Professional Documents
Culture Documents
()2
الطبعة الأولى
1441ـ 2019
3
371 اإلخالص والتجرد:
378 االستحقاق والحاجة:
384 الطيبة والجودة:
389 الحج المبرور
391 الحج والتزكية:
398 الحج والترقية:
410 النوافل والتطوعات
413 نوافل الصلوات:
425 نوافل الصيام:
430 المجاهدة الكبرى
432 مجاهدة التزكية:
437 مجاهدة الترقية:
442 المعاهدة الجازمة
448 معاهدة التزكية:
450 معاهدة النصرة:
455 المشارطة الحازمة
459 المشارطة والتزكية:
461 المشارطة والترقية:
468 المراقبة المشددة
473 مراقبة المشروعية:
476 مراقبة القبول:
483 المحاسبة الدقيقة
484 المحاسبة والمشارطة:
486 المحاسبة والتزكية:
491 المعاتبة والمعاقبة
493 المعاتبة والتزكية:
500 المعاقبة والتزكية:
507 الفكر والتأمل
514 الفكر والتزكية:
523 الفكر والترقية:
527 االعتبار واالستبصار
528 االعتبار والتزكية:
535 االعتبار والترقية:
545 الرغبة والطمع
4
548 الرغبة والتزكية:
550 الرغبة والترقية:
557 الرهبة والخشية
560 الرهبة والتزكية:
565 الرهبة والترقية:
568 معية الصالحين
569 التواصل والتأسي:
578 المسارعة والمنافسة:
585 مجالس اإليمان
586 مجالس الذكر:
589 مجالس التذكير:
595 المرشد المربي
597 وظيفة المرشد:
599 أهلية المرشد:
602 العزلة التربوية
602 العزلة الدائمة:
608 العزلة المؤقتة:
613 المخالطة التربوية
615 المخالطة والتزكية:
622 المخالطة والترقية:
628 إقامة الشهادة
637 الترويح الروحي
641 الترويح والتزكية:
644 الترويح والترقية:
651 هذا الكتاب
5
المقدمة
النفس اللوام ة هي النفس ال تي تق ع في المرتب ة الثاني ة بع د النفس األم ارة،
لتحضر صاحبها ألن تتحول نفسه إلى نفس مطمئنة..
ودورها بذلك محدود ومؤقت ،ويمكن تحديده في جانبين ،أو وظيفتين:
أوالهما :تزكي ة النفس وته ذيبها من ك ل مث الب النفس األم ارة ،ذل ك أن ه ال
يمكن أن تبنى األخالق الطيبة إال بعد اجتثاث ما يخالفها من األخالق الخبيثة.
وثانيها :ترقية النفس إلى المحال التي تطمئن فيها لإليمان ،لتصبح بذلك أهال
لدرجة النفس المطمئنة.
وهذان الدوران يحتاجان إلى التعرف على المناهج الص حيحة ال تي يمكن أن
تسير بالنفس سيرا صحيحا ،حتى ال ينحرف بها صاحبها في الوقت الذي يري د في ه
تهذيبها والرقي بها.
ولذلك حاولنا في هذه الرس ائل أن ن ذكر المن اهج ال تي يمكن أن تق وم ب ذينك
الدورين ،مع بيان أدلتها الشرعية ،واألخطاء التي تسربت إليها ،وحالت بينه ا وبين
أداء أدوارها الصحيحة.
وقد حاولنا ـ مثلما فعلنا في الرسائل السابقة ـ االهتم ام بالج انب العملي ،م ع
تأييده بما يدل عليه من التأصيل النظري ..ولذلك ذكرنا الكث ير من النم اذج العملي ة
في كل رسالة ،ال قصدا منا لحصرها ،وإنما للداللة عليها ،وعلى مثيالتها.
ومثلما فعلنا في الرسائل الس ابقة من تأيي د م ا ن ذكره من من اهج بالنص وص
المقدسة؛ فقد فعلنا ذلك معتمدين على القرآن الك ريم أوال باعتب اره المص در األك بر
للتزكية.
ثم نتبعه بما ورد في السنة المطهرة ،ومثله ا عن أئم ة اله دى ،من المص ادر
المختلفة بحسب المنهج الذي نتبن اه في ص حة األح اديث أو قبوله ا ،وه و موافقته ا
للق رآن الك ريم والقيم ال تي ج اءت به ا الش ريعة ،ول ذلك ال نهتم ب أقوال المح دثين
وأحكامهم ،وخاصة مع اختالفها ،وإنما نكتفي بإيراد المصادر الحديثية.
باإلضافة إلى ذلك نذكر ما قاله علماء التزكية ،والمهتمون بها ،من غير ذكر
أسمائهم في العادة ،ألنه قد يختلف في الموقف من بعضهم ،وذلك ما يش غل الق ارئ
عن الهدف من الرسائل ،وهي تزكية النفس ،وليس الجدل وال الشغب.
وقد رأينا من خالل التجربة أن ذكر أس ماء علم اء التزكي ة ،يث ير الكث ير من
الحساسيات من جهات مختلفة ،ذلك أنه يصرف النظر عن األقوال إلى القائلين بها،
ولذلك رأينا من الحكمة أن نذكرهم باسم الحكماء ،باعتبار أن ما ق الوه حكم ة يمكن
االستفادة منها ،والحكمة ضالة المؤمن ،أين وجدها فهو أحق بها.
ومثل ذل ك أعرض نا عن الخالف ات ال واردة في الكث ير من المس ائل ذل ك أن
القصد هو التزكية والترقية ..ال الجدل والشغب والوساوس التي يثيرها في النفس.
6
مع العلم أننا ـ م ع تبس يطنا للمس ائل المطروح ة ،ووض عها بش كل يفي د ك ل
القراء بمختلف مستوياتهم ـ إال أن معظم ما ذكر في كتب التزكية في تل ك الج وانب
ذكرن اه ،ولكن بص ياغة بس يطة مهذب ة ،بحيث يمكن اس تفادة الجمي ع منه ا ..ال في
التزكية العملية وحدها ،وإنما في المعارف العلمية المرتبطة بها.
7
الصبر والصالة
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تشكرني على رسائلي التي أجبتك فيه ا عن
أسئلتك حول [مثالب النفس األمارة] ،وذكرت لي أنها ـ بفض ل هللا وعون ه ـ أث رت
فيك تأثيرا كبيرا؛ فص رت تع رف م ا كنت تجهل ه من المث الب والعي وب ،وتع رف
منابعها وثمارها وكيفية مواجهتها وعالجها..
وأخبرتني أن ذل ك العلم لم يب ق محص ورا في دائ رة عقل ك ،وإنم ا امت د إلى
مراكز إرادت ك وعزيمت ك؛ ف راح ي دعوها لتطه ير نفس ك منه ا ،وحمايته ا من ك ل
مسالك الشيطان والهوى المؤدية إليها.
وأخبرتني أن ذلك جعلك أكثر ورع ا؛ فص رت تتوق ف قب ل عق د أي ني ة ،أو
النطق بأي قول ،أو القيام بأي عم ل ،أو اتخ اذ أي موق ف ،قب ل أن تع رف حكم هللا
فيه ،وعالقته بتلك المثالب ،حتى ال يكون صادرا من هواك ،أو نفسك األمارة.
وأخبرتني أنك صرت تل وم نفس ك كث يرا ،وتحاس بها على النق ير والقطم ير،
وتترجى كل من شعرت أنك آذيته بأن يبرئ ذمت ك ،وتس ارع لك ل من قص رت في
حقه بالوفاء بما يطلبه الواجب منك.
لكنك بعد هذا ذكرت لي أن همتك أعلى من أن تتوقف عند تطه ير نفس ك من
خبثها ومكايد الشيطان المتربصة بها ..وأنك تطمح إلى أن تسير في طريق األولي اء
والص الحين والص ديقين ،لت نزل المن ازل ال تي نزلوه ا ،وتت نزل علي ك المع ارف
والمواهب التي تنزلت عليهم.
وطلبت مني لذلك أن أذكر لك المناهج العملية المؤدية لذلك ،وأن أقتصر فيها
على ما دل عليه الدليل ،ووافقت عليه الشريعة ،ونصت علي ه النص وص المقدس ة،
أو أشارت إليه.
وقد ذكرت لي أنك سترسل لي رسائل تطلب مني توض يح الط رق والمن اهج
المرتبطة بذلك ،مثلما فعلت مع رسائلك ح ول مث الب النفس األم ارة ..وطلبت م ني
أن يتسع صدري لذلك ،وأال يضيق بما قد أبديه لك من نقد أو عتاب حول ما قد تنفر
نفسك منه ،أو تشعر أنه يصطدم مع ما تفهمه من الشريعة ونصوصها المقدسة.
ثم ختمت رسالتك لي بطلب أن أذكر لك ما دلت عليه النصوص المقدس ة من
المجامع التي تجتمع فيها كل المناهج والمدارس والط رق الش رعية للس ير إلى هللا،
حتى تكون معينة لك على فهم الطريق إجماال ،قبل معرفته تفصيال.
وقد سرتني ـ أيها المريد الصادق ـ رسالتك كثيرا ،وخاصة ما ذكرت لي فيها
من عزم ك على نق د م ا ت راه مخالف ا للش ريعة؛ وه ذا ظ ني ب ك؛ فال ينبغي للمري د
الصادق مع هللا أن يكون شيخه أولى عنده من ربه أو نبيه أو كتابه أو من جعلهم هللا
ممثلين للحقيقة وهداة إليها.
وجوابا لطلبك في هذه الرسالة أذكر لك أن هللا تعالى ـ برحمته ولطفه ـ وف ر
8
لعب اده ـ مراع اة لطب ائعهم وأم زجتهم وع زائمهم ـ الكث ير من المن اهج والوس ائل
والطرق التي إن التزموها ،سارت بهم إلى هللا تعالى ،ورفعت عن عيون قلوبهم كل
الحجب التي تحول بينهم وبين الحقائق ،ورفعت عن أنفسهم كل الموانع التي تح ول
بينها وبين إنسانيتها المكرمة ،حتى قال بعض هم في ذل ك( :هلل طرائ ق بع دد أنف اس
الخالئق)
ولذلك ترى السائرين إلى هللا مختلفي األذواق واألمزجة والمناهج ..ومع ذلك
تجمعهم طريق هللا الواحدة التي تصفي نفوسهم ،وتهذب طب اعهم ،لتجعله ا ص الحة
للحق ،كما عبر بعض الصالحين عن ذلك ،فقال:
وك ل إلى ذاك الجم ال عباراتن ا ش تى وحس نك
ير يش واحد
وقال اآلخر مبينا الوئ ام الموج ود ل دى الس ائرين في طري ق هللا مقارن ة م ع
النزاع الموجود لدى المتكلمين والفالسفة وغيرهم:
وم ا بين عش اق الح بيب ّ وكم بين ح ّذاق الج دال
ازع تن ازع تن
وعبر آخر عن ذلك بقوله( :تعدد وجوه الحسن ،يقضي بتعدد االستحسان)
ب ل إن رس ول هللا أش ار إلى ذل ك ،فق ال( :يص بح على ك ل ُس المى من
أحدكم صدقةٌ ،فكل تسبيح ٍة صدقةٌ ،وكل تحميد ٍة ص دقةٌ ،وك ل تهليل ٍة ص دقةٌ ،وك ل
ي عن المنكر صدقةٌ) ()1 تكبير ٍة صدقةٌ ،وأم ٌر بالمعروف صدقةٌ ،ونه ٌ
وقال( :اإليمان بض ٌع وسبعون ،أو بض ٌع وستون شعبةً :فأفض لها ق ول ال إل ه
إال هللا ،وأدناها إماطة األذى عن الطريق ،والحياء شعبةٌ من اإليمان) ()2
وغيرها من األحاديث التي تدل على ك ثرة أب واب الخ ير ،وأن ك ل من س لك
بابا منها ،يمكنه أن يكون وسيلته إلى هللا تعالى ،ووسيلته إلى تهذيب نفسه.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن ابتغ اء الوس ائل المؤدي ة إلى ته ذيب النفس
وتزكيته ا وترقيته ا واجب ش رعي ال يق ل عن الص الة والص يام والزك اة والحج
وغيرها ..ذلك أن اإلنسان ال يمكنه أن يتحول إلى الصيغة الم راد أن يك ون عليه ا،
إال بعد أن يقوم بذلك.
وقد صرحت النص وص المقدس ة بوج وب اس تعمال ك ل الوس ائل والمن اهج
المؤدية لذلك ،كما ق ال تع الى﴿ :يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّقُ وا هللا َوا ْبتَ ُغ وا إِلَ ْي ِه ْال َو ِس يلَةَ
َو َجا ِهدُوا فِي َسبِيلِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ [المائدة]35 :
فقد قرن هللا تعالى في هذه اآلية الكريمة تقوى هللا بابتغاء الوسيلة والجهاد في
سبيل هللا ..ليبين أن ه ال يمكن تحقي ق التق وى إال باس تعمال الوس ائل المؤدي ة ل ذلك،
والتي قد تستدعي الكثير من المجاهدات حتى تتخلص النفس من رعونتها ،وتس تقيم
في السير إلى ربها.
)(1رواه مسلم.
)(2رواه البخاري ومسلم.
9
وهك ذا وص ف هللا تع الى عب اده الص الحين ،وحرص هم على الق رب من ه،
وابتغاؤهم لذلك كل الوسائل ،فق ال﴿:أُولَئِ كَ الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ يَ ْبتَ ُغ ونَ إِلَى َربِّ ِه ُم ْال َو ِس يلَةَ
اب َربِّكَ َك انَ َمحْ ُذورًا﴾ أَيُّهُ ْم أَ ْق َربُ َويَرْ ُج ونَ َرحْ َمتَ هُ َويَخَ افُونَ َع َذابَ هُ إِ َّن َع َذ َ
[اإلسراء ،]57 :وهو يدل على أن وصولهم إلى تلك المراتب لم يكن إال باستعمالهم
الوسائل التي أتاحت لهم ذلك.
وهذه س نة هللا تع الى في خلق ه؛ فلك ل ش يء وس ائله المؤدي ة إلي ه ،وال يمكن
تحقيق المقاصد من دون الوسائل؛ فال يمكن أن يتعلم المرء من دون القراءة ،ولذلك
أمرت الشريعة بالقراءة ،فقد قال هللا تعالى في أول ما نزل من القرآن الكريم﴿ :ا ْق َر ْأ
بِاس ِْم َربِّكَ الَّ ِذي خَ لَقَ﴾ [العلق]1 :
وال يمكن العالج من األدواء من دون استعمال األدوية ،وزيارة األطباء ،وقد
قال رسول هللا ( :ما أنزل هللا داء ،إال قد أنزل له شفاء ،علمه من علم ه ،وجهل ه
من جهله)()1
وهك ذا تطه ير النفس وتزكيته ا ،وال تي أخ بر هللا تع الى عن ارتب اط الفالح
والفوز بها ،ال يمكن تحقيقها إال بالبحث عن الوسائل المعين ة ل ذلك ،وه و م ا يش ير
ُورهَ ا َوتَ ْق َواهَ ا ( )8قَ ْد أَ ْفلَ َح َم ْن س َو َما َس َّواهَا ( )7فَأ َ ْلهَ َمهَ ا فُج َ إليه قوله تعالىَ ﴿ :ونَ ْف ٍ
اب َم ْن َدسَّاهَا﴾ [الشمس]10 - 7 : َز َّكاهَا (َ )9وقَ ْد َخ َ
وهذه اآليات الكريمة تدل على أن النفس طيعة لص احبها ،يمكن ه أن يزكيه ا،
كما يمكنه أن ينتكس بها وينزلها بها إلى عوالم ال تمت لها بصلة.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن هللا تعالى ذك ر المج امع ال تي
تؤول إليها كل المناهج والمس الك ،لتنض بط به ا ،ح تى ال تص بح عرض ة للوس ائل
التي تسنها األمزجة واألهواء ،وقد ي دس فيه ا الش يطان م ا يص رف عن هللا ويبع د
عنه ،بدل أن يقرب إليه.
اس تَ ِعينُوا ومن تلك المجامع ما نص علي ه قول ه تع الى﴿ :يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْ
الص ابِ ِرينَ ﴾ [البق رة ]153 :وال تي وردت بع د اآلي ات صاَل ِة إِ َّن هللا َم َع َّ صب ِْر َوال َّ بِال َّ
المخ برة عن دور رس ول هللا في تزكي ة أمت ه ،وأمره ا بال ذكر والش كر الل ذين
يمثالن عالم ة التزكي ة الحقيقي ة ،ق ال تع الىَ ﴿ :ك َم ا أَرْ َس ْلنَا فِي ُك ْم َر ُس واًل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلُ و
َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َويُ َعلِّ ُم ُك ْم َما لَ ْم تَ ُكونُوا تَ ْعلَ ُمونَ ()151 َعلَ ْي ُك ْم آيَاتِنَا َويُزَ ِّكي ُك ْم َويُ َعلِّ ُم ُك ُم ْال ِكت َ
فَ ْاذ ُكرُونِي أَ ْذ ُكرْ ُك ْم َوا ْش ُكرُوا لِي َواَل تَ ْكفُرُو ِن﴾ [البقرة]152 ،151 :
الص ب ِْر اس ت َِعينُوا بِ َّ ﴿و ْومثله ا م ا ورد في قول ه تع الى خطاب ا لب ني إس رائيلَ :
خَاش ِعينَ ﴾ [البق رة ،]45 :وق د وردت ك ذلك في يرةٌ إِاَّل َعلَى ْال ِ الص اَل ِة َوإِنَّهَ ا لَ َكبِ َ َو َّ
ق ْ ْ اَل
معرض بيان التك اليف الش رعية المؤدي ة للتزكي ة ،ق ال تع الىَ ﴿ :و تَلبِ ُس وا ال َح َّ
صاَل ةَ َوآتُوا ال َّز َكاةَ َوارْ َكعُوا َم َع ق َوأَ ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ (َ )42وأَقِي ُموا ال َّ اط ِل َوتَ ْكتُ ُموا ْال َح َّبِ ْالبَ ِ
اب أَفَاَل اس بِ ْالبِرِّ َوتَ ْن َس وْ نَ أَ ْنفُ َس ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم تَ ْتلُ ونَ ْال ِكتَ َ ال رَّا ِك ِعينَ ( )43أَتَ أْ ُمرُونَ النَّ َ
11
وجميع المنازل التي تنزلها النفس المطمئنة ،وتصبح مع ذلك أهال لت نزل المع ارف
والمواهب اإللهية.
وكال األمرين يحتاج بعض هما إلى بعض؛ فالص بر ومناهج ه ال يمكن أن يتم
من دون استعمال الصالة ومناهجها ..ومثل ذلك الصالة ال يمكن أن ت ؤتي مفعوله ا
ما لم يصحبها الصبر.
وبناء على هذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تنظر في ك ل من اهج الس ير
إلى هللا ،والتي تراها في الواق ع ،ل ترى م دى قربه ا من ه ذين األص لين الل ذين دل
عليهم ا الق رآن الك ريم؛ ف إن كان ا مت وافقين معهم ا؛ فهم ا ش رعيان ،وإال كان ا من
المناهج المبتدعة.
ومن األمثل ة على ذل ك م ا يطل ق علي ه [الخل وة] ،وال تي يعتم دها بعض
السائرين إلى هللا؛ فهي إن كانت خل وة وتفرغ ا لل ذكر والتق رب إلى هللا ،ومن غ ير
انقط اع كلي عن الخل ق ،أو التقص ير في أداء التك اليف الش رعية؛ فهي خل وة
مشروعة ،ذلك أنها مرتبطة بالصالة ،ألنها تحوي ذكر هلل ،وتحاول التواصل مع ه،
وهي مرتبطة بالصبر ألن فيها مجاهدة للنفس على التفرغ لذلك.
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الص ادق ـ أن تس أل عن أي منهج ت راه في واق ع
السالكين ،لترى من خالله مدى صلته بالمنهجين اللذين نص عليهما القرآن الك ريم،
واعتبرهما من المناهج الكبرى التي ال يمكن أن يقوم بها إال الخاشعون الصادقون.
وبما أن هذين المنهجين هما قادة المناهج ،فسأذكر لك بعض ما ورد حولهم ا
في النصوص المقدسة مما يبين فضلهما ،وأهميتهما في السير والسلوك.
مدرسة الصبر:
أما المدرسة األولى ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرس ة الص بر ،وق د أش ار
القرآن الكريم إلى أهميتها وضرورتها للسائرين إلى هللا؛ فقال﴿ :يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا
صابِرُوا َو َرابِطُوا َواتَّقُوا هللا لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ [آل عمران ،]200 :فقد رب ط اصْ بِرُوا َو َ
هللا تعالى الفالح بالصبر والمصابرة والمرابطة ،وه و ال يع ني الف وز بالجن ة فق ط،
وإنم ا يع ني ته ذيب النفس وتطهيره ا وتطييبه ا ،ألن ه ال ي دخل الجن ة إال الطيب ون
الطاهرون.
وهي تشير إلى استعمال كل أنواع الص بر ،وفي ك ل المج االت ،ول و تكلف ا،
وهي تح وي في معناه ا الكث ير من المن اهج ال تي مارس ها الس الكون إلى هللا،
كالمشارطة والمعاهدة والمرابطة والمجاهدة والمحاسبة والمعاقبة وغيرها.
ولذلك أخبر هللا تع الى أن من ص فات الص الحين من عب اده [الص بر] ،وه و
ي دل على أن ه ركن في شخص يتهم ،وأن ه ل واله لم يتحق ق لهم الص الح ،ب ل إن هللا
تعالى أكد ذلك بكونه السبب في ص الحهم ،فق ال ـ عن د ذك ر س بب اختي اره ألئم ة
ص بَرُوا َو َك انُوا بِآيَاتِنَ ا يُوقِنُ ونَ ﴾ ﴿و َج َع ْلنَ ا ِم ْنهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ َ ْم ِرنَ ا لَ َّما َ
اله دى ـَ :
[الس جدة،]24 :وتقديم ه للص بر على اليقين دلي ل على أن اليقين ال ذي ه و أعلى
12
مراتب المعرفة ال يصل إليه إال الصابرون الذين جاهدوا أنفسهم في هللا.
اص بِرْ َك َم ا وهكذا وصف هللا تعالى الرس ل عليهم الس الم بالص بر ،فق ال﴿ :فَ ْ
ْجلْ لَهُ ْم﴾ [األحقاف]35 : صبَ َر أُولُو ْال َع ْز ِم ِمنَ الرُّ س ُِل َواَل تَ ْستَع ِ َ
وأخبر أن كل األعمال الصالحة تحتاج إلى الص بر ،س واء في أدائه ا ،أو في
االستمرار عليها ،أو في إقامتها وفق الرضى اإللهي.
ومن ذلك اإلحسان الذي هو من المنازل العظمى للنفس المطمئن ة ،فق د قرن ه
ُضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ [ه ود،]115 : هللا تعالى بالصبر ،فقالَ ﴿ :واصْ بِرْ فَإِ َّن هللا اَل ي ِ
ُضي ُع أَجْ َر ال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [يوسف]90 : ْ ق َويَصْ بِرْ فَإِ َّن هللا اَل ي ِ وقال﴿ :إِنَّهُ َم ْن يَتَّ ِ
وسر ذلك واضح ،ذلك أن المحسن الذي يتقن عمله ،ويؤديه وفق م ا يتطلب ه،
يحتاج إلى صبر كبير ،بخالف الذي يؤدي عمله من غير مراعاة اإلتقان.
صبَرُوا َو َعلَى َربِّ ِه ْم وهكذا يقترن الصبر بالتوكل ،كما في قوله تعالى﴿ :الَّ ِذينَ َ
﴿و َما لَنَا أَاَّل نَت ََو َّك َل َعلَى يَتَ َو َّكلُونَ ﴾ [النحل ،]42 :وقال عن الرسل وخطابهم لقومهمَ :
َص بِ َر َّن َعلَى َم ا آ َذ ْيتُ ُمونَ ا َو َعلَى هللا فَ ْليَت ََو َّك ِل ْال ُمتَ َو ِّكلُ ونَ ﴾ هللا َوقَ ْد هَ دَانَا ُس بُلَنَا َولَن ْ
[إبراهيم]12 :
وسر ذلك واضح ،ذل ك أن المتوك ل ال ذي أس ند أم وره هلل ثق ة ب ه ،وبقدرت ه
المطلقة ،ال يستعجل النصر ،وال يتألم إذا لم يهزم أعداؤه أمامه ،ألنه يعلم أن تحدي د
آجال ذلك هلل تعالى ،بخالف الذي يفتقد الصبر ،والذي ينهار في أقرب فرصة.
وهك ذا يق ترن الص بر بالص دق والثب ات والجه اد وغيره ا من ص فات
اجرُوا ِم ْن بَ ْع ِد َم ا فُتِنُ وا ثُ َّم َجاهَ دُوا الصالحين ،كما قال تعالى﴿ :ثُ َّم إِ َّن َربَّكَ لِلَّ ِذينَ هَ َ
ك ِم ْن بَ ْع ِدهَا لَ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [النحل]110 : صبَرُوا إِ َّن َربَّ َ َو َ
ت َربِّنَ ا لَ َّما ﴿و َم ا تَ ْنقِ ُم ِمنَّا إِاَّل أَ ْن آ َمنَّا بِآيَ ا ِ
وأخبر عن ق ول الس حرة لفرع ونَ :
ص ْبرًا َوت ََوفَّنَا ُم ْسلِ ِمينَ ﴾ [األعراف]126 : َجا َء ْتنَا َربَّنَا أَ ْف ِر ْغ َعلَ ْينَا َ
اص بِرُوا إِ َّن ه﴿:اس تَ ِعينُوا بِاهلل َو ْ ْ وأخ بر عن ق ول موس ى علي ه الس الم لقوم
ُورثُهَا َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه َو ْال َعاقِبَةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ [األعراف]128 : ض هلل ي ِ اأْل َرْ َ
وأخبر عن االختبارات التي أجراها طالوت للذين أرادوا ص حبته للجه اد في
سبيل هللا ،ثم بين أنه لم ينجح منهم إال من كان متسلحا بس الح الص بر ،ق ال تع الى:
يرةً بِ إِ ْذ ِن هللا َوهللا َم َع ت فِئَةً َكثِ َ ﴿قَا َل الَّ ِذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ ْم ُماَل قُو هللا َك ْم ِم ْن فِئَ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبَ ْ
ِّت ص ْبرًا َوثَب ْ الصَّابِ ِرينَ (َ )249ولَ َّما بَ َر ُزوا لِ َجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قَالُوا َربَّنَا أَ ْف ِر ْغ َعلَ ْينَ ا َ
أَ ْقدَا َمنَا َوا ْنصُرْ نَا َعلَى ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [البقرة]250 ،249 :
وقد أخذ الكثير من الس ائرين في طري ق هللا بمنهج ط الوت في تربي ة جن ده،
ال إِ َّن وت بِ ْال ُجنُو ِد قَ َ
ص َل طَالُ ُ عندما أمرهم بالصبر أمام الماء ،كما قال تعالى﴿ :فَلَ َّما فَ َ
ط َع ْم هُ فَإِنَّهُ ِمنِّي إِاَّل َم ِن ا ْغتَ َرفَ ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ ب ِم ْنهُ فَلَي َهللا ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ
ُغرْ فَةً بِيَ ِد ِه فَ َش ِربُوا ِم ْنهُ إِاَّل قَلِياًل ِم ْنهُ ْم﴾ [البقرة]249 :
فلذلك راحوا يستعملون أنواع المجاه دات ال تي ت تيح لهم تربي ة أنفس هم على
13
األخالق الطيبة ،التي ال يمكن التحقق بها من دونها ،بل إنهم راحوا يض عون أن واع
العقوبات التي ترتبط بالتقصير ،حتى يكون ذلك العقاب الدنيوي المحدود رادعا لهم
عن العقاب األخروي.
وهكذا أخبر هللا تعالى عن عالقة الصبر بمواجه ة ك ل مث الب النفس األم ارة
المرتبطة بالعدوان ،وتحقيقها بالسماحة والحلم والعفو والكرم ،كما قال تع الىَ ﴿ :واَل
َاوةٌ َكأَنَّهُ
تَ ْست َِوي ْال َح َسنَةُ َواَل ال َّسيِّئَةُ ا ْدفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أَحْ َس نُ فَ إِ َذا الَّ ِذي بَ ْينَ كَ َوبَ ْينَ هُ َع د َ
ظ َع ِظ ٍيم﴾ [فص لت: صبَرُوا َو َما يُلَقَّاهَا إِاَّل ُذو َح ٍّ َولِ ٌّي َح ِمي ٌم (َ )34و َما يُلَقَّاهَا إِاَّل الَّ ِذينَ َ
ُ
ور﴾ [الشورى]43 : صبَ َر َو َغفَ َر إِ َّن َذلِكَ لَ ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ ،]35 ،34وقالَ ﴿ :ولَ َم ْن َ
وأخبر عن عالقة الصبر بالتقوى التي تجتمع عندها كل المكارم ،فق ال﴿ :بَلَى
ف ِمنَ ْال َماَل ئِ َك ِةإِ ْن تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُوا َويَأْتُو ُك ْم ِم ْن فَوْ ِر ِه ْم هَ َذا يُ ْم ِد ْد ُك ْم َربُّ ُك ْم بِخَ ْم َس ِة آاَل ٍ
ُم َس ِّو ِمينَ ﴾ [آل عمران]125 :
وفي ه ذه اآلي ة الكريم ة إش ارة إلى أن الم واهب اإللهي ة ال تي تت نزل على
النفوس المرضية مرتبطة بمدى صبرهم ،فق د ش رط هللا تع الى ت نزل الم دد اإللهي
على المؤمنين بالصبر والتقوى.
ومثل ذل ك أخ بر عن أن واع كث يرة من الفض ل ،لم يكن له ا من س بب س وى
ص بَرُوا﴾ ك ْال ُح ْسنَى َعلَى بَنِي إِس َْرائِي َل بِ َما َ ت َربِّ َ ت َكلِ َم ُ﴿وتَ َّم ْ
الصبر ،كما قال تعالىَ :
الص ابِ ِرينَ ﴾ [األنف ال ،]46 :وق ال: ﴿واصْ بِرُوا إِ َّن هللا َم َع َّ [األعراف ،]137 :وقالَ :
ت أولَئِكَ لَهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ َوأَجْ ٌر َكبِيرٌ﴾ [هود]11 : ُ صبَرُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ ﴿إِاَّل الَّ ِذينَ َ
وغيره ا من اآلي ات الكريم ة ال تي تخ بر عن الج زاء العظيم ال ذي ينال ه
ص بَرُوا أَجْ َرهُ ْم بِأَحْ َس ِن َم ا َك انُوا ﴿ولَنَجْ ِزيَ َّن الَّ ِذينَ َ الص ابرون ،مث ل قول ه تع الىَ :
ص بَرُوا َويُلَقَّوْ نَ فِيهَ ا ت َِحيَّةً يَ ْع َملُونَ ﴾ [النحل ،]96 :وقال﴿ :أُولَئِكَ يُجْ زَ وْ نَ ْال ُغرْ فَةَ بِ َما َ
َت ُم ْس تَقَ ًّرا َو ُمقَا ًم ا﴾ [الفرق ان ،]76 ،75 :وق ال: َو َس اَل ًما ( )75خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َح ُس ن ْ
﴿و َج زَ اهُ ْم بِ َم ا
ص بَرُوا﴾ [القص ص ،]54 :وق الَ : ك ي ُْؤتَوْ نَ أَجْ َرهُ ْم َم َّرتَي ِْن بِ َم ا َ ﴿أُولَئِ َ
ك اَل يَ َروْ نَ فِيهَ ا َش ْم ًس ا َواَل ص بَرُوا َجنَّةً َو َح ِري رًا (ُ )12متَّ ِكئِينَ فِيهَ ا َعلَى اأْل َ َرائِ ِ َ
َز ْمهَ ِريرًا﴾ [اإلنس ان ،]13 ،12 :وق ال ذاك را خط اب المالئك ة عليهم الس الم لهم:
ار﴾ [الرعد]24 : صبَرْ تُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقبَى ال َّد ِ
﴿ َساَل ٌم َعلَ ْي ُك ْم بِ َما َ
ومثلها ما ورد في األحاديث الشريفة كقول ه ( :الص بر ثالث ة :ص بر عن د
المص يبة ،وص بر على الطاع ة ،وص بر عن المعص ية ،فمن ص بر على المص يبة
حتّى ير ّدها بحسن عزائها ،كتب هللا له ثالثمائة درجة ،م ا بين الدرج ة إلى الدرج ة
كما بين السماء إلى األرض .ومن صبر على الطاعة كتب هللا له ستّمائة درج ة ،م ا
بين الدرج ة إلى الدرج ة كم ا بين تخ وم األرض إلى الع رش ،ومن ص بر عن
المعص ية كتب هللا ل ه تس عمائة درج ة م ا بين الدرج ة إلى الدرج ة كم ا بين تخ وم
األرض إلى منتهى العرش)()1
15
وروي أن اإلمام الباقر قال لجابر ،وق د رآه مريض ا :كي ف تج د حال ك؟ ق ال
ج ابر :أن ا في ح ال الفق ر أحب إل ّي من الغ نى ،والم رض أحب ال ّي من الص حة،
والموت أحب إلي من الحياة .فقال له االمام( :أما نحن أهل البيت ،فما يرد علينا من
هللا من الفقر والغنى والمرض والصحة والموت والحياة ،فهو أحب إلينا)()1
وهكذا يمكنك أن تجد في كل عمل المراتب المختلفة ،والتي ت دل على درج ة
صبر صاحبها؛ فبقدر صبره بقدر مرتبته ودرجته.
مدرسة الصالة:
أما المدرسة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرس ة الص الة ،وق د أش ار
القرآن الكريم إلى أهميته ا وض رورتها في الس ير إلى هللا؛ فق الَ ﴿ :وأَقِ ِم َّ
الص الةَ إِ َّن
الصَّالةَ تَ ْنهَى َع ِن ْالفَحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر﴾ (العنكبوت)45:
وهي تشير إلى أن من أدوار الصالة الكبرى ال تي ش رعت من أجله ا ال دور
التطهيري ،بنهيها ص احبها عن الفحش اء والمنك ر ،ومث ل ذل ك م ا ورد في ته ذيب
ق هَلُو ًع ا ( )19إِ َذا َم َّس هُ َّ
الش رُّ نفس المداوم عليها ،كما قال تعالى﴿ :إِ َّن اإْل ِ ْن َس انَ ُخلِ َ
ص لِّينَ ( )22الَّ ِذينَ هُ ْم َعلَى َج ُزو ًع ا (َ )20وإِ َذا َم َّس هُ ْالخَ ْي ُر َمنُو ًع ا ( )21إِاَّل ْال ُم َ
صاَل تِ ِه ْم دَائِ ُمونَ ﴾ [المعارج]23 - 19 : َ
ولهذا ورد في األحاديث الكثيرة ما يبين دور الصالة في تطه ير اإلنس ان من
الرذائل ،والتي قد يكنى عنها بالس يئات والخطاي ا ،ففي الح ديث عن رس ول هللا
أنه قال مخاطبا أصحابه( :أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه ك ل ي وم خمس ا
م ا تق ول ذل ك يبقي من درن ه ؟) ،ق الوا :ال يبقي من درن ه ش يئا ،ق ال( :ف ذلك مث ل
الصلوات الخمس ،يمحو هللا بها الخطايا)()2
فهذا الحديث ال يشير فقط إلى تطهير سجل المؤمن من السيئات ،وإنما يش ير
إلى تطهير نفسه منها أيضا ،وذلك بحسب تعامله معها ،وحرصه عليه ا ،وخش وعه
فيها ..فهي مثل العالج الذي يقضي على كل األم راض مهم ا ك انت مس تفحلة ،لكن
بشرط أدائه في وقته ،ومع الحمية المناسبة له.
وال أرى ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أي داع ل ذلك الخالف ال ذي انتش ر بين
الفقهاء حول نوع الخطايا التي تكفرها الصالة ،وهل هي الكبائر أم الص غائر ،ذل ك
أن قوة الصالة في محو الخطايا تخلف باختالف اهتمام صاحبها بها ،وهي في ذل ك
تشبه تركيز الدواء ،فقد يكون ال دواء خفيف ا للدرج ة ال يمكن ه أن يح دث أي تغي ير،
وقد يتوهم صاحب الدواء أنه يستعمله ،لكنه ال يفع ل ذل ك ،وق د تك ون قوي ة ش ديدة
(إنالفاعلية والتأثير ،بحيث تغير صاحبها تغييرا كلي ا ،كم ا ورد في بعض اآلث ارّ :
وإن م ا بين ص التيهما الرجلين ليقومان إلى الصالة وركوعهما وسجودهما واح دّ ،
ما بين السماء واألرض)
18
النية الخالصة
كتبت إلي ـ أيها المري د الص ادق ـ تخ برني عن فهم ك الع ام لمن اهج الس ير
الص اَل ِة َوإِنَّهَ ا
الص ب ِْر َو َّ اس ت َِعينُوا بِ َّ﴿و ْ
والسلوك إلى هللا تعالى من خالل قوله تع الىَ :
َاش ِعينَ ﴾ [البقرة ،]45 :واستيعابها لكل فروع المن اهج ومدارس ها لَ َكبِي َرةٌ إِاَّل َعلَى ْالخ ِ
مع كثرتها.
وقد طلبت مني أن أفصل لك الحديث في النية باعتبارها أول ركن من أركان
الصالة ،وكيف يمكن أن تتحول إلى مدرسة تربوية ،تهذب النفس وتزكيها ،وتع رج
بها وترقيها ،وعن عالقة ذلك بالصبر والمصابرة والمجاهدة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر ل ك أن الني ة ليس ت مج رد ركن من أرك ان
الصالة ،أو ركن من أركان أي عمل صالح ،بل هي في حد ذاته ا مدرس ة للتزكي ة؛
فال يمكن أن تنطلق التزكية وال التربية وال الترقية من دون أن تت وفر الني ة الداعي ة
لذلك كله.
ذل ك أنه ا الواس طة بين العلم والعم ل( ،إذ م ا لم يعلم أم ر لم يقص د ،وم ا لم
يقصد لم يفعل ،فالعلم مقدم على النية وشرطها ،والعمل ثمرتها وفرعها ،إذ كل فعل
وعمل يصدر عن فاعل مختار ،فإنه ال يتم إال بعلم وشوق وإرادة وقدرة) ()1
ولذلك كان االهتم ام به ا وبتص حيحها أولى من ك ل األعم ال؛ ف رب أعم ال
كثيرة ،وجهود عظيمة ،تفتقر إلى النية الصالحة الخالصة؛ فتتحول إلى هباء منث ور
ال يغني صاحبها شيئا ،كما قال تعالىَ ﴿ :وقَ ِد ْمنَا إِلَى َما َع ِملُوا ِم ْن َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاهُ هَبَ ا ًء
َم ْنثُورًا﴾ [الفرقان]23 :
بل إنها قد تنتقل من الطاعة إلى المعص ية ،وينتق ل الج زاء المرتب ط به ا من
سجل الحسنات إلى سجل السيئات ،وينتقل محل ص احبها من الجن ة إلى الن ار ،م ع
أن العمل واحد ،لكن الدافع الذي دفع إليه ه و ال ذي تس بب في ذل ك التح ول العظيم
العميق.
ولهذا أخبر رسول هللا أن (األعمال بالنيات ،وإنم ا لك ل ام رئ م ا ن وى،
فمن كانت هجرت ه إلى هللا ورس وله فهجرت ه إلى هللا ورس وله ،ومن ك انت هجرت ه
لدنيا يصيبها ،أو امرأ ٍة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)()2
وذكر اإلمام الصادق سر خل ود أه ل الجن ة والن ار في المن ازل ال تي أع دت
ألن نيّ اتهم ك انت في لهما ،وعالقة ذلك بالنية ،فقال( :إنّما خلّد أه ل الن ار في الن ار ّ
ال ّدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا هللا تعالى أبدا ،وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّ ة ّ
ألن
نيّ اتهم ك انت في ال ّدنيا أن ل و بق وا فيه ا أن يطيع وا هللا أب دا؛ فبالنيّ ات خلّ د ه ؤالء
وهؤالء ث ّم تال قوله تعالى﴿ :قُلْ ُك ٌّل يَ ْع َم ُل َعلَى َشا ِكلَتِ ِه﴾ [اإلس راء ،]84 :يع ني على
)(1جامع السعادات ،ج ،3ص.108 :
)(2رواه البخاري ومسلم.
19
نيّته)()1
بل ورد في الحديث أن مراتب الن اس في اآلخ رة ،ال تتح دد باألعم ال فق ط،
وإنما بالنيات أيضا ،فقد قال رسول هللا ( :إنّما ال ّدنيا ألربعة نف ر ،عب د رزق ه هللا
ماال وعلما فهو يتّقي فيه ربّه ،ويصل في ه رحم ه ،ويعلم هلل في ه حقّ ا ،فه ذا بأفض ل
أن لي المنازل ،وعبد رزقه هللا علما ولم يرزقه ماال ،فه و ص ادق النّيّ ة .يق ول :ل و ّ
ماال لعملت بعمل فالن فهو نيّته ،فأجرهما س واء ،وعب د رزق ه هللا م اال ولم يرزق ه
علما ،فهو يخبط في ماله بغير علم ال يتّقي فيه ربّه ،وال يصل في ه رحم ه ،وال يعلم
هلل فيه حقّا ،فهذا بأخبث المنازل ،وعبد لم يرزقه هللا ماال وال علم ا ،فه و يق ول :ل و
أن لي ماال لعملت فيه بعمل فالن ،فهو نيّته ،فوزرهما سواء)()2 ّ
أن رجال م ّر بكثب ان رم ل في وق د روي في أخب ار األنبي اء عليهم الس الم ّ
لقس مته بين مجاعة فقال في نفسه ،وهو صادق في قوله( :لو كان هذا الرّمل طعام ا ّ
(إن هللا قد قبل ص دقتك وش كر حس ن الناس) ،فأوحى هللا تعالى إلى نبيّهم أن قل لهّ :
نيّتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتص ّدقت به)
فهذا الرجل ،وأولئك النفر الذين ذكر رس ول هللا ن الوا أج ورهم وطه روا
نفوسهم من غير أعمال عملوها ،إال النية الص الحة الص ادقة ،ال تي نظ ر هللا إليه ا،
وأعطاهم جزاءها.
وسر ذلك يعود إلى أن النية هي روح العمل ،والمقصد األول من ه ،كم ا ق ال
هللا تعالى في األضاحي والهدي﴿ :لَ ْن يَنَا َل هللا لُحُو ُمهَا َواَل ِد َما ُؤهَا َولَ ِك ْن يَنَالُهُ التَّ ْق َوى
ِم ْن ُك ْم﴾ [الحج]37 :
ولذلك كان سبب نجاح إبراهيم عليه السالم في االمتحان الذي امتحن فيه نيته
الصادقة الخالصة هلل ،ول ذلك بمج رد أن نجح في ذل ك االختب ار الص عب ،نهي عن
ين (َ )103ونَا َد ْينَ اهُ أَ ْن يَ اإِب َْرا ِهي ُم ( تطبيقه عمليا؛ ق ال تع الى﴿ :فَلَ َّما أَ ْس لَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِ ِ
ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِينَ ( )105إِ َّن هَ َذا لَهُ َو ْالبَاَل ُء ْال ُمبِينُ ص َّد ْقتَ الرُّ ْؤيَا إِنَّا َك َذلِ َ )104قَ ْد َ
ْح َع ِظ ٍيم﴾ [الصافات]107 - 103 : (َ )106وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ
ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما ي دل على خس ران أولئ ك ال ذين راع وا
األعمال وكثرتها ،ولم يراعوا النيات وصدقها ،فقد ورد في الحديث عن رس ول هللا
(إن العبد ليعمل أعماال حسنة فتصعد بها المالئك ة في ص حف مختتم ة أنه قالّ :
فتلقى بين يدي هللا ع ّز وج ّل فيقول :ألقوا هذه الصحيفة فإنّه لم يرد بم ا فيه ا وجهي،
ث ّم ينادي المالئكة اكتبوا له كذا وك ذا فتقول ون ي ا ربّن ا إنّ ه لم يعم ل ش يئا من ذل ك،
فيقول :إنّه نواه إنّه نواه)()3
وهكذا في الجهاد ،والذي يمثل أشق األعمال ،وأكثرها ب ذال وتض حية ،وم ع
ذلك ،فإن جزاءه بق در الني ة في ه ،فق د ين ال أج ور المجاه دين من لم يب ذل أي جه د
)(1الكافي ج 2ص .85
)(2الترمذي( )2325وقال :هذا حديث حسن صحيح.
)(3رواه الدارقطني.
20
سوى نيته الطيب ة الص الحة الص ادقة ،كم ا روي في الح ديث أن الن ب ّي ق ال في
غزوة تبوك( :إن بالمدينة لقوما ما س رتم مس يرا ،وال قطعتم وادي ا ،إال ك انوا معكم
فيه) ،قالوا :يا رسول هللا ،وهم بالمدينة؟ قال( :وهم بالمدينة حبسهم العذر) ()1
وهؤالء الصادقون الذين ظفروا بنيات المجاهدين ،ولو لم يحضروا معهم هم
ضى َواَل َعلَى الَّ ِذينَ ْس َعلَى الضُّ َعفَا ِء َواَل َعلَى ْال َمرْ َ الذين أشار إليهم قوله تعالى﴿ :لَي َ
يل َوهللا ْ
صحُوا هلل َو َرسُولِ ِه َما َعلَى ال ُمحْ ِس نِينَ ِم ْن َس بِ ٍ اَل يَ ِج ُدونَ َما يُ ْنفِقُونَ َح َر ٌج إِ َذا نَ َ
َ َ ْ َ
َغفُو ٌر َر ِحي ٌم (َ )91واَل َعلَى الَّ ِذينَ إِ َذا َما أتَوْ كَ لِتَحْ ِملَهُ ْم قُلتَ اَل أ ِج ُد َم ا أحْ ِمل ُك ْم َعلَ ْي ِه
ُ
ت ََولَّوْ ا َوأَ ْعيُنُهُ ْم تَفِيضُ ِمنَ ال َّد ْم ِع َح َزنًا أَاَّل يَ ِجدُوا َما يُ ْنفِقُونَ ﴾ [التوبة]92 ،91 :
في نفس الوقت الذي قال فيه ( :من غ زا وه و ال ين وي إاّل عق اال فل ه م ا
نوى)( ،)2وقال بعض أصحاب رسول هللا ( :استعنت برج ل ليغ زو معي ،فق ال:
ال حتّى تجعل لي جعال فجعلت له ،فذكرت ذلك للن ب ّي فق ال( :ليس ل ه من دني اه
وآخرته إاّل ما جعلت له)()3
وروي أن رجال قتل في بعض المعارك ،وك ان يظن أن ه قت ل في س بيل هللا،
لكنه عرفوا أنه قتل في سبيل الحمار ،حتى ص ار ي دعى [قتي ل الحم ار] ألنّ ه قات ل
رجال ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك(.)4
ولهذا ورد في األحاديث واآلثار ما يدل على أن النية خ ير من العمل( ،)5فق د
روي عن رسول هللا أنه قال( :نية المؤمن خير من عمله ،وعم ل المن افق خ ير
من نيته ،وكل يعمل على نيته؛ فإذا عمل المؤمن عمال ثار في قلبه نور) ()6
(ألن العم ل ربم ا ك ان ري اء ّ وق د س ئل اإلم ام الص ادق عن معناه ا ،فق ال:
للمخلوقين ،والنيّة خالصة لربّ العالمين ،فيعطي ع ّز وج ّل على النيّ ة م ا ال يعطي
على العمل) ()7
ومما يروى في ه ذا أن بعض المري دين ك ان يط وف على العلم اء ،ويق ول:
(من يدلني على عمل ال أزال فيه عامال هلل تعالى؛ فإني ال أحب أن تأتي علي ساعة
من ليل أو نهار إال وأنا عامل من عمال هللا تعالى) ،فق ال ل ه بعض الحكم اء( :أنت
)(1البخاري ( )2838و( ،)2839و( ،)4423وابن أبي عاصم في الجهاد ( ،)264وأبو يعلى ()3839
)(2النسائي في السنن ج 6ص .24
)(3الطبراني في مسند الشاميين.
)(4رواه أبو إسحاق الفراوي مرسال في السنن.
)( 5من المعاني التي فسر بها الحديث :أن المؤمن بمقتضى إيمانه ينوي خيرات كثيرة ال يوفق لعملها ،إما لع دم
تمكنه من الوصول إلى أسبابها ،أو لعدم مساعدة الوقت على عملها ،أو لممانعة رذيلة نفسانية عنها بعد الوص ول إلى
أسبابها ،كالذي ينوي إن آتاه هللا ما ال ينفقه في سبيله ،ثم لما آتاه يمنعه البخل عن اإلنفاق ،فه ذا نيت ه خ ير من عمل ه،
وأيضا المؤمن ينوي دائما أن تقع عباداته على أحسن الوجوه ،ألن ايمانه يقتضي ذلك .ثم إذا اشتغل به ا ال يتيس ر ل ه
ذلك .وال يأتي بها كما يريد ،فما ينويه دائما خير مما يعمل به في كل عبادة ،وإلى هذا أشار اإلمام الباقر بقول ه( :ني ة
المؤمن خير من عمله ،وذلك ألنه ينوي الخير ما ال يدركه ،ونية الكافر شرّ من عمله ،وذلك ألن الك افر ين وي الش ر
ويأمل من الشر ما ال يدركه) ،وبه فسر كذلك قول اإلمام الصادق الذي ذكرناه[ .انظ ر :ج امع الس عادات ،ج ،3ص:
]121
)(6الطبراني في معجمه الكبير ( )6/185وأبو نعيم في الحلية ( ،)3/255الكافي ج 2ص 69ح .2
)(7علل الشرائع.524 /1 :
21
قد وجدت حاجتك ،فاعمل الخير ما اس تطعت ،ف إذا ف ترت أو تركت ه فهم بعمل ه ،إذ
من هم بعمل الخير كمن يعمل به)
إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن أول م ا على الس ائر في
طريق هللا أن يتدرب عليه ،تصحيح نيته ،وتنميتها وإص الحها؛ فال يمكن أن يطه ر
نفسه من دون ذلك.
ذلك أن النية هي التي تحدد أهداف األعمال وغاياتها ،وهي ال تي تحميه ا من
كل وساوس الش يطان ال تي تع رض له ا ،وهي ال تي ت دفع إلى اإلتق ان واإلحس ان،
وتحمي العمل من كل الثغرات التي قد تعرض له.
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستذكر لي أن النية ليست من قبي ل األعم ال
االختياري ة ال تي يمكن لص احبها أن يتحكم في فعله ا أو ع دم فعله ا ،ب ل هي من
األعمال الوجدانية التي ال يس تطيع أن يتحكم فيه ا؛ فل ذلك ال يمكن للج ائع أن يق ول
شبعت ،وال للكسول أن يكتفي بقوله قمت..
وجوابا على سؤالك أذكر لك أن النية ـ وإن كانت من األعمال الوجدانية ـ إال
أنه يمكن توجيهها ببعض المعارف والعلوم والتدريبات والمجاه دات إلى أن يص بح
في اإلمكان التحكم فيها.
وسر تلك المعارف والتدريبات يع ود إلى أن الني ة ،باعتباره ا الب اعث ال ذي
يبعث على العمل ،يرجع ألهواء النفس؛ فإن كان ه وى النفس في الس معة والش هرة
والجاه العريض ،وهي شهوات النفس األم ارة ،ك انت الني ة ري اء محض ا ،ولم يكن
فيها أدنى صدق أو إخالص..
وإن كان صاحبها يحمل مع تلك النية بعض اإليمان ب اليوم اآلخ ر ،والج زاء
المعد على األعمال الصالحة فيها ،تكون نيته مش وبة بين تحقي ق غرض ه ال دنيوي،
وغرضه األخروي.
وإن كان ص احبها ص احب نفس مطمئن ة ،متج رد اله وى لآلخ رة ،ال يطلب
غيرها ،وال يطلب غير وجه رب ه؛ ف إن عمل ه س يكون خالص ا هلل تع الى ،وبحس ب
درجة إخالصه تكون مرتبة عمله.
ول ذلك ك ان الطري ق إلى تص حيح الني ة ،وتحقي ق اإلخالص فيه ا ،تنمي ة
البواعث اإليماني ة ح تى تتج رد النفس له ا ،وتتخلص من ك ل الش وائب ال تي تفس د
أعمالها.
ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما ينمي تلك البواعث الطيب ة ،ويحققه ا في
النفس لتتجرد للحق ،ويخلص عملها من كل الشوائب التي تكدره.
وبن اء على طلب ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ في ش رح كيفي ة التحق ق بالني ة
الصالحة أذكر لك البواعث التي يمكنك بالتأمل فيها ـ قبل القيام بأي عمل ـ أن تجرد
نيتك من كل ما يفسدها ،لتتعلم اإلخالص والصدق من خاللها.
وقبل أن أذكر لك ذلك ،أضرب لك مثاال يقرب لك الحقيقة ،فاألمث ال جن د هللا
22
التي تُوضح بها الحقائق ،وتقرب بها المعاني.
وينطلق هذا المثال من حقيقة الدنيا ،وكونها سوقا لألعمال ،كم ا ق ال تع الى:
الص اَل ةَ َوأَ ْنفَقُ وا ِم َّما َر َز ْقنَ اهُ ْم ِس ًّرا َو َعاَل نِيَ ةً
اب هللا َوأَقَ ا ُموا َّ ﴿إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْتلُ ونَ ِكتَ َ
ُورهُ ْم َويَ ِزي َدهُ ْم ِم ْن فَضْ لِ ِه إِنَّهُ َغفُو ٌر َش ُكورٌ﴾يَرْ جُونَ تِ َجا َرةً لَ ْن تَبُو َر ( )29لِي َُوفِّيَهُ ْم أُج َ
[فاطر]30 ،29 :
ولذلك توهم نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ في س وق عظمي ة ق د اجتم ع فيه ا
المخلصون والمراؤون:
أما المخلصون؛ فال يبيعون أعمالهم إال لمن يدفع لهم أض عاف األج ور ال تي
يستحقونها ،ثم ال يكتفون بذلك ،بل يضيفون إليها كل ألوان التكريم والثناء والشكر..
في نفس الوقت الذي يكون فيه أولئك التجار ال ذي اش تروا منهم بض اعتهم ممتل ئين
بكل أنواع الكرم والسماحة واللطف ،ويعدونهم بكل ألوان اإلكرام في حال زي ارتهم
لهم.
أما المراؤون؛ في بيعون أعم الهم للع وام وال دهماء البس طاء ال ذين ال يغن ون
عنهم شيئا ،في نفس الوقت الذي يكتفون فيه من أجورهم بنظرة استحس ان يلقونه ا،
ثم ينصرفون عنهم ،وكأنهم لم يقدموا لهم شيئا.
فهذا المثال ـ أيها المريد الصادق ـ يقرب لك ح ال المخلص ين والم رائين في
سوق التجارة الذي أقامه هللا لعباده؛ وهي ال تمث ل الحقيق ة ،وال م ا ه و أدنى منه ا،
ذلك أن األجور التي يلقاها المخلصون ال يمكن وصفها ،والحس رة والندام ة واآلالم
التي تعتري المرائين ال يمكن تحديدها ،ألنها ليست مرتبطة بالدنيا فقط ،وإنما تظ ل
تبعاتهم تلحقهم في كل المحال في الدنيا واآلخرة.
وخالص ة الب واعث الطيب ة ال تي تح ول الني ة من الفس اد إلى الص الح يمكن
اختص ارها في ب اعثين ،كالهم ا وردت ب ه النص وص المقدس ة ،أح دهما يتعل ق
بتحصين األعمال حتى ال يدب فيروس الرياء ،فيفسدها ،وثانيهما ،تحصيل األج ور
ومضاعفتها باستعمال إكسير النية الخالصة.
النية والتحصين:
فأول ما ينفرك عن الني ة الس يئة ،وي دفعك إلى الني ة الخالص ة ـ أيه ا المري د
الصادق ـ علمك بأن كل أعمالك الصالحة محفوظة في صندوق النية ،فإن كانت هلل،
حفظت ،ولم تمسها يد اللصوص ،ولقيت أجورها كاملة يوم القيامة ،أو قد تعجل ل ك
بعض أجورها في الدنيا شكرا من هللا تعالى.
وإن أنت لم تحفظه ا ،ورحت تس ارع إلى إظهاره ا والف رح ب ذلك ،لتن ال
حظوظك الدنيوية بسببها من الشهرة والص يت والس معة ،وم ا ق د يتبعه ا من الم ال
والثراء؛ فإنك بذلك تكون قد بعتها أو عرضتها للصوص في الدنيا ،ولن تجد لها أي
جزاء في اآلخرة ،بل قد تجد العقوبة على استعمالك الدين في طلب الدنيا ،وتوس لك
بالخالق في طلب الخلق.
23
وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى في الحديث القدسي( :أنا أغنى ّ
الش ركاء
شرك ،من عمل عمال أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ()1 عن ال ّ
وروي عن اإلمام الصادق أنّه قال لعبّ اد بن كث ير البص ريّ( :ويل ك ي ا عبّ اد
إيّاك والرّياء؛ فإنّه من عمل لغير هللا وكله هللا إلى من عمل له)( ،)2وقال( :ك ّل ري اء
شرك ،إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل هلل ك ان ثواب ه على هللا)
()3
وق ال في قول ه تع الى﴿ :فَ َم ْن َك انَ يَرْ ُج و لِقَ ا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َم لْ َع َماًل َ
ص الِحًا َواَل
يُ ْش ِر ْك بِ ِعبَا َد ِة َربِّ ِه أَ َحدًا﴾ [الكهف( :]110 :ال ّرجل يعمل شيئا من الثواب ال يطلب به
وجه هللا إنّما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يس ّمع به الناس فهذا الّذي أش رك بعب ادة
ربّه) ،ث ّم قال( :ما من عبد أس ّر خيرا فذهبت األيّام أبدا حتّى يظهر هللا له خيرا ،وما
ر شرّا فذهبت األيّام أبدا حتّى يظهر هللا له شرّا)()4 من عبد يس ّ
وما ذكره اإلم ام الص ادق يش ير إلى أن من العقوب ات ال تي يس لطها هللا على
المرائين أن يس لب منهم ذل ك الف رح الهزي ل البس يط ال ذي ب اعوا ب ه رض وان هللا؛
فس يتبدل ب ه ألم ا وحزن ا في ال دنيا قب ل اآلخ رة ،ذل ك أن أولئ ك ال ذين قص دوهم
باألعمال سيرتدون عليهم ،ويتحولون من حبهم إلى بغضهم ،ومثل ذلك في اآلخرة،
ْض َعد ٌُّو إِاَّل ْال ُمتَّقِينَ ﴾ [الزخرف]67 : ضهُ ْم لِبَع ٍ كما قال تعالى﴿ :اأْل َ ِخاَّل ُء يَوْ َمئِ ٍذ بَ ْع ُ
ومم ا ي روى في ه ذا أن بعض هم رؤي في المن ام فقي ل ل ه :كي ف وج دت
أعمالك؟ فقال( :كل ش يء عملت ه هلل وجدت ه ،ح تى حب ة رم ان لقطته ا من طري ق،
وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحس نات ،وك ان في قلنس وتي خي ط من حري ر
فرأيته في كفة السيئات ،وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواب ا،
فقلت :موت سنور في كفة الحسنات ،وموت حمار ليس فيها! فقيل لي :إنه ق د وج ه
حيث بعثت به ،فإنه لما قيل لك قد مات ،قلت :في لعنة هللا ،فبط ل أج رك في ه ،ول و
قلت :في س بيل هللا ،لوجدت ه في حس ناتك ،وكنت ق د تص دقت بص دقة بين الن اس
فأعجبني نظرهم إلي ،فوجدت ذلك ال علي وال لي)
والتحصين المرتبط بالعمل ـ أيها المري د الص ادق ـ ال يرتب ط بحف ظ أج وره
فقط ،بل يتعلق بكل جوانبه ،حتى ذلك المدد اإللهي الذي يمد هللا ب ه عب اده ،متوق ف
على نياتهم وصدقهم وإخالصهم؛ فإن كانوا صادقين م ع هللا ظ ل الم دد س اريا فيهم
من حيث يش عرون أو ال يش عرون ،وإن زال ص دقهم أو اختل ط بغ يره رف ع عنهم
المدد.
وقد روي في هذا أن عابدا كان يعبد هللا دهرا ط ويال ،فج اءه ق وم فق الوا :إن ّ
ه ا هن ا قوم ا يعب دون ش جرة من دون هللا تع الى ،فغض ب ل ذلك ،وأخ ذ فأس ه على
)(1مسلم ()2985
)(2الكافي ،ج 2ص .293
)(3الكافي ،ج 2ص .293
)(4الكافي ،ج 2ص .293
24
عاتقه ،وقص د الش جرة ليقطعه ا .فاس تقبله إبليس في ص ورة ش يخ فق ال :أين تري د
رحمك هللا؟ قال :أريد أن أقطع هذه الش جرة .ق ال :وم ا أنت وذاك؟ ت ركت عبادت ك
واشتغالك بنفسك وتفرعت لغير ذلك .فقال :إن هذا من عبادتي .قال :فإني ال أترك ك
أن تقطعها .فقاتله ،فأخذه العاب د فطرح ه إلى األرض ،وقع د على ص دره .فق ال ل ه
إبليس :أطلقني حتى أكلمك ،فقام عنه ،فقال له إبليس :ي ا ه ذا إن هللا ق د أس قط عن ك
هذا ولم يفرضه عليك ،وما تعبدها أنت ،وما عليك من غ يرك وهلل تع الى أنبي اء في
أقاليم األرض ،ولو شاء لبعثهم إلى أهلها ،وأمرهم بقطعها .فقال العابد :ال بد لي من
قطعها .فنابذه للقتال .فغلبه العابد وصرعه ،وقع د على ص دره ،فعج ز إبليس ،فق ال
له :هل لك في أمر فصل بيني وبينك ،وهو خ ير ل ك وأنف ع؟ ق ال العاب د :وم ا ه و؟
قال :أطلقني حتى أقول لك .فأطلقه ،فقال إبليس :أنت رجل فق ير ال ش يء ل ك ،إنم ا
أنت كل الناس يعولونك ،ولعلك تحب أن تتفض ل على إخوان ك ،وتواس ي جيران ك،
وتشبع وتستغني عن الن اس .ق ال :نعم .ق ال :ف ارجع عن ه ذا األم ر ،ول ك علي أن
أجعل عند رأس ك في ك ل ليل ة دين ارين ،إذا أص بحت أخ ذتهما ف أنفقت على نفس ك
وعيالك ،وتص دقت على إخوان ك ،فيك ون ذل ك أنف ع ل ك وللمس لمين من قط ع ه ذه
الشجرة التي يغرس مكانها ،وال يضرهم قطعه ا ش يئا ،وال ينف ع إخوان ك المؤم نين
قطعك إياها .فتفكر العابد فيما قال ،وقال :صدق الش يخ ،لس ت بن بي فيلزم ني قط ع
هذه الشجرة وال أمرني هللا أن أقطعها فأكون عاصيا بتركها ،وما ذكره أكثر منفع ة.
فعاهده على الوفاء بذلك ،وحلف له .فرجع العابد إلى متعبده فبات ،فلما أص بح رأى
دينارين عند رأسه ،فأخذهما ،وكذلك الغد ،ثم أصبح الي وم الث الث وم ا بع ده فلم ي ر
شيئا ،فغضب وأخذ فأسه على عاتقه ،فاستقبله إبليس في صورة ش يخ فق ال ل ه :إلى
أين؟ قال :أقطع تلك الشجرة .فقال :كذبت وهللا ،ما أنت بق ادر على ذل ك ،وال س بيل
لك إليها ،فتناوله العابد ليفع ل ب ه كم ا فع ل أول م رة ،فق ال :هيه ات ،فأخ ذه إبليس
وصرعه ،فإذا هو كالعصفور بين رجلي ه ،وقع د إبليس على ص دره وق ال :لتنتهين
عن هذا األمر أو ألذبحنك .فنظر العابد ،فإذا ال طاقة له به ،قال :يا هذا غلبتني فخل
عني ،وأخبرني كيف غلبتك أوال وغلبتني اآلن؟ فق ال :ألن ك غض بت أول م رة هلل،
وك انت نيت ك اآلخ رة ،فس خرني هللا ل ك .وه ذه الم رة غض بت لنفس ك ولل دنيا،
فصرعتك(.)1
فتأمل ـ أيها المريد الصادق ـ في هذه الحكاية ،وال يهم ك أن تك ون ص حيحة
ثابتة أو ملفقة مزورة ،فالحقائق كلها تدل عليها ،ولذلك احرص على إخالص النية،
ولو في العمل القليل؛ فذلك أجدى لك ،وأكثر بركة من العمل الكثير ال ذي يخل و من
اإلخالص ،ويخلو معه من المدد اإللهي.
النية والتحصيل:
ال يقتصر النية الخالص ة على تحص ين األعم ال وحفظه ا من أن ت دب إليه ا
31
الذكر الكثير
كتبت إلي ـ أيها المريد الص ادق ـ تس ألني عن س ر ارتب اط الص الة بال ذكر،
وكونه من مقاصدها العظمى ،وسر تلك األوام ر القرآني ة الكث يرة ال تي تحض على
اإلكث ار من ه ،وتعت بره من ص فات عب اد هللا المخلَص ين ..وعن عالق ة ذل ك كل ه
بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن ال ذكر ـ بحس ب م ا ت دل النص وص
من هللا تعالى بها على عباده؛ فهو ال يكتفي المقدسة ـ أعظم مدرسة تربوية وروحية ّ
بوص لهم ب ربهم فق ط ،وإنم ا يه ذب نفوس هم ويربيه ا ،ويزي ل عنه ا ك ل رعوناته ا
وخبثها ومثالبها ،ليحل بدلها كل أنواع المكارم والخالل الطيبة.
وكيف ال يكون للذكر ذلك الدور العظيم ،وهو تواصل مع هللا تعالى ،والذاكر
بمثابة الزائر هلل ،الذي ال يخرج من ذكره إال بأنواع التح ف اإللهي ة ،أو ه و بمثاب ة
المريض الذي يزور الط بيب ال ذي يع الج من ك ل األدواء؛ فال يرج ع من عن ده إال
وهو معافى من كل ما يؤذيه.
وكيف ال يكون له ذلك الدور العظيم ،وفيه يغيب اإلنسان عن نفس ه وعيوبه ا
وأمراضها ،ويتصل بربه ،ليتلقى من ه ك ل إش عاعات الن ور والهداي ة ،ال تي تطه ر
أرض نفسه من ك ل أدناس ها ،لتح رره من ك ل قي وده ال تي ك انت تح ول بين ه وبين
حقيقته ،وبينه وبين ربه؟
وكيف ال يكون له ذلك ال دور العظيم ،وه و المدرس ة ال تي حض عليه ا ك ل
األنبياء واألولياء ،ومارس ها ك ل الص ديقون ،وجربه ا ك ل الص الحون ،وش هد له ا
الجميع بأنه ال يتخرج منه إال من نور هللا قلبه بالهداية.
ولذلك كان الذكر ـ مث ل الني ة الخالص ة ـ روح األعم ال ،ب ل ال مع نى للني ة
بدونه ،ذلك أنها في حقيقتها ليست سوى تذكر هلل ،وإهداء لألعمال والقربات إليه.
ومثل ذلك كل األعمال؛ فالقصد منها جميعا التقرب إلى هللا ،والتعرف علي ه،
والتواصل معه ،والتأدب بين يديه.
ودوره ال تربوي اإلص الحي يش به اس ترخاء الم ريض على س رير الط بيب
الحاذق ليترك له الحرية في أن يعالجه بالطريقة التي يشاء ..ولهذا كلما كان ال ذاكر
أكثر حضورا مع ربه ،وكلما أدمن ذلك الحضور ،كلما تيسر له التخلص من علله.
ولذلك ك ان ال ذكر أس هل الم دارس التربوي ة ،وأكثره ا ض مانا ،ذل ك أن ه ال
يتطلب الكثير من المعارف والعلوم ،وال يحتاج إلى شيء من الج دل والفلس فة ،ب ل
يكفي فيه الحضور مع هللا ،واستشعار وجوده وعظمته وصفاته وكماله ،ليكون لك ل
ذلك تأثيره في الروح والنفس وكل اللطائف.
ولهذا ورد في الحديث أن رجالً قال :ي ا رس ول هللا إن أب واب الخ ير كث يرة،
ي فأنس ى ،فق ال وال أستطيع القيام بكلها ،فأخبرني بما شئت أتشب ُ
َّث به ،وال تك ثر عل َّ
32
تعالى)()1 رسول هللا ( :ال يزال لسانك رطبًا بذكر هللا
وأخبر عن سر ذلك التأثير الذي خص هللا تع الى ب ه ال ذكر ،فق الَ ( :مثَ ُل
ت)( ،)2وهو يش ير إلى أن الق ائم الحي والمي ِِّ الذي يذكر ربه والذي ال يذكر ربه َمثَ ُل
بأي عمل صالح إن لم يستحضر ذكر هللا فيه يكون بمثابة اآللة الجام دة ال تي ت ؤدي
دورها من دون أن تستفيد منه ،وال أن تكون حاضرة فيه.
ولهذا أخبر رسول هللا أن قيم ة ك ل عم ل بق در حض ور العام ل في ه م ع
ربه ،وذكره له ،فق د روي أن ه ق ال مخاطب ا أص حابه( :أال أخ بركم بخ ير أعم الكم
وأزكاها عند مليككم وأرفعه ا في درج اتكم ،وخ ير لكم من إنف اق ال ذهب والفض ة،
وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعن اقهم ويض ربوا أعن اقكم) ق الوا :بلى ي ا
رسول هللا قال( :ذكر هللا)()3
وه ذا ال يع ني م ا يفهم ه بعض المقص رين في أداء ش عائر هللا ،وال ذين
يتوهمون أن رسول هللا في هذا الحديث ينسخ كل الشريعة بالذكر ،وإنما الم راد
منها تفضيل الذاكر على الغافل ،حتى لو كان ذلك الغافل يمارس كل أن واع الخ ير..
أما من يذكر هللا وهو يمارسها؛ فال شك في كون ه األفض ل ،لجمع ه بين الحس نيين:
العمل الصالح ،وذكر هللا.
وسر ذلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ يرج ع إلى أن ال ذاكر في ح ال ذك ره في
صحبة هللا تعالى ومعيته الخاصة ،كما ورد ذلك في الحديث القدسي ،قال رسول هللا
( :يق ول هللا تب ارك وتع الى :أنا عند ظن عب دي بي ،وأن ا مع ه إذا ذك رني؛ ف إن
ير منهم، إل خ ٍ ذكرني في نفسه ،ذكرته في نفس ي ،وإن ذك رني في مأل ذكرتُ ه في م ٍ
ي ذراعًا تق َّربْت منه باعًا ،وإذا ي شبرًا تقربت إليه ذراعًا ،وإن تقرَّب إل َّ وإن تقرب إل َّ
أتاني يمشي أتيتُه هَرولة)()4
وأخبر عن صحبة الذاكر للمالئكة ،وانتشار أنوارها إليه في ح ال ذك ره،
فق ال( :ال يقع د ق وم ي ذكرون هللا ع ز وج ل إال حفتهم المالئك ة وغش يتهم الرحم ة
ونزلت عليهم السكينة وذكرهم هللا فيمن عنده)()5
وهذا كله يدعم التأثير الغيبي في التزكي ة ،وه و أهم أن واع الت أثير وأس هلها،
وأشملها ،ذلك أن الذي يتولى تصفية النفس وتربيتها هو خالقها العالم بها.
وإلى هذا اإلشارة بقوله تع الى﴿ :هُ َو الَّ ِذي ي َ
ُص لِّي َعلَ ْي ُك ْم َو َماَل ئِ َكتُ هُ لِي ُْخ ِر َجك ْمُ
ور َو َكانَ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ِحي ًما﴾ [األحزاب]43 :؛ فاهلل تعالى يت ولى ِمنَ ُّ
الظلُ َما ِ
ت إِلَى النُّ ِ
إصالح كل من اتصل به ،ومأل قلبه بالهداية.
ولذلك أمرنا أن ندعو هللا تعالى بذلك في كل صالة ،ففي سورة الفاتح ة ن ردد
)(1رواه مسلم.
34
َظي ًما﴾ [األحزاب]35 : ت أَ َع َّد هللا لَهُ ْم َم ْغفِ َرةً َوأَجْ رًا ع َِوال َّذا ِك َرا ِ
وقد روي عن اإلمام الصادق أنه قال( :ما من شيء إاّل وله ح ّد ينتهي إليه إاّل
اهن فه و ال ذكر ،فليس ل ه ح ّد ينتهي إلي ه ،ف رض هللا ع ّز وج ّل الف رائض فمن أ ّد ّ
هن ،وشهر رمضان فمن ص امه فه و ح ّده ،والح ّج فمن ح ّج فه و ح ّده إاّل ال ذكر ح ّد ّ
فإن هللا ع ّز وج ّل لم ي رض من ه بالقلي ل ولم يجع ل ل ه ح ّدا ينتهي إلي ه ،ث ّم تال ه ذه ّ
َّ
ص ياًل هُ َو ال ِذي َ ْ َّ َ
اآلية﴿ ::يَا أيُّهَا ال ِذينَ آ َمنُوا اذ ُكرُوا هللا ِذ ْكرًا َكثِيرًا َو َس بِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأ ِ
ور َو َك انَ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ِحي ًم ا﴾ ُصلِّي َعلَ ْي ُك ْم َو َماَل ئِ َكتُهُ لِي ُْخ ِر َج ُك ْم ِمنَ ُّ
الظلُ َم ا ِ
ت إِلَى النُّ ِ ي َ
[األحزاب ،] 41 :وقال( :لم يجعل هللا ع ّز وج ّل له ح ّدا ينتهي إليه)
ثم تحدث عن وال ده اإلم ام الب اقر ،فق ال( :وك ان أبي كث ير ال ذكر ،لق د كنت
أمشي معه وإنّه ليذكر هللا ،وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر هللا ،ولقد كان يح ّدث الق وم
وما يشغله ذلك عن ذكر هللا ،وكنت أرى لسانه الزق ا بحنك ه يق ول( :ال إل ه إاّل هللا)
وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطل ع الش مس وي أمر ب القراءة من ك ان يق رأ منّ ا
ومن كان ال يقرأ منّا أمره بالذكر)()1
وقال اإلمام علي( :اذكروا هللا في كل مكان فإنه معكم ..أك ثروا ذك ر هللا ع ّز
وج ّل إذا دخلتم األس واق ،وعن د اش تغال الن اس ،فإن ه كف ارةٌ لل ذنوب ،وزي ادةٌ في
الحسنات ،وال تُكتبوا في الغافلين)()2
وقال( :أكثروا ذكر هللا تعالى على الطعام وال تطغوا ،فإنه ا نعم ةٌ من نعم هللا
ق من رزقه ،يجب عليكم فيه شكره وحمده)()3 ورز ٌ
وقال( :إذا لقيتم عدوكم في الحرب فأقلّوا الكالم ،وأكثروا ذكر هللا ع ّز وج ّل)
()4
ولهذا ،فإن الق رآن الك ريم ال يكتفي بال دعوة إلى اإلكث ار من ال ذكر ،ب ل إن ه
يحض عليه في كل األوقات والمناسبات ..فيدعو إليه في المع ارك وعن د اش تدادها،
قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َذا لَقِيتُ ْم فِئَةً فَ ْاثبُتُوا َو ْاذ ُكرُوا هللا َكثِيرًا لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِ ُح ونَ ﴾
[األنفال]45 :
ُ
ويدعو إلى التزامه في الصباح والمساء ،قال تعالى﴿ :فَاصْ بِرْ َعلَى َما يَقُولونَ
س َوقَب َْل ُغرُوبِهَا َو ِم ْن آنَ ا ِء اللَّ ْي ِل فَ َس بِّحْ َوأَ ْ
ط َرافَ وع ال َّش ْم ِك قَب َْل طُلُ ِ َو َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّ َ
ضى﴾ [طه ،]130 :وقال﴿ :فَ ُسب َْحانَ هللا ِحينَ تُ ْمسُونَ َو ِحينَ تُصْ بِحُونَ ك تَرْ َ ار لَ َعلَّ َ
النَّهَ ِ
ْ َ َولَهُ ْال َح ْم ُد فِي ال َّس َما َوا ِ
ض َوع َِشيًّا َو ِحينَ تُظ ِهرُونَ ﴾ [الروم]18 ،17 : ت َواأْل رْ ِ
ار ِخ ْلفَ ةً لِ َم ْن أَ َرا َد ﴿وه َُو الَّ ِذي َج َع َل اللَّي َْل َوالنَّهَ َ
وفي الليل والنهار ،قال تعالىَ :
أَ ْن يَ َّذ َّك َر أَوْ أَ َرا َد ُش ُكورًا﴾ [الفرقان]62 :
ض اًل ِم ْن َربِّ ُك ْم ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَ ا ٌح أَ ْن تَ ْبتَ ُغ وا فَ ْ
وعند الحج وبعده ،قال تع الى﴿ :لَي َ
)(1الكافي ج 2ص .361
)(2الخصال .2/157
)(3الخصال .2/158
)(4الخصال .2/159
35
ت فَ ْاذ ُكرُوا هللا ِع ْن َد ْال َم ْش َع ِر ْال َح َر ِام َو ْاذ ُك رُوهُ َك َم ا هَ دَا ُك ْم َوإِ ْن فَإِ َذا أَفَضْ تُ ْم ِم ْن َع َرفَا ٍ
ض ْيتُ ْم َمنَا ِس َك ُك ْم فَ ْاذ ُكرُوا هللاُك ْنتُ ْم ِم ْن قَ ْبلِ ِه لَ ِمنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة ،]198 :وقال﴿ :فَإِ َذا قَ َ
اس َم ْن يَقُ و ُل َربَّنَ ا آتِنَ ا فِي ال ُّد ْنيَا َو َم ا لَ هُ فِي َك ِذ ْك ِر ُك ْم آبَ ا َء ُك ْم أَوْ أَ َش َّد ِذ ْك رًا فَ ِمنَ النَّ ِ
ت فَ َم ْن ﴿و ْاذ ُك رُوا هللا فِي أَي ٍَّام َم ْع دُودَا ٍ ق﴾ [البق رة ،]200 :وق الَ : اآْل ِخ َر ِة ِم ْن َخاَل ٍ
تَ َعج ََّل فِي يَوْ َمي ِْن فَاَل إِ ْث َم َعلَ ْي ِه َو َم ْن تَ أ َ َّخ َر فَاَل إِ ْث َم َعلَ ْي ِه لِ َم ِن اتَّقَى َواتَّقُ وا هللا َوا ْعلَ ُم وا
أَنَّ ُك ْم إِلَ ْي ِه تُحْ َشرُونَ ﴾ [البقرة]203 :
الص اَل ةَ فَ ْاذ ُكرُوا هللا قِيَا ًم ا ض ْيتُ ُم َّ وعند الصالة وبع دها ،ق ال تع الى﴿ :فَ إِ َذا قَ َ
ْ
َت َعلَى ال ُم ْؤ ِمنِينَ صاَل ةَ َك ان ْ اط َمأْنَ ْنتُ ْم فَأَقِي ُموا ال َّ
صاَل ةَ إِ َّن ال َّ َوقُعُودًا َو َعلَى ُجنُوبِ ُك ْم فَإِ َذا ْ
ِكتَابًا َموْ قُوتًا﴾ [النساء]103 :
ويدعو إلى اس تعمال ك ل الهيئ ات في ه ،وال تي يتيس ر على النفس ممارس تها
َض رُّ عًا َو ِخيفَ ةً ﴿و ْاذ ُك رْ َربَّكَ فِي نَ ْف ِس كَ ت َ والدوام عليها من غير تكلف ،ق ال تع الىَ :
ال َواَل تَ ُك ْن ِمنَ ْال َغ افِلِينَ إِ َّن الَّ ِذينَ ِع ْن َد َربِّ َ
ك اَل ص ِ َو ُدونَ ْال َجه ِْر ِمنَ ْالقَوْ ِل بِ ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ
يَ ْستَ ْكبِرُونَ ع َْن ِعبَا َدتِ ِه َويُ َسبِّحُونَهُ َولَهُ يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ [األعراف]206 ،205 :
ولذلك يمكن للذاكر أن يذكر هللا ،من غير أن يحرك ش فتيه ،وال أن يتعب أي
جارحة من جوارحه ،بل يكتفي بحضوره مع ربه ،أو ترديده لألذكار في سره.
والرتباط الذكر بالكثرة ،وكون تأثيره مرتبط ا به ا أخ بر رس ول هللا عن
تلك الحسرات التي يجدها اإلنسان عند أي ساعة لم يذكر هللا تعالى فيها ،فق ال( :م ا
من ساعة تَ ُمرُّ بابن آدم ال يذكر هللا تعالى فيها إال تحسَّر عليها يوم القيامة)()1
وأخبر عن الحسرة التي يجدها أولئك الذين يقضون أوقاتهم في الله و واللعب
بعيدا عن ذكر هللا ،قال ( :م ا من ق وم يقوم ون من مجلس ال ي ذكرون هللا تع الى
فيه؛ إال قاموا عن مثل جيفة حمار ،وكان عليهم حسرة)( ،)2وفي رواي ة( :م ا جلس
قوم مجلسًا لم يذكروا هللا فيه ،ولم يصلُّوا على ن بيهم إال ك ان عليهم تِ َرةً؛ ف إن ش اء
عذبهم ،وإن شاء غفر لهم)()3
بل ورد في الحديث أن أهل الجنة أنفس هم ين دمون على أي لحظ ة لم ي ذكروا
(إن أه ل الجنّ ة ال ين دمون على ش يء من أم ور ال دنيا إاّل على هللا فيه ا ،ق ال ّ :
ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا هللا فيها)()4
وس ر ذل ك ـ كم ا ورد في أح اديث أخ رى ـ أن نعيم الجن ة يتش كل من تل ك
(لقيت ليل ة أُس ري بي إب راهيم الخلي ل ُ الحروف ال تي ي ذكرها ال ذاكرون ،ق ال :
عليه السالم ،فقال :ي ا محم د! أق رئ أمت ك م ني الس الم ،وأخ برهم أن الجن ة طيب ة
قيعان ،وأن غراسها :س بحان هللا ،والحم د هلل ،وال إل ه إال ٌ التربة ،عذبة الماء ،وأنها
)(1الترمذي ( )3462وحسنه.
)(2الترمذي ()3464
)(3الحاكم ( 1/671رقم )1820
)(4البخاري ( – 212 /11فتح) ،ومسلم ( – 15 – 17/14نووي)
)(5الترمذي ،وقال :حديث حسن صحيح.
37
لكم وال عش اء ،وإذا دخ ل فلم ي ذكر هللا تع الى عن د دخول ه ،ق ال الش يطان :أدركتم
المبيت ،وإذا لم يذكر هللا تعالى عند طعامه قال :أدركتم المبيت والعشاء)()1
وقال( :من قال إذا خرج من بيته :بسم هللا ،توكلت على هللا ،ال حول وال ق وة
إال باهلل ،يقال له حينئذ :كفيت ووقيت وهديت ،وتنحى عنه الشيطان ،فيقول لشيطان
آخر :كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي)()2
وقال( :من قال في يوم مئة مرة :ال إله إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه ،ل ه المل ك
زا من الشيطان حتى يمسي)()3 وله الحمد ،وهو على كل شيء قدير ،كانت له حر ً
وهذه األحاديث ـ أيها المريد الصادق ـ تشير إلى الدور التربوي لل ذكر ،ذل ك
أن الذاكر بحضوره مع هللا يفر منه الشيطان ،وتت وفر ل ه البيئ ة المناس بة للص الح،
ذلك أن كل االنحرافات التي يقع فيها اإلنسان بذور من إلهامات الشياطين.
ولذلك كان فرار الشيطان مشابها لعزل المريض الذي أص يب ب أي ن وع من
أنواع الجراثيم من البيئة التي تسببت له في ذلك ،ووضعه في بيئة معقمة تيسر عليه
الشفاء.
وهكذا يمكنك أن تفهم من جميع النصوص المقدسة الواردة في فضل ال ذكر؛
فهي ال تتحدث عن فضل غيبي فقط ،وإنما تتحدث عن دور حقيقي تكويني يق وم ب ه
﴿واَل
في تصفية اإلنسان وتطهيره وتزكيته وترقيته ،كما أشار إلى ذلك قوله تع الىَ :
تُ ِط ْع َم ْن أَ ْغفَ ْلنَا قَ ْلبَهُ ع َْن ِذ ْك ِرنَا َواتَّبَ َع ه ََواهُ َو َكانَ أَ ْم ُرهُ فُ ُرطًا﴾ [الكهف]28 :
فاآلية الكريمة تربط بين الغفلة عن ذكر هللا واتباع اله وى ،واختالط األم ور
على صاحبها ،باعتب ار أن ك ل م ا حص ل ل ه ك ان بس بب غفلت ه عن هللا ،كم ا ق ال
اس قُونَ ﴾ [الحش ر: ﴿واَل تَ ُكونُوا َكالَّ ِذينَ نَسُوا هللا فَأ َ ْن َساهُ ْم أَ ْنفُ َس هُ ْم أُولَئِ كَ هُ ُم ْالفَ ِ تعالىَ :
ْ
ْض يَأ ُمرُونَ بِ ْال ُم ْن َك ِر ﴿ال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ
،]19وقال عن المنافقينْ :
ضهُ ْم ِم ْن بَع ٍ ات بَ ْع ُ
اس قُونَ ﴾ ُوف َويَ ْقبِضُونَ أَ ْي ِديَهُ ْم نَسُوا هللا فَن َِسيَهُ ْم إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ هُ ُم ْالفَ ِ
َويَ ْنهَوْ نَ َع ِن ْال َم ْعر ِ
[التوبة]67 :
وأخ بر عن اس تحواذ الش يطان على اإلنس ان بس بب غفلت ه عن هللا ،فق ال:
ب الش ْيطَا ِن أَاَل إِ َّن ِح ْز َ ك ِح ْزبُ َّ الش ْيطَانُ فَأ َ ْن َس اهُ ْم ِذ ْك َر هللا أُولَئِ َ
﴿اس تَحْ َو َذ َعلَ ْي ِه ُم َّ
ْ
َاسرُونَ ﴾ [المجادلة]19 : ْ
ال َّش ْيطا ِن ه ُم الخ ِ
ُ َ
وله ذا ك انت الغفل ة عن ذك ر هللا أعظم أس باب م وت القل وب ومرض ها
وقسوتها ،وقد روي أن هللا تعالى أوحى إلى موسى عليه السّالم قوله( :يا موسى ،ال
فإن كثرة المال تنسي الذنوبّ ،
وإن تفرح بكثرة المال وال تدع ذكري على ك ّل حالّ ،
ترك ذكري يقسي القلوب)( ،)4وفي مناجاة أخرى( :ي ا موس ى ،ال تنس ني على ك ّل
فإن نسياني يميت القلب) حالّ ،
)(1رواه مسلم رقم .2018
)(2الترمذي رقم ،3429وابن ماجه برقم .3886
)(3البخاري ( )3293و( ،)6403ومسلم ()2691
)(4الكافي ج 2ص 360ح 7
38
وروي أنه سأل ربّه فقال :يا ربّ ،أ قريب أنت منّي فاناجيك أم بعيد فاناديك،
فأوحى هللا ع ّز وج ّل إليه :يا موس ى ،أن ا جليس من ذك رني ،فق ال موس ى :فمن في
سترك يوم ال ستر إاّل سترك؟ فقال :الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابّون ف ّي فأحبّهم،
فأولئك الذين إذا أردت أن أصيب أهل األرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم(.)1
الس الم( :ي ا داود ،من أحبّ حبيب ا
وروي أن هللا تعالى أوحى إلى داود علي ه ّ
ص ّدق قوله ،ومن رضي بحبيب رضى بفعله ،ومن وثق بح بيب اعتم د علي ه ،ومن
اشتاق إلى حبيب ج ّد في السير إليه ..ي ا داود ،ذك ري لل ذاكرين ،وجنّ تي للمطيعين،
وحبّي للمشتاقين ،وأنا خاصّة للمحبّين ..أهل طاعتي في ضيافتي ،وأهل ش كري في
زيادتي ،وأهل ذكري في نعمتي ،وأهل معصيتي ال آيسهم من رحمتي ،إن تابوا فأنا
ح بيبهم ،وإن دع وا فأن ا مجيبهم ،وإن مرض وا فأن ا ط بيبهم ،أداويهم ب المحن
والمصائب ،وألطهّرهم من الذنوب والمعايب)()2
وروي أن لقمان قال البنه( :ي ا ب ن ّي ،اخ تر المج الس على عين ك ف إن رأيت
قوما يذكرون هللا ج ّل وع ّز ف اجلس معهم ،ف إن تكن عالم ا نفع ك علم ك ،وإن تكن
ج اهال علّم وك ،ولع ّل هللا أن يظلّهم برحمت ه فيع ّم ك معهم ،وإذا رأيت قوم ا ال
ي ذكرون هللا فال تجلس معهم ،ف إن تكن عالم ا لم ينفع ك علم ك ،وإن كنت ج اهال
ل هللا أن يظلّهم بعقوبة فيع ّمك معهم)()3
يزيدوك جهال ،ولع ّ
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف اعلم أن ال ذكر أعظم من أن يختص ر
فيما اصطلح عليه لقب [األذكار] ،مما ي ردد في الص باح والمس اء ،أو في األح وال
المختلفة ،وإنما هو شامل لكل ما يذكرك بربك ،وبأسمائه الحسنى ،سواء كان آي ات
من القرآن الكريم ،أو أدعية أو مناجاة أو ما اصطلح علي ه بلقب ال ذكر ،س واء مم ا
ورد النص على ص يغته ،أو لم ي رد ،ح تى ل و ك انت أش عارا منظوم ة ،أو كلم ات
منثورة ،بل حتى لو كانت أناشيد تلحن بأص وات عذب ة ،وتنفع ل النفس معه ا مثلم ا
تنفعل مع األذكار.
ّ
وقد قال رسول هللا يشير إلى ذلكَ ( :من أط اع هللا فق د ذك ر هللا ،وإن قلت
صالته وصيامه وتالوته ،و َمن عصى هللا فقد نسي هللا ،وإن كثُرت صالته وصيامه
وتالوته)()4
وقال اإلمام الصادقَ ( :من كان ذاكراً هلل على الحقيق ة فه و مطي عٌ ،و َمن ك ان
ص ،والطاع ة عالم ة الهداي ة ،والمعص ية عالم ة الض اللة، غ افالً عن ه فه و ع ا ٍ
وأصلهما من الذكر والغفلة ..فاجعل قلبك قبلةً ،ولسانك ال تحركه إال بإش ارة القلب،
وموافقة العقل ،ورضا اإليمان ،فإن هللا تعالى عال ٌم بسّرك وجه رك ..وكن كالن ازع
روحه ،أو كالواقف في العرض األكبر ،غير شاغل نفسك ع ّما عناك مم ا كلّف ك ب ه
)(1الكافي ج 2ص 360ح 4
)(2ع ّدة الداعي ص .237
)(3الكافي ج 1ص .30
)(4معاني األخبار ص.399
39
ربك في أمره ونهيه ،ووعده ووعيده ،وال تُشغلها بدون ما كلّفك ..واغسل قلبك بماء
غني عن ك ،ف ذ ْكره ل ك
ٌّ الحزن ،واجعل ذكر هللا من أجل ذكره لك ،فإنه َذ َكرك وهو
أجلُّ وأشهى وأت ُّم من ذكرك له وأسبق)()1
لكن الشريعة الحكيمة مع إتاحته ا الفرص ة للنفس أن تس تعمل من الص يغ م ا
تشاء من األذكار التي تتناسب مع حاجاتها ،وباألساليب التي ترغب فيه ا ،وض عت
الكثير من الصيغ المختصرة اليسيرة التي تلبي جمي ع الحاج ات ،وبأص ح الط رق،
وأجمل األساليب ..فاهتم بالبحث عنها ،وعن أسرارها ،والتزم بها؛ فهي أدوية رب ك
األصلية التي تعالجك ،وتصلح كل عطب يحصل لك.
ومثلما كانت األدوية عامة تستعمل في كل األوقات ،ولك ل الحاج ات ،ومنه ا
م ا ه و خ اص بمناس بات معين ة؛ فك ذلك أدوي ة األذك ار ،منه ا م ا ورد الحث على
اإلكثار منه ،وفي كل المناسبات ،ومنها ما خصت به مناسبات معينة ،والهدف منها
جميعا تربية النفس وتهذيبها والسمو بها.
األذكار العامة:
أما األذكار العامة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تل ك األذك ار ال تي ورد الحث
على آحادها من دون تحديد مناسبات خاصة به ا ،أو ح ددت له ا بعض المناس بات،
لكنها ليست على سبيل الحصر.
ومن األمثلة عنها ما روي أن رسول هللا قال ألبي ذر( :أال أخبرك بأحب
الكالم إلى هللا؟) ،ثم قال له( :إن أحب الكالم إلى هللا :سبحان هللا وبحمده)()2
فهذه الصيغة التي أخبر رسول هللا عن حب هللا لها ،والتي لم تقيد بمناسبة
خاصة من األذكار العامة ،وهي تجمع ك ل م ا يحتاج ه الع ارف من معرف ة هللا ..فـ
(سبحان هللا) تعني تنزيهه عن كل م ا ال يلي ق ب ه ..والمري د الس الك ه و ال ذي يب دأ
فينزه هللا عن كل ما ال يليق به ،فال يمكن أن يتحقق بمعرفة هللا من يحم ل في وعي ه
ب ذور التش بيه والش رك ال تي ت دنس مح ل اإليم ان من قلب ه ..و(الحم د هلل) إثب ات
الكماالت هلل بشمولها وتمامها ..فال يمكن أن يعرف هللا من ال يعرف كماله.
ومنها ما عبر عنه رسول هللا بقوله( :ألن أق ول س بحان هللا ،والحم د هلل،
وال إله إال هللا ،وهللا أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)()3
وروي أن ناسا قالوا للنبي :يا رس ول هللا ذهب أه ل ال دثور( )4ب األجور،
يصلون كما نص لي ،ويص ومون كم ا نص وم ،ويتص دقون بفض ول أم والهم ،ق ال:
أوليس قد جعل هللا لكم ما تصدقون؟ إن بكل تس بيحة ص دقة ،وك ل تكب يرة ص دقة،
وكل تحميدة صدقة ،وكل تهليلة صدقة ،وأم ر ب المعروف ص دقة ،ونهي عن منك ر
)(1الخصال 1/103
)(2الخصال ج 1ص .143
)(3أمالي الصدوق ص324
)(4أمالي الصدوق ص332
)(5رواه الترمذي.
43
ومنها م ا رغب في ه بقول ه( :من ق ال حين يص بح وحين يمس ي (س بحان هللا
وبحمده) مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به ،إال أحد ق ال مث ل م ا
قال أو زاد عليه)()6
وغيرها من األذكار التي قد أح دثك عنه ا ،وعن أس رار معانيه ا في رس ائل
الحقة ..فالتزم ـ أيها المريد الص ادق ـ به ذه اله دايا اإللهي ة ال تي ت وفر ل ك أقص ر
الطرق إلصالح نفس ك وته ذيبها ،لتص بح أهال للق اء رب ك ،والس عادة بج واره ،فال
طمأنينة إال ب ذلك ،ق ال تع الى﴿ :الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوت ْ
َط َمئِ ُّن قُلُ وبُهُ ْم بِ ِذ ْك ِر هللا أَاَل بِ ِذ ْك ِر هللا
ت ْ
َط َمئِ ُّن ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد]28 :
)(6رواه مسلم.
44
التكبير والتهليل
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن التكب ير والتهلي ل ،وعالقتهم ا
بالسير والسلوك ،والمعاني المرتبطة بهما ،والثمار ال تي يثمرانه ا في تزكي ة النفس
وترقيتها ،وسر ما ورد حولهما ،وحول فضلهما من النصوص المقدسة.
وجوابا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن التكب ير والتهلي ل ليس ا من أرك ان
اإلص الح المرتب ط ب النفس فق ط ،وإنم ا هم ا الركن ان العظيم ان الل ذان ال يمكن أن
يتحقق اإلصالح االجتماعي والسياسي واالقتصادي والثقافي وغيرها من دونهما.
ولذلك أمر بإشاعتهما في كل المناسبات ،وأنت ت رى كي ف ي ردد المؤذن ون،
وفي جميع المحال ،تلك التكبيرات والتهليالت ،ويكررونها ،وبصوت ع ال ،ليك ون
هللا تعالى في المجتمع هو األك بر واألعظم واألولى ب أن يعب د ويرج ع إلي ه في ك ل
شيء ..وأن يكون وحده في ذل ك ال ش ريك ل ه ..ال من المل وك وال الس الطين ..وال
األغنياء وال األثرياء ..وال الوجهاء وال المأل ..وال رجال الدين ،وال رجال الدنيا.
ولذلك لم يكن التهليل والتكبير مجرد أذكار ش رعية ،أُم ر به ا ،ودُعي إليه ا،
وإنما هما شعارات سياسية تقف في وجه الظلمة والطواغيت والمس تبدين ..لتص يح
في خلدهم كل حين بأن هللا تعالى أك بر منكم ،ومن ج بروتكم وطغي انكم ،وت دعوهم
ألن يتخلوا عن كبريائهم ،ليرتدوا ثوب اإليمان والعبودي ة والتواض ع ،ويوح دوا هللا
تع الى أثن اء أدائهم لممارس اتهم السياس ية ،كم ا يوحدون ه أثن اء أدائهم لممارس اتهم
الدينية؛ فاهلل تعالى رب الدين والدنيا جميعا.
وهي شعار في وجه من يريدون تفكيك المجتمع بالعصبية والقبلية والنع رات
الجاهلية ..لتقول لهم :إن هللا أكبر من أنسابكم وأحسابكم وجاهكم ..وعند هللا يتساوى
الجميع ..والكل عن د هللا ص غير ..وال ُمك رم عن د هللا ه و التقي الص الح ،ال ص احب
المال ،وال صاحب السلطان ،وال صاحب الجاه العريض ،والحسب والنسب.
وهي شعار في وجه أباطرة الم ال ،والمس تبدين في االقتص اد ،والمحتك رين
للس لع ،والغاش ين للمحتق رين المظل ومين ،لتق ول لهم :إن هللا أك بر من أم والكم
وخ زائنكم ..وهي ال تس اوي جن اح بعوض ة من خزائن ه ..ف ارجعوا إلى أنفس كم،
وتوبوا إلى ربكم ،وارحموا المستضعفين قبل أن تخرجوا من الدنيا ،كما جئتم إليها،
ال تملكون شيئا ،ويظل الملك هلل وحده.
وهي شعار في وجه أب اطرة الفن والثقاف ة ال ذين يخرب ون المجتمع ات باس م
اإلب داع والجم ال ..لتق ول لهم :إن هللا أك بر وأعظم مب دع ،وال إب داع إال من ه ،وال
إبداع وال فن إال بصحبته ،وفي ظل القيم النبيلة التي أمر بها.
وهكذا ..فإن التكبير والتهليل ـ أيها المريد الصادق ـ ش عار يس ري في ع الم
النفس كم ا يس ري في ع الم المجتم ع ،لي نزع عن اإلنس ان ذل ه وهوان ه ،وليمأله
بالش جاعة والج رأة ،ليق ول كلم ة الح ق في وج ه ك ل الظلم ة ،من دون خ وف وال
45
وجل ،وكيف يخاف ،وهللا هو األكبر ،وهو األوحد؟
وهو شعار يتحول إلى ماء طهور يغس ل عن النفس جمي ع مثالبه ا وأدرانه ا،
وهل يمكن ألي مثلب أو ذنب كبيرا كان أو صغيرا أن يقف مع توحيد هللا وتكبيره؟
وه ل يمكن ألي نفس أن تمتلئ عجب ا ،وهي ت رى عظم ة هللا وكبري اءه
وجبروته؟
وهل يمكن أن تغتر ،وهي تعلم أن قوانين هللا تع الى ج ادة دقيق ة ص ارمة ،ال
يمكن ألحد مهما كان أن يتجاوزها؟
وهل يمكن أن تتكبر ،وهي تعلم أن هللا هو األكبر ،وأن من نازعه ونافسه في
كبره ،لم ينل إال الضالل والخسارة؟
وهل يمكن أن تبطر وتظلم ،وهي تعلم أن هللا أكبر من قوتها ،وأنه سينتص ف
للمظلوم ال محالة؟
وهكذا؛ فإن التكب ير والتهلي ل من أعظم الم دارس التربوي ة والروحي ة ،ومن
أدمن على دروسهما ،وحفظها ،ورددها كل حين؛ فإنه ال محالة سيخرج من سجون
النفس األمارة ،ليلتحق بجنات أصحاب النفوس المطمئنة.
إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن س ر اهتم ام النص وص
المقدس ة بهم ا ،ودعوته ا إلى تردي دها في ك ل المح ال ،ال يه دف فق ط إال ت رطيب
اللسان بهما ،ولكن لما لهما من اآلثار البعيدة في النفس والمجتمع.
لذلك فاقرأ تلك النصوص بهذا الفهم ،وال تلتفت ألولئك الذين حولوا الش ريعة
إلى طق وس يؤدونه ا من دون فق ه ألس رارها وحقائقه ا؛ فراح وا يوال ون الظلم ة،
ويساندون المستكبرين ،في نفس الوقت الذي يلهجون فيه ب التكبير والتهلي ل ،وك أن
هللا تعالى أمرنا أن نعبده ،ونقيم دينه باأللفاظ والطقوس ،ال بالحقائق والمعاني.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن القرآن الك ريم كت اب التزكي ة
األكبر ،ورسول هللا معلم التزكي ة األعظم ،وأئم ة اله دى والتق وى ال ذين مثل وا
الهدي النبوي أحسن تمثي ل ،وحفظ وا ال دين األص يل أحس حف ظ ،كلهم اتفق وا على
تعظيم التهلي ل والتكب ير ،والحث عليهم ا ،وفي ك ل المناس بات ،وبي ان األج ور
العظيمة ،والدرجات العالية التي يستحقها من يكثر منهما ،ويداوم عليهما.
التكبير والتزكية:
أما التكبير ،وهو قول [هللا أكبر] بصيغها المختلف ة؛ فق د ورد الحث علي ه في
أوائل ما نزل من القرآن الكريم ،فقد ورد في س ورة الم دثر ،وهي من أوائ ل س ور
ك فَ َكبِّرْ ﴾ [المدثر ،]3 :وقد قرنه ا ب األمر باإلن ذار،
القرآن الكريم ،قوله تعالىَ ﴿ :و َربَّ َ
فقال﴿ :يَا أَيُّهَا ْال ُم َّدثِّ ُر ( )1قُ ْم فَأ َ ْن ِذرْ ﴾ [المدثر ،]2 ،1 :لي بين من خالله ا أن ه ال يمكن
أن يقوى أحد أو يصدق في الدعوة إلى ربه ،من دون أن يكون مزودا بهذه المعرف ة
الجليلة معرفة عظم هللا وكبره ،حتى يصغر أمامه كل شيء.
﴿و َكبِّرْ هُ تَ ْكبِيرًا﴾ [اإلس راء]111 :
وهكذا ورد في سورة اإلسراء قوله تعالىَ :
46
بعد آيات كثيرة تبين المعاناة العظيم ة ال تي عاناه ا رس ول هللا م ع تل ك القل وب
ض يَ ْنبُو ًع ا ( ك َحتَّى تَ ْفج َُر لَنَا ِمنَ اأْل َرْ ِ القاسية التي كانت تخاطبه بقوله﴿ :لَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لَ َ
َ ْ َ أْل
ب فَتُفَج َِّر ا ْنهَا َر ِخاَل لَهَا تَف ِجيرًا ( )91أوْ تُ ْسقِطَ )90أَوْ تَ ُكونَ لَكَ َجنَّةٌ ِم ْن نَ ِخي ٍل َو ِعنَ ٍ
ك بَي ٌ
ْت ال َّس َما َء َك َما َز َع ْمتَ َعلَ ْينَا ِك َسفًا أَوْ تَأْتِ َي بِاهلل َو ْال َماَل ئِ َك ِة قَبِياًل ( )92أَوْ يَ ُك ونَ لَ َ
ُف أَوْ تَ رْ قَى فِي َّ
الس َما ِء َولَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لِ ُرقِيِّكَ َحتَّى تُنَ ِّز َل َعلَ ْينَ ا ِكتَابً ا نَ ْق َر ُؤهُ﴾ ِم ْن ُز ْخر ٍ
[اإلسراء]93 - 90 :
وهكذا يق رن الق رآن الك ريم بين وص ف هللا تع الى نفس ه ب الكبر والعل و م ع
ك بِ أ َ َّن هللا وصف األصنام التي تعبد من دون هللا بالضعف والهوان ،قال تعالىَ ﴿ :ذلِ َ
اط ُل َوأَ َّن هللا هُ َو ْال َعلِ ُّي ْال َكبِ يرُ﴾ [الحج: ق َوأَ َّن َم ا يَ ْد ُعونَ ِم ْن دُونِ ِه هُ َو ْالبَ ِ هُ َو ْال َح ُّ
،]62وقالَ ﴿ :ذلِ ُك ْم بِأَنَّهُ إِ َذا د ُِع َي هللا َوحْ َدهُ َكفَ رْ تُ ْم َوإِ ْن ي ُْش َر ْك بِ ِه تُ ْؤ ِمنُ وا فَ ْال ُح ْك ُم هلل
ير﴾ [غافر]12 : ْال َعلِ ِّي ْال َكبِ ِ
وقد كان من حكمة هللا تع الى أن تك ون الص يغة الدال ة على ك بر هللا وجالل ه
وعظمته ،على وزن أفعل التفضيل من غير تحديد للمفضول ،وذلك حتى يدخل ك ل
شيء ما يعقل وما ال يعقل..
بل قد ورد عن اإلمام الصادق النهي عن تحديد أي شيء للداللة على أكبرية
هللا عليه ،ألن في ذلك تحديدا وتقييدا ،فقد روي أن ه ق ال لبعض أص حابه :أي ش يء
هللا أكبر؟ فقال :هللا أكبر من كل شيء ،فقال :فكان ثم شيء فيكون أكبر من ه؟ فقلت:
فما هو؟ فقال( :هللا أكبر من أن يوصف) ()1
وروي أن رجال قال أمامه :هللا أك بر من ك ل ش يء ،فق ال ل ه :حددت ه ،فق ال
الرجل :وكيف أقول؟ فقال( :هللا أكبر من أن يوصف) ()2
ولذلك كان التكبير الصادق المبني على المعرفة اإللهي ة ،والم ؤدي إليه ا من
أكبر المعارج التي تع رج بقلب ص احبها إلى هللا ،كم ا روي في الح ديث عن بعض
أصحاب رسول هللا أنه قال :بينما نحن نصلي مع رس ول هللا ،إذ ق ال رج ٌل
من القوم :هللا أكبر كبيرا ،والحمد هلل كثيرا ،وسبحان هللا بكرة وأصيال ،فقال رس ول
هللا ( :من القائل كذا وكذا؟) ،فق ال رج لٌ :أن ا ي ا رس ول هللا ،ق ال( :عجبت له ا،
فتحت لها أبواب السماء) ()3
وفي حديث آخر أخبر رسول هللا أن التكب ير يص ل ويمأل م ا بين الس ماء
واألرض ،فق ال( :التس بيح نص ف الم يزان ،والحم د يمل ؤه ،والتكب ير يمأل م ا بين
السماء واألرض) ()4
وأخبر أنه من الباقيات الصالحات ،ومن أحب الكالم إلى هللا ،وهي أربع:
وأخ بر عن مرتب ة كلم ة التوحي د من اإليم ان ،ودوره ا في تحقيق ه ،فق ال:
(اإليمان بضع وس بعون ،أو بض ع وس تون ش عبة فأفض لها ق ول ال إل ه إال هللا)(،)4
وهذا الحديث يشير إلى أن كل شعب اإليمان مؤسسة على كلمة التوحي د ،ومتفرع ة
عنها.
ولم يكتف رسول هللا ،وال الشريعة الحكيمة بذلك الترغيب العام ،الذي قد
يج د من يقص ر في ه ،وإنم ا ربط ه ب الكثير من العب ادات والم واطن ،وبالص يغة
الجهرية ،حتى يرددها المؤمن بكل قوة ،ويسمعها لنفسه ولغيره.
فالتكبير ركن من أركان الص الة ،وال ي دخل الم ؤمن الص الة إال ب ه ،ي ردده
عند كل رفع ،وخفض ،عشرات المرات كل يوم( ،)5لينفي عن نفس ه ك ل م ا يت وهم
ك بره ،وليس تطيع أن يق رأ الق رآن أو يس بح التس بيحات ،وه و م وقن ب أن رب ه ه و
األعظم من كل شيء ،فال يشغله عنه أي شاغل ..وهك ذا ش رع قب ل الص الة اﻷذان
واﻹقامة ،وكالهما مضمختان بعطر التكبير ..وهكذا شرع بعدها التسبيحات ،وال تي
يختلط فيه التسبيح بالتحميد بالتكبير.
وهكذا شرع اﻷذان في أذن المولود اليمنى ،واإلقامة في اليسرى ،ليكون أول
أذن في أذن ما يسمعه التكبير ،وق د روي عن أبي راف ع ق ال :رأيت رس ول هللا ّ
الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصّالة)()6
ّ
وهك ذا في س ائر الص لوات المرتبط ة بالمناس بات المختلف ة ،كله ا تمتلئ
إن رس ول هللا بالتكبير ،وقد سئل ابن عبّاس عن استس قاء رس ول هللا فق الّ :
متبذال متواضعا متضرّعا حتّى أتى المص لّى ،فلم يخطب خطبتكم ه ذه ،ولكن خرج ّ
)(1مسلم ()2137
)(2ثواب االعمال ص .5
)(3الترمذي( )3462وقال :هذا حديث حسن غريب.
)(4مسلم ()58( )35
)(5يبلغ عدد التكبيرات في المواطن التي لها ارتب اط بالص الة عن د الجمه ور ،)447( :وعن د الحنفي ة (،)457
وعدد التكبيرات في الصالة المكتوبة ( )94تكبيرة؛ قال النووي( :ففي كل صالة ثنائي ة إح دى عش رة تكب يرة؛ وهي:
تكبيرة اإلحرام وخمس في كل ركعة ،وفي الثالثي ة س بع عش رة تكب يرة؛ وهي :تكب يرة اإلح رام ،وتكب يرة القي ام من
التشهد األول ،وخمس في كل ركعة ،وفي الرباعية اثنتان وعشرون .ففي المكتوبات الخمس :أربع وتسعون تكب يرة)
[انظر شرحه على صحيح مس لم ( ،])98 /4وع ددها في اﻷذان ،)30( :وع ددها في اﻹقام ة عن د الجمه ور)20( :
وعند الحنفية ( )30وعدد التكبير بعد الصالة ()165
)(6الترمذي )1514(4؛ وأبو داود )5105(4
48
العيد)()1 لم يزل في ال ّدعاء والتّضرّع والتّكبير ،وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في
وهك ذا في الص الة على الميت؛ فه و يك بر أرب ع أو خمس تكب يرات بحس ب
اختالف المذاهب الفقهية ..وهكذا في صالة العي دين ،عي د الفط ر وعي د اﻷض حى؛
فالتكبير يكون في ليلة عيد الفطر حتى صالة العيد ،كما قال تعالىَ ﴿ :ولِتُ ْك ِملُوا ْال ِع َّدةَ
َولِتُ َكبِّرُوا هللا َعلَى َما هَدَا ُك ْم﴾ [البق رة ،]185 :وق د روي في الح ديث (أن الن بي
كبر في عيد ثنتي عشرة تكب يرة ،س بعا في األولى ،وخمس ا في اآلخ رة ،ولم يص ل
قبلها وال بعدها) ()2
وهكذا ينهي المصلون صالتهم بالتكبير ،خاصة إن كانوا في صالة الجماعة،
يكبرون بعد تكبير اإلمام ،ففي الحديث قال رس ول هللا ( :ف إذا ك بر فك بروا ،وال
تكبروا حتى يكبر)()3
وهك ذا يرتب ط التكب ير ب الحج ،الش عيرة ال تي يختل ط فيه ا الج انب التعب دي
بالجانب السياسي ،فقد ورد األمر بالتكبير عند رمي الجم رات ،وعن د الص عود من
منى إلى عرفات ،وعند الطواف ،وغيرها من مواطن التكبير في المناسك.
وقد ورد األمر باﻹكث ار من ه في أي ام الحج ،وخصوص ا في العش ر من ذي
الحجة ،فقد قال رسول هللا ( :ما أه ل مه ٌل ق ط ،وال ك بر مك ب ٌر ق ط ،إال بش ر)،
قيل :يا رسول هللا بالجنة؟ قال( :نعم)()4
وقال( :ما من أيام أعظم عند هللا وال أحب إليه من العمل فيهن من هذه األيام
العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) ()5
ض حَّى بكبش ين وهكذا أمر بالتكبير عند الذبح ،وق د روي أن رس ول هللا َ
أملحين أقرنين ،وهو يقول( :باسم هللا ،وهللا أكبر) ()6
وهكذا يرتبط التكبير بكل المناسبات ،فأول م ا يب دأ ب ه الم ؤمن ش هره تكب ير
هللا ،وق د روي أن رس ول هللا ك ان إذا رأى الهالل ق ال( :هللا أك بر ،اللهم أهل ه
علينا باألمن واإليمان والسالمة واإلسالم والتوفيق لما تحب وترض ى ،ربن ا ورب ك
هللا)()7
وهكذا يردده المؤمن إذا ما سمع خبرا سارا ،وقد روي أنه عندما قال رس ول
هللا ( :إني ألطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة) ،حمدوا وكبروا()8
وهكذا يردده المؤمن إذا ما حصل مكروه ،فيسرع إلى دفعه بصحبة التكب ير،
ليتقوى على ذلك ،وليدفعه بسالح الغيب والشهادة ،فقد روي عن النبي أنه ق ال:
)(1ق ال الس خاوي في المقاص د الحس نة ( :)63( )86 /1رواه الط براني في ال دعاء ،وه و عن د ال بيهقي في
الدعوات.
)(2الترمذي ()3445
)(3البخاري ()1797
)(4المحاسن ص .33
)(5أبو داود ()2602
)(6مسلم ()1342
)(7كتاب التوحيد ص .6
50
عني د من أبى أن يق ول :ال إل ه إال هللا) ( ،)1وه و يع ني أن من وح د هللا يس تحيل أن
يكون جبارا عنيدا.
ولهذا ورد في الحديث القدسي أن هللا ع ز وج ل ق ال( :ال إل ه إال هللا حص ني
من دخله أمن عذابي) ()2
واعتبر رسول هللا التهليل أفضل عبادة ،فقال( :أفضل العب ادة ق ول ال إل ه إال
هللا ،وال حول وال قوة إال باهلل ،وخير الدعاء االستغفار ،ثم تال﴿ :فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ اَل إِلَ هَ إِاَّل
ك﴾ [محمد)3( )]19 : هللا َوا ْستَ ْغفِرْ لِ َذ ْنبِ َ
وقال ( :ما قلت وال قال القائلون قبلي مثل ال إله إال هللا) ()4
وقد فسر اإلمام علي سر ذلك الفضل العظيم ،وذلك ببيانه لدورها في ته ذيب
النفس ،فقال( :ما من عبد مسلم يقول :ال إله إال هللا ،إال صعدت تخرق ك ل س قف ال
تمر بشيء من سيئاته إال طلستها ،حتى تنتهي إلى مثلها من الحسنات فتقف)()5
وفسر ذلك اإلمام الباقر ،فقال( :ما من ش ئ أعظم ثواب ا من ش هادة أن ال إل ه
إال هللا ،ألن هللا عز وجل ال يعدله شئ ،وال يشركه في االمر أحد) ()6
ولهذا كان من سنة رسول هللا وأئمة الهدى ترديدها في كل المح ال ،وق د
روي عن زينب بنت جحش أنّها قالت :استيقظ النّ ب ّي من النّ وم محم رّا وجه ه،
وهو يقول( :ال إله إاّل هللا ،ويل للعرب من ش ّر قد اقترب ،فتح اليوم من ردم ي أجوج
ومأجوج مثل هذه)()7
وعن عائشة قالت :كان رسول هللا ( :كان إذا استيقظ من اللّيل قال( :ال إله
إاّل أنت سبحانك الله ّم أستغفرك لذنبي وأس ألك رحمت ك ،اللهم زدني علم ا وال ت زغ
قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب)()8
وروي أنها قال لمن سألها( :بم كان رسول هللا يستفتح قي ام اللّي ل؟)( :لق د
سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ،ك ان رس ول هللا يكبّ ر عش را ويحم د
عشرا ويسبّح عشرا ويهلّل عشرا ويستغفر عش را ويق ول( :الله ّم اغف ر لي واه دني
وارزقني وعافني .أعوذ باهلل من ضيق المقام يوم القيامة)()9
وعن ابن عبّاس أنّه قال :ك ان رس ول هللا يق ول( :الله ّم ل ك أس لمت وب ك
آمنت وعليك تو ّكلت وإلي ك أنبت وب ك خاص مت .الله ّم إنّي أع وذ بع ّزت ك ال إل ه إاّل
53
وآيات تشير إليها:
وتسكين ٍة أبداً شاه ُد فلل ِه في ك ل
تحريك ٍة
دُلُّ على أنَّه تَ وفي ُك ِّل َشي ٍء ل ه
واح ُد
ِ آيةٌ
وقد ذكر هللا تعالى ذلك ،فقالَ ﴿ :ش ِه َد هللا أَنَّهُ ال إِلَهَ إِالَّ هُ َو َو ْال َمالئِ َك ةُ َوأُوْ لُ وا
ْال ِع ْل ِم قَائِما ً بِ ْالقِ ْس ِط ال إِلَهَ إِالَّ ه َُو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ (آل عمران)18 :
وأخ بر عن الف رق العظيم بين من يعلم ون ومن ال يعلم ون ،فق ال﴿ :قُ لْ هَ لْ
ب﴾ (الزم ر،)9 : يَ ْس ت َِوي الَّ ِذينَ يَ ْعلَ ُم ونَ َوالَّ ِذينَ ال يَ ْعلَ ُم ونَ إِنَّ َم ا يَتَ َذ َّك ُر أُوْ لُ وا األَ ْلبَ ا ِ
وقال﴿ :إِنَّ َما يَ ْخ َشى هللا ِم ْن ِعبَا ِد ِه ْال ُعلَ َما ُء﴾ (فاطر)28 :
فإذا فعلت ذلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ك انت علوم ك كله ا توحي دا وذك را
وتواصال مع هللا ،كما أخ بر هللا تع الى عن أولي األلب اب ،وكي ف يمزج ون ذك رهم
ف اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ
ار اختِاَل ِ ض َو ْ ت َواأْل َرْ ِ ق ال َّس َما َوا ِ بالنظر في خلق هللا ،فقال﴿ :إِ َّن فِي َخ ْل ِ
ب ( )190الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هللا قِيَا ًم ا َوقُ ُع ودًا َو َعلَى ُجنُ وبِ ِه ْم ت أِل ُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ آَل يَ ا ٍ
اب ك فَقِنَا َع َذ َ اطاًل ُس ْب َحانَ َ ْ
ض َربَّنَا َما خَ لَقتَ هَ َذا بَ ِ َ
ت َوا رْ ِ أْل ق ال َّس َما َوا ِ ْ
َويَتَفَ َّكرُونَ فِي َخل ِ
ار﴾ [آل عمران]191 ،190 : النَّ ِ
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن اإلدمان على العلم والذكر هو ال ذي يحمي ك
من ذلك الشك ال ذي يع تري الغ افلين الج اهلين ،وله ذا وص ف هللا تع الى المؤم نين
باليقين ،وعدم االرتياب والشك ،ق ال تع الىَ ﴿ :والَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ َم ا أُ ْن ِز َل إِلَ ْي كَ َو َم ا
ك َوبِاآلخ َر ِة هُ ْم يُوقِنُونَ ﴾ (البقرة ،)4 :وقال﴿ :إِنَّ َما ْال ُم ْؤ ِمنُونَ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا أُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْبلِ َ
بِاهلل َو َرسُولِ ِه ثُ َّم لَ ْم يَرْ تَابُوا﴾ (الحجرات)15 :
وذم المنافقين ،ورماهم بالشك والريب والتردد لعدم سعيهم للتحقق بما يتطلبه
ت قُلُوبُهُ ْم فَهُ ْم فِي َر ْيبِ ِه ْم يَت ََر َّد ُدونَ ﴾ (التوب ة: اليقين من مجاهدات ،قال تعالىَ ﴿ :وارْ تَابَ ْ
)45
ولهذا شرط رسول هللا لنجاة الموحدين اليقين ،فق ال( :أش هد أن ال إل ه إال
هللا ،وأني رسول هللا ،ال يلقى هللا بهما عبد غير شاك فيهما إال دخل الجنة) ()1
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن من عالمات التوحيد الحقيقي التسليم المطلق
هلل ،وفي كل الشؤون؛ فاهلل رب العالمين ،ورب كل شيء ومليك ه ،وق د ق ال تع الى:
﴿و َم ا َك انَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن ﴿يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ا ْد ُخلُوا فِي الس ِّْل ِم َكافَّةً﴾ (البقرة ،)208 :وقالَ :
ضى هللا َو َرسُولُهُ أَ ْمراً أَ ْن يَ ُكونَ لَهُ ْم ْال ِخيَ َرةُ ِم ْن أَ ْم ِر ِه ْم﴾ (األح زاب: َوال ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ
)36
ومن عالمات الموحد اإلنابة إلى هللا ،واإلسالم له ،وع دم التعقب على ش يء
﴿و َم ْن﴿وأَنِيبُوا إِلَى َربِّ ُك ْم َوأَ ْسلِ ُموا لَ هُ﴾ (الزم ر ،)54 :وق ال َ من أحكامه ،قال تعالىَ :
أَحْ َسنُ ِدين ا ً ِم َّم ْن أَ ْس لَ َم َوجْ هَ هُ هلل َوهُ َو ُمحْ ِس ٌن﴾ (النس اء ،)125 :وق الَ :
﴿و َم ْن ي ُْس لِ ْم
)(1رواه مسلم.
54
َوجْ هَهُ إِلَى هللا َوه َُو ُمحْ ِس ٌن فَقَ ِد ا ْستَ ْم َسكَ بِ ْالعُرْ َو ِة ْال ُو ْثقَى﴾ (لقم ان ،)22 :وق ال مثني ا ً
ت لِ َربِّ ْال َع الَ ِمينَ ﴾ (البق رة: ال أَ ْس لَ ْم ُ
ال لَهُ َربُّهُ أَ ْسلِ ْم قَ َ
على إبراهيم عليه السالم ﴿إِ ْذ قَ َ
)131
وله ذا نفى هللا تع الى اإليم ان على من لم يس لموا ل ه ،أو وج دوا حرج ا في
ك فِي َم ا َش َج َر أنفسهم من ش رائعه ،ق ال تع الى﴿ :فَال َو َربِّكَ ال ي ُْؤ ِمنُ ونَ َحتَّى يُ َح ِّك ُم و َ
ضيْتَ َويُ َسلِّ ُموا تَ ْسلِيماً﴾ (النساء.)65 : بَ ْينَهُ ْم ثُ َّم ال يَ ِجدُوا فِي أَنفُ ِس ِه ْم َح َرجا ً ِم َّما قَ َ
وك ل ذل ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ال ي ؤتي ثم اره م ا لم يتحق ق القلب
باإلخالص ،ولهذا تسمى كلم ة التوحي د كلم ة اإلخالص ،ق ال تع الى﴿ :أَال هلل ال دِّينُ
صينَ لَهُ ال ِّدينَ ﴾ (البين ة: ْالخَالِصُ ﴾ (الزمر ،)3 :وقالَ ﴿ :و َما أُ ِمرُوا إِالَّ لِيَ ْعبُدُوا هللا ُم ْخلِ ِ
،)5وقال﴿ :قُلْ هللا أَ ْعبُ ُد ُم ْخلِصا ً لَهُ ِدينِي﴾ (الزمر.)14 :
وقد ورد في الحديث عن رسول هللا أنه قال( :أسعد الن اس بش فاعتي ي وم
القيامة من قال ال إله إال هللا خالصا ً من قلبه)()1
وقال ( :إن هللا حرَّم على النار من قال ال إله إال هللا يبتغي بذلك وج ه هللا)
()2
هذه رسالتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فتأمل م ا فيه ا من من اهج الس لوك،
وأكثر من ذكر هاتين الكلم تين العظيم تين إلى أن يمتلئ به ا قلب ك وك ل جوانح ك..
لتثمر بعد ذلك في نفسك كل الثمار الطيبة.
)(1البخاري ()6570
)(2رواه البخاري ومسلم.
55
التسبيح والتقديس
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن التس بيح والتق ديس ،ودورهم ا
في الس ير والس لوك ،وفي التخل ق والتحق ق ،وس ر م ا ورد حولهم ا في النص وص
المقدسة ،والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التس بيح والتق ديس من أرك ان الس ير
إلى هللا التي وردت ال دعوة إليه ا في النص وص المقدس ة ،وال يمكن ألي س الك ،أو
طالب لمعرفة هللا أو التواصل مع ه ،أو التخل ق ب أخالق األولي اء والص ديقين إال أن
يسبح هللا ويقدسه في ك ل حين ،وبك ل لطائف ه؛ والتقص ير في ذل ك انح دار وس قوط
وبعد وحجاب.
ذل ك أن التس بيح والتق ديس يتعل ق ب أعظم حق ائق الوج ود ،وه و هللا تع الى،
والذي ال يمكن معرفته من غير تنزيهه عن كل ما ال يليق به ،وقد ورد في الح ديث
أن رجال من اليهود سأل رسول هللا فقال :ي ا محم د أخ برني عن الكلم ات ال تي
اختارهن هللا إلبراهيم عليه السالم ،فق ال ( :س بحان هللا ،والحم د هلل ،وال إل ه إال
هللا ،وهللا أكبر) ،فسأله اليهودي عن تفسيرها ،فقال ( :علم هللا ج ل وع ز أن ب ني
آدم يكذبون على هللا ،فقال :سبحان هللا ،تبريا مما يقولون ،وأما قوله :الحمد هلل ،فإنه
علم أن العباد ال يؤدون شكر نعمته ،فحمد نفسه قب ل أن يحم دوه ،وه و أول الكالم،
لوال ذلك لما أنعم هللا على أحد بنعمته ،وقوله :ال إل ه إال هللا يع ني وحدانيت ه ال يقب ل
هللا األعمال إال بها ،وهي كلم ة التق وى ،يثق ل هللا به ا الم وازين ي وم القيام ة ،وأم ا
قوله :هللا أكبر فهي أعلى الكلمات ،وأحبه ا إلى هللا ع ز وج ل ،يع ني أن ه ليس ش ئ
أكبر مني ال تفتتح الصلوات إال بها لكرامتها على هللا) ()1
ولهذا يقترن التسبيح بذكر مقوالت ال ذين ك ذبوا على هللا ،ق ال تع الى مخ برا
ت بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم ُسب َْحانَهُ َوتَ َع الَى خَرقُوا لَهُ بَنِينَ َوبَنَا ٍ عن تنزهه عما يقوله المشركونَ ﴿ :و َ
صفُونَ ﴾ [األنعام]100 : َع َّما يَ ِ
ُ
وأخبر عن أولئك الذين تصوروا هللا جاهال ال يعلم ما ال يعلمون ،فق ال﴿ :ق لْ
ض ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما ي ُْش ِر ُكونَ ﴾ ت َواَل فِي اأْل َرْ ِ أَتُنَبِّئُونَ هللا بِ َما اَل يَ ْعلَ ُم فِي ال َّس َما َوا ِ
[يونس.]18 :
وهك ذا يق ترن التس بيح بالش رك وبك ل م ا ال يلي ق باهلل تع الى مم ا ي ذكره
الجاهلون بقدر هللا ،ق ال تع الى في مع رض رده على مق والت المش ركين ،وبع دها
عن مقتضيات العقول﴿ :أَفَأَصْ فَا ُك ْم َربُّ ُك ْم بِ ْالبَنِينَ َواتَّ َخ َذ ِمنَ ْال َماَل ئِ َك ِة إِنَاثًا إِنَّ ُك ْم لَتَقُولُونَ
آن لِيَ َّذ َّكرُوا َو َما يَ ِزي ُدهُ ْم إِاَّل نُفُ ورًا ()41 ص َّر ْفنَا فِي هَ َذا ْالقُرْ ِ َظي ًما (َ )40ولَقَ ْد َ قَوْ اًل ع ِ
ش َس بِياًل (ُ )42س ب َْحانَهُ قُلْ لَوْ َكانَ َم َعهُ آلِهَ ةٌ َك َم ا يَقُولُ ونَ إِ ًذا اَل ْبتَ َغ وْ ا إِلَى ِذي ْال َع رْ ِ
)(1الكافي.11 / 1 :
)(2الكافي ()15 /1
57
ظنون السوء؛ فهل يمكن أن تعتبر مثل هذا صديقا؟
وهل يمكن أن يكون إكرامه ل ك ببعض الطع ام أو اله دايا ناس خا لتل ك التهم
التي رماك بها ،وأشاعها عنك؟
وهكذا؛ فإن التسبيح والتقديس ليسا م رتبطين بالمع ارف اإللهي ة فق ط ،وإنم ا
يرتبطان بالقيم األخالقية؛ فالذي ال ينزه هللا عما ال يليق به ال يختلف عن ذلك ال ذي
يقذف الناس بما ليس فيهم؛ فيبهتهم ويظلمهم ،وقد قال هللا تعالى في توجيهات ه لل ذين
ْس لَ ُك ْم بِ ِه ِع ْل ٌم وقع وا في اإلف ك﴿ :إِ ْذ تَلَقَّوْ نَ هُ بِأ َ ْل ِس نَتِ ُك ْم َوتَقُولُ ونَ بِ أ َ ْف َوا ِه ُك ْم َم ا لَي َ
َوتَحْ َسبُونَهُ هَيِّنًا َوهُ َو ِع ْن َد هللا َع ِظي ٌم﴾ [النور ،]15 :بل إنه ربط ذلك بالتس بيح ،فق ال:
َان َع ِظي ٌم﴾ [النور: ﴿ َولَوْ اَل إِ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ قُ ْلتُ ْم َما يَ ُكونُ لَنَا أَ ْن نَتَ َكلَّ َم بِهَ َذا ُسب َْحانَكَ هَ َذا بُ ْهت ٌ
]16ليشير بذلك إلى أن الذي ينزه لسانه عن الكذب واالفتراء على الخلق ،أولى أن
ينزهه عن االفتراء والكذب على هللا.
﴿ويُ ْن ِذ َر ولهذا يذكر هللا تعالى فداحة جرم من ينس بون ل ه الول د ،ق ال تع الىَ :
ت َكلِ َم ةً ت َْخ ُر ُج ِم ْن الَّ ِذينَ قَالُوا اتَّ َخ َذ هللا َولَدًا (َ )4ما لَهُ ْم بِ ِه ِم ْن ِع ْل ٍم َواَل آِل بَ ائِ ِه ْم َكبُ َر ْ
أَ ْف َوا ِه ِه ْم إِ ْن يَقُولُونَ إِاَّل َك ِذبًا﴾ [الكهف 4 :ـ ]5
بل ذكر في آيات أخرى تأثر الكون جميعا بتلك االتهامات ال تي يتهم به ا هللا،
ات الس َما َو ُ قال تعالىَ ﴿ :وقَالُوا اتَّ َخ َذ الرَّحْ َمنُ َولَدًا ( )88لَقَ ْد ِج ْئتُ ْم َش ْيئًا إِ ًّدا ( )89تَ َك ا ُد َّ
ق اأْل َرْ ضُ َوتَ ِخرُّ ْال ِجبَا ُل هَ ًّدا ( )90أَ ْن َد َع وْ ا لِل رَّحْ َم ِن َولَ دًا ()91 يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْنهُ َوتَ ْن َش ُّ
ض إِاَّل آتِي ت َواأْل َرْ ِ اوا ِ الس َم ََو َما يَ ْنبَ ِغي لِلرَّحْ َم ِن أَ ْن يَتَّ ِخ َذ َولَ دًا ( )92إِ ْن ُك لُّ َم ْن فِي َّ
الرَّحْ َم ِن َع ْبدًا﴾ [مريم]93 - 88 :
ولهذا ترد اإلشارات القرآنية الكثيرة إلى أن الكون كله أعظم معرف ة باهلل من
أولئك المشركين أو الغافلين الذين يصفون هللا تعالى بما ال يليق به ،قال تعالى يذكر
الس ْب ُع ات َّ او ُ تس بيح الس موات واألرض ،وم ا فيه ا من الكائن ات﴿ :تُ َس بِّ ُح لَ هُ َّ
الس َم َ
َواأْل َرْ ضُ َو َم ْن فِي ِه َّن َوإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء إِالَّ ي َُس بِّ ُح بِ َح ْم ِد ِه َولَ ِك ْن الَ تَ ْفقَهُ ونَ ت َْس بِي َحهُ ْم إِنَّهُ
تاوا ِ الس َم َ َكانَ َحلِي ًما َغفُورًا﴾[اإلسراء ،]44 :وقال﴿ :أَلَ ْم ت ََر أَ َّن هللا يُ َسبِّ ُح لَ هُ َم ْن فِي َّ
يحهُ َوهللا َعلِي ٌم بِ َما يَ ْف َعلُونَ ﴾[النور: صالَتَهُ َوتَ ْسبِ َ ت ُك ٌّل قَ ْد َعلِ َم َ صافَّا ٍ ض َوالطَّ ْي ُر َ َواأْل َرْ ِ
وس ْال َع ِزي ِز ك ْالقُ ُّد ِ ض ْال َملِ ِت َو َم ا فِي اأْل َرْ ِ اوا ِالس َم َ ،]41وق ال﴿ :ي َُس بِّ ُح هلل َم ا فِي َّ
ْال َح ِك ِيم﴾[ الجمعة]1 :
﴿ويُ َسبِّ ُح ال َّر ْع ُد بِ َح ْم ِد ِه َو ْال َماَل ئِ َكةُ ِم ْن ِخيفَتِ ِه وقال عن تسبيح الرعد والمالئكةَ :
ْ ُ
ُصيبُ بِهَا َمن يَ َش ا ُء َوهُ ْم ي َُج ا ِدلونَ فِي هللا َوهُ َو َش ِدي ُد ال ِم َح ا ِل﴾ ق فَي ِ ص َوا ِع َ َويُرْ ِس ُل ال َّ
[الرعد]13 :
َّ
ال ي َُس بِّحْ نَ َوالط ْي َر ْ
﴿و َسخرْ نَا َم َع دَا ُوو َد ال ِجبَ َ َّ وقال عن تسبيح الجبال والطيرَ :
َو ُكنَّا فَا ِعلِينَ ﴾[األنبياء]79 :
ولهذا؛ فإن تسبيح هللا وتقديسه من األم ور األساس ية ال تي ال يمكن االس تغناء
عنها ،وال تجاهلها ،وال السير إلى هللا من دونها..
58
بل إن السائرين إلى هللا في الحقيقة ال يقومون سوى بتطهير عقولهم وقل وبهم
ونفوسهم من كل تلك المعارف والظنون التي ك انوا يتوهم ون أنهم يثن ون به ا على
هللا ،ثم يكتش فون أن جالل هللا أعظم من أن يع بر عن ه ب ذلك الثن اء ،ول ذلك ي رد
التسبيح والتقديس بصيغة المضارع الدالة على االستمرار.
وإلى هذا المعنى اإلش ارة بم ا ورد عن رس ول هللا ،وأن ه ك ان يق ول في
دعائه( :اللهم أعوذ برضاك من سخطك ،وبمعافاتك من عقوبتك ،وأعوذ بك منك ال
أحصي ثناء عليك ،أنت كما أثنيت على نفسك) ()1
وقد ذكر بعض الحكماء سر التدرج الوارد في الحديث ،فق ال( :نظ ر رس ول
هللا إلى الصفات ،فاستعاذ ببعضها من بعض ،فإن الرضا والس خط وص فان ،ثم
زاد قربه فاندرج القرب األول في ه ف رقي إلى ال ذات ،فق ال أع وذ ب ك من ك ،ثم زاد
قربه بما استحيا به من االستعاذة على بساط القرب ،فالتجأ إلى الثن اء ،ف أثنى بقول ه
ال أحصي ثناء عليك ،ثم علم أن ذلك قصور ،فقال أنت كما أثنيت على نفسك) ()2
وهذه اإلشارة العرفانية تدل على الحقيقة ال تي ذكره ا الق رآن الك ريم بص يغ
مختلفة ،ومنه ا قول ه تع الىَ ﴿ :وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُم ْنتَهَى﴾ [النجم ،]42 :وقول ه﴿ :فَفِ رُّ وا
ين﴾ [الذاريات]50 : إِلَى هللا إِنِّي لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ
وإليها اإلشارة بما ورد عن رسول هللا أنه قال( :إنه ليغان على قلبي حتى
أستغفر هللا) ( ،)3وقد قال بعض الحكماء في تفس يره( :لم ا ك انت روح الن بي لم
تزل في الترقي إلى مقامات الق رب تس تتبع القلب ،والقلب يس تتبع النفس ،وال ريب
أن حركة الروح والقلب أس رع من نهض ة النفس ،وك انت خطى النفس تقص ر عن
مداهما في العروج ،فمما نهضت به الحكمة إبط اء حرك ة القلب لئال تتقط ع عالق ة
النفس عنه ،فيبقى العباد مح رومين فك ان يف زع إلى االس تغفار ،لقص ور النفس
عن ترقي القلب)
ولذلك؛ فإن التسبيح والتقديس ـ أيها المريد الصادق ـ ال ينقط ع أب دا ح تى في
الجنة ،ذلك أن المؤمن يكتشف فيها كل يوم قصوره في معرفة ربه ،وأن ه أعظم من
أن يحاط به ،وقد قال تعالى يذكر ذلكَ ﴿ :د ْع َواهُ ْم فِيهَا ُسب َْحانَكَ اللهُ َّم﴾ [يونس]10 :
(إن أه ل الجنّ ة ي أكلون فيه اوروي في الحديث عن رسول هللا أنه ق الّ :
ويشربون ،وال يتفلون وال يبول ون ،وال يتغوّط ون وال يمتخط ون) .ق الوا :فم ا ب ال
الطّعام؟ ،قال( :جش اء( )4ورش ح كرش ح المس ك ،يلهم ون التّس بيح والتّحمي د ،كم ا
يلهمون النّفس)()5
ولهذا كله يذكر هللا تعالى تسبيح المالئكة الدائم مع معرفتهم باهلل ،للداللة على
)(1رواه أَحمد ( 96 /1و 18أو ،)150وأبو داود ( ،)1427والنسائي ( ،)249 - 248 /3وابن ماجه ()1179
)(2إحياء علوم الدين ()293 /1
)(3رواه مسلم.
)(4جشاء :هو تنفس المعدة من االمتالء.
)(5مسلم()2835
59
ار اَل يَ ْفتُ رُونَ ﴾ [األنبي اء: عدم محدودية تنزيه هللا ،قال تعالى﴿ :يُ َسبِّحُونَ اللَّ ْي َل َوالنَّهَ َ
اس تَ ْكبَرُوا فَالَّ ِذينَ ِع ْن َد َربِّكَ ي َُس بِّحُونَ لَ هُ بِاللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ
ار َوهُ ْم اَل ،]20وق ال﴿ :فَ إِ ِن ْ
يَسْأ َ ُمونَ ﴾ [فصِّ لت]38 :
ومثل ذلك الرسل عليهم السالم ،ال ذين ي ذكر الق رآن الك ريم تس بيحهم هلل م ع
عظم معرفتهم به ،أو للداللة على معرفتهم به ،فقد أخبر هللا تع الى عن ي ونس علي ه
ك﴾ [األنبي اء ،]87 :وأخ بر عن موس ى علي ه السالم أنه قال﴿ :اَل إِلَهَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ْب َحانَ َ
ك﴾ [األع راف ،]143 :وأخ بر عن المس يح علي ه ْت إِلَ ْي َ
ك تُب ُ
السالم أنه قالُ ﴿ :س ْب َحانَ َ
ْس لِي بِ َح قٍّ﴾ [المائ دة،]116 : ول َم ا لَي َ َ َ
ك َما يَ ُكونُ لِي أ ْن أقُ َ السالم أنه قالُ ﴿ :س ْب َحانَ َ
ار﴾ [آل ﴿و َس بِّحْ بِال َع ِش ِّي َوا ِإل ْب َك ِوأخبر أنه أمر زكريا عليه السالم بالتس بيح ،فق الَ :
َ
عمران ،]41 :وأخبر أن زكريا علي ه الس الم أم ر قوم ه بالتس بيح ،فق ال﴿ :فَ أوْ َحى
إِلَ ْي ِه ْم أَ ْن َسبِّحُوا بُ ْك َرةً َو َع ِشيًّا﴾ [مريم]11 :
تسبيح العقل:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن التسبيح والتق ديس مث ل س ائر
األذكار التي يعرج بها السالك إلى هللا ،ال يكفي فيه تردي د اللس ان ،وال ك ثرة أع داد
التسبيحات ،ب ل ينبغي أن يش مل ك ل اللط ائف ،وأوله ا العق ل؛ فه و أول المس بحين
والمقدسين ،ومن لم يسبح عقله ربه ،وقع في مستنقعات التشبيه والتجس يم والش رك
والضاللة ،ولو سبح بلسانه ماليين المرات.
وإياك أن تتوهم أن كونك مسلما ،كاف في تنزهك عن رمي ربك بما ال يلي ق
به ،أو أنه كاف في تخلصك من التشبيه والتجسيم وكل أنواع الضالالت التي وقعت
فيها األمم السابقة؛ فقد أخبر رسول هللا أنه س يقع له ذه األم ة من االنح راف م ا
وقع في األمم السابقة.
وقد صدق ما أخ بر عن ه رس ول هللا ،حيث دخلت الكث ير من الض الالت
المسيئة لتنزيه هللا ،والتي حولت هللا تعالى إلى وثن من األوثان ،وجرم من األجرام.
وقد روي أن اإلمام الصادق ذكرت له بعض الروايات التجسيمية التي ك انت
تنتشر في عصره ،وخاصة بين المحدثين ،فقال( :سبحان من ال يعلم أحد كي ف ه و
ص يرُ﴾ [الش ورى،]11 :ال يح د وال يحس ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َوهُ َو ال َّس ِمي ُع ْالبَ ِ
إال هو﴿ ،لَي َ
وال يجس وال تدركه األبصار وال الحواس وال يحيط به ش ئ وال جس م وال ص ورة
وال تخطيط وال تحديد)()1
ول من ش أو خ نى أعظ ُم من ق ٍ وق ال( :إن هللا تع الى ال يش بهه ش يء ،أي فح ٍ
يصف خالق األشياء بجسم أو صورة أو بخلق ة أو بتحدي د وأعض اء ،تع الى هللا عن
ذلك علواً كبيراً)()2
وقال( :من زعم أن هللا في شيء ،أو من شيء ،أو على شيء فق د أش رك .إذ
)(1الكافي للكليني.1/104
)(2الكافي.1/105
60
لو كان على شيء لكان محموال ،ولو كان في شيء لك ان محص ورا ،ول و ك ان من
شيء لكان محدثا -أي مخلوقا)()1
ومثله قال اإلمام الكاظم لما ذكر له بعض المجس مة ممن يزعم ون ص حبته:
(قاتله هللا أما علم أن الجسم محدود والكالم غير المتكلم ،مع اذ هللا وأب رأ إلى هللا من
هذا الق ول ،ال جس م وال ص ورة وال تحدي د وك ل ش يء س واه مخل وق ،إنم ا تك ون
األشياء بإرادته ومشيئته من غير كالم وال تردد في نفس وال نطق بلسان)()2
وهك ذا ق ال اإلم ام الرض ا( :إن ه ليس من ا من زعم أن هللا ع ز وج ل جس م،
ونحن منه برآء في الدنيا واآلخرة ،إن الجسم محدث ،وهللا محدثه ومجسمه)()3
ولهذا؛ فإن التأمل والتدبر والتفكير وحده كاف في حماية عقلك ـ أيه ا المري د
الصادق ـ من كل تلك التشويهات والتحريفات التي أساءت به ا بعض الطوائ ف من
ه ذه األم ة إلى هللا؛ فجعلت ه جرم ا ك األجرام وجس ما كاألجس ام؛ فاح ذر أن تس لك
سبيلهم ،أو أن تسلم عقلك لعقولهم ،فهم ال يختلفون عن ذلك العابد الذي حكى اإلم ام
الصادق ،والذي راح يشبه هللا بنفسه.
وك ذلك أولئ ك ال ذين انحرف وا عن التنزي ه والتق ديس ال ذي ج اء ب ه الق رآن
الكريم ،وراحوا ينسبون هلل تعالى المكان واألعضاء والحدود والمقادير ،مع أن ك ل
ذلك يؤدي إلى الشرك ،بل هو الشرك عينه.
أن إله الخل ق مح دود فق د جه ل وقد روي عن اإلمام علي أنه قال( :من زعم ّ
الخالق المعبود) ( ،)4وقال( :من ح ّده فقد ع ّده ،ومن ع ّده فقد أبطل أزله) ()5
وروي أن بعض هم طلب من اإلم ام الرض ا أن يح ّد هللا تع الى ل ه ،فق ال ل ه
ألن ك ّل مح دود متن اه إلى ح ّد ،وإذااإلمام :ال ح ّد له .قال الرجل :ولم؟ قال اإلم امّ :
احتمل التحديد احتمل الزيادة .وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان .فهو غير مح دود
وال متزايد وال متناقص وال متجزئ) ()6
وإن كنت ترى أن عقلك ـ أيها المري د الص ادق ـ أق ل من أن يس تنبط الحجج
الدالة على التنزيه والتق ديس ،ورأيت أن التش بيه والتجس يم ق د غلب اك على أم رك،
بحيث اس تحال علي ك أن تعق ل موج ودا ليس ل ه ص فات األجس ام ،فعلي ك بكتب
المتكلمين ،وحججهم ،ف انظر فيه ا ،واس تعن به ا ،من غ ير أن تكتفي بم ا فيه ا..
فمعرفة هللا أعظم من أن تحد بأي حدود ،أو تقيد بأي قيود.
تسبيح القلب:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الص ادق ـ وانس جم عقل ك م ع تنزي ه هللا تع الى،
وصرت تضحك على تلك العقول التي توهمت أن هلل تعالى حدودا ومق ادير ومكان ا
)(1الرسالة القشيرية (ص)6 /
)(2الكافي .106 /1
)(3التوحيد للصدوق .104
)(4التوحيد ،الشيخ الصدوق ،ح ،34ص .77
)(5نهج البالغة ،،خطبة ،152ص 278ـ .279
)(6التوحيد ،الشيخ الصدوق :باب ،36ح ،3ص .246
61
وأعضاء ،وغير ذلك؛ فال تكتف بذلك؛ فالتسبيح والتق ديس أعظم من أن يحص ر في
دوائر الذهن والعقل.
ول ذلك؛ فانتق ل إلى قلب ك ،ال ذي ه و مح ل مش اعرك ومواجي دك وأذواق ك؛
فتذوق ذلك المعنى الجليل الذي يدل عليه التسبيح والتقديس ،واستشعره بكل كيان ك،
وامتلئ باالنبه ار والدهش ة ،وأنت تط الع ص فحات الكم ال اإللهي الم نزه عن ك ل
نقص وقصور.
فتسبيح هللا األعظم هو تسبيح قلبك ،ال ذي ه و حقيقت ك ،وليس تس بيح لس انك
فقط ،وال ذي ليس س وى جارح ة من جوارح ك؛ فإي اك أن تت وهم اقتص ار التس بيح
عليه؛ فتظلم نفسك ،وتظلم هذه العبادة العظيمة التي اشتغل بها الكون جميعا(.)1
ولذلك يذكر الصادقون في سيرهم إلى هللا انبهارهم بتلك المع اني ال تي تل وح
على قلوبهم كل حين ،وهم يطالعون قدوسية هللا وجالله ،كما عبر عن ذل ك الش اعر
بقوله:
يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف ومع تفنن واصفيه بحسنه
وعبر آخر عن ذلك ،فقال:
وارحم حشى بلظى هواك تس َّع َرا زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا
وتلك الح يرة واالنبه ار هي الوحي دة ال تي تمأل النفس بالطمأنين ة والس عادة،
ذلك أن النفس ال تستقر عند المحدود المقيد ،بل هي تطلب العظمة المطلقة المنزه ة
عن كل نقص ،والتي ال تجدها إال عند هللا.
ولذلك يرتبط ذك ر هللا بالطمأنين ة ،ق ال تع الى﴿ :الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوت ْ
َط َمئِ ُّن قُلُ وبُهُ ْم
َط َمئِ ُّن ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد]28 : بِ ِذ ْك ِر هللا أَاَل بِ ِذ ْك ِر هللا ت ْ
ت وبين آثار ال ذكر على القلب ،فق ال﴿:إِنَّ َم ا ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِك َر هللا َو ِجلَ ْ
ت َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُهُ زَا َد ْتهُ ْم إِي َمانًا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَت ََو َّكلُونَ ﴾ [األنفال]2 :قُلُوبُهُ ْم َوإِ َذا تُلِيَ ْ
ولهذا أمر رسول هللا أن يلجأ للتس بيح ح تى يص د تل ك الحمالت الظالم ة
ص ْدرُكَ بِ َما يَقُولُونَ ()97 ق َ ﴿ولَقَ ْد نَ ْعلَ ُم أَنَّكَ يَ ِ
ضي ُ التي كانت موجهة إليه ،قال تعالىَ :
فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ َو ُك ْن ِمنَ السَّا ِج ِدينَ ﴾ [الحجر]98 ،97 :
بل إن هللا تعالى علق الرضى بالتس بيح ،واعت بره وس يلة من وس ائله ،فق ال:
س َوقَ ْب َل ُغرُوبِهَ ا َو ِم ْن الش ْم ِوع َّ ﴿فَاصْ بِرْ َعلَى َما يَقُولُونَ َو َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ قَ ْب َل طُلُ ِ
ضى﴾ [طه]130 : ار لَ َعلَّكَ تَرْ َ
ط َرافَ النَّهَ ِ آنَا ِء اللَّ ْي ِل فَ َسبِّحْ َوأَ ْ
ولهذا يقترن التسبيح بالصبر ،كما قال تعالى﴿ :فَاصْ بِرْ َعلَى َما يَقُولُونَ َو َس بِّحْ
ب (َ )39و ِمنَ اللَّ ْي ِل فَ َس بِّحْ هُ َوأَ ْدبَ ا َر س َوقَ ْب َل ْال ُغ رُو ِ الش ْم ِوع َّ ك قَ ْب َل طُلُ ِ بِ َح ْم ِد َربِّ َ
)( 1اتفق العلماء على تقسيم الذكر إلى ذكر القلب واللسان ،وعلى أن األفضل هو الجمع بينهما ،وأن ذك ر القلب
أفض ل من ذك ر اللس ان المج رد ،ق ال ابن حج ر( :ثم ال ذكر يق ع ت ارة باللس ان ،وي ؤجر علي ه الن اطق ،وال يش ترط
استحضاره لمعناه ،ولكن يشترط أن ال يقصد به غير معناه ،وإن انضاف إلى النطق :الذكر ب القلب :فه و أكم ل ،ف إن
انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر ،وما اش تمل علي ه من تعظيم هللا تع الى ،ونفي النق ائص عن ه :ازداد كم اال)
[فتح الباري (])209 / 11
62
ال ُّسجُو ِد﴾ [ق ،]40 ،39 :وقالَ ﴿ :واصْ بِرْ لِ ُح ْك ِم َربِّكَ فَإِنَّكَ بِأ َ ْعيُنِنَا َو َس بِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ
ُوم﴾ [الطور]49 ،48 : ار النُّج ِ ِحينَ تَقُو ُم (َ )48و ِمنَ اللَّ ْي ِل فَ َسبِّحْ هُ َوإِ ْدبَ َ
ومن أسرار ذلك أن الشيطان ق د ينفخ في قلب اإلنس ان ح ال غفلت ه ،وبس بب
البالء الذي تعرض له ،بتلك الوساوس التي تمأل النفس بالكدر ،فتت وهم م ا يتوهم ه
الغافلون من أن الكون مؤسس على الظلم والجور والشر ،وأنها هي المتحكمة في ه..
ولذلك كان تنزيه هللا ،تذكيرا لها بالعدالة المطلقة التي ال يشوبها أي ظلم ،وبالرحمة
المطلق ة ال تي ال تختل ط ب أي قس وة ،وذل ك كل ه مم ا يعين على الص بر ،ب ل على
الرضى.
ولهذا يذكر هللا تعالى عن يونس عليه السالم قوله عندما حصل له ذل ك البالء
ت أَ ْن اَل َاضبًا فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَادَى فِي ُّ
الظلُ َما ِ َب ُمغ ِ ون إِ ْذ َذه َ العظيمَ ﴿ :و َذا النُّ ِ
ت ِمنَ الظالِ ِمينَ ﴾ [األنبياء]87 : َّ ك إِنِّي ُك ْن ُ إِلَهَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ْب َحانَ َ
وقد أخبر هللا تعالى عن إنقاذه من ذلك البالء ال ذي وق ع في ه بس بب تس بيحه،
فقال﴿ :فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َك َذلِكَ نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [األنبي اء ،]88 :وق ال:
ث فِي وت َوهُ َو ُملِي ٌم ( )142فَلَ وْ اَل أَنَّهُ َك انَ ِمنَ ْال ُم َس ب ِِّحينَ ( )143لَلَبِ َ ﴿فَ ْالتَقَ َم هُ ْال ُح ُ
طنِ ِه إِلَى يَوْ ِم يُ ْب َعثُونَ ﴾ [الصافات]144 - 142 : بَ ْ
وهذا يدل على أن التسبيح ليس وسيلة للتعرف على هللا تعالى فقط ،وإنما ه و
حبل ممدود من هللا تعالى لعباده ،إلنقاذهم من كل ما قد يلم بهم من ألوان المصائب،
وقد ورد في الحديث عن رسول هللا أنه قال( :دعوة ذي الن ون إذ دع ا وه و في
بطن الحوت :ال إله إال أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ،فإن ه لم ي دع به ا رج ل
مسلم في شيء قط إال استجاب هللا له) ()1
والتسبيح ـ بذلك ـ ليس مج رد ألف اظ ت ردد ،وإنم ا يمت د أث ره للحي اة جميع ا،
فيمألها بالعبودية الصادقة المضمخة بعطر كل القيم الجميلة.
تسبيح الجوارح:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واندمج عقلك مع قلبك في تسبيح هللا،
وامتألت جميع مشاعرك بالتقديس والتعظيم؛ فإن آث ار ذل ك ال محال ة ستس ري إلى
جوارحك ،وتجعلها ممتلئة بالعبودية.
ولذلك كانت األعمال الصالحة ثمرة من ثمار تس بيح هللا ،ذل ك أن من يع رف
هللا ،وينزهه ،يستحيل عليه أن يعصي أمره ،أو يتعدى حدوده ،أو يقع فيم ا يق ع في ه
المغترون من الجمع بين المعاصي والدعاوى.
ذل ك أن من ض روريات تس بيح هللا معرف ة ص دقه في وع ده ووعي ده ،وأن
كلماته ال تبدل وال تغير ،وأن كل ما جاء به أنبياؤه عليهم السالم حق ال باط ل في ه،
وواقع ال فرار منه ،وذلك ما ي دعو إلى الح ذر والخش ية ،وهم ا المحرك ان للتق وى
والورع ،وهما الجامعان لكل الفضائل.
)(1رواه الترمذي.
63
ولذلك كان في تكرار تسبيح هللا تذكيرا للنفس به ذه المع اني ،ح تى ال تح دث
نفسها باآلثام الظ اهرة والباطن ة ،وح تى ال تتس رب إليه ا وس اوس الش ياطين ،وم ا
يدلون به من حبال الغرور.
وق د ك ان من رحم ة هللا تع الى بعب اده أم ره لهم بتس بيحه بألس نتهم ،ذل ك أن
الظاهر يؤثر في الباطن ،وما تك رر ذك ره على اللس ان تق ررت حقيقت ه في القلب..
ولذلك يلجأ العقالء إلى ما يطيقونه ،وهو جوارحهم ،ليتحكموا بها في قلوبهم.
ولهذا اقترن الحث على التسبيح في القرآن الكريم بتطه ير هللا لقل وب عب اده،
ص ياًل ﴾ قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ْاذ ُكرُوا هللا ِذ ْكرًا َكثِيرًا (َ )41و َسبِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأَ ِ
ُص لِّي َعلَ ْي ُك ْم[األحزاب ،]42 ،41 :ثم بين عاقبة من يلتزم بذلك ،فقال﴿ :هُ َو الَّ ِذي ي َ
ور َو َكانَ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ِحي ًما﴾ [األحزاب]43 : ت إِلَى النُّ ِ َو َماَل ئِ َكتُهُ لِي ُْخ ِر َج ُك ْم ِمنَ ُّ
الظلُ َما ِ
وبما أن الباطن ال يتأثر بالظاهر إال بتكرره الكثير ،مع االستمرارية والدوام؛
فقد دعا القرآن الكريم إلى التسبيح في كل األوقات التي يمكن أن يك ون ل ه فيه ا من
التأثير ما ليس لغيره.
ومن أهم تل ك األوق ات الغ دو واآلص ال ،أو حين يب دأ اإلنس ان يوم ه ،ليب دأ
صحبته فيه هلل ،أو حين يكاد ينهيه ،لينشغل فيه بربه ،كما قال تع الى﴿ :فَ إِ َذا فَ َر ْغتَ
ك فَارْ غَبْ ﴾ [الشرح]8 ،7 : صبْ (َ )7وإِلَى َربِّ َ فَا ْن َ
ومن اآلي ات الكريم ة ال تي تحث على ذل ك ،ب ل ت دعو إلى قي ام مجالس ه في
ت أَ ِذنَ هللا أَ ْن المجتمع ،حتى يتنور ،وتتنزل عليه برك ات هللا قول ه تع الى﴿ :فِي بُيُ و ٍ
ال (ِ )36ر َج ا ٌل اَل تُ ْل ِهي ِه ْم تِ َج ا َرةٌ ص ِ تُرْ فَ َع َوي ُْذ َك َر فِيهَا ا ْس ُمهُ يُ َسبِّ ُح لَهُ فِيهَا بِ ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ
الص اَل ِة َوإِيتَ ا ِء ال َّز َك ا ِة يَخَ افُونَ يَوْ ًم ا تَتَقَلَّبُ فِي ِه ْالقُلُ وبُ َواَل بَ ْي ٌع ع َْن ِذ ْك ِر هللا َوإِقَ ِام َّ
ْصارُ﴾ [النور ،]37 ،36 :ثم ذكر الجزاء ال ذي وف ره لهم على ه ذه العبودي ة؛ َواأْل َب َ
ق َم ْن يَ َش ا ُء بِ َغ ْي ِر ض لِ ِه َوهللا يَ رْ ُز ُفقال﴿ :لِيَجْ ِزيَهُ ُم هللا أَحْ َسنَ َما َع ِملُوا َويَ ِزي َدهُ ْم ِم ْن فَ ْ
ب﴾ [النور]38 : ِح َسا ٍ
ومن تل ك األوق ات م ا ح دده هللا تع الى م واقيت للص الة ،كم ا ق ال تع الى:
ضت َواأْل َرْ ِ اوا ِ ﴿فَ ُسب َْحانَ هللا ِحينَ تُ ْمسُونَ َو ِحينَ تُصْ بِحُونَ (َ )17ولَهُ ْال َح ْم ُد فِي َّ
الس َم َ
ظ ِهرُونَ ﴾ [الروم ،]18 ،17 :وهي تشبه مواقيت الصالة الواردة في َو َع ِشيًّا َو ِحينَ تُ ْ
ق اللَّ ْي ِل َوقُرْ آنَ ْالفَجْ ِر إِ َّن قُرْ آنَ ْالفَجْ ِر
س إِلَى َغ َس ِ ك ال َّش ْم ِ صاَل ةَ لِ ُدلُو ِقوله تعالى﴿ :أَقِ ِم ال َّ
َكانَ َم ْشهُودًا﴾ [اإلسراء ،]78 :وكأن التسبيح يهيئ النفس للص الة ،أو يجعله ا أك ثر
قابلية آلثارها.
وهكذا نرى اهتمام النصوص المقدسة بصيغ التسبيح ،والذي تكفلت به الكثير
من األح اديث النبوي ة م ع بي ان أع دادها والج زاء المرتب ط به ا ،ليك ون في ذل ك
الترغيب الشديد في المداومة عليها.
ومن تل ك الص يغ [س بحان هللا] ،أو [س بحان ربي] ،وهي من الص يغ
المختص رة ال تي ال تره ق من يري د حفظه ا أو تكراره ا وتردي دها ،وق د روي في
64
فضلها أن رسول هللا س أل أص حابه( :أيعج ز أح دكم أن يكس ب ،ك ل ي وم أل ف
حسنة؟) ،فقالوا :كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال( :يسبح مائة تسبيحة ،فيكتب ل ه
ألف حسنة ،أو يحط عنه ألف خطيئة) ()1
ومنه ا [س بحان هللا وبحم ده] ،ومم ا ورد في فض لها قول ه ( :من ق ال:
سبحان هللا وبحمده ،في يوم مائة مرة ،حطت خطاياه ،وإن كانت مثل زبد البحر)()2
وق ال في ح ديث آخ ر( :من ق ال :حين يص بح وحين يمس ي :س بحان هللا
وبحمده ،مائة مرة ،لم يأت أح ٌد يوم القيامة ،بأفضل مما جاء به ،إال أح ٌد قال مثل ما
قال أو زاد عليه)()3
ومنها [سبحان هللا العظيم وبحمده] ،ومما ورد في فضلها قوله ( :من قال:
سبحان هللا العظيم وبحمده ،غرست له نخلةٌ في الجنة) ()4
ومنها [سبحان هللا وبحم ده س بحان هللا العظيم] ،ومم ا ورد في فض لها قول ه
( :كلمت ان خفيفت ان على اللس ان ،ثقيلت ان في الم يزان ،حبيبت ان إلى ال رحمن:
سبحان هللا وبحمده ،سبحان هللا العظيم) ()5
ومنها [سبحان هللا والحمد هلل] ،والتي ذك ر رس ول هللا أنه ا (تمأل م ا بين
السماوات واألرض) ()6
ومنها [سبحان هللا ،والحمد هلل ،وال إل ه إال هللا ،وهللا أك بر] ،وال تي ق ال فيه ا
رسول هللا ( :ألن أقول سبحان هللا ،والحم د هلل ،وال إل ه إال هللا ،وهللا أك بر ،أحب
إلي مما طلعت عليه الشمس) ()7
ومنه ا [س بحان هللا وبحم ده ،ع دد خلق ه ورض ا نفس ه وزن ة عرش ه وم داد
كلماته] ،ومم ا ورد في فض لها أن رس ول هللا ذك ر أنه ا تع دل وقت ا ط ويال من
الذكر ،فقد قال لمن رآه يذكر من بع د ص الة الص بح إلى الض حى( :لق د قلت بع دك
أرب ع كلم ات ،ثالث م رات ،ل و وزنت بم ا قلت من ذ الي وم ل وزنتهن :س بحان هللا
وبحمده ،عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) ()8
وهذا من فضل هللا العظيم على عباده ،ذلك أنه أتاح للمقصرين أن يستدركوا
بمثل هذه الصيغ ما قد فاتهم من الفض ل ،ومم ا ي روى في ه ذا أن ه ق ال لبعض
أصحابه( :أال أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار ،والنهار مع اللي ل؟
أن تقول :سبحان هللا عدد ما خلق ،وسبحان هللا ملء ما خل ق ،وس بحان هللا ع دد م ا
وعن عائشة قالت :كان رس ول هللا يك ثر من ق ول( :س بحان هللا وبحم ده
أس تغفر هللا وأت وب إلي ه) ،فقلت :ي ا رس ول هللا ،أراك تك ثر من ق ول (س بحان هللا
وبحمده أستغفر هللا وأتوب إليه)؟ .فقال( :خبّرني ربّي أنّي سأرى عالم ة في أ ّم تي،
فإذا رأيتها أكثرت من قول :سبحان هللا وبحمده أستغفر هللا وأتوب إليه ،فقد رأيته ا،
﴿و َرأَيْتَ النَّ َ
اس يَ ْد ُخلُونَ فِي ِد ِ
ين َص ُر هللا َو ْالفَ ْتحُ﴾ [النص ر(]1 :فتح م ّك ة) َ ﴿إِ َذا َجا َء ن ْ
ستَ ْغفرْ ه إنَّه ُ َك تَوابًا﴾ [النصر)8()]3 ،2 :
ك َوا ْ ِ ُ ِ انَ َّ هللا أَ ْف َواجًا ( )2فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّ َ
هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على ه ذه الش عيرة
العظيمة ،والتزم بها؛ فاهلل تعالى أكرم من أن يترك عبده الذي يسبحه ويقدسه لنفس ه
)(1رواه أبو داود.873 :
)(2رواه أبو داود1430 :
)(3رواه أبو داود5085 :
)(4الوسائل ج 4ص.782
)(5الوسائل ج 4ص.782
)(6رواه البخاري ،الفتح .144 /3
)(7البخاري [فتح الباري])6218(10 ،
)(8البخاري [فتح الباري] )794(،مختصرا ،ومسلم()484
67
األمارة؛ فكما تسبح هللا وتنزهه وتبرئه من كل ما ال يليق به؛ فسيكرمك هللا بتنزيهك
وتقديسك وإبعاد كل ما ال يليق بك ،وبإنسانيتك المكرمة.
68
الحمد والتمجيد
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحم د والتمجي د ،ودورهم ا في
التزكي ة والترقي ة ،وفي التخل ق والتحق ق ،وس ر م ا ورد حولهم ا في النص وص
المقدسة ،والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك.
وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن الحم د والتمجي د من األرك ان
الضرورية للتزكية والترقية ،مثلهم ا مث ل التس بيح والتق ديس ،والتكب ير والتهلي ل..
ذلك أن من يكتفي بتوحيد هللا ،أو تنزيهه عما ال يليق به ،ثم ال يثبت له المحامد ،وال
الكماالت لم يسبحه ولم يقدسه ولم يكبره ..ألن كمال هللا ليس مرتبطا بتنزيه ه فق ط،
وإنما بإثبات جميع صفات الكمال له.
بل إن التمجيد والحم د من درج في التق ديس والتنزي ه؛ فال يمكن أن يك ون هللا
تعالى قدوسا وسبوحا ما لم يكن حميدا مجيدا ..ومث ل ذل ك التمجي د والتحمي د ،فهم ا
مفتقران للتقديس والتنزيه؛ فال يمكن ثبوت الكمال ما لم يثبت نفي النقص.
ولهذا يجتم ع في الق رآن الك ريم كال المعن يين :التق ديس والتمجي د ،كم ا ق ال
َّاج ِدينَ ﴾ [الحجر ،]98 :وقالَ ﴿ :وإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ك َو ُك ْن ِمنَ الس ِ
تعالى﴿ :فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّ َ
وت َو َس بِّحْ ﴿وت ََو َّكلْ َعلَى ْال َح ِّي الَّ ِذي اَل يَ ُم ُ إِاَّل يُ َسبِّ ُح بِ َح ْم ِد ِه﴾ [اإلس راء ،]44 :وق الَ :
ق َوا ْستَ ْغفِرْ لِ َذ ْنبِكَ َو َسبِّحْ بِ َح ْم ِد بِ َح ْم ِد ِه﴾ [الفرقان ،]58 :وقال﴿ :فَاصْ بِرْ إِ َّن َو ْع َد هللا َح ٌّ
ك بِأ َ ْعيُنِنَا َو َس بِّحْ
﴿واصْ بِرْ لِ ُح ْك ِم َربِّكَ فَإِنَّ َ ار﴾ [غافر ،]55 :وقالَ : ك بِ ْال َع ِش ِّي َواإْل ِ ْب َك ِ
َربِّ َ
َ َّ رْ ْ َ ْ ِّحْ َ
بِ َح ْم ِد َربِّكَ ِحينَ تقو ُم﴾ [الطور ،]48 :وق ال﴿ :ف َس ب بِ َح ْم ِد َربِّكَ َواس تغفِ هُ إِنهُ ك انَ ُ َ
تَ َّوابًا﴾ [النصر ،]3 :وغيرها من اآليات الكريمة.
ولذلك ،فإن أكثر ما ورد في األحاديث الشريفة من الثناء على التسبيح وبي ان
فضله واألجور المرتبطة به ،ل ه عالق ة بالحم د والتمجي د ،ذل ك أنهم ا مقترن ان في
أكثر ما ورد من صيغ الذكر.
واعلم ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن حم د هللا وتمجي ده ال يع ني م ا نفهم ه من
المديح والتزلف والتملق والثناء الذي يقوم ب ه الخل ق بعض هم تج اه بعض ،ليس تفيد
بعض هم من بعض ،ويتق رب بعض هم من بعض ..كال ..فم ا ذل ك إال تمل ق وت ودد،
وهو يجانب الحقائق في أكثره ،وقد ع رفت في رس ائلي إلي ك س ر نهي الش رع عن
المبالغة في المدح ،واألمر باجتناب المادحين.
أما تمجيد هللا والثناء عليه؛ فهو تذكير للنفس بعظمة خالقها ،ودعوته ا للج وء
إليه ،وعدم تضييع الفرصة في التواصل معه ،ولذلك ف إن مص لحته المج ردة تع ود
على العبد ،أما هللا ،فهو غني بذاته عن أن يص ل إلي ه النف ع من ه؛ فكي ف يص له من
غيره.
وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ من يبحث عن طبيب أو مهن دس أو خب ير
في أي شأن من الشؤون ..فإذا وجده ،وسجل اسمه وعنوانه في دفتره ..ال يفعل ذلك
69
إال لحاجته إليه.
وهكذا ـ وهلل المثل األعلى ـ تذكير النفس بكون هللا ق ادرا أو مري دا أو رحيم ا
أو لطيفا أو عليما ،أو غيرها من معاني عظمة هللا ومجده ،فهي إش عار للنفس بأنه ا
في كنف إله يغنيها في كل حاجاتها ،ويدعوها إلى التواصل مع ه ،وع دم االحتج اب
عنه بأي حجاب.
وه و م ا ي دعوها إلى االبتع اد عن ك ل العي وب والمث الب ال تي تح ول بينه ا
وبينه ،فالكريم ال يقبل بصحبة البخيل ،والصادق ال يقبل صحة الك اذب ،والع دل ال
يقبل صحبة الظالم الجائر ،والرحيم ال يقبل صحبة القاس ي ،والعليم ال يقب ل ص حبة
الجاهل.
وهكذا فإن حمد هللا ومجده ال يرتب ط فق ط ب الجوانب الروحي ة ،وإنم ا يرتب ط
أيضا بالجوانب األخالقية والتربوية ،ذلك أن كل معنى من المع اني ال تي يُمج د به ا
هللا تعالى له تأثيره في النفس بالدعوة للتخلق بأخالقه ،والتأدب بعظيم صفاته.
ولهذا؛ كان القرآن الكريم كتاب التمجيد والحمد األعظم؛ فال تكاد تخلو سورة
أو آية من آياته من تمجيد هللا وعظمته ،ول ذلك ك انت تالوت ه أعظم وس يلة للتزكي ة
والترقي ة والتحق ق بك ل القيم الروحي ة والتربوي ة ،باإلض افة إلى كون ه تعب يرا عن
الحقائق الوجودية العظيمة ،والتي ال يمكن االستفادة منها من دون معرفتها.
وله ذا ،ف إن أول وأعظم س ورة في الق رآن س ورة الفاتح ة ،وال تي جع ل هللا
تعالى تالوتها ركنا في الصالة ،تقرأ في كل ركعة ،افتتحت بالثن اء على هللا تع الى،
ِّين﴾ [الفاتح ة- 2 : ﴿ال َح ْم ُد هلل َربِّ ْال َعالَ ِمينَ الرَّحْ َم ِن ال َّر ِح ِيم َمالِ ِ
ك يَوْ ِم ال د ِ قال تعالىْ :
]4
ت الص الة وقد ورد في الحديث القدسي قول ه ( :ق ال هللا ع ز وج ل :قَ َس ْم ُ
﴿ال َح ْم ُد هلل َربِّ ْال َع الَ ِمينَ ﴾
بيني وبين عبدي نصفين ،ولعبدي ما سأل فإذا قال العب دْ :
(الفاتحة ،)2 :قال هللا :حم دني عب دي ،وإذا ق ال﴿ :ال رَّحْ َم ِن ال َّر ِح ِيم﴾ (الفاتح ة،)3 :
ِّين﴾ (الفاتح ة ،)4 :ق ال :مج دني ك يَ وْ ِم ال د ِ قال هللا :أثنى علي عبدي ،فإذا قالَ ﴿ :مالِ ِ
ك ن َْس ت َِع ﴾ (الفاتح ة ،)5 :ق ال :ه ذا بي ني وبين ينُ ك نَ ْعبُ ُد َوإِيَّا َ
عب دي ،ف إذا ق ال﴿ :إِيَّا َ
ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ َ ْ َ
الص َراط ال ُم ْس تقِي َم ِ عبدي ،ولعبدي ما سأل ،ف إذا ق ال﴿ :اه دنا ِّ
الض الِّينَ ﴾ (الفاتح ة ،)7 ،6 :ق ال :ه ذا لعب دي ب َعلَ ْي ِه ْم َوال َّ ضو ِ َعلَ ْي ِه ْم َغ ْي ِر ْال َم ْغ ُ
ولعبدي ما سأل) ()1
ونالحظ ـ كما ورد في الحديث القدسي ـ كيف أن هللا تعالى بدأ بذكر تمجي ده،
وحمده ،ثم رتب عليه ال دعاء والطلب ،وه و يش به ذل ك ال ذي ي ذهب إلى الط بيب،
ويقول له :بما أنك طبيب ومختص في كذا وكذا؛ ف إني أطلب من ك أن تع الجني بم ا
هو في دائرة اختصاصك.
ولذلك ،يرد الحمد والتمجيد في القرآن الكريم مقترن ا ب الطلب وال دعاء ،كم ا
72
إن كنت مرتاداً بلوغ كم ال هللا ق ل وذر الوج ود وم ا
وى ح
ع دم على التفص يل فالك ل دون هللا أن حققته
ال واإلجم
ل واله في مح و وفي واعلم بأن ك والع والم كلها
محالل اض
فوجوده ل واله عين مح ال من ال وج ود لذات ه من ذاته
شيئا ً سوى المتكبر المتع ال والعارفون بربهم لم يشهدوا
في الح ال والماض ي ورأوا س واه على الحقيق ة
تقبال واالس هالكا
ص ِّو ُر لَ هُ األَ ْس َما ُء
ئ ال ُم َ
ار ُ وهكذا إن قرأت قول ه تع الى﴿ :هُ َو هللاُ ال َخ الِ ُ
ق البَ ِ
ض َوهُ َو ال َع ِزي ُز ال َح ِكي ُم﴾ (الحش ر،)24: ت َواألَرْ ِ ال ُح ْسنَى يُ َسبِّ ُح لَ هُ َم ا فِي َّ
الس َما َوا ِ
ق ُك لِّ َش ْي ٍء فَا ْعبُ دُوهُ َوهُ َو َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء وقالَ ﴿ :ذلِ ُك ُم هللا َربُّ ُك ْم ال إِلَهَ إِال هُ َو َخ الِ ُ
ق ُك لِّ َش ْي ٍء َوهُ َو َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َو ِكي لٌ﴾ َو ِكي لٌ﴾ (األنع ام ،)102:وق ال﴿ :هللا َخ الِ ُ
(الزمر)62:
فال تكتف بالقراءة المجردة ،وإنما تأمل ه بعين عقل ك ،وس ترى كي ف يجعل ك
ترى كل شيء من تصميم هللا وصناعته وخلقه ..فال شيء إال من هللا ..وال شيء إال
باهلل.
وهكذا يمكنك أن تستعين بكل المعارف والعلوم؛ فكلها قطرات من بح ر العلم
اإللهي والقدرة اإللهية ..ولذلك تعلم علومها بهذه النية ،وال تكتف بم ا تفي دك ب ه من
شؤون الدنيا ،وإنما اعبر منها إلى ربك ..فالذي خلق ما تراه قادر على خلق غيره..
فال تحتجب بما تراه عما ال ت راه ،وإنم ا اع بر مم ا ت راه إلى م ا ال ت راه ..فال خ ير
فيمن سكن في الحضيض ،وهو قادر على أن يرتقي إلى سموات الكمال.
تمجيد القلب:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واطمأنت به نفس ك ،فانتق ل من تمجي د
العقل لربه إلى تمجيد القلب ..الذي هو محل مشاعرك وعواطف ك؛ ف انظر إلى آث ار
نعم هللا عليك ،وتأمل فيها ،وتأم ل في النعم ال تي ال ت زال تنتظ رك في دار الس عادة
العظمى ال تي أع دها ل ك ،وس ترى كي ف يمتلئ قلب ك بالتمجي د الحقيقي ،والحم د
الحقيقي ،وقد قال الشاعر معبرا عن آثار النعم في النفس:
أفادتكم النعماء مني ثالثة يدي ولساني والضمير المحجبا
ولهذا ،فإن حمد القلب وتمجي ده ينطل ق من تص ور النعم ة ،واالع تراف به ا
للمنعم ،وفي ذلك يق ول رس ول هللا ( :عجب ا ألم ر الم ؤمن ،إن أم ره كل ه خ ير،
وليس ذاك ألحد إال للمؤمن ،إن أصابته س راء ش كر ،فك ان خ يرا ل ه ،وإن أص ابته
ضراء صبر ،فكان خيرا له) ()1
)(1رواه مسلم.
73
وال تكتف ـ أيها المريد الصادق ـ بالشكر والتمجيد الخ اص بم ا ت راه من نعم
خصك هللا بها فقط ،بل اعتبر ك ل ش يء نعم ة من النعم العظمى ،وأوله ا وأعظمه ا
ربك الذي خلقك ،وهدايته لك إليه ،فذلك أكبر النعم ،ألنه سبيل السعادة الوحيد.
ولهذا ذكر هللا تع الى عن المؤم نين حم دهم على نعم ة الهداي ة عن دما ي رون
ثمارها في الجنة ،قال تعالى﴿ :أُولَئِكَ أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ (َ )42ونَزَ ْعنَ ا
ُور ِه ْم ِم ْن ِغ ٍّل تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ ِه ُم اأْل َ ْنهَا ُر َوقَالُوا ْال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي هَ دَانَا لِهَ َذا صد ِ َما فِي ُ
ي لَوْ اَل أ ْن هَدَانَا هللا﴾ [األعراف]43 ،42 : َ َو َما ُكنَّا لِنَ ْهتَ ِد َ
واذكر عند حمدك هلل تعالى على ه ذه النعم ة ،قول ه تع الى لنبي ه ﴿ :إِنَّكَ اَل
تَ ْه ِدي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هللا يَ ْه ِدي َم ْن يَ َش ا ُء َوهُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [القص ص،]56 :
اس َحتَّى ض ُكلُّهُ ْم َج ِمي ًع ا أَفَ أ َ ْنتَ تُ ْك ِرهُ النَّ َ
وقول هَ ﴿ :ولَ وْ َش ا َء َربُّكَ آَل َمنَ َم ْن فِي اأْل َرْ ِ
س هُ دَاهَا َولَ ِك ْن َح َّ
ق ﴿ولَوْ ِش ْئنَا آَل تَ ْينَ ا ُك َّل نَ ْف ٍيَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [يونس ،]99 :وقولهَ :
اس أَجْ َم ِعينَ ﴾ [السجدة ،]13 :لتعرف أن تل ك ْالقَوْ ُل ِمنِّي أَل َ ْمأَل َ َّن َجهَنَّ َم ِمنَ ْال ِجنَّ ِة َوالنَّ ِ
النعم ة ليس ت بحول ك وال قوت ك ،وإنم ا هي فض ل عظيم من هللا علي ك ،ف احرص
عليه ،واشكره ،واحذر من أن يسلب منك.
ف إذا امتأل قلب ك ش عورا بمنن هللا علي ك ،ثم رحت بم رآة قلب ك تط الع جمي ل
صفاته؛ فإن ذلك سينقلك من الهداية العامة إلى الهداي ة الخاص ة ،ومن ع وام الن اس
الش ُكورُ﴾ ي َّ إلى خواصهم ،أولئك الذين وص فهم هللا تع الى ،فق الَ ﴿ :وقَلِي ٌل ِم ْن ِعبَ ا ِد َ
(سبأ)13 :
وذلك ما يمل ؤك بالرض ا عن رب ك ،وه و من أعظم مقام ات الس الكين ،ق ال
ت تَجْ ِري ِم ْن َب فِي قُلُوبِ ِه ُم اإْل ِ ي َمانَ َوأَيَّ َدهُ ْم بِر ٍ
ُوح ِم ْنهُ َويُ ْد ِخلُهُ ْم َجنَّا ٍ ك َكت َ تعالى﴿ :أُولَئِ َ
ك ِح ْزبُ هللا أَاَل إِ َّن ض وا َع ْن هُ أُولَئِ َ ض َي هللا َع ْنهُ ْم َو َر ُ تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َر ِ
ب هللا هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ [المجادلة]22 : ِح ْز َ
ولذلك قال رسول هللا ( :خص لتان من كانت ا في ه كتب ه هللا ش اكرا ص ابرا،
ومن لم تكن فيه لم يكتبه هللا شاكرا وال صابرا ،من نظر في دين ه إلى من ه و فوق ه
فاقتدى به ،ونظر في دنياه إلى من هو دونه ،فحمد هللا على ما فضّله ب ه علي ه كتب ه
هللا شاكرا ص ابرا ،ومن نظ ر في دين ه إلى من ه و دون ه ،ونظ ر في دني اه إلى من
فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه هللا شاكرا وال صابرا)()1
إن أمره كلّه خير .وليس ذلك ألحد إ للم ؤمن إن
اّل وقال( :عجبا ألمر المؤمن ّ
أصابته سرّاء شكر .فكان خيرا له .وإن أصابته ضرّاء صبر .فكان خيرا له)()2
وقال( :أول من ي دعى إلى الجن ة الحم ادون ،ال ذين يحم دون هللا في الس راء
والضراء)()3
تمجيد الجوارح:
)(1الترمذي( )2512وبعضه في مسلم ( )2963وابن ماجة()4142
)(2مسلم()2999
)(3مكارم االخالق ص .354
74
فإذا حمدت هللا تعالى بكل قلبك ،وامتألت رضا عنه ،تح ركت ك ل جوارح ك
بالشكر هلل وتمجيده وتعظيمه ،وعدم استعمال نعمه في معصيته.
وأول تل ك الج وارح وأعظمه ا ت أثيرا لس انك؛ ذل ك أن ه وس يلة من الوس ائل
العظمى التي جعلها هللا لك لتنتقل الحقائق منه إلى قلبك ،وتؤثر فيه تأثيرها العظيم..
فالحمد والتمجيد الذي ينطق به قد يكون ثمرة للمعارف ،وقد يكون وسيلة إليها.
ول ذلك أم ر هللا تع الى بش كره وتمجي ده ،ح تى يع بر الش كر من اللس ان إلى
اش ُكرُوا لِي القلب ،ومن القلب إلى كل اللطائف ،ق ال تع الى﴿ :فَ ْاذ ُكرُونِي أَ ْذ ُك رْ ُك ْم َو ْ
ت َما َرزَ ْقنَ ا ُك ْمَوال تَ ْكفُرُو ِن﴾ (البقرة ،)152:وقال﴿ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ُكلُوا ِم ْن طَيِّبَا ِ
َوا ْش ُكرُوا هلل إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾ (البقرة ،)172:وقال﴿ :فَ ُكلُوا ِم َّما َرزَ قَ ُك ُم هللا َحالالً
طَيِّبا ً َوا ْش ُكرُوا نِ ْع َمتَ هللا إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾ (النحل)114:
(إن هللا ليرض ى عن العب د وقد ورد في الحديث عن رسول هللا أن ه ق الّ :
شربة فيحمده عليها)()1 أن يأكل األكلة فيحمده عليها ،أو يشرب ال ّ
ولهذا ورد في السنة المطهرة الكث ير من ص يغ الحم د والتمجي د ،وال تي هي
قبس من وظيفة رسول هللا العظمى المرتبطة بالتزكية ،وال تي تس ري في األم ة
في جمي ع عص ورها ،وال يناله ا إال من اهت دى بهدي ه ،واس تن بس نته ،ولم ي رغب
عنها ،ولم يتكبر عليها ،ولم يقل :حسبنا كتاب هللا.
ومن تلك األحاديث ما ورد من الحمد والتمجيد في الصالة ،وهي كثيرة جدا،
ومنها قوله عند االستفتاح بالصالة ما بين تكبيرة اإلحرام والقراءة( :هللا أكبر كبيرا،
هللا أك بر كب يرا ،هللا أك بر كب يرا ،والحم د هلل كث يرا ،والحم د هلل كث يرا ،والحم د هلل
كثيرا ،وسبحان هللا بكرة وأصيال) ()2
ويقول( :اللهم لك الحمد ،أنت نور السموات واألرض ومن فيهن ،ولك الحمد
أنت قيم الس موات واألرض ومن فيهن ،ول ك الحم د أنت رب الس موات واألرض
ومن فيهن ولك الحمد لك ملك الس موات واألرض ومن فيهن ول ك الحم د أنت مل ك
السموات واألرض ولك الحمد أنت الح ق ،ووع دك الح ق ،وقول ك الح ق ،ولق اؤك
الحق ،والجنة حق ،والنار حق ،والنبيون حق ،ومحمد حق ،والس اعة ح ق اللهم
ل ك أس لمت ،وعلي ك ت وكلت ،وب ك آمنت ،وإلي ك أنبت ،وب ك خاص مت ،وإلي ك
حاكمت .فاغفر لي ما قدمت ،وما أخرت ،وما أس ررت ،وم ا أعلنت وم ا أنت أعلم
به مني أنت المقدم ،وأنت المؤخر ال إل ه إال أنت أنت إلهي ال إل ه إال أنت وال ح ول
وال قوة إال باهلل) ()3
وكان يق ول عن د الرف ع من الرك وع( :ربن ا ول ك الحم د ،حم دا كث يرا طيب ا
مباركا فيه)( ،)4ثم يضيف( :ملء الس موات وملء األرض ،وم ا بينهم ا ،وملء م ا
)(1مسلم()2734
)(2أبو داود ،203 /1 ،وابن ماجه ،265 /1 ،وأحمد ،85 /4 ،برقم .16739
)(3البخاري مع الفتح ،3 /3 ،ومسلم مختصرا بنحوه ،532 /1 ،برقم .769
)(4البخاري مع الفتح ،284 /2 ،برقم .796
75
شئت من شيء بعد .أهل الثناء والمجد ،أحق ما ق ال العب د ،وكلن ا ل ك عب د .اللهم ال
مانع لما أعطيت ،وال معطي لما منعت ،وال ينفع ذا الجد منك الجد) ()1
وكان من دعائه بع د التش هد األخ ير في الص الة( :اللهم إني أس ألك ب أن ل ك
الحمد ال إله إال أنت وحدك ال شريك لك ،المنان ،ي ا ب ديع الس موات واألرض ي ا ذا
الجالل واإلكرام ،يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) ()2
ومن األذكار التي كان يقولها بعد السالم( :ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه،
له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [ثالثا] ،اللهم ال مانع لم ا أعطيت ،وال
معطي لما منعت ،وال ينفع ذا الجد منك الجد)()3
ويقول( :ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،له الملك ،وله الحمد ،وهو على ك ل
شيء قدير .ال حول وال قوة إال باهلل ،ال إله إال هللا ،وال نعبد إال إياه ،ل ه النعم ة ول ه
الفضل وله الثناء الحسن ،ال إله إال هللا مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) ()4
ويقول( :سبحان هللا ،والحمد هلل ،وهللا أكبر (ثالثا وثالثين) ال إله إال هللا وحده
ال شريك له ،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ( ،)5ويرغب فيها ق ائال:
(من قال ذلك دبر كل صالة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)
وهكذا كان إذا استيقظ من النوم يقول( :الحم د هلل ال ذي أحيان ا بع د م ا أماتن ا
وإليه النشور) ()6
ويق ول( :الحم د هلل ال ذي رد علي روحي ،وعاف اني في جس دي ،وأذن لي
بذكره) ()7
وكان يحث على الدخول إلى البيوت بص حبة الحم د والتمجي د ،ويعت بر ذل ك
وقاية وحجابا للبيت ،قال ( :إذا دخل الرجل بيته ،أو أوى إلى فراشه ابتدره مل ٌ
ك
وشيطان ،فيقول الملك :افتح بخير ،ويقول الشيطان :افتح بش ر ،ف إن ذك ر هللا ط رد ٌ
ٌ
وشيطان ،فيقول المل ك: الملك الشيطان وظل يكلؤه ،فإذا انتبه من منامه ابتدره مل ٌ
ك
افتح بخير ،ويقول الشيطان :افتح بشر ،فإن هو ق ال :الحم د هلل ال ذي رد إلي نفس ي
بعد موتها ولم يمتها في منامها ،الحمد هلل الذي يمس ك الس موات الس بع أن تق ع على
األرض إال بإذنه ،إلى آخر اآلية ،فإن هو خر من فراشه فمات كان شهيدا ،وإن ه و
قام يصلي صلى في فضائل) ()8
وهكذا كان يدعو إلى حمد هللا عن د الطع ام والش راب ،وي ذكر األج ر العظيم
المرتبط بذلك ،فيقول( :إن المؤمن يشبع من الطعام والشراب فيحمد هللا ،فيعطيه هللا
78
تأنانا برحمته تكرم ا ،وانتظ ر مراجعتن ا برأفت ه حلم ا ..والحم د هلل ال ذي دلن ا على
التوبة التي لم نفدها إال من فض له ،فل و لم نعت دد من فض له إال به ا لق د حس ن بالؤه
عندنا ،وجل إحسانه إلينا وجسم فضله علينا فما هكذا كانت سنته في التوبة لمن كان
قبلنا ،لقد وضع عنا ما ال طاقة لنا ب ه ،ولم يكلفن ا إال وس عا ،ولم يجش منا إال يس را،
ولم يدع ألحد منا حجة وال عذرا .فالهالك منا من هلك عليه ،والسعيد من ا من رغب
إليه)
ويقول( :الحمد هلل بك ل م ا حم ده ب ه أدنى مالئكت ه إلي ه وأك رم خليقت ه علي ه
وأرضى حامديه لديه حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربنا على جمي ع خلق ه .ثم ل ه
الحمد مكان كل نعمة له علينا وعلى جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط ب ه
علمه من جميع األشياء ،ومكان كل واحدة منها عددها أضعافا مضاعفة أبدا س رمدا
إلى ي وم القيام ة .حم دا ال منتهى لح ده ،وال حس اب لع دده ،وال مبل غ لغايت ه ،وال
انقطاع ألمده حمدا يكون وصلة إلى طاعته وعف وه ،وس ببا إلى رض وانه ،وذريع ة
إلى مغفرته ،وطريقا إلى جنته ،وخفيرا من نقمته ،وأمنا من غض به ،وظه يرا على
طاعته ،وحاجزا عن معصيته ،وعونا على تأدية حقه ووظائفه .حم دا نس عد ب ه في
ي حمي ٌد)()1
السعداء من أوليائه ،ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه ،إنه ول ٌ
ومن تمجيدات اإلم ام الص ادق هلل قول ه( :الحم د هلل ال ذي نعمت ه تغ دو علين ا
وتروح ،ونظل نهارا ونبيت فيها ليال فنص بح فيه ا برحمت ه مس لمين ،ونمس ي فيه ا
بمن ه مؤم نين من البل وى مع افين الحم د هلل المنعم المفض ل المحس ن المجم ل ذي
الجالل واالك رام ذي الفواض ل والنعم ،الحم د هلل ال ذي لم يخ ذلنا عن د ش دة ،ولم
يفضحنا عن د س ريرة ،ولم يس لمنا بجري رة ..الحم د هلل على علم ه ،والحم د هلل على
فضله علينا وعلى جميع خلقه ،وكان به كرم الفضل في ذلك ما هللا به عليم) ()2
وم وليل ة ثالث ومنه ا م ا روي عن ه أن ه ق الّ :
(إن هللا يم ّج د نفس ه في ك ّل ي ٍ
مرّات ،ف َمن مجّد هللا بما مجّد به نفسه ثم كان في حال شقوة ُح ِّول إلى س عادة ،فقلت
له( :كيف هو التمجيد ؟) ..قال (ع)( :تقول( :أنت هللا ال إل ه إالّ أنت ربّ الع المين..
أنت هللا ال إله إالّ أنت ال رحمن ال رحيم ..أنت هللا ال إل ه إالّ أنت العل ّي الكب ير ..أنت
هللا ال إله إالّ أنت منك بدأ ك ّل شي ٍء وإليك يعود ..أنت هللا ال إل ه إالّ أنت لم ت زل وال
تزال ..أنت هللا ال إله إالّ أنت خالق الخير والشرّ ..أنت هللا ال إله إالّ أنت خالق الجنّة
والنار ..أنت هللا ال إله إال أنت األحد الصمد لم يل د ولم يول د ولم يكن ل ه كف وا أح د.
أنت هللا ال إله إالّ أنت الملك القدوس السالم المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبر،
سبحان هللا ع ّما يشركون ..أنت هللا الخالق البارئ المص وّر ،ل ك األس ماء الحس نى،
الس موات واألرض ،وأنت العزي ز الحكيم ..أنت هللا ال إل ه إالّ أنت يُسبّح لك م ا في ّ
الكبير ،والكبرياء رداؤك) ()3
)(1الصحيفة السجادية.
)(2قرب االسناد ص .6
)(3بحار األنوار ،83/371 :عن :ثواب األعمال ص.14
79
وغيره ا من األدعي ة والمناجي ات واألذك ار ال تي تقتبس من ه دي الق رآن
الكريم ،ونور النبوة ،فالتزمها ،وتدبر فيها؛ فلعل هللا تعالى أن ينقله ا من لس انك إلى
عقلك ،ومن عقلك إلى قلبك ،ومن قلبك إلى روحك ،ومن روحك إلى س رك ..ولع ل
هللا أن ينقلك بها من درك الجاحدين لنعمه إلى درج ات الش اكرين له ا؛ فال يمكن أن
ين ال أح د تل ك الم راتب الرفيع ة من دون أن يس تعمل ك ل الوس ائل المؤدي ة له ا،
﴿ َوالَّ ِذينَ َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هللا لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت]69 :
وإن عجزت عن كل ذلك ،أو لم تسمح ل ك أش غالك وأوقات ك ب ه؛ فيمكن ك أن
تردد بلسانك تل ك الكلم ة المختص رة ال تي لن تكلف ك أي عنت ،وهي قول ك [الحم د
هلل] ،فأدمن عليها ،ولو من دون تحريك شفتيك ،واستشعر وأنت ترددها ك ل مع اني
الفرح والسرور باهلل وبفضله العظيم الذي وصلك ،والذي ينتظرك.
واعلم ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن ك لن تظف ر بالمزي د ح تى ت ؤدي ح ق م ا
﴿وإِ ْذ تَ أ َ َّذنَ َربُّ ُك ْم لَئِ ْن َش كَرْ تُ ْم
أعطيت ه من النعم؛ فق د رتب هللا المزي د عليه ا ،فق الَ :
أَل َ ِزي َدنَّ ُك ْم﴾ [إبراهيم]7 :
وإياك أن تغتر بالمزيد الذي يُزود به الجاحدون؛ فهو ليس مزيدا مبارك ا ،ب ل
هو مزيد مسموم ،ولم يقصد منه النعمة ،وإنما قصد به االبتالء واالختبار ،كما ق ال
تعالى﴿ :فَاَل تُ ْع ِج ْبكَ أَ ْم َوالُهُ ْم َواَل أَوْ اَل ُدهُ ْم إِن َم ا ي ُِري ُد هللا لِيُ َع ِّذبَهُ ْم بِهَ ا فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا
ق أَ ْنفُ ُسهُ ْم َوهُ ْم َكافِرُونَ ﴾ [التوبة]55 : َوت َْزهَ َ
فاحذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون من أه ل االختب ار ،ال من أه ل النعيم
الحقيقي؛ والعالم ة ال تي تجعل ك منهم حم دك ال دائم هلل ،وفرح ك بفض له ،وع دم
استخدام نعمه في معصيته ..فما أشد حسرة من يستعمل نعم هللا في غضب هللا.
80
إحصاء األسماء
كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عم ا ورد في الق رآن الك ريم من
الدعوة إلى التعرف على أسماء هللا الحسنى ،ودعاء هللا تعالى بها ،وما ارتب ط ب ذلك
من إخبار رسول هللا بفضل إحصائها ،وعالقة ذلك بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن أسماء هللا الحسنى هي المعارف التي
أذن هللا تعالى فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتع رف به ا على كم االت األلوهي ة،
من غير تحديد أو تقييد لها ،ذلك أن أسماء هللا تعالى ال نهاية لها ،وما كشف لنا منها
ليس سوى قطرة من بحر كمال هللا الذي ال حدود له.
ولكنها ـ مع ذلك ـ هي المنافذ الوحيدة ال تي ت تيح لن ا التع رف على هللا تع الى
وعظمته ،حتى نتجنب كل تلك الضالالت التي وقعت بسبب اإللح اد في أس ماء هللا،
وتحريفها ،وتغييرها ،ليتحول هللا تع الى بموجبه ا إلى إل ه غ ير اإلل ه الحقيقي ال ذي
دعت إليه الرسل ،وعرفت به كلماته المقدسة ،ودل عليه الكون جميعا.
ولذلك أخبر رسول هللا عن وجود تسعة وتس عين اس ما حقيقي ا من أس ماء
هللا الحسنى ،من عرفها وفهمها وتواصل معها وتخلق بأخالقها ن ال الف وز والفالح،
فقال( :إن هلل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة) ()1
وبما أنك سألتني ـ أيها المريد الصادق ـ عن حقيقة اإلحص اء ،وس ر م ا ورد
فيه من األجر ،وعالقته بالتزكية والترقي ة؛ ف إني س أذكر ل ك أربع ة م راتب ل ه ،ال
يتحقق اإلحصاء من دونها.
وهي تب دأ ب البحث عن أس ماء هللا الحس نى ،ثم فهمه ا ،ثم الت أثر واالنفع ال
الوج داني له ا ،ثم الس لوك بحس ب مقتض ياتها ..وهي ب ذلك تجع ل من أس ماء هللا
الحسنى مدرسة من أعظم المدارس الروحية والتربوية.
إحصاء البحث:
أما اإلحصاء األول ـ أيها المريد الصادق ـ فيب دأ من البحث عنه ا ،والتحقي ق
فيها ،حتى ال نس مي هللا تع الى بم ا لم يس م ب ه نفس ه ،كم ا حص ل ألولئ ك الغ افلين
الجهلة الذين س موا هللا مخادع ا ومس تهزئا وم اكرا ،لمج رد نس بة ه ذه الكلم ات هلل
تعالى ،من غير معرفة منهم للمقتضيات اللغوية الداعية لذلك.
وهكذا ال يصح تسميه هللا تعالى بما نعتق ده كم اال فين ا ،ألن كمالن ا ق د يك ون
نقصا هلل تعالى ،ولهذا ال يُطلق على هللا تعالى اسم [العفيف] مع ك ون داللت ه حس نة
بالنسبة لنا ،ذلك أن فيه من شوائب النقص ما ال يليق باهلل ..فالعفيف ال يك ون ك ذلك
إال كان يملك غريزة وشهوة ،ثم يحاربه ا وينتص ر عليه ا ..ومع اذ هللا أن ينس ب هلل
تعالى كل ذلك النقص.
الرز اق ،الرقيب ،السميع ،السالم ،سريع الحساب ،سريع العقاب ،الشهيد ،الش اكر ،الش كور، ّ الربّ ،رفيع الدرجات،
العلي ،العظيم ،عاّل م الغي وب ،ع الم الغيب
ّ ش ديد العق اب ،ش ديد ال ِمح ال ،الص مد الظ اهر ،العليم ،العزي ز ،ال َعف وّ ،
والشهادة ،الغني ،الغفور ،الغالب ،غافر الذنب ،الغفّار ،فالق األصباح ،فالق الحبّ والنوى ،الف اطر ،الفتّ اح ،الق وي،
الق ّدوس ،القيّوم ،القاهر ،القهّار ،القريب ،القادر ،القدير ،قابل التوب ،القائم على كلّ نفس بما كسبت ،الكبير ،الك ريم،
الكافي ،اللطيف ،ال َم ِلك ،المؤمن ،المهيمن ،المتكبّر ،المص وّ ر ،المجي د ،المجيب ،الم بين ،ال َم وْ لى ،المحي ط ،المقيت،
المتعال ،المحيي ،المتين ،المقتدر ،المستعان ،المبدئ ،المعيد ،مالك الملك ،النّصير ،النور ،الوهّاب ،الواح د ،ال ولي،
الوالي ،الواسع ،الوكيل ،الودود ،الهادي.
)( 1رواه الترمذي ،وابن المنذر ،وابن حبان ،والحاكم ،والبيهقي ،انظر :الدرّ المنثور.٦۱٤ / ۳ :
84
الوص ول إلى مش اهدتهما ..ثم في ك ل واح د من المع اني الثالث ة كم ال ونقص ان..
فالكم ال في قل ة الوج ود أن يرج ع إلى واح د إذ ال أق ل من الواح د ،ويك ون بحيث
يستحيل وجود مثله) ()1
ثم بين انطباق هذه المعاني على هللا تع الى ،فق ال( :وليس ه ذا إال هللا تع الى،
فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليس ت واح دة في اإلمك ان ،فيمكن وج ود
مثلها في الكمال والنفاسة ..وشدة الحاجة أن يحتاج إليه ك ل ش يء ح تى في وج وده
وبقائه وصفاته وليس ذلك على الكمال إال هلل عز وجل ..والكمال في صعوبة المنال
أن يستحيل الوصول إليه على معنى اإلحاطة بكنهه ،وليس ذل ك على الكم ال إال هلل
عز وجل ،فال يعرف هللا إال هللا ،فهو العزيز المطلق الحق ال يوازيه غيره)
وق ال آخ ر في اس م هللا [الحكيم]( :للحكم ة معني ان :مع نى علمي ،ومع نى
عملي ..أم ا المع نى العلمي ،فه و معرف ة أفض ل األش ياء بأفض ل العل وم ..وأج ل
األشياء هو هللا سبحانه وتعالى ،وال يعرف كنه هللا غير هللا ،ولذلك فهو الحكيم الحق
ألنه يعلم أجل األشياء بأجل العلوم ..إذ أجل العل وم ه و العلم األزلي ال دائم ال ذي ال
يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة ال يتطرق إليها خفاء وال شبهة ،وال يتص ف
بذلك إال علم هللا سبحانه وتعالى ..وأما المعنى العملي ،فإنه يق ال لمن يحس ن دق ائق
الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيم ،وكمال ذلك أيضا ليس إال هلل تع الى فه و
الحكيم الحق الذي دل على حكمته كل شيء)()2
اإلحصاء الوجداني:
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن اإلحصاء الثالث ه و االنفع ال
والتأثر لها ،نتيجة التعمق في معانيها ،وهو ما يجعلك تتعام ل بك ل اس م بحس ب م ا
يقتضيه من تعظيم وإجالل.
وله ذا ارتب ط ذك ر أس ماء هللا تع الى بالس جود ال دال على التعظيم ،كم ا ق ال
تعالى في اسم هللا [الرحمن] ،ونفور المشركين منه لعدم إيمانهم به ،وإحصائهم ل ه:
﴿ َوإِ َذا قِي َل لَهُ ُم ا ْس ُجدُوا لِلرَّحْ َم ِن قَالُوا َو َما الرَّحْ َمنُ أَنَ ْس ُج ُد لِ َم ا تَأْ ُم ُرنَ ا َوزَا َدهُ ْم نُفُ ورًا﴾
[الفرقان]60 :
والس جود يع ني االنفع ال األعظم ،والت أثر األك بر ،وال ذي ال يكتفي ب القلب،
وإنما يسري إلى الجوارح ،ويجعلها خاشعة خاضعة مستكينة ذليلة لخالقه ا ..ول ذلك
كان السجود عالمة القرب ،كما قال تعالىَ ﴿ :كاَّل اَل تُ ِط ْعهُ َوا ْس ُج ْد َوا ْقتَ ِربْ ﴾ [العل ق:
]19
ومن آثار االنفعال ـ أيها المريد الصادق ـ أن يجعلك غني ا برب ك عمن س واه،
ذلك أنك تجد في أسمائه الحسنى كل الطلبات التي تريدها.
ول ذلك ك ان من اإلحص اء دع اء هللا بأس مائه الحس نى المرتبط ة بالحاج ات
89
االسم المفرد
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخ برني أن ك بع د إرس ال رس التي الس ابقة
إليك ،والتي أجبتك فيها عن معنى إحص اء األس ماء ،وآثاره ا الروحي ة والتربوي ة،
رحت تطبق ذلك على بعض األسماء الحسنى ،وأنك قد رأيت تأثيرها الكبير علي ك،
وعلى ترسيخ معانيها في نفسك.
لكنك عن د ذك رك الس م [هللا] ،أو م ا يطل ق علي ه [االس م المف رد] ،وبع د أن
وجدت حالوته في قلبك إثر ترديدك الكثير له ،وردتك نص يحة من بعض إخوان ك،
يذكر لك فيها بدعية ذلك الترديد ،وأن رسول هللا لم يفعله ،وأن السنة في ترك ه،
وذكر لك من مقوالت العلماء ما يثبت ذلك.
ومن أهم ما ذكر ل ك من أدل ة على ذل ك أن ال ذكر باالس م المف رد ليس مفي دا
لمع نى من المع اني بخالف غيره ا من األذك ار المفي دة ل ذلك ،وق د نقلت لي ق ول
بعضهم في هذا ،حيث قال( :الشرع لم يستحب من الذكر إال ما كان كالما تاما مفيدا
مثل ال إله إال هللا ومثل هللا أكبر ومثل سبحان هللا والحمد هلل ومث ل ال ح ول وال ق وة
إال باهلل) ( ،)1وقال( :وأما االسم المفرد مظهرا أو مضمرا فليس بكالم تام وال جمل ة
مفيدة وال يتعلق به إيم ان وال كف ر وال أم ر وال نهى ولم ي ذكر ذل ك أح د من س لف
األمة وال شرع ذلك رس ول هللا وال يعطى القلب بنفس ه معرف ة مفي دة وال ح اال
نافعا ،وإنما يعطيه تصورا مطلقا ال يحكم عليه بنفي وال إثبات فان لم يق ترن ب ه من
معرفة القلب وحالة ما يفيد بنفس ه وإال لم يكن في ه فائ دة والش ريعة إنم ا تش رع من
األذكار ما يفيد بنفسه ال ما تكون الفائدة حاصلة بغيره) ()2
بل نقلت لي عن آخر ما هو أعظم من ذلك ،حيث ق ال( :ف إن إطالق الجالل ة
منفردا عن إخبار عنها بقولهم (هللا هللا) ليس بكالم وال توحيد ،وإنما هو تالعب بهذا
اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي ثم إخالؤه عن معنى من المعاني ،ول و أن
رجال عظيما صالحا يسمى بزيد وصار جماعة يقولون (زيد زيد) لعد ذلك استهزاء
وإهانة وسخرية ،وال سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ) ()3
إلى آخ ر النص وص الكث يرة ال تي نقلته ا لي ،وذك رت أنه ا لجهاب ذة العلم اء
وحف اظ الح ديث ،وغ يرهم ،وال ذين ال يمكن ني التش كيك في ص دقهم وإخالص هم
واجتهادهم ،لكني مع ذلك يمكنني التشكيك في فهمهم ،وفي األدلة التي يعرضونها.
وأول ذلك اعتبارهم اسم هللا مشابها السم زيد أو عم رو ..ومع اذ هللا أن يق ال
مثل هذا ..فزيد بشر ،وال يمكن التلفظ باسمه مجردا عن الغرض الذي ذكر ألجل ه..
واسم زيد قد ينطبق على مئات وآالف من األشخاص ..وزيد لم يطالب بأن يسبح أو
)(1فتاوى ابن تيمية.10/556 :
)(2مجموع الفتاوى .10/226
)(3الصنعاني في تطهير االعتقاد ص .48
90
ينزه أو يقدس أو يكبر..
أما اسم هللا فمختلف تماما ،ذلك أن مجرد التلفظ به مع حض ور القلب يجع ل
صاحبه حاضرا مع هللا ،مستشعرا لوجوده وعظمته وكماله وتنزيه ه وك ل الحق ائق
التي تصل القلب به.
وال يض ر أن ال ي ذكر تل ك المع اني ال تي يستحض رها قلب ه؛ ألن المطل وب
األصيل في الذكر هو ذل ك الش عور ال ذي يج ده القلب ،وال ذي يعين علي ه اللس ان..
فاللسان ليس مقصودا من ذات ه ،وإنم ا الغ رض من ه تنبي ه القلب ح تى يعيش مع نى
الذكر.
وله ذا ت رى الق رآن الك ريم ق د يس تغني عن ذك ر بعض األلف اظ ال تي ال تتم
المعاني إال بها ،نتيجة حضورها في الذهن من غير حاج ة ل ذكرها ،ه و م ا يس ميه
اس أ َ ِل ْالقَرْ يَ ةَ الَّتِي ُكنَّا فِيهَ ا﴾ [يوس ف،]82 : ﴿و ْالعلماء مجاز الحذف ،كقوله تع الىَ :
فإن المراد الظاهر منها هو أهل القرية ،وليس القرية بحد ذاتها..
ك﴾ [الفجر ]22 :أي أمره أو عذاب ه أو مالئكت ه، ومثله قوله تعالىَ ﴿ :و َجا َء َربُّ َ
ألن العقل دل على أصل الح ذف ،والس تحالة مجيء هللا تع الى عقال ،ف المجيء من
سمات الحدوث.
وغيرها من اآليات الكريمة التي تستغني عن ذكر الكث ير من التفاص يل بن اء
على ورودها في الذهن من غير حاجة لأللفاظ التي تدل عليها.
وهكذا األمر بالنسبة لل ذاكر الس م هللا ،فه و يع بر أثن اء ذك ره هلل عن مع اني
مختلفة ت رد على نفس ه أثن اء ذل ك ال ذكر ..فق د يك ون حينه ا س ائال ،أو منزه ا ،أو
مكبرا ،أو مسبحا ..أو غيرها من المعاني التي ال يمكن حصرها أو التعبير عنها.
ولذلك ورد في دعاء كميل الذي علّمه اإلمام علي للصحابي الجليل كمي ل بن
زياد قوله( :يَا َم ِن ا ْس ُمهُ دَوا ٌء َو ِذ ْك ُرهُ ِشفا ٌء) ،وه و يع ني أن اس م [هللا] نفس ه دواء..
أي هو الوسيلة التي يتحقّق من خاللها شفاء الصدور من أسقامها ،ورقي الروح إلى
بارئها ،كما تتحقق به كل الحاجات في الدنيا واآلخرة.
االسم المفرد وأدلته الشرعية:
ولذلك ،إياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعتق د أن اس م هللا ال يختل ف عن اس م
زيد أو عمرو من الناس ،فمعاذ هللا أن يقول ذلك مسلم.
وكيف يقوله ،وهللا تعالى ي دعو في الق رآن الك ريم إلى ذك ر اس مه ص ريحا،
ومن دون ربطه ب أي مع نى من المع اني ،ال التس بيح وال التحمي د وال التكب ير ،وال
اس َم َربِّكَ َوتَبَتَّلْ إِلَ ْي ِه تَ ْبتِياًل ﴾ [المزم ل،]8 : ﴿و ْاذ ُك ِر ْ غيرها من المعاني ،قال تعالىَ :
صي ﴾ [اإلنسان]25 : اًل وقالَ ﴿ :و ْاذ ُك ِر ا ْس َم َربِّكَ بُ ْك َرةً َوأَ ِ
ت
واعتبر من المقاصد الكبرى لبناء المساجد ذكر اسم هللا ،قال تعالى﴿ :فِي بُيُ و ٍ
صا ِل﴾ [النور]36 : أَ ِذنَ هللا أَ ْن تُرْ فَ َع َوي ُْذ َك َر فِيهَا ا ْس ُمهُ يُ َسبِّ ُح لَهُ فِيهَا بِ ْال ُغد ُِّو َواآْل َ
﴿و َم ْن أَ ْ
ظلَ ُم ِم َّم ْن َمنَ َع واعتبر من الظلم العظيم منع ذكر اسمه فيها ،قال تع الىَ :
91
َم َسا ِج َد هللا أَ ْن ي ُْذ َك َر فِيهَا ا ْس ُمهُ﴾ [البقرة]114 :
وهكذا أمر هللا تعالى رسوله أن يذكر اسمه عند إعراضه عن المس تهزئين:
ض ِه ْم يَ ْل َعبُونَ ﴾ [األنعام]91 : ﴿قُ ِل هللا ثُ َّم َذرْ هُ ْم فِي َخوْ ِ
باإلضافة إلى هذا كله ،فإن القرآن الك ريم ي دعو إلى ذك ر أس ماء هللا الحس نى،
﴿وهللواسم هللا أحدها ،بل هو أكثرها ترددا ،فهو مصاحب لكل األذكار ،قال تع الىَ :
اأْل َ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى فَ ا ْدعُوهُ بِهَ ا َو َذرُوا الَّ ِذينَ ي ُْل ِح ُدونَ فِي أَ ْس َمائِ ِه َس يُجْ َزوْ نَ َم ا َك انُوا
يَ ْع َملُونَ ﴾ [األعراف ،]180 :وقال﴿ :قُ ِل ا ْدعُوا هللا أَ ِو ا ْدعُوا الرَّحْ َمنَ أَيًّا َما تَ ْدعُوا فَلَهُ
اأْل َ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى﴾ [اإلسراء]110 :
وهكذا ورد في السنة المطهرة م ا يش ير إلى مش روعية ذل ك ،واس تحبابه ،ففي
الحديث عن رسول هللا أنه قال( :ال تقوم الساعة ح تى ال يق ال في األرض( :هللا
هللا()2( ))1وفي رواية (ال تقوم الساعة حتى ال يبقى على وج ه األرض من يق ول هللا
هللا)()3
و أبلغ شاهد يُعتمد عليه في هذا الحديث( ،هو مجيء لفظ الجاللة مك ررًا فك ان
صريحا في إرادته ذكر ذلك االسم ،أما لو جاء غير مكرر الحتمل أن يك ون الم راد
به ،حتى ال يبقى على وجه األرض من يعتقد وجود (هللا) أما مع وجود التك رار فال
احتمال)()4
وعلى فرض أنه ال يوجد في الشرع الشريف أي دليل على ج واز تك رار ذل ك
االسم( ،فكذلك ال يوجد فيه أيضا ما يفيد المنع من تك راره على اللس ان ،أو م روره
على القلب ،بل ليس في الشرع على ما يظهر ما يمنع من تكرير أي اسم من أس ماء
المحدثات ،إذا صح هذا ،فكيف يوجد ما يمنع من التلفظ باسم من أسماء هللا الحس نى
؟ فحاشا أن يوج د في الش رع م ا ه و قبي ل ه ذه التعس فات والتنطع ات ،ال تي تل زم
المؤمن أن ال يردد اسم مواله على لسانه ،ب أن يق ول (هللا هللا) ،أو م ا في معن اه من
بقية أسمائه)()5
وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن الصحابة التي ت دل على ذل ك ،ومنه ا م ا
روي عن عطاء قال :كنت عن د س عيد بن المس يب ف ذكر بالال فق ال( :ك ان ش حيحا
على دينه وكان يعذب في هللا عز وجل ،وكان يعذب على دينه فإذا أراد المش ركون
أن يقاربهم قال( :هللا هللا) ()6
)(1قال اإلمام النووي في شرح مسلم ( :2/178قوله على أحد يقول (هللا هللا) هو برف ع اس م هللا تع الى وق د
يغلط فيه بعض الناس فال يرفعه ،واعلم أن الروايات كلها متفقة على تكرير اسم هللا تع الى في الرواي تين وهك ذا ه و
في جميع األصول قال القاضي عياض رحمه هللا :وفى رواية بن أبى جعفر يقول :ال إله إال هللا ،وهللا سبحانه وتع الى
أعلم)
)(2صحيح مسلم 1/131
)(3مسند البزار ()169 /13
)(4ابن عليوة ،القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد ،ص.19
)(5المرجع السابق ،ص.19
)(6مصنف عبد الرزاق 11/234وشعب البيهقي 2/238وتاريخ ابن عساكر 443/ 10واالستيعاب البن عبد
البر 1/181
92
وعن ابن مسعود قال( :فم ا منهم من أح د إال وق د وات اهم على م ا أرادوا إال
بالال فإنه هانت عليه نفسه في هللا وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الول دان فجعل وا
يطوفون به في شعاب مكة ،وهو يقول( :أحد أحد) ()1
وهكذا كان شعار الصحابة في غزوة بدر (أحد أحد) ()2
وق د كتب بعض المش ايخ رس الة في ال رد على المنك رين على ال ذكر باالس م
ُ
رفت المفرد ،ذكر سبب كتابته لها ،فقال( :أما بعد أيه ا األخ المح ترم ،فق د ُ
كنت تش
بزيارتكم صحبة صديق الجميع حضرة الشيخ ...وبمناسبة ما دار بيننا من الح ديث،
في تلك السويعات التي رأيتكم فيها موغر الصدر على إخوانكم ،حس بما الح لي في
ذلك الحين ،ال لذنب ارتكبوه سوى أنهم مولعون بإجراء االسم المفرد على ألسنتهم،
وهو قولهم( :هللا) ،فظهر لكم أن ذلك مم ا يس تحق علي ه العت اب ،أو نق ول العق اب،
ألنكم قلتم إنهم يلهجون بذكر ذلك االس م بمناس بة أو غ ير مناس بة ،س واء عليهم في
األزقة ،أو غيرها من األماكن التي ال تليق للذكر ،ح تى أن أح دهم إذا ط رق الب اب
يقول( :هللا) ،وإذا ناداه إنسان يق ول( :هللا) ،وإذا ق ام يق ول( :هللا) ،وإذا جلس يق ول:
(هللا) ،إلى غير ذلك مما جرى به الحديث)()3
ثم رد علي ه بوج وه من األدل ة منه ا أن ال ذكر ورد في الش رع مطلق ا لم يح دد
(بوقت دون وقت ،أو مكان دون مكان ،والمعنى أن سائر األزمنة واألمكن ة مناس بة
لذكر هللا ،واإلنسان مطلوب في جميع ذلك بعمارة أوقاته ،وبرفع ل وازم الغفل ة ،من
أن تس تحكم على مش اعره وتس تولي على إدراكات ه ..وبعب ارة أخ رى :إن ال ذكر
محمود على كل حال ،والغفلة مذمومة على كل حال) ()4
ومنها ورود النص وص القرآني ة والنبوي ة الدال ة على تح ريم الغفل ة والتح ذير
منه ا ،وه و م ا يقتض ي ذك ر هللا في ك ل األح وال ،ومنها قول ه ( :م ا من ق وم
يقومون من مجلس ال يذكرون هللا فيه ،إال قاموا عن مثل جيفة حم ار ،وك ان عليهم
حسرة يوم القيامة)()5
ومنها ورود النصوص الخاصة بدليل جواز مثل هذا أو اس تحبابه ،كقول ه :
(عليك بتقوى هللا ما استطعت ،واذك ر هللا عن د ك ل ش جر وحج ر)( ،)6والم راد من
اإلطالق تعميم الزمان والمكان ..ومثل ذلك ما روي أنه ( كان يذكر هللا على كل
أحيانه) ()7
)(1مصنف ابن أبي شيبة 6/396ومس ند أحم د 1/404وس نن ابن ماج ه 1/53وص حيح ابن حب ان 15/558
ومستدرك الحاكم في 3/320
)(2سيرة ابن هشام 3/182
)(3ابن عليوة ،القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد ص.6
)(4المرجع السابق ،ص.21
)(5أبو داود سليمان بن األش عث الس ِِّج ْس تاني ،س نن أبي داود ،المحق ق :محم د مح يي ال دين عب د الحمي د ،دار
الفكر)264 /4( ،
)( 6قال في مجمع الزوائد( :رواه الطبراني وإسناده حسن) (انظر :الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي،
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،دار الفكر ،بيروت ،طبعة 1412هـ ،الموافق 1992ميالدي)15 /10( ،
)(7صحيح البخاري ()83 /1
93
ومنها أن األحكام الشرعية ال يرجع فيها لالش مئزار أو للرض ى ،وإنم ا يرج ع
فيها إلى المصادر الش رعية ،وق د ق ال ل ه في ذلك( :و على ف رض أن تش مئز من ه
بعض النفوس غير المتعودة على استماع األذكار ،فالواجب على المص نف إذا أراد
الحكم على غيره ،أن ال يحكم إال بما يراه حكما عند هللا ورسوله ،ال بما يخت اره
هو بطبيعته ،ويستحسنه في نظره ،وغير خاف أن كون اإلنس ان ق د يستحس ن ش يئا
ويس تقبحه غ يره ،وله ذا ك ان ال واجب علين ا أن ال نرج ع لالستحس انات ،ونكتفي
باختي ارات دون اختي ارات الش رع لن ا ،وإ ًذا ف الواجب على من ي ؤمن باهلل والي وم
اآلخر ،أن يقف عند النصوص الشرعية ،ويعمل بمقتضاها ،بدون ما يختار من عند
ض ى هللا َو َر ُس ولُهُ
نفسه شيئا إال ما اختاره هللا لهَ ﴿ ،و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َوال ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ
ه ْم﴾ [األحزاب)1(]36 : أَ ْمرًا أَ ْن يَ ُكونَ لَهُ ُم ْال ِخيَ َرةُ ِم ْن أَ ْم ِر ِ
وهكذا راح يجيب على اإلشكاالت التي أوردها المخالفون ،والتي ذكرت ل ك
بعضها ،ومنها اعتبارهم أنه ال يؤلف جملة مفيدة تامة يحسن السكوت عليها ،كقولنا
(هللا غفور) ،وقد ع بر الش يخ عن ه ذا اإلش كال ،فق ال( :من جه ة أخ رى أنكم كنتم
ترون أن هذا االسم ،ال يصلح أن يكون ذكرا ،وال هو من أقسام الكالم المفيد ،جري ا
منكم على ما اشترطه النحويون ،من لزوم التركيب ،في تعريفهم الكالم المفيد)()2
وقد رد على هذا اإلشكال بوجوه من األدلة ،منها أن النحويين عند اشتراطهم
لزوم التركيب فيما يعتبر كالم ا أرادوا من خالل ذل ك تعري ف الكالم ال ذي تتوق ف
عليه إفادة السامع ،وهذا القيد (بعي ٌد أن ينطبق على األذك ار ،وم ا يخص ها من جه ة
المشروعية أو عدمها ،وم ا ي ترتب على ذل ك من الث واب ونح وه ،والش ك أن ك ل و
س ألتهم في ذل ك الحين ،أو ه ذا الحين ،ألج ابوك ق ائلين :إن م ا قررن اه ه و مج رد
اصطالح نعتمده في عرفنا ،وال مشاحة في االصطالح) ()3
ومنها أن االصطالح الذي اصطلح عليه أهل الفنون والعلوم المختلفة ال عالق ة
له باألحكام الشرعية ،وال تأثير له عليها ،ولهذا ق د نج د المص طلح الواح د يتداول ه
أصحاب العلوم المختلفة ،وكل يريد منه غير ما يريد اآلخر.
ومنها أنه حتى لو طبقنا المقاييس التي ذكرها المتكلم ون ،فإنه ا ال تنطب ق على
هذا الذكر ذلك أن (ما اشترطه النحويون من لزوم ال تركيب ،ه و خ اص بمن يري د
بكالمه إفادة غيره ،أما الذاكر فال يقصد ب ذكره إال إف ادة نفس ه ،وتمكين مع نى ذل ك
االسم من قلبه ،أو ما يشبه تلك المقاصد) ()4
ومنها أن النحويين لم يشترطوا هذا الشرط في ك ل األح وال ،ب ل إنهم في ح ق
المتوجه أو المتأوه لم يشترطوا وجود التركيب فيما يبرز من لسانه ،ألن قصده غير
ُ
فهمت قصد النحويين ،ومن البعيد أن يقول النح وي للمتوج ه أو للمت أوه( :إن ني م ا
)(1ابن عليوة ،القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد ،ص.23
)(2المرجع السابق ،ص.7
)(3المرجع السابق ،ص.7
)(4المرجع السابق ،ص.7
94
مقصودك من تأوهك) ،ألنه لفظ غير مركب يحتاج إلى خبر أو شبه ذلك! وهذا كل ه
ال يتفق مع مقصود المتوجع ،ألنه ال يقصد إف ادة غ يره ،إنم ا يقص د ال ترويح ب ذلك
اللفظ على نفسه ..وهكذا ذاكر االسم ،ال يقصد إال تمكين أثر ذل ك االس م من نفس ه)
()1
ومنها أن لكل كلمة في اللغة تأثيرها الخ اص في النفس ،ف إذا كرره ا ص احبها
أحدثت في نفسه تأثيرا خاصا ،وهذه حقيقة يقررها علم النفس الحديث ،يقول الشيخ:
(و أنت تعلم يا حضرة األخ ،من أن لكل اسم أثرا يتعلق بنفس ذاكره ،ول و من غ ير
األسماء اإللهية ،حتى إن اإلنسان إذا ردد على لس انه ذك ر الم وت مثال ،فإن ه يحس
بأثر يتعلق بالنفس ،من ذكر ذلك االسم ،بالخصوص إذا داوم عليه ،وال شك أن ذلك
األثر هو غير األثر المستفاد من ذكر الم ال ،أو الع ز ،أو الس لطان ،ول وال مراع اة
ذلك األثر ،لما ورد في الحديث الشريف( :أك ثروا من ذك ر ه ادم الل ذات) ( )2يع ني
الموت ،وال شك أنها كلمة مفردة ،وقد ورد أنها كانت وردا لبعض السلف)()3
ومنها أن ه يمكن ،وعن طري ق كالم النح ويين ،أن نثبت أن االس م المف رد ليس
كلمة مجردة ،وإنما جمل ة مفي دة ،يق ول الش يخ( :ثم أق ول :إن جمي ع م ا ق دمناه ه و
جري من على سبيل الفرض ،من جهة كون ه اس ما مف ردا غ ير منظم لش يء ،ول و
على سبيل التقدير .أما إذا استطلعنا الحقيقة وأمطنا القن اع ،فإنن ا نس تطيع أن نق ول:
إنه مما يجوز ذكره ح تى على ق ول من يش ترط ال تركيب .ألن ه في الواق ع من ادى،
والمنادى عن دهم من أقس ام الكالم المفي د ،ألنهم أول وا ح رف الن داء بمع نى أدع و،
وحذفه جائز وشائع في لغة العرب ،وكثيرًا ما ي دعو المق ام لحذف ه لزوم ا ،كم ا في
القضية هنا مراعاة لما تطلبه منا اآلداب القرآنية والتعاليم اإلسالمية ،التي قد يك ون
منها للسادة الصوفية أكثر مما لغيرهم)()4
وبناء على هذا يمكن اعتبار ذاكر االسم المفرد ،وكأنه يقول :يا هللا ارحمن ا ،أو
اغف ر لن ا أو نح و ذل ك ،واس تدل ل ه بم ا ذك ره النحوي ون في ه ذا ،وه و مع روف
مشهور(.)5
ومنها أن استدالل المخالف باشتراط النقل من فعل السلف صعب جدا ذل ك أن ه
(ال يتأتى حصر ما كان يجري على ألسنة السلف من صيغ األدعية واألذكار ،ح تى
نستطيع أن نقول هذا االس م لم يكن ذك رًا للس لف على س بيل القط ع ،أو ه ذا االس م
كانوا ال يرونه ذكرًا ،كل ذلك لقص ورنا عن اإلحاط ة بجمي ع م ا ك ان يج ري على
ألس نتهم في خل واتهم وجل واتهم وس قمهم وع افيتهم ،ومن البعي د أن نعتق د ك ون
الصحابة ما كان يمر على ألسنتهم اسم الجاللة مك ررا (هللا هللا) ب رأهم هللا من مث ل
)(1اإلحياء .3/77
)(2ابن عليوة ،القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد ،ص.16
)(3المقصد األسنى (ص)62 :
)(4التفسير الكبير.1/155 :
)(5حاشية إعانة الطالبين للدمياطي .1/10
98
سلطان األسماء ،وله بساط وثمرة ،فبساطه العلم ،وثمرته النور ،فينبغي اإلكثار من
ذكره ،لتضمنه جميع ما في ال اله إال هللا من العقائد والعلوم واآلداب والحقائق) ()1
ومثله ق ال الش يخ ابن عط اء هللا االس كندري( :منهم من اخت ار ال إل ه إال هللا
محمد رسول هللا في االبتداء واالنتهاء ،ومنهم من اخت ار ال إل ه إال هللا في االبت داء،
وفي االنتهاء االقتصار على هللا وهم األكثرون ،ومنهم من اختار (هللا هللا)()2
ومثله قال الش يخ أحم د زروق( :وله ذا اخت اره المش ايخ [ أي ال ذكر باالس م
المفرد ] ورجح وه على س ائر األذك ار وجعل وا ل ه خل وات ووص لوا ب ه إلى أعلى
المقام ات والوالي ات وإن ك ان فيهم من اخت ار في االبت داء (ال إل ه إال هللا) وفي
االنتهاء (هللا هللا) ()3
ومثل ه ق ال الش يخ الغرن اطي الكل بي( :وأم ا األس ماء ال تي معناه ا االطالع
واإلدراك ك العليم والس ميع والبص ير والق ريب وش به ذل ك فثمرته ا المراقب ة وأم ا
الصالة على النبي فثمرتها ش دة المحب ة في ه والمحافظ ة على اتب اع س نته وأم ا
االستغفار فثمرته االستقامة على التقوى والمحافظ ة على ش روط التوب ة م ع إنك ار
القلب بسبب الذنوب المتقدمة) ()4
ومثله الشيخ زكريا األنص اري ،وق د ق ال بعض هم يص ف ذك ره هلل( :ومنهم
ش يخ اإلس الم الش يخ زكري ا األنص اري الخ زرجي أح د أرك ان الط ريقين الفق ه،
والتصوف ،وقد خدمته عشرين سنة فما رأيته قط في غفلة وال اشتغال بم ا ال يع ني
ال ليال ،وال نهاراً ،وكان رضي هللا عنه مع كبر سنه يص لي س نن الف رائض قائم اً،
ويق ول ال أع ود نفس ي الكس ل ،وك ان إذا ج اءه ش خص ،وط ول في الكالم يق ول:
بالعجل ضيعت علينا الزمن ،وكنت إذا أصلحت كلمة في الكتاب ال ذي أق رؤه علي ه
أسمعه يقول :بخفض صوته (هللا هللا) ال يفتر حتى أفرغ) ()5
ومثله الشيخ عبد الرؤوف المناوي ،فقد قال (قالوا وليس للمس افر إلى هللا في
سلوكه أنفع من الذكر المفرد القاطع من األفئدة األغيار وهو هللا) ()6
وقال( :ويقعد فارغ القلب مجموع الهم وال يفرق فكره بقراءة وال غيره ا ب ل
يجتهد أن ال يخطر بباله شيء سوى ذك ر هللا فال ي زال ق ائال بلس انه( :هللا هللا) على
الدوام مع حض ور قلب ه إلى أن ينتهي إلى حال ة ي ترك تحري ك اللس ان وي رى ك أن
الكلمة جارية عليه ثم يصير إلى أن ينمحي أثره من اللس ان فيص ادف قلب ه مواظب ا
على الذكر ثم تنمحي ص ورة اللف ظ ويبقى مع نى الكلم ة مج ردا في قلب ه ال يفارق ه
وعند ذلك انتظار الفتح)()7
)(3الترمذي ()3524
)(4البخاري (الفتح )6345 /11ومسلم ()2730
103
ه و ل ك ،س ّميت ب ه نفس ك ،أو أنزلت ه في كتاب ك ،أو علّمت ه أح دا من خلق ك ،أو
اس تأثرت ب ه في علم الغيب عن دك أن تجع ل الق رآن ربي ع قل بي ،ون ور ص دري،
وجالء حزني ،وذهاب ه ّمي وغ ّمي ،إاّل أذهب هللا ه ّمه وغ ّمه ،وأبدله مكانه فرحا)،
سمعهن أن يتعلّ ّ
مهن)()1 ّ قالوا :يا رسول هللا أفال نتعلّ ّ
مهن؟ قال( :بلى ينبغي لمن
وعن اإلمام علي قال( :علمني رسول هللا إذا ن زل بي ك رب أن أق ول :ال
إله إال هللا الحليم الكريم ،سبحان هللا وتبارك هللا رب العرش العظيم ،والحمد هلل رب
العالمين) ()2
بأن لك الحم د ال إل ه إاّل أنت الحنّ ان
وكان يقول في دعائه( :الله ّم إنّي أسألك ّ
ي يا قيّوم)()3المنّان بديع السّماوات واألرض يا ذا الجالل واإلكرام يا ح ّ
فهذه األدعية جميعا ممتلئة بالمعارف اإللهية ،وكأن الغرض منها تنبيه الذهن
إلى قدرة هللا تعالى على إزاله كل ك رب أو ح زن أو بالء ،وأن ه ف وق قدرت ه رحيم
لطيف بعباده عليم بأحوالهم ..وكل ذلك يجعل القلب مستعدا ألن يعيش تلك الحقائق،
ال أن يرددها بلسانه فقط.
وهكذا نجد أدعي ة أئم ة اله دى ممتلئ ة بالمع ارف اإللهي ة ،وبأحس ن عب ارة،
وأدق إشارة ،وبلغة جميلة بسيطة يفهمها العامة والخاصة ،كل بحسبه.
ومن أجمل تلك األدعية ،دعاء اإلمام الحسين يوم عرفة ،فه و وح ده مدرس ة
عقدية كاملة ،تؤسس لعالقة إيمانية وثيقة مع هللا ،تختلف عن ذلك الجدل والتحريف
الذي أسست له الكثير من المدارس الكالمية.
ومن األمثلة على ذلك أنه عند مطالعة المقطع األول من الدعاء ،وال ذي يب دأ
بق ول اإلم ام الحس ين( :الحم د هلل ال ذي ليس لقض ائه داف ع ،وال لعطائ ه م انع ،وال
كصنعه صنع صانع)( ،)4وينتهي بقوله( :وليس كمثله شيء ،وهو الس ميع البص ير،
اللطي ف الخب ير ،وه و على ك ل ش يء ق دير) ن رى الكث ير من المع ارف المتعلق ة
بالكم ال اإللهي ،والمص اغة بطريق ة ال يمكن أن نج د مثله ا في المت ون ،وال كتب
العقائد التي صاغها المتكلمون والممتلئة بالجفاف.
فهو يذكر إرادة هللا وقضاءه ال ذي ال يمكن ألح د أن يدفع ه( :الحم د هلل ال ذي
ليس لقضائه دافع) ،وهو يرد بذلك على ك ل التي ارات ال تي ح دت من إرادة هللا ،أو
تصورت إمكانية معارضتها.
وهو يذكر جود هللا وكرمه المنبني على قدرته المطلق ة( :وال لعطائ ه م انع)،
(وهو الجواد الواسع)
وهو يذكر ق درة هللا وإبداع ه في ص نعه( :وال كص نعه ص نع ص انع ..فط ر
أجناس البدائع ،وأتقن بحكمته الصنائع)
)(1أحمد ( )712وابن حبان ( )2372والحاكم ()509 /1
)(2أحمد ()91 /1
)(3أبو داود ( )1495والنسائي ،25 /3وابن ماجه ()3858
)(4انظر الدعاء كامال في :البلد االمين والدرع الحصين ،ص ،251بحار األنوار.95/217 :
104
وهو يذكر رقابة هللا وسمعه وبصره وحضوره مع ك ل ش يء ،وع دم غي اب
شيء عنه( :ال يخفى عليه الطالئع)
وهو ي ذكر خل ق هللا تع الى للخل ق ورحمت ه ورأفت ه بهم وهدايت ه لهم( :وه و
للخليقة صانع ،وهو المستعان على الفجائع ،ج ازي ك ل ص انع ،ورائش ك ل ق انع،
وراحم كل ضارع ،ومنزل المنافع والكتاب الجامع بالنور الساطع)
وهو يذكر أفعال هللا المرتبطة بخلق ه ،وس ماعه ألدعيتهم ،ورفع ه لكرب اتهم،
ومجازاته للمسيئين منهم( :وهو للدعوات سامع ،وللدرجات رافع ،وللكربات داف ع،
وللجبابرة قامع ،وراحم عبرة كل ضارع ،ودافع ضرعة كل ضارع)
وهكذا لو تأملن ا ه ذا المقط ع وح ده وج دنا في ه الكث ير من المع ارف اإللهي ة
المرتبط ة باألس ماء الحس نى ،ول ذلك أنص حك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ب ه وبك ل
األدعي ة ال واردة عن أئم ة اله دى ،فكله ا أدعي ة مبارك ة ،تمأل قلب ك يقين ا وإيمان ا
وتجعلك في تواصل دائم مع هللا.
الدعاء والتخلق:
أما عالقة الدعاء بالتخلق والسلوك؛ فإن مض امين ك ل األدعي ة ال واردة عن
الن بي وعن أئم ة اله دى ممتلئ ة بالمع اني األخالقي ة ،وال تي تجع ل من ال داعي
حريصا على رياضة نفسه عليها ،واالستعانة باهلل على ذلك.
ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الدعاء ال ذي اس تعاذ في ه من جمل ة من
األخالق السيئة ،وه و( :الله ّم إنّي أع وذ ب ك من العج ز والكس ل ،والجبن والبخ ل،
والهرم وعذاب القبر .الله ّم آت نفسي تقواها ،وز ّكها أنت خير من ز ّكاها .أنت وليّها
ومواله ا الله ّم إنّي أع وذ ب ك من علم ال ينف ع ،ومن قلب ال يخش ع ،ومن نفس ال
تشبع ،ومن دعوة ال يستجاب لها) ()1
فهذا الدعاء ليس مجرد استعاذة من تلك الخالل السيئة فق ط ،وإنم ا ه و تنبي ه
للنفس إلى كونها خالال سيئة ينبغي الح ذر واالبتع اد عنه ا ،وذل ك م ا يجع ل النفس
أكثر استعدادا لتلقي العالجات التي تخلصها منها.
ومث ل ذل ك م ا ورد في بعض أدعي ة الص باح والمس اء ،وه و (الله َّم ف اطر
واألرض ،عالِ َم الغيب وال َّشهادة ،ربَّ كل ش ي ٍء وملي َك ه ،أش هد أن ال إل ه
ِ ت
السموا ِ
ر الشيطان وشركه) ()2 ْ
إال أنت ،أعوذ بك من ش ِّر نفسي ،وش ِّ
ومثله ما ورد في بعض َدعَوات المك روب ،وه و (اللهم رحمتَ ك أرج و ،فال
تَ ِك ْلني إلى نفسي طَرْ فَةَ عين ،وأَصلِح لي َ
شأني كلَّه ،ال إله إال أنت) ()3
ومثل ه م ا ورد عن عم ران بن حص ين ،ق ال :ق ال رس ول هللا ألبي :ي ا
ُصينُ ،كم تَعبُد اليوم إلهًا؟ قال :سبعةِ :ستَّة في األرض ،وواحدًا في الس ماء ،ق ال: ح َ
فأيهم تع ُّد لرهبتك ورغبتك؟ ق ال :ال ذي في الس ماء ،ق ال :ي ا حص ينُ ،أ َم ا إن ك ل و
)(1رواه مسلم.
)(2الترمذي ()3389
)(3أبو داود ()5090
105
أسلمتَ َعلَّ ْمتُك كلمتين تنفَ َعانِك ،قال :فلما أس لم حُص ين ،ج اء فق ال :ي ا رس و َل هللا،
وأع ْذني من ش ِّر علِّ ْمني الكلمتين اللتين وعدتني ،ق ال( :ق ل :الله َّم أل ِهم ني رُش ديِ ،
نفسي) ()1
فمثل هذه األدعية تنبه إلى ش ر النفس ،وكون ه ال يختل ف عن ش ر الش يطان،
وهو ما يدعو إلى الحذر من الغرور والعجب وكل األمراض النفسية.
وهكذا نجد األدعية الكثيرة التي تنبه إلى القيم الروحية ،ومن ذلك ما ورد في
دعاء النوم ،والذي فيه الحقائق الدالة على التوك ل وتف ويض األم ور كله ا هلل :وه و
أت ت أ ْم ري إلي ك ،وألج ُ ض ُْت وجهي إلي ك ،وف َّو ْ أسلمت نَ ْفس ي إلي ك ،وو َّجه ُ
ُ (الله َّم
آمنت بكتابك الذي ُ ظَهْري إليك ،رغبة ورهبة إليك ،ال ملجأ وال منجا منك إال إليك،
مت على الفط رة ،وإن مت في ليلت ك َّ أن زلت ،وبنبيِّك ال ذي أرس لت ،فإن ك إن َّ
أصبحتَ أصبتَ خيرًا) ()2
ومثله الدعاء الذي أخبر رسول هللا أن داود علي ه الس الم ك ان ي دعو ب ه،
وه و مرتب ط بحب هللا ،وك ل م ا يثم ره من مح اب ،وه و( :اللهم إني أس ألك حبَّك،
ي من ك ،وحبَّ العم ل ال ذي يبلِّغ ني حبَّك ،اللهم اجع ل حبَّك أحبَّ إل َّ وحبَّ من ي ُِحبُّ َ
ن ْفسي وأهلي ومالي ،ومن الماء البارد) ()3
وغيرها من األدعية الكثيرة المروية عن رسول هللا ،والتي تشكل مدرسة
كامل ة في التزكي ة والترقي ة ..ومثله ا أدعي ة أئم ة اله دى الكث يرة ،ومن األمثل ة
الواضحة عنها دعاء مكارم األخالق ،والممتلئ بكل القيم األخالقية الرفيعة.
فمن مقاطع ال دعاء قول ه بع د الص الة والس الم على محم د وآل ه الط اهرين:
(اكفني ما يشغلني االهتمام به ،واستعملني بم ا تس ألني غ دا عن ه ،واس تفرغ أي امي
فيما خلقتني له ،وأغن ني وأوس ع علي في رزق ك ،وال تفت ني ب النظر ،وأع زني وال
تبتليني بالكبر ،وعبدني لك وال تفسد عبادتي بالعجب ،وأجر للناس على يدي الخ ير
وال تمحقه بالمن ،وهب لي معالي األخالق ،واعصمني من الفخر) ()4
ويقول في مقطع آخر( :ال ترفعني في الناس درجة إال حططت ني عن د نفس ي
مثلها ،وال تحدث لي عزا ظاهرا إال أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها)
ويقول( :متعني بهدى صالح ال أستبدل به ،وطريقة حق ال أزيغ عنه ا ،وني ة
رشد ال أشك فيها ،وعمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك ،فإذا كان عمري مرتعا
للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إلي ،أو يستحكم غضبك علي)
ويقول( :اللهم ال تدع خصلة تعاب مني إال أصلحتها ،وال عائبة أونب به ا إال
حسنتها ،وال أكرومة في ناقصة إال أتممتها)
ويقول( :أبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة ،ومن حسد أهل البغي الم ودة،
)(1الترمذي.
)(2البخاري ،ومسلم.
)(3رواه الترمذي
)(4الصحيفة السجادية ،الدعاء .20
106
ومن ظنة أهل الصالح الثقة ،ومن عداوة األدنين الوالية ،ومن عقوق ذوي األرحام
المبرة ،ومن خذالن األقربين النصرة ،ومن حب المدارين تص حيح المق ة ،ومن رد
المالبسين كرم العشرة ،ومن مرارة خوف الظالمين حالوة األمنة)
ويق ول( :س ددني ألن أع ارض من غش ني بالنص ح ،وأج زي من هج رني
بالبر ،وأثيب من حرمني بالبذل ،وأكافئ من قطعني بالص لة ،وأخ الف من اغت ابني
إلى حسن الذكر ،وأن أشكر الحسنة ،وأغضي عن السيئة)
ويق ول( :حل ني بحلي ة الص الحين ،وألبس ني زين ة المتقين ،في بس ط الع دل،
وكظم الغي ظ ،وإطف اء الن ائرة ،وض م أه ل الفرق ة ،وإص الح ذات ال بين ،وإفش اء
العارفة ،وستر العائب ة ،ولين العريك ة ،وخفض الجن اح ،وحس ن الس يرة ،وس كون
ال ريح ،وطيب المخالق ة ،والس بق إلى الفض يلة ،وإيث ار التفض ل ،وت رك التعي ير،
واإلفضال على غير المستحق ،والقول بالحق وإن ع ز ،واس تقالل الخ ير وإن ك ثر
من قولي وفعلي ،واستكثار الش ر وإن ق ل من ق ولي وفعلي ،وأكم ل ذل ك لي ب دوام
الطاعة ،ولزوم الجماعة ،ورفض أهل البدع ،ومستعملي الرأي المخترع)
ق لل دفع ع ني ،وال أظلمن وأنت الق ادر على ويق ول( :ال أظلمن وأنت مطي ٌ
القبض مني ،وال أضلن وق د أمكنت ك ه دايتي ،وال أفتق رن ومن عن دك وس عي ،وال
أطغين ومن عندك وجدي)
ويقول( :اللهم وأنطقني بالهدى ،وألهم ني التق وى ،ووفق ني لل تي هي أزكى،
واستعملني بم ا ه و أرض ى .اللهم اس لك بي الطريق ة المثلى ،واجعل ني على ملت ك
أموت وأحيا ..ومتعني باالقتصاد ،واجعلني من أهل السداد ،ومن أدلة الرشاد ،ومن
صالح العباد ،وارزقني فوز المعاد ،وسالمة المرصاد)
ويقول( :نبهني لذكرك في أوقات الغفلة ،واستعملني بطاعتك في أيام المهل ة،
وانهج لي إلى محبتك سبيال سهلة ،أكمل لي بها خير الدنيا واآلخرة)
وهك ذا ت رى ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ه ذا ال دعاء وغ يره مليئ ا بالمع اني
األخالقية التي تنبه النفس إلى ضرورة التزكية واإلصالح ،فالدعاء ليس طلبا فق ط،
وإنما هو مدرسة تربوية متكاملة.
107
التضرع واالستغاثة
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التضرع واالستغاثة وعالقتهم ا
بالدعاء ،وهل هما نفسه أم غيره ،وعن آثارهما في التزكية والترقي ة ،وعن س ر م ا
ورد حولهما في النصوص المقدسة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التضرع إلى هللا واالستغاثة ب ه ،وإن
كانا يتفقان مع الدعاء في كون كليهما مرتبطا بطلب الحاج ات من هللا إال أن الف رق
بينهما هو في كون الدعاء قد يكون بتضرع واستكانة وقد ال يكون كذلك ..فقد يكون
الداعي غافال الهيا غير مضطر لحاجته ،وال ملحا في تحص يلها ،ول ذلك ق د يك رر
أن واع األدعي ة ال تي يحفظه ا ،أو يس معها من غ ير أن يك ون ج ادا وال ص ادقا في
طلبها.
أما التض رع؛ فه و تل ك المس كنة ال تي يظهره ا ال داعي إلى هللا ،إم ا بس بب
معرفته هلل ،أو بسبب حاجته الش ديدة لم ا يطلب ه ،ول ذلك يظه ر ك ل أن واع المس كنة
والمذلة لتحقيقها..
ولذلك يرتبط التضرع في القرآن الكريم بأنواع البالء التي يص بها هللا تع الى
على عباده ،إلخراجهم من كبرهم وغرورهم ،ليستشعروا حاجتهم إلى هللا ،وفق رهم
الض رَّا ِءإليه ،كما قال تع الىَ ﴿ :ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا إِلَى أُ َم ٍم ِم ْن قَ ْبلِ كَ فَأَخَ ْذنَاهُ ْم بِ ْالبَأْ َس ا ِء َو َّ
َض َّر ُعونَ ﴾ [األنعام]42 : لَ َعلَّهُ ْم يَت َ
لكن فريقا من هؤالء ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ ولقس وة قل وبهم ،ب ل موته ا،
يؤثرون المعاناة واأللم على التضرع إلى هللا ،كما قال تعالى﴿ :فَلَوْ اَل إِ ْذ َجا َءهُ ْم بَأْ ُسنَا
ت قُلُوبُهُ ْم َو َزيَّنَ لَهُ ُم ال َّش ْيطَانُ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [األنعام]43 : َض َّرعُوا َولَ ِك ْن قَ َس ْ ت َ
َ
ب ف َم ا َ ْ ُ ْ خَ
﴿ولقد أ ذنَاه ْم بِال َع ذا ِ َ ْ َ َ وقال ـ جامعا بين االستكانة والتذلل والتضرع ـَ :
َض َّر ُعونَ ﴾ [المؤمنون]76 : ا ْستَ َكانُوا لِ َربِّ ِه ْم َو َما يَت َ
ويذكر القرآن الكريم أن هناك فرقا أخ رى من الن اس ،ال تب دي ذل ك الص بر
على المعاناة ،مثلما فعل الفريق السابق ،وإنما تتل ون بتل ون األح وال؛ ف إن أص ابها
البالء تضرعت ،وإن كشف عادت إلى طبيعتها ،كما قال تعالى﴿ :قُلْ َم ْن يُنَجِّي ُك ْم ِم ْن
َضرُّ عًا َو ُخ ْفيَةً لَئِ ْن أَ ْن َجانَا ِم ْن هَ ِذ ِه لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ال َّشا ِك ِرينَ
ت ْالبَرِّ َو ْالبَحْ ِر تَ ْدعُونَهُ ت َ ظُلُ َما ِ
ب ثُ َّم أَ ْنتُ ْم تُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [األنعام]64 ،63 : ( )63قُ ِل هللا يُنَجِّي ُك ْم ِم ْنهَا َو ِم ْن ُك ِّل كَرْ ٍ
ولهذا يدعو هللا تعالى المؤمنين إلى أال يكونوا أمثال هؤالء ال ذين يعب دون هللا
على ح رف ،وإنم ا من أولئ ك ال ذين يتض رعون إلى هللا في ك ل حين؛ فال يك ون
َض رُّ عًا دعاؤهم هلل إال تضرعا واستغاثة واستكانة ،كم ا ق ال تع الى﴿ :ا ْد ُع وا َربَّ ُك ْم ت َ
َو ُخ ْفيَةً إِنَّهُ اَل يُ ِحبُّ ْال ُم ْعتَ ِدينَ ﴾ [األعراف]55 :
ك﴿و ْاذ ُك رْ َربَّكَ فِي نَ ْف ِس َ وهكذا يدعو إلى التضرع أثن اء ال ذكر ،ق ال تع الىَ :
ْ ُ
ال َواَل تَك ْن ِمنَ ال َغ افِلِينَ ﴾ ص ِ َض رُّ عًا َو ِخيفَ ةً َو ُدونَ ْال َج ْه ِر ِمنَ ْالقَ وْ ِل بِ ْال ُغ د ُِّو َواآْل َ ت َ
108
[األعراف]205 :
وبذلك فإن التضرع ـ أيها المريد الصادق ـ ال يرتبط بالدعاء فقط ،وإنم ا ه و
تلك الحال التي يظهر عليها العابد هلل تعالى ،سواء كان ذاكرا أو داعيا أو مص ليا أو
في أي حال من أحواله ،وق د ورد في الص الة قول ه في الح ديث القدس ي( :إنم ا
أقبل الصالة ممن يتواضع لعظمتي ،ويك ف نفس ه عن الش هوات من أجلي ،ويقط ع
نه اره ب ذكري وال يتعظم على خلقي ،ويطعم الج ائع ،ويكس و الع اري ،وي رحم
المصاب ،ويؤوي الغريب ،فذلك يش رق ن وره مث ل الش مس ،أجع ل ل ه في الظلم ة
ن وراً ،وفي الجهال ة حلم ا ،أكأله بع زتي وأس تحفظه مالئك تي ،ي دعوني فألبي ه،
ويسألني فأعطيه ،فمثل ذلك العبد عندي كمث ل جن ات الف ردوس ال يس بق أثماره ا،
وال تتغير عن حالها) ()1
(الص الة مث نى مث نى ،تش هّد في ك ّل
ّ وفي ح ديث آخ ر ق ال رس ول هللا :
ركعتين وتخ ّشع ،وتضرّع ،وتمسكن ،وتذرّع( )2وتقنع( )3يديك ـ يقول :ترفعهما إلى
ربّك مستقبال ببطونهما وجهك ـ وتقول :يا ربّ يا ربّ ! ومن لم يفعل ذل ك فه و ك ذا
وكذا)()4
وقد اعتبر اإلمام السجاد ذلك من حقوق الصالة ،فقال( :فأما حق وق الص الة،
فأن تعلم أنها وفادة إلى هللا ،وأنك فيها قائم بين يدي هللا ،فإذا علمت ذل ك كنت خليق ا
أن تقوم فيها مقام العبد الذليل الراغب الراهب الخائف الراجي المستكين المتض رع
المعظم مقام من يقوم بين يديه ،بالسكون والوقار ،وخشوع االطراف ،ولين الجناح،
وحسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فكاك رقبته التي أح اطت به ا خطيئت ه،
واستهلكتها ذنوبه ،وال قوة إال باهلل) ()5
وهكذا ورد في السنة العملية لرسول هللا وأئمة الهدى ،فقد ورد في ص فة
صالة رسول هللا أنه كان (إذا قام إلى الصالة يري د وجه ه خوف ا من هللا تع الى،
وكان لصدره أو لجوفه أزيز كأزيز المرجل) ،وفي رواية( :كان إذا قام إلى الصالة
كأنه ثوب ملقى) ()6
وورد في ص فة ص الة اإلم ام علي أن ه (إذا حض ر وقت الص الة ي تزلزل
ويتلون ،فيقال له :مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول :جاء وقت أمانة هللا ال تي عرض ها
على السماوات واالرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها االنس ان ،فال أدري
احسن أداء ما حملت أم ال) ()7
وورد في صفة صالة اإلمام السجاد أنه ك ان (إذا ق ام في الص الة كأن ه س اق
)(1رواه البزار (ص - 65زوائده)
)(2تذرّع :تتوسل.
)(3تقنع :أي تم ّد يديك مسترحما ربك.
)(4الترمذي( ،)385وابن ماجة( )1325وأحمد()211 /1
)(5بحار األنوار ()64 /46
)(6فالح السائل ص .161
)(7بحار األنوار ()64 /46
109
منه) ()1 شجرة ال يتحرك منه شئ إال ما حركت الريح
ووصف اإلمام الباقر صالة أبيه السجاد ،فقال( :كان علي بن الحسين إذا ق ام
في صالته غشي لونه لون آخر ،وكان قيامه في صالته قي ام العب د ال ذليل بين ي دي
الملك الجليل ،كانت أعضاؤه ترتعد من خشية هللا وكان يصلي صالة مودع يرى أن
ال يصلي بعدها أبدا)()2
وورد في ص فة ص الة اإلم امين الب اقر والص ادق أنهم ا كان ا (إذا قام ا إلى
الصالة تغيرت ألوانهما حمرة ومرة صفرة كأنما يناجيان شيئا يريانه) ()3
وهكذا وردت النصوص المقدس ة الكث يرة الحاث ة على التض رع في ال دعاء،
وعدم االكتفاء بترديد األلفاظ الخالية من مشاعر التذلل والمس كنة ،وق د روي أن هللا
تعالى أوحى إلى عيسى عليه السالم( :يا عيسى ! ..ادعني دع اء الغري ق والح زين
مغيث ..يا عيسى ! ..أذ ّل لي قلبك ،وأك ثر ذك ري في الخل وات ،واعلم ٌ الذي ليس له
أن سروري أن تبصبص إل ّي ،وكن في ذلك حيّا ً وال تكن ميّتاً ،وأسمعني منك صوتا ً ّ
حزيناً)()4
وفي الحديث عن رسول هللا أنه قال( :ادعوا هللا وأنتم موقن ون باإلجاب ة،
واعلموا أن هللا ال يستجيب دعاء من قلب غافل اله)()5
فإن العب د إذا دع ا ف نزل وعن اإلمام الصادق أنه قال( :تق ّدموا في الدعاء !ّ ..
روف ،وإذا لم يكن دع ا ف نزل ب ه البالء ف دعا قي ل: ٌ ٌ
(صوت مع به البالء فدعا قيل:
(أين كنت قبل اليوم؟)()6
ومم ا ورد في أخب ار ب ني إس رائيل ال تي يمكن اعتباره ا واالعتب ار به ا أن
موسى عليه الس الم م ر على قري ة من ق رى ب ني إس رائيل فنظ ر إلى أغني ائهم ق د
لبس وا المس وح ،وجعل وا ال تراب على رؤوس هم وهم قي ام على أرجلهم تج ري
دموعهم على خدودهم ،فبكى رحمة لهم فقال :إلهي هؤالء بن و إس رائيل حن وا إلي ك
حنين الحمام وعووا عوى الذباب ،ونبحوا نباح الكالب ،ف أوحى هللا إلي ه :ولم ذاك،
ألن خزان تي ق د نف دت؟ أم ألن ذات ي دي ق د قلت؟ أم لس ت أرحم ال راحمين؟ ولكن
أعلمهم أني عليم بذات الصدور ،يدعونني وقلوبهم غائبة عني مائلة إلى الدنيا)()7
وهك ذا ك انت الس يرة العملي ة لرس ول هللا وورثت ه ،ممتلئ ة بك ل مع اني
الخضوع والخشوع والت ذلل هلل ،والتأم ل فيه ا وح ده ك اف لتربي ة النفس على تل ك
المعاني العظيمة ،وقد وصف ابن عبّاس بعض مواقفه ،فقال( :خرج رس ول هللا
متبذال متواضعا متض رّعا ،حتّى أتى المص لّى ،فلم يخطب خطبتكم ه ذه ،ولكن ّ
)(1فالح السائل ص .161
)(2الخصال ج 2ص 100
)(3فالح السائل ص .161
)(4بحار األنوار ،341 /90 :عن :عدة الداعي ص.97
)(5رواه الترمذي.3/164 ،
)(6بحار األنوار.90/339 :
)(7بحار األنوار ()319 /93
110
العيد)()1 لم يزل في ال ّدعاء والتّضرّع والتّكبير وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في
وفي الحديث أنه (ل ّما كان يوم بدر ،نظر النّ ب ّي إلى أص حابه وهم ثلثمائ ة
ونيّف ،ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزي ادة ،فاس تقبل النّ ب ّي القبل ة ،ث ّم م ّد
يديه وعليه رداؤه وإزاره ،ث ّم قال( :الله ّم أين ما وع دتني ،الله ّم أنج ز م ا وع دتني،
الله ّم إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل اإلسالم فال تعبد في األرض أبدا) ،فما زال
يستغيث ربّه ع ّز وج ّل ويدعوه حتّى سقط رداؤه؛ فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فر ّده ،ث ّم
التزمه من ورائه ،ث ّم ق ال :ي ا ن ب ّي هللا ،كف اك مناش دتك ربّ ك ،فإنّ ه س ينجز ل ك م ا
وعدك) ()2
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك التضرع واالستغاثة التي حص لت ي وم ب در
من رسول هللا ومن معه من الصحابة ،وذكر أنها س بب إغ اثتهم من هللا تع الى،
ف ِمنَ ْال َماَل ئِ َك ِة ُم رْ ِدفِينَ ﴾
اب لَ ُك ْم أَنِّي ُم ِم ُّد ُك ْم بِ أ َ ْل ٍ فق ال﴿ :إِ ْذ ت َْس تَ ِغيثُونَ َربَّ ُك ْم فَ ْ
اس تَ َج َ
[األنفال]9 :
وهكذا عند تأملك ـ أيها المريد الصادق ـ لما ورد من األدعية عن رس ول هللا
وأئمة الهدى؛ فإنك تجدها مملوءة بكل صيغ التض رع والت ذلل والمس كنة ،ومن
األمثلة عليها تلك الشكوى التي شكا به ا رس ول هللا قوم ه إلى رب ه عن دما ق ال:
(اللهم إني أشكو إليك ضعف ق وتي ،وقل ة حيل تي ،وه واني على الن اس ،أنت أرحم
الراحمين ،أنت رب المستض عفين ،وأنت ربي إلى من تكل ني؟ إلى بعي د يتجهم ني،
أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن ب ك علي غض ب فال أب الي ،ولكن عافيت ك هي
أوسع لي ،أعوذ بن ور وجه ك ال ذي أش رقت ل ه الظلم ات وص لح علي ه أم ر ال دنيا
واآلخ رة من أن ي نزل بي غض بك ،أو يح ل علي س خطك ،لكن ل ك العت بى ح تى
ترضى ،وال حول وال قوة إال بك) ()3
ومما ورد عن أئمة الهدى من ذلك قول اإلم ام الحس ين في ال دعاء المش هور
الذي يستجير في ه باهلل تع الى من ش رور أعدائ ه( :الله ّم ي ا ع ّدتي عن د ش ّدتي ،وي ا
غوثي عند كربتي ،احرس ني بعين ك ال تي ال تن ام ،واكنف ني بركن ك ال ذي ال ي رام،
وارحمني بقدرتك عل ّي ،فال أهلك وأنت رجائي ،الله ّم إنّ ك أك بر وأج ّل وأق در مم ا
أخاف وأحذر .الله ّم بك أدرأ في نحره ،وأستعيذ من شرّه ،إنّك على كل شيء ق دير)
()4
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ تأصيال يعلمك كيفي ة التض رع والت ذلل إلى
هللا في دعائك ،فاعلم أنه مم ا ييس ر ل ك ذل ك أم ران :ش عورك باالفتق ار والحاج ة،
ومعهما شعورك بتقصيرك وتفريطك في حق ربك ،ومعهم جميعا علمك بعظم ة هللا
تعالى وكماله وغناه وقدرته على كل شيء ..فإن وف رت لنفس ك ه ذين الرك نين من
119
ي ِم ْن َخ ْي ٍر فَقِ يرٌ﴾ [القص ص: إلى هللا ،فقال في حال افتقارهَ ﴿ :ربِّ إِنِّي لِ َما أَ ْن زَ ْلتَ إِلَ َّ
ين﴾ [الشعراء]62 : ،]24وقال في حال اضطراره﴿ :إِ َّن َم ِع َي َربِّي َسيَ ْه ِد ِ
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن للتحقق بكال المعن يين وس ائل
عليك مراعاته ا ،ومع ارف علي ك إقن اع نفس ك به ا؛ فالمش اعر والمواجي د ال يمكن
فرضها على النفس من غير أن تقتنع بها ،وتسلك السبل المؤدية لها.
االفتقار والتزكية:
أما االفتقار ـ أيها المريد الصادق ـ والذي يعني شعورك بالحاجة الدائم ة إلى
هللا ،وفي الصغير والكبير ،فكل الحقائق تدل علي ه؛ ذل ك أن الفق ر ه و س مة الك ون
جميعا ..أما الغني الوحيد في ه ذا الع الم فه و هللا تع الى ،كم ا ق ال تع الى﴿ :يَ ا أَيُّهَ ا
النَّاسُ أَ ْنتُ ُم ْالفُقَ َرا ُء إِلَى هللا َوهللا ه َُو ْال َغنِ ُّي ْال َح ِميدُ﴾ (فاطر)15:
والعقل ـ كالنق ل ـ يق ول ب ذلك ،ف الفقر في حقيقت ه ه و الحاج ة ،وهي ليس ت
مختصرة فيما اصطلح عليه الناس من أصناف الحاج ات ،ب ل هي ك ل ش يء وهب ه
هللا تعالى لعباده ابتداء من وج ودهم ،وانته اء ب األرزاق ال تي تف اض عليهم في ك ل
حين.
وبم ا أن في اإلنس ان من الحاج ات بحس ب ع دد خالي اه ..ب ل بحس ب ع دد
الذرات التي يتشكل منها بنيانه ،فإن فيه لذلك من الفق ر بحس ب ع دد تل ك ال ذرات..
ذلك أن في كل ذرة حاجة من الحاجات ..وفاقة تستدعي أن تسد(.)1
وغفلة اإلنسان هي التي تجعله يتصور أنه مستغن ،مع أن أي مصيبة تحل به
قد تذكره بفقره الشديد ،وحاجته الدائمة ،وقد روي في المواعظ أن حكيما دخل على
بعض الملوك ،وبيده كوز ماء يش ربه ،فق ال ل ه( :عظ نى) فق ال( :ل و لم تع ط ه ذه
الشربة إال ببذل جميع أموالك وإال بقيت عطشان ،فهل كنت تعطيه؟ قال :نعم فق ال:
(ل و لم تع ط إال بملك ك كل ه ،فه ل كنت تترك ه؟ ق ال :نعم ق ال( :فال تف رح بمل ك ال
يساوى شربة ماء)
ولذلك يعلمنا ربنا أن نعدد نعمه علينا ،لنشعر بفقرنا وفاقتنا إليه ،ق ال تع الى:
ص وهَا إِ َّن اأْل ِ ْن َس انَ لَظَلُ و ٌم َكفَّارٌ﴾ (اب راهيم ،)34 :وفي ﴿ َوإِ ْن تَ ُع ُّدوا نِ ْع َمتَ هللا ال تُحْ ُ
الح ديث القدس ي ق ال تع الى( :ي ا عب ادي كلكم ج ائع إال من أطعمت ه فاس تطعموني
أطعمكم ،يا عبادي كلكم عار إال من كسوته فاستكسوني أكسكم) ()2
وهو يبين أن سبب الغفلة عن تلك النعم هو الشعور بكونها ذاتي ة لن ا ،ال هب ة
الض رُّ فَإِلَ ْي ِه تَجْ أَرُونَ (
من هللا إلينا؛ فيقولَ ﴿ :و َما بِ ُك ْم ِم ْن نِ ْع َم ٍة فَ ِمنَ هللا ثُ َّم إِ َذا َم َّس ُك ُم ُّ
ق ِم ْن ُك ْم بِ َربِّ ِه ْم يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [النحل]54 ،53 : )53ثُ َّم إِ َذا َك َشفَ الضُّ َّر َع ْن ُك ْم إِ َذا فَ ِري ٌ
لذلك كان االفتقار هو الش عور المع بر عن الحقيق ة الواقعي ة ..والمفتق ر مث ل
ذلك الذي ينام على سرير المرض ،وقد ركبت له ك ل األجه زة ال تي تم ده بالحي اة،
)(1ذكرنا ذلك بتفصيل ،وعلى شكل حوار في كتاب :كنوز الفقراء (ص)250 :
)(2رواه مسلم.
120
ولو قطع عنه واحد منها لمات ..فهل يمكن لذلك المريض أن يستعلي أو يتص ور أن
بإمكانه االستغناء عن تلك األجهزة ،أم أنه يشعر أنه ا س بب حيات ه وبقائ ه ،ويش عر
بفضل األطباء عليه بسبب إغاثتهم له بها.
ولذلك كان االفتقار مدرسة تربوي ة وأخالقي ة عظيم ة ،ال تربط ك باهلل فق ط،
وإنما تحسن عالقتك مع خلقه ،وتجعلك أكثر أدبا معهم ،ذلك أن أصل العدوان ال ذي
يمارسه المعتدون نابع من شعورهم الزائ د ب ذواتهم ،واس تكبارهم به ا ،ول و علم وا
ف اقتهم وح اجتهم ،وأن ك ل ش يء يملكون ه هب ة من هللا لهم ،الس تحيوا من أنفس هم،
وتأدبوا مع الخلق.
وح تى تيس ر على نفس ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ استش عار ه ذه المع اني،
والت أدب بآدابه ا؛ فعلي ك ب القرآن الك ريم ،فقراءت ه وت دبره تجعل ك تش عر بفق رك
وحاجتك إلى هللا ،وفي كل نفس من أنفاسك ..ذلك أن كل شيء بيد هللا ،ولو قط ع هللا
عنك مدد لطفه وفضله في أي لحظة من اللحظات لعانيت ك ل أل وان العن اء ال تي ال
يخرجك منها إال جوده وإغاثته وفضله.
ومثله عليك بأنوار النب وة والوالي ة؛ فاستمس ك به ا ،وردد م ا ورد عنه ا من
أنواع األدعية التي تشعرك بفقرك وحاجت ك إلى هللا ،وفي ك ل األح وال واألوق ات،
حتى تلك التي تتوهم فيها غناك ،كما يروى في دعاء ي وم عرف ة( :إلهي ،أن ا الفق ير
في غناي ،فكيف ال أكون فقيرا في فق ري؟! إلهي ،أن ا الجاه ل في علمي ،فكي ف ال
أكون جهوال في جهلي؟!)()1
ومن تل ك األدعي ة وأكثره ا جمع ا للمع اني ال تي ت ربي في ك ـ أيه ا المري د
الصادق ـ معاني االفتق ار إلى هللا م ا ورد في مناج اة المفتق رين ،وال تي يق ول فيه ا
اإلمام السجاد( :إلهي كسري ال يجبره إال لطفك وحنانك ،وفقري ال يغنيه إال عطفك
وإحسانك ،وروعتي ال يسكنها إال أمانك ،وذلتي ال يعزه ا إال س لطانك ،وأمني تي ال
يبلغنيها إال فضلك ،وخلتي ال يسدها إال طولك ،وحاجتي ال يقضيها غيرك ،وك ربي
ال يفرجه ا س وى رحمت ك ،وض ري ال يكش فه غ ير رأفت ك وغل تي ال يبرده ا إال
وصلك ،ولوعتي ال يطفئها إال لقاؤك ،وش وقي إلي ك ال يبل ه إال النظ ر إلى وجه ك،
وقراري ال يقر دون دنوي منك ،ولهفتي ال يردها إال روحك ،وس قمي ال يش فيه إال
طبك ،وغمي ال يزيله إال قربك ،وجرحي ال يبرئه إال صفحك ،ورين قلبي ال يجلوه
إال عفوك ،ووسواس صدري ال يزيحه إال أمرك)
وبعد أن يذكر نفسه بهذه الحقائق العظيم ة ،يم د ي ده بالس ؤال إلى هللا ،ذاك را
صفاته التي تغني المفتقرين ،وتسد كل حاجاتهم قائال( :فيا منتهى أم ل اآلملين ،وي ا
غاية سؤل السائلين ،ويا اقصى طلبة الطالبين وي ا أعلى رغب ة الراغ بين ،وي ا ولي
الصالحين ،ويا أمان الخائفين ،ويا مجيب المضطرين ،ويا ذخر المعدمين ،ويا ك نز
)(1هذه المناجاة مروي ة عن اإلم ام الحس ين ،وعن ابن عط اء هللا الس كندري ..وال حاج ة للتحقي ق في األص ح
منهما ،ألن المعاني الواردة فيها معان ورد مثلها عن أهل البيت ..والعبرة بالمعاني ال بكسوة األلفاظ.
121
البائسين ،ويا غياث المستغيثين ،ويا قاض ي ح وائج الفق راء والمس اكين ،وي ا أك رم
االكرمين ،ويا ارحم الراحمين ،لك تخض عي وس ؤالي ،وإلي ك تض رعي وابته الي.
أسألك أن تنيلني من روح رضوانك وتديم علي نعم امتنان ك ،وه ا أن ا بب اب كرم ك
واقف ،ولنفحات برك متعرض وبحبلك الشديد معتصم ،وبعروتك ال وثقى متمس ك،
إلهى ارحم عب دك ال ذليل ذا اللس ان الكلي ل ،والعم ل القلي ل ،وامنن علي ه بطول ك
الجزيل ،واكنفه تحت ظلك الظليل ،يا كريم يا جميل يا ارحم الراحمين)()1
وهكذا تجد األدعية الكثيرة في مدرسة النبوة والوالي ة ،وال تي يكفي ك التأم ل
فيها ،والتزامها ،والشعور بمعانيها ،في أن تستش عر فق رك وحاجت ك إلى هللا ،ح تى
يصير ذلك ملكة في نفسك ،ال يمكن ألي غنى يصيبك أن يسلبها منك.
االضطرار والتزكية:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن االضطرار هو تل ك الح االت
الشديدة التي يمر بها اإلنسان ،والتي قد يبتليه هللا بها ليعلم فق ره وحاجت ه ،ويخرج ه
من الغفلة التي تجعله يتوهم أنه مالك للنعم ،وليس مستفيدا منها.
ولذلك ،ال تتوهم أن الغرض مما ينزل من البالء على الخلق ـ حتى ل و ك انوا
كفارا ـ عقوبة أو انتقاما ،وإنما هو في حقيقته تأديب وتربي ة وتنبي ه إلهي ،كم ا ق ال
﴿و َم ا أَرْ َس ْلنَا فِي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَبِ ٍّي إِاَّل أَخَ ْذنَا أَ ْهلَهَ ا بِ ْالبَأْ َس ا ِء َو َّ
الض رَّا ِء لَ َعلَّهُ ْم تع الىَ :
ض َّر ُعونَ ﴾ [األعراف]94 : يَ َّ
ولهذا اعتبر هللا تعالى إجابته المضطرين من دالئل توحيده ،فقال﴿:أَ َّم ْن ي ُِجيبُ
ض أَإِلَ هٌ َم َع هللا قَلِياًل َم ا الس و َء َويَجْ َعلُ ُك ْم ُخلَفَ ا َء اأْل َرْ ِ ض طَ َّر إِ َذا َد َع اهُ َويَ ْك ِش فُ ُّْال ُم ْ
تَ َذ َّكرُونَ ﴾ [النمل]62 :
وهكذا ذكر هللا تعالى دور الضرورة واالض طرار في التربي ة والهداي ة ،فق د
ذكر في قصة صاحب الجنتين الفرق الكبير بين حال الغنى الذي ك ان علي ه ،وح ال
﴿و َد َخ َل َجنَّتَهُ َوهُ َو ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه قَ ا َل َم ا الفقر الذي آل إليه ،فقال ـ عن الحال األول ـَ :
ت إِلَى َربِّي أَل َ ِج دَنَّ الس ا َعةَ قَائِ َم ةً َولَئِ ْن ُر ِد ْد ُ أَظُ ُّن أَ ْن تَبِي َد هَ ِذ ِه أَبَ دًا (َ )35و َم ا أَظُ ُّن َّ
خَ ْيرًا ِم ْنهَا ُم ْنقَلَبًا﴾ [الكهف]36 ،35 :
ق ص بَ َح يُقَلِّبُ َكفَّ ْي ِه َعلَى َم ا أَ ْنفَ َ وقال عن الحال الثاني بعد أن ﴿أُ ِحيطَ بِثَ َم ِر ِه فَأ َ ْ
ُوشهَا﴾ [الكهف ]42 :أنه صار ي ردد﴿ :يَ ا لَ ْيتَنِي لَ ْم أُ ْش ِر ْك خَاويَةٌ َعلَى ُعر ِ فِيهَا َو ِه َي ِ
بِ َربِّي أَ َحدًا﴾ [الكهف]42 :
ومثل ذلك ذكر عن أصحاب الجنة ،الذين ﴿أَ ْق َس ُموا لَيَصْ ِر ُمنَّهَا ُمصْ بِ ِحينَ ()17
َواَل يَ ْست َْثنُونَ ﴾ [القلم ،]18 ،17 :و﴿ا ْنطَلَقُوا َوهُ ْم يَتَخَافَتُونَ ( )23أَ ْن اَل يَ ْد ُخلَنَّهَا ْاليَوْ َم
ين (َ )24و َغدَوْ ا َعلَى َحرْ ٍد قَا ِد ِرينَ ﴾ [القلم]25 - 23 : َعلَ ْي ُك ْم ِم ْس ِك ٌ
ال ض الُّونَ ( )26بَ لْ نَحْ نُ َمحْ رُو ُم ونَ ( )27قَ َ لكن بعد أن ﴿ َرأَوْ هَ ا قَ الُوا إِنَّا لَ َ
أَوْ َسطُهُ ْم أَلَ ْم أَقُ لْ لَ ُك ْم لَ وْ اَل تُ َس بِّحُونَ ( )28قَ الُوا ُس ب َْحانَ َربِّنَ ا إِنَّا ُكنَّا ظَ الِ ِمينَ ()29
128
﴿ويَقُ و ُل الَّ ِذينَ َكفَ رُوا لَ وْ اَل أُ ْن ِز َل وهم لذلك أهل الهداية الحقيقية ،قال تع الىَ :
اب﴾ [الرع د ،]27 :ثم َ
ضلُّ َم ْن يَ َشا ُء َويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َم ْن أنَ َ َعلَ ْي ِه آيَةٌ ِم ْن َربِّ ِه قُلْ إِ َّن هللا يُ ِ
َط َمئِ ُّن قُلُوبُهُ ْم بِ ِذ ْك ِر هللا أَاَل بِ ِذ ْك ِر هللا ت ْ
َط َمئِ ُّن وصف سر هدايتهم فقال﴿ :الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوت ْ
ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد]28 :
وكل تلك الصفات تجعلهم من أصحاب الجن ة ،وذل ك م ا يع ني تخلص هم من
أهوائهم ،وامتالئهم بالطيبة ،ونجاحهم في االختبارات التي أجريت لهم ،قال تع الى:
ب َحفِي ٍظ (َ )32م ْن ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغ ْي َر بَ ِعي ٍد ( )31هَ َذا َما تُو َع ُدونَ لِ ُك لِّ أَ َّوا ٍ ﴿ َوأُ ْزلِفَ ِ
ب﴾ [ق]33 - 31 : ب َو َجا َء بِقَ ْل ٍ
ب ُمنِي ٍ خَ ِش َي الرَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ
وه ذه النص وص كله ا ت دل على أن ه ذا المنهج العظيم يس تدعي الحض ور
الدائم مع هللا ،ولو تكلفا ،أو مجاهدة ،ولهذا ارتبط ال ذكر باإلناب ة ،ذل ك أن ه ال يمكن
أن تتحقق النفس باإلنابة ما لم تمتلئ بالذكر ،فالغفلة واإلنابة متضادان ال يجتمعان.
وقد علمن ا رس ول هللا وأئم ة اله دى الحق ائق ال تي علين ا ت ذكرها لنمتلئ
الص الة من ج وف باإلنابة ،ومنها ما ورد في دعائه الذي كان يردده إذا قام إلى ّ
الس موات واألرض ،ول ك الحم د اللّيل ،والذي يقول فيه( :اللهم لك الحمد أنت ن ور ّ
ّ
فيهن. الس موات واألرض ومن أنت قيّام السّموات واألرض ،ول ك الحم د أنت ربّ ّ
ق، ق ،والنّ ار ح ّ ق ،والجنّ ة ح ّ ق ،ولق اؤك ح ّ ق ،وقولك الح ّ ق ،ووعدك الح ّ أنت الح ّ
ق .اللهم ل ك أس لمت ،وب ك آمنت ،وعلي ك ت و ّكلت ،وإلي ك أنبت ،وب ك والس اعة ح ّ ّ
خاصمت ،وإليك ح اكمت ،ف اغفر لي م ا ق ّدمت وأ ّخ رت ،وأس ررت وأعلنت ،أنت
إلهي ال إله إاّل أنت)()1
وهذا الدعاء وارتباطه باإلنابة يش ير إلى أن تردي د أمث ال تل ك الحق ائق على
النفس كل حين ،يحول منها مع اني راس خة فيه ا ،تعين على اإلناب ة الدائم ة؛ وله ذا
إن ه ول قرن رس ول هللا بين ط ول العم ر واإلناب ة ،فق ال( :ال تمنّ وا الم وت ف ّ
وإن من السّعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه هللا اإلنابة)()2 المطّلع شديدّ ،
وسر ذلك هو أن المؤمن الملتزم بدينه ،والمكثر لذكر ربه ،كلما طال عم ره،
كلما استقرت معاني األذكار في نفسه ،وهو ما يؤهل ه ألن يص بح من أه ل اإلناب ة،
الذين تجوهرت نفوسهم بها.
) (
ولهذا يقترن في النصوص المقدس ة اإلناب ة م ع الت أوه 3والتض رع إلى هللا،
كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السالم﴿ :إِ َّن إِب َْرا ِهي َم لَ َحلِي ٌم أَ َّواهٌ ُمنِيبٌ ﴾ [هود]75 :
ومن أدعي ة رس ول هللا في ه ذا قول ه( :ربّ أعنّي وال تعن عل ّي،
ويس ر اله دى لي، وانصرني وال تنصر عل ّي ،وامك ر لي وال تمك ر عل ّي ،واه دني ّ
وانصرني على من بغى عل ّي ،ربّ ! اجعلني لك ش ّكارا .لك ذ ّك ارا ،ل ك رهّاب ا ،ل ك
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تختصر لنفسك طريق تحص يل اإلناب ة،
فردد كل حين ذلك الدعاء الذي كان يقوله اإلمام الس جاد ،فه و ممتلئ بك ل المع اني
ال تي تعين ك على اإلناب ة على هللا ،فق د ك ان يق ول( :اللهم ي ا من ال يص فه نعت
الواصفين ،ويا من ال يجاوزه رجاء الراجين ،ويا من ال يضيع لديه أجر المحسنين،
ويا من هو منتهى خوف العابدين ،وي ا من ه و غاي ة خش ية المتقين ..ه ذا مق ام من
تداولته أيدي الذنوب ،وقادته أزمة الخطايا ،واس تحوذ علي ه الش يطان ،فقص ر عم ا
أم رت ب ه تفريط ا ،وتع اطى م ا نهيت عن ه تعزي را ،كالجاه ل بق درتك علي ه ،أو
كالمنكر فضل إحسانك إليه ،حتى إذا انفتح له بصر اله دى ،وتقش عت عن ه س حائب
العمى أحصى ما ظلم ب ه نفس ه ،وفك ر فيم ا خ الف ب ه رب ه ،ف رأى كب ير عص يانه
كبيرا ،وجليل مخالفته جليال ،فأقبل نحوك مؤمال لك ،مستحييا من ك ،ووج ه رغبت ه
إليك ثقة بك ،فأمك بطمعه يقينا ،وقص دك بخوف ه إخالص ا ،ق د خال طمع ه من ك ل
مطموع فيه غ يرك ،وأف رخ روع ه من ك ل مح ذور من ه س واك ،فمث ل بين يديـك
متضرعـا ،وغمض بص ره إلى األرض متخش عا ،وطأط أ رأس ه لعزت ك مت ذلال،
وأبثك من سره ما أنت أعلم به منه خضوعا ،وع دد من ذنوب ه م ا أنت أحص ى له ا
خشوعا واستغاث بك من عظيم ما وقع به في علمك وقبيح ما فضحه في حكمك من
ذنوب أدب رت ل ذاتها ف ذهبت ،وأق امت تبعاته ا فل زمت ،ال ينك ر ي ا إلهي ع دلك إن
عاقبته ،وال يستعظم عفوك إن عف وت عن ه ورحمت ه؛ ألن ك ال رب الك ريم ال ذي ال
يتعاظمه غفران الذنب العظيم)()5
إلى آخر الدعاء الذي يقول في خاتمته( :اللهم إن يكن الندم توبة إليك فأنا أندم
الن ادمين ،وإن يكن ال ترك لمعص يتك إناب ة فأن ا أول المني بين ،وإن يكن االس تغفار
حطة للذنوب فإني لك من المس تغفرين .اللهم فكم ا أم رت بالتوب ة وض منت القب ول
وحثثت على الدعـاء ووع دت االجاب ة ،فص ل على محم د وآل ه واقب ل توب تي وال
ترجع ني مرج ع الغيب ة من رحمت ك إن ك أنت الت واب على الم ذنبين ،وال رحيم
للخاطئين المنيبين .اللهم صل على محمد وآله كما هديتنا به وصل على محم د وآل ه
كما استنقذتنا به ،وصل على محمد وآل ه ص الة تش فع لن ا ي وم القيام ة وي وم الفاق ة
إليك ،إنك على كل شيء قدي ٌر وهو عليك يسيرٌ)
االستغفار والتزكية:
أما االستغفار ـ أيها المريد الص ادق ـ فه و مث ل اإلناب ة ،ل ه م راتب مختلف ة
131
على ك ثرة اس تغفاره هلل ،فق د روي في الح ديث عن رس ول هللا أن ه ق ال( :وهللا إنى
ألستغفر هللا وأتوب إليه فى اليوم أكثر من س بعين م رة) ( ،)1وفي ح ديث آخ ر ق ال(:إن ه
ليغان على قلبى ،وإنى ألستغفر هللا فى اليوم مائة مرة) ()2
وروي عن اإلمام الصادق أنه قال( :كان رسول هللا يستغفر هللا ع ّز وج ّل
في ك ّل يوم سبعين مرّة ،ويتوب إلى هللا ع ّز وج ّل سبعين مرّة ..ك ان يق ول :أس تغفر
رة ،ويقول :وأتوب إلى هللا ،وأتوب إلى هللا سبعين مرّة) ()3 هللا ،أستغفر هللا سبعين م ّ
ومع كون االستغفار ـ أيها المريد الصادق ـ هو درجة الصالحين والص ديقين
من أولياء هللا إال أن أص حاب النف وس اللوام ة يمكنهم أن يس تفيدوا من ه في تطه ير
قلوبهم ،والتحقق باإلنابة إلى ربهم.
ولهذا ورد في النصوص المقدس ة الكث يرة ال ترغيب في االس تغفار وفي ك ل
األحوال ،وبيان دوره العظيم في التزكية والترقي ة ،ومنه ا قول ه ( :أال أدلكم على
دائكم ودوائكم ..أال إن داءكم الذنوب ،ودواءكم االستغفار) ()4
وقال( :إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة ،فإن هو نزع واستغفر ص قلت،
فإن عاد زيد فيها حتى تعل و قلب ه ،ف ذلك ال ران ال ذي ذك ره هللا تع الىَ ﴿:كاَّل َب لْ َرانَ َع َلى
قُلُو ِب ِه ْم َما َكانُوا َي ْك ِ
سبُونَ ﴾ (المطففين)5( )14 :
وقال( :إن للقلوب صدأ كصدإ النحاس ،وجالؤها االستغفار) ()6
وقال( :طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير) ()7
وقال( :من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من االستغفار) ()8
وأخبر عن إقبال هللا تعالى على المس تغفرين ،ومح وه ل ذنوبهم ،فق ال في
الحديث القدسي حاكيا عن رب ه تب ارك وتع الى( :ي ا ابن آدم كلكم م ذنب إال من ع افيت
فاستغفروني أغف ر لكم ..وكلكم فق ير إال من أغ نيت ،فاس ألوني أعطكم ..وكلكم ض ال إال
من ه ديت ،فاس ألوني اله دى أه دكم ..ومن اس تغفرني ،وه و يعلم أني ذو ق درة على أن
أغفر ل ه غف رت ل ه وال أب الي ..ول و أن أولكم وآخ ركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابس كم
اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوض ة..
ول و أن أولكم وآخ ركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابس كم اجتمع وا على أتقى قلب رج ل
واح د منكم م ا زادوا في س لطاني مث ل جن اح بعوض ة ..ول و أن أولكم وآخ ركم وحيكم
وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم م ا س ألوني
ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر ،وذل ك أني ج واد ماج د
)(1رواه البخارى.
)(2رواه مسلم.
)(3اصول الكافي ج 2ص .504
)(4رواه البيهقي.
)(5رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
)(6رواه البيهقي.
)(7رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي.
)(8رواه البيهقي بإسناد ال بأس به.
132
أردته أن أقول له كن فيكون) ()1 واحد عطائي كالم وعذابي كالم ،إنما أمري لشيء إذا
وفي حديث قدسي آخر قال رسول هللا حاكيا عن ربه تبارك وتع الى(:ي ا ابن آدم
إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على م ا ك ان من ك وال أب الي ..ي ا ابن آدم ل و بلغت
ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك وال أبالي ..يا ابن آدم إنك ل و أتيت ني بق راب
األرض خطايا ثم لقيتني ال تشرك بي شيئا ألتيتك بقرابها مغفرة) ()2
وفي حديث آخ ر ق ال ( :ق ال إبليس :وعزت ك ال أب رح أغ وي عب ادك م ا دامت
أرواحهم في أجسادهم ،فقال :وعزتي وجاللي ال أزال أغفر لهم ما استغفروني) ()3
وأخ بر رس ول هللا أن آث ار المغف رة ال تمت د فق ط لص حائف األعم ال ،وال
لمحال المعصية من النفس ،وإنما تمتد لجميع مناحي الحياة ،فتطهرها من ك ل آث ار
المحق التي سببتها المعصية ،وتملؤها بكل آث ار البرك ة ال تي س ببها الع ودة إلى هللا
واإلنابة إليه؛ ففي الحديث عن رسول هللا أنه قال( :من أك ثر من اإلس تغفار جع ل
هللا له من كل هم فرجا ،ومن كل ضيق مخرجا ،ورزقه من حيث ال يحتسب)()4
وقال( :من ظهرت عليه النعمة فليكثر ذكر (الحم د هلل) ،ومن ك ثرت هموم ه
فعليه باالستغفار ،ومن أل ّح علي ه الفق ر فليك ثر من ق ول( :ال ح ول وال ق وّة إاّل باهلل
ي العظيم) ينفي عنه الفقر) ()5 العل ّ
وروي عن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال( :م ا ض اع م ال في ب ّر وال بح ر إاّل
فحص نوا أم والكم بالزك اة ،وداووا مرض اكم بالص دقة ،وادفع وا ّ بتض ييع الزك اة،
نوائب الباليا باالستغفار ،الصاعقة ال تصيب ذاكرا ،وليس يص اد من الط ير إاّل م ا
ضيّع تسبيحه) ()6
وروي أن رجال أتى اإلم ام الحس ن فش كا إلي ه الجدوب ة ،فق ال ل ه الحس ن:
(استغفر هللا) ،وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له( :استغفر هللا) ،وأتاه آخ ر فق ال ل ه:
ادع هللا أن يرزقني ابنا ،فقال له( :استغفر هللا) ،فقلنا له :أت اك رج ال يش كون أبواب ا
ويسألون أنواعا فأمرتهم كلّهم باالستغفار ،فقال( :ما قلت ذل ك من ذات نفس ي ،إنّم ا
﴿اس تَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم إِنَّهُ َك انَ َغفَّارًا (﴿ )10يُرْ ِس ِل َّ
الس َما َء َعلَ ْي ُك ْم اعتبرت فيه قول هللاْ :
ت َويَجْ َع لْ لَ ُك ْم أَ ْنهَ ارًا﴾ [ن وح: ِم ْد َرارًا (َ )11ويُ ْم ِد ْد ُك ْم بِأ َ ْم َو ٍ
ال َوبَنِينَ َويَجْ َع لْ لَ ُك ْم َجنَّا ٍ
)7( )]12 - 10
ولم تكتف النصوص المقدسة بكل ذلك ،بل ورد فيها الكث ير من الص يغ ال تي
تعلمنا كيفية االستغفار ،وأفض لها أن يب دأ العب د بالثن اء على رب ه ..ثم يث نى ب اإلعتراف
بذنبه ..ثم يسأل هللا المغفرة ..فهذا ما وردت به السنة عن رسول هللا ،ففي الحديث قال
)(1رواه مسلم والترمذي وحسنه وابن ماجه والبيهقي واللفظ له.
)(2رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
)(3رواه أحمد والحاكم ،وقال الحاكم صحيح اإلسناد.
)(4رواه أبو داود ،ورواه في (ع ّدة الداعي) :ص ،265ونقله عنه في (البحار) :ج 90ص .284
)(5روضة الكافي ج 1ص 133
)(6المحاسن ص 294
)(7مجمع البيان ج 10ص 361
133
رسول هللا (:سيد اإلستغفار أن يقول العبد( :اللهم أنت ربى ال إله إال أنت ،خلقتنى وأنا
عبدك وأنا على عهدك ،ووعدك ما اس تطعت ،أع وذ ب ك من ش ر م ا ص نعت أب وء ل ك
بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت) ()1
ومنها ما ورد في الحديث عن رسول هللا أنه قال( :من قال أستغفر هللا الذي
ال إله إال هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف) ()2
ومنها الصيغ المختصرة التي يمكن استعمالها في ك ل حين ،ومنه ا ق ول المس تغفر:
(أستغفر هللا العظيم الذى ال إله إال هو الحى القيوم وأتوب إليه) ..فق د ذك ر الن بي ( أن
من قاله غفر له وإن كان فر من الزحف) ()3
ومنها( :أسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر م ا تعلم وأس تغفرك لم ا تعلم إن ك
أنت عالم الغيوب)()4
وفي ح ديث آخ ر س ئل رس ول هللا :كي ف نس تغفر؟ فق ال :ق ل (اللهم اغف ر لن ا
وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)()5
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف اعلم أن أدنى درج ات االس تغفار وأقبحه ا
تلك الدرجة التي عبر عنها رسول هللا وأئمة الهدى وسموها درجة المس تهزئين ،ففي
الحديث عن رسول هللا أنه ق ال( :الت ائب من ال ذنب كمن ال ذنب ل ه ،والمس تغفر من
ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) ()6
وعن اإلمام الرضا أنه ق ال( :مث ل االس تغفار مث ل ورق على ش جرة تح رّك
فيتناثر ،والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه) ()7
وقال( :سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من االس تهزاء :من اس تغفر بلس انه ولم
يندم بقلبه فقد استهزأ بنفس ه ،ومن س أل هللا التوفي ق ولم يجته د فق د اس تهزأ بنفس ه،
ومن اس تحزم ولم يح ذر فق د اس تهزأ بنفس ه ،ومن س أل هللا الجنّ ة ولم يص بر على
الشدائد فقد استهزأ بنفسه ،ومن تعوّذ باهلل من النار ولم يترك الش هوات فق د اس تهزأ
بنفسه ،ومن ذكر هللا ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه) ()8
وعن اإلمام الص ادق أن ه ق ال( :رحم هللا عب دا لم ي رض من نفس ه أن يك ون
إبليس نظيرا له في دينه ،وفي كتاب هللا نجاة من الردى ،وبصيرة من العمى ،ودليل
إلى الهدى ،وشفاء لما في الصدور فيما أمركم هللا به من االستغفار مع التوبة ،ق ال:
﴿ َوالَّ ِذينَ إِ َذا فَ َعلُوا فَا ِح َشةً أَوْ ظَلَ ُموا أَ ْنفُ َسهُ ْم َذ َكرُوا هللا فَ ْ
اس تَ ْغفَرُوا لِ ُذنُوبِ ِه ْم َو َم ْن يَ ْغفِ ُر
صرُّ وا َعلَى َما فَ َعلُوا َوهُ ْم يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ [آل عم ران ،]135 :وق ال: وب إِاَّل هللا َولَ ْم يُ ِالذنُ َ ُّ
)(1رواه البخارى.
)(2رواه أبو داود والترمذي.
)(3رواه أبو داود والترمذى.
)(4رواه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه.
)(5رواه النسائى في عمل اليوم والليلة.
)(6رواه ابن أبى الدنيا ،قال ابن رجب :ورفعه منكر ولعله موقوف.
)(7اصول الكافي ج 2ص .504
)(8كنز الكراجكي ج 1ص 330
134
ظلِ ْم نَ ْف َس هُ ثُ َّم يَ ْس تَ ْغفِ ِر هللا يَ ِج ِد هللا َغفُ ورًا َر ِحي ًم ا﴾ [النس اء: ﴿ َو َم ْن يَ ْع َم لْ ُس و ًءا أَوْ يَ ْ
،]110فهذا ما أمر هللا به من االستغفار ،واشترط معه بالتوب ة واإلقالع ع ّم ا ح رّم
هللا ،فإنّه يقول﴿ :إِلَ ْي ِه يَصْ َع ُد ْال َكلِ ُم الطَّيِّبُ َو ْال َع َم ُل الصَّالِ ُح يَرْ فَ ُعهُ﴾ [فاطر ،]10 :وهذه
أن االستغفار ال يرفعه إلى هللا إاّل العمل الصالح والتوبة) ()1 اآلية تد ّل على ّ
وشبه اإلمام علي المستغفر بالمستعمل لل دواء؛ ف إذا ك ان يس تعمله ،ويس رف
على نفسه بما يسبب ل ه الم رض ،فإن ه لن يش فى أب دا ،ألن غ رض االس تغفار ه و
الع ودة إلى هللا ،ال مج رد حرك ة اللس ان ،فق د روي عن ه أن ه ق ال( :ال ذنوب ال داء
والدواء االستغفار ،والشفاء أن ال تعود) ()2
وروي أن بعضهم قال بحضرته (أستغفر هللا) ،فقال ل ه اإلم ام علي( :ثكلت ك
إن االستغفار درجة العلّيّين ،وه و اس م واق ع على س تّة أ ّمك ،أ تدري ما االستغفار؟ ّ
معان :أوّلها النّدم على ما مضى ،والثاني :العزم على ترك العود إليه أبدا ،والثالث: ّ
أن تؤ ّدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى هللا أملس ليس علي ك تبع ة ،والراب ع :أن
تعمد إلى ك ّل فريض ة علي ك ض يّعتها فت ؤ ّدي حقّه ا ،والخ امس :أن تعم د إلى اللحم
الّذي نبت على السحت فتذيبه باألحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينش أ بينهم ا لحم
جديد ،والسادس :أن تذيق الجسم ألم الطاعة كم ا أذقت ه حالوة المعص ية ،فعن د ذل ك
تقول :أستغفر هللا) ()3
﴿والَّ ِذينَ ِإ َذا َف َعلُوا
وهذا ما نص عليه القرآن الكريم وصرح به ،فقد قال هللا تعالىَ :
ُص رُّوا ظ َل ُموا َأ ْنفُ َسه ُْم َذ َكرُوا هللا َفا ْست َْغ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِه ْم َو َم ْن َي ْغ ِف رُ ال ُّذنُ َ
وب ِإاَّل هللا َو َل ْم ي ِ اح َش ًة َأوْ َ
َف ِ
ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َه ا ُ
َع َلى َما َف َعلُوا َوه ُْم َيعْ َل ُمونَ ( )135أو َل ِئكَ َجزَاؤُ ه ُْم َم ْغ ِف َرةٌ ِم ْن َر ِّب ِه ْم َو َجنَّ ٌ
اأْل َ ْن َهارُ خَا ِل ِدينَ ِفي َها َو ِنعْ َم َأجْرُ ْال َع ِام ِلينَ (( ﴾)136آل عمران)
فقد قرن هللا تعالى في اآلية الكريمة االستغفار بعدم اإلصرار ،ولهذا ق ال رس ول هللا
(:ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) ()4
وذلك ال يعني العصمة من الذنوب ،أو عدم الع ودة إليه ا؛ فق د يص ر الش خص على
شيء ويعزم عليه ،ولكن ه ينكث عزم ه ..ف المراد ه و أن يعاه د هللا أن ال يق ع في ال ذنب
بجزم وتأكيد ،فإن قدر ووقع في الذنب عاد إلى االستغفار من جديد..
لقد ذكر رسول هللا ذلك ،فقال( :ما أصر من اس تغفر وإن ع اد فى الي وم س بعين
مرة) ()5
وأخبرنا (أن عب دا أذنب ذنب ا فق ال :رب أذنبت ذنب ا ف اغفر لى ،ق ال هللا تع الى :علم
عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ،غف رت لعب دى .ثم مكث م ا ش اء هللا ثم أذنب ذنب ا
آخر فذكر مثل األول مرتين أخريين) ()6
136
تامة) ()1
وفي رواية أخرى( :من قعد في مصاله الذي صلى فيه الفجر ي ذكر هللا ح تى
تطلع الشمس ،كان له حج بيت هللا) ()2
فهذا الحديث ـ برواياته المختلفة التي اتفقت عليها جميع األمة ـ ي دل على أن
المواقيت الزمانية يمكنها أن تعوض المواقيت المكانية ،وخاصة لمن عج ز عليه ا..
حتى ال يكون في ذلك أي عذر أو حجة للمقصرين.
النفحات الزمانية:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعلمت الفضل العظيم ال ذي أناط ه هللا
تعالى بالمواقيت الزمنية ،والتي تتيسر لكل الخلق؛ فهي ال تحتاج ماال وال جهدا ،بل
يكفي أن يع رف المجته د فيه ا الت واريخ واألزمن ة؛ فاجته د ألن تبحث عنه ا ،وعن
األعمال المرتبطة بها ،وال يضرك أن يشكك البعض في صحة بعض م ا ورد فيه ا
ما دام ال يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم من الحقائق والقيم.
وقد أشار إلى مجامع تلك المواقيت القرآن الك ريم في مواض ع متع ددة من ه..
وأولها ليلة الق در ال تي ذك ر أنه ا خ ير من أل ف ش هر ،ووص فها في موض ع آخ ر
ب ْال ُمبِي ِن ( )2إِنَّا بالبركة ،وبأن ه يف رق فيه ا ك ل أم ر حكيم ،فق ال﴿ :حم (َ )1و ْال ِكتَ ا ِ
ق ُك لُّ أَ ْم ٍر َح ِك ٍيم ( )4أَ ْم رًا ِم ْن أَ ْن َز ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ٍة ُمبَا َر َك ٍة إِنَّا ُكنَّا ُم ْن ِذ ِرينَ ( )3فِيهَ ا يُ ْف َر ُ
ِع ْن ِدنَا إِنَّا ُكنَّا ُمرْ ِسلِينَ (َ )5رحْ َمةً ِم ْن َربِّكَ إِنَّهُ ه َُو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم﴾ [الدخان]6 - 1 :
﴿و ْالفَجْ ِر (َ )1ولَيَ ا ٍل ومنها الليالي العشر التي أقس م هللا تع الى به ا في قول هَ :
َع ْش ٍر﴾ [الفجر]2 ،1 :
ُ
ضانَ الَّ ِذي أ ْن ِز َل ومنها شهر رمضان الذي وصفه هللا تعالى ،فقالَ ﴿ :ش ْه ُر َر َم َ
ص ْمهُ﴾ الش ه َْر فَ ْليَ ُ ت ِمنَ ْالهُدَى َو ْالفُرْ قَ ِ
ان فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم َّ فِي ِه ْالقُرْ آنُ هُدًى لِلنَّ ِ
اس َوبَيِّنَا ٍ
﴿وإِ َذا َس أَلَكَ ِعبَ ا ِدي َعنِّي فَ إِنِّي [البقرة ،]185 :وقد جاء بعد هذه اآلية قول ه تع الىَ :
اع إِ َذا َدعَا ِن﴾ [البقرة ،]186 :وهو ما يدل على اإلجابة للدعاء ُ
قَ ِريبٌ أ ِجيبُ َد ْع َوةَ ال َّد ِ
فيه أسرع.
ولم يكتف كرم هللا تعالى بهذه المواقيت ..بل جعل في كل يوم مواقيت خاصة
ممتلئة بالبرك ة والنفح ات ،ومنه ا وقت الس حر ال ذي أخ بر هللا عن الج زاء العظيم
آخ ِذينَ َماُون (ِ )15 ت َو ُعي ٍ الذي أعده للمتعرضين لنفحاته ،فقال﴿ :إِ َّن ْال ُمتَّقِينَ فِي َجنَّا ٍ
ك ُمحْ ِس نِينَ (َ )16ك انُوا قَلِياًل ِمنَ اللَّ ْي ِل َم ا يَ ْه َج ُع ونَ ( آتَاهُ ْم َربُّهُ ْم إِنَّهُ ْم َكانُوا قَ ْب َل َذلِ َ
ار هُ ْم يَ ْستَ ْغفِرُونَ ﴾ [الذاريات]18 - 15 : ْح ِ َ )17وبِاأْل َس َ
ومنها المواقيت التي ترتبط بها الصالة ،وال تي نص عليه ا قول ه تع الى﴿ :أَقِ ِم
ق اللَّي ِْل َوقُرْ آنَ ْالفَجْ ِر إِ َّن قُرْ آنَ ْالفَجْ ِر َك انَ َم ْش هُودًا ( س إِلَى َغ َس ِ وك ال َّش ْم ِ صاَل ةَ لِ ُدلُ ِ
ال َّ
َ َ
ك َع َسى أ ْن يَ ْب َعث كَ َربُّكَ َمقا ًم ا َمحْ ُم ودًا﴾ [اإلس راء: َ َ ً َ َ َّ
َ )78و ِمنَ الل ْي ِل فتَهَ َّج ْد بِ ِه نَافِلة ل َ
)(1رواه مسلم.
)(2رواه ابن حبان
)(3رواه أبو داود
)(4رواه أبو داود
)(5رواه ابن خزيمة
)(6رواه الترمذي
)(7رواه الطبراني
)(8رواه البخاري.
146
وفي الحديث ،أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى ،وأنه قال لرسول
هللا :يا رسول هللا إنها تكون الظلمة والسيل ،وأنا رج ٌل ضرير البصر ،فصل ي ا
رسول هللا في بيتي مكانا أتخذه مص لى ،فج اءه رس ول هللا ،فق ال :أين تحب أن
أصلي ؟ فأشار إلى مكان من البيت ،فصلى فيه رسول هللا )1( )
وروي عن اإلمام الصادق أنه قال( :ك ان لعلي بيت ليس في ه ش ئ إال ف راش
وسيف ومصحف وكان يصلي فيه) ()2
ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ بعض م ا ورد في المح ال ال تي تت نزل فيه ا
النفحات؛ فابحث عنها ،واحرص عليها ،واستفد من بركاته ا ،وال تكت ف بظاهره ا،
بل اعبر منها إلى حقائقها وبواطنها؛ فاهلل ما شرفها ذل ك التش ريف ،وال أن زل فيه ا
تلك البركات إال للحقائق التي تحويها ،والمعاني التي تحملها.
)(1مسلم ()802
)(2الترمذي ()2910
)(3الترمذي ( ،)2926والدارمي ()3356
)(4بحار األنوار ،89/211 :عن :معاني األخبار ص.226
)(5بحار األنوار ،89/20 :عن :جامع األخبار 46ـ .48
150
تداوم عليه ،مثلما كان يفعل الصالحون ،فقد روي عن اإلم ام الرض ا أن ه ك ان يختم
القرآن في كل ثالث ،ويقول( :لو أردت أن أختمه في أقل من ثالث لختمته ولكن ما
مررت بآية قط إال فكرت فيه ا وفي أي ش ئ ان زلت ،وفي أي وقت ،فل ذلك ص رت
أختم ثالثة أيام) ()1
لكن ذلك ـ أيها المري د الص ادق ـ ق د ال يتس نى ل ك ،وال ألك ثر الن اس ،وق د
يصرفهم عن الفهم والتدبر واآلداب الباطنة ،لذلك كان لكل شخص أن يحدد المق دار
الذي يتناسب معه ،وقد روي عن اإلم ام الص ادق أن ه س ئل :أق رأ الق رآن في ليل ة؟
قال( :ال يعجبني أن تقرأه في أق ّل من شهر)(.)2
وسأله بعضهم :جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فق ال :ال،
قال :ففي ليل تين؟ ق ال :ال ،ق ال :ففي ثالث؟ ق ال :ه ا ـ وأش ار بي ده ـ ث ّم ق الّ :
(إن
لرمضان حقّا وحرمة ،وال يشبهه شيء من الشهور ،وكان أصحاب مح ّمد يق رأ
إن القرآن ال يقرء هذرمة ،ولكن ترتّ ل ت رتيال ،وإذا أحدهم القرآن في شهر أو أقلّّ ،
مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها ،واسأل هللا تع الى الجنّ ة ،وإذا م ررت بآي ة
فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ باهلل من النار)()3
إنوسأله آخر :في كم أقرأ القرآن؟ فقال( :اقرأه أخماس ا ،اق رأه أس باعا ،أم ا ّ
زى أربعة عشر جزءا)()4 عندي مصحفا مج ّ
وأقل األوراد التي ورد اإلذن بها ،والتي يعتبر التارك لها مقصرا ما ورد في
الح ديث عن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال( :الق رآن عه د هللا إلى خلق ه ،فينبغي للم رء
ل يوم خمسين آية)()5 المسلم أن ينظر في عهده ،وأن يقرأ منه في ك ّ
ومن اآلداب ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تجته د في تعلم كيفي ة الق راءة
الصحيحة بمخارجها وأحكامها ،وقد روي في الحديث عن رس ول هللا أن ه ق ال:
(الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام ال بررة ،وال ذي يق رأ الق رآن ،ويتتعت ع في ه وه و
ق له أجران)()6 عليه شا ٌ
وفي ح ديث آخ ر أن ه س ئل عن قول ه تع الىَ ﴿ :و َرتِّ ِل ْالقُ رْ آنَ تَ رْ تِياًل ﴾
هذ الشعر ،قفوا عند تهذه َّ [المزمل ،]4 :فقال( :بيّنه تبياناً ،وال تنثره نثر الر ّمل ،وال َّ
ركوا به القلوب ،وال يكون ه ُّم أحدكم آخر السورة)()7 عجائبه ،وح ِّ
ومن تلك اآلداب ما ذكره اإلمام الص ادق بقول ه( :إذا م ررت بآي ة فيه ا ذك ر
الجنّة ،فاسأل هللا الجنّة ..وإذا مررت بآية فيها ذكر النار ،فتعوّذ باهلل من النار)()8
170
الفهم والتدبر
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن أول الم راتب ال تي ي رتقي به ا
السالك إلى الحقائق القرآنية ،والتي تجعله يدرك أس رار تل ك الفض ائل ال تي وردت
في حقه جملة وتفصيال ،وعالقة ذلك بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الق رآن الك ريم ه و رس الة هللا تع الى
إلى عباده ،والرسالة ال يكتفى منها بترديدها ،وال بقراءته ا ،وال بتض ميخها ب أنواع
العطر ،وال بتقبيلها ووضعها على الجبهة ،وال بوضعها في إطار جمي ل مزخ رف،
وتعليقه في أشرف األمكنة ،وإنما بقراءتها ،وفهمها ،وتدبر معانيها.
فالمرسل العاقل الواعي الذي يرسل أي رس الة ال يري د من رس الته حروفه ا
فقط ،وإنما يريد معانيها ،ما ظهر منها وما بطن ،وما الح للعين ب ادي ال رأي ،وم ا
احتاج إلى تأمل واستبصار وتدبر.
وهكذا أعظم رسالة بين أيدينا ،وهي كالم ربنا ..فهي كما تحتاج إلى كل ذل ك
التكريم والتش ريف والتق ديس ،تحت اج أيض ا إلى أن ت رقى عقولن ا لفهمه ا ،وإدراك
مقاصدها ،وتحويل حروفها من كلمات في المصاحف إلى حركات في الحياة.
ولذلك أخبر هللا تعالى عن انغالق القلوب ال تي ال تفهم كلمات ه ،وال تت دبرها،
ب أَ ْقفَالُهَا﴾ [محمد]24 : فقال﴿ :أَفَاَل يَتَ َدبَّرُونَ ْالقُرْ آنَ أَ ْم َعلَى قُلُو ٍ
وأخبر أن السبب األكبر في غفلتهم عن الحقائق العظيمة التي جاء بها القرآن
الكريم ناتج عن عدم التدبر ،فقال﴿ :أَفَلَ ْم يَ َّدبَّرُوا ْالقَ وْ َل أَ ْم َج ا َءهُ ْم َم ا لَ ْم يَ أْ ِ
ت آبَ ا َءهُ ُم
اأْل َ َّولِينَ ﴾ [المؤمنون]68 :
وأخبر أن عدم إدراك أسرار المعاني القرآنية ،وتوهم التناقض بينها ناتج عن
عدم استعمال آلية الت دبر ،فق ال﴿ :أَفَاَل يَتَ َدبَّرُونَ ْالقُ رْ آنَ َولَ وْ َك انَ ِم ْن ِع ْن ِد َغ ْي ِر هللا
اختِاَل فًا َكثِيرًا﴾ [النساء]82 : لَ َو َجدُوا فِي ِه ْ
وبناء على هذا كله أخبر عن أن الغاية الكبرى لتنزل القرآن الكريم هو التدبر
الذي ينتج عنه الت ذكر ،وال ذي ال يتحق ق ب ه إال أول و األلب اب ،ق ال تع الىِ ﴿ :كتَ ابٌ
ب﴾ [ص]29 : ك لِيَ َّدبَّرُوا آيَاتِ ِه َولِيَتَ َذ َّك َر أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ
ار ٌ أَ ْن َز ْلنَاهُ إِلَ ْي َ
ك ُمبَ َ
ولهذا ،فإن الفهم والتدبر هو روح التعامل مع القرآن الك ريم ،مثلم ا الخش وع
هو روح الصالة ،كما قال اإلمام علي( :ال خير في عبادة ال فقه فيها ،وال في قراءة
ال تدبّر فيها)()1
ولهذا كان الصالحون يرددون اآلية الواحدة مرات كثيرة ابتغاء لتنزل فهمه ا
والتدبر في معانيها ،بل روي ذلك عن رس ول هللا ،فق د روي أن ه ق رأ ﴿بس م هللا
الرّحمن الرّحيم﴾ ،فر ّددها عشرين مرّة(.)2
)(1تحف العقول ص .204
)(2رواه أبو ذر الهروي في معجمه.
171
و عن أبي ذ ّر قال( :قام بنا رسول هللا ،فقام ليلة بآي ة ير ّدده ا ،وهي قول ه
تعالى﴿ :إِ ْن تُ َع ِّذ ْبهُ ْم فَ إِنَّهُ ْم ِعبَ ا ُدكَ َوإِ ْن تَ ْغفِ رْ لَهُ ْم فَإِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [المائ دة:
)1( )]118
ب الَّ ِذينَ اجْ ت ََر ُح وا و قام بعض أصحاب رسول هللا ليلة بهذه اآلية ﴿أَ ْم َح ِس َ
ت َس َوا ًء َمحْ يَاهُ ْم َو َم َماتُهُ ْم َس ا َء َم ا ت أَ ْن نَجْ َعلَهُ ْم َكالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ ال َّسيِّئَا ِ
يَحْ ُك ُمونَ ﴾ [الجاثية]21 :
وعن الزهري عن اإلمام السجاد أنه قال( :لومات من بين المشرق والمغرب
لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) ،ثم ق ال الزه ري( :وك ان إذا ق رأ (مال ك
يوم الدين) يكررها ،حتى يكاد أن يموت) ()2
﴿وا ْمتَ ا ُزوا ْاليَ وْ َم أَيُّهَ ا ْال ُمجْ ِر ُم ونَ ﴾
وقام سعيد بن جبير ليل ة ي ر ّدد ه ذه اآلي ة َ
[يس]59 :
وحكي عن بعض الصالحين أنه قال( :إنّي ألفتتح الس ورة فتوقف ني بعض م ا
أشهد فيها عن الفراغ منها حتّى يطلع الفجر) ،وق ال آخ ر( :ك ّل آي ة ال أتفهّمه ا وال
يكون قلبي فيها ال أع ّد لها ثوابا)
و حكي عن آخر أنّه قال( :إنّي ألتلو اآلية فأقيم فيه ا أرب ع لي ال وخمس لي ال
ولو ال أنّي أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها)
وروي أن آخر بقي في سورة هود ستّة أش هر يكرّره ا وال يف رغ من الت دبّر
فيها.
وقال آخ ر( :لي في ك ّل جمع ة ختم ة ،وفي ك ّل ش هر ختم ة ،وفي ك ّل س نة
ختمة ،ولي ختمة منذ ثالثين سنة ما فرغت منه ا بع د) ،وك ان يق ول( :أقمت نفس ي
مقام االجراء فأنا أعمل مياومة ومسابعة ومشاهرة ومسانهة)()3
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما أحدثك عنه من مع اني الفهم
والتدبر ،والوصفات التي تعينك على ذلك.
فهم القرآن:
أول مرتب ة في التعام ل م ع الحق ائق القرآني ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فهم
معانيها ،ذلك أن األلفاظ والتراكيب ليست مقص ودة ب ذاتها ،وإنم ا قص دها المع اني
ال تي تختزنه ا ..ول ذلك على ق ارئ الق رآن أن يتج اوز األلف اظ إلى معانيه ا ..ك ل
معانيها التي تليق بها ..فالقرآن الك ريم حم ال وج وه؛ فل ذلك على العاق ل أن يحمل ه
على أحسن وجوهه ،حتى ال يضل أو يضل.
َ ْ َ َّ
وأول ذلك تحكيم المتشابه إلى المحكم ،كما قال تعالى﴿ :ه َُو ال ِذي أن َز َل َعل ْي كَ
ب َوأُخَ ُر ُمتَ َشابِهَ ٌ
ات فَأ َ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم زَ ْي غٌ ات ه َُّن أُ ُّم ْال ِكتَا ِ
ات ُمحْ َك َم ٌ َاب ِم ْنهُ آيَ ٌ ْال ِكت َ
)(1ابن ماجه تحت رقم .1350
)(2الكافى :ج 2ص .602
)(3المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء؛ ج2؛ ص237
172
َّاس ُخونَ فَيَتَّبِعُونَ َما تَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ْالفِ ْتنَ ِة َوا ْبتِغَا َء تَأْ ِويلِ ِه َو َما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِاَّل هللا َوالر ِ
ب﴾ [آل عم ران: فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َربِّنَا َو َما يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُولُ و اأْل َ ْلبَ ا ِ
]7
وفي الحديث عن رسول هللا أنه قال( :فإذا رأيت الذين يتبع ون م ا تش ابه
منه فأولئك الذين سمى هللا فاحذروهم) ()1
وفي حديث آخر أن رسول هللا قرأ تلك اآليات ،ثم ق ال( :ق د ح ذركم هللا،
فإذا رأيتموهم فاعرفوهم) ()2
وعن اإلمام الصادق أنه قال( :إن الق رآن زاج ر وآم ر ي أمر بالجن ة ويزج ر
عن النار ،وفيه محكم ومتشابه ،فأما المحكم فيؤمن ب ه ويعم ل ب ه وي دين ب ه ،وأم ا
المتشابه فيؤمن به وال يعمل به ،وهو قول هللا﴿ :فَأ َ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ وبِ ِه ْم َز ْي ٌغ فَيَتَّبِ ُع ونَ
َّاس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم َما تَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ْالفِ ْتنَ ِة َوا ْبتِغَا َء تَأْ ِويلِ ِه َو َما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِاَّل هللا َوالر ِ
ربِّنَا﴾)()3 يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َ
ولذلك عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم القرآن الك ريم من خالل ع رض
آياته بعضها على بعض حتى ال تقع في تلك االنحرافات التي حذر منه ا رس ول هللا
..والتي وقعت فيها أمته من بعده.
ومن األمثل ة على ذل ك م ا ورد في الق رآن الك ريم من ذك ر الي د مض افة هلل
تعالى ،ألن العرب عندما تضيف اليد ألي كان قد تريد بذلك اليد التي هي الجارحة،
وتري د به ا أيض ا مع اني أخ رى مث ل :الق وة والنعم ة والعط اء والث واب والهداي ة
والنصرة والحفظ وغيرها.
وبم ا أن األم ر ك ذلك ،فالي د المنس وبة هلل ،تعت بر من المتش ابهات ،وال تي ال
يمكن القط ع بمعناه ا إال بعرض ها على المحكم الق رآني ال ذي ي نزه هللا تع الى عن
الجسمية والتركيب ومشابهة مخلوقاته ،وهو ما يقوله الراسخون في العلم.
أما المعرضون عن المحكم ،واآلخذون بالمتشابه ،فقد أعرضوا عن ذلك؛ فلم
يفوضوا المراد منها هلل تعالى من باب االحتياط والتورع ،ولم يؤولوها بم ا يتناس ب
م ع كالم الع رب ،وإنم ا راح وا يحملونه ا على ظواهره ا؛ فنس بوا هلل تع الى الي د
بمعناها الظاهر ،ونسبوا له غيرها من الجوارح ،فوقعوا في التجسيم والتشبيه.
ومما يعينك على ذلك ـ أيها المري د الص ادق ـ رجوع ك للراس خين في العلم
أولئك الذين أوصى رسول هللا بالرجوع إليهم لفهم القرآن ،والتفريق بين محكمه
ومتشابهه ،وإياك والرجوع ألولئك الذين ارتضوا لليهود أن يفسروا كت ابهم ،فمألوه
بكل أنواع الخرافة والدجل.
وقد روي أن بعض هم ج اء لإلم ام علي ،وط رح علي ه اآلي ات المتش ابهات،
وطلب منه أن يف ك غموض ها ل ه ،وس أذكر ل ك بعض م ا ذك ره ليك ون ع برة ل ك،
)(1البخاري ( )4547ومسلم ()2665
)(2تفسير الطبري ( ،)6/192ورواه اآلجري في الشريعة (ص )332
)(3تفسير القمى.745 :
173
ووسيلة تفهم من خاللها لغة القرآن الكريم ومقاصده.
فمن ذلك أنه سأله عن النسيان الوارد في القرآن الكريم والمضاف هلل تع الى،
ُوا هللاَ فَن َِسيَهُ ْم﴾إنما يع ني نس وا هللا في دار فقال له اإلمام علي( :فأما قوله تعالى﴿ :نَس ْ
ال دنيا لم يعمل وا بطاعت ه ،فنس يهم في اآلخ رة ـ أي لم يجع ل لهم من ثواب ه ش يئاً،
ُوا لِقَاء فصاروا منسيين من الخير ،وكذلك تفسير قوله تعالى﴿ :فَ ْاليَوْ َم نَ ْن َساهُ ْم َك َما نَس ْ
يَوْ ِم ِه ْم هَ َذا﴾يعني بالنسيان انه لم يثبهم كما يثيب أولياءه ،والذين ك انوا في دار ال دنيا
﴿و َما َك انَ َربُّكَ مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله وخافوه بالغيب ..وأما قولهَ :
نَ ِسيّاً﴾فان ربنا تبارك وتعالى علواً كبيراً ليس بالذي ينسى ،وال يغفل; بل هو الحفي ظ
العليم ،وقد يقول العرب :قد نس ينا فالن فال ي ذكرها ،أي ان ه ال ي أمر لهم بخ ير وال
يذكرهم به)
ومن ذلك أنه سأله عما ورد في الق رآن الك ريم من نس بة الحرك ة والتنق ل هلل
﴿ولَقَ ْد ص فّاً﴾ وقول هَ : ص فّا ً َ ك َ ﴿و َج ا َء َربُّكَ َو ْال َملَ ُ تعالى ،فقال له اإلمام( :وأما قول هَ :
ْ
ك أَوْ يَ أتِي ْ ْ
ِج ْئتُ ُموْ نَا فُ َرادَى﴾وقوله﴿ :هَلْ يَ ْنظُ رُوْ نَ إِالَّ أَ ْن تَ أتِيَهُ ُم ْال َمالَئِ َك ةُ أَوْ يَ أتِي َربُّ َ
ك﴾فذلك كله حق ،وليست جيئته ج ّل ذكره كجيئة خلقه ،فان ه رب ك ل ت َربِّ َ بَعْضُ آيَا ِ
شيء من كتاب هللا عزوجل يكون تأويل ه على غ ير تنزيل ه ،وال يش به تأويل ه بكالم
البشر ،وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن ش اء هللا تع الى ،وه و حكاي ة هللا عزوج ل
عن ابراهيم (عليه السالم) حيث قال﴿ :إِنِّي َذا ِهبٌ إَلى َربِّي َسيَ ْه ِديْن﴾فذهاب ه إلى رب ه
توجهه اليه في عبادته واجتهاده ،أال ترى أن تأويله غير تنزيله ،وق الَ ﴿ :وأَ ْن زَ َل لَ ُك ْم
ِمنَ األَ ْن َع ِام ثَ َمانِيَةَ أَ ْز َواج﴾وقالَ ﴿ :وأَ ْنزَ ْلنَا ْال َح ِد ْي َد فِ ْي ِه بَ أْسٌ َش ِد ْي ٌد﴾ فانزال ه ذل ك خلق ه
من َولَ ٌد فَأَنَ ا أَ َّو ُل ْال َعابِ ِدينَ ﴾ أي الجاح دين، إي اه .وك ذلك قول ه﴿ :قُ لْ إِ ْن َك انَ لِل رَّحْ ِ
والتأويل في هذا القول باطن ه مض اد لظ اهره ،ومع نى قول ه﴿ :هَ لْ يَ ْنظُ رُوْ نَ إِالَّ أَ ْن
ت َربِّكَ ﴾فانما خاطب نبين ا محم داً ك أَوْ يَأْتِ َي بَعْضُ آيَا ِ تَأْتِيَهُ ُم ْال َمالَئِ َكةُ أَوْ يَأْتِ َي َربُّ َ
هل ينتظر المنافقون والمشركون إالّ أن ت أتيهم المالئك ة فيع اينونهم﴿ ،أَوْ يَ أْتِ َي َربُّكَ
ت َربِّكَ ﴾ يعني بذلك أمر ربك ،واآلي ات هي الع ذاب في دار ال دنيا أَوْ يَأْتِ َي بَعْضُ آيَا ِ
وا أَنَّا نَ أْتِي األَرْ ضُ كم ا ع ذب االُمم الس الفة والق رون الخالي ة ،وق ال﴿ :أَ َو لَ ْم يَ َر ْ
ط َرافِها﴾يعني بذلك ما يهلك من القرون فسماه إتياناً) صهَا ِم ْن أَ ْ نَ ْنقُ ُ
إلى آخر حديثه الطويل ،وفيه ما يدلك ـ أيها المريد الص ادق ـ على ض رورة
الرجوع للراسخين في العلم حتى تبتعد عن الشبهات التي يبثها أهل الزي غ لتحري ف
القرآن الكريم عن معناه الذي أراده هللا.
ولذلك احذر ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن ت دخل عقل ك فيم ا ال ق درة ل ك في
فهمه؛ بل كله إلى هللا تعالى ،وحسبك منه ما أطقته؛ فإن قوما راحوا يتجرؤون على
الحقائق القرآنية من غير أن يكون لديهم أدوات فهمه ا ،وال أن يحين زم ان فهمه ا،
فضلوا وأضلوا.
َّ ُ ُ ْ ْ َ ْ اَّل ُ ْ
ولذلك قال هللا تعالى﴿ :هَ لْ يَنظ رُونَ إِ تَأ ِويل هُ يَ وْ َم يَ أتِي تَأ ِويل هُ يَق و ُل ال ِذينَ
174
ق فَهَ لْ لَنَ ا ِم ْن ُش فَ َعا َء فَيَ ْش فَعُوا لَنَ ا أَوْ نُ َر ُّد ت ُر ُس ُل َربِّنَ ا بِ ْال َح ِّ نَسُوهُ ِم ْن قَ ْب ُل قَ ْد َجا َء ْ
ْ
ض َّل َع ْنهُ ْم َم ا َك انُوا يَفتَ رُونَ ﴾ ُ َ
خَس رُوا أ ْنف َس هُ ْم َو َ فَنَ ْع َم َل َغ ْي َر الَّ ِذي ُكنَّا نَ ْع َم ُل قَ ْد ِ
[األعراف]53 :
﴿س نُ ِري ِه ْم
فمن القرآن الكريم ما ال يفهم معناه إال بحص وله ،كم ا ق ال تع الىَ :
ك أَنَّهُ َعلَى ُك لِّ ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ
ف بِ َربِّ َ اق َوفِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْال َح ُّ آيَاتِنَا فِي اآْل فَ ِ
َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ [فصلت]53 :
ولذلك ك ان التعام ل الص حيح م ع الق رآن الك ريم في االقتص ار على فهم م ا
وض ح من ه ،أو ك ان ل ه ارتب اط بالحق ائق والقيم ،وم ا ع دا ذل ك ليس س وى تكل ف
ممقوت ال يصرف عن الحقائق فقط ،بل يشوهها أيضا.
لهذا نهى هللا تعالى المؤمنين في سورة الكهف عن البحث عن تفاصيل أخبار
فتية أهل الكهف ،لعدم وجود مصادر أمينة موثوق ة يمكنه ا أن تع رف بحقيقتهم ،أو
﴿س يَقُولُونَ ثَاَل ثَ ةٌ َرابِ ُعهُ ْم َك ْلبُهُ ْم تدل على األح داث المرتبط ة بهم ،كم ا ق ال تع الىَ :
ب َويَقُولُونَ َس ْب َعةٌ َوثَ ا ِمنُهُ ْم َك ْلبُهُ ْم قُ لْ َربِّي َويَقُولُونَ خَ ْم َسةٌ َسا ِد ُسهُ ْم َك ْلبُهُ ْم َرجْ ًما بِ ْال َغ ْي ِ
ت فِي ِه ْم ِم ْنهُ ْم ار فِي ِه ْم إِاَّل ِم َرا ًء ظَ ا ِهرًا َواَل ت َْس تَ ْف ِ أَ ْعلَ ُم بِ ِع َّدتِ ِه ْم َما يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِاَّل قَلِي ٌل فَاَل تُ َم ِ
أَ َحدًا﴾ [الكهف]22 :
فق د اعت بر الق رآن الك ريم مج رد الح ديث عن ع ددهم من غ ير بين ة رجم ا
بالغيب ،وهو من أعظم الكذب والزور والبهتان.
وهكذا األمر عندما ذكر م دة لبثهم في الكه ف ،كم ا ق ال تع الىَ ﴿ :ولَبِثُ وا فِي
ازدَادُوا تِ ْس عًا ( )25قُ ِل هللا أَ ْعلَ ُم بِ َم ا لَبِثُ وا لَ هُ َغيْبُ ث ِمائَ ٍة ِس نِينَ َو ْ َك ْهفِ ِه ْم ثَاَل َ
ك فِي ُح ْك ِم ِه صرْ بِ ِه َوأَ ْس ِم ْع َما لَهُ ْم ِم ْن دُونِ ِه ِم ْن َولِ ٍّي َواَل يُ ْش ِر ُ ض أَ ْب ِت َواأْل َرْ ِ اوا ِ ال َّس َم َ
أَ َحدًا﴾ [الكهف]26 ،25 :
ول ذلك ب دل انش غالك بم ا غ اب عن ك علم ه ،أو ال يض رك جهل ه ،انش غل
بالحق ائق والقيم القرآني ة ال تي لم ي نزل الق رآن الك ريم إال ألجله ا ،وق د ق ال بعض
الحكماء ينصح مريدا ل ه ،متعجب ا من إعراض ه عن الحق ائق القرآني ة( :إني أنبه ك
على رقدتك ،أيها المسترسل في تالوتك ،المتخذ دراس ة الق رآن عمال ،المتلق ف من
معاني ه ظ واهر وجمال ،إلى كم تط وف على س احل البح ر مغمض ا عيني ك عن
غرائبها؟ أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها؟ وتس افر إلى جزائره ا
آلجتناء أطايبها؟ وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أوما تع ير نفس ك في
الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أوم ا بلغ ك
أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعب علم األولين واآلخ رين كم ا يتش عب عن
س واحل البح ر المحي ط أنهاره ا وج داولها؟ أوم ا تغب ط أقوام ا خاض وا في غم رة
أمواجه ا فظف روا ب الكبريت األحم ر؟ وغاص وا في أعماقه ا فاس تخرجوا الي اقوت
األحمر ،والدر األزهر ،والزبرجد األخضر؟ وساحوا في سواحلها ،فالتقطوا العن بر
األشهب ،والعود الرطب األنض ر؟ وتعلق وا إلى جزائره ا واس تدروا من حيواناته ا
175
األذفر؟) ()1 الترياق األكبر ،والمسك
ولذلك دعك ـ أيها المريد الصادق ـ من الج دل في الق رآن والخص ومة في ه،
وابحث عن حقائقه التي تنفعك في دنياك وأخراك؛ فهو لم ينزل إال ألجل ذل ك ،وق د
قال ابن مسعود( :من أراد علم األوّلين واآلخرين فليث ّور القرآن)
وقد قال بعض الحكماء يشير إلى كيفي ة ذل ك الفهم ،ض ارب المث ل عن ه بم ا
ورد في حق هللا تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله( :أعظم عل وم الق رآن تحت أس ماء
هللا وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إاّل أم ورا الئق ة بأفه امهم ولم يع ثروا على
أغوارها ،وأ ّما أفعاله فكذكره خلق الس ماوات واألرض وغيره ا فليفهم الت الي منه ا
صفات هللا وجالله إذ الفعل يد ّل على الفاع ل في د ّل عظمت ه على عظمت ه فينبغي أن
ق رآه في ك ّل ش يء إذ ك ّل ش يء يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل ،فمن عرف الح ّ
ل على التحقيق) ()2 منه وإليه وبه وله فهو الك ّ
الس الم؛ (ف إذا وهكذا فيم ا ورد في الق رآن الك ريم من أح وال األنبي اء عليهم ّ
كذبوا وضربوا وقتل بعض هم ،فليفهم من ه ص فة اس تغناء هللا تع الى سمع منها كيف ّ
عن الرس ل والمرس ل إليهم وأنّ ه ل و أهل ك جميعهم لم ي ؤثر في ملك ه وإذا س مع
ّ
المكذبين ق ..وأ ّما أحوال نصرتهم في آخر األمر فليفهم قدرة هللا وإرادته لنصرة الح ّ
كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من س طوته ونقمت ه،
وليكن حظّه من ه االعتب ار في نفس ه وأنّ ه إن غف ل وأس اء األدب واغ ت ّر بم ا أمه ل
فربما يدركه النقمة وتنفذ فيه القضيّة ،وكذلك إذا سمع وص ف الجنّ ة والنّ ار وس ائر
ألن ذلك ال نهاي ة ل ه وإنّم ا لك ّل عب د ما في القرآن ،فال يمكن استقصاء ما يفهم منه ّ
منه بقدر رزقه) ()3
ولذلك كان الصالحون الذين قضوا حي اتهم بص حبة الق رآن الك ريم يش يرون
إلى عظم الحقائق التي يذكرها ،وكثرتها ،ووفائه ا بك ل الحاج ات ،وق د ق ال اإلم ام
عل ّي (لو شئت ألوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب)
ولن تصل إلى تل ك المرتب ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ح تى تتخلص من ك ل
الحجب التي تحول بينك وبين فهمه ،وأولها الحج اب ال ذي أش ار إلي ه قول ه تع الى:
ك قَ الُوا لِلَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِع ْل َم َم ا َذا قَ َ
ال ك َحتَّى إِ َذا َخ َرجُوا ِم ْن ِع ْن ِد َ
﴿ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْستَ ِم ُع إِلَ ْي َ
ك الَّ ِذينَ طَبَ َع هللا َعلَى قُلُوبِ ِه ْم َواتَّبَعُوا أَ ْه َوا َءهُ ْم﴾ [محم د ،]16 :وه و حج اب آنِفًا أُولَئِ َ
الكبرياء والغرور والهوى..
فإذا تخلصت منه ،وجلست بين يدي القرآن الكريم كالتلمي ذ بين ي دي األس تاذ
علمك هللا ،ولو من غير معلم ،وقد قال بعض الص الحين يش ير إلى ذل ك( :ال يك ون
المريد مريدا حتّى يجد في القرآن ك ّل ما يري د ،ويع رف من ه النقص ان من المزي د،
ويستغني بالمولى عن العبيد)
)(1جواهر القرآن (ص)21 :
)(2إحياء علوم الدين ()283 /1
)(3إحياء علوم الدين ()284 /1
176
أن الش ياطين وق د ورد في الح ديث عن رس ول هللا أن ه ق ال( :ل و ال ّ
يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت)
وقد قال بعضهم معبرا عن هذا المعنى ومفسرا لسره عند تفسير قوله تع الى:
﴿نَحْ نُ أَوْ لِيَا ُؤ ُك ْم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآْل ِخ َر ِة َولَ ُك ْم فِيهَا َما تَ ْشتَ ِهي أَ ْنفُ ُس ُك ْم َولَ ُك ْم فِيهَا َما
تَ َّد ُعونَ ﴾ [فص لت( :]31 :مع نى ك ونهم أولي اء للمؤم نين أن للمالئك ة ت أثيرات في
األرواح البش رية ،باإللهام ات والمكاش فات اليقيني ة ،والمقام ات الحقيقي ة ،كم ا أن
للش ياطين ت أثيرات في األرواح بإلق اء الوس اوس فيه ا وتخيي ل األباطي ل إليه ا..
وبالجملة فكون المالئكة أولياء لألرواح الطيب ة الط اهرة حاص ل من جه ات كث يرة
معلومة ألرباب المكاش فات والمش اهدات ،فهم يقول ون :كم ا أن تل ك الوالي ة ك انت
حاصلة في الدنيا فهي تكون باقية في اآلخرة فإن تلك العالئق ذاتية الزمة غير قابلة
للزوال ،بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى ،وذلك ألن ج وهر النفس من جنس
المالئكة ،وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس ،والقطرة بالنسبة إلى البحر ،والتعلق ات
الجس مانية هي ال تي تح ول بينه ا وبين المالئك ة ..ف إذا زالت العالئ ق الجس مانية
والت دبيرات البدني ة ،فق د زال الغط اء والوط اء ،فيتص ل األث ر ب المؤثر ،والقط رة
بالبحر ،والشعلة بالشمس) ()1
ومن جملة تلك الموان ع ال تي ق د تص رفك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ عن فهم
الق رآن الك ريم أن يك ون هم ك (منص رفا إلى تحقي ق الح روف بإخراجه ا من
مخارجها ،فهذا يتولّى حفظه شيطان وك ّل بالقرآن ليصرفهم عن معاني كالم هللا وال
يزال يحملهم على ترديد الحرف ،يخيّل إليهم أنّه لم يخ رج من مخرج ه فه ذا يك ون
تأ ّمله مقص ورا على مخ ارج الح روف ف أنّى ينكش ف ل ه المع اني ،وأعظم ض حكة
للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس) ()2
ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (مقلّدا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه
وثبت في نفسه التعصّب له بمجرّد االتّباع للمسموع من غير وص ول إلي ه ببص يرة
ومشاهدة فهذا شخص قيّده معتق ده عن أن يج اوزه فال يمكن ه أن يخط ر ببال ه غ ير
معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه فإن لمع برق على بعد وبدا ل ه مع نى من
المعاني الّتي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة ،وقال :كيف يخطر ه ذا
ببال ك وه و خالف معتق د آبائ ك ف يرى أن ذل ك غ رور من الش يطان فيتباع د من ه
ويحترز عن مثله ..وهذا التقليد قد يكون باطال فيكون مانعا كمن يعتقد من االس تواء
على العرش التم ّكن واالستقرار ،فإن خطر له مثال في الق ّدوس أنّه المق ّدس عن ك ّل
ما يجوز على خلقه لم يم ّكنه تقليده من أن يستق ّر ذلك في نفسه ،ولو اس تق ّر ذل ك في
نفس ه ال نج ّر إلى كش ف ث ان وث الث ولتواص ل ولكن يتس ارع إلى دف ع ذل ك عن
خاطره لمناقضته تقليده الباطل وقد يكون حقّا ويكون أيضا مانعا من الفهم والكش ف
)(1الترمذي ()2087
188
يقول:
على الذ ّل له أصلح أرى الموت لمن أمسى
فهتف به هاتف ،يسمع صوته ،وال يرى شخصه ،أو أري في النوم كأن قائالً
يقول:
ر في ألم ففك إذا ض اقت ب ك
رح نش دنيا ال
م تى ت ذكرهما فعسر بين يس رين
رح تف
بيسرين فال ت برح ّ
فإن العسر مق رون
قال :فواصلت قراءتها في صالتي ،فشرح هللا صدري ،وأزال همي وكربي،
وسهل أمري.
وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تقرأ القرآن الك ريم ألي ظ رف تم ر
به ،وستشرى المشاعر الجميلة التي يسعدك هللا بها.
وسأذكر لك نموذجا لشخص عاش فترة طويلة في الس جن ،ولم يكن ل ه أنيس
فيه إال القرآن الكريم ،وقد أخبر عن مشاعره التي جعلته ينشغل عن السجن وآالمه،
في كتاب له قال في مقدمته( :الحياة في ظالل القرآن نعم ة .نعم ة ال يعرفه ا إال من
ذاقها .نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه) ()1
ثم ذكر تجربته مع القرآن الكريم ،والمشاعر الجميل ة ال تي جعلت ه ينس ى أن ه
في غياهب السجن مع قائمة طويلة تصاحبه من األمراض ،فق ال(:والحم د هلل ..لق د
من علي بالحياة في ظالل القرآن ف ترة من الزم ان ،ذقت فيه ا من نعمت ه م ا لم أذق َّ
قط في حياتي ..ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه)
ثم ذكر السر في ذلك ،وهو التعامل الصحيح مع القرآن الكريم ،والذي ينطلق
من الحياة معه ،واستماعه من هللا مباشرة ،فقال(:لقد عشت أسمع هللا سبحانه يتحدث
إلي بهذا القرآن ..أنا العبد القليل الصغير ..أي تك ريم لإلنس ان ه ذا التك ريم العل وي
الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على اإلنس ان
خالقه الكريم؟)
ومن هذا المنطلق المليء بالكرامة والعزة ،نظر من علو إلى األرض( ،وإلى
اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة ..أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من
معرفة األطفال ،وتصورات األطفال ،واهتمامات األطف ال ..كم ا ينظ ر الكب ير إلى
عبث األطف ال ،ومح اوالت األطف ال .ولثغ ة األطف ال ..وأعجب ..م ا ب ال ه ؤالء
الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة ،وال يس معون الن داء العل وي الجلي ل.
النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟)
ثم ذكر في مقابل ذلك المعاني الجميلة التي يجدها في الق رآن الك ريم ،وال تي
190
وروي أن هللا تعالى أوحى إلى بعض أنبيائ ه بقول ه( :ي ا عب دي أ ّم ا تس تحيي
منّي يأتي ك كت اب من بعض إخوان ك وأنت في الطري ق تمش ي فتع دل عن الطري ق
وتقعد ألجله وتقرأه وتتدبّره حرفا حرفا حتّى ال يفوتك منه شيء ،وهذا كتابي أنزلته
إلي ك انظ ر كم وص لت ل ك في ه من الق ول؟ وكم ك رّرت علي ك في ه لتتأ ّم ل طول ه
وعرضه؟ ث ّم أنت معرض عنه ،أ فكنت أه ون علي ك من بعض إخوان ك ي ا عب دي،
يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بك ّل وجهك وتصغي إلى حديثه بك ّل قلب ك ،ف إن
ف وه ا أن ا ذا مقب ل علي ك تكلّم متكلّم أو شغلك شاغل عن حديث ه أوم أت إلي ه أن ك ّ
ومح ّدث لك وأنت معرض بقلبك عنّي ،فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك) ()1
ولهذا ورد الذم الشديد للذين يق رؤون الكت اب بألس نتهم ،ويخالفون ه بأفع الهم،
وق د ض رب هللا تع الى لهم المث ل ب الحمير ال تي تحم ل الكتب من غ ير أن تع رف
ار يَحْ ِم ُل معانيها ،قال تعالىَ ﴿ :مثَ ُل الَّ ِذينَ ُح ِّملُ وا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَ ا َك َمثَ ِل ْال ِح َم ِ
ت هللا َوهللا الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ [الجمعة: س َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَا ِ أَ ْسفَارًا بِ ْئ َ
]5
﴿وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَا ْن َس لَخَ ِم ْنهَ ا ومثل ذلك شبهه بالكلب ،فقالَ :
اوينَ (َ )175ولَ وْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَ اهُ بِهَ ا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى الش ْيطَانُ فَ َك انَ ِمنَ ْال َغ ِ فَأ َ ْتبَ َع هُ َّ
ث َذلِكَ َمثَ ُل ث أَوْ تَ ْت ُر ْكهُ يَ ْلهَ ْ ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ
ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ اأْل َرْ ِ
ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [األع راف،175 : ص َ ص ْالقَ َ ص ِ ْالقَ وْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَ ا فَا ْق ُ
]176
ولهذا نجد اآلي ات الكث يرة ال تي تنص على وج وب اتب اع الق رآن الك ريم ،ال
ك وح َي إِلَ ْيكَ ِم ْن َربِّ َ مجرد االكتفاء بتالوته ،قال تعالى مخاطبا رسوله ﴿ :اتَّبِ ْع َما أُ ِ
﴿واتَّبِ ْع َم ا يُ و َحى اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو َوأَ ْع ِرضْ َع ِن ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [األنع ام ،]106 :وق الَ :
ك َواصْ بِرْ َحتَّى يَحْ ُك َم هللا َوهُ َو َخ ْي ُر ْال َحا ِك ِمينَ ﴾ [يونس]109 : إِلَ ْي َ
وقال مخاطبا المؤمنين﴿ :اتَّبِعُوا َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن َربِّ ُك ْم َواَل تَتَّبِ ُع وا ِم ْن دُونِ ِه
أَوْ لِيَا َء قَلِياًل َما تَ َذ َّكرُونَ ﴾ [األعراف]3 :
﴿وإِ َذا وذم الذين يتركون كتابهم ،ويتبعون سلفهم أو خلفهم أو أهواءهم ،فق الَ :
يل لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَ ْن َز َل هللا قَالُوا بَلْ نَتَّبِ ُع َم ا أَ ْلفَ ْينَ ا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَ ا أَ َولَ وْ َك انَ آبَ ا ُؤهُ ْم اَل قِ َ
زَ ْ َ َّ َ َ
يَ ْعقِلونَ ش ْيئا َو يَ ْهتدونَ ﴾ [البقرة ،]170 :وق الَ ﴿ :وإِذا قِي َل لهُ ُم اتبِ ُع وا َم ا أن َل هللا ُ َ اَل ً َ ُ
ير﴾ الس ِع ِ ب َّ الش ْيطَانُ يَ ْدعُوهُ ْم إِلَى َع َذا ِ قَالُوا بَلْ نَتَّبِ ُع َما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا أَ َولَوْ َك انَ َّ
[لقمان]21 :
﴿وأَ ِن احْ ُكم بَ ْينَهُم بِ َم ا أَن َز َل هللاُ َوالَ وهكذا ورد األمر بالحكم به ،ق ال تع الىَ :
ْض َما أَنزَ َل هللاُ إِل ْيكَ فإِن ت ََولوْ ا ف اعل ْم أن َم ا
َّ َ َ ْ َ ْ َّ َ َ ك عَن بَع ِ تَتَّبِ ْع أَ ْه َواءهُ ْم َواحْ َذرْ هُ ْم أَن يَ ْفتِنُو َ
اس قُونَ ﴿ ﴾49أَفَ ُح ْك َم اس لَفَ ِْض ُذنُ وبِ ِه ْم َوإِ َّن َكثِ يراً ِّمنَ النَّ ِ ُص يبَهُم بِبَع ِ ي ُِري ُد هللاُ أَن ي ِ
ْال َجا ِهلِيَّ ِة يَ ْب ُغونَ َو َم ْن أَحْ َسنُ ِمنَ هللاِ ُح ْكما ً لِّقَوْ ٍم يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة]50 - 49:
وفي حديث آخر عنه ،أنه جاءه بعض أصحابه ،فقال :يا أميرالمؤمنين إن ا إذا
كنا عندك س معنا ال ذي نس دبه دينن ا ،وإذا خرجن ا من عن دك س معنا أش ياء مختلف ة
مغموسة ،ال ندري ماهي؟ فقال :أو قد فعلوها؟ فقيل :نعم ،فق ال :س معت رس ول هللا
يقول( :أتانى جبرئيل فقال :يا محمد سيكون في أمت ك فتن ة ،قلت :فم ا المخ رج
منها؟ فقال كتاب هللا فيه بي ان م ا قبلكم من خ ير وخ بر م ا بع دكم ،وحكم م ا بينكم،
وهو الفصل ليس بالهزل ،من ولي ه من جب ار فعم ل بغ يره قص مه هللا ،ومن التمس
الهدى في غيره أضله هللا ،وهو حبل هللا المتين ،وهو الذكر الحكيم ،وه و الص راط
المس تقيم ،ال تزيف ه االه واء وال تلبس ه األلس نة ،وال يخل ق عن ال رد ،وال تنقض ي
عجائبه ،وال يشبع منه العلماء هو الذي لم تكنه الجن إذ سمعه ،أن قالوا﴿ :إِنَّا َس ِم ْعنَا
قُرْ آنًا ع ََجبًا يَ ْه ِدي إِلَى الرُّ ْش ِد﴾ [الجن ،]2 ،1 :من قال به صدق ،ومن عمل به أجر،
ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم ،هو الكتاب العزيز ،الذي ال يأتي ه الباط ل
من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم حميد) ()4
195
الركوع والسجود
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن الرك وع والس جود ،وس رهما،
وعالقة حركات الجسد المرتبطة بهما بالتزكية والترقية ،وسر ما ورد قوله عندهما
من أذكار وأدعي ة ،وه ل يمكن أن ي ؤتى بهم ا منفص لين عن الص الة ،مثلم ا ي ؤتى
باألذكار واألدعية والتالوة؟
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هللا تعالى أخبر أن الركوع والس جود
من المدارس الروحية التي فرضها على الملل جميع ا ،وذل ك م ا ي دل على كونهم ا
واألسرار التي يحمالنها من ضرورات التزكية والترقية.
والعاقل هو ال ذي ال يكتفي بأدائهم ا المج رد عن معرف ة المقاص د المرتبط ة
بهما ،وإنما يسأل عن ذلك ،ويبحث عنه ،ويعلم أن هللا تعالى ما كلفه بذلك إال رحم ة
به ،وتربية له.
وأول تلك المقاصد ـ أيها المريد الصادق ـ هي التسليم هلل ..ف الراكع والس اجد
يقول لرب ه :كم ا أن روحي ونفس ي وعقلي بين ي ديك ..فمث ل ذل ك جس دي ه و بين
يديك ..يتحرك كما طلبت ،حتى ولو لم يكن م دركا لس ر الحرك ة؛ فيكفي ه أن تك ون
أنت الذي طلبت منه أن يفعلها.
وهذا ما يحمي العاقل من ذلك الشغب والجدل الذي يتوهم به المتعالمون على
هللا أن بإمكان عقولهم المحدودة أن تدرك الحقائق جميعا ..وشتان بينهم وبين ذلك.
وثاني تلك المقاص د ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تعلم أن هللا تع الى برحمت ه
ولطفه بعباده أتاح لهم أن يصلحوا بواطنهم بحركات وأعم ال يؤدونه ا بج وارحهم،
ولذلك شرع من الحركات واألعمال المرتبطة بها م ا ييس ر على الب اطن الس ير في
طريق الصالح.
ومن ذلك ـ مثال ـ تشريعه لل دعاء رف ع الي دين ،كم ا بين ذل ك رس ول هللا
بقول ه( :س لوا هللا ببط ون أكفكم وال تس ألوه بظهوره ا ف إذا ف رغتم فامس حوا بهم ا
وجوهكم) ()1
وفي ح ديث آخ ر ق ال ( :إن المس ألة أن ترف ع ي ديك ح ذو منكبي ك أو
نحوهما ،واالستغفار أن تشير بإصبع واحدة ،واالبتهال أن تمد يديك جميع ا ،ورف ع
يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه) ()2
وقد روي فيما أوحي إلى موسى عليه السالم ما يدل على سر ذلك ،فق د ج اء
في ه( :أل ق كفي ك ذال بين ي دي كفع ل العب د المستص رخ إلى س يده ،ف اذا فعلت ذل ك
رحمت وأنا أكرم القادرين ،يا موس ى س لني من فض لي ورحم تي ،فانهم ا بي دي ال
يملكهما غيري ،وانظر حين تسألني كيف رغبتك فيما عندي؟ لكل عامل جزاء وق د
)(1أبو داود ( ،)1485وابن ماجه ()1181
)(2أبو داود ()1489
196
سعى) ()1 يجزى الكفور بما
ومثل ذلك ما روي عن اإلمام علي ،فقد سأله بعضهم ،فقال :أليس هللا في كل
مكان؟ قال :بلى قال :فلم يرفع العبد يدي ه إلى الس ماء ،فق ال أم ا تق رأ ﴿ َوفِي َّ
الس َما ِء
ِر ْزقُ ُك ْم َو َم ا تُو َع ُدونَ ﴾ [ال ذاريات ،]22 :فمن أين يطلب ال رزق إال من موض عه،
وموضع الرزق ،وما وعد هللا عزوجل السماء) ()2
وبين رسول هللا سرا آخ ر من أس رار ذل ك ،فق ال( :إن ربكم ح يي ك ريم
يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين)()3
ومثل ذلك ما روي أن رجال كان يدعو بإصبعيه ،فق ال (:أح د أح د) ،أي:
إذا أشار الرجل بإصبعيه في الدعاء عند الشهادة فال يشير إال بإصبع واحدة(.)4
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تبحث في جميع الحركات ال تي ورد
الشرع بها في الشعائر التعبدية ،وس ترى أن له ا من األس رار م ا يجعله ا ت ؤثر في
الباطن ،وتصلحه ،وإن كنا ال نعلم كل ما يرتبط بها من مقاصد وأسرار؛ فلذلك كان
التسليم هلل سيد المقاصد وسرها األعظم.
الركوع والتزكية:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الركوع من الش عائر التعبدي ة
التي أمر هللا تعالى بها في األديان جميعا ،كما قال تعالى في خطاب ه لب ني إس رائيل:
صاَل ةَ َوآتُوا ال َّز َكاةَ َوارْ َكعُوا َم َع الرَّا ِك ِعينَ ﴾ [البقرة]43 : ﴿ َوأَقِي ُموا ال َّ
اس ُج ِدي َوارْ َك ِعي َم َع
ك َو ْوقال مخاطبا مريم عليها السالم﴿ :يَا َمرْ يَ ُم ا ْقنُتِي لِ َربِّ ِ
الرَّا ِك ِعينَ ﴾ [آل عمران]43 :
﴿وظَ َّن
وذكر ركوع داود عليه السالم عند إدراكه للفتنة ال تي فتن به ا ،فق الَ :
َاب﴾ [ص]24 : دَا ُوو ُد أَنَّ َما فَتَنَّاهُ فَا ْستَ ْغفَ َر َربَّهُ َو َخ َّر َرا ِكعًا َوأَن َ
وذكر أهل جهنم ،وأن من أسباب دخ ولهم إليه ا ع دم رك وعهم ،ق ال تع الى:
﴿ َوإِ َذا قِي َل لَهُ ُم ارْ َك ُع وا اَل يَرْ َك ُع ونَ (َ )48و ْي ٌل يَوْ َمئِ ٍذ لِ ْل ُم َك ِّذبِينَ ﴾ [المرس الت،48 :
]49
وذل ك م ا ي دل على أن للحرك ة المرتبط ة ب ه ،وال تي ق د تختل ف ب اختالف
الشرائع ما يثير في الباطن معاني خاصة ،ال تتم له من دون تلك الحركة.
َ ْ
وق د أش ار إلى بعض ها م ا ورد في س بب ن زول قول ه تع الىَ ﴿ :وإِن ك ادُوا
ي َعلَ ْينَا َغ ْي َرهُ َوإِ ًذا اَل تَّخَ ُذوكَ خَ لِياًل ﴾ [اإلس راء: ك َع ِن الَّ ِذي أَوْ َح ْينَا إِلَ ْيكَ لِتَ ْفت َِر َلَيَ ْفتِنُونَ َ
،]73فقد روي أنها نزلت في وفد ثقيف ،حين قالوا لرسول هللا :نبايعك على أن
تعطينا ثالث خصال ،ومن بينها :ال ننحني في الصالة ،يقصدون الركوع والسجود؛
)(1رواه مسلم
)(2رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
)(3رواه مسلم
)(4رواه مسلم
)(5فالح السائل ،ابن طاووس243 :
)(6الكافي 328 :3
)(7التهذيب 111 :2
209
الرحيم) ()1 عذابك يوم تبعث عبادك وتب علي إنّك أنت التواب
وكان يقول( :اللهم اني اسألك الراحة عن د الم وت ،والراح ة عن د الحس اب ـ
قال اسماعيل في حديثه ـ واالَمن عند الحساب) ()2
وكان يقول( :سجد وجهي اللئيم ،لوجه ربي الكريم) ()3
وكان يقول( :أتراك مع ّذبي وق د أظم أت ل ك ه واجري ،أت راك مع ّذبي وق د
عفّ رت ل ك في ال تراب وجهي ،أت راك مع ّذبي وق د اجتنبت ل ك المعاص ي ،أت راك
معذبي وقد أسهرت لك ليلي) ()4 ّ
وروي أنه قال( :إذا سجدت فكبّر وق ل :الله َّم ل ك س جدت ،وب ك آمنت ،ول ك
أسلمت ،وعليك توكلت ،وأنت ربي سجد وجهي للذي خلق ه وش ق س معه وبص ره،
الحم ُّد هلل ربِّ الع المين تب ارك هللا أحس ن الخ القين ،ثم ق ل :س بحان ربي االَعلى
وبحمده ،ثالث مرات فإذا رفعت رأسك فقل بين السجدتين :الله َّم اغفر لي وارحمني
ي من خير فقير .تبارك هللا رب العالمين) ()5 واجرني وادفع عني ،إنّي لما أنزلت إل َّ
االمام الرضا يقول في سجود( :لك الحمد إن أطعت ك ،وال حج ة لي إن وكان ِ
عصيتك ،وال صنع لي وال لغيري في إحسانك ،وال عذر لي إن أسأت ،م ا أص ابني
من حسنة فمن ك ي ا ك ريم ،اغف ر لمن في مش ارق االَرض ومغاربه ا من المؤم نين
والمؤمنات) ()6
وغيرها من األذكار واألدعية الكثيرة التي يمكنك ـ أيها المريد الص ادق ـ أن
تتزود منها بالمعارف واآلداب التي تقربك إلى رب ك ،واعلم أن ه ال ح رج علي ك في
ع في االم ام الب اقر أن ه ق ال( :اد ُ
أن تدعو في سجودك لشؤون دنياك ،فقد روي عن ِ
طلب ال رزق في المكتوب ة وأنت س اجد :ي ا خ ير المس ؤولين ،وي ا خ ير المعطين،
ارزقني وارزق عيالي من فضلك ،فإنّك ذو الفضل العظيم) ()7
وروي أن بعضهم شكا لإلمام الصادق مصيبة حلت به ،فقال( :عليك بالدعاء
فإن أقرب مايكون العبد إلى هللا وهو ساجد) ،فق ال الرج ل :ف أدعو في وأنت ساجدَّ ،
الفريضة ،وأسمي حاجتي؟ فقال( :نعم ،قد فعل ذل ك رس ول هللا ف دعا على ق وم
بأسمائهم وأسماء آبائهم ،وفعله علي بعده) ()8
ع لل دنيا واآلخ رة ،فإنّ ه ربِّوسأله آخر :أدعو وأن ا س اجد؟ فق ال( :نعم ،ف اد ُ
الدنيا واآلخرة) ()9
213
وبينهم في الصالة.
أم ا أص حاب النف وس اللوام ة؛ فهم يجاه دون أنفس هم لتحقي ق الخش وع،
والخروج بصالتهم من صالة األجساد إلى ص الة األرواح ،ومن الطق وس الش كلية
إلى الحقائق المعنوية.
(إن ال رجلين ليقوم ان إلى الص الة وركوعهم ا وق د ورد في بعض اآلث ارّ :
وإن ما بين صالتيهما ما بين السماء واألرض)وسجودهما واحدّ ،
وقد قال بعض الحكماء يشير إلى هذا( :للصالة مقامات ومراتب بحيث تكون
صالة المصلي في المرتبة التي ه و فيه ا تختل ف عن ص الته في المرتب ة األخ رى
اختالفا ً كب يراً ،كم ا أن مقام ه يختل ف م ع س ائر المقام ات اختالف ا ً كث يراً؛ فم ا دام
اإلنسان في صورة اإلنسان وهو إنسان صوري فص الته أيض ا ً ص ورية ،وص ورة
الص الة وفائ دتها إنم ا هي بالنس بة إلى ص حتها الفقهي ة وكونه ا مجزي ةً ب األجزاء
الصورية الفقهية هذا إذا قام بجميع أجزائها وشرائط صحتها وعلى ال رغم من أنه ا
فاقدة لشرائط القبول وغير مرضية من هللا تعالى؛ فإذا تجاوز المص لي من المرتب ة
الظاهرية إلى المرتب ة الباطني ة ،وعن الص ورة إلى المع نى فتك ون ص الته ص الة
حقيقية بمقدار ما هو متحقق فيها من معنى الصالة وباطنها وسرّها) ()1
وللوصول إلى تلك المراتب السنية التي وص ل إليه ا أولي اء هللا والص الحون
من عب اده ،يحت اج المري د إلى توف ير األس باب المعين ة ل ذلك ،وال تي تجع ل لنفس ه
القابلية لحضور القلب والخشوع بسهولة ويسر.
ولن يعجز عقلك ـ أيها المريد الصادق ـ عن معرفة تل ك األس باب ،ذل ك أنن ا
نمارسها في كل حياتنا ،ومع كل أمر نهتم به ،ونعزم علي ه ،وتعظم ه نفوس نا ،ومن
حيث ال نشعر.
ذلك أن الخشوع ينطلق من ذلك االهتمام الش ديد بالص الة وأهميته ا وارتب اط
مصيرنا بها ..وهو ما يستدعي توفر األركان التي ال يتم الخشوع إال بها.
وأولها ـ كما اتفق الحكماء( )2ـ حضور القلب مع الصالة ،وتفرغه لها ،وعدم
انشغاله بسواها ،فيكون العلم بالفعل والقول مقرونا بها ،وال يك ون الفك ر جاري ا في
غيرها.
وثانيها فهم الكالم الذي يردده ،وسر الحركات ال تي يفعله ا ،وه و أم ر وراء
حضور القلب ،ذلك أنه ربما يكون القلب حاضرا مع اللّفظ ،وال يك ون حاض را م ع
المعنى ..وهذا مقام يتفاوت الناس في ه حس ب م راتبهم( ،إذ ليس يش ترك الن اس في
تفهّم المع اني للق رآن والتس بيحات وكم من مع ان لطيف ة يفهمه ا المص لّي في أثن اء
الصالة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله ،ومن ه ذا الوج ه ك انت الص الة ناهي ة عن
الفحشاء والمنكر فإنّها تفهّم أمورا تلك األمور تمنع من الفحشاء ال محالة)
225
صوم المتقين
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الصيام ،وس ر عالقت ه ب التقوى
ب َعلَى الص يَا ُم َك َم ا ُكتِ َ ب َعلَ ْي ُك ُم ِّ التي نص عليها قوله تعالى﴿ :يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ُكتِ َ
الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة ،]183 :وهل كل صيام يمكنه أن يكون ك ذلك،
أم أن هناك شروطا البد من توفيرها لتحقيق ذلك؟
وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن الص يام من الم دارس التربوي ة
والروحية الكبرى التي أخبر هللا تع الى أن ه ش رعها في جمي ع المل ل ،لض رورتها،
وأهميتها التربوية.
ذلك أن التواصل مع هللا عبر األذك ار واألدعي ة والص لوات وغيره ا ،ق د ال
يكون كافيا في تطهير النفس ،وخاصة عند تمردها على صاحبها ،لذلك كان الصوم
معينا لتلك المدارس في أداء أدوارها التهذيبية والتربوية.
ولهذا جعل هللا تعالى الصيام من أن واع الت أديب المرتبط ة ببعض المخالف ات
الشرعية ال تي تتعنت فيه ا النفس على ص احبها ،وتس تولي علي ه ،وتغلب ه ،كم ا في
﴿و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن أَ ْن يَ ْقتُ َل ُم ْؤ ِمنً ا حالة ارتكابه لجريمة القتل الخطأ ،كما قال تعالىَ :
إِاَّل خَ طَأ ً َو َم ْن قَتَ َل ُم ْؤ ِمنً ا خَ طَ أ ً فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة َو ِديَ ةٌ ُم َس لَّ َمةٌ إِلَى أَ ْهلِ ِه إِاَّل أَ ْن
ص َّدقُوا فَإِ ْن َكانَ ِم ْن قَوْ ٍم َعد ٍُّو لَ ُك ْم َوه َُو ُم ْؤ ِم ٌن فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة َوإِ ْن َكانَ ِم ْن قَوْ ٍم يَ َّ
ص يَا ُم ق فَ ِديَةٌ ُم َسلَّ َمةٌ إِلَى أَ ْهلِ ِه َوتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد فَ ِ
بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم ِميثَا ٌ
َشه َْر ْي ِن ُمتَتَابِ َع ْي ِن تَوْ بَةً ِمنَ هللا َو َكانَ هللا َعلِي ًما َح ِكي ًما﴾ [النساء]92 :
وجعله تأديبا للذي لم يهذب لسانه ،ف راح ينط ق بم ا يخالف ه الش رع والطب ع،
﴿والَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ثُ َّم يَعُو ُدونَ لِ َما قَ الُوا فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن فقالَ :
َ
ص يَا ُم ش ْه َر ْي ِن ْ ْ َ خَ ُ َ ُ
يَتَ َماسَّا َذلِك ْم تو َعظ ونَ بِ ِه َوهللا بِ َم ا ت ْع َمل ونَ بِ ي ٌر ( )3ف َمن ل ْم يَ ِج د ف ِ
َ َ ُ ُ
ُمتَتَابِ َعي ِْن ِم ْن قَب ِْل أَ ْن يَتَ َماسَّا﴾ [المجادلة]4 ،3 :
وهكذا ذلك الذي راح ينتهك حرمة ش هر رمض ان؛ فيفط ر في ه ،كم ا نص ت
على ذلك الكثير من األحاديث المتفق عليها بين األمة جميعا.
ففي ه ذه القض ايا جميع ا ش رط هللا تع الى في الص يام أن يك ون متتابع ا،
ولش هرين ك املين ،ألن في ذل ك ت أثيره على النفس ب التخفيف من تس لطها وقهره ا
لصاحبها.
وسر ذلك يعود إلى أن الشهوات ال تي يمن ع منه ا الص يام هي المغ ذي ال ذي
يغذي األهواء ،ويجعل للنفس سلطانا على ص احبها؛ ف إذا م ا قهره ا ،وحرمه ا من
تلك الشهوات مدة من الزمن ،كان لذلك تأثيره الكب ير في اإلص الح؛ خاص ة إذا م ا
ضم إليه ما سبق أن ذكرته لك من مع ان ت دعو إلى االتص ال باهلل كال ذكر وال دعاء
والصالة وقراءة القرآن الكريم وغيرها.
ولهذا ورد في األحاديث الكثيرة عن رسول هللا وأئمة الهدى ما ي دل على
226
دور الصيام في وقاية النفس من أهوائها ،وإبع اد الش يطان عنه ا ،ومنه ا قول ه :
(ك ل عم ل ابن آدم يض اعف الحس نة عش ر أمثاله ا إلى س بعمائة ض عف ،ق ال هللا
تعالى :إال الصوم فإنه لي وأنا أجزي ب ه ،ي دع ش هوته وطعام ه من أجلي ،للص ائم
فرحتان فرحةٌ عند فطوره ،وفرحةٌ عند لقاء رب ه ،ولخل وف في ه أطيب عن د هللا من
ريح المسك) ()1
وقد قال بعض الحكماء في تفسير سر نسبة الصوم هلل( :إنّم ا ك ان الص وم هلل
ومشرّفا بالنسبة إليه ،وإن ك انت العب ادات كلّه ا ل ه كم ا ش رّف ال بيت بالنس بة إلي ه
كف وترك وهو في نفسه س ّر ليس فيه أن الصوم ّ واألرض كلّها له لمعنيين :أحدهما ّ
عمل يشاهد؛ فجميع الطاعات بمش هد من الخل ق وم رأى ،والص وم ال يعلم ه إاّل هللا
فإن وس يلة تعالى؛ فإنّه عمل في الباطن بالصبر المجرّد ..والثاني أنّه قهر لعد ّو هللا؛ ّ
الشيطان لعنه هللا الشهوات ،وإنّما يقوي الشهوات باألكل والش رب ول ذلك ق ال :
(إن الشيطان ليجري من ابن آدم مج رى ال ّدم فض يّقوا مجاري ه ب الجوع)())2؛ فل ّم ا ّ
كان الصوم على الخصوص قمعا للشيطان وس ّدا لمسالكه وتضييقا لمجاريه اس تح ّ
ق
التخصيص بالنسبة إلى هللا؛ ففي قمع ع د ّو هللا نص رة هلل ونص رة هللا للعب د موقوف ة
على النصرة له ..فالبداية بالجهد من العبد والج زاء بالهداي ة من هللا ..وإنّم ا التغي ير
بكس ر الش هوات ،فهي مرت ع الش ياطين ومرع اهم فم ا دامت مخص بة لم ينقط ع
تر ّددهم وما داموا يتر ّددون فال ينكشف للعبد جالل هللا وكان محجوبا عن لقائه) ()3
وما ذكره هذا الحكيم هو الذي أشارت إليه النص وص المقدس ة الكث يرة ،فاهلل
ص رُوا تعالى أخبر أنه ينصر من ينصره ،كما قال تع الى﴿ :يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ ْن تَ ْن ُ
ِّت أَ ْق دَا َم ُك ْم﴾ [محم د ،]7 :وه ذا ي دل على أن من يجاه د نفس ه ص رْ ُك ْم َويُثَب ْ
هللا يَ ْن ُ
بالصوم فرضا أو نافلة ،يقوم بنصرة هللا ،ومحاربة شيطانه؛ فلذلك يستحق نصر هللا
له.
﴿والَّ ِذينَ َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هللا
ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالىَ :
لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت]69 :؛ فالصائم الذي جاه د نفس ه في ذات هللا ين ال ذل ك
الفضل اإللهي الذي هو الهداية ،والتي تشمل التزكية والترقية.
ومث ل ذل ك م ا ورد في الح ديث عن رس ول هللا ،فق د ق ال( :ل و ال أنّ
الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملك وت الس ماء) ( ،)4وه ذا ي دل
على أن الذي يجاهد شيطانه بالصوم يقوم في الحقيقة برفع تلك الحجب ال تي تح ول
بينه وبين الملكوت.
ولذلك كل ه أخ بر رس ول هللا عن بع د الش يطان عن الص ائم الص ادق في
ص ومه؛ فق ال( :أال أخ بركم بش يء إن فعلتم وه تباع د الش يطان منكم كم ا تباع د
)(1البخاري ( ،)7492مسلم (.164 )1151
)(2البخاري ج 3ص 62وأحمد ج 3ص .156
)(3إحياء علوم الدين ()232 /1
)(4رواه أحمد.
227
المش رق من المغ رب؟) ق الوا :بلى ي ا رس ول هللا ،ق ال( :الص وم يس وّد وجه ه،
والصّدقة تكسر ظهره ،والحبّ في هللا والموازرة على العمل الص الح تقط ع داب ره،
ل شيء زكاة وزكاة األبدان الصيام) ()1 واالستغفار يقطع وتينه ،ولك ّ
وقال( :إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ،وأغلقت أبواب جهنم ،وسلسلت
الشياطين) ()2
وقال( :إذا كان أول ليلة من رمضان غلقت أبواب النار ،فلم يفتح منه ا ب ابٌ ،
وفتحت أبواب الجنة ،فلم يغلق منها بابٌ ،وينادي مناد :ي ا ب اغي الخ ير هلم وأقب ل،
ويا باغي الشر أقصر ،وهلل في ه عتق اء من الن ار ،وذل ك في ك ل ليل ة ح تى ينقض ي
رمضان)()3
وهذا كله ـ أيها المريد الصادق ـ خ اص بالص ائمين الص ادقين في ص ومهم؛
فهم ال ذين تص فد ش ياطينهم ،وتغل ق أب واب جهنم عنهم ..أم ا المرائ ون ،أو ال ذين
يصومون بناء على األعراف والتقاليد ،أو طلبا للصحة والعافية ،دون أن تك ون لهم
نية الصوم هلل؛ فإنهم ال تنطبق عليهم تلك األحاديث ،فق د ق ال رس ول هللا ( :إنم ا
األعمال بالنيات ،وإنم ا لك ل ام رئ م ا ن وى ،فمن ك انت هجرت ه إلى هللا ورس وله
فهجرته إلى هللا ورسوله ،ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ،أو امرأ ٍة ينكحها فهجرته
إلى ما هاجر إليه)()4
وه ؤالء الص ادقون في ص ومهم ،المح افظون علي ه ،هم المس تحقون ل ذلك
الجزاء العظيم الذي وهبه هللا لهم ،والذي ال يتعلق فق ط بتطه ير نفوس هم وترقيته ا،
وإنما يتعلق بمصيرهم األبدي ،وسعادتهم الدائمة.
ومن ذلك الجزاء ما أخبر عنه رسول هللا بقول ه( :الص ائم في عب ادة هللا،
ائم يحض ر وإن كان نائما ً على فراشه ،ما لم يغتب مس لماً)( ،)5وبقول ه( :م ا من ص ٍ
قوما ً يطعمون إال سبّحت أعضاؤه ،وكانت صالة المالئكة عليه ،وكانت صالتهم ل ه
استغفاراً)()6
ومنها استجابة هللا تع الى لدعائ ه ،كم ا ق ال ّ :
(إن هللا تع الى وك ّل مالئك ة
بال ّدعاء للصائمين ،وقال :أخبرني جبريل عن ربّه تعالى ذك ره أنّ ه ق ال :م ا أم رت
مالئكتي بال ّدعاء ألحد من خلقي إاّل استجبت لهم فيه)()7
وقال( :ثالثة ال تُ َر ّد دَع وتهم :اإلم ام الع ادل ،والص ائم حين يفط ر ،ودع وة
المظلوم)()8
وعن دما تال قول ه تع الى﴿ :إِ َّن هللا يَ أْ ُم ُر ُك ْم أَ ْن تُ ؤَ ُّدوا اأْل َ َمانَ ا ِ
ت إِلَى أَ ْهلِهَ ا﴾
[النساء ]58 :وضع يده على سمعه وبصره ،فقال( :السمع أمانة والبصر أمانة) ()5
ولذلك أمر رسول هللا من تعرض ألي موقف ي دعوه النته اك مح ارم هللا
بأن يتذكر صومه ،قال ( :إذا أصبح أحدكم يوم ا ص ائما فال ي رفث ،وال يجه ل،
فإن امر ٌؤ شاتمه أو قاتله فليقل :إني صائ ٌم إني صائ ٌم) ()6
)(3االقبال.275 :
234
إنفاق المخلصين
كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن اإلنف اق ال ذي دعت إلي ه
النص وص المقدس ة ،وأوجبت ه ،وأخ برت أن ه من ص فات المتقين؛ وه ل ل ه عالق ة
بتزكية النفس وترقيتها ،أم أنه مرتبط بالجانب االجتم اعي ،وتطه ير الم ال مم ا ق د
يكون أصابه من الشبهات والحرام.
وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن اإلنف اق أن واع متع ددة ،وبحس بها
يكون دوره..
فمن الن اس من يخ رج م ا وجب علي ه من م ال ،أو م ا تط وع ب ه من ه ري اء
وسمعة ،وطلبا للجاه ،وامتالك قلوب من أحسن إليهم؛ فهذا وإن كان ق د ق دم بإنفاق ه
خدمات لمجتمعه ،إال أنه أساء إلى نفسه كثيرا ،ذلك أنه أضاف إليها أمراضا جدي دة
قد تكون أخطر من األمراض التي كانت فيها.
﴿والَّ ِذينَ يُ ْنفِقُ ونَ أَ ْم َوالَهُ ْم ِرئَ ا َء النَّ ِ
اس وإلى هذا الصنف اإلشارة بقوله تع الىَ :
الش ْيطَانُ لَ هُ قَ ِرينً ا فَ َس ا َء قَ ِرينً ا ()38 َواَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِاهلل َواَل بِ ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َو َم ْن يَ ُك ِن َّ
َو َما َذا َعلَ ْي ِه ْم لَوْ آ َمنُوا بِاهلل َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َوأَ ْنفَقُوا ِم َّما َرزَ قَهُ ُم هللا َو َك انَ هللا بِ ِه ْم َعلِي ًم ا﴾
[النس اء ،]39 ،38 :وق الَ ﴿ :و َم ا َمنَ َعهُ ْم أَ ْن تُ ْقبَ َل ِم ْنهُ ْم نَفَقَ اتُهُ ْم إِاَّل أَنَّهُ ْم َكفَ رُوا بِاهلل
ارهُونَ ﴾ [التوب ة: صاَل ةَ إِاَّل َوهُ ْم ُك َس الَى َواَل يُ ْنفِقُ ونَ إِاَّل َوهُ ْم َك ِ َوبِ َرسُولِ ِه َواَل يَأْتُونَ ال َّ
]54
ومن الناس من يخرج ما وجب عليه من م ال ،دون أن يلتفت لش يء ،وال أن
يكون له أي مقص د؛ فه ذا ق د يس اهم ذل ك اإلنف اق في تطه ير بعض ج وانب نفس ه
األمارة إال أنه ال يرقى ألن يؤدي دوره في التزكية أو الترقية الكاملة.
ومن الناس من ينفق ماله ابتغاء مرضاة هللا ،لعلم ه بحب هللا ل ذلك؛ فل ذلك ال
يلتفت لنفسه عند اإلنفاق ،وال يؤذي من أعانهم ،ألنه يعلم ذلك كله من هللا؛ فهذا ه و
ت هللا َوت َْثبِيتً ا ضا ِ الذي ذكره هللا تعالى ،فقالَ ﴿ :و َمثَ ُل الَّ ِذينَ يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ُم ا ْبتِغَا َء َمرْ َ
ُص ْبهَا َوابِ ٌل ض ْعفَي ِْن فَ إِ ْن لَ ْم ي ِ َت أُ ُكلَهَ ا ِ صابَهَا َوابِ ٌل فَآت ْ ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم َك َمثَ ِل َجنَّ ٍة بِ َر ْب َو ٍة أَ َ
صيرٌ﴾ [البقرة]265 : فَطَ ٌّل َوهللا بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ
وهذا هو الذي ينال جميع حظوظه من إنفاقه ،سواء في ال دنيا أو في اآلخ رة،
وأولها تطهير نفسه ،وتزكيتها ،وترقيتها إلى المراتب الرفيعة للص الحين ،كم ا ق ال
ار ِس ًّرا َو َعاَل نِيَةً فَلَهُ ْم أَجْ ُرهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َواَلتعالى﴿ :الَّ ِذينَ يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ْم بِاللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ
ارعُوا إِلَى َم ْغفِ َر ٍة ِم ْن ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ زَ نُ ونَ ﴾ [البق رة ،]274 :وق الَ ﴿ :و َس ِ خَ وْ ٌ
ُ ْ َّ َّ ْ ْ
الس َما َوات َوا رْ ضُ أ ِع َّدت لِل ُمتقِينَ ( )133ال ِذينَ يُنفِق ونَ فِي ُ َ أْل ُ ض هَا َّ َربِّ ُك ْم َو َجن ٍة َعرْ ُ
َّ
اس َوهللا ي ُِحبُّ ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ [آل ضرَّا ِء َو ْال َك ا ِظ ِمينَ ْال َغ ْي ظَ َو ْال َع افِينَ ع َِن النَّ ِ ال َّسرَّا ِء َوال َّ
عمران]134 ،133 :
وأخبر عن دور اإلنفاق في تطه ير النفس األم ارة من م رض الش ح والبخ ل
235
الذي يتنافى مع القيم اإليمانية التي ت دعو إلى اإليث ار والتض حية وخدم ة المجتم ع،
ار َواإْل ِ ي َم انَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم ي ُِحبُّونَ َم ْن هَ َ
اج َر إِلَ ْي ِه ْم َواَل يَ ِج ُدونَ ﴿والَّ ِذينَ تَبَ َّو ُءوا ال َّد َفقالَ :
ٌ
اص ة َو َم ْن َص َ ُ َ ُ
ُور ِه ْم َحا َجة ِم َّما أوتُوا َوي ُْؤثِرُونَ َعلَى أ ْنف ِس ِه ْم َولَ وْ َك انَ بِ ِه ْم خ ًَ صد ِ فِي ُ
ك هُ ُم ال ُمفلِحُونَ ﴾ [الحشر]9 : ْ ْ ُ ْ
ق ُش َّح نَف ِس ِه فَأولَئِ َيُو َ
ولذلك تقترن التق وى م ع اإلنف اق ،كم ا ق ال تع الى﴿ :فَ اتَّقُوا هللا َم ا ْ
اس تَطَ ْعتُ ْم
ك هُ ُم ْال ُم ْفلِ ُح ونَ ﴾ ق ُش َّح نَ ْف ِس ِه فَأُولَئِ َ
َوا ْس َمعُوا َوأَ ِطيعُوا َوأَ ْنفِقُوا خَ ْيرًا أِل َ ْنفُ ِس ُك ْم َو َم ْن يُو َ
[التغابن]16 :
ولهذا سميت الزكاة زك اة ،ألنه ا تطه ر ص احبها من خبث البخ ل ال ذي ه و
صفة من صفات النفس األم ارة ،وتؤهل ه لص فة الك رم ال تي هي ص فة من ص فات
النفس المطمئنة ،وتؤهله ب ذلك لك ل المك ارم ال تي وردت النص وص المقدس ة به ا،
والتي ال تشمل اآلخرة فقط ،بل تشمل الدنيا أيض ا؛ فاإلنف اق ي زكي ال دنيا واآلخ رة
جميعا.
ومن تل ك األح اديث م ا روي أن رس ول هللا ض رب (مث ل البخي ل
والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ،ق د اض طرت أي ديهما إلى ث ديهما
وتراقيهما ،فجعل المتصدق كلما تصدق بص دقة انبس طت عن ه ح تى تغش ى أنامل ه
وتعفو أثره ،وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها)()1
فهذا الحديث يبين األثر النفسي لإلنفاق ،وهو ذلك االنبساط واالنش راح ال ذي
يصيب النفس ،ويجعلها مس تعدة لت نزل ك ل المك ارم ،بخالف نفس البخي ل الض يقة
التي تحول بين صاحبها ،وبين تحليه بمكارم األخالق.
ولذلك أخبر أن اإلنفاق س بيل من س بل التق وى ال تي تحمي ص احبها من
العقوبة ،قال ( :اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجد فبكلمة طيبة)()2
وقال( :إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حر القبور ،وإنما يس تظل الم ؤمن ي وم
القيامة فى ظل صدقته)()3
وقال( :كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس)()4
وقال( :ما أحسن من محسن من مسلم وال كافر إال أثيب) ،قلنا :ي ا رس ول هللا
هذه إثابة المسلم قد عرفناها ،فما إثابة الكافر؟ ق ال( :إذا تص دق بص دقة ،أو وص ل
رحما ،أو عمل حسنة أثابه هللا بهذا المال والولد فى الدنيا ،وعذاب دون الع ذاب فى
ب﴾ [غافر)5()]46 : اآلخرة وقرأ ﴿أَ ْد ِخلُوا آ َل فِرْ عَوْ نَ أَ َش َّد ْال َع َذا ِ
وأخبر عن دور اإلنفاق في إبعاد الشيطان ال ذي ه و الم دد األك بر للنفس
األمارة؛ فقال مخاطبا أصحابه( :أال أخبركم بشي ٍء إن أنتم فعلتم وه تباع د الش يطان
)(1البخاري ( ،)5797ومسلم ()1021
)(2البخاري ( ،)1417ومسلم ()1016
)(3الطبراني )788( 17/286
)(4أحمد ،4/147وأبو يعلى ،)1766( 301 -3/300والطبراني )771( 17/280
)(5البزار في (البحر الزخار) )1454( 4/284
236
منكم ،كما تباعد المش رق من المغ رب ؟..ق الوا :بلى ،ق ال( :الص وم يس وّد وجه ه،
والص دقة تكس ر ظه ره ،والحبّ في هللا والم وازرة على العم ل الص الح يقطع ان
ل شي ٍء زكاة ٌ وزكاة األبدان الصيام)()1 دابره ،واالستغفار يقطع وتينه..ولك ّ
وأخبر عن فضل هللا تعالى على المنفقين بدخول الجنة ،فقال( :أيها الناس
!..إنه ال نبي بعدي وال أم ة بع دكم ،أال فاعب دوا ربكم ،وص لّوا خمس كم ،وص وموا
شهركم ،وح ّج وا بيت ربكم ،وأ ّدوا زك اة أم والكم طيب ة به ا أنفس كم ،وأطيع وا والة
أمركم تدخلوا جنة ربكم)()2
وقال( :ما من عبد ينفق من كل مال له زوجين في سبيل هللا إال استقبله حجبة
الجنة ،كلهم يدعوه إلى ما عنده) قلت :وكيف ذلك؟ قال( :إن كانت إبال فبعيرين وإن
كانت بقرا فبقرتين) ()3
وأخبر عن فضل هللا تعالى على المنفقين بالتعويض عليهم في ال دنيا قب ل
اآلخرة ،فقال( :ما نقص مال من صدقة ـ أو قال :ما نقصت ص دقةٌ ـ من م ال ،وم ا
زاد هللا عبدا بعفو إال عزا ،وما تواضع عبد هلل إال رفعه)()4
وقال( :صنائع المعروف تقي مصارع السوء ،وصدقة الس ر تطفىء غض ب
الرب ،وصلة الرحم تزيد فى العمر) ()5
وقال( :ما من يوم يصبح فيه العباد إال ملك ان ي نزالن ،فيق ول أح دهما :اللهم
أعط منفقا خلفا .ويقول اآلخر اللهم أعط ممسكا تلفا) ()6
ير م ا تح ابّوا ،وته ادوا ،وأ ّدوا األمان ة ،واجتنب وا وق ال( :ال ت زال أم تي بخ ٍ
الحرام ،وقروا الضيف ،وأقاموا الص الة ،وآت وا الزك اة..ف إذا لم يفعل وا ذل ك ابتل وا
بالقحط والسنين)()7
وقال اإلمام الباقر( :في كتاب اإلمام علي( :إذا منع وا الزك اة ،منعت األرض
بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها)()8
وقال اإلمام الصادق( :حصّنوا أموالكم بالزك اة ،وداووا مرض اكم بالص دقة،
ل في برٍّ وال بحر إال بمنع الزكاة)()9 وما تلف ما ٌ
ٍ
(إن هلل بقاعا ً تسمى المنتقمة ،ف إذا أعطى هللا عب داً م االً لم يُخ رج ح قّ وقالّ :
هللا ع ّز وج ّل منه ،سلّط هللا عليه بقعةً من تلك البقاع ،فأتلف ذلك المال فيه ا ثم م ات
وحص نواّ وقال( :داووا مرضاكم بالص دقة ،وادفع وا أب واب البالء بال دعاء،
أموالكم بالزكاة ،فإنه ما يصاد ما تصيد من الطير إال بتضييعهم التسبيح)()3
وق ال( :إذا أردت أن ي ثري هللا مال ك فز ّك ه ،وإذا أردت أن يص ّح هللا ب دنك،
فأكثر من الصدقة)()4
باإلضافة إلى ذلك كله ،فقد ورد ما يدل على اس تجابة هللا تع الى للمحت اج إن
دعا للمنفق عليه ،ولذلك كان اإلمام السجاد يقول للمنفقين( :إذا أعطيتم وهم فلقّن وهم
الدعاء فإنّهم يستجاب لهم فيكم وال يستجاب لهم في أنفسهم)()5
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وتحركت همتك لما ورد في النصوص
المقدس ة من ج زاء المنفقين؛ ف اعلم أن ذل ك الج زاء يس تدعي التقي د بم ا ورد في
الش ريعة من اآلداب واألخالق ح تى ال تت دخل األه واء ومعه ا الش ياطين ليص بح
اإلنف اق وس يلة لل نزول لم دارك النفس األم ارة ،ب دل ال ترقي إلى من ازل النفس
المطمئنة.
ومن خالل استقراء ما ورد في النصوص المقدس ة من تل ك اآلداب ،وج دت
أنها ثالثة ،أولها مرتبط بالمنفق ،وثانيها بالمنفق عليه ،وثالثها بالنفقة.
اإلخالص والتجرد:
أما األول ،وهو المرتبط بالمنفق؛ فهي آداب كث يرة ،لكنه ا تق وم جميع ا على
اإلخالص والتجرد هلل تع الى ،واالبتع اد عن ك ل دواعي العجب والغ رور والك بر،
والتي تنض ح بع د ذل ك بك ل أص ناف الع دوان على المنف ق عليهم من المن واألذى
وغيرهما.
ولذلك فإن الصالحين يشعرون أثناء إنفاقهم أنهم ال يسلمون المال للمس تحقين
من الفقراء والمساكين وغيرهم ،وإنما يسلمونه هلل تعالى ،كم ا ورد في الح ديث عن
رسول هللا أنه قال( :ما تصدق أح ٌد بصدقة من طيب ـ وال يقب ل هللا إال الطيب ـ
إال أخذها ال رحمن بيمين ه ،وإن ك انت تم رة ،ف تربو في ك ف ال رحمن ح تى تك ون
أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله)()6
وفي رواية( :حتى إن اللقم ة لتص ير مث ل أحد ،وتص ديق ذل ك في كت اب هللا
ت َوأَ َّن هللا هُ َو التَّوَّابُ ﴿أَلَ ْم يَ ْعلَ ُموا أَ َّن هللا هُ َو يَ ْقبَ ُل التَّوْ بَ ةَ ع َْن ِعبَ ا ِد ِه َويَأْ ُخ ُذ َّ
الص َدقَا ِ
)(1الترمذي ()662
)(2تفسير العياشي .1/153
)(3تفسير العياشي .2/108
)(4تفسير العياشي .2/108
)(5دعائم اإلسالم 1/241ـ .244
)(6الكافي ،ج 4ص .28
239
فلم تخل صدقته عن شائبة المنّة ألنّه توقّع بسببه ما لم يكن يتوقّعه قبل ذلك)
ولهذا كان بعض الصالحين يضع الص دقة بين ي دي الفق ير ويمثّ ل قائم ا بين
يديه يسأله قبولها حتّى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذل ك كراهي ة
لو ر ّده ..وكان بعضهم يبسط كفّه ليأخذ الفقير ويكون يد الفقير هي العليا(..)1
وت ذكر ه ذه المع اني ،والتفاع ل معه ا ه و ال ذي يحمي المنف ق من الش عور
بالعجب والكبر وغيرها ،والتي تحمل ه على المن واألذى ال ذي يفس د نفقت ه ،ويفس د
معها نفسه ،فيمألها بأنواع الموبقات؛ وله ذا وص ف هللا تع الى المنفقين المخلص ين
بع دم المن واألذى ،واعت بر ذل ك نتيج ة إليم انهم وإخالص هم ،فق الَ ﴿ :مثَ ُل الَّ ِذينَ
َت َس ْب َع َس نَابِ َل فِي ُك لِّ ُس ْنبُلَ ٍة ِمائَ ةُ َحبَّ ٍة يل هللا َك َمثَ ِل َحبَّ ٍة أَ ْنبَت ْيُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ْم فِي َس بِ ِ
يل هللا ُضا ِعفُ لِ َم ْن يَ َشا ُء َوهللا َوا ِس ٌع َعلِي ٌم ( )261الَّ ِذينَ يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ْم فِي َس بِ ِ َوهللا ي َ
ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم َ َ ً َ
ثُ َّم اَل يُ ْتبِعُونَ َما أ ْنفَقُ وا َمنّ ا َواَل أ ًذى لَهُ ْم أجْ ُرهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َواَل خَ وْ ٌ
يَحْ َزنُونَ ﴾ [البقرة]262 ،261 :
ولذلك ورد في الح ديث أن من أنف ق ري اء أو س معة س يكون حظ ه من ذل ك
اإلنفاق ما يناله من ثناء الن اس في ال دنيا ،وليس ل ه ح ظ في اآلخ رة ،ق ال ( :إن
أول الناس يقضي عليه يوم القيامة ثالثة ..ومنهم رجل وس ع هللا علي ه ،وأعط اه من
أصناف المال كله ،فأتى به فعرف ه نعم ه فعرفه ا ،ق ال :فم ا عملت فيه ا ؟ ق ال :م ا
تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إال أنفقت فيها لك ،قال :كذبت ولكنك فعلت ليقال
جواد ،فقد قيل ،فسحب على وجهه ،ثم ألقي في النار)()2
ولذلك يجتهد المنفق المخلص إلى اإلسرار بنفقت ه تجنب ا إلذي ة المنفَ ق علي ه،
﴿ن تُ ْب دُوا وهربا من الرياء والسمعة المفسدة للعمل ،كما أشار إلى ذلك قوله تع الىْ :
ت فَنِ ِع َّما ِه َي َوإِ ْن تُ ْخفُوهَا َوتُ ْؤتُوهَا ْالفُقَ َرا َء فَه َُو خَ ْي ٌر لَ ُك ْم﴾ [البقرة]271 : ص َدقَا ِال َّ
وقد ورد في الحديث عن رسول هللا أنه قال( :أفضل الصدقة جه د المق ّل
إلى فقير في سرّ)(.)3
(إن العبد ليعمل عمال في الس ّر فيكتب ه هللا س رّا؛ ف إن أظه ره نق ل من وقالّ :
ر والعالنية وكتب رياء)()4 الس ّر وكتب في العالنية؛ فإن تح ّدث به نقل من الس ّ
وقال( :سبعة يظلّهم هللا في ظلّ ه ي وم ال ظ ّل إاّل ظلّ ه ..أح دهم رج ل تص ّدق
بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطته يمينه)()5
ر تطفئ غضب الربّ تعالى)()6 وقال( :صدقة الس ّ
ولهذا يجتهد الص الحون في إخف اء ص دقاتهم حرص ا على األج ور العظيم ة
)(1المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء ،ج ،2ص88 :
وق ال( :ل و ج رى المع روف على ثم انين كفّ اً ،ألوج روا كلهم من غ ير أن
ينقص عن صاحبه من أجره شيئاً)()5
وقد قال بعض الحكماء مشيرا إلى بشاعة ذلك( :وإذا لم يكن المخرج من جيّد
المال فهو من سوء األدب إذ يمسك الجيّد لنفسه أو أهله فيكون قد آثر على هللا غيره
ولو فعل هذا بضيفه وق ّدم إليه أردى طعام في بيته ألوغ ر ب ه ص دره ،ه ذا إن ك ان
نظ ره إلى هللا وإن ك ان نظ ره إلى نفس ه وثواب ه في اآلخ رة فليس بعاق ل من ي ؤثر
غيره على نفسه ،وليس له من ماله إاّل ما تص ّدق فأبقى أو أك ل ف أفنى والّ ذي يأكل ه
قضاء وطرفي الحال ،فليس من العقل قصور النظر على العاجل ة وت رك اال ّدخ ار،
فال تؤثروا به ربّكم) ()5
واعلم ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن أطيب الص دقة هي الص دقة الحالل؛ فاهلل
تعالى أكرم من أن يقبل الحرام ،وق د ورد في الح ديث عن رس ول هللا أن ه ق ال:
(إن هللا طيب ال يقبل إال طيبا ،وإن هللا أمر المؤمنين بما أمر ب ه المرس لين فق ال تع الى﴿ :يَ ا أَيُّهَ ا
ت َم ا ت﴾ (المؤمنون ،)51:وقال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ُكلُ وا ِم ْن طَيِّبَ ا ِ
الرُّ ُس ُل ُكلُوا ِمنَ الطَّيِّبَا ِ
َر َز ْقنَا ُك ْم) (البقرة ،)172:ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى الس ماء :ي ا رب ي ا
رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) ()6
وقال( :إنه ال دين لمن ال أمانة له وال ص الة وال زك اة ،إن ه من أص اب م اال
من حرام فلبس جلبابا يعني قميصا لم تقبل صالته حتى ينحي ذلك الجلباب عنه؛ إن
)(1النسائي ،5/59وحسنه األلباني في (صحيح النسائي)()2368
)(2أبو داود ( ،)1608والنسائي 43-5/42وابن ماجة ()1821
)(3الطبراني في (األوسط) )1832( 2/231
)(4الطبراني في (األوسط) )5116( 213-5/212
)(5المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء ،ج ،2ص90 :
)(6رواه مسلم وغيره.
247
هللا تبارك وتعالى أكرم وأجل من أن يقبل عمل رج ل أو ص الته وعلي ه جلب اب من
حرام) ()1
وقال( :من اشترى ثوبا بعش رة دراهم وفي ه درهم من ح رام لم يقب ل هللا ع ز
وجل له صالة ما دام عليه) ()2
وقال( :من جمع ماال حراما ثم تص دق ب ه لم يكن ل ه في ه أج ر وك ان إص ره
عليه) ()3
وقال( :من كسب ماال حراما فأعتق منه ووصل منه رحمه ك ان ذل ك إص را
عليه) ()4
وق ال( :إن هللا قس م بينكم أخالقكم كم ا قس م بينكم أرزاقكم ،وإن هللا يعطي
الدنيا من يحب ومن ال يحب ،وال يعطي الدين إال لمن يحب ،ومن أعط اه هللا ال دين
فقد أحبه ،والذي نفسي بيده ال يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ،وال يؤمن حتى يأمن
جاره بوائقه ،قالوا :وما بوائقه يا رسول هللا؟ ق ال( :غش ه وظلم ه ،وال يكس ب عب د
ماال من حرام فيتصدق منه فيقبل منه وال ينفق منه فيبارك له في ه وال يترك ه خل ف
ظف ره إال ك ان زاده إلى الن ار ،إن هللا تع الى ال يمح و الس يئ بالس يئ ،ولكن يمح و
السيئ بالحسن ،إن الخبيث ال يمحو الخبيث)()5
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن هللا تعالى ال يكلف نفسا إال وسعها؛ فل ذلك ال
تحتقر ما تنفقه حتى لو كان قليال إن لم يكن لديك إال ذلك القليل؛ فق د روي أن ه ج اء
ثالثة نفر إلى النبي ،فقال :أحدهم كانت لي مائة دينار ،فتص دقت منه ا بعش رة،
وق ال آخر :ك انت لي عش رة ،فتص دقت بواح دة ،وق ال اآلخر :ك ان لي دين ا ٌر،
فتصدقت بعشره ،فقال ( :كلكم في األجر سوا ٌء ،كلكم تصدق بعشر ماله) ()6
وروي أن سائال جاء ابن عباس ،فقال له :أتشهد أن ال إل ه إال هللا وأن محم دا
ق ،إن ه لح ٌ
ق رسول هللا؟ قال :نعم .قال :وتصوم؟ قال :نعم .قال :سألت ،وللسائل ح ٌ
علينا أن نص لك فأعط اه ثوب ا ثم ق ال :س معت رس ول هللا يق ول( :م ا من مس لم
يكسو مسلما ثوبا إال كان في حفظ هللا ما دام عليه خرقة ٌ منه) ()7
هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على ه ذا الب اب من
أبواب الخير ،وتخلق فيه بأخالق الصالحين ،واعلم أن كل درهم أو دينار أنفقت ه في
سبيل هللا ،وعلى المنهج الذي علمنا رسول هللا وأئمة الهدى من بعده ،سيكون له
أثره في تطهير نفسك وتزكيتها وترقيتها إلى مراتب المتقين المخلصين.
وليس ذلك ما تراه من ثوابه فقط ،بل سيمثل لك يوم القيامة ،وقد ربي أحس ن
)(1رواه البزار
)(2رواه أحمد.
)(3رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما والحاكم.
)(4رواه الطبراني.
)(5رواه أحمد وغيره
)(6أحمد ،1/96والبزار في (البحر الزخار) ،)841( 3/77ودعائم اإلسالم 1/241ـ .244
)(7الترمذي ()2484
248
تربية ،وتمثل في أحسن صورة ،وكان شفيعا لك عند رب ك ،وج زءا من نعيم ك في
جنتك.
249
الحج المبرور
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحج وما يرتبط ب ه من العم رة
والزيارة ،والمقاصد المرتبطة بها ،وعالقتها بالتزكية والترقية ،وكيفية تحقق ذلك.
وذكرت لي بأسف تلك التشويهات التي يع ود به ا بعض الحج اج حين يكتفي
من حجه بمئات الصور عن نفسه ،وهو يطوف ،أو يلبي ،أو يستلم الحج ر األس ود،
أو يرفع يديه بالدعاء ،متوهم ا أن ه ب ذلك ض من جن ان هللا الواس عة ،وأن ه ع اد إلى
فطرته األصلية نقيا من كل الذنوب ،ممتلئا بكل المكارم ،مع أن واقع الح ال ال ي دل
على ذلك.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر ل ك أن الحج من أعظم الم دارس التربوي ة،
التي فرضها هللا تعالى على كل األمم ،لما فيه من مقاصد نفسية واجتماعي ة ال يمكن
أن تتحقق من دونه.
وهو مع ذلك ـ مث ل س ائر الم دارس ـ عرض ة لتالعب الش يطان واأله واء،
لتحويله من مدرسة تربوية وإصالحية للنفس والمجتمع إلى أغراض أخرى تخ الف
الشريعة ،وتعمل على عكس مقاصدها.
ولهذا ورد في النصوص المقدسة التفري ق بين كال الن وعين من الحج ..الحج
الشرعي الذي يهذب النفس ويزكيها ،والحج ال ذي ال يزي دها إال ض الال وانحراف ا،
ففي الحديث عن رسول هللا أن ه ق ال( :الح ّج الم برور ليس ل ه ج زاء إاّل الجنّ ة،
ر الحجّ؟ قال :طيب الكالم وإطعام الطعام)()1 فقيل له :يا رسول هللا ما ب ّ
فهذا الحديث يشير إلى أن الحج الش رعي الص حيح ه و الحج المرتب ط ب البر
والتقوى ،والذي من مظاهره ما ذكره رسول هللا من الكرم والكالم الطيب.
ْ َ ولهذا قرن هللا تعالى األم ر ب الحج ب النهي عم ا يض اده؛ فق الْ :
﴿ال َحجُّ أش هُ ٌر
َال فِي ْال َحجِّ﴾ [البق رة: ث َواَل فُ ُس و َ
ق َواَل ِج د َ ض فِي ِه َّن ْال َح َّج فَاَل َرفَ َ َم ْعلُو َم ٌ
ات فَ َم ْن فَ َر َ
]197
ول ذلك؛ ف إن على من يري د الص دق في حج ه ،واالس تفادة من ه أن يع رف
مقاص ده ال تي ش رع من أجله ا ،وق د ع بر عن بعض ها اإلم ام الص ادق لمن س أله
ساخرا( :إلى كم تدوسون هذا البيدر ،وتل وذون به ذا الحج ر ،وتعب دون ه ذا ال بيت
المرفوع بالطوب والمدر ،وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفرَ ،من ف ّك ر في ه ذا
أن هذا فع ٌل أسّسه غير حكيم وال ذي نظر) أو ق ّدر ،علم ّ
ٌ
فقال له اإلم ام الص ادق( :ه ذا بيت اس تعبد هللا ب ه خلق ه ليخت بر ط اعتهم في
إتيانه ،فحثّهم على تعظيمه وزيارته ،وقد جعله محل األنبياء وقبلة للمصلّين له ،فهو
ق ت ؤدي إلى غفران ه ،منص وبٌ على اس تواء الكم ال، ش عبةٌ من رض وانه ،وطري ٌ
وتذكر عند زيارة رسول هللا أن (تزوره ميّتا كما ت زوره حيّ ا ،فال تق رب
من ق بره إاّل كم ا كنت تق رب من شخص ه الك ريم ل و ك ان حيّ ا واعلم أنّ ه ع الم
)(1البخاري ()6502
263
انظروا في صالة عبدي ،أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة ،كتبت له تام ة ،وإن ك ان
انتقص منها شيئا ،قال :انظروا ،هل لعب دي من تط وع؟ ف إن ك ان ل ه تط وع ،ق ال:
أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ،ثم تؤخذ األعمال على ذلك)()1
باإلضافة إلى ذلك ما ورد في النصوص الكثيرة من األج ور العظيم ة ال تي
ينالها المكثرون من النوافل ،والتي ال تقتص ر على م ا يتفض ل هللا تع الى ب ه عليهم
من النعيم المقيم ،وإنم ا يك ون ل ذلك أث ره النفس ي ،ألن ك ل نعيم حس ي أو معن وي
يقتضي طهارة في النفس تؤهل صاحبها لذلك النعيم.
ّ
ومن تلك األحاديث قوله ( :ما من عبد مسلم يصلي هلل ك ّل يوم ثنتي عشرة
ركعة تطوّعا غير فريضة ،إاّل بنى هللا له بيتا في الجنّة) ()2
وفي وص ية رس ول هللا ألبي ذر( :ي ا أب ا ذر أيم ا رج ل تط وع في ي وم
باثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة كان له حقا واجبا بيت في الجنة) ()3
وقال اإلمام الصادق( :إياكم والكسل إن ربكم رحيم يشكر القليل ،وإن الرجل
ليصلي الركعتين يريد بهما وجه هللا ع ّز وج ّل فيدخله هللا بهما الجنة ،وإن ه ليتص ّدق
بالدرهم تطوعا ً يريد به وجه هللا فيدخله هللا به الجنّة) ()4
وقال اإلم ام الرض ا( :حس نوا ن وافلكم ،واعلم وا أنهاهدي ة إلى هللا عزوج ل،
واعلموا أن النوافل إنما وضعت الختالف الناس في مقادير قواهم الن بعض الخلق
أقوى من بعض ،فوضعت الفرائض على أضعف الخل ق ،ثم أردفت بالس نن ليعم ل
كل قوي بمبلغ قوته ،وكل ضعيف بمبلغ ضعفه ،فال يكلف أحد فوق طاقته وال تبل غ
قوة القوى حتى تكون مستعملة في وجهه من وجوه الطاع ة ،وك ذلك ك ل مف روض
من الصيام والحج ولكل فريضة سنة بهذا المعنى)()5
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاس مع لم ا س أورده ل ك من بعض م ا
ورد في النوافل المرتبط ة بالص الة والص يام ..أم ا ال ذكر وال دعاء وق راءة الق رآن
الكريم والصدقات؛ فهي ال حدود لها ،وال لكثرتها ..وقد س بق أن ذك رت ل ك فض ل
اإلكثار منها في رسائل سابقة.
نوافل الصلوات:
أما نوافل الصلوات ،فهي ـ أيها المريد الص ادق ـ كث يرة ،وق د وق ع الخالف
بين الفقهاء في بعضها ،وهو ال يعنيك كثيرا؛ فيمكنك أن تختار لنفسك م ا ش ئت من
بينها مما تراه متناسبا مع عملك وظروفك المختلفة من غير أن تنكر على غيرك م ا
اختاره لنفسه مما ت رجح لدي ه دليل ه ،ح تى ال تك ون من ال ذين ق ال هللا تع الى فيهم:
صلَّى﴾ [العلق]10 ،9 : ﴿أَ َرأَيْتَ الَّ ِذي يَ ْنهَى (َ )9ع ْبدًا إِ َذا َ
وقال( :إن هللا جل جالله أوحى إلى الدنيا أن أتعبي من خ دمك ،واخ دمى من
رفضك ،وإن العبد إذا تخلى بس يده في ج وف اللي ل المظلم وناج اه ،أثبت هللا الن ور
في قلبه ،فاذا قال يا رب يا رب ،ناداه الجليل جل جالله لبيك عب دي ،س لني أعط ك
وتوكل علي أكفك ،ثم يقول ج ل جالل ه لمالئكت ه :مالئك تي انظ روا إلى عب دي فق د
تخلى في جوف هذا الليل المظلم ،والبطالون الهون والغافلون نيام ،اش هدوا أني ق د
غفرت له)()3
وقال( :رحم هللا رجال قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته ،ف إن أبت نض ح في
وجهه ا الم اء ،رحم هللا ام رأة ق امت من اللي ل فص لت وأيقظت زوجه ا ،ف إن أبى
نضحت في وجهه الماء) ()4
وقال( :إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعا كتبا في ال ذاكرين
والذاكرات)()5
وقال( :ما من امرئ تكون له صالة بليل فيغلبه عليها نو ٌم إال كتب هللا له أجر
صالته وكان نومه عليه له صدقة)()6
وقد كانت سنة رسول هللا فيها أن يقوم في أوق ات مختلف ة من اللي ل ،فق د
سئلت أم سلمة عن قراءة النبي وصالته ،فقالت :وما لكم وصالته كان يصلي ثم
ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ين ام ق در م ا ص لى ح تى يص بح ثم نعتت
قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا (.)7
وعن أنس قال :ما كنا نشاء أن نرى النبي في الليل مص ليا إال رأين اه وال
نشاء أن نراه نائما إال رأيناه(.)8
وقال ابن مسعود :ص ليت م ع رس ول هللا ليل ة فأط ال ح تى هممت ب أمر
)(1الفقيه ص .170
)(2الكافي ج 4ص .88
)(3الفقيه ص .170
)(4الفقيه ص .170
)(5الفقيه ص .170
)(6عيون االخبار ج 2ص .118
)(7صحيفة الرضا ص.12
)(8الكافي ج 4ص .90
274
المجاهدة الكبرى
كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن مجاه دة النفس ،وكيفيته ا،
وعالقتها بالتزكية والترقي ة ،وكيفي ة ال رد على أولئ ك ال ذين يس تدلون بم ا ورد في
النصوص المقدسة من حنيفية الدين وسماحته ورفع الحرج على بدعية المجاهدة.
وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن مجاه دة النفس هي مدرس ة من
م دارس التزكي ة والترقي ة الك برى؛ فتل ك الم راتب الرفيع ة ال تي يناله ا من ه ذبوا
أنفس هم وأدبوه ا وملؤوه ا بأص ناف المك ارم ال يمكن أن يناله ا الكس الى ،وال
المقعدون ،وال أصحاب الهمم الدنية ،ب ل هي مخصص ة لل ذين جاه دوا أنفس هم في
ذات هللا ،ح تى النت لهم ،وأص بحت ط وع أي ديهم؛ ال تح ركهم الش هوات ،وال
تستفزهم األهواء.
ولذلك أخبر هللا تعالى أن هدايته الشاملة مخصصة للذين جاه دوا أنفس هم في
سبيله ،فقالَ ﴿ :والَّ ِذينَ َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هللا لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت:
]69
﴿وأَ َّما َم ْن خَ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه وأخبر عن جزاء من عارض هواه وجاهده ،فقالَ :
س ع َِن ْالهَ َوى ( )40فَإِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي ْال َمأْ َوى﴾ [النازعات]41 ،40 : َونَهَى النَّ ْف َ
وذلك ال يعارض ما ورد في النصوص المقدس ة من رف ع الح رج؛ كم ا ق ال
تعالى﴿ :طه (َ )1ما أَ ْنزَ ْلنَا َعلَ ْيكَ ْالقُرْ آنَ لِت َْش قَى﴾ [ط ه ،]2 ،1 :وق الَ ﴿ :م ا ي ُِري ُد هللا
ج َولَ ِك ْن ي ُِري ُد لِيُطَه َِّر ُك ْم َولِيُتِ َّم نِ ْع َمتَ هُ َعلَ ْي ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم ت َْش ُكرُونَ ﴾
لِيَجْ َع َل َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن َح َر ٍ
[المائدة ،]6 :ذلك أن لكليهما محله الخاص به.
فمن ك ان مه ذب النفس ،طيب األخالق ،منق ادا ألحك ام الش ريعة بظ اهره
وباطنه؛ فإنه ال يشعر بأي ح رج في أي عم ل يق وم ب ه ،وال يحت اج لمجاه دة نفس ه
لذلك ،بل إنه قد يتلذذ به ،ويشعر بالسعادة أثناء أدائه.
أما من عداه ،ممن لم تتهذب نفسه ،ولم تتأدب؛ فإنه يحتاج إلى مجاه دتها إلى
أن تستقيم حالها ،وتتعود على السلوك الصحيح ،وحينها ترتف ع الكلف ة ،ويص بح م ا
كان شاقا أمرا يسيرا سهال ال حرج فيه.
ولذلك جمع هللا تعالى بين المجاه دة ورف ع الح رج ،فق الَ ﴿ :و َجا ِه دُوا فِي هللا
ج﴾ [الحج]78 : ِّين ِم ْن َح َر ٍ ق ِجهَا ِد ِه ه َُو اجْ تَبَا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي الد َِح َّ
ذل ك أن رف ع الح رج ،ال يع ني اتب اع األه واء ،أو ت رك النفس وش هواتها
ورعوناته ا ،وإنم ا يع ني ع دم مقاوم ة الفط رة األص لية ،أم ا م ا اس تجد عليه ا،
وأفسدها؛ فإنه ال يمكن أن يهتدي اإلنس ان ،وال أن يس ير في درب الص الحين م ا لم
يقاوم ذلك ،ويجاهده إلى أن يصبح طبيعة فيه.
وأنت ترى ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ في ك ل ش يء ..فص احب العض الت
الضعيفة ،يحتاج إلى رياضات شديدة حتى يقوي عضالته ..وال ذي يري د أن يكس ب
275
ماال كثيرا يحتاج إلى جهود تتوافق مع همته ..والذي يريد أن يصير عالما أو باحث ا
يصل الليل بالنهار إلى أن يحقق ما تهفو إليه نفسه..
وهكذا األمر بالنسبة للتزكية والترقية؛ فإن ه ال يمكن أن ينالهم ا إال من جاه د
نفسه ،ولم يتبع أهواءه ،وإنما اس تعمل ك ل الط رق المش روعة ح تى يتحق ق بالمث ل
العليا ،وح تى ت رتقي نفس ه إلى تل ك الم راتب الرفيع ة ال تي وص ل إليه ا أص حاب
النفوس المطمئنة.
ولذلك ورد في الح ديث التعب ير عن جه اد النفس بكون ه الجه اد األك بر ،فق د
روي أن رسول هللا بعث سريَّة ،فلما رجع وا ق ال( :مرحب ا ً بق وم قض وا الجه اد
األصغر ،وبقي عليهم الجه اد األك بر) ،قي ل :ي ا رس ول وم ا الجه اد األك بر؟ ق ال:
(جهاد النفس) ،ثم قال( :أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)()1
وفي حديث آخر قال رسول هللا ( :ليس الشديد بالصرعة ،إنما الشديد الذي
يملك نفسه عند الغضب)( ،)2وهو يدل على أنه ال يمكن ألي إنسان أن يتحلى بالعفو
والحلم ما لم يجاهد نفسه على ذلك.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن لجهاد النفس مرتبتين:
أوالهما ترتبط بتزكية النفس من المثالب والرعون ات واألخالق الس يئة ال تي
تكتسبها من بيئتها أو محيطها أو أهوائها وشيطانها.
وثانيهما ترتبط بترقيتها وتحقيقها باألخالق العالية والروحانية السامية.
مجاهدة التزكية:
أما مجاهدة التزكية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مقاوم ة تل ك التزيين ات ال تي
تنحرف بالنفس عن طبيعتها وفطرتها الس ليمة؛ وتص حيح مس ارها ال ذي خلقه ا هللا
عليه ،حتى تعود نقية إلى بارئة سليمة من كل الكدورات التي قد تلطخها.
س َع ِن وقد أش ار إلى ذل ك قول ه تع الىَ ﴿ :وأَ َّما َم ْن خَ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه َونَهَى النَّ ْف َ
ْالهَ َوى ( )40فَإِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي ْال َمأْ َوى﴾ [النازعات]41 ،40 :
والمراد ب الهوى هن ا ك ل تل ك األوه ام ال تي تتلبس ب النفس نتيج ة لوس اوس
ش ياطين اإلنس والجن ،وم ا يص احبها من رغب ات داخلي ة ،ت وفر القابلي ة لتل ك
الوساوس.
ولذلك؛ فإن محو مصدر تلك األهواء ،وتص حيح تل ك الرغب ات ،يحت اج إلى
مقاومة شديدة ،وجهاد ال يقل عن الجهاد الذي يقاوم به الظالمون والمستكبرون ..بل
إن الجهاد الثاني ال يمكن أن يتحقق ما لم يكن يصاحبه الجهاد األول.
ولهذا ،فإن القرآن الكريم ينسب كل الجرائم البشعة إلى النفس بسبب استسالم
َت لَ هُ نَ ْف ُس هُ قَ ْت َل أَ ِخي ِه
صاحبها ألهوائها ،كما قال تعالى في قصة اب ني آدم﴿:فَطَ َّوع ْ
فَقَتَلَهُ فَأَصْ بَ َح ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ (( ﴾)30المائدة)
)(1رواه مسلم ( ،)489( )52 /2وأبو داود رقم ( ،)1320والنسائي .227 /2
)(2النسائي()22 -21 /6
280
هللا ،قال( :رأس األمر اإلسالم ،وعموده الصّالة ،وذروة سنامه الجهاد) ،ث ّم ق ال( :أ
ف علي ك ال أخبرك بمالك ذلك كلّه؟) ،قال :بلى ،يا نب ّي هللا ،فأخ ذ بلس انه ،ق ال( :ك ّ
هذا)()1
وهكذا كانت سيرة رسول هللا العملي ة ،فق د روي أن ه ص لّى حتّى تش ققت
قدماه ،فقيل له :يا رسول هللا ،أتصنع هذا ،وقد غفر لك ما تق ّدم من ذنبك وما ت أ ّخر؟
فقال( :أفال أكون عبدا شكورا)()2
فجاهد نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ بك ثرة ال ذكر وال دعاء والمناج اة ،وك ل
أعمال الخير ،وجاهدها في حضور قلب ك م ع هللا ،وس ترى كي ف ينقل ك هللا تع الى،
وبمقدار صدقك من دركات الغواية إلى درجات الهداية ،وكيف يمن عليك بع د ذل ك
بإزالة كل أنواع التعب والمشقة التي تشعر بها أثناء مجاهدتك ،ليب دلك ب دلها حالوة
تجدها في قلبك.
وقد روي عن الكثير من الصالحين من التصريحات م ا ي دل على ذل ك ،فق د
قيل لبعض المداومين على قيام الليل ،والحريصين عليه( :)3كيف أنت واللّيل؟ ق ال:
(ما رأيته قطّ يريني وجهه ث ّم ينصرف وما تأ ّملته بعد)
وقال آخر( :أنا واللّيل فرسا رهان مرّة يسبقني إلى الفجر ومرّة يقطع ني عن
الفكر)
وقال آخر( :ساعة أنا فيها بين حالين أفرح بظلمت ه إذا ج اء وأغت ّم بفج ره إذا
طلع ما ت ّم فرحي به قطّ)
وقال آخر( :منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر)
وقال آخ ر( :إذا غ ربت الش مس ف رحت ب الظالم لخل وتي ب ربّي وإذا طلعت
حزنت لدخول الناس عل ّي)
ألذ من أهل اللهو في لهوهم ،ولو ال اللّي ل م ا وقال آخر( :أهل اللّيل في ليلهم ّ
أحببت البقاء في ال ّدنيا)
وقال آخر( :لو عوّض هللا تعالى أهل اللّيل من ثواب أعمالهم م ا يجدون ه من
اللّ ّذة لكان ذلك أكثر من أعمالهم)
وقال آخر( :ليس في ال ّدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنّة إاّل ما يجده أهل التملّ ق
في قلوبهم باللّيل من حالوة المناجاة)
وق ال آخ ر( :ل ّذة المناج اة ليس من ال ّدنيا ،إنّم ا ه و من الجنّ ة أظهره ا هللا
ألوليائه ال يجدها سواهم)
ّ اّل ّ ّ
وق ال آخ ر( :م ا بقي من ل ذات ال دنيا إ ثالث :قي ام اللي ل ،ولق اء اإلخ وان
والصالة في جماعة)
وقال آخر يصف فضل هللا على ه ذا الن وع من المجاه دين ألنفس همّ :
(إن هللا
)(1الترمذي()2616
)(2البخاري [فتح الباري] )4837(8 ،ومسلم()2820
)(3انظر هذه الروايات في المحجة البيضاء فى تهذيب االحياء ،ج ،2ص.398 :
281
ينظر باألسحار إلى قلوب المتيقّظين فيملؤها نورا فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير،
ث ّم ينتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين)
وه ذا كل ه فض ل من هللا تع الى على عب اده الص ادقين مع ه ،إذ أن ه ال يكتفي
بمكافأتهم في اآلخرة ،وإنما يكافئهم في الدنيا ،فضال من ه وكرم ا ،وق د روي أن هللا
(إن لي عبادا من عبادي يحبّوني واحبّهم ،ويشتاقون تعالى أوحى إلى بعض أنبيائهّ :
إل ّي وأشتاق إليهم ،ويذكروني وأذك رهم ،وينظ رون إل ّي وأنظ ر إليهم ،ف إن ح ذوت
طريقهم أحببتك ،وإن عدلت عنهم مقتّك) ،قال :يا ربّ وما عالمتهم؟ قال( :يراعون
الظالل بالنهار كما ي راعي ال راعي غنم ه ويحنّ ون إلى غ روب الش مس كم ا ّ
يحن
الطير إلى أوكارها ،فإذا جنّهم اللّيل واختلط الظالم وخال ك ّل ح بيب بحبيب ه نص بوا
لي أق دامهم ،وافترش وا لي وج وههم ،ون اجوني بكالمي وتملّق وني بإنع امي ،ف بين
ص ارخ وب اكي ،وبين مت أوّه وش اك ،بعي ني م ا يتح ّمل ون من أجلي وبس معي م ا
يشتكون من حبّي ،أوّل ما أعطيهم أقذف من ن وري في قل وبهم فيخ برون عنّي كم ا
أخبر عنهم ،والثاني ة ل و ك انت الس ماوات الس بع واألرض وم ا فيه ا في م وازينهم
الستقللتها لهم ،والثالثة أقبل بوجهي عليهم أ فترى من أقبلت بوجهي عليه أ يعلم أحد
ما أريد أن أعطيه؟)()1
299
المراقبة المشددة
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن المراقب ة ال تي ي ذكرها علم اء
التزكية ،وحقيقتها ،ودوافعه ا ،ومراتبه ا ،وكيفي ة التحق ق به ا ،وه ل نص ت عليه ا
النصوص المقدسة ،أم أنها اجتهاد مبني على التجربة؟
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن األصل الشرعي في المراقبة ه و م ا
ورد في الح ديث عن رس ول هللا ،وال ذي ورد بص يغ مختلف ة ،أو في مواض ع
مختلفة ،منها ما قال ه لبعض أص حابه عن دما طلب من ه الوص ية ،فق ال ل ه :
(اعبد هللا كأنّك تراه ،واعدد نفسك من الموتى)()1
بل اعتبر مراقبة هللا درجة من درجات اإلحسان ،ففي الحديث عندما سأله
جبريل عن اإلحسان ،قال( :أن تعبد هللا كأنّك تراه فإنّك إن ال تراه فإنّ ه ي راك)
()2
ق سبحانه وتع الى على ظ اهره وهو يعني (دوام علم العبد وتيقّنه باطّالع الح ّ
وباطنه)( ،)3أو (دوام علم القلب بعلم هللا ع ّز وج ّل في السّكون والحركة علما الزم ا
مقترنا بصفاء اليقين)()4
وهو يدل على أن الم راقب ال يتص رف بحس ب م ا تملي علي ه نفس ه ،وإنم ا
بحسب ما يملي عليه الرقيب الذي يعلم علم اليقين أنه يالحظه ،وي راقب تص رفاته،
وال تغيب عنه منها شاردة وال واردة ،بل إنه يعلم السر وأخفى.
والمراقبة بذلك ترتبط باإليمان ،فبقدر الحضور مع هللا ،وبق در استش عار م ا
ورد في معيته مع عباده ،بقدر ما تكون المراقبة أتم.
ولذلك كان لكثرة ذكر هللا مع حضور القلب دوره الكبير في تحوي ل المراقب ة
هلل تعالى إلى ملكة في نفس صاحبها ال يستطيع أن يتجاوزها ،وذلك م ا يردع ه عن
نزغات نفسه األمارة ،كما يروى أنه قيل لبعضهم :متى يهشّ الرّاعي غنم ه بعص اه
أن عليه رقيبا) عن مراتع الهلكة؟ فقال( :إذا علم ّ
وقد قال ال ّشاعر معبرا عن ذلك:
إذا ما خلوت ال ّدهر يوما فال تقل ...خلوت ولكن قل عل ّي رقيب
أن ما تخفيه عنه يغيب تحسبن هللا يغفل ساعة ...وال ّ ّ وال
ّ ّ
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب ...وأن غدا للناظرين قريب ّ
ولهذا نجد الق رآن الك ريم يعم ق مع اني المراقب ة ب ذكره لحض ور هللا تع الى
ال دائم م ع خلق ه ،بحيث ال يغيب عنهم أب دا ،وكون ه ي راهم ويس معهم ويعلم ك ل
تصرفاتهم ،قال تعالىَ ﴿ :ما يَ ُكونُ ِمن نَّجْ َوى ثَالَثَ ٍة إِالَّ ه َُو َرابِ ُعهُ ْم َوالَ خَ ْم َس ٍة إِالَّ هُ َو
)(1قال المنذري في الترغيب والترهيب( :)532 /3رواه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد.
)(2رواه البخاري ومسلم.
)(3مدارج السالكين()68 /2
)(4الوصايا للمحاسبى( )313بتصرف واختصار.
300
َسا ِد ُسهُ ْم َوالَ أَ ْدنَى ِمن َذلِكَ َوالَ أَ ْكثَ َر إِالَّ هُ َو َم َعهُ ْم أَ ْينَ َم ا َك انُوا ثُ َّم يُنَبِّئُهُم بِ َم ا َع ِملُ وا
يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِ َّن هللا بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم﴾ (المجادلة)7،
﴿:ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا اإْل ِ ْن َس انَ َونَ ْعلَ ُم َم ا تُ َو ْس ِوسُ بِ ِه نَ ْف ُس هُ َونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن وقال َ
ُ ْ
ال قَ ِعي ٌد (َ )17ما يَلفِظ ِم ْن ين َو َع ِن ال ِّش َم ِ ْ
ان َع ِن اليَ ِم ِ َحب ِْل ْال َو ِري ِد ( )16إِذ يَتَلَقى ال ُمتَلَقِّيَ ِ
ْ َّ ْ
قَوْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد (( ﴾)18ق)،
َ
ُور ( )13أاَل يَ ْعلَ ُم َم ْن ت الصُّ د ِ وقالَ ﴿:وأَ ِسرُّ وا قَوْ لَ ُك ْم أَ ِو اجْ هَرُوا بِ ِه إِنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ
ق َوهُ َو اللَّ ِطيفُ ْالخَ بِي ُر (( ﴾)14الملك) خَ لَ َ
ُ
آن َواَل تَ ْع َملونَ ِم ْن َع َم ٍل إِاَّل ُكنَّا ُ ْ
وقالَ ﴿:و َما تَ ُكونُ فِي َشأ ٍن َو َما تَ ْتلو ِم ْنهُ ِم ْن قُرْ ٍ
ض َواَل َ ْ
يض ونَ فِي ِه َو َم ا يَ ْع ُزبُ ع َْن َربِّكَ ِم ْن ِمثقَ ا ِل َذ َّر ٍة فِي اأْل رْ ِ َعلَ ْي ُك ْم ُشهُودًا إِ ْذ تُفِ ُ
ين (( ﴾)61يونس) ب ُمبِ ٍ فِي ال َّس َما ِء َواَل أَصْ غ ََر ِم ْن َذلِكَ َواَل أَ ْكبَ َر إِاَّل فِي ِكتَا ٍ
ب اَل يَ ْعلَ ُمهَ ا إِاَّل هُ َو َويَ ْعلَ ُم َم ا فِي ْالبَ رِّ َو ْالبَحْ ِر َو َم ا ﴿:و ِع ْن َدهُ َمفَ اتِ ُح ْال َغ ْي ِ
وقال َ
ْ
س إِاَّل فِي ب َواَل يَ ابِ ٍ ض َواَل َرط ٍ ت اأْل َرْ ِ تَ ْسقُطُ ِم ْن َو َرقَ ٍة إِاَّل يَ ْعلَ ُمهَا َواَل َحبَّ ٍة فِي ظُلُ َم ا ِ
ين (َ )59وهُ َو الَّ ِذي يَتَ َوفَّا ُك ْم بِاللَّ ْي ِل َويَ ْعلَ ُم َم ا َج َرحْ تُ ْم بِالنَّهَ ِ
ار ثُ َّم يَ ْب َعثُ ُك ْم فِي ِه ب ُمبِ ٍِكتَا ٍ
ضى أَ َج ٌل ُم َس ّمًى ثُ َّم إِلَ ْي ِه َمرْ ِج ُع ُك ْم ثُ َّم يُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ (( ﴾)60األنعام) لِيُ ْق َ
ال َحبَّ ٍة ِم ْن ك ِم ْثقَ َي إِنَّهَا إِ ْن تَ ُ وقال مخبرا عن موعظة لقمان البنه﴿:يَا بُنَ َّ
ْ
ف ت بِهَ ا هللا إِ َّن هللا لَ ِطي ٌ ض يَ أ ِ ت أَوْ فِي اأْل َرْ ِ اوا ِ
الس َم َ ص ْخ َر ٍة أَوْ فِي َّ خَرْ َد ٍل فَتَ ُك ْن فِي َ
خَ بِي ٌر (( ﴾)16لقمان)
وغيرها من اآليات الكريمة التي تعمق في نفس الم ؤمن ك ل المع ارف ال تي
تؤدبه على مراقبة هللا تعالى ،والشعور بحضوره الدائم.
ومما يعين على المراقبة أيضا استشعار رؤية المالئكة للعمل ،وتسجيلهم ل ه،
ال قَ ِعي ٌد ( الش َم ِ ان َع ِن ْاليَ ِمي ِن َوع َِن ِّ وشهادتهم عليه ،كما قال تعالى﴿ :إِ ْذ يَتَلَقَّى ْال ُمتَلَقِّيَ ِ
َ )17م ا يَ ْلفِ ظُ ِم ْن قَ وْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾ [ق ،]18 ،17 :وق الَ :
﴿وإِ َّن َعلَ ْي ُك ْم
لَ َحافِ ِظينَ (ِ )10ك َرا ًما َكاتِبِينَ ( )11يَ ْعلَ ُمونَ َما تَ ْف َعلُونَ ﴾ [االنفطار]12 - 10 :
وفي الحديث عن رسول هللا أنه س ئل عن العب د كم مع ه من مل ك؟ فق ال:
ك على يمينك على حسناتك ،وواح ٌد على الشمال ،فإذا عملت حسنةً كتب عشرا، (مل ٌ
وإذا عملت س يئةً ق ال ال ذي على الش مال لل ذي على اليمين :أكتب ؟ ..ق ال :لعل ه
يستغفر ويتوب ،فإذا قال ثالثا قال :نعم اكتب ،أراحنا هللا منه فبئس الق رين ،م ا أق ّل
مراقبته هلل ع ّز وجلّ ..وما أق ّل استحياؤه منه ..يقول هللاَ ﴿ :ما يَ ْلفِ ظُ ِم ْن قَ وْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه
ات َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾ [ق ،]18 :و َملَكان بين يديك ومن خلفك يقول هللا سبحانه﴿ :لَ هُ ُم َعقِّبَ ٌ
ك قابضٌ على ناص يتك ،ف إذا تواض عت ِم ْن بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِم ْن خَ ْلفِ ِه﴾ [الرعد ،]11 :ومل ٌ
هلل رفع ك ،وإذا تجبّ رت على هللا وض عك وفض حك ،وملك ان على ش فتيك ،ليس
ك قائ ٌم على فيك ،ال يدع أن تدخل الحية في يحفظان إال الصالة على محمد ،ومل ٌ
فيك ،وملكان على عينيك ..فهذه عشرة أمالك على كل آدمي ،ومالئك ة اللي ل س وى
مالئكة النهار ،فهؤالء عشرون ملكا على كل آدمي ،وإبليس بالنه ار وول ده باللي ل،
301
﴿وإِ َّن َعلَ ْي ُك ْم لَ َح افِ ِظينَ ﴾ [االنفط ار ،]10 :وق ال ع ّز وج لّ﴿ :إِ ْذ يَتَلَقَّى
قال هللا تعالىَ :
ْ
ال ُمتَلَقِّيَان﴾ [ق)1()]17 :
ِ
أن عليكم رص دا من وع بر اإلم ام علي عن ذل ك بقول ه( :اعلم وا عب اد هللا ّ
أنفسكم ،وعيونا من جوارحكم ،وحفّاظ صدق يحفظ ون أعم الكم وع دد أنفاس كم ،ال
تستركم منهم ظلمة ليل داج (أي حالك) ،وال يكنّكم منهم باب ذو رت اج (أي أغالق)
()2
وقال( :ال يزال الرجل المسلم يُكتب محسنا ما دام س اكتا ،ف إذا تكلّم كتب إم ا
محسنا أو مسيئا)()3
وروي أنه م ّر برجل وهو يتكلم بفضول الكالم ،فقال( :يا هذا..إنك تملي على
كاتبيك كتابا إلى ربك ،فتكلّم بما يعنيك ،ودع ما ال يعنيك)()4
وقال اإلمام الص ادق معاتب ا بعض أص حابه ال ذين قص روا في زي ارة بعض
أن المؤمنَين إذا التقي ا فتص افحا أن زل هللا بين إبهاميهم ا مائ ة المؤمنين( :أما علمت ّ
رحمة :تسعة وتسعين ألش ّدهما حبا ،فإذا اعتنقا غمرتهما الرحمة ،فإذا لبثا ال يريدان
بذلك إال وجه هللا تعالى ،قيل لهم اُ :غف ر لكم ا ،ف إذا جلس ا يتس اءالن ق الت الحفظ ة
فإن لهما سرا قد ستره هللا عليهما) ،فقال الرجل: بعضها لبعض :اعتزلوا بنا عنهماّ ،
ُ ْ
(جعلت فداك ..فال تسمع الحفظة قولهم ا وال تكتب ه) وق د ق ال تع الىَ ﴿ :م ا يَلفِ ظ ِم ْن
قَوْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾ [ق ،]18 :فنكس رأسه طويال ثم رفعه وقد فاضت دموعه
على لحيت ه ،وق ال( :إن ك انت الحفظ ة ال تس معه وال تكتب ه فق د س معه ع الم الس ّر
وأخفى ،يا إسحاق ..خف هللا كأنك تراه ،فإن كنت ال تراه فإنه يراك ،فإن شككت أنه
ي راك فق د كف رت ،وإن أيقنت أن ه ي راك ثم بارزت ه بالمعص ية فق د جعلت ه أه ون
الناظرين إليك)()5
وق رب اإلم ام الك اظم كيفي ة تع رف المالئك ة عليهم الس الم على هم العب د
(إن العبد إذا ه ّم بالحسنة خرج نفَسه طيب الريح ،فق ال بالطاعة أو المعصية ،فقالّ :
صاحب اليمين لصاحب الش مال :قم ..فإن ه ق د ه ّم بالحس نة ،ف إذا فعله ا ك ان لس انه
قلم ه ،وريق ه م داده ،فأثبته ا ل ه ،وإذا ه ّم بالس يئة خ رج نفس ه منتن ال ريح ،فيق ول
صاحب الشمال لصاحب اليمين :قف ..فإنه قد ه ّم بالسيئة ،فإذا هو فعلها ك ان لس انه
قلمه ،وريقه مداده ،فأثبتها عليه)()6
﴿وقُ ِل ا ْع َملُوا
ومما يعين على المراقبة أيضا استشعار ما ورد في قوله تعالىَ :
فَ َسيَ َرى هللا َع َملَ ُك ْم َو َرسُولُهُ َو ْال ُم ْؤ ِمنُونَ ﴾ [التوبة ..]105 :فهذه اآلية الكريمة تص ور
الواق ع بك ل دق ة ..فنحن والخل ق جميع ا جالس ون على خش بة المس رح ..وك ل من
)(1بحار األنوار ،5/324 :وسعد السعود.
)(2بحار األنوار ،5/322 :ونهج البالغة.
)(3بحار األنوار ،5/327 :والعقائد ص.86
)(4بحار األنوار ،5/327 :والعقائد ص.86
)(5بحار األنوار ،5/324 :وكتاب قضاء الحقوق ،ثواب األعمال ،الكشي.
)(6الكافي .2/429
302
ذك رهم هللا تع الى يش اهدنا ويران ا ..ونحن مخ يرون ب أن نرض ي هللا ورس وله
والمؤمنين ،حين نؤدي أجم ل األدوار ،أو أن نكتفي برؤي ة أولئ ك األص دقاء ال ذين
نخش ى أن نخس رهم ،فل ذلك نض حي بالحقيق ة في س بيلهم ،وحينه ا نك ون أس وأ
الممثلين ،أولئك الذين يؤدون أقذر األدوار في أخطر فلم سينمائي يرتبط به مصيرنا
األبدي.
إذا عرفت هذا ـ أيها المري د الص ادق ـ ف اعلم أن المراقب ة وإن ك انت دائم ة
مستمرة ،إال أنها تشتد في حالين:
أوالهما :قبل العمل بالحرص على مشروعيته وإذن هللا فيه.
وثانيهم ا :أثن اء العم ل بأدائ ه بالص ورة ال تي طلبه ا الش رع ،والحف اظ على
المحبطات التي تفسده.
مراقبة المشروعية:
ْس لَ كَ بِ ِه ِع ْل ٌم
تعالى﴿:واَل تَ ْقفُ َم ا لَي َ
َ أما المراقبة األولى ،فقد أشار إليها قوله
ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُولَئِكَ َكانَ َع ْنهُ َم ْسئُواًل (( ﴾)36اإلسراء)
إِ َّن ال َّس ْم َع َو ْالبَ َ
وفي الحديث ،قال رسول هللا ( :الحالل بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات
يعلمهن كثير من النّاس .فمن اتّقى ال ّشبهات استبرأ لدينه وعرض ه ،ومن وق ع في ّ ال
وإن لك ّل مل ك حمى أال ال ّشبهات كراع يرعى حول الحمى يوش ك أن يرت ع في ه أال ّ
وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإن حمى هللا في أرضه محارمه أال ّ ّ
كلّه ،وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ،أال وهي القلب)()1
وقال اإلمام علي( :الهوى شريك العمى ،ومن التوفيق التوق ف عن د الح يرة،
ونعم طارد الهم اليقين ،وعاقبة الكذب الندم ،وفي الصدق السالمة ،رب بعيد أق رب
من قريب ،وغريب من لم يكن له حبـيب ،والص ديق من ص دق غيب ه ،وال يع دمك
من حبـيب سوء ظن ،نعم الخلق التكرم ،والحياء سبب إلى كل جميل ،وأوثق العرى
التقوى ،وأوثق سبب أخذت به سبب بـينك وبـين هللا تع الى إنم ا ل ك من دني اك م ا
أصلحت به مثواك ،والرزق رزقان :رزق تطلبه ورزق يطلب ك ف إن لم تأت ه أت اك،
وإن كنت جازعا ً على ما أص يب مم ا في ي ديك فال تج زع على م ا لم يص ل إلي ك،
واستدل على ما لم يكن بما كان فإنما األمور أش باه ،والم رء يس ره درك م ا لم يكن
ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ،فما نالك من دنياك فال تكثرن ب ه فرح ا ً وم ا
فاتك منها فال تتبعه نفسك أس فاً ،وليكن س رورك بم ا ق دمت وأس فك على م ا خلفت
وشغلك آلخرتك وهمك فيما بعد الموت)
فهذه النصوص المقدسة تدعونا إلى نوعين من المراقبة قبل العمل:
أما أوالهما ،فالمراقبة المرتبطة بمدى موافقة العمل للش ريعة ..فال يط اع هللا
إال بما شرع.
وأما الثانية ،فتدعونا إلى النظر في دافعنا للعمل ،أهو هلل خاصة أو ه و ه وى
)(1محاسبة النفس للشيخ تقى الدين إبراهيم بن علي العاملى الكفعمي ،ص.38
317
يا نفس ..إن كنت في معصية هللا ممن يعلم اطالعه ،فلق د اج ترأت على أم ر
عظيم الشناعة ،لجعلك إياه أهون الناظرين ،وأخف المطلعين ،وإن كنت تظ نين أن ه
ال يراك ،فلقد كفرت بموالك.
يا نفس ..أترين لو أن أحدا من جلسائك ،واجهك بم ا تمقتين ه ،أو عامل ك بم ا
تكرهينه ،لقلمت منه األظفار ،وأحللت به دار البوار فب أي جس ارة تتعرض ين لمقت
هللا وعذابه ،وشدة نكاله وعقاب ه؟ وق ربي إص بعك من الحميم ،إن ألف اك البط ر عن
النظر في عقابه األليم.
يا نفس ..ويحك بل ويلك من العذاب ،كأنك ال تؤمنين بيوم الحس اب ،أتظ نين
أنك إذا مت انفلت ،وإذا حشرت رددت؟! هيهات هيهات ،كل ما توعدين آلت.
يا نفس ..إنك تقدمين على ما قدمت ،وتجازين على م ا أس لفت ،فال تخ دعنك
دنيا دنية ،عن مراتب جنات علية ،فإن لكل حسنة ثوابا ،ولكل س يئة عقاب ا ،وإن ه ال
بد لك في قبرك من قرين ،ف إن ك ان ص الحا فب ه تستأنس ين ،وإن ك ان طالح ا فمن ه
تستوحشين.
يا نفس ..ما هذه الحيرة والسبيل واضح ،وما هذه الغفلة والمشير ناصح ،إلى
كم تجمعين وال تقنعين ،ولوارثك تودعين؟!
ي ا نفس ..أتف رحين بنعيم زائ ل ،وس رور راح ل؟! غفلت وأغفلت ،وعلمت
فأهملت ،إلى كم مواظبتك على الذنوب ،وأنت بعين عالم الغيوب؟ فجمعك في ه ذه
الدنيا إلى تفريق ،وسعتك إلى ض يق ،فم ا ه ذه الطمأنين ة وأنت مزعج ة ،وم ا ه ذا
الولوج وأنت مخرجة؟!
يا نفس ..ال جرم أن ه تع الى تكف ل في ال دنيا بإص الح أحوال ك ،فعالم كذبتي ه
بأفعالك؟ وأصبحت تتكالبين على طلب الدنيا تكالب المدهوش المستهتر ،وأعرضت
عن اآلخرة إعراض المغرور المس تحقر ،م ا ه ذا من عالم ات من يتب ع الس نة ،أو
يبتغي الجنة..
يا نفس ..أتحسبين أن تتركي سدى ،ألم تكوني نطف ة من م ني يم نى ،ثم كنت
علقة فخلق فسوى ،أليس ذلك بقادر [ على ] أن يحيي الموتى ؟!.
يا نفس ..لو أن طبيب ا يهودي ا ،أو حكيم ا نص رانيا ،أخ برك في أل ذ أطعمت ك
بدائه ،وعدم دوائه ،ثم أمرك باالحتماء ،عن بعض الغ ذاء ،لص برت عن ه وتركت ه،
وجاهدت نفسك فيه ..أفكان قول القرآن المبين ،واألنبياء والمرسلين ،أقل ت أثيرا من
ق ول يه ودي يخ بر عن تخمين ،أو نص راني ين بئ عن غ ير يقين؟! ..والعجب لمن
يحتمي عن الطعام ألذيته ،كيف ال يحتمي عن الذنب ألليم عقوبته؟!
ي ا نفس ..ومن العجب أن ه ل و أخ برك طف ل :ب أن عقرب ا في جيب ك ل رميت
بثوبك ،أو حي ة في إزارك ل رميت بأطم ارك ..أفك ان ق ول األنبي اء واألب دال ،أق ل
عندك من قول األطفال؟! أم صار حر نار جهنم وزقومها ،أحقر عندك من العق رب
وسمومها؟! وال جرم فلو انكش ف للبه ائم عالنيت ك وس ريرتك ،لض حكوا من غفل ة
318
سيرتك.
ي ا نفس ..من ال يطعم الداب ة إال في الحض يض ال يق در على قط ع العقب ة؟!
ومن ال يملك قيراطا من المال كيف يفك الرقبة؟! وكي ف ب ك إذا أم رت بالص عود،
على عقبة كؤود ،وطرسك موفور من السيئات ،وظهرك موقور من التبعات ،وأنت
مع ذلك عارية عطشانة ،حافية غرثانة؟! فال شك هنالك أن المستريح ،أحس ن ح اال
من الطليح ،وال ج رم أن المبط ئين ،أقبح ح اال من المس رعين ،فاس تعدي لآلخ رة،
على قدر هول أرض الس اهرة ،وال تك وني ممن يعج ز عن ش كر م ا أوتي ،ويبغي
الزيادة فيما بقي ،وينهى الناس وال ينتهي.
يا نفس ..ما المانع لك من المبادرة إلى صالح األعمال ،وما الب اعث ل ك على
التسويف واالهمال ،وهل سببه إال عجزك عن مخالفة شهوتك ،وضعفك عن مؤالفة
أئمتك؟ وهب أن الجهد في آخر العم ر ن افع ،وأن ه م رق إلى أس عد المط الع ،فلع ل
اليوم آخر عمرك ،ونهاية دهرك.
يا نفس ..غ البي الش هوة قب ل ق وة طراوته ا ،فإنه ا إن ق ويت لم تق دري على
مقاومتها ،ومثل ذلك :أن الشهوة كالشجرة النابتة ،والصخرة الثابتة ،التي تعبد العب د
بقلعها أو أمر بنزعها ،فمن ترك قلعها وعجز عن نزعها ،ك ان كمن عج ز عن قل ع
شجرة وهو شاب قوي الهمة ،فأخرها بعد أم ة إلى الض عف وابيض اض اللم ة ،م ع
العلم بأن طول المدة تزيد الشجرة قوة وثباتا ،وتولي القالع ضعفا وشتاتا.
ما قولك في مريض غمره األسقام ،أشير عليه بترك الماء البارد ثالث ة أي ام،
ليصح ويتهنأ بش ربه م دى الش هور واألع وام ،فم ا مقتض ى العق ل في افتع ال أم ر
الصبوة ،وقضاء حق الشهوة ،أيصبر الثالثة أيام ليتنعم طول عم ره؟ أم يقض ي في
الح ال ش هوة وط ره؟! .وليت ش عري أألم الص بر عن الش هوات ،وكظم الغي ظ عن
العقوبات ،أعظم شدة ،وأطول مدة ،أم ألم النار ،وغضب الجبار؟!.
يا نفس ..من ال يطيق الصبر عن قضاء ال وطر ،كي ف يص بر ي وم الع رض
على حر سقر؟!.
يا نفس ..إياك إياك أن ترضي غير هللا وتعرضي عنه ،فإنه مانعك من الغ ير
وال يمنعك الغير من ه ،والعجب من ك كي ف ت ذنبين والش اهد علي ك المل ك الجب ار؟!
وتضحكين ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار؟!
ت ب ه،
وقال آخر( :)1يا نفس ..اس معي م ني خمس ة تنبيه ات مقاب ل م ا تف وه ِ
ت منغمسة في الجهل المركب ،سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل.. وأن ِ
عمرك أبدي؟ ..وهل عندك عه د قطعي بالبق اء الى ِ يا نفسي الشقية! ..هل أن
السنة المقبلة ،بل الى الغد؟ ..فالذي جعل ك تملين وتس أمين من الطاع ة ه و توهم ك
األبدية والخلود ،فتظهرين الدالل ،وكأنك بترفك مخلدة في هذه الدنيا.
ي ا نفس ي الش رهة! ..إن ك يومي ا ت أكلين الخ بز ،وتش ربين الم اء ،وتتنفس ين
320
شهواته)()1 يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن
ثم ذك ر بعض األمثل ة عن العقوب ات ،ودوره ا في التزكي ة والترقي ة ،فق ال:
(ومن لطائف العقوبات أن مريد هللا إذا رأى شرها في نفسه للطعام ألزمه ا بالص وم
وتقليل الطعام ،ثم يكلفها أن تهيئ األطعمة اللذيذة ويق دمها إلى غ يره وه و ال يأك ل
منها حتى يق وي ب ذلك نفس ه فيتع ود الص بر وينكس ر ش رهه ..ومث ل ذل ك إن رأى
الغضب غالبا ً عليه ألزم نفسه الحلم والسكوت ،بل سلط على نفسه من يص حبه ممن
فيه سوء خلق ،ويلزمها خدمته حتى يمرن نفسه على االحتمال معه)
ومن األمثلة التي ضربها الحكم اء على ذل ك م ا حكي عن بعض هم أن ه ك ان
يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغض ب ،فك ان يس تأجر من يش تمه على مأل
من الناس ويكلف نفسه الصبر ،ويكظم غيظه حتى صار الحلم ع ادة ل ه بحيث ك ان
يضرب به المثل.
وروي عن بعض هم ق ال :ن ذرت أني كلم ا اغتبت إنس انا أن أص وم يوم ا
فأجهدني فكنت أغتاب وأص وم ،فن ويت أني كلم ا اغتبت إنس انا أن أتص دق ب درهم
فمن حب الدراهم تركت الغيبة.
وروي عن بعضهم أنه دعاه رجل إلى طع ام ثالث م رات ،ثم ك ان ي رده ،ثم
يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك ،حتى أدخله في المرة الرابعة ،فس أله عن ذل ك .فق ال:
(ق د رض ت نفس ي على ال ذل عش رين س نة ،ح تى ص ارت بمنزل ة الكلب يط رد
فينطرد .ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود ،ولو رددتني خمسين م رة ثم دعوت ني بع د
ذلك ألجبت)
وروى عن بعض هم ك ان يستش عر في نفس ه الجبن وض عف القلب ف أراد أن
يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب األمواج.
وعن بعضهم أنه مر بغرفة فقال :متى بنيت ه ذه ؟ ثم أقب ل على نفس ه فق ال:
تسألين عما ال يعنيك ! وهللا ألعاقبنك بصوم سنة ،فصامها.
وعن بعضهم أنه قال :أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحالوة ال تي كنت
أجدها ،فأردت أن أن ام فلم أق در ،فجلس ت فلم أط ق الجل وس ،فخ رجت ف إذا رج ل
ملتف في عباءة مطروح على الطريق ،فلما أحس بي قال :يا أبا القاسم إلى الساعة،
فقلت :يا سيدي من غير موعد؟ قال :بلى سألت هللا ع ز وج ل أن يح رك إلى قلب ك،
فقلت :قد فعل فما حاجتك؟ ق ال :فم تى يص ير داء النفس دواءه ا؟ فقلت :إذا خ الفت
النفس هواها ،فأقبل على نفسه فقال :اسمعي فقد أجبتك به ذا س بع م رات ف أبيت أن
تسمعيه إال من الجنيد ها قد سمعتيه ،ثم انصرف وما عرفته.
وقال رجل لبعض الص الحين :م تى أتكلم؟ ق ال :إذا اش تهيت الص مت ،ق ال:
متى أصمت؟ قال :إذا اشتهيت الكالم.
وروي عن آخر أنه كان يطوف فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه :اص بري
)(1اإلحياء.3/5:
326
بصورة الناصح ،وهو في عالقة ع داء ت ام م ع ال وزير الناص ح ح تى ال يخل و من
منازعته ومعارضته ساعة.
ً
فإذا كان الوالي في مملكته مستغنيا في تدبـيراته بوزيره معرض ا عن إش ارة ً
هذا العبد الخبـيث ،أدبه صاحب شرطته ،وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً ل ه مس لطا ً
من جهته على هذا العبد الخبـيث وأتباع ه وأنص اره ،ح تى يص ير العب د مسوس ا ً ال
سائساً ،ومأموراً مدبَراً ال أميراً مدبِراً.
وفي هذه الحالة يستقيم أمر البلد ،وينتظم العدل بسببه.
وهكذا النفس متى اس تعانت بالعق ل ،وأدبت بحمي ة الغض ب ،وس لطتها على
الشهوة ،واستعانت بإحداهما على األخرى تارة ب أن تقل ل مرتب ة الغض ب وغلوائ ه
بمخالفة الشهوة واستدراجها ،وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتس ليط الغض ب والحمي ة
عليها وتقبـيح مقتضياتها ،اعتدلت قواها وحسنت أخالقها.
ولذلك ،فإن الذين يدعون العقالينة ويقولون للن اس( :إن ه ذه هي غرائ زكم..
فال تكبتوها )..هم في الحقيقة يرمونهم كل مرة في هاوية من البهيمية يصعب عليهم
الخروج منه ا ،ألن النفس إذا تع ودت ش يئا أدمنت علي ه ..ف إذا أدمنت ب ان له ا أن ه
األصل ..ثم يأتي هؤالء المحللون ليضموه إلى غرائز اإلنسان.
ولذلك نرى المدمنين على المخدرات كيف يش ق عليهم تركه ا ..ول و خ يروا
بين تلبية غريزة الطع ام وغري زة األفي ون الخت اروا األفي ون ..فه ل ن ترك له ؤالء
المحللين المجال ليفرضوا على اإلنسان صاحب الفطرة األصلية ما يقع فيه ض حايا
الغرائز الشاذة؟
وهذا ما يبين دور العقل السليم في التزكية ،ذلك أن ه يجع ل ص احبه ص احب
إرادة ..ال يستسلم لغرائزه ..وإنما يهذبها لتستقيم مع الفطرة السليمة..
ولذلك اعتبر القرآن الكريم الغافلين عن أنفسهم ـ الذين توحد األنا فيهم ب النفس ،فلم
يدركوا من وظائف وجودهم غير إرضاء الشهوات والغرائز ـ ناسين ألنفس هم وحقيقتهم،
اسقُونَ ( الحشر)19: تعالى﴿:وال َت ُكونُوا َكالَّ ِذينَ َنسُوا هَّللا َ َفأَ ْن َساه ُْم َأ ْنفُ َسه ُْم أُو َل ِئكَ هُ ُم ْال َف ِ
َ قال
والفاسق ه و الخ ارج عن حقيقت ه المس تغرق في ش هواته الغاف ل عن وظيف ة
وجوده ،واآلية تنبه إلى أن سر فسوقه هو نس يانه وغفلت ه عن هللا ،وفي ذل ك إش ارة
إلى أن معرفة هللا هي األساس والمنطلق ال ذي ينطل ق من ه من يري د أن ي ترقى عن
حجاب النفس.
إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن ه ال يمكن ألح د أن ي زكي
نفسه ،وهو يعزل عقله ..ذلك أنه ال سير إلى هللا ،وال إلى مقامات الس الكين إلي ه من
دون العقل ..بل إن السير في الحقيقة ليس س وى تعمي ق للعق ل ،وتوف ير للمزي د من
القابليات له.
ولهذا اعتبر هللا تعالى التفكير ـ الذي هو اآللية التي يستخدمها العق ل الس ليم ـ
وظيفة من وظائف الصالحين ،ال تختلف عن الذكر وسائر العبادات ،فقد ق ال يم دح
327
العارفين به من أولي األلباب ،ويصف موقفهم من الكون﴿ :الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هَّللا َ قِيَام ا ً
ض َربَّنَ ا َم ا َخلَ ْقتَ هَ َذا ت َواأْل َرْ ِ
اوا ِ ق َّ
الس َم َ َوقُعُوداً َو َعلَى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي َخ ْل ِ
ار﴾ (آل عمران)191: اب النَّ ِ اطالً ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ
بَ ِ
وفي الح ديث عن رس ول هللا أن ه ق ال( :على العاق ل أن يك ون ل ه ثالث
ساعات :ساعة يناجي فيها ربه ع ّز وجلّ ،فيها وساعة يحاسب فيها ّ نفس ه ،وس اعة
يتفكر فيما صنع هللا عز وجل إليه ،وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحالل)()1
وقال( :فكرة س اعة خ ير من عب ادة س نة ،وال يُن ال منزل ة التف ّك ر إال َمن ق د
خصه هللا بنور المعرفة والتوحيد)()2
وقال( :أغفل الناس من لم يتعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال)()3
وق ال( :أعط وا أعينكم حظّه ا من العب ادة ،ق الوا :وم ا حظّه ا من العب ادة ي ا
رسول هللا؟ قال :النظر في المصحف والتف ّكر فيه واالعتبار عند عجائبه)(.)4
وجاف عن الليل جنبك ،واتق هللا رب ك) ِ وقال اإلمام علي( :نبّه بالتفكر قلبك،
()5
وقال( :ما أكثر ال ِعبر ،وأق ّل
االعتبار)()6
الصادق( :أفضل العبادة ،إدمان التفكر في هللا ،وفي قدرته)()7 وقال اإلمام
أكثر عبادة أبي ذر ـ رحمة هللا عليه ـ التفكر واالعتبار)()8 وقال( :كان
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الفكر ـ كما يعرف ه الحكم اء ـ
هو (إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة)
أن اآلخ رةوكمث ال على ذل ك من م ال إلى ال دنيا وآثره ا ،وأراد أن يع رف ّ
أولى باإليثار من العاجلة ،ويقنع نفسه بذلك ،فإن له طريقان(:)9
أحــدهما :أن يس مع من غ يره أن اآلخ رة أولى باإليث ار من ال دنيا ،فيقل ده
ويص ّدقه من غير بصيرة بحقيقة األمر فيميل بعمله إلى إيث ار اآلخ رة اعتم اداً على
مجّرد قوله ،وهذا ما يسمى تقليداً ،وال يسمى معرفة.
أن اآلخ رة أبقى. أن األبقى أولى باإليث ار ،ثم يع رف ّ الثـــاني :أن يع رف ّ
فيحصل له من ه اتين المعرف تين معرف ة ثالث ة وه و أن اآلخ رة أولى باإليث ار ،وال
بأن اآلخرة أولى باإليثار إال بالمعرفتين السابقتين.يمكن تحقق المعرفة ّ
فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يس مى
330
وإدخال السرور على قلب
وهكذا يتعامل مع مث الب النفس األم ارة ،وهي اس تيالء الش هوة ،والغض ب،
والبخ ل ،والك بر ،والعجب ،والري اء والحس د ،وس وء الظن ،والغفل ة ،والغ رور،
وغيرها؛ فيتفقد من قلبه هذه الصفات ،فإن ظن أن قلبه منزه عنه ا فيتفك ر في كيفي ة
امتحانه ،واالستشهاد بالعالمات عليه ،فإن النفس أبدا تعد بالخير من نفسها وتخلف.
فإذا ا ّدعت التواضع وال براءة من الك بر فينبغي أن تج رب بحم ل حزم ة حطب في
السوق ،كما كان األولون يجربون به أنفسهم .وإذا ا ّدعت الحلم تعرض لغضب يناله
من غيره ،ثم يجربها في كظم الغيط.
ف إذا دلت العالم ة على وجوده ا فك ر في األس باب ال تي تقبح تل ك الص فات
عنده ،وتبين أن منش أها من الجه ل والغفل ة ،كم ا ل و رأى في نفس ه عجب ا بالعم ل،
فيتفكر ويقول :إنما عملي ببدني وجارحتى ،وبقدرتي وإرادتى ،وكل ذلك ليس م نى
وال إل ّي ،وإنما هو من خلق هّللا وفض له عل ّي ،فه و ال ذي خلق ني ،وخل ق ج ارحتى،
وخلق قدرتى وإرادتى ،وهو الذي حرك أعضائى بقدرته .وك ذلك ق درتى وإرادتى،
فكيف أعجب بعملي أو بنفسي ،وال أقوم لنفسي بنفس ي ف إذا أحس في نفس ه ب الكبر،
قرر على نفسه ما فيه من الحماقة ويقول لها :لم ترين نفسك أكبر؟ والكب ير من ه و
عند هّللا كبير.
وهكذا يتعامل مع منازل النفس المطمئنة ومكارمها؛ فليتفكر كل يوم في قلب ه
ما الذي يع وزه من ه ذه الص فات ال تي هي المقرب ة إلى هّللا تع الى ،ف إذا افتق ر إلى
شيء منها فليعلم أنها أحوال ال يثمرها إال علوم ،وأن العلوم ال يثمرها إال أفكار فإذا
أراد أن يكتس ب لنفس ه أح وال التوب ة والن دم ،فليفتش ذنوب ه أوال ،وليتفك ر فيه ا،
وليجمعها على نفسه ،وليعظمها في قلبه ،ثم لينظ ر في الوعي د والتش ديد ال ذي ورد
في الشرع فيها ،وليتحقق عن د نفس ه أن ه متع رض لمقت هّللا تع الى ح تى ينبعث ل ه
ح ال الن دم وإذا أراد أن يس تثير من قلب ه ح ال الش كر فلينظ ر في إحس ان هّللا إلي ه،
وأياديه عليه ،وفي إرساله جميل ستره عليه على ما شرحنا بعضه في كتاب الشكر،
فليط الع ذل ك ،وإذا أراد ح ال المحب ة والش وق فليتفك ر في جالل هّللا وجمال ه،
وعظمته ،وكبريائه ،وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه..
وهكذا يمكنه عن طريق الفكر أن يمأل نفسه بالمكارم ،ويجنبها ك ل م ا تتلبس
به من المثالب.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لهذه الوصية التي قالها إم ام من
أئمة الهدى ،وهو اإلمام موسى الكاظم ،يخاطب فيها بعض تالميذه ،وه و هش ام بن
331
الحكم( ،)1يبين له فيها دور العقل في التزكية ،فمما أوصاه قول ه له (( :)2ي ا هش ام..
لكل شيء دليل ،ودليل العاقل التف ّكر ،ودلي ل التف ّك ر الص مت ..ولك ِّل ش يء مطيّ ة،
ومطية العاقل التواضع ،وكفى بك جهالً أن تركب ما نُهيت عنه.
يا هشام ..لو كان في يدك جوزة وقال الناس :في يدك لؤل ؤة ،م ا ك ان ينفع ك
وأنت تعلم أنّها جوزة ،ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس :إنّه ا ج وزة ،م ا ض رّك
وأنت تعلم أنّها لؤلؤة....
ك آخ ذ بناص يته ،فال يتواض ع إال رفع ه هللا وال يا هشام ..ما من عبد إال ومل ٌ
يتعاظم إال وضعه هللا.
يا هشام ..من س لط ثالث ا على ثالث فكأنم ا أع ان ه واه على ه دم عقل ه :من
أظلم نور فكره بطول أمله ،ومحا طرائف حكمته بفضول كالمه ،وأطفأ نور عبرته
بشهوات نفسه ،فكأنما أعان هواه على هدم عقل ه ،ومن ه دم عقل ه أفس د علي ه دين ه
ودنياه.
يا هشام..كيف يزكو عند هللا عمل ك ،وأنت ق د ش غلت عقل ك عن أم ر رب ك،
وأطعت هواك على غلبة عقلك.
يا هشام ..الص بر على الوح دة عالم ة ق وة العق ل ،فمن عق ل عن هللا تب ارك
وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ،ورغب فيما عند ربه ،وك ان هللا آنس ه في
الوحشة وصاحبه في الوحدة ،وغناه في العيلة ،ومعزه في غير عشيرة.
يا هشام ..نص ب الخل ق لطاع ة هللا وال نج اة إال بالطاع ة ،والطاع ة ب العلم،
والعلم ب التعلم ،والتعلم بالعق ل يعتق د ،وال علم إال من ع الم رب اني ،ومعرف ة الع الم
بالعقل.
يا هش ام ..قلي ل العم ل من العاق ل مقب ول مض اعف ،وكث ير العم ل من أه ل
الهوى والجهل مردود.
يا هشام ..إن العاقل رضي بالدون من الدنيا م ع الحكم ة ،ولم ي رض بال دون
من الحكمة مع الدنيا ،فلذلك ربحت تجارتهم.
يا هشام ..إن كان يغني ك م ا يكفي ك ف أدنى م ا في ال دنيا يكفي ك ،وإن ك ان ال
يغنيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك.
يا هش ام ..إن العقالء ترك وا فض ول ال دنيا فكي ف ال ذنوب ،وت رك ال دنيا من
الفضل ،وترك الذنوب من الفرض.
يا هشام ..إن العقالء زه دوا في ال دنيا ورغب وا في اآلخ رة ،ألنهم علم وا أن
الدنيا طالبة ومطلوبة ،واآلخرة طالبة ومطلوبة ،فمن طلب اآلخرة طلبته الدنيا حتى
)( 1قال عنه العالمة الحلي بعد ذكر مولده( :روى عن أبي عبد هللا وأبي الحسن ،وكان ثقةً في الروايات ،حس نَ
التحقيق بهذا األم ِر ،ورويت م دا ِئ ُح ل ه جليل ةٌ عن اإلم امين الص ادق والك اظم ،وك ان ممن فت َ
ق الكال َم في اإلما َم ِة، ِ
ب) [ خالص ة األق وال في معرف ة الرج ال ،ص حاض َر الج وا ِ
ِ الكالم،
ِ بالنظر ،وكان حاذقًا بص نا َع ِة
ِ َب
ب المذه َ وه ََّذ َ
]288
)(2بحار األنوار ،75/316 :والتحف ص.383
332
يستوفي منها رزقه ،ومن طلب الدنيا طلبته اآلخرة فيأتيه الم وت فيفس د علي ه دني اه
وآخرته.
يا هش ام ..من أراد الغ نى بال م ال ،وراح ة القلب من الحس د ،والس المة في
الدين ،فليتضرع إلى هللا في مسألته بأن يكمل عقله ،فمن عقل قن ع بم ا يكفي ه ،ومن
قنع بما يكفيه استغنى ،ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.
يا هشام ..كان اإلمام علي يقول :ما من ش يء عب د هللا ب ه أفض ل من العق ل،
وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى:الكفر والشر من ه مأمون ان ،والرش د
والخير منه مأموالن ،وفضل ماله مبذول ،وفضل قول ه مكف وف ،نص يبه من ال دنيا
الق وت ،وال يش بع من العلم ده ره ،ال ذل أحب إلي ه م ع هللا من الع ز م ع غ يره،
والتواضع أحب إليه من الشرف ،يستكثر قليل المع روف من غ يره ،ويس تقل كث ير
المعروف من نفسه ،ويرى الناس كلهم خيرا منه وأن ه ش رهم في نفس ه ،وه و تم ام
األمر....
يا هشام ..ال تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها ،وال تمنعوها أهلها فتظلموهم.
ي ا هش ام ..ال دين لمن ال م روة ل ه ،وال م روة لمن ال عق ل ل ه ،وإن أعظم
الناس قدرا ،الذي ال يرى الدنيا لنفسه خطرا ،أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إال الجن ة،
فال تبيعوها بغيرها.
يا هشام ..إن العاقل ال يحدث من يخاف تكذيب ه ،وال يس أل من يخ اف منع ه،
وال يعد ما ال يق در علي ه ،وال يرج و م ا يعن ف برجائ ه ،وال يتق دم على م ا يخ اف
العجز عنه ،وكان اإلمام علي يوصي أصحابه يقول( :أوص يكم بالخش ية من هللا في
السر والعالنية ،والعدل في الرض ا والغض ب ،واالكتس اب في الفق ر والغ نى ،وأن
تصلوا من قطعكم ،وتعف وا عمن ظلمكم ،وتعط وا على من ح رمكم ،وليكن نظ ركم
عبرا ،وصمتكم فكرا ،وقولكم ذكرا ،وطبيعتكم السخاء ،فإنه ال ي دخل الجن ة بخي ل،
وال يدخل النار سخي)
يا هشام ..رحم هللا من استحيا من هللا حق الحياء ،فحف ظ ال رأس وم ا ح وى،
والبطن وما وعى ،وذك ر الم وت والبلى ،وعلم أن الجن ة محفوف ة بالمك اره والن ار
محفوفة بالشهوات.
يا هشام ..من كف نفسه من أعراض الناس أقاله هللا عثرته يوم القيام ة ،ومن
كف غضبه عن الناس كف هللا عنه غضبه يوم القيامة.
يا هشام ..إن العاقل ال يكذب وإن كان فيه هواه....
يا هشام..أفضل ما يتق رب ب ه العب د إلى هللا بع د المعرف ة ب ه :الص الة ،وب ر
الوالدين ،وترك الحسد والعجب والفخر....
يا هش ام ..إن ك ل الن اس يبص ر النج وم ،ولكن ال يهت دي به ا إال من يع رف
مجاريها ومنازلها ،وك ذلك أنتم تدرس ون الحكم ة ،ولكن ال يهت دي به ا منكم إال من
عمل بها.
333
يا هشام ..إن المسيح علي ه الس الم ق ال للح واريين:ي ا عبي د الس وء ..يه ولكم
طول النخلة ،وتذكرون شوكها ومؤون ة مراقيه ا ،وتنس ون طيب ثمره ا ومرافقه ا،
كذلك تذكرون مؤونة عمل اآلخرة ،فيطول عليكم أمده ،وتنسون ما تفضون إليه من
نعيمها ونورها وثمرها.
يا عبيد السوء ..نقوا القمح وطيبوه وأدقوا طحنه تجدوا طعمه ويه نئكم أكل ه،
كذلك فأخلصوا اإليمان وأكملوه تجدوا حالوته وينفعكم غبه.
بحق أقول لكم :لو وجدتم سراجا يتوقد بالقطران في ليل ة مظلم ة ،الستض أتم
به ولم يمنعكم من ه ريح نتن ه ،ك ذلك ينبغي لكم أن تأخ ذوا الحكم ة ممن وج دتموها
معه ،وال يمنعكم منه سوء رغبته فيها.
يا عبيد الدنيا ..بحق أقول لكم :ال تدركون شرف اآلخرة إال بترك ما تحبون،
فال تنظروا بالتوبة غدا ،فإن دون غد يوما وليلة ،وقضاء هللا فيهما يغدو ويروح.
بحق أقول لكم :إن من ليس عليه دين من الناس ،أروح وأق ل هم ا ممن علي ه
ال دين ،وإن أحس ن القض اء ،وك ذلك من لم يعم ل الخطيئ ة أروح هم ا ممن عم ل
الخطيئ ة ،وإن أخلص التوب ة وأن اب ،وإن ص غار ال ذنوب ومحقراته ا من مكائ د
إبليس ،يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم.
بحق أقول لكم :إن الن اس في الحكم ة رجالن :فرج ل أتقنه ا بقول ه وص دقها
بفعله ،ورج ل أتقنه ا بقول ه وض يعها بس وء فعل ه ،فش تان بينهم ا ،فط وبى للعلم اء
بالفعل ..وويل للعلماء بالقول..
ياعبيد الس وء ..اتخ ذوا مس اجد ربكم س جونا ألجس ادكم وجب اهكم ،واجعل وا
قلوبكم بيوتا للتق وى ،وال تجعل وا قل وبكم م أوى للش هوات ،إن أج زعكم عن د البالء
ألشدكم حبا للدنيا ،وإن أصبركم على البالء ألزهدكم في الدنيا.
يا عبيد السوء ..ال تكونوا شبيها بالحداء الخاطفة ،وال بالثعالب الخادع ة ،وال
بالذئاب الغادرة ،وال باألسد العاتية ،كما تفعل بالفراس ،كذلك تفعلون بالناس ،فريق ا
تخطفون ،وفريقا تخدعون ،وفريقا تغدرون بهم.
بحق أقول لكم :ال يغني عن الجسد أن يكون ظاهره ص حيحا وباطن ه فاس دا،
كذلك ال تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم ،وما يغني عنكم أن تنقوا
جلودكم وقلوبكم دنسة ،ال تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة،
كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ،ويبقى الغل في صدوركم.
يا عبيد الدنيا ..إنما مثلكم مثل السراج ،يضيء للناس ويحرق نفسه.
يا بني إسرائيل ..زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثوا على الركب ،فإن هللا
يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة ،كما يحيي األرض الميتة بوابل المطر....
يا هشام ..قلة المنط ق حك ٌم عظيم ،فعليكم بالص مت ،فإن ه دع ة حس نة ،وقل ة
وزر ،وخفة من الذنوب ،فحصنوا ب اب الحلم ف إن باب ه الص بر ،وإن هللا ع ز وج ل
يبغض الض حاك من غ ير عجب ،والمش اء إلى غ ير أرب ،ويجب على ال والي أن
334
يكون كالراعي ال يغفل عن رعيته وال يتكبر عليهم ،فاستحيوا من هللا في س رائركم
كما تستحيون من الناس في عالنيتكم ،واعلموا أن الكلمة من الحكمة ضالة المؤمن،
فعليكم بالعلم قبل أن يرفع ،ورفعه :غيبة عالمكم بين أظهركم.
ي ا هش ام ..تعلم من العلم م ا جهلت ،وعلم الجاه ل مم ا علمت ،وعظم الع الم
لعلمه ،ودع منازعته ،وصغر الجاهل لجهله وال تطرده ،ولكن قربه وعلمه....
ي ا هش ام ..ق ال هللا ج ل وع ز :وع زتي وجاللي وعظم تي وق درتي وبه ائي
وعلوي في مكاني ..ال يؤثر عبد هواي على هواه إال جعلت الغنى في نفس ه ،وهم ه
في آخرته ،وكففت عليه ضيعته ،وضمنت السماوات واألرض رزقه ،وكنت له من
وراء تجارة كل تاجر.
يا هشام ..الغضب مفتاح الش ر ،وأكم ل المؤم نين إيمان ا أحس نهم خلق ا ،وإن
خالطت الناس فإن استطعت أن ال تخالط أح دا منهم إال من ك انت ي دك علي ه العلي ا
فافعل....
إلى آخر وصيته العظيمة الممتلئة بالحكم؛ فاحرص على حفظها ،والعمل بم ا
فيها؛ فقد صدرت من تلمي ذ من تالمي ذ النب وة ،ووارث من ورثته ا ..وال يمكن ك أن
تسلك طريق الهداية ،وأنت تخالف من جعلهم هللا تعالى معالم وأنوارا لها.
الفكر والترقية:
أما دور الفكر في الترقية ـ أيها المريد الصادق ـ فق د س بق لي الح ديث عن ه
في رس ائل كث يرة ل ك ..ذل ك أن ك ل أح اديثي عن ال ذكر وق راءة الق رآن الك ريم
والص الة الخاش عة وغيره ا ..ال يمكن أن تتم بعي دا عن العق ل والت دبر والتفك ر
والتذكر.
ذلك أن تلك األلفاظ واألفعال التي تقوم بها أثناء أدائ ك لتل ك العب ادات ليس ت
سوى أواني ال تملؤها إال المعاني التي يدل عليها التفكير فيما تقوله أو تفعله.
وقد شرح اإلمام الصادق كيفية الفك ر ،ودوره في الترقي ة ،وذل ك في جواب ه
لمن سأله عن قوله ( :تفكر ساعة خير من قيام ليلة) ،وكيفية التفكر ،فقال( :يم ر
بانوك ؟!..ما لك ال تتكلمين؟!)1().
ِ ساكنوك ؟ ..وأين
ِ بالخربة أو بالدار ،فيقول :أين
ق ّ
وقال( :اعتبروا بما مضى من الدنيا ،هل بقى على أح د ؟ ..أو ه ل فيه ا ب ا ٍ
من الشريف ،والوضيع ،والغ ني ،والفق ير ،وال ولي ،والع دو ؟ ..فك ذلك م ا لم ي أت
منها بما مضى أشبه من الم اء بالم اء ،ق ال رس ول هللا ( :كفى ب الموت واعظ ا،
وبالعقل دليال ،وبالتقوى زادا ،وبالعبادة شغال ،وباهلل مؤنساً ،وبالقرآن بياناً)()2
وقيل لإلمام الكاظم( :عظني وأوجز ،فكتب إليه( :ما من شيء تراه عين ك إال
وفيه موعظة)()3
وقال اإلمام الرضا( :ليس العبادة كثرة الصيام والصالة ،وإنم ا العب ادة ك ثرة
)(1الكافي .2/54
)(2مصباح الشريعة ص.20
)(3أمالي الصدوق ص.305
335
هللا)()4 التفكر في أمر
إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن الفك ر المرتب ط بالترقي ة،
يشمل كل شيء؛ فك ل م ا في الك ون دلي ل على هللا ،وق د ق ال بعض الحكم اء ي ذكر
ذلك( :اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى هللا تعالى فهو فعل هللا وخلقه .وك ل ذرة
من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف ففيها عجائب وغرائب تظهر بها
حكمة هللا وقدرته ،وجالله وعظمته .وإحصاء ذلك غير ممكن ،ألنه ل و ك ان البح ر
مدادا لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره)
ثم ذكر مجامع ذلك ،فقال( :الموج ودات المخلوق ة منقس مة إلى م ا ال يع رف
أص لها فال يمكنن ا التفك ر فيه ا ،وكم من الموج ودات ال تي ال نعلمه ا ،كم ا ق ال هللا
ق اأْل َ ْز َو َ
اج ُكلَّهَ ا ق َما اَل تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [النحل ،]8 :وقالُ ﴿ :س ْب َحانَ الَّ ِذي خَ لَ َ ﴿ويَ ْخلُ ُ
تعالىَ :
ت اأْل رْ ضُ َو ِم ْن أ ْنفُ ِس ِه ْم َو ِم َّما اَل يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [يس ،]36 :وإلى ما يعرف أص لها َ َ ِم َّما تُ ْنبِ ُ
وجملتها وال يعرف تفصيلها ،فيمكننا أن نتفكر في تفص يلها ..وهي منقس مة إلى م ا
أدركن اه بحس البص ر ،وإلى م ا ال ندرك ه بالبص ر ،أم ا ال ذي ال ندرك ه بالبص ر
فكالمالئكة ،والجن ،والشياطين ،والعرش ،والكرسي ،وغير ذلك ،ومجال الفكر في
هذه األشياء مما يضيق ويغمض ،فلنع دل إلى األق رب إلى األفه ام وهي الم دركات
بحس البصر ،وذلك هو السموات السبع ،واألرض ،وما بينهما .فالسماوات مش اهدة
بكواكبها ،وشمسها ،وقمرها ،وحركتها ،ودورانها في طلوعها وغروبها ..واألرض
مشاهدة بما فيها من جبالها ،ومعادنها ،وأنهارها ،وبحارها ،وحيوانها ،ونباتها ..وما
بين السماء واألرض وهو الج و م درك بغيومه ا ،وأمطاره ا ،وثلوجه ا ،ورع دها،
وبرقها ،صواعقها ،وشهبها ،وعواصف رياحه ا .فه ذه هي األجن اس المش اهدة من
السموات واألرض وما بينهما)
ثم ذكر وجه التفك ير فيه ا ،وال ترقي من خالل ه؛ فق ال( :وجمي ع ذل ك مج ال
الفكر فال تتحرك ذرة في السموات واألرض من جماد ،وال نب ات ،وال حي وان ،وال
فلك ،وال كوكب ،إال وهّللا تعالى هو محركها ،وفي حركته ا حكم ة ،أو حكمت ان ،أو
عش ر ،أو أل ف حكم ة ،ك ل ذل ك ش اهد هَّلل تع الى بالوحداني ة ،ودال على جالل ه
وكبريائه)
وهذا هو التفكير السليم ـ أيها المريد الصادق ـ وه و ال ذي أش ار إلي ه الق رآن
الكريم ،بل دعا إليه ،واعتبر أنه الوس يلة ال تي يس تخدمها أول و األلب اب لل ترقي في
ارف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ اختِالَ ِ ت َواألَرْ ِ
ض َو ْ اوا ِ ق َّ
الس َم َ معارج العرف ان ،فق ال﴿ :إِ َّن فِي َخ ْل ِ
الس َماء ِمن َّماء فَأَحْ يَ ا اس َو َما أَنزَ َل هّللا ُ ِمنَ َّ ك الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َما يَنفَ ُع النَّ َ َو ْالفُ ْل ِ
ب ْال ُم َس ِّخ ِر
الس َحا ِ اح َو َّ يف الرِّ يَ ِ
َص ِر ِ ث فِيهَا ِمن ُكلِّ دَابَّ ٍة َوت ْ ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َوبَ َّ بِ ِه األرْ َ
ُ
ت لقوْ ٍم يَ ْعقِلونَ ﴾ (البقرة)164 : َ ِّ ض آليَا ٍ َ
بَ ْينَ ال َّس َماء َواألرْ ِ
ُ ْ هَّلِل َ ُ
وقال﴿ :قُلْ إِنَّ َما أ ِعظكم بِ َوا ِح َد ٍة أن تَقو ُموا ِ َمثنَى َوف َرادَى ث َّم تَتَفكرُوا﴾ (س بأ:
َّ َ ُ ُ ُ َ
)(1ابن أبي حاتم في تفس يره ( ،)12111والط براني في المعجم األوس ط ( ،)6319وأب و الش يخ في العظم ة (
)1/210
)(2قوام السنة في الترغيب والترهيب ()670
337
االعتبار واالستبصار
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن االعتب ار واالستبص ار الل ذين
ورد ذكرهما وال دعوة إليهم ا في النص وص المقدس ة ،وعالقتهم ا ب الفكر والتأم ل،
وعالقتهما بالتزكية والترقية.
وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن االعتب ار واالستبص ار آلت ان من
اآلالت التي يستعملها الفكر في التعرف على الحقائق والقيم ،وسلوكها نتيجة لذلك.
ودورهما ال يكتفي ب التعرف على حق ائق األش ياء ،وإنم ا يتع داه إلى ته ذيب
النفس وتزكيتها وتحقيقها ب القيم الرفيع ة ال تي ت تيح له ا ال ترقي في م راتب الكم ال
المهيأة لها.
واالفتقار إلى هاتين اآللتين يجعل اإلنس ان يم ر بالتج ارب المختلف ة ،وي رى
بعينيه كل أصناف اآليات ،ثم ال يع بر منه ا إلى الرس ائل المنطوي ة داخله ا؛ فيعمى
عن الحق ،بعد أن أتيح له أن يبصره بعينيه.
ولذلك فإن االعتب ار واالستبص ار هم ا الل ذان يمكن ان النفس من العب ور من
الظواهر إلى البواطن ..ومن الحروف إلى المعاني ..ومن السطحية في التعام ل م ع
األشياء إلى العمق ..وبذلك يتحول العابر إلى بصير باألشياء ،وليس مجرد ص احب
علم بها.
ولذلك ورد في النصوص المقدسة الدعوة إلى االعتبار ،وفي كل شيء ..ذلك
أن هلل تعالى في كل شيء رسائل يرسلها إلى عب اده ،ليعرف وه من خالله ا ،ول يزكوا
أنفسهم ويطهروها.
َ ُ ٌ َ َ َ َ ْ َ َ ٌ ُ َ َ ْ َ
ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى﴿ :قد كانَ لك ْم آيَة فِي فِئتي ِْن التقت ا فِئ ة تقاتِ ُل
ي ْال َع ْي ِن َوهَّللا ُ يُؤَ يِّ ُد بِنَصْ ِر ِه َم ْن يَ َشا ُء إِ َّن فِي َسبِي ِل هَّللا ِ َوأُ ْخ َرى َكافِ َرةٌ يَ َروْ نَهُ ْم ِم ْثلَ ْي ِه ْم َر ْأ َ
ار﴾ [آل عم ران]13 :؛ فه ذه اآلي ة الكريم ة ت دعو ك ل ْص ِ ك لَ ِعب َْرةً أِل ُولِي اأْل َب َفِي َذلِ َ
الناس ،وليس المعاصرين لرسول هللا فقط ،إلى تحليل ما حصل في غزوة ب در،
وكي ف نص ر هللا تع الى المؤم نين م ع قلتهم وض عفهم وظ روفهم الص عبة ..ح تى
يستفيدوا من ذلك الكثير من المعارف ،ابتداء من معرفتهم بالنبوة ،وانتهاء بمعرفتهم
لسنن النصر وأسراره.
ُ ُ ً َ ْ َ أْل
﴿وإِ َّن لك ْم فِي ا ن َع ِام ل ِع ْب َرة ن ْس قِيك ْم ِم َّما فِي ُ َ ومن األمثل ة عنه ا قول ه تع الىَ :
ت الن ِخي ِلَّ َ
اربِينَ (َ )66و ِم ْن ث َم َرا ِ َّ ً
ص ا َس ائِغا لِلش ِ ث َود ٍَم لَبَنً ا خَالِ ً بُطُونِ ِه ِم ْن بَي ِْن فَ رْ ٍ
ب تَتَّ ِخ ُذونَ ِم ْنهُ َس َكرًا َو ِر ْزقًا َح َس نًا إِ َّن فِي َذلِ كَ آَل يَ ةً لِقَ وْ ٍم يَ ْعقِلُ ونَ ﴾ [النح ل: َواأْل َ ْعنَا ِ
،]67 ،66فهات ان اآليت ان الكريمت ان تنبه ان العق ل إلى البحث عن اآلي ات ال تي
تحملها هذه النعم اإللهية العظيمة ،وهل يمكن أن توجد من غير موج د ،أو يمكن أن
يوجدها غير العليم القدير الرحيم ..وغيرها من األسماء الحسنى التي تدل عليها تلك
اآليات.
338
وبناء على هذا؛ فإن المراد من االعتبار واالستبصار في النصوص المقدسة،
هو (النّظر في حقائق األشياء ،وجهات داللتها ليعرف ب النّظر فيه ا ش يء آخ ر من
جنسها) ()1
وبناء على طلبك ـ أيها المريد الص ادق ـ فسأش رح ل ك دورهم ا في التزكي ة
والترقية.
االعتبار والتزكية:
أما دورهما في التزكية ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فق د ورد في الدالل ة عليه ا
الكثير من النصوص المقدسة التي تدعو العقول والبصائر إلى االعتبار بم ا حص ل
لألمم السابقة ،وكيف أداهم عجبهم وغ رورهم وك برهم إلى ذل ك الهالك ال ذي وق ع
بهم.
ومن األمثل ة على ذل ك قول ه تع الى في ال دعوة إلى االعتب ار بم ا حص ل
ب لفرعون ،بعد أن بلغ ب ه اس تبداده وك بره إلى ادع اء األلوهي ة ،ق ال تع الى﴿ :فَ َك َّذ َ
َصى ( )21ثُ َّم أَ ْدبَ َر يَ ْس َعى ( )22فَ َح َش َر فَنَادَى ( )23فَقَا َل أَنَ ا َربُّ ُك ُم اأْل َ ْعلَى ()24 َوع َ
ال اآْل ِخ َر ِة َواأْل ولَى ( )25إِ َّن فِي َذلِ كَ لَ ِع ْب َرةً لِ َم ْن يَ ْخ َش ى﴾ [النازع ات: ُ فَأ َ َخ َذهُ هَّللا ُ نَ َك َ
]26 - 21
وهكذا يدعو القرآن الكريم الذين ظلموا أنفسهم بهج رهم للح ق ،واس تكبارهم
عليه ،إلى االعتبار بما حصل للقرون ال تي قبلهم ،ق ال تع الى﴿ :أَلَ ْم يَ َروْ ْا َك ْم أَ ْهلَ ْكنَ ا
ض َما لَ ْم نُ َم ِّكن لَّ ُك ْم َوأَرْ َس ْلنَا ال َّس َماء َعلَ ْي ِهم ِّم ْد َراراً ِمن قَ ْبلِ ِهم ِّمن قَرْ ٍن َّم َّكنَّاهُ ْم فِي األَرْ ِ
ْ
ار تَجْ ِري ِمن تَحْ تِ ِه ْم فَأ َ ْهلَ ْكنَاهُم بِ ُذنُوبِ ِه ْم َوأَ ْن َشأنَا ِمن بَ ْع ِد ِه ْم قَرْ ن ا ً آخَ ِرينَ ﴾ َو َج َع ْلنَا األَ ْنهَ َ
[األنعام]6:
ت َو َم ا وا َو َجاء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَ ا ِ وقالَ ﴿ :ولَقَ ْد أَ ْهلَ ْكنَا ْالقُرُونَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َّما ظَلَ ُم ْ
ض ِمن ك نَجْ ِزي ْالقَوْ َم ْال ُمجْ ِر ِمينَ ﴿ ﴾13ثُ َّم َج َع ْلنَا ُك ْم خَ الَئِفَ فِي األَرْ ِ وا َك َذلِ َ وا لِي ُْؤ ِمنُ ْ
َكانُ ْ
بَ ْع ِد ِهم لِنَنظُ َر َك ْيفَ تَ ْع َملُونَ ﴾ [يونس]14-13:
وقالَ ﴿ :و َكأَيِّن ِّمن قَرْ يَ ٍة ِه َي أَ َش ُّد قُ َّوةً ِّمن قَرْ يَتِ كَ الَّتِي أَ ْخ َر َج ْت كَ أَ ْهلَ ْكنَ اهُ ْم فَاَل
َاص َر لَهُ ْم﴾ [محمد]13: ن ِ
ويضرب لهم النماذج على ذلك ،ومنها ما ورد في قوله تعالى﴿ :أَلَ ْم يَ أْتِ ِه ْم نَبَ أ ُ
تب َم ْديَنَ َو ْال ُم ْؤتَفِ َك ا ِ ص َحا ِ وح َو َع ا ٍد َوثَ ُم و َد َوقَ وْ ِم إِ ْب َرا ِهي َم ِوأَ ْ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم قَوْ ِم نُ ٍ
ظلِ ُمونَ ﴾ [التوبة]70: وا أَنفُ َسهُ ْم يَ ْظلِ َمهُ ْم َولَـ ِكن َكانُ ْ ت فَ َما َكانَ هّللا ُ لِيَ ْأَتَ ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَا ِ
ُ ْ
وح َو َع ا ٍد ومنها ما ورد في قول ه تع الى﴿:أَلَ ْم يَ أتِ ُك ْم نَبَ أ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم قَ وْ ِم نُ ٍ
وا أَ ْي ِديَهُ ْم فِي ت فَ َر ُّد ْ َوثَ ُمو َد َوالَّ ِذينَ ِمن بَ ْع ِد ِه ْم الَ يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِالَّ هّللا ُ َجاء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَ ا ِ
ب﴿﴾9 وا إِنَّا َكفَرْ نَ ا بِ َم ا أُرْ ِس ْلتُم بِ ِه َوإِنَّا لَفِي َش كٍّ ِّم َّما تَ ْدعُونَنَا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ أَ ْف َوا ِه ِه ْم َوقَالُ ْ
ض يَ ْدعُو ُك ْم لِيَ ْغفِ َر لَ ُكم ِّمن ُذنُ وبِ ُك ْم ت َواألَرْ ِ اوا ِ ك فَا ِط ِر َّ
الس َم َ ت ُر ُسلُهُ ْم أَفِي هّللا ِ َش ٌّ قَالَ ْ
َص ُّدونَا َع َّما َك انَ وا إِ ْن أَنتُ ْم إِالَّ بَ َش ٌر ِّم ْثلُنَا تُ ِري ُدونَ أَن ت ُ َويُؤَ ِّخ َر ُك ْم إِلَى أَ َج ٍل ُّم َسـ ّمًى قَالُ ْ
345
ض َولَ ْم يَ ْع َي بِخَ ْلقِ ِه َّن بِقَ ا ِد ٍر
ت َواأْل َرْ َ
اوا ِ قوله تعالى﴿:أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي َخلَ َ
ق ال َّس َم َ
َعلَى أَ ْن يُحْ يِ َي ْال َموْ تَى بَلَى إِنَّهُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾ (االحقاف)33:
وهذه النظرة لسطور المكونات تكسبها من الجم ال م ا ال يكس بها أي وص ف
بشري ،فال مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل ،فيحزن ل ذبولها
بقدر ما سره تفتحها ،وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف هللا ورحمته وجماله.
وشبه بعض الحكماء عبور المؤمن للكون الحسي الذي يستوي في النظر إليه
الع ارف والغاف ل ،ب النظر إلى الم رآة ،فهي من حيث أنه ا زجاج ة ،ن رى مادته ا
الزجاجية ،وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا ،بينما إن كان القصد من النظ ر
الى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها ،فالصورة تتوضح أمامن ا بينم ا يبقى زج اج
المرآة أمراً ثانوياً.
وقد وضع اصطالحين لذلك ،ليوض ح من خالله ا النظ رة القرآني ة العرفاني ة
للكون ،استفادهما من اصطالحات النحويين هما (المعنى االسمي للك ون ،والمع نى
الحرفي له ،فاالس م م ا دل على مع نى في نفس ه ،أم ا الح رف فه و ال ذي :د ّل على
معنى في غيره)
والنظرة القرآنية اإليمانية إلى الموجودات تجعله ا جميع ا حروف اً ،تعبّ ر عن
مع نى في غيره ا ،وه ذا المع نى ه و تجلي ات االس ماء الحس نى والص فات الجليل ة
للخالق العظيم المتجلية على الموجودات.
وله ذا اتف ق الحكم اء على أن حق ائق األش ياء ،إنم ا هي األس ماء اإللهي ة
الحسنى ،أما ماهية األشياء فهي ظالل تلك الحقائق ..وقد قال بعضهم مخاطبا ً بعض
مريديه يوصيه(:حدد بصر اإليمان تج د هللا تع الى في ك ل ش يء ،وعن د ك ل ش ئ،
وقبل كل شئ ،وبعد كل شئ ،وفوق كل شئ ،وتحت كل شيء ،قريبا ً من ك ل ش ئ،
ومحيط ا ً بك ل ش ئ ،بق رب ه و وص فه ،وبحيط ة هي نعت ه ،وع د عن الظرفي ة
والح دود ،وعن األم اكن والجه ات ،وعن الص حبة والق رب في المس افات ،وعن
الدور بالمخلوقات ،وامح ق الك ل بوص فه األول واآلخ ر والظ اهر والب اطن ،وه و
هو ..كان هللا وال شئ معه ،وهو اآلن على ما عليه كان)
وألهمية هذا النوع من القراءة الكونية ،ولعالقته الوثيقة باإليم ان ،ب ل ب أرفع
درجات اإليمان يثني القرآن الكريم على المؤمنين ال ذين أمض وا حي اتهم في ق راءة
رسائل هللا إليهم عبر مكوناته.
وأول ه ؤالء ،وعلى رأس هم أولئ ك ال ذين يع بر عنهم الق رآن الك ريم ب أولي
األلباب ،وهم الذين خرجوا من ظواهر المكونات إلى بواطنها ،ولم تحجبهم الصور
المزخرفة للمكونات عن الحروف المسجلة فيها.
ولعل أعظم وصف قرآني لهم ه و م ا ورد في أواخ ر س ورة آل عم ران من
ت أِل ُولِي ار آَل ي ا ٍ الف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ
اختِ ِ ض َو ْ ت َواأْل َرْ ِ ق ال َّس َم َ
اوا ِ قوله تعالى﴿:إِ َّن فِي َخ ْل ِ
ق ال َّس َما َوا ِ
ت ب الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هَّللا َ قِيَاما ً َوقُعُوداً َو َعلَى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ اأْل َ ْلبَا ِ
346
ار﴾ (آل عمران)191: اب النَّ ِ ض َربَّنَا َما َخلَ ْقتَ هَ َذا بَا ِطالً ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ َواأْل َرْ ِ
وفي هذه اآليات برهان جلي على األثر الذي تتركه القراءة اإليمانية لحروف
المكونات ،فالقرآن الكريم قدم الفكر على الذكر ،وقدم القراءة على التسبيح ،ثم ذك ر
أن أول ما يقوله هؤالء العارفون ،أو أول ما يقرؤون ه ه و أن ه ذا الخل ق العظيم لم
يخلق عبثا.
َ هَّللا َ َ
ومن اآليات المتحدث ة عن ه ذا الص نف قول ه تع الى﴿:ألَ ْم تَ َر أ َّن َ أ ْن َز َل ِمنَ
ض ثُ َّم ي ُْخ ِر ُج بِ ِه زَرْ عا ً ُم ْختَلِفا ً أَ ْل َوانُهُ ثُ َّم يَ ِهي ُج فَتَ َراهُ ال َّس َما ِء َما ًء فَ َسلَ َكهُ يَنَابِي َع فِي اأْل َرْ ِ
ب﴾ (الزمر)21: ُمصْ فَ ّراً ثُ َّم يَجْ َعلُهُ ُحطَاما ً إِ َّن فِي َذلِكَ لَ ِذ ْك َرى أِل ُولِي اأْل َ ْلبَا ِ
ونالح ظ هن ا ك ذلك أن ه ؤالء الع ارفين ال يقتص رون على النظ ر إلى
المكونات ،بل يبحثون في حركاتها وسكناتها وعجيب ما يحدث له ا من التح والت،
ليتعرفوا من خالل ذلك على هللا.
ويلي هؤالء ـ الذين تعمق وا في معرف ة هللا نتيج ة تعمقهم في معرف ة الك ون ـ
أصحاب العقول الراجحة ال ذين يم دون أبص ارهم لتأم ل جمي ع المكون ات في ال بر
ف اختِاَل ِ ض َو ْ ت َواأْل َرْ ِ ق َّ
الس َما َوا ِ والبحر والسماء واألرض ،قال تع الى﴿:إِ َّن فِي خَ ْل ِ
الس َما ِء اس َو َم ا أَن زَ َل هَّللا ُ ِم ْن َّ ك الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َما يَنفَ ُع النَّ َ ار َو ْالفُ ْل ِ
اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ
اح
يف الرِّ يَ ِ َص ِر ِ ث فِيهَ ا ِم ْن ُك لِّ دَابَّ ٍة َوت ْ ض بَ ْع َد َموْ تِهَ ا َوبَ َّ ِم ْن َم ا ٍء فَأَحْ يَ ا بِ ِه اأْل َرْ َ
ت لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ ﴾ (البقرة)164: ض آَل يَا ٍب ْال ُم َس َّخ ِر بَ ْينَ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ َوال َّس َحا ِ
ونالحظ في هذه اآلية الكريمة التفصيل في ذكر أنواع المكونات ،ثم اإلخب ار
بأن ه ذه اآلي ات خاص ة بال ذين يعقل ون ،وفي ذل ك إش ارة إلى الفري ق الث اني ممن
يستفيدون من آيات هللا ،وهم ال ذين يس تعملون عق ولهم في االس تدالل على الخ الق،
وقد مث ل ه ؤالء علم اء التوحي د والكالم ،بخالف اآلي ات الس ابقة ال تي ع برت عن
العقل باللب.
ومث ل ه ذه اآلي ة م ا ورد من تفاص يل ق د ال ي درك أكثره ا إال العلم اء
الى﴿:وفِي
َ المختص ون ،والمع بر عنهم في الق رآن الك ريم بال ذين يعقل ون ،ق ال تع
ص ن َوا ٍن ْ ان َو َغ ْي ُر ِ ص ْن َو ٌع َونَ ِخي ٌل ِ ب َوزَرْ ٌ ات ِم ْن أَ ْعنَا ٍ ات َو َجنَّ ٌاو َر ٌض قِطَ ٌع ُمتَ َج ِ اأْل َرْ ِ
ت لِقَ وْ ٍم ك آَل ي ا ٍ ْض فِي اأْل ُ ُك ِل إِ َّن فِي َذلِ َ ْض هَا َعلَى بَع ٍ ض ُل بَع َ ي ُْس قَى بِ َم ا ٍء َوا ِح ٍد َونُفَ ِّ
يَ ْعقِلُونَ ﴾ (الرعد)4:
ومن األصناف القارئة لكتاب الكون ص نف المفك رين ،وهم ال ذين يمزج ون
عنهم﴿:وهُ َو َ بين الرؤى المختلفة للكون ليستنتجوا منها المعارف اإللهية ،قال تع الى
ت َج َع َل فِيهَ ا زَ وْ َجي ِْن ض َو َج َع َل فِيهَا َر َوا ِس َي َوأَ ْنهَارًا َو ِم ْن ُك لِّ الثَّ َم َرا ِ الَّ ِذي َم َّد اأْل َرْ َ
ت لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ (( ﴾)3الرعد)3 : ْاثنَ ْي ِن يُ ْغ ِشي اللَّ ْي َل النَّهَا َر إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يَا ٍ
ومن األصناف القارئ ة لكت اب الك ون أص حاب الح واس المرهف ة ،أو ال ذين
شفت حواسهم لتدرك ما يختزن الظ اهر من حق ائق الب اطن ،ق ال تع الى﴿:هُ َو الَّ ِذي
ت لِقَ وْ ٍم يَ ْس َمعُونَ (﴾)67 ْصرًا إِ َّن فِي َذلِ كَ آَل يَ ا ٍ ار ُمب ِ َج َع َل لَ ُك ْم اللَّي َْل لِتَ ْس ُكنُوا فِي ِه َوالنَّهَ َ
347
(يونس)67 :
ق ْ
ومن األصناف القارئ ة لكت اب الك ون العلم اء ،ق ال تع الىَ ﴿:و ِم ْن آيَاتِ ِه خَ ل ُ
ت لِ ْل َعالِ ِمينَ ﴾ (ال روم: اختِالفُ أَ ْل ِسنَتِ ُك ْم َوأَ ْل َوانِ ُك ْم إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يا ٍ ض َو ْ ت َواأْل َرْ ِ اوا ِ ال َّس َم َ
)22
الكون﴿:و ِمنَ
َ وقد قصر الخشية من هللا على هؤالء ،قال تعالى بعد تعداد آيات
ف أَ ْل َوانُهُ َك َذلِكَ إِنَّ َما يَ ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن ِعبَا ِد ِه ال ُعلَ َما ُء إِ َّن َ
هَّللا ْ اس َوال َّد َوابِّ َواأْل َ ْن َع ِام ُم ْختَلِ ٌ النَّ ِ
َزي ٌز َغفُورٌ﴾ (فاطر)28: ع ِ
َ َّ
ومن األصناف القارئة لكتاب الكون المؤمنون ،قال تع الىَ ﴿:وهُ َو ال ِذي أ ْن زَ َل
خَض راً نُ ْخ ِر ُج ِم ْن هُ َحبّ ا ً ِ ِمنَ ال َّس َما ِء َما ًء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه نَبَاتَ ُك ِّل َش ْي ٍء فَأ َ ْخ َرجْ نَ ا ِم ْن هُ
ب َوال َّز ْيتُ ونَ َوالرُّ َّمانَ ت ِم ْن أَ ْعنَ ا ٍ ان دَانِيَ ةٌ َو َجنَّا ٍ ُمت ََرا ِكبا ً َو ِمنَ النَّ ْخ ِل ِم ْن طَ ْل ِعهَ ا قِ ْن َو ٌ
ت لِقَ وْ ٍم ُم ْش تَبِها ً َو َغ ْي َر ُمت ََش ابِ ٍه ا ْنظُ رُوا إِلَى ثَ َم ِر ِه إِ َذا أَ ْث َم َر َويَ ْن ِع ِه إِ َّن فِي َذلِ ُك ْم آَل ي ا ٍ
ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ (األنعام)99:
ومن هذه األصناف القارئة المنيبون والمتقون ،ق ال تع الى﴿:هُ َو الَّ ِذي يُ ِري ُك ْم
آيَاتِ ِه َويُنَ ِّز ُل لَ ُك ْم ِمنَ ال َّس َما ِء ِر ْزقا ً َو َما يَتَ َذ َّك ُر إِاَّل َم ْن يُنِيبُ ﴾ (غافر)13:
الش ْمسُ الى﴿:و ِم ْن آيَاتِ ِه اللَّ ْي ُل َوالنَّهَ ا ُر َو َّ َ ومنهم العابدون الموح دون ،ق ال تع
اس ُجدُوا هَّلِل ِ الَّ ِذي خَ لَقَه َُّن إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾ س َوال لِ ْلقَ َم ِر َو ْ َو ْالقَ َم ُر ال تَ ْس ُجدُوا لِل َّش ْم ِ
(فصلت)37:
تعالى﴿:و ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َج َع َل لَ ُك ُم اللَّ ْي َل َوالنَّهَ ا َر َ ومنهم الشاكرون الحامدون ،قال
لِتَ ْس ُكنُوا فِي ِه َولِتَ ْبتَ ُغوا ِم ْن فَضْ لِ ِه َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (القصص)73:
وقد يجمع القرآن الكريم بين هذه األصناف في نسق واحد ،كما ورد في قول ه
ُث ِم ْن دَابَّ ٍة ت لِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ (َ )3وفِي خَ ْلقِ ُك ْم َو َما يَب ُّ ض آَل يَا ٍت َواأْل َرْ ِ تعالى﴿:إِ َّن فِي ال َّس َما َوا ِ
قالس َما ِء ِم ْن ِر ْز ٍ ار َو َم ا أَن زَ َل هَّللا ُ ِم ْن َّ ف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ اختِاَل ِ ات لِقَوْ ٍم يُوقِنُ ونَ (َ )4و ْ آيَ ٌ
ات لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ (( ﴾)5الجاثـية) اح آيَ ٌ يف الرِّ يَ ِض بَ ْع َد َموْ تِهَا َوتَصْ ِر ِ فَأَحْ يَا بِ ِه اأْل َرْ َ
ونرى أن التأمل والتعمق في فواصل هذه اآليات يكش ف عن مع ارف جليل ة
ترتبط بهذه األصناف ،ونوع المكونات التي تتأملها ،وطريقة تأملها ،وه و تص نيف
أساسي له عالقة كبيرة بالسلوك ،وقد نتحدث عنه في المناسبات المرتبطة به.
ُ
اق َوفِي أنف ِس ِه ْم ْ َ ولهذه األصناف جميعا ورد قوله تعالىَ ﴿:سنُ ِري ِه ْم آيَاتِنَا فِي اآْل فَ ِ
ف بِ َربِّكَ أَنَّهُ َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ (فص لت،)53: ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْال َح ُّ
فهذه اآليات موجهة لهؤالء ،أو هي بعب ارة أخ رى موجه ة لجمي ع الن اس ،ولكن ال
يستفيد منها غير هؤالء.
أم ا غ يرهم من المعرض ين عن آي ات هللا ال ذين يقص رون نظ رهم على
شهواتهم ،فال يرون في الك ون غ ير س وق لتغذي ة ه ذه الش هوات ،ف القرآن الك ريم
الس َما َء َس ْقفا ً َمحْ فُوظ ا ً َوهُ ْم ع َْن يضعهم في صنف المعرضين ،قال تعالىَ ﴿:و َج َع ْلنَ ا َّ
تاوا ِ الس َم َ الى﴿:و َك أَي ِّْن ِم ْن آيَ ٍة فِي َّ َ ض ونَ ﴾ (االنبي اء ،)32:وق ال تع ْر ُ آيَاتِهَ ا ُمع ِ
348
ْرضُونَ ﴾ (يوسف)105: َواأْل َرْ ِ
ض يَ ُمرُّ ونَ َعلَ ْيهَا َوهُ ْم َع ْنهَا ُمع ِ
وهؤالء هم األميون في عالم الحقائق ،وإن قرأو جميع حروف العالم ،وحللوا
جميع لغاته ،فالعجب كل العجب ـ كما يقول بعض الحكماء ـ ممن يرى خط ا ً حس نا ً
أو نقشا ً حسنا ً على حائ ط فيستحس نه ،فيص رف جمي ع هم ه إلى التفك ر في النق اش
والخطاط وأنه كيف نقشه وخطه وكي ف اقت در علي ه وال ي زال يس تعظمه في نفس ه
ويقول :ما أحذقه وما أكمل ص نعته وأحس ن قدرت ه ثم ينظ ر إلى ه ذه العج ائب في
نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومص ّوره فال تدهشه عظمته وال يح يره جالل ه
وحكمته؟)()1
هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الص ادق ـ فاس ع ألن تعم ل بم ا فيه ا؛
حتى يؤدي عقلك وظائف ه ال تي كل ف به ا ،وال تي هي في طاقت ه ..وال تكن كأولئ ك
الذين يسدون كل منافذ الحقيقة عن بصائرهم ،ثم يتهمون هللا تعالى بأنه لم يجعل في
كونه من اآليات ما يهديهم إليه.
351
المقدسة التي تدل على دور الرغبة والطمع في التزكية والترقية.
الرغبة والتزكية:
أم ا دور الرغب ة في فض ل هللا تع الى في التزكي ة؛ في دل علي ه م ا ورد في
النص وص المقدس ة الكث يرة من ال ترغيب في التحلي ب األخالق الطيب ة ،وت رك م ا
ينافيها ،والوعد على ذلك الترك بنيل فضل هللا تعالى.
ومن أمثلتها قوله في الدعوة لمجموعة من األخالق الطيبة( :اض منوا لي
إذا ح ّدثتم وأوف وا إذا وع دتم وأ ّدوا إذا س تّا من أنفس كم أض من لكم الجنّ ة :اص دقوا ّ
اؤتمنتم واحفظوا فروجكم وغضّوا أبصاركم وكفّوا أيديكم) ()1
ومنها قوله في الدعوة للتوحي د( :من م ات ال يش رك باهلل ش يئًا دخ ل الجن ة،
ومن مات ال يشرك باهلل شيئًا دخل الجنة ،ومن مات يشرك باهلل شيئًا دخل النار)()2
ومنها قوله في الدعوة لكفال ة الي تيم ،وال ترغيب فيه ا( :أن ا وكاف ل الي تيم في
الجنة هكذا) ،وأشار بأصبعيه :السبابة والوسطى وفرج بينهما(.)3
ومنها قوله في الدعوة لخدمة المجتمع وإبعاد كل ما يؤذي ه( :لق د رأيت رجالً
يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق ،كانت تؤذي الناس)()4
ومنها قوله في الدعوة للعفاف وطهارة اللسان( :من يضمن لي ما بين لحييه،
وما بين رجليه ،أضمن له الجنة)()5
ومنها قوله في الدعوة لترك الغضب( :ال تغضب ولك الجنة)()6
ومنها قوله في ال دعوة ل ترك العق وق ،والتحلي ب البر( :الوال د أَوْ َس طُ أب واب
ض ْع ذلك الباب أو احفظه)( ،)7وقوله عن األم لمن سأله ،فقال :يا الجنة ،فإن شئت فَأ ِ
رسول هللا أردت الغزو وجئتك استشيرك؟ فقال( :هل ل ك من أم؟) ق ال :نعم ،فق ال:
(الزمها ،فإن الجنة عند رجلها)()8
ومنها قوله في الدعوة للصبر والرضا بقضاء هللا( :يقول هللا تعالى :ما لعبدي
الم ؤمن عن دي ج زاء إذا قبض ت ص فيه من أه ل ال دنيا ،ثم احتس به إال الجن ة)(،)9
وقول ه( :إذا م ات ول د العب د ق ال هللا لمالئكت ه :قبض تم ول د عب دي؟ فيقول ون :نعم،
فيقول :قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون :نعم ،فيقول :ماذا قال عب دي؟ فيقول ون :حم دك
ع ،فيقول هللا :ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة ،وسموه :بيت الحمد)()10 وا ْستَرْ َج َ
ومنها قوله في التنفير من الكبر والغلول وال دين( :من م ات وه و ب ريء من
)(1أحمد في المسند ( ،)323 /5وابن حبان رقم ( ،)271والحاكم في المستدرك ()359 /4
)(2رواه مسلم (رقم ()93
)(3رواه البخاري (رقم )5304
)(4رواه مسلم (رقم )1914
)(5رواه البخاري (رقم ()6474
)(6رواه الطبراني في األوسط (رقم ( )2374وأبو يعلي في المسند (رقم ()1593
)(7رواه الترمذي (رقم )1900وابن حبان (رقم )2023والحاكم ()4/152
)(8رواه أحمد ( )3/429والحاكم ()4/151
)(9رواه البخاري (رقم )6424
)(10رواه الترمذي (رقم ()1021
352
الكبر وال ُغلُول وال َّديْن دخل الجنة)(.)1
ومنه ا قول ه في التنف ير من الفرق ة وال دعوة إلى الوح دة( :عليكم بالجماع ة،
وإياكم والفرقة ،فإن الشيطان م ع الواح د ،وه و من االث نين أبع د ،من أراد بحبوب ة
الجنة ،فليلزم الجماعة)(.)2
ومنه ا قول ه في ال دعوة للتع ايش م ع المجتم ع بحس ب م ا تقض يه األخالق
الطيبة ،والسلوك االجتماعي الراقي( :من أحب أن يزحزح عن النار وي دخل الجن ة
فلتأته منيته وهو يؤمن باهلل والي وم اآلخ ر ،ولي أت إلى الن اس ال ذي يُحب أن يُ ؤتى
إليه)(.)3
ومنها قوله في الدعوة لزيارة المرضى( :من عاد مريضًا أو زار أ ًخ ا ل ه في
هللا ،ناداه مناد :أن طبت وطاب ممشاك ،وتب َّوأت من الجنة منزالً)(.)4
ومنها قوله في الدعوة للتقوى وحسن الخلق ،والتنفير مما يضادها( :أك ثر م ا
ي دخل الن اس الجن ة :تق وى هللا وحس ن الخل ق ،وأك ثر م ا ي دخل الن اس الن ار :الفَم
والفَرْ ج)()5
وغيره ا من األح اديث الكث يرة ال تي ت رغب في تطه ير النفس وتزكيته ا
وتحليتها بكل القيم الطيبة ،والوعد على ذلك بدخول الجنة.
الرغبة والترقية:
أم ا دور الرغب ة في فض ل هللا تع الى في الترقي ة؛ في دل علي ه م ا ورد في
النصوص المقدسة الكثيرة من الترغيب في األعم ال الص الحة المرتبط ة به ا ،كم ا
ت أُولَئِكَ أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ قال تعالىَ ﴿ :والَّ ِذينَ آَ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ
[البقرة]82 :
ك ُ ُ
ت ِم ْن َذ َك ٍر أَوْ أ ْنثَى َوهُ َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأولَئِ َ َّ
الص الِ َحا ِ وق الَ ﴿ :و َم ْن يَ ْع َم لْ ِمنَ
ُظلَ ُمونَ نَقِيرًا﴾ [النساء.]124 : يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َواَل ي ْ
ت لَنُبَ ِّوئَنَّهُ ْم ِمنَ ْال َجنَّ ِة ُغ َرفً ا تَجْ ِري ِم ْن وقالَ ﴿ :والَّ ِذينَ آَ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ
تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا نِ ْع َم أَجْ ُر ْال َعا ِملِينَ ﴾ [العنكبوت]58 :
ص َحابُ ت َوأَ ْخبَتُ وا إِلَى َربِّ ِه ْم أُولَئِ َ
ك أَ ْ وقال﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ آَ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ
ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [هود]23 :
وقال﴿ :الَّ ِذينَ تَتَ َوفَّاهُ ُم ْال َماَل ئِ َك ةُ طَيِّبِينَ يَقُولُ ونَ َس اَل ٌم َعلَ ْي ُك ُم ا ْد ُخلُ وا ْال َجنَّةَ بِ َم ا
ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [النحل]32 :
ص الِحًا فَأُولَئِ كَ يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َواَل ي ْ
ُظلَ ُم ونَ َاب َوآَ َمنَ َو َع ِم َل َ وقال﴿ :إِاَّل َم ْن ت َ
َش ْيئًا﴾ [مريم.]60 :
)(1رواه الترمذي (رقم )1572وابن ماجه (رقم )2412وابن حبان في صحيحه (رقم )198والحاكم ()2/26
)(2رواه الترمذي (رقم ()2165
)(3رواه مسلم (رقم )1844
)(4رواه الترمذي (رقم )2008
)(5رواه الترمذي (رقم )2004
353
ض نَتَبَ َّوأُ ِمنَ ْال َجنَّ ِة
ص َدقَنَا َو ْع َدهُ َوأَوْ َرثَنَ ا اأْل َرْ َوقالَ ﴿ :وقَالُوا ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َ
ْث نَ َشا ُء فَنِ ْع َم أَجْ ُر ْال َعا ِملِينَ ﴾ [الزمر]74 : َحي ُ
ور ْثتُ ُموهَا بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [الزخرف]72 : ُ
ك ْال َجنَّةُ الَّتِي أ ِ وقالَ ﴿ :وتِ ْل َ
ث ِم ْن ِعبَا ِدنَا َم ْن َكانَ تَقِيًّا﴾ [مريم]63 : ك ْال َجنَّةُ الَّتِي نُ ِ
ور ُ وقال﴿ :تِ ْل َ
وغيره ا من اآلي ات الكث يرة ال تي تعت بر العم ل الص الح ش رطا من ش روط
دخول الجنة ،وهو يطلق على كل المك ارم ال تي تتحلى به ا النفس المطمئن ة ،س واء
كان القصد منها الترقي في درجات التحقق ،أو درجات التخلق.
أما األحاديث الواردة عن رسول هللا في ذل ك ،فهي كث يرة ج دا ،فال نك اد
نجد عمال صالحا إال وله الجزاء الخاص به؛ فقد ك ان رس ول هللا يم ارس دوره
التربوي في هذه األمة من خالل التبشير واإلنذار الذي اعتبره هللا تعالى من وظائفه
المكملة والمساعدة على وظيفة التزكية.
هدت من الن بي ُ ومن األمثلة على ذلك ما حدث بعض أصحابه عن ه ،ق ال :ش
مجلسًا وصفَ فيه الجنَّة ح تى انتهى ،ثم ق ال في آخ ر حديث ه( :فيه ا م ا ال ٌ
عين
ت ،وال أُ ُذ ٌن س ِم َعت ،وال خط ر على قلب بش ر) ثم ق رأ﴿ :تَت ََج افَى ُجنُ وبُهُ ْم َع ِن رأَ ْ
اج ِع يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم خَ وْ فًا َوطَ َم ًع ا َو ِم َّما َرزَ ْقنَ اهُ ْم يُ ْنفِقُ ونَ ( )16فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َم ا ض ِ ْال َم َ
زا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [السجدة1 )]17 ،16 :
( )
أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن قُ َّر ِة أَ ْعي ٍُن َج َ
فهذا الحديث يبين منهج رسول هللا في التزكية ،وتوظيف ه لنعيم الجن ة في
ترغيب المؤمنين في األعمال الصالحة.
ومن األمثلة على تلك األعمال الصالحة التي له ا دوره ا في الترقي ة ،وال تي
كان رسول هللا يرغب في الجنة حين الدعوة إليها ،ما ورد في قول ه في ال دعوة
لتعميق الحقائق اإليمانية في النفس( :من شهد أن ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه،
وأن محمدًا عبده ورس وله ،وأن عيس ى عب د هللا ورس وله وكلمت ه ألقاه ا إلى م ريم
وروح منه ،والجنة حق ،والنار حق أدخله هللا الجنة على ما كان من العمل)()2
ومثله ما روي أن رجال ج اء إلى الن بي ،فق ال :دل ني على عم ل أعمل ه،
ي دنيني من الجن ة ،ويباع دني من الن ار ق ال( :تعب د هللا ال تش رك ب ه ش يئًا ،وتقيم
الصالة ،وتؤتي الزكاة ،وتصل ذا رحمك) فلما أدبر ،قال رسول هللا ( :إن تمسك
بما أمر به دخل الجنة)()3
ومثله ما ورد في الدعوة لقراءة القرآن الكريم أو بعض آياته وس وره ،كقول ه
( :من قرأ آية الكرسي في دبر كل صالة مكتوبة ،لم يمنع ه من دخ ول الجن ة إال
أن يموت)()4
وقوله( :سورة من القرآن ما هي إال ثالثون آية ،خاصمت عن صاحبها ح تى
)(1البخاري ( ،)6/230و( ،)8/396ومسلم ()2824
)(2رواه البخاري (رقم )3435ومسلم (رقم )28
)(3رواه مسلم (رقم )13
)(4رواه النسائي في سننه الكبرى (رقم )9848
354
تبارك)()1أدخلته الجنة ،وهي سورة
وقول ه( :الق رآن ش افع مش فع ،وماح ل مص دق ،ومن جعل ه أمام ه ق اده إلى
الجنة ،ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)()2
ومثله ما ورد في الدعوة للسجود ،كقوله ( :إذا قرأ ابن آدم السجدة فس جد،
اع تزل الش يطان يبكي ،يق ول :ي ا ويلي ،أُم ر ابن آدم بالس جود فس جد فل ه الجن ة،
وأمرت بالسجود فأبيت ،فلي النار)()3
ومثله ما ورد في الدعوة للطهارة وإسباغها ،كقول ه ( :م ا منكم من مس لم
يتوضَّأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ،ثم يقول :أشهد أن ال إله إال هللا ،وحده ال شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ،إال فتحت له أبواب الجن ة الثماني ة ،ي دخل من أيه ا
شاء)()4
ومثله ما ورد في الدعوة لالس تغفار ،كقول ه ( :س يد االس تغفار أن يق ول:
اللهم أنت ربي ال إل ه إال أنت ،خلقت ني وأن ا عب دك ،وأن ا على عه دك ووع دك م ا
ي ،وأب وء ل ك ب ذنبي، استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ،أب وء ل ك بنعمت ك عل َّ
فاغفر لي فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت .من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه
قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ،ومن قالها من الليل وهو موقن به ا فم ات قب ل أن
يصبح فهو من أهل الجنة)()5
ومثله ما ورد في الدعوة لبعض األذكار ،كقول ه ( :خص لتان أو خلت ان ال
يحافظ عليهما عبد مسلم إال دخل الجنة ،هما يسير ،ومن يعمل بهما قليل ،يس بح في
دبر كل صالة عشرًا ويحمد عشرًا ،ويك بر عش رًا ،ف ذلك خمس ون ومائ ة باللس ان،
وألف وخمس مائة في الميزان ،ويكبر أربعًا وثالثين إذا أخذ مضجعه ،ويحمد ثالثً ا
وثالثين ،ويسبح ثالثًا وثالثين ،فذلك مائة باللسان وألف في الميزان) ()6
ومثله م ا ورد في ال دعوة ل ذكر هللا في مح ال الغفل ة ،كقول ه ( :من دخ ل
السوق فقال :ال إله إال هللا وحده ال ش ريك ل ه ،ل ه المل ك ول ه الحم د ،يح يى ويميت
وهو حي ال يموت ،بيده الخير ،وه و على ك ل ش يء ق دير ،كتب هللا ل ه أل ف أل ف
حسنة ،ومحا عنه ألف ألف سيئة ،وبنى له بيتًا في الجنة)()7
ومثله ما ورد في الدعوة لطلب العلم ،كقوله ( :من سلك طريقًا يلتمس فيه
عل ًما سهل هللا له به طريقًا في الجنة)()8
ومثل ه م ا ورد في ال ترغيب األذان ،كقول ه ( :من أذن ثن تي عش رة س نة
)(1قال الهيثمي في مجمع الزوائد ( :)7/127رواه الطبراني في الصغير واألوسط ورجاله رجال الصحيح.
)(2رواه ابن حبان (رقم )167والطبراني في الكبير ( 9/132رقم 10/198( ،)8655رقم )10450
)(3رواه مسلم (رقم)81 :
)(4رواه مسلم (رقم)234 :
)(5رواه البخاري (رقم )6306
)(6رواه أبو داود (رقم ( )5065والنسائي (رقم ( )1347والترمذي (رقم )3410
)(7رواه الترمذي (رقم )3429-3428والحاكم ()539-1/538
)(8رواه مسلم (رقم ()2699
355
وجبت له الجنة ،وكتب له بتأذين ه في ك ل ي وم س تون حس نة ،وبك ل إقام ة ثالث ون
حسنة)()1
ومثله ما ورد في الدعوة للصالة ،كقوله ( :من صلى البردين دخل الجنة)
()2
وقوله( :خمس صلوات كتبهن هللا على العباد ،فمن ج اء بهن لم يض يع منهن
شيئًا استخفافًا بحقهن ،كان له عند هللا عهد أن يدخله الجن ة ،ومن لم ي أت بهن فليس
له عند هللا عهد ،إن شاء عذبه ،وإن شاء أدخله الجنة)()3
وقوله( :ما من مسلم يتوضأ فيُحْ ِسنُ ُوضُو َءهُ ،ثم يقوم ،فيصلي ركعتينُ ،م ْقبِ ٌل
عليهما بقلبه ووجهه ،إال وجبت له الجنة)()4
وقوله( :ما من عبد مسلم يصلي هلل كل يوم ثن تي عش رة ركع ة تطو ًع ا غ ير
فريضة ،إال بنى هللا له بيتًا في الجنة)()5
ومثله ما ورد في الدعوة لبعض القيم الروحية واالجتماعي ة ،كقول ه ( :ي ا
وصلُّوا باللي ل والن اسوصلُوا األرحامَ ، أيها الناس أفشوا السالم ،وأطعموا الطعامِ ،
نيام ،تدخلوا الجنة بسالم)()6
ومثله ما ورد في الدعوة للص يام وال ترغيب في ه ،كقول ه ( :إن في الجن ة
بابًا ،يقال له :الريان ،يدخل منه الصائمون يوم القيامة ،ال ي دخل من ه أح د غ يرهم،
يقال :أين الصائمون؟ فيقومون ،ال ي دخل من ه أح د غ يرهم ،ف إذا دخل وا أُغل ق ،فلم
يدخل منه أحد)()7
ومثل ه م ا ورد في ال دعوة للحج والعم رة ،كقول ه ( :العم رة إلى العم رة
كفارة لما بينهما ،والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة)()8
ومثله ما ورد في الدعوة للجهاد في سبيل هللا ،كقول ه ( :مث ل المجاه د في
سبيل هللا وهللا أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائمَ ،وت ََو َّك َل هللا للمجاهد في
سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سال ًما مع أجر أو غنيمة)()9
وغيره ا من األح اديث الكث يرة ال تي يق ترن فيه ا العم ل الص الح بالفض ل
اإللهي ،ولوال تأثير ذلك الترغيب في النفس ،ومس اهمته في تزكيته ا وترقيته ا ،م ا
استعمله رسول هللا .
)(1رواه ابن ماجه (رقم )728وال بيهقي في س ننه الك برى ( )1/433والط براني في الكب ير (رقم ( )345وفي
األوسط (رقم ()8728
)(2رواه البخاري (رقم )574ومسلم (رقم )635
)(3رواه أب و داود (رقم ( )1420وابن ماج ه (رقم ( )1401وابن حب ان (رقم )1729وأحم د ()5/315
والبيهقي ()1/361
)(4رواه مسلم (رقم )234
)(5رواه مسلم (رقم )728
)(6رواه الترمذي (رقم ( )2485وابن ماجه ()3251
)(7رواه البخاري (رقم ( )1896ومسلم (رقم ()1152
)(8رواه البخاري (رقم )1773ومسلم (رقم )1349
)(9رواه البخاري (رقم )2787ومسلم (رقم )1876
356
فلذلك احذر ـ أيها المريد الصادق ـ من أولئك ال ذين يس خرون من مث ل ه ذا،
وهم في نفس الوقت قد يتصارعون على فتات الدنيا القليل.
والعجب ممن يزهد في جنة هللا التي هي دار أنبيائه وأوليائ ه في نفس ال وقت
الذي يتكالب فيه على الدنيا ،ويتوهم أنه من العارفين الحكماء.
357
الرهبة والخشية
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرهبة والخشية ،ودورهم ا في
التزكية والترقية ،وعن أولئ ك ال ذين غلب عليهم اإلرج اء ،فص اروا يس خرون من
كل من يحذر من ع ذاب هللا بحج ة أن ه ال يع رف رحم ة هللا الواس عة ،وأن الع ذاب
ليس سوى عذوبة ،وأن الوعيد ليس سوى مجرد تهديد ..ورحمة هللا ستشمل الجميع
المسيء والمصلح.
وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن ه ؤالء ال ذين ي ذكرون ه ذا هم
ْس بِأ َ َم انِيِّ ُك ْم َوال أَ َم انِ ِّي أَ ْه ِل ْال ِكتَ ا ِ
ب أصحاب األماني الذين ذكرهم هللا تعالى في قوله﴿ :لَّي َ
َمن يَ ْع َملْ سُو ًءا يُجْ زَ بِ ِه َوالَ يَ ِج ْد لَهُ ِمن دُو ِن هّللا ِ َولِيًّا َوالَ ن ِ
َصيرًا﴾ [النساء]123:
فهم قد رسموا في أذهانهم صورة لربهم ،ال يدل عليها الواقع ،وال النص وص
المقدسة ،وال أنبي اء هللا ورس له ،وال أئم ة اله دى وورث ة النب وة ،وإنم ا ت دل عليه ا
رغباتهم ال تي تمتلئ به ا نفوس هم ..فل ذلك أت احوا له ا أن تض رب الحق ائق بعض ها
ببعض ،فتتوهم أن الرحمة تتنافى مع العدالة أو مع العقوبة ال تي وض عها هللا تع الى
لمن يستحقونها.
ولذلك هم عبيد األه واء واألوه ام ،وليس وا عبي د هللا ال ذي عرفن ا بنفس ه من
خالل كتبه ورسله وورثتهم الصادقين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا.
وقد قال رسول هللا ،وهو أعرف العارفين باهلل ،وبرحمته الواسعة :ـ (إنِّي
ق له ا أن تئ ط ،م ا إن الس ماء أطت ،وح َّ أرى ما ال ت َرون ،وأسمع ما ال تس معونَّ ،
فيها موضع أربع أصابع إال وملك واضع جبهته ساجدًا هلل ،وهللا لو تعلمون م ا أعلم
لض حكتم قليالً ولبكيتم كث يرًا ،وم ا تل َّذذتم بالنس اء على الف رش ،ولخ رجتم إلى
الصعدات تجأرون إلى هللا) ()1
فه ل ك ان رس ول هللا غ افال عن رحم ة رب ه الواس عة حين نط ق به ذه
الكلمات؟ أم أنه كان يعرفها ،ويعرف أن رحمة هللا ال تتناقض م ع ع دل هللا ..وإنم ا
صيبُ بِ ِه َم ْن هي رحمة خاصة بمن توفرت فيه شروطها ،كما قال تعالىَ ﴿ :ع َذابِي أُ ِ
ت ُك َّل َش ْي ٍء فَ َس أ َ ْكتُبُهَا لِلَّ ِذينَ يَتَّقُ ونَ َوي ُْؤتُ ونَ ال َّز َك اةَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم
أَ َشا ُء َو َرحْ َمتِي َو ِس َع ْ
بِآيَاتِنَا ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ [األعراف]156 :
فهل من األدب بعد هذا أن نفرض إرادتنا على هللا ،ونلزمه ب أن ي رحم من لم
يستحق الرحمة بسبب تجاوزه للحدود والسنن التي أمر بعدم تجاوزها؟
وهكذا ـ أيها المريد الص ادق ـ إن رحت تت دبر الق رآن الك ريم ،وفي وص فه
لعباد هللا الصالحين ،ستجده مليئا بذكر رهبتهم وخشيتهم من هللا وعذابه ،وهي رهبة
حقيقية ،وليست تمثيال ..ولو كانوا يعلمون أن الوعيد ليس سوى تهديد ال حقيق ة ل ه،
ما فعلوا ذلك.
)(1رواه الترمذي وقال :حديث حسن.
358
ولذلك؛ فإن الذين ينشرون مثل تلك األفكار ،يح اربون من حيث ال يش عرون
وظيفة اإلنذار التي اعتبرها هللا تعالى من وظائف رس له الك رام عليهم الس الم ،فق د
ث هَّللا ُ النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّش ِرينَ َو ُم ْن ِذ ِرينَ ﴾ (البق رة: اح َدةً فَبَ َع َق ال تع الىَ ﴿:ك انَ النَّاسُ أُ َّمةً َو ِ
اس َعلَى هَّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد الرُّ ُس ِل ،)213وقالُ ﴿:ر ُسالً ُمبَ ِّش ِرينَ َو ُم ْن ِذ ِرينَ لِئَاَّل يَ ُك ونَ لِلنَّ ِ
َ
وح ِم ْن أ ْم ِر ِه َعلَى َزيزاً َح ِكيماً﴾ (النساء ،)165:وقال﴿:يُن َِّز ُل ْال َمالئِ َكةَ بِالرُّ ِ َو َكانَ هَّللا ُ ع ِ
ون﴾ (النحل)2: َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه أَ ْن أَ ْن ِذرُوا أَنَّهُ ال إِلَهَ إِاَّل أَنَا فَاتَّقُ ِ
وأخبر عن ن وح علي ه الس الم أن ه ق ال لقوم ه﴿:أَ َو َع ِج ْبتُ ْم أَ ْن َج ا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن
َربِّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم لِيُ ْن ِذ َر ُك ْم َولِتَتَّقُوا َولَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُمونَ ﴾ (ألعراف)63:
وأخبر عن هود عليه السالم أنه قال لقومه﴿:أَ َوع َِج ْبتُ ْم أَ ْن َجا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن َربِّ ُك ْم
وح َوزَا َد ُك ْم فِي َعلَى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم لِيُ ْن ِذ َر ُك ْم َو ْاذ ُك رُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَ ا َء ِم ْن بَ ْع ِد قَ وْ ِم نُ ٍ
ق بَ ْسطَةً فَ ْاذ ُكرُوا آال َء هَّللا ِ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ (ألعراف)69: ْالخَ ْل ِ
ي هَ َذا وأخبر أن من مقاصد ن زول الق رآن الك ريم اإلن ذار ،فق الَ ﴿:وأُ ِ
وح َي إِلَ َّ
قص ِّد ُ ك ُم َ وقال﴿:وهَ َذا ِكتَابٌ أَ ْن َز ْلنَاهُ ُمبَا َر ٌ
َ ْالقُرْ آنُ أِل ُ ْن ِذ َر ُك ْم بِ ِه َو َم ْن بَلَغَ﴾ (األنعام،)19:
الَّ ِذي بَ ْينَ يَ َد ْي ِه َولِتُ ْن ِذ َر أُ َّم ْالقُ َرى َو َم ْن َحوْ لَهَا﴾ (األنعام ،)92:وقالِ ﴿:كتَ ابٌ أُ ْن ِز َل إِلَ ْي كَ
ك َح َر ٌج ِم ْنهُ لِتُ ْن ِذ َر بِ ِه َو ِذ ْك َرى لِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (ألعراف ،)2 :وقال﴿:هَ َذا ص ْد ِر َ فَال يَ ُك ْن فِي َ
ُ
اح ٌد َولِيَ َّذ َّك َر أولُو اأْل َ ْلبَ ا ِ
اس َولِيُ ْن َذرُوا بِ ِه َولِيَ ْعلَ ُموا أَنَّ َما ه َُو إِلَهٌ َو ِ بَال ٌ
ب﴾ (اب راهيم: غ لِلنَّ ِ
)52
وهكذا اعتبر من وظائف العلماء وورثة الرسل عليهم الس الم اإلن ذار ،فق ال:
﴿ َو َما َكانَ ْال ُم ْؤ ِمنُونَ لِيَ ْنفِ رُوا َكافَّةً فَلَ وْ ال نَفَ َر ِم ْن ُك لِّ فِرْ قَ ٍة ِم ْنهُ ْم طَائِفَ ةٌ لِيَتَفَقَّهُ وا فِي
الدِّي ِن َولِيُ ْن ِذرُوا قَوْ َمهُ ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَ ْي ِه ْم لَ َعلَّهُ ْم يَحْ َذرُونَ ﴾ (التوبة)122:
وهذا ال يعني ـ أيها المريد الصادق ـ االقتصار على اإلنذار دون التبش ير ،أو
على نشر الرهبة دون الرغب ة؛ ف ذلك انح راف ال يق ل عن االنح راف ال ذي ينش ره
أصحاب األماني ..ذل ك أن هللا تع الى ذك ر كال األم رين ،واالقتص ار على أح دهما
تحريف لكلماته المقدسة.
ولهذا يقرن هللا تعالى ذكر الجنة بذكر الن ار ..وذك ر الرحم ة ب ذكر العدال ة..
حتى تستقيم النف وس من خالل زرع الرغب ة والرهب ة فيه ا ،كم ا ق ال تع الى﴿ :نَبِّئْ
ِعبَا ِدي أَنِّي أَنَا ْال َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم َوأَ َّن َع َذابِي ه َُو ْال َع َذابُ اأْل َلِي ُم﴾ (الحج ر ،)50:وقول ه:
ص يرُ﴾ ب ِذي الطَّوْ ِل ال إِلَ هَ إِاَّل هُ َو إِلَ ْي ِه ْال َم ِ ب َش ِدي ِد ْال ِعقَ ا ِ ب َوقَابِ ِل التَّوْ ِ ﴿ َغ افِ ِر ال َّذ ْن ِ
(غافر)3:
َ َ
وقال في الدعوة إلعمال العقل في المقارنة بين أهل النار وأهل الجن ة﴿ :أف َمن
ار خَ ْي ٌر أَم َّمن يَأْتِي آ ِمنًا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة﴾[فصلت ،]40 :وقالَ ﴿ :ولَهُ ْم فِيهَا ِمن ي ُْلقَى فِي النَّ ِ
ار﴾[محم د ،]15 :وق ال: ت َو َم ْغفِ َرةٌ ِّمن َّربِّ ِه ْم َك َم ْن هُ َو خَالِ ٌد فِي النَّ ِ ُك لِّ الثَّ َم َرا ِ
َاوينَ ﴾[الشعراء.]91 - 90 : ت ْال َج ِحي ُم لِ ْلغ ِ ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َوبُ ِّرزَ ِ ﴿ َوأُ ْزلِفَ ِ
وغيرها من اآليات الكثيرة ،ومثلها من أحاديث رسول هللا وأئمة اله دى..
359
ولذلك فإن العارف الحقيقي باهلل ه و ال ذي يجم ع بين المعرف تين ..وال داعي إلى هللا
على بصيرة هو الذي يستعمل كال الوسيلتين.
أما التالعب بالكلمات ،وت وهم أن الع ذاب ليس س وى عذوب ة ،فه ل يمكن أن
ُوا لَ وْ أَ َّن ينطبق على قوله تعالى في وصف حال أه ل الن ار وألمهم﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَ ر ْ
ب يَ وْ ِم ْالقِيَا َم ِة َم ا تُقُب َِّل ِم ْنهُ ْم ض َج ِميعًا َو ِم ْثلَهُ َم َعهُ لِيَ ْفتَد ْ
ُوا بِ ِه ِم ْن َع َذا ِ لَهُم َّما فِي األَرْ ِ
ار ِجينَ ِم ْنهَ ا َولَهُ ْم َع َذابٌ ار َو َم ا هُم بِ َخ ِ وا ِمنَ النَّ ِ يري ُدونَ أَن يَ ْخ ُر ُج ْ َولَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم ِ
ُّمقِي ٌم﴾ [المائ دة ،]37-36:فه ل يمكن لمن ي نزل فن دقا ممتلئ ا بالعذوب ة أن يطلب
مغادرته؟
يع ال ي ُْس ِمنُ َوال ض ِر ٍ ْس لَهُ ْم طَ َعا ٌم إِالَّ ِمن َ َّ
وقال تعالى في وصف طعامهم﴿ :لي َ
ُوع﴾ [الغاشية ،]7-6:فهل هذا وصف لعذاب أم لنعمة؟ وهل هو وص ف يُ ْغنِي ِمن ج ٍ
لسجن ممتلئ بزنزانات التعذيب ،أم هو وصف لفنادق ممتلئة باللذة والعذوبة؟
وقال تعالى في وصف آالمهم وصياحهم وعذابهم﴿ :إِنا أَ ْعتَ ْدنَا لِلظ الِ ِمينَ نَ ارًا
الش َرابُ س َّ أَ َحاطَ بِ ِه ْم ُس َرا ِدقُهَا َوإِن يَ ْستَ ِغيثُوا يُغَاثُوا بِ َم اء َك ْال ُم ْه ِل يَ ْش ِوي ْال ُو ُج وهَ بِ ْئ َ
اءت ُمرْ تَفَقً ا﴾ [الكه ف ،]29:فه ل يمكن لمن ن زل الفن ادق الممتلئ ة بالعذوب ة أن َو َس ْ
يندم أو يطلب الخروج منها؟
إذا عرفت هذا ـ أيها المري د الص ادق ـ فاس مع لم ا س أحدثك ب ه مم ا ذكرت ه
النصوص المقدسة في دور الرهبة والخشية في التزكية والترقية.
الرهبة والتزكية:
أما دور الرهبة والخشية في التزكية؛ فه و ظ اهر للعق ول المج ردة البس يطة
ال تي تتف ق على أن تط بيق الق وانين ال يمكن أن يتم بص ورة س ليمة م ا لم يوض ع
بجانبها قوانين خاصة بالعقوبات المرتبطة بالجرائم المختلفة.
وهذا ليس مرتبطا بقوانين الدنيا فقط ،وإنما هو قانون عام يش مل ك ل ش يء،
وقد قال بعض الحكماء ي ذكر دوره في التزكي ة( :إذا س كن الخ وف القل وب أح رق
مواضع الشهوات منها ،وطرد الدنيا عنها)
وعبر آخر عن ذلك ،فقال(:ما فارق الخوف قلبا إال خرب)
وعبر عنه آخر ،فقال(:الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف ،فإذا زال
عنهم الخوف ضلوا عن الطريق)
وهو ما دلت عليه النصوص المقدسة الكثيرة التي تعت بر الخ وف المتول د من
اإلنذار سوطا يضرب به الس الك نفس ه ح تى يق اوم االنح راف ،ويق وم االعوج اج،
ويصحح السلوك.
ومن تلك النصوص قوله تعالى ،وهو يدعو رسول هللا أن ين ذر الك افرين
أو المقصرين بما أع د هللا تع الى لهم من عقوب ات على انح رافهمَ ﴿:وأَ ْن ِذرْ بِ ِه الَّ ِذينَ
ْس لَهُ ْم ِم ْن دُونِ ِه َولِ ٌّي َوال َش فِي ٌع لَ َعلَّهُ ْم يَتَّقُ ونَ ﴾ يَ َخ افُونَ أَ ْن يُحْ َش رُوا إِلَى َربِّ ِه ْم لَي َ
(األنعام ،)51:فقد اعتبرت اآلية الكريمة اإلنذار وسيلة من وسائل تحصيل التق وى،
360
وأسلوبا من األساليب الداعية إليها.
ومن األمثلة على ذلك تلك النصوص ال تي تح ذر من القت ل ،وك ل م ا ي ؤدي
ب هَّللا ُ َض َ إليه ،كقوله تعالىَ ﴿ :و َم ْن يَ ْقتُلْ ُم ْؤ ِمنً ا ُمتَ َع ِّمدًا فَ َج زَا ُؤهُ َجهَنَّ ُم خَالِ دًا فِيهَ ا َوغ ِ
َعلَ ْي ِه َولَ َعنَهُ َوأَ َع َّد لَهُ َع َذابًا َع ِظي ًما﴾ [النساء]93 :
ومثله ما ورد من األحاديث كقوله (:أول ما يقضي بين الناس ي وم القيام ة
في الدماء)( ،)1وقوله( :لزوال الدنيا أهول عند هّللا من قتل رج ل مس لم)( ،)2وقول ه:
(من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي هللا يوم القيام ة مكت وب بين عيني ه :آئس
من رحمة هللا)()3
ف إن ه ذه النص وص الترهيبي ة وحدهاكافي ة في ردع أي نفس خبيث ة ق د ال
يردعها القصاص نفسه ،ذلك أننا نجد في الواقع من يقول مه ددا(:س أقتله ول و قتلت
به) ،ألن القوة الغضبية ـ كالقوة الش هوانية ـ ال يعقله ا إال ال ترهيب العظيم المنش ئ
للخوف في النفس من هللا من غضبه وعقابه.
ولهذا ذكر هللا تعالى نموذج المؤمن الذي ض حى بنفس ه خوف ا من هللا ،وك ان
أقواهما قوة كما يذكر المفسرون ،ولكن خوفه من هللا منعه من أن يبس ط ي ده ألخي ه
ك ي يَ َد َ ليقتله ،قال تعالى ذاكرا سر توقف أحد ابني آدم عن قتل أخيه﴿:لَئِ ْن بَ َس ْ
طتَ إِلَ َّ
ك إِنِّي أَخَافُ هَّللا َ َربَّ ْال َعالَ ِمينَ إِنِّي أُ ِري ُد أَ ْن تَبُ و َء ك أِل َ ْقتُلَ َ
ي إِلَ ْي َاس ٍط يَ ِد َلِتَ ْقتُلَنِي َما أَنَا بِبَ ِ
ار َو َذلِكَ َجزَ ا ُء الظَّالِ ِمينَ ﴾ (المائدة 28:ـ )29 ب النَّ ِ ك فَتَ ُكونَ ِم ْن أَصْ َحا ِ بإِ ْث ِمي َوإِ ْث ِم َ
ولهذا نج د النص وص المقدس ة تس تعمل ه ذه الوس يلة في النهي عن الرذائ ل
صغارها وكبارها؛ وهو ما يدل على دور ذلك في التزكية.
﴿واتَّقُ ْ
وا ومن األمثلة على ذلك ما ورد من الترهيب من الكفر ،كما قال تعالىَ :
ت لِ ْل َكافِ ِرينَ ﴾ [آل عمران]131 : ار الَّتِي أُ ِع َّد ْ النَّ َ
وقال في الترهيب من الش رك﴿ :إِنَّهُ َمن ي ُْش ِر ْك بِاهّلل ِ فَقَ ْد َح َّر َم هّللا ُ َعلَي ِه ْال َجنَّةَ
َو َمأْ َواهُ النَّارُ﴾ [المائدة]72 :
وفي الحديث عن رسول هللا أنه ق ال( :من م ات وه و ي دعو من دون هللا
ندًا دخل النار) ()4
ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التكذيب ب البعث والنش ور ،وي وم القيام ة،
الس ا َع ِة َس ِعيرًا﴾ [الفرق ان﴿ : ب بِ َّ كما قال تعالى﴿ :بَلْ َك َّذبُوا بِالسَّا َع ِة َوأَ ْعتَ ْدنَا لِ َمن َك َّذ َ
ق َج ِدي ٍد أُوْ لَئِ كَ الَّ ِذينَ
ْجبْ فَ َع َجبٌ قَوْ لُهُ ْم أَئِ َذا ُكنَّا تُ َرابًا أَئِنَّا لَفِي خَ ْل ٍ ﴿وإِن تَع َ ،]11وقالَ :
ار هُ ْم فِيهَ ا خَالِ دونَ ﴾ َّ َ َ ُ ْ َ
ك األغال ُل فِي أعنَاقِ ِه ْم َوأوْ لئِ كَ أ ْ َ ْ َ َ ُ َكفَر ْ
ص َحابُ الن ِ ُوا بِ َربِّ ِه ْم َوأوْ لئِ َ
[الرعد]5 :
َّ
ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التكذيب بآيات هللا ،كما قال تعالى﴿ :ال ِذينَ
)(1رواه نعيم بن حماد في الفتن ،والبيهقي.
)(2رواه الترمذي.
)(3رواه ابن ماجة والبيهقي.
)(4رواه البخاري4497 :
361
ُس لَنَا فَ َس وْ فَ يَ ْعلَ ُم ونَ إِ ِذ اأْل َ ْغاَل ُل فِي أَ ْعنَ اقِ ِه ْم ب َوبِ َم ا أَرْ َس ْلنَا بِ ِه ر ُ َك َّذبُوا بِ ْال ِكتَ ا ِ
ار يُ ْس َجرُونَ ﴾ [غافر]72 -70 : ْحبُونَ فِي ْال َح ِم ِيم ثُ َّم فِي النَّ ِ َوال َّساَل ِس ُل يُس َ
ومن ذلك ما ورد من الترهيب من السخرية من كلمات هللا والغفلة عنها ،كم ا
آن َو ْال َغ وْ ا فِي ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْغلِبُ ونَق ال تع الىَ ﴿ :وقَ ا َل الَّ ِذينَ َكفَ رُوا اَل ت َْس َمعُوا لِهَ َذا ْالقُ رْ ِ
فَلَنُ ِذيقَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا َع َذابًا َش ِديدًا َولَنَجْ ِزيَنَّهُ ْم أَ ْس َوأَ الَّ ِذي َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ َذلِ كَ َج زَ اء
أَ ْعدَاء هَّللا ِ النَّا ُر لَهُ ْم فِيهَا دَا ُر ْال ُخ ْل ِد َجزَ اء بِ َم ا َك انُوا بِآيَاتِنَ ا يَجْ َح ُدونَ ﴾ [فص لت-26 :
]28
ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التفريق في اإليمان بين الكتب التي أنزله ا
ْض ْال ِكتَ ا ِ
ب هللا تع الى على رس له عليهم الس الم ،كم ا ق ال تع الى﴿ :أَفَتُ ْؤ ِمنُ ونَ بِبَع ِ
ي فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َويَ وْ َم ْض فَ َم ا َج َزاء َمن يَ ْف َع ُل َذلِ كَ ِمن ُك ْم إِالَّ ِخ ْز ٌ َوتَ ْكفُ رُونَ بِبَع ٍ
ب﴾ [البقرة]85 : ْالقِيَا َم ِة يُ َر ُّدونَ إِلَى أ َش ِّد ال َع َذا ِ
ْ َ
ومن ذلك م ا ورد من ال ترهيب من قت ل األنبي اء وورثتهم اآلم رين بالقس ط،
ق َويَ ْقتُلُونَ الِّ ِذينَ ت هّللا ِ َويَ ْقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِ َغي ِْر َح ٍّ كما قال تعالى﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْكفُرُونَ بِآيَا ِ
ب أَلِ ٍيم﴾ [آل عمران]21 : ْ
اس فَبَ ِّشرْ هُم بِ َع َذا ٍيَأ ُمرُونَ بِ ْالقِ ْس ِط ِمنَ النَّ ِ
﴿و َمن يَرْ تَ ِد ْد ِمن ُك ْم ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الردة ،كما قال تع الىَ :
ك ُ
اآلخ َر ِة َوأوْ لَئِ َ ت أَ ْع َم الُهُ ْم فِي ال ُّد ْنيَا َو ِ ت َوهُ َو َك افِ ٌر فَأُوْ لَئِ كَ َحبِطَ ْ عَن ِدينِ ِه فَيَ ُم ْ
ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [البقرة]217 : أَصْ َحابُ النَّ ِ
ومن ذلك م ا ورد من ال ترهيب من اإلع راض عن طاع ة هللا ،واتب اع أئم ة
الضالل ،كما قال تعالى﴿ :إِ َّن هَّللا َ لَ َعنَ ْال َكافِ ِرينَ َوأَ َع َّد لَهُ ْم َس ِعيرًا خَالِ ِدينَ فِيهَ ا أَبَ دًا اَل
ار يَقُولُونَ يَا لَ ْيتَنَا أَطَ ْعنَا هَّللا َ َوأَطَ ْعنَا صيرًا يَوْ َم تُقَلَّبُ ُوجُوهُهُ ْم فِي النَّ ِ يَ ِج ُدونَ َولِيًّا َواَل نَ ِ
ال َّر ُسواَل ﴾ [األحزاب]66 -64 :
ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الكذب على هللا ،واالفتراء عليه ،كم ا ق ال
ب أَ َّن لَهُ ُم ْال ُح ْسنَى الَ َج َر َم أَ َّن َصفُ أَ ْل ِسنَتُهُ ُم ْال َك ِذ َ ﴿ويَجْ َعلُونَ هّلِل ِ َما يَ ْك َرهُونَ َوت ِ تعالىَ :
ُ
ار َوأنهُم ُّمف َرطونَ ﴾ [النحل]62 : ْ َّ َ لَهُ ُم ْالنَّ َ
ومن ذلك ما ورد من الترهيب من النفاق ،كما قال تعالىَ ﴿ :و َع َد هللا ْال ُمنَ افِقِينَ
َار َجهَنَّ َم خَالِ ِدينَ فِيهَ ا ِه َي َح ْس بُهُ ْم َولَ َعنَهُ ُم هّللا ُ َولَهُ ْم َع َذابٌ ُّمقِي ٌم﴾ ار ن َ ت َو ْال ُكفَّ َ َو ْال ُمنَافِقَا ِ
[التوبة ،]68 :وقال﴿ :إِ َّن هّللا َ َجا ِم ُع ْال ُمنَ افِقِينَ َو ْال َك افِ ِرينَ فِي َجهَنَّ َم َج ِمي ًع ا﴾ [النس اء:
]140
ومن ذلك ما ورد من الترهيب من االستكبار عن عبادة هللا ،واإلع راض عن
ار هُ ْم ص َحابُ النَّ ِ ُوا َع ْنهَا أُوْ لَئِكَ أَ ُْوا بِآيَاتِنَا َوا ْستَ ْكبَر ْ ﴿والَّ ِذينَ َك َّذب ْ آياته ،كما قال تعالىَ :
فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [األعراف ،]36 :وقالَ ﴿ :وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَ ا َولَّى ُم ْس تَ ْكبِرًا َك أَن ل ْمَّ
ُص رُّ ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ثُ َّم ي ِ ب أَلِ ٍيم يَ ْس َم ُع آيَ ا ِ يَ ْس َم ْعهَا َكأ َ َّن فِي أُ ُذنَ ْي ِه َو ْق رًا فَبَ ِّش رْ هُ بِ َع َذا ٍ
ب أَلِ ٍيم﴾ [لقمان]8 -7 : ُم ْستَ ْكبِرًا َكأَن لَّ ْم يَ ْس َم ْعهَا فَبَ ِّشرْ هُ بِ َع َذا ٍ
وغيرها من اآليات الكثيرة ،ومثلها من األحاديث الواردة عن رس ول هللا
362
وأئمة الهدى التي تقرن بين المعاصي المختلفة ،والعذاب المرتبط بها.
الرهبة والترقية:
أم ا دور الرهب ة والخش ية في الترقي ة؛ في دل علي ه م ا ورد من النص وص
المقدسة الكثيرة التي تدل على أن من صفات المقربين الرهبة والخشية ،ولوال أنهما
من المقامات الرفيعة ما وصفوا بها..
وهو ما يدل أيض ا على أن وص فهم بهم ا ي دل على كونهم ا من أس باب ذل ك
الصالح الذي تحلوا به ،وبذلك كانت الرهبة والخشية معراجا من مع ارج الس الكين
إلى هللا.
ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى في وصف من يعمر المساجد﴿ :إِنَّ َم ا يَ ْع ُم ُر
ش إِاَّل هَّللا َ الص اَل ةَ َوآتَى ال َّز َك اةَ َولَ ْم يَ ْخ َ َم َس ا ِج َد هَّللا ِ َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر َوأَقَ ا َم َّ
ك أَ ْن يَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [التوبة]18 : فَ َع َسى أُولَئِ َ
وقال في وصف الصالحين المسارعين في الخيرات﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ هُ ْم ِم ْن َخ ْشيَ ِة
ت َربِّ ِه ْم ي ُْؤ ِمنُ ونَ (َ )58والَّ ِذينَ هُ ْم بِ َربِّ ِه ْم اَل َربِّ ِه ْم ُم ْش فِقُونَ (َ )57والَّ ِذينَ هُ ْم بِآيَ ا ِ
يُ ْش ِر ُكونَ (َ )59والَّ ِذينَ ي ُْؤتُونَ َما آتَوْ ا َوقُلُ وبُهُ ْم َو ِجلَ ةٌ أَنَّهُ ْم إِلَى َربِّ ِه ْم َرا ِج ُع ونَ ()60
ت َوهُ ْم لَهَا َسابِقُونَ ﴾[المؤمنون]61 - 57 : ار ُعونَ فِي ْال َخ ْي َرا ِ ك يُ َس ِ أُولَئِ َ
ت أُولَئِ كَ هُ ْم الص الِ َحا ِ وقال في وصف خير البرية﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ
ات َع ْد ٍن تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ خَ ْي ُر ْالبَ ِريَّ ِة (َ )7جزَا ُؤهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َجنَّ ُ
ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرضُوا َع ْنهُ َذلِكَ لِ َم ْن خَ ِش َي َربَّهُ﴾ [البينة]8 ،7 : فِيهَا أَبَدًا َر ِ
وقال في وصف العلماء الصالحين﴿ :إِنَّ َما يَ ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن ِعبَا ِد ِه ْال ُعلَ َم ا ُء إِ َّن هَّللا َ
َزي ٌز َغفُورٌ﴾ [فاطر]28 : ع ِ
ث ِكتَابً ا ُمت ََش ابِهًا َمثَ انِ َي وقال في وصف الخاش عين﴿ :هَّللا ُ نَ َّز َل أَحْ َس نَ ْال َح ِدي ِ
تَ ْق َش ِعرُّ ِم ْنهُ ُجلُو ُد الَّ ِذينَ يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُدهُ ْم َوقُلُوبُهُ ْم إِلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ َذلِكَ هُدَى
هَّللا ِ يَ ْه ِدي بِ ِه َم ْن يَ َشا ُء َو َم ْن يُضْ لِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد﴾ [الزمر]23 :
خَش َي يظ (َ )32م ْن ِ ب َحفِ ٍ وقال في وصف األوابين﴿ :هَ َذا َما تُو َع ُدونَ لِ ُكلِّ أَ َّوا ٍ
ب﴾ [ق]33 ،32 : ب ُمنِي ٍ ب َو َجا َء بِقَ ْل ٍ
الرَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ
بل إن القرآن الكريم ينفي التذكرة والهداية على من حرم الخشية ،قال تعالى:
الس ا َع ِة أَيَّانَ ُمرْ َس اهَا ( )42فِي َم أَ ْنتَ ِم ْن ِذ ْك َراهَ ا ( )43إِلَى َربِّكَ ﴿يَ ْس أَلُونَكَ َع ِن َّ
ُم ْنتَهَاهَا ( )44إِنَّ َما أَ ْنتَ ُم ْن ِذ ُر َم ْن يَ ْخ َش اهَا﴾ [النازع ات ،]45 - 42 :فق د أخ بر هللا
تعالى في هذه اآلية الكريمة أن االستفادة من التربية النبوية قاص رة على من تت وفر
فيهم الخشية ،دون غيرهم من الذين ال يبالون بالوعد والوعيد ،أو يس خرون منهم ا،
أو يغفلون عنهما.
ْ ً ْ اَّل َ ْ ُ ْ
وقال﴿ :طه (َ )1م ا أنزَ لنَ ا َعل ْي كَ الق رْ آنَ لِتَش قى ( )2إِ تَ ذ ِك َرة لِ َم ْن يَخ َش ى﴾ َ ْ ْ َ
[طه]3 - 1 :
ْ
ع ُمثقل ة إِلى ِح ْملِهَ ا اَل يُحْ َم لْ ِمن هُ َ ٌ َ َ ْ ْ ُ
از َرة ِوز َر أخ َرى َوإِ ْن تَ ْد ُْ ٌ وقالَ ﴿ :واَل ت َِز ُر َو ِ
363
الص اَل ةَ َو َم ْنب َوأَقَ ا ُموا َّ َش ْي ٌء َولَوْ َكانَ َذا قُرْ بَى إِنَّ َما تُ ْن ِذ ُر الَّ ِذينَ يَ ْخ َش وْ نَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغ ْي ِ
صيرُ﴾ [فاطر]18 : تَزَ َّكى فَإِنَّ َما يَتَ َز َّكى لِنَ ْف ِس ِه َوإِلَى هَّللا ِ ْال َم ِ
وقال بعد ذكره لما حصل لفرعون وملئه من العقوبة﴿ :إِ َّن فِي َذلِكَ لَ ِع ْب َرةً لِ َم ْن
يَ ْخ َشى﴾ [النازعات]26 :
وأمر بتذكير من له القابلية لذلك ،وهو صاحب الخشية ،فقال﴿:فَ َذ ِّكرْ إِ ْن نَفَ َع ِ
ت
ال ِّذ ْك َرى (َ )9سيَ َّذ َّك ُر َم ْن يَ ْخ َش ى ([ ﴾)10األعلى ،]10 ،9 :أم ا غ يره ،فق د اعت بره
ار ْال ُك ْب َرى﴾ [األعلى: ص لَى النَّ َ تع الى ش قيا ،فق الَ ﴿ :ويَتَ َجنَّبُهَ ا اأْل َ ْش قَى ( )11الَّ ِذي يَ ْ
]12 ،11
َ َ َ
وقال﴿:و َس َوا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أأ ْن َذرْ تَهُ ْم أ ْم لَ ْم تُ ْن ِذرْ هُ ْم اَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ ( )10إِنَّ َم ا تُ ْن ِذ ُر َم ِن
َ
ب فَبَ ِّشرْ هُ بِ َم ْغفِ َر ٍة َوأَجْ ٍر َك ِر ٍيم﴾ [يس]11 ،10 : ِ ْ
ي غَ ْ
ال ب
َ ِنَ م َّحْ
ر ال اتَّبَ َع ال ِّذ ْك َر َوخ ِ َ
ي َش
وغيرها من اآليات الكريمة الكثيرة التي يخبر هللا تعالى فيها عن دور الرهبة
والخشية في التذكر واإلنابة والهداية ،وهي الوس ائل ال تي ال يمكن ألح د أن ي رتقي
في معارج الكمال المتاحة له من دونها.
هذا جوابي عن أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع ألن تعمل بما فيه ا؛ فهي
مستنبطة من بحر كلمات هللا المقدسة ،ومن معدن النبوة والرسالة ،وليس ت من تل ك
المعادن التي اختلط فيها الحق بالباطل.
فال تسلم دينك لغير ربك ،ولغير الوسائط التي جعلها هللا مصادر للهداية ،أم ا
من عداها؛ فيخطئ ويصيب ،ويضل ويهتدي ..فإياك أن تقع في حبالها ،فتن دم حيث
ال ينفعك الندم.
364
معية الصالحين
كتبت إلي ـ أيها المري د الص ادق ـ تس ألني عن المعي ة ال تي ورد ذكره ا في
قوله تع الى﴿:يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّقُ وا هَّللا َ َو ُكونُ وا َم َع َّ
الص ا ِدقِينَ ﴾ (التوب ة،)119:
ودورها في التزكية والترقية ،وكيفية التحقق بها.
وجوابا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن المعي ة ال تي وردت في تل ك اآلي ة
الكريمة من أكبر المدارس التربوي ة ال تي ال يمكن أن تتحق ق التزكي ة والترقي ة من
دونه ا؛ فال يمكن أن يس ير أح د في طري ق الكم ال دون أن يك ون ل ه ومع ه من
الصالحين من يتواصل معهم ،ويكون له فيهم أسوة حسنة.
ول ذلك ت رى في الص الة ال تي تجتم ع فيه ا ك ل الم دارس التربوي ة ذك را
للصالحين ،وتس ليما عليهم ،ب ل ورد م ا ي دل على فض ل اإلكث ار من الص الة على
رسول هللا في كل حركة من حركاتها من ركوع وسجود وتشهد وغيرها ،وك ل
ذل ك ليس س وى ن وع من أن واع المعي ة م ع رس ول هللا والص الحين من أمت ه
وغيرهم..
ولذلك؛ فإن المعية ـ أيها المريد الصادق ـ ال تع ني الحض ور الشخص ي م ع
ذلك الصالح الذي تريد ص حبته ،ب ل يكفي أن يك ون قلب ك وروح ك حاض رة مع ه؛
فالعبرة باألرواح ،ال باألجساد.
ولهذا نال شرف صحبة رسول هللا أويس القرني ،الذي ذك ره رس ول هللا
وأثنى عليه على الرغم من عدم مالقاته له ،في نفس الوقت ال ذي ح رم من تل ك
الصحبة من شرفهم هللا بأن يصحبوه بروحه وجسده ،لكنهم حرم وا من ش رف تل ك
الصحبة بكبرهم وعتوهم وطغيانهم.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن كيفي ة التحق ق بتل ك الص حبة
الشريفة ،يتنوع بتنوع المصاحبين ،وهما نوعان:
أولهما :من أوصلهم هللا تعالى إلى أعلى مراتب الكمال ،فصاروا ب ذلك ق دوة
وأسوة لخلقه ،من األنبياء وأئمة الهدى ،وصحبة ه ؤالء تك ون بالتواص ل ال روحي
معهم ،وبالتأسي والطاعة لهم.
ثانيهما :من ك انوا من المجته دين في الطاع ات ،وك ان لهم اقت داء بأنبي ائهم
عليهم الس الم ،وص حبة ه ؤالء تك ون بالتن افس والمس ارعة والتع اون معهم على
الخيرات.
وبم ا أن ال دنيا كله ا مدرس ة رباني ة لتخ ريج الص الحين ،فإن ه يمكن اعتب ار
األولين أساتذة في هذه المدرسة ،واعتبار غيرهم تالمي ذ فيه ا ،وال يص ح أن يتتلم ذ
التلميذ على زميله ،وإنما على أستاذه.
وإنما ذكرت لك هذا التفريق ـ أيها المريد الصادق ـ حتى ال تقع فيما وقع في ه
بعض هم من المبالغ ة في ح ال بعض التالمي ذ ممن يعتق دون ص الحهم؛ فراح وا
365
يطيعونهم في كل شيء ،ويلغون بذلك عالقتهم م ع أس اتذتهم ال ذين أم روا بالتأس ي
بهم دون غيرهم.
بناء على هذا ،سأشرح ل ك كيفي ة التعام ل م ع كال الص نفين؛ ف أعرني س مع
قلبك ،ألبث لك ما ورد في ذل ك من النص وص المقدس ة ،مم ا ي دلك على دور تل ك
الصحبة الشريفة في التزكية والترقية.
التواصل والتأسي:
أما الصحبة األولى ـ أيها المريد الصادق ـ وهي ص حبة التواص ل ال روحي
والتأسي العملي ،فإنها خاصة بأولئك الذين بوأهم هللا تع الى تل ك الم راتب الرفيع ة؛
فصاروا أئمة للهداية ،وأعالما للتقوى ،ولذلك صار القرب منهم قربا من هللا تعالى.
ول ذلك ف إن المطل وب ليس حبهم فق ط ،وإنم ا س لوك س بيلهم؛ فهم الس راط
المستقيم الذين يضل من انح رف عن ه ،كم ا ق ال تع الى بع د ذك ر أس ماء بعض هم:
ك الَّ ِذينَ هَدَى هَّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه﴾ (األنعام)90 : ﴿أُولَئِ َ
ول هَّللا ِ أُ ْس َوةٌ َح َس نَةٌ لِ َم ْن َك انَ وقال عن رسول هللا ﴿ :لَقَ ْد َك انَ لَ ُك ْم فِي َر ُس ِ
يَرْ جُو هَّللا َ َو ْاليَوْ َم اآْل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِيراً﴾ (األحزاب)21:
وقال رسول هللا داعيا إلى التأسي بأئم ة اله دى من بع ده( :فإن ه من يعش
منكم بعدي فسيرى اختالفا ً كثيراً ،فعليكم بسنتي ،وسنة الخلفاء الراش دين المه ديين،
تمسكوا به ا وعض وا عليه ا بالنواج ذ ،وإي اكم ومح دثات األم ور ،ف إن ك ل محدث ة
بدعة ،وكل بدعة ضاللة)()1
وأشرف مصاديق هذه الص حبة ص حبة رس ول هللا ،وهي ص حبة ممت دة
في المكان والزمان ،ويمكن أن تتحقق لكل من يحب ذل ك ،ف احرص ـ أيه ا المري د
الصادق ـ على أن تكون من أهلها حتى يتحقق في ك قول ه تع الىُ ﴿ :م َح َّم ٌد َر ُس و ُل هَّللا ِ
َوالَّ ِذينَ َم َع هُ﴾ [الفتح]29 :؛ فق د أخ بر هللا تع الى عن مص اديق تل ك المعي ة من
الصفات ،وكل من اتصف بها كان من أهلها.
َّ ُ ْ َ َّ َ َّ هَّللا
لقد قال هللا تعالى يذكر ذلكُ ﴿ :م َح َّم ٌد َرسُو ُل ِ َوال ِذينَ َم َعهُ أ ِش دا ُء َعلى الكف ِ
ار
ض َوانًا ِس ي َماهُ ْم فِي ض اًل ِمنَ هَّللا ِ َو ِر ْ ُح َم ا ُء بَ ْينَهُ ْم تَ َراهُ ْم ُر َّك ًع ا ُس َّجدًا يَ ْبتَ ُغ ونَ فَ ْ
ر َ
َ َ ْ
ُوجُو ِه ِه ْم ِمن أث ِر ال ُّسجُو ِد﴾ [الفتح]29 :
وأخبر رسول هللا عن أقرب الناس إليه؛ فلم يذكر زمانا ،وال مكانا ،وإنما
ذكر من الص فات م ا يمكن ألي ش خص أن يق وم ب ه ،فق ال( :إن أق ربكم م ني ي وم
القيامة في كل موطن أكثركم علي صالة في الدنيا ،من صلى علي مائة مرة في يوم
الجمعة وليلة الجمعة قضى هللا له مائة حاجة سبعين من حوائج اآلخ رة وثالثين من
ح وائج ال دنيا ،ثم يوك ل هللا ب ذلك ملك ا يدخل ه في ق بري كم ا ي دخل عليكم اله دايا
يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه إلى عشيرته فأثبته عندي في صحيفة بيض اء)
()2
)(1رواه أحمد.
)(2رواه أحمد وابن حبان.
)(3رواه أحمد والحاكم..
)(4رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه.
)(5رواه الترمذي وابن حبان.
367
منزلة من الجنة ال تنبغي إال لعبد من عباد هللا وأرجو أن أكون أنا هو ،فمن سأل هللا
لي الوسيلة حلت له الشفاعة)()1
وأخبر عن األجور الكثيرة بأنواعها المختلفة التي أعدها هللا لمن يص لون
مخلص ا من قلب ه ص لى هللا علي ه به ا
ً عليه ،فقال( :من صلى علي من أم تي ص الة
عشر صلوات ،ورفعه بها عشر درجات ،وكتب له بها عش ر حس نات ،ومح ا عن ه
بها عشر سيئات)()2
وبما أن هللا رب الدنيا واآلخرة ،فإنه جعل لمن ص لى على حبيب ه أج ورا
دنيوية باإلضافة إلى األجور األخروية؛ فقد أخبر أن ال ذي يجع ل ص الته كله ا
للنبي يكفيه هللا هم ه ويغف ر ل ه ذنب ه ،فق د س أل أبي بن كعب رس ول هللا :كم
أجعل لك من صالتي؟ قال( :ما شئت) ،قلت :الربع؟ قال( :ما شئت ،فإن زدت فه و
خير لك) ،فقلت :النصف؟ قال( :ما شئت وإن زدت فهو خير لك) ،قلت :أجع ل ل ك
صالتي كلها؟ قال( :إذا ي ُكفي همك ويغفر ذنبك)()3
وفي ح ديث آخ ر ق ال رج ل :ي ا رس ول هللا أرأيت إن جعلت ص التي كله ا
عليك؟ قال( :إذا يكفيك هللا تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك)()4
ولهذا ك ان من آداب ال دعاء تق ديم الص الة على الن بي ،فعن اإلم ام علي
قال( :كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد )5()
وروي أن ه س مع رجال ي دعو في ص الته لم يمج د هللا تع الى ولم يص ل
عليه ،فقال( :عجل هذا) ،ثم دعاه فقال له أو لغيره( :إذا صلى أحدكم ،فليبدأ بتمجي د
ربه سبحانه والثناء عليه ،ثم يصلي علي ،ثم يدعو بعد بما شاء)()6
وعن عب د هللا بن مس عود ق ال :كنت أص لي والن بي ،فلم ا جلس ت ب دأت
بالثناء على هللا ثم الصالة على الن بي ثم دع وت لنفس ي ،فق ال الن بي ( :س ل
تعطه ،سل تعطه)()7
هذا هو الطري ق األول للتواص ل والمعي ة م ع رس ول هللا ..أم ا الطري ق
الثاني؛ فهو التأسي به ،والتخلق بأخالقه ،فقد قال مبينا دور ذلك في القرب منه:
(إن من أحبكم إلي وأق ربكم م ني مجلس ا ي وم القيام ة أحاس نكم أخالق ا ،وإن من
أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)()8
فهذا الحديث يحدد حس ن الخل ق مقياس ا لمكان ة الم ؤمن من رس ول هللا ،
وهو مما ال عالقة له ال بالمكان ،وال بالزمان.
)(1رواه الترمذي.
)(2رواه الطبراني في األوسط والصغير.
)(3رواه الطبراني في الكبير.
)(4مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (.)66 /10
)(5وهي ألحمد ،وأبي يعلى.
)(6رواه مسلم.
)(7رواه أحمد.
369
وماله)()8 وقال( :ليأتين على أحدكم زمان ألن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله
وهكذا األمر مع أئمة الهدى من بعده ،والذين أمر رس ول هللا ب الجمع بين
الصالة عليه وعليهم ،فق ال( :من ق ال :اللهم ص ل على محم د وعلى آل محم د كم ا
صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ،وبارك على محم د وعلى آل محم د كم ا ب اركت
على إبراهيم وآل إب راهيم ،وت رحم على محم د وعلى آل محم د كم ا ت رحمت على
إبراهيم وآل إبراهيم ،شهدت له يوم القيامة بالشهادة وشفعت له)()2
وفي حديث آخر أن رسول هللا سئل :يا رسول هللا هذا السّالم عليك فكيف
نص لّي؟ ق ال« :قول وا :الله ّم ص ّل على مح ّم د عب دك ورس ولك كم ا ص لّيت على
إبراهيم ،وبارك على مح ّمد وآل مح ّمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم)()3
وهك ذا األم ر م ع جمي ع األنبي اء والمرس لين ،وال ذين ذك رهم هللا تع الى في
القرآن الكريم لنتأسى بهم ،ونمتلئ محبة وشوقا لهم ،فاحرص ـ أيها المريد الص ادق
ـ على أن تقيم عالقة المودة بينك وبينهم ،واحذر من تلك الخرافات واألساطير ال تي
بثها الحاقدون عليهم؛ فهم أطهر خلق هللا ،ولوال ذلك ما أمرنا باالهتداء بهديهم.
ومثلهم أتب اعهم من الص الحين الص ادقين ،ال ذي وص فهم اإلم ام الس جاد في
صالته عليهم ،فقال( :اللهم وأتباع الرسل ومصدقوهم من أهل االرض بالغيب عن د
معارضة المعاندين لهم بالتكذيب واالشتياق إلى المرسلين بحق ائق االيم ان .في ك ل
دهر وزمان أرسلت فيه رسوال ،وأقمت الهله دليال ،من ل دن آدم إلى محم د من
أئمة الهدى ،وقادة أهل التقى على جميعهم السالم ،فاذكرهم منك بمغفرة ورض وان.
اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة ،والذين أبلوا البالء الحس ن في
نص ره ،وك انفوه وأس رعوا إلى وفادت ه وس ابقوا إلى دعوت ه واس تجابوا ل ه حيث
أسمعهم حجة رساالته ،وفارقوا األزواج واالوالد في إظهار كلمت ه ،وق اتلوا اآلب اء
واألبناء في تثبيت نبوت ه ،وانتص روا ب ه ومن ك انوا منط وين على محبت ه يرج ون
تجارة لن تبور في مودته ،والذين هجرتهم العشائر إذ تعلق وا بعروت ه ،وانتفت منهم
القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته ،فال تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفي ك ،وأرض هم
من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك ،وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ،واشكرهم
على هجرهم فيك ديار قومهم ،وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ،ومن ك ثرت
في إع زاز دين ك من مظل ومهم .اللهم وأوص ل إلى الت ابعين لهم بإحس ان ال ذين
يقولون :ربنا اغفر لنا والخواننا الذين سبقونا بااليمان خ ير جزائ ك ،ال ذين قص دوا
سمتهم ،وتحروا وجهتهم ،ومض وا على ش اكلتهم ،لم يثنهم ريب في بص يرتهم ،ولم
يختلجهم ش ك في قف و آث ارهم واالئتم ام بهداي ة من ارهم ،مك انفين وم وازرين لهم،
يدينون بدينهم ،ويهتدون بهديهم)()4
)(8رواه البخاري.
)(2رواه البخاري.
)(3البخاري ()6358
)(4الصحيفة السجادية ،ص.45
370
فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على هذه الصالة وأمثالها؛ ففيها من المعاني
ما يمأل قلبك بمحبتهم ،ويهيئ نفسك لصحبتهم.
وهكذا ..احرص ـ أيها المريد الصادق ـ على ص حبة مالئك ة هللا؛ فلم يثن هللا
تعالى عليهم في القرآن الكريم إال لتصحبهم ،وتمتلئ محبة وشوقا إليهم.
ومن دعاء اإلمام الس جاد في الص الة عليهم( :اللهم وحمل ة عرش ك ال ذين ال
يفترون من تس بيحك ،وال يس أمون من تقديس ك ،وال يستحس رون من عبادت ك ،وال
ي ؤثرون التقص ير على الج د في أم رك ،وال يغفل ون عن الول ه إلي ك .وإس رافيل
صاحب الصور ،الش اخص ال ذي ينتظ ر من ك االذن وحل ول االم ر ،فينب ه بالنفخ ة
صرعى ره ائن القب ور .وميكائي ل ذو الج اه عن دك ،والمك ان الرفي ع من طاعت ك.
وجبري ل االمين على وحي ك ،المط اع في أه ل س ماواتك ،المكين ل ديك ،المق رب
عندك ،والروح الذي هو على مالئك ة الحجب ،وال روح ال ذي ه و من أم رك .اللهم
فصل عليهم وعلى المالئكة الذين من دونهم من سكان سماواتك وأه ل االمان ة على
رساالتك ،والذين ال تدخلهم س أمة من دؤوب ،وال إعي اء من لغ وب وال فت ور ،وال
تش غلهم عن تس بيحك الش هوات ،وال يقطعهم عن تعظيم ك س هو الغفالت ،الخش ع
االبصار فال يرومون النظر إلي ك ،الن واكس االذق ان ال ذين ق د ط الت رغبتهم فيم ا
لديك المستهترون بذكر آالئك والمتواضعون دون عظمتك وجالل كبريآئ ك وال ذين
يقولون إذا نظ روا إلى جهنم تزف ر على أه ل معص يتك :س بحانك م ا عب دناك ح ق
عبادتك .فصل عليهم وعلى الروحانيين من مالئكتك ،وأهل الزلف ة عن دك ،وحم ال
الغيب إلى رس لك ،والمؤتم نين على وحي ك وقبائ ل المالئك ة ال ذين اختصص تهم
لنفسك) ()1
فاحرص على أمثال هذه الص لوات ال تي تنبه ك إليهم ،وإلى نعم ة هللا تع الى
علي ك بص حبتهم ،ح تى تك ون من أه ل قول ه تع الى﴿ :إ َّن ال ذين ق الوا ربُّن ا هللاُ ثُ َّم
أن ال تخ افوا وال تح َزنُ وا وأب ِْش روا بال َجنَّ ِة ال تي كنتم استقاموا تَتَنَ َّز ُل علي ِه ْم المالئِ َكةُ ْ
تو َع ُدونَ .نحنُ أولياؤ ُكم في الحياة الدنيا وفي اآل ِخرة﴾ [فصلت 30 :ـ ]31
المسارعة والمنافسة:
أما الصحبة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ وهي صحبة المس ارعة والمنافس ة
والتسابق في الخيرات؛ فهي مرتبطة ب المؤمنين ،وفي ك ل األزمن ة واألمكن ة؛ كم ا
س ْال ُمتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين]26 :
ك فَ ْليَتَنَافَ ِ
قال تعالىَ ﴿ :وفِي َذلِ َ
واآلية ،كما ترى عامة تش مل ك ل األزمن ة واألمكن ة والمج االت ..فل ذلك إن
كان المسابق عابدا فهم منها السباق الجاري بين العابدين ..وإن كان عالما فهم منه ا
السباق القائم بين العلماء ..وهكذا تشمل اآلية كل أن واع الس باق ح تى الس باق الق ائم
بين الدول.
ولذلك قال اإلمام الصادق( :إذا رأيت مجته دا أبل غ من ك في االجته اد ،ف وبخ
)(7رواه البخاري.
375
مجالس اإليمان
كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن المج الس ال تي يجتم ع فيه ا
المؤمن ون لل ذكر وق راءة الق رآن الك ريم وس ماع المواع ظ وغيره ا ،ودوره ا في
التزكية والترقية ..وكيفية الرد على من يحكم ون على بعض ها بالبدع ة بحج ة ع دم
إقامة من يسمونهم سلفا لها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذك ر ل ك أن من مقاص د الش ريعة الك برى ع دم
االكتفاء بتزكية األفراد ،وإنما تزكي ة المجتم ع جميع ا ،ذل ك أن ه ال يس اهم فق ط في
توفير البيئة الصالحة للتربية ،وإنما يساهم أيضا في تيسير السلوك ،وتحقيق الترقي
في معارج الكمال ..فالنفوس يعدي بعضها بعضا ،ويؤثر بعضها في بعض.
ولذلك أثنى هللا تعالى على إسماعيل عليه الس الم بس بب أم ره أهل ه بالص الة
ق ْال َو ْع ِد َو َك انَ يل إِنَّهُ َك انَ َ
ص ا ِد َ اع َ ب إِ ْس َم ِ والزك اة ،ق ال تع الىَ ﴿ :و ْاذ ُك رْ فِي ْال ِكتَ ا ِ
ض يًّا﴾ [م ريم: َر ُسواًل نَبِيًّا (َ )54و َكانَ يَأْ ُم ُر أَ ْهلَهُ بِال َّ
صاَل ِة َوال َّز َكا ِة َو َكانَ ِع ْن َد َربِّ ِه َمرْ ِ
]55 ،54
الص اَل ِة ْ
الى﴿:وأ ُم رْ أَ ْهلَ كَ بِ َّ
َ ومثل ذلك أمر رس ول هللا ب أن يفع ل ،ق ال تع
ك ِر ْزقًا نَحْ نُ نَرْ ُزقُكَ َو ْال َعاقِبَةُ لِلتَّ ْق َوى﴾ [طه]132 : َواصْ طَبِرْ َعلَ ْيهَا اَل نَسْأَلُ َ
ولذلك؛ فإن االجتماع على ال ذكر والت ذكير والمواع ظ وغيره ا من الوس ائل
الكبرى المعينة للتزكية ،بشرط توافقه ا م ع ض وابط الش ريعة ،ح تى ال تخ رج إلى
البدعة.
وق د ورد في الح ديث عن عب د هللا بن رواح ة أن ه ك ان إذا لقي الرج ل من
أصحابه ،يقول( :تعال نؤمن بربنا ساعة) ،فقال ذات ي وم لرج ل ،فغض ب الرج ل،
فجاء إلى النبي ،فقال :يا رسول هللا ،أال ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمان ك
إلى إيمان ساعة؟ فقال الن بي ( :ي رحم هللا ابن رواح ة ،إن ه يحب المج الس ال تي
تتباهى بها المالئكة) ()1
باإلضافة إلى ذلك؛ ف إن تل ك المج الس ت دخل ض من مص اديق قول ه تع الى:
اونُوا َعلَى اإْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َوا ِن﴾ [المائدة]2 : ﴿ َوتَ َعا َونُوا َعلَى ْالبِ ِّر َوالتَّ ْق َوى َواَل تَ َع َ
ذلك أن الشيطان قد يغلب بعض النفوس ويستحوذ عليها ،وحينه ا تحت اج إلى
جهة خارجية تنقذها ،وتلك المجالس من تلك الجهات ،وأشرفها ،وقد قال رس ول هللا
( :من واّل ه هللا ع ّز وج ّل من أمر المسلمين شيئا ف أراد ب ه خ يرا جع ل ل ه وزي ر
صدق ،فإن نسي ذ ّكره وإن ذكر أعانه)()2
وفي حديث آخ ر ق ال ( :الم ؤمن م رآة الم ؤمن ،والم ؤمن أخ و الم ؤمن،
382
المرشد المربي
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن مشايخ التربية واإلرش اد ال ذين
ذكرهم علماء التزكية ،واعتبروهم من الضرورات التي يحتاج إليها السالك ،وال تي
ال يمكنه تزكية نفسه ،وال ترقيتها من دونهم.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك ـ ابتداء ـ أن التزكي ة والترقي ة وظ ائف
شرعية مرتبطة بالنبوة ،وهي الوحي دة المخول ة ببي ان ض رورة أي ش يء ،أو ع دم
ضرورته ..ذلك أنها تستمد معرفة الحقائق من المصادر المعصومة ،ال التي اختل ط
فيها الحق بالباطل ،والمقدس بالمدنس.
ولذلك؛ فإن ما يذكرونه حول هذه المسائل ممتلئ بدخن كثير ،وال ينج و من ه
إال من لم يترك دينه ألحد من الناس ..مهما ك انت مرتبت ه ..ومهم ا ك انت ال دعاوى
التي يدعيها.
وقد ورد في الحديث عن رسول هللا أنه قال لبعض أصحابه( :دينك دين ك
إنما هو لحمك ودمك ،فانظر عمن تأخذ ..خ ذ ال دين عن ال ذين اس تقاموا ،وال تأخ ذ
عن الذين مالوا)()1
وقال اإلمام الصادق( :إيّاك أن تنصب رجال دون الحجّة فتص ّدقه في ك ّل م ا
قال)()2
وقال اإلمام الباقر( :ك ّل من دان هللا بعبادة يجهد فيها نفسه وال إمام ل ه من هللا
فسعيه غير مقبول ،وهو ضا ّل متحيّر ،وهللا شانئ ألعماله ،ومثله كمثل ش اة ض لّت
عن راعيها وقطيعها ،فهجمت ذاهبة وجائية يومها ،فل ّما جنّها اللّي ل بص رت بقطي ع
من غير راعيها ،فحنّت إليها واغترّت بها ،وباتت معها في مربضها ،فل ّم ا أن س اق
الرّاعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعه ا ،فهجمت متحيّ رة تطلب راعيه ا وقطيعه ا،
فبص رت بغنم م ع راعيه ا فحنّت إليه ا ،واغ ترّت به ا ،فص اح به ا ال رّاعي الحقي
براعيك وقطيعك فإنّك تائهة متحيّرة عن راعي ك وقطيع ك ،فهجمت ذع رة متحيّ رة
ن ا ّدة ال راعي له ا يرش دها إلى مرعاه ا وير ّده ا ،فبين ا هي ك ذلك إذا اغتنم ال ذئب
ضيعتها فأكلها ،وكذلك وهللا من أصبح من ه ذه اال ّم ة ال إم ام ل ه من هللا ع ّز وج ّل
ظاهرا عادال أصبح ضاالّ تائها)()3
ولذلك ،احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون تابعا لكل ما يذكرون ه في ه ذه
الجوانب ،وخاصة تلك التي يدعون فيها إلى التبعية المطلقة للشيخ حتى لو انحرف،
وعدم تجويز اإلنكار عليه ..فكل ذلك مخالف للشريعة ،وهو نفس ما حصل لألدي ان
ال تي ح رفت ،وال تي تح ول فيه ا رج ال ال دنيا إلى معص ومين ال ينتق دون ،وال
)(1رواه ابن عدي.
)(2رواه الصدوق في معانى االخبار ص .169
)(3الكافي ج 1ص .375
383
ينصحون ،وال يسددون.
ولكن ذلك ال يعني ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ع دم أهمي ة الش يخ الم ربي ،إن
توفرت فيه شروط التربية؛ ب ل ه و مث ل األس تاذ ـ إن ك ان عالم ا وص الحا ـ فإن ه
سيختصر لك الكثير من الجهد ..لكنه إن كان ج اهال ومنحرف ا ،فسيض لك ،ويع ديك
بانحرافه وجهله.
لذلك إن أردت أن تحتاط في هذا الجانب؛ فعليك أن تنظر في أمرين:
أولهما :أن تعرف حدود دور الشيخ المربي ،وأنها ال تتجاوز نقل تجربته في
الته ذيب والتزكي ة إلي ك ،وأن ه ليس معص وما ،وأن ك لس ت ملزم ا باتباع ه جمي ع
حياتك ..بل قد تستفيد منه في نفس الوقت الذي تستفيد من غ يره ..ف إن رأيت نفس ك
قد استغنت عنه؛ فيمكنك تركه ،مثلما تترك أستاذك الذي علمك وأدبك بعد أن ينتهي
دوره ،مع بقاء احترامك له.
ثانيهما :أن تعرف أهلية المرشد الذي تريد أن تتخذه أستاذا لنفسك ،وهل ه و
ص الح ل ذلك ،أم ليس ص الحا ،ح تى ال يتالعب بنفس ك المتالعب ون والتج ار
والدجاجلة.
إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فاس مع لم ا سأش رحه ل ك من كال
الجانبين.
وظيفة المرشد:
أما وظيفة المرشد ـ أيها المريد الصادق ـ فهي محصورة في توجيهك إلى م ا
تهذب به نفسك ،بعد تشخيصه ألدوائك ،مثلما يفعل الط بيب ال ذي يع الج األم راض
بعد تعرفه عليها.
وقد قال بعضهم معبرا عن هذا الدور( :يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقت دي
به ال محالة ،ليهديه إلى سواء الس بيل ،ف إن س بيل ال دين غ امض! وس بل الش يطان
كثيرة ظاهرة ،فمن لم يكن له شيخ يهديه ،ق اده الش يطان إلى طرق ه ال محال ة ،فمن
سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير ،فقد خاطر بنفس ه وأهلكه ا ،ويك ون المس تقل
بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها ،فإنها تج ف على الق رب وإن بقيت م دة وأورقت
لم تثمر ،فمعتصم المريد شيخه فليتمسك به)()1
ثم ذكر بعض الممارسات التي يقوم بها الشيخ المربي عند تربيت ه المري دين،
ف ذكر أن على (الش يخ المتب وع ال ذي يطبب نف وس المري دين ويع الج قل وب
المسترشدين أن ال يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخص وص وفي طري ق
مخص وص م ا لم يع رف أخالقهم وأمراض هم ،وكم ا أن الط بيب ل و ع الج جمي ع
المرضى بعالج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنم ط واح د
من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم ،بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حال ه
396
وإلى هذا المعنى اإلشارة بقوله تعالى﴿ :لَتُ ْبلَ ُو َّن فِي أَ ْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْنفُ ِس ُك ْم َولَت َْس َمع َُّن
ى َكثِيراً َوإِ ْن تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُ وا ِمنَ الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِكت َ
َاب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َو ِمنَ الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُكوا أَذ ً
﴿ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم بِ َش ْي ٍء ِمنَ ْال َخوْ ِ ُ
ف ور﴾ (آل عمران ،)186:وقولهَ : ك ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ فَإِ َّن َذلِ َ
َ َ
الص ابِ ِرينَ ﴾ (البق رة،)155: ت َوبَ ِّش ِر َّ َّ
س َوالث َم َرا ِ ُ أْل
ال َوا ْنف ِ أْل
ص ِمنَ ا ْم َو ِ ْ
ُوع َونَق ٍ َو ْالج ِ
الص ابِ ِرينَ َونَ ْبلُ َو أَ ْخبَ ا َر ُك ْم﴾ (محم د: ﴿ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم َحتَّى نَ ْعلَ َم ْال ُم َجا ِه ِدينَ ِم ْن ُك ْم َو َّ
وقولهَ :
)31
فاهلل تعالى يحضر األنفس المؤمنة الستقبال البالء بما يخ بر ب ه من س نته في
خلقه وسنته في المؤمنين ،حتى تتأدب األنفس بأدب الص بر العظيم ال ذي ي وفر له ا
الطاقة على تحمل البالء.
والفائدة الثانية من ذلك هي اكتشاف المؤمن لنفسه ،وتشخيصه ألدوائه ،ذلك
أنه ال يمكنه أن يشخصها ،وهو بعيد عن المجتمع ،وإلى ذل ك اإلش ارة بم ا ورد في
القرآن الك ريم من أن المقص د من البالء ،ليس ذات البالء ،وإنم ا تمحيص األنفس،
وتب يين حقيقته ا ،والتفري ق بين الطيب والخ بيث ،ق ال تع الىَ ﴿ :م ا َك انَ هَّللا ُ لِيَ َذ َر
ُطلِ َع ُك ْم َعلَى ب َو َم ا َك انَ هَّللا ُ لِي ْ يث ِمنَ الطَّيِّ ِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َعلَى َما أَ ْنتُ ْم َعلَ ْي ِه َحتَّى يَ ِميزَ ْالخَ بِ َ
ُس لِ ِه َوإِ ْن تُ ْؤ ِمنُ وا َوتَتَّقُ وا ُس لِ ِه َم ْن يَ َش ا ُء فَ آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َور ُ ب َولَ ِك َّن هَّللا َ يَجْ تَبِي ِم ْن ر ُ ْال َغ ْي ِ
فَلَ ُك ْم أَجْ ٌر َع ِظي ٌم﴾ (آل عمران)179:
ومما يروى في ذلك أن (حكيم ا من الحكم اء ص نّف كتب ا كث يرة في الحكم ة
ظن أنّه قد نال عند هللا منزلة ،ف أوحى هللا إلى ن ب ّي زمان ه( :ق ل لفالن إن ك ق د حتّى ّ
مألت األرض نفاقا ،وإنى ال أقبل من نفاق ك ش يئا) ،فتخلى وانف رد في س رب تحت
األرض ،وقال اآلن قد بلغت رضا ربي .ف أوحى هّللا إلى نبي ه ،ق ل ل ه إن ك لن تبل غ
رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم ،فخرج إلى األس واق ،وخال ط الن اس
وجالسهم وواكلهم ،وأكل الطعام بينهم ،ومشى في األسواق معهم .فأوحى هّللا تع الى
إلى نبيه ،اآلن قد بلغ رضاي)
وق د ق ال بعض الحكم اء ينك ر على المع تزلين عزل ة غ ير ش رعية ،مبين ا
األمراض التي دعتهم إلى ذلك( :فكم من معتزل في بيته وباعثه الكبر ،ومانع ه عن
المحافل أن ال يوقر أو ال يقدم ،أو ي رى ال ترفع عن مخ الطتهم أرف ع لمحل ه ،وأبقى
لطراوة ذكره بين الناس ،وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه لو خال ط ،فال تعتق د
فيه الزه د واالش تغال بالعب ادة فيتخ ذ ال بيت س ترا على مقابح ه ،إبق اء على اعتق اد
الناس في زهده وتعبده ،من غير استغراق وقت في الخلوة بذكر أو فكر)
ثم ذكر العالمات الدالة عليهم ،فقال( :وعالمة هؤالء أنهم يحب ون أن ي زاروا
وال يحبون أن يزوروا ويفرحون بتقرب العوام والس الطين إليهم ،واجتم اعهم على
بابهم وطرقهم ،وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك .ولو كان االشتغال بنفسه هو الذي
يبغض إلي ه المخالط ة وزي ارة الن اس ،لبغض إلي ه زي اراتهم ل ه ،كم ا حكين اه عن
الفضيل حيث قال :وهل جئتني إال ألتزين لك وتتزين لي وعن حاتم األصم أنه ق ال
397
لألمير الذي زاره :حاجتي أن ال أراك وال تراني .فمن ليس مشغوال مع نفسه ب ذكر
هّللا ،فاعتزاله عن الناس سببه ش دة اش تغاله بالن اس ،ألن قلب ه متج رد لاللتف ات إلى
نظرهم إليه بعين الوقار واالحترام والعزلة بهذا السبب جهل) ()1
ولهذا كان اإلمام الحسن يم ّر بالشحاذين ،وبين أيديهم كسر الخ بز ،فيقول ون:
هل ّم إلى الغداء يا ابن رسول هللا ،فكان ينزل على الطريق ويأكل معهم ،ويق ول:
(إن هللا ال يحبّ المس تكبرين)( ،)2وفي ذل ك إش ارة إلى أن المع تزلين لمث ل ه ذه ّ
المجالس مستكبرون من حيث ال يشعرون.
وله ذا ف إن الكث ير من مث الب النفس األم ارة ال يمكن معرفته ا من دون
مخالطة ،ذلك أنها وح دها من يكش ف ج وهر اإلنس ان ،وله ذا ي دعو هللا تع الى إلى
ابتالء اليتامى للنظر في قدرتهم على التعامل السليم مع المال قبل تسليمه لهم ،فقال:
اح فَإِ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْنهُ ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِلَ ْي ِه ْم أَ ْم َوالَهُ ْم َوال ﴿ َوا ْبتَلُوا ْاليَتَا َمى َحتَّى إِ َذا بَلَ ُغوا النِّ َك َ
ف َو َم ْن َك انَ فَقِ يراً فَ ْليَأْ ُك لْ تَأْ ُكلُوهَا إِس َْرافا ً َوبِدَاراً أَ ْن يَ ْكبَرُوا َو َم ْن َكانَ َغنِيّ ا ً فَ ْليَ ْس تَ ْعفِ ْ
ُوف فَإِ َذا َدفَ ْعتُ ْم إِلَ ْي ِه ْم أَ ْم َوالَهُ ْم فَأ َ ْش ِهدُوا َعلَ ْي ِه ْم َو َكفَى بِاهَّلل ِ َح ِسيباً﴾ (النساء)6: بِ ْال َم ْعر ِ
ومثل المال ك ل المس ؤوليات ال تي ال يمكن تحمله ا م ا لم ينجح ص احبها في
االختبارات التي يتعرض لها ..ولهذا يخبرنا هللا تعالى عن نم وذج من نم اذج البالء
ال إِ َّن هَّللا َ وت بِ ْال ُجنُو ِد قَ َ ص َل طَ الُ ُ الذي قام به طالوت لتمي يز جن وده ،فق ال﴿ :فَلَ َّما فَ َ
ط َع ْم هُ فَإِنَّهُ ِمنِّي إِاَّل َم ِن ا ْغتَ َرفَ ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ ب ِم ْن هُ فَلَي َ ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ
او َزهُ ه َُو َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َعهُ قَالُوا ال طَاقَ ةَ ُغرْ فَةً بِيَ ِد ِه فَ َش ِربُوا ِم ْنهُ إِاَّل قَلِيالً ِم ْنهُ ْم فَلَ َّما َج َ
ت فِئَةً لَنَا ْاليَوْ َم بِ َجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قَا َل الَّ ِذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ ْم ُمالقُو هَّللا ِ َك ْم ِم ْن فِئَ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبَ ْ
َكثِي َرةً بِإِ ْذ ِن هَّللا ِ َوهَّللا ُ َم َع الصَّابِ ِرينَ ﴾ (البقرة)249:
ب ل إن هللا تع الى يجع ل لمن نجح في امتح ان البالء الش ديد اإلمام ة في
األرض ،واإلمام في االصطالح القرآني هو من ك ان قائ دا للن اس وق دوة لهم ،ق ال
ال َو ِم ْن اس إِ َماما ً قَ َ
ك لِلنَّ ِ اعلُ َال إِنِّي َج ِ ت فَأَتَ َّمه َُّن قَ َ
﴿وإِ ِذ ا ْبتَلَى إِ ْب َرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َما ٍتعالىَ :
َّ
ال ال يَنَا ُل َعه ِدي الظالِ ِمينَ ﴾ (البقرة)124: ْ ُذ ِّريَّتِي قَ َ
والفائدة التربوية الثالثة للمخالطة هي ما ورد في وصية لقمان علي ه الس الم
﴿أ ُم رْ بِ ْال َم ْعر ِ
ُوف بعد ذكره لألمر بالمعروف والنهي عن المنك ر ،كم ا ق ال تع الىْ :
ُ َوا ْنهَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َواصْ بِرْ َعلَى َما أَ َ
ور﴾ (لقمان)17: ك ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ صابَكَ إِ َّن َذلِ َ
ألن مواجهة الناس باألمر ب المعروف والنهي عن المنك ر تس تدعي مواجه ة
الناس في العادة لهذا اآلم ر بأص ناف األذى ،ألن ه ذا الناص ح المحتس ب ال يواج ه
عق ول الن اس بق در م ا يواج ه م واطن الش ر فيهم ،وهي م واطن تأخ ذها الحمي ة
ويستفزها الشيطان ،فال تسكت عن هذا اآلمر المحتسب.
ولهذا أخبر تعالى عن سنته في المرسلين أنهم يتعرض ون لك ل أن واع البالء،
)(1رواه مسلم.
)(2رواه البخاري ومسلم.
)(3رواه مسلم.
)(4رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
)(5رواه مسلم.
)(6رواه ابن أبي الدنيا.
)(7رواه الطبراني بسند حسن صحيح.
)(8رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم.
)(9رواه الطبراني.
)(10رواه أبو نعيم.
)(11رواه الطبراني.
402
حكمته ،وإذا تكبر قيل للملك :ضع حكمته)()1
هللا أحبه هللا)()2
وقوله( :من تواضع هلل رفعه هللا ،ومن اقتصد أغناه هللا ،ومن ذكر
وقوله( :من تواضع هلل رفعه هللا فهو في نفسه ضعيف وفي أنفس الناس عظيم ،ومن
تكبر وضعه هللا فهو في أعين الناس صغير وفي نفس ه كب ير ح تى له و أه ون عليهم من
كلب أو خنزير)()3
وقوله( :ما من آدمي إال وفي رأسه حكمة موك ل به ا مل ك ،ف إن تواض ع رفع ه هللا،
وإن ارتفع قمعه هللا ،والكبرياء رداء هللا فمن نازع هللا قمعه)()4
وقد جمع الكثير من هذه الحقوق اإلمام الصادق؛ فقد ق ال لمن س أله عن ح ق
المسلم على المسلم( :له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إال وه و علي ه واجب ،إن
ضيع منها شيئا خرج من والية هللا وطاعته ،ولم يكن هلل فيه من نصيب ..أيسر ح ق
منها أن تحب ل ه م ا تحب لنفس ك ،وتك ره ل ه م ا تك ره لنفس ك ،والث اني أن تجتنب
سخطه وتتب ع مرض اته ،وتطي ع أم ره ،والث الث أن تعين ه بنفس ك ،ومال ك ولس انك
ويدك ورجلك ،والرابع أن تكون عينه ودليله ومرآت ه ،والخ امس ال تش بع ويج وع،
وال ت روى ويظم أ ،وال تلبس ويع رى والس ادس أن يك ون ل ك خ ادم وليس ألخي ك
خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ،ويصنع طعامه ،ويمهد فراشه ،والسابع
أن تبر قس مه ،وتجيب دعوت ه ،وتع ود مريض ه ،وتش هد جنازت ه وإذا علمت أن ل ه
حاجة تبادره إلى قضائها وال تلجئه أن يسألكها ،ولكن تبادره مبادرة ،فاذا فعلت ذلك
وصلت واليتك بواليته وواليته بواليتك) ()5
وفي حديث آخر قال( :إن من حق المؤمن على المؤمن المودة له في صدره،
والمواساة له في ماله ،والخلف له في أهله ،والنص رة ل ه على من ظلم ه ،وإن ك ان
نافلة في المسلمين وكان غائبا ،أخذ له بنصيبه ،وإذا مات الزيارة إلى ق بره ،وأن ال
يظلمه وأن ال يغشه وأن ال يخون ه وأن ال يخذل ه وأن ال يكذب ه وأن ال يق ول ل ه اف
وإن قال له اف فليس بينهما والية ،وإذا قال ل ه أنت ع دوي فق د كف ر أح دهما ،وإذا
اتهمه انماث االيمان في قلبه كما بنماث الملح في الماء) ()6
وغيرها من األحاديث الكثيرة التي ال يمكن تطبيقها لذلك الذي اع تزل الن اس
عزلة كلية ،بحيث ال يصله شرهم ،وال يصل إليهم خيره.
فاسع ـ أيها المريد الصادق ـ ألن تطب ق ه ذه األح اديث ،وتجم ع بينه ا وبين
العزلة الشرعية؛ فلكل منهما محله الخاص به ..ولهذا أعمل فكرك قبل أن تتص رف
أي تصرف لترى األقرب لرضوان هللا ،هل هو أداؤه ،ومخالطة المجتمع بسببه ،أم
هو الصبر إلى أن تتحقق فيك من الصفات ما يمكنك من أدائه على أحسن وجه.
)(1رواه الطبراني بسند حسن.
)(2رواه ابن النجار.
)(3رواه أبو نعيم.
)(4رواه ابن صصرى.
)(5الكافى ج 2ص .169
)(6الكافى ج 2ص .171
403
إقامة الشهادة
كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن أولئ ك ال ذين تص وروا أن
غرض الدين قاصر على تزكي ة النفس وترقيته ا في م راتب الوالي ة ،وأن الم ؤمن
الصالح هو الذي يكتفي بنفسه ،أو بأهله األقربين دون أن يكون له اهتمام بما يجري
في العالم من أحداث سياسية وغيرها ،وأنه ليس ملزم ا بإص الح الع الم ،وإنم ا ه و
ملزم بإصالح نفسه فقط.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر ل ك أن ه ذا ال ذي وص فت لم يفهم أغ راض
اإلسالم ،وال أغراض التزكية ،ولذلك فاته من التزكية ومراتبها العالية بقدر قصور
فهمه.
ولو أن ه ع اد للمص ادر المقدس ة ،ال تي ال يفهم ال دين إال منه ا ،لع رف خط أ
المسار ال ذين اخت اره ،والفهم ال ذي فهم ه ،ذل ك أن هللا تع الى أم ر أف راد األم ة في
القرآن الكريم بأال يكتفوا بإصالح أنفسهم ،وإنما بإعطاء النم وذج الص الح للص الح
والتقوى ،حتى يهتدي بهم الخل ق ،وق د س مى هللا تع الى ذل ك ش هادة ،فق ال﴿ :يَاأَيُّهَ ا
ْط ُشهَدَا َء هَّلِل ِ﴾ [النساء]135 : الَّ ِذينَ آ َمنُوا ُكونُوا قَ َّوا ِمينَ بِ ْالقِس ِ
فاآلية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يتولوا وظيف ة ال دعوة للقس ط والعدال ة ،في
ك ل مس توياتها ومجاالته ا ،وأن ي وفروا ألنفس هم من الص فات م ا ي ؤهلم إلعط اء
النموذج الحسن في ذلك.
ولهذا ،فإن المؤم نين ال ذين يكتف ون باالهتم ام بأنفس هم ،ويقص رون في ح ق
ال دعوة إلى هللا ،وإلى العدال ة ال تي أم ر به ا ،ويقص رون في مواجه ة الظلم ة
والمستبدين ،ال يختلف ون كث يرا عن أولئ ك ال ذين ك انوا يقول ون :دع وا م ا لقيص ر
لقيصر ،وما هلل هلل..
والمؤمن ال يقول ذلك ..بل هو يسعى ألن يحكم شريعة هللا في خلق ه ..ويحكم
معها كل قيم العدالة التي أمر بها ..والتي ال يمكن أن تتحقق من دون شريعة هللا.
وهذا ما فعله الرس ل عليهم الس الم؛ ذل ك أن ه ل و ك ان قص دهم تزكي ة النفس
مجردة عن طلب العدالة ،ومواجهة االستبداد والظلم ،وتحقيق المجتمع الص الح لم ا
واجههم أقوامهم ،ولما حاربوهم ،وآذوهم..
ولهذا قرن هللا تعالى بين تض حيات األنبي اء ،وتض حيات ال دعاة إلى القس ط،
ق َويَ ْقتُلُ ونَ الَّ ِذينَ يَ أْ ُمرُونَ
ت هَّللا ِ َويَ ْقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِ َغي ِْر َح ٍّ
﴿إن الَّ ِذينَ يَ ْكفُرُونَ بِآيَا ِ
فقالَّ :
ب ألِ ٍيم﴾ [آل عمران]21 : َ َ ِّ
اس فَبَشرْ هُ ْم بِ َعذا ٍ َّ
ْط ِمنَ الن ِ بِ ْالقِس ِ
وعند مطالعتك ـ أيها المريد الصادق ـ لم ا ذك ره الق رآن الك ريم عن األنبي اء
عليهم السالم الذين بلغوا أوج مراتب الكمال ،تجدهم مهتمين بالسلبيات المنتشرة في
مجتمعاتهم ،ومهتمين بمواجهتها ،والتض حية بك ل ش يء في س بيل ذل ك ،كم ا ذك ر
تعالى ذلك عن شعيب عليه السالم ،وأنه نادى في قومه قائال﴿ :يَ اقَوْ ِم ا ْعبُ دُوا هَّللا َ َم ا
404
لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ َواَل تَ ْنقُصُوا ْال ِم ْكيَا َل َو ْال ِم ي َزانَ إِنِّي أَ َرا ُك ْم بِخَ ْي ٍر َوإِنِّي أَخَ افُ َعلَ ْي ُك ْم
اس ْخَس وا النَّ َ ال َو ْال ِم يزَ انَ بِ ْالقِ ْس ِط َواَل تَب ُ اب يَوْ ٍم ُم ِحي ٍط (َ )84ويَاقَوْ ِم أَوْ فُ وا ْال ِم ْكيَ َ َع َذ َ
َّت ِ خَ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ َو َماهَّللا ض ُمف ِس ِدينَ ( )85بَقِي ُْ أَ ْشيَا َءهُ ْم َواَل تَ ْعثَوْ ا فِي ا رْ ِ
َ أْل
أَنَا َعلَ ْي ُك ْم بِ َحفِي ٍظ ([ ﴾)86هود 84 :ـ ]87
فهذه اآليات الكريمة تدل على أنه كان يدعو إلى تغيير جذري بين قومه ،يبدأ
من تصحيح عقائدهم ،ثم يشمل بعد ذلك كل ج وانب حي اتهم السياس ية واالقتص ادية
واالجتماعية وغيرها.
اح َشةَ َما َسبَقَ ُك ْم بِهَ ا ْ ْ
وهكذا عندما قال لوط عليه السالم لقومه﴿ :إِنَّ ُك ْم لَتَأتُونَ الفَ ِ
يل َوتَأتُونَ فِي نَ ا ِدي ُك ُم ْ ال َوتَ ْقطَعُونَ ال َّسبِ َ ِم ْن أَ َح ٍد ِمنَ ْال َعالَ ِمينَ ( )28أَئِنَّ ُك ْم لَتَأْتُونَ الر َ
ِّج َ
ْال ُم ْن َك َر﴾ [العنكب وت ،]29 ،28 :ك ان ي دعو إلى حرك ة تغييري ة تب دأ ب األخالق،
وتنتهي بكل جوانب الحياة.
وهكذا عندما قال صالح عليه السالم لقومه﴿ :يَاقَوْ ِم ا ْعبُ دُوا هَّللا َ َم ا لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه
اس تَ ْغفِرُوهُ ثُ َّم تُوبُ وا إِلَ ْي ِه إِ َّن َربِّي اس تَ ْع َم َر ُك ْم فِيهَ ا فَ ْ
ض َو ْ َغ ْي ُرهُ هُ َو أَ ْن َش أ َ ُك ْم ِمنَ اأْل َرْ ِ
قَ ِريبٌ ُم ِجيبٌ ﴾ [هود ،]61 :وقال لهمَ ﴿ :و ْاذ ُكرُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَا َء ِم ْن بَ ْع ِد عَا ٍد َوبَ َّوأَ ُك ْم
ال بُيُوتًا فَ ْاذ ُكرُوا آاَل َء هَّللا ِ َواَل ض تَتَّ ِخ ُذونَ ِم ْن ُسهُولِهَا قُصُورًا َوتَ ْن ِحتُونَ ْال ِجبَ َ فِي اأْل َرْ ِ
ض ُم ْف ِس ِدينَ ﴾ [األعراف ،]74 :كان يدعوهم ب ذلك إلى تغي ير حي اتهم تَ ْعثَوْ ا فِي اأْل َرْ ِ
جميعا ،حتى بيوتهم لتنسجم مع شريعة هللا ،والفطرة التي فطرهم هللا عليها.
وهكذا عندما أرسل موسى وهارون عليهم ا الس الم لفرع ون ،كان ا يحمل ون
معهما مطالب تغييرية كب يرة ،ترتب ط بالمص ريين واإلس رائيليين ،وق د ع بر عنه ا
آل ﴿اذ ُك رُوا نِ ْع َم ةَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ أَ ْن َج ا ُك ْم ِم ْن ِموس ى علي ه الس الم عن د قول ه لقوم هْ :
ب َويُ َذبِّحُونَ أَ ْبنَا َء ُك ْم َويَ ْستَحْ يُونَ نِ َسا َء ُك ْم َوفِي َذلِ ُك ْم بَاَل ٌء فِرْ عَوْ نَ يَسُو ُمونَ ُك ْم سُو َء ْال َع َذا ِ
َظي ٌم (َ )6وإِ ْذ تَ أ َ َّذنَ َربُّ ُك ْم لَئِ ْن َش كَرْ تُ ْم أَل َ ِزي َدنَّ ُك ْم َولَئِ ْن َكفَ رْ تُ ْم إِ َّن َع َذابِي ِم ْن َربِّ ُك ْم ع ِ
لَ َش ِدي ٌد ([ ﴾)7إبراهيم 6 :ـ ]8
وهكذا كانت حركات جمي ع األنبي اء وورثتهم عليهم الص الة والس الم تحم ل
أمثال هذه المطالب الشرعية ،وبذلك فإن ك ل تل ك ال دعوات دع وات ثوري ة ،ألنه ا
ثارت على كل االنحراف ات ،ابت داء من االنحراف ات العقدي ة ،وانته اء باالنحراف ات
السلوكية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية وغيرها.
وهك ذا أخ بر هللا تع الى أن الكم ل من ه ذه األم ة هم ال ذين يس عون إلى ه ذه
الوظائف الشرعية ،ألنه ال يمكنهم أن يزكوا أنفسهم حق التزكية ،وال أن يرقوها في
مراتب الكمال ،وهم منحرفون عن منهج األنبياء واألولياء والصديقين والشهداء.
ك َج َع ْلنَا ُك ْم أُ َّمةً َو َس طا ً لِتَ ُكون وا
ُ كما قال تعالى عند ذكره لوظائف األمةَ ﴿ :و َك َذلِ َ
اس َويَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيداً﴾ (البق رة ،)143 :وق الَ ﴿ :و َجا ِه دُوا ُشهَدَا َء َعلَى النَّ ِ
ج ِملَّةَ أَبِي ُك ْم إِ ْب َرا ِهي َم ِّين ِم ْن َح َر ٍ ق ِجهَا ِد ِه هُ َو اجْ تَبَا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي الد ِ فِي هَّللا ِ َح َّ
هُ َو َس َّما ُك ُم ْال ُم ْسلِ ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل َوفِي هَ َذا لِيَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َش ِهيداً َعلَ ْي ُك ْم َوتَ ُكونُ وا ُش هَدَا َء
405
َص ُموا بِاهَّلل ِ هُ َو َم وْ ال ُك ْم فَنِ ْع َم ْال َم وْ لَى
اس فَأَقِي ُموا الصَّالةَ َوآتُ وا ال َّز َك اةَ َوا ْعت ِ َعلَى النَّ ِ
صيرُ﴾ (الحج)78: َونِ ْع َم النَّ ِ
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعرف مدى علو مرتب ة الش هادة وإنق اذ
الخلق في مراتب السلوك ،فاعلم أن الحكماء ذك روا أرب ع مراح ل لس ير الس الكين:
أولها السير من النفس إلى هللا ،وهي رحل ة البحث عن هللا ..وثانيه ا :س ير اإلنس ان
من هللا في هللا ،بحثا عن معرف ة هللا ..وثالثه ا :س ير اإلنس ان م ع هللا إلى خل ق هللا..
ورابعها :سير اإلنسان مع هللا بين خلق هللا ،إلنقاذ خلق هللا.
وهذه المرحلة األخيرة من س ير الس الكين ،وهي رحلتهم إلنق اذ خل ق هللا من
عبودية الشيطان ،هي التي سماها القرآن الكريم شهادة ،ودعا إلى إقامتها مثل إقام ة
الصالة ،وأخبر أنها من وظائف الرسل جميعا ،كما قال تع الى﴿ :لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ر ُ
ُس لَنَا
َاب َو ْال ِمي َزانَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِ ْس ِط﴾ [الحديد]25 : ت َوأَ ْن َز ْلنَا َم َعهُ ُم ْال ِكت َ
بِ ْالبَيِّنَا ِ
وله ذا ك ان من العالم ات الك برى لل وارث للنب وة ،الس الك س بيلها ،غ ير
المنحرف عنها ،عدم الرك ون للظلم ة ،أو الس كون لهم ،أو الرض ا بأفع الهم ،وإنم ا
مواجهتهم بكل ما أتيح لهم من أساليب.
ولهذا مارس كل أئم ة اله دى ه ذه الوظيف ة العظيم ة ،إلى أن لق وا هللا تع الى
جميعا شهداء في هذا الطريق ،كما عبر اإلمام الرضا عن ذلك بقوله( :وهللا ،ما من ا
إال مقتول شهيد)()1
وعندما سمع بعضهم يشكك في قتل الإمام الحسين ،ويذكر أنه شبِّه لهم ،ق ال:
(وهللا ،لقد قتل الحسين ،وقتل من كان خيراً من الحس ين ،أم ير المؤم نين ،والحس ن
بن علي ،وما منا إال مقتول ،وإني ـ وهللا ـ لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني)()2
﴿ولَ ْن يَجْ َع َل هللا لِ ْل َك افِ ِرينَ َعلَى ثم رد على من اعتم د على قول ه تع الىَ :
ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َسبِياًل ﴾ [النساء ]141 :لنفي قتل اإلمام الحسين بقوله( :لن يجعل هللا لك افر
على مؤمن حجة ،ولقد أخبر هللا عز وجل عن كفار قتلوا النب يين بغ ير الح ق ،وم ع
قتلهم إياهم لن يجعل هللا لهم على أنبيائه سبيال من طريق الحجة)
وروي أن اإلمام الحسن بن علي قال في مرضه الذي ت وفي في ه( :وهللا ،إن ه
لعهد عهده إلينا رس ول هللا أن ه ذا األم ر يملك ه اثن ا عش ر إمام ا ً من ول د علي
وفاطمة ،ما منا إال مسموم ،أو مقتول)()3
وكل ذلك بسبب ذلك الوقوف الشديد في وجه الجور والظلم واالس تبداد وك ل
من يمثلهم ،لحف ظ دين هللا من أن يص بح أداة من أدوات الظلم ة مثلم ا حص ل في
األديان األخرى.
وكنموذج لذلك ينفي كل تلك الترهات التي ينطق به ا من ال يعرف ون الوالي ة
وال مراتبها ما قاله اإلمام الحس ين ،وه و س يد ش باب أه ل الجن ة ،في تفس ير س بب
)(1األمالي للصدوق ص ،120وعيون أخبار الرضا ج 2ص.256
)(2عيون أخبار الرضا ج 2ص.203
)(3كفاية األثر ص 226و 227والصراط المستقيم ج 2ص.128
406
أش َراً وال خروج ه على الظلم ة والمس تبدين ،فق د ق ال في وص يته( :إنّي ل ْم أخ رج ِ
بطراً ،وال مفسداً وال ظالماً ،وإنّما خرجت لطلب اإلصالح في أُ ّمة ج ّدي ؛ أري د
ُ
أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ،وأسير بسيرة ج ّدي وأبي علي بن أبي طالب، ْ
ق ،و َم ْن ر ّد عل ّي أصبر حتّى يقض ي هللا بي ني ق فاهلل أولى بالح ّ ف َم ْن قبلني بقبول الح ّ
وبين القوم وهو خير الحاكمين)()1
ب ل إن اإلم ام الحس ين نفس ه رد على تل ك المق والت ال تي تري د أن تح رف
اإلس الم ،وتبع ده عن الغاي ة اإلص الحية الك برى ال تي ج اء به ا ،لينق ذ البش رية
ويخلصها من كل أصناف الطغيان ،فقد قال في بعض خطبه( :اعت بروا أيه ا الن اس
بم ا وع ظ هللا ب ه أولي اءه من س وء ثنائ ه على األحب ار ،إذ يق ول﴿ :لَ وْ اَل يَ ْنهَ اهُ ُم
ص نَعُونَ ﴾ س َم ا َك انُوا يَ ْ الس حْ تَ لَبِ ْئ َال َّربَّانِيُّونَ َواأْل َحْ بَ ا ُر ع َْن قَ وْ لِ ِه ُم اإْل ِ ْث َم َوأَ ْكلِ ِه ُم ُّ
يس ى يل َعلَى لِ َسا ِن دَا ُوو َد َو ِع َ [المائدة ،]63 :وقال﴿ :لُ ِعنَ الَّ ِذينَ َكفَرُوا ِم ْن بَنِي إِس َْرائِ َ
صوْ ا َو َك انُوا يَ ْعتَ ُدونَ (َ )78ك انُوا اَل يَتَنَ اهَوْ نَ ع َْن ُم ْن َك ٍر فَ َعلُ وهُ اب ِْن َمرْ يَ َم َذلِكَ بِ َما َع َ
س َما َكانُوا يَ ْف َعلُونَ ﴾ [المائدة ،]79 ،78 :وإنما عاب هللا ذلك عليهم؛ ألنهم ك انوا لَبِ ْئ َ
يرون من الظلمة الذين بين أظه رهم المنك ر والفس اد فال ينه ونهم عن ذل ك؛ رغب ة
اسفيم ا ك انوا ين الون منهم ،ورهب ة مم ا يح ذرون ،وهللا يق ول﴿ :فَاَل ت َْخ َش ُوا النَّ َ
ْض هُ ْم أَوْ لِيَ ا ُء بَع ٍ
ْض ات بَع ُ ﴿و ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ُاخ َش وْ ِن﴾ [المائ دة ،]44 :وق الَ : َو ْ
ال ُم ْن َكر﴾ [التوبة)2()]71 :
ِ ُوف َويَ ْنهَوْ نَ َع ِن ْيَأْ ُمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ
وبعد أن سرد هذه اآليات الكريمة الواضحة في الداللة على وج وب مواجه ة
المنكر من أي مصدر صدر ،راح يفسرها لهم ،ويبين أغراض ها والن واحي العملي ة
المرتبطة بها ،فقال( :فب دأ هللا ب األمر ب المعروف والنهي عن المنك ر فريض ة من ه؛
لعلمه بأنه ا إذا أديت وأقيمت اس تقامت الف رائض كله ا ،هينه ا وص عبها؛ وذل ك أن
األمر بالمعروف والنهي عن المنكر دع اء إلى اإلس الم ،م ع رد المظ الم ،ومخالف ة
الظالم ،وقسمة الفيء والغنائم ،وأخذ الص دقات من مواض عها ووض عها في حقه ا)
()3
ثم راح يخ اطب عق ولهم وع واطفهم وتل ك العه ود ال تي عاه دوا هللا به ا من
خالل إس المهم؛ فق ال( :أنتم أيته ا العص ابة ،عص ابة ب العلم مش هورة ،وب الخير
م ذكورة ،وبالنص يحة معروف ة ،وباهلل في أنفس الن اس مهاب ة؛ يه ابكم الش ريف،
ويكرمكم الضعيف ،ويؤثركم من ال فضل لكم عليه ،وال ي د لكم عن ده ،تش فعون في
الح وائج إذا امتنعت من طالبه ا ،وتمش ون في الطري ق بهيب ة المل وك وكرام ة
األكابر ،أليس كل ذلك إنما نلتموه بم ا ي رجى عن دكم من القي ام بح ق هللا ،وإن كنتم
عن أكثر حقه تقصرون ،فاستخففتم بحق األئمة؛ فأما ح ق الض عفاء فض يعتم؛ وأم ا
حقكم ب زعمكم فطلبتم ،فال م اال ب ذلتموه ،وال نفس ا خ اطرتم به ا لل ذي خلقه ا ،وال
)(1الفتوح ،33 / 5مقتل الخوارزمي .188 / 1
)(2تحف العقول..237 :
)(3المرجع السابق..237 :
407
هللا) ()1عشيرة عاديتموها في ذات
ثم راح يذكرهم بالجن ة والن ار ،والع ذاب ال ذي ينتظ ر الس اكتين عن المنك ر
ومواجهته ،فقال( :أنتم تتمنون على هللا جنته ومجاورة رسله ،وأمانا من عذابه ،لق د
خشيت عليكم أيه ا المتمن ون على هللا أن تح ل بكم نقم ة من نقمات ه؛ ألنكم بلغتم من
كرام ة هللا منزل ة فض لتم به ا ،ومن يع رف باهلل ال تكرم ون ،وأنتم باهلل في عب اده
تكرم ون! وق د ت رون عه ود هللا منقوض ة فال تفزع ون ،وأنتم لبعض ذمم آب ائكم
تفزعون! وذمة رسول هللا محقورة ،والعمى والبكم وال زمن في الم دائن مهمل ة
ال ترحم ون! وال في م نزلتكم تعمل ون ،وال من عم ل فيه ا تعين ون! وباإلده ان
والمصانعة عند الظلمة تأمنون ،كل ذلك مما أمركم هللا به من النهي والتن اهي وأنتم
عنه غافلون!) ()2
ولم يكن يكتفي بتلك المواعظ العامة ،وإنما كان يفصل المنهج الذي ينبغي أن
تسير عليه األمة في حكمها وسياستها وكل شؤونها ،وهو أن تكل األمور ألهل العلم
والوالية ،ال غيرهم ممن ال يعرف حكم هللا ،وال يستطيع مراعاتها؛ وقد قال لهم في
تلك الخطبة( :وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم علي ه من من ازل العلم اء ل و كنتم
تسعون ذلك؛ بأن مج اري األم ور واألحك ام على أي دي العلم اء باهلل ،االمن اء على
حالله وحرامه ،فأنتم المسلوبون تلك المنزلة ،وما سلبتم ذلك إال بتف رقكم عن الح ق
واختالفكم في السنة بعد البينة الواضحة .ولو صبرتم على األذى ،وتحملتم المؤون ة
في ذات هللا ،كانت امور هللا عليكم ترد ،وعنكم تصدر ،وإليكم ترجع ،ولكنكم مكنتم
الظلمة من منزلتكم ،واستسلمتم أم ور هللا في أي ديهم يعمل ون بالش بهات ،ويس يرون
في الشهوات) ()3
ثم بين لهم المنهج ال ذي يمكن أن يس لكوه للتخلص من القي ود ال تي وض عها
الظلمة على رقابهم ،وأولها حرصهم على الحياة ،وخوفهم من الموت ،وكأن ه ب ذلك
يهيئهم للمواجهة الكبرى التي تحققت في كربالء ،ليقيم عليهم الحجة بنفس ه ،بع د أن
أقامها عليهم بكلماته ،فق د ق ال( :س لطهم على ذل ك ف راركم من الم وت ،وإعج ابكم
بالحياة التي هي مفارقتكم؛ فأس لمتم الض عفاء في أي ديهم ،فمن بين مس تعبد مقه ور،
وبين مستض عف على معيش ته مغل وب ،يتقلب ون في المل ك ب آرائهم ،ويستش عرون
الخزي بأهوائهم؛ اقتداء باألشرار ،وجرأة على الجبار ،في كل بلد منهم على من بره
خطيب يصقع ،فاألرض لهم شاغرة ،وأيديهم فيه ا مبس وطة ،والن اس لهم خ ول ،ال
يدفعون يد المس ،فمن بين جبار عنيد ،وذي س طوة على الض عفة ش ديد ،مط اع ال
يع رف المب دئ المعي د .في ا عجب ا! وم ا لي ال أعجب واألرض من غ اش غش وم،
ومتص دق ظل وم ،وعام ل على المؤم نين بهم غ ير رحيم ،فاهلل الح اكم فيم ا في ه
)(1المحلى.7/567:
)(2ابن عليوة ،القول المعروف ،ص.68
)(3صحيح البخاري ()58 /8
)(4سنن النسائي ()135 /6
)(5اإلحياء.2/270 :
411
حواس ولكل حاسة إدراك ،وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ ،فلذة النظ ر مثال في
المبصرات الجميلة كالخض رة والم اء الج اري والوج ه الحس ن ،فك ذلك األص وات
المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العن ادل والمزام ير ،ومس تكرهة كنهي ق
الحمير وغيرها)
فإن (الوزن وراء الحسن فكم ومثل ذلك النظر في الصوت الطيب الموزونّ ،
من ص وت حس ن خ ارج عن ال وزن وكم من ص وت م وزون غ ير مس تطاب.
واألصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثالثة :فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت
المزامير واألوت ار ،وإم ا أن تخ رج من حنج رة إنس ان أو غ يره كص وت العن ادل
والقماري؛ فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ س ماعها،
فس ماع ه ذه األص وات يس تحيل أن يح رم لكونه ا طيب ة أو موزون ة فال ذاهب إلى
تحريم صوت العندليب وسائر الطي ور .وال ف رق بـين حنج رة وحنج رة ،وال بـين
جماد وحيوان)
ومثل ذلك النظر في الموزون والمفهوم ،وهو الشعر؛ فهو (ال يخ رج إال من
حنجرة ا ِإلنسان فيقطع بإباحة ذل ك ألن ه م ا زاد إال كون ه مفهوم اً .والكالم المفه وم
غير ح رام والص وت الطيب الم وزون غ ير ح رام ،ف إذا لم يح رم اآلح اد فمن أين
يحرم المجموع؟ نعم ينظر فيما يفهم منه فإن كان فيه أمر محظور حرم نثره ونظمه
وحرم النطق ب ه س واء ك ان بألح ان أو لم يكن ،ذل ك أن الش عر كالم فحس نه حس ن
وقبـيحه قبـيح .ومهم ا ج از إنش اد الش عر بغ ير ص وت وألح ان ج از إنش اده م ع
األلحان؛ ألن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذل ك المجم وع مباح اً .ومهم ا انض م
مباح إلى مباح لم يحرم إال إذا تضمن المجموع محظوراً ال تتضمنه اآلحاد)
ومثل ذلك النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغ الب علي ه،
(فلله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة لألرواح حتى إنه ا لت ؤثر فيه ا ت أثيراً
عجيباً ،فمن األصوات ما يفرح ،ومنها ما يحزن ،ومنها ما ينوم ،ومنها م ا يض حك
ويط رب ،ومنه ا م ا يس تخرج من األعض اء حرك ات على وزنه ا بالي د والرج ل
والرأس ،ومهما كان النظر في الغناء باعتبار تأثيره في القلب لم يج ز أن يحكم في ه
مطلقا ً بإباحة وال تح ريم ،ب ل يختل ف ذل ك ب األحوال واألش خاص واختالف ط رق
النغمات ،فحكمه حكم ما في القلب)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاس مع لم ا أح دثك عن ه من دور ه ذه
الوسيلة في التزكية والترقية.
الترويح والتزكية:
أما دور الترويح الذي ذكرت بالتزكية؛ فهو ظاهر ،ذلك أن التشدد في تحريم
اللهو المباح سيجر صاحبه إلى اللهو الح رام ،أو يجعل ه يعيش في حيات ه في ض نك
وضيق وحرج ،مع أن هللا تع الى لم يقص د من دين ه إال تربي ة عب اده وت زكيتهم ،ال
إيقاعهم في الحرج ،ول ذلك ع اتب هللا تع الى من يحرم ون م ا أح ل هللا من الزين ة،
412
ق قُ لْ ِه َي لِلَّ ِذينَ ت ِمنَ ال ر ِّْز ِ فقال﴿ :قُلْ َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ هَّللا ِ الَّتِي أَ ْخ َر َج لِ ِعبَ ا ِد ِه َوالطَّيِّبَ ا ِ
ت لِقَ وْ ٍم يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ ص ُل اآْل يَ ا ِ ص ةً يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة َك َذلِكَ نُفَ ِّ آ َمنُ وا فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا خَالِ َ
[األعراف]32 :
ثم بين المقصد من التحريم ،وكونه يشمل ما يؤثر في النفس وينحط بها ،ق ال
ش َم ا ظَهَ َر ِم ْنهَ ا َو َم ا بَطَنَ َواإْل ِ ْث َم َو ْالبَ ْغ َي بِ َغ ْي ِر اح َتعالى﴿ :قُلْ إِنَّ َم ا َح َّر َم َرب َِّي ْالفَ َو ِ
ق َوأَ ْن تُ ْش ِر ُكوا بِاهَّلل ِ َم ا لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه ُس ْلطَانًا َوأَ ْن تَقُولُ وا َعلَى هَّللا ِ َم ا اَل تَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ ْال َح ِّ
[األعراف]33 :
باإلض افة إلى ذل ك؛ ف إن األش عار والغن اء ال ذي يح وي المع اني الطيب ة ،ال
يختل ف عن ال ذكر والت ذكير ،فال ف رق بين أن يس مع الم ؤمن موعظ ة تتعل ق
بالشجاعة ،وبين أن يسمع قصيدة أو أغنية تحث عليها ،ول ذلك ك ان المجاه دون في
عهد رسول هللا يرتجزون بالشعر أثناء جه ادهم ،تش جيعا للنفس وحث ا له ا على
الثبات.
وقد روي عن عبد هللا بن رواحة أنه في غزوة مؤتة ،وعندما أحس في نفس ه
بعض التردد ،راح يردد منشدا مخاطبا نفسه:
طائع ة أو لتكرهنه أقس مت ي ا نفس
لتنزلنه
م الي أراك تك رهين فطالم ا ق د كنت
الجنة مطمئنة
ثم يقول:
وم ا تم نيت فق د ا نفس إال تقتلى ي
أعطيت وتي تم
وإن تأخرت فقد شقيت ا إن تفعلى فعلهم
ديت ه
ثم أقدم على المعركة ثابتا شجاعا إلى أن نال الشهادة ،ولحق بص احبيه زي د
وجعفر.
ولهذا كان رسول هللا يشجع الشعراء المؤمنين ،ألن الكلمات الطيب ة ال تي
يقولونه ا تس اهم في نش ر الفض ائل ،ومواجه ة الرذائ ل ،وب ذلك يتحق ق اإلص الح
النفسي واالجتماعي ،وقد ورد في الحديث أن النبي كان يضع لحسان المنبر في
المسجد يقوم عليه قائما يهجو أهل الجاهلية ،ويس خر من القيم ال تي ك انوا يتبنونه ا،
وقد قال ل ه رس ول هللا مش جعا( :إن روح الق دس م ع حس ان م ا دام ين افح عن
رسول هللا )1()ومن قصائده التي رثى بها رسول هللا :
منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بطيب ة رس م للرس ول ومعهد
به ا من بر اله ادي ال ذي ك ان وال تمتحي اآلي ات من دار
يصعد حرمة
إلى آخ ر القص يدة ،ومثله ا الكث ير من القص ائد ال تي تم دح رس ول هللا ،
)(1رواه أبو داود.
413
وتذكر أخالقه الطيبة ،والتي تحولت بعد ذلك إلى أغان وأناشيد تنش د في المج الس،
ويطرب لها السامعون ،ويتأثرون بمعانيها.
فما الضرر في ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وهي ـ بحس ب الواق ع ـ ال تنش ر
إال الفضيلة والخير ،وتحث عليهما بأسلوب يفرح له البشر ويطربون ..وهل يشترط
في المواعظ تأثيرها ،أم جفافها؟
ول ذلك ف إني عن دما ت أملت ح ال من ذك رت ،وال ذين وق ع اإلنك ار عليهم،
وجلست بعض مجالسهم سمعتهم يرددون أمثال هذه األبيات:
أن اش تكت ق دماه الض ر من ظلمت س نة من أحي ا الظالم
ورم الى
تحت الحج ارة كش حا م ترف وش د من س غب أحش اءه
األدم وى وط
عن نفس ه فأراه ا أيم ا ش مم وراودت ه الجب ال الش م من
ذهب
إن الض رورة ال تع دو على وأكدت زهده فيه ا ض رورته
العصم
والفريقين من عرب ومن عجم محم د س يد الك ونين والثقلين
وق د ت أملت فيه ا؛ فوج دت ك ل معانيه ا طيب ة ،فهي ت ذكر رس ول هللا
واألخالق الرفيعة التي كان يتص ف به ا ،وهي ت دعو من خالل ذل ك إلى األم رين:
محبة رسول هللا ،ومحبة تلك القيم واألخالق العالية ،وكالهم ا من األس س ال تي
ال تقوم التزكية إال بها ..فهل في ذلك أي حرج؟
بل إني وجدت ما يفعلونه هو نفس م ا فعل ه رس ول هللا ،فق د ح دث أنس،
قال :خرج رسول هللا إلى الخندق ،فإذا المهاجرون واألنصار يحفرون في غداة
باردة ،فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
فاغفر لألنصار اللهم إن العيش عيش
والمهاجره اآلخره
فقالوا مجيبين له:
على الجهاد ما بقينا أبدا نحن الذين بايعوا محمدا
وعن البراء قال :كان النبي ينقل التراب يوم الخندق حتى أغم ر بطن ه أو
اغبر بطنه ،يقول:
وال تصدقنا وال صلينا وهللا لوال هللا ما اهتدينا
وثبت األقدام إن القينا فأنزلن سكينة علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا إن األلى قد بغوا علينا
414
ورفع بها صوته أبينا أبينا(.)1
وروى أنس أن النبي مر ببعض المدينة ف إذا ه و بج وار يض ربن ب دفهن
ويتغنين ويقلن:
يا حبذا محم د من ج ار نحن ج وار من ب ني
ار النج
فقال النبي :اللهم بارك فيهن (.)2
فهذه األبيات التي وصلتنا ،والتي ق د يوج د غيره ا كث ير مم ا لم يص لنا ي دل
على اعتماد رسول هللا ه ذه الوس يلة لتزكي ة النف وس وتربيته ا ،لعلم ه بتأثيره ا
عليها.
الترويح والترقية:
أما دور الترويح ال ذي ذك رت بالترقي ة؛ ف إن ذل ك ت ابع للكلم ات ال تي ت ردد
وتنشد؛ فإن كانت كلمات تحث على معرفة هللا ومحبته ومحبة أوليائ ه؛ ف إن دوره ا
ال يختلف عن األذكار والصلوات والزيارات وغيره ا ..وال ف رق بينهم ا س وى في
تلك األلحان التي ترتاح لها النفس.
بل إن لتلك األلحان تأثيرها الكبير؛ فف رق بين أن تس مع األدعي ة والص لوات
بأصوات عادية ،وبين أن تسمعها بأصوات جميلة شجية متناسبة مع معانيها..
ولهذا سن الصالحون وضع األدعية في تلك القوالب الجميل ة ،كم ا س نوا من
قبلها سماع القرآن الكريم باألصوات الجميلة المؤثرة.
بل إن رسول هللا هو الذي سن ذلك؛ ففي الحديث عنه أن ه ق ال( :ليس
يتغن بالقرآن)()3 ّ منّا من لم
ي أن يتغنّى()4وفي ح ديث آخ ر ق ال ( :م ا أذن هللا لش يء م ا أذن لن ب ّ
بالقرآن) ()5
وروي أنه قال لبعض أصحابه( :لو رأيتني وأنا أستمع لقراءت ك البارح ة
لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود) ()6
بل إن القرآن الكريم هو الذي سن ذلك ،وأش ار إلي ه ،فق د ق ال هللا تع الى عن
اجبَا ُل أَ ِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر﴾ [سبأ]10 :
داود عليه السالمَ ﴿ :ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َد ِمنَّا فَضْ اًل يَ ِ
ولهذا؛ ف إن أمث ال تل ك األش عار ال تي تنش د ،وال تي تحث على محب ة هللا ،أو
محبه رسوله ومحبة األولياء والصالحين؛ فال حرج فيها ،بل إنها ال تختل ف عن
سائر ما دعت إليه النصوص المقدسة من األذكار والص لوات وغيره ا ..ودورهم ا
419