You are on page 1of 96

0

‫هذا الكتاب‬
‫يحاول هذا الكتاب ـ عبر الموضوعات القرآنية العش رة ال تي‬
‫طرحه ا ـ أن يتع رف على أس رار النهي عن الف رح في الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬والذي ورد التصريح به في قوله تع الى‪  :‬ال تَ ْف َرحْ إِ َّن هَّللا َ‬
‫ال يُ ِحبُّ ْالفَ ِر ِحينَ ‪( ‬القصص‪)76 :‬‬
‫فه ذا النهي ال وارد على لس ان الناص حين من ب ني إس رائيل‬
‫لقارون‪ ،‬نهي سار إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو يع بر عن الحقيق ة بلس انها‬
‫الفصيح الناصح‪ ..‬ذلك أننا نحت اج أن نس تمع لمن ي دعونا إلى ع دم‬
‫الفرح كما نحتاج إلى من يدعونا إلى عدم الحزن أو عدم اليأس‪..‬‬
‫ذلك أن الفرح مثله مثل الحزن واليأس قد يتح ول إلى أداة من‬
‫أدوات الشيطان التي يخرب بها بنيان اإلنسان‪ ،‬ويجعله منشغال بم ا‬
‫وصل إليه من نعمة‪ ،‬غافال عما ينتظره من ألم‪.‬‬
‫ولذلك جمع هللا بين النهي عن األمرين جميعا‪ :‬الحزن والفرح‬
‫في قوله تعالى‪ :‬لِ َك ْياَل تَأْ َسوْ ا َعلَى َم ا فَ اتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َر ُح وا بِ َم ا آتَ ا ُك ْم‬
‫ور ‪[ ‬الحديد‪]23 :‬‬ ‫َال فَ ُخ ٍ‬‫َوهَّللا ُ اَل ي ُِحبُّ ُك َّل ُم ْخت ٍ‬

‫‪1‬‬
‫رسائل السالم‬

‫( ‪)11‬‬

‫ال تفرح‪..‬‬
‫مواضع النهي عن الفرح في القرآن الكريم وأسرارها‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪2017 – 1438‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



‫فهرس المحتويات‬
‫‪4‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪6‬‬ ‫أنا‬
‫‪19‬‬ ‫الجسد‬
‫‪34‬‬ ‫القوة‬
‫‪44‬‬ ‫العقل‬
‫‪55‬‬ ‫الزينة‬
‫‪70‬‬ ‫التكاثر‬
‫‪86‬‬ ‫المال‬
‫‪99‬‬ ‫األرض‬
‫‪117‬‬ ‫الريح‬
‫‪129‬‬ ‫الجذور‬

‫‪3‬‬
‫المقدمة‬
‫يحاول هذا الكتاب ـ عبر الموضوعات القرآنية العشرة التي طرحه ا ـ‬
‫أن يتع رف على أس رار النهي عن الف رح في الق رآن الك ريم‪ ،‬وال ذي ورد‬
‫ر ِحينَ ‪‬‬ ‫التص ريح ب ه في قول ه تع الى‪  :‬ال تَ ْف َرحْ إِ َّن هَّللا َ ال يُ ِحبُّ ْالفَ ِ‬
‫(القصص‪)76 :‬‬
‫فهذا النهي الوارد على لسان الناصحين من بني إسرائيل لقارون‪ ،‬نهي‬
‫سار إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو يعبر عن الحقيقة بلسانها الفص يح الناص ح‪ ..‬ذل ك‬
‫أننا نحتاج أن نستمع لمن يدعونا إلى عدم الفرح كما نحت اج إلى من ي دعونا‬
‫إلى عدم الحزن أو عدم اليأس‪..‬‬
‫ذلك أن الفرح مثله مثل الحزن والي أس ق د يتح ول إلى أداة من أدوات‬
‫الشيطان التي يخرب بها بنيان اإلنسان‪ ،‬ويجعله منشغال بم ا وص ل إلي ه من‬
‫نعمة‪ ،‬غافال عما ينتظره من ألم‪.‬‬
‫ولذلك جمع هللا بين النهي عن األمرين جميعا‪ :‬الحزن والفرح في قوله‬
‫تعالى‪ :‬لِ َك ْياَل تَأْ َسوْ ا َعلَى َم ا فَ اتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َر ُح وا بِ َم ا آتَ ا ُك ْم َوهَّللا ُ اَل يُ ِحبُّ ُك َّل‬
‫ور ‪[ ‬الحديد‪]23 :‬‬ ‫ُم ْختَا ٍل فَ ُخ ٍ‬
‫لذلك حاول ه ذا الكت اب من خالل الت دبر في الق رآن الك ريم أن يبحث‬
‫في أس رار الجم ع بين النهي عن الف رح‪ ،‬في نفس ال وقت ال ذي ن رى في ه‬
‫ك فَ ْليَ ْف َر ُح وا‬
‫ض ِل هَّللا ِ َوبِ َرحْ َمتِ ِه فَبِ َذلِ َ‬
‫الدعوة إليه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ :‬قُلْ بِفَ ْ‬
‫هُ َو خَ ْي ٌر ِم َّما يَجْ َمعُونَ ‪[ ‬يونس‪]58 :‬‬
‫وقد تبين لنا من خالل هذه األبحاث التأملية أن القرآن الكريم ال يدعونا‬
‫عند نهيه عن الف رح إلى م ا نتوهم ه ب ديال عن ه‪ ،‬وه و الح زن أو الكآب ة أو‬
‫اإلحباط‪ ..‬ذلك أن القرآن الك ريم كت اب س عادة ال كت اب ش قاء‪َ  ،‬م ا أَ ْنز َْلنَ ا‬
‫ك ْالقُرْ آنَ لِتَ ْشقَى‪[ ‬طه‪ ،]2 :‬ويس تحيل على الكت اب ال ذي يض م دس تور‬ ‫َعلَ ْي َ‬
‫السعادة األبدية أن يدعونا إلى الحزن أو األلم والشقاء‪.‬‬
‫لكنه يدعونا إلى الهرب من الفرح المزيف الكاذب الذي قد يش غلنا عن‬
‫حقيقتنا ووظيفتنا كما شغل قارون عنهما‪ ،‬فتحول فرحه إلى ألم يسيطر علي ه‬
‫في كل لحظة‪.‬‬
‫ذلك أن الف رح المزي ف ال يختل ف عن الخم رة ونش وتها‪ ،‬فهي تجع ل‬
‫صاحبها بال عقل وال تفكير‪ ،‬فيقرر قراراته المصيرية بعيدا عن االستبصار‬
‫والتدبر والتفكر‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ولذلك كان هذا الكتاب رسالة من رس ائل الس الم‪ ،‬ألن الس الم الحقيقي‬
‫يبحث عن السعادة الحقيقية األبدية‪ ،‬ال السعادة المزيف ة اللحظي ة المح دودة‪..‬‬
‫والفرح المزي ف أك بر عقب ة تح ول بين اإلنس ان وبين تحقي ق تل ك الس عادة‬
‫األبدية‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫أنا‬
‫أنا هي أول لفظة يعبر بها اإلنسان عن نفسه‪.‬‬
‫وفي الخل ق من يقوله ا لمج رد التع رف والتعري ف‪ ،‬ويس تعملها كم ا‬
‫يستعمل جميع الضمائر منفصلة ومتصلة ال يشعر بالتغاير بينه ا‪ ،‬وال يعتق د‬
‫أن أنا أفضل من أنت‪ ،‬أو أنا خير من هو أو هم‪.‬‬
‫وفي الخلق من يستعملها كأداة يمح و به ا غ يره‪ ،‬ويخض ع به ا رق اب‬
‫غيره‪ ،‬يقولها ملء فيه‪ ،‬ويتصور أنها كافيه بمج رد نطق ه به ا أن يس جد له ا‬
‫الخلق‪ ،‬وأن يسمعوا ويطيعوا‪ ،‬أو يسبحوا ويكبروا‪.‬‬
‫األول يش عر أن ه ج زء من ك ل‪ ،‬وف رد في مجم وع‪ ،‬وواح د من ع دد‬
‫ضخم يتشكل منه بنيان الكون‪ ،‬أما الثاني فيعتقد أنه هو الكل‪ ،‬وغ يره ف روع‬
‫لخدمته‪ ،‬وأنه هو المجموع وغ يره ش تات يتوح دون في ه‪ ،‬وأن ه ه و الواح د‬
‫وغيره أصفار عن يساره و يمينه يتشكل منه عدده‪.‬‬
‫األول يرى نفسه وغيره‪ ،‬ويس مع األص وات جميع ا‪ ،‬وبك ل موجاته ا‪،‬‬
‫وينمحي في اآلخرين كما ينمحون فيه‪ ،‬ويحبهم ويتفاعل في حياته معهم‪ ،‬أما‬
‫الثاني فال يرى إال نفسه‪ ،‬وال يسمع إال حسه أومن ض بطت موجات ه بحس ب‬
‫ترددات حسه‪ ،‬وال يعرف الصفر وجوده ألن الصفر غيره‪.‬‬
‫األول إذا مشى لم تشعر به األرض‪ ،‬ولم يتحرك له النسيم‪ ،‬ولم ته رب‬
‫الطي ور من أوكاره ا وال النم ل إلى قراه ا ولم ته تز ص فحة الم اء وه و‬
‫يطالعها بوجنته‪ ،‬أما الثاني فتندك األرض من تحت ه‪ ،‬ويتخلخ ل الس حاب من‬
‫فوقه‪ ،‬وتفر النسور من قمم الجبال إن نظر إليها‪ ،‬وترتف ع أم واج البح ار إن‬
‫طالعها بصفحته كالقمر يمدها ويسحبها‪.‬‬
‫ر ِحينَ ‪‬‬‫واألنا الثانية هي التي يقال فيها‪  :‬ال تَ ْف َرحْ إِ َّن هَّللا َ ال يُ ِحبُّ ْالفَ ِ‬
‫(القصص‪ ،)76 :‬وهي التي ذكر ذمها في الق رآن الك ريم‪ ،‬وهي ال تي ك انت‬
‫مصيبة على كل من قالها تائها بنفسه متكبرا على ربه‪.‬‬
‫وأول من قالها ـ كما ينص القرآن الكريم ـ إبليس عندما أمره هللا تعالى‬
‫ك قَ َ‬
‫ال‬ ‫ك أَاَّل تَ ْس ُج َد إِ ْذ أَ َمرْ تُ َ‬
‫بالسجود آلدم فأبى‪ ،‬فسأله هللا تعالى‪  :‬قَا َل َما َمنَ َع َ‬
‫َار َوخَ لَ ْقتَهُ ِم ْن ِطين ‪( ‬األعراف‪)12:‬‬ ‫أَنَا خَ ْي ٌر ِم ْنهُ خَ لَ ْقتَنِي ِم ْن ن ٍ‬
‫ومن ذل ك الحين ب دأ التع اظم بال ذات‪ ،‬وب دأ االنفص ال عن الك ون‬
‫المتكامل المتوازن‪ ،‬وورث خلق كثير من بني آدم هذه الكلمة وتعاظموا به ا‬

‫‪6‬‬
‫وتاهوا وأسسوا المعابد والقصور لتعبد ذواتهم‪ ،‬ألن الدماء اإللهية تسري في‬
‫عروقهم‪ ،‬وشيدوا التماثيل ونشروا صورهم في كل المحالت وعلقوه ا على‬
‫جميع الجدران‪ ،‬وقتلوا كل ذبابة تطن أثناء ح ديثهم‪ ،‬وقطع وا حب ال ك ل من‬
‫رفع صوته أم امهم‪ ،‬وأنش أوا دور األمن المختلف ة لتق وم بم ا يجب في حقهم‬
‫من تشريفات وتعظيمات وتبجيالت‪.‬‬
‫والق رآن الك ريم يقص علين ا من أنب اء ه ؤالء‪ ،‬ومنهم ‪ ‬الَّ ِذي َح ا َّج‬
‫ك إِ ْذ قَا َل إِ ْب َرا ِهي ُم َربِّي الَّ ِذي يُحْ يِي َويُ ِم ُ‬
‫يت قَ ا َل‬ ‫إِ ْب َرا ِهي َم فِي َربِّ ِه أَ ْن آتَاهُ هَّللا ُ ْال ُم ْل َ‬
‫ق ف َ أْ ِ‬
‫ت بِهَ ا ِم ْن‬ ‫س ِم ْن ْال َم ْش ِر ِ‬
‫ْ‬
‫يت قَا َل إِ ْب َرا ِهي ُم فَإ ِ َّن هَّللا َ يَأتِي بِال َّش ْم ِ‬‫أَنَا أُحْ يِي َوأُ ِم ُ‬
‫ب فَبُ ِهتَ الَّ ِذي َكفَ َر َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ‪( ‬البقرة‪)258 :‬‬ ‫ْال َم ْغ ِر ِ‬
‫والقرآن الكريم يش ير به ذه اآلي ة إلى الس ذاجة ال تي يق ع فيه ا ه ؤالء‬
‫المتعاظمين بأنفسهم حين يصدقون أنهم ـ حقيقة ـ آلهة م ا دام المل ك بأي ديهم‬
‫ورقاب الخل ق بين أي ديهم يقتل ون من يش اءون ويحي ون من يري دون ب دون‬
‫معارضة وال محاس بة‪ ،‬وه ذا التع اظم يحجب عن أعينهم مظ اهر القص ور‬
‫الكثيرة التي تحيط بجميع ذواتهم‪.‬‬
‫ولهذا قبل هذا الملك المناظرة مع إبراهيم عليه الس الم ألن ه ك ان يظن‬
‫أن ألوهيته أمر بديهي ال يناقش فيه‪ ،‬وتصوير دهشته وحيرته عندما واجه ه‬
‫إبراهيم عليه السالم بالش مس ي دل على أن ه لم يكن يراه ا كم ا يراه ا س ائر‬
‫الناس ألنه ك ان مش غوال بنفس ه‪ ،‬وال ي رى غ يره إال أص فارا يعكف ون على‬
‫التسبيح له‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يذكر نموذجا آخر لتعاظم األنا يفصل في ذكره تفصيال‬
‫لم يحظ به اسم كافر غيره‪ ،‬هو فرعون حيث ذك ر اس مه في الق رآن الك ريم‬
‫في سبعة وستين موضعا‪ ،‬وهذا النموذج تنطبق علي ه نفس ص فات النم وذج‬
‫الس ابق إال أن الق رآن الك ريم يفس ر س بب مرض ه‪ ،‬وينص علي ه في قول ه‬
‫َخَف قَوْ َمهُ فَأَطَا ُعوهُ إِنَّهُ ْم َكانُوا قَوْ ًما فَا ِسقِينَ ‪( ‬الزخرف‪)54:‬‬ ‫تعالى‪  :‬فَا ْست َّ‬
‫ففسق قومه وخفة عقولهم وطاعتهم المطلقة له وق ابليتهم أللوهيت ه هي‬
‫التي جعلته يصدق حقيقة أنه إله ينبغي أن يعبد‪ ،‬ولهذا كان يصيح فيهم دائم ا‬
‫بخطب ة واح دة تكفي م بررا ألي أم ر يص دره هي‪  :‬أَنَ ا َربُّ ُك ْم اأْل َ ْعلَى ‪‬‬
‫(النازعات‪)24:‬‬
‫وعندما جاءه موسى عليه الس الم ي دعوه إلى هللا ويعرف ه بأن ه رس ول‬
‫رب العالمين تعجب أن يكون هناك إله غيره فس أله‪َ :‬و َم ا َربُّ ْال َع الَ ِمينَ ‪‬‬

‫‪7‬‬
‫(الشعراء‪)23:‬‬
‫وعندما أراهم موسى عليه السالم كل الحجج نهض فرعون يصيح في‬
‫قومه وهو يتصور أن كلمات ه وح دها تكفي لتقري ر م ا يق ول ونس ف جمي ع‬
‫ت لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ِري‬ ‫معجزات موسى علي ه الس الم ‪ :‬يَاأَيُّهَ ا ْال َمأَل ُ َم ا َعلِ ْم ُ‬
‫وس ى‬ ‫ص رْ حًا لَ َعلِّي أَطَّلِ ُع إِلَى إِلَ ِه ُم َ‬ ‫ان َعلَى الطِّي ِن فَاجْ َعل لِي َ‬ ‫فَأَوْ قِ ْد لِي يَاهَا َم ُ‬
‫َوإِنِّي أَل َظُنُّهُ ِم ْن ْال َك ا ِذبِينَ ‪(‬القص ص‪ ،)38:‬وه ذه هي الس ذاجة ال تي يتحلى‬
‫بها كل من يعظم أناه ويمحو غيره‪.‬‬
‫لقد كان يتصور أنه إن وجد إل ه آخ ر فلن يع دو كون ه ص احب س رير‬
‫مثل سريره أو تاج مث ل تاج ه‪،‬مثلم ا تتص ور الخالئ ق جميع ا من أص حاب‬
‫المل ل المنحرف ة آلهته ا عن دما تطبعه ا بط ابع القومي ة والعرقي ة واألرض‬
‫وتغرق ربها في مستنقعات من األساطير لتعبد ذاتها من خالل ربها‪ ،‬وتنزل‬
‫ربها من علياء وجوده ليرفع رايتها ويصيح بشعاراتها ويفكر بتفكيرها‪.‬‬
‫ويص ور الق رآن الك ريم أس لوب ه ؤالء المتع اظمين م ع ك ل من يقيم‬
‫عليهم الحجة‪ ،‬وه و أس لوب واح د في مختل ف ف ترات الت اريخ وإن تع ددت‬
‫أشكاله‪ ،‬وهو ما صاح به فرعون في وجه موس ى علي ه الس الم ‪  :‬قَ ا َل لَئِ ْن‬
‫اتَّ َخ ْذتَ إِلَهَا َغ ْي ِري أَل َجْ َعلَنَّكَ ِم ْن ْال َم ْس جُونِينَ ‪(‬الش عراء‪ )29:‬ثم يتوج ه إلى‬
‫ع َربَّهُ‬ ‫وس ى َو ْليَ ْد ُ‬ ‫المأل من قومه ناصحا في غاية التواضع ‪َ :‬ذرُونِي أَ ْقتُلْ ُم َ‬
‫ض ْالفَ َس ا َد‪(‬غ افر‪،)26:‬‬ ‫اف أَ ْن يُبَ د َِّل ِدينَ ُك ْم أَوْ أَ ْن ي ْ‬
‫ُظ ِه َر فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫والفساد الذي يعنيه فرعون هنا هو أن يتحول غيره أرقاما ويصير هو جزءا‬
‫من كل‪.‬‬
‫والق رآن الك ريم يخبرن ا ب ذلك التهدي د ومحاول ة تنفي ذه لي بين س ذاجة‬
‫التفكير الناتج عن كسل عق ل المتع اظم ال ذي ال ي رى غ يره وال يس تفيد من‬
‫غيره‪ ،‬والذي يحول بينه وبين الصبر على أي مناظرة أو التن ازل لقب ول أي‬
‫حجة‪.‬‬
‫ولهذا نرى في جميع مواطن الحوار بين المؤمنين وغيرهم في الق رآن‬
‫الك ريم الكف ار يقطع ون الح وار بإث ارة الش غب والتهدي د بالقت ل وال رجم أو‬
‫بممارسة القتل نفسه‪ ،‬فإبراهيم عليه السالم يقط ع ح واره الرقي ق م ع وال ده‬
‫اغبٌ أَ ْنتَ ع َْن آلِهَتِي يَاإِبْرا ِهي ُم لَئِ ْن لَ ْم تَنتَ ِه أَل َرْ ُج َمنَّ َ‬
‫ك‬ ‫بهذا التهديد الخطير‪  :‬أَ َر ِ‬
‫َوا ْهجُرْ نِي َملِيًّا‪(‬مريم‪ ،)46:‬والرجل الذي جاء قوم ه يس عى في س ورة يس‬
‫يقطع حواره بقتله ليستأنف القرآن الكريم ذكر تتمة حديثه بعد موته‪ ،‬ومؤمن‬

‫‪8‬‬
‫آل فرعون قطع حواره الطويل البليغ بما يش ير إلى محاول ة قتل ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ب ‪(‬غ افر‪:‬‬ ‫ق بِآ ِل فِرْ عَوْ نَ سُو ُء ْال َع َذا ِ‬ ‫ت َما َم َكرُوا َو َحا َ‬ ‫تعالى‪ :‬فَ َوقَاهُ هَّللا ُ َسيِّئَا ِ‬
‫‪)45‬‬
‫والق رآن الك ريم ي بين أن ذل ك التي ه بال ذات ق د ال يك ون بس بب مل ك‬
‫عريض أو عرش عظيم‪ ،‬بل قد يتيه اإلنسان ببستان يملكه يمح و من خالل ه‬
‫غيره ويتعاظم عليهم‪ ،‬قال تعالى عن صاحب الجنتين‪َ :‬و َكانَ لَ هُ ثَ َم ٌر فَقَ َ‬
‫ال‬
‫او ُرهُ أَنَا أَ ْكثَ ُر ِم ْنكَ َمااًل َوأَع َُّز نَفَرًا‪( ‬الكهف‪)34:‬‬ ‫صا ِحبِ ِه َوهُ َو ي َُح ِ‬ ‫لِ َ‬
‫بل قد يقول هذا الضمير البسطاء من الخ دم والس قاة لمع ارف بس يطة‬
‫يعلمونها أو يدعونها كما قال تعالى عن أحد صاحبي يوسف عليه السالم في‬
‫ال الَّ ِذي نَ َجا ِم ْنهُ َما َواِ َّد َك َر بَ ْع َد أُ َّم ٍة أَنَ ا أُنَبِّئُ ُك ْم بِتَأْ ِويلِ ِه فَأَرْ ِس لُونِي‬‫السجن ‪َ :‬وقَ َ‬
‫‪(‬يوس ف‪ )45:‬وله ذا أنك ر علي ه الحس ن البص ري‪ ،‬وق ال‪ :‬كي ف ين بئهم‬
‫العلج؟!‬
‫بل في القرآن الكريم ما يشير إلى هذا اإلنكار عندما طلب منه يوس ف‬
‫عليه السالم أن يذكره عند ربه فنسي‪ ،‬فمن اللؤم نسيان نبي عرف ص ديقيته‬
‫وإحسانه وبشره بنجاته‪.‬‬
‫وله ذا ن رى أن ك ل من ق ال أن ا في الق رآن الك ريم من الكف رة يقوله ا‬
‫متعاظما مهما اختلف نوع تعاظمه‪.‬‬
‫ولعله ألجل هذا وردت كراهة التلفظ بهذه الكلمة لغ ير ض رورة‪ ،‬ق ال‬
‫جابر بن عب د هللا‪( :‬اس تأذنت على الن بي ‪ ،‬فق ال‪ :‬من ذا؟ فقلت‪ :‬أن ا فق ال‬
‫النبي ‪ : ‬أنا أنا‪ ،‬قال الراوي‪ :‬كأنه كره قوله أنا)‬
‫أما المؤمنون فقولهم أنا في القرآن الكريم يأتي مشفوعا دائما بعب ارات‬
‫ك لِنَ ْف ِس ي نَ ْف ًع ا َواَل‬‫التواضع كما قال تعالى عن رس ول هللا ‪  :‬قُ لْ اَل أَ ْملِ ُ‬
‫ت ِم ْن ْال َخ ْي ِر َو َم ا َم َّس نِي‬ ‫ْب اَل ْس تَ ْكثَرْ ُ‬ ‫نت أَ ْعلَ ُم ْال َغي َ‬ ‫ض ًّرا إِاَّل َما َشا َء هَّللا ُ َولَوْ ُك ُ‬‫َ‬
‫السُّو ُء إِ ْن أنَا إِاَّل نَ ِذي ٌر َوبَ ِشي ٌر لِقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ ‪(‬األعراف‪)188:‬‬ ‫َ‬
‫فاهلل تعالى يأمر نبيه ‪ ‬أن ينفي ادعاء أي ملكية لنفع يجلب ه لنفس ه أو‬
‫ضر يمنعه ا من ه إال بم ا يس ره هللا ل ه من ق وى‪ ،‬وينفي عن ه ادع اء الغيب‪،‬‬
‫ويأمره أن يقول في تواضع‪ :‬إِ ْن أَنَا إِاَّل نَ ِذي ٌر َوبَ ِشي ٌر لِقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ ‪‬‬
‫ويأمره في آية أخ رى أن يخ برهم بأن ه بش ر مثلهم آت اه هللا الرس الة‪،‬‬
‫وأم ا هللا تع الى فواح د‪ ،‬وأن لق اء هللا مرتب ط بأعم الهم التوحيدي ة المحض ة‬
‫لينفي عنهم أي ظن في نسبة األلوهية له كما نسبها النص ارى للمس يح علي ه‬

‫‪9‬‬
‫ي أَنَّ َم ا إِلَهُ ُك ْم إِلَ هٌ َوا ِح ٌد‬‫السالم‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬قُلْ إِنَّ َما أَنَا بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يُ و َحى إِلَ َّ‬
‫ك بِ ِعبَ ا َد ِة َربِّ ِه أَ َح دًا‪‬‬ ‫صالِحًا َواَل يُ ْش ِر ْ‬ ‫فَ َم ْن َكانَ يَرْ جُوا لِقَا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َملْ َع َماًل َ‬
‫(الكهف‪)110:‬‬
‫وقد أمر النبي ‪ ‬أن يقول ه ذه الكلم ات ال تي تفيض بالتواض ع لق وم‬
‫عت اة متك برين يتص ورون أن مق امهم الرفي ع يس تدعي إن زال مالئك ة‬
‫ال‬‫أويستدعي خطابا مباشرا من هللا ب ل رؤي ة مباش رة ل ه‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬وقَ َ‬
‫نز َل َعلَ ْينَا ْال َماَل ئِ َكةُ أَوْ نَ َرى َربَّنَ ا لَقَ ْد ْ‬ ‫ُ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا‬ ‫الَّ ِذينَ اَل يَرْ جُونَ لِقَا َءنَا لَوْ اَل أ ِ‬
‫فِي أَنفُ ِس ِه ْم َو َعتَوْ ا ُعتُ ًّوا َكبِيرًا‪(‬الفرقان‪)21:‬‬
‫وكانوا يقولون ل ه ‪ ‬في تع اظم إذا أم رهم بالس جود لل رحمن‪َ :‬و َم ا‬
‫ان أَنَ ْس ُج ُد لِ َم ا تَأْ ُم ُرنَ ا َوزَا َدهُ ْم نُفُ ورًا ‪(‬الفرق ان‪ )60:‬والق رآن الك ريم‬ ‫الرَّحْ َم ُ‬
‫يعي د إلى األذه ان هن ا فرع ون ال ذي س أل موس ى‪َ  :‬و َم ا َربُّ ْال َع الَ ِمينَ ‪‬‬
‫(الشعراء‪ )23:‬ليبين أن مصدر الكفر واحد‪ ،‬وهو تضخيم األنا والتعالي به ا‬
‫على كل شيء حتى على هللا‪ ،‬ولهذا قال تع الى عن الك افرين في ك ل زم ان‬
‫اس تَ ْيقَنَ ْتهَا أَ ْنفُ ُس هُ ْم ظُ ْل ًم ا َو ُعلُ ًّوا فَ انظُرْ َك ْي فَ َك انَ‬ ‫ومكان ‪َ :‬و َج َح ُدوا بِهَ ا َو ْ‬
‫عَاقِبَةُ ْال ُم ْف ِس ِدينَ ‪(‬النم ل‪ ،)14:‬فق د جمع وا بين الجح ود والكف ران م ع يقين‬
‫أنفسهم بالحق تعاليا بذواتهم وتعاظما بها‪.‬‬
‫وهم يتخذون في هروبهم من الح ق مس الك مختلف ة أكثره ا بدائي ة م ا‬
‫ذك ره ن وح علي ه الس الم عن قوم ه وه و يش كو إلى رب ه طريق ة مق ابلتهم‬
‫ص ابِ َعهُ ْم فِي‬ ‫لدعوت ه‪،‬ق ال تع الى ‪َ :‬وإِنِّي ُكلَّ َم ا َد َع وْ تُهُ ْم لِتَ ْغفِ َر لَهُ ْم َج َعلُ وا أَ َ‬
‫صرُّ وا َوا ْستَ ْكبَرُوا ا ْستِ ْكبَارًا‪(‬نوح‪)7:‬‬ ‫آ َذانِ ِه ْم َوا ْستَ ْغ َشوْ ا ثِيَابَهُ ْم َوأَ َ‬
‫وهناك من يتعالى عن الحق ويتعاظم على مجرد حركة يش ير به ا إلى‬
‫نكران الحق فهو يكتفي بالتولي‪ ،‬وال يضع يديه على أذنيه وال يستغشي ثيابه‬
‫ألن الكبر الذي حشيتا به تمنع ه من االس تماع لغ ير أهوائ ه‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫َوإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَا َولَّى ُم ْستَ ْكبِرًا َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْس َم ْعهَا َكأ َ َّن فِي أُ ُذنَ ْي ِه َو ْقرًا فَبَ ِّش رْ هُ‬
‫ب أَلِ ٍيم‪(‬لقمان‪)7:‬‬ ‫بِ َع َذا ٍ‬
‫وهن اك من يج ادل ويح اجج في ك ل المج االت وب دون علم يتخ ذ من‬
‫مجرد حديثه حجة تكفي لرد أي حق وإحق اق أي باط ل‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬الَّ ِذينَ‬
‫ت هَّللا ِ بِ َغي ِْر س ُْلطَا ٍن أَتَاهُ ْم َكبُ َر َم ْقتًا ِع ْن َد هَّللا ِ َو ِع ْن َد الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬ ‫ي َُجا ِدلُونَ فِي آيَا ِ‬
‫َّار‪( ‬غافر‪)35:‬‬ ‫ب ُمتَ َكب ٍِّر َجب ٍ‬ ‫َك َذلِكَ يَ ْ‬
‫طبَ ُع هَّللا ُ َعلَى ُك ِّل قَ ْل ِ‬
‫وانص راف ه ؤالء عن الح ق ـ كم ا يوض ح الق رآن الك ريم ـ ليس‬

‫‪10‬‬
‫انصرافا بمحض إرادتهم وال برغبتهم‪ ،‬وإنم ا ه و ص رف‪ ،‬فالمتع اظم غ ير‬
‫مخير كسائر الخلق‪ ،‬بل هو مسير بقي ود نفس ه الكث يرة وال تي ال يطي ق له ا‬
‫ض بِ َغ ْي ِر‬ ‫ف ع َْن آيَ اتِي الَّ ِذينَ يَتَ َكبَّرُونَ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ص ِر ُ‬‫دفع ا‪،‬ق ال تع الى ‪َ :‬سأ َ ْ‬
‫يل الرُّ ْش ِد اَل يَتَّ ِخ ُذوهُ َس بِياًل‬‫ق َوإِ ْن يَ َروْ ا ُك َّل آيَ ٍة اَل ي ُْؤ ِمنُوا بِهَا َوإِ ْن يَ َروْ ا َسبِ َ‬‫ْال َح ِّ‬
‫ك بِ أَنَّهُ ْم َك َّذبُوا بِآيَاتِنَ ا َو َك انُوا َع ْنهَ ا‬ ‫يل ال َغ ِّي يَتَّ ِخ ُذوهُ َس بِياًل َذلِ َ‬ ‫َوإِ ْن يَ َروْ ا َس بِ َ‬
‫غَافِلِينَ ‪(‬األعراف‪)146:‬‬
‫وكيف يؤمن هؤالء أو يذعنوا للح ق أو يكف وا عن الج دال‪ ،‬وتعظيمهم‬
‫ألنفسهم يقف جدارا منيعا بينهم وبين السماء يح ول بينهم وبين الهداي ة ال تي‬
‫تستقبلها كل الكائنات‪ ،‬قال تعالى‪ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا َوا ْستَ ْكبَرُوا َع ْنهَا اَل‬
‫اط‬‫الس َما ِء َواَل يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َحتَّى يَلِ َج ْال َج َم ُل فِي َس ِّم ْال ِخيَ ِ‬ ‫تُفَتَّ ُح لَهُ ْم أَ ْب َوابُ َّ‬
‫ك نَجْ ِزي ْال ُمجْ ِر ِمينَ ‪(‬األعراف‪)40:‬‬ ‫َو َك َذلِ َ‬
‫واختيار القرآن الكريم لمثال الجم ل ال ذي يح اول أن ي دخل من خالل‬
‫ثقب إبرة لبيان استحالة دخولهم الجنة يش ير إلى ذل ك التع اظم‪ ،‬فك أن الجن ة‬
‫في أذهانهم ثقب إبرة‪ ،‬وكأنهم عند أنفس هم جم ل ض خم(‪ )1‬ال تس اوي الجن ة‬
‫أمامه شيئا‪ ،‬ويستحيل على الجمل أن يلج سم الخياط‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يصف لنا مشهد قبض أرواح ه ؤالء المتع اظمين وهم‬
‫في سكرات الموت يحاولون االحتفاظ بحشاشة ال روح ال تي ال ت زال تنبض‬
‫به ا ع روقهم‪ ،‬يف رون به ا في ك ل موض ع من جس دهم‪ ،‬كم ا يف ر الص بي‬
‫الصغير من الحقنة فيضطر إلمساكه بشدة‪ ،‬وك ذلك تفع ل المالئك ة الموكل ة‬
‫بقبض روحه وهي تؤدي الوظيفة التي وكلت بها‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬ولَوْ تَ َرى إِ ْذ‬
‫اسطُوا أَ ْي ِدي ِه ْم أَ ْخ ِرجُوا أَنفُ َس ُك ْم ْاليَ وْ َم‬
‫ت َو ْال َماَل ئِ َكةُ بَ ِ‬‫ت ْال َموْ ِ‬
‫الظَّالِ ُمونَ فِي َغ َم َرا ِ‬
‫ق َو ُكنتُ ْم ع َْن آيَاتِ ِه‬ ‫ُون بِ َم ا ُكنتُ ْم تَقُولُ ونَ َعلَى هَّللا ِ َغ ْي َر ْال َح ِّ‬ ‫اب ْاله ِ‬ ‫تُجْ َزوْ نَ َع َذ َ‬
‫تَ ْستَ ْكبِرُونَ ‪(‬األنعام‪)93:‬‬
‫وفي أم ر المالئك ة له ؤالء ب إخراج أنفس هم دلي ل على تعل ق ه ؤالء‬
‫الشديد بذواتهم تعلقا يبتر صلتهم بكل الكون‪ ،‬ويجعل منهم كونا حياديا غارقا‬
‫في الحياد‪.‬‬
‫بينما تصف اآلي ات القرآني ة مش هد المؤم نين وهم في احتض ارهم في‬
‫حالة استرخاء قصوى تنم بالراحة والطمأنينة والسعادة‪ ،‬قال تع الى يخ اطب‬

‫‪ )(1‬سئل ابن مسعود عن َ‬


‫الج َم ِل فقال ه و زوج الناق ة‪ .‬كأن ه اس تجهل من س أله عن الجم ل‪،‬‬
‫وقرأ بعضهم الجُمل‪ ،‬وفسَّروه فقالوا قَلسُ السفينة‪ ..‬معاني القرآن وإعرابه للزجاج (‪)338 /2‬‬

‫‪11‬‬
‫تلك النفس المؤمنة البعيدة عن ك ل أن ا ومتعلقاته ا‪  :‬يَاأَيَّتُهَ ا النَّ ْفسُ ْال ُم ْ‬
‫ط َمئِنَّة‬
‫خلِي َجنَّتِي‪‬‬ ‫ض يَّةً فَ ا ْد ُخلِي فِي ِعبَ ا ِدي َوا ْد ُ‬ ‫اض يَةً َمرْ ِ‬
‫ك َر ِ‬ ‫ُارْ ِج ِعي إِلَى َربِّ ِ‬
‫(الفجر‪2 :‬ـ‪)30‬‬
‫وفي أمرها بالدخول في عباد هللا الصالحين دليل على ما ك انت تحمل ه‬
‫النفس من تواضع ولين وشعور باآلخرين‪،‬وهي البشارة ال تي يبش ر هللا به ا‬
‫عب اده الص الحين ال ذين ال يش عرون باكتم ال نعيمهم في الجن ة إال‬
‫ت لَنُ ْد ِخلَنَّهُ ْم فِي‬‫الص الِ َحا ِ‬ ‫ب إخوانهم‪،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬والَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫الصَّالِ ِحينَ ‪(‬العنكبوت‪ ،)9:‬ويصف ح الهم في الجن ة بك ونهم ‪‬إِ ْخ َوانً ا َعلَى‬
‫ُر ُمتَقَابِلِينَ ‪( ‬الحجر‪)47:‬‬ ‫ُسر ٍ‬
‫ويخبرنا أنس بن مالك بحادثة كانت سببا لمس رة عظيم ة انتش رت بين‬
‫الصحابة‪ ،‬قال‪ :‬جاء رجل إلى رس ول هللا ‪ ‬فق ال‪:‬ي ا رس ول هللا م تى قي ام‬
‫الساعة؟‪ ،‬فقام النبي ‪ ‬إلى الصالة‪ ،‬فلما قضى صالته قال‪ :‬أين السائل عن‬
‫قيام الساعة؟‪ ،‬فقال الرجل‪:‬أنا ي ا رس ول هللا ق ال‪ :‬م ا أع ددت له ا؟ ق ال ‪:‬ي ا‬
‫رسول هللا ما أعددت لها كب ير ص الة وال ص وم إال أني أحب هللا ورس وله‪،‬‬
‫فقال رس ول هللا ‪( ‬الم رء م ع من أحب وأنت م ع من أحببت)‪ ،‬فم ا رأيت‬
‫فرح المسلمون بعد اإلسالم فرحهم بهذا(‪.)1‬‬
‫وله ذا لم ا حض رت بالال الوف اة ق الت امرأت ه ‪:‬واحزن اه‪ ،‬فق ال‪:‬ب ل‬
‫واطرباه‪ ،‬غدا نلقى األحبة محمدا وحزبه‪.‬‬
‫وه ؤالء العب اد الص الحون المتع ارفون في محب ة هللا لم تكن المحب ة‬
‫لترب ط بين قل وبهم وتجعلهم نفس ا واح دة ل و ك ان لك ل واح د منهم كيان ه‬
‫الخاص‪.‬‬
‫وله ذا وص ف هللا تع الى تجمع ات وتوح دات غ ير المس لمين به ذا‬
‫الوصف المطلع على ما تخبئه الضمائر‪  :‬بَأْ ُسهُ ْم بَ ْينَهُ ْم َش ِدي ٌد تَحْ َسبُهُ ْم َج ِمي ًع ا‬
‫ك بِأَنَّهُ ْم قَ وْ ٌم اَل يَ ْعقِلُ ونَ ‪( ‬الحش ر‪ ،)14:‬ألن ك ل واح د من‬ ‫َوقُلُوبُهُ ْم َشتَّى َذلِ َ‬
‫أولئ ك المجتمعين يري د أن يب ني ص رح نفس ه على أطالل اآلخ رين‪ ،‬فهم‬
‫يجتمعون بالمصلحة‪ ،‬ويتفرقون أو يتقاتلون إن دعت المصلحة إلى ذلك‪.‬‬
‫في نفس الوقت الذي نرى فيه مشاهد اإليث ار بين المؤم نين تش ير إلى‬
‫تل ك ال روح الواح دة ال تي تجم ع بينهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ  :‬والَّ ِذينَ تَبَ َّو ُءوا ال َّد َ‬
‫ار‬
‫ور ِه ْم َحا َج ةً‬ ‫ص ُد ِ‬ ‫اج َر إِلَ ْي ِه ْم َواَل يَ ِج ُدونَ فِي ُ‬‫َواإْل ِ ي َمانَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم ي ُِحبُّونَ َم ْن هَ َ‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )12652( 3/159‬وأبو داود ‪ ..5127‬وغيرهما‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ق ُش َّح نَ ْف ِس ِه‬ ‫اصةٌ َو َم ْن يُو َ‬ ‫ص َ‬ ‫ِم َّما أُوتُوا َوي ُْؤثِرُونَ َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم َولَوْ َكانَ بِ ِه ْم خَ َ‬
‫ك هُ ْم ْال ُم ْفلِ ُح ونَ ‪(‬الحش ر‪ )9:‬فهم يحب ون ض يوفهم والالج ئين إليهم‬ ‫فَأُوْ لَئِ َ‬
‫ويمدونهم بك ل ش يء يحرم ون أنفس هم من ه‪ ،‬وال يج دون في ص دورهم إال‬
‫الرضا والراحة والطمأنينة‪.‬‬
‫وهذه الراحة واألمن النفس ي ال تي يراه ا الم ؤمن م ع إخوان ه يفتق دها‬
‫الذي ال يعرف من الضمائر المنفصلة إال ضمير واحدا هو ضمير المتكلم‪.‬‬
‫وبذلك يصور القرآن الكريم والتوجيهات النبوي ة والنم اذج العالي ة من‬
‫النفوس الراقية عظم خسارة الذي يتخذ من ذاته صنما‪ ،‬ومن األرض هيكال‪،‬‬
‫ومن الخلق قرابين‪ ،‬فأول ما يخسره من ذبح جميع الكون قربان ا لذات ه نفس ه‬
‫التي بين جنبيه‪ ،‬ومن خس ر نفس ه خس ر ك ل ش يء خس ارة ال تع وض ق ال‬
‫اس ِرينَ الَّ ِذينَ َخ ِس رُوا أَنفُ َس هُ ْم َوأَ ْهلِي ِه ْم يَ وْ َم‬ ‫تعالى‪َ :‬وقَا َل الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن ْالخَ ِ‬
‫ب ُمقِيم‪( ‬الشورى‪)45:‬‬ ‫ْالقِيَا َم ِة أَاَل إِ َّن الظَّالِ ِمينَ فِي َع َذا ٍ‬
‫ويرد القرآن الكريم سبب ذل ك النس يان إلى نس يان هللا تع الى‪ ،‬ألن من‬
‫نسي هللا نسي كل ش يء‪ ،‬ألن ك ل ش يء باهلل ومن هللا وإلى هللا‪ ،‬وك ل ش يء‬
‫بغير هللا باطل‪ ،‬وكل شيء من غير هللا هباء‪.‬‬
‫فالناسي هلل ارتبط بوجود وهمي خيالي ال حقيقة له‪ ،‬فلذلك يصعق ي وم‬
‫يكتشف الحقيقة مبهوتا حين يرى نفسه قد تعلق بقشة في وسط محي ط ك وني‬
‫ال ينتهي‪ ،‬قال تعالى‪َ : :‬واَل تَ ُكونُوا َكالَّ ِذينَ ن َُس وا هَّللا َ فَأ َ ْن َس اهُ ْم أَ ْنفُ َس هُ ْم أُوْ لَئِ كَ‬
‫اسقُون‪(‬الحشر‪)19:‬‬ ‫هُ ْم ْالفَ ِ‬
‫واعتبر كل جرائمهم المتولدة من أنانيتهم خناجر تطعن صدورهم قب ل‬
‫أن تصل لضحاياهم‪ ،‬فهم الفريس ة وهم الص ياد‪ ،‬وهم الخ ائن وهم المخ ون‪،‬‬
‫وهم الخ ادع وهم المخ دوع‪ ،‬وهم المس تهزئ وهم المس تهزأ بهم‪ ،‬وهم‬
‫المفتري وهم المفترى عليه‪ ،‬وهم الظالم وهم المظلوم‪...‬‬
‫قال هللا تعالى يوضح هذه الحقائق‪ ،‬ويخاطب هذه النفوس‪  :‬يُ َخ ا ِد ُعونَ‬
‫هَّللا َ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َما يَ ْخ َد ُعونَ إِاَّل أَنفُ َسهُ ْم َو َما يَ ْش ُعرُونَ ‪( ‬البق رة‪ ،)9 :‬وق ال‬
‫ظلِ ُمونَ ‪(‬البقرة‪ ،)57:‬وقال تع الى‪:‬‬ ‫تعالى‪َ :‬و َما ظَلَ ُمونَا َولَ ِك ْن َكانُوا أَنفُ َسهُ ْم يَ ْ‬
‫ُض لُّونَ إِاَّل أَ ْنفُ َس هُ ْم َو َم ا‬ ‫ُض لُّونَ ُك ْم َو َم ا ي ِ‬ ‫ب لَ وْ ي ِ‬ ‫ت طَائِفَ ةٌ ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫‪َ ‬و َّد ْ‬
‫يَ ْش ُعرُونَ ‪(‬آل عمران‪ ،)69:‬وقال تعالى‪ :‬انظُ رْ َك ْي فَ َك َذبُوا َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم‬
‫ض َّل َع ْنهُ ْم َما َكانُوا يَ ْفتَرُونَ ‪(‬األنعام‪ ،)24:‬وق ال تع الى‪َ :‬واَل تُ َج ا ِدلْ ع َْن‬ ‫َو َ‬
‫الَّ ِذينَ يَ ْختَانُونَ أَنفُ َسهُ ْم إِ َّن هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ َم ْن َكانَ َخ َّوانًا أَثِي ًما‪(‬النساء‪)107:‬‬

‫‪13‬‬
‫إلى آخر آيات القرآن الكريم الكثيرة التي تنعى إلى هؤالء المتع اظمين‬
‫أنفسهم وتبشرهم بالخسارة األبدية يوم توض ع م وازين األعم ال والحق ائق‪،‬‬
‫فيجدون كفتهم فارغة من كل خير‪ ،‬وال يج دون في كفتهم إال جس دا منطوي ا‬
‫ه زيال ق د عب دوه من دون هللا‪ ،‬وال يج دون إال ض ميرا واح د من الض مائر‬
‫ازينُ هُ فَأُوْ لَئِ كَ‬ ‫المنفص لة حجبهم عن ك ل خ ير‪ ،‬ق ال تع الى‪َ  :‬و َم ْن َخفَّ ْ‬
‫ت َم َو ِ‬
‫الَّ ِذينَ خَ ِسرُوا أَنفُ َسهُ ْم فِي َجهَنَّ َم خَ الِ ُدونَ ‪(‬المؤمنون‪)103:‬‬

‫‪14‬‬
‫الجسد‬
‫الف رح بالهيئ ة والخلق ة والجم ال والزه و به ا من أول م ا يول د في‬
‫اإلنس ان من ف رح حين يبص ر وجه ه في الم رآة ألول م رة‪ ،‬ويتص ور أن ه‬
‫بالمرآة استطاع أن يعرف نفسه‪ ،‬وأن الم رآة ال تي أح اطت ب ه واختص رت‬
‫حقيقته في تلك الصورة التي قدمتها له هي التي عرفته حقيقته ال تي م ا ك ان‬
‫له أن يعرفها لوال جوهرها الصقيل‪.‬‬
‫ومن ذلك الحين تب دأ األخط اء يتل و بعض ها بعض ا‪ ،‬يزه و بنفس ه‪ ،‬ثم‬
‫يق ارن نفس ه بغ يره‪ ،‬ثم يحتق ر غ يره‪ ،‬ثم يص نف الن اس بحس ب ص ورهم‬
‫وألوان األصباغ التي تطبع وجوههم‪ ،‬ثم يبدأ التمييز العنصري‪ ،‬ويبدأ حرب‬
‫األلوان لأللوان‪،‬وتبدأ الدراسات بحوثها لتعمق الفوارق بين البشر واألجناس‬
‫بحسب هيئة الشعر ولون البشرة وحجم الجمجمة وطول القام ة أو قص رها‪،‬‬
‫وبانتهائهم تبدأ النزغات النازية والفاشية والقومية لتنفخ من بوق الجس د ك ل‬
‫شعارات التمييز بين خلق هللا‪ ،‬وتتخ ذ من الجس د مح ور ك ل ذل ك الص راع‬
‫الذي ال ينتهي إال ليبدأ بشكل آخر‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬يمكن أن نجزم حذرين بانتفاء التمييز العنصري وانتهاء زمنه في‬
‫ظ ل كث ير من الق وانين الحديث ة‪ ،‬ولكن من يس تطيع أن يج زم بانتف اء ذل ك‬
‫التمييز من قلوب الناس ومشاعرهم وهم ال يزالون يتصورون اإلنسان قالب ا‬
‫طينيا يتخذ ألوانا وأشكاال مختلفة‪ ،‬وطبيعتهم البش رية ت أبى أال أن تف رق بين‬
‫ألوان الخزف وأنواع الفخار‪.‬‬
‫وتعظيم الجس د وحص ر اإلنس ان في قالب ه الطي ني ه و ال ذي تفنن‬
‫مصممو األزياء الحديثة في اس تغالله‪ ،‬فتففن وا في تعري ة الجس د أك ثر مم ا‬
‫تفننوا في ستره‪ ،‬والقرآن الك ريم في إش اراته المطلق ة ال تي تتح دى حج اب‬
‫ال زمن يخبرن ا عن دع اة الع ري المح دثين ال ذين ي دعون إلى الع ري بك ل‬
‫الوسائل‪ ،‬ويطبقونه في جميع المستويات‪ ،‬ويك ادون يفرض ونه على العق ول‬
‫فرضا لينزعوا تل ك الغالل ة الرقيق ة من الحي اء ال تي ال زالت تكس و وج وه‬
‫الناس‪ ،‬ويبين أن مص در ذل ك ليس طبيع ة بش رية وإنم ا هي فك ر ش يطاني‬
‫ان َك َم ا‬ ‫غريب عن طبيعة اإلنسان‪ ،‬قال تعالى‪  :‬يَا بَنِي آ َد َم ال يَ ْفتِنَنَّ ُك ُم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ع َع ْنهُ َما لِبَا َسهُ َما لِي ُِريَهُ َما َسوْ آتِ ِه َما إِنَّهُ يَ َرا ُك ْم هُ َو‬‫أَ ْخ َر َج أَبَ َو ْي ُك ْم ِمنَ ْال َجنَّ ِة يَ ْن ِز ُ‬
‫طينَ أَوْ لِيَ ا َء لِلَّ ِذينَ ال ي ُْؤ ِمنُ ونَ ‪‬‬ ‫ْث ال تَ َروْ نَهُ ْم إِنَّا َج َع ْلنَ ا َّ‬
‫الش يَا ِ‬ ‫َوقَبِيلُ هُ ِم ْن َحي ُ‬

‫‪15‬‬
‫(ألعراف‪)27:‬‬
‫والدليل على غرابة التعري على طبيعة اإلنسان وأن ه إيح اء ش يطاني‬
‫لم يكن اإلنس ان لينتب ه ل ه ل وال تل ك الوس اوس الش يطانية ه و أن آدم علي ه‬
‫السالم وزوجه سارعا إلى ستر عورتهما بورق الجنة مع أن ه لم يكن معهم ا‬
‫من البش ر س واهما‪ ،‬وهم ا يمثالن الفط رة النقي ة ال تي يح اول الش يطان أن‬
‫َت‬ ‫الش َج َرةَ بَ د ْ‬ ‫ُور فَلَ َّما َذاقَ ا َّ‬ ‫يخرج منها اإلنسان‪ ،‬قال تعالى‪  :‬فَ َداَّل هُ َما بِ ُغ ر ٍ‬
‫ق ْال َجنَّ ِة َونَادَاهُ َم ا َربُّهُ َم ا أَلَ ْم‬‫ص فَا ِن َعلَ ْي ِه َم ا ِم ْن َو َر ِ‬ ‫لَهُ َم ا َس وْ آتُهُ َما َوطَفِقَ ا يَ ْخ ِ‬
‫ين ‪(‬األعراف‪:‬‬ ‫أَ ْنهَ ُك َما ع َْن تِ ْل ُك َما ال َّش َج َر ِة َوأَقُلْ لَ ُك َما إِ َّن ال َّش ْيطَانَ لَ ُك َما َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫‪ ،)22‬بل إن اآلي ة تش ير إلى أن كش ف الع ورة أول عقوب ة عجلت لإلنس ان‬
‫لمخالفته األمر اإللهي‪.‬‬
‫وفكر التعري هو نفس الفكر ال ذي ي دعو إلى تغي ير خل ق هللا‪ ،‬وال ذي‬
‫يتجلى في عملي ات التجمي ل الكث يرة‪ ،‬وأص ناف المس احيق ال تي أص بحت‬
‫تج ارة رائج ة في عص رنا ت زاحم الغ ذاء وال دواء‪ ،‬وتعت بر ض رورة من‬
‫ضرورات العصر كضرورة المأكل والمشرب‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يخبرنا أن ذلك أيضا من إيحاءات الشيطان‪ ،‬وأن ه ليس‬
‫من الفط رة اإلنس انية النقي ة‪ ،‬ق ال تع الى مخ برا عن وع د الش يطان‪ :‬‬
‫ق‬ ‫خَل َ‬ ‫ضلَّنَّهُ ْم َوأَل ُ َمنِّيَنَّهُ ْم َوآَل ُم َرنَّهُ ْم فَلَيُبَتِّ ُك َّن آ َذانَ اأْل َ ْن َع ِام َوآَل ُم َرنَّهُ ْم فَلَيُ َغيِّر َُّن ْ‬
‫َوأَل ُ ِ‬
‫هَّللا ِ‪( ‬النس اء‪،)119:‬وعن ابن مس عود أن ه ق ال‪ (:‬لعن هللا الواش مات‬
‫والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق‬
‫هللا عز وجل‪ ،‬ثم قال‪ :‬أال ألعن من لعن رسول هللا ‪)‬‬
‫وهذا التعلق بالجسد والذي ه و إيح اء من إيح اءات الش يطان وطبيع ة‬
‫من طبائعه ك ان أول م ا ول د الع داوة بين اإلنس ان والش يطان‪ ،‬عن دما نظ ر‬
‫الشيطان إلى ناره نظر استحسان وفرح‪ ،‬ونظر إلى طين آدم نظر اس تهجان‬
‫واحتقار‪ ،‬فقال ـ كما نص القرآن الكريم ـ ‪  :‬أَنَ ا َخ ْي ٌر ِم ْن هُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن نَ ٍ‬
‫ار‬
‫َوخَ لَ ْقتَهُ ِم ْن ِطي ٍن‪(‬األعراف‪)12:‬‬
‫وق د ش به هللا تع الى ه ؤالء ال ذين يقص رون نظ رهم على أجس ادهم‪،‬‬
‫ويعتبرونها حقيقة وجودهم ونهاية أمرهم باألخشاب المس ندة‪ ،‬ق ال تع الى ‪‬‬
‫ْجبُكَ أَجْ َسا ُمهُ ْم َوإِ ْن يَقُولُوا ت َْس َم ْع لِقَ وْ لِ ِه ْم َك أَنَّهُ ْم ُخ ُش بٌ ُم َس نَّ َدةٌ‬ ‫َوإِ َذا َرأَ ْيتَهُ ْم تُع ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم هُ ْم ْال َع ُد ُّو فَاحْ َذرْ هُ ْم قَ اتَلَهُ ْم هَّللا ُ أَنَّى ي ُْؤفَ ُك ونَ ‪‬‬ ‫ص ي َْح ٍة َ‬ ‫يَحْ َس بُونَ ُك َّل َ‬
‫(المنافقون‪)4:‬‬

‫‪16‬‬
‫فهم كالخش ب المس ندة ال يس معون وال يعقل ون‪ ،‬أش باح بال أرواح‬
‫وأجسام بال أحالم‪ ،‬أو هم كالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها ال يعلم‬
‫ما في بطنها(‪.)1‬‬
‫والق رآن الك ريم يخبرن ا ك ذلك أن تعظيم الجس د ه و ال ذي ول د التي ه‬
‫والفخر والزهو بالنفس‪ ،‬والذي ينشأ عنه الكبر بمختلف أشكاله‪ ،‬ويش به ثق ل‬
‫معنى الجسد عند هذه النفوس بأنها تكاد تخرق األرض وهي تضرب عليه ا‬
‫بش دة‪ ،‬وكأنه ا تتح داها‪ ،‬ب ل تتح دى الس ماء أيض ا حين تج رب أن تط اول‬
‫ض َولَ ْن‬ ‫ق اأْل َرْ َ‬ ‫ك لَ ْن ت َْخ ِر َ‬ ‫ض َم َرحًا إِنَّ َ‬ ‫ش فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫الجبال‪،‬قال تعالى‪َ :‬واَل تَ ْم ِ‬
‫تَ ْبلُ َغ ْال ِجبَا َل طُواًل ‪(‬اإلسراء‪)37:‬‬
‫في ظل هذه التصورات العنصرية للجسد يخبرنا القرآن الكريم أن هذه‬
‫األجساد جميعا والتي يتيه بعضها على بعض س اللة نفس واح دة‪ ،‬ول ذلك ال‬
‫معنى للتمايز بينها‪ ،‬وال معنى العتبار بعضها أك ثر تط ورا من بعض ألنه ا‬
‫ورثت نفس الجينات من أبيه ا آدم علي ه الس الم‪ ،‬ق ال تع الى‪  :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ‬
‫ث ِم ْنهُ َما ِر َجااًل‬ ‫ق ِم ْنهَا َزوْ َجهَا َوبَ َّ‬ ‫اتَّقُوا َربَّ ُك ْم الَّ ِذي خَ لَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫س َوا ِح َد ٍة َوخَ لَ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َرقِيبًا‪‬‬ ‫َكثِيرًا َونِ َسا ًء َواتَّقُوا هَّللا َ الَّ ِذي تَتَ َسا َءلُونَ بِ ِه َواأْل َرْ َحا َم إِ َّن هَّللا َ َكانَ َ‬
‫اح َد ٍة فَ ُم ْس تَقَرٌّ‬‫س َو ِ‬ ‫نش أ َ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫(النس اء‪ ،)1:‬وق ال تع الى‪َ  :‬وهُ َو الَّ ِذي أَ َ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْفقَهُونَ ‪(‬األنعام‪)98:‬‬ ‫ع قَ ْد فَص َّْلنَا اآْل يَا ِ‬ ‫َو ُم ْستَوْ َد ٌ‬
‫وقد ربط هللا تعالى في اآلية األولى خلق البشر جميع ا من نفس واح دة‬
‫باألمر بتقوى األرحام ووصلها والمحافظ ة على العالق ات بينه ا ليش ير إلى‬
‫تل ك األخ وة الدموي ة ال تي ترب ط الغ ربي ال ذي يعيش في قم ة أب راج األن ا‬
‫بالب دائي في أدغ ال إفريقي ا واس تراليا‪ ،‬وأن الك ل متس اوون في الق درات‬
‫اإلنس انية والطاق ات العقلي ة وأن واع المش اعر‪ ،‬وإنم ا يختلف ون ب اختالف‬
‫الظروف التي تحيط بهم والبيئة ال تي يعايش ونها‪ ،‬واالختالف بينهم اختالف‬
‫تكامل ال اختالف تمايز وال اختالف تضاد‪ ،‬بل هو مث ل االختالف الموج ود‬
‫في جميع خلق هللا‪.‬‬
‫قال تعالى يوضح ه ذه الحقيق ة العظيم ة ال تي ال ت زال البش رية تائه ة‬
‫عنه ا وإن زعمت أنه ا ظف رت به ا‪ ،‬وأن العص ر الح ديث أب دعها‪ :‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫ارفُوا إِ َّن‬ ‫النَّاسُ إِنَّا خَ لَ ْقنَ ا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُنثَى َو َج َع ْلنَ ا ُك ْم ُش عُوبًا َوقَبَائِ َل لِتَ َع َ‬
‫أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْتقَا ُك ْم إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم َخبِي ٌر‪(‬الحجرات‪)13:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪:‬الشوكاني‪، 5/323:‬والقرطبي‪. 18/112‬‬

‫‪17‬‬
‫وقد كان ‪ ‬ينادي بهذه الحقيقة ك ل حين ويق رن بينه ا وبين المناس ك‬
‫والمشاعر المعظمة واألشهر الح رام‪ ،‬وك ان من خطبت ه ‪ ‬في وس ط أي ام‬
‫التشريق أن قال‪ (:‬ي ا أيه ا الن اس أال إن ربكم واح د وإن أب اكم واح د‪ ،‬أال ال‬
‫فض ل لع ربي على أعجمي وال لعجمي على ع ربي وال ألحم ر على أس ود‬
‫وال أسود على أحمر إال بالتقوى)(‪)1‬‬

‫ثم توجه إلى الحضور الغارقين في أن وار وجه ه وروح ه ‪ ‬وق ال‪:‬‬
‫أبلغت؟‪ ،‬فقالوا جميعا بصوت واحد‪ ،‬وبنفس واحدة يؤكدون ما رأوه من ه ‪‬‬
‫وقد صحبوه في كل أحواله‪ :‬بلغ رسول هللا ‪ ، ‬قال‪( :‬ليبلغ الشاهد الغائب)‬
‫ويخبر ‪ ‬أن من فضل هللا عليه أن دعوته ليس ت عنص رية‪ ،‬ب ل هي‬
‫لك ل البش ر‪ ،‬وك ل من دخ ل فيهم فه و منهم ال ف رق بين ه وبينهم‪ ،‬ق ال ‪: ‬‬
‫( أعطيت خمس ا لم يعطهن أح د قبلي وال أقول ه فخ را بعثت إلى ك ل أحم ر‬
‫وأسود فليس من أحمر وال أس ود ي دخل في أم تي إال ك ان منهم وجعلت لي‬
‫األرض مسجدا)(‪)2‬‬

‫ويخبر أن هللا تعالى ال ينظ ر إلى األجس ام والص ور‪ ،‬ولكن ينظ ر إلى‬
‫القلوب واألعمال‪،‬وأن قيمة اإلنسان كقيمة كل وعاء‪ ،‬فهي فيم ا يص در عن ه‬
‫أو يرشح من ه أو يحوي ه‪ ،‬ول و وض ع الس م في إن اء من ذهب لم ترف ع عن ه‬
‫صفة السمية‪،‬قال ‪ ( : ‬إن هللا ال ينظر إلى صوركم وأم والكم ولكن ينظ ر‬
‫إلى قلوبكم وأعمالكم)(‪)3‬‬

‫وكان ‪ ‬ي أمر بطاع ة ك ل من ت ولى على المس لمين إن ت وفرت في ه‬


‫شروط الطاعة ولو كان أسود مجدعا‪ ،‬قال ‪ (: ‬إن أمر عليكم عب د مج دع‬
‫أسود يقودكم بكتاب هللا تعالى فاسمعوا له وأطيعوا)(‪)4‬‬

‫وكان ‪ ‬ال تشغله الوظائف الكثيرة ال تي أناطه ا هللا به ا عن الس ؤال‬


‫عن البسطاء من المسلمين دون تفريق بين سودهم وبيضهم‪ ،‬ففي الحديث أن‬
‫أس ود رجال أو ام رأة ك ان يقم المس جد‪ ،‬فم ات ولم يعلم الن بي ‪ ‬بموت ه‪،‬‬
‫فذكره ذات يوم فقال‪:‬ما فعل ذلك اإلنسان؟‪ ،‬قالوا‪ :‬مات ي ا رس ول هللا‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫أفال آذنتموني؟‪ ،‬فقالوا‪:‬إن ه ك ان ك ذا وك ذا قص ته ق ال‪ :‬فحق روا ش أنه ق ال‪:‬‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪.5/411‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪ .14314( 3/304‬وعب د بن حمي د (‪ )1154‬وال دارمي‪ 1389 :‬والبخ اري‪:‬‬
‫‪.335‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد ‪ )7814( 2/484‬وفي ‪ )10973( 2/539‬ومسلم‪.8/11 :‬‬
‫‪ )(4‬رواه الحميدي (‪ )359‬وأحمد‪.6/402 :‬‬

‫‪18‬‬
‫فدلوني على قبره‪ ،‬فأتى قبره فصلى عليه(‪.)1‬‬
‫وكان ‪ ‬يت ابع أص حابه وي ربيهم على ه ذه األخ وة‪ ،‬وي بين لهم ن وع‬
‫العالقة التي ينبغي أن تربط بينهم ولو ك ان بعض هم عبي دا وبعض هم س ادة‪،‬‬
‫عن المع رور بن س ويد ق ال‪ :‬مررن ا ب أبي ذر بالرب ذة‪ ،‬وعلي ه ب رد وعلى‬
‫غالمه مثله‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة‪ ،‬فقال‪ :‬إنه كان بي ني‬
‫وبين رجل من إخواني كالم‪ ،‬وكانت أمه أعجمية‪ ،‬فعيرته بأمه‪ ،‬فشكاني إلى‬
‫النبي ‪ ‬فلقيت الن بي ‪‬فق ال‪ :‬ي ا أب ا ذر إن ك ام رؤ في ك جاهلي ة قلت‪ :‬ي ا‬
‫رسول هللا‪ ،‬من سب الرجال سبوا أباه وأمه قال‪ :‬ي ا أب ا ذر‪ ،‬إن ك ام رؤ في ك‬
‫جاهلي ة‪ ،‬هم إخ وانكم جعلهم هللا تحت أي ديكم‪ ،‬ف أطعموهم مم ا ت أكلون‪،‬‬
‫وألبسوهم مما تلبسون‪ ،‬وال تكلفوهم ما يغلبهم‪ ،‬فإن كلفتموهم فأعينوهم(‪.)2‬‬
‫وكان ‪ ‬يشدد عليهم ال ترهيب إن أخل وا ببعض حق وق تل ك األخ وة‪،‬‬
‫وإن ك ان في أم ور ك انت طبيعي ة بالنس بة ألذه ان ذل ك العص ر‪ ،‬عن أبي‬
‫مس عود األنص اري ق ال‪:‬كنت أض رب غالم ا لي‪ ،‬فس معت من خلفي‬
‫صوتا‪:‬اعلم أبا مسعود‪ ،‬هلل أقدر عليك منك عليه‪ ،‬فالتفت‪ ،‬فإذا هو الن بي ‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬هو حر لوجه هللا تعالى قال‪ :‬أما إنك لو لم تفع ل للفعت ك‬
‫النار أو لمستك النار(‪.)3‬‬
‫وليعمق القرآن الكريم هذه الحقيقة في النفس بغض النظ ر عن آثاره ا‬
‫االجتماعية يخبرنا عن حقيق ة اإلنس ان ك ل إنس ان‪ ،‬وهي أن ه روح وجس د‪،‬‬
‫روح هي األصل‪ ،‬وجسد هو مطية لهذه الروح‪ ،‬والمطية ال يراد منها إال أن‬
‫تحمل راكبها وتبلغه غايته‪ ،‬وال يراعي فيها صاحبها ـ إن خير ـ إال ق دراتها‬
‫ال‬
‫ص ٍ‬ ‫ص ْل َ‬ ‫ك لِ ْل َماَل ئِ َك ِة إِنِّي َخ الِ ٌ‬
‫ق بَ َش رًا ِم ْن َ‬ ‫وتحملها‪،‬قال تعالى‪َ  :‬وإِ ْذ قَا َل َربُّ َ‬
‫اج ِدينَ ‪(‬الحجر‪:‬‬‫ت فِي ِه ِم ْن رُو ِحي فَقَعُوا لَهُ َس ِ‬ ‫ِم ْن َح َمإ ٍ َم ْسنُونٍفَإ ِ َذا َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬
‫‪)29 ،28‬‬
‫وكل لفظ في هذه اآلية ينطق بفضل الروح على الجسد‪ ،‬فبينما وص ف‬
‫الجسد بكونه من صلصال‪ ،‬وهو ـ كم ا ق ال الكس ائي ـ الطين المنتن‪ ،‬وه و‬
‫مأخوذ من قول العرب‪ :‬صل اللحم وأصل‪ ،‬إذا أنتن‪.‬‬
‫وهو من حمأ‪ ،‬وهو الطين األسود المتغير‪ ،‬ثم أكدت ك ل تل ك ال روائح‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ ،)8619( 2/353‬والبخاري‪.458 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه عبد الرزاق (‪ ،)17965‬وأحمد ‪ )21738( 5/158‬والبخاري‪.)30( 1/14 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد ‪ )17215( 4/120‬والبخاري في األدب المفرد ‪ 171‬ومسلم ‪.4319‬‬

‫‪19‬‬
‫المتغيرة بوص ف المس نون‪ ،‬وه و ـ كم ا ق ال الف راء ـ المتغ ير(‪ )1‬في نفس‬
‫الوقت نسبت ال روح إلى هللا‪ ،‬ولم تنفخ في الجس د إال بع د تس ويته‪ ،‬لم ي ؤمر‬
‫بالسجود إال بعد نفخها‪.‬‬
‫واآلية التي ورد فيها الحديث عن بسطة الجسم‪ ،‬والتي اعتبرته ا أح د‬
‫أس باب األفض لية لم ت ذكر مطلق ة ب ل ق دمت فيه ا بس طة العلم على بس طة‬
‫الجسم‪ ،‬ولم تذكر بسطة الجسم إال للحاج ة إليه ا‪ ،‬فالقائ د يحت اج إلى طاق ات‬
‫جسمية كافية تؤهله للوظيفة التي تناط ب ه‪ ،‬ق ال تع الى‪َ  :‬وقَ ا َل لَهُ ْم نَبِيُّهُ ْم إِ َّن‬
‫ق‬ ‫ك َعلَ ْينَ ا َونَحْ ُن أَ َح ُّ‬ ‫ون لَ هُ ْال ُم ْل ُ‬ ‫ث لَ ُك ْم طَ الُوتَ َملِ ًك ا قَ الُوا أَنَّى يَ ُك ُ‬ ‫هَّللا َ قَ ْد بَ َع َ‬
‫اص طَفَاهُ َعلَ ْي ُك ْم َوزَا َدهُ بَ ْس طَةً‬ ‫ال إِ َّن هَّللا َ ْ‬ ‫ك ِم ْنهُ َولَ ْم ي ُْؤتَ َس َعةً ِم ْن ْال َما ِل قَ َ‬ ‫بِ ْال ُم ْل ِ‬
‫فِي ْال ِع ْل ِم َو ْال ِجس ِْم َوهَّللا ُ ي ُْؤتِي ُم ْل َكهُ َم ْن يَ َشا ُء َوهَّللا ُ َوا ِس ٌع َعلِي ٌم‪( ‬البقرة‪)247:‬‬
‫ولعله ألجل ذلك كان موسى علي ه الس الم كم ا وص فه رس ول هللا ‪‬‬
‫عندما رآه حين أسري به‪ ،‬فقال‪ ( :‬موسى آدم طوال كأن ه من رج ال ش نوءة‬
‫بينما عيسى عليه السالم جعد مربوع)(‪ ،)2‬ألن الرسالة التي كلف بها لم تكن‬
‫تستدعي تلك البسطة‪.‬‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يدعو ويربي أصحابه على اعتب ار بس طة العلم والعق ل‬
‫ال بس طة الجس م‪ ،‬وق د روي عن ابن مس عود أن ه ك ان يجت ني س واكا من‬
‫األراك‪ ،‬وكان دقيق الساقين‪ ،‬فجعلت الريح تكفؤه‪ ،‬فضحك القوم من ه‪ ،‬فق ال‬
‫رسول هللا ‪ : ‬مم تضحكون؟ قالوا‪ :‬يا نبي هللا من دقة ساقيه‪ ،‬فق ال‪:‬وال ذي‬
‫نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد(‪.)3‬‬
‫ولكن القرآن الكريم والتوجيهات النبوية ـ مع نهيه ا عن تعظيم الجس د‬
‫والفرح به واعتباره حقيقة اإلنس ان ومح ور وج وده ـ ال ت أمر باحتق اره أو‬
‫التهوين من شأنه‪ ،‬بل تأمر عكس ذلك باحترامه‪ ،‬ولكن باعتبار ص ورته من‬
‫هللا‪ ،‬فمن أسماء هللا تعالى المصور‪ ،‬وتعظيم االسم يستلزم اح ترام مقتض اه‪،‬‬
‫وهذا االعتبار يقي اإلنسان مخاطر التي ه بالجس د واستش عار التم يز ب ه عن‬
‫اس ُج ُدوا آِل َد َم‬ ‫ص َّورْ نَا ُك ْم ثُ َّم قُ ْلنَا لِ ْل َماَل ئِ َك ِة ْ‬
‫غيره‪ ،‬قال تعالى‪َ  :‬ولَقَ ْد خَ لَ ْقنَا ُك ْم ثُ َّم َ‬
‫يس لَ ْم يَ ُك ْن ِم ْن السَّا ِج ِدينَ ‪( ‬األعراف‪)11:‬‬ ‫فَ َس َج ُدوا إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫ولهذا نهى النبي ‪ ‬أن يضرب اإلنسان على وجهه‪ ،‬وعل ل ذل ك ب أن‬

‫‪ )(1‬الشوكاني‪.3/185:‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪ )3239( 4/141‬و‪ )3396( 4/186‬ومسلم ‪.)338( 1/105‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد ‪)3991( 1/420‬‬

‫‪20‬‬
‫هللا خلق كل إنسان على صورة آدم عليه السالم‪ ،‬واحتقار ص ورة أي إنس ان‬
‫أو إهانته ا إهان ة ألبين ا آدم علي ه الس الم‪ ،‬ق ال ‪ ( : ‬إذا ض رب أح دكم‬
‫فليجتنب الوجه وال يقل‪ :‬قبح هللا وجهك ووجه من أشبه وجهك‪ ،‬فإن هللا ع ز‬
‫وجل خلق آدم على صورته)(‪)1‬‬

‫ونظر اإلنسان إلى الجسد به ذا االعتب ار يجعل ه ي رى الحس ن في ك ل‬


‫صورة‪ ،‬ألن القاعدة التي ينطلق منه ا هي أن هللا ه و أحس ن الخ القين‪ ،‬كم ا‬
‫ورد بذلك وصفه في خطاب إلياس عليه السالم لقومه‪ ،‬قال تعالى‪ :‬أَتَ ْد ُعونَ‬
‫بَ ْعاًل َوتَ َذرُونَ أَحْ َسنَ ْال َخالِقِينَ ‪(‬الصافات‪ ،)125:‬وكما ورد وصفه كذلك ب ه‬
‫طفَ ةَ َعلَقَ ةً‬ ‫عند تفصيل خلق اإلنسان ك ل إنس ان‪ ،‬ق ال تع الى‪  :‬ثُ َّم َخلَ ْقنَ ا النُّ ْ‬
‫نش أْنَاهُ‬
‫فَخَ لَ ْقنَا ْال َعلَقَةَ ُمضْ َغةً فَخَ لَ ْقنَا ْال ُمضْ َغةَ ِعظَا ًما فَ َك َس وْ نَا ْال ِعظَ ا َم لَحْ ًم ا ثُ َّم أَ َ‬
‫ك هَّللا ُ أَحْ َس ُن ْال َخالِقِينَ ‪(‬المؤمنون‪)14:‬‬ ‫خ َْلقًا آخ ََر فَتَبَ َ‬
‫ار َ‬
‫ومادام ذلك ه و وص ف هللا ف إن ك ل م ا يص در عن ه من خل ق حس ن‬
‫وجميل ال عيب فيه وال نقص وال فطور‪،‬قال تعالى‪ :‬الَّ ِذي أَحْ َسنَ ُك َّل َش ْي ٍء‬
‫ان ِم ْن ِطين‪( ‬السجدة‪ ،)7:‬واإلنسان من مخلوقات هللا‪،‬‬ ‫ق اإْل ِ ن َس ِ‬ ‫َخلَقَهُ َوبَدَأَ ْ‬
‫خَل َ‬
‫فلذلك كان في أحسن تقويم‪:‬لَقَ ْد خَ لَ ْقنَا اإْل ِ ن َسانَ فِي أَحْ َس ِن تَ ْق ِويم‪( ‬التين‪)4:‬‬
‫واأللف والالم تفيدان استغراق جنس اإلنسان في ك ل العص ور‪ ،‬وك ل‬
‫األماكن‪ ،‬وبكل األلوان‪ ،‬وكل األشكال‪.‬‬
‫ولهذا نهى النبي ‪ ‬أن يسخر من أي ل ون أو ش كل ألن ه س خرية من‬
‫خلق هللا‪ ،‬ومن سخر من خل ق هللا فكأنم ا س خر من هللا أو اع ترض على هللا‬
‫في خلق ه‪ ،‬وله ذا عظم ‪ ‬م ا فعلت ه عائش ة‪ ،‬حين وص فت ام رأة بالقص ر‬
‫باإلشارة دون اللفظ‪ ،‬قالت عائش ة‪ :‬حكيت للن بي ‪ ‬رجال فق ال م ا يس رني‬
‫أني حكيت رجال وأن لي ك ذا وك ذا ق الت‪ :‬فقلت‪:‬ي ا رس ول هللا إن ص فية‬
‫امرأة‪ ،‬وقالت بيدها هكذا‪ ،‬كأنها تعني قصيرة‪ ،‬فق ال‪ :‬لق د م زجت بكلم ة ل و‬
‫مزجت بها ماء البحر لمزج(‪.)2‬‬
‫وزيادة على ذلك كله يخاطب القرآن الكريم برقة وحنان ال ذين تع ذبوا‬
‫بأجسامهم وأشكالهم ونفاهم الخلق لدمامتهم بأن حس ن غ يرهم ال ذي ي تيهون‬
‫به عليهم ال يغني عنهم شيئا إن ج اء أم ر هللا‪ ،‬ألن هللا أهل ك من ه و أحس ن‬
‫منهم منظرا وأجمل متاعا‪ ،‬قال تعالى‪َ  :‬و َك ْم أَ ْهلَ ْكنَا قَ ْبلَهُ ْم ِم ْن قَرْ ٍن هُ ْم أَحْ َس ُن‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )8556( 2/347‬ومسلم ‪.6747‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪ 6/128‬وفي ‪ 6/136‬و‪ 206‬وأبو داود ‪ 4875‬والترمذي ‪.2502‬‬

‫‪21‬‬
‫أَثَاثًا َو ِر ْئيًا‪( ‬مريم‪)74:‬‬
‫ويعزيهم كذلك بأن األلوان التي يحملونها على وج وههم مج رد أل وان‬
‫مستعارة ستتغير يوم القيامة إلى ألوان نهائية‪ ،‬أو هي مجرد براق ع‪ ،‬والل ون‬
‫الحقيقي ه و ل ون ال روح‪ ،‬فل ذلك ال ينبغي لألس ود أن يح زن لس واده‪ ،‬وال‬
‫لألبيض أن يفخر ببياضه‪ ،‬كم ا ال يف رح من يض ع قناع ا على وجه ه بل ون‬
‫ت‬ ‫قناع ه‪ ،‬ق ال تع الى‪  :‬يَ وْ َم تَ ْبيَضُّ ُو ُج وهٌ َوت َْس َو ُّد ُو ُج وهٌ فَأ َ َّما الَّ ِذينَ ْ‬
‫اس َو َّد ْ‬
‫اب بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُ رُونَ َوأَ َّما الَّ ِذينَ‬‫ُو ُج وهُهُ ْم أَ َكفَ رْ تُ ْم بَ ْع َد إِي َم انِ ُك ْم فَ ُذوقُوا ْال َع َذ َ‬
‫َّت ُوجُوهُهُ ْم فَفِي َرحْ َم ِة هَّللا ِ هُ ْم فِيهَا َخالِ ُدونَ ‪( ‬آل عمران‪)107:‬‬ ‫ا ْبيَض ْ‬
‫ففي القيامة تنزع جميع األقنعة وتظهر الصور على حقيقته ا كم ا ق ال‬
‫ك ْاليَوْ َم َح ِدي ٌد‬ ‫ك فَبَ َ‬
‫ص ُر َ‬ ‫ك ِغطَا َء َ‬ ‫تعالى ‪ :‬لَقَ ْد ُك ْنتَ فِي َغ ْفلَ ٍة ِم ْن هَ َذا فَ َك َش ْفنَا َع ْن َ‬
‫‪(‬ق‪)22:‬‬
‫وقد تكرر هذا الوص ف في آي ات مختلف ة جامع ا بين أوص اف وج وه‬
‫المؤم نين ووج وه الك افرين أو مف ردا أح دهما عن اآلخ ر‪ ،‬ق ال تع الى في‬
‫وصف وجوه الذين كذبوا على هللا‪َ  :‬ويَوْ َم ْالقِيَا َم ِة تَ َرى الَّ ِذينَ َك َذبُوا َعلَى هَّللا ِ‬
‫ْس فِي َجهَنَّ َم َم ْث ًوى لِ ْل ُمتَ َكب ِِّرينَ ‪( ‬الزمر‪)60:‬‬ ‫ُوجُوهُهُ ْم ُم ْس َو َّدةٌ أَلَي َ‬
‫وشبه سواد وجوههم بقطع الليل المظلم‪ ،‬فق ال تع الى‪َ  :‬والَّ ِذينَ َك َس بُوا‬
‫َاص ٍم َكأَنَّ َم ا‬ ‫ت َج زَا ُء َس يِّئَ ٍة بِ ِم ْثلِهَ ا َوتَ رْ هَقُهُ ْم ِذلَّةٌ َم ا لَهُ ْم ِم ْن هَّللا ِ ِم ْن ع ِ‬ ‫َّ‬
‫الس يِّئَا ِ‬
‫ار هُ ْم فِيهَا َخالِ ُدونَ‬ ‫ك أَصْ َحابُ النَّ ِ‬ ‫ظلِ ًما أُوْ لَئِ َ‬
‫ت ُوجُوهُهُ ْم قِطَعًا ِم ْن اللَّي ِْل ُم ْ‬ ‫أُ ْغ ِشيَ ْ‬
‫‪( ‬يونس‪)27:‬‬
‫والسواد في اآلخرة ليس سوادا طبيعيا‪ ،‬قد يتأقلم معه صاحبه‪ ،‬ب ل ه و‬
‫سواد الحزن الدائم والهم المقيم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ  :‬و ُو ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ َعلَ ْيهَ ا َغبَ َرةٌ‬
‫تَرْ هَقُهَا قَتَ َرة(عبس‪ ،)41 ،40:‬ق ال البغ وي في تفس يرها‪:‬س واد وكآب ة الهم‬
‫والحزن(‪.)1‬‬
‫وقال تعالى يبين هذا اللون النفس ي ال ذي يغش ى وج وه أه ل الن ار‪ :‬‬
‫اس َرةٌ(القيامة‪ ،)24:‬قال الشوكاني‪ :‬أي كالحة عابسة كئيبة(‪.)2‬‬ ‫َو ُوجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ بَ ِ‬
‫ويبين بشاعة منظرهم وشفاههم ال تي ك انوا يتفنن ون في تمطيطه ا في‬
‫الدنيا‪ ،‬وملئها بالسخرية من خلق هللا‪ ،‬وكيف يئول مص يرها بقول ه تع الى ‪‬‬
‫ت َْلفَ ُح ُو ُج وهَهُ ْم النَّا ُر َوهُ ْم فِيهَ ا َك الِحُونَ ‪(‬المؤمن ون‪ )104:‬ق ال البيض اوي‪:‬‬

‫‪ )(1‬البغوي‪.340/ 1‬‬
‫‪ )(2‬الشوكاني‪.5/476:‬‬

‫‪22‬‬
‫الكلوح تقلص الشفتين عن األسنان(‪.)1‬‬
‫أما وجوه المؤمنين يوم القيامة فهي وجوه مستنيرة مسفرة ناضرة ولو‬
‫كانت في الدنيا سوداء كالحة مظلمة‪ ،‬قال تعالى في وصف وجوه المؤم نين‪:‬‬
‫َض َرةَ النَّ ِع ِيم ‪( ‬المطففين‪ )24:‬فهي نض رة حس ية‬ ‫ف فِي ُو ُج و ِه ِه ْم ن ْ‬ ‫‪ ‬تَ ْع ِر ُ‬
‫تنبئ عن رضى نفسي عميق‪.‬‬
‫وكل أوصاف الق رآن الك ريم لوج وه المؤم نين في الجن ة يق ترن فيه ا‬
‫الحسن الحسي بالرضا والجمال النفسي‪ ،‬قال تع الى‪ُ :‬و ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ ُم ْس فِ َرةٌ‬
‫َاض َرةٌ ‪‬‬ ‫اح َكةٌ ُم ْستَب ِْش َرةٌ ‪(‬عبس‪ ،)39:‬وق ال تع الى‪ُ  :‬و ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ ن ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫َ‬
‫ُس نَى َو ِزيَ ا َدةٌ َواَل يَرْ هَ ُ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫(القيام ة‪ ،)22:‬وق ال تع الى‪  :‬لِل ِذينَ أحْ َس نُوا الح ْ‬
‫ُوجُوهَهُ ْم قَتَ ٌر َواَل ِذلَّةٌ أُوْ لَئِكَ أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ‪( ‬يونس‪)26:‬‬
‫وه ذا االعتق اد يجع ل الم ؤمن غ ير مب ال بلون ه ال دنيوي‪ ،‬وال هيئت ه‬
‫الدنيوية‪ ،‬وترفع عنه رداء الكبر بهما‪ ،‬أو الفخر والتطاول بهما على الخل ق‪،‬‬
‫وتجعل فرح ه إن ف رح بهم ا ف رح المستش عر بفض ل هللا علي ه‪ ،‬وه و ف رح‬
‫يسلب عنه كل ما يسيء إلى غيره أو يسيء إلى نفسه‪ ،‬ولهذا ك ان ‪ ‬يق ول‬
‫في دعائه‪ (:‬اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي)(‪)2‬‬

‫وفي هذا الدعاء أدب عظيم من ه ‪ ،‬حيث ق دم ش كر هللا على الطلب‪،‬‬


‫وشكر هللا على ما منه وما ال يمكن تغييره‪ ،‬وسأل هللا توفيقه لما طلب منه‪.‬‬
‫وهذا الدعاء الذي ورثناه منه ‪ ‬يختصر في إيجاز موقف المؤمن من‬
‫جسده‪ ،‬فهو نعمة بأي صورة كان‪ ،‬والمؤمن غ ير مط الب بتغي يره‪ ،‬ب ل ه و‬
‫مطالب بالرضى به وحمد هللا عليه وعدم اإلعج اب ب أي حس ن ق د يص رفه‬
‫عن حقيقته أو وظيفته في هذا الوجود‪ ،‬فكل من فرح بغير هللا سيحزن‪ ،‬وكل‬
‫من رض ي بغ ير هللا سيس خط‪ ،‬وك ل من نس ي هللا سينس ى نفس ه وحقيقت ه‬
‫وسيختصر وجوده في قالب طيني سرعان ما يعود إلى أصله‪ ،‬قال تع الى‪ :‬‬
‫اس قُونَ ‪( ‬الحش ر‪:‬‬ ‫َواَل تَ ُكونُوا َكالَّ ِذينَ نَسُوا هَّللا َ فَأ َ ْن َساهُ ْم أَ ْنفُ َس هُ ْم أُوْ لَئِ َ‬
‫ك هُ ْم ْالفَ ِ‬
‫‪)19‬‬
‫وق د آلم الش عراء م ا رأوه من تعظيم البش ر للجس د وإك رامهم ل ه م ع‬
‫الغفلة عن حقيقة اإلنسان فصاح المعري بقوله‪:‬‬
‫ريب المن ون‪ ،‬فال فض يلة للجسد‬ ‫ال تكرموا جسدي‪ ،‬إذا م ا ح ل‬
‫بي‬
‫‪ )(1‬البيضاوي‪. 1/168:‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪.6/68‬‬

‫‪23‬‬
‫ح تى إذا ف نيت بشاش ته كسد‬ ‫كالبرد كان على الل وابس نافقا‬
‫درس‪ ،‬خ وين من الض غائن‬ ‫أروا حنا ظلمت‪ ،‬فتلك بيوته ا‬
‫ومن قبله قال دعبل الخزاعي‪ :‬والحسد‬
‫وم ا حس ن الجس وم لهم إذا كانت خالئقهم قباحا‬
‫زين‬ ‫ب‬
‫وبعدهما قال البستي ناصحا‪:‬‬
‫يا خادم الجس م كم تش قى بخدمته لتطلب ال ربح في م ا في ه‬
‫خس أنت ب النفس ال بالجسرانم‬‫ف‬ ‫أقب ل على النفس فاس تكمل‬
‫كاألسلوب الذي تنتهجه تلك ان‬
‫الدراس ات‬ ‫إنس‬ ‫ائلها‬ ‫فض‬
‫واتخذ شاعر آخر أسلوبا علميا‬
‫لتزرع الفوارق بين البشر فأخذ يعدد عيوب هذا الجسد الذي يتيه به الخالئق‬
‫ويتكبرون ويقاتل بعضهم بعضا‪:‬‬
‫ي ا مظه ر الك بر إعجاب ا انظ ر خالءك إن النتن ت ثريب‬
‫ما استشعر الكبر شان وال شيب‬ ‫ورته‬
‫بصفكر الناس فيما في بطونهم‬
‫لو‬
‫وه و بخمس من األق ذار‬ ‫ه ل في ابن آدم غ ير ال رأس‬
‫والعين مرصة والثغ ر ملعروب‬
‫وب‬ ‫مض‬ ‫مكرميسيل وأذن ريحها س ة‬
‫هك‬ ‫أنف‬
‫أقصر فإن ك م أكول ومش روب‬ ‫يابن ال تراب وم أكول ال تراب‬
‫غوشبه ذو الرمة الجمال دا‬
‫الظاهر الساتر للشين المختفي في ثياب ه بالم اء‬
‫الخبيث الذي ال يغير خبثه بياض لونه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وتحت الثياب الش ين ل و ك ان‬ ‫على وج ه مي مس حة من‬
‫وإن ك ان ل ون الم اء أبيض‬‫باديا‬ ‫مالحتر أن الماء يخبث طعمهة‬
‫ألم‬
‫تضيء ولكنها تحرق‪ ،‬فقال‪:‬افيا‬
‫وشبه القيرواني ذلك بالسرج التيص‬
‫نور يضيء وإن مسس ت‬ ‫س رج تل وح إذا نظ رت‬
‫ار‬ ‫فن‬ ‫وإنها‬

‫‪24‬‬
‫القوة‬
‫ال تف رح إن رزقت ق وة ومنع ة‪ ،‬فهاب ك األع داء‪ ،‬وجث ا بين ي ديك‬
‫األصدقاء‪.‬‬
‫ال تفرح‪ ،‬فالفرح بالقوة والمنعة والتسلط هو أحد أنواع الفرح الم ذموم‬
‫في القرآن الكريم‪ ،‬كما تشير إلى ذلك النصوص الكثيرة تصريحا وإيماء‪.‬‬
‫لماذا؟‬
‫أليس ت الق وة هي ال تي تحمي المستض عفين‪ ،‬وتنش ر األمن‪ ،‬وتب ني‬
‫الحضارة‪ ،‬وتعمر األرض؟‬
‫أليس البقاء لألقوى قاعدة من القواعد التي يفسر بها التاريخ كما تفس ر‬
‫بها الطبيعة واألشياء؟‬
‫لكن الفرح بالقوة غير القوة‪ ،‬كما أن االستمتاع بالتفرج على المباريات‬
‫الرياضية غير ممارسة الرياضة‪ ،‬وذم الفرح بالقوة ال يع ني ذم ا للق وة‪ ،‬ب ل‬
‫يعني ذما لجانب من جوانبها وأثر من آثارها‪.‬‬
‫أث ر ق د ينش أ عن ه الظلم واالس تعمار واس تغالل الخل ق وتس خيرهم‬
‫واس تعبادهم‪ ،‬وق د ألغي االس تعباد في جمي ع ق وانين الع الم‪ ،‬ولكن ال ي زال‬
‫الخلق إلى اآلن عبي دا تحت س لطة م ا يس مى ب القوى العظمى‪ ،‬الق وى ال تي‬
‫ت أمر بم ا تش اء وتنهى عم ا تش اء‪ ،‬وتكي ل بك ل المكايي ل‪ ،‬ثم تطلب من‬
‫المستضعفين أن يمجدوها ويحترموها ويسبحوا بحمدها لسبب وحيد هو أنها‬
‫قوة عظمى‪.‬‬
‫والحروب العالمية ال تعدو كونها غليانا لنار القوة‪ ،‬ونش وة الف رح به ا‬
‫في الروح الغربية باختراعها ألنواع األسلحة وفنون الدمار الشامل‪.‬‬
‫ومن الفوراق الكبرى أن الدول التي تسعى للح د من ه ذه األن واع من‬
‫األسلحة وتتغنى بالسالم هي التي تملك أكبر رصيد منها‪ ،‬بل تملك م ا ي دمر‬
‫األرض‪ ،‬ويمحي األطالل التي يتركها دماره مرات كثيرة‪.‬‬
‫وقد ذكر هللا تعالى أن عصرنا هذا ليس بدعا في ذلك‪ ،‬وإنما هذا الفرح‬
‫هو الذي حال بين كل ق وة عظمى أو ص غرى‪ ،‬بين الحض ارات الك برى أو‬
‫القبائل البدوية البدائية البسيطة‪ ،‬وبين قبول الحق‪ ،‬قال تع الى ض اربا المث ل‬
‫ق َوقَ الُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً‬
‫ض بِ َغي ِْر ْال َح ِّ‬
‫بعاد‪  :‬فَأ َ َّما عَا ٌد فَا ْستَ ْكبَرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ش ُّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َك انُوا بِآيَاتِنَ ا يَجْ َح ُدونَ ‪‬‬‫أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي خَ لَقَهُ ْم هُ َو أَ َ‬

‫‪25‬‬
‫(فصلت‪)15:‬‬
‫وهو الذي حال بين أكثر القرى وبين طاعة أنبيائها واإلسالم هلل‪ ،‬فكان‬
‫فرحهم حائال بينهم وبين كل خير‪ ،‬ق ال تع الى‪َ  :‬كالَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َك انُوا أَ َش َّد‬
‫اس تَ ْمتَ ْعتُ ْم بِخَ اَل قِ ُك ْم َك َم ا‬ ‫ِم ْن ُك ْم قُ َّوةً َوأَ ْكثَ َر أَ ْم َوااًل َوأَوْ اَل دًا فَ ْ‬
‫اس تَ ْمتَعُوا بِخَاَل قِ ِه ْم فَ ْ‬
‫ت‬ ‫ك َحبِطَ ْ‬ ‫اض وا أُوْ لَئِ َ‬ ‫ض تُ ْم َكالَّ ِذي َخ ُ‬ ‫اس تَ ْمتَ َع الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم بِخَ اَل قِ ِه ْم َو ُخ ْ‬
‫ْ‬
‫اسرُونَ ‪( ‬التوبة‪)69:‬‬ ‫ُ‬
‫أَ ْع َمالُهُ ْم فِي ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َر ِة َوأوْ لَئِكَ هُ ْم ْال َخ ِ‬
‫والقرآن الكريم يش ير هن ا إلى ال دورات التاريخي ة ال تي تختل ف فيه ا‬
‫أس ماء ال دول والحض ارات والش عوب والق وى ولكنه ا تتف ق في مبادئه ا‬
‫ونظرتها للحياة وتص ورها للوج ود ووظائفه ا في ه‪ ،‬فكال من تل ك ال دورات‬
‫يستمتع بنصيبه من القوة واألموال‪ ،‬ويخوض في ه خوض ا ب اطال‪ ،‬والنتيج ة‬
‫النهائي ة ال تي تختم به ا ك ل دورة هي اإلحب اط بك ل معاني ه ال دنيوي‬
‫واألخروي‪ ،‬والنفسي واالجتماعي‪.‬‬
‫والقوة الغربية ـ بهذا المفه وم ـ لم تص در في نزعته ا التس لطية ال تي‬
‫استعمرت بها العالم وانتهبت بها خيراته وعقول ه أجي اال طويل ة بالس الح أو‬
‫بالديموقراطية أو بالصناديق الكثيرة أو بالمساعدات إال من روح رومانية ال‬
‫تزال تجثم على عقولها ومصادر تفكيرها‪.‬‬
‫وفي اآلية بشارة عظمى للذين تلظوا بنار ه ذه الق وى‪ ،‬فمص ير ال ذين‬
‫استعبدوهم هو اإلحباط الذي ال يقتصر على الدنيا‪ ،‬وإنم ا يش مل اآلخ رة‪ ،‬و‬
‫أصل اإلحباط الحبط‪ ،‬وهو أن تكثر الدابة أكال حتى ينتفخ بطنه ا‪ ،‬ق ال ‪:‬‬
‫( إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم)(‪ ، )1‬وكأن هذا اللفظ يش ير ب ذلك‬
‫إلى أن هذه الق وى س تنتفخ وتمتلئ زه وا وتعاظم ا وتس لطا ثم ت دمر نفس ها‬
‫بذلك التعاظم‪ ،‬كما تموت الماشية من كثرة أكلها‪.‬‬
‫وكلما ازداد تعاظمها‪ ،‬وازدادت ثقتها بنفسها قرب موع د هالكه ا كم ا‬
‫َت َوظَ َّن أَ ْهلُهَ ا أَنَّهُ ْم‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ ُز ْخ ُرفَهَ ا َوا َّزيَّن ْ‬ ‫ق ال تع الى‪َ :‬حتَّى إِ َذا أَ َخ َذ ْ‬
‫س‬‫صيدًا َكأ َ ْن لَ ْم تَ ْغنَ بِاأْل َ ْم ِ‬ ‫قَا ِدرُونَ َعلَ ْيهَا أَتَاهَا أَ ْم ُرنَا لَ ْياًل أَوْ نَهَارًا فَ َج َع ْلنَاهَا َح ِ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ ‪(‬يونس‪)24:‬‬ ‫َك َذلِكَ نُفَصِّ ُل اآْل يَا ِ‬
‫والحصيد هنا‪ ،‬وإن كان يراد به في ظاهر اللفظ هو النبات الذي حصد‬
‫وقطع‪ ،‬إال أنه يشير إشارة صريحة إلى العمران والتكنولوجيا والثقافة وك ل‬

‫‪ )(1‬الحميدي (‪ )740‬وأحمد ‪ )11049( 3/7‬ق ال‪ :‬ح دثنا س فيان‪ ،‬عن ابن عجالن‪ .‬ومس لم‬
‫‪)2385( 3/100‬‬

‫‪26‬‬
‫ما يزهو ويتصور أثناء زهوه أنه ال يموت‪ ،‬وموت ه وحص اده ال يحت اج إلى‬
‫تدبير طويل بحسب ما تنص اآلية‪ ،‬بل مجرد إتيان أم ر هللا في لي ل أو نه ار‬
‫يكفي لذلك‪ ،‬وأمر هللا ال يتكرر‪ ،‬وهو أسرع من لمح البصر ‪َ  :‬و َما أَ ْم ُرنَا إِاَّل‬
‫ص ِر‪( ‬القمر‪)50:‬‬ ‫ح بِ ْالبَ َ‬‫َوا ِح َدةٌ َكلَ ْم ٍ‬
‫وقد عالج القرآن الكريم هذا الف رح ووجه ه وق وم اعوجاج ه ببي ان أن‬
‫القوة هلل وحده‪ ،‬فال يستطيل أحد على أحد‪ ،‬وال يبغي أح د على أح د‪ ،‬ألن هللا‬
‫هو وحده القوي وكل من عداه ضعيف مهما استطال بقوته‪ ،‬ولذلك فإن الذي‬
‫يتسلط على المستضعفين بقوته ال يواجه المستضعفين وإنما يبارز هللا تعالى‬
‫بالمحاربة‪ ،‬وهو آخذه ال محالة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬و َك أَي ِّْن ِم ْن قَرْ يَ ٍة ِه َي أَ َش ُّد قُ َّوةً‬
‫ص َر لَهُم‪( ‬محمد‪)13:‬‬ ‫ك الَّتِي أَ ْخ َر َج ْتكَ أَ ْهلَ ْكنَاهُ ْم فَاَل نَا ِ‬ ‫ِم ْن قَرْ يَتِ َ‬
‫والقرآن الكريم يضرب األمثلة الواقعية الكثيرة على ذوبان تلك الق وى‬
‫ت‬‫ب آ ِل فِرْ َع وْ نَ َوالَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َكفَ رُوا بِآيَ ا ِ‬ ‫أمام أمر هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬ك د َْأ ِ‬
‫هَّللا ِ فَأ َ َخ َذهُ ْم هَّللا ُ بِ ُذنُوبِ ِه ْم إِ َّن هَّللا َ قَ ِويٌّ َش ِدي ُد ْال ِعقَاب‪( ‬األنفال‪)52:‬‬
‫بل هو يأمر بالسير في األرض والبحث في اآلثار‪ ،‬ال للتمتع بمناظرها‬
‫أو التعجب من محاس نها‪ ،‬وإنم ا لالعتب ار من مص ير الظلم ة ال ذين ي دل‬
‫عمرانهم على مبلغ قوتهم لتأخذ من ذلك العبر‪ ،‬قال تعالى ‪‬أَ َولَ ْم يَ ِس يرُوا فِي‬
‫ض فَيَنظُ رُوا َك ْي فَ َك انَ عَاقِبَ ةُ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َك انُوا أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ت فَ َم ا‬ ‫ض َو َع َمرُوهَا أَ ْكثَ َر ِم َّما َع َمرُوهَا َو َجا َء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَ ا ِ‬ ‫َوأَثَارُوا اأْل َرْ َ‬
‫ظلِ ُمونَ ‪(‬الروم‪)9:‬‬ ‫ظلِ َمهُ ْم َولَ ِك ْن َكانُوا أَنفُ َسهُ ْم يَ ْ‬‫َكانَ هَّللا ُ لِيَ ْ‬
‫وهذا هو موقف الق رآن من البحث في اآلث ار والتنقيب عنه ا ودراس ة‬
‫أحوال أهلها وأحوال التاريخ جميع ا‪ ،‬وله ذا نهى الن بي ‪ ‬عن ال دخول إلى‬
‫ديار الظلمة إال بصحبة البكاء والخشوع‪ ،‬ق ال ‪ (: ‬ال ت دخلوا على ه ؤالء‬
‫المع ذبين إال أن تكون وا ب اكين‪ ،‬ف إن لم تكون وا ب اكين فال ت دخلوا عليهم ال‬
‫يصيبكم ما أصابهم)(‪)1‬‬

‫ب ل ورد النهي عن االس تقاء بم ائهم أو اس تعماله‪ ،‬فعن دما ن زل ‪‬‬


‫بالحجر في غزوة تب وك وق د ك ان من ازل لثم ود‪ ،‬أم رهم أن ال يش ربوا من‬
‫بئرها وال يستقوا منها‪ ،‬فقالوا‪:‬قد عجنا منه ا واس تقينا‪ ،‬ف أمرهم أن يطرح وا‬
‫ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء‪.‬‬
‫وليس هذا النهي من باب التحذير من التلوث الذي ق د يض ر الص حة‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه مالك الموطأ (‪ )2119‬و (الحميدي) ‪ 653‬وأحمد ‪.)4561( 2/9‬‬

‫‪27‬‬
‫بدليل إجازته أن يعلف وا اإلب ل ذل ك العجين‪ ،‬ولكن أن واع التل وث ال تقتص ر‬
‫على التلوث الظاهر الذي يؤذي الجسد‪ ،‬فهناك التل وث ال ذي يخ رب ال روح‬
‫ويكدر الصفاء‪ ،‬والذي ال يراه إال مجهر النبوة‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يخ بر أن الظ المين جميع ا‪ ،‬من أمه ل منهم ومن أخ ذ‬
‫بذنوبه في الدنيا‪ ،‬سيكتشف هذه الحقيقة يوم القيامة‪ ،‬حقيقة أن الق وي الوحي د‬
‫هو هللا تعالى‪ ،‬ويترك بيان حالهم للنفس لتتصوره كما تشاء‪ ،‬كيف يس تقبلون‬
‫تل ك المعرف ة وذل ك اإلدراك‪ ،‬ألن التع ابير ال يمكن أن تفي بتص وير ه ذه‬
‫الحقيقة العظمى التي كانوا ينازلونها الحرب‪،‬قال تع الى ‪َ :‬ولَ وْ يَ َرى الَّ ِذينَ‬
‫اب أَ َّن ْالقُ َّوةَ هَّلِل ِ َج ِمي ًع ا َوأَ َّن هَّللا َ َش ِدي ُد ْال َع َذابِ‪(‬البق رة‪:‬‬ ‫ظَلَ ُموا إِ ْذ يَ َروْ نَ ْال َع َذ َ‬
‫‪)165‬‬
‫وبع د أن ي زرع الق رآن الك ريم في النفس ه ذه الحق ائق‪ ،‬ويملؤه ا‬
‫بالتواضع يعود ليؤس س فيه ا الق وة الحقيقي ة‪ ،‬الق وة ال تي هي نعم ة من هللا‪،‬‬
‫فيفرح بها على أساس ذلك‪ ،‬قال تع الى مان ا على عب اده عن د بيان ه ألط وار‬
‫ْف قُ َّوةً ثُ َّم َج َع َل ِم ْن‬
‫ضع ٍ‬ ‫ْف ثُ َّم َج َع َل ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫ضع ٍ‬ ‫خلقهم‪ :‬هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن َ‬
‫ق َما يَ َشا ُء َوهُ َو ْال َعلِي ُم ْالقَ ِدي ُر ‪(‬الروم‪)54:‬‬ ‫ض ْعفًا َو َش ْيبَةً يَ ْخلُ ُ‬
‫بَ ْع ِد قُ َّو ٍة َ‬
‫فهذه القوى ال تي تنص عليه ا اآلي ة نعم من هللا‪ ،‬وح ق النعم أن تش كر‬
‫ويحاف ظ عليه ا وال يعص ى به ا ربه ا وال يتس لط به ا على الغ ير‪ ،‬أو‬
‫باالصطالح القرآني أن يحافظ عليها باعتباره ا أمان ة ووديع ة من هللا‪ ،‬ق ال‬
‫تعالى في اآلية التي شملت كل أنواع ودائع فضل هللا ‪ :‬إِنَّا َع َرضْ نَا اأْل َ َمانَ ةَ‬
‫ال فَ أَبَ ْينَ أَ ْن يَحْ ِم ْلنَهَ ا َوأَ ْش فَ ْقنَ ِم ْنهَ ا َو َح َملَهَ ا‬
‫ض َو ْال ِجبَ ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫َعلَى ال َّس َما َوا ِ‬
‫ان إِنَّهُ َكانَ ظَلُو ًما َجهُواًل ‪( ‬األحزاب‪)72:‬‬ ‫اإْل ِ ْن َس ُ‬
‫ولهذا من كم ال الم ؤمن أن يجم ع بين الق وة واألمان ة ليس تعين بقوت ه‬
‫ت‬ ‫على أداء األمان ة‪ ،‬ويس تعين بأمانت ه على حف ظ الق وة‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬قَ الَ ْ‬
‫ين ‪( ‬القص ص‪:‬‬ ‫اس تَأْ َجرْ تَ ْالقَ ِويُّ اأْل َ ِم ُ‬
‫ت ا ْستَأْ ِجرْ هُ إِ َّن خَ ْي َر َم ْن ْ‬ ‫إِحْ دَاهُ َما يَاأَبَ ِ‬
‫‪)26‬‬
‫فالقوة وحدها بدون أمانة ظلم وعتو‪ ،‬كما أن الق وة ب دون رأي وحكم ة‬
‫عجز وخ ور‪ ،‬ق ال تع الى مخ برا عن المجلس االستش اري لبلقيس مبين ا أن‬
‫القوة الجسمية وحدها ال تكفي بدون ق وة ال رأي والت دبير‪ :‬قَ الُوا نَحْ ُن أُوْ لُ وا‬
‫ك فَانظُ ِري َما َذا تَأْ ُم ِرينَ ‪(‬النمل‪)33:‬‬ ‫س َش ِدي ٍد َواأْل َ ْم ُر إِلَ ْي ِ‬ ‫قُ َّو ٍة َوأُولُوا بَأْ ٍ‬
‫ول ذلك ف إن الق وة الحقيقي ة في المفه وم الش رعي تتكام ل م ع األمان ة‬

‫‪28‬‬
‫والرأي والحكمة لتخ دم الح ق وح ده‪ ،‬وب ذلك تص بح من األوام ر الش رعية‬
‫والتكاليف التي ال مناص للمؤمن من القيام بها‪ ،‬قال تعالى ‪َ  :‬وأَ ِع ُّدوا لَهُ ْم َما‬
‫ا ْستَطَ ْعتُ ْم ِم ْن قُ َّو ٍة َو ِم ْن ِربَا ِط ْالخَ ي ِْل تُرْ ِهبُونَ بِ ِه َع ُد َّو هَّللا ِ َو َع ُد َّو ُك ْم ‪(‬ألنف ال‪:‬‬
‫‪)60‬‬
‫ألن أي عمل يستدعي نوعا من القوة مناسبا ألدائه حتى أن ذا الق رنين‬
‫ال َم ا َم َّكنِّي فِي ِه َربِّي َخ ْي ٌر‬ ‫طلب عند بنائه السد أن يمدوه بقوة‪ ،‬تع الى ‪ :‬قَ َ‬
‫فَأ َ ِعينُونِي بِقُ َّو ٍة أَجْ َعلْ بَ ْينَك ْم َوبَ ْينَهُ ْم َر ْدما ً‪( ‬الكهف‪)95:‬‬
‫وهنا نرى أدب ذي القرنين حين ق دم فض ل رب ه على طلب المعون ة‪،‬‬
‫فالقرآن الكريم ضرب المثل بذي القرنين عن المؤمن القائد القوي‪.‬‬
‫وهللا تعالى أمر بتوجيه قوانا نحو األخذ بالتكاليف والتقيد بها والتمس ك‬
‫بحبلها ألنها عالمة القوة الحقيقية‪ ،‬وال يمكن أن تؤدى أداء مثالي ا إال ب القوة‪،‬‬
‫قال تعالى عن موسى عليه السالم عندما أعطاه ألواح الت وراة‪َ  :‬و َكتَ ْبنَ ا لَ هُ‬
‫ص ياًل لِ ُك ِّل َش ْي ٍء فَ ُخ ْذهَا بِقُ َّو ٍة َو ْأ ُم رْ‬ ‫اح ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء َموْ ِعظَ ةً َوتَ ْف ِ‬ ‫فِي اأْل َ ْل َو ِ‬
‫َار ْالفَا ِسقِينَ ‪(‬األعراف‪)145:‬‬ ‫قَوْ َمكَ يَأْ ُخ ُذوا بِأَحْ َسنِهَا َسأ ُ ِري ُك ْم د َ‬
‫اب‬ ‫وأمر يحي عليه السالم بنفس األمر‪،‬قال تعالى ‪  :‬يَا يَحْ يَى ُخ ِذ ْال ِكتَ َ‬
‫بِقُ َّو ٍة ‪(‬مريم‪)12:‬‬
‫ولع ل في تخص يص موس ى ويحي ـ عليهم ا الس الم ـ ب األمر بأخ ذ‬
‫الكتاب بقوة وشدة وحزم يشير إلى أسلوب تعامل ب ني إس رائيل م ع أنبي ائهم‬
‫وأوامر ربهم‪ ،‬وهو أسلوب االستهزاء والهزل والتالعب ومحاولة االحتي ال‬
‫على أحكام هللا‪ ،‬وهو أسلوب صادر عن تصورهم هلل الذي يمتزج فيه ال دين‬
‫بالعنصرية والذهب واألهواء‪ ،‬ولذلك وردت اآليات الكث يرة تخ بر عن أم ر‬
‫هللا تعالى لهم باألخذ بالكتاب بقوة حتى أن الجبل رفع فوقهم كأنه ظل ة‪ ،‬ق ال‬
‫تعالى ‪َ :‬وإِ ْذ نَتَ ْقنَا ْال َجبَ َل فَوْ قَهُ ْم َكأَنَّهُ ظُلَّةٌ َوظَنُّوا أَنَّهُ َواقِ ٌع بِ ِه ْم ُخ ُذوا َما آتَ ْينَا ُك ْم‬
‫بِقُ َّو ٍة َو ْاذ ُكرُوا َما فِي ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ‪( ‬األعراف‪)171:‬‬
‫ولكنهم م ع ذل ك لم يرت دعوا ولم ي نزجروا ألن ش راب العج ل ال ذي‬
‫يسري في قلوبهم ويغذيهم بحب الذهب يحول بينهم وبين الطاعة ولو أرادوا‬
‫ور ُخ ُذوا َما آتَ ْينَا ُك ْم‬ ‫الط َ‬‫الطاعة‪،‬قال تعالى ‪َ :‬وإِ ْذ أَ َخ ْذنَا ِميثَاقَ ُك ْم َو َرفَ ْعنَا فَوْ قَ ُك ْم ُّ‬
‫َص ْينَا َوأُ ْش ِربُوا فِي قُلُ وبِ ِه ْم ْال ِعجْ َل بِ ُك ْف ِر ِه ْم قُ لْ‬ ‫بِقُ َّو ٍة َوا ْس َمعُوا قَالُوا َس ِم ْعنَا َوع َ‬
‫بِ ْئ َس َما يَأْ ُم ُر ُك ْم بِ ِه إِي َمانُ ُك ْم إِ ْن ُكنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ ‪(‬البقرة‪)93:‬‬
‫وليس أمر أخذ الكتاب بقوة خاصا ببني إس رائيل ب ل ه و ع ام في ك ل‬

‫‪29‬‬
‫نفس استهانت ب أمر ربه ا وتس لطت نفس ها على عقله ا‪ ،‬وتالعبت أهواؤه ا‬
‫بحقيقتها‪ ،‬ألن الجذور ال تي تنم و من اس تحالء المعاص ي تحت اج إلى طاق ة‬
‫كبيرة لتقلعها‪ ،‬ولهذا وض ع اإلص ر على ب ني إس رائيل وش دد عليهم رحم ة‬
‫بهم‪ ،‬وإصالحا لهم‪ ،‬كما شدد على منتهك الحرمات بأنواع الكفارات المشددة‬
‫ليعيد لنفسه توازنها ويعيد لعقله سلطته على نفسه‪.‬‬
‫ولهذا فإن المؤمن يزداد قوة بإيمانه وبتسليمه هلل وطاعته ل ه واحتمائ ه‬
‫بكنفه‪ ،‬وإيمانه ال يحول بينه وبين ما ينعم به من قوة‪ ،‬وإنما يوجهها ويزيدها‬
‫اس تَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم ثُ َّم‬ ‫ويرقيه ا‪ ،‬ق ال تع الى في خط اب ن وح لقوم ه‪َ  :‬ويَ اقَوْ ِم ْ‬
‫الس َما َء َعلَ ْي ُك ْم ِم ْد َرارًا َويَ ِز ْد ُك ْم قُ َّوةً إِلَى قُ َّوتِ ُك ْم َواَل تَت ََولَّوْ ا‬ ‫تُوبُوا إِلَ ْي ِه يُرْ ِس لْ َّ‬
‫ُمجْ ِر ِمينَ ‪( ‬هود‪)52:‬‬
‫وهذه الق وة التأييدي ة هي ال تي تجع ل المستض عفين في األرض ق وى‬
‫يحسب له ا أل ف حس اب ألنه ا ق وى ال تقه ر‪ ،‬ق ال تع الى مخ برا عن الثل ة‬
‫المستضعفة التي كانت مع رس ول هللا ‪ ‬كي ف ك انت‪ ،‬وكي ف ص ارت في‬
‫ض تَ َخ افُونَ أَ ْن‬ ‫َض َعفُونَ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫كن ف هللا‪َ :‬و ْاذ ُك رُوا إِ ْذ أَ ْنتُ ْم قَلِي ٌل ُم ْست ْ‬
‫ش ُكرُونَ ‪‬‬ ‫ت لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْ‬‫يَتَخَ طَّفَ ُك ْم النَّاسُ فَآ َوا ُك ْم َوأَيَّ َد ُك ْم بِنَصْ ِر ِه َو َر َزقَ ُك ْم ِم ْن الطَّيِّبَا ِ‬
‫(األنفال‪)26:‬‬
‫ويوم بدر كان المؤمنون فئة قليلة‪ ،‬وكان الن بي ‪ ‬ي راهم أمام ه حف اة‬
‫عراة جياعا فال يرسل بطلب التموين‪ ،‬وال يحزن لذلك‪ ،‬بل يرفع يدي ه يج أر‬
‫إلى هللا بقوله‪ (:‬اللهم إنهم حفاة فاحملهم‪ ،‬اللهم إنهم ع راة فاكس هم‪ ،‬اللهم إنهم‬
‫جياع فأشبعهم)(‪)1‬‬

‫يقول الراوي مخبرا عن أثر هذا الدعاء العظيم‪ (:‬ففتح هللا له يوم ب در‪،‬‬
‫فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إال وق د رج ع بجم ل أو جملين واكتس وا‬
‫وشبعوا)‬
‫وقد ذكر هللا ذلك المشهد‪ ،‬وأمر بأخ ذ الع برة من ه‪ ،‬فليس ه و بالمش هد‬
‫الخاص بأهل بدر‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬قَ ْد َكانَ لَ ُك ْم آيَةٌ فِي فِئَتَ ْي ِن ْالتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِ ُل فِي‬
‫َص ِر ِه َم ْن‬ ‫يل هَّللا ِ َوأُ ْخ َرى َك افِ َرةٌ يَ َروْ نَهُ ْم ِم ْثلَ ْي ِه ْم َر ْأ َ‬
‫ي ْال َع ْي ِن َوهَّللا ُ يُؤَ يِّ ُد بِن ْ‬ ‫َس بِ ِ‬
‫ْصار‪( ‬آل عمران‪)13:‬‬ ‫يَ َشا ُء إِ َّن فِي َذلِكَ لَ ِعب َْرةً أِل ُوْ لِي اأْل َب َ‬
‫وقبل ذلك ق ال هللا تع الى لموس ى علي ه الس الم وه و في بالط الح اكم‬
‫ك أَ ْنتَ اأْل َ ْعلَى‬ ‫ف إِنَّ َ‬ ‫الذي تصور نفسه إلها وخضع له الكل سجودا ‪  :‬اَل تَ َخ ْ‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود (‪)2747‬‬

‫‪30‬‬
‫‪(‬طه‪)68:‬‬
‫والقاعدة التي يغرسها الق رآن الك ريم في القل وب المؤمن ة ب ه بص يغة‬
‫المتكلم من هللا تعالى هي الوعد الذي يزرع في الم ؤمن الق وة ال تي ال تقه ر‬
‫ُس لَنَا َوالَّ ِذينَ آ َمنُ وا فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا‬ ‫قوة هللا تعالى‪،‬قال تعالى ‪ :‬إِنَّا لَنَن ُ‬
‫ص ُر ر ُ‬
‫َويَوْ َم يَقُو ُم اأْل َ ْشهَا ُد‪(‬غافر‪)51:‬‬
‫ولهذا ينهانا هللا أن نحزن ألننا مستض عفون أو ألنن ا منهزم ون أو ألن‬
‫غيرنا أقوى منا‪ ،‬ألن المؤمن مادام مع هللا فهو األقوى دائما‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫َواَل تَ ِهنُوا َواَل تَحْ زَ نُوا َوأَ ْنتُ ْم اأْل َ ْعلَوْ نَ إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ ‪(‬آل عمران‪)139:‬‬
‫ولهذا فإن هللا تعالى ينهانا عن الف رح البس يط الس اذج بقوان ا الض عيفة‬
‫المحدودة‪ ،‬والتي ستنقلب أحزانا عند زوالها ك أحزان المالكم العج وز ال ذي‬
‫يبكي كلما مسه أحد بسوء ألن يديه اللتين كانت ا ش عاره ورم زه وحقيقت ه ق د‬
‫زال عنهما تأثيرهما كما تط اير عن شمش ون ش عره‪ ،‬وم ع ش عره تط ايرت‬
‫قوته‪.‬‬
‫وهو يأمرنا بدل ذلك الفرح البسيط الزائ ل بف رح دائم كام ل ممت د ه و‬
‫الفرح بقوة هللا‪ ،‬نستمد منها كل ق وة وك ل عزيم ة وك ل إرادة‪ ،‬وال نستش عر‬
‫معها أي ضعف‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫العقل‬
‫الف رح بالعق ل ف رح متط ور عم ا قبل ه‪ ،‬ألن ه يك ون في ف ترة النض ج‬
‫لألفراد أو لألمم‪ ،‬بخالف الفرح بالهيئة أو القوة فإن ه يك ون في ف ترة الطيش‬
‫والمراهقة‪.‬‬
‫والقرآن الك ريم يع بر بالعق ل عن الق وة المتهيئ ة لقب ول العلم‪ ،‬أو للعلم‬
‫الذي يستفيده اإلنسان بتلك القوة‪ ،‬ومن ذلك قول اإلمام علي ‪:‬‬
‫وع‬ ‫ل فمطب‬ ‫رأيت العق‬
‫موع‬
‫ومسلم يك مطبوع‬ ‫إذا‬ ‫ينفع مس موع‬ ‫عقلين‬
‫وال‬
‫وض وء العين‬ ‫كم ا ال ينف ع‬
‫ممنعن كثير منوع‬
‫خلق ه‪ ،‬وله ذا مج ده‬ ‫مساإلنسان‬ ‫وهو الميزة الش‬
‫التي ميز هللا بها‬
‫اإلنسان شعرا ونثرا‪ ،‬يقول المتنبي‪:‬‬
‫رف من‬ ‫ٍ‬ ‫ل وال العق و ُل لك ان أدنى أدنى إِلى ش‬
‫للعقل لم يعطوه حق ه ا ِن‬
‫من التق دير‬ ‫اإلنس‬ ‫ضالبشر مع ذلك التمجيديع ٍُم‬
‫المعنوي ِ‬ ‫ولكن‬
‫المادي الواقعي‪ ،‬وكأن الش عراء المع برين عن ه ذا الواق ع المتأس فين علي ه‬
‫متفقون على ذلك البخس لحق العقل‪ ،‬يقول المتنبي‪:‬‬
‫النعيم وأخ و الجهال ِة في الش قاو ِة‬ ‫ِ‬ ‫وذو العق ِل يش قى في‬
‫ينع ُم‬ ‫ِه‬ ‫ويقول الشافعي‪:‬‬ ‫بعقل‬
‫بالعقل تعطى ما يري د لم ا ظف رتَ من ال دنيا‬ ‫ِ‬ ‫لو كنتَ‬
‫وق‬
‫ٍِ‬
‫ون‬ ‫بمس تَ أو َل مجن‬ ‫فلس‬ ‫برزقتَ ماالً على جه ٍل فعش هتَ‬
‫رزوق‬
‫ِ‬ ‫بم‬ ‫ه‬ ‫ويقول اآلخر‪:‬‬ ‫ب‬
‫اس مش نوءاً‬ ‫َ‬ ‫س بحانً من أن ز َل ال دنيا وم ي َز الن‬
‫َ‬
‫وموموقا َخ ِر ٌ‬
‫ق تلق اهُ َمرْ زوقا‬ ‫وجاه ٌل‬ ‫أعيت مذاهبُ هاُ‬
‫ْ‬ ‫منازل ٌهل فَ ِط ٌن‬
‫فعاق‬
‫ت‬
‫ارتزاق الق و ِ‬
‫ِ‬ ‫ولم ْ‬
‫يكن ب‬ ‫كأن ه من خليج الع رب‬
‫محقوقا‬ ‫ف‬‫ِر ٌ‬ ‫ويقول المعري‪:‬‬‫ُم ْغتَ‬
‫والعاق ُل المس رو ُر فيه ا‬ ‫في ه ذ ِه ال دنيا عج ائبُ‬
‫أعجبُ‬ ‫ةٌ‬ ‫جم‬

‫‪32‬‬
‫وينحى األبيوردي بالالئمة على العقل باعتب اره س بب هم وم اإلنس ان‬
‫فيقول‪:‬‬
‫قلت ومن لم يكن ذا ُم ْقل ٍة كي ف‬ ‫إِذا قَ َّل عق ُل الم ر ِء ْ‬
‫الش عراء‪ ،‬وال ذي ق د يت ألم ُد؟ص احبه‬ ‫والعقل ُم ال ذي يتح دث عن ههُه ؤالءيرم‬ ‫همو‬
‫ويشقى ويالقي العنت من الخلق هو العقل الذي يعقل صاحبه عن تصور م ا‬
‫ال يحق أو فعل ماال يليق مراعاة للخير‪ ،‬وحرصا على الحق‪ ،‬أما العقل الذي‬
‫هو مجرد وسيلة وآلة‪ ،‬والذي يأخ ذ حكم الوس ائل واآلالت‪ ،‬فيس تخدم للخ ير‬
‫والشر‪ ،‬وينصر الحق والباطل‪ ،‬ويستخدم أحبول ة ألغ راض النفس‪ ،‬وش باكا‬
‫لصيد الشهوات فهو العقل المصرح بذمه في القرآن الكريم‪ ،‬والمص رح ب ذم‬
‫الفرح به‪.‬‬
‫ومن أخط ار ه ذا الف رح االس تبداد ب الرأي وع دم اإلذع ان للح ق‪،‬‬
‫واستغالل طاقة العقل في الكيد والخديعة وإنشاء أفكار الضرار ال تي ت زاحم‬
‫ت فَ ِرحُوا بِ َما ِع ْن َدهُ ْم ِم ْن‬ ‫الدين الحق‪ ،‬قال تعالى ‪  :‬فَلَ َّما َجا َء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ق بِ ِه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَه ِْزئُون‪(‬غافر‪)83:‬‬ ‫ْال ِع ْل ِم َو َحا َ‬
‫ويخبر تعالى عن سليمان عليه السالم أنه لم يقبل الهدي ة ال تي أرس لت‬
‫له ألنها كانت من إرسال عقل مخادع يريد أن يشتري نبيا ببضاعة مزج اة‪،‬‬
‫فلذلك اشتد غضب سليمان من ذل ك العق ل ومن ت دبيره‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬فَلَ َّما‬
‫َجا َء ُسلَ ْي َمانَ قَا َل أَتُ ِم ُّدونَنِي بِ َما ٍل فَ َما آتَانِي هَّللا ُ َخ ْي ٌر ِم َّما آتَا ُك ْم بَ لْ أَ ْنتُ ْم بِهَ ِديَّتِ ُك ْم‬
‫تَ ْف َر ُح ونَ ‪( ‬النم ل‪ ،)36:‬ألن ق وم س بأ أرادوا أن يظه روا بعض م ا أوت وا‬
‫لسليمان ليرشوه به‪ ،‬ولكنه نظر إلى ما أنعم هللا عليه‪ ،‬فلم يجد هديتهم تساوي‬
‫شيئا أمامه‪.‬‬
‫وهذا العقل الذي يفرح به صاحبه عقل مذموم‪ ،‬وص احبه مخ ادع قب ل‬
‫أن يكون مخادعا‪ ،‬فهو يعامل بعكس مقصوده‪ ،‬ق ال تع الى عن المن افقين‪ :‬‬
‫يُخَ ا ِد ُعونَ هَّللا َ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َما يَ ْخ َد ُعونَ إِاَّل أَنفُ َسهُ ْم َو َم ا يَ ْش ُعرُونَ ‪(‬البق رة‪:‬‬
‫‪ ،)9‬وق ال تع الى ‪ :‬إِ َّن ْال ُمنَ افِقِينَ يُ َخ ا ِد ُعونَ هَّللا َ َوهُ َو َخ ا ِد ُعهُ ْم ‪( ‬النس اء‪:‬‬
‫‪)142‬‬
‫و العلم كالعق ل ليس خ يرا مطلق ا وال ش را مطلق ا‪ ،‬ب ل ه و بحس ب‬
‫صاحبه‪ ،‬ولذلك ورد في القرآن بصيغتي المدح وال ذم‪ ،‬ونهي عن الف رح ب ه‬
‫لذاته وتعظيمه لذاته لما ينجر عن ذلك الفرح واإلعجاب من مخاطر ربما لم‬
‫يدرك عصر من العصور منها ما أدرك ه ه ذا العص ر‪ ،‬ق ال تع الى ض اربا‬

‫‪33‬‬
‫انس لَ َخ ِم ْنهَ ا فَأ َ ْتبَ َع هُ‬
‫المث ل بمن قبلن ا‪َ  :‬وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَ أ َ الَّ ِذي آتَ ْينَ اهُ آيَاتِنَ ا فَ َ‬
‫َاوينَ ‪(‬األعراف‪ ،)175:‬فهذا العلم ال ذي ج ر ص احبه‬ ‫ان فَ َكانَ ِم ْن ْالغ ِ‬ ‫ال َّش ْيطَ ُ‬
‫إلى الغواية بسبب فرحه به وخلوده إلى األرض كم ا عقب تع الى على ذل ك‬
‫ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل‬ ‫بقوله‪َ  :‬ولَوْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ك َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَ ا‬ ‫ث َذلِ َ‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْكهُ يَ ْلهَ ْ‬ ‫ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ‬
‫ْال َك ْل ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ‪(‬األعراف‪)176:‬‬ ‫ص َ‬ ‫فَا ْقصُصْ ْالقَ َ‬
‫وهذا المثال يكاد ينطبق تماما على الكث ير من اكتش افات ه ذا العص ر‬
‫حيث تلهث البشرية كل حين وفي كل مجال‪ ،‬وحيث استغل العلم ليغذي ذلك‬
‫اللهث الذي ال ينقطع‪ ،‬بل اعتبر ما عداه من العلوم اإلنس انية مج رد ثقاف ات‬
‫عامة ال تمت بصلة للعلم‪ ،‬ولذلك اختار القرآن الكريم مثال الكلب ليشبه تل ك‬
‫الحيرة‪ ،‬قال القتي بي‪ (:‬ك ل ش يء يلهث فإنم ا يلهث من إعي اء أو عطش‪ ،‬إال‬
‫الكلب فإنه يلهث في حال الكالل وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة‬
‫وح ال ال ري وح ال العطش‪ .‬فض ربه هللا مثال لمن ك ذب بآيات ه فق ال‪ :‬إن‬
‫وعظته ضل وإن تركته ضل; فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث)‬
‫ويضرب القرآن الكريم المثل على ذل ك بط اغيتين ك ان الف رح ب العلم‬
‫أحد أسباب طغيانهما هما قارون وفرعون ‪:‬‬
‫أما قارون فأجاب الصالحين من قومه الذبن نهوه عن الفرح بم ا عن ده‬
‫عن ِدي ‪ ‬وعقب هللا تعالى على ذل ك بقول ه‪ :‬‬ ‫بقوله ‪  :‬إِنَّ َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم ِ‬
‫أَ َولَ ْم يَ ْعلَ ْم أَ َّن هَّللا َ قَ ْد أَ ْهلَكَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ِم ْن القُ رُو ِن َم ْن هُ َو أَ َش ُّد ِم ْن هُ قُ َّوةً َوأَ ْكثَ ُر‬
‫َج ْمعًا َواَل يُسْأ َ ُل ع َْن ُذنُوبِ ِه ْم ْال ُمجْ ِر ُمونَ ‪(‬القصص‪ )78:‬ليبين أن علم ه ذل ك‬
‫جهل مادام قد صرفه عن ربه‪ ،‬وصرفه قبل ذلك عن نفسه‪.‬‬
‫أما فرعون فقد هاله مارآه في عصره من اكتشافات واختراع ات فظن‬
‫أن هللا يدرك ب اختراع من االختراع ات مثلم ا يفعل ون اآلن عن دما يري دون‬
‫البحث عن الروح أو العالم اآلخر من خلف المناظير والمجاهر قال تع الى ‪:‬‬
‫ان‬‫ت لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ِري فَأَوْ قِ ْد لِي يَاهَا َم ُ‬ ‫‪َ ‬وقَا َل فِرْ عَوْ ُن يَاأَيُّهَا ْال َمأَل ُ َما َعلِ ْم ُ‬
‫وس ى َوإِنِّي أَل َظُنُّهُ ِم ْن‬ ‫ص رْ حًا لَ َعلِّي أَطَّلِ ُع إِلَى إِلَ ِه ُم َ‬ ‫ين فَاجْ َع ل لِي َ‬ ‫َعلَى الطِّ ِ‬
‫ْال َكا ِذبِينَ ‪(‬القصص‪)38:‬‬
‫ولكن ذلك ليس خاصا بق ارون أوفرع ون فهم ا مج رد نم اذج‪ ،‬وله ذا‬
‫ض ٌّر َدعَانَ ا ثُ َّم إِ َذا‬ ‫تأتي القاعدة العامة في قول ه تع الى ‪  :‬فَ إ ِ َذا َمسَّ اإْل ِ ْن َس انَ ُ‬
‫َخ َّو ْلنَ اهُ نِ ْع َم ةً ِمنَّا قَ ا َل إِنَّ َم ا أُوتِيتُ هُ َعلَى ِع ْل ٍم بَ لْ ِه َي فِ ْتنَ ةٌ َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َرهُ ْم اَل‬

‫‪34‬‬
‫يَ ْعلَ ُمونَ ‪( ‬الزمر‪ ،)49:‬فتلك النعم‪ ،‬وذلك العلم الذي استدل به عليه ا مج رد‬
‫فتنة وابتالء‪.‬‬
‫والقرآن يشير هنا إلى خطر فتن ة العلم‪ ،‬العلم ال ذي اتخ ذ في كث ير من‬
‫أحقاب التاريخ مبررا لإللحاد وغطاء للكفر وسبيال للتنصل من التكاليف‪.‬‬
‫ولذلك فإن أول ما يبدأ ب ه الق رآن الك ريم في تربيت ه للنف وس المؤمن ة‬
‫وتأمينها من فتنة العقل و العلم والحد من طغيانهم ا الناش ئ من ف رط الف رح‬
‫بهما بيان أن ذلك العلم الذي تفخر به البشرية‪ ،‬والذي تعتبره نتيجة من نتائج‬
‫عقولها الجبارة‪ ،‬عاري ة وليس ملك ا‪ ،‬والعاري ة ال يف رح به ا وإنم ا تس تعمل‬
‫للحاج ة والض رورة‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ :‬وهَّللا ُ أَ ْخ َر َج ُك ْم ِم ْن بُطُ و ِن أُ َّمهَ اتِ ُك ْم اَل‬
‫صا َر َواأْل َ ْفئِ َدةَ لَ َعلَّ ُك ْم ت َْش ُكرُونَ ‪(‬النح ل‪:‬‬ ‫تَ ْعلَ ُمونَ َش ْيئًا َو َج َع َل لَ ُك ْم ال َّس ْم َع َواأْل َ ْب َ‬
‫‪)78‬‬
‫فكما بدأ اإلنسان أول خلقته جاهال فكذلك يختم له بالجهل‪ ،‬قال تع الى ‪:‬‬
‫‪َ ‬وهَّللا ُ َخلَقَ ُك ْم ثُ َّم يَتَ َوفَّا ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َك ْي اَل يَ ْعلَ َم بَ ْع َد ِع ْل ٍم‬
‫َش ْيئًا إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم قَ ِدير‪(‬النحل‪)70:‬‬
‫فاإلنسان محدود العلم من حيث مدة علمه التي ال تتج اوز ف ترة حيات ه‬
‫القصيرة‪ ،‬والتي يزاحم مزاولته للعلم فيها شؤون حيات ه الكث يرة‪ ،‬وم ع ذل ك‬
‫فهو محدود نوعية العلم أيضا حتى أن معارفه ال تي ال تتج اوز حيات ه ال دنيا‬
‫اس اَل يَ ْعلَ ُمون يَ ْعلَ ُمونَ ظَ ا ِهرًا‬ ‫قدتوصف بالجهل قال تعالى ‪َ :‬ولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫ِم ْن ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم ع َْن اآْل ِخ َر ِة هُ ْم غَافِلُونَ ‪(‬الروم‪)7:‬‬
‫وق وانين الحي اة ال دنيا في جمي ع مجاالته ا ليس ت هي ق وانين الحي اة‬
‫اآلخ رة‪ ،‬فال ذي ف رح في ال دنيا واخت ال زه وا بكون ه طبيب ا ملم ا ب األدواء‬
‫وشفائها‪ ،‬قاصرا فكره على ذلك‪ ،‬سيصبح يوم القيامة بل بع د موت ه مباش رة‬
‫جاهال كغيره ممن ظن أنه تميز عنهم‪ ،‬ألن أجساد أهل القيامة ال تحت اج إلى‬
‫دواء‪ ،‬فهم بين صحيح ال يمرض أو مريض ال يصح وال يموت‪.‬‬
‫ولذلك فإن الحقيقة األولى التي يقررها القرآن الكريم في النفس هي أن‬
‫أكثر الناس ال يعلمون‪ ،‬وتلك القل ة ال تي تعلم ال تعلم إال قليال‪،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫ر َربِّي َو َم ا أُوتِيتُ ْم ِم ْن ْال ِع ْل ِم إِاَّل قَلِياًل ‪‬‬ ‫وح قُلْ الرُّ و ُح ِم ْن أَ ْم ِ‬ ‫ك ع َْن الرُّ ِ‬ ‫َويَسْأَلُونَ َ‬
‫(اإلسراء‪)85:‬‬
‫وبع د أن تستش عر النفس حقيق ة جهله ا‪ ،‬وتعلم أن جهله ا أص ل ث ابت‬
‫فيها‪ ،‬وأن ما تعرفه عارية ال ينبغي أن تفرح لها يع ود الق رآن ليؤس س فيه ا‬

‫‪35‬‬
‫العلم الحقيقي ويشعرها بالكيفية التي ينبغي لها أن تنظر بها للعلم‪ ،‬وتفرح به‬
‫من خاللها‪ ،‬فيبدأ ببيان أن العالم الوحيد في هذا الك ون ه و هللا‪ ،‬وأن ك ل من‬
‫ق ُك ِّل ِذي ِع ْل ٍم َعلِي ٌم ‪(‬يوس ف‪:‬‬ ‫أوتي علما فاهلل أعلم منه‪ ،‬قال تع الى ‪َ :‬وفَ وْ َ‬
‫‪)76‬‬
‫ولذلك فإن كل ما عداه متعلم منه ومستفيد منه‪ ،‬يقول تعالى مخبرا عن‬
‫جواب المالئكة بعد أن رأوا ما رزق ه آدم من العلم‪ :‬قَ الُوا ُس ْب َحانَكَ اَل ِع ْل َم‬
‫لَنَا إِاَّل َما َعلَّ ْمتَنَا إِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َعلِي ُم ْال َح ِكيم‪( ‬البقرة‪)32:‬‬
‫وأول من يفعل ه من يعرف ه هات ه الحق ائق ‪:‬جهل ه وعلم هللا واس تفادته‬
‫العلم من هللا‪ ،‬هو أن يخضع متواضعا هلل ال يهزه الزهو وال يغره الفرح‪،‬قال‬
‫تع الى ‪ :‬قُ لْ آ ِمنُ وا بِ ِه أَوْ اَل تُ ْؤ ِمنُ وا إِ َّن الَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِع ْل َم ِم ْن قَ ْبلِ ِه إِ َذا يُ ْتلَى‬
‫ان ُس َّجدًا‪(‬اإلسراء‪)107:‬‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم يَ ِخرُّ ونَ لِأْل َ ْذقَ ِ‬
‫وكل من خر ساجدا هلل فإنه لن يستعبد خلق هللا ولن يؤذيهم بعلمه‪ ،‬ولن‬
‫يخترع األسلحة النووية‪ ،‬وال القنابل الجرثومية‪ ،‬ولن يجعل من البشر فئران‬
‫تجارب يرضي من خاللهم أصناف شذوذه‪ ،‬وبعبارة قرآنية لن يقول للخل ق‪:‬‬
‫كونوا عبادا لي من دون هللا‪ ،‬قال تعالى ‪َ  :‬ما َكانَ لِبَ َش ٍر أَ ْن ي ُْؤتِيَهُ هَّللا ُ ْال ِكت َ‬
‫َاب‬
‫ون هَّللا ِ َولَ ِك ْن ُكونُ وا‬ ‫اس ُكونُ وا ِعبَ ادًا لِي ِم ْن ُد ِ‬ ‫َو ْال ُح ْك َم َوالنُّبُ َّوةَ ثُ َّم يَقُ و َل لِلنَّ ِ‬
‫َاب َوبِ َما ُكنتُ ْم تَ ْد ُرسُونَ ‪(‬آل عمران‪)79:‬‬ ‫َربَّانِيِّينَ بِ َما ُك ْنتُ ْم تُ َعلِّ ُمونَ ْال ِكت َ‬
‫وأول ما يفعله العقل بأمثال ه ؤالء ه و أن يعقلهم‪ ،‬وأن يض بط جم اح‬
‫أهوائهم‪ ،‬وأن يحتل مكانه ال ذي أهل ه هللا ل ه ال يع دوه‪ ،‬وه و مك ان ش ريف‬
‫منيف‪ ،‬ولكن هللا نفاه عن غير المؤمنين به ولو كانوا في التصورات البشرية‬
‫قمما في الفكر والرأي واإلبداع‪ ،‬ألن كل فكر يبع د عن هللا ه وى‪ ،‬وك ل علم‬
‫يبشر بغير هللا وسواس‪ ،‬وكل رأي يحارب هللا ضاللة‪.‬‬
‫فلذلك كل ما ورد في القرآن الكريم من وصف للكفار بأنهم ال يعقل ون‬
‫ال يراد به ذلك البدوي الجلف الغليظ الذي ناوأ النبي ‪ ‬فقط‪ ،‬وإنما يراد ب ه‬
‫كل ملحد أو محارب هلل ورسوله‪ ،‬ولو علقت على صدره النياشين‪ ،‬ونص بت‬
‫له التماثيل‪ ،‬وت رك خلف ه أطن ان األوراق‪ ،‬ألن تل ك األطن ان تنمحي جميع ا‬
‫أمام كلمة كفر واحدة يجحد بها الحق‪ ،‬ويناوئ بها أهله‪.‬‬
‫ق بِ َما اَل يَ ْس َم ُع إِاَّل ُدعَا ًء‬ ‫قال تعالى ‪َ  :‬و َمثَ ُل الَّ ِذينَ َكفَرُوا َك َمثَ ِل الَّ ِذي يَ ْن ِع ُ‬
‫ي فَهُ ْم اَل يَ ْعقِلُونَ ‪( ‬البقرة‪)171:‬‬ ‫ص ٌّم بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ‬
‫َونِدَا ًء ُ‬
‫وفي هذه اآلية تشبيه بليغ للمؤمن الذي ق د يك ون مح دود الثقاف ة وم ع‬

‫‪36‬‬
‫ذلك يخاطب الكفار الذين قد يكون منهم العلم اء والب احثون وأه ل الفك ر فال‬
‫يسمعون إال صوته‪ ،‬وال يفهمون ما يق ول‪ ،‬أوق د يض حكون مم ا يق ول‪ ،‬فهم‬
‫كالراعي الذي ينعق بالغنم واإلب ل فال تس مع إال دع اءه ون داءه وال تفهم م ا‬
‫يقوال‪ ،‬ألن موجات الحديث مختلفة‪ ،‬وطريق ة التفك ير مختلف ة‪ ،‬وبع د النظ ر‬
‫متفاوت‪.‬‬
‫وكثيرا ما نرى عقال جبارا يحل أعقد المعضالت الرياض ية‪ ،‬أو عق ل‬
‫اقتصادي يحل أفتك أزمات مجاعة‪ ،‬أو عقل فيلسوف يقس م الش عرة بذكائ ه‪،‬‬
‫ولكنه إذا ما حدث عن أبسط القضايا اإليمانية صعر خده ولوى عنقه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫هذه قضايا هامشية‪ ،‬أو مسائل غير مطروحة‪،‬ورضي بأن يموت على إلح اد‬
‫أو على إيمان ال وجود ألي أثر له في حياته‪.‬‬
‫ويش به هللا أمث ال ه ؤالء باألنع ام تش بيها ص ريحا في الق رآن وفي‬
‫مواضع كثيرة‪ ،‬بل يزيد في تفض يل األنع ام عليهم‪ ،‬يق ول تع الى ‪  :‬إِ َّن َش َّر‬
‫البُ ْك ُم ال َّ ِذينَ اَل يَ ْعقِلُونَ ‪( ‬المائدة‪ ،)22:‬ويقول تعالى ‪ :‬‬ ‫ال َّد َوابِّ ِع ْن َد هَّللا ِ الصُّ ُّم ْ‬
‫أَ ْم تَحْ َسبُ أَ َّن أَ ْكثَ َرهُ ْم يَ ْس َمعُونَ أَوْ يَ ْعقِلُ ونَ إِ ْن هُ ْم إِاَّل َكاأْل َ ْن َع ِام بَ لْ هُ ْم أَ َ‬
‫ض لُّ‬
‫َسبِياًل ‪(‬الفرقان‪)44:‬‬
‫ألن هؤالء الذين يتيهون بمعارفهم وصنائعهم الدنيوي ة البس يطة يوج د‬
‫ما يماثلها في الحيوانات التي لم تدرس في الجامع ات‪ ،‬ولم تق رأ الكتب‪ ،‬ولم‬
‫تتلق أي تدريبات‪ ،‬فإن أي عنكبوت يتحدى أبرع مهندس‪ ،‬وأي نمل ة تتح دى‬
‫وزارة تموين‪ ،‬وأي نحلة تفوز على جميع خبراء التغذية‪ ،‬بل أي نب ات يفق ه‬
‫أسرار الجو كما ال يفقهه خبراء اإلرصاد فيلبس لكل مناخ لبوسه‪.‬‬
‫وفي العقل العملي‪ ،‬العقل ال ذي يرش د للفض يلة وي دعو للخ ير وينتهج‬
‫نهج الحكمة‪ ،‬ينفي هللا عن غير المتأدبين بفضائله اسم العقل‪ ،‬يقول تعالى ‪ :‬‬
‫ت أَ ْكثَ ُرهُ ْم اَل يَ ْعقِلُ ونَ ‪(‬الحج رات‪،)4:‬‬ ‫إِ َّن الَّ ِذينَ يُنَا ُدونَ كَ ِم ْن َو َرا ِء ْال ُح ُج َرا ِ‬
‫ك بِ أَنَّهُ ْم قَ وْ ٌم‬‫صاَل ِة اتَّ َخ ُذوهَا هُ ُز ًوا َولَ ِعبًا َذلِ َ‬‫ويقول تعالى ‪َ :‬وإِ َذا نَا َد ْيتُ ْم إِلَى ال َّ‬
‫اَل يَ ْعقِلُونَ ‪(‬المائدة‪)58:‬‬
‫والعقل العملي كالعقل النظري‪ ،‬كالهما وجهان لعمل ة واح دة‪ ،‬فس لوك‬
‫المرء العملي دليل على عقله النظري‪ ،‬وتفكيره النظ ري ال ذي ق د ال يجس ر‬
‫على التصريح به هو الهادي لسلوكه العملي‪ ،‬وهؤالء الذين لم يحترموا نبي ا‬
‫رسوال من هللا إليهم‪ ،‬ولم يعرفوا منزلته‪ ،‬ونادوه كما ين ادي بعض هم بعض ا‪،‬‬
‫وأولئك الذين لم يحترموا نداء ربهم بالصالة وجعلوه موضعا للندرة والنكت ة‬

‫‪37‬‬
‫كالهما العقل ل ه‪ ،‬ألنهم ا لوكان ا يعقالن لعرف ا هللا وعرف ا الرس ول وعرف ا‬
‫كيف يتعامالن مع هللا والرسول‪.‬‬
‫ولهذا فإن المؤمن الكامل اإليمان‪ ،‬واإلنسان المكتمل اإلنسانية‪ ،‬هو من‬
‫صفا جوهر عقله فأصبح محال لكل حق ولكل خير‪ ،‬وليس ذلك إال للم ؤمن‪،‬‬
‫ولهذا يقصر هللا وصف العقل عليهم في نفس الوقت ال ذي يقل ل من ع ددهم‪،‬‬
‫اس َو َم ا يَ ْعقِلُهَ ا إِاَّل ْال َع الِ ُمونَ ‪‬‬ ‫َض ِربُهَا لِلنَّ ِ‬ ‫ق ال تع الى ‪َ  :‬وتِ ْل كَ اأْل َ ْمثَ ا ُل ن ْ‬
‫(العنكبوت‪)43:‬‬
‫فآيات هللا وأمثاله ال يفهمها أو يعقلها إال العالمون أصحاب العقول‪،‬قال‬
‫عمرو بن مرة‪ ( :‬ما مررت بآي ة من كت اب هللا ال أعرفه ا إال أحزن ني ألني‬
‫اس َو َم ا يَ ْعقِلُهَ ا إِاَّل‬
‫َض ِربُهَا لِلنَّ ِ‬ ‫س معت هللا تع الى يق ول‪َ  :‬وتِ ْل كَ اأْل َ ْمثَ ا ُل ن ْ‬
‫ْال َعالِ ُمونَ ‪( ‬العنكبوت‪)43:‬‬
‫وآيات هللا ليس المراد بها آيات القرآن الكريم فقط‪ ،‬بل هي ك ل آي ة في‬
‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬‫ق َّ‬ ‫خَل ِ‬ ‫الس موات واألرض‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬إِ َّن فِي ْ‬
‫ب‪( ‬آل عمران‪)190:‬‬ ‫ت أِل ُولِي اأْل َ ْلبَا ِ‬ ‫ف اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫ار آَل يَا ٍ‬ ‫اختِاَل ِ‬‫َو ْ‬
‫وأولو األلباب في هذه اآلية ليس الم راد بهم علم اء الفل ك أو ال ذرة أو‬
‫الجيولوجيا فقط ممن عرفوا كثيرا من خبايا الكون‪ ،‬وإنما ك ل م ؤمن ع رف‬
‫أن له ذه الس موات رب ا وتوج ه إلي ه بالعب ادة‪ ،‬أم ا غ يره ممن اقتص ر على‬
‫مشاهدة اآلية أو تحليلها‪ ،‬ولم يعبر منها إال هللا فيصدق علي ه قول ه تع الى‪ :‬‬
‫ض ونَ ‪‬‬ ‫ْر ُ‬ ‫ض يَ ُمرُّ ونَ َعلَ ْيهَا َوهُ ْم َع ْنهَ ا ُمع ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫َو َكأَي ِّْن ِم ْن آيَ ٍة فِي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫(يوسف‪ ،)105:‬وقوله تعالى ‪َ  :‬و َج َع ْلنَا ال َّس َما َء َس ْقفًا َمحْ فُوظًا َوهُ ْم ع َْن آيَاتِهَا‬
‫ْرضُونَ ‪(‬األنبياء‪)32:‬‬ ‫ُمع ِ‬
‫ب في الق رآن الك ريم في س تة عش ر‬ ‫وق د ورد ه ذا اللقب أُوْ لُ وا اأْل َ ْلبَ ا ِ‬
‫موض عا كله ا قاص رة على المؤم نين أص حاب العق ول الن يرة‪ ،‬و اللب ه و‬
‫العقل الخالص من الشوائب‪ ،‬وسمي بذلك لكونه خ الص م ا في اإلنس ان من‬
‫معانيه‪ ،‬كاللباب واللب من الشيء‪ ،‬وهذا يشير إلى أن العقول األخ رى ال تي‬
‫تتيه فرحا بنفسها ما هي إال غاللة وقشرة ومظهر بسيط يستر العقل الحقيقي‬
‫الذي جعله هللا للكمل من عباده‪ ،‬والفرح بتلك القش رة واالنش غال به ا يح ول‬
‫بين اإلنسان وال ترقي للكم ال ال ذي سيص له حتم ا إن رج ع إلى هللا‪ ،‬وف رح‬
‫بنعمة العقل المستعبد هلل ال للنفس وال للهوى وال للشيطان‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫الزينة‬
‫الزين ة هي تل ك المظ اهر ال تي تنبت من ج ذور القلب المغ ذى بم ادة‬
‫ال تزيين‪ ،‬وال تزيين ه و نفخ ة الف رح ال تي يتلقاه ا القلب بحس ب قابليت ه‬
‫واس تعداده‪ ،‬ون افخو م ادة ال تزيين مختلف ون ومتع ادون ومتناقض ون‪ ،‬منهم‬
‫الناص ح الغ ارق في نص حه‪ ،‬ومنهم الع دو الموغ ل في عداوت ه‪ ،‬ومنهم‬
‫األحمق الذي لم يستطع أن يميز نفسه في إح دى الط ائفتين‪ ،‬ومنهم المخ ادع‬
‫والمنافق والمراوغ‪ ،‬كما أن منهم المحب والحنون والوديع‪.‬‬
‫ومادة النفخ متعددة متضاربة‪ ،‬منها العسل المصفى واإلكسير األحم ر‬
‫والترياق الشافي‪ ،‬ومنها السم الزعاق والموت األسود والداء العضال‪.‬‬
‫وطريق ة الف رح بنفخ ة ال تزيين تختل ف ص ورها ب اختالف أل وان‬
‫االبتسامات وأصوات القهقهة وضروب الرقص والغناء‪.‬‬
‫والقابلون أللوان التزيين كالمعادن المختلف ة المتناقض ة منه ا الج وهر‬
‫النفيس والذهب اإلبريز‪ ،‬ومنها الحديد والزنك والرصاص‪.‬‬
‫بهذه الص ور المتع ددة المتض اربة يتح دث الق رآن الك ريم عن الزين ة‬
‫والتزيين ليرسم الحقيقة أمامنا بكل معانيها‪ ،‬ويصورها بكل مشاهدها لنختار‬
‫ما يتناسب مع قابلية قلوبنا وجوهر استعدادنا‪.‬‬
‫ولكنه ـ كطريقته مع كل شيء نشتغل به ونشغل أنفسنا وتنسينا غم رة‬
‫الف رح المت دفق من ش رايين قلوبن ا بم اذا نش تغل وعم ا نش غل ـ ينهان ا عن‬
‫الفرح‪ ،‬ويأمرنا بإضفاء السكينة على قلوبنا وعقولنا لنراجع ذواتن ا ونراج ع‬
‫الكون من حولنا ونراجع الحقائق التي ينطق بها هذا الكون‪ ،‬ألن الفرح ريح‬
‫عاصف تقلع أشجار الفكر من عقولنا‪ ،‬ونشوة غامرة قد تلمس القل وب لمس ا‬
‫رقيق ا وق د تجرحه ا فتص ير ك المرآة المخدوش ة تتش وه في عينه ا ص ور‬
‫األشياء‪.‬‬
‫أك ثر م ا ورد في الق رآن الك ريم من م ادة زين ـ وال تي تك ررت في‬
‫القرآن الكريم في ستة وأربعين موض عا ـ ورد بص يغة ف ّع ل المش ددة ال تي‬
‫تعني أن هناك أطرافا ثالثة ترتبط بالزينة هي‪ :‬الزينة والمزين و المزين له‪،‬‬
‫والقرآن الكريم تحدث عن ه ذه األط راف الثالث ة وص نفها وبين عاقب ة ك ل‬
‫صنف منها‪.‬‬
‫وال يمكن تص نيف اآلي ات القرآني ة ال واردة في ذل ك بحس ب ه ذه‬

‫‪39‬‬
‫األرك ان‪ ،‬ألن ك ل آي ة بإعجازه ا وعمقه ا وحيويته ا تح وي ك ل األرك ان‪،‬‬
‫وتضم كل األصناف وتخاطب كل النفوس‪.‬‬
‫وأكثر ما يشير إليه القرآن الكريم من مواضيع الزينة التي وضعت في‬
‫القلوب ولم تجبل عليها هي زين ة الحي اة ال دنيا‪ ،‬وي أتي التعب ير الق رآني عن‬
‫هذه الزينة‪ ،‬وهو يحمل في كل كلم ة من ه م ا يش ير إلى الس م الزع اق ال ذي‬
‫تحويه هذه الزينة والهالك العظيم الذي ينتظر الشاربين من ذلك السم‪ ،‬يق ول‬
‫تعالى ‪ُ :‬زيِّنَ لِلَّ ِذينَ َكفَ رُوا ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا َويَ ْس َخرُونَ ِم ْن الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوالَّ ِذينَ‬
‫ق َم ْن يَ َشا ُء بِ َغي ِْر ِح َساب‪( ‬البقرة‪)212:‬‬ ‫اتَّقَوْ ا فَوْ قَهُ ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َوهَّللا ُ يَرْ ُز ُ‬
‫ف أول لف ظ في اآلي ة ه و ( ُزيِّنَ ) ويش ير بلفظ ه وروح ه إلى أن ذل ك‬
‫المزين قد كس ي من األث واب ووض ع علي ه من المس احيق م ا أحال ه حس نا‬
‫وجميال‪ ،‬وإن كان قبيحا ودميما‪ ،‬فالمزين ليس جميال بالضرورة‪ ،‬ولهذا يبين‬
‫القرآن الكريم كثيرا من مظ اهر ال تزيين ال تي ال تتناس ب م ع ك ل األذواق‪،‬‬
‫ولكن القلوب المستعدة لذلك التزيين تتناسب معها وتف رح به ا وتتعجب ممن‬
‫ال يتذوق حالوتها‪.‬‬
‫ومنها تلك القلوب التي أودعت فلذات أكبادها ج وف ال ثرى مخاف ة أن‬
‫تقتسم معها لقمة العيش أو مخافة الس بة والع ار‪ ،‬وهي تبتس م فرح ا‪ ،‬وكأنه ا‬
‫ير ِم ْن‬ ‫تخلصت من وزر ثقيل ينوء به ظهرها‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬و َك َذلِ َ‬
‫ك َزيَّنَ لِ َكثِ ٍ‬
‫ْال ُم ْش ِر ِكينَ قَ ْت َل أَوْ اَل ِد ِه ْم ُش َر َكا ُؤهُ ْم لِيُرْ ُدوهُ ْم َولِيَ ْلبِسُوا َعلَ ْي ِه ْم ِدينَهُ ْم َولَوْ َشا َء هَّللا ُ‬
‫َما فَ َعلُوهُ فَ َذرْ هُ ْم َو َما يَ ْفتَرُونَ ‪(‬األنعام‪)137:‬‬
‫ومنه ا ال تي اس تحلت ألس نتها الطافح ة ب ألوان الخبث س ب هللا تع الى‬
‫وكأن ه حل وى لذي ذة أو فاكه ة ش هية‪ ،‬وق د نهي المس لمون عن س بهم أو‬
‫مناقشتهم في ذلك ألن حالوة الكفر قد تشربتها قل وبهم وذاقت ل ذتها وتمكنت‬
‫منه ا‪ ،‬وف رق كب ير بين مج رد الكف ر وبين الكف ر الم زين في القلب‪ ،‬وله ذا‬
‫يكون أبعد الناس عن اتباع الرسل رجال الدين الذين استحلوا صناعة التدين‬
‫وتمكنت من قل وبهم‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ :‬واَل ت َُس بُّوا الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ ِم ْن ُدو ِن هَّللا ِ‬
‫ك زَ يَّنَّا لِ ُك ِّل أُ َّم ٍة َع َملَهُ ْم ثُ َّم إِلَى َربِّ ِه ْم َم رْ ِج ُعهُ ْم‬‫فَيَ ُسبُّوا هَّللا َ َع ْد ًوا بِ َغ ْي ِر ِع ْل ٍم َك َذلِ َ‬
‫فَيُنَبِّئُهُ ْم بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ‪( ‬األنعام‪)108:‬‬
‫ومنها القلوب المصرة العني دة ال تي تحملت ألواء الش دائد وهي تقبض‬
‫ألسنتها بشدة عن دعاء هللا استغناء عن هللا وترفعا عنه كما يقبض الل ئيم ي ده‬
‫عن الكريم حسدا وتعاظما واس تنكافا‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬فَلَ وْ اَل إِ ْذ َج ا َءهُ ْم بَأْ ُس نَا‬

‫‪40‬‬
‫ان َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ‪( ‬األنع ام‪:‬‬ ‫ت قُلُوبُهُ ْم َوزَ يَّنَ لَهُ ْم ال َّش ْيطَ ُ‬ ‫َض َّر ُعوا َولَ ِك ْن قَ َس ْ‬ ‫ت َ‬
‫‪)43‬‬
‫ومنه ا القل وب ال تي ينق ل الق رآن الك ريم عجب الهده د منه ا‪ ،‬وه و‬
‫الحي وان الص غير الض عيف ص احب الجمجم ة الص غيرة والطاق ة الفكري ة‬
‫الضعيفة حين رآها تعفر الثرى لمخلوق مثلها‪ ،‬لم يخطر على باله ق ط وه و‬
‫الحي وان أن هن اك من ي بيع هللا بأش عته الحارق ة أو الدافئ ة‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫ان أَ ْع َم الَهُ ْم‬ ‫ون هَّللا ِ َوزَ يَّنَ لَهُ ْم َّ‬
‫الش ْيطَ ُ‬ ‫س ِم ْن ُد ِ‬ ‫لش ْم ِ‬‫َو َج ْدتُهَا َوقَوْ َمهَا يَ ْس ُج ُدونَ لِ َّ‬
‫ص َّدهُ ْم ع َْن ال َّسبِي ِل فَهُ ْم اَل يَ ْهتَ ُدونَ ‪(‬النمل‪)24:‬‬ ‫فَ َ‬
‫ومنها العقول التي اقتنعت بأحك ام معين ة‪ ،‬ثم تالعبت في تطبيقه ا بم ا‬
‫يحيله ا ص ورا بال مع اني‪ ،‬وأجس اما بال أرواح‪ ،‬ومن ه ؤالء ‪ :‬المش ركون‬
‫الذين ضموا إلى كفرهم تالعبهم باألش هر الح رم ال تي ك انت بقي ة من بقاي ا‬
‫الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السالم فحولوا ش هرا عن ش هرا مراع اة‬
‫لمصالحهم القاص رة المحرم ة ال تي ال تتحق ق إال باإلض رار بغ يرهم‪ ،‬ق ال‬
‫ُض لُّ بِ ِه الَّ ِذينَ َكفَ رُوا ي ُِحلُّونَ هُ عَا ًم ا‬ ‫تعالى ‪ :‬إِنَّ َما النَّ ِسي ُء ِزيَا َدةٌ ِفي ْال ُك ْف ِر ي َ‬
‫اطئُوا ِع َّدةَ َما َح َّر َم هَّللا ُ فَي ُِحلُّوا َما َح َّر َم هَّللا ُ ُزيِّنَ لَهُ ْم ُس و ُء‬
‫َوي َُحرِّ ُمونَهُ عَا ًما لِيُ َو ِ‬
‫أَ ْع َمالِ ِه ْم َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْال َكافِ ِرينَ ‪( ‬التوبة‪)37:‬‬
‫والخالصة التي يعطيها القرآن الكريم في ذلك هي أن كل االنحراف ات‬
‫ال تي وقعت فيه ا ال ديانات والم ذاهب والنف وس مزين ة وليس ت زين ة‪ ،‬فهي‬
‫محسنة بأنواع الحلي والمساحيق والحلل‪ ،‬بينما تبرز الدمامة بكل مظاهره ا‬
‫والبشاعة بكل صورها لكل من انشغل بالحقيقة عن المظهر‪،‬ولم تنس ه نش وة‬
‫الفرح الكاذب ما تخفيه الصور‪.‬‬
‫ولكن تمييز اللباس من البدن والحقيقة من المظهر في وسط ذلك الج و‬
‫المغري ال يكون إال للبصيرة اإليمانية النافذة ال تي ك انت مركب ة في عق ول‬
‫الذين آمنوا عن دما م ر بهم ق ارون‪ ،‬وه و في م وكب الزين ة يس لب األلب اب‬
‫وينشر الحسد والغبطة‪ ،‬والقرآن الكريم ينقل لنا بدقة ص ورة ذل ك الم وكب‪،‬‬
‫وصورة النفوس التي كانت تلتف به‪ ،‬يقول تع الى ‪ :‬فَ َخ َر َج َعلَى قَوْ ِم ِه فِي‬
‫ال الَّ ِذينَ ي ُِري ُدونَ ْال َحيَاةَ ال ُّدنيَا يَالَيْتَ لَنَا ِم ْث َل َم ا أُوتِ َي قَ ار ُ‬
‫ُون إِنَّهُ لَ ُذو‬ ‫ِزينَتِ ِه قَ َ‬
‫َظ ٍيم َوقَ ا َل الَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِع ْل َم َو ْيلَ ُك ْم ثَ َوابُ هَّللا ِ َخ ْي ٌر لِ َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل‬ ‫ظع ِ‬ ‫َح ٍّ‬
‫صالِحًا َواَل يُلَقَّاهَا إِاَّل الصَّابِرُونَ ‪( ‬القصص‪)80:‬‬ ‫َ‬
‫والخالف الذي وقع بين هذين الف ريقين كم ا ينقل ه الق رآن الك ريم ليس‬

‫‪41‬‬
‫في أصل الزينة‪ ،‬فكال من المؤمنين والذين يريدون الحي اة ال دنيا يبص رونها‬
‫وتش تهيها أنفس هم‪ ،‬لكن الف رق بينهم ا حص ل فيم ا بع د الزين ة وم ا خلفه ا‪،‬‬
‫فالمؤمنون كانوا يشاهدون بعيونهم آثار تلك الزينة المؤقت ة الملطخ ة ب آالف‬
‫العيوب‪ ،‬ولعل أقلها فرح صاحبها به ا وانش غاله به ا عن رب ه‪ ،‬بينم ا ال ذين‬
‫يري دون الحي اة ال دنيا ك انت أعينهم عمي ا عن إبص ار الم دى البعي د ال ذي‬
‫يبصره المؤمنون‪.‬‬
‫ولهذا يصور القرآن الكريم الذين ال يؤمنون ب اآلخرة بص ورة األعم ه‬
‫المتردد الحائر بين نوازع نفسه الكثيرة المتناقضة‪ ،‬ق ال تع الى يص ور ه ذه‬
‫الح يرة‪  :‬إِ َّن الَّ ِذينَ اَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ اآْل ِخ َر ِة َزيَّنَّا لَهُ ْم أَ ْع َم الَهُ ْم فَهُ ْم يَ ْع َمهُ ونَ ‪‬‬
‫(النمل‪)4:‬‬
‫وهذه الحيرة التي سببها اإلدمان على الزينة الكاذبة تجعل على بص ره‬
‫غشاوة تحول بينه وبين اللجوء إلى الحق الذي يبصره ويعرفه وتكاد فطرته‬
‫المخبأة في سراديب وجوده تلمسه‪ ،‬ولكن التزيينات الكثيرة المتناقضة تحول‬
‫بينه ا وبين اإلمس اك ب ه‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬و َع ادًا َوثَ ُم و َد َوقَ ْد تَبَيَّنَ لَ ُك ْم ِم ْن‬
‫ص ِرينَ‬‫ص َّدهُ ْم ع َْن ال َّسبِي ِل َو َكانُوا ُم ْستَ ْب ِ‬ ‫ان أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ‬
‫َم َسا ِكنِ ِه ْم َوزَ يَّنَ لَهُ ْم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫‪( ‬العنكبوت‪ ،)38:‬فهم مستبصرون بالحق مبص رون ل ه‪ ،‬ولكن التزيين ات‬
‫الشيطانية التي ألفتها قلويهم جعلتهم مكتوفي األيدي محاص رين ب األهواء ال‬
‫يملكون من أمر أنفسهم شيئا‪.‬‬
‫ولهذا يشبه هللا تعالى أمثال هؤالء بالس ائر في الظلم ات ال تي ال تع دو‬
‫ظلم ات التزيين ات الكث يرة المتناقض ة ال تي تحجب الرؤي ة عن البص ر‬
‫والبص يرة‪ ،‬بخالف الم ؤمن ال ذي يهت دي بص قل م رآة قلب ه عن أي التفات ة‬
‫تحول بين بصيرته وبين رؤية الدروب الصعبة التي تتحرك فيها روحه‪.‬‬
‫فلذلك كان المؤمن هو الحي الحقيقي الذي يرى نفسه وغيره بينما حياة‬
‫أولئك الفارين عن أنفسهم المشغولين بص نوف التزيين ات م وت في ص ورة‬
‫حياة‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬أَ َو َم ْن َكانَ َم ْيتًا فَأَحْ يَ ْينَ اهُ َو َج َع ْلنَ ا لَ هُ نُ ورًا يَ ْم ِش ي بِ ِه فِي‬
‫ك ُزيِّنَ لِ ْل َكافِ ِرينَ َما َك انُوا‬ ‫ج ِم ْنهَا َك َذلِ َ‬
‫خَار ٍ‬
‫ْس بِ ِ‬ ‫ت لَي َ‬ ‫اس َك َم ْن َمثَلُهُ ِفي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬ ‫النَّ ِ‬
‫يَ ْع َملُونَ ‪( ‬األنعام‪)122:‬‬
‫وقد ج اء الفع ل في اآلي ة مبني ا للمجه ول لي ترك ص احبه محت ارا في‬
‫مصدر ذلك التزيين الذي غمر قلبه فرحة به‪.‬‬
‫ولذلك كل ما ورد في القرآن الكريم مبنيا من هذا الفعل ورد في الزينة‬

‫‪42‬‬
‫المنهي عن الفرح بها كقوله تعالى ‪ :‬أَفَ َم ْن ُزيِّنَ لَ هُ ُس و ُء َع َملِ ِه فَ َرآهُ َح َس نًا‬
‫ت إِ َّن‬ ‫ضلُّ َم ْن يَ َشا ُء َويَ ْه ِدي َم ْن يَ َشا ُء فَاَل ت َْذهَبْ نَ ْف ُس كَ َعلَ ْي ِه ْم َح َس َرا ٍ‬ ‫فَإ ِ َّن هَّللا َ يُ ِ‬
‫هَّللا َ َعلِي ٌم بِ َما يَصْ نَعُونَ ‪(‬فاطر‪ ،)8:‬وقوله تع الى ‪ :‬أَفَ َم ْن َك انَ َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن‬
‫ه َوا َءهُ ْم ‪(‬محمد‪ ،)14:‬وقوله تعالى ‪ :‬‬ ‫َربِّ ِه َك َم ْن ُزيِّنَ لَهُ سُو ُء َع َملِ ِه َواتَّبَعُوا أَ ْ‬
‫ُض لِلْ هَّللا ُ فَ َم ا لَ هُ ِم ْن‬ ‫يل َو َم ْن ي ْ‬
‫ص ُّدوا ع َْن ال َّسبِ ِ‬ ‫بَلْ ُزيِّنَ لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا َم ْك ُرهُ ْم َو ُ‬
‫هَاد‪(‬الرعد‪)33:‬‬
‫والقرآن الكريم يشير إلى بعض هؤالء المزي نين ال ذين لم يكن لهم من‬
‫غرض إال الغواية‪:‬‬
‫وأولهم إبليس عدو اإلنسان األول‪ ،‬قال تعالى ذاكرا الحوار الذي بدأت‬
‫به خطة الشيطان في ضم اإلنسان إلى حزبه‪  :‬قَا َل َربِّ بِ َما أَ ْغ َو ْيتَنِي أَل ُزَ يِّن ََّن‬
‫ض َوأَل ُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ ‪(‬الحجر‪)39:‬‬ ‫لَهُ ْم ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫وقد دل هذا التعب ير على معرف ة الش يطان بخص ائص ونق اط ض عف‬
‫عدوه الذي جب ل على حب الزين ة وحب الل ذة وحب الجم ال في أي ص ورة‬
‫وفي أي تركيب‪ ،‬فهو يضعف أمامها ويكاد يتالشى‪ ،‬قال تع الى ‪ :‬ي ُِري ُد هَّللا ُ‬
‫ض ِعيفًا‪(‬األنعام‪)28:‬‬ ‫ان َ‬ ‫ق اإْل ِ ن َس ُ‬ ‫أَ ْن يُخَ فِّفَ َع ْن ُك ْم َو ُخلِ َ‬
‫والقرآن الكريم يشير إلى طريقة التزيين التي يمارسها والتي يقلب بها‬
‫الحقائق ويخاطب كل إنسان باللغة ال تي يفهمه ا‪ ،‬وذل ك في الوس اوس ال تي‬
‫كان يلقي بها إلى آدم عليه السالم كل حين‪ ،‬ومنها ما جاء في قوله تع الى ‪ :‬‬
‫ال َم ا‬ ‫ي َع ْنهُ َم ا ِم ْن َس وْ آتِ ِه َما َوقَ َ‬ ‫ور َ‬ ‫ي لَهُ َم ا َم ا ُو ِ‬ ‫س لَهُ َما ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ان لِيُ ْب ِد َ‬ ‫فَ َوس َْو َ‬
‫الش َج َر ِة إِاَّل أَ ْن تَ ُكونَ ا َملَ َك ْي ِن أَوْ تَ ُكونَ ا ِم ْن ْالخَالِ ِدينَ ‪‬‬ ‫نَهَا ُك َما َربُّ ُك َما ع َْن هَ ِذ ِه َّ‬
‫(األعراف‪)20:‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ  :‬ما نَهَا ُك َما ‪ ‬يش ير إلى أن ه ربم ا ك ان يس تخدم معهم ا‬
‫وسيلة تأويل النص لتفريغه من محتواه‪ ،‬وكأنه يقول ‪:‬إن هللا ما نهاكما ألج ل‬
‫النهي‪ ،‬وإنم ا ألس باب أخ رى منه ا أن تكون ا ملكين أو تكون ا خال دين‪ ،‬ف إن‬
‫أردتما برغبتكما أن يحصل لكما ذلك فال بأس من أكل الشجرة‪.‬‬
‫أو ربم ا جاءهم ا من ب اب آخ ر وق ال‪ :‬إن هللا ال رحيم بكم ا م ا ك ان‬
‫ليمنعكم ا من ه ذه الش جرة وأنتم ا ض يفان عن ده‪ ،‬فاتهم ا فهمكم ا وال تتهم ا‬
‫ربكما‪.‬‬
‫أو ربما جاءهما من باب آخ ر‪ ،‬وق ال ‪:‬إن النهي ال ذي ص در لكم ا من‬
‫ربكما لم يكن نهيا مطلقا‪ ،‬بل هو مقيد بأكل جميع الشجرة ال بمجرد تذوق ما‬

‫‪43‬‬
‫فيها‪.‬‬
‫أوربما قال لهما ‪:‬إن النهي لم يكن عام ا في جمي ع األوق ات‪ ،‬ب ل ك ان‬
‫مخصوصا بأول دخولكما الجنة لع دم تناس ب أكله ا م ع أجه زتكم الهاض مة‬
‫حينذاك‪.‬‬
‫أو ربما قال لهما ‪:‬لقد ورد النهي قبل نض جكما وص البة يقينكم ا‪ ،‬أم ا‬
‫بعد ذلك فال تكليف بعد يقين وال حركة بعد معرفة‪.‬‬
‫أو ربم ا ج اءهم من أب واب أخ رى نراه ا ونس معها ك ل حين في‬
‫محاوالت التهرب من النصوص القطعية بأالعيب األلف اظ‪ ،‬والق رآن الك ريم‬
‫يشير إلى أن آدم لم يكن يعرف أمثال هذه المكائد‪ ،‬ولذلك حل ف الش يطان ل ه‬
‫أنه لم يقل ذلك له إال ناصحا صادقا‪ ،‬ولم يكن آدم يتصور أن هناك من يقس م‬
‫على هللا كاذبا فلذلك أكل من الشجرة‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬وقَا َس َمهُ َما إِنِّي لَ ُك َم ا لَ ِم ْن‬
‫ص ِحين‪( ‬األعراف‪)21:‬‬ ‫النَّا ِ‬
‫ولذلك لم يكن خط أ آدم علي ه الس الم إال خط أ المغ تر بالقس م ال خط أ‬
‫َت لَهُ َم ا‬ ‫المتجرئ على هللا‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬فَ َداَّل هُ َما بِ ُغر ٍ‬
‫ُور فَلَ َّما َذاقَا ال َّش َج َرةَ بَد ْ‬
‫ق ْال َجنَّ ِة َونَادَاهُ َم ا َربُّهُ َم ا أَلَ ْم أَ ْنهَ ُك َم ا‬‫ان َعلَ ْي ِه َما ِم ْن َو َر ِ‬ ‫صف َ ِ‬‫َسوْ آتُهُ َما َوطَفِقَا يَ ْخ ِ‬
‫ين‪( ‬األعراف‪)22:‬‬ ‫ع َْن تِ ْل ُك َما ال َّش َج َر ِة َوأَقُلْ لَ ُك َما إِ َّن ال َّش ْيطَانَ لَ ُك َما َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬
‫والمؤمن كم ا ورد في الح ديث‪ ( :‬غ ر ك ريم‪ ،‬والف اجر خب ل ئيم)(‪،)1‬‬
‫وكان بعض العلماء يقول‪ ( :‬من خادعنا باهلل خدعنا)‪ ،‬وقد قال الشاعر‪:‬‬
‫وترى اللئيم مجربا ال يخدع‬ ‫إن الكريم إذا تشاء خدعته‬
‫وألجل هذا وردت النصوص الكثيرة تحذر من كي د الش يطان ال ذي ال‬
‫يترك المؤمن حتى وهو مشتغل بعبادة رب ه يق رأ كالم ه‪ ،‬وله ذا ورد األم ر‬
‫باالستعاذة قبل القراءة في قوله تعالى ‪ :‬فَإ ِ َذا قَ َر ْأتَ ْالقُ رْ آنَ فَ ْ‬
‫اس تَ ِع ْذ بِاهَّلل ِ ِم ْن‬
‫َّج ِيم‪(‬النحل‪)98:‬‬ ‫ان الر ِ‬ ‫ال َّش ْيطَ ِ‬
‫بل إن النص يشير إلى االستعاذة مطلقا بدون تقيي د بالقبلي ة أو البعدي ة‬
‫ليبقى القارئ متقيا أثناء قراءته من أي وسوسة أو تل بيس ش يطاني يص رف‬
‫المعاني ويحول القلوب‪ ،‬وقد ورد ما يدل على ذل ك في قول ه تع الى ‪َ  :‬و َم ا‬
‫ان فِي أُ ْمنِيَّتِ ِه‬ ‫الش ْيطَ ُ‬ ‫ول َواَل نَبِ ٍّي إِاَّل إِ َذا تَ َمنَّى أَ ْلقَى َّ‬‫ك ِم ْن َر ُس ٍ‬ ‫أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ َ‬
‫ان ثُ َّم يُحْ ِك ُم هَّللا ُ آيَاتِ ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم‪( ‬الحج‪)52:‬‬ ‫فَيَ ْن َس ُخ هَّللا ُ َما ي ُْلقِي ال َّش ْيطَ ُ‬
‫والشيطان يتخذ في تزييناته أسلوب المرحلية‪ ،‬فهو يبدأ مع كل شخص‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري في األدب المفرد ‪ 418‬وأبو داود ‪ 4790‬والترمذي ‪.1964‬‬

‫‪44‬‬
‫بحس ب قابليت ه‪ ،‬ثم ينتق ل مع ه خط وة خط وة إلى أن ينتهي مع ه إلى آخ ر‬
‫الطريق‪ ،‬قال تعالى محذرا من هذا األسلوب الشيطاني ال ذي ال ينتب ه ل ه إال‬
‫المراع ون ألنفاس هم وخط راتهم وأح اديث قلب وبهم‪  :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل‬
‫الش ْيطَا ِن فَإِنَّهُ يَ أْ ُم ُر بِ ْالفَحْ َش ا ِء‬ ‫ت َّ‬ ‫ان َو َم ْن يَتَّبِ ْع ُخطُ َوا ِ‬ ‫الش ْيطَ ِ‬ ‫ت َّ‬ ‫تَتَّبِعُوا ُخطُ َوا ِ‬
‫َو ْال ُم ْن َك ِر َولَوْ اَل فَضْ ُل هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُهُ َما َز َك ا ِم ْن ُك ْم ِم ْن أَ َح ٍد أَبَ دًا َولَ ِك َّن هَّللا َ‬
‫يُ َز ِّكي َم ْن يَ َشا ُء َوهَّللا ُ َس ِمي ٌع َعلِي ٌم‪(‬النور‪)21:‬‬
‫أم ا آخ ر الطري ق ال ذي ينتهي عن ده الش يطان مبتس ما‪ ،‬وق د نجح في‬
‫نس ا ِن‬ ‫الش ْيطَا ِن إِ ْذ قَ ا َل لِإْل ِ َ‬‫صياغة نسخة منه فيشرحها قوله تعالى ‪َ :‬ك َمثَ ِل َّ‬
‫اف هَّللا َ َربَّ ْال َع الَ ِمين ‪(‬الحش ر‪:‬‬ ‫ك إِنِّي أَ َخ ُ‬ ‫ا ْكفُرْ فَلَ َّما َكفَ َر قَ ا َل إِنِّي بَ ِري ٌء ِم ْن َ‬
‫‪)16‬‬
‫وهذا الذي يقوله في الدنيا هو عين ما سيذكره في خطبته البليغة أله ل‬
‫النار الذين يتجمعون حوله يلومونه ويعنفونه‪ ،‬وينسبون ك ل ج رائمهم إلي ه‪،‬‬
‫وفي نص الخطبة ما يشير إلى أسرار تل ك التزيين ات ال تي لم يكن للش يطان‬
‫فيها من سلطة إال سلطة الكلمة‪ ،‬ولم يكن من دافع لس ماعها إال القابلي ة ال تي‬
‫كان أهل النار مستعدين لها‪ ،‬وب ذلك يحكم الش يطان لنفس ه ب البراءة‪ ،‬ويكف ر‬
‫بك ل ذل ك التعظيم والطاع ة ال تي عب د به ا من دون هللا في أجي ال األرض‬
‫ض َي اأْل َ ْم ُر إِ َّن هَّللا َ َو َع َد ُك ْم َو ْع َد‬ ‫ان لَ َّما قُ ِ‬
‫الش ْيطَ ُ‬ ‫الطويلة‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬وقَا َل َّ‬
‫ق َو َو َع ْدتُ ُك ْم فَ أ َ ْخلَ ْفتُ ُك ْم َو َم ا َك انَ لِي َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن ُس ْلطَا ٍن إِاَّل أَ ْن َد َع وْ تُ ُك ْم‬ ‫ْال َح ِّ‬
‫ص ِر ِخ ُك ْم َو َم ا أَ ْنتُ ْم‬ ‫اس ت ََج ْبتُ ْم لِي فَاَل تَلُو ُم ونِي َولُو ُم وا أَ ْنفُ َس ُك ْم َم ا أَنَ ا بِ ُم ْ‬ ‫فَ ْ‬
‫ع َذابٌ أَلِي ٌم‪‬‬ ‫ت بِ َما أَ ْش َر ْكتُ ُمونِي ِم ْن قَ ْب ُل إِ َّن الظَّالِ ِمينَ لَهُ ْم َ‬ ‫ي إِنِّي َكفَرْ ُ‬ ‫بِ ُمصْ ِر ِخ َّ‬
‫(إبراهيم‪)22:‬‬
‫وما ذكره القرآن الكريم عن نهاية وسوسته لإلنس ان بإلقائ ه في الكف ر‬
‫ذكره عن حال ه بع د نهاي ة ك ل وسوس ة‪ ،‬حيث ي ولي م دبرا تارك ا فريس ته‬
‫يتمرغ في أوحال تزييناته‪ ،‬وهذه الحادث ة ال تي وقعت للمش ركين مث ال على‬
‫ب لَ ُك ْم ْاليَ وْ َم‬ ‫ان أَ ْع َم الَهُ ْم َوقَ ا َل اَل َغ الِ َ‬ ‫ذلك‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬وإِ ْذ زَ يَّنَ لَهُ ْم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫ص َعلَى َعقِبَ ْي ِه َوقَ ا َل إِنِّي‬ ‫ان نَ َك َ‬ ‫ت ْالفِئَتَ ِ‬ ‫اس َوإِنِّي َج ا ٌر لَ ُك ْم فَلَ َّما تَ َرا َء ْ‬ ‫ِم ْن النَّ ِ‬
‫ش ِدي ُد ْال ِعقَ اب‪‬‬ ‫بَ ِري ٌء ِم ْن ُك ْم إِنِّي أَ َرى َم ا اَل تَ َروْ نَ إِنِّي أَ َخ ُ‬
‫اف هَّللا َ َوهَّللا ُ َ‬
‫(األنفال‪)48:‬‬
‫ولعل هذا النص يشير إلى ما تستشعره النفوس بعد حصولها على اللذة‬
‫التي باعت في سبيلها كل فضيلة‪ ،‬فإنها بمج رد الظف ر به ا تش عر بن وع من‬

‫‪45‬‬
‫الكآبة ومن القلق الداخلي الذي ال يعرف سببه‪.‬‬
‫وما سببه إال انقطاع تيار التزيين الذي كان متصال بقلب المس تعد ل ه‪،‬‬
‫فيح رم من أبس ط م ا ك ان ينتظ ره‪ ،‬ويع ادى من أق رب الناص حين لنفس ه‬
‫الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫وله ذا أمرن ا باإلس تعاذة الدائم ة من ه‪ ،‬وس ن لن ا الن بي ‪ ‬الكث ير من‬
‫اس تَ ِع ْذ‬ ‫غ فَ ْ‬‫الش ْيطَا ِن نَ ْز ٌ‬
‫ك ِم ْن َّ‬ ‫المأثورات في ذلك‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬وإِ َّما يَ ْنزَ َغنَّ َ‬
‫بِاهَّلل ِ إِنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم‪(‬فصلت‪)36:‬‬
‫ولكن التزيينات ال تتوقف عند الشيطان فهن اك آال ف الش ياطين ال ذين‬
‫يوسوس ون ك ل حين ثم يخنس ون‪ ،‬فال هم يف ترون وال هم ييأس ون‪ ،‬ق ال‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫تعالى ‪َ :‬وقَيَّضْ نَا لَهُ ْم قُ َرنَا َء فَزَ يَّنُوا لَهُ ْم َما بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َو َما خ َْلفَهُ ْم َو َح َّ‬
‫رينَ ‪‬‬ ‫اس ِ‬‫نس إِنَّهُ ْم َك انُوا َخ ِ‬ ‫ت ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم ِم ْن ْال ِجنِّ َواإْل ِ ِ‬ ‫ْالقَ وْ ُل فِي أُ َم ٍم قَ ْد خَ لَ ْ‬
‫(فصلت‪)25:‬‬
‫وق د ج اء التس مية القرآني ة له ذا الموس وس بلف ظ الق رين ليش ير إلى‬
‫المالزمة الدائمة التي تتحول بها األفكار والطبائع‪ ،‬فالمالزمة أصل التزيين‪،‬‬
‫واإللف جذر االستحسان‪ ،‬وما انشغال اإلنسان بصنوف الزينة التي ال ي رى‬
‫غيرها إال نتيجة ل ذلك اإلل ف ال ذي يحجب عن البص ر الرؤي ة الس وية‪ ،‬فال‬
‫تفرق بين العسل والسم‪.‬‬
‫وقد اعتبر القرآن الكريم في هذه اآلية قرين السوء رسوال من هللا إليه‪،‬‬
‫فاهلل ه و المقيض ل ذلك الق رين‪ ،‬ألن حكم ة هللا تعام ل ك ل ج وهر بحس ب‬
‫استعداده‪ ،‬ولهذا جاء في قوله تعالى ‪َ :‬و َم ْن يَعْشُ ع َْن ِذ ْك ِر الرَّحْ َم ا ِن نُقَيِّضْ‬
‫ين‪(‬الزخرف‪)36:‬‬ ‫لَهُ َش ْيطَانًا فَه َُو لَهُ قَ ِر ٌ‬
‫وما يشير إلى سر ذلك التقييض‪ ،‬وهو العشى الذي حجب بصيرته عن‬
‫ذكر الرحمن‪ ،‬وما أنسب هذا االسم له ذا الموض ع‪ ،‬فه ذا الض ال عش ى عن‬
‫ذك ر ال رحمن وابتع د عن مقتض ياته ليق ع تحت س لطان أس ماء أخ رى من‬
‫المضل والمنتقم والجبار‪ ،‬فإنه ال فرار ألح د بح ال من األح وال عن أس ماء‬
‫هللا الحسنى‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يذكر خطبة القرين وتبريه كم ا ذك ر خطب ة الش يطان‪،‬‬
‫وكما ذكر خطب المستكبرين والمستضعفين ليبين حقيقة ذلك ال تزيين‪ ،‬وأن ه‬
‫لم يكن سوى مساحيق وضعت على الدماء وحلي وحلل كسي بها كل ش خت‬
‫ض اَل ٍل بَ ِعيد ‪‬‬ ‫ط َغ ْيتُ هُ َولَ ِك ْن َك انَ فِي َ‬ ‫ال قَ ِرينُهُ َربَّنَا َم ا أَ ْ‬ ‫دميم‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬قَ َ‬

‫‪46‬‬
‫(ق‪)27:‬‬
‫ويبين القرآن الكريم أن هذا القرين أو مثله ك ان من أص حاب الم ؤمن‬
‫في ال دنيا‪ ،‬ولكن الم ؤمن ال ذي لم يعش و عن ذك ر ال رحمن لم يكن مس تعدا‬
‫لقبول تزييناته‪ ،‬فالرحمن يحفظه من ك ل م ا ال يقتض يه اس مه الجلي ل‪ ،‬ق ال‬
‫تعالى يخبر عن ذلك المشهد األخروي في مسامرة جرت بين أه ل الجن ة‪ :‬‬
‫ص ِّدقِينَ أَئِ َذا ِم ْتنَ ا َو ُكنَّا‬ ‫ك لَ ِم ْن ْال ُم َ‬ ‫ين يَقُ و ُل أَئِنَّ َ‬
‫ال قَائِ ٌل ِم ْنهُ ْم إِنِّي َك انَ لِي قَ ِر ٌ‬ ‫قَ َ‬
‫تُ َرابًا َو ِعظَا ًما أَئِنَّا لَ َم ِدينُونَ ‪( ‬الصافات‪)53:‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن المزين الحقيقي هو هللا القتض اء ض رورة تمي يز الج واهر‬
‫ذلك التزيين‪ ،‬ولكن الملوم هو العبد القاصر األعمه الذي لم ي ر من تزيين ات‬
‫هللا إال ما يناسب استعداده‪ ،‬قال تع الى‪  :‬إِ َّن الَّ ِذينَ اَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ اآْل ِخ َر ِة َزيَّنَّا‬
‫لَهُ ْم أَ ْع َمالَهُ ْم فَهُ ْم يَ ْع َمهُونَ ‪(‬النمل‪)4:‬‬
‫ألن هللا تع الى زين ك ل ش يء‪ ،‬وخل ق ك ل ش يء في منتهى الحس ن‬
‫والجم ال ليحص ل ب ذلك الحس ن البالء‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬إِنَّا َج َع ْلنَ ا َم ا َعلَى‬
‫ض ِزينَةً لَهَا لِنَ ْبلُ َوهُ ْم أَيُّهُ ْم أَحْ َس ُن َع َماًل ‪( ‬الكهف‪)7:‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫والقرآن الكريم يضرب أمثلة كثيرة عن ذلك ال تزيين منه ا م ا ه و في‬
‫أعالي الفضاء‪َ :‬ولَقَ ْد َج َع ْلنَا فِي ال َّس َما ِء بُرُوجًا َو َزيَّنَّاهَ ا لِلنَّا ِظ ِرينَ ‪(‬الحج ر‪:‬‬
‫‪)16‬‬
‫ومنها ما هو على األرض يدب أو يطير أو يخترق األجواء أو يغوص‬
‫ير‬‫في أعم اق المحيط ات والبح ار‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬و ْال َخ ْي َل َو ْالبِ َغ ا َل َو ْال َح ِم َ‬
‫ق َما اَل تَ ْعلَ ُمون ‪( ‬النحل‪)8:‬‬ ‫لِتَرْ َكبُوهَا َو ِزينَةً َويَ ْخلُ ُ‬
‫وهذه إشارة قرآنية عامة للتزيين الواقع في وسائل النق ل‪ ،‬وال ذي ك ان‬
‫وال يزال تجارة رائجة بعد أن انتقل من تزيين الخيول إلى ت زيين الس يارات‬
‫ق َم ا اَل‬ ‫والطائرات والصواريخ‪ ،‬وله ذا ختمت اآلي ة بقول ه تع الى ‪َ  :‬ويَ ْخلُ ُ‬
‫تَ ْعلَ ُمونَ ‪(‬النحل‪)8:‬‬
‫وتزيين هللا تعالى الش امل الع ام الت ام ه و ال ذي أذاق المؤم نين حالوة‬
‫اإليمان ومرارة الكفر حين وضع زينة اإليمان في القلوب المؤمن ة‪ ،‬فرحم ة‬
‫هللا تأبى أن يحرم التمتع بالزينة أولياءه ولو في الحيز الدنيوي البس يط‪ ،‬ق ال‬
‫ير ِم ْن اأْل َ ْم ِر لَ َعنِتُّ ْم‬
‫ول هَّللا ِ لَ وْ يُ ِطي ُع ُك ْم فِي َكثِ ٍ‬ ‫تعالى ‪َ :‬وا ْعلَ ُم وا أَ َّن فِي ُك ْم َر ُس َ‬
‫ق‬‫َّب إِلَ ْي ُك ْم اإْل ِ ي َمانَ َوزَ يَّنَ هُ ِفي قُلُ وبِ ُك ْم َو َك َّرهَ إِلَ ْي ُك ْم ْال ُك ْف َر َو ْالفُ ُس و َ‬
‫َولَ ِك َّن هَّللا َ َحب َ‬
‫َّاش ُدونَ ‪(‬الحجرات‪)7:‬‬ ‫َو ْال ِعصْ يَانَ أُوْ لَئِكَ هُ ْم الر ِ‬

‫‪47‬‬
‫فالحالوة التي يجدها الك افرون والمؤمن ون واح دة‪ ،‬والف رق بينهم ا ال‬
‫يعدو موضوع التزيين وعاقبته‪ ،‬فعاقبة تزيين المؤمن السرور والفرح الدائم‬
‫في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وعاقبة تزيين غ يره ه و األلم المباش ر ال ذي يحس ه بع د‬
‫انقطاع تيار التزيين الشيطاني‪ ،‬فيظلم قلبه وتعشو عيناه‪.‬‬
‫هما كمن جلس على مائدة واحدة‪ ،‬وعلى طع ام واح د‪ ،‬ه و طع ام هللا‪،‬‬
‫لكن الكفرة أبوا إال أن يض يفوا إلى طع امهم س ما ليتم يزوا ب ه عن غ يرهم‪،‬‬
‫فإذا بهم يتخبطون تحت تأثيره‪.‬‬
‫فاهلل تعالى لم يحرم المؤمنين من ضيافته على ه ذه األرض ولم يح رم‬
‫عليهم الطيب ات‪ ،‬ب ل هي لهم كم ا لغ يرهم في ال دنيا‪ ،‬وهي لهم خالص ة في‬
‫ت ِم ْن‬ ‫اآلخرة‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬قُلْ َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ هَّللا ِ الَّتِي أَ ْخ َر َج لِ ِعبَا ِد ِه َوالطَّيِّبَ ا ِ‬
‫ص ُل‬ ‫ك نُفَ ِّ‬‫صةً يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َك َذلِ َ‬ ‫ق قُلْ ِه َي لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا خَ الِ َ‬ ‫ْ‬
‫الرِّز ِ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمونَ ‪(‬األعراف‪)32:‬‬ ‫اآْل يَا ِ‬
‫ولكن الشيء الوحيد الذي طلب من المؤم نين‪ ،‬وه و ش يء هين بس يط‬
‫يزيد في فرحتهم وسعادتهم هو أن ال ينشغلوا بالنعيم الفاني عن الب اقي‪ ،‬وأن‬
‫ك إِلَى َم ا َمتَّ ْعنَ ا‬ ‫ال ينشغلوا بالخلق عن الخالق‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬واَل تَ ُم َّد َّن َع ْينَ ْي َ‬
‫ك َخ ْي ٌر َوأَ ْبقَى ‪(‬طه‪:‬‬ ‫ق َربِّ َ‬ ‫بِ ِه أَ ْز َواجًا ِم ْنهُ ْم زَ ْه َرةَ ْال َحيَا ِة ال ُّدنيَا لِنَ ْفتِنَهُ ْم فِي ِه َو ِر ْز ُ‬
‫‪)131‬‬
‫وقد جاء التعبير عن الذين كف روا به ذا االس م ليش ير إلى العمى ال ذي‬
‫أوقعه فيهم جحودهم‪ ،‬فأصبحوا ال يميزون بين ما ينفعهم وما يضرهم‪.‬‬
‫ثم عبر عن موضوع تزيينهم بالحياة الدنيا وهي الحياة األولية البسيطة‬
‫التي تشبه حياة الكائنات وحيدة الخلية التي تختار المستنقعات وال تعرف من‬
‫وظائف الحياة إال وظائف محدودة بسيطة بحسب طبيعة تكوينها‪.‬‬
‫ثم تواصل اآلية سيرها وكل حرف فيها ينشر الحسرة في قلوب ال ذين‬
‫آثروا الخلق على هللا حينما تنجلي الغش اوة عن قل وبهم ف يرون ال ذين ك انوا‬
‫يس تهزئون بهم في ال دنيا وي رونهم أس فل منهم‪ ،‬ق د ارتفع وا إلى أع ال ال‬
‫يبصرونها وال يحلمون به ا‪ ،‬بينم ا انخفض وا هم إلى وه اد س حيقة ليس معوا‬
‫خطبة الشيطان‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫التكاثر‬
‫التكاثر طبيعة من طبائع اإلنسان التي غذيت بها فطرت ه‪ ،‬وأم دت به ا‬
‫جبلته‪ ،‬وهي دليل كمال‪ ،‬ومعراج وصول‪ ،‬ومسلك تحقيق‪.‬‬
‫وهي في نفس ال وقت مص يدة النف وس الش رهة واألف واه الجائع ة‬
‫واألجساد الظمآنة‪.‬‬
‫من أجلها بنيت الدور التي لم تس كن‪ ،‬وجمعت األم وال ال تي لم تنف ق‪،‬‬
‫وط رزت الثي اب ال تي لم تلبس‪ ،‬ومن أجله ا امتألت القمام ات بأص ناف‬
‫الطعام‪ ،‬وشغل الخلق الكثير بخدمة فرد ال يشبع‪.‬‬
‫ومن أجلها امتألت األرض بؤسا‪ ،‬وتجرع أهلها الش قاء بك ل أص نافه‪،‬‬
‫ورمي الطعام في البحر وتراشق الخلق بأصناف الفواكه والحلويات ليم وت‬
‫ماليين اآلخرين جوعا‪.‬‬
‫إذا حلت حمياها في قل وب المل وك واس تحلوا ل ذتها وفرح وا بنش وتها‬
‫جندوا الجنود وملئوا األرض حربا والديار خرابا‪.‬‬
‫وإن حلت في عق ول الم ترفين خرب وا األك واخ وش ردوا أهله ا ليبن وا‬
‫بدلها قصورا ال يسكنونها‪.‬‬
‫وإن حلت في عقول الحمقى تحولوا لصوصا‪..‬‬
‫وإن حلت في نفوس العامة تحولوا غوغاء‪..‬‬
‫وإن حلت في جي وب األغني اء ش حوا على أنفس هم وعي الهم لتك ثر‬
‫كنوزهم‪.‬‬
‫والقرآن الكريم ذم الكثرة ومدحها‪ ،‬ودعا إليها ونهى عنها‪ ،‬وجعلها من‬
‫نعم هللا على عباده‪ ،‬وجعلها من نقمه عليهم‪ ،‬ونهى عن الفرح بها وأمر بحمد‬
‫هللا عليها‪.‬‬
‫ْ‬
‫وكل ذلك في تناسق عجيب ال تناقض فيه وال اختالف فإن ه‪  :‬اَل يَأتِي ِه‬
‫َنزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِمي ٍد‪(‬فصلت‪)42:‬‬ ‫ْالبَا ِط ُل ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه َواَل ِم ْن ْ‬
‫خَلفِ ِه ت ِ‬
‫وقد ورد هذا اللف ظ في الق رآن الك ريم بمش تقاته المختلف ة مائ ة وس تة‬
‫وسبعين مرة‪ ،‬وأكثر ما ورد فيه من هذا اللفظ جاء في مواضع ذم‪.‬‬
‫ومن العجيب أن يرتبط اسم سورتين من السور القصار باس م الك ثرة‪،‬‬
‫وأن تذم وتتوعد إحداهما على الك ثرة المذموم ة‪ ،‬وأن تبش ر الثاني ة ب الكثرة‬
‫المحمودة‪ ،‬وأن ينهى في األولى عن التيه بتلك الكثرة‪ ،‬وأن يؤمر في الثاني ة‬

‫‪49‬‬
‫بحمدها‪ ،‬هما على طرفي نقيض في كل شيء حتى في البناء الصرفي ال ذي‬
‫تكون منه كال اسميهما‪.‬‬
‫أما السورة األولى فسميت بسورة التكاثر وهو ـ كما يعرفه البيض اوي‬
‫ـ التباهي بالكثرة‪ ،‬والتباهي بالكثرة ال يعني الكثرة‪ ،‬ألن التب اهي أم ر نس بي‬
‫في ك ل م ا يرتب ط ب ه لخض وعه العتب ارات المتب اهى ب ه والمتب اهى علي ه‬
‫وزمن التب اهي وظ روف المتب اهين واعتب ارات أخ رى كث يرة ال يمكن‬
‫حصرها‪.‬‬
‫بينما سميت الثانية بسورة الك وثر وه و فوع ل من الك ثرة وص ف ب ه‬
‫للمبالغة في الك ثرة‪ ،‬مث ل النوف ل من النف ل‪ ،‬والج وهر من الجه ر‪،‬والع رب‬
‫تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثرا ً(‪)1‬‬
‫وانطالق ا من اختالف االس م يب دأ اختالف المض مون‪ ،‬وس نحاول أن‬
‫نج ري مقارن ة بين كال الك ثرتين ال واردة في الس ورتين لنف رح ب المحمودة‬
‫ونحمد هللا عليها‪ ،‬وال نغتر بالمذمومة ونعوذ باهلل منها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫في سورة التكاثر يبدأ اإلخبار ال دال على ال ذم بقول ه تع الى ‪  :‬ألهَ ا ُك ْم‬
‫التَّ َكاثُ ُر‪( ‬التك اثر‪ )1:‬واإلله اء ه و االش تغال بم ا ال يع ني‪ ،‬وه و من عم ل‬
‫النفوس الضعيفة التي تقع عاجزة أمام متطلبات رغباتها‪ ،‬فل ذلك تقب ل إقب اال‬
‫كليا عليها وفي حرص شديد‪ ،‬وق د ت ترك أثن اء ذل ك التلهي وذل ك الح رص‬
‫مصالحها العاجلة واآلجلة‪ ،‬وقد ال تلتفت إلى النقائص الكث يرة لألش ياء ال تي‬
‫تشتغل بعدها وإحصائها والمباهاة بها عن النظر في قيمتها وجدواها‪.‬‬
‫بينما تبدأ سورة الكوثر بضمير المتكلم المؤكد بـ ( إن ا )‪،‬وه و ض مير‬
‫يعود على هللا تعالى‪ ،‬فالكثرة التي تتحدث عنها هذه الس ورة ك ثرة رباني ة ال‬
‫كثرة نفسية‪ ،‬وكل ما هو رباني في منتهى الجم ال والحس ن والكم ال‪ ،‬وليس‬
‫في اإلمكان وجود ما هو أحسن من ه‪ ،‬ألن ذل ك يقتض ي موج دا آخ ر‪ ،‬وه و‬
‫مستحيل‪.‬‬
‫وهي جمل ة إس مية مؤك دة لتفي د ثب وت معناه ا ودوام ه واس تمراره‪،‬‬
‫بخالف استهالل سورة التكاثر بالجملة الفعلي ة المرتبط ة ب الزمن الماض ي‪،‬‬
‫فاإللهاء مهما امتد زمنه سيفنى وسيتحول إلى حدث ماض ال تغ ني فرحت ه‪،‬‬
‫وال تذكر نشوته‪.‬‬
‫وبعد االستهالل يأتي موض وع التك اثر والك وثر‪ ،‬وفي الق رآن الك ريم‬

‫‪ )(1‬فتح القدير‪5/715:‬‬

‫‪50‬‬
‫حديث مستفيض عن كليهما‪:‬‬
‫وأول تصحيح لمفهوم الك ثرة نج ده في قول ه تع الى ‪  :‬قُ لْ اَل يَ ْس ت َِوي‬
‫ب لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫ث فَ اتَّقُوا هَّللا َ يَ اأُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ‬ ‫يث َوالطَّيِّبُ َولَوْ أَ ْع َجبَ كَ َك ْث َرةُ ْال َخبِي ِ‬ ‫ْالخَ بِ ُ‬
‫تُ ْفلِحُونَ ‪(‬المائدة‪)100:‬‬
‫فهذه اآلية تضع الميزان الصحيح لتقييم األشياء‪ ،‬فليس هو بالعدد وإنما‬
‫هو بالنوع‪ ،‬وليس هو بالكم ولكنه بالكيف‪ ،‬فالخبيث ـ وهو في لس ان الش رع‬
‫كل نجس و منكر وقبيح ـ ال يمكن أن يتساوى مع الطيب‪ ،‬ولو كثر الخ بيث‪،‬‬
‫بل إن كثرته ال تزيده إال قبحا ودمامة وخبثا‪.‬‬
‫واإلعجاب الناشئ من كثرة الخبيث إعجاب نفس ي ينقلب تعجب ا ب أول‬
‫نظر عقلي يزن األشياء بموازينها الصحيحة‪ ،‬ولهذا ج اء الخط اب في اآلي ة‬
‫ألولي األلباب أصحاب الحقائق ال القشور‪.‬‬
‫وقد بين القرآن الكريم عل ة انه زام الص حابة أول غ زوة ح نين‪ ،‬وه و‬
‫اإلعجاب بالكثرة والفرح بها والتلهي عن أسباب النصر الحقيقية‪ ،‬قال تعالى‬
‫َص َر ُك ْم هَّللا ُ فِي َم َوا ِطنَ َكثِي َر ٍة َويَوْ َم ُحنَ ْي ٍن إِ ْذ أَ ْع َجبَ ْت ُك ْم َك ْث َرتُ ُك ْم فَلَ ْم تُ ْغ ِن‬
‫‪ :‬لَقَ ْد ن َ‬
‫ت ثُ َّم َولَّ ْيتُ ْم ُم ْدبِ ِرينَ ‪(‬التوبة‪)25:‬‬ ‫ت َعلَ ْي ُك ْم اأْل َرْ ضُ بِ َما َر ُحبَ ْ‬‫ض اق َ ْ‬
‫َع ْن ُك ْم َش ْيئًا َو َ‬
‫ولهذا لم ينتصر في هذه المعركة كما تروي كتب الس يرة إال القل ة م ع‬
‫رس ول هللا ‪ ‬بثب اتهم‪ ،‬ليج ني غ يرهم ثم رات انتص ارهم‪ ،‬ويعلم وا أن هللا‬
‫تعالى هو الناصر لعباده ال القلة أو الكثرة‪.‬‬
‫وتلك الثلة اإليمانية التي ال تنظر أثناء المعارك الكثيرة‪ ،‬معارك الحياة‬
‫والحضارة والحرب‪ ،‬هي ال تي انتص ر معه ا ط الوت عن دما تح ول الجم ع‬
‫الكثير من بني إسرائيل الذين طلبوا القتال إلى رغوة صابون نفختها الرياح‪،‬‬
‫َص َر ُك ْم هَّللا ُ فِي َم َوا ِطنَ َكثِ ي َر ٍة َويَ وْ َم ُحنَي ٍْن إِ ْذ أَ ْع َجبَ ْت ُك ْم‬ ‫ق ال تع الى ‪  :‬لَقَ ْد ن َ‬
‫ت َعلَ ْي ُك ْم اأْل َرْ ضُ بِ َم ا َر ُحبَ ْ‬
‫ت ثُ َّم َولَّ ْيتُ ْم‬ ‫ض اق َ ْ‬ ‫َك ْث َرتُ ُك ْم فَلَ ْم تُ ْغ ِن َع ْن ُك ْم َش ْيئًا َو َ‬
‫ُم ْدبِ ِرينَ ‪( ‬البقرة‪)25:‬‬
‫فقد سار معه في أول المعركة ـ كما يذكر المفسرون ـ ثمانون ألفا‪ ،‬ولم‬
‫يثبت إال الذين قالوا تلك الكلمة وهم على عدة أصحاب بدر ثالثمائة وبض عة‬
‫عشر‪ ،‬وكان من حكمة طالوت ودالئل بسطة علمه أنه لم يعنف أحدا ليخرج‬
‫معه‪ ،‬بل جعل خروج الناس معه تطوعا وفداء‪ ،‬ثم نقى من جيشه كل جراثيم‬
‫الفساد التي قد تنخر قوته ووحدته‪.‬‬
‫والقرآن الك ريم يك اد يختص ر تل ك الثل ة أيض ا في داود علي ه الس الم‬

‫‪51‬‬
‫عندما قتل جالوت‪ ،‬وارتبط بقتله النصر‪ ،‬ألن النصر في المع ارك ق د يك ون‬
‫بفتح باب‪ ،‬وقد يكون بصيحة‪ ،‬وقد يكون بخفقة ريح‪ ،‬وقد يك ون بقط ع رأس‬
‫كرأس جالوت‪.‬‬
‫وفي معارك الحياة والحضارة قد تختصر األم ة من األمم والقري ة من‬
‫الق رى في مخ ترع أو مكتش ف أو فيلس وف أو رب اني لتنفخ في الغوغ اء‬
‫الرياح‪.‬‬
‫وقد جعل هللا تعالى من آياته أن ينتصر المؤمنون في أول لقاء لهم م ع‬
‫المشركين في غ زوة ب در م ع ك ونهم الثل ة القليل ة الحافي ة الجائع ة العاري ة‬
‫المستضعفة‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬قَ ْد َكانَ لَ ُك ْم آيَةٌ فِي فِئَتَ ْي ِن ْالتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِ ُل فِي َس بِي ِل‬
‫هَّللا ِ َوأُ ْخ َرى َكافِ َرةٌ يَ َروْ نَهُ ْم ِم ْثلَ ْي ِه ْم َر ْأ َ‬
‫ي ْال َع ْي ِن َوهَّللا ُ يُ َؤيِّ ُد بِن ْ‬
‫َص ِر ِه َم ْن يَ َش ا ُء إِ َّن‬
‫صار‪( ‬آل عمران‪)13:‬‬ ‫ك لَ ِعب َْرةً أِل ُوْ لِي اأْل َ ْب َ‬
‫فِي َذلِ َ‬
‫وه ذه اآلي ة‪ ،‬كك ل آي ة في الق رآن الك ريم‪ ،‬ليس الخط اب به ا خاص ا‬
‫باليهود وإال فرغت من محتواها ودخلت كتب التاريخ‪ ،‬بل الخطاب بها ع ام‬
‫لجميع المؤمنين‪ ،‬و في ك ل العص ور‪ ،‬لي دركوا أن هللا تع الى ه و الفاع ل ال‬
‫القلة أو الكثرة‪.‬‬
‫وهذا اإلدراك الذي ينزع من قلوبهم الزهو بكل أشكاله هو الذي يثبتهم‬
‫في ك ل المع ارك‪ ،‬ألن األق دام المزه وة المختال ة ال تس تقر على أراض ي‬
‫المعارك الحربية والعلمية والحضارية …‬
‫وله ذا اعت بر ‪ ‬في جلس ة ل ه م ع الص حابة لدراس ة أعم ق مش اكل‬
‫الحضارة‪ ،‬وتبصر أخطر األزم ات ال تي س تمر به ا األم ة‪ ،‬وإعط اء أنج ع‬
‫الحلول‪ ،‬الكثرة غثاء كغث اء الس يل‪ ،‬ق د ال تض ر ولكنه ا ال تنف ع‪ ،‬ق ال ‪: ‬‬
‫( يوش ك األمم أن ت داعى عليكم كم ا ت داعى األكل ة إلى قص عتها‪،‬فق ال‬
‫قائل‪:‬ومن قل ة نحن يومئ ذ‪ ،‬ق ال‪ :‬ب ل أنتم يومئ ذ كث ير‪ ،‬ولكنكم غث اء كغث اء‬
‫السيل‪ ،‬ولينزعن هللا من صدور عدوكم المهابة منكم‪ ،‬وليقذفن هللا في قل وبكم‬
‫ال وهن‪ ،‬فق ال قائ ل‪:‬ي ا رس ول هللا وم ا ال وهن؟ ق ال‪( :‬حب ال دنيا وكراهي ة‬
‫الموت)(‪)1‬‬

‫وكان ‪ ‬يربي الص حابة على معرف ة الرج ال بأق دارهم ال بتك اثرهم‬
‫وتعاظمهم‪ ،‬وأن القلة النافعة خير من الكثرة الضارة‪ :‬مر رجل على رس ول‬
‫هللا ‪ ،‬فقال لرجل عنده جالس‪:‬ما رأيك في ه ذا؟‪ ،‬فق ال‪:‬رج ل من أش راف‬
‫‪ )(1‬رواه أبو داود (‪)4297‬‬

‫‪52‬‬
‫الناس‪ ،‬هذا وهللا حري إن خطب أن ينكح‪ ،‬وإن شفع أن يشفع‪،‬فسكت رس ول‬
‫هللا ‪ ‬ثم مر رجل آخر‪ ،‬فقال له رسول هللا ‪:‬م ا رأي ك في ه ذا؟ فق ال‪:‬ي ا‬
‫رسول هللا هذا رجل من فقراء المس لمين‪ ،‬ه ذا ح ري إن خطب أن ال ينكح‪،‬‬
‫وإن شفع أن ال يشفع‪ ،‬وإن قال أن ال يسمع لقوله‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ (: ‬هذا‬
‫خير من ملء األرض مثل هذا)(‪)1‬‬

‫ولهذا فإن القرآن الكريم يعتبر الثلة الصالحة السابقة بالخيرات في ك ل‬


‫األمم ثلة قليلة‪ ،‬وما عداها دهماء وغوغاء وعامة وظلم ة وفس قة ومفس دون‬
‫في األرض‪ ،‬وليس ذلك من األرستقراطية‪ ،‬وإنما هو إخب ار ب الواقع ال ديني‬
‫والخلقي للبشر‪ ،‬ألن البشر كالمعادن والمعادن بعد حرقها تكون ندرتها بقدر‬
‫جودته ا‪ ،‬وق د يمن الجب ل العظيم بحفن ة من ال ذهب وبأطن ان من الحج ارة‬
‫والشوائب‪ ،‬قال تعالى مخبرا عن مواقف الخلق يوم القيامة عن دما يص نفون‬
‫بحسب نوعياتهم وجواهرهم وحق ائقهم‪ ،‬فهم بين الس ابقين وهم الثل ة الن ادرة‬
‫رينَ ‪‬‬ ‫التي أخ بر تع الى عن قلته ا بقول ه‪ :‬ثُلَّةٌ ِم ْن اأْل َ َّولِينَ َوقَلِي ٌل ِم ْن اآْل ِخ ِ‬
‫(الواقعة‪)14:‬‬
‫بينما قال عن أه ل اليمين وهم عام ة المؤم نين‪  :‬ثُلَّةٌ ِم ْن اأْل َ َّولِينَ َوثُلَّةٌ‬
‫ِم ْن اآْل ِخ ِرينَ ‪( ‬الواقع ة‪ )14 ،13:‬وس كت عن ذك ر ب اقي الخل ق من أه ل‬
‫الش مال ألن ع ددهم يف وق الحص ر وال قيم ة لع دهم‪ ،‬وجميعهم ال يس اوي‬
‫واحدا من المؤمنين‪.‬‬
‫وأخبر تعالى عن قلة عباده الش اكرين‪ ،‬وهم ال ذين عرج وا ب أرواحهم‬
‫إلى أرقى معارج الكمال‪،‬قال تعالى ‪َ :‬وقَلِي ٌل ِم ْن ِعبَا ِدي ال َّش ُكو ُر ‪(‬سبأ‪)13:‬‬
‫بينما جاءت النصوص الكثيرة تصف غ يرهم ب الكثرة‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫ْرفُونَ‬ ‫ض لَ ُمس ِ‬ ‫ت ثُ َّم إِ َّن َكثِيرًا ِم ْنهُ ْم بَ ْع َد َذلِكَ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫َولَقَ ْد َجا َء ْتهُ ْم ُر ُسلُنَا بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫‪(‬المائدة‪ ،)32:‬وقال تعالى ‪َ :‬و َم ا يَتَّبِ ُع أَ ْكثَ ُرهُ ْم إِاَّل ظَنًّ ا إِ َّن الظَّ َّن اَل يُ ْغنِي‬
‫ق َش ْيئًا إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم بِ َما يَ ْف َعلُ ونَ ‪(‬ي ونس‪ ،)36:‬وق ال تع الى ‪َ :‬ولَ ِك َّن‬ ‫ِم ْن ْال َح ِّ‬
‫اس َولَ وْ‬ ‫اس اَل يَ ْش ُكرُونَ ‪(‬البقرة‪ ،)243:‬وقال تعالى ‪َ :‬و َما أَ ْكثَ ُر النَّ ِ‬ ‫أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫َح َرصْ تَ بِ ُم ْؤ ِمنِينَ ‪(‬يوسف‪ ،)103:‬وقال تع الى ‪َ  :‬و َم ا يُ ْؤ ِم ُن أَ ْكثَ ُرهُ ْم بِاهَّلل ِ‬
‫إِاَّل َوهُ ْم ُم ْش ِر ُكون‪(‬يوسف‪)106:‬‬
‫بل إن اآليات ال تس تثني رج ال ال دين والق ائمين علي ه من ه ذه الس نة‬
‫االجتماعي ة‪ ،‬س نة فس اد األكثري ة‪ ،‬وذل ك مم ا ي نزع ت وهم أرس تقراطية‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ )5091( 7/9‬وفي ‪)6447( 8/118‬‬

‫‪53‬‬
‫المؤمنين بسبب قلة عددهم‪ ،‬ألن المؤمنين ليسوا فقط رجال ال دين والق ائمين‬
‫علي ه‪ ،‬ق ال تع الى عن رج ال ال دين من اليه ود والنص ارى ـ وال م انع من‬
‫استفادة المسلمين من هذا النص وتعبيره عن بعض الواقع المزري ال ذي ق د‬
‫يمثله بعض القائمين على الدين ـ‪ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن َكثِ يراً ِمنَ اأْل َحْ بَ ِ‬
‫ار‬
‫ص ُّدونَ ع َْن َس بِي ِل هَّللا ِ ‪(‬التوب ة‪:‬‬ ‫اط ِل َويَ ُ‬ ‫اس بِ ْالبَ ِ‬ ‫َوالرُّ ْهبَا ِن لَيَأْ ُكلُونَ أَ ْم َو َ‬
‫ال النَّ ِ‬
‫ار ُعونَ ِفي اأْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َوا ِن َوأَ ْكلِ ِه ُم‬ ‫‪ ،)34‬وقال تعالى ‪َ :‬وتَ َرى َكثِيراً ِم ْنهُ ْم يُ َس ِ‬
‫س َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ‪( ‬المائدة‪)62:‬‬ ‫السُّحْ تَ لَبِ ْئ َ‬
‫ف الكثرة إذن على ض وء ه ذه النص وص وغيره ا ك ثرة ال قيم ة له ا‪،‬‬
‫وإنما تحمد إن كانت كثرة صالحة ألنها حينذاك ال تزيدها الكثرة إال جم اال‪،‬‬
‫ولعله ألجل ذلك قال ‪ (: ‬تزوج وا ال ودود الول ود ف إني مك اثر بكم األمم)‬
‫(‪ ، )1‬وقد دل هذا الحديث على الكثرة النوعية ال الكثرة الكمية‪ ،‬ألن المباه اة‬
‫ال تكون بالمتردية والنطيحة وما أكل السبع‪ ،‬ولهذا جع ل من ص فات الم رأة‬
‫الولود كونها ودودا‪ ،‬وتوفر هذه الصفة فيها توفر للتربية الص الحة والتنش ئة‬
‫الطيبة‪ ،‬وكثرة كل شخص بهذا االعتب ار بحس ب طاقت ه التربوي ة ال بحس ب‬
‫طاقته المادية فقط‪.‬‬
‫وألجل ه ذا أيض ا من هللا على المؤم نين ب أن ك ثرهم‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫اذ ُك رُوا إِ ْذ ُكنتُ ْم قَلِياًل فَ َكثَّ َر ُك ْم َوانظُ رُوا َك ْي فَ َك انَ عَاقِبَ ةُ ْال ُم ْف ِس ِدينَ ‪‬‬ ‫َو ْ‬
‫(األعراف‪ ،)86:‬وقال تعالى ‪  :‬ثُ َّم َر َد ْدنَا لَ ُك ْم ْال َك َّرةَ َعلَ ْي ِه ْم َوأَ ْم َد ْدنَا ُك ْم بِ أ َ ْم َوا ٍل‬
‫َوبَنِينَ َو َج َع ْلنَا ُك ْم أَ ْكثَ َر نَفِيرًا‪(‬النحل‪)6:‬‬
‫هذا هو بعض أحاديث القرآن الكريم عن الك ثرة والقل ة البش رية‪ ،‬وم ا‬
‫يحمد منه ا وم ا ي ذم‪ ،‬وه و م ا يش ير إلي ه قول ه تع الى ‪ :‬أَ ْلهَ ا ُك ْم التَّ َك اثُ ُر ‪‬‬
‫(التكاثر‪ ،)1:‬وما يشير إليه أكثر سبب نزولها‪ ،‬قال ابن عب اس ‪ (:‬ن زلت في‬
‫ح يين من ق ريش‪ :‬ب ني عب د من اف‪ ،‬وب ني س هم تع ادوا وتك اثروا بالس ادة‬
‫واألشراف‪ ،‬فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا‪ ،‬وأعز عزيزا‪ ،‬وأعظم نف را‪،‬‬
‫وأكثر عائذا‪ ،‬فك ثر بن و عب د من اف س هما‪ ،‬ثم تك اثروا ب األموات‪ ،‬فك ثرتهم‬
‫سهم)(‪)2‬‬

‫ووردت آراء أخ رى في أس ماء القبائ ل المتف اخرة‪ ،‬والنص يحتم ل‬


‫جميعها‪ ،‬ويحتمل معه ا ش عوبا كث يرة ال ت زال تتف اخر بالعبيه ا ومطربيه ا‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )12640( 3/158‬وفي ‪.)13604( 3/245‬‬


‫‪ )(2‬تفسير القرطبي (‪)168 /20‬‬

‫‪54‬‬
‫ومصفقيها‪.‬‬
‫ولكن الكلمة تحتمل مع ذلك معاني أخرى من الك ثرة المذموم ة‪ ،‬وهي‬
‫ال تي فس رها ‪ ‬بقول ه بع د أن ق را اآلي ة به ذا الخط اب الموج ه ألعم اق‬
‫النفس ‪ (:‬يقول ابن آدم‪ :‬مالي مالي! وهل لك يا بن آدم من مالك إال م ا أكلت‬
‫فأفنيت‪ ،‬أو لبس ت ف أبليت‪ ،‬أو تص دقت فأمض يت‪ ،‬وم ا س وى ذل ك ف ذاهب‬
‫وتاركه للناس)(‪)1‬‬

‫وفسرها بقوله اآلخر الذي يعبر عن الح رص البش ري الموض وع في‬


‫غير محله‪ ،‬ق ال ‪ (: ‬ل و أن البن آدم وادي ا من ذهب‪ ،‬ألحب أن يك ون ل ه‬
‫واديان‪ ،‬ولن يمأل فاه إال التراب‪ ،‬ويتوب هللا على من تاب)(‪)2‬‬

‫وله ذا اعت بر الق رآن الك ريم التك اثر من مكون ات الحي اة ال دنيا ال تي‬
‫يمتزج فيها اللهو واللعب والزينة كما تمتزج النباتات المختلفة في حقل واحد‬
‫ينزل عليه المطر فيحيله أخضر يانعا تبتهج له النفس ويسر ل ه القلب‪ ،‬ولكن‬
‫سرعان ما تطل علي ه الش مس بحرارته ا الحارق ة فتحيل ه أص فر ش احبا ثم‬
‫هشيما حصيدا‪ ،‬وحينذاك تكون القيمة لنوع الحب والحصاد‪ ،‬فمن ه م ا ينتف ع‬
‫به اإلنسان ومنه ما ينتفع به الحيوان‪ ،‬ومنه ما تنتفع به النار‪.‬‬
‫ولذلك انتقل المشهد القرآني مباشرة من الحقل إلى اآلخرة ليبين أن واع‬
‫الجزاء التي ال تختلف كثيرا عن جزاء الحصاد‪ ،‬قال تع الى ‪ :‬ا ْعلَ ُم وا أَنَّ َم ا‬
‫ال َواأْل َوْ اَل ِد‬
‫ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا لَ ِعبٌ َولَ ْه ٌو َو ِزينَ ةٌ َوتَفَ ا ُخ ٌر بَ ْينَ ُك ْم َوتَ َك اثُ ٌر فِي اأْل َ ْم َو ِ‬
‫ون ُحطَا ًم ا َوفِي‬ ‫ص فَ ًّرا ثُ َّم يَ ُك ُ‬ ‫ب ْال ُكفَّ َ‬
‫ار نَبَاتُهُ ثُ َّم يَ ِهي ُج فَتَ َراهُ ُم ْ‬ ‫ث أَ ْع َج َ‬
‫َك َمثَ ِل َغ ْي ٍ‬
‫ع‬‫ان َو َم ا ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا إِاَّل َمتَ ا ُ‬
‫ض َو ٌ‬ ‫اآْل ِخ َر ِة َع َذابٌ َش ِدي ٌد َو َم ْغفِ َرةٌ ِم ْن هَّللا ِ َو ِر ْ‬
‫ْال ُغرُورِ‪(‬الحديد‪)20:‬‬
‫ولعل سر اعتبار الك ثرة من مكون ات الحي اة ال دنيا بمفهومه ا الس اذج‬
‫البس يط ه و ذل ك الغ رور ال ذي ينت اب المس تكثر حين ي رى نفس ه محص نا‬
‫بأموال ال تفنيها القرون‪ ،‬وبعدد ال تقتحمه الجيوش‪ ،‬وحين يرى أنه قد ضمن‬
‫دنياه ومستقبله‪ ،‬وقد يستبد به الغرور فيتصور أن الحظ الذي حالفه في الدنيا‬
‫سيحالفه في اآلخرة‪ ،‬أو أن هللا الذي أنعم عليه في الدنيا لن يمل ك إال أن ينعم‬
‫عليه في اآلخ رة‪ ،‬أو أن األم وال ال تي جمعه ا بك ل الط رق س تكون رش وة‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )16414( 4/24‬وفي ‪)16415( 4/24‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪ )3501( 1/370‬والبخاري ‪ )6436( 8/115‬وفي (‪ )6437‬ومسلم ‪3/100‬‬
‫(‪)2382‬‬

‫‪55‬‬
‫الس ذج‪ :‬‬ ‫ص الحة لخزن ة الن ار فال يعذبون ه‪ ،‬ق ال تع الى عن أمث ال ه ؤالء‬
‫َوقَالُوا نَحْ ُن أَ ْكثَ ُر أَ ْم َوااًل َوأَوْ اَل دًا َو َما نَحْ ُن بِ ُم َع َّذبِينَ ‪(‬سبأ‪)35:‬‬
‫ولهذا تفتح ألمثال هؤالء المغرورين خ زائن األرض بع د أن وص دت‬
‫في وجوههم أبواب السماء‪ ،‬وما إن تشرق في أفواههم ابتس امة النص ر على‬
‫الس ماء ونش وة الف رح باألش ياء ح تى يؤخ ذوا بغت ة وهم في حال ة التب اس‬
‫يمسحون عن أعينهم وهم ال يصدقون ما يرون‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬فَلَ َّما ن َُس وا َم ا‬
‫اب ُك لِّ َش ْي ٍء َحتَّى إِ َذا فَ ِر ُح وا بِ َم ا أُوتُ وا أَ َخ ْذنَاهُ ْم‬ ‫ُذ ِّكرُوا بِ ِه فَتَحْ نَا َعلَ ْي ِه ْم أَب َْو َ‬
‫بَ ْغتَةً فَإ ِ َذا هُ ْم ُم ْبلِسُونَ ‪( ‬األنعام‪)44:‬‬
‫وال تنافي بين الكثرة التي ي ذمها هللا تع الى الش تغال القل وب به ا عن ه‬
‫وتلهيها بها عن حقيقتها وبين الكثرة التي هي نعم ة من نعم ه على خلق ه إذا‬
‫أقاموا الدين وعرفوا كي ف يتع املون م ع كتبهم‪ ،‬حين ذاك ال تفتح لهم أب واب‬
‫األرض فقط‪ ،‬بل تفتح لهم معها أبواب السماء‪ ،‬فيأكلون من فوقهم ومن تحت‬
‫أرجلهم‪ ،‬ولكن الخلق مع هذا الكوثر الرباني يأبون إال أن تغلق في وج وههم‬
‫أبواب السماء‪ ،‬وكأن اللذة ال تتحقق وأبواب السماء مفتوح ة‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫نز َل إِلَ ْي ِه ْم ِم ْن َربِّ ِه ْم أَل َ َكلُ وا ِم ْن فَ وْ قِ ِه ْم‬‫ُ‬ ‫َولَوْ أَنَّهُ ْم أَقَا ُموا التَّوْ َراةَ َواإْل ِ ِ‬
‫يل َو َما أ ِ‬
‫نج َ‬
‫َص َدةٌ َو َكثِي ٌر ِم ْنهُ ْم َسا َء َما يَ ْع َملُ ونَ ‪(‬المائ دة‪:‬‬ ‫ت أَرْ ُجلِ ِه ْم ِم ْنهُ ْم أُ َّمةٌ ُم ْقت ِ‬
‫َو ِم ْن تَحْ ِ‬
‫‪)66‬‬
‫وهذا الكوثر الرباني هو ال ذي أعط اه هللا تع الى لنبي ه وك ل من يس ير‬
‫على قدمه في مقابل عدم تلهيهم بالتكاثر البشري الفاني الزائل‪.‬‬
‫وقد ذكر المفسرون عن هذا الكوثر الرباني أقواال كثيرة منها أن ه نه ر‬
‫في الجنة‪ ،‬وقيل هو حوض النبي ‪ ‬في الموقف‪ ،‬وقيل هو النبوة‪ ،‬وقيل هو‬
‫القرآن‪ ،‬وقيل هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع‪ ،‬وقيل هو كثرة األص حاب‬
‫واألمة‪ ،‬وقيل هو اإليثار‪ ،‬وقيل هو اإلسالم‪ ،‬وقيل رفع ة ال ذكر‪ ،‬وقي ل ن ور‬
‫القلب‪ ،‬وقيل الشفاعة‪ ،‬وقيل المعجزات‪ ،‬وقيل إجابة الدعوة‪ ،‬وقي ل ال إل ه إال‬
‫هللا‪ ،‬وقيل الفقه في الدين‪ ،‬وقيل الصلوات الخمس‪.‬‬
‫والمفس رون بمح اوالتهم حص ر الك وثر في أح د ه ذه األش ياء كمن‬
‫يح اول ع د النعم ال تي تفض ل هللا به ا على نبي ه ‪ ‬وهي نعم ال تع د وال‬
‫تحصى وليس في طاقة البشر عد النعم المرتبط ة بأدن اهم‪ ،‬فكي ف بع د النعم‬
‫المتعلقة بخير خلق هللا وأشرفهم وأقربهم إلى هللا؟‬
‫وهللا تع الى ي راعي الفط رة البش رية في ك ل نعيم يتفض ل ب ه عليهم‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫ومادام البشر ال يشبعون وال يرتوون‪ ،‬بل يطلبون دائم ا المزي د‪ ،‬فاهلل تع الى‬
‫وعد عباده الصالحين برحمته ذلك المزيد غير المحدود في ال دنيا واآلخ رة‪،‬‬
‫قال تعالى عن كثرة الدنيا‪َ  :‬و َمغَانِ َم َكثِ َ ْ‬
‫َزي ًزا َح ِكي ًما‬ ‫يرةً يَأ ُخ ُذونَهَا َو َكانَ هَّللا ُ ع ِ‬
‫‪( ‬الفتح‪ ،)19:‬وقال عن كثرة اآلخرة‪  :‬لَ ُك ْم ِفيهَا فَا ِكهَةٌ َكثِي َرةٌ ِم ْنهَا تَ أْ ُكلُونَ‬
‫‪( ‬الزخرف‪)73:‬‬
‫وكما أن الكثرة في الجنة‪ ،‬كذلك الكثرة في النار‪ ،‬ك ثرة الع دد‪ ،‬وك ثرة‬
‫الصياح‪ ،‬ألنها تتبع الطبيعة البشرية حيثما حلت‪ ،‬يقول تعالى ألهل النار يوم‬
‫احدًا َوا ْد ُعوا ثُبُورًا َكثِيرًا ‪(‬الفرقان‪)14:‬‬ ‫القيامة‪ :‬اَل تَ ْد ُعوا ْاليَوْ َم ثُبُورًا َو ِ‬
‫وفي النار يكتشفون أن كل النعيم الذي تكاثروا به واش تغلوا وتله وا لم‬
‫يكن إال متاعا قليال كالمتاع الضروري الذي يحمله المسافر معه ويجته د في‬
‫ع قَلِي ٌل َولَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم ‪(‬النح ل‪،)117:‬‬ ‫تقليله ما أطاق‪ ،‬قال تع الى ‪َ :‬متَ ا ٌ‬
‫ويرون أن زمن ذلك المتاع كان أقل منه‪ :‬قَا َل إِ ْن لَبِ ْثتُ ْم إِاَّل قَلِياًل لَوْ أَنَّ ُك ْم ُكنتُ ْم‬
‫تَ ْعلَ ُمونَ ‪(‬المؤمنون‪)114:‬‬
‫وال يدركون ذلك إال بعد معرفة السعة اإللهية التي ال تح دها األع داد‪،‬‬
‫وال تحصيها األرقام‪ ،‬وما غفلوا عن ذلك إال ألنهم لم يكونوا ي ذكرون هللا إال‬
‫قليال‪ ،‬ذكرا ال ينبع من قلوبهم وال تتأثر به حياتهم‪ ،‬قال تع الى عن المن افقين‬
‫الغافلين‪  :‬اَل يَ ْذ ُكرُونَ هَّللا َ إِاَّل قَلِياًل ‪( ‬النساء‪)142:‬‬
‫بينم ا ك ان المؤمن ون كم ا تنص عليهم األوص اف القرآني ة الكث يرة‬
‫ت أَ َع َّد هَّللا ُ لَهُ ْم َم ْغفِ َرةً‬ ‫ذك ورهم وإن اثهم من ‪ ‬ال َّذا ِك ِرينَ هَّللا َ َكثِ يرًا َوال َّذا ِك َرا ِ‬
‫َوأَجْ رًا َع ِظي ًما‪(‬األحزاب‪ ،)35:‬وكان ذكر لربهم يشغلهم عن النوم ‪َ  :‬كانُوا‬
‫جعُون ‪(‬الذاريات‪ ،)17:‬فال ينامون من الليل إال قليال‪ :‬‬ ‫قَلِياًل ِم ْن اللَّي ِْل َما يَ ْه َ‬
‫قُ ْم اللَّي َْل إِاَّل قَلِياًل ‪(‬المزمل‪)2:‬‬
‫وهم المستثنون من كل عذاب وفي كل محل‪  :‬إِاَّل الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا‬
‫َص رُوا ِم ْن بَ ْع ِد َم ا ظُلِ ُم وا َو َس يَ ْعلَ ُم الَّ ِذينَ‬ ‫ت َو َذ َك رُوا هَّللا َ َكثِ يرًا َوانت َ‬ ‫الصَّالِ َحا ِ‬
‫ب يَنقَلِبُونَ ‪( ‬الشعراء‪ )227:‬ألن الفوز األبدي ال يكون إال ‪‬‬ ‫ي ُمنقَلَ ٍ‬ ‫ظَلَ ُموا أَ َّ‬
‫لِ َم ْن َكانَ يَرْ جُو هَّللا َ َو ْاليَوْ َم اآْل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِيرًا‪( ‬األحزاب‪)21:‬‬
‫وهذا الذكر هو الذي يصحبهم في سائر شؤون حي اتهم‪ ،‬وبس ببه ك انوا‬
‫يك ثرون من الخ ير ألن س عة هللا تع وض عليهم وخ زائن هللا ال تنف ذ‪ ،‬ق ال‬
‫يرةً‬ ‫ض َعافًا َكثِ َ‬ ‫ُض ا ِعفَهُ لَ هُ أَ ْ‬ ‫ض ا َح َس نًا فَي َ‬‫تعالى ‪َ :‬م ْن َذا الَّ ِذي يُ ْق ِرضُ هَّللا َ قَرْ ً‬
‫َوهَّللا ُ يَ ْقبِضُ َويَ ْب ُسطُ َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ ‪(‬البقرة‪)245:‬‬

‫‪57‬‬
‫ولكن كل هذه المعارف والسلوك النابع منه ا ال يك ون إال باإلكث ار من‬
‫ذك ر هللا ح تى ينح از الم ؤمن إلى ح زب هللا‪ ،‬وله ذا ج اء األم ر الرب اني‬
‫مخصوصا باإلكثار من ذكر هللا دون س ائر األعم ال‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا ْاذ ُكرُوا هَّللا َ ِذ ْكرًا َكثِيرًا‪(‬األحزاب‪)41:‬‬
‫وأول ما يلقيه ذكر هللا في القلب هو الحكمة التي يع رف به ا ص احبها‬
‫حق ائق األش ياء ويم يز الخ بيث من الطيب‪ ،‬ويع رف اس م هللا الواس ع‪ ،‬ق ال‬
‫تعالى ‪ :‬ي ُْؤتِي ْال ِح ْك َمةَ َم ْن يَ َشا ُء َو َم ْن ي ُْؤتَ ْال ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َي َخ ْيرًا َكثِيرًا َو َما‬
‫ب‪(‬البقرة‪)269:‬‬ ‫يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُوْ لُوا اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫والحكمة الربانية التي يعلمه ا ال ذكر في ه ذا المج ال ه و أن ه ال تن ال‬
‫ك ثرة الخ ير إال بك ثرة العم ل‪ ،‬وال تن ال ك ثرة األذى والش ر إال باالش تغال‬
‫بالتكاثر‪ ،‬فالتكاثر والكوثر هم ا المح ددان لمص ير اإلنس ان وحقيقت ه ون وع‬
‫الجزاء الذي يلحقه‪ ،‬ألن كل إنسان ال يكثر إال ما يتناسب م ع طبع ه وجبلت ه‬
‫ووظيفته‪ ،‬وهللا برحمته ال يعطي كل شيء إال خلق ه‪ ،‬وال ي زن لك ل أح د إال‬
‫ظلِ ُم ونَ ‪(‬ي ونس‪:‬‬ ‫اس أَ ْنفُ َس هُ ْم يَ ْ‬
‫اس َش ْيئًا َولَ ِك َّن النَّ َ‬ ‫بس عته‪ :‬إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْ‬
‫ظلِ ُم النَّ َ‬
‫‪)44‬‬
‫ول ذلك ف إن أص ح األق وال في تفس ير اللمم المس تثنى من كب ائر اإلثم‬
‫والف واحش ال وارد في قول ه تع الى في ص فات عب اده المحس نين‪  :‬الَّ ِذينَ‬
‫ك َوا ِس ُع ْال َم ْغفِ َر ِة هُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ُك ْم‬‫ش إِاَّل اللَّ َم َم إِ َّن َربَّ َ‬ ‫يَجْ تَنِبُونَ َكبَائِ َر اإْل ِ ْث ِم َو ْالفَ َو ِ‬
‫اح َ‬
‫ون أُ َّمهَاتِ ُك ْم فَاَل تُ َز ُّكوا أَنفُ َس ُك ْم هُ َو‬ ‫ض َوإِ ْذ أَ ْنتُ ْم أَ ِجنَّةٌ ِفي بُطُ ِ‬ ‫إِ ْذ أَن َشأ َ ُك ْم ِم ْن اأْل َرْ ِ‬
‫أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن اتَّقَى‪(‬النجم‪)32:‬‬
‫وما يعمل ه اإلنس ان الم رة بع د الم رة وال يتعم ق في ه وال يقيم علي ه ;‬
‫يقال‪ :‬ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه‪ ،‬ويقال‪ :‬ما فعلته إال لمم ا وإلمام ا;‬
‫أي الحين بعد الحين‪ ،‬ومنه إلمام الخيال‪ ،‬قال األعشى ‪:‬‬
‫وهى حبلها من حبلنا فتصرما‬ ‫ألم خيال من قتيلة بعدما‬
‫ألن ك ل إنس ان بطبيعت ه الطيني ة المس تعدة للخط أ ق د يلم بال ذنب بع د‬
‫الذنب‪ ،‬وهللا بسعة مغفرته يتجاوز عنه‪ ،‬ولكنه إن انحاز إلى ال ذنب واش تغل‬
‫ب ه وأك ثر من ه وأع رض عن هللا بس ببه‪ ،‬ح اق ب ه م ا ح اق ب المكثرين‬
‫والمتك اثرين من الطب ع على القل وب وإغالق أب واب الس ماء وفتح أب واب‬
‫األرض‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫المال‬
‫الفرح بالمال هو من أكثر مجاالت الفرح شيوعا‪ ،‬وهو في نفس الوقت‬
‫السرطان الذي إذا سرى حبه للقلب انتق ل لجمي ع الج وارح فعراه ا الفس اد‪،‬‬
‫وإذا انتقل عشقه لألمة ارتفعت عنها جميع الفضائل‪ ،‬ودب إليها الهالك الذي‬
‫قد ال يرفع جثمانها عن األرض ولكن يرف ع حقيقته ا‪ ،‬وق د ق ال ‪ (: ‬اتق وا‬
‫الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة‪ ،‬واتق وا الش ح ف إن الش ح أهل ك من ك ان‬
‫قبلكم‪ ،‬حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)(‪)1‬‬

‫وهذا الربط بين الش ح ال ذي يمث ل المبالغ ة في حب الم ال وبين الظلم‬


‫بأوسع معانيه دليل على العالقة الوطيدة بينهم ا‪ ،‬الظلم ال ذي ي أتي ب ه الم ال‬
‫والذي شكا منه الشعراء بكل عبارات السخرية‪ ،‬كما قال بعضهم ساخرا‪:‬‬
‫المال يستر كل عيب في الفتى والمال يرف ع ك ل وغ د س اقط‬
‫رب بكتب العلم بطن‬ ‫اض‬ ‫فعليك باألموال فاقصد جمعها‬
‫الحائط‬ ‫ووقال يحي بن أكثم‪:‬‬
‫وض اقت علي ه أرض ه‬ ‫إذا ق ل م ال الم رء ق ل به اؤه‬
‫ماؤه‬ ‫وس‬
‫أقدام ه خ ير ل ه أم وراؤه‬ ‫وأصبح ال يدري وإن كان حازم ا‬
‫من الن اس إال ض اق عن ه‬ ‫ولم يمض في وج ه من األرض‬
‫اؤه‬ ‫فض‬ ‫وحديثا قال معروف الرصافي‪:‬ع‬
‫واس‬
‫وليس لهم مما افتراه نصيب‬ ‫وق د يف تري الم ال الفض ائل‬
‫حس نات الم رء وهي ذن وب‬ ‫للوللفقر بين الناس وجه تورى‬
‫بينت‬
‫وأحجم ذو فقر فقي ل هي وب‬ ‫بلق د أحجم الم ثري فس ه‬
‫موه‬
‫وإن يتواض ع ذو الغ نى‬ ‫حازمايتواض ع مع دم فه و‬
‫وإن‬
‫فنجيب‬
‫الوجد منطيق به ولبيب‬ ‫وذو‬ ‫اغر‬ ‫ص‬
‫وذو العدم ثرثار بكثر كالم ه‬
‫والفرح بالمال هو الف رح الوحي د ال ذي ج اء ذم ه ص ريحا في الق رآن‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )14515( 3/323‬وعبد بن حميد ‪ 1143‬والبخ اري‪ ،‬في (األدب المف رد)‬
‫‪ 483‬ومسلم ‪)6668( 8/18‬‬

‫‪59‬‬
‫الكريم مش فوعا بالالزم ة الخط يرة ‪ ‬إِ َّن هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ ‪ ،‬ق ال تع الى حكاي ة‬
‫عن ق ارون وعن الص الحين من ب ني إس رائيل ال ذين لم يغ رهم مال ه‪ :‬إِ َّن‬
‫وز َم ا إِ َّن َمفَاتِ َح هُ‬ ‫وس ى فَبَغَى َعلَ ْي ِه ْم َوآتَ ْينَ اهُ ِم ْن ْال ُكنُ ِ‬ ‫قَارُونَ َك انَ ِم ْن قَ وْ ِم ُم َ‬
‫ر ِحينَ ‪‬‬ ‫ال لَهُ قَوْ ُمهُ اَل تَ ْف َرحْ إِ َّن هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ ْالفَ ِ‬ ‫لَتَنُو ُء بِ ْالعُصْ بَ ِة أُولِي ْالقُ َّو ِة إِ ْذ قَ َ‬
‫(القصص‪)76:‬‬
‫والفرح بالم ال ه و الحائ ل بين العق ول الغافل ة وقب ول الح ق وطاع ة‬
‫ال نُ و ٌح َربِّ إِنَّهُ ْم‬ ‫أنبيائها مع ت وفر جمي ع دواعي ص دقهم‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬قَ َ‬
‫َصوْ نِي َواتَّبَعُوا َم ْن لَ ْم يَ ِز ْدهُ َمالُهُ َو َولَ ُدهُ إِاَّل َخ َسارًا ‪( ‬نوح‪)21:‬‬ ‫ع َ‬
‫وأخبر تعالى أن ذلك هو شأن جميع األقوام الذين كذبوا رسلهم‪ ،‬وله ذا‬
‫يقف أول من يقف في وجوههم المترفون عبيد األموال‪ ،‬قال تع الى عن ه ذه‬
‫ال ُم ْت َرفُوهَ ا إِنَّا بِ َم ا‬‫ير إِاَّل قَ َ‬ ‫السنة االجتماعية‪َ  :‬و َما أَرْ َس ْلنَا ِفي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَ ِذ ٍ‬
‫أُرْ ِس ْلتُ ْم بِ ِه َكافِرُونَ َوقَالُوا نَحْ ُن أَ ْكثَ ُر أَ ْم َوااًل َوأَوْ اَل دًا َو َما نَحْ ُن بِ ُم َع َّذبِينَ ‪(‬س بأ‪:‬‬
‫‪ )34،35‬قال قتادة‪:‬مترفوها‪ :‬أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها‪.‬‬
‫ولهذا تعفف جميع األنبياء عن أخذ األموال من أقوامهم وص احوا فيهم‬
‫كما صاح هود عليه السالم ‪ :‬يَاقَوْ ِم اَل أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ رًا إِ ْن أَجْ ِري إِاَّل َعلَى‬
‫الَّ ِذي فَطَ َرنِي أَفَاَل تَ ْعقِلُونَ ‪( ‬هود‪ ،)51:‬وكما أمر النبي ‪ ‬أن يق ول لقوم ه‪:‬‬
‫‪ ‬قُلْ اَل أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ رًا إِ ْن هُ َو إِاَّل ِذ ْك َرى لِ ْل َعالَ ِمينَ ‪( ‬األنعام‪ ،)90:‬وأخ بر‬
‫أن الرسل لو طلبوا أمواال من قومهم لكان ذلك مبررا كافي ا لهم لبع دهم عن‬
‫الحق لثقل إنفاق األموال عليهم‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬أَ ْم تَسْأَلُهُ ْم أَجْ رًا فَهُ ْم ِم ْن َم ْغ َر ٍم‬
‫ُم ْثقَلُونَ ‪( ‬الطور‪)40:‬‬
‫والف رح بالم ال ه و ال ذي يح ول بين األس ماع واس تماع النص ح‪،‬ق ال‬
‫ك َم ااًل َوأَ َع ُّز‬ ‫او ُرهُ أَنَا أَ ْكثَ ُر ِم ْن َ‬
‫احبِ ِه َوهُ َو يُ َح ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ال لِ َ‬‫تعالى ‪َ :‬و َكانَ لَهُ ثَ َم ٌر فَقَ َ‬
‫نَفَرًا‪(‬الكهف‪)34:‬‬
‫والفرح بالمال والرك ون إلي ه ه و أح د األس باب الك برى في تحري ف‬
‫األديان‪ ،‬ألن رج ال ال دين ال ذين يفرح ون بالم ال ينس ون هللا والقيم والكتب‬
‫ان‬‫ار َوالرُّ ْهبَ ِ‬ ‫أمام بريقه‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن َكثِ يرًا ِم ْن اأْل َحْ بَ ِ‬
‫َب‬ ‫ص ُّدونَ ع َْن َسبِي ِل هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ يَ ْكنِ ُزونَ ال َّذه َ‬ ‫اس بِ ْالبَا ِط ِل َويَ ُ‬ ‫ال النَّ ِ‬‫لَيَأْ ُكلُونَ أَ ْم َو َ‬
‫ب أَلِيم‪( ‬التوبة‪)34:‬‬ ‫يل هَّللا ِ فَبَ ِّشرْ هُ ْم بِ َع َذا ٍ‬
‫ضةَ َواَل يُنفِقُونَهَا فِي َسبِ ِ‬ ‫َو ْالفِ َّ‬
‫وه ذا الرب ط العجيبب بين األحب ار وهم العلم اء‪ ،‬وبين الرهب ان وهم‬
‫العباد‪ ،‬وبين الذين يكنزون األموال‪ ،‬يلخص الحق ائق التاريخي ة الكث يرة عن‬

‫‪60‬‬
‫األديان ال تي أص بحت مراك ز جباي ة س واء م ا ك ان منه ا دور علم أو دور‬
‫عبادة‪.‬‬
‫وفي التعبير بالكنز دون التجارة دليل على أن الموارد ال تي ال تنض ب‬
‫لتلك ال دور جعلتهم يكتف ون ب الكنز دون االس تثمار‪ ،‬ألن ه ال يس تثمر إال من‬
‫يخ اف على رأس الم ال‪ ،‬ورأس م ال أولئ ك ه و أل واحهم وص لبانهم‪ ،‬وفي‬
‫االقتصار على ذكر الذهب والفضة دون غيره ا من ص نوف األم وال دلي ل‬
‫على الثراء الفاحش لتلك الدور‪ ،‬وهذه الحقائق القرآنية كلها تطفح بتفاصيلها‬
‫كتب التاريخ‪.‬‬
‫والقرآن الك ريم يعت بر ك ل ذل ك س حتا‪ ،‬ولكن ه ي بين أن ذل ك ه و دأب‬
‫األكثري ة‪ ،‬ألن في ك ل دين زه اده وأه ل اإلخالص في ه‪ ،‬وه و من أس اليب‬
‫الق رآن في حديث ه عن الم ذاهب والمل ل فال يعمم حين ال يقتض ي المق ام‬
‫الس حْ تَ‬ ‫ار ُعونَ فِي اإْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َوا ِن َوأَ ْكلِ ِه ْم ُّ‬ ‫التعميم‪َ  :‬وتَ َرى َكثِ يرًا ِم ْنهُ ْم ي َُس ِ‬
‫س َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ‪( ‬المائدة‪)62:‬‬ ‫لَبِ ْئ َ‬
‫والمال هو أحد الفتن الكبرى التي يختبر هللا بها عب اده‪ ،‬وأص ل الفتن ة‬
‫إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته‪ ،‬ولذلك جعل هللا األموال محكا‬
‫الختبار أصل مع دن ك ل إنس ان‪ ،‬ه ل ه و ذهب أم ش وائب؟ ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫َظي ٌم‪( ‬األنفال‪)28:‬‬ ‫َوا ْعلَ ُموا أَنَّ َما أَ ْم َوالُ ُك ْم َوأَوْ اَل ُد ُك ْم فِ ْتنَةٌ َوأَ َّن هَّللا َ ِع ْن َدهُ أَجْ ٌر ع ِ‬
‫وضرورة االختبار تقتضي التزيين والتحبيب إلى القلوب‪ ،‬تزيين أمور‬
‫كثيرة يختلط فيها الحق والباطل‪ ،‬ليظهر من يختار الحق ومن يختار الباط ل‬
‫ت ِم ْن‬ ‫الش هَ َوا ِ‬‫اس حُبُّ َّ‬ ‫ليتميز بذلك معدن كل إنس ان‪ ،‬ق ال تع الى‪ُ  :‬زيِّنَ لِلنَّ ِ‬
‫ض ِة َو ْالخَ ْي ِل ْال ُم َس َّو َم ِة‬ ‫ب َو ْالفِ َّ‬ ‫ير ْال ُمقَ ْنطَ َر ِة ِم ْن ال َّذهَ ِ‬ ‫اط ِ‬ ‫النِّ َس ا ِء َو ْالبَنِينَ َو ْالقَنَ ِ‬
‫ب‪(‬آل‬ ‫ُس ُن ْال َم آ ِ‬‫ع ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َوهَّللا ُ ِع ْن َدهُ ح ْ‬ ‫ث َذلِ كَ َمتَ ا ُ‬ ‫َواأْل َ ْن َع ِام َو ْال َح رْ ِ‬
‫عمران‪ ،)14:‬وقد اختلف العلماء في المزين الذي لم يصرح بذكره في اآلية‬
‫كما لم يصرح بذكر مثله في أكثر المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ‪:‬‬
‫فذهب بعضهم في ظاهر قوله إلى أن الم زين ه و هللا تع الى كم ا ق ال‬
‫ع َماًل ‪‬‬ ‫ض ِزينَ ةً لَهَ ا لِنَ ْبلُ َوهُ ْم أَيُّهُ ْم أَحْ َس ُن َ‬ ‫تع الى ‪ :‬إِنَّا َج َع ْلنَ ا َم ا َعلَى اأْل َرْ ِ‬
‫(الكهف‪ ،)7:‬فاهلل تعالى أخبر في هذه اآلي ة أن ه ه و ال ذي جع ل ك ل م ا في‬
‫األرض زينة ليقع االختبار‪.‬‬
‫وذهب آخرون إلى أن المزين هو الشيطان مستدلين بذم القرآن لل دنيا‪،‬‬
‫ويشير إلي ه قول ه تع الى في خطاب ه للش يطان عن دما رفض الس جود آلدم‪ :‬‬

‫‪61‬‬
‫ار ْكهُ ْم‬ ‫ك َو َش ِ‬ ‫ك َو َر ِجلِ َ‬‫ك َوأَجْ لِبْ َعلَ ْي ِه ْم بِ َخ ْيلِ َ‬ ‫صوْ تِ َ‬ ‫َوا ْستَ ْف ِز ْز َم ْن ا ْستَطَعْتَ ِم ْنهُ ْم بِ َ‬
‫ان إِاَّل ُغرُورًا‪(‬اإلسراء‪)64:‬‬ ‫ال َواأْل َواَل ِد َو ِع ْدهُ ْم َو َما يَ ِع ُدهُ ْم ال َّش ْيطَ ُ‬
‫فِي اأْل َ ْم َو ِ‬
‫ويمكن الجمع بين القولين جميعا وإضافة أق وال أخ رى كث يرة فالفع ل‬
‫المبني للمجهول يحتمل كل ذلك‪.‬‬
‫فتزيين هللا تعالى إنما هو باإليجاد والتهيئة لالنتفاع وإنشاء الجبلة على‬
‫المي ل إلى ه ذه األش ياء‪ ،‬وت زيين الش يطان إنم ا ه و بالوسوس ة والخديع ة‬
‫وتحـسين أخ ذها من غ ير وجوهه ا‪ ،‬وت زيين وس ائل اإلعالم ب أنواع‬
‫اإلش هارات ال تي تقلب الطبيع ة وتغ ير الجبل ة‪ ،‬وت زيين رف اق الس وء‪..‬‬
‫والدراسات العلمية‪ ..‬والبح وث الميداني ة‪ ..‬ومص ممي األزي اء‪ ..‬والش ركات‬
‫الكبرى‪..‬كلها مما تحتمله اآلية وال تضيق به‪.‬‬
‫وألجل هذا التزيين وردت األحاديث الكثيرة تبين مخاطر هذا االختبار‬
‫الذي غرست زينته في القلوب غرسا ثم سقيت بوس اوس الش يطان ووس ائل‬
‫اإلعالم وقرناء الس وء‪ ،‬ق ال ‪ ( :‬حجبت الن ار بالش هوات وحجبت الجن ة‬
‫بالمكاره )(‪ ،)1‬وقال ‪( :‬الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)(‪)2‬‬

‫ولكن النص الق رآني أخ بر بع د ذل ك بم ا ه و خ ير من تل ك الزين ة‬


‫المؤقت ة ‪ ،‬فق ال تع الى ‪ :‬قُ لْ أَ ُؤنَبِّئُ ُك ْم بِ َخ ْي ٍر ِم ْن َذلِ ُك ْم لِلَّ ِذينَ اتَّقَ وْ ا ِع ْن َد َربِّ ِه ْم‬
‫ان ِم ْن‬ ‫ض َو ٌ‬ ‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَ الِ ِدينَ فِيهَ ا َوأَ ْز َوا ٌج ُمطَه ََّرةٌ َو ِر ْ‬ ‫َجنَّ ٌ‬
‫صي ٌر بِ ْال ِعبَاد‪( ‬آل عمران‪)15:‬‬ ‫هَّللا ِ َوهَّللا ُ بَ ِ‬
‫ونال ح ظ في ه ذا النص الق رآني الجلي ل أن ه ق دم الزين ة الحس ية من‬
‫الجنات واألزواج واألنهار على النعيم المعنوي األك بر رض وان هللا‪ ،‬وذل ك‬
‫لميل الطبيعة اإلنسانية الشديد لتلك الشهوات‪.‬‬
‫والقرآن في خطابه للنفس ال يقمع ص فاتها‪ ،‬وإنم ا يوجهه ا بحس ب م ا‬
‫تقتضيه طبيعتها‪ ،‬وطبيعتها كما تنص النصوص الشرعية ه و الحب الش ديد‬
‫اث أَكْاًل لَ ًّم ا َوتُ ِحبُّونَ ْال َم ا َل ُحبًّ ا َج ًّما‪‬‬ ‫للم ال‪ ،‬ق ال تع الى‪َ  :‬وتَ أْ ُكلُونَ التُّ َر َ‬
‫(الفجر‪ ،)20:‬وقال تعالى ‪َ :‬وإِنَّهُ لِحُبِّ ْال َخي ِْر لَ َش ِدي ٌد‪( ‬العاديات‪)8:‬‬
‫ويق ول ‪ ( :‬ل و أن البن آدم واديين من م ال البتغى وادي ا ثالث ا وال‬
‫يمأل جوف ابن آدم إال التراب)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )7521( 2/260‬والبخاري ‪.)6487( 8/127‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪ )6855( 2/197‬وعبد بن حميد ‪.346‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد ‪ )21521( 5/131‬والترمذي ‪ 3793‬و‪.3898‬‬

‫‪62‬‬
‫ولكن ه م ع إق راره ه ذا ال ي ذهب م ذاهب الواقع يين ال ذين لم يفهم وا‬
‫الطبيعة البشرية‪ ،‬ولم يفهموا سنة التدافع فيها لتسير الحياة سيرا مستقيما كما‬
‫يسير الكون جميعا‪ ،‬فلذلك نزعوا القيم من المال جلبا وإنفاقا‪ ،‬واستغرقوا في‬
‫حب المال‪ ،‬وفسروا به حركة الكون والتاريخ‪.‬‬
‫والنبي ‪ ‬يصف هؤالء بعدم العقل وإن حازوا النياش ين وش يدت لهم‬
‫التماثيل‪،‬قال ‪( :‬الدنيا دار من ال دار له ومال من ال مال له ولها يجمع من‬
‫ال عقل له )(‪)1‬‬

‫والقرآن الكريم يخ اطب الن بي ‪ ‬ب أن ال تغ ره تل ك األم وال الكث يرة‬


‫واألرصدة الضخمة المودعة في كل البنوك‪ ،‬بل ينه اه عن مج رد اإلعج اب‬
‫ْج ْبكَ أَ ْم َوالُهُ ْم َواَل أَوْ اَل ُدهُ ْم إِنَّ َما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِيُ َع ِّذبَهُ ْم بِهَ ا‬
‫بها‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬فَاَل تُع ِ‬
‫ق أَنفُ ُسهُ ْم َوهُ ْم َكافِرُونَ ‪(‬التوبة‪)55:‬‬ ‫فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوت َْزهَ َ‬
‫والق رآن الك ريم ينب ه هن ا إلى حقيق ة ض خمة تغيب عن ال ذين تس كر‬
‫أرواحهم بحب المال‪ ،‬وهي أن ذلك المال نوع من العذاب الذي يس لط عليهم‬
‫في الدنيا قبل اآلخرة كم ا ق ال تع الى ‪  :‬أَيَحْ َس بُونَ أَنَّ َم ا نُ ِم ُّدهُ ْم بِ ِه ِم ْن َم ٍ‬
‫ال‬
‫ت بَل اَل يَ ْش ُعرُونَ ‪( ‬المؤمنون‪)56:‬‬ ‫ع لَهُ ْم فِي ْال َخ ْي َرا ِ‬ ‫ار ُ‬ ‫َوبَنِينَ نُ َس ِ‬
‫والمتأمل ألنواع العذاب التي يعانيها أرب اب األم وال حين جمعه ا‪ ،‬أو‬
‫عند المحافظ ة عليه ا‪ ،‬أو عن دما ينب أ أح دهم بخس ارة م ا‪ ،‬أو عن دما يس مع‬
‫بنجاح منافسه يرى من ذلك الشيء الكثير‪.‬‬
‫وق د ص ور الق رآن الك ريم ص ورة كاريكاتوري ة لمث ل ه ذا اإلنس ان‬
‫الالهث وراء األموال يجمعها ويعدها كل حين في سورة خاصة‪ ،‬قال تع الى‬
‫‪َ :‬و ْي ٌل لِ ُك ِّل هُ َم َز ٍة لُ َم َز ٍة الَّ ِذي َج َم َع َم ااًل َو َع َّد َدهُ يَحْ َس بُ أَ َّن َمالَ هُ أَ ْخلَ دَه َكاَّل‬
‫لَيُ ْنبَ َذ َّن فِي ْال ُحطَ َم ِة َو َم ا أَ ْد َراكَ َم ا ْال ُحطَ َم ةُ نَ ا ُر هَّللا ِ ْال ُموقَ َدةُ الَّتِي تَطَّلِ ُع َعلَى‬
‫وص َدةٌ فِي َع َم ٍد ُم َم َّد َد ٍة ‪( ‬سورة الهمزة)‬ ‫اأْل َ ْفئِ َد ِة إِنَّهَا َعلَ ْي ِه ْم ُم َ‬
‫فهي تصور إنسانا دأبه في حياته أن يس خر من غ يره ويس تهزئ بهم‪،‬‬
‫ويس تعين على ذل ك بع د أموال ه‪ ،‬ألنه ا الوحي دة ال تي تبث في نفس ه الثق ة‪،‬‬
‫وترفع من معنوياته‪ ،‬وتجعل غيره صغارا أمام عينيه‪ ،‬يح ل ل ه أن يهم زهم‬
‫ويلمزهم كما يشاء‪.‬‬
‫ولكن السورة التي ترسم هذه الص ورة تختم ببي ان الع ذاب ال ذي يلق اه‬
‫هذا الصنف من الناس‪ ،‬ولكل طبع خارج عن الفطرة عذابه الخاص به‪ ،‬وإن‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪.6/71‬‬

‫‪63‬‬
‫كان ذلك العذاب في اآلخرة إال أنه يتناس ب تمام ا م ع عذاب ه في ال دنيا كم ا‬
‫يتناسب مع نوع جرمه‪ ،‬فالمتهالك في جمع المال وحبه يحطم طبع ه ويهش م‬
‫خصائص ه وينكس ص فاته‪ ،‬فب دل أن يجع ل الم ال خادم ا جعل ه مخ دوما‪،‬‬
‫ووضع نفسه عبدا مسخرا له كما قال ‪( :‬تعس عبد الدينار )‬
‫وهو لذلك يتلظى طول حياته بنار الحسرات والخوف واألمل‪ ،‬ال يه دأ‬
‫أبدا وال يطمئن وال يهنأ بمأكل وال مشرب‪ ،‬والنار تلتهم قلب ه وطبع ه‪ ،‬وه و‬
‫في قيوده الممددة داخ ل س جن الم ال‪ ،‬وق د اختص رت الحي اة في عيني ه في‬
‫بريق الذهب ولمعان الفضة‪.‬‬
‫وألجل هذا االنتكاس الذي يولده الفرح بالمال في النفس البش رية ش به‬
‫‪ ‬مايفعله حب المال بدين الم ؤمن بال ذئاب الجائع ة المرس لة على زريب ة‬
‫غنم‪ ،‬قال ‪ (:‬ما ذئبان جائعان أرسال في غنم أفسد له ا من ح رص الم رء‬
‫على المال والشرف لدينه)(‪)1‬‬

‫ولهذا فإن أول ما يخفف غلواء سكرة الفرح بالمال‪ ،‬والتي هي الس بب‬
‫في كل االنتكاسات الفردية واألممي ة ه و اعتق اد المنفع ة المح دودة ل ه‪ ،‬ألن‬
‫أساس الخط ر ه و المبالغ ة في تض خيم دور الم ال إلى درج ة وزن الن اس‬
‫والمجتمعات والتاريخ من خالله‪ ،‬فالمجتمع ات الي وم تص نف بحس ب دخ ل‬
‫أفرادها ال بحسب القيم المنتشرة بينها‪ ،‬وقد صور تعالى ذل ك الهم زة اللم زة‬
‫أنه ‪ ‬يَحْ َسبُ أَ َّن َمالَهُ أَ ْخلَدَه ‪(‬الهمزة‪)3:‬‬
‫وهذه المحدودية عبر عنها القرآن الكريم بهذه الحقيقة العظمى ‪  :‬يَ وْ َم‬
‫اَل يَ ْنفَ ُع َما ٌل َواَل بَنُ ونَ ‪(‬الش عراء‪ ،)88:‬وبقول ه تع الى إخب ار اعن اإلنس ان‬
‫الغافل عن ربه بسبب مال ه‪َ  :‬و َم ا يُ ْغنِي َع ْن هُ َمالُ هُ إِ َذا تَ َر َّدى ‪(‬اللي ل‪)11:‬‬
‫وبإخبار هللا تعالى عن اإلنسان الغافل يوم يكتشف تلك الحقيق ة فيص يح بن دم‬
‫ك َعنِّي س ُْلطَانِي‪( ‬الحاقة‪)29:‬‬ ‫عظيم ال تقله الجبال‪َ :‬ما أَ ْغنَى َعنِّي َمالِي هَلَ َ‬
‫وضرب لها المثل بعم النبي‪ ‬ال ذي دأب على عداوت ه م ع كون ه ابن‬
‫أخيه‪ ،‬وتشير السورة إلى سبب من األسباب الكبرى لتلك العداوة‪ ،‬قال تعالى‬
‫ص لَى نَ ارًا َذاتَ‬ ‫ب َوتَبَّ َما أَ ْغنَى َع ْنهُ َمالُهُ َو َم ا َك َس َ‬
‫ب َسيَ ْ‬ ‫َّت يَدَا أَبِي لَهَ ٍ‬
‫‪ :‬تَب ْ‬
‫لَهَب‪( ‬المسد‪)3:‬‬
‫فتلك األموال التي شغلته عن الح ق لم تغن عن ه ش يئا ولن تغ ني عن ه‬
‫شيئا‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )15876( 3/456‬وفي ‪ )15887( 3/460‬والدارمي ‪.2730‬‬

‫‪64‬‬
‫وعبر عنها ‪ ‬بقوله ‪ ( :‬يق ول العب د م الي وم الي وإنم ا ل ه من مال ه‬
‫ثالث‪ :‬ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فأقنى‪ ،‬ما سوى ذلك فه و ذاهب‬
‫وتاركه للناس)(‪)1‬‬

‫ثم بينت النصوص أن المال ليس هو المقياس على تط ور المجتمع ات‬


‫وتحضرها‪ ،‬بل المقياس هو القيم‪ ،‬ول ذلك لم يف رح المؤمن ون بم ال ق ارون‪،‬‬
‫ار‬‫ك هَّللا ُ ال َّد َ‬‫ولم تغرهم زينته كما قال تعالى يصور موقفهم ‪َ  :‬وا ْبت َِغ فِي َما آتَا َ‬
‫ك َواَل تَب ِْغ ْالفَ َسا َد‬‫ك ِم ْن ال ُّد ْنيَا َوأَحْ ِس ْن َك َما أَحْ َسنَ هَّللا ُ إِلَ ْي َ‬
‫َصيبَ َ‬ ‫اآْل ِخ َرةَ َواَل ت َ‬
‫َنس ن ِ‬
‫ض إِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْال ُم ْف ِس ِدينَ ‪(‬القصص‪)77:‬‬ ‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫وذلك هو ما أدب به النبي ‪ ‬أمته حيث حرم عليه ا اس تعمال ال ذهب‬
‫والفضة والتحلي بها‪ ،‬ألنه يعلم أنه ستفتح لهم األرض‪ ،‬ولن يس تطيع المثق ل‬
‫باألساور والخالخل أن يخوض القفار ويقتحم البحار ليبلغ دين هللا‪.‬‬
‫ك ان حذيف ة بالم دائن فاستس قى فأت اه دهق ان بم اء في إن اء من فض ة‬
‫فرماه به‪ ،‬وق ال‪ :‬إني لم أرم ه إال أني نهيت ه فلم ينت ه‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪: ‬‬
‫( الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في اآلخرة )(‪)2‬‬

‫وأخبر أن الذلة تحيق باألمة عندما يصبح همها جمع المال‪ ،‬قال ‪(: ‬‬
‫إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجه اد س لط‬
‫هللا عليكم ذال ال ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )(‪)3‬‬

‫ولكن كل هذا ال ذم للم ال والف رح ب ه مرتب ط بتص ور ص احب الم ال‬


‫للمال‪ ،‬وقد ذكر ‪ ‬للص حابة مث اال عن كيفي ة تول د الش ر من الم ال‪ ،‬وه و‬
‫يتضمن كيفية تجنب شره‪ ،‬حيث جلس ذات يوم على المنبر وجلس الصحابة‬
‫حوله فقال‪ :‬إني مما أخاف عليكم من بع دي م ا يفتح عليكم من زه رة ال دنيا‬
‫وزينتها فقال رجل‪ :‬يا رس ول هللا أوي أتي الخ ير بالش ر؟ فس كت الن بي ‪،‬‬
‫فقيل له‪ :‬ما شأنك تكلم النبي ‪ ،‬وال يكلمك‪ ،‬فرأينا أن ه ي نزل علي ه‪ ،‬فمس ح‬
‫عنه الرحضاء فقال‪ :‬أين السائل ؟‪،‬وكأن ه حم ده فق ال‪ ( :‬إن ه ال ي أتي الخ ير‬
‫بالشر‪ ،‬وإن مما ينبت الربي ع يقت ل أو يلم إال آكل ة الخض راء أكلت ح تى إذا‬
‫امتدت خاص رتاها اس تقبلت عين الش مس فثلطت وب الت ورتعت‪ ،‬وإن ه ذا‬
‫المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين والي تيم وابن‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ 368/2‬وفي ‪ 412/2‬ومسلم ‪.211/8‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪ )5426( 7/99‬وفي ‪ )5632( 7/146‬ومسلم ‪)5445( 6/136‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود (‪)3462‬‬

‫‪65‬‬
‫السبيل‪ ،‬وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل وال يشبع ويك ون ش هيدا علي ه‬
‫يوم القيامة)(‪)1‬‬

‫فالفرح بالمال في هذا الحديث كالفرح بكل نعم ة تتح ول ش را محض ا‬


‫إن عظمت لذاتها‪ ،‬واحترمت لذاتها‪ ،‬وفرح بها ل ذاتها‪ ،‬أم ا إن اس تغلت فيم ا‬
‫خلقت له‪ ،‬وغذت طبيعة اإلنسان الخ يرة‪ ،‬ولم تنتكس به ا الطبيع ة القويم ة‪،‬‬
‫ولم تنزل إلى أسفل سافلين‪ ،‬فإنها من الخ ير ال ذي يف رح ب ه‪ ،‬يف رح ب ه باهلل‬
‫وهلل‪ ،‬وبهذا يصبح جمع المال وبذل الع رق في ذل ك عمال من أعم ال الخ ير‬
‫التي يمارسها المؤمن‪ ،‬بل جهادا في سبيل هللا‪.‬‬
‫وعالمة ذلك هو هذا الخيار الذي يض عه هللا تع الى أم ام عب اده‪ ،‬وه و‬
‫خيار خطير ينبئ عن الغنى المطلق هلل والفقر المطلق للعباد‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫قُ لْ إِ ْن َك انَ آبَ ا ُؤ ُك ْم َوأَ ْبنَ ا ُؤ ُك ْم َوإِ ْخ َوانُ ُك ْم َوأَ ْز َوا ُج ُك ْم َوع َِش ي َرتُ ُك ْم َوأَ ْم َوا ٌل‬
‫ض وْ نَهَا أَ َحبَّ إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن هَّللا ِ‬
‫ارةٌ ت َْخ َش وْ نَ َك َس ا َدهَا َو َم َس ا ِك ُن تَرْ َ‬ ‫ا ْقت ََر ْفتُ ُموهَا َوتِ َج َ‬
‫َو َرسُولِ ِه َو ِجهَا ٍد فِي َسبِيلِ ِه فَت ََربَّصُوا َحتَّى يَأْتِ َي هَّللا ُ بِأ َ ْم ِر ِه َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِدي ْالقَ وْ َم‬
‫ْالفَا ِسقِينَ ‪(‬التوبة‪)24:‬‬
‫ومما يعين على النجاح في هذا االختبار معرف ة النفس لمق دار ربحه ا‬
‫مع هللا ومقدار خسارتها مع غيره‪ ،‬الخسارة التي نص عليه ا الق رآن الك ريم‬
‫في قوله تعالى ‪ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل تُ ْل ِه ُك ْم أَ ْم َوالُ ُك ْم َواَل أَوْ اَل ُد ُك ْم ع َْن ِذ ْك ِر‬
‫اس رُونَ ‪( ‬المن افقون‪ ،)9:‬وال ربح ال ذي‬ ‫ك هُ ْم ْال َخ ِ‬ ‫هَّللا ِ َو َم ْن يَ ْف َع لْ َذلِ كَ فَأُوْ لَئِ َ‬
‫نص علي ه في قول ه تع الى ‪ :‬إِنَّ َم ا أَ ْم َوالُ ُك ْم َوأَوْ اَل ُد ُك ْم فِ ْتنَ ةٌ َوهَّللا ُ ِع ْن َدهُ أَجْ ٌر‬
‫َع ِظي ٌم‪( ‬التغابن‪)15:‬‬
‫والمقارن ة ال تي تض ع كال من الم ال الف اني والب نين اله الكين بج انب‬
‫الباقيات الصالحات‪ ،‬فإذا بهم يتالش ون في أول كلم ة الباقي ات‪ ،‬ثم يتالش ون‬
‫أكثر في الخيرية المطلقة‪ ،‬ثم يفنون ويزولون عند ربك ألن ه ال يبقى م ع هللا‬
‫ات خَ ْي ٌر ِع ْن َد َربِّكَ‬ ‫ات الصَّالِ َح ُ‬ ‫شيء‪ْ :‬ال َما ُل َو ْالبَنُونَ ِزينَةُ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َو ْالبَاقِيَ ُ‬
‫ثَ َوابًا َوخَ ْي ٌر أَ َماًل ‪( ‬الكهف‪)46:‬‬
‫وبعد أن تقرر جميع هذه الحق ائق ي أتي اإلخب ار ب أن ه ذا الم ال ال ذي‬
‫وضع لنا موضع زينة واختبار ليس ملكا لنا يحق لنا أن نفتخر ونتيه به‪ ،‬ب ل‬
‫هو في كل حال م ال هللا‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬وآتُ وهُ ْم ِم ْن َم ا ِل هَّللا ِ الَّ ِذي آتَ ا ُك ْم ‪‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ )1465( 2/149 )921( 2/12‬وفي ‪ )2842( 4/32‬ومسلم ‪( 3/101‬‬


‫‪)2386‬‬

‫‪66‬‬
‫(النور‪)33 :‬‬
‫وما اإلنسان إال أجير بسيط في هذا الم ال‪ ،‬أو وكي ل عن رب ه في ه‪ ،‬أو‬
‫بالتعبير القرآني مستخلف فيه‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َوأَ ْنفِقُ وا ِم َّما‬
‫َج َعلَ ُك ْم ُم ْست َْخلَفِينَ فِي ِه فَالَّ ِذينَ آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َوأَ ْنفَقُوا لَهُ ْم أَجْ ٌر َكبِي ٌر‪(‬الحديد‪)7:‬‬
‫فل ذلك ال يح ل ل ه أن يفس ده أو يض عه في أي دي الس فهاء ينفقون ه في‬
‫الس فَهَا َء أَ ْم َوالَ ُك ْم الَّتِي َج َع َل هَّللا ُ لَ ُك ْم قِيَا ًم ا‬
‫شهواتهم‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬واَل تُ ْؤتُوا ُّ‬
‫َوارْ ُزقُوهُ ْم فِيهَا َو ا ْكسُوهُ ْم َوقُولُوا لَهُ ْم قَ وْ اًل َم ْعرُوفًا ‪(‬النس اء‪ ،)5:‬ب ل ينف ق‬
‫في المواض ع ال تي ح ددها ص احب الم ال المال ك األص لي‪ ،‬ق ال تع الى في‬
‫لس ائِ ِل‬ ‫ق لِ َّ‬ ‫وص ف عب اده الص الحين وعالقتهم بم الهم‪َ  :‬وفِي أَ ْم َوالِ ِه ْم َح ٌّ‬
‫َو ْال َمحْ رُوم ‪( ‬الذاريات‪)19:‬‬
‫وقد جاء النص على ذلك اإلنفاق التطوعي بصيغة الح ق ال واجب ألن‬
‫ذل ك الص الح ال ذي ورد وص فه ال يعطي ه من ة ألن ه يملك ه‪ ،‬ب ل ي رده إلى‬
‫أصحابه الذين أمر بتسليمه لهم‪.‬‬
‫وفي نفس الوقت ال يحل أن يكسب ذلك المال إال بالطرق ال تي ح ددها‬
‫ص احب الم ال‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل تَ أْ ُكلُوا أَ ْم َوالَ ُك ْم بَ ْينَ ُك ْم‬
‫اض ِم ْن ُك ْم َواَل تَ ْقتُلُ وا أَنفُ َس ُك ْم إِ َّن هَّللا َ َك انَ‬
‫ارةً ع َْن تَ َر ٍ‬ ‫اط ِل إِاَّل أَ ْن تَ ُكونَ تِ َج َ‬
‫بِ ْالبَ ِ‬
‫بِ ُك ْم َر ِحي ًما‪( ‬النساء‪)29:‬‬
‫وقد قرنت هذه اآلية الكريمة بين قتل النفس وبين س لب األم وال بغ ير‬
‫حق لتبين أن سالب الم ال كالقات ل‪ ،‬فالث اني يقت ل الجس د‪ ،‬واألول يس لب م ا‬
‫يقوم به الجسد‪ ،‬ولهذا اعتبر شهيدا من دافع عن ماله ومات في سبيله‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫األرض‬
‫األرض والتراب والوطن ظ روف يعيش في وس طها اإلنس ان‪ ،‬أم قيم‬
‫ومبادئ ومصادر يتلقى منها فكره وروحه وعواطفه؟‬
‫ولماذا يفرح اإلنسان باألرض ويتيه به ا ويتعل ق بج ذورها‪ ،‬وق د يم د‬
‫نفوذه على أراضي غيره يغتصبها ويستعمرها ويمتلك أهلها أو يطردهم؟‬
‫ولم اذا يتغ نى الن اس بقطع ة األرض ال تي يظن ون أنفس هم مالك ا له ا‬
‫ومواطنين بها ويبالغون في تغنيهم ويجعلها الشعراء مساوية هلل في ملكوت ه‪،‬‬
‫ويختارونها على الخلد وعلى الجنة‪ ،‬ويكادون يختارونها على هللا؟‬
‫ولماذا تجري تحت بعض هم األنه ار‪ ،‬ويخض ر تحت أرجلهم ال زرع‪،‬‬
‫وت دنو إلى أي ديهم الثم ار‪ ،‬ويلفح آخ رون تحت القي ظ‪ ،‬ويح ترقون ب الحر‬
‫والجلي د‪ ،‬وك ل ه ؤالء‪ ،‬من يعيش منهم في جن ة ال دنيا‪ ،‬ومن يعيش في‬
‫سعيرها‪ ،‬يحن إلى أرضه ويحبها ويتعلق بها وال يكاد يرضى ببيعها‪.‬‬
‫وهل الوطن صنم من األص نام ال تي تعب د في األرض من دون هللا‪ ،‬أم‬
‫أنه آية من آيات هللا التي يعبد من خالل النظر لها هللا ويعرف ويحب؟‬
‫وهل أص حاب المص الح ال ذين يت اجرون بحب ال وطن‪ ،‬ويتظ اهرون‬
‫بتقبيل تراب ه والتمس ح بحجارت ه واالنحن اء أم ام جبال ه ووه اده كهن ة له ذا‬
‫الصنم وسدنة له‪ ،‬أم عارفون متعبدون يركع ون برك وعهم ل ه هلل ويتعب دون‬
‫له؟‬
‫وهل عباد هذا الصنم البلهاء الذين يقصرون نظ رهم إلى ال تراب‪ ،‬وال‬
‫يرفعون أعينهم نحو السماء‪ ،‬وال ينظرون إلى الك واكب الكث يرة ال تي ت زين‬
‫هذا الكون العريض بلهاء أم مؤمنون‪ ،‬محقون أم مخدوعون؟‬
‫إن القاع دة ال تي نعرفه ا من خالل الق رآن الك ريم والنص وص‬
‫المعصومة المقدسة الخالية من زهو الشعارات وألوانها وبريقها هي أن ك ل‬
‫ما يف رح ب ه من دون هللا باط ل‪ ،‬ومص ير ص احبه إلى الح زن‪ ،‬وأن الف رح‬
‫الوحيد الحق هو الفرح باهلل وبما عند هللا‪ ،‬فهل الفرح بالوطن معصية‪ ،‬وه و‬
‫الذي يترعرع بين حناياه اإلنسان ويرض ع من تراب ه‪ ،‬وه و طبيع ة ال يك اد‬
‫ينفك عنها اإلنس ان‪ ،‬فه ل ه ذه الطبيع ة جبل ة أم تطب ع ؟ وه ل هي زين ة أم‬
‫تزيين؟‬
‫إن القرآن الكريم ـ وهو يصف اليوم الذي منه بدأ اإلنسان ـ يعرفن ا أن‬

‫‪68‬‬
‫مزين عبادة الوطن والفرح به واالشتغال به عن هللا هو إبليس عندما قال في‬
‫نص وعيده الذي لم يقص ر في تنفي ذه‪  :‬قَ ا َل َربِّ بِ َم ا أَ ْغ َو ْيتَنِي أَل ُزَ يِّن ََّن لَهُ ْم‬
‫ض َوأَل ُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ ‪(‬الحج ر‪ ،)39:‬فق د زين للخل ق األرض‬ ‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫فأصبحت في أعينهم أجمل من السماء‪ ،‬وزين لهم التراب فتثاقلوا إليه ونسوا‬
‫الجنة التي نزلوا منها‪.‬‬
‫وكانت األرض هي الظ رف ال ذي تم في ه ك ل ت زيين‪ ،‬وقص ر الخل ق‬
‫نظرهم إليها واشتد حرصهم عليها وعبادتهم لها‪ ،‬وك ان أك بر تهدي د يرس له‬
‫هؤالء المواطنون المتث اقلون لألرض العاب دون له ا ألنبي ائهم‪ ،‬ه و م ا نص‬
‫عليه القرآن الكريم تفصيال وإجماال كسنة اجتماعية يقابل بها الرسل والدعاة‬
‫في كل مكان وزمان‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬وقَا َل الَّ ِذينَ َكفَرُوا لِ ُر ُسلِ ِه ْم لَنُ ْخ ِر َجنَّ ُك ْم ِم ْن‬
‫ضنَا أَوْ لَتَعُو ُد َّن فِي ِملَّتِنَ ا فَ أَوْ َحى إِلَ ْي ِه ْم َربُّهُ ْم لَنُ ْهلِ َك َّن الظَّالِ ِمين ‪( ‬إب راهيم‪:‬‬
‫أَرْ ِ‬
‫‪)13‬‬
‫وهذا المنطق يبين التصور المغلوط له ؤالء المتث اقلين حين تص وروا‬
‫أنهم مالك األرض‪ ،‬يخرجون من يش اءون ويحتفظ ون بمن يش اءون‪ ،‬ألنهم‬
‫وح دهم المواطن ون والوط نيون وغ يرهم عمالء أو خون ة أو يري دون أن‬
‫يخرجوا أهل األرض من أرضهم‪.‬‬
‫وه ذه هي الورق ة ال تي ك ان يلعب به ا فرع ون عن دما خ اطب قوم ه‬
‫وعيناه مغرورقتان بالدموع حزنا على الوطن ال ذي يري د موس ى أن يس لبه‬
‫من المص ريين‪ ،‬ق ال تع الى على لس ان فرع ون‪  :‬ي ُِري ُد أَ ْن ي ُْخ ِر َج ُك ْم ِم ْن‬
‫ض ُك ْم فَ َما َذا تَأْ ُمرُونَ ‪( ‬األعراف‪)110:‬‬ ‫أَرْ ِ‬
‫وقد ك انت ه ذه الورق ة هي ال تي ك ان يلعب به ا فرع ون على عق ول‬
‫المصريين كما يلعب بها كل الطغاة على مسار التاريخ‪ ،‬ولذلك كان المنط ق‬
‫ال ذي ع بر ب ه المأل من ق وم فرع ون وهم لس انه الن اطق‪ ،‬وهم ف روع من‬
‫فرعنت ه أو كم ا يص ورهم الق رآن فراعن ة ص غار يخت بئون وراء فرع ون‬
‫ال ْال َمأَل ُ ِم ْن‬ ‫األكبر كما تختبئ األصنام وراء الصنم األكبر‪ ،‬قال تعالى ‪َ  :‬وقَ َ‬
‫ال‬‫ك قَ َ‬ ‫ض َويَ َذ َركَ َوآلِهَتَ َ‬ ‫وس ى َوقَوْ َم هُ لِيُ ْف ِس ُدوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫قَوْ ِم فِرْ عَوْ نَ أَتَ َذ ُر ُم َ‬
‫َسنُقَتِّ ُل أَ ْبنَا َءهُ ْم َونَ ْستَحْ ِي نِ َسا َءهُ ْم َوإِنَّا فَوْ قَهُ ْم قَا ِهرُونَ ‪( ‬األعراف‪)127:‬‬
‫واإلفساد في األرض في تصورهم هو أن تكون لموسى وأخيه هارون‬
‫الكبري اء في األرض ال تي هي الثم رة األولى ال تي يجنونه ا من وراء‬
‫مواطنتهم ووطنيتهم‪ ،‬قال تعالى‪  :‬قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا لِت َْلفِتَنَا َع َّما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَ ا‬

‫‪69‬‬
‫ض َو َما نَحْ ُن لَ ُك َما بِ ُم ْؤ ِمنِينَ ‪(‬يونس‪)78:‬‬ ‫َوتَ ُكونَ لَ ُك َما ْال ِكب ِْريَا ُء ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ألن المف اهيم الجدي دة والعقائ د الجدي دة ال تي تمس ث وابت األم ة تمس‬
‫روح ال وطن وتمس مص الح الق ائمين علي ه‪ ،‬وهي بالت الي خيان ة عظمى‬
‫وإفساد في األرض‪.‬‬
‫ولهذا ارتبطت اآللهة في كل ال ديانات والم ذاهب البش رية ب األرض‪،‬‬
‫وك انت األرض هي أم اآلله ة أو أس اس وجوده ا‪ ،‬وك ان األنبي اء خون ة‬
‫باعتبار هذه العقائد ألنهم يمسون أصال من األصول التي يرتبط ون به ا وال‬
‫يري دون التن ازل عن تص وراتهم نحوه ا‪ ،‬ول ذلك ك انوا يق ابلون بالتهدي د‬
‫وباإلخراج من األرض‪ ،‬قال تعالى عن المشركين مع رس ول هللا ‪َ :‬وإِ ْن‬
‫ك ِم ْنهَا َوإِ ًذا اَل يَ ْلبَثُونَ ِخاَل فَ َ‬
‫ك إِاَّل قَلِياًل‬ ‫ض لِي ُْخ ِرجُو َ‬ ‫َكا ُدوا لَيَ ْستَفِ ُّزونَكَ ِم ْن اأْل َرْ ِ‬
‫‪( ‬اإلسراء‪ ،)76:‬وقال عن الفراعنة مع موسى ‪  :‬فَ أ َ َرا َد أَ ْن يَ ْس تَفِ َّزهُ ْم ِم ْن‬
‫ض فَأ َ ْغ َر ْقنَاهُ َو َم ْن َم َعهُ َج ِميعًا‪( ‬اإلسراء‪)103:‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ويخبرنا القرآن الكريم عن إحدى العلل الكبرى ال تي ك ان المش ركون‬
‫يتصورونها كافي ة ل ترك ال دين الجدي د ال ذي يس تيقنون ص دق مبلغ ه وأن ه‬
‫رس ول رب الع المين‪ ،‬وه و االس تغراق في ال وطن واألرض إلى درج ة‬
‫ف ِم ْن‬ ‫الخ وف والجبن‪ ،‬ق ال تع الى‪َ  :‬وقَ الُوا إِ ْن نَتَّبِ ْع ْالهُ دَى َم َع كَ نُتَخَ طَّ ْ‬
‫ات ُك ِّل َش ْي ٍء ِر ْزقً ا ِم ْن لَ ُدنَّا‬ ‫ضنَا أَ َولَ ْم نُ َم ِّك ْن لَهُ ْم َح َر ًما آ ِمنًا يُجْ بَى إِلَ ْي ِه ثَ َم َر ُ‬
‫أَرْ ِ‬
‫َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َرهُ ْم اَل يَ ْعلَ ُمونَ ‪(‬القصص‪)57:‬‬
‫والكبرياء في األرض والتعالي بها وتضخيم الذات من خاللها والفخ ر‬
‫على الغير والتك اثر علي ه هي الغاي ة ال تي يص ور به ا الق رآن حب ه ؤالء‬
‫الوطن يين لألرض‪ ،‬فهم في حقيق ة األم ر ال يحب ون األرض وإنم ا يحب ون‬
‫وجودهم عليه ا‪ ،‬وال يفخ رون على الغ ير ب األرض‪ ،‬وإنم ا يفخ رون عليهم‬
‫بأنفسهم‪ ،‬ألنهم لو كانوا مواطنين بأرض أخرى لفخروا بها وأحبوها وتعلقوا‬
‫بها‪.‬‬
‫والنماذج القرآنية عن المستعلين في األرض كثيرة‪ ،‬منها نموذج الف رد‬
‫ض َو َج َع َل أَ ْهلَهَ ا‬ ‫المتعالي فرعون‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬إِ َّن ِفرْ َع وْ نَ َعاَل فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ف طَائِفَ ةً ِم ْنهُ ْم يُ َذبِّ ُح أَ ْبنَ ا َءهُ ْم َويَ ْس تَحْ ِي نِ َس ا َءهُ ْم إِنَّهُ َك انَ ِم ْن‬ ‫َض ِع ُ‬ ‫ِش يَعًا يَ ْست ْ‬
‫ْال ُم ْف ِس ِدين‪(‬القصص‪)4:‬‬
‫ومنها نم وذج المجتم ع المتع الى قري ة ع اد‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬فَأ َ َّما َع ا ٌد‬
‫ق َوقَ الُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ‬ ‫ض بِ َغي ِْر ْال َح ِّ‬
‫فَا ْستَ ْكبَرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬

‫‪70‬‬
‫الَّ ِذي خَ لَقَهُ ْم هُ َو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َكانُوا بِآيَاتِنَا يَجْ َح ُدونَ ‪(‬فصلت‪)15:‬‬
‫وتع الي فرع ون ص احب األرض الخص بة ال ذي تج ري من تحت ه‬
‫األنهار مع تع الي ع اد ص احبة األرض القاس ية الجاف ة ي بين أن األرض لم‬
‫تكن محبوبة لذاتها وإنما لكونها إسقاطا لألنا‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا التعالي في األرض ال ذي جع ل أص حابها يعتق دونها‬
‫ملكا لهم‪ ،‬كان األنبياء يعرفون قراهم أن هذه األرض أرض هللا ال أرض هم‪،‬‬
‫وأنهم سيكونون مغتصبين مفسدين إن نسبوها إلى أنفس هم‪ ،‬والق رآن الك ريم‬
‫يذكر عن نبي هللا صالح عليه الس الم لبي ان ذل ك أربع ة أس اليب من خطاب ه‬
‫لقومه الذين اشتد تعلقهم باألرض إلى الدرجة التي حجبتهم عن السماء‪ ،‬ق ال‬
‫صالِحًا قَا َل يَاقَوْ ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ‬ ‫تعالى ‪َ :‬وإِلَى ثَ ُمو َد أَخَاهُ ْم َ‬
‫ْ‬
‫قَ ْد َجا َء ْت ُك ْم بَيِّنَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم هَ ِذ ِه نَاقَةُ هَّللا ِ لَ ُك ْم آيَةً فَ َذرُوهَا تَأ ُك لْ فِي أَرْ ِ‬
‫ض هَّللا ِ َواَل‬
‫تَ َمسُّوهَا بِسُو ٍء فَيَأْ ُخ َذ ُك ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم‪(‬األعراف‪)73:‬‬
‫فاألرض أرض هللا ال أرض عاد أو ثمود‪ ،‬وس بب ك ل األخط اء ال تي‬
‫يتعامل بها اإلنسان مع األشياء هي اعتقاده ملكيته لها‪ ،‬والتي تجعله يتص ور‬
‫حريته المطلقة في التعامل معها كما يهوى وكما ترغب نفسه‪.‬‬
‫ولهذا كان األنبياء يخاطبون قومهم بمنطق النعمة ال بمنط ق األش ياء‪،‬‬
‫ألن النظر إلى النعمة واآلالء بهذا االعتبار يجعل منها عبودية خالصة هلل ال‬
‫حجابا عن هللا‪ ،‬قال تع الى عن خط اب ص الح لقوم ه‪َ  :‬و ْاذ ُك رُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم‬
‫ض تَتَّ ِخ ُذونَ ِم ْن ُسهُولِهَا قُصُورًا َوتَ ْن ِحتُونَ‬ ‫ُخلَفَا َء ِم ْن بَ ْع ِد عَا ٍد َوبَ َّوأَ ُك ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض ُم ْف ِس ِدينَ ‪( ‬األع راف‪:‬‬ ‫ال بُيُوتًا فَ ْاذ ُكرُوا آاَل َء هَّللا ِ َواَل تَ ْعثَ وْ ا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ْال ِجبَ َ‬
‫‪)74‬‬
‫ونالحظ إعجاز النص القرآني في ترتيبه ذكر آالء هللا على ذكر النعم‪،‬‬
‫وترتيبه ع دم اإلفس اد في األرض على ذك ر آالء هللا‪ ،‬ألن من رأى األش ياء‬
‫من هللا ال يتض رر به ا وال يض ر غ يره‪ ،‬ومن رآه ا من نفس ه انش غل به ا‪،‬‬
‫فأهلك نفسه وألحق الفساد بغيره‪.‬‬
‫ولهذا كان صالح عليه السالم يخاطب قومه ويذكرهم ب أنهم خلف اء في‬
‫األرض بجع ل هللا لينفي عنهم الش عور بتمل ك األرض أو التض خيم الزائ د‬
‫ألنفس هم‪ ،‬ق ال تع الى على لس ان ص الح علي ه الس الم ‪ :‬هُ َو الَّ ِذي َج َعلَ ُك ْم‬
‫ض فَ َم ْن َكفَ َر فَ َعلَ ْي ِه ُك ْف ُرهُ َواَل يَ ِزي ُد ْال َكافِ ِرينَ ُك ْف ُرهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم‬
‫خَاَل ئِفَ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫إِاَّل َم ْقتًا َواَل يَ ِزي ُد ْال َكافِ ِرينَ ُك ْف ُرهُ ْم إِاَّل َخ َسارًا‪(‬فاطر‪)39:‬‬

‫‪71‬‬
‫واعتبارهم خالئ ف ي نزع عنهم زه و التمل ك‪ ،‬واعتب ار خالفتهم جعال‬
‫وليست ذاتية تنفي عنهم األنا التي قد تضخم تصورهم للخالفة إن تصوروها‬
‫نابعة منهم واستحقاقا لهم‪.‬‬
‫وبما أن ثمود كانت تهوى العمران والحض ارة العمراني ة‪ ،‬وتش عر أن‬
‫ذلك العمران منها وبها كان ص الح يخ اطبهم ب أن ق درتهم التعميري ة من هللا‬
‫ص الِحًا قَ َ‬
‫ال‬ ‫نعمة من نعمه كنعمة األرض‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬وإِلَى ثَ ُمو َد أَ َخ اهُ ْم َ‬
‫ض َوا ْستَ ْع َم َر ُك ْم فِيهَا‬‫يَاقَوْ ِم ا ْعبُ ُدوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ هُ َو أَن َشأ َ ُك ْم ِم ْن اأْل َرْ ِ‬
‫فَا ْستَ ْغفِرُوهُ ثُ َّم تُوبُوا إِلَ ْي ِه إِ َّن َربِّي قَ ِريبٌ ُم ِجيبٌ ‪(‬هود‪)61:‬‬
‫والعمران والمساكن التي يتشكل منه ا ال وطن ك انت وال زالت حجاب ا‬
‫من الحجب العظمى ال تي تح ول بين الخل ق وبين الس ماء ومس مارا من‬
‫المسامير التي تثقلهم إلى األرض‪ ،‬وكلما ارتف ع بني ان النفس البعي دة عن هللا‬
‫كلما ارتفع طغيانها‪ ،‬فتجبر الرومان كان وليدا من قساوة حجارة مس ارحها‪،‬‬
‫وتعالي الفراعنة كان أثرا للصروح المشيدة ال تي أرادوا به ا أن يص لوا إلى‬
‫السماء‪ ،‬والظالم الروحي الذي يطغى على الشوارع األمريكي ة واألوروبي ة‬
‫ظالل من ناطحات السحاب التي يتيه بها الغرب على الشرق‪.‬‬
‫وله ذا جع ل الرس ول ‪ ‬تع الى العام ة البس طاء بالبني ان عالم ة من‬
‫عالم ات الس اعة‪ ،‬ألن انش غال ه ؤالء بالتع الي ي دل على أن تل ك المف اهيم‬
‫سيطرت على المجتمع سيطرة ال يخلصهم منها إال قيام الساعة‪.‬‬
‫ومنط ق أن األرض هلل وأن االس تخالف فيه ا بي د هللا ه و ال ذي ك ان‬
‫يصحح به موسى عليه الس الم التص ور اإلس رائيلي لألرض وال تي جعلتهم‬
‫أذالء مستض عفين يس امون الخس ف وال تتح رك أنفس هم للخ روج من ذل ك‬
‫ض‬ ‫اص بِرُوا إِ َّن اأْل َرْ َ‬ ‫اس تَ ِعينُوا بِاهَّلل ِ َو ْ‬
‫ال ُمو َسى لِقَوْ ِم ِه ْ‬ ‫الهوان‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬قَ َ‬
‫ُورثُهَا َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه َو ْال َعاقِبَةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ ‪(‬األعراف‪)128:‬‬ ‫هَّلِل ِ ي ِ‬
‫وهذا النص يشير إلى أن اعتقادهم القديم بأن األرض للبش ر أو لبعض‬
‫البشر هو سبب االستضعاف والهوان‪.‬‬
‫وخالف ة اإلنس ان في األرض قاع دة من قواع د التص ور اإلس المي‬
‫لإلنسان تعرفه بحقيقته وحقيقة األرض التي يسكن فيه ا ويس كن إليه ا‪ ،‬ق ال‬
‫ْض‬
‫ق بَع ٍ‬ ‫ْض ُك ْم فَ وْ َ‬ ‫ض َو َرفَ َع بَع َ‬ ‫تع الى ‪َ :‬وهُ َو الَّ ِذي َج َعلَ ُك ْم خَ اَل ئِ فَ اأْل َرْ ِ‬
‫ب َوإِنَّهُ لَ َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم ‪‬‬‫ت لِيَ ْبلُ َو ُك ْم فِي َم ا آتَ ا ُك ْم إِ َّن َربَّكَ َس ِري ُع ْال ِعقَ ا ِ‬ ‫َد َر َج ا ٍ‬
‫(األنعام‪)165:‬‬

‫‪72‬‬
‫وقال تعالى للمالئكة حين كان آدم مشروعا خلقي ا جدي دا ينتظ ر محل ه‬
‫ض َخلِيفَةً قَ الُوا أَتَجْ َع ُل‬ ‫ك لِ ْل َماَل ئِ َك ِة إِنِّي َجا ِع ٌل فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ال َربُّ َ‬‫للبروز‪َ  :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ال إِنِّي‬ ‫ك َونُقَ ِّدسُ لَ كَ قَ َ‬ ‫ك ال ِّد َما َء َونَحْ ُن نُ َس بِّ ُح بِ َح ْم ِد َ‬ ‫فِيهَا َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيهَا َويَ ْسفِ ُ‬
‫أَ ْعلَ ُم َما اَل تَ ْعلَ ُمون‪( ‬البقرة‪)30:‬‬
‫ولتأسيس هذا المفهوم الذي يقوم على نسبة األشياء هلل ليأخ ذه اإلنس ان‬
‫بعد ذلك من هللا هو الذي من أجل ه يك رر الق رآن نس بة األرض هلل وفي ك ل‬
‫ت‬‫اوا ِ‬ ‫ك َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫م وطن يحت اج إلى بي ان تل ك النس بة‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬وهَّلِل ِ ُم ْل ُ‬
‫ق َما يَ َشا ُء َوهَّللا ُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر‪( ‬المائدة‪)17:‬‬ ‫يخلُ ُ‬‫ض َو َما بَ ْينَهُ َما ْ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫وقد وردت هذه اآلية عقب قوله تع الى ‪  :‬لَقَ ْد َكفَ َر الَّ ِذينَ قَ الُوا إِ َّن هَّللا َ‬
‫ك ْال َم ِس ي َح ا ْبنَ‬‫ك ِم ْن هَّللا ِ َش ْيئًا إِ ْن أَ َرا َد أَ ْن يُ ْهلِ َ‬
‫هُ َو ْال َم ِسي ُح اب ُْن َمرْ يَ َم قُلْ فَ َم ْن يَ ْملِ ُ‬
‫ُ‬
‫ض َج ِميعًا‪(‬المائ دة‪ )17:‬لي بين ته افت العق ول‬ ‫َم رْ يَ َم َوأ َّمهُ َو َم ْن ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫البشرية التي ألهت المسيح وقصر نظرها الذي جعله ا تس لم زم ام األلوهي ة‬
‫إلنسان في أرض هي جزء من كون فسيح ال نهاية له‪ ،‬وهو دليل على عمى‬
‫من اتخذوا آلهة من األرض أو من أي كوكب في السماء‪ ،‬فكل كوكب ص فر‬
‫في مساحة الك ون وحجم ه وأبع اده وجمي ع اعتبارات ه‪ ،‬وله ذا ج اء التعب ير‬
‫القرآني يعبر عن ملك هللا الواسع لألرض والسماء وم ا بينهم ا وك ل ش يء‪،‬‬
‫ذلك الملك الذي يتصرف فيه كما يريد‪ ،‬ال معقب لحكمه وال راد ألمره‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يبين ـ نتيجة ل ذلك ـ أن ك ل م ا على ه ذه األرض من‬
‫تيسيرات لم تفرض ها التط ورات الجيولوجي ة العمي اء وال التقلب ات الزمني ة‬
‫المتطاولة وإنما دبرها هللا لتستقبل اإلنسان وتس خر لخدمت ه‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬‬
‫س بُاًل لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ ‪‬‬ ‫ض َم ْه دًا َو َج َع َل لَ ُك ْم فِيهَ ا ُ‬ ‫الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ْم اأْل َرْ َ‬
‫(الزخرف‪ ،)10:‬والمتأمل في األرض وفي التيسيرات الموج ودة به ا ي رى‬
‫مدى انطباق هذه الصفة على األرض مقارنة بالكواكب الكثيرة المرئية‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يفصل بعض وجوه هذا التمهيد ليبين من خاللها أن هللا‬
‫هو الفاعل والممهد والمدبر ال التطورات الجيولوجية العمياء‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬‬
‫ض َو َما طَ َحاهَا‪(‬الضحى‪)6:‬‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ودعا إلى النظر إلى تسطيحها وتهيئتها بقول ه تع الى ‪َ  :‬وإِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬
‫َك ْيفَ ُس ِط َحت‪(‬الغاشية‪)20:‬‬
‫وأقسم بها بوصفها تتص دع وتنش ق ليخ رج منه ا الخ ير الكث ير ب ذلك‬
‫ص ْدع‪( ‬الطارق‪)12:‬‬ ‫ت ال َّ‬ ‫ض َذا ِ‬‫التصدع‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬واأْل َرْ ِ‬

‫‪73‬‬
‫وفصل في بيان ال ترتيب ال ذي رتب ه هللا تع الى لإلنس ان على األرض‬
‫ال‬‫ض بَ ْع َد َذلِكَ َد َحاهَاأَ ْخ َر َج ِم ْنهَا َما َءهَا َو َمرْ عَاهَا َو ْال ِجبَ َ‬ ‫بقوله تعالى‪َ  :‬واأْل َرْ َ‬
‫أَرْ َساهَا َمتَاعًا لَ ُك ْم َوأِل َ ْن َعا ِم ُك ْم‪( ‬النازعات‪ 30:‬ـ ‪)33‬‬
‫ولهذا أشار تعالى بعدها إلى النظر بهذا المنظار لألرض نظ ر اعتب ار‬
‫ات لِ ْل ُموقِنِين ‪( ‬الذاريات‪)20:‬‬ ‫ض آيَ ٌ‬ ‫ال نظر افتخار‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬وفِي اأْل َرْ ِ‬
‫واليقين في القرآن ال يشير فقط إلى اليقين العقلي‪ ،‬بل يش ير ك ذلك إلى‬
‫نفس قوية مكتملة تندمج فيها قوة العقل مع نقاء الشعور مع بعد النظر‪.‬‬
‫وهذا اليقين هو ال ذي يجعله ا ت رى أث ر رحم ة هللا في ك ل مظه ر من‬
‫ار َرحْ َم ِة هَّللا ِ‬ ‫المظاهر التي ينسبونها للطبيع ة‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬فَ انظُرْ إِلَى آثَ ِ‬
‫ك لَ ُمحْ يِي ْال َم وْ تَى َوهُ َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَ ا إِ َّن َذلِ َ‬‫َك ْيفَ يُحْ ِي اأْل َرْ َ‬
‫قَ ِدي ٌر‪( ‬الروم‪)50:‬‬
‫وهو الذي يجعلها ترى األرض معلقة بحفظ هللا وإمساكه‪ ،‬منتظم ة في‬
‫سلك الك ون ال بجاذبي ة عمي اء تط رح أل ف س ؤال مح ير على من يرض ى‬
‫ض أَ ْن‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ك َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫بقيوميتها من دون هللا‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬إِ َّن هَّللا َ يُ ْم ِس ُ‬
‫غفُ ورًا ‪‬‬ ‫تَ ُزواَل َولَئِ ْن زَالَتَ ا إِ ْن أَ ْم َس َكهُ َما ِم ْن أَ َح ٍد ِم ْن بَ ْع ِد ِه إِنَّهُ َك انَ َحلِي ًم ا َ‬
‫(فاطر‪)41:‬‬
‫وه ذا التص ور ه و ال ذي يحف ظ الم ؤمن من الوق وع في ب راثن‬
‫التصورات الخرافية‪ ،‬قال ابن عب اس لرج ل مقب ل من الش ام‪ :‬من لقيت ب ه؟‬
‫قال‪ :‬كعبا‪ ،‬ق ال‪ :‬وم ا س معته يق ول؟ ق ال‪ :‬س معته يق ول‪ :‬إن الس موات على‬
‫منكب ملك‪ ،‬فال‪ :‬كذب كعب‪ ،‬أما ترك يهوديته بعد! إن هللا تع الى يق ول‪ : :‬‬
‫ض أَ ْن تَ ُزوال ‪( ‬فاطر‪)41 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫إِ َّن هَّللا َ يُ ْم ِس ُ‬
‫ك ال َّس َم َ‬
‫فإذا اطمأن المؤمن الموقن إلى ه ذه الحقيق ة وعلم أن األرض هلل خلق ا‬
‫وتهيئ ة وتص ريفا ج اءت النص وص لت بين أن ه ذه األرض المخلوق ة عب د‬
‫مطي ع هلل تحم ل من عليه ا ب أمر هللا‪ ،‬والم واطن الحقيقي ال ذي تف رح ب ه‬
‫األرض قبل أن يفرح بها ه و ال ذي يش اركها تس بيحها هلل‪ ،‬ق ال تع الى ي بين‬
‫اس تَ َوى‬ ‫نشأة األرض وطاعتها هلل في تلك النشأة ال تي أودعت فطرته ا‪ :‬ثُ َّم ْ‬
‫ض اِ ْئتِيَ ا طَوْ ًع ا أَوْ َكرْ هً ا قَالَتَ ا أَتَ ْينَ ا‬ ‫ان فَقَ ا َل لَهَ ا َولِأْل َرْ ِ‬ ‫إِلَى ال َّس َما ِء َو ِه َي ُد َخ ٌ‬
‫طَائِ ِعينَ ‪( ‬فصلت‪)11:‬‬
‫وهذا العهد الذي قطعته األرض والسماء على نفسيهما بطاعة هللا يتحد‬
‫مع العهد الذي قط ع على ب ني آدم وهم في ع الم ال ذر إال أن الف رق الوحي د‬

‫‪74‬‬
‫والجلي ل بينهم ا ه و أن اإلنس ان ينس ى ويبتلى بنس يانه‪ ،‬أم ا غ يره من‬
‫المخلوقات فال تنسى أبدا الفطرة التي فطرت عليها‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ :‬وإِ ْذ أَ َخ َذ‬
‫ت بِ َربِّ ُك ْم‬ ‫ور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم َوأَ ْش هَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم أَلَ ْس ُ‬
‫َربُّكَ ِم ْن بَنِي آ َد َم ِم ْن ظُهُ ِ‬
‫قَالُوا بَلَى َش ِه ْدنَا أَ ْن تَقُولُوا يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ افِلِينَ ‪(‬األع راف‪:‬‬
‫‪)172‬‬
‫والجم ع بين اإلنس ان الك ائن الحي العاق ل م ع األرض والس ماء ال تي‬
‫نراه ا جام دة ال روح فيه ا وال عق ل يش ير إلى النظ رة القرآني ة لألرض‬
‫والسماء وكل شيء‪ ،‬وهو أن الحياة تدب فيها جميعا‪ ،‬الحياة ال تي ال ن دركها‬
‫نحن ألننا من عالم مختلف ومن جنس مغاير‪.‬‬
‫ومن أنانية البش رية حص رها ص ورة الحي اة في مظ اهر الحي اة ال تي‬
‫تراه ا‪ ،‬وال تي ال تع دو في معظمه ا ت أمين ال تركيب الحي من االختالل‪،‬‬
‫فاألكسوجين والم اء والكرب ون وغيره ا من التركيب ات والعناص ر ال يع دو‬
‫دورها حفظ التركيب وإمداده بطاقة الحي اة ال تي نتص ورها ونقص ر الحي اة‬
‫عليها‪ ،‬ولهذا يذكر القرآن الكريم عن األرض تسبيحها الدائم هلل‪ ،‬والتسبيح ال‬
‫ت َو َم ا فِي‬ ‫اوا ِ‬‫الس َم َ‬ ‫يصدر إال من حي عاقل‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ :‬س بَّ َح هَّلِل ِ َم ا فِي َّ‬
‫ض َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم‪(‬الصف‪)1:‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫وقد وردت هذه اآلية في افتتاح ثالث سور قرآنية هي الصف والحشر‬
‫والحديد مع حذف ما الموصولة عن األرض في سورة الحديد‪.‬‬
‫وبينت اآليات الكثيرة أن هذا التسبيح دائم مس تمر‪ ،‬كتس بيح ك ل ش يء‬
‫الس ْب ُع َواأْل َرْ ضُ َو َم ْن فِي ِه َّن َوإِ ْن‬ ‫ات َّ‬ ‫في الكون‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬تُ َسبِّ ُح لَهُ ال َّس َما َو ُ‬
‫غفُ ورًا ‪‬‬ ‫ِم ْن َش ْي ٍء إِاَّل يُ َسبِّ ُح بِ َح ْم ِد ِه َولَ ِك ْن اَل تَ ْفقَهُونَ تَ ْسبِي َحهُ ْم إِنَّهُ َك انَ َحلِي ًم ا َ‬
‫(اإلسراء‪ ،)44:‬وفي اآلية الكريمة إشارة إلى العق ول ال تي تنك ر ك ل م ا ال‬
‫تفقهه لتردها إلى حقيقتها العاجزة القاصرة عن سماع وإدراك حقائق الك ون‬
‫الكثيرة‪.‬‬
‫واآلثار الكثيرة تؤكد هذا المعنى الق رآني وه ذه الحقيق ة الكوني ة‪ ،‬فعن‬
‫ابن مسعود أنه قال ‪ (:‬كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)‪ ،‬وفي ح ديث أبي‬
‫ذر أن النبي ‪ ‬أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كح نين النح ل‪ ،‬وعن‬
‫أنس عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه دخ ل على ق وم وهم وق وف على دواب لهم‬
‫ورواحل‪ ،‬فقال لهم ‪ (:‬اركبوها سالمة ودعوه ا س المة وال تتخ ذوها كراس ي‬
‫ألحاديثكم في الطرق واألسواق‪ ،‬فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذك را‬

‫‪75‬‬
‫(‪)1‬‬‫هلل منه)‬
‫ويبين القرآن الكريم أن هذا الكائن الحي الذي يس مى األرض ص احب‬
‫مش اعر‪ ،‬فه و يك اد يتفط ر من الكف ر ال ذي يق ع علي ه‪،‬ق ال تع الى ‪ :‬تَ َك ا ُد‬
‫ق اأْل َرْ ضُ َوتَ ِخرُّ ْال ِجبَا ُل هَ ًّدا‪(‬مريم‪)90:‬‬ ‫ات يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْنهُ َوتَن َش ُّ‬
‫ال َّس َما َو ُ‬
‫ويع بر الق رآن الك ريم عن قم ة المش اعر الوجداني ة ال تي تص در من‬
‫األرض في مواقفه ا المختلف ة من المؤم نين والك افرين والمفس دين‬
‫والمصلحين‪ ،‬فاألرض ال تعرف غير هذه المصطلحات‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬فَ َم ا‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم ال َّس َما ُء َواأْل َرْ ضُ َو َما َكانُوا ُمنظَ ِرينَ ‪(‬الدخان‪)29:‬‬ ‫بَ َك ْ‬
‫وقد نفى ابن عباس المعنى المجازي الذي تفسر به أمثال هذه اآلي ات‪،‬‬
‫نتيجة عدم الفقه في حقائق تصرفات األك وان‪ ،‬فق ال حين س أله بعض هم عن‬
‫هذه ‪:‬نعم إنه ليس أحد من الخالئق إال وله باب في الس ماء من ه ي نزل رزق ه‬
‫وفيه يصعد عمله‪ ،‬فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يص عد‬
‫فيه عمله وينزل منه رزق ه ففق ده بكى علي ه‪ ،‬وإذا فق ده مص اله من األرض‬
‫التي كان يصلي فيها ويذكر هللا تعالى فيه ا بكت علي ه‪ ،‬وإن ق وم فرع ون لم‬
‫تكن لهم في األرض آثار صالحة‪ ،‬ولم يكن يص عد إلى هللا تع الى منهم خ ير‬
‫فلم تبك عليهم السماء واألرض)(‪)2‬‬

‫وهذا التفسير يوحي بإشارات علمية كثيرة ق د تكش ف عنه ا األي ام في‬
‫عالقات السماء واألرض‪ ،‬وعالقة الصالة بالكون‪ ،‬ونحن نعرف اآلن كثيرا‬
‫من العالقات التي كانت تعتبر في يوم من األيام خرافات وأساطير‪.‬‬
‫وألن األرض بهذه الصورة‪ ،‬صورة الكائن الحي‪ ،‬يعبر القرآن الك ريم‬
‫عند ذكر نعم هللا على عباده بما يوحي بتشبيهها بالحيوان ات المركوب ة ال تي‬
‫يستغل ظهرها وضرعها ولحمها وجل دها‪ ،‬وك ذلك األرض يس تغل س طحها‬
‫وترابه ا وهواؤه ا وثرواته ا‪ ،‬فهي م ركب وس فينة فض ائية م زودة بك ل‬
‫االحتياج ات‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬هُ َو الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ْم اأْل َرْ َ‬
‫ض َذلُ واًل فَا ْم ُش وا فِي‬
‫َمنَا ِكبِهَا َو ُكلُوا ِم ْن ِر ْزقِ ِه َوإِلَ ْي ِه النُّ ُشو ُر‪(‬الملك‪)15:‬‬
‫وله ذه المف اهيم القرآني ة أثره ا الكب ير في تص حيح مفه وم المواطن ة‬
‫والعالقة باألرض‪ ،‬والربط الشعوري بين األرض واإلنسان ربط ا ال توثق ه‬
‫األنا والتعالي والتك اثر‪ ،‬وإنم ا يوثق ه التوج ه الواح د هلل بالتس بيح والص الة‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪ )15714( 3/439‬و‪)15731( 3/440‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪)25/74‬‬

‫‪76‬‬
‫واالفتقار والعبودية‪.‬‬
‫ولهذا تسلم األرض بما فيها من حج ارة وجب ال وترب ة على المؤم نين‬
‫وتف رح بهم وتس ر بمش اركتها لهم في تس بيحها‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪( : ‬إني‬
‫ألعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني ألعرفه اآلن)(‪)1‬‬

‫وقال عبدهللا بن مسعود ‪ ( :‬إن الجبل يقول للجبل‪ :‬يا فالن‪ ،‬هل مر ب ك‬
‫اليوم ذاكر هلل تعالى ؟ فإن قال نعم س ر ب ه)‪ ،‬وعن أنس بن مال ك ق ال ‪ (:‬م ا‬
‫من صباح وال رواح إال تنادي بقاع األرض بعضها بعض ا‪ :‬ي ا ج اراه‪ ،‬ه ل‬
‫مر بك اليوم عبد فصلى هلل أو ذكر هللا عليك؟ فمن قائل ة ال‪ ،‬ومن قائل ة نعم‪،‬‬
‫فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضال عليها)‬
‫وقال ‪ ‬في الح دبث المش هور ‪ (:‬ال يس مع ص وت الم ؤذن جن وال‬
‫إنس وال شجر وال حجر وال مدر وال شيء إال شهد له يوم القيامة )(‪)2‬‬

‫وهذه المشاعر وغيرها هي األساس النظري الذي تنطل ق من ه عالق ة‬


‫المؤمن باألرض‪ ،‬عالقة الرحل ة إلى هللا بم ا تقتض يه من ص الح يق دم على‬
‫المصالح‪ ،‬فالمصالح نتيجة محدودة مؤقتة‪ ،‬والصالح سير ق د يك ون عس يرا‬
‫ولكن نتيجته تحوي المصالح الحقيقية لإلنسان‪ ،‬والتي ينشغل عنه ا بمص الح‬
‫التركيب ة المعدني ة والعض وية والغازي ة ال تي تش ده إلى األرض وتش عره‬
‫بملكيته لها‪.‬‬
‫ولهذا نرى في القرآن الك ريم ال ترغيب الكث ير ب الهجرة في س بيل هللا‬
‫وع دم الرك ون إلى األرض إن ك ان في الرك ون إليه ا إض رارا بالمص الح‬
‫الشرعية التي من أجلها سخرت األرض مركبة طيعة لإلنسان‪ ،‬قال تع الى ‪:‬‬
‫َّاي فَا ْعبُ ُدونِي‪(‬العنكبوت‪)56:‬‬ ‫اس َعةٌ فَإِي َ‬ ‫ضي َو ِ‬ ‫‪ ‬يَا ِعبَا ِدي الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن أَرْ ِ‬
‫والحديث عن السعة هنا يشير إلى الهجرة إذا ما اقتضى تحقيق العب ادة‬
‫ذلك‪ ،‬ولهذا ال تعذر المالئكة الذين يموتون مستضعفين مع أن لهم إمكاني ات‬
‫التنقل والبحث في األرض عن مواطن جديدة لتحقيق العبودية‪ ،‬هم كالمسافر‬
‫الذي يبحث في القاطرة أو الطائرة عن الموضع المناسب له‪.‬‬
‫قال تع الى ‪  :‬إِ َّن الَّ ِذينَ ت ََوفَّاهُ ْم ْال َماَل ئِ َك ةُ ظَ الِ ِمي أَنفُ ِس ِه ْم قَ الُوا فِي َم ُكنتُ ْم‬
‫اجرُوا‬ ‫اس َعةً فَتُهَ ِ‬‫ض قَ الُوا أَلَ ْم تَ ُك ْن أَرْ ضُ هَّللا ِ َو ِ‬ ‫َض َعفِينَ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫قَالُوا ُكنَّا ُم ْست ْ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم ‪.)6003( 7/58‬‬


‫‪ )(2‬رواه مالك في الموطأ ‪ .176‬وأحمد ‪ )11325( 3/35‬وفي ‪ )11413( 3/43‬والبخاري‬
‫‪.1/158‬‬

‫‪77‬‬
‫صيرًا ‪(‬النساء‪ ،)97:‬فاستضعاف هؤالء‬ ‫ت َم ِ‬ ‫فِيهَا فَأُوْ لَئِكَ َمأْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َو َسا َء ْ‬
‫الظالمين ألنفسهم لم يكن بسبب عجزهم وإنم ا بس بب رك ونهم وتث اقلهم إلى‬
‫األرض‪ ،‬ولهذا جاءت اآليات بع دها تس تثني ال ذين ال يس تطيعون حيل ة وال‬
‫يهتدون سبيال‪ ،‬فأولئك عسى هللا أن يتوب عليهم لضعفهم الم ادي الحقيقي ال‬
‫الضعف النفسي المجازي‪.‬‬
‫وله ذا يقص الق رآن الك ريم علين ا كث يرا من قص ص المه اجرين في‬
‫سبيله بدءا من األنبياء الذين ال نكاد نستثني واحدا منهم من الهجرة‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يرغب في الهجرة في سبيل هللا ويعد ص احبها الفض ل‬
‫يل هَّللا ِ يَ ِج ْد فِي‬ ‫العظيم الدنيوي واألخروي‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬و َم ْن يُهَا ِجرْ ِفي َسبِ ِ‬
‫اجرًا إِلَى هَّللا ِ َو َر ُس ولِ ِه‬ ‫ض ُم َرا َغ ًما َكثِيرًا َو َس َعةً َو َم ْن يَ ْخرُجْ ِم ْن بَ ْيتِ ِه ُمهَ ِ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ت فَقَ ْد َوقَ َع أَجْ ُرهُ َعلَى هَّللا ِ َو َك انَ هَّللا ُ َغفُ ورًا َر ِحي ًما ‪(‬النس اء‪:‬‬ ‫ثُ َّم يُ ْد ِر ْكهُ ْال َموْ ُ‬
‫‪)100‬‬
‫فالمهاجر في سبيل هللا في حماية هللا وفي سعة من فضل هللا وإن م ات‬
‫فهو من الشهداء‪ ،‬وق د ورد في الح ديث قوله‪ (: ‬من خ رج حاج ا ً فم ات‪،‬‬
‫كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة‪ ،‬ومن خرج معتمراً فمات‪ ،‬كتب ل ه أج ر‬
‫المعتمر إلى يوم القيامة‪ ،‬ومن خرج غازيا ً في سبيل هللا فمات‪ ،‬كتب له أج ر‬
‫الغازي إلى يوم القيامة)(‪)1‬‬

‫والهج رة في الش رع‪ ،‬به ذا المفه وم‪ ،‬ال تقتص ر على الرحل ة من بل د‬
‫الحرب إلى بالد اإليمان‪ ،‬بل تتعداه إلى آفاق الحي اة الواس عة‪ ،‬وله ذا ج اءت‬
‫اآليات الكث يرة تحث على الس ير في األرض للعلم وللبحث ولالعتب ار‪ ،‬ق ال‬
‫ئ النَّ ْش أَةَ‬ ‫ق ثُ َّم هَّللا ُ يُن ِش ُ‬‫ض فَا ْنظُرُوا َك ْيفَ بَدَأَ ْالخ َْل َ‬‫تعالى ‪ :‬قُلْ ِسيرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫اآْل ِخ َرةَ إِ َّن هَّللا َ َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر‪(‬العنكب وت‪ ،)20:‬وق ال تع الى ‪ :‬قُ لْ‬
‫ض فَ انظُرُوا َك ْي فَ َك انَ عَاقِبَ ةُ ْال ُمجْ ِر ِمينَ ‪(‬النم ل‪،)69:‬‬ ‫ِس يرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫وغيرها من اآليات الكثيرة وهي كله ا دع وة إلى التخلص من قي ود ال تراب‬
‫والوطن والتثاقل إليهما‪.‬‬
‫وه ذه المف اهيم هي ال تي جعلت كث يرا من الص الحين يس يحون في‬
‫األرض‪ ،‬ينشرون دين هللا ويربون الناس عليه ويتعلمون العلم النافع‪ ،‬فم ات‬
‫بعضهم مشرقا ومات آخ ر مغرب ا لتش هد األرض على تض حيتهم ب األرض‬

‫براني في األوس ط (‪،)5321‬‬


‫ُّ‬ ‫‪ )(1‬أبو يعلى في مسنده (‪ ،)6357‬وفي معجمه (‪ ،)101‬والطَّ‬
‫وابن ابي حاتم في العلل (‪ ،)973‬والبَيهَقِ ُّي في الشعب (‪)3806‬‬

‫‪78‬‬
‫في سبيل هللا‪ ،‬تلك التضحية التي عوض هم هللا به ا التمكين في األرض‪ ،‬ق ال‬
‫ت لَيَ ْس ت َْخلِفَنَّهُم فِي‬
‫الص الِ َحا ِ‬‫تع الى ‪َ :‬و َع َد هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ِم ْن ُك ْم َو َع ِملُ وا َّ‬
‫َض ى لَهُ ْم‬‫اس ت َْخلَفَ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكن ََّن لَهُ ْم ِدينَهُ ْم الَّ ِذي ارْ ت َ‬‫ض َك َم ا ْ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫َولَيُبَ ِّدلَنَّهُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد خَ وْ فِ ِه ْم أَ ْمنًا يَ ْعبُ ُدونَنِي اَل ي ُْش ِر ُكونَ بِي َش ْيئًا َو َم ْن َكفَ َر بَ ْع َد‬
‫ك هُ ْم ْالفَا ِسقُونَ ‪(‬النور‪)55:‬‬ ‫َذلِكَ فَأُوْ لَئِ َ‬
‫وهذا الوعد الحق ليس خاصا بالصحابة بل هو عام لكل عب د ص الح‪،‬‬
‫ض يَ ِرثُهَ ا ِعبَ ا ِدي‬ ‫ُور ِم ْن بَ ْع ِد ال ِّذ ْك ِر أَ َّن اأْل َرْ َ‬ ‫قال تعالى ‪َ :‬ولَقَ ْد َكتَ ْبنَا فِي ال َّزب ِ‬
‫الصَّالِحُونَ ‪( ‬األنبياء‪)105:‬‬
‫وهكذا ال يخس ر الم ؤمن ش يئا بع دم تعلق ه ب األرض‪ ،‬ألن األرض لن‬
‫تضيع منه إن ترك تعلقه القلبي بها وركونه وتثاقل ه الجس دي إليه ا‪ ،‬ب ل إن ه‬
‫سيكسب بدل ذلك التعلق آفاقا جديدة ورؤى جديدة تجعل منه ع المي النزع ة‬
‫واسع الطموح غير محدود بالحدود الجغرافي ة البس يطة ال تي تقي ده بقيوده ا‬
‫وتصوراتها وتحصره في عالم التراب مع أنه أرفع من التراب‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫الريح‬
‫الفرح بالريح من أنواع الفرح المذموم في القرآن الكريم‪ ،‬فلماذا ذم ؟‬
‫أليست الريح نعمة من النعم العظمى التي يتوقف عليها استمرار الحياة‬
‫على هذه األرض؟ وهي بالت الي كالش مس والقم ر والم اء وك ل ه ذا الك ون‬
‫الكبير الذي يفتقر اإلنسان إليه في كل لحظة كما تفتقر كل أصناف األحياء؟‬
‫أليس ه ذا الغالف الغ ازي ال ذي يحي ط ب األرض وال ذي تتش كل من‬
‫حركته الرياح هو الغالف الغازي الوحيد الذي تتأقلم معه حياة اإلنسان على‬
‫هذه األرض؟‬
‫أليس ه و ال ذي يلقح الس حاب فيمط ر‪ ،‬ويلقح النب ات فيثم ر‪ ،‬ويح رك‬
‫السفن في البحر‪ ،‬ويحرك طواحن اله واء‪ ،‬ويش كل نوع ا من أن واع الطاق ة‬
‫التي يستظل بخدماتها اإلنسان؟‬
‫إن كل ذلك حقائق علمية واقعية ال يجادل فيها‪ ،‬ولم يرد القرآن بنفيه ا‪،‬‬
‫بل ورد فيه ما يؤكدها‪ ،‬ولكن يؤكدها بغير األسلوب ال ذي تع وده الن اس في‬
‫دراس تهم للمظ اهر الطبيعي ة‪ ،‬حيث يجعل ون الظ اهرة ذات ا قائم ة بنفس ها‬
‫تحركها الطبيعة العمي اء كي ف تش اء‪ ،‬ويجعل ون منه ا ك ذلك ذات ا عمي اء ال‬
‫تبصر وال تسمع وال تعقل ما تعمل‪ ،‬وليس لها وظيفة أو رسالة تؤديه ا‪ ،‬هي‬
‫كالمجنون الذي توضع في يده قنبلة ليرميها متى يشاء وهو يضحك ويلهو‪.‬‬
‫وهذا التصور للريح‪ ،‬والمشاعر الناشئة عن ه ه و ال ذي ورد ذمه ا في‬
‫القرآن الكريمة بصيغة غير مباشرة في قوله تعالى ‪ :‬هُ َو الَّ ِذي ي َُس يِّ ُر ُك ْم فِي‬
‫يح طَيِّبَ ٍة َوفَ ِر ُح وا بِهَ ا‬ ‫ك َو َج َر ْينَ بِ ِه ْم بِ ِر ٍ‬ ‫ْالبَ رِّ َو ْالبَحْ ِر َحتَّى إِ َذا ُك ْنتُ ْم فِي ْالفُ ْل ِ‬
‫ف َو َج ا َءهُ ْم ْال َم وْ ُج ِم ْن ُك ِّل َم َك ا ٍن َوظَنُّوا أَنَّهُ ْم أُ ِحي طَ بِ ِه ْم‬ ‫َجا َء ْتهَا ِري ٌح ع ِ‬
‫َاص ٌ‬
‫رينَ ‪‬‬ ‫ص ينَ لَ هُ ال ِّدينَ لَئِ ْن أَ ْن َج ْيتَنَ ا ِم ْن هَ ِذ ِه لَنَ ُك ون ََّن ِم ْن َّ‬
‫الش ا ِك ِ‬ ‫َد َع وْ ا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬
‫(يونس‪)22:‬‬
‫تبدأ اآلية بلفظ التسيير المشتق من السير وتخ بر أن س ير اإلنس ان في‬
‫البر والبحر من تقدير هللا وفع ل هللا وخل ق هللا‪ ،‬ح تى حرك ات أقدام ه وه و‬
‫يرفعها ويخفضها ويطوي بها النجاد والوه اد من تق دير هللا‪ ،‬تل ك الحرك ات‬
‫التي قد يختال بها اإلنسان ويزهو ويطاول الجبال‪.‬‬
‫ثم ينتقل المشهد إلى البحر معتمدا أسلوب الخطاب ال ذي يحم ل األنس‬
‫ويشعر المستمع ب القرب‪ ،‬ولكن ه فج أة يلتفت إلى الغ ائب‪ ،‬ويتح دث بص يغة‬

‫‪80‬‬
‫الغائب ليشعر ب النفور واإلبع اد والحج اب‪ ،‬ويخ بر عن ال ريح الطيب ة ال تي‬
‫تحرك السفن الش راعية‪ ،‬وي أتي اإلنك ار على م وقفهم حيث فَ ِر ُح وا بِهَ ا ولم‬
‫يفرحوا بمرسلها‪ ،‬أولم يكون وا يعتق دون أن له ا مرس ال‪ ،‬حين ذاك ‪َ ‬جا َء ْتهَ ا‬
‫ان َوظَنُّوا أَنَّهُ ْم أُ ِحي طَ بِ ِه ْم‪،‬‬ ‫ف َو َج ا َءهُ ْم ْال َم وْ ُج ِم ْن ُك ِّل َم َك ٍ‬ ‫َاص ٌ‬‫ِري ٌح ع ِ‬
‫وحين ذاك عرف وا ربهم والتجئ وا إلي ه بص دق ووع دوه أن يش كروه‪ ،‬ولكن‬
‫المش هد ينتق ل بع د ذل ك إلى س كون ال ريح وع ودة الري اح الطيب ة ف إذا بهم‬
‫يعودون إلى طبعهم وبغيهم وعتوهم‪ ،‬قال تعالى ‪  :‬فَلَ َّما أَ ْن َجاهُ ْم إِ َذا هُ ْم يَ ْب ُغونَ‬
‫ق‪ (‬يونس‪)23:‬‬ ‫ض بِ َغي ِْر ْال َح ِّ‬
‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ومث ل ه ذه النف وس ال تي تتقلب تقلب الري اح غ ير ج ديرة ب أن تف رح‬
‫الفرح الحق‪ ،‬الفرح الذي يفرح ه المؤمن ون‪ ،‬ألن المؤم نين يفرح ون بنعم ة‬
‫الريح ال بالريح‪ ،‬ويعتبرونها رسائل من هللا‪ ،‬رسائل ود فيستبش رون بفض ل‬
‫هللا‪ ،‬أورسائل تخويف فيرجعون إلى هللا ويثوبون إليه ويستغفرونه‪ ،‬يحسنون‬
‫الظن به في نفس الوقت الذي ال يأمنون مكره‪ ،‬ألن ذلك يؤدي إلى الغ رور‪،‬‬
‫والغرور هو القاصمة التي تحجب اإلنسان عن ربه وتستعبده لنفسه‪.‬‬
‫ولذلك كان ‪ ‬ـ كما تص ف عائش ة ـ ق الت‪ :‬م ا رأيت رس ول هللا ‪‬‬
‫ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم‪ ،‬قالت‪ :‬وك ان إذا رأى غيم ا أو‬
‫ريحا عرف في وجهه ق الت‪ :‬ي ا رس ول هللا إن الن اس إذا رأوا الغيم فرح وا‬
‫رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فق ال‪:‬‬
‫يا عائشة ما يؤمني أن يكون في ه ع ذاب ع ذب ق وم ب الريح‪ ،‬وق د رأى ق وم‬
‫رنَا ‪( ‬االحقاف‪)1()24 :‬‬ ‫َارضٌ ُم ْم ِط ُ‬‫العذاب فقالوا ‪ :‬هَ َذا ع ِ‬
‫وقال أنس بن مالك‪( :‬كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه‬
‫النبي ‪)2()‬‬

‫وكان ‪ ‬ينهى عن سبها أو التوجه إليها بالمدح أو الذم‪ ،‬بل يتوجه إلى‬
‫هللا فيسأل من خيرها ويستعاذ به من ش رها‪ ،‬ك ان ‪ ‬يوص ي أمت ه بقول ه ‪:‬‬
‫( ال ريح من روح هللا ت أتي بالرحم ة وت أتي بالع ذاب‪ ،‬ف إذا رأيتموه ا فال‬
‫تسبوها وسلوا هللا خيرها واستعيذوا به من شرها)(‪)3‬‬

‫وك ان من س نته ‪ ‬أن يق ول إذا عص فت ال ريح ‪ (:‬اللهم إني أس ألك‬


‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ ،6/167‬وفي (األدب المفرد) (‪ )251‬ومسلم ‪.3/26‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪)12647( 3/159‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري في األدب المفرد ‪ 720‬وأبو داود ‪ 5097‬وابن ماجة ‪ 3727‬والنسائي في‬
‫الكبرى ‪.10701‬‬

‫‪81‬‬
‫خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر م ا فيه ا‬
‫وشر ما أرسلت به )(‪)1‬‬

‫بهذا التوحيد علمنا النبي ‪ ‬كيف نوحد هللا في كل األش ياء‪ ،‬وكي ف ال‬
‫نأمن مكره مع كل شيء‪ ،‬ألن كل شيء مجند هلل خاضع ألوامره حتى الريح‬
‫التي نراها طيبة قد تحمل في طياتها جرثوم الموت القاتل إذا أراد هللا ذلك‪.‬‬
‫وقد كانت الريح جندا من جند هللا يوم تحزب األحزاب تبغي استئصال‬
‫شأفة المسلمين‪ ،‬قال تع الى ‪ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْاذ ُك رُوا نِ ْع َم ةَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ‬
‫َجا َء ْت ُك ْم ُجنُو ٌد فَأَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ِريحًا َو ُجنُ ودًا لَ ْم ت ََروْ هَ ا َو َك انَ هَّللا ُ بِ َم ا تَ ْع َملُ ونَ‬
‫صيرًا ‪( ‬األح زاب‪ ،)9:‬ف الريح من الجن ود المرئي ة‪ ،‬وغيره ا من الجن ود‬ ‫بَ ِ‬
‫غير المرئية‪.‬‬
‫وجن د هللا من ال ريح هي ال تي نص ر هللا به ا ه ودا علي ه الس الم على‬
‫قومه‪ ،‬حين أرس ل عليهم ريح ا ب اردة ك برودة قل وبهم‪ ،‬في أي ام مش ؤومات‬
‫كش ؤم نفوس هم مقابل ة لهم على تش اؤمهم من ن بيهم علي ه الس الم‪ ،‬وتحقي ا‬
‫ت لِنُ ِذيقَهُ ْم‬ ‫صرًا ِفي أَي ٍَّام نَ ِح َسا ٍ‬ ‫صرْ َ‬‫لطلبهم‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬فَأَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ِريحًا َ‬
‫ص رُونَ ‪‬‬ ‫ي فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َولَ َع َذابُ اآْل ِخ َر ِة أَ ْخ زَى َوهُ ْم اَل يُ ْن َ‬ ‫اب ْال ِخ ْز ِ‬‫َع َذ َ‬
‫(فصلت‪)16:‬‬
‫وك انت ال ريح ق د ج اءتهم بص ورة يحبونه ا فانتهض وا مستبش رين‬
‫َارضٌ ُم ْم ِط ُرنَا‪ ،‬فأجابهم هود عليه السالم بلسان العارف‬ ‫يصيحون ‪‬هَ َذا ع ِ‬
‫ْج ْلتُ ْم بِ ِه ِري ٌح فِيهَا َع َذابٌ أَلِي ٌم‪(‬األحقاف‪)24:‬‬ ‫بربه‪  :‬بَلْ هُ َو َما ا ْستَع َ‬
‫ق ال ابن عب اس يص ف ذل ك المش هد ‪ (:‬أول م ا رأوا الع ارض ق اموا‬
‫فمدوا أيديهم‪ ،‬فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارج ا ً من دي ارهم من‬
‫الرجال والمواشي تط ير بهم ال ريح م ا بين الس ماء واألرض مث ل ال ريش‪،‬‬
‫فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت الريح األب واب وص رعتهم‪ ،‬وأم ر هللا‬
‫ال ريح فأم الت عليهم الرم ال‪ ،‬فك انوا تحت الرم ال س بع لي ال وثماني ة أي ام‬
‫حس وماً‪ ،‬ولهم أنين‪ ،‬ثم أم ر هللا ال ريح فكش فت عنهم الرم ال واحتملتهم‬
‫فرمتهم في البحر )(‪)2‬‬
‫وهو تصوير دقيق لما ن راه كث يرا على شاش ات التلفزي ون من أن واع‬
‫األعاصير‪ ،‬والتي ال نسمع لها سببا إال حركات الري اح وتح والت الض غط‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه عبد بن حميد (‪ )167‬والترمذي ‪.2252‬‬


‫‪ )(2‬القرطبي‪.16/175:‬‬

‫‪82‬‬
‫والتفسيرات المادية الكثيرة‪ ،‬والتي ال ينكرها القرآن‪ ،‬وإنما ينكر االكتفاء بها‬
‫وتصور أنها فاعلة بذاتها‪.‬‬
‫ولذلك يخبر القرآن الكريم أن هذه الظ واهر ال تي نس ميها طبيعي ة هي‬
‫ظواهر إلهية‪ ،‬ما كان منها خيرا وما كان منها مؤذي ا‪ ،‬وأن م ا أص اب ع ادا‬
‫منها لم يكن يراد به عين عاد وإنما كل عاد‪ ،‬ق ال تع الى حكاي ة عن الع ذاب‬
‫الطوفَ انَ َو ْال َج َرا َد َو ْالقُ َّم َل‬ ‫ال ذي أنزل ه على المص ريين ‪  :‬فَأَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ْم ُّ‬
‫ر ِمينَ ‪‬‬ ‫اس تَ ْكبَرُوا َو َك انُوا قَوْ ًم ا ُمجْ ِ‬ ‫ت فَ ْ‬ ‫ت ُمفَ َّ‬
‫ص اَل ٍ‬ ‫الض فَا ِد َع َوال َّد َم آيَ ا ٍ‬
‫َو َّ‬
‫(األعراف‪)133:‬‬
‫واآلية ترسم حركة الجليل والدقيق‪ ،‬وهي تس عى جميع ا لتطب ق م راد‬
‫هللا وأمره‪ ،‬وتجمع بين الطوفان العمالق الضخم وبين القم ل الق زم الص غير‬
‫لتبين أن الشيء إذا صار جنديا هلل يتحول إلى قوة خارق ة ال يقاومه ا ش يء‪،‬‬
‫ألنها من أمر هللا‪.‬‬
‫وقال تعالى عن الصواعق‪َ  :‬ويُ َسبِّ ُح ال َّر ْع ُد بِ َح ْم ِد ِه َو ْال َماَل ئِ َكةُ ِم ْن ِخيفَتِ ِه‬
‫ُص يبُ بِهَ ا َم ْن يَ َش ا ُء َوهُ ْم يُ َج ا ِدلُونَ فِي هَّللا ِ َوهُ َو َش ِدي ُد‬ ‫ق فَي ِ‬ ‫َويُرْ ِس ُل الص ََّوا ِع َ‬
‫ْال ِم َحا ِل‪( ‬الرعد‪ ،)13:‬فاهلل تعالى هو الذي يرسل الصواعق ليصيب بها من‬
‫يشاء‪ ،‬وقد جاء الفعل بصيغة المضارع الذي يفيد كل حاضر ومستقبل لينفي‬
‫عن أذهاننا ربط عقاب هللا باألمم السابقة بع اد وثم ود وق وم فرع ون‪ ،‬وختم‬
‫بالفاصلة المنبئة عن صفة من صفات هللا بأنه شديد الق وة وش ديد األخ ذ لمن‬
‫أراد ال يعجزه شيء في األرض وال في السماء‪.‬‬
‫وس بب ن زول ه ذه اآلي ة يص ور شخص ية تمث ل نموذج ا لكث ير من‬
‫المثقفين الذين يضحكون ملء أفواههم إن سمعوا متدينا يتحدث عن س نن هللا‬
‫الكونية‪ ،‬ويسخرون من تفسير أي ظاهر بغير التفس ير ال ذي يرون ه‪ ،‬ولعل ه‬
‫ألجل ذلك ورد في اآلية وصف للمنك رين بالمج ادلين ‪َ :‬وهُ ْم يُ َج ا ِدلُونَ فِي‬
‫هَّللا ِ‪ ‬ألن الذي يج ادل في أفع ال هللا يج ادل في الحقيق ة في هللا‪ ،‬عن مجاه د‬
‫قال‪ :‬جاء يهودي فقال‪ :‬يا محم د أخ برني عن رب ك من أي ش يء ه و ؟ من‬
‫نحاس هو أم من لؤلؤ أو ي اقوت ؟ ق ال فج اءت ص اعقة فأخذت ه وأن زل هللا‬
‫اآلية(‪.)1‬‬
‫وهذا السبب ينطق كل لفظ فيه بصحته‪ ،‬فاليهود مج ادلون ح اذقون في‬
‫صنعة الجدل‪ ،‬واليهود ماديون يحبون الذهب واللؤلؤ‪ ،‬وقد عبدوا العج ل وال‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير (‪)443 /4‬‬

‫‪83‬‬
‫يزال ون يعبدون ه من دون هللا‪ ،‬وهم ال ذين أخرج وا للن اس مق ولتهم ( ال إل ه‬
‫والحياة مادة )‪ ،‬وهم الذين الذين فسروا الحياة والت اريخ تفس يرا مادي ا‪ ،‬وم ا‬
‫إيمانهم الظاهر باهلل‪ ،‬وما قراءتهم للكتب إال قشرة يدارون بها خبث نفوسهم‪.‬‬
‫وألجل هذا تجيء كل آي ات الق رآن الك ريم المخ برة عن الري اح بلف ظ‬
‫اإلرس ال لتش عر أنه ا رس ول من هللا‪ ،‬والف رح ال يك ون بالرس ول وإنم ا‬
‫بالمرسل‪:‬‬
‫قال تعالى ‪َ  :‬وهُ َو الَّ ِذي يُرْ ِس ُل ال ِّريَا َح بُ ْشراً بَ ْينَ يَ َديْ َرحْ َمتِ ِه َحتَّى إِ َذا‬
‫ت‬‫ت فَأ َ ْنز َْلنَا بِ ِه ْال َما َء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه ِم ْن ُك ِّل الثَّ َم َرا ِ‬ ‫أَقَلَّ ْ‬
‫ت َس َحابا ً ثِقَاالً ُس ْقنَاهُ لِبَلَ ٍد َميِّ ٍ‬
‫َك َذلِكَ نُ ْخ ِر ُج ْال َموْ تَى لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ ‪( ‬ألعراف‪)57:‬‬
‫الس َما ِء َم ا ًء‬ ‫اح لَ َواقِ َح فَأ َ ْنز َْلنَ ا ِم ْن َّ‬ ‫وق ال تع الى ‪َ  :‬وأَرْ َس ْلنَا ال ِّريَ َ‬
‫خَازنِينَ ‪(‬الحجر‪)22:‬‬ ‫فَأ َ ْسقَ ْينَا ُك ُموهُ َو َما أَ ْنتُ ْم لَهُ بِ ِ‬
‫اح بُ ْشرًا بَ ْينَ يَ َديْ َرحْ َمتِ ِه َوأَنز َْلنَ ا‬ ‫وقال تعالى ‪َ  :‬وهُ َو الَّ ِذي أَرْ َس َل ال ِّريَ َ‬
‫ِم ْن ال َّس َما ِء َما ًء طَهُورًا ‪(‬الفرقان‪)48:‬‬
‫وكل هذه اآليات تطفح بالبشر والفرح والرحم ة‪ ،‬لتخ بر أنه ا المقص د‬
‫الحقيقي من إرسال الرياح‪ ،‬فهي التي يحيا بها موات األرض‪ ،‬ويثمر الزرع‬
‫وتمتلئ خزائن السحاب‪ ،‬ويرتوي الخلق بمائها الطهور‪.‬‬
‫ولعله من أسرار الق رآن في اختي ار األلف اظ أن عام ة المواض ع ال تي‬
‫ذكر هللا تع الى فيه ا إرس ال ال ريح بلف ظ الواح د فعب ارة عن الع ذاب‪ ،‬وك ل‬
‫موضع ذكر فيه بلفظ الجم ع فعب ارة عن الرحم ة‪ ،‬ليخ بر أن ري اح الرحم ة‬
‫كثيرة‪ ،‬وأن ريح العذاب واحدة رحمة من هللا‪ ،‬ألن رحمته سبقت غضبه‪.‬‬
‫بل إن الرياح القواصف واألعاصير والريح العقيم وال ريح الصرص ر‬
‫العاتية ماهي كذلك إال رياح رحمة بما تلقيه في صدور المؤمنين من خ وف‬
‫من هللا ينزع حجاب الغفل ة والع ادة‪ ،‬ويعي د هلل في أذه انهم قدرت ه وتص رفه‬
‫المطلق في الكون‪ ،‬ولوال الريح العقيم ما عرف فضل هللا بالرياح اللواقح‪.‬‬
‫وله ذا ي أتي التح ذير من مك ر هللا بالتهدي د بأمث ال تل ك الري اح‪ ،‬ق ال‬
‫اص فًا ِم ْن ال ر ِ‬
‫ِّيح‬ ‫َارةً أُ ْخ َرى فَيُرْ ِس َل َعلَ ْي ُك ْم قَ ِ‬ ‫تعالى ‪ :‬أَ ْم أَ ِمنتُ ْم أَ ْن يُ ِعي َد ُك ْم فِي ِه ت َ‬
‫فَيُ ْغ ِرقَ ُك ْم بِ َما َكفَرْ تُ ْم ثُ َّم اَل ت َِج ُدوا لَ ُك ْم َعلَ ْينَا بِ ِه تَبِيعًا‪(‬اإلسراء‪)69:‬‬
‫والريح القاصفة هي التي تكسر الصواري وتغرق المراكب‪ ،‬وهي من‬
‫أنواع الرياح التي تدرس اآلن في علوم البحار‪.‬‬
‫ويصور مشهد آخر الريح‪ ،‬وقد نفخت فيها الحياة‪ ،‬وتح ولت إلى جب ار‬

‫‪84‬‬
‫يقصم ظهر المشرك ويهوي به في مكان سحيق‪ ،‬كالمك ان ال ذي يس كن في ه‬
‫عقله وقلبه‪ ،‬قال تعالى ‪ُ :‬حنَفَا َء هَّلِل ِ َغي َْر ُم ْش ِر ِكينَ بِ ِه َو َم ْن يُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ فَ َكأَنَّ َم ا‬
‫ق‪(‬الحج‪:‬‬ ‫َخ َّر ِم ْن ال َّس َما ِء فَت َْخطَفُهُ الطَّ ْي ُر أَوْ تَه ِْوي بِ ِه ال رِّي ُح فِي َم َك ا ٍن َس ِحي ٍ‬
‫‪)31‬‬
‫ولكن التهديد ال يقتصر على هذه األنواع من الرياح العاتي ة‪ ،‬ب ل يه دد‬
‫هللا تعالى اآلم نين من مك ره بالري اح الس واكن‪ ،‬ألن س كون ال ريح كعتوه ا‬
‫كالهما إذا شاء هللا يتحول إلى ع ذاب‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬إِ ْن يَ َش أْ ي ُْس ِك ْن ال َ‬
‫رِّيح‬
‫َّار َش ُكور‪(‬الش ورى‪:‬‬ ‫صب ٍ‬ ‫ت لِ ُكلِّ َ‬ ‫ك آَل يَا ٍ‬‫ظلَ ْلنَ َر َوا ِك َد َعلَى ظَه ِْر ِه إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫فَيَ ْ‬
‫‪)33‬‬
‫فهذه اآلية ضربت مثاال عن تأثير سكون الرياح على السفن الش راعية‬
‫التي تستغل حركة الرياح لتمخر عباب البحر‪ ،‬ويطب ق مفهومه ا ك ذلك على‬
‫ركود كل شيء على ظهر األرض إن أمر هللا الرياح أن تسكن‪.‬‬
‫وبعد أن يعرف المؤمن أن الريح فضل من فضل هللا وجند من جنده ال‬
‫قيام لها بذاتها يع بر منه ا إلى هللا ويس تدل به ا علي ه‪ ،‬وله ذا ج اءت اآلي ات‬
‫الكثيرة تجعل من الريح آية‪ ،‬واآلي ة في تص ور الم ؤمن ال تع ني االس تدالل‬
‫بها على الوجود‪ ،‬ألن هللا في ذهنه لم يغب حتى يحتاج إلى دلي ل ي دل علي ه‪،‬‬
‫وإنما اآلية رسالة من هللا وحرف من كلمات هللا التي يخاطب بها الكون ك ل‬
‫حين‪:‬‬
‫ف الل ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬
‫ار‬ ‫َّ‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫َ‬
‫ت َواأْل رْ ِ‬ ‫ق ال َّس َما َوا ِ‬ ‫ْ‬
‫قال تعالى ‪  :‬إِ َّن ِفي خَل ِ‬
‫اس َو َما أَن َز َل هَّللا ُ ِم ْن ال َّس َما ِء ِم ْن َما ٍء‬ ‫ك الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َما يَنفَ ُع النَّ َ‬ ‫َو ْالفُ ْل ِ‬
‫اح‬
‫يف الرِّ يَ ِ‬ ‫َص ِر ِ‬ ‫ث فِيهَ ا ِم ْن ُك ِّل دَابَّ ٍة َوت ْ‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَ ا َوبَ َّ‬ ‫فَأَحْ يَ ا بِ ِه اأْل َرْ َ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ ‪(‬البقرة‪)164:‬‬ ‫ض آَل يَا ٍ‬‫ب ْال ُم َس َّخ ِر بَ ْينَ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬ ‫َوال َّس َحا ِ‬
‫ْس طُهُ فِي َّ‬
‫الس َما ِء‬ ‫وقال تعالى ‪  :‬هَّللا ُ الَّ ِذي يُرْ ِس ُل ال ِّريَا َح فَتُثِي ُر َس َحابًا فَيَب ُ‬
‫اب بِ ِه َم ْن‬ ‫ص َ‬ ‫ق يَ ْخ ُر ُج ِم ْن ِخاَل لِ ِه فَ إ ِ َذا أَ َ‬ ‫َك ْيفَ يَ َشا ُء َويَجْ َعلُهُ ِك َسفًا فَت ََرى ْال َو ْد َ‬
‫يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه إِ َذا هُ ْم يَ ْستَ ْب ِشرُون‪(‬الروم‪)48:‬‬
‫الس َما ِء ِم ْن‬ ‫ار َو َم ا أَن َز َل هَّللا ُ ِم ْن َّ‬ ‫ف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫وقال تعالى ‪َ  :‬و ْ‬
‫ات لِقَ وْ ٍم يَ ْعقِلُ ونَ ‪‬‬ ‫اح آيَ ٌ‬ ‫يف الرِّ يَ ِ‬ ‫َص ِر ِ‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَ ا َوت ْ‬ ‫ق فَأَحْ يَا بِ ِه اأْل َرْ َ‬ ‫ِر ْز ٍ‬
‫(الجاثية‪)5:‬‬
‫ت َولِيُ ِذيقَ ُك ْم ِم ْن‬ ‫اح ُمبَ ِّش َرا ٍ‬ ‫َ‬
‫وق ال تع الى ‪َ  :‬و ِم ْن آيَاتِ ِه أ ْن يُرْ ِس َل ال ِّريَ َ‬
‫ض لِ ِه َولَ َعلَّ ُك ْم ت َْش ُكرُونَ ‪(‬ال روم‪:‬‬ ‫ك بِأ َ ْم ِر ِه َولِتَ ْبتَ ُغ وا ِم ْن فَ ْ‬‫ي ْالفُ ْل ُ‬
‫َرحْ َمتِ ِه َولِتَجْ ِر َ‬

‫‪85‬‬
‫‪)46‬‬
‫وه ذه اآلي ة تخبرن ا في إيج از جمي ل عن التص ور الحقيقي للري اح‬
‫والموقف منها‪ ،‬فهي مبشرات ووسائط رحمة إلهية ومحركات للفل ك‪ ،‬وذل ك‬
‫يعني أنها وسيلة من وسائل الطاقة‪ ،‬أما موقف المؤمن منها فموقفان ‪:‬موق ف‬
‫ح ركي باس تغالل طاقته ا الس تدرار فض ل هللا علي ه‪ ،‬وموق ف ش عوري‬
‫وتصوري بإدراك أنها من فضل هللا وشكر هللا على ذلك‪ ،‬والفرح بها ألج ل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ولكن هذا الموقف الذي تدعو إليه اآلي ة ال يق وم ب ه كم ا تنص اآلي ات‬
‫ات لِقَ وْ ٍم‬ ‫األخ رى إال الق وم الع اقلون‪ ،‬ومجيء اآلي ات بص يغة الجم ع ‪ ‬آيَ ٌ‬
‫يَ ْعقِلُونَ ‪ ‬يدل على أن العقل المؤمن عقل جماعي ليس عقال اس تبداديا‪ ،‬فه و‬
‫يتبص ر ويبحث‪ ،‬وفي نفس ال وقت يس مع‪ ،‬ألن االس تبداد ب الرأي والف رح‬
‫بالعقل المجرد حجاب من الحجب التي تحول بين اإلنسان والحق‪.‬‬
‫وتخاطب اآليات المشركين ليتببصروا في حركات الرياح لعلهم يرون‬
‫آلهة أخرى م ع هللا‪ ،‬الري اح ال تي تتح رك ك ل م رة في اتج اه‪ ،‬فتمي ل معه ا‬
‫ت‬ ‫قلوبهم فرحا وقنوطا بحسب اتجاهها‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬أَ َّم ْن يَ ْه ِدي ُك ْم فِي ظُلُ َم ا ِ‬
‫اح بُ ْشرًا بَ ْينَ يَ َديْ َرحْ َمتِ ِه أَئِلَهٌ َم َع هَّللا ِ تَ َع الَى هَّللا ُ‬‫ْالبَرِّ َو ْالبَحْ ِر َو َم ْن يُرْ ِس ُل ال ِّريَ َ‬
‫َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ ‪(‬النمل‪)63:‬‬
‫ويستدل به ا تع الى على البعث ال ذي ينك ره المش ركون والطب ائعيون‬
‫والشيوعيون‪ ،‬ويح رف معن اه اليه ود والمس يحيون والبوذي ون ليعرف وا من‬
‫الرياح مفاهيم جديدة أخطر من الخبز والماء‪ ،‬ألنه ليس ب الخبز وح ده يعيش‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫ورحمة هللا بالري اح عام ة تش مل المع دة والرئ ة والعق ل والقلب‪ ،‬ق ال‬
‫ت فَأَحْ يَ ْينَا بِ ِه‬ ‫تعالى ‪َ :‬وهَّللا ُ الَّ ِذي أَرْ َس َل ال ِّريَ َ‬
‫اح فَتُثِي ُر َس َحابًا فَ ُس ْقنَاهُ إِلَى بَلَ ٍد َميِّ ٍ‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َك َذلِكَ النُّ ُشو ُر‪(‬فاطر‪)9:‬‬ ‫اأْل َرْ َ‬
‫ومن المفاهيم الجديدة التي يدعو القرآن إلى االعتبار به ا من حرك ات‬
‫الرياح مفهوم الحياة الدنيا فهي تشبه الهشيم الذي تذروه الرياح‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫ات‬‫اختَلَ طَ بِ ِه نَبَ ُ‬ ‫الس َما ِء فَ ْ‬
‫نزَلنَ اهُ ِم ْن َّ‬ ‫‪َ ‬واضْ ِربْ لَهُ ْم َمثَ َل ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َك َم ا ٍء أَ ْ‬
‫ي ٍء ُم ْقتَ ِدرًا ‪‬‬ ‫ص بَ َح ه َِش ي ًما تَ ْذرُوهُ ال ِّريَ ا ُح َو َك انَ هَّللا ُ َعلَى ُك ِّل َش ْ‬ ‫ض فَأ َ ْ‬
‫اأْل َرْ ِ‬
‫(الكهف‪)45:‬‬
‫ومفه وم العم ل ال ذي ال ي راد ب ه وج ه هللا‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬مثَ ُل الَّ ِذينَ‬

‫‪86‬‬
‫ف اَل يَ ْق ِدرُونَ‬ ‫َاص ٍ‬‫ت بِ ِه ال رِّي ُح فِي يَ وْ ٍم ع ِ‬ ‫َكفَرُوا بِ َربِّ ِه ْم أَ ْع َمالُهُ ْم َك َر َما ٍد ا ْشتَ َّد ْ‬
‫ضاَل ُل ْالبَ ِعي ُد‪(‬إبراهيم‪)18:‬‬ ‫ك هُ َو ال َّ‬ ‫ِم َّما َك َسبُوا َعلَى َش ْي ٍء َذلِ َ‬
‫ومفهوم اإلنفاق ال ذي ال يوض ع في مواض عه الش رعية‪ ،‬وال ي راد ب ه‬
‫وجه هللا تعالى‪ ،‬قال تعالى ‪َ :‬مثَ ُل َما يُ ْنفِقُونَ فِي هَ ِذ ِه ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َك َمثَ ِل ِر ٍ‬
‫يح‬
‫ث قَ وْ ٍم ظَلَ ُم وا أَ ْنفُ َس هُ ْم فَأ َ ْهلَ َك ْت هُ َو َم ا ظَلَ َمهُ ْم هَّللا ُ َولَ ِك ْن‬ ‫ت َح رْ َ‬ ‫ص ابَ ْ‬ ‫صرٌّ أَ َ‬ ‫فِيهَا ِ‬
‫ظلِ ُمونَ ‪( ‬آل عمران‪)117:‬‬ ‫أَ ْنفُ َسهُ ْم يَ ْ‬
‫وأخيرا يبين القرآن الكريم أن الرياح التي هي جند من جند هللا تص ير‬
‫جنديا خاضعا للمؤمن إن تخلى عن أنانيته وتحلى بالعبودية لربه كما حص ل‬
‫َاص فَةً تَجْ ِري‬ ‫ِّيح ع ِ‬ ‫ذلك لسليمان علي ه الس الم ق ال تع الى ‪َ :‬ولِ ُس لَ ْي َمانَ ال ر َ‬
‫ض الَّتِي بَا َر ْكنَا فِيهَا َو ُكنَّا بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َع الِ ِمينَ ‪(‬األنبي اء‪،)81:‬‬ ‫بِأ َ ْم ِر ِه إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫اب ‪(‬ص‪:‬‬ ‫ص َ‬ ‫ْث أَ َ‬ ‫رِّيح تَجْ ِري بِ أ َ ْم ِر ِه ُرخَ ا ًء َحي ُ‬ ‫وقال تعالى ‪ :‬فَ َس َّخرْ نَا لَهُ ال َ‬
‫‪)36‬‬
‫به ذا التص ور لل ريح ينتفي من الم ؤمن الف رح الزائ ل الباط ل به ا‪،‬‬
‫الكاذب على الحقيقة‪ ،‬والذي ألجله ذمه القرآن الكريم‪ ،‬وينشأ بدله فرح جديد‬
‫بكونها نعمة من هللا ورسالة من رسائله وفض ل من فض له‪ ،‬فال يك ون عب دا‬
‫لحركاته ا المختلف ة‪ ،‬تفيء ب ه ذات اليمين وذات الش مال‪ ،‬ب ل يك ون عب دا‬
‫خالصا هلل‪ ،‬وهللا ال تعتريه الحوادث‪ ،‬وال يص يبه التغ ير‪ ،‬والعاق ل ه و ال ذي‬
‫يركن إن ألم به الخطر إلى البناء الثابت ال إلى البناء الذي تهده الرياح‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الجذور‬
‫القومي ات والش عوب والقبائ ل واآلب اء واألنس اب‪ ..‬ب وق من أب واق‬
‫الشيطان‪ ،‬ينفخ فيه‪ ،‬فيص در م ع ص داه الض ارب في أحق اب الت اريخ أك ثر‬
‫الحروب‪ ،‬وأبشع العصبيات‪ ،‬وأرذل الجرائم اإلنسانية‪.‬‬
‫عن دما انطل ق الروم ان من أرض هم الخص بة‪ ،‬ومعيش تهم الميس رة‪،‬‬
‫وفلسفتهم وأس اطيرهم لم يكون وا يحمل ون م ع جيوش هم الج رارة من فض ل‬
‫حض ارة وإنس انية‪ ،‬ليس اهموا في رفع ة اإلنس ان‪ ،‬ب ل ك ان زادهم الوحي د‪،‬‬
‫وهاجسهم الوحيد‪ ،‬ودافعهم الوحيد هو أن يعرفوا العالم الذي نعتوه بالبربرية‬
‫من هو اإلنسان الروماني وأي دماء تسري في عروقه‪.‬‬
‫وعندما أباد خلفهم من األوروبيين سكان أمريكا وأستراليا‪ ،‬واس تعبدوا‬
‫س كان إفريقي ا واس تعمروا س كان آس يا لم يكون وا يش عرون ب أي ألم‪ ،‬وهم‬
‫يس تغلون األرض‪ ،‬ويستس خرون البش ر‪ ،‬ويمص ون دم اءهم‪ ،‬ألنهم ك انوا‬
‫يعتق دون‪ ،‬ب ل ق د يص رحون‪ ،‬ب أنهم الجنس الس امي‪ ،‬واإلنس ان الممت از‪،‬‬
‫اإلنسان الذي يجوز له أن يستغل من دونه كم ا يس تغل س ائر البش ر النب ات‬
‫والحيوان‪.‬‬
‫وم رت حقب ة على البش رية تص وروا أنهم تخلص وا من العبودي ة‬
‫واالستعمار‪ ،‬وأن اإلنسان ترقى ليمحو آثار الشعوبية والقبلية والعرقية‪ ،‬وأن‬
‫العالم يتجه نحو اإلنسان المفصول عن أعراقه‪ ،‬ولكن األخبار التي تبث ك ل‬
‫يوم‪ ،‬بل كل ساعة تكذب كل هذا‪.‬‬
‫ف اآلالف يموت ون في أنح اء الع الم بجريم ة من ج رائم ذل ك اإلنس ان‬
‫األش قر‪ ،‬فال يلتفت الع الم لهم‪ ،‬وال ي ترحم عليهم‪ ،‬وال يع زي ذويهم في‬
‫مصابهم‪ ،‬ألن الموت هو المصير الحقيقي لهم‪ ،‬وهو الخاتمة السعيدة لمأس اة‬
‫وجودهم‪ ،‬فإذا م ا ج رح ف رد من أف راد ذل ك الجنس المتم يز انتهض البش ر‬
‫جميعا لمداواة جراحه‪ ،‬وإذا ما فقد انتهض وا جميع ا للبحث عن ه‪ ،‬ف إذا م ات‬
‫تحولوا جميع ا مع زين ومواس ين‪ ،‬والوي ل لمن لم يفع ل ك ل ذل ك‪ ،‬أو بعض‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ه ذه الش عوبية والقبلي ة والعرقي ة هي ال تي وقفت ق ديما ح ائال بين‬
‫الشعوب واتباع أنبيائها‪ ،‬وهي التي تق ف حالي ا بين ه ذا الع الم ال ذي ي دعي‬
‫معرفة كل شيء‪ ،‬ويتصور أن ه حق ق ك ل ش يء‪ ،‬وبين االلتف ات للبحث عن‬

‫‪88‬‬
‫التفسير الصحيح للكون‪ ،‬والبحث الجاد عن حقيقة اإلنسان‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬توج د آالف الدراس ات في ه ذا المي دان‪ ،‬ولكن الج ذور ال تي‬
‫امتألت القلوب زهوا بها وبطرا تح ول بينهم وبين النظ رة الج ادة الم ؤثرة‪،‬‬
‫فهم قد يقبلون أي شيء‪ ،‬ولكن أن يقبلوا ب دين ب دوي يس كن الجزي رة‪ ،‬ف ذلك‬
‫شيء ال يخطر على بال المستعبدين بعبودية الجذور‪.‬‬
‫قد يقال ‪ :‬بأن المسيح من الشام‪ ،‬فكيف يبجلونه‪ ،‬بل يعبدونه؟‬
‫وما درى هذا السائل عالقة هؤالء بالمسيح‪ ،‬وما درى أصل ارتب اطهم‬
‫بالمسيحية‪ ،‬وإال كي ف يفس ر انته اض الع الم المس يحي ألب راج التج ارة في‬
‫الوقت الذي لم ينبسوا فيه ببنت شفة أسفا على كنيسة المهد‪.‬‬
‫إن عبادة األسالف ـ كم ا ينص الق رآن الك ريم‪ ،‬وكم ا يفس ر الت اريخ ـ‬
‫ليست خاصة بالبدائيين‪ ،‬بل هي دين البشرية التي ابتعدت عن ال دين الح ق‪،‬‬
‫هي دين األوروب يين واألمريك يين والهن ود والص ينيين‪ ،‬وك ل القومي ات‬
‫والعرقيات التي نبتت في أوطاننا لتفرق بين األخ وأخيه‪.‬‬
‫يقول تع الى عن منط ق الق رى في جوابه ا ألنبيائه ا‪ ،‬وهي تس تند إلى‬
‫أكبر كذبة تحول بينها وبين اتباع الحق‪ ،‬أو على األقل االس تماع إلى الح ق‪:‬‬
‫ير إِاَّل قَ ا َل ُم ْت َرفُوهَ ا إِنَّا َو َج ْدنَا‬ ‫ك َما أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِكَ فِي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَ ِذ ٍ‬ ‫‪َ ‬و َك َذلِ َ‬
‫ار ِه ْم ُم ْقتَ ُدونَ ‪( ‬الزخرف‪)23:‬‬ ‫ُ‬
‫آبَا َءنَا َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ‬
‫وفي هذه اآلية إخبار عن حقيقة اجتماعية‪ ،‬هي أن الذي يتولى زعام ة‬
‫القومي ات هم الم ترفون ال ذي يت ذرعون ب ذرائع العص بية القبلي ة ليحقق وا‬
‫مطامحهم الشخصية‪ ،‬فهم قد فقهوا عن الشيطان أن بوق القومي ة ه و الب وق‬
‫الذي يستحث الشعوب المشبعة بذكريات ماضيها إلى التبعية العمياء‪.‬‬
‫والقرآن الك ريم ال ينك ر عليهم تعلقهم بأس الفهم وج ذورهم‪ ،‬ب ل ينك ر‬
‫عليهم ك ون ه ؤالء األس الف أض عف ش أنا من أن يكون وا ق دوة أو ق ادة‬
‫لغيرهم‪ ،‬وهو ما ال يستطيع تقبله هؤالء الذين يعيشون على أوهام الماض ي‪،‬‬
‫قال تعالى ‪َ :‬وإِ َذا قِي َل لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَ ْن زَ َل هَّللا ُ قَ الُوا بَ لْ نَتَّبِ ُع َم ا أَ ْلفَ ْينَ ا َعلَ ْي ِه‬
‫آبَا َءنَا أَ َولَوْ َكانَ آبَا ُؤهُ ْم ال يَ ْعقِلُونَ َشيْئا ً َوال يَ ْهتَ ُدونَ ‪( ‬البقرة‪)170:‬‬
‫وفي آي ة أخ رى يص ور الق رآن الك ريم قناع ة ه ؤالء واكتف اءهم بم ا‬
‫وجدوا عليه آباهم‪ ،‬فهم مشبعون بفكر أسالفهم ال يرض ون عن ه ب ديال‪ ،‬ق ال‬
‫َّس و ِل قَ الُوا َح ْس بُنَا َم ا‬ ‫يل لَهُ ْم تَ َعالَوْ ا إِلَى َما أَ ْن َز َل هَّللا ُ َوإِلَى الر ُ‬
‫تعالى ‪َ :‬وإِ َذا قِ َ‬
‫َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا أَ َولَوْ َكانَ آبَ ا ُؤهُ ْم ال يَ ْعلَ ُم ونَ َش يْئا ً َوال يَ ْهتَ ُدونَ ‪( ‬المائ دة‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫‪)104‬‬
‫بل إنهم يربط ون بين أم ر هللا وم ا وج دوا علي ه آب اهم‪ ،‬فآلب ائهم من‬
‫العصمة ما يتس حيل مع ه أن يخ الفوا أم ر هللا‪ ،‬أو لهم من القداس ة م ا يحي ل‬
‫على هللا أن ي أمر بخالف م ا ك ان علي ه آب اؤهم‪ ،‬ق ال تع الى مخ برا عن‬
‫الم بررات ال تي يت ذرعبها ه ؤالء إذا م ا نه وا عن الف واحش ‪َ  :‬وإِ َذا فَ َعلُ وا‬
‫فَا ِح َشةً قَالُوا َو َج ْدنَا َعلَ ْيهَا آبَا َءنَا َوهَّللا ُ أَ َم َرنَ ا بِهَ ا قُ لْ إِ َّن هَّللا َ ال يَ أْ ُم ُر بِ ْالفَحْ َش ا ِء‬
‫أَتَقُولُونَ َعلَى هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُمونَ ‪( ‬األعراف‪)28:‬‬
‫ويخبرنا القرآن الكريم عما تفعل ه القومي ات في عص رنا ه ذا كم ا في‬
‫العصور الس الفة من تق ديم ال وطن والقومي ة على هللا‪ ،‬فيحف ظ الص بيان من‬
‫األناشيد التي تزرع فيهم التعلق بالجذور م ا ينس يهم تعلقهم ب ربهم وذك رهم‬
‫له‪ ،‬ويدرسون من التاريخ ما يملؤهم بالتيه في الوقت الذي يتغافلون في ه عن‬
‫النماذج الرائعة التي من هللا بها على البشرية لتكون قدوة لها‪ ،‬قال تعالى عن‬
‫موقف ال يعرف فيه المؤمن الحقيقي غير رب ه في ال وقت ال ذي ينش غل في ه‬
‫َاس َك ُك ْم فَ ْاذ ُكرُوا هَّللا َ َك ِذ ْك ِر ُك ْم‬‫ض ْيتُ ْم َمن ِ‬ ‫القومي بس رد س يرة أس الفه‪ :‬فَ إ ِ َذا قَ َ‬
‫اس َم ْن يَقُو ُل َربَّنَا آتِنَا فِي ال ُّد ْنيَا َو َما لَهُ فِي اآْل ِخ َر ِة‬ ‫آبَا َء ُك ْم أَوْ أَ َش َّد ِذ ْكراً فَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫ق) (البقرة‪)200:‬‬ ‫ِم ْن خَ ال ٍ‬
‫ويذكر القرآن الك ريم اس تداللهم المطل ق بفع ل آب ائهم‪ ،‬وك أنهم اآلله ة‬
‫التي تشرع لهم وتبين لهم سنن الكون ونواميس ه وقواني ه‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬ثُ َّم‬
‫الس رَّا ُء‬‫الض رَّا ُء َو َّ‬ ‫بَ َّد ْلنَا َم َكانَ ال َّسيِّئَ ِة ْال َح َسنَةَ َحتَّى َعفَوْ ا َوقَالُوا قَ ْد َمسَّ آبَا َءنَ ا َّ‬
‫فَأ َ َخ ْذنَاهُ ْم بَ ْغتَةً َوهُ ْم ال يَ ْش ُعرُونَ ‪( ‬ألعراف‪)95:‬‬
‫ويبين العالقة الحقيقية مع اآلباء واإلخوان والعشائر والقبائل في ح ال‬
‫استحبابهم الكفر على اإليمان فيقول‪ :‬يَا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ال تَتَّ ِخ ُذوا آبَ ا َء ُك ْم‬
‫َوإِ ْخ َوانَ ُك ْم أَوْ لِيَا َء إِ ِن ا ْست ََحبُّوا ْال ُك ْف َر َعلَى اأْل ِ ي َما ِن َو َم ْن يَتَ َولَّهُ ْم ِم ْن ُك ْم فَأُولَئِ كَ هُ ُم‬
‫الظَّالِ ُمونَ ‪( ‬التوبة‪)23:‬‬
‫ويصور القرآن الكريم ال دافع الحقيقي له ذه المش اعر القومي ة المبع دة‬
‫عن الحق عند ذكره الرتب اط عب ادة األس الف بالكبري اء في األرض‪ ،‬يق ول‬
‫تعالى‪ :‬قَالُوا أَ ِج ْئتَنَا لِت َْلفِتَنَا َع َّما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا َوتَ ُك ونَ لَ ُك َم ا ْال ِكب ِْريَ ا ُء فِي‬
‫ض َو َما نَحْ ُن لَ ُك َما بِ ُم ْؤ ِمنِينَ ‪( ‬يونس‪ )78:‬وذلك ألن المتك بر كم ا ي رى‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫لنفسه وجودا متميزا عن غيره ال يتصور لماضيه غير ذلك الوجود المتميز‪.‬‬
‫وفي موضع آخر يبين أن الحاجز بينهم وبين تدبر اآليات الواض حات‬

‫‪90‬‬
‫هو مخالفتها لألعراف التي ورثوها عن أسالفهم‪ ،‬قال تع الى ‪ :‬أَفَلَ ْم يَ َّدبَّرُوا‬
‫ت آبَا َءهُ ُم اأْل َ َّولِينَ ‪( ‬المؤمن ون‪  )68:‬قَ الُوا َو َج ْدنَا‬ ‫ْالقَوْ َل أَ ْم َجا َءهُ ْم َما لَ ْم يَأْ ِ‬
‫آبَا َءنَا لَهَا عَابِ ِدينَ ‪( ‬االنبي اء‪ ،)53:‬وق ال تع الى ‪ :‬قَ الُوا بَ لْ َو َج ْدنَا آبَا َءنَ ا‬
‫َك َذلِكَ يَ ْف َعلُونَ ‪( ‬الشعراء‪)74:‬‬
‫ويعتبر القرآن الك ريم ال دعوات الش عوبية العنص رية ص دى لنفخ ات‬
‫شيطانية قال تع الى ‪َ :‬وإِ َذا قِي َل لَهُ ُم اتَّبِ ُع وا َم ا أَ ْن َز َل هَّللا ُ قَ الُوا بَ لْ نَتَّبِ ُع َم ا‬
‫ير‪( ‬لقم ان‪:‬‬ ‫الس ِع ِ‬‫ب َّ‬ ‫ان يَ ْد ُعوهُ ْم إِلَى َع َذا ِ‬ ‫َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا أَ َولَوْ َكانَ ال َّش ْيطَ ُ‬
‫‪)21‬‬
‫ويصور ذلك اللهث األعمى وراء تراث األسالف م ع بع ده عن الح ق‬
‫ار ِه ْم‬‫ض الِّينَ فَهُ ْم َعلَى آثَ ِ‬ ‫بل إبع اده عن ه بقول ه تع الى ‪ :‬إِنَّهُ ْم أَ ْلفَ وْ ا آبَ ا َءهُ ْم َ‬
‫يُ ْه َر ُع ونَ ) (الص افات‪ )69،70:‬ق ال أه ل اللغ ة ‪ (:‬ال يك ون اإله راع إال‬
‫إسراعا مع رعدة يقال أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من ب رد أو‬
‫غضب أو حمى وهو مهرع ل وقي ل أه رع أي أهرع ه حرص ه وعلى ه ذا‬
‫يهرعون أي يستحثون عليه )(‪)1‬‬
‫وقد ورد هذا الوصف في موضعين في القرآن الكريم األول منهم ا في‬
‫الس يِّئَات‪‬‬ ‫قوله تعالى ‪َ :‬و َجا َءهُ قَوْ ُمهُ يُ ْه َر ُعونَ إِلَ ْي ِه َو ِم ْن قَ ْب ُل َكانُوا يَ ْع َملُ ونَ َّ‬
‫ُ‬
‫ار ِه ْم‬ ‫(هود‪ ،)78 :‬وقوله‪  :‬بَلْ قَ الُوا إِنَّا َو َج ْدنَا آبَا َءنَ ا َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ‬
‫ُم ْهتَ ُدونَ ‪( ‬الزخرف‪)22:‬‬
‫ويخبر الق رآن الك ريم عن ع رض يقدم ه األنبي اء على أق وامهم‪ ،‬ه و‬
‫مشروع حياة أنجح من المشروع ال ذي ورث وه عن أس الفهم‪ ،‬لكن المتف انين‬
‫في حب الذات والمستغرقين في عبادة السالف يرفضون هذا المشروع قب ل‬
‫ال أَ َولَوْ ِج ْئتُ ُك ْم بِأ َ ْهدَى ِم َّما َو َج ْدتُ ْم َعلَ ْي ِه آبَ ا َء ُك ْم‬‫أن يستمعوا له‪ ،‬قال تعالى‪  :‬قَ َ‬
‫قَالُوا إِنَّا بِ َما أُرْ ِس ْلتُ ْم بِ ِه َكافِرُونَ ‪( ‬الزخرف‪)24:‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن ه من المس تغرب والمس تبعد أن ي ركن الم ؤمن ألي ش يء‬
‫يبعده عن رب ه أو يحجب ه عن ه كائن ا من ك ان‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬ال تَ ِج ُد قَوْ م ا ً‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر يُ َوا ُّدونَ َم ْن َحا َّد هَّللا َ َو َرسُولَهُ َولَوْ َك انُوا آبَ ا َءهُ ْم أَوْ‬
‫يرتَهُ ْم‪(‬المجادلة‪)22:‬‬ ‫أَ ْبنَا َءهُ ْم أَوْ إِ ْخ َوانَهُ ْم أَوْ ع َِش َ‬
‫ويعقب القرآن الكريم مبينا العوض اإللهي لهؤالء ال ذين ب اعوا الف رح‬
‫والزه و بالقومي ة والش عوبية والعش ائرية بف رح االنتم اء هلل رب الع المين‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬القرطبي‪.9/74 :‬‬

‫‪91‬‬
‫جزاء ال يمكن تصوره‪ ،‬وعوضا ال يفقه إال من ذاقوه‪ ،‬ق ال تع الى ‪ :‬أُولَئِ كَ‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا‬ ‫َب فِي قُلُوبِ ِه ُم اإْل ِ ي َمانَ َوأَيَّ َدهُ ْم بِر ٍ‬
‫ُوح ِم ْنهُ َويُ ْد ِخلُهُ ْم َجنَّا ٍ‬ ‫َكت َ‬
‫ك ِح ْزبُ هَّللا ِ أَاَل إِ َّن‬‫ض وا َع ْن هُ أُولَئِ َ‬ ‫ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َر ُ‬‫اأْل َ ْنهَا ُر خَ الِ ِدينَ فِيهَ ا َر ِ‬
‫ب هَّللا ِ هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ‪( ‬المجادلة‪)22:‬‬ ‫ِح ْز َ‬
‫وال ب أس أن نق رب هن ا بعض م ا ذك ر من ب دائل إيماني ة تع وض‬
‫المضحين بالقومية والعشائرية‪ ،‬فأول ما يرزقون هو اإليمان الذي عبر عنه‬
‫القرآن الكريم بالكتابة‪ ،‬فهو إيم ان مكت وب في قل وبهم ال تمح وه المي اه‪ ،‬وال‬
‫يؤثر فيه المناخ‪.‬‬
‫والجزاء الثاني هو تأييدهم بروح منه‪.‬‬
‫والجزاء الثالث هو إدخالهم الجنات التي تجري تحتها األنه ار خال دين‬
‫فيها‪.‬‬
‫والجزاء الرابع هو رضى هللا عنهم‪ ،‬وهو الرضى الذي ال يس اويه أي‬
‫جزاء‪.‬‬
‫والجزاء الخامس هو رضاهم عن هللا‪.‬‬
‫والجزاء السادس هو أنهم ال ينسبون إلى عشائر أو أق وام ب ل ينس بون‬
‫إلى هللا‪.‬‬
‫والج زاء الس ابع‪ ،‬وه و خاتم ة ك ل ه ذه الج وائز الرباني ة ه و الفالح‬
‫المستقر المستمر الذي ال تق رره لج ان بش رية يغلب عليه ا اله وى‪ ،‬وتتحكم‬
‫فيها األمزجة‪ ،‬وتك ثر حول ه الطع ون‪ ،‬ب ل ه و نج اح بتقري ر رب اني يحم ل‬
‫موشور السعادة الدائمة الخالدة‪.‬‬
‫ويضرب القرآن الكريم نموذجا بشريا عن المؤمن ال ذي لم يص له نفخ‬
‫الشيطان‪ ،‬ولم يت أثر لص داه‪ ،‬وه و إب راهيم علي ه الس الم‪ ،‬فينق ل موقف ه م ع‬
‫َت لَ ُك ْم أُ ْس َوةٌ َح َس نَةٌ‬
‫أبيه(‪ ،)1‬يوجهه بكل وسائل التوجيه‪ ،‬قال تعالى ‪  :‬قَ ْد َكان ْ‬

‫‪ )(1‬المراد به في اآليات الكريمة ـ كم ا ي ذكر أك ثر المفس رين ـ عم ه‪ ،‬ألن األب في اللغ ة‬


‫العربية يطلق على العم أيضا‪ ،‬ومن األدلة على ذلك من القرآن الك ريم أن إب راهيم علي ه الس الم َو َع د‬
‫الص الِ ِحينَ‬ ‫أن يستغف َر ل ه ‪ ،‬وبالفع ل َوف َي بِوع ده كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ربِّ هَبْ لِي ُح ْك ًم ا َوأَ ْل ِح ْقنِي بِ َّ‬ ‫أباه ْ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫رْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ق فِي ا ِخ ِرينَ َو َعلنِي ِمن َو َرث ِة َجن ِة الن ِعيم َواغفِ أِل بِي إِنهُ ك انَ ِمنَ‬ ‫ْ‬ ‫اجْ‬ ‫آْل‬ ‫ص د ٍ‬‫ْ‬ ‫َواجْ َع ل لي لِ َس انَ ِ‬ ‫ِّ‬
‫الضَّالِّينَ ﴾‪ ،‬لكن سُرعان ما رجع ع ّما كان قد رجا في أبيه خيرا ‪ ،‬و ِمن ثَ ّم ت برّأ من ه حين لم ي ر ُج في ه‬
‫ً‬
‫اس تِ ْغفَا ُر إِ ْب َرا ِهي َم أِل َبِي ِه إِالَّ عَن َّموْ ِع َد ٍة َو َع َدهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما‬‫الصالح ويئِس منه ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ﴿ :‬و َم ا َك انَ ْ‬
‫تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ َع ُد ٌّو هّلِل ِ تَبَرَّأَ ِم ْنهُ إِ َّن إِب َْرا ِهي َم ألوَّاهٌ َحلِي ٌم ﴾‬
‫هذا في بداية أمره قبل مغادرة بال ِده وقو ِمه قاصداً البالد المق ّدسة ‪ ،‬والدليل على ذل ك أنّ ه يب دأ‬
‫الدعاء بقوله ‪َ ﴿ :‬ربِّ هَبْ لِي ُح ْك ًما َوأَ ْل ِح ْقنِي بِالصَّالِ ِحينَ ﴾‬

‫‪92‬‬
‫ون‬‫فِي إِ ْب َرا ِهي َم َوالَّ ِذينَ َم َعهُ إِ ْذ قَالُوا لِقَوْ ِم ِه ْم إِنَّا بُ َرآ ُء ِم ْن ُك ْم َو ِم َّما تَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن ُد ِ‬
‫ضا ُء أَبَداً َحتَّى تُ ْؤ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َوحْ َدهُ‬ ‫هَّللا ِ َكفَرْ نَا بِ ُك ْم َوبَدَا بَ ْينَنَا َوبَ ْينَ ُك ُم ْال َعدَا َوةُ َو ْالبَ ْغ َ‬
‫ك ِمنَ هَّللا ِ ِم ْن َش ْي ٍء َربَّنَ ا‬ ‫ك لَ َ‬ ‫إِاَّل قَوْ َل إِب َْرا ِهي َم أِل َبِي ِه أَل َ ْس تَ ْغفِ َر َّن لَ كَ َو َم ا أَ ْملِ ُ‬
‫صي ُر‪( ‬الممتحنة‪)4:‬‬ ‫ك ت ََو َّك ْلنَا َوإِلَ ْيكَ أَنَ ْبنَا َوإِلَ ْيكَ ْال َم ِ‬‫َعلَ ْي َ‬
‫ويعمم في موق ف ق رآني آخ ر موقف ه من أبي ه وقوم ه جميع ا‪ ،‬فق ال‬
‫ك َوقَوْ َمكَ فِي‬ ‫تعالى ‪َ :‬وإِ ْذ قَا َل إِ ْب َرا ِهي ُم أِل َبِي ِه آزَ َر أَتَتَّ ِخ ُذ أَصْ نَاما ً آلِهَةً إِنِّي أَ َرا َ‬
‫ين‪( ‬األنعام‪)74:‬‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫َ‬
‫ويكرر هذا الموقف بصيغ مختلفة‪ ،‬ليرسم به ص ورة اإلنس ان الم ؤمن‬
‫ال أِل َبِي ِه‬‫الذي امتأل قلبه باهلل‪ ،‬فمحى كل ما يحجزه عنه‪ ،‬ق ال تع الى ‪  :‬إِ ْذ قَ َ‬
‫ل الَّتِي أَ ْنتُ ْم لَهَا عَا ِكفُونَ ‪( ‬االنبياء‪ ،)52:‬وقال تعالى ‪ :‬‬ ‫َوقَوْ ِم ِه َما هَ ِذ ِه التَّ َماثِي ُ‬
‫ال أِل َبِي ِه َوقَوْ ِم ِه َما تَ ْعبُ ُدونَ ‪( ‬الشعراء‪ ،)70:‬وقال تعالى ‪ :‬إِ ْذ قَا َل أِل َبِي ِه‬ ‫إِ ْذ قَ َ‬
‫َوقَوْ ِم ِه َما َذا تَ ْعبُ ُدونَ ‪( ‬الصافات‪ ،)85:‬وقال تعالى ‪َ :‬وإِ ْذ قَا َل إِب َْرا ِهي ُم أِل َبِي ِه‬
‫َوقَوْ ِم ِه إِنَّنِي بَ َرا ٌء ِم َّما تَ ْعبُ ُدونَ ‪( ‬الزخرف‪)26:‬‬
‫حتى استغفاره ألبيه الذي كان نتيجة رقة قلبه سرعان ما تن ازل عن ه‪،‬‬
‫اس تِ ْغفَا ُر‬
‫بل استغفر هللا منه لما تبين له عداوته هلل‪ ،‬ق ال تع الى ‪َ  :‬و َم ا َك انَ ْ‬
‫إِ ْب َرا ِهي َم أِل بِي ِه إِاَّل ع َْن َموْ ِع َد ٍة َو َع َدهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ َع ُد ٌّو هَّلِل ِ تَبَرَّأَ ِم ْن هُ إِ َّن‬
‫إِ ْب َرا ِهي َم أَل َ َّواهٌ َحلِي ٌم‪( ‬التوبة‪)114:‬‬
‫وهذا مقتضى الخلة‪ ،‬فالخليل ال ينبغي له أن يقدم أحدا على خليله مهما‬
‫كان‪.‬‬

‫وبعد مغادرتِه إلى األرض المق ّدسة ‪ ،‬نراه يبتهل إلى هللا أن يرزقَه أوالداً صالحين ‪ ﴿ .‬فَ أ َ َرادُوا‬
‫الص الِ ِحينَ ﴾‪ ،‬وهن ا‬ ‫َّ‬ ‫بِ ِه َك ْي دًا فَ َج َع ْلنَ اهُ ُم اأْل َ ْس فَلِينَ َوقَ ا َل إِنِّي َذا ِهبٌ إِلَى َربِّي َس يَ ْه ِدي ِن َربِّ هَبْ لِي ِمنَ‬
‫وب‬ ‫ُ‬
‫ق َويَ ْعق َ‬ ‫ار ْكنَا فِيهَا لِ ْل َعالَ ِمينَ َو َوهَ ْبنَ ا لَ هُ إِ ْس َح َ‬ ‫يُجيب هللا دعاءه ‪َ ﴿ :‬ونَ َّج ْينَاهُ َولُوطًا إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ض الَّتِي بَ َ‬
‫صالِ ِحينَ ﴾‬ ‫نَافِلَةً َو ُكاًّل َج َع ْلنَا َ‬
‫ال‬ ‫ث ّم إنّه ل ّما َكبُر ابنه إسماعيل وبنى البيتَ الحرام نراه يدعو لوالديه ويس تغفر لهم ا ‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ي‬ ‫ي أَن نَّ ْعبُ َد األَصْ نَا َم ﴾ إلى قوله ‪َ ﴿ :‬ربَّنَا ا ْغفِرْ لِي َولِ َوالِ َد َّ‬ ‫إِ ْب َرا ِهي ُم َربِّ اجْ َعلْ هَ َذا ْالبَلَ َد آ ِمنًا َواجْ نُ ْبنِي َوبَنِ َّ‬
‫َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ يَوْ َم يَقُو ُم ْال ِح َسابُ ﴾‬
‫وقد علق العالّمة الطباطبائي على ه ذه الش واهد القرآني ة بقول ه‪( :‬واآلي ة بم ا له ا من الس ياق‬
‫أن وال َدهُ الذي دعا له واستغفر له هنا غير أبي ه آزر ال ذي ت برّأ‬ ‫والقرائن ال ُمحتفّة بها خير شاهد ٍة على ّ‬
‫يكن والد إبراهيم وال أب اه‬ ‫أن آزر الذي جاء ِذكره في تلك اآليات لم ْ‬ ‫منه في سالف األيّام ‪ ،‬فقد تحصّل ّ‬
‫الحقيقي ‪ ،‬وإنّما ص ّح إطالق األب عليه لوجود عناوين تس ّوغ اللغة مثل هذا اإلطالق كالج ّد لأل ّم والع ّم‬
‫‪ ،‬وزوج األُ ّم ‪ ،‬وك ّل َمن يتولّى شأن ص غير ‪ ،‬وك ذا ك ّل كب ير ُمط اع ‪ ،‬ونح و ذل ك ‪ ،‬وليس مث ل ه ذا‬
‫جار في سائر اللغات أيضا ً) (انظر‪ :‬تفس ير‬ ‫صا ً بلغة العرب ‪ ،‬بل هو ٍ‬ ‫التوسّع في إطالق لفظ األب مخت ّ‬
‫الميزان ‪ 168 / 7 :‬ـ ‪)171‬‬

‫‪93‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫يحاول هذا الكتاب ـ عبر الموضوعات القرآنية العشرة التي طرحه ا ـ‬
‫أن يتع رف على أس رار النهي عن الف رح في الق رآن الك ريم‪ ،‬وال ذي ورد‬
‫ر ِحينَ ‪‬‬ ‫التص ريح ب ه في قول ه تع الى‪  :‬ال تَ ْف َرحْ إِ َّن هَّللا َ ال يُ ِحبُّ ْالفَ ِ‬
‫(القصص‪)76 :‬‬
‫فهذا النهي الوارد على لسان الناصحين من بني إسرائيل لقارون‪ ،‬نهي‬
‫سار إلى يوم القيامة‪ ،‬وهو يعبر عن الحقيقة بلسانها الفص يح الناص ح‪ ..‬ذل ك‬
‫أننا نحتاج أن نستمع لمن يدعونا إلى عدم الفرح كما نحت اج إلى من ي دعونا‬
‫إلى عدم الحزن أو عدم اليأس‪..‬‬
‫ذلك أن الفرح مثله مثل الحزن والي أس ق د يتح ول إلى أداة من أدوات‬
‫الشيطان التي يخرب بها بنيان اإلنسان‪ ،‬ويجعله منشغال بم ا وص ل إلي ه من‬
‫نعمة‪ ،‬غافال عما ينتظره من ألم‪.‬‬
‫ولذلك جمع هللا بين النهي عن األمرين جميعا‪ :‬الحزن والفرح في قوله‬
‫تعالى‪ :‬لِ َك ْياَل تَأْ َسوْ ا َعلَى َم ا فَ اتَ ُك ْم َواَل تَ ْف َر ُح وا بِ َم ا آتَ ا ُك ْم َوهَّللا ُ اَل يُ ِحبُّ ُك َّل‬
‫ور ‪[ ‬الحديد‪]23 :‬‬ ‫ُم ْختَا ٍل فَ ُخ ٍ‬

‫‪94‬‬

You might also like