ول دي م ريض ..أرج وك أرج ع لي
بطاقتي.
نظ ر إلي بغلظ ة ،وق ال :أراك تتك بر على العلم الش رعي ..أال تعلم األج ور
المعدة لطلبة العلم ..أال تعلم ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن..
وأخذ ي ذكر لي الكث ير من األح اديث بأس انيدها ،وأن ا كالمرج ل ال ذي يغلي،
ولكني خفت إن اعترض ت علي ه ،أن يعت برني معترض ا على األح اديث ال تي ك ان
يرددها ..فلذلك لم أجد إال الصمت واالستسالم.
بعد أن انصرف عني ،نظرت إلى الساعة قلقا مض طربا ،فتق دم إلي أح دهم،
وقال :أراك مضطربا قلقا ..هل حصل شيء؟
طمعت في أن يجعل هللا فرجي على يديه ،فقلت :أج ل ..وددت ل و أذن لي أن
أخرج ألن لدي حاجة ضرورية..
وضع يده على عيني ،وراح يفتحها ،كما يفعل األطباء ،ثم راح يقول بصوت
خافت :العالمات كلها متوفرة فيك ..فأنت مض طرب في المس جد ..وتري د الخ روج
منه ..وتتحيل لذلك بكل أنواع الحيل ..وهذه كلها عالمات على أنك مسكون..
اندهشت من قوله هذا ،وقلت :مسكون ..من طرف من؟
ق ال :من ط رف الجن ..أنت اآلن مس كون من ط رف عف اريت كف رة ..ك ل
األدلة تدل على ذلك..
أخرج بطاقة صغيرة من جيبه ،وق ال :ه ذه بط اقتي ..وفيه ا أرق ام ه واتفي،
وعيادتي ،يمكنك أن تزورني في أي وقت تشاء ..لكن عجل حتى ال تتفاقم حالتك..
قال ذلك ..ثم انص رف ع ني ..فج اءني غلي ظ آخ ر ،وجلس بج انبي ،ثم أخ ذ
31
يح دق في وجهي ،فظننت أن ه يعرف ني ..أردت أن أس أله عن ش أنه ،فق ال لي بك ل
برودة :أال تستحيي من نفسك؟
تعجبت من هذا الصلف والوقاح ة ،لك ني لم أش أ أن أدخ ل مع ه في ص راع،
فقلت له بكل هدوء :لم؟ ..هل تراني فعلت شيئا؟
قال :أال ترى الفرق بينك وبين جميع من في المسجد؟
قلت :معاذ هللا أن أرى فرقا بيني وبين إخواني المؤمنين ..ما بالك يا رجل أنا
مسلم موحد ..وأؤمن بأن المؤمنين جميعا إخوة.
قال :ال تخ رج عن الموض وع ..أخ برني ..أال ت رى أن ك تختل ف ج ذريا عن
هؤالء الذين تزعم أنهم إخوانك؟
قلت :في أي شيء؟ فأنا ال أرى أي فرق بيني وبينهم.
أخرج مرآة من جيبه ،وقال :انظر إلى وجهك ،فلعل نسيته.
نظ رت إلى وجهي في الم رآة ،ثم قلت :وجهي ه و وجهي ال ذي أعرف ه من ذ
سنوات ..لم يتغير ..فما الذي تراه أنت ،وال أراه أنا؟
أخذ المرآة بقوة ،وأعادها إلى جيبه ،وقال :ما أغباك وأش د غفلت ك ..أال ت رى
أن جميع أهل المسجد ملتحين إال أنت؟
قلت :أال ترى لحي تي ..نعم هي قص يرة ..ولكن م ع ذل ك يمكن ك أن تعتبره ا
لحية.
مد يده إلى لحيتي ،وأخذ يشدها بقوة ،ويقول :هل تعتبر هذه الشعرات لحي ة..
قارن بين طولها وطول لحيتي ..أو بينها وبين لحى من تراه من المصلين.
كدت أنفجر من الغضب ..لكن الجبن حملني على أن أداريه ق در المس تطاع،
فقلت :شكرا جزيال على النصيحة..
أخرج من جيبه مطوية ،وقال :ما دمت قلت ذلك ..فاسمع لما أقرؤه عليك من
فتاوى كبار العلماء في تحريم حلق اللحية أو تهذيبها..
قال ذلك ،ثم أخذ يق رأ لي الفت اوى الكث يرة ..ويردده ا علي بص وت مرتف ع..
وهو في كل حين ينظر إلي ،ويقول :هل اقتنعت ..أال يكفيك هذا؟
وأنا أقول :بلى ..اكتفيت ..يكفيني هذا.
فيرد علي بصالفته ووقاحته :إن لم تكفك تلك الفتوى ..فاستمع لهذه..
وهكذا بقي يردد علي أمث ال ذل ك إلى أن ق ام قيم المس جد ،وطلب من الن اس
االص طفاف للص الة ،فتنفس ت الص عداء ..لك ني لم أعلم المص ائب ال تي ك انت
تنتظرني.
بقينا مدة واقفين منتظرين إقامة الصالة ..لكن ال اإلمام وال القيم وال غيرهم ا
أق دم على ذل ك ..ولعلهم خش وا إن ص لى الن اس أن ينفض وا عنهم ..ول ذلك راح وا
يستغلون كل لحظة..
أخذ اإلمام مكبر الصوت ،وقدم خطبة طويلة حول أحوال المسلمين وضعفهم
وفق رهم وتعرض هم لإلب ادة في جمي ع أنح اء األرض ،ثم وض ح غرض ه من تل ك
32
الخطبة الطويلة ،وقال :بناء على هذا سنقوم اآلن بجمع تبرعاتكم إلنق اذ المس لمين..
فأنفقوا ما استطعتم ..وكلما كان أكثر كان أفضل.
ثم أخذ يرتل اآلي ات القرآني ة المرتبط ة باإلنف اق في ال وقت ال ذي حم ل في ه
بعض المصلين أكياسا ،وراحوا يمرون بها على المصلين..
مددت يدي إلى جي بي أبحث عن بعض الم ال ال ذي أخ رج ب ه المس لمين من
المص ائب ال تي يعيش ون فيه ا ،فلم أج د إال المبل غ ال ذي أري د تقديم ه للس ائق
والمستشفى ..فأصابني حياء شديد ..وطأطأت رأسي رجاء أن يمر من يجم ع الم ال
علي من دون أن يلتفت ،لكن ذلك لم يحص ل ..فق د ك ان المكل ف بجم ع الم ال أك ثر
صالفة من الجميع ..بل كان أكثر غلظة وشدة من جامعي المكوس والضرائب ..فقد
مد يده إلي ،وقال :يا رجل ..ضع ما عندك هنا ..أال تريد أن تنقذ المسلمين؟
قلت :أرجو المعذرة ..لم أحضر معي أي مال.
نظ ر إلي بغلظ ة ،وق ال :أنت تك ذب ..وفي المس جد ..أن ا أعلم أن في جيب ك
ماال ،ولكنك بخيل ..وال تخاف هللا ..وليس في قلبك رحمة.
التفت للمصلين ح ولي ،فوج دتهم جميع ا يس تعيذون م ني ومن بخلي ،ب ل إن
الذي كان بجواري همس في أذني قائال :أال تخاف هللا ..كيف تلقى هللا وأنت ترى ما
نزل بالمسلمين من مصائب ،ومع ذلك ال تمد يدك إليهم بالمعونة؟
شعرت بتأنيب كبير من نفسي ،وشعرت حقا بأني بخيل كما يقولون ..ومددت
يدي لجيبي ،لكني تذكرت السائق والمستش فى والم ريض ..فقلت في نفس ي مطمئن ا
لها :هؤالء أيضا مسلمون ..وهم أيضا محتاجون إلى مالي..
بعد أن انتهوا من جمع المال ،قامت الصالة ،فتنفست الص عداء ،لكن اإلم ام
بعد إقام ة الص الة ق ال :ننب ه إلى أنن ا س ندعو في الص الة بقن وت الن وازل ليخ رج
المس لمون من أزمتهم ،وليف رج هللا عليهم ،ويقم ع أع داءهم ،ويجم د ال دماء في
عروقهم.
قلت في نفسي :ال بأس ..ما دامت الصالة قد ب دأت ،فس رعان م ا تنتهي ،فق د
أوصى رسول هللا بتخفيف صالة الجماعة ..وال شك أن ه ؤالء حريص ون على
تطبيق هذه السنة.
لكن األمر لم يكن كما تصورت ..فقد راح يصلي صالة طويل ة ،لس ت أدري
ما كان يقرأ في كل ركعة ،وال ما يقول في كل ركوع وس جود ..وال ذي آذاني أك ثر
أن الذي أصلي بينهما خنقاني خنقا شديدا ،فكلما أبعدت كتفي راحا يضغطان عليها،
وكلما أبعدت قدمي راحا يلصقان فيهما قدميهما بق وة ..ويش هد هللا أني لم أخش ع في
تل ك الص الة ولم يحض ر قل بي فيه ا ،ألن الص راع ال ذي بي ني وبين ج اري فيه ا
شغالني عن القراءة والتسبيح والتكبير ،ولم أستفق إال بدعاء القنوت ..وما أدراك ما
دعاء القنوت..
لقد راح اإلمام يستعرض فيه جمي ع مناوئي ه وأعدائ ه ..وي دعو عليهم واح دا
واحدا ..يسميهم بأس مائهم ..ولم يكت ف ب ذلك ب ل راح إلى جمي ع طوائ ف المس لمين
33
يدعو عليهم بالويل والثبور وعظائم األمور ..ولما فرغ منهم راح لليه ود ،ف دعا هللا
أن يزلزل أرضهم ،ويحرق مصانعهم ،ويجمد الدماء في عروقهم ..ولم ا ف رغ منهم
راح للنصاري ،ودعا عليهم بالجنون والبرص والجذام وسيء األس قام ..ولم ا ف رغ
منهم راح للبوذيين ،فدعا عليهم بهمزات الش ياطين ونفثهم ونفخهم وهم زهم ..ولم ا
فرغ منهم راح للشيوعين ،ودعا عليهم بالخسف والمسخ والكسوف والخسوف..
وهكذا لم يترك دينا وال ملة وال شعبا إال دعا عليهم ،وأنزل أحقاده فيهم..
وبعد أن انتهى ،وانتهت الص الة ،أردت الخ روج ،فأخ ذ بي دي مج اوري في
الصالة ،وقال :ويلك يا رجل ..ما هذه العجلة ..أين التسبيحات ..ه ل ض اقت نفس ك
من الصالة إلى هذا الحد؟
قال ذلك ،ثم أخرج مطوية ،وراح يقول :انظر ما ورد فيها من فضل ..وأخ ذ
يقرأ لي بعض األحاديث الواردة في ذلك مشفوعة بأقوال السلف والخلف.
ولما انتهيت منها ومنه قمت أريد الخروج ..لكني وجدت المص لين مبع ثرين
على أنحاء المسجد ،ولم أجد ممرا آمنا أمر منه ،فقلت في نفسي :ال ب أس ..أن ا اآلن
مضطر ..وليس علي من حرج في أن أمر عليهم وهم يصلون..
قلت ذلك ،وأنا متصور بأن األمر يس ير ،وأن الح رج في ه مرف وع ..لك ني لم
أحاول المرور أمام المصلي األول حتى ضربني على صدري ضربة ش ديدة ك دت
أسقط أرضا ،لوال أن أحدهم أمسك بي ،وقال بكل غلظة :له الح ق في ذل ك ..فكي ف
تتجرأ على المرور بين يديه وهو يصلي ..أال تعلم عقوبة ذلك؟
قلت :ولكن لم ضربني بكل تلك القسوة ..كان يمكنه أن يمنعني بهدوء.
قال :وكان يمكن أن يضربك ضربة قاتلة ..أال تعلم فتاوى العلماء في ذلك؟
قال ذلك ،ثم أخرج لي مطوية ،وقال :انظر ما قال العلماء في المار بين ي دي
المصلي.
لم أنج منه ،ومن فتاواه إال بعد معاناة شديدة ،وبعد أن كادت تخرج روحي.
بعد أن تخلصت منه ،وبعد أن كاد يف رغ المس جد من المص لين أس رعت إلى
الباب ،ألنجو بنفس ي ،لك ني ف وجئت بمك بر الص وت ،وه و ين ادي على اس مي من
جملة أس ماء كث يرة ،وي دعونا بع دها لالق تراب من مح راب المس جد ،للتس جيل في
الدورة المرتبطة بأحكام الترتيل ..فت ذكرت بط اقتي ..ورحت أس رع إلى المح راب
مع جمع من المصلين ،بينهم السائق.
وأمام المحراب ..وقف اإلمام ،وراح يشكرنا ألننا تقدمنا لهذه الدورة ،ثم راح
يشرح لنا أهمي ة أحك ام الترتي ل ،وأن ه ال يمكن ق راءة الق رآن الك ريم وال فهم ه من
دونه ا ..وراح يطنب في ذل ك ،ثم وزع لن ا مطوي ة فيه ا فت اوى العلم اء المرتبط ة
بذلك ..وطلب منا أن ندفع مبلغا رمزيا مقابلها..
وكنت كلم ا رفعت ي دي ألس تأذن ،وأخ بره ب المريض ال ذي ينتظ رني في
الخارج ،كان يقول :سأترك لكم مجال األسئلة بعد أن أنتهي ..فال تستعجل.
بعد أن كدت ألفظ آخر أنفاسي ،سلم لنا البطاق ات بع د أن س جل ك ل البيان ات
34
الموجودة فيها ،وبعد أن أرغمنا بكل الوسائل على اإلمضاء على الحضور اليومي،
وبعد أن استل منا بعض المال الذي زعم أنه س يوزع للمس لمين ال ذين يت آمر الع الم
عليهم.
بعد أن أخذت بطاقتي ،وتنفس ت الص عداء ،رحت أه رول ف ارا من المس جد،
وكأنني فار من أسد هصور يريد أن يلتهمني.
ركبت السيارة ،وركب السائق معي ،والتفت إلى المريض ،فوجدت ه ي رتعش
بشدة ،وقد أخذت الحمى منه كل مأخذ حتى أنه لم يستطع أن يتكلم.
طلبت من السائق أن يسرع بنا ..فأسرع ..وما هي إال فترة وج يزة ح تى كن ا
بجانب المستشفى ..فطلبت من السائق أن يخبرني عن المبلغ ال ذي يس تحقه ..فنظ ر
في العداد ،وقال :لقد بقيت معك زهاء ساعتين ..وعليك أن تدفع لي حقهما..
قلت مستغربا :لكن المسافة بين بيتي وبين المستشفى ال تتجاوز ربع ساعة.
قال :وهل نسيت ذهابك إلى المس جد ..وحض ورك لل دورة ..أم أن ك تحس بني
متفرغا لك ..وليس لي أسرة وال أوالد.
قلت :ولكنك كنت معي ..وأنت الذي طلبت مني أن نبقى.
أخ رج مطوي ة من جيب ه ،وق ال :لن أجادل ك ..فه ذه فت اوى العلم اء في ه ذا
الشأن ..وأنا أعمل كل يوم بهذه الطريقة ..ولم يجادلني أحد غيرك ..ما أشد بخلك.
لم أجد ما أقول له ،ألن لساني انعقد ،وعقلي غاب ،ولم أص حو إال بع د ف ترة
طويلة ..وعندما صحوت وجدت المريض الذي أحضرته واقفا على رأسي ،ويق ول
لي :هل أنت بخير ..لقد قلقنا عليك كثيرا؟
قلت :وأنت ..كيف حالك ..فأنا ما جئت هنا إال ألجلك.
قال :مشكلتي بسيطة ..فقد أعطاني الطبيب الدواء ،وحقن ني بحقن ة ..وه ا أن ا
كما تراني بصحة جيدة..
قلت :وأنا؟
ق ال :لق د طلب الط بيب أن تبقى في المستش فى أيام ا ..ألن حالت ك تس تدعي
مراقبة خاصة.
بينما أنا كذلك إذ دخ ل علي إم ام المس جد ال ذي ص ليت في ه ،وع انيت من ه،
وكان يمسك بيده كيسا ،ثم اقترب مني ،وقال :بمج رد أن أخ بروني بم ا حص ل ل ك
أسرعت إليك ،ألقدم لك آخر المواعظ والنصائح ..فال تنس أن تنطق الشهادتين قب ل
أن تلفظ أنفاسك ..وال تنس أن توص ي بمال ك للمس لمين ال ذين يت آمر عليهم الع الم..
وقد أحضرت لك هدية قيمة أرجو أن تعجبك.
ق ال ذل ك ،ثم أخ رج لي من الكيس ص ندوقا ص غيرا مكت وب علي ه [أكف ان
السعادة] ،وأعطاني معه مطوية بعنوان [كيف تطبق السنة عند موتك؟]
35
مدد يا رسول هللا..
من العبارات التي نجدها في المجتمعات الص وفية أو المحافظ ة ه ذه العب ارة
التي لقيت جدال واسعا ،ونقدا شديدا [م دد ي ا رس ول هللا] أو [م دد ي ا أولي اء هللا] أو
[مدد يا سيدي فالن]
وأنا لست مفتيا حتى أبين الخالف الوارد في المسألة ووجوه القول فيها وأدلة
كل قول ،وترجيح الق ول المتناس ب م ع ال دليل..ولس ت قاض يا ح تى أص در حكمي
حول القائلين بهذا ..وإنما أنا مجرد قاص وحكواتي يريد أن يذكر حكاية ترتبط بهذه
الكلمة ..وتصور واقع قائليها ..وللمفتين والقضاة بعد ذلك أن يحكموا على قائل تل ك
العبارة بما شاءوا ..وما أكثر المفتين ..وما أكثر القضاة.
وبطل قصتنا هذه ليس رجال ..وإنما هو امرأة ..كان اسمها أميرة ..وهي حق ا
كانت في ذلك اليوم أميرة ،بل ملكة ال يضاهيها الملوك وال األم راء ..فق د ك ان له ا
من قوة الشخصية والهيبة والوقار والصدق ما جعلها تعتلي في قلوبنا وعقولنا أعلى
عروشها ،وأكرم مجالسها.
وتب دأ القص ة من ذل ك اإلعالن ال ذي نش رته الجرائ د ،وعل ق في المس اجد،
وتداوله الناس فيما بينهم ،وهو عن دورة تكوينية ال تعطي شهادات للمتكونين فيه ا،
وإنم ا تمنحهم ت ذكرة وتأش يرة ورحل ة مجاني ة لألراض ي المقدس ة للقي ام ب العمرة
والزيارة..
وبما أنني كنت متلهفا لتلك الزيارة ،فقد أسرعت للتسجيل فيها ،وأس رع معي
الكثير من أمثالي ممن تمتلئ قلوبهم باألشواق لتلك البقاع الط اهرة ،وال يج دون في
جيوبهم ما يلبي رغبات قلوبهم.
ولكنن ا جميع ا لم نكن نعلم األغ راض ال تي ك انت ت راد من تل ك التبرع ات
المجانية ..فقد حسبناها مجرد عم ل خ يري من بعض الص الحين ..ولم نكن نعلم أن
اله دف منه ا أن تغس ل عقولن ا ،وتس لب من ا فطرتن ا ،وت زاح منه ا تل ك األش واق
الطاهرة ،ليحل بدلها التدين العقيم الممتلئ بالغلظة والقسوة.
في أول درس لنا في تلك الدورة قدم شيخ من المش ايخ ممن تعرف ون ه يئتهم
وس متهم ..وب دأ ب التعريف بنفس ه ،ومش ايخه ،وأث نى عليهم جميع ا ،ودعان ا إلى
االرتباط بهم والتمسك بحبلهم ..وقد قبلنا منه كل ذلك ..ولم نعتب عليه في شيء منه
مع مبالغته الشديدة.
ثم أخذ يحدثنا عن المدرسة التي ينتمي إليها ،وك ان من حديث ه قول ه ـ بن برة
يختلط فيها اللين بالشدة ،والخطابة بالتدريس ـ :إنهم السلف ..أولئك الطاهرون الذين
نستمد منهم كل شيء ..فهم مصابيح الهداية ..وهم النور ال ذي من فق ده عمي ..وهم
الحياة التي من لم يعشها مات قلبه وتهدمت أركان دينه..
(أيها المس لمون ..إن الحض ارة اإلنس انية بمكتش فاتها ومخترعاته ا غالب ا م ا
36
يكون آخرها خيرا من أولها بخالف أديان الناس ومعتق داتهم؛ ف إن مت ديني ك ل دين
صحيح يكون أولهم خيرا من آخرهم ،وسلفهم أهدى من آخرهم ،ذل ك أن الحض ارة
بدأت تحبو ،في حين أن األديان ولدت واقفة ،والحضارة ت راكم مع رفي ،أم ا ال دين
فهو وحي منزل وهدي محكم ..والفرق بين األتب اع األوائ ل لك ل دين ص حيح وبين
متأخريهم كمثل الفرق بين الماء عند منبعه والماء عند مص به بع دما ج رى وخال ط
ما خال ط من الش وائب ..ل ذا ف إن خ ير يه ود :أنبي اؤهم وأحب ارهم األول ون ،وخ ير
النص ارى :عيس ى ابن م ريم وحواري وه ،وخ ير المس لمين :محم د وص حابته
المرضيون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)()1
ولهذا ،فإن (شئتم أن تعرفوا قرب أهل دين من دينهم فانظروا إلى ق ربهم من
سلفهم ،فكلما اقتربوا اهتدوا ،وكلما جفوا ضلوا)
وهكذا بقي فترة من الزمن يحثنا بالترغيب وال ترهيب على التمس ك بالس لف
واالهت داء به ديهم واالس تمداد من م ددهم إلى أن ص رنا ن راهم ،وك أنهم بينن ا
يتحركون ،ومعنا يتحدثون.
وفي ظل ذلك الجو الذي عشناه صاحت أميرة بما قلب ك ل ش يء رأس ا على
عقب ..لقد راحت ترفع صوتها بقولها( :مدد يا رسول هللا)
وهنا ثار زلزال ع نيف في القاع ة ال تي كن ا فيه ا ،وص اح الش يخ بهس تيرية
وجنون :أخرجوا المشركة من بيننا ..من أذن له ا بال دخول ..إلى م تى يظ ل ه ؤالء
المش ركون يالحقونن ا في ك ل مك ان ..ألم تس معوا بالفت اوى المبيح ة ل دمائهم ..ألم
تقرؤوا ما قال سلفنا الصالح في حقهم؟
حاول بعض الناس تهدئت ه ..لكن ه لم يس تطع أن يس تعيد ه دوءه ..وك أن تل ك
الكلمة كانت حقن ة جن ون حقنت ه به ا أم يرة لت برزه على حقيقت ه ال تي ك ان يح اول
إخفاءها بإظهاره اللطف والوقار والهدوء.
بع د ذل ك الص ياح الهس تيري س قط الش يخ ..والت ف حول ه بعض الحض ور،
يقومون بإسعافه بما تتطلبه حالته من إسعاف.
وقد كان ما حصل له من إغماء وارتب اك فرص ة لنس مع أم يرة ،وهي تنس خ
كل تلك المعاني التي حاول الشيخ أن يغسل بها عقولنا ..فقد طلب المنظمون لل دورة
من أميرة أن تخرج ..فتقدمت إلى الباب بكل هدوء ،ثم أخذت تخاطب الجمع بقولها:
اعذروني أيها السادة ،فربما كنت سببا في تعكير صفوكم ..أو تكدير الجو الذي كنتم
تعيشونه ..ولكن ائذنوا لي فقط أن أعبر لكم عن نفسي وعن حقيقتي وعن حقيقة هذا
الذي حكم علي بالشرك ..وحكم علي معه بالردة والقتل..
نعم أنا أتيت هنا معكم طمعا في زي ارة لتل ك البق اع الط اهرة ،ولكن ق در هللا
وما شاء فعل ..ولكن اعلموا أن حبيب هللا الذي تري دون زيارت ه لم يغب عنكم ..ب ل
هو معكم ،ويمكنكم أن تعيشوا معه في كل لحظة ،وأن تستمدوا منه كل ما تريدون..
)( 1من خطبة جمعة ألقاها الشيخ صالح بن محمد آل طالب بالمسجد الحرام ،ببعض تصرف.
37
وأنا ما خاطبته بما خاطبته به إال بعد شعوري بحياته وحضوره ..ولذلك مددت يدي
وقلبي إليه ،وطلبت منه أن يمدني بما ك ان يم د ب ه من ك ان يعيش مع ه من بركات ه
وخيره وفضله.
هل نسيتم حلمية تلك التي عاشت بركاته والحظتها بعينه ا ..فتح ولت من
تلك البدوية الفقيرة الجائعة التي تكسب قوتها من اإلرضاع إلى حليمة الس عدية تل ك
المرأة التي تحن لها القلوب ..وتشتاق لها األرواح..
يمكنكم أن تصبحوا مثلها تماما ..بشرط واحد ه و أن تعيش وا م ع رس ول هللا
..وتحملوه في قلوبكم مثلما حملته حليمة في حجرها ..حينها سترون ص حاريكم
تتحول إلى جنان ..ومآتمكم تتحول إلى والئم ..وأحزانكم تتحول إلى مسرات.
هل نس يتم أولئ ك ال ذين أج دبوا وقحطت أرض هم ،وم اتت مواش يهم ..لكنهم
بمج رد اس تغاثتهم برس ول هللا أغيث وا( ..)1فه ل ت رون رس ول هللا يك رمهم
ويبخل عليكم ..استغيثوا به كما اس تغاثوا ..وس تجدونه بينكم يرف ع يدي ه الط اهرتين
إلى الس ماء ي دعو لكم ..فق ط قطع وا حج اب ال وهم ال ذي جعلكم تنص رفون عن ه،
وسترونه بينكم.
هل نسيتم ذل ك األعمى ال ذي قص د رس ول هللا وطلب من ه أن ي رد علي ه
بصره ..وفعل رسول هللا ذلك ..وعلمه ذلك الدعاء الذي نتوجه ب ه إلى هللا بج اه
نبينا ..وتحقق لألعمى مراده( ..)2ويمكن أن يتحقق لكل أح د م راده ..ألن ج ود
رسول هللا أعظم من أن ينحصر في أعمى.
هل تذكرون أولئك الذين شملتهم بركة ملمس رس ول هللا ..حينم ا امت دت
ي ده الط اهرة ألمراض هم فش فيت ..أو إلى آالمهم ف زالت( ..)3يمكنكم جميع ا أن
يحصل لكم ذلك وأكثر منه..
)( 1األحاديث في ذلك كثيرة جدا ،وقد ذكرنا أمثلة منها في كتابنا [معجزات حس ية] ،ومن تل ك الرواي ات :م ا روي
أن وفد سالمان قدموا في شوال سنة عشر فقال لهم رسول هللا ( :كيف البالد عندكم؟) ق الوا :مجدب ة ،ف ادع هللا أن
يسقينا في أوطاننا ،فق ال ( :اللهم اس قهم الغيث في بالدهم) فق الوا :ي ا رس ول هللا ارف ع ي ديك ،فإن ه أك ثر وأطيب.
فتبسم ،ورفع يديه حتى بدا بياض إبطيه ،ثم رجعوا إلى بالدهم ،فوجدوها قد مطرت في اليوم ال ذي دع ا في ه رس ول
هللا في تلك الساعة (رواه أبو نعيم)
)(2الحديث روي برويات متعدده منها أن أن رجال ضرير البصر أتى النبي ،فق ال :ادع هللا أن يع افيني ،فق ال:
إن شئت دعوت ،وإن شئت صبرت ،فهو خير لك ،قال :فادعه ،قال :فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ،وي دعو به ذا
الدعاء :اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد :نبي الرحم ة ،إني ت وجهت ب ك إلى ربي في ح اجتي ه ذه لتقض ى
لي ،اللهم فشفعه في .رواه الترمذي وغيره.
)(3من الروايات الواردة في ذلك ما روي أنه يوم خيبر ،سأل الن بي ،فق ال( :أين علي؟) ،فقي ل :ي ا رس ول هللا،
يشتكي عينيه ،قال( :فأرسلوا إليه) ،فأتى به فبصق رس ول هللا في عيني ه ودع ا ل ه ف برئ ،ح تى كأن ه لم يكن ب ه
وجع ،فأعطاه الراية(رواه البخاري ومسلم) ،ومنها ما روي عن حبيب بن فديك أن أباه خ رج ب ه إلى رس ول هللا
وعيناه مبيضتان ال يبصر بهما شيئا ،فس أله( :م ا أص ابك؟) فق ال :وقعت رجلي على بيض ة حي ة فأص يب بص ري،
فنفث رسول هللا في عيني ه فأبص ر ،فرأيت ه وه و ي دخل الخي ط في اإلب رة ،وان ه البن الثم انين س نة ،وإن عيني ه
لمبيضتان(رواه ابن أبي شيبة والبيهقي واب و نعيم ..).ومن ذل ك م ا روي عن رفاع ة بن راف ع بن مال ك ق ال :رميت
بسهم يوم بدر ،ففقئت عيني ،فبصق فيها رسول هللا ودع ا لي ،فم ا آذاني منه ا ش ئ(رواه الح اكم وال بيهقي واب و
نعيم) ..ومن ذلك ما روي أنه أصيبت عين أبي ذر يوم أحد ،فبزق فيها رسول هللا فك انت أص ح عيني ه(رواه أب و
نعيم)
38
فرس ول هللا ال ذي فع ل ك ل ذل ك ال ي زال حي ا بينن ا ..ال يحجبن ا عن ه إال
حج اب ال وهم ..وعن دما تزيلون ه فس ترون بينكم يح دثكم ،وتحدثون ه ،ويص افحكم
وتصافحونه ..وحينها سترون من بركاته ما ال يمكن لخواطركم أن تدركه.
ال تتوهموا أبدا أنكم بذلك ستقعون في الشرك ،أو تخرج ون من التوحي د كم ا
يزعم هذا المحجوب ..فرسول هللا هو رمز الوح دة والتوحي د ..ومحبت ه والهي ام
فيه والتواصل معه هو عالمة اإلخالص والصدق والتوحيد..
رس ول هللا وكرم ه وج وده ورحمت ه ليس وا س وى مظه ر من مظ اهر
العظمة اإللهية التي ال تحد وال تعد وال توصف ..ومن احترم المظاهر ،فق د اح ترم
مظاهرها ..ومن عظم الوسائل وراعاه ا ،فق د عظم الحكيم ال ذي وض عها ،والق دير
الذي قدرها ..وقد قال تع الى داعي ا لن ا إلى مراع اة الوس ائل وطلبه ا﴿ :يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ
آ َمنُوا اتَّقُوا هَّللا َ َوا ْبتَ ُغوا إِلَ ْي ِه ْال َو ِسيلَةَ﴾ [المائ دة ،]35 :وق ال واص فا عب اده المق ربين:
﴿أُولَئِ َ
ك الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ يَ ْبتَ ُغونَ إِلَى َربِّ ِه ُم ْال َو ِسيلَةَ﴾ [اإلسراء]57 :
لذلك ال تخافوا من الشرك ..فكل محبة تبدونها لرسول هللا إنما هي تتوجه
إلى هللا قبل أن تتوج ه إلي ه ..ب ل عين محبتكم لرس ول هللا هي محب ة هلل تع الى..
هكذا يقول العارفون الغارقون في بحار التوحيد ..فاسلكوا سبلهم لتنجوا من همزات
الشياطين الذين احتقروا آدم وأبوا السجود ل ه ..وهم اآلن يحتق رون رس ول هللا ،
ويصورونه لكم بصورة الصنم الذي يمكن أن يعبد من دون هللا.
أيه ا الجم ع الك ريم ..لق د ذك ر هللا تع الى أن رس ول هللا رحم ة للع المين..
والعالمون أكثر من أن ينحصروا في قرن دون ق رن أو زم ان دون زم ان ..ول ذلك
يمكنكم أن تكون وا مث ل ال ذين ك ان ه ذا الش يخ يث ني عليهم ..ب ل يمكنكم أن تكون وا
أفضل منهم ..فجل عطاء هللا أن ينحصر في األزمنة أو األمكنة..
عطاء هللا مرتبط بقلوبكم وأرواحكم ..فهي المعارج التي تعرجون بها إليه..
لقد ذكر رسول هللا ذلك ،فقال( :إن أش َّد أمتي لي حبا قوم يخرجون بع دي
يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)()1
وال أحسب إال أنكم من هؤالء الذين ح ركتهم األش واق إلى رس ول هللا ..
ولذلك راحوا يلتسمون كل السبل لزيارته..
وأنا أقول لكم :يمكنكم أن ت زوروه وأنتم هن ا بين أهليكم ..زوروه بمش اعركم
ووج دانكم وقل وبكم وأرواحكم ..وس ترون هللا العظيم كي ف يمأل بص ائركم ،ب ل
أبصاركم بطلعته البهية ،وجماله المقدس.
ما قالت ذلك حتى صاح الجميع :يا رسول هللا ..مدد ..نظرة إلين ا ..نحن على
بابك ..على أعتابك ..صافحنا بيمينك ..قربنا منك.
حتى أولئك المنظمون الذين ك انوا يس عفون الش يخ ترك وه وراح وا ي رددون
أمثال تلك العبارات ..وقد أفاق الشيخ على صياحهم ..فراح يقول بهستيرية وجنون:
)(1رواه أحمد.
39
مشركون ..كلكم مشركون ..كلكم مرتدون ..كلكم في النار.
لم ينتبه إليه أحد ..فقد كانت بصائرهم جميعا تنظر إلى لجمال الذي ال يف نى..
وتستمد من السراج الذي ال ينطفي نوره.
40
أذواق ..وأوراق
كم هي عظيمة المسافة بين علوم األذواق وعلوم األوراق:
علوم األذواق ينفعل له ا ك ل الوج دان ،وتت ذوقها ك ل اللط ائف ،وتتوح د في
االنسجام معها كل أركان الماهية اإلنسانية ،فتتح ول ك ل الخالي ا إلى قل وب تخف ق،
وعواطف تهتز ،ومشاعر تتأجج ،كما قال سلطان العاشقين معبرا عن ذلك:
ب
ق ج اذ ٍ وش وْ ٍإليه ا َ ي ُك لُّ َ
ص بَابَ ٍة وفي ك ّل ع ْ
ُض ٍو ف َّ
امي بزم
َت وق ٌع لك ّل ِإذا َ م ا َرن ْ ولي ُك ّل عُض ٍو فيه ك ّل حش ا ً به ا
هام ِس
ب فيه ُك ّل َغ رامبه ُك ّل قل ٍ رأت ك ّل جس مي ْ طت ْ ْ ول و بس
وهر ج
وقال في قصيدته األخرى معبرا ٍعن هذا المعنى الجليل:
ب ه ك ل قلب في ه ك ل محبة فل و بس طت جس مي رأت ك ل
وهر ج
به ا وج وى ينبي ك عن ك ل وق د جمعت أحش اي ك ل ص بابة
بوة ص
وبعل وم األذواق تتح ول القل وب والعق ول وك ل اللط ائف إلى أبص ار ت رى
الحق ائق ،وال تكتفي بس ماعها ..وتعيش ها ،وال تكتفي بحكايته ا ،كم ا ق ال الع ارف
معبرا عن ذلك:
ت رى م اال ي ري قل وب الع ارفين له ا
اظرين للن ون عي
وبعلوم األذواق تتحول جميع الج وراح واللط ائف إلى ألس نة تع بر بالص مت
المطب ق ..وأجنح ة تط ير من غ ير ريش في ع والم الملك وت ال تي حجب عنه ا
أصحاب األوراق ،كما قال العارف الذائق:
رام تغيب عن الك وألسنة بأسرار تناجي
اتبين الك
وت رب إلى ملك وأجنح ة تط ير بغ ير
المين الع ريش
أما عل وم األوراق ..فهي عل وم محج وزة في مس احة مح دودة من العق ل ..
مطوقة بقيود كثيرة أولها ذلك الطين المتثاقل إلى األرض ..والمحجوب بالملك عن
الملكوت ..وبالجسد عن ال روح ..وبالحكم ة عن الق درة ..وبالقي د عن اإلطالق ..
وبالكثرة عن الوحدة.
ول ذلك ك ان الص راع ش ديدا على م دار الت اريخ بين أص حاب األذواق
وأصحاب األوراق ..فأصحاب األوراق يحتقرون أص حاب األذواق ،وي زدرونهم،
ويتهمونهم بالجنون والزندقة والهرطقة ..ألن العقل الورقي محجوب بالظ اهر عن
الباطن ،وبالحس عن المعنى.
41
وهكذا يسخر أصحاب األذواق من أص حاب األوراق ،ويقول ون لهم :إن ك ل
تلك العلوم التي تقرؤونها وتكتبونها ال تساوي لحظ ة واح دة نعيش ها م ع الح بيب ..
ونشرب فيها من شرابه الذي تذهل له العقول ،وتحلق ب ه إلى الع والم ال تي ال يمكن
التعبير عنها إال بالسكوت والوجوم والبهت ..
وحين يس خر أص حاب األوراق من تل ك الحرك ات ال تي ته تز له ا أجس اد
أصحاب األذواق عن د ت ذكرهم للح بيب وتم ايلهم طرب ا ل ذكره والش وق إلي ه ،ي رد
عليهم أصحاب األذواق قائلين:
إذا لم تذق معنى ش راب اله وى فقل للذي ينهى عن الوجد أهله
َد ْعنا
ترقص ت األش باح ي ا جاه ل إذا اه تزت األرواح ش وقا إلى
نى المع ا اللق
حن إلىإذا ذك ر األوط ان َّ أما تنظر الطير المقفص يا فتى
نى المغ
اعذروني ..فقد شغلني التفريق بين هذين الصنفين من العلوم عن القصة التي
أريد أن أحدثكم عنها ..وهي قصة رمزية واقعية ..ربما وقعت لكم ..وربما ستقع في
يوم من األيام ..لتختاروا القبلة التي تتوجه لها عقولهم وقلوبكم ..ه ل قبل ة األوراق،
أم قبلة األذواق؟
وأحب أن أذكر لكم فقط ،وخصوصا لمن عاشوا مرحلة طويلة من أعم ارهم
مثلي في عالم األوراق بأال يقلقوا أو ينزعجوا أو يظن وا أنهم خس روا ع الم األذواق
بصحبتهم لعالم األوراق..
فعالم األذواق يتقبلهم بشرط واحد ..وهو أن يخمدوا ذلك الكبرياء الذي أنش أه
فيهم ع الم األوراق ،فتص وروا أنفس هم ق د تم يزوا عن غ يرهم بتل ك العل وم ال تي
حفظوه ا ،أو الفن ون ال تي اكتس بوها ..عن دها فق ط يمكنهم أن يتحول وا من ع الم
األوراق إلى عالم األذواق ،أو يمكنهم أن يجمعوا بينهما.
ومن القصص في ذلك ما روي عن الششتري أنه كان وزيرا وعالم ا ،وأب وه
كان أميرا ،وق د ع اش ف ترة طويل ة من عم ره بص حبة ع الم األوراق إلى أن حنت
نفسه لعالم األذواق ،فراح إلى شيخ من المشايخ ،فذكر ل ه ذل ك ،فالح ظ في ه الش يخ
تلك الكبرياء التي تنشئها األوراق في أصحابها ،فقال ل ه :لن تن ال ش يئا مم ا تص بو
إليه حتى تبيع متاع ك ،وتلبس عب اءة ،وتأخ ذ دف ا ،وت دخل ب ه إلى الس وق ،وتغ ني
للناس..
لم يجد الششتري ـ الذي كان مستعدا لحرق كل كتبه من أجل كأس واحدة من
عالم األذواق ـ إال أن يفعل ما طلبه الشيخ ..فراح في السوق ينادي ويغني ويضرب
الدف..
لكنه فوجئ بلسانه ينطلق بشعر المحبة اإللهية النابع من نه ر ك انت األوراق
الكثيرة التي قرأها وكتبها قد سدت منافذه..
قد يضحك الكثير من أص حاب األوراق على ه ذه القص ة ،وعلى من يط رح
42
مثل هذه األفكار ..ولذلك لكم أن تتجاوزوها ..ولكم أن تعت بروني لم أقص ها عليكم..
أو تعتبروها فلتة لسان أو فلتة قلم ..ولكن اسمعوا أو اقرأوا بقلوبكم وعقولكم القص ة
ال تي س أحكيها لكم ..وال تي ربم ا تك ون أق رب إلى عق ولكم من قص ة الشش تري
وشيخه.
وه ذه القص ة تب دأ من ش بابي الب اكر ،حين كنت طالب ا للعلم ،وكنت مش غوفا
باألوراق لدرجة ال يتصورها أحد ..فقد كنت أعش ق أس واق الكتب ،وأهيم به ا ،وال
أجد راحتي إال فيها ..وكان لي زميالن ..وكانت طباعنا في حب الكتب واح دة ،وإن
كنا مختلفي األذواق والمشارب.
أما أحد زميلي ،فقد كان مشغوفا بها إلى الدرجة التي نسي فيها جميع لطائفه،
وغفل بها عن جميع حقائق ه ،وك ان ي ذكر لن ا ك ل حين الكتب الكث يرة ال تي قرأه ا،
والعلوم الكثيرة التي أحاط بها..
وأما الثاني ،فق د ك ان ص احب ذوق رفي ع ،وتأم ل ع ال ،وك ان يق رأ أحيان ا
الجملة الواحدة ،فيعيش في معانيها أياما معدودات..
وأما أنا فقد كنت في برزخ بينهما أميل إلى األول ،كما أمي ل إلى الث اني ،وال
أستطيع الترجيح بينهما ..ولم أحدد وجهتي إال بعد فترة طويلة..
في ذلك اليوم الذي افترقنا فيه سرنا إلى بعض الزوايا القديمة المهجورة طلبا
للبحث عن بعض المخطوطات النادرة ..وهناك التقينا الشيخ الذي قلب حياتنا جميعا
رأسا على عقب.
عن دما التقى بن ا ،ق ال لن ا من غ ير أن نس أله :الش ك أنكم تبحث ون عن ذل ك
المخطوط النادر الذي تتصورون أنكم إذا ظفرتم به سعدتم.
قلنا جميعا :أجل ..فه ل ه و عن دك؟ ..نحن مس تعدون أن نش تريه ب أي ثمن..
اطلب فقط ما تريد.
قال :لقد جاء الكثير يطلبونه ..وقد دللتهم عليه ..لكنهم رفضوا أخذه..
فرحنا بقوله هذا ،وقلنا :إذن هو ال يزال عندك ..هيا أحضره لنا ،فق د ش وقتنا
إليه.
قال :لو كان األمر بالسهولة التي تتصورونها ألخذه جميع من قصدني.
قلنا :فنحن مستعدون ألي شيء تطلبه منا ..المهم أن تعطينا إياه ..ولو إعارة.
قال :هذا المخطوط ال يعار ألح د ..ه ذا المخط وط ال يعطي أس راره إال لمن
ملكه.
قلنا :لم نفهم ..ما الذي تقصد؟
قال :هذا المخطوط يحتاج لعيون خاصة تقرؤه ..وقلوب خاصة تعي ه ..وآذان
خاصة تسمعه ..ولطائف خاصة تشعر به.
بهت ص احبي ص احب ال ذوق الرفي ع له ذا الكالم ،وت أثر ب ه ت أثرا ش ديدا،
وصاح :أجل ..هذا ما أبحث عنه ..هل أجده عندك؟
أما صاحبي المشغوف بعالم األوراق ،فأخذ بيدي ،وقال :هيا بن ا ..ال ش ك أن
43
ه ذا الرج ل مجن ون من المج انين ..فمث ل ه ذه الزواي ا الخرب ة ال يوج د فيه ا إال
المجانين.
قلت له :دعنا قليال نسمع ما يريد قوله ..فلعل له شأنا.
أخذ الشيخ بيد زميلي صاحب الذوق الرفيع ،وقال :جاهل من قرأ جمي ع كتب
الدنيا ،ولم يق رأ كتاب ه ..وض ال من اهت دى إلى ك ل مكتب ات ال دنيا ،ولم يهت د لتل ك
المكتبة العظيمة التي زرعها هللا في قلبه ..وأعشى البص يرة من أبص ر ك ل ش يء،
ولم يبصره.
أصابت صاحبي صاحب الذوق الرفيع دهشة لهذا الكالم ،وقال :أع ده علي..
لكأني سمعته من قبل..
قال الشيخ :هذا الكالم ال يكرر وال يع اد ..ألن ه إن س معته أذن اك وح دهما لم
يفدهما ..وإن سمعه قلبك ،فقلبك أعظم جهاز تسجيل في ال دنيا ،وه و لن يحت اج إلى
تكرار ..بل لن يحتاج إلى حروف وأصوات.
قال صاحبي :بلى ..لقد سمعته بقلبي ..أنت اآلن تتحدث عن خ زائن األس رار
التي أودعها هللا في حقائقنا منذ األزل ..منذ سمعنا ذلك النداء الجليل﴿ :أَلَس ُ
ْت بِ َربِّ ُك ْم﴾
[األعراف]172 :
قال الشيخ :عجبا لمن سمع ذلك النداء الجليل كيف يتيه عن ه ..ثم كي ف يبحث
عن الدليل ،وقد سمع صاحب الدليل ..ورآه بقلبه ..وعشقه قبل أن يكون كل شيء.
قال صاحبي :أجل ..لكن الغفلة والتيه مآلنا بالحجب..
قال الشيخ :لقد قال لي ش يخي أول ص حبتي ل ه ،وق د رآني مش غوال ب أوراق
كث يرة أري د من خالله ا أن أتع رف على هللا ..لك ني لم أزدد من ه إال بع دا( :ي ا أب ا
الحسن ح ّدد بصر اإليمان تجد هّللا في كل شيء وعند كل شيء ومع كل شيء وقب ل
كل شيء وبعد كل شيء وف وق ك ل ش يء وتحت ك ل ش يء وقريب ا من ك ل ش يء
ومحيط ا بك ل ش يء ..بق رب ه و وص فه وبحيط ة هي نعت ه ،وع ّد عن الظرفي ة
والحدود وعن األماكن والجه ات ،وعن الص حبة والق رب بالمس افات ،وعن ال دور
بالمخلوقات ،وامحق الكل بوصفه :األول واآلخر والظاهر والب اطن وه و ه و ه و،
كان هّللا وال شيء معه ،وهو اآلن على ما عليه كان)()1
ثم التفت لي ولصاحبي ،وقال :اعذراني ..فقد انشغلت بصاحبكما عنكما..
قلت :ال عليك ..لكن ليتك لو شرحت لنا ما تقصد.
ق ال :القل وب ال تي تفق ه األس رار ال تحت اج لمن يش رح له ا ..وال تي ال تفق ه
األسرار ال يمكن أن تفهم ما ال يمكن شرحه.
غضب صاحبي المشغوف باألوراق ،وقال :دعنا منك أيه ا الش يخ الخ رف..
هل تعرف مع من تتحدث ..أنا أعرف خمس لغ ات ..وق د ق رأت مئ ات المجل دات..
وأتقنت ـ وأنا ال أزال شابا يافعا ـ الكثير من العلوم ..ثم ت زعم أن ك تفهم م ا ال أفهم،
)(1الكالم الوارد هنا للشيخ عبد السالم بن مشيش لتلميذه أبي الحسن الشاذلي..
44
أو تعرف ما ال أعرف.
ابتسم الشيخ لكالمه هذا ..ولم يبد أي غضب ،بل قال له :وال ش ك أيض ا أن ك
أكلت من الطعام ،وشربت من الشراب ما لم يدخل جوفي مثله.
قال صاحبي :أتتهكم علي؟
قال الشيخ :ال ..معاذ هللا أن أتهكم على أحد من خلقه.
قال صاحبي :أج ل ..لق د س افرت إلى الكث ير من البالد ..وق د أكلت فيه ا من
الطعام ،وشربت من الشراب ما لم تحلم بمثله.
قال الشيخ :فهال وصفته لي حتى كأني أذوقه كما ذقته..
قال صاحبي :ال يمكن ذلك..
قال الشيخ :لقد زعمت أن لك علما وقدرات لغوية ..فه ل عج زت جميع ا عن
وصف الطعام والشراب؟
لم يدر صاحبي ما يقول ،فرد عليه الشيخ :كما عجزت لغتك عن التعب ير عن
طعام جس دك ..فق د عج ز لس اني ك ذلك عن وص ف طع ام روحي ..ول ذلك اكتفيت
بالرمز الذي ال يفهمه إال من يعيش عالم الرموز.
في ذلك اليوم افترقنا نحن الثالثة ..ولم نلتق إال بعد أكثر من ثالثين س نة ..لن
ي ،وم ا ص ار أحكي لكم سبب ذلك ،ألنه ال يعنيكم ..ولكني سأحكي لكم قصة صاحب َّ
إليه حالهما بعد تلك العقود من السنين.
أما صاحب األوراق منهما ،فقد رأيته على شاشات التلفاز ،بعد أن استضافته
قناة من القن وات الك برى المش هورة ..لعلكم تعرفونه ا ..تل ك القن اة ال تي ال تتقن إال
إثارة الفتن والتحريض على الشغب..
وق د ك ان مق دم الحص ة أيض ا معروف ا بحب ه لإلث ارة ،وإيث اره للتح ريض
والمحرضين ،وقد راح يقدمه بطريق ة عجيب ة جعلت من ه بطال من أبط ال اإلس الم
الكبار.
وقد تعجبت ـ ب ادئ األم ر ـ للمنج زات الكث يرة ال تي حققه ا في تل ك العق ود
القليلة من السنين ..فقد رأيته ي ذكر انتم اءه لعش رات الجمعي ات ..وتأليف ه لعش رات
الكتب ..وتوليه للكثير من المناصب ..ورحلته للكث ير من البالد ..وف وق ذل ك تولي ه
إدارة أعرق جامع ة في بعض البالد العربي ة ..وف وق ذل ك كل ه ص داقته للكث ير من
الملوك واألمراء..
أصدقكم بأني فرحت كثيرا لما ناله من حظوظ ..وقلت في نفسي :هي فرصة
ألن يؤدي رجل قارئ ومثقف مثله خدماته الجليلة لألمة..
لكني ما إن سمعت حديثه حتى سقط في يدي ..وتألمت كثيرا لما أصابه..
لقد بدا لي ممتلئا بالقسوة والغلظة ..وكان يجيب عن األس ئلة ال تي ت رد علي ه
بكل كبرياء وغرور ..حتى أن ني عن دما اتص لت بالحص ة من بي تي وأخبرت ه أن ني
صديقه القديم لم يلتفت لكالمي ،بل راح يقول ضاحكا أو ساخرا للمذيع :الكل ي زعم
صداقتي ..هذه ضريبة المناصب ..ولم يزد على ذلك.
45
ولم يؤذني كل ذل ك ،ب ل آذت ني تل ك الفت اوى الخط يرة ال تي ك ان يص درها،
والتي كان يحرض فيها على الفتنة وسفك الدماء وخراب األوطان..
بل إنه في أثناء إجابته عن سؤال طرح علي ه ح ول الزواي ا والص وفية ق ال:
أتذكر أني ذهبت في شبابي إلى بعض تل ك الزواي ا ،وق د رأيت فيه ا من الخراف ات
والضالالت والهرطقات م ا ال يق ع في مثل ه اليه ود والنص ارى ،ل ذلك أن ا أرى أن
تعامل بمثل ما تعامل بها س لفنا من العلم اء الرب انيين ال ذين حكم وا على أص حابها
بالردة ،وحكموا على بنيانها بالهدم.
وظل يرطن بمث ل ه ذه األح اديث والفت اوى والبيان ات إلى أن ض جرت من ه
ومن كل األوراق التي قرأها ،والتي كانت مبعثرة بين يديه..
في ذلك الحين خطر على بالي أن أبحث عن صديقي صاحب الذوق الرفي ع،
ال للسؤال عنه ..بل الختيار القبل ة ال تي يحت اج قل بي للتوج ه إليه ا ..ه ل هي قبل ة
األوراق ..أم قبلة األذواق؟
لم يكن من الص عب علي البحث عن ه ،فق د قص دت أهل ه ،وس ألته عنهم،
فأخبروني أنه في تلك الزواية التي ذهب إليها منذ ثالثين سنة ..وأخ بروني أن ه يقيم
فيها مع أسرته الصغيرة ..وأن حياته كلها مرتبطة بها.
أسرعت إليها ،وأنا أحمل تلك الصورة القديمة عنها ،لكني فوجئت بها تتغ ير
تغيرا كبيرا ..فقد تحسن بنيانها ،وانتشر العمران حولها ،وقد رأيت بجنبها مجموعة
من السيارات الفخمة ،فخش يت أن يك ون ق د حص ل لص احبي ص احب األذواق م ا
حصل لصاحبي ص احب األوراق من االس تغراق في ال دنيا واالنش غال به ا ،لك ني
وجدت األمر خالف ذلك تماما.
عن دما دخلت إلى الزاوي ة ،وس ألت عن ص احبي ،أخ برت أن لدي ه بعض
األشغال ،وأنه سيحضر بعد حين ،فجلست في قاعة االس تقبال أنتظ ر م ع مجموع ة
من الرجال ،وهذا بعض ما دار بينهم من حديث:
قال أحدهم :لقد انتفعت كثيرا بزيارة هذا الش يخ ..فق د أخرج ني من كث ير من
األوهام التي كادت تصل بعقلي إلى الجنون ..فمع أني قرأت الكث ير من الكتب لح ل
إشكاالتها إال أن تلك الكتب لم تزدني إال أوهاما وضالال ..وقد عرف الش يخ عل تي،
وأعطاني دواءها ،ومنذ ذلك الحين ،وأنا أرى الكون والحي اة بص ورة أجم ل بكث ير
مما كنت أراهما..
قال آخر :صدقت ..وأنا مثلك في هذا ..ب ل إني بفض ل هللا اس تطعت أن أدي ر
المدرسة الخاصة التي أملكها وفق المنهاج التربوي الذي نصحني به ..وه و منه اج
يعتم د على التك وين األخالقي وال تربوي قب ل أن يعتم د على حش و ذهن الط الب
بالمعلومات والملكات..
قال آخر :أذكر جيدا أول يوم دخلت عليه في ه ..لق د ع رف عل تي بمج رد أن
رآني ،فقال :عن دما ت نزع بي ديك الغش اوة من عيني ك ستبص ر الحقيق ة أق رب إلي ك
منك ..ولن تحتاج حينها لفيلسوف وال لمتكلم ..ثم أخذ ي ردد علي تل ك الحكم ة ال تي
46
جعلتها شعار حياتي( :كيف يشرق قلب صور األكوان منطبع ة في مرآت ه ،أم كي ف
يرحل إلى هللا وهو مكب ل بش هواته ،أم كي ف يطم ع أن ي دخل حض رة هللا ،وه و لم
يتطهر من جنابة غفالت ه ،أم كي ف يرج و أن يفهم دق ائق األس رار وه و لم يتب من
هفواته)
قال آخر :لقد كان قلبي قبل االلتقاء به خالي ا من ك ل المش اعر ..وكنت قاس يا
عتال غليظا ..وكنت أذيق من حولي كل ما تنتجه نفسي وقلبي من أصناف الضغائن
إلى أن سقاني تلك الكأس الطاهرة من شراب المحبة ..وأنا منذ منذ ذلك الحين أشعر
بالكون كله في حفلة تسبيح عظيمة..
قال آخر :إن الذي رغبني في صحبته هو أن ني أنس ى عن د ال دخول إلي ه ك ل
تلك الثروات التي جمعتها ..والتي ال يحترم ني الن اس إال بس ببها ..أم ا ه و فلم يكن
يلتفت لها ..بل إنني عندما عرضت عليه أن يأخذ من أموالي ما ش اء ابتس م ،وق ال:
الحياة أعظم من أن نضيعها في عد النقود ..الحياة فرص ة ألن ن تزود لألب د ..ف امأل
خزائن قلبك بالحقائق واألذواق ،ال بالفضة والذهب ..فالفضة والذهب ي زوالن ،أم ا
الحقائق واألذواق فهي التي تنفعك في تلك الرحلة األبدية.
قال آخر :وأنا مثلكم ..فلوال صحبتي له لكنت اآلن مع أولئ ك ال دمويين ال ذين
يخربون أوطانهم ،ويشعلون نيران الفتن فيها ..لقد عرضت علي حينها مبالغ كب يرة
ألسخر القناة الفضائية التي أملكها على التحريض على الفتنة ..لكني عندما قصدته،
وقبل أن أستشيره في أي شيء ،أخذ يحدثني عن السالم والمحب ة ،وأن ه ال يمكن أن
يحصل تغيير إال بهما ..وقد كانت كلمات ه الص ادقة تل ك س ببا في انهي ار المش روع
الذي كان يريد الشياطين إقحامي فيه ،وجري إليه.
بقي القوم يتحدثون عن مناقب الرجل ،وما اس تفادوه من ه إلى أن دخ ل علين ا
ممتلئا هيبة ووقارا وإيمانا وتواضعا ..فصافح الجميع ،ثم م د ي ده إلي ،وه و يق ول:
مرحبا بصديقي القديم ..ألم تحسم أمرك بعد؟
قلت :ما تعني؟
ق ال :أال ت زال تحن إلى ع الم األذواق ..أم أن أوراق ك ال ت زال تح ول بين ك
وبينه؟
قلت :خذ جميع أوراقي ..واسقني كأسا واح دة من الك ؤوس ال تي س قيت به ا
هؤالء الناس.
ابتس م ،وق ال :م ا دامت أوراق ك ال تح ول بين ك وبين االرت واء من ك ؤوس
األذوق ،فدعها معك ..فإن حالت بينك وبينها فأحرقها ،فهي سموم قاتلة.
قلت :هل علمت ما حصل لصاحبنا صاحب األوراق ..فقد..
قاطعني ،وقال :لقد أخبرني شيخي بمصيره من أول يوم التقينا فيه معه ..لق د
بكى بعد انصرافكما بكاء شديدا ،وقال :يوشك لصديقك ذلك أن يأك ل الف الوذج على
موائد األمراء ..فإن شئت أن تصحبه فافعل ..فإن الدنيا ستفتح له كل أبوابها.
قلت :فلم لم تفعل؟
47
قال :عندما تذوق من رحيق المحب ة الط اهرة ،وتش ع علي ك أش عتها الجميل ة
ستحتقر كل ما عداها ،وكل من عداها ..وسيصبح الساقي حينها هو األمير والملك..
وستطلق عند رؤيته كل م ا حص لت علي ه ،وم ا لم تحص ل ..ألم تع رف م ا حص ل
لموالنا جالل الدين عند رؤيته لشمس تبريز؟
قلت :بلى ..لقد قرأت ذلك ..وتأثرت لقصته.
قال :فه ل ك ان يمكن لموالن ا أن يك ون بتل ك الص فة ال تي عرفت ه به ا ل و لم
يشرب من شراب المحبة التي سقاه بها شمس تبريز؟
قلت :ال ..ال يمكنه ذلك.
قال :ولكنه كان قبل صحبته صاحب أوراق كثيرة..
قلت :لكن كل تلك األوراق مع كثرتها لم تكن تدفئ روحه التي ك انت تحت اج
إلى من يشعل فيها نيران المحبة..
قال :فهل تعرف الغزالي ..وعلومه الكثيرة قبل رحيله إلى عالم األذواق؟
قلت :أجل ..لقد ذكر ذلك عن نفسه في كتابه [المنقذ من الضالل]
قال :لو أن صاحبك عرف هذا ..وراح يراجع ما قرأ ..ويعيش ما ط الع ..وال
يكتفي بتردي ده على نفس ه وعلى الن اس ..لم ا ص ار أداة يتالعب به ا األم راء ومن
معهم من الشياطين.
قال ذلك ،ثم استأذننا في الذهاب إلى تالميذه ،وطلب منا صحبته ،فرأينا منهم
العجب ..ال في عالم األذواق فقط ..بل في عالم األوراق أيضا..
48
حرب ..وسالم
س أقص عليكم الي وم قص ة حزين ة لح رب وس الم ،تعرف ان من خالله ا دور
العن ف واللين ،أو الح رب والس الم في انغالق العق ول وانفتاحه ا ..وتعطيله ا
وتفعيلها ..ولتعلموا أن شجرة الحقيقة المقدسة ال تؤتي ثماره ا الطيب ة إال ألص حاب
القلوب الطاهرة الممتلئة بالسالم والمحبة..
فالعلم ال يتعلق بالمرسل فقط ،بل يتعلق بالمستقبل أيضا ..كالمطر الذي ينزل
على الورود فيزيد أريجها الطيب انتش ارا ،وي نزل على المس تنقعات اآلس نة ،فيمأل
الجو من حولها قذارة.
وحرب وسالم موجودان توأمان في كل شخص منا ..ففينا جميع ا ،وم ع أول
ميالدنا ولد فينا هذان الشخصان ..لكن من الناس من يعتني بحرب ،فيطعمه ويسقيه
ويعتني به ..فيقوى ويشتد ..فإذا ما بلغ أش ده واس توى ،ك ان أول م ا يفعل ه أن يقت ل
أخاه سالما ،حتى ال يزاحمه في طعامه أو ينافسه في شرابه ..فحرب ال يحب إال أن
يكون وحده..
وفين ا من يعت ني بس الم ..فيق وى ويش تد ..وبقوت ه وش دته يض مر ح رب ،أو
يموت غيظا ..ألن الحرب ال تطيق أن ترى السالم ،أو تتعايش معه.
ومن حكمة هللا تعالى في تربيته لخلقه أن يريهم نفوس هم في نف وس اآلخ رين
وحركاتهم ..ألن الخارج ـ عند أهل الحقائق ـ ليس سوى ص دى لل داخل ،وك ل إن اء
بما فيه ينضح.
وقد أراني هللا بحكمت ه ولطف ه التوأم ان الل ذان ول دا معي كم ا ول دا معكم في
صورة ص ديقين عرفتهم ا م ذ كنت ص بيا ص غيرا ،وص حبتهما في جمي ع مراح ل
الدراسة ،وعندما افترقت بنا الدنيا ظللت أتابع أخبارهما إلى آخر لحظة..
وقد فكرت مرات كث يرة في أن أكتب مس رحية حولهم ا ..وبم ا أن بض اعتي
مزجاة في هذا الفن النبيل من الفن ون اإلنس انية ،ف إني س أذكر هن ا مش اهد من تل ك
المس رحية ،وأت رك إلخ واني وأص دقائي من الفن انين الموه وبين ليحول وا من ه ذه
المشاهد كائنا حيا يراه الن اس ب أعينهم ،ويلمس ونه ب أرواحهم ،عس اهم يلتفت وا لتل ك
الكائنات التي تتكون منها ذواتهم ،قبل أن يلتفتوا لذوات اآلخرين.
أما الفصل األول من مس رحة ح رب وس الم ،فيب دأ من ص بانا الب اكر ،حيث
كان حرب يميل إلى كل اللعب والرياضات الممتلئ ة ب العنف والقس وة ،وخصوص ا
المالكمة ،فقد ك ان يحبه ا حب ا ش ديدا ،وك ان ل ذلك يقاب ل ك ل من لقي ه بلكم ة ثقيل ة
يمازحه به ا ..وك ان إذا ص افح زمالءة ض غط على أي ديهم بش دة ،ليقيس عض الته
بعضالتهم ،أو ليفرض شخصه عليهم بتلك القبضة القوية.
وكان يحدثنا بإعجاب شديد على تلك اللكمات التي هشم به ا األن وف ،وأس ال
بها الدماء ،وكسر بها األسنان ..كما يحدثنا عن الطي ور ال تي طارده ا ،والحش رات
49
التي وطئها ،والحيوانات التي خنقها بقبضته القوية..
وقد ظلت هذه الصفات معه ،وكبرت مع كبره ،ونمت شجرتها في نفس ه م ع
نموه ..فكانت قبضة يده القوية ـ في كبره ـ يستعملها في كل محل حتى وه و يمس ك
بعصا المحراب ،أو هو يلوح بها خطيبا ،أو هو يحاور بها غيره من مخالفيه ..حتى
وهو يروي أحاديث رسول هللا أو هو يقص قصص األنبياء ك ان يتح دث عنهم،
باعتبارهم أصحاب قبضات قوية كقبضته ،وأصحاب نفوس عنيفة كنفسه.
وبخالف حرب كان سالم ممتلئا سالما من صغره الباكر ..فك ان أبع د الن اس
عن العنف وأميلهم إلى الهدوء والسكينة والس الم ..ه و كاس مه تمام ا ..ول ذلك ك ان
يؤثر الرياضات واأللعاب التي تتناسب مع تلك الطبيعة التي جبل عليها ،أو آثره ا،
أو ربي عليها.
وقد كان لذلك مستض عفا من ط رف زمالئ ه وخصوص ا ح رب ،ال ذي ك ان
يلكمه بلكمة قوية كلما التقى به ،وكان س الم لحب ه الس الم ،ال يقاب ل تل ك اللكم ة إال
بابتسامته التي ظلت معه إلى آخر لحظة من حياته ..وقد ك انت تل ك االبتس امة وم ا
يصاحبها من كلمات طيبة سما قاتال لحرب يجعل ه ال يكتفي باللكم ة واللكم تين ،ب ل
يضيف إليها ما يرضي غريزته العدوانية ،أو الس بع ال ذي ك ان ي تربع على ع رش
قلبه.
وأحب أن أنب ه هن ا إلى أن األم ر لم يكن مرتبط ا بق وة جس د ح رب ،وال
بضعف جسد سالم ،فقد كان كالهما متشابهين في القوة الجسدية ،بل لعل ق وة جس د
سالم كانت تفوق قوة جس د ح رب ..ولكن نفس ه المس المة ك انت تتحكم في جس دها
الذي اؤتمنت عليه ،بينما كانت نفس حرب تمد حربا بمدد إضافي يجعله يرى نفس ه
مثل الهرة عندما تنتفخ ،وترى في انتفاخها أنها تحولت أسدا هصورا.
وهكذا كان حرب ،فقد كان أشبه الناس في تلك المرحلة بالهرة التي تنتفخ كل
حين ،لتري غيرها أنها ليست سبعا ضعيفا ،بل هي سبع قوي ال يص ح ألي أح د أن
يقترب منه.
هذه مشاهد من الفصل األول من مسرحية حرب وسالم ..وق د تط ورت ه ذه
المشاهد بعد ذلك ،فانتقلت من عالم الجسد إلى ع الم الفك ر إلى غيره ا من الع والم..
فالقبضة القوية ال تقتصر على الجسد فق ط ،ب ل تش مل النفس وال روح والس ر وك ل
اللطائف اإلنسانية لتغذيها بغذائها.
أما الفصل الثاني ،فيبدأ من أي ام تكوينن ا الدراس ي ،وخصوص ا في المرحل ة
الجامعية حيث كان لكل من حرب وسالم منهجه الخاص في الدراسة ،وفي التعام ل
مع المعلومة ،وفي االنفعال لها.
أما حرب ،فكان ـ بطبيعة اهتماماته التي ربي عليه ا ـ أمي ل إلى العن ف من ه
إلى السالم ،وإلى الشدة منه إلى اللين ..ولذلك ك ان إذا رأى اختالف مواق ف الن اس
من أي جهة من الجهات آثر العنف والشدة على السالم واللين ..وقد أراح ذلك عقل ه
كثيرا ..فلم يتكلف من التعب والعناء في الدراسة ما تكلفه سالم ..ألن الس الم يحت اج
50
جهدا مضاعفا ،وقوة كبيرة حتى ال يقع في أحكام خاطئة ،فيظلم أو يجه ل أو يج ور
أو يعتدي.
ومن األمثلة على ذلك أننا عند دراستنا المنطق ،رأيت سالم مقبال علي ه بك ل
جهده ،يتعلم مسائله دقيقها ،وجليلها ،ويحاول التدرب عليه ،وتكوين ملكة في ه ..أم ا
ح رب ،فق د رمى الكت اب من الي وم األول ،ألن عقل ه لم يس تطع أن يفهم تل ك
المصطلحات ،وال وقته كان يسمح له بالتدرب على تلك البراهين..
ولكنه لم يكتف بذلك ..ب ل راح يبحث عمن تكلم في ه ،أو نهى عن ه ،أو ذم ه..
وسرعان ما وجد ضالته ..ف راح ب دل تعلم المنط ق يتعلم كيفي ة نقض ه ونق ده وس به
وحربه.
وهكذا عند دراستنا المقاييس المرتبطة باألديان ..فق د رأيت معان اة س الم في
البحث عن ك ل دين ،وعقائ ده ،وتاريخ ه ..وك ان يف رح كث يرا كلم ا رأى قواس م
مشتركة بينها وبين اإلسالم ،أو بينها وبين القيم اإلنسانية..
وأذك ر أن ه ك ان يقص علي ك ل حين أخب ار الرهب ان الطي بين ال ذين قض وا
حتفهم في بعض الخدمات االجتماعية أو اإلنس انية ..وك ان يغض ب عن دما يس ميهم
بعض زمالئنا بالصليبيين الحاقدين ،ويق ول لهم بك ل ق وة :ه ل اطلعتم على ذل ك؟..
هل شققتم على قل وبهم؟ ..لم ترم ونهم بفع ل الجب ابرة والطغ اة والظ المين من غ ير
بينة؟
وأذكر أنه جاءني مرة بكتيب صغير ،كان اس مه [إنجي ل ب وذا] ،وق رأه علي
فرحا مسرورا ،وهو يقول :ال شك أن هذا الرج ل ال يختل ف عن أولئ ك األنبي اء أو
األولياء أو الصديقين ..وإن كان التحري ف ق د لح ق أتباع ه في بعض األم ور ،ف إن
هناك مساحة مشتركة بيننا وبينهم يمكننا ل و ص دقنا الني ة أن نردمه ا بس هولة ،وأن
نبني بيننا وبينهم عالقات ممتلئة بالطيبة واإلنسانية.
وهكذا كان في تعامله مع األديان المختلفة ..وقد جر عليه ذل ك حروب ا كث يرة
من طرف حرب وأصحابه حتى اتهموه بالردة وأخواتها.
هذا حال سالم مع تلك العلوم ..أما ح ال ح رب ،فك ان مختلف ا تمام ا ،فه و لم
يقرأ أي كتاب ،وال طالع أي بحث ،وال ع رف أي دين من خالل مص ادره ،وال من
خالل واقع ه ..وإنم ا اكتفى عقل ه الص غير بمق االت خطابي ة قص يرة ألفه ا بعض
الخطب اء المش هورين في ذل ك الحين ،ي دعو فيه ا إلى ه دم ك ل كنيس ة ،وقت ل ك ل
راهب ،وذبح كل رجل دين..
وك ان أحب المش اهد إلى نفس ه ـ وال تي ك ان يردده ا كث يرا ـ مش هد ذل ك
المجنون الذي حرق اإلنجيل في أكبر شارع للمسيحيين ،لينتقم للق رآن الك ريم ال ذي
حرقه بعض القساوسة.
وكان يصيح كل حين ،ومع األس تاذ والطلب ة بق وة :كي ف تس مح قل وبكم ب أن
يعيش على هذه األرض من يشرك باهلل ،أو يش وهه أوال ي ؤدي ف رائض دين ه ..أين
غيرتكم ..أين إيمانكم ..أين دينكم؟
51
وعندما كان يقول هذا كان األستاذ يطأطئ رأسه ،وال يدري بم ا يجيب ه ،ألن
حربا كان قد شكل في كبره ،كما شكل في صغره ،عصابة ال تردد إال ما يقول ،وال
تصيح إال بما يصيح..
ولهذا كان األس اتذة يتحاش ونه ،ب ل يرش ونه بالنق اط الكث يرة هرب ا من ه ومن
شره ..وذلك ما جعله ينجح في كل المراحل ،وبتفوق ،ومن غير أن يبذل أي جه د..
فقد كانت قبضته ال عقله سبب تفوقه ونجاحه.
وهك ذا عن دما درس نا التص وف اإلس المي ..فق د رأيت س الما ينس جم مع ه
انسجاما كبيرا ،فكان يبيت الليل مع كبته الصفراء القديم ة ،يطالعه ا حرف ا وحرف ا،
ويتجاوب معها ،فيهتز ويتواجد من حيث شعر أو لم يشعر..
ولم تكفه تل ك المطالع ات ،ب ل راح يبحث عن المش ايخ والط رق ،ويس ألهم،
ويجلس معهم ،ويس تفيد منهم ..وك ان يح دثنا كث يرا عن تل ك المواجي د واألذواق
واألشواق التي يعيشها الصوفية في رحاب المأل األعلى ..وك ان يح دثنا ك ذلك على
ذلك التسامح والسالم الذي تمتلئ به أرواحهم وعقولهم وقلوبهم.
لكن حربا كان مختلف ا في ذل ك تم ام االختالف م ع س الم ..فبمج رد أن ب دأنا
دراسة هذه المادة ،وأخبرنا األستاذ عن تسامح أهله وسالمهم ،حتى انقبض انقباض ا
شديدا ،وراح يبحث عمن يعاديهم ،وينفر منهم ،وسرعان ما وجد ذلك..
ولذلك فإنه بدل أن يجهد ذهنه وعقله في البحث عن تلك الحقائق التي يتحدث
عنه ا الص وفية ،ويس لكون في س بيلها ك ل طري ق ،راح يحف ظ فت اوى تكف يرهم
وتضليهم وتبديعهم وهدر دمائهم..
ثم راح يبشر بك ل ذل ك في الجامع ة ،وبين الطلب ة ال ذين أعجب وا ب ه ،وبق وة
ذاكرته ،وبشدته في الحق ،ونصرته للسنة ،وحربه للبدعة ..وقد أكس به ذل ك ش هرة
كبيرة ،وأتباعا كثيرين ..عرف بعد تخرجه كيف يستثمرهم ليصل إلى كل ما يريد.
وهكذا كان األمر ،أو أشد منه عند دراستنا للفرق اإلس المية ،فق د ك ان س الم
حريص ا على الوح دة اإلس المية ،وعلى ته وين الخالف ات الواقع ة بين المس لمين،
وكان يلتمس لذلك كل ذريعة ،ويبحث عن كل مبرر ،وكان يص يح ك ل حين م رددا
اآليات القرآنية الداعية إلى الوحدة ،والمنفرة من الخالف.
وكم أذك ر فرحت ه الش ديدة عن دما وج د الكتب المعتدل ة ال تي تش رح حقيق ة
مواق ف الش يعة من الق رآن أو الس نة أو من العقائ د والش رائع المختلف ة ..فق د ك ان
يقرؤها ،ويرددها في ك ل مجلس يس مع في ه من ينش ر قيم الع داوة والبغض اء ،وم ا
يتبعها من التكفير والتضليل.
ولم يكتف سالم بذلك ،بل كان يتصل بمشايخ تل ك الف رق ،ويجلس بين أي دهم
كم ا جلس م ع الص وفية ،ويس تفيد منهم ،وق د أكس به ذل ك التع رف على مدارس هم
ومناهجهم وعلومهم ورجالهم ..وقد تراكم ذلك كله في عقله ،فجعل منه عقال جامع ا
منفتحا على آفاق كثيرة لم يكن يصل إليها من دون ذلك االنفتاح.
وبخالفه كان حرب ..فقد كان حربا على كل تلك الفرق ..فك ل فرق ة ندرس ها
52
يذهب إلى م ا كتب فيه ا أع داؤها من خطب وفت اوى ،فيحفظه ا عن ظه ر قلب ،ثم
يصيح بها في كل محل ،وسرعان ما يتلف الن اس حول ه منبه رين بش جاعته وقوت ه
وفصاحته ..وبتلك الذاكرة العجيبة التي حفظت كل تلك الفتاوى.
وهكذا كان األمر عند دراستنا للمذاهب الفلسفية ،واألفكار والرؤى اإلنسانية،
فقد كان سالم منفتحا على كل رؤية ،دارسا لكل م ذهب فلس في ،يح اول أن يفهم ه،
ويستوعبه ،ليخرج من بين أشواكه ما شاء له سالمه من رحيق وعسل..
وعلى خالفه حرب ال ذي لم يكن عقل ه يطي ق أن يس مع غ يره ،وال غ ير م ا
رآه ..فلذلك كان يكتفي بحفظ أسماء تل ك الم ذاهب ورجاله ا ،وك ان يص يح في ك ل
مجلس بتضليلها وتكفيرها والتحذير منها ..وكان ذلك يعجب الكثير من الناس ال ذين
يجدون فيه صدى لما في نفوسهم ،وبوقا لحرب الذي يجثم على عرش قلوبهم.
وهكذا كان األم ر عن د دراس تنا للفن ون المختلف ة ..فق د ك ان س الم مي اال له ا
جميع ا ،معت برا أنه ا هدي ة من هللا لعب اده ليع بروا ب ه عن الجم ال ال ذي ال تطي ق
الحروف الجافة التعبير عنه ..ولذلك راح يقرأ لك ل ش اعر وك اتب وروائي ..وك ان
فوق ذلك يتدرب على كل تلك الفنون ،ويحاول أن يع بر به ا عن الس الم ال ذي يمأل
قلبه.
أما حرب ،فقد كان حربا على كل تلك الفنون ..وقد حفظ الفتاوى الكثيرة التي
تحرمها ،وتسد الطري ق على أهله ا ..وق د أكس به ذل ك أيض ا أتباع ا ج ددا ،وش هرة
جديدة.
وهكذا كان األمر عند دراستنا للحركات اإلصالحية ..فقد ك ان س الم منبه را
بالحركات العقالنية والتنويرية في نفس الوقت الذي ك ان ح رب منبه را بالحرك ات
المس لحة والمتش ددة ..وك ان معجب ا إعجاب ا ش ديدا بالش يخ محم د بن عب د الوه اب
وحركته النجدية ،فقد أخذت منه كل مأخذ ،وكان يقول لنا كل حين :إن هذه الحرك ة
هي الحركة الوحيدة التي تمثل اإلسالم الحقيقي ..ألنها وقفت بكل ق وة في وج ه ك ل
ذلك التزييف والتحريف الذي تعرض له اإلسالم..
وق د ك ان من أعجب م ا رأيت ه من ه ،وأن ا أع رف كس له ونف وره من العلم
والدراسة ،هو ذل ك االس تغراق ال ذي حص ل ل ه وه و يق رأ كتب ابن عب د الوه اب
وتالميذه وحفدته ،ويرددها كل حين ..وال يكتفي بذلك ،بل راح يستعمل كل الوسائل
للتواصل بهم واالستفادة منهم..
ثم راح بعد ذلك ،يبشر بهم في الجامعة وبين الطلبة ،وبين الن اس ،وس رعان
ما كسب أتباعا كثيرين ،وشهرة جديدة.
وهكذا كان األمر في كل العلوم والفنون إلى أن تخرجنا..
وبتخرجنا ينتهي الفصل الثاني من هذه المسرحية ،ليبدأ الفصل الثالث ،وه و
فصل ممتلئ باألسى والحزن ..ولذلك أنصح أص حاب القل وب الض عيفة أن يتوقف وا
عند هذا الحد ،ويخرجوا من المسرح.
أما غيرهم ،فأذكر لهم أننا بعد تخرجنا مباشرة ..اختلفت بنا السبل..
53
أما حرب ،فقد وجد عناية كبيرة من جهات متعددة ،ك انت كله ا تتن افس على
توظيفه واالستفادة من قدراته العجيب ة ..وك انت كله ا ت دفع ل ه مب الغ طائل ة جعلت ه
يتحول في وقت قصير إلى غني من األغنياء ،بل يتحول إلى رجل أعمال كبير..
وأول تل ك الجه ات هي القن وات الفض ائية ال تي تحب الص وت المرتف ع،
والقبضات القوية ،إرضاء ألذواق الجماهير ..وقد أعطته ما ش اء من ال وقت لينش ر
فكره التجديدي المتمثل في الق وة والتغي ير ..ول ذلك ك ان ش عاره ال ذي تب دأ ب ه ك ل
حصة هي قبضة قوية مكتوب عليها شعار [هللا أكبر]
وسرعان ما تحول الشعار بعد ذل ك إلى [الش عب يري د إس قاط النظ ام] ،وق د
وجد حرب فرصته تحت هذا الشعار ،فقد كان ال يكتفي بتلك المساحة الكب يرة ال تي
أعطيت له من جميع القنوات العالمية ..وإنم ا ك ان ي ذهب بنفس ه مش جعا لك ل تل ك
األيادي التي تسفك الدماء ،وتخرب األوطان ،وتقضي على الحياة ..في نفس ال وقت
الذي كان ينعم فيه بحماية أكثر األنظمة طغيان وظلما وعتوا.
أما سالم ..فقد كان آخر من توظف من دفعتنا ..وسرعان ما ط رد من العم ل
بعد اتهامه بالزندقة والهرطق ة وال ردة ..ألن ه ك ان ي دعو إلى الس الم في مجتم ع ال
يحب إال الحرب.
وقد اضطره ذلك إلى أن يعود إلى الريف ال ذي ول د في ه ،ل يرعى غنم أهل ه،
ويعيش حياة التأمل التي كان يحلم بها..
وبع د عش ر س نين من رعي الغنم ..وبع د أن رأى بني ان األم ة يك اد ينه د..
ورأى حرب ،وكيف أصبح بوقا لكل شيطان ..خرج من الري ف ،وذهب يص يح في
كل مدينة يحل بها ينفر من الدجل ،ويحذر منه ،ويستعمل في ذلك كل ما في الس الم
من قوة وحق.
وقد شاء هللا الذي بيده ك ل ش يء أن يقيض ل ه من يق ف بجنب ه من األقوي اء،
وأصحاب المال والجاه ..فأخذوا بيده ،وطلبوا منه أن يقف في وجه مشروع حرب..
وهنا بدأت الحرب بين حرب وسالم..
أما حرب ،فقد توقف عن إشعال تلك النيران ال تي ك ان يوق دها بين الش عوب
والحك ام ،وراح يش علها بين الش عوب وس الم ..وك ان يخ اطب الش عوب بقول ه :ال
يمكنكم أن تتخلص وا من االس تبداد والظلم والطغي ان ،وس الم بينكم ..فاش نقوه ..فال
يشنق حكام الجور إال بأمعاء علماء السلطان.
وقد نسي أنه من كبار علماء السلطان ،فلم يكن يتغ دى إال عن د األم راء ،ولم
يكن يتعشى إال عند الملوك..
وما هي إال سنوات قليلة حتى استجابت بعض العقول لدعوة ح رب ،وراحت
تنفذ كل ما يطلبه منها..
وبما أن سالم كان بسيطا ومتواضعا ،ولم تكن له حراسة خاص ة ،ب ل لم يكن
له أبواب قوية تحمي بيته ..فإنه سرعان ما وصل إليه تالمي ذ ح رب ،وغ رزوا في ه
أنياب حقدهم ..وقد وجد من رآه قتيال ثالثا وثالثين جراحة ،ووجدوا في ثوب ه مائ ة
54
وبضعة عشر خرقا من السكاكين الحادة ،باإلضافة إلى أث ر الض رب( ..)1ووج دوا
مع ذلك كله ابتسامته العذبة التي لم تفارقه في جميع حياته.
هكذا انتهى الفصل الث الث واألخ ير من ه ذه المس رحية ..وم ع كون ه فص ال
مؤلما إال أن الواقع كان هكذا ،وما كان لي أن أتجاوز الواقع ..ولو كان األمر بي دي
لما أنهيت المسرحية بهذه النهاية المؤلمة.
نعم بقي فصل رابع ،لن أقصه للجميع ،بل س أخص ب ه فق ط من يث ق في من
الناس ..أما من عداهم ،فأدعوهم إلى مغادرة المس رح ،ح تى ال تتغ ير نظ رتهم لي،
فيتهموني بالجنون أو الهرطقة ..ذلك أن هذا الفص ل يتج اوز المل ك إلى الملك وت..
ويتجاوز الظاهر إلى الباطن ..ويتجاوز السراب إلى الحقيقة ..وما أص عب أن ن رى
الحقيقة.
وخالصته التي أذن لي في الحديث عنها هي أن ني بع د م ا حص ل لس الم من
القتلة الشنيعة التي قتل بها ،وبعد أن أقيمت األفراح في تلك األيام ابتهاجا بما حصل
له أصابني حزن شديد ،لم أجد مطفئا له غ ير ذه ابي لق بره ال ذي وض ع على رأس
جبل ،وفي مكان خال حتى ال يستطيع زيارته أي أحد.
وهناك تجاوزت المل ك إلى الملك وت ..وهن اك اكتش فت حقيق ة س الم ،وس ر
ابتسامته ،وتمنيت لو أني قضيت حياتي كلها في صحبته ،بل تمنيت لو كنت خروف ا
من تلك الخراف التي رعاها ،أو عصا من تل ك العص ي ال تي حمله ا ،وه و ي رعى
الغنم.
بينما كنت على قبره أبكي وأتألم ش عرت بي د ت ربت على كتفي ،ف التفت له ا،
فإذا به سالم واقف أمامي تظلله أنوار كثيرة ال طاقة لي بوصف جماله ا ..ك ان كل ه
يشع من األنوار ،وكانت تنبعث منه روائح طيبة ،لم أش م مثله ا في حي اتي جميع ا..
وكانت ابتسامته بلسما لكل الجراح التي تألمت لها ،أو شكوت منها.
قلت له بمجرد أن رأيته ،واالنبهار قد أخذ مني كل مأخذ :هل أنت سالم؟
قال لي :أجل ..هل نسيتني؟
قلت :ولكنك مت ..وهذا قبرك ..لق د رأيت ص ورتك وأنت ميت ،وق د طعنت
في كل مكان من جسمك ..حتى أن البعض أخبرني ب أنهم اج تزوا رأس ك ،وفص لوه
عن جسدك.
ابتسم ،وقال :لقد أخطأوا فيما ذكروه لك ..وما أكثر ما يخطئون.
قلت :كيف تقول ذلك ،وقد تناقلته جميع وكاالت األنباء ..وقد رأيت ص ورتك
قتيال بعيني؟
قال :ومن أين لوكاالت األنبياء أن تصور اإلنسان ..إنها ال تصور سوى كفن
اإلنسان ولباسه الذي يلبسه ..أما حقيقته ،فأعظم من أن تصور ،أو يحاط بها.
قلت :لقد تألمت كثيرا لما حصل لك.
)( 1أشير بهذا إلى حصل لإلمام الحسين في كربالء ،انظر :المحمودي ،العبرات.2/136 :
55
ق ال :ل و ع رفت حقيق ة م ا حص ل لي لس ررت س رورا ال يطيق ه جس دك،
ولفرحت فرحا يظل معك طول عمرك.
قلت :فهال حدثتني عن حقيقة ما حصل لك؟
قال :ذلك أعظم من أن يصور ..فلعالم الملكوت أذواقه وألوانه ال تي ال توج د
في عالم الملك ..وال يمكن ألي لغة في الدنيا أن تعبر عنها.
قلت :وتلك الطعنات ألم تؤلمك؟
ق ال :لق د كنت أرى المالئك ة ،وهي تض ع مك ان ك ل طعن ة س الما ومحب ة
وسعادة ،تمنيت معها لو تحولت إلى غبار أو رماد لتنعم كل خلية من خالي اي ب ذلك
النور المقدس.
قلت :لم يكن ألمي بس بب تل ك الطعن ات فق ط ..ب ل ت ألمت ألن ك ط ردت من
عملك ،واضطررت مع علمك الكثير إلى أن ترعى الغنم.
ق ال :ل و كنت تعيش المش اعر ال تي أعيش ها ،وتش اهد المش اهد ال تي كنت
أش اهدها لم ا ت ألمت لحظ ة واح دة ..لق د كنت أش عر بعبودي تي هللا ،وفض له العظيم
علي ..وكنت مع تل ك الش ياه ال تي أرعاه ا ،أعيش م ع ك ل من رعاه ا من األنبي اء
واألولياء والصديقين ،فآنس بهم ،وبلقائهم أنسا ال يمكن التعبير عنه.
قلت :وقد تألمت لما كان حرب يذيقك إياه من ألوان بطشه.
ابتسم ،وقال :يحق لك ذلك ..ألنك كنت ترى جس دي ،ولم تكن ت رى روحي،
ولم تكن ترى تلك الطيور الجميلة التي كان تغرد حولي ،وتؤانسني..
قلت :هل تقصد أنك لم تكن تشعر بالقبض ة القوي ة ال تي ك ان ح رب يس لطها
عليك؟
قال :كان يشعر بها جسدي ..ولكن روحي لم تكن تتألم لها ،ألن بلس م الس الم
ال ذي تض عه المالئك ة واألرواح النوراني ة على ج راحي وآالمي ك ان يكس بني من
السعادة ما ال يمكن تصوره.
قلت :الذي أعرفه أن ذلك يكون في اآلخرة ..وليس في الدنيا.
قال :الدنيا واآلخرة أخوان ..أحدهما يعيشه الظاهر والجس د ،واآلخ ر يعيش ه
الباطن والروح ..فمن شاء أن يدخل جنته في دنياه دخلها ،ومن شاء أن ي دخل ن اره
دخلها.
قلت :على حسب قولك هذا ،فإن حربا يعيش في نار أحقاده.
قال :عندما كنت أراه كنت أرى الثع ابين تحي ط ب ه ،والحي ات تط وق عنق ه،
والن يران تلتهم قلب ه ..وكنت أش فق علي ه إش فاقا ش ديدا ،ول ذلك لم أكن أقابل ه إال
باالبتسامة ألطفئ تلك النيران ال تي تحرق ه ..لكن نيران ه لم تكن تنطفئ بابتس امتي،
بل لم تكن تزيد إال التهابا.
قلت :أخبرني عنك اآلن ..كيف أنت؟
قال :أنا اآلن في عالم السالم الذي أحببته وعش ت ل ه ومن أجل ه ..وفي ع الم
السالم كل سعادة وراحة وطمأنينة وصدق..
56
قلت :وحرب؟
قال :إن هللا بفضله العظيم ال يعطينا إال بحسب قابلياتنا ..ولو أنه أعطى حربا
ما أعيش ه اآلن لم ا أط اق ،والزداد عذاب ه ،ولتع ذب كم ا ك ان يتع ذب بابتس امتي،
ولذلك كان من عدل هللا ورحمته أن ينزله في المحل الذي تأنس فيه نفس ه ..ولم تكن
نفسه لتأنس إال بالصراع ..ولهذا وفر له كل ما يشتهيه من صراع ،ليتنعم به.
قال ذلك ،ثم غاب عني من غ ير أن أع رف كي ف حض ر ،وال كي ف غ اب..
ولكن حضوره كان أعظم مؤنس له ..وقد ظللت أش م عط ره زمن ا ط ويال ..وظللت
أشاهد أنواره المشعة كل حين.
وكنت في كل مناسبة يقيمها حرب فرحا بقتله ..أفرح معهم ،وأوزع الحلوى،
وأتبادل معهم التهاني والتباريك.
57
هند ..وزنيرة
لم يحدث في التاريخ انقالب في الموازين مثلما حدث في عصرنا ه ذا ،وبين
المسلمين خصوصا ،وبين من يزعم ون أنهم الفرق ة الناجي ة والطائف ة المنص ورة،
والذين يعتبرون أنفسهم قد خصوا وحدهم دون من عداهم بمعرف ة الحق ائق وس لوك
سبيلها.
فق د ص ار ك ل الظلم ة والعت اة والطغ اة والمس تبدين في عي ونهم ع دوال
وصالحين ومتقين ..وأقيمت ألجل الدفاع عنهم المحاف ل ،ونظمت الم ؤتمرات ..ب ل
ح تى المس اجد ومن بر رس ول هللا ص ار مرق اة لك ل من ين افح عمن ك ان همهم
تش ويه ال دين وتحويل ه من دين هللا إلى دين البش ر ..ومن دين العدال ة إلى دين
الطغيان ..ومن دين الرحمة إلى دين القسوة.
وهكذا صرنا ن رى الكتب ال تي ت دافع عن الحج اج ،وتعت بره نموذج ا مثالي ا
للقائد المسلم الذي استطاع أن يوحد الدولة ،ويقضي على كل بؤر الفتن فيها..
وصرنا نرى من يدافع عن المتوكل ذلك الطاغي ة المس تبد ال ذي م ارس ك ل
وسائل التعذيب للمخالفين والمعارضين ،بل صار مثاال للخليفة الس ني الع ادل ..ب ل
صار يلقب بناصر السنة وقامع البدعة.
وهكذا ص رنا ن رى من ي دافع عن يزي د ،ب ل يترض ى عن ه ،ويتكل ف تأوي ل
النصوص ليثبت أن رسول هللا نفسه استغفر له ،وأخبر أنه من أهل الجنة..
وصرنا نرى من يدافع عن الطلقاء ،ويسميهم صحابة أجالء ،بل يعتبر كل ما
ورد في فضل الصحابة والسابقين منهم مرتبطا بهم.
في هذا الوقت الذي قامت فيه سوق الطلقاء والظلمة والمس تبدين ن رى كس اد
أسواق السابقين الذي ضحوا بأنفسهم في سبيل قي ام اإلس الم ..فال أح د ي ذكر بالال،
وال الصخرة التي كانت تجثم على صدره ،وهو ين ادي أح د أح د ..وال أح د يع رف
المصير الذي صار إليه ،وال الحياة التي عاشها بعد وفاة حبيبه رسول هللا .
وال أحد يذكر سمية تلك التي ك انت أول ش هيدة في اإلس الم ..وال أح د ي ذكر
زوجها ياسر الذي كان أول الرجال استش هادا في س بيل هللا ..وال أح د ي ذكر ابنهم ا
عمارا ..ألن ذكره سيشوه الطلقاء ،وسيقلب صفحاتهم المنتنة ،وسيبعث في جم اهير
المغفلين السؤال عمن قتله ،ولم قتل ه ،وكي ف قتل ه؟ وك ل ذل ك س يحول الطلق اء من
صحابة أجالء إلى ظلمة وطواغيت.
وال أحد يذكر لبينة جارية بني المؤمل المستضعفة المعذبة( ،)1وقد كانت من
الس ابقين إلى اإلس الم ،وأوذيت إي ذاء ش ديدا ..ألن في ذك رهم له ا ولكيفي ة تع ذيبها
إحراجا كبيرا لمن قدمناهم بأهوائنا وأذواقنا ومعاييرنا البشرية القاصرة.
58
وال أحد يذكر أم عبيس ،وهي أمة لبني زهرة( ،)2كانت قريش ـ ال تي ص رنا
نعظمها ـ تع ذبها ع ذابا ش ديدا هي وزوجه ا أب و ع بيس ..وال زلن ا إلى اآلن نجه ل
نسبهما كما نجهل كل ما يرتبط بهما.
وال أحد يذكر النهدية تلك الجارية اليمنية المستضعفة التي كانت من السابقين
إلى اإلس الم ،فك انت س يدتها تع ذبها ،وتق ول :وهللا ال أقلعت عنك( ..)2وهك ذا ك ان
حال ابنتها التي عذبت معها ،وال نزال إلى اآلن ال نعرف اسمها وال اسم ابنتها ،وال
أي تفاصيل عنها في نفس الوقت الذي نعرف فيه أنساب الطلقاء ،ونعتز بها.
وال أح د ي ذكر زن يرة( )3تل ك الجاري ة المستض عفة ال تي ك انت يت داول
المشركون على تعذيبها بكل صنوف العذاب الحسي والمعنوي ،حتى أن أحدهم كان
يقول ساخرا منها :أال تعجبون لهؤالء واتباعهم محمدا؟ فلو ك ان أم ر محم د خ ير اً
وحق اً ما سبقونا إليه؟ أفسبقتنا زنيرة إلى رشد ،وهي من ترون؟
وي ذكر المؤرخ ون أنه ا ع ذبت ح تى عميت ،فق ال له ا أب و جه ل :إن الالت
والعزى فعلتا بك ما ترين ،فقالت ،وهي ال تبصره :وما ت دري الالت والع زى ،من
يعب دهما ممن ال يعب دهما؟ ولكن ه ذا أم ر من الس ماء ،وربي ق ادر على أن ي رد
بصري ،فأصبحت من تلك الليلة وقد رد هللا عليها بصرها ،فق الت ق ريش :ه ذا من
سحر محمد.
وبمناس بة الح ديث عن زن يرة ..فس أقص عليكم قص ة ترتب ط به ا ..وترتب ط
بعدوتها اللدود هند زوج أبي سفيان لنرى كيف نسيت األمة زنيرة ..وكي ف عظمت
هندا ..أو كيف نسيت الضحية ،في نفس الوقت الذي كرمت فيه الجالد.
وه ذه القص ة ليس ت غريب ة ،ب ل ربم ا عش نا الكث ير من أمثاله ا من حيث ال
نشعر ..وهي تعبر تعبيرا رمزيا وواقعي ا عن تل ك المق اييس المنتكس ة ال تي ص رنا
نصور بها الحقائق ،ونقوم بها أهلها.
في ذلك اليوم الحظت إعالنا إشهاريا في الجامعة التي أعمل بها شدني إلي ه،
فقد كان عن محاضرة بعن وان [عل و الهم ة] ،وه و من سلس لة محاض رات بعن وان
[صناعة القيادة في اإلسالم]
وبما أني في ذلك الحين كنت أعيش انتكاسة في هم تي ،ودن اءة في مط البي،
فقد عزمت على الحضور إليها ،ولم أكتف ب ذلك ،ب ل رحت إلى طلب تي أحثهم على
الحضور ،وأبين لهم أن ه ال يمكن أن يتق دموا في أي ش يء دون أن يك ون لهم هم ة
تدفعهم ،وطموح يرتفع بهم.
وقد ندمت على ذلك اإلش هار المج اني ال ذي قدمت ه للمحاض رة ن دما ش ديدا،
ألني رأيت طلبتي وجميع الحضور قد انتكست مف اهيمهم للحي اة ولل دين ،وتخلخلت
59
معاييرهم تخلخال ال يمكن ترقيعه.
بدأت المحاضرة ال تي تجمعت له ا الجم وع الكث يرة من الطلب ة والطالب ات..
وخرج المحاضر مزهوا بنفس ه كالط اووس ،يتح رك في المنص ة حرك ات س ريعة
يستعمل معها كل لغات الجسد التي تعلمها وتدرب عليها..
وفي بداية المحاض رة ،ق ال ممتن ا على الحاض رين :ه ذه محاض رة مجاني ة
أقدمها لكم خصوصا لوجه هللا ..ال أري د منكم ج زاء وال ش كورا ..فق ط أرج و منكم
االهتمام بها ،والعمل بمقتضاها ،وأنا أضمن لكم أنكم بعد فترة وجيزة بع د تخ رجكم
ستصبحون قادة في مجتمعاتكم ..ال تشكوا أبدا في ذلك ..فالحلم ال ذي تحلم ب ه الي وم
سيصبح حقيقة غدا.
وأول ذلك هو الهمة العالية ..تذكروا جي دا ه ذه الكلم ة ..فاهلل يعطين ا بحس ب
هممنا العالية..
وإلى هنا كان كالمه مقبوال عندي ..وكنت فرح ا أني أحض رت طلب تي ألني
كنت أتصور أنه سيحثهم على الترفع عن الدنايا والتطلع إلى األهداف العظمى ال تي
يؤدون بها الرسالة التي كلفهم هللا بها.
لكن كل ذلك نسخ بعد أن سمعت بقية محاضرته..
كان يتجول في المنص ة ..يح رك يدي ه بك ل ق وة ،ويق ول بص وت جه وري:
سأقص عليكم اآلن قصة امرأة عظيمة من الص حابة األجالء ال ذين ن زل فيهم قول ه
ار َوالَّ ِذينَ اتَّبَ ُع وهُ ْم بِإِحْ َس ا ٍن
ص ِ اج ِرينَ َواأْل َ ْن َالس ابِقُونَ اأْل َ َّولُ ونَ ِمنَ ْال ُمهَ ِ تع الىَ ﴿ :و َّ
ت تَجْ ِري تَحْ تَهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا أَبَ دًا ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرضُوا َع ْنهُ َوأَ َع َّد لَهُ ْم َجنَّا ٍ
َر ِ
ك ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾ [التوبة]100 : َذلِ َ
أولئك الصحابة العظام الذين استطاعوا أن يقضوا على أكبر االمبراطوريات
في ذلك العصر ..ويؤسسوا بدلها دولة كبيرة ضخمة امتدت من مشرق األرض إلى
مغربها.
قال ذلك ،ثم التفت للحضور ،وقال لهم :أنبئوني ما اسم هذه المرأة؟
سكت الجميع ،وهم محتارون في هذه المعلومة الجديدة ال تي قص ر أس اتذتهم
في تعليمهم إياها..
عن دما رأى المحاض ر وج وم الحاض رين ،ق ال :ال ب أس ..سأختص ر األم ر
لكم ..إنها من الصحابيات الجليالت ..وهي من مكة المكرمة..
قامت امرأة يبدو عليه ا الوق ار المختل ط باالستض عاف ،وق الت :الش ك أن ك
تقصد زينرة..
ضحك الجميع من جوابها ..وكان المحاضر أكثرهم ض حكا ،وق د رد عليه ا،
وهو ال يكاد يملك نفسه من الضحك :ومن زينرة هذه؟ ..ألول م رة أس مع أن هن اك
امرأة بهذا االسم ..لعلك ش اهدتها في بعض األفالم والمسلس الت ..أو لعله ا مطرب ة
أو راقصة..
كانت المرأة تريد أن تتكلم لتش رح ل ه ،لكن ه تعم د أال يلتفت إليه ا ،ب ل التفت
60
للحضور ،وقال :ه ل رأيتم م ا فع ل بن ا اإلعالم الح ديث؟ ..ه ل رأيتم م ا فعلت بن ا
الس ينما وال دراما والمسلس الت والكليب ات؟ ..لق د نس ينا أس ماء الص حابة األجالء،
وصرنا نذكر أسماء المغنيات والممثالت والراقصات..
غضبت المرأة ،وراحت ترفع صوتها بقولها :عجبا ل ك ي ا ش يخ ..أال تع رف
زنيرة تلك الصحابية التي ضحت بنفسها في سبيل قيام اإلسالم ..وقد تعرضت لك ل
صنوف األذى النفسي والجسدي ..ولكنها لم تستسلم ..وفيها وفي إخوانه ا وأخواته ا
نزلت تلك اآليات الكريمة التي كنت تقرؤها.
أحس المحاض ر بح رج كب ير عن دما ذك رت الم رأة ه ذا ،لكن ه اس تطاع أن
يتخلص منه بنوع من الحيل التي تعلمها من ابن تيمية وغيره من أصحاب مدرسته،
وقال :ال بأس ..لم تنفعلين هكذا؟ ..وكأنك زنيرة بعينها..
ضحك الحضور ،فزاد ذلك في زهو المحاضر الطاووس ،وق ال :فلنتن ازل..
ولنفرض أنها صحابية ..وأنه ا من الس ابقين ..لكن ه ل ذل ك يكفي ..ت ذكري جي دا..
نحن اآلن في موض وع بعن وان [الهم ة العالي ة] ،ونحن نري د ص ناعة قي ادات ،ال
صناعة جنود ..والمرأة التي ذكرتها ـ في حال صحة ما ذك رت من معلوم ات ،ألن
هناك خالفا كبيرا في أمثال هذه المسائل ـ تصلح مثاال للجندية والتضحية ..ال مث اال
للقيادة ..والهمة العالية..
ولهذا فإن المرأة التي نريد أن نتحدث عنها ،ونضرب المثل بها أكبر بكث ير..
ألنها استطاعت مع تأخر إسالمها أن تتحول مباشرة من الجندية إلى القي ادة ..وه ذا
ما نريده ..وهذه هي الهمة العالية التي نطلب منكم أن تترفعوا لها.
هذه المرأة استطاعت أن تجعل المؤرخين منشغلين بها ،متناسين كل األسماء
التي سبقتها بما فيها ذلك االسم الغريب الذي ذكرته هذه المرأة..
ولهذا فإن من يريد أن يكون ف اعال وم ؤثرا وقائ دا ،ف إن علي ه أن يبحث عن
هذه األسماء التي خلدها التاريخ ..ال التي تغافل عنها ،واحتقرها.
قامت امرأة من الحضور ،وقالت بكل قوة :أجل ..لقد عرفته ا ..إن ك ل كلم ة
من كلماتها تشير إليها ..إنها هند..
كبر المحاضر تكبيرات كثيرة ،وقال :بورك فيك ..أجل ..إنها هن د بنت عتب ة
بن ربيعة ،وزوج أبي سفيان ..لكن كيف عرفت ذلك؟
قالت المرأة :لقد عرفت ذلك بسهولة ..فأنا اس مي هن د ..وق د أخ برني وال دي
أنه سماني باسم هذه الصحابية الجليل ة ..وذك ر لي الكث ير من أخباره ا ال تي رفعت
همتي ،وجعلتني أنال الكثير من المراتب والمناصب ال تي ال يحلم بمثله ا من هم في
سني.
قال المحاضر ،وهو يلتفت للم رأة األولى :أرأيت ت أثير االس م في المس مى..
لقد جعلها اسم هند ترتقي في سلم الرقي ..فما اسمك أنت؟
قالت المرأة :زنيرة..
ضحك الجميع ،فقال المحاضر ،وهو يوج ه كالم ه له ا :فم ا المناص ب ال تي
61
تبوأتها في حياتك يا ست زنيرة؟
قالت :أنا مسلمة ..ويكفيني ذلك وشرفا.
ضحك المحاضر ،وقال ،وهو يوج ه كالم ه للحض ور :ه ل رأيتم هم ة أدنى
من هذه ..ال يكفي أن تكون وا مس لمين ..فه ذه هم ة دني ة ..الب د أن تكون وا م ؤثرين
وف اعلين ..ه ل رأيتم هن دا وم اذا فعلت؟ ..ق ارنوا بينه ا وبين زن يرة كم ا هم ا في
الواقع ،وكما هما في التاريخ.
قامت زنيرة ،وقالت :ولكن كي ف تق ول ه ذا؟ ..وكي ف تس تبدل زن يرة بهن د؟
وأنت تعلم أن هندا كانت وأبوها وزوجها من ألد أعداء رسول هللا ..فزوجها أب و
سفيان قضى أكثر عمره في حرب رسول هللا ..وكانت هي شريكة له في ذل ك..
ولعلك تعرف قصتها يوم أحد ،يوم كانت تح رض المش ركين على قت ال رس ول هللا
..ولعلك تذكر قصتها عند قتلها لحمزة ،وعند أكلها لكبده..
ابتس م المحاض ر ،وق ال :وك ل ذل ك من همته ا العالي ة ..فهي عن دما ك انت
مشركة لم ترتض لنفسها أن تكون مشركة بسيطة ..بل كانت مشركة قائدة وموجه ة
ومحرضة ..أي أنها كانت صاحبة همة عالية في كل مراحل حياته ا ..وق د أكس بتها
تلك القوة في الجاهلية قوة في اإلسالم ..ف راحت ت ربي أبناءه ا على أال يكتف وا ب أن
يكونوا جنودا بسطاء ،بل تربيهم ليصيروا قادة وفاعلين ومؤثرين.
تعجب الحضور من هذه المفاهيم الجدي دة ال تي يطرحه ا الش يخ عليهم ..وق د
الحظ ذلك ،فقال :الشك أنكم تستغربون هذا ..ولكن هذه هي الحقيقة ..الهم ة العالي ة
تبقى همة عالية كانت في الجاهلية أم في اإلسالم ..لقد ورد في الحديث الصحيح م ا
يش ير إلى ذل ك ،فق د ق ال ( :الن اس تب ع لق ريش في ه ذا الش أن ،مس لمهم تب ع
لمسلمهم ،وكافرهم تبع لك افرهم .الن اس مع ادن ،خي ارهم في الجاهلي ة خي ارهم في
اإلسالم إذا فقهوا)()1
هل رأيتم هذا الح ديث العظيم ..وكي ف يش ير إلى ه ذا المع نى بك ل وض وح
ودقة ..إنه يذكر أن الناس تبع لقريش ..ألن قريشا كانت صاحبة همة عالي ة ..وله ذا
نرى ال ذكر الكث ير لهم ،واإلش ادة الكب يرة بهم ..ح تى أن الص حابة ال ذين من غ ير
قريش نسوا وغفل عنهم التاريخ ..بينما الصحابة من ق ريش ال زالت أس ماؤهم تمأل
كل مكان ..حتى المبشرون بالجنة كلهم من قريش ..وكل الناس يحفظون أسماءهم..
بينما غيرهم ال يذكرهم الناس حتى لو بشروا بالجنة.
هذه نبوءة رسول هللا التي حققها التاريخ..ووقعت كما ذكر..
ولهذا تذكر الناس هندا ،ونسوا كل من عداها من األسماء نسوا سمية ..ونسوا
زنيرة ـ في حال صحة ما ذكرت المرأة عنها ـ ونس وا أم عم ارة ..ألن هن دا ك انت
من قريش ..وقريش كانت تمثل القيادة بجانب سائر القبائل ..وكانت لها تل ك القي ادة
بسبب همتها العالية..
62
هكذا ترون رسول هللا يدعونا من خالل ذلك الح ديث إلى البحث عن ك ل
األسباب التي تؤدي إلى الهمة العالية.
قامت المرأة األولى ،وقالت :ولكن ألم تسمع بما ورد في الحديث أن ه م ر
على رجل ،فقال ألصحابه :ما تقولون في هذا الرجل ؟ قالوا :نقول ه و من أش رف
الن اس ،ه ذا ح ري إن خطب أن يخطب ،وإن ش فع أن يش فع ،وإن ق ال أن يس مع
لقوله ،فسكت النبي ،وم َّر رجل آخر فقال الن بي :م ا تقول ون في ه ذا ؟ ق الوا:
نقول وهللا يا رسول هللا ،هذا من فقراء المسلمين ،هذا حري إن خطب لم ينكح ،وإن
شفع ال يشفع ،وإن قال ال يسمع لقوله ،فق ال الن بي (:له ذا خ ير من ملء األرض
مثل هذا)()1
ابتسم المحاضر ابتسامة صفراء ،وقال موجها كالمه للحض ور :لس ت أدري
من الذي ينشر مثل هذه األحاديث ال تي تص ور لن ا دائم ا الفق ر والض عف والعج ر
بصور جميلة ..إن هذه األحاديث هي السبب فيما حصل للمسلمين من تخلف..
ثم التفت للمرأة ،وقال :لتفهمي هذا الحديث تحتاجين إلى التعرف على الكثير
من العلوم ،وأهمها م ورد الح ديث ..فلع ل ذل ك مرتب ط بحال ة خاص ة ،وفي زم ان
خاص ..فهل تعلمت هذا العلم ..أم أنك فقط ترددين م ا تس معين ،دون أن تفهمي ه أو
تعيه.
ثم التفت للحضور ،وقال :فلنعد إلى هند ..تلك المرأة العظيمة ص احبة الهم ة
العالية في الجاهلية واإلسالم ..ألقص عليكم قصة من قصصها تثبت لكم دور الهمة
العالية في التحقق بكل مقتضيات القيادة.
لقد روى المؤرخون الثقاة أن (هندا بنت عتبة زوج ة أبي س فيان وأم معاوي ة
رضي هللا تعالى عنهم أجمعين حين أتاها نعي يزي د بن أبي س فيان وق ال له ا بعض
المعزين :إنا نرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد ..يعني يواسونها ويعزونه ا،
فقالت :أو مثل معاوية يكون خلفا ً من أحد؟! وهللا لو جمعت العرب من أقطاره ا ،ثم
رمي به فيهم لخرج من أي أعراض ها ش اء ..وقي ل له ا أيض ا ً ـ ومعاوي ة ولي د بين
ي ديها ـ :إن ع اش معاوي ة س اد قوم ه ،فق الت :ثكلت ه إن لم يس د إال قوم ه! ..وه ذه
العبارة لها معان عظيمة ج داً بعي دة الم رمى؛ ألن مع نى ذل ك أنه ا رغم أن ولي دها
بضعة لحم ال يظهر عليه أي أمر مما يقطع بأن هذا س يكون إنس ان ل ه ش أن ،ولكن
هذا معناه أنها تنوي أن تربي هذا الولد وتوجهه حتى إنها لتأنف من أن يس ود قوم ه
فقط ،بل غضبت حينما قالوا لها :إن عاش معاوية ساد قومه ،فق الت :ثكلت ه .يع ني:
األفضل أن يموت إن لم يسد إال قومه ..ومعروف أن معاوية من أكثر العرب سيادة
وسياسة وحكمة كما عرف أثناء إمارته في الشام أو أثناء خالفته)()2
قال ذلك ،ثم كبر ،وطلب من الحضور أن يكبروا معه ،ثم قال :هل رأيتم مثل
)(1رواه ابن ماجة.
)( 2هذا النص الحرفي من محاضرة بعنوان [علو الهمة] للشيخ محمد إسماعيل المقدم ،وهي متوفرة للنت لالستماع
والتحميل الصوتي والنصي.
63
ه ذه الهم ة العالي ة ..لق د اس تطاعت هن د بفض لها أن تنجب ذل ك البط ل العظيم من
أبطال اإلسالم معاوية ..ذلك الذي أسس الدولة األموية العظيم ة ..تل ك الدول ة ال تي
استطاعت بفعل حكمة حكامها الكثيرين أن تتربع على ع رش قي ادة الع الم قرن ا من
الزمان.
إن تلك الدولة وحكامها هم أكبر النماذج الدالة على ق وة اإلس الم ،وأن ه ـ ل و
توفرت الهمم العالية ألبنائه ـ يستطيع أن يصبح القوة الكبرى والوحيدة في العالم.
هل تعلمون ـ أيها الحضور الكريم ـ أن الحكام في ذلك العص ر ..عص ر ق وة
اإلس الم ..ك انوا يخ اطبون الس حابة ق ائلين :أمط ري حيث ش ئت ..ف إن خراج ك
سيأتينا؟
هل تعلمون ـ أيها الحضور ـ أن خدم المس لمين في ذل ك الحين لم يكون وا من
العبيد السود فقط ..بل كان فيهم جميع األلوان ..ألن جيوش المسلمين اس تطاعت أن
تدخل كل البالد ،وأن تجلب منها جميع أنواع الغنائم ،وأن تحول أولئك المس تكبرين
إلى عبيد وخدم للمسلمين.
كبر الجميع إال تل ك الم رأة ال تي تح دثت عن زن يرة ،فق د اس تبدلت تكبيره ا
بالبكاء ،ثم خرجت ،والحزن يبدو على مالمحها ،فتبعتها ألسألها عنه ا ،وكي ف ب دا
لها أن تذكر زنيرة ،لكني لم أجدها ،وعندما س ألت الب واب ،وذك رت ل ه مالمحه ا،
قال :أجل ..أتذكر جيدا أن امرأة دخلت إلى القاعة من غير أن تك ون له ا أي بطاق ة
دعوة ،وال بطاقة طالب ..وعندما طلبت منها إظهار الدعوة أو البطاقة أخبرتني أنك
أنت الذي دعوتها..
قلت :ال ..أنا ال أعرفها ،بل إني لم أرها في حياتي إال هذا الي وم ..فه ل ق الت
لك شيئا غير هذا؟
قال :أجل ..لقد تذكرت ..لقد تركت لي رسالة طلبت مني تسليمها لك.
استعجلته في أن يحضرها لي ..وبع د عن اء ش ديد في بحث ه عنه ا ،أخرجه ا،
وسلمها لي ..وقد أصابني عند قراءتي لها عجب شديد ..لن أحكي لكم ما كتبت ألني
أعلم أنكم لن تصدقوني ،فأنتم ـ أصحاب الهمم العالية ـ ال تؤمنون إال بالمحسوس..
لكني مع ذلك أذكر لكم أن تلك المرأة لم تكن س وى زن يرة تل ك ال تي ع ذبتها
قريش حتى عميت ،وأعاد هللا بصرها ..لكن كيف ج اءت ،وكي ف تح دثت ..وكي ف
تركت رسالتها لي ..وماذا قالت فيه ا ..ذل ك ش أن آخ ر ال يطي ق عقلي وال عق ولكم
فهمه.
64
الشياطين ..والجوار المقدس
من أعظم األماكن التي تحن لها القل وب ،وتش تاق له ا األرواح ،وتتطل ع له ا
األفئدة ذلك المكان المقدس الذي يأوي الجسد الط اهر لرس ول هللا ..وال ذي ق ال
عنه ابن عقيل( :سألني سائل أيما أفضل حجرة النبي أو الكعبة؟ فقلت :إن أردت
مجرد الحجرة ،فالكعبة أفض ل ،وإن أردت وه و فيه ا فال وهللا وال الع رش وحملت ه
وال جنة عدن وال األفالك الدائرة ،ألن بالحجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح)()1
وقال الشاعر معبرا عن ذلك:
ري اض من جن ان وبقعت ه ال تي ض مته حلق ا ً
تطيل تس
وأمالك ب أفالك تج ول وأفض ل من س موات
وأرض
وف ردوس به ا خ ير ومن ع رش ومن جن ات
جزيل دن ع
بل نقل القسطالني في [المواهب اللدنية] اإلجماع على ذلك ،فقال( :وأجمعوا
على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع األرض ح تى موض ع
الكعبة ،بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها -أي البقع ة ال تي ق بر فيه ا
- أفضل من العرش .وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السموات)()2
وق ال اإلم ام الحص فكي الحنفي في [ال در المخت ار] ،وه و من أش هر كتب
الحنفية( :ال حرم للمدينة عندنا ومكة أفضل منها على الراجح إال م ا ض م أعض اءه
فإنه أفضل مطلقا حتى من الكعبة والعرش والكرسي)()3
وقال الشيخ عليش المالكي في شرحه على مختصر الخليل( :ومح ل الخالف
في غير الموضع الذي ضمه فإنه أفضل من الكعبة والسماء والعرش والكرس ي
واللوح والقلم والبيت المعمور)()4
وقال اإلمام السخاوي الشافعي في [التحفة اللطيفة] معمما ذلك( :مع اإلجماع
على أفضلية البقعة التي ضمته ،حتى على الكعبة المفضلة على أص ل المدين ة،
بل على العرش ،فيما صرح به ابن عقيل من الحنابلة ،وال شك أن مواضع األنبي اء
وأرواحهم أشرف مما س واها من األرض والس ماء ،والق بر الش ريف أفض لها ،لم ا
تتنزل عليه من الرحمة والرضوان والمالئكة ،التي ال يعمله ا إال مانحه ا ،ولس اكنه
عند هللا من المحبة واالصطفاء ما تقصر العقول عن إدراكه)()5
65
هذا م ا نص علي ه أعالم الم ذاهب الفقهي ة المختلف ة ،ولم يخ الف في ه ذا إال
السلفية ،وخصوصا التيميون منهم ،الذين اعتبروا زيارة ق بر رس ول هللا بدع ة،
والسفر المؤدي لتلك الزيارة سفر معصية..
وليتهم اكتفوا بذلك ..بل إنهم راحوا في األيام التي جعلهم هللا فيها س دنة ل ذلك
المقام المقدس ال يراعون له أي حرمة ،وال لبلدته المقدسة أي تعظيم.
فقد صارت المدينة المنورة في أيامهم مركزا لك ل متط رف ومتش دد ومكف ر
ومفرق لصف األمة ..وأصبحت جامعته ا هي المدرس ة الك برى ال تي تخ رج منه ا
كبار إرهابيي العالم(.)1
وفي المدينة المنورة صدرت الكثير من الفتاوى التكفيرية والتض ليلية لجمي ع
األمة.
وأمام قبر رسول هللا يقف أولئك الجامدون الغالظ العتاة ينتهرون كل باك
أو خاشع أو داع أو متوسل أو معبر عن مشاعره أمام ذلك القبر الط اهر المحف وف
بكل ألوان القداسة.
انطالقا من هذه الحقائق التي نطق بها الواقع ،والتي يعرفها ك ل ص ادق ،ب ل
كل من زار ذلك الجوار المق دس ،س أحكي لكم قص ة تص ور بعض م ا يحص ل في
تلك المجالس العلمية التي ال يفصل بينها وبين القبر الشريف سوى أمتار محدودة.
ففي ذلك اليوم الذي تشرفت فيه بزيارة رسول هللا في روضته الش ريفة..
وبعد أن أغلق بابها ،ومنعنا من الدخول ..حدثتني نفسي أو شيطاني أو كالهم ا ب أن
أجلس في بعض مجالس العلم التي يمتلئ بها المسجد النبوي الشريف.
فلما أبيت عليهما حرصا على تلك المش اعر الطيب ة ال تي امتألت به ا روحي
جراء ذلك الجوار المبارك ،أخذا يسردان علي كل ما ورد من النص وص المقدس ة
في فض ل مج الس العلم ..وأخ ذا يق والن لي :لعل ك س تجلس في نفس المك ان ال ذي
جلس فيه رسول هللا معلما ،ولعلك بذلك تنال من بركات ذلك المجلس ما لم تكن
تحلم به في حياتك.
لست أدري كيف استطاعت نفسي أو شيطاني أن يقنعاني ،فذهبت وأنا ممتلئ
خوفا من أن يتحول ذلك المذاق الحلو اللذيذ الذي شربته من كأس القرب من رسول
هللا إلى حنظ ل وعلقم وغس لين ..وبالفع ل ك ان م ا خفت من ه ،فإن ا هلل وإن ا إلي ه
راجعون.
َ ْ
لقد حول ذلك المجلس قلبي إلى حجارة قاس ية ،ب ل إن من ﴿ ِمنَ ال ِح َج ا َر ِة ل َم ا
ق فَيَ ْخ ُر ُج ِم ْن هُ ْال َم ا ُء َوإِ َّن ِم ْنهَ ا لَ َم ا يَ ْهبِ طُ ِم ْن
يَتَفَ َّج ُر ِم ْنهُ اأْل َ ْنهَا ُر َوإِ َّن ِم ْنهَ ا لَ َم ا يَ َّش قَّ ُ
خَ ْشيَ ِة هَّللا ِ﴾ [البقرة]74 :
بل إنني بعد مغادرتي لتلك المجالس ،لم أذهب إلى الروض ة الش ريفة م ع أن
أبوابها قد فتحت ..وإنما ذهبت إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه..
66
وعندما عدت في المساء للزيارة ذهبت بغير الطريق ة ال تي كنت أذهب به ا..
لقد ذهبت متثاقال أجر قدمي جرا ..وعندما وقفت بين يديه لم أشعر بتلك السعادة
التي كنت أشعر بها ..بل كنت بليد المش اعر ،قاس ي الوج دان ،وك أنني أب و لهب أو
أبو جهل أو أبو سفيان ..وحينها لم ألم أولئك الغالظ الذين شرفوا بحراسة ذلك المقام
المقدس ..وكيف ألومهم ،وهم يعيشون ذلك الغثاء والدنس صباح مساء.
ق د ت رون أن ذل ك راج ع لي ..وأن س ببه س آمتي ..وأن ه ذا ش يء ط بيعي
يحصل لكل الناس ..ولك ني أق ول لكم :ليس األم ر كم ا تظن ون ..األم ر أخط ر من
ذلك ..إنه يكمن في تلك المجالس التي تحيط برسول هللا ،وت زعم أنه ا تج اوره،
وهي تحاربه وتحارب كل القيم النبيلة والمشاعر الطاهرة التي جاء بها..
وسأقص عليكم اآلن بعض المشاهد ال تي عش تها ورأيته ا ،ولم يس تطع عقلي
وال قلبي أن ينساها ..وليته استطاع..
اق تربت من بعض المج الس ،قب ل أن يب دأ ال درس ،فجلس ت إلى س ارية من
السواري ،بحيث أسمع الشيخ وتالميذه من حيث ال يروني ..وكان الشيخ جالسا أمام
كرسيه الفخم ،وك ان يجلس تالمي ذه المقرب ون أمام ه وبين يدي ه بحس ب م راتبهم..
كانوا جميعا ينتظرون الوقت الذي يبدأ فيه الدرس.
قال الشيخ لتالميذه :أخبروني ..هل من جدي د ..فإحي اء علم الج رح والتع ديل
في عص رنا الحاض ر يس تدعي من ا ب ذل جه ود مكثف ة ..الب د أن نتح رك في ك ل
الميادين ..والحم د هلل نحن في ه ذه المدين ة يف د إلين ا ك ل الن اس ،ومن ك ل البل دان،
ومعهم من يزعمون ألنفسهم العلم ..وهي فرصة للتعرف على مثالبهم التي تتيح لن ا
فضحهم والتحذير منهم.
رفع تلميذ من تالميذه يده مستأذنا للحديث ،فأذن ل ه ،ق ائال :م ا وراءك ..ه ل
نفذت كل ما طلبته منك؟
قال :أجل ..لقد رأيته يا شيخ قبل قلي ل ،أم ام ق بر رس ول هللا ،وه و يق وم
بكل ما يقوم به المشركون من طقوس ..لقد رأيته يرفع يدي ه إلي ه بال دعاء ..ورأيت ه
يحاول لمس الشباك ..بل يحاول تقبيله ..ولوال أن الحرس منعوه بشدة لكان قبله.
وقد تبعته بعد ذلك إلى البقيع ،فوجدته مشركا جلدا ..ي دعو أص حاب القب ور،
ويتوسل بهم ،ويستغيث ..ب ل ويبكي ،وه و يخ اطبهم ..وق د رأيت ه يخ رج كتاب ا من
كتب الشرك يقرأ فيه ،ويدعو..
قال الشيخ :بورك فيك يا بني ..لقد كنت متأكدا تماما أنه مشرك ..وأن ادعاءه
التسنن كذب واحتيال..
قال ذلك ،ثم التفت لتالميذه ،وراح يقول ،والفرحة تمأل أسارير وجهه :ها هو
ابني وتلميذي النجيب ،قد أتاكم بالخبر اليقين ..ففالن الذي زعمتم وزعم الكث ير أن ه
على خير ،وأنه على السنة ،وأنه يعظم السلف ،تبين أخ يرا أن ه ليس س وى مش رك
دجال ..فال تنوا في التحذير منه ومن ضالالته وكفره.
قال تلميذ آخر :بورك فيك شيخنا ..لق د كنت أش م ذل ك في كتب ه ..خاص ة في
67
كتابه حول سيرة رسول هللا ..لقد كان يبالغ إلى درجة كبيرة في مدحه وإطرائ ه
متناسيا أنه بشر كسائر البشر.
قال آخ ر :ص دقت ش يخنا ..وق د انتبهت إلى ذل ك قب ل ف ترة طويل ة ،فمفه وم
الوالء والبراء عنده فيه ض بابية كب يرة ..فه و ي دعو دائم ا إلى الوح دة اإلس المية..
وذلك ما يثير فيه الشبهات ،ألنه ال ي دعو إلى الوح دة إال من ي دعوا إال التن ازل عن
التحذير من الشرك والبدع والضالالت..
بعد أن أكلوا من لحم الش يخ م ا أكل وا ..ق ال الش يخ :دعون ا من ه ،فق د وض ح
أمره ..فهل هناك غيره؟
قال أحد التالميذ :أجل ..فق د أتيتكم الي وم بمعلوم ة تس اوي وزنه ا ذهب ا..أنتم
تعرفون ذلك القريب الذي يعمل في المطار ..والذي أخبرتكم عنه كثيرا.
قال الشيخ :أجل ..وال تنس أن تسلم عليه ..فهو رجل صالح ومن كب ار الثق اة
الذين نعتمدهم في تجريح المجروحين.
قال التلمي ذ :لق د أخ برني البارح ة أن ه ش اهد مف تي الهن د يتح دث م ع ام رأة
باكستانية لم تكن تقربه ..وكان في خلوة معها من غير أن يكون بينهما مح رم ..وق د
تأكد بنفسه عندما ذهب وطلب من الهندية أوراقها زاعما أنه من األمن ،وق د ع رف
من خالل الوثائق أنه ال صلة بينهما.
قال الشيخ فرحا :بورك فيك وفي قريبك ..هل رأيتم الفاسق م اذا يفع ل ..إنه ا
فرصتكم ل تردوا ل ه الص اع ص اعين ..لق د كتب في تل ك األي ام مقال ة ح ول اإلم ام
المجدد محمد بن عبد الوهاب ،يتهمه فيها بتفريق ص ف المس لمين ..وه ا ق د ح انت
الفرصة لكم إلعالن فسقه وفجوره للناس ..هل من جديد؟
قال آخر :لق د أتيتكم الي وم بخ بر مهم ج دا يتعل ق ب رأس من رؤوس جماع ة
التبليغ التي سمعنا بعض من يدافع عنها ..فق د أخ برني أح د الثق ات الس عوديين أن ه
شهد على سعيد أحمد الهندي رئيس جماعة التبلي غ في المملك ة أن ه ماتري دي ،وأن ه
ينكر عل َّو هللا على خلق ه( ..وق د حص لت لي م ع الش اهد الم ذكور قص ة ،وهي أن ه
ج اءني مس تنكراً الكالم في جماع ة التبلي غ! فقلت ل ه :إنهم متص وفة وماتريدي ة ال
يصفون هللا بصفة العلو .فقال :وما الدليل على ذلك؟ فقلت له :اذهب بنفسك ،وحاول
ي وهو يقول :إن م ا ذكرت ه من أن تقف على الواقع .فذهب الرجل ،وبعد أيام عاد إل َّ
كونهم ال يعترفون بعل ِّو هللا واستوائه على عرشه ص حيح .فقلت ل ه :وكي ف ع رفت
ذلك؟ قال :ذهبت إلى رئيس الجماعة سعيد أحمد الذي كان يثق بي تم ام الثق ة؛ ألني
من تالميذه ومريديه ،فقلت له :إني لس ت في ش ك من عقي دتنا ،وهي أن هللا في ك ل
مكان ،وليس هو في السماء ،ولكن؛ بماذا نر ُّد على الذين يقولون :إن هللا في السماء.
فقال :اتركهم واثبت على عقيدتك؛ فهي الحق)()1
صاح الشيخ :هللا أك بر ..هللا أك بر ..فق د ص دق إذا حكمن ا عليهم ب الكفر ..فال
)(1هذه القصة من كتاب :القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ ،ص ،42وهو مملوء بأمثال هذه القصص التي
بنى عليها التويجري تكفيره لجماعة التبليغ.
68
يقول هذا إال الكفرة ..وقد قال العالمة ابن القيم في الكافية الشافية:
عش ر من العلم اء في ولقد تقل د كف رهم خمس ون
دان
هم ب ل حك اه قبل ه والاللك ائي اإلم ام حك اه البل في
يعني :أن خمس مئة من العلماء صرَّحواالطبتكفير الجهمية .براني
عن
وقد ذكر عبد هللا بن ا ِإلمام أحمد في كتاب السنة كث يراً من أق وال العلم اء في
تكفيرهم ،وذكرها غيره من األئمة الذين صنَّفوا في السنة والر ِّد على الجهميَّة.
قال ذلك ،ثم راح يصيح ب أعلى ص وته( :ليعت بر المس ارعون إلى االنض مام
إلى جماعة التبليغ بما ُذكر عن رئيس جم اعتهم في المملك ة العربي ة الس عودية أن ه
يعتقد أن هللا في كل مكان وليس هو في السماء! وهذا كفر صريح؛ لمناقضته لألدل ة
الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أن هللا تع الى مس ت ٍو على عرش ه،
فوق جميع المخلوقات ،وأنه مع الخلق بعلمه واطالع ه وإحاطت ه ..فليح ذر الم ؤمن
الناص ح لنفس ه من االنض مام إلى التبليغ يين ال ذين ينك رون عل َّو هللا على خلق ه،
ويزعمون أنه في كل مكان ،تعالى هللا ع َّما يقول الظالمون عل ّواً كبيراً) ()1
أخذ التالميذ ينظر بعض هم إلى بعض معج بين ببطول ة الش يخ ،وق ال أح دهم
مخاطبا زمالءه :هل رأيتم علما بطال وشجاعا ومقداما مثل شيخنا الجليل ..ه و يعلم
أن هذا المسجد ال يخلو من هذه الجماعة ،ومع ذلك راح بكل جرأة يواجههم وي ذكر
حقيقتهم باذال نفسه في سبيل هللا.
كبر الجميع ،وراحوا يدعون للشيخ بأن يجعله ناص را للس نة ،قامع ا للبدع ة،
وأن يدخل ه الف ردوس األعلى بص حبة ابن تيمي ة وابن عب د الوه اب وابن بط ة
والبربهاري وغيرهم من أعمدة وأقطاب وأوتاد وأغواث اإلسالم.
بعد أن عاد الهدوء للحلقة رفع بعض التالميذ ي ده مس تأذنا الش يخ ،ف أذن ل ه،
فقال :بمناس بة ح ديثكم عن جماع ة التبلي غ ،س أذكر لكم قص ة ذكره ا لي رج ل من
طلب ة العلم في (المدين ة المن ورة خ رج م ع التبليغيِّين إلى الحناكي ة ،وأم يرهم أح د
رؤساء جماعة التبليغ ،وفي أثن اء اللي ل رأى ط الب العلم أح د الجماع ة من الهن ود
يهتز ويقول :هُو! هُ و! هُ و! فأمس كه ،ف ترك الحرك ة وس كت ،وفي الص باح أخ بر ُّ
طالب العلم أمير الجماعة بم ا فعل ه الهن دي التبليغي -ظانّ ا ً أن األم ير س ينكر على
الهندي -فأنكر األمير على طالب العلم إنكاره على الهندي! وقال له بغضب ش ديد:
صرْ تَ وهابيّاً! وهللا؛ لو كان لي من األمر شيء؛ ألحرقت كتب ابن تيمية وابن أنت ِ
القيم وابن عبد الوهاب ،ولم أترك على وجه األرض منها شيئاً! ففارقهم طالب العلم
حين سمع هذا الكالم السيئ من أميرهم؛ ألنه عرف عداوتهم ألئمة العلم والهدى من
أهل التوحيد والدعوة إليه وإلى إخالص العبادة هلل وحده ،والنهي عن الشرك والبدع
69
أهلها) ()1 والخرافات وأنواع الضالالت والمنكرات والتحذير منها ومن
صاح الشيخ مكبرا ،ثم قال :بورك فيك يا بني هذه هي األخبار التي نري دها..
ال تنس أن تس جلها لي ألض عها في كت ابي ال ذي ع زمت على كتابت ه ح ول تكف ير
جماعة التبليغ ..وأنا اآلن أجمع األدل ة العلمي ة القطعي ة ح ول ذل ك ..والقص ة ال تي
ذكرتها من أبلغ األدلة.
قال بعض التالميذ :بورك فيك شيخنا على نصرتك للسنة ،وحربك للمبتدعة،
فما تريد أن تسمي هذا الكتاب.
قال الشيخ :أريد أن أسميه [القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ]
كبر التالميذ ،وقالوا :ليت ك تؤل ف لن ا مثل ه عن س ائر الجماع ات والحرك ات
والمذاهب والطوائف..
ق ال الش يخ :لكم ذل ك ..لكن ال ب د أن تعيني ني علي ه ،فأن ا ال أكتفي باألدل ة
النظرية ،ب ل أض م إليه ا األدل ة الواقعي ة ..وخ ير مك ان يمكن أن نجم ع في ه األدل ة
الواقعية هو هذه البلدة ،وهذا المسجد ،وخصوصا موقع الروض ة من ه ،فه و أحس ن
مكان للتعرف على رؤوس المبتدعة.
رفع بعض التالميذ ي ده مس تأذنا ،ف أذن ل ه ،فق ال :ليس ذل ك فق ط م ا ي ذمون
عليه ..بل يضاف إلى ذلك تثبيطهم للمجاهدين الذين أرسلهم ش يخنا ابن ب از وغ يره
من هيئة كبار العلماء لمواجهة المالحدة الشيوعيين في أفغانستان ..ففي الوقت الذي
كنت هناك أخبرني (أحد الثقات األثبات السعوديين على مجموعة من دع اة جماع ة
التبليغ أنهم دخلوا في معسكر لتدريب المجاهدين األفغ ان ،وك ان ه ذا المعس كر في
الباكس تان ،بق رب مدين ة بش اور ،وه و تحت قي ادة محم د ياس ر خ ريج الجامع ة
اإلس المية بالمدين ة النبوي ة ،فاس تقبلهم القائ د ظانّ ا ً أنهم ق د ج اؤوا ليش اركوهم في
الجهاد ،ولكنه فوجئ بقولهم :إنما جئنا ليخ رج معن ا المجاه دون ويس يحوا معن ا في
اإليمان ،وطلبوا من القائد أن يس مح للمجاه دين األرض من أجل الدعوة ،وليتعلَّموا ِ
بالخروج معهم ،وتر َّددوا إليه أياماً ،فأصدر أوامره بمنعهم من دخول المعسكر) ()2
قال الشيخ :هللا أكبر ..هللا أكبر ..هذا وح ده ك اف إلقن اع ولي األم ر بح ربهم
وط ردهم من المملك ة ..فهم يقف ون به ذا في وج ه أولي اء األم ور من أه ل العلم
والسياسة الذين ي ديرون تل ك الح رب ،ويوش ك أن ينتص روا فيه ا ،لتع ود لإلس الم
أمجاده ،ويقهر الشرك واإللحاد وأهله.
استأذن تلميذ آخر ،وق ال :ليس ذل ك فق ط ش يخنا الجلي ل ،فق د رويت بس ندي
(عن عدد كثير من الرج ال أنهم س معوا جماع ة من التبليغ يين الهن ود وهم في بيت
في شارع المنصور بمكة يكررون كلمة (ال إل ه) نح واً من س ت مئ ة م رة ،ثم بع د
ذلك يكررون كلمة (إال هللا) نح واً من مئ تي م رة ،ويقول ون ذل ك بص وت جم اعي
70
مرتفع ،يسمعه من كان في الشارع ،وذلك بحضرة شيخ من كبار مش ايخهم الهن ود،
وقد استمر فعلهم هذا مدة طويلة ،وك انوا يفعل ون ذل ك في الش هر م رتين :م رة في
نصفه ،ومرة في آخره) ()1
صاح الشيخ :هللا أكبر ..هللا أكبر ..وهذا دليل آخر على كفر هذه الجماعة ..ال
تنس أن تكتب ه لي ح تى أض عه في كت ابي فـ (ال ش ك أن ه ذا من االس تهزاء باهلل
وبذكره ،وال يخفى على من له علم وفهم أن فعلهم هذا يتضمن الكفر ست مئة م رة؛
ألن فصل النفي عن اإلثبات في ق ول (ال إل ه إال هللا) ب زمن م تراخ بين أول الكلم ة
وآخرها على وجه االختيار يقتضي نفي األلوهية عن هللا تعالى ست مئة مرة ،وذلك
كفرا ص ري َحا؛ فكي ف بمن صريح الكفر ،ولوأن ذلك وقع من أحد مرة واحدة؛ لكان َ
يفعل ذلك ست مئة مرة في مجلس واحد؟!)()2
بقي الشيخ وتالميذه يتحدثون في جماعة التبليغ مدة من الزمن إلى أن ضاقت
نفسي ،والتجأت إلى مجلس آخر ،فوجدتهم مجتمعون على أك ل الص وفية ..فه ربت
إلى مجلس آخ ر ،فوج دتهم منهمك ون في تش ريح الش يعة وبعض الحرك ات
اإلس المية ..فه ربت إلى مجلس آخ ر ،فوج دتهم منهمك ون في أك ل لحم بعض هم
بعضا..
وهكذا ظللت وقتا طويال أشم تلك الروائح المنتنة ،وأستمع إلى تلك األحاديث
الممتلئة بكل ما نهى هللا عنه من الغيبة والنميمة والتجسس والتحسس..
وقد أصابتني حينها بعض الحمية ،فرحت إلى هيئة األمر ب المعروف والنهي
عن المنك ر ،وأخ برتهم بم ا رأيت ..وقلت لهم :إن أول من يحت اج منكم إلى ت أديب
ونه ر وط رد هم أولئ ك المش ايخ الجالس ون في المس جد ،هم وتالمي ذهم إنهم ال
ْض الظَّنِّ إِ ْث ٌم
يراعون قوله تعالى ﴿:يا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اجْ تَنِبُوا َكثِ يراً ِمنَ الظَّنِّ إِ َّن بَع َ
ض ُك ْم بَعْضا ً أَي ُِحبُّ أَ َح ُد ُك ْم أَ ْن يَأْ ُك َل لَحْ َم أَ ِخي ِه َميْتا ً فَ َك ِر ْهتُ ُموهُ
َوال تَ َج َّسسُوا َوال يَ ْغتَبْ بَ ْع ُ
َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ تَ َّوابٌ َر ِحي ٌم (( ﴾)12الحجرات) ،وال قوله ( :من أكل لحم أخي ه
في ال ّدنيا ق ّرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيّا فيأكل ه ويكلح ويص يح)
( ،)3وال قول ه( :ي ا معش ر من آمن بلس انه ولم ي دخل اإليم ان في قلب ه ،ال تغت ابوا
المسلمين ،وال تتبّعوا عوراتهم ،فإنّه من اتّبع ع وراتهم يتّب ع هّللا عورت ه ،ومن يتّب ع
هّللا عورته يفضحه في بيته)()4
إن الروائح المنتنة المنطلقة من أح اديثهم مألت المس جد ،وتك اد تنف ر الن اس
منه..
ض حك أعض اء الهيئ ة ال ذين تح دثت إليهم كث يرا ،ثم ق الوا لي :الش ك أن
71
معلوماتك في الدين بسيطة جدا ..فالغيبة والنميمة والتجس س والتحس س ح رام على
كل الناس ،ما عدا أولئك المش ايخ ،فل والهم ول وال تالمي ذهم لح رف ال دين ،وض ل
الناس..
قال آخر :لعلك لم تسمع بم ا رواه ال بيهقي من طري ق الحس ن بن ربي ع ق ال:
قال ابن المبارك :المعلى بن هالل هو ( كذا ) إال أنه إذا جاء الحديث يكذب ،فقال له
بعض الصوفية :يا أبا عبد الرحمن تغت اب؟ ق ال :اس كت ،إذا لم ت بين كي ف يُع رف
الحق من الباطل ..أو نحو هذا.
وهك ذا راح وا ي رددون علي م ا ورد عن س لفهم من النص وص في إباح ة
الغيبة ..فسألتهم عن التجسس ..فذكروا لي أضعافها من النصوص ..وهكذا لم أذك ر
جريمة من الجرائم وال كبيرة من الكبائر التي نهى هللا عنها إال ووج دت عن دهم من
األسانيد ما يرفع الحرج فيها عنهم.
شكرتهم وخرجت متثاقال ..وكأن الشياطين قد وضعت أغالله ا على ق دمي..
وب دل أن أذهب إلى الروض ة الش ريفة والزي ارة المبارك ة ع دت إلى الفن دق ..ولم
أتخلص من تلك الوساوس إال بعد فترة من الزمن.
وقد صرت بعدها كلما مررت على تلك المجالس أغلق أذني ،وعي ني ،ح تى
ال تصطادني شياطين اإلنس والجن المحيطة بذلك الجوار المقدس.
72
علماء ..وأمراء
من الحجب الكبرى التي تحول بين العقول وتبصر الحقائق ،أو الوقوف معها
وفي صفها ذلك التزلف المقيت الذي يقفه العلماء على أعتاب األمراء.
فالعقل يكتسي بتلك الص حبة المدنس ة أنواع ا كث يرة من الحجب ال تي تح ول
بينه وبين تبصر الحقائق ،أو تحول بينه وبين الوقوف الشرعي واألخالقي معها.
وقد عبر الشاعر محمود الوراق عن ذلك بقوله(:)1
زمراً إلى باب الخليفه ركب وا الم راكب
دوا واغت
ليبلغوا الرتب الشريفه وص لوا البك ور إلى
رواح ال
طلب وا من الح ال ح تى إذا ظف روا بم ا
ه اللطيف
فرح ا ً بم ا تح وي وغ دا الم والي منهم
حيفه الص
بالظلم والس ير العنيفه وتعس فوا من تحتهم
واشتروا ب األمن جيفه باعوا األمان ة بالخيان ة
ش غفته دني اه الش غوفه العلم إذ عب لم ينتف
ني ا بأس باب ض عيفه نسى اإلله والذ في ال د
ب ل ع بر عن ذل ك رس ول هللا في أح اديث ووص ايا كث يرة ،ألفت فيه ا
الرسائل والكتب..
وسأقص عليكم اآلن قصة حول هذا ،لتدركوا س را جدي دا من أس رار تعط ل
العقول ،وانطماس البصيرة ،وانغالق جميع منافذ الفكر.
والقص ة تنطل ق من واقعي البس يط ال ذي عقدت ه األي ام ..فق د ص حبت أثن اء
دراس تي الجامعي ة مجموع ة من ال زمالء النجب اء ال ذين أتيح لهم بس بب ذك ائهم
وفطنتهم وق دراتهم العجيب ة على اس تالب القل وب والعق ول أن يص لوا إلى أعت اب
بعض األمراء والملوك والرؤساء..
وال أزال أذك ر أهلي وهم يلوم ون ك ل حين بالدتي ،وكس لي ،ويق ارنونني
بزمالئي الذين رفعتهم األيام وخفضتني ،وقدمتهم وأخرتني ،وأعطتهم ومنعتني.
ويقول ون لي :انظ ر إليهم ..وهم يس كنون القص ور ..وأنت ال ت زال تس كن
باإليج ار ..وانظ ر إليهم وهم ينتقل ون من بل د إلى بل د ،ومن دول ة إلى دول ة تعق د
ألجلهم المؤتمرات ،وتقام لهم الحفالت ،ويتوجون بكل أن واع التكريم ات ..وأنت ال
73
تزال رهين بيتك ،وحبيس جدران غرفتك ال يعرفك أحد حتى جارك األدنى.
وعن دما أع د نق ودي عن د قبض مرت بي آخ ر الش هر فرح ا بنعم ة هللا علي،
يقولون لي ،ووجوههم مكفهرة عابسة مقمطرة :ل و جمعت جمي ع مرتبات ك من أول
حياتك إلى آخرها ،وزدت عليها أض عافا مض اعفة ،فلن تص ل إلى م ا يتقاض اه في
يوم واحد أولئك الزمالء الذين فرطت في صحبتهم وصداقتهم واالقتداء بهم.
وهكذا ظل أولئك الزمالء ظال ثقيال على روحي ..وال أكتمكم أني كنت أشعر
ببعض الحس د لهم ..وعلى م ا أوت وا ..ولك ني بع د أن ع اينت الحقيق ة ،ورأيت م ا
حصل لهم من أنواع االنتكاس ات حم دت هللا على نعم ه ..وذهبت إلى ش يخي ال ذي
نصحهم كما نصحني أقبل رأسه ،بل أقبل قدميه ،ألنه أنقذ ديني الذي هو رأس مالي
من أن يصبح لعبة بين أيدي الملوك واألمراء.
في ذلك اليوم الذي افترقنا فيه ذهبنا إلى ذلك الشيخ الصالح الذي تعود الطلبة
أن يزوروه في نهاية تكوينهم ليدعو لهم ،وينصحهم ..فقد آتاه هللا ـ كما ي ذكر الكث ير
ـ من أنوار اإليمان والفراسة ما يستطيع به أن يكشف الكثير من الحقائق المس تقبلية
المغيبة..
وقد ذهبت إليه ،وأنا ال أصدق تلك اإلش اعات ال تي تبث حول ه ..ولك ني بع د
فترة طويلة من عمري ،وبعد أن كشف المستقبل عن نفسه بنفس ه ،ع رفت مص داق
كل كلمة قالها.
عندما دخلنا عليه ،ابتسم لي ابتسامة عذب ة دون أص حابي ،وأخ ذ ي رحب بي
دونهم ..ثم طلب مني أن أجلس ،وهو يقول :ال تقلق ..فالرزق بيده ..ال بأيديهم ..وقد
يعطيك من حيث تظن أنه يمنعك ..ويمنعك من حيث تظن أنه يعطيك.
ثم التفت ل زمالئي ال ذين جلس وا قب ل أن ي أذن لهم ،وق ال :من منكم ي روي
حديث رسول هللا في التحذير من صحبة العلماء لألمراء.
ق ال أح دهم :أن ا أروي في ذل ك قول ه ( :يك ون في آخ ر الزم ان علم اء
يرغبون الناس في اآلخرة وال يرغب ون ،ويزه دون الن اس في ال دنيا وال يزه دون،
وينهون عن غشيان األمراء وال ينتهون)()1
ق ال آخ ر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :إن هللا يحب األم راء إذا خ الطوا
العلماء ،ويمقت العلماء إذا خالطوا األمراء؛ ألن العلماء إذا خالطوا األمراء رغب وا
في الدنيا ،واألمراء إذا خالطوا العلماء رغبوا في اآلخرة)()2
ق ال آخ ر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :ال ت زال ه ذه األم ة تحت ي د هللا
وكنفه ،ما لم يماري قراؤها أمراءها)()3
قال آخر :وأنا أروي في ذلك قول ه ( :من ب دا فق د جف ا ،ومن اتب ع الص يد
74
غفل ،ومن أتى أبواب السالطين افتتن ،وم ا ازداد عب د من الس لطان دن وا إال ازداد
من هللا بعدا)()1
ق ال آخ ر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :إذا رأيت الع الم يخال ط الس لطان
مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص)()2
قال آخ ر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :إن أناس ا من أم تي س يتفقهون في
الدين ،ويق رؤون الق رآن ،ويقول ون ن أتي األم راء ،فنص يب من دني اهم ،ونع تزلهم
بديننا وال يكون ذلك كما ال يجتني من القتاد إال الش وك ،ك ذلك ال يجت نى من ق ربهم
إال الخطايا)()3
قال آخر :وأنا أروي في ذلك عن ثوبان مولى رسول هللا ق ال :ي ا رس ول
هللا من أهل البيت أنا؟ فسكت ،ثم قال في الثالث ة( :نعم م ا لم تقم على ب اب س دة ،أو
تأتي أميراً فتسأله)()4
قال آخ ر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :س يكون بع دي أم راء ،فمن دخ ل
عليهم فصدقهم بكذبهم ،وأعانهم على ظلمهم ،فليس مني ،ولست من ه ،وليس ب وارد
علي الح وض ،ومن لم ي دخل عليهم ،ولم يعنهم على ظلمهم ،ولم يص دقهم بك ذبهم،
فهو مني ،وأنا منه ،وهو وارد علي الحوض)()5
قال آخر :وأنا أروي في ذلك قوله ( :العلماء أمناء الرسل على عباد هللا ما
لم يخ الطوا الس لطان ف إذا خ الطوا الس لطان ،فق د خ انوا الرس ل فاح ذروهم،
واعتزلوهم)()6
قال آخر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :م ا من ع الم أتى ص احب س لطان
طوعاً ،إال كان شريكه في كل لون يعذب به في نار جهنم)()7
ق ال آخ ر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :إذا ق رأ الرج ل الق رآن وتفق ه في
الدين ،ثم أتى باب السطان ،تَ َملُّقا ً إليه ،وطمعا لما في يده ،خاض بقدر خطاه في نار
جهنم)()8
قال آخر :وأنا أروي في ذلك قوله ( :س يكون بع دي س الطين ،الفتن على
أبوابهم كمبارك اإلبل ،ال يعطون أحداً شيئاً ،إال أخذوا من دينه مثله)()9
)(1أحمد ( )297 /4حديث صحيح .أخرجه البيهقي ( )101 /10في سننه ،وانظر السابق.
)(2الفردوس (.)1077
)(3ابن ماجه ()255
)(4أبو نعيم في الحلية (.)181 - 180 /1
)(5أحمد ( ،)321 /3والترمذي ( ،)2360( ،)609والنسائي ()161 /7
)(6ابن عبد البر ( )185 /1في جامع بيان العلم وفضله.
)(7الحاكم في تاريخه.
)(8الديلمي ( )1134في الفرودس.
)(9الحاكم (.)633 /3
75
قال آخر :وأنا أروي في ذلك قوله ( :اتقوا أبواب السلطان وحواشيها؛ فإن
أقرب الناس منه ا أبع دهم من هللا ،ومن آث ر س لطان على هللا ،جع ل الفتن ة في قلب ه
ظاهرة وباطنة ،وأذهب عنه الورع وتركه حيران)()1
ق ال آخ ر :وأن ا أروي في ذل ك قول ه ( :س يكون ق وم بع دي من أم تي،
يقرؤون القرآن ،ويتفقه ون في ال دين ،ي أتيهم الش يطان ،فيق ول :ل و أتيتم الس لطان،
فأصلح من دنياكم ،واعتزلوهم بدينكم! وال يكون ذلك ،كما ال يجت نى من القت اد ،إال
الشوك ،كذلك ال يجتنى من قربهم إال الخطايا)()2
قال آخر :وأنا أروي في ذلك قوله ( :من مشى إلى س لطان ج ائر طوع اً،
من ذات نفسه ،تملقا ً إليه بلقائه ،والسالم عليه ،خاض نار جهنم بقدر خط اه ،إلى أن
يرجع من عنده إلى منزله؛ فإن مال إلى ه واه ،أو ش د على عض ده لم يحل ل ب ه من
هللا لعنة إال كان عليه مثلها ،ولم يعذب في النار بنوع من الع ذاب ،إال ع ذب بمثل ه)
()3
نظر الشيخ إليهم ،وقال :ب ورك في ذاك رتكم القوي ة ..الش ك أنكم تس تطيعون
بها أن تأكلوا الفالوذج بين يدي الملوك واألمراء ..فإياكم أن يسلبوا منكم دينكم ال ذي
هو رأس مالكم ..إياكم أن تصبحوا مت اريس لك ل طاغي ة ظ الم ..إي اكم أن تص بحوا
خدما لكل جبار مستكبر..
بقي يردد ذل ك ..ويض رب بكفي ه على ركبتي ه إلى أن س معت ابنت ه ص وته،
فصاحت فينا من وراء حجاب تطلب منا أن نخرج ..فخرجنا ولم نكن ن دري حينه ا
ما يعني بقوله وفعله ذلك.
لكني وبعد عقود من السنين أدركت عظمة كل كلمة قالها ،وكل حركة تحرك
بها ،وأدركت حينها أن هللا تعالى كما رحم خلقه برس له وأنبيائ ه ،فق د رحمهم أيض ا
بأوليائه الذين ال يخلو منهم زمان وال مكان لينصحوا عباده ،ويقيموا الحجة عليهم.
بعد أن تفرقت بنا السبل ..وبعد أن صار حالي إلى ما ذكرته لكم من الوظيف ة
البسيطة ،والمرتب الزهيد ..وصار حالهم إلى ذل ك الح ال ال ذي ص رت أع ير ب ه،
ويشمت بي بذكره..
وبعد مدة ليست طويلة بدأت السحب تنقشع عن كل كلمة قالها الشيخ..
في البداية كلف أولئك ال زمالء العلم اء من ط رف بعض ال وزراء واألم راء
للذهاب إلى إفريقيا ،ونشر التوحيد بين أهلها المسلمين أص ال ..ف ذهبوا ،وبص حبتهم
مال كثير ..وهناك راحوا يحذرون من كل الطرق الصوفية التي كانت سبب دخ ول
الناس في اإلسالم..
ثم أسسوا بعض المعاهد ،وجمعوا لها الطلبة من ك ل مك ان ،وش حنوهم بك ل
76
ألوان الحقد والكراهية..
ولم يكتفوا بذلك ،بل راحوا يؤسسون الجمعيات والحركات ،ويغ دقون عليه ا
من األموال ما جمع لها لها الكثير من أصناف االنتهازيين..
وما هي إال مدة قص يرة ح تى ذهبت عن إفريقي ا براءته ا وطهارته ا ليظه ر
فيها شباب اإلسالم وبوكو حرام والقاعدة وغيرها..
وبعد أن نجحوا في تدمير إفريقيا ،ونشر كل عصابات الت دين المزي ف بينه ا
خرجت إلى العالم حكومة الولي الفقيه في إيران ..وظهر الخميني داعيا إلى الوح دة
اإلسالمية ،وإلى عودة اإلسالم إلى الواقع في كل ميادينه.
وهنا انتدب كل أولئ ك الش يوخ ،وطلب منهم أن يكف وا ش رهم عن التص وف
والصوفية ،وأن يبدأو حربا جديدة على التشيع والشيعة..
وترك أولئك الزمالء العلماء كل شيء ،وراحوا يبحثون عن أي خرافة قاله ا
أي شخص في أي زمان ليلبسوها بالشيعة ،وليعتبروهم أكبر مؤامرة ته دد اإلس الم
وأهله.
ولم ي رض األم راء ب ذلك ..ب ل طلب وا منهم أن يخرج وهم من اإلس الم ،وأن
يسموهم مجوسا ،وأن يعتبروا دولتهم حلما فارسيا إلنشاء امبراطورية تقض ي على
العرب ..واستجاب العلماء لطلب األمراء ..وق د كتب بعض زمالئي في ذل ك كتاب ه
المعروف [وجاء دور المجوس] ..وكتب غيره عشرات الكتب..
أما من ليس له القدرة على الكتابة ،فقد راح إلى لسانه الطويل يزيد في طوله
عليهم في المن ابر والم ؤتمرات وعلى جمي ع القن وات ..إلى أن امتألت األم ة حق دا
على تلك الطائفة الكريم ة من طوائ ف المس لمين ،وعلى تل ك الدول ة المحترم ة من
دولها.
ولم يكتف األمراء بذلك ..بل راحوا عندما غزا صدام حس ين الك ويت يفت ون
الفت اوى الكث يرة بوج وب إخراج ه منه ا ،ول و باالس تعانة بمن ك انوا يس مونهم
صليبيين ..وتحول في طرفة عين صديقهم العزيز صدام الذي ك انو يعتبرون ه بط ل
اإلس الم األك بر ،وحص نه الم نيع ال ذي وق ف في وج ه المج وس واالمبراطوري ة
الفارسية ..والذي كانوا يشجعونه على قتل أطفال الشيعة ورجالهم ونسائهم ..تح ول
في طرفة عين إلى عدود لدود ،بل عدو اإلسالم األكبر ..وصدرت الفت اوى الكث يرة
في تكفيره ..وكان الذين كفروه هم أنفسهم الذين قدسوه.
ولم يكتفوا بذلك ..بل أصدروا الفتاوى في وجوب بق اء القواع د الص ليبية في
الجزيرة العربية ..ألنه ال يحمي األمراء إال الصليبيون..
ولم يكتف األمراء من العلماء بذلك ..بل راحوا يطلبون منهم ـ بع د أن تم رد
المجاهدون الذين صنعوهم بأيديهم ـ إلى إص دار الفت اوى بكف رهم ،واعتب ارهم من
الخ وارج كالب الن ار ..وهك ذا أص بح الجه اد ض د أمريك ا ال تي غ زت أفغانس تان
خروجا وكفرا ،في الوقت الذي كان فيه الجهاد ضد روسيا إيمانا وإسالما.
ولم يكتف األمراء بذلك ،بل راحوا يحولون من العلماء قيادات شعبية ،للقي ام
77
بتنفي ذ المخطط ات العالمي ة للفوض ى الخالق ة والح رب الناعم ة ..فص ار العلم اء
يرفع ون ش عارات إس قاط النظ ام ..ويتوس لون ألمريك ا وللن اتو لض رب الش بيحة
والفلول والبلطجي ة ..ليس تطيع الش عب المستض عف أن يس قط النظ ام ،ويح ل بدل ه
الفوضى.
وهكذا تمكن العلماء من تقسيم المجتمعات وإحالل األحقاد بينها ..وعندما ثار
الص راع ،لم ينهض وا لل دعوة للس الم ،وإنم ا راح وا ينف ذون مط الب األم راء في
الوقوف مع الفئة التي ترضيهم وترضي سادتهم من الصليبيين والصهاينة.
وهكذا ظل األمراء يسوقون زمالئي من العلماء إلى كل سرداب من سراديب
الغواية ،وكل حفرة من حفر الهوى ،وكل مشنقة من مشانق المروءة واإلنسانية.
وق د علمت من بعض المص ادر الموثوق ة أن من زمالئي العلم اء من أوقع ه
بعض األم راء في فض ائح مالي ة وأخالقي ة ..وس جلها ..وص ورها بدق ة ..وك ان
يستدعيه كل حين ليفتي له بما يشاء وعلى المأل ،وإال ينشر ما س جله وص وره على
جميع وسائل اإلعالم..
وعلمت من مصادر أخرى أن بعض أولئ ك ال زمالء ال ذين تلطخ وا بص حبة
األمراء تحول من عز العلم ورفعته وشرفه إلى ذل الخدمة والعبودية ،حيث أص بح
كلبا وديعا يسير مع األمير حيث سار ،ال لشيء إال ليظه ر األم ير بمظه ر المت دين
المحترم..
وعلمت أن بعضهم أصبح سمسارا لدى األمير ..يتوسط له في ك ل مص لحة،
ويستعين به على كل ما ال يقدر اللصوص والمختلسون على تنفيذه.
وهكذا كانت أخبارهم تصلني فأتألم لها ،وأفرح ..أت ألم لم ا أص ابهم ..وأف رح
ألن هللا نجاني من الوقوع في شباك األمراء..
وقد صرت لكثرة ما يص لني من أخب ارهم وش ناعتهم أس تقبل مرت بي ،وأع د
نق ودي ،ثم أقبله ا ،وأس جد س جود الش كر على نعمت ه علي به ا ..وإذا م ا ج اءني
المستأجر الذي أستأجر بيته طالبا األجرة أعطي ه إياه ا ،وأض يف ل ه زي ادة ألن هللا
أنقذني ببيته الذي أستأجره من أن أسجن في قصور األم راء ،أو أص بح كلب ا وديع ا
من كالبهم.
78
دجل شرعي
القصة التي سأقصها عليكم اليوم ال تتعلق بي ،فلم أشاهد أحداثها ،ال ك ان لي
عالقة بـأبطالها ،وإنما قصها علي رجل ظل عقدين من عمره يعيش بعقل معطل..
وفجأة ،وبعد أحداث كثيرة ذكرها لي عاد إليه وعيه ،وانتش ر ال دم في خالي ا
دماغه ..وعاد عقله للعمل من جديد بعد تلك الغيبوبة الطويلة.
وذلك ليس مستحيال في لغة العلم ،وال لغة الواقع..وال لغة العرف ان ..فرحم ة
هللا التي وسعت كل شيء ..وهدايته ال تي اس تغرقت ك ل ش يء لن تض يق بعق ل من
العقول معطال كان أو مفعال ..وقد أخبرنا القرآن الكريم عن السحرة ،وكيف تحولوا
في لحظة واحدة إلى أولياء وصديقين وشهداء..
قال لي صاحبي التائب ،والدموع تنحدر من عيني ه :لس ت أدري كي ف أقاب ل
هللا تعالى ،وقد قضيت عقدين من عمري في الدجل والكذب والبهتان؟
قلت :خفف عليك ..وال تدع الشيطان يسلمك لليأس ..فاهلل غفور رحيم.
قال :أعلم ذلك ..وأنا موقن به ..ولكن خوفي ليس من الذنوب التي بي ني وبين
هللا ،وإنما خوفي من الذنوب التي بي ني وبين العب اد ..أال تع رف أن الغيب ة والك ذب
والتجسس والتحسس والتكفير والدعوة إلى سفك الدماء من ال ذنوب المتعدي ة ،وأن ه
يمكن ألي شخص في اآلخرة أن يطالب بحقه؟
لم أجد ما أقول ،فقال :أال تعرف حديث المفلس؟
قلت :بلى ..كلنا نعرفه.
قال :فحدثني به ..فإني أحب أن أذكر نفس ي ك ل حين ب ه عس اها تمتلئ أس فا
وندما ،وعساها تحترق لينبت بدلها نفس جديدة.
قلت :لقد قال رسول هللا ( :إن المفلس من أم تي ي أتي ي وم القيام ة بص الة
وصيام وزك اة ،وي أتي ق د ش تم ه ذا وق ذف ه ذا ،وأك ل م ال ه ذا ،وس فك دم ه ذا،
وضرب هذا ،فيعطى هذا من حسناته ،وهذا من حسناته ،فإن فنيت حس ناته قب ل أن
يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)()1
أخذ يبكي بش دة ،ويق ول :ويلي ..وي ل نفس ي ..م اذا فعلت به ا ..إن ك ان ه ذا
الرجل الذي ذكره رسول هللا قد شتم شخصا واحدا ..أو أشخاصا معدودين ،فأن ا
شتمت ماليير األش خاص ..وإن ك ان ق د س فك دم واح د ..فأن ا كنت أف تي بس فك دم
ماليير البشر ..ويلي ماذا أفعل لهم ..وم ا هي الحس نات ال تي تكفيهم إن خاص موني
عند ربهم ..وويل لي من سيئاتهم إن صبت علي.
قلت :مهال يا رج ل ..فاهلل حكيم ع ادل ..وأنت كنت مش تبها علي ك ..ب ل كنت
مجتهدا اجتهادا خاطئا ..وهللا يغفر لك..
نظري إلي ،ودموعه تنحدر بقوة ،وقال :وهل االجتهاد الخ اطئ يج يز لي أن
)(1رواه البخاري ومسلم.
79
أكذب ،وأنا أعلم أنني أكذب ..وهل يجيز لي أن أرمي غيري بالعظائم ،وأنا أعلم أن
كل ذلك غير صحيح؟
لم أدر م ا أق ول ،فق ال :لق د كنت بين ق وم يعت برون الك ذب وال دجل ش ريعة
محكمة يمكننا أن نمارسها مع من شاء..
قال ذلك ،ثم أخرج لي من جيبه مطوية ،وق ال :خ ذ ه ذه المطوي ة الملعون ة،
واقرأها علي ،ألقص عليك ما جرت علي من ويالت..
أخذتها ،فوجدت عنوانها [تنبيه الس نيين الس لفيين إلى ج واز اس تعمال الحي ل
م ع المخ الفين المبت دعين] ،ثم أخ ذت أق رأ م ا فيه ا ..فطلب م ني أن أرف ع ص وتي
بقراءتها ،فرحت أقرأ :مما اتفق عليه جميع أعالمنا الكبار ،وأص دروا في ه الفت اوى
الكثيرة ،جواز استعمال جميع ألوان الحيل والخدعة مع المخالفين ،ذل ك أن الح رب
خدعة ..وكما أن المبتدعة يمارسون أنواع الخدع والحي ل والك ذب ،فمن ب اب أولى
أن يمارسها السلفي باعتباره صاحب حق.
وق د ج رى على ه ذا المنهج كب ار علمائن ا كش يخ اإلس الم ابن تيمي ة ال ذي
استعمل هذا مع جميع المبتدعة المخالفين ،حتى أنه كان يض عف الح ديث الص حيح
إذا رأى المبتدعة يستعملونه لحرب السنة..
رحت أنظ ر إلي ه متعجب ا ،وقلت :كي ف ينش رون مث ل ه ذه المطوي ات ..أال
يخافون أن تذهب بسمعتهم؟
ضحك ،وقال :هذه مطوي ات خاص ة ،ال تس لم لجمي ع الن اس ..اق رأ الفت اوى
الواردة فيها.
وجدت فتوى بعنوان [فتوى الش يخ على الخض ير في ج واز الك ذب وش هادة
الزور لنصرة األمة] ،وقد سئل فيها هذا السؤال[ :هل يجوز لي أن أقول س وءاً عن
شخص مما هو وأمثاله فيه وأنا أعرف أنه فاسق أو عدو للدين؟ وه ل يج وز لي أن
أقول خيراً عن رجل صالح من أه ل ال دين والتق وى والجه اد لتخليص ه من مش كلة
تضره بذاته أو بسمعة الصحوة اإلسالمية؟ ]
وكان جواب الشيخ قوله( :المؤمن أخو المؤمن ،والبد أن ينصره ح ال طلب
النجدة أو عند العلم بحاجته ،ومن النصرة مؤازرت ه ودف ع الض رر عن ه .ومن ذل ك
الكذب؛ فالكذب يجوز لنصرة المسلم ولدفع الك افر أو الع دو .فق د ص ح فى الح ديث
جواز الكذب لتحقيق مصلحة ومن المصلحة رفعة المس لم وذل ة س واه ..كم ا تج وز
المخادعة للعدو في حال الحرب أو ألجل الحرب فه ذا ال خالف في ج وازه ،وذل ك
لحديث الصحيحين ،قال النبي ( :الحرب خدعة) ..ومعنى المخادع ة في الح رب
إظهار المكيدة ،وحسن التدبير والرأي والتعريض ليظهر للع دو خالف م ا يع ده ل ه
المسلمون من الكمائن والمكائد ..والخداع هو عمدة الحروب وأساس ها وعليه يك ون
م دار االنتص ار ،وهو أحد األس باب الش رعية ال تي ينبغي األخذ واالعتن اء بها..
ومفه وم الح رب في ه ذه األح اديث أعم من أن يقص ر على نص ب القت ال والتق اء
الصفين وتقابل الزحفين ،وإنما يدخل في ذلك أيضا السعي للفتك ب رأس من رؤوس
80
الكفر واإللحاد والعلمنة والفسق المحادين هلل ورسوله ..ومن الحرب حرب األفكار،
وهي أشد من حرب القتال ،فيجب استخدام الخدعة ويباح الكذب فيه ا إلظه ار أه ل
البدع والشركيات وأهل الف رق الباطل ة من روافض وزن ادق وأه ل علمن ة وحداث ة
وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي اليغتر بهم عوام المسلمين؛ وإظهار أهل
السنة وأصحاب العقيدة السليمة بمظهرهم الالئق بهم ..ولهذا فإنه يج وز ل ك الك ذب
والشهادة وتغليظ اليمين لنصرة الدين اإلسالمي ونهجه القويم ونصرة أخيك المس لم
الصالح ممن يريدون به كيداً؛ وإذالل أهل البدع والضالالت والفرق الفاسدة)()1
بعد أن قرأت الفتوى ،ودهشت لما فيها ،قلت :هذه فتوى خطيرة..
قال :انظر للفتوى التي تحتها ..نظرت فرأيت سؤاال موجه ا للش يخ الف وازان
يقول صاحبه( :انتشر الي وم بين الش باب أن ه يل زم الموازن ة في النق د فيقول ون :إذا
انتقدت فالنا من الناس في بدعته وبينت أخطاءه يلزمك أن تذكر محاسنه ،وه ذا من
باب االنصاف والموازن ة ،فه ل ه ذا المنهج في النق د ص حيح؟ وه ل يلزم ني ذك ر
المحاسن في حالة النقد؟)
وقد أجاب عليه بقوله( :إذا كان المنتقد من أهل السنة والجماعة وأخطاؤه في
االم ور ال تي التخ ل بالعقي دة ،فنعم ،ه ذا ت ذكر ميزات ه وحس ناته ،تُغم ر زالّت ه في
نصرته للسنة .أما إذا كان المنتقد من أهل الض الل ومن أه ل االنح راف ومن أه ل
المبادئ الهدامة والمشبوهة ،فهذا اليجوز لنا أن نذكر حسناته -اذا كان ل ه حس نات
-ألننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس فيحسنون الظن بهذا الضال أو هذا المبتدع
أو ه ذا الخ رافي أو الح زبي ،فيقبل ون أفك ار ه ذا الض ال أو ه ذا المبت دع أو ذاك
المتحزب .وهللا جل وعال ر ّد على الكفرة والمجرمين والمنافقين ولم ي ذكر ش يئا من
حسناتهم ،وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمي ة والمعتزل ة وعلى أه ل الض الل
واليذكرون شيئا من حس ناتهم .ألن حس ناتهم مرجوح ة بالض الل والكف ر وااللح اد
والنفاق .فال يناسب انك ترد على ضال ،مبتدع ،منحرف ،وتذكر حسناته وتقول هو
رجل طيب عنده حسنات وعنده ك ذا ،لكن ه غل ط ..نق ول ل ك :ثن اؤك علي ه أش د من
ضالله ،ألن الناس يثقون بثنائك عليه ،فإذا روجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فق د
غررت بالناس وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين)()2
نظرت إليه متعجبا ،وأنا أقول :متى صدرت هذه الفتاوى؟ إنها خطيرة جدا.
قال :إنها صدرت قبل أن تولد وأولد ..إنها صدرت من ذ الي وم ال ذي راح في ه
الشيطان يزاحم دين هللا ب دين البش ر ..ودين الهداي ة ب دين ال دجل ..من ذ ذل ك الحين
شرع الكذب والغيبة والنميمة وكل أنواع الضاللة ،وأعطاها اسم السنة والسلفية.
قلت :الحمد هلل أن أنجاك هللا من هذا الدين الذي يشرع الكذب والدجل.
قال :أنا أحمد هللا على ذلك ..ولكني أحترق من ال داخل احتراق ا ش ديدا ،ألني
)(1نقال عن مقال بعنوان :متى يخلع شيوخ السعودية سراويلهم الغربية -شبكة المنطقة.
)(2األجوبة المفيدة في أسئلة المناهج الجديدة.24 /1 ،
81
عندما سرت لبعض الذين أغويتهم وضللتهم ..ورحت أقول لهم :أنا كاذب في كل ما
ذكرته لكم ..وأنا مجرد دجال ومحتال ومخادع..
عندما ذكرت لهم هذا راحوا يتهم ون بالبدع ة والض اللة ،وراح وا يص رون
على أن ما ذكرته لهم هو الحقيقة ..وهو الهداية.
قلت :لم أفهم ما تعني.
قال :قبل عشرين سنة ،وفي بداية انضمامي لهذه الطائفة التي اس تحوذ عليه ا
الشيطان ،وحولها إلى مركب لتشويه الدين وقيمه النبيلة دعيت مع بعض أص دقائي
من الباحثين والمثقفين إلى اجتماع مع رأس من رؤوس هم ..وهن اك أخبرن ا ب أن من
يسميهم الروافض ينتشرون في كل مكان ،وأن الحرب بيننا وبينهم قد دقت طبولها..
وأن علينا أن نستعمل كل الوسائل لحربهم ..فما غزي قوم في ديارهم إال ذلوا.
وبعد أن قال لنا هذا كلف كال منا بأن يبحث في موضوع من المواضيع ال تي
تشوه هذه الطائفة ،وتخرجها من الملة.
وقد ك ان من ش ؤمي ،أو من تخطي ط الش يطان لي ،أو من ابتالء هللا لي ..أن
كلفت ببحث مرتبط بموقف الشيعة من القرآن الكريم..
ورحت حينها لكتبهم وتفاسيرهم وكالم أعالمهم ..فوجدت موقفهم من الق رآن
الك ريم ال يختل ف عن موق ف س ائر المس لمين ..ووج دت مص احفهم هي نفس
مصاحفنا ..ووجدت كالم كبار أعالمهم ومراجعهم ال تختلف في ذلك ..بل فوق ذلك
وجدت لهم رؤى في تفسير القرآن الكريم لم أجد مثلها عندنا..
وقد كتبت في ذلك بحثا طويال استغرق مني زمنا طويال ،وعندما انتهيت منه
ذهبت إلى ذلك المجلس ،وأن ا ف رح مس رور ،ألني اس تطعت أن أس د ثغ رة ،وأق دم
خدمة لنصرة الحقيقة..
لكني فوجئت بموقف الش يخ من البحث ..فبمج رد أن نظ ر في ه ،واطل ع على
كل تلك األدلة التي ذكرته ا ..وأن موق ف الش يعة من الق رآن الك ريم موق ف طيب..
وأن بدعهم ربما ترتبط بغيره ،ال به ..نظر إلي بغضب وقال :أبهذه الس رعة ت رمي
سالحك ..وتولي الزحف ،وتنضم إلى األعداء؟
فقلت له :لم أفهم..
قال :ما هذا البحث الذي قدمته؟
قلت :لقد بذلت كل جه دي في ه ..واطلعت على كتبهم وتفاس يرهم ..ب ل زرت
بالدهم ،ورحت إلى المص احف الموج ودة في مس اجدهم وحس ينياتهم ،فلم أج د إال
مث ل مص احفنا ،ب ل إني رأيتهم يس معون نفس الق راء ال ذين نس معهم ..ويعق دون
مجالس القراءة ،فال يقرؤون إال ما نقرأ.
قال :ألم تسمع عند بحثك بكتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب
األرباب)؟
قلت :بلى ..سمعت ب ه ..لك ني وج دتهم جميع ا مطبق ون على أن ه ذا الرج ل
ليس من المعتبرين عندهم ..ووج دتهم ينك رون ك ل تل ك األخب ار واألح اديث ال تي
82
رواها ..ووجدت أنني إن استدللت بم ا ذك ر من أح اديث ،ف إنهم يمكنهم أن يس تدلوا
بما في كتبنا الصحيحة من األحاديث ،والتي نسميها [المنسوخ تالوة]
نظر إلي بغضب ،وقال :ائتوني بعود ثقاب ..فه ذا البحث ال ينبغي أن يخ رج
من هنا..
أخذ عود الثقاب ،فأشعله في البحث ..وأشعل معه كل ذلك الجهد الذي بذلته..
وبعد أن لم يبق من البحث إال الرماد ،قال لي الشيخ :أنت ببحثك هذا خ رجت
من السنة والسلفية ..فإن شئت أن تعود إليهما ..فاكتب كتابا يناقض هذا.
قلت :كيف؟
قال :اجعل كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب األرباب) مثل
صحيح البخاري عندنا ..واجعل صاحبه أك بر علم ائهم ..واعت بر ق ولهم ب التحريف
إجماعا ..واجمع لذلك ما شئت من األقوال والروايات..
قلت :لكني قد أكذب بذلك.
قال :ومن ذكر لك أن الكذب في هذا المجال حرام ..ألم تعلم أنن ا في ح رب..
وأن الحرب خدعة ..ألم تقرأ تلك األحاديث التي تجوز الكذب؟
بقي الش يخ م دة من ال زمن يقنع ني ب ذلك إلى أن كتبت م ا طلب م ني،
واستعملت كل أنواع الكذب والدجل واالحتيال ألثبت قول الش يعة بتحري ف الق رآن
الكريم.
وعندما أتيته به ،ورآه فرح فرح ا ش ديدا ،وق ال لي ،وه و يهنئ ني :أنت اآلن
أس د من أس ود الس نة ..وسأض ع تص ديرا لكتاب ك ..وسينش ر من ه ماليين النس خ..
وسيوزع مجانا لكل العالم ..ليملتئوا حقدا على أولئك الروافض األنجاس ..فال يمكن
أن نحفظ المسلمين من شرهم ،وهم ال يحقدون عليهم.
وحصل ما ذكره لي ،فقد أصبح اس مي بع دها مش هورا ..وص ار ك ل الن اس
يرددون ما كتبت ..ويكفرون الشيعة ويبيحون دماءهم على أساسه.
وليت األم ر اقتص ر على ذل ك ..ب ل ك انت القن وات ت تزاحم على طل بي،
وتعطيني مبالغ ض خمة ..وأن ا كنت أذهب إليه ا ،وأردد م ا لم أكن أؤمن ب ه ..ولكن
اإلغراءات التي وقعت فيها ،جعلتني مسلوب اإلرادة ..وكنت أطمئن نفسي كل حين
بقراءة هذه المطوية الملعونة.
لم تقتصر جرائم على الشيعة ..بل رحت باعتباري أسدا للسنة أكلف بمحاربة
الصوفية ..فالص وفية كم ا ذك روا لي هي بواب ة التش يع ..ول ذلك ال يمكن حرب ه إال
بحربها..
وكتبت في ذل ك أيض ا أبحاث ا كث يرة أثبت فيه ا زورا وبهتان ا كف ر الص وفية
وضاللهم وأنهم خطر على اإلسالم ..بل إنني في بعض تل ك البح وث رحت أس تدل
ب القرآن الك ريم والس نة المطه رة على ج واز قتلهم ،ب ل وجوب ه ،ول و ب دون إذن
الحاكم..
وق د ك انت تل ك الفت اوى س الحا بي د اإلره ابيين ،ينفذون ه فيمن ش اءت لهم
83
نفوسهم قتله ،ويستدلون لذلك بما كتبته في تلك البحوث.
وهكذا بقيت عشرين سنة أداة طيعة بيد أولئك الحاقدين المج رمين ،يرمون ني
في كل معركة ..وأنا الغبي األحمق المغفل كنت أنفذ كل ما يطلبونه..
قال ذلك ،ثم وضع يديه على رأسه ،وقال :لقد حسبت عدد ال ذين كف رتهم من
المسلمين في أبحاثي وكت بي ومحاض راتي ،فوج دت أنهم جمي ع المس لمين م ا ع دا
أولئك األقزام الذين اعتبروني أسدا ،وراحوا يغرونني بغرز أني ابي في إخ واني من
المسلمين.
التفت إلي ،وقال :هل يمكنني أن أكفر عن ذنوبي هذه؟
قلت :أجل ..فاهلل غفور رحيم ..وكم ا كتبت تل ك الكتب ونش رتها ..ف اكتب م ا
يناقضها ،ويضادها.
قال :لقد فعلت ذلك ..لكن ال أحد يقبل أن ينشر ما كتبت ..لقد نشروا عني أني
جننت وأن الصوفية والشيعة وغيرهم قد سحروني ..وأنني اآلن غير من كنت..
قلت :يمكنك الفرار لبالد أخرى ..وطرح ما عندك من تراجعات.
قال :وهل تراهم يسمحون لي ..أنا اآلن لم أصل إليك إال بعد جهد جهيد ..فهم
يبحثون عني ..ويوشك أن يصلوا إلي.
قلت :لم؟
قال :لست أدري ..ولك ني أعلم أن أولئ ك الجف اة الغالظ ال ذين أب احوا جمي ع
دماء األمة لن يضيق عليهم دمي..
كنت أتصور أنه يبالغ بقوله ذلك ..لكن ما هي إال لحظات حتى جاء ص علوك
من صعاليكم ،وطعنه أمامي بخنجر في صدره ،فمات من فوره..
ومن العجيب أنه صوره ،ثم راح ينادي بصوت عال :أيها الناس تعالوا ..لق د
نفذ الرافضة والصوفية تهديداتهم في أسد السنة ..وقد قتلوه لعنهم هللا..
وسرعان ما اجتمع الناس ،وحضر الصحفيون ..وحض رت معهم الكث ير من
القنوات الفضائية ،وتناقلت وكاالت األنباء خبر قتل أسد السنة من ط رف الرافض ة
والصوفية.
وفي ذل ك الي وم ض حي بكث ير من البس طاء المتهمين بالتش يع أو التص وف
انتقاما ألسد السنة.
84