You are on page 1of 85

0

‫هذا الكتاب‬
‫هذا الكتاب من الكتب التي ح اولت فيه ا أن أص ور الواق ع‬
‫الس لفي عن طري ق القص ص الرمزي ة والواقعي ة‪ ،‬ألن ه من‬
‫الصعب التعبير عن الكثير من القضايا الواردة فيه تعبيرا علمي ا‬
‫دقيقا من غير استعمال التصوير األدبي والفني‪.‬‬
‫ويه دف إلى بي ان الج ذور ال تي ينطل ق منه ا التش دد‬
‫والتطرف والخرافة في العقل السلفي‪ ،‬وهو [التعطي ل]‪ ..‬فالعق ل‬
‫الس لفي نتيج ة انبه اره الش ديد بس لفه‪ ،‬وبآث ارهم وت راثهم‪،‬‬
‫وخضوعه المطلق لهم‪ ،‬أعطى عقله إج ازة أو تقاع دا‪ ،‬بحيث ال‬
‫يحتاج إلى استعماله‪ ،‬وكيف يحتاج إلى ذلك‪ ،‬وقد كفاه س لفه ك ل‬
‫شيء؟‬
‫وكيف يحتاج إلى ذلك‪ ،‬وه و يعلم أن ه إن غ امر واس تعمله‬
‫فسيؤدي ب ه إلى التجهم أو التعطي ل أو التص وف أو ال رفض أو‬
‫يتبنى ما تبناه كل من استعملوا عقولهم من المواقف والرؤى؟‬

‫‪1‬‬
‫الدين‪ ..‬والدجل‬

‫(‪)16‬‬

‫عقول معطلة‬
‫قصص تصور العقل السلفي ومنهجه في التفكير‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪2017 – 1438‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



3
‫فهرس المحتويات‬
‫‪5‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪7‬‬ ‫عقل عجيب‬
‫‪18‬‬ ‫العبقري الغبي‬
‫‪28‬‬ ‫اللحى الطويلة‪ ..‬والعقول‪%‬‬
‫‪36‬‬ ‫العقيدة الصحيحة‬
‫‪41‬‬ ‫مسجد ضرار‬
‫‪52‬‬ ‫مدد يا رسول هللا‪..‬‬
‫‪59‬‬ ‫أذواق‪ ..‬وأوراق‬
‫‪71‬‬ ‫حرب‪ ..‬وسالم‬
‫‪84‬‬ ‫هند‪ ..‬وزنيرة‬
‫‪95‬‬ ‫الشياطين‪ ..‬والجوار المقدس‬
‫‪107‬‬ ‫علماء‪ ..‬وأمراء‬
‫‪116‬‬ ‫دجل شرعي‬

‫‪4‬‬
‫المقدمة‬
‫هذا الكتاب من الكتب التي حاولت فيها أن أصور الواق ع الس لفي عن طري ق‬
‫القص ص الرمزي ة والواقعي ة‪ ،‬ألن ه من الص عب التعب ير عن الكث ير من القض ايا‬
‫الواردة فيه تعبيرا علميا دقيقا من غير استعمال التصوير األدبي والفني‪.‬‬
‫ويهدف إلى بيان الجذور ال تي ينطل ق منه ا التش دد والتط رف والخراف ة في‬
‫العق ل الس لفي‪ ،‬وه و [التعطي ل]‪ ..‬فالعق ل الس لفي نتيج ة انبه اره الش ديد بس لفه‪،‬‬
‫وبآثارهم وتراثهم‪ ،‬وخضوعه المطلق لهم‪ ،‬أعطى عقل ه إج ازة أو تقاع دا‪ ،‬بحيث ال‬
‫يحتاج إلى استعماله‪ ،‬وكيف يحتاج إلى ذلك‪ ،‬وقد كفاه سلفه كل شيء؟‬
‫وكيف يحت اج إلى ذل ك‪ ،‬وه و يعلم أن ه إن غ امر واس تعمله فس يؤدي ب ه إلى‬
‫التجهم أو التعطي ل أو التص وف أو ال رفض أو يتب نى م ا تبن اه ك ل من اس تعملوا‬
‫عقولهم من المواقف والرؤى‪.‬‬
‫ولذلك كان األسلم له أن يعطيه إجازة أو تقاعدا‪ ،‬ويستريح‪ ،‬ليضمن لنفس ه أن‬
‫يدخل مع سلفه الفردوس األعلى‪ ،‬وهناك يستمتع ب الجلوس على األرائ ك والض حك‬
‫على ك ل تل ك الف رق والجماع ات والحرك ات والش عوب ال تي اس تعملت عقوله ا‪،‬‬
‫فأدخلتها نيران جهنم‪ ،‬وبئس المصير‪.‬‬
‫وهذه القصص تشمل معاني متعدد‪ ،‬كل قصة منها تعالج مظه را من مظ اهر‬
‫تعطيل العقل‪ ،‬أو تذكر سببا من أسبابه‪ ..‬أو تجمع ذاك جمبعا‪.‬‬
‫وقد صيغت بلغة رمزية في ث وب واقعي‪ ،‬ح تى يتم رن الق ارئ الك ريم على‬
‫استعمال عقله في فك الرموز وقراءة ما بين السطور‪..‬‬
‫ولذلك أنصح من ال قدرة له على ذلك‪ ،‬أو ال يحب ذلك أال يقرأ هذه القص ص‬
‫ألنه سيتهمني بالكذب والدجل‪ ،‬ويروح يستعمل الوسائل الكث يرة ليثبت أن ه ال يوج د‬
‫شخص اسمه العقل العجيب‪ ..‬وال شخص اس مه ح رب‪ ..‬وال ش خص اس مه س الم‪..‬‬
‫ولم تنظم محاضرة تحضر فيها هند أو زنيرة‪ ..‬ولم تقف أميرة ذل ك الموق ف العظيم‬
‫لتثبت لهم أنه يمكن أن نخاطب رسول هللا ‪ ‬وأن نطلب منه المدد‪.‬‬
‫وله ذا ف إني ال أج يز ألص حاب العق ول القاص رة المعطل ة أن يق رأوا ه ذه‬
‫القصص‪ ،‬ألن معدة عقولهم ال تستطيع هضمها‪ ،‬وقد يس بب لهم ذل ك عس ر هض م‪،‬‬
‫يؤدي بهم إلى الجنون‪ ..‬وتعطيل العقل خير من الجنون‪.‬‬
‫لكنهم يمكن أن يتواض عوا قليال‪ ،‬ويجلس وا ب أدب وذل ة م ع ال ذين يس تعملون‬
‫عقولهم‪ ،‬ليقرؤوا لهم‪ ،‬ويفسروا ما أودع في هذه القصص من أس رار ق د تنفعهم في‬
‫دنياهم وأخراهم‪ ..‬عسى عقولهم تعود للعمل‪ ،‬وعسى حياتهم تعود إلى الفط رة ال تي‬
‫فطرهم هللا عليها‪.‬‬
‫وأحب أن أنب ه إلى أن ه ذه القص ص على ال رغم مم ا يحمل ه بعض ها من‬
‫سخرية‪ ،‬فإن ذلك ال يعني أنني أسخر من أحد من الناس‪ ،‬حتى من أصحاب العق ول‬

‫‪5‬‬
‫المعطلة‪ ..‬وكيف أفعل ذلك‪ ،‬وقد قال تع الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل يَ ْس خَرْ قَ وْ ٌم ِم ْن‬
‫َس ى أَ ْن يَ ُك َّن خَ ْي رًا ِم ْنه َُّن﴾‬
‫َس ى أَ ْن يَ ُكونُ وا خَ ْي رًا ِم ْنهُ ْم َواَل نِ َس ا ٌء ِم ْن نِ َس ا ٍء ع َ‬
‫قَ وْ ٍم ع َ‬
‫[الحجرات‪]11 :‬‬
‫وإنما قصدي من ذلك أن أكون مرآة عاكس ة تع رض لهم ص ورهم وحقيقتهم‬
‫كما هي عساهم ينفروا منها‪ ،‬وعساهم يعودون ل وعيهم‪ ..‬ألنن ا أحيان ا كث يرة نحت اج‬
‫إلى نضح الماء على وجوهنا حتى نستفيق ونفطن ويعود لنا وعينا‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫عقل عجيب‬
‫كان الكل يتحدث عن قدراته العقلية العجيبة إلى الدرجة ال تي جعلت ني أنبه ر‬
‫به قبل أن أراه أو أسمعه أو أقرأ له‪ ..‬وقد جعلني ذل ك‪ ،‬ولف ترة محترم ة من عم ري‬
‫أزكيه وأثني عليه مع أني لم أعرفه‪ ..‬ال من قريب وال من بعيد‪..‬‬
‫ال تلوموني على ذلك‪ ..‬فلست وحدي في هذا‪ ..‬فالعقل الجمعي يس يطر أحيان ا‬
‫علينا من حيث ال نشعر‪ ..‬فنقف المواقف الخطيرة ثقة منا بتلك العقول الكث يرة ال تي‬
‫اجتمعت وقررت وحكمت‪ ..‬ولم يبق لغيرها من العقول سوى أن تخضع لها وتسلم‪،‬‬
‫اقتنعت أو لم تقتنع‪ ..‬فيكفي أن يك ون الجمه ور ه و ال ذي تح دث‪ ،‬وه و ال ذي حكم‪،‬‬
‫وهو الذي قرر‪ ..‬وهل توازي عقولنا المفردة عقول الجماهير؟‬
‫لكني‪ ،‬وبسبب موقف محرج وقع لي مع بعض طلبتي ق ررت أن أتم رد على‬
‫العقل الذي فرضه علي الجمهور‪..‬‬
‫وقد كان سبب الموقف أني ذك رت ص احب ذل ك العق ل العجيب عن د ذك ري‬
‫ألسماء المفكرين المعاصرين‪ ..‬ويعلم هللا أن نيتي لم تكن صادقة في ذلك‪ ..‬ب ل ك ان‬
‫قصدي هو أن يع رف طلب تي أن ني أحي ط بكث ير من األس ماء‪ ،‬وأع رف الكث ير من‬
‫المفكرين‪ ،‬وأن ذلك نتيجة الطالعي الواسع‪..‬‬
‫نعم زينت لي نفس ي األم ارة بالس وء حينه ا أن مقص دي نبي ل‪ ..‬فالطلب ة‬
‫يحتاجون إلى ثقة مطلقة في أستاذهم ليستفيدوا من ه‪ ..‬ول ذلك فال ح رج علي ه ـ كم ا‬
‫تفتي نفسي األمارة ـ أن يتكلف ـ في بعض األحيان ـ أمثال تلك الحيل‪.‬‬
‫لكن الحفرة التي حفرتها لهم وقعت فيها‪ ،‬إذ برزت طالبة ذكية نجيب ة لي كم ا‬
‫يبرز األسد لضحاياه الجرحى‪ ،‬وقالت لي بكل أدب‪ :‬هل تع رف ه ذا العق ل العجيب‬
‫يا أستاذ؟‬
‫لم أجد ما أقول‪ ،‬لكني احتلت لذلك بما تعلمته في فنون التعليم من حي ل‪ ،‬فقلت‬
‫له ا‪ :‬الك ل يتح دث عن ه‪ ..‬والك ل يزكي ه‪ ..‬والك ل يث ني علي ه‪ ..‬وال يخفى ت أثيره في‬
‫الجماهير العريضة في وطننا العربي الكبير‪ ..‬بل وصل تأثيره للعالم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا ال أريد الكل‪ ..‬أريدك أنت‪ ..‬أريد أحكام عقلك أنت‪.‬‬
‫لم أجد مع هذه الجسارة‪ ،‬سوى أن قلت لها ‪ -‬وأن ا أم ارس حيلي البيداغوجي ة‬
‫حتى ال تكتشف الطالبة تل ك الثغ رة األمني ة الخط يرة ال تي أوقعت ني نفس ي فيه ا ‪:-‬‬
‫أشكرك أيتها الطالبة المحترمة على ه ذا الس ؤال الوجي ه‪ ..‬وبم ا أن ال وقت ال يكفي‬
‫للحديث عن أفكاره التي جعلت ه محال إلعج اب الجمي ع‪ ،‬فأع دكم أن نخص ص غ دا‬
‫حصة خاصة به‪..‬‬
‫قلت ذلك‪ ،‬وأنا على ثقة من أن ني ق د ق د تخلص ت من الم أزق الخط ير ال ذي‬
‫أرادت الطالبة الذكية أن توقعني فيه‪ ..‬لكني لم أعلم أنني ‪ -‬بذلك الموقف ‪ -‬زدت من‬
‫طينتي بلة‪ ..‬بل رحت إلى الحف رة ال تي أوقعت ني فيه ا‪ ،‬ف زدت فيه ا أمت ارا جدي دة‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫ألنغمس فيها انغماسا كليا‪.‬‬
‫فبعد خ روجي من الجامع ة مباش رة ذهبت إلى المكتب ة‪ ،‬وس ألت الكت بي عن‬
‫أعمال ذلك العقل العجيب‪ ،‬فأجابني‪ ،‬وهو يبتسم‪ :‬عجب ا‪ ..‬ه ل يمكن أن تك ون هن اك‬
‫مكتبة في الدنيا‪ ،‬وال يوجد فيه ا أعم ال ذل ك العق ل العبق ري العجيب؟‪ ..‬إنن ا معش ر‬
‫الكتبيين من دونها سنغلق متاجرنا‪ ،‬ونتوقف عن العم ل‪ ،‬فليس هن اك أعم ال تس وق‬
‫مثل أعماله‪ ..‬بورك له في شفتيه‪ ..‬وبورك في تلك الكاميرات وأجهزة التسجيل التي‬
‫تتسابق على تسجيل صوته‪ ،‬والتقاط صوره‪..‬‬
‫تعجبت من قوله ه ذا‪ ،‬ألني كنت أطلب كتب ه‪ ..‬وق د اح ترت في عالق ة كتب ه‬
‫بش فتيه وب أجهزة التس جيل والتص وير‪ ..‬إال أني خش يت أن يض حك علي ص احب‬
‫المكتبة‪ ..‬ويضحك معه عقل الجمهور الذي صرت مقيدا بقيوده‪.‬‬
‫م ا هي إال لحظ ات ح تى أحض ر لي ص احب المكتب ة مجموع ة أق راص‬
‫مضغوطة‪ ..‬وهو يقول‪ :‬تج د هن ا ك ل أعم ال ذل ك العق ل العجيب‪ ..‬وص دقني فإن ك‬
‫ستنبهر بها انبهارا كليا‪ ..‬وسترى عيناك ما لم تر مثله في حياتك‪.‬‬
‫تعجبت من قوله ذل ك‪ ..‬وتعجبت قبل ه من تل ك األق راص المض غوطة‪ ..‬ألني‬
‫كنت أتصور أنه سيأتيني بكتب‪ ..‬لكني لم أستطع أن أسأله خش ية أن يض حك علي‪..‬‬
‫وقد قلت لنفسي مسليا‪ :‬لعل كتبه موجودة بصيغة مصورة‪ ..‬ال بأس‪..‬‬
‫دفعت الثمن‪ ،‬وأنا أقول للكتبي‪ :‬شكرا جزيال‪ ..‬سأحاول أن أق رأ م ا اس تطعت‬
‫منها هذه الليلة‪.‬‬
‫ضحك الكتبي ملء فيه‪ ،‬وهو يقول‪ :‬تقرؤها‪..‬عجبا ل ك‪ ..‬في أي عص ر تعيش‬
‫أنت؟‬
‫قلت‪ :‬الكتب تقرأ في كل العصور‪ ..‬أم أنك أعطيتني كتبا مسموعة؟‬
‫عاد الكتبي للضحك‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ومن ذكر لك بأن العقل العجيب يكتب كتبا‪..‬‬
‫لقد تجاوزنا ذلك الزمان‪ ..‬نحن في زمان الملتميديا أيها العقل القديم‪.‬‬
‫ابتسمت له‪ ،‬وأنا أحاول أن أظهر له ب أني ال أزال أعيش ه ذا العص ر‪ :‬ح تى‬
‫الملتميديا نحتاج أن نقرأها‪ ..‬فاألفكار تقرأ مكتوبة أو مسموعة أو مرئية‪.‬‬
‫شعر الكتبي بالخجل‪ ،‬وقال‪ :‬معذرة لم أفهم قصدك‪.‬‬
‫وهكذا تخلصت من الطالبة والكت بي‪ ..‬وذهبت إلى بي تي ألكتش ف أني لم أكن‬
‫أخادعهما‪ ،‬بل كنت أخادع نفسي‪.‬‬
‫لقد رحت لتلك األقراص المضغوطة أشغلها‪ ،‬فوجدت ما انبهرت له‪..‬‬
‫لقد اكتشفت سر العبقري ة في ذل ك العق ل العجيب‪ ..‬واكتش فت مع ه س ر ذل ك‬
‫االنبهار الذي أصاب الجماهير‪ ،‬فراح وا يس لمون ل ه‪ ،‬ويخض عون‪ ..‬واكتش فت م ع‬
‫ذلك كله سر تخلفنا عن ديننا وواقعنا‪.‬‬
‫لقد أمضيت سبع ساعات كاملة أتفرج على تلك األقراص المض غوطة ‪ -‬وأن ا‬
‫أحمل قلمي ودفتري ‪ -‬بحثا عن فكرة واحدة أنتجها ذل ك العق ل العجيب‪ ،‬لعلي أطل ع‬
‫بها طلبتي وفاء بوعدي‪ ،‬فلم أجد‪ ،‬وال نصف فكرة‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫فقد كان ذلك العقل العجيب في كل تل ك اللق اءات ال تي عق دت ل ه ال يس تعمل‬
‫سوى ذاكرته القوية العجيبة التي انبهرت لها الجماهير‪..‬‬
‫حتى أنه كان في ذكره لألحاديث ال يكتفي بأن ي ذكر نص الح ديث بحروف ه‪،‬‬
‫بل يضم إليه ذكر من خرجه من المحدثين‪ ،‬وذكر سنده‪ ،‬وأح وال ال رواة‪ ،‬وم ا ق ال‬
‫فيهم علماء الجرح والتع ديل‪ ،‬واالتص ال واالنقط اع‪ ..‬ونح و ذل ك‪ ،‬وكأن ه يق رأ من‬
‫كتاب‪..‬‬
‫ولذلك يمضي مع كل حديث يرويه ما يقارب ربع الحصة التي عقدت له‪..‬‬
‫أم ا ربعه ا الث اني‪ ،‬في ذكر في ه كالم إس حق بن راهوي ة وس فيان الث وري‬
‫والبربهاري وابن بطة وابن بطال وغيرهم ليشرح به الحديث‪ ،‬أو ليؤكده‪ ،‬أو لي ذكر‬
‫فيه من المعاني الجديدة ما لم يتطرق له‪.‬‬
‫أما ربعها الثالث‪ ،‬فكان يذكر فيه ما يحفظه من قصائد الس لف والخل ف برن ة‬
‫جميلة تهتز لها العقول والقلوب‪ ..‬فقد وهب مع الذاكرة العجيب ة ص وتا جميال ح ول‬
‫به نونية القحطاني ونونية ابن القيم إلى أغنية جميلة‪ ،‬وسمفونية لذيذة‪.‬‬
‫وأما ربعها الرابع‪ ،‬فك ان يخصص ه لتل ك الخطب الراقي ة ال تي يحفظه ا هي‬
‫األخ رى‪ ،‬والممتلئ ة ب أنواع االس تعارات والكناي ات والمحس نات البديعي ة‪ ..‬وك ان‬
‫يردده ا بس رعة وبص وت جه وري تمتلئ ل ه ل ذة وطرب ا‪ ،‬ول و لم تفهم من ه حرف ا‬
‫واحدا‪.‬‬
‫هكذا كانت كل حصصه تمضي‪ ..‬فال يشعر المستمع لها بأي سآمة وملل‪ ..‬بل‬
‫يظل فاغرا فاه منبهرا به إلى آخر لحظة‪..‬‬
‫وهكذا مضت سبع ساعات قضيتها في االستماع إليه‪ ..‬لكن دفتري ظل فارغا‬
‫لم أسجل فيه حرفا واحدا‪ ..‬ألني لم أجد كلمة واحدة من بنات فكره يمكنني أن أقوّل ه‬
‫إياها‪ ،‬فهو يبدأ كالمه بالمنقول‪ ،‬وينتهي بالمنقول‪ ..‬وال حظ بينهما للمعقول‪.‬‬
‫لعلكم لم تصدقوني‪ ..‬أو لعلكم تريدون نماذج عن ذل ك‪ ..‬ال ب أس‪ ..‬س أنقل لكم‬
‫مشهدا يختصر وصفي‪ ،‬وه و عن حص ة خصص ها العق ل العجيب ألس ئلة النس اء‪،‬‬
‫وقد قدم لها بقوله‪ :‬هذه الحص ة مخصص ة ألس ئلة النس اء اس تنانا فيه ا بم ا ورد في‬
‫الحديث الذي حدث به أبو صالح السمان ‪ -‬واسمه ذكوان ‪ -‬عن أبي سعيد ق ال‪ :‬ق ال‬
‫النساء للنبي ‪( :‬غلبنا عليك الرجال‪ ،‬فاجعل لنا يوم ا من نفس ك)‪ ،‬فوع دهن يوم ا‬
‫لقيهن فيه‪ ،‬فوعظهن وأمرهن‪ ..‬وفي رواية مسدد عن أبي عوانة قال‪ :‬ج اءت ام رأة‬
‫إلى رسول هللا‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ذهب الرج ال بح ديثك‪ ،‬فاجع ل لن ا من نفس ك‬
‫يوما نأتي فيه تعلمنا مما علمك هللا‪ ،‬فقال‪ ( :‬اجتمعن في يوم كذا وكذا‪ ،‬في مكان ك ذا‬
‫وكذا)‪ ،‬فاجتمعن‪ ،‬فأتاهن رسول هللا ‪ ‬فعلمهن مما علمه هللا‪ ..‬وقال البخ اري‪ :‬ق ال‬
‫شريك عن ابن األصبهاني قال‪ :‬حدثني أب و ص الح عن أبي س عيد وأبي هري رة عن‬
‫النبي ‪)1()..‬‬

‫‪ )(1‬الجمع بين الصحيحين (‪)447 /2‬‬

‫‪9‬‬
‫وهكذا أخذ يسرد الكثير من األسانيد والرواي ات المتقارب ة للح ديث‪ ..‬وبع دها‬
‫أخذ يتلقى االتصاالت‪ ..‬والعجيب أنها ك انت من من اطق مختلف ة من الع الم‪ ..‬وك أن‬
‫تأثيره عقله العجيب قد بل غ أقاص ي األرض‪ ،‬ولم يكن قاص را على البل د ال ذي يقيم‬
‫فيه‪.‬‬
‫وكان أول اتصال ورده من أمريكا‪ ،‬ومن امرأة أب دت – في مقدم ة كالمه ا ‪-‬‬
‫إعجابها الكبير به‪ ،‬ثم أخبرت ه أنه ا مقبل ة على الزف اف‪ ،‬وأن الع ادة هن اك أن تلبس‬
‫المرأة لباسا أبيض‪ ..‬وأنها تريد أن تفصل لباسا محتشما بذلك اللون‪.‬‬
‫فأجاب مباشرة ‪ -‬وكأنه يقلب صحفا أمامه ‪ -‬بقوله‪ :‬لق د أف تى في ذل ك الع الم‬
‫الجلي ل‪ ،‬والم ربي الكب ير‪ ،‬والق دوة الص الح‪ ،‬والط ود الش امخ في العلم والزه د‬
‫والص دق واإلخالص والتواض ع وال ورع والفت وى‪ ،‬ش يخ التفس ير والعقي دة والفق ه‬
‫والسيرة واألصول والنحو وسائر العلوم‪ ..‬الداعي إلى هللا على بصيرة المش هود ل ه‬
‫بصدق العمل‪ ،‬ومواقف الخ ير وال دعوة واالرش اد واإلفت اء‪ ،‬ال ذي أجمعت القل وب‬
‫على قبوله ومحبته وفضله وعلو مرتبته فضيلة شيخنا العالمة أبو عبد هللا محمد بن‬
‫صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن الع ثيمين الوهي بي التميمي المول ود في‬
‫ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المب ارك ع ام ‪1347‬هـ‪ ،‬في مدين ة عن يزة‬
‫إحدى مدن القصيم‪ ..‬بقوله‪( :‬إن األبيض في الحقيقة من التبرج بالزين ة ف إن اللب اس‬
‫األبيض للمرأة يكسوها جماالً ويوجب انطالق النظر إليها‪ ،‬لذلك كونها تلبس اللباس‬
‫األسود مع العباءة أفضل لها وأكمل)(‪)1‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم ردد العبارة الالزمة ال تي يكرره ا بع د إجابت ه على ك ل س ؤال‪:‬‬
‫مرروا اتصاال آخر‪..‬‬
‫فاتصلت فتاة من ألماني ا‪ ،‬وق الت‪ :‬أن ا فت اة أقيم في ألماني ا‪ ..‬وأري د االنض مام‬
‫للدراس ة في بعض جامعاته ا‪ ..‬وق د طلب وا م ني ش هادة تثبت ق درتي على اللغ ة‬
‫األلمانية‪ ..‬فهل يجوز لي تعلمها؟‬
‫فأجاب مباشرة من غير تريث‪ :‬سؤالك يحوي على شقين‪..‬‬
‫أما أولهما‪ ،‬فقد أجاب عليه الشيخ محمد ص الح المنج د التلمي ذ النجيب لكب ار‬
‫العلم اء الرب انيين في ه ذا العص ر من أمث ال الش يخ ص الح بن ف وزان آل ف وزان‪،‬‬
‫والشيخ عبد هللا بن محمد الغنيم ان‪ ،‬والش يخ محم د ول د س يدي الح بيب الش نقيطي‪،‬‬
‫والشيخ عبد المحسن الزامل‪ ،‬والشيخ عبد الرحمن بن ص الح المحم ود‪ ..‬وه و ف وق‬
‫ذلك يعتبر التلميذ النجيب للشيخ عبد العزيز بن عبد هللا بن ب از‪ ،‬وك انت عالقت ه ب ه‬
‫ممتدة على مدى خمس عشرة سنة‪ ،‬وهو الذي دفعه إلى الت دريس وكتب إلى مرك ز‬
‫الدعوة واالرشاد بالدمام باعتماد التعاون معه في المحاض رات والخطب وال دروس‬
‫العلمية وبسبب الشيخ عبد العزيز بن باز أصبح خطيبا ً وإماما ً ومحاضراً‪.‬‬
‫لقد أجاب هذا الش يخ الجلي ل تلمي ذ مش ايخ اإلس الم الكب ار على س ؤال ش بيه‬

‫‪ )(1‬مجموع فتاوى ورسائل العثيمين(‪)22/180‬‬

‫‪10‬‬
‫بسؤالك‪ ،‬فقال‪( :‬وج ودك – أخ تي الس ائلة ‪ -‬في مدرسة مختلطة ح رام في الش رع؛‬
‫ألن الخلطة ال تي وص فتيها تك ون عُرضة وس ببا ً للفس اد المفضي إلى الف واحش‬
‫المنكرة‪ ،‬وقد حذر الرسول ‪ ‬في كثير من أحاديثه الرجال من فتنة النس اء‪ ،‬وعظم‬
‫أمرهن حتى جعل فتنتهن أشد الفتن وأشد المضرات‪ ..‬وفي الخلطة التي ذكرتها عدم‬
‫التمكن من غض البصر‪ ،‬وفي ه م دخل كب ير لش هوة النس اء للرج ال وش هوتهم لهن‬
‫وهذا ال يجوز بل هو رأس الفساد‪ ..‬فكيف بنا نسمح لنساء هذا الزمان الذي انتشرت‬
‫فيه أمراض القلوب وق َّل الوازع الديني أن تجلس المرأة مع الرج ل في مك ان واح د‬
‫مع عدم وجود المحرم وفي كل يوم لساعات طوال‪ ..‬ف اتقي هللا تع الى ي ا أخ تي وال‬
‫تلتحقي بهذه المدرسة مهم ا كل ف األمر‪ ..‬وليس هن اك ض رورة ت دعو إلى الخلطة‪،‬‬
‫فالدراس ة في ه ذه المدرس ة ليس ت ض رورة م ا دام أن الم رأة تس تطيع الق راءة‬
‫والكتابة‪ ،‬وتعلم أمور دينها فهذا يكفي؛ ألنها خلقت لهذا‪ ،‬أي‪ :‬لعبادة هللا تع الى وليس‬
‫الذي بعد هذا ضرورة)(‪)1‬‬
‫أما الشق الثاني‪ ،‬فقد أجاب عليه العالمة الجليل أبو عب د هللا محم د بن ص الح‬
‫بن محمد بن س ليمان بن عب د ال رحمن الع ثيمين الوهي بي التميمي المول ود في ليل ة‬
‫السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك ع ام ‪1347‬هـ بقول ه في ش رحه ل زاد‬
‫المس تقنع‪ ..( :‬ومعل وم أن اعتي اد التكلم بغ ير العربي ة ح تى يك ون ع ادة أم ر غ ير‬
‫مشروع ألن ي ورث محب ة أه ل تل ك اللغ ة من الكف رة وه و مخ الف لعقي دة ال والء‬
‫والبراء من الكف ار‪ .‬ق ال ش يخ اإلس الم ابن تيمية‪( :‬واعلم أن اعتي اد اللغ ة ي ؤثر في‬
‫العقل والخلق والدين تأثيرًا قـويًا بينًا‪ ،‬ويـؤثر أيضا ً في مشابهة صدر هذه األم ة من‬
‫الصحابة والت ابعين‪ ،‬ومش ابهتهم تزي د في العق ل وال دين والخل ق)‪ ..‬وال ذي أراه أن‬
‫الذي يعلم صبيّه اللغة اإلنجليزية منذ الصغر سوف يُحاسب علي ه ي وم القيامة؛ ألن ه‬
‫يؤدي إلى محبة الطفل لهذه اللغة‪ ،‬ثم محبة من ينطق بها من الن اس؛ ه ذا من أدخ ل‬
‫أوالده منذ الصغر لتعلم اللغة اإلنجليزية أو غيره ا من اللغ ات‪ ،‬فليت ق هللا من يري د‬
‫جلب هذه اللغة إلى أبناء المسلمين‪ ،‬وهللا هللا أن يضيع من يعول‪ ،‬وليتذكر قول ه ‪:‬‬
‫(ما من عبد يسترعيه هللا رعية يموت ي وم يم وت وه و غ اشٌ لرعيت ه إال ح رم هللا‬
‫عليه الجنة) رواه مسلم‪ .‬اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد)(‪)2‬‬
‫وقياس ا على م ا ذك ره الش يخ من حرم ة تعلم اللغ ة اإلنجليزي ة‪ ،‬ف إني أف تي‬
‫بحرمة تعلم اللغة األلمانية‪ ،‬الستوائهما في العلة‪ ،‬فكالهما يكتب بالحروف الالتينية‪،‬‬
‫التي هي حروف صليبية في األساس‪ ..‬مرروا سؤاال آخر‪..‬‬
‫فاتصلت امرأة من بلدة عربية ال أذكرها‪ ..‬وسألته عن ج واز اس تعمال بعض‬
‫المساحيق في البيت‪ ،‬ولزوجه ا لطلب ه ذل ك منه ا‪ ،‬فق ال الش يخ مباش رة‪ ،‬ومن غ ير‬

‫‪ )(1‬موقع اإلسالم سؤال وجواب‪.‬‬


‫‪ )(2‬شرح زاد المستقنع – كتاب النكاح – الشريط الثاني الوجه الثاني‪ ،‬وهو في الكتاب المطبوع مع بعض التغيير‪،‬‬
‫انظر‪ :‬الشرح الممتع على زاد المستقنع (‪)43 /12‬‬

‫‪11‬‬
‫تفكير وال تأمل‪ ،‬فقد كان عقله يملك معالجا قويا‪ ،‬ويملك معه ذاكرة عجيبة‪ ..‬لقد ق ال‬
‫مجيبا لها‪ :‬لقد أجاب عن سؤالك هذا العالمة الجهبذ والمحدث الكبير‪ ،‬ناصر الس نة‪،‬‬
‫وقامع البدعة‪ ،‬فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي األلباني المولود ع ام‬
‫‪1332‬هـ في مدينة اشقودرة عاص مة ألباني ا آن ذاك‪ ..‬والف ائز بج ائزة المل ك فيص ل‬
‫العالمية لعام ‪1419‬هـ في فرع الدراسات اإلسالمية‪ ،‬نظير جه ده واجته اده وتفاني ه‬
‫في خدم ة اإلس الم والعناي ة بس نة رس ول هللا ‪ ..‬فق ال‪( :‬ال يج وز للم رأة غ ير‬
‫المتحجبة فضال عن المتحجب ة أن تس تعمل المكي اج الك افر‪ ،‬المكي اج الفاسق‪ ،‬م تى‬
‫عرفتم شيء من زينة النساء يسمى باسم م اأنزل هللا ب ه من س لطان [المكي اج] ه ذه‬
‫لغ ة مانعرفه ا ال نحن وال أب اؤكم من قبل‪ ،‬وإنم ا ه و لفظ ة أجنبي ة تع بر عن زين ة‬
‫لفساق‪ ،‬نساء فاس قات‪ ،‬نس اء أوربا‪ ،‬فتش بهت نس اؤنا م ع األس ف إال من عص م هللا‬
‫منهن بالتزين به ذه الزين ة ال تي ت أثر المجتم ع اإلس المي به ا أال وهي المكي اج فال‬
‫يجوز للمرأة)(‪ ..)1‬مرروا اتصاال آخر‪..‬‬
‫اتصلت امرأة من فرنسا تسأل عن الحق ائب اليدوي ة ال تي تحمله ا النس اء في‬
‫العادة‪ ،‬فقال من غير حاجة للتكفير‪ :‬لقد أجاب عن هذه المسألة الخطيرة‪ ،‬وال تي تعم‬
‫به ا البل وى ش يخنا العالم ة المح دث مقب ل بن ه ادي بن قاي دة الهم داني ال وادعي‬
‫الخاللي من قبيل ة آل راش د بس ؤال فح واه‪( :‬ش اع في ه ذه األي ام بين النس اء عن د‬
‫خروجهن حمل حقائب يدوية وأحيانا ال يكون فيها ش يء وليس ت بحاج ة إليها‪ ،‬فم ا‬
‫حكم هذه العادة‪ ،‬وهل يكن متشبهات بالكافرات أم ال؟)‪ ،‬فأجاب بقوله‪( :‬إذا كان ه ذا‬
‫األمر جاء من قبل أعداء اإلسالم فهو تش به بأع داء اإلس الم‪ ،‬ومن تش به بق وم فه و‬
‫منهم)(‪ ..)2‬مرروا اتصاال آخر‪..‬‬
‫اتص لت ام رأة من كن دا تس أل عن حكم لبس الم رأة الكعب الع الي‪ ،‬فأج اب‬
‫العقل العجيب بقوله‪ :‬لقد سئلت بمثل هذا السؤال اللجنة الدائمة للفتوى والمش كلة من‬
‫كبار العلماء السلفيين من أمثال عبد هللا بن قعود‪ ،‬وعبد هللا بن غديان‪ ،‬وعبد الرزاق‬
‫عفيفي‪ ،‬وعب د العزي ز بن عب د هللا بن ب از‪ ،‬وذل ك في الس ؤال ال ذي يحم ل رقم (‬
‫‪ ،)1678‬فأجابت بقولها‪( :‬لبس الكعب العالي ال يجوز؛ ألنه يعرض المرأة للسقوط‪،‬‬
‫واإلنسان مأمور شرعا بتجنب األخطار)(‪ ..)3‬مرروا اتصاال آخر‪..‬‬
‫اتصلت امرأة من جنوب إفريقيا‪ ،‬وسألت‪( :‬هل يجوز للمرأة ش رعا أن تقص‬
‫شعرها؟)‪ ،‬فأجاب العقل العجيب بقوله‪ :‬لقد سئلت بمث ل ه ذا الس ؤال اللجن ة الدائم ة‬
‫للفتوى والمشكلة من كبار العلماء السلفيين من أمثال عبد هللا بن قعود‪ ،‬وعب د هللا بن‬
‫غديان‪ ،‬وعبد الرزاق عفيفي‪ ،‬وعبد العزي ز بن عب د هللا بن ب از‪ ،‬وذل ك في الس ؤال‬
‫ال ذي يحم ل رقم (‪ )5007‬فأج ابت بقوله ا‪( :‬ال يج وز له ا أن تقص أو تحل ق ش عر‬

‫‪ )(1‬سلسلة الهدى والنور شريط (‪)697‬‬


‫‪ )(2‬غارة األشرطة (‪)1/102‬‬
‫‪ )(3‬فتاوى اللجنة الدائمة (‪)123 /17‬‬

‫‪12‬‬
‫حواجبه ا أو ش عر رأس ها إال لض رورة ت دعو إلى ذل ك كعالج ج روح ب الرأس أو‬
‫الح اجب يتوق ف عالجه ا على قص الش عر أو بعض ه فيج وز ذل ك بق در الحاجة‪،‬‬
‫ويجب لها أن تزيل شعر وجهها وسائر جسدها بنتف أو نورة أو نح و ذل ك م ا ع دا‬
‫الرأس والحاجبين)(‪ ..)1‬مرروا اتصاال آخر‪..‬‬
‫اتصلت امرأة من السودان‪ ،‬وسألت‪( :‬ما حكم زغاريد النس اء في األف راح؟)‪،‬‬
‫فأجاب العقل العجيب من غير تردد‪ :‬لقد أجاب على ذلك فض يلة ص الح بن ف وزان‬
‫بن عبد هللا من آل فوزان من أهل الشماس ية ال وداعين من قبيل ة الدواس ر‪ ،‬المول ود‬
‫عام ‪ 1354‬هـ‪ ،‬والذي توفي وال ده وه و ص غير‪ ،‬ف تربى في أس رته‪ ،‬وتعلم الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وتعلم مب ادىء الق راءة والكتاب ة على ي د فض يلة الش يخ‪ :‬حم ود بن س ليمان‬
‫التالل‪ ،‬الذي ت ولى القض اء أخ يرا في بل دة ض رية في منطق ة القص يم‪ ..‬بقول ه‪( :‬ال‬
‫يجوز للمرأة رفع صوتها بحضرة الرجال؛ ألن في ص وتها فتنة؛ ال ب الزغردة‪ ،‬وال‬
‫غيرها‪ ،‬ثم إن الزغردة ليست معروفة عند كث ير من المس لمين ال ق دي ًما وال ح ديثًا؛‬
‫فهي من العادات السيئة التي ينبغي تركها‪ ،‬ولما تدل عليه أيضًا من قلة الحياء)(‪)2‬‬
‫هذا مجرد مشهد من المشاهد التي ظللت ساهرا معها تلك الليل ة‪ ،‬وأن ا ممتلئ‬
‫إعجابا بذلك العقل الذي يحوي أك بر ذاك رة تخ زين في ال دنيا‪ ،‬ويحم ل معه ا أك بر‬
‫برسيس ور‪ ..‬عف وا‪ ..‬مع الج في ال دنيا‪ ..‬ويحم ل معهم ا أك بر رام‪ ..‬عف وا‪ ..‬ذاك رة‬
‫عشوائية في العالم أجمع‪..‬‬
‫لكني في الصباح وبعد استيقاظي أخذتني الحيرة كل مأخذ‪ ،‬فم ا عس اي أق ول‬
‫لتلك الطالبة‪ ،‬وكيف أواجه إلحاحها الشديد‪ ..‬وما عساي أقول لزمالئها‪ ،‬وقد وعدتهم‬
‫أن أخصص لهم حصة حول ذلك العقل العجيب‪..‬‬
‫لكني الفن ون ال تي تعلمته ا من زمالئي من األس اتذة راحت تت داركني‪ ..‬وق د‬
‫نجحت في تطيبقها أيما نجاح‪..‬‬
‫لق د ذهبت إلى الحص ة‪ ،‬وأن ا مرف وع ال رأس‪ ،‬م ع أن ه لم يكن في عقلي أي‬
‫معلومة أقدمها لهم عن ذلك العقل العجيب‪ ،‬وال عن غيره من العقول‪..‬‬
‫وبمجرد دخولي إلى القاعة طلبت من الطالبة ص احبة الس ؤال أن تص عد‪ ،‬ثم‬
‫قلت لزمالئها‪ :‬إن التعليم الجامعي ال يعتمد على التلقين بق در م ا يعتم د على تك وين‬
‫القدرات‪ ،‬وتشكيل الكفاءات‪ ..‬ولذلك فقد اخترت أحس ن عض و في ه ذا القس م ليق دم‬
‫لكم درسا‪ ،‬وتناقشوه فيه‪ ..‬وهو حول العقل العجيب الذي وعدتكم بتخصيص حص ة‬
‫عنه‪ ..‬وقد آثرت أن يك ون الح ديث عن ه من ط رف زميلتكم الباحث ة العبقري ة ال تي‬
‫أعتقد جازما أن لها قدرات ال تقل عن أعجب العقول‪..‬‬
‫قلت ذلك‪ ..‬ثم جلست مكان الطالبة‪ ..‬وتركتها تقع في الحفرة التي حفرتها لي‪.‬‬

‫‪ )(1‬فتاوى اللجنة الدائمة (‪)201 /5‬‬


‫‪ )(2‬المنتقى من فتاوى الفوزان (‪)10 / 60‬‬

‫‪13‬‬
‫العبقري الغبي‬
‫كنت في إمارة الشارقة في دول ة اإلم ارات العربي ة المتح دة حين س معت أن‬
‫عالم ا عربي ا كب يرا اس تطاع أن يقض ي باألدل ة العقلي ة اليقيني ة القطعي ة على ك ل‬
‫النظري ات ال تي أتى به ا فيث اغورس اليون اني‪ ،‬وأريس تاخورس اإلس كندرى‪،‬‬
‫وكوبرنيقس البولن دى‪ ،‬وج اليليو جاليلي ه االيط الى‪ ..‬وك ل من ج اء بع دهم ك نيوتن‬
‫وإنشتاين وغيرهم كثير‪.‬‬
‫كان كل الناس يسعون مهرولين لمركز األبحاث المتواجد في وسط اإلمارة‪..‬‬
‫وعندما وصلنا وج دنا ك اميرات القن وات الفض ائية كله ا تنتظ ر الح دث األك بر في‬
‫العالم لهذا القرن‪ ..‬بل لقرون عديدة‪.‬‬
‫رأيت مراسل قناة بي بي سي يسأل بعض الن اس عن مش اعره‪ ،‬وه و ينتظ ر‬
‫لحظة ظهور العبقري العربي الذي قضى على كل النظريات التي يعتقد أنها حق ائق‬
‫علمية‪ ،‬فأجاب‪ ،‬والفرحة بادية على كل كلمة يقولها‪ :‬لقد كنت دائما أعتقد أن ما نم ر‬
‫به من التخلف ليس سوى مرحلة قصيرة‪ ..‬وه ا ق د ع دنا بحم د هللا من جدي د لقي ادة‬
‫األمم‪ ..‬وها قد بدأنا بتصحيح أخطائها العلمية‪ ..‬وسترون بع د ذل ك كي ف تنه ار ك ل‬
‫اكتشافاتهم العلمية كأحجار الدومينو‪.‬‬
‫ورأيت مراسل قن اة س ي ان ان وه و يتكلم بس رعة ش ديدة ولهف ة ش ديدة في‬
‫انتظار الحدث األعظم‪..‬‬
‫ورأيت مدير الوكالة الفضائية األمريكي ة (ناس ا) يتح دث م ع بعض األم راء‬
‫طالبا منه أن يسمح للعبقري بالعمل في الوكالة لقاء ما يشاء من األموال‪..‬‬
‫وهكذا ك انت ك ل القل وب تخف ق لظه ور البط ل العبق ري ال ذي حق ق أخ يرا‬
‫المعجزة‪ ،‬وقضى على الخرافات التي كانت البشرية وال زالت فترة طويل ة تعتق دها‬
‫حقائق ثابتة‪.‬‬
‫م ا هي إال لحظ ات ح تى أط ل البط ل العبق ري على المنص ة‪ ،‬وبي ده ك رة‬
‫كبيرة‪ ..‬فانهالت التصفيقات الحادة تحييه‪ ..‬وتطلعت األعناق تشرئب لرؤيته‪.‬‬
‫استلم المكروفون‪ ،‬وراح يقول‪ :‬في البداية أه دي ثم رة اكتش افي العلمي لك ل‬
‫من تتلمذت عليه من العلماء النجباء الذين لوالهم لما وصلت إلى هذا المح ل‪ ..‬ولم ا‬
‫استطعت أن أنجز ه ذا اإلنج از العلمي الض خم ابت داء من ش يخ اإلس الم ابن تيمي ة‬
‫وانتهاء بابن باز والعثيمين وغيرهم من علماء الدعوة السلفية النجدية العباقرة‪.‬‬
‫تعجبت لذكره كل هؤالء في مثل هذا المحل‪ ..‬لكني اعتذرت له عن ذلك ب أن‬
‫هذا من وفائه وتدينه‪..‬‬
‫بعدها أخذ يق ول‪ :‬اكتش افي أيه ا الس ادة األفاض ل يرتب ط به ذه األرض ال تي‬
‫نعيش عليها‪ ..‬والتي احتقرها الكثير ممن يزعمون ألنفسهم العلم‪ ،‬فتصوروها مجرد‬
‫ت ابع ذلي ل للش مس‪ ..‬م ع أنه ا في الحقيق ة المرك ز ال ذي تط وف ب ه الش مس لتم دة‬

‫‪14‬‬
‫بأشعتها‪..‬‬
‫لقد أخطأ فيثاغورس في هذا حين استدل بدليل باهت‪ ،‬وهو أن ه أن ه إذا ك انت‬
‫هناك حجرة ومصباح‪ ..‬فإننا في الع ادة نض ع المص باح في وس ط الحج رة‪ ..‬وبن اء‬
‫على ه ذا المث ال الب اهت اس تدل على أن الش مس هى الثابت ة‪ ..‬ألنه ا المص باح‪..‬‬
‫واألرض هى التى تتحرك على خالف ما كان معروفا ً وقتذاك‪..‬‬
‫أما كوبرنيقس فقد اش تط‪ ،‬وكأن ه ي دعو الى عب ادة الش مس فه و يقدس ها أيم ا‬
‫تق ديس‪ ،‬ولم ي أت ب دليل‪ ،‬ب ل ق ال ق وال مش ابها لق ول فيث اغورس حيث ق ال‪ :‬ه ذا‬
‫المصباح من يستطيع أن يضعه فى هذا المعبد إال فى المنتص ف‪ ..‬نفس الكالم‪ ..‬ولم‬
‫يأت بدليل هو اآلخر‪.‬‬
‫لقد ألف كوبرنيقوس كتاب أسماه (حركة األجرام السماوية)‪ ..‬جع ل ك ل ش ئ‬
‫يتحرك ما عدا الشمس فهى ثابته عنده‪ ..‬وهذا الكت اب بش هادة بعض علم اء الغ رب‬
‫والشرق مسروق من كتاب لرجل رافضي خ بيث ه و نص ر ال دين الطوس ى واس م‬
‫كتابه (المجسطى)‪ ..‬ونصر الدين الطوسى ألف كتابه قبل كوبرنيقس‪.‬‬
‫فكيف باهلل عليكم تأخذون علما ً من رجل سارق ومدلس يدلس العلم؟‪ ..‬وكي ف‬
‫تأخذون علماء من رافضي مجوسي خبيث؟‬
‫بعد هؤالء جاء الذي أسموه (رائد العلم) وهو جاليليو ال ذي أل ف كتاب ا س ماه‬
‫(الح وار)‪ ..‬ووض ع في ه دفاع ه عن آراء ك وبرنيقس‪ ،‬وأق ر ك ل م ا ج اء فى كتاب ه‬
‫(حركة األجرام السماوية)‪ ،‬وقال بأن الكون عبارة عن فراغ شاسع‪..‬‬
‫يا هللا‪ ..‬ما هذا الكفر والضالل‪ ..‬ل و ت بينتم قول ه لعلمتم أن قول ه في ه كف ر بين‬
‫وإلحاد واضح‪ ..‬ألن قوله معناه أن الفضاء ال نهائي‪ ،‬بمعنى أنه ينكر وجود الس ماء‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أنه ال جنة وال نار‪ ..‬ألن الجنة فى السماء‪ ..‬وأيض ا ً ال وج ود هلل ألن هللا‬
‫فوق السماء‪ ،‬وقد ينزل منها كما في ثلث الليل اآلخر‪ ..‬ولكن ه لم يكن ليص رح ب ذلك‬
‫لعلمه أن الكنيسه ستحرقه كما حرقت (جيردانو بورن و) من قب ل لقول ه ه ذا الكالم‪،‬‬
‫واكتفى بقوله‪ :‬الكون عبارة عن فراغ شاسع‪..‬‬
‫هذا الرجل المدعو (جاليليو) لم يتزوج وله أوالد غير شرعيين‪ ..‬وكان يعاقر‬
‫الخمر‪ ..‬ويأتى المواخير‪ ..‬باهلل عليكم ماذا تنتظرون من هذا الرجل الكافر الفاسق‪..‬‬
‫هل تنتظرون منه أن يعطيكم حقائق علمية‪ ..‬حاشا هلل‪.‬‬
‫بعد أن فند العبقري باألدلة القطعية آراء كل العلم اء الس ابقين‪ ..‬ص اح بعض‬
‫الحاضرين من المس لمين‪ :‬هللا أك بر‪ ..‬هللا أك بر‪ ..‬أخبرن ا أيه ا ا لعبق ري الل بيب عن‬
‫اكتشافك العلمي العظيم الذي قضيت به على هذه اآلراء اإللحادية‪..‬‬
‫ق ال العبق ري‪ :‬ش كرا ج زيال‪ ..‬لق د أخجلتم وني به ذا‪ ..‬أن ا في الحقيق ة تلمي ذ‬
‫لمشايخنا من علماء السلف الصالح ال ذين لم ينخ دعوا بأمث ال ه ذه األق وال‪ ..‬وبن اء‬
‫عليها رحت أفكر منذ عشرين سنة حول األدلة العقلية التي تمكنني من إقن اع الن اس‬
‫بأخطاء أولئك الض الين والزنادق ة‪ ..‬ألن مش كلتهم أنهم ال يقبل ون إال عق ولهم‪ ..‬إنهم‬
‫يعرضون عن أعالمنا الكبار الذين استدلوا على دوران األرض حول الش مس بك ل‬

‫‪15‬‬
‫صنوف األدلة النقلية‪..‬‬
‫ولهذا رحت أبحث عن األدلة العقلي ة ال تي وج دتها جميع ا تؤك د م ا ورد في‬
‫األدلة النقلية‪..‬‬
‫ركزوا جيدا‪ ..‬ألن األدلة العقلية تحتاج إلى تركيز كبير لفهمها‪..‬‬
‫استجمع العبقري أنفاسه‪ ،‬قليال‪ ،‬ثم شرب عصيرا غريبا كان بجانبه‪ ،‬ثم ق ال‪:‬‬
‫سأبدأ بال دليل األول‪ ..‬انظ روا‪ ..‬عن دما ت رون الش مس مش رقة‪ ،‬م اذا تقول ون‪ :‬ه ل‬
‫تقولون‪ :‬أشرقت الشمس‪ ..‬أم تقولون‪ :‬أشرقت األرض‪ ..‬بالطبع س تقولون‪ :‬أش رقت‬
‫الشمس‪ ..‬إذن أنتم نس بتم الفع ل للش مس‪ ،‬فهى ال تى تش رق‪ ..‬إذن الش مس هى ال تى‬
‫تتحرك وتدور حول األرض وليس العكس‪..‬‬
‫انطلقت تكب يرات كث يرة من الحض ور المس لمين‪ ..‬أم ا غ يرهم فق د ك انوا‬
‫ينظرون بعجب شديد له وهو يتحدث‪ ،‬وكأنهم يرون كائنا جاءهم من ك وكب آخ ر‪..‬‬
‫أو من زمن آخر‪.‬‬
‫بعد أن أطنب في شرح الدليل األول‪ ..‬راح يقول‪ :‬اسمحوا لي من باب األمانة‬
‫العلمية أن أنسب الدليل ألصحابه‪ ..‬فهذا الدليل استفدته من كالم البن القيم في كتاب ه‬
‫(مفتاح دار السعادة )‪ ،‬يق ول في ه‪( :‬ثم تأم ل الحكم ة في طل وع الش مس على الع الم‬
‫كيف قدره العزيز العليم سبحانه فإنها لو كانت تطل ع في موض ع من الس ماء فتق ف‬
‫فيه وال تعدوه لما وصل شعاعها الى كثير من الجهات‪ ،‬ألن ظ ل أح د ج وانب ك رة‬
‫األرض يحجبها عن الجانب اآلخر وكان يكون الليل دائما س رمدا على من لم تطل ع‬
‫عليهم والنهار سرمدا على من هي طالعة عليهم‪ ،‬فيفس د ه ؤالء وه ؤالء‪ ،‬فاقتض ت‬
‫الحكم ة اإللهي ة والعناي ة الرباني ة أن ق در طلوعه ا من أول النه ار من المش رق‪،‬‬
‫فتشرق على ما قابلها من األفق الغربي‪ ،‬ثم ال ت زال ت دور وتغش ى جه ة بع د جه ة‬
‫حتى تنتهي الى الغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار‪ ،‬فيختل ف عن دهم‬
‫الليل والنهار فتنتظم مصالحهم)(‪)1‬‬
‫واس تفدته من كالم للش يخ محم د بن ص الح الع ثيمين ح ول ه ذه المس ألة في‬
‫تفسيره لسورة الكهف يصلح أن يك ون منهج ا ً في التعام ل م ع مث ل ه ذه المس ائل‪..‬‬
‫زَاو ُر ع َْن َك ْهفِ ِه ْم َذاتَ‬ ‫س إِ َذا طَلَ َع ْ‬
‫ت تَ َ‬ ‫وه و عن د تفس ير قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وتَ َرى َّ‬
‫الش ْم َ‬
‫ال ﴾ [الكهف‪ ،]17 :‬لقد اعتبر الش يخ أن ه ذه‬ ‫ضهُ ْم َذاتَ ال ِّش َم ِ‬ ‫ْاليَ ِمي ِن َوإِ َذا َغ َربَ ْ‬
‫ت تَ ْق ِر ُ‬
‫اآلية القرآنية (دليل على أن الش مس هي ال تي تتح رك‪ ،‬وهي ال تي بتحركه ا يك ون‬
‫الطلوع والغروب خالفا ً لما يقوله الناس اليوم من أن الذي يدور ه و األرض‪ ،‬وأم ا‬
‫الش مس فهي ثابت ة‪ ..‬فنحن ل دينا ش يء من كالم هللا‪ ،‬ال واجب علين ا أن نجري ه على‬
‫ظاهره‪ ،‬وأال نتزحزح عن هذا الظاهر إاَّل بدليل بَيِّن‪ ،‬فإذا ثبت ل دينا بال دليل الق اطع‬
‫أن اختالف الليل والنهار بس بب دوران األرض فحينئ ذ يجب أن ن ؤول اآلي ات إلى‬
‫المع نى المط ابق للواق ع‪ ،‬فنق ول‪ :‬إذا طلعت في رأي العين وإذا غ ربت في رأي‬

‫‪ )(1‬مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة (‪.)209 /1‬‬

‫‪16‬‬
‫العين‪ ،‬تزاور في رأي العين‪ ،‬تقرض في رأي العين‪ ،‬أم ا قب ل أن يت بين لن ا بال دليل‬
‫القاطع أن الشمس ثابتة واألرض هي التي تدور وب دورانها يختل ف اللي ل والنه ار)‬
‫(‪)1‬‬
‫تعجبت من ليه ألعناق النص وص‪ ..‬وأردت أن أق ول ب أن الق رآن الك ريم ل ه‬
‫أسلوبان في الحديث عن هذه المسائل‪ :‬مطلق‪ ..‬وهو ذكر الحقيقة كما هي في الواق ع‬
‫ق‬‫كما قال تعالى‪ ،‬وهو يصور الش مس في مس يرها‪ ،‬وكأنن ا نراه ا‪َ ( :‬وهُ َو الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ك يَ ْس بَحُونَ ) [األنبي اء‪ ،]33 :‬وق ال‪( :‬اَل‬ ‫س َو ْالقَ َم َر ُك ٌّل فِي فَلَ ٍ‬ ‫الش ْم َ‬‫اللَّي َْل َوالنَّهَ ا َر َو َّ‬
‫ك يَ ْس بَحُونَ )‬ ‫ار َو ُك لٌّ فِي فَلَ ٍ‬ ‫ق النَّهَ ِ‬ ‫ك ْالقَ َم َر َواَل اللَّ ْي ُل َس ابِ ُ‬ ‫ال َّش ْمسُ يَ ْنبَ ِغي لَهَا أَ ْن تُ ْد ِر َ‬
‫س َو ْالقَ َم َر ُكلٌّ يَجْ ِري أِل َ َج ٍل ُم َس ّمًى أَاَل هُ َو ْال َع ِزي ُز‬ ‫(و َس َّخ َر ال َّش ْم َ‬‫[يس‪ ،]40 :‬وقال‪َ :‬‬
‫ْال َغفَّارُ) [الزمر‪]5 :‬‬
‫واألسلوب الثاني‪ :‬نسبي يمثل ما نراه بأعيننا‪ ..‬مثل الجب ال‪ ،‬نراه ا ثابت ة م ع‬
‫العلم أنها تتحرك بمعدل عش رات المليم ترات في الس نة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ( :‬وتَ َرى‬
‫ص ْن َع هَّللا ِ الَّ ِذي أَ ْتقَنَ ُك َّل َش ْي ٍء إِنَّهُ خَ بِ ي ٌر‬‫ب ُ‬ ‫ال تَحْ َسبُهَا َجا ِم َدةً َو ِه َي تَ ُمرُّ َم َّر الس ََّحا ِ‬ ‫ْال ِجبَ َ‬
‫بِ َما تَ ْف َعلُونَ ) [النمل‪]88 :‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن هللا تعالى أخبرنا في تل ك اآلي ات الكريم ة عن رؤيته ا للش مس‪..‬‬
‫ت‬ ‫س إِ َذا طَلَ َع ْ‬ ‫﴿وتَ َرى َّ‬
‫الش ْم َ‬ ‫وليس عن الحقيقة المطلقة‪ ..‬ولهذا عبر عن ذل ك بقول ه‪َ :‬‬
‫ال ﴾ [الكهف‪]17 :‬‬ ‫ضهُ ْم َذاتَ ال ِّش َم ِ‬ ‫ت تَ ْق ِر ُ‬ ‫تَزَا َو ُر ع َْن َك ْهفِ ِه ْم َذاتَ ْاليَ ِم ِ‬
‫ين َوإِ َذا غ ََربَ ْ‬
‫لكن لم يكن ليسمعني أحد‪ ..‬فقد كانت العي ون واألبص ار كله ا متوجه ة إلي ه‪،‬‬
‫متيمة به‪.‬‬
‫سكت العبقري قليال‪ ،‬ثم شرب قليال من عصير الغريب الذي كان بجانب ه‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬بعد أن اقنعتكم بالدليل األول‪ ..‬هاكم الدليل الثاني‪ ..‬لقد أخبرنا هللا عز وجل بأنه‬
‫ثبت األرض بالجبال‪ ،‬وأنها رواسى‪ ،‬وأنها أوت اد لألرض‪ ..‬فه ل يعق ل أن يثبت هللا‬
‫األرض بالجبال ثم تتحرك بعد ذلك؟‬
‫كبر الحضور من المسلمين‪ ..‬وبهت الحضور من غيرهم‪..‬‬
‫طأطأ العبقري رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬من باب األمانة العلمية‪ ..‬فإني أريد أن أذك ر لكم‬
‫بأني استفدت هذا الدليل من كتاب سماحة الوالد الش يخ العالم ة ابن ب از المعن ون بـ‬
‫(األدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وس كون األرض وإمك ان الص عود إلى‬
‫الكواكب(‪ ،‬والذي طبعته الجامعة االسالمية بالمدين ة المن ورة س نة ‪ 1395‬هجري ة‪،‬‬
‫فق د ورد في (ص‪ )23‬من ه‪( :‬و كم ا أن ه ذا الق ول الباط ل ‪ -‬يقص د ثب وت الش مس‬
‫ودوران األرض‪ -‬مخ الف للنص وص فه و مخ الف للمش اهد المحس وس ومك ابرة‬
‫للمعقول والواقع لم يزل الناس المسلمهم وكافرهم يش اهدون الش مس جاري ة طالع ة‬
‫وغاربة ويشاهدون األرض قارة ثابتة‪ ،‬ويشاهدون ك ل بل د وك ل جب ل في جهت ه لم‬
‫يتغير من ذلك شيء‪ ،‬ولو كانت الشمس تدور كما يزعمون لك انت البل دان والجب ال‬

‫‪ )(1‬محمد بن صالح بن محمد العثيمين‪ ،‬تفسير سورة الكهف (ص‪)32 :‬‬

‫‪17‬‬
‫واألش جار واألنه ار والبح ار ال ق رار له ا‪ ،‬ولش اهد الن اس البل دان المغربي ة في‬
‫المشرق‪ ،‬والمشرقية في المغرب‪ ،‬ولتغيرت القبلة على الناس حتى ال يق ّر لها قرار)‬
‫وق ال في (ص‪ ) 24‬من ه‪( :‬ثم ه ذا الق ول مخ الف للواق ع المحس وس فالن اس‬
‫يشاهدون الجبال في محلها لم تسيّر فهذا جبل النور في مكة في محله وهذا جبل أبي‬
‫قبيس في محله وهذا أُحــد في المدينة في محلّه وهكذا جبال الدنيا كلها لم تسيّر وكل‬
‫من تصور هذا القول يعرف بطالن ه وفس اد ق ول ص احبه وأن ه بعي د عن اس تعمال‬
‫عقله وفكره قد أعطى القياد لغيره كبهيمة األنع ام فنع وذ باهلل من الق ول علي ه بغ ير‬
‫علم ونعوذ باهلل من التقليد األعمى ال ذي ي ردي من اعتنق ه وينقل ه من م يزة العقالء‬
‫إلى خلق البهيمة العجماء)‬
‫شرب العبقري جرعات من العصير الغريب‪ ،‬ثم راح يق ول‪ ،‬وه و يف تر عن‬
‫ثغره بابتسامة عريضة‪ :‬الشك أنكم تنتظرون بشغف الدليل الث الث‪ ..‬رك زوا جي دا‪..‬‬
‫لقد أشار إلي ه هللا ع ز وج ل في اعتب اره األرض موض وعة‪ ..‬لق د ق ال ي ذكر ذل ك‪:‬‬
‫ض َعهَا لِأْل َن َِام﴾ [الرحمن‪ ..]10 :‬هل يعقل أن يتحرك الشئ الموض وع!؟‬ ‫ض َو َ‬ ‫﴿ َواأْل َرْ َ‬
‫وهل يمكن ألحد أن يضع شيئا‪ ،‬ثم يأتى بعد ذلك ليجده قد تحرك بمفرده!؟‬
‫تأم ل في وج وه الحاض رين‪ ..‬فوج د الوج وم ظ اهرا عليه ا‪ ،‬وكأنه ا لم تفهم‬
‫مراده‪ ،‬فقال‪ :‬ال بأس‪ ..‬سأوضح لكم أكثر‪ ..‬الوضع له معنيان‪ :‬أحدهما أنه جعلها فى‬
‫﴿وال َّس َما َء َرفَ َعهَ ا﴾ [ال رحمن‪:‬‬ ‫األسفل‪ ..‬ألن الوضع يعنى السفول‪ ،‬وجاءت فى مقابلة َ‬
‫‪ ..]7‬والثانى‪:‬الثبات ألن كلمة الوضع دليل على أن الواضع يضع فى مكان معين ال‬
‫تنفك األرض عن الحركة بعيداً عنها‪.‬‬
‫شرب من العصير الغريب قليال‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن فهمتهم الدليل الثالث‪ ..‬فسيمكنكم‬
‫بسهولة أن تفهموا الدليل الرابع‪ ..‬لقد أشار إليه هللا س بحانه وتع الى في قول ه ﴿إِ َّن هَّللا َ‬
‫ض أَ ْن تَ ُزواَل َولَئِ ْن زَ الَتَ ا إِ ْن أَ ْم َس َكهُ َما ِم ْن أَ َح ٍد ِم ْن بَ ْع ِد ِه إِنَّهُ‬
‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫يُ ْم ِس ُ‬
‫ك ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫َكانَ َحلِي ًما َغفُورًا﴾ [فاطر‪ ..]41 :‬هل يعق ل أن يتح رك الممس وك‪ ،‬خاص ة إذا ك ان‬
‫الماسك هو هللا عز وجل‪.‬‬
‫شرب من العصير الغريب قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬الش ك أنكم ق رأتم الق رآن من أول ه‬
‫إلى آخره‪ ..‬تدبروا جيدا‪ ..‬لقد ذكرت األرض ‪ 460‬مره فى القرآن الكريم‪ ،‬ومع ذلك‬
‫لم يأت معها أى فعل يدل على حركة األرض‪ ..‬هل تعلمون لماذا‪ ..‬الجواب ببس اطة‬
‫هو‪ :‬أن السماء واألرض هما الثابتان الوحيدان فى هذا الكون‪ ،‬وكل شئ م ا دونهم ا‬
‫يتحرك‪.‬‬
‫سأضرب لكم مثاال يبسط لكم هذا‪ ..‬انظروا جي دا‪ ..‬إن هللا س بحانه وتع الى لم‬
‫ي ذكر فى الق رآن الك ريم أن الس ماء واألرض تس جدان‪ ..‬م ع أن هللا ذك ر أن م ابين‬
‫السماء واألرض من مخلوقات تسجد‪ ..‬والش جر وال دواب وكث ير من الن اس وكث ير‬
‫حق عليه العذاب‪ ..‬هل تعلمون لماذا!؟‪ ..‬الجواب بسيط‪ ،‬وهو أن السجود يحت اج إلى‬
‫حركة باالنتقال من وضع ما إلى وضع آخر حسب كيفية كل مخلوق فى سجوده‪..‬‬
‫ت َو َم ْن فِي‬ ‫اسمعوا جيدا قوله تعالى‪﴿ :‬أَلَ ْم ت ََر أَ َّن هَّللا َ يَ ْس ُج ُد لَ هُ َم ْن فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬

‫‪18‬‬
‫الش ْمسُ َو ْالقَ َم ُر َوالنُّ ُج و ُم َو ْال ِجبَ ا ُل َو َّ‬
‫الش َج ُر َوال َّد َوابُّ َو َكثِ ي ٌر ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس‬ ‫ض َو َّ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْال َع َذابُ ﴾ [الحج‪ ]18 :‬ركزوا جيدا‪ ..‬اآلي ة الكريم ة ت ذكر أن م ا فى‬ ‫َو َكثِي ٌر َح َّ‬
‫السماوات وما فى األرض يسجد‪ ،‬وليست السماء واألرض نفسها‪ ..‬فى حين أن ك ل‬
‫شئ يسجد ما ع دا الس ماء واألرض‪ ..‬وكم ا قلن ا ف إن هللا ق در على الس ماء واألض‬
‫الثبات مع أن هللا ذكر أن الس ماء واألض تس بحان م ع بقي ة المخلوق ات‪ ،‬وذل ك ألن‬
‫التسبيح ال يحتاج الى حركه‪.‬‬
‫شرب من العصير الغريب قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬ال دليل الس ادس نص علي ه ح ديث‬
‫ورد فيه أن (ال بيت المعم ور في الس ماء يق ال ل ه الض راح‪ ،‬وه و على مث ل ال بيت‬
‫الحرام بحياله‪ ،‬لو سقط لسقط عليه‪ ،‬يدخله ك ل ي وم س بعون أل ف مل ك‪ ،‬ثم اليرون ه‬
‫قط‪ ،‬وإن له في السماء حرمة على قدر حرمة مكة)‬
‫تأملوا جيدا في ه ذا الح ديث‪ ..‬ه و ينص على أن في األرض توج د الكعب ة‪..‬‬
‫وفي الح ديث ذك ر الرس ول ‪ ‬أن ال بيت المعم ور ف وق الكعب ة مباش رة‪ ،‬وأن ل ه‬
‫منطق ة محرم ة في الس ماء بق در المنطق ة المحرم ة على األرض‪ ،‬فوقه ا مباش رة‪،‬‬
‫وحدد النبي ‪ ‬كالم ه بقول ه‪ (:‬ل و س قط لس قط علي ه)‪ ،‬ولم يق ل الرس ول ‪ ‬ف وق‬
‫الكعبة دون تحديد وتثبيت مك ان وج ود ال بيت المعم ور وجع ل ل ه منطق ة محرم ة‬
‫بالسماء فوق المنطقة المحرمة ال تي ب األرض‪ ،‬ومن المع روف أن ثب ات الس ماء لم‬
‫يختلف عليه أحد‪ ،‬فلو كانت األرض تدور والسماء ثابتة لتغير موضع البيت الحرام‬
‫عن حيال البيت المعمور‪ ،‬فلو سقط لم يسقط عليه‪ ،‬وهذا واضح‪.‬‬
‫شرب من العص ير الغ ريب قليال‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬ال دليل الس ابع من إب داعي‪ ..‬وق د‬
‫أحضرت ه ذه الك رة لش رحه‪ ..‬ال تس تغربوا فح تى نحن المس لمين عن دنا نظري ات‬
‫وعقول‪..‬‬
‫أشار إلى موضع في الخارطة‪ ،‬وقال‪( :‬لو خرجنا مثال من مطار الشارقة في‬
‫رحلة دولي ة إلى الص ين‪ ..‬ول و وقفت الط ائرة في الس ماء‪ ،‬ف إن الص ين‪ ،‬إذا ك انت‬
‫األرض ت دور‪ ،‬ت أتي إلى الط ائرة‪ ..‬أم ا ل و ك انت األرض هي ال تي ت دور لم ا‬
‫استطاعت الطائرة أن تلحق بالصين‪ ،‬ألن الصين تدور وأنت تدور)(‪)1‬‬
‫وبقي يكرر هذا‪ ،‬ويأتي باألمثلة الكثيرة عنه‪ ..‬وقد كانت الكاميرات تلتقط ك ل‬
‫نفس من أنفاسه‪ ،‬وتحفظ كل كلمة يقولها خاصة إذا ارتبطت بالقرآن الكريم‪.‬‬
‫بعد أن انتهى سألت رجال كان بج واري‪ ..‬ك ان يب دو علي ه اإلعج اب الش ديد‬
‫بالعبقري‪ ،‬قلت له‪ :‬هل أنت مقتنع بما ذكر من األدلة؟‬
‫نظر إلي متعجبا‪ ،‬وقال‪ :‬وأنت؟‬
‫قال التلميذ‪ :‬لست أدري‪ ..‬ولكني أرى أن ما ذكره من أدل ة ال يكفي لتفني د م ا‬
‫يذكره العلم في هذا الباب‪.‬‬

‫‪ )(1‬هذا نص كالمه كما في اليوتيوب على هذا الرابط‪:‬‬


‫(‪).https://www.youtube.com/watch?v=jmJI__Al3Aw‬‬

‫‪19‬‬
‫أخ ذ بتالبي بي بش دة‪ ،‬وق ال‪ :‬ويل ك‪ ..‬أتري د أن تنك ر معلوم ا من ال دين‬
‫بالضرورة‪ ..‬لقد نقل العالمة ابن باز اإلجماع على ثب وت األرض‪ ،‬فق ال‪( :‬أجمعت‬
‫آراء السلف من أمثال شيخ اإلس الم ابن تيمي ة وابن كث ير وابن القيم ال ذين أجمع وا‬
‫على ثبوت األرض)‪ ..‬ولهذا فإن القول بأن الشمس ثابتة وأن األرض دائرة هو قو ٌل‬
‫شني ٌع ومنكر‪ ..‬ومن ق ال ب دوران األرض وع دم جري ان الش مس فق د كف ر وض ل‪..‬‬
‫ويجب أن يس تتاب ف إن ت اب وإال قت ل ك افراً مرت داً‪ ،‬ويك ون مال ه فيئ ا ً ل بيت م ال‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫أصابني الرعب من قوله هذا‪ ،‬فقلت بلسان مرتج ف‪ :‬م ا ب ك ي ا رج ل‪ ..‬كنت‬
‫أمزح فقط‪ ..‬وإال فأي عاقل في الدنيا يصدق أن األرض تدور؟‬
‫أطل ق ي ده ع ني‪ ،‬ثم دفع ني‪ ،‬وق ال‪ :‬ال ب أس‪ ..‬ولكن ال تكرره ا‪ ..‬فال يج وز‬
‫المزاح في أمور الدين‪.‬‬
‫عندما ذهبت إلى البيت فوجئت ب القنوات الكث يرة‪ ،‬وهي تع رض في نش رات‬
‫أخبارها خبر العبق ري الغ بي‪ ،‬بع د أن نش رت أخب ار اإلره اب والتف رق والتم زق‬
‫والتخلف في بالد المسلمين‪ ..‬لتقول للعالم‪ :‬هذا هو اإلسالم‪.‬‬
‫وقد زاد من ألمي وغثائي أنها قامت بالبحث عن العصير الغريب ال ذي ك ان‬
‫يش ربه ك ل حين‪ ..‬وال ذي ال أس تطيع أن أس ميه لكم ح تى ال يص يبكم الغث اء ال ذي‬
‫أصابني‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫اللحى الطويلة‪ ..‬والعقول‬
‫لس ت أدري لم أنف ر من اللحى الطويل ة‪ ،‬فال أذك ر أني رأيت في ص باي من‬
‫آب ائي وأج دادي من ك ان ص احب لحي ة طويل ة‪ ..‬ك ان الك ل يقص رون لح اهم‪ ،‬أو‬
‫يحلقونها تماما‪ ..‬ولهذا ال تنطبق علي آراء فرويد في عقدة الصبا‪.‬‬
‫ولكني بعد أن شببت عن الط وق‪ ..‬وب دأت ‪ -‬وخصوص ا في الجامع ة ‪ -‬أرى‬
‫أصحاب اللحى الطويلة‪ ،‬بدأ يص يني ه ذا الن وع من الره اب‪ ..‬وزاد الره اب أك ثر‬
‫عندما بدأت تظه ر على شاش ات القن وات العالمي ة لحي ة أس امة بن الدن الطويل ة‪..‬‬
‫ولحى كثيرة جرعتنا في بالدنا كل أصناف المرارة‪.‬‬
‫وقد كنت أعاتب نفسي كثيرا على هذا الره اب خش ية أن أب وح ب ه ألح د من‬
‫الن اس‪ ،‬فيتهم ني ب الكفر والزندق ة‪ ،‬ألن اللحي ة لم تع د مج رد ش عرات تنبت على‬
‫الوجه‪ ،‬وإنما صارت أصال من أصول الدين‪ ،‬وأساسا من أسس ه ال تي يق وم عليه ا‪،‬‬
‫بل يقوم الجرح والتعديل على أساسها‪ ..‬بل تقوم المعامالت المختلفة بين الناس على‬
‫اعتباره ا‪ ..‬فمن ك ان ص احب لحي ة‪ ،‬وخصوص ا الطويل ة‪ ،‬وث ق في ه الن اس‪ ،‬ولم‬
‫يحتاجوا ألي رهن أو سندات‪.‬‬
‫لكني بعد أن قرأت ما ق ال المح دثون في أص حاب اللحى الطويل ة زال ع ني‬
‫الحرج‪ ،‬وصرت أصرح بذلك‪ ،‬وال أبالي به‪ ،‬فقد ق رأت عن بعض المح دثين قول ه‪:‬‬
‫(من طرائف جرح الرواة‪ ،‬الجرح ألجل طول اللحية !!‪ ،‬وقد تتبعتها فوج دتها قيلت‬
‫في أكثر من را ٍو للحديث)‪ ،‬ثم ذكر أمثلة على ذل ك‪ ،‬ال ب أس أن أس وقها هن ا‪ ،‬لعله ا‬
‫تدعو إلى إجراء دراسات ميدانية أو بيولوجية أو طبية لقياس عالقة اللحية الطويل ة‬
‫بالمخ أو بالمخيخ أو بالمراكز العصبية أو مراكز الذكاء والفطنة‪.‬‬
‫فقد نقل عن سؤاالت اآلجري لالمام ابي داود قوله‪ ( :‬وسئل أبو داود عن أبي‬
‫إسرائيل المالئي فقال ذكر عند حسين الجعفي فقال‪ :‬كان طويل اللحية أحمق)‬
‫ونقل عن العجلي قوله‪ ( :‬قال سعيد بن منصور قلت البن إدريس رأيت س الم‬
‫بن أبي حفص ة ؟‪ ،‬ق ال‪( :‬نعم رأيت ه طوي ل اللحي ة أحمقه ا)‪ ،‬وق ال حس ين الجعفي‪:‬‬
‫(كان طويل اللحية أحمقها )‪.‬‬
‫ونقل عن ثقات ابن حبان في ترجمة موسى بن الس ندي‪ ( :‬س معت أب ا حنيف ة‬
‫يقول يقولون‪( :‬من كان طويل اللحية لم يكن له عق ل)‪ ،‬ولق د رأيت علقم ة بن مرث د‬
‫طويل اللحية وافر العقل )‬
‫ً‬
‫ونق ل عن ش فاء العلي ل ألبي الحس ن الم أربي توض يحا ل ذلك‪ ،‬حيث ق ال‪:‬‬
‫( الوصف بطول اللحية يدل على الغفل ة ال تي ت ؤدي إلى رف ع الموقوف ات‪ ،‬وإس ناد‬
‫المرسالت‪ ،‬فهذا هو األصل‪ ،‬وال يترك إال لقرينة أقوى من ذلك‪).‬‬
‫ونق ل عن الخطيب البغ دادي في ت اريخ بغ داد قول ه في ترجم ة أبي عب د هللا‬
‫العوفي‪ ،‬وكان طويل اللحية جدا‪ ،‬وقد مدحها بعضهم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪21‬‬
‫م ا اختفى من حس ن‬ ‫لحي ة الع وفي أب دت‬
‫عري‬ ‫ش‬
‫ل ذوي متج ر بح ري‬ ‫هي ل و ك انت ش راعا‬
‫إلين ا نص ف ش هر‬ ‫جعل السير من الص ين‬
‫در‬ ‫لق‬ ‫دت ك‬ ‫تع‬ ‫ول وفي‬ ‫هي في الط‬
‫رض‬ ‫الع‬
‫ومن أخباره وأخبار لحيته م ا ح دث ب ه ابن أبي داود ق ال‪ :‬ق امت ام رأة إلى‬
‫العوفي فقالت‪ :‬عظمت لحيتك فافسدت عقلك وما رأيت ميتا يحكم بين األحياء قبلك‪،‬‬
‫قال‪ :‬فتريدين ماذا ؟‪ ،‬قالت‪ :‬وتدعك لحيتك تفهم ع ني ؟‪ ،‬فق ال بلحيت ه هك ذا ثم ق ال‪:‬‬
‫تكلمي يرحمك هللا‪.!!.‬‬
‫ومنها ما حدث به الساجي بالبصرة‪ ،‬قال‪ :‬اشترى رجل من أصحاب القاضي‬
‫العوفي جارية فغاضبته ولم تطع ه‪ ،‬فش كا ذل ك إلى الع وفي فق ال‪ :‬أنف ذها إلي ح تى‬
‫أكلمها فأنفذها إليه‪ ،‬فقال لها‪ :‬يا عزوب ي ا لع وب ي ا ذات الجالبيب‪ ،‬م ا ه ذا التمن ع‬
‫المجانب للخيرات‪ ،‬واالختيار لألخالق المشنوءات‪ ،‬فقالت له‪ :‬أيد هللا القاض ي‪ :‬ليس‬
‫لي فيه حاجة فمره يبيعني‪ ،‬فقال لها‪ :‬يا مني ة ك ل حليم‪ ،‬وبح اث عن اللط ائف عليم‪،‬‬
‫أم ا علمت أن ف رط االعتياص ات من الموموق ات على ط البي الم ودات والب اذلين‬
‫لك رائم المص ونات مؤدي ات إلى ع دم المفهوم ات؟ فق الت الجاري ة‪ :‬ليس في ال دنيا‬
‫أصلح لهذه العثنونات على صدور أهل الركاكات من المواسي الحالقات‪ ،‬وضحكت‬
‫وضحك أهل المجلس‪ .‬وكان العوفي عظيم اللحية‪.‬‬
‫كانت هذه بعض أخبار لحى سلفنا الصالح‪ ..‬أما أخبار خلفنا الفالح‪ ،‬فهي أكثر‬
‫من أن تعد أو تحصى‪ ..‬وسأحكي لكم قصة قد تدخل ضمن ما ذكره الي افعي وغ يره‬
‫عن اللحى الطويلة‪ ،‬وأدع و الق راء الك رام لتس جيل مالحظ اتهم وحكاي اتهم في ه ذا‬
‫عسى أن نخرج موسوعة عن اللحى والعقول‪.‬‬
‫في ذل ك الي وم دخلت إلى مح ل المالبس ألش ترى بعض الل وازم ألهلي في‬
‫رمضان‪ ،‬فوج دت ص احب المح ل‪ ،‬وك ان ص احب لحي ة طويل ة ال تق ل عن لحي ة‬
‫الع وفي‪ ،‬وق د رأيت الكث ير من الزب ائن يحلق ون إلى شاش ة التلف از الكب يرة ال تي‬
‫وضعت في مقدمة المحل‪ ،‬ليراه ا ك ل من ي دخل‪ ،‬وق د ع دت وخ رجت من المح ل‬
‫ألتأكد أني دخلت محل ثياب ال إلى دار سينما‪ ..‬لكن تأكدت من ذلك‪ ،‬فك ل ش يء م ا‬
‫عدا تلك الشاشة يدل على أنه محل ثياب‪.‬‬
‫سألت صاحب المحل عن سر الشاشة الكبيرة‪ ،‬فقال‪ :‬أنا ميس ور الح ال بحم د‬
‫هللا‪ ،‬فلدي هذا المحل‪ ،‬ولدي غيره كثير‪ ..‬وقد جعلت بيني وبين هللا أن أجعله وس يلة‬
‫للدعوة إلى هللا‪ ..‬فقد وضعت في كل محل شاشة كهذه الشاشة‪ ،‬عس ى أن يس مع ك ل‬
‫داخل إليه ما قد يفيده ويوجه ه‪ ،‬فأكس ب ث واب قول ه ‪( :‬ألن يه دي هللا ب ك رجال‬

‫‪22‬‬
‫النعم)(‪)1‬‬ ‫واحدا خير لك من حمر‬
‫قلت‪ :‬فلتش ركني مع ك في األج ر‪ ..‬فل دي بعض األش رطة العلمي ة اإليماني ة‬
‫المفي دة لل دكتور مص طفى محم ود‪ ..‬ق د ك ان له ا دور كب ير في التوجي ه والتربي ة‬
‫وتعميق الحقائق اإليمانية‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال أحتاجها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‪ ..‬أتنكر على الرجل شيئا؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬قد كانت تعجب ني كث يرا‪ ..‬ولكن المش كلة فيه ا أن مص طفى محم ود‬
‫حليق اللحية‪ ..‬ومظهره ال يمثل الداعي ة المس لم‪ ..‬ح تى أن ك ال تف رق بين ه وبين أي‬
‫شخص آخر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا الحد تحتل اللحية كل هذه القيمة عندك؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬هي سنة رسول هللا ‪ ..‬وهي س مة اإلنس ان المس لم ال تي تفرق ه‬
‫عن اليهود والنصارى والشيوعيين والمالحدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال بأس‪ ..‬فلدي أشرطة أخ رى للش يخ محم د مت ولى الش عراوي‪ ..‬وأنت‬
‫تعرف فضله وما رزقه هللا من فهوم جليلة للقرآن الكريم‪ ..‬وهو ف وق ذل ك ص احب‬
‫لحية محترمة مهذبة‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أج ل‪ ..‬وأن ا أحترم ه كث يرا‪ ..‬ولكن مش كلته هي في لحيت ه المحترم ة‬
‫المهذبة‪ ..‬أصدقك القول‪ ..‬لو أن لحيته كانت أطول قليال لكان ه و المفض ل عن دي‪..‬‬
‫ولكنت وضعت دروسه في جميع محالتي‪ ..‬ولكن المشكلة أن الشيخ الشعراوي كان‬
‫يقصر لحيته كثيرا‪ ..‬وأنت تعرف أن العالمة التويجري وإخوانه كث ير ق د كتب وا في‬
‫تحريم ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال بأس‪ ..‬فلنستمع اليوم إلى أصحاب اللحى الطويلة‪ ..‬لعلن ا نج د عن دهم‬
‫ما ال نجده عند المردان أو المحلقين أو المقصرين‪.‬‬
‫استبشر صاحبي لقولي هذا‪ ،‬وقال‪ :‬وأخيرا أراك تنزل عند رأيي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال مندوحة لي من ذلك‪ ..‬ولكن البد أن تجلس معي أنت أيضا لنسمع م ا‬
‫يردده أصحاب اللحى الطويلة الذين نسخوا من عداهم‪.‬‬
‫راح ص احبي يبحث في خزانت ه عن الشخص ية ال تي يتناس ب مظهره ا م ع‬
‫الدعوة إلى هللا‪ ،‬فوجد شيخا معروفا‪ ،‬بل هو أشهر من نار على علم‪ ..‬ك ان ص احب‬
‫لسان فصيح‪ ..‬وقامة فارعة‪ ..‬ولحية كثة‪ ..‬ولكني لم أر عقله‪ ..‬ولهذا لست أدري هل‬
‫كان بطوله وطول لحيته‪ ،‬أم كان أقصر من ذلك‪ ..‬لكني بعد أن سمعته عرفت معنى‬
‫قول الشاعر‪:‬‬
‫ف زادت اللحي ة في‬ ‫ما أحد طالت له لحية‬
‫هيئته‬
‫أك ثر مم ا زاد في‬ ‫إال وم ا ينقص من‬
‫لحيته‬ ‫ه‬ ‫عقل‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وضع الشريط(‪ ..)1‬وبدأ الشيخ يخاطبني‪ ،‬ويخاطب ص احب المح ل‪ ،‬وبعض‬
‫الزبائن الذين أعجبهم سمت الشيخ‪ ..‬لكن المصيبة أن المعلومة ال تي اجته د بك ل م ا‬
‫أوتي من ق وة أن يوص لها لهم‪ ،‬ويس تميت في ال دفاع عنه ا هي ملخص ة في رواي ة‬
‫مكذوبة مفادها أن (خديجة أرسلت إلى النبي ‪ ‬تدعوه إلى نفس ها‪ ،‬تع ني ال تزويج‪،‬‬
‫وكانت امرأة ذات شرف‪ ،‬وكان كل قريش حريصا على نكاحها قد بذلوا األموال لو‬
‫طمعوا بذلك‪ ..‬فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل‪ ،‬ونح رت بق رة‪ ،‬وخلقت ه بخل وق‪،‬‬
‫وألبسته حلة حبرة‪ ،‬ثم أرسلت إلى رسول هللا ‪ ‬في عمومته فدخلوا عليه‪ ،‬فزوجه‪،‬‬
‫فلما صحا قال‪ :‬ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا الحبير؟ قالت‪ :‬زوجتني محم د‬
‫بن عبد هللا قال‪ :‬ما فعلت أنى أفعل هذا‪ ،‬وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل)(‪)2‬‬
‫ما إن انتتهى من حديثه هذا حتى قام أحد الزب ائن ممن ك ان مش غوال بس ماع‬
‫الخطيب غاضبا‪ ،‬وقال‪ :‬أسكت عنا هذا األحمق‪ ..‬فلو اجتمع جميع أعداء رس ول هللا‬
‫‪ ‬في تشويهه وتشويه أم المؤمنين خديجة ما بلغوا ما بلغ‪.‬‬
‫وقامت امرأة‪ ،‬وقالت‪ :‬أهذه هي خديجة التي يحدثوننا عنها‪ ..‬كيف تجرؤ على‬
‫فعل هذا؟‬
‫قال آخر‪ :‬وكيف يرضى رسول هللا ‪ ‬أن يتزوج بهذه الطريقة؟‬
‫ثارت فوضى في المحل‪ ..‬فأسرع صاحب المحل إلى الشريط يوقفه‪ ،‬ويحاول‬
‫أن يستلطف الزبائن‪ ..‬ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬ال تتسرع بالحكم من خالل مشهد واحد‪..‬‬
‫سأضع شريطا آخر لشخص آخر‪ ..‬ألطف نبرة‪ ،‬وأطول لحي ة‪ ..‬وسينس خ عن ك تل ك‬
‫الصورة المشوهة التي تحملها‪.‬‬
‫وضع ش ريطا آخ ر لش يخ آخ ر ال يق ل ش هرة‪ ..‬ك ان يتح دث عن الم رأة في‬
‫اإلسالم‪ ،‬وما إن تحدث بعض الفقرات العاقل ة ح تى أص ابته لوث ة اللحي ة الطويل ة‪،‬‬
‫فقال – ولست أدري هل كان يشعر بما يقول أم ال‪( :-‬أيها اإلخوة الكرام! إن صالح‬
‫البني ان االجتم اعي ال يك ون إال بإع ادة النظ ر في أم ر الم رأة‪ ،‬والب د لك ل دع وة‬
‫إص الحية من ش هداء‪ ،‬أفال تك ون ش هيداً‪ ،‬أفال تك ون طليع ة من طالئ ع الفتح‪ ،‬إنن ا‬
‫نحتاج إلى مراجعة أنفسنا فيما يتعلق بالنساء‪ ،‬إعادة النساء إلى البيوت مرة أخ رى‪،‬‬
‫نعلمهن كت اب هللا تب ارك وتع الى‪ ،‬وس نة الن بي ص لى هللا علي ه وس لم وكفى بهم ا‪،‬‬
‫ف البنت ال تحت اج أن تتعلم اإلنجل يزي وال الفرنس ي‪ ،‬وال جغرافي ا‪ ،‬وال ت اريخ‪ ،‬وال‬
‫تربية قومية‪ ،‬وال حساب مثلثات‪ ،‬وال كيمي اء‪ ،‬البنت ال تحت اج إلى ه ذا كل ه‪ ،‬ال في‬
‫الدنيا وال في اآلخرة‪ ،‬نحن نحتاج إلى زوجات صالحات‪ ،‬األمهات يعلِّمن البنات كل‬
‫شيء؛ ألنهن سيكن زوجات بع د ذل ك‪ ،‬كث ير من البن ات يتع ثرن في بداي ة حي اتهن‬

‫‪ )(1‬يمكن االستماع لهذا الشريط عبر هذا الرابط‪:‬‬


‫(‪)https://www.youtube.com/watch?v=SqncXG91Rdw‬‬
‫‪ )(2‬انظر الفيديو على الرابط التالي‪:‬‬
‫‪https://www.youtube.com/watch?v=H6CmgjtTQe4.‬‬

‫‪24‬‬
‫الزوجية‪ ،‬لماذا؟ ألن األم لم تعلمها كيف تطبخ‪ ،‬وال كيف ت رعى ال زوج‪ ،‬لم تعلمه ا‬
‫الكياسة‪ ،‬وال الفطنة‪ ،‬وال الذكاء‪ ،‬تدخل على زوجه ا ومعه ا س الح‪ ،‬ول و أن الم رأة‬
‫معها شهادة علي ا (ماجس تير) أو (ليس انس)‪ ،‬وتق دم رج ل مع ه دبل وم‪ ،‬وه و رج ل‬
‫صالح‪ ،‬ورجل فاضل‪ ،‬يقولون‪ :‬ال‪ .‬لم اذا؟ ألن هن اك تف اوت في الكف اءة‪ ،‬أي كف اءة‬
‫هذه؟)(‪)1‬‬
‫ثارت فوضى في المحل‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬من هذا المجنون الذي يتحدث؟‬
‫وقالت امرأة‪ :‬ما هذا اإلسالم الذي يتحدثون عنه؟‬
‫لم ييأس صاحب اللحية الطويلة‪ ،‬فوض ع ش ريطا آخ ر لداعي ة آخ ر ص احب‬
‫لحية أقل طوال‪ ،‬فاستبشرت خيرا‪ ،‬لكنه ما إن تحدث قليال حتى أتى بجميع الطام ات‬
‫والموبق ات ف ذكر – مجيب ا على أس ئلة وجهت ل ه‪ -‬ج واز ت رك الرج ل زوجت ه‬
‫للصوص والمجرمين إذا خاف على حياته من القتل‪ ..‬وج واز إغالق الرج ل الب اب‬
‫على زوجت ه وعش يقها إذا ش اهدهما في س ريره‪ ،‬ب دون أن ي رى الفاحش ة كامل ة‪..‬‬
‫وج واز أن يتلص ص أو يتجس س الرج ل على الم رأة وهي تس تحم‪ ،‬إذا أراد‬
‫خطبتها(‪.)2‬‬
‫ما إن وصل إلى هذا الحد من حديثه حتى ح دثت فوض ى كب يرة في المح ل‪،‬‬
‫وخرج الناس جميعا نساؤهم ورجالهم وأطفالهم‪ ..‬ولم أبق إال أنا وه و‪ ،‬ف التفت إلي‪،‬‬
‫وقال‪ :‬خذ ما تشاء من الثياب‪ ،‬أرجو منك فقط أن تقدم لي خدمتين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا طوع أمرك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما األولى فأن تحضر لي ما ذكرت من األشرطة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والثانية؟‬
‫قال‪ :‬أن تحضر لي معك مقصا أهذب به هذه اللحية‪ ..‬فأظن أنها ق د أكلت من‬
‫عقلي ما أكلت من عقولهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬من شريط بعنوان (مؤامرة تحرير المرأة) للشيخ أبي إسحاق الحويني‪ ،‬وهو على الرابط التالي‪:‬‬
‫(‪)http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=92353‬‬
‫‪ )(2‬انظر الفيديو على الرابط التالي‪:‬‬
‫‪.http://elaph.com/Web/News/2014/8/929686.html#sthash.rfMicRJ3.dpuf‬‬

‫‪25‬‬
‫العقيدة الصحيحة‬
‫إن نسيت كل شيء في حياتي‪ ،‬فلن أنسى ذلك اليوم الذي زرت فيه صديقا لي‬
‫في العاصمة‪ ،‬وهناك وعندما حضرت الصالة ذهبنا إلى مسجد ق ريب نص لي في ه‪،‬‬
‫وبعد أن انتهت الصالة نهض اإلمام‪ ،‬وقال‪ :‬سنصلي اآلن على جن ازة رج ل‪ ..‬وإلى‬
‫هنا كان األمر عاديا‪ ..‬لكن رجال آخر ق ام‪ ،‬وق ال‪ :‬ص لوا علي ه جميع ا‪ ،‬فالرج ل ق د‬
‫مات على العقيدة الصحيحة‪.‬‬
‫تعجبت من هذه الكلمة‪ ،‬وسألت ص احبي عن دما خرجن ا عن س ر قول ه ه ذا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬لقد تعودنا على هذا في مسجدنا هذا وغيره‪ ،‬وقد أصبح من الظ واهر المألوف ة‬
‫في العاصمة‪ ،‬والتي ال تثير أي استغراب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهم يقولون هذا عند كل جنازة؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ولو قالوها عند كل جنازة لفقدت معناها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الذي أعلمه أن صالة الجنازة ال تقام إال على المسلمين‪ ،‬ول ذلك ال‬
‫يحت اج اإلم ام وال غ يره لتنبي ه الن اس إلى عقي دة الميت‪ ..‬فم ا دام مس لما‪ ،‬فعقيدت ه‬
‫صحيحة‪.‬‬
‫ضحك صاحبي بصوت ع ال‪ ،‬وق ال‪ :‬ذل ك في معتق داتك أنت أيه ا الب دوي‪..‬‬
‫أنت تجهل التطورات التي وصلنا إليها نحن أهل المدن الكبرى‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أتعد هذا من التطورات؟‬
‫ق ال‪ :‬أج ل‪ ..‬ه ذا من التط ورات الك برى‪ ..‬ف التطور ال يص يب الحي اة ال دنيا‬
‫وحدها‪ ،‬بل هو يصيب أيضا الحياة الدينية‪.‬‬
‫لس ت أدري ه ل ك ان ص احبي يم زح حين ق ال ه ذا‪ ،‬أم ك ان ج ادا‪ ،‬لك ني‬
‫استمررت في سؤاله على كل حال‪ ،‬وقلت‪ :‬ال بأس أسلم لكم ـ معشر الحضر ـ بأنن ا‬
‫ال ن زال ب دوا‪ ،‬وال زلن ا نجه ل التط ورات ال تي ج اء به ا رج ال الت دين الح ديث‪..‬‬
‫فأخبرني عن جدوى قوله‪( :‬إن الرجل عقيدته صحيحه)‬
‫فق ال‪ :‬ه ذا وس ام عظيم وش هادة عظيم ة‪ ..‬س يظل أهل ه وأقارب ه وأص دقاؤه‬
‫يفخرون بها‪ ..‬وسيظل غيرهم يحن إلى أن يشهد له بمثلها‪ ..‬فهي تشهد له أنه سيثبت‬
‫عند السؤال‪ ،‬وسينجو من منكر ونكير‪ ..‬بل ربما يتاح له أن يعاين منزلته من الجن ة‬
‫في ذلك اليوم‪،‬وبعد انصراف الناس مباشرة من الجنازة‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿و َما أ ْد ِري َم ا‬
‫قلت مستغربا‪ :‬ولكن ذلك هلل‪ ،‬وقد قال تعالى عن أشرف خلقه‪َ :‬‬
‫يُ ْف َع ُل بِي َواَل بِ ُك ْم﴾ [األحقاف‪ ،]9 :‬فاآلية الكريم ة تنص على أن رس ول هللا ‪‬ك ان‬
‫يكل علم مصيره إلى هللا تعالى‪ ،‬بل ورد في الحديث الشريف ما يدل على ه ذا‪ ،‬فعن‬
‫أم العالء أنها قالت بعد وفاة عثمان بن مظعون ـ وه و من الص حابة األوائ ل ال ذين‬
‫ثبتوا مع رسول هللا ‪‬في كل المحن التي مر به ا ـ‪( :‬رحم ة هّللا علي ك أب ا الس ائب‬
‫شهادتي عليك‪ ،‬لقد أكرمك هّللا تع الى)‪ ،‬فق ال له ا رس ول هّللا ‪‬مص ححا وموجه ا‪:‬‬

‫‪26‬‬
‫(وما يدريك أن هّللا تعالى أكرمه؟)‪ ،‬ثم قال‪( :‬أما هو فق د ج اءه اليقين من رب ه وأني‬
‫ألرجو له الخير‪ ،‬وهّللا ما أدري وأنا رسول هّللا ما يفع ل بي)‪ ،‬ق الت‪ ،‬فقلت‪( :‬وهّللا ال‬
‫أزكي أحداً بعده أبداً)(‪)1‬‬
‫ابتسم صاحبي‪ ،‬وقال‪ :‬لق د ذك رت ل ك أن ك ال ت زال ب دويا‪..‬فك ل اس تدالالتك‬
‫بدوية‪ ..‬ومفاهيمك أيضا بدوية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما الجديد الذي طرأ‪ ،‬ونسخ تلك النصوص المقدسة؟‬
‫ق ال‪ :‬فه وم الس لف‪ ..‬أال تعلم أن الق رآن والس نة غ ير ك افيين للهداي ة‪ ..‬ب ل‬
‫يحتاجان منا إلى مراجعة السلف لنفهمهما الفهم الصحيح؟‬
‫قلت‪ :‬فما قال السلف في هذا؟‬
‫قال‪ :‬لقد نصوا على أنه يمكن الشهادة لمن صحت عقيدت ه بالجن ة‪ ..‬والش هادة‬
‫لمن سقمت عقيدته بالنار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عجبا‪ ..‬هل تجرأوا على هذا؟‬
‫قال‪ :‬بل اعتبروه من السنة‪ ..‬لقد قال ذلك الذي يلقب بش يخ اإلس الم‪( :‬وك ذلك‬
‫من أجمعت األم ة على الثن اء علي ه‪ ،‬فإنن ا نش هد ل ه بالجن ة‪ ،‬فمثالً‪ :‬األئم ة‪ :‬أحم د‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وس فيان الث وري‪ ،‬وس فيان بن عيين ه‪ ،‬وغ يرهم من‬
‫األئمة رحمهم هللا‪ ،‬أجمعت األمة على الثناء عليهم‪ ،‬فنشهد لهم بأنهم من أهل الجن ة)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقد تبعه على قوله هذا كل المشايخ والعلماء‪ ،‬وأض افوا إلى م ا ذك ره الكث ير‬
‫من أعيان العلماء‪ ،‬فالش يخ ابن ع ثيمين ذك ر أن ه يش هد البن تيمي ة بالجن ة‪ ،‬ويش هد‬
‫ألعدائه بالنار‪ ،‬فقال في [شرح رياض الصالحين]‪( :‬وشيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه‬
‫هللا أجمع الناس على الثناء عليه إال من شذ‪ ،‬والشاذ ش ذ في الن ار‪ ،‬يش هد ل ه بالجن ة‬
‫على هذا الرأي) (‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬أرى أن للقوم من صكوك الغفران ما بزوا به غيرهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وه ل ت رى أن يك ون ألولئ ك الص ليبيين الكف رة ص كوك غف ران‪ ،‬ثم ال‬
‫يكون لنا مثلها معشر األمة المرحومة؟‬
‫قلت‪ :‬ال بأس‪ ..‬سلمت لك بما ذكرت‪ ..‬لكن ما جدوى أن يعلم الناس بذلك‪..‬‬
‫قال‪ :‬هم يقصدون أن يخبروا الناس بذلك لغرضين‪ ..‬أم ا أولهم ا ف أن يص لوا‬
‫عليه جميعا‪..‬‬
‫انتفضت‪ ،‬وقلت‪ :‬وفي حال لم يذكر ذلك‪ ..‬أال يصلون عليه جميعا؟‬
‫قال‪ :‬طبعا‪ ..‬إذا لم يذكر اإلمام ذلك‪ ..‬فلن يصلي علي ه إال العام ة من الن اس‪..‬‬
‫أما أتباع السلف وأعيان الناس وأهل العلم منهم‪ ،‬فيكره لهم الصالة عليه‪ ..‬ألم تس مع‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪)314 /18‬‬
‫‪ )(3‬شرح رياض الصالحين ‪.573 – 570 /4‬‬

‫‪27‬‬
‫بأنه لما أدخلت جنازة محمد بن علوي المالكي الص وفي للح رم في ص الة المغ رب‬
‫لتصلى عليه الجنازة رأى الشيخ السديس زحمة الناس‪ ،‬فسأل عن السبب‪ ،‬فق الو ل ه‪:‬‬
‫هذه جنازة محمد علوي مالكي‪ ..‬فرفض الشيخ الصالة علي ه‪ ..‬وترك وا الجن ازة الى‬
‫صالة العشاء‪ ..‬وقتها كان الشيخ (‪ ) ...‬يصلي بهم العشاء‪ ،‬وكان عنده علم بص احب‬
‫الجنازة‪ ..‬في البداية رفض الص الة علي ه‪ ..‬وبع دها ك ثر اللغ ط من أتب اع الم الكي‪..‬‬
‫وقتها دخلت جنائز‪ ،‬فواف ق الش يخ الص الة على ك ل الجن ائز‪ ،‬ومن ض منهم جن ازة‬
‫المالكي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪ ..‬أال ترى أن في هذا تشددا‪ ،‬فصالة الجنازة عبادة‪ ،‬وهي حق لكل‬
‫مسلم‪ ..‬فكيف تأخذون دينكم ـ معشر الحضر ـ في هذا من رجل إنما هو قارئ قرآن‬
‫ال عالقة له بعلم وال بفقه؟‬
‫قال‪ :‬بل نأخذ ديننا من سلفنا األول‪ ..‬فقد ترك سلفنا الص الح الص الة على من‬
‫هو دونه‪ ..‬فقد رفض سفيان الثوري الصالة على بعض المبتدع ة‪ ،‬وق ال‪( :‬وهللا إني‬
‫ألرى الصالة على من هو دونه عن دي‪ ،‬ولكن أردت أن أري الن اس أن ه م ات على‬
‫بدعة)‬
‫قلت‪ :‬ال بأس‪ ..‬فلنفرض أني اقتنعت بما قلت‪ ..‬فما هي العقيدة الصحيحة ال تي‬
‫تمنحني تلك الصكوك‪ ،‬وتضمن لي مصيري إلى الجنة؟‬
‫قال‪ :‬ليس من السهل أن تعرفها في مجلس أو مجلسين‪ ..‬ألنها عقي دة مؤسس ة‬
‫على الدليل‪ ،‬وكل مسألة منها مشفوعة بما يدل عليها من أقوال السلف‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فأخبرني عن مجامعها‪.‬‬
‫أخ رج لي من جيب ه كتاب ا ص غيرا‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬سأختص ر ل ك األم ر‪ ..‬خ ذ ه ذا‬
‫الكتاب‪ ،‬واحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬واعتقد بم ا في ه‪ ..‬وإي اك أن تش ك في ح رف من ه‪،‬‬
‫فإن مت عليه مت على العقيدة الصحيحة‪.‬‬
‫أخذت الكتاب‪ ،‬وكان اسمه (شرح السنة)‪ ،‬وكان من تأليف أبي محمد الحس ن‬
‫البربهاري‪ ،‬وقد تعجبت من الص ورة التجس يمية ال تي رس مها هلل‪ ،‬وال تي امتأل به ا‬
‫كتابه‪ ،‬وقد تعجبت أكثر عندما قرأت في خاتمته قوله بك ل ج رأة‪( :‬فمن أق ر بم ا في‬
‫هذا الكتاب وآمن به واتخذه إماما‪ ،‬ولم يشك في حرف منه‪ ،‬ولم يجحد حرفا واح دا‪،‬‬
‫فهو صاحب سنة وجماعة‪ ،‬كامل‪ ،‬قد كملت فيه السنة‪ ،‬ومن جحد حرفا مما في ه ذا‬
‫الكتاب‪ ،‬أو شك في حرف منه أو شك فيه أو وقف فهو صاحب هوى) (‪)1‬‬

‫‪ )(1‬شرح السنة‪ ،‬ص‪.132 :‬‬

‫‪28‬‬
‫مسجد ضرار‬
‫األص ل في المس اجد ال تي أقيمت على أس س من تق وى هللا أن تك ون مالذا‬
‫ألصحاب النفوس المشتتة لتطمئن‪ ،‬وألصحاب العقول الحائرة لتهتدي‪ ،‬وألص حاب‬
‫األرواح المسجونة في سجون األهواء لتتحرر وتسمو‪.‬‬
‫واألصل فيها أن تكون صماما ألمن المجتمع ووحدته‪ ..‬فال يرتفع فيها صوت‬
‫إال صوت الوحدة والسالم والسكينة‪.‬‬
‫وعلى عكسها مساجد الضرار التي وصفها القرآن الكريم أدق وصف‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ب‬ ‫ض َرارًا َو ُك ْفرًا َوتَ ْف ِريقً ا بَ ْينَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َوإِرْ َ‬
‫ص ادًا لِ َم ْن َح ا َر َ‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ اتَّ َخ ُذوا َم ْس ِجدًا ِ‬
‫هَّللا َ َو َرسُولَهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَيَحْ لِفُ َّن إِ ْن أَ َر ْدنَا إِاَّل ْال ُح ْسنَى َوهَّللا ُ يَ ْشهَ ُد إِنَّهُ ْم لَ َكا ِذبُونَ ﴾ [التوب ة‪:‬‬
‫‪]107‬‬
‫ومساجد الضرار ال تتوق ف على ذل ك المس جد الوحي د ال ذي بن اه المن افقون‬
‫بمعونة المشركين في عهد رسول هللا ‪ ‬ليكون وسيلة لخل ط القيم الش يطانية ب القيم‬
‫اإلسالمية‪ ،‬بل هو مس جد ق د يب نى في أي مك ان‪ ،‬وق د يوج د في أي زم ان‪ ،‬بش رط‬
‫واحد ما أسهل توفره‪ ،‬وهو أن يصبح محال للفتنة‪ ،‬ال للسالم‪ ..‬ولتش تيت القل وب‪ ،‬ال‬
‫لطمأنينتها‪ ..‬ولتفريق األمة‪ ،‬ال لتوحيدها‪.‬‬
‫والمساجد التي تتوفر على هذا الوصف في عصرنا أكثر من أن تحصى‪ ..‬بل‬
‫إنها تكاد تزاحم المساجد المؤسسة على التقوى‪ ،‬وتنافسها‪ ،‬وتلغيها‪..‬‬
‫فما أكثر الفتن التي انطلقت بأسماء مختلفة من المساجد‪ ،‬وبعد صالة الجمعة‪،‬‬
‫لتشعل نيران الفتن في المجتمع‪ ،‬وتحرق وتقتل وتكف ر وتب دع وتض لل وته دم باس م‬
‫هللا‪ ،‬وباس م ال دين‪ ،‬وتعطي ص ورة عن الت دين القاس ي الغلي ظ الممتلئ بك ل القيم‬
‫الشيطانية‪.‬‬
‫ربما أكون مخطئا في هذه األحكام‪ ..‬لكني سأذكر لكم مشهدا من المشاهد عن‬
‫مسجد من المساجد‪ ،‬ولكم أن تحكموا عليه بما شئتم‪ ..‬لكن فق ط‪ ..‬ال تخض عوا للعق ل‬
‫الجمعي في أحك امكم‪ ..‬ب ل انطلق وا من كت اب هللا تع الى ال ذي ف رق بين مس اجد‬
‫الضرار ومساجد التقوى‪ ..‬فجعل لألولى الفرقة والفتنة والتضليل والتشويه‪ ..‬وجع ل‬
‫للثانية الوحدة والسالم والطمأنينة والسكينة‪.‬‬
‫وتبدأ قصتي مع ذلك المسجد من سفر حملت في ه بعض أهلي للت داوي‪ ..‬وق د‬
‫ك ان مرض ه ش ديدا‪ ،‬والحمى تغ رز في ه أنيابه ا الس امة لتجعل ه يتلظى من حره ا‬
‫وسمها‪ ..‬لكني لورعي الشديد‪ ،‬والممتلئ بالبرودة‪ ،‬وبع د م روري ببعض المس اجد‪،‬‬
‫وس ماعي آلذانه ا‪ ،‬طلبت من الس ائق أن يتوق ف بن ا ألداء الص الة‪ ،‬لنكم ل بع دها‬
‫مسيرنا للمستشفى‪.‬‬
‫وقد كان في نيتي أن أدخل‪ ،‬وأصلي مباشرة من دون انتظ ار الجماع ة‪ ..‬لكن‬
‫األمر بعد دخولي إلى المس جد خ رج من ي دي‪ ،‬وأص بح في ي د أولئ ك ال ذين لس ت‬

‫‪29‬‬
‫أدري ما أسميهم‪.‬‬
‫فبعد أدائي والسائق للصالة فرادى‪ ،‬وعزمنا على الخ روج‪ ،‬القان ا رج ل من‬
‫الذين تعرفون‪ ..‬لست أدري ه ل كلفت ه إدارة المس جد بالحجاب ة‪ ..‬أم أن ه ت ولى ذل ك‬
‫تطوعا‪ ،‬فقد القانا‪ ،‬وقال لنا بلغة غليظة‪ :‬إلى أين‪ ..‬الصالة لم تقم بعد؟‬
‫قلت‪ :‬لقد صليناها فرادى‪ ..‬ونحن اآلن مستعجلون‪ ..‬نريد الخروج‪.‬‬
‫أوقفنا‪ ،‬وقال‪ :‬يا أخي‪ ..‬هذا ال يص ح‪ ..‬م ا ب الكم‪ ..‬ألم تق رؤوا كتب الفق ه‪ ..‬ألم‬
‫تسمعوا إلى المشايخ‪ ..‬بعد سماع اآلذان ال يحق لكم أن تخرجوا من المس جد إال بع د‬
‫أداء صالة الجماعة فيه؟‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم أخرج لنا مطوية‪ ،‬وراح يقرأ لنا فتاوى العلماء في ذل ك‪ ..‬لكن ني‬
‫تجرأت‪ ،‬وقلت‪ :‬ولكن‪..‬‬
‫فق اطعني بغض ب ش ديد‪ ،‬وق ال‪ :‬ي ا هللا‪ ..‬ه ل هن اك من يعقب على أحك ام‬
‫الشريعة‪ ..‬ما بالك يا رجل‪ ..‬أال تفهم‪ ..‬صالة الجماعة واجب ة حس ب األدل ة الكث يرة‬
‫الصحيحة‪ ..‬وال يحق لكم أن تتركوا الواجب‪..‬‬
‫قلت متوسال‪ :‬أرجوك اسمعني فقط‪..‬‬
‫قال بغلظة‪ :‬كيف أسمعك‪ ،‬وأنت تتحدى أوامر هللا‪ ،‬وال تقيم دينه‪ ..‬هل تحسب‬
‫أن المسجد ملعب‪ ،‬تدخله متى تشاء‪ ،‬وتخرج منه متى تشاء‪ ..‬المس جد بيت هللا‪ ،‬ول ه‬
‫حرمته‪..‬‬
‫أردت أن أتكلم‪ ،‬لكن صاحبي السائق‪ ،‬أخذ بيدي‪ ،‬وق ال‪ :‬ص دقني‪ ..‬ال ج دوى‬
‫للحديث معه‪ ..‬فلنصبر‪ ،‬ولننتظر ص الة الجماع ة‪ ..‬فنكس ب التخلص من ه‪ ،‬ونكس ب‬
‫أجر الجماعة‪.‬‬
‫لم أجد إال أن أسلم له فيم ا ق ال‪ ،‬ول و أن ك ل ثاني ة ك انت تم ر علي في ذل ك‬
‫المسجد‪ ،‬وكأنها سنة كاملة‪ ،‬ألن قلبي كان مع ذلك المريض الذي تك اد الحمى تفت ك‬
‫به‪.‬‬
‫انتحيت ناحي ة من المس جد‪ ،‬ورحت أحم ل مص حفا‪ ،‬وأخ ذت أق رأ الق رآن‬
‫الكريم‪ ..‬لكن غليظا آخر‪ ..‬ولست أدري كيف سمع ق راءتي الخافت ة‪ ..‬اق ترب م ني‪،‬‬
‫وقال‪ :‬لقد ارتكبت أخطاء كثيرة فاحشة في قراءتك لهذه اآلية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬شكرا جزيال‪ ..‬أرجو أن توضح لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد حولت المد الالزم إلى مد طبيعي‪ ..‬وفوق ذلك لم تؤد الغن ة جي دا في‬
‫النون الساكنة‪ ..‬ورققت الراء مع أنها ال ترقق في ذلك المحل‪..‬‬
‫وأخذ يعد علي أخطائي الكث يرة من ق راءتي آلي ة واح دة‪ ..‬فقلت ل ه معت ذرا‪:‬‬
‫شكرا جزيال على المعلومات‪ ..‬أنا في الحقيقة نسيت بعض األحكام التي ذكرتها‪.‬‬
‫غضب الرجل‪ ،‬وقال‪ :‬وهل تحسب أن أحكام الترتيل لعبة لك أن تنساها م تى‬
‫تشاء‪ ،‬وتتذكرها متى تشاء‪ ..‬أحكام الترتيل هي المدخل الذي تدخل ب ه إلى الق رآن‪..‬‬
‫وإال فال يص ح ل ك أن تحمل ه وال أن تق رأه‪ ..‬أنت بقراءت ك ه ذه تح رف الق رآن من‬
‫حيث ال تشعر‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم أخرج من جيبه مطوية‪ ،‬وراح يقرأ لي فتاوى العلم اء في ذل ك‪..‬‬
‫وأنا أكاد أنفجر‪ ..‬لكني لم أملك إال أن أستسلم له‪ ،‬وأقول ـ والغي ظ ق د أخ ذ م ني ك ل‬
‫مأخذ ـ‪ :‬شكرا جزيال على النصيحة الغالية‪ ،‬وسأعمل بها‪.‬‬
‫أخرج ورقة وقلما من جيبه‪ ،‬وقال‪ :‬ب ورك في ك‪ ..‬الش ك أن ك رج ل ص الح‪..‬‬
‫ولهذا سأضمك إلى الفريق ال ذي أدرّس ه أحك ام الترتي ل‪ ..‬أعط ني بطاقت ك ألس جل‬
‫اسمك في القائمة‪ ..‬فلدي دورة هذا األسبوع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن أنا‪..‬‬
‫قاطعني‪ ،‬وقال‪ :‬ال تخف يا رجل‪ ..‬فالدورة مجانية‪ ..‬ولم نقمه ا إال لوج ه هللا‪..‬‬
‫أعطني بطاقتك فقط‪.‬‬
‫أردت أن أتكلم‪ ،‬فقال‪ :‬ما بك يا رجل‪ ..‬هل تتصور أنني سأسلب مالك‪ ..‬أقس م‬
‫لك أن الدورة مجانية‪ ..‬أعطني بطاقتك فقط‪.‬‬
‫التفت إلى الس ائق ال ذي وض عني في ه ذه الورط ة‪ ،‬فرأيت ه يخ رج بطاقت ه‪،‬‬
‫ويسلمها مستسلما لغليظ مثل الغليظ الذي بجانبي‪ ،‬فلم أجد س وى أن أفع ل م ا فع ل‪..‬‬
‫وليتني ما فعلت‪ ،‬فقد ق ام بمج رد أخ ذها‪ ،‬وق ال‪ :‬س أقوم بتس جيل بيانات ك في ال دفتر‬
‫المخصص لذلك‪ ،‬وسنلتقي بعد الصالة‪ ..‬وسأسلمك حينها البطاقة‪.‬‬
‫أخذت بي ده‪ ،‬وقلت‪ :‬أن ا مس تعجل اآلن‪ ..‬ول دي م ريض‪ ..‬أرج وك أرج ع لي‬
‫بطاقتي‪.‬‬
‫نظ ر إلي بغلظ ة‪ ،‬وق ال‪ :‬أراك تتك بر على العلم الش رعي‪ ..‬أال تعلم األج ور‬
‫المعدة لطلبة العلم‪ ..‬أال تعلم ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن‪..‬‬
‫وأخذ ي ذكر لي الكث ير من األح اديث بأس انيدها‪ ،‬وأن ا كالمرج ل ال ذي يغلي‪،‬‬
‫ولكني خفت إن اعترض ت علي ه‪ ،‬أن يعت برني معترض ا على األح اديث ال تي ك ان‬
‫يرددها‪ ..‬فلذلك لم أجد إال الصمت واالستسالم‪.‬‬
‫بعد أن انصرف عني‪ ،‬نظرت إلى الساعة قلقا مض طربا‪ ،‬فتق دم إلي أح دهم‪،‬‬
‫وقال‪ :‬أراك مضطربا قلقا‪ ..‬هل حصل شيء؟‬
‫طمعت في أن يجعل هللا فرجي على يديه‪ ،‬فقلت‪ :‬أج ل‪ ..‬وددت ل و أذن لي أن‬
‫أخرج ألن لدي حاجة ضرورية‪..‬‬
‫وضع يده على عيني‪ ،‬وراح يفتحها‪ ،‬كما يفعل األطباء‪ ،‬ثم راح يقول بصوت‬
‫خافت‪ :‬العالمات كلها متوفرة فيك‪ ..‬فأنت مض طرب في المس جد‪ ..‬وتري د الخ روج‬
‫منه‪ ..‬وتتحيل لذلك بكل أنواع الحيل‪ ..‬وهذه كلها عالمات على أنك مسكون‪..‬‬
‫اندهشت من قوله هذا‪ ،‬وقلت‪ :‬مسكون‪ ..‬من طرف من؟‬
‫ق ال‪ :‬من ط رف الجن‪ ..‬أنت اآلن مس كون من ط رف عف اريت كف رة‪ ..‬ك ل‬
‫األدلة تدل على ذلك‪..‬‬
‫أخرج بطاقة صغيرة من جيبه‪ ،‬وق ال‪ :‬ه ذه بط اقتي‪ ..‬وفيه ا أرق ام ه واتفي‪،‬‬
‫وعيادتي‪ ،‬يمكنك أن تزورني في أي وقت تشاء‪ ..‬لكن عجل حتى ال تتفاقم حالتك‪..‬‬
‫قال ذلك‪ ..‬ثم انص رف ع ني‪ ..‬فج اءني غلي ظ آخ ر‪ ،‬وجلس بج انبي‪ ،‬ثم أخ ذ‬

‫‪31‬‬
‫يح دق في وجهي‪ ،‬فظننت أن ه يعرف ني‪ ..‬أردت أن أس أله عن ش أنه‪ ،‬فق ال لي بك ل‬
‫برودة‪ :‬أال تستحيي من نفسك؟‬
‫تعجبت من هذا الصلف والوقاح ة‪ ،‬لك ني لم أش أ أن أدخ ل مع ه في ص راع‪،‬‬
‫فقلت له بكل هدوء‪ :‬لم؟‪ ..‬هل تراني فعلت شيئا؟‬
‫قال‪ :‬أال ترى الفرق بينك وبين جميع من في المسجد؟‬
‫قلت‪ :‬معاذ هللا أن أرى فرقا بيني وبين إخواني المؤمنين‪ ..‬ما بالك يا رجل أنا‬
‫مسلم موحد‪ ..‬وأؤمن بأن المؤمنين جميعا إخوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تخ رج عن الموض وع‪ ..‬أخ برني‪ ..‬أال ت رى أن ك تختل ف ج ذريا عن‬
‫هؤالء الذين تزعم أنهم إخوانك؟‬
‫قلت‪ :‬في أي شيء؟ فأنا ال أرى أي فرق بيني وبينهم‪.‬‬
‫أخرج مرآة من جيبه‪ ،‬وقال‪ :‬انظر إلى وجهك‪ ،‬فلعل نسيته‪.‬‬
‫نظ رت إلى وجهي في الم رآة‪ ،‬ثم قلت‪ :‬وجهي ه و وجهي ال ذي أعرف ه من ذ‬
‫سنوات‪ ..‬لم يتغير‪ ..‬فما الذي تراه أنت‪ ،‬وال أراه أنا؟‬
‫أخذ المرآة بقوة‪ ،‬وأعادها إلى جيبه‪ ،‬وقال‪ :‬ما أغباك وأش د غفلت ك‪ ..‬أال ت رى‬
‫أن جميع أهل المسجد ملتحين إال أنت؟‬
‫قلت‪ :‬أال ترى لحي تي‪ ..‬نعم هي قص يرة‪ ..‬ولكن م ع ذل ك يمكن ك أن تعتبره ا‬
‫لحية‪.‬‬
‫مد يده إلى لحيتي‪ ،‬وأخذ يشدها بقوة‪ ،‬ويقول‪ :‬هل تعتبر هذه الشعرات لحي ة‪..‬‬
‫قارن بين طولها وطول لحيتي‪ ..‬أو بينها وبين لحى من تراه من المصلين‪.‬‬
‫كدت أنفجر من الغضب‪ ..‬لكن الجبن حملني على أن أداريه ق در المس تطاع‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬شكرا جزيال على النصيحة‪..‬‬
‫أخرج من جيبه مطوية‪ ،‬وقال‪ :‬ما دمت قلت ذلك‪ ..‬فاسمع لما أقرؤه عليك من‬
‫فتاوى كبار العلماء في تحريم حلق اللحية أو تهذيبها‪..‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم أخذ يق رأ لي الفت اوى الكث يرة‪ ..‬ويردده ا علي بص وت مرتف ع‪..‬‬
‫وهو في كل حين ينظر إلي‪ ،‬ويقول‪ :‬هل اقتنعت‪ ..‬أال يكفيك هذا؟‬
‫وأنا أقول‪ :‬بلى‪ ..‬اكتفيت‪ ..‬يكفيني هذا‪.‬‬
‫فيرد علي بصالفته ووقاحته‪ :‬إن لم تكفك تلك الفتوى‪ ..‬فاستمع لهذه‪..‬‬
‫وهكذا بقي يردد علي أمث ال ذل ك إلى أن ق ام قيم المس جد‪ ،‬وطلب من الن اس‬
‫االص طفاف للص الة‪ ،‬فتنفس ت الص عداء‪ ..‬لك ني لم أعلم المص ائب ال تي ك انت‬
‫تنتظرني‪.‬‬
‫بقينا مدة واقفين منتظرين إقامة الصالة‪ ..‬لكن ال اإلمام وال القيم وال غيرهم ا‬
‫أق دم على ذل ك‪ ..‬ولعلهم خش وا إن ص لى الن اس أن ينفض وا عنهم‪ ..‬ول ذلك راح وا‬
‫يستغلون كل لحظة‪..‬‬
‫أخذ اإلمام مكبر الصوت‪ ،‬وقدم خطبة طويلة حول أحوال المسلمين وضعفهم‬
‫وفق رهم وتعرض هم لإلب ادة في جمي ع أنح اء األرض‪ ،‬ثم وض ح غرض ه من تل ك‬

‫‪32‬‬
‫الخطبة الطويلة‪ ،‬وقال‪ :‬بناء على هذا سنقوم اآلن بجمع تبرعاتكم إلنق اذ المس لمين‪..‬‬
‫فأنفقوا ما استطعتم‪ ..‬وكلما كان أكثر كان أفضل‪.‬‬
‫ثم أخذ يرتل اآلي ات القرآني ة المرتبط ة باإلنف اق في ال وقت ال ذي حم ل في ه‬
‫بعض المصلين أكياسا‪ ،‬وراحوا يمرون بها على المصلين‪..‬‬
‫مددت يدي إلى جي بي أبحث عن بعض الم ال ال ذي أخ رج ب ه المس لمين من‬
‫المص ائب ال تي يعيش ون فيه ا‪ ،‬فلم أج د إال المبل غ ال ذي أري د تقديم ه للس ائق‬
‫والمستشفى‪ ..‬فأصابني حياء شديد‪ ..‬وطأطأت رأسي رجاء أن يمر من يجم ع الم ال‬
‫علي من دون أن يلتفت‪ ،‬لكن ذلك لم يحص ل‪ ..‬فق د ك ان المكل ف بجم ع الم ال أك ثر‬
‫صالفة من الجميع‪ ..‬بل كان أكثر غلظة وشدة من جامعي المكوس والضرائب‪ ..‬فقد‬
‫مد يده إلي‪ ،‬وقال‪ :‬يا رجل‪ ..‬ضع ما عندك هنا‪ ..‬أال تريد أن تنقذ المسلمين؟‬
‫قلت‪ :‬أرجو المعذرة‪ ..‬لم أحضر معي أي مال‪.‬‬
‫نظ ر إلي بغلظ ة‪ ،‬وق ال‪ :‬أنت تك ذب‪ ..‬وفي المس جد‪ ..‬أن ا أعلم أن في جيب ك‬
‫ماال‪ ،‬ولكنك بخيل‪ ..‬وال تخاف هللا‪ ..‬وليس في قلبك رحمة‪.‬‬
‫التفت للمصلين ح ولي‪ ،‬فوج دتهم جميع ا يس تعيذون م ني ومن بخلي‪ ،‬ب ل إن‬
‫الذي كان بجواري همس في أذني قائال‪ :‬أال تخاف هللا‪ ..‬كيف تلقى هللا وأنت ترى ما‬
‫نزل بالمسلمين من مصائب‪ ،‬ومع ذلك ال تمد يدك إليهم بالمعونة؟‬
‫شعرت بتأنيب كبير من نفسي‪ ،‬وشعرت حقا بأني بخيل كما يقولون‪ ..‬ومددت‬
‫يدي لجيبي‪ ،‬لكني تذكرت السائق والمستش فى والم ريض‪ ..‬فقلت في نفس ي مطمئن ا‬
‫لها‪ :‬هؤالء أيضا مسلمون‪ ..‬وهم أيضا محتاجون إلى مالي‪..‬‬
‫بعد أن انتهوا من جمع المال‪ ،‬قامت الصالة‪ ،‬فتنفست الص عداء‪ ،‬لكن اإلم ام‬
‫بعد إقام ة الص الة ق ال‪ :‬ننب ه إلى أنن ا س ندعو في الص الة بقن وت الن وازل ليخ رج‬
‫المس لمون من أزمتهم‪ ،‬وليف رج هللا عليهم‪ ،‬ويقم ع أع داءهم‪ ،‬ويجم د ال دماء في‬
‫عروقهم‪.‬‬
‫قلت في نفسي‪ :‬ال بأس‪ ..‬ما دامت الصالة قد ب دأت‪ ،‬فس رعان م ا تنتهي‪ ،‬فق د‬
‫أوصى رسول هللا ‪ ‬بتخفيف صالة الجماعة‪ ..‬وال شك أن ه ؤالء حريص ون على‬
‫تطبيق هذه السنة‪.‬‬
‫لكن األمر لم يكن كما تصورت‪ ..‬فقد راح يصلي صالة طويل ة‪ ،‬لس ت أدري‬
‫ما كان يقرأ في كل ركعة‪ ،‬وال ما يقول في كل ركوع وس جود‪ ..‬وال ذي آذاني أك ثر‬
‫أن الذي أصلي بينهما خنقاني خنقا شديدا‪ ،‬فكلما أبعدت كتفي راحا يضغطان عليها‪،‬‬
‫وكلما أبعدت قدمي راحا يلصقان فيهما قدميهما بق وة‪ ..‬ويش هد هللا أني لم أخش ع في‬
‫تل ك الص الة ولم يحض ر قل بي فيه ا‪ ،‬ألن الص راع ال ذي بي ني وبين ج اري فيه ا‬
‫شغالني عن القراءة والتسبيح والتكبير‪ ،‬ولم أستفق إال بدعاء القنوت‪ ..‬وما أدراك ما‬
‫دعاء القنوت‪..‬‬
‫لقد راح اإلمام يستعرض فيه جمي ع مناوئي ه وأعدائ ه‪ ..‬وي دعو عليهم واح دا‬
‫واحدا‪ ..‬يسميهم بأس مائهم‪ ..‬ولم يكت ف ب ذلك ب ل راح إلى جمي ع طوائ ف المس لمين‬

‫‪33‬‬
‫يدعو عليهم بالويل والثبور وعظائم األمور‪ ..‬ولما فرغ منهم راح لليه ود‪ ،‬ف دعا هللا‬
‫أن يزلزل أرضهم‪ ،‬ويحرق مصانعهم‪ ،‬ويجمد الدماء في عروقهم‪ ..‬ولم ا ف رغ منهم‬
‫راح للنصاري‪ ،‬ودعا عليهم بالجنون والبرص والجذام وسيء األس قام‪ ..‬ولم ا ف رغ‬
‫منهم راح للبوذيين‪ ،‬فدعا عليهم بهمزات الش ياطين ونفثهم ونفخهم وهم زهم‪ ..‬ولم ا‬
‫فرغ منهم راح للشيوعين‪ ،‬ودعا عليهم بالخسف والمسخ والكسوف والخسوف‪..‬‬
‫وهكذا لم يترك دينا وال ملة وال شعبا إال دعا عليهم‪ ،‬وأنزل أحقاده فيهم‪..‬‬
‫وبعد أن انتهى‪ ،‬وانتهت الص الة‪ ،‬أردت الخ روج‪ ،‬فأخ ذ بي دي مج اوري في‬
‫الصالة‪ ،‬وقال‪ :‬ويلك يا رجل‪ ..‬ما هذه العجلة‪ ..‬أين التسبيحات‪ ..‬ه ل ض اقت نفس ك‬
‫من الصالة إلى هذا الحد؟‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم أخرج مطوية‪ ،‬وراح يقول‪ :‬انظر ما ورد فيها من فضل‪ ..‬وأخ ذ‬
‫يقرأ لي بعض األحاديث الواردة في ذلك مشفوعة بأقوال السلف والخلف‪.‬‬
‫ولما انتهيت منها ومنه قمت أريد الخروج‪ ..‬لكني وجدت المص لين مبع ثرين‬
‫على أنحاء المسجد‪ ،‬ولم أجد ممرا آمنا أمر منه‪ ،‬فقلت في نفسي‪ :‬ال ب أس‪ ..‬أن ا اآلن‬
‫مضطر‪ ..‬وليس علي من حرج في أن أمر عليهم وهم يصلون‪..‬‬
‫قلت ذلك‪ ،‬وأنا متصور بأن األمر يس ير‪ ،‬وأن الح رج في ه مرف وع‪ ..‬لك ني لم‬
‫أحاول المرور أمام المصلي األول حتى ضربني على صدري ضربة ش ديدة ك دت‬
‫أسقط أرضا‪ ،‬لوال أن أحدهم أمسك بي‪ ،‬وقال بكل غلظة‪ :‬له الح ق في ذل ك‪ ..‬فكي ف‬
‫تتجرأ على المرور بين يديه وهو يصلي‪ ..‬أال تعلم عقوبة ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن لم ضربني بكل تلك القسوة‪ ..‬كان يمكنه أن يمنعني بهدوء‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكان يمكن أن يضربك ضربة قاتلة‪ ..‬أال تعلم فتاوى العلماء في ذلك؟‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم أخرج لي مطوية‪ ،‬وقال‪ :‬انظر ما قال العلماء في المار بين ي دي‬
‫المصلي‪.‬‬
‫لم أنج منه‪ ،‬ومن فتاواه إال بعد معاناة شديدة‪ ،‬وبعد أن كادت تخرج روحي‪.‬‬
‫بعد أن تخلصت منه‪ ،‬وبعد أن كاد يف رغ المس جد من المص لين أس رعت إلى‬
‫الباب‪ ،‬ألنجو بنفس ي‪ ،‬لك ني ف وجئت بمك بر الص وت‪ ،‬وه و ين ادي على اس مي من‬
‫جملة أس ماء كث يرة‪ ،‬وي دعونا بع دها لالق تراب من مح راب المس جد‪ ،‬للتس جيل في‬
‫الدورة المرتبطة بأحكام الترتيل‪ ..‬فت ذكرت بط اقتي‪ ..‬ورحت أس رع إلى المح راب‬
‫مع جمع من المصلين‪ ،‬بينهم السائق‪.‬‬
‫وأمام المحراب‪ ..‬وقف اإلمام‪ ،‬وراح يشكرنا ألننا تقدمنا لهذه الدورة‪ ،‬ثم راح‬
‫يشرح لنا أهمي ة أحك ام الترتي ل‪ ،‬وأن ه ال يمكن ق راءة الق رآن الك ريم وال فهم ه من‬
‫دونه ا‪ ..‬وراح يطنب في ذل ك‪ ،‬ثم وزع لن ا مطوي ة فيه ا فت اوى العلم اء المرتبط ة‬
‫بذلك‪ ..‬وطلب منا أن ندفع مبلغا رمزيا مقابلها‪..‬‬
‫وكنت كلم ا رفعت ي دي ألس تأذن‪ ،‬وأخ بره ب المريض ال ذي ينتظ رني في‬
‫الخارج‪ ،‬كان يقول‪ :‬سأترك لكم مجال األسئلة بعد أن أنتهي‪ ..‬فال تستعجل‪.‬‬
‫بعد أن كدت ألفظ آخر أنفاسي‪ ،‬سلم لنا البطاق ات بع د أن س جل ك ل البيان ات‬

‫‪34‬‬
‫الموجودة فيها‪ ،‬وبعد أن أرغمنا بكل الوسائل على اإلمضاء على الحضور اليومي‪،‬‬
‫وبعد أن استل منا بعض المال الذي زعم أنه س يوزع للمس لمين ال ذين يت آمر الع الم‬
‫عليهم‪.‬‬
‫بعد أن أخذت بطاقتي‪ ،‬وتنفس ت الص عداء‪ ،‬رحت أه رول ف ارا من المس جد‪،‬‬
‫وكأنني فار من أسد هصور يريد أن يلتهمني‪.‬‬
‫ركبت السيارة‪ ،‬وركب السائق معي‪ ،‬والتفت إلى المريض‪ ،‬فوجدت ه ي رتعش‬
‫بشدة‪ ،‬وقد أخذت الحمى منه كل مأخذ حتى أنه لم يستطع أن يتكلم‪.‬‬
‫طلبت من السائق أن يسرع بنا‪ ..‬فأسرع‪ ..‬وما هي إال فترة وج يزة ح تى كن ا‬
‫بجانب المستشفى‪ ..‬فطلبت من السائق أن يخبرني عن المبلغ ال ذي يس تحقه‪ ..‬فنظ ر‬
‫في العداد‪ ،‬وقال‪ :‬لقد بقيت معك زهاء ساعتين‪ ..‬وعليك أن تدفع لي حقهما‪..‬‬
‫قلت مستغربا‪ :‬لكن المسافة بين بيتي وبين المستشفى ال تتجاوز ربع ساعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل نسيت ذهابك إلى المس جد‪ ..‬وحض ورك لل دورة‪ ..‬أم أن ك تحس بني‬
‫متفرغا لك‪ ..‬وليس لي أسرة وال أوالد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنك كنت معي‪ ..‬وأنت الذي طلبت مني أن نبقى‪.‬‬
‫أخ رج مطوي ة من جيب ه‪ ،‬وق ال‪ :‬لن أجادل ك‪ ..‬فه ذه فت اوى العلم اء في ه ذا‬
‫الشأن‪ ..‬وأنا أعمل كل يوم بهذه الطريقة‪ ..‬ولم يجادلني أحد غيرك‪ ..‬ما أشد بخلك‪.‬‬
‫لم أجد ما أقول له‪ ،‬ألن لساني انعقد‪ ،‬وعقلي غاب‪ ،‬ولم أص حو إال بع د ف ترة‬
‫طويلة‪ ..‬وعندما صحوت وجدت المريض الذي أحضرته واقفا على رأسي‪ ،‬ويق ول‬
‫لي‪ :‬هل أنت بخير‪ ..‬لقد قلقنا عليك كثيرا؟‬
‫قلت‪ :‬وأنت‪ ..‬كيف حالك‪ ..‬فأنا ما جئت هنا إال ألجلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬مشكلتي بسيطة‪ ..‬فقد أعطاني الطبيب الدواء‪ ،‬وحقن ني بحقن ة‪ ..‬وه ا أن ا‬
‫كما تراني بصحة جيدة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وأنا؟‬
‫ق ال‪ :‬لق د طلب الط بيب أن تبقى في المستش فى أيام ا‪ ..‬ألن حالت ك تس تدعي‬
‫مراقبة خاصة‪.‬‬
‫بينما أنا كذلك إذ دخ ل علي إم ام المس جد ال ذي ص ليت في ه‪ ،‬وع انيت من ه‪،‬‬
‫وكان يمسك بيده كيسا‪ ،‬ثم اقترب مني‪ ،‬وقال‪ :‬بمج رد أن أخ بروني بم ا حص ل ل ك‬
‫أسرعت إليك‪ ،‬ألقدم لك آخر المواعظ والنصائح‪ ..‬فال تنس أن تنطق الشهادتين قب ل‬
‫أن تلفظ أنفاسك‪ ..‬وال تنس أن توص ي بمال ك للمس لمين ال ذين يت آمر عليهم الع الم‪..‬‬
‫وقد أحضرت لك هدية قيمة أرجو أن تعجبك‪.‬‬
‫ق ال ذل ك‪ ،‬ثم أخ رج لي من الكيس ص ندوقا ص غيرا مكت وب علي ه [أكف ان‬
‫السعادة]‪ ،‬وأعطاني معه مطوية بعنوان [كيف تطبق السنة عند موتك؟]‬

‫‪35‬‬
‫مدد يا رسول هللا‪..‬‬
‫من العبارات التي نجدها في المجتمعات الص وفية أو المحافظ ة ه ذه العب ارة‬
‫التي لقيت جدال واسعا‪ ،‬ونقدا شديدا [م دد ي ا رس ول هللا] أو [م دد ي ا أولي اء هللا] أو‬
‫[مدد يا سيدي فالن]‬
‫وأنا لست مفتيا حتى أبين الخالف الوارد في المسألة ووجوه القول فيها وأدلة‬
‫كل قول‪ ،‬وترجيح الق ول المتناس ب م ع ال دليل‪..‬ولس ت قاض يا ح تى أص در حكمي‬
‫حول القائلين بهذا‪ ..‬وإنما أنا مجرد قاص وحكواتي يريد أن يذكر حكاية ترتبط بهذه‬
‫الكلمة‪ ..‬وتصور واقع قائليها‪ ..‬وللمفتين والقضاة بعد ذلك أن يحكموا على قائل تل ك‬
‫العبارة بما شاءوا‪ ..‬وما أكثر المفتين‪ ..‬وما أكثر القضاة‪.‬‬
‫وبطل قصتنا هذه ليس رجال‪ ..‬وإنما هو امرأة‪ ..‬كان اسمها أميرة‪ ..‬وهي حق ا‬
‫كانت في ذلك اليوم أميرة‪ ،‬بل ملكة ال يضاهيها الملوك وال األم راء‪ ..‬فق د ك ان له ا‬
‫من قوة الشخصية والهيبة والوقار والصدق ما جعلها تعتلي في قلوبنا وعقولنا أعلى‬
‫عروشها‪ ،‬وأكرم مجالسها‪.‬‬
‫وتب دأ القص ة من ذل ك اإلعالن ال ذي نش رته الجرائ د‪ ،‬وعل ق في المس اجد‪،‬‬
‫وتداوله الناس فيما بينهم‪ ،‬وهو عن دورة تكوينية ال تعطي شهادات للمتكونين فيه ا‪،‬‬
‫وإنم ا تمنحهم ت ذكرة وتأش يرة ورحل ة مجاني ة لألراض ي المقدس ة للقي ام ب العمرة‬
‫والزيارة‪..‬‬
‫وبما أنني كنت متلهفا لتلك الزيارة‪ ،‬فقد أسرعت للتسجيل فيها‪ ،‬وأس رع معي‬
‫الكثير من أمثالي ممن تمتلئ قلوبهم باألشواق لتلك البقاع الط اهرة‪ ،‬وال يج دون في‬
‫جيوبهم ما يلبي رغبات قلوبهم‪.‬‬
‫ولكنن ا جميع ا لم نكن نعلم األغ راض ال تي ك انت ت راد من تل ك التبرع ات‬
‫المجانية‪ ..‬فقد حسبناها مجرد عم ل خ يري من بعض الص الحين‪ ..‬ولم نكن نعلم أن‬
‫اله دف منه ا أن تغس ل عقولن ا‪ ،‬وتس لب من ا فطرتن ا‪ ،‬وت زاح منه ا تل ك األش واق‬
‫الطاهرة‪ ،‬ليحل بدلها التدين العقيم الممتلئ بالغلظة والقسوة‪.‬‬
‫في أول درس لنا في تلك الدورة قدم شيخ من المش ايخ ممن تعرف ون ه يئتهم‬
‫وس متهم‪ ..‬وب دأ ب التعريف بنفس ه‪ ،‬ومش ايخه‪ ،‬وأث نى عليهم جميع ا‪ ،‬ودعان ا إلى‬
‫االرتباط بهم والتمسك بحبلهم‪ ..‬وقد قبلنا منه كل ذلك‪ ..‬ولم نعتب عليه في شيء منه‬
‫مع مبالغته الشديدة‪.‬‬
‫ثم أخذ يحدثنا عن المدرسة التي ينتمي إليها‪ ،‬وك ان من حديث ه قول ه ـ بن برة‬
‫يختلط فيها اللين بالشدة‪ ،‬والخطابة بالتدريس ـ‪ :‬إنهم السلف‪ ..‬أولئك الطاهرون الذين‬
‫نستمد منهم كل شيء‪ ..‬فهم مصابيح الهداية‪ ..‬وهم النور ال ذي من فق ده عمي‪ ..‬وهم‬
‫الحياة التي من لم يعشها مات قلبه وتهدمت أركان دينه‪..‬‬
‫(أيها المس لمون‪ ..‬إن الحض ارة اإلنس انية بمكتش فاتها ومخترعاته ا غالب ا م ا‬

‫‪36‬‬
‫يكون آخرها خيرا من أولها بخالف أديان الناس ومعتق داتهم؛ ف إن مت ديني ك ل دين‬
‫صحيح يكون أولهم خيرا من آخرهم‪ ،‬وسلفهم أهدى من آخرهم‪ ،‬ذل ك أن الحض ارة‬
‫بدأت تحبو‪ ،‬في حين أن األديان ولدت واقفة‪ ،‬والحضارة ت راكم مع رفي‪ ،‬أم ا ال دين‬
‫فهو وحي منزل وهدي محكم‪ ..‬والفرق بين األتب اع األوائ ل لك ل دين ص حيح وبين‬
‫متأخريهم كمثل الفرق بين الماء عند منبعه والماء عند مص به بع دما ج رى وخال ط‬
‫ما خال ط من الش وائب‪ ..‬ل ذا ف إن خ ير يه ود‪ :‬أنبي اؤهم وأحب ارهم األول ون‪ ،‬وخ ير‬
‫النص ارى‪ :‬عيس ى ابن م ريم وحواري وه‪ ،‬وخ ير المس لمين‪ :‬محم د ‪ ‬وص حابته‬
‫المرضيون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)(‪)1‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن (شئتم أن تعرفوا قرب أهل دين من دينهم فانظروا إلى ق ربهم من‬
‫سلفهم‪ ،‬فكلما اقتربوا اهتدوا‪ ،‬وكلما جفوا ضلوا)‬
‫وهكذا بقي فترة من الزمن يحثنا بالترغيب وال ترهيب على التمس ك بالس لف‬
‫واالهت داء به ديهم واالس تمداد من م ددهم إلى أن ص رنا ن راهم‪ ،‬وك أنهم بينن ا‬
‫يتحركون‪ ،‬ومعنا يتحدثون‪.‬‬
‫وفي ظل ذلك الجو الذي عشناه صاحت أميرة بما قلب ك ل ش يء رأس ا على‬
‫عقب‪ ..‬لقد راحت ترفع صوتها بقولها‪( :‬مدد يا رسول هللا)‬
‫وهنا ثار زلزال ع نيف في القاع ة ال تي كن ا فيه ا‪ ،‬وص اح الش يخ بهس تيرية‬
‫وجنون‪ :‬أخرجوا المشركة من بيننا‪ ..‬من أذن له ا بال دخول‪ ..‬إلى م تى يظ ل ه ؤالء‬
‫المش ركون يالحقونن ا في ك ل مك ان‪ ..‬ألم تس معوا بالفت اوى المبيح ة ل دمائهم‪ ..‬ألم‬
‫تقرؤوا ما قال سلفنا الصالح في حقهم؟‬
‫حاول بعض الناس تهدئت ه‪ ..‬لكن ه لم يس تطع أن يس تعيد ه دوءه‪ ..‬وك أن تل ك‬
‫الكلمة كانت حقن ة جن ون حقنت ه به ا أم يرة لت برزه على حقيقت ه ال تي ك ان يح اول‬
‫إخفاءها بإظهاره اللطف والوقار والهدوء‪.‬‬
‫بع د ذل ك الص ياح الهس تيري س قط الش يخ‪ ..‬والت ف حول ه بعض الحض ور‪،‬‬
‫يقومون بإسعافه بما تتطلبه حالته من إسعاف‪.‬‬
‫وقد كان ما حصل له من إغماء وارتب اك فرص ة لنس مع أم يرة‪ ،‬وهي تنس خ‬
‫كل تلك المعاني التي حاول الشيخ أن يغسل بها عقولنا‪ ..‬فقد طلب المنظمون لل دورة‬
‫من أميرة أن تخرج‪ ..‬فتقدمت إلى الباب بكل هدوء‪ ،‬ثم أخذت تخاطب الجمع بقولها‪:‬‬
‫اعذروني أيها السادة‪ ،‬فربما كنت سببا في تعكير صفوكم‪ ..‬أو تكدير الجو الذي كنتم‬
‫تعيشونه‪ ..‬ولكن ائذنوا لي فقط أن أعبر لكم عن نفسي وعن حقيقتي وعن حقيقة هذا‬
‫الذي حكم علي بالشرك‪ ..‬وحكم علي معه بالردة والقتل‪..‬‬
‫نعم أنا أتيت هنا معكم طمعا في زي ارة لتل ك البق اع الط اهرة‪ ،‬ولكن ق در هللا‬
‫وما شاء فعل‪ ..‬ولكن اعلموا أن حبيب هللا الذي تري دون زيارت ه لم يغب عنكم‪ ..‬ب ل‬
‫هو معكم‪ ،‬ويمكنكم أن تعيشوا معه في كل لحظة‪ ،‬وأن تستمدوا منه كل ما تريدون‪..‬‬

‫‪ )( 1‬من خطبة جمعة ألقاها الشيخ صالح بن محمد آل طالب بالمسجد الحرام‪ ،‬ببعض تصرف‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫وأنا ما خاطبته بما خاطبته به إال بعد شعوري بحياته وحضوره‪ ..‬ولذلك مددت يدي‬
‫وقلبي إليه‪ ،‬وطلبت منه أن يمدني بما ك ان يم د ب ه من ك ان يعيش مع ه من بركات ه‬
‫وخيره وفضله‪.‬‬
‫هل نسيتم حلمية تلك التي عاشت بركاته ‪ ‬والحظتها بعينه ا‪ ..‬فتح ولت من‬
‫تلك البدوية الفقيرة الجائعة التي تكسب قوتها من اإلرضاع إلى حليمة الس عدية تل ك‬
‫المرأة التي تحن لها القلوب‪ ..‬وتشتاق لها األرواح‪..‬‬
‫يمكنكم أن تصبحوا مثلها تماما‪ ..‬بشرط واحد ه و أن تعيش وا م ع رس ول هللا‬
‫‪ ..‬وتحملوه في قلوبكم مثلما حملته حليمة في حجرها‪ ..‬حينها سترون ص حاريكم‬
‫تتحول إلى جنان‪ ..‬ومآتمكم تتحول إلى والئم‪ ..‬وأحزانكم تتحول إلى مسرات‪.‬‬
‫هل نس يتم أولئ ك ال ذين أج دبوا وقحطت أرض هم‪ ،‬وم اتت مواش يهم‪ ..‬لكنهم‬
‫بمج رد اس تغاثتهم برس ول هللا ‪ ‬أغيث وا(‪ ..)1‬فه ل ت رون رس ول هللا ‪ ‬يك رمهم‬
‫ويبخل عليكم‪ ..‬استغيثوا به كما اس تغاثوا‪ ..‬وس تجدونه بينكم يرف ع يدي ه الط اهرتين‬
‫إلى الس ماء ي دعو لكم‪ ..‬فق ط قطع وا حج اب ال وهم ال ذي جعلكم تنص رفون عن ه‪،‬‬
‫وسترونه بينكم‪.‬‬
‫هل نسيتم ذل ك األعمى ال ذي قص د رس ول هللا ‪ ‬وطلب من ه أن ي رد علي ه‬
‫بصره‪ ..‬وفعل رسول هللا ‪ ‬ذلك‪ ..‬وعلمه ذلك الدعاء الذي نتوجه ب ه إلى هللا بج اه‬
‫نبينا ‪ ..‬وتحقق لألعمى مراده(‪ ..)2‬ويمكن أن يتحقق لكل أح د م راده‪ ..‬ألن ج ود‬
‫رسول هللا ‪ ‬أعظم من أن ينحصر في أعمى‪.‬‬
‫هل تذكرون أولئك الذين شملتهم بركة ملمس رس ول هللا ‪ ..‬حينم ا امت دت‬
‫ي ده الط اهرة ألمراض هم فش فيت‪ ..‬أو إلى آالمهم ف زالت(‪ ..)3‬يمكنكم جميع ا أن‬
‫يحصل لكم ذلك وأكثر منه‪..‬‬
‫‪ )( 1‬األحاديث في ذلك كثيرة جدا‪ ،‬وقد ذكرنا أمثلة منها في كتابنا [معجزات حس ية]‪ ،‬ومن تل ك الرواي ات‪ :‬م ا روي‬
‫أن وفد سالمان قدموا في شوال سنة عشر فقال لهم رسول هللا ‪( :‬كيف البالد عندكم؟) ق الوا‪ :‬مجدب ة‪ ،‬ف ادع هللا أن‬
‫يسقينا في أوطاننا‪ ،‬فق ال ‪( :‬اللهم اس قهم الغيث في بالدهم) فق الوا‪ :‬ي ا رس ول هللا ارف ع ي ديك‪ ،‬فإن ه أك ثر وأطيب‪.‬‬
‫فتبسم‪ ،‬ورفع يديه حتى بدا بياض إبطيه‪ ،‬ثم رجعوا إلى بالدهم‪ ،‬فوجدوها قد مطرت في اليوم ال ذي دع ا في ه رس ول‬
‫هللا ‪ ‬في تلك الساعة (رواه أبو نعيم)‬
‫‪ )(2‬الحديث روي برويات متعدده منها أن أن رجال ضرير البصر أتى النبي ‪ ،‬فق ال‪ :‬ادع هللا أن يع افيني‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫إن شئت دعوت‪ ،‬وإن شئت صبرت‪ ،‬فهو خير لك‪ ،‬قال‪ :‬فادعه‪ ،‬قال‪ :‬فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء‪ ،‬وي دعو به ذا‬
‫الدعاء‪ :‬اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد‪ :‬نبي الرحم ة‪ ،‬إني ت وجهت ب ك إلى ربي في ح اجتي ه ذه لتقض ى‬
‫لي‪ ،‬اللهم فشفعه في‪ .‬رواه الترمذي وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬من الروايات الواردة في ذلك ما روي أنه يوم خيبر‪ ،‬سأل الن بي ‪ ،‬فق ال‪( :‬أين علي؟)‪ ،‬فقي ل‪ :‬ي ا رس ول هللا‪،‬‬
‫يشتكي عينيه‪ ،‬قال‪( :‬فأرسلوا إليه)‪ ،‬فأتى به فبصق رس ول هللا ‪ ‬في عيني ه ودع ا ل ه ف برئ‪ ،‬ح تى كأن ه لم يكن ب ه‬
‫وجع‪ ،‬فأعطاه الراية(رواه البخاري ومسلم)‪ ،‬ومنها ما روي عن حبيب بن فديك أن أباه خ رج ب ه إلى رس ول هللا ‪‬‬
‫وعيناه مبيضتان ال يبصر بهما شيئا‪ ،‬فس أله‪( :‬م ا أص ابك؟) فق ال‪ :‬وقعت رجلي على بيض ة حي ة فأص يب بص ري‪،‬‬
‫فنفث رسول هللا ‪ ‬في عيني ه فأبص ر‪ ،‬فرأيت ه وه و ي دخل الخي ط في اإلب رة‪ ،‬وان ه البن الثم انين س نة‪ ،‬وإن عيني ه‬
‫لمبيضتان(رواه ابن أبي شيبة والبيهقي واب و نعيم‪ ..).‬ومن ذل ك م ا روي عن رفاع ة بن راف ع بن مال ك ق ال‪ :‬رميت‬
‫بسهم يوم بدر‪ ،‬ففقئت عيني‪ ،‬فبصق فيها رسول هللا ‪ ‬ودع ا لي‪ ،‬فم ا آذاني منه ا ش ئ(رواه الح اكم وال بيهقي واب و‬
‫نعيم)‪ ..‬ومن ذلك ما روي أنه أصيبت عين أبي ذر يوم أحد‪ ،‬فبزق فيها رسول هللا ‪ ‬فك انت أص ح عيني ه(رواه أب و‬
‫نعيم)‬

‫‪38‬‬
‫فرس ول هللا ‪ ‬ال ذي فع ل ك ل ذل ك ال ي زال حي ا بينن ا‪ ..‬ال يحجبن ا عن ه إال‬
‫حج اب ال وهم‪ ..‬وعن دما تزيلون ه فس ترون بينكم يح دثكم‪ ،‬وتحدثون ه‪ ،‬ويص افحكم‬
‫وتصافحونه‪ ..‬وحينها سترون من بركاته ما ال يمكن لخواطركم أن تدركه‪.‬‬
‫ال تتوهموا أبدا أنكم بذلك ستقعون في الشرك‪ ،‬أو تخرج ون من التوحي د كم ا‬
‫يزعم هذا المحجوب‪ ..‬فرسول هللا ‪ ‬هو رمز الوح دة والتوحي د‪ ..‬ومحبت ه والهي ام‬
‫فيه والتواصل معه هو عالمة اإلخالص والصدق والتوحيد‪..‬‬
‫رس ول هللا ‪ ‬وكرم ه وج وده ورحمت ه ليس وا س وى مظه ر من مظ اهر‬
‫العظمة اإللهية التي ال تحد وال تعد وال توصف‪ ..‬ومن احترم المظاهر‪ ،‬فق د اح ترم‬
‫مظاهرها‪ ..‬ومن عظم الوسائل وراعاه ا‪ ،‬فق د عظم الحكيم ال ذي وض عها‪ ،‬والق دير‬
‫الذي قدرها‪ ..‬وقد قال تع الى داعي ا لن ا إلى مراع اة الوس ائل وطلبه ا‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ‬
‫آ َمنُوا اتَّقُوا هَّللا َ َوا ْبتَ ُغوا إِلَ ْي ِه ْال َو ِسيلَةَ﴾ [المائ دة‪ ،]35 :‬وق ال واص فا عب اده المق ربين‪:‬‬
‫﴿أُولَئِ َ‬
‫ك الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ يَ ْبتَ ُغونَ إِلَى َربِّ ِه ُم ْال َو ِسيلَةَ﴾ [اإلسراء‪]57 :‬‬
‫لذلك ال تخافوا من الشرك‪ ..‬فكل محبة تبدونها لرسول هللا ‪ ‬إنما هي تتوجه‬
‫إلى هللا قبل أن تتوج ه إلي ه‪ ..‬ب ل عين محبتكم لرس ول هللا ‪ ‬هي محب ة هلل تع الى‪..‬‬
‫هكذا يقول العارفون الغارقون في بحار التوحيد‪ ..‬فاسلكوا سبلهم لتنجوا من همزات‬
‫الشياطين الذين احتقروا آدم وأبوا السجود ل ه‪ ..‬وهم اآلن يحتق رون رس ول هللا ‪،‬‬
‫ويصورونه لكم بصورة الصنم الذي يمكن أن يعبد من دون هللا‪.‬‬
‫أيه ا الجم ع الك ريم‪ ..‬لق د ذك ر هللا تع الى أن رس ول هللا رحم ة للع المين‪..‬‬
‫والعالمون أكثر من أن ينحصروا في قرن دون ق رن أو زم ان دون زم ان‪ ..‬ول ذلك‬
‫يمكنكم أن تكون وا مث ل ال ذين ك ان ه ذا الش يخ يث ني عليهم‪ ..‬ب ل يمكنكم أن تكون وا‬
‫أفضل منهم‪ ..‬فجل عطاء هللا أن ينحصر في األزمنة أو األمكنة‪..‬‬
‫عطاء هللا مرتبط بقلوبكم وأرواحكم‪ ..‬فهي المعارج التي تعرجون بها إليه‪..‬‬
‫لقد ذكر رسول هللا ‪ ‬ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬إن أش َّد أمتي لي حبا قوم يخرجون بع دي‬
‫يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)(‪)1‬‬
‫وال أحسب إال أنكم من هؤالء الذين ح ركتهم األش واق إلى رس ول هللا ‪..‬‬
‫ولذلك راحوا يلتسمون كل السبل لزيارته‪..‬‬
‫وأنا أقول لكم‪ :‬يمكنكم أن ت زوروه وأنتم هن ا بين أهليكم‪ ..‬زوروه بمش اعركم‬
‫ووج دانكم وقل وبكم وأرواحكم‪ ..‬وس ترون هللا العظيم كي ف يمأل بص ائركم‪ ،‬ب ل‬
‫أبصاركم بطلعته البهية‪ ،‬وجماله المقدس‪.‬‬
‫ما قالت ذلك حتى صاح الجميع‪ :‬يا رسول هللا‪ ..‬مدد‪ ..‬نظرة إلين ا‪ ..‬نحن على‬
‫بابك‪ ..‬على أعتابك‪ ..‬صافحنا بيمينك‪ ..‬قربنا منك‪.‬‬
‫حتى أولئك المنظمون الذين ك انوا يس عفون الش يخ ترك وه وراح وا ي رددون‬
‫أمثال تلك العبارات‪ ..‬وقد أفاق الشيخ على صياحهم‪ ..‬فراح يقول بهستيرية وجنون‪:‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫مشركون‪ ..‬كلكم مشركون‪ ..‬كلكم مرتدون‪ ..‬كلكم في النار‪.‬‬
‫لم ينتبه إليه أحد‪ ..‬فقد كانت بصائرهم جميعا تنظر إلى لجمال الذي ال يف نى‪..‬‬
‫وتستمد من السراج الذي ال ينطفي نوره‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫أذواق‪ ..‬وأوراق‬
‫كم هي عظيمة المسافة بين علوم األذواق وعلوم األوراق‪:‬‬
‫علوم األذواق ينفعل له ا ك ل الوج دان‪ ،‬وتت ذوقها ك ل اللط ائف‪ ،‬وتتوح د في‬
‫االنسجام معها كل أركان الماهية اإلنسانية‪ ،‬فتتح ول ك ل الخالي ا إلى قل وب تخف ق‪،‬‬
‫وعواطف تهتز‪ ،‬ومشاعر تتأجج‪ ،‬كما قال سلطان العاشقين معبرا عن ذلك‪:‬‬
‫ب‬
‫ق ج اذ ٍ‬ ‫وش وْ ٍ‬‫إليه ا َ‬ ‫ي ُك لُّ َ‬
‫ص بَابَ ٍة‬ ‫وفي ك ّل ع ْ‬
‫ُض ٍو ف َّ‬
‫امي‬ ‫بزم‬
‫َت وق ٌع لك ّل‬ ‫ِإذا َ م ا َرن ْ‬ ‫ولي ُك ّل عُض ٍو فيه ك ّل حش ا ً به ا‬
‫هام‬ ‫ِس‬
‫ب فيه ُك ّل َغ رام‬‫به ُك ّل قل ٍ‬ ‫رأت ك ّل‬ ‫جس مي ْ‬ ‫طت ْ‬ ‫ْ‬ ‫ول و بس‬
‫وهر‬ ‫ج‬
‫وقال في قصيدته األخرى معبرا ٍعن هذا المعنى الجليل‪:‬‬
‫ب ه ك ل قلب في ه ك ل محبة‬ ‫فل و بس طت جس مي رأت ك ل‬
‫وهر‬ ‫ج‬
‫به ا وج وى ينبي ك عن ك ل‬ ‫وق د جمعت أحش اي ك ل ص بابة‬
‫بوة‬ ‫ص‬
‫وبعل وم األذواق تتح ول القل وب والعق ول وك ل اللط ائف إلى أبص ار ت رى‬
‫الحق ائق‪ ،‬وال تكتفي بس ماعها ‪ ..‬وتعيش ها‪ ،‬وال تكتفي بحكايته ا‪ ،‬كم ا ق ال الع ارف‬
‫معبرا عن ذلك‪:‬‬
‫ت رى م اال ي ري‬ ‫قل وب الع ارفين له ا‬
‫اظرين‬ ‫للن‬ ‫ون‬ ‫عي‬
‫وبعلوم األذواق تتحول جميع الج وراح واللط ائف إلى ألس نة تع بر بالص مت‬
‫المطب ق ‪ ..‬وأجنح ة تط ير من غ ير ريش في ع والم الملك وت ال تي حجب عنه ا‬
‫أصحاب األوراق‪ ،‬كما قال العارف الذائق‪:‬‬
‫رام‬ ‫تغيب عن الك‬ ‫وألسنة بأسرار تناجي‬
‫اتبين‬ ‫الك‬
‫وت رب‬ ‫إلى ملك‬ ‫وأجنح ة تط ير بغ ير‬
‫المين‬ ‫الع‬ ‫ريش‬
‫أما عل وم األوراق ‪ ..‬فهي عل وم محج وزة في مس احة مح دودة من العق ل ‪..‬‬
‫مطوقة بقيود كثيرة أولها ذلك الطين المتثاقل إلى األرض ‪ ..‬والمحجوب بالملك عن‬
‫الملكوت ‪ ..‬وبالجسد عن ال روح ‪ ..‬وبالحكم ة عن الق درة ‪ ..‬وبالقي د عن اإلطالق ‪..‬‬
‫وبالكثرة عن الوحدة‪.‬‬
‫ول ذلك ك ان الص راع ش ديدا على م دار الت اريخ بين أص حاب األذواق‬
‫وأصحاب األوراق ‪ ..‬فأصحاب األوراق يحتقرون أص حاب األذواق‪ ،‬وي زدرونهم‪،‬‬
‫ويتهمونهم بالجنون والزندقة والهرطقة ‪ ..‬ألن العقل الورقي محجوب بالظ اهر عن‬
‫الباطن‪ ،‬وبالحس عن المعنى‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫وهكذا يسخر أصحاب األذواق من أص حاب األوراق‪ ،‬ويقول ون لهم‪ :‬إن ك ل‬
‫تلك العلوم التي تقرؤونها وتكتبونها ال تساوي لحظ ة واح دة نعيش ها م ع الح بيب ‪..‬‬
‫ونشرب فيها من شرابه الذي تذهل له العقول‪ ،‬وتحلق ب ه إلى الع والم ال تي ال يمكن‬
‫التعبير عنها إال بالسكوت والوجوم والبهت ‪..‬‬
‫وحين يس خر أص حاب األوراق من تل ك الحرك ات ال تي ته تز له ا أجس اد‬
‫أصحاب األذواق عن د ت ذكرهم للح بيب وتم ايلهم طرب ا ل ذكره والش وق إلي ه‪ ،‬ي رد‬
‫عليهم أصحاب األذواق قائلين‪:‬‬
‫إذا لم تذق معنى ش راب اله وى‬ ‫فقل للذي ينهى عن الوجد أهله‬
‫َد ْعنا‬
‫ترقص ت األش باح ي ا جاه ل‬ ‫إذا اه تزت األرواح ش وقا إلى‬
‫نى‬ ‫المع‬ ‫ا‬ ‫اللق‬
‫حن إلى‬‫إذا ذك ر األوط ان َّ‬ ‫أما تنظر الطير المقفص يا فتى‬
‫نى‬ ‫المغ‬
‫اعذروني‪ ..‬فقد شغلني التفريق بين هذين الصنفين من العلوم عن القصة التي‬
‫أريد أن أحدثكم عنها‪ ..‬وهي قصة رمزية واقعية‪ ..‬ربما وقعت لكم‪ ..‬وربما ستقع في‬
‫يوم من األيام‪ ..‬لتختاروا القبلة التي تتوجه لها عقولهم وقلوبكم‪ ..‬ه ل قبل ة األوراق‪،‬‬
‫أم قبلة األذواق؟‬
‫وأحب أن أذكر لكم فقط‪ ،‬وخصوصا لمن عاشوا مرحلة طويلة من أعم ارهم‬
‫مثلي في عالم األوراق بأال يقلقوا أو ينزعجوا أو يظن وا أنهم خس روا ع الم األذواق‬
‫بصحبتهم لعالم األوراق‪..‬‬
‫فعالم األذواق يتقبلهم بشرط واحد‪ ..‬وهو أن يخمدوا ذلك الكبرياء الذي أنش أه‬
‫فيهم ع الم األوراق‪ ،‬فتص وروا أنفس هم ق د تم يزوا عن غ يرهم بتل ك العل وم ال تي‬
‫حفظوه ا‪ ،‬أو الفن ون ال تي اكتس بوها‪ ..‬عن دها فق ط يمكنهم أن يتحول وا من ع الم‬
‫األوراق إلى عالم األذواق‪ ،‬أو يمكنهم أن يجمعوا بينهما‪.‬‬
‫ومن القصص في ذلك ما روي عن الششتري أنه كان وزيرا وعالم ا‪ ،‬وأب وه‬
‫كان أميرا‪ ،‬وق د ع اش ف ترة طويل ة من عم ره بص حبة ع الم األوراق إلى أن حنت‬
‫نفسه لعالم األذواق‪ ،‬فراح إلى شيخ من المشايخ‪ ،‬فذكر ل ه ذل ك‪ ،‬فالح ظ في ه الش يخ‬
‫تلك الكبرياء التي تنشئها األوراق في أصحابها‪ ،‬فقال ل ه‪ :‬لن تن ال ش يئا مم ا تص بو‬
‫إليه حتى تبيع متاع ك‪ ،‬وتلبس عب اءة‪ ،‬وتأخ ذ دف ا‪ ،‬وت دخل ب ه إلى الس وق‪ ،‬وتغ ني‬
‫للناس‪..‬‬
‫لم يجد الششتري ـ الذي كان مستعدا لحرق كل كتبه من أجل كأس واحدة من‬
‫عالم األذواق ـ إال أن يفعل ما طلبه الشيخ‪ ..‬فراح في السوق ينادي ويغني ويضرب‬
‫الدف‪..‬‬
‫لكنه فوجئ بلسانه ينطلق بشعر المحبة اإللهية النابع من نه ر ك انت األوراق‬
‫الكثيرة التي قرأها وكتبها قد سدت منافذه‪..‬‬
‫قد يضحك الكثير من أص حاب األوراق على ه ذه القص ة‪ ،‬وعلى من يط رح‬

‫‪42‬‬
‫مثل هذه األفكار‪ ..‬ولذلك لكم أن تتجاوزوها‪ ..‬ولكم أن تعت بروني لم أقص ها عليكم‪..‬‬
‫أو تعتبروها فلتة لسان أو فلتة قلم‪ ..‬ولكن اسمعوا أو اقرأوا بقلوبكم وعقولكم القص ة‬
‫ال تي س أحكيها لكم‪ ..‬وال تي ربم ا تك ون أق رب إلى عق ولكم من قص ة الشش تري‬
‫وشيخه‪.‬‬
‫وه ذه القص ة تب دأ من ش بابي الب اكر‪ ،‬حين كنت طالب ا للعلم‪ ،‬وكنت مش غوفا‬
‫باألوراق لدرجة ال يتصورها أحد‪ ..‬فقد كنت أعش ق أس واق الكتب‪ ،‬وأهيم به ا‪ ،‬وال‬
‫أجد راحتي إال فيها‪ ..‬وكان لي زميالن‪ ..‬وكانت طباعنا في حب الكتب واح دة‪ ،‬وإن‬
‫كنا مختلفي األذواق والمشارب‪.‬‬
‫أما أحد زميلي‪ ،‬فقد كان مشغوفا بها إلى الدرجة التي نسي فيها جميع لطائفه‪،‬‬
‫وغفل بها عن جميع حقائق ه‪ ،‬وك ان ي ذكر لن ا ك ل حين الكتب الكث يرة ال تي قرأه ا‪،‬‬
‫والعلوم الكثيرة التي أحاط بها‪..‬‬
‫وأما الثاني‪ ،‬فق د ك ان ص احب ذوق رفي ع‪ ،‬وتأم ل ع ال‪ ،‬وك ان يق رأ أحيان ا‬
‫الجملة الواحدة‪ ،‬فيعيش في معانيها أياما معدودات‪..‬‬
‫وأما أنا فقد كنت في برزخ بينهما أميل إلى األول‪ ،‬كما أمي ل إلى الث اني‪ ،‬وال‬
‫أستطيع الترجيح بينهما‪ ..‬ولم أحدد وجهتي إال بعد فترة طويلة‪..‬‬
‫في ذلك اليوم الذي افترقنا فيه سرنا إلى بعض الزوايا القديمة المهجورة طلبا‬
‫للبحث عن بعض المخطوطات النادرة‪ ..‬وهناك التقينا الشيخ الذي قلب حياتنا جميعا‬
‫رأسا على عقب‪.‬‬
‫عن دما التقى بن ا‪ ،‬ق ال لن ا من غ ير أن نس أله‪ :‬الش ك أنكم تبحث ون عن ذل ك‬
‫المخطوط النادر الذي تتصورون أنكم إذا ظفرتم به سعدتم‪.‬‬
‫قلنا جميعا‪ :‬أجل‪ ..‬فه ل ه و عن دك؟‪ ..‬نحن مس تعدون أن نش تريه ب أي ثمن‪..‬‬
‫اطلب فقط ما تريد‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد جاء الكثير يطلبونه‪ ..‬وقد دللتهم عليه‪ ..‬لكنهم رفضوا أخذه‪..‬‬
‫فرحنا بقوله هذا‪ ،‬وقلنا‪ :‬إذن هو ال يزال عندك‪ ..‬هيا أحضره لنا‪ ،‬فق د ش وقتنا‬
‫إليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو كان األمر بالسهولة التي تتصورونها ألخذه جميع من قصدني‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬فنحن مستعدون ألي شيء تطلبه منا‪ ..‬المهم أن تعطينا إياه‪ ..‬ولو إعارة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا المخطوط ال يعار ألح د‪ ..‬ه ذا المخط وط ال يعطي أس راره إال لمن‬
‫ملكه‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬لم نفهم‪ ..‬ما الذي تقصد؟‬
‫قال‪ :‬هذا المخطوط يحتاج لعيون خاصة تقرؤه‪ ..‬وقلوب خاصة تعي ه‪ ..‬وآذان‬
‫خاصة تسمعه‪ ..‬ولطائف خاصة تشعر به‪.‬‬
‫بهت ص احبي ص احب ال ذوق الرفي ع له ذا الكالم‪ ،‬وت أثر ب ه ت أثرا ش ديدا‪،‬‬
‫وصاح‪ :‬أجل‪ ..‬هذا ما أبحث عنه‪ ..‬هل أجده عندك؟‬
‫أما صاحبي المشغوف بعالم األوراق‪ ،‬فأخذ بيدي‪ ،‬وقال‪ :‬هيا بن ا‪ ..‬ال ش ك أن‬

‫‪43‬‬
‫ه ذا الرج ل مجن ون من المج انين‪ ..‬فمث ل ه ذه الزواي ا الخرب ة ال يوج د فيه ا إال‬
‫المجانين‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬دعنا قليال نسمع ما يريد قوله‪ ..‬فلعل له شأنا‪.‬‬
‫أخذ الشيخ بيد زميلي صاحب الذوق الرفيع‪ ،‬وقال‪ :‬جاهل من قرأ جمي ع كتب‬
‫الدنيا‪ ،‬ولم يق رأ كتاب ه‪ ..‬وض ال من اهت دى إلى ك ل مكتب ات ال دنيا‪ ،‬ولم يهت د لتل ك‬
‫المكتبة العظيمة التي زرعها هللا في قلبه‪ ..‬وأعشى البص يرة من أبص ر ك ل ش يء‪،‬‬
‫ولم يبصره‪.‬‬
‫أصابت صاحبي صاحب الذوق الرفيع دهشة لهذا الكالم‪ ،‬وقال‪ :‬أع ده علي‪..‬‬
‫لكأني سمعته من قبل‪..‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬هذا الكالم ال يكرر وال يع اد‪ ..‬ألن ه إن س معته أذن اك وح دهما لم‬
‫يفدهما‪ ..‬وإن سمعه قلبك‪ ،‬فقلبك أعظم جهاز تسجيل في ال دنيا‪ ،‬وه و لن يحت اج إلى‬
‫تكرار‪ ..‬بل لن يحتاج إلى حروف وأصوات‪.‬‬
‫قال صاحبي‪ :‬بلى‪ ..‬لقد سمعته بقلبي‪ ..‬أنت اآلن تتحدث عن خ زائن األس رار‬
‫التي أودعها هللا في حقائقنا منذ األزل‪ ..‬منذ سمعنا ذلك النداء الجليل‪﴿ :‬أَلَس ُ‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم﴾‬
‫[األعراف‪]172 :‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬عجبا لمن سمع ذلك النداء الجليل كيف يتيه عن ه‪ ..‬ثم كي ف يبحث‬
‫عن الدليل‪ ،‬وقد سمع صاحب الدليل‪ ..‬ورآه بقلبه‪ ..‬وعشقه قبل أن يكون كل شيء‪.‬‬
‫قال صاحبي‪ :‬أجل‪ ..‬لكن الغفلة والتيه مآلنا بالحجب‪..‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬لقد قال لي ش يخي أول ص حبتي ل ه‪ ،‬وق د رآني مش غوال ب أوراق‬
‫كث يرة أري د من خالله ا أن أتع رف على هللا‪ ..‬لك ني لم أزدد من ه إال بع دا‪( :‬ي ا أب ا‬
‫الحسن ح ّدد بصر اإليمان تجد هّللا في كل شيء وعند كل شيء ومع كل شيء وقب ل‬
‫كل شيء وبعد كل شيء وف وق ك ل ش يء وتحت ك ل ش يء وقريب ا من ك ل ش يء‬
‫ومحيط ا بك ل ش يء‪ ..‬بق رب ه و وص فه وبحيط ة هي نعت ه‪ ،‬وع ّد عن الظرفي ة‬
‫والحدود وعن األماكن والجه ات‪ ،‬وعن الص حبة والق رب بالمس افات‪ ،‬وعن ال دور‬
‫بالمخلوقات‪ ،‬وامحق الكل بوصفه‪ :‬األول واآلخر والظاهر والب اطن وه و ه و ه و‪،‬‬
‫كان هّللا وال شيء معه‪ ،‬وهو اآلن على ما عليه كان)(‪)1‬‬
‫ثم التفت لي ولصاحبي‪ ،‬وقال‪ :‬اعذراني‪ ..‬فقد انشغلت بصاحبكما عنكما‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ال عليك‪ ..‬لكن ليتك لو شرحت لنا ما تقصد‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬القل وب ال تي تفق ه األس رار ال تحت اج لمن يش رح له ا‪ ..‬وال تي ال تفق ه‬
‫األسرار ال يمكن أن تفهم ما ال يمكن شرحه‪.‬‬
‫غضب صاحبي المشغوف باألوراق‪ ،‬وقال‪ :‬دعنا منك أيه ا الش يخ الخ رف‪..‬‬
‫هل تعرف مع من تتحدث‪ ..‬أنا أعرف خمس لغ ات‪ ..‬وق د ق رأت مئ ات المجل دات‪..‬‬
‫وأتقنت ـ وأنا ال أزال شابا يافعا ـ الكثير من العلوم‪ ..‬ثم ت زعم أن ك تفهم م ا ال أفهم‪،‬‬

‫‪ )(1‬الكالم الوارد هنا للشيخ عبد السالم بن مشيش لتلميذه أبي الحسن الشاذلي‪..‬‬

‫‪44‬‬
‫أو تعرف ما ال أعرف‪.‬‬
‫ابتسم الشيخ لكالمه هذا‪ ..‬ولم يبد أي غضب‪ ،‬بل قال له‪ :‬وال ش ك أيض ا أن ك‬
‫أكلت من الطعام‪ ،‬وشربت من الشراب ما لم يدخل جوفي مثله‪.‬‬
‫قال صاحبي‪ :‬أتتهكم علي؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬ال‪ ..‬معاذ هللا أن أتهكم على أحد من خلقه‪.‬‬
‫قال صاحبي‪ :‬أج ل‪ ..‬لق د س افرت إلى الكث ير من البالد‪ ..‬وق د أكلت فيه ا من‬
‫الطعام‪ ،‬وشربت من الشراب ما لم تحلم بمثله‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬فهال وصفته لي حتى كأني أذوقه كما ذقته‪..‬‬
‫قال صاحبي‪ :‬ال يمكن ذلك‪..‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬لقد زعمت أن لك علما وقدرات لغوية‪ ..‬فه ل عج زت جميع ا عن‬
‫وصف الطعام والشراب؟‬
‫لم يدر صاحبي ما يقول‪ ،‬فرد عليه الشيخ‪ :‬كما عجزت لغتك عن التعب ير عن‬
‫طعام جس دك‪ ..‬فق د عج ز لس اني ك ذلك عن وص ف طع ام روحي‪ ..‬ول ذلك اكتفيت‬
‫بالرمز الذي ال يفهمه إال من يعيش عالم الرموز‪.‬‬
‫في ذلك اليوم افترقنا نحن الثالثة‪ ..‬ولم نلتق إال بعد أكثر من ثالثين س نة‪ ..‬لن‬
‫ي‪ ،‬وم ا ص ار‬ ‫أحكي لكم سبب ذلك‪ ،‬ألنه ال يعنيكم‪ ..‬ولكني سأحكي لكم قصة صاحب َّ‬
‫إليه حالهما بعد تلك العقود من السنين‪.‬‬
‫أما صاحب األوراق منهما‪ ،‬فقد رأيته على شاشات التلفاز‪ ،‬بعد أن استضافته‬
‫قناة من القن وات الك برى المش هورة‪ ..‬لعلكم تعرفونه ا‪ ..‬تل ك القن اة ال تي ال تتقن إال‬
‫إثارة الفتن والتحريض على الشغب‪..‬‬
‫وق د ك ان مق دم الحص ة أيض ا معروف ا بحب ه لإلث ارة‪ ،‬وإيث اره للتح ريض‬
‫والمحرضين‪ ،‬وقد راح يقدمه بطريق ة عجيب ة جعلت من ه بطال من أبط ال اإلس الم‬
‫الكبار‪.‬‬
‫وقد تعجبت ـ ب ادئ األم ر ـ للمنج زات الكث يرة ال تي حققه ا في تل ك العق ود‬
‫القليلة من السنين‪ ..‬فقد رأيته ي ذكر انتم اءه لعش رات الجمعي ات‪ ..‬وتأليف ه لعش رات‬
‫الكتب‪ ..‬وتوليه للكثير من المناصب‪ ..‬ورحلته للكث ير من البالد‪ ..‬وف وق ذل ك تولي ه‬
‫إدارة أعرق جامع ة في بعض البالد العربي ة‪ ..‬وف وق ذل ك كل ه ص داقته للكث ير من‬
‫الملوك واألمراء‪..‬‬
‫أصدقكم بأني فرحت كثيرا لما ناله من حظوظ‪ ..‬وقلت في نفسي‪ :‬هي فرصة‬
‫ألن يؤدي رجل قارئ ومثقف مثله خدماته الجليلة لألمة‪..‬‬
‫لكني ما إن سمعت حديثه حتى سقط في يدي‪ ..‬وتألمت كثيرا لما أصابه‪..‬‬
‫لقد بدا لي ممتلئا بالقسوة والغلظة‪ ..‬وكان يجيب عن األس ئلة ال تي ت رد علي ه‬
‫بكل كبرياء وغرور‪ ..‬حتى أن ني عن دما اتص لت بالحص ة من بي تي وأخبرت ه أن ني‬
‫صديقه القديم لم يلتفت لكالمي‪ ،‬بل راح يقول ضاحكا أو ساخرا للمذيع‪ :‬الكل ي زعم‬
‫صداقتي‪ ..‬هذه ضريبة المناصب‪ ..‬ولم يزد على ذلك‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ولم يؤذني كل ذل ك‪ ،‬ب ل آذت ني تل ك الفت اوى الخط يرة ال تي ك ان يص درها‪،‬‬
‫والتي كان يحرض فيها على الفتنة وسفك الدماء وخراب األوطان‪..‬‬
‫بل إنه في أثناء إجابته عن سؤال طرح علي ه ح ول الزواي ا والص وفية ق ال‪:‬‬
‫أتذكر أني ذهبت في شبابي إلى بعض تل ك الزواي ا‪ ،‬وق د رأيت فيه ا من الخراف ات‬
‫والضالالت والهرطقات م ا ال يق ع في مثل ه اليه ود والنص ارى‪ ،‬ل ذلك أن ا أرى أن‬
‫تعامل بمثل ما تعامل بها س لفنا من العلم اء الرب انيين ال ذين حكم وا على أص حابها‬
‫بالردة‪ ،‬وحكموا على بنيانها بالهدم‪.‬‬
‫وظل يرطن بمث ل ه ذه األح اديث والفت اوى والبيان ات إلى أن ض جرت من ه‬
‫ومن كل األوراق التي قرأها‪ ،‬والتي كانت مبعثرة بين يديه‪..‬‬
‫في ذلك الحين خطر على بالي أن أبحث عن صديقي صاحب الذوق الرفي ع‪،‬‬
‫ال للسؤال عنه‪ ..‬بل الختيار القبل ة ال تي يحت اج قل بي للتوج ه إليه ا‪ ..‬ه ل هي قبل ة‬
‫األوراق‪ ..‬أم قبلة األذواق؟‬
‫لم يكن من الص عب علي البحث عن ه‪ ،‬فق د قص دت أهل ه‪ ،‬وس ألته عنهم‪،‬‬
‫فأخبروني أنه في تلك الزواية التي ذهب إليها منذ ثالثين سنة‪ ..‬وأخ بروني أن ه يقيم‬
‫فيها مع أسرته الصغيرة‪ ..‬وأن حياته كلها مرتبطة بها‪.‬‬
‫أسرعت إليها‪ ،‬وأنا أحمل تلك الصورة القديمة عنها‪ ،‬لكني فوجئت بها تتغ ير‬
‫تغيرا كبيرا‪ ..‬فقد تحسن بنيانها‪ ،‬وانتشر العمران حولها‪ ،‬وقد رأيت بجنبها مجموعة‬
‫من السيارات الفخمة‪ ،‬فخش يت أن يك ون ق د حص ل لص احبي ص احب األذواق م ا‬
‫حصل لصاحبي ص احب األوراق من االس تغراق في ال دنيا واالنش غال به ا‪ ،‬لك ني‬
‫وجدت األمر خالف ذلك تماما‪.‬‬
‫عن دما دخلت إلى الزاوي ة‪ ،‬وس ألت عن ص احبي‪ ،‬أخ برت أن لدي ه بعض‬
‫األشغال‪ ،‬وأنه سيحضر بعد حين‪ ،‬فجلست في قاعة االس تقبال أنتظ ر م ع مجموع ة‬
‫من الرجال‪ ،‬وهذا بعض ما دار بينهم من حديث‪:‬‬
‫قال أحدهم‪ :‬لقد انتفعت كثيرا بزيارة هذا الش يخ‪ ..‬فق د أخرج ني من كث ير من‬
‫األوهام التي كادت تصل بعقلي إلى الجنون‪ ..‬فمع أني قرأت الكث ير من الكتب لح ل‬
‫إشكاالتها إال أن تلك الكتب لم تزدني إال أوهاما وضالال‪ ..‬وقد عرف الش يخ عل تي‪،‬‬
‫وأعطاني دواءها‪ ،‬ومنذ ذلك الحين‪ ،‬وأنا أرى الكون والحي اة بص ورة أجم ل بكث ير‬
‫مما كنت أراهما‪..‬‬
‫قال آخر‪ :‬صدقت‪ ..‬وأنا مثلك في هذا‪ ..‬ب ل إني بفض ل هللا اس تطعت أن أدي ر‬
‫المدرسة الخاصة التي أملكها وفق المنهاج التربوي الذي نصحني به‪ ..‬وه و منه اج‬
‫يعتم د على التك وين األخالقي وال تربوي قب ل أن يعتم د على حش و ذهن الط الب‬
‫بالمعلومات والملكات‪..‬‬
‫قال آخر‪ :‬أذكر جيدا أول يوم دخلت عليه في ه‪ ..‬لق د ع رف عل تي بمج رد أن‬
‫رآني‪ ،‬فقال‪ :‬عن دما ت نزع بي ديك الغش اوة من عيني ك ستبص ر الحقيق ة أق رب إلي ك‬
‫منك‪ ..‬ولن تحتاج حينها لفيلسوف وال لمتكلم‪ ..‬ثم أخذ ي ردد علي تل ك الحكم ة ال تي‬

‫‪46‬‬
‫جعلتها شعار حياتي‪( :‬كيف يشرق قلب صور األكوان منطبع ة في مرآت ه‪ ،‬أم كي ف‬
‫يرحل إلى هللا وهو مكب ل بش هواته‪ ،‬أم كي ف يطم ع أن ي دخل حض رة هللا‪ ،‬وه و لم‬
‫يتطهر من جنابة غفالت ه‪ ،‬أم كي ف يرج و أن يفهم دق ائق األس رار وه و لم يتب من‬
‫هفواته)‬
‫قال آخر‪ :‬لقد كان قلبي قبل االلتقاء به خالي ا من ك ل المش اعر‪ ..‬وكنت قاس يا‬
‫عتال غليظا‪ ..‬وكنت أذيق من حولي كل ما تنتجه نفسي وقلبي من أصناف الضغائن‬
‫إلى أن سقاني تلك الكأس الطاهرة من شراب المحبة‪ ..‬وأنا منذ منذ ذلك الحين أشعر‬
‫بالكون كله في حفلة تسبيح عظيمة‪..‬‬
‫قال آخر‪ :‬إن الذي رغبني في صحبته هو أن ني أنس ى عن د ال دخول إلي ه ك ل‬
‫تلك الثروات التي جمعتها‪ ..‬والتي ال يحترم ني الن اس إال بس ببها‪ ..‬أم ا ه و فلم يكن‬
‫يلتفت لها‪ ..‬بل إنني عندما عرضت عليه أن يأخذ من أموالي ما ش اء ابتس م‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫الحياة أعظم من أن نضيعها في عد النقود‪ ..‬الحياة فرص ة ألن ن تزود لألب د‪ ..‬ف امأل‬
‫خزائن قلبك بالحقائق واألذواق‪ ،‬ال بالفضة والذهب‪ ..‬فالفضة والذهب ي زوالن‪ ،‬أم ا‬
‫الحقائق واألذواق فهي التي تنفعك في تلك الرحلة األبدية‪.‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأنا مثلكم‪ ..‬فلوال صحبتي له لكنت اآلن مع أولئ ك ال دمويين ال ذين‬
‫يخربون أوطانهم‪ ،‬ويشعلون نيران الفتن فيها‪ ..‬لقد عرضت علي حينها مبالغ كب يرة‬
‫ألسخر القناة الفضائية التي أملكها على التحريض على الفتنة‪ ..‬لكني عندما قصدته‪،‬‬
‫وقبل أن أستشيره في أي شيء‪ ،‬أخذ يحدثني عن السالم والمحب ة‪ ،‬وأن ه ال يمكن أن‬
‫يحصل تغيير إال بهما‪ ..‬وقد كانت كلمات ه الص ادقة تل ك س ببا في انهي ار المش روع‬
‫الذي كان يريد الشياطين إقحامي فيه‪ ،‬وجري إليه‪.‬‬
‫بقي القوم يتحدثون عن مناقب الرجل‪ ،‬وما اس تفادوه من ه إلى أن دخ ل علين ا‬
‫ممتلئا هيبة ووقارا وإيمانا وتواضعا‪ ..‬فصافح الجميع‪ ،‬ثم م د ي ده إلي‪ ،‬وه و يق ول‪:‬‬
‫مرحبا بصديقي القديم‪ ..‬ألم تحسم أمرك بعد؟‬
‫قلت‪ :‬ما تعني؟‬
‫ق ال‪ :‬أال ت زال تحن إلى ع الم األذواق‪ ..‬أم أن أوراق ك ال ت زال تح ول بين ك‬
‫وبينه؟‬
‫قلت‪ :‬خذ جميع أوراقي‪ ..‬واسقني كأسا واح دة من الك ؤوس ال تي س قيت به ا‬
‫هؤالء الناس‪.‬‬
‫ابتس م‪ ،‬وق ال‪ :‬م ا دامت أوراق ك ال تح ول بين ك وبين االرت واء من ك ؤوس‬
‫األذوق‪ ،‬فدعها معك‪ ..‬فإن حالت بينك وبينها فأحرقها‪ ،‬فهي سموم قاتلة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل علمت ما حصل لصاحبنا صاحب األوراق‪ ..‬فقد‪..‬‬
‫قاطعني‪ ،‬وقال‪ :‬لقد أخبرني شيخي بمصيره من أول يوم التقينا فيه معه‪ ..‬لق د‬
‫بكى بعد انصرافكما بكاء شديدا‪ ،‬وقال‪ :‬يوشك لصديقك ذلك أن يأك ل الف الوذج على‬
‫موائد األمراء‪ ..‬فإن شئت أن تصحبه فافعل‪ ..‬فإن الدنيا ستفتح له كل أبوابها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم لم تفعل؟‬

‫‪47‬‬
‫قال‪ :‬عندما تذوق من رحيق المحب ة الط اهرة‪ ،‬وتش ع علي ك أش عتها الجميل ة‬
‫ستحتقر كل ما عداها‪ ،‬وكل من عداها‪ ..‬وسيصبح الساقي حينها هو األمير والملك‪..‬‬
‫وستطلق عند رؤيته كل م ا حص لت علي ه‪ ،‬وم ا لم تحص ل‪ ..‬ألم تع رف م ا حص ل‬
‫لموالنا جالل الدين عند رؤيته لشمس تبريز؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬لقد قرأت ذلك‪ ..‬وتأثرت لقصته‪.‬‬
‫قال‪ :‬فه ل ك ان يمكن لموالن ا أن يك ون بتل ك الص فة ال تي عرفت ه به ا ل و لم‬
‫يشرب من شراب المحبة التي سقاه بها شمس تبريز؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ال يمكنه ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنه كان قبل صحبته صاحب أوراق كثيرة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لكن كل تلك األوراق مع كثرتها لم تكن تدفئ روحه التي ك انت تحت اج‬
‫إلى من يشعل فيها نيران المحبة‪..‬‬
‫قال‪ :‬فهل تعرف الغزالي‪ ..‬وعلومه الكثيرة قبل رحيله إلى عالم األذواق؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لقد ذكر ذلك عن نفسه في كتابه [المنقذ من الضالل]‬
‫قال‪ :‬لو أن صاحبك عرف هذا‪ ..‬وراح يراجع ما قرأ‪ ..‬ويعيش ما ط الع‪ ..‬وال‬
‫يكتفي بتردي ده على نفس ه وعلى الن اس‪ ..‬لم ا ص ار أداة يتالعب به ا األم راء ومن‬
‫معهم من الشياطين‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم استأذننا في الذهاب إلى تالميذه‪ ،‬وطلب منا صحبته‪ ،‬فرأينا منهم‬
‫العجب‪ ..‬ال في عالم األذواق فقط‪ ..‬بل في عالم األوراق أيضا‪..‬‬

‫‪48‬‬
‫حرب‪ ..‬وسالم‬
‫س أقص عليكم الي وم قص ة حزين ة لح رب وس الم‪ ،‬تعرف ان من خالله ا دور‬
‫العن ف واللين‪ ،‬أو الح رب والس الم في انغالق العق ول وانفتاحه ا‪ ..‬وتعطيله ا‬
‫وتفعيلها‪ ..‬ولتعلموا أن شجرة الحقيقة المقدسة ال تؤتي ثماره ا الطيب ة إال ألص حاب‬
‫القلوب الطاهرة الممتلئة بالسالم والمحبة‪..‬‬
‫فالعلم ال يتعلق بالمرسل فقط‪ ،‬بل يتعلق بالمستقبل أيضا‪ ..‬كالمطر الذي ينزل‬
‫على الورود فيزيد أريجها الطيب انتش ارا‪ ،‬وي نزل على المس تنقعات اآلس نة‪ ،‬فيمأل‬
‫الجو من حولها قذارة‪.‬‬
‫وحرب وسالم موجودان توأمان في كل شخص منا‪ ..‬ففينا جميع ا‪ ،‬وم ع أول‬
‫ميالدنا ولد فينا هذان الشخصان‪ ..‬لكن من الناس من يعتني بحرب‪ ،‬فيطعمه ويسقيه‬
‫ويعتني به‪ ..‬فيقوى ويشتد‪ ..‬فإذا ما بلغ أش ده واس توى‪ ،‬ك ان أول م ا يفعل ه أن يقت ل‬
‫أخاه سالما‪ ،‬حتى ال يزاحمه في طعامه أو ينافسه في شرابه‪ ..‬فحرب ال يحب إال أن‬
‫يكون وحده‪..‬‬
‫وفين ا من يعت ني بس الم‪ ..‬فيق وى ويش تد‪ ..‬وبقوت ه وش دته يض مر ح رب‪ ،‬أو‬
‫يموت غيظا‪ ..‬ألن الحرب ال تطيق أن ترى السالم‪ ،‬أو تتعايش معه‪.‬‬
‫ومن حكمة هللا تعالى في تربيته لخلقه أن يريهم نفوس هم في نف وس اآلخ رين‬
‫وحركاتهم‪ ..‬ألن الخارج ـ عند أهل الحقائق ـ ليس سوى ص دى لل داخل‪ ،‬وك ل إن اء‬
‫بما فيه ينضح‪.‬‬
‫وقد أراني هللا بحكمت ه ولطف ه التوأم ان الل ذان ول دا معي كم ا ول دا معكم في‬
‫صورة ص ديقين عرفتهم ا م ذ كنت ص بيا ص غيرا‪ ،‬وص حبتهما في جمي ع مراح ل‬
‫الدراسة‪ ،‬وعندما افترقت بنا الدنيا ظللت أتابع أخبارهما إلى آخر لحظة‪..‬‬
‫وقد فكرت مرات كث يرة في أن أكتب مس رحية حولهم ا‪ ..‬وبم ا أن بض اعتي‬
‫مزجاة في هذا الفن النبيل من الفن ون اإلنس انية‪ ،‬ف إني س أذكر هن ا مش اهد من تل ك‬
‫المس رحية‪ ،‬وأت رك إلخ واني وأص دقائي من الفن انين الموه وبين ليحول وا من ه ذه‬
‫المشاهد كائنا حيا يراه الن اس ب أعينهم‪ ،‬ويلمس ونه ب أرواحهم‪ ،‬عس اهم يلتفت وا لتل ك‬
‫الكائنات التي تتكون منها ذواتهم‪ ،‬قبل أن يلتفتوا لذوات اآلخرين‪.‬‬
‫أما الفصل األول من مس رحة ح رب وس الم‪ ،‬فيب دأ من ص بانا الب اكر‪ ،‬حيث‬
‫كان حرب يميل إلى كل اللعب والرياضات الممتلئ ة ب العنف والقس وة‪ ،‬وخصوص ا‬
‫المالكمة‪ ،‬فقد ك ان يحبه ا حب ا ش ديدا‪ ،‬وك ان ل ذلك يقاب ل ك ل من لقي ه بلكم ة ثقيل ة‬
‫يمازحه به ا‪ ..‬وك ان إذا ص افح زمالءة ض غط على أي ديهم بش دة‪ ،‬ليقيس عض الته‬
‫بعضالتهم‪ ،‬أو ليفرض شخصه عليهم بتلك القبضة القوية‪.‬‬
‫وكان يحدثنا بإعجاب شديد على تلك اللكمات التي هشم به ا األن وف‪ ،‬وأس ال‬
‫بها الدماء‪ ،‬وكسر بها األسنان‪ ..‬كما يحدثنا عن الطي ور ال تي طارده ا‪ ،‬والحش رات‬

‫‪49‬‬
‫التي وطئها‪ ،‬والحيوانات التي خنقها بقبضته القوية‪..‬‬
‫وقد ظلت هذه الصفات معه‪ ،‬وكبرت مع كبره‪ ،‬ونمت شجرتها في نفس ه م ع‬
‫نموه‪ ..‬فكانت قبضة يده القوية ـ في كبره ـ يستعملها في كل محل حتى وه و يمس ك‬
‫بعصا المحراب‪ ،‬أو هو يلوح بها خطيبا‪ ،‬أو هو يحاور بها غيره من مخالفيه‪ ..‬حتى‬
‫وهو يروي أحاديث رسول هللا ‪ ‬أو هو يقص قصص األنبياء ك ان يتح دث عنهم‪،‬‬
‫باعتبارهم أصحاب قبضات قوية كقبضته‪ ،‬وأصحاب نفوس عنيفة كنفسه‪.‬‬
‫وبخالف حرب كان سالم ممتلئا سالما من صغره الباكر‪ ..‬فك ان أبع د الن اس‬
‫عن العنف وأميلهم إلى الهدوء والسكينة والس الم‪ ..‬ه و كاس مه تمام ا‪ ..‬ول ذلك ك ان‬
‫يؤثر الرياضات واأللعاب التي تتناسب مع تلك الطبيعة التي جبل عليها‪ ،‬أو آثره ا‪،‬‬
‫أو ربي عليها‪.‬‬
‫وقد كان لذلك مستض عفا من ط رف زمالئ ه وخصوص ا ح رب‪ ،‬ال ذي ك ان‬
‫يلكمه بلكمة قوية كلما التقى به‪ ،‬وكان س الم لحب ه الس الم‪ ،‬ال يقاب ل تل ك اللكم ة إال‬
‫بابتسامته التي ظلت معه إلى آخر لحظة من حياته‪ ..‬وقد ك انت تل ك االبتس امة وم ا‬
‫يصاحبها من كلمات طيبة سما قاتال لحرب يجعل ه ال يكتفي باللكم ة واللكم تين‪ ،‬ب ل‬
‫يضيف إليها ما يرضي غريزته العدوانية‪ ،‬أو الس بع ال ذي ك ان ي تربع على ع رش‬
‫قلبه‪.‬‬
‫وأحب أن أنب ه هن ا إلى أن األم ر لم يكن مرتبط ا بق وة جس د ح رب‪ ،‬وال‬
‫بضعف جسد سالم‪ ،‬فقد كان كالهما متشابهين في القوة الجسدية‪ ،‬بل لعل ق وة جس د‬
‫سالم كانت تفوق قوة جس د ح رب‪ ..‬ولكن نفس ه المس المة ك انت تتحكم في جس دها‬
‫الذي اؤتمنت عليه‪ ،‬بينما كانت نفس حرب تمد حربا بمدد إضافي يجعله يرى نفس ه‬
‫مثل الهرة عندما تنتفخ‪ ،‬وترى في انتفاخها أنها تحولت أسدا هصورا‪.‬‬
‫وهكذا كان حرب‪ ،‬فقد كان أشبه الناس في تلك المرحلة بالهرة التي تنتفخ كل‬
‫حين‪ ،‬لتري غيرها أنها ليست سبعا ضعيفا‪ ،‬بل هي سبع قوي ال يص ح ألي أح د أن‬
‫يقترب منه‪.‬‬
‫هذه مشاهد من الفصل األول من مسرحية حرب وسالم‪ ..‬وق د تط ورت ه ذه‬
‫المشاهد بعد ذلك‪ ،‬فانتقلت من عالم الجسد إلى ع الم الفك ر إلى غيره ا من الع والم‪..‬‬
‫فالقبضة القوية ال تقتصر على الجسد فق ط‪ ،‬ب ل تش مل النفس وال روح والس ر وك ل‬
‫اللطائف اإلنسانية لتغذيها بغذائها‪.‬‬
‫أما الفصل الثاني‪ ،‬فيبدأ من أي ام تكوينن ا الدراس ي‪ ،‬وخصوص ا في المرحل ة‬
‫الجامعية حيث كان لكل من حرب وسالم منهجه الخاص في الدراسة‪ ،‬وفي التعام ل‬
‫مع المعلومة‪ ،‬وفي االنفعال لها‪.‬‬
‫أما حرب‪ ،‬فكان ـ بطبيعة اهتماماته التي ربي عليه ا ـ أمي ل إلى العن ف من ه‬
‫إلى السالم‪ ،‬وإلى الشدة منه إلى اللين‪ ..‬ولذلك ك ان إذا رأى اختالف مواق ف الن اس‬
‫من أي جهة من الجهات آثر العنف والشدة على السالم واللين‪ ..‬وقد أراح ذلك عقل ه‬
‫كثيرا‪ ..‬فلم يتكلف من التعب والعناء في الدراسة ما تكلفه سالم‪ ..‬ألن الس الم يحت اج‬

‫‪50‬‬
‫جهدا مضاعفا‪ ،‬وقوة كبيرة حتى ال يقع في أحكام خاطئة‪ ،‬فيظلم أو يجه ل أو يج ور‬
‫أو يعتدي‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أننا عند دراستنا المنطق‪ ،‬رأيت سالم مقبال علي ه بك ل‬
‫جهده‪ ،‬يتعلم مسائله دقيقها‪ ،‬وجليلها‪ ،‬ويحاول التدرب عليه‪ ،‬وتكوين ملكة في ه‪ ..‬أم ا‬
‫ح رب‪ ،‬فق د رمى الكت اب من الي وم األول‪ ،‬ألن عقل ه لم يس تطع أن يفهم تل ك‬
‫المصطلحات‪ ،‬وال وقته كان يسمح له بالتدرب على تلك البراهين‪..‬‬
‫ولكنه لم يكتف بذلك‪ ..‬ب ل راح يبحث عمن تكلم في ه‪ ،‬أو نهى عن ه‪ ،‬أو ذم ه‪..‬‬
‫وسرعان ما وجد ضالته‪ ..‬ف راح ب دل تعلم المنط ق يتعلم كيفي ة نقض ه ونق ده وس به‬
‫وحربه‪.‬‬
‫وهكذا عند دراستنا المقاييس المرتبطة باألديان‪ ..‬فق د رأيت معان اة س الم في‬
‫البحث عن ك ل دين‪ ،‬وعقائ ده‪ ،‬وتاريخ ه‪ ..‬وك ان يف رح كث يرا كلم ا رأى قواس م‬
‫مشتركة بينها وبين اإلسالم‪ ،‬أو بينها وبين القيم اإلنسانية‪..‬‬
‫وأذك ر أن ه ك ان يقص علي ك ل حين أخب ار الرهب ان الطي بين ال ذين قض وا‬
‫حتفهم في بعض الخدمات االجتماعية أو اإلنس انية‪ ..‬وك ان يغض ب عن دما يس ميهم‬
‫بعض زمالئنا بالصليبيين الحاقدين‪ ،‬ويق ول لهم بك ل ق وة‪ :‬ه ل اطلعتم على ذل ك؟‪..‬‬
‫هل شققتم على قل وبهم؟‪ ..‬لم ترم ونهم بفع ل الجب ابرة والطغ اة والظ المين من غ ير‬
‫بينة؟‬
‫وأذكر أنه جاءني مرة بكتيب صغير‪ ،‬كان اس مه [إنجي ل ب وذا]‪ ،‬وق رأه علي‬
‫فرحا مسرورا‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ال شك أن هذا الرج ل ال يختل ف عن أولئ ك األنبي اء أو‬
‫األولياء أو الصديقين‪ ..‬وإن كان التحري ف ق د لح ق أتباع ه في بعض األم ور‪ ،‬ف إن‬
‫هناك مساحة مشتركة بيننا وبينهم يمكننا ل و ص دقنا الني ة أن نردمه ا بس هولة‪ ،‬وأن‬
‫نبني بيننا وبينهم عالقات ممتلئة بالطيبة واإلنسانية‪.‬‬
‫وهكذا كان في تعامله مع األديان المختلفة‪ ..‬وقد جر عليه ذل ك حروب ا كث يرة‬
‫من طرف حرب وأصحابه حتى اتهموه بالردة وأخواتها‪.‬‬
‫هذا حال سالم مع تلك العلوم‪ ..‬أما ح ال ح رب‪ ،‬فك ان مختلف ا تمام ا‪ ،‬فه و لم‬
‫يقرأ أي كتاب‪ ،‬وال طالع أي بحث‪ ،‬وال ع رف أي دين من خالل مص ادره‪ ،‬وال من‬
‫خالل واقع ه‪ ..‬وإنم ا اكتفى عقل ه الص غير بمق االت خطابي ة قص يرة ألفه ا بعض‬
‫الخطب اء المش هورين في ذل ك الحين‪ ،‬ي دعو فيه ا إلى ه دم ك ل كنيس ة‪ ،‬وقت ل ك ل‬
‫راهب‪ ،‬وذبح كل رجل دين‪..‬‬
‫وك ان أحب المش اهد إلى نفس ه ـ وال تي ك ان يردده ا كث يرا ـ مش هد ذل ك‬
‫المجنون الذي حرق اإلنجيل في أكبر شارع للمسيحيين‪ ،‬لينتقم للق رآن الك ريم ال ذي‬
‫حرقه بعض القساوسة‪.‬‬
‫وكان يصيح كل حين‪ ،‬ومع األس تاذ والطلب ة بق وة‪ :‬كي ف تس مح قل وبكم ب أن‬
‫يعيش على هذه األرض من يشرك باهلل‪ ،‬أو يش وهه أوال ي ؤدي ف رائض دين ه‪ ..‬أين‬
‫غيرتكم‪ ..‬أين إيمانكم‪ ..‬أين دينكم؟‬

‫‪51‬‬
‫وعندما كان يقول هذا كان األستاذ يطأطئ رأسه‪ ،‬وال يدري بم ا يجيب ه‪ ،‬ألن‬
‫حربا كان قد شكل في كبره‪ ،‬كما شكل في صغره‪ ،‬عصابة ال تردد إال ما يقول‪ ،‬وال‬
‫تصيح إال بما يصيح‪..‬‬
‫ولهذا كان األس اتذة يتحاش ونه‪ ،‬ب ل يرش ونه بالنق اط الكث يرة هرب ا من ه ومن‬
‫شره‪ ..‬وذلك ما جعله ينجح في كل المراحل‪ ،‬وبتفوق‪ ،‬ومن غير أن يبذل أي جه د‪..‬‬
‫فقد كانت قبضته ال عقله سبب تفوقه ونجاحه‪.‬‬
‫وهك ذا عن دما درس نا التص وف اإلس المي‪ ..‬فق د رأيت س الما ينس جم مع ه‬
‫انسجاما كبيرا‪ ،‬فكان يبيت الليل مع كبته الصفراء القديم ة‪ ،‬يطالعه ا حرف ا وحرف ا‪،‬‬
‫ويتجاوب معها‪ ،‬فيهتز ويتواجد من حيث شعر أو لم يشعر‪..‬‬
‫ولم تكفه تل ك المطالع ات‪ ،‬ب ل راح يبحث عن المش ايخ والط رق‪ ،‬ويس ألهم‪،‬‬
‫ويجلس معهم‪ ،‬ويس تفيد منهم‪ ..‬وك ان يح دثنا كث يرا عن تل ك المواجي د واألذواق‬
‫واألشواق التي يعيشها الصوفية في رحاب المأل األعلى‪ ..‬وك ان يح دثنا ك ذلك على‬
‫ذلك التسامح والسالم الذي تمتلئ به أرواحهم وعقولهم وقلوبهم‪.‬‬
‫لكن حربا كان مختلف ا في ذل ك تم ام االختالف م ع س الم‪ ..‬فبمج رد أن ب دأنا‬
‫دراسة هذه المادة‪ ،‬وأخبرنا األستاذ عن تسامح أهله وسالمهم‪ ،‬حتى انقبض انقباض ا‬
‫شديدا‪ ،‬وراح يبحث عمن يعاديهم‪ ،‬وينفر منهم‪ ،‬وسرعان ما وجد ذلك‪..‬‬
‫ولذلك فإنه بدل أن يجهد ذهنه وعقله في البحث عن تلك الحقائق التي يتحدث‬
‫عنه ا الص وفية‪ ،‬ويس لكون في س بيلها ك ل طري ق‪ ،‬راح يحف ظ فت اوى تكف يرهم‬
‫وتضليهم وتبديعهم وهدر دمائهم‪..‬‬
‫ثم راح يبشر بك ل ذل ك في الجامع ة‪ ،‬وبين الطلب ة ال ذين أعجب وا ب ه‪ ،‬وبق وة‬
‫ذاكرته‪ ،‬وبشدته في الحق‪ ،‬ونصرته للسنة‪ ،‬وحربه للبدعة‪ ..‬وقد أكس به ذل ك ش هرة‬
‫كبيرة‪ ،‬وأتباعا كثيرين‪ ..‬عرف بعد تخرجه كيف يستثمرهم ليصل إلى كل ما يريد‪.‬‬
‫وهكذا كان األمر‪ ،‬أو أشد منه عند دراستنا للفرق اإلس المية‪ ،‬فق د ك ان س الم‬
‫حريص ا على الوح دة اإلس المية‪ ،‬وعلى ته وين الخالف ات الواقع ة بين المس لمين‪،‬‬
‫وكان يلتمس لذلك كل ذريعة‪ ،‬ويبحث عن كل مبرر‪ ،‬وكان يص يح ك ل حين م رددا‬
‫اآليات القرآنية الداعية إلى الوحدة‪ ،‬والمنفرة من الخالف‪.‬‬
‫وكم أذك ر فرحت ه الش ديدة عن دما وج د الكتب المعتدل ة ال تي تش رح حقيق ة‬
‫مواق ف الش يعة من الق رآن أو الس نة أو من العقائ د والش رائع المختلف ة‪ ..‬فق د ك ان‬
‫يقرؤها‪ ،‬ويرددها في ك ل مجلس يس مع في ه من ينش ر قيم الع داوة والبغض اء‪ ،‬وم ا‬
‫يتبعها من التكفير والتضليل‪.‬‬
‫ولم يكتف سالم بذلك‪ ،‬بل كان يتصل بمشايخ تل ك الف رق‪ ،‬ويجلس بين أي دهم‬
‫كم ا جلس م ع الص وفية‪ ،‬ويس تفيد منهم‪ ،‬وق د أكس به ذل ك التع رف على مدارس هم‬
‫ومناهجهم وعلومهم ورجالهم‪ ..‬وقد تراكم ذلك كله في عقله‪ ،‬فجعل منه عقال جامع ا‬
‫منفتحا على آفاق كثيرة لم يكن يصل إليها من دون ذلك االنفتاح‪.‬‬
‫وبخالفه كان حرب‪ ..‬فقد كان حربا على كل تلك الفرق‪ ..‬فك ل فرق ة ندرس ها‬

‫‪52‬‬
‫يذهب إلى م ا كتب فيه ا أع داؤها من خطب وفت اوى‪ ،‬فيحفظه ا عن ظه ر قلب‪ ،‬ثم‬
‫يصيح بها في كل محل‪ ،‬وسرعان ما يتلف الن اس حول ه منبه رين بش جاعته وقوت ه‬
‫وفصاحته‪ ..‬وبتلك الذاكرة العجيبة التي حفظت كل تلك الفتاوى‪.‬‬
‫وهكذا كان األمر عند دراستنا للمذاهب الفلسفية‪ ،‬واألفكار والرؤى اإلنسانية‪،‬‬
‫فقد كان سالم منفتحا على كل رؤية‪ ،‬دارسا لكل م ذهب فلس في‪ ،‬يح اول أن يفهم ه‪،‬‬
‫ويستوعبه‪ ،‬ليخرج من بين أشواكه ما شاء له سالمه من رحيق وعسل‪..‬‬
‫وعلى خالفه حرب ال ذي لم يكن عقل ه يطي ق أن يس مع غ يره‪ ،‬وال غ ير م ا‬
‫رآه‪ ..‬فلذلك كان يكتفي بحفظ أسماء تل ك الم ذاهب ورجاله ا‪ ،‬وك ان يص يح في ك ل‬
‫مجلس بتضليلها وتكفيرها والتحذير منها‪ ..‬وكان ذلك يعجب الكثير من الناس ال ذين‬
‫يجدون فيه صدى لما في نفوسهم‪ ،‬وبوقا لحرب الذي يجثم على عرش قلوبهم‪.‬‬
‫وهكذا كان األم ر عن د دراس تنا للفن ون المختلف ة‪ ..‬فق د ك ان س الم مي اال له ا‬
‫جميع ا‪ ،‬معت برا أنه ا هدي ة من هللا لعب اده ليع بروا ب ه عن الجم ال ال ذي ال تطي ق‬
‫الحروف الجافة التعبير عنه‪ ..‬ولذلك راح يقرأ لك ل ش اعر وك اتب وروائي‪ ..‬وك ان‬
‫فوق ذلك يتدرب على كل تلك الفنون‪ ،‬ويحاول أن يع بر به ا عن الس الم ال ذي يمأل‬
‫قلبه‪.‬‬
‫أما حرب‪ ،‬فقد كان حربا على كل تلك الفنون‪ ..‬وقد حفظ الفتاوى الكثيرة التي‬
‫تحرمها‪ ،‬وتسد الطري ق على أهله ا‪ ..‬وق د أكس به ذل ك أيض ا أتباع ا ج ددا‪ ،‬وش هرة‬
‫جديدة‪.‬‬
‫وهكذا كان األمر عند دراستنا للحركات اإلصالحية‪ ..‬فقد ك ان س الم منبه را‬
‫بالحركات العقالنية والتنويرية في نفس الوقت الذي ك ان ح رب منبه را بالحرك ات‬
‫المس لحة والمتش ددة‪ ..‬وك ان معجب ا إعجاب ا ش ديدا بالش يخ محم د بن عب د الوه اب‬
‫وحركته النجدية‪ ،‬فقد أخذت منه كل مأخذ‪ ،‬وكان يقول لنا كل حين‪ :‬إن هذه الحرك ة‬
‫هي الحركة الوحيدة التي تمثل اإلسالم الحقيقي‪ ..‬ألنها وقفت بكل ق وة في وج ه ك ل‬
‫ذلك التزييف والتحريف الذي تعرض له اإلسالم‪..‬‬
‫وق د ك ان من أعجب م ا رأيت ه من ه‪ ،‬وأن ا أع رف كس له ونف وره من العلم‬
‫والدراسة‪ ،‬هو ذل ك االس تغراق ال ذي حص ل ل ه وه و يق رأ كتب ابن عب د الوه اب‬
‫وتالميذه وحفدته‪ ،‬ويرددها كل حين‪ ..‬وال يكتفي بذلك‪ ،‬بل راح يستعمل كل الوسائل‬
‫للتواصل بهم واالستفادة منهم‪..‬‬
‫ثم راح بعد ذلك‪ ،‬يبشر بهم في الجامعة وبين الطلبة‪ ،‬وبين الن اس‪ ،‬وس رعان‬
‫ما كسب أتباعا كثيرين‪ ،‬وشهرة جديدة‪.‬‬
‫وهكذا كان األمر في كل العلوم والفنون إلى أن تخرجنا‪..‬‬
‫وبتخرجنا ينتهي الفصل الثاني من هذه المسرحية‪ ،‬ليبدأ الفصل الثالث‪ ،‬وه و‬
‫فصل ممتلئ باألسى والحزن‪ ..‬ولذلك أنصح أص حاب القل وب الض عيفة أن يتوقف وا‬
‫عند هذا الحد‪ ،‬ويخرجوا من المسرح‪.‬‬
‫أما غيرهم‪ ،‬فأذكر لهم أننا بعد تخرجنا مباشرة‪ ..‬اختلفت بنا السبل‪..‬‬

‫‪53‬‬
‫أما حرب‪ ،‬فقد وجد عناية كبيرة من جهات متعددة‪ ،‬ك انت كله ا تتن افس على‬
‫توظيفه واالستفادة من قدراته العجيب ة‪ ..‬وك انت كله ا ت دفع ل ه مب الغ طائل ة جعلت ه‬
‫يتحول في وقت قصير إلى غني من األغنياء‪ ،‬بل يتحول إلى رجل أعمال كبير‪..‬‬
‫وأول تل ك الجه ات هي القن وات الفض ائية ال تي تحب الص وت المرتف ع‪،‬‬
‫والقبضات القوية‪ ،‬إرضاء ألذواق الجماهير‪ ..‬وقد أعطته ما ش اء من ال وقت لينش ر‬
‫فكره التجديدي المتمثل في الق وة والتغي ير‪ ..‬ول ذلك ك ان ش عاره ال ذي تب دأ ب ه ك ل‬
‫حصة هي قبضة قوية مكتوب عليها شعار [هللا أكبر]‬
‫وسرعان ما تحول الشعار بعد ذل ك إلى [الش عب يري د إس قاط النظ ام]‪ ،‬وق د‬
‫وجد حرب فرصته تحت هذا الشعار‪ ،‬فقد كان ال يكتفي بتلك المساحة الكب يرة ال تي‬
‫أعطيت له من جميع القنوات العالمية‪ ..‬وإنم ا ك ان ي ذهب بنفس ه مش جعا لك ل تل ك‬
‫األيادي التي تسفك الدماء‪ ،‬وتخرب األوطان‪ ،‬وتقضي على الحياة‪ ..‬في نفس ال وقت‬
‫الذي كان ينعم فيه بحماية أكثر األنظمة طغيان وظلما وعتوا‪.‬‬
‫أما سالم‪ ..‬فقد كان آخر من توظف من دفعتنا‪ ..‬وسرعان ما ط رد من العم ل‬
‫بعد اتهامه بالزندقة والهرطق ة وال ردة‪ ..‬ألن ه ك ان ي دعو إلى الس الم في مجتم ع ال‬
‫يحب إال الحرب‪.‬‬
‫وقد اضطره ذلك إلى أن يعود إلى الريف ال ذي ول د في ه‪ ،‬ل يرعى غنم أهل ه‪،‬‬
‫ويعيش حياة التأمل التي كان يحلم بها‪..‬‬
‫وبع د عش ر س نين من رعي الغنم‪ ..‬وبع د أن رأى بني ان األم ة يك اد ينه د‪..‬‬
‫ورأى حرب‪ ،‬وكيف أصبح بوقا لكل شيطان‪ ..‬خرج من الري ف‪ ،‬وذهب يص يح في‬
‫كل مدينة يحل بها ينفر من الدجل‪ ،‬ويحذر منه‪ ،‬ويستعمل في ذلك كل ما في الس الم‬
‫من قوة وحق‪.‬‬
‫وقد شاء هللا الذي بيده ك ل ش يء أن يقيض ل ه من يق ف بجنب ه من األقوي اء‪،‬‬
‫وأصحاب المال والجاه‪ ..‬فأخذوا بيده‪ ،‬وطلبوا منه أن يقف في وجه مشروع حرب‪..‬‬
‫وهنا بدأت الحرب بين حرب وسالم‪..‬‬
‫أما حرب‪ ،‬فقد توقف عن إشعال تلك النيران ال تي ك ان يوق دها بين الش عوب‬
‫والحك ام‪ ،‬وراح يش علها بين الش عوب وس الم‪ ..‬وك ان يخ اطب الش عوب بقول ه‪ :‬ال‬
‫يمكنكم أن تتخلص وا من االس تبداد والظلم والطغي ان‪ ،‬وس الم بينكم‪ ..‬فاش نقوه‪ ..‬فال‬
‫يشنق حكام الجور إال بأمعاء علماء السلطان‪.‬‬
‫وقد نسي أنه من كبار علماء السلطان‪ ،‬فلم يكن يتغ دى إال عن د األم راء‪ ،‬ولم‬
‫يكن يتعشى إال عند الملوك‪..‬‬
‫وما هي إال سنوات قليلة حتى استجابت بعض العقول لدعوة ح رب‪ ،‬وراحت‬
‫تنفذ كل ما يطلبه منها‪..‬‬
‫وبما أن سالم كان بسيطا ومتواضعا‪ ،‬ولم تكن له حراسة خاص ة‪ ،‬ب ل لم يكن‬
‫له أبواب قوية تحمي بيته‪ ..‬فإنه سرعان ما وصل إليه تالمي ذ ح رب‪ ،‬وغ رزوا في ه‬
‫أنياب حقدهم‪ ..‬وقد وجد من رآه قتيال ثالثا وثالثين جراحة‪ ،‬ووجدوا في ثوب ه مائ ة‬

‫‪54‬‬
‫وبضعة عشر خرقا من السكاكين الحادة‪ ،‬باإلضافة إلى أث ر الض رب(‪ ..)1‬ووج دوا‬
‫مع ذلك كله ابتسامته العذبة التي لم تفارقه في جميع حياته‪.‬‬
‫هكذا انتهى الفصل الث الث واألخ ير من ه ذه المس رحية‪ ..‬وم ع كون ه فص ال‬
‫مؤلما إال أن الواقع كان هكذا‪ ،‬وما كان لي أن أتجاوز الواقع‪ ..‬ولو كان األمر بي دي‬
‫لما أنهيت المسرحية بهذه النهاية المؤلمة‪.‬‬
‫نعم بقي فصل رابع‪ ،‬لن أقصه للجميع‪ ،‬بل س أخص ب ه فق ط من يث ق في من‬
‫الناس‪ ..‬أما من عداهم‪ ،‬فأدعوهم إلى مغادرة المس رح‪ ،‬ح تى ال تتغ ير نظ رتهم لي‪،‬‬
‫فيتهموني بالجنون أو الهرطقة‪ ..‬ذلك أن هذا الفص ل يتج اوز المل ك إلى الملك وت‪..‬‬
‫ويتجاوز الظاهر إلى الباطن‪ ..‬ويتجاوز السراب إلى الحقيقة‪ ..‬وما أص عب أن ن رى‬
‫الحقيقة‪.‬‬
‫وخالصته التي أذن لي في الحديث عنها هي أن ني بع د م ا حص ل لس الم من‬
‫القتلة الشنيعة التي قتل بها‪ ،‬وبعد أن أقيمت األفراح في تلك األيام ابتهاجا بما حصل‬
‫له أصابني حزن شديد‪ ،‬لم أجد مطفئا له غ ير ذه ابي لق بره ال ذي وض ع على رأس‬
‫جبل‪ ،‬وفي مكان خال حتى ال يستطيع زيارته أي أحد‪.‬‬
‫وهناك تجاوزت المل ك إلى الملك وت‪ ..‬وهن اك اكتش فت حقيق ة س الم‪ ،‬وس ر‬
‫ابتسامته‪ ،‬وتمنيت لو أني قضيت حياتي كلها في صحبته‪ ،‬بل تمنيت لو كنت خروف ا‬
‫من تلك الخراف التي رعاها‪ ،‬أو عصا من تل ك العص ي ال تي حمله ا‪ ،‬وه و ي رعى‬
‫الغنم‪.‬‬
‫بينما كنت على قبره أبكي وأتألم ش عرت بي د ت ربت على كتفي‪ ،‬ف التفت له ا‪،‬‬
‫فإذا به سالم واقف أمامي تظلله أنوار كثيرة ال طاقة لي بوصف جماله ا‪ ..‬ك ان كل ه‬
‫يشع من األنوار‪ ،‬وكانت تنبعث منه روائح طيبة‪ ،‬لم أش م مثله ا في حي اتي جميع ا‪..‬‬
‫وكانت ابتسامته بلسما لكل الجراح التي تألمت لها‪ ،‬أو شكوت منها‪.‬‬
‫قلت له بمجرد أن رأيته‪ ،‬واالنبهار قد أخذ مني كل مأخذ‪ :‬هل أنت سالم؟‬
‫قال لي‪ :‬أجل‪ ..‬هل نسيتني؟‬
‫قلت‪ :‬ولكنك مت‪ ..‬وهذا قبرك‪ ..‬لق د رأيت ص ورتك وأنت ميت‪ ،‬وق د طعنت‬
‫في كل مكان من جسمك‪ ..‬حتى أن البعض أخبرني ب أنهم اج تزوا رأس ك‪ ،‬وفص لوه‬
‫عن جسدك‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬لقد أخطأوا فيما ذكروه لك‪ ..‬وما أكثر ما يخطئون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تقول ذلك‪ ،‬وقد تناقلته جميع وكاالت األنباء‪ ..‬وقد رأيت ص ورتك‬
‫قتيال بعيني؟‬
‫قال‪ :‬ومن أين لوكاالت األنبياء أن تصور اإلنسان‪ ..‬إنها ال تصور سوى كفن‬
‫اإلنسان ولباسه الذي يلبسه‪ ..‬أما حقيقته‪ ،‬فأعظم من أن تصور‪ ،‬أو يحاط بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد تألمت كثيرا لما حصل لك‪.‬‬

‫‪ )( 1‬أشير بهذا إلى حصل لإلمام الحسين في كربالء‪ ،‬انظر‪ :‬المحمودي‪ ،‬العبرات‪.2/136 :‬‬

‫‪55‬‬
‫ق ال‪ :‬ل و ع رفت حقيق ة م ا حص ل لي لس ررت س رورا ال يطيق ه جس دك‪،‬‬
‫ولفرحت فرحا يظل معك طول عمرك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال حدثتني عن حقيقة ما حصل لك؟‬
‫قال‪ :‬ذلك أعظم من أن يصور‪ ..‬فلعالم الملكوت أذواقه وألوانه ال تي ال توج د‬
‫في عالم الملك‪ ..‬وال يمكن ألي لغة في الدنيا أن تعبر عنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وتلك الطعنات ألم تؤلمك؟‬
‫ق ال‪ :‬لق د كنت أرى المالئك ة‪ ،‬وهي تض ع مك ان ك ل طعن ة س الما ومحب ة‬
‫وسعادة‪ ،‬تمنيت معها لو تحولت إلى غبار أو رماد لتنعم كل خلية من خالي اي ب ذلك‬
‫النور المقدس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم يكن ألمي بس بب تل ك الطعن ات فق ط‪ ..‬ب ل ت ألمت ألن ك ط ردت من‬
‫عملك‪ ،‬واضطررت مع علمك الكثير إلى أن ترعى الغنم‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ل و كنت تعيش المش اعر ال تي أعيش ها‪ ،‬وتش اهد المش اهد ال تي كنت‬
‫أش اهدها لم ا ت ألمت لحظ ة واح دة‪ ..‬لق د كنت أش عر بعبودي تي هللا‪ ،‬وفض له العظيم‬
‫علي‪ ..‬وكنت مع تل ك الش ياه ال تي أرعاه ا‪ ،‬أعيش م ع ك ل من رعاه ا من األنبي اء‬
‫واألولياء والصديقين‪ ،‬فآنس بهم‪ ،‬وبلقائهم أنسا ال يمكن التعبير عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد تألمت لما كان حرب يذيقك إياه من ألوان بطشه‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬يحق لك ذلك‪ ..‬ألنك كنت ترى جس دي‪ ،‬ولم تكن ت رى روحي‪،‬‬
‫ولم تكن ترى تلك الطيور الجميلة التي كان تغرد حولي‪ ،‬وتؤانسني‪..‬‬
‫قلت‪ :‬هل تقصد أنك لم تكن تشعر بالقبض ة القوي ة ال تي ك ان ح رب يس لطها‬
‫عليك؟‬
‫قال‪ :‬كان يشعر بها جسدي‪ ..‬ولكن روحي لم تكن تتألم لها‪ ،‬ألن بلس م الس الم‬
‫ال ذي تض عه المالئك ة واألرواح النوراني ة على ج راحي وآالمي ك ان يكس بني من‬
‫السعادة ما ال يمكن تصوره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الذي أعرفه أن ذلك يكون في اآلخرة‪ ..‬وليس في الدنيا‪.‬‬
‫قال‪ :‬الدنيا واآلخرة أخوان‪ ..‬أحدهما يعيشه الظاهر والجس د‪ ،‬واآلخ ر يعيش ه‬
‫الباطن والروح‪ ..‬فمن شاء أن يدخل جنته في دنياه دخلها‪ ،‬ومن شاء أن ي دخل ن اره‬
‫دخلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬على حسب قولك هذا‪ ،‬فإن حربا يعيش في نار أحقاده‪.‬‬
‫قال‪ :‬عندما كنت أراه كنت أرى الثع ابين تحي ط ب ه‪ ،‬والحي ات تط وق عنق ه‪،‬‬
‫والن يران تلتهم قلب ه‪ ..‬وكنت أش فق علي ه إش فاقا ش ديدا‪ ،‬ول ذلك لم أكن أقابل ه إال‬
‫باالبتسامة ألطفئ تلك النيران ال تي تحرق ه‪ ..‬لكن نيران ه لم تكن تنطفئ بابتس امتي‪،‬‬
‫بل لم تكن تزيد إال التهابا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أخبرني عنك اآلن‪ ..‬كيف أنت؟‬
‫قال‪ :‬أنا اآلن في عالم السالم الذي أحببته وعش ت ل ه ومن أجل ه‪ ..‬وفي ع الم‬
‫السالم كل سعادة وراحة وطمأنينة وصدق‪..‬‬

‫‪56‬‬
‫قلت‪ :‬وحرب؟‬
‫قال‪ :‬إن هللا بفضله العظيم ال يعطينا إال بحسب قابلياتنا‪ ..‬ولو أنه أعطى حربا‬
‫ما أعيش ه اآلن لم ا أط اق‪ ،‬والزداد عذاب ه‪ ،‬ولتع ذب كم ا ك ان يتع ذب بابتس امتي‪،‬‬
‫ولذلك كان من عدل هللا ورحمته أن ينزله في المحل الذي تأنس فيه نفس ه‪ ..‬ولم تكن‬
‫نفسه لتأنس إال بالصراع‪ ..‬ولهذا وفر له كل ما يشتهيه من صراع‪ ،‬ليتنعم به‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم غاب عني من غ ير أن أع رف كي ف حض ر‪ ،‬وال كي ف غ اب‪..‬‬
‫ولكن حضوره كان أعظم مؤنس له‪ ..‬وقد ظللت أش م عط ره زمن ا ط ويال‪ ..‬وظللت‬
‫أشاهد أنواره المشعة كل حين‪.‬‬
‫وكنت في كل مناسبة يقيمها حرب فرحا بقتله‪ ..‬أفرح معهم‪ ،‬وأوزع الحلوى‪،‬‬
‫وأتبادل معهم التهاني والتباريك‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫هند‪ ..‬وزنيرة‬
‫لم يحدث في التاريخ انقالب في الموازين مثلما حدث في عصرنا ه ذا‪ ،‬وبين‬
‫المسلمين خصوصا‪ ،‬وبين من يزعم ون أنهم الفرق ة الناجي ة والطائف ة المنص ورة‪،‬‬
‫والذين يعتبرون أنفسهم قد خصوا وحدهم دون من عداهم بمعرف ة الحق ائق وس لوك‬
‫سبيلها‪.‬‬
‫فق د ص ار ك ل الظلم ة والعت اة والطغ اة والمس تبدين في عي ونهم ع دوال‬
‫وصالحين ومتقين‪ ..‬وأقيمت ألجل الدفاع عنهم المحاف ل‪ ،‬ونظمت الم ؤتمرات‪ ..‬ب ل‬
‫ح تى المس اجد ومن بر رس ول هللا ‪ ‬ص ار مرق اة لك ل من ين افح عمن ك ان همهم‬
‫تش ويه ال دين وتحويل ه من دين هللا إلى دين البش ر‪ ..‬ومن دين العدال ة إلى دين‬
‫الطغيان‪ ..‬ومن دين الرحمة إلى دين القسوة‪.‬‬
‫وهكذا صرنا ن رى الكتب ال تي ت دافع عن الحج اج‪ ،‬وتعت بره نموذج ا مثالي ا‬
‫للقائد المسلم الذي استطاع أن يوحد الدولة‪ ،‬ويقضي على كل بؤر الفتن فيها‪..‬‬
‫وصرنا نرى من يدافع عن المتوكل ذلك الطاغي ة المس تبد ال ذي م ارس ك ل‬
‫وسائل التعذيب للمخالفين والمعارضين‪ ،‬بل صار مثاال للخليفة الس ني الع ادل‪ ..‬ب ل‬
‫صار يلقب بناصر السنة وقامع البدعة‪.‬‬
‫وهكذا ص رنا ن رى من ي دافع عن يزي د‪ ،‬ب ل يترض ى عن ه‪ ،‬ويتكل ف تأوي ل‬
‫النصوص ليثبت أن رسول هللا ‪ ‬نفسه استغفر له‪ ،‬وأخبر أنه من أهل الجنة‪..‬‬
‫وصرنا نرى من يدافع عن الطلقاء‪ ،‬ويسميهم صحابة أجالء‪ ،‬بل يعتبر كل ما‬
‫ورد في فضل الصحابة والسابقين منهم مرتبطا بهم‪.‬‬
‫في هذا الوقت الذي قامت فيه سوق الطلقاء والظلمة والمس تبدين ن رى كس اد‬
‫أسواق السابقين الذي ضحوا بأنفسهم في سبيل قي ام اإلس الم‪ ..‬فال أح د ي ذكر بالال‪،‬‬
‫وال الصخرة التي كانت تجثم على صدره‪ ،‬وهو ين ادي أح د أح د‪ ..‬وال أح د يع رف‬
‫المصير الذي صار إليه‪ ،‬وال الحياة التي عاشها بعد وفاة حبيبه رسول هللا ‪.‬‬
‫وال أحد يذكر سمية تلك التي ك انت أول ش هيدة في اإلس الم‪ ..‬وال أح د ي ذكر‬
‫زوجها ياسر الذي كان أول الرجال استش هادا في س بيل هللا‪ ..‬وال أح د ي ذكر ابنهم ا‬
‫عمارا‪ ..‬ألن ذكره سيشوه الطلقاء‪ ،‬وسيقلب صفحاتهم المنتنة‪ ،‬وسيبعث في جم اهير‬
‫المغفلين السؤال عمن قتله‪ ،‬ولم قتل ه‪ ،‬وكي ف قتل ه؟ وك ل ذل ك س يحول الطلق اء من‬
‫صحابة أجالء إلى ظلمة وطواغيت‪.‬‬
‫وال أحد يذكر لبينة جارية بني المؤمل المستضعفة المعذبة(‪ ،)1‬وقد كانت من‬
‫الس ابقين إلى اإلس الم‪ ،‬وأوذيت إي ذاء ش ديدا‪ ..‬ألن في ذك رهم له ا ولكيفي ة تع ذيبها‬
‫إحراجا كبيرا لمن قدمناهم بأهوائنا وأذواقنا ومعاييرنا البشرية القاصرة‪.‬‬

‫‪ )(1‬أنساب األشراف‪.1/84 :‬‬

‫‪58‬‬
‫وال أحد يذكر أم عبيس‪ ،‬وهي أمة لبني زهرة(‪ ،)2‬كانت قريش ـ ال تي ص رنا‬
‫نعظمها ـ تع ذبها ع ذابا ش ديدا هي وزوجه ا أب و ع بيس‪ ..‬وال زلن ا إلى اآلن نجه ل‬
‫نسبهما كما نجهل كل ما يرتبط بهما‪.‬‬
‫وال أحد يذكر النهدية تلك الجارية اليمنية المستضعفة التي كانت من السابقين‬
‫إلى اإلس الم‪ ،‬فك انت س يدتها تع ذبها‪ ،‬وتق ول‪ :‬وهللا ال أقلعت عنك(‪ ..)2‬وهك ذا ك ان‬
‫حال ابنتها التي عذبت معها‪ ،‬وال نزال إلى اآلن ال نعرف اسمها وال اسم ابنتها‪ ،‬وال‬
‫أي تفاصيل عنها في نفس الوقت الذي نعرف فيه أنساب الطلقاء‪ ،‬ونعتز بها‪.‬‬
‫وال أح د ي ذكر زن يرة(‪ )3‬تل ك الجاري ة المستض عفة ال تي ك انت يت داول‬
‫المشركون على تعذيبها بكل صنوف العذاب الحسي والمعنوي‪ ،‬حتى أن أحدهم كان‬
‫يقول ساخرا منها‪ :‬أال تعجبون لهؤالء واتباعهم محمدا؟ فلو ك ان أم ر محم د خ ير اً‬
‫وحق اً ما سبقونا إليه؟ أفسبقتنا زنيرة إلى رشد‪ ،‬وهي من ترون؟‬
‫وي ذكر المؤرخ ون أنه ا ع ذبت ح تى عميت‪ ،‬فق ال له ا أب و جه ل‪ :‬إن الالت‬
‫والعزى فعلتا بك ما ترين‪ ،‬فقالت‪ ،‬وهي ال تبصره‪ :‬وما ت دري الالت والع زى‪ ،‬من‬
‫يعب دهما ممن ال يعب دهما؟ ولكن ه ذا أم ر من الس ماء‪ ،‬وربي ق ادر على أن ي رد‬
‫بصري‪ ،‬فأصبحت من تلك الليلة وقد رد هللا عليها بصرها‪ ،‬فق الت ق ريش‪ :‬ه ذا من‬
‫سحر محمد‪.‬‬
‫وبمناس بة الح ديث عن زن يرة‪ ..‬فس أقص عليكم قص ة ترتب ط به ا‪ ..‬وترتب ط‬
‫بعدوتها اللدود هند زوج أبي سفيان لنرى كيف نسيت األمة زنيرة‪ ..‬وكي ف عظمت‬
‫هندا‪ ..‬أو كيف نسيت الضحية‪ ،‬في نفس الوقت الذي كرمت فيه الجالد‪.‬‬
‫وه ذه القص ة ليس ت غريب ة‪ ،‬ب ل ربم ا عش نا الكث ير من أمثاله ا من حيث ال‬
‫نشعر‪ ..‬وهي تعبر تعبيرا رمزيا وواقعي ا عن تل ك المق اييس المنتكس ة ال تي ص رنا‬
‫نصور بها الحقائق‪ ،‬ونقوم بها أهلها‪.‬‬
‫في ذلك اليوم الحظت إعالنا إشهاريا في الجامعة التي أعمل بها شدني إلي ه‪،‬‬
‫فقد كان عن محاضرة بعن وان [عل و الهم ة]‪ ،‬وه و من سلس لة محاض رات بعن وان‬
‫[صناعة القيادة في اإلسالم]‬
‫وبما أني في ذلك الحين كنت أعيش انتكاسة في هم تي‪ ،‬ودن اءة في مط البي‪،‬‬
‫فقد عزمت على الحضور إليها‪ ،‬ولم أكتف ب ذلك‪ ،‬ب ل رحت إلى طلب تي أحثهم على‬
‫الحضور‪ ،‬وأبين لهم أن ه ال يمكن أن يتق دموا في أي ش يء دون أن يك ون لهم هم ة‬
‫تدفعهم‪ ،‬وطموح يرتفع بهم‪.‬‬
‫وقد ندمت على ذلك اإلش هار المج اني ال ذي قدمت ه للمحاض رة ن دما ش ديدا‪،‬‬
‫ألني رأيت طلبتي وجميع الحضور قد انتكست مف اهيمهم للحي اة ولل دين‪ ،‬وتخلخلت‬

‫‪ )(2‬أنساب األشراف ‪.1/84‬‬


‫‪ )(2‬أنساب األشراف‪.1/84 :‬‬
‫‪ )(3‬أنساب األشراف ‪.1/84‬‬

‫‪59‬‬
‫معاييرهم تخلخال ال يمكن ترقيعه‪.‬‬
‫بدأت المحاضرة ال تي تجمعت له ا الجم وع الكث يرة من الطلب ة والطالب ات‪..‬‬
‫وخرج المحاضر مزهوا بنفس ه كالط اووس‪ ،‬يتح رك في المنص ة حرك ات س ريعة‬
‫يستعمل معها كل لغات الجسد التي تعلمها وتدرب عليها‪..‬‬
‫وفي بداية المحاض رة‪ ،‬ق ال ممتن ا على الحاض رين‪ :‬ه ذه محاض رة مجاني ة‬
‫أقدمها لكم خصوصا لوجه هللا‪ ..‬ال أري د منكم ج زاء وال ش كورا‪ ..‬فق ط أرج و منكم‬
‫االهتمام بها‪ ،‬والعمل بمقتضاها‪ ،‬وأنا أضمن لكم أنكم بعد فترة وجيزة بع د تخ رجكم‬
‫ستصبحون قادة في مجتمعاتكم‪ ..‬ال تشكوا أبدا في ذلك‪ ..‬فالحلم ال ذي تحلم ب ه الي وم‬
‫سيصبح حقيقة غدا‪.‬‬
‫وأول ذلك هو الهمة العالية‪ ..‬تذكروا جي دا ه ذه الكلم ة‪ ..‬فاهلل يعطين ا بحس ب‬
‫هممنا العالية‪..‬‬
‫وإلى هنا كان كالمه مقبوال عندي‪ ..‬وكنت فرح ا أني أحض رت طلب تي ألني‬
‫كنت أتصور أنه سيحثهم على الترفع عن الدنايا والتطلع إلى األهداف العظمى ال تي‬
‫يؤدون بها الرسالة التي كلفهم هللا بها‪.‬‬
‫لكن كل ذلك نسخ بعد أن سمعت بقية محاضرته‪..‬‬
‫كان يتجول في المنص ة‪ ..‬يح رك يدي ه بك ل ق وة‪ ،‬ويق ول بص وت جه وري‪:‬‬
‫سأقص عليكم اآلن قصة امرأة عظيمة من الص حابة األجالء ال ذين ن زل فيهم قول ه‬
‫ار َوالَّ ِذينَ اتَّبَ ُع وهُ ْم بِإِحْ َس ا ٍن‬
‫ص ِ‬ ‫اج ِرينَ َواأْل َ ْن َ‬‫الس ابِقُونَ اأْل َ َّولُ ونَ ِمنَ ْال ُمهَ ِ‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ت تَجْ ِري تَحْ تَهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا أَبَ دًا‬ ‫ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرضُوا َع ْنهُ َوأَ َع َّد لَهُ ْم َجنَّا ٍ‬
‫َر ِ‬
‫ك ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾ [التوبة‪]100 :‬‬ ‫َذلِ َ‬
‫أولئك الصحابة العظام الذين استطاعوا أن يقضوا على أكبر االمبراطوريات‬
‫في ذلك العصر‪ ..‬ويؤسسوا بدلها دولة كبيرة ضخمة امتدت من مشرق األرض إلى‬
‫مغربها‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم التفت للحضور‪ ،‬وقال لهم‪ :‬أنبئوني ما اسم هذه المرأة؟‬
‫سكت الجميع‪ ،‬وهم محتارون في هذه المعلومة الجديدة ال تي قص ر أس اتذتهم‬
‫في تعليمهم إياها‪..‬‬
‫عن دما رأى المحاض ر وج وم الحاض رين‪ ،‬ق ال‪ :‬ال ب أس‪ ..‬سأختص ر األم ر‬
‫لكم‪ ..‬إنها من الصحابيات الجليالت‪ ..‬وهي من مكة المكرمة‪..‬‬
‫قامت امرأة يبدو عليه ا الوق ار المختل ط باالستض عاف‪ ،‬وق الت‪ :‬الش ك أن ك‬
‫تقصد زينرة‪..‬‬
‫ضحك الجميع من جوابها‪ ..‬وكان المحاضر أكثرهم ض حكا‪ ،‬وق د رد عليه ا‪،‬‬
‫وهو ال يكاد يملك نفسه من الضحك‪ :‬ومن زينرة هذه؟‪ ..‬ألول م رة أس مع أن هن اك‬
‫امرأة بهذا االسم‪ ..‬لعلك ش اهدتها في بعض األفالم والمسلس الت‪ ..‬أو لعله ا مطرب ة‬
‫أو راقصة‪..‬‬
‫كانت المرأة تريد أن تتكلم لتش رح ل ه‪ ،‬لكن ه تعم د أال يلتفت إليه ا‪ ،‬ب ل التفت‬

‫‪60‬‬
‫للحضور‪ ،‬وقال‪ :‬ه ل رأيتم م ا فع ل بن ا اإلعالم الح ديث؟‪ ..‬ه ل رأيتم م ا فعلت بن ا‬
‫الس ينما وال دراما والمسلس الت والكليب ات؟‪ ..‬لق د نس ينا أس ماء الص حابة األجالء‪،‬‬
‫وصرنا نذكر أسماء المغنيات والممثالت والراقصات‪..‬‬
‫غضبت المرأة‪ ،‬وراحت ترفع صوتها بقولها‪ :‬عجبا ل ك ي ا ش يخ‪ ..‬أال تع رف‬
‫زنيرة تلك الصحابية التي ضحت بنفسها في سبيل قيام اإلسالم‪ ..‬وقد تعرضت لك ل‬
‫صنوف األذى النفسي والجسدي‪ ..‬ولكنها لم تستسلم‪ ..‬وفيها وفي إخوانه ا وأخواته ا‬
‫نزلت تلك اآليات الكريمة التي كنت تقرؤها‪.‬‬
‫أحس المحاض ر بح رج كب ير عن دما ذك رت الم رأة ه ذا‪ ،‬لكن ه اس تطاع أن‬
‫يتخلص منه بنوع من الحيل التي تعلمها من ابن تيمية وغيره من أصحاب مدرسته‪،‬‬
‫وقال‪ :‬ال بأس‪ ..‬لم تنفعلين هكذا؟‪ ..‬وكأنك زنيرة بعينها‪..‬‬
‫ضحك الحضور‪ ،‬فزاد ذلك في زهو المحاضر الطاووس‪ ،‬وق ال‪ :‬فلنتن ازل‪..‬‬
‫ولنفرض أنها صحابية‪ ..‬وأنه ا من الس ابقين‪ ..‬لكن ه ل ذل ك يكفي‪ ..‬ت ذكري جي دا‪..‬‬
‫نحن اآلن في موض وع بعن وان [الهم ة العالي ة]‪ ،‬ونحن نري د ص ناعة قي ادات‪ ،‬ال‬
‫صناعة جنود‪ ..‬والمرأة التي ذكرتها ـ في حال صحة ما ذك رت من معلوم ات‪ ،‬ألن‬
‫هناك خالفا كبيرا في أمثال هذه المسائل ـ تصلح مثاال للجندية والتضحية‪ ..‬ال مث اال‬
‫للقيادة‪ ..‬والهمة العالية‪..‬‬
‫ولهذا فإن المرأة التي نريد أن نتحدث عنها‪ ،‬ونضرب المثل بها أكبر بكث ير‪..‬‬
‫ألنها استطاعت مع تأخر إسالمها أن تتحول مباشرة من الجندية إلى القي ادة‪ ..‬وه ذا‬
‫ما نريده‪ ..‬وهذه هي الهمة العالية التي نطلب منكم أن تترفعوا لها‪.‬‬
‫هذه المرأة استطاعت أن تجعل المؤرخين منشغلين بها‪ ،‬متناسين كل األسماء‬
‫التي سبقتها بما فيها ذلك االسم الغريب الذي ذكرته هذه المرأة‪..‬‬
‫ولهذا فإن من يريد أن يكون ف اعال وم ؤثرا وقائ دا‪ ،‬ف إن علي ه أن يبحث عن‬
‫هذه األسماء التي خلدها التاريخ‪ ..‬ال التي تغافل عنها‪ ،‬واحتقرها‪.‬‬
‫قامت امرأة من الحضور‪ ،‬وقالت بكل قوة‪ :‬أجل‪ ..‬لقد عرفته ا‪ ..‬إن ك ل كلم ة‬
‫من كلماتها تشير إليها‪ ..‬إنها هند‪..‬‬
‫كبر المحاضر تكبيرات كثيرة‪ ،‬وقال‪ :‬بورك فيك‪ ..‬أجل‪ ..‬إنها هن د بنت عتب ة‬
‫بن ربيعة‪ ،‬وزوج أبي سفيان‪ ..‬لكن كيف عرفت ذلك؟‬
‫قالت المرأة‪ :‬لقد عرفت ذلك بسهولة‪ ..‬فأنا اس مي هن د‪ ..‬وق د أخ برني وال دي‬
‫أنه سماني باسم هذه الصحابية الجليل ة‪ ..‬وذك ر لي الكث ير من أخباره ا ال تي رفعت‬
‫همتي‪ ،‬وجعلتني أنال الكثير من المراتب والمناصب ال تي ال يحلم بمثله ا من هم في‬
‫سني‪.‬‬
‫قال المحاضر‪ ،‬وهو يلتفت للم رأة األولى‪ :‬أرأيت ت أثير االس م في المس مى‪..‬‬
‫لقد جعلها اسم هند ترتقي في سلم الرقي‪ ..‬فما اسمك أنت؟‬
‫قالت المرأة‪ :‬زنيرة‪..‬‬
‫ضحك الجميع‪ ،‬فقال المحاضر‪ ،‬وهو يوج ه كالم ه له ا‪ :‬فم ا المناص ب ال تي‬

‫‪61‬‬
‫تبوأتها في حياتك يا ست زنيرة؟‬
‫قالت‪ :‬أنا مسلمة‪ ..‬ويكفيني ذلك وشرفا‪.‬‬
‫ضحك المحاضر‪ ،‬وقال‪ ،‬وهو يوج ه كالم ه للحض ور‪ :‬ه ل رأيتم هم ة أدنى‬
‫من هذه‪ ..‬ال يكفي أن تكون وا مس لمين‪ ..‬فه ذه هم ة دني ة‪ ..‬الب د أن تكون وا م ؤثرين‬
‫وف اعلين‪ ..‬ه ل رأيتم هن دا وم اذا فعلت؟‪ ..‬ق ارنوا بينه ا وبين زن يرة كم ا هم ا في‬
‫الواقع‪ ،‬وكما هما في التاريخ‪.‬‬
‫قامت زنيرة‪ ،‬وقالت‪ :‬ولكن كي ف تق ول ه ذا؟‪ ..‬وكي ف تس تبدل زن يرة بهن د؟‬
‫وأنت تعلم أن هندا كانت وأبوها وزوجها من ألد أعداء رسول هللا ‪ ..‬فزوجها أب و‬
‫سفيان قضى أكثر عمره في حرب رسول هللا ‪ ..‬وكانت هي شريكة له في ذل ك‪..‬‬
‫ولعلك تعرف قصتها يوم أحد‪ ،‬يوم كانت تح رض المش ركين على قت ال رس ول هللا‬
‫‪ ..‬ولعلك تذكر قصتها عند قتلها لحمزة‪ ،‬وعند أكلها لكبده‪..‬‬
‫ابتس م المحاض ر‪ ،‬وق ال‪ :‬وك ل ذل ك من همته ا العالي ة‪ ..‬فهي عن دما ك انت‬
‫مشركة لم ترتض لنفسها أن تكون مشركة بسيطة‪ ..‬بل كانت مشركة قائدة وموجه ة‬
‫ومحرضة‪ ..‬أي أنها كانت صاحبة همة عالية في كل مراحل حياته ا‪ ..‬وق د أكس بتها‬
‫تلك القوة في الجاهلية قوة في اإلسالم‪ ..‬ف راحت ت ربي أبناءه ا على أال يكتف وا ب أن‬
‫يكونوا جنودا بسطاء‪ ،‬بل تربيهم ليصيروا قادة وفاعلين ومؤثرين‪.‬‬
‫تعجب الحضور من هذه المفاهيم الجدي دة ال تي يطرحه ا الش يخ عليهم‪ ..‬وق د‬
‫الحظ ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬الشك أنكم تستغربون هذا‪ ..‬ولكن هذه هي الحقيقة‪ ..‬الهم ة العالي ة‬
‫تبقى همة عالية كانت في الجاهلية أم في اإلسالم‪ ..‬لقد ورد في الحديث الصحيح م ا‬
‫يش ير إلى ذل ك‪ ،‬فق د ق ال ‪( :‬الن اس تب ع لق ريش في ه ذا الش أن‪ ،‬مس لمهم تب ع‬
‫لمسلمهم‪ ،‬وكافرهم تبع لك افرهم‪ .‬الن اس مع ادن‪ ،‬خي ارهم في الجاهلي ة خي ارهم في‬
‫اإلسالم إذا فقهوا)(‪)1‬‬
‫هل رأيتم هذا الح ديث العظيم‪ ..‬وكي ف يش ير إلى ه ذا المع نى بك ل وض وح‬
‫ودقة‪ ..‬إنه يذكر أن الناس تبع لقريش‪ ..‬ألن قريشا كانت صاحبة همة عالي ة‪ ..‬وله ذا‬
‫نرى ال ذكر الكث ير لهم‪ ،‬واإلش ادة الكب يرة بهم‪ ..‬ح تى أن الص حابة ال ذين من غ ير‬
‫قريش نسوا وغفل عنهم التاريخ‪ ..‬بينما الصحابة من ق ريش ال زالت أس ماؤهم تمأل‬
‫كل مكان‪ ..‬حتى المبشرون بالجنة كلهم من قريش‪ ..‬وكل الناس يحفظون أسماءهم‪..‬‬
‫بينما غيرهم ال يذكرهم الناس حتى لو بشروا بالجنة‪.‬‬
‫هذه نبوءة رسول هللا ‪ ‬التي حققها التاريخ‪..‬ووقعت كما ذكر‪..‬‬
‫ولهذا تذكر الناس هندا‪ ،‬ونسوا كل من عداها من األسماء نسوا سمية‪ ..‬ونسوا‬
‫زنيرة ـ في حال صحة ما ذكرت المرأة عنها ـ ونس وا أم عم ارة‪ ..‬ألن هن دا ك انت‬
‫من قريش‪ ..‬وقريش كانت تمثل القيادة بجانب سائر القبائل‪ ..‬وكانت لها تل ك القي ادة‬
‫بسبب همتها العالية‪..‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫هكذا ترون رسول هللا ‪ ‬يدعونا من خالل ذلك الح ديث إلى البحث عن ك ل‬
‫األسباب التي تؤدي إلى الهمة العالية‪.‬‬
‫قامت المرأة األولى‪ ،‬وقالت‪ :‬ولكن ألم تسمع بما ورد في الحديث أن ه ‪ ‬م ر‬
‫على رجل‪ ،‬فقال ألصحابه‪ :‬ما تقولون في هذا الرجل ؟ قالوا‪ :‬نقول ه و من أش رف‬
‫الن اس‪ ،‬ه ذا ح ري إن خطب أن يخطب‪ ،‬وإن ش فع أن يش فع‪ ،‬وإن ق ال أن يس مع‬
‫لقوله‪ ،‬فسكت النبي ‪ ،‬وم َّر رجل آخر فقال الن بي ‪:‬م ا تقول ون في ه ذا ؟ ق الوا‪:‬‬
‫نقول وهللا يا رسول هللا‪ ،‬هذا من فقراء المسلمين‪ ،‬هذا حري إن خطب لم ينكح‪ ،‬وإن‬
‫شفع ال يشفع‪ ،‬وإن قال ال يسمع لقوله‪ ،‬فق ال الن بي ‪(:‬له ذا خ ير من ملء األرض‬
‫مثل هذا)(‪)1‬‬
‫ابتسم المحاضر ابتسامة صفراء‪ ،‬وقال موجها كالمه للحض ور‪ :‬لس ت أدري‬
‫من الذي ينشر مثل هذه األحاديث ال تي تص ور لن ا دائم ا الفق ر والض عف والعج ر‬
‫بصور جميلة‪ ..‬إن هذه األحاديث هي السبب فيما حصل للمسلمين من تخلف‪..‬‬
‫ثم التفت للمرأة‪ ،‬وقال‪ :‬لتفهمي هذا الحديث تحتاجين إلى التعرف على الكثير‬
‫من العلوم‪ ،‬وأهمها م ورد الح ديث‪ ..‬فلع ل ذل ك مرتب ط بحال ة خاص ة‪ ،‬وفي زم ان‬
‫خاص‪ ..‬فهل تعلمت هذا العلم‪ ..‬أم أنك فقط ترددين م ا تس معين‪ ،‬دون أن تفهمي ه أو‬
‫تعيه‪.‬‬
‫ثم التفت للحضور‪ ،‬وقال‪ :‬فلنعد إلى هند‪ ..‬تلك المرأة العظيمة ص احبة الهم ة‬
‫العالية في الجاهلية واإلسالم‪ ..‬ألقص عليكم قصة من قصصها تثبت لكم دور الهمة‬
‫العالية في التحقق بكل مقتضيات القيادة‪.‬‬
‫لقد روى المؤرخون الثقاة أن (هندا بنت عتبة زوج ة أبي س فيان وأم معاوي ة‬
‫رضي هللا تعالى عنهم أجمعين حين أتاها نعي يزي د بن أبي س فيان وق ال له ا بعض‬
‫المعزين‪ :‬إنا نرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد‪ ..‬يعني يواسونها ويعزونه ا‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬أو مثل معاوية يكون خلفا ً من أحد؟! وهللا لو جمعت العرب من أقطاره ا‪ ،‬ثم‬
‫رمي به فيهم لخرج من أي أعراض ها ش اء‪ ..‬وقي ل له ا أيض ا ً ـ ومعاوي ة ولي د بين‬
‫ي ديها ـ‪ :‬إن ع اش معاوي ة س اد قوم ه‪ ،‬فق الت‪ :‬ثكلت ه إن لم يس د إال قوم ه!‪ ..‬وه ذه‬
‫العبارة لها معان عظيمة ج داً بعي دة الم رمى؛ ألن مع نى ذل ك أنه ا رغم أن ولي دها‬
‫بضعة لحم ال يظهر عليه أي أمر مما يقطع بأن هذا س يكون إنس ان ل ه ش أن‪ ،‬ولكن‬
‫هذا معناه أنها تنوي أن تربي هذا الولد وتوجهه حتى إنها لتأنف من أن يس ود قوم ه‬
‫فقط‪ ،‬بل غضبت حينما قالوا لها‪ :‬إن عاش معاوية ساد قومه‪ ،‬فق الت‪ :‬ثكلت ه‪ .‬يع ني‪:‬‬
‫األفضل أن يموت إن لم يسد إال قومه‪ ..‬ومعروف أن معاوية من أكثر العرب سيادة‬
‫وسياسة وحكمة كما عرف أثناء إمارته في الشام أو أثناء خالفته)(‪)2‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم كبر‪ ،‬وطلب من الحضور أن يكبروا معه‪ ،‬ثم قال‪ :‬هل رأيتم مثل‬
‫‪ )(1‬رواه ابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )( 2‬هذا النص الحرفي من محاضرة بعنوان [علو الهمة] للشيخ محمد إسماعيل المقدم‪ ،‬وهي متوفرة للنت لالستماع‬
‫والتحميل الصوتي والنصي‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ه ذه الهم ة العالي ة‪ ..‬لق د اس تطاعت هن د بفض لها أن تنجب ذل ك البط ل العظيم من‬
‫أبطال اإلسالم معاوية‪ ..‬ذلك الذي أسس الدولة األموية العظيم ة‪ ..‬تل ك الدول ة ال تي‬
‫استطاعت بفعل حكمة حكامها الكثيرين أن تتربع على ع رش قي ادة الع الم قرن ا من‬
‫الزمان‪.‬‬
‫إن تلك الدولة وحكامها هم أكبر النماذج الدالة على ق وة اإلس الم‪ ،‬وأن ه ـ ل و‬
‫توفرت الهمم العالية ألبنائه ـ يستطيع أن يصبح القوة الكبرى والوحيدة في العالم‪.‬‬
‫هل تعلمون ـ أيها الحضور الكريم ـ أن الحكام في ذلك العص ر‪ ..‬عص ر ق وة‬
‫اإلس الم‪ ..‬ك انوا يخ اطبون الس حابة ق ائلين‪ :‬أمط ري حيث ش ئت‪ ..‬ف إن خراج ك‬
‫سيأتينا؟‬
‫هل تعلمون ـ أيها الحضور ـ أن خدم المس لمين في ذل ك الحين لم يكون وا من‬
‫العبيد السود فقط‪ ..‬بل كان فيهم جميع األلوان‪ ..‬ألن جيوش المسلمين اس تطاعت أن‬
‫تدخل كل البالد‪ ،‬وأن تجلب منها جميع أنواع الغنائم‪ ،‬وأن تحول أولئك المس تكبرين‬
‫إلى عبيد وخدم للمسلمين‪.‬‬
‫كبر الجميع إال تل ك الم رأة ال تي تح دثت عن زن يرة‪ ،‬فق د اس تبدلت تكبيره ا‬
‫بالبكاء‪ ،‬ثم خرجت‪ ،‬والحزن يبدو على مالمحها‪ ،‬فتبعتها ألسألها عنه ا‪ ،‬وكي ف ب دا‬
‫لها أن تذكر زنيرة‪ ،‬لكني لم أجدها‪ ،‬وعندما س ألت الب واب‪ ،‬وذك رت ل ه مالمحه ا‪،‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أتذكر جيدا أن امرأة دخلت إلى القاعة من غير أن تك ون له ا أي بطاق ة‬
‫دعوة‪ ،‬وال بطاقة طالب‪ ..‬وعندما طلبت منها إظهار الدعوة أو البطاقة أخبرتني أنك‬
‫أنت الذي دعوتها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬أنا ال أعرفها‪ ،‬بل إني لم أرها في حياتي إال هذا الي وم‪ ..‬فه ل ق الت‬
‫لك شيئا غير هذا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد تذكرت‪ ..‬لقد تركت لي رسالة طلبت مني تسليمها لك‪.‬‬
‫استعجلته في أن يحضرها لي‪ ..‬وبع د عن اء ش ديد في بحث ه عنه ا‪ ،‬أخرجه ا‪،‬‬
‫وسلمها لي‪ ..‬وقد أصابني عند قراءتي لها عجب شديد‪ ..‬لن أحكي لكم ما كتبت ألني‬
‫أعلم أنكم لن تصدقوني‪ ،‬فأنتم ـ أصحاب الهمم العالية ـ ال تؤمنون إال بالمحسوس‪..‬‬
‫لكني مع ذلك أذكر لكم أن تلك المرأة لم تكن س وى زن يرة تل ك ال تي ع ذبتها‬
‫قريش حتى عميت‪ ،‬وأعاد هللا بصرها‪ ..‬لكن كيف ج اءت‪ ،‬وكي ف تح دثت‪ ..‬وكي ف‬
‫تركت رسالتها لي‪ ..‬وماذا قالت فيه ا‪ ..‬ذل ك ش أن آخ ر ال يطي ق عقلي وال عق ولكم‬
‫فهمه‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫الشياطين‪ ..‬والجوار المقدس‬
‫من أعظم األماكن التي تحن لها القل وب‪ ،‬وتش تاق له ا األرواح‪ ،‬وتتطل ع له ا‬
‫األفئدة ذلك المكان المقدس الذي يأوي الجسد الط اهر لرس ول هللا ‪ ..‬وال ذي ق ال‬
‫عنه ابن عقيل‪( :‬سألني سائل أيما أفضل حجرة النبي ‪ ‬أو الكعبة؟ فقلت‪ :‬إن أردت‬
‫مجرد الحجرة‪ ،‬فالكعبة أفض ل‪ ،‬وإن أردت وه و فيه ا فال وهللا وال الع رش وحملت ه‬
‫وال جنة عدن وال األفالك الدائرة‪ ،‬ألن بالحجرة جسداً لو وزن بالكونين لرجح)(‪)1‬‬
‫وقال الشاعر معبرا عن ذلك‪:‬‬
‫ري اض من جن ان‬ ‫وبقعت ه ال تي ض مته حلق ا ً‬
‫تطيل‬ ‫تس‬
‫وأمالك ب أفالك تج ول‬ ‫وأفض ل من س موات‬
‫وأرض‬
‫وف ردوس به ا خ ير‬ ‫ومن ع رش ومن جن ات‬
‫جزيل‬ ‫دن‬ ‫ع‬
‫بل نقل القسطالني في [المواهب اللدنية] اإلجماع على ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬وأجمعوا‬
‫على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة ‪ ‬أفضل بقاع األرض ح تى موض ع‬
‫الكعبة‪ ،‬بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها ‪ -‬أي البقع ة ال تي ق بر فيه ا‬
‫‪ - ‬أفضل من العرش‪ .‬وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السموات)(‪)2‬‬
‫وق ال اإلم ام الحص فكي الحنفي في [ال در المخت ار]‪ ،‬وه و من أش هر كتب‬
‫الحنفية‪( :‬ال حرم للمدينة عندنا ومكة أفضل منها على الراجح إال م ا ض م أعض اءه‬
‫‪ ‬فإنه أفضل مطلقا حتى من الكعبة والعرش والكرسي)(‪)3‬‬
‫وقال الشيخ عليش المالكي في شرحه على مختصر الخليل‪( :‬ومح ل الخالف‬
‫في غير الموضع الذي ضمه ‪ ‬فإنه أفضل من الكعبة والسماء والعرش والكرس ي‬
‫واللوح والقلم والبيت المعمور)(‪)4‬‬
‫وقال اإلمام السخاوي الشافعي في [التحفة اللطيفة] معمما ذلك‪( :‬مع اإلجماع‬
‫على أفضلية البقعة التي ضمته ‪ ،‬حتى على الكعبة المفضلة على أص ل المدين ة‪،‬‬
‫بل على العرش‪ ،‬فيما صرح به ابن عقيل من الحنابلة‪ ،‬وال شك أن مواضع األنبي اء‬
‫وأرواحهم أشرف مما س واها من األرض والس ماء‪ ،‬والق بر الش ريف أفض لها‪ ،‬لم ا‬
‫تتنزل عليه من الرحمة والرضوان والمالئكة‪ ،‬التي ال يعمله ا إال مانحه ا‪ ،‬ولس اكنه‬
‫عند هللا من المحبة واالصطفاء ما تقصر العقول عن إدراكه)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬انظر الشفا للقاضي عياض (‪)2/91‬‬


‫‪ )(2‬نقال عن الذخائر ( ص ‪)49 -44‬‬
‫‪ )(3‬الدر المختار ج ‪ 2‬ص ‪.689‬‬
‫‪ )(4‬منح الجليل شرح مختصر الخليل ج‪ 5‬ص ‪.481‬‬
‫‪ )(5‬التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة السخاوي الصفحة ‪.12‬‬

‫‪65‬‬
‫هذا م ا نص علي ه أعالم الم ذاهب الفقهي ة المختلف ة‪ ،‬ولم يخ الف في ه ذا إال‬
‫السلفية‪ ،‬وخصوصا التيميون منهم‪ ،‬الذين اعتبروا زيارة ق بر رس ول هللا ‪ ‬بدع ة‪،‬‬
‫والسفر المؤدي لتلك الزيارة سفر معصية‪..‬‬
‫وليتهم اكتفوا بذلك‪ ..‬بل إنهم راحوا في األيام التي جعلهم هللا فيها س دنة ل ذلك‬
‫المقام المقدس ال يراعون له أي حرمة‪ ،‬وال لبلدته المقدسة أي تعظيم‪.‬‬
‫فقد صارت المدينة المنورة في أيامهم مركزا لك ل متط رف ومتش دد ومكف ر‬
‫ومفرق لصف األمة‪ ..‬وأصبحت جامعته ا هي المدرس ة الك برى ال تي تخ رج منه ا‬
‫كبار إرهابيي العالم(‪.)1‬‬
‫وفي المدينة المنورة صدرت الكثير من الفتاوى التكفيرية والتض ليلية لجمي ع‬
‫األمة‪.‬‬
‫وأمام قبر رسول هللا ‪ ‬يقف أولئك الجامدون الغالظ العتاة ينتهرون كل باك‬
‫أو خاشع أو داع أو متوسل أو معبر عن مشاعره أمام ذلك القبر الط اهر المحف وف‬
‫بكل ألوان القداسة‪.‬‬
‫انطالقا من هذه الحقائق التي نطق بها الواقع‪ ،‬والتي يعرفها ك ل ص ادق‪ ،‬ب ل‬
‫كل من زار ذلك الجوار المق دس‪ ،‬س أحكي لكم قص ة تص ور بعض م ا يحص ل في‬
‫تلك المجالس العلمية التي ال يفصل بينها وبين القبر الشريف سوى أمتار محدودة‪.‬‬
‫ففي ذلك اليوم الذي تشرفت فيه بزيارة رسول هللا ‪ ‬في روضته الش ريفة‪..‬‬
‫وبعد أن أغلق بابها‪ ،‬ومنعنا من الدخول‪ ..‬حدثتني نفسي أو شيطاني أو كالهم ا ب أن‬
‫أجلس في بعض مجالس العلم التي يمتلئ بها المسجد النبوي الشريف‪.‬‬
‫فلما أبيت عليهما حرصا على تلك المش اعر الطيب ة ال تي امتألت به ا روحي‬
‫جراء ذلك الجوار المبارك‪ ،‬أخذا يسردان علي كل ما ورد من النص وص المقدس ة‬
‫في فض ل مج الس العلم‪ ..‬وأخ ذا يق والن لي‪ :‬لعل ك س تجلس في نفس المك ان ال ذي‬
‫جلس فيه رسول هللا ‪ ‬معلما‪ ،‬ولعلك بذلك تنال من بركات ذلك المجلس ما لم تكن‬
‫تحلم به في حياتك‪.‬‬
‫لست أدري كيف استطاعت نفسي أو شيطاني أن يقنعاني‪ ،‬فذهبت وأنا ممتلئ‬
‫خوفا من أن يتحول ذلك المذاق الحلو اللذيذ الذي شربته من كأس القرب من رسول‬
‫هللا ‪ ‬إلى حنظ ل وعلقم وغس لين‪ ..‬وبالفع ل ك ان م ا خفت من ه‪ ،‬فإن ا هلل وإن ا إلي ه‬
‫راجعون‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫لقد حول ذلك المجلس قلبي إلى حجارة قاس ية‪ ،‬ب ل إن من ﴿ ِمنَ ال ِح َج ا َر ِة ل َم ا‬
‫ق فَيَ ْخ ُر ُج ِم ْن هُ ْال َم ا ُء َوإِ َّن ِم ْنهَ ا لَ َم ا يَ ْهبِ طُ ِم ْن‬
‫يَتَفَ َّج ُر ِم ْنهُ اأْل َ ْنهَا ُر َوإِ َّن ِم ْنهَ ا لَ َم ا يَ َّش قَّ ُ‬
‫خَ ْشيَ ِة هَّللا ِ﴾ [البقرة‪]74 :‬‬
‫بل إنني بعد مغادرتي لتلك المجالس‪ ،‬لم أذهب إلى الروض ة الش ريفة م ع أن‬
‫أبوابها قد فتحت‪ ..‬وإنما ذهبت إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه‪..‬‬

‫‪ )(1‬كمحمد زهران علوش وغيره‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وعندما عدت في المساء للزيارة ذهبت بغير الطريق ة ال تي كنت أذهب به ا‪..‬‬
‫لقد ذهبت متثاقال أجر قدمي جرا‪ ..‬وعندما وقفت بين يديه ‪ ‬لم أشعر بتلك السعادة‬
‫التي كنت أشعر بها‪ ..‬بل كنت بليد المش اعر‪ ،‬قاس ي الوج دان‪ ،‬وك أنني أب و لهب أو‬
‫أبو جهل أو أبو سفيان‪ ..‬وحينها لم ألم أولئك الغالظ الذين شرفوا بحراسة ذلك المقام‬
‫المقدس‪ ..‬وكيف ألومهم‪ ،‬وهم يعيشون ذلك الغثاء والدنس صباح مساء‪.‬‬
‫ق د ت رون أن ذل ك راج ع لي‪ ..‬وأن س ببه س آمتي‪ ..‬وأن ه ذا ش يء ط بيعي‬
‫يحصل لكل الناس‪ ..‬ولك ني أق ول لكم‪ :‬ليس األم ر كم ا تظن ون‪ ..‬األم ر أخط ر من‬
‫ذلك‪ ..‬إنه يكمن في تلك المجالس التي تحيط برسول هللا ‪ ،‬وت زعم أنه ا تج اوره‪،‬‬
‫وهي تحاربه وتحارب كل القيم النبيلة والمشاعر الطاهرة التي جاء بها‪..‬‬
‫وسأقص عليكم اآلن بعض المشاهد ال تي عش تها ورأيته ا‪ ،‬ولم يس تطع عقلي‬
‫وال قلبي أن ينساها‪ ..‬وليته استطاع‪..‬‬
‫اق تربت من بعض المج الس‪ ،‬قب ل أن يب دأ ال درس‪ ،‬فجلس ت إلى س ارية من‬
‫السواري‪ ،‬بحيث أسمع الشيخ وتالميذه من حيث ال يروني‪ ..‬وكان الشيخ جالسا أمام‬
‫كرسيه الفخم‪ ،‬وك ان يجلس تالمي ذه المقرب ون أمام ه وبين يدي ه بحس ب م راتبهم‪..‬‬
‫كانوا جميعا ينتظرون الوقت الذي يبدأ فيه الدرس‪.‬‬
‫قال الشيخ لتالميذه‪ :‬أخبروني‪ ..‬هل من جدي د‪ ..‬فإحي اء علم الج رح والتع ديل‬
‫في عص رنا الحاض ر يس تدعي من ا ب ذل جه ود مكثف ة‪ ..‬الب د أن نتح رك في ك ل‬
‫الميادين‪ ..‬والحم د هلل نحن في ه ذه المدين ة يف د إلين ا ك ل الن اس‪ ،‬ومن ك ل البل دان‪،‬‬
‫ومعهم من يزعمون ألنفسهم العلم‪ ..‬وهي فرصة للتعرف على مثالبهم التي تتيح لن ا‬
‫فضحهم والتحذير منهم‪.‬‬
‫رفع تلميذ من تالميذه يده مستأذنا للحديث‪ ،‬فأذن ل ه‪ ،‬ق ائال‪ :‬م ا وراءك‪ ..‬ه ل‬
‫نفذت كل ما طلبته منك؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد رأيته يا شيخ قبل قلي ل‪ ،‬أم ام ق بر رس ول هللا ‪ ،‬وه و يق وم‬
‫بكل ما يقوم به المشركون من طقوس‪ ..‬لقد رأيته يرفع يدي ه إلي ه بال دعاء‪ ..‬ورأيت ه‬
‫يحاول لمس الشباك‪ ..‬بل يحاول تقبيله‪ ..‬ولوال أن الحرس منعوه بشدة لكان قبله‪.‬‬
‫وقد تبعته بعد ذلك إلى البقيع‪ ،‬فوجدته مشركا جلدا‪ ..‬ي دعو أص حاب القب ور‪،‬‬
‫ويتوسل بهم‪ ،‬ويستغيث‪ ..‬ب ل ويبكي‪ ،‬وه و يخ اطبهم‪ ..‬وق د رأيت ه يخ رج كتاب ا من‬
‫كتب الشرك يقرأ فيه‪ ،‬ويدعو‪..‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬بورك فيك يا بني‪ ..‬لقد كنت متأكدا تماما أنه مشرك‪ ..‬وأن ادعاءه‬
‫التسنن كذب واحتيال‪..‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم التفت لتالميذه‪ ،‬وراح يقول‪ ،‬والفرحة تمأل أسارير وجهه‪ :‬ها هو‬
‫ابني وتلميذي النجيب‪ ،‬قد أتاكم بالخبر اليقين‪ ..‬ففالن الذي زعمتم وزعم الكث ير أن ه‬
‫على خير‪ ،‬وأنه على السنة‪ ،‬وأنه يعظم السلف‪ ،‬تبين أخ يرا أن ه ليس س وى مش رك‬
‫دجال‪ ..‬فال تنوا في التحذير منه ومن ضالالته وكفره‪.‬‬
‫قال تلميذ آخر‪ :‬بورك فيك شيخنا‪ ..‬لق د كنت أش م ذل ك في كتب ه‪ ..‬خاص ة في‬

‫‪67‬‬
‫كتابه حول سيرة رسول هللا ‪ ..‬لقد كان يبالغ إلى درجة كبيرة في مدحه وإطرائ ه‬
‫متناسيا أنه بشر كسائر البشر‪.‬‬
‫قال آخ ر‪ :‬ص دقت ش يخنا‪ ..‬وق د انتبهت إلى ذل ك قب ل ف ترة طويل ة‪ ،‬فمفه وم‬
‫الوالء والبراء عنده فيه ض بابية كب يرة‪ ..‬فه و ي دعو دائم ا إلى الوح دة اإلس المية‪..‬‬
‫وذلك ما يثير فيه الشبهات‪ ،‬ألنه ال ي دعو إلى الوح دة إال من ي دعوا إال التن ازل عن‬
‫التحذير من الشرك والبدع والضالالت‪..‬‬
‫بعد أن أكلوا من لحم الش يخ م ا أكل وا‪ ..‬ق ال الش يخ‪ :‬دعون ا من ه‪ ،‬فق د وض ح‬
‫أمره‪ ..‬فهل هناك غيره؟‬
‫قال أحد التالميذ‪ :‬أجل‪ ..‬فق د أتيتكم الي وم بمعلوم ة تس اوي وزنه ا ذهب ا‪..‬أنتم‬
‫تعرفون ذلك القريب الذي يعمل في المطار‪ ..‬والذي أخبرتكم عنه كثيرا‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬أجل‪ ..‬وال تنس أن تسلم عليه‪ ..‬فهو رجل صالح ومن كب ار الثق اة‬
‫الذين نعتمدهم في تجريح المجروحين‪.‬‬
‫قال التلمي ذ‪ :‬لق د أخ برني البارح ة أن ه ش اهد مف تي الهن د يتح دث م ع ام رأة‬
‫باكستانية لم تكن تقربه‪ ..‬وكان في خلوة معها من غير أن يكون بينهما مح رم‪ ..‬وق د‬
‫تأكد بنفسه عندما ذهب وطلب من الهندية أوراقها زاعما أنه من األمن‪ ،‬وق د ع رف‬
‫من خالل الوثائق أنه ال صلة بينهما‪.‬‬
‫قال الشيخ فرحا‪ :‬بورك فيك وفي قريبك‪ ..‬هل رأيتم الفاسق م اذا يفع ل‪ ..‬إنه ا‬
‫فرصتكم ل تردوا ل ه الص اع ص اعين‪ ..‬لق د كتب في تل ك األي ام مقال ة ح ول اإلم ام‬
‫المجدد محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬يتهمه فيها بتفريق ص ف المس لمين‪ ..‬وه ا ق د ح انت‬
‫الفرصة لكم إلعالن فسقه وفجوره للناس‪ ..‬هل من جديد؟‬
‫قال آخر‪ :‬لق د أتيتكم الي وم بخ بر مهم ج دا يتعل ق ب رأس من رؤوس جماع ة‬
‫التبليغ التي سمعنا بعض من يدافع عنها‪ ..‬فق د أخ برني أح د الثق ات الس عوديين أن ه‬
‫شهد على سعيد أحمد الهندي رئيس جماعة التبلي غ في المملك ة أن ه ماتري دي‪ ،‬وأن ه‬
‫ينكر عل َّو هللا على خلق ه‪( ..‬وق د حص لت لي م ع الش اهد الم ذكور قص ة‪ ،‬وهي أن ه‬
‫ج اءني مس تنكراً الكالم في جماع ة التبلي غ! فقلت ل ه‪ :‬إنهم متص وفة وماتريدي ة ال‬
‫يصفون هللا بصفة العلو‪ .‬فقال‪ :‬وما الدليل على ذلك؟ فقلت له‪ :‬اذهب بنفسك‪ ،‬وحاول‬
‫ي وهو يقول‪ :‬إن م ا ذكرت ه من‬ ‫أن تقف على الواقع‪ .‬فذهب الرجل‪ ،‬وبعد أيام عاد إل َّ‬
‫كونهم ال يعترفون بعل ِّو هللا واستوائه على عرشه ص حيح‪ .‬فقلت ل ه‪ :‬وكي ف ع رفت‬
‫ذلك؟ قال‪ :‬ذهبت إلى رئيس الجماعة سعيد أحمد الذي كان يثق بي تم ام الثق ة؛ ألني‬
‫من تالميذه ومريديه‪ ،‬فقلت له‪ :‬إني لس ت في ش ك من عقي دتنا‪ ،‬وهي أن هللا في ك ل‬
‫مكان‪ ،‬وليس هو في السماء‪ ،‬ولكن؛ بماذا نر ُّد على الذين يقولون‪ :‬إن هللا في السماء‪.‬‬
‫فقال‪ :‬اتركهم واثبت على عقيدتك؛ فهي الحق)(‪)1‬‬
‫صاح الشيخ‪ :‬هللا أك بر‪ ..‬هللا أك بر‪ ..‬فق د ص دق إذا حكمن ا عليهم ب الكفر‪ ..‬فال‬
‫‪ )(1‬هذه القصة من كتاب‪ :‬القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ‪ ،‬ص ‪ ،42‬وهو مملوء بأمثال هذه القصص التي‬
‫بنى عليها التويجري تكفيره لجماعة التبليغ‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫يقول هذا إال الكفرة‪ ..‬وقد قال العالمة ابن القيم في الكافية الشافية‪:‬‬
‫عش ر من العلم اء في‬ ‫ولقد تقل د كف رهم خمس ون‬
‫دان‬
‫هم ب ل حك اه قبل ه‬ ‫والاللك ائي اإلم ام حك اه البل‬ ‫في‬
‫يعني‪ :‬أن خمس مئة من العلماء صرَّحواالطبتكفير الجهمية‪ .‬براني‬
‫عن‬
‫وقد ذكر عبد هللا بن ا ِإلمام أحمد في كتاب السنة كث يراً من أق وال العلم اء في‬
‫تكفيرهم‪ ،‬وذكرها غيره من األئمة الذين صنَّفوا في السنة والر ِّد على الجهميَّة‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم راح يصيح ب أعلى ص وته‪( :‬ليعت بر المس ارعون إلى االنض مام‬
‫إلى جماعة التبليغ بما ُذكر عن رئيس جم اعتهم في المملك ة العربي ة الس عودية أن ه‬
‫يعتقد أن هللا في كل مكان وليس هو في السماء! وهذا كفر صريح؛ لمناقضته لألدل ة‬
‫الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أن هللا تع الى مس ت ٍو على عرش ه‪،‬‬
‫فوق جميع المخلوقات‪ ،‬وأنه مع الخلق بعلمه واطالع ه وإحاطت ه‪ ..‬فليح ذر الم ؤمن‬
‫الناص ح لنفس ه من االنض مام إلى التبليغ يين ال ذين ينك رون عل َّو هللا على خلق ه‪،‬‬
‫ويزعمون أنه في كل مكان‪ ،‬تعالى هللا ع َّما يقول الظالمون عل ّواً كبيراً) (‪)1‬‬
‫أخذ التالميذ ينظر بعض هم إلى بعض معج بين ببطول ة الش يخ‪ ،‬وق ال أح دهم‬
‫مخاطبا زمالءه‪ :‬هل رأيتم علما بطال وشجاعا ومقداما مثل شيخنا الجليل‪ ..‬ه و يعلم‬
‫أن هذا المسجد ال يخلو من هذه الجماعة‪ ،‬ومع ذلك راح بكل جرأة يواجههم وي ذكر‬
‫حقيقتهم باذال نفسه في سبيل هللا‪.‬‬
‫كبر الجميع‪ ،‬وراحوا يدعون للشيخ بأن يجعله ناص را للس نة‪ ،‬قامع ا للبدع ة‪،‬‬
‫وأن يدخل ه الف ردوس األعلى بص حبة ابن تيمي ة وابن عب د الوه اب وابن بط ة‬
‫والبربهاري وغيرهم من أعمدة وأقطاب وأوتاد وأغواث اإلسالم‪.‬‬
‫بعد أن عاد الهدوء للحلقة رفع بعض التالميذ ي ده مس تأذنا الش يخ‪ ،‬ف أذن ل ه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬بمناس بة ح ديثكم عن جماع ة التبلي غ‪ ،‬س أذكر لكم قص ة ذكره ا لي رج ل من‬
‫طلب ة العلم في (المدين ة المن ورة خ رج م ع التبليغيِّين إلى الحناكي ة‪ ،‬وأم يرهم أح د‬
‫رؤساء جماعة التبليغ‪ ،‬وفي أثن اء اللي ل رأى ط الب العلم أح د الجماع ة من الهن ود‬
‫يهتز ويقول‪ :‬هُو! هُ و! هُ و! فأمس كه‪ ،‬ف ترك الحرك ة وس كت‪ ،‬وفي الص باح أخ بر‬ ‫ُّ‬
‫طالب العلم أمير الجماعة بم ا فعل ه الهن دي التبليغي ‪ -‬ظانّ ا ً أن األم ير س ينكر على‬
‫الهندي ‪ -‬فأنكر األمير على طالب العلم إنكاره على الهندي! وقال له بغضب ش ديد‪:‬‬
‫صرْ تَ وهابيّاً! وهللا؛ لو كان لي من األمر شيء؛ ألحرقت كتب ابن تيمية وابن‬ ‫أنت ِ‬
‫القيم وابن عبد الوهاب‪ ،‬ولم أترك على وجه األرض منها شيئاً! ففارقهم طالب العلم‬
‫حين سمع هذا الكالم السيئ من أميرهم؛ ألنه عرف عداوتهم ألئمة العلم والهدى من‬
‫أهل التوحيد والدعوة إليه وإلى إخالص العبادة هلل وحده‪ ،‬والنهي عن الشرك والبدع‬

‫‪ )(1‬القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ‪ ،‬ص‪.42‬‬

‫‪69‬‬
‫أهلها) (‪)1‬‬ ‫والخرافات وأنواع الضالالت والمنكرات والتحذير منها ومن‬
‫صاح الشيخ مكبرا‪ ،‬ثم قال‪ :‬بورك فيك يا بني هذه هي األخبار التي نري دها‪..‬‬
‫ال تنس أن تس جلها لي ألض عها في كت ابي ال ذي ع زمت على كتابت ه ح ول تكف ير‬
‫جماعة التبليغ‪ ..‬وأنا اآلن أجمع األدل ة العلمي ة القطعي ة ح ول ذل ك‪ ..‬والقص ة ال تي‬
‫ذكرتها من أبلغ األدلة‪.‬‬
‫قال بعض التالميذ‪ :‬بورك فيك شيخنا على نصرتك للسنة‪ ،‬وحربك للمبتدعة‪،‬‬
‫فما تريد أن تسمي هذا الكتاب‪.‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬أريد أن أسميه [القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ]‬
‫كبر التالميذ‪ ،‬وقالوا‪ :‬ليت ك تؤل ف لن ا مثل ه عن س ائر الجماع ات والحرك ات‬
‫والمذاهب والطوائف‪..‬‬
‫ق ال الش يخ‪ :‬لكم ذل ك‪ ..‬لكن ال ب د أن تعيني ني علي ه‪ ،‬فأن ا ال أكتفي باألدل ة‬
‫النظرية‪ ،‬ب ل أض م إليه ا األدل ة الواقعي ة‪ ..‬وخ ير مك ان يمكن أن نجم ع في ه األدل ة‬
‫الواقعية هو هذه البلدة‪ ،‬وهذا المسجد‪ ،‬وخصوصا موقع الروض ة من ه‪ ،‬فه و أحس ن‬
‫مكان للتعرف على رؤوس المبتدعة‪.‬‬
‫رفع بعض التالميذ ي ده مس تأذنا‪ ،‬ف أذن ل ه‪ ،‬فق ال‪ :‬ليس ذل ك فق ط م ا ي ذمون‬
‫عليه‪ ..‬بل يضاف إلى ذلك تثبيطهم للمجاهدين الذين أرسلهم ش يخنا ابن ب از وغ يره‬
‫من هيئة كبار العلماء لمواجهة المالحدة الشيوعيين في أفغانستان‪ ..‬ففي الوقت الذي‬
‫كنت هناك أخبرني (أحد الثقات األثبات السعوديين على مجموعة من دع اة جماع ة‬
‫التبليغ أنهم دخلوا في معسكر لتدريب المجاهدين األفغ ان‪ ،‬وك ان ه ذا المعس كر في‬
‫الباكس تان‪ ،‬بق رب مدين ة بش اور‪ ،‬وه و تحت قي ادة محم د ياس ر خ ريج الجامع ة‬
‫اإلس المية بالمدين ة النبوي ة‪ ،‬فاس تقبلهم القائ د ظانّ ا ً أنهم ق د ج اؤوا ليش اركوهم في‬
‫الجهاد‪ ،‬ولكنه فوجئ بقولهم‪ :‬إنما جئنا ليخ رج معن ا المجاه دون ويس يحوا معن ا في‬
‫اإليمان‪ ،‬وطلبوا من القائد أن يس مح للمجاه دين‬ ‫األرض من أجل الدعوة‪ ،‬وليتعلَّموا ِ‬
‫بالخروج معهم‪ ،‬وتر َّددوا إليه أياماً‪ ،‬فأصدر أوامره بمنعهم من دخول المعسكر) (‪)2‬‬
‫قال الشيخ‪ :‬هللا أكبر‪ ..‬هللا أكبر‪ ..‬هذا وح ده ك اف إلقن اع ولي األم ر بح ربهم‬
‫وط ردهم من المملك ة‪ ..‬فهم يقف ون به ذا في وج ه أولي اء األم ور من أه ل العلم‬
‫والسياسة الذين ي ديرون تل ك الح رب‪ ،‬ويوش ك أن ينتص روا فيه ا‪ ،‬لتع ود لإلس الم‬
‫أمجاده‪ ،‬ويقهر الشرك واإللحاد وأهله‪.‬‬
‫استأذن تلميذ آخر‪ ،‬وق ال‪ :‬ليس ذل ك فق ط ش يخنا الجلي ل‪ ،‬فق د رويت بس ندي‬
‫(عن عدد كثير من الرج ال أنهم س معوا جماع ة من التبليغ يين الهن ود وهم في بيت‬
‫في شارع المنصور بمكة يكررون كلمة (ال إل ه) نح واً من س ت مئ ة م رة‪ ،‬ثم بع د‬
‫ذلك يكررون كلمة (إال هللا) نح واً من مئ تي م رة‪ ،‬ويقول ون ذل ك بص وت جم اعي‬

‫‪ )(1‬القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ‪ ،‬ص‪.44‬‬


‫‪ )(2‬القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ‪ ،‬ص‪.44‬‬

‫‪70‬‬
‫مرتفع‪ ،‬يسمعه من كان في الشارع‪ ،‬وذلك بحضرة شيخ من كبار مش ايخهم الهن ود‪،‬‬
‫وقد استمر فعلهم هذا مدة طويلة‪ ،‬وك انوا يفعل ون ذل ك في الش هر م رتين‪ :‬م رة في‬
‫نصفه‪ ،‬ومرة في آخره) (‪)1‬‬

‫صاح الشيخ‪ :‬هللا أكبر‪ ..‬هللا أكبر‪ ..‬وهذا دليل آخر على كفر هذه الجماعة‪ ..‬ال‬
‫تنس أن تكتب ه لي ح تى أض عه في كت ابي فـ (ال ش ك أن ه ذا من االس تهزاء باهلل‬
‫وبذكره‪ ،‬وال يخفى على من له علم وفهم أن فعلهم هذا يتضمن الكفر ست مئة م رة؛‬
‫ألن فصل النفي عن اإلثبات في ق ول (ال إل ه إال هللا) ب زمن م تراخ بين أول الكلم ة‬
‫وآخرها على وجه االختيار يقتضي نفي األلوهية عن هللا تعالى ست مئة مرة‪ ،‬وذلك‬
‫كفرا ص ري َحا؛ فكي ف بمن‬ ‫صريح الكفر‪ ،‬ولوأن ذلك وقع من أحد مرة واحدة؛ لكان َ‬
‫يفعل ذلك ست مئة مرة في مجلس واحد؟!)(‪)2‬‬
‫بقي الشيخ وتالميذه يتحدثون في جماعة التبليغ مدة من الزمن إلى أن ضاقت‬
‫نفسي‪ ،‬والتجأت إلى مجلس آخر‪ ،‬فوجدتهم مجتمعون على أك ل الص وفية‪ ..‬فه ربت‬
‫إلى مجلس آخ ر‪ ،‬فوج دتهم منهمك ون في تش ريح الش يعة وبعض الحرك ات‬
‫اإلس المية‪ ..‬فه ربت إلى مجلس آخ ر‪ ،‬فوج دتهم منهمك ون في أك ل لحم بعض هم‬
‫بعضا‪..‬‬
‫وهكذا ظللت وقتا طويال أشم تلك الروائح المنتنة‪ ،‬وأستمع إلى تلك األحاديث‬
‫الممتلئة بكل ما نهى هللا عنه من الغيبة والنميمة والتجسس والتحسس‪..‬‬
‫وقد أصابتني حينها بعض الحمية‪ ،‬فرحت إلى هيئة األمر ب المعروف والنهي‬
‫عن المنك ر‪ ،‬وأخ برتهم بم ا رأيت‪ ..‬وقلت لهم‪ :‬إن أول من يحت اج منكم إلى ت أديب‬
‫ونه ر وط رد هم أولئ ك المش ايخ الجالس ون في المس جد‪ ،‬هم وتالمي ذهم إنهم ال‬
‫ْض الظَّنِّ إِ ْث ٌم‬
‫يراعون قوله تعالى‪ ﴿:‬يا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اجْ تَنِبُوا َكثِ يراً ِمنَ الظَّنِّ إِ َّن بَع َ‬
‫ض ُك ْم بَعْضا ً أَي ُِحبُّ أَ َح ُد ُك ْم أَ ْن يَأْ ُك َل لَحْ َم أَ ِخي ِه َميْتا ً فَ َك ِر ْهتُ ُموهُ‬
‫َوال تَ َج َّسسُوا َوال يَ ْغتَبْ بَ ْع ُ‬
‫َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ تَ َّوابٌ َر ِحي ٌم (‪( ﴾)12‬الحجرات)‪ ،‬وال قوله ‪( :‬من أكل لحم أخي ه‬
‫في ال ّدنيا ق ّرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيّا فيأكل ه ويكلح ويص يح)‬
‫(‪ ،)3‬وال قول ه‪( :‬ي ا معش ر من آمن بلس انه ولم ي دخل اإليم ان في قلب ه‪ ،‬ال تغت ابوا‬
‫المسلمين‪ ،‬وال تتبّعوا عوراتهم‪ ،‬فإنّه من اتّبع ع وراتهم يتّب ع هّللا عورت ه‪ ،‬ومن يتّب ع‬
‫هّللا عورته يفضحه في بيته)(‪)4‬‬
‫إن الروائح المنتنة المنطلقة من أح اديثهم مألت المس جد‪ ،‬وتك اد تنف ر الن اس‬
‫منه‪..‬‬
‫ض حك أعض اء الهيئ ة ال ذين تح دثت إليهم كث يرا‪ ،‬ثم ق الوا لي‪ :‬الش ك أن‬

‫‪ )(1‬القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ‪ ،‬ص‪.9‬‬


‫‪ )(2‬القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫‪ )(3‬قال ابن حجر‪ :‬سنده حسن‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫معلوماتك في الدين بسيطة جدا‪ ..‬فالغيبة والنميمة والتجس س والتحس س ح رام على‬
‫كل الناس‪ ،‬ما عدا أولئك المش ايخ‪ ،‬فل والهم ول وال تالمي ذهم لح رف ال دين‪ ،‬وض ل‬
‫الناس‪..‬‬
‫قال آخر‪ :‬لعلك لم تسمع بم ا رواه ال بيهقي من طري ق الحس ن بن ربي ع ق ال‪:‬‬
‫قال ابن المبارك‪ :‬المعلى بن هالل هو ( كذا ) إال أنه إذا جاء الحديث يكذب‪ ،‬فقال له‬
‫بعض الصوفية‪ :‬يا أبا عبد الرحمن تغت اب؟ ق ال‪ :‬اس كت‪ ،‬إذا لم ت بين كي ف يُع رف‬
‫الحق من الباطل‪ ..‬أو نحو هذا‪.‬‬
‫وهك ذا راح وا ي رددون علي م ا ورد عن س لفهم من النص وص في إباح ة‬
‫الغيبة‪ ..‬فسألتهم عن التجسس‪ ..‬فذكروا لي أضعافها من النصوص‪ ..‬وهكذا لم أذك ر‬
‫جريمة من الجرائم وال كبيرة من الكبائر التي نهى هللا عنها إال ووج دت عن دهم من‬
‫األسانيد ما يرفع الحرج فيها عنهم‪.‬‬
‫شكرتهم وخرجت متثاقال‪ ..‬وكأن الشياطين قد وضعت أغالله ا على ق دمي‪..‬‬
‫وب دل أن أذهب إلى الروض ة الش ريفة والزي ارة المبارك ة ع دت إلى الفن دق‪ ..‬ولم‬
‫أتخلص من تلك الوساوس إال بعد فترة من الزمن‪.‬‬
‫وقد صرت بعدها كلما مررت على تلك المجالس أغلق أذني‪ ،‬وعي ني‪ ،‬ح تى‬
‫ال تصطادني شياطين اإلنس والجن المحيطة بذلك الجوار المقدس‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫علماء‪ ..‬وأمراء‬
‫من الحجب الكبرى التي تحول بين العقول وتبصر الحقائق‪ ،‬أو الوقوف معها‬
‫وفي صفها ذلك التزلف المقيت الذي يقفه العلماء على أعتاب األمراء‪.‬‬
‫فالعقل يكتسي بتلك الص حبة المدنس ة أنواع ا كث يرة من الحجب ال تي تح ول‬
‫بينه وبين تبصر الحقائق‪ ،‬أو تحول بينه وبين الوقوف الشرعي واألخالقي معها‪.‬‬
‫وقد عبر الشاعر محمود الوراق عن ذلك بقوله(‪:)1‬‬
‫زمراً إلى باب الخليفه‬ ‫ركب وا الم راكب‬
‫دوا‬ ‫واغت‬
‫ليبلغوا الرتب الشريفه‬ ‫وص لوا البك ور إلى‬
‫رواح‬ ‫ال‬
‫طلب وا من الح ال‬ ‫ح تى إذا ظف روا بم ا‬
‫ه‬ ‫اللطيف‬
‫فرح ا ً بم ا تح وي‬ ‫وغ دا الم والي منهم‬
‫حيفه‬ ‫الص‬
‫بالظلم والس ير العنيفه‬ ‫وتعس فوا من تحتهم‬
‫واشتروا ب األمن جيفه‬ ‫باعوا األمان ة بالخيان ة‬
‫ش غفته دني اه الش غوفه‬ ‫العلم إذ‬ ‫عب‬ ‫لم ينتف‬
‫ني ا بأس باب ض عيفه‬ ‫نسى اإلله والذ في ال د‬
‫ب ل ع بر عن ذل ك رس ول هللا ‪ ‬في أح اديث ووص ايا كث يرة‪ ،‬ألفت فيه ا‬
‫الرسائل والكتب‪..‬‬
‫وسأقص عليكم اآلن قصة حول هذا‪ ،‬لتدركوا س را جدي دا من أس رار تعط ل‬
‫العقول‪ ،‬وانطماس البصيرة‪ ،‬وانغالق جميع منافذ الفكر‪.‬‬
‫والقص ة تنطل ق من واقعي البس يط ال ذي عقدت ه األي ام‪ ..‬فق د ص حبت أثن اء‬
‫دراس تي الجامعي ة مجموع ة من ال زمالء النجب اء ال ذين أتيح لهم بس بب ذك ائهم‬
‫وفطنتهم وق دراتهم العجيب ة على اس تالب القل وب والعق ول أن يص لوا إلى أعت اب‬
‫بعض األمراء والملوك والرؤساء‪..‬‬
‫وال أزال أذك ر أهلي وهم يلوم ون ك ل حين بالدتي‪ ،‬وكس لي‪ ،‬ويق ارنونني‬
‫بزمالئي الذين رفعتهم األيام وخفضتني‪ ،‬وقدمتهم وأخرتني‪ ،‬وأعطتهم ومنعتني‪.‬‬
‫ويقول ون لي‪ :‬انظ ر إليهم‪ ..‬وهم يس كنون القص ور‪ ..‬وأنت ال ت زال تس كن‬
‫باإليج ار‪ ..‬وانظ ر إليهم وهم ينتقل ون من بل د إلى بل د‪ ،‬ومن دول ة إلى دول ة تعق د‬
‫ألجلهم المؤتمرات‪ ،‬وتقام لهم الحفالت‪ ،‬ويتوجون بكل أن واع التكريم ات‪ ..‬وأنت ال‬

‫‪ )(1‬جامع بيان العلم وفضله (ص‪)259/‬‬

‫‪73‬‬
‫تزال رهين بيتك‪ ،‬وحبيس جدران غرفتك ال يعرفك أحد حتى جارك األدنى‪.‬‬
‫وعن دما أع د نق ودي عن د قبض مرت بي آخ ر الش هر فرح ا بنعم ة هللا علي‪،‬‬
‫يقولون لي‪ ،‬ووجوههم مكفهرة عابسة مقمطرة‪ :‬ل و جمعت جمي ع مرتبات ك من أول‬
‫حياتك إلى آخرها‪ ،‬وزدت عليها أض عافا مض اعفة‪ ،‬فلن تص ل إلى م ا يتقاض اه في‬
‫يوم واحد أولئك الزمالء الذين فرطت في صحبتهم وصداقتهم واالقتداء بهم‪.‬‬
‫وهكذا ظل أولئك الزمالء ظال ثقيال على روحي‪ ..‬وال أكتمكم أني كنت أشعر‬
‫ببعض الحس د لهم‪ ..‬وعلى م ا أوت وا‪ ..‬ولك ني بع د أن ع اينت الحقيق ة‪ ،‬ورأيت م ا‬
‫حصل لهم من أنواع االنتكاس ات حم دت هللا على نعم ه‪ ..‬وذهبت إلى ش يخي ال ذي‬
‫نصحهم كما نصحني أقبل رأسه‪ ،‬بل أقبل قدميه‪ ،‬ألنه أنقذ ديني الذي هو رأس مالي‬
‫من أن يصبح لعبة بين أيدي الملوك واألمراء‪.‬‬
‫في ذلك اليوم الذي افترقنا فيه ذهبنا إلى ذلك الشيخ الصالح الذي تعود الطلبة‬
‫أن يزوروه في نهاية تكوينهم ليدعو لهم‪ ،‬وينصحهم‪ ..‬فقد آتاه هللا ـ كما ي ذكر الكث ير‬
‫ـ من أنوار اإليمان والفراسة ما يستطيع به أن يكشف الكثير من الحقائق المس تقبلية‬
‫المغيبة‪..‬‬
‫وقد ذهبت إليه‪ ،‬وأنا ال أصدق تلك اإلش اعات ال تي تبث حول ه‪ ..‬ولك ني بع د‬
‫فترة طويلة من عمري‪ ،‬وبعد أن كشف المستقبل عن نفسه بنفس ه‪ ،‬ع رفت مص داق‬
‫كل كلمة قالها‪.‬‬
‫عندما دخلنا عليه‪ ،‬ابتسم لي ابتسامة عذب ة دون أص حابي‪ ،‬وأخ ذ ي رحب بي‬
‫دونهم‪ ..‬ثم طلب مني أن أجلس‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ال تقلق‪ ..‬فالرزق بيده‪ ..‬ال بأيديهم‪ ..‬وقد‬
‫يعطيك من حيث تظن أنه يمنعك‪ ..‬ويمنعك من حيث تظن أنه يعطيك‪.‬‬
‫ثم التفت ل زمالئي ال ذين جلس وا قب ل أن ي أذن لهم‪ ،‬وق ال‪ :‬من منكم ي روي‬
‫حديث رسول هللا ‪ ‬في التحذير من صحبة العلماء لألمراء‪.‬‬
‫ق ال أح دهم‪ :‬أن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬يك ون في آخ ر الزم ان علم اء‬
‫يرغبون الناس في اآلخرة وال يرغب ون‪ ،‬ويزه دون الن اس في ال دنيا وال يزه دون‪،‬‬
‫وينهون عن غشيان األمراء وال ينتهون)(‪)1‬‬
‫ق ال آخ ر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬إن هللا يحب األم راء إذا خ الطوا‬
‫العلماء‪ ،‬ويمقت العلماء إذا خالطوا األمراء؛ ألن العلماء إذا خالطوا األمراء رغب وا‬
‫في الدنيا‪ ،‬واألمراء إذا خالطوا العلماء رغبوا في اآلخرة)(‪)2‬‬
‫ق ال آخ ر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬ال ت زال ه ذه األم ة تحت ي د هللا‬
‫وكنفه‪ ،‬ما لم يماري قراؤها أمراءها)(‪)3‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأنا أروي في ذلك قول ه ‪( :‬من ب دا فق د جف ا‪ ،‬ومن اتب ع الص يد‬

‫‪ )(1‬الديلمي في الفرودس (‪)3422‬‬


‫‪ )(2‬الديلمي في الفردوس (‪)566‬‬
‫‪ )(3‬الديلمي (‪ )7595‬كما في الفردوس‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫غفل‪ ،‬ومن أتى أبواب السالطين افتتن‪ ،‬وم ا ازداد عب د من الس لطان دن وا إال ازداد‬
‫من هللا بعدا)(‪)1‬‬
‫ق ال آخ ر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬إذا رأيت الع الم يخال ط الس لطان‬
‫مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص)(‪)2‬‬
‫قال آخ ر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬إن أناس ا من أم تي س يتفقهون في‬
‫الدين‪ ،‬ويق رؤون الق رآن‪ ،‬ويقول ون ن أتي األم راء‪ ،‬فنص يب من دني اهم‪ ،‬ونع تزلهم‬
‫بديننا وال يكون ذلك كما ال يجتني من القتاد إال الش وك‪ ،‬ك ذلك ال يجت نى من ق ربهم‬
‫إال الخطايا)(‪)3‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأنا أروي في ذلك عن ثوبان مولى رسول هللا ‪ ‬ق ال‪ :‬ي ا رس ول‬
‫هللا من أهل البيت أنا؟ فسكت‪ ،‬ثم قال في الثالث ة‪( :‬نعم م ا لم تقم على ب اب س دة‪ ،‬أو‬
‫تأتي أميراً فتسأله)(‪)4‬‬
‫قال آخ ر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬س يكون بع دي أم راء‪ ،‬فمن دخ ل‬
‫عليهم فصدقهم بكذبهم‪ ،‬وأعانهم على ظلمهم‪ ،‬فليس مني‪ ،‬ولست من ه‪ ،‬وليس ب وارد‬
‫علي الح وض‪ ،‬ومن لم ي دخل عليهم‪ ،‬ولم يعنهم على ظلمهم‪ ،‬ولم يص دقهم بك ذبهم‪،‬‬
‫فهو مني‪ ،‬وأنا منه‪ ،‬وهو وارد علي الحوض)(‪)5‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأنا أروي في ذلك قوله ‪( :‬العلماء أمناء الرسل على عباد هللا ما‬
‫لم يخ الطوا الس لطان ف إذا خ الطوا الس لطان‪ ،‬فق د خ انوا الرس ل فاح ذروهم‪،‬‬
‫واعتزلوهم)(‪)6‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬م ا من ع الم أتى ص احب س لطان‬
‫طوعاً‪ ،‬إال كان شريكه في كل لون يعذب به في نار جهنم)(‪)7‬‬
‫ق ال آخ ر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬إذا ق رأ الرج ل الق رآن وتفق ه في‬
‫الدين‪ ،‬ثم أتى باب السطان‪ ،‬تَ َملُّقا ً إليه‪ ،‬وطمعا لما في يده‪ ،‬خاض بقدر خطاه في نار‬
‫جهنم)(‪)8‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأنا أروي في ذلك قوله ‪( :‬س يكون بع دي س الطين‪ ،‬الفتن على‬
‫أبوابهم كمبارك اإلبل‪ ،‬ال يعطون أحداً شيئاً‪ ،‬إال أخذوا من دينه مثله)(‪)9‬‬

‫‪ )(1‬أحمد (‪ )297 /4‬حديث صحيح‪ .‬أخرجه البيهقي (‪ )101 /10‬في سننه‪ ،‬وانظر السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬الفردوس (‪.)1077‬‬
‫‪ )(3‬ابن ماجه (‪)255‬‬
‫‪ )(4‬أبو نعيم في الحلية (‪.)181 - 180 /1‬‬
‫‪ )(5‬أحمد (‪ ،)321 /3‬والترمذي (‪ ،)2360( ،)609‬والنسائي (‪)161 /7‬‬
‫‪ )(6‬ابن عبد البر (‪ )185 /1‬في جامع بيان العلم وفضله‪.‬‬
‫‪ )(7‬الحاكم في تاريخه‪.‬‬
‫‪ )(8‬الديلمي (‪ )1134‬في الفرودس‪.‬‬
‫‪ )(9‬الحاكم (‪.)633 /3‬‬

‫‪75‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأنا أروي في ذلك قوله ‪( :‬اتقوا أبواب السلطان وحواشيها؛ فإن‬
‫أقرب الناس منه ا أبع دهم من هللا‪ ،‬ومن آث ر س لطان على هللا‪ ،‬جع ل الفتن ة في قلب ه‬
‫ظاهرة وباطنة‪ ،‬وأذهب عنه الورع وتركه حيران)(‪)1‬‬
‫ق ال آخ ر‪ :‬وأن ا أروي في ذل ك قول ه ‪( :‬س يكون ق وم بع دي من أم تي‪،‬‬
‫يقرؤون القرآن‪ ،‬ويتفقه ون في ال دين‪ ،‬ي أتيهم الش يطان‪ ،‬فيق ول‪ :‬ل و أتيتم الس لطان‪،‬‬
‫فأصلح من دنياكم‪ ،‬واعتزلوهم بدينكم! وال يكون ذلك‪ ،‬كما ال يجت نى من القت اد‪ ،‬إال‬
‫الشوك‪ ،‬كذلك ال يجتنى من قربهم إال الخطايا)(‪)2‬‬
‫قال آخر‪ :‬وأنا أروي في ذلك قوله ‪( :‬من مشى إلى س لطان ج ائر طوع اً‪،‬‬
‫من ذات نفسه‪ ،‬تملقا ً إليه بلقائه‪ ،‬والسالم عليه‪ ،‬خاض نار جهنم بقدر خط اه‪ ،‬إلى أن‬
‫يرجع من عنده إلى منزله؛ فإن مال إلى ه واه‪ ،‬أو ش د على عض ده لم يحل ل ب ه من‬
‫هللا لعنة إال كان عليه مثلها‪ ،‬ولم يعذب في النار بنوع من الع ذاب‪ ،‬إال ع ذب بمثل ه)‬
‫(‪)3‬‬
‫نظر الشيخ إليهم‪ ،‬وقال‪ :‬ب ورك في ذاك رتكم القوي ة‪ ..‬الش ك أنكم تس تطيعون‬
‫بها أن تأكلوا الفالوذج بين يدي الملوك واألمراء‪ ..‬فإياكم أن يسلبوا منكم دينكم ال ذي‬
‫هو رأس مالكم‪ ..‬إياكم أن تصبحوا مت اريس لك ل طاغي ة ظ الم‪ ..‬إي اكم أن تص بحوا‬
‫خدما لكل جبار مستكبر‪..‬‬
‫بقي يردد ذل ك‪ ..‬ويض رب بكفي ه على ركبتي ه إلى أن س معت ابنت ه ص وته‪،‬‬
‫فصاحت فينا من وراء حجاب تطلب منا أن نخرج‪ ..‬فخرجنا ولم نكن ن دري حينه ا‬
‫ما يعني بقوله وفعله ذلك‪.‬‬
‫لكني وبعد عقود من السنين أدركت عظمة كل كلمة قالها‪ ،‬وكل حركة تحرك‬
‫بها‪ ،‬وأدركت حينها أن هللا تعالى كما رحم خلقه برس له وأنبيائ ه‪ ،‬فق د رحمهم أيض ا‬
‫بأوليائه الذين ال يخلو منهم زمان وال مكان لينصحوا عباده‪ ،‬ويقيموا الحجة عليهم‪.‬‬
‫بعد أن تفرقت بنا السبل‪ ..‬وبعد أن صار حالي إلى ما ذكرته لكم من الوظيف ة‬
‫البسيطة‪ ،‬والمرتب الزهيد‪ ..‬وصار حالهم إلى ذل ك الح ال ال ذي ص رت أع ير ب ه‪،‬‬
‫ويشمت بي بذكره‪..‬‬
‫وبعد مدة ليست طويلة بدأت السحب تنقشع عن كل كلمة قالها الشيخ‪..‬‬
‫في البداية كلف أولئك ال زمالء العلم اء من ط رف بعض ال وزراء واألم راء‬
‫للذهاب إلى إفريقيا‪ ،‬ونشر التوحيد بين أهلها المسلمين أص ال‪ ..‬ف ذهبوا‪ ،‬وبص حبتهم‬
‫مال كثير‪ ..‬وهناك راحوا يحذرون من كل الطرق الصوفية التي كانت سبب دخ ول‬
‫الناس في اإلسالم‪..‬‬
‫ثم أسسوا بعض المعاهد‪ ،‬وجمعوا لها الطلبة من ك ل مك ان‪ ،‬وش حنوهم بك ل‬

‫‪ )(1‬أبو نعيم (‪ )42 /2‬في ذكر أخبار أصبهان‪.‬‬


‫‪ )(2‬السيوطي في الجامع الصغير (‪)4778‬‬
‫‪ )(3‬كنز العمال (‪)14954‬‬

‫‪76‬‬
‫ألوان الحقد والكراهية‪..‬‬
‫ولم يكتفوا بذلك‪ ،‬بل راحوا يؤسسون الجمعيات والحركات‪ ،‬ويغ دقون عليه ا‬
‫من األموال ما جمع لها لها الكثير من أصناف االنتهازيين‪..‬‬
‫وما هي إال مدة قص يرة ح تى ذهبت عن إفريقي ا براءته ا وطهارته ا ليظه ر‬
‫فيها شباب اإلسالم وبوكو حرام والقاعدة وغيرها‪..‬‬
‫وبعد أن نجحوا في تدمير إفريقيا‪ ،‬ونشر كل عصابات الت دين المزي ف بينه ا‬
‫خرجت إلى العالم حكومة الولي الفقيه في إيران‪ ..‬وظهر الخميني داعيا إلى الوح دة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وإلى عودة اإلسالم إلى الواقع في كل ميادينه‪.‬‬
‫وهنا انتدب كل أولئ ك الش يوخ‪ ،‬وطلب منهم أن يكف وا ش رهم عن التص وف‬
‫والصوفية‪ ،‬وأن يبدأو حربا جديدة على التشيع والشيعة‪..‬‬
‫وترك أولئك الزمالء العلماء كل شيء‪ ،‬وراحوا يبحثون عن أي خرافة قاله ا‬
‫أي شخص في أي زمان ليلبسوها بالشيعة‪ ،‬وليعتبروهم أكبر مؤامرة ته دد اإلس الم‬
‫وأهله‪.‬‬
‫ولم ي رض األم راء ب ذلك‪ ..‬ب ل طلب وا منهم أن يخرج وهم من اإلس الم‪ ،‬وأن‬
‫يسموهم مجوسا‪ ،‬وأن يعتبروا دولتهم حلما فارسيا إلنشاء امبراطورية تقض ي على‬
‫العرب‪ ..‬واستجاب العلماء لطلب األمراء‪ ..‬وق د كتب بعض زمالئي في ذل ك كتاب ه‬
‫المعروف [وجاء دور المجوس]‪ ..‬وكتب غيره عشرات الكتب‪..‬‬
‫أما من ليس له القدرة على الكتابة‪ ،‬فقد راح إلى لسانه الطويل يزيد في طوله‬
‫عليهم في المن ابر والم ؤتمرات وعلى جمي ع القن وات‪ ..‬إلى أن امتألت األم ة حق دا‬
‫على تلك الطائفة الكريم ة من طوائ ف المس لمين‪ ،‬وعلى تل ك الدول ة المحترم ة من‬
‫دولها‪.‬‬
‫ولم يكتف األمراء بذلك‪ ..‬بل راحوا عندما غزا صدام حس ين الك ويت يفت ون‬
‫الفت اوى الكث يرة بوج وب إخراج ه منه ا‪ ،‬ول و باالس تعانة بمن ك انوا يس مونهم‬
‫صليبيين‪ ..‬وتحول في طرفة عين صديقهم العزيز صدام الذي ك انو يعتبرون ه بط ل‬
‫اإلس الم األك بر‪ ،‬وحص نه الم نيع ال ذي وق ف في وج ه المج وس واالمبراطوري ة‬
‫الفارسية‪ ..‬والذي كانوا يشجعونه على قتل أطفال الشيعة ورجالهم ونسائهم‪ ..‬تح ول‬
‫في طرفة عين إلى عدود لدود‪ ،‬بل عدو اإلسالم األكبر‪ ..‬وصدرت الفت اوى الكث يرة‬
‫في تكفيره‪ ..‬وكان الذين كفروه هم أنفسهم الذين قدسوه‪.‬‬
‫ولم يكتفوا بذلك‪ ..‬بل أصدروا الفتاوى في وجوب بق اء القواع د الص ليبية في‬
‫الجزيرة العربية‪ ..‬ألنه ال يحمي األمراء إال الصليبيون‪..‬‬
‫ولم يكتف األمراء من العلماء بذلك‪ ..‬بل راحوا يطلبون منهم ـ بع د أن تم رد‬
‫المجاهدون الذين صنعوهم بأيديهم ـ إلى إص دار الفت اوى بكف رهم‪ ،‬واعتب ارهم من‬
‫الخ وارج كالب الن ار‪ ..‬وهك ذا أص بح الجه اد ض د أمريك ا ال تي غ زت أفغانس تان‬
‫خروجا وكفرا‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه الجهاد ضد روسيا إيمانا وإسالما‪.‬‬
‫ولم يكتف األمراء بذلك‪ ،‬بل راحوا يحولون من العلماء قيادات شعبية‪ ،‬للقي ام‬

‫‪77‬‬
‫بتنفي ذ المخطط ات العالمي ة للفوض ى الخالق ة والح رب الناعم ة‪ ..‬فص ار العلم اء‬
‫يرفع ون ش عارات إس قاط النظ ام‪ ..‬ويتوس لون ألمريك ا وللن اتو لض رب الش بيحة‬
‫والفلول والبلطجي ة‪ ..‬ليس تطيع الش عب المستض عف أن يس قط النظ ام‪ ،‬ويح ل بدل ه‬
‫الفوضى‪.‬‬
‫وهكذا تمكن العلماء من تقسيم المجتمعات وإحالل األحقاد بينها‪ ..‬وعندما ثار‬
‫الص راع‪ ،‬لم ينهض وا لل دعوة للس الم‪ ،‬وإنم ا راح وا ينف ذون مط الب األم راء في‬
‫الوقوف مع الفئة التي ترضيهم وترضي سادتهم من الصليبيين والصهاينة‪.‬‬
‫وهكذا ظل األمراء يسوقون زمالئي من العلماء إلى كل سرداب من سراديب‬
‫الغواية‪ ،‬وكل حفرة من حفر الهوى‪ ،‬وكل مشنقة من مشانق المروءة واإلنسانية‪.‬‬
‫وق د علمت من بعض المص ادر الموثوق ة أن من زمالئي العلم اء من أوقع ه‬
‫بعض األم راء في فض ائح مالي ة وأخالقي ة‪ ..‬وس جلها‪ ..‬وص ورها بدق ة‪ ..‬وك ان‬
‫يستدعيه كل حين ليفتي له بما يشاء وعلى المأل‪ ،‬وإال ينشر ما س جله وص وره على‬
‫جميع وسائل اإلعالم‪..‬‬
‫وعلمت من مصادر أخرى أن بعض أولئ ك ال زمالء ال ذين تلطخ وا بص حبة‬
‫األمراء تحول من عز العلم ورفعته وشرفه إلى ذل الخدمة والعبودية‪ ،‬حيث أص بح‬
‫كلبا وديعا يسير مع األمير حيث سار‪ ،‬ال لشيء إال ليظه ر األم ير بمظه ر المت دين‬
‫المحترم‪..‬‬
‫وعلمت أن بعضهم أصبح سمسارا لدى األمير‪ ..‬يتوسط له في ك ل مص لحة‪،‬‬
‫ويستعين به على كل ما ال يقدر اللصوص والمختلسون على تنفيذه‪.‬‬
‫وهكذا كانت أخبارهم تصلني فأتألم لها‪ ،‬وأفرح‪ ..‬أت ألم لم ا أص ابهم‪ ..‬وأف رح‬
‫ألن هللا نجاني من الوقوع في شباك األمراء‪..‬‬
‫وقد صرت لكثرة ما يص لني من أخب ارهم وش ناعتهم أس تقبل مرت بي‪ ،‬وأع د‬
‫نق ودي‪ ،‬ثم أقبله ا‪ ،‬وأس جد س جود الش كر على نعمت ه علي به ا‪ ..‬وإذا م ا ج اءني‬
‫المستأجر الذي أستأجر بيته طالبا األجرة أعطي ه إياه ا‪ ،‬وأض يف ل ه زي ادة ألن هللا‬
‫أنقذني ببيته الذي أستأجره من أن أسجن في قصور األم راء‪ ،‬أو أص بح كلب ا وديع ا‬
‫من كالبهم‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫دجل شرعي‬
‫القصة التي سأقصها عليكم اليوم ال تتعلق بي‪ ،‬فلم أشاهد أحداثها‪ ،‬ال ك ان لي‬
‫عالقة بـأبطالها‪ ،‬وإنما قصها علي رجل ظل عقدين من عمره يعيش بعقل معطل‪..‬‬
‫وفجأة‪ ،‬وبعد أحداث كثيرة ذكرها لي عاد إليه وعيه‪ ،‬وانتش ر ال دم في خالي ا‬
‫دماغه‪ ..‬وعاد عقله للعمل من جديد بعد تلك الغيبوبة الطويلة‪.‬‬
‫وذلك ليس مستحيال في لغة العلم‪ ،‬وال لغة الواقع‪..‬وال لغة العرف ان‪ ..‬فرحم ة‬
‫هللا التي وسعت كل شيء‪ ..‬وهدايته ال تي اس تغرقت ك ل ش يء لن تض يق بعق ل من‬
‫العقول معطال كان أو مفعال‪ ..‬وقد أخبرنا القرآن الكريم عن السحرة‪ ،‬وكيف تحولوا‬
‫في لحظة واحدة إلى أولياء وصديقين وشهداء‪..‬‬
‫قال لي صاحبي التائب‪ ،‬والدموع تنحدر من عيني ه‪ :‬لس ت أدري كي ف أقاب ل‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وقد قضيت عقدين من عمري في الدجل والكذب والبهتان؟‬
‫قلت‪ :‬خفف عليك‪ ..‬وال تدع الشيطان يسلمك لليأس‪ ..‬فاهلل غفور رحيم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أعلم ذلك‪ ..‬وأنا موقن به‪ ..‬ولكن خوفي ليس من الذنوب التي بي ني وبين‬
‫هللا‪ ،‬وإنما خوفي من الذنوب التي بي ني وبين العب اد‪ ..‬أال تع رف أن الغيب ة والك ذب‬
‫والتجسس والتحسس والتكفير والدعوة إلى سفك الدماء من ال ذنوب المتعدي ة‪ ،‬وأن ه‬
‫يمكن ألي شخص في اآلخرة أن يطالب بحقه؟‬
‫لم أجد ما أقول‪ ،‬فقال‪ :‬أال تعرف حديث المفلس؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬كلنا نعرفه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فحدثني به‪ ..‬فإني أحب أن أذكر نفس ي ك ل حين ب ه عس اها تمتلئ أس فا‬
‫وندما‪ ،‬وعساها تحترق لينبت بدلها نفس جديدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد قال رسول هللا ‪( :‬إن المفلس من أم تي ي أتي ي وم القيام ة بص الة‬
‫وصيام وزك اة‪ ،‬وي أتي ق د ش تم ه ذا وق ذف ه ذا‪ ،‬وأك ل م ال ه ذا‪ ،‬وس فك دم ه ذا‪،‬‬
‫وضرب هذا‪ ،‬فيعطى هذا من حسناته‪ ،‬وهذا من حسناته‪ ،‬فإن فنيت حس ناته قب ل أن‬
‫يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(‪)1‬‬
‫أخذ يبكي بش دة‪ ،‬ويق ول‪ :‬ويلي‪ ..‬وي ل نفس ي‪ ..‬م اذا فعلت به ا‪ ..‬إن ك ان ه ذا‬
‫الرجل الذي ذكره رسول هللا ‪ ‬قد شتم شخصا واحدا‪ ..‬أو أشخاصا معدودين‪ ،‬فأن ا‬
‫شتمت ماليير األش خاص‪ ..‬وإن ك ان ق د س فك دم واح د‪ ..‬فأن ا كنت أف تي بس فك دم‬
‫ماليير البشر‪ ..‬ويلي ماذا أفعل لهم‪ ..‬وم ا هي الحس نات ال تي تكفيهم إن خاص موني‬
‫عند ربهم‪ ..‬وويل لي من سيئاتهم إن صبت علي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مهال يا رج ل‪ ..‬فاهلل حكيم ع ادل‪ ..‬وأنت كنت مش تبها علي ك‪ ..‬ب ل كنت‬
‫مجتهدا اجتهادا خاطئا‪ ..‬وهللا يغفر لك‪..‬‬
‫نظري إلي‪ ،‬ودموعه تنحدر بقوة‪ ،‬وقال‪ :‬وهل االجتهاد الخ اطئ يج يز لي أن‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫أكذب‪ ،‬وأنا أعلم أنني أكذب‪ ..‬وهل يجيز لي أن أرمي غيري بالعظائم‪ ،‬وأنا أعلم أن‬
‫كل ذلك غير صحيح؟‬
‫لم أدر م ا أق ول‪ ،‬فق ال‪ :‬لق د كنت بين ق وم يعت برون الك ذب وال دجل ش ريعة‬
‫محكمة يمكننا أن نمارسها مع من شاء‪..‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم أخرج لي من جيبه مطوية‪ ،‬وق ال‪ :‬خ ذ ه ذه المطوي ة الملعون ة‪،‬‬
‫واقرأها علي‪ ،‬ألقص عليك ما جرت علي من ويالت‪..‬‬
‫أخذتها‪ ،‬فوجدت عنوانها [تنبيه الس نيين الس لفيين إلى ج واز اس تعمال الحي ل‬
‫م ع المخ الفين المبت دعين]‪ ،‬ثم أخ ذت أق رأ م ا فيه ا‪ ..‬فطلب م ني أن أرف ع ص وتي‬
‫بقراءتها‪ ،‬فرحت أقرأ‪ :‬مما اتفق عليه جميع أعالمنا الكبار‪ ،‬وأص دروا في ه الفت اوى‬
‫الكثيرة‪ ،‬جواز استعمال جميع ألوان الحيل والخدعة مع المخالفين‪ ،‬ذل ك أن الح رب‬
‫خدعة‪ ..‬وكما أن المبتدعة يمارسون أنواع الخدع والحي ل والك ذب‪ ،‬فمن ب اب أولى‬
‫أن يمارسها السلفي باعتباره صاحب حق‪.‬‬
‫وق د ج رى على ه ذا المنهج كب ار علمائن ا كش يخ اإلس الم ابن تيمي ة ال ذي‬
‫استعمل هذا مع جميع المبتدعة المخالفين‪ ،‬حتى أنه كان يض عف الح ديث الص حيح‬
‫إذا رأى المبتدعة يستعملونه لحرب السنة‪..‬‬
‫رحت أنظ ر إلي ه متعجب ا‪ ،‬وقلت‪ :‬كي ف ينش رون مث ل ه ذه المطوي ات‪ ..‬أال‬
‫يخافون أن تذهب بسمعتهم؟‬
‫ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬هذه مطوي ات خاص ة‪ ،‬ال تس لم لجمي ع الن اس‪ ..‬اق رأ الفت اوى‬
‫الواردة فيها‪.‬‬
‫وجدت فتوى بعنوان [فتوى الش يخ على الخض ير في ج واز الك ذب وش هادة‬
‫الزور لنصرة األمة]‪ ،‬وقد سئل فيها هذا السؤال‪[ :‬هل يجوز لي أن أقول س وءاً عن‬
‫شخص مما هو وأمثاله فيه وأنا أعرف أنه فاسق أو عدو للدين؟ وه ل يج وز لي أن‬
‫أقول خيراً عن رجل صالح من أه ل ال دين والتق وى والجه اد لتخليص ه من مش كلة‬
‫تضره بذاته أو بسمعة الصحوة اإلسالمية؟ ]‬
‫وكان جواب الشيخ قوله‪( :‬المؤمن أخو المؤمن‪ ،‬والبد أن ينصره ح ال طلب‬
‫النجدة أو عند العلم بحاجته‪ ،‬ومن النصرة مؤازرت ه ودف ع الض رر عن ه‪ .‬ومن ذل ك‬
‫الكذب؛ فالكذب يجوز لنصرة المسلم ولدفع الك افر أو الع دو‪ .‬فق د ص ح فى الح ديث‬
‫جواز الكذب لتحقيق مصلحة ومن المصلحة رفعة المس لم وذل ة س واه‪ ..‬كم ا تج وز‬
‫المخادعة للعدو في حال الحرب أو ألجل الحرب فه ذا ال خالف في ج وازه‪ ،‬وذل ك‬
‫لحديث الصحيحين‪ ،‬قال النبي ‪( :‬الحرب خدعة)‪ ..‬ومعنى المخادع ة في الح رب‬
‫إظهار المكيدة‪ ،‬وحسن التدبير والرأي والتعريض ليظهر للع دو خالف م ا يع ده ل ه‬
‫المسلمون من الكمائن والمكائد‪ ..‬والخداع هو عمدة الحروب وأساس ها وعليه يك ون‬
‫م دار االنتص ار‪ ،‬وهو أحد األس باب الش رعية ال تي ينبغي األخذ واالعتن اء بها‪..‬‬
‫ومفه وم الح رب في ه ذه األح اديث أعم من أن يقص ر على نص ب القت ال والتق اء‬
‫الصفين وتقابل الزحفين‪ ،‬وإنما يدخل في ذلك أيضا السعي للفتك ب رأس من رؤوس‬

‫‪80‬‬
‫الكفر واإللحاد والعلمنة والفسق المحادين هلل ورسوله‪ ..‬ومن الحرب حرب األفكار‪،‬‬
‫وهي أشد من حرب القتال‪ ،‬فيجب استخدام الخدعة ويباح الكذب فيه ا إلظه ار أه ل‬
‫البدع والشركيات وأهل الف رق الباطل ة من روافض وزن ادق وأه ل علمن ة وحداث ة‬
‫وقرامطة وغيرهم بمظهرهم المخزي لكي اليغتر بهم عوام المسلمين؛ وإظهار أهل‬
‫السنة وأصحاب العقيدة السليمة بمظهرهم الالئق بهم‪ ..‬ولهذا فإنه يج وز ل ك الك ذب‬
‫والشهادة وتغليظ اليمين لنصرة الدين اإلسالمي ونهجه القويم ونصرة أخيك المس لم‬
‫الصالح ممن يريدون به كيداً؛ وإذالل أهل البدع والضالالت والفرق الفاسدة)(‪)1‬‬
‫بعد أن قرأت الفتوى‪ ،‬ودهشت لما فيها‪ ،‬قلت‪ :‬هذه فتوى خطيرة‪..‬‬
‫قال‪ :‬انظر للفتوى التي تحتها‪ ..‬نظرت فرأيت سؤاال موجه ا للش يخ الف وازان‬
‫يقول صاحبه‪( :‬انتشر الي وم بين الش باب أن ه يل زم الموازن ة في النق د فيقول ون‪ :‬إذا‬
‫انتقدت فالنا من الناس في بدعته وبينت أخطاءه يلزمك أن تذكر محاسنه‪ ،‬وه ذا من‬
‫باب االنصاف والموازن ة‪ ،‬فه ل ه ذا المنهج في النق د ص حيح؟ وه ل يلزم ني ذك ر‬
‫المحاسن في حالة النقد؟)‬
‫وقد أجاب عليه بقوله‪( :‬إذا كان المنتقد من أهل السنة والجماعة وأخطاؤه في‬
‫االم ور ال تي التخ ل بالعقي دة‪ ،‬فنعم‪ ،‬ه ذا ت ذكر ميزات ه وحس ناته‪ ،‬تُغم ر زالّت ه في‬
‫نصرته للسنة‪ .‬أما إذا كان المنتقد من أهل الض الل ومن أه ل االنح راف ومن أه ل‬
‫المبادئ الهدامة والمشبوهة‪ ،‬فهذا اليجوز لنا أن نذكر حسناته ‪ -‬اذا كان ل ه حس نات‬
‫‪ -‬ألننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس فيحسنون الظن بهذا الضال أو هذا المبتدع‬
‫أو ه ذا الخ رافي أو الح زبي‪ ،‬فيقبل ون أفك ار ه ذا الض ال أو ه ذا المبت دع أو ذاك‬
‫المتحزب‪ .‬وهللا جل وعال ر ّد على الكفرة والمجرمين والمنافقين ولم ي ذكر ش يئا من‬
‫حسناتهم‪ ،‬وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمي ة والمعتزل ة وعلى أه ل الض الل‬
‫واليذكرون شيئا من حس ناتهم‪ .‬ألن حس ناتهم مرجوح ة بالض الل والكف ر وااللح اد‬
‫والنفاق‪ .‬فال يناسب انك ترد على ضال‪ ،‬مبتدع‪ ،‬منحرف‪ ،‬وتذكر حسناته وتقول هو‬
‫رجل طيب عنده حسنات وعنده ك ذا‪ ،‬لكن ه غل ط‪ ..‬نق ول ل ك‪ :‬ثن اؤك علي ه أش د من‬
‫ضالله‪ ،‬ألن الناس يثقون بثنائك عليه‪ ،‬فإذا روجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فق د‬
‫غررت بالناس وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين)(‪)2‬‬
‫نظرت إليه متعجبا‪ ،‬وأنا أقول‪ :‬متى صدرت هذه الفتاوى؟ إنها خطيرة جدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬إنها صدرت قبل أن تولد وأولد‪ ..‬إنها صدرت من ذ الي وم ال ذي راح في ه‬
‫الشيطان يزاحم دين هللا ب دين البش ر‪ ..‬ودين الهداي ة ب دين ال دجل‪ ..‬من ذ ذل ك الحين‬
‫شرع الكذب والغيبة والنميمة وكل أنواع الضاللة‪ ،‬وأعطاها اسم السنة والسلفية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الحمد هلل أن أنجاك هللا من هذا الدين الذي يشرع الكذب والدجل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا أحمد هللا على ذلك‪ ..‬ولكني أحترق من ال داخل احتراق ا ش ديدا‪ ،‬ألني‬

‫‪ )(1‬نقال عن مقال بعنوان‪ :‬متى يخلع شيوخ السعودية سراويلهم الغربية ‪ -‬شبكة المنطقة‪.‬‬
‫‪ )(2‬األجوبة المفيدة في أسئلة المناهج الجديدة‪.24 /1 ،‬‬

‫‪81‬‬
‫عندما سرت لبعض الذين أغويتهم وضللتهم‪ ..‬ورحت أقول لهم‪ :‬أنا كاذب في كل ما‬
‫ذكرته لكم‪ ..‬وأنا مجرد دجال ومحتال ومخادع‪..‬‬
‫عندما ذكرت لهم هذا راحوا يتهم ون بالبدع ة والض اللة‪ ،‬وراح وا يص رون‬
‫على أن ما ذكرته لهم هو الحقيقة‪ ..‬وهو الهداية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم ما تعني‪.‬‬
‫قال‪ :‬قبل عشرين سنة‪ ،‬وفي بداية انضمامي لهذه الطائفة التي اس تحوذ عليه ا‬
‫الشيطان‪ ،‬وحولها إلى مركب لتشويه الدين وقيمه النبيلة دعيت مع بعض أص دقائي‬
‫من الباحثين والمثقفين إلى اجتماع مع رأس من رؤوس هم‪ ..‬وهن اك أخبرن ا ب أن من‬
‫يسميهم الروافض ينتشرون في كل مكان‪ ،‬وأن الحرب بيننا وبينهم قد دقت طبولها‪..‬‬
‫وأن علينا أن نستعمل كل الوسائل لحربهم‪ ..‬فما غزي قوم في ديارهم إال ذلوا‪.‬‬
‫وبعد أن قال لنا هذا كلف كال منا بأن يبحث في موضوع من المواضيع ال تي‬
‫تشوه هذه الطائفة‪ ،‬وتخرجها من الملة‪.‬‬
‫وقد ك ان من ش ؤمي‪ ،‬أو من تخطي ط الش يطان لي‪ ،‬أو من ابتالء هللا لي‪ ..‬أن‬
‫كلفت ببحث مرتبط بموقف الشيعة من القرآن الكريم‪..‬‬
‫ورحت حينها لكتبهم وتفاسيرهم وكالم أعالمهم‪ ..‬فوجدت موقفهم من الق رآن‬
‫الك ريم ال يختل ف عن موق ف س ائر المس لمين‪ ..‬ووج دت مص احفهم هي نفس‬
‫مصاحفنا‪ ..‬ووجدت كالم كبار أعالمهم ومراجعهم ال تختلف في ذلك‪ ..‬بل فوق ذلك‬
‫وجدت لهم رؤى في تفسير القرآن الكريم لم أجد مثلها عندنا‪..‬‬
‫وقد كتبت في ذلك بحثا طويال استغرق مني زمنا طويال‪ ،‬وعندما انتهيت منه‬
‫ذهبت إلى ذلك المجلس‪ ،‬وأن ا ف رح مس رور‪ ،‬ألني اس تطعت أن أس د ثغ رة‪ ،‬وأق دم‬
‫خدمة لنصرة الحقيقة‪..‬‬
‫لكني فوجئت بموقف الش يخ من البحث‪ ..‬فبمج رد أن نظ ر في ه‪ ،‬واطل ع على‬
‫كل تلك األدلة التي ذكرته ا‪ ..‬وأن موق ف الش يعة من الق رآن الك ريم موق ف طيب‪..‬‬
‫وأن بدعهم ربما ترتبط بغيره‪ ،‬ال به‪ ..‬نظر إلي بغضب وقال‪ :‬أبهذه الس رعة ت رمي‬
‫سالحك‪ ..‬وتولي الزحف‪ ،‬وتنضم إلى األعداء؟‬
‫فقلت له‪ :‬لم أفهم‪..‬‬
‫قال‪ :‬ما هذا البحث الذي قدمته؟‬
‫قلت‪ :‬لقد بذلت كل جه دي في ه‪ ..‬واطلعت على كتبهم وتفاس يرهم‪ ..‬ب ل زرت‬
‫بالدهم‪ ،‬ورحت إلى المص احف الموج ودة في مس اجدهم وحس ينياتهم‪ ،‬فلم أج د إال‬
‫مث ل مص احفنا‪ ،‬ب ل إني رأيتهم يس معون نفس الق راء ال ذين نس معهم‪ ..‬ويعق دون‬
‫مجالس القراءة‪ ،‬فال يقرؤون إال ما نقرأ‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع عند بحثك بكتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب‬
‫األرباب)؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬سمعت ب ه‪ ..‬لك ني وج دتهم جميع ا مطبق ون على أن ه ذا الرج ل‬
‫ليس من المعتبرين عندهم‪ ..‬ووج دتهم ينك رون ك ل تل ك األخب ار واألح اديث ال تي‬

‫‪82‬‬
‫رواها‪ ..‬ووجدت أنني إن استدللت بم ا ذك ر من أح اديث‪ ،‬ف إنهم يمكنهم أن يس تدلوا‬
‫بما في كتبنا الصحيحة من األحاديث‪ ،‬والتي نسميها [المنسوخ تالوة]‬
‫نظر إلي بغضب‪ ،‬وقال‪ :‬ائتوني بعود ثقاب‪ ..‬فه ذا البحث ال ينبغي أن يخ رج‬
‫من هنا‪..‬‬
‫أخذ عود الثقاب‪ ،‬فأشعله في البحث‪ ..‬وأشعل معه كل ذلك الجهد الذي بذلته‪..‬‬
‫وبعد أن لم يبق من البحث إال الرماد‪ ،‬قال لي الشيخ‪ :‬أنت ببحثك هذا خ رجت‬
‫من السنة والسلفية‪ ..‬فإن شئت أن تعود إليهما‪ ..‬فاكتب كتابا يناقض هذا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬اجعل كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب األرباب) مثل‬
‫صحيح البخاري عندنا‪ ..‬واجعل صاحبه أك بر علم ائهم‪ ..‬واعت بر ق ولهم ب التحريف‬
‫إجماعا‪ ..‬واجمع لذلك ما شئت من األقوال والروايات‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لكني قد أكذب بذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن ذكر لك أن الكذب في هذا المجال حرام‪ ..‬ألم تعلم أنن ا في ح رب‪..‬‬
‫وأن الحرب خدعة‪ ..‬ألم تقرأ تلك األحاديث التي تجوز الكذب؟‬
‫بقي الش يخ م دة من ال زمن يقنع ني ب ذلك إلى أن كتبت م ا طلب م ني‪،‬‬
‫واستعملت كل أنواع الكذب والدجل واالحتيال ألثبت قول الش يعة بتحري ف الق رآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫وعندما أتيته به‪ ،‬ورآه فرح فرح ا ش ديدا‪ ،‬وق ال لي‪ ،‬وه و يهنئ ني‪ :‬أنت اآلن‬
‫أس د من أس ود الس نة‪ ..‬وسأض ع تص ديرا لكتاب ك‪ ..‬وسينش ر من ه ماليين النس خ‪..‬‬
‫وسيوزع مجانا لكل العالم‪ ..‬ليملتئوا حقدا على أولئك الروافض األنجاس‪ ..‬فال يمكن‬
‫أن نحفظ المسلمين من شرهم‪ ،‬وهم ال يحقدون عليهم‪.‬‬
‫وحصل ما ذكره لي‪ ،‬فقد أصبح اس مي بع دها مش هورا‪ ..‬وص ار ك ل الن اس‬
‫يرددون ما كتبت‪ ..‬ويكفرون الشيعة ويبيحون دماءهم على أساسه‪.‬‬
‫وليت األم ر اقتص ر على ذل ك‪ ..‬ب ل ك انت القن وات ت تزاحم على طل بي‪،‬‬
‫وتعطيني مبالغ ض خمة‪ ..‬وأن ا كنت أذهب إليه ا‪ ،‬وأردد م ا لم أكن أؤمن ب ه‪ ..‬ولكن‬
‫اإلغراءات التي وقعت فيها‪ ،‬جعلتني مسلوب اإلرادة‪ ..‬وكنت أطمئن نفسي كل حين‬
‫بقراءة هذه المطوية الملعونة‪.‬‬
‫لم تقتصر جرائم على الشيعة‪ ..‬بل رحت باعتباري أسدا للسنة أكلف بمحاربة‬
‫الصوفية‪ ..‬فالص وفية كم ا ذك روا لي هي بواب ة التش يع‪ ..‬ول ذلك ال يمكن حرب ه إال‬
‫بحربها‪..‬‬
‫وكتبت في ذل ك أيض ا أبحاث ا كث يرة أثبت فيه ا زورا وبهتان ا كف ر الص وفية‬
‫وضاللهم وأنهم خطر على اإلسالم‪ ..‬بل إنني في بعض تل ك البح وث رحت أس تدل‬
‫ب القرآن الك ريم والس نة المطه رة على ج واز قتلهم‪ ،‬ب ل وجوب ه‪ ،‬ول و ب دون إذن‬
‫الحاكم‪..‬‬
‫وق د ك انت تل ك الفت اوى س الحا بي د اإلره ابيين‪ ،‬ينفذون ه فيمن ش اءت لهم‬

‫‪83‬‬
‫نفوسهم قتله‪ ،‬ويستدلون لذلك بما كتبته في تلك البحوث‪.‬‬
‫وهكذا بقيت عشرين سنة أداة طيعة بيد أولئك الحاقدين المج رمين‪ ،‬يرمون ني‬
‫في كل معركة‪ ..‬وأنا الغبي األحمق المغفل كنت أنفذ كل ما يطلبونه‪..‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم وضع يديه على رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬لقد حسبت عدد ال ذين كف رتهم من‬
‫المسلمين في أبحاثي وكت بي ومحاض راتي‪ ،‬فوج دت أنهم جمي ع المس لمين م ا ع دا‬
‫أولئك األقزام الذين اعتبروني أسدا‪ ،‬وراحوا يغرونني بغرز أني ابي في إخ واني من‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬هل يمكنني أن أكفر عن ذنوبي هذه؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فاهلل غفور رحيم‪ ..‬وكم ا كتبت تل ك الكتب ونش رتها‪ ..‬ف اكتب م ا‬
‫يناقضها‪ ،‬ويضادها‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد فعلت ذلك‪ ..‬لكن ال أحد يقبل أن ينشر ما كتبت‪ ..‬لقد نشروا عني أني‬
‫جننت وأن الصوفية والشيعة وغيرهم قد سحروني‪ ..‬وأنني اآلن غير من كنت‪..‬‬
‫قلت‪ :‬يمكنك الفرار لبالد أخرى‪ ..‬وطرح ما عندك من تراجعات‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل تراهم يسمحون لي‪ ..‬أنا اآلن لم أصل إليك إال بعد جهد جهيد‪ ..‬فهم‬
‫يبحثون عني‪ ..‬ويوشك أن يصلوا إلي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬لست أدري‪ ..‬ولك ني أعلم أن أولئ ك الجف اة الغالظ ال ذين أب احوا جمي ع‬
‫دماء األمة لن يضيق عليهم دمي‪..‬‬
‫كنت أتصور أنه يبالغ بقوله ذلك‪ ..‬لكن ما هي إال لحظات حتى جاء ص علوك‬
‫من صعاليكم‪ ،‬وطعنه أمامي بخنجر في صدره‪ ،‬فمات من فوره‪..‬‬
‫ومن العجيب أنه صوره‪ ،‬ثم راح ينادي بصوت عال‪ :‬أيها الناس تعالوا‪ ..‬لق د‬
‫نفذ الرافضة والصوفية تهديداتهم في أسد السنة‪ ..‬وقد قتلوه لعنهم هللا‪..‬‬
‫وسرعان ما اجتمع الناس‪ ،‬وحضر الصحفيون‪ ..‬وحض رت معهم الكث ير من‬
‫القنوات الفضائية‪ ،‬وتناقلت وكاالت األنباء خبر قتل أسد السنة من ط رف الرافض ة‬
‫والصوفية‪.‬‬
‫وفي ذل ك الي وم ض حي بكث ير من البس طاء المتهمين بالتش يع أو التص وف‬
‫انتقاما ألسد السنة‪.‬‬

‫‪84‬‬

You might also like