You are on page 1of 422

‫هذا الكتاب‬

‫النفس اللوام ة هي النفس ال تي تق ع في المرتب ة الثاني ة بع د النفس‬


‫األمارة‪ ،‬لتحضر صاحبها ألن تتحول نفسه إلى نفس مطمئنة‪..‬‬
‫ودوره ا ب ذلك مح دود وم ؤقت‪ ،‬ويمكن تحدي ده في ج انبين‪ ،‬أو‬
‫وظيفتين‪:‬‬
‫أوالهما‪ :‬تزكية النفس وتهذيبها من كل مثالب النفس األم ارة‪ ،‬ذل ك‬
‫أن ه ال يمكن أن تب نى األخالق الطيب ة إال بع د اجتث اث م ا يخالفه ا من‬
‫األخالق الخبيثة‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬ترقية النفس إلى المحال التي تطمئن فيها لإليمان‪ ،‬لتصبح‬
‫بذلك أهال لدرجة النفس المطمئنة‪.‬‬
‫وهذان الدوران يحتاجان إلى التعرف على المناهج الصحيحة ال تي‬
‫يمكن أن تسير بالنفس سيرا صحيحا‪ ،‬ح تى ال ينح رف به ا ص احبها في‬
‫الوقت الذي يريد فيه تهذيبها والرقي بها‪.‬‬
‫ولذلك حاولنا في هذه الرسائل أن نذكر المناهج التي يمكن أن تق وم‬
‫بذينك الدورين‪ ،‬مع بيان أدلتها الشرعية‪ ،‬واألخطاء ال تي تس ربت إليه ا‪،‬‬
‫وحالت بينها وبين أداء أدوارها الصحيحة‪.‬‬
‫رسائل التزكية والترقية‬

‫(‪)2‬‬

‫مدارس النفس اللوامة‬


‫أربعون رسالة في مناهج التزكية ومدارسها‬
‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬
‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة الأولى‬

‫‪ 1441‬ـ ‪2019‬‬

‫دار الأنوار للنشر والتوزيع‬



‫فهرس المحتويات‬
‫‪2‬‬ ‫فهرس المحتويات‬
‫‪9‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪11‬‬ ‫الصبر والصالة‬
‫‪18‬‬ ‫مدرسة الصبر‪:‬‬
‫‪23‬‬ ‫مدرسة الصالة‪:‬‬
‫‪27‬‬ ‫النية الخالصة‬
‫‪34‬‬ ‫النية والتحصين‪:‬‬
‫‪37‬‬ ‫النية والتحصيل‪:‬‬
‫‪47‬‬ ‫الذكر الكثير‬
‫‪60‬‬ ‫األذكار العامة‪:‬‬
‫‪64‬‬ ‫األذكار الخاصة‪:‬‬
‫‪67‬‬ ‫التكبير والتهليل‬
‫‪69‬‬ ‫التكبير والتزكية‪:‬‬
‫‪76‬‬ ‫التهليل والتزكية‪:‬‬
‫‪84‬‬ ‫التسبيح والتقديس‬
‫‪90‬‬ ‫تسبيح العقل‪:‬‬
‫‪93‬‬ ‫تسبيح القلب‪:‬‬
‫‪96‬‬ ‫تسبيح الجوارح‪:‬‬
‫‪104‬‬ ‫الحمد والتمجيد‬
‫‪109‬‬ ‫تمجيد العقل‪:‬‬
‫‪111‬‬ ‫تمجيد القلب‪:‬‬
‫‪113‬‬ ‫تمجيد الجوارح‪:‬‬
‫‪123‬‬ ‫إحصاء األسماء‬
‫‪124‬‬ ‫إحصاء البحث‪:‬‬
‫‪128‬‬ ‫إحصاء الفهم‪:‬‬
‫‪130‬‬ ‫اإلحصاء الوجداني‪:‬‬
‫‪133‬‬ ‫اإلحصاء التخلقي‪:‬‬
‫‪137‬‬ ‫االسم المفرد‬
‫‪139‬‬ ‫االسم المفرد وأدلته الشرعية‪:‬‬
‫‪146‬‬ ‫االسم المفرد وأدواره التربوية‪:‬‬
‫‪154‬‬ ‫الدعاء والمناجاة‬
‫‪156‬‬ ‫الدعاء والتحقق‪:‬‬
‫‪161‬‬ ‫الدعاء والتخلق‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫‪166‬‬ ‫التضرع واالستغاثة‬
‫‪172‬‬ ‫الحاجة والتقصير‪:‬‬
‫‪177‬‬ ‫االستغناء والكمال‪:‬‬
‫‪182‬‬ ‫االفتقار واالضطرار‬
‫‪185‬‬ ‫االفتقار والتزكية‪:‬‬
‫‪188‬‬ ‫االضطرار والتزكية‪:‬‬
‫‪194‬‬ ‫اإلنابة واالستغفار‬
‫‪196‬‬ ‫اإلنابة والتزكية‪:‬‬
‫‪202‬‬ ‫االستغفار والتزكية‪:‬‬
‫‪211‬‬ ‫التعرض للنفحات‬
‫‪212‬‬ ‫النفحات الزمانية‪:‬‬
‫‪219‬‬ ‫النفحات المكانية‪:‬‬
‫‪230‬‬ ‫حق التالوة‬
‫‪232‬‬ ‫الحق الظاهر‪:‬‬
‫‪242‬‬ ‫الحق الباطن‪:‬‬
‫‪248‬‬ ‫المعارج القرآنية‬
‫‪258‬‬ ‫معارج الحقائق‪:‬‬
‫‪261‬‬ ‫معارج القيم‪:‬‬
‫‪267‬‬ ‫الفهم والتدبر‬
‫‪269‬‬ ‫فهم القرآن‪:‬‬
‫‪278‬‬ ‫تدبر القرآن‪:‬‬
‫‪286‬‬ ‫االنفعال والتفعيل‬
‫‪287‬‬ ‫االنفعال بالقرآن‪:‬‬
‫‪297‬‬ ‫تفعيل القرآن‪:‬‬
‫‪306‬‬ ‫الركوع والسجود‬
‫‪308‬‬ ‫الركوع والتزكية‪:‬‬
‫‪316‬‬ ‫السجود والتزكية‪:‬‬
‫‪331‬‬ ‫الصالة الخاشعة‬
‫‪333‬‬ ‫أسباب الخشوع‪:‬‬
‫‪337‬‬ ‫كيفية الخشوع‪:‬‬
‫‪352‬‬ ‫صوم المتقين‬
‫‪358‬‬ ‫الصوم والتزكية‪:‬‬
‫‪363‬‬ ‫الصوم والترقية‪:‬‬
‫‪366‬‬ ‫إنفاق المخلصين‬

‫‪3‬‬
‫‪371‬‬ ‫اإلخالص والتجرد‪:‬‬
‫‪378‬‬ ‫االستحقاق والحاجة‪:‬‬
‫‪384‬‬ ‫الطيبة والجودة‪:‬‬
‫‪389‬‬ ‫الحج المبرور‬
‫‪391‬‬ ‫الحج والتزكية‪:‬‬
‫‪398‬‬ ‫الحج والترقية‪:‬‬
‫‪410‬‬ ‫النوافل والتطوعات‬
‫‪413‬‬ ‫نوافل الصلوات‪:‬‬
‫‪425‬‬ ‫نوافل الصيام‪:‬‬
‫‪430‬‬ ‫المجاهدة الكبرى‬
‫‪432‬‬ ‫مجاهدة التزكية‪:‬‬
‫‪437‬‬ ‫مجاهدة الترقية‪:‬‬
‫‪442‬‬ ‫المعاهدة الجازمة‬
‫‪448‬‬ ‫معاهدة التزكية‪:‬‬
‫‪450‬‬ ‫معاهدة النصرة‪:‬‬
‫‪455‬‬ ‫المشارطة الحازمة‬
‫‪459‬‬ ‫المشارطة والتزكية‪:‬‬
‫‪461‬‬ ‫المشارطة والترقية‪:‬‬
‫‪468‬‬ ‫المراقبة المشددة‬
‫‪473‬‬ ‫مراقبة المشروعية‪:‬‬
‫‪476‬‬ ‫مراقبة القبول‪:‬‬
‫‪483‬‬ ‫المحاسبة الدقيقة‬
‫‪484‬‬ ‫المحاسبة والمشارطة‪:‬‬
‫‪486‬‬ ‫المحاسبة والتزكية‪:‬‬
‫‪491‬‬ ‫المعاتبة والمعاقبة‬
‫‪493‬‬ ‫المعاتبة والتزكية‪:‬‬
‫‪500‬‬ ‫المعاقبة والتزكية‪:‬‬
‫‪507‬‬ ‫الفكر والتأمل‬
‫‪514‬‬ ‫الفكر والتزكية‪:‬‬
‫‪523‬‬ ‫الفكر والترقية‪:‬‬
‫‪527‬‬ ‫االعتبار واالستبصار‬
‫‪528‬‬ ‫االعتبار والتزكية‪:‬‬
‫‪535‬‬ ‫االعتبار والترقية‪:‬‬
‫‪545‬‬ ‫الرغبة والطمع‬

‫‪4‬‬
‫‪548‬‬ ‫الرغبة والتزكية‪:‬‬
‫‪550‬‬ ‫الرغبة والترقية‪:‬‬
‫‪557‬‬ ‫الرهبة والخشية‬
‫‪560‬‬ ‫الرهبة والتزكية‪:‬‬
‫‪565‬‬ ‫الرهبة والترقية‪:‬‬
‫‪568‬‬ ‫معية الصالحين‬
‫‪569‬‬ ‫التواصل والتأسي‪:‬‬
‫‪578‬‬ ‫المسارعة والمنافسة‪:‬‬
‫‪585‬‬ ‫مجالس اإليمان‬
‫‪586‬‬ ‫مجالس الذكر‪:‬‬
‫‪589‬‬ ‫مجالس التذكير‪:‬‬
‫‪595‬‬ ‫المرشد المربي‬
‫‪597‬‬ ‫وظيفة المرشد‪:‬‬
‫‪599‬‬ ‫أهلية المرشد‪:‬‬
‫‪602‬‬ ‫العزلة التربوية‬
‫‪602‬‬ ‫العزلة الدائمة‪:‬‬
‫‪608‬‬ ‫العزلة المؤقتة‪:‬‬
‫‪613‬‬ ‫المخالطة التربوية‬
‫‪615‬‬ ‫المخالطة والتزكية‪:‬‬
‫‪622‬‬ ‫المخالطة والترقية‪:‬‬
‫‪628‬‬ ‫إقامة الشهادة‬
‫‪637‬‬ ‫الترويح الروحي‬
‫‪641‬‬ ‫الترويح والتزكية‪:‬‬
‫‪644‬‬ ‫الترويح والترقية‪:‬‬
‫‪651‬‬ ‫هذا الكتاب‬

‫‪5‬‬
‫المقدمة‬
‫النفس اللوام ة هي النفس ال تي تق ع في المرتب ة الثاني ة بع د النفس األم ارة‪،‬‬
‫لتحضر صاحبها ألن تتحول نفسه إلى نفس مطمئنة‪..‬‬
‫ودورها بذلك محدود ومؤقت‪ ،‬ويمكن تحديده في جانبين‪ ،‬أو وظيفتين‪:‬‬
‫أوالهما‪ :‬تزكي ة النفس وته ذيبها من ك ل مث الب النفس األم ارة‪ ،‬ذل ك أن ه ال‬
‫يمكن أن تبنى األخالق الطيبة إال بعد اجتثاث ما يخالفها من األخالق الخبيثة‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬ترقية النفس إلى المحال التي تطمئن فيها لإليمان‪ ،‬لتصبح بذلك أهال‬
‫لدرجة النفس المطمئنة‪.‬‬
‫وهذان الدوران يحتاجان إلى التعرف على المناهج الص حيحة ال تي يمكن أن‬
‫تسير بالنفس سيرا صحيحا‪ ،‬حتى ال ينحرف بها صاحبها في الوقت الذي يري د في ه‬
‫تهذيبها والرقي بها‪.‬‬
‫ولذلك حاولنا في هذه الرس ائل أن ن ذكر المن اهج ال تي يمكن أن تق وم ب ذينك‬
‫الدورين‪ ،‬مع بيان أدلتها الشرعية‪ ،‬واألخطاء التي تسربت إليها‪ ،‬وحالت بينه ا وبين‬
‫أداء أدوارها الصحيحة‪.‬‬
‫وقد حاولنا ـ مثلما فعلنا في الرسائل السابقة ـ االهتم ام بالج انب العملي‪ ،‬م ع‬
‫تأييده بما يدل عليه من التأصيل النظري‪ ..‬ولذلك ذكرنا الكث ير من النم اذج العملي ة‬
‫في كل رسالة‪ ،‬ال قصدا منا لحصرها‪ ،‬وإنما للداللة عليها‪ ،‬وعلى مثيالتها‪.‬‬
‫ومثلما فعلنا في الرسائل الس ابقة من تأيي د م ا ن ذكره من من اهج بالنص وص‬
‫المقدسة؛ فقد فعلنا ذلك معتمدين على القرآن الك ريم أوال باعتب اره المص در األك بر‬
‫للتزكية‪.‬‬
‫ثم نتبعه بما ورد في السنة المطهرة‪ ،‬ومثله ا عن أئم ة اله دى‪ ،‬من المص ادر‬
‫المختلفة بحسب المنهج الذي نتبن اه في ص حة األح اديث أو قبوله ا‪ ،‬وه و موافقته ا‬
‫للق رآن الك ريم والقيم ال تي ج اءت به ا الش ريعة‪ ،‬ول ذلك ال نهتم ب أقوال المح دثين‬
‫وأحكامهم‪ ،‬وخاصة مع اختالفها‪ ،‬وإنما نكتفي بإيراد المصادر الحديثية‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك نذكر ما قاله علماء التزكية‪ ،‬والمهتمون بها‪ ،‬من غير ذكر‬
‫أسمائهم في العادة‪ ،‬ألنه قد يختلف في الموقف من بعضهم‪ ،‬وذلك ما يش غل الق ارئ‬
‫عن الهدف من الرسائل‪ ،‬وهي تزكية النفس‪ ،‬وليس الجدل وال الشغب‪.‬‬
‫وقد رأينا من خالل التجربة أن ذكر أس ماء علم اء التزكي ة‪ ،‬يث ير الكث ير من‬
‫الحساسيات من جهات مختلفة‪ ،‬ذلك أنه يصرف النظر عن األقوال إلى القائلين بها‪،‬‬
‫ولذلك رأينا من الحكمة أن نذكرهم باسم الحكماء‪ ،‬باعتبار أن ما ق الوه حكم ة يمكن‬
‫االستفادة منها‪ ،‬والحكمة ضالة المؤمن‪ ،‬أين وجدها فهو أحق بها‪.‬‬
‫ومثل ذل ك أعرض نا عن الخالف ات ال واردة في الكث ير من المس ائل ذل ك أن‬
‫القصد هو التزكية والترقية‪ ..‬ال الجدل والشغب والوساوس التي يثيرها في النفس‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫مع العلم أننا ـ م ع تبس يطنا للمس ائل المطروح ة‪ ،‬ووض عها بش كل يفي د ك ل‬
‫القراء بمختلف مستوياتهم ـ إال أن معظم ما ذكر في كتب التزكية في تل ك الج وانب‬
‫ذكرن اه‪ ،‬ولكن بص ياغة بس يطة مهذب ة‪ ،‬بحيث يمكن اس تفادة الجمي ع منه ا‪ ..‬ال في‬
‫التزكية العملية وحدها‪ ،‬وإنما في المعارف العلمية المرتبطة بها‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫الصبر والصالة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تشكرني على رسائلي التي أجبتك فيه ا عن‬
‫أسئلتك حول [مثالب النفس األمارة]‪ ،‬وذكرت لي أنها ـ بفض ل هللا وعون ه ـ أث رت‬
‫فيك تأثيرا كبيرا؛ فص رت تع رف م ا كنت تجهل ه من المث الب والعي وب‪ ،‬وتع رف‬
‫منابعها وثمارها وكيفية مواجهتها وعالجها‪..‬‬
‫وأخبرتني أن ذل ك العلم لم يب ق محص ورا في دائ رة عقل ك‪ ،‬وإنم ا امت د إلى‬
‫مراكز إرادت ك وعزيمت ك؛ ف راح ي دعوها لتطه ير نفس ك منه ا‪ ،‬وحمايته ا من ك ل‬
‫مسالك الشيطان والهوى المؤدية إليها‪.‬‬
‫وأخبرتني أن ذلك جعلك أكثر ورع ا؛ فص رت تتوق ف قب ل عق د أي ني ة‪ ،‬أو‬
‫النطق بأي قول‪ ،‬أو القيام بأي عم ل‪ ،‬أو اتخ اذ أي موق ف‪ ،‬قب ل أن تع رف حكم هللا‬
‫فيه‪ ،‬وعالقته بتلك المثالب‪ ،‬حتى ال يكون صادرا من هواك‪ ،‬أو نفسك األمارة‪.‬‬
‫وأخبرتني أنك صرت تل وم نفس ك كث يرا‪ ،‬وتحاس بها على النق ير والقطم ير‪،‬‬
‫وتترجى كل من شعرت أنك آذيته بأن يبرئ ذمت ك‪ ،‬وتس ارع لك ل من قص رت في‬
‫حقه بالوفاء بما يطلبه الواجب منك‪.‬‬
‫لكنك بعد هذا ذكرت لي أن همتك أعلى من أن تتوقف عند تطه ير نفس ك من‬
‫خبثها ومكايد الشيطان المتربصة بها‪ ..‬وأنك تطمح إلى أن تسير في طريق األولي اء‬
‫والص الحين والص ديقين‪ ،‬لت نزل المن ازل ال تي نزلوه ا‪ ،‬وتت نزل علي ك المع ارف‬
‫والمواهب التي تنزلت عليهم‪.‬‬
‫وطلبت مني لذلك أن أذكر لك المناهج العملية المؤدية لذلك‪ ،‬وأن أقتصر فيها‬
‫على ما دل عليه الدليل‪ ،‬ووافقت عليه الشريعة‪ ،‬ونصت علي ه النص وص المقدس ة‪،‬‬
‫أو أشارت إليه‪.‬‬
‫وقد ذكرت لي أنك سترسل لي رسائل تطلب مني توض يح الط رق والمن اهج‬
‫المرتبطة بذلك‪ ،‬مثلما فعلت مع رسائلك ح ول مث الب النفس األم ارة‪ ..‬وطلبت م ني‬
‫أن يتسع صدري لذلك‪ ،‬وأال يضيق بما قد أبديه لك من نقد أو عتاب حول ما قد تنفر‬
‫نفسك منه‪ ،‬أو تشعر أنه يصطدم مع ما تفهمه من الشريعة ونصوصها المقدسة‪.‬‬
‫ثم ختمت رسالتك لي بطلب أن أذكر لك ما دلت عليه النصوص المقدس ة من‬
‫المجامع التي تجتمع فيها كل المناهج والمدارس والط رق الش رعية للس ير إلى هللا‪،‬‬
‫حتى تكون معينة لك على فهم الطريق إجماال‪ ،‬قبل معرفته تفصيال‪.‬‬
‫وقد سرتني ـ أيها المريد الصادق ـ رسالتك كثيرا‪ ،‬وخاصة ما ذكرت لي فيها‬
‫من عزم ك على نق د م ا ت راه مخالف ا للش ريعة؛ وه ذا ظ ني ب ك؛ فال ينبغي للمري د‬
‫الصادق مع هللا أن يكون شيخه أولى عنده من ربه أو نبيه أو كتابه أو من جعلهم هللا‬
‫ممثلين للحقيقة وهداة إليها‪.‬‬
‫وجوابا لطلبك في هذه الرسالة أذكر لك أن هللا تعالى ـ برحمته ولطفه ـ وف ر‬
‫‪8‬‬
‫لعب اده ـ مراع اة لطب ائعهم وأم زجتهم وع زائمهم ـ الكث ير من المن اهج والوس ائل‬
‫والطرق التي إن التزموها‪ ،‬سارت بهم إلى هللا تعالى‪ ،‬ورفعت عن عيون قلوبهم كل‬
‫الحجب التي تحول بينهم وبين الحقائق‪ ،‬ورفعت عن أنفسهم كل الموانع التي تح ول‬
‫بينها وبين إنسانيتها المكرمة‪ ،‬حتى قال بعض هم في ذل ك‪( :‬هلل طرائ ق بع دد أنف اس‬
‫الخالئق)‬
‫ولذلك ترى السائرين إلى هللا مختلفي األذواق واألمزجة والمناهج‪ ..‬ومع ذلك‬
‫تجمعهم طريق هللا الواحدة التي تصفي نفوسهم‪ ،‬وتهذب طب اعهم‪ ،‬لتجعله ا ص الحة‬
‫للحق‪ ،‬كما عبر بعض الصالحين عن ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وك ل إلى ذاك الجم ال‬ ‫عباراتن ا ش تى وحس نك‬
‫ير‬ ‫يش‬ ‫واحد‬
‫وقال اآلخر مبينا الوئ ام الموج ود ل دى الس ائرين في طري ق هللا مقارن ة م ع‬
‫النزاع الموجود لدى المتكلمين والفالسفة وغيرهم‪:‬‬
‫وم ا بين عش اق الح بيب‬ ‫ّ‬ ‫وكم بين ح ّذاق الج دال‬
‫ازع‬ ‫تن‬ ‫ازع‬ ‫تن‬
‫وعبر آخر عن ذلك بقوله‪( :‬تعدد وجوه الحسن‪ ،‬يقضي بتعدد االستحسان)‬
‫ب ل إن رس ول هللا ‪ ‬أش ار إلى ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬يص بح على ك ل ُس المى من‬
‫أحدكم صدقةٌ‪ ،‬فكل تسبيح ٍة صدقةٌ‪ ،‬وكل تحميد ٍة ص دقةٌ‪ ،‬وك ل تهليل ٍة ص دقةٌ‪ ،‬وك ل‬
‫ي عن المنكر صدقةٌ) (‪)1‬‬ ‫تكبير ٍة صدقةٌ‪ ،‬وأم ٌر بالمعروف صدقةٌ‪ ،‬ونه ٌ‬
‫وقال‪( :‬اإليمان بض ٌع وسبعون‪ ،‬أو بض ٌع وستون شعبةً‪ :‬فأفض لها ق ول ال إل ه‬
‫إال هللا‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬والحياء شعبةٌ من اإليمان) (‪)2‬‬
‫وغيرها من األحاديث التي تدل على ك ثرة أب واب الخ ير‪ ،‬وأن ك ل من س لك‬
‫بابا منها‪ ،‬يمكنه أن يكون وسيلته إلى هللا تعالى‪ ،‬ووسيلته إلى تهذيب نفسه‪.‬‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن ابتغ اء الوس ائل المؤدي ة إلى ته ذيب النفس‬
‫وتزكيته ا وترقيته ا واجب ش رعي ال يق ل عن الص الة والص يام والزك اة والحج‬
‫وغيرها‪ ..‬ذلك أن اإلنسان ال يمكنه أن يتحول إلى الصيغة الم راد أن يك ون عليه ا‪،‬‬
‫إال بعد أن يقوم بذلك‪.‬‬
‫وقد صرحت النص وص المقدس ة بوج وب اس تعمال ك ل الوس ائل والمن اهج‬
‫المؤدية لذلك‪ ،‬كما ق ال تع الى‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّقُ وا هللا َوا ْبتَ ُغ وا إِلَ ْي ِه ْال َو ِس يلَةَ‬
‫َو َجا ِهدُوا فِي َسبِيلِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ [المائدة‪]35 :‬‬
‫فقد قرن هللا تعالى في هذه اآلية الكريمة تقوى هللا بابتغاء الوسيلة والجهاد في‬
‫سبيل هللا‪ ..‬ليبين أن ه ال يمكن تحقي ق التق وى إال باس تعمال الوس ائل المؤدي ة ل ذلك‪،‬‬
‫والتي قد تستدعي الكثير من المجاهدات حتى تتخلص النفس من رعونتها‪ ،‬وتس تقيم‬
‫في السير إلى ربها‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫وهك ذا وص ف هللا تع الى عب اده الص الحين‪ ،‬وحرص هم على الق رب من ه‪،‬‬
‫وابتغاؤهم لذلك كل الوسائل‪ ،‬فق ال‪﴿:‬أُولَئِ كَ الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ يَ ْبتَ ُغ ونَ إِلَى َربِّ ِه ُم ْال َو ِس يلَةَ‬
‫اب َربِّكَ َك انَ َمحْ ُذورًا﴾‬ ‫أَيُّهُ ْم أَ ْق َربُ َويَرْ ُج ونَ َرحْ َمتَ هُ َويَخَ افُونَ َع َذابَ هُ إِ َّن َع َذ َ‬
‫[اإلسراء‪ ،]57 :‬وهو يدل على أن وصولهم إلى تلك المراتب لم يكن إال باستعمالهم‬
‫الوسائل التي أتاحت لهم ذلك‪.‬‬
‫وهذه س نة هللا تع الى في خلق ه؛ فلك ل ش يء وس ائله المؤدي ة إلي ه‪ ،‬وال يمكن‬
‫تحقيق المقاصد من دون الوسائل؛ فال يمكن أن يتعلم المرء من دون القراءة‪ ،‬ولذلك‬
‫أمرت الشريعة بالقراءة‪ ،‬فقد قال هللا تعالى في أول ما نزل من القرآن الكريم‪﴿ :‬ا ْق َر ْأ‬
‫بِاس ِْم َربِّكَ الَّ ِذي خَ لَقَ﴾ [العلق‪]1 :‬‬
‫وال يمكن العالج من األدواء من دون استعمال األدوية‪ ،‬وزيارة األطباء‪ ،‬وقد‬
‫قال رسول هللا ‪( :‬ما أنزل هللا داء‪ ،‬إال قد أنزل له شفاء‪ ،‬علمه من علم ه‪ ،‬وجهل ه‬
‫من جهله)(‪)1‬‬
‫وهك ذا تطه ير النفس وتزكيته ا‪ ،‬وال تي أخ بر هللا تع الى عن ارتب اط الفالح‬
‫والفوز بها‪ ،‬ال يمكن تحقيقها إال بالبحث عن الوسائل المعين ة ل ذلك‪ ،‬وه و م ا يش ير‬
‫ُورهَ ا َوتَ ْق َواهَ ا (‪ )8‬قَ ْد أَ ْفلَ َح َم ْن‬ ‫س َو َما َس َّواهَا (‪ )7‬فَأ َ ْلهَ َمهَ ا فُج َ‬ ‫إليه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ونَ ْف ٍ‬
‫اب َم ْن َدسَّاهَا﴾ [الشمس‪]10 - 7 :‬‬ ‫َز َّكاهَا (‪َ )9‬وقَ ْد َخ َ‬
‫وهذه اآليات الكريمة تدل على أن النفس طيعة لص احبها‪ ،‬يمكن ه أن يزكيه ا‪،‬‬
‫كما يمكنه أن ينتكس بها وينزلها بها إلى عوالم ال تمت لها بصلة‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن هللا تعالى ذك ر المج امع ال تي‬
‫تؤول إليها كل المناهج والمس الك‪ ،‬لتنض بط به ا‪ ،‬ح تى ال تص بح عرض ة للوس ائل‬
‫التي تسنها األمزجة واألهواء‪ ،‬وقد ي دس فيه ا الش يطان م ا يص رف عن هللا ويبع د‬
‫عنه‪ ،‬بدل أن يقرب إليه‪.‬‬
‫اس تَ ِعينُوا‬ ‫ومن تلك المجامع ما نص علي ه قول ه تع الى‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْ‬
‫الص ابِ ِرينَ ﴾ [البق رة‪ ]153 :‬وال تي وردت بع د اآلي ات‬ ‫صاَل ِة إِ َّن هللا َم َع َّ‬ ‫صب ِْر َوال َّ‬ ‫بِال َّ‬
‫المخ برة عن دور رس ول هللا ‪ ‬في تزكي ة أمت ه‪ ،‬وأمره ا بال ذكر والش كر الل ذين‬
‫يمثالن عالم ة التزكي ة الحقيقي ة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ك َم ا أَرْ َس ْلنَا فِي ُك ْم َر ُس واًل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلُ و‬
‫َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َويُ َعلِّ ُم ُك ْم َما لَ ْم تَ ُكونُوا تَ ْعلَ ُمونَ (‪)151‬‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم آيَاتِنَا َويُزَ ِّكي ُك ْم َويُ َعلِّ ُم ُك ُم ْال ِكت َ‬
‫فَ ْاذ ُكرُونِي أَ ْذ ُكرْ ُك ْم َوا ْش ُكرُوا لِي َواَل تَ ْكفُرُو ِن﴾ [البقرة‪]152 ،151 :‬‬
‫الص ب ِْر‬ ‫اس ت َِعينُوا بِ َّ‬ ‫﴿و ْ‬‫ومثله ا م ا ورد في قول ه تع الى خطاب ا لب ني إس رائيل‪َ :‬‬
‫خَاش ِعينَ ﴾ [البق رة‪ ،]45 :‬وق د وردت ك ذلك في‬ ‫يرةٌ إِاَّل َعلَى ْال ِ‬ ‫الص اَل ِة َوإِنَّهَ ا لَ َكبِ َ‬ ‫َو َّ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬
‫معرض بيان التك اليف الش رعية المؤدي ة للتزكي ة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و تَلبِ ُس وا ال َح َّ‬
‫صاَل ةَ َوآتُوا ال َّز َكاةَ َوارْ َكعُوا َم َع‬ ‫ق َوأَ ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ (‪َ )42‬وأَقِي ُموا ال َّ‬ ‫اط ِل َوتَ ْكتُ ُموا ْال َح َّ‬‫بِ ْالبَ ِ‬
‫اب أَفَاَل‬ ‫اس بِ ْالبِرِّ َوتَ ْن َس وْ نَ أَ ْنفُ َس ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم تَ ْتلُ ونَ ْال ِكتَ َ‬ ‫ال رَّا ِك ِعينَ (‪ )43‬أَتَ أْ ُمرُونَ النَّ َ‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)7/158‬وابن ماجة (‪)3439‬‬


‫‪10‬‬
‫تَ ْعقِلُونَ ﴾ [البقرة‪]44 - 42 :‬‬
‫وبذلك؛ فإن اآليتين الكريمتين تصفان المجامع الك برى ال تي يمكن اعتباره ا‬
‫البحر الذي تجتمع فيه روافد السير والسلوك إلى هللا‪ ..‬أو تنطلق منه‪.‬‬
‫وقد تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ في ك ل المس الك والمن اهج ال تي اعتبره ا‬
‫السائرون إلى هللا‪ ،‬أو قاموا بتنفيذها على أنفسهم‪ ،‬أو على مريديهم‪ ،‬فوجدتها جميع ا‬
‫تنطلق من هاتين اآليتين الكريمتين‪ ..‬ووجدت مقابل ذلك أن كل البدع واالنحراف ات‬
‫التي انحرفت بسير السائرين كان سببها اختالفها مع م ا ورد في اآلي تين الكريم تين‬
‫من منهج االستعانة على النفس‪.‬‬
‫ولذلك يمكن اعتبار جميع المناهج الش رعية للس ير إلى هللا مظ اهر وتجلي ات‬
‫للصالة والصبر‪ ..‬وكل منهج خالفهما‪ ،‬يكون منهج ا مبت دعا‪ ،‬ألن ه خ الف األص ول‬
‫التي أمر هللا تعالى باالستعانة بها‪.‬‬
‫وبذلك ـ أيضا ـ يمكن اعتبار الصالة والصبر المدرستين أو الجامعتين الل تين‬
‫تدرب المنتمين إليها على كل مقررات السير والسلوك‪..‬‬
‫وذلك ال يعني حرفية الصبر والصالة في اآليتين الكريم تين‪ ،‬بحيث تختص ر‬
‫مناهج السير فيهما؛ فهذا ال يتوافق مع القرآن الكريم نفسه‪ ،‬ذلك أن هللا تعالى اعت بر‬
‫كثيرا من األعمال الشرعية من من اهج الس ير إلى هللا‪ ،‬كم ا ق ال في جمي ع الش عائر‬
‫التعبدي ة‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا النَّاسُ ا ْعبُ دُوا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي خَ لَقَ ُك ْم َوالَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُ ونَ ﴾‬
‫[البقرة‪]21 :‬‬
‫ب َعلَ ْي ُك ُم ِّ‬
‫الص يَا ُم‬ ‫وضرب المثل لذلك بالصيام‪ ،‬فقال‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ُكتِ َ‬
‫ب َعلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة‪]183 :‬‬ ‫َك َما ُكتِ َ‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة‪ ،‬ومثلها من األحاديث والروايات ال تي ت دل على‬
‫أن كل أعمال الخير ليست سوى وسائل للتربية والتهذيب والتزكية والترقية‪.‬‬
‫ول ذلك ف إن الم راد باالس تعانة بالص بر والص الة أش مل من أن تختص ر في‬
‫المعنى الحرفي لهما‪ ،‬بل هما يدالن على األصول المرتبطة بمن اهج الس ير إلى هللا‪،‬‬
‫وهما أصالن‪:‬‬
‫ُ‬
‫األول‪ :‬المجاهدات والرياضات التي تحتاج إلى الص بر‪ ،‬ح تى ته ذب النفس‪،‬‬
‫وتبتعد عن رعونتها‪ ،‬وتتحلى بالقيم التي تجعلها أهال للقرب اإللهي‪ ..‬ولذلك ق دم هللا‬
‫تع الى الص بر على الص الة‪ ..‬ألن الص الة الحقيقي ة ال تك ون إال بع د ته ذيب النفس‬
‫وتربيتها‪..‬‬
‫والغرض األكبر من ه ذه المجاه دات ه و تحقي ق القيم األخالقي ة في النفس‪،‬‬
‫حتى تتأدب مع هللا ومع أوليائه وخلقه‪ ،‬لتكون أهال لتنزل الفضل اإللهي‪.‬‬
‫الثــاني‪ :‬الص الة‪ ،‬وتع ني ك ل الوس ائل المؤدي ة إلى الص لة باهلل‪ ،‬من إقام ة‬
‫الصالة وال ذكر وال دعاء والمناج اة والتض رع واالبته ال والت دبر والتفك ر والتأم ل‬
‫وغيرها‪ ،‬وجميعها ت ؤدي إلى تزكي ة ال روح لتص بح أهال للمحب ة واألنس والتوك ل‬

‫‪11‬‬
‫وجميع المنازل التي تنزلها النفس المطمئنة‪ ،‬وتصبح مع ذلك أهال لت نزل المع ارف‬
‫والمواهب اإللهية‪.‬‬
‫وكال األمرين يحتاج بعض هما إلى بعض؛ فالص بر ومناهج ه ال يمكن أن يتم‬
‫من دون استعمال الصالة ومناهجها‪ ..‬ومثل ذلك الصالة ال يمكن أن ت ؤتي مفعوله ا‬
‫ما لم يصحبها الصبر‪.‬‬
‫وبناء على هذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تنظر في ك ل من اهج الس ير‬
‫إلى هللا‪ ،‬والتي تراها في الواق ع‪ ،‬ل ترى م دى قربه ا من ه ذين األص لين الل ذين دل‬
‫عليهم ا الق رآن الك ريم؛ ف إن كان ا مت وافقين معهم ا؛ فهم ا ش رعيان‪ ،‬وإال كان ا من‬
‫المناهج المبتدعة‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك م ا يطل ق علي ه [الخل وة]‪ ،‬وال تي يعتم دها بعض‬
‫السائرين إلى هللا؛ فهي إن كانت خل وة وتفرغ ا لل ذكر والتق رب إلى هللا‪ ،‬ومن غ ير‬
‫انقط اع كلي عن الخل ق‪ ،‬أو التقص ير في أداء التك اليف الش رعية؛ فهي خل وة‬
‫مشروعة‪ ،‬ذلك أنها مرتبطة بالصالة‪ ،‬ألنها تحوي ذكر هلل‪ ،‬وتحاول التواصل مع ه‪،‬‬
‫وهي مرتبطة بالصبر ألن فيها مجاهدة للنفس على التفرغ لذلك‪.‬‬
‫وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الص ادق ـ أن تس أل عن أي منهج ت راه في واق ع‬
‫السالكين‪ ،‬لترى من خالله مدى صلته بالمنهجين اللذين نص عليهما القرآن الك ريم‪،‬‬
‫واعتبرهما من المناهج الكبرى التي ال يمكن أن يقوم بها إال الخاشعون الصادقون‪.‬‬
‫وبما أن هذين المنهجين هما قادة المناهج‪ ،‬فسأذكر لك بعض ما ورد حولهم ا‬
‫في النصوص المقدسة مما يبين فضلهما‪ ،‬وأهميتهما في السير والسلوك‪.‬‬
‫مدرسة الصبر‪:‬‬
‫أما المدرسة األولى ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرس ة الص بر‪ ،‬وق د أش ار‬
‫القرآن الكريم إلى أهميتها وضرورتها للسائرين إلى هللا؛ فقال‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫صابِرُوا َو َرابِطُوا َواتَّقُوا هللا لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ [آل عمران‪ ،]200 :‬فقد رب ط‬ ‫اصْ بِرُوا َو َ‬
‫هللا تعالى الفالح بالصبر والمصابرة والمرابطة‪ ،‬وه و ال يع ني الف وز بالجن ة فق ط‪،‬‬
‫وإنم ا يع ني ته ذيب النفس وتطهيره ا وتطييبه ا‪ ،‬ألن ه ال ي دخل الجن ة إال الطيب ون‬
‫الطاهرون‪.‬‬
‫وهي تشير إلى استعمال كل أنواع الص بر‪ ،‬وفي ك ل المج االت‪ ،‬ول و تكلف ا‪،‬‬
‫وهي تح وي في معناه ا الكث ير من المن اهج ال تي مارس ها الس الكون إلى هللا‪،‬‬
‫كالمشارطة والمعاهدة والمرابطة والمجاهدة والمحاسبة والمعاقبة وغيرها‪.‬‬
‫ولذلك أخبر هللا تع الى أن من ص فات الص الحين من عب اده [الص بر]‪ ،‬وه و‬
‫ي دل على أن ه ركن في شخص يتهم‪ ،‬وأن ه ل واله لم يتحق ق لهم الص الح‪ ،‬ب ل إن هللا‬
‫تعالى أكد ذلك بكونه السبب في ص الحهم‪ ،‬فق ال ـ عن د ذك ر س بب اختي اره ألئم ة‬
‫ص بَرُوا َو َك انُوا بِآيَاتِنَ ا يُوقِنُ ونَ ﴾‬ ‫﴿و َج َع ْلنَ ا ِم ْنهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ َ ْم ِرنَ ا لَ َّما َ‬
‫اله دى ـ‪َ :‬‬
‫[الس جدة‪،]24 :‬وتقديم ه للص بر على اليقين دلي ل على أن اليقين ال ذي ه و أعلى‬

‫‪12‬‬
‫مراتب المعرفة ال يصل إليه إال الصابرون الذين جاهدوا أنفسهم في هللا‪.‬‬
‫اص بِرْ َك َم ا‬ ‫وهكذا وصف هللا تعالى الرس ل عليهم الس الم بالص بر‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫ْجلْ لَهُ ْم﴾ [األحقاف‪]35 :‬‬ ‫صبَ َر أُولُو ْال َع ْز ِم ِمنَ الرُّ س ُِل َواَل تَ ْستَع ِ‬ ‫َ‬
‫وأخبر أن كل األعمال الصالحة تحتاج إلى الص بر‪ ،‬س واء في أدائه ا‪ ،‬أو في‬
‫االستمرار عليها‪ ،‬أو في إقامتها وفق الرضى اإللهي‪.‬‬
‫ومن ذلك اإلحسان الذي هو من المنازل العظمى للنفس المطمئن ة‪ ،‬فق د قرن ه‬
‫ُضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ [ه ود‪،]115 :‬‬ ‫هللا تعالى بالصبر‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬واصْ بِرْ فَإِ َّن هللا اَل ي ِ‬
‫ُضي ُع أَجْ َر ال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [يوسف‪]90 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ق َويَصْ بِرْ فَإِ َّن هللا اَل ي ِ‬ ‫وقال‪﴿ :‬إِنَّهُ َم ْن يَتَّ ِ‬
‫وسر ذلك واضح‪ ،‬ذلك أن المحسن الذي يتقن عمله‪ ،‬ويؤديه وفق م ا يتطلب ه‪،‬‬
‫يحتاج إلى صبر كبير‪ ،‬بخالف الذي يؤدي عمله من غير مراعاة اإلتقان‪.‬‬
‫صبَرُوا َو َعلَى َربِّ ِه ْم‬ ‫وهكذا يقترن الصبر بالتوكل‪ ،‬كما في قوله تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ َ‬
‫﴿و َما لَنَا أَاَّل نَت ََو َّك َل َعلَى‬ ‫يَتَ َو َّكلُونَ ﴾ [النحل‪ ،]42 :‬وقال عن الرسل وخطابهم لقومهم‪َ :‬‬
‫َص بِ َر َّن َعلَى َم ا آ َذ ْيتُ ُمونَ ا َو َعلَى هللا فَ ْليَت ََو َّك ِل ْال ُمتَ َو ِّكلُ ونَ ﴾‬ ‫هللا َوقَ ْد هَ دَانَا ُس بُلَنَا َولَن ْ‬
‫[إبراهيم‪]12 :‬‬
‫وسر ذلك واضح‪ ،‬ذل ك أن المتوك ل ال ذي أس ند أم وره هلل ثق ة ب ه‪ ،‬وبقدرت ه‬
‫المطلقة‪ ،‬ال يستعجل النصر‪ ،‬وال يتألم إذا لم يهزم أعداؤه أمامه‪ ،‬ألنه يعلم أن تحدي د‬
‫آجال ذلك هلل تعالى‪ ،‬بخالف الذي يفتقد الصبر‪ ،‬والذي ينهار في أقرب فرصة‪.‬‬
‫وهك ذا يق ترن الص بر بالص دق والثب ات والجه اد وغيره ا من ص فات‬
‫اجرُوا ِم ْن بَ ْع ِد َم ا فُتِنُ وا ثُ َّم َجاهَ دُوا‬ ‫الصالحين‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ثُ َّم إِ َّن َربَّكَ لِلَّ ِذينَ هَ َ‬
‫ك ِم ْن بَ ْع ِدهَا لَ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [النحل‪]110 :‬‬ ‫صبَرُوا إِ َّن َربَّ َ‬ ‫َو َ‬
‫ت َربِّنَ ا لَ َّما‬ ‫﴿و َم ا تَ ْنقِ ُم ِمنَّا إِاَّل أَ ْن آ َمنَّا بِآيَ ا ِ‬
‫وأخبر عن ق ول الس حرة لفرع ون‪َ :‬‬
‫ص ْبرًا َوت ََوفَّنَا ُم ْسلِ ِمينَ ﴾ [األعراف‪]126 :‬‬ ‫َجا َء ْتنَا َربَّنَا أَ ْف ِر ْغ َعلَ ْينَا َ‬
‫اص بِرُوا إِ َّن‬ ‫ه‪﴿:‬اس تَ ِعينُوا بِاهلل َو ْ‬ ‫ْ‬ ‫وأخ بر عن ق ول موس ى علي ه الس الم لقوم‬
‫ُورثُهَا َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه َو ْال َعاقِبَةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ [األعراف‪]128 :‬‬ ‫ض هلل ي ِ‬ ‫اأْل َرْ َ‬
‫وأخبر عن االختبارات التي أجراها طالوت للذين أرادوا ص حبته للجه اد في‬
‫سبيل هللا‪ ،‬ثم بين أنه لم ينجح منهم إال من كان متسلحا بس الح الص بر‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫يرةً بِ إِ ْذ ِن هللا َوهللا َم َع‬ ‫ت فِئَةً َكثِ َ‬ ‫﴿قَا َل الَّ ِذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ ْم ُماَل قُو هللا َك ْم ِم ْن فِئَ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبَ ْ‬
‫ِّت‬ ‫ص ْبرًا َوثَب ْ‬ ‫الصَّابِ ِرينَ (‪َ )249‬ولَ َّما بَ َر ُزوا لِ َجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قَالُوا َربَّنَا أَ ْف ِر ْغ َعلَ ْينَ ا َ‬
‫أَ ْقدَا َمنَا َوا ْنصُرْ نَا َعلَى ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [البقرة‪]250 ،249 :‬‬
‫وقد أخذ الكثير من الس ائرين في طري ق هللا بمنهج ط الوت في تربي ة جن ده‪،‬‬
‫ال إِ َّن‬ ‫وت بِ ْال ُجنُو ِد قَ َ‬
‫ص َل طَالُ ُ‬ ‫عندما أمرهم بالصبر أمام الماء‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فَلَ َّما فَ َ‬
‫ط َع ْم هُ فَإِنَّهُ ِمنِّي إِاَّل َم ِن ا ْغتَ َرفَ‬ ‫ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ‬ ‫ب ِم ْنهُ فَلَي َ‬‫هللا ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ‬
‫ُغرْ فَةً بِيَ ِد ِه فَ َش ِربُوا ِم ْنهُ إِاَّل قَلِياًل ِم ْنهُ ْم﴾ [البقرة‪]249 :‬‬
‫فلذلك راحوا يستعملون أنواع المجاه دات ال تي ت تيح لهم تربي ة أنفس هم على‬

‫‪13‬‬
‫األخالق الطيبة‪ ،‬التي ال يمكن التحقق بها من دونها‪ ،‬بل إنهم راحوا يض عون أن واع‬
‫العقوبات التي ترتبط بالتقصير‪ ،‬حتى يكون ذلك العقاب الدنيوي المحدود رادعا لهم‬
‫عن العقاب األخروي‪.‬‬
‫وهكذا أخبر هللا تعالى عن عالقة الصبر بمواجه ة ك ل مث الب النفس األم ارة‬
‫المرتبطة بالعدوان‪ ،‬وتحقيقها بالسماحة والحلم والعفو والكرم‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬واَل‬
‫َاوةٌ َكأَنَّهُ‬
‫تَ ْست َِوي ْال َح َسنَةُ َواَل ال َّسيِّئَةُ ا ْدفَ ْع بِالَّتِي ِه َي أَحْ َس نُ فَ إِ َذا الَّ ِذي بَ ْينَ كَ َوبَ ْينَ هُ َع د َ‬
‫ظ َع ِظ ٍيم﴾ [فص لت‪:‬‬ ‫صبَرُوا َو َما يُلَقَّاهَا إِاَّل ُذو َح ٍّ‬ ‫َولِ ٌّي َح ِمي ٌم (‪َ )34‬و َما يُلَقَّاهَا إِاَّل الَّ ِذينَ َ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ [الشورى‪]43 :‬‬ ‫صبَ َر َو َغفَ َر إِ َّن َذلِكَ لَ ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫‪ ،]35 ،34‬وقال‪َ ﴿ :‬ولَ َم ْن َ‬
‫وأخبر عن عالقة الصبر بالتقوى التي تجتمع عندها كل المكارم‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬بَلَى‬
‫ف ِمنَ ْال َماَل ئِ َك ِة‬‫إِ ْن تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُوا َويَأْتُو ُك ْم ِم ْن فَوْ ِر ِه ْم هَ َذا يُ ْم ِد ْد ُك ْم َربُّ ُك ْم بِخَ ْم َس ِة آاَل ٍ‬
‫ُم َس ِّو ِمينَ ﴾ [آل عمران‪]125 :‬‬
‫وفي ه ذه اآلي ة الكريم ة إش ارة إلى أن الم واهب اإللهي ة ال تي تت نزل على‬
‫النفوس المرضية مرتبطة بمدى صبرهم‪ ،‬فق د ش رط هللا تع الى ت نزل الم دد اإللهي‬
‫على المؤمنين بالصبر والتقوى‪.‬‬
‫ومثل ذل ك أخ بر عن أن واع كث يرة من الفض ل‪ ،‬لم يكن له ا من س بب س وى‬
‫ص بَرُوا﴾‬ ‫ك ْال ُح ْسنَى َعلَى بَنِي إِس َْرائِي َل بِ َما َ‬ ‫ت َربِّ َ‬ ‫ت َكلِ َم ُ‬‫﴿وتَ َّم ْ‬
‫الصبر‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫الص ابِ ِرينَ ﴾ [األنف ال‪ ،]46 :‬وق ال‪:‬‬ ‫﴿واصْ بِرُوا إِ َّن هللا َم َع َّ‬ ‫[األعراف‪ ،]137 :‬وقال‪َ :‬‬
‫ت أولَئِكَ لَهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ َوأَجْ ٌر َكبِيرٌ﴾ [هود‪]11 :‬‬ ‫ُ‬ ‫صبَرُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬ ‫﴿إِاَّل الَّ ِذينَ َ‬
‫وغيره ا من اآلي ات الكريم ة ال تي تخ بر عن الج زاء العظيم ال ذي ينال ه‬
‫ص بَرُوا أَجْ َرهُ ْم بِأَحْ َس ِن َم ا َك انُوا‬ ‫﴿ولَنَجْ ِزيَ َّن الَّ ِذينَ َ‬ ‫الص ابرون‪ ،‬مث ل قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ص بَرُوا َويُلَقَّوْ نَ فِيهَ ا ت َِحيَّةً‬ ‫يَ ْع َملُونَ ﴾ [النحل‪ ،]96 :‬وقال‪﴿ :‬أُولَئِكَ يُجْ زَ وْ نَ ْال ُغرْ فَةَ بِ َما َ‬
‫َت ُم ْس تَقَ ًّرا َو ُمقَا ًم ا﴾ [الفرق ان‪ ،]76 ،75 :‬وق ال‪:‬‬ ‫َو َس اَل ًما (‪ )75‬خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َح ُس ن ْ‬
‫﴿و َج زَ اهُ ْم بِ َم ا‬
‫ص بَرُوا﴾ [القص ص‪ ،]54 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫ك ي ُْؤتَوْ نَ أَجْ َرهُ ْم َم َّرتَي ِْن بِ َم ا َ‬ ‫﴿أُولَئِ َ‬
‫ك اَل يَ َروْ نَ فِيهَ ا َش ْم ًس ا َواَل‬ ‫ص بَرُوا َجنَّةً َو َح ِري رًا (‪ُ )12‬متَّ ِكئِينَ فِيهَ ا َعلَى اأْل َ َرائِ ِ‬ ‫َ‬
‫َز ْمهَ ِريرًا﴾ [اإلنس ان‪ ،]13 ،12 :‬وق ال ذاك را خط اب المالئك ة عليهم الس الم لهم‪:‬‬
‫ار﴾ [الرعد‪]24 :‬‬ ‫صبَرْ تُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقبَى ال َّد ِ‬
‫﴿ َساَل ٌم َعلَ ْي ُك ْم بِ َما َ‬
‫ومثلها ما ورد في األحاديث الشريفة كقول ه ‪( :‬الص بر ثالث ة‪ :‬ص بر عن د‬
‫المص يبة‪ ،‬وص بر على الطاع ة‪ ،‬وص بر عن المعص ية‪ ،‬فمن ص بر على المص يبة‬
‫حتّى ير ّدها بحسن عزائها‪ ،‬كتب هللا له ثالثمائة درجة‪ ،‬م ا بين الدرج ة إلى الدرج ة‬
‫كما بين السماء إلى األرض‪ .‬ومن صبر على الطاعة كتب هللا له ستّمائة درج ة‪ ،‬م ا‬
‫بين الدرج ة إلى الدرج ة كم ا بين تخ وم األرض إلى الع رش‪ ،‬ومن ص بر عن‬
‫المعص ية كتب هللا ل ه تس عمائة درج ة م ا بين الدرج ة إلى الدرج ة كم ا بين تخ وم‬
‫األرض إلى منتهى العرش)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.75‬‬


‫‪14‬‬
‫وكل هذه النصوص المقدسة وغيرها تشير إلى ك ون الص بر دعام ة أساس ية‬
‫للتقوى‪ ،‬وأن التحقق به يجعل من صاحبه مستعدا لنيل كل الكماالت‪ ،‬ولذلك ذكر هللا‬
‫تعالى أن األجور المعدة للذين أدمن وا على الص بر‪ ،‬وأتقن وا التعام ل مع ه‪ ،‬من دون‬
‫ب﴾ [الزمر‪]10 :‬‬ ‫حساب‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِنَّ َما ي َُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْ َرهُ ْم بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫قد تسألني ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا عن سر كل هذا الفضل الذي ت وفر‬
‫للصبر‪ ،‬وجعله دعامة من دعامات التربية واإلصالح‪ ،‬وجواب ا على ذل ك أذك ر ل ك‬
‫أن الصبر هو تلك الملكة الشريفة التي تجعل النفس ثابتة أمام األه واء؛ فال تستس لم‬
‫لها‪ ،‬وال تذعن لمقتضياتها‪ ..‬وتجعله ا ثابت ة أم ام المص ائب والبالء؛ فال تج زع وال‬
‫تيأس وال تقنط‪ ..‬وتجعلها ثابتة عند التعرض للجهلة؛ فال تكتفي بكظم غيظه ا عنهم‪،‬‬
‫وإنما تحلم عليهم‪ ،‬وتعفو عنهم وتحسن إليهم‪ ..‬وتجعله ا ثابت ة عن د مالق اة األع داء‪،‬‬
‫فال تجبن‪ ،‬وال يص يبها الخ ور‪ ،‬وال ت ولي ال دبر‪ ،‬ب ل ت واجههم بك ل ش جاعة وق وة‬
‫وثبات‪ ..‬وتجعلها ثابتة عند عروض الش هوات؛ فتع ف عنه ا‪ ،‬وال تستس لم له ا‪ ،‬وال‬
‫تركن إليها‪..‬‬
‫وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجد الصبر عنص را أساس يا في ك ل‬
‫عمل صالح‪ ،‬وافتقاده يؤدي إلى كل المثالب التي حذرتنا منه ا النص وص المقدس ة‪،‬‬
‫والتي تحطم اإلنسان‪ ،‬وتنتكس به وبطبيعته‪.‬‬
‫وله ذا ع رف الحكم اء الص بر بأن ه (ثب ات ب اعث ال دين في مقابل ة ب اعث‬
‫الهوى)‪ ،‬وهم يقصدون بباعث الدين الفطرة األصيلة التي تري د األه واء االنح راف‬
‫بها‪ ،‬والتي جاءت الشريعة الحكيمة للتحذير منها‪ ،‬وبيان الصفات الحقيقية لإلنس ان‪،‬‬
‫ال الصفات التي يريدها الشيطان واألهواء‪.‬‬
‫وأم ا ب اعث اله وى؛ فه و ك ل المص ادر ال تي تري د أن تنتكس باإلنس ان عن‬
‫حقيقته‪ ،‬سواء كانت داخلية كغلبة الشهوة والغضب‪ ،‬أو خارجية كوس اوس ش ياطين‬
‫اإلنس والمجتمع‪.‬‬
‫ولكون الحرب بين هذين الباعثين دائمة مستمرة؛ فإن الصبر هو الم دد ال ذي‬
‫يظل اإلنسان محتاجا إليه كل حين إلى أن يلقى ربه‪ ،‬كما ق ال تع الى‪﴿:‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ‬
‫ق تُقَاتِ ِه َواَل تَ ُم وتُ َّن إِاَّل َوأَ ْنتُ ْم ُم ْس لِ ُمونَ ﴾ [آل عم ران‪ ،]102 :‬وه و‬ ‫آ َمنُوا اتَّقُوا هللا َح َّ‬
‫معنى المرابطة في الصبر الوارد في اآلية التي تأمر بالصبر بكل أنواعه‪.‬‬
‫وس بب الحاج ة إلى المرابط ة في الص بر ه و أن الش ياطين تظ ل مناص رة‬
‫لباعث الهوى‪ ،‬والذي قد ينتصر على باعث الدين إن افتقد للصبر والعزيمة عليه‪.‬‬
‫وكما أن الثبات في المعارك مختلف الدرجات؛ فكذلك الص ابرون؛ درج اتهم‬
‫مختلفة بحسب ثبات باعث الدين فيهم‪ ،‬كم ا ع بر بعض هم عن ذل ك عن د حديث ه عن‬
‫الموقف من الص بر عن د الش دائد‪ ،‬فق ال‪( :‬أه ل الص بر على ثالث مقام ات‪ :‬األول‪:‬‬
‫ترك الشكوى‪ ،‬وهذه درجة التائبين‪ ،‬الثاني‪ :‬الرضا بالمقدر‪ ،‬وهذه درجة الزاه دين‪،‬‬
‫الثالث‪ :‬المحبة لما يصنع به مواله‪ ،‬وهذه درجة الصديقين)‬

‫‪15‬‬
‫وروي أن اإلمام الباقر قال لجابر‪ ،‬وق د رآه مريض ا‪ :‬كي ف تج د حال ك؟ ق ال‬
‫ج ابر‪ :‬أن ا في ح ال الفق ر أحب إل ّي من الغ نى‪ ،‬والم رض أحب ال ّي من الص حة‪،‬‬
‫والموت أحب إلي من الحياة‪ .‬فقال له االمام‪( :‬أما نحن أهل البيت‪ ،‬فما يرد علينا من‬
‫هللا من الفقر والغنى والمرض والصحة والموت والحياة‪ ،‬فهو أحب إلينا)(‪)1‬‬
‫وهكذا يمكنك أن تجد في كل عمل المراتب المختلفة‪ ،‬والتي ت دل على درج ة‬
‫صبر صاحبها؛ فبقدر صبره بقدر مرتبته ودرجته‪.‬‬
‫مدرسة الصالة‪:‬‬
‫أما المدرسة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرس ة الص الة‪ ،‬وق د أش ار‬
‫القرآن الكريم إلى أهميته ا وض رورتها في الس ير إلى هللا؛ فق ال‪َ ﴿ :‬وأَقِ ِم َّ‬
‫الص الةَ إِ َّن‬
‫الصَّالةَ تَ ْنهَى َع ِن ْالفَحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر﴾ (العنكبوت‪)45:‬‬
‫وهي تشير إلى أن من أدوار الصالة الكبرى ال تي ش رعت من أجله ا ال دور‬
‫التطهيري‪ ،‬بنهيها ص احبها عن الفحش اء والمنك ر‪ ،‬ومث ل ذل ك م ا ورد في ته ذيب‬
‫ق هَلُو ًع ا (‪ )19‬إِ َذا َم َّس هُ َّ‬
‫الش رُّ‬ ‫نفس المداوم عليها‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن اإْل ِ ْن َس انَ ُخلِ َ‬
‫ص لِّينَ (‪ )22‬الَّ ِذينَ هُ ْم َعلَى‬ ‫َج ُزو ًع ا (‪َ )20‬وإِ َذا َم َّس هُ ْالخَ ْي ُر َمنُو ًع ا (‪ )21‬إِاَّل ْال ُم َ‬
‫صاَل تِ ِه ْم دَائِ ُمونَ ﴾ [المعارج‪]23 - 19 :‬‬ ‫َ‬
‫ولهذا ورد في األحاديث الكثيرة ما يبين دور الصالة في تطه ير اإلنس ان من‬
‫الرذائل‪ ،‬والتي قد يكنى عنها بالس يئات والخطاي ا‪ ،‬ففي الح ديث عن رس ول هللا ‪‬‬
‫أنه قال مخاطبا أصحابه‪( :‬أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه ك ل ي وم خمس ا‬
‫م ا تق ول ذل ك يبقي من درن ه ؟)‪ ،‬ق الوا‪ :‬ال يبقي من درن ه ش يئا‪ ،‬ق ال‪( :‬ف ذلك مث ل‬
‫الصلوات الخمس‪ ،‬يمحو هللا بها الخطايا)(‪)2‬‬
‫فهذا الحديث ال يشير فقط إلى تطهير سجل المؤمن من السيئات‪ ،‬وإنما يش ير‬
‫إلى تطهير نفسه منها أيضا‪ ،‬وذلك بحسب تعامله معها‪ ،‬وحرصه عليه ا‪ ،‬وخش وعه‬
‫فيها‪ ..‬فهي مثل العالج الذي يقضي على كل األم راض مهم ا ك انت مس تفحلة‪ ،‬لكن‬
‫بشرط أدائه في وقته‪ ،‬ومع الحمية المناسبة له‪.‬‬
‫وال أرى ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أي داع ل ذلك الخالف ال ذي انتش ر بين‬
‫الفقهاء حول نوع الخطايا التي تكفرها الصالة‪ ،‬وهل هي الكبائر أم الص غائر‪ ،‬ذل ك‬
‫أن قوة الصالة في محو الخطايا تخلف باختالف اهتمام صاحبها بها‪ ،‬وهي في ذل ك‬
‫تشبه تركيز الدواء‪ ،‬فقد يكون ال دواء خفيف ا للدرج ة ال يمكن ه أن يح دث أي تغي ير‪،‬‬
‫وقد يتوهم صاحب الدواء أنه يستعمله‪ ،‬لكنه ال يفع ل ذل ك‪ ،‬وق د تك ون قوي ة ش ديدة‬
‫(إن‬‫الفاعلية والتأثير‪ ،‬بحيث تغير صاحبها تغييرا كلي ا‪ ،‬كم ا ورد في بعض اآلث ار‪ّ :‬‬
‫وإن م ا بين ص التيهما‬ ‫الرجلين ليقومان إلى الصالة وركوعهما وسجودهما واح د‪ّ ،‬‬
‫ما بين السماء واألرض)‬

‫‪ )(1‬جامع السعادات‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.285 :‬‬


‫‪ )(2‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ )528( 2‬ومسلم (‪)667‬‬
‫‪16‬‬
‫وقد روي عن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬و هللا إنّه ليأتي على الرج ل خمس ون‬
‫ي ش يء أش ّد من ه ذا‪ ،‬وهللا إنّكم لتعرف ون من‬ ‫سنة ما قبل هللا منه صالة واح دة‪ ،‬ف أ ّ‬
‫جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلّي لبعضكم ما قبلها من ه الس تخفافه به ا‪ّ ،‬‬
‫إن هللا‬
‫ّ‬
‫استخف به)(‪))1‬‬ ‫ال يقبل إاّل الحسن فكيف يقبل ما‬
‫ولهذا ورد في الحديث عن عمار بن ياسر أنه صلى صالة فأخفها‪ ،‬فقيل ل ه‪:‬‬
‫خففت يا أبا اليقظان فقال‪ :‬هل رأيتموني نقصت من ح دودها ش يئا ؟ ق الوا‪ :‬ال ق ال‪:‬‬
‫إني بادرت سهو الشيطان‪ ،‬إن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬إن العبد ليصلي الصالة ال يكتب‬
‫له نصفها‪ ،‬وال ثلثها وال ربعها وال خمسها وال سدس ها وال عش رها)‪ ،‬وك ان يق ول‪:‬‬
‫(إنما يكتب للعبد من صالته ما عقل منها) (‪)2‬‬
‫وروي أن ه بينما ك ان رس ول هللا ‪ ‬جالس ا في المس جد إذ دخ ل رج ل فق ام‬
‫فص لّى فلم يت ّم ركوع ه وال س جوده‪ ،‬فق ال ‪( :‬نق ر كنق ر الغ راب‪ ،‬لئن م ات ه ذا‬
‫ّ‬
‫ليموتن على غير ديني)(‪)3‬‬ ‫وهكذا صالته‬
‫ل ذلك ك انت الص الة مفتق رة للص بر‪ ،‬ألنه ا ال يمكن أن ت ؤدي دوره ا في‬
‫التهذيب واإلصالح والتزكية ما لم يجاهد ص احبها نفس ه على الخش وع والخض وع‬
‫وحضور القلب‪ ،‬والتمعن في أس رار ك ل حرك ة يتحركه ا أو ق ول يقول ه أو إش ارة‬
‫يشير بها‪.‬‬
‫ذلك أن الصالة ـ أيها المريد الصادق ـ ليست ش عيرة تعبدي ة واح دة‪ ،‬ب ل هي‬
‫مجمع من الشعائر التعبدية؛ فكل ركن من أركانها مدرسة قائمة ب ذاتها‪ ،‬له ا دوره ا‬
‫في التهذيب والتص فية‪ ،‬كم ا أن له ا دوره ا في الع روج وال ترقي‪ ،‬ول ذلك اعتبره ا‬
‫رسول هللا ‪ ‬عمود اإلسالم‪ ،‬ففي الح ديث ق ال رس ول هللا ‪ :‬ق ال‪( :‬رأس األم ر‬
‫اإلسالم‪ ،‬وعموده الصّالة‪ ،‬وذروة سنامه الجهاد)(‪)4‬‬
‫وق د ق رن رس ول هللا ‪ ‬في ه ذا الح ديث بين الص الة والجه اد‪ ،‬الحتي اج‬
‫بعضها لبعض؛ فالص الة الحقيقي ة تس تدعي المجاه دة والرياض ة وحض ور القلب‪،‬‬
‫والجهاد الحقيقي يحتاج التواصل الدائم مع هللا‪ ،‬حتى يتحقق الثبات والسكينة والقدرة‬
‫على المواجهة‪.‬‬
‫هذا جوابي المختصر على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ وأحسب أن فيها ما‬
‫طلبته من مجامع المناهج والمدارس التربوي ة‪ ،‬ويمكن ك أن ترس ل لي م ا تش اء من‬
‫أسئلة حول تفاصيل ما شرحته لك‪.‬‬
‫ذلك أن كال من الصبر والصالة يتضمنان الكثير من المناهج‪ ..‬فهن اك من اهج‬
‫مرتبطة بالصبر وحده‪ ..‬وهن اك من اهج مرتبط ة بالص الة وح دها‪ ..‬وهن اك من اهج‬
‫مرتبطة بهما جميعا‪ ..‬وبهذه المناهج جميعا تتحقق النفس بطيبته ا‪ ،‬لتتح ول من نفس‬
‫‪ )(1‬التهذيب ج ‪ 1‬ص ‪.204‬‬
‫‪ )(2‬أحمد وأبو داود والنسائي‪.‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪ ،268‬والتهذيب ج ‪ 1‬ص ‪.204‬‬
‫‪ )(4‬الترمذي (‪ )2616‬وابن ماجة (‪ )3973‬وأحمد (‪)245 ،237 ،231 /5‬‬
‫‪17‬‬
‫أمارة أو لوامة إلى نفس مطمئنة راضية مرضية‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫النية الخالصة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المري د الص ادق ـ تخ برني عن فهم ك الع ام لمن اهج الس ير‬
‫الص اَل ِة َوإِنَّهَ ا‬
‫الص ب ِْر َو َّ‬ ‫اس ت َِعينُوا بِ َّ‬‫﴿و ْ‬
‫والسلوك إلى هللا تعالى من خالل قوله تع الى‪َ :‬‬
‫َاش ِعينَ ﴾ [البقرة‪ ،]45 :‬واستيعابها لكل فروع المن اهج ومدارس ها‬ ‫لَ َكبِي َرةٌ إِاَّل َعلَى ْالخ ِ‬
‫مع كثرتها‪.‬‬
‫وقد طلبت مني أن أفصل لك الحديث في النية باعتبارها أول ركن من أركان‬
‫الصالة‪ ،‬وكيف يمكن أن تتحول إلى مدرسة تربوية‪ ،‬تهذب النفس وتزكيها‪ ،‬وتع رج‬
‫بها وترقيها‪ ،‬وعن عالقة ذلك بالصبر والمصابرة والمجاهدة‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر ل ك أن الني ة ليس ت مج رد ركن من أرك ان‬
‫الصالة‪ ،‬أو ركن من أركان أي عمل صالح‪ ،‬بل هي في حد ذاته ا مدرس ة للتزكي ة؛‬
‫فال يمكن أن تنطلق التزكية وال التربية وال الترقية من دون أن تت وفر الني ة الداعي ة‬
‫لذلك كله‪.‬‬
‫ذل ك أنه ا الواس طة بين العلم والعم ل‪( ،‬إذ م ا لم يعلم أم ر لم يقص د‪ ،‬وم ا لم‬
‫يقصد لم يفعل‪ ،‬فالعلم مقدم على النية وشرطها‪ ،‬والعمل ثمرتها وفرعها‪ ،‬إذ كل فعل‬
‫وعمل يصدر عن فاعل مختار‪ ،‬فإنه ال يتم إال بعلم وشوق وإرادة وقدرة) (‪)1‬‬
‫ولذلك كان االهتم ام به ا وبتص حيحها أولى من ك ل األعم ال؛ ف رب أعم ال‬
‫كثيرة‪ ،‬وجهود عظيمة‪ ،‬تفتقر إلى النية الصالحة الخالصة؛ فتتحول إلى هباء منث ور‬
‫ال يغني صاحبها شيئا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَ ِد ْمنَا إِلَى َما َع ِملُوا ِم ْن َع َم ٍل فَ َج َع ْلنَاهُ هَبَ ا ًء‬
‫َم ْنثُورًا﴾ [الفرقان‪]23 :‬‬
‫بل إنها قد تنتقل من الطاعة إلى المعص ية‪ ،‬وينتق ل الج زاء المرتب ط به ا من‬
‫سجل الحسنات إلى سجل السيئات‪ ،‬وينتقل محل ص احبها من الجن ة إلى الن ار‪ ،‬م ع‬
‫أن العمل واحد‪ ،‬لكن الدافع الذي دفع إليه ه و ال ذي تس بب في ذل ك التح ول العظيم‬
‫العميق‪.‬‬
‫ولهذا أخبر رسول هللا ‪ ‬أن (األعمال بالنيات‪ ،‬وإنم ا لك ل ام رئ م ا ن وى‪،‬‬
‫فمن كانت هجرت ه إلى هللا ورس وله فهجرت ه إلى هللا ورس وله‪ ،‬ومن ك انت هجرت ه‬
‫لدنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأ ٍة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(‪)2‬‬
‫وذكر اإلمام الصادق سر خل ود أه ل الجن ة والن ار في المن ازل ال تي أع دت‬
‫ألن نيّ اتهم ك انت في‬ ‫لهما‪ ،‬وعالقة ذلك بالنية‪ ،‬فقال‪( :‬إنّما خلّد أه ل الن ار في الن ار ّ‬
‫ال ّدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا هللا تعالى أبدا‪ ،‬وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّ ة ّ‬
‫ألن‬
‫نيّ اتهم ك انت في ال ّدنيا أن ل و بق وا فيه ا أن يطيع وا هللا أب دا؛ فبالنيّ ات خلّ د ه ؤالء‬
‫وهؤالء ث ّم تال قوله تعالى‪﴿ :‬قُلْ ُك ٌّل يَ ْع َم ُل َعلَى َشا ِكلَتِ ِه﴾ [اإلس راء‪ ،]84 :‬يع ني على‬
‫‪ )(1‬جامع السعادات‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.108 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫نيّته)(‪)1‬‬
‫بل ورد في الحديث أن مراتب الن اس في اآلخ رة‪ ،‬ال تتح دد باألعم ال فق ط‪،‬‬
‫وإنما بالنيات أيضا‪ ،‬فقد قال رسول هللا ‪( :‬إنّما ال ّدنيا ألربعة نف ر‪ ،‬عب د رزق ه هللا‬
‫ماال وعلما فهو يتّقي فيه ربّه‪ ،‬ويصل في ه رحم ه‪ ،‬ويعلم هلل في ه حقّ ا‪ ،‬فه ذا بأفض ل‬
‫أن لي‬ ‫المنازل‪ ،‬وعبد رزقه هللا علما ولم يرزقه ماال‪ ،‬فه و ص ادق النّيّ ة‪ .‬يق ول‪ :‬ل و ّ‬
‫ماال لعملت بعمل فالن فهو نيّته‪ ،‬فأجرهما س واء‪ ،‬وعب د رزق ه هللا م اال ولم يرزق ه‬
‫علما‪ ،‬فهو يخبط في ماله بغير علم ال يتّقي فيه ربّه‪ ،‬وال يصل في ه رحم ه‪ ،‬وال يعلم‬
‫هلل فيه حقّا‪ ،‬فهذا بأخبث المنازل‪ ،‬وعبد لم يرزقه هللا ماال وال علم ا‪ ،‬فه و يق ول‪ :‬ل و‬
‫أن لي ماال لعملت فيه بعمل فالن‪ ،‬فهو نيّته‪ ،‬فوزرهما سواء)(‪)2‬‬ ‫ّ‬
‫أن رجال م ّر بكثب ان رم ل في‬ ‫وق د روي في أخب ار األنبي اء عليهم الس الم ّ‬
‫لقس مته بين‬ ‫مجاعة فقال في نفسه‪ ،‬وهو صادق في قوله‪( :‬لو كان هذا الرّمل طعام ا ّ‬
‫(إن هللا قد قبل ص دقتك وش كر حس ن‬ ‫الناس)‪ ،‬فأوحى هللا تعالى إلى نبيّهم أن قل له‪ّ :‬‬
‫نيّتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتص ّدقت به)‬
‫فهذا الرجل‪ ،‬وأولئك النفر الذين ذكر رس ول هللا ‪ ‬ن الوا أج ورهم وطه روا‬
‫نفوسهم من غير أعمال عملوها‪ ،‬إال النية الص الحة الص ادقة‪ ،‬ال تي نظ ر هللا إليه ا‪،‬‬
‫وأعطاهم جزاءها‪.‬‬
‫وسر ذلك يعود إلى أن النية هي روح العمل‪ ،‬والمقصد األول من ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫هللا تعالى في األضاحي والهدي‪﴿ :‬لَ ْن يَنَا َل هللا لُحُو ُمهَا َواَل ِد َما ُؤهَا َولَ ِك ْن يَنَالُهُ التَّ ْق َوى‬
‫ِم ْن ُك ْم﴾ [الحج‪]37 :‬‬
‫ولذلك كان سبب نجاح إبراهيم عليه السالم في االمتحان الذي امتحن فيه نيته‬
‫الصادقة الخالصة هلل‪ ،‬ول ذلك بمج رد أن نجح في ذل ك االختب ار الص عب‪ ،‬نهي عن‬
‫ين (‪َ )103‬ونَا َد ْينَ اهُ أَ ْن يَ اإِب َْرا ِهي ُم (‬ ‫تطبيقه عمليا؛ ق ال تع الى‪﴿ :‬فَلَ َّما أَ ْس لَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِ ِ‬
‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِينَ (‪ )105‬إِ َّن هَ َذا لَهُ َو ْالبَاَل ُء ْال ُمبِينُ‬ ‫ص َّد ْقتَ الرُّ ْؤيَا إِنَّا َك َذلِ َ‬‫‪ )104‬قَ ْد َ‬
‫ْح َع ِظ ٍيم﴾ [الصافات‪]107 - 103 :‬‬ ‫(‪َ )106‬وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ‬
‫ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما ي دل على خس ران أولئ ك ال ذين راع وا‬
‫األعمال وكثرتها‪ ،‬ولم يراعوا النيات وصدقها‪ ،‬فقد ورد في الحديث عن رس ول هللا‬
‫(إن العبد ليعمل أعماال حسنة فتصعد بها المالئك ة في ص حف مختتم ة‬ ‫‪ ‬أنه قال‪ّ :‬‬
‫فتلقى بين يدي هللا ع ّز وج ّل فيقول‪ :‬ألقوا هذه الصحيفة فإنّه لم يرد بم ا فيه ا وجهي‪،‬‬
‫ث ّم ينادي المالئكة اكتبوا له كذا وك ذا فتقول ون ي ا ربّن ا إنّ ه لم يعم ل ش يئا من ذل ك‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬إنّه نواه إنّه نواه)(‪)3‬‬
‫وهكذا في الجهاد‪ ،‬والذي يمثل أشق األعمال‪ ،‬وأكثرها ب ذال وتض حية‪ ،‬وم ع‬
‫ذلك‪ ،‬فإن جزاءه بق در الني ة في ه‪ ،‬فق د ين ال أج ور المجاه دين من لم يب ذل أي جه د‬
‫‪ )(1‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.85‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي(‪ )2325‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الدارقطني‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫سوى نيته الطيب ة الص الحة الص ادقة‪ ،‬كم ا روي في الح ديث أن الن ب ّي ‪ ‬ق ال في‬
‫غزوة تبوك‪( :‬إن بالمدينة لقوما ما س رتم مس يرا‪ ،‬وال قطعتم وادي ا‪ ،‬إال ك انوا معكم‬
‫فيه)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬وهم بالمدينة؟ قال‪( :‬وهم بالمدينة حبسهم العذر) (‪)1‬‬
‫وهؤالء الصادقون الذين ظفروا بنيات المجاهدين‪ ،‬ولو لم يحضروا معهم هم‬
‫ضى َواَل َعلَى الَّ ِذينَ‬ ‫ْس َعلَى الضُّ َعفَا ِء َواَل َعلَى ْال َمرْ َ‬ ‫الذين أشار إليهم قوله تعالى‪﴿ :‬لَي َ‬
‫يل َوهللا‬ ‫ْ‬
‫صحُوا هلل َو َرسُولِ ِه َما َعلَى ال ُمحْ ِس نِينَ ِم ْن َس بِ ٍ‬ ‫اَل يَ ِج ُدونَ َما يُ ْنفِقُونَ َح َر ٌج إِ َذا نَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َغفُو ٌر َر ِحي ٌم (‪َ )91‬واَل َعلَى الَّ ِذينَ إِ َذا َما أتَوْ كَ لِتَحْ ِملَهُ ْم قُلتَ اَل أ ِج ُد َم ا أحْ ِمل ُك ْم َعلَ ْي ِه‬
‫ُ‬
‫ت ََولَّوْ ا َوأَ ْعيُنُهُ ْم تَفِيضُ ِمنَ ال َّد ْم ِع َح َزنًا أَاَّل يَ ِجدُوا َما يُ ْنفِقُونَ ﴾ [التوبة‪]92 ،91 :‬‬
‫في نفس الوقت الذي قال فيه ‪( :‬من غ زا وه و ال ين وي إاّل عق اال فل ه م ا‬
‫نوى)(‪ ،)2‬وقال بعض أصحاب رسول هللا ‪( :‬استعنت برج ل ليغ زو معي‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ال حتّى تجعل لي جعال فجعلت له‪ ،‬فذكرت ذلك للن ب ّي ‪ ‬فق ال‪( :‬ليس ل ه من دني اه‬
‫وآخرته إاّل ما جعلت له)(‪)3‬‬
‫وروي أن رجال قتل في بعض المعارك‪ ،‬وك ان يظن أن ه قت ل في س بيل هللا‪،‬‬
‫لكنه عرفوا أنه قتل في سبيل الحمار‪ ،‬حتى ص ار ي دعى [قتي ل الحم ار] ألنّ ه قات ل‬
‫رجال ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك(‪.)4‬‬
‫ولهذا ورد في األحاديث واآلثار ما يدل على أن النية خ ير من العمل(‪ ،)5‬فق د‬
‫روي عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬نية المؤمن خير من عمله‪ ،‬وعم ل المن افق خ ير‬
‫من نيته‪ ،‬وكل يعمل على نيته؛ فإذا عمل المؤمن عمال ثار في قلبه نور) (‪)6‬‬
‫(ألن العم ل ربم ا ك ان ري اء‬ ‫ّ‬ ‫وق د س ئل اإلم ام الص ادق عن معناه ا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫للمخلوقين‪ ،‬والنيّة خالصة لربّ العالمين‪ ،‬فيعطي ع ّز وج ّل على النيّ ة م ا ال يعطي‬
‫على العمل) (‪)7‬‬
‫ومما يروى في ه ذا أن بعض المري دين ك ان يط وف على العلم اء‪ ،‬ويق ول‪:‬‬
‫(من يدلني على عمل ال أزال فيه عامال هلل تعالى؛ فإني ال أحب أن تأتي علي ساعة‬
‫من ليل أو نهار إال وأنا عامل من عمال هللا تعالى)‪ ،‬فق ال ل ه بعض الحكم اء‪( :‬أنت‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ )2838‬و(‪ ،)2839‬و(‪ ،)4423‬وابن أبي عاصم في الجهاد (‪ ،)264‬وأبو يعلى (‪)3839‬‬
‫‪ )(2‬النسائي في السنن ج ‪ 6‬ص ‪.24‬‬
‫‪ )(3‬الطبراني في مسند الشاميين‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو إسحاق الفراوي مرسال في السنن‪.‬‬
‫‪ )( 5‬من المعاني التي فسر بها الحديث‪ :‬أن المؤمن بمقتضى إيمانه ينوي خيرات كثيرة ال يوفق لعملها‪ ،‬إما لع دم‬
‫تمكنه من الوصول إلى أسبابها‪ ،‬أو لعدم مساعدة الوقت على عملها‪ ،‬أو لممانعة رذيلة نفسانية عنها بعد الوص ول إلى‬
‫أسبابها‪ ،‬كالذي ينوي إن آتاه هللا ما ال ينفقه في سبيله‪ ،‬ثم لما آتاه يمنعه البخل عن اإلنفاق‪ ،‬فه ذا نيت ه خ ير من عمل ه‪،‬‬
‫وأيضا المؤمن ينوي دائما أن تقع عباداته على أحسن الوجوه‪ ،‬ألن ايمانه يقتضي ذلك‪ .‬ثم إذا اشتغل به ا ال يتيس ر ل ه‬
‫ذلك‪ .‬وال يأتي بها كما يريد‪ ،‬فما ينويه دائما خير مما يعمل به في كل عبادة‪ ،‬وإلى هذا أشار اإلمام الباقر بقول ه‪( :‬ني ة‬
‫المؤمن خير من عمله‪ ،‬وذلك ألنه ينوي الخير ما ال يدركه‪ ،‬ونية الكافر شرّ من عمله‪ ،‬وذلك ألن الك افر ين وي الش ر‬
‫ويأمل من الشر ما ال يدركه)‪ ،‬وبه فسر كذلك قول اإلمام الصادق الذي ذكرناه‪[ .‬انظ ر‪ :‬ج امع الس عادات‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪:‬‬
‫‪]121‬‬
‫‪ )(6‬الطبراني في معجمه الكبير (‪ )6/185‬وأبو نعيم في الحلية (‪ ،)3/255‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪ 69‬ح ‪.2‬‬
‫‪ )(7‬علل الشرائع‪.524 /1 :‬‬
‫‪21‬‬
‫قد وجدت حاجتك‪ ،‬فاعمل الخير ما اس تطعت‪ ،‬ف إذا ف ترت أو تركت ه فهم بعمل ه‪ ،‬إذ‬
‫من هم بعمل الخير كمن يعمل به)‬
‫إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن أول م ا على الس ائر في‬
‫طريق هللا أن يتدرب عليه‪ ،‬تصحيح نيته‪ ،‬وتنميتها وإص الحها؛ فال يمكن أن يطه ر‬
‫نفسه من دون ذلك‪.‬‬
‫ذلك أن النية هي التي تحدد أهداف األعمال وغاياتها‪ ،‬وهي ال تي تحميه ا من‬
‫كل وساوس الش يطان ال تي تع رض له ا‪ ،‬وهي ال تي ت دفع إلى اإلتق ان واإلحس ان‪،‬‬
‫وتحمي العمل من كل الثغرات التي قد تعرض له‪.‬‬
‫أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستذكر لي أن النية ليست من قبي ل األعم ال‬
‫االختياري ة ال تي يمكن لص احبها أن يتحكم في فعله ا أو ع دم فعله ا‪ ،‬ب ل هي من‬
‫األعمال الوجدانية التي ال يس تطيع أن يتحكم فيه ا؛ فل ذلك ال يمكن للج ائع أن يق ول‬
‫شبعت‪ ،‬وال للكسول أن يكتفي بقوله قمت‪..‬‬
‫وجوابا على سؤالك أذكر لك أن النية ـ وإن كانت من األعمال الوجدانية ـ إال‬
‫أنه يمكن توجيهها ببعض المعارف والعلوم والتدريبات والمجاه دات إلى أن يص بح‬
‫في اإلمكان التحكم فيها‪.‬‬
‫وسر تلك المعارف والتدريبات يع ود إلى أن الني ة‪ ،‬باعتباره ا الب اعث ال ذي‬
‫يبعث على العمل‪ ،‬يرجع ألهواء النفس؛ فإن كان ه وى النفس في الس معة والش هرة‬
‫والجاه العريض‪ ،‬وهي شهوات النفس األم ارة‪ ،‬ك انت الني ة ري اء محض ا‪ ،‬ولم يكن‬
‫فيها أدنى صدق أو إخالص‪..‬‬
‫وإن كان صاحبها يحمل مع تلك النية بعض اإليمان ب اليوم اآلخ ر‪ ،‬والج زاء‬
‫المعد على األعمال الصالحة فيها‪ ،‬تكون نيته مش وبة بين تحقي ق غرض ه ال دنيوي‪،‬‬
‫وغرضه األخروي‪.‬‬
‫وإن كان ص احبها ص احب نفس مطمئن ة‪ ،‬متج رد اله وى لآلخ رة‪ ،‬ال يطلب‬
‫غيرها‪ ،‬وال يطلب غير وجه رب ه؛ ف إن عمل ه س يكون خالص ا هلل تع الى‪ ،‬وبحس ب‬
‫درجة إخالصه تكون مرتبة عمله‪.‬‬
‫ول ذلك ك ان الطري ق إلى تص حيح الني ة‪ ،‬وتحقي ق اإلخالص فيه ا‪ ،‬تنمي ة‬
‫البواعث اإليماني ة ح تى تتج رد النفس له ا‪ ،‬وتتخلص من ك ل الش وائب ال تي تفس د‬
‫أعمالها‪.‬‬
‫ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما ينمي تلك البواعث الطيب ة‪ ،‬ويحققه ا في‬
‫النفس لتتجرد للحق‪ ،‬ويخلص عملها من كل الشوائب التي تكدره‪.‬‬
‫وبن اء على طلب ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ في ش رح كيفي ة التحق ق بالني ة‬
‫الصالحة أذكر لك البواعث التي يمكنك بالتأمل فيها ـ قبل القيام بأي عمل ـ أن تجرد‬
‫نيتك من كل ما يفسدها‪ ،‬لتتعلم اإلخالص والصدق من خاللها‪.‬‬
‫وقبل أن أذكر لك ذلك‪ ،‬أضرب لك مثاال يقرب لك الحقيقة‪ ،‬فاألمث ال جن د هللا‬

‫‪22‬‬
‫التي تُوضح بها الحقائق‪ ،‬وتقرب بها المعاني‪.‬‬
‫وينطلق هذا المثال من حقيقة الدنيا‪ ،‬وكونها سوقا لألعمال‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫الص اَل ةَ َوأَ ْنفَقُ وا ِم َّما َر َز ْقنَ اهُ ْم ِس ًّرا َو َعاَل نِيَ ةً‬
‫اب هللا َوأَقَ ا ُموا َّ‬ ‫﴿إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْتلُ ونَ ِكتَ َ‬
‫ُورهُ ْم َويَ ِزي َدهُ ْم ِم ْن فَضْ لِ ِه إِنَّهُ َغفُو ٌر َش ُكورٌ﴾‬‫يَرْ جُونَ تِ َجا َرةً لَ ْن تَبُو َر (‪ )29‬لِي َُوفِّيَهُ ْم أُج َ‬
‫[فاطر‪]30 ،29 :‬‬
‫ولذلك توهم نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ في س وق عظمي ة ق د اجتم ع فيه ا‬
‫المخلصون والمراؤون‪:‬‬
‫أما المخلصون؛ فال يبيعون أعمالهم إال لمن يدفع لهم أض عاف األج ور ال تي‬
‫يستحقونها‪ ،‬ثم ال يكتفون بذلك‪ ،‬بل يضيفون إليها كل ألوان التكريم والثناء والشكر‪..‬‬
‫في نفس الوقت الذي يكون فيه أولئك التجار ال ذي اش تروا منهم بض اعتهم ممتل ئين‬
‫بكل أنواع الكرم والسماحة واللطف‪ ،‬ويعدونهم بكل ألوان اإلكرام في حال زي ارتهم‬
‫لهم‪.‬‬
‫أما المراؤون؛ في بيعون أعم الهم للع وام وال دهماء البس طاء ال ذين ال يغن ون‬
‫عنهم شيئا‪ ،‬في نفس الوقت الذي يكتفون فيه من أجورهم بنظرة استحس ان يلقونه ا‪،‬‬
‫ثم ينصرفون عنهم‪ ،‬وكأنهم لم يقدموا لهم شيئا‪.‬‬
‫فهذا المثال ـ أيها المريد الصادق ـ يقرب لك ح ال المخلص ين والم رائين في‬
‫سوق التجارة الذي أقامه هللا لعباده؛ وهي ال تمث ل الحقيق ة‪ ،‬وال م ا ه و أدنى منه ا‪،‬‬
‫ذلك أن األجور التي يلقاها المخلصون ال يمكن وصفها‪ ،‬والحس رة والندام ة واآلالم‬
‫التي تعتري المرائين ال يمكن تحديدها‪ ،‬ألنها ليست مرتبطة بالدنيا فقط‪ ،‬وإنما تظ ل‬
‫تبعاتهم تلحقهم في كل المحال في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وخالص ة الب واعث الطيب ة ال تي تح ول الني ة من الفس اد إلى الص الح يمكن‬
‫اختص ارها في ب اعثين‪ ،‬كالهم ا وردت ب ه النص وص المقدس ة‪ ،‬أح دهما يتعل ق‬
‫بتحصين األعمال حتى ال يدب فيروس الرياء‪ ،‬فيفسدها‪ ،‬وثانيهما‪ ،‬تحصيل األج ور‬
‫ومضاعفتها باستعمال إكسير النية الخالصة‪.‬‬
‫النية والتحصين‪:‬‬
‫فأول ما ينفرك عن الني ة الس يئة‪ ،‬وي دفعك إلى الني ة الخالص ة ـ أيه ا المري د‬
‫الصادق ـ علمك بأن كل أعمالك الصالحة محفوظة في صندوق النية‪ ،‬فإن كانت هلل‪،‬‬
‫حفظت‪ ،‬ولم تمسها يد اللصوص‪ ،‬ولقيت أجورها كاملة يوم القيامة‪ ،‬أو قد تعجل ل ك‬
‫بعض أجورها في الدنيا شكرا من هللا تعالى‪.‬‬
‫وإن أنت لم تحفظه ا‪ ،‬ورحت تس ارع إلى إظهاره ا والف رح ب ذلك‪ ،‬لتن ال‬
‫حظوظك الدنيوية بسببها من الشهرة والص يت والس معة‪ ،‬وم ا ق د يتبعه ا من الم ال‬
‫والثراء؛ فإنك بذلك تكون قد بعتها أو عرضتها للصوص في الدنيا‪ ،‬ولن تجد لها أي‬
‫جزاء في اآلخرة‪ ،‬بل قد تجد العقوبة على استعمالك الدين في طلب الدنيا‪ ،‬وتوس لك‬
‫بالخالق في طلب الخلق‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى في الحديث القدسي‪( :‬أنا أغنى ّ‬
‫الش ركاء‬
‫شرك‪ ،‬من عمل عمال أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) (‪)1‬‬ ‫عن ال ّ‬
‫وروي عن اإلمام الصادق أنّه قال لعبّ اد بن كث ير البص ريّ‪( :‬ويل ك ي ا عبّ اد‬
‫إيّاك والرّياء؛ فإنّه من عمل لغير هللا وكله هللا إلى من عمل له)(‪ ،)2‬وقال‪( :‬ك ّل ري اء‬
‫شرك‪ ،‬إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل هلل ك ان ثواب ه على هللا)‬
‫(‪)3‬‬
‫وق ال في قول ه تع الى‪﴿ :‬فَ َم ْن َك انَ يَرْ ُج و لِقَ ا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َم لْ َع َماًل َ‬
‫ص الِحًا َواَل‬
‫يُ ْش ِر ْك بِ ِعبَا َد ِة َربِّ ِه أَ َحدًا﴾ [الكهف‪( :]110 :‬ال ّرجل يعمل شيئا من الثواب ال يطلب به‬
‫وجه هللا إنّما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يس ّمع به الناس فهذا الّذي أش رك بعب ادة‬
‫ربّه)‪ ،‬ث ّم قال‪( :‬ما من عبد أس ّر خيرا فذهبت األيّام أبدا حتّى يظهر هللا له خيرا‪ ،‬وما‬
‫ر شرّا فذهبت األيّام أبدا حتّى يظهر هللا له شرّا)(‪)4‬‬ ‫من عبد يس ّ‬
‫وما ذكره اإلم ام الص ادق يش ير إلى أن من العقوب ات ال تي يس لطها هللا على‬
‫المرائين أن يس لب منهم ذل ك الف رح الهزي ل البس يط ال ذي ب اعوا ب ه رض وان هللا؛‬
‫فس يتبدل ب ه ألم ا وحزن ا في ال دنيا قب ل اآلخ رة‪ ،‬ذل ك أن أولئ ك ال ذين قص دوهم‬
‫باألعمال سيرتدون عليهم‪ ،‬ويتحولون من حبهم إلى بغضهم‪ ،‬ومثل ذلك في اآلخرة‪،‬‬
‫ْض َعد ٌُّو إِاَّل ْال ُمتَّقِينَ ﴾ [الزخرف‪]67 :‬‬ ‫ضهُ ْم لِبَع ٍ‬ ‫كما قال تعالى‪﴿ :‬اأْل َ ِخاَّل ُء يَوْ َمئِ ٍذ بَ ْع ُ‬
‫ومم ا ي روى في ه ذا أن بعض هم رؤي في المن ام فقي ل ل ه‪ :‬كي ف وج دت‬
‫أعمالك؟ فقال‪( :‬كل ش يء عملت ه هلل وجدت ه‪ ،‬ح تى حب ة رم ان لقطته ا من طري ق‪،‬‬
‫وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحس نات‪ ،‬وك ان في قلنس وتي خي ط من حري ر‬
‫فرأيته في كفة السيئات‪ ،‬وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواب ا‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬موت سنور في كفة الحسنات‪ ،‬وموت حمار ليس فيها! فقيل لي‪ :‬إنه ق د وج ه‬
‫حيث بعثت به‪ ،‬فإنه لما قيل لك قد مات‪ ،‬قلت‪ :‬في لعنة هللا‪ ،‬فبط ل أج رك في ه‪ ،‬ول و‬
‫قلت‪ :‬في س بيل هللا‪ ،‬لوجدت ه في حس ناتك‪ ،‬وكنت ق د تص دقت بص دقة بين الن اس‬
‫فأعجبني نظرهم إلي‪ ،‬فوجدت ذلك ال علي وال لي)‬
‫والتحصين المرتبط بالعمل ـ أيها المري د الص ادق ـ ال يرتب ط بحف ظ أج وره‬
‫فقط‪ ،‬بل يتعلق بكل جوانبه‪ ،‬حتى ذلك المدد اإللهي الذي يمد هللا ب ه عب اده‪ ،‬متوق ف‬
‫على نياتهم وصدقهم وإخالصهم؛ فإن كانوا صادقين م ع هللا ظ ل الم دد س اريا فيهم‬
‫من حيث يش عرون أو ال يش عرون‪ ،‬وإن زال ص دقهم أو اختل ط بغ يره رف ع عنهم‬
‫المدد‪.‬‬
‫وقد روي في هذا أن عابدا كان يعبد هللا دهرا ط ويال‪ ،‬فج اءه ق وم فق الوا‪ :‬إن‬ ‫ّ‬
‫ه ا هن ا قوم ا يعب دون ش جرة من دون هللا تع الى‪ ،‬فغض ب ل ذلك‪ ،‬وأخ ذ فأس ه على‬

‫‪ )(1‬مسلم (‪)2985‬‬
‫‪ )(2‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.293‬‬
‫‪ )(3‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.293‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.293‬‬
‫‪24‬‬
‫عاتقه‪ ،‬وقص د الش جرة ليقطعه ا‪ .‬فاس تقبله إبليس في ص ورة ش يخ فق ال‪ :‬أين تري د‬
‫رحمك هللا؟ قال‪ :‬أريد أن أقطع هذه الش جرة‪ .‬ق ال‪ :‬وم ا أنت وذاك؟ ت ركت عبادت ك‬
‫واشتغالك بنفسك وتفرعت لغير ذلك‪ .‬فقال‪ :‬إن هذا من عبادتي‪ .‬قال‪ :‬فإني ال أترك ك‬
‫أن تقطعها‪ .‬فقاتله‪ ،‬فأخذه العاب د فطرح ه إلى األرض‪ ،‬وقع د على ص دره‪ .‬فق ال ل ه‬
‫إبليس‪ :‬أطلقني حتى أكلمك‪ ،‬فقام عنه‪ ،‬فقال له إبليس‪ :‬ي ا ه ذا إن هللا ق د أس قط عن ك‬
‫هذا ولم يفرضه عليك‪ ،‬وما تعبدها أنت‪ ،‬وما عليك من غ يرك وهلل تع الى أنبي اء في‬
‫أقاليم األرض‪ ،‬ولو شاء لبعثهم إلى أهلها‪ ،‬وأمرهم بقطعها‪ .‬فقال العابد‪ :‬ال بد لي من‬
‫قطعها‪ .‬فنابذه للقتال‪ .‬فغلبه العابد وصرعه‪ ،‬وقع د على ص دره‪ ،‬فعج ز إبليس‪ ،‬فق ال‬
‫له‪ :‬هل لك في أمر فصل بيني وبينك‪ ،‬وهو خ ير ل ك وأنف ع؟ ق ال العاب د‪ :‬وم ا ه و؟‬
‫قال‪ :‬أطلقني حتى أقول لك‪ .‬فأطلقه‪ ،‬فقال إبليس‪ :‬أنت رجل فق ير ال ش يء ل ك‪ ،‬إنم ا‬
‫أنت كل الناس يعولونك‪ ،‬ولعلك تحب أن تتفض ل على إخوان ك‪ ،‬وتواس ي جيران ك‪،‬‬
‫وتشبع وتستغني عن الن اس‪ .‬ق ال‪ :‬نعم‪ .‬ق ال‪ :‬ف ارجع عن ه ذا األم ر‪ ،‬ول ك علي أن‬
‫أجعل عند رأس ك في ك ل ليل ة دين ارين‪ ،‬إذا أص بحت أخ ذتهما ف أنفقت على نفس ك‬
‫وعيالك‪ ،‬وتص دقت على إخوان ك‪ ،‬فيك ون ذل ك أنف ع ل ك وللمس لمين من قط ع ه ذه‬
‫الشجرة التي يغرس مكانها‪ ،‬وال يضرهم قطعه ا ش يئا‪ ،‬وال ينف ع إخوان ك المؤم نين‬
‫قطعك إياها‪ .‬فتفكر العابد فيما قال‪ ،‬وقال‪ :‬صدق الش يخ‪ ،‬لس ت بن بي فيلزم ني قط ع‬
‫هذه الشجرة وال أمرني هللا أن أقطعها فأكون عاصيا بتركها‪ ،‬وما ذكره أكثر منفع ة‪.‬‬
‫فعاهده على الوفاء بذلك‪ ،‬وحلف له‪ .‬فرجع العابد إلى متعبده فبات‪ ،‬فلما أص بح رأى‬
‫دينارين عند رأسه‪ ،‬فأخذهما‪ ،‬وكذلك الغد‪ ،‬ثم أصبح الي وم الث الث وم ا بع ده فلم ي ر‬
‫شيئا‪ ،‬فغضب وأخذ فأسه على عاتقه‪ ،‬فاستقبله إبليس في صورة ش يخ فق ال ل ه‪ :‬إلى‬
‫أين؟ قال‪ :‬أقطع تلك الشجرة‪ .‬فقال‪ :‬كذبت وهللا‪ ،‬ما أنت بق ادر على ذل ك‪ ،‬وال س بيل‬
‫لك إليها‪ ،‬فتناوله العابد ليفع ل ب ه كم ا فع ل أول م رة‪ ،‬فق ال‪ :‬هيه ات‪ ،‬فأخ ذه إبليس‬
‫وصرعه‪ ،‬فإذا هو كالعصفور بين رجلي ه‪ ،‬وقع د إبليس على ص دره وق ال‪ :‬لتنتهين‬
‫عن هذا األمر أو ألذبحنك‪ .‬فنظر العابد‪ ،‬فإذا ال طاقة له به‪ ،‬قال‪ :‬يا هذا غلبتني فخل‬
‫عني‪ ،‬وأخبرني كيف غلبتك أوال وغلبتني اآلن؟ فق ال‪ :‬ألن ك غض بت أول م رة هلل‪،‬‬
‫وك انت نيت ك اآلخ رة‪ ،‬فس خرني هللا ل ك‪ .‬وه ذه الم رة غض بت لنفس ك ولل دنيا‪،‬‬
‫فصرعتك(‪.)1‬‬
‫فتأمل ـ أيها المريد الصادق ـ في هذه الحكاية‪ ،‬وال يهم ك أن تك ون ص حيحة‬
‫ثابتة أو ملفقة مزورة‪ ،‬فالحقائق كلها تدل عليها‪ ،‬ولذلك احرص على إخالص النية‪،‬‬
‫ولو في العمل القليل؛ فذلك أجدى لك‪ ،‬وأكثر بركة من العمل الكثير ال ذي يخل و من‬
‫اإلخالص‪ ،‬ويخلو معه من المدد اإللهي‪.‬‬
‫النية والتحصيل‪:‬‬
‫ال يقتصر النية الخالص ة على تحص ين األعم ال وحفظه ا من أن ت دب إليه ا‬

‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.127 :‬‬


‫‪25‬‬
‫األهواء‪ ،‬فتفسدها‪ ،‬وإنما لها دور كبير في تحصيل األجور ومض اعفتها‪ ،‬ح تى أنه ا‬
‫تحول المباحات إلى طاعات‪ ،‬وب ذلك يمكن أن يص بح نوم ك وأكل ك وش ربك وك ل‬
‫تصرفاتك التي ترغب فيها نفسك إلى طاعة هلل تعالى إذا ما تعلمت كيف تؤدي ح ق‬
‫النية الصالحة فيها‪.‬‬
‫وذلك ال يعني ـ أيها المريد الصادق ـ ما قد يتبادر إلى الذهن من خلو األجور‬
‫من التأثير في النفس وتطهيرها وترقيتها‪ ،‬وارتباطها فقط بالجزاء األخ روي‪ ،‬ف ذلك‬
‫غير صحيح‪ ،‬فلكل حسنة تجليات مختلفة منها م ا يظه ر في اآلخ رة بص ورة النعيم‬
‫المقيم‪ ،‬ومنها ما يظه ر في ال دنيا بص ورة الطه ارة والطيب ة ال تي تمتلئ به ا النفس‬
‫صاَل تِي َونُ ُس ِكي َو َمحْ يَ َ‬
‫اي‬ ‫حتى تصبح حياتها كلها باهلل وهلل‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬قُلْ إِ َّن َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو َم َم اتِي هلل َربِّ ْال َع الَ ِمينَ (‪ )162‬اَل َش ِريكَ لَ هُ َوبِ َذلِكَ أُ ِم رْ ُ‬
‫ت َوأنَ ا أ َّو ُل ال ُم ْس لِ ِمينَ ﴾‬
‫[األنعام‪]163 ،162 :‬‬
‫ولهذا أوصى رسول هللا ‪ ‬باالستفادة من هذه الهدية اإللهي ة ال تي نن ال به ا‬
‫األجور من غير تعب وال مشقة‪ ،‬فقال ـ في وصيته ألبي ذر ـ‪( :‬يا أب ا ذرّ‪ ،‬ليكن ل ك‬
‫ل شيء نيّة‪ ،‬حتّى في النوم واألكل)(‪)1‬‬ ‫في ك ّ‬
‫ولذلك كان الصالحون يتوقفون قبل القيام ب أي عم ل انتظ ارا للني ة الص الحة‬
‫فيه‪ ،‬حتى يكون قربة لهم عند هللا تعالى‪ ،‬وقد روي عن بعضهم أنه إذا س ئل عن أي‬
‫عمل من أعمال البر يقول‪( :‬إن رزقني هللا تعالى نية فعلت)‬
‫وق د ض رب بعض الحكم اء على إمكاني ة مض اعفة األج ور بتكث ير الني ات‬
‫الصالحة بالقعود في المسجد‪ ،‬والتي يمكنها أن تحوله من مج رد قع ود ال يُقص د ب ه‬
‫سوى الراحة إلى قعود تنال به األجور العظيمة‪ ،‬فذكر منها أن يعتقد أنه قاع د ب بيت‬
‫هللا‪ ،‬وأن داخله زائر هللا‪ ،‬فيقصد به زيارة مواله‪ ،‬رجاء لما وعده ب ه رس ول هللا ‪‬‬
‫في قوله‪( :‬من قعد في المسجد فقد زار هللا تعالى‪ ،‬وحق على المزور إك رام زائ ره)‬
‫(‪)2‬‬
‫ومنها أن ين وي انتظ ار الص الة بع د الص الة‪ ،‬فيك ون في جمل ة انتظ اره في‬
‫الصالة‪ ،‬كما قال ‪( :‬أال أدلّكم على ما يمحو هللا به الخطايا‪ ،‬ويرفع به ال ّدرجات؟)‬
‫قالوا‪ :‬بلى يا رس ول هللا!‪ .‬ق ال‪( :‬إس باغ الوض وء على المك اره‪ ،‬وك ثرة الخط ا إلى‬
‫المساجد‪ ،‬وانتظار الصّالة بعد الصّالة‪ .‬فذلكم الرّباط)(‪)3‬‬
‫ومنه ا أن ين وي التف رغ للتأم ل والتفك ر والت دبر‪ ،‬وق د ورد في الح ديث عن‬
‫رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬تفكر ساعة خير من قيام ليلة) (‪ ،)4‬وقال‪( :‬تفكر ساعة خ ير‬
‫من عبادة ستين سنة) (‪)5‬‬

‫‪ )(1‬الوسائل‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪ 48‬ح ‪.8‬‬


‫‪ )(2‬ابن حبان في الضعفاء‪ ،‬وللبيهقي في الشعب نحوه‪.‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪)251‬‬
‫‪ )(4‬أبو الشيخ في العظمة‪.‬‬
‫‪ )(5‬أبو الشيخ في العظمة‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫ومنها نية التجرد لذكر هللا أو الستماع ذكره‪ ،‬وللتذكر به‪ ،‬أو يقصد إفادة العلم‬
‫بأمر بمعروف ونهي عن منكر‪ ،‬أو يستفيد أخا في هللا‪ ..‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫وقد أشار اإلم ام علي إلى ك ل ذل ك وغ يره‪ ،‬فق ال‪( :‬من اختل ف إلى المس جد‬
‫أصاب إحدى الثم ان‪ :‬أخ ا مس تفادا في هللا‪ ،‬أو علم ا مس تطرفا‪ ،‬أو آي ة محكم ة‪ ،‬أو‬
‫يسمع كلمة تدلّه على ه دى‪ ،‬أو كلم ة ت ر ّده عن ردى‪ ،‬أو رحم ة منتظ رة‪ ،‬أو ي ترك‬
‫ذنبا خشية أو حياء)(‪)1‬‬
‫وهكذا يمكن أن تتحول المباحات إلى طاعات بالنية الطيبة‪ ،‬ومن األمثلة التي‬
‫ذكره ا بعض الحكم اء على ذل ك التعط ر والتطيب‪ ،‬وال ذي ه و ح ظ من حظ وظ‬
‫النفس‪ ،‬فقد قال‪( :‬اعلم أن من يتطيب مثال يوم الجمعة‪ ،‬وفي سائر األوقات‪ ،‬يتصور‬
‫أن يقص د التنعم بل ذات ال دنيا‪ ،‬أو يقص د ب ه إظه ار التف اخر بك ثرة الم ال ليحس ده‬
‫األقران‪ ،‬أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة‪ ،‬أو‬
‫ليتودد به إلى قلوب النساء األجنبيات إذا كان مستحال للنظر إليهن‪ ،‬وألمور أخ ر ال‬
‫تحصى‪ ..‬وكل هذا يجعل التطيب معصية‪ ،‬فبذلك يكون أنتن من الجيف ة في القيام ة‪،‬‬
‫إال القصد األول وهو التلذذ والتنعم‪ ،‬فإن ذلك ليس بمعصية‪ ،‬إال أنه يسأل عنه‪ .‬ومن‬
‫نوقش الحس اب ع ذب‪ ،‬ومن أتى ش يئا من مب اح ال دنيا لم يع ذب علي ه في اآلخ رة‪،‬‬
‫ولكن ينقص من نعيم اآلخ رة ل ه بق دره‪ ،‬وناهي ك خس رانا ب أن يس تعجل م ا يف نى‪،‬‬
‫ويخسر زيادة نعيم ال يفنى)(‪)2‬‬
‫ثم ذكر بعض النيات الحسنة ال تي يمكن أن تح ول من ذل ك الغ رض النفس ي‬
‫إلى طاعة‪ ،‬ومنها أن ينوي اتباع سنة رس ول هللا ‪ ‬في التعط ر والتطيب‪ ،‬وتعظيم‬
‫المسجد‪ ،‬إن كان عند التطيب قاصدا له‪ ،‬أو ترويح من يجلس إلي ه‪ ،‬أو دف ع ال روائح‬
‫الكريه ة ال تي ت ؤدى إلى إي ذاء مخالطي ه‪ ،‬ح تى يحس م عن نفس ه ب اب الغيب ة عن‬
‫المغتابين إذا اغت ابوه ب الروائح الكريه ة‪ ،‬فيعص ون هللا بس ببه‪ ،‬فمن تع رض للغيب ة‬
‫وهو قادر على االحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية‪.‬‬
‫ثم ذكر عن بعض الصالحين أنه ك ان يق ول‪( :‬إني ألس تحب أن يك ون لي في‬
‫كل شيء نية حتى في أكلى‪ ،‬وشربي‪ ،‬ونومى‪ ،‬ودخولي إلى الخالء)‬
‫وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تحول من كل ش يء يحص ل ل ك في‬
‫حياتك عمال صالحا‪ ،‬حتى ال يضيع عليك أجره‪.‬‬
‫ومن األمثلة ال تي ذكره ا الص الحون ل ذلك ني ة من ض اع من ه ش يء؛ فب دل‬
‫التأسف والتحسر‪ ،‬يحوله إلى صدقة في سبيل هللا‪ ،‬وبذلك ينال ثوابه‪ ..‬ولو أنه اكتفى‬
‫بالجزع‪ ،‬لم ينل إال سيئات ذلك الجزع وآالمه‪.‬‬
‫وهكذا ينوي بالسكوت عن خصومه‪ ،‬وعدم الرد عليهم‪ ،‬نيل األجور العظيم ة‬
‫التي تناله بسبب ذلك‪ ،‬وقد روي في الحديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬إن العب د‬

‫‪ )(1‬التهذيب ج ‪ 1‬ص ‪.324‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.5/171 ،‬‬
‫‪27‬‬
‫ليحاسب فتبط ل أعمال ه ل دخول اآلف ة فيه ا ح تى يس توجب الن ار‪ ،‬ثم ينش ر ل ه من‬
‫األعمال الصالحة ما يستوجب به الجن ة‪ ،‬فيتعجب‪ ،‬ويق ول‪ :‬ي ا رب ه ذه أعم ال م ا‬
‫عملتها قط‪ :‬فيقال‪ :‬هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك) (‪)1‬‬
‫وهك ذا يمكن ك أن تمأل نفس ك ب البواعث الطيب ة على العم ل الص الح‪ ،‬لتن ال‬
‫أجورها حتى لو قصرت في أدائه ا‪ ،‬وق د روي في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه‬
‫قال‪( :‬من جرح جرحا في سبيل هللا جاء يوم القيام ة لون ه ل ون الزعف ران‪ ،‬وريح ه‬
‫ريح المس ك علي ه ط ابع الش هداء‪ ،‬ومن س أل هللا الش هادة مخلص ا أعط اه هللا أج ر‬
‫شهيد‪ ،‬وإن مات على فراشه ومن قاتل في سبيل هللا فواق ناقة وجبت له الجنة) (‪)2‬‬
‫(إن العب د لين وي من نه اره أن يص لّي باللي ل‬ ‫وعن اإلمام الصادق أن ه ق ال‪ّ :‬‬
‫فتغلبه عينه فينام‪ ،‬فيثبت هللا له ص الته‪ ،‬ويكتب نفس ه تس بيحا‪ ،‬ويجع ل نوم ه علي ه‬
‫صدقة)(‪)3‬‬
‫(إن الم ؤمن ليه ّم بالحس نة وال يعم ل به ا فتكتب ل ه حس نة‪ ،‬وإن ه و‬ ‫وق ال‪ّ :‬‬
‫عملها كتبت له عش ر حس نات‪ّ ،‬‬
‫وإن الم ؤمن ليه ّم بالس يّئة أن يعمله ا فال يعمله ا فال‬
‫تكتب عليه)(‪)4‬‬
‫بل ورد ذلك في حديث قدسي‪ ،‬فقد روي عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬إن هللا‬
‫عز وجل كتب الحسنات‪ ،‬والسيئات‪ ،‬ثم بين ذلك‪ ،‬فمن هم بحس نة فلم يعمله ا‪ ،‬كتبه ا‬
‫هللا له عنده حسنة كاملة‪ ،‬فإن عملها‪ ،‬كتبت له عشر حسنات‪ ،‬إلى سبع مائة ض عف‪،‬‬
‫إلى أضعاف كثيرة‪ ،‬وإن هو هم بسيئة فلم يعملها‪ ،‬كتبه ا هللا ل ه عن ده حس نة كامل ة‪،‬‬
‫فإن عملها كتبت له سيئة واحدة) (‪)5‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن تقيس قياس إبليس‪ ،‬فتتوهم أن‬
‫المعصية يمكنها أن تتحول بالنية الص الحة إلى طاع ة؛ ف ذلك غ ير ص حيح؛ ب ل إن‬
‫ذلك سخرية بالشريعة ومحادة هلل تعالى‪.‬‬
‫ولذلك؛ فالغيبة تظل غيبة‪ ،‬ولو قصدت به ا ت أليف قل وب ال ذين تجلس إليهم‪،‬‬
‫وتطييب خواطرهم‪ ،‬ذلك أنك تطيب خواطرهم بما تسيء ب ه إلى خ واطر آخ رين‪..‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن لكل معصية من المثالب والعي وب م ا ال يمكن للني ة الطيب ة أن تحوله ا‬
‫إلى عمل صالح‪ ،‬وهي في ذلك مثل روائح المستنقعات التي ال تزي دها األمط ار إال‬
‫انتشارا وقوة‪ ..‬فاحذر أن يغرك الشيطان عن نفس ك‪ ،‬وي دخل إلي ك من خالل تكث ير‬
‫النيات أو تصحيحها إلى ما يفسدها‪ ،‬أو يفسد عملك كله‪.‬‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن أكبر ما يهتم له الشيطان إفساد نيتك‪ ،‬ول ذلك‬
‫يستعمل كل حيله في ذلك‪ ،‬ومن ذلك أن يأتي للمصلّي المخلص في ص الته؛ فيق ول‬

‫‪ )(1‬أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس‪.‬‬


‫‪ )(2‬ابن حبان (‪ )3191‬و(‪ ،)4618‬والطبراني في الكبير‪ ،)206( /20 ،‬والبيهقي في السنن ‪.9/170‬‬
‫‪ )(3‬الوسائل ج ‪ 1‬ص ‪ 53‬ح ‪ 15‬وص ‪ ،54‬العلل ج ‪ 2‬ص ‪.524‬‬
‫‪ )(4‬الوسائل ج ‪ 1‬ص ‪.51‬‬
‫‪ )(5‬أحمد (‪)384 /5‬‬
‫‪28‬‬
‫له‪ :‬حسّن صوتك حتّى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والص الح وال يزدري ك‬
‫وال يغتابك(‪.)1‬‬
‫ف إن فطن المص لي له ذه الحيل ة‪ ،‬وأخ ذ ح ذره منه ا‪ ،‬يق ول ل ه‪ :‬أنت متب وع‬
‫ويتأس ى ب ك غ يرك؛ فيك ون ل ك‬ ‫ّ‬ ‫ومقتدى بك ومنظور إليك‪ ،‬وما تفعله ي ؤثر عن ك‪،‬‬
‫ث واب أعم الهم إن أحس نت‪ ،‬وعلي ك ال وزر إن أس أت؛ فأحس ن عمل ك بين أي ديهم؛‬
‫فعساهم يقتدون بك في الخشوع وتحسين العبادة‪.‬‬
‫وهك ذا يس تعمل الش يطان ك ل أدوات الحيل ة ح تى يص رف المص لي عن‬
‫إخالص نيته لربه‪ ،‬لذلك كان حفظ األعمال باإلخفاء والستر أج دى له ا وأك ثر أمن ا‬
‫وحيطة‪.‬‬
‫وله ذا ورد في الح ديث األم ر باإلتي ان بالنواف ل في ال بيت‪ ،‬باعتب ار أن‬
‫الفرائض مما يتساوى فيه الن اس جميع ا‪ ،‬ول ذلك ق د ال يتط رق إليه ا الري اء‪ ،‬مثلم ا‬
‫يتطرق للنوافل‪.‬‬
‫وق د ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬اجعل وا في بي وتكم من‬
‫صالتكم‪ ،‬وال تتخذوها قبوراً) (‪)2‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي‪ ،‬فص لَّى‬
‫بصالته ناسٌ من أصحابه؛ فلما علم بهم جعل يقعد فخ رج إليهم‪ ،‬فق ال‪( :‬ق د ع رفت‬
‫الذي رأيت من صنيعكم فص لُّوا أيه ا الن اس في بي وتكم ف إن أفض ل الص الة ص الة‬
‫المرء في بيته إال المكتوبة) (‪)3‬‬
‫ت فَنِ ِع َّما ِه َي‬ ‫﴿ن تُ ْب دُوا َّ‬
‫الص َدقَا ِ‬ ‫بل إن هللا تعالى ذكر ذلك في الصدقات؛ فقال‪ْ :‬‬
‫َوإِ ْن تُ ْخفُوهَا َوتُ ْؤتُوهَا ْالفُقَ َرا َء فَهُ َو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َويُ َكفِّ ُر َع ْن ُك ْم ِم ْن َسيِّئَاتِ ُك ْم َوهللا بِ َما تَ ْع َملُونَ‬
‫خَ بِيرٌ﴾ [البقرة‪]271 :‬‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬س بعة يظلهم هللا في ظل ه‪ ،‬ي وم ال‬
‫ظل إال ظله)‪ ،‬وذكر منهم‪( :‬رجل تص دق بص دقة فأخفاه ا‪ ،‬ح تى ال تعلم ش ماله م ا‬
‫تنفق يمينه)‪ ،‬ومنهم الذي (ذكر هللا خاليا ففاضت عيناه) (‪)4‬‬
‫وقال ‪( :‬صدقة السر تطفئ غضب الرب) (‪)5‬‬
‫وقد روي عن اإلمام السجاد أنه كان يحمل الخبز بالليل على ظهره‪ ،‬يتب ع ب ه‬
‫المساكين في الظلم ة‪ ،‬ويق ول‪( :‬إن الص دقة في س واد اللي ل تطفئ غض ب ال رب)‪،‬‬
‫وروى بعض هم عن ه ق ال‪( :‬ك ان ن اس من المدين ة يعيش ون‪ ،‬ال ي درون من أين‬
‫معاشهم‪ ،‬فلما مات علي بن الحسين‪ ،‬فق دوا ذل ك ال ذي ك انوا يؤت ون باللي ل)‪ ،‬وق ال‬
‫بعضهم‪( :‬ما فقدنا صدقة السر حتى توفي علي بن الحسين)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.134 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ )422‬ومسلم (‪)777‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ )698‬ومسلم (‪)781‬‬
‫‪ )(4‬البخاري‪ ،)440 /1( ،‬برقم (‪ ،)1423‬وصحيح مسلم‪ ،)715 /2( ،‬برقم (‪)1031‬‬
‫‪ )(5‬المعجم الصغير‪ ،‬للطبراني (‪)95 /2‬‬
‫‪ )(6‬سير أعالم النبالء‪)386 /4( ،‬‬
‫‪29‬‬
‫وروي عن بعض الصالحين أنه صام عش رين س نة‪ ،‬ولم يعلم ب ه أهل ه؛ ك ان‬
‫يأخذ غداءه ويخرج إلى السوق‪ ،‬فيتصدق به في الطريق‪ ،‬فأهل الس وق يظن ون أن ه‬
‫قد أكل في البيت‪ ،‬وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق‪.‬‬
‫وقال آخر يصف بعض الصالحين‪( :‬إن كان الرجل يجمع الق رآن وم ا يش عر‬
‫به الناس‪ ،‬وإن كان الرجل يفقه الفقه الكثير وما يش عر ب ه الن اس‪ ،‬وإن ك ان الرج ل‬
‫ليصلي الص الة الطويل ة في بيت ه‪ ،‬وعن ده ال زوار وم ا يش عرون ب ه‪ ،‬ولق د أدركت‬
‫أقواما ما ك ان على األرض من عم ل يق درون أن يعمل وه في الس ر فيك ون عالني ة‬
‫أبدا‪ ،‬لق د ك ان المس لمون يجته دون في ال دعاء وم ا يس مع لهم ص وت‪ ،‬إن ك ان إال‬
‫َض رُّ عًا َو ُخ ْفيَ ةً﴾‬ ‫همس ا بينهم وبين ربهم‪ ،‬وذل ك أن هللا تع الى يق ول‪﴿ :‬ا ْد ُع وا َربَّ ُك ْم ت َ‬
‫[األعراف‪)1( )]55 :‬‬
‫وم ع ذل ك كل ه؛ ف إن إب داء الص دقات أو األعم ال الص الحة إن تج ردت ني ة‬
‫صاحبها هلل تعالى‪ ،‬ورأى أن في إبدائها دعوة لغيره‪ ،‬وخاص ة إن ك ان مح ل ق دوة‪،‬‬
‫فال حرج في ذلك‪ ،‬بل قد ين ال األج ر العظيم إن لم يكن ين وي ب ذلك إال ال دعوة إلى‬
‫هللا‪ ،‬ال الدعوة لنفسه‪.‬‬
‫وق د روي في الح ديث عن بعض أص حاب رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪ :‬كن ا في‬
‫صدر النهار عند رسول هللا ‪ ‬فجاء قوم عراة مجت ابي النم ار ـ أي البس يها ـ ق د‬
‫خرقوها في رءوسهم مقلدي السيوف‪ ،‬عامتهم من مضر ب ل كلهم من مض ر فتغ ير‬
‫وجه رسول هللا ‪ ‬لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج ف أمر بالال ف أذن وأق ام‬
‫ق‬ ‫اح َد ٍة َو َخلَ َ‬ ‫س َو ِ‬ ‫فصلى ثم خطب فقال‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُ وا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي خَ لَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍ‬
‫ث ِم ْنهُ َما ِر َجاالً َكثِيراً َونِ َسا ًء َواتَّقُوا هللا الَّ ِذي ت ََس ا َءلُونَ بِ ِه َواأْل َرْ َح ا َم‬ ‫ِم ْنهَا َزوْ َجهَا َوبَ َّ‬
‫إِ َّن هللا َكانَ َعلَ ْي ُك ْم َرقِيباً﴾ (النساء‪ ،)1:‬واآلية ال تي في س ورة الحش ر‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ‬
‫ت لِ َغ ٍد َواتَّقُ وا هللا إِ َّن هللا خَ بِ ي ٌر بِ َم ا تَ ْع َملُ ونَ ﴾‬ ‫آ َمنُ وا اتَّقُ وا هللا َو ْلتَ ْنظُ رْ نَ ْفسٌ َم ا قَ َّد َم ْ‬
‫(الحشر‪ )18:‬تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من ص اع ب ره من ص اع‬
‫تمره حتى قال‪ :‬ولو بشق تمرة‪ ..‬فجاء رجل من األنص ار بص رة ك ادت كف ه تعج ز‬
‫عنها‪ ،‬بل قد عجزت‪ ،‬ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت‬
‫وجه رسول هللا ‪ ‬تهلل كأنه مدهنة‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬من سن في اإلسالم سنة‬
‫حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء‪،‬‬
‫ومن سن في اإلسالم سنة سيئة كان عليه وزره ا ووزر من عم ل به ا من غ ير أن‬
‫ينقص من أوزارهم شيء)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخ ر ق ال ‪( :‬إن ه ذا الخ ير خ زائن‪ ،‬ولتل ك الخ زائن مف اتيح‪،‬‬
‫فطوبى لعبد جعله هللا مفتاحا للخير مغالقا للشر‪ ،‬وويل لعب د جعل ه هللا مفتاح ا للش ر‬
‫مغالقا للخير)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير‪)221 /2( ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن ماجه وغيره‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫هذا جوابي عن سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ ف احرص على أن تت دبر فيم ا‬
‫أوردته عليك من المعاني؛ فدرب نفسك عليه ا‪ ،‬واستحض رها عن د ك ل عم ل تري د‬
‫القيام به‪ ،‬وسترى أن هللا تعالى يش كر ل ك ذل ك االهتم ام بتحص يل الني ة الص الحة‪،‬‬
‫فينزل عليك من أنوارها ما يمتلئ له قلبك من غير عنت وال مشقة‪.‬‬
‫فكم ا أن الني ة هي روح ك ل عم ل‪ ،‬وس ره‪ ،‬فك ذلك نيت ك في تحص يل الني ة‪،‬‬
‫وحرص ك على نفي الري اء‪ ،‬ومجاه دتك لنفس ك في نهيه ا عن ك ل الش وائب ال تي‬
‫تشوب عملك‪ ،‬سيكون وسيلة لك إلى هللا تعالى ليهديك إليها‪ ،‬ويمن بها علي ك‪ ..‬فك ل‬
‫ش يء باهلل ومن هللا وإلى هللا‪ ..‬والص ادق ه و ال ذي ال يعتم د على نفس ه في تحقي ق‬
‫الهداية‪ ،‬وإنما يعتمد على ربه‪ ،‬ويتضرع إليه ك ل حين‪ ،‬لينق ذه من نفس ه وأهوائه ا‪،‬‬
‫ويخلصه من كل ما يحول بينه وبينه‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫الذكر الكثير‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الص ادق ـ تس ألني عن س ر ارتب اط الص الة بال ذكر‪،‬‬
‫وكونه من مقاصدها العظمى‪ ،‬وسر تلك األوام ر القرآني ة الكث يرة ال تي تحض على‬
‫اإلكث ار من ه‪ ،‬وتعت بره من ص فات عب اد هللا المخلَص ين‪ ..‬وعن عالق ة ذل ك كل ه‬
‫بالتزكية والترقية‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن ال ذكر ـ بحس ب م ا ت دل النص وص‬
‫من هللا تعالى بها على عباده؛ فهو ال يكتفي‬ ‫المقدسة ـ أعظم مدرسة تربوية وروحية ّ‬
‫بوص لهم ب ربهم فق ط‪ ،‬وإنم ا يه ذب نفوس هم ويربيه ا‪ ،‬ويزي ل عنه ا ك ل رعوناته ا‬
‫وخبثها ومثالبها‪ ،‬ليحل بدلها كل أنواع المكارم والخالل الطيبة‪.‬‬
‫وكيف ال يكون للذكر ذلك الدور العظيم‪ ،‬وهو تواصل مع هللا تعالى‪ ،‬والذاكر‬
‫بمثابة الزائر هلل‪ ،‬الذي ال يخرج من ذكره إال بأنواع التح ف اإللهي ة‪ ،‬أو ه و بمثاب ة‬
‫المريض الذي يزور الط بيب ال ذي يع الج من ك ل األدواء؛ فال يرج ع من عن ده إال‬
‫وهو معافى من كل ما يؤذيه‪.‬‬
‫وكيف ال يكون له ذلك الدور العظيم‪ ،‬وفيه يغيب اإلنسان عن نفس ه وعيوبه ا‬
‫وأمراضها‪ ،‬ويتصل بربه‪ ،‬ليتلقى من ه ك ل إش عاعات الن ور والهداي ة‪ ،‬ال تي تطه ر‬
‫أرض نفسه من ك ل أدناس ها‪ ،‬لتح رره من ك ل قي وده ال تي ك انت تح ول بين ه وبين‬
‫حقيقته‪ ،‬وبينه وبين ربه؟‬
‫وكيف ال يكون له ذلك ال دور العظيم‪ ،‬وه و المدرس ة ال تي حض عليه ا ك ل‬
‫األنبياء واألولياء‪ ،‬ومارس ها ك ل الص ديقون‪ ،‬وجربه ا ك ل الص الحون‪ ،‬وش هد له ا‬
‫الجميع بأنه ال يتخرج منه إال من نور هللا قلبه بالهداية‪.‬‬
‫ولذلك كان الذكر ـ مث ل الني ة الخالص ة ـ روح األعم ال‪ ،‬ب ل ال مع نى للني ة‬
‫بدونه‪ ،‬ذلك أنها في حقيقتها ليست سوى تذكر هلل‪ ،‬وإهداء لألعمال والقربات إليه‪.‬‬
‫ومثل ذلك كل األعمال؛ فالقصد منها جميعا التقرب إلى هللا‪ ،‬والتعرف علي ه‪،‬‬
‫والتواصل معه‪ ،‬والتأدب بين يديه‪.‬‬
‫ودوره ال تربوي اإلص الحي يش به اس ترخاء الم ريض على س رير الط بيب‬
‫الحاذق ليترك له الحرية في أن يعالجه بالطريقة التي يشاء‪ ..‬ولهذا كلما كان ال ذاكر‬
‫أكثر حضورا مع ربه‪ ،‬وكلما أدمن ذلك الحضور‪ ،‬كلما تيسر له التخلص من علله‪.‬‬
‫ولذلك ك ان ال ذكر أس هل الم دارس التربوي ة‪ ،‬وأكثره ا ض مانا‪ ،‬ذل ك أن ه ال‬
‫يتطلب الكثير من المعارف والعلوم‪ ،‬وال يحتاج إلى شيء من الج دل والفلس فة‪ ،‬ب ل‬
‫يكفي فيه الحضور مع هللا‪ ،‬واستشعار وجوده وعظمته وصفاته وكماله‪ ،‬ليكون لك ل‬
‫ذلك تأثيره في الروح والنفس وكل اللطائف‪.‬‬
‫ولهذا ورد في الحديث أن رجالً قال‪ :‬ي ا رس ول هللا إن أب واب الخ ير كث يرة‪،‬‬
‫ي فأنس ى‪ ،‬فق ال‬ ‫وال أستطيع القيام بكلها‪ ،‬فأخبرني بما شئت أتشب ُ‬
‫َّث به‪ ،‬وال تك ثر عل َّ‬
‫‪32‬‬
‫تعالى)(‪)1‬‬ ‫رسول هللا ‪( :‬ال يزال لسانك رطبًا بذكر هللا‬
‫وأخبر ‪ ‬عن سر ذلك التأثير الذي خص هللا تع الى ب ه ال ذكر‪ ،‬فق ال‪َ ( :‬مثَ ُل‬
‫ت)(‪ ،)2‬وهو يش ير إلى أن الق ائم‬ ‫الحي والمي ِ‬‫ِّ‬ ‫الذي يذكر ربه والذي ال يذكر ربه َمثَ ُل‬
‫بأي عمل صالح إن لم يستحضر ذكر هللا فيه يكون بمثابة اآللة الجام دة ال تي ت ؤدي‬
‫دورها من دون أن تستفيد منه‪ ،‬وال أن تكون حاضرة فيه‪.‬‬
‫ولهذا أخبر رسول هللا ‪ ‬أن قيم ة ك ل عم ل بق در حض ور العام ل في ه م ع‬
‫ربه‪ ،‬وذكره له‪ ،‬فق د روي أن ه ق ال مخاطب ا أص حابه‪( :‬أال أخ بركم بخ ير أعم الكم‬
‫وأزكاها عند مليككم وأرفعه ا في درج اتكم‪ ،‬وخ ير لكم من إنف اق ال ذهب والفض ة‪،‬‬
‫وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعن اقهم ويض ربوا أعن اقكم) ق الوا‪ :‬بلى ي ا‬
‫رسول هللا قال‪( :‬ذكر هللا)(‪)3‬‬
‫وه ذا ال يع ني م ا يفهم ه بعض المقص رين في أداء ش عائر هللا‪ ،‬وال ذين‬
‫يتوهمون أن رسول هللا ‪ ‬في هذا الحديث ينسخ كل الشريعة بالذكر‪ ،‬وإنما الم راد‬
‫منها تفضيل الذاكر على الغافل‪ ،‬حتى لو كان ذلك الغافل يمارس كل أن واع الخ ير‪..‬‬
‫أما من يذكر هللا وهو يمارسها؛ فال شك في كون ه األفض ل‪ ،‬لجمع ه بين الحس نيين‪:‬‬
‫العمل الصالح‪ ،‬وذكر هللا‪.‬‬
‫وسر ذلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ يرج ع إلى أن ال ذاكر في ح ال ذك ره في‬
‫صحبة هللا تعالى ومعيته الخاصة‪ ،‬كما ورد ذلك في الحديث القدسي‪ ،‬قال رسول هللا‬
‫‪( :‬يق ول هللا تب ارك وتع الى‪ :‬أنا عند ظن عب دي بي‪ ،‬وأن ا مع ه إذا ذك رني؛ ف إن‬
‫ير منهم‪،‬‬ ‫إل خ ٍ‬ ‫ذكرني في نفسه‪ ،‬ذكرته في نفس ي‪ ،‬وإن ذك رني في مأل ذكرتُ ه في م ٍ‬
‫ي ذراعًا تق َّربْت منه باعًا‪ ،‬وإذا‬ ‫ي شبرًا تقربت إليه ذراعًا‪ ،‬وإن تقرَّب إل َّ‬ ‫وإن تقرب إل َّ‬
‫أتاني يمشي أتيتُه هَرولة)(‪)4‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن صحبة الذاكر للمالئكة‪ ،‬وانتشار أنوارها إليه في ح ال ذك ره‪،‬‬
‫فق ال‪( :‬ال يقع د ق وم ي ذكرون هللا ع ز وج ل إال حفتهم المالئك ة وغش يتهم الرحم ة‬
‫ونزلت عليهم السكينة وذكرهم هللا فيمن عنده)(‪)5‬‬
‫وهذا كله يدعم التأثير الغيبي في التزكي ة‪ ،‬وه و أهم أن واع الت أثير وأس هلها‪،‬‬
‫وأشملها‪ ،‬ذلك أن الذي يتولى تصفية النفس وتربيتها هو خالقها العالم بها‪.‬‬
‫وإلى هذا اإلشارة بقوله تع الى‪﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي ي َ‬
‫ُص لِّي َعلَ ْي ُك ْم َو َماَل ئِ َكتُ هُ لِي ُْخ ِر َجك ْمُ‬
‫ور َو َكانَ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ِحي ًما﴾ [األحزاب‪]43 :‬؛ فاهلل تعالى يت ولى‬ ‫ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫ت إِلَى النُّ ِ‬
‫إصالح كل من اتصل به‪ ،‬ومأل قلبه بالهداية‪.‬‬
‫ولذلك أمرنا أن ندعو هللا تعالى بذلك في كل صالة‪ ،‬ففي سورة الفاتح ة ن ردد‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪-3435‬تحفة)‪ ،‬وابن ماجه (‪ ،)2793‬والحاكم (‪)1/495‬‬


‫‪ )(2‬البخاري (‪-11/212‬فتح)‪ ،‬ومسلم (‪-6/68‬نووي)‬
‫‪ )(3‬الترمذي‪ ،‬رقم ‪ 3377‬وابن ماجه‪ ،‬رقم ‪.3780‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪-13/521‬فتح)‪ ،‬ومسلم (‪ 3-17/2‬و‪ 11‬و‪)12‬‬
‫‪ )(5‬مسلم‪ ،‬برقم ‪.2700‬‬
‫‪33‬‬
‫ص َراطَ ْال ُم ْستَقِي َم﴾ [الفاتحة‪]6 :‬‬ ‫في كل ركعة‪﴿ :‬ا ْه ِدنَا ال ِّ‬
‫ول ذلك ك ان رس ول هللا ‪ ‬ي دعو‪ ،‬فيق ول‪( :‬الله ّم إنّي أع وذ ب ك من العج ز‬
‫والكسل‪ ،‬والجبن والبخل‪ ،‬والهرم وعذاب القبر‪ .‬الله ّم آت نفسي تقواها‪ ،‬وز ّكه ا أنت‬
‫خير من ز ّكاها‪ .‬أنت وليّها وموالها الله ّم إنّي أعوذ بك من علم ال ينفع‪ ،‬ومن قلب ال‬
‫يخشع‪ ،‬ومن نفس ال تشبع‪ ،‬ومن دعوة ال يستجاب له ا) (‪ ،)1‬ف أكثر م ا ورد في ه ذا‬
‫الدعاء مما يرتبط بإصالح النفس وتهذيبها‪.‬‬
‫ولذلك ال تتوهم ـ أيها المريد الصادق ـ أنه ال ينال التزكية إال العلماء الخبراء‬
‫الذين فتشوا بطون الكتب‪ ،‬ودرسوا في الجامعات‪ ،‬وعن د األس اتذة والمش ايخ‪ ،‬كال‪..‬‬
‫فاهلل تع الى أرحم بع وام المؤم نين من أن يح رمهم من ته ذيب أنفس هم بس بب قل ة‬
‫علومهم‪ ،‬أو عدم تفرغهم‪ ..‬بل هو يتولى ذلك عنهم‪.‬‬
‫وال يش ترط ل ذلك س وى ش رط واح د‪ ،‬ه و نفس الش رط ال ذي يش رط على‬
‫الم ريض ال ذي استعص ى داؤه‪ ..‬وه و ك ثرة ال تردد على المختص ين من األطب اء‪،‬‬
‫واستعمال األدوية التي ينصحون بها‪.‬‬
‫ولذلك نجد القرآن الكريم يخص الذكر وحده من بين العبادات جميعا بال دعوة‬
‫إلى اإلكثار منه‪ ،‬ذلك أن تأثيره الحقيقي يكون في ذلك اإلكثار‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا‬
‫ُص لِّي َعلَ ْي ُك ْم‬ ‫ص ياًل هُ َو الَّ ِذي ي َ‬ ‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا ْاذ ُكرُوا هللا ِذ ْكرًا َكثِ يرًا َو َس بِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأَ ِ‬
‫ور َو َك انَ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ِحي ًم ا﴾ [األح زاب‪:‬‬ ‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫َو َماَل ئِ َكتُ هُ لِي ُْخ ِر َج ُك ْم ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬
‫‪] 41‬‬
‫والربط بين إخراج هللا تعالى عباده من الظلمات إلى النور وال ذكر ي دل على‬
‫أن ه من أعظم وس ائل التزكي ة‪ ،‬ذل ك أن ال ذنوب والمعاص ي ليس ت س وى ظلم ات‬
‫تحجب قلب ص احبها عن الحق ائق‪ ،‬وعن د ال ذكر تنجلي تل ك الظلم ات‪ ،‬وتتوض ح‬
‫الحقائق من غير تكلف دليل وال حجة‪.‬‬
‫ولهذا يخبر هللا تعالى عن قلة ذكر المنافقين هلل‪ ،‬وهو يدل على أنه الس بب في‬
‫إصابتهم بمرض النفاق‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ يُخَ ا ِد ُعونَ هللا َوهُ َو خَ ا ِد ُعهُ ْم َوإِ َذا‬
‫اس َواَل يَ ْذ ُكرُونَ هللا إِاَّل قَلِياًل ﴾ [النس اء‪:‬‬ ‫صاَل ِة قَ ا ُموا ُك َس الَى يُ َراءُونَ النَّ َ‬ ‫قَا ُموا إِلَى ال َّ‬
‫‪]142‬‬
‫بل إن هللا تع الى ي ذكر أن االس تفادة الحقيقي ة من رس ول هللا ‪ ،‬أو التربي ة‬
‫ول‬‫على يديه‪ ،‬ال تكون إال للمكثرين من ذكر هللا‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬لَقَ ْد َك انَ لَ ُك ْم فِي َر ُس ِ‬
‫هللا أُس َْوةٌ َح َسنَةٌ لِ َم ْن َكانَ يَرْ جُو هللا َو ْاليَوْ َم اآْل ِخ َر َو َذ َك َر هللا َكثِيرًا﴾ [األحزاب‪]21 :‬‬
‫ولهذا يعتبر هللا الذكر الكثير من صفات الصالحين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُم ْسلِ ِمينَ‬
‫الص ا ِدقَا ِ‬
‫ت‬ ‫الص ا ِدقِينَ َو َّ‬ ‫ت َو َّ‬ ‫ت َو ْالقَ انِتِينَ َو ْالقَانِتَ ا ِ‬‫ت َو ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬‫َو ْال ُم ْس لِ َما ِ‬
‫ت‬‫َص ِّدقَا ِ‬ ‫َص ِّدقِينَ َو ْال ُمت َ‬
‫ت َو ْال ُمت َ‬‫َاش َعا ِ‬ ‫َاش ِعينَ َو ْالخ ِ‬ ‫ت َو ْالخ ِ‬ ‫الص ابِ َرا ِ‬‫الص ابِ ِرينَ َو َّ‬ ‫َو َّ‬
‫َّ‬
‫ت َوال ذا ِك ِرينَ هللا َكثِ يرًا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ُوجهُ ْم َوال َحافِظ ا ِ‬ ‫ُ‬
‫ت َوال َح افِ ِظينَ ف ر َ‬ ‫ْ‬ ‫الص ائِ َما ِ‬‫الص ائِ ِمينَ َو َّ‬ ‫َو َّ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫َظي ًما﴾ [األحزاب‪]35 :‬‬ ‫ت أَ َع َّد هللا لَهُ ْم َم ْغفِ َرةً َوأَجْ رًا ع ِ‬‫َوال َّذا ِك َرا ِ‬
‫وقد روي عن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬ما من شيء إاّل وله ح ّد ينتهي إليه إاّل‬
‫اهن فه و‬ ‫ال ذكر‪ ،‬فليس ل ه ح ّد ينتهي إلي ه‪ ،‬ف رض هللا ع ّز وج ّل الف رائض فمن أ ّد ّ‬
‫هن‪ ،‬وشهر رمضان فمن ص امه فه و ح ّده‪ ،‬والح ّج فمن ح ّج فه و ح ّده إاّل ال ذكر‬ ‫ح ّد ّ‬
‫فإن هللا ع ّز وج ّل لم ي رض من ه بالقلي ل ولم يجع ل ل ه ح ّدا ينتهي إلي ه‪ ،‬ث ّم تال ه ذه‬ ‫ّ‬
‫َّ‬
‫ص ياًل هُ َو ال ِذي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫اآلية‪﴿ ::‬يَا أيُّهَا ال ِذينَ آ َمنُوا اذ ُكرُوا هللا ِذ ْكرًا َكثِيرًا َو َس بِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأ ِ‬
‫ور َو َك انَ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ِحي ًم ا﴾‬ ‫ُصلِّي َعلَ ْي ُك ْم َو َماَل ئِ َكتُهُ لِي ُْخ ِر َج ُك ْم ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬
‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫ي َ‬
‫[األحزاب‪ ،] 41 :‬وقال‪( :‬لم يجعل هللا ع ّز وج ّل له ح ّدا ينتهي إليه)‬
‫ثم تحدث عن وال ده اإلم ام الب اقر‪ ،‬فق ال‪( :‬وك ان أبي كث ير ال ذكر‪ ،‬لق د كنت‬
‫أمشي معه وإنّه ليذكر هللا‪ ،‬وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر هللا‪ ،‬ولقد كان يح ّدث الق وم‬
‫وما يشغله ذلك عن ذكر هللا‪ ،‬وكنت أرى لسانه الزق ا بحنك ه يق ول‪( :‬ال إل ه إاّل هللا)‬
‫وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطل ع الش مس وي أمر ب القراءة من ك ان يق رأ منّ ا‬
‫ومن كان ال يقرأ منّا أمره بالذكر)(‪)1‬‬
‫وقال اإلمام علي‪( :‬اذكروا هللا في كل مكان فإنه معكم‪ ..‬أك ثروا ذك ر هللا ع ّز‬
‫وج ّل إذا دخلتم األس واق‪ ،‬وعن د اش تغال الن اس‪ ،‬فإن ه كف ارةٌ لل ذنوب‪ ،‬وزي ادةٌ في‬
‫الحسنات‪ ،‬وال تُكتبوا في الغافلين)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬أكثروا ذكر هللا تعالى على الطعام وال تطغوا‪ ،‬فإنه ا نعم ةٌ من نعم هللا‬
‫ق من رزقه‪ ،‬يجب عليكم فيه شكره وحمده)(‪)3‬‬ ‫ورز ٌ‬
‫وقال‪( :‬إذا لقيتم عدوكم في الحرب فأقلّوا الكالم‪ ،‬وأكثروا ذكر هللا ع ّز وج ّل)‬
‫(‪)4‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الق رآن الك ريم ال يكتفي بال دعوة إلى اإلكث ار من ال ذكر‪ ،‬ب ل إن ه‬
‫يحض عليه في كل األوقات والمناسبات‪ ..‬فيدعو إليه في المع ارك وعن د اش تدادها‪،‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َذا لَقِيتُ ْم فِئَةً فَ ْاثبُتُوا َو ْاذ ُكرُوا هللا َكثِيرًا لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِ ُح ونَ ﴾‬
‫[األنفال‪]45 :‬‬
‫ُ‬
‫ويدعو إلى التزامه في الصباح والمساء‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَاصْ بِرْ َعلَى َما يَقُولونَ‬
‫س َوقَب َْل ُغرُوبِهَا َو ِم ْن آنَ ا ِء اللَّ ْي ِل فَ َس بِّحْ َوأَ ْ‬
‫ط َرافَ‬ ‫وع ال َّش ْم ِ‬‫ك قَب َْل طُلُ ِ‬ ‫َو َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّ َ‬
‫ضى﴾ [طه‪ ،]130 :‬وقال‪﴿ :‬فَ ُسب َْحانَ هللا ِحينَ تُ ْمسُونَ َو ِحينَ تُصْ بِحُونَ‬ ‫ك تَرْ َ‬ ‫ار لَ َعلَّ َ‬
‫النَّهَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َولَهُ ْال َح ْم ُد فِي ال َّس َما َوا ِ‬
‫ض َوع َِشيًّا َو ِحينَ تُظ ِهرُونَ ﴾ [الروم‪]18 ،17 :‬‬ ‫ت َواأْل رْ ِ‬
‫ار ِخ ْلفَ ةً لِ َم ْن أَ َرا َد‬ ‫﴿وه َُو الَّ ِذي َج َع َل اللَّي َْل َوالنَّهَ َ‬
‫وفي الليل والنهار‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫أَ ْن يَ َّذ َّك َر أَوْ أَ َرا َد ُش ُكورًا﴾ [الفرقان‪]62 :‬‬
‫ض اًل ِم ْن َربِّ ُك ْم‬ ‫ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَ ا ٌح أَ ْن تَ ْبتَ ُغ وا فَ ْ‬
‫وعند الحج وبعده‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬لَي َ‬
‫‪ )(1‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.361‬‬
‫‪ )(2‬الخصال ‪.2/157‬‬
‫‪ )(3‬الخصال ‪.2/158‬‬
‫‪ )(4‬الخصال ‪.2/159‬‬
‫‪35‬‬
‫ت فَ ْاذ ُكرُوا هللا ِع ْن َد ْال َم ْش َع ِر ْال َح َر ِام َو ْاذ ُك رُوهُ َك َم ا هَ دَا ُك ْم َوإِ ْن‬ ‫فَإِ َذا أَفَضْ تُ ْم ِم ْن َع َرفَا ٍ‬
‫ض ْيتُ ْم َمنَا ِس َك ُك ْم فَ ْاذ ُكرُوا هللا‬‫ُك ْنتُ ْم ِم ْن قَ ْبلِ ِه لَ ِمنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة‪ ،]198 :‬وقال‪﴿ :‬فَإِ َذا قَ َ‬
‫اس َم ْن يَقُ و ُل َربَّنَ ا آتِنَ ا فِي ال ُّد ْنيَا َو َم ا لَ هُ فِي‬ ‫َك ِذ ْك ِر ُك ْم آبَ ا َء ُك ْم أَوْ أَ َش َّد ِذ ْك رًا فَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫ت فَ َم ْن‬ ‫﴿و ْاذ ُك رُوا هللا فِي أَي ٍَّام َم ْع دُودَا ٍ‬ ‫ق﴾ [البق رة‪ ،]200 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫اآْل ِخ َر ِة ِم ْن َخاَل ٍ‬
‫تَ َعج ََّل فِي يَوْ َمي ِْن فَاَل إِ ْث َم َعلَ ْي ِه َو َم ْن تَ أ َ َّخ َر فَاَل إِ ْث َم َعلَ ْي ِه لِ َم ِن اتَّقَى َواتَّقُ وا هللا َوا ْعلَ ُم وا‬
‫أَنَّ ُك ْم إِلَ ْي ِه تُحْ َشرُونَ ﴾ [البقرة‪]203 :‬‬
‫الص اَل ةَ فَ ْاذ ُكرُوا هللا قِيَا ًم ا‬ ‫ض ْيتُ ُم َّ‬ ‫وعند الصالة وبع دها‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ إِ َذا قَ َ‬
‫ْ‬
‫َت َعلَى ال ُم ْؤ ِمنِينَ‬ ‫صاَل ةَ َك ان ْ‬ ‫اط َمأْنَ ْنتُ ْم فَأَقِي ُموا ال َّ‬
‫صاَل ةَ إِ َّن ال َّ‬ ‫َوقُعُودًا َو َعلَى ُجنُوبِ ُك ْم فَإِ َذا ْ‬
‫ِكتَابًا َموْ قُوتًا﴾ [النساء‪]103 :‬‬
‫ويدعو إلى اس تعمال ك ل الهيئ ات في ه‪ ،‬وال تي يتيس ر على النفس ممارس تها‬
‫َض رُّ عًا َو ِخيفَ ةً‬ ‫﴿و ْاذ ُك رْ َربَّكَ فِي نَ ْف ِس كَ ت َ‬ ‫والدوام عليها من غير تكلف‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ال َواَل تَ ُك ْن ِمنَ ْال َغ افِلِينَ إِ َّن الَّ ِذينَ ِع ْن َد َربِّ َ‬
‫ك اَل‬ ‫ص ِ‬ ‫َو ُدونَ ْال َجه ِْر ِمنَ ْالقَوْ ِل بِ ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ‬
‫يَ ْستَ ْكبِرُونَ ع َْن ِعبَا َدتِ ِه َويُ َسبِّحُونَهُ َولَهُ يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ [األعراف‪]206 ،205 :‬‬
‫ولذلك يمكن للذاكر أن يذكر هللا‪ ،‬من غير أن يحرك ش فتيه‪ ،‬وال أن يتعب أي‬
‫جارحة من جوارحه‪ ،‬بل يكتفي بحضوره مع ربه‪ ،‬أو ترديده لألذكار في سره‪.‬‬
‫والرتباط الذكر بالكثرة‪ ،‬وكون تأثيره مرتبط ا به ا أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن‬
‫تلك الحسرات التي يجدها اإلنسان عند أي ساعة لم يذكر هللا تعالى فيها‪ ،‬فق ال‪( :‬م ا‬
‫من ساعة تَ ُمرُّ بابن آدم ال يذكر هللا تعالى فيها إال تحسَّر عليها يوم القيامة)(‪)1‬‬
‫وأخبر عن الحسرة التي يجدها أولئك الذين يقضون أوقاتهم في الله و واللعب‬
‫بعيدا عن ذكر هللا‪ ،‬قال ‪( :‬م ا من ق وم يقوم ون من مجلس ال ي ذكرون هللا تع الى‬
‫فيه؛ إال قاموا عن مثل جيفة حمار‪ ،‬وكان عليهم حسرة)(‪ ،)2‬وفي رواي ة‪( :‬م ا جلس‬
‫قوم مجلسًا لم يذكروا هللا فيه‪ ،‬ولم يصلُّوا على ن بيهم إال ك ان عليهم تِ َرةً؛ ف إن ش اء‬
‫عذبهم‪ ،‬وإن شاء غفر لهم)(‪)3‬‬
‫بل ورد في الحديث أن أهل الجنة أنفس هم ين دمون على أي لحظ ة لم ي ذكروا‬
‫(إن أه ل الجنّ ة ال ين دمون على ش يء من أم ور ال دنيا إاّل على‬ ‫هللا فيه ا‪ ،‬ق ال ‪ّ :‬‬
‫ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا هللا فيها)(‪)4‬‬
‫وس ر ذل ك ـ كم ا ورد في أح اديث أخ رى ـ أن نعيم الجن ة يتش كل من تل ك‬
‫(لقيت ليل ة أُس ري بي إب راهيم الخلي ل‬ ‫ُ‬ ‫الحروف ال تي ي ذكرها ال ذاكرون‪ ،‬ق ال ‪:‬‬
‫عليه السالم‪ ،‬فقال‪ :‬ي ا محم د! أق رئ أمت ك م ني الس الم‪ ،‬وأخ برهم أن الجن ة طيب ة‬
‫قيعان‪ ،‬وأن غراسها‪ :‬س بحان هللا‪ ،‬والحم د هلل‪ ،‬وال إل ه إال‬ ‫ٌ‬ ‫التربة‪ ،‬عذبة الماء‪ ،‬وأنها‬

‫‪ )(1‬أبو نُعيم في الحلية (‪ ،)362 – 5/361‬والبيهقي في شعب اإليمان‪.‬‬


‫‪ )(2‬أبو داود (‪ ،)4855‬وأحمد (‪ 2/389‬و‪ 494‬و‪ ،)527‬والحاكم (‪)492 /1‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪ – 3440‬تحفة)‪ ،‬وأحمد (‪ 2/446‬و‪ 453‬و‪ 481‬و‪ ،)495‬والحاكم (‪)1/496‬‬
‫‪ )(4‬لئالى األخبار ج ‪ 1‬ص ‪14‬‬
‫‪36‬‬
‫أكبر)(‪)1‬‬‫هللا‪ ،‬وهللا‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬من قال‪ :‬سبحان هللا وبحمده؛ ُغرست ل ه نخل ة في‬
‫الجنة)(‪)2‬‬
‫وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تذكر لي ـ تعقيب ا على ه ذه األح اديث ـ م ا‬
‫يذكره بعضهم من زهده في الجنة‪ ،‬وأن مطلبه هللا تعالى؛ فطلبك هلل تعالى ال يزهدك‬
‫في الجنة‪ ،‬بل يجعلك أكثر حرصا عليها‪.‬‬
‫فهي ال دار ال تي يجتم ع فيه ا األنبي اء واألولي اء والمقرب ون والص الحون‪..‬‬
‫وتمتلئ جنباتها بالمالئكة الذاكرين المسبحين‪ ..‬فه ل يمكن الم رئ أن يزه د في دار‬
‫تمتلئ بهم‪ ،‬وهي س كن لهم‪ ،‬وه و ال ذي يس ير في ال دنيا المس افات الطويل ة ل يزور‬
‫مشاهدهم‪ ،‬ويتبرك بآثارهم‪ ..‬فهل يمكن لمن يتبرك بآث ارهم في ال دنيا‪ ،‬أن يزه د في‬
‫الدار التي تجمعه بهم في اآلخرة‪.‬‬
‫ولذلك انظر إلى الجنة به ذا االعتب ار‪ ،‬فهي دار ال ذاكرين والص الحين‪ ،‬وهي‬
‫مسجد هللا األعظم الذي تعقد فيه كل ألوان الحلق التي ي ذكر فيه ا هللا‪ ،‬ويتق رب فيه ا‬
‫إليه‪ ..‬فهل يمكن ألحد يدعي الزهد أن يزهد في مساجد هللا‪ ،‬وفي صحبة أولياء هللا‪.‬‬
‫بل إن الزاهد الحقيقي هو الذي ال يكتفي بجن ة اآلخ رة‪ ،‬وإنم ا يس عى ليح ول‬
‫دنياه إلى جنة بعمارتها بذكر هللا‪ ،‬فقد ورد في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬خ رج على‬
‫أصحابه‪ ،‬فقال لهم‪( :‬يا أيها الناس! ارتعوا في رياض الجنة)‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رس ول هللا!‬
‫وما رياض الجنة؟ قال‪( :‬مجالس ال ذكر)‪ ،‬ثم ق ال‪( :‬اغ دوا وروح وا واذك روا‪ ،‬فمن‬
‫كان يجب أن يعلم منزلته عند هللا؛ فلينظر كيف منزلة هللا تعالى عنده‪ ،‬فإن هللا تعالى‬
‫ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه)(‪)3‬‬
‫وكيف ال تكون مجالس الذكر مجالس من الجنة‪ ،‬وهي محفوفة بالمالئكة مثل‬
‫الجنة‪ ،‬ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬إن هلل مالئك ة يطوف ون في الط رق‬
‫يلتمس ون أه ل ال ذكر‪ ،‬ف إذا وج دوا قوم ا ي ذكرن هللا تن ادوا‪ :‬هلم وا إلى ح اجتكم‪،‬‬
‫فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا)(‪)4‬‬
‫وكيف ال تكون مجالس الذكر كذلك‪ ،‬واإلنسان في حرز من الش يطان م ا دام‬
‫في ذكر هللا‪ ،‬قال ‪( :‬وآمركم أن تذكروا هللا تعالى؛ فإن َمثَ َل ذلك َمثَ ُل رجل خ رج‬
‫العدو في أثره سراعًا‪ ،‬ح تى إذا أتى إلى حص ن حص ين ف أحرز نفس ه منهم‪ ،‬ك ذلك‬
‫العبد ال يحرز نفسه من الشيطان إال بذكر هللا)(‪)5‬‬
‫وهكذا يظل في حف ظ هللا م ا دام ي ذكره في أي مح ل يح ل ب ه‪ ،‬ق ال ‪( :‬إذا‬
‫دخل الرجل بيته فذكر هللا تعالى عند دخوله‪ ،‬وعند طعامه‪ ،‬ق ال الش يطان‪ :‬ال م بيت‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪ )3462‬وحسنه‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي (‪)3464‬‬
‫‪ )(3‬الحاكم (‪ 1/671‬رقم ‪)1820‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ – 212 /11‬فتح)‪ ،‬ومسلم (‪ – 15 – 17/14‬نووي)‬
‫‪)(5‬الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫لكم وال عش اء‪ ،‬وإذا دخ ل فلم ي ذكر هللا تع الى عن د دخول ه‪ ،‬ق ال الش يطان‪ :‬أدركتم‬
‫المبيت‪ ،‬وإذا لم يذكر هللا تعالى عند طعامه قال‪ :‬أدركتم المبيت والعشاء)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬من قال إذا خرج من بيته‪ :‬بسم هللا‪ ،‬توكلت على هللا‪ ،‬ال حول وال ق وة‬
‫إال باهلل‪ ،‬يقال له حينئذ‪ :‬كفيت ووقيت وهديت‪ ،‬وتنحى عنه الشيطان‪ ،‬فيقول لشيطان‬
‫آخر‪ :‬كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬من قال في يوم مئة مرة‪ :‬ال إله إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬ل ه المل ك‬
‫زا من الشيطان حتى يمسي)(‪)3‬‬ ‫وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬كانت له حر ً‬
‫وهذه األحاديث ـ أيها المريد الصادق ـ تشير إلى الدور التربوي لل ذكر‪ ،‬ذل ك‬
‫أن الذاكر بحضوره مع هللا يفر منه الشيطان‪ ،‬وتت وفر ل ه البيئ ة المناس بة للص الح‪،‬‬
‫ذلك أن كل االنحرافات التي يقع فيها اإلنسان بذور من إلهامات الشياطين‪.‬‬
‫ولذلك كان فرار الشيطان مشابها لعزل المريض الذي أص يب ب أي ن وع من‬
‫أنواع الجراثيم من البيئة التي تسببت له في ذلك‪ ،‬ووضعه في بيئة معقمة تيسر عليه‬
‫الشفاء‪.‬‬
‫وهكذا يمكنك أن تفهم من جميع النصوص المقدسة الواردة في فضل ال ذكر؛‬
‫فهي ال تتحدث عن فضل غيبي فقط‪ ،‬وإنما تتحدث عن دور حقيقي تكويني يق وم ب ه‬
‫﴿واَل‬
‫في تصفية اإلنسان وتطهيره وتزكيته وترقيته‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله تع الى‪َ :‬‬
‫تُ ِط ْع َم ْن أَ ْغفَ ْلنَا قَ ْلبَهُ ع َْن ِذ ْك ِرنَا َواتَّبَ َع ه ََواهُ َو َكانَ أَ ْم ُرهُ فُ ُرطًا﴾ [الكهف‪]28 :‬‬
‫فاآلية الكريمة تربط بين الغفلة عن ذكر هللا واتباع اله وى‪ ،‬واختالط األم ور‬
‫على صاحبها‪ ،‬باعتب ار أن ك ل م ا حص ل ل ه ك ان بس بب غفلت ه عن هللا‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫اس قُونَ ﴾ [الحش ر‪:‬‬ ‫﴿واَل تَ ُكونُوا َكالَّ ِذينَ نَسُوا هللا فَأ َ ْن َساهُ ْم أَ ْنفُ َس هُ ْم أُولَئِ كَ هُ ُم ْالفَ ِ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫ْض يَأ ُمرُونَ بِ ْال ُم ْن َك ِر‬ ‫﴿ال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ‬
‫‪ ،]19‬وقال عن المنافقين‪ْ :‬‬
‫ضهُ ْم ِم ْن بَع ٍ‬ ‫ات بَ ْع ُ‬
‫اس قُونَ ﴾‬ ‫ُوف َويَ ْقبِضُونَ أَ ْي ِديَهُ ْم نَسُوا هللا فَن َِسيَهُ ْم إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ هُ ُم ْالفَ ِ‬
‫َويَ ْنهَوْ نَ َع ِن ْال َم ْعر ِ‬
‫[التوبة‪]67 :‬‬
‫وأخ بر عن اس تحواذ الش يطان على اإلنس ان بس بب غفلت ه عن هللا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ب‬ ‫الش ْيطَا ِن أَاَل إِ َّن ِح ْز َ‬ ‫ك ِح ْزبُ َّ‬ ‫الش ْيطَانُ فَأ َ ْن َس اهُ ْم ِذ ْك َر هللا أُولَئِ َ‬
‫﴿اس تَحْ َو َذ َعلَ ْي ِه ُم َّ‬
‫ْ‬
‫َاسرُونَ ﴾ [المجادلة‪]19 :‬‬ ‫ْ‬
‫ال َّش ْيطا ِن ه ُم الخ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وله ذا ك انت الغفل ة عن ذك ر هللا أعظم أس باب م وت القل وب ومرض ها‬
‫وقسوتها‪ ،‬وقد روي أن هللا تعالى أوحى إلى موسى عليه السّالم قوله‪( :‬يا موسى‪ ،‬ال‬
‫فإن كثرة المال تنسي الذنوب‪ّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫تفرح بكثرة المال وال تدع ذكري على ك ّل حال‪ّ ،‬‬
‫ترك ذكري يقسي القلوب)(‪ ،)4‬وفي مناجاة أخرى‪( :‬ي ا موس ى‪ ،‬ال تنس ني على ك ّل‬
‫فإن نسياني يميت القلب)‬ ‫حال‪ّ ،‬‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم رقم ‪.2018‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي رقم ‪ ،3429‬وابن ماجه برقم ‪.3886‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪ )3293‬و(‪ ،)6403‬ومسلم (‪)2691‬‬
‫‪ )(4‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪ 360‬ح ‪7‬‬
‫‪38‬‬
‫وروي أنه سأل ربّه فقال‪ :‬يا ربّ ‪ ،‬أ قريب أنت منّي فاناجيك أم بعيد فاناديك‪،‬‬
‫فأوحى هللا ع ّز وج ّل إليه‪ :‬يا موس ى‪ ،‬أن ا جليس من ذك رني‪ ،‬فق ال موس ى‪ :‬فمن في‬
‫سترك يوم ال ستر إاّل سترك؟ فقال‪ :‬الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابّون ف ّي فأحبّهم‪،‬‬
‫فأولئك الذين إذا أردت أن أصيب أهل األرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم(‪.)1‬‬
‫الس الم‪( :‬ي ا داود‪ ،‬من أحبّ حبيب ا‬
‫وروي أن هللا تعالى أوحى إلى داود علي ه ّ‬
‫ص ّدق قوله‪ ،‬ومن رضي بحبيب رضى بفعله‪ ،‬ومن وثق بح بيب اعتم د علي ه‪ ،‬ومن‬
‫اشتاق إلى حبيب ج ّد في السير إليه‪ ..‬ي ا داود‪ ،‬ذك ري لل ذاكرين‪ ،‬وجنّ تي للمطيعين‪،‬‬
‫وحبّي للمشتاقين‪ ،‬وأنا خاصّة للمحبّين‪ ..‬أهل طاعتي في ضيافتي‪ ،‬وأهل ش كري في‬
‫زيادتي‪ ،‬وأهل ذكري في نعمتي‪ ،‬وأهل معصيتي ال آيسهم من رحمتي‪ ،‬إن تابوا فأنا‬
‫ح بيبهم‪ ،‬وإن دع وا فأن ا مجيبهم‪ ،‬وإن مرض وا فأن ا ط بيبهم‪ ،‬أداويهم ب المحن‬
‫والمصائب‪ ،‬وألطهّرهم من الذنوب والمعايب)(‪)2‬‬

‫وروي أن لقمان قال البنه‪( :‬ي ا ب ن ّي‪ ،‬اخ تر المج الس على عين ك ف إن رأيت‬
‫قوما يذكرون هللا ج ّل وع ّز ف اجلس معهم‪ ،‬ف إن تكن عالم ا نفع ك علم ك‪ ،‬وإن تكن‬
‫ج اهال علّم وك‪ ،‬ولع ّل هللا أن يظلّهم برحمت ه فيع ّم ك معهم‪ ،‬وإذا رأيت قوم ا ال‬
‫ي ذكرون هللا فال تجلس معهم‪ ،‬ف إن تكن عالم ا لم ينفع ك علم ك‪ ،‬وإن كنت ج اهال‬
‫ل هللا أن يظلّهم بعقوبة فيع ّمك معهم)(‪)3‬‬
‫يزيدوك جهال‪ ،‬ولع ّ‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف اعلم أن ال ذكر أعظم من أن يختص ر‬
‫فيما اصطلح عليه لقب [األذكار]‪ ،‬مما ي ردد في الص باح والمس اء‪ ،‬أو في األح وال‬
‫المختلفة‪ ،‬وإنما هو شامل لكل ما يذكرك بربك‪ ،‬وبأسمائه الحسنى‪ ،‬سواء كان آي ات‬
‫من القرآن الكريم‪ ،‬أو أدعية أو مناجاة أو ما اصطلح علي ه بلقب ال ذكر‪ ،‬س واء مم ا‬
‫ورد النص على ص يغته‪ ،‬أو لم ي رد‪ ،‬ح تى ل و ك انت أش عارا منظوم ة‪ ،‬أو كلم ات‬
‫منثورة‪ ،‬بل حتى لو كانت أناشيد تلحن بأص وات عذب ة‪ ،‬وتنفع ل النفس معه ا مثلم ا‬
‫تنفعل مع األذكار‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد قال رسول هللا ‪ ‬يشير إلى ذلك‪َ ( :‬من أط اع هللا فق د ذك ر هللا‪ ،‬وإن قلت‬
‫صالته وصيامه وتالوته‪ ،‬و َمن عصى هللا فقد نسي هللا‪ ،‬وإن كثُرت صالته وصيامه‬
‫وتالوته)(‪)4‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪َ ( :‬من كان ذاكراً هلل على الحقيق ة فه و مطي عٌ‪ ،‬و َمن ك ان‬
‫ص‪ ،‬والطاع ة عالم ة الهداي ة‪ ،‬والمعص ية عالم ة الض اللة‪،‬‬ ‫غ افالً عن ه فه و ع ا ٍ‬
‫وأصلهما من الذكر والغفلة‪ ..‬فاجعل قلبك قبلةً‪ ،‬ولسانك ال تحركه إال بإش ارة القلب‪،‬‬
‫وموافقة العقل‪ ،‬ورضا اإليمان‪ ،‬فإن هللا تعالى عال ٌم بسّرك وجه رك‪ ..‬وكن كالن ازع‬
‫روحه‪ ،‬أو كالواقف في العرض األكبر‪ ،‬غير شاغل نفسك ع ّما عناك مم ا كلّف ك ب ه‬
‫‪ )(1‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪ 360‬ح ‪4‬‬
‫‪ )(2‬ع ّدة الداعي ص ‪.237‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ج ‪ 1‬ص ‪.30‬‬
‫‪ )(4‬معاني األخبار ص‪.399‬‬
‫‪39‬‬
‫ربك في أمره ونهيه‪ ،‬ووعده ووعيده‪ ،‬وال تُشغلها بدون ما كلّفك‪ ..‬واغسل قلبك بماء‬
‫غني عن ك‪ ،‬ف ذ ْكره ل ك‬
‫ٌّ‬ ‫الحزن‪ ،‬واجعل ذكر هللا من أجل ذكره لك‪ ،‬فإنه َذ َكرك وهو‬
‫أجلُّ وأشهى وأت ُّم من ذكرك له وأسبق)(‪)1‬‬
‫لكن الشريعة الحكيمة مع إتاحته ا الفرص ة للنفس أن تس تعمل من الص يغ م ا‬
‫تشاء من األذكار التي تتناسب مع حاجاتها‪ ،‬وباألساليب التي ترغب فيه ا‪ ،‬وض عت‬
‫الكثير من الصيغ المختصرة اليسيرة التي تلبي جمي ع الحاج ات‪ ،‬وبأص ح الط رق‪،‬‬
‫وأجمل األساليب‪ ..‬فاهتم بالبحث عنها‪ ،‬وعن أسرارها‪ ،‬والتزم بها؛ فهي أدوية رب ك‬
‫األصلية التي تعالجك‪ ،‬وتصلح كل عطب يحصل لك‪.‬‬
‫ومثلما كانت األدوية عامة تستعمل في كل األوقات‪ ،‬ولك ل الحاج ات‪ ،‬ومنه ا‬
‫م ا ه و خ اص بمناس بات معين ة؛ فك ذلك أدوي ة األذك ار‪ ،‬منه ا م ا ورد الحث على‬
‫اإلكثار منه‪ ،‬وفي كل المناسبات‪ ،‬ومنها ما خصت به مناسبات معينة‪ ،‬والهدف منها‬
‫جميعا تربية النفس وتهذيبها والسمو بها‪.‬‬
‫األذكار العامة‪:‬‬
‫أما األذكار العامة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تل ك األذك ار ال تي ورد الحث‬
‫على آحادها من دون تحديد مناسبات خاصة به ا‪ ،‬أو ح ددت له ا بعض المناس بات‪،‬‬
‫لكنها ليست على سبيل الحصر‪.‬‬
‫ومن األمثلة عنها ما روي أن رسول هللا ‪ ‬قال ألبي ذر‪( :‬أال أخبرك بأحب‬
‫الكالم إلى هللا؟)‪ ،‬ثم قال له‪( :‬إن أحب الكالم إلى هللا‪ :‬سبحان هللا وبحمده)(‪)2‬‬
‫فهذه الصيغة التي أخبر رسول هللا ‪ ‬عن حب هللا لها‪ ،‬والتي لم تقيد بمناسبة‬
‫خاصة من األذكار العامة‪ ،‬وهي تجمع ك ل م ا يحتاج ه الع ارف من معرف ة هللا‪ ..‬فـ‬
‫(سبحان هللا) تعني تنزيهه عن كل م ا ال يلي ق ب ه‪ ..‬والمري د الس الك ه و ال ذي يب دأ‬
‫فينزه هللا عن كل ما ال يليق به‪ ،‬فال يمكن أن يتحقق بمعرفة هللا من يحم ل في وعي ه‬
‫ب ذور التش بيه والش رك ال تي ت دنس مح ل اإليم ان من قلب ه‪ ..‬و(الحم د هلل) إثب ات‬
‫الكماالت هلل بشمولها وتمامها‪ ..‬فال يمكن أن يعرف هللا من ال يعرف كماله‪.‬‬
‫ومنها ما عبر عنه رسول هللا ‪ ‬بقوله‪( :‬ألن أق ول س بحان هللا‪ ،‬والحم د هلل‪،‬‬
‫وال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)(‪)3‬‬
‫وروي أن ناسا قالوا للنبي ‪ :‬يا رس ول هللا ذهب أه ل ال دثور(‪ )4‬ب األجور‪،‬‬
‫يصلون كما نص لي‪ ،‬ويص ومون كم ا نص وم‪ ،‬ويتص دقون بفض ول أم والهم‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫أوليس قد جعل هللا لكم ما تصدقون؟ إن بكل تس بيحة ص دقة‪ ،‬وك ل تكب يرة ص دقة‪،‬‬
‫وكل تحميدة صدقة‪ ،‬وكل تهليلة صدقة‪ ،‬وأم ر ب المعروف ص دقة‪ ،‬ونهي عن منك ر‬

‫‪ )(1‬مصباح الشريعة ص‪.5‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬الدثور‪ :‬جمع دثر‪ ،‬وهو المال الكثير‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫صدقة)(‪)1‬‬
‫وه ذه الص يغة المركب ة من أربع ة مف ردات تحم ل الكث ير من الحق ائق؛ فـ‬
‫[سبحان هللا]‪ ،‬تعني تنزيه هللا عما ال يليق به‪ ،‬وال يعرف هللا من لم ينزهه‪ ..‬و[الحمد‬
‫هلل] ثناء على هللا‪ ،‬وال يعرف هللا من لم يدرك أن ه ال يس تحق أح د ثن اء غ يره‪ ،‬فك ل‬
‫خ ير من هللا وباهلل‪ ..‬و[ال إل ه إال هللا] توحي د هلل‪ ،‬وال يع رف هللا من ال يعلم أن ه ال‬
‫خالق وال رازق وال مدبر وال ح اكم وال معب ود وال من اكتم ل ل ه الوج ود إال هللا‪..‬‬
‫و[هللا أكبر] تعظيم هلل‪ ،‬وال يعرف هللا من لم يعتقد أن هللا أكبر من أن ي درك‪ ،‬وأك بر‬
‫من أن يعرف‪ ،‬وأكبر من أن يحاط به‪ ..‬ولذلك ال تطلب همة العارف العالية إال هللا‪..‬‬
‫ومن ترك األكبر ونزل إلى األصغر انحدر إلى أسفل سافلين‪.‬‬
‫ومنها ما علمه ‪ ‬لبعض أصحابه عندما قال له‪ :‬علم ني كالم ا أقول ه؟ ق ال‪:‬‬
‫قل‪( :‬ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬هللا أكبر كبيرا‪ ،‬والحم د هلل كث يرا‪ ،‬س بحان هللا‬
‫رب العالمين‪ ،‬ال حول وال قوة إال باهلل العزيز الحكيم)‪ ،‬قال‪ :‬فهؤالء لربي‪ ،‬فم ا لي؟‬
‫قال‪ :‬قل‪( :‬اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)(‪)2‬‬
‫وق د جمعت ه ذه الكلم ات الطيب ات ك ل المع ارف؛ فمن ع رف وحداني ة هللا‬
‫وعظمته؛ فأثنى عليه‪ ،‬ونزهه‪ ،‬واستعاذ من حول نفسه وقوته ليعتم د على ح ول هللا‬
‫وقوته‪ ،‬فقد اكتملت معرفته‪.‬‬
‫ومنها ما رغب فيه رسول هللا ‪ ‬بقوله‪( :‬لقيت إبراهيم ليلة أسري بي‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا محمد أقرئ أمتك مني السالم‪ ،‬وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة‪ ،‬عذبة الماء‪ ،‬وأنها‬
‫قيعان‪ ،‬وأن غراسها‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكبر)(‪ ،)3‬وقول ه‪:‬‬
‫(ما على األرض أحد يقول‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكبر‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬إال كفرت‬
‫عنه خطاياه‪ ،‬ولو كانت مثل زبد البحر)(‪)4‬‬
‫وه ذه الوص فة المعرفي ة من رس ول هللا ‪ ‬تص ل بين التنزي ه والتعظيم‬
‫والتوكل‪ ..‬فال يتوكل على هللا إال من وثق فيه‪ ..‬وال يثق فيه إال من ع رف عظمت ه‪..‬‬
‫وال يع رف عظمت ه إال من جم ع في معرفت ه بين التنزي ه والتعظيم‪ ،‬ولم ينحجب‬
‫بإحداهما عن األخرى‪.‬‬
‫ومنه ا م ا رغب في ه رس ول هللا ‪ ‬بقول ه‪( :‬من ق ال ال إل ه إال هللا وح ده ال‬
‫شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة ك انت ل ه‬
‫عدل عشر رقاب‪ ،‬وكتبت له مائة حسنة‪ ،‬ومحيت عنه مائة سيئة‪ ،‬وكانت ل ه ح رزا‬
‫من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي‪ ،‬ولم يأت أحد بأفضل مما جاء ب ه إال أح د عم ل‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )( 2‬رواه مسلم‪ ،‬وفي حديث آخر قريب منه عن عبد هللا بن أبي أوفى قال‪ :‬جاء رجل إلى الن بي ‪‬ف ق ال‪ :‬إني‬
‫ال أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا‪ ،‬فعلمني ما يجزئني منه‪ ،‬ق ال‪( :‬ق ل‪ :‬س بحان هللا‪ ،‬والحم د هلل‪ ،‬وال إل ه إال هللا‪ ،‬وهللا‬
‫أكبر‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل)‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬هذا هلل عز وجل‪ ،‬فم ا لي؟ ق ال‪( :‬ق ل‪ :‬اللهم ارحم ني وارزق ني‬
‫وعافني واهدني)‪ ،‬فلما قام قال هكذا بيده‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬أما هذا فقد مأل يده من الخير) رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد والترمذي‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫ذلك)(‪)1‬‬ ‫أكثر من‬
‫وقد اعت بر الحكم اء ه ذا ال ذكر خصوص ا مفت اح التوك ل على هللا‪ ..‬ذل ك أن‬
‫التوك ل ينب ني على التوحي د ال ذى يترجم ه (ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه)‪..‬‬
‫واإليمان بالقدرة التي يترجم عنها (له الملك)‪ ..‬واإليمان بالجود والحكمة ال ذي ي دل‬
‫عليها (وله الحمد)‪ ..‬فمن قال (ال إله إال هللا وحده ال شريك له ل ه المل ك ول ه الحم د‬
‫وهو على كل شىء قدير) تم له اإليمان الذي هو أصل التوكل‪.‬‬
‫ومنها ما رغب فيه رسول هللا ‪ ‬بقوله‪( :‬كلمتان خفيفتان على اللس ان‪ ،‬ثقيلت ان‬
‫في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪ :‬سبحان هللا وبحمده‪ ،‬سبحان هللا العظيم)(‪)2‬‬
‫ومنها ما رغب فيه رسول هللا ‪ ‬بقوله‪( :‬قل‪ :‬ال حول وال ق وة إال باهلل فإنه ا‬
‫كنز من كن وز الجن ة)(‪ ،)3‬وبقول ه ‪( :‬أك ثروا من ق ول ال ح ول وال ق وة إال باهلل‪،‬‬
‫فإنها كنز من كنوز الجنة)(‪)4‬‬
‫وهك ذا اش تملت ه ذه األذك ار على ك ل م ا يمأل العق ل والقلب بك ل أص ناف‬
‫المعارف التي يحتاجها‪ ،‬وفي جمل قصيرة يسيرة لذيذة‪ ،‬تحمل من روعة البي ان م ا‬
‫ينسجم مع معانيها الرفيعة‪.‬‬
‫وهذا يريك ـ أيها المريد الصادق ـ مدى بعد أولئ ك ال ذين نف رت نفوس هم من‬
‫تلك األذكار النبوية‪ ،‬وراح وا يض عون من عن دهم أنفس هم أذك ارا ممل وءة باأللغ از‬
‫والشطحات ال تي ق د يتف وه به ا من ي درك معانيه ا ومن ال ي درك‪ ،‬بخالف التع ابير‬
‫النبوية الواضحة ال تي ينه ل منه ا الخ واص والع وام ك ل بحس ب طاقت ه‪ ،‬وبحس ب‬
‫همته‪ ..‬فالماء واحد‪ ..‬والشارب متعدد‪.‬‬
‫األذكار الخاصة‪:‬‬
‫أما األذكار الخاصة ـ أيها المريد الصادق ـ فتشمل نوعين من األذكار؛ أوله ا‬
‫تل ك األذك ار ال تي تس تعمل لحاج ات خاص ة؛ فمن غلب علي ه التش بيه أك ثر من‬
‫التسبيح‪ ..‬ومن غلب عليه الشرك أكثر من التهلي ل‪ ..‬ومن أراد أن يمأل قلب ه بعظم ة‬
‫هللا أكثر من التكبير‪ ..‬ومن أراد أن يمأله بفضل هللا عليه وعلى ك ل ش يء أك ثر من‬
‫الحمد‪ ..‬ومن أراد أن يحصل كل ذلك جمع كل ذل ك‪ ..‬ومن أراد غ ير ذل ك وج د في‬
‫األذكار النبوية ما يشفي غليله‪ ،‬ويسد حاجته‪.‬‬
‫ومن األمثلة عنها ما روي عن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬عجبت لمن فزع من‬
‫أرب ع كي ف ال يف زع إلى أرب ع‪ :‬عجبت لمن خ اف كي ف ال يف زع إلى قول ه تع الى‪:‬‬
‫﴿ح ْس بُنَا هللا َونِ ْع َم ْال َو ِكي لُ﴾ [آل عم ران‪ ،]173 :‬ف إني س معت هللا ع ّز وج ّل يق ول‬ ‫َ‬
‫ض َوانَ هللا َوهللا ذوُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫بعقبها‪﴿ :‬فانقلبُوا بِنِ ْع َم ٍة ِمنَ هللا َوفضْ ٍل ل ْم يَ ْم َس ْسهُ ْم سُو ٌء َواتبَعُوا ِر ْ‬
‫َظ ٍيم﴾ [آل عمران‪ ،]174 :‬وعجبت ل َمن اغتم كيف ال يفزع إلى قوله تعالى‪:‬‬ ‫فَضْ ٍل ع ِ‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫ت ِمنَ الظَّالِ ِمينَ ﴾ [األنبياء‪ ،]87 :‬فإني سمعت هللا ع ّز‬ ‫﴿اَل إِلَهَ إِاَّل أَ ْنتَ ُسب َْحانَكَ إِنِّي ُك ْن ُ‬
‫وج ّل يقول بعقبها‪﴿ :‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َك َذلِكَ نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [األنبي اء‪:‬‬
‫‪ ،]88‬وعجبت لمن ُمكر به كيف ال يفزع إلى قوله تعالى‪﴿ :‬أُفَ ِّوضُ أَ ْم ِري إِلَى هللا إِ َّن‬
‫صي ٌر بِ ْال ِعبَا ِد﴾ [غافر‪ ،]44 :‬فإني سمعت هللا ع ّز وج ّل يق ول بعقبه ا‪﴿ :‬فَ َوقَ اهُ هللا‬ ‫هللا بَ ِ‬
‫ت َما َم َكرُوا﴾ [غافر‪ ،]45 :‬وعجبت لمن أراد ال ُّدنيا وزينتها كي ف ال يف زع إلى‬ ‫َسيِّئَا ِ‬
‫قوله‪َ ﴿ :‬ما َشا َء هللا اَل قُ َّوةَ إِاَّل بِاهلل﴾ [الكهف‪ ،]39 :‬ف إني س معت هللا ع ّز وج ّل يق ول‬
‫ك﴾‬ ‫ك َمااًل َو َولَدًا (‪ )39‬فَ َع َسى َربِّي أَ ْن ي ُْؤتِيَ ِن خَ ْيرًا ِم ْن َجنَّتِ َ‬ ‫بعقبها‪﴿ :‬إِ ْن تَ َر ِن أَنَا أَقَ َّل ِم ْن َ‬
‫[الكهف‪ ،]40 ،39 :‬وعسى موجبة) (‪)1‬‬
‫وعن اإلمام السجاد‪ ،‬أن ه ق ال‪( :‬مج دوا هللا في خمس كلم ات)‪ ،‬فس ئل عنه ا‪،‬‬
‫فقال‪( :‬إذا قلت‪( :‬سبحان هللا وبحمده) رفعت هللا تبارك وتعالى عم ا يق ول الع ادلون‬
‫به‪ ،‬فاذا قلت (ال إله إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه فهي كلم ة االخالص ال تي ال يقوله ا‬
‫عبد إال أعتقه هللا من النار‪ ،‬إال المستكبرين والجبارين‪ ،‬ومن قال‪( :‬ال حول وال ق وة‬
‫إال باهلل) فوض االمر إلى هللا عز وجل‪ ،‬ومن قال‪( :‬أس تغفر هللا وأت وب إلي ه) فليس‬
‫بمستكبر وال جبار‪ ،‬إن المستكبر من يصر على الذنب الذي قد غلبه هواه فيه‪ ،‬وآث ر‬
‫دنياه على آخرته ومن قال‪( :‬الحمد هلل) فقد أدى شكر كل نعمة هلل عز وجل عليه)(‪)2‬‬
‫ومنها ما ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ش كا آدم إلى هللا ع ّز‬
‫وج ّل ما يلقى من حديث النفس والحزن‪ ،‬فنزل عليه جبريل‪ ،‬فقال له‪ :‬يا آدم‪ ،‬ق ل‪ :‬ال‬
‫حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬فقالها‪ ،‬فذهب عنه الوسوسة والحزن) (‪)3‬‬
‫وقال ‪َ ( :‬من تظاهرت عليه النعم فليق ل‪ :‬الحم د هلل رب الع المين‪ ،‬و َمن أل ّح‬
‫علي ه الفق ر فليك ثر من ق ول‪ :‬ال ح ول وال ق وة إال باهلل العلي العظيم‪ ،‬فإن ه ك نز من‬
‫كنوز الجنة‪ ،‬وفيه شفاء من اثنين وسبعين داء‪ ،‬أدناها اله ُّم) (‪)4‬‬
‫وغيرها من األذكار الكثيرة الواردة عن رسول هللا ‪ ،‬وأئمة الهدى‪ ،‬وال تي‬
‫يمكن استعمالها بحسب األحوال المختلفة‪.‬‬
‫أم ا الن وع الث اني من األذك ار الخاص ة؛ فهي تل ك ال تي ت ردد في األوق ات‬
‫ص يالً﴾‬ ‫تعالى‪﴿:‬و َس بِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأَ ِ‬
‫َ‬ ‫والمناسبات المختلفة‪ ،‬مثل تلك التي دعا إليها قوله‬
‫وع‬ ‫ُ‬
‫اص بِرْ َعلَى َم ا يَقُولُ ونَ َو َس بِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ ق ْب َل طل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫(األح زاب‪ ،)42:‬وقول ه‪﴿:‬فَ ْ‬
‫ق‪)39:‬‬ ‫ب﴾ ( ّ‬ ‫س َوقَ ْب َل ْال ُغرُو ِ‬ ‫ال َّش ْم ِ‬
‫ومنها ما رغب فيه رسول هللا ‪ ‬بقوله‪( :‬ما من عبد يقول في صباح كل يوم‬
‫ومساء كل ليلة‪ :‬بسم هللا الذي ال يض ر م ع اس مه ش يء في األرض وال في الس ماء‬
‫وهو السميع العليم‪ ،‬ثالث مرات‪ ،‬لم يضره شيء)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬الخصال ‪1/103‬‬
‫‪ )(2‬الخصال ج ‪ 1‬ص ‪.143‬‬
‫‪ )(3‬أمالي الصدوق ص‪324‬‬
‫‪ )(4‬أمالي الصدوق ص‪332‬‬
‫‪ )(5‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫ومنها م ا رغب في ه بقول ه‪( :‬من ق ال حين يص بح وحين يمس ي (س بحان هللا‬
‫وبحمده) مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به‪ ،‬إال أحد ق ال مث ل م ا‬
‫قال أو زاد عليه)(‪)6‬‬
‫وغيرها من األذكار التي قد أح دثك عنه ا‪ ،‬وعن أس رار معانيه ا في رس ائل‬
‫الحقة‪ ..‬فالتزم ـ أيها المريد الص ادق ـ به ذه اله دايا اإللهي ة ال تي ت وفر ل ك أقص ر‬
‫الطرق إلصالح نفس ك وته ذيبها‪ ،‬لتص بح أهال للق اء رب ك‪ ،‬والس عادة بج واره‪ ،‬فال‬
‫طمأنينة إال ب ذلك‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوت ْ‬
‫َط َمئِ ُّن قُلُ وبُهُ ْم بِ ِذ ْك ِر هللا أَاَل بِ ِذ ْك ِر هللا‬
‫ت ْ‬
‫َط َمئِ ُّن ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد‪]28 :‬‬

‫‪ )(6‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫التكبير والتهليل‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن التكب ير والتهلي ل‪ ،‬وعالقتهم ا‬
‫بالسير والسلوك‪ ،‬والمعاني المرتبطة بهما‪ ،‬والثمار ال تي يثمرانه ا في تزكي ة النفس‬
‫وترقيتها‪ ،‬وسر ما ورد حولهما‪ ،‬وحول فضلهما من النصوص المقدسة‪.‬‬
‫وجوابا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن التكب ير والتهلي ل ليس ا من أرك ان‬
‫اإلص الح المرتب ط ب النفس فق ط‪ ،‬وإنم ا هم ا الركن ان العظيم ان الل ذان ال يمكن أن‬
‫يتحقق اإلصالح االجتماعي والسياسي واالقتصادي والثقافي وغيرها من دونهما‪.‬‬
‫ولذلك أمر بإشاعتهما في كل المناسبات‪ ،‬وأنت ت رى كي ف ي ردد المؤذن ون‪،‬‬
‫وفي جميع المحال‪ ،‬تلك التكبيرات والتهليالت‪ ،‬ويكررونها‪ ،‬وبصوت ع ال‪ ،‬ليك ون‬
‫هللا تعالى في المجتمع هو األك بر واألعظم واألولى ب أن يعب د ويرج ع إلي ه في ك ل‬
‫شيء‪ ..‬وأن يكون وحده في ذل ك ال ش ريك ل ه‪ ..‬ال من المل وك وال الس الطين‪ ..‬وال‬
‫األغنياء وال األثرياء‪ ..‬وال الوجهاء وال المأل‪ ..‬وال رجال الدين‪ ،‬وال رجال الدنيا‪.‬‬
‫ولذلك لم يكن التهليل والتكبير مجرد أذكار ش رعية‪ ،‬أُم ر به ا‪ ،‬ودُعي إليه ا‪،‬‬
‫وإنما هما شعارات سياسية تقف في وجه الظلمة والطواغيت والمس تبدين‪ ..‬لتص يح‬
‫في خلدهم كل حين بأن هللا تعالى أك بر منكم‪ ،‬ومن ج بروتكم وطغي انكم‪ ،‬وت دعوهم‬
‫ألن يتخلوا عن كبريائهم‪ ،‬ليرتدوا ثوب اإليمان والعبودي ة والتواض ع‪ ،‬ويوح دوا هللا‬
‫تع الى أثن اء أدائهم لممارس اتهم السياس ية‪ ،‬كم ا يوحدون ه أثن اء أدائهم لممارس اتهم‬
‫الدينية؛ فاهلل تعالى رب الدين والدنيا جميعا‪.‬‬
‫وهي شعار في وجه من يريدون تفكيك المجتمع بالعصبية والقبلية والنع رات‬
‫الجاهلية‪ ..‬لتقول لهم‪ :‬إن هللا أكبر من أنسابكم وأحسابكم وجاهكم‪ ..‬وعند هللا يتساوى‬
‫الجميع‪ ..‬والكل عن د هللا ص غير‪ ..‬وال ُمك رم عن د هللا ه و التقي الص الح‪ ،‬ال ص احب‬
‫المال‪ ،‬وال صاحب السلطان‪ ،‬وال صاحب الجاه العريض‪ ،‬والحسب والنسب‪.‬‬
‫وهي شعار في وجه أباطرة الم ال‪ ،‬والمس تبدين في االقتص اد‪ ،‬والمحتك رين‬
‫للس لع‪ ،‬والغاش ين للمحتق رين المظل ومين‪ ،‬لتق ول لهم‪ :‬إن هللا أك بر من أم والكم‬
‫وخ زائنكم‪ ..‬وهي ال تس اوي جن اح بعوض ة من خزائن ه‪ ..‬ف ارجعوا إلى أنفس كم‪،‬‬
‫وتوبوا إلى ربكم‪ ،‬وارحموا المستضعفين قبل أن تخرجوا من الدنيا‪ ،‬كما جئتم إليها‪،‬‬
‫ال تملكون شيئا‪ ،‬ويظل الملك هلل وحده‪.‬‬
‫وهي شعار في وجه أب اطرة الفن والثقاف ة ال ذين يخرب ون المجتمع ات باس م‬
‫اإلب داع والجم ال‪ ..‬لتق ول لهم‪ :‬إن هللا أك بر وأعظم مب دع‪ ،‬وال إب داع إال من ه‪ ،‬وال‬
‫إبداع وال فن إال بصحبته‪ ،‬وفي ظل القيم النبيلة التي أمر بها‪.‬‬
‫وهكذا‪ ..‬فإن التكبير والتهليل ـ أيها المريد الصادق ـ ش عار يس ري في ع الم‬
‫النفس كم ا يس ري في ع الم المجتم ع‪ ،‬لي نزع عن اإلنس ان ذل ه وهوان ه‪ ،‬وليمأله‬
‫بالش جاعة والج رأة‪ ،‬ليق ول كلم ة الح ق في وج ه ك ل الظلم ة‪ ،‬من دون خ وف وال‬
‫‪45‬‬
‫وجل‪ ،‬وكيف يخاف‪ ،‬وهللا هو األكبر‪ ،‬وهو األوحد؟‬
‫وهو شعار يتحول إلى ماء طهور يغس ل عن النفس جمي ع مثالبه ا وأدرانه ا‪،‬‬
‫وهل يمكن ألي مثلب أو ذنب كبيرا كان أو صغيرا أن يقف مع توحيد هللا وتكبيره؟‬
‫وه ل يمكن ألي نفس أن تمتلئ عجب ا‪ ،‬وهي ت رى عظم ة هللا وكبري اءه‬
‫وجبروته؟‬
‫وهل يمكن أن تغتر‪ ،‬وهي تعلم أن قوانين هللا تع الى ج ادة دقيق ة ص ارمة‪ ،‬ال‬
‫يمكن ألحد مهما كان أن يتجاوزها؟‬
‫وهل يمكن أن تتكبر‪ ،‬وهي تعلم أن هللا هو األكبر‪ ،‬وأن من نازعه ونافسه في‬
‫كبره‪ ،‬لم ينل إال الضالل والخسارة؟‬
‫وهل يمكن أن تبطر وتظلم‪ ،‬وهي تعلم أن هللا أكبر من قوتها‪ ،‬وأنه سينتص ف‬
‫للمظلوم ال محالة؟‬
‫وهكذا؛ فإن التكب ير والتهلي ل من أعظم الم دارس التربوي ة والروحي ة‪ ،‬ومن‬
‫أدمن على دروسهما‪ ،‬وحفظها‪ ،‬ورددها كل حين؛ فإنه ال محالة سيخرج من سجون‬
‫النفس األمارة‪ ،‬ليلتحق بجنات أصحاب النفوس المطمئنة‪.‬‬
‫إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن س ر اهتم ام النص وص‬
‫المقدس ة بهم ا‪ ،‬ودعوته ا إلى تردي دها في ك ل المح ال‪ ،‬ال يه دف فق ط إال ت رطيب‬
‫اللسان بهما‪ ،‬ولكن لما لهما من اآلثار البعيدة في النفس والمجتمع‪.‬‬
‫لذلك فاقرأ تلك النصوص بهذا الفهم‪ ،‬وال تلتفت ألولئك الذين حولوا الش ريعة‬
‫إلى طق وس يؤدونه ا من دون فق ه ألس رارها وحقائقه ا؛ فراح وا يوال ون الظلم ة‪،‬‬
‫ويساندون المستكبرين‪ ،‬في نفس الوقت الذي يلهجون فيه ب التكبير والتهلي ل‪ ،‬وك أن‬
‫هللا تعالى أمرنا أن نعبده‪ ،‬ونقيم دينه باأللفاظ والطقوس‪ ،‬ال بالحقائق والمعاني‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن القرآن الك ريم كت اب التزكي ة‬
‫األكبر‪ ،‬ورسول هللا ‪ ‬معلم التزكي ة األعظم‪ ،‬وأئم ة اله دى والتق وى ال ذين مثل وا‬
‫الهدي النبوي أحسن تمثي ل‪ ،‬وحفظ وا ال دين األص يل أحس حف ظ‪ ،‬كلهم اتفق وا على‬
‫تعظيم التهلي ل والتكب ير‪ ،‬والحث عليهم ا‪ ،‬وفي ك ل المناس بات‪ ،‬وبي ان األج ور‬
‫العظيمة‪ ،‬والدرجات العالية التي يستحقها من يكثر منهما‪ ،‬ويداوم عليهما‪.‬‬
‫التكبير والتزكية‪:‬‬
‫أما التكبير‪ ،‬وهو قول [هللا أكبر] بصيغها المختلف ة؛ فق د ورد الحث علي ه في‬
‫أوائل ما نزل من القرآن الكريم‪ ،‬فقد ورد في س ورة الم دثر‪ ،‬وهي من أوائ ل س ور‬
‫ك فَ َكبِّرْ ﴾ [المدثر‪ ،]3 :‬وقد قرنه ا ب األمر باإلن ذار‪،‬‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َربَّ َ‬
‫فقال‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا ْال ُم َّدثِّ ُر (‪ )1‬قُ ْم فَأ َ ْن ِذرْ ﴾ [المدثر‪ ،]2 ،1 :‬لي بين من خالله ا أن ه ال يمكن‬
‫أن يقوى أحد أو يصدق في الدعوة إلى ربه‪ ،‬من دون أن يكون مزودا بهذه المعرف ة‬
‫الجليلة معرفة عظم هللا وكبره‪ ،‬حتى يصغر أمامه كل شيء‪.‬‬
‫﴿و َكبِّرْ هُ تَ ْكبِيرًا﴾ [اإلس راء‪]111 :‬‬
‫وهكذا ورد في سورة اإلسراء قوله تعالى‪َ :‬‬
‫‪46‬‬
‫بعد آيات كثيرة تبين المعاناة العظيم ة ال تي عاناه ا رس ول هللا ‪ ‬م ع تل ك القل وب‬
‫ض يَ ْنبُو ًع ا (‬ ‫ك َحتَّى تَ ْفج َُر لَنَا ِمنَ اأْل َرْ ِ‬ ‫القاسية التي كانت تخاطبه بقوله‪﴿ :‬لَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫ب فَتُفَج َِّر ا ْنهَا َر ِخاَل لَهَا تَف ِجيرًا (‪ )91‬أوْ تُ ْسقِطَ‬ ‫‪ )90‬أَوْ تَ ُكونَ لَكَ َجنَّةٌ ِم ْن نَ ِخي ٍل َو ِعنَ ٍ‬
‫ك بَي ٌ‬
‫ْت‬ ‫ال َّس َما َء َك َما َز َع ْمتَ َعلَ ْينَا ِك َسفًا أَوْ تَأْتِ َي بِاهلل َو ْال َماَل ئِ َك ِة قَبِياًل (‪ )92‬أَوْ يَ ُك ونَ لَ َ‬
‫ُف أَوْ تَ رْ قَى فِي َّ‬
‫الس َما ِء َولَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لِ ُرقِيِّكَ َحتَّى تُنَ ِّز َل َعلَ ْينَ ا ِكتَابً ا نَ ْق َر ُؤهُ﴾‬ ‫ِم ْن ُز ْخر ٍ‬
‫[اإلسراء‪]93 - 90 :‬‬
‫وهكذا يق رن الق رآن الك ريم بين وص ف هللا تع الى نفس ه ب الكبر والعل و م ع‬
‫ك بِ أ َ َّن هللا‬ ‫وصف األصنام التي تعبد من دون هللا بالضعف والهوان‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫اط ُل َوأَ َّن هللا هُ َو ْال َعلِ ُّي ْال َكبِ يرُ﴾ [الحج‪:‬‬ ‫ق َوأَ َّن َم ا يَ ْد ُعونَ ِم ْن دُونِ ِه هُ َو ْالبَ ِ‬ ‫هُ َو ْال َح ُّ‬
‫‪ ،]62‬وقال‪َ ﴿ :‬ذلِ ُك ْم بِأَنَّهُ إِ َذا د ُِع َي هللا َوحْ َدهُ َكفَ رْ تُ ْم َوإِ ْن ي ُْش َر ْك بِ ِه تُ ْؤ ِمنُ وا فَ ْال ُح ْك ُم هلل‬
‫ير﴾ [غافر‪]12 :‬‬ ‫ْال َعلِ ِّي ْال َكبِ ِ‬
‫وقد كان من حكمة هللا تع الى أن تك ون الص يغة الدال ة على ك بر هللا وجالل ه‬
‫وعظمته‪ ،‬على وزن أفعل التفضيل من غير تحديد للمفضول‪ ،‬وذلك حتى يدخل ك ل‬
‫شيء ما يعقل وما ال يعقل‪..‬‬
‫بل قد ورد عن اإلمام الصادق النهي عن تحديد أي شيء للداللة على أكبرية‬
‫هللا عليه‪ ،‬ألن في ذلك تحديدا وتقييدا‪ ،‬فقد روي أن ه ق ال لبعض أص حابه‪ :‬أي ش يء‬
‫هللا أكبر؟ فقال‪ :‬هللا أكبر من كل شيء‪ ،‬فقال‪ :‬فكان ثم شيء فيكون أكبر من ه؟ فقلت‪:‬‬
‫فما هو؟ فقال‪( :‬هللا أكبر من أن يوصف) (‪)1‬‬
‫وروي أن رجال قال أمامه‪ :‬هللا أك بر من ك ل ش يء‪ ،‬فق ال ل ه‪ :‬حددت ه‪ ،‬فق ال‬
‫الرجل‪ :‬وكيف أقول؟ فقال‪( :‬هللا أكبر من أن يوصف) (‪)2‬‬
‫ولذلك كان التكبير الصادق المبني على المعرفة اإللهي ة‪ ،‬والم ؤدي إليه ا من‬
‫أكبر المعارج التي تع رج بقلب ص احبها إلى هللا‪ ،‬كم ا روي في الح ديث عن بعض‬
‫أصحاب رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪ :‬بينما نحن نصلي مع رس ول هللا ‪ ،‬إذ ق ال رج ٌل‬
‫من القوم‪ :‬هللا أكبر كبيرا‪ ،‬والحمد هلل كثيرا‪ ،‬وسبحان هللا بكرة وأصيال‪ ،‬فقال رس ول‬
‫هللا ‪( :‬من القائل كذا وكذا؟)‪ ،‬فق ال رج لٌ‪ :‬أن ا ي ا رس ول هللا‪ ،‬ق ال‪( :‬عجبت له ا‪،‬‬
‫فتحت لها أبواب السماء) (‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر أخبر رسول هللا ‪ ‬أن التكب ير يص ل ويمأل م ا بين الس ماء‬
‫واألرض‪ ،‬فق ال‪( :‬التس بيح نص ف الم يزان‪ ،‬والحم د يمل ؤه‪ ،‬والتكب ير يمأل م ا بين‬
‫السماء واألرض) (‪)4‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أنه من الباقيات الصالحات‪ ،‬ومن أحب الكالم إلى هللا‪ ،‬وهي أربع‪:‬‬

‫‪ )(1‬معانى االخبار ص ‪.11‬‬


‫‪ )(2‬المحاسن ص ‪.241‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪)601‬‬
‫‪ )(4‬أحمد (‪)23073( )170 /38‬‬
‫‪47‬‬
‫(سبحان هللا‪ ،‬والحم د هلل‪ ،‬وال إل ه إال هللا‪ ،‬وهللا أك بر) (‪ ،)1‬وعن اإلم ام الص ادق أن ه‬
‫قال‪( :‬أكثروا من التهليل والتكبير فانه ليس ش ئ أحب إلى هللا من التكب ير والتهلي ل)‬
‫(‪)2‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن وص ية إب راهيم الخلي ل أم ة رس ول هللا ‪ ‬ب ه‪ ،‬فق ال‪( :‬لقيت‬
‫أن الجنّ ة‬ ‫الس الم‪ ،‬وأخ برهم ّ‬ ‫إبراهيم ليلة أسري بي فقال‪ :‬ي ا مح ّم د أق رأ أ ّمت ك منّي ّ‬
‫وأن غراسها سبحان هللا والحمد هلل وال إل ه إاّل‬ ‫طيّبة التّربة عذبة الماء‪ ،‬وأنّها قيعان‪ّ ،‬‬
‫هللا وهللا أكبر)(‪)3‬‬

‫وأخ بر عن مرتب ة كلم ة التوحي د من اإليم ان‪ ،‬ودوره ا في تحقيق ه‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(اإليمان بضع وس بعون‪ ،‬أو بض ع وس تون ش عبة فأفض لها ق ول ال إل ه إال هللا)(‪،)4‬‬
‫وهذا الحديث يشير إلى أن كل شعب اإليمان مؤسسة على كلمة التوحي د‪ ،‬ومتفرع ة‬
‫عنها‪.‬‬
‫ولم يكتف رسول هللا ‪ ،‬وال الشريعة الحكيمة بذلك الترغيب العام‪ ،‬الذي قد‬
‫يج د من يقص ر في ه‪ ،‬وإنم ا ربط ه ب الكثير من العب ادات والم واطن‪ ،‬وبالص يغة‬
‫الجهرية‪ ،‬حتى يرددها المؤمن بكل قوة‪ ،‬ويسمعها لنفسه ولغيره‪.‬‬
‫فالتكبير ركن من أركان الص الة‪ ،‬وال ي دخل الم ؤمن الص الة إال ب ه‪ ،‬ي ردده‬
‫عند كل رفع‪ ،‬وخفض‪ ،‬عشرات المرات كل يوم(‪ ،)5‬لينفي عن نفس ه ك ل م ا يت وهم‬
‫ك بره‪ ،‬وليس تطيع أن يق رأ الق رآن أو يس بح التس بيحات‪ ،‬وه و م وقن ب أن رب ه ه و‬
‫األعظم من كل شيء‪ ،‬فال يشغله عنه أي شاغل‪ ..‬وهك ذا ش رع قب ل الص الة اﻷذان‬
‫واﻹقامة‪ ،‬وكالهما مضمختان بعطر التكبير‪ ..‬وهكذا شرع بعدها التسبيحات‪ ،‬وال تي‬
‫يختلط فيه التسبيح بالتحميد بالتكبير‪.‬‬
‫وهكذا شرع اﻷذان في أذن المولود اليمنى‪ ،‬واإلقامة في اليسرى‪ ،‬ليكون أول‬
‫أذن في أذن‬ ‫ما يسمعه التكبير‪ ،‬وق د روي عن أبي راف ع ق ال‪ :‬رأيت رس ول هللا ‪ّ ‬‬
‫الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصّالة)(‪)6‬‬
‫ّ‬
‫وهك ذا في س ائر الص لوات المرتبط ة بالمناس بات المختلف ة‪ ،‬كله ا تمتلئ‬
‫إن رس ول هللا ‪‬‬ ‫بالتكبير‪ ،‬وقد سئل ابن عبّاس عن استس قاء رس ول هللا ‪ ‬فق ال‪ّ :‬‬
‫متبذال متواضعا متضرّعا حتّى أتى المص لّى‪ ،‬فلم يخطب خطبتكم ه ذه‪ ،‬ولكن‬ ‫خرج ّ‬

‫‪ )(1‬مسلم (‪)2137‬‬
‫‪ )(2‬ثواب االعمال ص ‪.5‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي(‪ )3462‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن غريب‪.‬‬
‫‪ )(4‬مسلم (‪)58( )35‬‬
‫‪ )(5‬يبلغ عدد التكبيرات في المواطن التي لها ارتب اط بالص الة عن د الجمه ور‪ ،)447( :‬وعن د الحنفي ة (‪،)457‬‬
‫وعدد التكبيرات في الصالة المكتوبة (‪ )94‬تكبيرة؛ قال النووي‪( :‬ففي كل صالة ثنائي ة إح دى عش رة تكب يرة؛ وهي‪:‬‬
‫تكبيرة اإلحرام وخمس في كل ركعة‪ ،‬وفي الثالثي ة س بع عش رة تكب يرة؛ وهي‪ :‬تكب يرة اإلح رام‪ ،‬وتكب يرة القي ام من‬
‫التشهد األول‪ ،‬وخمس في كل ركعة‪ ،‬وفي الرباعية اثنتان وعشرون‪ .‬ففي المكتوبات الخمس‪ :‬أربع وتسعون تكب يرة)‬
‫[انظر شرحه على صحيح مس لم (‪ ،])98 /4‬وع ددها في اﻷذان‪ ،)30( :‬وع ددها في اﻹقام ة عن د الجمه ور‪)20( :‬‬
‫وعند الحنفية (‪ )30‬وعدد التكبير بعد الصالة (‪)165‬‬
‫‪ )(6‬الترمذي ‪)1514(4‬؛ وأبو داود ‪)5105(4‬‬
‫‪48‬‬
‫العيد)(‪)1‬‬ ‫لم يزل في ال ّدعاء والتّضرّع والتّكبير‪ ،‬وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في‬
‫وهك ذا في الص الة على الميت؛ فه و يك بر أرب ع أو خمس تكب يرات بحس ب‬
‫اختالف المذاهب الفقهية‪ ..‬وهكذا في صالة العي دين‪ ،‬عي د الفط ر وعي د اﻷض حى؛‬
‫فالتكبير يكون في ليلة عيد الفطر حتى صالة العيد‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ولِتُ ْك ِملُوا ْال ِع َّدةَ‬
‫َولِتُ َكبِّرُوا هللا َعلَى َما هَدَا ُك ْم﴾ [البق رة‪ ،]185 :‬وق د روي في الح ديث (أن الن بي ‪‬‬
‫كبر في عيد ثنتي عشرة تكب يرة‪ ،‬س بعا في األولى‪ ،‬وخمس ا في اآلخ رة‪ ،‬ولم يص ل‬
‫قبلها وال بعدها) (‪)2‬‬
‫وهكذا ينهي المصلون صالتهم بالتكبير‪ ،‬خاصة إن كانوا في صالة الجماعة‪،‬‬
‫يكبرون بعد تكبير اإلمام‪ ،‬ففي الحديث قال رس ول هللا ‪( :‬ف إذا ك بر فك بروا‪ ،‬وال‬
‫تكبروا حتى يكبر)(‪)3‬‬
‫وهك ذا يرتب ط التكب ير ب الحج‪ ،‬الش عيرة ال تي يختل ط فيه ا الج انب التعب دي‬
‫بالجانب السياسي‪ ،‬فقد ورد األمر بالتكبير عند رمي الجم رات‪ ،‬وعن د الص عود من‬
‫منى إلى عرفات‪ ،‬وعند الطواف‪ ،‬وغيرها من مواطن التكبير في المناسك‪.‬‬
‫وقد ورد األمر باﻹكث ار من ه في أي ام الحج‪ ،‬وخصوص ا في العش ر من ذي‬
‫الحجة‪ ،‬فقد قال رسول هللا ‪( :‬ما أه ل مه ٌل ق ط‪ ،‬وال ك بر مك ب ٌر ق ط‪ ،‬إال بش ر)‪،‬‬
‫قيل‪ :‬يا رسول هللا بالجنة؟ قال‪( :‬نعم)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬ما من أيام أعظم عند هللا وال أحب إليه من العمل فيهن من هذه األيام‬
‫العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) (‪)5‬‬
‫ض حَّى بكبش ين‬ ‫وهكذا أمر بالتكبير عند الذبح‪ ،‬وق د روي أن رس ول هللا ‪َ ‬‬
‫أملحين أقرنين‪ ،‬وهو يقول‪( :‬باسم هللا‪ ،‬وهللا أكبر) (‪)6‬‬
‫وهكذا يرتبط التكبير بكل المناسبات‪ ،‬فأول م ا يب دأ ب ه الم ؤمن ش هره تكب ير‬
‫هللا‪ ،‬وق د روي أن رس ول هللا ‪ ‬ك ان إذا رأى الهالل ق ال‪( :‬هللا أك بر‪ ،‬اللهم أهل ه‬
‫علينا باألمن واإليمان والسالمة واإلسالم والتوفيق لما تحب وترض ى‪ ،‬ربن ا ورب ك‬
‫هللا)(‪)7‬‬
‫وهكذا يردده المؤمن إذا ما سمع خبرا سارا‪ ،‬وقد روي أنه عندما قال رس ول‬
‫هللا ‪( :‬إني ألطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة)‪ ،‬حمدوا وكبروا(‪)8‬‬
‫وهكذا يردده المؤمن إذا ما حصل مكروه‪ ،‬فيسرع إلى دفعه بصحبة التكب ير‪،‬‬
‫ليتقوى على ذلك‪ ،‬وليدفعه بسالح الغيب والشهادة‪ ،‬فقد روي عن النبي ‪ ‬أنه ق ال‪:‬‬

‫‪ )(1‬الترمذي(‪ ،)555‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ ،‬وابن ماجة(‪)1266‬‬


‫‪ )(2‬أحمد (‪)6688( )283 /11‬‬
‫‪ )(3‬البخاري ومسلم‬
‫‪ )(4‬الطبراني في المعجم األوسط (‪)7779‬‬
‫‪ )(5‬أحمد‪)6154( ،‬‬
‫‪ )(6‬مسلم (‪)1966‬‬
‫‪ )(7‬الدارمي (‪)1729‬‬
‫‪ )(8‬البخاري (‪ ،)3348‬ومسلم (‪)222‬‬
‫‪49‬‬
‫(إذا رأيتم الحريق‪ ،‬فكبروا‪ ،‬فإن التكبير يطفئه)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬اس تعينوا على إطف اء‬
‫الحريق بالتكبير)(‪)1‬‬
‫وهك ذا يستص حب الم ؤمن التكب ير في س فره‪ ،‬مثلم ا يستص حبه في إقامت ه؛‬
‫افر بقول ه‪:‬‬ ‫ُوص ي ال ُمس َ‬ ‫فيُكبِّ ُر كلما صعد مرتفعا‪ ،‬أو هبَطَ واديًا‪ ،‬وقد كان النبي ‪ ‬ي ِ‬
‫شرف)(‪)2‬‬ ‫(عليك بتق َوى هللا‪ ،‬والتكبير على كل َ‬
‫ويروى أن ه ‪ ‬ك ان إذا عال ش رفا ـ أي‪ :‬المك ان المرتف ع ـ ك بر ‪ ، 3‬وك ان‬
‫)‬ ‫(‬ ‫ً‬
‫يق ول‪( :‬من هب ط وادي ا فق ال‪ :‬ال إل ه إال هللا‪ ،‬وهللا أك بر‪ ،‬مأل هللا ال وادي حس نات‪،‬‬
‫فليعظم الوادي بعدا أو ليصغر)(‪)4‬‬
‫وهكذا كان ‪ ‬يكبر إذا است َوى على ظهر الم ركب ال ذي يمتطي ه‪ ،‬ثم يق ول‪:‬‬
‫ْ‬
‫(ال َح ْم ُد هلل)‪ ،‬ثم يقول‪ُ ﴿ :‬سب َْحانَ الَّ ِذي َس َّخ َر لَنَا هَ َذا َو َم ا ُكنَّا لَ هُ ُم ْق ِرنِينَ َوإِنَّا إِلَى َربِّنَ ا‬
‫لَ ُم ْنقَلِبُونَ ﴾ [الزخرف‪ ،]14 ،13 :‬ثم يقول‪( :‬الحمد هلل‪ ،‬الحمد هلل‪ ،‬الحمد هلل‪ ،‬هللا أكبر‪،‬‬
‫هللا أكبر‪ ،‬هللا أكبر) ثم يق ول‪( :‬س بحانك إني ظلمت نفس ي ف اغفر لي‪ ،‬فإن ه ال يغف ر‬
‫الذنوب إال أنت)(‪ ،)5‬وكان ‪ ‬إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثالثا) (‪)6‬‬
‫هذه ـ أيها المري د الص ادق ـ نم اذج عن الم واطن ال تي ك ان رس ول هللا ‪‬‬
‫يح رص على التكب ير فيه ا‪ ،‬وهي مج رد أمثل ة عن حرص ه علي ه‪ ،‬ودعوت ه ل ه‪..‬‬
‫فاحرص على تربية نفسك بالتكبير‪ ،‬وتهذيبها به‪ ،‬فال يدخل الجنة‪ ،‬وال ينال درجاتها‬
‫الرفيعة‪ ،‬وال يطمع في تهذيب نفسه إال من سار خلف نبيه ‪ ،‬ولم يؤثر عليه شيئا‪.‬‬
‫التهليل والتزكية‪:‬‬
‫ومثلما كان للتكبير ذلك الفضل العظيم‪ ،‬كان لصنوه [التهليل] ما ال يقل علي ه‬
‫في الفضل‪ ،‬بل هما قرينان‪ ،‬ال يكاد يذكر أحدهما إال ذك ر مع ه اآلخ ر‪ ،‬ذل ك أن من‬
‫مقتضيات التكبير انفراد هللا بالعظمة‪ ،‬وبكل صفات الكمال‪ ،‬ومن مقتضيات التوحيد‬
‫أن يكون هللا هو األكبر‪.‬‬
‫ولذلك كان التهليل من الباقيات الصالحات التي يحبها هللا تعالى‪ ،‬قال ‪( :‬ما‬
‫من الكالم كلمة أحب إلى هللا عز وجل من قول ال إله إال هللا‪ ،‬وما من عبد يق ول‪ :‬ال‬
‫إله إال هللا يمد به ا ص وته فيف رغ إال تن اثرت ذنوب ه تحت قدمي ه‪ ،‬كم ا يتن اثر ورق‬
‫الشجر تحتها) (‪)7‬‬
‫وهذا الحديث ال يش ير فق ط إال تن اثر الس يئات من س جالت المالئك ة‪ ،‬وإنم ا‬
‫يشير إلى تناثر آثارها في النفس األم ارة‪ ،‬كم ا روي عن ه ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ك ل جب ار‬

‫‪ )(1‬ق ال الس خاوي في المقاص د الحس نة (‪ :)63( )86 /1‬رواه الط براني في ال دعاء‪ ،‬وه و عن د ال بيهقي في‬
‫الدعوات‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي (‪)3445‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪)1797‬‬
‫‪ )(4‬المحاسن ص ‪.33‬‬
‫‪ )(5‬أبو داود (‪)2602‬‬
‫‪ )(6‬مسلم (‪)1342‬‬
‫‪ )(7‬كتاب التوحيد ص ‪.6‬‬
‫‪50‬‬
‫عني د من أبى أن يق ول‪ :‬ال إل ه إال هللا) (‪ ،)1‬وه و يع ني أن من وح د هللا يس تحيل أن‬
‫يكون جبارا عنيدا‪.‬‬
‫ولهذا ورد في الحديث القدسي أن هللا ع ز وج ل ق ال‪( :‬ال إل ه إال هللا حص ني‬
‫من دخله أمن عذابي) (‪)2‬‬
‫واعتبر رسول هللا التهليل أفضل عبادة‪ ،‬فقال‪( :‬أفضل العب ادة ق ول ال إل ه إال‬
‫هللا‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬وخير الدعاء االستغفار‪ ،‬ثم تال‪﴿ :‬فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ اَل إِلَ هَ إِاَّل‬
‫ك﴾ [محمد‪)3( )]19 :‬‬ ‫هللا َوا ْستَ ْغفِرْ لِ َذ ْنبِ َ‬
‫وقال ‪( :‬ما قلت وال قال القائلون قبلي مثل ال إله إال هللا) (‪)4‬‬

‫وقد فسر اإلمام علي سر ذلك الفضل العظيم‪ ،‬وذلك ببيانه لدورها في ته ذيب‬
‫النفس‪ ،‬فقال‪( :‬ما من عبد مسلم يقول‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬إال صعدت تخرق ك ل س قف ال‬
‫تمر بشيء من سيئاته إال طلستها‪ ،‬حتى تنتهي إلى مثلها من الحسنات فتقف)(‪)5‬‬
‫وفسر ذلك اإلمام الباقر‪ ،‬فقال‪( :‬ما من ش ئ أعظم ثواب ا من ش هادة أن ال إل ه‬
‫إال هللا‪ ،‬ألن هللا عز وجل ال يعدله شئ‪ ،‬وال يشركه في االمر أحد) (‪)6‬‬
‫ولهذا كان من سنة رسول هللا ‪ ‬وأئمة الهدى ترديدها في كل المح ال‪ ،‬وق د‬
‫روي عن زينب بنت جحش أنّها قالت‪ :‬استيقظ النّ ب ّي ‪ ‬من النّ وم محم رّا وجه ه‪،‬‬
‫وهو يقول‪( :‬ال إله إاّل هللا‪ ،‬ويل للعرب من ش ّر قد اقترب‪ ،‬فتح اليوم من ردم ي أجوج‬
‫ومأجوج مثل هذه)(‪)7‬‬
‫وعن عائشة قالت‪ :‬كان رسول هللا ‪( :‬كان إذا استيقظ من اللّيل قال‪( :‬ال إله‬
‫إاّل أنت سبحانك الله ّم أستغفرك لذنبي وأس ألك رحمت ك‪ ،‬اللهم زدني علم ا وال ت زغ‬
‫قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب)(‪)8‬‬
‫وروي أنها قال لمن سألها‪( :‬بم كان رسول هللا ‪ ‬يستفتح قي ام اللّي ل؟)‪( :‬لق د‬
‫سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك‪ ،‬ك ان رس ول هللا ‪ ‬يكبّ ر عش را ويحم د‬
‫عشرا ويسبّح عشرا ويهلّل عشرا ويستغفر عش را ويق ول‪( :‬الله ّم اغف ر لي واه دني‬
‫وارزقني وعافني‪ .‬أعوذ باهلل من ضيق المقام يوم القيامة)(‪)9‬‬
‫وعن ابن عبّاس أنّه قال‪ :‬ك ان رس ول هللا ‪ ‬يق ول‪( :‬الله ّم ل ك أس لمت وب ك‬
‫آمنت وعليك تو ّكلت وإلي ك أنبت وب ك خاص مت‪ .‬الله ّم إنّي أع وذ بع ّزت ك ال إل ه إاّل‬

‫‪ )(1‬أمالى الصدوق ص ‪.119‬‬


‫‪ )(2‬أمالى الطوسى ج ‪ 1‬ص ‪.286‬‬
‫‪ )(3‬المحاسن ص ‪.291‬‬
‫‪ )(4‬التوحيد ص ‪.3‬‬
‫‪ )(5‬التوحيد ص ‪.5‬‬
‫‪ )(6‬التوحيد ص ‪.3‬‬
‫‪ )(7‬البخاري [فتح الباري]‪ )7059(13 ،‬ومسلم(‪)2280‬‬
‫‪ )(8‬أبو داود(‪ )5061‬والحاكم(‪)540 /1‬‬
‫‪ )(9‬النسائي(‪ )209 /3‬وأبو داود(‪ )5085‬وابن ماجة (‪)1356‬‬
‫‪51‬‬
‫يموتون)(‪)1‬‬ ‫والجن واإلنس‬ ‫ّ‬ ‫أنت أن تضلّني‪ .‬أنت الح ّي الّذي ال يموت‪.‬‬
‫ويقولهن عند الكرب‪ ،‬يع ني (ال إل ه‬ ‫ّ‬ ‫وعنه قال‪ :‬كان رسول هللا ‪ ‬يدعو ّ‬
‫بهن‬
‫الس ماوات‬ ‫إاّل هللا العظيم الحليم‪ ،‬ال إله إاّل هللا ربّ العرش العظيم‪ ،‬ال إله إ هللا ربّ ّ‬
‫اّل‬
‫األرض وربّ العرش الكريم)(‪)2‬‬
‫وعن عبد هللا بن مسعود أنّه قال‪ :‬كان رسول هللا ‪ ‬إذا أمس ى ق ال‪( :‬أمس ينا‬
‫وأمسى الملك هلل والحمد هلل‪ ،‬ال إله إال هللا وحده ال ش ريك ل ه‪ ،‬ل ه المل ك ول ه الحم د‬
‫وهو على ك ّل شيء قدير‪ ،‬الله ّم أسألك خير هذه اللّيلة‪ ،‬وأعوذ بك من ش ّر هذه اللّيل ة‬
‫وش ّر ما بعدها‪ ،‬الله ّم إنّي أعوذ بك من الكسل وسوء الك بر‪ ،‬الله ّم إنّي أع وذ ب ك من‬
‫عذاب في النّار وعذاب في القبر)(‪)3‬‬
‫وعن عبد هللا بن عمر أنّه قال‪ :‬كان رس ول هللا ‪ ،‬إذا قف ل من غ زو أو ح ّج‬
‫أو عمرة يكبّر على ك ّل ش رف من األرض ثالث تكب يرات ث ّم يق ول‪( :‬ال إل ه إاّل هللا‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬له الملك ول ه الحم د وه و على ك ّل ش يء ق دير‪ ،‬آيب ون ت ائبون‬
‫عابدون لربّنا حامدون‪ ،‬صدق هللا وعده‪ ،‬ونصر عبده؛ وهزم األحزاب وحده)(‪)4‬‬
‫وروي أنه كان يقول في دبر ك ّل صالة إذا سلّم‪( :‬ال إله إاّل هللا وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬له الملك ول ه الحم د وه و على ك ّل ش يء ق دير‪ ،‬الله ّم ال م انع لم ا أعطيت وال‬
‫معطي لما منعت‪ ،‬وال ينفع ذا الج ّد منك الج ّد)(‪)5‬‬
‫وقد كان رسول هللا ‪ ‬ـ أيها المريد الصادق ـ يفعل ذلك ت أويال‪ ،‬وتنفي ذا لم ا‬
‫ورد في حقه ا في الق رآن الك ريم؛ فه و ‪ ‬الق رآن الن اطق الم بين للحق ائق والقيم‪،‬‬
‫والمجسد لها‪.‬‬
‫فاهلل تع الى اعت بر االهت داء إلى كلم ة التوحي د‪ ،‬وتردي دها وال دعوة إليه ا من‬
‫أعظم أس باب الفتح اإللهي‪ ،‬وال ذي ت زكى ب ه النفس‪ ،‬وتطه ر‪ ،‬وت رتقي في مع ارج‬
‫العرف ان الك برى‪ ،‬وال تي ت تيح له ا القابلي ة لت نزالت المالئك ة وم ا معه ا من روح‬
‫وح ِم ْن أَ ْم ِر ِه َعلَى َم ْن يَ َش ا ُء ِم ْن ِعبَ ا ِد ِه أَ ْن‬
‫القدس‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يُنَ ِّز ُل ْال َمالئِ َك ةَ بِ الرُّ ِ‬
‫أَن ِذرُوا أَنَّهُ ال إِلَهَ إِالَّ أَنَا فَاتَّقُو ِن﴾ (النحل‪)2:‬‬
‫واعتبرها العروة الوثقى‪ ،‬التي ال يتمس ك به ا إال الن اجون‪ ،‬فق ال‪﴿:‬فَ َم ْن يَ ْكفُ رْ‬
‫صا َم لَهَ ا َوهللا َس ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾‬ ‫ك بِ ْالعُرْ َو ِة ْال ُو ْثقَى ال انفِ َ‬ ‫بِالطَّا ُغو ِ‬
‫ت َوي ُْؤ ِم ْن بِاهلل فَقَ ْد ا ْستَ ْم َس َ‬
‫(البقرة‪ ،)256 :‬وقد ذكر المفسرون أن المراد منها كلمة التوحيد(‪.)6‬‬
‫الش فَا َعةَ إِالَّ‬‫واعتبرها العهد الذي عهد به إلى عباده‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬ال يَ ْملِ ُك ونَ َّ‬
‫َم ْن اتَّ َخ َذ ِع ْن َد الرَّحْ َم ِن َعهْداً﴾ (مريم‪ ،)87 :‬وقد قال ابن عباس في تفس يرها‪( :‬العه د‬
‫شهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬وي برأ إلى هللا من الح ول والق وة إال باهلل‪ ،‬وال يرج و إال هللا‬
‫‪ )(1‬البخاري [فتح الباري]‪ )7383(13 ،‬ومسلم(‪)2717‬‬
‫‪ )(2‬البخاري [فتح الباري]‪ )7426(13 ،‬ومسلم(‪)2730‬‬
‫‪ )(3‬مسلم(‪)2723‬‬
‫‪ )(4‬البخاري [فتح الباري]‪ )6385(11 ،‬ومسلم(‪)1342‬‬
‫‪ )(5‬البخاري [فتح الباري]‪ )6330(11 ،‬ومسلم(‪)593‬‬
‫‪ )(6‬قاله سعيد بن جبير والضحاك‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫تعالى)‬
‫ال تي ال ين ال اليس رى إال من ص دق به ا‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬ ‫الحس نى(‪)1‬‬ ‫واعتبرها‬
‫ْ‬
‫ق بِال ُح ْسنَى (‪ )6‬فَ َسنُيَ ِّس ُرهُ لِليُس َْرى﴾ (الليل‪ 5 :‬ـ ‪)7‬‬ ‫ْ‬ ‫ص َّد َ‬‫﴿فَأ َ َّما َم ْن أَ ْعطَى َواتَّقَى (‪َ )5‬و َ‬
‫ق َوهُ ْم يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾‬ ‫واعتبرها كلمة الحق كما في قوله تعالى‪﴿ :‬إِالَّ َم ْن َش ِه َد بِ ْال َح ِّ‬
‫(الزخرف‪.)86 :‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫واعتبرها كلمة التقوى‪ ،‬كما في قوله تع الى‪َ ﴿ :‬وأل زَ َمهُ ْم َكلِ َم ةَ التَّق َوى َو َك انُوا‬
‫ق بِهَا َوأَ ْهلَهَا﴾ (الفتح‪.)26 :‬‬ ‫أَ َح َّ‬
‫ِّت هللا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا بِ ْالقَوْ ِل‬ ‫واعتبرها القول الث ابت‪ ،‬كم ا في قول ه تع الى‪﴿ :‬يُثَب ُ‬
‫اآلخ َر ِة﴾ (إبراهيم‪.)27 :‬‬ ‫ت فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي ِ‬ ‫الثَّابِ ِ‬
‫ب هللا َمثَالً‬ ‫ض َر َ‬ ‫واعتبرها الكلمة الطيبة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪﴿ :‬أَلَ ْم تَ َرى َك ْي فَ َ‬
‫ت َوفَرْ ُعهَا فِي ال َّس َما ِء﴾ (إبراهيم‪)24 :‬‬ ‫َكلِ َمةً طَيِّبَةً َك َش َج َر ٍة طَيِّبَ ٍة أَصْ لُهَا ثَابِ ٌ‬
‫وهذه اآلية الكريمة تشير إلى اآلث ار ال تي يح دثها ذك ر هللا تع الى في النفس؛‬
‫فاهلل تعالى شبه كلم ة التوحي د بالنخل ة‪ ،‬ألنه ا ال تنبت في ك ل أرض‪ ،‬وك ذلك كلم ة‬
‫التوحي د ال تس تقر في ك ل قلب‪ ،‬ب ل في قلب الم ؤمن فق ط‪ ..‬والنخل ة عرقه ا ث ابت‬
‫باألرض‪ ،‬وفرعها مرتفع‪ ،‬وكذلك كلمة التوحيد أصلُها ث ابت في قلب الم ؤمن‪ ،‬ف إذا‬
‫تكلم بها وعمل بمقتضاها عرجت به في س موات المك ارم والقيم الرفيع ة‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫الص الِ ُح يَرْ فَ ُع هُ﴾ (ف اطر‪ ..)10 :‬والنخل ة‬ ‫ص َع ُد ْال َكلِ ُم الطَّيِّبُ َو ْال َع َم ُل َّ‬ ‫تع الى‪﴿ :‬إِلَ ْي ِه يَ ْ‬
‫تؤتي ثمرها كل حين‪ ،‬وكذلك عمل المؤمن يصعد به ويرتقي كل حين‪.‬‬
‫ولهذا كله كانت المحور األعظم الذي تدور حوله دعوة الرسل عليهم السالم‪،‬‬
‫وحي إِلَ ْي ِه أَنَّهُ ال إِلَ هَ إِالَّ أَنَ ا‬ ‫ول إِالَّ نُ ِ‬‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ا أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ كَ ِم ْن َر ُس ٍ‬
‫فَا ْعبُدُو ِن﴾ (األنبياء‪)25 :‬‬
‫وأخبر أنهم جميع ا دع وا إليه ا‪ ،‬فكلهم ق ال لقوم ه﴿ا ْعبُ دُوا هللا َم ا لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه‬
‫َغ ْي ُرهُ﴾ (األعراف‪)73 :‬‬
‫وهكذا ترى ـ أيها المري د الص ادق ـ كي ف عظمت النص وص المقدس ة ه ذه‬
‫الكلمة‪ ،‬وكيف اعتبرتها مفتاح الفالح والفوز والنجاة في الدنيا واآلخرة؛ فاعلم ذلك‪،‬‬
‫واحرص على ترديدها في كل األوقات؛ فال ي زال قلب ك متعلق ا باهلل م ا دمت م دمنا‬
‫عليها‪..‬‬
‫وإياك أن يكون حظك منها لسانك‪ ،‬بل اسع ألن تشرك قلبك في ذكرك؛ ح تى‬
‫يمتد أثرها إلى كل لطائفك؛ فتمألها بالصالح والتقوى‪.‬‬
‫واعتبر بما أمر هللا به من تعلم علومها‪ ،‬والتحق ق بحقائقه ا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ق َوهُ ْم يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾‬ ‫﴿فَ ا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلَ هَ إِالَّ هللا﴾ (محم د‪ ،)19 :‬وق ال‪﴿ :‬إِالَّ َم ْن َش ِه َد بِ ْال َح ِّ‬
‫(الزخرف‪)86 :‬‬
‫وإن شئت أن تبحث عن علومه ا؛ فك ل م ا في الك ون من عل وم أدل ة عليه ا‪،‬‬
‫‪ )(1‬قاله أبو عبدالرحمن السلمي‪ ،‬والضحاك عن ابن عباس‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫وآيات تشير إليها‪:‬‬
‫وتسكين ٍة أبداً شاه ُد‬ ‫فلل ِه في ك ل‬
‫تحريك ٍة‬
‫دُلُّ على أنَّه‬ ‫تَ‬ ‫وفي ُك ِّل َشي ٍء ل ه‬
‫واح ُد‬
‫ِ‬ ‫آيةٌ‬
‫وقد ذكر هللا تعالى ذلك‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ش ِه َد هللا أَنَّهُ ال إِلَهَ إِالَّ هُ َو َو ْال َمالئِ َك ةُ َوأُوْ لُ وا‬
‫ْال ِع ْل ِم قَائِما ً بِ ْالقِ ْس ِط ال إِلَهَ إِالَّ ه َُو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ (آل عمران‪)18 :‬‬
‫وأخ بر عن الف رق العظيم بين من يعلم ون ومن ال يعلم ون‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬قُ لْ هَ لْ‬
‫ب﴾ (الزم ر‪،)9 :‬‬ ‫يَ ْس ت َِوي الَّ ِذينَ يَ ْعلَ ُم ونَ َوالَّ ِذينَ ال يَ ْعلَ ُم ونَ إِنَّ َم ا يَتَ َذ َّك ُر أُوْ لُ وا األَ ْلبَ ا ِ‬
‫وقال‪﴿ :‬إِنَّ َما يَ ْخ َشى هللا ِم ْن ِعبَا ِد ِه ْال ُعلَ َما ُء﴾ (فاطر‪)28 :‬‬
‫فإذا فعلت ذلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ك انت علوم ك كله ا توحي دا وذك را‬
‫وتواصال مع هللا‪ ،‬كما أخ بر هللا تع الى عن أولي األلب اب‪ ،‬وكي ف يمزج ون ذك رهم‬
‫ف اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫ار‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ق ال َّس َما َوا ِ‬ ‫بالنظر في خلق هللا‪ ،‬فقال‪﴿ :‬إِ َّن فِي َخ ْل ِ‬
‫ب (‪ )190‬الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هللا قِيَا ًم ا َوقُ ُع ودًا َو َعلَى ُجنُ وبِ ِه ْم‬ ‫ت أِل ُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ‬ ‫آَل يَ ا ٍ‬
‫اب‬ ‫ك فَقِنَا َع َذ َ‬ ‫اطاًل ُس ْب َحانَ َ‬ ‫ْ‬
‫ض َربَّنَا َما خَ لَقتَ هَ َذا بَ ِ‬ ‫َ‬
‫ت َوا رْ ِ‬ ‫أْل‬ ‫ق ال َّس َما َوا ِ‬ ‫ْ‬
‫َويَتَفَ َّكرُونَ فِي َخل ِ‬
‫ار﴾ [آل عمران‪]191 ،190 :‬‬ ‫النَّ ِ‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن اإلدمان على العلم والذكر هو ال ذي يحمي ك‬
‫من ذلك الشك ال ذي يع تري الغ افلين الج اهلين‪ ،‬وله ذا وص ف هللا تع الى المؤم نين‬
‫باليقين‪ ،‬وعدم االرتياب والشك‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ َم ا أُ ْن ِز َل إِلَ ْي كَ َو َم ا‬
‫ك َوبِاآلخ َر ِة هُ ْم يُوقِنُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)4 :‬وقال‪﴿ :‬إِنَّ َما ْال ُم ْؤ ِمنُونَ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬ ‫أُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْبلِ َ‬
‫بِاهلل َو َرسُولِ ِه ثُ َّم لَ ْم يَرْ تَابُوا﴾ (الحجرات‪)15 :‬‬
‫وذم المنافقين‪ ،‬ورماهم بالشك والريب والتردد لعدم سعيهم للتحقق بما يتطلبه‬
‫ت قُلُوبُهُ ْم فَهُ ْم فِي َر ْيبِ ِه ْم يَت ََر َّد ُدونَ ﴾ (التوب ة‪:‬‬ ‫اليقين من مجاهدات‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وارْ تَابَ ْ‬
‫‪)45‬‬
‫ولهذا شرط رسول هللا ‪ ‬لنجاة الموحدين اليقين‪ ،‬فق ال‪( :‬أش هد أن ال إل ه إال‬
‫هللا‪ ،‬وأني رسول هللا‪ ،‬ال يلقى هللا بهما عبد غير شاك فيهما إال دخل الجنة) (‪)1‬‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن من عالمات التوحيد الحقيقي التسليم المطلق‬
‫هلل‪ ،‬وفي كل الشؤون؛ فاهلل رب العالمين‪ ،‬ورب كل شيء ومليك ه‪ ،‬وق د ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿و َم ا َك انَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن‬ ‫﴿يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ا ْد ُخلُوا فِي الس ِّْل ِم َكافَّةً﴾ (البقرة‪ ،)208 :‬وقال‪َ :‬‬
‫ضى هللا َو َرسُولُهُ أَ ْمراً أَ ْن يَ ُكونَ لَهُ ْم ْال ِخيَ َرةُ ِم ْن أَ ْم ِر ِه ْم﴾ (األح زاب‪:‬‬ ‫َوال ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ‬
‫‪)36‬‬
‫ومن عالمات الموحد اإلنابة إلى هللا‪ ،‬واإلسالم له‪ ،‬وع دم التعقب على ش يء‬
‫﴿و َم ْن‬‫﴿وأَنِيبُوا إِلَى َربِّ ُك ْم َوأَ ْسلِ ُموا لَ هُ﴾ (الزم ر‪ ،)54 :‬وق ال َ‬ ‫من أحكامه‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫أَحْ َسنُ ِدين ا ً ِم َّم ْن أَ ْس لَ َم َوجْ هَ هُ هلل َوهُ َو ُمحْ ِس ٌن﴾ (النس اء‪ ،)125 :‬وق ال‪َ :‬‬
‫﴿و َم ْن ي ُْس لِ ْم‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫َوجْ هَهُ إِلَى هللا َوه َُو ُمحْ ِس ٌن فَقَ ِد ا ْستَ ْم َسكَ بِ ْالعُرْ َو ِة ْال ُو ْثقَى﴾ (لقم ان‪ ،)22 :‬وق ال مثني ا ً‬
‫ت لِ َربِّ ْال َع الَ ِمينَ ﴾ (البق رة‪:‬‬ ‫ال أَ ْس لَ ْم ُ‬
‫ال لَهُ َربُّهُ أَ ْسلِ ْم قَ َ‬
‫على إبراهيم عليه السالم ﴿إِ ْذ قَ َ‬
‫‪)131‬‬
‫وله ذا نفى هللا تع الى اإليم ان على من لم يس لموا ل ه‪ ،‬أو وج دوا حرج ا في‬
‫ك فِي َم ا َش َج َر‬ ‫أنفسهم من ش رائعه‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬فَال َو َربِّكَ ال ي ُْؤ ِمنُ ونَ َحتَّى يُ َح ِّك ُم و َ‬
‫ضيْتَ َويُ َسلِّ ُموا تَ ْسلِيماً﴾ (النساء‪.)65 :‬‬ ‫بَ ْينَهُ ْم ثُ َّم ال يَ ِجدُوا فِي أَنفُ ِس ِه ْم َح َرجا ً ِم َّما قَ َ‬
‫وك ل ذل ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ال ي ؤتي ثم اره م ا لم يتحق ق القلب‬
‫باإلخالص‪ ،‬ولهذا تسمى كلم ة التوحي د كلم ة اإلخالص‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬أَال هلل ال دِّينُ‬
‫صينَ لَهُ ال ِّدينَ ﴾ (البين ة‪:‬‬ ‫ْالخَالِصُ ﴾ (الزمر‪ ،)3 :‬وقال‪َ ﴿ :‬و َما أُ ِمرُوا إِالَّ لِيَ ْعبُدُوا هللا ُم ْخلِ ِ‬
‫‪ ،)5‬وقال‪﴿ :‬قُلْ هللا أَ ْعبُ ُد ُم ْخلِصا ً لَهُ ِدينِي﴾ (الزمر‪.)14 :‬‬
‫وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬أسعد الن اس بش فاعتي ي وم‬
‫القيامة من قال ال إله إال هللا خالصا ً من قلبه)(‪)1‬‬
‫وقال ‪( :‬إن هللا حرَّم على النار من قال ال إله إال هللا يبتغي بذلك وج ه هللا)‬
‫(‪)2‬‬
‫هذه رسالتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فتأمل م ا فيه ا من من اهج الس لوك‪،‬‬
‫وأكثر من ذكر هاتين الكلم تين العظيم تين إلى أن يمتلئ به ا قلب ك وك ل جوانح ك‪..‬‬
‫لتثمر بعد ذلك في نفسك كل الثمار الطيبة‪.‬‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪)6570‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫التسبيح والتقديس‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن التس بيح والتق ديس‪ ،‬ودورهم ا‬
‫في الس ير والس لوك‪ ،‬وفي التخل ق والتحق ق‪ ،‬وس ر م ا ورد حولهم ا في النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التس بيح والتق ديس من أرك ان الس ير‬
‫إلى هللا التي وردت ال دعوة إليه ا في النص وص المقدس ة‪ ،‬وال يمكن ألي س الك‪ ،‬أو‬
‫طالب لمعرفة هللا أو التواصل مع ه‪ ،‬أو التخل ق ب أخالق األولي اء والص ديقين إال أن‬
‫يسبح هللا ويقدسه في ك ل حين‪ ،‬وبك ل لطائف ه؛ والتقص ير في ذل ك انح دار وس قوط‬
‫وبعد وحجاب‪.‬‬
‫ذل ك أن التس بيح والتق ديس يتعل ق ب أعظم حق ائق الوج ود‪ ،‬وه و هللا تع الى‪،‬‬
‫والذي ال يمكن معرفته من غير تنزيهه عن كل ما ال يليق به‪ ،‬وقد ورد في الح ديث‬
‫أن رجال من اليهود سأل رسول هللا ‪ ‬فقال‪ :‬ي ا محم د أخ برني عن الكلم ات ال تي‬
‫اختارهن هللا إلبراهيم عليه السالم‪ ،‬فق ال ‪( :‬س بحان هللا‪ ،‬والحم د هلل‪ ،‬وال إل ه إال‬
‫هللا‪ ،‬وهللا أكبر)‪ ،‬فسأله اليهودي عن تفسيرها‪ ،‬فقال ‪( :‬علم هللا ج ل وع ز أن ب ني‬
‫آدم يكذبون على هللا‪ ،‬فقال‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬تبريا مما يقولون‪ ،‬وأما قوله‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬فإنه‬
‫علم أن العباد ال يؤدون شكر نعمته‪ ،‬فحمد نفسه قب ل أن يحم دوه‪ ،‬وه و أول الكالم‪،‬‬
‫لوال ذلك لما أنعم هللا على أحد بنعمته‪ ،‬وقوله‪ :‬ال إل ه إال هللا يع ني وحدانيت ه ال يقب ل‬
‫هللا األعمال إال بها‪ ،‬وهي كلم ة التق وى‪ ،‬يثق ل هللا به ا الم وازين ي وم القيام ة‪ ،‬وأم ا‬
‫قوله‪ :‬هللا أكبر فهي أعلى الكلمات‪ ،‬وأحبه ا إلى هللا ع ز وج ل‪ ،‬يع ني أن ه ليس ش ئ‬
‫أكبر مني ال تفتتح الصلوات إال بها لكرامتها على هللا) (‪)1‬‬
‫ولهذا يقترن التسبيح بذكر مقوالت ال ذين ك ذبوا على هللا‪ ،‬ق ال تع الى مخ برا‬
‫ت بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم ُسب َْحانَهُ َوتَ َع الَى‬ ‫خَرقُوا لَهُ بَنِينَ َوبَنَا ٍ‬ ‫عن تنزهه عما يقوله المشركون‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫صفُونَ ﴾ [األنعام‪]100 :‬‬ ‫َع َّما يَ ِ‬
‫ُ‬
‫وأخبر عن أولئك الذين تصوروا هللا جاهال ال يعلم ما ال يعلمون‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬ق لْ‬
‫ض ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما ي ُْش ِر ُكونَ ﴾‬ ‫ت َواَل فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫أَتُنَبِّئُونَ هللا بِ َما اَل يَ ْعلَ ُم فِي ال َّس َما َوا ِ‬
‫[يونس‪.]18 :‬‬
‫وهك ذا يق ترن التس بيح بالش رك وبك ل م ا ال يلي ق باهلل تع الى مم ا ي ذكره‬
‫الجاهلون بقدر هللا‪ ،‬ق ال تع الى في مع رض رده على مق والت المش ركين‪ ،‬وبع دها‬
‫عن مقتضيات العقول‪﴿ :‬أَفَأَصْ فَا ُك ْم َربُّ ُك ْم بِ ْالبَنِينَ َواتَّ َخ َذ ِمنَ ْال َماَل ئِ َك ِة إِنَاثًا إِنَّ ُك ْم لَتَقُولُونَ‬
‫آن لِيَ َّذ َّكرُوا َو َما يَ ِزي ُدهُ ْم إِاَّل نُفُ ورًا (‪)41‬‬ ‫ص َّر ْفنَا فِي هَ َذا ْالقُرْ ِ‬ ‫َظي ًما (‪َ )40‬ولَقَ ْد َ‬ ‫قَوْ اًل ع ِ‬
‫ش َس بِياًل (‪ُ )42‬س ب َْحانَهُ‬ ‫قُلْ لَوْ َكانَ َم َعهُ آلِهَ ةٌ َك َم ا يَقُولُ ونَ إِ ًذا اَل ْبتَ َغ وْ ا إِلَى ِذي ْال َع رْ ِ‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪)167 /90( ،‬‬


‫‪56‬‬
‫َوتَ َعالَى َع َّما يَقُولُونَ ُعلُ ًّوا َكبِيرًا﴾ [اإلسراء‪]43 - 40 :‬‬
‫ولهذا تق ترن كلم ة التس بيح بكلم ة (تع الى)‪ ،‬وال تي تع ني تع الي هللا وتقدس ه‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه ُس ْب َحانَهُ َوتَ َع الَى َع َّما‬ ‫ط ِوي ٌ‬ ‫ات َم ْ‬‫ماو ُ‬ ‫الس َ‬ ‫وتنزه ه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ْجلوهُ ُس ب َْحانَهُ َوتَ َع الَى َع َّما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي ُْش ِر ُكونَ ﴾ [الزم ر‪ ،]67 :‬وق ال‪﴿ :‬أتَى أ ْم ُر هللا فَاَل ت َْس تَع ِ‬
‫يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [النحل‪ ،]1 :‬وقال‪ُ :‬س ْب َحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يَقُولُ ونَ ُعل ًّوا َكبِ يرًا﴾ [اإلس راء‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪]43‬‬
‫وتقترن ـ كذلك ـ بكلمة التقديس‪ ،‬كما في قوله تعالى عند ذكره لقول المالئك ة‬
‫عليهم السالم‪﴿ :‬قَالُوا أَتَجْ َع ُل فِيهَا َم ْن يُ ْف ِس ُد فِيهَ ا َويَ ْس فِ ُ‬
‫ك ال ِّد َما َء َونَحْ نُ نُ َس بِّ ُح بِ َح ْم ِدكَ‬
‫َونُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة‪]30 :‬‬
‫كما تقترن بالتعجب من العقول وجهلها وعدم اس تعمالها في إدراك الحق ائق‪،‬‬
‫ت َو َم ا فِي‬ ‫الس َما َوا ِ‬‫كما قال تعالى‪﴿ :‬قَالُوا اتَّ َخ َذ هللا َولَدًا ُسب َْحانَهُ هُ َو ْال َغنِ ُّي لَ هُ َم ا فِي َّ‬
‫ض إِ ْن ِع ْن َد ُك ْم ِم ْن س ُْلطَا ٍن بِهَ َذا أَتَقُولُونَ َعلَى هللا َما اَل تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [يونس‪]68 :‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫وهذا يدل على أن التسبيح والتقديس عالم ة نض ج العق ل واكتمال ه‪ ،‬ألن ك ل‬
‫البراهين العقلية مرشدة لذلك‪ ،‬ودالة عليه‪ ،‬ول ذلك ك ان المش به والمش رك وك ل من‬
‫يصف ربه بما ال يليق به ممتلئا بالغفل ة والغب اء‪ ،‬ح تى ل و اش تهر بالعب ادة والزه د‬
‫والتقوى‪.‬‬
‫ومما يروى في هذا أنه ُوصف لإلم ام الص ادق بعض الن اس‪ ،‬وذك ر ل ه من‬
‫عبادته ودينه وفضله‪ ،‬لكن اإلمام لم يلتفت ل ذلك‪ ،‬وإنم ا راح يس أل عن عقل ه‪ ،‬فق ال‬
‫الواص ف‪ :‬ال أدري‪ ،‬فق ال اإلم ام‪( :‬إن الث واب على ق در العق ل‪ ،‬إن رجال من ب ني‬
‫إسرائيل كان يعبد هللا في جزيرة من جزائ ر البح ر خض راء نض رة كث يرة الش جر‬
‫ظاهرة الماء‪ ،‬وإن ملكا من المالئكة مر به فقال‪ :‬يا رب أرني ثواب عبدك هذا فأراه‬
‫هللا تعالى ذلك‪ ،‬فاس تقله المل ك ف أوحى هللا تع الى إلي ه‪ :‬أن اص حبه؛ فأت اه المل ك في‬
‫صورة إنسي فقال له‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أنا رجل عابد بلغني مكان ك وعبادت ك في ه ذا‬
‫المكان فأتيتك ألعبد هللا معك فكان معه يوم ه ذل ك‪ ،‬فلم ا أص بح ق ال ل ه المل ك‪ :‬إن‬
‫مكانك لنزه وما يصلح إال للعبادة فقال له العابد‪ :‬إن لمكاننا ه ذا عيب ا فق ال ل ه‪ :‬وم ا‬
‫هو؟ قال‪ :‬ليس لربن ا بهيم ة فل و ك ان ل ه حم ار رعين اه في ه ذا الموض ع ف ان ه ذا‬
‫الحشيش يضيع‪ ،‬فقال له [ ذلك ] الملك‪ :‬وما لربك حمار‪ ،‬فقال‪ :‬لو كان له حمار م ا‬
‫كان يضيع مثل هذا الحشيش؛ فأوحى هللا إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله) (‪)1‬‬
‫ولهذا قال رسول هللا ‪( :‬إذا بلغكم عن رجل حسن حال ف انظروا في حس ن‬
‫عقله‪ ،‬فإنما يجازي بعقله) (‪)2‬‬
‫وإن شئت أن تعتبر بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فتوهم صديقا من أص دقائك‪،‬‬
‫يبالغ في إكرامك‪ ،‬والثناء علي ك‪ ،‬ثم ت راه بع د ذل ك يتهم ك ب أي تهم ة‪ ،‬أو يظن ب ك‬

‫‪ )(1‬الكافي‪.11 / 1 :‬‬
‫‪ )(2‬الكافي (‪)15 /1‬‬
‫‪57‬‬
‫ظنون السوء؛ فهل يمكن أن تعتبر مثل هذا صديقا؟‬
‫وهل يمكن أن يكون إكرامه ل ك ببعض الطع ام أو اله دايا ناس خا لتل ك التهم‬
‫التي رماك بها‪ ،‬وأشاعها عنك؟‬
‫وهكذا؛ فإن التسبيح والتقديس ليسا م رتبطين بالمع ارف اإللهي ة فق ط‪ ،‬وإنم ا‬
‫يرتبطان بالقيم األخالقية؛ فالذي ال ينزه هللا عما ال يليق به ال يختلف عن ذلك ال ذي‬
‫يقذف الناس بما ليس فيهم؛ فيبهتهم ويظلمهم‪ ،‬وقد قال هللا تعالى في توجيهات ه لل ذين‬
‫ْس لَ ُك ْم بِ ِه ِع ْل ٌم‬ ‫وقع وا في اإلف ك‪﴿ :‬إِ ْذ تَلَقَّوْ نَ هُ بِأ َ ْل ِس نَتِ ُك ْم َوتَقُولُ ونَ بِ أ َ ْف َوا ِه ُك ْم َم ا لَي َ‬
‫َوتَحْ َسبُونَهُ هَيِّنًا َوهُ َو ِع ْن َد هللا َع ِظي ٌم﴾ [النور‪ ،]15 :‬بل إنه ربط ذلك بالتس بيح‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫َان َع ِظي ٌم﴾ [النور‪:‬‬ ‫﴿ َولَوْ اَل إِ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ قُ ْلتُ ْم َما يَ ُكونُ لَنَا أَ ْن نَتَ َكلَّ َم بِهَ َذا ُسب َْحانَكَ هَ َذا بُ ْهت ٌ‬
‫‪ ]16‬ليشير بذلك إلى أن الذي ينزه لسانه عن الكذب واالفتراء على الخلق‪ ،‬أولى أن‬
‫ينزهه عن االفتراء والكذب على هللا‪.‬‬
‫﴿ويُ ْن ِذ َر‬ ‫ولهذا يذكر هللا تعالى فداحة جرم من ينس بون ل ه الول د‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ت َكلِ َم ةً ت َْخ ُر ُج ِم ْن‬ ‫الَّ ِذينَ قَالُوا اتَّ َخ َذ هللا َولَدًا (‪َ )4‬ما لَهُ ْم بِ ِه ِم ْن ِع ْل ٍم َواَل آِل بَ ائِ ِه ْم َكبُ َر ْ‬
‫أَ ْف َوا ِه ِه ْم إِ ْن يَقُولُونَ إِاَّل َك ِذبًا﴾ [الكهف‪ 4 :‬ـ ‪]5‬‬
‫بل ذكر في آيات أخرى تأثر الكون جميعا بتلك االتهامات ال تي يتهم به ا هللا‪،‬‬
‫ات‬ ‫الس َما َو ُ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَالُوا اتَّ َخ َذ الرَّحْ َمنُ َولَدًا (‪ )88‬لَقَ ْد ِج ْئتُ ْم َش ْيئًا إِ ًّدا (‪ )89‬تَ َك ا ُد َّ‬
‫ق اأْل َرْ ضُ َوتَ ِخرُّ ْال ِجبَا ُل هَ ًّدا (‪ )90‬أَ ْن َد َع وْ ا لِل رَّحْ َم ِن َولَ دًا (‪)91‬‬ ‫يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْنهُ َوتَ ْن َش ُّ‬
‫ض إِاَّل آتِي‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬‫َو َما يَ ْنبَ ِغي لِلرَّحْ َم ِن أَ ْن يَتَّ ِخ َذ َولَ دًا (‪ )92‬إِ ْن ُك لُّ َم ْن فِي َّ‬
‫الرَّحْ َم ِن َع ْبدًا﴾ [مريم‪]93 - 88 :‬‬
‫ولهذا ترد اإلشارات القرآنية الكثيرة إلى أن الكون كله أعظم معرف ة باهلل من‬
‫أولئك المشركين أو الغافلين الذين يصفون هللا تعالى بما ال يليق به‪ ،‬قال تعالى يذكر‬
‫الس ْب ُع‬ ‫ات َّ‬ ‫او ُ‬ ‫تس بيح الس موات واألرض‪ ،‬وم ا فيه ا من الكائن ات‪﴿ :‬تُ َس بِّ ُح لَ هُ َّ‬
‫الس َم َ‬
‫َواأْل َرْ ضُ َو َم ْن فِي ِه َّن َوإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء إِالَّ ي َُس بِّ ُح بِ َح ْم ِد ِه َولَ ِك ْن الَ تَ ْفقَهُ ونَ ت َْس بِي َحهُ ْم إِنَّهُ‬
‫ت‬‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬ ‫َكانَ َحلِي ًما َغفُورًا﴾[اإلسراء‪ ،]44 :‬وقال‪﴿ :‬أَلَ ْم ت ََر أَ َّن هللا يُ َسبِّ ُح لَ هُ َم ْن فِي َّ‬
‫يحهُ َوهللا َعلِي ٌم بِ َما يَ ْف َعلُونَ ﴾[النور‪:‬‬ ‫صالَتَهُ َوتَ ْسبِ َ‬ ‫ت ُك ٌّل قَ ْد َعلِ َم َ‬ ‫صافَّا ٍ‬ ‫ض َوالطَّ ْي ُر َ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫وس ْال َع ِزي ِز‬ ‫ك ْالقُ ُّد ِ‬ ‫ض ْال َملِ ِ‬‫ت َو َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫الس َم َ‬‫‪ ،]41‬وق ال‪﴿ :‬ي َُس بِّ ُح هلل َم ا فِي َّ‬
‫ْال َح ِك ِيم﴾[ الجمعة‪]1 :‬‬
‫﴿ويُ َسبِّ ُح ال َّر ْع ُد بِ َح ْم ِد ِه َو ْال َماَل ئِ َكةُ ِم ْن ِخيفَتِ ِه‬ ‫وقال عن تسبيح الرعد والمالئكة‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ُصيبُ بِهَا َمن يَ َش ا ُء َوهُ ْم ي َُج ا ِدلونَ فِي هللا َوهُ َو َش ِدي ُد ال ِم َح ا ِل﴾‬ ‫ق فَي ِ‬ ‫ص َوا ِع َ‬ ‫َويُرْ ِس ُل ال َّ‬
‫[الرعد‪]13 :‬‬
‫َّ‬
‫ال ي َُس بِّحْ نَ َوالط ْي َر‬ ‫ْ‬
‫﴿و َسخرْ نَا َم َع دَا ُوو َد ال ِجبَ َ‬ ‫َّ‬ ‫وقال عن تسبيح الجبال والطير‪َ :‬‬
‫َو ُكنَّا فَا ِعلِينَ ﴾[األنبياء‪]79 :‬‬
‫ولهذا؛ فإن تسبيح هللا وتقديسه من األم ور األساس ية ال تي ال يمكن االس تغناء‬
‫عنها‪ ،‬وال تجاهلها‪ ،‬وال السير إلى هللا من دونها‪..‬‬

‫‪58‬‬
‫بل إن السائرين إلى هللا في الحقيقة ال يقومون سوى بتطهير عقولهم وقل وبهم‬
‫ونفوسهم من كل تلك المعارف والظنون التي ك انوا يتوهم ون أنهم يثن ون به ا على‬
‫هللا‪ ،‬ثم يكتش فون أن جالل هللا أعظم من أن يع بر عن ه ب ذلك الثن اء‪ ،‬ول ذلك ي رد‬
‫التسبيح والتقديس بصيغة المضارع الدالة على االستمرار‪.‬‬
‫وإلى هذا المعنى اإلش ارة بم ا ورد عن رس ول هللا ‪ ،‬وأن ه ك ان يق ول في‬
‫دعائه‪( :‬اللهم أعوذ برضاك من سخطك‪ ،‬وبمعافاتك من عقوبتك‪ ،‬وأعوذ بك منك ال‬
‫أحصي ثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك) (‪)1‬‬
‫وقد ذكر بعض الحكماء سر التدرج الوارد في الحديث‪ ،‬فق ال‪( :‬نظ ر رس ول‬
‫هللا ‪ ‬إلى الصفات‪ ،‬فاستعاذ ببعضها من بعض‪ ،‬فإن الرضا والس خط وص فان‪ ،‬ثم‬
‫زاد قربه فاندرج القرب األول في ه ف رقي إلى ال ذات‪ ،‬فق ال أع وذ ب ك من ك‪ ،‬ثم زاد‬
‫قربه بما استحيا به من االستعاذة على بساط القرب‪ ،‬فالتجأ إلى الثن اء‪ ،‬ف أثنى بقول ه‬
‫ال أحصي ثناء عليك‪ ،‬ثم علم أن ذلك قصور‪ ،‬فقال أنت كما أثنيت على نفسك) (‪)2‬‬
‫وهذه اإلشارة العرفانية تدل على الحقيقة ال تي ذكره ا الق رآن الك ريم بص يغ‬
‫مختلفة‪ ،‬ومنه ا قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُم ْنتَهَى﴾ [النجم‪ ،]42 :‬وقول ه‪﴿ :‬فَفِ رُّ وا‬
‫ين﴾ [الذاريات‪]50 :‬‬ ‫إِلَى هللا إِنِّي لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬
‫وإليها اإلشارة بما ورد عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬إنه ليغان على قلبي حتى‬
‫أستغفر هللا) (‪ ،)3‬وقد قال بعض الحكماء في تفس يره‪( :‬لم ا ك انت روح الن بي ‪ ‬لم‬
‫تزل في الترقي إلى مقامات الق رب تس تتبع القلب‪ ،‬والقلب يس تتبع النفس‪ ،‬وال ريب‬
‫أن حركة الروح والقلب أس رع من نهض ة النفس‪ ،‬وك انت خطى النفس تقص ر عن‬
‫مداهما في العروج‪ ،‬فمما نهضت به الحكمة إبط اء حرك ة القلب لئال تتقط ع عالق ة‬
‫النفس عنه‪ ،‬فيبقى العباد مح رومين فك ان ‪ ‬يف زع إلى االس تغفار‪ ،‬لقص ور النفس‬
‫عن ترقي القلب)‬
‫ولذلك؛ فإن التسبيح والتقديس ـ أيها المريد الصادق ـ ال ينقط ع أب دا ح تى في‬
‫الجنة‪ ،‬ذلك أن المؤمن يكتشف فيها كل يوم قصوره في معرفة ربه‪ ،‬وأن ه أعظم من‬
‫أن يحاط به‪ ،‬وقد قال تعالى يذكر ذلك‪َ ﴿ :‬د ْع َواهُ ْم فِيهَا ُسب َْحانَكَ اللهُ َّم﴾ [يونس‪]10 :‬‬
‫(إن أه ل الجنّ ة ي أكلون فيه ا‬‫وروي في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه ق ال‪ّ :‬‬
‫ويشربون‪ ،‬وال يتفلون وال يبول ون‪ ،‬وال يتغوّط ون وال يمتخط ون)‪ .‬ق الوا‪ :‬فم ا ب ال‬
‫الطّعام؟‪ ،‬قال‪( :‬جش اء(‪ )4‬ورش ح كرش ح المس ك‪ ،‬يلهم ون التّس بيح والتّحمي د‪ ،‬كم ا‬
‫يلهمون النّفس)(‪)5‬‬

‫ولهذا كله يذكر هللا تعالى تسبيح المالئكة الدائم مع معرفتهم باهلل‪ ،‬للداللة على‬

‫‪ )(1‬رواه أَحمد (‪ 96 /1‬و‪ 18‬أو ‪ ،)150‬وأبو داود (‪ ،)1427‬والنسائي (‪ ،)249 - 248 /3‬وابن ماجه (‪)1179‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)293 /1‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬جشاء‪ :‬هو تنفس المعدة من االمتالء‪.‬‬
‫‪ )(5‬مسلم(‪)2835‬‬
‫‪59‬‬
‫ار اَل يَ ْفتُ رُونَ ﴾ [األنبي اء‪:‬‬ ‫عدم محدودية تنزيه هللا‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يُ َسبِّحُونَ اللَّ ْي َل َوالنَّهَ َ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا فَالَّ ِذينَ ِع ْن َد َربِّكَ ي َُس بِّحُونَ لَ هُ بِاللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬
‫ار َوهُ ْم اَل‬ ‫‪ ،]20‬وق ال‪﴿ :‬فَ إِ ِن ْ‬
‫يَسْأ َ ُمونَ ﴾ [فصِّ لت‪]38 :‬‬
‫ومثل ذلك الرسل عليهم السالم‪ ،‬ال ذين ي ذكر الق رآن الك ريم تس بيحهم هلل م ع‬
‫عظم معرفتهم به‪ ،‬أو للداللة على معرفتهم به‪ ،‬فقد أخبر هللا تع الى عن ي ونس علي ه‬
‫ك﴾ [األنبي اء‪ ،]87 :‬وأخ بر عن موس ى علي ه‬ ‫السالم أنه قال‪﴿ :‬اَل إِلَهَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ْب َحانَ َ‬
‫ك﴾ [األع راف‪ ،]143 :‬وأخ بر عن المس يح علي ه‬ ‫ْت إِلَ ْي َ‬
‫ك تُب ُ‬
‫السالم أنه قال‪ُ ﴿ :‬س ْب َحانَ َ‬
‫ْس لِي بِ َح قٍّ﴾ [المائ دة‪،]116 :‬‬ ‫ول َم ا لَي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك َما يَ ُكونُ لِي أ ْن أقُ َ‬ ‫السالم أنه قال‪ُ ﴿ :‬س ْب َحانَ َ‬
‫ار﴾ [آل‬ ‫﴿و َس بِّحْ بِال َع ِش ِّي َوا ِإل ْب َك ِ‬‫وأخبر أنه أمر زكريا عليه السالم بالتس بيح‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫َ‬
‫عمران‪ ،]41 :‬وأخبر أن زكريا علي ه الس الم أم ر قوم ه بالتس بيح‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬فَ أوْ َحى‬
‫إِلَ ْي ِه ْم أَ ْن َسبِّحُوا بُ ْك َرةً َو َع ِشيًّا﴾ [مريم‪]11 :‬‬
‫تسبيح العقل‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن التسبيح والتق ديس مث ل س ائر‬
‫األذكار التي يعرج بها السالك إلى هللا‪ ،‬ال يكفي فيه تردي د اللس ان‪ ،‬وال ك ثرة أع داد‬
‫التسبيحات‪ ،‬ب ل ينبغي أن يش مل ك ل اللط ائف‪ ،‬وأوله ا العق ل؛ فه و أول المس بحين‬
‫والمقدسين‪ ،‬ومن لم يسبح عقله ربه‪ ،‬وقع في مستنقعات التشبيه والتجس يم والش رك‬
‫والضاللة‪ ،‬ولو سبح بلسانه ماليين المرات‪.‬‬
‫وإياك أن تتوهم أن كونك مسلما‪ ،‬كاف في تنزهك عن رمي ربك بما ال يلي ق‬
‫به‪ ،‬أو أنه كاف في تخلصك من التشبيه والتجسيم وكل أنواع الضالالت التي وقعت‬
‫فيها األمم السابقة؛ فقد أخبر رسول هللا ‪ ‬أنه س يقع له ذه األم ة من االنح راف م ا‬
‫وقع في األمم السابقة‪.‬‬
‫وقد صدق ما أخ بر عن ه رس ول هللا ‪ ،‬حيث دخلت الكث ير من الض الالت‬
‫المسيئة لتنزيه هللا‪ ،‬والتي حولت هللا تعالى إلى وثن من األوثان‪ ،‬وجرم من األجرام‪.‬‬
‫وقد روي أن اإلمام الصادق ذكرت له بعض الروايات التجسيمية التي ك انت‬
‫تنتشر في عصره‪ ،‬وخاصة بين المحدثين‪ ،‬فقال‪( :‬سبحان من ال يعلم أحد كي ف ه و‬
‫ص يرُ﴾ [الش ورى‪،]11 :‬ال يح د وال يحس‬ ‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َوهُ َو ال َّس ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫إال هو‪﴿ ،‬لَي َ‬
‫وال يجس وال تدركه األبصار وال الحواس وال يحيط به ش ئ وال جس م وال ص ورة‬
‫وال تخطيط وال تحديد)(‪)1‬‬
‫ول من‬ ‫ش أو خ نى أعظ ُم من ق ٍ‬ ‫وق ال‪( :‬إن هللا تع الى ال يش بهه ش يء‪ ،‬أي فح ٍ‬
‫يصف خالق األشياء بجسم أو صورة أو بخلق ة أو بتحدي د وأعض اء‪ ،‬تع الى هللا عن‬
‫ذلك علواً كبيراً)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬من زعم أن هللا في شيء‪ ،‬أو من شيء‪ ،‬أو على شيء فق د أش رك‪ .‬إذ‬

‫‪ )(1‬الكافي للكليني‪.1/104‬‬
‫‪ )(2‬الكافي‪.1/105‬‬
‫‪60‬‬
‫لو كان على شيء لكان محموال‪ ،‬ولو كان في شيء لك ان محص ورا‪ ،‬ول و ك ان من‬
‫شيء لكان محدثا‪ -‬أي مخلوقا)(‪)1‬‬
‫ومثله قال اإلمام الكاظم لما ذكر له بعض المجس مة ممن يزعم ون ص حبته‪:‬‬
‫(قاتله هللا أما علم أن الجسم محدود والكالم غير المتكلم‪ ،‬مع اذ هللا وأب رأ إلى هللا من‬
‫هذا الق ول‪ ،‬ال جس م وال ص ورة وال تحدي د وك ل ش يء س واه مخل وق‪ ،‬إنم ا تك ون‬
‫األشياء بإرادته ومشيئته من غير كالم وال تردد في نفس وال نطق بلسان)(‪)2‬‬
‫وهك ذا ق ال اإلم ام الرض ا‪( :‬إن ه ليس من ا من زعم أن هللا ع ز وج ل جس م‪،‬‬
‫ونحن منه برآء في الدنيا واآلخرة‪ ،‬إن الجسم محدث‪ ،‬وهللا محدثه ومجسمه)(‪)3‬‬
‫ولهذا؛ فإن التأمل والتدبر والتفكير وحده كاف في حماية عقلك ـ أيه ا المري د‬
‫الصادق ـ من كل تلك التشويهات والتحريفات التي أساءت به ا بعض الطوائ ف من‬
‫ه ذه األم ة إلى هللا؛ فجعلت ه جرم ا ك األجرام وجس ما كاألجس ام؛ فاح ذر أن تس لك‬
‫سبيلهم‪ ،‬أو أن تسلم عقلك لعقولهم‪ ،‬فهم ال يختلفون عن ذلك العابد الذي حكى اإلم ام‬
‫الصادق‪ ،‬والذي راح يشبه هللا بنفسه‪.‬‬
‫وك ذلك أولئ ك ال ذين انحرف وا عن التنزي ه والتق ديس ال ذي ج اء ب ه الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وراحوا ينسبون هلل تعالى المكان واألعضاء والحدود والمقادير‪ ،‬مع أن ك ل‬
‫ذلك يؤدي إلى الشرك‪ ،‬بل هو الشرك عينه‪.‬‬
‫أن إله الخل ق مح دود فق د جه ل‬ ‫وقد روي عن اإلمام علي أنه قال‪( :‬من زعم ّ‬
‫الخالق المعبود) (‪ ،)4‬وقال‪( :‬من ح ّده فقد ع ّده‪ ،‬ومن ع ّده فقد أبطل أزله) (‪)5‬‬
‫وروي أن بعض هم طلب من اإلم ام الرض ا أن يح ّد هللا تع الى ل ه‪ ،‬فق ال ل ه‬
‫ألن ك ّل مح دود متن اه إلى ح ّد‪ ،‬وإذا‬‫اإلمام‪ :‬ال ح ّد له‪ .‬قال الرجل‪ :‬ولم؟ قال اإلم ام‪ّ :‬‬
‫احتمل التحديد احتمل الزيادة‪ .‬وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان‪ .‬فهو غير مح دود‬
‫وال متزايد وال متناقص وال متجزئ) (‪)6‬‬
‫وإن كنت ترى أن عقلك ـ أيها المري د الص ادق ـ أق ل من أن يس تنبط الحجج‬
‫الدالة على التنزيه والتق ديس‪ ،‬ورأيت أن التش بيه والتجس يم ق د غلب اك على أم رك‪،‬‬
‫بحيث اس تحال علي ك أن تعق ل موج ودا ليس ل ه ص فات األجس ام‪ ،‬فعلي ك بكتب‬
‫المتكلمين‪ ،‬وحججهم‪ ،‬ف انظر فيه ا‪ ،‬واس تعن به ا‪ ،‬من غ ير أن تكتفي بم ا فيه ا‪..‬‬
‫فمعرفة هللا أعظم من أن تحد بأي حدود‪ ،‬أو تقيد بأي قيود‪.‬‬
‫تسبيح القلب‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الص ادق ـ وانس جم عقل ك م ع تنزي ه هللا تع الى‪،‬‬
‫وصرت تضحك على تلك العقول التي توهمت أن هلل تعالى حدودا ومق ادير ومكان ا‬
‫‪ )(1‬الرسالة القشيرية (ص‪)6 /‬‬
‫‪ )(2‬الكافي ‪.106 /1‬‬
‫‪ )(3‬التوحيد للصدوق ‪.104‬‬
‫‪ )(4‬التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ ،‬ح ‪ ،34‬ص ‪.77‬‬
‫‪ )(5‬نهج البالغة‪ ،،‬خطبة ‪ ،152‬ص ‪ 278‬ـ ‪.279‬‬
‫‪ )(6‬التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ :‬باب ‪ ،36‬ح ‪ ،3‬ص ‪.246‬‬
‫‪61‬‬
‫وأعضاء‪ ،‬وغير ذلك؛ فال تكتف بذلك؛ فالتسبيح والتق ديس أعظم من أن يحص ر في‬
‫دوائر الذهن والعقل‪.‬‬
‫ول ذلك؛ فانتق ل إلى قلب ك‪ ،‬ال ذي ه و مح ل مش اعرك ومواجي دك وأذواق ك؛‬
‫فتذوق ذلك المعنى الجليل الذي يدل عليه التسبيح والتقديس‪ ،‬واستشعره بكل كيان ك‪،‬‬
‫وامتلئ باالنبه ار والدهش ة‪ ،‬وأنت تط الع ص فحات الكم ال اإللهي الم نزه عن ك ل‬
‫نقص وقصور‪.‬‬
‫فتسبيح هللا األعظم هو تسبيح قلبك‪ ،‬ال ذي ه و حقيقت ك‪ ،‬وليس تس بيح لس انك‬
‫فقط‪ ،‬وال ذي ليس س وى جارح ة من جوارح ك؛ فإي اك أن تت وهم اقتص ار التس بيح‬
‫عليه؛ فتظلم نفسك‪ ،‬وتظلم هذه العبادة العظيمة التي اشتغل بها الكون جميعا(‪.)1‬‬
‫ولذلك يذكر الصادقون في سيرهم إلى هللا انبهارهم بتلك المع اني ال تي تل وح‬
‫على قلوبهم كل حين‪ ،‬وهم يطالعون قدوسية هللا وجالله‪ ،‬كما عبر عن ذل ك الش اعر‬
‫بقوله‪:‬‬
‫يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف‬ ‫ومع تفنن واصفيه بحسنه‬
‫وعبر آخر عن ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وارحم حشى بلظى هواك تس َّع َرا‬ ‫زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا‬
‫وتلك الح يرة واالنبه ار هي الوحي دة ال تي تمأل النفس بالطمأنين ة والس عادة‪،‬‬
‫ذلك أن النفس ال تستقر عند المحدود المقيد‪ ،‬بل هي تطلب العظمة المطلقة المنزه ة‬
‫عن كل نقص‪ ،‬والتي ال تجدها إال عند هللا‪.‬‬
‫ولذلك يرتبط ذك ر هللا بالطمأنين ة‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوت ْ‬
‫َط َمئِ ُّن قُلُ وبُهُ ْم‬
‫َط َمئِ ُّن ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد‪]28 :‬‬ ‫بِ ِذ ْك ِر هللا أَاَل بِ ِذ ْك ِر هللا ت ْ‬
‫ت‬ ‫وبين آثار ال ذكر على القلب‪ ،‬فق ال‪﴿:‬إِنَّ َم ا ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِك َر هللا َو ِجلَ ْ‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُهُ زَا َد ْتهُ ْم إِي َمانًا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَت ََو َّكلُونَ ﴾ [األنفال‪]2 :‬‬‫قُلُوبُهُ ْم َوإِ َذا تُلِيَ ْ‬
‫ولهذا أمر رسول هللا ‪ ‬أن يلجأ للتس بيح ح تى يص د تل ك الحمالت الظالم ة‬
‫ص ْدرُكَ بِ َما يَقُولُونَ (‪)97‬‬ ‫ق َ‬ ‫﴿ولَقَ ْد نَ ْعلَ ُم أَنَّكَ يَ ِ‬
‫ضي ُ‬ ‫التي كانت موجهة إليه‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ َو ُك ْن ِمنَ السَّا ِج ِدينَ ﴾ [الحجر‪]98 ،97 :‬‬
‫بل إن هللا تعالى علق الرضى بالتس بيح‪ ،‬واعت بره وس يلة من وس ائله‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫س َوقَ ْب َل ُغرُوبِهَ ا َو ِم ْن‬ ‫الش ْم ِ‬‫وع َّ‬ ‫﴿فَاصْ بِرْ َعلَى َما يَقُولُونَ َو َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ قَ ْب َل طُلُ ِ‬
‫ضى﴾ [طه‪]130 :‬‬ ‫ار لَ َعلَّكَ تَرْ َ‬
‫ط َرافَ النَّهَ ِ‬ ‫آنَا ِء اللَّ ْي ِل فَ َسبِّحْ َوأَ ْ‬
‫ولهذا يقترن التسبيح بالصبر‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فَاصْ بِرْ َعلَى َما يَقُولُونَ َو َس بِّحْ‬
‫ب (‪َ )39‬و ِمنَ اللَّ ْي ِل فَ َس بِّحْ هُ َوأَ ْدبَ ا َر‬ ‫س َوقَ ْب َل ْال ُغ رُو ِ‬ ‫الش ْم ِ‬‫وع َّ‬ ‫ك قَ ْب َل طُلُ ِ‬ ‫بِ َح ْم ِد َربِّ َ‬

‫‪ )( 1‬اتفق العلماء على تقسيم الذكر إلى ذكر القلب واللسان‪ ،‬وعلى أن األفضل هو الجمع بينهما‪ ،‬وأن ذك ر القلب‬
‫أفض ل من ذك ر اللس ان المج رد‪ ،‬ق ال ابن حج ر‪( :‬ثم ال ذكر يق ع ت ارة باللس ان‪ ،‬وي ؤجر علي ه الن اطق‪ ،‬وال يش ترط‬
‫استحضاره لمعناه‪ ،‬ولكن يشترط أن ال يقصد به غير معناه‪ ،‬وإن انضاف إلى النطق‪ :‬الذكر ب القلب‪ :‬فه و أكم ل‪ ،‬ف إن‬
‫انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر‪ ،‬وما اش تمل علي ه من تعظيم هللا تع الى‪ ،‬ونفي النق ائص عن ه‪ :‬ازداد كم اال)‬
‫[فتح الباري (‪])209 / 11‬‬
‫‪62‬‬
‫ال ُّسجُو ِد﴾ [ق‪ ،]40 ،39 :‬وقال‪َ ﴿ :‬واصْ بِرْ لِ ُح ْك ِم َربِّكَ فَإِنَّكَ بِأ َ ْعيُنِنَا َو َس بِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ‬
‫ُوم﴾ [الطور‪]49 ،48 :‬‬ ‫ار النُّج ِ‬ ‫ِحينَ تَقُو ُم (‪َ )48‬و ِمنَ اللَّ ْي ِل فَ َسبِّحْ هُ َوإِ ْدبَ َ‬
‫ومن أسرار ذلك أن الشيطان ق د ينفخ في قلب اإلنس ان ح ال غفلت ه‪ ،‬وبس بب‬
‫البالء الذي تعرض له‪ ،‬بتلك الوساوس التي تمأل النفس بالكدر‪ ،‬فتت وهم م ا يتوهم ه‬
‫الغافلون من أن الكون مؤسس على الظلم والجور والشر‪ ،‬وأنها هي المتحكمة في ه‪..‬‬
‫ولذلك كان تنزيه هللا‪ ،‬تذكيرا لها بالعدالة المطلقة التي ال يشوبها أي ظلم‪ ،‬وبالرحمة‬
‫المطلق ة ال تي ال تختل ط ب أي قس وة‪ ،‬وذل ك كل ه مم ا يعين على الص بر‪ ،‬ب ل على‬
‫الرضى‪.‬‬
‫ولهذا يذكر هللا تعالى عن يونس عليه السالم قوله عندما حصل له ذل ك البالء‬
‫ت أَ ْن اَل‬ ‫َاضبًا فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَادَى فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬ ‫َب ُمغ ِ‬ ‫ون إِ ْذ َذه َ‬ ‫العظيم‪َ ﴿ :‬و َذا النُّ ِ‬
‫ت ِمنَ الظالِ ِمينَ ﴾ [األنبياء‪]87 :‬‬ ‫َّ‬ ‫ك إِنِّي ُك ْن ُ‬ ‫إِلَهَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ْب َحانَ َ‬
‫وقد أخبر هللا تعالى عن إنقاذه من ذلك البالء ال ذي وق ع في ه بس بب تس بيحه‪،‬‬
‫فقال‪﴿ :‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَهُ َونَ َّج ْينَاهُ ِمنَ ْال َغ ِّم َو َك َذلِكَ نُ ْن ِجي ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [األنبي اء‪ ،]88 :‬وق ال‪:‬‬
‫ث فِي‬ ‫وت َوهُ َو ُملِي ٌم (‪ )142‬فَلَ وْ اَل أَنَّهُ َك انَ ِمنَ ْال ُم َس ب ِِّحينَ (‪ )143‬لَلَبِ َ‬ ‫﴿فَ ْالتَقَ َم هُ ْال ُح ُ‬
‫طنِ ِه إِلَى يَوْ ِم يُ ْب َعثُونَ ﴾ [الصافات‪]144 - 142 :‬‬ ‫بَ ْ‬
‫وهذا يدل على أن التسبيح ليس وسيلة للتعرف على هللا تعالى فقط‪ ،‬وإنما ه و‬
‫حبل ممدود من هللا تعالى لعباده‪ ،‬إلنقاذهم من كل ما قد يلم بهم من ألوان المصائب‪،‬‬
‫وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬دعوة ذي الن ون إذ دع ا وه و في‬
‫بطن الحوت‪ :‬ال إله إال أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‪ ،‬فإن ه لم ي دع به ا رج ل‬
‫مسلم في شيء قط إال استجاب هللا له) (‪)1‬‬
‫والتسبيح ـ بذلك ـ ليس مج رد ألف اظ ت ردد‪ ،‬وإنم ا يمت د أث ره للحي اة جميع ا‪،‬‬
‫فيمألها بالعبودية الصادقة المضمخة بعطر كل القيم الجميلة‪.‬‬
‫تسبيح الجوارح‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واندمج عقلك مع قلبك في تسبيح هللا‪،‬‬
‫وامتألت جميع مشاعرك بالتقديس والتعظيم؛ فإن آث ار ذل ك ال محال ة ستس ري إلى‬
‫جوارحك‪ ،‬وتجعلها ممتلئة بالعبودية‪.‬‬
‫ولذلك كانت األعمال الصالحة ثمرة من ثمار تس بيح هللا‪ ،‬ذل ك أن من يع رف‬
‫هللا‪ ،‬وينزهه‪ ،‬يستحيل عليه أن يعصي أمره‪ ،‬أو يتعدى حدوده‪ ،‬أو يقع فيم ا يق ع في ه‬
‫المغترون من الجمع بين المعاصي والدعاوى‪.‬‬
‫ذل ك أن من ض روريات تس بيح هللا معرف ة ص دقه في وع ده ووعي ده‪ ،‬وأن‬
‫كلماته ال تبدل وال تغير‪ ،‬وأن كل ما جاء به أنبياؤه عليهم السالم حق ال باط ل في ه‪،‬‬
‫وواقع ال فرار منه‪ ،‬وذلك ما ي دعو إلى الح ذر والخش ية‪ ،‬وهم ا المحرك ان للتق وى‬
‫والورع‪ ،‬وهما الجامعان لكل الفضائل‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫ولذلك كان في تكرار تسبيح هللا تذكيرا للنفس به ذه المع اني‪ ،‬ح تى ال تح دث‬
‫نفسها باآلثام الظ اهرة والباطن ة‪ ،‬وح تى ال تتس رب إليه ا وس اوس الش ياطين‪ ،‬وم ا‬
‫يدلون به من حبال الغرور‪.‬‬
‫وق د ك ان من رحم ة هللا تع الى بعب اده أم ره لهم بتس بيحه بألس نتهم‪ ،‬ذل ك أن‬
‫الظاهر يؤثر في الباطن‪ ،‬وما تك رر ذك ره على اللس ان تق ررت حقيقت ه في القلب‪..‬‬
‫ولذلك يلجأ العقالء إلى ما يطيقونه‪ ،‬وهو جوارحهم‪ ،‬ليتحكموا بها في قلوبهم‪.‬‬
‫ولهذا اقترن الحث على التسبيح في القرآن الكريم بتطه ير هللا لقل وب عب اده‪،‬‬
‫ص ياًل ﴾‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ْاذ ُكرُوا هللا ِذ ْكرًا َكثِيرًا (‪َ )41‬و َسبِّحُوهُ بُ ْك َرةً َوأَ ِ‬
‫ُص لِّي َعلَ ْي ُك ْم‬‫[األحزاب‪ ،]42 ،41 :‬ثم بين عاقبة من يلتزم بذلك‪ ،‬فقال‪﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي ي َ‬
‫ور َو َكانَ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ِحي ًما﴾ [األحزاب‪]43 :‬‬ ‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫َو َماَل ئِ َكتُهُ لِي ُْخ ِر َج ُك ْم ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫وبما أن الباطن ال يتأثر بالظاهر إال بتكرره الكثير‪ ،‬مع االستمرارية والدوام؛‬
‫فقد دعا القرآن الكريم إلى التسبيح في كل األوقات التي يمكن أن يك ون ل ه فيه ا من‬
‫التأثير ما ليس لغيره‪.‬‬
‫ومن أهم تل ك األوق ات الغ دو واآلص ال‪ ،‬أو حين يب دأ اإلنس ان يوم ه‪ ،‬ليب دأ‬
‫صحبته فيه هلل‪ ،‬أو حين يكاد ينهيه‪ ،‬لينشغل فيه بربه‪ ،‬كما قال تع الى‪﴿ :‬فَ إِ َذا فَ َر ْغتَ‬
‫ك فَارْ غَبْ ﴾ [الشرح‪]8 ،7 :‬‬ ‫صبْ (‪َ )7‬وإِلَى َربِّ َ‬ ‫فَا ْن َ‬
‫ومن اآلي ات الكريم ة ال تي تحث على ذل ك‪ ،‬ب ل ت دعو إلى قي ام مجالس ه في‬
‫ت أَ ِذنَ هللا أَ ْن‬ ‫المجتمع‪ ،‬حتى يتنور‪ ،‬وتتنزل عليه برك ات هللا قول ه تع الى‪﴿ :‬فِي بُيُ و ٍ‬
‫ال (‪ِ )36‬ر َج ا ٌل اَل تُ ْل ِهي ِه ْم تِ َج ا َرةٌ‬ ‫ص ِ‬ ‫تُرْ فَ َع َوي ُْذ َك َر فِيهَا ا ْس ُمهُ يُ َسبِّ ُح لَهُ فِيهَا بِ ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ‬
‫الص اَل ِة َوإِيتَ ا ِء ال َّز َك ا ِة يَخَ افُونَ يَوْ ًم ا تَتَقَلَّبُ فِي ِه ْالقُلُ وبُ‬ ‫َواَل بَ ْي ٌع ع َْن ِذ ْك ِر هللا َوإِقَ ِام َّ‬
‫ْصارُ﴾ [النور‪ ،]37 ،36 :‬ثم ذكر الجزاء ال ذي وف ره لهم على ه ذه العبودي ة؛‬ ‫َواأْل َب َ‬
‫ق َم ْن يَ َش ا ُء بِ َغ ْي ِر‬ ‫ض لِ ِه َوهللا يَ رْ ُز ُ‬‫فقال‪﴿ :‬لِيَجْ ِزيَهُ ُم هللا أَحْ َسنَ َما َع ِملُوا َويَ ِزي َدهُ ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫ب﴾ [النور‪]38 :‬‬ ‫ِح َسا ٍ‬
‫ومن تل ك األوق ات م ا ح دده هللا تع الى م واقيت للص الة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ض‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫﴿فَ ُسب َْحانَ هللا ِحينَ تُ ْمسُونَ َو ِحينَ تُصْ بِحُونَ (‪َ )17‬ولَهُ ْال َح ْم ُد فِي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫ظ ِهرُونَ ﴾ [الروم‪ ،]18 ،17 :‬وهي تشبه مواقيت الصالة الواردة في‬ ‫َو َع ِشيًّا َو ِحينَ تُ ْ‬
‫ق اللَّ ْي ِل َوقُرْ آنَ ْالفَجْ ِر إِ َّن قُرْ آنَ ْالفَجْ ِر‬
‫س إِلَى َغ َس ِ‬ ‫ك ال َّش ْم ِ‬ ‫صاَل ةَ لِ ُدلُو ِ‬‫قوله تعالى‪﴿ :‬أَقِ ِم ال َّ‬
‫َكانَ َم ْشهُودًا﴾ [اإلسراء‪ ،]78 :‬وكأن التسبيح يهيئ النفس للص الة‪ ،‬أو يجعله ا أك ثر‬
‫قابلية آلثارها‪.‬‬
‫وهكذا نرى اهتمام النصوص المقدسة بصيغ التسبيح‪ ،‬والذي تكفلت به الكثير‬
‫من األح اديث النبوي ة م ع بي ان أع دادها والج زاء المرتب ط به ا‪ ،‬ليك ون في ذل ك‬
‫الترغيب الشديد في المداومة عليها‪.‬‬
‫ومن تل ك الص يغ [س بحان هللا]‪ ،‬أو [س بحان ربي]‪ ،‬وهي من الص يغ‬
‫المختص رة ال تي ال تره ق من يري د حفظه ا أو تكراره ا وتردي دها‪ ،‬وق د روي في‬

‫‪64‬‬
‫فضلها أن رسول هللا ‪ ‬س أل أص حابه‪( :‬أيعج ز أح دكم أن يكس ب‪ ،‬ك ل ي وم أل ف‬
‫حسنة؟)‪ ،‬فقالوا‪ :‬كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال‪( :‬يسبح مائة تسبيحة‪ ،‬فيكتب ل ه‬
‫ألف حسنة‪ ،‬أو يحط عنه ألف خطيئة) (‪)1‬‬
‫ومنه ا [س بحان هللا وبحم ده]‪ ،‬ومم ا ورد في فض لها قول ه ‪( :‬من ق ال‪:‬‬
‫سبحان هللا وبحمده‪ ،‬في يوم مائة مرة‪ ،‬حطت خطاياه‪ ،‬وإن كانت مثل زبد البحر)(‪)2‬‬
‫وق ال في ح ديث آخ ر‪( :‬من ق ال‪ :‬حين يص بح وحين يمس ي‪ :‬س بحان هللا‬
‫وبحمده‪ ،‬مائة مرة‪ ،‬لم يأت أح ٌد يوم القيامة‪ ،‬بأفضل مما جاء به‪ ،‬إال أح ٌد قال مثل ما‬
‫قال أو زاد عليه)(‪)3‬‬

‫ومنها [سبحان هللا العظيم وبحمده]‪ ،‬ومما ورد في فضلها قوله ‪( :‬من قال‪:‬‬
‫سبحان هللا العظيم وبحمده‪ ،‬غرست له نخلةٌ في الجنة) (‪)4‬‬
‫ومنها [سبحان هللا وبحم ده س بحان هللا العظيم]‪ ،‬ومم ا ورد في فض لها قول ه‬
‫‪( :‬كلمت ان خفيفت ان على اللس ان‪ ،‬ثقيلت ان في الم يزان‪ ،‬حبيبت ان إلى ال رحمن‪:‬‬
‫سبحان هللا وبحمده‪ ،‬سبحان هللا العظيم) (‪)5‬‬
‫ومنها [سبحان هللا والحمد هلل]‪ ،‬والتي ذك ر رس ول هللا ‪ ‬أنه ا (تمأل م ا بين‬
‫السماوات واألرض) (‪)6‬‬
‫ومنها [سبحان هللا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وال إل ه إال هللا‪ ،‬وهللا أك بر]‪ ،‬وال تي ق ال فيه ا‬
‫رسول هللا ‪( :‬ألن أقول سبحان هللا‪ ،‬والحم د هلل‪ ،‬وال إل ه إال هللا‪ ،‬وهللا أك بر‪ ،‬أحب‬
‫إلي مما طلعت عليه الشمس) (‪)7‬‬
‫ومنه ا [س بحان هللا وبحم ده‪ ،‬ع دد خلق ه ورض ا نفس ه وزن ة عرش ه وم داد‬
‫كلماته]‪ ،‬ومم ا ورد في فض لها أن رس ول هللا ‪ ‬ذك ر أنه ا تع دل وقت ا ط ويال من‬
‫الذكر‪ ،‬فقد قال لمن رآه يذكر من بع د ص الة الص بح إلى الض حى‪( :‬لق د قلت بع دك‬
‫أرب ع كلم ات‪ ،‬ثالث م رات‪ ،‬ل و وزنت بم ا قلت من ذ الي وم ل وزنتهن‪ :‬س بحان هللا‬
‫وبحمده‪ ،‬عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) (‪)8‬‬
‫وهذا من فضل هللا العظيم على عباده‪ ،‬ذلك أنه أتاح للمقصرين أن يستدركوا‬
‫بمثل هذه الصيغ ما قد فاتهم من الفض ل‪ ،‬ومم ا ي روى في ه ذا أن ه ‪ ‬ق ال لبعض‬
‫أصحابه‪( :‬أال أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار‪ ،‬والنهار مع اللي ل؟‬
‫أن تقول‪ :‬سبحان هللا عدد ما خلق‪ ،‬وسبحان هللا ملء ما خل ق‪ ،‬وس بحان هللا ع دد م ا‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪2698 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪ ،6405 :‬ومسلم‪2691 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪2692 :‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال حسن صحيح غريب‪3464 :‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري‪ ،6406 :‬ومسلم‪2694 :‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪223 :‬‬
‫‪ )(7‬رواه مسلم‪2695 :‬‬
‫‪ )(8‬رواه مسلم‪.2726 :‬‬
‫‪65‬‬
‫في األرض والسماء‪ ،‬وسبحان هللا ملء ما في األرض والس ماء‪ ،‬وس بحان هللا ع دد‬
‫ما أحصى كتابه‪ ،‬وسبحان هللا عدد كل ش يء‪ ،‬وس بحان هللا ملء ك ل ش يء‪ ،‬وتق ول‬
‫الحمد مثل ذلك) (‪)1‬‬
‫ومما له عالقة بهذا أن ه بينم ا ك ان رس ول هللا ‪ ‬يص لي‪ ،‬إذ ق ال رج لٌ‪ :‬هللا‬
‫أكبر كبيرا‪ ،‬والحمد هلل كثيرا‪ ،‬وسبحان هللا بكرة وأصيال‪ ،‬فقال رس ول هللا ‪( :‬من‬
‫القائل كلمة كذا وكذا؟) قال رج ٌل من القوم‪ :‬أن ا‪ ،‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬فق ال‪( :‬عجبت له ا‪،‬‬
‫فتحت لها أبواب الس ماء)‪ ،‬ق ال ال راوي‪( :‬فم ا ت ركتهن من ذ س معت رس ول هللا ‪‬‬
‫يقول ذلك) (‪)2‬‬
‫وهذا الحديث يدل على أنه يمكن أن يس بح الم ؤمن ب أي ص يغة يخترعه ا أو‬
‫ينشئها من عند نفسه‪ ،‬ما لم تكن مصادمة للحق ائق الش رعية‪ ،‬وأن ذل ك ليس بدع ة‪،‬‬
‫ألن هللا تعالى أمر بمطلق التسبيح والذكر‪ ،‬ومن غير تحديد أي صيغة‪.‬‬
‫ولم تكتف الشريعة الحكيمة بالحث على تسبيح هللا في تل ك الم واقيت‪ ،‬وبتل ك‬
‫الصيغ‪ ،‬وإنما أضافت إليها ربطها بالشعائر التعبدية‪ ،‬وخصوصا الصالة‪.‬‬
‫ومن تلك الص يغ م ا ورد األم ر بقول ه عن د الرك وع والس جود‪ ،‬وال تي ذك ر‬
‫اإلمام الرضا سرها‪ ،‬فقال‪( :‬إنّما جُعل التسبيح في الركوع والسجود ليكون العبد مع‬
‫خضوعه وخشوعه‪ ،‬وتو ّرعه واستكانته‪ ،‬وتذهلل وتواضعه‪ ،‬وتقرّب ه إلى ربّ ه مقدِّس ا ً‬
‫له‪ ،‬ممجّداً مسبّحاً‪ ،‬معظما ً شاكراً لخالقه ورازقه‪ ،‬وليستعمل التسبيح والتحمي د‪ ،‬كم ا‬
‫اس تعمل التكب ير والتهلي ل‪ ،‬وليش غل قلب ه وذهن ه ب ذكر هللا‪ ،‬فال ي ذهب ب ه الفك ر‬
‫واألماني إلى غير هللا) (‪)3‬‬
‫ك ْال َع ِظ ِيم﴾‬ ‫ومن تلك الصيغ‪ ،‬ما ورد في الحديث أنه لما نزلت ﴿فَ َسبِّحْ بِ ْ‬
‫اس ِم َربِّ َ‬
‫اس َم‬‫﴿س بِّحْ ْ‬ ‫[الواقعة‪ ،]74 :‬قال رسول هللا ‪( :‬اجعلوها في ركوعكم)‪ ،‬فلما ن زلت َ‬
‫علَى﴾ [األعلى‪ ]1 :‬قال‪( :‬اجعلوها في سجودكم) (‪)4‬‬ ‫ك اأْل َ ْ‬
‫َربِّ َ‬
‫ومن تلك الصيغ ما روي أنه ‪ ‬كان يقول في ركوع ه وس جوده‪( :‬س بحانك‬
‫اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (‪)5‬‬
‫ومنه ا أن ه ك ان يق ول في ركوع ه وس جوده (س بو ٌح ق دوسٌ ‪ ،‬رب المالئك ة‬
‫والروح) (‪)6‬‬
‫ومنها أنه قال في ركوعه أو سجوده‪( :‬سبحانك وبحمدك ال إله إال أنت) (‪)7‬‬
‫ومنها أنه قال في قيام الليل عند ركوع ه‪( :‬س بحان ذي الج بروت والملك وت‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪ ،22144 :‬وابن خزيمة‪ ،754 :‬وابن حبان‪830 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪601 :‬‬
‫‪ )(3‬الوسائل ج‪ 4‬ص‪.924‬‬
‫‪ )(4‬الدارمي (‪ ،)1305‬وأبو يعلى (‪ ،)1738‬وابن خزيمة (‪ )600‬و(‪)670‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري‪ ،794 :‬ومسلم‪484 :‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪487 :‬‬
‫‪ )(7‬رواه مسلم‪485 :‬‬
‫‪66‬‬
‫والعظمة) (‪)1‬‬ ‫والكبرياء‬
‫ومنها قوله إذا سلم في الوتر ثالثا‪( :‬س بحان المل ك الق دوس) (‪ ،)2‬وروي أن ه‬
‫كان يقولها عشرا قبل شروعه في صالة الليل(‪.)3‬‬
‫ومن المواض ع ال تي ورد الحث على التس بيح فيه ا‪ ،‬أو التخي ير بينه ا وبين‬
‫القراءة‪ ،‬ما أجاب به اإلمام الباقر من سأله‪ ،‬فقال‪( :‬ما يجزي من القول في الركعتين‬
‫األخيرتين؟)‪ ،‬قال له اإلمام‪( :‬أن تقول‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وال إل ه إالّ هللا‪ ،‬وهللا‬
‫أكبر‪ ،‬وتكبر وتركع) (‪)4‬‬
‫وعن بعضهم‪ ،‬أنّه صحب اإلمام الرضا من المدينة إلى مرو‪ ،‬فكان يس بّح في‬
‫األخراوين يقول‪(:‬سبحان هللا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وال إل ه إالّ هللا‪ ،‬وهللا أك بر‪ ،‬ثالث م رّات‪،‬‬
‫ث ّم يركع) (‪)5‬‬
‫باإلضافة إلى هذا كله ال يكاد يوج د ذك ر من األذك ار المرتبط ة بالمناس بات‬
‫المختلفة إال ويكون التسبيح أحد مكوناته‪ ،‬ومن ذلك ما روي أن ه ‪ ‬أوص ى ب ه من‬
‫تعار من الليل‪ ،‬أو أصابه األرق‪( :‬ال إله إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬ل ه المل ك ول ه‬
‫الحمد وهو على كل شيء قدير‪ ،‬الحمد هلل وسبحان هللا وال إل ه إال هللا وهللا أك بر وال‬
‫حول وال قوة إال باهلل)‪ ،‬ثم يقول‪( :‬اللهم اغف ر لي)‪ ،‬وق د أخ بر ‪ ‬عن فض ل ذل ك‪،‬‬
‫فقال‪( :‬فإن دعا استجيب له‪ ،‬وإن توضأ وصلى قبلت صالته) (‪)6‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬كان يسبح عند أي ش يء يحص ل‪ ،‬وق د ح دثت أ ّم س لمة‬
‫قالت‪ :‬استيقظ النّب ّي ‪ ‬فقال‪( :‬سبحان هللا‪ ،‬ما ذا أنزل من الخزائن‪ ،‬وما ذا أنزل من‬
‫الفتن‪ ،‬من يوقظ صواحب الحجر ـ يريد به أزواجه ـ حتّى يص لّين‪ ،‬ربّ كاس ية في‬
‫ال ّدنيا عارية في اآلخرة)(‪)7‬‬

‫وعن عائشة قالت‪ :‬كان رس ول هللا ‪ ‬يك ثر من ق ول‪( :‬س بحان هللا وبحم ده‬
‫أس تغفر هللا وأت وب إلي ه)‪ ،‬فقلت‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬أراك تك ثر من ق ول (س بحان هللا‬
‫وبحمده أستغفر هللا وأتوب إليه)؟‪ .‬فقال‪( :‬خبّرني ربّي أنّي سأرى عالم ة في أ ّم تي‪،‬‬
‫فإذا رأيتها أكثرت من قول‪ :‬سبحان هللا وبحمده أستغفر هللا وأتوب إليه‪ ،‬فقد رأيته ا‪،‬‬
‫﴿و َرأَيْتَ النَّ َ‬
‫اس يَ ْد ُخلُونَ فِي ِد ِ‬
‫ين‬ ‫َص ُر هللا َو ْالفَ ْتحُ﴾ [النص ر‪(]1 :‬فتح م ّك ة) َ‬ ‫﴿إِ َذا َجا َء ن ْ‬
‫ستَ ْغفرْ ه إنَّه ُ َك تَوابًا﴾ [النصر‪)8()]3 ،2 :‬‬
‫ك َوا ْ ِ ُ ِ انَ َّ‬ ‫هللا أَ ْف َواجًا (‪ )2‬فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّ َ‬
‫هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على ه ذه الش عيرة‬
‫العظيمة‪ ،‬والتزم بها؛ فاهلل تعالى أكرم من أن يترك عبده الذي يسبحه ويقدسه لنفس ه‬
‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.873 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود‪1430 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪5085 :‬‬
‫‪ )(4‬الوسائل ج‪ 4‬ص‪.782‬‬
‫‪ )(5‬الوسائل ج‪ 4‬ص‪.782‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري‪ ،‬الفتح ‪.144 /3‬‬
‫‪ )(7‬البخاري [فتح الباري]‪)6218(10 ،‬‬
‫‪ )(8‬البخاري [فتح الباري]‪ )794(،‬مختصرا‪ ،‬ومسلم(‪)484‬‬
‫‪67‬‬
‫األمارة؛ فكما تسبح هللا وتنزهه وتبرئه من كل ما ال يليق به؛ فسيكرمك هللا بتنزيهك‬
‫وتقديسك وإبعاد كل ما ال يليق بك‪ ،‬وبإنسانيتك المكرمة‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫الحمد والتمجيد‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحم د والتمجي د‪ ،‬ودورهم ا في‬
‫التزكي ة والترقي ة‪ ،‬وفي التخل ق والتحق ق‪ ،‬وس ر م ا ورد حولهم ا في النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن الحم د والتمجي د من األرك ان‬
‫الضرورية للتزكية والترقية‪ ،‬مثلهم ا مث ل التس بيح والتق ديس‪ ،‬والتكب ير والتهلي ل‪..‬‬
‫ذلك أن من يكتفي بتوحيد هللا‪ ،‬أو تنزيهه عما ال يليق به‪ ،‬ثم ال يثبت له المحامد‪ ،‬وال‬
‫الكماالت لم يسبحه ولم يقدسه ولم يكبره‪ ..‬ألن كمال هللا ليس مرتبطا بتنزيه ه فق ط‪،‬‬
‫وإنما بإثبات جميع صفات الكمال له‪.‬‬
‫بل إن التمجيد والحم د من درج في التق ديس والتنزي ه؛ فال يمكن أن يك ون هللا‬
‫تعالى قدوسا وسبوحا ما لم يكن حميدا مجيدا‪ ..‬ومث ل ذل ك التمجي د والتحمي د‪ ،‬فهم ا‬
‫مفتقران للتقديس والتنزيه؛ فال يمكن ثبوت الكمال ما لم يثبت نفي النقص‪.‬‬
‫ولهذا يجتم ع في الق رآن الك ريم كال المعن يين‪ :‬التق ديس والتمجي د‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫َّاج ِدينَ ﴾ [الحجر‪ ،]98 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء‬ ‫ك َو ُك ْن ِمنَ الس ِ‬
‫تعالى‪﴿ :‬فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّ َ‬
‫وت َو َس بِّحْ‬ ‫﴿وت ََو َّكلْ َعلَى ْال َح ِّي الَّ ِذي اَل يَ ُم ُ‬ ‫إِاَّل يُ َسبِّ ُح بِ َح ْم ِد ِه﴾ [اإلس راء‪ ،]44 :‬وق ال‪َ :‬‬
‫ق َوا ْستَ ْغفِرْ لِ َذ ْنبِكَ َو َسبِّحْ بِ َح ْم ِد‬ ‫بِ َح ْم ِد ِه﴾ [الفرقان‪ ،]58 :‬وقال‪﴿ :‬فَاصْ بِرْ إِ َّن َو ْع َد هللا َح ٌّ‬
‫ك بِأ َ ْعيُنِنَا َو َس بِّحْ‬
‫﴿واصْ بِرْ لِ ُح ْك ِم َربِّكَ فَإِنَّ َ‬ ‫ار﴾ [غافر‪ ،]55 :‬وقال‪َ :‬‬ ‫ك بِ ْال َع ِش ِّي َواإْل ِ ْب َك ِ‬
‫َربِّ َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫رْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِّحْ‬ ‫َ‬
‫بِ َح ْم ِد َربِّكَ ِحينَ تقو ُم﴾ [الطور‪ ،]48 :‬وق ال‪﴿ :‬ف َس ب بِ َح ْم ِد َربِّكَ َواس تغفِ هُ إِنهُ ك انَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تَ َّوابًا﴾ [النصر‪ ،]3 :‬وغيرها من اآليات الكريمة‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن أكثر ما ورد في األحاديث الشريفة من الثناء على التسبيح وبي ان‬
‫فضله واألجور المرتبطة به‪ ،‬ل ه عالق ة بالحم د والتمجي د‪ ،‬ذل ك أنهم ا مقترن ان في‬
‫أكثر ما ورد من صيغ الذكر‪.‬‬
‫واعلم ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن حم د هللا وتمجي ده ال يع ني م ا نفهم ه من‬
‫المديح والتزلف والتملق والثناء الذي يقوم ب ه الخل ق بعض هم تج اه بعض‪ ،‬ليس تفيد‬
‫بعض هم من بعض‪ ،‬ويتق رب بعض هم من بعض‪ ..‬كال‪ ..‬فم ا ذل ك إال تمل ق وت ودد‪،‬‬
‫وهو يجانب الحقائق في أكثره‪ ،‬وقد ع رفت في رس ائلي إلي ك س ر نهي الش رع عن‬
‫المبالغة في المدح‪ ،‬واألمر باجتناب المادحين‪.‬‬
‫أما تمجيد هللا والثناء عليه؛ فهو تذكير للنفس بعظمة خالقها‪ ،‬ودعوته ا للج وء‬
‫إليه‪ ،‬وعدم تضييع الفرصة في التواصل معه‪ ،‬ولذلك ف إن مص لحته المج ردة تع ود‬
‫على العبد‪ ،‬أما هللا‪ ،‬فهو غني بذاته عن أن يص ل إلي ه النف ع من ه؛ فكي ف يص له من‬
‫غيره‪.‬‬
‫وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ من يبحث عن طبيب أو مهن دس أو خب ير‬
‫في أي شأن من الشؤون‪ ..‬فإذا وجده‪ ،‬وسجل اسمه وعنوانه في دفتره‪ ..‬ال يفعل ذلك‬
‫‪69‬‬
‫إال لحاجته إليه‪.‬‬
‫وهكذا ـ وهلل المثل األعلى ـ تذكير النفس بكون هللا ق ادرا أو مري دا أو رحيم ا‬
‫أو لطيفا أو عليما‪ ،‬أو غيرها من معاني عظمة هللا ومجده‪ ،‬فهي إش عار للنفس بأنه ا‬
‫في كنف إله يغنيها في كل حاجاتها‪ ،‬ويدعوها إلى التواصل مع ه‪ ،‬وع دم االحتج اب‬
‫عنه بأي حجاب‪.‬‬
‫وه و م ا ي دعوها إلى االبتع اد عن ك ل العي وب والمث الب ال تي تح ول بينه ا‬
‫وبينه‪ ،‬فالكريم ال يقبل بصحبة البخيل‪ ،‬والصادق ال يقبل صحة الك اذب‪ ،‬والع دل ال‬
‫يقبل صحبة الظالم الجائر‪ ،‬والرحيم ال يقبل صحبة القاس ي‪ ،‬والعليم ال يقب ل ص حبة‬
‫الجاهل‪.‬‬
‫وهكذا فإن حمد هللا ومجده ال يرتب ط فق ط ب الجوانب الروحي ة‪ ،‬وإنم ا يرتب ط‬
‫أيضا بالجوانب األخالقية والتربوية‪ ،‬ذلك أن كل معنى من المع اني ال تي يُمج د به ا‬
‫هللا تعالى له تأثيره في النفس بالدعوة للتخلق بأخالقه‪ ،‬والتأدب بعظيم صفاته‪.‬‬
‫ولهذا؛ كان القرآن الكريم كتاب التمجيد والحمد األعظم؛ فال تكاد تخلو سورة‬
‫أو آية من آياته من تمجيد هللا وعظمته‪ ،‬ول ذلك ك انت تالوت ه أعظم وس يلة للتزكي ة‬
‫والترقي ة والتحق ق بك ل القيم الروحي ة والتربوي ة‪ ،‬باإلض افة إلى كون ه تعب يرا عن‬
‫الحقائق الوجودية العظيمة‪ ،‬والتي ال يمكن االستفادة منها من دون معرفتها‪.‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن أول وأعظم س ورة في الق رآن س ورة الفاتح ة‪ ،‬وال تي جع ل هللا‬
‫تعالى تالوتها ركنا في الصالة‪ ،‬تقرأ في كل ركعة‪ ،‬افتتحت بالثن اء على هللا تع الى‪،‬‬
‫ِّين﴾ [الفاتح ة‪- 2 :‬‬ ‫﴿ال َح ْم ُد هلل َربِّ ْال َعالَ ِمينَ الرَّحْ َم ِن ال َّر ِح ِيم َمالِ ِ‬
‫ك يَوْ ِم ال د ِ‬ ‫قال تعالى‪ْ :‬‬
‫‪]4‬‬
‫ت الص الة‬ ‫وقد ورد في الحديث القدسي قول ه ‪( :‬ق ال هللا ع ز وج ل‪ :‬قَ َس ْم ُ‬
‫﴿ال َح ْم ُد هلل َربِّ ْال َع الَ ِمينَ ﴾‬
‫بيني وبين عبدي نصفين‪ ،‬ولعبدي ما سأل فإذا قال العب د‪ْ :‬‬
‫(الفاتحة‪ ،)2 :‬قال هللا‪ :‬حم دني عب دي‪ ،‬وإذا ق ال‪﴿ :‬ال رَّحْ َم ِن ال َّر ِح ِيم﴾ (الفاتح ة‪،)3 :‬‬
‫ِّين﴾ (الفاتح ة‪ ،)4 :‬ق ال‪ :‬مج دني‬ ‫ك يَ وْ ِم ال د ِ‬ ‫قال هللا‪ :‬أثنى علي عبدي‪ ،‬فإذا قال‪َ ﴿ :‬مالِ ِ‬
‫ك ن َْس ت َِع ﴾ (الفاتح ة‪ ،)5 :‬ق ال‪ :‬ه ذا بي ني وبين‬ ‫ينُ‬ ‫ك نَ ْعبُ ُد َوإِيَّا َ‬
‫عب دي‪ ،‬ف إذا ق ال‪﴿ :‬إِيَّا َ‬
‫ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الص َراط ال ُم ْس تقِي َم ِ‬ ‫عبدي‪ ،‬ولعبدي ما سأل‪ ،‬ف إذا ق ال‪﴿ :‬اه دنا ِّ‬
‫الض الِّينَ ﴾ (الفاتح ة‪ ،)7 ،6 :‬ق ال‪ :‬ه ذا لعب دي‬ ‫ب َعلَ ْي ِه ْم َوال َّ‬ ‫ضو ِ‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم َغ ْي ِر ْال َم ْغ ُ‬
‫ولعبدي ما سأل) (‪)1‬‬
‫ونالحظ ـ كما ورد في الحديث القدسي ـ كيف أن هللا تعالى بدأ بذكر تمجي ده‪،‬‬
‫وحمده‪ ،‬ثم رتب عليه ال دعاء والطلب‪ ،‬وه و يش به ذل ك ال ذي ي ذهب إلى الط بيب‪،‬‬
‫ويقول له‪ :‬بما أنك طبيب ومختص في كذا وكذا؛ ف إني أطلب من ك أن تع الجني بم ا‬
‫هو في دائرة اختصاصك‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬يرد الحمد والتمجيد في القرآن الكريم مقترن ا ب الطلب وال دعاء‪ ،‬كم ا‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪70‬‬
‫في قوله تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هللا قِيَا ًما َوقُ ُع ودًا َو َعلَى ُجنُ وبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ‬
‫ق‬
‫ار (‪َ )191‬ربَّنَ ا‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫اطاًل ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬ ‫ض َربَّنَا َما خَ لَ ْقتَ هَ َذا بَ ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫ار﴾ [آل عمران‪]192 ،191 :‬‬ ‫ص ٍ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫إِنَّكَ َم ْن تُ ْد ِخ ِل النَّا َر فَقَ ْد أ ْخ َز ْيتَهُ َو َما لِلظالِ ِمينَ ِم ْن أ ْن َ‬
‫ويذكر هللا تعالى كيف ق دم إب راهيم علي ه الس الم الثن اء على هللا قب ل دعائ ه‪،‬‬
‫ض‬‫فقال‪َ ﴿ :‬ربَّنَ ا إِنَّكَ تَ ْعلَ ُم َم ا نُ ْخفِي َو َم ا نُ ْعلِنُ َو َم ا يَ ْخفَى َعلَى هللا ِم ْن َش ْي ٍء فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ق إِ َّن َربِّي‬ ‫ْحا َ‬‫يل َوإِس َ‬ ‫اع َ‬‫َب لِي َعلَى ْال ِكبَ ِر إِ ْس َم ِ‬ ‫َواَل فِي ال َّس َما ِء (‪ْ )38‬ال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي َوه َ‬
‫لَ َس ِمي ُع ال ُّدعَا ِء﴾ [إبراهيم‪ ،]39 ،38 :‬ثم ذكر طلب ه بع دها‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬ربِّ اجْ َع ْلنِي ُمقِي َم‬
‫ي َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ يَ وْ َم‬ ‫صاَل ِة َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِي َربَّنَا َوتَقَبَّلْ ُدعَا ِء (‪َ )40‬ربَّنَا ا ْغفِ رْ لِي َولِ َوالِ َد َّ‬ ‫ال َّ‬
‫يَقُو ُم ال ِح َسابُ ﴾ [إبراهيم‪]41 ،40 :‬‬ ‫ْ‬
‫وهكذا نج د في الس نة المطه رة اق تران األدعي ة النبوي ة‪ ،‬وم ا ورد عن أئم ة‬
‫الهدى من أدعية بالتمجيد والثناء على هللا‪ ،‬ألنه أعظم وسيلة لتحقيق المطل وب‪ ،‬ب ل‬
‫نراهم في بعض األدعية يكتفون بالثناء وحده‪ ،‬ألنه كاف في تحقيق المطلوب‪.‬‬
‫وه ذا ال يع ني أن الغ رض من تمجي د هللا ه و تحقي ق المط الب‪ ..‬كال‪ ..‬فاهلل‬
‫تعالى مقصود لذاته‪ ،‬ومطلوب لذاته‪ ..‬ولذلك كان تمجي ده مقص ودا باألص الة‪ ،‬ألن ه‬
‫يعبر عن الحقائق‪ ،‬والنفس الكاملة ال تفرح بشيء كما تفرح بالحقائق‪.‬‬
‫وله ذا أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن آي ة الكرس ي أنه ا أعظم آي الق رآن الك ريم‬
‫لكونها كلها ثن اء على هللا تع الى‪ ،‬ق ال هللا تع الى‪﴿ :‬هللا اَل إِلَ هَ إِاَّل هُ َو ْال َح ُّي ْالقَيُّو ُم اَل‬
‫ض َم ْن َذا الَّ ِذي يَ ْش فَ ُع ِع ْن َدهُ إِاَّل‬ ‫ت َو َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬
‫الس َم َ‬‫تَأْ ُخ ُذهُ ِسنَةٌ َواَل نَوْ ٌم لَهُ َما فِي َّ‬
‫بِإِ ْذنِ ِه يَ ْعلَ ُم َما بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َو َما خَ ْلفَهُ ْم َواَل ي ُِحيطُونَ بِ َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه إِاَّل بِ َم ا َش ا َء َو ِس َع‬
‫ض َواَل يَئُو ُدهُ ِح ْفظُهُ َما َوه َُو ْال َعلِ ُّي ْال َع ِظي ُم﴾ [البقرة‪]255 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ُكرْ ِسيُّهُ ال َّس َم َ‬
‫وهكذا مثلها من آيات الق رآن الك ريم المتعلق ة بحم د هللا والثن اء علي ه وبي ان‬
‫ص فاته العظيم ة‪ ،‬فهي ال ش ك أولى من غيره ا من اآلي ات المتعلق ة باألحك ام أو‬
‫القصص أو المواعظ‪ ،‬وإن كان القرآن الك ريم كل ه كالم هللا‪ ،‬ولكن موض وع الكالم‬
‫له تأثيره في األفضلية‪.‬‬
‫ولهذا اعتبر رسول هللا ‪ ‬سورة اإلخالص ثلث القرآن الكريم‪ ،‬ففي الح ديث‬
‫لث القرآن؟)‪،‬‬ ‫أن رسول هللا ‪ ‬قال ألصحابه يوما‪( :‬أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثُ َ‬
‫ل ثلث القرآن) (‪)1‬‬ ‫قالوا‪ :‬وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال‪( :‬قل هو هللا أحد‪ ،‬تع ِد ُ‬
‫وله ذا؛ ف إن آلي ات الحم د والثن اء منزل ة خاص ة في الق رآن الك ريم‪ ،‬وله ذا‬
‫افتتحت به أول سورة‪ ،‬كما افتتحت به أربع سور غيرها‪ ،‬وهي األنعام‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ور﴾ [األنع ام‪،]1 :‬‬ ‫ت َوالنُّ َ‬ ‫ض َو َج َع َل ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫الس َما َوا ِ‬‫ق َّ‬ ‫﴿ال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي َخلَ َ‬ ‫ْ‬
‫اب َولَ ْم يَجْ َع لْ لَ هُ ِع َو ًج ا﴾‬ ‫﴿ال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي أَ ْن َز َل َعلَى َع ْب ِد ِه ْال ِكتَ َ‬
‫والكهف‪ ،‬قال تعالى‪ْ :‬‬
‫ت َو َما فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫اوا ِ‬ ‫﴿ال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي لَهُ َما فِي ال َّس َم َ‬‫[الكهف‪ ،]1 :‬وسبأ‪ ،‬قال تعالى‪ْ :‬‬
‫﴿ال َح ْم ُد هلل‬ ‫َولَهُ ْال َح ْم ُد فِي اآْل ِخ َر ِة َوه َُو ْال َح ِكي ُم ْالخَ بِيرُ﴾ [سبأ‪ ،]1 :‬وفاطر‪ ،‬قال تعالى‪ْ :‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.1886 :‬‬


‫‪71‬‬
‫ث َو ُربَ ا َع‬ ‫ُس اًل أُولِي أَجْ نِ َح ٍة َم ْثنَى َوثُاَل َ‬ ‫اع ِل ْال َماَل ئِ َك ِة ر ُ‬ ‫ض َج ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫فَا ِط ِر ال َّس َم َ‬
‫ق َما يَ َشا ُء إِ َّن هللا َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾ [فاطر‪]1 :‬‬ ‫يَ ِزي ُد فِي ْال َخل ِ‬
‫ْ‬
‫ومث ل ذل ك م ا ورد بص يغة التبري ك‪ ،‬وه و مث ل الحم د‪ ،‬وال ذي افتتحت ب ه‬
‫ك الَّ ِذي نَ َّز َل ْالفُرْ قَ انَ َعلَى َع ْب ِد ِه لِيَ ُك ونَ‬ ‫ار َ‬‫سورتا الفرقان والمل ك‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬تَبَ َ‬
‫ك فِي‬ ‫ْ‬
‫ض َولَ ْم يَتَّ ِخذ َولَدًا َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ َش ِري ٌ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ك ال َّس َما َوا ِ‬ ‫لِ ْل َعالَ ِمينَ نَ ِذيرًا الَّ ِذي لَهُ ُم ْل ُ‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء فَقَ َّد َرهُ تَ ْق ِديرًا﴾ [الفرق ان‪ ،]2 -1 :‬وق ال‪﴿ :‬تَبَ ا َركَ الَّ ِذي بِيَ ِد ِه‬ ‫ك َو َخلَ َ‬ ‫ْال ُم ْل ِ‬
‫ق ْال َموْ تَ َو ْال َحيَ اةَ لِيَ ْبلُ َو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أَحْ َس نُ َع َماًل‬ ‫ك َوهُ َو َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر الَّ ِذي خَ لَ َ‬ ‫ْال ُم ْل ُ‬
‫ق ال رَّحْ َم ِن ِم ْن‬ ‫ت ِطبَاقً ا َم ا تَ َرى فِي َخ ْل ِ‬ ‫اوا ٍ‬‫ق َس ْب َع َس َم َ‬ ‫َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َغفُو ُر الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ت﴾ [الملك‪.]3 - 1 :‬‬ ‫تَفَا ُو ٍ‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن الق رآن الك ريم ه و كت اب‬
‫التمجيد األعظم‪ ،‬فاحرص عليه‪ ،‬وتدبر آياته؛ ففيها كل ما يعرفك بربك‪ ،‬ويمأل قلبك‬
‫بالمحبة له‪.‬‬
‫لكن الظفر بذلك قد يستدعي منك بعض المجاه دات والرياض ات ال تي تمكن‬
‫للمعاني القرآنية من التأثير في نفسك‪ ،‬وهي تشمل عقلك وقلبك وجوارحك‪.‬‬
‫تمجيد العقل‪:‬‬
‫فأول ما عليك ـ أيها المري د الص ادق ـ الس تعمال ه ذه الوس يلة العظيم ة من‬
‫وسائل التزكية والترقية أن تبدأ بتنوير عقلك باله دايات المرتبط ة ب ه؛ فعقل ك ج زء‬
‫منك‪ ،‬وال يمكنك تجاهله أو تجاهل تساؤالته‪ ،‬أو الشبهات التي يعرضها عليك‪.‬‬
‫ولذلك خاطبه باللغة التي يفهمها‪ ،‬واألدلة ال تي يس توعبها‪ ،‬فقناعت ه بالحق ائق‬
‫ستسري لكل كيانك‪ ،‬وتؤثر فيه تأثيرا بليغا‪ ،‬بخالف ذلك الذي يكتفي بأن يلهج لسانه‬
‫بالمجد والثناء من غير تحقيق وال تفكير وال تأمل‪.‬‬
‫ك األَ ْعلَى﴾ (األعلى‪ ،)1 :‬فال تكتف‬ ‫ِّح ا ْس َم َربِّ َ‬
‫ولذلك إن قرأت قوله تعالى‪َ ﴿ :‬سب ِ‬
‫بالقراءة‪ ،‬وإنما تأمل وتدبر بعقل ك عن حقيق ة العلي األعلى‪ ،‬وكي ف ك ان هللا تع الى‬
‫وح ده الحقي ق به ا‪ ،‬وس يدلك عقل ك على أن العلي األعلى ه و ال ذي ال رتب ة ف وق‬
‫رتبته‪ ،‬وجميع المراتب منحطة عنه‪ ..‬وأنه ال ذي ال يق در الخالئ ق كلهم أن يحيط وا‬
‫ببعض معاني صفة واحدة من صفاته‪ ..‬وأنه ليس كمثله شيء في ك ل نعوت ه‪ ..‬وأن ه‬
‫الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلّهم‪ ،‬فنواص يهم بي ده‪ ،‬وم ا ش اء ك ان ال يمانع ه في ه‬
‫ممانع‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ ..‬فلو اجتمع الخل ق على إيج اد م ا لم يش أه هللا لم يق دروا‪،‬‬
‫ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه‪.‬‬
‫ض َوهُ َو ْال َع ِزيزُ‬ ‫َ‬
‫ت َوا رْ ِ‬ ‫أْل‬ ‫اوا ِ‬ ‫وهكذا إن قرأت قوله تعالى‪َ ﴿ :‬سبَّ َح هلل َما فِي ال َّس َم َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يت َوه َُو َعلى كلِّ َش ْي ٍء ق ِدي ٌر (‪)2‬‬ ‫َ‬ ‫ض يُحْ يِي َويُ ِم ُ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ك ال َّس َما َوا ِ‬‫ْال َح ِكي ُم (‪ )1‬لَهُ ُم ْل ُ‬
‫اطنُ َوه َُو بِ ُكلِّ َش ْي ٍء َعلِي ٌم﴾ [الحديد‪]3 - 1 :‬‬ ‫هُ َو اأْل َ َّو ُل َواآْل ِخ ُر َوالظَّا ِه ُر َو ْالبَ ِ‬
‫فتأمل في هذه اآليات الكريمة بعين عقلك‪ ،‬وسترى كيف أنه س يردد من حيث‬
‫ال يشعر ما قاله الشاعر الصالح‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫إن كنت مرتاداً بلوغ كم ال‬ ‫هللا ق ل وذر الوج ود وم ا‬
‫وى‬ ‫ح‬
‫ع دم على التفص يل‬ ‫فالك ل دون هللا أن حققته‬
‫ال‬ ‫واإلجم‬
‫ل واله في مح و وفي‬ ‫واعلم بأن ك والع والم كلها‬
‫محالل‬ ‫اض‬
‫فوجوده ل واله عين مح ال‬ ‫من ال وج ود لذات ه من ذاته‬
‫شيئا ً سوى المتكبر المتع ال‬ ‫والعارفون بربهم لم يشهدوا‬
‫في الح ال والماض ي‬ ‫ورأوا س واه على الحقيق ة‬
‫تقبال‬ ‫واالس‬ ‫هالكا‬
‫ص ِّو ُر لَ هُ األَ ْس َما ُء‬
‫ئ ال ُم َ‬
‫ار ُ‬ ‫وهكذا إن قرأت قول ه تع الى‪﴿ :‬هُ َو هللاُ ال َخ الِ ُ‬
‫ق البَ ِ‬
‫ض َوهُ َو ال َع ِزي ُز ال َح ِكي ُم﴾ (الحش ر‪،)24:‬‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫ال ُح ْسنَى يُ َسبِّ ُح لَ هُ َم ا فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬
‫ق ُك لِّ َش ْي ٍء فَا ْعبُ دُوهُ َوهُ َو َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬ذلِ ُك ُم هللا َربُّ ُك ْم ال إِلَهَ إِال هُ َو َخ الِ ُ‬
‫ق ُك لِّ َش ْي ٍء َوهُ َو َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َو ِكي لٌ﴾‬ ‫َو ِكي لٌ﴾ (األنع ام‪ ،)102:‬وق ال‪﴿ :‬هللا َخ الِ ُ‬
‫(الزمر‪)62:‬‬
‫فال تكتف بالقراءة المجردة‪ ،‬وإنما تأمل ه بعين عقل ك‪ ،‬وس ترى كي ف يجعل ك‬
‫ترى كل شيء من تصميم هللا وصناعته وخلقه‪ ..‬فال شيء إال من هللا‪ ..‬وال شيء إال‬
‫باهلل‪.‬‬
‫وهكذا يمكنك أن تستعين بكل المعارف والعلوم؛ فكلها قطرات من بح ر العلم‬
‫اإللهي والقدرة اإللهية‪ ..‬ولذلك تعلم علومها بهذه النية‪ ،‬وال تكتف بم ا تفي دك ب ه من‬
‫شؤون الدنيا‪ ،‬وإنما اعبر منها إلى ربك‪ ..‬فالذي خلق ما تراه قادر على خلق غيره‪..‬‬
‫فال تحتجب بما تراه عما ال ت راه‪ ،‬وإنم ا اع بر مم ا ت راه إلى م ا ال ت راه‪ ..‬فال خ ير‬
‫فيمن سكن في الحضيض‪ ،‬وهو قادر على أن يرتقي إلى سموات الكمال‪.‬‬
‫تمجيد القلب‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واطمأنت به نفس ك‪ ،‬فانتق ل من تمجي د‬
‫العقل لربه إلى تمجيد القلب‪ ..‬الذي هو محل مشاعرك وعواطف ك؛ ف انظر إلى آث ار‬
‫نعم هللا عليك‪ ،‬وتأمل فيها‪ ،‬وتأم ل في النعم ال تي ال ت زال تنتظ رك في دار الس عادة‬
‫العظمى ال تي أع دها ل ك‪ ،‬وس ترى كي ف يمتلئ قلب ك بالتمجي د الحقيقي‪ ،‬والحم د‬
‫الحقيقي‪ ،‬وقد قال الشاعر معبرا عن آثار النعم في النفس‪:‬‬
‫أفادتكم النعماء مني ثالثة يدي ولساني والضمير المحجبا‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن حمد القلب وتمجي ده ينطل ق من تص ور النعم ة‪ ،‬واالع تراف به ا‬
‫للمنعم‪ ،‬وفي ذلك يق ول رس ول هللا ‪( :‬عجب ا ألم ر الم ؤمن‪ ،‬إن أم ره كل ه خ ير‪،‬‬
‫وليس ذاك ألحد إال للمؤمن‪ ،‬إن أصابته س راء ش كر‪ ،‬فك ان خ يرا ل ه‪ ،‬وإن أص ابته‬
‫ضراء صبر‪ ،‬فكان خيرا له) (‪)1‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫وال تكتف ـ أيها المريد الصادق ـ بالشكر والتمجيد الخ اص بم ا ت راه من نعم‬
‫خصك هللا بها فقط‪ ،‬بل اعتبر ك ل ش يء نعم ة من النعم العظمى‪ ،‬وأوله ا وأعظمه ا‬
‫ربك الذي خلقك‪ ،‬وهدايته لك إليه‪ ،‬فذلك أكبر النعم‪ ،‬ألنه سبيل السعادة الوحيد‪.‬‬
‫ولهذا ذكر هللا تع الى عن المؤم نين حم دهم على نعم ة الهداي ة عن دما ي رون‬
‫ثمارها في الجنة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أُولَئِكَ أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ (‪َ )42‬ونَزَ ْعنَ ا‬
‫ُور ِه ْم ِم ْن ِغ ٍّل تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ ِه ُم اأْل َ ْنهَا ُر َوقَالُوا ْال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي هَ دَانَا لِهَ َذا‬ ‫صد ِ‬ ‫َما فِي ُ‬
‫ي لَوْ اَل أ ْن هَدَانَا هللا﴾ [األعراف‪]43 ،42 :‬‬ ‫َ‬ ‫َو َما ُكنَّا لِنَ ْهتَ ِد َ‬
‫واذكر عند حمدك هلل تعالى على ه ذه النعم ة‪ ،‬قول ه تع الى لنبي ه ‪﴿ :‬إِنَّكَ اَل‬
‫تَ ْه ِدي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هللا يَ ْه ِدي َم ْن يَ َش ا ُء َوهُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [القص ص‪،]56 :‬‬
‫اس َحتَّى‬ ‫ض ُكلُّهُ ْم َج ِمي ًع ا أَفَ أ َ ْنتَ تُ ْك ِرهُ النَّ َ‬
‫وقول ه‪َ ﴿ :‬ولَ وْ َش ا َء َربُّكَ آَل َمنَ َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬
‫س هُ دَاهَا َولَ ِك ْن َح َّ‬
‫ق‬ ‫﴿ولَوْ ِش ْئنَا آَل تَ ْينَ ا ُك َّل نَ ْف ٍ‬‫يَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [يونس‪ ،]99 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫اس أَجْ َم ِعينَ ﴾ [السجدة‪ ،]13 :‬لتعرف أن تل ك‬ ‫ْالقَوْ ُل ِمنِّي أَل َ ْمأَل َ َّن َجهَنَّ َم ِمنَ ْال ِجنَّ ِة َوالنَّ ِ‬
‫النعم ة ليس ت بحول ك وال قوت ك‪ ،‬وإنم ا هي فض ل عظيم من هللا علي ك‪ ،‬ف احرص‬
‫عليه‪ ،‬واشكره‪ ،‬واحذر من أن يسلب منك‪.‬‬
‫ف إذا امتأل قلب ك ش عورا بمنن هللا علي ك‪ ،‬ثم رحت بم رآة قلب ك تط الع جمي ل‬
‫صفاته؛ فإن ذلك سينقلك من الهداية العامة إلى الهداي ة الخاص ة‪ ،‬ومن ع وام الن اس‬
‫الش ُكورُ﴾‬ ‫ي َّ‬ ‫إلى خواصهم‪ ،‬أولئك الذين وص فهم هللا تع الى‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬وقَلِي ٌل ِم ْن ِعبَ ا ِد َ‬
‫(سبأ‪)13 :‬‬
‫وذلك ما يمل ؤك بالرض ا عن رب ك‪ ،‬وه و من أعظم مقام ات الس الكين‪ ،‬ق ال‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن‬ ‫َب فِي قُلُوبِ ِه ُم اإْل ِ ي َمانَ َوأَيَّ َدهُ ْم بِر ٍ‬
‫ُوح ِم ْنهُ َويُ ْد ِخلُهُ ْم َجنَّا ٍ‬ ‫ك َكت َ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬أُولَئِ َ‬
‫ك ِح ْزبُ هللا أَاَل إِ َّن‬ ‫ض وا َع ْن هُ أُولَئِ َ‬ ‫ض َي هللا َع ْنهُ ْم َو َر ُ‬ ‫تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َر ِ‬
‫ب هللا هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ [المجادلة‪]22 :‬‬ ‫ِح ْز َ‬
‫ولذلك قال رسول هللا ‪( :‬خص لتان من كانت ا في ه كتب ه هللا ش اكرا ص ابرا‪،‬‬
‫ومن لم تكن فيه لم يكتبه هللا شاكرا وال صابرا‪ ،‬من نظر في دين ه إلى من ه و فوق ه‬
‫فاقتدى به‪ ،‬ونظر في دنياه إلى من هو دونه‪ ،‬فحمد هللا على ما فضّله ب ه علي ه كتب ه‬
‫هللا شاكرا ص ابرا‪ ،‬ومن نظ ر في دين ه إلى من ه و دون ه‪ ،‬ونظ ر في دني اه إلى من‬
‫فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه هللا شاكرا وال صابرا)(‪)1‬‬
‫إن أمره كلّه خير‪ .‬وليس ذلك ألحد إ للم ؤمن إن‬
‫اّل‬ ‫وقال‪( :‬عجبا ألمر المؤمن ّ‬
‫أصابته سرّاء شكر‪ .‬فكان خيرا له‪ .‬وإن أصابته ضرّاء صبر‪ .‬فكان خيرا له)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬أول من ي دعى إلى الجن ة الحم ادون‪ ،‬ال ذين يحم دون هللا في الس راء‬
‫والضراء)(‪)3‬‬
‫تمجيد الجوارح‪:‬‬
‫‪ )(1‬الترمذي(‪ )2512‬وبعضه في مسلم (‪ )2963‬وابن ماجة(‪)4142‬‬
‫‪ )(2‬مسلم(‪)2999‬‬
‫‪ )(3‬مكارم االخالق ص ‪.354‬‬
‫‪74‬‬
‫فإذا حمدت هللا تعالى بكل قلبك‪ ،‬وامتألت رضا عنه‪ ،‬تح ركت ك ل جوارح ك‬
‫بالشكر هلل وتمجيده وتعظيمه‪ ،‬وعدم استعمال نعمه في معصيته‪.‬‬
‫وأول تل ك الج وارح وأعظمه ا ت أثيرا لس انك؛ ذل ك أن ه وس يلة من الوس ائل‬
‫العظمى التي جعلها هللا لك لتنتقل الحقائق منه إلى قلبك‪ ،‬وتؤثر فيه تأثيرها العظيم‪..‬‬
‫فالحمد والتمجيد الذي ينطق به قد يكون ثمرة للمعارف‪ ،‬وقد يكون وسيلة إليها‪.‬‬
‫ول ذلك أم ر هللا تع الى بش كره وتمجي ده‪ ،‬ح تى يع بر الش كر من اللس ان إلى‬
‫اش ُكرُوا لِي‬ ‫القلب‪ ،‬ومن القلب إلى كل اللطائف‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ ْاذ ُكرُونِي أَ ْذ ُك رْ ُك ْم َو ْ‬
‫ت َما َرزَ ْقنَ ا ُك ْم‬‫َوال تَ ْكفُرُو ِن﴾ (البقرة‪ ،)152:‬وقال‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ُكلُوا ِم ْن طَيِّبَا ِ‬
‫َوا ْش ُكرُوا هلل إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾ (البقرة‪ ،)172:‬وقال‪﴿ :‬فَ ُكلُوا ِم َّما َرزَ قَ ُك ُم هللا َحالالً‬
‫طَيِّبا ً َوا ْش ُكرُوا نِ ْع َمتَ هللا إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾ (النحل‪)114:‬‬
‫(إن هللا ليرض ى عن العب د‬ ‫وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪ّ :‬‬
‫شربة فيحمده عليها)(‪)1‬‬ ‫أن يأكل األكلة فيحمده عليها‪ ،‬أو يشرب ال ّ‬
‫ولهذا ورد في السنة المطهرة الكث ير من ص يغ الحم د والتمجي د‪ ،‬وال تي هي‬
‫قبس من وظيفة رسول هللا ‪ ‬العظمى المرتبطة بالتزكية‪ ،‬وال تي تس ري في األم ة‬
‫في جمي ع عص ورها‪ ،‬وال يناله ا إال من اهت دى بهدي ه‪ ،‬واس تن بس نته‪ ،‬ولم ي رغب‬
‫عنها‪ ،‬ولم يتكبر عليها‪ ،‬ولم يقل‪ :‬حسبنا كتاب هللا‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث ما ورد من الحمد والتمجيد في الصالة‪ ،‬وهي كثيرة جدا‪،‬‬
‫ومنها قوله عند االستفتاح بالصالة ما بين تكبيرة اإلحرام والقراءة‪( :‬هللا أكبر كبيرا‪،‬‬
‫هللا أك بر كب يرا‪ ،‬هللا أك بر كب يرا‪ ،‬والحم د هلل كث يرا‪ ،‬والحم د هلل كث يرا‪ ،‬والحم د هلل‬
‫كثيرا‪ ،‬وسبحان هللا بكرة وأصيال) (‪)2‬‬
‫ويقول‪( :‬اللهم لك الحمد‪ ،‬أنت نور السموات واألرض ومن فيهن‪ ،‬ولك الحمد‬
‫أنت قيم الس موات واألرض ومن فيهن‪ ،‬ول ك الحم د أنت رب الس موات واألرض‬
‫ومن فيهن ولك الحمد لك ملك الس موات واألرض ومن فيهن ول ك الحم د أنت مل ك‬
‫السموات واألرض ولك الحمد أنت الح ق‪ ،‬ووع دك الح ق‪ ،‬وقول ك الح ق‪ ،‬ولق اؤك‬
‫الحق‪ ،‬والجنة حق‪ ،‬والنار حق‪ ،‬والنبيون حق‪ ،‬ومحمد ‪ ‬حق‪ ،‬والس اعة ح ق اللهم‬
‫ل ك أس لمت‪ ،‬وعلي ك ت وكلت‪ ،‬وب ك آمنت‪ ،‬وإلي ك أنبت‪ ،‬وب ك خاص مت‪ ،‬وإلي ك‬
‫حاكمت‪ .‬فاغفر لي ما قدمت‪ ،‬وما أخرت‪ ،‬وما أس ررت‪ ،‬وم ا أعلنت وم ا أنت أعلم‬
‫به مني أنت المقدم‪ ،‬وأنت المؤخر ال إل ه إال أنت أنت إلهي ال إل ه إال أنت وال ح ول‬
‫وال قوة إال باهلل) (‪)3‬‬
‫وكان يق ول عن د الرف ع من الرك وع‪( :‬ربن ا ول ك الحم د‪ ،‬حم دا كث يرا طيب ا‬
‫مباركا فيه)(‪ ،)4‬ثم يضيف‪( :‬ملء الس موات وملء األرض‪ ،‬وم ا بينهم ا‪ ،‬وملء م ا‬
‫‪ )(1‬مسلم(‪)2734‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود‪ ،203 /1 ،‬وابن ماجه‪ ،265 /1 ،‬وأحمد‪ ،85 /4 ،‬برقم ‪.16739‬‬
‫‪ )(3‬البخاري مع الفتح‪ ،3 /3 ،‬ومسلم مختصرا بنحوه‪ ،532 /1 ،‬برقم ‪.769‬‬
‫‪ )(4‬البخاري مع الفتح‪ ،284 /2 ،‬برقم ‪.796‬‬
‫‪75‬‬
‫شئت من شيء بعد‪ .‬أهل الثناء والمجد‪ ،‬أحق ما ق ال العب د‪ ،‬وكلن ا ل ك عب د‪ .‬اللهم ال‬
‫مانع لما أعطيت‪ ،‬وال معطي لما منعت‪ ،‬وال ينفع ذا الجد منك الجد) (‪)1‬‬
‫وكان من دعائه بع د التش هد األخ ير في الص الة‪( :‬اللهم إني أس ألك ب أن ل ك‬
‫الحمد ال إله إال أنت وحدك ال شريك لك‪ ،‬المنان‪ ،‬ي ا ب ديع الس موات واألرض ي ا ذا‬
‫الجالل واإلكرام‪ ،‬يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) (‪)2‬‬
‫ومن األذكار التي كان يقولها بعد السالم‪( :‬ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪،‬‬
‫له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [ثالثا]‪ ،‬اللهم ال مانع لم ا أعطيت‪ ،‬وال‬
‫معطي لما منعت‪ ،‬وال ينفع ذا الجد منك الجد)(‪)3‬‬
‫ويقول‪( :‬ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬له الملك‪ ،‬وله الحمد‪ ،‬وهو على ك ل‬
‫شيء قدير‪ .‬ال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬ال إله إال هللا‪ ،‬وال نعبد إال إياه‪ ،‬ل ه النعم ة ول ه‬
‫الفضل وله الثناء الحسن‪ ،‬ال إله إال هللا مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) (‪)4‬‬
‫ويقول‪( :‬سبحان هللا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وهللا أكبر (ثالثا وثالثين) ال إله إال هللا وحده‬
‫ال شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (‪ ،)5‬ويرغب فيها ق ائال‪:‬‬
‫(من قال ذلك دبر كل صالة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)‬
‫وهكذا كان إذا استيقظ من النوم يقول‪( :‬الحم د هلل ال ذي أحيان ا بع د م ا أماتن ا‬
‫وإليه النشور) (‪)6‬‬
‫ويق ول‪( :‬الحم د هلل ال ذي رد علي روحي‪ ،‬وعاف اني في جس دي‪ ،‬وأذن لي‬
‫بذكره) (‪)7‬‬
‫وكان يحث على الدخول إلى البيوت بص حبة الحم د والتمجي د‪ ،‬ويعت بر ذل ك‬
‫وقاية وحجابا للبيت‪ ،‬قال ‪( :‬إذا دخل الرجل بيته‪ ،‬أو أوى إلى فراشه ابتدره مل ٌ‬
‫ك‬
‫وشيطان‪ ،‬فيقول الملك‪ :‬افتح بخير‪ ،‬ويقول الشيطان‪ :‬افتح بش ر‪ ،‬ف إن ذك ر هللا ط رد‬ ‫ٌ‬
‫ٌ‬
‫وشيطان‪ ،‬فيقول المل ك‪:‬‬ ‫الملك الشيطان وظل يكلؤه‪ ،‬فإذا انتبه من منامه ابتدره مل ٌ‬
‫ك‬
‫افتح بخير‪ ،‬ويقول الشيطان‪ :‬افتح بشر‪ ،‬فإن هو ق ال‪ :‬الحم د هلل ال ذي رد إلي نفس ي‬
‫بعد موتها ولم يمتها في منامها‪ ،‬الحمد هلل الذي يمس ك الس موات الس بع أن تق ع على‬
‫األرض إال بإذنه‪ ،‬إلى آخر اآلية‪ ،‬فإن هو خر من فراشه فمات كان شهيدا‪ ،‬وإن ه و‬
‫قام يصلي صلى في فضائل) (‪)8‬‬
‫وهكذا كان يدعو إلى حمد هللا عن د الطع ام والش راب‪ ،‬وي ذكر األج ر العظيم‬
‫المرتبط بذلك‪ ،‬فيقول‪( :‬إن المؤمن يشبع من الطعام والشراب فيحمد هللا‪ ،‬فيعطيه هللا‬

‫‪ )(1‬مسلم‪ ،346 /1 ،‬برقم ‪.477‬‬


‫‪ )(2‬أبو داود‪ ،‬برقم ‪ ،1495‬والترمذي‪ ،‬برقم ‪ ،3544‬وابن ماجه‪ ،‬برقم ‪ ،3858‬والنسائي‪ ،‬برقم ‪.1299‬‬
‫‪ )(3‬البخاري‪ ،255 /1 ،‬برقم ‪ ،844‬ومسلم‪ ،414 /1 ،‬برقم ‪593‬‬
‫‪ )(4‬مسلم‪ 415 /1 ،‬برقم ‪.594‬‬
‫‪ )(5‬مسلم‪ ،418 /1 ،‬برقم ‪597‬‬
‫‪ )(6‬البخاري‪6325:‬‬
‫‪ )(7‬الترمذي (‪ ،)3401‬والنسائي في (عمل اليوم والليلة) (‪ ،)866‬وابن السني في (عمل اليو والليلة) (‪)9‬‬
‫‪ )(8‬ابن أبي الدنيا في (التهجد والقيام) (‪ ،)515‬وابن السني في (عمل اليوم والليلة) (‪)12‬‬
‫‪76‬‬
‫يحمد) (‪)1‬‬ ‫من االجر ما يعطي الصائم‪ ،‬إن هللا شاكر يحب أن‬
‫وكان يقول إذا فرغ من طعام ه‪( :‬الحم د هلل ال ذي كفان ا وأروان ا‪ ،‬غ ير مكفي‬
‫وال مكفور‪ ..‬الحمد هلل ربنا‪ ،‬غير مكفي وال مودع وال مستغنى‪ ،‬ربنا) (‪)2‬‬
‫وكان يقول في الصباح‪( :‬أصبحنا وأصبح الملك هلل‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬ال إل ه إال هللا‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد وهو على كل ش يء ق دير‪ ،‬رب أس ألك خ ير‬
‫ما في هذا اليوم وخير ما بعده‪ ،‬وأعوذ بك من شر ما في هذا الي وم وش ر م ا بع ده‪،‬‬
‫رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر‪ ،‬رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في‬
‫القبر) (‪)3‬‬
‫ويذكر فضل حم د هللا في الص باح والمس اء‪ ،‬فيق ول‪( :‬من ق ال حين يص بح‪:‬‬
‫الش كر‪ .‬فق د‬ ‫الله ّم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك ال شريك لك‪ .‬فلك الحمد ول ك ّ‬
‫أ ّدى شكر يومه‪ ،‬ومن قال ذلك حين يمسي فقد أ ّدى شكر ليلته)(‪)4‬‬
‫وهكذا كان ‪ ‬يدعو إلى حمد هللا عند ك ل نعم ة‪ ،‬فيق ول‪( :‬أرب ع من كن في ه‬
‫كتبه هللا من اهل الجنة‪ :‬من كانت عصمته ش هادة ان ال ال ه اال هللا‪ ،‬ومن إذا انعم هللا‬
‫عليه النعمة قال‪( :‬الحمد هلل‪ ،‬ومن إذا أصاب ذنبا قال‪( :‬استغفر هللا‪ ،‬ومن إذا أصابته‬
‫مصيبة قال‪( :‬انا هلل وانا إليه راجعون) (‪)5‬‬
‫وقد أخبر الق رآن الك ريم عن حم د إب راهيم علي ه الس الم لرب ه عن دما رزق ه‬
‫يل َوإِ ْس َحا َ‬
‫ق‬ ‫َب لِي َعلَى ْال ِكبَ ِر إِ ْس َم ِ‬
‫اع َ‬ ‫إسماعيل عليه السالم‪ ،‬فقال‪ْ :‬‬
‫﴿ال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي َوه َ‬
‫إِ َّن َربِّي لَ َس ِمي ُع ال ُّدعَا ِء﴾ [إبراهيم‪]39 :‬‬
‫وأخبر عن داود وسليمان عليهم ا الس الم‪ ،‬ومس ارعتهما لحم د هللا ك ل حين‪،‬‬
‫ض لَنَا َعلَى َكثِ ٍ‬
‫ير ِم ْن‬ ‫فقال‪َ )﴿ :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َد َو ُسلَ ْي َمانَ ِع ْل ًما َوقَ ااَل ْال َح ْم ُد هلل الَّ ِذي فَ َّ‬
‫ِعبَا ِد ِه ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [النمل‪]15 :‬‬
‫وغيره ا من النص وص الكث يرة ال تي تحث على الحم د‪ ،‬وت بين مواض عه‪،‬‬
‫ومثله ا غيره ا من النص وص الممتلئ ة بتمجي د هللا من غ ير تحدي د أوق ات بعينه ا‪،‬‬
‫فالتمسها ـ أيها المريد الصادق ـ واجتهد في االلتزام بها‪ ،‬ففيه ا من الحق ائق م ا يمأل‬
‫قلبك باليقين واإليمان‪.‬‬
‫وإياك أن تكتفي بها‪ ،‬وترغب عما تركه أئمة الهدى من تمجيد وحمد هلل‪ ،‬فكما‬
‫أمرنا رسول هللا ‪ ‬أن نستن بس نته‪ ،‬أمرن ا أن نس تن بس نة أئم ة اله دى من بع ده‪،‬‬
‫فقال‪( :‬عليكم بسنتي وسنه الخلفاء المهديين الراشدين(‪ )6‬تمسكوا بها وعض وا عليه ا‬
‫بالنواجذ) (‪)7‬‬

‫‪ )(1‬مشكاة االنوار ص ‪.28‬‬


‫‪ )(2‬البخاري‪5459:‬‬
‫‪ )(3‬مسلم‪ ،2088 /4 ،‬برقم ‪.2723‬‬
‫‪ )(4‬أبو داود(‪ )5073‬والنسائي في اليوم والليلة(‪)7‬‬
‫‪ )(5‬تفسير العياشي ج ‪ 1‬ص ‪.69‬‬
‫‪ )( 6‬بالمفهوم النبوي الذي تدل عليه وعلى مصاديقه الكثير من األحاديث النبوية‪ ،‬ال بالمفهوم التاريخي‪..‬‬
‫‪ )(7‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن ماجة‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫ومن تل ك التمجي دات الش ريفة م ا روي عن اإلم ام الس جاد أن ه ك ان يق ول‪:‬‬
‫(الحمد هلل األول بال أول كان قبله‪ ،‬واآلخر بال آخ ر يك ون بع ده ال ذي قص رت عن‬
‫رؤيته أبصار الناظرين‪ ،‬وعجزت عن نعته أوهام الواص فين‪ .‬ابت دع بقدرت ه الخل ق‬
‫ابت داعا‪ ،‬واخ ترعهم على مش يته اختراع ا‪ .‬ثم س لك بهم طري ق إرادت ه‪ ،‬وبعثهم في‬
‫سبيل محبته‪ ،‬ال يملكون تأخيرا عما قدمهم إليه‪ ،‬وال يستطيعون تقدما إلى ما أخ رهم‬
‫عن ه‪ .‬وجع ل لك ل روح منهم قوت ا معلوم ا مقس وما من رزق ه‪ ،‬ال ينقص من زاده‬
‫ناقصٌ ‪ ،‬وال يزيد من نقص منهم زائ ٌد‪ .‬ثم ضرب له في الحياة أجال موقوتا‪ ،‬ونص ب‬
‫له أمدا محدودا‪ ،‬يتخطى إليه بأيام عمره‪ ،‬ويرهقه بأعوام دهره‪ ،‬حتى إذا بلغ أقص ى‬
‫أثره‪ ،‬واستوعب حساب عمره‪ ،‬قبضه إلى ما ندبه إليه من موفور ثوابه‪ ،‬أو مح ذور‬
‫عقابه‪ ،‬ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحس نى‪ .‬ع دال من ه‪،‬‬
‫تقدست أسماؤه‪ ،‬وتظاهرت آالؤه‪ ،‬ال يسأل عما يفعل وهم يسألون)‬
‫ويقول‪( :‬الحمد هلل الذي لو حبس عن عباده معرف ة حم ده على م ا أبالهم من‬
‫مننه المتتابعة‪ ،‬وأسبغ عليهم من نعمه المتظ اهرة‪ ،‬لتص رفوا في منن ه فلم يحم دوه‪،‬‬
‫وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه‪ .‬ولو ك انوا ك ذلك لخرج وا من ح دود اإلنس انية إلى‬
‫حد البهيمية فك انوا كم ا وص ف في محكم كتاب ه‪﴿ :‬إِ ْن هُ ْم إِاَّل َكاأْل َ ْن َع ِام بَ لْ هُ ْم أَ َ‬
‫ض لُّ‬
‫َسبِياًل ﴾ [الفرقان‪)]44 :‬‬
‫ويقول‪( :‬الحمد هلل على ما عرفنا من نفسه‪ ،‬وألهمن ا من ش كره‪ ،‬وفتح لن ا من‬
‫أبواب العلم بربوبيته‪ ،‬ودلنا عليه من اإلخالص ل ه في توحي ده‪ ،‬وجنبن ا من اإللح اد‬
‫والشك في أمره‪ .‬حمدا نعمر به فيمن حمده من خلقه‪ ،‬ونسبق به من سبق إلى رضاه‬
‫وعف وه‪ .‬حم دا يض يء لن ا ب ه ظلم ات ال برزخ‪ ،‬ويس هل علين ا ب ه س بيل المبعث‪،‬‬
‫ويشرف به منازلنا عند مواق ف األش هاد‪ ،‬ي وم تج زى ك ل نفس بم ا كس بت وهم ال‬
‫يظلمون‪ ،‬يوم ال يغني مولى عن مولى شيئا وال هم ينصرون‪ .‬حم دا يرتف ع من ا إلى‬
‫أعلى عل يين في كت اب مرق وم يش هده المقرب ون‪ .‬حم دا تق ر ب ه عيونن ا إذا ب رقت‬
‫األبصار‪ ،‬وتبيض به وجوهنا إذا اسودت األبشار‪ .‬حمدا نعتق به من أليم نار هللا إلى‬
‫كريم جوار هللا‪ .‬حمدا نزاحم به مالئكته المقربين‪ ،‬ونض ام ب ه أنبي اءه المرس لين في‬
‫دار المقامة التي ال تزول‪ ،‬ومحل كرامته التي ال تحول‪ .‬والحمد هلل ال ذي اخت ار لن ا‬
‫محاسن الخلق‪ ،‬وأجرى علينا طيبات الرزق‪ .‬وجعل لنا الفضيلة بالملك ة على جمي ع‬
‫الخلق‪ ،‬فكل خليقته منقادةٌ لنا بقدرته‪ ،‬وصائرةٌ إلى طاعتنا بعزته)‬
‫ويقول‪( :‬الحمد هلل الذي أغلق عنا باب الحاجة إال إليه‪ ،‬فكيف نطي ق حم ده أم‬
‫م تى ن ؤدي ش كره‪ ..‬والحم د هلل ال ذي ركب فين ا آالت البس ط‪ ،‬وجع ل لن ا أدوات‬
‫القبض‪ ،‬ومتعنا بأرواح الحياة‪ ،‬وأثبت فينا جوارح األعمال‪ ،‬وغذانا بطيبات الرزق‪،‬‬
‫وأغنانا بفضله‪ ،‬وأقنانا بمنه‪ .‬ثم أمرنا ليختبر طاعتنا‪ ،‬ونهان ا ليبتلي ش كرنا‪ ،‬فخالفن ا‬
‫عن طريق أمره‪ ،‬وركبنا متون زجره‪ ،‬فلم يبتدرنا بعقوبته‪ ،‬ولم يعاجلن ا بنقمت ه‪ ،‬ب ل‬

‫‪78‬‬
‫تأنانا برحمته تكرم ا‪ ،‬وانتظ ر مراجعتن ا برأفت ه حلم ا‪ ..‬والحم د هلل ال ذي دلن ا على‬
‫التوبة التي لم نفدها إال من فض له‪ ،‬فل و لم نعت دد من فض له إال به ا لق د حس ن بالؤه‬
‫عندنا‪ ،‬وجل إحسانه إلينا وجسم فضله علينا فما هكذا كانت سنته في التوبة لمن كان‬
‫قبلنا‪ ،‬لقد وضع عنا ما ال طاقة لنا ب ه‪ ،‬ولم يكلفن ا إال وس عا‪ ،‬ولم يجش منا إال يس را‪،‬‬
‫ولم يدع ألحد منا حجة وال عذرا‪ .‬فالهالك منا من هلك عليه‪ ،‬والسعيد من ا من رغب‬
‫إليه)‬
‫ويقول‪( :‬الحمد هلل بك ل م ا حم ده ب ه أدنى مالئكت ه إلي ه وأك رم خليقت ه علي ه‬
‫وأرضى حامديه لديه حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربنا على جمي ع خلق ه‪ .‬ثم ل ه‬
‫الحمد مكان كل نعمة له علينا وعلى جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط ب ه‬
‫علمه من جميع األشياء‪ ،‬ومكان كل واحدة منها عددها أضعافا مضاعفة أبدا س رمدا‬
‫إلى ي وم القيام ة‪ .‬حم دا ال منتهى لح ده‪ ،‬وال حس اب لع دده‪ ،‬وال مبل غ لغايت ه‪ ،‬وال‬
‫انقطاع ألمده حمدا يكون وصلة إلى طاعته وعف وه‪ ،‬وس ببا إلى رض وانه‪ ،‬وذريع ة‬
‫إلى مغفرته‪ ،‬وطريقا إلى جنته‪ ،‬وخفيرا من نقمته‪ ،‬وأمنا من غض به‪ ،‬وظه يرا على‬
‫طاعته‪ ،‬وحاجزا عن معصيته‪ ،‬وعونا على تأدية حقه ووظائفه‪ .‬حم دا نس عد ب ه في‬
‫ي حمي ٌد)(‪)1‬‬
‫السعداء من أوليائه‪ ،‬ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه‪ ،‬إنه ول ٌ‬
‫ومن تمجيدات اإلم ام الص ادق هلل قول ه‪( :‬الحم د هلل ال ذي نعمت ه تغ دو علين ا‬
‫وتروح‪ ،‬ونظل نهارا ونبيت فيها ليال فنص بح فيه ا برحمت ه مس لمين‪ ،‬ونمس ي فيه ا‬
‫بمن ه مؤم نين من البل وى مع افين الحم د هلل المنعم المفض ل المحس ن المجم ل ذي‬
‫الجالل واالك رام ذي الفواض ل والنعم‪ ،‬الحم د هلل ال ذي لم يخ ذلنا عن د ش دة‪ ،‬ولم‬
‫يفضحنا عن د س ريرة‪ ،‬ولم يس لمنا بجري رة‪ ..‬الحم د هلل على علم ه‪ ،‬والحم د هلل على‬
‫فضله علينا وعلى جميع خلقه‪ ،‬وكان به كرم الفضل في ذلك ما هللا به عليم) (‪)2‬‬
‫وم وليل ة ثالث‬ ‫ومنه ا م ا روي عن ه أن ه ق ال‪ّ :‬‬
‫(إن هللا يم ّج د نفس ه في ك ّل ي ٍ‬
‫مرّات‪ ،‬ف َمن مجّد هللا بما مجّد به نفسه ثم كان في حال شقوة ُح ِّول إلى س عادة‪ ،‬فقلت‬
‫له‪( :‬كيف هو التمجيد ؟)‪ ..‬قال (ع)‪( :‬تقول‪( :‬أنت هللا ال إل ه إالّ أنت ربّ الع المين‪..‬‬
‫أنت هللا ال إله إالّ أنت ال رحمن ال رحيم‪ ..‬أنت هللا ال إل ه إالّ أنت العل ّي الكب ير‪ ..‬أنت‬
‫هللا ال إله إالّ أنت منك بدأ ك ّل شي ٍء وإليك يعود‪ ..‬أنت هللا ال إل ه إالّ أنت لم ت زل وال‬
‫تزال‪ ..‬أنت هللا ال إله إالّ أنت خالق الخير والشرّ‪ ..‬أنت هللا ال إله إالّ أنت خالق الجنّة‬
‫والنار‪ ..‬أنت هللا ال إله إال أنت األحد الصمد لم يل د ولم يول د ولم يكن ل ه كف وا أح د‪.‬‬
‫أنت هللا ال إله إالّ أنت الملك القدوس السالم المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبر‪،‬‬
‫سبحان هللا ع ّما يشركون‪ ..‬أنت هللا الخالق البارئ المص وّر‪ ،‬ل ك األس ماء الحس نى‪،‬‬
‫الس موات واألرض‪ ،‬وأنت العزي ز الحكيم‪ ..‬أنت هللا ال إل ه إالّ أنت‬ ‫يُسبّح لك م ا في ّ‬
‫الكبير‪ ،‬والكبرياء رداؤك) (‪)3‬‬

‫‪ )(1‬الصحيفة السجادية‪.‬‬
‫‪ )(2‬قرب االسناد ص ‪.6‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،83/371 :‬عن‪ :‬ثواب األعمال ص‪.14‬‬
‫‪79‬‬
‫وغيره ا من األدعي ة والمناجي ات واألذك ار ال تي تقتبس من ه دي الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬ونور النبوة‪ ،‬فالتزمها‪ ،‬وتدبر فيها؛ فلعل هللا تعالى أن ينقله ا من لس انك إلى‬
‫عقلك‪ ،‬ومن عقلك إلى قلبك‪ ،‬ومن قلبك إلى روحك‪ ،‬ومن روحك إلى س رك‪ ..‬ولع ل‬
‫هللا أن ينقلك بها من درك الجاحدين لنعمه إلى درج ات الش اكرين له ا؛ فال يمكن أن‬
‫ين ال أح د تل ك الم راتب الرفيع ة من دون أن يس تعمل ك ل الوس ائل المؤدي ة له ا‪،‬‬
‫﴿ َوالَّ ِذينَ َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هللا لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت‪]69 :‬‬
‫وإن عجزت عن كل ذلك‪ ،‬أو لم تسمح ل ك أش غالك وأوقات ك ب ه؛ فيمكن ك أن‬
‫تردد بلسانك تل ك الكلم ة المختص رة ال تي لن تكلف ك أي عنت‪ ،‬وهي قول ك [الحم د‬
‫هلل]‪ ،‬فأدمن عليها‪ ،‬ولو من دون تحريك شفتيك‪ ،‬واستشعر وأنت ترددها ك ل مع اني‬
‫الفرح والسرور باهلل وبفضله العظيم الذي وصلك‪ ،‬والذي ينتظرك‪.‬‬
‫واعلم ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن ك لن تظف ر بالمزي د ح تى ت ؤدي ح ق م ا‬
‫﴿وإِ ْذ تَ أ َ َّذنَ َربُّ ُك ْم لَئِ ْن َش كَرْ تُ ْم‬
‫أعطيت ه من النعم؛ فق د رتب هللا المزي د عليه ا‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫أَل َ ِزي َدنَّ ُك ْم﴾ [إبراهيم‪]7 :‬‬
‫وإياك أن تغتر بالمزيد الذي يُزود به الجاحدون؛ فهو ليس مزيدا مبارك ا‪ ،‬ب ل‬
‫هو مزيد مسموم‪ ،‬ولم يقصد منه النعمة‪ ،‬وإنما قصد به االبتالء واالختبار‪ ،‬كما ق ال‬
‫تعالى‪﴿ :‬فَاَل تُ ْع ِج ْبكَ أَ ْم َوالُهُ ْم َواَل أَوْ اَل ُدهُ ْم إِن َم ا ي ُِري ُد هللا لِيُ َع ِّذبَهُ ْم بِهَ ا فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا‬
‫ق أَ ْنفُ ُسهُ ْم َوهُ ْم َكافِرُونَ ﴾ [التوبة‪]55 :‬‬ ‫َوت َْزهَ َ‬
‫فاحذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون من أه ل االختب ار‪ ،‬ال من أه ل النعيم‬
‫الحقيقي؛ والعالم ة ال تي تجعل ك منهم حم دك ال دائم هلل‪ ،‬وفرح ك بفض له‪ ،‬وع دم‬
‫استخدام نعمه في معصيته‪ ..‬فما أشد حسرة من يستعمل نعم هللا في غضب هللا‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫إحصاء األسماء‬
‫كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عم ا ورد في الق رآن الك ريم من‬
‫الدعوة إلى التعرف على أسماء هللا الحسنى‪ ،‬ودعاء هللا تعالى بها‪ ،‬وما ارتب ط ب ذلك‬
‫من إخبار رسول هللا ‪ ‬بفضل إحصائها‪ ،‬وعالقة ذلك بالتزكية والترقية‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن أسماء هللا الحسنى هي المعارف التي‬
‫أذن هللا تعالى فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتع رف به ا على كم االت األلوهي ة‪،‬‬
‫من غير تحديد أو تقييد لها‪ ،‬ذلك أن أسماء هللا تعالى ال نهاية لها‪ ،‬وما كشف لنا منها‬
‫ليس سوى قطرة من بحر كمال هللا الذي ال حدود له‪.‬‬
‫ولكنها ـ مع ذلك ـ هي المنافذ الوحيدة ال تي ت تيح لن ا التع رف على هللا تع الى‬
‫وعظمته‪ ،‬حتى نتجنب كل تلك الضالالت التي وقعت بسبب اإللح اد في أس ماء هللا‪،‬‬
‫وتحريفها‪ ،‬وتغييرها‪ ،‬ليتحول هللا تع الى بموجبه ا إلى إل ه غ ير اإلل ه الحقيقي ال ذي‬
‫دعت إليه الرسل‪ ،‬وعرفت به كلماته المقدسة‪ ،‬ودل عليه الكون جميعا‪.‬‬
‫ولذلك أخبر رسول هللا ‪ ‬عن وجود تسعة وتس عين اس ما حقيقي ا من أس ماء‬
‫هللا الحسنى‪ ،‬من عرفها وفهمها وتواصل معها وتخلق بأخالقها ن ال الف وز والفالح‪،‬‬
‫فقال‪( :‬إن هلل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة) (‪)1‬‬
‫وبما أنك سألتني ـ أيها المريد الصادق ـ عن حقيقة اإلحص اء‪ ،‬وس ر م ا ورد‬
‫فيه من األجر‪ ،‬وعالقته بالتزكية والترقي ة؛ ف إني س أذكر ل ك أربع ة م راتب ل ه‪ ،‬ال‬
‫يتحقق اإلحصاء من دونها‪.‬‬
‫وهي تب دأ ب البحث عن أس ماء هللا الحس نى‪ ،‬ثم فهمه ا‪ ،‬ثم الت أثر واالنفع ال‬
‫الوج داني له ا‪ ،‬ثم الس لوك بحس ب مقتض ياتها‪ ..‬وهي ب ذلك تجع ل من أس ماء هللا‬
‫الحسنى مدرسة من أعظم المدارس الروحية والتربوية‪.‬‬
‫إحصاء البحث‪:‬‬
‫أما اإلحصاء األول ـ أيها المريد الصادق ـ فيب دأ من البحث عنه ا‪ ،‬والتحقي ق‬
‫فيها‪ ،‬حتى ال نس مي هللا تع الى بم ا لم يس م ب ه نفس ه‪ ،‬كم ا حص ل ألولئ ك الغ افلين‬
‫الجهلة الذين س موا هللا مخادع ا ومس تهزئا وم اكرا‪ ،‬لمج رد نس بة ه ذه الكلم ات هلل‬
‫تعالى‪ ،‬من غير معرفة منهم للمقتضيات اللغوية الداعية لذلك‪.‬‬
‫وهكذا ال يصح تسميه هللا تعالى بما نعتق ده كم اال فين ا‪ ،‬ألن كمالن ا ق د يك ون‬
‫نقصا هلل تعالى‪ ،‬ولهذا ال يُطلق على هللا تعالى اسم [العفيف] مع ك ون داللت ه حس نة‬
‫بالنسبة لنا‪ ،‬ذلك أن فيه من شوائب النقص ما ال يليق باهلل‪ ..‬فالعفيف ال يك ون ك ذلك‬
‫إال كان يملك غريزة وشهوة‪ ،‬ثم يحاربه ا وينتص ر عليه ا‪ ..‬ومع اذ هللا أن ينس ب هلل‬
‫تعالى كل ذلك النقص‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي وابن ماجة‪.‬‬


‫‪81‬‬
‫وهكذا ال يطلق عليه اسم [الشجاع] مع كون داللته حس نة بالنس بة لن ا‪ ،‬ذل ك‬
‫أن الش جاعة تقتض ي إق دام األجس ام على المخ اطر والمهال ك من دون خ وف‪،‬‬
‫ويستحيل على هللا تعالى الجسمية ومقتضياتها‪.‬‬
‫ولهذا كان من األدب مع هللا أال نسميه إال بما سمى نفسه به‪ ،‬أو سماه رس وله‬
‫وورثة الهداية الذين اكتفوا بنبع النبوة‪ ،‬ولم يخلطوا مع ه غ يره‪ ،‬ول ذلك ف إن ك ل م ا‬
‫عندهم قبس من مشكاة النبوة‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن أول اإلحصاء ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تطه ر دين ك من تل ك‬
‫األسماء المبتدعة والصفات التي ال تليق بربك‪ ،‬والتي حص رته في الح دود والقي ود‬
‫واألمكنة واألزمنة‪ ،‬وجعلته جرما كاألجرام‪.‬‬
‫وقد قال اإلمام الكاظم محذرا من تلك األسماء المبتدع ة‪ّ :‬‬
‫(إن هللا أعلى وأج ّل‬
‫وأعظم من أن يبلغ كنه صفته‪ ،‬فصفوه بما وصف به نفسه‪ ،‬وكفّوا ع ّما س وى ذل ك)‬
‫(‪)1‬‬
‫إن الخ الق ال يوص ف إالّ بم ا وص ف ب ه نفس ه‪ ،‬وأنّى‬ ‫وقال اإلمام الرض ا‪ّ ( :‬‬
‫يوصف الذي تعجز الحواس أن تدرك ه‪ ،‬واألوه ام أن تنال ه‪ ،‬والخط رات أن تح ّده‪،‬‬
‫واألبص ار عن اإلحاط ة ب ه‪ ،‬ج ّل ع ّم ا وص فه الواص فون‪ ،‬وتع الى ع ّم ا ينعت ه‬
‫الناعتون) (‪)2‬‬
‫إذا عرفت ـ أيها المريد الصادق ـ ه ذا؛ فاب دأ في إحص ائك ألس ماء رب ك من‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬فهو كتاب المعرفة األعظم‪ ،‬فقد ذكر هللا تع الى في ه أس ماءه الحس نى‬
‫ُس نَى فَ ا ْدعُوهُ بِهَ ا َو َذرُوا الَّ ِذينَ‬ ‫﴿وهلل اأْل َ ْس َما ُء ْالح ْ‬‫ودعا إلى دعائه به ا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ي ُْل ِح ُدونَ فِي أَ ْس َمائِ ِه َسيُجْ َزوْ نَ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [األعراف‪]180 :‬‬
‫وذكر بعض تلك األسماء‪ ،‬ودعا إلى ذكره بها‪ ،‬فقال‪﴿ :‬قُ ِل ا ْدعُوا هللا أَ ِو ا ْد ُع وا‬
‫الرَّحْ َمنَ أَيًّا َما تَ ْدعُوا فَلَهُ اأْل َ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى﴾ [اإلسراء‪]110 :‬‬
‫الس اَل ُم‬ ‫ك ْالقُ ُّدوسُ َّ‬ ‫وذكر أسماء أخرى‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ه َُو هللا الَّ ِذي اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو ْال َملِ ُ‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُ ْال ُمهَ ْي ِمنُ ْال َع ِزي ُز ْال َجبَّا ُر ْال ُمتَ َكبِّ ُر ُس ب َْحانَ هللا َع َّما ي ُْش ِر ُكونَ (‪ )23‬هُ َو هللا‬
‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫اوا ِ‬ ‫ُس نَى ي َُس بِّ ُح لَ هُ َم ا فِي َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫ص ِّو ُر لَ هُ اأْل َ ْس َما ُء ْالح ْ‬
‫ئ ْال ُم َ‬ ‫ق ْالبَ ِ‬
‫ار ُ‬ ‫ْالخَالِ ُ‬
‫َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [الحشر‪]24 ،23 :‬‬
‫وهكذا؛ فإنك ـ أيها المريد الصادق ـ تجد الق رآن الك ريم‪ ،‬وفي فواص ل أك ثر‬
‫آياته‪ ،‬أسماء كثيرة هلل تعالى(‪ ،)3‬وهي أمهات أسماء هللا الحسنى‪ ،‬وعليها يعرض كل‬

‫‪ )(1‬الكافي‪ ،‬ح ‪ ،6‬ص ‪.102‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.290‬‬
‫‪ )(3‬ذكر بعض الباحثين أنه ورد في القرآن الكريم مائة وثمانية وعش رون اس ما ً هلل تع الى وهي‪ :‬اإلل ه‪ ،‬األح د‪،‬‬
‫األوّ ل‪ ،‬اآلخر‪ ،‬األعلى‪ ،‬األكرم‪ ،‬األعلم‪ ،‬أرحم الراحمين‪ ،‬أحكم الحاكمين‪ ،‬أحسن الخالقين‪ ،‬أهل التقوى‪ ،‬أهل المغفرة‪،‬‬
‫الحي‪ ،‬الح ّ‬
‫ق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األقرب‪ ،‬األبقى‪ ،‬الب ارئ‪ ،‬الب اطن‪ ،‬الب ديع‪ ،‬ال برّ ‪ ،‬البص ير‪ ،‬الت وّ اب‪ ،‬الجبّ ار‪ ،‬الج امع‪ ،‬الحكيم‪ ،‬الحليم‪،‬‬
‫الح ِف ّي‪ ،‬الخبير‪ ،‬الخالق‪ ،‬الخاّل ق‪ ،‬الخير‪ ،‬خير الماكرين‪ ،‬خ ير ال رازقين‪ ،‬خ ير الفاص لين‪،‬‬ ‫الحميد‪ ،‬الحسيب‪ ،‬الحفيظ‪َ ،‬‬
‫خير الحاكمين‪ ،‬خير الفاتحين‪ ،‬خير الغافرين‪ ،‬خير الوارثين‪ ،‬خير الراحمين‪ ،‬خير المنزلين‪ ،‬ذو العرش‪ ،‬ذو الطّ وْ ل‪،‬‬
‫ذو االنتقام‪ ،‬ذو الفضل العظيم‪ ،‬ذو الرحمة‪ ،‬ذو القوّ ة‪ ،‬ذو الجالل واإلكرام‪ ،‬ذو المعارج‪ ،‬الرّ حمن‪ ،‬الرحيم‪ ،‬ال رؤوف‪،‬‬
‫‪82‬‬
‫ما ورد من األسماء التي وردت بها الروايات‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد في السنة المطهرة من األح اديث ال تي تع رف بأس ماء هللا‬
‫الحسنى‪ ،‬ومنها ما ورد تعقيبا على ح ديث اإلحص اء‪ ،‬فمم ا ورد في بعض روايات ه‬
‫من أسماء هللا الحسنى‪ ،‬كما حدث بذلك اإلمام الصادق عن آبائه إلى رس ول هللا ‪:‬‬
‫(إن هلل تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما‪ ،‬مائة إاّل واحداً‪ ،‬من أحصاها دخ ل الجنّ ة‬ ‫ّ‬
‫وهي‪( :‬هللا‪ ،‬اإلله‪ ،‬الواحد‪ ،‬األحد‪ ،‬الصمد‪ ،‬األوّل‪ ،‬اآلخر‪ ،‬السميع‪ ،‬البص ير‪ ،‬الق دير‪،‬‬
‫القاهر‪ ،‬العلي‪ ،‬األعلى‪ ،‬الب اقي‪ ،‬الب ديع‪ ،‬الب ارئ‪ ،‬األك رم‪ ،‬الظ اهر‪ ،‬الب اطن‪ ،‬الح ّي‪،‬‬
‫ق‪ ،‬الحس يب‪ ،‬الحمي د‪ ،‬الحفي‪ ،‬ال ربّ ‪ ،‬ال رحمن‪،‬‬ ‫الحكيم‪ ،‬العليم‪ ،‬الحليم‪ ،‬الحفيظ‪ ،‬الح ّ‬
‫الرحيم‪ ،‬الذارئ‪ ،‬الر ّزاق‪ ،‬ال رقيب‪ ،‬ال رؤوف‪ ،‬ال رائي‪ ،‬الس الم‪ ،‬الم ؤمن‪ ،‬المهيمن‪،‬‬
‫العزي ز‪ ،‬الجبّ ار‪ ،‬المتكبّ ر‪ ،‬الس يّد‪ ،‬الس بّوح‪ ،‬الش هيد‪ ،‬الص ادق‪ ،‬الص انع‪ ،‬الط اهر‪،‬‬
‫العدل‪ ،‬ال َعفُ ّو‪ ،‬الغفور‪ ،‬الغني‪ ،‬الغياث‪ ،‬الفاطر‪ ،‬الفرد‪ ،‬الفتّاح‪ ،‬الفالق‪ ،‬الق ديم‪ ،‬الملِ ك‪،‬‬
‫الق ّدوس‪ ،‬الق وي‪ ،‬الق ريب‪ ،‬القيّ وم‪ ،‬الق ابض‪ ،‬الباس ط‪ ،‬قاض ي الحاج ات‪ ،‬المجي د‪،‬‬
‫المولى‪ ،‬المنّان‪ ،‬المحيط‪ ،‬ال ُمبين‪ ،‬ال ُمقيت‪ ،‬المصوّر‪ ،‬الكريم‪ ،‬الكبير‪ ،‬الكافي‪ ،‬كاش ف‬
‫الو ْتر‪ ،‬النور‪ ،‬الوهّاب‪ ،‬الناصر‪ ،‬الواسع‪ ،‬ال ودود‪ ،‬اله ادي‪ ،‬ال وفي‪ ،‬الوكي ل‪،‬‬ ‫الضرّ‪ِ ،‬‬
‫الوارث‪ ،‬البرّ‪ ،‬الباعث‪ ،‬التوّاب‪ ،‬الجليل‪ ،‬الخبير‪ ،‬الخ الق‪ ،‬خ ير الناص رين‪ ،‬ال ديّان‪،‬‬
‫الشكور‪ ،‬العظيم‪ ،‬اللطيف‪ ،‬الشافي) (‪)1‬‬
‫ومنها ما روي عن طريق غيره‪ ،‬وهي (هو هللا الّ ذي ال إل ه إاّل ه و ال رّحمن‬
‫ال رحيم‪ ،‬المل ك‪ ،‬الق ّدوس‪ ،‬الس الم‪ ،‬الم ؤمن‪ ،‬المهيمن‪ ،‬العزي ز‪ ،‬الجبّ ار‪ ،‬المتكبّ ر‪،‬‬
‫الخ الق‪ ،‬الب ارئ‪ ،‬المص ّور‪ ،‬الغفّ ار‪ ،‬القهّ ار‪ ،‬الوهّ اب‪ ،‬ال رزاق‪ ،‬الفت اح‪ ،‬العليم‪،‬‬
‫القابض‪ ،‬الباسط‪ ،‬الخافض‪ ،‬الرافع‪ ،‬ال ُم ِع ّز‪ ،‬ال ُم ِذ ّل‪ ،‬السميع‪ ،‬البصير‪ ،‬الحكم‪ ،‬ال َع ْدل‪،‬‬
‫اللطيف‪ ،‬الخبير‪ ،‬الحليم‪ ،‬العظيم‪ ،‬الغفور‪ ،‬الشكور‪ ،‬العلي‪ ،‬الكبير‪ ،‬الحفي ظ‪ ،‬ال ُمقيت‪،‬‬
‫الحس يب‪ ،‬الجلي ل‪ ،‬الك ريم‪ ،‬ال رقيب‪ ،‬ال ُمجيب‪ ،‬الواس ع‪ ،‬الحكيم‪ ،‬ال ودود‪ ،‬المجي د‪،‬‬
‫ق‪ ،‬الوكيل‪ ،‬القوي‪ ،‬المتين‪ ،‬الولي‪ ،‬الحميد‪ ،‬المحصي‪ ،‬المب دئ‪،‬‬ ‫الباعث‪ ،‬الشهيد‪ ،‬الح ّ‬
‫المعيد‪ ،‬المحيي‪ ،‬المميت‪ ،‬الح ّي‪ ،‬القيّوم‪ ،‬الواج د‪ ،‬الماج د‪ ،‬الواح د‪ ،‬األح د‪ ،‬الص مد‪،‬‬
‫القادر‪ ،‬المقتدر‪ ،‬المقدِّم‪ ،‬الم ؤ ِّخر‪ ،‬األوّل‪ ،‬اآلخ ر‪ ،‬الظ اهر‪ ،‬الب اطن‪ ،‬البَ رّ‪ ،‬الت وّاب‪،‬‬
‫المنتقم‪ ،‬العف وّ‪ ،‬ال رؤوف‪ ،‬مال ك المل ك‪ ،‬ذو الجالل واإلك رام‪ ،‬ال والي‪ ،‬المتع ال‪،‬‬
‫الض ارّ‪ ،‬النّ افع‪ ،‬النّ ور‪ ،‬اله ادي‪ ،‬الب ديع‪،‬‬
‫ال ُمقسط‪ ،‬الجامع‪ ،‬الغني‪ ،‬المغني‪ ،‬الم انع‪ّ ،‬‬

‫الرز اق‪ ،‬الرقيب‪ ،‬السميع‪ ،‬السالم‪ ،‬سريع الحساب‪ ،‬سريع العقاب‪ ،‬الشهيد‪ ،‬الش اكر‪ ،‬الش كور‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الربّ ‪ ،‬رفيع الدرجات‪،‬‬
‫العلي‪ ،‬العظيم‪ ،‬عاّل م الغي وب‪ ،‬ع الم الغيب‬
‫ّ‬ ‫ش ديد العق اب‪ ،‬ش ديد ال ِمح ال‪ ،‬الص مد الظ اهر‪ ،‬العليم‪ ،‬العزي ز‪ ،‬ال َعف وّ ‪،‬‬
‫والشهادة‪ ،‬الغني‪ ،‬الغفور‪ ،‬الغالب‪ ،‬غافر الذنب‪ ،‬الغفّار‪ ،‬فالق األصباح‪ ،‬فالق الحبّ والنوى‪ ،‬الف اطر‪ ،‬الفتّ اح‪ ،‬الق وي‪،‬‬
‫الق ّدوس‪ ،‬القيّوم‪ ،‬القاهر‪ ،‬القهّار‪ ،‬القريب‪ ،‬القادر‪ ،‬القدير‪ ،‬قابل التوب‪ ،‬القائم على كلّ نفس بما كسبت‪ ،‬الكبير‪ ،‬الك ريم‪،‬‬
‫الكافي‪ ،‬اللطيف‪ ،‬ال َم ِلك‪ ،‬المؤمن‪ ،‬المهيمن‪ ،‬المتكبّر‪ ،‬المص وّ ر‪ ،‬المجي د‪ ،‬المجيب‪ ،‬الم بين‪ ،‬ال َم وْ لى‪ ،‬المحي ط‪ ،‬المقيت‪،‬‬
‫المتعال‪ ،‬المحيي‪ ،‬المتين‪ ،‬المقتدر‪ ،‬المستعان‪ ،‬المبدئ‪ ،‬المعيد‪ ،‬مالك الملك‪ ،‬النّصير‪ ،‬النور‪ ،‬الوهّاب‪ ،‬الواح د‪ ،‬ال ولي‪،‬‬
‫الوالي‪ ،‬الواسع‪ ،‬الوكيل‪ ،‬الودود‪ ،‬الهادي‪.‬‬

‫‪ )(1‬التوحيد للصدوق‪ ،‬ص ‪ ،۱۹٤‬ح ‪.۸‬‬


‫‪83‬‬
‫الصبور) (‪)1‬‬
‫الباقي‪ ،‬الوارث‪ ،‬الرشيد‪،‬‬
‫وهكذا يمكن أن تج د في الس نة المطه رة الموافق ة للق رآن الك ريم الكث ير من‬
‫األح اديث ال تي ت ذكر أس ماء هللا الحس نى‪ ،‬وال تي ت بين أنه ا أعظم من أن تقي د في‬
‫األعداد والحدود‪ ،‬كما قال ‪( :‬ما قال عب د ق ط‪ ،‬إذا أص ابه هم أو ح زن‪ :‬اللهم إني‬
‫عبدك ابن عبدك ابن أمتك‪ ،‬ناص يتي بي دك‪ ،‬م اض في حكم ك‪ ،‬ع دل في قض اؤك‪،‬‬
‫أسألك بكل اسم هو لك‪ ،‬سميت ب ه نفس ك‪ ،‬أو أنزلت ه في كتاب ك‪ ،‬أو علمت ه أح دا من‬
‫خلقك‪ ،‬أو استأثرت ب ه في علم الغيب عن دك‪ ،‬أن تجع ل الق رآن ربي ع قل بي‪ ،‬ون ور‬
‫بصري‪ ،‬وجالء حزني‪ ،‬وذهاب همي‪ ،‬إال أذهب هللا همه وأبدله مكان حزن ه فرح ا)‬
‫(‪)2‬‬
‫وحتى تعرف قيمة هذا النوع من اإلحصاء ـ أيها المريد الصادق ـ أذك ر ل ك‬
‫أن المريض الذي ال يعرف أن فالنا من الن اس ط بيب‪ ،‬ول ه الق درة على عالج ك ل‬
‫األم راض‪ ،‬لن يس تفيد من ه‪ ،‬ول و ص احبه عش رات الس نين‪ ،‬ذل ك أن ه يجه ل كون ه‬
‫مختصا بالطب‪ ،‬فهو يسميه باس مه‪ ،‬وربم ا يث ني علي ه بأس ماء أخ رى‪ ،‬لكن لجهل ه‬
‫باسمه الطبيب‪ ،‬ضاعت منه فرصة العالج على يديه‪.‬‬
‫ف اعبر من ه ذا المث ال إلى معرفت ك برب ك؛ ف أكثر الق انطين واليائس ين‬
‫والمحبطين ال يعرفون أسماء هللا الحسنى‪ ،‬ولو أنهم اجته دوا في البحث عنه ا‪ ،‬كم ا‬
‫يجته دون في البحث عن العق اقير ال تي تخلص هم من ك آبتهم وإحب اطهم‪ ،‬لحقق وا‬
‫أغراضهم‪ ،‬وبأقصر الطرق‪.‬‬
‫إحصاء الفهم‪:‬‬
‫إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن اإلحصاء الثاني هو التأمل في‬
‫تلك األسماء التي أحصيتها وجمعتها‪ ،‬لتبحث في حقائقها‪ ،‬والمعاني الدالة عليها‪.‬‬
‫واعلم أن كل معنى سليم موافق للغ ة العربي ة‪ ،‬يمكن ه أن يك ون ش رحا ل ذلك‬
‫االسم‪ ،‬حتى لو كثرت معاني االسم الواح د؛ بش رط واح دة‪ ،‬وه و أن تك ون مع اني‬
‫حسنة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ذكر الحكماء في اسم هللا العزي ز‪ ،‬فق د ق ال بعض هم‬
‫عنه‪( :‬هو الخطير الذي يقل وج ود مثل ه‪ ،‬وتش تد الحاج ة إلي ه‪ ،‬ويص عب الوص ول‬
‫إليه‪ ..‬فما لم يجتمع عليه هذه المع اني الثالث ة لم يطل ق علي ه اس م العزي ز‪ ..‬فكم من‬
‫شيء يقل وجوده‪ ،‬ولكن إذا لم يعظم خطره‪ ،‬ولم يكثر نفعه لم يس م عزي زا‪ ،‬وكم من‬
‫شئ يعظم خطره‪ ،‬ويكثر نفعه‪ ،‬وال يوجد نظيره ولكن إذا لم يص عب الوص ول إلي ه‬
‫لم يسم عزيزا‪ ،‬كالشمس مثال فإنه ال نظير لها‪ ،‬واألرض كذلك والنفع عظيم في كل‬
‫واح د منهم ا‪ ،‬والحاج ة ش ديدة إليهم ا‪ ،‬ولكن ال يوص فان ب العزة ألن ه ال يص عب‬

‫‪ )( 1‬رواه الترمذي‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬والحاكم‪ ،‬والبيهقي‪ ،‬انظر‪ :‬الدرّ المنثور‪.٦۱٤ / ۳ :‬‬

‫‪ )(2‬رواه ابن حبان‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫الوص ول إلى مش اهدتهما‪ ..‬ثم في ك ل واح د من المع اني الثالث ة كم ال ونقص ان‪..‬‬
‫فالكم ال في قل ة الوج ود أن يرج ع إلى واح د إذ ال أق ل من الواح د‪ ،‬ويك ون بحيث‬
‫يستحيل وجود مثله) (‪)1‬‬
‫ثم بين انطباق هذه المعاني على هللا تع الى‪ ،‬فق ال‪( :‬وليس ه ذا إال هللا تع الى‪،‬‬
‫فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليس ت واح دة في اإلمك ان‪ ،‬فيمكن وج ود‬
‫مثلها في الكمال والنفاسة‪ ..‬وشدة الحاجة أن يحتاج إليه ك ل ش يء ح تى في وج وده‬
‫وبقائه وصفاته وليس ذلك على الكمال إال هلل عز وجل‪ ..‬والكمال في صعوبة المنال‬
‫أن يستحيل الوصول إليه على معنى اإلحاطة بكنهه‪ ،‬وليس ذل ك على الكم ال إال هلل‬
‫عز وجل‪ ،‬فال يعرف هللا إال هللا‪ ،‬فهو العزيز المطلق الحق ال يوازيه غيره)‬
‫وق ال آخ ر في اس م هللا [الحكيم]‪( :‬للحكم ة معني ان‪ :‬مع نى علمي‪ ،‬ومع نى‬
‫عملي‪ ..‬أم ا المع نى العلمي‪ ،‬فه و معرف ة أفض ل األش ياء بأفض ل العل وم‪ ..‬وأج ل‬
‫األشياء هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وال يعرف كنه هللا غير هللا‪ ،‬ولذلك فهو الحكيم الحق‬
‫ألنه يعلم أجل األشياء بأجل العلوم‪ ..‬إذ أجل العل وم ه و العلم األزلي ال دائم ال ذي ال‬
‫يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة ال يتطرق إليها خفاء وال شبهة‪ ،‬وال يتص ف‬
‫بذلك إال علم هللا سبحانه وتعالى‪ ..‬وأما المعنى العملي‪ ،‬فإنه يق ال لمن يحس ن دق ائق‬
‫الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيم‪ ،‬وكمال ذلك أيضا ليس إال هلل تع الى فه و‬
‫الحكيم الحق الذي دل على حكمته كل شيء)(‪)2‬‬
‫اإلحصاء الوجداني‪:‬‬
‫إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن اإلحصاء الثالث ه و االنفع ال‬
‫والتأثر لها‪ ،‬نتيجة التعمق في معانيها‪ ،‬وهو ما يجعلك تتعام ل بك ل اس م بحس ب م ا‬
‫يقتضيه من تعظيم وإجالل‪.‬‬
‫وله ذا ارتب ط ذك ر أس ماء هللا تع الى بالس جود ال دال على التعظيم‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫تعالى في اسم هللا [الرحمن]‪ ،‬ونفور المشركين منه لعدم إيمانهم به‪ ،‬وإحصائهم ل ه‪:‬‬
‫﴿ َوإِ َذا قِي َل لَهُ ُم ا ْس ُجدُوا لِلرَّحْ َم ِن قَالُوا َو َما الرَّحْ َمنُ أَنَ ْس ُج ُد لِ َم ا تَأْ ُم ُرنَ ا َوزَا َدهُ ْم نُفُ ورًا﴾‬
‫[الفرقان‪]60 :‬‬
‫والس جود يع ني االنفع ال األعظم‪ ،‬والت أثر األك بر‪ ،‬وال ذي ال يكتفي ب القلب‪،‬‬
‫وإنما يسري إلى الجوارح‪ ،‬ويجعلها خاشعة خاضعة مستكينة ذليلة لخالقه ا‪ ..‬ول ذلك‬
‫كان السجود عالمة القرب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬كاَّل اَل تُ ِط ْعهُ َوا ْس ُج ْد َوا ْقتَ ِربْ ﴾ [العل ق‪:‬‬
‫‪]19‬‬
‫ومن آثار االنفعال ـ أيها المريد الصادق ـ أن يجعلك غني ا برب ك عمن س واه‪،‬‬
‫ذلك أنك تجد في أسمائه الحسنى كل الطلبات التي تريدها‪.‬‬
‫ول ذلك ك ان من اإلحص اء دع اء هللا بأس مائه الحس نى المرتبط ة بالحاج ات‬

‫‪ )(1‬المقصد األسنى (ص‪)73 :‬‬


‫‪ )(2‬الباحثون عن هللا (ص‪)451 :‬‬
‫‪85‬‬
‫المختلفة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وهلل اأْل َ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى فَا ْدعُوهُ بِهَا﴾ (األعراف‪)180:‬‬
‫وذلك ألن الدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة باهلل‪ ،‬فالمعرف ة‬
‫بأسماء هللا وصفاته العليا هي التي تدعو إلى الثقة فيه‪ ،‬وهي التي ت دعو إلى س ؤاله‪،‬‬
‫ولهذا نرى امتزاج أدعيته ‪ ‬بأسماء هللا‪.‬‬
‫ومما يروى في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬كان جالسا ورجل يص لي‪ ،‬ثم دع ا‬
‫قائال‪( :‬اللهم إني أسألك بأن ل ك الحم د ال إل ه إال أنت وح دك ال ش ريك ل ك‪ ،‬المن ان‬
‫بديع السموات واألرض‪ ،‬يا ذا الجالل واإلكرام‪ ،‬يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأع وذ‬
‫بك من النار‪ ،‬فقال النبي ‪(:‬لقد دعا هللا باسمه العظيم)(‪)1‬‬
‫وقد علم ‪ ‬من أصابه هم أو حزن أن يقول‪(:‬اللهم إني عبدك‪ ،‬ابن عبدك ابن‬
‫أمتك في قبضتك‪ ،‬ناصيتي بيدك م اض في حكم ك‪ ،‬ع دل في قض اؤك أس ألك بك ل‬
‫اسم هو لك‪ ،‬سميت ب ه نفس ك‪ ،‬أو أنزلت ه في كتاب ك‪ ،‬أو علمت ه أح دا من خلق ك‪ ،‬أو‬
‫اس تأثرت ب ه في علم الغيب عن دك‪ ،‬أن تجع ل الق رآن ربي ع قل بي‪ ،‬ون ور بص ري‪،‬‬
‫وجالء حزني‪ ،‬وذهاب غمي)(‪ ،)2‬ثم بين أثر ذلك في نفسه‪ ،‬فقال‪(:‬فما قالها عب د ق ط‬
‫إال أبدله هللا بحزنه فرحا)‬
‫وعلم رسول هللا ‪ ‬أمته أن تقول إذا وافقت ليلة القدر‪(:‬اللهم إن ك عف و تحب‬
‫العفو فاعف عنى)(‪)3‬‬
‫ولهذا؛ فإن من آداب الدعاء أن يذكر العبد ما يرتبط بأس ماء هللا الحس نى مم ا‬
‫يتعلق بحاجته‪ ،‬فإذا كانت حاجته الرزق‪ ،‬ق ال‪( :‬ي ا رزاق‪ ،‬ي ا وه اب‪ ،‬ي ا ج واد‪ ،‬ي ا‬
‫مغني‪ ،‬يا منعم‪ ،‬يا مفضل‪ ،‬ي ا معطي‪ ،‬ي ا ك ريم‪ ،‬ي ا واس ع‪ ،‬ي ا مس بب األس باب‪ ،‬ي ا‬
‫منان‪ ،‬يا رزاق من يشاء بغير حساب)‬
‫وإن كانت حاجته (المغفرة والتوبة)‪ ،‬قال‪( :‬يا تواب‪ ،‬ي ا رحمن‪ ،‬ي ا رحيم‪ ،‬ي ا‬
‫رؤوف‪ ،‬يا عطوف‪ ،‬يا صبور‪ ،‬يا شكور‪ ،‬يا عفو‪ ،‬ي ا غف ور‪ ،‬ي ا فت اح‪ ،‬ي ا ذا المج د‬
‫والسماح‪ ،‬يا محسن‪ ،‬يا مجمل‪ ،‬يا منعم)‬
‫وإن كانت حاجته صد أعدائه الظلمة المستكبرين قال‪( :‬يا عزيز‪ ،‬يا جبار‪ ،‬يا‬
‫قهار‪ ،‬يا منتقم‪ ،‬ياذا البطش الشديد‪ ،‬يا فعال لما يريد‪ ،‬يا قاصم المردة‪ ،‬ي ا ط الب‪ ،‬ي ا‬
‫غالب‪ ،‬يا مهلك‪ ،‬يا مدرك‪ ،‬يا من ال يعجزه شيء)‬
‫وإن كانت حاجته طلب العلم والفهم والمعرف ة‪ ،‬ق ال‪( :‬ي ا ع الم‪ ،‬ي ا فت اح‪ ،‬ي ا‬
‫هادي‪ ،‬يا مرشد‪ ،‬يا معز‪ ،‬يا رافع)‬
‫ولهذا يختم كل مقطع من مقاطع دعاء الجوشن الكبير بهذه الخاتمة (س بحانك‬
‫يا ال الـه إال انت الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب)‬
‫وهذا ال دعاء ـ أيه ا المري د الص ادق ـ يش به دع اء ال ذي يك اد يغ رق؛ فه و‬
‫يس تعمل ك ل الوس ائل لنجات ه‪ ،‬وله ذا روي أن هللا تع الى أوحى إلى عيس ى علي ه‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد وأبو داود‪ ،‬والترمذي‪ ،‬والنسائي وابن ماجة وغيرهم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن السني وابن حبان‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن النجار‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫السالم‪( :‬ادعني دعاء الح زين الغري ق ال ذي ليس ل ه مغيث‪ ،‬ي ا عيس ى‪ ،‬س لني وال‬
‫تسأل غيري‪ ،‬فيحسن منك الدعاء ومني اإلجابة)‬
‫ولذلك كان ذلك ال دعاء العظيم ال ذي يحت وي على مائ ة مقط ع‪ ،‬وك ل مقط ع‬
‫يحتوي على عش رة أس ماء من أس ماء هللا الحس نى تنتهي بطلب اإلغاث ة من أحس ن‬
‫وسائل اإلحصاء والتعرف على هللا والتواصل معه‪.‬‬
‫ففيه يقول العبد المتلهف مس تغيثا برب ه‪( :‬اللـهم اني اس ألك باس مك ي ا هللا ي ا‬
‫رحمن يا رحيم يا كريم يا مقيم يا عظيم يا قديم يا عليم يا حليم يا حكيم سبحانك يا ال‬
‫الـه إال انت الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب) (‪)1‬‬
‫وفيه يقول‪( :‬يا س يد الس ادات ي ا مجيب ال دعوات ي ا راف ع ال درجات ي ا ولي‬
‫الحسنات يا غافر الخطيئات يا معطي المسأالت يا قابل التوبات يا س امع االص وات‬
‫يا عالم الخفيات يا دافع البليات)‬
‫وفيه يقول‪( :‬يا خير الغ افرين ي ا خ ير الف اتحين ي ا خ ير الناص رين ي ا خ ير‬
‫الحاكمين يا خير الرازقين يا خير الوارثين ي ا خ ير الحام دين ي ا خ ير ال ذاكرين ي ا‬
‫خير المنزلين يا خير المحسنين)‬
‫وفيه يقول‪( :‬يا من تواضع كل شيء لعظمته يا من استسلم ك ل ش يء لقدرت ه‬
‫يا من ذل كل شيء لعزته يا من خضع كل ش يء لهيبت ه ي ا من انق اد ك ل ش يء من‬
‫خشيته يا من تشققت الجبال من مخافته يا من قامت السماوات بأمره يا من اس تقرت‬
‫االرضون بإذنه يا من يسبح الرعد بحمده يا من ال يعتدي على اهل مملكته)‬
‫إلى آخر الدعاء الذي يمكنك التزام ه‪ ،‬والتأم ل في األس ماء الحس نى ال واردة‬
‫فيه‪ ،‬واالنفعال لها؛ فهو من أحسن طرقك إلى ربك‪ ،‬ومن أكثر األدعية اشتماال على‬
‫أسماء هللا الحسنى‪.‬‬
‫وال يغرنك عن نفسك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ من يزه دك في ه لع دم ورود‬
‫أحاديثه من طرق بعينها‪ ..‬فدين هللا أعظم من أن يحتك ره أح د من الن اس‪ ..‬والع برة‬
‫بالمعنى‪ ،‬وبالحقائق‪ ،‬ال بتلك الطرق التي خلطت الحق بالباطل‪ ،‬والتنزيه بالتجس يم‪،‬‬
‫والسنة بالبدعة‪.‬‬
‫اإلحصاء التخلقي‪:‬‬
‫إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن اإلحص اء الراب ع ه و التخل ق‬
‫بأخالقها‪ ،‬واالنصياع العملي لمقتضياتها‪ ،‬وق د اتف ق على اعتب ار ه ذا إحص اء ك ل‬
‫الحكماء والعلم اء وق د ق ال بعض هم مع برا عن ذل ك‪(:‬فهم مع اني أس ماء هللا تع الى‬
‫وسيلة إلى معاملته بثمراتها من‪ :‬الخوف‪ ،‬والرج اء‪ ،‬والمهاب ة‪ ،‬والمحب ة‪ ،‬والتوك ل‪،‬‬
‫وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)(‪)2‬‬
‫ثم يقول مفص ال أس باب ذل ك‪(:‬ذك ُر هللا بأوص اف الجم ال م وجب للرحم ة‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر الدعاء في المصباح‪ ،‬الكفعمي‪ ،‬ص ‪.246‬‬


‫‪ )(2‬شجرة المعارف واألحوال‪ ،‬ص ‪.1‬‬
‫‪87‬‬
‫وبأوص اف الكم ال م وجب للمهاب ة‪ ،‬وبالتوّح د باألفع ال م وجب للتوك ل‪ ،‬وبس عة‬
‫الرحمة موجب للرجاء‪ ،‬وبش دة النقم ة م وجب للخ وف‪ ،‬وب التفرّد باإلنع ام م وجب‬
‫للشكر)‬
‫وي بين آخ ر ت أثير أس ماء هللا الحس نى في ك ل عب ادة من العب ادات الظ اهرة‬
‫والباطنة‪( :‬لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها‪ ،‬وهذا مطرد في‬
‫جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح)(‪)1‬‬
‫ثم يذكر األمثلة الموضحة لذلك‪ ،‬فيقول‪(:‬فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالض ّر‬
‫والنفع‪ ،‬والعط اء والمن ع‪ ،‬والخل ق وال رزق‪ ،‬واإلحي اء واإلمات ة‪ :‬يثم ر ل ه عبودي ة‬
‫التوكل عليه باطناً‪ ،‬ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً‪ ،‬وعلمه بس معه تع الى وبص ره‪،‬‬
‫وعلمه أنه ال يخفى عليه مثقال ذرة‪ ،‬وأنه يعلم السر‪ ،‬ويعلم خائنة األعين وم ا تُخفي‬
‫الصدور‪ :‬يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على ك ل م ا ال يرض ي هللا‪،‬‬
‫وأن يجعل تعلق هذه األعضاء بما يحبه هللا ويرضاه‪ ،‬فيثمر له ذل ك‪ :‬الحي اء باطن اً‪،‬‬
‫ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح‪ ،‬ومعرفت ه بغن اه وج وده وكرم ه وب ره‬
‫وإحس انه ورحمت ه ت وجب ل ه س عة الرج اء‪ ...‬وك ذلك معرفت ه بجالل هللا وعظمت ه‬
‫وعزه‪ ،‬تثمر له الخضوع واالستكانة والمحبة‪ ،‬وتثمر له تلك األحوال الباطنة أنواعا ً‬
‫من العبودية الظاهرة‪ ،‬هي موجباتها‪ ..‬فرجعت العبودية كله ا إلى مقتض ى األس ماء‬
‫والصفات)‬
‫ويبين أثر التعبد بأسماء هللا تعالى في الوقاية من األمراض القلبي ة‪ ،‬كالحس د‪،‬‬
‫والكبر‪ ،‬اللذين هما منبع كل أمراض القلوب‪ ،‬فيقول‪(:‬لو عرف ربّه بصفات الكم ال‬
‫ونعوت الجالل‪ ،‬لم يتكبر ولم يحسد أح داً على م ا آت اه هللا؛ ف إن الحس د في الحقيق ة‬
‫نوع من معاداة هللا؛ فإنه يكره نعمة هللا على عبده وقد أحبها هللا‪ ،‬ويحب زوالها عن ه‬
‫وهللا يكره ذلك‪ ،‬فهو مضاد هلل في قضائه وقدره ومحبته وكراهته)(‪)2‬‬
‫ويبين أثر التعبد بأس ماء هللا تع الى وص فاته في الوق وف الص لب أم ا المحن‬
‫والباليا‪ ،‬فيقول‪(:‬من صحت له معرفة ربه والفق ه في أس مائه وص فاته علم يقين ا ً أن‬
‫المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ض روب من المص الح والمن افع‬
‫التي ال يحصيها علمه وال فكرته‪ ،‬بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها فيم ا يحب)‬
‫(‪ ،)3‬ويقول‪(:‬فكل ما ت راه في الوج ود من ش ر وألم وعقوب ة ونقص في نفس ك وفي‬
‫غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط‪ ،‬وهو عدل هللا وقسطه‪ ،‬وإن أج راه على ي د‬
‫ظالم‪ ،‬فالمسلط له أعدل العادلين‪ ،‬كما قال تع الى لمن أفس د في األرض‪﴿ :‬فَ إِ َذا َج ا َء‬
‫ار َو َكانَ َو ْع داً‬ ‫َو ْع ُد أُوالهُ َما بَ َع ْثنَا َعلَ ْي ُك ْم ِعبَاداً لَنَا أُولِي بَأْ ٍ‬
‫س َش ِدي ٍد فَ َجاسُوا ِخ َ‬
‫الل ال ِّديَ ِ‬
‫َم ْفعُوالً﴾ (االسراء‪)5:‬‬
‫وذكر آخ ر س ر الوص ول إلى ه ذه الدرج ة من ه ذه اإلحص اء‪ ،‬فق ال‪( :‬ولن‬
‫‪ )(1‬مفتاح دار السعادة‪ 90 /2 :‬باختصار‪ ،‬وانظر‪ :‬طريق الهجرتين‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ )(2‬الفوائد‪ ،‬ص ‪.150‬‬
‫‪ )(3‬الفوائد‪ ،‬ص ‪.85‬‬
‫‪88‬‬
‫يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشرافها إال ويتبعه شوق إلى تلك الصفة‬
‫وعشق لذلك الكمال والجالل وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنا‬
‫للمستعظم بكماله فإن لم يكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه ال محالة)‬
‫وذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يش به التلمي ذ النجيب المت أثر بأس تاذه؛ فإن ه إذا‬
‫شاهد كمال أس تاذه في العلم انبعث ش وقه إلى التش به واالقت داء ب ه‪ ،‬وهك ذا في ك ل‬
‫الشؤون يكون الش وق ه و الح ادي ال ذي ي دفع إلى الس لوك‪ ،‬ف الجوارح تب ع للقلب‪،‬‬
‫وبقدر إعجابه وتعظيمه وتأثره وانفعاله يكون انقيادها‪.‬‬
‫فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على أن تتحقق بهذه الم راتب؛ فهي وس يلتك‬
‫إلى ربك في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وبقدر اهتمامك بها‪ ،‬وإرادتك لها‪ ،‬بقدر ما يهبك هللا من‬
‫فضله‪.‬‬
‫واح ذر من أن يك ون غرض ك من إحص اء أس ماء هللا الحس نى م ا يفعل ه‬
‫الملحدون فيها والجاهلون بقدرها‪ ،‬أولئك الذين حولوها إلى طالس م يص طادون به ا‬
‫الدنيا وأهواءها‪ ،‬بدل أن يصطادوا بها الحقائق وآثارها‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫االسم المفرد‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخ برني أن ك بع د إرس ال رس التي الس ابقة‬
‫إليك‪ ،‬والتي أجبتك فيها عن معنى إحص اء األس ماء‪ ،‬وآثاره ا الروحي ة والتربوي ة‪،‬‬
‫رحت تطبق ذلك على بعض األسماء الحسنى‪ ،‬وأنك قد رأيت تأثيرها الكبير علي ك‪،‬‬
‫وعلى ترسيخ معانيها في نفسك‪.‬‬
‫لكنك عن د ذك رك الس م [هللا]‪ ،‬أو م ا يطل ق علي ه [االس م المف رد]‪ ،‬وبع د أن‬
‫وجدت حالوته في قلبك إثر ترديدك الكثير له‪ ،‬وردتك نص يحة من بعض إخوان ك‪،‬‬
‫يذكر لك فيها بدعية ذلك الترديد‪ ،‬وأن رسول هللا ‪ ‬لم يفعله‪ ،‬وأن السنة في ترك ه‪،‬‬
‫وذكر لك من مقوالت العلماء ما يثبت ذلك‪.‬‬
‫ومن أهم ما ذكر ل ك من أدل ة على ذل ك أن ال ذكر باالس م المف رد ليس مفي دا‬
‫لمع نى من المع اني بخالف غيره ا من األذك ار المفي دة ل ذلك‪ ،‬وق د نقلت لي ق ول‬
‫بعضهم في هذا‪ ،‬حيث قال‪( :‬الشرع لم يستحب من الذكر إال ما كان كالما تاما مفيدا‬
‫مثل ال إله إال هللا ومثل هللا أكبر ومثل سبحان هللا والحمد هلل ومث ل ال ح ول وال ق وة‬
‫إال باهلل) (‪ ،)1‬وقال‪( :‬وأما االسم المفرد مظهرا أو مضمرا فليس بكالم تام وال جمل ة‬
‫مفيدة وال يتعلق به إيم ان وال كف ر وال أم ر وال نهى ولم ي ذكر ذل ك أح د من س لف‬
‫األمة وال شرع ذلك رس ول هللا ‪ ‬وال يعطى القلب بنفس ه معرف ة مفي دة وال ح اال‬
‫نافعا‪ ،‬وإنما يعطيه تصورا مطلقا ال يحكم عليه بنفي وال إثبات فان لم يق ترن ب ه من‬
‫معرفة القلب وحالة ما يفيد بنفس ه وإال لم يكن في ه فائ دة والش ريعة إنم ا تش رع من‬
‫األذكار ما يفيد بنفسه ال ما تكون الفائدة حاصلة بغيره) (‪)2‬‬
‫بل نقلت لي عن آخر ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬حيث ق ال‪( :‬ف إن إطالق الجالل ة‬
‫منفردا عن إخبار عنها بقولهم (هللا هللا) ليس بكالم وال توحيد‪ ،‬وإنما هو تالعب بهذا‬
‫اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي ثم إخالؤه عن معنى من المعاني‪ ،‬ول و أن‬
‫رجال عظيما صالحا يسمى بزيد وصار جماعة يقولون (زيد زيد) لعد ذلك استهزاء‬
‫وإهانة وسخرية‪ ،‬وال سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ) (‪)3‬‬
‫إلى آخ ر النص وص الكث يرة ال تي نقلته ا لي‪ ،‬وذك رت أنه ا لجهاب ذة العلم اء‬
‫وحف اظ الح ديث‪ ،‬وغ يرهم‪ ،‬وال ذين ال يمكن ني التش كيك في ص دقهم وإخالص هم‬
‫واجتهادهم‪ ،‬لكني مع ذلك يمكنني التشكيك في فهمهم‪ ،‬وفي األدلة التي يعرضونها‪.‬‬
‫وأول ذلك اعتبارهم اسم هللا مشابها السم زيد أو عم رو‪ ..‬ومع اذ هللا أن يق ال‬
‫مثل هذا‪ ..‬فزيد بشر‪ ،‬وال يمكن التلفظ باسمه مجردا عن الغرض الذي ذكر ألجل ه‪..‬‬
‫واسم زيد قد ينطبق على مئات وآالف من األشخاص‪ ..‬وزيد لم يطالب بأن يسبح أو‬
‫‪ )(1‬فتاوى ابن تيمية‪.10/556 :‬‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى ‪.10/226‬‬
‫‪ )(3‬الصنعاني في تطهير االعتقاد ص ‪.48‬‬
‫‪90‬‬
‫ينزه أو يقدس أو يكبر‪..‬‬
‫أما اسم هللا فمختلف تماما‪ ،‬ذلك أن مجرد التلفظ به مع حض ور القلب يجع ل‬
‫صاحبه حاضرا مع هللا‪ ،‬مستشعرا لوجوده وعظمته وكماله وتنزيه ه وك ل الحق ائق‬
‫التي تصل القلب به‪.‬‬
‫وال يض ر أن ال ي ذكر تل ك المع اني ال تي يستحض رها قلب ه؛ ألن المطل وب‬
‫األصيل في الذكر هو ذل ك الش عور ال ذي يج ده القلب‪ ،‬وال ذي يعين علي ه اللس ان‪..‬‬
‫فاللسان ليس مقصودا من ذات ه‪ ،‬وإنم ا الغ رض من ه تنبي ه القلب ح تى يعيش مع نى‬
‫الذكر‪.‬‬
‫وله ذا ت رى الق رآن الك ريم ق د يس تغني عن ذك ر بعض األلف اظ ال تي ال تتم‬
‫المعاني إال بها‪ ،‬نتيجة حضورها في الذهن من غير حاج ة ل ذكرها‪ ،‬ه و م ا يس ميه‬
‫اس أ َ ِل ْالقَرْ يَ ةَ الَّتِي ُكنَّا فِيهَ ا﴾ [يوس ف‪،]82 :‬‬ ‫﴿و ْ‬‫العلماء مجاز الحذف‪ ،‬كقوله تع الى‪َ :‬‬
‫فإن المراد الظاهر منها هو أهل القرية‪ ،‬وليس القرية بحد ذاتها‪..‬‬
‫ك﴾ [الفجر‪ ]22 :‬أي أمره أو عذاب ه أو مالئكت ه‪،‬‬ ‫ومثله قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َجا َء َربُّ َ‬
‫ألن العقل دل على أصل الح ذف‪ ،‬والس تحالة مجيء هللا تع الى عقال‪ ،‬ف المجيء من‬
‫سمات الحدوث‪.‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تستغني عن ذكر الكث ير من التفاص يل بن اء‬
‫على ورودها في الذهن من غير حاجة لأللفاظ التي تدل عليها‪.‬‬
‫وهكذا األمر بالنسبة لل ذاكر الس م هللا‪ ،‬فه و يع بر أثن اء ذك ره هلل عن مع اني‬
‫مختلفة ت رد على نفس ه أثن اء ذل ك ال ذكر‪ ..‬فق د يك ون حينه ا س ائال‪ ،‬أو منزه ا‪ ،‬أو‬
‫مكبرا‪ ،‬أو مسبحا‪ ..‬أو غيرها من المعاني التي ال يمكن حصرها أو التعبير عنها‪.‬‬
‫ولذلك ورد في دعاء كميل الذي علّمه اإلمام علي للصحابي الجليل كمي ل بن‬
‫زياد قوله‪( :‬يَا َم ِن ا ْس ُمهُ دَوا ٌء َو ِذ ْك ُرهُ ِشفا ٌء)‪ ،‬وه و يع ني أن اس م [هللا] نفس ه دواء‪..‬‬
‫أي هو الوسيلة التي يتحقّق من خاللها شفاء الصدور من أسقامها‪ ،‬ورقي الروح إلى‬
‫بارئها‪ ،‬كما تتحقق به كل الحاجات في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫االسم المفرد وأدلته الشرعية‪:‬‬
‫ولذلك‪ ،‬إياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعتق د أن اس م هللا ال يختل ف عن اس م‬
‫زيد أو عمرو من الناس‪ ،‬فمعاذ هللا أن يقول ذلك مسلم‪.‬‬
‫وكيف يقوله‪ ،‬وهللا تعالى ي دعو في الق رآن الك ريم إلى ذك ر اس مه ص ريحا‪،‬‬
‫ومن دون ربطه ب أي مع نى من المع اني‪ ،‬ال التس بيح وال التحمي د وال التكب ير‪ ،‬وال‬
‫اس َم َربِّكَ َوتَبَتَّلْ إِلَ ْي ِه تَ ْبتِياًل ﴾ [المزم ل‪،]8 :‬‬ ‫﴿و ْاذ ُك ِر ْ‬ ‫غيرها من المعاني‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫صي ﴾ [اإلنسان‪]25 :‬‬ ‫اًل‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُك ِر ا ْس َم َربِّكَ بُ ْك َرةً َوأَ ِ‬
‫ت‬
‫واعتبر من المقاصد الكبرى لبناء المساجد ذكر اسم هللا‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فِي بُيُ و ٍ‬
‫صا ِل﴾ [النور‪]36 :‬‬ ‫أَ ِذنَ هللا أَ ْن تُرْ فَ َع َوي ُْذ َك َر فِيهَا ا ْس ُمهُ يُ َسبِّ ُح لَهُ فِيهَا بِ ْال ُغد ُِّو َواآْل َ‬
‫﴿و َم ْن أَ ْ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ْن َمنَ َع‬ ‫واعتبر من الظلم العظيم منع ذكر اسمه فيها‪ ،‬قال تع الى‪َ :‬‬
‫‪91‬‬
‫َم َسا ِج َد هللا أَ ْن ي ُْذ َك َر فِيهَا ا ْس ُمهُ﴾ [البقرة‪]114 :‬‬
‫وهكذا أمر هللا تعالى رسوله ‪ ‬أن يذكر اسمه عند إعراضه عن المس تهزئين‪:‬‬
‫ض ِه ْم يَ ْل َعبُونَ ﴾ [األنعام‪]91 :‬‬ ‫﴿قُ ِل هللا ثُ َّم َذرْ هُ ْم فِي َخوْ ِ‬
‫باإلضافة إلى هذا كله‪ ،‬فإن القرآن الك ريم ي دعو إلى ذك ر أس ماء هللا الحس نى‪،‬‬
‫﴿وهلل‬‫واسم هللا أحدها‪ ،‬بل هو أكثرها ترددا‪ ،‬فهو مصاحب لكل األذكار‪ ،‬قال تع الى‪َ :‬‬
‫اأْل َ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى فَ ا ْدعُوهُ بِهَ ا َو َذرُوا الَّ ِذينَ ي ُْل ِح ُدونَ فِي أَ ْس َمائِ ِه َس يُجْ َزوْ نَ َم ا َك انُوا‬
‫يَ ْع َملُونَ ﴾ [األعراف‪ ،]180 :‬وقال‪﴿ :‬قُ ِل ا ْدعُوا هللا أَ ِو ا ْدعُوا الرَّحْ َمنَ أَيًّا َما تَ ْدعُوا فَلَهُ‬
‫اأْل َ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى﴾ [اإلسراء‪]110 :‬‬
‫وهكذا ورد في السنة المطهرة م ا يش ير إلى مش روعية ذل ك‪ ،‬واس تحبابه‪ ،‬ففي‬
‫الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬ال تقوم الساعة ح تى ال يق ال في األرض‪( :‬هللا‬
‫هللا(‪)2( ))1‬وفي رواية (ال تقوم الساعة حتى ال يبقى على وج ه األرض من يق ول هللا‬
‫هللا)(‪)3‬‬
‫و أبلغ شاهد يُعتمد عليه في هذا الحديث‪( ،‬هو مجيء لفظ الجاللة مك ررًا فك ان‬
‫صريحا في إرادته ذكر ذلك االسم‪ ،‬أما لو جاء غير مكرر الحتمل أن يك ون الم راد‬
‫به‪ ،‬حتى ال يبقى على وجه األرض من يعتقد وجود (هللا) أما مع وجود التك رار فال‬
‫احتمال)(‪)4‬‬
‫وعلى فرض أنه ال يوجد في الشرع الشريف أي دليل على ج واز تك رار ذل ك‬
‫االسم‪( ،‬فكذلك ال يوجد فيه أيضا ما يفيد المنع من تك راره على اللس ان‪ ،‬أو م روره‬
‫على القلب‪ ،‬بل ليس في الشرع على ما يظهر ما يمنع من تكرير أي اسم من أس ماء‬
‫المحدثات‪ ،‬إذا صح هذا‪ ،‬فكيف يوجد ما يمنع من التلفظ باسم من أسماء هللا الحس نى‬
‫؟ فحاشا أن يوج د في الش رع م ا ه و قبي ل ه ذه التعس فات والتنطع ات‪ ،‬ال تي تل زم‬
‫المؤمن أن ال يردد اسم مواله على لسانه‪ ،‬ب أن يق ول (هللا هللا)‪ ،‬أو م ا في معن اه من‬
‫بقية أسمائه)(‪)5‬‬
‫وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن الصحابة التي ت دل على ذل ك‪ ،‬ومنه ا م ا‬
‫روي عن عطاء قال‪ :‬كنت عن د س عيد بن المس يب ف ذكر بالال فق ال‪( :‬ك ان ش حيحا‬
‫على دينه وكان يعذب في هللا عز وجل‪ ،‬وكان يعذب على دينه فإذا أراد المش ركون‬
‫أن يقاربهم قال‪( :‬هللا هللا) (‪)6‬‬

‫‪ )(1‬قال اإلمام النووي في شرح مسلم ‪( :2/178‬قوله ‪ ‬على أحد يقول (هللا هللا) هو برف ع اس م هللا تع الى وق د‬
‫يغلط فيه بعض الناس فال يرفعه‪ ،‬واعلم أن الروايات كلها متفقة على تكرير اسم هللا تع الى في الرواي تين وهك ذا ه و‬
‫في جميع األصول قال القاضي عياض رحمه هللا‪ :‬وفى رواية بن أبى جعفر يقول‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬وهللا سبحانه وتع الى‬
‫أعلم)‬
‫‪ )(2‬صحيح مسلم ‪1/131‬‬
‫‪ )(3‬مسند البزار (‪)169 /13‬‬
‫‪ )(4‬ابن عليوة‪ ،‬القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫‪ )(6‬مصنف عبد الرزاق ‪ 11/234‬وشعب البيهقي ‪ 2/238‬وتاريخ ابن عساكر ‪ 443/ 10‬واالستيعاب البن عبد‬
‫البر ‪1/181‬‬
‫‪92‬‬
‫وعن ابن مسعود قال‪( :‬فم ا منهم من أح د إال وق د وات اهم على م ا أرادوا إال‬
‫بالال فإنه هانت عليه نفسه في هللا وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الول دان فجعل وا‬
‫يطوفون به في شعاب مكة‪ ،‬وهو يقول‪( :‬أحد أحد) (‪)1‬‬
‫وهكذا كان شعار الصحابة في غزوة بدر (أحد أحد) (‪)2‬‬
‫وق د كتب بعض المش ايخ رس الة في ال رد على المنك رين على ال ذكر باالس م‬
‫ُ‬
‫رفت‬ ‫المفرد‪ ،‬ذكر سبب كتابته لها‪ ،‬فقال‪( :‬أما بعد أيه ا األخ المح ترم‪ ،‬فق د ُ‬
‫كنت تش‬
‫بزيارتكم صحبة صديق الجميع حضرة الشيخ‪ ...‬وبمناسبة ما دار بيننا من الح ديث‪،‬‬
‫في تلك السويعات التي رأيتكم فيها موغر الصدر على إخوانكم‪ ،‬حس بما الح لي في‬
‫ذلك الحين‪ ،‬ال لذنب ارتكبوه سوى أنهم مولعون بإجراء االسم المفرد على ألسنتهم‪،‬‬
‫وهو قولهم‪( :‬هللا)‪ ،‬فظهر لكم أن ذلك مم ا يس تحق علي ه العت اب‪ ،‬أو نق ول العق اب‪،‬‬
‫ألنكم قلتم إنهم يلهجون بذكر ذلك االس م بمناس بة أو غ ير مناس بة‪ ،‬س واء عليهم في‬
‫األزقة‪ ،‬أو غيرها من األماكن التي ال تليق للذكر‪ ،‬ح تى أن أح دهم إذا ط رق الب اب‬
‫يقول‪( :‬هللا)‪ ،‬وإذا ناداه إنسان يق ول‪( :‬هللا)‪ ،‬وإذا ق ام يق ول‪( :‬هللا)‪ ،‬وإذا جلس يق ول‪:‬‬
‫(هللا)‪ ،‬إلى غير ذلك مما جرى به الحديث)(‪)3‬‬
‫ثم رد علي ه بوج وه من األدل ة منه ا أن ال ذكر ورد في الش رع مطلق ا لم يح دد‬
‫(بوقت دون وقت‪ ،‬أو مكان دون مكان‪ ،‬والمعنى أن سائر األزمنة واألمكن ة مناس بة‬
‫لذكر هللا‪ ،‬واإلنسان مطلوب في جميع ذلك بعمارة أوقاته‪ ،‬وبرفع ل وازم الغفل ة‪ ،‬من‬
‫أن تس تحكم على مش اعره وتس تولي على إدراكات ه‪ ..‬وبعب ارة أخ رى‪ :‬إن ال ذكر‬
‫محمود على كل حال‪ ،‬والغفلة مذمومة على كل حال) (‪)4‬‬
‫ومنها ورود النص وص القرآني ة والنبوي ة الدال ة على تح ريم الغفل ة والتح ذير‬
‫منه ا‪ ،‬وه و م ا يقتض ي ذك ر هللا في ك ل األح وال‪ ،‬ومنها قول ه ‪( :‬م ا من ق وم‬
‫يقومون من مجلس ال يذكرون هللا فيه‪ ،‬إال قاموا عن مثل جيفة حم ار‪ ،‬وك ان عليهم‬
‫حسرة يوم القيامة)(‪)5‬‬
‫ومنها ورود النصوص الخاصة بدليل جواز مثل هذا أو اس تحبابه‪ ،‬كقول ه ‪:‬‬
‫(عليك بتقوى هللا ما استطعت‪ ،‬واذك ر هللا عن د ك ل ش جر وحج ر)(‪ ،)6‬والم راد من‬
‫اإلطالق تعميم الزمان والمكان‪ ..‬ومثل ذلك ما روي أنه ‪( ‬كان يذكر هللا على كل‬
‫أحيانه) (‪)7‬‬

‫‪ )(1‬مصنف ابن أبي شيبة ‪ 6/396‬ومس ند أحم د ‪ 1/404‬وس نن ابن ماج ه ‪ 1/53‬وص حيح ابن حب ان ‪15/558‬‬
‫ومستدرك الحاكم في ‪3/320‬‬
‫‪ )(2‬سيرة ابن هشام ‪3/182‬‬
‫‪ )(3‬ابن عليوة‪ ،‬القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد ص‪.6‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ )(5‬أبو داود سليمان بن األش عث الس ِِّج ْس تاني‪ ،‬س نن أبي داود‪ ،‬المحق ق‪ :‬محم د مح يي ال دين عب د الحمي د‪ ،‬دار‬
‫الفكر‪)264 /4( ،‬‬
‫‪ )( 6‬قال في مجمع الزوائد‪( :‬رواه الطبراني وإسناده حسن) (انظر‪ :‬الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي‪،‬‬
‫مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬طبعة ‪ 1412‬هـ‪ ،‬الموافق ‪ 1992‬ميالدي‪)15 /10( ،‬‬
‫‪ )(7‬صحيح البخاري (‪)83 /1‬‬
‫‪93‬‬
‫ومنها أن األحكام الشرعية ال يرجع فيها لالش مئزار أو للرض ى‪ ،‬وإنم ا يرج ع‬
‫فيها إلى المصادر الش رعية‪ ،‬وق د ق ال ل ه في ذلك‪( :‬و على ف رض أن تش مئز من ه‬
‫بعض النفوس غير المتعودة على استماع األذكار‪ ،‬فالواجب على المص نف إذا أراد‬
‫الحكم على غيره‪ ،‬أن ال يحكم إال بما يراه حكما عند هللا ورسوله ‪ ،‬ال بما يخت اره‬
‫هو بطبيعته‪ ،‬ويستحسنه في نظره‪ ،‬وغير خاف أن كون اإلنس ان ق د يستحس ن ش يئا‬
‫ويس تقبحه غ يره‪ ،‬وله ذا ك ان ال واجب علين ا أن ال نرج ع لالستحس انات‪ ،‬ونكتفي‬
‫باختي ارات دون اختي ارات الش رع لن ا‪ ،‬وإ ًذا ف الواجب على من ي ؤمن باهلل والي وم‬
‫اآلخر‪ ،‬أن يقف عند النصوص الشرعية‪ ،‬ويعمل بمقتضاها‪ ،‬بدون ما يختار من عند‬
‫ض ى هللا َو َر ُس ولُهُ‬
‫نفسه شيئا إال ما اختاره هللا له‪َ ﴿ ،‬و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َوال ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ‬
‫ه ْم﴾ [األحزاب‪)1(]36 :‬‬ ‫أَ ْمرًا أَ ْن يَ ُكونَ لَهُ ُم ْال ِخيَ َرةُ ِم ْن أَ ْم ِر ِ‬
‫وهكذا راح يجيب على اإلشكاالت التي أوردها المخالفون‪ ،‬والتي ذكرت ل ك‬
‫بعضها‪ ،‬ومنها اعتبارهم أنه ال يؤلف جملة مفيدة تامة يحسن السكوت عليها‪ ،‬كقولنا‬
‫(هللا غفور)‪ ،‬وقد ع بر الش يخ عن ه ذا اإلش كال‪ ،‬فق ال‪( :‬من جه ة أخ رى أنكم كنتم‬
‫ترون أن هذا االسم‪ ،‬ال يصلح أن يكون ذكرا‪ ،‬وال هو من أقسام الكالم المفيد‪ ،‬جري ا‬
‫منكم على ما اشترطه النحويون‪ ،‬من لزوم التركيب‪ ،‬في تعريفهم الكالم المفيد)(‪)2‬‬
‫وقد رد على هذا اإلشكال بوجوه من األدلة‪ ،‬منها أن النحويين عند اشتراطهم‬
‫لزوم التركيب فيما يعتبر كالم ا أرادوا من خالل ذل ك تعري ف الكالم ال ذي تتوق ف‬
‫عليه إفادة السامع‪ ،‬وهذا القيد (بعي ٌد أن ينطبق على األذك ار‪ ،‬وم ا يخص ها من جه ة‬
‫المشروعية أو عدمها‪ ،‬وم ا ي ترتب على ذل ك من الث واب ونح وه‪ ،‬والش ك أن ك ل و‬
‫س ألتهم في ذل ك الحين‪ ،‬أو ه ذا الحين‪ ،‬ألج ابوك ق ائلين‪ :‬إن م ا قررن اه ه و مج رد‬
‫اصطالح نعتمده في عرفنا‪ ،‬وال مشاحة في االصطالح) (‪)3‬‬
‫ومنها أن االصطالح الذي اصطلح عليه أهل الفنون والعلوم المختلفة ال عالق ة‬
‫له باألحكام الشرعية‪ ،‬وال تأثير له عليها‪ ،‬ولهذا ق د نج د المص طلح الواح د يتداول ه‬
‫أصحاب العلوم المختلفة‪ ،‬وكل يريد منه غير ما يريد اآلخر‪.‬‬
‫ومنها أنه حتى لو طبقنا المقاييس التي ذكرها المتكلم ون‪ ،‬فإنه ا ال تنطب ق على‬
‫هذا الذكر ذلك أن (ما اشترطه النحويون من لزوم ال تركيب‪ ،‬ه و خ اص بمن يري د‬
‫بكالمه إفادة غيره‪ ،‬أما الذاكر فال يقصد ب ذكره إال إف ادة نفس ه‪ ،‬وتمكين مع نى ذل ك‬
‫االسم من قلبه‪ ،‬أو ما يشبه تلك المقاصد) (‪)4‬‬
‫ومنها أن النحويين لم يشترطوا هذا الشرط في ك ل األح وال‪ ،‬ب ل إنهم في ح ق‬
‫المتوجه أو المتأوه لم يشترطوا وجود التركيب فيما يبرز من لسانه‪ ،‬ألن قصده غير‬
‫ُ‬
‫فهمت‬ ‫قصد النحويين‪ ،‬ومن البعيد أن يقول النح وي للمتوج ه أو للمت أوه‪( :‬إن ني م ا‬
‫‪ )(1‬ابن عليوة‪ ،‬القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد‪ ،‬ص‪.23‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪94‬‬
‫مقصودك من تأوهك)‪ ،‬ألنه لفظ غير مركب يحتاج إلى خبر أو شبه ذلك! وهذا كل ه‬
‫ال يتفق مع مقصود المتوجع‪ ،‬ألنه ال يقصد إف ادة غ يره‪ ،‬إنم ا يقص د ال ترويح ب ذلك‬
‫اللفظ على نفسه‪ ..‬وهكذا ذاكر االسم‪ ،‬ال يقصد إال تمكين أثر ذل ك االس م من نفس ه)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومنها أن لكل كلمة في اللغة تأثيرها الخ اص في النفس‪ ،‬ف إذا كرره ا ص احبها‬
‫أحدثت في نفسه تأثيرا خاصا‪ ،‬وهذه حقيقة يقررها علم النفس الحديث‪ ،‬يقول الشيخ‪:‬‬
‫(و أنت تعلم يا حضرة األخ‪ ،‬من أن لكل اسم أثرا يتعلق بنفس ذاكره‪ ،‬ول و من غ ير‬
‫األسماء اإللهية‪ ،‬حتى إن اإلنسان إذا ردد على لس انه ذك ر الم وت مثال‪ ،‬فإن ه يحس‬
‫بأثر يتعلق بالنفس‪ ،‬من ذكر ذلك االسم‪ ،‬بالخصوص إذا داوم عليه‪ ،‬وال شك أن ذلك‬
‫األثر هو غير األثر المستفاد من ذكر الم ال‪ ،‬أو الع ز‪ ،‬أو الس لطان‪ ،‬ول وال مراع اة‬
‫ذلك األثر‪ ،‬لما ورد في الحديث الشريف‪( :‬أك ثروا من ذك ر ه ادم الل ذات) (‪ )2‬يع ني‬
‫الموت‪ ،‬وال شك أنها كلمة مفردة‪ ،‬وقد ورد أنها كانت وردا لبعض السلف)(‪)3‬‬
‫ومنها أن ه يمكن‪ ،‬وعن طري ق كالم النح ويين‪ ،‬أن نثبت أن االس م المف رد ليس‬
‫كلمة مجردة‪ ،‬وإنما جمل ة مفي دة‪ ،‬يق ول الش يخ‪( :‬ثم أق ول‪ :‬إن جمي ع م ا ق دمناه ه و‬
‫جري من على سبيل الفرض‪ ،‬من جهة كون ه اس ما مف ردا غ ير منظم لش يء‪ ،‬ول و‬
‫على سبيل التقدير‪ .‬أما إذا استطلعنا الحقيقة وأمطنا القن اع‪ ،‬فإنن ا نس تطيع أن نق ول‪:‬‬
‫إنه مما يجوز ذكره ح تى على ق ول من يش ترط ال تركيب‪ .‬ألن ه في الواق ع من ادى‪،‬‬
‫والمنادى عن دهم من أقس ام الكالم المفي د‪ ،‬ألنهم أول وا ح رف الن داء بمع نى أدع و‪،‬‬
‫وحذفه جائز وشائع في لغة العرب‪ ،‬وكثيرًا ما ي دعو المق ام لحذف ه لزوم ا‪ ،‬كم ا في‬
‫القضية هنا مراعاة لما تطلبه منا اآلداب القرآنية والتعاليم اإلسالمية‪ ،‬التي قد يك ون‬
‫منها للسادة الصوفية أكثر مما لغيرهم)(‪)4‬‬
‫وبناء على هذا يمكن اعتبار ذاكر االسم المفرد‪ ،‬وكأنه يقول‪ :‬يا هللا ارحمن ا‪ ،‬أو‬
‫اغف ر لن ا أو نح و ذل ك‪ ،‬واس تدل ل ه بم ا ذك ره النحوي ون في ه ذا‪ ،‬وه و مع روف‬
‫مشهور(‪.)5‬‬
‫ومنها أن استدالل المخالف باشتراط النقل من فعل السلف صعب جدا ذل ك أن ه‬
‫(ال يتأتى حصر ما كان يجري على ألسنة السلف من صيغ األدعية واألذكار‪ ،‬ح تى‬
‫نستطيع أن نقول هذا االس م لم يكن ذك رًا للس لف على س بيل القط ع‪ ،‬أو ه ذا االس م‬
‫كانوا ال يرونه ذكرًا‪ ،‬كل ذلك لقص ورنا عن اإلحاط ة بجمي ع م ا ك ان يج ري على‬
‫ألس نتهم في خل واتهم وجل واتهم وس قمهم وع افيتهم‪ ،‬ومن البعي د أن نعتق د ك ون‬
‫الصحابة ما كان يمر على ألسنتهم اسم الجاللة مك ررا (هللا هللا) ب رأهم هللا من مث ل‬

‫‪)(1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.8‬‬


‫‪ )(2‬سنن الترمذي (‪)639 /4‬‬
‫‪ )(3‬ابن عليوة‪ ،‬القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد‪ ،‬ص‪.8‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫‪95‬‬
‫ذلك)(‪)1‬‬
‫االسم المفرد وأدواره التربوية‪:‬‬
‫تلك بعض األدلة التي يمكنك أن تعرف بها مشروعية ذكر اسم [هللا]‪ ،‬وإن كان‬
‫عجيبا أن تُطرح هذه المسألة‪ ،‬ذلك أنها من الوضوح بحيث ال تحت اج أي دلي ل ي دل‬
‫عليها؛ فاسم هللا من العظمة والقداسة ما ال يمكن أن يقاس ب ه أي اس م من األس ماء‪،‬‬
‫ولذلك كان له وحده من التأثير ما ال يمكن تصوره‪.‬‬
‫ولو أن أولئك الذين أنكروا ترديد هذا االسم وذكره‪ ،‬اطلع وا على م ا ورد في‬
‫السنة الشريفة من إقرار رسول هللا ‪ ‬لما قام به أصحابه من أنواع ال ذكر من دون‬
‫حاجة لسماعها منه‪ ،‬لعرفوا أن الشريعة لم تقيد هذا الباب بأي قيد‪ ،‬سوى قيد موافق ة‬
‫الذكر لحقائق الدين وقيمه‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما روي أن النبي ‪ ‬بعث رجال على سرية‪ ،‬وكان يق رأ‬
‫ألصحابه في صالته فيختم بـ ﴿قُلْ ه َُو هللا أَ َح ٌد﴾ [اإلخالص‪ ،]1 :‬فلما رجعوا ذك روا‬
‫ذل ك للن بي ‪ ،‬فق ال‪ :‬س لوه ألي ش يء يص نع ذلك ؟‪ .‬فس ألوه‪ ،‬فق ال‪ :‬ألنه ا ص فة‬
‫الرحمن‪ ،‬وأنا أحب أن أقرأ بها‪ ،‬فقال النبي ‪( :‬أخبروه أن هللا يحبه)(‪)2‬‬
‫ومثله ما روي أن رجال من األنصار كان يؤم الناس في مسجد قباء وكان كلم ا‬
‫افتتح س ورة يق رأ به ا لهم في الص الة مم ا تق رأ ب ه افتتح بـ ﴿قُ لْ هُ َو هللا أَ َح ٌد﴾‬
‫[اإلخالص‪ ]1 :‬حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معه ا‪ ،‬وك ان يص نع ذل ك في‬
‫كل ركعة فكلمه أصحابه‪ ،‬فق الوا‪ :‬إن ك تفتتح به ذه الس ورة ثم ال ت رى أنه ا تجزئ ك‬
‫حتى تقرأ بأخرى‪ ،‬فقال‪ :‬ما أنا بتاركها‪ ،‬إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن ك رهتم‬
‫تركتكم‪ ،‬وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره‪ ،‬فلما أتاهم الن بي ‪‬‬
‫أخبروه الخبر فقال‪ :‬يا فالن ما يمنعك أن تفعل ما ي أمرك ب ه أص حابك وم ا يحمل ك‬
‫على لزوم هذه الس ورة في ك ل ركع ة فق ال‪ :‬إني أحبه ا‪ ،‬فق ال‪( :‬حبُّك إياه ا أدخل ك‬
‫الجنة)(‪)3‬‬
‫وهذا الحديث ظاهر في أن هذين الرجلين كانا يقرآن في الصالة بـ ﴿قُلْ هُ َو هللا‬
‫أَ َح ٌد﴾ [اإلخالص‪]1 :‬اجتهاداً منهما‪ ،‬ألنه صفة ال رحمن ج ل وعال‪ ،‬فك ان جزاؤهم ا‬
‫أن يحبهما هللا تعالى لحبهما لها‪ ،‬وهو دليل على اعتبار الت أثر في ال ذكر‪ ،‬فمن ت أثر‬
‫لذكر أو دعاء معين‪ ،‬وأحس بأثره في تزكيته وترقيته‪ ،‬فل ه أن ي ذكره بق در طاقت ه‪،‬‬
‫ذلك أن كل األذكار أدوية إلهية‪ ،‬ويمكن ألي شخص أن يس تعمل م ا يش اء منه ا من‬
‫غير أي حرج‪.‬‬
‫ومثله أو قريب منه ما روي عن ابن عمر قال‪ :‬بينما نحن نصلي مع رسول هللا‬
‫‪ ‬إذ قال رجل من الق وم‪( :‬هللا أك بر كب يراً‪ ،‬والحم د هلل كث يراً‪ ،‬وس بحان هللا بك رة‬
‫وأصيالً)‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ :‬من القائل كلمة كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم‪ :‬أنا يا‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق ‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫‪ )(2‬صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري (‪)141 /9‬‬
‫‪ )(3‬صحيح البخاري‪)197 /1( ،‬‬
‫‪96‬‬
‫السماء)(‪)1‬‬ ‫رسول هللا‪ ،‬فقال ‪( :‬عجبت لها‪ ،‬فتحت لها أبواب‬
‫والظاهر من سياق الرواية أن ذلك الصحابي لم يكن قد سمع من النبي ‪ ‬شيئا ً‬
‫في جعل هذا الذكر في استفتاح الصالة‪ ،‬ولو كان ذلك عن أم ره وتعليم ه لم ا عجب‬
‫لذلك‪ ،‬وإنما كان ذلك عن اجته اد من ذل ك الص حابي‪ ،‬ومح ل الش اهد أن الن بي ‪‬‬
‫أقره على ذلك االجتهاد‪ ،‬ولو كان من المحظور على الم رء المس لم أن ي أتي بش يء‬
‫في العبادة دون دليل خاص ألنكر عليه النبي ‪ ،‬ولقال له كي ف تفع ل في الص الة‬
‫شيئا ً قبل أن آذن لك فيه؟!‬
‫ومثله ما روي عن رفاعة بن رافع أنه قال‪ :‬كنا يو َم نصلي وراء الن بي ‪ ‬لى‪،‬‬
‫فلما رفع رأسه من الركعة قال‪ :‬سمع هللا لمن حم ده‪ ،‬ق ال رج ل وراءه‪( :‬ربن ا ول ك‬
‫الحمد حمداً كثيراً طيبا ً مباركا ً فيه)‪ ،‬فلمـا انصرف قال‪ :‬من المتكلم ؟‪ .‬قال‪ :‬أنا‪ .‬قال‪:‬‬
‫(رأيت بضعة وثالثين ملكا ً يبتدرونها أيهم يكتبها أول)(‪)2‬‬
‫وهذا إق رار من رس ول هللا ‪ ‬لل ذي ق ال ه ذه الكلم ات‪ ،‬وق د يك ون قائله ا ق د‬
‫س معها من الن بي ‪ ‬من قب ل‪ ،‬لكن الظ اهر أنه ا ليس ت مم ا علم ه أن يقول ه في‬
‫الصالة‪ ،‬وأنه قالها في ذلك االعتدال اجتهادا منه بإلهام من هللا تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ومثله ما روي أن ُخبَيْبا أحدث صالةَ ركع تين حين ق ّدمت ه ق ريش للقت ل ص براً‬
‫فأقرها وكانت بعده سنة(‪.)3‬‬
‫وكل هذه األحاديث تشير إلى أن باب الذكر مفتوح ما دام بالص يغ الش رعية‪،‬‬
‫وأنه ال يحتاج إلى دليل عملي خاص به‪ ..‬ذل ك أن ه يكفي أن ي أمر هللا ب ذكر أس مائه‬
‫الحسنى‪ ،‬ليختار أي شخص االسم الذي يريد‪ ،‬ويردده متى يشاء وكي ف يش اء‪ ،‬كم ا‬
‫عبر عن ذل ك بعض هم فق ال‪( :‬المحب اس م محبوب ه ال يغيب عن قلب ه فل و كل ف أن‬
‫ينسي ذكره لما قدر ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر كيف ينسي المحب‬
‫ذكر حبيب اسمـه في فؤاده مكتـوب‪ ،‬كان بالل كلما عذبه المش ركون في الرمض اء‬
‫على التوحيد يقول أحد أحد‪ ،‬فإذا قالوا له قل والالت والعزى قال ال أحسنه ي راد من‬
‫القلب نسيانكم وتأبي الطبـاع على الناقل‪ ،‬وكلما قويت المعرفة ص ار ال ذكر يج ري‬
‫على لسان الذاكر من غير كلفة حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منام ه‪( :‬هللا‬
‫هللا)‪ ،‬وله ذا يلهم أه ل الجن ة التس بيح كم ا يلهم ون النفس وتص ير ال إل ه إال هللا لهم‬
‫كالماء البارد ألهل الدنيا) (‪)4‬‬
‫وكل ما ذكرته ـ أيها المريد الصادق ـ ال يدل فقط على مشروعية ذكر االس م‬
‫المفرد‪ ،‬وإنما يدل على مشروعية االستفادة من أي تجرب ة روحي ة ألي ش خص م ا‬
‫دامت في اإلطار الشرعي‪ ..‬فمن جرب طريقة معينة لتزكية نفسه وإصالحها‪ ،‬فإن ه‬
‫يمكن االستفادة منه في ذلك‪ ،‬ما لم تكن مصادمة ألصول الشريعة وقيمها‪.‬‬
‫‪ )(1‬صحيح مسلم (‪)99 /2‬‬
‫‪ )(2‬صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري (‪)202 /1‬‬
‫‪ )(3‬صحيح البخاري (‪)83 /4‬‬
‫‪ )(4‬جامع العلوم والحكم ‪.1/446‬‬
‫‪97‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن اتفاق أكثر األمة على ج دوى وت أثير ذك ر االس م المف رد ل ه دور‬
‫كبير في تأكيد مشروعيته‪ ،‬ألن غرض األذكار ليس سوى تزكي ة اإلنس ان وتربيت ه‬
‫ووصله بربه‪.‬‬
‫وقد ذكر الغزالي تأثير ه ذا ال ذكر‪ ،‬واهتم ام مش ايخ التربي ة ب ه في عص ره‪،‬‬
‫فقال‪( :‬وعند ذلك يلقن الشيخ المريد ذكرا من األذك ار ح تى يش غل ب ه لس انه وقلب ه‬
‫فيجلس ويق ول مثال (هللا هللا) أو س بحان هللا س بحان هللا أو م ا ي راه الش يخ من‬
‫الكلمات؛ فال يزال يواظب علي ه ح تى تس قط حرك ة اللس ان‪ ،‬وتك ون الكلم ة كأنه ا‬
‫جارية على اللسان من غير تحريك‪ ،‬ثم ال يزال يواظب عليه حتى يس قط األث ر عن‬
‫اللس ان وتبقي ص ورة اللف ظ في القلب‪ ،‬ثم ال ي زال ك ذلك ح تى يمحى عن القلب‬
‫حروف اللفظ وصورته وتبقى حقيقة معناه الزمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه ق د‬
‫فرغ عن كل ما سواه) (‪)1‬‬
‫وقد نقل عن ه قول ه يحكي عن بداي ة س لوكه‪ ،‬وعالقته ا باالس م المف رد‪( :‬لق د‬
‫أردت في بداية أمري سلوك هذا الطري ق بك ثرة األوراد‪ ،‬والص وم والص الة‪ ،‬فلم ا‬ ‫ُ‬
‫علم هللا صدق نيتي‪ ،‬قيض لي وليا ً من أوليائه قال لي‪ :‬يا بُـني‪ ،‬اقط ع عن قلب ك ك ل‬
‫عالقة إال هللا وحده‪ ،‬واخل بنفسك‪ ،‬واجمع همتك وقل‪ :‬هللا هللا هللا)(‪)2‬‬
‫وهكذا ذك ر في كتاب ه [المقص د األس نى في ش رح أس ماء هللا الحس نى] حين‬
‫تحدث على اسم الجاللة (هللا)‪ ،‬فقال‪( :‬ينبغي أن يكون حظ العبد من هذا االسم التأل ه‬
‫وأعني به أن يكون مستغرق القلب والهمة باهلل ع ز وج ل ال ي رى غ يره وال يلتفت‬
‫إلى سواه وال يرجو وال يخاف إال إياه وكيف ال يكون كذلك وقد فهم من ه ذا االس م‬
‫أنه الموجود الحقيقي الحق وكل ما سواه فان وهالك وباطل إال به) (‪)3‬‬
‫ومثله الفخر الرازي الذي قال‪( :‬أما قوله‪( :‬هللا) فاعلموا أيها الناس أني أق ول‬
‫طول حياتي (هللا)‪ ،‬فإذا مت أقول (هللا)‪ ،‬وإذا سئلت في القبر أق ول (هللا)‪ ،‬وإذا جئت‬
‫يوم القيامة أقول (هللا)‪ ،‬واذا أخذت الكتاب أقول (هللا)‪ ،‬وإذا وزنت أعمالي أقول هللا‪،‬‬
‫وإذا جزت الص راط أق ول (هللا)‪ ،‬وإذا دخلت الجن ة أق ول (هللا)‪ ،‬وإذا رأيت هللا قلت‬
‫(هللا) (‪)4‬‬
‫ومثله قال الشيخ عبد القادر الجيالني‪( :‬هللا هو االس م األعظم وإنم ا يس تجاب‬
‫لك إذا قلت‪( :‬هللا) وليس في قلبك غيره‪ .‬ولهذا االسم خ واص وعج ائب منه ا أن من‬
‫داوم علي ه في خل وة مج ردا ب أن يق ول (هللا هللا) ح تى يغلب علي ه من ه ح ال ش اهد‬
‫عجائب الملكوت) (‪)5‬‬
‫ومثله قال الشيخ أبو العباس المرسي‪( :‬ليكن ذكرك (هللا‪ ،‬هللا) فإن ه ذا االس م‬

‫‪ )(1‬اإلحياء ‪.3/77‬‬
‫‪ )(2‬ابن عليوة‪ ،‬القول المعتمد في مشروعية الذكر باالسم المفرد‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪ )(3‬المقصد األسنى (ص‪)62 :‬‬
‫‪ )(4‬التفسير الكبير‪.1/155 :‬‬
‫‪ )(5‬حاشية إعانة الطالبين للدمياطي ‪.1/10‬‬
‫‪98‬‬
‫سلطان األسماء‪ ،‬وله بساط وثمرة‪ ،‬فبساطه العلم‪ ،‬وثمرته النور‪ ،‬فينبغي اإلكثار من‬
‫ذكره‪ ،‬لتضمنه جميع ما في ال اله إال هللا من العقائد والعلوم واآلداب والحقائق) (‪)1‬‬
‫ومثله ق ال الش يخ ابن عط اء هللا االس كندري‪( :‬منهم من اخت ار ال إل ه إال هللا‬
‫محمد رسول هللا في االبتداء واالنتهاء‪ ،‬ومنهم من اخت ار ال إل ه إال هللا في االبت داء‪،‬‬
‫وفي االنتهاء االقتصار على هللا وهم األكثرون‪ ،‬ومنهم من اختار (هللا هللا)(‪)2‬‬
‫ومثله قال الش يخ أحم د زروق‪( :‬وله ذا اخت اره المش ايخ [ أي ال ذكر باالس م‬
‫المفرد ] ورجح وه على س ائر األذك ار وجعل وا ل ه خل وات ووص لوا ب ه إلى أعلى‬
‫المقام ات والوالي ات وإن ك ان فيهم من اخت ار في االبت داء (ال إل ه إال هللا) وفي‬
‫االنتهاء (هللا هللا) (‪)3‬‬
‫ومثل ه ق ال الش يخ الغرن اطي الكل بي‪( :‬وأم ا األس ماء ال تي معناه ا االطالع‬
‫واإلدراك ك العليم والس ميع والبص ير والق ريب وش به ذل ك فثمرته ا المراقب ة وأم ا‬
‫الصالة على النبي ‪ ‬فثمرتها ش دة المحب ة في ه والمحافظ ة على اتب اع س نته وأم ا‬
‫االستغفار فثمرته االستقامة على التقوى والمحافظ ة على ش روط التوب ة م ع إنك ار‬
‫القلب بسبب الذنوب المتقدمة) (‪)4‬‬
‫ومثله الشيخ زكريا األنص اري‪ ،‬وق د ق ال بعض هم يص ف ذك ره هلل‪( :‬ومنهم‬
‫ش يخ اإلس الم الش يخ زكري ا األنص اري الخ زرجي أح د أرك ان الط ريقين الفق ه‪،‬‬
‫والتصوف‪ ،‬وقد خدمته عشرين سنة فما رأيته قط في غفلة وال اشتغال بم ا ال يع ني‬
‫ال ليال‪ ،‬وال نهاراً‪ ،‬وكان رضي هللا عنه مع كبر سنه يص لي س نن الف رائض قائم اً‪،‬‬
‫ويق ول ال أع ود نفس ي الكس ل‪ ،‬وك ان إذا ج اءه ش خص‪ ،‬وط ول في الكالم يق ول‪:‬‬
‫بالعجل ضيعت علينا الزمن‪ ،‬وكنت إذا أصلحت كلمة في الكتاب ال ذي أق رؤه علي ه‬
‫أسمعه يقول‪ :‬بخفض صوته (هللا هللا) ال يفتر حتى أفرغ) (‪)5‬‬
‫ومثله الشيخ عبد الرؤوف المناوي‪ ،‬فقد قال (قالوا وليس للمس افر إلى هللا في‬
‫سلوكه أنفع من الذكر المفرد القاطع من األفئدة األغيار وهو هللا) (‪)6‬‬
‫وقال‪( :‬ويقعد فارغ القلب مجموع الهم وال يفرق فكره بقراءة وال غيره ا ب ل‬
‫يجتهد أن ال يخطر بباله شيء سوى ذك ر هللا فال ي زال ق ائال بلس انه‪( :‬هللا هللا) على‬
‫الدوام مع حض ور قلب ه إلى أن ينتهي إلى حال ة ي ترك تحري ك اللس ان وي رى ك أن‬
‫الكلمة جارية عليه ثم يصير إلى أن ينمحي أثره من اللس ان فيص ادف قلب ه مواظب ا‬
‫على الذكر ثم تنمحي ص ورة اللف ظ ويبقى مع نى الكلم ة مج ردا في قلب ه ال يفارق ه‬
‫وعند ذلك انتظار الفتح)(‪)7‬‬

‫‪ )(1‬نور التحقيق لحامد صقر ص ‪.174‬‬


‫‪ )(2‬مفتاح الفالح ص ‪.35‬‬
‫‪ )(3‬مضار االبتداع للشيخ على محفوظ‪ ،‬ص ‪.294‬‬
‫‪ )(4‬تفسيره المسمى التسهيل ‪.1/64‬‬
‫‪ )(5‬طبقات الشعراني الكبرى ‪.1/350‬‬
‫‪ )(6‬فيض القدير ‪.2/309‬‬
‫‪ )(7‬مرجع سابق‪.3/116 ،‬‬
‫‪99‬‬
‫و ق ال في ش رح ح ديث أس ماء بنت عميس‪ :‬علم ني رس ول هللا ‪ ‬كلم ات‬
‫أقولهن عند الكرب (هللا هللا ربي ال أش رك ب ه ش يئا) (‪( :)1‬هللا هللا) وك رره اس تلذاذا‬
‫ب ذكره واستحض ارا لعظمت ه وتأكي دا للتوحي د فإن ه االس م الج امع لجمي ع الص فات‬
‫الجاللية والجمالية والكمالية)(‪)2‬‬
‫وغيرها من األق وال ال تي تعم دت ذك ر بعض ها ل ك‪ ،‬لت ذكر لص احبك ال ذي‬
‫نصحك‪ ،‬وتقول له تعقيبا عليها‪ :‬إن ه ؤالء ال ذين ذك رت ل ك م واقفهم ح ول االس م‬
‫المفرد ال يقلون علما عن أولئك ال ذين نقلت عنهم‪ ،‬وهم مش تهرون ـ باإلض افة إلى‬
‫علمهم ـ بالدعوة لتزكية النفس وإص الحها‪ ،‬ولهم تج اربهم المفي دة في ذل ك‪ ..‬فل ذلك‬
‫كان لك أن تأخذ برأي من شئت من المش ايخ من غ ير أن تب دع وال أن تح رج على‬
‫من أخذ بقول غيرهم‪ ،‬خاص ة إن س اندتهم المص ادر المقدس ة‪ ،‬وأي دهم دلي ل العق ل‬
‫الذي ال يمكن أن يشكك أحد في قوته وال صحته‪.‬‬
‫وهل يمكن لعاقل أن يرى أن ذكر اسم هللا وترديده ال قيمة له‪ ،‬وال أثر ل ه في‬
‫النفس‪ ..‬وكي ف يك ون ذل ك‪ ،‬وك ل ال ذين ذك روه وجرب وه أخ بروا عن ت أثيره في‬
‫نفوس هم‪ ،‬وامتالئه ا بك ل المع اني ال تي قص د ال ذكر من أجله ا‪ ..‬وأوله ا الش عور‬
‫بحضور هللا وعظمته ومحبته‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن ماجه ‪2/1277‬وأبو داود ‪.2/87‬‬


‫‪ )(2‬فيض القدير ‪.1/286‬‬
‫‪100‬‬
‫الدعاء والمناجاة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن ال دعاء والمناج اة‪ ،‬وارتباطهم ا‬
‫بالتزكية والترقية‪ ،‬والتخلق والتحقق‪ ،‬وعن آدابهما في الظ اهر والب اطن‪ ،‬وعن س ر‬
‫النصوص المقدسة الواردة في فضلهما‪ ،‬وطلبت مني أن أرشدك إلى بعض األدعي ة‬
‫والمناجيات التي يفيدك التزامها وترديدها في تربية نفسك وتهذيبها والرقي بها‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الدعاء من الوس ائل العظمى لته ذيب‬
‫النفس وتزكيتها وتصحيح مسارها لتسير إلى ربها على السراط المستقيم الذي هي أه‬
‫لها‪ ،‬والذي ال يمكن أن تتحقق بالكماالت المتاحة لها من دونه‪.‬‬
‫وه و ل ذلك‪ ،‬أعظم من أن يقتص ر دوره على تحقي ق الحاج ات‪ ،‬أو تبلي غ‬
‫األمنيات‪ ،‬بل ه و س لم ي رقى ب ك إلى س موات الكم االت‪ ،‬لتطل ع على الحق ائق من‬
‫مرائيها الصقيلة التي لم تدنس‪.‬‬
‫ولذلك ورد األمر به في النصوص المقدسة‪ ،‬واعتبر الغافل أو المستغني عنه‬
‫مستكبرا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَا َل َربُّ ُك ُم ا ْدعُونِي أَ ْس ت َِجبْ لَ ُك ْم إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْس تَ ْكبِرُونَ ع َْن‬
‫ِعبَا َدتِي َسيَ ْد ُخلُونَ َجهَنَّ َم دَا ِخ ِرينَ ﴾ [غافر‪]60 :‬‬
‫وأنت ترى ـ أيه ا المري د الص ادق ـ كي ف ق رن هللا تع الى ال دعاء بالعب ادة‪،‬‬
‫واعتبر ترك الدعاء استكبار‪ ،‬وال أقبح من هذا االستكبار‪ ،‬وكيف يس تكبر العب د عن‬
‫دع اء من ه و خالق ه‪ ،‬ورازق ه‪ ،‬وموج ده من الع دم‪ ،‬ومحيي ه‪ ،‬ومميت ه‪ ،‬ومثيب ه‪،‬‬
‫ومعاقبه‪ ،‬وخالق العالم أجمع‪ ..‬فال شك أن هذا االستكبار طرف من الجنون‪ ،‬وشعبة‬
‫من كفران النعم)(‪)1‬‬
‫ولذلك ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬التصريح بكون الدعاء عبادة‪ ،‬قال‬
‫‪( :‬الدعاء هو العبادة)(‪)2‬‬
‫بل إنه ‪ ‬اعتبره من أكرم العبادات على هللا‪ ،‬فق ال‪( :‬ليس ش يء أك رم على‬
‫هللا عز وجل من الدعاء)(‪)3‬‬
‫وأخ بر عن حب هللا لل دعاء وال داعين‪ ،‬فق ال‪( :‬س لوا هللا من فض له؛ ف إن هللا‬
‫يحب أن ي ُسأل)(‪)4‬‬
‫ولم يقتصر األمر على ذلك فقط‪ ،‬فيك ون لبعض النف وس مندوح ة في ترك ه‪،‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬أخبر عن غضب هللا على من ترك الدعاء‪ ،‬فقال‪( :‬من لم يسأل‬
‫هللا يغضبْ عليه)(‪)5‬‬
‫وقد عبر الشاعر عن ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪ )(1‬تحفة الذاكرين للشوكاني ص‪.28‬‬
‫‪ )( 2‬رواه الترمذي(‪ ،)2969‬وأبو داود(‪ ،)1479‬وابن ماجة(‪)3828‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد ‪ ،2/362‬والبخاري في األدب المفرد(‪ ،)712‬وابن ماجة(‪)3829‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي(‪)3571‬‬
‫‪ )(5‬أحمد ‪ ،2/442‬والترمذي(‪ ،)3373‬وابن ماجة(‪)3827‬‬
‫‪101‬‬
‫وس ل ال ذي أبواب ه ال‬ ‫ي آدم حاجة‬ ‫ألن بُ ن َّ‬‫ال تس َّ‬
‫حجبُ‬‫تُ َ‬
‫أل‬ ‫وبُن َُّي آدم حين يُس‬ ‫هللا يغض ب إن ت ركت‬
‫يغضبُ‬ ‫سؤالَهُ‬
‫قد تذكر لي ـ أيها المريد الصادق ـ أنه ال يوجد أحد في الدنيا إال ويرف ع يدي ه‬
‫إلى هللا بالدعاء‪ ،‬ولكن مع ذلك لم ينالوا حظوظهم من تهذيب نفوس هم‪ ،‬وال تربيته ا‪،‬‬
‫بل إن بعض أدعيتهم أو كثير منه ا ال يزي دهم إال انحراف ا وض الال‪ ،‬ألنهم ي برزون‬
‫فيها ما تمتلئ به نفوسهم من أحقاد وأمراض‪.‬‬
‫وذلك صحيح‪ ،‬بل إن هللا تعالى أشار إليه‪ ،‬وحذر منه حين قال‪﴿ :‬ا ْد ُع وا َربَّك ْمُ‬
‫َضرُّ عًا َو ُخ ْفيَةً إِنَّهُ اَل يُ ِحبُّ ْال ُم ْعتَ ِدينَ ﴾ [األعراف‪]55 :‬‬ ‫ت َ‬
‫َ‬
‫وذكر نماذج عنه‪ ،‬ومنها قول ذلك المشرك المستكبر‪﴿ :‬الله َّم إِ ْن َكانَ هَ ذا هُ َو‬
‫ب أَلِ ٍيم﴾ [األنفال‪]32 :‬‬ ‫ك فَأ َ ْم ِطرْ َعلَ ْينَا ِح َجا َرةً ِمنَ ال َّس َما ِء أَ ِو ا ْئتِنَا بِ َع َذا ٍ‬‫ق ِم ْن ِع ْن ِد َ‬ ‫ْال َح َّ‬
‫ب َواقِ ٍع (‪ )1‬لِ ْل َك افِ ِرينَ‬‫﴿س أ َ َل َس ائِ ٌل بِ َع َذا ٍ‬ ‫أو ذلك الذي ذكره هللا تعالى‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫ْس لَهُ دَافِعٌ﴾ [المعارج‪]2 ،1 :‬‬ ‫لَي َ‬
‫َ‬
‫ب َولَوْ ال أ َج ٌل ُم َس ّمًى‬ ‫ْ‬
‫ك بِال َع َذا ِ‬
‫ْجلونَ َ‬ ‫ُ‬ ‫﴿ويَ ْستَع ِ‬
‫أو أولئك الذين قال هللا تعالى فيهم‪َ :‬‬
‫لَ َجا َءهُ ُم ْال َع َذابُ َولَيَ أْتِيَنَّهُ ْم بَ ْغتَ ةً َوهُ ْم ال يَ ْش ُعرُونَ ﴾ (العنكب وت‪ ،)53:‬وق ال‪َ ﴿ :‬وقَ الوا‬
‫ُ‬
‫ب﴾ (ص‪)16:‬‬ ‫َربَّنَا عَجِّ لْ لَنَا قِطَّنَا قَ ْب َل يَوْ ِم ْال ِح َسا ِ‬
‫أو تلك األمم السالفة‪ ،‬التي راحت تسخر من الدعاء‪ ،‬وتقول مقالة قوم شعيب‪:‬‬
‫ط َعلَ ْينَا ِك َسفًا ِمنَ ال َّس َما ِء إِ ْن ُك ْنتَ ِمنَ الصَّا ِدقِينَ ﴾ (الشعراء‪)187 :‬‬ ‫﴿فَأ َ ْسقِ ْ‬
‫ولذلك؛ فإن الدعاء مثل القرآن الكريم‪ ،‬ق د يك ون دواء‪ ،‬وق د يك ون داء‪ ،‬وق د‬
‫يكون نورا‪ ،‬وقد يكون ظلم ة‪ ،‬كم ا ق ال رس ول هللا ‪( :‬رب ت ال للق رآن والق رآن‬
‫يلعنه)(‪)1‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف اعلم أن ال دعاء الحقيقي ال ذي جعل ه‬
‫هللا تعالى مدرسة لتزكية عباده‪ ،‬يحت اج جمل ة من اآلداب والمع ارف‪ ،‬مثلم ا يحت اج‬
‫كل دواء إلى ذلك‪ ،‬حتى ال يصبح الدواء سما‪.‬‬
‫ولذلك ف إن لل دعاء عالق ة بكال الرك نين الكب يرين للتزكي ة والترقي ة‪ ،‬وهم ا‪:‬‬
‫التحقق والتخلق‪ ..‬التحقق الذي يثمر الق رب من هللا‪ ..‬والتخل ق ال ذي يثم ر ك ل القيم‬
‫النبيلة التي دعا هللا إليها‪ ،‬وأمر عباده بها‪.‬‬
‫الدعاء والتحقق‪:‬‬
‫أما عالقة الدعاء بالتحقق والمعرفة اإللهي ة؛ فق د ع بر عن اآلداب والش روط‬
‫المرتبطة به بعض الحكماء‪ ،‬فقال‪( :‬ال يكن طلبك سببا إلى العط اء من ه فيق ّل فهم ك‬
‫عنه‪ ،‬وليكن طلبك إلظهار العبوديّة وقياما بحقوق الربوبيّة)‬
‫وعبر عنه آخر‪ ،‬فقال‪ :‬ال يكن حظك من الدعاء الفرح بقضاء حاجاتك فتكون‬
‫من المحجوبين وليكن همك مناجاة محبوبك)‬
‫‪ )(1‬ابن أبي حاتم في تفسيره ج‪ 6:‬ص‪.2017:‬‬
‫‪102‬‬
‫ويع ني ب ذلك أن غ رض الع ارفين من الطلب من هللا ليس تحقي ق حاج اتهم‬
‫فقط‪ ،‬فاهلل أعلم بها منهم‪ ،‬ولكن غرضهم إظهار العبودية‪ ،‬والقي ام بحق وق الربوبي ة‪،‬‬
‫وإال فإن كرم هللا أعظم من أن ينتظ ر ال دعاء أو الطلب‪ ،‬كم ا ع بر عن ذل ك الحكيم‬
‫بقول ه‪( :‬كي ف يك ون طلب ك الالح ق س ببا في عطائ ه الس ابق‪ ..‬ج ّل حكم األزل أن‬
‫يضاف إلى العلل) (‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬عنايته فيك ال لشيء من ك‪ ،‬وأين كنت حين واجهت ك عنايت ه‪ ،‬وقابلت ك‬
‫رعايته؟ لم يكن في أزل ه إخالص أعم ال‪ ،‬وال وج ود أح وال‪ ،‬ب ل لم يكن هن اك إال‬
‫محض اإلفضال ووجود النّوال) (‪)2‬‬
‫وقال آخر‪( :‬التوحيد أن تعلم أن قدرة هللا في األش ياء بال عالج‪ ،‬وص نعه له ا‬
‫بال مزاج‪ ،‬وعلة كل شيء صنعه‪ ،‬وال عل ة لص نعه‪ ،‬وليس في الس موات العلي ا وال‬
‫في األرضين السفلى مدبر غير هللا‪ ،‬وكل ما يخطر ببالك فاهلل مخالف لذلك)‬
‫وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسيء فهم هذه الكلمات‪ ،‬فت ترك ال دعاء‪ ،‬أو‬
‫تتعالى عليه‪ ،‬أو تتوهم أنك ال تدعو إال لتنفيذ ما أمرت به‪ ،‬وأنك مستغن عن حاجتك‬
‫التي تطلبها؛ فذلك سوء أدب منك‪.‬‬
‫بل إن معنى هذه الكلمات‪ ،‬أن تتأدب م ع هللا تع الى حين دعائ ك ل ه‪ ،‬ح تى ال‬
‫يكون نظرك لما تطلب أعظم من نظرك لمن تطلب‪ ..‬وحتى ال تشتغل بالنعم ة ال تي‬
‫تطلبها عن المنعم الذي تطلب منه‪.‬‬
‫وهذا هو األدب الذي يجعلك تش عر ب أن مج رد دعائ ك هلل‪ ،‬وت ذللك بين يدي ه‬
‫مكسب من المكاسب العظيمة‪ ،‬وال تهتم بعدها‪ ،‬هل تحق ق مطلب ك ال ذي طلبت ه أم لم‬
‫يتحقق‪ ،‬ألن مجرد دعائك هلل كاف في تحقيق جميع مطالبك‪.‬‬
‫وله ذا تج د أدعي ة رس ول هللا ‪ ‬وأئم ة اله دى من بع ده مليئ ة بالمع ارف‬
‫اإللهية‪ ،‬ألن القصد منها ليس تحقيق المط الب الحس ية المح دودة فق ط‪ ،‬وإنم ا تنبي ه‬
‫القلب إلى العظيم الذي تتوجه إليه بالدعاء‪.‬‬
‫فقد ورد في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬كان إذا كربه أم ر‪ ،‬يق ول‪( :‬ي ا ح ّي ي ا‬
‫قيّوم‪ ،‬برحمتك أستغيث) (‪)3‬‬
‫وروي أنه كان يقول عند الك رب‪( :‬ال إل ه إال هللا العظيم الحليم‪ ،‬ال إل ه إال هللا‬
‫رب الع رش العظيم‪ ،‬ال إل ه إال هللا رب الس ماوات الس بع‪ ،‬ورب األرض‪ ،‬ورب‬
‫العرش الكريم)(‪)4‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وكان يقول‪( :‬ما أص اب عب دا ق ط ه ّم وال ح زن‪ ،‬فق ال‪ :‬الله ّم إني عب دك ابن‬
‫عبدك ابن أمتك‪ ،‬ناصيتي بيدك‪ ،‬ماض ف ّي حكمك عدل ف ّي قضاؤك‪ ،‬أسألك بك ّل اسم‬

‫‪ )(1‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.363 :‬‬


‫‪ )(2‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.364 :‬‬

‫‪ )(3‬الترمذي (‪)3524‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (الفتح ‪ )6345 /11‬ومسلم (‪)2730‬‬
‫‪103‬‬
‫ه و ل ك‪ ،‬س ّميت ب ه نفس ك‪ ،‬أو أنزلت ه في كتاب ك‪ ،‬أو علّمت ه أح دا من خلق ك‪ ،‬أو‬
‫اس تأثرت ب ه في علم الغيب عن دك أن تجع ل الق رآن ربي ع قل بي‪ ،‬ون ور ص دري‪،‬‬
‫وجالء حزني‪ ،‬وذهاب ه ّمي وغ ّمي‪ ،‬إاّل أذهب هللا ه ّمه وغ ّمه‪ ،‬وأبدله مكانه فرحا)‪،‬‬
‫سمعهن أن يتعلّ ّ‬
‫مهن)(‪)1‬‬ ‫ّ‬ ‫قالوا‪ :‬يا رسول هللا أفال نتعلّ ّ‬
‫مهن؟ قال‪( :‬بلى ينبغي لمن‬
‫وعن اإلمام علي قال‪( :‬علمني رسول هللا ‪ ‬إذا ن زل بي ك رب أن أق ول‪ :‬ال‬
‫إله إال هللا الحليم الكريم‪ ،‬سبحان هللا وتبارك هللا رب العرش العظيم‪ ،‬والحمد هلل رب‬
‫العالمين) (‪)2‬‬
‫بأن لك الحم د ال إل ه إاّل أنت الحنّ ان‬
‫وكان يقول في دعائه‪( :‬الله ّم إنّي أسألك ّ‬
‫ي يا قيّوم)(‪)3‬‬‫المنّان بديع السّماوات واألرض يا ذا الجالل واإلكرام يا ح ّ‬
‫فهذه األدعية جميعا ممتلئة بالمعارف اإللهية‪ ،‬وكأن الغرض منها تنبيه الذهن‬
‫إلى قدرة هللا تعالى على إزاله كل ك رب أو ح زن أو بالء‪ ،‬وأن ه ف وق قدرت ه رحيم‬
‫لطيف بعباده عليم بأحوالهم‪ ..‬وكل ذلك يجعل القلب مستعدا ألن يعيش تلك الحقائق‪،‬‬
‫ال أن يرددها بلسانه فقط‪.‬‬
‫وهكذا نجد أدعي ة أئم ة اله دى ممتلئ ة بالمع ارف اإللهي ة‪ ،‬وبأحس ن عب ارة‪،‬‬
‫وأدق إشارة‪ ،‬وبلغة جميلة بسيطة يفهمها العامة والخاصة‪ ،‬كل بحسبه‪.‬‬
‫ومن أجمل تلك األدعية‪ ،‬دعاء اإلمام الحسين يوم عرفة‪ ،‬فه و وح ده مدرس ة‬
‫عقدية كاملة‪ ،‬تؤسس لعالقة إيمانية وثيقة مع هللا‪ ،‬تختلف عن ذلك الجدل والتحريف‬
‫الذي أسست له الكثير من المدارس الكالمية‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أنه عند مطالعة المقطع األول من الدعاء‪ ،‬وال ذي يب دأ‬
‫بق ول اإلم ام الحس ين‪( :‬الحم د هلل ال ذي ليس لقض ائه داف ع‪ ،‬وال لعطائ ه م انع‪ ،‬وال‬
‫كصنعه صنع صانع)(‪ ،)4‬وينتهي بقوله‪( :‬وليس كمثله شيء‪ ،‬وهو الس ميع البص ير‪،‬‬
‫اللطي ف الخب ير‪ ،‬وه و على ك ل ش يء ق دير) ن رى الكث ير من المع ارف المتعلق ة‬
‫بالكم ال اإللهي‪ ،‬والمص اغة بطريق ة ال يمكن أن نج د مثله ا في المت ون‪ ،‬وال كتب‬
‫العقائد التي صاغها المتكلمون والممتلئة بالجفاف‪.‬‬
‫فهو يذكر إرادة هللا وقضاءه ال ذي ال يمكن ألح د أن يدفع ه‪( :‬الحم د هلل ال ذي‬
‫ليس لقضائه دافع)‪ ،‬وهو يرد بذلك على ك ل التي ارات ال تي ح دت من إرادة هللا‪ ،‬أو‬
‫تصورت إمكانية معارضتها‪.‬‬
‫وهو يذكر جود هللا وكرمه المنبني على قدرته المطلق ة‪( :‬وال لعطائ ه م انع)‪،‬‬
‫(وهو الجواد الواسع)‬
‫وهو يذكر ق درة هللا وإبداع ه في ص نعه‪( :‬وال كص نعه ص نع ص انع‪ ..‬فط ر‬
‫أجناس البدائع‪ ،‬وأتقن بحكمته الصنائع)‬
‫‪ )(1‬أحمد (‪ )712‬وابن حبان (‪ )2372‬والحاكم (‪)509 /1‬‬
‫‪ )(2‬أحمد (‪)91 /1‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود (‪ )1495‬والنسائي ‪ ،25 /3‬وابن ماجه (‪)3858‬‬
‫‪ )(4‬انظر الدعاء كامال في‪ :‬البلد االمين والدرع الحصين‪ ،‬ص‪ ،251‬بحار األنوار‪.95/217 :‬‬
‫‪104‬‬
‫وهو يذكر رقابة هللا وسمعه وبصره وحضوره مع ك ل ش يء‪ ،‬وع دم غي اب‬
‫شيء عنه‪( :‬ال يخفى عليه الطالئع)‬
‫وهو ي ذكر خل ق هللا تع الى للخل ق ورحمت ه ورأفت ه بهم وهدايت ه لهم‪( :‬وه و‬
‫للخليقة صانع‪ ،‬وهو المستعان على الفجائع‪ ،‬ج ازي ك ل ص انع‪ ،‬ورائش ك ل ق انع‪،‬‬
‫وراحم كل ضارع‪ ،‬ومنزل المنافع والكتاب الجامع بالنور الساطع)‬
‫وهو يذكر أفعال هللا المرتبطة بخلق ه‪ ،‬وس ماعه ألدعيتهم‪ ،‬ورفع ه لكرب اتهم‪،‬‬
‫ومجازاته للمسيئين منهم‪( :‬وهو للدعوات سامع‪ ،‬وللدرجات رافع‪ ،‬وللكربات داف ع‪،‬‬
‫وللجبابرة قامع‪ ،‬وراحم عبرة كل ضارع‪ ،‬ودافع ضرعة كل ضارع)‬
‫وهكذا لو تأملن ا ه ذا المقط ع وح ده وج دنا في ه الكث ير من المع ارف اإللهي ة‬
‫المرتبط ة باألس ماء الحس نى‪ ،‬ول ذلك أنص حك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ب ه وبك ل‬
‫األدعي ة ال واردة عن أئم ة اله دى‪ ،‬فكله ا أدعي ة مبارك ة‪ ،‬تمأل قلب ك يقين ا وإيمان ا‬
‫وتجعلك في تواصل دائم مع هللا‪.‬‬
‫الدعاء والتخلق‪:‬‬
‫أما عالقة الدعاء بالتخلق والسلوك؛ فإن مض امين ك ل األدعي ة ال واردة عن‬
‫الن بي ‪ ‬وعن أئم ة اله دى ممتلئ ة بالمع اني األخالقي ة‪ ،‬وال تي تجع ل من ال داعي‬
‫حريصا على رياضة نفسه عليها‪ ،‬واالستعانة باهلل على ذلك‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الدعاء ال ذي اس تعاذ في ه ‪ ‬من جمل ة من‬
‫األخالق السيئة‪ ،‬وه و‪( :‬الله ّم إنّي أع وذ ب ك من العج ز والكس ل‪ ،‬والجبن والبخ ل‪،‬‬
‫والهرم وعذاب القبر‪ .‬الله ّم آت نفسي تقواها‪ ،‬وز ّكها أنت خير من ز ّكاها‪ .‬أنت وليّها‬
‫ومواله ا الله ّم إنّي أع وذ ب ك من علم ال ينف ع‪ ،‬ومن قلب ال يخش ع‪ ،‬ومن نفس ال‬
‫تشبع‪ ،‬ومن دعوة ال يستجاب لها) (‪)1‬‬
‫فهذا الدعاء ليس مجرد استعاذة من تلك الخالل السيئة فق ط‪ ،‬وإنم ا ه و تنبي ه‬
‫للنفس إلى كونها خالال سيئة ينبغي الح ذر واالبتع اد عنه ا‪ ،‬وذل ك م ا يجع ل النفس‬
‫أكثر استعدادا لتلقي العالجات التي تخلصها منها‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك م ا ورد في بعض أدعي ة الص باح والمس اء‪ ،‬وه و (الله َّم ف اطر‬
‫واألرض‪ ،‬عالِ َم الغيب وال َّشهادة‪ ،‬ربَّ كل ش ي ٍء وملي َك ه‪ ،‬أش هد أن ال إل ه‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫السموا ِ‬
‫ر الشيطان وشركه) (‪)2‬‬ ‫ْ‬
‫إال أنت‪ ،‬أعوذ بك من ش ِّر نفسي‪ ،‬وش ِّ‬
‫ومثله ما ورد في بعض َدعَوات المك روب‪ ،‬وه و (اللهم رحمتَ ك أرج و‪ ،‬فال‬
‫تَ ِك ْلني إلى نفسي طَرْ فَةَ عين‪ ،‬وأَصلِح لي َ‬
‫شأني كلَّه‪ ،‬ال إله إال أنت) (‪)3‬‬
‫ومثل ه م ا ورد عن عم ران بن حص ين‪ ،‬ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪ ‬ألبي‪ :‬ي ا‬
‫ُصينُ ‪ ،‬كم تَعبُد اليوم إلهًا؟ قال‪ :‬سبعة‪ِ :‬ستَّة في األرض‪ ،‬وواحدًا في الس ماء‪ ،‬ق ال‪:‬‬ ‫ح َ‬
‫فأيهم تع ُّد لرهبتك ورغبتك؟ ق ال‪ :‬ال ذي في الس ماء‪ ،‬ق ال‪ :‬ي ا حص ينُ ‪ ،‬أ َم ا إن ك ل و‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي (‪)3389‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود (‪)5090‬‬
‫‪105‬‬
‫أسلمتَ َعلَّ ْمتُك كلمتين تنفَ َعانِك‪ ،‬قال‪ :‬فلما أس لم حُص ين‪ ،‬ج اء فق ال‪ :‬ي ا رس و َل هللا‪،‬‬
‫وأع ْذني من ش ِّر‬ ‫علِّ ْمني الكلمتين اللتين وعدتني‪ ،‬ق ال‪( :‬ق ل‪ :‬الله َّم أل ِهم ني رُش دي‪ِ ،‬‬
‫نفسي) (‪)1‬‬
‫فمثل هذه األدعية تنبه إلى ش ر النفس‪ ،‬وكون ه ال يختل ف عن ش ر الش يطان‪،‬‬
‫وهو ما يدعو إلى الحذر من الغرور والعجب وكل األمراض النفسية‪.‬‬
‫وهكذا نجد األدعية الكثيرة التي تنبه إلى القيم الروحية‪ ،‬ومن ذلك ما ورد في‬
‫دعاء النوم‪ ،‬والذي فيه الحقائق الدالة على التوك ل وتف ويض األم ور كله ا هلل‪ :‬وه و‬
‫أت‬ ‫ت أ ْم ري إلي ك‪ ،‬وألج ُ‬ ‫ض ُ‬‫ْت وجهي إلي ك‪ ،‬وف َّو ْ‬ ‫أسلمت نَ ْفس ي إلي ك‪ ،‬وو َّجه ُ‬
‫ُ‬ ‫(الله َّم‬
‫آمنت بكتابك الذي‬ ‫ُ‬ ‫ظَهْري إليك‪ ،‬رغبة ورهبة إليك‪ ،‬ال ملجأ وال منجا منك إال إليك‪،‬‬
‫مت على الفط رة‪ ،‬وإن‬ ‫مت في ليلت ك َّ‬ ‫أن زلت‪ ،‬وبنبيِّك ال ذي أرس لت‪ ،‬فإن ك إن َّ‬
‫أصبحتَ أصبتَ خيرًا) (‪)2‬‬
‫ومثله الدعاء الذي أخبر رسول هللا ‪ ‬أن داود علي ه الس الم ك ان ي دعو ب ه‪،‬‬
‫وه و مرتب ط بحب هللا‪ ،‬وك ل م ا يثم ره من مح اب‪ ،‬وه و‪( :‬اللهم إني أس ألك حبَّك‪،‬‬
‫ي من‬ ‫ك‪ ،‬وحبَّ العم ل ال ذي يبلِّغ ني حبَّك‪ ،‬اللهم اجع ل حبَّك أحبَّ إل َّ‬ ‫وحبَّ من ي ُِحبُّ َ‬
‫ن ْفسي وأهلي ومالي‪ ،‬ومن الماء البارد) (‪)3‬‬
‫وغيرها من األدعية الكثيرة المروية عن رسول هللا ‪ ،‬والتي تشكل مدرسة‬
‫كامل ة في التزكي ة والترقي ة‪ ..‬ومثله ا أدعي ة أئم ة اله دى الكث يرة‪ ،‬ومن األمثل ة‬
‫الواضحة عنها دعاء مكارم األخالق‪ ،‬والممتلئ بكل القيم األخالقية الرفيعة‪.‬‬
‫فمن مقاطع ال دعاء قول ه بع د الص الة والس الم على محم د وآل ه الط اهرين‪:‬‬
‫(اكفني ما يشغلني االهتمام به‪ ،‬واستعملني بم ا تس ألني غ دا عن ه‪ ،‬واس تفرغ أي امي‬
‫فيما خلقتني له‪ ،‬وأغن ني وأوس ع علي في رزق ك‪ ،‬وال تفت ني ب النظر‪ ،‬وأع زني وال‬
‫تبتليني بالكبر‪ ،‬وعبدني لك وال تفسد عبادتي بالعجب‪ ،‬وأجر للناس على يدي الخ ير‬
‫وال تمحقه بالمن‪ ،‬وهب لي معالي األخالق‪ ،‬واعصمني من الفخر) (‪)4‬‬
‫ويقول في مقطع آخر‪( :‬ال ترفعني في الناس درجة إال حططت ني عن د نفس ي‬
‫مثلها‪ ،‬وال تحدث لي عزا ظاهرا إال أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها)‬
‫ويقول‪( :‬متعني بهدى صالح ال أستبدل به‪ ،‬وطريقة حق ال أزيغ عنه ا‪ ،‬وني ة‬
‫رشد ال أشك فيها‪ ،‬وعمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك‪ ،‬فإذا كان عمري مرتعا‬
‫للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إلي‪ ،‬أو يستحكم غضبك علي)‬
‫ويقول‪( :‬اللهم ال تدع خصلة تعاب مني إال أصلحتها‪ ،‬وال عائبة أونب به ا إال‬
‫حسنتها‪ ،‬وال أكرومة في ناقصة إال أتممتها)‬
‫ويقول‪( :‬أبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة‪ ،‬ومن حسد أهل البغي الم ودة‪،‬‬
‫‪ )(1‬الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪ ،‬ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي‬
‫‪ )(4‬الصحيفة السجادية‪ ،‬الدعاء ‪.20‬‬
‫‪106‬‬
‫ومن ظنة أهل الصالح الثقة‪ ،‬ومن عداوة األدنين الوالية‪ ،‬ومن عقوق ذوي األرحام‬
‫المبرة‪ ،‬ومن خذالن األقربين النصرة‪ ،‬ومن حب المدارين تص حيح المق ة‪ ،‬ومن رد‬
‫المالبسين كرم العشرة‪ ،‬ومن مرارة خوف الظالمين حالوة األمنة)‬
‫ويق ول‪( :‬س ددني ألن أع ارض من غش ني بالنص ح‪ ،‬وأج زي من هج رني‬
‫بالبر‪ ،‬وأثيب من حرمني بالبذل‪ ،‬وأكافئ من قطعني بالص لة‪ ،‬وأخ الف من اغت ابني‬
‫إلى حسن الذكر‪ ،‬وأن أشكر الحسنة‪ ،‬وأغضي عن السيئة)‬
‫ويق ول‪( :‬حل ني بحلي ة الص الحين‪ ،‬وألبس ني زين ة المتقين‪ ،‬في بس ط الع دل‪،‬‬
‫وكظم الغي ظ‪ ،‬وإطف اء الن ائرة‪ ،‬وض م أه ل الفرق ة‪ ،‬وإص الح ذات ال بين‪ ،‬وإفش اء‬
‫العارفة‪ ،‬وستر العائب ة‪ ،‬ولين العريك ة‪ ،‬وخفض الجن اح‪ ،‬وحس ن الس يرة‪ ،‬وس كون‬
‫ال ريح‪ ،‬وطيب المخالق ة‪ ،‬والس بق إلى الفض يلة‪ ،‬وإيث ار التفض ل‪ ،‬وت رك التعي ير‪،‬‬
‫واإلفضال على غير المستحق‪ ،‬والقول بالحق وإن ع ز‪ ،‬واس تقالل الخ ير وإن ك ثر‬
‫من قولي وفعلي‪ ،‬واستكثار الش ر وإن ق ل من ق ولي وفعلي‪ ،‬وأكم ل ذل ك لي ب دوام‬
‫الطاعة‪ ،‬ولزوم الجماعة‪ ،‬ورفض أهل البدع‪ ،‬ومستعملي الرأي المخترع)‬
‫ق لل دفع ع ني‪ ،‬وال أظلمن وأنت الق ادر على‬ ‫ويق ول‪( :‬ال أظلمن وأنت مطي ٌ‬
‫القبض مني‪ ،‬وال أضلن وق د أمكنت ك ه دايتي‪ ،‬وال أفتق رن ومن عن دك وس عي‪ ،‬وال‬
‫أطغين ومن عندك وجدي)‬
‫ويقول‪( :‬اللهم وأنطقني بالهدى‪ ،‬وألهم ني التق وى‪ ،‬ووفق ني لل تي هي أزكى‪،‬‬
‫واستعملني بم ا ه و أرض ى‪ .‬اللهم اس لك بي الطريق ة المثلى‪ ،‬واجعل ني على ملت ك‬
‫أموت وأحيا‪ ..‬ومتعني باالقتصاد‪ ،‬واجعلني من أهل السداد‪ ،‬ومن أدلة الرشاد‪ ،‬ومن‬
‫صالح العباد‪ ،‬وارزقني فوز المعاد‪ ،‬وسالمة المرصاد)‬
‫ويقول‪( :‬نبهني لذكرك في أوقات الغفلة‪ ،‬واستعملني بطاعتك في أيام المهل ة‪،‬‬
‫وانهج لي إلى محبتك سبيال سهلة‪ ،‬أكمل لي بها خير الدنيا واآلخرة)‬
‫وهك ذا ت رى ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ه ذا ال دعاء وغ يره مليئ ا بالمع اني‬
‫األخالقية التي تنبه النفس إلى ضرورة التزكية واإلصالح‪ ،‬فالدعاء ليس طلبا فق ط‪،‬‬
‫وإنما هو مدرسة تربوية متكاملة‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫التضرع واالستغاثة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التضرع واالستغاثة وعالقتهم ا‬
‫بالدعاء‪ ،‬وهل هما نفسه أم غيره‪ ،‬وعن آثارهما في التزكية والترقي ة‪ ،‬وعن س ر م ا‬
‫ورد حولهما في النصوص المقدسة‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التضرع إلى هللا واالستغاثة ب ه‪ ،‬وإن‬
‫كانا يتفقان مع الدعاء في كون كليهما مرتبطا بطلب الحاج ات من هللا إال أن الف رق‬
‫بينهما هو في كون الدعاء قد يكون بتضرع واستكانة وقد ال يكون كذلك‪ ..‬فقد يكون‬
‫الداعي غافال الهيا غير مضطر لحاجته‪ ،‬وال ملحا في تحص يلها‪ ،‬ول ذلك ق د يك رر‬
‫أن واع األدعي ة ال تي يحفظه ا‪ ،‬أو يس معها من غ ير أن يك ون ج ادا وال ص ادقا في‬
‫طلبها‪.‬‬
‫أما التض رع؛ فه و تل ك المس كنة ال تي يظهره ا ال داعي إلى هللا‪ ،‬إم ا بس بب‬
‫معرفته هلل‪ ،‬أو بسبب حاجته الش ديدة لم ا يطلب ه‪ ،‬ول ذلك يظه ر ك ل أن واع المس كنة‬
‫والمذلة لتحقيقها‪..‬‬
‫ولذلك يرتبط التضرع في القرآن الكريم بأنواع البالء التي يص بها هللا تع الى‬
‫على عباده‪ ،‬إلخراجهم من كبرهم وغرورهم‪ ،‬ليستشعروا حاجتهم إلى هللا‪ ،‬وفق رهم‬
‫الض رَّا ِء‬‫إليه‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا إِلَى أُ َم ٍم ِم ْن قَ ْبلِ كَ فَأَخَ ْذنَاهُ ْم بِ ْالبَأْ َس ا ِء َو َّ‬
‫َض َّر ُعونَ ﴾ [األنعام‪]42 :‬‬ ‫لَ َعلَّهُ ْم يَت َ‬
‫لكن فريقا من هؤالء ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ ولقس وة قل وبهم‪ ،‬ب ل موته ا‪،‬‬
‫يؤثرون المعاناة واأللم على التضرع إلى هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فَلَوْ اَل إِ ْذ َجا َءهُ ْم بَأْ ُسنَا‬
‫ت قُلُوبُهُ ْم َو َزيَّنَ لَهُ ُم ال َّش ْيطَانُ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [األنعام‪]43 :‬‬ ‫َض َّرعُوا َولَ ِك ْن قَ َس ْ‬ ‫ت َ‬
‫َ‬
‫ب ف َم ا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫خَ‬
‫﴿ولقد أ ذنَاه ْم بِال َع ذا ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وقال ـ جامعا بين االستكانة والتذلل والتضرع ـ‪َ :‬‬
‫َض َّر ُعونَ ﴾ [المؤمنون‪]76 :‬‬ ‫ا ْستَ َكانُوا لِ َربِّ ِه ْم َو َما يَت َ‬
‫ويذكر القرآن الكريم أن هناك فرقا أخ رى من الن اس‪ ،‬ال تب دي ذل ك الص بر‬
‫على المعاناة‪ ،‬مثلما فعل الفريق السابق‪ ،‬وإنما تتل ون بتل ون األح وال؛ ف إن أص ابها‬
‫البالء تضرعت‪ ،‬وإن كشف عادت إلى طبيعتها‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬قُلْ َم ْن يُنَجِّي ُك ْم ِم ْن‬
‫َضرُّ عًا َو ُخ ْفيَةً لَئِ ْن أَ ْن َجانَا ِم ْن هَ ِذ ِه لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ال َّشا ِك ِرينَ‬
‫ت ْالبَرِّ َو ْالبَحْ ِر تَ ْدعُونَهُ ت َ‬ ‫ظُلُ َما ِ‬
‫ب ثُ َّم أَ ْنتُ ْم تُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [األنعام‪]64 ،63 :‬‬ ‫(‪ )63‬قُ ِل هللا يُنَجِّي ُك ْم ِم ْنهَا َو ِم ْن ُك ِّل كَرْ ٍ‬
‫ولهذا يدعو هللا تعالى المؤمنين إلى أال يكونوا أمثال هؤالء ال ذين يعب دون هللا‬
‫على ح رف‪ ،‬وإنم ا من أولئ ك ال ذين يتض رعون إلى هللا في ك ل حين؛ فال يك ون‬
‫َض رُّ عًا‬ ‫دعاؤهم هلل إال تضرعا واستغاثة واستكانة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬ا ْد ُع وا َربَّ ُك ْم ت َ‬
‫َو ُخ ْفيَةً إِنَّهُ اَل يُ ِحبُّ ْال ُم ْعتَ ِدينَ ﴾ [األعراف‪]55 :‬‬
‫ك‬‫﴿و ْاذ ُك رْ َربَّكَ فِي نَ ْف ِس َ‬ ‫وهكذا يدعو إلى التضرع أثن اء ال ذكر‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ال َواَل تَك ْن ِمنَ ال َغ افِلِينَ ﴾‬ ‫ص ِ‬ ‫َض رُّ عًا َو ِخيفَ ةً َو ُدونَ ْال َج ْه ِر ِمنَ ْالقَ وْ ِل بِ ْال ُغ د ُِّو َواآْل َ‬ ‫ت َ‬
‫‪108‬‬
‫[األعراف‪]205 :‬‬
‫وبذلك فإن التضرع ـ أيها المريد الصادق ـ ال يرتبط بالدعاء فقط‪ ،‬وإنم ا ه و‬
‫تلك الحال التي يظهر عليها العابد هلل تعالى‪ ،‬سواء كان ذاكرا أو داعيا أو مص ليا أو‬
‫في أي حال من أحواله‪ ،‬وق د ورد في الص الة قول ه ‪ ‬في الح ديث القدس ي‪( :‬إنم ا‬
‫أقبل الصالة ممن يتواضع لعظمتي‪ ،‬ويك ف نفس ه عن الش هوات من أجلي‪ ،‬ويقط ع‬
‫نه اره ب ذكري وال يتعظم على خلقي‪ ،‬ويطعم الج ائع‪ ،‬ويكس و الع اري‪ ،‬وي رحم‬
‫المصاب‪ ،‬ويؤوي الغريب‪ ،‬فذلك يش رق ن وره مث ل الش مس‪ ،‬أجع ل ل ه في الظلم ة‬
‫ن وراً‪ ،‬وفي الجهال ة حلم ا‪ ،‬أكأله بع زتي وأس تحفظه مالئك تي‪ ،‬ي دعوني فألبي ه‪،‬‬
‫ويسألني فأعطيه‪ ،‬فمثل ذلك العبد عندي كمث ل جن ات الف ردوس ال يس بق أثماره ا‪،‬‬
‫وال تتغير عن حالها) (‪)1‬‬
‫(الص الة مث نى مث نى‪ ،‬تش هّد في ك ّل‬
‫ّ‬ ‫وفي ح ديث آخ ر ق ال رس ول هللا ‪:‬‬
‫ركعتين وتخ ّشع‪ ،‬وتضرّع‪ ،‬وتمسكن‪ ،‬وتذرّع(‪ )2‬وتقنع(‪ )3‬يديك ـ يقول‪ :‬ترفعهما إلى‬
‫ربّك مستقبال ببطونهما وجهك ـ وتقول‪ :‬يا ربّ يا ربّ ! ومن لم يفعل ذل ك فه و ك ذا‬
‫وكذا)(‪)4‬‬
‫وقد اعتبر اإلمام السجاد ذلك من حقوق الصالة‪ ،‬فقال‪( :‬فأما حق وق الص الة‪،‬‬
‫فأن تعلم أنها وفادة إلى هللا‪ ،‬وأنك فيها قائم بين يدي هللا‪ ،‬فإذا علمت ذل ك كنت خليق ا‬
‫أن تقوم فيها مقام العبد الذليل الراغب الراهب الخائف الراجي المستكين المتض رع‬
‫المعظم مقام من يقوم بين يديه‪ ،‬بالسكون والوقار‪ ،‬وخشوع االطراف‪ ،‬ولين الجناح‪،‬‬
‫وحسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فكاك رقبته التي أح اطت به ا خطيئت ه‪،‬‬
‫واستهلكتها ذنوبه‪ ،‬وال قوة إال باهلل) (‪)5‬‬
‫وهكذا ورد في السنة العملية لرسول هللا ‪ ‬وأئمة الهدى‪ ،‬فقد ورد في ص فة‬
‫صالة رسول هللا ‪ ‬أنه كان (إذا قام إلى الصالة يري د وجه ه خوف ا من هللا تع الى‪،‬‬
‫وكان لصدره أو لجوفه أزيز كأزيز المرجل)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬كان إذا قام إلى الصالة‬
‫كأنه ثوب ملقى) (‪)6‬‬
‫وورد في ص فة ص الة اإلم ام علي أن ه (إذا حض ر وقت الص الة ي تزلزل‬
‫ويتلون‪ ،‬فيقال له‪ :‬مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول‪ :‬جاء وقت أمانة هللا ال تي عرض ها‬
‫على السماوات واالرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها االنس ان‪ ،‬فال أدري‬
‫احسن أداء ما حملت أم ال) (‪)7‬‬
‫وورد في صفة صالة اإلمام السجاد أنه ك ان (إذا ق ام في الص الة كأن ه س اق‬
‫‪ )(1‬رواه البزار (ص ‪ - 65‬زوائده)‬
‫‪ )(2‬تذرّع‪ :‬تتوسل‪.‬‬
‫‪ )(3‬تقنع‪ :‬أي تم ّد يديك مسترحما ربك‪.‬‬
‫‪ )(4‬الترمذي(‪ ،)385‬وابن ماجة(‪ )1325‬وأحمد(‪)211 /1‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار (‪)64 /46‬‬
‫‪ )(6‬فالح السائل ص ‪.161‬‬
‫‪ )(7‬بحار األنوار (‪)64 /46‬‬
‫‪109‬‬
‫منه) (‪)1‬‬ ‫شجرة ال يتحرك منه شئ إال ما حركت الريح‬
‫ووصف اإلمام الباقر صالة أبيه السجاد‪ ،‬فقال‪( :‬كان علي بن الحسين إذا ق ام‬
‫في صالته غشي لونه لون آخر‪ ،‬وكان قيامه في صالته قي ام العب د ال ذليل بين ي دي‬
‫الملك الجليل‪ ،‬كانت أعضاؤه ترتعد من خشية هللا وكان يصلي صالة مودع يرى أن‬
‫ال يصلي بعدها أبدا)(‪)2‬‬
‫وورد في ص فة ص الة اإلم امين الب اقر والص ادق أنهم ا كان ا (إذا قام ا إلى‬
‫الصالة تغيرت ألوانهما حمرة ومرة صفرة كأنما يناجيان شيئا يريانه) (‪)3‬‬
‫وهكذا وردت النصوص المقدس ة الكث يرة الحاث ة على التض رع في ال دعاء‪،‬‬
‫وعدم االكتفاء بترديد األلفاظ الخالية من مشاعر التذلل والمس كنة‪ ،‬وق د روي أن هللا‬
‫تعالى أوحى إلى عيسى عليه السالم‪( :‬يا عيسى !‪ ..‬ادعني دع اء الغري ق والح زين‬
‫مغيث‪ ..‬يا عيسى !‪ ..‬أذ ّل لي قلبك‪ ،‬وأك ثر ذك ري في الخل وات‪ ،‬واعلم‬ ‫ٌ‬ ‫الذي ليس له‬
‫أن سروري أن تبصبص إل ّي‪ ،‬وكن في ذلك حيّا ً وال تكن ميّتاً‪ ،‬وأسمعني منك صوتا ً‬ ‫ّ‬
‫حزيناً)(‪)4‬‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬ادعوا هللا وأنتم موقن ون باإلجاب ة‪،‬‬
‫واعلموا أن هللا ال يستجيب دعاء من قلب غافل اله)(‪)5‬‬
‫فإن العب د إذا دع ا ف نزل‬ ‫وعن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬تق ّدموا في الدعاء !‪ّ ..‬‬
‫روف‪ ،‬وإذا لم يكن دع ا ف نزل ب ه البالء ف دعا قي ل‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫(صوت مع‬ ‫به البالء فدعا قيل‪:‬‬
‫(أين كنت قبل اليوم؟)(‪)6‬‬
‫ومم ا ورد في أخب ار ب ني إس رائيل ال تي يمكن اعتباره ا واالعتب ار به ا أن‬
‫موسى عليه الس الم م ر على قري ة من ق رى ب ني إس رائيل فنظ ر إلى أغني ائهم ق د‬
‫لبس وا المس وح‪ ،‬وجعل وا ال تراب على رؤوس هم وهم قي ام على أرجلهم تج ري‬
‫دموعهم على خدودهم‪ ،‬فبكى رحمة لهم فقال‪ :‬إلهي هؤالء بن و إس رائيل حن وا إلي ك‬
‫حنين الحمام وعووا عوى الذباب‪ ،‬ونبحوا نباح الكالب‪ ،‬ف أوحى هللا إلي ه‪ :‬ولم ذاك‪،‬‬
‫ألن خزان تي ق د نف دت؟ أم ألن ذات ي دي ق د قلت؟ أم لس ت أرحم ال راحمين؟ ولكن‬
‫أعلمهم أني عليم بذات الصدور‪ ،‬يدعونني وقلوبهم غائبة عني مائلة إلى الدنيا)(‪)7‬‬
‫وهك ذا ك انت الس يرة العملي ة لرس ول هللا ‪ ‬وورثت ه‪ ،‬ممتلئ ة بك ل مع اني‬
‫الخضوع والخشوع والت ذلل هلل‪ ،‬والتأم ل فيه ا وح ده ك اف لتربي ة النفس على تل ك‬
‫المعاني العظيمة‪ ،‬وقد وصف ابن عبّاس بعض مواقفه ‪ ،‬فقال‪( :‬خرج رس ول هللا‬
‫متبذال متواضعا متض رّعا‪ ،‬حتّى أتى المص لّى‪ ،‬فلم يخطب خطبتكم ه ذه‪ ،‬ولكن‬ ‫‪ّ ‬‬
‫‪ )(1‬فالح السائل ص ‪.161‬‬
‫‪ )(2‬الخصال ج ‪ 2‬ص ‪100‬‬
‫‪ )(3‬فالح السائل ص ‪.161‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،341 /90 :‬عن‪ :‬عدة الداعي ص‪.97‬‬
‫‪ )(5‬رواه الترمذي‪.3/164 ،‬‬
‫‪ )(6‬بحار األنوار‪.90/339 :‬‬
‫‪ )(7‬بحار األنوار (‪)319 /93‬‬
‫‪110‬‬
‫العيد)(‪)1‬‬ ‫لم يزل في ال ّدعاء والتّضرّع والتّكبير وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في‬
‫وفي الحديث أنه (ل ّما كان يوم بدر‪ ،‬نظر النّ ب ّي ‪ ‬إلى أص حابه وهم ثلثمائ ة‬
‫ونيّف‪ ،‬ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزي ادة‪ ،‬فاس تقبل النّ ب ّي ‪ ‬القبل ة‪ ،‬ث ّم م ّد‬
‫يديه وعليه رداؤه وإزاره‪ ،‬ث ّم قال‪( :‬الله ّم أين ما وع دتني‪ ،‬الله ّم أنج ز م ا وع دتني‪،‬‬
‫الله ّم إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل اإلسالم فال تعبد في األرض أبدا)‪ ،‬فما زال‬
‫يستغيث ربّه ع ّز وج ّل ويدعوه حتّى سقط رداؤه؛ فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فر ّده‪ ،‬ث ّم‬
‫التزمه من ورائه‪ ،‬ث ّم ق ال‪ :‬ي ا ن ب ّي هللا‪ ،‬كف اك مناش دتك ربّ ك‪ ،‬فإنّ ه س ينجز ل ك م ا‬
‫وعدك) (‪)2‬‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك التضرع واالستغاثة التي حص لت ي وم ب در‬
‫من رسول هللا ‪ ‬ومن معه من الصحابة‪ ،‬وذكر أنها س بب إغ اثتهم من هللا تع الى‪،‬‬
‫ف ِمنَ ْال َماَل ئِ َك ِة ُم رْ ِدفِينَ ﴾‬
‫اب لَ ُك ْم أَنِّي ُم ِم ُّد ُك ْم بِ أ َ ْل ٍ‬ ‫فق ال‪﴿ :‬إِ ْذ ت َْس تَ ِغيثُونَ َربَّ ُك ْم فَ ْ‬
‫اس تَ َج َ‬
‫[األنفال‪]9 :‬‬
‫وهكذا عند تأملك ـ أيها المريد الصادق ـ لما ورد من األدعية عن رس ول هللا‬
‫‪ ‬وأئمة الهدى؛ فإنك تجدها مملوءة بكل صيغ التض رع والت ذلل والمس كنة‪ ،‬ومن‬
‫األمثلة عليها تلك الشكوى التي شكا به ا رس ول هللا ‪ ‬قوم ه إلى رب ه عن دما ق ال‪:‬‬
‫(اللهم إني أشكو إليك ضعف ق وتي‪ ،‬وقل ة حيل تي‪ ،‬وه واني على الن اس‪ ،‬أنت أرحم‬
‫الراحمين‪ ،‬أنت رب المستض عفين‪ ،‬وأنت ربي إلى من تكل ني؟ إلى بعي د يتجهم ني‪،‬‬
‫أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن ب ك علي غض ب فال أب الي‪ ،‬ولكن عافيت ك هي‬
‫أوسع لي‪ ،‬أعوذ بن ور وجه ك ال ذي أش رقت ل ه الظلم ات وص لح علي ه أم ر ال دنيا‬
‫واآلخ رة من أن ي نزل بي غض بك‪ ،‬أو يح ل علي س خطك‪ ،‬لكن ل ك العت بى ح تى‬
‫ترضى‪ ،‬وال حول وال قوة إال بك) (‪)3‬‬
‫ومما ورد عن أئمة الهدى من ذلك قول اإلم ام الحس ين في ال دعاء المش هور‬
‫الذي يستجير في ه باهلل تع الى من ش رور أعدائ ه‪( :‬الله ّم ي ا ع ّدتي عن د ش ّدتي‪ ،‬وي ا‬
‫غوثي عند كربتي‪ ،‬احرس ني بعين ك ال تي ال تن ام‪ ،‬واكنف ني بركن ك ال ذي ال ي رام‪،‬‬
‫وارحمني بقدرتك عل ّي‪ ،‬فال أهلك وأنت رجائي‪ ،‬الله ّم إنّ ك أك بر وأج ّل وأق در مم ا‬
‫أخاف وأحذر‪ .‬الله ّم بك أدرأ في نحره‪ ،‬وأستعيذ من شرّه‪ ،‬إنّك على كل شيء ق دير)‬
‫(‪)4‬‬
‫وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ تأصيال يعلمك كيفي ة التض رع والت ذلل إلى‬
‫هللا في دعائك‪ ،‬فاعلم أنه مم ا ييس ر ل ك ذل ك أم ران‪ :‬ش عورك باالفتق ار والحاج ة‪،‬‬
‫ومعهما شعورك بتقصيرك وتفريطك في حق ربك‪ ،‬ومعهم جميعا علمك بعظم ة هللا‬
‫تعالى وكماله وغناه وقدرته على كل شيء‪ ..‬فإن وف رت لنفس ك ه ذين الرك نين من‬

‫‪ )(1‬الترمذي(‪ )558‬وأبو داود(‪ ،)1165‬والنسائي(‪ )156 /3‬وابن ماجة(‪ )1266‬وأحمد(‪)230 /1‬‬


‫‪ )(2‬أحمد(‪ 30 /1‬ـ ‪ )31‬رقم(‪)209‬‬
‫‪ )(3‬سبل الهدى والرشاد‪ ،‬في سيرة خير العباد‪)439 /2( ،‬‬
‫‪ )(4‬نور األبصار‪ ،146 :‬وفيات األعيان ‪294 :2‬‬
‫‪111‬‬
‫أركان التضرع‪ ،‬خرجت عبادتك ودعاؤك من عالم الغفلة إلى عالم الحض ور‪ ،‬ومن‬
‫عالم االستغناء إلى عالم االفتقار‪ ،‬والصدقات ال تعطى إال للفقراء‪.‬‬
‫وقد أشار هللا تعالى إلى كال الركنين‪ ،‬فقال‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَ ْنتُ ُم الفقَ َرا ُء إِلَى هللا‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫﴿وهللا ْال َغنِ ُّي َوأَ ْنتُ ُم ْالفُقَ َرا ُء﴾ (محمد‪)38 :‬‬ ‫َوهللا هُ َو ْال َغنِ ُّي ْال َح ِميدُ﴾ (فاطر‪ ،)15:‬وقال‪َ :‬‬
‫اس تَ ْغنَى﴾ (العل ق‪ 6:‬ـ‬ ‫طغَى أَ ْن َرآهُ ْ‬ ‫وأشار إلى ضده‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬كاَّل إِ َّن اأْل ِ ْن َسانَ لَيَ ْ‬
‫‪ ،)7‬فقد أخبر تعالى بأن رؤية اإلنسان لغناه‪ ،‬تجعله طاغية ظالما متعديا لحدوده‪.‬‬
‫وأشار إليهما اإلمام الباقر بقوله‪( :‬غفر هللا ع ز وج ل لرج ل من أه ل البادي ة‬
‫بكلمتين دعا بهما‪ ،‬قال‪ :‬اللهم إن تعذبني فأهل ذلك أنا‪ ،‬وإن تغفر لي فأهل ذلك أنت‪،‬‬
‫فغفر هللا له)(‪)1‬‬
‫الحاجة والتقصير‪:‬‬
‫أما األول ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فمرتب ط بمعرف ة حقيقت ك‪ ،‬وأن ك عب د هلل‬
‫تعالى‪ ،‬وأنه لوال فضل هللا عليك لم تكن شيئا مذكورا‪ ،‬ولذلك ال تلتفت ألعمالك‪ ،‬وال‬
‫تحتجب به ا‪ ،‬وإنم ا تلتفت إلى فض ل رب ك م ع ش عورك بالتقص ير في حق ه؛ ف ذلك‬
‫أن عاب داً عب د هللا‬ ‫الشعور قد يكون أعظم من األعم ال الص الحة نفس ها‪ ،‬وق د روي ّ‬
‫قض‪ ،‬فأقب ل على‬ ‫س بعين عام ا ً ص ائما ً نه اره قائم ا ً ليل ه‪ ،‬فطلب إلى هللا حاج ةً فلم تُ َ‬
‫نفسه وقال‪( :‬من قبلك أُتيت‪ ،‬لو كان عندك خي ٌر قُضيت حاجتك‪ ،‬فأنزل هللا إليه ملك ا ً‬
‫فقال‪( :‬يا بن آدم !‪ ..‬ساعتك التي أزريت فيها نفسك‪ ،‬خي ٌر من عبادتك ال تي مض ت)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقد قال بعض الحكماء معبرا عن هذا المعنى‪( :‬معصية أورثت ذاّل وافتقارا‪،‬‬
‫خير من طاعة أورثت ع ّزا واستكبارا)‪ ،‬وسر كون (المعصية التي توجب االنكسار‬
‫أفضل من الطاعة التي توجب االس تكبار ألن المقص ود من الطاع ة ه و الخض وع‬
‫والخشوع واالنقياد والتذلل واالنكس ار‪( ،‬أن ا عن د المنكس رة قل وبهم من أجلي) ف إذا‬
‫خلت الطاع ة من ه ذه المع اني واتص فت بأض دادها فالمعص ية ال تي ت وجب ه ذه‬
‫المعاني وتجلب هذه المحاسن أفضل منها‪ ،‬إذ ال عبرة بصورة الطاعة‪ ،‬وال بصورة‬
‫(إن هللا ال ينظ ر إلى ص وركم‬ ‫المعصية‪ ،‬وإنما العبرة بما ينتج عنهما‪ ،‬كما قال ‪ّ :‬‬
‫وال إلى أعمالكم‪ ،‬وإنّما ينظر إلى قل وبكم)(‪ ،)3‬فثم رة الطاع ة هي ال ذل واالنكس ار‪،‬‬
‫وثم رة المعص ية هي القس وة واالس تكبار‪ ،‬ف إذا انقلبت الثم رات انقلبت الحق ائق‬
‫فصارت الطاعة معصية‪ ،‬والمعصية طاعة) (‪)4‬‬
‫وق ال آخ ر‪( :‬إنم ا م راد هللا س بحانه من عب اده قل وبهم‪ ،‬ف إذا تك بر الع الم أو‬
‫العابد‪ ،‬وتواضع الجاهل والعاصي وذل هيبة هلل عز وج ّل وخوفا منه فه و أط وع هلل‬

‫‪ )(1‬أمالى الصدوق ص ‪.238‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،90/342 :‬عن‪ :‬عدة الداعي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم(‪)1986 /4‬‬
‫‪ )(4‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪237 :‬‬
‫‪112‬‬
‫بقلبه) (‪)1‬‬ ‫عز وج ّل من العالم والعابد‬
‫ولهذا؛ تمتلئ أدعية رسول هللا ‪ ‬وأئمة الهدى بهذه المعاني التي أساء فهمها‬
‫المقصرون؛ فتوهموا أنهم يقرون بأخطائهم وذنوبهم مع أن م رادهم ه و االع تراف‬
‫بالتقصير في حق هللا‪ ،‬وهو ال يعني أبدا وقوع المعترف في التقصير‪.‬‬
‫َ‬
‫﴿والَّ ِذينَ ي ُْؤتُونَ َما آتَوْ ا َوقُلُوبُهُ ْم َو ِجلَ ة أنَّهُ ْم إِلَى‬
‫ٌ‬ ‫وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ت َوهُ ْم لَهَ ا َس ابِقُونَ ﴾ [المؤمن ون‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ار ُعونَ فِي الخَ ْي َرا ِ‬ ‫َربِّ ِه ْم َرا ِجعُونَ (‪ )60‬أولَئِكَ يُ َس ِ‬
‫‪]61 ،60‬‬
‫َّ‬
‫وقد ورد في تفسير اآلية أن عائشة قالت‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪َ ﴿ ،‬وال ِذينَ ي ُْؤتُ ونَ‬
‫َما آتَوْ ا َوقُلُوبُهُ ْم َو ِجلَةٌ﴾ [المؤمنون‪ ]60 :‬أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فق ال‪:‬‬
‫(ال‪ ،‬ولكن هم ال ذي يص ومون ويص لون ويتص دقون‪ ،‬ويخ افون أن ال يتقب ل منهم‬
‫سابقُونَ ﴾ [المؤمنون‪)2( )]61 :‬‬ ‫ار ُعونَ فِي ْال َخي َْرا ِ‬
‫ت َوهُ ْم لَهَا َ ِ‬ ‫﴿أُولَئِ َ‬
‫ك يُ َس ِ‬
‫ومن األمثلة على هذا قول اإلمام الحسين في دعائه يوم عرفة‪ ،‬وقوله‪( :‬ثم أنا‬
‫يا إلهى المعترف بذنوبي فاغفرها لي‪ ،‬أنا الذي أخطأت‪ ،‬أنا ال ذي أغفلت‪ ،‬أن ا ال ذي‬
‫جهلت‪ ،‬أنا الذي هممت‪ ،‬أنا الذي سهوت‪ ،‬أنا الذي اعتم دت‪ ،‬أن ا ال ذى تعم دت‪ ،‬أن ا‬
‫ال ذي وع دت‪ ،‬أن ا ال ذي أخلفت‪ ،‬أن ا ال ذي نكثت‪ ،‬أن ا ال ذي أق ررت‪ ،‬إلهى أع ترف‬
‫بنعمتك عندي‪ ،‬وأبوء بذنوبي فاغفر لي يا من ال تض ره ذن وب عب اده‪ ،‬وه و الغ ني‬
‫عن طاعتهم‪ ،‬والموفق من عم ل منهم ص الحا بمعونت ه ورحمت ه‪ ،‬فل ك الحم د إلهى‬
‫أمرتني فعصيتك‪ ،‬ونهيت ني ف ارتكبت نهي ك‪ ،‬فأص بحت ال ذا ب راءة فأعت ذر‪ ،‬وال ذا‬
‫ق وة فأنتص ر‪ ،‬فب أي ش ئ أس تقبلك ي ا م والي‪ ،‬أبس معى أم ببص ري أم بلس اني أم‬
‫برجلي؟ أليس كلها نعمك عندي‪ ،‬وبكلها عص يتك ي ا م والي‪ ،‬فل ك الحج ة والس بيل‬
‫علي‪ ،‬يا من سترني من االباء واالمهات أن يزجروني‪ ،‬ومن العشائر واالخ وان أن‬
‫يعيروني‪ ،‬ومن السالطين أن يعاقبوني ولو اطلعوا يا م والي على م ا اطلعت علي ه‬
‫مني‪ ،‬إذا ما أنظروني ولرفضوني وقطعوني) (‪)3‬‬
‫وقوله في القطعة المنسوبة إليه من دعاء عرفة‪( :‬إلهي منِّي م ا يلي ق بل ؤمي‪،‬‬
‫ومنك ما يليق بكرم ك‪ .‬إلهي كلم ا أخرس ني ل ؤمي أنطق ني كرم ك‪ ،‬وكلم ا آيس تني‬
‫أوصافي أطمعتني مننك‪ .‬إلهي َمن كانت محاس نه مس اوئ فكي ف ال تك ون مس اوئه‬
‫مساوئ‪ ،‬ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف ال تكون دعاواه دعاوى) (‪)4‬‬
‫ومثله قوله في دعائه بالكعبة‪( :‬إلهي نعّمتني فلم تج دني ش اكراً‪ ،‬وأبليت ني فلم‬
‫تجدني صابراً‪ ،‬فال أنت سلبت النعمة لترك الشكر‪ ،‬وال أدمت الش دة ل ترك الص بر‪،‬‬
‫إلهي ما يكون من الكريم إالّ الكرم) (‪)5‬‬

‫‪ )(1‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪ ،237 :‬القائل هو المحاسبي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي رقم (‪ )3174‬وصححه الحاكم ‪.394 /2‬‬
‫‪ )(3‬البلد األمين ص‪.255 :‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪.227 /95 ،‬‬
‫‪ )(5‬إحقاق الح ّ‬
‫ق‪ ،‬السيّد نور هللا التستريّ ‪.595 /11 ،‬‬
‫‪113‬‬
‫ومث ل ذل ك ق ول اإلم ام الس جاد في دع اء أبي حم زة‪( :‬أن ا ي ا رب ال ذي لم‬
‫أستحيك في الخالء ولم أراقبك في المأل أنا صاحب الدواهي العظمى أن ا ال ذي على‬
‫سيده اجترا‪ ،‬أنا الذي عصيت جب ار الس ما‪ ،‬أن ا ال ذي أعطيت على معاص ي ال دليل‬
‫الرُشى‪ ،‬أنا الذي حين بُشرت بها خرجت إليها أسعى‪ ،‬أنا الذي أمهلتني فما ارعويت‬
‫ي فما استحييت وعملت بالمعاصي فتعديت) (‪)1‬‬ ‫وسترت عل َّ‬
‫وقوله فيه‪( :‬إلهي أنا عبدك الضعيف الم ذنب‪ ،‬ومملوك ك الم نيب المغيث فال‬
‫تجعلني ممن صرفت عن ه وجه ك‪ ،‬وحجب ه س هوه عن عف وك‪ ،‬إلهي هب لي كم ال‬
‫االنقطاع إليك وأنر ابصار قلوبنا بضياء نظرها إليك‪ ،‬ح تى تخ رق ابص ار القل وب‬
‫حجب النور فتصل إلى معدن العظم ة‪ ،‬وتص ير ارواحن ا معلق ة بع ز قدس ك‪ ..‬إلهي‬
‫واجعلني ممن ناديته فأجابك‪ ،‬والحظته فصعق بجالل ك‪ ،‬فناجيت ه س را‪ ،‬وعم ل ل ك‬
‫جهرا‪ ،‬إلهي لم أسلط على حسن ظني قن وط اإلي اس‪ ،‬وال انقط ع رج ائي من جمي ل‬
‫كرمك‪ ،‬إلهي إن كانت الخطايا قد اسقطتني لديك‪ ،‬فاصفح عني بحسن توكلي عليك‪،‬‬
‫إلهى إن حطتنى الذنوب من مكارم لطفك‪ ،‬فقد نبه ني اليقين إلى ك رم عطف ك‪ ،‬إلهى‬
‫إن أنامتني الغفلة عن االستعداد للقائك‪ ،‬فق د نبهت ني المعرف ة بك رم آالئ ك‪ ،‬إلهى إن‬
‫دعانى إلى النار عظيم عقابك فقد دعانى إلى الجنة جزيل ثوابك) (‪)2‬‬
‫ومث ل ذل ك قول ه في دع اء [الت ذلل هلل ع ز وج ل]‪( :‬رب أفحمت ني ذن وبي‪،‬‬
‫وانقطعت مقالتي‪ ،‬فال حج ة لي‪ ،‬فأن ا األس ير ببلي تي‪ ،‬الم رتهن بعملي‪ ،‬الم تردد في‬
‫خطيئ تي‪ ،‬المتح ير عن قص دي‪ ،‬المنقط ع بي‪ ،‬ق د أوقفت نفس ي موق ف األذالء‬
‫المذنبين‪ ،‬موقف األشقياء المتجرئين عليك‪ ،‬المستخفين بوعدك‪ ..‬س بحانك أي ج رأة‬
‫اجترأت عليك‪ ،‬وأي تغرير غررت بنفسي‪ ..‬موالي ارحم كبوتي لح ر وجهي وزل ة‬
‫ق دمي‪ ،‬وع د بحلم ك على جهلي‪ ،‬وبإحس انك على إس اءتي‪ ،‬فأن ا المق ر ب ذنبي‪،‬‬
‫المعترف بخطيئتي‪ ،‬وهذه يدي وناص يتي أس تكين ب القود من نفس ي‪ ،‬ارحم ش يبتي‪،‬‬
‫ونفاد أيامي‪ ،‬واقتراب أجلي‪ ،‬وضعفي ومسكنتي‪ ،‬وقلة حيلتي‪ ..‬موالي وارحمني إذا‬
‫انقطع من الدنيا أثري‪ ،‬وامحى من المخل وقين ذك ري‪ ،‬وكنت من المنس يين كمن ق د‬
‫نس ي‪ ..‬م والي وارحم ني عن د تغ ير ص ورتي وح الي‪ ،‬إذا بلي جس مي‪ ،‬وتف رقت‬
‫أعضائي‪ ،‬وتقطعت أوصالي‪ ،‬يا غفلتي عما يراد بي م والي وارحم ني في حش ري‬
‫ونشري‪ ،‬واجعل في ذل ك الي وم م ع أوليائ ك م وقفي‪ ،‬وفي أحبائ ك مص دري‪ ،‬وفي‬
‫جوارك مسكني يا رب العالمين) (‪)3‬‬
‫فردد ـ أيها المريد الصادق ـ هذه األدعية وغيرها بحضور قلب؛ فال شك أنها‬
‫ستؤثر فيك أيما تأثير؛ فرسول هللا ‪ ‬وأئمة الهدى لم يقصدوا أن يدعو بها ألنفسهم‬
‫فقط‪ ،‬وإنما قصدوا أن يربوا بها األمة‪ ،‬ويعلموها كيف تتض رع إلى ربه ا وتس تكين‬
‫له‪ ،‬حتى تخرج عبوديتها من حجب الغفلة إلى ري اض اليقظ ة‪ ،‬ومن درك ات النفس‬
‫‪ )(1‬البلد األمين ص‪.209 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)99 /94‬‬
‫‪ )(3‬الصحيفة السجادية‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫األمارة إلى درجات النفس المطمئنة‪.‬‬
‫االستغناء والكمال‪:‬‬
‫أما الركن الثاني من أركان التضرع إلى هللا؛ فشعورك ـ أيها المريد الص ادق‬
‫ـ بعظمة ربك واستغنائه عنك وعن كل خلق ه‪ ،‬وأن ك أنت ال ذي تحت اج إلي ه في ك ل‬
‫شيء‪ ،‬ولذلك فإن المنة له وح ده‪ ،‬وه و م ا يحمي ك من ك ل األم راض ال تي يس ببها‬
‫االستغناء عن هللا بسبب االستغناء بالنفس‪.‬‬
‫وقد أش ار هللا تع الى إلى ه ذا ال ركن‪ ،‬وعالقت ه ب الركن الس ابق في قول ه في‬
‫َاضبًا فَظَ َّن أَ ْن لَ ْن نَ ْق ِد َر َعلَ ْي ِه فَنَ ادَى‬
‫َب ُمغ ِ‬ ‫ون إِ ْذ َذه َ‬
‫﴿و َذا النُّ ِ‬
‫دعاء يونس عليه السالم‪َ :‬‬
‫ت ِمنَ الظالِ ِمينَ ﴾ [األنبي اء‪ ،]87 :‬فق د‬ ‫َّ‬ ‫ت أَ ْن اَل إِلَهَ إِاَّل أَ ْنتَ ُس ْب َحانَكَ إِنِّي ُك ْن ُ‬ ‫فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫تضمن هذا الدعاء كال المعنيين‪ :‬توحيد هللا وتنزيهه الدالين على عظمته وغناه‪ ،‬كم ا‬
‫تضمن االعتراف بالتقصير والعجز والحاجة‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪ ‬في فضل ذلك الدعاء‪( :‬دعوة ذي الن ون إذ دع ا وه و في بطن‬
‫الحوت‪ :‬ال إله إال أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‪ ،‬فإنه لم يدع به ا رج ل مس لم‬
‫في شيء قط إال استجاب هللا له)(‪)1‬‬
‫ولذلك تمتلئ أدعية رسول هللا ‪ ‬وورثته من بعده ب ذكر كم ال هللا وعظمت ه‬
‫إلى جانب االعتراف بالحاجة والضعف والقصور‪ ،‬ومن األمثل ة على ذل ك م ا ورد‬
‫في الحديث عنه ‪ ‬وأنه كان يقول‪( :‬ي ا حي‪ ،‬ي ا قي وم‪ ،‬برحمت ك أس تغيث هللا‪ ،‬هللا‪،‬‬
‫هللا‪ ،‬ال شريك لك شيئا يا ص ريخ المك روبين‪ ،‬وي ا مجيب المض طرين‪ ،‬وي ا كاش ف‬
‫كرب المؤمنين‪ ،‬وي ا أرحم ال راحمين‪ ،‬اكش ف ك ربي وغمي فإن ه ال يكش فه إال أنت‬
‫تعلم حالي وحاجتي)(‪)2‬‬
‫وكان يقول‪( :‬اللهم رحمتك أرجو‪ ،‬فال تكل ني إلى نفس ي طرف ة عين وأص لح‬
‫لي شأني كله‪ ،‬ال إله إال أنت) (‪)3‬‬
‫وغيرها من األدعية الكثيرة‪ ،‬قد أشار اإلمام علي إلى هذا ال ركن‪ ،‬وارتباط ه‬
‫بالركن السابق‪ ،‬وذلك أثناء تعليمه لبعض أص حابه لكيفي ة التض رع إلى هللا تع الى‪،‬‬
‫فقد روي عن نوف البكالي أنه قال لإلمام علي‪ :‬ي ا أم ير المؤم نين إني خ ائف على‬
‫نفسي من الشره‪ ،‬والتطلع إلى طمع من أطماع ال دنيا)‪ ،‬فق ال ل ه اإلم ام‪( :‬وأين أنت‬
‫عن عصمة الخائفين‪ ،‬وكهف العارفين؟)‪ ،‬فقلت‪ :‬دلني عليه‪ ،‬ق ال‪( :‬هللا العلي العظيم‬
‫تصل أملك بحسن تفضله‪ ،‬وتقبل عليه بهمك‪ ،‬واع رض عن النازل ة في قلب ك‪ ،‬ف إن‬
‫أجلك بها فأنا الضامن من مورده ا‪ ،‬وانقط ع إلى هللا س بحانه فإن ه يق ول‪( :‬وع زتي‬
‫وجاللي ألقطعن أم ل ك ل من يؤم ل غ يري بالي أس‪ ،‬وألكس ونه ث وب المذل ة في‬
‫الن اس‪ ،‬وألبعدن ه من ق ربي‪ ،‬وألقطعن ه عن وص لي‪ ،‬وألخملن ذك ره حين ي رعى‬
‫غيري‪ ،‬أيؤمل ويله لشدائده غيري‪ ،‬وكشف الشدائد بيدي‪ ،‬ويرجو سواي وأن ا الحي‬
‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو الحسن بن الضحاك‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪115‬‬
‫الباقي‪ ،‬ويطرق أبواب عبادي وهي مغلقة وي ترك ب أبي وه و مفت وح‪ ،‬فمن ذا ال ذي‬
‫رج اني لكث ير جرم ه فخيبت رج اءه؟ جعلت آم ال عب ادي متص لة بي‪ ،‬وجعلت‬
‫رج اءهم م ذخورا لهم عن دي‪ ،‬ومألت س مواتي ممن ال يم ل تس بيحي‪ ،‬وأم رت‬
‫مالئكتي أن ال يغلقوا االبواب بيني وبين عبادي‪ ،‬ألم يعلم من فدحته نائبة من نوائبي‬
‫أن ال يملك احد كشفها إال باذني‪ ،‬فلم يعرض العب د بأمل ه ع ني‪ ،‬وق د أعطيت ه م ا لم‬
‫يسألني‪ ،‬فلم يسألني وسأل غيري‪ ،‬أفتراني ابتدئ خلقي من غير مسألة‪ ،‬ثم أس أل فال‬
‫أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخل ني عب دي أو ليس ال دنيا واآلخ رة لي؟ أو ليس الك رم‬
‫والجود ص فتي؟ أو ليس الفض ل والرحم ة بي دي؟ أو ليس اآلم ال ال ينتهي إال إلي؟‬
‫فمن يقطعها دوني؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون من س واي‪ ..‬وع زتي وجاللي ل و‬
‫جمعت آمال أه ل االرض والس ماء ثم أعطيت ك ل واح د منهم‪ ،‬م ا نقص من ملكي‬
‫بعض عضو الذرة‪ ،‬وكيف ينقص نائل أنا افضته‪ ،‬يا بوسا للقانطين من رحم تي‪ ،‬ي ا‬
‫بؤسا لمن عصاني وتوثب على محامي‪ ،‬ولم يراقبني واجترأ علي)‬
‫ثم قال‪ :‬يا نوف ادع به ذا ال دعاء‪( :‬إلهي إن حم دتك فبمواهب ك‪ ،‬وإن مج دتك‬
‫فبمرادك‪ ،‬وإن قدستك فبقوتك وإن هللتك فبقدرتك‪ ،‬وإن نظ رت ف إلى رحمت ك‪ ،‬وإن‬
‫عضضت فعلى نعمتك‪ ..‬إلهي ما أوحش طريقا ال يكون رفيقي فيه أملي فيك‪ ،‬وأبعد‬
‫سفرا ال يكون رجائي منه دليلي منك‪ ،‬خاب من اعتصم بحبل غيرك‪ ،‬وضعف ركن‬
‫من استند إلى غير ركن ك‪ ،‬في ا معلم مؤملي ه األم ل في ذهب عنهم كآب ة الوج ل‪ ،‬وال‬
‫ترمني ص الح العم ل‪ ،‬واكالني كالءة من فارقت ه الحي ل‪ ،‬فكي ف يلح ق مؤملي ك ذل‬
‫الفق ر وأنت الغ ني عن مض ار الم ذنبين‪ ،‬إلهي وإن ك ل حالوة منقطع ة‪ ،‬وحالوة‬
‫االيمان تزداد حالوتها اتص اال ب ك‪ ،‬إلهي وإن قل بي ق د بس ط أمل ه في ك‪ ،‬فأذق ه من‬
‫حالوة بسطك إياه البلوغ لما أمل‪ ،‬إنك على كل ش ئ ق دير‪ ..‬إلهي أس ئلك مس ألة من‬
‫يعرفك كنه معرفتك من كل خير ينبغي للمؤمن أن يس لكه‪ ،‬وأع وذ ب ك من ك ل ش ر‬
‫وفتنة أعذت بها أحباءك من خلقك‪ ،‬إنك على كل شئ قدير‪)1( )..‬‬
‫إلى آخر ال دعاء الطوي ل‪ ،‬الممتلئ بك ل المع اني ال تي تعلم ك ـ أيه ا المري د‬
‫الص ادق ـ كيفي ة التض رع والت ذلل واالس تغاثة باهلل‪ ،‬ومثل ه م ا روي عن اإلم ام‬
‫السجاد‪ ،‬فقد حدث طاووس اليماني‪ ،‬ق ال‪ :‬م ررت ب الحجر ف اذا أن ا بش خص راك ع‬
‫وساجد‪ ،‬فتأملته فاذا هو علي بن الحسين‪ ،‬فقلت‪ :‬يا نفس رج ل ص الح من أه ل بيت‬
‫النبوة‪ ،‬وهللا ألغتنمن دعاءه‪ ،‬فجعلت أرقبه حتى فرغ من صالته‪ ،‬ورفع ب اطن كفي ه‬
‫إلى السماء وجعل يقول‪ :‬سيدي سيدي هذه يداي قد مددتهما إلي ك بال ذنوب ممل وءة‪،‬‬
‫وعيناي بالرجاء ممدودة‪ ،‬وح ق لمن دع اك بالن دم ت ذلال أن تجيب ه ب الكرم تفض ال‪،‬‬
‫س يدي أمن أه ل الش قاء خلقت ني فأطي ل بك ائي أم من أه ل الس عادة خلقت ني فابش ر‬
‫رجائي‪ ..‬سيدي لو أن عذابي مما يزيد في ملكك لسألتك الصبر علي ه غ ير أني أعلم‬
‫أنه ال يزيد في ملكك طاعة المطيعين‪ ،‬وال ينقص منه معصية العاص ين‪ ،‬س يدي م ا‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)95 /94‬‬


‫‪116‬‬
‫أنا وماخطري؟ هب لي بفضلك‪ ،‬وجللني بسترك‪ ،‬واعف عن توبيخي بكرم وجهك‪،‬‬
‫إلهي وس يدي ارحم ني مص روعا على الف راش تقلب ني أي دي أحب تي‪ ،‬وارحم ني‬
‫مطروحا على المغتسل يغسلني صالح جيرتي‪ ،‬وارحمني محموال قد تناول االقرباء‬
‫اطراف جنازتي‪ ،‬وارحم في ذلك البيت المظلم وحشتي وغربتي ووحدتي)‬
‫قال طاووس‪ :‬فبكيت حتى عال نحيبي‪ ،‬والتفت إلي فقال‪ :‬ما يبكيك ي ا يم اني؟‬
‫أو ليس هذا مقام المذنبين؟ فقلت‪ :‬حبيبي حقيق على هللا أن ال ي ردك‪ ،‬وج دك محم د‬
‫‪‬؛ فبينا نحن كذلك إذ أقبل نفر من أصحابه فالتفت إليهم فق ال‪ :‬معاش ر اص حابي!‬
‫وأوص يكم ب اآلخرة‪ ،‬ولس ت أوص يكم بال دنيا‪ ،‬ف إنكم به ا مستوص ون‪ ،‬وعليه ا‬
‫حريصون‪ ،‬وبها مستمسكون‪ ،‬معاشر أصحابي إن الدنيا دار ممر واآلخرة دار مق ر‬
‫فخ ذوا من مم ركم لمق ركم‪ ،‬وال تهتك وا أس تاركم عن د من ال يخفى علي ه أس راركم‬
‫وأخرج وا من ال دنيا قل وبكم‪ ،‬قب ل أن تخ رج منه ا أب دانكم‪ ،‬أم ا رأيتم وس معتم م ا‬
‫استدرج به من كان قبلكم من االمم السالفة‪ ،‬والقرون الماضية‪ ،‬ألم تروا كيف فض ح‬
‫مستورهم‪ ،‬وأمطر مواطر الهوان عليهم‪ ،‬بتبديل سرورهم‪ ،‬بعد خفض عيش هم ولين‬
‫رفاهيتهم‪ ،‬صاروا حصائد النقم ومدارج المثالت‪ ،‬اقول ق ولي ه ذا واس تغفر هللا لي‬
‫ولكم) (‪)1‬‬
‫ومن أدعيت ه في ه ذا قول ه‪( :‬إلهي وعزت ك وجالل ك وعظمت ك‪ ،‬ل و أني من ذ‬
‫بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل ش عرة في ك ل طرف ة‬
‫عين سرمد االبد بحمد الخالئق وشكرهم أجمعين لكنت مقصرا في بل وغ أداء ش كر‬
‫أخفى نعمة من نعمتك علي‪ ،‬ولو أني ك ربت مع ادن حدي د ال دنيا بأني ابي‪ ،‬وح رمت‬
‫أرضيها بأش فار عي ني وبكيت من خش يتك مث ل بح ور الس ماوات واالرض ين دم ا‬
‫وصديدا‪ ،‬لكان ذلك قليال في كثير ما يجب من حقك علي‪ ،‬ولو أنك إلهي عذبتني بعد‬
‫ذلك بعذاب الخالئق أجمعين‪ ،‬وعظمت للنار خلقي وجسمي‪ ،‬ومألت جهنم وأطباقها‬
‫مني‪ ،‬حتى ال تكون في النار مع ذب غ يري‪ ،‬وال يك ون لجهنم حطب س واي‪ ،‬لك ان‬
‫ذلك بعدلك علي قليال في كثير ما استوجبته من عقوبتك)(‪)2‬‬
‫وغيرها من األدعية الكثيرة؛ فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على التزامه ا‪،‬‬
‫والت أدب بآدابه ا؛ فهي من ه دي نبي ك ‪ ‬وورثت ه الص ادقين ال ذين لم يغ يروا أو‬
‫يبدلوا‪ ،‬وإياك أن تلتفت ألولئ ك المش ككين في أس انيدها؛ فم ا ينفع ك التش كيك‪ ،‬وم ا‬
‫يضرك عدم صحتها عنهم‪ ،‬وكل معانيه ا مم ا ورد ب ه الق رآن الك ريم‪ ،‬ووردت ب ه‬
‫الروايات المتظافرة عنهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)89 /94‬‬


‫‪ )(2‬أمالى الصدوق ص ‪.180‬‬
‫‪117‬‬
‫االفتقار واالضطرار‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الص ادق ـ تس ألني عن االفتق ار واالض طرار الل ذين‬
‫يتحدث عنهما علماء التربية والتزكية كثيرا‪ ،‬ويعت برون أنهم ا من المن اهج ال تي ال‬
‫يمكن ألح د أن يتخلص من رعون ات نفس ه‪ ،‬أو يص ل إلى هللا من دونه ا‪ ،‬ول ذلك‬
‫يلقبون السالك بالفقير إلى هللا؛ فال يكتفون بكونه مريدا هلل‪ ،‬حتى يضموا إليها افتقاره‬
‫إلى هللا‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن ه ذا المع نى ليس من إب داع علم اء‬
‫التزكية والترقية‪ ،‬وال من المناهج التي س نوها ألنفس هم‪ ،‬وإنم ا ه و منهج ق رآني ال‬
‫يمكن لمن يريد السير إلى هللا إال أن ينتهجه؛ فال يمكن أن يكون السالك مريدا هلل‪ ،‬ما‬
‫لم يشعر بفاقته وفقره إلى هللا‪ ..‬فالفقر هو ال ذي يول د اإلرادة‪ ،‬وينهض الهم ة‪ ،‬وه و‬
‫الذي يجعل السالك في حركة دؤوبة لطلب الكم ال؛ ف إن ش عر بالكفاي ة‪ ،‬واس تغنى‪،‬‬
‫توقف سيره‪ ،‬وتوقفت حركته‪ ،‬وتوقف معهما كماله‪.‬‬
‫وحين يتوقف الكمال يب دأ النقص‪ ،‬ويب دأ مع ه االنح دار‪ ،‬وال نزول إلى أس فل‬
‫سافلين‪ ،‬ذلك أنه ال ثبات في الكون‪ ،‬بل كل م ا في الك ون بين ح الين إم ا الص عود‪،‬‬
‫وإما النزول‪ ،‬ومن توقف عن الصعود‪ ،‬فسيجد نفسه نازال‪ ،‬شعر أو لم يشعر‪.‬‬
‫ين﴾ [التوب ة‪:‬‬ ‫ات لِ ْلفُقَ َرا ِء َو ْال َم َس ا ِك ِ‬
‫ص َدقَ ُ‬ ‫وإلى ذلك اإلشارة بقوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّ َما ال َّ‬
‫‪ ،]60‬فهي تشير إلى أن قانون الصدقات واحد؛ فكما أنه ال يعطى من مواهب ال دنيا‬
‫إلى من أظه ر فق ره وحاجت ه‪ ،‬فك ذلك م واهب اآلخ رة وكماالته ا ال تعطى إال لمن‬
‫أبدى ذلك‪.‬‬
‫وال يتوقف ذلك على مواهب اآلخرة‪ ،‬بل إن هللا تعالى أخبر أن مواهب ال دنيا‬
‫َص َر ُك ُم هللا‬ ‫﴿ولَقَ ْد ن َ‬ ‫مرتبطة بالشعور باالفتقار‪ ،‬كم ا ق ال تع الى عن ق انون النص ر‪َ :‬‬
‫بِبَ ْد ٍر َوأَ ْنتُ ْم أَ ِذلَّةٌ فَاتَّقُوا هللا لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ [آل عمران‪]123 :‬‬
‫﴿و ْاذ ُك رُوا إِ ْذ ُك ْنتُ ْم قَلِياًل فَ َكثَّ َر ُك ْم﴾‬‫وقال في التمكين والتعزي ز وتكث ير الس واد‪َ :‬‬
‫[األعراف‪]86 :‬‬
‫ُ‬
‫َص َرك ُم هللا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وفي المقابل ذكر قانون االستغناء وسننه الحاكمة فيه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬لقد ن َ‬
‫ت َعلَ ْيك ُمُ‬ ‫ض اق َ ْ‬ ‫فِي َم َوا ِطنَ َكثِي َر ٍة َويَوْ َم ُحنَ ْي ٍن إِ ْذ أَ ْع َجبَ ْت ُك ْم َك ْث َرتُ ُك ْم فَلَ ْم تُ ْغ ِن َع ْن ُك ْم َش ْيئًا َو َ‬
‫ت ثُ َّم َولَّ ْيتُ ْم ُم ْدبِ ِرينَ ﴾ [التوبة‪]25 :‬‬ ‫اأْل َرْ ضُ بِ َما َر ُحبَ ْ‬
‫ولذلك اتفق الحكماء على أن (األش ياء كامن ة في أض دادها؛ ف العز ك امن في‬
‫الذل‪ ،‬والغنى في الفقر‪ ،‬والقوة في الضعف‪ ،‬والعلم في الجهل) (‪)1‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بل إن هللا تعالى أشار إلى ذلك‪ ،‬وصرح به‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ونُ ِري ُد أ ْن نَ ُم َّن َعلى ال ِذينَ‬
‫ارثِينَ (‪[ ﴾)5‬القصص‪]5 :‬‬ ‫ض َونَجْ َعلَهُ ْم أَئِ َّمةً َونَجْ َعلَهُ ُم ْال َو ِ‬ ‫ا ْستُضْ ِعفُوا فِي اأْل َرْ ِ‬

‫‪ )(1‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.245 :‬‬


‫‪118‬‬
‫وأشار إلى ذلك في قوله ـ عند الحديث عن قوانين الفرج اإللهي ـ‪﴿ :‬فَ إِ َّن َم َع‬
‫ْر يُ ْسرًا﴾ [الشرح‪ ،]6 ،5 :‬والذي فسره ‪ ‬بقول ه البن‬ ‫ْر يُ ْسرًا (‪ )5‬إِ َّن َم َع ْال ُعس ِ‬
‫ْال ُعس ِ‬
‫وأن مع العسر يس را)‬ ‫وأن الفرج مع الكرب‪ّ ،‬‬‫أن النصر مع الصبر‪ّ ،‬‬ ‫عباس‪( :‬واعلم ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫وقد اتفق الحكماء على أنه كلما اتص ف العب د بأوص افه‪ ،‬كلم ا من هللا تع الى‬
‫عليه بما هو أهله من الكرم والج ود والفض ل‪ ..‬وق د ق ال بعض هم في ذل ك‪( :‬تحقّ ق‬
‫بأوصافك يم ّدك بأوصافه‪ ،‬وتحقّق بذلّك يم ّدك بع ّزته‪ ،‬وتحقق بعجزك يم ّدك بقدرت ه‪،‬‬
‫وتحقق بضعفك يمدك بحوله وقوّته)‬
‫وق ال آخ ر‪( :‬من أراد أن يم ده هللا ب العز ال ذي ال يف نى فليتحق ق بال ذل هلل‬
‫والتواضع بين خلقه‪ ،‬فمن تواضع دون قدره رفعه هللا فوق قدره‪ ،‬ومن أراد أن يمده‬
‫هللا بالقدرة الخارقة للعوائد فليتحقق بعج زه‪ ،‬ويت برأ من حول ه وقوت ه‪ ،‬ومن أراد أن‬
‫يمده هللا بالقوة على طاعة مواله ومجاهدة نفسه وهواه فليتحقق بضعفه‪ ،‬ويسند أمره‬
‫إلى سيده‪ ،‬فبقدر ما تعطي تأخذ‪ ،‬وبقدر ما تتخلق تتحقق‪ ،‬وبقدر م ا تتحق ق بوص فك‬
‫يمدك بوصفه) (‪)2‬‬
‫وقد قال الشاعر معبرا عن ذلك‪:‬‬
‫فما أس رع الغ نى إذا ص حح الفقر‬ ‫تحق ق بوص ف الفق ر في ك ل‬
‫لحظة‬
‫ففي فاق ة ريح الم واهب ينشر‬ ‫وإن تردن بسط المواهب عاجال‬
‫ففي الذل يخفى الع ز ب ل ثم يظهر‬ ‫وإن ت ردن ع ّزا منيع ا مؤي دا‬
‫ة‬ ‫عك النفس الدني‬
‫ففي وض‬ ‫وإن ت ردن رفع ا لق درك عالي ا‬
‫يحضر‬
‫وعن ك ل مطل وب س وى الح ّ‬
‫ق‬ ‫زإن ت ردن العرف ان ف افن عن‬
‫تظفر‬ ‫الورى‬
‫ففي ك ل موج ود حبي بي ظ اهر‬ ‫ت رى الح ق في األش ياء حين‬
‫تلطّفت‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف اعلم أن االفتق ار واالض طرار‪ ،‬وإن‬
‫كانا يشتركان في الحاجة والض عف والقص ور‪ ،‬إال أنهم ا يختلف ان في الم دى ال ذي‬
‫يكون فيه ذلك‪.‬‬
‫أما الفقر؛ فهو يعني الحاجة‪ ،‬ول و ك انت مح دودة ض عيفة قاص رة‪ ،‬كالحاج ة‬
‫إلى الكم االت ال تي ال يض ر غيابه ا‪ ،‬وأم ا االض طرار؛ فمقص ور على الحاج ات‬
‫الضرورية التي يؤدي افتقادها إلى ضرر كبير‪.‬‬
‫وإلى المعنيين اإلشارة بما حص ل لموس ى علي ه الس الم عن د ذهاب ه الم دين‪،‬‬
‫وافتقاره للطعام‪ ،‬وعند فراره من فرعون‪ ،‬ومالقاته للبحر‪ ،‬وقد لجأ في كال الح الين‬
‫‪ )(1‬رواه الطبراني في الكبير(‪ ،)123 /11‬والحاكم في المستدرك(‪ ،)624 /3‬والبيهقي في الشعب(‪)28 /2‬‬
‫‪ )(2‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.377 :‬‬

‫‪119‬‬
‫ي ِم ْن َخ ْي ٍر فَقِ يرٌ﴾ [القص ص‪:‬‬ ‫إلى هللا‪ ،‬فقال في حال افتقاره‪َ ﴿ :‬ربِّ إِنِّي لِ َما أَ ْن زَ ْلتَ إِلَ َّ‬
‫ين﴾ [الشعراء‪]62 :‬‬ ‫‪ ،]24‬وقال في حال اضطراره‪﴿ :‬إِ َّن َم ِع َي َربِّي َسيَ ْه ِد ِ‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن للتحقق بكال المعن يين وس ائل‬
‫عليك مراعاته ا‪ ،‬ومع ارف علي ك إقن اع نفس ك به ا؛ فالمش اعر والمواجي د ال يمكن‬
‫فرضها على النفس من غير أن تقتنع بها‪ ،‬وتسلك السبل المؤدية لها‪.‬‬
‫االفتقار والتزكية‪:‬‬
‫أما االفتقار ـ أيها المريد الصادق ـ والذي يعني شعورك بالحاجة الدائم ة إلى‬
‫هللا‪ ،‬وفي الصغير والكبير‪ ،‬فكل الحقائق تدل علي ه؛ ذل ك أن الفق ر ه و س مة الك ون‬
‫جميعا‪ ..‬أما الغني الوحيد في ه ذا الع الم فه و هللا تع الى‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا‬
‫النَّاسُ أَ ْنتُ ُم ْالفُقَ َرا ُء إِلَى هللا َوهللا ه َُو ْال َغنِ ُّي ْال َح ِميدُ﴾ (فاطر‪)15:‬‬
‫والعقل ـ كالنق ل ـ يق ول ب ذلك‪ ،‬ف الفقر في حقيقت ه ه و الحاج ة‪ ،‬وهي ليس ت‬
‫مختصرة فيما اصطلح عليه الناس من أصناف الحاج ات‪ ،‬ب ل هي ك ل ش يء وهب ه‬
‫هللا تعالى لعباده ابتداء من وج ودهم‪ ،‬وانته اء ب األرزاق ال تي تف اض عليهم في ك ل‬
‫حين‪.‬‬
‫وبم ا أن في اإلنس ان من الحاج ات بحس ب ع دد خالي اه‪ ..‬ب ل بحس ب ع دد‬
‫الذرات التي يتشكل منها بنيانه‪ ،‬فإن فيه لذلك من الفق ر بحس ب ع دد تل ك ال ذرات‪..‬‬
‫ذلك أن في كل ذرة حاجة من الحاجات‪ ..‬وفاقة تستدعي أن تسد(‪.)1‬‬
‫وغفلة اإلنسان هي التي تجعله يتصور أنه مستغن‪ ،‬مع أن أي مصيبة تحل به‬
‫قد تذكره بفقره الشديد‪ ،‬وحاجته الدائمة‪ ،‬وقد روي في المواعظ أن حكيما دخل على‬
‫بعض الملوك‪ ،‬وبيده كوز ماء يش ربه‪ ،‬فق ال ل ه‪( :‬عظ نى) فق ال‪( :‬ل و لم تع ط ه ذه‬
‫الشربة إال ببذل جميع أموالك وإال بقيت عطشان‪ ،‬فهل كنت تعطيه؟ قال‪ :‬نعم فق ال‪:‬‬
‫(ل و لم تع ط إال بملك ك كل ه‪ ،‬فه ل كنت تترك ه؟ ق ال‪ :‬نعم ق ال‪( :‬فال تف رح بمل ك ال‬
‫يساوى شربة ماء)‬
‫ولذلك يعلمنا ربنا أن نعدد نعمه علينا‪ ،‬لنشعر بفقرنا وفاقتنا إليه‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ص وهَا إِ َّن اأْل ِ ْن َس انَ لَظَلُ و ٌم َكفَّارٌ﴾ (اب راهيم‪ ،)34 :‬وفي‬ ‫﴿ َوإِ ْن تَ ُع ُّدوا نِ ْع َمتَ هللا ال تُحْ ُ‬
‫الح ديث القدس ي ق ال تع الى‪( :‬ي ا عب ادي كلكم ج ائع إال من أطعمت ه فاس تطعموني‬
‫أطعمكم‪ ،‬يا عبادي كلكم عار إال من كسوته فاستكسوني أكسكم) (‪)2‬‬
‫وهو يبين أن سبب الغفلة عن تلك النعم هو الشعور بكونها ذاتي ة لن ا‪ ،‬ال هب ة‬
‫الض رُّ فَإِلَ ْي ِه تَجْ أَرُونَ (‬
‫من هللا إلينا؛ فيقول‪َ ﴿ :‬و َما بِ ُك ْم ِم ْن نِ ْع َم ٍة فَ ِمنَ هللا ثُ َّم إِ َذا َم َّس ُك ُم ُّ‬
‫ق ِم ْن ُك ْم بِ َربِّ ِه ْم يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [النحل‪]54 ،53 :‬‬ ‫‪ )53‬ثُ َّم إِ َذا َك َشفَ الضُّ َّر َع ْن ُك ْم إِ َذا فَ ِري ٌ‬
‫لذلك كان االفتقار هو الش عور المع بر عن الحقيق ة الواقعي ة‪ ..‬والمفتق ر مث ل‬
‫ذلك الذي ينام على سرير المرض‪ ،‬وقد ركبت له ك ل األجه زة ال تي تم ده بالحي اة‪،‬‬

‫‪ )(1‬ذكرنا ذلك بتفصيل‪ ،‬وعلى شكل حوار في كتاب‪ :‬كنوز الفقراء (ص‪)250 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫ولو قطع عنه واحد منها لمات‪ ..‬فهل يمكن لذلك المريض أن يستعلي أو يتص ور أن‬
‫بإمكانه االستغناء عن تلك األجهزة‪ ،‬أم أنه يشعر أنه ا س بب حيات ه وبقائ ه‪ ،‬ويش عر‬
‫بفضل األطباء عليه بسبب إغاثتهم له بها‪.‬‬
‫ولذلك كان االفتقار مدرسة تربوي ة وأخالقي ة عظيم ة‪ ،‬ال تربط ك باهلل فق ط‪،‬‬
‫وإنما تحسن عالقتك مع خلقه‪ ،‬وتجعلك أكثر أدبا معهم‪ ،‬ذلك أن أصل العدوان ال ذي‬
‫يمارسه المعتدون نابع من شعورهم الزائ د ب ذواتهم‪ ،‬واس تكبارهم به ا‪ ،‬ول و علم وا‬
‫ف اقتهم وح اجتهم‪ ،‬وأن ك ل ش يء يملكون ه هب ة من هللا لهم‪ ،‬الس تحيوا من أنفس هم‪،‬‬
‫وتأدبوا مع الخلق‪.‬‬
‫وح تى تيس ر على نفس ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ استش عار ه ذه المع اني‪،‬‬
‫والت أدب بآدابه ا؛ فعلي ك ب القرآن الك ريم‪ ،‬فقراءت ه وت دبره تجعل ك تش عر بفق رك‬
‫وحاجتك إلى هللا‪ ،‬وفي كل نفس من أنفاسك‪ ..‬ذلك أن كل شيء بيد هللا‪ ،‬ولو قط ع هللا‬
‫عنك مدد لطفه وفضله في أي لحظة من اللحظات لعانيت ك ل أل وان العن اء ال تي ال‬
‫يخرجك منها إال جوده وإغاثته وفضله‪.‬‬
‫ومثله عليك بأنوار النب وة والوالي ة؛ فاستمس ك به ا‪ ،‬وردد م ا ورد عنه ا من‬
‫أنواع األدعية التي تشعرك بفقرك وحاجت ك إلى هللا‪ ،‬وفي ك ل األح وال واألوق ات‪،‬‬
‫حتى تلك التي تتوهم فيها غناك‪ ،‬كما يروى في دعاء ي وم عرف ة‪( :‬إلهي‪ ،‬أن ا الفق ير‬
‫في غناي‪ ،‬فكيف ال أكون فقيرا في فق ري؟! إلهي‪ ،‬أن ا الجاه ل في علمي‪ ،‬فكي ف ال‬
‫أكون جهوال في جهلي؟!)(‪)1‬‬
‫ومن تل ك األدعي ة وأكثره ا جمع ا للمع اني ال تي ت ربي في ك ـ أيه ا المري د‬
‫الصادق ـ معاني االفتق ار إلى هللا م ا ورد في مناج اة المفتق رين‪ ،‬وال تي يق ول فيه ا‬
‫اإلمام السجاد‪( :‬إلهي كسري ال يجبره إال لطفك وحنانك‪ ،‬وفقري ال يغنيه إال عطفك‬
‫وإحسانك‪ ،‬وروعتي ال يسكنها إال أمانك‪ ،‬وذلتي ال يعزه ا إال س لطانك‪ ،‬وأمني تي ال‬
‫يبلغنيها إال فضلك‪ ،‬وخلتي ال يسدها إال طولك‪ ،‬وحاجتي ال يقضيها غيرك‪ ،‬وك ربي‬
‫ال يفرجه ا س وى رحمت ك‪ ،‬وض ري ال يكش فه غ ير رأفت ك وغل تي ال يبرده ا إال‬
‫وصلك‪ ،‬ولوعتي ال يطفئها إال لقاؤك‪ ،‬وش وقي إلي ك ال يبل ه إال النظ ر إلى وجه ك‪،‬‬
‫وقراري ال يقر دون دنوي منك‪ ،‬ولهفتي ال يردها إال روحك‪ ،‬وس قمي ال يش فيه إال‬
‫طبك‪ ،‬وغمي ال يزيله إال قربك‪ ،‬وجرحي ال يبرئه إال صفحك‪ ،‬ورين قلبي ال يجلوه‬
‫إال عفوك‪ ،‬ووسواس صدري ال يزيحه إال أمرك)‬
‫وبعد أن يذكر نفسه بهذه الحقائق العظيم ة‪ ،‬يم د ي ده بالس ؤال إلى هللا‪ ،‬ذاك را‬
‫صفاته التي تغني المفتقرين‪ ،‬وتسد كل حاجاتهم قائال‪( :‬فيا منتهى أم ل اآلملين‪ ،‬وي ا‬
‫غاية سؤل السائلين‪ ،‬ويا اقصى طلبة الطالبين وي ا أعلى رغب ة الراغ بين‪ ،‬وي ا ولي‬
‫الصالحين‪ ،‬ويا أمان الخائفين‪ ،‬ويا مجيب المضطرين‪ ،‬ويا ذخر المعدمين‪ ،‬ويا ك نز‬
‫‪ )(1‬هذه المناجاة مروي ة عن اإلم ام الحس ين‪ ،‬وعن ابن عط اء هللا الس كندري‪ ..‬وال حاج ة للتحقي ق في األص ح‬
‫منهما‪ ،‬ألن المعاني الواردة فيها معان ورد مثلها عن أهل البيت‪ ..‬والعبرة بالمعاني ال بكسوة األلفاظ‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫البائسين‪ ،‬ويا غياث المستغيثين‪ ،‬ويا قاض ي ح وائج الفق راء والمس اكين‪ ،‬وي ا أك رم‬
‫االكرمين‪ ،‬ويا ارحم الراحمين‪ ،‬لك تخض عي وس ؤالي‪ ،‬وإلي ك تض رعي وابته الي‪.‬‬
‫أسألك أن تنيلني من روح رضوانك وتديم علي نعم امتنان ك‪ ،‬وه ا أن ا بب اب كرم ك‬
‫واقف‪ ،‬ولنفحات برك متعرض وبحبلك الشديد معتصم‪ ،‬وبعروتك ال وثقى متمس ك‪،‬‬
‫إلهى ارحم عب دك ال ذليل ذا اللس ان الكلي ل‪ ،‬والعم ل القلي ل‪ ،‬وامنن علي ه بطول ك‬
‫الجزيل‪ ،‬واكنفه تحت ظلك الظليل‪ ،‬يا كريم يا جميل يا ارحم الراحمين)(‪)1‬‬
‫وهكذا تجد األدعية الكثيرة في مدرسة النبوة والوالي ة‪ ،‬وال تي يكفي ك التأم ل‬
‫فيها‪ ،‬والتزامها‪ ،‬والشعور بمعانيها‪ ،‬في أن تستش عر فق رك وحاجت ك إلى هللا‪ ،‬ح تى‬
‫يصير ذلك ملكة في نفسك‪ ،‬ال يمكن ألي غنى يصيبك أن يسلبها منك‪.‬‬
‫االضطرار والتزكية‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن االضطرار هو تل ك الح االت‬
‫الشديدة التي يمر بها اإلنسان‪ ،‬والتي قد يبتليه هللا بها ليعلم فق ره وحاجت ه‪ ،‬ويخرج ه‬
‫من الغفلة التي تجعله يتوهم أنه مالك للنعم‪ ،‬وليس مستفيدا منها‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬ال تتوهم أن الغرض مما ينزل من البالء على الخلق ـ حتى ل و ك انوا‬
‫كفارا ـ عقوبة أو انتقاما‪ ،‬وإنما هو في حقيقته تأديب وتربي ة وتنبي ه إلهي‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫﴿و َم ا أَرْ َس ْلنَا فِي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَبِ ٍّي إِاَّل أَخَ ْذنَا أَ ْهلَهَ ا بِ ْالبَأْ َس ا ِء َو َّ‬
‫الض رَّا ِء لَ َعلَّهُ ْم‬ ‫تع الى‪َ :‬‬
‫ض َّر ُعونَ ﴾ [األعراف‪]94 :‬‬ ‫يَ َّ‬
‫ولهذا اعتبر هللا تعالى إجابته المضطرين من دالئل توحيده‪ ،‬فقال‪﴿:‬أَ َّم ْن ي ُِجيبُ‬
‫ض أَإِلَ هٌ َم َع هللا قَلِياًل َم ا‬ ‫الس و َء َويَجْ َعلُ ُك ْم ُخلَفَ ا َء اأْل َرْ ِ‬ ‫ض طَ َّر إِ َذا َد َع اهُ َويَ ْك ِش فُ ُّ‬‫ْال ُم ْ‬
‫تَ َذ َّكرُونَ ﴾ [النمل‪]62 :‬‬
‫وهكذا ذكر هللا تعالى دور الضرورة واالض طرار في التربي ة والهداي ة‪ ،‬فق د‬
‫ذكر في قصة صاحب الجنتين الفرق الكبير بين حال الغنى الذي ك ان علي ه‪ ،‬وح ال‬
‫﴿و َد َخ َل َجنَّتَهُ َوهُ َو ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه قَ ا َل َم ا‬ ‫الفقر الذي آل إليه‪ ،‬فقال ـ عن الحال األول ـ‪َ :‬‬
‫ت إِلَى َربِّي أَل َ ِج دَنَّ‬ ‫الس ا َعةَ قَائِ َم ةً َولَئِ ْن ُر ِد ْد ُ‬ ‫أَظُ ُّن أَ ْن تَبِي َد هَ ِذ ِه أَبَ دًا (‪َ )35‬و َم ا أَظُ ُّن َّ‬
‫خَ ْيرًا ِم ْنهَا ُم ْنقَلَبًا﴾ [الكهف‪]36 ،35 :‬‬
‫ق‬ ‫ص بَ َح يُقَلِّبُ َكفَّ ْي ِه َعلَى َم ا أَ ْنفَ َ‬ ‫وقال عن الحال الثاني بعد أن ﴿أُ ِحيطَ بِثَ َم ِر ِه فَأ َ ْ‬
‫ُوشهَا﴾ [الكهف‪ ]42 :‬أنه صار ي ردد‪﴿ :‬يَ ا لَ ْيتَنِي لَ ْم أُ ْش ِر ْك‬ ‫خَاويَةٌ َعلَى ُعر ِ‬ ‫فِيهَا َو ِه َي ِ‬
‫بِ َربِّي أَ َحدًا﴾ [الكهف‪]42 :‬‬
‫ومثل ذلك ذكر عن أصحاب الجنة‪ ،‬الذين ﴿أَ ْق َس ُموا لَيَصْ ِر ُمنَّهَا ُمصْ بِ ِحينَ (‪)17‬‬
‫َواَل يَ ْست َْثنُونَ ﴾ [القلم‪ ،]18 ،17 :‬و﴿ا ْنطَلَقُوا َوهُ ْم يَتَخَافَتُونَ (‪ )23‬أَ ْن اَل يَ ْد ُخلَنَّهَا ْاليَوْ َم‬
‫ين (‪َ )24‬و َغدَوْ ا َعلَى َحرْ ٍد قَا ِد ِرينَ ﴾ [القلم‪]25 - 23 :‬‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم ِم ْس ِك ٌ‬
‫ال‬ ‫ض الُّونَ (‪ )26‬بَ لْ نَحْ نُ َمحْ رُو ُم ونَ (‪ )27‬قَ َ‬ ‫لكن بعد أن ﴿ َرأَوْ هَ ا قَ الُوا إِنَّا لَ َ‬
‫أَوْ َسطُهُ ْم أَلَ ْم أَقُ لْ لَ ُك ْم لَ وْ اَل تُ َس بِّحُونَ (‪ )28‬قَ الُوا ُس ب َْحانَ َربِّنَ ا إِنَّا ُكنَّا ظَ الِ ِمينَ (‪)29‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)149 /94‬‬


‫‪122‬‬
‫َس ى‬ ‫اغينَ (‪ )31‬ع َ‬ ‫ْض يَتَاَل َو ُمونَ (‪ )30‬قَالُوا يَا َو ْيلَنَا إِنَّا ُكنَّا طَ ِ‬ ‫ضهُ ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫فَأ َ ْقبَ َل بَ ْع ُ‬
‫اغبُونَ ﴾ [القلم‪]32 - 26 :‬‬ ‫َربُّنَا أَ ْن يُ ْب ِدلَنَا خَ ْيرًا ِم ْنهَا إِنَّا إِلَى َربِّنَا َر ِ‬
‫وهكذا كان لذلك البالء دوره الكبير في تنبيههم وت وجيههم وت ربيتهم‪ ،‬ول ذلك‬
‫ذك ر بعض هم أن الس بب ال ذي حم ل فرع ون على قول ه‪﴿ :‬أَنَ ا َربُّ ُك ْم اأْل َ ْعلَى﴾‬
‫(النازعات‪ )24:‬طول العافية والغنى‪ ،‬ذلك أنه لبث مدة طويلة لم يتصدع رأسه‪ ،‬ولم‬
‫يض رب علي ه ع رق‪ ،‬ول و أخذت ه الش قيقة س اعة واح دة لش غله ذل ك عن دع وى‬
‫الربوبية‪.‬‬
‫ولهذا كان من رحمة هللا بعباده إنزاله العافية بعد البالء‪ ،‬ذلك أن ه ال يستش عر‬
‫﴿وهُ َو الَّ ِذي يُنَ ِّز ُل ْال َغي َ‬
‫ْث ِم ْن بَ ْع ِد‬ ‫قيمة العافية من لم يذق خطر البالء‪ ،‬وقال تع الى‪َ :‬‬
‫﴿وإِ ْن َك انُوا ِم ْن‬ ‫َما قَنَطُوا َويَ ْن ُش ُر َرحْ َمتَهُ َوه َُو ْال َولِ ُّي ْال َح ِميدُ﴾ (الش ورى‪ ،)28:‬وق ال‪َ :‬‬
‫ار َرحْ َم ِ‬
‫ت‬ ‫قَب ِْل أَ ْن يُنَ َّز َل َعلَ ْي ِه ْم ِم ْن قَ ْبلِ ِه لَ ُم ْبلِ ِسينَ ﴾ (الروم‪ ،)49:‬وق ال‪﴿ :‬فَ ا ْنظُرْ إِلَى آثَ ِ‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا إِ َّن َذلِكَ لَ ُمحْ يِي ْال َموْ تَى َوهُ َو َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾‬ ‫هللا َك ْيفَ يُحْ يِي اأْل َرْ َ‬
‫(الروم‪)50:‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن المتوس مين من عب اد هللا يس تدلون بوج ود الفاق ات على ق رب‬
‫الص دقات‪ ،‬ألن الفاق ة تحق ق ص احبها باالفتق ار واالض طرار‪ ،‬وهم ا ي ؤهالن‬
‫صاحبهما لكل ألوان الفضل اإللهي‪.‬‬
‫ولهذا يعتبرون أفعال هللا تعالى فيهم وفي غيرهم رس ائل رحم ة وم ودة‪ ..‬وال‬
‫يفهمون من تلك الباليا التي تصيبهم إال أنها حروف من هللا تش هدهم وج ود ف اقتهم‪،‬‬
‫وتشعرهم بحقيقتهم‪ ،‬لتشغلهم باهلل عن أنفسهم‪.‬‬
‫لقد أشار بعضهم إلى هذا فقال‪( :‬خ ير أوقات ك وقت تش هد في ه وج ود فاقت ك‪،‬‬
‫وترد فيه إلى وجود ِذلتك)‬
‫وأش ار إلي ه في حكم ة أخ رى بقول ه‪( :‬فاقت ك ل ك ذاتي ة‪ ،‬وورود األس باب‬
‫مذكرات لك بما خفي عليك منها‪ ،‬والفاقة الذاتية ال ترفعها العوارض)‬
‫وأشار آخر إلى ذلك‪ ،‬فقال ـ متح دثا عن حكم األم راض والمص ائب ـ‪( :‬دار‬
‫الدنيا هذه ما هي إاّل ميدانُ اختب ار وابتالء‪ ،‬وهي دا ُر عم ل ومح ل عب ادة‪ ،‬وليس ت‬
‫مح َّل تمتّع وتلذذ وال مك ان تس لّم األج رة وني ل الث واب‪ ..‬فم ادامت ال دنيا دا َر عم ل‬
‫ومح َّل عبادة‪ ،‬فاألمراضُ والمصائب عدا الدينية منها وبش رط الص بر عليه ا تك ون‬
‫مالئمةً جداً مع ذلك العمل‪ ،‬بل منسجمةً تماما ً مع تلك العبادة‪ ،‬حيث إنه ا تم د العم َل‬
‫بقوة وتش ّد من أزر العبادة‪ ،‬فال يجوز التش ّكي منها‪ ،‬بل يجب التحلي بالشكر هلل به ا‪،‬‬
‫األمراض والنوائب تح وّل ك َّل س اعة من حي اة المص اب عب ادةً لي وم‬ ‫َ‬ ‫حيث إن تلك‬
‫كامل) (‪)1‬‬
‫ثم ذكر أن العب ادة قس مان‪ :‬قس م إيج ابي‪ ،‬وقس م س لبي‪ ..‬أم ا األول فه و تل ك‬
‫الشعائر التعبدي ة المعروف ة‪ ،‬وأم ا الث اني‪( ،‬ف إن البالي ا والض ر واألم راض تجع ل‬

‫‪ )(1‬اللمعات لبديع الزمان النورسي‪ ،‬ص‪.13‬‬


‫‪123‬‬
‫وض عفه‪ ،‬فيلتجئ إلى رب ه ال رحيم‪ ،‬ويتو ّج ه إلي ه ويل وذ ب ه‪،‬‬ ‫صاحبَها يشعر ب َعجزه َ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫فيؤدي بهذا عبادة خالصة‪ ..‬هذه العبادة خالصة زكيّة ال يدخل فيها الريا ُء ق ط‪ ..‬ف إذا‬
‫ما تج ّمل المصابُ بالصبر وف ّكر في ثواب ضرّه عند هللا وجمي ِل أجره عنده‪ ،‬وش َكر‬
‫ربَّه عليها‪ ،‬تحولت عندئذ كلُّ ساعة من ساعات عمره كأنها يو ٌم من العب ادة‪ ،‬فيغ دو‬
‫عمرُه القصير جداً مديداً طويالً‪ ،‬بل تتحول عند بعضهم كلُّ دقيق ة من دق ائق عم ره‬
‫بمثابة يوم من العبادة)‬
‫ً‬
‫كنت أقلق كث يرا على م ا أص اب‬ ‫ثم ذكر حاله مع بعض أصحابه‪ ،‬فقال‪( :‬لقد ُ‬
‫أحد إخوتي في اآلخرة وه و (الحاف ظ احم د المه اجر) بم رض خط ير‪ ،‬فخط ر إلى‬
‫القلب ما يأتي‪( :‬ب ّشره‪ ،‬هنّئه‪ ،‬فإن ك َّل دقيقة من دق ائق عم ره تمض ي كأنه ا ي و ٌم من‬
‫العبادة) (‪)1‬‬
‫ومما يروى في هذا المعنى أن بعضهم كان يطوف حول الكعبة‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫وصــــبيــة باكيــة كما‬ ‫م ؤتزر بش ملتي كم ا‬
‫تــــرى‬ ‫رى‬ ‫ت‬
‫ي ا من ي رى ال ذي بن ا وال‬ ‫وامرأتي عريانة كم ا‬
‫يرى‬ ‫رى‬ ‫ت‬
‫أما ترى ما حل أما ترى‬
‫فسمعه بعضهم‪ ،‬فجمع له كسرا ودفعها إليه‪ ،‬فقال له‪ :‬إليك عني لو ك ان معي‬
‫شيء لما أمكنني أن أقول هذا القول‪.‬‬
‫ولهذا يعتبر الصالحون الفاقات أعيادا لهم‪ ،‬وقد قال بعضهم في ذلك‪:‬‬
‫فقلت خلـعة سـاق حبه‬ ‫قالوا غدا العي د م اذا أنت البسه‬
‫جــــــرعا‬
‫قلب يرى ألفه األعي اد والجمعا‬ ‫فق ر ص برهما ثوب اي تحتهم ا‬
‫ي وم ال تزاور في الث وب ال ذي‬ ‫أحرى المالبس أن تلقى الحبيب‬
‫خلعا‬ ‫به‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫العي د والبش ر عن دي ي وم‬ ‫قالت هن ا العي د بالبش رى فقلت‬
‫لقياك‬ ‫لها‬
‫فيه وما فرحتي إال برؤياك‬ ‫هللا يعلم أن الن اس ق د فرح وا‬
‫ومما يعينك على استشعار هذه المعاني ـ أيها المريد الص ادق ـ تردي دك لم ا‬
‫ورد من األدعية المروية عن النبي ‪ ‬وورثته من أئمة الهدى‪ ،‬فكلها ممتلئة بألوان‬
‫االستغاثة واالفتقار واالضطرار إلى هللا‪.‬‬
‫ومنها ما روي عن بعضهم أنه كان يقول في بداية دعائه‪( :‬يا هللا يا هللا يا هللا‪،‬‬
‫يا مجيب دعوة المضطرين‪ ،‬يا كاشف كرب المكروبين‪ ،‬يا غي اث المس تغيثين‪ ،‬وي ا‬
‫صريخ المستصرخين‪ ،‬يامن هو أقرب إلى من حبل الوريد ويا من يحول بين المرء‬

‫‪ )(1‬اللمعات لبديع الزمان النورسي‪ ،‬ص‪.13‬‬


‫‪124‬‬
‫وقلبه‪ ،‬يامن هو بالمنظر االعلى‪ ،‬وباألفق المبين‪ ،‬ويامن ه و ال رحمن ال رحيم‪ ،‬وي ا‬
‫من يعلم خائنة األعين وما تخفى الصدور‪ ..‬وي امن ال تخفى علي ه خافي ه‪ ،‬وي امن ال‬
‫تشتبه عليه االصوات‪ ،‬ويامن ال تغلطه الحاجات‪ ،‬ويا من ال يبرم ه إلح اح الملحين‪،‬‬
‫يا مدرك كل فوت‪ ،‬ويا جامع كل شمل‪ ،‬ويا بارئ النف وس بع د الم وت‪ ..‬ي ا من ه و‬
‫كل يوم في شان‪ ،‬يا قاضي الحاج ات‪ ،‬ي ا منفس الكرب ات‪ ،‬ي ا معطى الس ؤاالت‪ ،‬ي ا‬
‫ولي الرغبات‪ ،‬ي ا ك افي المهم ات‪ .‬ي امن يكفى من ك ل ش ئ وال يكفى من ه ش ئ في‬
‫السموات واألرض) (‪)1‬‬
‫ثم يبدأ دعاءه بعدها‪ ،‬وهذا هو األدب الرفيع مع هللا؛ فالعاقل ه و ال ذي يجع ل‬
‫من دعائه وسيلة تقربه إلى ربه‪ ،‬وتملؤه روحانية وسموا‪ ،‬وليس ذلك الذي يس تعجل‬
‫حاجته‪ ،‬ويكتفي ب ذكرها‪ ،‬من دون أن يجع ل من حاجت ه وض رورته وفاقت ه وس يلة‬
‫يطهر بها نفس ه‪ ،‬وي زكي به ا روح ه‪ ،‬وي رتقي به ا إلى س موات الحق ائق ال تي هي‬
‫أعظم من كل الحاجات التي يطلبها‪.‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)296 /101‬‬


‫‪125‬‬
‫اإلنابة واالستغفار‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن اإلناب ة واالس تغفار‪ ،‬وس ر م ا‬
‫ورد في فضلهما في النص وص المقدس ة‪ ،‬وه ل يمكن اعتبارهم ا من من ازل النفس‬
‫المطمئنة‪ ،‬أم من مناهج سير النفس اللوامة؟‬
‫وجوابا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن ك ل من ازل النفس المطمئن ة يمكن‬
‫اعتبارها مناهج للنفس اللوامة‪ ..‬والف رق بينهم ا أن ص احب النفس المطمئن ة يك ون‬
‫مطمئنا مستقر الحال‪ ،‬قد ثبتت فيه تلك الصفات‪ ،‬وأصبحت ج زءا من ه‪ ،‬ال يس تطيع‬
‫الفكاك منه ا‪ ،‬وال تس تطيع الفك اك من ه‪ ،‬بينم ا ص احب النفس اللوام ة يجاه د نفس ه‬
‫لتحصيلها‪ ،‬وهو لذلك حريص على بقائها‪ ،‬خائف من نفورها‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك م ا طلبت م ني الح ديث عن ه من اإلناب ة واالس تغفار‪ ..‬فق د‬
‫وصف هللا تعالى باإلنابة خير خلق ه‪ ،‬وهم رس له عليهم الص الة والس الم‪ ،‬فق ال عن‬
‫إبراهيم عليه السالم‪﴿ :‬إِ َّن إِ ْب َرا ِهي َم لَ َحلِي ٌم أَ َّواهٌ ُمنِيبٌ ﴾ [هود‪]75 :‬‬
‫ت َعلَى بَيِّنَ ٍة ِم ْن َربِّي‬ ‫ال يَا قَ وْ ِم أَ َرأَ ْيتُ ْم إِ ْن ُك ْن ُ‬ ‫وقال عن شعيب عليه السالم‪﴿ :‬قَ َ‬
‫َو َر َزقَنِي ِم ْن هُ ِر ْزقً ا َح َس نًا َو َم ا أُ ِري ُد أَ ْن أخَ الِفَ ُك ْم إِلَى َم ا أَ ْنهَ ا ُك ْم َع ْن هُ إِ ْن أ ِري ُد إِاَّل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت َوإِلَ ْي ِه أُنِيبُ ﴾ [هود‪]88 :‬‬ ‫ْت َو َما تَوْ فِيقِي إِاَّل بِاهلل َعلَ ْي ِه ت ََو َّك ْل ُ‬
‫اإْل ِ صْ اَل َح َما ا ْستَطَع ُ‬
‫﴿وظَ َّن دَا ُوو ُد أَنَّ َما فَتَنَّاهُ فَا ْستَ ْغفَ َر َربَّهُ َو َخ َّر َرا ِك ًع ا‬ ‫وقال عن داود عليه السالم‪َ :‬‬
‫َاب﴾ [ص‪]24 :‬‬ ‫َوأَن َ‬
‫﴿ولَقَ ْد فَتَنَّا ُسلَ ْي َمانَ َوأَ ْلقَ ْينَا َعلَى ُكرْ ِسيِّ ِه َج َسدًا ثُ َّم‬ ‫وقال عن سليمان عليه السالم‪َ :‬‬
‫ك أَ ْنتَ‬ ‫اب (‪ )34‬قَ ا َل َربِّ ا ْغفِ رْ لِي َوهَبْ لِي ُم ْل ًك ا اَل يَ ْنبَ ِغي أِل َ َح ٍد ِم ْن بَ ْع ِدي إِن ََّ‬ ‫أَنَ َ‬
‫ْال َوهَّابُ ﴾ [ص‪]35 ،34 :‬‬
‫اختَلَ ْفتُ ْم فِي ِه ِم ْن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ إِلَى هللا َذلِ ُك ُم هللا َربِّي‬ ‫﴿و َما ْ‬‫وقال عن رسوله ‪َ :‬‬
‫ت َوإِلَ ْي ِه أُنِيبُ ﴾ [الشورى‪]10 :‬‬ ‫َعلَ ْي ِه ت ََو َّك ْل ُ‬
‫ولهذا أمر هللا تعالى باتباع سبيل المني بين ال ذين ال يغفل ون عن هللا أب دا‪ ،‬ق ال‬
‫اح ْبهُ َما‬ ‫ص ِ‬ ‫ك بِ ِه ِع ْل ٌم فَاَل تُ ِط ْعهُ َم ا َو َ‬ ‫ْس لَ َ‬‫﴿وإِ ْن َجاهَدَاكَ َعلَى أَ ْن تُ ْش ِركَ بِي َما لَي َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ي﴾ [لقمان‪]15 :‬‬ ‫َ‬
‫َاب إِل َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يل َمن أن َ‬ ‫ً‬
‫فِي ال ُّد ْنيَا َم ْعرُوفا َواتبِ ْع َسبِ َ‬
‫َّ‬
‫وهذه اآلي ات جميع ا تش ير إلى أن اإلناب ة وم ا يتبعه ا من االس تغفار‪ ،‬ص فة‬
‫راسخة في نفوس أصحاب النفوس المطمئنة تدعوهم إلى الع ودة في ك ل الحين إلى‬
‫ربهم‪ ،‬ومن غير أي فاصل زمني يتدخل فيه الهوى أو الشيطان‪.‬‬
‫بخالف غيرهم من أصحاب النفوس اللوامة‪ ،‬والذين ق د يحت اجون إلى أن واع‬
‫المجاهدات حتى تتحول اإلنابة فيهم إلى صفة راسخة‪..‬‬
‫ذلك أن الصفات الراسخة يحتاج تثبيتها إلى مجاهدة وزمن وحرص وصفات‬
‫كثيرة‪ ..‬فالشاعر ال يمكن اعتباره شاعرا بكتابته لقصيدة أو قصيدتين‪ ،‬وإنم ا يس مى‬
‫كذلك بعد أن ترسخ في ه ملك ة الش عر‪ ،‬وبع د القص ائد الطويل ة ال تي يكتبه ا‪ ،‬وال تي‬
‫‪126‬‬
‫تجعل الشعر هينا لينا سهال ال يحتاج إلى معاناة لكتابته‪.‬‬
‫ولهذا أخبر رسول هللا ‪ ‬أن الصدق ق د يب دأ اجته ادا وتكلف ا‪ ،‬لكن باإلدم ان‬
‫عليه‪ ،‬واالستمرار في الحرص عليه يتحول إلى صفة راسخة‪ ،‬ال يس تطيع ص احبها‬
‫الكذب أبدا‪ ،‬قال ‪( :‬عليكم بالصدق فإن الص دق يه دي إلى ال بر وال بر يه دي إلى‬
‫الجنة‪ ،‬وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند هللا صديقا‪ ،‬وإي اكم‬
‫والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار‪ ،‬وم ا ي زال العب د‬
‫يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند هللا كذابا) (‪)1‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فال تش تغل بالخالف ات ال تي ق د تراه ا‬
‫بين علماء التزكية والترقية في مراتب ومنازل السالكين‪ ،‬وعالقتها بأنواع النف وس‪،‬‬
‫فهي خالفات لفظية ال ضرر فيها‪ ،‬والعبرة بالمعاني‪ ،‬وال مشاحة في االصطالح‪.‬‬
‫وإن شئت دليال على ذل ك من العق ل والواق ع‪ ،‬ف انظر إلى لقب الغ ني‪ ،‬وعلى‬
‫من يطلقه قومك؛ فسترى أنهم يطلقون ه على ال ذي يتخلص من فق ره وحاجت ه‪ ،‬ول و‬
‫كان ذلك في أدنى األحوال‪ ..‬كما يطلقونه على من يملك األموال الكثيرة‪ ،‬والخ زائن‬
‫الضخمة‪ ،‬والتي ال يساوي أمامها الغني األول شيئا‪ ..‬بل قد يعتبر فقيرا بالنسبة لها‪.‬‬
‫وكذلك منازل النفس المطمئنة أو مناهج النفس اللوامة‪ ..‬فهي وإن اتح دت في‬
‫االسم‪ ،‬لكنها تختلف في المسمى اختالفا شديدا‪ ،‬ولذلك تعتبر الص الة منهج ا لتزكي ة‬
‫النفس اللوام ة‪ ،‬وهي في نفس ال وقت منزل ة من من ازل النفس المطمئن ة‪ ..‬والف رق‬
‫بينهما في حال المصلي‪ ..‬فصاحب النفس اللوام ة يجاه د نفس ه لتحص يل الحض ور‬
‫والخش وع‪ ،‬وص احب النفس المطمئن ة ال يحت اج ل ذلك‪ ،‬ألن الص الة ص ارت ق رة‬
‫عينه‪ ،‬وفرح قلبه‪ ،‬فال يشغله عنها شيء‪ ،‬وكيف ينشغل عنها‪ ،‬وكل لذته فيها‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فاس مع لم ا س أذكره ل ك من من اهج‬
‫تحصيل كال الصفتين‪ ،‬لتتحول من حال التكلف والمجاهدة والرياض ة والمعان اة إلى‬
‫حال راسخة ثابتة مستقرة تطمئن بها نفسك‪ ،‬ويفرح لها قلبك‪.‬‬
‫اإلنابة والتزكية‪:‬‬
‫أما اإلنابة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تعني ـ في مرحلة النفس اللوامة ـ تل ك‬
‫المجاهدات التي يجاهد بها السالك نفس ه ليخرجه ا من ظلم ات المعص ية إلى أن وار‬
‫الطاعة‪ ،‬ومن الغفلة إلى ال ّذكر‪ ،‬ومن الوحش ة من الحق ائق إلى األنس به ا‪ ..‬ول ذلك‬
‫تراه يجهد نفسه كل حين لتذكر الحق ائق والقيم المرتبط ة به ا ح تى ال ينش غل عنه ا‬
‫بأي شاغل(‪.)2‬‬
‫وهو يشبه ذلك الذي يسير في أرض تت وارد عليه ا األن وار والظلم ات‪ ،‬فه و‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود والترمذي وصححه‪.‬‬


‫‪ )(2‬عرفه ا في [ج امع الس عادات‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ ] 88‬بقول ه‪( :‬اإلناب ة ه و الرج وع عن ك لّ ش يء م ّم ا س وى هللا‪،‬‬
‫واإلقبال على هّللا تعالى بالسرّ والقول والفعل‪ ،‬حتّى يكون دائما في فكره وذكره وطاعته‪ ،‬فه و غاي ة درج ات التوب ة‪،‬‬
‫وأقصى مراتبها‪ ،‬إذا التوبة هو الرجوع عن الذنب إلى هّللا ‪ ،‬واإلنابة ه و الرج وع عن المباح ات أيض ا إلي ه س بحانه‪،‬‬
‫فهو من المقامات العالية‪ ،‬والمنازل السامية)‬
‫‪127‬‬
‫كلما مر عليه الظالم أسرع إلى سراجه ليشعله‪ ،‬ليهتدي به في طريقه‪ ..‬أما ص احب‬
‫النفس المطمئنة‪ ،‬فقلبه المنور بنور الحقائق أصبح سراجا منيرا بحيث ال يحتاج إلى‬
‫أي تكلف أو مجاهدة‪ ،‬ألنه مضيء في كل األوقات‪ ،‬وينير له في كل األحوال‪.‬‬
‫وإن شئت أن تصفه بكونه سراجا تلقائي اإلضاءة‪ ،‬فلك ذلك‪ ..‬ذلك أن صاحبه‬
‫ال يتكلف في إشعاله‪ ،‬بل هو يضيء له من تلقاء ذاته كلما احتاج إلى ذلك‪.‬‬
‫ولهذا أخبر هللا تعالى عن داود علي ه الس الم أن ه بمج رد أن فطن لم ا حص ل‬
‫من ه‪ ،‬وكون ه نط ق ب الحكم قب ل أن يس مع للخص م الث اني‪ ،‬أس رع مباش رة لإلناب ة‬
‫واالستغفار‪ ،‬ومن غير تكلف وال معاناة‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وظَ َّن دَا ُوو ُد أَنَّ َما فَتَنَّاهُ فَا ْستَ ْغفَ َر‬
‫َاب﴾ [ص‪]24 :‬‬ ‫َربَّهُ َوخَ َّر َرا ِكعًا َوأَن َ‬
‫أما أصحاب النفوس اللوامة؛ فيحت اجون إلى المع ارف الكث يرة ال تي تنبههم‪،‬‬
‫حتى يسارعوا إلى اإلنابة‪ ،‬وحتى ال تبقي ال ذنوب آثاره ا في نفوس هم‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ْصرُونَ ﴾ [األعراف‪:‬‬ ‫ف ِمنَ ال َّش ْيطَا ِن تَ َذ َّكرُوا فَإِ َذا هُ ْم ُمب ِ‬ ‫﴿إِ َّن الَّ ِذينَ اتَّقَوْ ا إِ َذا َم َّسهُ ْم طَائِ ٌ‬
‫﴿وإِ ْخ َوانُهُ ْم يَ ُم ُّدونَهُ ْم فِي ْال َغ ِّي ثُ َّم اَل‬
‫‪ ،]201‬ثم ذك ر أص حاب النفس األم ارة‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫صرُونَ ﴾ [األعراف‪]202 :‬‬ ‫يُ ْق ِ‬
‫ولهذا يصف هللا تع الى الت ائبين الحقيق يين بقول ه‪﴿ :‬إِنَّ َم ا التَّوْ بَ ةُ َعلَى هللا لِلَّ ِذينَ‬
‫ب فَأُولَئِكَ يَتُ وبُ هللا َعلَ ْي ِه ْم َو َك انَ هللا َعلِي ًم ا‬ ‫يَ ْع َملُونَ السُّو َء بِ َجهَالَ ٍة ثُ َّم يَتُوبُونَ ِم ْن قَ ِري ٍ‬
‫َح ِكي ًما﴾ [النساء‪]17 :‬‬
‫وه ذا ه و مع نى اإلناب ة؛ فهي تع ني س رعة الع ودة إلى هللا بع د الغفل ة أو‬
‫المعص ية أو ك ل م ا يص رف عن هللا‪ ..‬فالمري د الص ادق يعت بر هللا تع الى غايت ه‬
‫العظمى‪ ،‬لذلك يستعمل كل الوسائل حتى ال ينشغل عنه بشيء‪.‬‬
‫﴿وأَنِيبُ وا إِلَى‬ ‫ولهذا يقرن هللا تعالى بين اإلنابة وإسالم الوج ه هلل‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ص رُونَ ﴾ [الزم ر‪ ،]54 :‬ذل ك أن‬ ‫َربِّ ُك ْم َوأَ ْسلِ ُموا لَهُ ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَأْتِيَ ُك ُم ْال َع َذابُ ثُ َّم اَل تُ ْن َ‬
‫للمنيب قبلة واح دة‪ ،‬وهي وج ه رب ه‪ ،‬فه و مس لم مستس لم ل ه‪ ،‬ال ي رغب عن ه‪ ،‬وال‬
‫يستبدله بغيره‪.‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن آي ات هللا ال يس تفيد منه ا إال الم نيبون‪ ،‬ال ذين يفك ون رموزه ا‪،‬‬
‫ويعرفون معاني الحقائق التي تحتويها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَفَلَ ْم يَ َروْ ا إِلَى َما بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َو َما‬
‫ط َعلَ ْي ِه ْم ِك َس فًا ِمنَ‬ ‫ض أَوْ نُ ْس قِ ْ‬ ‫ف بِ ِه ُم اأْل َرْ َ‬ ‫ض إِ ْن ن ََش أْ ن َْخ ِس ْ‬ ‫الس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬ ‫خَ ْلفَهُ ْم ِمنَ َّ‬
‫ب﴾ [سبأ‪]9 :‬‬ ‫ك آَل يَةً لِ ُك ِّل َع ْب ٍد ُمنِي ٍ‬ ‫ال َّس َما ِء إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫وهم ل ذلك أه ل ال ذكرى والتبص رة؛ فهم لرج وعهم ال دائم والس ريع إلى هللا‬
‫الس َما ِء‬ ‫ي ذكرون الحق ائق‪ ،‬ويبص رونها رأي العين‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬أَفَلَ ْم يَ ْنظُ رُوا إِلَى َّ‬
‫ض َم َد ْدنَاهَا َوأَ ْلقَ ْينَ ا فِيهَ ا‬ ‫ُوج (‪َ )6‬واأْل َرْ َ‬ ‫فَوْ قَهُ ْم َك ْيفَ بَنَ ْينَاهَا َو َزيَّنَّاهَا َو َم ا لَهَ ا ِم ْن فُ ر ٍ‬
‫ب﴾ [ق‪6 :‬‬ ‫ْص َرةً َو ِذ ْك َرى لِ ُك لِّ َع ْب ٍد ُمنِي ٍ‬ ‫يج (‪ )7‬تَب ِ‬ ‫ج بَ ِه ٍ‬ ‫َر َوا ِس َي َوأَ ْنبَ ْتنَا فِيهَا ِم ْن ُكلِّ َزوْ ٍ‬
‫الس َما ِء ِر ْزقً ا َو َم ا يَتَ َذ َّك ُر إِاَّل َم ْن‬ ‫‪ ،]8 -‬وقال‪﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي ي ُِري ُك ْم آيَاتِ ِه َويُن َِّز ُل لَ ُك ْم ِمنَ َّ‬
‫يُنِيبُ ﴾ [غافر‪]13 :‬‬

‫‪128‬‬
‫﴿ويَقُ و ُل الَّ ِذينَ َكفَ رُوا لَ وْ اَل أُ ْن ِز َل‬ ‫وهم لذلك أهل الهداية الحقيقية‪ ،‬قال تع الى‪َ :‬‬
‫اب﴾ [الرع د‪ ،]27 :‬ثم‬ ‫َ‬
‫ضلُّ َم ْن يَ َشا ُء َويَ ْه ِدي إِلَ ْي ِه َم ْن أنَ َ‬ ‫َعلَ ْي ِه آيَةٌ ِم ْن َربِّ ِه قُلْ إِ َّن هللا يُ ِ‬
‫َط َمئِ ُّن قُلُوبُهُ ْم بِ ِذ ْك ِر هللا أَاَل بِ ِذ ْك ِر هللا ت ْ‬
‫َط َمئِ ُّن‬ ‫وصف سر هدايتهم فقال‪﴿ :‬الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوت ْ‬
‫ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد‪]28 :‬‬
‫وكل تلك الصفات تجعلهم من أصحاب الجن ة‪ ،‬وذل ك م ا يع ني تخلص هم من‬
‫أهوائهم‪ ،‬وامتالئهم بالطيبة‪ ،‬ونجاحهم في االختبارات التي أجريت لهم‪ ،‬قال تع الى‪:‬‬
‫ب َحفِي ٍظ (‪َ )32‬م ْن‬ ‫ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغ ْي َر بَ ِعي ٍد (‪ )31‬هَ َذا َما تُو َع ُدونَ لِ ُك لِّ أَ َّوا ٍ‬ ‫﴿ َوأُ ْزلِفَ ِ‬
‫ب﴾ [ق‪]33 - 31 :‬‬ ‫ب َو َجا َء بِقَ ْل ٍ‬
‫ب ُمنِي ٍ‬ ‫خَ ِش َي الرَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫وه ذه النص وص كله ا ت دل على أن ه ذا المنهج العظيم يس تدعي الحض ور‬
‫الدائم مع هللا‪ ،‬ولو تكلفا‪ ،‬أو مجاهدة‪ ،‬ولهذا ارتبط ال ذكر باإلناب ة‪ ،‬ذل ك أن ه ال يمكن‬
‫أن تتحقق النفس باإلنابة ما لم تمتلئ بالذكر‪ ،‬فالغفلة واإلنابة متضادان ال يجتمعان‪.‬‬
‫وقد علمن ا رس ول هللا ‪ ‬وأئم ة اله دى الحق ائق ال تي علين ا ت ذكرها لنمتلئ‬
‫الص الة من ج وف‬ ‫باإلنابة‪ ،‬ومنها ما ورد في دعائه ‪ ‬الذي كان يردده إذا قام إلى ّ‬
‫الس موات واألرض‪ ،‬ول ك الحم د‬ ‫اللّيل‪ ،‬والذي يقول فيه‪( :‬اللهم لك الحمد أنت ن ور ّ‬
‫ّ‬
‫فيهن‪.‬‬ ‫الس موات واألرض ومن‬ ‫أنت قيّام السّموات واألرض‪ ،‬ول ك الحم د أنت ربّ ّ‬
‫ق‪،‬‬ ‫ق‪ ،‬والنّ ار ح ّ‬ ‫ق‪ ،‬والجنّ ة ح ّ‬ ‫ق‪ ،‬ولق اؤك ح ّ‬ ‫ق‪ ،‬وقولك الح ّ‬ ‫ق‪ ،‬ووعدك الح ّ‬ ‫أنت الح ّ‬
‫ق‪ .‬اللهم ل ك أس لمت‪ ،‬وب ك آمنت‪ ،‬وعلي ك ت و ّكلت‪ ،‬وإلي ك أنبت‪ ،‬وب ك‬ ‫والس اعة ح ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصمت‪ ،‬وإليك ح اكمت‪ ،‬ف اغفر لي م ا ق ّدمت وأ ّخ رت‪ ،‬وأس ررت وأعلنت‪ ،‬أنت‬
‫إلهي ال إله إاّل أنت)(‪)1‬‬

‫وهذا الدعاء وارتباطه باإلنابة يش ير إلى أن تردي د أمث ال تل ك الحق ائق على‬
‫النفس كل حين‪ ،‬يحول منها مع اني راس خة فيه ا‪ ،‬تعين على اإلناب ة الدائم ة؛ وله ذا‬
‫إن ه ول‬ ‫قرن رس ول هللا ‪ ‬بين ط ول العم ر واإلناب ة‪ ،‬فق ال‪( :‬ال تمنّ وا الم وت ف ّ‬
‫وإن من السّعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه هللا اإلنابة)(‪)2‬‬ ‫المطّلع شديد‪ّ ،‬‬
‫وسر ذلك هو أن المؤمن الملتزم بدينه‪ ،‬والمكثر لذكر ربه‪ ،‬كلما طال عم ره‪،‬‬
‫كلما استقرت معاني األذكار في نفسه‪ ،‬وهو ما يؤهل ه ألن يص بح من أه ل اإلناب ة‪،‬‬
‫الذين تجوهرت نفوسهم بها‪.‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫ولهذا يقترن في النصوص المقدس ة اإلناب ة م ع الت أوه ‪ 3‬والتض رع إلى هللا‪،‬‬
‫كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السالم‪﴿ :‬إِ َّن إِب َْرا ِهي َم لَ َحلِي ٌم أَ َّواهٌ ُمنِيبٌ ﴾ [هود‪]75 :‬‬
‫ومن أدعي ة رس ول هللا ‪ ‬في ه ذا قول ه‪( :‬ربّ أعنّي وال تعن عل ّي‪،‬‬
‫ويس ر اله دى لي‪،‬‬ ‫وانصرني وال تنصر عل ّي‪ ،‬وامك ر لي وال تمك ر عل ّي‪ ،‬واه دني ّ‬
‫وانصرني على من بغى عل ّي‪ ،‬ربّ ! اجعلني لك ش ّكارا‪ .‬لك ذ ّك ارا‪ ،‬ل ك رهّاب ا‪ ،‬ل ك‬

‫‪ )(1‬البخاري [فتح الباري]‪ ،)7385(13 ،‬ومسلم(‪)769‬‬


‫‪ )(2‬أحمد(‪)332 /3‬‬
‫‪ )(3‬معنى األواه‪ :‬كثير التأوّ ه‪ ،‬وغلب على معنى التضرع إلى هّللا في العبادة والندم على الذنوب‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫مطيعا‪ ،‬إليك مخبتا(‪ ،)1‬إليك أوّاها منيبا‪ ،‬ربّ تقبّل توبتي واغسل حوب تي(‪ ،)2‬وأجب‬
‫دعوتي‪ ،‬واهد قلبي‪ ،‬وس ّدد لساني‪ ،‬وثبّت حجّتي‪ ،‬واسلل سخيمة(‪ )3‬قلبي)(‪)4‬‬

‫وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تختصر لنفسك طريق تحص يل اإلناب ة‪،‬‬
‫فردد كل حين ذلك الدعاء الذي كان يقوله اإلمام الس جاد‪ ،‬فه و ممتلئ بك ل المع اني‬
‫ال تي تعين ك على اإلناب ة على هللا‪ ،‬فق د ك ان يق ول‪( :‬اللهم ي ا من ال يص فه نعت‬
‫الواصفين‪ ،‬ويا من ال يجاوزه رجاء الراجين‪ ،‬ويا من ال يضيع لديه أجر المحسنين‪،‬‬
‫ويا من هو منتهى خوف العابدين‪ ،‬وي ا من ه و غاي ة خش ية المتقين‪ ..‬ه ذا مق ام من‬
‫تداولته أيدي الذنوب‪ ،‬وقادته أزمة الخطايا‪ ،‬واس تحوذ علي ه الش يطان‪ ،‬فقص ر عم ا‬
‫أم رت ب ه تفريط ا‪ ،‬وتع اطى م ا نهيت عن ه تعزي را‪ ،‬كالجاه ل بق درتك علي ه‪ ،‬أو‬
‫كالمنكر فضل إحسانك إليه‪ ،‬حتى إذا انفتح له بصر اله دى‪ ،‬وتقش عت عن ه س حائب‬
‫العمى أحصى ما ظلم ب ه نفس ه‪ ،‬وفك ر فيم ا خ الف ب ه رب ه‪ ،‬ف رأى كب ير عص يانه‬
‫كبيرا‪ ،‬وجليل مخالفته جليال‪ ،‬فأقبل نحوك مؤمال لك‪ ،‬مستحييا من ك‪ ،‬ووج ه رغبت ه‬
‫إليك ثقة بك‪ ،‬فأمك بطمعه يقينا‪ ،‬وقص دك بخوف ه إخالص ا‪ ،‬ق د خال طمع ه من ك ل‬
‫مطموع فيه غ يرك‪ ،‬وأف رخ روع ه من ك ل مح ذور من ه س واك‪ ،‬فمث ل بين يديـك‬
‫متضرعـا‪ ،‬وغمض بص ره إلى األرض متخش عا‪ ،‬وطأط أ رأس ه لعزت ك مت ذلال‪،‬‬
‫وأبثك من سره ما أنت أعلم به منه خضوعا‪ ،‬وع دد من ذنوب ه م ا أنت أحص ى له ا‬
‫خشوعا واستغاث بك من عظيم ما وقع به في علمك وقبيح ما فضحه في حكمك من‬
‫ذنوب أدب رت ل ذاتها ف ذهبت‪ ،‬وأق امت تبعاته ا فل زمت‪ ،‬ال ينك ر ي ا إلهي ع دلك إن‬
‫عاقبته‪ ،‬وال يستعظم عفوك إن عف وت عن ه ورحمت ه؛ ألن ك ال رب الك ريم ال ذي ال‬
‫يتعاظمه غفران الذنب العظيم)(‪)5‬‬
‫إلى آخر الدعاء الذي يقول في خاتمته‪( :‬اللهم إن يكن الندم توبة إليك فأنا أندم‬
‫الن ادمين‪ ،‬وإن يكن ال ترك لمعص يتك إناب ة فأن ا أول المني بين‪ ،‬وإن يكن االس تغفار‬
‫حطة للذنوب فإني لك من المس تغفرين‪ .‬اللهم فكم ا أم رت بالتوب ة وض منت القب ول‬
‫وحثثت على الدعـاء ووع دت االجاب ة‪ ،‬فص ل على محم د وآل ه واقب ل توب تي وال‬
‫ترجع ني مرج ع الغيب ة من رحمت ك إن ك أنت الت واب على الم ذنبين‪ ،‬وال رحيم‬
‫للخاطئين المنيبين‪ .‬اللهم صل على محمد وآله كما هديتنا به وصل على محم د وآل ه‬
‫كما استنقذتنا به‪ ،‬وصل على محمد وآل ه ص الة تش فع لن ا ي وم القيام ة وي وم الفاق ة‬
‫إليك‪ ،‬إنك على كل شيء قدي ٌر وهو عليك يسيرٌ)‬
‫االستغفار والتزكية‪:‬‬
‫أما االستغفار ـ أيها المريد الص ادق ـ فه و مث ل اإلناب ة‪ ،‬ل ه م راتب مختلف ة‬

‫‪ )(1‬مخبتا‪ :‬متواضعا خاشعا سائرا في الطريق المطمئن الواسع‪.‬‬


‫‪ )(2‬حوبتي‪ :‬إثمي وخطيئتي‪.‬‬
‫‪ )(3‬سخيمة‪ :‬حقد وضغينة‪.‬‬
‫‪ )(4‬أبو داود(‪ ،)1510‬وابن ماجة(‪ )3830‬واللفظ له‪ ،‬والترمذي(‪)3551‬‬
‫‪ )(5‬الصحفية السجادية‪ ،‬ص‪.141‬‬
‫‪130‬‬
‫بحسب المحل الذي تح ل في ه النفس‪ ..‬وأرقى تل ك الم راتب وأش رفها المرتب ة ال تي‬
‫وص ف هللا تع الى به ا خ يرة عب اده ال ذين ال س لطان للش يطان أو األه واء عليهم‪..‬‬
‫ولكنهم م ع ذل ك يس تغفرون هللا‪ ،‬ال ل ذنوب اقترفوه ا‪ ،‬أو خطاي ا اقترفوه ا‪ ،‬وإنم ا‬
‫لمعرفتهم بعظمة ربهم‪ ،‬وأن ه ال يمكن ألح د أن يق در على طاعت ه ح ق الطاع ة‪ ،‬أو‬
‫شكره حق الشكر؛ فلهذا يلجؤون إلى االستغفار معترفين بالتقصير في حق هللا‪.‬‬
‫وقد وصف هللا تع الى ب ذلك الرب انيين من األنبي اء عليهم الس الم وأص حابهم‬
‫ص ابَهُ ْم فِي‬ ‫وورثتهم‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬و َكأَي ِّْن ِم ْن نَبِ ٍّي قَاتَ َل َم َع هُ ِربِّيُّونَ َكثِ ي ٌر فَ َم ا َوهَنُ وا لِ َم ا أَ َ‬
‫ض ُعفُوا َو َما ا ْستَ َكانُوا َوهللا يُ ِحبُّ الصَّابِ ِرينَ (‪َ )146‬و َما َك انَ قَ وْ لَهُ ْم إِاَّل‬ ‫َسبِي ِل هللا َو َما َ‬
‫ْ‬
‫ص رْ نَا َعلَى القَ وْ ِم‬ ‫ِّت أ ْق دَا َمنَا َوا ْن ُ‬‫َ‬ ‫أَ ْن قَالُوا َربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَا ُذنُوبَنَا َوإِ ْس َرافَنَا فِي أ ْم ِرنَ ا َوثَب ْ‬
‫َ‬
‫ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [آل عمران‪ ،]147 ،146 :‬ثم ذكر الجزاء العظيم المعد لهم بسبب قولهم‬
‫ب اآْل ِخ َر ِة َوهللا يُ ِحبُّ ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ [آل‬ ‫ُس نَ ثَ َوا ِ‬ ‫اب ال ُّد ْنيَا َوح ْ‬ ‫هذا‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَآتَاهُ ُم هللا ثَ َو َ‬
‫عمران‪]148 :‬‬
‫ووص ف ب ه أولي األلب اب ﴿الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هللا قِيَا ًم ا َوقُ ُع ودًا َو َعلَى ُجنُ وبِ ِه ْم‬
‫ض﴾ [آل عمران‪]191 :‬؛ فذكر أنهم يقولون في‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ق ال َّس َما َوا ِ‬ ‫َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ‬
‫﴿ربَّنَا إِنَّنَا َس ِم ْعنَا ُمنَا ِديًا يُنَا ِدي لِإْل ِ ي َما ِن أَ ْن آ ِمنُوا بِ َربِّ ُك ْم فَآ َمنَّا َربَّنَ ا فَ ا ْغفِرْ لَنَ ا‬ ‫دعائهم‪َ :‬‬
‫ار﴾ [آل عمران‪]193 :‬‬ ‫ُذنُوبَنَا َو َكفِّرْ َعنَّا َسيِّئَاتِنَا َوتَ َوفَّنَا َم َع اأْل َ ْب َر ِ‬
‫ْس‬ ‫﴿ربِّ إِنِّي أَ ُع و ُذ بِ كَ أَ ْن أَ ْس أَلَكَ َم ا لَي َ‬ ‫وأخبر عن نوح عليه السالم أنه قال‪َ :‬‬
‫لِي بِ ِه ِع ْل ٌم َوإِاَّل تَ ْغفِرْ لِي َوتَرْ َح ْمنِي أَ ُك ْن ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ ﴾ [هود‪]47 :‬‬
‫وأخ بر عن إب راهيم علي ه الس الم أن ه ق ال‪﴿ :‬الَّ ِذي َخلَقَنِي فَهُ َو يَ ْه ِدي ِن (‪)78‬‬
‫ين (‪َ )80‬والَّ ِذي يُ ِميتُنِي ثُ َّم‬ ‫ت فَهُ َو يَ ْش فِ ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ين (‪َ )79‬وإِ َذا َم ِر ْ‬ ‫ُط ِع ُمنِي َويَ ْسقِ ِ‬ ‫َوالَّ ِذي هُ َو ي ْ‬
‫ِّين (‪َ )82‬ربِّ هَبْ لِي ُح ْك ًم ا‬ ‫خَطيئَتِي يَ وْ َم ال د ِ‬ ‫ط َم ُع أَ ْن يَ ْغفِ َر لِي ِ‬ ‫يُحْ يِي ِن (‪َ )81‬والَّ ِذي أَ ْ‬
‫َوأَ ْل ِح ْقنِي بِالصَّالِ ِحينَ ﴾ [الشعراء‪]83 - 78 :‬‬
‫﴿ربِّ لَ وْ ِش ْئتَ أَ ْهلَ ْكتَهُ ْم ِم ْن‬ ‫وأخبر عن موسى عليه السالم أنه قال في دعائه‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضلُّ بِهَ ا َمن تَش ا ُء َوته ِدي‬ ‫ْ‬ ‫َّاي أَتُ ْهلِ ُكنَا بِ َما فَ َع َل ال ُّسفَهَا ُء ِمنَّا إِ ْن ِه َي إِاَّل فِ ْتنَتُكَ تُ ِ‬
‫قَ ْب ُل َوإِي َ‬
‫َم ْن تَ َشا ُء أَ ْنتَ َولِيُّنَا فَا ْغفِرْ لَنَا َوارْ َح ْمنَا َوأَ ْنتَ خَ ْي ُر ْالغَافِ ِرينَ ﴾ [األعراف‪]155 :‬‬
‫ت نَ ْف ِس ي فَ ا ْغفِرْ‬ ‫ال َربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬ ‫وفي موقف آخر من مواقفه ذكر أنه قال‪﴿ :‬قَ َ‬
‫َّحي ُم﴾ [القصص‪]16 :‬‬ ‫لِي فَ َغفَ َر لَهُ إِنَّهُ هُ َو ْال َغفُو ُر الر ِ‬
‫وأخبر عن داود عليه السالم ومسارعته لالستغفار‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬وظَ َّن دَا ُوو ُد أَنَّ َم ا‬
‫اب (‪ )24‬فَ َغفَرْ نَ ا لَ هُ َذلِ كَ َوإِ َّن لَ هُ ِع ْن َدنَا لَ ُز ْلفَى‬ ‫فَتَنَّاهُ فَا ْستَ ْغفَ َر َربَّهُ َو َخ َّر َرا ِك ًع ا َوأَنَ َ‬
‫ب﴾ [ص‪]25 ،24 :‬‬ ‫َو ُح ْسنَ َمآ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ولق د فتَنا ُس ل ْي َمانَ َوألق ْينَ ا َعلى‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومثل ه س ليمان علي ه الس الم‪ ،‬فق د ق ال عن ه‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫اب (‪ )34‬قَ ا َل َربِّ ا ْغفِ رْ لِي َوهَبْ لِي ُملك ا اَل يَنبَ ِغي أِل َح ٍد ِم ْن‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُكرْ ِس يِّ ِه َج َس دًا ثُ َّم أَنَ َ‬
‫ك أَ ْنتَ ْال َوهَّابُ ﴾ [ص‪]35 ،34 :‬‬ ‫بَ ْع ِدي إِنَّ َ‬
‫وهكذا رسول هللا ‪ ،‬فقد كان سيد المستغفرين‪ ،‬وقد وردت الروايات الكثيرة الدال ة‬

‫‪131‬‬
‫على ك ثرة اس تغفاره هلل‪ ،‬فق د روي في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬وهللا إنى‬
‫ألستغفر هللا وأتوب إليه فى اليوم أكثر من س بعين م رة) (‪ ،)1‬وفي ح ديث آخ ر ق ال‪(:‬إن ه‬
‫ليغان على قلبى‪ ،‬وإنى ألستغفر هللا فى اليوم مائة مرة) (‪)2‬‬
‫وروي عن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬كان رسول هللا ‪ ‬يستغفر هللا ع ّز وج ّل‬
‫في ك ّل يوم سبعين مرّة‪ ،‬ويتوب إلى هللا ع ّز وج ّل سبعين مرّة‪ ..‬ك ان يق ول‪ :‬أس تغفر‬
‫رة‪ ،‬ويقول‪ :‬وأتوب إلى هللا‪ ،‬وأتوب إلى هللا سبعين مرّة) (‪)3‬‬ ‫هللا‪ ،‬أستغفر هللا سبعين م ّ‬
‫ومع كون االستغفار ـ أيها المريد الصادق ـ هو درجة الصالحين والص ديقين‬
‫من أولياء هللا إال أن أص حاب النف وس اللوام ة يمكنهم أن يس تفيدوا من ه في تطه ير‬
‫قلوبهم‪ ،‬والتحقق باإلنابة إلى ربهم‪.‬‬
‫ولهذا ورد في النصوص المقدس ة الكث يرة ال ترغيب في االس تغفار وفي ك ل‬
‫األحوال‪ ،‬وبيان دوره العظيم في التزكية والترقي ة‪ ،‬ومنه ا قول ه ‪( :‬أال أدلكم على‬
‫دائكم ودوائكم‪ ..‬أال إن داءكم الذنوب‪ ،‬ودواءكم االستغفار) (‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة‪ ،‬فإن هو نزع واستغفر ص قلت‪،‬‬
‫فإن عاد زيد فيها حتى تعل و قلب ه‪ ،‬ف ذلك ال ران ال ذي ذك ره هللا تع الى‪َ ﴿:‬كاَّل َب لْ َرانَ َع َلى‬
‫قُلُو ِب ِه ْم َما َكانُوا َي ْك ِ‬
‫سبُونَ ﴾ (المطففين‪)5( )14 :‬‬
‫وقال‪( :‬إن للقلوب صدأ كصدإ النحاس‪ ،‬وجالؤها االستغفار) (‪)6‬‬
‫وقال‪( :‬طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير) (‪)7‬‬
‫وقال‪( :‬من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من االستغفار) (‪)8‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن إقبال هللا تعالى على المس تغفرين‪ ،‬ومح وه ل ذنوبهم‪ ،‬فق ال في‬
‫الحديث القدسي حاكيا عن رب ه تب ارك وتع الى‪( :‬ي ا ابن آدم كلكم م ذنب إال من ع افيت‬
‫فاستغفروني أغف ر لكم‪ ..‬وكلكم فق ير إال من أغ نيت‪ ،‬فاس ألوني أعطكم‪ ..‬وكلكم ض ال إال‬
‫من ه ديت‪ ،‬فاس ألوني اله دى أه دكم‪ ..‬ومن اس تغفرني‪ ،‬وه و يعلم أني ذو ق درة على أن‬
‫أغفر ل ه غف رت ل ه وال أب الي‪ ..‬ول و أن أولكم وآخ ركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابس كم‬
‫اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوض ة‪..‬‬
‫ول و أن أولكم وآخ ركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابس كم اجتمع وا على أتقى قلب رج ل‬
‫واح د منكم م ا زادوا في س لطاني مث ل جن اح بعوض ة‪ ..‬ول و أن أولكم وآخ ركم وحيكم‬
‫وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم م ا س ألوني‬
‫ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر‪ ،‬وذل ك أني ج واد ماج د‬

‫‪ )(1‬رواه البخارى‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬اصول الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.504‬‬
‫‪ )(4‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه البيهقي بإسناد ال بأس به‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫أردته أن أقول له كن فيكون) (‪)1‬‬ ‫واحد عطائي كالم وعذابي كالم‪ ،‬إنما أمري لشيء إذا‬
‫وفي حديث قدسي آخر قال رسول هللا ‪ ‬حاكيا عن ربه تبارك وتع الى‪(:‬ي ا ابن آدم‬
‫إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على م ا ك ان من ك وال أب الي‪ ..‬ي ا ابن آدم ل و بلغت‬
‫ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك وال أبالي‪ ..‬يا ابن آدم إنك ل و أتيت ني بق راب‬
‫األرض خطايا ثم لقيتني ال تشرك بي شيئا ألتيتك بقرابها مغفرة) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخ ر ق ال ‪( :‬ق ال إبليس‪ :‬وعزت ك ال أب رح أغ وي عب ادك م ا دامت‬
‫أرواحهم في أجسادهم‪ ،‬فقال‪ :‬وعزتي وجاللي ال أزال أغفر لهم ما استغفروني) (‪)3‬‬
‫وأخ بر رس ول هللا ‪ ‬أن آث ار المغف رة ال تمت د فق ط لص حائف األعم ال‪ ،‬وال‬
‫لمحال المعصية من النفس‪ ،‬وإنما تمتد لجميع مناحي الحياة‪ ،‬فتطهرها من ك ل آث ار‬
‫المحق التي سببتها المعصية‪ ،‬وتملؤها بكل آث ار البرك ة ال تي س ببها الع ودة إلى هللا‬
‫واإلنابة إليه؛ ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬من أك ثر من اإلس تغفار جع ل‬
‫هللا له من كل هم فرجا‪ ،‬ومن كل ضيق مخرجا‪ ،‬ورزقه من حيث ال يحتسب)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬من ظهرت عليه النعمة فليكثر ذكر (الحم د هلل)‪ ،‬ومن ك ثرت هموم ه‬
‫فعليه باالستغفار‪ ،‬ومن أل ّح علي ه الفق ر فليك ثر من ق ول‪( :‬ال ح ول وال ق وّة إاّل باهلل‬
‫ي العظيم) ينفي عنه الفقر) (‪)5‬‬ ‫العل ّ‬
‫وروي عن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال‪( :‬م ا ض اع م ال في ب ّر وال بح ر إاّل‬
‫فحص نوا أم والكم بالزك اة‪ ،‬وداووا مرض اكم بالص دقة‪ ،‬وادفع وا‬ ‫ّ‬ ‫بتض ييع الزك اة‪،‬‬
‫نوائب الباليا باالستغفار‪ ،‬الصاعقة ال تصيب ذاكرا‪ ،‬وليس يص اد من الط ير إاّل م ا‬
‫ضيّع تسبيحه) (‪)6‬‬
‫وروي أن رجال أتى اإلم ام الحس ن فش كا إلي ه الجدوب ة‪ ،‬فق ال ل ه الحس ن‪:‬‬
‫(استغفر هللا)‪ ،‬وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له‪( :‬استغفر هللا)‪ ،‬وأتاه آخ ر فق ال ل ه‪:‬‬
‫ادع هللا أن يرزقني ابنا‪ ،‬فقال له‪( :‬استغفر هللا)‪ ،‬فقلنا له‪ :‬أت اك رج ال يش كون أبواب ا‬
‫ويسألون أنواعا فأمرتهم كلّهم باالستغفار‪ ،‬فقال‪( :‬ما قلت ذل ك من ذات نفس ي‪ ،‬إنّم ا‬
‫﴿اس تَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم إِنَّهُ َك انَ َغفَّارًا (‪﴿ )10‬يُرْ ِس ِل َّ‬
‫الس َما َء َعلَ ْي ُك ْم‬ ‫اعتبرت فيه قول هللا‪ْ :‬‬
‫ت َويَجْ َع لْ لَ ُك ْم أَ ْنهَ ارًا﴾ [ن وح‪:‬‬ ‫ِم ْد َرارًا (‪َ )11‬ويُ ْم ِد ْد ُك ْم بِأ َ ْم َو ٍ‬
‫ال َوبَنِينَ َويَجْ َع لْ لَ ُك ْم َجنَّا ٍ‬
‫‪)7( )]12 - 10‬‬
‫ولم تكتف النصوص المقدسة بكل ذلك‪ ،‬بل ورد فيها الكث ير من الص يغ ال تي‬
‫تعلمنا كيفية االستغفار‪ ،‬وأفض لها أن يب دأ العب د بالثن اء على رب ه‪ ..‬ثم يث نى ب اإلعتراف‬
‫بذنبه‪ ..‬ثم يسأل هللا المغفرة‪ ..‬فهذا ما وردت به السنة عن رسول هللا ‪ ،‬ففي الحديث قال‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم والترمذي وحسنه وابن ماجه والبيهقي واللفظ له‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد والحاكم‪ ،‬وقال الحاكم صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود‪ ،‬ورواه في (ع ّدة الداعي)‪ :‬ص ‪ ،265‬ونقله عنه في (البحار)‪ :‬ج ‪ 90‬ص ‪.284‬‬
‫‪ )(5‬روضة الكافي ج ‪ 1‬ص ‪133‬‬
‫‪ )(6‬المحاسن ص ‪294‬‬
‫‪ )(7‬مجمع البيان ج ‪ 10‬ص ‪361‬‬
‫‪133‬‬
‫رسول هللا ‪(:‬سيد اإلستغفار أن يقول العبد‪( :‬اللهم أنت ربى ال إله إال أنت‪ ،‬خلقتنى وأنا‬
‫عبدك وأنا على عهدك‪ ،‬ووعدك ما اس تطعت‪ ،‬أع وذ ب ك من ش ر م ا ص نعت أب وء ل ك‬
‫بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت) (‪)1‬‬
‫ومنها ما ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬من قال أستغفر هللا الذي‬
‫ال إله إال هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف) (‪)2‬‬
‫ومنها الصيغ المختصرة التي يمكن استعمالها في ك ل حين‪ ،‬ومنه ا ق ول المس تغفر‪:‬‬
‫(أستغفر هللا العظيم الذى ال إله إال هو الحى القيوم وأتوب إليه)‪ ..‬فق د ذك ر الن بي ‪( ‬أن‬
‫من قاله غفر له وإن كان فر من الزحف) (‪)3‬‬
‫ومنها‪( :‬أسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر م ا تعلم وأس تغفرك لم ا تعلم إن ك‬
‫أنت عالم الغيوب)(‪)4‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر س ئل رس ول هللا ‪ :‬كي ف نس تغفر؟ فق ال‪ :‬ق ل (اللهم اغف ر لن ا‬
‫وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)(‪)5‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف اعلم أن أدنى درج ات االس تغفار وأقبحه ا‬
‫تلك الدرجة التي عبر عنها رسول هللا ‪ ‬وأئمة الهدى وسموها درجة المس تهزئين‪ ،‬ففي‬
‫الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه ق ال‪( :‬الت ائب من ال ذنب كمن ال ذنب ل ه‪ ،‬والمس تغفر من‬
‫ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) (‪)6‬‬
‫وعن اإلمام الرضا أنه ق ال‪( :‬مث ل االس تغفار مث ل ورق على ش جرة تح رّك‬
‫فيتناثر‪ ،‬والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه) (‪)7‬‬
‫وقال‪( :‬سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من االس تهزاء‪ :‬من اس تغفر بلس انه ولم‬
‫يندم بقلبه فقد استهزأ بنفس ه‪ ،‬ومن س أل هللا التوفي ق ولم يجته د فق د اس تهزأ بنفس ه‪،‬‬
‫ومن اس تحزم ولم يح ذر فق د اس تهزأ بنفس ه‪ ،‬ومن س أل هللا الجنّ ة ولم يص بر على‬
‫الشدائد فقد استهزأ بنفسه‪ ،‬ومن تعوّذ باهلل من النار ولم يترك الش هوات فق د اس تهزأ‬
‫بنفسه‪ ،‬ومن ذكر هللا ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه) (‪)8‬‬
‫وعن اإلمام الص ادق أن ه ق ال‪( :‬رحم هللا عب دا لم ي رض من نفس ه أن يك ون‬
‫إبليس نظيرا له في دينه‪ ،‬وفي كتاب هللا نجاة من الردى‪ ،‬وبصيرة من العمى‪ ،‬ودليل‬
‫إلى الهدى‪ ،‬وشفاء لما في الصدور فيما أمركم هللا به من االستغفار مع التوبة‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫﴿ َوالَّ ِذينَ إِ َذا فَ َعلُوا فَا ِح َشةً أَوْ ظَلَ ُموا أَ ْنفُ َسهُ ْم َذ َكرُوا هللا فَ ْ‬
‫اس تَ ْغفَرُوا لِ ُذنُوبِ ِه ْم َو َم ْن يَ ْغفِ ُر‬
‫صرُّ وا َعلَى َما فَ َعلُوا َوهُ ْم يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ [آل عم ران‪ ،]135 :‬وق ال‪:‬‬ ‫وب إِاَّل هللا َولَ ْم يُ ِ‬‫الذنُ َ‬ ‫ُّ‬

‫‪ )(1‬رواه البخارى‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود والترمذى‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه النسائى في عمل اليوم والليلة‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه ابن أبى الدنيا‪ ،‬قال ابن رجب‪ :‬ورفعه منكر ولعله موقوف‪.‬‬
‫‪ )(7‬اصول الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.504‬‬
‫‪ )(8‬كنز الكراجكي ج ‪ 1‬ص ‪330‬‬
‫‪134‬‬
‫ظلِ ْم نَ ْف َس هُ ثُ َّم يَ ْس تَ ْغفِ ِر هللا يَ ِج ِد هللا َغفُ ورًا َر ِحي ًم ا﴾ [النس اء‪:‬‬ ‫﴿ َو َم ْن يَ ْع َم لْ ُس و ًءا أَوْ يَ ْ‬
‫‪ ،]110‬فهذا ما أمر هللا به من االستغفار‪ ،‬واشترط معه بالتوب ة واإلقالع ع ّم ا ح رّم‬
‫هللا‪ ،‬فإنّه يقول‪﴿ :‬إِلَ ْي ِه يَصْ َع ُد ْال َكلِ ُم الطَّيِّبُ َو ْال َع َم ُل الصَّالِ ُح يَرْ فَ ُعهُ﴾ [فاطر‪ ،]10 :‬وهذه‬
‫أن االستغفار ال يرفعه إلى هللا إاّل العمل الصالح والتوبة) (‪)1‬‬ ‫اآلية تد ّل على ّ‬
‫وشبه اإلمام علي المستغفر بالمستعمل لل دواء؛ ف إذا ك ان يس تعمله‪ ،‬ويس رف‬
‫على نفسه بما يسبب ل ه الم رض‪ ،‬فإن ه لن يش فى أب دا‪ ،‬ألن غ رض االس تغفار ه و‬
‫الع ودة إلى هللا‪ ،‬ال مج رد حرك ة اللس ان‪ ،‬فق د روي عن ه أن ه ق ال‪( :‬ال ذنوب ال داء‬
‫والدواء االستغفار‪ ،‬والشفاء أن ال تعود) (‪)2‬‬
‫وروي أن بعضهم قال بحضرته (أستغفر هللا)‪ ،‬فقال ل ه اإلم ام علي‪( :‬ثكلت ك‬
‫إن االستغفار درجة العلّيّين‪ ،‬وه و اس م واق ع على س تّة‬ ‫أ ّمك‪ ،‬أ تدري ما االستغفار؟ ّ‬
‫معان‪ :‬أوّلها النّدم على ما مضى‪ ،‬والثاني‪ :‬العزم على ترك العود إليه أبدا‪ ،‬والثالث‪:‬‬ ‫ّ‬
‫أن تؤ ّدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى هللا أملس ليس علي ك تبع ة‪ ،‬والراب ع‪ :‬أن‬
‫تعمد إلى ك ّل فريض ة علي ك ض يّعتها فت ؤ ّدي حقّه ا‪ ،‬والخ امس‪ :‬أن تعم د إلى اللحم‬
‫الّذي نبت على السحت فتذيبه باألحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينش أ بينهم ا لحم‬
‫جديد‪ ،‬والسادس‪ :‬أن تذيق الجسم ألم الطاعة كم ا أذقت ه حالوة المعص ية‪ ،‬فعن د ذل ك‬
‫تقول‪ :‬أستغفر هللا) (‪)3‬‬
‫﴿والَّ ِذينَ ِإ َذا َف َعلُوا‬
‫وهذا ما نص عليه القرآن الكريم وصرح به‪ ،‬فقد قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ُص رُّوا‬ ‫ظ َل ُموا َأ ْنفُ َسه ُْم َذ َكرُوا هللا َفا ْست َْغ َفرُوا ِل ُذنُو ِب ِه ْم َو َم ْن َي ْغ ِف رُ ال ُّذنُ َ‬
‫وب ِإاَّل هللا َو َل ْم ي ِ‬ ‫اح َش ًة َأوْ َ‬
‫َف ِ‬
‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َه ا‬ ‫ُ‬
‫َع َلى َما َف َعلُوا َوه ُْم َيعْ َل ُمونَ (‪ )135‬أو َل ِئكَ َجزَاؤُ ه ُْم َم ْغ ِف َرةٌ ِم ْن َر ِّب ِه ْم َو َجنَّ ٌ‬
‫اأْل َ ْن َهارُ خَا ِل ِدينَ ِفي َها َو ِنعْ َم َأجْرُ ْال َع ِام ِلينَ (‪( ﴾)136‬آل عمران)‬
‫فقد قرن هللا تعالى في اآلية الكريمة االستغفار بعدم اإلصرار‪ ،‬ولهذا ق ال رس ول هللا‬
‫‪(:‬ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (‪)4‬‬
‫وذلك ال يعني العصمة من الذنوب‪ ،‬أو عدم الع ودة إليه ا؛ فق د يص ر الش خص على‬
‫شيء ويعزم عليه‪ ،‬ولكن ه ينكث عزم ه‪ ..‬ف المراد ه و أن يعاه د هللا أن ال يق ع في ال ذنب‬
‫بجزم وتأكيد‪ ،‬فإن قدر ووقع في الذنب عاد إلى االستغفار من جديد‪..‬‬
‫لقد ذكر رسول هللا ‪ ‬ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬ما أصر من اس تغفر وإن ع اد فى الي وم س بعين‬
‫مرة) (‪)5‬‬
‫وأخبرنا (أن عب دا أذنب ذنب ا فق ال‪ :‬رب أذنبت ذنب ا ف اغفر لى‪ ،‬ق ال هللا تع الى‪ :‬علم‬
‫عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به‪ ،‬غف رت لعب دى‪ .‬ثم مكث م ا ش اء هللا ثم أذنب ذنب ا‬
‫آخر فذكر مثل األول مرتين أخريين) (‪)6‬‬

‫‪ )(1‬تفسير العيّاشي ج ‪ 1‬ص ‪198‬‬


‫‪ )(2‬غرر الحكم ص ‪79‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة حكمة ‪ 409‬ص ‪1281‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أبو داود والترمذى‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪135‬‬
‫التعرض للنفحات‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن معنى التع رض للنفح ات ال ذي‬
‫وردت اإلش ارة إلي ه في الح ديث ال ذي يق ول‪( :‬إن هلل في أي ام ده ركم نفح ات أال‬
‫فترصدوا لها) (‪ ،)1‬وكيف يكون ذلك التعرض‪ ،‬وما هي محاله ومواقيته؟‬
‫وجوابا على سؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن ه ذا الح ديث ـ ص ح أو لم يص ح ـ‬
‫أصل من أصول السير إلى هللا‪ ،‬ذل ك أن ك ل النص وص المقدس ة ت دل علي ه‪ ،‬وك ل‬
‫السالكين في طريق التزكية والترقية حثوا عليه وعلى معناه‪.‬‬
‫فقوله تعالى في سورة القدر‪﴿ :‬إِنَّا أَ ْنزَ ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ِة ْالقَ ْد ِر (‪َ )1‬و َما أَ ْد َراكَ َما لَ ْيلَةُ‬
‫ف َشه ٍْر (‪ )3‬تَنَ َّز ُل ْال َماَل ئِ َكةُ َوالرُّ و ُح فِيهَ ا بِ إِ ْذ ِن َربِّ ِه ْم‬ ‫ْالقَ ْد ِر (‪ )2‬لَ ْيلَةُ ْالقَ ْد ِر َخ ْي ٌر ِم ْن أَ ْل ِ‬
‫طلَ ِع ْالفَجْ ِر﴾ [الق در‪ ،]5 - 1 :‬ي دل على أن تل ك‬ ‫ِم ْن ُك ِّل أَ ْم ٍر (‪َ )4‬ساَل ٌم ِه َي َحتَّى َم ْ‬
‫الليلة المباركة تتش رف بمض اعفة أعم ال الع املين فيه ا‪ ،‬وأن ذل ك بس بب ت نزالت‬
‫خاصة من المالئكة عليهم الس الم‪ ،‬وأن ه يحص ل فيه ا من الخ ير م ا ال يحص ل في‬
‫غيرها‪.‬‬
‫وكل ذلك يجعل السالكين إلى هللا مثل أولئك الذين يسمعون بأن هناك مواعي د‬
‫تُخفض فيها األسعار‪ ،‬أو توضع فيها التحف يزات المش جعة على الش راء؛ فل ذلك ق د‬
‫يؤجلون شراء بعض احتياجاتهم لتلك األيام‪ ،‬حرصا عليها‪ ،‬وعلى النفحات الخاصة‬
‫بها‪.‬‬
‫وهكذا السائرون في طريق هللا يبحثون عن كل مناسبة تتحقق فيها أمثال تل ك‬
‫النفحات اإللهية‪ ،‬والتي ال تتعلق باألجور فقط‪ ،‬وإنما تتعلق بالفتوح أيض ا؛ فق د يفتح‬
‫هللا على من ص دق في التع رض له ا ب أنواع من الفتح لم يكن ليص ل إليه ا بجه ده‬
‫وكسبه لمدد طويلة‪.‬‬
‫وبما أنك ـ أيها المريد الصادق ـ سألت عن كيفية التعرض له ا‪ ،‬فس أورد ل ك‬
‫من النص وص المقدس ة م ا ي دلك على محاله ا‪ ،‬واألعم ال المرتبط ة به ا‪ ،‬وال تي‬
‫يحرص الصادقون عليها حرصا شديدا؛ فهي أعي ادهم الحقيقي ة‪ ،‬ذل ك أن ك ل نفح ة‬
‫منها قد تكون سببا لسعادة األبد‪.‬‬
‫وبم ا أن مص در تل ك النفح ات ومنبعه ا هي رحم ة هللا الواس عة‪ ،‬وفض له‬
‫العظيم‪ ،‬فقد أتاح لذلك نوعين من المحال‪ :‬المكانية والزماني ة‪ ..‬فمن فات ه المك ان أو‬
‫عجز عن الوصول إليه‪ ،‬يمكنه أن يس تدرك بالزم ان‪ ..‬ومن فات ه الزم ان يمكن ه أن‬
‫يستدرك بالمكان‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذا المعنى قوله ‪( :‬من صلى الغداة في جماعة ثم قعد ي ذكر‬
‫هللا حتى تطلع الشمس‪ ،‬ثم صلى ركعتين ك انت ل ه ك أجر حج ة وعم رة تام ة تام ة‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)168 /77‬‬

‫‪136‬‬
‫تامة) (‪)1‬‬
‫وفي رواية أخرى‪( :‬من قعد في مصاله الذي صلى فيه الفجر ي ذكر هللا ح تى‬
‫تطلع الشمس‪ ،‬كان له حج بيت هللا) (‪)2‬‬
‫فهذا الحديث ـ برواياته المختلفة التي اتفقت عليها جميع األمة ـ ي دل على أن‬
‫المواقيت الزمانية يمكنها أن تعوض المواقيت المكانية‪ ،‬وخاصة لمن عج ز عليه ا‪..‬‬
‫حتى ال يكون في ذلك أي عذر أو حجة للمقصرين‪.‬‬
‫النفحات الزمانية‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعلمت الفضل العظيم ال ذي أناط ه هللا‬
‫تعالى بالمواقيت الزمنية‪ ،‬والتي تتيسر لكل الخلق؛ فهي ال تحتاج ماال وال جهدا‪ ،‬بل‬
‫يكفي أن يع رف المجته د فيه ا الت واريخ واألزمن ة؛ فاجته د ألن تبحث عنه ا‪ ،‬وعن‬
‫األعمال المرتبطة بها‪ ،‬وال يضرك أن يشكك البعض في صحة بعض م ا ورد فيه ا‬
‫ما دام ال يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم من الحقائق والقيم‪.‬‬
‫وقد أشار إلى مجامع تلك المواقيت القرآن الك ريم في مواض ع متع ددة من ه‪..‬‬
‫وأولها ليلة الق در ال تي ذك ر أنه ا خ ير من أل ف ش هر‪ ،‬ووص فها في موض ع آخ ر‬
‫ب ْال ُمبِي ِن (‪ )2‬إِنَّا‬ ‫بالبركة‪ ،‬وبأن ه يف رق فيه ا ك ل أم ر حكيم‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬حم (‪َ )1‬و ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ق ُك لُّ أَ ْم ٍر َح ِك ٍيم (‪ )4‬أَ ْم رًا ِم ْن‬ ‫أَ ْن َز ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ٍة ُمبَا َر َك ٍة إِنَّا ُكنَّا ُم ْن ِذ ِرينَ (‪ )3‬فِيهَ ا يُ ْف َر ُ‬
‫ِع ْن ِدنَا إِنَّا ُكنَّا ُمرْ ِسلِينَ (‪َ )5‬رحْ َمةً ِم ْن َربِّكَ إِنَّهُ ه َُو ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم﴾ [الدخان‪]6 - 1 :‬‬
‫﴿و ْالفَجْ ِر (‪َ )1‬ولَيَ ا ٍل‬ ‫ومنها الليالي العشر التي أقس م هللا تع الى به ا في قول ه‪َ :‬‬
‫َع ْش ٍر﴾ [الفجر‪]2 ،1 :‬‬
‫ُ‬
‫ضانَ الَّ ِذي أ ْن ِز َل‬ ‫ومنها شهر رمضان الذي وصفه هللا تعالى‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ش ْه ُر َر َم َ‬
‫ص ْمهُ﴾‬ ‫الش ه َْر فَ ْليَ ُ‬ ‫ت ِمنَ ْالهُدَى َو ْالفُرْ قَ ِ‬
‫ان فَ َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم َّ‬ ‫فِي ِه ْالقُرْ آنُ هُدًى لِلنَّ ِ‬
‫اس َوبَيِّنَا ٍ‬
‫﴿وإِ َذا َس أَلَكَ ِعبَ ا ِدي َعنِّي فَ إِنِّي‬ ‫[البقرة‪ ،]185 :‬وقد جاء بعد هذه اآلية قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫اع إِ َذا َدعَا ِن﴾ [البقرة‪ ،]186 :‬وهو ما يدل على اإلجابة للدعاء‬ ‫ُ‬
‫قَ ِريبٌ أ ِجيبُ َد ْع َوةَ ال َّد ِ‬
‫فيه أسرع‪.‬‬
‫ولم يكتف كرم هللا تعالى بهذه المواقيت‪ ..‬بل جعل في كل يوم مواقيت خاصة‬
‫ممتلئة بالبرك ة والنفح ات‪ ،‬ومنه ا وقت الس حر ال ذي أخ بر هللا عن الج زاء العظيم‬
‫آخ ِذينَ َما‬‫ُون (‪ِ )15‬‬ ‫ت َو ُعي ٍ‬ ‫الذي أعده للمتعرضين لنفحاته‪ ،‬فقال‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُمتَّقِينَ فِي َجنَّا ٍ‬
‫ك ُمحْ ِس نِينَ (‪َ )16‬ك انُوا قَلِياًل ِمنَ اللَّ ْي ِل َم ا يَ ْه َج ُع ونَ (‬ ‫آتَاهُ ْم َربُّهُ ْم إِنَّهُ ْم َكانُوا قَ ْب َل َذلِ َ‬
‫ار هُ ْم يَ ْستَ ْغفِرُونَ ﴾ [الذاريات‪]18 - 15 :‬‬ ‫ْح ِ‬ ‫‪َ )17‬وبِاأْل َس َ‬
‫ومنها المواقيت التي ترتبط بها الصالة‪ ،‬وال تي نص عليه ا قول ه تع الى‪﴿ :‬أَقِ ِم‬
‫ق اللَّي ِْل َوقُرْ آنَ ْالفَجْ ِر إِ َّن قُرْ آنَ ْالفَجْ ِر َك انَ َم ْش هُودًا (‬ ‫س إِلَى َغ َس ِ‬ ‫وك ال َّش ْم ِ‬ ‫صاَل ةَ لِ ُدلُ ِ‬
‫ال َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك َع َسى أ ْن يَ ْب َعث كَ َربُّكَ َمقا ًم ا َمحْ ُم ودًا﴾ [اإلس راء‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫‪َ )78‬و ِمنَ الل ْي ِل فتَهَ َّج ْد بِ ِه نَافِلة ل َ‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪)586‬‬


‫‪ )(2‬دعائم االسالم ج ‪ 1‬ص ‪.167‬‬
‫‪137‬‬
‫‪]79 ،78‬‬
‫ص ياًل ﴾‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ك بُك َرةً َوأ ِ‬ ‫ْ‬
‫ومنها البك رة واألص يل‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿:‬واذ ُك ِر ْ‬
‫اس َم َربِّ َ‬
‫[اإلنسان‪]25 :‬‬
‫وق د أخ بر هللا تع الى أن ذل ك الفض ل ليس خاص ا بم ا ورد النص علي ه في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬بل إن ك ل أي ام هللا يمكن اعتباره ا مح اال للفض ل اإللهي‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ت إِلَى النُّ ِ‬
‫ور َو َذ ِّكرْ هُ ْم‬ ‫ك ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬ ‫﴿ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ُمو َسى بِآيَاتِنَا أَ ْن أَ ْخ ِرجْ قَوْ َم َ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫ور﴾ [إبراهيم‪]5 :‬‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬
‫صب ٍ‬ ‫ت لِ ُك ِّل َ‬ ‫بِأَي َِّام هللا إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يَا ٍ‬
‫ولذلك كان على الساعي إلصالح نفسه أو إجابة دعائه‪ ،‬أو الترقي في مدارج‬
‫السالكين‪ ،‬أن يبحث عن المحال التي يمكنه أن يختصر فيها الطريق‪ ،‬وعن األعم ال‬
‫التي عليه القيام بها فيها‪ ،‬حتى ال تضيع منه تلك الفرص العظيمة‪.‬‬
‫وبما أني ـ أيها المريد الصادق ـ ال أس تطيع في ه ذه الرس الة المختص رة أن‬
‫أذكر لك جميع تلك المحال‪ ،‬وال جميع األعمال التي تقوم بها فيها‪ ،‬فإني س أذكر ل ك‬
‫نماذج عنها‪ ،‬لتعلم قيمة النفحات‪ ،‬والفضل العظيم الذي ينتظر المتعرضين لها‪.‬‬
‫فمن محاله ا‪ ،‬وأش رفها‪ ،‬م ا ورد النص علي ه في الق رآن الك ريم‪ ،‬من الليل ة‬
‫المسماة لشرفها‪ ،‬وعالقتها باألقدار [ليلة القدر]‪ ،‬تلك الليلة ال تي اعتبره ا هللا تع الى‬
‫خ يرا من أل ف ش هر‪ ،‬وال تي وردت النص وص الكث يرة الدال ة على فض لها‪ ،‬وعلى‬
‫أنواع األعمال التي يمكن أن يجتهد المؤمن في القيام بها فيها‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث ما روي أن رسول هللا ‪ ‬قال عند دخول شهر رمضان‪:‬‬
‫(إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلةٌ خي ٌر من ألف شهر‪ ،‬من حرمها فقد حرم الخير‬
‫كله‪ ،‬وال يحرم خيرها إال محرو ٌم)(‪)1‬‬
‫ومن دالئ ل فض لها اجته اد رس ول هللا ‪ ‬في البحث عنه ا‪ ،‬فق د ح دث أب و‬
‫سعيد‪ ،‬قال‪( :‬اعتك ف رس ول هللا ‪ ‬العش ر األول من رمض ان‪ ،‬ثم اعتك ف العش ر‬
‫األوسط في قبة تركي ة على س دتها حص ي ٌر‪ ،‬فأخ ذ الحص ير بي ده فنحاه ا في ناحي ة‬
‫القبة‪ ،‬ثم أطل ع رأس ه فكلم الن اس‪ ،‬ف دنوا منه‪ ،‬فق ال‪( :‬إني اعتكفت العش ر األول‪،‬‬
‫ألتمس هذه الليلة‪ ،‬ثم إني اعتكفت العشر األوسط‪ ،‬ثم أتيت‪ ،‬فقيل لي‪ :‬إنها في العش ر‬
‫األواخر‪ ،‬فمن أحب منكم أن يعتك ف فليعتكف‪ ،‬ف اعتكف الن اس معه‪ ،‬ق ال وإني‬
‫رأيتها ليلة وتر‪ ،‬وإني أسجد في صبيحتها في طين وماء بنحوه)(‪)2‬‬
‫وقد شاء هللا أن يخفيها‪ ،‬وال يحددها بدقة‪ ،‬حتى تبقى نفوس الص ادقين متلهف ة‬
‫على الظفر بها‪ ،‬ففي الح ديث أن رس ول هللا ‪ ‬س ئل عنه ا‪ ،‬فق ال‪( :‬ل وال أن ي ترك‬
‫الناس الصالة إال تلك الليلة ألخبرتك)(‪)3‬‬
‫وروي عن اإلمام علي أنه سئل عنها‪ ،‬فق ال‪( :‬م ا أخل و من أن أك ون أعلمه ا‬
‫فأستر علمها‪ ،‬ولست أشك أن هللا إنما يسترها عنكم نظرا لكم‪ ،‬ألنكم ل و أعلمكموه ا‬
‫‪ )(1‬ابن ماجة (‪)1644‬‬
‫‪ )(2‬مسلم (‪.215 )1167‬‬
‫‪ )(3‬ذكره الهيثمي ‪ ،3/178‬وقال‪ :‬رواه الطبراني في (الكبير)‬
‫‪138‬‬
‫هللا) (‪)1‬‬
‫عملتم فيها وتركتم غيرها‪ ،‬وأرجو أن ال تخطئكم إنشاء‬
‫ولذلك ال تحصرها ـ أيها المريد الصادق ـ في أي ليل ة من اللي الي ال تي وق ع‬
‫فيه ا الخالف‪ ،‬وإن ق وي دليل ه‪ ،‬وعظمت حجت ه‪ ،‬فم ا أدراك لعله ا في غ يره؛ وم ا‬
‫يضرك أن تتبع كل ليلة وقع فيها االحتمال‪ ،‬ألنك إن كسبتها لن تكس ب ليل ة واح دة‪،‬‬
‫وإنما ثالثة وثمانين سنة‪.‬‬
‫وبما أن فضل هللا أعظم من أن يحصر في ليلة واحدة في السنة؛ فقد جعل هللا‬
‫تعالى في كل يوم مواقيت خصها بفضله‪ ،‬ومنها ما عبر عن ه رس ول هللا ‪ ‬بقول ه‪:‬‬
‫(إن في الليل لساعة ال يوافقها رج ٌل مسل ٌم يسأل هللا خيرا من أمر الدنيا واآلخ رة إال‬
‫أعطاه إياه‪ ،‬وذلك كل ليلة)(‪)2‬‬
‫ومنها ما عبر عنه ‪ ‬بقوله ـ جوابا لمن سأله‪( :‬أي الدعاء أسمع؟) ـ‪( :‬جوف‬
‫الليل اآلخر‪ ،‬ودبر الصلوات المكتوبة)(‪)3‬‬
‫ُر ُّد بين األذان واإلقامة فادعوا)(‪)4‬‬
‫ومنها ما عبر عنه ‪ ‬بقوله‪( :‬الدعاء ال ي َ‬
‫ومنها ما عبر عنه ‪ ‬بقوله‪( :‬ثنت ان ال ت ردان‪ ،‬أو قلم ا ت ردان‪ ،‬ال دعاء عن د‬
‫النداء‪ ،‬وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا)(‪)5‬‬
‫ومنها ما عبر عن ه ‪ ‬بقوله‪( :‬ثنت ان م ا ت ردان‪ :‬ال دعاء عن د الن داء‪ ،‬وتحت‬
‫المطر)(‪)6‬‬
‫ومنها أن رسول هللا ‪ ‬ذكر ي وم الجمع ة فق ال‪( :‬في ه س اعة ال يوافقه ا عب د‬
‫مسلم قائم يصلي يسأل هللا تعالى شيئًا إال أعطاه إياه)(‪)7‬‬
‫ومنها ما عبر عن ه ‪ ‬بقوله‪( :‬أق رب م ا يك ون العب د من رب ه وه و س اجد؛‬
‫فأكثروا من الدعاء)(‪)8‬‬
‫ومنها ما عبر عنه ‪ ‬بقوله‪( :‬خير الدعاء دعاء يوم عرفة)(‪)9‬‬
‫ومنها ما ع بر عن ه ‪ ‬بقوله‪( :‬م ا منكم من أح د يتوض أ فيس بغ الوض وء ثم‬
‫يقول‪ :‬أشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ إال‬
‫فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)(‪)10‬‬
‫ومنها ما عبر عنه ‪ ‬بقوله‪( :‬اغتنموا الدعاء عند الرقة؛ فإنها رحمة)(‪)11‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)5 /97‬‬


‫‪ )(2‬مسلم (‪)757‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪ ،)3499‬والنسائي في عمل اليوم والليلة(‪)108‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود (‪ ،)521‬والترمذي (‪)212‬‬
‫‪ )(5‬رواه أبو داود (‪ ،)2540‬والدارمي (‪)1200‬‬
‫‪ )(6‬الحاكم ‪ ،2/114‬وأبو داود (‪)3540‬‬
‫‪ )(7‬رواه البخاري(‪ ،)935‬ومسلم (‪)852‬‬
‫‪ )(8‬رواه مسلم(‪)482‬‬
‫‪ )(9‬رواه الترمذي(‪ ،)3585‬ومالك(‪)500‬‬
‫‪ )(10‬رواه مسلم(‪)234‬‬
‫‪ )(11‬الديلمي في مسند الفردوس‪ ،‬فيض القدير للمناوي ‪ 2/16‬رقم(‪)1211‬‬
‫‪139‬‬
‫ومنها م ا ع بر عن ه ‪ ‬بقوله‪( :‬من ت َع ا َّر (‪ )12‬من اللي ل فق ال‪ :‬ال إل ه إال هللا‬
‫وحده ال شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير‪ ،‬الحمد هلل‪ ،‬وس بحان‬
‫هللا‪ ،‬وال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكبر‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬ثم قال‪ :‬اللهم اغفر لي ـ أو‬
‫دعا ـ استجيب له‪ ،‬فإن توضأ وصلى قبلت صالته)(‪)13‬‬
‫أما األعمال المرتبطة بتلك المواقيت المباركة‪ ،‬فقد ترك لنا أئمة الهدى الكثير‬
‫من الس نن ال تي ورثوه ا عن رس ول هللا ‪ ،‬وال تي وثقته ا كتب الح ديث والس نن‬
‫والسير‪ ..‬ويمكنك االستفادة منها‪ ،‬بشرط ع رض معانيه ا على الق رآن الك ريم؛ ف إن‬
‫وافقته‪ ،‬فعليك بها‪ ،‬وال تضيعها‪ ،‬وال تلتفت لمن يشكك فيها؛ فالمعاني الصحيحة هي‬
‫المطلوبة‪ ،‬وال يضر بعد ذلك إن وقع الخالف في صحتها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما روي عن اإلمام الصادق أنه كان يدعو أصحابه إذا‬
‫حضر شهر رمضان أن يقولوا في أوله مرحبين به‪( :‬اللهم قد حضر شهر رمضان‪،‬‬
‫وقد افترضت علين ا ص يامه‪ ،‬وأن زلت في ه الق رآن ه دى للن اس وبين ات من اله دى‬
‫والفرقان‪ ،‬اللهم أعنا على صيامه‪ ،‬وتقبله منا‪ ،‬وسلمنا فيه‪ ،‬وسلمه منا‪ ،‬وسلمنا له في‬
‫يسرمنك وعافية‪ ،‬إنك على كل شئ قدير يا أرحم الراحمين) (‪)3‬‬
‫فأنت ترى ـ أيها المريد الصادق ـ أن هذه المع اني كله ا ص حيحة وش رعية‪،‬‬
‫ومناسبة للزمان الذي تردد فيه‪ ،‬ذلك أن فيه ا تنبيه ا لقيم ة ش هر رمض ان وفض له‪،‬‬
‫ودعاء هللا بالتوفيق فيه‪ ..‬فأي ضرر في مناقشة السند‪ ،‬أو رد الحديث بسببه؟‬
‫ومثله ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان‪ ،‬واألعمال الواردة فيه ا؛ فق د‬
‫سئل عنها اإلمام الباقر‪ ،‬فقال‪( :‬هي أفضل ليلة بعد ليل ة الق در‪ ،‬فيه ا يمنح هللا تع الى‬
‫العباد فضله‪ ،‬ويغف ر لهم بمن ه‪ ،‬فاجته دوا في القرب ة إلى هللا فيه ا فإنه ا ليل ة آلى هللا‬
‫تعالى على نفسه أن ال يرد سائال له فيها‪ ،‬ما لم يسأل معصية‪ ..‬فاجتهدوا في ال دعاء‬
‫والثناء على هللا تعالى عزوجل) (‪)4‬‬
‫وقد سئل اإلمام الصادق عن االدعية ال تي تق ال فيه ا؟ فق ال‪( :‬اللهم إني إلي ك‬
‫فقير ومن عذابك خائف مستجير‪ ،‬اللهم ال تبدل اسمي‪ ،‬وال تغير جس مي‪ ،‬وال تجه د‬
‫بالئي‪ ،‬وال تشمت بي أعدائي‪ ،‬أعوذ بعفوك من عقابك‪ .‬وأعوذ برحمت ك من ع ذابك‬
‫وأعوذ برضاك من سخطك‪ ،‬وأعوذبك منك‪ ،‬جل ثناؤك أنت كما أث نيت على نفس ك‬
‫وفوق ما يقول القائلون)(‪)5‬‬
‫وروي عن اإلم ام علي أن ه ق ال‪( :‬إن اس تطعت أن تحاف ظ على ليل ة الفط ر‬
‫وليل ة النح ر‪ ،‬وأول ليل ة من المح رم‪ ،‬وليل ة عاش ورا‪ ،‬وأول ليل ة من رجب وليل ة‬
‫النصف من شعبان فافعل‪ ،‬وأكثر فيهن من الدعاء والصالة وتالوة القرآن) (‪)6‬‬

‫‪ )(12‬تعارّ ‪ :‬قيل‪ :‬استيقظ‪ ،‬وقيل‪ :‬انتبه‪ ،‬وقيل‪ :‬تكلم‪ ،‬وقيل‪:‬تمطى‪.‬‬


‫‪ )(13‬رواه البخاري(‪)1154‬‬
‫‪ )(3‬تفسير العياشى ج ‪ 1‬ص ‪.80‬‬
‫‪ )(4‬أمالى الطوسى ج ‪ 1‬ص ‪ 302‬ـ ‪.303‬‬
‫‪ )(5‬مصباح المتهجد‪.577 :‬‬
‫‪ )(6‬مصباح المتهجد‪.593 :‬‬
‫‪140‬‬
‫ومما ورد من األدعية في شهر رجب ما روي عن اإلم ام الص ادق أن ه ك ان‬
‫إذا دخ ل رجب ي دعو به ذا ال دعاء في ك ل ي وم من أيام ه‪( :‬خ اب الواف دون على‬
‫غيرك‪ ،‬وخسر المعترضون إال لك‪ ،‬وضاع الملمون إال بك‪ ،‬وأجدب المنتجع ون إال‬
‫من انتجع فضلك‪ ،‬بابك مفتوح للراغبين‪ ،‬وخ يرك مب ذول للط البين‪ ،‬وفض لك مب اح‬
‫للسائلين‪ ،‬ونيلك متاح لآلملين‪ ،‬ورزقك مبسوط لمن عصاك‪ ،‬وحلم ك مع ترض لمن‬
‫ناواك‪ ،‬عادتك االحسان إلى المسيئين وس بيلك االبق اء على المعت دين‪ ،‬اللهم فاه دني‬
‫ه دى المهت دين‪ ،‬وارزق ني اجته اد المجته دين‪ ،‬والتجعل ني من الغ افلين المبع دين‪،‬‬
‫واغفر لي يوم الدين) (‪)1‬‬
‫وسأله بعض أصحاب عن دعاء يدعو به في هذا الشهر‪ ،‬فق ال‪ :‬ق ل ي ا معلى‪:‬‬
‫(اللهم إني أسئلك صبر الش اكرين ل ك‪ ،‬وعم ل الخ ائفين من ك‪ ،‬ويقين العاب دين ل ك‪،‬‬
‫اللهم أنت العلي العظيم‪ ،‬وأنا عبدك البائس الفق ير‪ ،‬وأنت الغ ني الحمي د‪ ،‬وأن ا العب د‬
‫الذليل‪ ،‬اللهم صل على محمد وعلى آل محم د‪ ،‬وامنن بغن اك على فق ري‪ ،‬وبحلم ك‬
‫على جهلي‪ ،‬وبقوت ك على ض عفي ي ا ق وي ي ا عزي ز‪ ،‬اللهم ص ل على محم د وآل‬
‫محمد االوص ياء المرض يين‪ ،‬واكف ني م ا أهم ني من أم ر ال دنيا واالخ رة ي ا أرحم‬
‫الراحمين)‪ ،‬ثم ق ال ل ه‪( :‬ي ا معلى وهللا لق د جم ع ل ك ه ذا ال دعاء م ا ك ان من ل دن‬
‫إبراهيم الخليل إلى محمد ‪)2()‬‬
‫وغيرها من األعم ال واألدعي ة واألذك ار ال تي تيس ر على الس ائرين إلى هللا‬
‫التعرف على كيفية مناج اة ربهم ودعائ ه والت أدب بين يدي ه‪ ،‬وهي كله ا تح وي من‬
‫المعاني ما يمأل النفس والعقل والقلب وكل اللطائف بحقائق ال دين الجميل ة المنزه ة‬
‫عن تلك التحريفات التي ألصقت بالدين وشوهته‪.‬‬
‫النفحات المكانية‪:‬‬
‫أما النفح ات المكاني ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فهي مرتبط ة بتل ك األم اكن‬
‫الشريفة المقدسة التي أمر هللا تعالى بتعظيمها‪ ،‬ونهى عن انتهاك حرمتها وقدسيتها‪،‬‬
‫ب﴾ [الحج‪]32 :‬‬ ‫ك َو َم ْن يُ َعظِّ ْم َش َعائِ َر هللا فَإِنَّهَا ِم ْن تَ ْق َوى ْالقُلُو ِ‬
‫فقال‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫واآلي ة الكريم ة ال ت دعو إلى تعظيم أحك ام الش ريعة فق ط‪ ،‬وإنم ا ت دعو إلى‬
‫تعظيم كل ما يرتب ط به ا من أش خاص أو أزمن ة أو أمكن ة‪ ،‬ذل ك أن المتج رئ على‬
‫انتهاك حرمتها ينتهك الشريعة من حيث ال يشعر‪.‬‬
‫الص فاَ‬ ‫َّ‬
‫ول ذلك اعت بر هللا تع الى الص فا والم روة من ش عائر هللا‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬إِن َّ‬
‫اح َعلَ ْي ِه أَ ْن يَطَّوَّفَ بِ ِه َم ا‬
‫َو ْال َم رْ َوةَ ِم ْن َش َعائِ ِر هللا فَ َم ْن َح َّج ْالبَيْتَ أَ ِو ا ْعتَ َم َر فَاَل ُجنَ َ‬
‫َو َم ْن تَطَ َّو َع َخ ْيرًا فَإِ َّن هللا َشا ِك ٌر َعلِي ٌم﴾ [البقرة‪]158 :‬‬
‫وسر ذلك يعود إلى ارتباطهما بتل ك األح داث العظيم ة ال تي مثلت التض حية‬
‫واالستسالم هلل في أجلى وأجمل صوره‪ ،‬كما عبر عن ذل ك بعض هم‪ ،‬فق ال‪( :‬أص ل‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)389 /98‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)390 /98‬‬
‫‪141‬‬
‫السعي أن يتذكر اإلنسان حال أم إس ماعيل‪ ،‬فإنه ا لم ا خلَّفه ا إب راهيم علي ه الص الة‬
‫والسالم هي وابنها في هذا المكان‪ ،‬وجعل عندها س قا ًء من م اء‪ ،‬وجراب ا ً من تم ر‪،‬‬
‫فجعلت األم تأكل من التمر وتشرب من الماء‪ ،‬وتسقي اللبن لولدها‪ ،‬فنف َد الم اء ونف د‬
‫التمر‪ ،‬فجاعت وعطش ت‪ ،‬ويبس ث ديها‪ ،‬ج اع الص بي‪ ،‬وجع ل يتل وى من الج وع‪،‬‬
‫فأدركتها الشفقة‪ ،‬فرأت أقرب جبل إليها الصفا فذهبت إلى الص فا‪ ،‬وجعلت تتحس س‬
‫لعلها تسمع أحداً‪ ،‬ولكنها لم تسمع‪ ،‬فنزلت إلى االتجاه الثاني إلى جبل الم روة‪ ،‬ولم ا‬
‫هبطت في بطن الوادي نزلت عن مشاهدة ابنها‪ ،‬فجعلت تس عى س عيا ً ش ديداً‪ ،‬ح تى‬
‫تصعد لتتمكن من مشاهدة ابنها‪ ،‬ورقيت لتس مع وتتحس س على الم روة‪ ،‬ولم تس مع‬
‫شيئاً‪ ،‬حتى أتمت هذا سبع م رات ثم أحس ت بص وت‪ ،‬ولكن ال ت دري م ا ه و‪ ،‬ف إذا‬
‫جبريل نزل بأمر هللا ع ّز وج ل‪ ،‬فض رب بجناح ه أو برجل ه األرض مك ان زم زم‬
‫اآلن) (‪)1‬‬
‫ومثل ذلك نجد م ا ورد في أحك ام ش عائر الحج من رمى الجم ار‪ ،‬والمرتب ط‬
‫أيضا ـ حسبما هو متفق عليه بين األمة جميعا ـ على ما فعله إب راهيم علي ه الس الم‪،‬‬
‫ففي الرواية عن اإلمام علي واإلمام السجاد واإلمام الك اظم أن عل ة رمي الجم رات‬
‫هي مواجهة نبي هللا إبراهيم عليه السالم الشيطان حينما أراد أن يذبح ولده إسماعيل‬
‫عليه السالم(‪.)2‬‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬لما أتى إبراهيم خليل هللا علي ه الس الم‬
‫المناسك‪ ،‬عرض له الشيطان عند جمرة العقبة‪ ،‬فرم اه بس بع حص يات‪ ،‬ح تى س اخ‬
‫في األرض‪ ،‬ثم عرض له عند الجمرة الثانية‪ ،‬فرماه بسبع حصيات‪ ،‬ح تى س اخ في‬
‫األرض‪ ،‬ثم ع رض ل ه في الجم رة الثالث ة‪ ،‬فرم اه بس بع حص يات ح تى س اخ في‬
‫األرض‪ .‬قال ابن عباس‪ :‬الشيطان ترجمون‪ ،‬وملة أبيكم تتبعون) (‪)3‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد من األح اديث واآلث ار الدال ة على أن جماع ة من األنبي اء‬
‫والمرسلين عليهم السالم مدفونون في المس جد الح رام م ا بين زم زم والمق ام‪ ،‬وق د‬
‫أخبر النبي ‪ ‬أن منهم نوح اً‪ ،‬وه وداً وص الحاً‪ ،‬وش عيباً‪ ،‬وأن قب ورهم بين زم زم‬
‫والحجر‪ ،‬وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام(‪.)4‬‬
‫وهذا كله يدل على أن كل محل يدفن في ه الص الحون‪ ،‬أو تح دث في ه أح داث‬
‫مرتبطة بهم‪ ،‬يمكن اعتباره من األماكن المباركة‪ ،‬مثله مثل األزمن ة المبارك ة ال تي‬
‫شرفها هللا تعالى بحصول أحداث عظيمة فيها‪.‬‬
‫ولهذا أخبر هللا تعالى عن فهم إبراهيم عليه السالم لهذا المعنى‪ ،‬وإدراك ه ل ه‪،‬‬
‫ولهذا سعى لبناء الكعب ة‪ ،‬وس أل هللا أن تظ ل األفئ دة ته وى له ا‪ ،‬ق ال تع الى حاكي ا‬

‫‪ )(1‬الشرح الممتع على زاد المستقنع‪)269 /7( ،‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،96‬ص ‪.39‬‬
‫‪ )(3‬الحاكم (‪ ،)638 /1‬وقال‪( :‬صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)‬
‫‪ )( 4‬انظر‪ :‬إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور‪ ،‬ص ‪ ،11‬وما بعدها‪ ،‬وصيانة اآلث ار‬
‫اإلسالميّة‪ ،‬الشيخ جعفر السبحاني‪ ،‬ص ‪ ،26‬فما بعدها‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫ك ْال ُم َح ر َِّم َربَّنَ ا‬ ‫ع ِع ْن َد بَ ْيتِ َ‬‫ت ِم ْن ُذ ِّريَّتِي بِ َوا ٍد َغ ْي ِر ِذي زَرْ ٍ‬ ‫﴿ربَّنَ ا إِنِّي أَ ْس َك ْن ُ‬
‫دعاءه‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫ت لَ َعلهُ ْم‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫اس تَ ْه ِوي إِلَ ْي ِه ْم َوارْ ُزقهُ ْم ِمنَ الث َم َرا ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫الص الةَ فَاجْ َع لْ أفئِ َدةً ِمنَ النَّ ِ‬ ‫لِيُقِي ُم وا َّ‬
‫يَ ْش ُكرُونَ ﴾ (إبراهيم‪)37:‬‬
‫َّ‬
‫اس لَل ِذي‬ ‫ض َع لِلنَّ ِ‬ ‫ت ُو ِ‬ ‫َ‬
‫وذك ر بعض أس رار فض له وبركت ه‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬إِ َّن أ َّو َل بَ ْي ٍ‬
‫ى لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ (آل عمران‪)96:‬‬ ‫بِبَ َّكةَ ُمبَا َركا ً َوهُد ً‬
‫اس ِحجُّ ْالبَ ْي ِ‬
‫ت‬ ‫ولهذا خص بتل ك الش عائر الخاص ة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وهلل َعلَى النَّ ِ‬
‫َم ِن ا ْستَطَا َع إِلَ ْي ِه َسبِيالً﴾ (آل عمران‪)97 :‬‬
‫وقد ورد في األحاديث الكثيرة ما يبين عظم أجر من انتهز فرصة وجوده في‬
‫تلك األماكن الممتلئة بالبركات والنفحات‪ ،‬ومنه ا قول ه ‪( :‬من حج فلم ي رفث ولم‬
‫يفسق رجع كيوم ولدته أمه) (‪)1‬‬
‫وهذا يدل على أن الص ادق في حج ه‪ ،‬المت أثر ب ه‪ ،‬المنفع ل ل ه‪ ،‬الع ازم على‬
‫تصحيح كل ما وقع فيه من أخطاء‪ ،‬سيتخلص من ذنوب ه وآفات ه جميع ا‪ ،‬س واء تل ك‬
‫التي سجلت في صحيفة سيئاته‪ ،‬أو تلك التي سجلت في نفسه‪.‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن مضاعفة األجور لمن صلى في تل ك األم اكن‬
‫المباركة‪ ،‬وهو يدل على عظم ة تأثيره ا في النفس‪ ،‬وك ون أدواره ا فيه ا أك بر من‬
‫أدوار غيرها‪ ،‬ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬ص الة في مس جدي أفض ل‬
‫من ألف صالة فيما سواه إال المسجد الحرام وصالة في المس جد الح رام أفض ل من‬
‫مئة ألف صالة فيما سواه) (‪)2‬‬
‫والنفحات ال ترتبط باألجور‪ ،‬وال بالنفحات فق ط‪ ،‬وإنم ا بإجاب ة ال دعاء‪ ،‬وق د‬
‫ورد في الحديث في صفة حجة النبي ‪ ‬وفيه‪( :‬فبدأ بالصفا فَ َرقِ َي حتى رأى البيت‪،‬‬
‫فاستقبل القبلة‪ ،‬فوحد هللا‪ ،‬وكبره‪ ،‬وقال‪ :‬ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه ل ه المل ك‬
‫وله الحمد وهو على كل شيء قدير‪ ،‬ال إله إال هللا وحده‪ ،‬أنجز وعده‪ ،‬ونصر عب ده‪،‬‬
‫وهزم األحزاب وحده‪ ،‬ثم دعا بين ذلك‪ ،‬قال مثل هذا مرات)(‪)3‬‬
‫َّت قدماه في بطن ال وادي س عى‪ ،‬ح تى‬ ‫وفيه‪( :‬ثم نزل إلى المروة‪ ،‬حتى انصب ْ‬
‫ص ِعدَتا مشى‪ ،‬حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا) (‪)4‬‬ ‫إذا َ‬
‫وفيه‪( :‬ثم ركب القص واء ح تى أتى المش عر الح رام‪ ،‬فاس تقبل القبل ة ف دعاه‪،‬‬
‫وكبره‪ ،‬وهلله‪ ،‬ووحده‪ ،‬فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا)(‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬الغ ازي في س بيل هللا‪ ،‬والح اج‪ ،‬والمعتم ر ـ وف د‬
‫هللا‪،‬دعاهم فأجابوه‪ ،‬وسألوه فأعطاهم)(‪)6‬‬
‫ب ل إن رس ول هللا ‪ ‬أخ بر بم ا ه و ف وق ذل ك كل ه‪ ،‬وه و أن تل ك األم اكن‬
‫‪ )(1‬البخاري ‪ ،3/382‬ومسلم ‪.1/984‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪397 ،3/343‬‬
‫‪ )( 3‬رواه مسلم(‪)1218‬‬
‫‪ )( 4‬رواه مسلم(‪)1218‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم(‪)1218‬‬
‫‪ )(6‬رواه ابن ماجة(‪)2893‬‬
‫‪143‬‬
‫المقدسة المباركة قطع من الجنة‪ ،‬ولذلك ينال كل من عظمه ا وقدس ها وت أدب معه ا‬
‫من بركات الجنة‪ ،‬ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬م ا بين بي تي ومن بري‬
‫روضةٌ من رياض الجنة‪ ،‬ومنبري على حوضي)(‪ ،)1‬وقال‪( :‬إن ق وائم من بري ه ذا‬
‫رواتب في الجنة) (‪)2‬‬
‫وق ال عن جب ل أح د ال ذي حص لت في ه غ زوة أح د‪ ،‬ودفن في جم ع من‬
‫الص حابة‪( :‬أح د ركن من أرك ان الجنة)(‪ ،)3‬وق ال‪( :‬أح ٌد جب ٌل يحبن ا ونحب ه‪ ،‬ف إذا‬
‫جئتموه فكلوا من شجره‪ ،‬ولو من عضاهه) (‪ ،)4‬وقال‪( :‬هذا جبل يحبنا ونحب ه‪ ،‬على‬
‫باب من أبواب الجنة‪ ،‬وهذا عير جبل يبغضنا ونبغضه على باب أبواب النار)(‪)5‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن األج ور العظيم ة ال تي يناله ا من زار ق بره‪ ،‬فق ال‪( :‬من زار‬
‫ق بري وجبت ل ه ش فاعتي)(‪ ،)6‬وق ال‪( :‬من زارني بع د م وتي فكأنم ا زارني في‬
‫حي اتي‪ ،‬ومن م ات بأح د الح رمين بعث من اآلم نين ي وم القيام ة)(‪ ،)7‬وق ال‪( :‬من‬
‫زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا)(‪)8‬‬
‫وهكذا روي عن أئمة الهدى الكث ير من الرواي ات الدال ة على الفض ل العظيم‬
‫الذي يناله من زارهم‪ ،‬أو زار األماكن ال تي حص لت فيه ا األح داث المرتبط ة بهم‪،‬‬
‫باعتبارها امتدادا للنبوة‪.‬‬
‫ومن تلك األماكن ك ربالء ال تي ارتبطت ب أعظم ملحم ة تاريخي ة وق ف فيه ا‬
‫الحق كله‪ ،‬في وجه الباطل كله‪ ،‬ولذلك كان لزيارتها وزيارة اإلمام الحسين تأثيره ا‬
‫وبركاتها العظيمة على الزائرين‪ ،‬وقد روي في الحديث عن اإلمام الصادق أنه قال‪:‬‬
‫بينما الحسين بن عل ّي في حجر رسول هللا ‪ ‬إذ رفع رأسه فقال له‪( :‬يا أبة‪ ،‬ما لمن‬
‫زارك بعد موتك‪ ،‬فقال‪ :‬يا بن ّي‪ ،‬من أتاني زائرا بعد موتي فله الجنّة‪ ،‬ومن أتى أب اك‬
‫زائرا بعد موته فله الجنّ ة‪ ،‬ومن أتى أخ اك زائ را بع د موت ه فل ه الجنّ ة‪ ،‬ومن أت اك‬
‫زائرا بعد موتك فله الجنّة) (‪)9‬‬
‫وعنه قال‪ :‬قال الحسين لرسول هللا ‪ :‬ما جزاء من زارك؟ فق ال‪( :‬ي ا ب ن ّي‪،‬‬
‫من زارني حيّا أو ميّتا أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك كان حقّ ا عل ّي أن أزوره‬
‫يوم القيامة حتّى أخلّصه من ذنوبه) (‪)10‬‬
‫وبن اء على ه ذه الس نة النبوي ة نص أئم ة اله دى على فض ل زي ارة اإلم ام‬
‫الحسين وغيره من األئمة‪ ،‬وكونها من أعظم القرب ات هلل تع الى‪ ،‬لم ا له ا من أدوار‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)1196‬ومسلم (‪)1391‬‬
‫‪ )(2‬النسائي ‪..2/35‬‬
‫‪ )(3‬أبو يعلى ‪ ،)7516(13/427‬والكبير ‪)5813( 6/151‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ )2889‬ومسلم (‪)1393‬‬
‫‪ )(5‬الب َّزار كما في (كشف األستار) (‪،)1199‬واألوسط (‪)6505‬‬
‫‪ )(6‬سنن الدارقطني ‪ ،194 / 278 / 2‬السنن الكبرى للبيهقي ‪ ،245 / 5‬شعب اإليمان للبيهقي ‪49 / 3‬‬
‫‪ )(7‬الدارقطني في سننه (‪ ،)2/278‬البيهقي في شعب اإليمان (‪)3/488‬‬
‫‪)(8‬البيهقي في شعب اإليمان (‪)3/488‬‬
‫‪ )(9‬كامل الزيارات‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ )(10‬كامل الزيارات‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪144‬‬
‫روحية وتربوية كبيرة‪ ،‬وأهمها إثبات ص دق ال والء لرس ول هللا ‪ ،‬وأله ل بيت ه‪،‬‬
‫وحفظ وصيته في حقهم‪ ،‬وقد ذكر ذلك اإلمام الرضا‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫(إن لك ّل إم ام عه دا في‬
‫وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن األداء زي ارة قب ورهم‪ ،‬فمن‬ ‫عنق أوليائه وشيعته‪ّ ،‬‬
‫زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه كان أئ ّمتهم شفعائهم ي وم القيام ة)‬
‫(‪)1‬‬
‫أن أح دكم ح ّج ده ره ث ّم لم ي زر الحس ين بن عل ّي‬ ‫وقال اإلمام الص ادق‪( :‬ل و ّ‬
‫عليهما السّالم لكان تاركا حقّا من حقوق هللا وحقوق رسول هللا صلى هللا علي ه وآل ه‬
‫ل مسلم) (‪)2‬‬ ‫ق الحسين فريضة من هللا واجبة على ك ّ‬ ‫ألن ح ّ‬ ‫وسلم‪ّ ،‬‬
‫ومع ذلك كله‪ ،‬فإن هللا تعالى برحمته ولطف ه وكرم ه لم يح رم الع اجزين عن‬
‫الرحلة لتلك األماكن المقدسة من نيل ثواب النفحات المكانية‪ ،‬ذلك أنه جعل المساجد‬
‫الموجودة في كل محل محاال للبركة والهداية بشرط إقامته ا للتق وى‪ ،‬وع دم نش رها‬
‫للفتن وتفريقها بين المسلمين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ت أ ِذنَ هللا أ ْن ترْ فَ َع َويُذ َك َر فِيهَا ا ْس ُمهُ ي َُس بِّ ُح‬ ‫َ‬ ‫وقد قال تعالى يذكر ذلك‪﴿ :‬فِي بُيُو ٍ‬
‫ْ‬
‫ارة َواَل بَ ْي ٌع ع َْن ِذك ِر هللا َوإِقَ ِام‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ص ا ِل (‪ِ )36‬ر َج ا ٌل اَل تل ِهي ِه ْم تِ َج َ‬ ‫لَهُ فِيهَا بِ ْال ُغ د ُِّو َواآْل َ‬
‫ْص ا ُر (‪ )37‬لِيَجْ ِزيَهُ ُم هللا‬ ‫صاَل ِة َوإِيتَا ِء ال َّز َكا ِة يَخَافُونَ يَوْ ًما تَتَقَلَّبُ فِي ِه ْالقُلُ وبُ َواأْل َب َ‬ ‫ال َّ‬
‫ب﴾ [النور‪-36 :‬‬ ‫ق َم ْن يَ َشا ُء بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬ ‫أَحْ َسنَ َما َع ِملوا َويَ ِزي َدهُ ْم ِم ْن فَضْ لِ ِه َوهللا يَرْ ُز ُ‬
‫ُ‬
‫الص اَل ةَ َوآتَى‬ ‫‪ ،]38‬وقال‪﴿ :‬إِنَّ َما يَ ْع ُم ُر َم َس ا ِج َد هللا َم ْن آ َمنَ بِاهلل َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر َوأَقَ ا َم َّ‬
‫ك أَ ْن يَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [التوبة‪]18 :‬‬ ‫ش إِاَّل هللا فَ َع َسى أُولَئِ َ‬
‫ال َّز َكاةَ َولَ ْم يَ ْخ َ‬
‫ولهذا ورد في األحاديث الكث يرة م ا ي بين فض ل المس اجد وعمارته ا بال ذكر‬
‫والصالة وغيره ا‪ ،‬ففي الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬س بعةٌ يظلهم هللا في‬
‫ق في المس اجد) (‪ )3‬وفي‪:‬‬ ‫ظله يوم ال ظل إال ظل ه)‪ ،‬وذك ر منهم‪( :‬ورج ٌل قلب ه معل ٌ‬
‫ق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه)‪.‬‬ ‫(ورج ٌل معل ٌ‬
‫وأخبر أن آثار الماش ين إلى المس اجد تحف ظ لهم‪ ،‬فعن ج ابر ق ال‪( :‬أراد بن و‬
‫سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد‪ ،‬قال‪ :‬والبقاع خاليةٌ‪ ،‬فبلغ ذلك النبي ‪ ‬فقال‪ :‬ي ا‬
‫بني سلمة دياركم تكتب آثاركم‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا) (‪)4‬‬
‫ولذلك روي عن بعض أصحاب رسول هللا ‪ ‬أنه كان ال بيت أبعد من بيت ه‬
‫عن المسجد‪ ،‬وكان ال تخطئه الصالة مع الجماعة‪ ،‬وال يرغب في أن يكون بيته إلى‬
‫جوار المسجد‪ ،‬فقيل له‪ :‬لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد‪ ،‬إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المس جد‬
‫ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي)‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬قد جمع هللا لك ذلك كله) (‪)5‬‬

‫‪ )(1‬كامل الزيارات‪ ،‬ص ‪.21‬‬


‫‪ )(2‬كامل الزيارات‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم‬
‫‪145‬‬
‫وأخ بر ‪ ‬عن ت أثير ال ذهاب إلى المس اجد في مح و الخطاي ا‪ ،‬ال من س جل‬
‫السيئات فقط‪ ،‬وإنما من س جل النفس أيض ا‪ ،‬فق ال‪( :‬أال أدلكم على م ا يمح و هللا ب ه‬
‫الخطايا ويرفع به الدرجات)‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى يا رسول هللا‪ ،‬ق ال‪( :‬إس باغ الوض وء على‬
‫المكاره‪ ،‬وكثرة الخطا إلى المساجد‪ ،‬وانتظار الص الة بع د الص الة‪ ،‬ف ذلكم الرب اط)‬
‫(‪ ،)1‬وقال‪( :‬من راح إلى مسجد جماعة‪ ،‬فخطوتاه خطوةٌ تمحو سيئة‪ ،‬وخط وةٌ تكتب‬
‫حسنة‪ ،‬ذاهبا وراجعا)(‪)2‬‬
‫وشبه رسول هللا ‪ ‬الذاهب إلى المسجد بالح اج‪ ،‬فق ال‪( :‬من خ رج من بيت ه‬
‫متطهرا إلى صالة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم) (‪)3‬‬
‫وبشر الذاهب إلى المساجد بكونه في ض مانة هللا تع الى‪ ،‬فق ال‪( :‬ثالث ةٌ كلهم‬
‫ٌ‬
‫ضامن على هللا حتى‬ ‫ضامن على هللا عز وجل‪ :‬رج ٌل خرج غازيا في سبيل هللا فهو‬ ‫ٌ‬
‫يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة‪ ،‬ورج ٌل راح إلى المس جد فه و‬
‫ضامن على هللا حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أج ر وغنيم ة‪ ،‬ورج ٌل‬ ‫ٌ‬
‫ٌ‬
‫ضامن على هللا عز وجل) (‪)4‬‬ ‫دخل بيته بسالم فهو‬
‫وأخبر أن السائر إلى المسجد يشبه المصلي‪ ،‬فلذلك دع ا إلى مراع اة اآلداب‬
‫أثناء السير لها‪ ،‬فقال‪( :‬إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد‪ ،‬كان في صالة حتى‬
‫يرجع‪ ،‬فال يقل هكذا‪ :‬وشبك بين أصابعه) (‪)5‬‬
‫وأخ بر عن األج ر العظيم ال ذي ينال ه الس ائرون للمس اجد في اللي ل‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) (‪)6‬‬
‫وأخبر أن الذاهب إلى المسجد كالزائر هلل تعالى‪ ،‬فق ال‪( :‬من توض أ في بيت ه‬
‫ق على المزور أن يك رم الزائ ر)‬ ‫فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر هللا‪ ،‬وح ٌ‬
‫(‪)7‬‬
‫وأخبر عن إكرام هللا تعالى للزائ رين للمس اجد‪ ،‬باعتب ارهم زوارا ل ه‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(من غدا إلى المسجد وراح أعد هللا له نزله من الجنة كلما غدا أو راح) (‪)8‬‬
‫وفوق ذلك‪ ،‬فإن من رحمة هللا تع الى بعب اده‪ ،‬ومراعات ه لظ روفهم المختلف ة‪،‬‬
‫تمكينهم من أن ين الوا نفح ات األم اكن المبارك ة‪ ،‬وهم في بي وتهم‪ ،‬من غ ير أن‬
‫وس ى َوأَ ِخي ِه أَ ْن تَبَ َّوآ‬‫﴿وأَوْ َح ْينَ ا إِلَى ُم َ‬
‫يخرجوا منها‪ ،‬وهو ما يشير إليه قوله تع الى‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫صاَل ةَ َوبَ ِّش ِر ال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [ي ونس‪:‬‬ ‫لِقَوْ ِم ُك َما بِ ِمصْ َر بُيُوتًا َواجْ َعلُوا بُيُوتَ ُك ْم قِ ْبلَةً َوأَقِي ُموا ال َّ‬
‫‪]87‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن حبان‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود‬
‫‪ )(5‬رواه ابن خزيمة‬
‫‪ )(6‬رواه الترمذي‬
‫‪ )(7‬رواه الطبراني‬
‫‪ )(8‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫وفي الحديث‪ ،‬أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى‪ ،‬وأنه قال لرسول‬
‫هللا ‪ :‬يا رسول هللا إنها تكون الظلمة والسيل‪ ،‬وأنا رج ٌل ضرير البصر‪ ،‬فصل ي ا‬
‫رسول هللا في بيتي مكانا أتخذه مص لى‪ ،‬فج اءه رس ول هللا ‪ ،‬فق ال‪ :‬أين تحب أن‬
‫أصلي ؟ فأشار إلى مكان من البيت‪ ،‬فصلى فيه رسول هللا ‪)1( )‬‬

‫وروي عن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬ك ان لعلي بيت ليس في ه ش ئ إال ف راش‬
‫وسيف ومصحف وكان يصلي فيه) (‪)2‬‬
‫ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ بعض م ا ورد في المح ال ال تي تت نزل فيه ا‬
‫النفحات؛ فابحث عنها‪ ،‬واحرص عليها‪ ،‬واستفد من بركاته ا‪ ،‬وال تكت ف بظاهره ا‪،‬‬
‫بل اعبر منها إلى حقائقها وبواطنها؛ فاهلل ما شرفها ذل ك التش ريف‪ ،‬وال أن زل فيه ا‬
‫تلك البركات إال للحقائق التي تحويها‪ ،‬والمعاني التي تحملها‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ ،)667‬ومسلم (‪)33‬‬


‫‪ )(2‬المحاسن‪.612 :‬‬
‫‪147‬‬
‫حق التالوة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المري د الص ادق ـ تس ألني عن تالوة الق رآن الك ريم وآدابه ا‬
‫وحقوقها وسر ما ورد حول فضلها في النصوص المقدسة‪ ،‬وعن كيفية تحويله ا من‬
‫تالوة عادي ة وق راءة ع ابرة إلى تالوة م ؤثرة في النفس والس لوك‪ ،‬هادي ة للحق ائق‬
‫والقيم‪.‬‬
‫وذكرت لي بأسف أولئك الذين يقرأون القرآن الكريم‪ ،‬وال يجاوز حن اجرهم‪،‬‬
‫ب ل إن فيهم من يعمى عن ه دايات الق رآن‪ ،‬وينحجب بمتش ابهه؛ فيض ل ويُض ل‪..‬‬
‫ويصبح منبع الهداية والنور عنده منبعا للضاللة ومصدرا للظلمات والحجب‪.‬‬
‫ثم طلبت مني في آخر رسالتك أن أبين لك كيفية التحقق بمعنى قول ه تع الى‪:‬‬
‫ك هُ ُم‬ ‫ك ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ِه َو َم ْن يَ ْكفُ رْ بِ ِه فَأُولَئِ َ‬ ‫ق تِاَل َوتِ ِه أُولَئِ َ‬ ‫﴿الَّ ِذينَ آتَ ْينَاهُ ُم ْال ِكت َ‬
‫َاب يَ ْتلُونَهُ َح َّ‬
‫ْالخَا ِسرُونَ ﴾ [البقرة‪]121 :‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن تالوة الق رآن الك ريم أك بر مدرس ة‬
‫تربوية وإصالحية‪ ،‬ال للفرد وحده‪ ،‬وإنما للمجتمع جميعا‪ ..‬ولو أن األم ة اإلس المية‬
‫تمسكت بها لكان واقعها مختلفا تماما‪ ،‬كما أشار هللا تعالى إلى ذلك عن د ذك ره لكتب‬
‫األمم األخرى‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬ولَ وْ أَنَّهُ ْم أَقَ ا ُموا التَّوْ َراةَ َواإْل ِ ْن ِجي َل َو َم ا أُ ْن ِز َل إِلَ ْي ِه ْم ِم ْن َربِّ ِه ْم‬
‫ت أَرْ ُجلِ ِه ْم﴾ [المائدة‪]66 :‬‬ ‫أَل َ َكلُوا ِم ْن فَوْ قِ ِه ْم َو ِم ْن تَحْ ِ‬
‫لكن التفريط فيه‪ ،‬واإلعراض عنه هو الذي حول األمة إلى الحال ال ذي ت راه‬
‫عليها من التخلف والتفرق والفتن وغيرها‪.‬‬
‫ومث ل ع الم المجتم ع ع الم النفس‪ ..‬ف النفس ال تي تقيم الق رآن بين جوانبه ا‬
‫ولطائفها‪ ،‬وتجعله المتربع على عرشها‪ ،‬والسلطان عليها‪ ،‬نفس مرتبطة ب الملكوت‪،‬‬
‫تتنزل عليها الرحمات وكل أنواع اللطف اإللهي‪ ..‬فل ذلك تتح ول من النفس األم ارة‬
‫إلى النفس المطمئن ة‪ ،‬ثم تص عد بع دها في م دارك الكم ال بحس ب حرص ها على‬
‫التالوة الحقة‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله ‪( :‬يقال لصاحب القرآن‪ :‬اقرأ وارق ورت ل‬
‫كما كنت ترتل في دار الدنيا‪ ،‬فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها)(‪)1‬‬
‫فه ذا الح ديث كم ا يش ير إلى االرتق اء في درج ات الجن ة يش ير ك ذلك إلى‬
‫درجات االرتقاء في سلم الكمال‪ ،‬ذلك أن درجات الجنة مرتبطة بمدى الكم ال ال ذي‬
‫يحققه اإلنسان‪.‬‬
‫وهك ذا ينبغي أن تق رأ ك ل النص وص المقدس ة ال تي وردت في فض ل تالوة‬
‫القرآن الكريم؛ فهي ال تبش رك ب ذلك الفض ل الموع ود في الجن ة فق ط‪ ،‬ب ل تبش رك‬
‫بفضل آني تناله لحظة قراءتك‪ ،‬ألنه ال يمكن أن تنال الفضل الموعود دون أن تن ال‬
‫ذلك الفضل اآلني‪ ،‬المرتبط بإصالح نفسك وتهذيبها‪ ،‬وترقيتها في مدارج الكمال‪.‬‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪ ،)2914‬وأبو داود (‪)1464‬‬


‫‪148‬‬
‫فمن تلك األحاديث قوله ‪( :‬يجيء القرآن ي وم القيام ة فيق ول‪ :‬ي ا رب حل ه‬
‫فيلبس تاج الكرامة‪ ،‬ثم يق ول‪ :‬ي ا رب زده‪ ،‬فيلبس ه حل ة الكرام ة‪ ،‬ثم يق ول‪ :‬ي ا رب‬
‫ارض عنه فيرضى عنه‪ ،‬فيقال‪ :‬اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة)(‪)1‬‬
‫فكل هذه الفضائل العظيمة ينالها قارئ القرآن في الدنيا قبل اآلخ رة‪ ،‬ذل ك أن‬
‫المعاني التي يجدها أثناء قراءته هي التي تملؤه بكل المكارم‪ ،‬وهي التي تتوجه بتاج‬
‫الكرامة‪ ،‬والذي يتجس د ل ه في اآلخ رة بص ورته الحس ية‪ ،‬بع د أن عاش ه في ال دنيا‬
‫بحقيقته المعنوية‪.‬‬
‫ومثله قوله ‪( :‬مثل المؤمن ال ذي يق رأ الق رآن مث ل األترج ة ريحه ا طيبٌ‬
‫وطعمها طيب‪ ،‬ومثل المؤمن الذي ال يقرأ القرآن مثل التمرة طعمه ا طيبٌ وال ريح‬
‫لها‪ ،‬ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيبٌ وطعمها م رٌ‪ ،‬ومث ل‬
‫الفاجر الذي ال يقرأ الق رآن كمث ل الحنظل ة طعمه ا م ٌر وال ريح له ا‪ ،‬ومث ل جليس‬
‫الصالح كمث ل ص احب المس ك إن لم يص بك من ه ش ي ٌء أص ابك من ريح ه‪ ،‬ومث ل‬
‫جليس السوء كمثل صاحب الك ير إن لم يص بك من س واده أص ابك من دخان ه)(‪،)2‬‬
‫فهو يشير إلى اآلثار الظاهرة والباطنة التي يحدثها القرآن الك ريم بحس ب القابلي ات‬
‫المختلفة‪ ،‬فأي محل تقبله طهر وطاب‪ ،‬وأي محل رفضه تنجس وخبث‪.‬‬
‫ولذلك يرتبط حق التالوة بالجانبين المشكلين لإلنسان‪ :‬ظ اهره وباطن ه‪ ،‬ومن‬
‫اقتصر على تصحيح تالوة الظاهر‪ ،‬دون أن يترك لحق ائق الق رآن الفرص ة لتت نزل‬
‫على باطن ه‪ ،‬فلن يس تفيد من الق رآن الك ريم إال تل ك الحالوة الظ اهرة ال تي تح دثها‬
‫تالوته له‪ ،‬دون أن يكون لذلك تأثير على باطنه‪.‬‬
‫وسر ذلك يعود إلى أن القرآن الكريم روح وحياة لك ل م ا يالمس ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ك رُوحًا ِم ْن أَ ْم ِرنَا﴾ [الشورى‪ ،]52 :‬وعبر في آي ة أخ رى‬ ‫﴿و َك َذلِكَ أَوْ َح ْينَا إِلَ ْي َ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫ول إِ َذا َد َع ا ُك ْم لِ َم ا‬
‫َّس ِ‬ ‫عن ذلك بالحي اة‪ ،‬فق ال‪﴿:‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْ‬
‫اس ت َِجيبُوا هلل َولِلر ُ‬
‫يُحْ يِي ُك ْم﴾ [األنفال‪]24 :‬؛ فلذلك ال ينال الحياة والروح القرآنية إال تل ك األج زاء ال تي‬
‫ال مسته وتأثرت به وانفعلت له دون من عداها‪.‬‬
‫وبناء على طلبك ـ أيها المريد الصادق ـ في ذك ر حق وق التالوة ال تي وردت‬
‫به ا النص وص المقدس ة‪ ،‬وأس رارها وأدواره ا في التزكي ة والترقي ة‪ ،‬فس أذكر ل ك‬
‫مجامعها المتضمنة في الركنين اللذين يتشكل منهما اإلنسان‪ :‬الظاهر والباطن‪.‬‬
‫الحق الظاهر‪:‬‬
‫أما أول حقوق الظاهر ـ أيها المريد الصادق ـ فهو م ا يع بر عن ه لف ظ التالوة‬
‫نفسها‪ ،‬فهو يدل على المتابعة واالس تمرار‪ ،‬ال ذي ع بر عن ه رس ول هللا ‪ ‬بقول ه‪:‬‬
‫(أحب العمل إلى هللا الحال المرتحل)‪ ،‬فس ئل عن معن اه‪ ،‬فق ال‪( :‬ال ذي يض رب من‬
‫أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪ ،)2915‬والدارمي (‪)3311‬‬


‫‪ )(2‬أبو داود (‪)4829‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪ ،)2948‬والدارمي (‪)3476‬‬
‫‪149‬‬
‫وله ذا ي رد ذك ر التالوة في الق رآن الك ريم بالفع ل المض ارع ال دال على‬
‫الص الةَ َوأَ ْنفَقُ وا ِم َّما‬
‫اب هللا َوأَقَ ا ُموا َّ‬ ‫االستمرار‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْتلُونَ ِكتَ َ‬
‫ُور﴾ (ف اطر‪ ،)29:‬وق ال‪﴿ :‬الَّ ِذينَ آتَ ْينَ اهُ ُم‬ ‫َر َز ْقنَاهُ ْم ِس ّراً َوعَالنِيَةً يَرْ جُونَ تِ َجا َرةً لَ ْن تَب َ‬
‫َاس رُونَ ﴾‬ ‫ك هُ ُم ْالخ ِ‬ ‫ك ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ ِه َو َم ْن يَ ْكفُ رْ بِ ِه فَأُولَئِ َ‬‫ق تِال َوتِ ِه أُولَئِ َ‬ ‫ْال ِكت َ‬
‫َاب يَ ْتلُونَهُ َح َّ‬
‫(البقرة‪)121:‬‬
‫وحتى تتوفر الدوافع لالجته اد في التالوة والتن افس فيه ا‪ ،‬رغبت النص وص‬
‫المقدسة الكث يرة في األج ور العظيم ة ال تي يناله ا الق ارئون للق رآن‪ ،‬وهي ال تع ني‬
‫األجور فقط‪ ،‬بل تعني اآلثار التي تحدثها التالوة في النفس‪ ،‬ذل ك أن ه لم يكن لألج ر‬
‫أن يكتب في سجل صاحبه دون أن يكون له تأثيره في نفسه‪..‬‬
‫ولن يكون له تأثيره في النفس م ا لم يكن متتابع ا مس تمرا‪ ،‬ذل ك أن الش يطان‬
‫والهوى والدنيا وغيرهم يتربصون باإلنسان عند كل غفلة‪ ،‬ول ذلك ك ان محتاج ا في‬
‫كل لحظة إلى التحصن بالحصون القرآنية‪ ،‬مثلما يتحص ن من ي تربص ب ه أع داؤه‪،‬‬
‫وال يغفلون عنه‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله‪( :‬أيحب أح دكم إذا رج ع إلى أهل ه أن يج د ثالث‬
‫خلفات عظام س مان؟)‪ ،‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال‪( :‬فثالث آي ات يق رأ بهن أح دكم في ص الة‪،‬‬
‫ر له من ثالث خلفات عظام سمان)(‪)1‬‬ ‫خي ٌ‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬من قرأ حرفا من كتاب هللا فله به حس نةٌ والحس نة‬
‫حرف‪ ،‬ومي ٌم حرف)(‪)2‬‬ ‫ٌ‬ ‫ألف حرف‪ ،‬وال ٌم‬ ‫بعشر أمثالها‪ ،‬ال أقول الم حرف‪ ،‬ولكن ٌ‬
‫وأخبر ‪ ‬عن األج ر ال ذي ينال ه المش تغل ب القرآن‪ ،‬فال يش غله عن ه ش يء‪،‬‬
‫فقال‪( :‬يقول الرب تعالى‪( :‬من شغله قراءة القرآن عن مس ألتي‪ ،‬أعطيت ه أفض ل م ا‬
‫أعطي السائلين) (‪)3‬‬
‫وعن اإلمام علي أنه قال‪( :‬أال أخ بركم بالفقي ه حقّ ا ً ؟)‪ ..‬ق الوا‪( :‬بلى ي ا أم ير‬
‫المؤمنين)‪ ..‬قال‪َ ( :‬من لم يقنط الناس من رحمة هللا‪ ،‬ولم ي ؤمنهم من ع ذاب هللا‪ ،‬ولم‬
‫ير ّخص لهم في معاصي هللا‪ ،‬ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره‪ ،‬أَالَ ال خ ير في‬
‫علم ليس فيه تفهّم‪ ،‬أَالَ ال خير في قراء ٍة ليس فيه ا ت دبّر‪ ،‬أَالَ ال خ ير في عب اد ٍة ليس‬ ‫ٍ‬
‫فيها تفقّه)(‪)4‬‬
‫إن رس ول هللا ‪ ‬س ئل‪:‬‬ ‫وقال‪( :‬ليكن ك ّل كالمكم ذكر هللا‪ ،‬وقراءة الق رآن‪ ،‬ف ّ‬
‫ي األعمال أفضل عند هللا ؟)‪ ..‬قال‪( :‬ق راءة الق رآن‪ ،‬وأنت تم وت ولس انك رطبٌ‬ ‫(أ ّ‬
‫من ذكر هللا)(‪)5‬‬
‫ومن تلك اآلداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجته د في أن تض ع لنفس ك وردا‬

‫‪ )(1‬مسلم (‪)802‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي (‪)2910‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪ ،)2926‬والدارمي (‪)3356‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،89/211 :‬عن‪ :‬معاني األخبار ص‪.226‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،89/20 :‬عن‪ :‬جامع األخبار ‪ 46‬ـ ‪.48‬‬
‫‪150‬‬
‫تداوم عليه‪ ،‬مثلما كان يفعل الصالحون‪ ،‬فقد روي عن اإلم ام الرض ا أن ه ك ان يختم‬
‫القرآن في كل ثالث‪ ،‬ويقول‪( :‬لو أردت أن أختمه في أقل من ثالث لختمته ولكن ما‬
‫مررت بآية قط إال فكرت فيه ا وفي أي ش ئ ان زلت‪ ،‬وفي أي وقت‪ ،‬فل ذلك ص رت‬
‫أختم ثالثة أيام) (‪)1‬‬
‫لكن ذلك ـ أيها المري د الص ادق ـ ق د ال يتس نى ل ك‪ ،‬وال ألك ثر الن اس‪ ،‬وق د‬
‫يصرفهم عن الفهم والتدبر واآلداب الباطنة‪ ،‬لذلك كان لكل شخص أن يحدد المق دار‬
‫الذي يتناسب معه‪ ،‬وقد روي عن اإلم ام الص ادق أن ه س ئل‪ :‬أق رأ الق رآن في ليل ة؟‬
‫قال‪( :‬ال يعجبني أن تقرأه في أق ّل من شهر)(‪.)2‬‬
‫وسأله بعضهم‪ :‬جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فق ال‪ :‬ال‪،‬‬
‫قال‪ :‬ففي ليل تين؟ ق ال‪ :‬ال‪ ،‬ق ال‪ :‬ففي ثالث؟ ق ال‪ :‬ه ا ـ وأش ار بي ده ـ ث ّم ق ال‪ّ :‬‬
‫(إن‬
‫لرمضان حقّا وحرمة‪ ،‬وال يشبهه شيء من الشهور‪ ،‬وكان أصحاب مح ّمد ‪ ‬يق رأ‬
‫إن القرآن ال يقرء هذرمة‪ ،‬ولكن ترتّ ل ت رتيال‪ ،‬وإذا‬ ‫أحدهم القرآن في شهر أو أقلّ‪ّ ،‬‬
‫مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها‪ ،‬واسأل هللا تع الى الجنّ ة‪ ،‬وإذا م ررت بآي ة‬
‫فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ باهلل من النار)(‪)3‬‬
‫إن‬‫وسأله آخر‪ :‬في كم أقرأ القرآن؟ فقال‪( :‬اقرأه أخماس ا‪ ،‬اق رأه أس باعا‪ ،‬أم ا ّ‬
‫زى أربعة عشر جزءا)(‪)4‬‬ ‫عندي مصحفا مج ّ‬
‫وأقل األوراد التي ورد اإلذن بها‪ ،‬والتي يعتبر التارك لها مقصرا ما ورد في‬
‫الح ديث عن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال‪( :‬الق رآن عه د هللا إلى خلق ه‪ ،‬فينبغي للم رء‬
‫ل يوم خمسين آية)(‪)5‬‬ ‫المسلم أن ينظر في عهده‪ ،‬وأن يقرأ منه في ك ّ‬
‫ومن اآلداب ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تجته د في تعلم كيفي ة الق راءة‬
‫الصحيحة بمخارجها وأحكامها‪ ،‬وقد روي في الحديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪:‬‬
‫(الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام ال بررة‪ ،‬وال ذي يق رأ الق رآن‪ ،‬ويتتعت ع في ه وه و‬
‫ق له أجران)(‪)6‬‬ ‫عليه شا ٌ‬
‫وفي ح ديث آخ ر أن ه ‪ ‬س ئل عن قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َرتِّ ِل ْالقُ رْ آنَ تَ رْ تِياًل ﴾‬
‫هذ الشعر‪ ،‬قفوا عند‬ ‫تهذه َّ‬ ‫[المزمل‪ ،]4 :‬فقال‪( :‬بيّنه تبياناً‪ ،‬وال تنثره نثر الر ّمل‪ ،‬وال َّ‬
‫ركوا به القلوب‪ ،‬وال يكون ه ُّم أحدكم آخر السورة)(‪)7‬‬ ‫عجائبه‪ ،‬وح ِّ‬
‫ومن تلك اآلداب ما ذكره اإلمام الص ادق بقول ه‪( :‬إذا م ررت بآي ة فيه ا ذك ر‬
‫الجنّة‪ ،‬فاسأل هللا الجنّة‪ ..‬وإذا مررت بآية فيها ذكر النار‪ ،‬فتعوّذ باهلل من النار)(‪)8‬‬

‫‪ )(1‬أمالى الصدوق ص ‪.392‬‬


‫‪ )(2‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.617‬‬
‫‪ )(3‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.617‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.617‬‬
‫‪ )(5‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.609‬‬
‫‪ )(6‬البخاري (‪ ،)4937‬ومسلم (‪)798‬‬
‫‪ )(7‬نوادر الراوندي ص‪.30‬‬
‫‪ )(8‬مجمع البيان ‪.10/378‬‬
‫‪151‬‬
‫وهو ما ورد في سنة رس ول هللا ‪ ،‬فق د ورد في ح ديث حذيف ة في وص ف‬
‫قيام النبي ‪ ،‬وقد صلى معه‪ ،‬قال‪( :‬يقرأ مترسال‪ ،‬إذا م ر بآي ة فيه ا تس بي ٌح س بح‪،‬‬
‫وإذا مر بسؤال سأل‪ ،‬وإذا مر بتعوذ تعوذ) (‪ ،)1‬وفي رواية‪( :‬ال يمر بآية تخويف أو‬
‫تعظيم هلل عز وجل إال ذكره)‬
‫وفي حديث آخر عن عوف بن مالك ق ال‪( :‬قمت م ع الن بي ‪ ‬فب دأ فاس تاك‬
‫وتوضأ‪ ،‬ثم قام فصلى فبدأ فاستفتح من البقرة‪ ،‬ال يمر بآي ة رحم ة إال وق ف وس أل‪،‬‬
‫وال يمر بآية عذاب إال وقف يتعوذ) (‪)2‬‬
‫وقال ‪( :‬من قرأ القرآن فليسأل هللا به‪ ،‬فإنه سيجيء أق وا ٌم يق رءون الق رآن‬
‫ويسألون به الناس)(‪)3‬‬
‫وق ال اإلم ام علي‪( :‬إذا ق رأتم من المس بّحات األخ يرة‪ ،‬فقول وا‪( :‬س بحان هللا‬
‫ص لُّوا‬ ‫ُصلُّونَ َعلَى النَّبِ ِّي يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َ‬ ‫األعلى)‪ ،‬وإذا قرأتم‪﴿ :‬إِ َّن هللا َو َماَل ئِ َكتَهُ ي َ‬
‫َعلَ ْي ِه َو َسلِّ ُموا تَ ْسلِي ًما﴾ [األحزاب‪ ]56 :‬فصلّوا علي ه في الص الة كنتم أو في غيره ا‪،‬‬
‫وإذا قرأتم‪َ ﴿ :‬والتِّي ِن َوال َّز ْيتُو ِن﴾ [ال تين‪ ]1 :‬فقول وا في آخره ا‪( :‬ونحن على ذل ك من‬
‫الش اهدين‪ ،‬وإذا ق رأتم‪﴿ :‬قُولُ وا آ َمنَّا بِاهلل َو َم ا أُ ْن ِز َل إِلَ ْينَ ا َو َم ا أُ ْن ِز َل إِلَى إِ ْب َرا ِهي َم‬
‫يس ى َو َم ا أُوتِ َي النَّبِيُّونَ‬ ‫اط َو َما أُوتِ َي ُمو َسى َو ِع َ‬ ‫وب َواأْل َ ْسبَ ِ‬
‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬
‫يل َوإِس َ‬ ‫اع َ‬ ‫َوإِ ْس َم ِ‬
‫ق بَ ْينَ أَ َح ٍد ِم ْنهُ ْم َونَحْ نُ لَ هُ ُم ْس لِ ُمونَ ﴾ [البق رة‪ ،]136 :‬فقول وا‪( :‬آمنّ ا‬ ‫ِم ْن َربِّ ِه ْم اَل نُفَرِّ ُ‬
‫باهلل حتّى تبلغوا إلى قوله‪( :‬مسلمين)(‪)4‬‬
‫ُ‬
‫وقال‪ :‬صلّيت مع رسول هللا ‪ ‬بعد حجته‪ ،‬فكان يك ثر ق راءة ﴿اَل أ ْق ِس ُم بِيَ وْ ِم‬
‫ْس َذلِ كَ بِقَ ا ِد ٍر َعلَى أَ ْن يُحْ يِ َي ْال َم وْ تَى﴾ [القيام ة‪:‬‬ ‫ْالقِيَا َم ِة﴾ [القيامة‪ ،]1 :‬فإذا قال‪﴿ :‬أَلَي َ‬
‫‪ ]40‬سمعته يقول‪( :‬بلى وأنا على ذلك من الشاهدين)(‪)5‬‬
‫ومن اآلداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في حفظ ما أطقت منه‪ ،‬فقد قال‬
‫‪( :‬إن الذي ليس في جوفه شي ٌء من القرآن كالبيت الخرب) (‪)6‬‬
‫ونهى نهيا شديدا عن نسيانه‪ ،‬فقال‪( :‬ما من ام رئ يق رأ الق رآن ثم ينس اه‪ ،‬إال‬
‫ال َربِّ لِ َم َح َش رْ تَنِي‬ ‫لقى هللا يوم القيام ة أج ذم)‪ ،‬زاد رزين‪( :‬واق رءوا إن ش ئتم‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ك ْاليَ وْ َم تُ ْن َس ى﴾‬ ‫صيرًا (‪ )125‬قَا َل َك َذلِكَ أَتَ ْت كَ آيَاتُنَ ا فَن َِس يتَهَا َو َك َذلِ َ‬ ‫ت بَ ِ‬ ‫أَ ْع َمى َوقَ ْد ُك ْن ُ‬
‫[طـه‪)7()]126 :125:‬‬
‫وق د روى اإلم ام علي أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال ل ه‪( :‬أُعلّم ك دع اء ال تنس ى‬
‫القرآن‪ ،‬قل‪( :‬الله ّم ارحمني بترك معاصيك أبداً ما أبقيتني‪ ،‬وارحمني من تكلّ ف م ا‬
‫ال يعني ني‪ ،‬وارزق ني حس ن النظ ر فيم ا يرض يك‪ ،‬وال زم قل بي حف ظ كتاب ك كم ا‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم‪772 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه النسائي‪1132 :‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪)2917‬‬
‫‪ )(4‬الخصال ‪.2/165‬‬
‫‪ )(5‬الدر المنثور ‪.6/296‬‬
‫‪ )(6‬الترمذي (‪ ،)2913‬والدارمي (‪)3306‬‬
‫‪ )(7‬أبو داود (‪،)1474‬والدارمي (‪)3340‬‬
‫‪152‬‬
‫علّمت ني‪ ،‬وارزق ني أن أتل وه على النح و الّ ذي يرض يك عنّي‪ ..‬الله ّم ن ِّور بكتاب ك‬
‫بصري‪ ،‬واشرح به صدري‪ ،‬وأطلق به لساني‪ ،‬واستعمل به بدني‪ ،‬وق وّني ب ه على‬
‫ذلك‪ ،‬وأعنّي عليه‪ ،‬إنّه ال يعين عليه إالّ أنت‪ ،‬ال إله إالّ أنت)(‪)1‬‬
‫ومن اآلداب ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تجته د في تحس ين ص وتك عن د‬
‫قراءته؛ فقد روي في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬زينوا القرآن بأص واتكم)‬
‫(‪ ،)2‬وقال‪( :‬ما أذن هللا لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن)(‪ ،)3‬وفي رواي ة‪( :‬لن بي‬
‫حسن الصوت بالقرآن يجهر به)(‪ ،)4‬وفي أخرى‪( :‬يتغنى بالقرآن يجهر بصوته)(‪،)5‬‬
‫وقال‪( :‬لك ّل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن)(‪.)6‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬أخبر عن العزيمة في ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬ليس من ا من لم يتغن‬
‫( )‬
‫بالقرآن يجهربه) ‪7‬‬
‫لكنه ـ مع ذلك ـ لم يترك األم ر لأله واء ال تي ق د تح ول من ه ذا إلى وس يلة‬
‫لوضع ألح ان ال تتناس ب م ع جالل الق رآن وقدس يته‪ ،‬فل ذلك ق ال‪( :‬اق رؤوا الق رآن‬
‫بلحون العرب وأصواتها‪ ،‬وإياكم ولحون أهل الفسق‪ ،‬ولحون أهل الكتابين‪ ،‬وسيجئ‬
‫بع دي ق وم يرجع ون ترجي ع الغن اء والن وح‪ ،‬ال يج اوز حن اجرهم‪ ،‬مفتون ة‬
‫( )‬
‫قلوبهم‪،‬وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) ‪8‬‬
‫وليس عليك ـ أيها المريد الص ادق ـ ح رج في أن تس تمع للق راءات الجميل ة‬
‫المؤثرة‪ ،‬فإن لك أجرا عظيما بسماعك‪ ،‬وقد روي عن بعض القراء أنه س أل اإلم ام‬
‫الباقر‪ ،‬فقال‪ :‬إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان فقال‪ :‬إنّم ا ت راءى‬
‫بهذا أهلك والناس‪ ،‬فقال له اإلم ام‪( :‬اق رأ ق راءة بين الق راءتين تس مع أهل ك ور ّج ع‬
‫فإن هللا تعالى يحبّ الصوت الحسن‪ ،‬ترجّع به ترجيعا)(‪)9‬‬ ‫بالقرآن صوتك ّ‬
‫وفي الحديث عن ابن مسعود قال‪ :‬قال لي النبي ‪ :‬اق رأ على الق رآن‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫يا رسول هللا أقرأ عليك‪،‬وعليك أنزل؟ قال‪ :‬إني أحب أن أسمعه من غ يري‪ ،‬فق رأت‬
‫عليه سورة النس اء‪ ،‬ح تى جئت إلى ه ذه اآلي ة ﴿فَ َك ْي فَ إِ َذا ِج ْئنَ ا ِم ْن ُك لِّ أُ َّم ٍة بِ َش ِهي ٍد‬
‫ك َعلَى هَ ؤُاَل ِء َش ِهيدًا﴾ [النس اء‪ ،]41 :‬ق ال‪ :‬حس بك اآلن‪،‬ف التفت إلي ه‪ ،‬ف إذا‬ ‫َو ِج ْئنَا بِ َ‬
‫عيناه تذرفان(‪.)10‬‬
‫ّ‬
‫ومن اآلداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في قراءته في بيتك‪ ،‬ألنه ي وفر‬
‫البركة له‪ ،‬ويبعدك عن آفات األعمال إال إذا كان في قراءت ك في غ يره تش جيعا لهم‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،89/209 :‬عن‪ :‬عدة الداعي‪.‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود (‪ ،)1468‬والنسائي ‪،2/179‬وابن ماجة (‪)1342‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪)792‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ ،)5023‬ومسلم (‪)792‬‬
‫‪ )(5‬مسلم (‪.233 )792‬‬
‫‪ )(6‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.614‬‬
‫‪ )(7‬البخاري (‪،)7527‬وأبو داود (‪)1469‬‬
‫‪ )(8‬الطبراني في (األوسط) ‪ ،)7223( 7/183‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.614‬‬
‫‪ )(9‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.614‬‬
‫‪ )(10‬البخاري (‪ ،)5050‬ومسلم (‪.248 )800‬‬
‫‪153‬‬
‫على القراءة‪ ،‬أو دعوة لهم إليها‪ ،‬فقد روي في الح ديث عن رس ول هللا ‪( :‬ن وّروا‬
‫بيوتكم بتالوة القرآن‪ ،‬وال تتّخذوها قبورا كم ا فعلت اليه ود والنص ارى‪ ،‬ص لّوا في‬
‫إن ال بيت إذا ك ثر في ه تالوة الق رآن ك ثر خ يره‬ ‫الكنائس والبيع‪ ،‬وعطّلوا بي وتهم؛ ف ّ‬
‫واتّسع أهله‪ ،‬وأضاء ألهل السماء كما يضيء نجوم السماء ألهل الدنيا)(‪)1‬‬
‫وعن اإلمام علي أنه قال‪( :‬البيت الّذي يقرأ في ه الق رآن وي ذكر هللا في ه تك ثر‬
‫بركته وتحض ره المالئك ة وتهج ره الش ياطين ويض يء أله ل الس ماء كم ا يض يء‬
‫وإن البيت الّذي ال يق رأ في ه الق رآن وال ي ذكر هللا في ه تق ّل‬
‫الكواكب ألهل األرض‪ّ ،‬‬
‫بركته وتهجره المالئكة وتحضره الشياطين)(‪)2‬‬
‫(إن البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو الق رآن‬ ‫وقال اإلمام الصادق أنه قال‪ّ :‬‬
‫ي في السماء)(‪)3‬‬ ‫يتراءاه أهل السماء كما يتراءى أهل الدنيا الكوكب الد ّر ّ‬
‫واجتهد ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجمع بين الحسنيين‪ :‬القراءة والصالة‪ ،‬فقد‬
‫ورد م ا ي دل على فض ل ذل ك وت أثيره‪ ،‬ففي الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪:‬‬
‫(قراءة القرآن في الصالة أفضل من قراءة القرآن في غير الصالة‪ ،‬وق راءة الق رآن‬
‫في غير الص الة أفض ل من ذك ر هللا تع الى‪ ،‬وذك ر هللا تع الى أفض ل من الص دقة‪،‬‬
‫جنّة ٌ من النار)(‪)4‬‬
‫والصدقة أفضل من الصيام‪ ،‬والصيام ُ‬
‫وعن اإلمام الحسين أنه قال‪( :‬من قرأ آية من كتاب هللا في صالته قائما يكتب‬
‫له بك ّل حرف مائ ة حس نة‪ ،‬ف إن قرأه ا في غ ير ص الة كتب ل ه بك ّل ح رف عش ر‬
‫حسنات‪ ،‬فإن استمع القرآن كتب له بك ّل ح رف حس نة ف إن ختم الق رآن ليال ص لّت‬
‫عليه المالئكة حتّى يصبح‪ ،‬وإن ختمه نهارا صلّت عليه الحفظة حتّى يمسي وك انت‬
‫له دعوة مجابة‪ ،‬وكان خيرا له م ّما بين السماء إلى األرض)(‪)5‬‬
‫وعن اإلمام الباقر أن ه ق ال‪( :‬من ق رأ الق رآن قائم ا في ص الته كتب ل ه بك ّل‬
‫حرف مائة حسنة‪ ،‬ومن قرأ في صالته جالسا كتب له بك ّل ح رف خمس ون حس نة‪،‬‬
‫ل حرف عشر حسنات) (‪)6‬‬ ‫ومن قرأه في غير صالة كتب له بك ّ‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن فضل القراءة مرتبط بمدى الجهد المبذول فيها‪ ،‬وال يحرم القارئ‬
‫والمستمع من أدنى األجور‪ ،‬وإن ك ان األج ر األعظم لألك ثر اجته ادا وت دبرا‪ ،‬وق د‬
‫روي عن اإلمام السجاد أنه قال‪( :‬من استمع حرفا من كتاب هللا من غير قراءة كتب‬
‫هللا له به حسنة ومحا عنه سيّئة ورف ع ل ه درج ة‪ ،‬ومن ق رأ نظ را من غ ير ص وت‬
‫كتب هللا له بك ّل حرف حسنة ومحا عنه سيّئة ورفع له درج ة‪ ،‬ومن تعلّم من ه حرف ا‬
‫ظاهرا كتب هللا له عشر حسنات‪ ،‬ومحا عنه عشر سيّئات‪ ،‬ورفع له عشر درج ات‪،‬‬
‫ال أقول‪ :‬بك ّل آية ولكن بك ّل ح رف ب اء أو ت اء أو ش بههما‪ ،‬ومن ق رأ حرف ا ظ اهرا‬
‫‪ )(1‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪ 610‬رقم ‪ 1‬إلى ‪.3‬‬
‫‪ )(2‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪ 610‬رقم ‪ 1‬إلى ‪.3‬‬
‫‪ )(3‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪ 610‬رقم ‪ 1‬إلى ‪.3‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،89/19 :‬عن‪ :‬جامع األخبار ‪ 46‬ـ ‪.48‬‬
‫‪ )(5‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.611‬‬
‫‪ )(6‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.611‬‬
‫‪154‬‬
‫وهو جالس في صالة كتب هللا له به خمسين حسنة‪ ،‬ومحا عنه خمسين سيّئة‪ ،‬ورف ع‬
‫له خمسين درجة‪ ،‬ومن قرأ حرفا وهو قائم في صالته كتب هللا له بك ّل حرف] مائ ة‬
‫حسنة‪ ،‬ومحا عن ه مائ ة س يّئة‪ ،‬ورف ع ل ه مائ ة درج ة‪ ،‬ومن ختم ه ك انت ل ه دع وة‬
‫خرة أو معجّلة)(‪)1‬‬ ‫مستجابة مؤ ّ‬
‫وفي الحديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬من اس تمع إلى آي ة من كت اب هللا‬
‫كتبت له حسنةٌ مضاعفةٌ‪ ،‬ومن تالها كانت له نورا ي وم القيام ة) (‪ ،)2‬فه ذه رخص ة‬
‫عظيمة‪ ،‬وهي ألهل عصرنا أس هل وأيس ر‪ ،‬ذل ك ألن ه يمكنهم االس تماع إلي ه‪ ،‬ومن‬
‫القراء الذين يرغبون‪ ،‬وفي كل المحال‪ ،‬وبأيسر الوسائل‪.‬‬
‫وهكذا يمكنك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تق رأ من المص حف أو من دون ه‪،‬‬
‫وفي كل أحوالك سائرا أو جالس ا أو مض طجعا‪ ،‬وعظم األج ر بق در حض ور قلب ك‬
‫وخشوعك وخضوعك وتفهمك وتدبرك وترقيك من خالله‪.‬‬
‫الحق الباطن‪:‬‬
‫أما الحق الباطن ـ أيها المريد الص ادق ـ فيب دأ من تعظيم ك للق رآن الك ريم‪،‬‬
‫ذلك أن تدبرك له‪ ،‬واستفادتك منه‪ ،‬ال تكون إال بمق دار ذل ك التعظيم‪ ،‬وق د أش ار هللا‬
‫َص ِّدعًا ِم ْن‬ ‫تعالى إلى ذلك‪ ،‬فقال‪﴿ :‬لَوْ أَ ْنزَ ْلنَا هَ َذا ْالقُ رْ آنَ َعلَى َجبَ ٍل لَ َرأَ ْيتَ هُ ِ‬
‫خَاش عًا ُمت َ‬
‫ك اأْل َ ْمثَا ُل نَضْ ِربُهَا لِلنَّ ِ‬
‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [الحشر‪]21 :‬‬ ‫خَ ْشيَ ِة هللا َوتِ ْل َ‬
‫وقد عبر بعض الحكماء عن لطف هللا تعالى بعباده في إيصال مع اني كالم ه‬
‫لهم بطريقة تتناسب مع قصورهم وحاجتهم‪ ،‬وذل ك في ج واب ل ه لبعض من س أله‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أ رأيت ما يأتي به األنبياء إذا ا ّدعيت أنّه ليس بكالم الناس وأنّه كالم هللا تعالى‬
‫فكيف يطيق الناس حمله؟ فقال الحكيم‪( :‬إنّا رأينا الناس ل ّم ا أرادوا أن يفهم وا بعض‬
‫الدوابّ والطير ما يريدون من تق ديمها وتأخيره ا وإقباله ا وإدباره ا ورأوا ال دوابّ‬
‫يقصر تمييزها عن فهم كالمهم الصادر عن أنواع عقلهم مع حس نه وترتيب ه وب ديع‬
‫نظم ه‪ ،‬ف نزلوا إلى درج ة تمي يز البه ائم وأوص لوا مقاص دهم إلى ب واطن البه ائم‬
‫بأصوات يضعونها الئقة بهم من النقر والص فير واألص وات القريب ة من أص واتهم‬
‫الّ تي يطيق ون حمله ا‪ ،‬وك ذلك الن اس يعج زون عن حم ل كالم هللا بكنه ه وكم ال‬
‫صفاته‪ ،‬فصاروا بما تراجعوا بينهم من األصوات الّتي سمعوا بها الحكم ة كص وت‬
‫النقر والص فير الّ ذي س معت ب ه ال دوابّ من الن اس ولم يمن ع ذل ك مع اني الحكم ة‬
‫المخب وّة في تل ك الص فات من أن يش رّف الكالم أي األص وات لش رفها ويعظّم‬
‫لتعظيمها‪ ،‬فكان الصوت للحكمة جسدا ومسكنا والحكمة للصوت نفسا وروحا‪ ،‬فكما‬
‫أن أجساد البشر تكرم وتع ّز لمكان الرّوح فكذلك أصوات الكالم تشرّف للحكمة الّتي‬ ‫ّ‬
‫فيه ا والكالم ع الي المنزل ة‪ ،‬رفي ع الدرج ة‪ ،‬ق اهر الس لطان ناف ذ الحكم في الح ّ‬
‫ق‬
‫والباطل‪ ،‬وهو القاضي العادل‪ ،‬والشاهد المرتضى يأمر وينهى وال طاقة للباط ل أن‬

‫‪ )(1‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.612‬‬


‫‪ )(2‬أحمد ‪.2/341‬‬
‫‪155‬‬
‫يقوم ق ّدام كالم الحكمة كما ال يستطيع الظ ّل أن يقوم ق ّدام ش عاع الش مس‪ ،‬وال طاق ة‬
‫للبش ر أن ينف ذوا غ ور الحكم ة كم ا ال طاق ة لهم أن ينف ذوا بأبص ارهم ض وء عين‬
‫الشمس‪ ،‬ولكنّهم ينالون من عين الشمس ما تحي ا ب ه أبص ارهم‪ ،‬ويس تدلّون ب ه على‬
‫حوائجهم فقط‪ ،‬فالكالم كالملك المحجوب الغائب وجهه‪ ،‬والمش اهد أم ره وكالش مس‬
‫العزيزة الظاهرة مكنون عنص رها‪ ،‬وك النجوم الزاه رة الّ تي ق د يهت دي به ا من ال‬
‫يقف على سيرها‪ ،‬فهو مفتاح الخزائن النفيسة‪ ،‬وشراب الحياة الّ ذي من ش رب من ه‬
‫لم يمت‪ ،‬ودواء األسقام الّذي من سقى منه لم يسقم) (‪)1‬‬
‫ومم ا يعين ك على ذل ك التعظيم تأمل ك فيم ا ورد في النص وص المقدس ة من‬
‫فضل القرآن الكريم‪ ،‬وكونه في المحل الذي ال يعدله شيء‪ ،‬ففي الحديث عن رسول‬
‫أن أحداً أُعطي شيئا ً أفضل م ّما أُعطي‬ ‫هللا ‪ ‬أنه قال‪َ ( :‬من أعطاه هللا القرآن‪ ،‬فرأى ّ‬
‫فقد ص ّغر عظيماً‪ ،‬وعظّم صغيراً)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬فضل القرآن على سائر الكالم‪ ،‬كفضل هللا على خلقه)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬القرآن غنى ال غنى دونه‪ ،‬وال فقر بعده)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬القرآن أفضل من ك ّل ش ي ٍء دون هللا‪ ،‬فمن وقّ ر الق رآن فق د وقّ ر هللا‪،‬‬
‫ق هللا‪ ،‬وحرمة القرآن كحرمة الوال د على ول ده‪،‬‬ ‫استخف بح ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن لم يوقّر القرآن فقد‬
‫وحمل ة الق رآن المحفوف ون برحم ة هللا‪ ،‬الملبوس ون ن ور هللا‪ ،‬يق ول هللا‪( :‬ي ا حمل ة‬
‫القرآن !‪ ..‬استحبّوا هللا بتوقير كتاب هللا يزد لكم حبّاً‪ ،‬ويحبّبكم إلى عب اده‪ ،‬ي دفع عن‬
‫مستمع القرآن بلوى الدنيا‪ ،‬وعن قارئها بل وى اآلخ رة‪ ،‬ولمس تمع آي ة من كت اب هللا‬
‫خي ٌر من ثب ير ذهب اً‪ ،‬ولت الي آي ة من كت اب هللا أفض ل مم ا تحت الع رش إلى أس فل‬
‫التخوم)(‪)5‬‬
‫وذك ر اإلم ام الرض ا يوم ا ً الق رآن‪ ،‬فعظّم الح ّج ة في ه‪ ،‬واآلي ة المعج زة في‬
‫نظمه‪ ،‬ثم قال‪( :‬هو حبل هللا المتين‪ ،‬وعروته الوثقى‪ ،‬وطريقته المثلى‪ ،‬الم ؤدِّي إلى‬
‫الجن ة‪ ،‬والمنجي من الن ار‪ ،‬ال يخل ق من األزمن ة‪ ،‬وال ُّ‬
‫يغث على األلس نة‪ ،‬ألنّ ه لم‬
‫يُجعل لزما ٍن دون زمان‪ ،‬بل جُعل دليل البره ان‪ ،‬وح ّج ة على ك ّل إنس ان‪ ،‬ال يأتي ه‬
‫حكيم حميد)(‪)6‬‬
‫ٍ‬ ‫الباطل من بين يديه‪ ،‬وال من خلفه تنزي ٌل من‬
‫ومما يعينك على ذلك ـ أيضا ـ تدبرك لتلك األدعية التي تق ال عن د تالوت ه أو‬
‫عند ختمه‪ ،‬والتي تبين عظمته وقيمته وش رفه واألن وار ال تي يظف ر به ا من أحس ن‬
‫التعامل معه‪ ،‬ومن تلك األدعية ما كان يقوله اإلم ام الص ادق حين يأخ ذ المص حف‬
‫للق راءة‪ ،‬فق د ك ان يق ول‪( :‬اللهم إني أش هد أن ه ذا كتاب ك الم نزل من عن دك على‬
‫رسولك محمد بن عبدهللا‪ ،‬وكالمك الناطق على لسان نبي ك‪ ،‬جعلت ه هادي ا من ك الى‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪236 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،89/13 :‬عن‪ :‬معاني األخبار ص‪.279‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،89/19 :‬عن‪ :‬جامع األخبار ‪ 46‬ـ ‪.49‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،89/19 :‬عن‪ :‬جامع األخبار ‪ 46‬ـ ‪.48‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،89/291 :‬وجامع األخبار ص‪.47‬‬
‫‪ )(6‬بحار األنوار‪ ،89/14 :‬عن‪ :‬العيون ‪.2/130‬‬
‫‪156‬‬
‫خلقك‪ ،‬وحبال متص ال فيم ا بين ك وبين عب ادك‪ ..‬اللهم إني نش رت عه دك وكتاب ك‪..‬‬
‫اللهم فاجعل نظري فيه عبادة‪ ،‬وقراءتي فيه فك را‪ ،‬وفك ري في ه اعتب ارا‪ ،‬واجعل ني‬
‫ممن اتع ظ ببي ان مواعظ ك في ه‪ ،‬واجتنب معاص يك‪ ،‬وال تطب ع عن د ق راءتي على‬
‫سمعي‪ ،‬وال تجعل على بصري غشاوة‪ ،‬وال تجعل قراءتي قراءة ال ت دبّر فيه ا‪ ،‬ب ل‬
‫اجعلني أتدبّر آياته وأحكامه‪ ،‬آخذا بشرائع دين ك‪ ،‬وال تجع ل نظ ري في ه غفل ة‪ ،‬وال‬
‫قراءتي هذرا‪ ،‬إنك أنت الرؤوف الرحيم)(‪)1‬‬
‫وكان يقول عند الفراغ من القراءة‪( :‬اللهم إني قد قرأت ما قضيت من كتاب ك‬
‫الذي أنزلت فيه على نبيّك الصادق ‪ ،‬فل ك الحم د ربن ا‪ ..‬اللهم اجعل ني ممن يح ل‬
‫حالله‪ ،‬ويحرّم حرامه‪ ،‬ويؤمن بمحكمه ومتشابهه‪ ،‬واجعله لي أنسا في قبري‪ ،‬وأنسا‬
‫في حشري‪ ،‬واجعلني ممن ترقّيه بكل آي ة قرأه ا درج ة في أعلى عل يين‪ ،‬آمين رب‬
‫العالمين)(‪)2‬‬
‫ومما يعينك على ذلك ـ أيضا ـ استحضارك لعظمة ربك‪ ،‬وعلمك أنه كالم ه‪،‬‬
‫وأنه رسالته إليك؛ فعظمة الرسالة بعظمة مرسلها‪ ،‬ولهذا كان بعض هم كلم ا اق ترب‬
‫من المصحف أصابته رعشة‪ ،‬وقال‪( :‬هو كالم ربّي‪ ،‬هو كالم ربّي)‬
‫وقد أشار هللا تعالى إلى ذلك‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬هللا نَ َّز َل أَحْ َس نَ ْال َح ِدي ِ‬
‫ث ِكتَابً ا ُمت ََش ابِهًا‬
‫َمثَانِ َي تَ ْق َش ِعرُّ ِم ْن هُ ُجلُ و ُد الَّ ِذينَ يَ ْخ َش وْ نَ َربَّهُ ْم ثُ َّم تَلِينُ ُجلُ و ُدهُ ْم َوقُلُ وبُهُ ْم إِلَى ِذ ْك ِر هللا‬
‫ك هُدَى هللا يَ ْه ِدي بِ ِه َم ْن يَ َشا ُء َو َم ْن يُضْ لِ ِل هللا فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد﴾ [الزمر‪]23 :‬‬ ‫َذلِ َ‬
‫وهذه اآلية الكريم ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ت دعوك إلى أن تش رك جمي ع‬
‫مش اعرك أثن اء قراءت ك‪ ،‬ول و تكلف ا‪ ،‬ف إن ل ذلك ت أثيره على الب اطن‪ ،‬وق د ورد في‬
‫الحديث عن رسول هللا ‪( :‬اتلوا القرآن وابكوا‪ ،‬فإن لم تبك وا فتب اكوا) (‪ ،)3‬وق ال‪:‬‬
‫(إن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا)(‪)4‬‬ ‫ّ‬
‫(إن هللا أوحى إلى موسى بن عمران إذا وقفت بين يدي‬ ‫وقال اإلمام الصادق‪ّ :‬‬
‫فقف موقف الذليل الفقير‪ ،‬وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين)(‪.)5‬‬
‫وقد ذكر بعض الحكماء كيفية تكلف ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬و وج ه إحض ار الح زن أن‬
‫يتأ ّمل ما فيه من التهديد والوعيد والوث ائق والعه ود‪ ،‬ث ّم يتأ ّم ل تقص يره في أوام ره‬
‫وزواجره فيحزن له ال محالة ويبكي فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب‬
‫فإن ذلك أعظم المصائب) (‪)6‬‬ ‫القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء‪ّ ،‬‬
‫وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتجاوز البك اء والح زن إلى تكل ف الص عق‬
‫(إن قوم ا ً إذا ُذ ّك روا بش ي ٍء من‬ ‫والغشية‪ ،‬فقد ورد النهي عنه‪ ،‬فقد قيل لإلمام الباقر‪ّ :‬‬
‫القرآن‪ ،‬أو ُحدِّثوا به صُعق أحدهم‪ ،‬حتّى يرى أن ه ل و قطّعت ي داه ورجاله لم يش عر‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،89/207 :‬عن‪ :‬مصباح األنوار‪.‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،89/207 :‬عن‪ :‬مصباح األنوار‪.‬‬
‫‪ )(3‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.614‬‬
‫‪ )( 4‬قال العراقي‪ :‬أخرجه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية‪ ،‬وهو في الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.614‬‬
‫‪ )(5‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.615‬‬
‫‪ )(6‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪226 :‬‬
‫‪157‬‬
‫بذلك)‪ ،‬فقال‪( :‬سبحان هللا‪ ..‬ذاك من الشيطان‪ ،‬ما بهذا أُمروا‪ ،‬إنّم ا ه و اللّين والرق ة‬
‫وال َّدمعة والوجل)(‪)1‬‬
‫واجتهد ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن يحضر عقلك مع كل آي ة تقرؤه ا‪،‬‬
‫فال تغفل عنه‪ ،‬وال يشرد ذهنك إلى غيره‪ ،‬فه ذا ه و أول الق وة ال تي أم ر هللا تع الى‬
‫بها‪ ،‬فقال‪﴿ :‬يَ ايَحْ يَى ُخ ِذ ْال ِكتَ َ‬
‫اب بِقُ َّو ٍة﴾ [م ريم‪ ،]12 :‬فيحي ليس ذل ك الن بي الك ريم‬
‫فقط‪ ،‬بل كلنا ينبغي أن يكون يحي‪ ،‬حتى نحيا بالقرآن‪ ..‬فهو ال يحيي إال ما يالمسه‪.‬‬
‫وقد روي أنه قيل لبعض الصالحين‪ :‬إذا قرأت الق رآن تح ّدث نفس ك بش يء؟‬
‫فقال‪( :‬أو شيء أحبّ إل ّي من القرآن أح ّدث به نفسي؟)‪ ،‬وكان آخر إذا ق رأ س ورة لم‬
‫يكن قلبه فيها أعادها ثانية(‪.)2‬‬
‫واحذر ـ أيها المريد الص ادق ـ بع د ه ذا أن تك ون ممن ق ال فيهم رس ول هللا‬
‫‪( :‬ما آمن بالقرآن من استحل محارمه)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬يؤتى برجل يوم القيام ة ويمث ل ل ه الق رآن‪ ،‬ق د ك ان يض يع فرائض ه‬
‫ويتعدى حدوده ويخالف طاعت ه وي رتكب معص يته‪ ،‬فيق ول‪ :‬أي رب‪ ،‬حملت آي اتي‬
‫بئس حاملٌ‪ ،‬تعدى حدودي وض يع فرائض ي وت رك ط اعتي وركب معص يتي‪ .‬فم ا‬
‫يزال عليه بالحجج حتى يق ال‪ :‬فش أنك ب ه‪ .‬فيأخ ذ بي ده فم ا يفارق ه ح تى يكب ه على‬
‫منخره في الن ار‪ ،‬وي ؤتى بالرج ل ق د ك ان يحف ظ ح دوده ويعم ل بفرائض ه ويعم ل‬
‫بطاعته ويجتنب معصيته فيصير خصما دونه‪ ،‬فيق ول‪ :‬أي رب‪ ،‬حملت آي اتي خ ير‬
‫حامل‪ ،‬اتقى حدودي وعمل بفرائضي واتبع طاعتي واجتنب معصيتي‪ .‬فال يزال ل ه‬
‫بالحجج حتى يقال‪ :‬فشأنك به‪ ،‬فيأخذ بيده فما ي زال ب ه ح تى يكس وه حل ة اإلس تبرق‬
‫ويضع عليه تاج الملك ويسقيه بكأس الملك)(‪)4‬‬
‫فالقرآن الكريم لم ينزل للتسلية وال للترفيه‪ ،‬وإنم ا أن زل ليخرج ك من نفس ك‬
‫األمارة‪ ،‬ويحولك إلى عوالم الجم ال والكم ال ال تي وفره ا هللا ل ك‪ ..‬ف إن أعرض ت‬
‫عنها‪ ،‬كنت معرضا عنه‪ ،‬ولو ختمته كل يوم‪.‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،89/212 :‬عن‪ :‬أمالي الصدوق ص‪.154‬‬


‫‪ )(2‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.237 :‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪)2918‬‬
‫‪ )(4‬البزار كما في (كشف األستار) (‪)2337‬‬
‫‪158‬‬
‫المعارج القرآنية‬
‫كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن س ر م ا ورد في النص وص‬
‫المقدس ة من فض ائل بعض اآلي ات أو الس ور القرآني ة‪ ،‬وعالق ة ذل ك بالتزكي ة‬
‫والترقي ة‪ ،‬وه ل يمكن االس تفادة من تل ك الفض ائل في اس تخراج اآلي ات والس ور‬
‫المشابهة لها؟‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أنه يمكن تش بيه أدوار ووظ ائف الق رآن‬
‫الكريم في النفس بتشبيهات كثيرة‪ ،‬تقرب حقيقة عالقته بنا‪ ،‬وعالقتنا به‪.‬‬
‫فهو بالنسبة للمرض ى وأص حاب النف وس األم ارة واللوام ة بش به الص يدلية‬
‫الكبيرة التي تحوي كل أصناف األدوية‪ ،‬التي تعالج كل األم راض‪ ،‬ول ذلك ف إن من‬
‫قرأه جميعا‪ ،‬وبتدبر وتفهم وصدق وإخالص؛ فسينال بغيته من الشفاء من ك ل علل ه‬
‫وأدوائه‪.‬‬
‫لكن ه م ع ذل ك ق د يك ون محتاج ا إلى عالج خ اص ألم راض معين ة‪ ،‬فل ذلك‬
‫يُنصح بآيات أو سور تتناسب مع حالته؛ فال يكتفي بترديدها الم رة أو الم رتين‪ ،‬ب ل‬
‫يحتاج إلى التكرار الكثير لها‪ ،‬لتس تقر معانيه ا في نفس ه‪ ،‬مثلم ا يفع ل ال دواء ال ذي‬
‫يحتاج إلى مقادير خاصة ليقوم بدوره في مواجهة الداء‪.‬‬
‫وهو بالنسبة للسالكين طريق التخلق والتحقق‪ ،‬معارج وم دارج للنفس لتس ير‬
‫نحو الكمال المتاح لها‪ ..‬فكل سورة من سوره معراج خاص لعالم من عوالم الحقائق‬
‫والقيم‪ ،‬ولذلك تحتاج النفس ـ بحس ب أحواله ا ـ إلى المع ارج الخاص ة به ا‪ ،‬وال تي‬
‫تتناس ب م ع حالته ا‪ ،‬كم ا أش ار إلى ذل ك رس ول هللا ‪ ‬في قول ه‪( :‬يق ال لص احب‬
‫القرآن‪ :‬اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا‪ ،‬ف إن منزلت ك عن د آخ ر آي ة‬
‫( )‬
‫تقرأ بها) ‪1‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله؛ فإن القرآن الكريم يحوي الكث ير من األس رار الغيبي ة‬
‫المرتبطة بحياة الناس في صحتهم ومرضهم وفقرهم وغناهم ونفعهم وضرهم‪ ..‬وقد‬
‫أودع هللا تع الى في س وره وآيات ه م ا يفي بتل ك الحاج ات‪ ،‬ول ذلك ك ان لك ل س ورة‬
‫وظيفتها ودورها الخاص بها‪.‬‬
‫وهذه األمور الثالثة وغيرها كثير هي التي تيسر عليك ـ أيها المريد الصادق‬
‫ـ فهم م ا ورد في فض ائل اآلي ات والس ور من مع ان‪ ،‬م ع العلم أن بعض ها غيب‬
‫محض‪ ،‬ال يمكن لعقلك المجرد أن يعرف ه‪ ،‬وبعض ها يمكن ك التع رف علي ه بالتأم ل‬
‫والتدبر‪ ،‬وبعضها واضح ال يحتاج إلى كل ذلك‪.‬‬
‫وحتى يتيسر عليك فهم الجميع‪ ،‬فاعلم أن كل سورة من القرآن الك ريم بمثاب ة‬
‫الكائن الحي الذي خصصت له أدوار معينة؛ فهو يؤديها كما طلبت منه‪.‬‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪ ،)2914‬وأبو داود (‪)1464‬‬


‫‪159‬‬
‫وإن شئت تقريبا لذلك‪ ،‬فانظر إلى العناصر المختلف ة الموج ودة في الطبيع ة‪،‬‬
‫وما تحتوي عليه من خصائص‪ ،‬وم ا يمكن أن يس تفاد منه ا بس ببها؛ فك ذلك الق رآن‬
‫الكريم؛ فك ل س ورة أو آي ة من ه ع الم من الع والم ال تي يمكنه ا أن تنقلن ا إلى مح ال‬
‫السعادة التي خصصت لها‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك ما ورد في فضائل سورة الملك‪ ،‬وال تي ورد في األح اديث‬
‫المتفق عليها عند األمة جميعا بأنها تقي صاحبها من عذاب الق بر؛ فق د ق ال رس ول‬
‫هللا ‪( :‬إن سورة من القرآن ثالثون آية ش فعت لرج ل ح تى غف ر ل ه وهي س ورة‬
‫تبارك الذي بيده الملك) (‪)1‬‬
‫وهذا يعني أن القارئ المالزم لها‪ ،‬والذي يكون له بها مزي د عناي ة ورعاي ة‪،‬‬
‫حفظا وفهما وقراءة وتدبرا‪ ،‬تؤدي حقه بشكرها له بالشفاعة فيه‪.‬‬
‫وقد صور رسول هللا ‪ ‬ذلك‪ ،‬فق ال‪( :‬ي ؤتى الرج ل في ق بره فت ؤتى رجاله‬
‫فتقول رجاله‪ :‬ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يق رأ بي س ورة المل ك‪ ،‬ثم ي ؤتى من‬
‫قبل صدره أو ق ال بطن ه فيق ول‪ :‬ليس لكم على م ا قبلي س بيل ك ان يق رأ بي س ورة‬
‫الملك‪ ،‬ثم يؤتى رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي س ورة المل ك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهي المانعة تمنع من عذاب القبر‪ ،‬من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب) (‪)2‬‬
‫وذكر ابن مسعود اهتمام أصحاب رسول هللا ‪ ‬بها ألج ل ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬من‬
‫قرأ (تبارك الذي بيده الملك) كل ليلة منعه هللا به ا من ع ذاب الق بر‪ ،‬وكن ا في عه د‬
‫رسول هللا ‪ ‬نسميها المانعة‪ ،‬وإنها في كتاب هللا سورة من قرأ بها في كل ليلة فق د‬
‫أكثر وأطاب) (‪)3‬‬
‫وعن ابن عباس أنه قال لرجل‪ :‬أال أتحفك بح ديث تف رح ب ه؟ ق ال‪ :‬بلى ق ال‪:‬‬
‫(اق رأ (تب ارك ال ذي بي ده المل ك) وعلمه ا أهل ك وجمي ع ول دك‪ ،‬وص بيان بيت ك‬
‫وجيرانك‪ ،‬فانها المنجي ة والمجادل ة ي وم القيام ة عن د ربه ا لقارئه ا‪ ،‬وتطلب ل ه أن‬
‫ينجيه من عذاب النار‪ ،‬وينجو به ا ص احبها من ع ذاب الق بر‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪:‬‬
‫لودت أنها في قلب كل إنسان من أمتي)(‪)4‬‬
‫تأمل ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ه ذه األح اديث عن رس ول هللا ‪ ‬وأص حابه‬
‫المنتجبين‪ ،‬ومثلها كثير عنه ‪ ‬وعن أئم ة اله دى من بع ده‪ ..‬وس ترى كي ف تتغ ير‬
‫نظرتك للسور القرآنية‪ ،‬فهي ليست مجرد كلمات ترددها‪ ،‬أو معان تتفهمه ا‪ ،‬ب ل إن‬
‫كل سورة أو آية كائن حي‪ ،‬يمكنك بمداومة الصحبة له‪ ،‬وعقد األلفة بين ك وبين ه أن‬
‫تستفيد منه كل ما يغنيك في دنياك وأخراك‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذل ك م ا ورد في ح ق البس ملة ال تي ش رفها هللا تع الى ب أن‬
‫تذكر مع كل سورة قرآنية‪ ،‬بل م ع ك ل عم ل‪ ،‬فق د أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن كونه ا‬
‫‪ )(1‬أبو داود (‪ )1400‬والترمذي (‪)2891‬‬
‫‪ )(2‬الحاكم (‪ )3839‬وعبد الرزاق (‪)8651‬‬
‫‪ )(3‬رواه النسائي في السنن الكبرى (‪ )10547‬وفي عمل اليوم والليلة (‪)711‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار (‪)314 /92‬‬
‫‪160‬‬
‫مصدرا لبركة كل ما تفتتح ب ه‪ ،‬ومح ق ك ل م ا لم تفتتح ب ه‪ ،‬فق ال‪( :‬من حزن ه أم ر‬
‫تعاطاه فقال‪﴿ :‬بسم هللا الرحمن الرحيم﴾ وه و يخلص هلل‪ ،‬ويُقب ل علي ه بقلب ه إلي ه‪ ،‬لم‬
‫ينفك عن إحدى اثنتين‪ :‬إ ّما بلوغ حاجته‪ ،‬وإما ما يعد ل ه وي دخر لدي ه‪ ،‬وم ا عن د هللا‬
‫خير وأبقى)(‪)1‬‬
‫عظيم‪﴿( :‬بس م هللا‬ ‫ٍ‬ ‫وقال اإلمام السجاد‪( :‬قولوا عند افتتاح ك ّل أم ٍر ص ٍ‬
‫غير أو‬
‫ق العب ادة لغ يره‪،‬‬ ‫ال رحمن ال رحيم﴾‪ ،‬أي أس تعين على ه ذا األم ر باهلل ال ذي ال تح ّ‬
‫المغيث إذا استُغيث‪ ،‬والمجيب إذا دُعي‪﴿ ،‬الرحمن﴾ الذي يرحم ببسط ال رزق علين ا‪،‬‬
‫الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا‪ ،‬خفّف علينا ال دِّين وجعل ه س هالً خفيف اً‪ ،‬وه و‬
‫يرحمنا بتميّزنا عن أعدائه)(‪)2‬‬
‫اس ُم‬‫بل إن القرآن الكريم نفسه أشار إلى ذلك‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬واَل تَأْ ُكلُوا ِم َّما لَ ْم يُ ْذ َك ِر ْ‬
‫ق َوإِ َّن ال َّشيَا ِطينَ لَيُو ُح ونَ إِلَى أَوْ لِيَ ائِ ِه ْم لِي َُج ا ِدلُو ُك ْم َوإِ ْن أَطَ ْعتُ ُم وهُ ْم‬‫هللا َعلَ ْي ِه َوإِنَّهُ لَفِ ْس ٌ‬
‫إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْش ِر ُكونَ ﴾ [األنعام‪]121 :‬‬
‫وب ذلك يمكن تص ور البس ملة بص ورة الك ائن الحي ال ذي بمج رد أن ت ردد‬
‫ألفاظه بلسانك‪ ،‬وتستقر معانيه في قلبك‪ ،‬يقوم باألدوار المكلف بها خير قيام‪.‬‬
‫وكي ف ال يك ون للبس ملة تل ك األدوار‪ ،‬وهي تح وي ك ل الحق ائق المرتبط ة‬
‫بجميع األشياء أعيانها وأحداثها‪ ،‬ولذلك كان في ذكره ا ت ذكيرا للنفس ب أن م ا تق دم‬
‫عليه هو من هللا وبتوفيقه وبركته‪ ،‬وتحذر في نفس ال وقت من أن تم ارس ب ذلك م ا‬
‫يخالف رضا ربها الذي وهبها تلك النعم‪.‬‬
‫وهكذا األمر بالنسبة لسورة الفاتحة‪ ،‬التي هي أم الكتاب‪ ،‬وال تي اختص ر هللا‬
‫تعالى فيه ا ك ل الحق ائق والقيم‪ ،‬لت ذكرها النفس بس هولة ويس ر‪ ،‬ول ذلك ورد األم ر‬
‫بقراءتها في كل صالة‪ ،‬قال ‪( :‬من صلى صالة لم يقرأ فيه ا بفاتح ة الكت اب فهي‬
‫ج ـ ثالثا ـ غير تمام)(‪)3‬‬ ‫خدا ٌ‬
‫وقد فسر رسول هللا ‪ ‬سر ذلك‪ ،‬فقال حاكيا عن ربه عز وجل‪( :‬قال هللا عز‬
‫ت الصالة بيني وبين عب دي نص فين‪ ،‬ولعب دي م ا س أل ف إذا ق ال العب د‪:‬‬ ‫وجل‪ :‬قَ َس ْم ُ‬
‫﴿ال َح ْم ُد هلل َربِّ ْال َعالَ ِمينَ ﴾ (الفاتحة‪ ،)2 :‬قال هللا‪ :‬حمدني عبدي‪ ،‬وإذا ق ال‪﴿ :‬ال رَّحْ َم ِن‬ ‫ْ‬
‫ك يَ وْ ِم ال دِّي ِن﴾‬ ‫ال َّر ِح ِيم﴾ (الفاتح ة‪ ،)3 :‬ق ال هللا‪ :‬أث نى علي عب دي‪ ،‬ف إذا ق ال‪َ ﴿ :‬مالِ ِ‬
‫ك نَ ْستَ ِعينُ ﴾ (الفاتحة‪،)5 :‬‬ ‫(الفاتحة‪ ،)4 :‬قال‪ :‬مجدني عبدي فإذا قال‪﴿ :‬إِيَّاكَ نَ ْعبُ ُد َوإِيَّا َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫الص َراط ال ُم ْس تَقِي َم‬ ‫قال‪ :‬هذا بيني وبين عبدي‪ ،‬ولعب دي م ا س أل‪ ،‬ف إذا ق ال‪﴿ :‬اه دنا ِّ‬
‫الض الِّينَ ﴾ (الفاتح ة‪،)7 ،6 :‬‬ ‫ب َعلَ ْي ِه ْم َوال َّ‬ ‫ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْي ِه ْم َغي ِْر ْال َم ْغضُو ِ‬ ‫ِ‬
‫قال‪ :‬هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)(‪)4‬‬
‫وتذكر هذا الحوار أثناء قراءته ا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ل ه دور كب ير في‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.89/245 :‬‬
‫‪ )(2‬تفسير اإلمام ص‪ 9‬ـ ‪.24‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪ ،)395‬والترمذي (‪ ،)2953‬والنسائي ‪.136 -2/135‬‬
‫‪ )(4‬مسلم (‪ ،)395‬والترمذي (‪ ،)2953‬والنسائي ‪.136 -2/135‬‬
‫‪161‬‬
‫التواصل مع هللا تعالى‪ ،‬والشعور بقربه ورحمته وكرمه ولطفه‪ ..‬وذل ك مم ا يه ذب‬
‫النفس ويزكيها‪ ،‬ويرفعها إلى أعلى درجات الكمال‪.‬‬
‫ولهذا ذكر اإلمام الصادق أنها ك انت بمثاب ة الطام ة الك برى على المش روع‬
‫رن رنين ا ً ل ّم ا بعث هللا نبيّ ه ‪ ‬على حين ف ترة من‬
‫(إن إبليس ّ‬ ‫الش يطاني‪ ،‬فق ال‪ّ :‬‬
‫الرسل‪ ،‬وحين أُنزلت أ ّم القرآن)(‪)1‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن نعمة هللا عليه وعلى أمته بها‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫(من عل ّي ربّي وق ال لي‪:‬‬
‫(يا مح ّمد‪ ..‬أرسلتك إلى ك ّل أحمر وأسود‪ ،‬ونصرتك بال ّرعب‪ ،‬وأحللت ل ك الغنيم ة‪،‬‬
‫وأعطيتك لك وأل ّمتك كنزاً من كنوز عرشي‪( :‬فاتحة الكتاب‪ ،‬وخاتمة سورة البق رة)‬
‫(‪)2‬‬
‫وعن ابن عباس ق ال‪ :‬بينم ا جبري ل علي ه الس الم قاع ٌد عن د الن بي ‪ ‬س مع‬
‫نقيضا من فوقه‪ ،‬فرفع رأسه فقال‪( :‬هذا باب من السماء لم يفتح إال اليوم‪ ،‬فنزل من ه‬
‫ك ن زل إلى األرض لم ي نزل ق ط إال الي وم‪ ،‬فس لم وق ال‪ :‬أبش ر‬ ‫ك)‪ ،‬فقال‪( :‬هذا مل ٌ‬‫مل ٌ‬
‫ي قبلك‪ :‬فاتحة الكتاب وخ واتيم س ورة البق رة‪ ،‬لن تق رأ‬ ‫بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نب ٌ‬
‫بحرف منها إال أعطيته)(‪)3‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد في فضائل س ورة البق رة وآل عم ران‪ ،‬فق د أخ بر ‪ ‬عن‬
‫الكثير من الخصائص التي خصهما هللا بها‪ ،‬ومنها ما عبر عن ه ‪ ‬بقول ه‪( :‬اق رأوا‬
‫القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا ألصحابه‪ ،‬اقرأوا الزهراوين البق رة وآل عم ران‬
‫فرقان من طير صواف يحاج ان‬ ‫ٌ‬ ‫فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما‬
‫عن صاحبهما‪ ،‬اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها برك ة وتركه ا حس رةٌ وال تس تطيعها‬
‫البطلة)(‪ )4‬وفي رواية‪( :‬ما من عبد يقرأ بها في ركعة قبل أن يسجد ثم سأل هللا شيئا‬
‫إال أعطاه إن كادت لتحصى الدين كله) (‪)5‬‬
‫فهذا الحديث يؤكد ما ذكرته لك ـ أيها المريد الصادق ـ من أن السور القرآنية‬
‫بمثابة الكائنات الحية التي كلفت بوظائف خاصة ال تنال إال من هو أهل لها‪ ..‬ولذلك‬
‫ك ان لقراءته ا واالهتم ام به ا وص حبتها تأثيره ا الكب ير في تحص يل تل ك المن افع‬
‫الخاصة بها‪.‬‬
‫ويشير إلى ذلك ما ورد في فضل سورة الكهف؛ فقد روي أن رجال كان يقرأ‬
‫سورة الكهف وعنده فرسٌ مربوط ة بش طنين فتغش ته س حابةٌ فجعلت ت دنو‪ ،‬وجع ل‬
‫فرسه ينفر منها‪ ،‬فلما أصبح أتى النبي ‪ ‬فذكر له ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬تلك السكينة ت نزلت‬
‫للقرآن) (‪)6‬‬
‫وهو ما يشير أيضا إلى أن ك ل تل ك المع اني من الس كينة والرحم ة وغيره ا‬
‫‪)(1‬تفسير القمي ص‪.26‬‬
‫‪ )(2‬معاني األخبار ص‪ ،50‬العلل ‪.1/121‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪ ،)806‬النسائي ‪.2/138‬‬
‫‪ )(4‬مسلم (‪)804‬‬
‫‪ )(5‬مسلم (‪)804‬‬
‫‪ )(6‬البخاري (‪ ،)4839‬ومسلم (‪)795‬‬
‫‪162‬‬
‫ليست مجرد وجودات ذهنية‪ ،‬وإنما لها وجودها الواقعي‪ ..‬وفي ه ذا الح ديث إش ارة‬
‫إلى أن قراءة سورة الكهف سبب لتنزل السكينة‪.‬‬
‫وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ ما تحدثه تلك األدوية أو األغذي ة المفرح ة‬
‫التي إذا تناولها اإلنسان يشعر بالفرح‪ ،‬وت زول عن ه الكآب ة‪ ..‬فهك ذا ال ذي يق رأ تل ك‬
‫السور الخاصة بهذا‪ ،‬يعطيه هللا تعالى ما يرتبط بها من السكينة والفرح والسرور‪.‬‬
‫وقد أشار إلى ذلك قوله ‪ ‬عن س ورة الش رح‪( :‬من قرأه ا أعط اه هللا اليقين‬
‫ألم في الصدر وكتبت له شفاه هللا)(‪)1‬‬ ‫والعافية‪ ،‬ومن قرأها على ٍ‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬إذا عسر عليك أمر‪ ،‬فص ّل عن د ال زوال ركع تين تق رأ‬
‫في األولى بفاتح ة الكت اب وق ل ه و هللا أح د وإنّ ا فتحن ا ل ك فتح ا ً مبين ا ً إلى قول ه‬
‫وينصرك هللا نصراً عزيزاً‪ ،‬وفي الثانية بفاتحة الكتاب وقل هو هللا أح د وألم نش رح‬
‫لك صدرك) (‪)2‬‬
‫فالحقائق التي تحويها هذه السور جميعا لها تأثيرها في إزالة الكرب والكآب ة؛‬
‫فسورة الشرح مثال تتحدث عن الهبات اإللهية‪ ،‬وتُذ ّكر بأي ام المحن والص عاب ال تي‬
‫مر بها رسول هللا ‪ ،‬وكيف يس ر هللا ل ه تجاوزه ا‪ ،‬وت ذكر ب أن هللا تع الى س يبدل‬
‫العسر بيسرين‪ ..‬وغيرها من المعاني التي تحويها السورة‪ ،‬والتي لها آثارها الكبيرة‬
‫في إزالة الوحشة والكآبة‪.‬‬
‫ولهذا يعتبرها الحكماء عالجا للكآبة‪ ،‬وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك‪:‬‬
‫ر في ألم‬ ‫ففك‬ ‫إذا ض اقت ب ك‬
‫رح‬ ‫نش‬ ‫دنيا‬ ‫ال‬
‫م تى ت ذكرهما‬ ‫فعسر بين يس رين‬
‫رح‬ ‫تف‬
‫ومث ل ذل ك م ا ورد في س ورة يس‪ ،‬فق د أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن فض لها‬
‫والخواص المرتبطة بها‪ ،‬فقال‪( :‬لكل شيء قلبٌ وقلب القرآن يس‪ ،‬ومن قرأه ا كتب‬
‫له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات دون يس) (‪ ،)3‬وقال‪( :‬من ق رأ يس في ص در‬
‫النهار قضيت حوائجه) (‪)4‬‬
‫وروي عن أئمة الهدى الكثير من األحاديث في فض لها‪ ،‬ومنه ا م ا ح دث ب ه‬
‫(إن لك ّل ش ي ٍء قلب‪ ،‬وقلب الق رآن يس‪ ،‬من قرأه ا في نه اره‬ ‫اإلمام الصادق‪ ،‬قال‪ّ :‬‬
‫قبل أن يمسي‪ ،‬كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمس ي‪ ،‬ومن قرأه ا‬
‫يطان رجيم‪ ،‬ومن‬ ‫ٍ‬ ‫في ليلة قبل أن ينام‪ ،‬وكل هللا به ألف ملك يحفظونه من ش ّر ك ّل ش‬
‫ك ّل آفة‪ ،‬وإن مات في يومه أو في ليلته أدخله هللا الجنة‪ ،‬وحضر غسله ثالث ون أل ف‬
‫ملك كلهم يستغفرون ل ه‪ ،‬ويش يّعونه إلى ق بره باالس تغفار ل ه‪ ،‬ف إذا أُدخ ل في لح ده‬
‫كانوا في جوف قبره‪ ،‬يعبدون هللا وثواب عبادتهم له‪ ،‬وفُسح له في قبره م ّد بص ره‪،‬‬
‫‪ )(1‬البحراني‪ ،‬تفسیر البرهان‪ ،‬ج ‪ ،10‬ص ‪.183‬‬
‫‪ )(2‬القمي‪ ،‬سفينة البحار‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪.166‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪)2887‬‬
‫‪ )(4‬الدارمي (‪)3418‬‬
‫‪163‬‬
‫وأُومن من ضغطة القبر‪ ،‬ولم يزل له في قبره نو ٌر ساط ٌع إلى أعنان الس ماء إلى أن‬
‫يُخرج ه هللا من ق بره‪ ،‬ف إذا أخرج ه لم ي زل مالئك ة هللا مع ه‪ ،‬يش يّعونه ويح ّدثون ه‬
‫ير ح تى يج وزوا ب ه الص راط والم يزان‪،‬‬ ‫ويضحكون في وجهه‪ ،‬ويب ّشرونه بك ّل خ ٍ‬
‫ويوقفوه من هللا موقفا ً ال يكون عن د هللا خلق ا أق رب من ه‪ ،‬إال مالئك ة هللا المقرّب ون‪،‬‬
‫ً‬
‫ف بين ي دي هللا‪ ،‬ال يح زن م ع من يح زن‪،‬‬ ‫وأنبياؤه المرسلون‪ ،‬وهو مع النبيين واق ٌ‬
‫وال يهتم مع من يهتم‪ ،‬وال يجزع مع من يجزع‪ ،‬ثم يقول ل ه ال ربّ تب ارك وتع الى‪:‬‬
‫(اشفع عب دي !‪ ..‬أُش فّعك في جمي ع م ا تش فع‪ ،‬وس لني عب دي !‪ ..‬أُعط ك جمي ع م ا‬
‫تسأل‪ ،‬فيسأل فيُعطى‪ ،‬ويشفع فيُشفّع‪ ،‬وال يُحاسب فيمن يُحاس ب‪ ،‬وال يُوق ف م ع من‬
‫يُوقف‪ ،‬وال يُذ ّل مع من يُذلّ‪ ،‬وال يكبّت بخطيئ ٍة‪ ،‬وال بشي ٍء من سوء عمل ه‪ ،‬ويُعطى‬
‫كتابا ً منشوراً‪ ،‬حتى يهبط من عن د هللا‪ ،‬فيق ول الن اس ب أجمعهم‪( :‬س بحان هللا !‪ ..‬م ا‬
‫كان لهذا العبد من خطيئة واحدة‪ ،‬ويكون من رفقاء محمد ‪)1()‬‬
‫وقال‪( :‬علّموا أوالدكم ياسين‪ ،‬فإنّها ريحانة القرآن)(‪)2‬‬
‫ومثلها ما ورد في فضائل سورة الواقعة‪ ،‬ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه‬
‫قال‪( :‬من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا) (‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أوالدكم) (‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى) (‪)5‬‬
‫وغيرها من األحاديث الكثيرة التي تؤكد عالقة هذه الس ورة الكريم ة ب الغنى‬
‫ودفع الحاجة‪ ،‬ومما ورد عن أئمة الهدى في فضلها قول اإلم ام الص ادق‪َ ( :‬من ق رأ‬
‫ير في الدنيا بؤس ا ً‬ ‫في ك ّل ليلة جمعة الواقعة أحبّه هللا وأحبّه إلى الناس أجمعين‪ ،‬ولم َ‬
‫أبداً‪ ،‬وال فقراً وال فاقة وال آفة من آفات الدنيا)(‪)6‬‬
‫وقال اإلمام الباقر‪َ ( :‬من قرأ الواقعة ك ّل ليل ٍة قب ل أن ين ام‪ ،‬لقي هللا ع ّز وج ّل‬
‫ووجهه كالقمر ليلة البدر)(‪)7‬‬
‫هذه مجرد أمثل ة أوردته ا ل ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ لتعلم م ا في الق رآن‬
‫الكريم من الخصائص والوظائف التي ال يمكن أن يستفيد منها من لم يعرفها؛ فلذلك‬
‫احرص على صحبة كل آية من آياته‪ ،‬وسورة من سوره‪ ،‬حتى تنال آثارها وثمارها‬
‫جميعا‪.‬‬
‫وإن أردت أن تع رف أس رار الفض ائل الخاص ة به ا؛ ف اعلم أن ذل ك يع ود‬
‫لسببين‪ ،‬كالهما تنزل من أجله القرآن الكريم‪ ،‬أولهما‪ :‬الحقائق‪ ..‬وثانيهما القيم‪.‬‬
‫وبم ا أن الفاتح ة تش تمل على مج امع كليهم ا‪ ،‬فق د ورد فيه ا ذل ك الفض ل‬
‫‪ )(1‬ثواب األعمال ص‪.100‬‬
‫‪ )(2‬أمالي الطوسي ‪.2/290‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في شعب اإليمان‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن مردويه‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه الديلمي‪.‬‬
‫‪ )(6‬ثواب األعمال ص‪.105‬‬
‫‪ )(7‬ثواب األعمال ص‪.106‬‬
‫‪164‬‬
‫الخاص‪ ،‬واعتبرت أم القرآن‪ ،‬وق د ق ال بعض الحكم اء عنه ا‪( :‬إذا تفك رتَ وج دت‬
‫الفاتحة على إيجازها مش تملةً على ثماني ة من اهج‪ :‬فقول ه تع الى‪﴿ :‬بس م هللا ال رحمن‬
‫َّح ِيم﴾‪ :‬نبأ ٌ عن صفة من صفات خاص ة‪،‬‬ ‫الذات‪ ..‬وقولُهُ ﴿الرحمن الر ِ‬‫ال َّر ِح ِيم﴾‪ :‬نبأ ٌ عن َّ‬
‫وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ثم تتعلق بالخلق‪،‬‬
‫وهم ال َمرْ حو ُمون‪ ،‬تعلُّقا ً ي ُْؤنِسُهم به‪ ،‬ويُ َش ِّوقُهم إليه‪ ،‬وي َُر ِّغبُهم في طاعته‪ ،‬ال كوصف‬
‫الغضب‪ ،‬لو ذك ره ب دالً عن الرحم ة ف إن ذل ك يُح ِزنُ ويخ ِّوف‪ ،‬ويقبض القلب وال‬
‫يشرحه‪ ..‬وقولُهُ ﴿الحمد هلل َربِّ العالمين﴾‪ :‬يشتمل على شيئين‪ :‬أحدهما‪ :‬أصل الحم د‬
‫طرُه‪ ،‬ف إن اإليم انَ العملي‬ ‫وه و الش كر‪ ،‬وذل ك أول الص راط المس تقيم‪ ،‬وكأن ه‪َ .‬ش ْ‬
‫ونصف ُشكر‪ ،‬كما تعرف حقيقةَ ذلك‪ ..‬والث اني‪ :‬قول ه تع الى‬ ‫ٌ‬ ‫نصف صبر‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫نصفان‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫﴿ َربِّ العالمين﴾ إشارة إلى األفع ال كله ا‪ ،‬وإض افتُها إلي ه ب أوْ َج ِز لف ٍظ وأتَ ِّم ِه إحاط ةً‬
‫ناف األفع ا ِل لف ظُ ربِّ الع المين‪ ..‬وقولُ هُ ثاني اً‪﴿ :‬ال رحمن ال َّر ِح ِيم﴾ إش ارة إلى‬ ‫بأص ِ‬
‫تظن أنه مكرر‪ ،‬فال تَ َكرُّ َر في القرآن‪ ،‬إذ َح ُّد ال ُم َك رَّر م ا ال‬‫الصفة مرة أخرى‪ ،‬وال ّ‬
‫وقبل ذكر مالك يوم ال دين‬ ‫َ‬ ‫كر العالَمين‬‫ينطوي على مزي ِد فائدة؛ و ِذك ُر الرحمة بعد ِذ ِ‬
‫ينط وي على فائ دتين عَظي َمتَيْن في تفض يل مج اري الرحم ة‪ :‬إح داهما‪ :‬تلتفت إلى‬
‫وأفض لِها‪ ..‬وثانيه ا‪:‬‬‫َ‬ ‫ق ك َّل واحد منهم على أكمل أنواع ِه‬ ‫ق ربِّ العالمين‪ :‬فإنه َخلَ َ‬ ‫خَ ْل ِ‬
‫تعلُّقُها بقوله ﴿مالك يَوْ ِم الدين﴾‪ :‬فيشي ُر إلى الرحمة في ال َمعا ِد يو َم الجزا ِء عند اإلنعام‬
‫ك المؤَ بَّ ِد في مقابَل ِة كلم ٍة وعبادة‪ ..‬وأم ا قولُ ه‪﴿ :‬مال ك يَ وْ ِم ال دين﴾‪ :‬فإش ارةٌ إلى‬ ‫بال ُم ْل ِ‬
‫اآلخ َرة في ال َمعاد‪ ،‬وه و أح د األقس ام من األص ول‪ ،‬م ع اإلش ارة إلى مع نى ال َملَ ك‬ ‫ِ‬
‫والملِك‪ ،‬وذلك من صفات الجالل) (‪)1‬‬
‫َ‬
‫إلى آخر كالمه الذي يبين م ا في س ورة الفاتح ة من الحق ائق والقيم العظيم ة‬
‫التي لم يكن لسورة الفاتحة ذلك الفضل العظيم من دونها‪.‬‬
‫معارج الحقائق‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن الفض ائل العظيم ة لبعض‬
‫آيات القرآن الكريم وسوره ترتبط بالدرجة األولى بالحقائق العظيم ة ال تي تحمله ا‪،‬‬
‫وق د أش ار إلى ذل ك بعض الحكم اء‪ ،‬فق ال ـ ردا على من يس تغرب التفاض ل بين‬
‫السور القرآني ة ـ‪( :‬اعلم‪ :‬أن ن ور البص يرة إن ك ان ال يرش دك إلى الف رق بين آي ة‬
‫الكرس ي وآي ة الم داينات وبين س ورة اإلخالص وس ورة تبت‪ ،‬وترت اع من اعتق اد‬
‫الفرق نفسك الجوارة‪ ،‬المستغرقة بالتقليد‪ ،‬فقلد صاحب الرسالة ‪ ،‬فهو الذي أن زل‬
‫عليه القرآن‪ ،‬وقد دلت األخبار على شرف بعض اآليات‪ ،‬وعلى تضعيف األجر في بعض السور‬
‫المنزلة‪ ،‬واألخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن‪ ،‬بتخص يص بعض اآلي ات والس ور بالفض ل‬
‫وكثرة الثواب في تالوتها ال تحصى‪ ،‬فاطلبه من كتب الحديث إن أردته) (‪)2‬‬
‫ولهذا كان لسورة اإلخالص ذلك الفضل العظيم‪ ،‬باعتبارها ثلث الق رآن‪ ،‬لم ا‬
‫احت وت علي ه من المع ارف العظيم ة المرتبط ة باهلل تع الى‪ ،‬ففي الح ديث أن رجال‬
‫‪ )(1‬جواهر القرآن (ص‪)64 :‬‬
‫‪ )(2‬جواهر القرآن (ص‪)62 :‬‬
‫‪165‬‬
‫سمع آخر يقرأ‪﴿ :‬قُلْ هُ َو هللا أَ َح ٌد﴾ (االخالص‪ )1:‬يرددها‪ ،‬فلما أصبح ج اء إلى الن بي‬
‫‪‬؛ فذكر ذلك له ‪ -‬وكأن الرجل يتقالها ‪ -‬فقال النبي ‪( :‬وال ذي نفس ي بي ده‪ ،‬إنه ا‬
‫لتعدل ثلث القرآن) (‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليل ة ثلث‬
‫الق رآن)‪ ،‬ق الوا‪ :‬نحن أعج ز من ذل ك وأض عف‪ ،‬ق ال ‪( :‬إن هللا ع ز وج ل ج زا‬
‫القرآن ثالثة أجزاء فجعل قل هو هللا احد جزءا من أجزاء القرآن) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر أن النبي ‪ ‬بعث رجال على س رية‪ ،‬وك ان يق رأ ألص حابه‬
‫في صالتهم فيختم بقل هو هللا أح ٌد؛ فلما رجعوا ذكروا ذل ك للن بي ‪ ،‬فق ال‪ :‬س لوه‬
‫ألي شيء يصنع ذلك؛ فسألوه فقال‪ :‬ألنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها‪ ،‬فقال‬
‫النبي ‪( :‬أخبروه أن هللا يحبه) (‪)3‬‬
‫وسؤال رسول هللا ‪ ‬عن سر حب الرجل لها دليل على أن فضلها ال يرتب ط‬
‫بالقراءة فقط‪ ،‬وإنما بالدافع لها أيضا‪ ،‬فمن قرأها ألجل االستعاذة تحقق له مقتضاها‪،‬‬
‫ومن قرأها تعظيما هلل‪ ،‬وحبا لصفاته‪ ،‬استحق محبة هللا‪.‬‬
‫ولهذا عندما سئل اإلمام الرضا عن التوحيد قال‪( :‬كل من قرأ قل هو هللا أح د‬
‫وآمن بها فقد عرف التوحيد)‪ ،‬فقيل له‪ :‬كيف نقرأها قال‪( :‬كم ا يق رأ الن اس‪ ،‬وقول وا‬
‫بعدها‪ :‬كذلك هللا ربي‪ ،‬كذلك هللا ربي) (‪)4‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد في آية الكرس ي من فض ائل‪ ،‬ففي الح ديث عن رس ول هللا‬
‫‪ ‬أنه قال‪( :‬لكل شيء سنام‪ ،‬وإن سنام القرآن سورة البقرة‪ ،‬وفيها آيةٌ هي سيدة آي‬
‫القرآن آية الكرسي) (‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر عن أبى بن كعب أن رسول هللا ‪ ‬قال ل ه‪( :‬ي ا أب ا المن ذر‪،‬‬
‫أتدرى أي آية من كتاب هللا مع ك أعظم؟)‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬هللا اَل إِلَ هَ إِاَّل هُ َو ْال َح ُّي ْالقَيُّو ُم اَل‬
‫ت َو َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َم ْن َذا الَّ ِذي يَ ْش فَ ُع ِع ْن َدهُ إِاَّل‬ ‫اوا ِ‬ ‫تَأْ ُخ ُذهُ ِسنَةٌ َواَل نَوْ ٌم لَهُ َما فِي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫بِإِ ْذنِ ِه يَ ْعلَ ُم َما بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َو َما خَ ْلفَهُ ْم َواَل ي ُِحيطُونَ بِ َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه إِاَّل بِ َم ا َش ا َء َو ِس َع‬
‫ض َواَل يَئُو ُدهُ ِح ْفظُهُ َما َوهُ َو ْال َعلِ ُّي ْال َع ِظي ُم﴾ [البق رة‪،]255 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ُكرْ ِسيُّهُ ال َّس َم َ‬
‫فضرب رسول هللا ‪ ‬على صدره‪ ،‬وقال‪( :‬ليهنك العلم يا أبا المنذر)(‪)6‬‬
‫وعن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬إن الش ياطين يقول ون‪ :‬لك ل ش ئ دزوة ودزوة‬
‫القرآن آية الكرسي‪ ،‬من قرأها مرة صرف هللا عن ه أل ف مك روه من مك اره ال دنيا‪،‬‬
‫وألف مكروه من مكاره اآلخرة‪ ،‬أيسر مك روه ال دنيا الفق ر‪ ،‬وأيس ر مك روه االخ رة‬
‫عذاب القبر‪ ،‬وإني الستعين بها على صعود الدرجة) (‪)7‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪.4627‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪.4628‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ‪6827‬‬
‫‪ )(4‬عيون االخبار ج ‪ 1‬ص ‪.133‬‬
‫‪ )(5‬الترمذي (‪)2878‬‬
‫‪ )(6‬مسلم (‪)810‬‬
‫‪ )(7‬تفسير العياشى ج ‪ 1‬ص ‪.136‬‬
‫‪166‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد في فضل آخر س ورة الحش ر‪ ،‬وهي قول ه تع الى‪﴿ :‬هُ َو هللا‬
‫ب َوال َّشهَا َد ِة هُ َو ال رَّحْ َمنُ ال َّر ِحي ُم (‪ )22‬هُ َو هللا الَّ ِذي اَل‬ ‫الَّ ِذي اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو عَالِ ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫ك ْالقُ ُّدوسُ ال َّساَل ُم ْال ُم ْؤ ِمنُ ْال ُمهَ ْي ِمنُ ْال َع ِزي ُز ْال َجبَّا ُر ْال ُمتَ َكبِّ ُر ُس ب َْحانَ هللا‬ ‫إِلَهَ إِاَّل ه َُو ْال َملِ ُ‬
‫ص ِّو ُر لَهُ اأْل َ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى يُ َسبِّ ُح لَ هُ َم ا‬
‫ئ ْال ُم َ‬ ‫ق ْالبَ ِ‬
‫ار ُ‬ ‫َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ (‪ )23‬ه َُو هللا ْالخَالِ ُ‬
‫ض َوهُ َو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [الحشر‪]24 - 22 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫فِي ال َّس َم َ‬
‫فق د وردت األح اديث الكث يرة في فض لها‪ ،‬لم ا اش تملت علي ه من المع ارف‬
‫والحقائق الكبرى‪ ،‬ففي الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬من ق ال حين يص بح‬
‫عشر مرات‪ :‬أعوذ باهلل السميع العليم من الشيطان ال رجيم‪ ،‬ثم ق رأ الثالث آي ات من‬
‫آخر سورة الحشر‪ ،‬وكل هللا به س بعين أل ف مل ك يص لون علي ه ح تى يمس ي‪ ،‬وإن‬
‫مات ذلك اليوم مات شهيدا‪ ،‬ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة)(‪)1‬‬
‫وقال اإلمام الحسن‪َ ( :‬من ق رأ ثالث آي ات من آخ ر س ورة الحش ر إذا أص بح‬
‫فمات من يومه ذلك‪ ،‬طُبع بطابع الشهداء‪ ،‬وإن ق رأ إذا أمس ى فم ات في ليلت ه طُب ع‬
‫بطابع الشهداء)(‪)2‬‬
‫وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تخص اآليات ال تي ورد فيه ا أس ماء‬
‫هللا الحسنى وصفاته العليا بالمزيد من العناية حتى تترسخ معانيها في نفسك‪ ،‬وح تى‬
‫تكون سببا لترقيك في مقامات العرفان التي ال حدود لها؛ فق د روي عن اإلم ام علي‬
‫أنه قال‪( :‬فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير ان يكونوا رأوه) (‪)3‬‬
‫معارج القيم‪:‬‬
‫أما معارج القيم ـ أيها المريد الص ادق ـ فهي ك ل الس ور واآلي ات المرتبط ة‬
‫بالسلوك واألخالق والمواقف والمعايير والموازين التي توزن بها األمور‪..‬‬
‫ومن األمثلة عن اعتباره ا في فض ائل الس ور واآلي ات القرآني ة م ا ورد في‬
‫الحديث أنه ‪ ‬بعث بعثا‪ ،‬فاستقرأهم فقرأ كل رجل ما مع ه من الق رآن‪ ،‬ف أتى على‬
‫رجل من أحدثهم سنا فقال‪( :‬ما مع ك أنت ي ا فالن؟)‪ ،‬ق ال‪ :‬معي ك ذا وك ذا وس ورة‬
‫البقرة‪ ،‬قال‪( :‬أمعك سورة البقرة؟)‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ..‬اذهب فأنت أميرهم‪ ،‬فإنه ا إن ك ادت‬
‫لتحصى الدين كله)‪ ،‬فقال رج ٌل من أشرافهم‪ :‬وهللا ما منعني يا رسول هللا أن أتعلمها‬
‫إال خشية أن ال أقوم بما فيها‪ ،‬فقال ‪( :‬تعلموا القرآن واقرأوه وقوموا به‪ ،‬فإن مثل‬
‫القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يف وح بريح ه ك ل مك ان‪،‬‬
‫ومثل من تعلمه ويرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكى على مسك)(‪)4‬‬
‫فهذا الحديث يشير إلى مراعاته ‪ ‬لسورة البقرة أثناء توليته لذلك ال ذي ه و‬
‫أحدثهم سنا‪ ،‬باعتبارها السورة التي تحوي كل حق ائق ال دين وقيم ه‪ ،‬كم ا ع بر عن‬
‫‪ )(1‬الترمذي (‪ ،)2922‬وأحمد (‪ 5/26‬رقم ‪ ،)20306‬والدارمي (‪)3425‬‬
‫‪ )(2‬الدر المنثور ‪.6/202‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة ‪.147‬‬
‫‪ )(4‬الترمذي (‪)2876‬‬
‫‪167‬‬
‫ذلك رسول هللا ‪ ..‬وفي هذا تنبيه بليغ لألمة في ع دم مراع اة الس ن أثن اء اختي ار‬
‫أصحاب الوظائف والمناصب‪ ،‬وهو ما لم يحص ل في الواق ع الت اريخي اإلس المي‪،‬‬
‫وبعد النبوة مباشرة‪ ،‬وقد كان ذلك سببا لكل الفتن التي حصلت بعد ذلك‪.‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن خاصية أخرى لسورة البقرة‪ ،‬فقال‪( :‬ال تجعل وا بي وتكم مق ابر‬
‫إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) (‪)1‬‬
‫وفي هذا إشارة إلى تلك المع اني الكث يرة ال تي تحت وي عليه ا س ورة البق رة‪،‬‬
‫والتي لها دوره ا الكب ير في حف ظ األس رة من أن يت دخل الش يطان لينش ر القطيع ة‬
‫بينها‪.‬‬
‫وهكذا ورد فضل اآليات التي تشير إلى القيم الروحية‪ ،‬ومنها ما ورد في حق‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬آ َمنَ ال َّرسُو ُل بِ َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي ِه ِم ْن َربِّ ِه َو ْال ُم ْؤ ِمنُونَ ُك لٌّ آ َمنَ بِاهلل َو َماَل ئِ َكتِ ِه‬
‫ك‬ ‫ق بَ ْينَ أَ َح ٍد ِم ْن ُر ُسلِ ِه َوقَالُوا َس ِم ْعنَا َوأَطَ ْعنَا ُغ ْف َرانَ كَ َربَّنَ ا َوإِلَ ْي َ‬ ‫َو ُكتُبِ ِه َو ُر ُسلِ ِه اَل نُفَرِّ ُ‬
‫ت َربَّنَ ا‬ ‫ت َو َعلَ ْيهَا َم ا ا ْكت ََس بَ ْ‬ ‫صي ُر (‪ )285‬اَل يُ َكلِّفُ هللا نَ ْفسًا إِاَّل ُو ْس َعهَا لَهَا َما َك َسبَ ْ‬ ‫ْال َم ِ‬
‫ْ‬
‫اَل تُؤَا ِخ ْذنَا إِ ْن نَ ِسينَا أَوْ أَ ْخطَأنَا َربَّنَا َواَل تَحْ ِملْ َعلَ ْينَا إِصْ رًا َك َما َح َم ْلتَ هُ َعلَى الَّ ِذينَ ِم ْن‬
‫قَ ْبلِنَا َربَّنَا َواَل تُ َح ِّم ْلنَا َما اَل طَاقَةَ لَنَا بِ ِه َوا ْع فُ َعنَّا َوا ْغفِ رْ لَنَ ا َوارْ َح ْمنَ ا أَ ْنتَ َموْ اَل نَ ا‬
‫فَا ْنصُرْ نَا َعلَى ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [البقرة‪ ،]286 ،285 :‬فقد قال رس ول هللا ‪ ‬عنه ا‪:‬‬
‫(من قرأ باآليتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)(‪)2‬‬
‫ق‬ ‫ومثلها ما ورد في أواخر سورة آل عمران‪ ،‬وهي قول ه تع الى‪﴿ :‬إِ َّن فِي خَ ْل ِ‬
‫ب (‪ )190‬الَّ ِذينَ‬ ‫ت أِل ُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ‬ ‫ار آَل يَ ا ٍ‬ ‫ف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫ض َو ْ‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫الس َما َوا ِ‬ ‫َّ‬
‫ض‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫يَ ْذ ُكرُونَ هللا قِيَا ًم ا َوقُ ُع ودًا َو َعلَى ُجنُ وبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي َخ ْل ِ‬
‫ار (‪َ )191‬ربَّنَ ا إِنَّكَ َم ْن تُ ْد ِخ ِل النَّا َر‬ ‫اب النَّ ِ‬‫َربَّنَا َما َخلَ ْقتَ هَ َذا بَا ِطاًل ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬
‫ار (‪َ )192‬ربَّنَا إِنَّنَا َس ِم ْعنَا ُمنَا ِديًا يُنَا ِدي لِإْل ِ ي َما ِن أَ ْن‬ ‫ص ٍ‬ ‫فَقَ ْد أَ ْخزَ ْيتَهُ َو َما لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن أَ ْن َ‬
‫ار (‪)193‬‬ ‫آ ِمنُوا بِ َربِّ ُك ْم فَآ َمنَّا َربَّنَا فَا ْغفِرْ لَنَا ُذنُوبَنَا َو َكفِّرْ َعنَّا َسيِّئَاتِنَا َوت ََوفَّنَا َم َع اأْل َ ْب َر ِ‬
‫ك اَل تُ ْخلِ فُ ْال ِمي َع ا َد (‬ ‫ك َواَل تُ ْخ ِزنَ ا يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّ َ‬ ‫َربَّنَ ا َوآتِنَ ا َم ا َو َع ْدتَنَا َعلَى ر ُ‬
‫ُس لِ َ‬
‫‪[ ﴾)194‬آل عمران‪]194 - 190 :‬‬
‫فقد حدثت عائشة عن أثر هذه اآليات على رسول هللا ‪ ‬عندما نزلت علي ه‪،‬‬
‫ت‪ ،‬وق الت‪ُ :‬ك لُّ أم ره ك ان‬ ‫فق الت لمن س ألها عن أعجب ش يء رأت ه من ه ‪ ،‬فَبَ َك ْ‬
‫عجبا‪ ،‬أتاني في ليلتي‪ ،‬فقال‪ :‬ذريني أتعبد لربي‪ ،‬فقلت‪ :‬وهللا إني ألحب قربك‪ ،‬وإني‬
‫أحب أن تَعبد لربك‪ .‬فقام إلى القرب ة فتوض أ ولم يك ثر ص ب الم اء‪ ،‬ثم ق ام يص لي‪،‬‬
‫فبكى حتى بل لحيته‪ ،‬ثم سجد فبكى حتى بَل األرض‪ ،‬ثم اضطجع على جنب ه فبكى‪،‬‬
‫حتى إذا أتى بالل يُؤذنه بصالة الصبح قالت‪ :‬فقال‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬م ا يُبكي ك؟ وق د‬
‫غفر هللا لك ذنبك ما تقدم وما تأخر‪ ،‬فقال‪( :‬ويحك يا بالل‪ ،‬وما يمنعني أن أبكي وقد‬
‫ار‬ ‫الف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫اختِ ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواألرْ ِ‬ ‫الس َما َوا ِ‬‫ق َّ‬ ‫أنزل عل ّي في هذه الليلة‪﴿ :‬إِ َّن فِي َخ ْل ِ‬

‫‪ )(1‬مسلم (‪ ،)780‬الترمذي (‪)2877‬‬


‫‪ )(2‬البخاري (‪ ،)5051‬ومسلم (‪)807‬‬
‫‪168‬‬
‫فيها)(‪)1‬‬ ‫ب﴾‪ ،‬ثم قال‪( :‬ويل لمن قرأها ولم يتفكر‬ ‫ت ألولِي ْ‬
‫األلبَا ِ‬ ‫آليَا ٍ‬
‫وفي حديث آخ ر عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ين ادي من اد ي وم القيام ة أين‬
‫أولوا األلباب قالوا‪ :‬أي أولوا األلباب تري د؟ ق ال‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هللا قِيَا ًم ا َوقُ ُع ودًا‬
‫ض َربَّنَ ا َم ا خَ لَ ْقتَ هَ َذا بَ ِ‬
‫اطاًل‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫الس َم َ‬ ‫ق َّ‬ ‫َو َعلَى ُجنُ وبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ‬
‫ار﴾ عق د لهم ل واء ف اتبع الق وم ل واءهم وق ال لهم‪( :‬ادخلوه ا‬ ‫اب النَّ ِ‬
‫ُسب َْحانَكَ فَقِنَ ا َع َذ َ‬
‫خالدين) (‪)2‬‬
‫ومثلها ما ورد في فضل سورة الكه ف‪ ،‬وارتباطه ا بالحف ظ من فتن ال دجال‪،‬‬
‫وذلك لما احتوت علي ه من المع اني الكث يرة ال تي تعص م قارئه ا من تل ك الفتن ففي‬
‫الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬من ق رأ س ورة الكه ف ي وم الجمع ة‪ ،‬فه و‬
‫معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة‪ ،‬وإن خرج الدجال عصم منه) (‪)3‬‬
‫ومثل ذلك وردت النصوص بقراءة فواتح س ورة الكه ف‪ ،‬ففي الح ديث عن ه‬
‫‪ ‬أنه قال‪( :‬فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) (‪ ،)4‬وقال‪( :‬وإن من‬
‫فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار‪ ،‬فمن ابتلى بن ار فليس تغث باهلل وليق رأ‬
‫فواتح الكهف فتكون بردا وسالما كما كانت النار على إبراهيم)(‪)5‬‬
‫فالعنصر الغ الب في ه ذه الس ورة ه و القص ص‪ :‬ففي أوله ا قص ة أص حاب‬
‫الكهف‪ ،‬وبعدها قصة الجنتين‪ ،‬وفي وسطها تجيء قصة موسى م ع العب د الص الح‪،‬‬
‫وفي نهايتها قصة ذي القرنين‪ ..‬وهذه القصص تس تغرق معظم آي ات الس ورة‪ ،‬فهي‬
‫واردة في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية؛ ومعظم ما يتبقى من آيات الس ورة‬
‫هو تعليق أو تعقيب على القص ص فيه ا‪ ..‬وفي ك ل قص ة من القص ص حص ن من‬
‫الحصون التي تحمي من الدجال وفتنه(‪.)6‬‬
‫وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تخص بعض اآليات المرتبطة ب القيم‬
‫األخالقية والروحية بالمزيد من عنايتك لعل هللا ييسر لك االتصاف بمعانيها‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك م ا ورد في ص فات عب اد ال رحمن‪ ،‬وال تي تص ف‬
‫الشخصية المسلمة بجميع جوانبها األخالقية والروحية‪ ،‬وكونهم ﴿الَّ ِذينَ يَ ْم ُشونَ َعلَى‬
‫ض هَوْ نًا َوإِ َذا خَاطَبَهُ ُم ْال َجا ِهلُونَ قَالُوا َساَل ًما (‪َ )63‬والَّ ِذينَ يَبِيتُ ونَ لِ َربِّ ِه ْم ُس َّجدًا‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫اب َجهَنَّ َم إِ َّن َع َذابَهَا َك انَ غ ََرا ًم ا (‬ ‫ف َعنَّا َع َذ َ‬ ‫َوقِيَا ًما (‪َ )64‬والَّ ِذينَ يَقُولُونَ َربَّنَا اصْ ِر ْ‬
‫ْرفُوا َولَ ْم يَ ْقتُ رُوا َو َك انَ‬ ‫ت ُم ْستَقَ ًّرا َو ُمقَا ًما (‪َ )66‬والَّ ِذينَ إِ َذا أَ ْنفَقُوا لَ ْم يُس ِ‬ ‫‪ )65‬إِنَّهَا َسا َء ْ‬
‫س الَّتِي َح َّر َم‬ ‫بَ ْينَ َذلِكَ قَ َوا ًما (‪َ ﴿ )67‬والَّ ِذينَ اَل يَ ْد ُعونَ َم َع هللا إِلَهًا َ‬
‫آخَر َواَل يَ ْقتُلُونَ النَّ ْف َ‬
‫ق أَثَا ًما﴾ [الفرق ان‪ ،]68 - 63 :‬وغيره ا‬ ‫ق َواَل يَ ْزنُونَ َو َم ْن يَ ْف َعلْ َذلِكَ يَ ْل َ‬ ‫هللا إِاَّل بِ ْال َح ِّ‬
‫من أوصافهم‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه ابن مردويه‪ ،‬و َعبْد بن ُح َميد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه األصبهاني في الترغيب‪ ،‬الدر المنثور في التفسير بالمأثور (‪)407 /2‬‬
‫‪ )(3‬المختارة برقم (‪)430‬‬
‫‪ )(4‬أحمد ومسلم والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(5‬ابن ماجة وابن خزيمة‪ ،‬والحاكم والضياء‪.‬‬
‫‪ )( 6‬شرحنا عالقة السورة وما تحويه من معان تحمي من الفتن في كتاب‪ :‬أوكار االستكبار (ص‪)152 :‬‬
‫‪169‬‬
‫ومثلها تلك اآليات التي تصف األبرار‪ ،‬وكونهم ﴿يُوفُونَ بِالنَّ ْذ ِر َويَخَافُونَ يَوْ ًما‬
‫ُط ِع ُمونَ الطَّ َعا َم َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينًا َويَتِي ًما َوأَ ِس يرًا (‪ )8‬إِنَّ َم ا‬ ‫َكانَ َشرُّ هُ ُم ْست َِطيرًا (‪َ )7‬وي ْ‬
‫ط ِع ُم ُك ْم لِ َوجْ ِه هللا اَل نُ ِري ُد ِم ْن ُك ْم َج زَ ا ًء َواَل ُش ُكورًا (‪ )9‬إِنَّا نَخَ افُ ِم ْن َربِّنَ ا يَوْ ًم ا‬ ‫نُ ْ‬
‫َعبُوسًا قَ ْمطَ ِريرًا﴾ [اإلنسان‪]10 - 7 :‬‬
‫الص ابِ ِرينَ َعلَى َم ا‬ ‫ت قُلوبُهُ ْم َو َّ‬‫ُ‬ ‫ومثلها تلك التي تصف ﴿الَّ ِذينَ إِ َذا ذ ِك َر هللا َو ِجلَ ْ‬
‫ُ‬
‫صاَل ِة َو ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم يُ ْنفِقُونَ ﴾ [الحج‪]35 :‬‬ ‫صابَهُ ْم َو ْال ُمقِي ِمي ال َّ‬‫أَ َ‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم‬‫ت قُلُ وبُهُ ْم َوإِ َذا تُلِيَ ْ‬ ‫ومثله ا تل ك ال تي تص ف ﴿الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِك َر هللا َو ِجلَ ْ‬
‫الص اَل ةَ َو ِم َّما َر َز ْقنَ اهُ ْم‬‫َّ‬ ‫آيَاتُهُ زَا َد ْتهُ ْم إِي َمانً ا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَتَ َو َّكلُ ونَ (‪ )2‬الَّ ِذينَ يُقِي ُم ونَ‬
‫ق َك ِري ٌم﴾‬ ‫ات ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َو َم ْغفِ َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬‫يُ ْنفِقُونَ (‪ )3‬أُولَئِكَ هُ ُم ْال ُم ْؤ ِمنُونَ َحقًّ ا لَهُ ْم د ََر َج ٌ‬
‫[األنفال‪]4 - 2 :‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ومثله ا تل ك ال تي تص ف المؤم نين ب أنهم ﴿التَّائِبُونَ ال َعابِ ُدونَ ال َحا ِم ُدونَ‬
‫ُوف َوالنَّاهُونَ َع ِن ْال ُم ْن َك ِر‬ ‫الس ا ِج ُدونَ اآْل ِم رُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫الس ائِحُونَ الرَّا ِك ُع ونَ َّ‬ ‫َّ‬
‫َو ْال َحافِظُونَ لِ ُحدُو ِد هللا َوبَ ِّش ِر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [التوبة‪]112 :‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريم ة ال تي جعله ا هللا مع ارج للنفس‪ ،‬لتخ رج به ا من‬
‫أهوائها وتصوراتها الخاطئة للقيم النبيل ة‪ ..‬وتب ني قيمه ا ومواقفه ا على أس اس تل ك‬
‫المعايير التي ذكرها القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫الفهم والتدبر‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن أول الم راتب ال تي ي رتقي به ا‬
‫السالك إلى الحقائق القرآنية‪ ،‬والتي تجعله يدرك أس رار تل ك الفض ائل ال تي وردت‬
‫في حقه جملة وتفصيال‪ ،‬وعالقة ذلك بالتزكية والترقية‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الق رآن الك ريم ه و رس الة هللا تع الى‬
‫إلى عباده‪ ،‬والرسالة ال يكتفى منها بترديدها‪ ،‬وال بقراءته ا‪ ،‬وال بتض ميخها ب أنواع‬
‫العطر‪ ،‬وال بتقبيلها ووضعها على الجبهة‪ ،‬وال بوضعها في إطار جمي ل مزخ رف‪،‬‬
‫وتعليقه في أشرف األمكنة‪ ،‬وإنما بقراءتها‪ ،‬وفهمها‪ ،‬وتدبر معانيها‪.‬‬
‫فالمرسل العاقل الواعي الذي يرسل أي رس الة ال يري د من رس الته حروفه ا‬
‫فقط‪ ،‬وإنما يريد معانيها‪ ،‬ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬وما الح للعين ب ادي ال رأي‪ ،‬وم ا‬
‫احتاج إلى تأمل واستبصار وتدبر‪.‬‬
‫وهكذا أعظم رسالة بين أيدينا‪ ،‬وهي كالم ربنا‪ ..‬فهي كما تحتاج إلى كل ذل ك‬
‫التكريم والتش ريف والتق ديس‪ ،‬تحت اج أيض ا إلى أن ت رقى عقولن ا لفهمه ا‪ ،‬وإدراك‬
‫مقاصدها‪ ،‬وتحويل حروفها من كلمات في المصاحف إلى حركات في الحياة‪.‬‬
‫ولذلك أخبر هللا تعالى عن انغالق القلوب ال تي ال تفهم كلمات ه‪ ،‬وال تت دبرها‪،‬‬
‫ب أَ ْقفَالُهَا﴾ [محمد‪]24 :‬‬ ‫فقال‪﴿ :‬أَفَاَل يَتَ َدبَّرُونَ ْالقُرْ آنَ أَ ْم َعلَى قُلُو ٍ‬
‫وأخبر أن السبب األكبر في غفلتهم عن الحقائق العظيمة التي جاء بها القرآن‬
‫الكريم ناتج عن عدم التدبر‪ ،‬فقال‪﴿ :‬أَفَلَ ْم يَ َّدبَّرُوا ْالقَ وْ َل أَ ْم َج ا َءهُ ْم َم ا لَ ْم يَ أْ ِ‬
‫ت آبَ ا َءهُ ُم‬
‫اأْل َ َّولِينَ ﴾ [المؤمنون‪]68 :‬‬
‫وأخبر أن عدم إدراك أسرار المعاني القرآنية‪ ،‬وتوهم التناقض بينها ناتج عن‬
‫عدم استعمال آلية الت دبر‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬أَفَاَل يَتَ َدبَّرُونَ ْالقُ رْ آنَ َولَ وْ َك انَ ِم ْن ِع ْن ِد َغ ْي ِر هللا‬
‫اختِاَل فًا َكثِيرًا﴾ [النساء‪]82 :‬‬ ‫لَ َو َجدُوا فِي ِه ْ‬
‫وبناء على هذا كله أخبر عن أن الغاية الكبرى لتنزل القرآن الكريم هو التدبر‬
‫الذي ينتج عنه الت ذكر‪ ،‬وال ذي ال يتحق ق ب ه إال أول و األلب اب‪ ،‬ق ال تع الى‪ِ ﴿ :‬كتَ ابٌ‬
‫ب﴾ [ص‪]29 :‬‬ ‫ك لِيَ َّدبَّرُوا آيَاتِ ِه َولِيَتَ َذ َّك َر أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ار ٌ‬ ‫أَ ْن َز ْلنَاهُ إِلَ ْي َ‬
‫ك ُمبَ َ‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الفهم والتدبر هو روح التعامل مع القرآن الك ريم‪ ،‬مثلم ا الخش وع‬
‫هو روح الصالة‪ ،‬كما قال اإلمام علي‪( :‬ال خير في عبادة ال فقه فيها‪ ،‬وال في قراءة‬
‫ال تدبّر فيها)(‪)1‬‬
‫ولهذا كان الصالحون يرددون اآلية الواحدة مرات كثيرة ابتغاء لتنزل فهمه ا‬
‫والتدبر في معانيها‪ ،‬بل روي ذلك عن رس ول هللا ‪ ،‬فق د روي أن ه ق رأ ﴿بس م هللا‬
‫الرّحمن الرّحيم﴾‪ ،‬فر ّددها عشرين مرّة(‪.)2‬‬
‫‪ )(1‬تحف العقول ص ‪.204‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو ذر الهروي في معجمه‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫و عن أبي ذ ّر قال‪( :‬قام بنا رسول هللا ‪ ،‬فقام ليلة بآي ة ير ّدده ا‪ ،‬وهي قول ه‬
‫تعالى‪﴿ :‬إِ ْن تُ َع ِّذ ْبهُ ْم فَ إِنَّهُ ْم ِعبَ ا ُدكَ َوإِ ْن تَ ْغفِ رْ لَهُ ْم فَإِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [المائ دة‪:‬‬
‫‪)1( )]118‬‬
‫ب الَّ ِذينَ اجْ ت ََر ُح وا‬ ‫و قام بعض أصحاب رسول هللا ‪ ‬ليلة بهذه اآلية ﴿أَ ْم َح ِس َ‬
‫ت َس َوا ًء َمحْ يَاهُ ْم َو َم َماتُهُ ْم َس ا َء َم ا‬ ‫ت أَ ْن نَجْ َعلَهُ ْم َكالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬ ‫ال َّسيِّئَا ِ‬
‫يَحْ ُك ُمونَ ﴾ [الجاثية‪]21 :‬‬
‫وعن الزهري عن اإلمام السجاد أنه قال‪( :‬لومات من بين المشرق والمغرب‬
‫لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)‪ ،‬ثم ق ال الزه ري‪( :‬وك ان إذا ق رأ (مال ك‬
‫يوم الدين) يكررها‪ ،‬حتى يكاد أن يموت) (‪)2‬‬
‫﴿وا ْمتَ ا ُزوا ْاليَ وْ َم أَيُّهَ ا ْال ُمجْ ِر ُم ونَ ﴾‬
‫وقام سعيد بن جبير ليل ة ي ر ّدد ه ذه اآلي ة َ‬
‫[يس‪]59 :‬‬
‫وحكي عن بعض الصالحين أنه قال‪( :‬إنّي ألفتتح الس ورة فتوقف ني بعض م ا‬
‫أشهد فيها عن الفراغ منها حتّى يطلع الفجر)‪ ،‬وق ال آخ ر‪( :‬ك ّل آي ة ال أتفهّمه ا وال‬
‫يكون قلبي فيها ال أع ّد لها ثوابا)‬
‫و حكي عن آخر أنّه قال‪( :‬إنّي ألتلو اآلية فأقيم فيه ا أرب ع لي ال وخمس لي ال‬
‫ولو ال أنّي أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها)‬
‫وروي أن آخر بقي في سورة هود ستّة أش هر يكرّره ا وال يف رغ من الت دبّر‬
‫فيها‪.‬‬
‫وقال آخ ر‪( :‬لي في ك ّل جمع ة ختم ة‪ ،‬وفي ك ّل ش هر ختم ة‪ ،‬وفي ك ّل س نة‬
‫ختمة‪ ،‬ولي ختمة منذ ثالثين سنة ما فرغت منه ا بع د)‪ ،‬وك ان يق ول‪( :‬أقمت نفس ي‬
‫مقام االجراء فأنا أعمل مياومة ومسابعة ومشاهرة ومسانهة)(‪)3‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما أحدثك عنه من مع اني الفهم‬
‫والتدبر‪ ،‬والوصفات التي تعينك على ذلك‪.‬‬
‫فهم القرآن‪:‬‬
‫أول مرتب ة في التعام ل م ع الحق ائق القرآني ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فهم‬
‫معانيها‪ ،‬ذلك أن األلفاظ والتراكيب ليست مقص ودة ب ذاتها‪ ،‬وإنم ا قص دها المع اني‬
‫ال تي تختزنه ا‪ ..‬ول ذلك على ق ارئ الق رآن أن يتج اوز األلف اظ إلى معانيه ا‪ ..‬ك ل‬
‫معانيها التي تليق بها‪ ..‬فالقرآن الك ريم حم ال وج وه؛ فل ذلك على العاق ل أن يحمل ه‬
‫على أحسن وجوهه‪ ،‬حتى ال يضل أو يضل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫وأول ذلك تحكيم المتشابه إلى المحكم‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ه َُو ال ِذي أن َز َل َعل ْي كَ‬
‫ب َوأُخَ ُر ُمتَ َشابِهَ ٌ‬
‫ات فَأ َ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم زَ ْي غٌ‬ ‫ات ه َُّن أُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫ات ُمحْ َك َم ٌ‬ ‫َاب ِم ْنهُ آيَ ٌ‬ ‫ْال ِكت َ‬
‫‪ )(1‬ابن ماجه تحت رقم ‪.1350‬‬
‫‪ )(2‬الكافى‪ :‬ج ‪ 2‬ص ‪.602‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء؛ ج‪2‬؛ ص‪237‬‬

‫‪172‬‬
‫َّاس ُخونَ‬ ‫فَيَتَّبِعُونَ َما تَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ْالفِ ْتنَ ِة َوا ْبتِغَا َء تَأْ ِويلِ ِه َو َما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِاَّل هللا َوالر ِ‬
‫ب﴾ [آل عم ران‪:‬‬ ‫فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َربِّنَا َو َما يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُولُ و اأْل َ ْلبَ ا ِ‬
‫‪]7‬‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬فإذا رأيت الذين يتبع ون م ا تش ابه‬
‫منه فأولئك الذين سمى هللا فاحذروهم) (‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر أن رسول هللا ‪ ‬قرأ تلك اآليات‪ ،‬ثم ق ال‪( :‬ق د ح ذركم هللا‪،‬‬
‫فإذا رأيتموهم فاعرفوهم) (‪)2‬‬
‫وعن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬إن الق رآن زاج ر وآم ر ي أمر بالجن ة ويزج ر‬
‫عن النار‪ ،‬وفيه محكم ومتشابه‪ ،‬فأما المحكم فيؤمن ب ه ويعم ل ب ه وي دين ب ه‪ ،‬وأم ا‬
‫المتشابه فيؤمن به وال يعمل به‪ ،‬وهو قول هللا‪﴿ :‬فَأ َ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ وبِ ِه ْم َز ْي ٌغ فَيَتَّبِ ُع ونَ‬
‫َّاس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم‬ ‫َما تَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ْالفِ ْتنَ ِة َوا ْبتِغَا َء تَأْ ِويلِ ِه َو َما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِاَّل هللا َوالر ِ‬
‫ربِّنَا﴾)(‪)3‬‬ ‫يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِم ْن ِع ْن ِد َ‬
‫ولذلك عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم القرآن الك ريم من خالل ع رض‬
‫آياته بعضها على بعض حتى ال تقع في تلك االنحرافات التي حذر منه ا رس ول هللا‬
‫‪ ..‬والتي وقعت فيها أمته من بعده‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك م ا ورد في الق رآن الك ريم من ذك ر الي د مض افة هلل‬
‫تعالى‪ ،‬ألن العرب عندما تضيف اليد ألي كان قد تريد بذلك اليد التي هي الجارحة‪،‬‬
‫وتري د به ا أيض ا مع اني أخ رى مث ل‪ :‬الق وة والنعم ة والعط اء والث واب والهداي ة‬
‫والنصرة والحفظ وغيرها‪.‬‬
‫وبم ا أن األم ر ك ذلك‪ ،‬فالي د المنس وبة هلل‪ ،‬تعت بر من المتش ابهات‪ ،‬وال تي ال‬
‫يمكن القط ع بمعناه ا إال بعرض ها على المحكم الق رآني ال ذي ي نزه هللا تع الى عن‬
‫الجسمية والتركيب ومشابهة مخلوقاته‪ ،‬وهو ما يقوله الراسخون في العلم‪.‬‬
‫أما المعرضون عن المحكم‪ ،‬واآلخذون بالمتشابه‪ ،‬فقد أعرضوا عن ذلك؛ فلم‬
‫يفوضوا المراد منها هلل تعالى من باب االحتياط والتورع‪ ،‬ولم يؤولوها بم ا يتناس ب‬
‫م ع كالم الع رب‪ ،‬وإنم ا راح وا يحملونه ا على ظواهره ا؛ فنس بوا هلل تع الى الي د‬
‫بمعناها الظاهر‪ ،‬ونسبوا له غيرها من الجوارح‪ ،‬فوقعوا في التجسيم والتشبيه‪.‬‬
‫ومما يعينك على ذلك ـ أيها المري د الص ادق ـ رجوع ك للراس خين في العلم‬
‫أولئك الذين أوصى رسول هللا ‪ ‬بالرجوع إليهم لفهم القرآن‪ ،‬والتفريق بين محكمه‬
‫ومتشابهه‪ ،‬وإياك والرجوع ألولئك الذين ارتضوا لليهود أن يفسروا كت ابهم‪ ،‬فمألوه‬
‫بكل أنواع الخرافة والدجل‪.‬‬
‫وقد روي أن بعض هم ج اء لإلم ام علي‪ ،‬وط رح علي ه اآلي ات المتش ابهات‪،‬‬
‫وطلب منه أن يف ك غموض ها ل ه‪ ،‬وس أذكر ل ك بعض م ا ذك ره ليك ون ع برة ل ك‪،‬‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ )4547‬ومسلم (‪)2665‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪ ،)6/192‬ورواه اآلجري في الشريعة (ص ‪)332‬‬
‫‪ )(3‬تفسير القمى‪.745 :‬‬
‫‪173‬‬
‫ووسيلة تفهم من خاللها لغة القرآن الكريم ومقاصده‪.‬‬
‫فمن ذلك أنه سأله عن النسيان الوارد في القرآن الكريم والمضاف هلل تع الى‪،‬‬
‫ُوا هللاَ فَن َِسيَهُ ْم﴾إنما يع ني نس وا هللا في دار‬ ‫فقال له اإلمام علي‪( :‬فأما قوله تعالى‪﴿ :‬نَس ْ‬
‫ال دنيا لم يعمل وا بطاعت ه‪ ،‬فنس يهم في اآلخ رة ـ أي لم يجع ل لهم من ثواب ه ش يئاً‪،‬‬
‫ُوا لِقَاء‬ ‫فصاروا منسيين من الخير‪ ،‬وكذلك تفسير قوله تعالى‪﴿ :‬فَ ْاليَوْ َم نَ ْن َساهُ ْم َك َما نَس ْ‬
‫يَوْ ِم ِه ْم هَ َذا﴾يعني بالنسيان انه لم يثبهم كما يثيب أولياءه‪ ،‬والذين ك انوا في دار ال دنيا‬
‫﴿و َما َك انَ َربُّكَ‬ ‫مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله وخافوه بالغيب‪ ..‬وأما قوله‪َ :‬‬
‫نَ ِسيّاً﴾فان ربنا تبارك وتعالى علواً كبيراً ليس بالذي ينسى‪ ،‬وال يغفل; بل هو الحفي ظ‬
‫العليم‪ ،‬وقد يقول العرب‪ :‬قد نس ينا فالن فال ي ذكرها‪ ،‬أي ان ه ال ي أمر لهم بخ ير وال‬
‫يذكرهم به)‬
‫ومن ذلك أنه سأله عما ورد في الق رآن الك ريم من نس بة الحرك ة والتنق ل هلل‬
‫﴿ولَقَ ْد‬ ‫ص فّاً﴾ وقول ه‪َ :‬‬ ‫ص فّا ً َ‬ ‫ك َ‬ ‫﴿و َج ا َء َربُّكَ َو ْال َملَ ُ‬ ‫تعالى‪ ،‬فقال له اإلمام‪( :‬وأما قول ه‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫ك أَوْ يَ أتِي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِج ْئتُ ُموْ نَا فُ َرادَى﴾وقوله‪﴿ :‬هَلْ يَ ْنظُ رُوْ نَ إِالَّ أَ ْن تَ أتِيَهُ ُم ْال َمالَئِ َك ةُ أَوْ يَ أتِي َربُّ َ‬
‫ك﴾فذلك كله حق‪ ،‬وليست جيئته ج ّل ذكره كجيئة خلقه‪ ،‬فان ه رب ك ل‬ ‫ت َربِّ َ‬ ‫بَعْضُ آيَا ِ‬
‫شيء من كتاب هللا عزوجل يكون تأويل ه على غ ير تنزيل ه‪ ،‬وال يش به تأويل ه بكالم‬
‫البشر‪ ،‬وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن ش اء هللا تع الى‪ ،‬وه و حكاي ة هللا عزوج ل‬
‫عن ابراهيم (عليه السالم) حيث قال‪﴿ :‬إِنِّي َذا ِهبٌ إَلى َربِّي َسيَ ْه ِديْن﴾فذهاب ه إلى رب ه‬
‫توجهه اليه في عبادته واجتهاده‪ ،‬أال ترى أن تأويله غير تنزيله‪ ،‬وق ال‪َ ﴿ :‬وأَ ْن زَ َل لَ ُك ْم‬
‫ِمنَ األَ ْن َع ِام ثَ َمانِيَةَ أَ ْز َواج﴾وقال‪َ ﴿ :‬وأَ ْنزَ ْلنَا ْال َح ِد ْي َد فِ ْي ِه بَ أْسٌ َش ِد ْي ٌد﴾ فانزال ه ذل ك خلق ه‬
‫من َولَ ٌد فَأَنَ ا أَ َّو ُل ْال َعابِ ِدينَ ﴾ أي الجاح دين‪،‬‬ ‫إي اه‪ .‬وك ذلك قول ه‪﴿ :‬قُ لْ إِ ْن َك انَ لِل رَّحْ ِ‬
‫والتأويل في هذا القول باطن ه مض اد لظ اهره‪ ،‬ومع نى قول ه‪﴿ :‬هَ لْ يَ ْنظُ رُوْ نَ إِالَّ أَ ْن‬
‫ت َربِّكَ ﴾فانما خاطب نبين ا محم داً ‪‬‬ ‫ك أَوْ يَأْتِ َي بَعْضُ آيَا ِ‬ ‫تَأْتِيَهُ ُم ْال َمالَئِ َكةُ أَوْ يَأْتِ َي َربُّ َ‬
‫هل ينتظر المنافقون والمشركون إالّ أن ت أتيهم المالئك ة فيع اينونهم‪﴿ ،‬أَوْ يَ أْتِ َي َربُّكَ‬
‫ت َربِّكَ ﴾ يعني بذلك أمر ربك‪ ،‬واآلي ات هي الع ذاب في دار ال دنيا‬ ‫أَوْ يَأْتِ َي بَعْضُ آيَا ِ‬
‫وا أَنَّا نَ أْتِي األَرْ ضُ‬ ‫كم ا ع ذب االُمم الس الفة والق رون الخالي ة‪ ،‬وق ال‪﴿ :‬أَ َو لَ ْم يَ َر ْ‬
‫ط َرافِها﴾يعني بذلك ما يهلك من القرون فسماه إتياناً)‬ ‫صهَا ِم ْن أَ ْ‬ ‫نَ ْنقُ ُ‬
‫إلى آخر حديثه الطويل‪ ،‬وفيه ما يدلك ـ أيها المريد الص ادق ـ على ض رورة‬
‫الرجوع للراسخين في العلم حتى تبتعد عن الشبهات التي يبثها أهل الزي غ لتحري ف‬
‫القرآن الكريم عن معناه الذي أراده هللا‪.‬‬
‫ولذلك احذر ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن ت دخل عقل ك فيم ا ال ق درة ل ك في‬
‫فهمه؛ بل كله إلى هللا تعالى‪ ،‬وحسبك منه ما أطقته؛ فإن قوما راحوا يتجرؤون على‬
‫الحقائق القرآنية من غير أن يكون لديهم أدوات فهمه ا‪ ،‬وال أن يحين زم ان فهمه ا‪،‬‬
‫فضلوا وأضلوا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اَّل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ولذلك قال هللا تعالى‪﴿ :‬هَ لْ يَنظ رُونَ إِ تَأ ِويل هُ يَ وْ َم يَ أتِي تَأ ِويل هُ يَق و ُل ال ِذينَ‬

‫‪174‬‬
‫ق فَهَ لْ لَنَ ا ِم ْن ُش فَ َعا َء فَيَ ْش فَعُوا لَنَ ا أَوْ نُ َر ُّد‬ ‫ت ُر ُس ُل َربِّنَ ا بِ ْال َح ِّ‬ ‫نَسُوهُ ِم ْن قَ ْب ُل قَ ْد َجا َء ْ‬
‫ْ‬
‫ض َّل َع ْنهُ ْم َم ا َك انُوا يَفتَ رُونَ ﴾‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫خَس رُوا أ ْنف َس هُ ْم َو َ‬ ‫فَنَ ْع َم َل َغ ْي َر الَّ ِذي ُكنَّا نَ ْع َم ُل قَ ْد ِ‬
‫[األعراف‪]53 :‬‬
‫﴿س نُ ِري ِه ْم‬
‫فمن القرآن الكريم ما ال يفهم معناه إال بحص وله‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ك أَنَّهُ َعلَى ُك لِّ‬ ‫ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ‬
‫ف بِ َربِّ َ‬ ‫اق َوفِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْال َح ُّ‬ ‫آيَاتِنَا فِي اآْل فَ ِ‬
‫َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ [فصلت‪]53 :‬‬
‫ولذلك ك ان التعام ل الص حيح م ع الق رآن الك ريم في االقتص ار على فهم م ا‬
‫وض ح من ه‪ ،‬أو ك ان ل ه ارتب اط بالحق ائق والقيم‪ ،‬وم ا ع دا ذل ك ليس س وى تكل ف‬
‫ممقوت ال يصرف عن الحقائق فقط‪ ،‬بل يشوهها أيضا‪.‬‬
‫لهذا نهى هللا تعالى المؤمنين في سورة الكهف عن البحث عن تفاصيل أخبار‬
‫فتية أهل الكهف‪ ،‬لعدم وجود مصادر أمينة موثوق ة يمكنه ا أن تع رف بحقيقتهم‪ ،‬أو‬
‫﴿س يَقُولُونَ ثَاَل ثَ ةٌ َرابِ ُعهُ ْم َك ْلبُهُ ْم‬ ‫تدل على األح داث المرتبط ة بهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ب َويَقُولُونَ َس ْب َعةٌ َوثَ ا ِمنُهُ ْم َك ْلبُهُ ْم قُ لْ َربِّي‬ ‫َويَقُولُونَ خَ ْم َسةٌ َسا ِد ُسهُ ْم َك ْلبُهُ ْم َرجْ ًما بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ت فِي ِه ْم ِم ْنهُ ْم‬ ‫ار فِي ِه ْم إِاَّل ِم َرا ًء ظَ ا ِهرًا َواَل ت َْس تَ ْف ِ‬ ‫أَ ْعلَ ُم بِ ِع َّدتِ ِه ْم َما يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِاَّل قَلِي ٌل فَاَل تُ َم ِ‬
‫أَ َحدًا﴾ [الكهف‪]22 :‬‬
‫فق د اعت بر الق رآن الك ريم مج رد الح ديث عن ع ددهم من غ ير بين ة رجم ا‬
‫بالغيب‪ ،‬وهو من أعظم الكذب والزور والبهتان‪.‬‬
‫وهكذا األمر عندما ذكر م دة لبثهم في الكه ف‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَبِثُ وا فِي‬
‫ازدَادُوا تِ ْس عًا (‪ )25‬قُ ِل هللا أَ ْعلَ ُم بِ َم ا لَبِثُ وا لَ هُ َغيْبُ‬ ‫ث ِمائَ ٍة ِس نِينَ َو ْ‬ ‫َك ْهفِ ِه ْم ثَاَل َ‬
‫ك فِي ُح ْك ِم ِه‬ ‫صرْ بِ ِه َوأَ ْس ِم ْع َما لَهُ ْم ِم ْن دُونِ ِه ِم ْن َولِ ٍّي َواَل يُ ْش ِر ُ‬ ‫ض أَ ْب ِ‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫أَ َحدًا﴾ [الكهف‪]26 ،25 :‬‬
‫ول ذلك ب دل انش غالك بم ا غ اب عن ك علم ه‪ ،‬أو ال يض رك جهل ه‪ ،‬انش غل‬
‫بالحق ائق والقيم القرآني ة ال تي لم ي نزل الق رآن الك ريم إال ألجله ا‪ ،‬وق د ق ال بعض‬
‫الحكماء ينصح مريدا ل ه‪ ،‬متعجب ا من إعراض ه عن الحق ائق القرآني ة‪( :‬إني أنبه ك‬
‫على رقدتك‪ ،‬أيها المسترسل في تالوتك‪ ،‬المتخذ دراس ة الق رآن عمال‪ ،‬المتلق ف من‬
‫معاني ه ظ واهر وجمال‪ ،‬إلى كم تط وف على س احل البح ر مغمض ا عيني ك عن‬
‫غرائبها؟ أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها؟ وتس افر إلى جزائره ا‬
‫آلجتناء أطايبها؟ وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أوما تع ير نفس ك في‬
‫الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أوم ا بلغ ك‬
‫أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعب علم األولين واآلخ رين كم ا يتش عب عن‬
‫س واحل البح ر المحي ط أنهاره ا وج داولها؟ أوم ا تغب ط أقوام ا خاض وا في غم رة‬
‫أمواجه ا فظف روا ب الكبريت األحم ر؟ وغاص وا في أعماقه ا فاس تخرجوا الي اقوت‬
‫األحمر‪ ،‬والدر األزهر‪ ،‬والزبرجد األخضر؟ وساحوا في سواحلها‪ ،‬فالتقطوا العن بر‬
‫األشهب‪ ،‬والعود الرطب األنض ر؟ وتعلق وا إلى جزائره ا واس تدروا من حيواناته ا‬

‫‪175‬‬
‫األذفر؟) (‪)1‬‬ ‫الترياق األكبر‪ ،‬والمسك‬
‫ولذلك دعك ـ أيها المريد الصادق ـ من الج دل في الق رآن والخص ومة في ه‪،‬‬
‫وابحث عن حقائقه التي تنفعك في دنياك وأخراك؛ فهو لم ينزل إال ألجل ذل ك‪ ،‬وق د‬
‫قال ابن مسعود‪( :‬من أراد علم األوّلين واآلخرين فليث ّور القرآن)‬
‫وقد قال بعض الحكماء يشير إلى كيفي ة ذل ك الفهم‪ ،‬ض ارب المث ل عن ه بم ا‬
‫ورد في حق هللا تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله‪( :‬أعظم عل وم الق رآن تحت أس ماء‬
‫هللا وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إاّل أم ورا الئق ة بأفه امهم ولم يع ثروا على‬
‫أغوارها‪ ،‬وأ ّما أفعاله فكذكره خلق الس ماوات واألرض وغيره ا فليفهم الت الي منه ا‬
‫صفات هللا وجالله إذ الفعل يد ّل على الفاع ل في د ّل عظمت ه على عظمت ه فينبغي أن‬
‫ق رآه في ك ّل ش يء إذ ك ّل ش يء‬ ‫يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل‪ ،‬فمن عرف الح ّ‬
‫ل على التحقيق) (‪)2‬‬ ‫منه وإليه وبه وله فهو الك ّ‬
‫الس الم؛ (ف إذا‬ ‫وهكذا فيم ا ورد في الق رآن الك ريم من أح وال األنبي اء عليهم ّ‬
‫كذبوا وضربوا وقتل بعض هم‪ ،‬فليفهم من ه ص فة اس تغناء هللا تع الى‬ ‫سمع منها كيف ّ‬
‫عن الرس ل والمرس ل إليهم وأنّ ه ل و أهل ك جميعهم لم ي ؤثر في ملك ه وإذا س مع‬
‫ّ‬
‫المكذبين‬ ‫ق‪ ..‬وأ ّما أحوال‬ ‫نصرتهم في آخر األمر فليفهم قدرة هللا وإرادته لنصرة الح ّ‬
‫كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من س طوته ونقمت ه‪،‬‬
‫وليكن حظّه من ه االعتب ار في نفس ه وأنّ ه إن غف ل وأس اء األدب واغ ت ّر بم ا أمه ل‬
‫فربما يدركه النقمة وتنفذ فيه القضيّة‪ ،‬وكذلك إذا سمع وص ف الجنّ ة والنّ ار وس ائر‬
‫ألن ذلك ال نهاي ة ل ه وإنّم ا لك ّل عب د‬ ‫ما في القرآن‪ ،‬فال يمكن استقصاء ما يفهم منه ّ‬
‫منه بقدر رزقه) (‪)3‬‬
‫ولذلك كان الصالحون الذين قضوا حي اتهم بص حبة الق رآن الك ريم يش يرون‬
‫إلى عظم الحقائق التي يذكرها‪ ،‬وكثرتها‪ ،‬ووفائه ا بك ل الحاج ات‪ ،‬وق د ق ال اإلم ام‬
‫عل ّي (لو شئت ألوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب)‬
‫ولن تصل إلى تل ك المرتب ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ح تى تتخلص من ك ل‬
‫الحجب التي تحول بينك وبين فهمه‪ ،‬وأولها الحج اب ال ذي أش ار إلي ه قول ه تع الى‪:‬‬
‫ك قَ الُوا لِلَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِع ْل َم َم ا َذا قَ َ‬
‫ال‬ ‫ك َحتَّى إِ َذا َخ َرجُوا ِم ْن ِع ْن ِد َ‬
‫﴿ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْستَ ِم ُع إِلَ ْي َ‬
‫ك الَّ ِذينَ طَبَ َع هللا َعلَى قُلُوبِ ِه ْم َواتَّبَعُوا أَ ْه َوا َءهُ ْم﴾ [محم د‪ ،]16 :‬وه و حج اب‬ ‫آنِفًا أُولَئِ َ‬
‫الكبرياء والغرور والهوى‪..‬‬
‫فإذا تخلصت منه‪ ،‬وجلست بين يدي القرآن الكريم كالتلمي ذ بين ي دي األس تاذ‬
‫علمك هللا‪ ،‬ولو من غير معلم‪ ،‬وقد قال بعض الص الحين يش ير إلى ذل ك‪( :‬ال يك ون‬
‫المريد مريدا حتّى يجد في القرآن ك ّل ما يري د‪ ،‬ويع رف من ه النقص ان من المزي د‪،‬‬
‫ويستغني بالمولى عن العبيد)‬
‫‪ )(1‬جواهر القرآن (ص‪)21 :‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)283 /1‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)284 /1‬‬
‫‪176‬‬
‫أن الش ياطين‬ ‫وق د ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ل و ال ّ‬
‫يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت)‬
‫وقد قال بعضهم معبرا عن هذا المعنى ومفسرا لسره عند تفسير قوله تع الى‪:‬‬
‫﴿نَحْ نُ أَوْ لِيَا ُؤ ُك ْم فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآْل ِخ َر ِة َولَ ُك ْم فِيهَا َما تَ ْشتَ ِهي أَ ْنفُ ُس ُك ْم َولَ ُك ْم فِيهَا َما‬
‫تَ َّد ُعونَ ﴾ [فص لت‪( :]31 :‬مع نى ك ونهم أولي اء للمؤم نين أن للمالئك ة ت أثيرات في‬
‫األرواح البش رية‪ ،‬باإللهام ات والمكاش فات اليقيني ة‪ ،‬والمقام ات الحقيقي ة‪ ،‬كم ا أن‬
‫للش ياطين ت أثيرات في األرواح بإلق اء الوس اوس فيه ا وتخيي ل األباطي ل إليه ا‪..‬‬
‫وبالجملة فكون المالئكة أولياء لألرواح الطيب ة الط اهرة حاص ل من جه ات كث يرة‬
‫معلومة ألرباب المكاش فات والمش اهدات‪ ،‬فهم يقول ون‪ :‬كم ا أن تل ك الوالي ة ك انت‬
‫حاصلة في الدنيا فهي تكون باقية في اآلخرة فإن تلك العالئق ذاتية الزمة غير قابلة‬
‫للزوال‪ ،‬بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى‪ ،‬وذلك ألن ج وهر النفس من جنس‬
‫المالئكة‪ ،‬وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس‪ ،‬والقطرة بالنسبة إلى البحر‪ ،‬والتعلق ات‬
‫الجس مانية هي ال تي تح ول بينه ا وبين المالئك ة‪ ..‬ف إذا زالت العالئ ق الجس مانية‬
‫والت دبيرات البدني ة‪ ،‬فق د زال الغط اء والوط اء‪ ،‬فيتص ل األث ر ب المؤثر‪ ،‬والقط رة‬
‫بالبحر‪ ،‬والشعلة بالشمس) (‪)1‬‬

‫ومن جملة تلك الموان ع ال تي ق د تص رفك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ عن فهم‬
‫الق رآن الك ريم أن يك ون هم ك (منص رفا إلى تحقي ق الح روف بإخراجه ا من‬
‫مخارجها‪ ،‬فهذا يتولّى حفظه شيطان وك ّل بالقرآن ليصرفهم عن معاني كالم هللا وال‬
‫يزال يحملهم على ترديد الحرف‪ ،‬يخيّل إليهم أنّه لم يخ رج من مخرج ه فه ذا يك ون‬
‫تأ ّمله مقص ورا على مخ ارج الح روف ف أنّى ينكش ف ل ه المع اني‪ ،‬وأعظم ض حكة‬
‫للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس) (‪)2‬‬
‫ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (مقلّدا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه‬
‫وثبت في نفسه التعصّب له بمجرّد االتّباع للمسموع من غير وص ول إلي ه ببص يرة‬
‫ومشاهدة فهذا شخص قيّده معتق ده عن أن يج اوزه فال يمكن ه أن يخط ر ببال ه غ ير‬
‫معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه فإن لمع برق على بعد وبدا ل ه مع نى من‬
‫المعاني الّتي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة‪ ،‬وقال‪ :‬كيف يخطر ه ذا‬
‫ببال ك وه و خالف معتق د آبائ ك ف يرى أن ذل ك غ رور من الش يطان فيتباع د من ه‬
‫ويحترز عن مثله‪ ..‬وهذا التقليد قد يكون باطال فيكون مانعا كمن يعتقد من االس تواء‬
‫على العرش التم ّكن واالستقرار‪ ،‬فإن خطر له مثال في الق ّدوس أنّه المق ّدس عن ك ّل‬
‫ما يجوز على خلقه لم يم ّكنه تقليده من أن يستق ّر ذلك في نفسه‪ ،‬ولو اس تق ّر ذل ك في‬
‫نفس ه ال نج ّر إلى كش ف ث ان وث الث ولتواص ل ولكن يتس ارع إلى دف ع ذل ك عن‬
‫خاطره لمناقضته تقليده الباطل وقد يكون حقّا ويكون أيضا مانعا من الفهم والكش ف‬

‫‪ )(1‬تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪)561 /27‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)284 /1‬‬
‫‪177‬‬
‫ق الّذي كلّف الخلق اعتقاده له مراتب ودرجات وله مبدأ ظاهر وغور باطن‬ ‫ألن الح ّ‬‫ّ‬
‫وجمود الطبع على الظ اهر يمن ع من الوص ول إلى الغ ور الب اطن كم ا ذكرن اه من‬
‫الفرق بين العلم الباطن والظاهر في كتاب قواعد العقائد) (‪)1‬‬
‫ومنها أن يكون القارئ للقرآن الك ريم (مص رّا على ذنب أو متّص فا بك بر أو‬
‫إن ذل ك س بب ظلم ة القلب وص دئه وه و‬ ‫مبتلى في الجملة بهوى في ال ّدنيا مط اع ف ّ‬
‫ق من أن يتجلى في ه وه و أعظم حج اب للقلب‬ ‫ّ‬ ‫كالخبث على المرآة فيمن ع جليّ ة الح ّ‬
‫وبه حجب األكثرون وكلّم ا ك انت الش هوات أش ّد تراكم ا ك انت مع اني الكالم أش ّد‬
‫خف عن القلب أثقال ال ّدنيا قرب تجلّى المعنى فيه فالقلب مث ل الم رآة‬ ‫احتجابا وكلّما ّ‬
‫والش هوات مث ل الص دء ومع اني الق رآن مث ل الص ور الّ تي ت تراءى في الم رآة‬
‫والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجالء للمرآة)‬
‫ْص َرةً َو ِذ ْك َرى لِ ُك ِّل‬ ‫وذلك شرط هللا تعالى اإلنابة في الفهم والتذ ّكر‪ ،‬فقال‪﴿ :‬تَب ِ‬
‫اجدًا َوقَائِ ًم ا يَحْ َذ ُر اآْل ِخ َرةَ‬ ‫ت آنَ ا َء اللَّ ْي ِل َس ِ‬ ‫ب﴾ [ق‪ ،]8 :‬وقال‪﴿ :‬أَ َّم ْن ه َُو قَ انِ ٌ‬ ‫َع ْب ٍد ُمنِي ٍ‬
‫ُ‬
‫َويَرْ جُو َرحْ َمةَ َربِّ ِه قُلْ هَلْ يَ ْست َِوي الَّ ِذينَ يَ ْعلَ ُمونَ َوالَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ إِنَّ َم ا يَتَ َذ َّك ُر أولُ و‬
‫ب﴾ [الزمر‪]9 :‬‬ ‫اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (ق د ق رأ تفس يرا ظ اهرا واعتق د أنّ ه ال‬
‫وأن م ا‬ ‫معنى لكلمات القرآن إاّل ما تناوله النق ل عن ابن عبّ اس ومجاه د وغيرهم ا ّ‬
‫وأن من فسّر القرآن برأيه فق د تب وّأ مقع ده من النّ ار‪ ،‬فه ذا‬ ‫وراء ذلك تفسير بالرأي ّ‬
‫أيضا من الحجب العظيمة)(‪)2‬‬
‫تدبر القرآن‪:‬‬
‫المرتبة الثانية في التعامل مع الحقائق القرآنية ـ أيه ا المري د الص ادق ـ بع د‬
‫فهم معاني ه‪ ،‬وع دم الحج اب عنه ا ب أي ن وع من أن واع الحجب هي ت دبر الق رآن‬
‫الكريم‪ ..‬فهو ال ذي ي تيح ل ك أن تح ول من الح روف القرآني ة واقع ا تعيش ه في ك ل‬
‫البيئات واألوقات‪ ،‬وبقلبك وعقلك وكل لطائفك‪.‬‬
‫وتدبر القرآن الكريم درجة تعل و على فهم ه‪ ..‬ذل ك أن الفهم مهم ا رقى يظ ل‬
‫محص ورا في دوائ ر األلف اظ وح دودها‪ ..‬وأم ا الت دبر؛ فه و ال ذي يخ رج من تل ك‬
‫الدوائر‪ ،‬ليعبر منها لكل شيء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اَل‬ ‫َ‬
‫ُوص يك ُم هللا فِي أوْ ِدك ْم﴾‬ ‫ُ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك أن الذي يق رأ قول ه تع الى‪﴿ :‬ي ِ‬
‫[النساء‪ ،]11 :‬يفهم أن المراد منها وصية هللا تعالى باألحكام المرتبطة بالمواريث‪..‬‬
‫لكن التدبر يهديه إلى سر اختيار هللا تعالى للفظ الوصية دون غيرها‪ ..‬ثم يهتدي إلى‬
‫أن هللا تعالى أرحم باألوالد من آب ائهم‪ ،‬ذل ك أن ه ه و ال ذي يوص ي آب اءهم بهم‪ ..‬ثم‬
‫يهتدي إلى رحمة هللا الواسعة ولطفه بعب اده‪ ..‬وهك ذا ال ي زال ي رتقي من مع نى إلى‬
‫معنى حتى يستفيد المعاني الكثيرة‪ ،‬والتي تتحول فيها ك ل آي ات الق رآن الك ريم إلى‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)284 /1‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)285 /1‬‬
‫‪178‬‬
‫معارف إلهية تملؤه باليقين واإليمان‪.‬‬
‫وهك ذا ي نزل من تل ك الحق ائق إلى القيم الس لوكية ال تي تمأل حيات ه ب التقوى‬
‫والصالح؛ حتى تتحول صفات هللا وأسماؤه الحس نى إلى قيم س لوكية يس ير به ا في‬
‫حياته جميعا‪.‬‬
‫وهكذا؛ فإن التدبر يجعله ال يحصر القص ص الق رآني في البيئ ات التاريخي ة‬
‫ال تي حص لت فيه ا األح داث‪ ،‬وإنم ا يتجاوزه ا ليس تنبط منه ا س نن هللا تع الى في‬
‫صائِ ُر ِم ْن َربِّ ُك ْم َوهُدًى َو َرحْ َمةٌ‬
‫المجتمعات والتاريخ وغيرها‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬هَ َذا بَ َ‬
‫لِقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ [األعراف‪]203 :‬‬
‫وق د أش ار إلى ذل ك اإلم ام علي‪ ،‬فق ال‪( :‬اليقين على أرب ع ش عب‪ :‬تبص رة‬
‫الفطنة‪ ،‬وتأول الحكم ة‪ ،‬ومعرف ة الع برة وس نة االولين‪ ،‬فمن أبص ر الفطن ة ع رف‬
‫الحكمة‪ ،‬ومن ت أول الحكم ة ع رف الع برة ومن ع رف الع برة ع رف الس نة‪ ،‬ومن‬
‫عرف السنة فكأنما كان مع االولين واهتدى إلى التي هي أق وم‪ ،‬ونظ ر إلى من نج ا‬
‫بما نجا‪ ،‬ومن هلك بم ا هل ك‪ ،‬وإنم ا أهل ك هللا من هل ك بمعص يته‪ ،‬وأنج ا من أنج ا‬
‫بطاعته) (‪)1‬‬
‫بل أش ار إلى ذل ك رس ول هللا ‪ ‬حين أخ بر عن تتب ع ه ذه األم ة لس نن من‬
‫قبلها‪ ،‬وذل ك يع ني أن م ا ورد في الق رآن الك ريم ليس القص د من ه الت أريخ‪ ،‬وإنم ا‬
‫الدعوة ألخذ العبرة‪ ،‬والحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه‪ ،‬ق ال ‪( :‬لتتبعن س نن من‬
‫كان قبلكم‪ ،‬حذو القذة بالقذة‪ ،‬حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)‪ ،‬قالوا‪ :‬ي ا رس ول‬
‫هللا‪ ،‬اليهود والنصارى؟ قال‪( :‬فمن؟)(‪ ،)2‬وقال‪( :‬لتأخ ذن أم تي مأخ ذ الق رون قبله ا‬
‫شبرا بشبر وذراعا بذراع)‪ ،‬قالوا‪ :‬فارس والروم؟ قال‪( :‬فمن الناس إال أولئك؟)(‪)3‬‬
‫وهك ذا؛ ف إن الق ارئ للق رآن الك ريم ال يق رؤه ك أجنبي عن ه‪ ،‬وإنم ا يق رؤه‬
‫باعتباره رسائل هللا إليه‪ ،‬وأنها تنزلت من أجله‪ ،‬وكل ما في ه خط اب ل ه‪ ،‬كم ا ع بر‬
‫عن ذلك بعضهم فقال‪( :‬من بلغه القرآن فكأنّما كلّمه هللا تعالى‪ ،‬وإذا ق ّدر ذلك لم يتّخذ‬
‫دراسة القرآن عمله ب ل ق رأه كم ا يق رء العب د كت اب م واله الّ ذي كتب إلي ه ليتأ ّمل ه‬
‫ويعمل بمقتضاه)‬
‫وق ال آخ ر‪( :‬ه ذا الق رآن رس ائل أتتن ا من قب ل ربّن ا بعه وده نت دبّرها في‬
‫الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات بالسّنن المتّبعات)‬
‫وقال آخر‪( :‬إن القرآن كالم هللا يكلم به عباده‪ ،‬وهم ال يشعرون‪ ،‬وكت اب بعث‬
‫إليهم بالخص وص وهم ال ي درون‪ ،‬الهي ة قل وبهم ك أنهم يظن ون أن ه وج د اتفاق ا‪،‬‬
‫فصاروا يأخذون منه أحكامهم وليسوا بالمقصودين في علم)(‪)4‬‬
‫وقال آخ ر‪( :‬فمن فتح هللا بص يرته ي راه اآلن يت نزل ب ه ال روح األمين‪ ،‬وإذا‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)351 /68‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(4‬ابن عليوة‪ ،‬البحر المسجور‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪179‬‬
‫قرأه يقرأه من إمام مبين‪ ،‬وأعظمهم درجة من يتلق اه من أرحم ال راحمين وقلي ل م ا‬
‫هم)(‪)1‬‬
‫وقد سمى بعض الحكماء هذا المعنى بـ (الترقي)‪ ،‬وعرفه بأن (يسمع الكالم من‬
‫هللا عز وجل ال من نفسه)(‪)2‬‬
‫وبين أن القراءة النافعة ثالث درجات‪ ،‬ولكل درج ة الس لوك الخ اص المرتب ط‬
‫بها (‪:)3‬‬
‫األولى‪ ،‬وهي أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على هللا عز وجل واقفا بين يدي ه‬
‫وهو ناظر إليه ومستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتض رع‬
‫واالبتهال‪.‬‬
‫والثانية‪ ،‬وهي أرف ع من ال تي قبله ا‪ :‬أن يش هد بقلب ه ك أن هللا ع ز وج ل ي راه‬
‫ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم واإلصغاء والفهم‬
‫والثالثة‪ ،‬وهي أعلى الجمي ع‪ :‬أن ي رى في الكالم المتكلم‪ ،‬وفي الكلم ات‬
‫الصفات‪ ،‬فال ينظر إلى نفسه وال إلى قراءته وال إلى تعلق اإلنع ام ب ه من حيث إن ه‬
‫منعم عليه‪ ،‬بل يكون مقصور الهم على المتكلم‪ ،‬موقوف الفكر عليه‪ ،‬كأنه مس تغرق‬
‫بمشاهدة المتكلم عن غيره‪ ،‬وقد عبر عن هذه الدرجة اإلمام الصادق فقال‪( :‬وهللا لقد‬
‫تجلى هللا عز وج ل لخلق ه في كالم ه ولكنهم ال يبص رون)‪ ،‬وق ال‪ ،‬وق د س ألوه عن‬
‫حالة لحقته في الصالة حتى خر مغشيا عليه فلما سرى عن ه قي ل ل ه في ذل ك فق ال‪:‬‬
‫(ما زلت أردد اآلية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم)(‪)4‬‬
‫وبهذا تصبح كل آيات القرآن الكريم مؤثرة‪ ،‬وفي جميع مناحي الحياة‪ ،‬حتى م ا‬
‫تعل ق من ذل ك ب األمم الس ابقة‪ ،‬كم ا ع بر عن ذل ك بعض الحكم اء‪ ،‬فق ال‪( :‬ومهم ا‬
‫اعتبرنا ما بين دفتي المصحف كتابا من هللا جل ثناؤه وصل إلينا بالخصوص لزمن ا‬
‫أن ال نحمل ما أوعد هللا أو وعد به على غيرنا من األمم‪ ،‬فمهما ثبت االس تحقاق في‬
‫ش خص بش يء من ذل ك فيك ون ه و المقص ود نفس ه ب ذلك الخط اب‪ ،‬وهك ذا س ائر‬
‫األوامر والنواهي والترغيبات والترهيبات‪ ،‬وهذا وجه كون الكتاب إلينا) (‪)5‬‬
‫ورد على ما قد يتعقب علي ه ب ه مم ا ت ذكره ع ادة كتب التفس ير من رد أس باب‬
‫النزول إلى أشخاص معينين أو أحداث معينة بأن سبب النزول مرتب ط فق ط بابت داء‬
‫النزول‪ ،‬يقول في ذلك‪( :‬وأما كون اآلية نزلت في فالن أو فالن‪ ،‬إنما ذلك الش خص‬
‫سبب البتداء تهيئ الجنس المستحق ل ذلك الوص ف أو الحكم‪ ،‬والمعت بر من خط اب‬
‫هللا عموم اللفظ ال خصوص السبب) (‪)6‬‬
‫وسر ذلك كله ـ أيه ا المري د الص ادق ـ يع ود إلى حق ائق ال روح اإلنس انية؛ فـ‬
‫‪ )(1‬ابن عليوة‪ ،‬البحر المسجور‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)287 /1‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)287 /1‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين (‪)287 /1‬‬
‫‪ )(5‬ابن عليوة‪ ،‬البحر المسجور‪ ،‬ص‪.23‬‬
‫‪ )(6‬ابن عليوة‪ ،‬البحر المسجور‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫‪180‬‬
‫(األرواح جنود مجندة متساوية في تعلق الخطاب بها ليست متعاقبة الوجود كتعاقب‬
‫األجسام‪ ،‬فأرواح المنافقين مثال من عهد رأس المنافقين األولين إلى خاتمهم يشملهم‬
‫وعد المنافقين‪ ،‬فتكون آية المنافقين ن زلت في ك ل ف رد من ذل ك الجنس‪ ،‬وقس على‬
‫ذلك أنواع المخاطبين‪ ،‬وإال كان الكثير من ألفاظ التنزيل في حيز التعطيل) (‪)1‬‬
‫وبناء على هذا؛ فكل القرآن الكريم ـ عند المتدبر ل ه ـ حي ليس في ه أي ح رف‬
‫أو كلمة أو جملة معطلة‪ ..‬فال حروف زائدة‪ ،‬وال مكرر‪ ..‬بل حتى م ا ورد في ش أن‬
‫النبي ‪ ‬له أهله من الورثة‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله ‪( :‬رحمة هللا على خلفائي)‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬من خلفاؤك يا رسول هللا؟ قال‪( :‬الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد هللا)(‪)2‬‬
‫وبهذا المعنى للتدبر يتحقق م ا ورد في النص وص المقدس ة من ك ون الق رآن‬
‫الكريم الكتاب المبين لكل شيء‪ ،‬كما ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ونَ َّز ْلنَ ا َعلَ ْي كَ ْال ِكتَ َ‬
‫اب تِ ْبيَانً ا لِ ُك ِّل‬
‫َش ْي ٍء َوهُدًى َو َرحْ َمةً َوبُ ْش َرى لِ ْل ُم ْسلِ ِمينَ ﴾ [النحل‪]89 :‬‬
‫ذلك أن التدبر يجعل المع اني القرآني ة غ ير محص ورة في وج ه واح د‪ ،‬بحيث‬
‫يصح فهم واحد منها دون ما عداه‪ ،‬أو يصبح ما عداه معارضا لما قبل ه‪ ،‬ب ل الق رآن‬
‫الكريم حمال وجوه‪ ،‬وهو بذلك ال تتعارض في ه المع اني‪ ،‬كم ا نص على ذل ك قول ه‬
‫‪( :‬إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا)(‪ ،)3‬وقال‪( :‬القرآن ال تنقضي عجائبه)‬
‫(‪)4‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن المتدبر فيه يرى في كل حين من عجائبه م ا لم يكن ي راه من قب ل‪،‬‬
‫ولهذا يستفيد في كل حل أو ترحال فوائد جدي دة لم تكن تخط ر على ب ال‪ ،‬وق د ع بر‬
‫عن ذلك بعض الصالحين‪ ،‬فق ال‪( :‬ثالن أحبهن لي وإلخ واني‪ ،‬وذك ر منه ا أن ه ذا‬
‫القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه‪ ،‬فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه)‬
‫واح ذر ـ أيه ا المري د الص ادق ـ بع د ه ذا من أولئ ك ال ذين يوهمون ك في‬
‫انحص ار المع اني القرآني ة فيم ا وردت ب ه كتب التفس ير‪ ،‬أو فيم ا ذك ره الس لف أو‬
‫الخلف‪ ..‬فإن ذلك يدعو إلى إلغاء التدبر الذي أمرنا به‪.‬‬
‫وقد قال بعضهم يرد على من توهم هذا‪( :‬ولعل القائل يق ول‪ :‬ق د كفان ا هللا م ا‬
‫أهمنا من استخراج جواهره على يد من تقدمنا‪ ،‬فأقول‪ ،‬وإذن لضاع حظنا من التدبر‬
‫فيه‪ ،‬وحاشا هلل فال يقول بهذا عاقل‪ ،‬وال من هو باإليمان حافل‪ ،‬ف إن ك ان ذل ك لم لم‬
‫يكتف أهل القرن الثاني على الكالم فيه بكالم من تقدمهم من أهل القرن األول وأهل‬
‫الثالث بالثاني‪ ،‬وهكذا‪ ..‬فدل هذا على أن الحق جل ذك ره لم يخص ص بالت دبر جيال‬
‫دون جيل وأيضا لو كان التخصيص يشعر بانقضاء معانيه والحالة بخالف ذلك)(‪)5‬‬
‫لكن ك ل ذل ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ال يمكن أن يتحق ق م ا لم تتهي أ النفس‬

‫‪ )(1‬ابن عليوة‪ ،‬البحر المسجور‪ ،‬ص‪.24‬‬


‫‪( )(2‬تخريج أحاديث اإلحياء (‪ :)16 /1‬رواه ابن عبد البر في العلم والهروي في ذم الكالم‪.‬‬
‫‪)(3‬تخريج أحاديث اإلحياء (ج ‪ / 1‬ص ‪( :)232‬أخرجه ابن حبان في صحيحه)‬
‫‪ )(4‬سنن الترمذي (‪)172 /5‬‬
‫‪ )(5‬البحر المسجور‪:‬ص ‪.11‬‬
‫‪181‬‬
‫لتنزالت الفهم الصحيح‪ ،‬والتدبر العميق؛ فكم ا أن ظ اهر التفس ير يحت اج إلى عل وم‬
‫وآالت‪ ،‬فكذلك باطن المعاني يحتاج إلى قلب صالح الستقرار المعاني اإليمانية فيه‪.‬‬
‫وقد ع بر بعض الحكم اء عن ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬وال يق ع على علوم ه ويتف رس في‬
‫وجوهه إال مفتوح علي ه‪ ،‬وأم ا المحج وب فإن ه ين ادى من مك ان بعي د‪ ،‬ويس مع من‬
‫وراء حجاب‪ ،‬فهو أبعد من أن يتناول الغاية من ظ واهره‪ ،‬فكي ف بباطن ه‪ ،‬وأين ه و‬
‫من حده ومطلعه‪ ،‬ومن فتح هللا عليه بالتوص ل إلى ش يء من ذل ك ال يبع د أن يق ول‬
‫كما قال اإلمام علي‪( :‬لوشئت لوقرت أربعين وقرا من شرح الفاتحة)‪ ،‬ولعل ك تق ول‬
‫أين اإلمام علي وأين علومه؟ فأقول‪ :‬يا هلل العجب‪ ،‬ومع ذل ك لم يحتف ل ب ه من أه ل‬
‫زمانه إال القليل‪ ،‬حتى كان يقول‪ :‬أن ا جنب هللا ال ذي ف رطتم في ه‪ ،‬وه و على المن بر‬
‫والمفرط فيه هو المفرط اآلن في أهل زمانه) (‪)1‬‬
‫هذه ـ أيها المريد الصادق ـ إج ابتي على أس ئلتك؛ وق د أتحت بين ي ديك فيه ا‬
‫معالم للفهم والتدبر‪ ،‬يمكنها أن تنقلك إلى رحاب واسعة من القرآن الكريم‪ ،‬فال تفرط‬
‫فيها‪ ،‬واحرص على أن تنق ل كلم ات رب ك من األوراق ال تي كتب فيه ا‪ ،‬إلى س جل‬
‫قلبك؛ حتى تتحقق لك الصحبة الحقيقية معه‪ ..‬فال ينتفع به إال من صار صاحبا له‪.‬‬

‫‪ )(1‬البحر المسجور‪:‬ص ‪.11‬‬


‫‪182‬‬
‫االنفعال والتفعيل‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الم راتب التالي ة للفهم والت دبر‪،‬‬
‫وعالقتها بالتزكية والترقية‪ ،‬وكيفية التحقق بها‪ ،‬والنزول في منازلها‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن مراتب الق رآن الك ريم ال نهاي ة له ا؛‬
‫ذلك أنها تمثل الحقائق الوجودية والقيم السلوكية‪ ،‬وكالهما ال حدود له‪ ..‬ول ذلك ف إن‬
‫كل من رقى مرتبة من المراتب‪ ،‬تلوح له مرتبة أخرى‪ ،‬وهكذا ال يتوقف السالك م ا‬
‫دام كمال هللا ال حدود له‪ ،‬وما دام السير التكاملي‪ ،‬والحركة الجوهري ة الناتح ة عن ه‬
‫ال حدود لهما‪.‬‬
‫لكن مع ذلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ يمكن ني أن أختص ر ل ك مج امع تل ك‬
‫الم راتب في مرتب تين‪ ،‬كالهم ا وردت ب ه النص وص المقدس ة‪ ،‬وحض علي ه أئم ة‬
‫الهدى ومن تتلمذ عليهم من الحكماء والصالحين‪.‬‬
‫أما المرتبة األولى منهما؛ فهي االنفعال‪ ،‬وأقصد به تلك الحال الوجدانية التي‬
‫يجدها التالي والمتدبر للقرآن الكريم‪ ،‬والتي عبر عنها قوله تعالى‪﴿ :‬هللا نَ َّز َل أَحْ َس نَ‬
‫ْال َح ِدي ِ‬
‫ث ِكتَابًا ُمتَ َشابِهًا َمثَانِ َي تَ ْق َش ِعرُّ ِم ْن هُ ُجلُ و ُد الَّ ِذينَ يَ ْخ َش وْ نَ َربَّهُ ْم ثُ َّم تَلِينُ ُجلُ و ُدهُ ْم‬
‫َوقُلُوبُهُ ْم إِلَى ِذ ْك ِر هللا﴾ [الزمر‪]23 :‬‬
‫فهي تشير إلى أن من عالمات تغلغل الق رآن الك ريم في وج دان الق ارئ ل ه‪،‬‬
‫تلك القشعريرة اللذيذة التي يجدها‪ ،‬والتي تع بر عن حالت ه النفس ية والش عورية عن د‬
‫فهمه وتدبره للمعاني العظيمة التي تتنزل عليه من كالم ربه‪.‬‬
‫وأما المرتبة الثانية؛ فهي التفعيل‪ ،‬وأقص د ب ه تل ك الحرك ات الس لوكية ال تي‬
‫تسرع إلى تطبيق القيم القرآني ة‪ ،‬من دون ت ردد‪ ،‬ذل ك أن االنفع ال ال ذي س رى إلى‬
‫الوجدان والمشاعر تتحرك له ال محالة الجوارح‪ ،‬لتؤدي حق ذلك االنفعال‪.‬‬
‫َّ‬
‫ك ف اتبِعُوهُ‬‫َ‬ ‫ار ٌ‬‫﴿وهَ َذا ِكتَ ابٌ أَنزَ ْلنَ اهُ ُمبَ َ‬ ‫وإلى هذه المرتبة اإلشارة بقوله تعالى‪َ :‬‬
‫َواتَّقُ وا لَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُم ونَ ﴾ [األنع ام‪]155 :‬؛ فق د ق رن هللا تع الى بين تنزي ل الكت اب‬
‫واتباعه وحصول التق وى‪ ،‬لي دل على أن تالوة الكت اب والت دبر في ه هي الس بب في‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن أن الجزاء األخ روي المرتب ط بق راء الق رآن‬
‫الكريم مشروط بعملهم بما فيه‪ ،‬فقد قال ‪( :‬يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهل ه ال ذين‬
‫كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما) (‪)1‬‬
‫إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فاس مع لم ا سأش رح ل ك من كال‬
‫المرتبتين‪ ،‬وكيفية التحقق بها‪ ،‬وما ورد حولهما من النصوص المقدسة‪.‬‬
‫االنفعال بالقرآن‪:‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم رقم‪( 1912‬ج ‪ / 2‬ص ‪)197‬‬


‫‪183‬‬
‫أما مرتبة االنفعال ـ أيها المري د الص ادق ـ فهي عالم ة على ص دق التالوة‪،‬‬
‫وتغلغله ا إلى ع الم النفس‪ ،‬بع د أن ك انت مرتبط ة باللس ان‪ ،‬أو بالحض ور المج رد‬
‫للذهن مع المقروء من دون تفاعل معه‪.‬‬
‫وهي لذلك تشبه تلك المواد التي تتفاعل بينها‪ ،‬وال يتحقق لها ذلك التفاع ل إال‬
‫بعد المماسة والتالصق‪ ،‬وحينها يمكن أن تشكل مركب ات جدي دة‪ ..‬وتح دث آث ارا لم‬
‫تكن لتحدث لوال ذلك التماس‪.‬‬
‫وهكذا الحقائق القرآنية إذا مست عالم النفس‪ ،‬تح دث عن دها بعض الظ واهر‬
‫في الجسد ت دل على حص ول التفاع ل بين الق رآن وبين النفس‪ ،‬وه و م ا ع بر عن ه‬
‫القرآن الكريم بالخش وع في قول ه تع الى‪﴿ :‬لَ وْ أَ ْنزَ ْلنَ ا هَ َذا ْالقُ رْ آنَ َعلَى َجبَ ٍل لَ َرأَ ْيتَ هُ‬
‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾‬ ‫َض ِربُهَا لِلنَّ ِ‬‫ك اأْل َ ْمثَ ا ُل ن ْ‬ ‫َش يَ ِة هللا َوتِ ْل َ‬
‫َص ِّدعًا ِم ْن خ ْ‬ ‫خَاش عًا ُمت َ‬ ‫ِ‬
‫[الحشر‪]21 :‬‬
‫وهذه اآلية الكريم ة تش ير إلى أن هللا تع الى ق د أودع في لغ ة الق رآن الك ريم‬
‫ونظمه ومعانيه ما يحرك الجبال والصخور؛ فكي ف باإلنس ان العاق ل ال واعي‪ ،‬كم ا‬
‫أشار إلى ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد يَسَّرْ نَا ْالقُرْ آنَ لِل ِّذ ْك ِر فَهَلْ ِم ْن ُم َّد ِك ٍر﴾ [القمر‪]17 :‬‬
‫ولذلك شعر بحالوته المشركون أنفسهم ـ مع قساوة قلوبهم وجح ودهم ـ وق د‬
‫روي أنه لما سمع الوليد بن المغ يرة الق رآن رج ع إلى ق ريش رقي ق القلب مت أثرا؛‬
‫وعندما طلبوا من ه أن يب دي رأي ه في ه‪ ،‬ق ال‪( :‬م اذا أق ول فوهللا م ا فيكم رج ٌل أعلم‬
‫باألشعار مني‪ ،‬وال أعلم برجز وال بقصيدة م ني‪ ،‬وال بأش عار الجن‪ ،‬وهللا م ا يش به‬
‫الذي يقول شيئا من هذا‪ ،‬ووهللا إن لقوله الذي يقول حالوة‪ ،‬وإن علي ه لطالوة‪ ،‬وإن ه‬
‫ق أسفله‪ ،‬وإنه ليعلو وما يعلى‪ ،‬وإنه ليحطم ما تحته) (‪)1‬‬ ‫لمثم ٌر أعاله‪ ،‬مغد ٌ‬
‫وهكذا؛ فإن هللا تع الى رتب الق رآن الك ريم ب ترتيب مختل ف عن الكتب ال تي‬
‫تعارف عليها الناس‪ ،‬وال تي تقس م إلى أقس ام مختلف ة‪ ،‬ك ل قس م يختص بج انب من‬
‫الجوانب‪ ..‬ألن ذلك قد يجعل الذهن منصرفا في كل موضع إلى ما فيه دون غ يره‪..‬‬
‫لكن هللا تعالى جعل في ك ل المح ال‪ ،‬ب ل أحيان ا في اآلي ة الواح دة المع اني الكث يرة‬
‫المرتبط ة ب الجوانب المختلف ة‪ ..‬وه و م ا يث ير النفس‪ ،‬ويجعله ا تستش عر المش اعر‬
‫المختلفة في كل موضع‪ ،‬بل في كل آية‪.‬‬
‫﴿وإِني لغفارٌ﴾ [ط ه‪،]82 :‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك إذا قرأ القارئ قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫اب َوآ َمنَ‬ ‫ْ‬
‫يمتلئ بالبشر والفرح والسرور‪ ،‬لكنه إذا أكمل‪ ،‬فق رأ قول ه تع الى‪﴿ :‬لِ َمن تَ َ‬
‫صالِحًا ثُ َّم ا ْهتَدَى﴾ [طه‪ ،]82 :‬يعلم أن ذلك البشر يحت اج إلى عزيم ة كب يرة‪،‬‬ ‫َو َع ِم َل َ‬
‫وأعمال كثيرة‪ ،‬وذلك ما يحرك عزيمت ه‪ ..‬ثم يق رأ بع دها م ا ورد في عجل ة موس ى‬
‫ك يَا ُمو َسى‬ ‫﴿و َما أَ ْع َجلَكَ ع َْن قَوْ ِم َ‬‫إلى ربه‪ ،‬وكيف ضل بنو إسرائيل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ض ى (‪ )84‬قَ ا َل فَإِنَّا قَ ْد فَتَناَّ‬ ‫ت إِلَ ْي كَ َربِّ لِتَرْ َ‬‫ال هُ ْم أُواَل ِء َعلَى أَثَ ِري َوع َِج ْل ُ‬‫(‪ )83‬قَ َ‬
‫ضلَّهُ ُم السَّا ِم ِريُّ (﴾ [ط ه‪ ،]85 - 83 :‬فيعلم أن العقب ات كث يرة؛‬ ‫ك َوأَ َ‬ ‫قَوْ َم َ‬
‫ك ِم ْن بَ ْع ِد َ‬

‫‪ )(1‬الحاكم‪ 2/550 ،‬ح ‪.3872‬‬


‫‪184‬‬
‫فيمتلئ بالخوف والحذر‪.‬‬
‫وهكذا في الموضع الواحد تمر عليه المش اعر المتع ددة‪ ،‬كم ا ع بر عن ذل ك‬
‫بعضهم‪ ،‬فقال‪( :‬نظرنا في هذه األحاديث والمواعظ فلم نج د ش يئا أرق للقل وب‪ ،‬وال‬
‫أش ّد استجالبا للحزن من قراءة القرآن وتفهّمه وتدبّره‪ ،‬فتأثّر العبد بالتالوة أن يصير‬
‫بصفة اآلية المتلوّة فعند الوعيد وتقيي د المغف رة بالش روط يتض اءل من خيفت ه كأنّ ه‬
‫يكاد يموت‪ ،‬وعند التوسيع ووعد المغفرة يستبشر كأنّه يطير من الفرح‪ ،‬وعند ذك ر‬
‫صفات هللا وأسمائه يتطأطأ خضوعا لجالله واستشعارا لعظمته‪ ،‬وعن د ذك ر الكفّ ار‬
‫وما يس تحيل على هللا تع الى ك ذكرهم هلل ول دا وص احبة يغضّ ص وته وينكس ر في‬
‫باطنه حياء من قبح مقالهم‪ ،‬وعن د وص ف الجنّ ة ينبعث بباطن ه ش وقا إليه ا‪ ،‬وعن د‬
‫وصف النّار يرتعد فرائصه خوفا منها)‬
‫وبما أن الغالب على القرآن الكريم تحذير العباد من كل العقب ات ال تي تح ول‬
‫بينهم وبين السعادة التي تنتظ رهم؛ ف إن الغ الب على المنفعلين للق رآن الك ريم ذل ك‬
‫الوجل والخوف المختلط بالشوق‪ ،‬مثل ذلك الذي يري د أن يق دم على مس ابقة تتعل ق‬
‫بها مصالحه جميعا‪ ،‬لكنه لم يحضر له ا جي دا؛ فل ذلك تختل ط مش اعر األلم ب الحزن‬
‫والعزيمة وغيرها من المشاعر‪ ،‬كما عبر عن ذلك بعض هم‪ ،‬فق ال‪( :‬وهللا م ا أص بح‬
‫اليوم عبد يتلو هذا القرآن يؤمن به إاّل كثر حزن ه‪ ،‬وق ّل فرح ه‪ ،‬وك ثر بك اؤه‪ ،‬وق ّل‬
‫ضحكه‪ ،‬وكثر نصبه وشغله‪ ،‬وقلّت راحته وبطالته)‬
‫وقد روي عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال البن مس عود‪ :‬اق رأ على الق رآن‪ ،‬فق ال‬
‫ابن مسعود‪ :‬يا رسول هللا ‪ !‬أقرأ عليك‪،‬وعلي ك أن زل؟ ق ال‪ :‬إني أحب أن أس معه‬
‫من غيري‪ ،‬فقرأت عليه سورة النساء‪ ،‬حتى جئت إلى هذه اآلية ﴿فَ َك ْيفَ إِ َذا ِج ْئنَ ا ِم ْن‬
‫َص ُوا‬‫ك َعلَى هَؤُاَل ِء َش ِهيدًا (‪ )41‬يَوْ َمئِ ٍذ يَ َو ُّد الَّ ِذينَ َكفَ رُوا َوع َ‬‫ُك ِّل أُ َّم ٍة بِ َش ِهي ٍد َو ِج ْئنَا بِ َ‬
‫ال َّرسُو َل لَ وْ تُ َس َّوى بِ ِه ُم اأْل َرْ ضُ َواَل يَ ْكتُ ُم ونَ هللا َح ِديثًا﴾ [النس اء‪ ،]42 ،41 :‬ق ال‪:‬‬
‫حسبك اآلن‪ ،‬فالتفت إليه‪ ،‬فإذا عيناه تذرفان(‪.)1‬‬
‫ومما يعينك على ذل ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ م ا اتف ق علي ه ال دالون على‬
‫طريق هللا من الحكماء ـ بحس ب التج ارب ال تي عاش وها ـ وهي أن ي ترقّى الت الي‬
‫لكتاب هللا‪ ،‬من سماعه لنفسه إلى سماعه من ربه‪ ،‬وقد ذكروا لذلك أن للق راءة ثالث‬
‫درجات(‪:)2‬‬
‫أدناها أن يق ّدر العبد كأنّه يقرؤه على هللا تعالى واقفا بين يديه‪ ،‬وهو ناظر إليه‬
‫ومستمع منه‪ ،‬فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملّق والتضرّع واالبتهال‪.‬‬
‫كأن ربّه يخاطبه بألطاف ه‪ ،‬ويناجي ه بإنعام ه وإحس انه‪،‬‬ ‫والثانية أن يشهد بقلبه ّ‬
‫فمقامه الحياء والتعظيم واإلصغاء والفهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)5050‬ومسلم (‪.248 )800‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)287 /1‬‬
‫‪185‬‬
‫والثالث ة أن ي رى في الكالم المتكلّم‪ ،‬وفي الكلم ات الص فات؛ فال ينظ ر إلى‬
‫نفسه‪ ،‬وال إلى قراءته‪ ،‬وال إلى تعلّق اإلنعام به من حيث إنّ ه منعم علي ه‪ ،‬ب ل يك ون‬
‫مقصور اله ّم على المتكلّم‪ ،‬موقوف الفكر عليه كأنّ ه مس تغرق بمش اهدة المتكلّم عن‬
‫غيره‪.‬‬
‫والدرجة األخيرة هي درجة المقرّبين التي أشار إليها اإلم ام الص ادق بقول ه‪:‬‬
‫(و هللا لقد تجلّى هللا لخلقه في كالمه ولكن ال يبصرون)(‪.)1‬‬
‫وأش ار آخ ر إلى ه ذا‪ ،‬وق د س ألوه عن حال ة ش ديدة من الخش وع لحقت ه في‬
‫الص الة‪ ،‬فق ال‪( :‬م ا زلت أر ّدد اآلي ة على قل بي‪ ،‬وعلى س معي‪ ،‬حتّى س معتها من‬
‫المتكلّم بها؛ فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته)‬
‫وقال آخ ر يع بر عن عظم الحالوة ال تي يج دها من يص ل إلى تل ك الدرج ة‪:‬‬
‫(كنت أقرأ القرآن فال أجد له حالوة حتّى تلوته كأنّي أسمعه من رسول هللا ‪ ‬يتلوه‬
‫على أصحابه‪ ،‬ث ّم رفعت إلى مقام فوقه فكنت أتل وه ك أنّي أس معه من جبرئي ل علي ه‬
‫السّالم يلقيه على رسول هللا ‪ ،‬ث ّم جاء هللا تع الى بمنزل ة أخ رى فأن ا اآلن أس معه‬
‫لذة ونعيما ال أصبر عنه) (‪)2‬‬ ‫من المتكلّم به‪ ،‬فعندها وجدت له ّ‬
‫وعند هذه الحالة تخرج قراءة الق رآن الكريم ة من مرحل ة التكل ف والتكلي ف‬
‫إلى مرحلة التنعم والتلذذ‪ ،‬ألن القارئ يعيش حينها الحقائق القرآنية‪ ،‬ويراه ا بعين ه‪،‬‬
‫ويتلذذ بذلك أعظم لذة‪ ،‬وقد قال حذيفة ـ معبرا عن تلك الحالة‪( :‬ل و طه رت القل وب‬
‫لم تشبع من قراءة القرآن)‬
‫لكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يحتاج إلى المجاهدة والصبر والعزيم ة؛ ألن‬
‫تلك الحالوة فضل من هللا تعالى‪ ،‬وهو ال يج ازي ب ه إال من أثبت وا ص دقهم وحس ن‬
‫صحبتهم لكالمه‪ ،‬كما عبر عن ذلك بعضهم‪ ،‬فق ال‪( :‬كاب دت الق رآن عش رين س نة‪،‬‬
‫وتنعّمت به عشرين سنة)‬
‫وقد ذكر اإلمام الصادق األس باب المعين ة ل ذلك‪ ،‬فق ال‪( :‬من ق رأ الق رآن ولم‬
‫ق قلبه ولم ينشئ حزنا ووجال في سرّه فق د اس تهان بعظم ش أن هللا‬ ‫يخضع له ولم ير ّ‬
‫وخسر خسرانا مبينا‪ ،‬فقارئ القرآن يحتاج إلى قلب خاش ع‪ ،‬وب دن ف ارغ‪ ،‬وموض ع‬
‫خال‪ ،‬فإذا خشع هلل قلبه ف ّر منه الشيطان الرجيم‪ ..‬وإذا تفرّغ نفسه من األسباب تجرّد‬
‫قلبه للقراءة فال يعترضه عارض فيحرم ه ن ور الق رآن وفوائ ده‪ ،‬وإذا اتّخ ذ مجلس ا‬
‫خاليا واعتزل من الخلق بعد أن أتى بالخصلتين االوليين استأنس روح ه وس رّه باهلل‬
‫ووجد حالوة مخاطبات هللا عباده الص الحين وعلم لطف ه بهم ومق ام اختصاص ه لهم‬
‫بقبول كراماته وبدائع إشاراته‪ ،‬فإذا ش رب كأس ا من ه ذا المش رب حينئ ذ ال يخت ار‬
‫على ذلك الحال حاال وال على ذلك الوقت وقتا بل يؤثره على ك ّل طاعة وعبادة ّ‬
‫ألن‬
‫فيه المناجاة مع الرّبّ بال واسطة‪ ،‬ف انظر كي ف تق رأ كت اب ربّ ك ومنش ور واليت ك‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)107 /92‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)2887 /1‬‬
‫‪186‬‬
‫وكيف تجيب أوامره ونواهيه وكيف تمتثل حدوده فإنّه كتاب عزي ز ال يأتي ه الباط ل‬
‫من بين يدي ه وال من خلف ه تنزي ل من حكيم حمي د‪ ،‬فرتّل ه ت رتيال وق ف عن د وع ده‬
‫ووعيده وتف ّكر في أمثاله ومواعظه واح ذر أن تق ع من إقامت ك حروف ه في إض اعة‬
‫حدوده)(‪)1‬‬
‫وذك ر بعض الحكم اء المش اهد ال تي يعيش ها ويت ذوقها من وص ل إلى تل ك‬
‫المرحلة من التفاعل مع القرآن الك ريم‪ ،‬فق ال‪( :‬إذا ج اوز الق ارئ ح ّد االلتف ات إلى‬
‫نفسه ولم يشاهد إاّل هللا في قراءته انكشف ل ه الملك وت بحس ب أحوال ه‪ ،‬فحيث يتل و‬
‫آيات الرجاء ويغلب على حاله االستبشار ينكشف ل ه ص ورة الجنّ ة فيش اهدها كأنّ ه‬
‫يراها عيانا‪ ،‬وإن غلب عليه الخوف كوشف بالنّار حتّى يرى أن واع ع ذابها‪ ،‬وذل ك‬
‫ألن كالم هللا يش تمل على الس هل اللّطي ف والش ديد العس وف والمرج ّو والمخ وف‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وذلك بحسب أوصافه‪ ،‬إذ منها الرّحمة واللطف واالنتقام والبطش‪ ،‬فبحسب مش اهدة‬
‫الكلمات والصفات ينقلب القلب في اختالف الحاالت وبحسب ك ّل حال ة منه ا يس تع ّد‬
‫للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة ويقاربها‪ ،‬إذ يستحيل أن يكون حال المستمع واحدا‬
‫والمس موع مختل ف إذ في ه كالم راض‪ ،‬وكالم غض بان وكالم منعم‪ ،‬وكالم منتقم‪،‬‬
‫وكالم جبّار متكبّر ال يبالي وكالم حنّان متعطّف ال يهمل) (‪)2‬‬
‫ولذلك كان القرآن الكريم أعظم دواء نفسي‪ ،‬ولكل العلل‪ ،‬وهو م ا يش ير إلي ه‬
‫ذلك الدعاء الذي أخبر رسول هللا ‪ ‬أنه يزيل الهم والحزن‪ ،‬فقال‪(:‬ما أص اب عب دا‬
‫قطّ ه ّم وال حزن‪ ،‬فقال‪ :‬الله ّم إنّي عبدك ابن عبدك ابن أمتك‪ ،‬ناصيتي بي دك‪ ،‬م اض‬
‫ف ّي حكمك عدل ف ّي قضاؤك‪ ،‬أسألك بك ّل اسم هو لك‪ ،‬س ّميت به نفسك‪ ،‬أو أنزلته في‬
‫كتابك‪ ،‬أو علّمت ه أح دا من خلق ك‪ ،‬أو اس تأثرت ب ه في علم الغيب عن دك أن تجع ل‬
‫القرآن ربيع قلبي‪ ،‬ون ور ص دري‪ ،‬وجالء ح زني‪ ،‬وذه اب ه ّمي وغ ّمي‪ ،‬إاّل أذهب‬
‫مهن؟ ق ال‪( :‬بلى‬‫هللا ه ّمه وغ ّمه‪ ،‬وأبدله مكانه فرح ا)‪ ،‬ق الوا‪ :‬ي ا رس ول هللا أفال نتعلّ ّ‬
‫سمعهن أن يتعلّ ّ‬
‫مهن) (‪)3‬‬ ‫ّ‬ ‫ينبغي لمن‬
‫وكمثال على ذلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ يق رب ل ك ذل ك قراءت ك لس ورة‬
‫الضحى‪ ،‬وهي السورة التي يخ اطب هللا تع الى فيه ا رس وله ‪ ،‬وه و يواج ه الفتن‬
‫بجميع أنواعها‪ ،‬ي دعوه إلى البش ارة واألم ل‪ ،‬ذل ك أن ه ال يمكن أن يواج ه ك ل تل ك‬
‫التحديات بصدر منقبض‪ ،‬ونفس يائسة‪ ،‬وقلب ضيق‪.‬‬
‫ف إذا استش عرت أن ذل ك الخط اب موج ه لرس ول هللا ‪ ،‬وفي ظ ل تل ك‬
‫الظروف التي مر بها‪ ،‬سيكون مختلفا تماما عن شعورك ب أن الخط اب موج ه ل ك‪،‬‬
‫وفي أي ظرف تمر به‪..‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك َربُّكَ َو َم ا قلى﴾(الض حى‪،)3:‬‬ ‫فتستشعر عند قراءتك لقوله تع الى‪َ ﴿:‬م ا َو َّد َع َ‬
‫معية هللا وحضوره الدائم مع عباده‪ ،‬فهو لم يتركهم‪ ،‬ولم يهج رهم‪ ،‬ولم ي ودعهم ولم‬
‫‪ )(1‬مصباح الشريعة ص ‪ 13‬و‪.14‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)288 /1‬‬
‫‪ )(3‬أحمد (‪ )712‬وابن حبان (‪ )2372‬والحاكم (‪)509 /1‬‬
‫‪187‬‬
‫يقلهم‪ ،‬بل هو معهم يكلؤهم ويرعاهم ويداوي جراحهم‪ ..‬وهذا هو العالج األول لك ل‬
‫كرب وألم وحزن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أْل‬
‫الى‪﴿:‬ولَ ِخ َرةُ خَ ْي ٌر لَ كَ ِمنَ ا ولَى ﴾‬ ‫آْل‬ ‫َ‬ ‫وهك ذا تستش عر عن د قراءت ك لقول ه تع‬
‫(الضحى‪ )4:‬المستقبل الجميل الذي ينتظر كل إنسان استظل بظل هللا‪ ،‬فاآلخرة خير‬
‫في جمالها وسعادتها ودوامها‪ ،‬فال يحزن على المستقبل‪ ،‬كما ال يندم على الماض ي‪،‬‬
‫من راح في صحبة هللا يبني الدار اآلخرة ويشيد قصورها‪ ..‬وهذا وحده يقضي على‬
‫كل داء‪ ،‬ويحل كل عافية‪.‬‬
‫ض ى﴾‬ ‫ك َربُّكَ فَتَرْ َ‬ ‫الى‪﴿:‬ولَ َس وْ فَ يُ ْع ِطي َ‬‫َ‬ ‫وهكذا تستشعر عن د قراءت ك لقول ه تع‬
‫(الضحى‪ )5:‬أن عالج العلل ال يقتصر على ذكر اآلخرة‪ ،‬فاهلل رب ال دنيا واآلخ رة‪،‬‬
‫وعطاؤه عاجل وآجل‪ ،‬نقد ونسيئة‪ ،‬فلذلك يقول هللا تعالى للمت ألم‪ ،‬وه و يغ رس في ه‬
‫زهور األمل‪(:‬سيعطيك ربك عطاء يرضيك‪ ،‬وي زرع البس مة في وج دانك‪ ،‬ويمح و‬
‫ك ل اآلالم ال تي غرس ها الي أس والح زن في جوانح ك‪ ..‬فاهلل تع الى بج وده ال ذي ال‬
‫يتناهى يجع ل أم دا للعط اء ه و الرض ى الكام ل‪ ،‬فاهلل ال يعطي ك فق ط‪ ،‬ب ل يعطي ك‬
‫ليرضيك‪ ،‬وفرق كبير بين من يعطي‪ ،‬ومن يرضي)‬
‫ضااّل ً‬‫آوى َو َو َجدَكَ َ‬ ‫وهكذا تستشعر عند قراءتك لقوله تعالى‪﴿:‬أَلَ ْم يَ ِج ْدكَ يَتِيما ً فَ َ‬
‫ك عَائِالً فَأ َ ْغنَى﴾ (الضحى‪ 6:‬ـ ‪ )8‬أنواع ا كث يرة من المش اعر الجميل ة؛‬ ‫فَهَدَى َو َو َج َد َ‬
‫فهي تغرس السكينة في النفس‪ ،‬والطمأنينة في الوجدان‪ ،‬وهي تبشر المتألم بأن الذي‬
‫رعاك سابقا لن يضيعك الحقا‪ ،‬والذي لم يعرف منه إال الجود يستحيل عليه البخل‪..‬‬
‫ولذلك كان الحديث عن النعم وتع دادها ترياق ا لآلالم ودواء لألح زان‪ ،‬وف رق كب ير‬
‫بين من يقول للفقير‪(:‬أنت فقير)‪ ،‬وبين من يقول له‪(:‬أنت غني) بك ل م ا تحمل ه ه ذه‬
‫الكلمة من معان‪.‬‬
‫وفرق كبير بين من يجعل المرض نوعا من أنواع الص حة‪ ،‬وبين من يجعل ه‬
‫مرتعا من مراتع األسف‪ ،‬وقد قال ‪ ‬وهو يعاملن ا كي ف نتعام ل م ع المرض ى‪(:‬إذا‬
‫دخلتم على المريض فنفسوا له في األج ل ف إن ذل ك ال ي رد ش يئا وه و يطيب بنفس‬
‫المريض)(‪)1‬‬
‫وفرق كبير بين من يصور الموت بصورة الشبح المخيف‪ ،‬وبين من يصوره‬
‫بصورة الحياة الجميلة السعيدة‪ ،‬بل يصور الموت بصورة الوهم الذي ال وجود له‪.‬‬
‫وهكذا تستشعر عند قراءتك لقوله تعالى‪﴿:‬فَأ َ َّما ْاليَتِي َم فَاَل تَ ْقهَرْ َوأَ َّما َّ‬
‫الس ائِ َل فَاَل‬
‫ِّث﴾ (الض حى‪ 9:‬ـ ‪ )11‬أن هللا تع الى وض ع بين ي ديك‬ ‫تَ ْنهَ رْ َوأَ َّما بِنِ ْع َم ِة َربِّ َ‬
‫ك فَ َح د ْ‬
‫أسواقا للتجارة الرابحة‪ ،‬تشغلك عن آالمك‪ ،‬وترسم الس عادة على ش فتيك‪ ،‬فال يرس م‬
‫السعادة مثل التبشير بالسعادة‪.‬‬
‫ومثل ذلك قراءتك لسورة الش رح‪ ،‬وق د روي عن بعض الص الحين‪ ،‬أن ه ألح‬
‫عليه الغم‪ ،‬وضيق الصدر‪ ،‬وتعذر األمور‪ ،‬حتى كاد يقنط‪ ،‬فكان يوم ا ً يمش ي‪ ،‬وه و‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪)2087‬‬
‫‪188‬‬
‫يقول‪:‬‬
‫على الذ ّل له أصلح‬ ‫أرى الموت لمن أمسى‬
‫فهتف به هاتف‪ ،‬يسمع صوته‪ ،‬وال يرى شخصه‪ ،‬أو أري في النوم كأن قائالً‬
‫يقول‪:‬‬
‫ر في ألم‬ ‫ففك‬ ‫إذا ض اقت ب ك‬
‫رح‬ ‫نش‬ ‫دنيا‬ ‫ال‬
‫م تى ت ذكرهما‬ ‫فعسر بين يس رين‬
‫رح‬ ‫تف‬
‫بيسرين فال ت برح‬ ‫ّ‬
‫فإن العسر مق رون‬
‫قال‪ :‬فواصلت قراءتها في صالتي‪ ،‬فشرح هللا صدري‪ ،‬وأزال همي وكربي‪،‬‬
‫وسهل أمري‪.‬‬
‫وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تقرأ القرآن الك ريم ألي ظ رف تم ر‬
‫به‪ ،‬وستشرى المشاعر الجميلة التي يسعدك هللا بها‪.‬‬
‫وسأذكر لك نموذجا لشخص عاش فترة طويلة في الس جن‪ ،‬ولم يكن ل ه أنيس‬
‫فيه إال القرآن الكريم‪ ،‬وقد أخبر عن مشاعره التي جعلته ينشغل عن السجن وآالمه‪،‬‬
‫في كتاب له قال في مقدمته‪( :‬الحياة في ظالل القرآن نعم ة‪ .‬نعم ة ال يعرفه ا إال من‬
‫ذاقها‪ .‬نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه) (‪)1‬‬
‫ثم ذكر تجربته مع القرآن الكريم‪ ،‬والمشاعر الجميل ة ال تي جعلت ه ينس ى أن ه‬
‫في غياهب السجن مع قائمة طويلة تصاحبه من األمراض‪ ،‬فق ال‪(:‬والحم د هلل‪ ..‬لق د‬
‫من علي بالحياة في ظالل القرآن ف ترة من الزم ان‪ ،‬ذقت فيه ا من نعمت ه م ا لم أذق‬ ‫َّ‬
‫قط في حياتي‪ ..‬ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه)‬
‫ثم ذكر السر في ذلك‪ ،‬وهو التعامل الصحيح مع القرآن الكريم‪ ،‬والذي ينطلق‬
‫من الحياة معه‪ ،‬واستماعه من هللا مباشرة‪ ،‬فقال‪(:‬لقد عشت أسمع هللا سبحانه يتحدث‬
‫إلي بهذا القرآن‪ ..‬أنا العبد القليل الصغير‪ ..‬أي تك ريم لإلنس ان ه ذا التك ريم العل وي‬
‫الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على اإلنس ان‬
‫خالقه الكريم؟)‬
‫ومن هذا المنطلق المليء بالكرامة والعزة‪ ،‬نظر من علو إلى األرض‪( ،‬وإلى‬
‫اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة‪ ..‬أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من‬
‫معرفة األطفال‪ ،‬وتصورات األطفال‪ ،‬واهتمامات األطف ال‪ ..‬كم ا ينظ ر الكب ير إلى‬
‫عبث األطف ال‪ ،‬ومح اوالت األطف ال‪ .‬ولثغ ة األطف ال‪ ..‬وأعجب‪ ..‬م ا ب ال ه ؤالء‬
‫الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة‪ ،‬وال يس معون الن داء العل وي الجلي ل‪.‬‬
‫النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟)‬
‫ثم ذكر في مقابل ذلك المعاني الجميلة التي يجدها في الق رآن الك ريم‪ ،‬وال تي‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.1/10 :‬‬


‫‪189‬‬
‫ال يمكن أن يقارن بها شيء من الفلس فات واألفك ار؛ فق ال‪( :‬عش ت أتملى في ظالل‬
‫القرآن ذلك التصور الكام ل الش امل الرفي ع النظي ف للوج ود‪ ..‬لغاي ة الوج ود كل ه‪،‬‬
‫وغاية الوجود اإلنساني‪ ..‬وأقيس إليه تصورات الجاهلية ال تي تعيش فيه ا البش رية‪،‬‬
‫في شرق وغرب‪ ،‬وفي شمال وجنوب‪ ..‬وأسأل‪ ..‬كيف تعيش البش رية في المس تنقع‬
‫اآلسن‪ ،‬وفي الدرك الهابط‪ ،‬وفي الظالم البهيم وعن دها ذل ك المرت ع ال زكي‪ ،‬وذل ك‬
‫المرتقى العالي‪ ،‬وذلك النور الوضيء؟)‬
‫وذكر بعض أسرار تلك اللذة التي يجدها القارئ للقرآن الكريم؛ فقال‪( :‬عشت‬
‫في ظالل القرآن أرى الوجود أكبر بكث ير من ظ اهره المش هود‪ ..‬أك بر في حقيقت ه‪،‬‬
‫وأكبر في تعدد جوانبه‪ ..‬إنه عالم الغيب والشهادة ال عالم الشهادة وحده‪ .‬وإن ه ال دنيا‬
‫واآلخ رة‪ ،‬ال ه ذه ال دنيا وح دها‪ ..‬والنش أة اإلنس انية ممت دة في ش عاب ه ذا الم دى‬
‫المتطاول‪ ..‬كله إنما هو قسط من ذلك النصيب‪ .‬وما يفوت ه هن ا من الج زاء ال يفوت ه‬
‫هناك‪ .‬فال ظلم وال بخس وال ضياع‪ .‬على أن المرحلة التي يقطعه ا على ظه ر ه ذا‬
‫الكوكب إنما هي رحلة في كون حي م أنوس‪ ،‬وع الم ص ديق ودود‪ .‬ك ون ذي روح‬
‫تتلقى وتس تجيب‪ ،‬وتتج ه إلى الخ الق الواح د ال ذي تتج ه إلي ه روح الم ؤمن في‬
‫خشوع‪ ..‬أي راحة‪ ،‬وأي سعة وأي أنس‪ ،‬وأي ثقة يفيضها على القلب ه ذا التص ور‬
‫الشامل الكامل الفسيح الصحيح)‬
‫وهكذا راح يذكر الكثير من المعاني ال تي وج دها في الق رآن الك ريم‪ ،‬وال تي‬
‫مألته بالراحة والطمأنينة والسكينة‪ ،‬وه و في س جنه‪ ،‬ينتظ ر في أي لحظ ة أن ينف ذ‬
‫فيه حكم اإلعدام‪ ،‬وقد ق ال في خاتم ة تل ك المش اهد ال تي أنس به ا في ص حبة كالم‬
‫ربه‪( :‬أي طمأنينة ينشئها ه ذا التص ور؟ وأي س كينة يفيض ها على القلب؟ وأي ثق ة‬
‫في الحق والخ ير والص الح؟ وأي ق وة واس تعالء على الواق ع الص غير يس كبها في‬
‫الضمير؟)‬
‫وهك ذا ك ل من ص حب الق رآن الك ريم بص دق وإخالص؛ فإن ه س يرى من‬
‫المشاهد‪ ،‬ويعيش من المعاني ما يجعل ه يعيش ربيع ا دائم ا ال خري ف بع ده‪ ،‬ون ورا‬
‫دائما ال ظالم معه‪.‬‬
‫تفعيل القرآن‪:‬‬
‫تلك هي مرتبة االنفعال ـ أيه ا المري د الص ادق ـ وال تي تفيض عنه ا مرتب ة‬
‫التفعيل‪ ،‬وبقدر االنفعال يكون التفعيل‪ ..‬ذلك أن االنفعال هو المح رك ال ذي تتح رك‬
‫على أساس ه اإلرادة الناف ذة والعزيم ة الص ادقة‪ ..‬ف إذا ك ان المح رك قوي ا‪ ،‬ك انت‬
‫الحركة الناتجة عنه قوية دائمة مؤثرة‪.‬‬
‫وقد روي عن بعض القرّاء أنه قال‪( :‬ق رأت الق رآن على ش يخ لي ث ّم رجعت‬
‫ألقرأ ثانيا‪ ،‬ف انتهرني‪ ،‬وق ال‪ :‬جعلت الق راءة عل ّي عمال اذهب؛ ف اقرأ على هللا ع ّز‬
‫وجلّ‪ ،‬فانظر بما ذا يأمرك وع ّما ذا ينهاك وماذا يفهمك)‬

‫‪190‬‬
‫وروي أن هللا تعالى أوحى إلى بعض أنبيائ ه بقول ه‪( :‬ي ا عب دي أ ّم ا تس تحيي‬
‫منّي يأتي ك كت اب من بعض إخوان ك وأنت في الطري ق تمش ي فتع دل عن الطري ق‬
‫وتقعد ألجله وتقرأه وتتدبّره حرفا حرفا حتّى ال يفوتك منه شيء‪ ،‬وهذا كتابي أنزلته‬
‫إلي ك انظ ر كم وص لت ل ك في ه من الق ول؟ وكم ك رّرت علي ك في ه لتتأ ّم ل طول ه‬
‫وعرضه؟ ث ّم أنت معرض عنه‪ ،‬أ فكنت أه ون علي ك من بعض إخوان ك ي ا عب دي‪،‬‬
‫يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بك ّل وجهك وتصغي إلى حديثه بك ّل قلب ك‪ ،‬ف إن‬
‫ف وه ا أن ا ذا مقب ل علي ك‬ ‫تكلّم متكلّم أو شغلك شاغل عن حديث ه أوم أت إلي ه أن ك ّ‬
‫ومح ّدث لك وأنت معرض بقلبك عنّي‪ ،‬فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك) (‪)1‬‬
‫ولهذا ورد الذم الشديد للذين يق رؤون الكت اب بألس نتهم‪ ،‬ويخالفون ه بأفع الهم‪،‬‬
‫وق د ض رب هللا تع الى لهم المث ل ب الحمير ال تي تحم ل الكتب من غ ير أن تع رف‬
‫ار يَحْ ِم ُل‬ ‫معانيها‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬مثَ ُل الَّ ِذينَ ُح ِّملُ وا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَ ا َك َمثَ ِل ْال ِح َم ِ‬
‫ت هللا َوهللا الَ يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ [الجمعة‪:‬‬ ‫س َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَا ِ‬ ‫أَ ْسفَارًا بِ ْئ َ‬
‫‪]5‬‬
‫﴿وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَا ْن َس لَخَ ِم ْنهَ ا‬ ‫ومثل ذلك شبهه بالكلب‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫اوينَ (‪َ )175‬ولَ وْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَ اهُ بِهَ ا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى‬ ‫الش ْيطَانُ فَ َك انَ ِمنَ ْال َغ ِ‬ ‫فَأ َ ْتبَ َع هُ َّ‬
‫ث َذلِكَ َمثَ ُل‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْكهُ يَ ْلهَ ْ‬ ‫ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ‬
‫ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [األع راف‪،175 :‬‬ ‫ص َ‬ ‫ص ْالقَ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ْالقَ وْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَ ا فَا ْق ُ‬
‫‪]176‬‬
‫ولهذا نجد اآلي ات الكث يرة ال تي تنص على وج وب اتب اع الق رآن الك ريم‪ ،‬ال‬
‫ك‬ ‫وح َي إِلَ ْيكَ ِم ْن َربِّ َ‬ ‫مجرد االكتفاء بتالوته‪ ،‬قال تعالى مخاطبا رسوله ‪﴿ :‬اتَّبِ ْع َما أُ ِ‬
‫﴿واتَّبِ ْع َم ا يُ و َحى‬ ‫اَل إِلَهَ إِاَّل هُ َو َوأَ ْع ِرضْ َع ِن ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [األنع ام‪ ،]106 :‬وق ال‪َ :‬‬
‫ك َواصْ بِرْ َحتَّى يَحْ ُك َم هللا َوهُ َو َخ ْي ُر ْال َحا ِك ِمينَ ﴾ [يونس‪]109 :‬‬ ‫إِلَ ْي َ‬
‫وقال مخاطبا المؤمنين‪﴿ :‬اتَّبِعُوا َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن َربِّ ُك ْم َواَل تَتَّبِ ُع وا ِم ْن دُونِ ِه‬
‫أَوْ لِيَا َء قَلِياًل َما تَ َذ َّكرُونَ ﴾ [األعراف‪]3 :‬‬
‫﴿وإِ َذا‬ ‫وذم الذين يتركون كتابهم‪ ،‬ويتبعون سلفهم أو خلفهم أو أهواءهم‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫يل لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَ ْن َز َل هللا قَالُوا بَلْ نَتَّبِ ُع َم ا أَ ْلفَ ْينَ ا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَ ا أَ َولَ وْ َك انَ آبَ ا ُؤهُ ْم اَل‬ ‫قِ َ‬
‫زَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يَ ْعقِلونَ ش ْيئا َو يَ ْهتدونَ ﴾ [البقرة‪ ،]170 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬وإِذا قِي َل لهُ ُم اتبِ ُع وا َم ا أن َل هللا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اَل‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ير﴾‬ ‫الس ِع ِ‬ ‫ب َّ‬ ‫الش ْيطَانُ يَ ْدعُوهُ ْم إِلَى َع َذا ِ‬ ‫قَالُوا بَلْ نَتَّبِ ُع َما َو َج ْدنَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا أَ َولَوْ َك انَ َّ‬
‫[لقمان‪]21 :‬‬
‫﴿وأَ ِن احْ ُكم بَ ْينَهُم بِ َم ا أَن َز َل هللاُ َوالَ‬ ‫وهكذا ورد األمر بالحكم به‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ْض َما أَنزَ َل هللاُ إِل ْيكَ فإِن ت ََولوْ ا ف اعل ْم أن َم ا‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك عَن بَع ِ‬ ‫تَتَّبِ ْع أَ ْه َواءهُ ْم َواحْ َذرْ هُ ْم أَن يَ ْفتِنُو َ‬
‫اس قُونَ ﴿‪ ﴾49‬أَفَ ُح ْك َم‬ ‫اس لَفَ ِ‬‫ْض ُذنُ وبِ ِه ْم َوإِ َّن َكثِ يراً ِّمنَ النَّ ِ‬ ‫ُص يبَهُم بِبَع ِ‬ ‫ي ُِري ُد هللاُ أَن ي ِ‬
‫ْال َجا ِهلِيَّ ِة يَ ْب ُغونَ َو َم ْن أَحْ َسنُ ِمنَ هللاِ ُح ْكما ً لِّقَوْ ٍم يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة‪]50 - 49:‬‬

‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪219 :‬‬


‫‪191‬‬
‫﴿و َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َم ا أَن َز َل‬ ‫واعتبر من لم يحكم به كافرا وظالما وفاسقا‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫ك هُ ُم‬ ‫ُ‬
‫﴿و َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أنزَ َل هللاُ فَأوْ لَئِ َ‬ ‫هللاُ فَأُوْ لَئِكَ هُ ُم ْال َكافِرُونَ ﴾ [المائدة‪ ،]44‬وقال‪َ :‬‬
‫اس قُونَ ﴾‬ ‫ك هُ ُم ْالفَ ِ‬ ‫الظَّالِ ُمونَ ﴾ [المائ دة‪ ،]45‬وق ال‪َ ﴿ :‬و َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َم ا أَن زَ َل هللاُ فَأُوْ لَئِ َ‬
‫[المائدة‪]47‬‬
‫اختَلَفتُ ْم فِي ِه ِمن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ‬ ‫ْ‬ ‫وهكذا ورد األمر بالتحاكم إليه‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما ْ‬
‫ول إِن‬ ‫َّس ِ‬ ‫إِلَى هللا﴾ [الشورى‪ ،]10‬وقال‪﴿ :‬فَإِن تَنَ ازَ ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فَ ُر ُّدوهُ إِلَى هللاِ َوالر ُ‬
‫ك خَ ْي ٌر َوأَحْ َسنُ تَأْ ِويالً﴾ [النس اء‪ ،]59‬وق ال‪﴿ :‬إِنَّ َم ا‬ ‫ُكنتُ ْم تُ ْؤ ِمنُونَ بِاهللِ َو ْاليَوْ ِم اآل ِخ ِر َذلِ َ‬
‫َكانَ قَوْ َل ْال ُم ْؤ ِمنِينَ إِ َذا ُدعُوا إِلَى هللا َو َر ُس ولِ ِه لِيَحْ ُك َم بَ ْينَهُ ْم أَن يَقُولُ وا َس ِم ْعنَا َوأَطَ ْعنَ ا‬
‫ك هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ [النور‪]51‬‬ ‫َوأُوْ لَئِ َ‬
‫واعتبر من لم يتح اكم إلي ه متحاكم ا إلى الط اغوت وأه واء الجاهلي ة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫﴿أَفَ ُح ْك َم ْال َجا ِهلِيَّ ِة يَ ْب ُغونَ َو َم ْن أَحْ َسنُ ِمنَ هللاِ ُح ْكما ً لِّقَوْ ٍم يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة‪ ،]50:‬وق ال‪:‬‬
‫نز َل إِلَ ْيكَ َو َما أُن ِز َل ِمن قَ ْبلِ كَ ي ُِري ُدونَ أَن‬ ‫ُ‬ ‫﴿أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذينَ يَ ْز ُع ُمونَ أَنَّهُ ْم آ َمنُ ْ‬
‫وا بِ َما أ ِ‬
‫ض الَالً‬ ‫ُض لَّهُ ْم َ‬ ‫ُوا بِ ِه َوي ُِري ُد ال َّش ْيطَانُ أَن ي ِ‬ ‫ُوا أَن يَ ْكفُر ْ‬‫ت َوقَ ْد أُ ِمر ْ‬ ‫وا إِلَى الطَّا ُغو ِ‬ ‫يَت ََحا َك ُم ْ‬
‫ق ِّم ْنهُم‬ ‫﴿وإِ َذا ُد ُع وا إِلَى هللا َو َر ُس ولِ ِه لِيَحْ ُك َم بَ ْينَهُ ْم إِ َذا فَ ِري ٌ‬ ‫بَ ِعيداً﴾ [النساء‪ ،]60‬وق ال‪َ :‬‬
‫ق يَأتُوا إِلَ ْي ِه ُم ْذ ِعنِينَ ﴿‪ ﴾49‬أَفِي قُلُ وبِ ِهم َّم َرضٌ أَ ِم‬ ‫ْ‬ ‫ْرضُونَ ﴿‪َ ﴾48‬وإِن يَ ُكن لَّهُ ُم ْال َح ُّ‬ ‫ُّمع ِ‬
‫ُ‬
‫ارْ تَابُوا أَ ْم يَخَافُونَ أَن يَ ِحيفَ هللا َعلَ ْي ِه ْم َو َرسُولُهُ بَلْ أوْ لَئِكَ هُ ُم الظَّالِ ُمونَ ﴾ [النور‪- 48‬‬
‫‪]50‬‬
‫ولهذا ورد في الحديث عن بعض أصحاب رسول هللا ‪ ‬قال‪ :‬كن ا م ع الن بي‬
‫‪ ‬فشخص ببصره إلى السماء‪ ،‬ثم قال‪( :‬هذا أوان يختلس العلم من الن اس ح تى ال‬
‫يقدروا منه على شيء)‪ .‬فقال زياد بن لبيد األنصاري‪ :‬كيف يختلس من ا‪ ،‬وق د قرأن ا‬
‫القرآن؟ وهللا‪ ،‬لنقرأنه‪ ،‬ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا؟ قال‪( :‬ثكلتك أمك ي ا زي اد‪ ،‬إن كنت‬
‫ألعدك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة واإلنجي ل عن د اليه ود والنص ارى فم اذا‬
‫تغني عنهم؟)(‪)1‬‬
‫﴿و ِم ْنهُ ْم أُ ِّميُّونَ الَ يَ ْعلَ ُم ونَ‬ ‫وهو م ا يش ير إلي ه قول ه تع الى عن أه ل الكت اب‪َ :‬‬
‫ي َوإِ ْن هُ ْم إِالَّ يَظُنُّونَ ﴾ [البقرة‪ ،]78 :‬وقد ذكر المفس رون أن األم اني‬ ‫َاب إِالَّ أَ َمانِ َّ‬
‫ْال ِكت َ‬
‫تعني التالوة‪ ..‬أي أنهم يكتفون بتالوته دون أن يتحول إلى واقع حي يعيشونه‪.‬‬
‫وهكذا ذم رسول هللا ‪ ‬أولئ ك ال ذين يق رؤون الق رآن ال يج اوز حن اجرهم‪،‬‬
‫فقال‪( :‬يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرأون القرآن ال يجاوز حناجرهم‪،‬‬
‫يمرق ون من االس الم كم ا يم رق الس هم من الرمي ة س يماهم التحلي ق ال يزال ون‬
‫يخرجون حتى يخرج آخرهم م ع المس يح ال دجال ف إذا لقيتم وهم ف اقتلوهم‪ ،‬هم ش ر‬
‫الخلق والخليفة) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر ق ال ‪( :‬يخ رج ق وم أح داء أش داء ذليق ة ألس نتهم ب القرآن‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪)2653( ،)31/ 5( ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي والطبراني في الكبير والحاكم‪.‬‬
‫‪192‬‬
‫يقرأون ه ينثرون ه ن ثر ال دقل ال يج اوز ت راقيهم ف إذا رأيتم وهم ف ائتوهم ف اقتلوهم‬
‫فالمأجور من قتل هؤالء) (‪)1‬‬
‫وأم ر رس ول هللا ‪ ‬بقتلهم‪ ،‬ي دل على أنهم بس بب مخ الفتهم للعم ل ب القرآن‬
‫الذي يدعو إلى السالم والرحم ة والتع ايش‪ ،‬س يتحولون إلى أه ل عن ف وإره اب‪..‬‬
‫ول ذلك أم ر بقتلهم‪ ،‬وه و م ا دل علي ه الواق ع؛ فاإلره اب ال ذي دم ر المجتمع ات‬
‫اإلس المية نش أ من أولئ ك ال ذين يقيم ون ح روف الق رآن‪ ،‬لكنهم يخرب ون معاني ه‪،‬‬
‫ويشوهونها أعظم تشويه‪.‬‬
‫وقد ذكر اإلمام الباقر أصناف القراء‪ ،‬وصفاتهم‪ ،‬وعالقة ذلك بتفعي ل الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬فقال‪( :‬ق رّاء الق رآن ثالث ة‪ :‬رج ل ق رأ الق رآن فاتّخ ذه بض اعة واس تد ّر ب ه‬
‫الملوك‪ ،‬واستطال به على الناس‪ ،‬ورجل قرأ الق رآن فحف ظ حروف ه وض يّع ح دوده‬
‫وأقامه إقامة القدح‪ ،‬فال كثّر هللا هؤالء من حملة القرآن‪ ،‬ورجل ق رأ الق رآن فوض ع‬
‫دواء القرآن على داء قلب ه‪ ،‬فأس هر ب ه ليل ه وأظم أ ب ه نه اره وق ام ب ه في مس اجده‬
‫وتجافى به عن فراشه‪ ،‬فبأولئك يدفع هللا العزيز الجبّار الباليا‪ ،‬وبأولئك يديل هللا من‬
‫األعداء‪ ،‬وبأولئك ين ّزل هللا الغيث من السماء‪ ،‬ف و هللا له ؤالء في ق رّاء الق رآن أع ّز‬
‫من الكبريت األحمر)(‪)2‬‬
‫(إن من الن اس من يق رأ الق رآن ليق ال‪ :‬فالن ق ارئ‪،‬‬ ‫وق ال اإلم ام الص ادق‪ّ :‬‬
‫ومنهم من يقرأ الق رآن ليطلب ب ه ال دنيا وال خ ير في ذل ك‪ ،‬ومنهم من يق رأ الق رآن‬
‫لينتفع به في صالته وليله ونهاره)(‪)3‬‬
‫وذكر ابن مسعود أخالق قراء القرآن المتف اعلين مع ه‪ ،‬فق ال‪( :‬ينبغي لحام ل‬
‫القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون‪ ،‬وبنه اره إذا الن اس يفرط ون‪ ،‬وبحزن ه إذا‬
‫الن اس يفرح ون‪ ،‬وببكائ ه إذا النّ اس يض حكون‪ ،‬وبص مته إذا الن اس يخوض ون‪،‬‬
‫وبخش وعه إذا الن اس يخت الون‪ ،‬وينبغي لحام ل الق رآن أن يك ون مس تكينا ليّن ا وال‬
‫ينبغي أن يكون جافيا وال مماريا وال صيّاحا وال ص ّخابا وال حديدا)‬
‫وإن العب د‬ ‫(إن العبد ليفتتح سورة فتصلّي علي ه حتّى يف رغ منه ا ّ‬ ‫و قال آخر‪ّ :‬‬
‫ليفتتح سورة فتلعنه حتّى يفرغ منها‪ ،‬فقيل‪ :‬كيف ذلك؟ ق ال‪ :‬إذا أح ّل حالله ا وح رّم‬
‫حرامها صلّت عليه وإاّل لعنته)‬
‫(إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو ال يعلم يق رأ (أَال لَ ْعنَ ةُ هللا‬‫و قال آخر‪ّ :‬‬
‫َعلَى الظَّالِ ِمينَ ) وهو ظالم نفسه‪( ،‬أال لعنة هللا على الكاذبين) وهو منهم)‬
‫وقبل ذلك كله أخبر رسول هللا ‪ ‬عن الفتنة التي تقع فيه ا ه ذه األم ة بس بب‬
‫اهتمامها بالقراءة‪ ،‬وغفلتها عن االنفعال والتفعي ل‪ ،‬فق ال‪( :‬أك ثر من افقي ه ذه اال ّم ة‬
‫قرّاؤها)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬رواه احمد والبخاري والطبراني في الكبير‪ ،‬والبيهقي‪.‬‬


‫‪ )(2‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.627‬‬
‫‪ )(3‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.609‬‬
‫‪ )(4‬أحمد ج ‪ 4‬ص ‪ 151‬و‪.155‬‬
‫‪193‬‬
‫بل نهى ‪ ‬ص فة الق راءة على المقتص ر عليه ا دون الت أثر والعم ل‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(اقرإ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرؤه)(‪)1‬‬
‫ب ل نفى عن ه اإليم ان ب القرآن الك ريم‪ ،‬فق ال‪( :‬م ا آمن ب القرآن من اس تح ّل‬
‫محارمه)(‪)2‬‬
‫ولهذا كان القرآن الكريم هو الحصن الذي يحتمي ب ه الم ؤمن لمواجه ة الفتن‬
‫والش بهات ال تي تح ول اإلس الم من دين إلهي ممتلئ ب القيم النبيل ة إلى دين بش ري‬
‫ممتلئ باألهواء والخرافات والصراع‪.‬‬
‫وق د ذك ر اإلم ام علي ال دور العظيم ال ذي يق وم ب ه الق رآن الك ريم في حف ظ‬
‫سالمة الدين‪ ،‬والذي ينتج عنه التطبيق السليم له‪ ،‬فقال‪( :‬واعلموا أن هذا القرآن ه و‬
‫الناصح الذي ال يغش‪ ،‬والهادي الذي ال يضل‪ ،‬والمحدث الذي ال يكذب‪ ،‬وما جالس‬
‫هذا القرآن أحد إال قام عنه بزيادة أو نقصان‪ :‬زيادة في هدى‪ ،‬أو نقصان من عمى‪..‬‬
‫واعلموا أنه ليس على أح د بع د الق رآن من فاق ة‪ ،‬وال الح د قب ل الق رآن من غ نى‪،‬‬
‫فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على الوائكم‪ ،‬فان فيه شفاء من أكبر الداء‪ ،‬وه و‬
‫الكفر والنفاق والغي والضالل‪ ،‬فاسألوا هللا ب ه‪ ،‬وتوجه وا إلي ه بحب ه وال تس ألوا ب ه‬
‫خلقه‪ ،‬إنه ما توجه العباد إلى هللا بمثله‪ ..‬واعلموا أن ه ش افع مش فع‪ ،‬وقائ ل مص دق‪،‬‬
‫وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه‪ ،‬ومن محل به القرآن يوم القيامة ص دق‬
‫عليه‪ ،‬فانه ينادي مناد يوم القيامة‪ :‬أال إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقب ة عمل ه‪،‬‬
‫غير حرثة القرآن‪ ،‬فكونوا من حرئت ه وأتباع ه‪ ،‬واس تدلوه على ربكم‪ ،‬واستنص حوه‬
‫على أنفسكم‪ ،‬واتهموا عليه آراء كم‪ ،‬واستعشوا فيه أهواءكم) (‪)3‬‬

‫وفي حديث آخر عنه‪ ،‬أنه جاءه بعض أصحابه‪ ،‬فقال‪ :‬يا أميرالمؤمنين إن ا إذا‬
‫كنا عندك س معنا ال ذي نس دبه دينن ا‪ ،‬وإذا خرجن ا من عن دك س معنا أش ياء مختلف ة‬
‫مغموسة‪ ،‬ال ندري ماهي؟ فقال‪ :‬أو قد فعلوها؟ فقيل‪ :‬نعم‪ ،‬فق ال‪ :‬س معت رس ول هللا‬
‫‪ ‬يقول‪( :‬أتانى جبرئيل فقال‪ :‬يا محمد سيكون في أمت ك فتن ة‪ ،‬قلت‪ :‬فم ا المخ رج‬
‫منها؟ فقال كتاب هللا فيه بي ان م ا قبلكم من خ ير وخ بر م ا بع دكم‪ ،‬وحكم م ا بينكم‪،‬‬
‫وهو الفصل ليس بالهزل‪ ،‬من ولي ه من جب ار فعم ل بغ يره قص مه هللا‪ ،‬ومن التمس‬
‫الهدى في غيره أضله هللا‪ ،‬وهو حبل هللا المتين‪ ،‬وهو الذكر الحكيم‪ ،‬وه و الص راط‬
‫المس تقيم‪ ،‬ال تزيف ه االه واء وال تلبس ه األلس نة‪ ،‬وال يخل ق عن ال رد‪ ،‬وال تنقض ي‬
‫عجائبه‪ ،‬وال يشبع منه العلماء هو الذي لم تكنه الجن إذ سمعه‪ ،‬أن قالوا‪﴿ :‬إِنَّا َس ِم ْعنَا‬
‫قُرْ آنًا ع ََجبًا يَ ْه ِدي إِلَى الرُّ ْش ِد﴾ [الجن‪ ،]2 ،1 :‬من قال به صدق‪ ،‬ومن عمل به أجر‪،‬‬
‫ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم‪ ،‬هو الكتاب العزيز‪ ،‬الذي ال يأتي ه الباط ل‬
‫من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (‪)4‬‬

‫‪ )(1‬الديلمي في مسند الفردوس‪.‬‬


‫‪ )(2‬الترمذي ج ‪ 11‬ص ‪.40‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة الرقم ‪.174‬‬
‫‪ )(4‬تفسير العياشى ج ‪ 1‬ص ‪.3‬‬
‫‪194‬‬
‫وكل هذا ي دلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ على أن الق رآن الك ريم‪ ،‬وإن ورد‬
‫الفض ل العظيم في تالوت ه‪ ،‬وتكراره ا‪ ،‬إال أن ذل ك ليس س وى مقدم ة لالنفع ال ب ه‬
‫وتفعيله‪ ،‬وإال فإن القراءة المجردة‪ ،‬والتي يخالفها العمل والسلوك ليست سوى نوع ا‬
‫من الكذب على النفس‪.‬‬
‫ولهذا يقترن التذكير بالقرآن الك ريم ب التقوى والص الح‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ َذ ِّكرْ‬
‫﴿وإِنَّهُ لَتَ ْذ ِك َرةٌ لِّ ْل ُمتَّقِينَ ﴿‪َ ﴾48‬وإِنَّهُ لَ َح ْس َرةٌ‬
‫بِ ْالقُرْ آ ِن َمن يَخَافُ َو ِعي ِد﴾ [ق‪ ،]45‬وق ال‪َ :‬‬
‫َعلَى ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [الحاقة‪]50 - 48‬‬
‫بخالف غ يرهم‪ ،‬وال ذين ال تفي دهم قراءت ه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ َم ا لَهُ ْم َع ِن‬
‫َّت ِمن قَس َْو َر ٍة﴾ [الم دثر‪- 49‬‬ ‫ضينَ ﴿‪َ ﴾49‬كأَنَّهُ ْم ُح ُم ٌر ُّم ْستَنفِ َرةٌ ﴿‪ ﴾50‬فَر ْ‬ ‫التَّ ْذ ِك َر ِة ُمع ِ‬
‫ْر ِ‬
‫ُوا َو َما يَ ِزي ُدهُ ْم إِالَّ نُفُ وراً﴾ [اإلس راء‬ ‫آن لِيَ َّذ َّكر ْ‬
‫ص َّر ْفنَا فِي هَ َذا ْالقُرْ ِ‬
‫﴿ولَقَ ْد َ‬
‫‪ ،]51‬وقال‪َ :‬‬
‫‪]41‬‬
‫هذا ج وابي على رس التك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف احرص على أن تنق ل‬
‫قراءت ك من لس انك إلى قلب ك‪ ،‬ومن قلب ك إلى جوارح ك‪ ،‬ح تى تغم ر كيان ك كل ه‪،‬‬
‫وتصبح قرآنا ناطقا‪ ،‬ال قرآنا صامتا‪.‬‬
‫وإياك أن يغرك الشيطان عن نفسك؛ فيص رفك عن الق راءة بس بب تقص يرك‬
‫في االنفعال والتفعيل؛ بل واصل القراءة‪ ،‬واجتهد فيها‪ ،‬واسأل هللا تعالى أن يرزق ك‬
‫معه ا ثماره ا الص الحة‪ ،‬ف إن علم هللا تع الى ج دك وص دقك وإخالص ك‪ ،‬وتألم ك‬
‫لتقصيرك‪ ،‬فسيرزقك العمل كما رزقك التالوة‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫الركوع والسجود‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن الرك وع والس جود‪ ،‬وس رهما‪،‬‬
‫وعالقة حركات الجسد المرتبطة بهما بالتزكية والترقية‪ ،‬وسر ما ورد قوله عندهما‬
‫من أذكار وأدعي ة‪ ،‬وه ل يمكن أن ي ؤتى بهم ا منفص لين عن الص الة‪ ،‬مثلم ا ي ؤتى‬
‫باألذكار واألدعية والتالوة؟‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هللا تعالى أخبر أن الركوع والس جود‬
‫من المدارس الروحية التي فرضها على الملل جميع ا‪ ،‬وذل ك م ا ي دل على كونهم ا‬
‫واألسرار التي يحمالنها من ضرورات التزكية والترقية‪.‬‬
‫والعاقل هو ال ذي ال يكتفي بأدائهم ا المج رد عن معرف ة المقاص د المرتبط ة‬
‫بهما‪ ،‬وإنما يسأل عن ذلك‪ ،‬ويبحث عنه‪ ،‬ويعلم أن هللا تعالى ما كلفه بذلك إال رحم ة‬
‫به‪ ،‬وتربية له‪.‬‬
‫وأول تلك المقاصد ـ أيها المريد الصادق ـ هي التسليم هلل‪ ..‬ف الراكع والس اجد‬
‫يقول لرب ه‪ :‬كم ا أن روحي ونفس ي وعقلي بين ي ديك‪ ..‬فمث ل ذل ك جس دي ه و بين‬
‫يديك‪ ..‬يتحرك كما طلبت‪ ،‬حتى ولو لم يكن م دركا لس ر الحرك ة؛ فيكفي ه أن تك ون‬
‫أنت الذي طلبت منه أن يفعلها‪.‬‬
‫وهذا ما يحمي العاقل من ذلك الشغب والجدل الذي يتوهم به المتعالمون على‬
‫هللا أن بإمكان عقولهم المحدودة أن تدرك الحقائق جميعا‪ ..‬وشتان بينهم وبين ذلك‪.‬‬
‫وثاني تلك المقاص د ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تعلم أن هللا تع الى برحمت ه‬
‫ولطفه بعباده أتاح لهم أن يصلحوا بواطنهم بحركات وأعم ال يؤدونه ا بج وارحهم‪،‬‬
‫ولذلك شرع من الحركات واألعمال المرتبطة بها م ا ييس ر على الب اطن الس ير في‬
‫طريق الصالح‪.‬‬
‫ومن ذلك ـ مثال ـ تشريعه لل دعاء رف ع الي دين‪ ،‬كم ا بين ذل ك رس ول هللا ‪‬‬
‫بقول ه‪( :‬س لوا هللا ببط ون أكفكم وال تس ألوه بظهوره ا ف إذا ف رغتم فامس حوا بهم ا‬
‫وجوهكم) (‪)1‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر ق ال ‪( :‬إن المس ألة أن ترف ع ي ديك ح ذو منكبي ك أو‬
‫نحوهما‪ ،‬واالستغفار أن تشير بإصبع واحدة‪ ،‬واالبتهال أن تمد يديك جميع ا‪ ،‬ورف ع‬
‫يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه) (‪)2‬‬
‫وقد روي فيما أوحي إلى موسى عليه السالم ما يدل على سر ذلك‪ ،‬فق د ج اء‬
‫في ه‪( :‬أل ق كفي ك ذال بين ي دي كفع ل العب د المستص رخ إلى س يده‪ ،‬ف اذا فعلت ذل ك‬
‫رحمت وأنا أكرم القادرين‪ ،‬يا موس ى س لني من فض لي ورحم تي‪ ،‬فانهم ا بي دي ال‬
‫يملكهما غيري‪ ،‬وانظر حين تسألني كيف رغبتك فيما عندي؟ لكل عامل جزاء وق د‬
‫‪ )(1‬أبو داود (‪ ،)1485‬وابن ماجه (‪)1181‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود (‪)1489‬‬
‫‪196‬‬
‫سعى) (‪)1‬‬ ‫يجزى الكفور بما‬
‫ومثل ذلك ما روي عن اإلمام علي‪ ،‬فقد سأله بعضهم‪ ،‬فقال‪ :‬أليس هللا في كل‬
‫مكان؟ قال‪ :‬بلى قال‪ :‬فلم يرفع العبد يدي ه إلى الس ماء‪ ،‬فق ال أم ا تق رأ ﴿ َوفِي َّ‬
‫الس َما ِء‬
‫ِر ْزقُ ُك ْم َو َم ا تُو َع ُدونَ ﴾ [ال ذاريات‪ ،]22 :‬فمن أين يطلب ال رزق إال من موض عه‪،‬‬
‫وموضع الرزق‪ ،‬وما وعد هللا عزوجل السماء) (‪)2‬‬
‫وبين رسول هللا ‪ ‬سرا آخ ر من أس رار ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬إن ربكم ح يي ك ريم‬
‫يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين)(‪)3‬‬
‫ومثل ذلك ما روي أن رجال كان يدعو بإصبعيه‪ ،‬فق ال ‪(:‬أح د أح د)‪ ،‬أي‪:‬‬
‫إذا أشار الرجل بإصبعيه في الدعاء عند الشهادة فال يشير إال بإصبع واحدة(‪.)4‬‬
‫وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تبحث في جميع الحركات ال تي ورد‬
‫الشرع بها في الشعائر التعبدية‪ ،‬وس ترى أن له ا من األس رار م ا يجعله ا ت ؤثر في‬
‫الباطن‪ ،‬وتصلحه‪ ،‬وإن كنا ال نعلم كل ما يرتبط بها من مقاصد وأسرار؛ فلذلك كان‬
‫التسليم هلل سيد المقاصد وسرها األعظم‪.‬‬
‫الركوع والتزكية‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الركوع من الش عائر التعبدي ة‬
‫التي أمر هللا تعالى بها في األديان جميعا‪ ،‬كما قال تعالى في خطاب ه لب ني إس رائيل‪:‬‬
‫صاَل ةَ َوآتُوا ال َّز َكاةَ َوارْ َكعُوا َم َع الرَّا ِك ِعينَ ﴾ [البقرة‪]43 :‬‬ ‫﴿ َوأَقِي ُموا ال َّ‬
‫اس ُج ِدي َوارْ َك ِعي َم َع‬
‫ك َو ْ‬‫وقال مخاطبا مريم عليها السالم‪﴿ :‬يَا َمرْ يَ ُم ا ْقنُتِي لِ َربِّ ِ‬
‫الرَّا ِك ِعينَ ﴾ [آل عمران‪]43 :‬‬
‫﴿وظَ َّن‬
‫وذكر ركوع داود عليه السالم عند إدراكه للفتنة ال تي فتن به ا‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫َاب﴾ [ص‪]24 :‬‬ ‫دَا ُوو ُد أَنَّ َما فَتَنَّاهُ فَا ْستَ ْغفَ َر َربَّهُ َو َخ َّر َرا ِكعًا َوأَن َ‬
‫وذكر أهل جهنم‪ ،‬وأن من أسباب دخ ولهم إليه ا ع دم رك وعهم‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوإِ َذا قِي َل لَهُ ُم ارْ َك ُع وا اَل يَرْ َك ُع ونَ (‪َ )48‬و ْي ٌل يَوْ َمئِ ٍذ لِ ْل ُم َك ِّذبِينَ ﴾ [المرس الت‪،48 :‬‬
‫‪]49‬‬
‫وذل ك م ا ي دل على أن للحرك ة المرتبط ة ب ه‪ ،‬وال تي ق د تختل ف ب اختالف‬
‫الشرائع ما يثير في الباطن معاني خاصة‪ ،‬ال تتم له من دون تلك الحركة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وق د أش ار إلى بعض ها م ا ورد في س بب ن زول قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِن ك ادُوا‬
‫ي َعلَ ْينَا َغ ْي َرهُ َوإِ ًذا اَل تَّخَ ُذوكَ خَ لِياًل ﴾ [اإلس راء‪:‬‬ ‫ك َع ِن الَّ ِذي أَوْ َح ْينَا إِلَ ْيكَ لِتَ ْفت َِر َ‬‫لَيَ ْفتِنُونَ َ‬
‫‪ ،]73‬فقد روي أنها نزلت في وفد ثقيف‪ ،‬حين قالوا لرسول هللا ‪ :‬نبايعك على أن‬
‫تعطينا ثالث خصال‪ ،‬ومن بينها‪ :‬ال ننحني في الصالة‪ ،‬يقصدون الركوع والسجود؛‬

‫‪ )(1‬عدة الداعى ص ‪.139‬‬


‫‪ )(2‬الخصال ج ‪ 2‬ص ‪.165‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود (‪ ،)1488‬والترمذي (‪)3556‬‬
‫‪ )(4‬الترمذي (‪ ،)3557‬والنسائي (‪)88 / 3‬‬
‫‪197‬‬
‫سجود) (‪)1‬‬ ‫فقال ‪( :‬ال خير في دين ليس فيه ركوع وال‬
‫وهذا يدل على أن االنحناء في الركوع والسجود كان شديدا عليهم للكبر الذي‬
‫طبع وا أنفس هم علي ه‪ ،‬ول ذلك ك ان لتل ك الحرك ة دوره ا في إزال ة ذل ك الك بر‪ ،‬أو‬
‫التخفيف منه‪.‬‬
‫ومما يروى عن اإلمام علي في أسراره ما أجاب به بعضهم عندما قال له‪ :‬يا‬
‫ابن عم خير خلق هللا ما معنى مد عنقك في الركوع؟ فق ال ل ه اإلم ام‪( :‬تأويله آمنت‬
‫بوحدانيتك‪ ،‬ولوضربت عنقي) (‪)2‬‬
‫وفسر اإلمام الباقر بعض أسرار ذلك؛ فقال ـ لمن سأله عن العل ة ال تي ش رع‬
‫ألج ل أن يق ال في الرك وع‪( :‬س بحان ربي العظيم وبحم ده)‪ ،‬ويق ال في الس جود‪:‬‬
‫(سبحان ربي األعلى وبحمده)‪ ،‬فقال‪( :‬إن هللا تبارك وتع الى لما أس رى ب النبي ‪،‬‬
‫وكان كقاب قوسين أو أدنى‪ ،‬رفع له حجاب‪ ،‬فكبر رسول هللا ‪ ‬سبعا ح تى رفع له‬
‫سبع حجب‪ ،‬فلما ذكر مارأى من عظمة هللا ارتعدت فرائصه‪ ،‬ف انبرك على ركبتيه‪،‬‬
‫وأخذ يق ول‪( :‬س بحان ربي العظيم وبحم ده)؛ فلما اعت دل من ركوعه قائما‪ ،‬ونظر‬
‫إليه في موضع أعلى من ذلك الموضع خر على وجهه‪ ،‬وجعل يقول‪( :‬س بحان ربي‬
‫األعلى وبحمده)‪ ،‬فلما قال سبع مرات سكن ذلك؛ فلذلك جرت به السنة)(‪)3‬‬
‫ولسنا ندري مدى ص حة ه ذه الرواي ة‪ ،‬وال دق ة م ا ورد فيه ا‪ ،‬ولكن معناه ا‬
‫ليس مستبعدا‪ ،‬ذلك أن القارئ للقرآن الكريم أثناء قيامه للص الة تنكش ف ل ه الحجب‬
‫بتدبره له‪ ،‬ولذلك يهوي راكعا تعظيما لتلك التجليات التي حصلت له بالقراءة‪.‬‬
‫وهذا ما يشير إلى أن الصالة معراج المؤمن‪ ،‬ول ذلك ش رفها هللا تع الى بأنه ا‬
‫ش رعت أثن اء المع راج‪ ،‬وفي تل ك المح ال المقدس ة‪ ،‬لت بين أن بإمك ان الم ؤمن أن‬
‫يرتقي بروحه إلى تلك الدرجات في حال التزامه بها‪.‬‬
‫ومن المعاني التي ذكرت في أسرار الركوع ما روي عن اإلمام الصادق أن ه‬
‫قال‪( :‬ال يركع عبد هلل ركوعا على الحقيقة إاّل زيّنه هللا تعالى بنور بهائ ه وأظلّ ه في‬
‫ظالل كبريائه وكساه كسوة أصفيائه‪ ،‬والرّكوع أوّل والسجود ث ان‪ ،‬فمن أتى بمع نى‬
‫األوّل صلح للثاني‪ ،‬وفي الرّكوع أدب وفي السجود ق رب‪ ،‬ومن ال يحس ن األدب ال‬
‫يصلح للقرب‪ ،‬فاركع ركوع خاضع هلل ع ّز وج ّل بقلب ه مت ذلّل وج ل تحت س لطانه‪،‬‬
‫خافض له بجوارحه خفض خائف حزن على م ا يفوت ه من فائ دة ال راكعين‪ ،‬وحكي‬
‫أن ربيع بن خثيم كان يسهر باللّيل إلى الفجر في ركعة واحدة فإذا ه و أص بح يزف ر‬ ‫ّ‬
‫وقال‪ :‬آه سبق المخلصون وقطع بنا‪ .‬واستوف ركوعك باستواء ظه رك وانح طّ عن‬
‫ه ّمت ك في القي ام بخدمت ه إاّل بعون ه‪ ،‬وف ّر ب القلب من وس اوس الش يطان وخدائع ه‬
‫فإن هللا تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له‪ ،‬ويهديهم إلى أصول التواضع‬ ‫ومكايده‪ّ ،‬‬

‫‪ )(1‬أبو داود (‪ ،)3026‬وأحمد (‪)218 /4‬‬


‫‪ )(2‬علل الشرائع ج ‪ 2‬ص ‪.10‬‬
‫‪ )(3‬علل الشرائع ج ‪ 2‬ص ‪.22‬‬
‫‪198‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫والخضوع والخشوع بقدر اطّالع عظمته على سرائرهم)‬
‫ومن المع اني ال تي ذك رت في أس رار الرك وع م ا روي عن اإلم ام الرض ا‬
‫جوابا على من سأله عن سر كون التسبيح في الركوع والسجود دون القراءة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(لعلل منها أن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه وتعبده وتورع ه واس تكانته وتذهلل‬
‫وتواضعه وتقربه إلى ربه مقدسا له ممجدا مس بحا معظم ا ش اكرا لخالق ه ورازق ه‪،‬‬
‫فال يذهب به الفكر واألماني إلى غيرهللا)‪ ،‬فقال السائل‪ :‬فلم جع ل ركع ة وس جدتين؟‬
‫فقال اإلمام‪( :‬ألن الركوع من فعل القيام‪ ،‬والسجود من فعل القع ود‪ ،‬وص الة القاع د‬
‫على النصف من صالة القائم‪ ،‬فضوعف السجود ليستوي بالركوع‪ ،‬فاليكون بينهم ا‬
‫تفاوت الن الصالة إنما هي ركوع وسجود) (‪)2‬‬
‫ومن تلك األسرار ما عبر عنه بعض الحكماء‪ ،‬فق ال ـ مخاطب ا مري دا ل ه ـ‪:‬‬
‫(وأ ّم ا الرك وع والس جود؛ فينبغي أن تج ّدد عن دهما ذك ر كبري اء هللا وترف ع ي ديك‬
‫مس تجيرا بعف و هللا من عقاب ه‪ ،‬ومتّبع ا س نّة نبيّ ه ‪ ،‬ث ّم تس تأنف ل ه ذاّل وتواض عا‬
‫بركوعك‪ ،‬وتجتهد في ترقيق قلب ك وتجدي د خش وعك‪ ،‬وتستش عر ذل ك ع ّز م والك‬
‫واتّضاعك وعل ّو ربّ ك‪ ،‬وتس تعين على تقري ر ذل ك في قلب ك بلس انك‪ ،‬فتس بّح ربّ ك‬
‫وتشهد له بالعظمة وأنّه أعظم من ك ّل عظيم وتكرّر ذلك على قلبك لتؤ ّكده بالتكرار‪،‬‬
‫ث ّم ترتفع من ركوعك راجيا أنّه راحم ذلّك وتؤ ّكد الرّجاء في نفسك بقولك‪( :‬سمع هللا‬
‫لمن حمده) أي أجاب هللا لمن شكره‪ ،‬ث ّم تردف ذلك بالشكر المتقاضي للمزيد فتقول‪:‬‬
‫(الحمد هلل ربّ العالمين) (‪)3‬‬
‫وذك ر حكيم آخ ر ال درجات المختلف ة في الرك وع‪ ،‬وال تي تختل ف ب اختالف‬
‫منازل السائرين إلى هللا‪ ،‬فقال‪( :‬الركوع ـ عن د الخاص ة ـ عب ارة عن الخ روج من‬
‫م نزل القي ام ب األمر واالس تقامة في الخدم ة المس تلزم لل دعوى عن د أه ل المعرف ة‬
‫وللخيانة والجناية عند أهل المحبّة‪ ،‬وال دخول في م نزل ال ّذل واالفتق ار واالس تكانة‬
‫والتضرع منزل المتوسطين‪ ..‬وعند أصحاب القلوب عب ارة عن الخ روج عن مق ام‬
‫القي ام هلل إلى مق ام القي ام باهلل‪ ،‬وعن مش اهدة القيومي ة إلى مش اهدة أن وار العظم ة‪،‬‬
‫وعن مقام توحيد األفعال إلى مقام توحيد األسماء‪ ،‬وعن مق ام الت دلي إلى مق ام ق اب‬
‫قوسين‪ ،‬كما أن السجود هو مقام (أو أدنى) (‪)4‬‬
‫ثم فسر ذلك ـ بحسب الطريق التحققي الذي يسير فيه الس الك إلى هللا ـ فق ال‪:‬‬
‫(حقيق ة القي ام هي الت دلّي إلى قيومي ة الح ق والوص ول إلى أف ق المش يئة‪ ،‬وحقيق ة‬
‫الركوع إتم ام ق وس العبودي ة وإفنائ ه في ن ور عظم ة الربوبي ة‪ ،‬ورك وع األولي اء‬
‫الك ّم ل التحق ق به ذا المق ام على حس ب م راتبهم وحظّهم من حض رات األس ماء‬

‫‪ )(1‬مصباح الشريعة ص ‪.12‬‬


‫‪ )(2‬عيون االخبار ج ‪ 2‬ص ‪.108‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪391 :‬‬

‫‪ )(4‬سر الصالة أو صالة العارفين (ص‪)94 :‬‬


‫‪199‬‬
‫المحيطة والشاملة والذاتية والصفاتية على نحو يكون تفصيله خارجا ً عن مجال هذه‬
‫األوراق؛ فالسالك إذا وصل منزل الركوع منزل الفن اء األس مائي يكبّ ر ويرف ع ي ده‬
‫كرفعها عند التكبيرات االفتتاحية بتل ك اآلداب‪ ،‬وه ذا التكب ير والرف ع ب اطن إح دى‬
‫التكبيرات االفتتاحية كما أن تكبير السجود أيضا ً كذلك‪ ،‬وفي هذا المق ام يكبّ ر الح ق‬
‫عن التوصيف وهو من المقامات الشاملة للعبد ومالزم له إلى آخ ر الس لوك ويرف ع‬
‫بيده ويرفض بها مقام التدلي والعبودية والتق وّم بالقيومي ة ال ذي ال يك ون خالي ا ً عن‬
‫شائبة التجلّد وال دعوى‪ ،‬ويتو ّج ه إلى م نزل الرك وع ص فر الي د ويتجلى لقلب ه ن ور‬
‫عظمة عرش حضرة الوحدانية والواحدية في فناء م نزل ق اب قوس ين في ن ّزه الح ق‬
‫ويسبّحه ويسقط نفسه عن لياقة التكب ير‪ ،‬فبقلب وج ل وح ال خج ل من القص ور في‬
‫أداء حق هذا المنزل الذي هو من أعظم منازل أهل التوحي د يش رع في أداء حقوق ه‬
‫وعمدتها توصيف الحق بالعظمة بعد التنزيه في جميع منازل الوالية‪ .‬وبع ده يش رع‬
‫في التحميد وه و في مق ام ال ذات إش ارة إلى توحي د الص فات ولس ان العب د في ه ذا‬
‫المقام في التنزيه والتعظيم والتحميد لسان الحق) (‪)1‬‬
‫ويدل لما ذكره ه ذا الحكيم م ا روي في الح ديث أن ه ل ّم ا ن زل قول ه تع الى‪:‬‬
‫ك ْال َع ِظ ِيم﴾ [الواقع ة‪ ،]74 :‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬اجعلوه ا في‬ ‫﴿فَ َس بِّحْ بِ ْ‬
‫اس ِم َربِّ َ‬
‫ك اأْل َ ْعلَى﴾ [األعلى‪ ]1 :‬ق ال‪( :‬اجعلوه ا في‬ ‫﴿س بِّحْ ْ‬
‫اس َم َربِّ َ‬ ‫رك وعكم)‪ ،‬فلم ا ن زلت َ‬
‫سجودكم) (‪)2‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف احرص على م ا ورد في س نة نبي ك‬
‫‪ ‬من أذك ار تقوله ا في ركوع ك‪ ،‬ح تى تبعث في الحي اة‪ ،‬ف الركوع جس د روح ه‬
‫الذكر‪ ،‬وقد أشار ‪ ‬إلى مجامع ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬فأما الرك وع فعظم وا في ه ال رب ع ز‬
‫وجل‪ ،‬وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء) (‪)3‬‬
‫ومن أذكاره ‪ ‬التي كان يقولها في الركوع‪( :‬س بحانك اللهم ربن ا وبحم دك‪،‬‬
‫اللهم اغفر لي) (‪)4‬‬
‫وكان يضيف إلى ذلك أذكارا أخرى‪ ،‬منه ا م ا روي عن اإلم ام علي أن ه ‪‬‬
‫كان (إذا ركع قال‪ :‬اللهم ل ك ركعت‪ ،‬وب ك آمنت‪ ،‬ول ك أس لمت‪ ،‬خش ع ل ك س معي‪،‬‬
‫وبصري‪ ،‬ومخي‪ ،‬وعظمي‪ ،‬وعصبي) (‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر أنه ‪( ‬كان يقول في ركوعه وسجوده‪ :‬س بو ٌح ق دوسٌ رب‬
‫المالئكة والروح) (‪)6‬‬
‫وفي حديث آخر أنه ‪ ‬قال في ركوع ه‪( :‬س بحان ذي الج بروت والملك وت‬

‫‪ )(1‬سر الصالة أو صالة العارفين (ص‪)95 :‬‬


‫‪ )(2‬الدارمي (‪ ،)1305‬وأبو يعلى (‪ ،)1738‬وابن خزيمة (‪ )600‬و(‪)670‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (‪)479‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري (‪ )794‬ومسلم (‪)484‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم (‪)771‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم (‪)487‬‬
‫‪200‬‬
‫والعظمة) (‪)1‬‬
‫والكبرياء‬
‫وهذا كله ي دل على أن ه ال يش ترط االقتص ار على التس بيح بـ (س بحان ربي‬
‫العظيم)‪ ،‬أو (سبحان ربي األعلى)‪ ،‬بل يمكن أن يضاف إليها غيرها من التسبيحات‬
‫بشرط أال تكون قرآنا(‪.)2‬‬
‫كما روي في ذلك عن اإلمام علي أنه كتب إلى بعض عماله يقول ل ه‪( :‬انظر‬
‫ركوعك وسجودك‪ ،‬فإن النبي ‪ ‬كان أتم الناس صالة وأحفظهم لها‪ ،‬وكان إذا ركع‬
‫قال‪( :‬سبحان ربي العظيم) ثالث مرات‪ ،‬وإذا رفع صلبه قال‪( :‬سمع هللا لمن حم ده‪.‬‬
‫اللهم لك الحمد ملء سمواتك وملء أرضك وملء ماشئت من شئ) ف إذا س جد ق ال‪:‬‬
‫(سبحان ربي األعلى وبحمده) ثالث مرات(‪.)3‬‬
‫وعنه ق ال‪( :‬الق راءة في رك وع والس جود‪ ،‬إنما فيهما المدحة هلل عزوجل ثم‬
‫المسألة فابتدئوا قبل المسألة بالمدحة هلل عزوجل ثم اسألوا بعد) (‪)4‬‬
‫وعن اإلمام الباقر أنه قال‪( :‬من قال في ركوعه وسجوده وقيام ه‪ :‬اللهم ص ل‬
‫على محمد وآل محمد‪ ،‬كتب هللا له ذلك بمثل الركوع والسجود والقيام) (‪)5‬‬
‫وعنه أنه ك ان يق ول في ركوع ه‪( :‬اللهم لك ركعت ولك خش عت وبك آمنت‪،‬‬
‫ولك أسلمت وعليك توكلت وأنت ربي‪ ،‬خشع لك سمعي وبص ري ومخي وعص بي‬
‫وعظامي وما أقلته قدماي هلل رب العالمين)(‪)6‬‬
‫وفي رواية أخرى أنه كان يق ول‪( :‬اللهم ل ك ركعت ول ك أس لمت وب ك آمنت‬
‫وعليك توكلت وأنت ربي خشع لك سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمى‬
‫ومخي وعصبي وعظامي وما أقلته قدماي غير مستنكف والمستكبر وال مستحسر‪،‬‬
‫سبحان ربي العظيم وبحمده ـ ثالث مرات في ترسل‪)7( ).‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬ما من كلم ة أخ ف على اللس ان وال أبل غ من (س بحان‬
‫هللا)‪ ،‬فقيل له‪ :‬فيج زي أن أق ول في الرك وع والس جود مك ان التس بيح ال إل ه إال هللا‬
‫والحمدهلل وهللا أكبر؟ قال‪( :‬نعم كل ذا ذكرهللا)(‪)8‬‬
‫وروي أنه ك ان يق ول في ركوع ه‪( :‬اللهم لك ركعت ولك خش عت وبك آمنت‬
‫‪ )(1‬رواه أبوداود (‪)873‬‬
‫‪ )( 2‬وهذا ما نص عليه الفقهاء‪ ،‬فقد قال ابن الهمام الحنفي‪( :‬لو قرأ التشهد في الركوع أو السجود ال س هو علي ه؛‬
‫ألنه ثناء‪ ،‬وهما محله) [فتح القدير (‪ ،])1/504‬وقال البجيرمي الشافعي‪( :‬تك ره الق راءة في الرك وع‪ ،‬أي‪ :‬بقص دها؛‬
‫ألن الركوع محل الذكر‪ ،‬فيكون صارفا عن القرآنية‪ ،‬بخالف ما إذا قصد الدعاء‪ ،‬أو أطل ق) [حاش ية البج يرمي على‬
‫الخطيب (‪ ،])2/71‬وقال النووي‪( :‬ولكن األفضل أن يجم ع بين ه ذه األذك ار كله ا إن تمكن من ذل ك بحيث ال يش ق‬
‫على غيره‪ ،‬ويقدم التسبيح منها‪ ،‬فإن أراد االقتصار فيستحب التسبيح‪ .‬وأدنى الكمال منه ثالث تسبيحات‪ ،‬ولو اقتص ر‬
‫على مرة كان فاعال ألصل التسبيح‪ .‬ويستحب إذا اقتصر على البعض أن يفعل في بعض األوقات بعضها‪ ،‬وفي وقت‬
‫آخر بعضا آخر‪ ،‬وهكذا يفعل في األوقات حتى يكون فاعال لجميعها) [األذكار (ص ‪])86‬‬
‫‪ )(3‬مجالس المفيد ص ‪ .152‬وأمالى الشيخ ج ‪ 1‬ص ‪.24‬‬
‫‪ )(4‬قرب االسناد ص ‪66‬‬
‫‪ )(5‬ثواب االعمال ص ‪.32‬‬
‫‪ )(6‬فالح السائل ص ‪.132‬‬
‫‪ )(7‬الكافى ج ‪ 3‬ص ‪ ،319‬التهذيب ج ‪ 1‬ص ‪.156‬‬
‫‪ )(8‬السرائر ص ‪.475‬‬
‫‪201‬‬
‫وعليك توكلت وأنت ربي خشع لك سمعي وبصري وشعري وبشرى ولحمي ودمي‬
‫ومخي وعصبي وعظامي وما أقلت قدماي غير مستنكف وال مستكبر وال مستحسر‬
‫عن عبادت ك والخش وع ل ك والت ذلل لطاعت ك س بحان ربي العظيم وبحم ده ـ ثالث‬
‫مرات ـ) (‪)1‬‬
‫وغيرها من التسبيحات واألذكار ال تي وردت عن أئم ة اله دى‪ ،‬وال تي تمث ل‬
‫التطبيق العملي لما ورد في سنة رسول هللا ‪ ‬من الدعوة إلى تس بيح هللا تع الى في‬
‫الركوع؛ فاحرص عليها ـ أيها المريد الصادق ـ وليس علي ك أن ت أتي به ا جميع ا‪،‬‬
‫وفي جمي ع األوق ات‪ ،‬وإنم ا علي ك أن تفهم مقاص دها؛ ل تركع رك وع الص الحين؛‬
‫فيتحقق لك بذلك جزء من صالتهم‪ ،‬ولعل هللا أن يرفعك بذلك الج زء لتن ال الكم ال‪،‬‬
‫وترقى في معارج العرفان والتحقق‪ ،‬كما عرج بهم‪.‬‬
‫السجود والتزكية‪:‬‬
‫أما السجود ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أنه من العبادات العظيمة التي أخ بر‬
‫هللا تعالى أنها ليست خاص ة بالبش ر فق ط‪ ،‬وإنم ا هي عب ادة الك ون جميع ا؛ ف الكون‬
‫بمفرداته جميعا يقيم شعائر السجود‪ ،‬كل بطريقته الخاصة‪ ،‬وبحسب قابليت ه‪ ،‬وم دى‬
‫نيل ه لتجلي ات األس ماء الحس نى‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿:‬أَلَ ْم تَ َر أَ َّن هللا يَ ْس ُج ُد لَ هُ َم ْن فِي‬
‫الش َج ُر َوال َّد ُوابُّ‬ ‫الش ْمسُ َو ْالقَ َم ُر َوالنُّ ُج و ُم َو ْال ِجبَ ا ُل َو َّ‬ ‫ض َو َّ‬ ‫ت َو َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫ال َّس َم َ‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْال َع َذابُ َو َم ْن يُ ِه ِن هللا فَ َما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِر ٍم إِ َّن هللا يَ ْف َع ُل‬ ‫َو َكثِي ٌر ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس َو َكثِي ٌر َح َّ‬
‫َما يَ َشا ُء﴾ (الحج‪)18:‬‬
‫ب ل إن الق رآن الك ريم ي ذكر أن س جود األش ياء ش امل يش مل الش خوص‬
‫ت‬
‫الس َما َوا ِ‬ ‫الى‪﴿:‬وهلل يَ ْس ُج ُد َم ْن فِي َّ‬ ‫َ‬ ‫والظالل‪ ،‬أو الج واهر واألع راض‪ ،‬ق ال تع‬
‫ال﴾ (الرعد‪)15:‬‬ ‫ص ِ‬ ‫ض طَوْ عا ً َوكَرْ ها ً َو ِظاللُهُ ْم بِ ْال ُغد ُِّو َواآْل َ‬‫َواأْل َرْ ِ‬
‫وقد صور القرآن الكريم شكال من أشكال السجود بقوله تعالى‪﴿:‬أَ َولَ ْم يَ َروْ ا إِلَى‬
‫َاخ رُونَ ﴾‬ ‫الش َمائِ ِل ُس جَّداً هلل َوهُ ْم د ِ‬ ‫ين َو َّ‬ ‫ق هللا ِم ْن َش ْي ٍء يَتَفَيَّأ ُ ِظاللُ هُ ع َِن ْاليَ ِم ِ‬ ‫َم ا َخلَ َ‬
‫(النحل‪)48:‬‬
‫هذا ما ذكره ربنا‪ ،‬وال ينبغي لعقولنا ومداركنا البسيطة أن تخ وض في كيفي ة‬
‫ذل ك‪ ،‬أو تح اول تأويل ه؛ فالعق ل ال ي رفض ذل ك‪ ،‬ومعارفن ا المح دودة أدنى من أن‬
‫تصل إلى حقيقة ذلك‪ ،‬أو تتوهمه وتتخيله‪.‬‬
‫ولذلك فإن هذه األمور ومثيالتها ـ أيها المريد الصادق ـ تؤخ ذ تعقال وت ذوقا‪،‬‬
‫ال تخيال وتصورا‪ ،‬فحس اإلنسان ال يدرك إال ما هو في دائرته المحدودة‪ ،‬وهي من‬
‫المحدودية بحيث ال يصح االعتماد عليها في تصوير ما غاب عن الحس‪.‬‬
‫ومن ذلك ما عبر ب ه ‪ ‬عن ظ اهرة الكس وف ال تي تكتفي عقولن ا بتفس يرنا‬
‫المادي لها‪ ،‬فقد أخ بر ‪ ‬أن له ا تفس يرا روحي ا نص علي ه بقول ه ‪(:‬إن الش مس‬
‫والقمر خلقان من خلق هللا وإنهما ال ينكسفان لم وت أح د وال لحيات ه‪ ،‬ولكن هللا ع ز‬

‫‪ )(1‬دعائم االسالم ج ‪ 1‬ص ‪.163‬‬


‫‪202‬‬
‫له)(‪)1‬‬ ‫وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع‬
‫فمعرفتنا بالمواقيت الدقيقة المح ددة للكس وف‪ ،‬ومعرفتن ا باألس باب الظ اهرة‬
‫لحصوله ال تنفي هذا‪ ،‬فقد يكون للشيء الواحد األسباب الكثيرة‪ ،‬فال ينبغي أن ننك ر‬
‫ما نجهل من األسباب‪ ،‬وال ينبغي أن نكون من ضيق األف ق‪ ،‬وقص ور الهم ة بحيث‬
‫نكتفي بما لدينا من معارف(‪.)2‬‬
‫ولذلك فإن الصادقين مع هللا يعرفون ضعفهم وقص ورهم؛ فل ذلك يس لمون هلل‬
‫تع الى‪ ،‬وال يش اغبون وال يج ادلون‪ ،‬ب ل ينش غلون بتص فية م رآة قل وبهم‪ ،‬لتتجلى‬
‫الحقائق التي ال تطيق العقول إدراكها‪ ،‬وقد روي في هذا أن رجال ج اء إلى رس ول‬
‫هللا ‪ ،‬فقال‪(:‬يا رسول هللا إني رأيتني الليل ة وأن ا ن ائم ك أني أص لي خل ف ش جرة‬
‫فس جدت‪ ،‬فس جدت الش جرة لس جودي فس معتها‪ ،‬وهي تق ول‪( :‬اللهم اكتب لي به ا‬
‫عندك أجرا‪ ،‬وض ع ع ني به ا وزرا‪ ،‬واجعله ا لي عن دك ذخ را‪ ،‬وتقبله ا م ني كم ا‬
‫تقبلتها من عبدك داود)‪ ،‬قال الراوي‪(:‬فقرأ رس ول هللا ‪ ‬س جدة ثم س جد فس معته‪،‬‬
‫وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)(‪)3‬‬
‫أما سجود البشر؛ فقد أخبر هللا تعالى أنه لم يخ ل من ه دين من األدي ان‪ ،‬ح تى‬
‫ت ا ْم َرأَةً‬ ‫المحرفة منها‪ ،‬فقد قال على لسان هده د س ليمان علي ه الس الم‪﴿ :‬إِنِّي َو َج ْد ُ‬
‫ت ِم ْن ُك ِّل َش ْي ٍء َولَهَ ا َع رْ شٌ َع ِظي ٌم (‪َ )23‬و َج ْدتُهَا َوقَوْ َمهَ ا يَ ْس ُج ُدونَ‬ ‫تَ ْملِ ُكهُ ْم َوأُوتِيَ ْ‬
‫يل فَهُ ْم اَل يَ ْهتَ ُدونَ‬ ‫ص َّدهُ ْم َع ِن َّ‬
‫الس بِ ِ‬ ‫س ِم ْن دُو ِن هللا َوزَ يَّنَ لَهُ ُم ال َّش ْيطَانُ أَ ْع َمالَهُ ْم فَ َ‬ ‫لِل َّش ْم ِ‬
‫ض َويَ ْعلَ ُم َم ا تُ ْخفُ ونَ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫(‪ )24‬أَاَّل يَ ْس ُجدُوا هلل الَّ ِذي ي ُْخ ِر ُج ْال َخبْ َء فِي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫ش ْال َع ِظ ِيم﴾ [النمل‪]26 - 23 :‬‬ ‫َو َما تُ ْعلِنُونَ (‪ )25‬هللا اَل إِلَهَ إِاَّل ه َُو َربُّ ْال َعرْ ِ‬
‫وأخبر عن دعوته لبني إسرائيل في عهد موسى عليه السالم للس جود‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫اب ُس َّجدًا َوقُولُ وا‬ ‫ْث ِش ْئتُ ْم َر َغدًا َوا ْد ُخلُوا ْالبَ َ‬ ‫﴿ َوإِ ْذ قُ ْلنَا ا ْد ُخلُوا هَ ِذ ِه ْالقَرْ يَةَ فَ ُكلُوا ِم ْنهَا َحي ُ‬
‫﴿و َرفَ ْعنَ ا فَ وْ قَهُ ُم‬ ‫ِحطَّةٌ نَ ْغفِرْ لَ ُك ْم َخطَايَا ُك ْم َو َس ن َِزي ُد ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ [البق رة‪ ،]58 :‬وق ال‪َ :‬‬
‫ت َوأَخَ ْذنَا‬ ‫اب ُس َّجدًا َوقُ ْلنَ ا لَهُ ْم اَل تَ ْع دُوا فِي َّ‬
‫الس ْب ِ‬ ‫ور بِ ِميثَاقِ ِه ْم َوقُ ْلنَا لَهُ ُم ا ْد ُخلُوا ْالبَ َ‬
‫الط َ‬‫ُّ‬
‫ِم ْنهُ ْم ِميثَاقًا َغلِيظًا﴾ [النساء‪]154 :‬‬
‫اس ُج ِدي َوارْ َك ِعي َم َع‬ ‫وق ال عن م ريم عليه ا الس الم‪﴿ :‬يَ ا َمرْ يَ ُم ا ْقنُتِي لِ َرب ِِّك َو ْ‬
‫الرَّا ِك ِعينَ ﴾ [آل عمران‪]43 :‬‬
‫ب أُ َّمةٌ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وأخبر عن الصالحين من أهل الكتاب‪ ،‬فقال‪﴿:‬ل ْيسُوا َس َوا ًء ِمن أه ِل ال ِكتَا ِ‬
‫ت هللا آنَا َء اللَّي ِْل َوهُ ْم يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ [آل عمران‪ ،]113 :‬وقال‪﴿ :‬قُلْ آ ِمن وا‬
‫ُ‬ ‫قَائِ َمةٌ يَ ْتلُونَ آيَا ِ‬
‫ان ُس َّجدًا﴾‬ ‫بِ ِه أَوْ اَل تُ ْؤ ِمنُوا إِ َّن الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم ِم ْن قَ ْبلِ ِه إِ َذا يُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم يَ ِخ رُّ ونَ لِأْل َ ْذقَ ِ‬
‫[اإلسراء‪]107 :‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وهكذا يرد في اآليات الكثيرة الحث على الس جود‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬يَاأيُّهَ ا ال ِذينَ‬
‫آ َمنُوا ارْ َكعُوا َوا ْس ُجدُوا َوا ْعبُدُوا َربَّ ُك ْم َوا ْف َعلُوا ْالخَ ي َْر لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ [الحج‪]77 :‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر ما يرتبط بهذا من تفاصيل علمية‪ ،‬ومن دالئل اإلعجاز العلمي‪ :‬رسالة (معجزات علمية)‬
‫‪ )(3‬الترمذي‪.2/472 :‬‬
‫‪203‬‬
‫وأخبر عن الص الحين من ه ذه األم ة‪ ،‬فق ال‪ُ ﴿ :‬م َح َّم ٌد َر ُس و ُل هللا َوالَّ ِذينَ َم َع هُ‬
‫ض َوانًا﴾‬ ‫ض اًل ِمنَ هللا َو ِر ْ‬ ‫أَ ِش َّدا ُء َعلَى ْال ُكفَّ ِ‬
‫ار ُر َح َما ُء بَ ْينَهُ ْم تَ َراهُ ْم ُر َّكعًا ُس َّجدًا يَ ْبتَ ُغونَ فَ ْ‬
‫﴿والَّ ِذينَ يَبِيتُ ونَ لِ َربِّ ِه ْم ُس َّجدًا َوقِيَا ًم ا﴾‬ ‫[الفتح‪ ،]29 :‬وقال في ص فة عب اد ال رحمن‪َ :‬‬
‫[الفرقان‪ ،]64 :‬وقال‪﴿ :‬إِنَّ َما ي ُْؤ ِمنُ بِآيَاتِنَا الَّ ِذينَ إِ َذا ذ ِّكرُوا بِهَ ا خَ رُّ وا ُس َّجدًا َو َس بَّحُوا‬
‫ُ‬
‫بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوهُ ْم اَل يَ ْستَ ْكبِرُونَ ﴾ [السجدة‪]15 :‬‬
‫وه و ي دل على منتهى الخض وع‪ ،‬ل ذلك ك ان أول ش يء فعل ه الس حرة بع د‬
‫الس َح َرةُ ُس َّجدًا قَ الُوا آ َمنَّا بِ َربِّ هَ ارُونَ‬ ‫إيم انهم الس جود‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ أ ُ ْلقِ َي َّ‬
‫َو ُمو َسى﴾ [طه‪]70 :‬‬
‫ولذلك أخبر عن إعراض المستكبرين عن السجود بسبب ما في ه من تواض ع‬
‫وذلة‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا قِي َل لَهُ ُم ا ْس ُجدُوا لِلرَّحْ َم ِن قَالُوا َو َما الرَّحْ َمنُ أَنَ ْس ُج ُد لِ َما تَأْ ُم ُرنَا‬
‫َوزَا َدهُ ْم نُفُورًا﴾ [الفرقان‪]60 :‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يدل على ارتباط السجود بالقرب من هللا تع الى‪ ،‬كم ا‬
‫اس ُج ْد َوا ْقتَ ِربْ ﴾ [العل ق‪ ،]19 :‬ق ال ‪( :‬أق رب م ا‬ ‫﴿و ْ‬ ‫يشير إلى ذلك قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫يكون العبد من ربه في سجوده) (‪)1‬‬
‫ومن الحكم الواردة عن أئمة الهدى في بي ان س ره م ا ذك ره اإلم ام علي لمن‬
‫سأله عنه وعن سر السجدتين في الصالة‪( :‬السّجدة األولى‪ ..‬تأويله ا اللهم إنّ ك منه ا‬
‫والس جدة الثاني ة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫خلقتني ـ يع ني من األرض ـ ورف ُع رأس ك‪( :‬ومنه ا أخرجتن ا)‪،‬‬
‫ع رأسك من الثانية‪( :‬ومنها تخرجنا تارة أخرى)(‪)2‬‬ ‫(وإليها تعيدنا)‪ ،‬ورف ُ‬
‫الس جود‪ ،‬ول و ك ان في‬ ‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬م ا خس ر وهللا َمن أتى بحقيق ة ّ‬
‫العمر مرّة واحدة‪ ،‬وما أفلح َمن خال بربّه في مثل ذلك الحال شبيها ً بمخ ادع لنفس ه‪،‬‬
‫غافل اله ع ّما أع ّد هللا للسّاجدين من أُنس العاجل‪ ،‬وراحة اآلج ل‪ ..‬وال بَ ُع د أب داً عن‬
‫هللا َمن أحسن تقرّبه في السّجود‪ ،‬وال قرب إليه أبداً َمن أساء أدب ه‪ ،‬وض يّع حرمت ه‪،‬‬
‫بتعليق قلبه بسواه في حال سجوده‪ ،‬فاسجد سجود متواضع ذلي ل‪ ،‬علم أنّ ه ُخل ق من‬
‫تراب يطأه الخلق‪ ،‬وأنّه ُر ّكب من نطف ة يس تقذرها ك ّل أح د‪ ،‬و ُك وّن ولم يكن‪ ..‬وق د‬
‫جعل هللا معنى السّجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسّر والرّوح‪ ،‬ف َمن قَرُب منه بع د‬
‫الس جود إالّ ب التّواري عن جمي ع‬ ‫من غيره‪ ،‬أال يرى في الظاهر أنّه ال يستوي ح ال ّ‬
‫األشياء‪ ،‬واالحتجاب عن ك ّل ما تراه العيون‪ ،‬كذلك أراد هللا تعالى أمر الباطن‪ ،‬ف َمن‬
‫كان قلبه متعلّق ا ً في ص الته بش يء دون هللا فه و ق ريبٌ من ذل ك الش يء‪ ،‬بعي ٌد من‬
‫حقيقة ما أراد هللا منه في صالته‪ ،‬قال هللا ع ّز وج ل‪َ ﴿ :‬م ا َج َع َل هللا لِ َر ُج ٍل ِم ْن قَ ْلبَي ِْن‬
‫فِي َجوْ فِ ِه﴾ [األحزاب‪ ،]4 :‬وقال رسول هللا ‪ :‬ق ال هللا ع ّز وج ل‪( :‬ال أطّل ع على‬
‫قلب عب ٍد‪ ،‬فأعلم منه حبّ اإلخالص لطاعتي لوجهي وابتغ اء مرض اتي‪ ،‬إال ت ولّيت‬
‫تقويم ه وسياس ته‪ ،‬و َمن اش تغل في ص الته بغ يري فه و من المس تهزئين بنفس ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي رقم (‪)3574‬‬


‫‪ )(2‬العلل ‪.2/25‬‬
‫‪204‬‬
‫الخاسرين)(‪)1‬‬ ‫ومكتوبٌ اسمه في ديوان‬
‫وقد علق بعض الحكماء على هذا الح ديث في رس الة كتبه ا لبعض مريدي ه‪،‬‬
‫فقال‪( :‬تأمل في هذا الحديث‪ ،‬وال تتص ّور صالة أهل هللا كصالتنا‪ .‬إن حقيق ة الخل وة‬
‫مع الحق ترك الغير ح تى النفس ال تي هي من أعظم األغي ار وأض خم الحجب وم ا‬
‫دام اإلنسان مشغوالً بنفسه فهو غافل عن الحق فكيف يمكن له الخلوة مع الحق‪ .‬ولو‬
‫حصلت له الخلوة الحقيقية في سجدة واحدة في جميع العم ر فإن ه ليج بر الخس ارات‬
‫في بقية العمر وتساعده عناية الح ق ويخ رج عن دائ رة دع وة الش يطان‪ ،‬ول و ك ان‬
‫القلب في حال السجدة التي هي ترك إظهار الغيرية ورفض األنانية مشغوالً ب الغير‬
‫فإنه لينس لك في زم رة المن افقين وأه ل الخدع ة أع وذ باهلل تع الى من مكاي د النفس‬
‫والشيطان ومن الخسران والخذالن والفضيحة في المحضر الربوبي‪ ،‬وما أك رم ب ه‬
‫الساجدون هو حالوة األنس مع المحبوب في الدنيا الذي هو خير من الدنيا وما فيه ا‬
‫عند أهله وكش ف الحجب وب ذل األلط اف الخاص ة في اآلخ رة ال ذي ه و ق رة عين‬
‫األولياء) (‪)2‬‬
‫وقال في بيان عظم أسرار السجود ودوره العظيم في التزكية والترقي ة‪( :‬ه و‬
‫عند أهل المعرفة س ّر ك ّل الصالة وك ل س ّر الص الة‪ ،‬وآخ ر م نزل للق رب ومنتهى‬
‫النهاية للوص ول‪ ،‬ب ل األولى أالّ يُ َع ّد ه و من المقام ات والمن ازل وألص حابه وقت‬
‫وحال انقطعت عنه جميع اإلشارات‪ ،‬وب ُكمت عنه جميع األلسن وقصرت عن مقامه‬
‫جميع البيانات وكل من أشار إليه فهو غير خبير به‪ .‬فمن حصل عن ده خ بر لم يجئ‬
‫عنه خبر وما ذكر أو يذكر في هذا المقام فمن أرباب االحتجاب ب ل ه و من أس باب‬
‫الحجاب) (‪)3‬‬
‫ثم ذكر بعض تل ك المع اني ال تي يج دها الع ارفون المحقق ون في س جودهم‪،‬‬
‫فقال‪( :‬الس جدة عن د أه ل المعرف ة وأص حاب القل وب هي غمض العين عن الغ ير‪،‬‬
‫والهج رة عن جمي ع الك ثرات ح تى ك ثرة األس ماء والص فات والفن اء في حض رة‬
‫الذات‪ ..‬وفي هذا المقام ليس من سمات العبودية خ بر‪ ،‬وال من س لطان الربوبي ة في‬
‫قلوب األولياء أثر‪ ،‬والح ق تع الى بنفس ه ق ائم ب األمر في وج ود العب د (فه و س معه‬
‫وبص ره ب ل ال س مع وال بص ر وال س ماع وال بص يرة وإلى ذل ك المق ام تنقط ع‬
‫اإلشارة) (‪)4‬‬
‫وعبر حكيم آخ ر عن بعض أس رار الس جود‪ ،‬فق ال ـ مخاطب ا مري ده ـ ‪( :‬ث ّم‬
‫تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات االستكانة‪ ،‬فم ّكن أع ّز أعض ائك وه و الوج ه‬
‫من أذ ّل األش ياء وه و ال تراب‪ ،‬وإن أمكن ك أن ال تجع ل بينهم ا ح ائال فتس جد على‬
‫األرض فافعل فإنّ ه أجلب للخض وع وأد ّل على ال ذلّ‪ ،‬وإذا وض عت نفس ك موض ع‬
‫‪ )(1‬مصباح الشريعة ص‪.12‬‬
‫‪ )(2‬سر الصالة أو صالة العارفين (ص‪)104 :‬‬
‫‪ )(3‬سر الصالة أو صالة العارفين (ص‪)99 :‬‬
‫‪ )(4‬سر الصالة أو صالة العارفين (ص‪)100 :‬‬
‫‪205‬‬
‫الذ ّل فاعلم أنّك وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى أصله‪ ،‬فإنّك من التراب خلقت‬
‫وإليه رددت‪ ،‬فعند هذا ج ّدد على قلبك عظمة هللا وقل‪( :‬سبحان ربّي األعلى) وأ ّك ده‬
‫ق قلب ك وطه ر لبّ ك فليص دق‬ ‫ب التّكرار ف ّ‬
‫إن الم رّة الواح دة ض عيفة اآلث ار‪ ،‬ف إذا ر ّ‬
‫ّ‬
‫إن رحمت ه تتس ارع إلى الض عف وال ذ ّل ال إلى التكبّ ر‬ ‫رج اؤك في رحم ة ربّ ك‪ ،‬ف ّ‬
‫والبطر فارفع رأسك مكبّرا وسائال حاجتك ومس تغفرا من ذنوب ك‪ ،‬ث ّم أ ّك د التواض ع‬
‫بالتكرار وعد إلى السجود ثانيا كذلك) (‪)1‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الس جود من أعظم الوص فات‬
‫العالجية للنفس‪ ،‬وخاصة إن كانت متمردة مس تكبرة ممتلئ ة بال ذنوب والغفل ة‪ ،‬وق د‬
‫ورد في الحديث أن رجال جاء إلى رسول هللا ‪ ‬فقال‪( :‬يا رسول هللا كثرت ذن وبي‬
‫وضعف عملي)‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬أكثر السّجود‪ ..‬فإنه يح طّ ال ذنوب كم ا تح طّ‬
‫الرّيح ورق الشجر)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر أن رجال جاء إلى النبي ‪ ‬فق ال‪( :‬علّم ني عمالً يحبّ ني هللا‬
‫علي ه‪ ،‬ويحبنّي المخلوق ون‪ ،‬وي ثري هللا م الي‪ ،‬ويص ّح ب دني‪ ،‬ويطي ل عم ري‪،‬‬
‫ت خص ال‪( :‬إذا أردت‬ ‫ست خصال تحت اج إلى س ّ‬ ‫ويحشرني معك)‪ ،‬فقال ‪( :‬هذه ّ‬
‫أن يحبّك هللا‪ ،‬فخفه واتّقه‪ ..‬وإذا أردت أن يحبّ ك المخلوق ون‪ ،‬فأحس ن إليهم وارفض‬
‫ما في أيديهم‪ ..‬وإذا أردت أن يثري هللا مالك فز ّكه‪ ..‬وإذا أردت أن يص ّح هللا ب دنك‪،‬‬
‫الص دقة‪ ..‬وإذا أردت أن يطي ل هللا عم رك‪ ،‬فص ل ذوي أرحام ك‪ ..‬وإذا‬ ‫ف أكثر من ّ‬
‫أردت أن يحشرك هللا معي‪ ،‬فأطل السّجود بين يدي هللا الواحد القهار)(‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر أن النبي ‪ ‬مر برجل وهو يعالج في بعض حجراته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(ي ا رس ول هللا‪ ،‬أال أكفي ك ؟)‪ ..‬ق ال‪( :‬ش أنك)‪ ،‬فل ّم ا ف رغ ق ال رس ول هللا ‪:‬‬
‫(حاجتك ؟)‪ ..‬قال‪( :‬الجنّة)‪ ..‬فأطرق رسول هللا ‪ ‬ث ّم قال‪( :‬نعم)‪ ،‬فل ّما ولّى قال ل ه‪:‬‬
‫(يا عبدهللا‪ ..‬أعنّا بطول السّجود)(‪)4‬‬
‫وفي حديث آخر أن ربيعة بن كعب األسلم ّي خادم رسول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬كنت‬
‫أبيت مع رسول هللا ‪ ‬فآتيه بوضوئه وحاجته فقال‪( :‬سلني)‪ ،‬قلت‪ :‬أسألك مرافقت ك‬
‫في الجنّ ة‪ ،‬فق ال‪( :‬أو غ ير ذل ك؟) قلت‪ :‬ه و ذاك‪ .‬ق ال‪( :‬ف أعنّي على نفس ك بك ثرة‬
‫السّجود) (‪)5‬‬
‫ومن وصايا رسول هللا ‪ ‬ألسامة بن زيد‪( :‬يا أسامة‪ ،‬علي ك بالس جود‪ ،‬فإنّ ه‬
‫أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا كان ساجداً‪ ،‬وما من عب د س جد هلل س جدة‪ ،‬إالّ كتب‬
‫هللا له بها حسنة‪ ،‬ومحا عنه بها سيئة‪ ،‬ورفع له بها درجة‪ ،‬وباهى به مالئكته) (‪)6‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن دور السجود في الحماية من العذاب‪ ،‬فقال‪( :‬ح تى إذا أراد هللا‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪392 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،163 /82 :‬عن‪ :‬أمالي الصدوق ص‪.299‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،164 /82 :‬عن‪ :‬أعالم الدين‪.‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،165 /82 :‬عن‪ :‬أربعين الشهيد‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم برقم (‪)489‬‬
‫‪ )(6‬مستدرك الوسائل ‪475 :4‬‬
‫‪206‬‬
‫رحم ة من أراد من أه ل الن ار أم ر هللا المالئك ة ان يُخرج وا من ك ان يعب د هللا‬
‫فيخرجونهم‪ ،‬ويعرفونهم بآثار السجود‪ ،‬وحرّم هللا على النار أن تأك ل أث ر الس جود‪،‬‬
‫فيخرجون من النار‪ ،‬فكل ابن آدم تأكله النار إالّ أثر السجود) (‪)1‬‬
‫وأخبر عن دور السجود في الشهادة للعبد عند هللا تعالى يوم القيامة‪ ،‬فق ال في‬
‫وصيته ألبي ذر‪( :‬يا أبا ذر‪ ،‬ما من رجل يجعل جبهته في بقعة من بقاع االَرض إالّ‬
‫شهدت ل ه به ا ي وم القيام ة‪ ..‬ي ا أب ا ذر م ا من ص باح وال رواح إالّ وبق اع االَرض‬
‫بك اليوم ذاك ر هلل ع َّز وج لَّ‪ ،‬أو عب د وض ع‬‫ينادي بعضها بعضاً‪ :‬يا جارة‪ ،‬هل م َّر ِ‬
‫جبهته عليك ساجداً هلل تعالى؟ فمن قائلة ال‪ ،‬ومن قائلة نعم‪ ،‬ف إذا ق الت نعم‪ ،‬اه ت ّزت‬
‫أن لها فضالً على جارتها) (‪)2‬‬ ‫وانشرحت وترى ّ‬
‫االم ام الص ادق بالص الة في أم اكن مختلف ة حرص ا على ه ذه‬ ‫ولهذا أوصى ِ‬
‫الشهادة‪ ،‬فقال‪( :‬صلّوا في المساجد في بقاع مختلف ة‪ ،‬ف إن ك ل بقع ة تش هد للمص لي‬
‫عليها يوم القيامة) (‪)3‬‬
‫وهذه األح اديث ت دل على عظم مرتب ة الس جود‪ ،‬وكون ه من أحس ن األدوي ة‬
‫المطهرة للنفس‪ ،‬والمزكية لها‪ ،‬ولهذا ورد الترغيب في إطالت ه وكثرت ه في الص الة‬
‫الس جود‪ ،‬فم ا من عم ل أش ّد‬‫وغيرها‪ ،‬وقد روي عن اإلمام علي أن ه ق ال‪( :‬أطيل وا ّ‬
‫على إبليس من أن ي رى ابن آدم س اجداً‪ ،‬ألنّ ه أُم ر بالس جود فعص ى‪ ،‬وه ذا أم ر‬
‫ُ‬
‫بالسجود فأطاع ونجا)(‪)4‬‬
‫وقال اإلمام الرضا‪( :‬إذا نام العبد وهو ساج ٌد‪ ،‬قال هللا تبارك وتعالى‪( :‬عب دي‬
‫قبضت روحه وهو في طاعتي)(‪)5‬‬
‫وقيل لإلمام الصادق‪( :‬لِ َم اتّخذ هللا ع ّز وج ّل إب راهيم خليالً ؟)‪ ..‬ق ال‪( :‬لك ثرة‬
‫سجوده على األرض)(‪)6‬‬
‫وهك ذا روي عن س يرهم العملي ة؛ فق د ك ان رس ول هللا ‪ ‬من أك ثر الن اس‬
‫سجودا هلل تعالى‪ ،‬فقد روي أنه ‪ ‬كان عند عائشة ذات ليلة فقام يتنف ل‪ ،‬فاس تيقظت‬
‫عائشة‪ ،‬فقامت تطوف عليه‪ ،‬فوجدته‪ ،‬وه و س اجد ب اك‪ ،‬يق ول‪( :‬س جد ل ك س وادي‬
‫وخيالي وآمن بك ف ؤادي‪ ،‬أب وء إلي ك ب النعم‪ ،‬واع ترف ل ك بال ذنب العظيم‪ ،‬عملت‬
‫سو ًء وظلمت نفسي فاغفر لي إنّه ال يغف ر ال ذنب العظيم إالّ أنت‪ ،‬أع وذ بعف وك من‬
‫عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ برحمتك من نقمتك وأعوذ ب ك من ك‪ ،‬ال‬
‫أبلغ مدحك والثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك استغفرك واتوب إليك)(‪)7‬‬
‫وهكذا كان أئمة الهدى من بعده‪ ،‬فقد روى بعض هم أن ه اتب ع اإلم ام الس جاد‬
‫‪ )(1‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ )806( 2‬واللفظ له‪ ،‬مسلم (‪)182‬‬
‫‪ )(2‬أمالي الشيخ الطوسي‪.534 :‬‬
‫‪ )(3‬وسائل الشيعة ‪474 :3‬‬
‫‪ )(4‬العلل ‪ ،2/29‬الخصال ‪.1/281‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،161 /82 :‬عن‪ :‬العيون ‪.1/281‬‬
‫‪ )(6‬بحار األنوار‪ ،163 /82 :‬عن‪ :‬العلل ‪.1/32‬‬
‫‪ )(7‬الكافي ‪324 :3‬‬
‫‪207‬‬
‫إلى الصحراء‪ ،‬فوجده ساجداً على حجارة خشنة فأحصى عليه ألف مرة‪( :‬ال إل ه إال‬
‫هللا حقا ً حقاً‪ ،‬ال إله إال هللا تعبداً ورقاً‪ ،‬ال إله إال هللا إيمانا ً وصدقاً‪ ،‬ثم رفع رأسه)(‪)1‬‬
‫وحدث اإلمام الباقر عن كثرة س جود أبي ه الس جاد‪ ،‬فق ال‪ّ :‬‬
‫(إن أبي م اذكر هلل‬
‫ع َّز وج َّل نعمة عليه إالّ سجد‪ ،‬وال ق رأ آي ة من كت اب هللا فيه ا س جدة إال س جد‪ ،‬وال‬
‫ّ‬
‫دفع هللا عنه ش راً يخش اه أو كي د كائ د إالّ س جد‪ ،‬وال ف رغ من ص الة مفروض ة إالّ‬
‫سجد‪ ،‬وال وفق الصالح بين اثنين إالّ سجد‪ ،‬وكان كثير السجود‪ ،‬في جميع مواض ع‬
‫سجوده فسمي السجاد لذلك)(‪)2‬‬
‫وعنه قال‪( :‬كان أبي في موضع س جوده آث ار نابت ة فك ان يقطعه ا في الس نة‬
‫ل مرة خمس ثفنات‪ ،‬فسمي ذو الثفنات) (‪)3‬‬ ‫مرتين‪ ،‬في ك ِّ‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬كان علي بن الحسين إذا ق ام إلى الص الة تغ ير لون ه‪،‬‬
‫ف إذا س جد لم يرف ع رأس ه ح تى ي رفض عرق اً‪ .‬ثم يرف ع رأس ه من الس جدة االُولى‬
‫ي من خير‬ ‫ويقول‪ :‬الله َّم أعفُ عني واغفر لي‪ ،‬واجبرني‪ ،‬واهدني (إني لما أنزلت إل َّ‬
‫فقير) (‪)4‬‬
‫وهكذا كان اإلمام الصادق‪ ،‬وقد حدث بعضهم قال‪ :‬حججت فمررت بالمدينة‪،‬‬
‫التفت ف إذا أن ا باإلم ام الص ادق س اجداً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فأتيت قبر رسول هللا ‪ ‬فس لّمت علي ه‪ ،‬ث ّم‬
‫ّحن م ا دام س اجداً فقلت‪( :‬س بحان ربّي العظيم‬ ‫فجلس ت حتّى مللت‪ ،‬ث ّم قلت‪( :‬ألس ب ّ‬
‫وبحمده‪ ،‬أستغفر هللا ربّي وأتوب إليه ـ ثالثمائة مرّة ونيفا ً وستّين مرّة ـ فرف ع رأس ه‬
‫ث ّم نهض)(‪)5‬‬
‫وهكذا كان جميعهم‪ ،‬وكيف ال يكونون كذلك‪ ،‬وهم مث ال العبودي ة هلل تع الى‪،‬‬
‫ولوال ذلك السجود‪ ،‬وتلك العبودية‪ ،‬وما معهما من التسليم هلل تعالى‪ ،‬ما استحقوا تلك‬
‫المراتب الرفيعة التي أنالهم هللا إياها‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن السجود محل ألذك ار وأدعي ة‬
‫كثيرة‪ ،‬وردت عن النبي ‪ ‬وعن أئمة الهدى من بعده‪ ،‬فالتزمه ا‪ ،‬وح اول أن ت أتي‬
‫بالقدر الذي أطقته منها‪ ،‬حتى تتحقق فيك معانيها؛ فالسجود جسد وهي روحها‪ ،‬وهو‬
‫ظلمة وهي نورها‪.‬‬
‫فمن األذكار واألدعية الواردة عن رسول هللا ‪ ‬في السجود أنه ك ان يق ول‪:‬‬
‫(سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (‪)6‬‬
‫وكان يقول‪( :‬سبوح قدوس رب المالئكة والروح) (‪)7‬‬
‫وكان يقول‪( :‬اللهم لك سجدت وب ك آمنت‪ ،‬ول ك أس لمت‪ ،‬س جد وجهي لل ذي‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،82/166 :‬عن‪ :‬الملهوف ص‪.174‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،171 /82 :‬عن‪ :‬العلل ‪.1/222‬‬
‫‪ )(3‬مستدرك الوسائل ‪466 :4‬‬
‫‪ )(4‬فالح السائل‪ ،‬ابن طاووس‪133 :‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،165 /82 :‬عن‪ :‬الخرائج‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه مسلم‬
‫‪208‬‬
‫الخالقين) (‪)1‬‬ ‫خلقه وصوره‪ ،‬وشق سمعه وبصره تبارك هللا أحسن‬
‫والعظمة) (‪)2‬‬ ‫وكان يقول‪( :‬سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء‬
‫وكان يقول‪( :‬اللهم اغفر لي ذنبي كل ه دق ه وجل ه‪ ،‬وأول ه وآخ ره‪ ،‬وعالنيت ه‬
‫وسره) (‪)3‬‬
‫وكان يقول‪( :‬اللهم إني أعوذ برضاك من س خطك‪ ،‬وبمعافات ك من عقوبت ك‪،‬‬
‫وأعوذ بك منك ال أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) (‪)4‬‬
‫ومن األذك ار واألدعي ة ال واردة عن أئم ة اله دى في الس جود‪ ،‬م ا روي عن‬
‫اإلمام الباقر أن ه ك ان يق ول في س جوده‪( :‬اس ألك بح ق حبيب ك محم د ‪ ‬إالّ ب ّدلت‬
‫سيئاتي حسنات وحاسبتني حسابا ً يس يراً ـ ثم ق ال في الثاني ة ـ أس ألك بح ق حبيب ك‬
‫محمد ‪ ‬إالّ كفيتني مؤونة الدنيا وكل هول دون الجنة ـ ثم قال في الثالث ة ـ اس ألك‬
‫بحق حبيبك محمد ‪ ‬لما غف رت لي الكث ير من ال ذنوب والقلي ل‪ ،‬وقبلت من عملي‬
‫اليسير ـ ثم ق ال في الرابع ة ـ اس ألك بح ق حبيب ك محم د ‪ ‬لم ا ادخلت ني الجن ة‪،‬‬
‫وجعلتني من سكانها‪ ،‬ولما نجيتني من سفعات النار برحمتك) (‪)5‬‬
‫وكان اإلم ام الك اظم يق ول في س جوده‪( :‬أع وذ ب ك من ن ار حرّه ا ال يطف أ‪،‬‬
‫وأعوذ بك من نار جديدها اليبلى‪ ،‬وأعوذ بك من نار عطشانها ال يروى‪ ،‬وأعوذ بك‬
‫من نار مسلوبها اليكسى) (‪)6‬‬
‫وروى بعضهم أنه سمعه يقول في سجوده بصوت حزين‪ ،‬وتغرغر دموع ه‪:‬‬
‫(ربي عصيتك بلساني ولو شئت وع ّزتك الَخرستني‪ ،‬وعصيتك ببصري ول و ش ئت‬
‫وعزتك الَكمهتني‪ ،‬وعص يتك بس معي ول و ش ئت وعزت ك الص ممتني‪ ،‬وعص يتك‬
‫بيدي ولو شئت وعزتك لكنعتني‪ ،‬وعص يتك ب رجلي ول و ش ئت وعزت ك لج ذمتني‪،‬‬
‫وعص يتك بجمي ع ج وارحي ال تي أنعمت به ا علي وليس ه ذا ج زاؤك م ني)‪ ،‬ثم‬
‫أحصى له ألف م رة وه و يق ول‪( :‬العف و العف و)‪ ،‬ثم ألص ق خ ده االَيمن ب األَرض‪،‬‬
‫(بؤت إلي ك ب ذنبي‪ ،‬عملت س وءاً وظلمت نفس ي ف اغفر‬ ‫ُ‬ ‫وراح يقول بصوت حزين‪:‬‬
‫لي فان ه ال يغف ر ال ذنوب غ يرك ي ا م والي) ثالث م رات‪ ،‬ثم ألص ق خ ده األيس ر‬
‫باالَرض‪ ،‬وراح يقول‪( :‬ارحم من أساء واقترف واستكان واعترف) ثالث مرات ثم‬
‫رفع رأسه(‪.)7‬‬
‫ومن أدعية اإلم ام الص ادق في س جوده قول ه‪( :‬س بحانك الله َّم أنت ربي حق ا ً‬
‫إن عملي ض عيف فض اعفه لي‪ ،‬الله َّم ق ني‬ ‫حقا ً سجدت لك يا ربِّ تعبّداً ورق اً‪ ،‬الله َّم ّ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‬
‫‪ )(5‬فالح السائل‪ ،‬ابن طاووس‪243 :‬‬
‫‪ )(6‬الكافي ‪328 :3‬‬
‫‪ )(7‬التهذيب ‪111 :2‬‬
‫‪209‬‬
‫الرحيم) (‪)1‬‬ ‫عذابك يوم تبعث عبادك وتب علي إنّك أنت التواب‬
‫وكان يقول‪( :‬اللهم اني اسألك الراحة عن د الم وت‪ ،‬والراح ة عن د الحس اب ـ‬
‫قال اسماعيل في حديثه ـ واالَمن عند الحساب) (‪)2‬‬
‫وكان يقول‪( :‬سجد وجهي اللئيم‪ ،‬لوجه ربي الكريم) (‪)3‬‬
‫وكان يقول‪( :‬أتراك مع ّذبي وق د أظم أت ل ك ه واجري‪ ،‬أت راك مع ّذبي وق د‬
‫عفّ رت ل ك في ال تراب وجهي‪ ،‬أت راك مع ّذبي وق د اجتنبت ل ك المعاص ي‪ ،‬أت راك‬
‫معذبي وقد أسهرت لك ليلي) (‪)4‬‬ ‫ّ‬
‫وروي أنه قال‪( :‬إذا سجدت فكبّر وق ل‪ :‬الله َّم ل ك س جدت‪ ،‬وب ك آمنت‪ ،‬ول ك‬
‫أسلمت‪ ،‬وعليك توكلت‪ ،‬وأنت ربي سجد وجهي للذي خلق ه وش ق س معه وبص ره‪،‬‬
‫الحم ُّد هلل ربِّ الع المين تب ارك هللا أحس ن الخ القين‪ ،‬ثم ق ل‪ :‬س بحان ربي االَعلى‬
‫وبحمده‪ ،‬ثالث مرات فإذا رفعت رأسك فقل بين السجدتين‪ :‬الله َّم اغفر لي وارحمني‬
‫ي من خير فقير‪ .‬تبارك هللا رب العالمين) (‪)5‬‬ ‫واجرني وادفع عني‪ ،‬إنّي لما أنزلت إل َّ‬
‫االمام الرضا يقول في سجود‪( :‬لك الحمد إن أطعت ك‪ ،‬وال حج ة لي إن‬ ‫وكان ِ‬
‫عصيتك‪ ،‬وال صنع لي وال لغيري في إحسانك‪ ،‬وال عذر لي إن أسأت‪ ،‬م ا أص ابني‬
‫من حسنة فمن ك ي ا ك ريم‪ ،‬اغف ر لمن في مش ارق االَرض ومغاربه ا من المؤم نين‬
‫والمؤمنات) (‪)6‬‬
‫وغيرها من األذكار واألدعية الكثيرة التي يمكنك ـ أيها المريد الص ادق ـ أن‬
‫تتزود منها بالمعارف واآلداب التي تقربك إلى رب ك‪ ،‬واعلم أن ه ال ح رج علي ك في‬
‫ع في‬ ‫االم ام الب اقر أن ه ق ال‪( :‬اد ُ‬
‫أن تدعو في سجودك لشؤون دنياك‪ ،‬فقد روي عن ِ‬
‫طلب ال رزق في المكتوب ة وأنت س اجد‪ :‬ي ا خ ير المس ؤولين‪ ،‬وي ا خ ير المعطين‪،‬‬
‫ارزقني وارزق عيالي من فضلك‪ ،‬فإنّك ذو الفضل العظيم) (‪)7‬‬
‫وروي أن بعضهم شكا لإلمام الصادق مصيبة حلت به‪ ،‬فقال‪( :‬عليك بالدعاء‬
‫فإن أقرب مايكون العبد إلى هللا وهو ساجد)‪ ،‬فق ال الرج ل‪ :‬ف أدعو في‬ ‫وأنت ساجد‪َّ ،‬‬
‫الفريضة‪ ،‬وأسمي حاجتي؟ فقال‪( :‬نعم‪ ،‬قد فعل ذل ك رس ول هللا ‪ ‬ف دعا على ق وم‬
‫بأسمائهم وأسماء آبائهم‪ ،‬وفعله علي بعده) (‪)8‬‬
‫ع لل دنيا واآلخ رة‪ ،‬فإنّ ه ربِّ‬‫وسأله آخر‪ :‬أدعو وأن ا س اجد؟ فق ال‪( :‬نعم‪ ،‬ف اد ُ‬
‫الدنيا واآلخرة) (‪)9‬‬

‫‪ )(1‬الكافي ‪323 :3‬‬


‫‪ )(2‬مستدرك الوسائل ‪463 :4‬‬
‫‪ )(3‬مستدرك الوسائل ‪463 :4‬‬
‫‪ )(4‬اُصول الكافي ‪227 :1‬‬
‫‪ )(5‬الكافي ‪321 :3‬‬
‫‪ )(6‬عيون أخبار الرضا ‪205 :2‬‬
‫‪ )(7‬وسائل الشيعة‪372 :6 ،‬‬
‫‪ )(8‬الكافي ‪324 :3‬‬
‫‪ )(9‬الكافي ‪323 :3‬‬
‫‪210‬‬
‫وقال بعضهم لإلمام الكاظم‪ :‬علّمني دعاء‪ ،‬ف إني ق د بليت بش يء ـ وك ان ق د‬
‫ُحبِس ببغداد حيث أتُّهم بأموالهم ـ فكتب إليه‪( :‬إذا صلّيت فأط ل الس جود ثم قُ ل‪( :‬ي ا‬
‫أحد من ال أحد له) حتى ينقطع النفس‪ ،‬ثُم قُل‪( :‬يا من ال يزيده كثرة الدعاء إالّ ج وداً‬
‫وكرماً) ح تى تنقط ع نفس ك‪ ،‬ثم ق ل (ي ا رب أنت أنت أنت ال ذي انقط ع الرج اء إالّ‬
‫منك‪ ،‬يا علي يا عظيم)‪ ،‬قال الرجل‪ :‬فدعوت به ففرّج هللا عني وخلّي سبيلي(‪.)10‬‬
‫هذا جوابي ـ أيها المريد الصادق ـ عن أسئلتك؛ فاحرص على أن تمتطي هذه‬
‫الوسيلة العظيمة‪ ،‬لتزكي نفسك وتطهرها‪ ،‬وترتقي بها إلى تلك العوالم الجميلة ال تي‬
‫سار إليها رسل هللا وأئمة الهدى والصالحون السائرون على دربهم‪.‬‬

‫‪ )(10‬الكافي ‪328 :3‬‬


‫‪211‬‬
‫الصالة الخاشعة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن الص الة الخاش عة‪ ،‬ومراتبه ا‪،‬‬
‫وكيفية التحقق بها‪ ،‬واألسباب المعينة على ذلك‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الصالة الخاشعة هي مدرسة التزكي ة‬
‫والترقية الك برى‪ ،‬وهي مع راج الم ؤمن‪ ،‬والنج اح في تأديته ا‪ ،‬والت درب الص حيح‬
‫على أركانها وشروطها ومستحباتها‪ ،‬يجعلها تؤدي دورها في اإلصالح والته ذيب‪،‬‬
‫لينتقل صاحبها من أصحاب النفوس اللوامة إلى أصحاب النفوس المطمئنة‪.‬‬
‫وبذلك؛ فإن الصالة إن كانت خاوية من ك ل المع اني‪ ،‬ال ص لة له ا ب الروح‪،‬‬
‫وال عالقة لها بالتزكية‪ ،‬ألنها مجرد حركات جسدية‪ ،‬يؤديها ص احبها لرف ع العت اب‬
‫عنه إما من نفسه أو غيره‪ ،‬أما حقيقة األمر؛ فهو أنه من التاركين للصالة‪ ،‬وإن كان‬
‫في الظاهر من الحريصين عليها‪.‬‬
‫إن العبد يسجد السجدة وعنده أنّه تقرّب بها‬ ‫وقد قال بعضهم مشيرا إلى ذلك‪ّ ( :‬‬
‫إلى هللا تعالى ولو قس مت ذنوب ه في س جدته على أه ل مدينت ه هلك وا‪ ،‬قي ل‪ :‬وكي ف‬
‫ذاك؟ قال‪ :‬يكون ساجدا عند هللا وقلبه مص غ إلى ه وى ومش اهد لباط ل ق د اس تولى‬
‫عليه)‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه ق ال‪( :‬إن العب د ليص لي الص الة ال يكتب‬
‫له نصفها‪ ،‬وال ثلثها وال ربعها وال خمسها وال سدس ها وال عش رها)‪ ،‬وك ان يق ول‪:‬‬
‫(إنما يكتب للعبد من صالته ما عقل منها) (‪)1‬‬
‫وروي عن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬و هللا إنّه ليأتي على الرجل خمسون سنة‬
‫ي ش يء أش ّد من ه ذا‪ ،‬وهللا إنّكم لتعرف ون من‬ ‫م ا قب ل هللا من ه ص الة واح دة‪ ،‬ف أ ّ‬
‫جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلّي لبعضكم ما قبلها من ه الس تخفافه به ا‪ ،‬إن هللا‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫استخف به)(‪))2‬‬ ‫ال يقبل إاّل الحسن فكيف يقبل ما‬
‫وفي األثر أن داود عليه السالم قال في مناجاته‪( :‬إلهى من يسكن بيتك وممن‬
‫تتقبل الصالة؟) فأوحى هللا إلي ه‪( :‬ي ا داود إنم ا يس كن بي تي وأقب ل الص الة من ه من‬
‫تواضع لعظمتي‪ ،‬وقطع نهاره بذكرى‪ ،‬وك ف نفس ه عن الش هوات من أجلى‪ ،‬يطعم‬
‫الجائع‪ ،‬ويؤوي الغريب‪ ،‬ويرحم المصاب‪ ،‬ف ذلك ال ذي يض يء ن وره في الس موات‬
‫كالشمس‪ ،‬إن دع اني لبّيت ه‪ ،‬وإن س ألنى أعطيت ه‪ ،‬أجع ل ل ه في الجه ل حلم ا‪ ،‬وفي‬
‫الغفلة ذكرا‪ ،‬وفي الظلمة نورا‪ ،‬وانما مثله في الناس كالفردوس في أعلى الجن ان ال‬
‫تيبس أنهارها وال تتغير ثمارها)‬
‫الص اَل ةَ‬ ‫َ‬
‫﴿وأقِ ِم َّ‬
‫والقرآن الكريم يشير إلى ذل ك بص راحة؛ فق د ق ال هللا تع الى‪َ :‬‬
‫لِ ِذ ْك ِري﴾ [طه‪ ،]14 :‬وهو يدل على أن الغرض من الصالة تحقيق ذكر هللا‪ ،‬والغفل ة‬
‫‪ )(1‬أحمد وأبو داود والنسائي‪.‬‬
‫‪ )(2‬التهذيب ج ‪ 1‬ص ‪.204‬‬
‫‪212‬‬
‫تضاد الذكر‪ ،‬فمن غف ل في جمي ع ص الته كي ف يك ون مقيم ا للص الة‪ ،‬وهللا تع الى‬
‫﴿واَل تَ ُك ْن ِمنَ ْالغَافِلِينَ ﴾ [األعراف‪]205 :‬‬ ‫يقول‪َ :‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ومثل ذلك قوله تع الى في تح ريم ص الة الس كران ح تى يعق ل‪﴿ :‬يَاأيُّهَ ا ال ِذينَ‬
‫صاَل ةَ َوأَ ْنتُ ْم ُس َك َ‬
‫ارى َحتَّى تَ ْعلَ ُموا َما تَقُولُونَ ﴾ [النساء‪ ،]43 :‬وال ذي‬ ‫آ َمنُوا اَل تَ ْق َربُوا ال َّ‬
‫يمكن انطباقه على الغافل أو المنشغل بأي شاغل‪.‬‬
‫ولهذا اتفق الحكماء على وجوب الخش وع‪ ،‬وأن ه ل واله لن يك ون للص الة أي‬
‫تأثير في صاحبها‪ ،‬ال في نهيه عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬وال في تقريبه من ربه‪.‬‬
‫وقد ق ال بعض هم ي بين الف رق بين الص الة وغيره ا من الش عائر ال تي ق د ال‬
‫أن المص لّي من اج ربّ ه كم ا ورد الخ بر ب ه‬ ‫يشترط فيه ا الخش وع‪( :‬والتحقي ق في ه ّ‬
‫والكالم مع الغفلة ليس بمناجاة البتّة‪ ،‬وبيان ه أن الزك اة إن غف ل اإلنس ان عنه ا مثال‬
‫فهي في نفسها مخالفة للشهوة‪ ،‬شديدة على النفس‪ ،‬وكذا الصوم قاهر للق وى‪ ،‬كاس ر‬
‫لسطوة الهوى الّذي هو آلة الشيطان عد ّو هللا‪ ،‬فال يبعد أن يحصل منهما مقصود مع‬
‫الغفلة‪ ،‬وكذلك الح ّج أفعاله شاقّة ش ديدة‪ ،‬وفي ه من المجاه دة م ا يحص ل ب ه اإليالم‪،‬‬
‫ك ان القلب حاض را م ع أفعال ه أو لم يكن‪ ،‬أ ّم ا الص الة فليس فيه ا إاّل ذك ر وق راءة‬
‫وركوع وسجود وقيام وقعود‪ ،‬أ ّما الذكر فإنّه محاورة ومناجاة مع هللا تعالى فا ّم ا أن‬
‫يك ون المقص ود من ه كون ه خطاب ا ومح اورة‪ ،‬أو المقص ود الح روف واألص وات‬
‫امتحانا للّسان بالعمل كما تمتحن المع دة باإلمس اك في الص وم‪ ،‬وكم ا يمتحن الب دن‬
‫ق الح ّج ويمتحن القلب بمشقة إخراج الزكاة واقتطاع المال المعشوق‪ ،‬وال ش ّ‬
‫ك‬ ‫بمشا ّ‬
‫فإن تحريك اللّسان باله ذيان م ا أخفّ ه على العاق ل فليس في ه‬ ‫أن هذا القسم باطل ّ‬ ‫في ّ‬
‫امتحان من حيث إنّه عمل بل المقصود الحروف من حيث إنّه نطق وال يك ون نطق ا‬
‫ي س ؤال في‬ ‫إاّل إذا أعرب ع ّما في الضمير‪ ،‬وال يكون معربا إاّل بحض ور القلب ف أ ّ‬
‫قوله‪( :‬ا ْه ِدنَا الصِّراطَ ْال ُم ْستَقِي َم) إذا ك ان القلب غ افال‪ ،‬وإن لم يقص د كون ه تض رّعا‬
‫ي مشقّة في حركة اللّسان به في الغفلة ال سيّما بعد االعتياد؟)(‪)1‬‬ ‫ودعاء فأ ّ‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاس مع لم ا س أحدثك عن ه من أس باب‬
‫الخشوع‪ ،‬وكيفياته؛ لعل هللا ينفعك بها‪ ،‬فتجاهد نفسك في تحصيلها‪ ،‬وفي ال ترقي في‬
‫معارجها‪.‬‬
‫أسباب الخشوع‪:‬‬
‫اعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن للخشوع في الص الة م راتب مختلف ة بحس ب‬
‫المنازل التي تنزل فيها النفس‪ ،‬بعضها يكون مجاهدة‪ ،‬وبعضها يكون مواهب إلهية‪،‬‬
‫ال تستدعي سوى توفير القابلية‪.‬‬
‫وسر ذلك هو أن الصالة الخاشعة الكامل ة ليس ت من م راتب النفس اللوام ة‪،‬‬
‫وإنما هي من مراتب النفس المطمئنة‪ ،‬بل هي هبة من هبات هللا تعالى له ا‪ ،‬ذل ك أن‬
‫هللا تعالى بكرمه ولطفه وشكره لعباده الصالحين يمن عليهم بتحقي ق التواص ل بين ه‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪370 :‬‬

‫‪213‬‬
‫وبينهم في الصالة‪.‬‬
‫أم ا أص حاب النف وس اللوام ة؛ فهم يجاه دون أنفس هم لتحقي ق الخش وع‪،‬‬
‫والخروج بصالتهم من صالة األجساد إلى ص الة األرواح‪ ،‬ومن الطق وس الش كلية‬
‫إلى الحقائق المعنوية‪.‬‬
‫(إن ال رجلين ليقوم ان إلى الص الة وركوعهم ا‬ ‫وق د ورد في بعض اآلث ار‪ّ :‬‬
‫وإن ما بين صالتيهما ما بين السماء واألرض)‬‫وسجودهما واحد‪ّ ،‬‬
‫وقد قال بعض الحكماء يشير إلى هذا‪( :‬للصالة مقامات ومراتب بحيث تكون‬
‫صالة المصلي في المرتبة التي ه و فيه ا تختل ف عن ص الته في المرتب ة األخ رى‬
‫اختالفا ً كب يراً‪ ،‬كم ا أن مقام ه يختل ف م ع س ائر المقام ات اختالف ا ً كث يراً؛ فم ا دام‬
‫اإلنسان في صورة اإلنسان وهو إنسان صوري فص الته أيض ا ً ص ورية‪ ،‬وص ورة‬
‫الص الة وفائ دتها إنم ا هي بالنس بة إلى ص حتها الفقهي ة وكونه ا مجزي ةً ب األجزاء‬
‫الصورية الفقهية هذا إذا قام بجميع أجزائها وشرائط صحتها وعلى ال رغم من أنه ا‬
‫فاقدة لشرائط القبول وغير مرضية من هللا تعالى؛ فإذا تجاوز المص لي من المرتب ة‬
‫الظاهرية إلى المرتب ة الباطني ة‪ ،‬وعن الص ورة إلى المع نى فتك ون ص الته ص الة‬
‫حقيقية بمقدار ما هو متحقق فيها من معنى الصالة وباطنها وسرّها) (‪)1‬‬
‫وللوصول إلى تلك المراتب السنية التي وص ل إليه ا أولي اء هللا والص الحون‬
‫من عب اده‪ ،‬يحت اج المري د إلى توف ير األس باب المعين ة ل ذلك‪ ،‬وال تي تجع ل لنفس ه‬
‫القابلية لحضور القلب والخشوع بسهولة ويسر‪.‬‬
‫ولن يعجز عقلك ـ أيها المريد الصادق ـ عن معرفة تل ك األس باب‪ ،‬ذل ك أنن ا‬
‫نمارسها في كل حياتنا‪ ،‬ومع كل أمر نهتم به‪ ،‬ونعزم علي ه‪ ،‬وتعظم ه نفوس نا‪ ،‬ومن‬
‫حيث ال نشعر‪.‬‬
‫ذلك أن الخشوع ينطلق من ذلك االهتمام الش ديد بالص الة وأهميته ا وارتب اط‬
‫مصيرنا بها‪ ..‬وهو ما يستدعي توفر األركان التي ال يتم الخشوع إال بها‪.‬‬
‫وأولها ـ كما اتفق الحكماء(‪ )2‬ـ حضور القلب مع الصالة‪ ،‬وتفرغه لها‪ ،‬وعدم‬
‫انشغاله بسواها‪ ،‬فيكون العلم بالفعل والقول مقرونا بها‪ ،‬وال يك ون الفك ر جاري ا في‬
‫غيرها‪.‬‬
‫وثانيها فهم الكالم الذي يردده‪ ،‬وسر الحركات ال تي يفعله ا‪ ،‬وه و أم ر وراء‬
‫حضور القلب‪ ،‬ذلك أنه ربما يكون القلب حاضرا مع اللّفظ‪ ،‬وال يك ون حاض را م ع‬
‫المعنى‪ ..‬وهذا مقام يتفاوت الناس في ه حس ب م راتبهم‪( ،‬إذ ليس يش ترك الن اس في‬
‫تفهّم المع اني للق رآن والتس بيحات وكم من مع ان لطيف ة يفهمه ا المص لّي في أثن اء‬
‫الصالة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله‪ ،‬ومن ه ذا الوج ه ك انت الص الة ناهي ة عن‬
‫الفحشاء والمنكر فإنّها تفهّم أمورا تلك األمور تمنع من الفحشاء ال محالة)‬

‫‪ )(1‬سر الصالة أو صالة العارفين (ص‪)5 :‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.371 :‬‬
‫‪214‬‬
‫وثالثها التعظيمـ‪ ،‬ذلك أنه الدافع الذي يدفع إلى االهتمام والحض ور واالنفع ال‬
‫والتفعيل‪.‬‬
‫ألن من ال يخاف ال‬ ‫ورابعها الهيبة‪ ،‬وهي (عبارة عن خوف منشؤه التعظيم‪ّ ،‬‬
‫يس ّمى هائبا‪ ،‬والمخافة من العقرب وسوء خلق العبد وما يجري مجراه من األس باب‬
‫الخسيس ة ال يس ّمى مهاب ة‪ ،‬ب ل الخ وف من الس لطان المعظّم يس ّمى مهاب ة فالهيب ة‬
‫خوف مصدرها اإلجالل)‬
‫ّ‬
‫وخامسها ال ّرجاء‪( ،‬فكم من معظم ملك ا من المل وك يهاب ه أو يخ اف س طوته‬
‫ولكن ال يرجو مب ّرته‪ ،‬والعبد ينبغي أن يكون راجيا بصالته ثواب هللا كما أنّه خائف‬
‫بتقصيره عقاب هللا ع ّز وجلّ)‬
‫وسادسها الحياء‪ ،‬و(مستنده استشعار تقصير وتوهّم ذنب)‬
‫أما أسباب هذه المعاني الدافعة لها‪ ،‬والمعينة عليها‪ ،‬فتبدأ بالهمة العالي ة‪ ،‬ذل ك‬
‫أن القلب تابع للهمة؛ فال يحض ر إال فيم ا يهم ه‪ ،‬ويعني ه‪ ،‬وينف ر من ك ل م ا لم يكن‬
‫كذلك‪ ،‬ولذلك ترى ـ أيها المريد الصادق ـ أن القلب إذا لم يحضر في الصالة لم يكن‬
‫متعطال‪ ،‬بل إن همته تجول في أمور الدنيا التي يعتبرها أهم عنده من الصالة‪.‬‬
‫ولذلك يحتاج من يريد تحصيل الخشوع إلى صرف الهمة إلى الص الة‪ ،‬وهي‬
‫(ال تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطل وب من وط به ا‪ ،‬وذل ك ه و اإليم ان‬
‫والتصديق بأن اآلخرة خير وأبقى وأن الصالة وسيلة إليها) (‪)1‬‬
‫ومن تلك األسباب التفهم؛ وهو يس تدعي حض ور ال ذهن وص رفه إلى إدراك‬
‫المعنى‪ ،‬وال يتحقق ذل ك إال باإلقب ال على الفك ر والتش مر ل دفع الخ واطر‪ ،‬ودفعه ا‬
‫وقطع موادها‪.‬‬
‫ف الخواطر ـ أيه ا المري د الص ادق ـ هي الس م الزع اف ال ذي يقض ي على‬
‫الخشوع‪ ،‬ويمنع منه‪ ،‬بل يجعل المصلي غافال ال عالقة له بالصالة‪ ،‬وال عالق ة له ا‬
‫به‪ ،‬ولذلك سببان اتفق عليهما الحكماء‪.‬‬
‫أما أولهما؛ فهو سبب خارجي؛ فكل (م ا يق رع الس مع أو يظه ر للبص ر‪ ،‬ق د‬
‫يختطف الهم حتى يتبعه وينصرف فيه‪ ،‬ثم تنج ر من ه الفك رة إلى غ يره‪ ،‬ويتسلس ل‬
‫ويكون اإلبصار سببا لالفتكار‪ ..‬ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه م ا ج رى على‬
‫حواسه‪ ،‬ولكن الضعيف ال بد وأن يتفرق به فكره)‬
‫وعالج هذا السبب هو دفعه بأي طريقة‪ ،‬ول و بغض البص ر‪ ،‬أو أن ال ي ترك‬
‫المصلي بين يديه ما يشغل حسه‪ ،‬أو (يق رب من حائ ط عن د ص الته ح تى ال تتس ع‬
‫مس افة بص ره‪ ،‬ويح ترز من الص الة على الش وارع وفي المواض ع المنقوش ة‬
‫المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة)‪ ،‬وغيرها مما يشغله عن صالته‪.‬‬
‫وأما الثاني‪ ،‬وهو األخطر‪ ،‬وهي ذلك االنشغال الداخلي للنفس بشؤون ال دنيا‪،‬‬
‫وعالجه بأن (يرد النفس قهرا إلى فهم ما يقرؤه في الصالة ويشغلها ب ه عن غ يره‪،‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)162 /1‬‬


‫‪215‬‬
‫ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يجدد على نفسه ذكر اآلخرة وموق ف‬
‫المناجاة وخطر المقام بين يدي هللا سبحانه وهو المطل ع‪ ،‬ويف رغ قلب ه قب ل التح ريم‬
‫بالصالة عما يهمه فال يترك لنفسه شغال يلتفت إليه خاطره)‬
‫وه ذا يحت اج إلى المجاه دة العظيم ة‪ ،‬ح تى تتع ود النفس على الخش وع‪،‬‬
‫والحض ور م ع الص الة‪ ،‬وتت دبر في المع اني ال واردة فيه ا‪ ،‬وبالمداوم ة على ذل ك‬
‫تتحول الصالة الخاشعة إلى ملكة راسخة‪ ،‬ال تكلف صاحبها أي عنت أو مشقة‪.‬‬
‫ومما يعين على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ تعظيم الصالة‪ ،‬وإدراك أهميتها‪،‬‬
‫وعالقته ا بالس عادة األبدي ة‪ ،‬وهي تتول د من معرف تين‪ :‬معرف ة جالل هللا ع ز وج ل‬
‫وعظمت ه‪ ..‬ومعرف ة حاج ة النفس إلى ربه ا‪ ،‬وكونه ا عب دا بين يدي ه‪ ،‬ال تمل ك من‬
‫أمرها شيئا‪.‬‬
‫وذلك ما يولد لديها حالة الهيبة المختلطة بالرج اء المختلط ة بالمحب ة‪ ..‬وذل ك‬
‫بحسب ما تردده من أذكار‪ ،‬أو تقرؤه من آيات‪.‬‬
‫كيفية الخشوع‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تتعلم كيفية الخشوع؛‬
‫فالعلم به أجدى من الكثير من التفاصيل التي يذكرها الفقه اء في المس ائل المختلف ة‪،‬‬
‫والتي قد ال تقع أبدا‪.‬‬
‫فلذلك استفد من ك ل التج ارب ال تي ذكره ا الص الحون عن أنفس هم‪ ،‬وكيفي ة‬
‫ي﴾‬ ‫يل َم ْن أَنَ َ‬
‫اب إِلَ َّ‬ ‫﴿واتَّبِ ْع َسبِ َ‬
‫صالتهم‪ ،‬والمعاني التي يستحضرونها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫[لقمان‪ ،]15 :‬وسترى كيف يفتح هللا عليك من المعاني ما لم يكن يخطر على بالك‪.‬‬
‫ومن تلك التجارب ما ذكره بعضهم‪ ،‬عندما سئل عن صالته فقال‪( :‬إذا حانت‬
‫الصالة أسبغت الوضوء‪ ،‬وأتيت الموضع الذي أري د الص الة في ه‪ ،‬فأقع د في ه ح تى‬
‫تجتمع جوارحى‪ ،‬ثم أقوم إلى صالتي‪ ،‬وأجعل الكعبة بين حاجبي‪ ،‬والص راط تحت‬
‫قدمي‪ ،‬والجن ة عن يمي نى‪ ،‬والن ار عن ش مالى‪ ،‬ومل ك الم وت ورائى‪ ،‬أظنه ا آخ ر‬
‫صالتي‪ ،‬ثم أقوم بين الرجاء والخوف‪ ،‬وأكبر تكبيرا بتحقيق‪ ،‬وأقرأ ق راءة بترتي ل‪،‬‬
‫وأركع ركوعا بتواضع‪ ،‬وأسجد سجودا بتخشع‪ ،‬وأقعد على الورك األيسر‪ ،‬وأفرش‬
‫ظه ر ق دمها وأنص ب الق دم اليم نى على اإلبه ام‪ ،‬وأتبعه ا اإلخالص‪ ،‬ثم ال أدرى أ‬
‫قبلت منى أم ال)(‪)1‬‬
‫وبناء على طلبك تفاصيل كيفية الخشوع‪ ،‬وما ينبغي استحضاره عند كل فعل‬
‫من أفعال الصالة‪ ،‬أو قول من أقوالها؛ فسأورد لك بعض ما ذكره الحكماء في ذلك‪،‬‬
‫مما تحتاجه في هذه المرحلة من سيرك‪ ،‬وإن كان لكل مرحلة خشوعها الخاص بها‪.‬‬
‫ويبدأ ذلك بسماعك لنداء المؤذن؛ فصالتك تبدأه عند س ماعه‪ ،‬واألذان ـ عن د‬
‫الصادقين من السالكين ـ جزء من الصالة‪ ،‬وفاتحة لها‪ ..‬فتذكر عن دما تس معه ه ول‬
‫إن المس ارعين‬ ‫النداء يوم القيامة‪ ،‬وش ّمر بظاهرك وباطنك لإلجاب ة والمس ارعة‪( ،‬ف ّ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.271 /1 ،‬‬


‫‪216‬‬
‫إلى هذا النداء هم الّذين ينادون باللّطف يوم العرض األكبر‪ ،‬فاعرض قلبك على هذا‬
‫النداء؛ ف إن وجدت ه ممل وءا ب الفرح واالستبش ار‪ ،‬ومش حونا بالرغب ة إلى االبت دار؛‬
‫فاعلم أنّه يأتيك النداء بالبشرى والفوز يوم القضاء) (‪)1‬‬
‫واعتبر ـ أيها المري د الص ادق ـ بكلم ات األذان؛ فهي ليس ت كلم ات عادي ة‪،‬‬
‫وإنما هي رسائل رباني ة‪ ،‬ك ل كلم ة منه ا له ا آث اره التربوي ة العظيم ة إن وعيته ا‪،‬‬
‫أن هللا ج ّل جالله ه و األوّل‬‫فانظر (كيف افتتحت باهلل‪ ،‬واختتمت باهلل‪ ،‬واعتبر بذلك ّ‬
‫واآلخ ر والظ اهر والب اطن‪ ..‬ووطّن قلب ك بتعظيم ه وتكب يره عن د س ماع التكب ير‪،‬‬
‫واستحقر الدنيا وما فيها لئالّ تكون كاذبا في تكبيرك‪ ،‬وانف عن خاطرك ك ّل معب ود‬
‫سواه بسماع التهليل وأحضر النب ّي ‪ ‬وتأ ّدب بين يديه وأشهد له بالرس الة مخلص ا‬
‫وص ّل عليه وآله‪ ،‬وحرّك نفسك‪ ،‬واسع بقلب ك وقالب ك عن د ال دعاء إلى الص الة وم ا‬
‫يوجب الفالح وما هو خ ير األعم ال وأفض لها‪ ،‬وج ّدد عه دك بع د ذل ك بتكب ير هللا‬
‫وتعظيمه واختمه بذكره كما افتتحت به واجعل مبدأك منه وعودك إلي ه وقوام ك ب ه‬
‫واعتمادك على حوله وق ّوته فإنّه ال حول وال قوّة إاّل باهلل العل ّ‬
‫ي العظيم)(‪)2‬‬
‫واستحضر عند ذلك أيضا أن وقت األذان ال ُم ْؤ ِذن بدخول وقت الص الة‪ ،‬ليس‬
‫وقتا عاديا‪ ،‬وإنما هو (ميقات جعله هللا تعالى لك لتقوم فيه بخدمت ه‪ ،‬وتتأهّ ل للمث ول‬
‫في حضرته والفوز بطاعته‪ ،‬وليظهر على قلبك السرور وعلى وجهك البهج ة عن د‬
‫دخوله لكونه سببا لقربك ووسيلة إلى ف وزك‪ ،‬فاس تع ّد ل ه بالطه ارة والنظاف ة ولبس‬
‫الثياب الصالحة للمناجاة كما تتأهّب عن د الق دوم على مل ك من مل وك ال دنيا‪ ،‬وتلقّ اه‬
‫بالوقار والسكينة والخوف والرجاء)(‪)3‬‬
‫و قد روي في هذا عن أص حاب رس ول هللا ‪ ‬أنهم ق الوا‪( :‬ك ان رس ول هللا‬
‫‪ ‬يح ّدثنا ونح ّدث ه ف إذا حض رت الص الة فكأنّ ه لم يعرفن ا ولم نعرف ه)(‪ ،)4‬وذل ك‬
‫الشتغاله باهلل عن ك ّل شيء‪.‬‬
‫ويروى عن اإلم ام عل ّي أن ه ك ان إذا حض ر وقت الص الة يتملم ل وي تزلزل‬
‫فيق ال ل ه‪ :‬مال ك ي ا أم ير المؤم نين؟ فيق ول‪( :‬ج اء وقت أمان ة عرض ها هللا على‬
‫السماوات واألرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها(‪.)5‬‬
‫وبعد سماعك األذان ـ أيها المريد الصادق ـ أس رع إلى تجدي د الطه ارة إن لم‬
‫تكن متطهرا‪ ،‬وال تنس عندها أن تطهر (لبّك الّذي هو ذاتك‪ ،‬وهو قلب ك‪ ،‬فاجته د ل ه‬
‫تطهيرا بالتوبة والندم على ما فرط‪ ،‬وتصميم العزم على الترك في المستقبل‪ ،‬فطهّر‬
‫باطنك فإنّه موضع نظر معبودك)‬
‫وقد قال اإلمام الرضا ـ يشير إلى مقاص د الطه ارة وكيفي ة الخش وع فيه ا ـ‪:‬‬

‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪378 :‬‬


‫‪ )(2‬راجع أسرار الصالة ص ‪.186‬‬
‫‪ )(3‬راجع أسرار الصالة ص ‪.185‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار (‪)258 /84‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار (‪)256 /84‬‬
‫‪217‬‬
‫(إنّما أمر بالوضوء ليكون العبد طاهرا إذا ق ام بين ي دي الجبّ ار عن د مناجات ه إيّ اه‪،‬‬
‫مطيعا له فيما أمره‪ ،‬نقيّا من األدناس والنجاسة مع ما في ه من ذه اب الكس ل وط رد‬
‫النع اس‪ ،‬وتزكي ة الف ؤاد للقي ام بين ي دي الجبّ ار‪ ،‬وإنّم ا وجب على الوج ه والي دين‬
‫ألن العب د إذا ق ام بين ي دي الجبّ ار‪ ،‬فانّم ا ينكش ف من جوارح ه‬ ‫والرأس والرجلين ّ‬
‫ويظه ر م ا وجب في ه الوض وء‪ ،‬وذل ك أنّ ه بوجه ه يس جد ويخض ع‪ ،‬وبي ده يس أل‬
‫وي رغب وي رهب ويتبتّ ل‪ ،‬وبرأس ه يس تقبله في ركوع ه وس جوده‪ ،‬وبرجلي ه يق وم‬
‫ألن الجناب ة من نفس اإلنس ان وه و‬ ‫ويقع د‪ ،‬وأم ر بالغس ل من الجناب ة دون الخالء ّ‬
‫شيء يخرج من جميع جسده والخالء ليس هو من نفس اإلنسان إنّما هو غذاء يدخل‬
‫من باب ويخرج من باب) (‪)1‬‬
‫واستش عر ـ أيه ا المري د الص ادق ـ عن د ارت دائك للثي اب الط اهرة الس اترة‬
‫الخاصة بالصالة‪ ،‬ما قال ه اإلم ام الص ادق عن ه‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬أزين اللّب اس للمؤم نين‬
‫لب اس التق وى‪ ،‬وأنعم ه اإليم ان ق ال هللا ع ّز وج لّ‪َ ﴿ :‬ولِبَ اسُ التَّ ْق َوى َذلِ كَ خَ ْي رٌ﴾‬
‫[األعراف‪ ،]26 :‬وأ ّما اللّب اس الظ اهر فنعم ة من هللا يس تر به ا ع ورات ب ني آدم‪،‬‬
‫وهي كرامة أكرم هللا بها عباده ذريّة آدم عليه السّالم ما لم يك رم به ا غ يرهم‪ ،‬وهي‬
‫للمؤمنين آلة ألداء ما افترض هللا عليهم‪ ،‬وخير لباس ك م ا ال يش غلك عن هللا تع الى‬
‫ب ل يقرّب ك من ش كره وذك ره وطاعت ه وال يحمل ك إلى العجب والري اء وال تزيّن‬
‫والمفاخرة والخيالء فإنّها من آفات ال ّدين ومورثة القسوة في القلب‪ ،‬وإذ لبست ثوبك‬
‫فاذكر ستر هللا عليك ذنوبك برحمت ه‪ ،‬وألبس باطن ك بالص دق كم ا ألبس ت ظ اهرك‬
‫بثوبك‪ ،‬وليكن باطنك في ستر الرهبة وظاهرك في ستر الطاعة‪ ،‬واعتبر بفض ل هللا‬
‫ع ّز وج ّل حيث خلق أسباب اللّب اس لتس تر الع ورات الظ اهرة‪ ،‬وفتح أب واب التوب ة‬
‫واإلنابة لتس تر به ا ع ورات الب اطن من ال ّذنوب وأخالق الس وء‪ ،‬وال تفض ح أح دا‬
‫حيث ستر هللا عليك أعظم منه‪ ،‬واشتغل بعيب نفس ك‪ ،‬واص فح ع ّم ا ال يعني ك حال ه‬
‫وأمره واحذر أن يفني عمرك بعمل غيرك ويتّجر برأس مالك غيرك وتهلك نفس ك‪،‬‬
‫فإن نسيان الذنوب من أعظم عقوبة هللا تعالى في العاجل وأوفر أس باب العقوب ة في‬ ‫ّ‬
‫اآلجل‪ ،‬وما دام العبد مشتغال بطاعة هللا ومعرف ة عي وب نفس ه وت رك م ا يش ين في‬
‫دين هللا فهو بمعزل على اآلفات‪ ،‬غ ائص في بح ر رحم ة هللا تع الى يف وز بج واهر‬
‫الفوائد من الحكم ة والبي ان وم ا دام ناس يا لذنوب ه ج اهال لعيوب ه راجع ا إلى حول ه‬
‫وقوّته ال يفلح إذا أبدا)(‪)2‬‬
‫واستش عر ـ أيه ا المري د الص ادق ـ عن د وقوف ك في المك ان المخص ص‬
‫لصالتك‪ ،‬ما قاله اإلمام الصادق عنه‪ ،‬فقد ق ال‪( :‬إذا بلغت ب اب المس جد ف اعلم أنّ ك‬
‫قص دت ملك ا عظيم ا ال يط أ بس اطه إاّل المطهّ رون‪ ،‬وال ي ؤذن لمجالس ته إاّل‬
‫الص ّديقون‪ ،‬وهب الق دوم إلى بس اط خدمت ه هيب ة المل ك فإنّ ك على خط ر عظيم إن‬

‫‪ )(1‬عيون اخبار الرضا باب ‪.34‬‬


‫‪ )(2‬مصباح الشريعة‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪218‬‬
‫غفلت‪ ،‬واعلم أنّه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك‪ ،‬فإن عطف عليك‬
‫بفض له ورحمت ه قب ل من ك يس ير الطاع ة وأج زل عليه ا ثواب ا كث يرا‪ ،‬وإن طالب ك‬
‫باستحقاقه الصدق واإلخالص عدال بك حجبك ور ّد طاعتك وإن ك ثرت وه و ف ّع ال‬
‫لما يريد‪ ،‬واعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك بين يديه فإنّك قد ت وجّهت للعب ادة ل ه‬
‫والمؤانس ة ب ه واع رض أس رارك علي ه وليعلم أنّ ه ال يخفى علي ه أس رار الخالئ ق‬
‫أجمعين وعالنيتهم‪ ،‬وكن كأفقر عباده بين يديه‪ ،‬وأخل قلبك عن ك ّل ش اغل يحجب ك‬
‫عن ربّك فإنّه ال يقبل إاّل األطهر واألخلص‪ ،‬فانظر من أي ديوان يخرج اسمك ف إن‬
‫ذقت من حالوة مناجاته ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكرامات ه من حس ن‬
‫إقباله علي ك وإجابات ه‪ ،‬وق د ص لحت لخدمت ه فادخ ل فل ك اإلذن واألم ان وإاّل فق ف‬
‫وقوف مضط ّر قد انقطع عنه الحيل وقصر عنه األمل وقض ى األج ل‪ ،‬وإذا علم هللا‬
‫من قلبك صدق االلتجاء إليه نظر إليك بعين الرأفة والرّحمة والعط ف‪ ،‬ووفّق ك لم ا‬
‫يحبّ ويرضى فإنّه كريم يحبّ الكرامة لعباده المضط ّرين إلي ه المح دقين على باب ه‬
‫لطلب مرضاته) (‪)1‬‬
‫وت ذكر م ا قال ه بعض الحكم اء لبعض مريدي ه‪ ،‬عن دما س أله عن الخش وع‬
‫المرتبط بالمكان‪ ،‬فقال ل ه‪( :‬استحض ر في ه أنّ ك ك ائن بين ي دي مل ك المل وك تري د‬
‫مناجاته والتضرّع إلي ه والتم اس رض اه ونظ ره إلي ك بعين الرّحم ة‪ ،‬ف انظر مكان ا‬
‫يصلح لذلك كالمساجد الشريفة والمشاهد المطهّرة مع اإلمكان‪ ،‬فإنّه تعالى جعل تلك‬
‫المواضع محاّل الجابته‪ ،‬ومظنّة لقبول ه ورحمت ه‪ ،‬ومع دنا لمرض اته ومغفرت ه على‬
‫للس كينة والوق ار‪،‬‬‫مثال حضرة الملوك الّذين يجعلونها وسيلة لذلك؛ فادخلها مالزما ّ‬
‫ومراقب ا للخش وع واالنكس ار‪ ،‬س ائال أن يجعل ك من خلّص عب اده وأن يلحق ك‬
‫بالماض ين منهم‪ ،‬وراقب هللا كأنّ ك على الص راط ج ائز‪ ،‬وكن م تر ّددا بين الخ وف‬
‫والرجاء وبين القبول والطرد‪ ،‬فيخشع حينئذ قلبك‪ ،‬ويخضع لبّك‪ ،‬وتتأهّل ألن يفيض‬
‫عليك الرّحمة وتنالك يد العاطفة‪ ،‬وترعاك عين العناية) (‪)2‬‬
‫واستش عر عند النيّ ة إجاب ة هللا تع الى في (امتث ال أم ره بالص الة وإتمامه ا‪،‬‬
‫والكف عن نواقضها ومفسداتها‪ ،‬وإخالص جميع ذلك لوجه هللا رجاء لثوابه وخوف ا‬ ‫ّ‬
‫من عقابه‪ ،‬وطلبا للقربة منه‪ ،‬متقلّ دا للمنّ ة بإذن ه إيّ اك في المناج اة م ع س وء أدب ك‬
‫وكثرة عصيانك‪ ،‬وعظّم في نفسك قدر مناجاته‪ ،‬وانظ ر من تن اجي وكي ف تن اجي‪،‬‬
‫وبما ذا تناجي‪ ،‬وعند هذا ينبغي أن تعرق جبينك من الخجلة‪ ،‬وترتع د فرائص ك من‬
‫الهيبة ويصفّر وجهك من الخوف)‪.‬‬
‫واذكر حينها ما قال ه اإلم ام الص ادق من أن (أدنى ح ّد لإلخالص ب ذل العب د‬
‫طاقته‪ ،‬ث ّم ال يجعل لعمله عند هللا قدرا فيوجب به على ربّه مكافاته بعمله لعلّه أنّه لو‬
‫ق العبوديّ ة لعج ز‪ ،‬وأدنى مق ام المخلص هلل في ال دنيا الس المة من‬ ‫طالب ه بوف اء ح ّ‬

‫‪ )(1‬مصباح الشريعة ص‪.131 :‬‬


‫‪ )(2‬اسرار الصالة ص ‪.184‬‬
‫‪219‬‬
‫جميع اآلثام وفي اآلخرة النجاة من النار‪ ،‬والفوز بالجنّة)‬
‫واستشعر ـ أيها المريد الص ادق ـ عن د تكب يرك لرب ك (عظم ة هللا س بحانه‪،‬‬
‫وص ّغر نفسك وخسّة عبادتك في جنب عظمته‪ ،‬وانحطاط ه ّمتك عن القيام بوظ ائف‬
‫ق) في عظيم‬ ‫خدمته واستتمام حقائق عبادته‪ ،‬وتف ّكر عند قولك‪( :‬الله ّم أنت الملك الح ّ‬
‫ّ‬
‫ملك ه وعم وم قدرت ه واس تيالئه على جمي ع الع والم‪ ،‬ث ّم ارج ع على نفس ك بال ذل‬
‫بالذنوب واالستغفار عند قولك‪( :‬عملت سوءا وظلمت نفس ي‬ ‫واالنكسار واالعتراف ّ‬
‫فاغفر لي إنّه ال يغفر ال ذنوب إاّل أنت)‪ ،‬واحض ر دعوت ه ل ك بالقي ام به ذه الخدم ة‪،‬‬
‫ومثّل نفسك بين يديه وأنّه قريب منك يجيب دعوة ال ّداعي إذا دع اه‪ ،‬ويس مع ن داءه‪،‬‬
‫وأن بيده خير الدنيا واآلخ رة ال بي د غ يره عن د قول ك‪( :‬لبي ك وس عديك والخ ير في‬ ‫ّ‬
‫يديك)‪ ،‬ون ّزهه من األعمال السيّئة وأفعال الش ّر وأبدله بها محض الهداي ة واإلرش اد‬
‫ي من هديت) واعترف له بالعبودية ّ‬
‫وأن قوام‬ ‫عند قولك‪( :‬و الش ّر ليس إليك‪ ،‬والمهد ّ‬
‫وجودك وبدأه ومعاده منه بقولك‪( :‬عبدك وابن عب ديك‪ ،‬من ك وب ك ول ك وإلي ك) أي‬
‫منك وجوده‪ ،‬وبك قوامه‪ ،‬ولك ملكه‪ ،‬وإليك معاده‪ ،‬وهو الّذي يب دأ الخل ق ث ّم يعي ده‪،‬‬
‫ق منه ا إلى‬ ‫وهو أهون عليه‪ ،‬وله المثل األعلى‪ ،‬فاحضر في ذهنك هذه الحقائق وتر ّ‬
‫ما يفتح عليك من األسرار وال ّدقائق وتلقّى الفيض من العالم األعلى)(‪)1‬‬
‫واعلم أن معنى التكبير أن تعتبر هللا تعالى أكبر من ك ّل شيء‪ ،‬فه و أك بر من‬
‫أن يوصف‪ ،‬أو يدرك بالحواسّ ‪ ،‬أو يقاس بالناس؛ فإذا نطق به لسانك؛ فينبغي أن ال‬
‫يكذبه جنانك‪ ،‬فإن (كان في قلبك شيء هو أكبر من هللا تعالى فاهلل يش هد أنّ ك ك اذب‬ ‫ّ‬
‫وإن كان الكالم صدقا‪ ..‬فإن كان هواك أغلب عليك من أمر هللا وأنت أطوع له من ك‬
‫هلل فقد اتّخذته إلهك وكبّرته‪ ،‬فيوشك أن يكون قولك هللا أكبر كالم ا باللّس ان المج رد‬
‫وقد تخلّف القلب عن مساعدته‪ ،‬وما أعظم الخطر في ذلك ل و ال التوب ة واالس تغفار‬
‫ّ‬
‫الظن بكرم هللا وعفوه)‬ ‫وحسن‬
‫وق د ق ال اإلم ام الص ادق مع برا عن ه ذا‪( :‬إذا كبّ رت فاستص غر م ا بين‬
‫فإن هللا تعالى إذا اطّلع على قلب العب د وه و‬ ‫السماوات العلى والثرى دون كبريائه‪ّ ،‬‬
‫يكبّر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال‪ :‬يا ك اذب أ تخ دعني وع ّزتي وجاللي‬
‫ألحرمنّك حالوة ذكري وألحجبنّك عن قربي والمسرّة بمناجاتي) (‪)2‬‬
‫(و َّجه ُ‬
‫ْت‬ ‫واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند دعاء االس تفتاح‪ ،‬وه و قول ك‪َ :‬‬
‫ض َحنِيف ا ً مس لما)‪ ،‬أن الم راد من ه ليس الوج ه‬ ‫ت واأْل َرْ َ‬ ‫َوجْ ِه َي لِلَّ ِذي فَطَ َر َّ‬
‫الس ماوا ِ‬
‫الظاهر‪ ،‬ذلك أنك وجّهته إلى جهة القبل ة وهللا تع الى يتق ّدس عن أن تح ّده الجه ات‪،‬‬
‫وإنّم ا المقص ود من ه وج ه القلب الّ ذي يتو ّج ه ب ه إلى ف اطر الس ماوات واألرض؛‬
‫(فانظر إليه أمتوجّه هو إلى أمانيه وهمم ه في ال بيت والس وق‪ ،‬ومتّب ع للش هوات أم‬
‫مقبل على فاطر السماوات واألرض)‪ ..‬وإذا قلت‪( :‬حنيف ا مس لما) فينبغي أن يخط ر‬

‫‪ )(1‬الشهيد الثاني في أسرار الصالة ص ‪.187‬‬


‫‪ )(2‬مصباح الشريعة ص‪89 :‬‬
‫‪220‬‬
‫أن المسلم هو الّذي سلم المسلمون من لسانه ويده فإن لم تكن كذلك كنت كاذب ا‬ ‫ببالك ّ‬
‫فاجتهد أن تعزم عليه في االستقبال وتندم على ما س بق من األح وال‪ ..‬وإذا قلت‪َ ( :‬و‬
‫ما أَنَا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ) ف اخطر ببال ك الش رك الخف ّي‪ ،‬واستش عر الخجل ة في قلب ك أن‬
‫إن اس م‬ ‫وصفت نفسك بأنّك لس ت من المش ركين من غ ير ب راءة من ه ذا الش رك ف ّ‬
‫أن ه ذا‬‫الشرك يقع على القليل والكث ير من ه‪ ،‬وإذا قلت (محي اي ومم اتي هلل) ف اعلم ّ‬
‫حال عبد مفقود لنفس ه موج ود لس يّده وأنّ ه إن ص در م ّمن رض اه وغض به وقيام ه‬
‫وقعوده ورغبته في الحياة ورهبت ه من الم وت ألم ور ال دنيا لم يكن مالئم ا للح ال‪،‬‬
‫وإذا قلت‪( :‬أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم) فاعلم أنّه عدوّك ومترصّد لصرف قلب ك‬
‫عن هللا‪ ،‬حسدا لك على مناجاتك مع هللا وسجودك له مع أنّه لعن بسبب سجدة واحدة‬
‫وإن استعاذتك باهلل منه ب ترك م ا يحبّ ه وتبديل ه بم ا يحبّ هللا ال‬ ‫تركها ولم يوفّق لها ّ‬
‫وإن من قصده سبع أو عدو ليفترسه أو يقتل ه فق ال‪( :‬أع وذ من ك ب ذلك‬ ‫بمجرّد قولك ّ‬
‫إن ذل ك ال ينفع ه ب ل ال يعي ذه إاّل تب ديل‬
‫الحصن الحص ين) وه و ث ابت على مكان ه ّ‬
‫المكان فكذلك من يتّبع الشهوات الّتي هي محابّ الشيطان ومكاره الرّحمن فال يغنيه‬
‫مجرد القول فليقترن قوله بالعزم على التعوّذ بحصن هللا ع ّز وج ّل عن ش ّر الشيطان‬
‫وحصنه ال إله إاّل هللا) (‪)1‬‬
‫واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند استقبالك للقبلة ما قال ه اإلم ام الص ادق‬
‫عنها‪ ،‬فقد قال‪( :‬إذا استقبلت القبلة ف آيس من ال دنيا وم ا فيه ا والخل ق وم ا هم في ه‪،‬‬
‫واس تفرغ قلب ك من ك ّل ش اغل يش غلك عن هللا تع الى‪ ،‬وع اين بس رّك عظم ة هللا‪،‬‬
‫واذكر وقوفك بين يديه يوم تبلو ك ّل نفس م ا أس لفت ور ّدوا إلى هللا م والهم الح ق‪،‬‬
‫وقف على قدم الخوف والرجاء) (‪)2‬‬
‫وما قاله بعض الحكماء لبعض مريدي ه‪ ،‬فق د ق ال ل ه‪( :‬اعلم أن هللا تع الى م ا‬
‫صرف ظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جه ة بيت هللا‪ ،‬إال تص رف قلب ك ل ه‪ ..‬أ‬
‫أن صرف القلب من سائر األمور إلى أمر هللا ليس مطلوبا من ك‪ ،‬هيه ات فال‬ ‫فترى ّ‬
‫مطلوب سواه‪ ،‬وإنّما هذه الظواهر تحريكات للب واطن‪ ،‬وض بط للج وارح‪ ،‬وتس كين‬
‫له ا باإلثب ات في جه ة واح دة حتّى ال تبغي على القلب؛ فإنّه ا إذا بغت وظلمت في‬
‫حركاتها إلى جهاتها استتبعت القلب وانقلبت به عن وجه هللا‪ ،‬فليكن وج ه قلب ك م ع‬
‫وجه بدنك‪ ،‬واعلم أنّه كما ال يتو ّجه الوجه إلى جهة البيت إاّل بالص رف عن غيره ا‬
‫فال ينصرف القلب إلى هللا تعالى إاّل بالتفرّغ ع ّما سوى هللا تعالى) (‪)3‬‬
‫واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند االعت دال في الص الة مثول ك بين ي دي‬
‫هللا‪ ،‬وأنه (مطّلع عليك‪ ،‬فقم بين يدي ه قيام ك بين ي دي بعض مل وك الزم ان إن كنت‬
‫تعج ز عن معرف ة كن ه جالل ه‪ ،‬ب ل ق ّدر في دوام قيام ك في ص التك أنّ ك ملح وظ‬
‫ومرق وب بعين كالئ ة من رج ل ص الح من أهل ك أو م ّمن ت رغب في أن يعرف ك‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪386 :‬‬
‫‪ )(2‬مصباح الشريعة ص‪.89 :‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.382 :‬‬
‫‪221‬‬
‫بالصالح‪ ،‬فإنّه يهدأ عند ذل ك أطراف ك وتخش ع جوارح ك‪ ،‬وتس كن جمي ع أجزائ ك‬
‫خيفة أن ينس بك ذل ك الع اجز المس كين إلى قلّ ة الخش وع‪ ،‬وإذا أحسس ت من نفس ك‬
‫التماسك عند مالحظة عبد مس كين فع اتب نفس ك وق ل له ا‪ :‬إنّ ك ت ّدعين معرف ة هللا‬
‫ين الن اس‬ ‫وحبّه أ فال تستحين من اجترائك عليه مع توقيرك عبدا من عب اده أو تخش ّ‬
‫ق أن يخشى) (‪)1‬‬‫وال تخشينّه وهو أح ّ‬
‫ويشير إلى هذا المع نى قول ه ‪ ‬لمن س أله عن كيفي ة الحي اء من هللا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(تستحي منه كما تستحي من الرجل الصالح من أهلك)(‪)2‬‬
‫واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند قراءتك للبسملة (التبرّك البتداء القراءة‬
‫وأن المراد باالسم هاهنا ه و المس ّمى‬ ‫أن األمور كلّها باهلل ّ‬ ‫أن معناه ّ‬
‫لكالم هللا‪ ،‬وافهم ّ‬
‫أن الش كر هلل إذ النعم من هللا‬ ‫ْ‬
‫وإذا كانت األمور باهلل فال جرم كان (ال َح ْم ُد هلل) ومعناه ّ‬
‫ومن يرى من غير هللا نعمة أو يقصد غير هللا بشكر ال من حيث إنّ ه مس ّخر من هللا‬
‫َّح ِيم)‬ ‫ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير هللا‪ ..‬فإذا قلت‪( :‬الرَّحْ ِ‬
‫من ال ر ِ‬
‫فأحضر في قلبك أنواع لطفه ليتّضح ل ك رحمت ه فينبعث ب ه رج اؤك‪ ،‬ث ّم اس تثر من‬
‫ِّين) أ ّما العظم ة فألنّ ه ال مل ك إاّل ل ه‬
‫ك يَوْ ِم الد ِ‬ ‫قلبك له التعظيم والخوف بقولك‪( :‬مالِ ِ‬
‫وأ ّما الخوف فلهول يوم الجزاء والحساب الّذي هو مالكه‪ ،‬ث ّم ج ّدد اإلخالص بقولك‪:‬‬
‫ك‬‫ك نَ ْعبُ دُ) وج ّدد العج ز واالحتي اج والت برّي عن الح ول والق وّة بقول ك‪( :‬إِيَّا َ‬ ‫(إِيَّا َ‬
‫وأن ل ه المنّ ة إذ وفّق ك لطاعت ه‪،‬‬ ‫نَ ْست َِعينُ ) وتحقّق أنّه ما تيسّرت طاعتك إاّل بإعانت ه ّ‬
‫واستخدمك لعبادته‪ ،‬وجعلك أهال لمناجاته ولو حرمك التوفيق لكنت من المطرودين‬
‫مع الشيطان اللّعين‪ ،‬ث ّم إذا ف رغت عن التع وّذ ومن قول ك‪( :‬بس م هللا) وعن التحمي د‬
‫وعن إظهار الحاجة إلى اإلعانة مطلقا فعيّن سؤالك وال تطلب إاّل أه ّم حاجاتك وقل‪:‬‬
‫(ا ْه ِدنَا الصِّراطَ ْال ُم ْستَقِي َم) الّذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مرضاتك‪ ،‬وزده‬
‫شرحا وتفص يال وتأكي دا واستش هادا بالّ ذين أف اض عليهم نعم ة الهداي ة من الن بيّين‬
‫والص ّديقين والشهداء والص الحين‪ ،‬دون الّ ذين غض ب عليهم من الكفّ ار وال زائغين‬
‫من اليهود والنصارى والصابئين)(‪)3‬‬
‫واستشعر ـ أيه ا المري د الص ادق ـ عند قراءت ك للس ورة م ا ذكرت ه ل ك في‬
‫رسائلي السابقة حول كيفية تدبر القرآن الك ريم واالنفع ال ل ه وتفعيل ه وتحويل ه إلى‬
‫معراج تسري به إلى ربك‪.‬‬
‫واستشعر عند قيام جس دك في الص الة إقام ة القلب م ع هللا ح تى تتحق ق بم ا‬
‫(إن هللا مقب ل على المص لّي م ا لم‬ ‫ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ،‬فق د ق ال‪ّ :‬‬
‫يلتفت)(‪ ،)4‬وال تكت ف بقي ام جس دك‪ ،‬ب ل (كم ا تجب حراس ة ال رأس والعين عن‬
‫االلتفات إلى الجهات؛ فكذلك تجب حراسة الس ّر عن االلتفات إلى غير الصالة‪ ،‬ف إن‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.383 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه الخرائطي في مكارم األخالق والبيهقي في شعب االيمان‪.‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.388 :‬‬
‫‪)(4‬أبو داود ج ‪ 1‬ص ‪.209‬‬
‫‪222‬‬
‫التفت إلى غيرها فذ ّكره باطّالع هللا عليك وقبح التهاون بالمناجى عند غفلة المناجي‬
‫إن الخالص عن االلتف ات باطن ا وظ اهرا ثم رة‬ ‫ليعود إليه‪ ،‬وأل زم الخش وع للقلب ف ّ‬
‫الخشوع‪ ،‬ومهما خشع الباطن خشع الظاهر)‬
‫واستشعر عند الركوع والسجود ما قاله اإلمام الص ادق‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬ال يرك ع‬
‫عبد هلل ركوعا على الحقيقة إاّل زيّنه هللا تعالى بنور بهائه وأظلّ ه في ظالل كبريائ ه‬
‫وكساه كسوة أصفيائه‪ ،‬والرّك وع أوّل والس جود ث ان‪ ،‬فمن أتى بمع نى األوّل ص لح‬
‫للث اني‪ ،‬وفي الرّك وع أدب وفي الس جود ق رب‪ ،‬ومن ال يحس ن األدب ال يص لح‬
‫للقرب‪ ،‬فاركع ركوع خاضع هلل ع ّز وج ّل بقلبه متذلّل وج ل تحت س لطانه‪ ،‬خ افض‬
‫له بجوارحه خفض خائف حزن على ما يفوته من فائدة الراكعين) (‪)1‬‬
‫وقال بعض الحكماء عند حديثه عن خشوع الس جود‪( :‬ث ّم ته وي إلى الس جود‬
‫وهو أعلى درجات االستكانة‪ ،‬فم ّكن أع ّز أعضائك وهو الوجه من أذ ّل األشياء وهو‬
‫التراب‪ ،‬وإن أمكنك أن ال تجعل بينهما حائال فتسجد على األرض فافعل فإنّ ه أجلب‬
‫للخضوع وأد ّل على ال ذلّ‪ ،‬وإذا وض عت نفس ك موض ع ال ذ ّل ف اعلم أنّ ك وض عتها‬
‫موضعها ورددت الفرع إلى أصله‪ ،‬فإنّك من التراب خلقت وإلي ه رددت‪ ،‬فعن د ه ذا‬
‫ج ّدد على قلبك عظم ة هللا وق ل‪( :‬س بحان ربّي األعلى) وأ ّك ده ب التّكرار ف ّ‬
‫إن الم رّة‬
‫ق قلبك وطهر لبّك فليصدق رجاؤك في رحم ة ربّ ك‪،‬‬ ‫الواحدة ضعيفة اآلثار‪ ،‬فإذا ر ّ‬
‫والذ ّل ال إلى التكبّ ر والبط ر ف ارفع رأس ك مكبّ را‬‫فإن رحمته تتسارع إلى الضعف ّ‬ ‫ّ‬
‫وسائال حاجتك ومستغفرا من ذنوبك‪ ،‬ث ّم أ ّك د التواض ع ب التكرار وع د إلى الس جود‬
‫ثانيا كذلك)‬
‫واستشعر إذا جلست للتّشهد ما قاله اإلم ام الص ادق عن ه‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬التش هّد‬
‫ثناء على هللا فكن عبدا له في السرّ‪ ،‬خاضعا ل ه في الفع ل كم ا أنّ ك ل ه عب د ب القول‬
‫والدعوى‪ ،‬وصل صدق لسانك بص فاء ص دق س رّك‪ ،‬فإنّ ه خلق ك عب دا وأم رك أن‬
‫تعب ده بقلب ك ولس انك وجوارح ك وأن تحقّ ق عبوديّت ك ل ه بربوبيّت ه ل ك وتعلم ّ‬
‫أن‬
‫نواصي الخلق بيده فليس لهم نفس وال لحظة إاّل بقدرته ومش يّته وهم ع اجزون عن‬
‫إتيان أق ّل شيء في مملكته إاّل بإذنه وإرادته‪ ..‬فكن هلل عبدا ذاكرا ب القول وال دعوى‪،‬‬
‫وصل صدق لسانك بصفاء سرّك‪ ،‬فإنّه خلقك فع ّز وج ّل أن تكون إرادة ومشيّة ألحد‬
‫إاّل بسابق إرادته ومش يّته فاس تعمل العبوديّ ة في الرّض ا بحكمت ه وبالعب ادة في أداء‬
‫أوامره وقد أمرك بالصالة على نبيّه مح ّم د ‪ ‬فأوص ل ص الته بص الته‪ ،‬وطاعت ه‬
‫بطاعته‪ ،‬وشهادته بشهادته‪ ،‬وانظر أالّ تفوتك بركات معرفة حرمته فتحرم عن فائدة‬
‫صالته وأم ره باالس تغفار ل ك والش فاعة في ك إن أتيت ب الواجب في األم ر والنهي‬
‫والسنن واآلداب وتعلم جليل مرتبته عند هللا ع ّ‬
‫ز وجلّ) (‪)2‬‬
‫واستشعر إذا فرغت من التّشهد‪ ،‬وأردت السالم‪ ،‬ما قاله اإلمام الصادق عنه‪،‬‬

‫‪ )(1‬مصباح الشريعة ص ‪.12‬‬


‫‪ )(2‬مصباح الشريعة ص‪95 :‬‬
‫‪223‬‬
‫فقد قال‪( :‬معنى السالم في دبر ك ّل صالة األمان‪ ،‬أي من أ ّدى أمر هللا وسنّة نبيّه ‪‬‬
‫خاضعا له خاشعا منه فله األمان من بالء ال ّدنيا وبراءة من عذاب اآلخرة‪ ..‬والس الم‬
‫اسم من أس ماء هللا تع الى أودع ه خلق ه ليس تعملوا معن اه في المع امالت واألمان ات‬
‫واالنصافات‪ ،‬وتصديق مصاحبتهم ومجالستهم فيم ا بينهم‪ ،‬وص حّة معاش رتهم وإن‬
‫أردت أن تضع الس الم موض عه وت ؤ ّدي معن اه ف اتّق هللا وليس لم من ك دين ك وقلب ك‬
‫وعقلك أالّ تدنّسها بظلم ة المعاص ي‪ ،‬ولتس لم من ك حفظت ك أن ال ت برمهم وال تملّهم‬
‫إن من لم يس لم من ه من‬ ‫وتوحشهم منك بسوء معاملتك معهم‪ ،‬ث ّم صديقك ث ّم عدوّك ف ّ‬
‫ه و األق رب إلي ه فاألبع د أولى‪ ،‬ومن ال يض ع الس الم مواض عه ه ذه فال س الم وال‬
‫إسالم وال تسليم وكان كاذبا في سالمه وإن أفشاه في الخلق)(‪)1‬‬
‫وقال بعض الحكم اء في أس رار م ا ورد من ص يغ الس الم عن د االنته اء من‬
‫التشهد‪( :‬أحضر نفس ك بحض رة س يّد المرس لين والمالئك ة المق رّبين وق ل‪ :‬الس الم‬
‫عليك أيّها النّب ّي ورحمة هللا وبركاته إلى آخر التسليم المستحبّ ‪ ،‬ث ّم أحضر في بال ك‬
‫الس الم والحفظ ة ل ك من المالئك ة المق رّبين‬‫النب ّي ‪ ‬وبقيّة أنبياء هللا وأئ ّمته عليهم ّ‬
‫المحص ين ألعمال ك وق ل‪ :‬الس الم عليكم ورحم ة هللا وبركات ه‪ ،‬وال تطل ق لس انك‬
‫بص يغة الخط اب من غ ير حض ور المخ اطب في ذهن ك فتك ون من الع ابثين‬
‫والاّل ع بين‪ ،‬وكي ف يس مع الخط اب لمن ال يقص د ل وال فض ل هللا تع الى ورحمت ه‬
‫الش املة ورأفت ه الكامل ة في اجتزائ ه ب ذلك عن أص ل ال واجب وإن ك ان بعي دا عن‬
‫درجات القبول‪ ،‬منحطّا عن أوج القرب والوصول‪ ،‬وإن كنت إمام ا لق وم فاقص دهم‬
‫بالسالم مع من تق ّدم من المقص ودين‪ ،‬وليقص دوا هم ال رّد علي ك أيض ا ث ّم يقص دوا‬
‫مقصدك بسالم ثان‪ ،‬فإذا فعلتم ذلك فق د أ ّديتم وظيف ة الس الم واس تحققتم من هللا ع ّز‬
‫ل مزيد اإلكرام) (‪)2‬‬ ‫وج ّ‬
‫وإذا انتهيت ـ أيها المريد الصادق ـ من صالتك على هذه الهيئة التي وص فها‬
‫لك الصالحون؛ فادع في آخر صالتك بما ورد من األدعية المأثورة‪( ،‬مع التواض ع‬
‫والخش وع‪ ،‬والض راعة واالبته ال‪ ،‬وص دق الرّج اء باإلجاب ة وأش رك في دعائ ك‬
‫أبويك وسائر المؤمنين‪ ،‬وانو ختم الصّالة به‪ ،‬واستشعر شكر هللا تعالى على توفيق ه‬
‫التمام هذه الطاعة‪ ،‬وتوهّم أنّك مو ّدع لصالتك هذه‪ ،‬وأنّك ربم ا ال تعيش لمثله ا‪ ،‬ث ّم‬
‫أشعر قلبك الوجل والحياء من التقصير في الصالة‪ ،‬وخف أن ال يقبل صالتك‪ ،‬وأن‬
‫تكون ممقوتا بذنب ظ اهر أو ب اطن ف تر ّد ص التك في وجه ك وترج و م ع ذل ك أن‬
‫يقبلها بفضله وكرمه) (‪)3‬‬
‫هذا جوابي ـ أيها المريد الصادق ـ على أسئلتك؛ فاس ع ألن تجاه د نفس ك في‬
‫تنفيذ ما نصحك به الص الحون‪ ،‬وأئم ة اله دى‪ ،‬وس ترى كي ف تتح ول ص التك من‬
‫صالة الغافلين الساهين إلى صالة الذاكرين الخاشعين‪ ..‬وسترى حينها آثارها علي ك‬
‫‪ )(1‬مصباح الشريعة‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪ )(2‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.394 :‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.395 :‬‬
‫‪224‬‬
‫في دينك ودنياك‪ ..‬وكيف تتحول إلى أعظم مدرسة تربوية وروحية تزكيك وترقي ك‬
‫وتسير بك إلى كل ميادين الكمال المتاحة لك‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫صوم المتقين‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الصيام‪ ،‬وس ر عالقت ه ب التقوى‬
‫ب َعلَى‬ ‫الص يَا ُم َك َم ا ُكتِ َ‬ ‫ب َعلَ ْي ُك ُم ِّ‬ ‫التي نص عليها قوله تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ُكتِ َ‬
‫الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة‪ ،]183 :‬وهل كل صيام يمكنه أن يكون ك ذلك‪،‬‬
‫أم أن هناك شروطا البد من توفيرها لتحقيق ذلك؟‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن الص يام من الم دارس التربوي ة‬
‫والروحية الكبرى التي أخبر هللا تع الى أن ه ش رعها في جمي ع المل ل‪ ،‬لض رورتها‪،‬‬
‫وأهميتها التربوية‪.‬‬
‫ذلك أن التواصل مع هللا عبر األذك ار واألدعي ة والص لوات وغيره ا‪ ،‬ق د ال‬
‫يكون كافيا في تطهير النفس‪ ،‬وخاصة عند تمردها على صاحبها‪ ،‬لذلك كان الصوم‬
‫معينا لتلك المدارس في أداء أدوارها التهذيبية والتربوية‪.‬‬
‫ولهذا جعل هللا تعالى الصيام من أن واع الت أديب المرتبط ة ببعض المخالف ات‬
‫الشرعية ال تي تتعنت فيه ا النفس على ص احبها‪ ،‬وتس تولي علي ه‪ ،‬وتغلب ه‪ ،‬كم ا في‬
‫﴿و َما َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن أَ ْن يَ ْقتُ َل ُم ْؤ ِمنً ا‬ ‫حالة ارتكابه لجريمة القتل الخطأ‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫إِاَّل خَ طَأ ً َو َم ْن قَتَ َل ُم ْؤ ِمنً ا خَ طَ أ ً فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة َو ِديَ ةٌ ُم َس لَّ َمةٌ إِلَى أَ ْهلِ ِه إِاَّل أَ ْن‬
‫ص َّدقُوا فَإِ ْن َكانَ ِم ْن قَوْ ٍم َعد ٍُّو لَ ُك ْم َوه َُو ُم ْؤ ِم ٌن فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة َوإِ ْن َكانَ ِم ْن قَوْ ٍم‬ ‫يَ َّ‬
‫ص يَا ُم‬ ‫ق فَ ِديَةٌ ُم َسلَّ َمةٌ إِلَى أَ ْهلِ ِه َوتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ُم ْؤ ِمنَ ٍة فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد فَ ِ‬
‫بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم ِميثَا ٌ‬
‫َشه َْر ْي ِن ُمتَتَابِ َع ْي ِن تَوْ بَةً ِمنَ هللا َو َكانَ هللا َعلِي ًما َح ِكي ًما﴾ [النساء‪]92 :‬‬
‫وجعله تأديبا للذي لم يهذب لسانه‪ ،‬ف راح ينط ق بم ا يخالف ه الش رع والطب ع‪،‬‬
‫﴿والَّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِم ْن نِ َسائِ ِه ْم ثُ َّم يَعُو ُدونَ لِ َما قَ الُوا فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن‬ ‫فقال‪َ :‬‬
‫َ‬
‫ص يَا ُم ش ْه َر ْي ِن‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫خَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يَتَ َماسَّا َذلِك ْم تو َعظ ونَ بِ ِه َوهللا بِ َم ا ت ْع َمل ونَ بِ ي ٌر (‪ )3‬ف َمن ل ْم يَ ِج د ف ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ُمتَتَابِ َعي ِْن ِم ْن قَب ِْل أَ ْن يَتَ َماسَّا﴾ [المجادلة‪]4 ،3 :‬‬
‫وهكذا ذلك الذي راح ينتهك حرمة ش هر رمض ان؛ فيفط ر في ه‪ ،‬كم ا نص ت‬
‫على ذلك الكثير من األحاديث المتفق عليها بين األمة جميعا‪.‬‬
‫ففي ه ذه القض ايا جميع ا ش رط هللا تع الى في الص يام أن يك ون متتابع ا‪،‬‬
‫ولش هرين ك املين‪ ،‬ألن في ذل ك ت أثيره على النفس ب التخفيف من تس لطها وقهره ا‬
‫لصاحبها‪.‬‬
‫وسر ذلك يعود إلى أن الشهوات ال تي يمن ع منه ا الص يام هي المغ ذي ال ذي‬
‫يغذي األهواء‪ ،‬ويجعل للنفس سلطانا على ص احبها؛ ف إذا م ا قهره ا‪ ،‬وحرمه ا من‬
‫تلك الشهوات مدة من الزمن‪ ،‬كان لذلك تأثيره الكب ير في اإلص الح؛ خاص ة إذا م ا‬
‫ضم إليه ما سبق أن ذكرته لك من مع ان ت دعو إلى االتص ال باهلل كال ذكر وال دعاء‬
‫والصالة وقراءة القرآن الكريم وغيرها‪.‬‬
‫ولهذا ورد في األحاديث الكثيرة عن رسول هللا ‪ ‬وأئمة الهدى ما ي دل على‬
‫‪226‬‬
‫دور الصيام في وقاية النفس من أهوائها‪ ،‬وإبع اد الش يطان عنه ا‪ ،‬ومنه ا قول ه ‪:‬‬
‫(ك ل عم ل ابن آدم يض اعف الحس نة عش ر أمثاله ا إلى س بعمائة ض عف‪ ،‬ق ال هللا‬
‫تعالى‪ :‬إال الصوم فإنه لي وأنا أجزي ب ه‪ ،‬ي دع ش هوته وطعام ه من أجلي‪ ،‬للص ائم‬
‫فرحتان فرحةٌ عند فطوره‪ ،‬وفرحةٌ عند لقاء رب ه‪ ،‬ولخل وف في ه أطيب عن د هللا من‬
‫ريح المسك) (‪)1‬‬
‫وقد قال بعض الحكماء في تفسير سر نسبة الصوم هلل‪( :‬إنّم ا ك ان الص وم هلل‬
‫ومشرّفا بالنسبة إليه‪ ،‬وإن ك انت العب ادات كلّه ا ل ه كم ا ش رّف ال بيت بالنس بة إلي ه‬
‫كف وترك وهو في نفسه س ّر ليس فيه‬ ‫أن الصوم ّ‬ ‫واألرض كلّها له لمعنيين‪ :‬أحدهما ّ‬
‫عمل يشاهد؛ فجميع الطاعات بمش هد من الخل ق وم رأى‪ ،‬والص وم ال يعلم ه إاّل هللا‬
‫فإن وس يلة‬ ‫تعالى؛ فإنّه عمل في الباطن بالصبر المجرّد‪ ..‬والثاني أنّه قهر لعد ّو هللا؛ ّ‬
‫الشيطان لعنه هللا الشهوات‪ ،‬وإنّما يقوي الشهوات باألكل والش رب ول ذلك ق ال ‪:‬‬
‫(إن الشيطان ليجري من ابن آدم مج رى ال ّدم فض يّقوا مجاري ه ب الجوع)(‪))2‬؛ فل ّم ا‬ ‫ّ‬
‫كان الصوم على الخصوص قمعا للشيطان وس ّدا لمسالكه وتضييقا لمجاريه اس تح ّ‬
‫ق‬
‫التخصيص بالنسبة إلى هللا؛ ففي قمع ع د ّو هللا نص رة هلل ونص رة هللا للعب د موقوف ة‬
‫على النصرة له‪ ..‬فالبداية بالجهد من العبد والج زاء بالهداي ة من هللا‪ ..‬وإنّم ا التغي ير‬
‫بكس ر الش هوات‪ ،‬فهي مرت ع الش ياطين ومرع اهم فم ا دامت مخص بة لم ينقط ع‬
‫تر ّددهم وما داموا يتر ّددون فال ينكشف للعبد جالل هللا وكان محجوبا عن لقائه) (‪)3‬‬
‫وما ذكره هذا الحكيم هو الذي أشارت إليه النص وص المقدس ة الكث يرة‪ ،‬فاهلل‬
‫ص رُوا‬ ‫تعالى أخبر أنه ينصر من ينصره‪ ،‬كما قال تع الى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ ْن تَ ْن ُ‬
‫ِّت أَ ْق دَا َم ُك ْم﴾ [محم د‪ ،]7 :‬وه ذا ي دل على أن من يجاه د نفس ه‬ ‫ص رْ ُك ْم َويُثَب ْ‬
‫هللا يَ ْن ُ‬
‫بالصوم فرضا أو نافلة‪ ،‬يقوم بنصرة هللا‪ ،‬ومحاربة شيطانه؛ فلذلك يستحق نصر هللا‬
‫له‪.‬‬
‫﴿والَّ ِذينَ َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هللا‬
‫ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت‪]69 :‬؛ فالصائم الذي جاه د نفس ه في ذات هللا ين ال ذل ك‬
‫الفضل اإللهي الذي هو الهداية‪ ،‬والتي تشمل التزكية والترقية‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك م ا ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬ل و ال أنّ‬
‫الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملك وت الس ماء) (‪ ،)4‬وه ذا ي دل‬
‫على أن الذي يجاهد شيطانه بالصوم يقوم في الحقيقة برفع تلك الحجب ال تي تح ول‬
‫بينه وبين الملكوت‪.‬‬
‫ولذلك كل ه أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن بع د الش يطان عن الص ائم الص ادق في‬
‫ص ومه؛ فق ال‪( :‬أال أخ بركم بش يء إن فعلتم وه تباع د الش يطان منكم كم ا تباع د‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)7492‬مسلم (‪.164 )1151‬‬
‫‪ )(2‬البخاري ج ‪ 3‬ص ‪ 62‬وأحمد ج ‪ 3‬ص ‪.156‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)232 /1‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫المش رق من المغ رب؟) ق الوا‪ :‬بلى ي ا رس ول هللا‪ ،‬ق ال‪( :‬الص وم يس وّد وجه ه‪،‬‬
‫والصّدقة تكسر ظهره‪ ،‬والحبّ في هللا والموازرة على العمل الص الح تقط ع داب ره‪،‬‬
‫ل شيء زكاة وزكاة األبدان الصيام) (‪)1‬‬ ‫واالستغفار يقطع وتينه‪ ،‬ولك ّ‬
‫وقال‪( :‬إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة‪ ،‬وأغلقت أبواب جهنم‪ ،‬وسلسلت‬
‫الشياطين) (‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬إذا كان أول ليلة من رمضان غلقت أبواب النار‪ ،‬فلم يفتح منه ا ب ابٌ ‪،‬‬
‫وفتحت أبواب الجنة‪ ،‬فلم يغلق منها بابٌ ‪ ،‬وينادي مناد‪ :‬ي ا ب اغي الخ ير هلم وأقب ل‪،‬‬
‫ويا باغي الشر أقصر‪ ،‬وهلل في ه عتق اء من الن ار‪ ،‬وذل ك في ك ل ليل ة ح تى ينقض ي‬
‫رمضان)(‪)3‬‬
‫وهذا كله ـ أيها المريد الصادق ـ خ اص بالص ائمين الص ادقين في ص ومهم؛‬
‫فهم ال ذين تص فد ش ياطينهم‪ ،‬وتغل ق أب واب جهنم عنهم‪ ..‬أم ا المرائ ون‪ ،‬أو ال ذين‬
‫يصومون بناء على األعراف والتقاليد‪ ،‬أو طلبا للصحة والعافية‪ ،‬دون أن تك ون لهم‬
‫نية الصوم هلل؛ فإنهم ال تنطبق عليهم تلك األحاديث‪ ،‬فق د ق ال رس ول هللا ‪( :‬إنم ا‬
‫األعمال بالنيات‪ ،‬وإنم ا لك ل ام رئ م ا ن وى‪ ،‬فمن ك انت هجرت ه إلى هللا ورس وله‬
‫فهجرته إلى هللا ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأ ٍة ينكحها فهجرته‬
‫إلى ما هاجر إليه)(‪)4‬‬
‫وه ؤالء الص ادقون في ص ومهم‪ ،‬المح افظون علي ه‪ ،‬هم المس تحقون ل ذلك‬
‫الجزاء العظيم الذي وهبه هللا لهم‪ ،‬والذي ال يتعلق فق ط بتطه ير نفوس هم وترقيته ا‪،‬‬
‫وإنما يتعلق بمصيرهم األبدي‪ ،‬وسعادتهم الدائمة‪.‬‬
‫ومن ذلك الجزاء ما أخبر عنه رسول هللا ‪ ‬بقول ه‪( :‬الص ائم في عب ادة هللا‪،‬‬
‫ائم يحض ر‬ ‫وإن كان نائما ً على فراشه‪ ،‬ما لم يغتب مس لماً)(‪ ،)5‬وبقول ه‪( :‬م ا من ص ٍ‬
‫قوما ً يطعمون إال سبّحت أعضاؤه‪ ،‬وكانت صالة المالئكة عليه‪ ،‬وكانت صالتهم ل ه‬
‫استغفاراً)(‪)6‬‬
‫ومنها استجابة هللا تع الى لدعائ ه‪ ،‬كم ا ق ال ‪ّ :‬‬
‫(إن هللا تع الى وك ّل مالئك ة‬
‫بال ّدعاء للصائمين‪ ،‬وقال‪ :‬أخبرني جبريل عن ربّه تعالى ذك ره أنّ ه ق ال‪ :‬م ا أم رت‬
‫مالئكتي بال ّدعاء ألحد من خلقي إاّل استجبت لهم فيه)(‪)7‬‬
‫وقال‪( :‬ثالثة ال تُ َر ّد دَع وتهم‪ :‬اإلم ام الع ادل‪ ،‬والص ائم حين يفط ر‪ ،‬ودع وة‬
‫المظلوم)(‪)8‬‬

‫‪ )(1‬الكافي ‪.62 :4‬‬


‫‪ )(2‬البخاري (‪ ،)1898‬مسلم (‪.2 )1079‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي (‪ ،)682‬وابن ماجه (‪ ،)1642‬والدارمي (‪)1775‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪)(5‬ثواب األعمال ص‪ ،46‬أمالي الصدوق ص‪.329‬‬
‫‪ )(6‬أمالي الصدوق ص‪.305‬‬
‫‪ )(7‬المحاسن‪.72 :‬‬
‫‪ )(8‬رواه الترمذي وابن حبان‬
‫‪228‬‬
‫ترد) (‪)1‬‬ ‫وقال‪( :‬إن للصائم عند فطره لدعوة ما‬
‫بل إن الق رآن الك ريم أش ار إلى ذل ك‪ ،‬فق د ق ال هللا تع الى ـ في ض من آي ات‬
‫اع إِ َذا َد َع ا ِن‬ ‫ُ‬ ‫﴿وإِ َذا َس أَلَ َ‬
‫ك ِعبَ ا ِدي َعنِّي فَ إِنِّي قَ ِريبٌ أ ِجيبُ َد ْع َوةَ ال َّد ِ‬ ‫الص وم ـ‪َ :‬‬
‫فَ ْليَ ْست َِجيبُوا لِي َولي ُْؤ ِمنُوا بِي لَ َعلهُ ْم يَرْ ُش ُدونَ ﴾ [البقرة‪]186 :‬‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ومنها ابتعاده عن جهنم بسبب صفاء نفسه‪ ،‬فقد قال رسول هللا ‪( :‬من صام‬
‫يوما في سبيل هللا باعد هللا منه جهنم مسيرة مائة عام)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬من صام يوما فى سبيل هللا فريض ة باع د هللا من ه‬
‫جهنم كما بين الس ماوات واألرض ين‪ ،‬ومن ص ام يوم ا تطوع ا باع د هللا من ه جهنم‬
‫مسيرة ما بين السماء)(‪)3‬‬
‫ومنها اقترابه من الجنة‪ ،‬وتخصيص باب خ اص بالص ائمين فيه ا‪ ،‬ق ال ‪:‬‬
‫(في الجنة بابٌ يدعى الريان‪ ،‬يدعى له الص ائمون‪ ،‬فمن ك ان من الص ائمين دخل ه‪،‬‬
‫ومن دخله لم يظمأ أبدا)(‪)4‬‬
‫ومنها مغفرة ذن وب الص ائم‪ ،‬وه و م ا ي دل على دور الص وم في مح و آث ار‬
‫الذنوب من النفس‪ ،‬كما قال ‪( :‬من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له م ا تق دم‬
‫من ذنبه)(‪)5‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬من صام يوما ً في الح ّر فأصاب ظمأ‪ ،‬وكل هللا به ألف‬
‫ملك يمسحون وجهه ويب ّشرونه‪ ،‬حتى إذا أفطر قال هللا ع ّز وجلّ‪( :‬ما أطيب ريح ك‬
‫وروحك !‪..‬يا مالئكتي‪ ،‬اشهدوا أني قد غفرت له)(‪)6‬‬
‫وف وق ذل ك أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن ذل ك الس رور والس عادة العاجل ة ال تي‬
‫يجدها الصائم‪ ،‬والتي تساهم في إزالة الكآبة والكرب عنه‪ ،‬فق د ق ال ‪ّ ،( :‬‬
‫للص ائم‬
‫فرحتان يفرحهما‪ ،‬إذا أفطر فرح بفطره‪ ،‬وإذا لقي ربّه فرح بصومه) (‪)7‬‬
‫ت للم ؤمن‬ ‫ومما أوصى به رسول هللا ‪ ‬عليا ً قوله‪( :‬ي ا علي !‪..‬ثالث فرح ا ٍ‬
‫في الدنيا‪( :‬لقى االخوان‪ ،‬واإلفطار من الصيام‪ ،‬والتهجّد من آخر الليل)(‪)8‬‬
‫إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ وع زمت أن ت دخل ه ذه المدرس ة‬
‫التربوية العظيمة؛ فادخل إليها بظاهرك وباطن ك‪ ،‬وجوارح ك وحقيقت ك‪ ..‬فال يمكن‬
‫أن ينال فضل هللا إال من دخل في الصوم كافة‪ ،‬كم ا ي دخل في الس لم كاف ة‪ ..‬وب ذلك‬
‫يمكن للصيام أن يؤدي وظيفتيه‪ :‬وظيفة التزكية‪ ،‬ووظيفة الترقية‪.‬‬
‫الصوم والتزكية‪:‬‬
‫‪ )(1‬رواه ابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(2‬النسائي ‪.4/175‬‬
‫‪ )(3‬الطبراني ‪.120 – 17/119‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ ،)1896‬ومسلم (‪)1152‬‬
‫‪ )(5‬البخاري (‪ ،)38‬مسلم (‪)760‬‬
‫‪ )(6‬ثواب األعمال ص‪ ،48‬أمالي الصدوق ص‪.349‬‬
‫‪ )(7‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ ،)1904( 4‬ومسلم (‪)1151‬‬
‫‪ )(8‬الخصال ‪.1/62‬‬
‫‪229‬‬
‫بما أن هللا تعالى جعل الظاهر وس يلة إلص الح الب اطن؛ فاب دأ ـ أيه ا المري د‬
‫الصادق ـ بمراعات ه؛ ف إن ص دقت في إص الحه‪ ،‬واالس تفادة من الص وم في ذل ك‪،‬‬
‫ييسر هللا تعالى عليك إصالح باطنك‪ ،‬بل قد يتواله عنك‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وإلى هذا النوع من الصوم اإلشارة بقوله ‪( :‬الصوم جن ة م ا لم يخرقه ا)‪،‬‬
‫قيل‪ :‬بم يخرقها؟‪ ،‬قال‪( :‬بكذب أو غيبة)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وجلدك ـ وعدد أشياء غير ذلك ـ ثم‬
‫قال‪ :‬فال يكون يوم صومك مثل يوم فطرك) (‪)2‬‬
‫وق ال اإلم ام علي في بعض خطب ه‪( :‬الص يام اجتن اب المح ارم كم ا يمتن ع‬
‫الرجل من الطعام والشراب‪ ..‬وكم من صائم ليس له من صيامه إال الظم أ‪ ،‬وكم من‬
‫قائم ليس له من قيامه إال العناء‪ ،‬حبذا نوم االكياس وإفطارهم) (‪)3‬‬
‫وق ال اإلم ام الص ادق‪( :‬إذا أص بحت ص ائما فليص م س معك وبص رك من‬
‫الحرام‪ ،‬وجارحت ك وجمي ع أعض ائك من الق بيح‪ ،‬ودع عن ك اله ذي وأذى الخ ادم‪،‬‬
‫وليكن عليك وقار الصيام‪ ،‬والزم ما اس تطعت من الص مت والس كوت إال عن ذك ر‬
‫هللا‪ ،‬والتجع ل ي وم ص ومك كي وم فط رك‪ ،‬وإي اك والمباش رة والقب ل والقهقه ة‬
‫بالضحك‪ ،‬فإن هللا مقت ذلك) (‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده‪ ،‬إنما للصوم شرط يحت اج‬
‫أن يحفظ حتى يتم الصوم‪ ،‬وهو صمت الداخل أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران‪:‬‬
‫ص وْ ًما فَلَ ْن أُ َكلِّ َم ْاليَ وْ َم إِ ْن ِس يًّا﴾ [م ريم‪ ]26 :‬يع ني ص متا؛ ف اذا‬ ‫﴿إِنِّي نَ َذرْ ُ‬
‫ت لِل رَّحْ َم ِن َ‬
‫صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب‪ ،‬وغضوا أبص اركم‪ ،‬وال تن ازعوا وال تحاس دوا‬
‫وال تغتابوا والتماروا وتكذبوا‪ ،‬والتباشروا‪ ،‬وال تخالفوا‪ ،‬وال تغاضبوا‪ ،‬والتس ابوا‪،‬‬
‫وال تشاتموا‪ ،‬وال تفاتروا‪ ،‬والتجادلوا‪ ،‬وال تظلموا‪ ،‬والتسافهوا‪ ،‬وال تضاجروا‪ ،‬وال‬
‫تغفل وا عن ذك ر هللا وعن الص الة‪ ..‬والزم وا الص مت والس كوت والحلم والص بر‬
‫والصدق‪ ،‬ومجانبة أهل الشر‪ ،‬واجتنب وا ق ول ال زور والك ذب والف ري والخص ومة‬
‫وظن السوء والغيب ة والنميم ة‪ ..‬وكون وا مش رفين على اآلخ رة منتظ رين ألي امكم‪،‬‬
‫منتظ رين لم ا وع دكم هللا م تزودين للق اء هللا‪ ،‬وعليكم الس كينة والوق ار والخش وع‬
‫والخضوع وذل العبيد الخيف من مواله خيرين خائفين راجين مرع وبين مره وبين‬
‫راغبين راهبين قد طهرت القلب من العيوب وتقدست سرائركم من الخبث‪ ،‬ونظفت‬
‫الجسم من القاذورات‪ ،‬وتبرأت إلى هللا من ع داه‪ ،‬وواليت هللا في ص ومك بالص مت‬
‫من جميع الجهات‪ ،‬مما قد نهاك هللا عنه في السر والعالنية‪ ،‬وخشيت هللا حق خشيته‬
‫في سرك وعالنيتك‪ ،‬ووهبت نفسك هلل في أيام صومك وف رغت قلب ك ل ه‪ ،‬ونص بت‬
‫نفسك له فيما أمرك ودعاك إليه‪ ..‬فاذا فعلت ذلك كله فأنت صائم هلل بحقيقة ص ومه‪،‬‬
‫‪ )(1‬النسائي ‪ ،168 –4/167‬والطبراني في األوسط‪)4536( 5/13 ،‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)292 /96‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة‪ ،‬رقم ‪145‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار (‪)292 /96‬‬
‫‪230‬‬
‫صانع له لما أمرك وكلما نقصت منه ا ش يئا فيم ا بينت ل ك‪ ،‬فق د نقص من ص ومك‬
‫بمقدار ذلك) (‪)1‬‬
‫ومما يروى في كتب األنبياء حول الصيام وآدابه ما ج اء في ص حف إدريس‬
‫عليه السالم‪ ،‬فقد روي أنه كتب فيها‪( :‬إذا دخلتم في الصيام فطهروا نفوسكم من كل‬
‫دنس ونجس‪ ،‬وص وموا هلل بقل وب خالص ة ص افيه منزه ة عن األفك ار الس يئة‬
‫والهواجس المنكرة‪ ،‬فإن هللا سيحبس القلوب اللطخة والنيات المدخولة‪ ،‬وم ع ص يام‬
‫أفواهكم من المأكل فلتصم جوارحكم من المآثم فإن هللا ال يرضى منكم أن تص وموا‬
‫من المطاعم فقط‪ ،‬لكن من المناكير كلها‪ ،‬والفواحش بأسرها) (‪)2‬‬
‫وك ل ه ذه النص وص وغيره ا تش ير إلى أن ه ال يمكن أن يك ون الص وم‬
‫صحيحا‪ ،‬وهو يقتصر على ما ذهب إليه جم اهير الفقه اء من اقتص اره على األك ل‬
‫والشرب والشهوات المعروفة المحدودة‪ ،‬وأن الصائم مهما ارتكب فيه من الج رائم‪،‬‬
‫ال يضر ذلك بصومه‪.‬‬
‫وكل ذل ك بس بب التف اتهم إلى الص حة الظاهري ة الس طحية‪ ،‬ال إلى قب ول هللا‬
‫لألعمال‪ ،‬والتي وردت النصوص المقدسة الكثيرة تبين عدم قبول أعمال من يقصر‬
‫في صومه بارتكاب تلك المحرمات‪.‬‬
‫وقد شبه بعض الحكماء من يفعل ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬من فهم مع نى الص وم وس رّه‬
‫ف عن األك ل وأفط ر بمقارف ة اآلث ام كمن مس ح ك ّل عض و من‬ ‫أن مث ل من ك ّ‬ ‫علم ّ‬
‫أعضائه في الوضوء‪ ،‬وأتى بجميع اآلداب والسنن واألذكار‪ ،‬فقد وف ق في الفض ائل‬
‫إاّل أنّه ترك المه ّم وهو الغسل‪ ،‬فصالته مردودة عليه لجهله‪ ،‬ومثل من أفطر باألكل‬
‫وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعض اءه ال واجب غس لها ومس ح ال واجب‬
‫مسحه واقتصر على الفرائض‪ ،‬فصالته صحيحة متقبّلة إلحكامه األص ل وإن ت رك‬
‫الفضل‪ ،‬ومثل من جمع بينهم ا كمن جم ع بين األص ل والفض ل في الوض وء وه و‬
‫الكمال) ‪)3‬أ‬
‫ولهذا أخبر ‪ ‬أن الص وم أمان ة‪ ،‬فق ال‪( :‬إنّم ا الص وم أمان ة فليحف ظ أح دكم‬
‫أمانته) (‪)4‬‬

‫وعن دما تال قول ه تع الى‪﴿ :‬إِ َّن هللا يَ أْ ُم ُر ُك ْم أَ ْن تُ ؤَ ُّدوا اأْل َ َمانَ ا ِ‬
‫ت إِلَى أَ ْهلِهَ ا﴾‬
‫[النساء‪ ]58 :‬وضع يده على سمعه وبصره‪ ،‬فقال‪( :‬السمع أمانة والبصر أمانة) (‪)5‬‬
‫ولذلك أمر رسول هللا ‪ ‬من تعرض ألي موقف ي دعوه النته اك مح ارم هللا‬
‫بأن يتذكر صومه‪ ،‬قال ‪( :‬إذا أصبح أحدكم يوم ا ص ائما فال ي رفث‪ ،‬وال يجه ل‪،‬‬
‫فإن امر ٌؤ شاتمه أو قاتله فليقل‪ :‬إني صائ ٌم إني صائ ٌم) (‪)6‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)293 /96‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)293 /96‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.137 :‬‬
‫‪ )(4‬الخرائطي في مكارم األخالق‪.‬‬
‫‪ )(5‬ابن أبي حاتم والحاكم وابن حبان وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري (‪ )1894‬ومسلم (‪)1151‬‬
‫‪231‬‬
‫ب ل ص رح ب أن من لم ي ترك ال زور ال ذي يش مل ك ل المحرم ات ال مع نى‬
‫لصيامه‪ ،‬فقال‪( :‬من لم يدع ق ول ال زور والجه ل والعم ل ب ه فليس هلل حاج ةٌ في أن‬
‫ي دع طعام ه وش رابه) (‪ ،)1‬وق ول ال زور يش مل ك ل ق ول مح رم كالك ذب والغيب ة‬
‫والنميمة والسب والشتم وغيرها‪.‬‬
‫ولذلك ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى أن واع المحرم ات‪ ،‬وتأثيره ا‬
‫في الصوم‪ ،‬ومن ذلك قول ه ‪( :‬خمس يفط رن الص ائم‪ :‬الك ذب والغيب ة والنميم ة‬
‫واليمين الكاذبة والنظر بشهوة)(‪)2‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يؤكد ذلك‪ ،‬فق د روي أن ام رأتين ص امتا‪ ،‬وأن رجالً‬
‫ق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ :‬إن ههن ا ام رأتين ق د ص امتا‪ ،‬وإنهم ا ق د كادت ا أن تموت ا من‬
‫العطش‪ .‬فأعرض عنه‪ ،‬ثم عاد‪ ،‬فقال‪ :‬ي ا ن بي هللا! إنهم ا وهللا ق د ماتت ا أو كادت ا أن‬
‫تموتا‪ ،‬فقال‪ :‬ادعهم ا‪ .‬فجاءت ا‪ .‬فجيء بق دح أو ُعسٍّ ؛ فق ال إلح داهما‪ :‬قي ئي‪ .‬فق اءت‬
‫قيحا ً أو دما ً وصديداً ولحماً‪ ،‬حتى قاءت نصف القدح‪ ،‬ثم قال لألخرى‪ :‬قيئي‪ .‬فقاءت‬
‫من قيح ودم وص ديد ولحم عبي ط وغ يره‪ ،‬ح تى مألت الق دح‪ .‬ثم ق ال‪( :‬إن ه اتين‬
‫صامتا عما أحل هللا‪ ،‬وأفطرتا على ما حرم هللا عز وج ل عليهم ا‪ ،‬جلس ت إح داهما‬
‫إلى األخرى؛ فجعلتا يأكالن لحوم الناس) (‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬من اغتاب مسلما بطل ص ومه‪ ،‬ونقض وض وؤه؛‬
‫ل لما حرّم هللا)(‪)4‬‬ ‫فإن مات وهو كذلك مات وهو مستح ّ‬
‫وليس ذلك فقط ما يحفظ للصوم حرمته‪ ،‬ويجعله مدرسة للتقوى‪ ،‬ب ل إن على‬
‫الص ائم حين إفط اره أال يق ع فيم ا نهى هللا تع الى عن ه من اإلس راف في األك ل‬
‫اش َربُوا َواَل تُ ْس ِرفُوا ِإنَّهُ اَل ي ُِحبُّ ْال ُم ْس ِرفِينَ ﴾ [األع راف‪:‬‬
‫والشرب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ُكلُ وا َو ْ‬
‫‪]31‬‬
‫وقد ذكر بعض الحكماء ذل ك‪ ،‬فق ال متعجب ا‪( :‬كي ف يس تفاد من الص وم قه ر‬
‫عد ّو هللا وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره م ا فات ه ض حوة نه اره‪ ،‬وربم ا‬
‫يزيد في ألوان الطعام حتّى استمرّت الع ادات ب أن ي ّدخر جمي ع األطعم ة لرمض ان‬
‫أن مقص ود الص وم‬ ‫فيأك ل من األطعم ة في ه م ا ال يؤك ل في ع ّدة أش هر‪ ،‬ومعل وم ّ‬
‫الخوي وكسر الهوى ليق وي النفس على التق وى‪ ،‬وإذا دفعت المع دة ض حوة النه ار‬
‫إلى العش اء حتّى ه اجت ش هوتها وق ويت رغبتها‪ ،‬ث ّم أطعمت من اللّ ذات وأش بعت‬
‫لذتها‪ ،‬وتضاعفت قوّته ا‪ ،‬وانبعث من الش هوات م ا عس اها ك انت راك دة ل و‬ ‫زادت ّ‬
‫تركت على عادتها‪ ،‬فروح الصوم وسرّه تضعيف القوى الّتي هي وس ائل الش يطان‬
‫في القود إلى الشرور ولن يحص ل ذل ك إاّل بالتقليل‪ ،‬وه و أن يأك ل أكل ة الّ تي ك ان‬
‫يأكلها ك ّل ليلة لو لم يصم‪ ،‬وأ ّما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى م ا ك ان يأك ل ليال‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪)6075( )1903‬‬


‫‪ )( 2‬قال العراقي‪ :‬الحديث أخرجه االزدى في الضعفاء من رواية جابان‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن أبي شيبة في مسنده (‪ )2/177‬وأحمد (‪5/431‬‬
‫‪ )(4‬رواه في عقاب االعمال‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫فلم ينتف ع بص ومه‪ ،‬ب ل من اآلداب أن ال يك ثر الن وم بالنه ار حتّى يحسّ ب الجوع‬
‫والعطش‪ ،‬ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه ويس تديم في ك ّل ليل ة ق درا‬
‫يخف علي ه ته ّج ده وأوراده‪ ،‬فعس ى الش يطان ال يح وم على قلب ه‬ ‫ّ‬ ‫من الضعف حتّى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فينظر إلى ملكوت السماء‪ ،‬وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيه ا ش يء من‬
‫الملكوت‪ ..‬ومن جعل بين قلبه وبين ص دره مخالة من الطع ام فه و عن ه محج وب‪،‬‬
‫ومن أخلى معدته فال يكفيه ذلك لرفع الحجاب حتّى يخل و ه ّمت ه عن غ ير هللا تع الى‬
‫وذلك هو األمر كلّه‪ ،‬ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام) (‪)1‬‬
‫الصوم والترقية‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الص ادق ـ ف اعلم أن الص وم ال ذي ي زكي النفس‬
‫ويطهرها‪ ،‬هو نفسه الذي يمكنه أن يرقيها في معارج المعرف ة والتواص ل م ع هللا‪..‬‬
‫ذلك أنه كلما طهرت النفس‪ ،‬كلما كانت أكثر استعدادا لتلقي هبات الهداية اإللهية‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا الدور ما ورد في الح ديث عن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال‪( :‬إذا‬
‫كف النفس عن الشهوات‪ ،‬وقطع اله ّمة عن خطوات الش يطان‪،‬‬ ‫صمت فانو بصومك ّ‬
‫وأنزل نفسك منزلة المرضى ال تشتهي طعاما وشرابا متوقّعا في ك ّل لحظ ة ش فاءك‬
‫الذنوب‪ ،‬وطهّر باطن ك من ك ّل ك در وغفل ة وظلم ة يقطع ك عن مع نى‬ ‫من مرض ّ‬
‫اإلخالص لوجه هللا تعالى‪ ..‬فالصوم يميت موا ّد النفس وش هوة الطب ع‪ ،‬وفي ه ص فاء‬
‫القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم واإلحس ان إلى‬
‫الفقراء وزيادة التضرّع والخش وع والبك اء وحب ل االلتج اء إلى هللا وس بب انكس ار‬
‫اله ّمة وتخفيف الحساب وتضعيف الحسنات) (‪)2‬‬
‫وقال بعض الحكماء معبرا عن هذه الوظيفة ـ معتبرا القائمين ب ه من خاص ة‬
‫الخاص ة ـ‪( :‬و أ ّم ا ص وم خص وص الخص وص؛ فص وم القلب عن الهمم ال ّدنيّ ة‬
‫واألفكار ال ّدنيويّة وكفّه ع ّما سوى هللا بالكلّية‪ ،‬ويحصل الفطر في هذا الصوم ب الفكر‬
‫إن ذل ك زاد‬ ‫فيما سوى هللا والي وم اآلخ ر‪ ،‬وب الفكر في ال ّدنيا إاّل دني ا ت راد لل ّدين ف ّ‬
‫اآلخرة وليس من ال ّدنيا)‬
‫وبعد كل هذه اآلداب ـ أيها المريد الصادق ـ فإي اك أن تغ تر بعمل ك‪ ،‬وتت وهم‬
‫أنه قبل من ك‪ ،‬ب ل اس تغفر رب ك‪ ،‬واب ق بع د اإلفط ار معلّق ا مض طربا بين الخ وف‬
‫والرجاء‪ ،‬إذ لست تدري أيقبل صومك‪ ،‬فتكون من المقرّبين‪ ،‬أو ير ّد علي ك‪ ،‬فتك ون‬
‫من الممقوتين‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد روي أن اإلمام الحسن م ّر بقوم ي وم العي د وهم يض حكون فق ال‪( :‬إن هللا‬
‫ع ّز وج ّل جعل شهر رمضان مضمارا لخلق ه‪ ،‬يس تبقون في ه لطاعت ه‪ ،‬فس بق أق وام‬
‫ففازوا‪ ،‬وتخلّف أقوام فخابوا‪ ،‬فالعجب ك ّل العجب للض احك الالعب في الي وم الّ ذي‬
‫فاز فيه المسارعون وخاب في ه المبطل ون‪ ،‬أم ا وهللا ل و ق د كش ف الغط اء الش تغل‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)235 /1‬‬


‫‪ )(2‬مصباح الشريعة‪ ،‬ص‪.135‬‬
‫‪233‬‬
‫إساءته) (‪)3‬‬ ‫المحسن بإحسانه والمسيء عن‬
‫هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن ت دخل ه ذه‬
‫المدرسة بفرائضها وسننها‪ ،‬لتؤدي دورها في نفس ك تربي ة وتزكي ة وترقي ة‪ ،‬واعلم‬
‫أن هللا تعالى كما يحفظ بها روحك ونفسك‪ ،‬يحفط بها جسدك وحياتك؛ فاهلل لم يكلف ك‬
‫بهذا التكليف تعذيبا لجسدك‪ ،‬وإنما صحة له‪ ،‬وعافية لحياتك‪ ،‬ح تى ال تتس لط عليه ا‬
‫جنود األهواء‪ ،‬وال تستحوذ عليها الشياطين‪.‬‬
‫فاحرص على كل م ا ورد في الش ريعة من األي ام المبارك ة ال تي ورد الحث‬
‫على ص يامها‪ ،‬لتن ال األج ور العظيم ة‪ ،‬وتطه ر من اآلث ام ال تي تح ول بين ك وبين‬
‫الملكوت‪.‬‬

‫‪ )(3‬االقبال‪.275 :‬‬
‫‪234‬‬
‫إنفاق المخلصين‬
‫كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن اإلنف اق ال ذي دعت إلي ه‬
‫النص وص المقدس ة‪ ،‬وأوجبت ه‪ ،‬وأخ برت أن ه من ص فات المتقين؛ وه ل ل ه عالق ة‬
‫بتزكية النفس وترقيتها‪ ،‬أم أنه مرتبط بالجانب االجتم اعي‪ ،‬وتطه ير الم ال مم ا ق د‬
‫يكون أصابه من الشبهات والحرام‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن اإلنف اق أن واع متع ددة‪ ،‬وبحس بها‬
‫يكون دوره‪..‬‬
‫فمن الن اس من يخ رج م ا وجب علي ه من م ال‪ ،‬أو م ا تط وع ب ه من ه ري اء‬
‫وسمعة‪ ،‬وطلبا للجاه‪ ،‬وامتالك قلوب من أحسن إليهم؛ فهذا وإن كان ق د ق دم بإنفاق ه‬
‫خدمات لمجتمعه‪ ،‬إال أنه أساء إلى نفسه كثيرا‪ ،‬ذلك أنه أضاف إليها أمراضا جدي دة‬
‫قد تكون أخطر من األمراض التي كانت فيها‪.‬‬
‫﴿والَّ ِذينَ يُ ْنفِقُ ونَ أَ ْم َوالَهُ ْم ِرئَ ا َء النَّ ِ‬
‫اس‬ ‫وإلى هذا الصنف اإلشارة بقوله تع الى‪َ :‬‬
‫الش ْيطَانُ لَ هُ قَ ِرينً ا فَ َس ا َء قَ ِرينً ا (‪)38‬‬ ‫َواَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِاهلل َواَل بِ ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َو َم ْن يَ ُك ِن َّ‬
‫َو َما َذا َعلَ ْي ِه ْم لَوْ آ َمنُوا بِاهلل َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َوأَ ْنفَقُوا ِم َّما َرزَ قَهُ ُم هللا َو َك انَ هللا بِ ِه ْم َعلِي ًم ا﴾‬
‫[النس اء‪ ،]39 ،38 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬و َم ا َمنَ َعهُ ْم أَ ْن تُ ْقبَ َل ِم ْنهُ ْم نَفَقَ اتُهُ ْم إِاَّل أَنَّهُ ْم َكفَ رُوا بِاهلل‬
‫ارهُونَ ﴾ [التوب ة‪:‬‬ ‫صاَل ةَ إِاَّل َوهُ ْم ُك َس الَى َواَل يُ ْنفِقُ ونَ إِاَّل َوهُ ْم َك ِ‬ ‫َوبِ َرسُولِ ِه َواَل يَأْتُونَ ال َّ‬
‫‪]54‬‬
‫ومن الناس من يخرج ما وجب عليه من م ال‪ ،‬دون أن يلتفت لش يء‪ ،‬وال أن‬
‫يكون له أي مقص د؛ فه ذا ق د يس اهم ذل ك اإلنف اق في تطه ير بعض ج وانب نفس ه‬
‫األمارة إال أنه ال يرقى ألن يؤدي دوره في التزكية أو الترقية الكاملة‪.‬‬
‫ومن الناس من ينفق ماله ابتغاء مرضاة هللا‪ ،‬لعلم ه بحب هللا ل ذلك؛ فل ذلك ال‬
‫يلتفت لنفسه عند اإلنفاق‪ ،‬وال يؤذي من أعانهم‪ ،‬ألنه يعلم ذلك كله من هللا؛ فهذا ه و‬
‫ت هللا َوت َْثبِيتً ا‬ ‫ضا ِ‬ ‫الذي ذكره هللا تعالى‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َمثَ ُل الَّ ِذينَ يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ُم ا ْبتِغَا َء َمرْ َ‬
‫ُص ْبهَا َوابِ ٌل‬ ‫ض ْعفَي ِْن فَ إِ ْن لَ ْم ي ِ‬ ‫َت أُ ُكلَهَ ا ِ‬ ‫صابَهَا َوابِ ٌل فَآت ْ‬ ‫ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم َك َمثَ ِل َجنَّ ٍة بِ َر ْب َو ٍة أَ َ‬
‫صيرٌ﴾ [البقرة‪]265 :‬‬ ‫فَطَ ٌّل َوهللا بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ‬
‫وهذا هو الذي ينال جميع حظوظه من إنفاقه‪ ،‬سواء في ال دنيا أو في اآلخ رة‪،‬‬
‫وأولها تطهير نفسه‪ ،‬وتزكيتها‪ ،‬وترقيتها إلى المراتب الرفيعة للص الحين‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ار ِس ًّرا َو َعاَل نِيَةً فَلَهُ ْم أَجْ ُرهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َواَل‬‫تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ْم بِاللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫ارعُوا إِلَى َم ْغفِ َر ٍة ِم ْن‬ ‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ زَ نُ ونَ ﴾ [البق رة‪ ،]274 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬و َس ِ‬ ‫خَ وْ ٌ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫الس َما َوات َوا رْ ضُ أ ِع َّدت لِل ُمتقِينَ (‪ )133‬ال ِذينَ يُنفِق ونَ فِي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ُ‬ ‫ض هَا َّ‬ ‫َربِّ ُك ْم َو َجن ٍة َعرْ ُ‬
‫َّ‬
‫اس َوهللا ي ُِحبُّ ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ [آل‬ ‫ضرَّا ِء َو ْال َك ا ِظ ِمينَ ْال َغ ْي ظَ َو ْال َع افِينَ ع َِن النَّ ِ‬ ‫ال َّسرَّا ِء َوال َّ‬
‫عمران‪]134 ،133 :‬‬
‫وأخبر عن دور اإلنفاق في تطه ير النفس األم ارة من م رض الش ح والبخ ل‬
‫‪235‬‬
‫الذي يتنافى مع القيم اإليمانية التي ت دعو إلى اإليث ار والتض حية وخدم ة المجتم ع‪،‬‬
‫ار َواإْل ِ ي َم انَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم ي ُِحبُّونَ َم ْن هَ َ‬
‫اج َر إِلَ ْي ِه ْم َواَل يَ ِج ُدونَ‬ ‫﴿والَّ ِذينَ تَبَ َّو ُءوا ال َّد َ‬‫فقال‪َ :‬‬
‫ٌ‬
‫اص ة َو َم ْن‬ ‫َص َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ُور ِه ْم َحا َجة ِم َّما أوتُوا َوي ُْؤثِرُونَ َعلَى أ ْنف ِس ِه ْم َولَ وْ َك انَ بِ ِه ْم خ َ‬‫ً‬ ‫صد ِ‬ ‫فِي ُ‬
‫ك هُ ُم ال ُمفلِحُونَ ﴾ [الحشر‪]9 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ق ُش َّح نَف ِس ِه فَأولَئِ َ‬‫يُو َ‬
‫ولذلك تقترن التق وى م ع اإلنف اق‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ اتَّقُوا هللا َم ا ْ‬
‫اس تَطَ ْعتُ ْم‬
‫ك هُ ُم ْال ُم ْفلِ ُح ونَ ﴾‬ ‫ق ُش َّح نَ ْف ِس ِه فَأُولَئِ َ‬
‫َوا ْس َمعُوا َوأَ ِطيعُوا َوأَ ْنفِقُوا خَ ْيرًا أِل َ ْنفُ ِس ُك ْم َو َم ْن يُو َ‬
‫[التغابن‪]16 :‬‬
‫ولهذا سميت الزكاة زك اة‪ ،‬ألنه ا تطه ر ص احبها من خبث البخ ل ال ذي ه و‬
‫صفة من صفات النفس األم ارة‪ ،‬وتؤهل ه لص فة الك رم ال تي هي ص فة من ص فات‬
‫النفس المطمئنة‪ ،‬وتؤهله ب ذلك لك ل المك ارم ال تي وردت النص وص المقدس ة به ا‪،‬‬
‫والتي ال تشمل اآلخرة فقط‪ ،‬بل تشمل الدنيا أيض ا؛ فاإلنف اق ي زكي ال دنيا واآلخ رة‬
‫جميعا‪.‬‬
‫ومن تل ك األح اديث م ا روي أن رس ول هللا ‪ ‬ض رب (مث ل البخي ل‬
‫والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد‪ ،‬ق د اض طرت أي ديهما إلى ث ديهما‬
‫وتراقيهما‪ ،‬فجعل المتصدق كلما تصدق بص دقة انبس طت عن ه ح تى تغش ى أنامل ه‬
‫وتعفو أثره‪ ،‬وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها)(‪)1‬‬
‫فهذا الحديث يبين األثر النفسي لإلنفاق‪ ،‬وهو ذلك االنبساط واالنش راح ال ذي‬
‫يصيب النفس‪ ،‬ويجعلها مس تعدة لت نزل ك ل المك ارم‪ ،‬بخالف نفس البخي ل الض يقة‬
‫التي تحول بين صاحبها‪ ،‬وبين تحليه بمكارم األخالق‪.‬‬
‫ولذلك أخبر ‪ ‬أن اإلنفاق س بيل من س بل التق وى ال تي تحمي ص احبها من‬
‫العقوبة‪ ،‬قال ‪( :‬اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجد فبكلمة طيبة)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حر القبور‪ ،‬وإنما يس تظل الم ؤمن ي وم‬
‫القيامة فى ظل صدقته)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬ما أحسن من محسن من مسلم وال كافر إال أثيب)‪ ،‬قلنا‪ :‬ي ا رس ول هللا‬
‫هذه إثابة المسلم قد عرفناها‪ ،‬فما إثابة الكافر؟ ق ال‪( :‬إذا تص دق بص دقة‪ ،‬أو وص ل‬
‫رحما‪ ،‬أو عمل حسنة أثابه هللا بهذا المال والولد فى الدنيا‪ ،‬وعذاب دون الع ذاب فى‬
‫ب﴾ [غافر‪)5()]46 :‬‬ ‫اآلخرة وقرأ ﴿أَ ْد ِخلُوا آ َل فِرْ عَوْ نَ أَ َش َّد ْال َع َذا ِ‬
‫وأخبر ‪ ‬عن دور اإلنفاق في إبعاد الشيطان ال ذي ه و الم دد األك بر للنفس‬
‫األمارة؛ فقال مخاطبا أصحابه‪( :‬أال أخبركم بشي ٍء إن أنتم فعلتم وه تباع د الش يطان‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)5797‬ومسلم (‪)1021‬‬
‫‪ )(2‬البخاري (‪ ،)1417‬ومسلم (‪)1016‬‬
‫‪ )(3‬الطبراني ‪)788( 17/286‬‬
‫‪ )(4‬أحمد ‪ ،4/147‬وأبو يعلى ‪ ،)1766( 301 -3/300‬والطبراني ‪)771( 17/280‬‬
‫‪ )(5‬البزار في (البحر الزخار) ‪)1454( 4/284‬‬
‫‪236‬‬
‫منكم‪ ،‬كما تباعد المش رق من المغ رب ؟‪..‬ق الوا‪ :‬بلى‪ ،‬ق ال‪( :‬الص وم يس وّد وجه ه‪،‬‬
‫والص دقة تكس ر ظه ره‪ ،‬والحبّ في هللا والم وازرة على العم ل الص الح يقطع ان‬
‫ل شي ٍء زكاة ٌ وزكاة األبدان الصيام)(‪)1‬‬ ‫دابره‪ ،‬واالستغفار يقطع وتينه‪..‬ولك ّ‬
‫وأخبر ‪ ‬عن فضل هللا تعالى على المنفقين بدخول الجنة‪ ،‬فقال‪( :‬أيها الناس‬
‫!‪..‬إنه ال نبي بعدي وال أم ة بع دكم‪ ،‬أال فاعب دوا ربكم‪ ،‬وص لّوا خمس كم‪ ،‬وص وموا‬
‫شهركم‪ ،‬وح ّج وا بيت ربكم‪ ،‬وأ ّدوا زك اة أم والكم طيب ة به ا أنفس كم‪ ،‬وأطيع وا والة‬
‫أمركم تدخلوا جنة ربكم)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬ما من عبد ينفق من كل مال له زوجين في سبيل هللا إال استقبله حجبة‬
‫الجنة‪ ،‬كلهم يدعوه إلى ما عنده) قلت‪ :‬وكيف ذلك؟ قال‪( :‬إن كانت إبال فبعيرين وإن‬
‫كانت بقرا فبقرتين) (‪)3‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن فضل هللا تعالى على المنفقين بالتعويض عليهم في ال دنيا قب ل‬
‫اآلخرة‪ ،‬فقال‪( :‬ما نقص مال من صدقة ـ أو قال‪ :‬ما نقصت ص دقةٌ ـ من م ال‪ ،‬وم ا‬
‫زاد هللا عبدا بعفو إال عزا‪ ،‬وما تواضع عبد هلل إال رفعه)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬صنائع المعروف تقي مصارع السوء‪ ،‬وصدقة الس ر تطفىء غض ب‬
‫الرب‪ ،‬وصلة الرحم تزيد فى العمر) (‪)5‬‬
‫وقال‪( :‬ما من يوم يصبح فيه العباد إال ملك ان ي نزالن‪ ،‬فيق ول أح دهما‪ :‬اللهم‬
‫أعط منفقا خلفا‪ .‬ويقول اآلخر اللهم أعط ممسكا تلفا) (‪)6‬‬
‫ير م ا تح ابّوا‪ ،‬وته ادوا‪ ،‬وأ ّدوا األمان ة‪ ،‬واجتنب وا‬ ‫وق ال‪( :‬ال ت زال أم تي بخ ٍ‬
‫الحرام‪ ،‬وقروا الضيف‪ ،‬وأقاموا الص الة‪ ،‬وآت وا الزك اة‪..‬ف إذا لم يفعل وا ذل ك ابتل وا‬
‫بالقحط والسنين)(‪)7‬‬
‫وقال اإلمام الباقر‪( :‬في كتاب اإلمام علي‪( :‬إذا منع وا الزك اة‪ ،‬منعت األرض‬
‫بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها)(‪)8‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬حصّنوا أموالكم بالزك اة‪ ،‬وداووا مرض اكم بالص دقة‪،‬‬
‫ل في برٍّ وال بحر إال بمنع الزكاة)(‪)9‬‬ ‫وما تلف ما ٌ‬
‫ٍ‬
‫(إن هلل بقاعا ً تسمى المنتقمة‪ ،‬ف إذا أعطى هللا عب داً م االً لم يُخ رج ح قّ‬ ‫وقال‪ّ :‬‬
‫هللا ع ّز وج ّل منه‪ ،‬سلّط هللا عليه بقعةً من تلك البقاع‪ ،‬فأتلف ذلك المال فيه ا ثم م ات‬

‫‪ )(1‬أمالي الصدوق ص‪.37‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،93/13 :‬والخصال ‪.1/156‬‬
‫‪ )(3‬النسائي ‪ ،49-6/48‬والدارمي (‪)2403‬‬
‫‪ )(4‬مسلم (‪)2588‬‬
‫‪ )(5‬الطبراني ‪)8014( 8/261‬‬
‫‪ )(6‬البخاري (‪ ،)1442‬ومسلم (‪)1010‬‬
‫‪)(7‬العيون ‪.2/29‬‬
‫‪)(8‬العلل ‪.2/271‬‬
‫‪)(9‬ثواب األعمال ص‪.42‬‬
‫‪237‬‬
‫وتركها)(‪)1‬‬
‫وأخ بر ‪ ‬عن دور الص دقة في ص حة ص احبها‪ ،‬فق ال‪( :‬إن ص دقة المس لم‬
‫تزيد فى العمر‪ ،‬وتمنع ميتة السوء‪ ،‬ويذهب هللا بها الكبر والفخر) (‪)2‬‬

‫وحص نوا‬‫ّ‬ ‫وقال‪( :‬داووا مرضاكم بالص دقة‪ ،‬وادفع وا أب واب البالء بال دعاء‪،‬‬
‫أموالكم بالزكاة‪ ،‬فإنه ما يصاد ما تصيد من الطير إال بتضييعهم التسبيح)(‪)3‬‬
‫وق ال‪( :‬إذا أردت أن ي ثري هللا مال ك فز ّك ه‪ ،‬وإذا أردت أن يص ّح هللا ب دنك‪،‬‬
‫فأكثر من الصدقة)(‪)4‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله‪ ،‬فقد ورد ما يدل على اس تجابة هللا تع الى للمحت اج إن‬
‫دعا للمنفق عليه‪ ،‬ولذلك كان اإلمام السجاد يقول للمنفقين‪( :‬إذا أعطيتم وهم فلقّن وهم‬
‫الدعاء فإنّهم يستجاب لهم فيكم وال يستجاب لهم في أنفسهم)(‪)5‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وتحركت همتك لما ورد في النصوص‬
‫المقدس ة من ج زاء المنفقين؛ ف اعلم أن ذل ك الج زاء يس تدعي التقي د بم ا ورد في‬
‫الش ريعة من اآلداب واألخالق ح تى ال تت دخل األه واء ومعه ا الش ياطين ليص بح‬
‫اإلنف اق وس يلة لل نزول لم دارك النفس األم ارة‪ ،‬ب دل ال ترقي إلى من ازل النفس‬
‫المطمئنة‪.‬‬
‫ومن خالل استقراء ما ورد في النصوص المقدس ة من تل ك اآلداب‪ ،‬وج دت‬
‫أنها ثالثة‪ ،‬أولها مرتبط بالمنفق‪ ،‬وثانيها بالمنفق عليه‪ ،‬وثالثها بالنفقة‪.‬‬
‫اإلخالص والتجرد‪:‬‬
‫أما األول‪ ،‬وهو المرتبط بالمنفق؛ فهي آداب كث يرة‪ ،‬لكنه ا تق وم جميع ا على‬
‫اإلخالص والتجرد هلل تع الى‪ ،‬واالبتع اد عن ك ل دواعي العجب والغ رور والك بر‪،‬‬
‫والتي تنض ح بع د ذل ك بك ل أص ناف الع دوان على المنف ق عليهم من المن واألذى‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫ولذلك فإن الصالحين يشعرون أثناء إنفاقهم أنهم ال يسلمون المال للمس تحقين‬
‫من الفقراء والمساكين وغيرهم‪ ،‬وإنما يسلمونه هلل تعالى‪ ،‬كم ا ورد في الح ديث عن‬
‫رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬ما تصدق أح ٌد بصدقة من طيب ـ وال يقب ل هللا إال الطيب ـ‬
‫إال أخذها ال رحمن بيمين ه‪ ،‬وإن ك انت تم رة‪ ،‬ف تربو في ك ف ال رحمن ح تى تك ون‬
‫أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله)(‪)6‬‬
‫وفي رواية‪( :‬حتى إن اللقم ة لتص ير مث ل أحد‪ ،‬وتص ديق ذل ك في كت اب هللا‬
‫ت َوأَ َّن هللا هُ َو التَّوَّابُ‬ ‫﴿أَلَ ْم يَ ْعلَ ُموا أَ َّن هللا هُ َو يَ ْقبَ ُل التَّوْ بَ ةَ ع َْن ِعبَ ا ِد ِه َويَأْ ُخ ُذ َّ‬
‫الص َدقَا ِ‬

‫‪)(1‬أمالي الصدوق ‪.22‬‬


‫‪ )(2‬الطبراني ‪)31( 23-17/22‬‬
‫‪)(3‬قرب اإلسناد ص‪.74‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،93/23 :‬وأعالم الدين‪.‬‬
‫‪ )(5‬عدة الداعي ص ‪.44‬‬
‫‪ )(6‬البخاري (‪،)1410‬ومسلم (‪)1014‬‬
‫‪238‬‬
‫ت َوهللا اَل يُ ِحبُّ ُك َّل َكفَّ ٍ‬
‫ار‬ ‫الص َدقَا ِ‬ ‫ال َّر ِحي ُم﴾ [التوب ة‪﴿ ]104 :‬يَ ْم َح ُ‬
‫ق هللا الرِّ بَ ا َويُ رْ بِي َّ‬
‫يم﴾ [البقرة‪)1()]276 :‬‬ ‫أَثِ ٍ‬
‫وق ال اإلم ام الب اقر‪( :‬ق ال هللا تب ارك وتع الى‪ :‬أن ا خ الق ك ّل ش ي ٍء‪ ،‬وكلت‬
‫أن الرجل أو الم رأة يتص ّدق‬ ‫باألشياء غيري إال الصدقة‪ ،‬فإني أقبضها بيدي‪ ..‬حتى ّ‬
‫بشقة التمرة‪ ،‬فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه‪ ،‬حتى أتركه يوم القيامة‬
‫أعظم من أُحد)(‪)2‬‬
‫وبذلك؛ فإن المنفق المخلص يشعر أنه يعطي المال لصاحبه وه و هللا تع الى‪،‬‬
‫ثم يعيد هللا تعالى ذلك الم ال على المس تحق منّ ا من ه وكرم ا‪ ..‬وب ذلك يش عر أن هللا‬
‫تعالى هو الذي أعطى الفقير‪ ،‬ال يده‪ ،‬وال حوله‪ ،‬وال قوته‪..‬‬
‫وهذا ما دل عليه القرآن الكريم؛ فاهلل تعالى اعتبر إنفاق المنفقين قرض ا منهم‬
‫اع ْفهُ لَ ُك ْم َويَ ْغفِ رْ لَ ُك ْم َوهللا َش ُكو ٌر‬ ‫ض ا َح َس نًا ي َ‬
‫ُض ِ‬ ‫ض وا هللا قَرْ ً‬ ‫له‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِ ْن تُ ْق ِر ُ‬
‫َحلِي ٌم﴾ [التغابن‪]17 :‬‬
‫ولذلك أخبر رسول هللا ‪ ‬عن استحباب تسليم الصدقة مباشرة إلى الفقير من‬
‫غير واسطة‪ ،‬ففي الحديث عنه ‪ ‬قال‪( :‬خصلتان ال أحبّ أن يشاركني فيهما أح ٌد‪:‬‬
‫ائل‪ ،‬فإنه ا تق ع في ي د‬ ‫وض وئي فإن ه من ص التي‪ ..‬وص دقتي من ي دي إلى ي د س ٍ‬
‫الرحمن)(‪)3‬‬
‫ويروى أن اإلمام السجاد كان إذا أعطى الس ائل قبّ ل ي ده؛ فقي ل ل ه‪ :‬لِ َم تفع ل‬
‫ذلك ؟‪..‬قال‪( :‬ألنها تقع في يد هللا قبل يد العبد)‪ ،‬وق ال‪( :‬ليس من ش ي ٍء إال وك ل ب ه‬
‫ملك إال الصدقة‪ ،‬فإنها تقع في يد هللا)(‪)4‬‬
‫وله ذا أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن ش رف الس ائل‪ ،‬وكون ه س فيرا ورس وال هلل‬
‫تعالى‪ ،‬وذلك ما يستدعي إكرامه والتعام ل الحس ن مع ه‪ ،‬ق ال ‪( :‬الس ائل رس ول‬
‫ربّ العالمين‪ ،‬فمن أعطاه فقد أعطى هللا‪ ،‬ومن ر ّده فقد ر ّد هللا)(‪)5‬‬
‫ولهذا يشعر المنفق بمنة هللا علي ه ب المنفق علي ه‪ ،‬وق د ق ال اإلم ام علي‪( :‬من‬
‫أن ما صنع إنّما صنع إلى نفسه لم يس تبط الن اس في ش كرهم ولم يس تزدهم في‬ ‫علم ّ‬
‫م و ّدتهم إيّ اه فال تلتمس من غ يرك ش كر م ا أتيت إلى نفس ك ووقيت ب ه عرضك‪،‬‬
‫أن الطالب إليك الحاجة لم يكرم وجهه عن وجهك فأكرم وجهك عن ر ّده)(‪)6‬‬ ‫واعلم ّ‬
‫أن ل ه‬ ‫وقد ذكر بعض الحكماء عالمة على هذه المرتبة الرفيعة‪ ،‬فق ال‪( :‬اعلم ّ‬
‫أن الفقير لو ج نى علي ه جناي ة أو م الأ ع دوّا ل ه‬ ‫عالمة دقيقة واضحة وهو أن يق ّدر ّ‬
‫عليه مثال هل كان يزيد استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التص ّدق‪ ،‬فإن زاد‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪)662‬‬
‫‪ )(2‬تفسير العياشي ‪.1/153‬‬
‫‪)(3‬تفسير العياشي ‪.2/108‬‬
‫‪ )(4‬تفسير العياشي ‪.2/108‬‬
‫‪)(5‬دعائم اإلسالم ‪ 1/241‬ـ ‪.244‬‬
‫‪ )(6‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪.28‬‬
‫‪239‬‬
‫فلم تخل صدقته عن شائبة المنّة ألنّه توقّع بسببه ما لم يكن يتوقّعه قبل ذلك)‬
‫ولهذا كان بعض الصالحين يضع الص دقة بين ي دي الفق ير ويمثّ ل قائم ا بين‬
‫يديه يسأله قبولها حتّى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذل ك كراهي ة‬
‫لو ر ّده‪ ..‬وكان بعضهم يبسط كفّه ليأخذ الفقير ويكون يد الفقير هي العليا(‪..)1‬‬
‫وت ذكر ه ذه المع اني‪ ،‬والتفاع ل معه ا ه و ال ذي يحمي المنف ق من الش عور‬
‫بالعجب والكبر وغيرها‪ ،‬والتي تحمل ه على المن واألذى ال ذي يفس د نفقت ه‪ ،‬ويفس د‬
‫معها نفسه‪ ،‬فيمألها بأنواع الموبقات؛ وله ذا وص ف هللا تع الى المنفقين المخلص ين‬
‫بع دم المن واألذى‪ ،‬واعت بر ذل ك نتيج ة إليم انهم وإخالص هم‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬مثَ ُل الَّ ِذينَ‬
‫َت َس ْب َع َس نَابِ َل فِي ُك لِّ ُس ْنبُلَ ٍة ِمائَ ةُ َحبَّ ٍة‬ ‫يل هللا َك َمثَ ِل َحبَّ ٍة أَ ْنبَت ْ‬‫يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ْم فِي َس بِ ِ‬
‫يل هللا‬ ‫ُضا ِعفُ لِ َم ْن يَ َشا ُء َوهللا َوا ِس ٌع َعلِي ٌم (‪ )261‬الَّ ِذينَ يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ْم فِي َس بِ ِ‬ ‫َوهللا ي َ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ثُ َّم اَل يُ ْتبِعُونَ َما أ ْنفَقُ وا َمنّ ا َواَل أ ًذى لَهُ ْم أجْ ُرهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َواَل خَ وْ ٌ‬
‫يَحْ َزنُونَ ﴾ [البقرة‪]262 ،261 :‬‬
‫ولذلك ورد في الح ديث أن من أنف ق ري اء أو س معة س يكون حظ ه من ذل ك‬
‫اإلنفاق ما يناله من ثناء الن اس في ال دنيا‪ ،‬وليس ل ه ح ظ في اآلخ رة‪ ،‬ق ال ‪( :‬إن‬
‫أول الناس يقضي عليه يوم القيامة ثالثة‪ ..‬ومنهم رجل وس ع هللا علي ه‪ ،‬وأعط اه من‬
‫أصناف المال كله‪ ،‬فأتى به فعرف ه نعم ه فعرفه ا‪ ،‬ق ال‪ :‬فم ا عملت فيه ا ؟ ق ال‪ :‬م ا‬
‫تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إال أنفقت فيها لك‪ ،‬قال‪ :‬كذبت ولكنك فعلت ليقال‬
‫جواد‪ ،‬فقد قيل‪ ،‬فسحب على وجهه‪ ،‬ثم ألقي في النار)(‪)2‬‬
‫ولذلك يجتهد المنفق المخلص إلى اإلسرار بنفقت ه تجنب ا إلذي ة المنفَ ق علي ه‪،‬‬
‫﴿ن تُ ْب دُوا‬ ‫وهربا من الرياء والسمعة المفسدة للعمل‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله تع الى‪ْ :‬‬
‫ت فَنِ ِع َّما ِه َي َوإِ ْن تُ ْخفُوهَا َوتُ ْؤتُوهَا ْالفُقَ َرا َء فَه َُو خَ ْي ٌر لَ ُك ْم﴾ [البقرة‪]271 :‬‬ ‫ص َدقَا ِ‬‫ال َّ‬
‫وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬أفضل الصدقة جه د المق ّل‬
‫إلى فقير في سرّ)(‪.)3‬‬
‫(إن العبد ليعمل عمال في الس ّر فيكتب ه هللا س رّا؛ ف إن أظه ره نق ل من‬ ‫وقال‪ّ :‬‬
‫ر والعالنية وكتب رياء)(‪)4‬‬ ‫الس ّر وكتب في العالنية؛ فإن تح ّدث به نقل من الس ّ‬
‫وقال‪( :‬سبعة يظلّهم هللا في ظلّ ه ي وم ال ظ ّل إاّل ظلّ ه‪ ..‬أح دهم رج ل تص ّدق‬
‫بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطته يمينه)(‪)5‬‬
‫ر تطفئ غضب الربّ تعالى)(‪)6‬‬ ‫وقال‪( :‬صدقة الس ّ‬
‫ولهذا يجتهد الص الحون في إخف اء ص دقاتهم حرص ا على األج ور العظيم ة‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪88 :‬‬

‫‪ )(2‬رواه مسلم‪3/1514 ،‬‬


‫‪ )(3‬رواه أحمد والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد ج ‪ 5‬ص ‪.115‬‬
‫‪ )(4‬قال العراقي‪ :‬أخرج نحوه الخطيب في التأريخ‪.‬‬
‫‪)(5‬البخاري‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪ ،131‬ومسلم ج ‪ 3‬ص ‪ ،93‬والصدوق في الخصال ج ‪ 2‬ص ‪.2‬‬
‫‪ )(6‬الكافي ج ‪ 4‬ص ‪ ،7‬والتهذيب ج ‪ 1‬ص ‪.378‬‬
‫‪240‬‬
‫المرتبطة بنفقة السر‪ ،‬وقد قال بعضهم يصف ذلك‪( :‬بالغ في فض ل اإلخف اء جماع ة‬
‫حتّى اجته دوا أن ال يع رف الق ابض المعطي‪ ،‬فك ان بعض هم يلقي ه في ي د أعمى‪،‬‬
‫وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوس ه حيث ي راه وال ي رى المعطي‪،‬‬
‫وبعضهم كان يص ّره في ثوب الفقير وهو نائم‪ ،‬وبعضهم كان يوص ل إلى ي د الفق ير‬
‫على يد غيره بحيث ال يعرف المعطي‪ ،‬وكان يستكتم المتوسّط شأنه ويوصيه بأن ال‬
‫ل ذلك توصال إلى إطفاء غضب الربّ واحترازا من الرياء والسمعة) (‪)1‬‬ ‫يفشيه‪ ،‬ك ّ‬
‫لكن األحسن من كل ذلك تسليمه للموث وق بهم من الجمعي ات الخيري ة‪ ،‬ال تي‬
‫تت ولى تقس يم الص دقات على الفق راء والمس اكين بحس ب اس تحقاقهم‪ ،‬ذل ك أن من‬
‫النتائج السلبية لكتمان النفقة‪ ،‬أن الكثير من المنفقين قد يتوجه بنفقته نحو فقير واحد‪،‬‬
‫وهو ما يحرم غيرهم‪.‬‬
‫لكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ليس على إطالقه؛ فقد تقتض ي المص لحة أن‬
‫يعلن المنفق بنفقته‪ ،‬لكن ال للفقير أو المحتاج‪ ،‬وإنما للوسائط التي توصل النفقة لهم‪.‬‬
‫ومن أهم تل ك المص الح ال دعوة إلى االنف اق على تل ك المح ال الش رعية‪،‬‬
‫وخاصة إن كانت واجبة كالزكاة ونحوها‪ ،‬كم ا روي عن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال‪:‬‬
‫(ك ّل ما فرض هللا عليك فإعالنه أفضل من إسراره‪ ،‬وك ّل م ا ك ان تطوّع ا فإس راره‬
‫أن رجال حمل زكاة ماله على عاتقه عالنية ك ان ذل ك حس نا‬ ‫أفضل من إعالنه‪ ،‬فلو ّ‬
‫جميال)(‪)2‬‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك إن عجزت عن أن يكون لك م ال تنفق ه في‬
‫سبيل هللا؛ فقد جعل هللا لك لسانا يمكنك أن تس تخدمه في ال دعوة إلطع ام المس اكين‪،‬‬
‫فقد اعتبر هللا تعالى المقصر في ذلك مكذبا بالدين‪ ،‬فقال‪﴿ :‬أَ َرأَيْتَ الَّ ِذي يُ َك ِّذبُ بِال دِّي ِن‬
‫(‪ )1‬فَ َذلِكَ الَّ ِذي يَ ُد ُّع ْاليَتِي َم (‪َ )2‬واَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِكي ِن﴾ [الماعون‪]3 - 1 :‬‬
‫وقرنه بالذي ال يؤمن باهلل تعالى‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬إِنَّهُ َك انَ اَل يُ ْؤ ِمنُ بِاهلل ْال َع ِظ ِيم (‪)33‬‬
‫ْس لَ هُ ْاليَ وْ َم هَاهُنَ ا َح ِمي ٌم﴾ [الحاق ة‪- 33 :‬‬ ‫ين (‪ )34‬فَلَي َ‬ ‫َواَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِك ِ‬
‫‪]35‬‬
‫محتاج‪ ،‬كان له كأجر صاحبها‬ ‫ٍ‬ ‫وقد قال رسول هللا ‪( :‬من مشى بصدق ٍة إلى‬
‫من غير أن ينقص من أجره شي ٌء)(‪)3‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬المعط ون ثالث ة‪ :‬هللا ربّ الع المين‪ ،‬وص احب الم ال‪،‬‬
‫والذي يجري على يديه)(‪)4‬‬

‫وق ال‪( :‬ل و ج رى المع روف على ثم انين كفّ اً‪ ،‬ألوج روا كلهم من غ ير أن‬
‫ينقص عن صاحبه من أجره شيئاً)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء؛ ج‪2‬؛ ص‪88‬‬


‫‪ )(2‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪ ،501‬والتهذيب ج ‪ 1‬ص ‪.378‬‬
‫‪ )(3‬أمالي الصدوق ص‪.259‬‬
‫‪ )(4‬الخصال ‪.1/66‬‬
‫‪ )(5‬ثواب األعمال ص‪.127‬‬
‫‪241‬‬
‫وهكذا يمكنك أن تنف ق مم ا آت اك هللا من علم أو ص نعة أو خ برة أو غيره ا؛‬
‫فاإلنفاق ال يقتصر على المال فقط‪ ،‬حتى ال يحتج أي محتج بعدمه‪ ،‬وإنما تشمل ك ل‬
‫شيء‪ ،‬وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬زكاة العلم تعليمه من ال يعلمه)(‪)1‬‬
‫ل شي ٍء زكاةٌ‪ ،‬وزكاة العلم أن يعلّمه أهله)(‪)2‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬لك ّ‬
‫وأش ار إلى أن واع كث يرة من الزك اة والص دقات‪ ،‬فق ال‪( :‬على ك ّل ج ز ٍء من‬
‫أجزائك زكاةٌ واجبةٌ هلل ع ّز وجلّ‪ ،‬بل على ك ّل ش عر ٍة‪ ،‬ب ل على ك ّل لحظ ٍة؛ فزك اة‬
‫العين‪ :‬النظر بالعبرة‪ ،‬والغضّ عن الشهوات وم ا يض اهيها‪ .‬وزك اة األذن‪ :‬اس تماع‬
‫العلم‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والقرآن‪ ،‬وفوائد الدين من الحكمة والموعظة والنص يحة‪ ،‬وم ا في ه‬
‫نجات ك ب اإلعراض عم ا ه و ض ده من الك ذب والغيب ة وأش باهها‪ .‬وزك اة اللس ان‪:‬‬
‫النصح للمسلمين‪ ،‬والتيقّظ للغافلين‪ ،‬وكثرة التسبيح والذكر وغيره‪ .‬وزكاة اليد‪ :‬البذل‬
‫والعطاء والسخاء بما أنعم هللا عليك به‪ ،‬وتحريكها بكتب ة العل وم‪ ،‬ومن افع ينتف ع به ا‬
‫المسلمون في طاع ة هللا تع الى‪ ،‬والقبض عن الش رور‪ .‬وزك اة الرج ل‪ :‬الس عي في‬
‫حقوق هللا تعالى من زي ارة الص الحين‪ ،‬ومج الس ال ذكر‪ ،‬وإص الح الن اس‪ ،‬وص لة‬
‫الرحم‪ ،‬والجهاد‪ ،‬وما فيه صالح قلبك‪ ،‬وسالمة دينك‪ .‬هذا مما يحتمل القلوب فهم ه‪،‬‬
‫والنفوس استعماله‪ ،‬وما ال يشرف عليه إال عباده المقرّبون المخلصون أك ثر من أن‬
‫يحصى‪ ،‬وهم أربابه وهو شعارهم دون غيرهم)(‪)3‬‬
‫ويشير إلى كل هذا ما ورد في الحديث أن ناسا من أصحاب الن بي ‪ ‬ق الوا‪:‬‬
‫يا رسول هللا ذهب أهل الدثور باألجور‪ ،‬يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم‪،‬‬
‫ويتصدقون بفضول أموالهم‪ .‬قال‪( :‬أو ليس قد جعل هللا لكم ما تصدقون به؟ إن بك ل‬
‫تسبيحة صدقة‪ ،‬وكل تكبيرة صدقة‪ ،‬وكل تحميدة صدقة‪ ،‬وكل تهليل ة ص دقة‪ ،‬وأم ٌر‬
‫ي عن منكر صدقةٌ)(‪)4‬‬ ‫بالمعروف صدقةٌ‪ ،‬ونه ٌ‬
‫االستحقاق والحاجة‪:‬‬
‫وأما الثاني‪ ،‬وهو المرتبط بالمنفق عليه؛ فهي تحتاج من المنفق أن يبحث عن‬
‫أولى الجهات وأكثره ا حاج ة لنفقت ه‪ ،‬ذل ك أن ه كلم ا اجته د في وض عها في محله ا‬
‫الصحيح‪ ،‬كانت أكثر بركة عليه‪.‬‬
‫ولذلك قد ال يؤتى المنفق من جهة إخالص ه وتج رده هلل تع الى‪ ،‬ولكن ه ي ؤتى‬
‫من الجهة التي أنفق عليها؛ ذل ك أن ه ق د يعطي مال ه للظلم ة والمس تكبرين؛ فيق وي‬
‫بذلك شوكتهم‪ ،‬ويكون سندا لهم في ظلمهم‪ ..‬وقد يعطيها لمن لهم القدرة على العمل؛‬
‫فيدعوهم بذلك إلى الكسل‪.‬‬
‫ولهذا عندما ج اء بعض الص حابة يس أل رس ول هللا ‪ ،‬لم يعط ه‪ ،‬ألن ه رآه‬
‫قويا قادرا على العمل‪ ،‬ولذلك قال له‪( :‬أم ا في بيت ك ش يء؟) ق ال‪ :‬بلى‪ ،‬حلس نلبس‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.93/136 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪.93/136 :‬‬
‫‪ )(3‬مصباح الشريعة ص‪.17‬‬
‫‪ )(4‬مسلم (‪)1006‬‬
‫‪242‬‬
‫بعضه ونبسط بعضه‪ ،‬وقعب نشرب فيه من الم اء‪ ،‬ق ال‪( :‬ائت ني بهم ا) فأت اه بهم ا‪،‬‬
‫فأخذهما رسول هللا ‪ ‬بي ده‪ ،‬وق ال‪( :‬من يش تري ه ذين؟) ق ال رج ل‪ :‬أن ا آخ ذهما‬
‫ب درهم‪ ،‬ق ال‪( :‬من يزي د على درهم؟)‪ .‬م رّتين أو ثالث ا‪ .‬ق ال رج ل‪ :‬أن ا آخ ذهما‬
‫بدرهمين‪ ،‬فأعطاهم ا إيّ اه‪ ،‬وأخ ذ ال ّدرهمين وأعطاهم ا األنص اريّ‪ ،‬وق ال‪( :‬اش تر‬
‫بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك‪ ،‬واشتر باآلخر ق ّدوما فأتني ب ه) فأت اه ب ه‪ ،‬فش ّد في ه‬
‫رسول هللا ‪ ‬عودا بيده ث ّم قال له‪( :‬اذهب فاحتطب وب ع‪ ،‬وال أرينّ ك خمس ة عش ر‬
‫يوم ا)‪ ،‬ف ذهب الرّج ل يحتطب وي بيع‪ ،‬فج اء وق د أص اب عش رة دراهم‪ ،‬فاش ترى‬
‫ببعضها ثوب ا وببعض ها طعام ا‪ .‬فق ال رس ول هللا ‪( :‬ه ذا خ ير ل ك من أن تجيء‬
‫إن المسألة ال تصلح إاّل لثالثة‪ :‬لذي فق ر م دقع‪،‬‬ ‫المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة‪ّ ،‬‬
‫أو لذي غرم مفظع‪ ،‬أو لذي دم موجع) (‪)1‬‬
‫ل ذلك؛ ف إن من عالم ات إخالص المنف ق اجته اده في البحث عن الجه ات‬
‫المستحقة‪ ،‬والتي يمكن أن يساهم اإلنفاق لها في سد حاجتها‪ ،‬وأدائها لدورها المنوط‬
‫بها‪ ،‬سواء كان ذلك أشخاصا‪ ،‬أو جهات خيرية‪ ،‬أو غيرهما‪.‬‬
‫ذلك أن مقاصد اإلنفاق ال ترتبط فق ط بتطه ير المنف ق من أمراض ه النفس ية‪،‬‬
‫وإنما تقوم بتطهير المجتمع أيضا من األمراض التي تص يبه ج راء الش ح والبخ ل‪..‬‬
‫ولذلك كان أولى الجهات باإلنفاق عليها األقربون الذي وكل أم ر رع ايتهم للمنف ق؛‬
‫فال يصح أن يتركهم المنفق‪ ،‬ويذهب لألبع دين‪ ،‬ألن ه ق د يك ون لهم من المنفقين من‬
‫يسد حاجتهم‪.‬‬
‫ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬دين ا ٌر أنفقت ه في س بيل هللا‪ ،‬ودين ا ٌر‬
‫أنفقته في رقبة‪ ،‬ودينا ٌر تصدقت به على مس كين ودين ا ٌر أنفقت ه على أهل ك أعظمه ا‬
‫أجرا الذي أنفقته على أهلك)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬أفضل دينار ينفقه الرجل دينا ٌر ينفق ه على عيال ه‪ ،‬ودين ا ٌر ينفق ه على‬
‫ر ينفقه على أصحابه في سبيل هللا) (‪)3‬‬ ‫دابته في سبيل هللا‪ ،‬ودينا ٌ‬
‫وقال‪( :‬إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها ـ كانت له صدقة)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬ما أطعمت نفسك فهو لك صدقةٌ‪ ،‬وما أطعمت ولدك فه و ل ك ص دقةٌ‪،‬‬
‫وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقةٌ‪ ،‬وما أطعمت خادمك فهو لك صدقةٌ)(‪)5‬‬
‫وقال‪( :‬يد المعطي العليا‪ ،‬وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك‬
‫فأدناك)(‪)6‬‬
‫بل ورد التشدد على من يترك قرابته‪ ،‬وينفق على األبعدين‪ ،‬ففي الحديث عن‬
‫رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬والذي بعثني بالحق ال يعذب هللا يوم القيامة من رحم اليتيم‪،‬‬
‫‪ )(1‬رواه أبو داود والبيهقي‬
‫‪ )(2‬مسلم (‪)995‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪)994‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ ،)55‬ومسلم (‪)1002‬‬
‫‪ )(5‬أحمد ‪.4/131‬‬
‫‪ )(6‬النسائي ‪ ،5/61‬والدارمي (‪)1659‬‬
‫‪243‬‬
‫والن له في الكالم ورحم يتمه وضعفه‪ ،‬ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه هللا‪ ،‬يا‬
‫أمة محمد‪ ،‬والذي بعثني بالحق ال يقب ل هللا ص دقة من رجل‪ ،‬ول ه قراب ةٌ محت اجون‬
‫إلى صلة‪ ،‬ويصرفها إلى غيرهم‪ ،‬والذى نفسي بيده ال ينظر هللا إليه يوم القيامة)(‪)1‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن األجر المضاعف الذي يناله المنفق على قرابته‪ ،‬ففي الح ديث‬
‫عن زينب امرأة ابن مسعود أنها عندما سمعت النبي ‪ ‬يق ول‪( :‬تص دقن ي ا معش ر‬
‫النساء ولو من حليكن) قالت لزوجها ابن مس عود‪ :‬إن ك خفي ف ذات اليد‪ ،‬وإن الن بي‬
‫‪ ‬أمرنا بالصدقة‪ ،‬فاسأله فإن كان يجزه عني وإال صرفتها إلى غيركم‪ .‬فق ال عب د‬
‫هللا‪ :‬بل ائتي ه أنت‪ .‬ف انطلقت ف إذا ام رأةٌ من األنص ار بب اب رس ول هللا ‪ ‬ح اجتي‬
‫حاجتها‪ ،‬وكان قد ألقيت عليه المهابة فخرج علينا بال ٌل فقلنا ل ه‪ :‬ائت رس ول هللا ‪‬‬
‫فأخبره أن امرأتين بالباب تس أالنك‪ :‬أتج زئ الص دقة عنهم ا على أزواجهم ا وعلى‬
‫أيتام في حجورهما؟ وال تخبره من نحن فس أله بال ٌل فق ال له‪( :‬أي الزي انب؟) ق ال‪:‬‬
‫امرأة عبد هللا‪ .‬فقال له‪( :‬لهما أجران‪ :‬أجر القرابة‪ ،‬وأجر الصدقة) (‪)2‬‬
‫وقال ‪( :‬إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة فلها أجرها بما أنفقت‪،‬‬
‫وللزوج بما اكتسب‪ ،‬وللخازن مثل ذلك‪ ،‬ال ينقص بعضهم أجر بعض شيئا)(‪)3‬‬
‫وعن معن بن يزيد قال‪ :‬ك ان أبي أخ رج دن انير يتص دق به ا فوض عها عن د‬
‫رجل في المسجد‪ ،‬فأعطانيها ولم يعرف‪ ،‬فأتيته به ا فق ال أبي‪ :‬وهللا م ا إي اك أردت‪.‬‬
‫فخاصمته إلى النبي ‪ ‬فقال‪( :‬لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن) (‪)4‬‬
‫ومثل ذل ك نهى رس ول هللا ‪ ‬أن ينف ق الش خص ك ل مال ه‪ ،‬ثم يبقى يتس ول‬
‫الن اس‪ ،‬ففي الح ديث عن ج ابر ق ال‪ :‬كن ا عن د رس ول هللا ‪ ‬إذ ج اءه رج ٌل بمث ل‬
‫البيضة من ذهب‪ ،‬فقال‪( :‬يا رسول هللا أصبت هذا من معدن‪ ،‬فخذها فهي ص دقةٌ م ا‬
‫أملك غيرها)‪ ،‬فأعرض عنه ‪ ،‬ثم قال مثل ذل ك من قب ل يمين ه ف أعرض عنه‪ ،‬ثم‬
‫من يساره فأعرض عنه‪ ،‬ثم قال‪( :‬يأتي أحدكم بجميع ما يملك فيقول هذه ص دقةٌ‪ ،‬ثم‬
‫يقعد يستكف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)(‪)5‬‬
‫لكن ذلك ال يعني ـ أيها المريد الصادق ـ أن ينفق الشخص على أهله وأقارب ه‬
‫من األمور الكمالية التي ال يحتاجون له ا في نفس ال وقت ال ذي يج د غ يره محتاج ا‬
‫مضطرا ألبسط الضرورات؛ فذلك ليس من المروءة‪ ،‬وليس ما عنته تلك األح اديث‬
‫الشريفة‪.‬‬
‫ول ذلك روي عن بعض الص الحين أن ه س ئل‪ :‬كم يجب من الزك اة في م ائتي‬
‫درهم‪ ،‬فقال‪( :‬أ ّما على الع وام بحكم الش رع فخمس ة دراهم‪ ،‬وأ ّم ا نحن فيجب علين ا‬
‫بذل الجميع)(‪)6‬‬

‫‪( )(1‬األوسط) ‪)8828( 8/346‬‬


‫‪ )(2‬البخاري (‪ ،)1466‬ومسلم (‪)1000‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪ ،)1425‬ومسلم (‪)1024‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪)1422‬‬
‫‪ )(5‬أبو داود (‪)1673‬‬
‫‪ )(6‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪78 :‬‬
‫‪244‬‬
‫وروي عن اإلم ام الص ادق أن ه س ئل‪ :‬في كم تجب الزك اة من الم ال؟ فق ال‪:‬‬
‫(الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟) فقال‪ :‬أريدهما جميعا‪ ،‬قال‪( :‬أ ّما الظاهرة ففي ك ّل‬
‫ألف خمسة وعشرون‪ ،‬وأ ّما الباطنة فال تستأثر على أخيك بما هو أحوج إلي ه من ك)‬
‫(‪)1‬‬

‫﴿والَّ ِذينَ إِ َذا أَ ْنفَقُوا لَ ْم يُس ِ‬


‫ْرفُوا َولَ ْم يَ ْقتُرُوا َو َك انَ بَ ْينَ‬ ‫وروي أنه تال قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ك قَ َوا ًم ا﴾ [الفرق ان‪ ،]67 :‬ثم أخ ذ قبض ة من حص ى وقبض ها بي ده‪ ،‬فق ال‪( :‬ه ذا‬ ‫َذلِ َ‬
‫اإلقتار الّذي ذكره هللا في كتابه)‪ ،‬ث ّم أخذ قبض ة أخ رى ف أرخى كفّ ه‪ ،‬ث ّم ق ال‪( :‬ه ذا‬
‫اإلسراف)‪ ،‬ث ّم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وق ال‪ :‬ه ذا الق وام)‬
‫(‪)2‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن من عالم ة المنفقين المخلص ين ترص د الحاج ات‪ ،‬واعتباره ا‬
‫مواسم للخيرات؛ فلذلك ال يك ون قص دهم من اال ّدخ ار التنعّم‪ ،‬وإنم ا انتظ ار الف رق‬
‫التي يضعون فيها أموالهم في محالها المناسبة لها‪ ،‬ولو لم توجبها الزكاة‪.‬‬
‫(أن الزك اة ليس يحم د به ا ص احبها‪،‬‬ ‫وقد قال اإلمام الصادق يشير إلى ه ذا‪ّ :‬‬
‫وإنّما هو شيء ظاهر‪ ،‬إنّما حقن بها دم ه وس ّمي مس لما‪ ،‬ول و لم يؤ ّده ا لم تقب ل ل ه‬
‫وإن عليكم في أم والكم غ ير ال ّزك اة)‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬أص لحك هللا وم ا علين ا في‬ ‫صالة‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫﴿وال ِذينَ‬‫أموالنا غير الزكاة؟ فقال‪( :‬سبحان هللا‪ ،‬أما تسمع هللا تعالى يق ول في كتاب ه‪َ :‬‬
‫ُوم﴾ [المعارج‪ ،]25 ،24 :‬فقيل له‪ :‬فما‬ ‫ق َم ْعلُو ٌم (‪ )24‬لِلسَّائِ ِل َو ْال َمحْ ر ِ‬
‫فِي أَ ْم َوالِ ِه ْم َح ٌّ‬
‫ق المعلوم الّذي علينا؟ قال‪( :‬هو وهللا الشيء يعمله الرّجل في ماله يعطي ه في‬ ‫ذا الح ّ‬
‫الي وم أو في الجمع ة أو الش هر ق ّل أو ك ثر غ ير أنّ ه ي دوم علي ه)‪ ،‬وقول ه تع الى‪:‬‬
‫﴿ َويَ ْمنَعُونَ ْال َما ُعونَ ﴾ [الماعون‪ ]7 :‬قال‪ :‬ه و الق رض تقرض ه والمع روف تص نعه‬
‫إن لنا جيرانا إذا أعرن اهم متاعن ا كس روه‬ ‫ومتاع البيت تعير‪ ،‬ومنه الزكاة‪ ،‬فقيل له‪ّ :‬‬
‫وأفسدوه فعلينا جن اح أن نمنعهم؟ فق ال‪ :‬ال ليس عليكم جن اح أن تمنع وهم إذا ك انوا‬
‫ُط ِع ُمونَ الطَّ َعا َم َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينًا َويَتِي ًم ا َوأَ ِس يرًا﴾ [اإلنس ان‪]8 :‬‬ ‫كذلك‪ ،‬فقيل له‪َ ﴿ :‬وي ْ‬
‫ار ِس ًّرا‬‫قال‪ :‬ليس من الزكاة‪ ،‬فقيل له‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يُ ْنفِقُونَ أَ ْم َوالَهُ ْم بِاللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫الص َدقَا ِ‬
‫ت‬ ‫َو َعاَل نِيَةً﴾ [البقرة‪ ]274 :‬قال‪ :‬ليس من الزكاة‪ ،‬فقيل ل ه‪ :‬قول ه‪﴿ :‬إِ ْن تُ ْب دُوا َّ‬
‫فَنِ ِع َّما ِه َي َوإِ ْن تُ ْخفُوهَا َوتُ ْؤتُوهَا ْالفُقَ َرا َء فَه َُو خَ ْي ٌر لَ ُك ْم﴾ [البق رة‪ ]271 :‬ق ال‪ :‬ليس من‬
‫الزكاة‪ ،‬وصلتك قرابتك ليس من الزكاة)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬إنّما أعطاكم هللا هذه الفضول من األموال لتوجّهوه ا حيث وجّهه ا هللا‬
‫ز وجلّ‪ ،‬ولم يعطكموها لتكنزوها) (‪)4‬‬ ‫عّ‬
‫ومن أهم الوجوه التي يحرص الصالحون على توجيه األموال إليها م ا يخ دم‬
‫العلم وأهل ه وطلبت ه أو أس اتذته المتف رغين ل ه‪ ،‬وال ذين ال يج دون ال وقت الك افي‬

‫‪ )(1‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪.500‬‬


‫‪ )(2‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪.54‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪.499‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.،32‬‬
‫‪245‬‬
‫لالشتغال بما يشتغل به س ائر الن اس‪ ،‬وق د روي في ه ذا عن بعض الص الحين أن ه‬
‫صص بمعروفه أهل العلم‪ ،‬فقيل ل ه‪ :‬ل و عممت؟ فق ال‪:‬‬ ‫قال‪ :‬من األغنياء أنه كان يخ ّ‬
‫(إنّي ال أع رف بع د مق ام النب وّة أفض ل من مق ام العلم اء‪ ،‬ف إذا اش تغل قلب أح دهم‬
‫بحاجته لم يتفرّغ للعلم ولم يقبل على التعلّم‪ ،‬فتفريغهم للعلم أفضل)‬
‫ومنه ا البحث عن الص الحين من الفق راء؛ ح تى يك ون ذل ك تش جيعا على‬
‫التقوى‪ ،‬وحتى ال يصرف الفقير الفاسد ماله في فساده‪ ،‬وفي الحديث عن رس ول هللا‬
‫‪ ‬أنه قال‪( :‬أطعم وا طع امكم األتقي اء وأول وا مع روفكم المؤم نين)‪ ،‬وفي رواي ة‪:‬‬
‫(أضف بطعامك من تحبّه باهلل) (‪)1‬‬
‫وهذا ليس مطلقا؛ فالصدقة تجوز للفقير مهما ك ان دينه(‪ ،)2‬وخاص ة إن ك ان‬
‫من المؤلفة قل وبهم‪ ،‬أولئ ك ال ذين قص دهم هللا تع الى بقول ه‪﴿ :‬اَل يَ ْنهَ ا ُك ُم هللا ع َِن الَّ ِذينَ لَ ْم‬
‫ار ُك ْم أَ ْن تَبَ رُّ وهُ ْم َوتُ ْق ِس طُوا إِلَ ْي ِه ْم إِ َّن هللا ي ُِحبُّ ْال ُم ْق ِس ِطينَ ﴾‬ ‫يُقَاتِلُو ُك ْم فِي الد ِ‬
‫ِّين َولَ ْم ي ُْخ ِر ُج و ُك ْم ِم ْن ِديَ ِ‬
‫[الممتحنة‪]8 :‬‬
‫وقد ذكر هللا تعالى ما فعله األب رار من إطع امهم بعض من ليس وا بمؤم نين‪،‬‬
‫ُط ِع ُمونَ الطَّ َعا َم َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينًا َويَتِي ًما َوأَ ِسيرًا (‪ )8‬إِنَّ َما نُ ْ‬
‫ط ِع ُم ُك ْم لِ َوجْ ِه هللا اَل نُ ِري ُد ِم ْن ُك ْم‬ ‫﴿وي ْ‬
‫فقال‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫َجزَا ًء َواَل شكورًا﴾ [اإلنسان‪]9 ،8 :‬‬‫ُ‬
‫الطيبة والجودة‪:‬‬
‫وأما الثالث‪ ،‬وهو المرتبط بالنفقة نفسها؛ فقد أشار هللا تع الى إلي ه بقول ه‪﴿ :‬لَنْ‬
‫تَنَالُوا ْالبِ َّر َحتَّى تُ ْنفِقُوا ِم َّما تُ ِحبُّونَ َو َما تُ ْنفِقُوا ِم ْن َش ْي ٍء فَإِ َّن هللا بِ ِه َعلِي ٌم﴾ [آل عمران‪:‬‬
‫‪]92‬‬
‫وقد روي في بيانها وتطبيقها في عهد رس ول هللا ‪ ‬أن بعض الص حابة من‬
‫األنصار كان كثير المال‪ ،‬وكان أحب أمواله إليه بيرحاء‪ ،‬وكانت مس تقبلة المس جد‪،‬‬
‫وكان رسول هللا ‪ ‬يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب‪ ،‬فلما ن زلت اآلي ة الكريم ة‪،‬‬
‫قام أبو طلحة إلى رسول هللا ‪ ‬فقال‪ :‬إن هللا يق ول في كتاب ه‪﴿ :‬لَ ْن تَنَ الُوا ْالبِ َّر َحتَّى‬
‫تُ ْنفِقُ وا ِم َّما تُ ِحبُّونَ ﴾‪ ،‬وإن أحب أم والي إلي بيرح اء‪ ،‬وإنه ا ص دقة هلل‪ ،‬أرج و بره ا‬
‫وذخرها عند هللا‪ ،‬فضعها يا رسول هللا‪ ،‬حيث شئت‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬بخ‪ ،‬ذل ك‬
‫م ال رابح‪ ،‬ذل ك م ال رابح‪ ،‬ق د س معت م ا قلت فيه ا‪ ،‬وإني أرى أن تجعله ا في‬
‫األقربين) (‪)3‬‬
‫ولهذا اعتبر هللا تعالى اإلنفاق من المال الخ بيث ال ذي تعاف ه النفس نوع ا من‬
‫ت َم ا َك َس ْبتُ ْم َو ِم َّما أَ ْخ َرجْ نَ ا لَ ُك ْم‬
‫البخل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ ْنفِقُوا ِم ْن طَيِّبَا ِ‬
‫ض وا فِي ِه‬ ‫آخ ِذي ِه إِاَّل أَ ْن تُ ْغ ِم ُ‬ ‫ض َواَل تَيَ َّم ُم وا ْالخَ بِ َ‬
‫يث ِم ْن هُ تُ ْنفِقُ ونَ َولَ ْس تُ ْم بِ ِ‬ ‫ِمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫‪)(1‬ابن المبارك في البر والصلة‪.‬‬
‫‪ )( 2‬قال النووي‪( :‬فلو تصدق على فاسق أو على كافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي جاز‪ ،‬وكان في ه أج ر‬
‫(وي ْ‬
‫ُط ِع ُم ونَ الطَّ َع ا َم‬ ‫في الجملة‪ .‬قال صاحب البيان‪ :‬قال الصيمري‪ :‬وكذلك الحربي‪ ،‬ودليل المس ألة‪ :‬ق ول هللا تع الى‪َ :‬‬
‫َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينا ً َويَتِيما ً َوأَ ِسيراً) ومعلوم أن األسير حربي)[ المجموع (‪])6/237‬‬

‫‪ )(3‬رواه البخاري‪ ،)1461( :‬ومسلم‪)998( :‬‬


‫‪246‬‬
‫َوا ْعلَ ُموا أَ َّن هللا َغنِ ٌّي َح ِمي ٌد﴾ [البقرة‪]267 :‬‬
‫﴿الش ْيطَانُ يَ ِع ُد ُك ُم ْالفَ ْق َر‬
‫ثم قال بعدها يشير إلى عالق ة ذل ك اإلنف اق بالبخ ل‪َّ :‬‬
‫اس ٌع َعلِي ٌم﴾ [البقرة‪]268 :‬‬ ‫َويَأْ ُم ُر ُك ْم بِ ْالفَحْ َشا ِء َوهللا يَ ِع ُد ُك ْم َم ْغفِ َرةً ِم ْنهُ َوفَضْ اًل َوهللا َو ِ‬
‫َص فُ‬ ‫﴿ويَجْ َعلُ ونَ هلل َم ا يَ ْك َرهُ ونَ َوت ِ‬‫ومث ل ذل ك م ا أش ار إلي ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ب أَ َّن لَهُ ُم ْال ُح ْسنَى اَل َج َر َم أَ َّن لَهُ ُم النَّا َر َوأنَّهُ ْم ُمف َرطونَ ﴾ [النحل‪]62 :‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أَ ْل ِسنَتُهُ ُم ْال َك ِذ َ‬
‫وفي الح ديث أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬س بق دره ٌم مائ ة أل ف درهم) ق الوا‪:‬‬
‫وكيف؟ قال‪( :‬كان لرجل درهم ان فتص دق بأجودهم ا‪ ،‬وانطل ق رج ٌل إلى ع رض‬
‫ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها)(‪)1‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬خرج‪ ،‬وبيده عصا‪ ،‬وقد عل ق رج ٌل قن و حش ف فجع ل يطعن‬
‫في ذلك القنو فقال ‪( :‬لو شاء رب هذه الص دقة تص دق ب أطيب من ه ذا‪ ،‬إن رب‬
‫هذه الصدقة يأكل حشفا يوم القيامة) (‪)2‬‬
‫وروي أن عائش ة أرادت أن تتص دق بلحم منتن‪ ،‬فق ال له ا الن بي ‪:‬‬
‫(أتتصدقين بما ال تأكلين؟)(‪)3‬‬
‫وفي رواي ة ق الت‪ :‬أه دي للن بي ‪ ‬ض ب فلم يأكل ه‪ ،‬فقلت‪ :‬أال نطعم ه‬
‫المساكين؟ قال‪( :‬ال تطعموهم ما ال تأكلون) (‪)4‬‬

‫وقد قال بعض الحكماء مشيرا إلى بشاعة ذلك‪( :‬وإذا لم يكن المخرج من جيّد‬
‫المال فهو من سوء األدب إذ يمسك الجيّد لنفسه أو أهله فيكون قد آثر على هللا غيره‬
‫ولو فعل هذا بضيفه وق ّدم إليه أردى طعام في بيته ألوغ ر ب ه ص دره‪ ،‬ه ذا إن ك ان‬
‫نظ ره إلى هللا وإن ك ان نظ ره إلى نفس ه وثواب ه في اآلخ رة فليس بعاق ل من ي ؤثر‬
‫غيره على نفسه‪ ،‬وليس له من ماله إاّل ما تص ّدق فأبقى أو أك ل ف أفنى والّ ذي يأكل ه‬
‫قضاء وطرفي الحال‪ ،‬فليس من العقل قصور النظر على العاجل ة وت رك اال ّدخ ار‪،‬‬
‫فال تؤثروا به ربّكم) (‪)5‬‬
‫واعلم ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن أطيب الص دقة هي الص دقة الحالل؛ فاهلل‬
‫تعالى أكرم من أن يقبل الحرام‪ ،‬وق د ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪:‬‬
‫(إن هللا طيب ال يقبل إال طيبا‪ ،‬وإن هللا أمر المؤمنين بما أمر ب ه المرس لين فق ال تع الى‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا‬
‫ت َم ا‬ ‫ت﴾ (المؤمنون‪ ،)51:‬وقال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ُكلُ وا ِم ْن طَيِّبَ ا ِ‬
‫الرُّ ُس ُل ُكلُوا ِمنَ الطَّيِّبَا ِ‬
‫َر َز ْقنَا ُك ْم) (البقرة‪ ،)172:‬ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى الس ماء‪ :‬ي ا رب ي ا‬
‫رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) (‪)6‬‬
‫وقال‪( :‬إنه ال دين لمن ال أمانة له وال ص الة وال زك اة‪ ،‬إن ه من أص اب م اال‬
‫من حرام فلبس جلبابا يعني قميصا لم تقبل صالته حتى ينحي ذلك الجلباب عنه؛ إن‬
‫‪ )(1‬النسائي ‪ ،5/59‬وحسنه األلباني في (صحيح النسائي)(‪)2368‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود (‪ ،)1608‬والنسائي ‪ 43-5/42‬وابن ماجة (‪)1821‬‬
‫‪ )(3‬الطبراني في (األوسط) ‪)1832( 2/231‬‬
‫‪ )(4‬الطبراني في (األوسط) ‪)5116( 213-5/212‬‬
‫‪ )(5‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪90 :‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪247‬‬
‫هللا تبارك وتعالى أكرم وأجل من أن يقبل عمل رج ل أو ص الته وعلي ه جلب اب من‬
‫حرام) (‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬من اشترى ثوبا بعش رة دراهم وفي ه درهم من ح رام لم يقب ل هللا ع ز‬
‫وجل له صالة ما دام عليه) (‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬من جمع ماال حراما ثم تص دق ب ه لم يكن ل ه في ه أج ر وك ان إص ره‬
‫عليه) (‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬من كسب ماال حراما فأعتق منه ووصل منه رحمه ك ان ذل ك إص را‬
‫عليه) (‪)4‬‬
‫وق ال‪( :‬إن هللا قس م بينكم أخالقكم كم ا قس م بينكم أرزاقكم‪ ،‬وإن هللا يعطي‬
‫الدنيا من يحب ومن ال يحب‪ ،‬وال يعطي الدين إال لمن يحب‪ ،‬ومن أعط اه هللا ال دين‬
‫فقد أحبه‪ ،‬والذي نفسي بيده ال يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه‪ ،‬وال يؤمن حتى يأمن‬
‫جاره بوائقه‪ ،‬قالوا‪ :‬وما بوائقه يا رسول هللا؟ ق ال‪( :‬غش ه وظلم ه‪ ،‬وال يكس ب عب د‬
‫ماال من حرام فيتصدق منه فيقبل منه وال ينفق منه فيبارك له في ه وال يترك ه خل ف‬
‫ظف ره إال ك ان زاده إلى الن ار‪ ،‬إن هللا تع الى ال يمح و الس يئ بالس يئ‪ ،‬ولكن يمح و‬
‫السيئ بالحسن‪ ،‬إن الخبيث ال يمحو الخبيث)(‪)5‬‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن هللا تعالى ال يكلف نفسا إال وسعها؛ فل ذلك ال‬
‫تحتقر ما تنفقه حتى لو كان قليال إن لم يكن لديك إال ذلك القليل؛ فق د روي أن ه ج اء‬
‫ثالثة نفر إلى النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬أحدهم كانت لي مائة دينار‪ ،‬فتص دقت منه ا بعش رة‪،‬‬
‫وق ال آخر‪ :‬ك انت لي عش رة‪ ،‬فتص دقت بواح دة‪ ،‬وق ال اآلخر‪ :‬ك ان لي دين ا ٌر‪،‬‬
‫فتصدقت بعشره‪ ،‬فقال ‪( :‬كلكم في األجر سوا ٌء‪ ،‬كلكم تصدق بعشر ماله) (‪)6‬‬
‫وروي أن سائال جاء ابن عباس‪ ،‬فقال له‪ :‬أتشهد أن ال إل ه إال هللا وأن محم دا‬
‫ق‪ ،‬إن ه لح ٌ‬
‫ق‬ ‫رسول هللا؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬وتصوم؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬سألت‪ ،‬وللسائل ح ٌ‬
‫علينا أن نص لك فأعط اه ثوب ا ثم ق ال‪ :‬س معت رس ول هللا ‪ ‬يق ول‪( :‬م ا من مس لم‬
‫يكسو مسلما ثوبا إال كان في حفظ هللا ما دام عليه خرقة ٌ منه) (‪)7‬‬
‫هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على ه ذا الب اب من‬
‫أبواب الخير‪ ،‬وتخلق فيه بأخالق الصالحين‪ ،‬واعلم أن كل درهم أو دينار أنفقت ه في‬
‫سبيل هللا‪ ،‬وعلى المنهج الذي علمنا رسول هللا ‪ ‬وأئمة الهدى من بعده‪ ،‬سيكون له‬
‫أثره في تطهير نفسك وتزكيتها وترقيتها إلى مراتب المتقين المخلصين‪.‬‬
‫وليس ذلك ما تراه من ثوابه فقط‪ ،‬بل سيمثل لك يوم القيامة‪ ،‬وقد ربي أحس ن‬
‫‪ )(1‬رواه البزار‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أحمد وغيره‬
‫‪ )(6‬أحمد ‪ ،1/96‬والبزار في (البحر الزخار) ‪ ،)841( 3/77‬ودعائم اإلسالم ‪ 1/241‬ـ ‪.244‬‬
‫‪ )(7‬الترمذي (‪)2484‬‬
‫‪248‬‬
‫تربية‪ ،‬وتمثل في أحسن صورة‪ ،‬وكان شفيعا لك عند رب ك‪ ،‬وج زءا من نعيم ك في‬
‫جنتك‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫الحج المبرور‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحج وما يرتبط ب ه من العم رة‬
‫والزيارة‪ ،‬والمقاصد المرتبطة بها‪ ،‬وعالقتها بالتزكية والترقية‪ ،‬وكيفية تحقق ذلك‪.‬‬
‫وذكرت لي بأسف تلك التشويهات التي يع ود به ا بعض الحج اج حين يكتفي‬
‫من حجه بمئات الصور عن نفسه‪ ،‬وهو يطوف‪ ،‬أو يلبي‪ ،‬أو يستلم الحج ر األس ود‪،‬‬
‫أو يرفع يديه بالدعاء‪ ،‬متوهم ا أن ه ب ذلك ض من جن ان هللا الواس عة‪ ،‬وأن ه ع اد إلى‬
‫فطرته األصلية نقيا من كل الذنوب‪ ،‬ممتلئا بكل المكارم‪ ،‬مع أن واقع الح ال ال ي دل‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر ل ك أن الحج من أعظم الم دارس التربوي ة‪،‬‬
‫التي فرضها هللا تعالى على كل األمم‪ ،‬لما فيه من مقاصد نفسية واجتماعي ة ال يمكن‬
‫أن تتحقق من دونه‪.‬‬
‫وهو مع ذلك ـ مث ل س ائر الم دارس ـ عرض ة لتالعب الش يطان واأله واء‪،‬‬
‫لتحويله من مدرسة تربوية وإصالحية للنفس والمجتمع إلى أغراض أخرى تخ الف‬
‫الشريعة‪ ،‬وتعمل على عكس مقاصدها‪.‬‬
‫ولهذا ورد في النصوص المقدسة التفري ق بين كال الن وعين من الحج‪ ..‬الحج‬
‫الشرعي الذي يهذب النفس ويزكيها‪ ،‬والحج ال ذي ال يزي دها إال ض الال وانحراف ا‪،‬‬
‫ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬الح ّج الم برور ليس ل ه ج زاء إاّل الجنّ ة‪،‬‬
‫ر الحجّ؟ قال‪ :‬طيب الكالم وإطعام الطعام)(‪)1‬‬ ‫فقيل له‪ :‬يا رسول هللا ما ب ّ‬
‫فهذا الحديث يشير إلى أن الحج الش رعي الص حيح ه و الحج المرتب ط ب البر‬
‫والتقوى‪ ،‬والذي من مظاهره ما ذكره رسول هللا ‪ ‬من الكرم والكالم الطيب‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ولهذا قرن هللا تعالى األم ر ب الحج ب النهي عم ا يض اده؛ فق ال‪ْ :‬‬
‫﴿ال َحجُّ أش هُ ٌر‬
‫َال فِي ْال َحجِّ﴾ [البق رة‪:‬‬ ‫ث َواَل فُ ُس و َ‬
‫ق َواَل ِج د َ‬ ‫ض فِي ِه َّن ْال َح َّج فَاَل َرفَ َ‬ ‫َم ْعلُو َم ٌ‬
‫ات فَ َم ْن فَ َر َ‬
‫‪]197‬‬
‫ول ذلك؛ ف إن على من يري د الص دق في حج ه‪ ،‬واالس تفادة من ه أن يع رف‬
‫مقاص ده ال تي ش رع من أجله ا‪ ،‬وق د ع بر عن بعض ها اإلم ام الص ادق لمن س أله‬
‫ساخرا‪( :‬إلى كم تدوسون هذا البيدر‪ ،‬وتل وذون به ذا الحج ر‪ ،‬وتعب دون ه ذا ال بيت‬
‫المرفوع بالطوب والمدر‪ ،‬وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر‪َ ،‬من ف ّك ر في ه ذا‬
‫أن هذا فع ٌل أسّسه غير حكيم وال ذي نظر)‬ ‫أو ق ّدر‪ ،‬علم ّ‬
‫ٌ‬
‫فقال له اإلم ام الص ادق‪( :‬ه ذا بيت اس تعبد هللا ب ه خلق ه ليخت بر ط اعتهم في‬
‫إتيانه‪ ،‬فحثّهم على تعظيمه وزيارته‪ ،‬وقد جعله محل األنبياء وقبلة للمصلّين له‪ ،‬فهو‬
‫ق ت ؤدي إلى غفران ه‪ ،‬منص وبٌ على اس تواء الكم ال‪،‬‬ ‫ش عبةٌ من رض وانه‪ ،‬وطري ٌ‬

‫‪ )(1‬مسلم ج ‪ 4‬ص ‪ 107‬الحاكم ج ‪ 1‬ص ‪ .483‬أحمد ج ‪ 3‬ص ‪ 325‬و‪.334‬‬


‫‪250‬‬
‫ق من أطيع فيما أم ر وانتهى ع ّم ا نهى عن ه وزج ر‬ ‫ومجتمع العظمة والجالل‪ ،‬وأح ّ‬
‫هللا المنشيء لألرواح والصور)(‪)1‬‬
‫وق ال لمن س أله عن العل ة ال تي من أجله ا كل ف هللا العب اد الحج والط واف‬
‫ب البيت‪( :‬إن هللا عزوج ل خل ق الخل ق ال لعل ة إال أن ه ش اء ففع ل فخلقهم إلى وقت‬
‫مؤج ل‪ ،‬وأم رهم ونه اهم م ايكون من أم ر الطاع ة في ال دين ومص لحتهم من أم ر‬
‫دنياهم فجعل فيه االجتماع من المش رق والمغ رب ليتع ارفوا‪ ،‬ولي نزع ك ل ق وم من‬
‫التجارات من بلد إلى بلد‪ ،‬ولينتفع بذلك المكاري والجمال‪ ،‬ولتعرف آثار رس ول هللا‬
‫‪ ،‬وتعرف أخباره‪ ،‬ويذكر وال ينسى‪ ،‬ولو كان كل ق وم إنم ا يتكل ون على بالدهم‬
‫وما فيها هلكوا وخربت البالد‪ ،‬وسقط الجلب واالرب اح‪ ،‬وعميت االخب ار ولم يقف وا‬
‫على ذلك فذلك علة الحج) (‪)2‬‬
‫ومثل ه ق ال اإلم ام الرض ا‪( :‬علّ ة الح ّج الوف ادة إلى هللا ع ّز وج لّ‪ ،‬وطلب‬
‫الزيادة‪ ،‬والخروج من ك ّل ما اقترف‪ ،‬وليكون تائبا ً مما مضى مس تأنفا ً لم ا يس تقبل‪،‬‬
‫وما فيه من اس تخراج األم وال‪ ،‬وتعب األب دان‪ ،‬وحظره ا عن الش هوات والل ذات‪،‬‬
‫والتقرّب في العبادة إلى هللا ع ّز وج لّ‪ ،‬والخض وع واالس تكانة وال ذلّ‪ ،‬شاخص ا ً في‬
‫الح ّر والبرد واألمن والخوف‪ ،‬ثابتا ً في ذل ك دائم اً‪ ،‬وم ا في ذل ك لجمي ع الخل ق من‬
‫المن افع والرغب ة والرهب ة إلى هللا ع ّز وج لّ‪ ،‬ومن ه ت رك قس اوة القلب‪ ،‬وخساس ة‬
‫األنفس‪ ،‬ونسيان الذكر‪ ،‬وانقطاع الرجاء واألمل‪ ،‬وتجدي د الحق وق‪ ،‬وحظ ر األنفس‬
‫عن الفساد‪ ،‬ومنفعة َمن في المش رق والمغ رب‪ ،‬و َمن في ال بر والبح ر‪ ،‬وممن يح ّج‬
‫ومسكين‪ ،‬وقضاء حوائج أه ل‬ ‫ٍ‬ ‫ب‬
‫ومشتر وكات ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وبايع‬
‫ٍ‬ ‫ب‬
‫تاجر وجال ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وممن ال يح ّج من‬
‫األطراف‪ ،‬والمواضع الممكن لهم االجتماع فيها‪ ،‬كذلك ليشهدوا منافع لهم)(‪)3‬‬
‫إذا ع رفت ه ذه المقاص د العظيم ة للحج‪ ،‬وال تي نص ت عليه ا النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬وفص لها أئم ة اله دى؛ ف اعلم أن الحج الم برور ال يك ون ك ذلك إال بت وفر‬
‫شرطين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬تزكيته وتطهيره من كل ما يسيء إليه‪ ،‬أو يضاد مقاصده‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬االس تفادة من ش عائره ومعانيه ا في ترقي ة النفس والع روج به ا إلى‬
‫محال الكمال المهيئة لها‪.‬‬
‫الحج والتزكية‪:‬‬
‫أول ما عليك معرفته ـ أيه ا المري د الص ادق ـ بخص وص الحج أن ه مدرس ة‬
‫اس ِحجُّ ْالبَ ْي ِ‬
‫ت َم ِن‬ ‫﴿وهلل َعلَى النَّ ِ‬
‫خاصة بمن تسمح له ظروفه بذلك‪ ،‬كما ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ا ْستَطَا َع إِلَ ْي ِه َسبِياًل ﴾ [آل عمران‪ ،]97 :‬أما من لم يستطع‪ ،‬فقد هيأ هللا تعالى ـ بكرمه‬
‫ولطفه ـ له من المدارس التربوية األخرى ما يعوض ما فقده من هذه المدرسة‪.‬‬
‫ولهذا ال تلتفت لتلك المبالغ ات الكث يرة ال تي يق ع فيه ا من لم يع رف مقاص د‬
‫‪)(1‬أمالي الصدوق ص‪.616‬‬
‫‪ )(2‬علل الشرائع ص ‪.405‬‬
‫‪ )(3‬علل الشرائع‪ ،‬ص‪.404‬‬
‫‪251‬‬
‫الدين‪ ،‬بتوهمه أن اإلكثار من الحج والعمرة مقصود لذات ه‪ ،‬وأن ه أش رف األعم ال‪،‬‬
‫ول و أدى ذل ك إلى التقص ير في ج وانب أخ رى من ال دين‪ ،‬ومن أهمه ا الج وانب‬
‫االجتماعية؛ فال يصح أن يك رر الم ؤمن الحج والعم رة‪ ،‬ويص رف فيهم ا األم وال‬
‫الكثيرة‪ ،‬ويترك الفقراء والمساكين‪ ،‬أو الجهات التي هي أولى بنفقته‪.‬‬
‫ومما يروى في ذلك أن بعضهم عاد من الحج؛ فلقي ه اإلم ام الص ادق‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫إن العب د إذا ط اف به ذا ال بيت أس بوعاً‪ ،‬وص لّى‬ ‫(أت دري م ا للح ا ّج من الث واب؟‪ّ ..‬‬
‫ّ‬
‫ركعتيه‪ ،‬وسعى بين الصفا والمروة‪ ،‬كتب هللا له ستة آالف حس نة‪ ،‬وح ط عن ه س تة‬
‫آالف سيئة‪ ،‬ورفع له ستة آالف درجة‪ ،‬وقضى له ستة آالف حاج ة)‪ ،‬فق ال الرج ل‪:‬‬
‫إن هذا لكثير)‪ ،‬فقال له اإلمام الصادق‪( :‬أفال أخبرك بما هو أك ثر من‬ ‫جُعلت فداك‪ّ ..‬‬
‫مؤمن أفضل من ح ّج ة وح ّج ة وح ّج ة‪ ،‬ح تى ع ّد عش ر‬ ‫ٍ‬ ‫ذلك؟‪ ..‬لَقضا ُء حاجة امرئ‬
‫حجج) (‪)1‬‬
‫ومما ي روى في ذل ك أيض ا أن رجال ج اء ي ودع بش ر بن الح ارث الح افي‪،‬‬
‫فقال‪ :‬قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء‪ ،‬فق ال ل ه كم أع ددت للنفق ة؟ فق ال‪ :‬ألفي‬
‫درهم‪ ،‬قال بشر‪ :‬فأي ش يء تبتغي بحج ك؟ تزه دا أو اش تياقا إلى ال بيت‪ ،‬أو ابتغ اء‬
‫مرضاة هللا تعالى؟ قال‪ :‬ابتغاء مرضاة هللا‪ ،‬قال‪ :‬إن أصبت مرضاة هللا تع الى وأنت‬
‫في منزلك‪ ،‬وتنفق ألفي درهم‪ ،‬وتكون على يقين من مرضاة هللا تعالى‪ ،‬أتفعل ذل ك؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬اذهب فأعطها عشرة أنفس‪ :‬مديون يقضي دينه‪ ،‬وفقير ي رم ش عثه‪،‬‬
‫ومعيل يغني عياله‪ ،‬ومربي يتيم يفرحه‪ ،‬وإن قوي قلبك لتعطيها واح دا فافع ل‪ ،‬ف إن‬
‫إدخال ك الس رور على قلب المس لم‪ ،‬وإغاث ة المله وف‪ ،‬وكش ف الض ر‪ ،‬وإعان ة‬
‫الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة اإلسالم‪ ،‬قم فأخرجها كما أمرتك)(‪)2‬‬
‫ثم التفت بشر للرجل‪ ،‬فوجده مالمحه تدل على أنه غير مقتنع بم ا ق ال؛ فق ال‬
‫له‪( :‬قل لنا ما في قلبك)؛ فقال‪( :‬يا أبا نصر‪ ،‬سفري أقوى في قلبي)‪ ،‬فتبسم بش ر‪ ،‬ثم‬
‫قال له ـ مفسرا س ر تل ك األش واق الكاذب ة ـ‪( :‬الم ال إذا جم ع من وس خ التج ارات‬
‫والشبهات‪ ،‬اقتضت النفس أن تقضي به وطرا؛ فأظهرت األعمال الص الحات‪ ،‬وق د‬
‫آلى هللا على نفسه أن ال يقبل إال عمل المتقين) (‪)3‬‬
‫ومثل ذلك ما يروى عن بعض الصالحين أنه خ رج إلى الحج؛ فاجت از بعض‬
‫البالد‪ ،‬فمات طائر معهم‪ ،‬فأمر بإلقائه على المزبلة‪ ،‬وسار أصحابه أمام ه‪ ،‬وتخل ف‬
‫هو وراءهم‪ ،‬فلما مر بالمزبل ة إذا جاري ة ق د خ رجت من دار قريب ة‪ ،‬وأخ ذت ذل ك‬
‫الط ائر الميت‪ ،‬فاس تحيت أوال‪ ،‬ثم ق الت‪( :‬أن ا وأمي هن ا وليس لن ا ش يء إال ه ذا‬
‫اإلزار‪ ،‬وليس لنا قوت إال ما يلقى على هذه المزبلة‪ ،‬وك ان لن ا وال د ذو م ال عظيم‬
‫فأخذ مال ه‪ ،‬وقت ل لس بب من األس باب‪ ،‬ولم يب ق عن دنا ش يء نتبل غ ب ه أو نقت ات)‪،‬‬
‫وعندما سمع ابن المبارك بذلك دمعت عين اه‪ ،‬وأم ر ب رد األحم ال والمؤون ة للحج‪،‬‬
‫‪ )(1‬أمالي الصدوق ص‪493‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)409 /3‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)409 /3‬‬
‫‪252‬‬
‫وقال لوكيله‪( :‬كم معك من النفقة)‪ ،‬قال‪ :‬ألف دينار‪ ،‬فقال له‪( :‬ابق لنا عشرين دينارا‬
‫تكفينا إليابنا‪ ،‬وأعط الباقي إلى هذه المرأة المصابة‪ ،‬فوهللا لق د أفجعت ني بمص يبتها‪،‬‬
‫وأن هذا أفضل عند هللا من حجنا)‪ ،‬ثم قفل راجعا ولم يحج (‪.)1‬‬
‫ويدل لهذا كله ما روي عن ابن عباس أنه ك ان معتكف ا ً في مس جد رس ول هللا‬
‫‪ ،‬فأَتاه رجلٌ‪ ،‬فس لم علي ه‪ ،‬ثم جلس‪ ،‬فق ال ل ه ابن عب اس‪ :‬ي ا فالن! أراك مكتئب ا ً‬
‫ب هذا‬ ‫ق َوال ٍء‪ ،‬وحرم ِة صاح ِ‬ ‫حزيناً‪ .‬قال‪ :‬نعم يا ابن عم رسول هللا ‪ ‬لفالن عل َّ‬
‫ي ح ُّ‬
‫القبر ما أَقدر عليه‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬أَفال أَكلمه في ك؟ فق ال‪ْ :‬‬
‫إن أحببتَ ‪ .‬ق ال‪ :‬فانتع َل‬ ‫ِ‬
‫أنس يتَ م ا كنت في ه؟ ق ال‪( :‬ال‪،‬‬ ‫خرج من المسج ِد‪ ،‬فقال ل ه الرج ل‪ِ :‬‬ ‫َ‬ ‫س‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫عبا‬ ‫ابنُ‬
‫صاحب هذا القبر ‪ ‬والعه ُد به ق ريبٌ ‪-‬ف دمعت عين اه‪ -‬وه و يق ول‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫سمعت‬ ‫ولكني‬
‫ُ‬
‫(من مشى في حاجة أخيه وبل َغ فيها؛ كان خ يراً ل ه من اعتك اف عش ِر س نين‪ ،‬ومن‬
‫اعتك فَ يوم ا ً ابتغ ا َء وج ه هللا تع الى؛ جع ل هللا بين ه وبينَ الن ار ثالث خن ادق ك ل‬
‫خندق‪ ،‬أَبعد مما بين الخافقين)(‪)2‬‬
‫هذا أول ما على الحاج معرفته ـ أيها المريد الصادق ـ حتى ال يق ع في عب ادة‬
‫نفسه وهواه؛ فيصرف األموال التي هي أموال هللا في غير محلها الصحيح‪..‬‬
‫وله ذا ف إن أمث ال ه ؤالء ال ذين يض عون أم والهم في محاله ا الص حيحة‬
‫سيعوضهم هللا من األجر والثواب والتزكية والترقية م ا يس د ذل ك ال ذي ترك وه من‬
‫أجله‪ ،‬ومما يروى في هذا عن رسول هللا ‪ ‬قوله‪( :‬من صلى الغداة في جماعة‪ ،‬ثم‬
‫قعد يذكر هللا حتى تطلع الشمس‪ ،‬ثم صلى ركع تين‪ ،‬ك انت ل ه ك أجر حج ة وعم رة‬
‫تامة تامة تامة)(‪)3‬‬
‫أما غيرهم‪ ،‬ممن وصفت لي بعض حالهم‪ ،‬فقد أشار إليهم قوله ‪( :‬إذا ك ان‬
‫آخ ر ال ّزم ان خ رج الن اس للح ّج أربع ة أص ناف س الطينهم للنزه ة‪ ،‬وأغني اؤهم‬
‫للتجارة‪ ،‬وفقراؤهم للمسألة‪ ،‬وقرّاؤهم للسمعة) (‪)4‬‬
‫ووصفهم عبد هللا بن مسعود فقال‪( :‬في آخ ر الزم ان يك ثر الح اج بال س بب‪،‬‬
‫يهون عليهم السفر‪ ،‬ويبسط لهم في الزرق‪ ،‬ويرجعون مح رومين مس لوبين‪ ،‬يه وي‬
‫بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار‪ ،‬وجاره مأسور إلى جنبه ال يواسيه)(‪)5‬‬
‫وهذا ال يع ني ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن ي ترك الم ؤمن الحج ال ذي وجب‬
‫عليه‪ ،‬والذي هو في استطاعته؛ والذي يتحقق بحج ة واح دة في العم ر؛ ف ذلك ش أن‬
‫آخر‪ ،‬ولكن م ع ذل ك يحت اج إلى أن ينظ ر في ك ل م ا يرتب ط بحج ه‪ ،‬واس تطاعته‪،‬‬
‫وآثارها على نفسه وأهل ه‪ ..‬فاهلل تع الى لم يكل ف الح اج ب أن يف رط في ك ل الحق وق‬
‫الواجبة عليه من أجل زيارة بيته‪.‬‬

‫‪ )(1‬البداية والنهاية (‪)191 /10‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبراني في األوسط‪ ،‬والبيهقي‪ ،‬والحاكم‪ ،‬الترغيب والترهيب للمنذري (‪)99 /2‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي (‪)586‬‬
‫‪ )(4‬الخطيب في تاريخه‪ ،‬وأبو عثمان الصابوني في كتاب المائتين‪.‬‬
‫‪ )(5‬إحياء علوم الدين (‪)409 /3‬‬
‫‪253‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن أول واجب في الحج مراعاة النفق ة‪ ،‬وكونه ا من حالل؛ فال يمكن‬
‫أن يزكي الحج شخصا أداه بمال حرام‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير‬
‫وقد ورد في الح ديث أن الن بي ‪ ‬حم ل جه ازه على راحتل ه‪ ،‬وق ال‪( :‬ه ذه‬
‫حجة الرياء فيها وال سمعة)‪ ،‬ثم قال‪( :‬من تجهز وفي جهازه علم ح رام لم يقب ل هللا‬
‫منه الحج) (‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬إذا خرج الخارج حاجا بنفقة طيبة‪ ،‬ووضع رجله في الغرز‪ ،‬ون ادى‪:‬‬
‫لبي ك اللهم لبي ك‪ ،‬ن اداه من اد من الس ماء‪ :‬لبي ك وس عديك‪ ،‬زادك حالل‪ ،‬وراحلت ك‬
‫حالل‪ ،‬وحجك مبرور غ ير م أزور‪ ،‬وإذا خ رج بالنفق ة الخبيث ة‪ ،‬فوض ع رجل ه في‬
‫الغ رز‪ ،‬فن ادى‪ :‬لبي ك‪ ،‬ن اداه من اد من الس ماء‪ :‬ال لبي ك وال س عديك‪ ،‬زادك ح رام‪،‬‬
‫ونفقتك حرام‪ ،‬وحجك غير مبرور) (‪)2‬‬
‫وق ال اإلم ام الب اقر‪( :‬من أص اب م اال من أرب ع لم يقب ل من ه في أرب ع‪ :‬من‬
‫أصاب ماال من غلول أورياء أو خيانة أو سرقة لم يقبل منه في زكاة وال في ص دقة‬
‫وال في حج وال في عمرة) (‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬اليقبل هللا عزوجل حجا وال عمرة من مال حرام) (‪)4‬‬
‫ومما يدخل في ذلك إعانة الظلمة بالحج والعمرة‪ ،‬وقد أفتى بعض العلم اء في‬
‫المترص دين في الط رق‪،‬‬‫ّ‬ ‫الصا ّدين عن المسجد الح رام من أم راء م ّك ة واألع راب‬
‫والذين كانوا ينتشرون في زمانه‪ ،‬بأ ّن (تسليم المال إليهم إعان ة على الظلم‪ ،‬وتيس ير‬
‫ألسبابه عليهم‪ ،‬وهو كاإلعانة بالنفس؛ فليتلطّف في حيلة الخالص ف إن لم يق در ف ّ‬
‫إن‬
‫إن ه ذه بدع ة‬ ‫ترك التنفّل بالح ّج والرجوع عن الطري ق أفض ل من إعان ة الظلم ة ف ّ‬
‫أحدثت‪ ،‬وفي االنقياد لها م ا يجعلها س نّة مطّ ردة وفي ه ذ ّل وص غار على المس لمين‬
‫إن ذلك يؤخذ منّي وأنا مضط ّر فإنّ ه ل و قع د في‬‫ببذل جزية‪ ،‬وال معنى لقول القائل‪ّ :‬‬
‫البيت أو رجع من الطريق لم يؤخذ بل ربما يظهر أسباب الترفّه فيكثر مطالبته ول و‬
‫ي الفقراء لم يطالب فهو الّذي ساق نفسه إلى حالة االضطرار) (‪)5‬‬ ‫كان في ز ّ‬
‫فإذا ذهب الحاج إلى مناسك الحج؛ فإن علي ه للحف اظ على أث ر تل ك المناس ك‬
‫العظيمة على نفسه أال يضيع أي لحظة في غير ذكر هللا‪ ،‬وفي غير ما هو في ه‪ ،‬وإال‬
‫فإنه إن وقع في الرفث والجدل والفس وق‪ ،‬ك ان حج ه وب اال علي ه‪ ،‬وق د ق ال اإلم ام‬
‫الباقر في ذل ك‪( :‬م ا يعب أ ب َمن ي ؤ ّم ه ذا ال بيت إذا لم يكن في ه ثالث خص ال‪( :‬ور ٌ‬
‫ع‬
‫يحجزه عن معاصي هللا‪ ،‬وحل ٌم يملك به غضبه‪ ،‬وحسن الصحابة لمن صحبه)(‪)6‬‬
‫َ‬
‫وقال اإلمام الصادق ـ يصف كيفية ذلك ـ‪( :‬إذا أردت الح ّج فجرّد قلب ك هلل من‬
‫‪ )(1‬المحاسن ص ‪.88‬‬
‫‪ )(2‬رواه الطبراني في األوسط‪.‬‬
‫‪ )(3‬أمالى الصدوق‪.265 :‬‬
‫‪ )(4‬أمالى الصدوق‪.265 :‬‬
‫‪ )(5‬قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد (‪)194 /2‬‬
‫‪ )(6‬الخصال ‪.1/97‬‬
‫‪254‬‬
‫ب‪ ،‬وف وّض أم ورك كلّه ا إلى خالق ك‪،‬‬ ‫قبل عزمك من ك ّل شاغ ٍل وحجاب ك ّل ح اج ٍ‬
‫ّ‬
‫وتو ّك ل علي ه في جمي ع م ا يظه ر من حركات ك وس كناتك‪ ،‬وس لم لقض ائه وحكم ه‬
‫وق دره‪ ،‬وو ّدع ال دنيا والراح ة والخل ق‪ ،‬واخ رج من حق وق تلزم ك من جه ة‬
‫المخل وقين‪ ،‬وال تعتم د على زادك وراحلت ك وأص حابك وقوّت ك وش بابك ومال ك‪،‬‬
‫مخافةَ أن يصير ذلك عد ّواً ووباالً‪ ،‬واستع ّد استعداد َمن ال يرجو الرج وع‪ ،‬وأحس ن‬
‫وراع أوق ات ف رائض هللا وس نن نبيّ ه ‪ ،‬وم ا يجب علي ك من األدب‬ ‫ِ‬ ‫الص حبة‪،‬‬
‫واالحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء‪ ،‬وإيث ار ال زاد على دوام األوق ات‪ ،‬ث ّم‬
‫اغس ل بم اء التوب ة الخالص ة ذنوب ك‪ ،‬والبس كس وة الص دق والص فاء والخض وع‬
‫والخشوع‪ ،‬وأحرم عن ك ّل ش ي ٍء يمنع ك من ذك ر هللا‪ ،‬ويحجب ك عن طاعت ه‪ ،‬ولبّ‬
‫متمس كا ً ب العروة‬
‫ّ‬ ‫بمع نى إجاب ة ص افية خالص ة زاكي ة هلل ع ّز وج ّل في دعوت ك‪،‬‬
‫الوثقى‪ ،‬وطف بقلبك مع المالئكة حول العرش‪ ،‬كطوافك مع المسلمين بنفسك ح ول‬
‫البيت‪ ،‬وهرول هربا ً من هواك‪ ،‬وتبرّيا ً من جميع حولك وق ّوتك‪ ،‬واخرج عن غفلتك‬
‫تتمن ما ال يح ّل لك وال تستحقّه‪ ،‬واعترف بالخطايا‬ ‫ّ‬ ‫وزالّتك بخروجك إلى منى‪ ،‬وال‬
‫بعرفات‪ ،‬وج ّدد عهدك عند هللا بوحدانيّت ه‪ ،‬وتق رّب إلى هللا واتّق ه بمزدلف ة‪ ،‬واص عد‬
‫بروحك إلى المأل األعلى بصعودك إلى الجبل‪ ،‬واذبح حنج رة اله واء والطم ع عن د‬
‫وارم الش هوات‪ ،‬والخساس ة‪ ،‬وال دناءة‪ ،‬واألفع ال الذميم ة عن د رمي‬ ‫ِ‬ ‫الذبيح ة‪،‬‬
‫الجمرات‪ ،‬واحل ق العي وب الظ اهرة والباطن ة بحل ق ش عرك‪ ،‬وادخ ل في أم ان هللا‬
‫وكنفه وستره وكالءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم‪ ،‬وزر البيت متحقّقا ً لتعظيم‬
‫صاحبه ومعرفة جالله وسلطانه‪ ،‬واستلم الحجر رض ا ًء بقس مته وخض وعا ً لع ّزت ه‪،‬‬
‫وو ّدع ما سواه بطواف الوداع‪ ،‬واصف روحك وس رّك للق اء هللا ي وم تلق اه بوقوف ك‬
‫على الصفان وكن ذا مروّة من هللا نقيّ ا ً أوص افك عن د الم روة‪ ،‬واس تقم على ش رط‬
‫حجّتك‪ ،‬ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك‪ ،‬وأوجبت له إلى يوم القيام ة‪ ،‬واعلم‬
‫بأن هللا تعالى لم يفترض الحجّ‪ ،‬ولم يخصّه من جميع الطاعات باإلض افة إلى نفس ه‬ ‫ّ‬
‫وال ش رع نبيّ ه ‪ ‬س نّة في خالل المناس ك على ت رتيب م ا ش رعه‪ ،‬إالّ لالس تعداد‬
‫وفص ل بي ان الس ابقة من ال دخول في‬ ‫ّ‬ ‫واإلشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة‪،‬‬
‫الجنّة أهلها ودخول النار أهله ا بمش اهدة مناس ك الح ّج من أوّله ا إلى آخره ا ألولي‬
‫األلباب وأولي النهّى)(‪)1‬‬
‫الحج والترقية‪:‬‬
‫إذا عرفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن الحج ال ذي ي زكي نفس ك‬
‫ويطهرها‪ ،‬هو نفسه الذي يرقيها‪ ،‬وينمي فيها كل المكارم؛ فال يمكن أن ت زاح مثلب ة‬
‫من مثالب النفس األمارة إال وتستبدل بمكرمة من مكارم النفس المطمئنة‪.‬‬
‫ولتتحقق بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ عليك أن تتعامل مع أركان الحج وسننه‬
‫ومستحباته بنفس الخشوع الذي تتعامل به مع الصالة؛ فال تكتفي ب أداء م ا كلفت ب ه‬

‫‪)(1‬مصباح الشريعة ص‪.16‬‬


‫‪255‬‬
‫بظاهرك وجوارحك‪ ،‬بل تشرك معك باطنك وقلبك وكل لطائفك‪.‬‬
‫وأول ذلك أن تفهم مقاصد الحج‪ ،‬حتى ال تكتفي ب الطقوس والرس وم‪ ،‬وتغف ل‬
‫عن المقاصد التي شرع ألجلها‪ ،‬وقد روي أن اإلمام الصادق سئل عن علل الطواف‬
‫(ألن الكعبة بيت هللا الحرام وحجاب ه والمش عر باب ه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وغيره من شعائر الحج؛ فقال‪:‬‬
‫ّ‬
‫فل ّما أن قص ده الزائ رون وقفهم بالب اب ح تى أذن لهم بال دخول‪ ،‬ثم وقفهم بالحج اب‬
‫الثاني وهو مزدلفة‪ ،‬فل ّم ا نظ ر إلى ط ول تض رّعهم أم رهم بتق ريب قرب انهم‪ ،‬فل ّم ا‬
‫قربوا قربانهم‪ ،‬وقضوا تفثهم‪ ،‬وتطه روا من ال ذنوب ال تي ك انت لهم حجاب ا ً دون ه‪،‬‬
‫أمرهم بالزيارة على طهارة)‪ ،‬فسئل عن سر كراهة الصيام في أيام التشريق‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(ألن القوم زوّا ُر هللا وهم في ض يافته‪ ،‬وال ينبغي للض يف أن يص وم عن د َمن زاره‬ ‫ّ‬
‫وأضافه)‪ ،‬فسئل‪( :‬فالرجل يتعلق بأستار الكعبة ما يع ني ب ذلك ؟)‪ ،‬ق ال‪َ ( :‬مثَ ل ذل ك‬
‫َمثَل الرجل يكون بينه وبين الرجل جناية‪ ،‬فيتعلق بثوبه يس تخذي ل ه رج اء أن يهب‬
‫له جرمه)(‪)1‬‬
‫وروي عن اإلمام علي أن ه ذك ر س ر االبتالء بك ون الحج إلى تل ك المن اطق‬
‫الصعبة دون غيره ا‪ ،‬فق ال‪( :‬كلّم ا ك انت البل وى واالختب ار أعظم‪ ،‬ك انت المثوب ة‬
‫أن هللا س بحانه اخت بر األوّلين من ل دن آدم ص لوات هللا‬ ‫والج زاء أج زل‪ ،‬أَالَ ت رون ّ‬
‫ار ال تض ّر وال تنف ع وال تبص ر وال تس مع‪،‬‬ ‫عليه إلى اآلخرين من هذا العالم بأحج ٍ‬
‫فجعلها بيت ه الح رام ال ذي جعل ه هللا للن اس قيام اً‪ ،‬ث ّم وض عه ب أوعر بق اع األرض‬
‫حجراً‪ ،‬وأق ّل نتائق (أي مرتفعات) الدنيا مدراً‪ ،‬وأض يق بط ون األودي ة قط راً‪ ،‬بين‬
‫ال دمث ٍة (أي لين ة)‪ ،‬وعي ون وش لة (أي قليل ة الم اء)‪ ،‬وق رى‬ ‫جب ا ٍل خش ن ٍة‪ ،‬ورم ٍ‬
‫ف (للبق ر‬ ‫خف (للجمال) وال ح اف ٌر (للخي ل والحم ار) وال ظل ٌ‬ ‫منقطعة‪ ،‬ال يزكو بها ٌّ‬
‫والغنم)‪ ،‬ث ّم أمر سبحانه آدم وول ده أن يثن وا أعط افهم نح وه‪ ،‬فص ار مثاب ة لمنتج ع‬
‫أسفارهم‪ ،‬وغاية لملقى رحالهم‪ ،‬ته وي إلي ه ثم ار األفئ دة من مف اوز قف ار س حيقة‪،‬‬
‫ومهاوي فجاج عميقة‪ ،‬وجزائر بحار منقطعة‪ ،‬حتّى يه ّزوا من اكبهم ذلال‪ ،‬يهلّ ون هلل‬
‫حوله‪ ،‬ويرملون (أي يهرولون) على أق دامهم‪ ،‬ش عثا ً غ براً ل ه‪ ،‬ق د نب ذوا الس رابيل‬
‫وراء ظهورهم‪ ،‬وشوّهوا بإعف اء الش عور محاس ن خلقهم‪ ،‬ابتال ًء عظيم اً‪ ،‬وامتحان ا ً‬
‫شديداً‪ ،‬واختباراً مبيناً‪ ،‬وتمحيصا ً بليغاً‪ ،‬جعله هللا تعالى س ببا ً لرحمت ه‪ ،‬ووص لة إلى‬
‫ت‬‫جنت ه‪ ،‬ول و أراد هللا س بحانه أن يض ع بيت ه الح رام‪ ،‬ومش اعره العظ ام بين جن ا ٍ‬
‫ملتف الب نى‪ ،‬متّص ل الق رى‪ ،‬بين‬ ‫ّ‬ ‫وسهل وقرار ج ّم األشجار‪ ،‬داني الثمار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وأنهار‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وزروع ناضرة‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ص مغدقة‪،‬‬‫برة سمراء‪ ،‬وروض ٍة خضراء‪ ،‬وأرياف محدقة‪ ،‬وعرا ٍ‬
‫ق عامرة‪ ،‬لك ان ق د ص ّغر ق در الج زاء على حس ب ض عف البالء‪ ..‬ولكن هللا‬
‫ّ‬ ‫وطر ٍ‬
‫يختبر عباده بأنواع الشدائد‪ ،‬ويتعبّدهم بألوان المجاه د‪ ،‬ويبتليهم بض روب المك اره‪،‬‬
‫إخراجا ً للتكبّر من قلوبهم‪ ،‬وإسكانا ً للتذلّل في نفوسهم‪ ،‬وليجعل ذلك أبواب ا ً فتح ا ً إلى‬

‫‪ )(1‬علل الشرائع‪ ،‬ص‪.443‬‬


‫‪256‬‬
‫لعفوه)(‪)1‬‬‫فضله‪ ،‬وأسبابا ً ذلال‬
‫وبعد هذا عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تؤدي مناسك الحج بقلبك وروح ك‬
‫كم ا تؤديه ا بجوارح ك‪ ،‬فلك ل ش عيرة مش اعرها الخاص ة به ا‪ ،‬وال تي إن فهمت‬
‫مقاصدها وأسرارها‪ ،‬ترقيت في معارج العرفان‪ ،‬ولم تبق مس جونا للحرك ات ال تي‬
‫ال تعرف لها أي معنى‪.‬‬
‫وسأسوق لك هنا بعض ما ذك ره الحكم اء من مش اعر ح ول ك ل ش عيرة من‬
‫شعائر الحج‪ ،‬وهو ال يعني أنها المشاعر الوحيدة التي ال ينبغي أن تستشعر غيره ا‪،‬‬
‫بل يمكنك أن تستشعر غيرها بحسب مرتبتك من السلوك إلى هللا تعالى‪.‬‬
‫وأول ذلك اإلحرام والتلبية بالميقات؛ فتذكر عنده (نداء الخل ق بنفخ الص ور‪،‬‬
‫وحشرهم من القبور‪ ،‬وازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لنداء هللا‪ ،‬ومنقس مين‬
‫إلى مقرّبين وممقوتين‪ ،‬ومقبولين وم ردودين وم ر ّددين في أوّل األم ر بين الخ وف‬
‫والرجاء تر ّدد الحا ّج في الميقات حيث ال يدرون أ ّ‬
‫يتيس ر لهم إتم ام الح ّج وقبول ه أم‬
‫ال) (‪)2‬‬
‫وعن د وق وع البص ر على ال بيت تص ور (كأنّ ك مش اهد ل ربّ ال بيت لش ّدة‬
‫تعظيمك‪ ،‬وارج أن يرزقك لقاءه كما رزقك لقاء البيت‪ ،‬واشكر هللا على تبليغه إيّ اك‬
‫هذه الرّتبة وإلحاقه إيّاك بزمرة الوافدين إليه‪ ،‬واذك ر عن د ذل ك انص باب الن اس في‬
‫القيامة إلى جهة الجنّ ة آملين ل دخولها كافّ ة‪ ،‬ث ّم انقس امهم إلى م أذونين في ال ّدخول‬
‫ومصروفين انقسام الحا ّج إلى مقبولين ومردودين وال تغفل عن تذ ّكر أم ور اآلخ رة‬
‫ج دليل على أحوال اآلخرة) (‪)3‬‬ ‫في شيء م ّما تراه‪ّ ،‬‬
‫فإن ك ّل أحوال الحا ّ‬
‫وت ذكر عن د الط واف ب البيت أن ه (ص الة وأحض ر قلب ك في ه من التعظيم‬
‫والخوف والرّجاء والمحبّة ما تقوم ب ه في الص الة‪ ،‬واعلم أنّ ك في الط واف متش بّه‬
‫أن المقص ود‬ ‫بالمالئكة المقرّبين الح افّين ح ول الع رش الط ائفين حول ه‪ ،‬وال تظنّ ّن ّ‬
‫طواف جسمك بالبيت‪ ،‬بل المقص ود ط واف قلب ك ب ذكر ربّ ال بيت حتّى ال يبت دئ‬
‫الذكر إاّل به‪ ،‬وال يختم إاّل به كما يبتدئ الط ائف الط واف من ال بيت ويختم ب البيت‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أن الط واف الش ريف ه و ط واف القلب بحض رة الربوبيّ ة ّ‬
‫وأن ال بيت مث ال‬ ‫واعلم ّ‬
‫ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة الّتي ال تشاهد بالبص ر وه و في ع الم الملك وت‬
‫أن البدن مثال ظاهر في ع الم الش هادة للقلب الّ ذي ال يش اهد بالبص ر وه و في‬ ‫كما ّ‬
‫وأن عالم الملك والشهادة مدرجة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح ل ه‬ ‫عالم الغيب ّ‬
‫الباب) (‪)4‬‬
‫وت ذكر عن د التعل ق بأس تار الكعب ة وااللتص اق ب الملتزم (طلب الق رب حبّ ا‬
‫للتحص ن عن الن ار في ك ّل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالمماس ة‪ ،‬ورج اء‬ ‫وشوقا للبيت ولربّ ال بيت‪ ،‬وتبرّك ا‬
‫‪ )(1‬نهج البالغة‪ ،‬ص‪.170‬‬
‫‪ )(2‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.201‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.201‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.202‬‬
‫‪257‬‬
‫جزء القى البيت‪ ،‬وليكن نيّتك في التعلّق بالستر اإللح اح في طلب المغف رة وس ؤال‬
‫األمان كالمذنب المتعلّق بثياب من أذنب إليه‪ ،‬المتضرّع إليه في عفوه عنه‪ ،‬المظهر‬
‫له أنّه ال ملجأ له منه إاّل إليه‪ ،‬وال مفزع له إاّل عفوه وكرمه‪ ،‬وأنّه ال يفارق ذيل ه إاّل‬
‫بالعفو وبذل األمن في المستقبل) (‪)1‬‬
‫وتذكر عند الس عي بين الص فا والم روة (ت ر ّدد العب د بفن اء دار المل ك جائي ا‬
‫وذاهبا م ّرة بعد أخرى إظهارا للخلوص في الخدمة ورجاء للمالحظة بعين الرحم ة‬
‫كالّذي دخل على الملك وخرج وهو ال يدري ما الّذي يقضي ب ه المل ك في حقّ ه من‬
‫قبول أو ر ّد‪ ،‬فال يزال يتر ّدد على فن اء ال ّدار م رّة بع د أخ رى يرج و أن ي رحم في‬
‫الثانية إن لم يرحم في األولى‪ ،‬وليت ذ ّكر عن د ت ر ّدده بين الص فا والم روة ت ر ّدده بين‬
‫كفّ تي الم يزان في عرص ات القيام ة وليمثّ ل الص فا بكفّ ة الحس نات والم روة بكفّ ة‬
‫الس يئات وليت ذ ّكر ت ر ّدده بين الكفّ تين ن اظرا إلى الرجح ان والنقص ان م ر ّددا بين‬
‫العذاب والغفران) (‪)2‬‬
‫وتذكر عند الوقوف بعرف ة (ازدح ام الخل ق‪ ،‬وارتف اع األص وات‪ ،‬واختالف‬
‫اللّغات‪ ،‬واتّباع الفرق أئ ّمتهم في التر ّددات على المشاعر اقتفاء لهم وسيرا بس يرتهم‬
‫عرصات القيامة واجتماع األمم مع األنبياء واألئ ّمة واقتفاء ك ّل ا ّم ة نبيّه ا وطمعهم‬
‫في شفاعتهم وتحيّرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الر ّد والقب ول‪ ،‬وإذا ت ذ ّكرت ذل ك‬
‫فألزم قلبك الضراعة واالبتهال إلى هللا فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين وحقّق‬
‫رجاءك باإلجابة فالموقف شريف والرّحمة إنّما تصل من حض رة الجالل إلى كافّ ة‬
‫ك الموق ف عن طبق ة من‬ ‫الخلق بواسطة القلوب العزي زة من أوت اد األرض وال ينف ّ‬
‫األب دال واألوت اد وطبق ات من الص الحين وأرب اب القل وب‪ ،‬ف إذا اجتمعت هممهم‬
‫وتجر ّدت للضّراعة واالبتهال قلوبهم وارتفعت إلى هللا أيديهم‪ ،‬وامت ّدت إليه أعناقهم‪،‬‬
‫وشخصت نح و الس ماء أبص ارهم‪ ،‬مجتمعين به ّم ة واح دة على طلب الرّحم ة‪ ،‬فال‬
‫ن أنّه يخيّب أملهم‪ ،‬ويضيّع سعيهم‪ ،‬وي ّدخر عنهم رحمه تعمرهم) (‪)3‬‬ ‫تظنّ ّ‬
‫وتذكر عند الوقوف بالمشعر (أنّه قد أقب ل علي ك م والك بع د أن ك ان م دبرا‬
‫إن المش عر من جمل ة الح رم‬ ‫عنك طاردا لك عن بابه‪ ،‬فأذن لك في دخ ول حرم ه ف ّ‬
‫وعرفة خارجة عنه فق د أش رفت على أب واب الرحم ة وهبّت علي ك نس مات الرأف ة‬
‫وكسيت خلع القبول باإلذن في دخول حرم الملك) (‪)4‬‬
‫ق والعبوديّ ة وانتهاض ا‬ ‫وتذكر عند رمي الجمار (االنقياد لألم ر إظه ارا لل ر ّ‬
‫الس الم‬ ‫لمجرّد االمتثال من غير حظّ للعقل والنفس ث ّم اقصد به التشبّه بإبراهيم عليه ّ‬
‫حيث عرض له إبليس عليه اللّعنة في هذا الموضع ليدخل على ح ّج ه ش بهة أو فتن ة‬
‫بمعصية فأمره هللا أن يرميه بالحجارة طردا ل ه وقطع ا ألص له‪ ،‬ف إن خط ر ل ك ّ‬
‫أن‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.202‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.203‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.204 :‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.204 :‬‬
‫‪258‬‬
‫أن‬‫الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأ ّما أنا فليس يعرض لي الشيطان ف اعلم ّ‬
‫هذا الخاطر من الشيطان فإنّه الّذي ألق اه في قلب ك ليف تر عزم ك في ال رمي ويخيّ ل‬
‫إليك أنّه فعل ال فائدة فيه وأنّه يضاهي اللّعب فلم تشتغل به فاطرده عن نفسك بالج ّد‬
‫والتش ّمر في الرمي فيه ترغم أنف الشيطان‪ ،‬واعلم أنّك في الظ اهر ت رمي الحص ى‬
‫إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره إذ ال يحصل إرغام‬
‫أنفه إاّل بامتثالك أمر هللا تعظيما له بمجرّد األمر من غير حظّ النفس والعقل فيه) (‪)1‬‬
‫وت ذكر عن د ذبح اله دى (أنّ ه تق رّب إلى هللا بحكم االمتث ال‪ ،‬وأكم ل اله دي‬
‫وأجزاءه وارج أن يعتق بك ّل ج زء منه ا ج زءا من ك من الن ار‪ ،‬فهك ذا ورد الوع د‪،‬‬
‫فكلّما كان الهدي أكثر وأجزاؤه أوفر كان فداؤك من النّار أع ّم) (‪)2‬‬
‫وتذكر عند زيارة المدينة المنورة (أنّها البلدة الّتي اختارها هللا ع ّز وج ّل لنبيّه‬
‫‪ ‬وجعل إليها هجرته وأنّها داره الّتي فيها شرّع فرائض ربّه وسننه وجاهد ع دوّه‬
‫وظهر بها دينه إلى أن توفّاه هللا‪ ،‬ث ّم جعل تربته فيها ث ّم مثّ ل في نفس ك مواق ع أق دام‬
‫رسول هللا ‪ ‬عند تر ّدداته فيها وأنّه ما من موضع ق دم تط ؤه إاّل وهي موق ع قدم ه‬
‫العزيز فال تضع قدمك عليه إاّل على سكينة ووجل وتذ ّكر مشيه وتخطّيه في س ككها‬
‫وتص ّور خشوعه وسكينته في المشي وما استودع هللا قلبه من عظيم معرفته ورفع ه‬
‫ذكره حتّى قرنه بذكر نفسه وإحباط عمل من هت ك حرمت ه ول و برف ع ص وته ف وق‬
‫من هللا ب ه على الّ ذين أدرك وا ص حبته وس عدوا بمش اهدته‬ ‫ص وته‪ ،‬ث ّم ت ذ ّكر م ا ّ‬
‫واستماع كالمه وأعظم تأسّفك على ما فاتك من صحبته وص حبة أص حابه ث ّم اذك ر‬
‫أنّه قد فاتتك رؤيته في الدنيا وأنّك من رؤيت ه في اآلخ رة على خط ر وأنّ ك ربم ا ال‬
‫تراه إاّل بحسرة وقد حيل بين ك وبين قبول ه إيّ اك لس وء عمل ك‪ ..‬ف إن ت ركت حرم ة‬
‫ش ريعته ول و في دقيق ة من ال دقائق فال ت أمن أن يح ال بين ك وبين ه بع د ول ك عن‬
‫محجّته‪ ،‬وليعظم مع ذلك رجاؤك أن ال يحول هللا بينك وبينه بع د أن رزق ك اإليم ان‬
‫وأشخصك من وطنك ألجل زيارت ه من غ ير تج ارة‪ ،‬وال ح ظّ في دني ا ب ل لمحض‬
‫محبّتك له وتشوّقك إلى أن تنظر إلى آثاره وإلى حائط قبره إذ سمحت نفسك بالس فر‬
‫لمجرّد ذلك لما فاتتك رؤيته فما أجدرك بأن ينظر هللا إليك بعين الرحمة‪ ،‬ف إذا بلغت‬
‫أن فرائض هللا تع الى أوّل م ا أقيمت في تل ك العرص ة وأنّه ا جمعت‬ ‫المسجد فاذكر ّ‬
‫أفضل خلق هللا حيّا وميّتا فليعظم أملك في هللا ع ّز وج ّل أن يرحم ك ب دخولك إيّ اه‪،‬‬
‫فادخله خاشعا معظّما‪ ،‬وم ا أج در ه ذا المك ان ب أن يس تدعي الخش وع من قلب ك ّل‬
‫مؤمن) (‪)3‬‬

‫وتذكر عند زيارة رسول هللا ‪ ‬أن (تزوره ميّتا كما ت زوره حيّ ا‪ ،‬فال تق رب‬
‫من ق بره إاّل كم ا كنت تق رب من شخص ه الك ريم ل و ك ان حيّ ا واعلم أنّ ه ع الم‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.204 :‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.205 :‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.206 :‬‬
‫‪259‬‬
‫بحضورك وقيامك وزيارتك وأنّه يبلغه س المك وص لواتك فمثّ ل ص ورته الكريم ة‬
‫في خيالك موضوعا على اللّحد بإزائك وأحضر عظيم رتبته في قلبك فقد روي عنه‬
‫ل بقبره ملك ا يبلّغ ه س الم من س لّم علي ه من أ ّمت ه) (‪)1‬‬ ‫عليه السّالم ّ‬
‫(أن هللا تعالى وك ّ‬
‫ق من لم يحضر قبره فكيف بمن ف ارق ال وطن وقط ع الب وادي ش وقا إلى‬ ‫هذا في ح ّ‬
‫لقائه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاتته مشاهدة غرّت ه الكريم ة‪ ،‬وق د ق ال ‪:‬‬
‫(من صلّى عل ّي مرّة صلّى هللا عليه عشرا)(‪ )2‬فهذا جزاؤه في الصالة علي ه بلس انه‬
‫فكيف بالحضور لزيارته ببدنه‪ ،‬ث ّم ائت المنبر وتوهّم صعود النب ّي ‪ ‬المنبر ومثّ ل‬
‫في قلبك طلعته البهيّة قائما على المنبر وقد أح دق ب ه المه اجرون واألنص ار وه و‬
‫يحثّهم على طاعة هللا بخطبته‪ ،‬وسل هللا أن ال يفرّق في القيامة بينك وبينه) (‪)3‬‬
‫هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ ف احرص على االس تفادة من‬
‫ه ذه المدرس ة العظيم ة من م دارس التزكي ة والترقي ة‪ ،‬بالش روط ال تي اش ترطتها‬
‫الشريعة‪ ،‬ال باألهواء التي وضعتها األعراف‪.‬‬
‫واعلم أن هللا تعالى لم يشرعها ل يزكي نف وس المؤم نين فق ط‪ ،‬وإنم ا ش رعها‬
‫ليزكي المجتمعات المؤمنة‪ ،‬ويعيدها إلى وحدتها وخيريته ا ال تي ارتض اها هللا له ا‪،‬‬
‫ول ذلك ف إن من أهم مقاص د الحج تحقي ق الوح دة اإلس المية‪ ،‬ومواجه ة األع داء‬
‫المتربصين من الداخل والخارج‪ ،‬وق د ق ال بعض الحكم اء ي ذكر ذل ك‪( :‬إن من أهم‬
‫أبعاد فلسفة الحج هو بعده السياسي‪ .‬الذي تسعى لتغييبه والقضاء عليه جميع األي دي‬
‫المجرمة‪ ،‬التي استطاعت لألسف وسائل دعايتها أن تؤثر في المس لمين بحيث ب ات‬
‫ينظر أكثر المسلمين إلى الحج على أنه مجرد مراسم عبادية جافّة وفارغ ة ال تُع نى‬
‫بقضايا المسلمين‪ .‬في حين أن الحج ومن ذ والدت ه‪ ،‬اليق ل بع ده السياس ي أهمي ة عن‬
‫بعده العبادي‪ ،‬فالبعد السياسي‪ ،‬باالضافة إلى سياسيته‪ ،‬هو عبادة بحد ذاته)(‪)4‬‬
‫ثم بين كيفي ة تنفي ذ ه ذا البع د على أرض الواق ع؛ فيق ول‪( :‬على المس لمين‬
‫الوافدين من مختلف البلدان ألداء فريضة الحج خصوصا رج ال ال دين المح ترمين‬
‫أن يستغلوا فرصة التقائهم هناك‪ ،‬لمناقشة قضايا المس لمين وأوض اعهم‪ .‬أوض اعهم‬
‫مع حكوماتهم‪ ،‬وأوضاع حكوم اتهم م ع الق وى الش يطانية الك برى‪ .‬أوض اع رج ال‬
‫الدين في مختل ف أنح اء الع الم اإلس المي وتع اطيهم م ع فلس فة الحج‪ ،‬وفي النهاي ة‬
‫أوض اع الش عوب المس لمة بعض ها م ع بعض‪ .‬إنه ا مس ائل يجب التط رق إليه ا‬
‫ومناقشتها‪ .‬فالحج لهك ذا أم ور‪ .‬ونوع ا ٌ من الت دارس الس نوي لمش اكلهم وقض اياهم‬
‫ل لها ومعالجتها) (‪)5‬‬
‫والسعي لوضع حلو ٍ‬
‫ويرد على الذين ينهون عن الحديث عن السياسة في الحج‪ ،‬ويعت برون خ دما‬

‫‪ )(1‬النسائي ج ‪ 3‬ص ‪.43‬‬


‫‪ )(2‬النسائي ج ‪ 3‬ص ‪.50‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.206 :‬‬
‫‪ )(4‬صحيفة اإلمام‪.18/50 ،‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪.18/51 ،‬‬
‫‪260‬‬
‫للسالطين ولالستكبار العالمي؛ فيق ول‪( :‬وأ ّم ا بالنس بة إلى م ا يقول ه معمم و البالط‬
‫ووع اظ الس الطين في المنطق ة وغيره ا‪ ،‬من أن ه يجب ع دم تس ييس الحج‪ ،‬ف إنهم‬
‫يدينون بذلك رسول هللا‪ ،‬وي دينون خلف اء اإلس الم وأئم ة اله دى‪ .‬إنهم يجهل ون ب أن‬
‫الحج والسفر إلى الحج إنما كان لهكذا أم ور‪ .‬ألج ل قي ام الن اس‪ ،‬لي درك المس لمون‬
‫ويعوا مشاكل المسلمين‪ ،‬لترسيخ التفاهم والمودة واإلخوة بين المسلمين) (‪)1‬‬
‫وهو يعتبر أن أضرار هذا النوع من العلماء أكبر وأخط ر من الض رر ال ذي‬
‫قام به االستكبار العالمي‪ ،‬يقول‪( :‬المؤس ف أن تج د من بين رج ال ال دين المس لمين‬
‫من يدينون التدخل في هكذا أم ور ال س يما معممي البالط‪ ،‬ال ذين أض روا باإلس الم‬
‫أكثر مما أضرت به أمريكا‪ ،‬ألن هؤالء يطعنون اإلسالم من الخلف ويعزلونه باس م‬
‫وبظاهر إس المي‪ .‬إم ا أمريك ا فال تس تطيع ذل ك وله ذا تف رض على أمث ال‬‫ٍ‬ ‫اإلسالم‬
‫هؤالء فعل ذلك)‬
‫ثم ي بين أن (الحج الحقيقي والمقب ول ه و الحج الحي‪ ،‬الحج الص ارخ بوج ه‬
‫الظلم والظالمين‪ ،‬الحج الذي يدين جرائم السوفيت وجرائم أمريكا وكل المس تكبرين‬
‫ويتبرأ منهم وممن يواليهم‪ ،‬أ ّما أن نذهب إلى الحج ونقوم بأداء مناسكه دون أن نهتم‬
‫بأمور المسلمين بل على العكس أن نتستر على الجرائم التي تُرتكب وال نسمح ألح ٍد‬
‫بالتكلم عما يرتكب بحق المسلمين من جرائم على أيدي القوى الك برى والحكوم ات‬
‫العميلة لها‪ ،‬فإن هذا ليس بحج‪ ،‬أنه صورة بال معنى)(‪)2‬‬
‫ومن أهم القضايا ال تي يبنغي الترك يز عليه ا ال دعوة للوح دة بين المس لمين‪،‬‬
‫يقول‪( :‬إن الحج الذي يريده هللا تبارك وتعالى واإلسالم منا‪ ،‬ه و أن ن ؤدي المناس ك‬
‫ونسعى إليقاظ وتوعية المسلمين اآلخرين باألخطار والتحديات ال تي ته دد اإلس الم‬
‫والمسلمين‪ ،‬وأن ندعوهم إلى الوحدة والتوحد‪ ،‬ونفهّمهم لماذا ينبغي ألكثر من ملي ار‬
‫مسلم أن يبقوا خاضعين لضغوطات القوى الك برى ال تي ال تتج اوز ع دة مئ ات من‬
‫الماليين‪ .‬إن كل هذه المصائب يعود منشأها إلى حرف المسلمين عن مسار اإلسالم‬
‫الصحيح‪ ،‬لدرجة ال يجرؤ معها علماء المسلمين في جلس اتهم أن ي دينوا م ا ي رتكب‬
‫بحق المسلمين)(‪)3‬‬
‫ويذكر المشاعر المرتبطة بهذه المعاني عند أداء المناسك؛ فيقول‪( :‬مم ا يجب‬
‫أن يلتفت اليه الحجاج المحترمون أن مكة المكرمة والمشاهد المشرفة مرآة ألحداث‬
‫نهضة األنبياء واإلسالم ورسالة النبي الكريم ‪‬؛ فتعتبر كل نقطة من ه ذه األرض‬
‫محاًل لنزول وإجالل األنبياء العظام وجبرائيل األمين ومذكرة بمش اق ومحن الن بي‬
‫العظيم ‪ ‬التي تحملها في سبيل اإلسالم والبشرية)(‪)4‬‬
‫وي ذكر البع د العملي المتول د من تل ك المش اعر اإليماني ة العميق ة؛ فيق ول‪:‬‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.18/51 ،‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.18/52 ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.18/52 ،‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪.20/279 ،‬‬
‫‪261‬‬
‫(والحضور في ه ذه األمكن ة المقدس ة وأخ ذ الظ روف القاس ية للبعث ة النبوي ة بعين‬
‫االعتبار يرشدنا إلى عظم المسؤولية التي تقع على عواتقنا للمحافظة على منجزات‬
‫هذه النهضة والرسالة االلهية؛ فكم أبدى الن بي الك ريم ‪ ‬وأئم ة اله دى من مث ابرة‬
‫وصمود في تلك الظروف إلرساء دعائم الدين القويم وإمحاق الباط ل‪ ،‬ولم ت رعبهم‬
‫تهم وطعن وإهان ات (أبي لهب) و(أبي جه ل) و(أبي س فيان) وأمث الهم‪ ،‬وواص لوا‬
‫طريقهم ولم يستسلموا في أحلك الظ روف ووط أة الحص ار االقتص ادي الش ديد في‬
‫ش عب أبي ط الب‪ ،‬وش مروا عن س واعد الج د إلبالغ الرس الة االلهي ة بع د تحم ل‬
‫الص عاب في مس ار دع وة الح ق‪ ،‬وأدام وا طري ق الهداي ة والرش د بحض ورهم في‬
‫الح روب المتتالي ة وغ ير المتكافئ ة والكف اح إزاء آالف الم ؤامرات حيث امتألت‬
‫صخور وصحاري وجبال وأزق ة وأس واق مك ة والمدين ة بالش غب والغوغ اء‪ ،‬فل و‬
‫اس تَقِ ْم َك َم ا أُ ِم رْ تَ ‪[ ‬ه ود‪:‬‬
‫نطقت وكشفت النق اب عن س ّر تحق ق قول ه تع الى‪ :‬فَ ْ‬
‫‪ ]112‬لوقف زائروا بيت هللا الحرام على مقدار عناء رسول هللا ‪ ‬له دايتنا وبل وغ‬
‫المسلمين الجنة‪ ،‬وألدركوا العبء الملقى على كاهل أتباعه) (‪)1‬‬
‫ه ذه ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أبع اد الحج الم برور ومقاص ده والمش اعر‬
‫المرتبطة به‪ ،‬وهو ـ به ذه الص فات ـ ال ي ؤدي دوره في إص الح نف وس المؤم نين‬
‫ك أفراد فق ط‪ ،‬وإنم ا يص لح المجتم ع‪ ،‬ويعي د األم ة إلى ج ادة ص وابها‪ ..‬وال يمكن‬
‫للم ؤمن أن تس تقيم نفس ه على الس راط المس تقيم‪ ،‬وه و ال ينش غل بح ال أمت ه‪ ،‬وال‬
‫بإصالحها‪ ،‬وال بحفظ وحدتها‪ ،‬ووصية رسول هللا ‪ ‬فيها‪.‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.20/279 ،‬‬


‫‪262‬‬
‫النوافل والتطوعات‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الص ادق ـ تس ألني عن النواف ل والتطوع ات الكث يرة‬
‫التي سنها النبي ‪ ‬وأئمة الهدى من بعده‪ ،‬وأدواره ا التربوي ة والروحي ة‪ ،‬واآلداب‬
‫واألسرار المرتبطة بها‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن النواف ل ال تي وردت في الش ريعة‬
‫بأش كالها المختلف ة‪ ،‬ف رص عظيم ة لت دارك التقص ير‪ ،‬أو لني ل ال درجات العالي ة‪،‬‬
‫واألجور العظيمة‪ ،‬وهي بمثابة العالج التكميلي واإلض افي للنفس‪ ،‬يعين الف رائض‪،‬‬
‫ويكون مددا لها في تزكية النفس وترقيتها‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذه المعاني التي رحم هللا تعالى بها عب اده‪ ،‬لي ؤدبهم وي ربيهم‪،‬‬
‫﴿و ِمنَ اللَّ ْي ِل فَتَهَ َّج ْد بِ ِه نَافِلَ ةً لَ كَ‬
‫قوله تعالى مخاطبا رس وله ‪ ‬واألم ة من خالل ه‪َ :‬‬
‫ك َمقَا ًما َمحْ ُمودًا﴾ [اإلسراء‪]79 :‬‬‫َع َسى أَ ْن يَ ْب َعثَكَ َربُّ َ‬
‫فهذه اآلية الكريم ة تش ير إلى ال دور ال ذي تق وم ب ه النواف ل في الترقي ة‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن تكون هناك ترقية من دون أن تسبقها تزكية‪ ..‬وبذلك يكون للنواف ل دوره ا‬
‫العظيم في تزكية النفس وترقيتها وتأهيلها للمقامات المحمودة والمراتب العلية‪.‬‬
‫﴿و َمن‬
‫وذلك كله من فضل هللا تعالى على عباده‪ ،‬وشكره لهم‪ ،‬كما قال تع الى‪َ :‬‬
‫تَطَ َّو َع خَ ْيرًا فَإِ َّن هللا َش ا ِك ٌر َعلِي ٌم﴾ (البق رة‪ ،)158:‬والش كر يع ني الج زاء والمكاف أة‪،‬‬
‫والتي ال تقتصر على األجور فقط‪ ،‬وإنما تتعداها لتلك المراتب الرفيع ة ال تي يناله ا‬
‫من لم يكتف بالفرائض‪ ،‬وإنما راح يضم إليها النوافل‪.‬‬
‫وقد أشار رسول هللا ‪ ‬إلى الدور العظيم الذي تقوم به النوافل في ذلك؛ فقال‬
‫في الحديث القدسي عن هللا تعالى‪( :‬من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب‪ .‬وما تق رّب‬
‫إل ّي عبدي بشيء أحبّ إل ّي م ّما افترضته عليه‪ .‬وما يزال عبدي يتقرّب إل ّي بالنّواف ل‬
‫حتّى أحبّه‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به وي ده الّ تي‬
‫يبطش بها‪ ،‬ورجله الّتي يمشي بها‪ ،‬وإن سألني ألعطينّه‪ ،‬ولئن اس تعاذ بي ألعيذنّ ه‪،‬‬
‫وما تر ّددت عن شيء أنا فاعله ت ر ّددي عن نفس الم ؤمن يك ره الم وت‪ ،‬وأن ا أك ره‬
‫مساءته) (‪)1‬‬
‫ففي هذا الحديث إشارة إلى حصول المك ثر من النواف ل على حب هللا تع الى‪،‬‬
‫ونزوله درجة المحبوبية وهي درجة عظيمة جدا‪ ،‬تجعله وليا هلل‪ ،‬كما أخ بر ‪ ‬عن‬
‫ذلك في أول الحديث‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى هذا الدور؛ فإن النوافل تقوم بج بر القص ور ال ذي ق د يق ع في‬
‫الفرائض‪ ،‬كما ورد في الحديث عن رس ول هللا ‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬إن أول م ا يحاس ب‬
‫الناس به يوم القيام ة من أعم الهم‪ :‬الص الة‪ ،‬ق ال‪ :‬يق ول ربن ا ع ز وج ل لمالئكت ه‪:‬‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪)6502‬‬
‫‪263‬‬
‫انظروا في صالة عبدي‪ ،‬أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة‪ ،‬كتبت له تام ة‪ ،‬وإن ك ان‬
‫انتقص منها شيئا‪ ،‬قال‪ :‬انظروا‪ ،‬هل لعب دي من تط وع؟ ف إن ك ان ل ه تط وع‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫أتموا لعبدي فريضته من تطوعه‪ ،‬ثم تؤخذ األعمال على ذلك)(‪)1‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك ما ورد في النصوص الكثيرة من األج ور العظيم ة ال تي‬
‫ينالها المكثرون من النوافل‪ ،‬والتي ال تقتص ر على م ا يتفض ل هللا تع الى ب ه عليهم‬
‫من النعيم المقيم‪ ،‬وإنم ا يك ون ل ذلك أث ره النفس ي‪ ،‬ألن ك ل نعيم حس ي أو معن وي‬
‫يقتضي طهارة في النفس تؤهل صاحبها لذلك النعيم‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪( :‬ما من عبد مسلم يصلي هلل ك ّل يوم ثنتي عشرة‬
‫ركعة تطوّعا غير فريضة‪ ،‬إاّل بنى هللا له بيتا في الجنّة) (‪)2‬‬
‫وفي وص ية رس ول هللا ‪ ‬ألبي ذر‪( :‬ي ا أب ا ذر أيم ا رج ل تط وع في ي وم‬
‫باثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة كان له حقا واجبا بيت في الجنة) (‪)3‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬إياكم والكسل إن ربكم رحيم يشكر القليل‪ ،‬وإن الرجل‬
‫ليصلي الركعتين يريد بهما وجه هللا ع ّز وج ّل فيدخله هللا بهما الجنة‪ ،‬وإن ه ليتص ّدق‬
‫بالدرهم تطوعا ً يريد به وجه هللا فيدخله هللا به الجنّة) (‪)4‬‬
‫وقال اإلم ام الرض ا‪( :‬حس نوا ن وافلكم‪ ،‬واعلم وا أنهاهدي ة إلى هللا عزوج ل‪،‬‬
‫واعلموا أن النوافل إنما وضعت الختالف الناس في مقادير قواهم الن بعض الخلق‬
‫أقوى من بعض‪ ،‬فوضعت الفرائض على أضعف الخل ق‪ ،‬ثم أردفت بالس نن ليعم ل‬
‫كل قوي بمبلغ قوته‪ ،‬وكل ضعيف بمبلغ ضعفه‪ ،‬فال يكلف أحد فوق طاقته وال تبل غ‬
‫قوة القوى حتى تكون مستعملة في وجهه من وجوه الطاع ة‪ ،‬وك ذلك ك ل مف روض‬
‫من الصيام والحج ولكل فريضة سنة بهذا المعنى)(‪)5‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاس مع لم ا س أورده ل ك من بعض م ا‬
‫ورد في النوافل المرتبط ة بالص الة والص يام‪ ..‬أم ا ال ذكر وال دعاء وق راءة الق رآن‬
‫الكريم والصدقات؛ فهي ال حدود لها‪ ،‬وال لكثرتها‪ ..‬وقد س بق أن ذك رت ل ك فض ل‬
‫اإلكثار منها في رسائل سابقة‪.‬‬
‫نوافل الصلوات‪:‬‬
‫أما نوافل الصلوات‪ ،‬فهي ـ أيها المريد الص ادق ـ كث يرة‪ ،‬وق د وق ع الخالف‬
‫بين الفقهاء في بعضها‪ ،‬وهو ال يعنيك كثيرا؛ فيمكنك أن تختار لنفسك م ا ش ئت من‬
‫بينها مما تراه متناسبا مع عملك وظروفك المختلفة من غير أن تنكر على غيرك م ا‬
‫اختاره لنفسه مما ت رجح لدي ه دليل ه‪ ،‬ح تى ال تك ون من ال ذين ق ال هللا تع الى فيهم‪:‬‬
‫صلَّى﴾ [العلق‪]10 ،9 :‬‬ ‫﴿أَ َرأَيْتَ الَّ ِذي يَ ْنهَى (‪َ )9‬ع ْبدًا إِ َذا َ‬

‫‪ )(1‬أحمد (‪ )2/425‬وأبو داود (‪)864‬‬


‫‪ )(2‬مسلم (‪)728‬‬
‫‪ )(3‬أمالي الطوسي ج ‪ 2‬ص ‪.141‬‬
‫‪ )(4‬ثواب األعمال ص ‪.36‬‬
‫‪ )(5‬فقه الرضا ص ‪.9‬‬
‫‪264‬‬
‫وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال ألبي ذ ّر في وص يّته ل ه‪( :‬ي ا‬
‫أب ا ذرّ‪ ..‬م ا من رج ٍل يجع ل جبهت ه في بقع ة من بق اع األرض إالّ ش هدت ل ه ي وم‬
‫القيامة‪ ،‬وما من منز ٍل ينزله قو ٌم إالّ وأصبح ذلك المنزل يصلّي عليهم أو يلعنهم‪ ..‬يا‬
‫صباح إالّ وبقاع األرض ينادي بعضها بعض اً‪ :‬ي ا ج ارة‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫رواح وال‬
‫ٍ‬ ‫أبا ذرّ‪ ..‬ما من‬
‫ً‬
‫هل م ّر عليك اليوم ذاك ٌر هلل‪ ،‬أو عب ٌد وض ع جبهت ه علي ك س اجدا هلل تع الى ؟‪ ..‬فمن‬
‫أن له ا الفض ل‬ ‫قائل ٍة ال‪ ،‬ومن قائل ٍة نعم‪ ،‬فإذا قالت‪ :‬نعم‪ ،‬اهت ّزت وانش رحت‪ ،‬وت رى ّ‬
‫على جارتها)(‪)1‬‬
‫ومن تلك النوافل التي ورد االتفاق عليه ا في األم ة جميع ا ص الة الفج ر‪ ،‬فـ‬
‫(لم يكن النبي ‪ ‬على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر)(‪)2‬‬
‫ر من الدنيا وما فيها)(‪)3‬‬ ‫وقد قال في شأنها وفضلها‪( :‬ركعتا الفجر خي ٌ‬
‫وقال‪( :‬ال تدعوهما ولو طردتكم الخيل)(‪)4‬‬
‫وسئل اإلمام الصادق عن قول هللا ع ّز وجلّ‪َ ﴿ :‬وقُرْ آنَ ْالفَجْ ِر إِ َّن قُ رْ آنَ ْالفَجْ ِر‬
‫شه ُودًا﴾ [اإلسراء‪ ،]78 :‬فقال‪( :‬هو الركعتان قبل صالة الفجر)(‪)5‬‬ ‫َكانَ َم ْ‬
‫ب ج رى ب ه‬ ‫وكان اإلمام علي يقول بع د أدائه ا‪( :‬اللهم إني أس تغفرك لك ّل ذن ٍ‬
‫علمك ف ّي وعل ّي إلى آخر عمري‪ ،‬بجميع ذنوبي ألولها وآخرها‪ ،‬وعمدها وخطائها‪،‬‬
‫وقليلها وكثيرها‪ ،‬ودقيقها وجليلها‪ ،‬وقديمها وحديثها‪ ،‬وسرّها وعالنيتها‪ ،‬وجمي ع م ا‬
‫أنا مذنبه وأتوب إليك‪ ،‬وأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد‪ ،‬وأن تغفر لي جميع‬
‫فإن لعبادك عل ّي حقوقا ً وأنا مرتهن به ا‪ ،‬تغفره ا‬ ‫ما أحصيت من مظالم العباد قبلي‪ّ ،‬‬
‫لي كيف شئت وأنى شئت يا أرحم الراحمين)(‪)6‬‬
‫تبت إلي ك من ه ثم‬ ‫وكان اإلمام السجاد يقول عقبه ا‪( :‬اللهم إني أس تغفرك مم ا ُ‬
‫أردت به وجهك‪ ،‬فخ الطني في ه م ا ليس ل ك‪ ،‬وأس تغفرك‬ ‫ُ‬ ‫عدت فيه‪ ،‬وأستغفرك لما‬‫ُ‬
‫ويت على معاص يك‪ .‬أس تغفر هللا ال ذي ال إل ه إال ه و‪،‬‬ ‫للنعم التي مننت به ا عل ّي فق ُ‬
‫ب أذنبته‪ ،‬ولكل معصية‬ ‫الح ّي القيوم‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪ ،‬الرحمن الرحيم‪ ،‬لكل ذن ٍ‬
‫ارتكبته ا‪ .‬اللهم !‪ ..‬ارزق ني عقالً ك امالً‪ ،‬وعزم ا ً ثاقب اً‪ ،‬ولبّ ا ً راجح اً‪ ،‬وقلب ا ً زكي ا‪ً،‬‬
‫وعلما ً كثيراً‪ ،‬وأدبا ً بارعاً‪ ،‬واجعل ذل ك كلّ ه لي‪ ،‬وال تجعل ه عل ّي برحمت ك ي ا أرحم‬
‫الراحمين)(‪)7‬‬
‫ومنها رواتب الصلوات‪ ،‬والتي اتفقت األمة جميعا على فض لها‪ ،‬وإن اختلفت‬
‫في بعض تفاصيل أعدادها‪ ،‬فمما ورد في فضلها من األحاديث قوله ‪( :‬من صلى‬

‫‪)(1‬أمالي الطوسي ‪ ،2/147‬تنبيه الخواطر ‪ ،2/60‬مكارم األخالق ص‪.546‬‬


‫‪ )(2‬البخاري (‪ ،)1169‬ومسلم (‪،)724‬وأبو داود (‪ ،)1254‬والنسائي ‪.1/175‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪ ،)725‬والترمذي (‪ ،)416‬والنسائي ‪.3/252‬‬
‫‪ )(4‬أبو داود (‪)1258‬‬
‫‪)(5‬دعائم اإلسالم ‪.1/204‬‬
‫‪)(6‬مصباح الكفعمي ص‪.62‬‬
‫‪)(7‬مصباح الكفعمي ص‪.63‬‬
‫‪265‬‬
‫النار)(‪)1‬‬ ‫قبل الظهر أربعا وبعدها أربعا حرمه هللا على‬
‫وقال‪( :‬من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بع دها حرم ه هللا على‬
‫النار)(‪)2‬‬
‫ع قبل الظهر ليس فيهن تسلي ٌم تفتح لهن أبواب السماء)(‪)3‬‬ ‫وقال‪( :‬أرب ٌ‬
‫وقال‪( :‬من صلى أربعا قبل الظهر كان له كأجر عت ق رقب ة) أو ق ال‪( :‬أرب ع‬
‫رقاب من ولد إسماعيل)(‪)4‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬كان يصلي أربعا بعد الزوال قبل الظه ر‪ ،‬وق ال‪( :‬إنه ا س اعةٌ‬
‫ل صالحٌ)(‪)5‬‬ ‫تفتح لها أبواب السماء‪ ،‬وأحب أن يصعد لي فيها عم ٌ‬
‫ّ‬
‫وق ال اإلم ام الس جاد‪( :‬إذا زالت الش مس عن كب د الس ماء‪ ،‬ف َمن ص لى تل ك‬
‫الساعة أربع ركعات فقد وافق صالة األوّابين‪ ،‬وذلك بعد نصف النهار)(‪)6‬‬
‫وقال اإلمام الباقر‪( :‬إذا زالت الش مس فُتحت أب واب الس ماء‪ ،‬وهبّت الري اح‪،‬‬
‫وقُضي فيها الحوائج الكبار)(‪)7‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬إذا ك انت ل ك إلى هللا حاج ةٌ‪ ،‬فاطلبه ا إلى هللا في ه ذه‬
‫الساعة‪ ،‬يعني زوال الشمس)(‪)8‬‬
‫وقال اإلمام علي‪( :‬صالة الزوال صالة األوّابين)(‪)9‬‬
‫ومما ورد في فضل رواتب صالة المغرب والعشاء قوله ‪( :‬من صلى بعد‬
‫المغرب‪ ،‬قب ل أن يتكلم ركع تين ـ وفي رواي ة‪ :‬أرب ع ركع ات ـ رفعت ص الته في‬
‫عليين)(‪)10‬‬
‫وقال‪( :‬عجلوا الركعتين بعد المغرب فإنهما يرفعان مع المكتوبة)(‪)11‬‬
‫وقال‪( :‬من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء عدلن له‬
‫بعبادة ثنتي عشرة سنة)(‪)12‬‬
‫وقال‪( :‬من صلى العش اء اآلخ رة في جماع ة وص لى أرب ع ركع ات قب ل أن‬
‫يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر)(‪)13‬‬
‫وقال‪( :‬صلّوا في ساعة الغفلة ولو ركعتين‪ ،‬فإنّهما توردان دار الكرامة)(‪)14‬‬

‫‪ )(1‬الترمذي (‪ ،)427‬والنسائي ‪ ،3/265‬وابن ماجه(‪)1160‬‬


‫‪ )(2‬أبو داود (‪ ،)1269‬والترمذي (‪)428‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود (‪)1270‬‬
‫‪( )(4‬األوسط) ‪)6052( 6/150‬‬
‫‪ )(5‬الترمذي (‪)478‬‬
‫‪)(6‬قرب اإلسناد ص‪.55‬‬
‫‪)(7‬فالح السائل ص‪.97‬‬
‫‪)(8‬فالح السائل ص‪.97‬‬
‫‪)(9‬فالح السائل ص‪.124‬‬
‫‪ )(10‬أبو داود في (المراسيل) ‪ ،)73( 1/111‬وعبد الرزاق ‪)4833( 3/70‬‬
‫‪ )(11‬ابن عدي في (الكامل) ‪ ،4/151‬والبيهقي في (الشعب) ‪)3068( 122-3/121‬‬
‫‪ )(12‬الترمذي (‪)435‬‬
‫‪ )(13‬الطبراني في (األوسط) ‪)5239( 5/254‬‬
‫‪)(14‬فالح السائل ص‪.244‬‬
‫‪266‬‬
‫وعن محمد بن عمار بن ياسر قال‪ :‬رأيت عمار بن ياسر يصلي بعد المغرب‬
‫ست ركعات‪ ،‬وقال‪ :‬رأيت حبيبي ‪ ‬يصلي بعد المغرب س ت ركع ات وق ال‪( :‬من‬
‫صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) (‪)1‬‬
‫وق ال اإلم ام الص ادق‪َ ( :‬من ص لّى المغ رب ث ّم عقّب ولم يتكلّم حتّى يص لّي‬
‫كتبت له حجّة مبرورة)(‪)2‬‬ ‫ركعتين ُكتبتا له في علّيّين‪ ،‬فإن صلّى أربعا ً ُ‬
‫وقال‪( :‬الركعتان اللّتان بعد المغرب هما أدبار السجود‪ ،‬والركعتان اللّتان بعد‬
‫الفجر أدبار النجوم)(‪)3‬‬
‫وقال‪َ ( :‬من قال في آخر سجّدة من النافلة بعد المغرب ليلة الجمع ة‪ ،‬وإن قال ه‬
‫ك ّل ليلة فهو أفض ل‪( :‬الله ّم إنّي أس ألك بوجه ك الك ريم‪ ،‬واس مك العظيم‪ ،‬أن تص لّي‬
‫على مح ّمد وآل مح ّمد‪ ،‬وأن تغفر لي ذنبي العظيم) سبع مرّات‪ ،‬انص رف وق د غف ر‬
‫هللا له)(‪)4‬‬
‫الس جُو ِد﴾‬ ‫وسئل اإلمام الرضا عن قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و ِمنَ اللَّي ِْل فَ َس بِّحْ هُ َوأَ ْدبَ ا َر ُّ‬
‫وم﴾ [الط ور‪]49 :‬‬ ‫ار النُّ ُج ِ‬ ‫﴿وإِ ْدبَ َ‬ ‫[ق‪ ،]40 :‬فق ال‪( :‬أرب ع ركع ات بع د المغ رب‪َ ،‬‬
‫ركعتان قبل صالة الصبح)(‪)5‬‬
‫ومما ورد في فضل ص الة اللي ل أو التهج د أو قي ام اللي ل من الق رآن الك ريم‬
‫ت هللا آنَا َء اللَّي ِْل َوهُ ْم يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ [آل‬ ‫ب أُ َّمةٌ قَائِ َمةٌ يَ ْتلُونَ آيَا ِ‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬لَ ْيسُوا َس َوا ًء ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَا ِ‬
‫س َوقَ ْب َل‬ ‫ك قَ ْب َل طُلُ ِ‬
‫وع َّ‬
‫الش ْم ِ‬ ‫اص بِرْ َعلَى َم ا يَقُولُ ونَ َو َس بِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّ َ‬ ‫عمران‪ ،]113 :‬وقوله‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫ض ى﴾ [ط ه‪ ،]130 :‬وقوله‪﴿ :‬أَ َّم ْن هُ َو‬ ‫ك تَرْ َ‬ ‫ار لَ َعلَّ َ‬
‫ط َرافَ النَّهَ ِ‬ ‫ُغرُوبِهَا َو ِم ْن آنَا ِء اللَّ ْي ِل فَ َس بِّحْ َوأَ ْ‬
‫ت آنَا َء اللَّ ْي ِل َسا ِجدًا َوقَائِ ًما يَحْ َذ ُر اآْل ِخ َرةَ َويَرْ جُو َرحْ َمةَ َربِّ ِه﴾ [الزمر‪]9 :‬‬
‫قَانِ ٌ‬
‫وفي الحديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬عليكم بقي ام اللي ل‪ ،‬فإن ه من دأب‬
‫الص الحين قبلكم‪ ،‬وإن قي ام اللي ل قرب ةٌ إلى هللا تع الى ومنه اةٌ عن اآلث ام وتكف ير‬
‫السيئات ومطردة الداء عن الجسد)(‪)6‬‬
‫وقال‪( :‬من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين‪ ،‬ومن قام بمائ ة آي ة كتب من‬
‫القانتين‪ ،‬ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)(‪)7‬‬
‫وقال‪( :‬إذا قام أحدكم من اللي ل فليفتتح ص الته بركع تين خفيف تين‪ .‬ثم ليط ول‬
‫بعدما شاء)(‪)8‬‬
‫وقال‪( :‬ال تدعن صالة الليل ولو حلب شاة)(‪)9‬‬
‫وروي أن جبري ل ج اء إلى الن بي ‪ ‬فق ال‪( :‬ي ا محم د عش م ا ش ئت فإن ك‬
‫‪ )(1‬الطبراني في (األوسط) ‪)7245( 7/192‬‬
‫‪)(2‬أمالي الصدوق ص‪ ،349‬ثواب األعمال ص‪.41‬‬
‫‪)(3‬قرب اإلسناد ص‪.81‬‬
‫‪)(4‬الخصال ‪.2/31‬‬
‫‪ )(5‬تفسير القمي ص‪.650‬‬
‫‪ )(6‬الترمذي (‪)3549‬‬
‫‪ )(7‬أبو داود (‪)1398‬‬
‫‪ )(8‬مسلم (‪ ،)768‬وأبو داود (‪)1324‬‬
‫‪ )(9‬الطبراني في (األوسط) ‪)4114( 4/251‬‬
‫‪267‬‬
‫ميت‪ ،‬واعمل م ا ش ئت فإن ك مج زي به‪ ،‬وأحبب من ش ئت فإن ك مفارقه‪ ،‬واعلم أن‬ ‫ٌ‬
‫شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬من رزق صالة الليل من عبد أو أمة‪ :‬قام هلل عزوجل مخلصا فتوض أ‬
‫وضوءا سابغا وصلى هلل عزوج ل بني ة ص ادقة‪ ،‬وقلب س ليم‪ ،‬وب دن خاش ع‪ ،‬وعين‬
‫دامعة جعل هللا تبارك وتعالى خلفه تسعة صفوف من المالئك ة في ك ل ص ف م ا ال‬
‫يحصي عددهم إال هللا تعالى أحد طرفي كل صف في المشرق‪ ،‬واآلخ ر ب المغرب‪،‬‬
‫قال‪ :‬فاذا فرغ كتب له بعددهم درجات)(‪)2‬‬

‫وقال‪( :‬إن هللا جل جالله أوحى إلى الدنيا أن أتعبي من خ دمك‪ ،‬واخ دمى من‬
‫رفضك‪ ،‬وإن العبد إذا تخلى بس يده في ج وف اللي ل المظلم وناج اه‪ ،‬أثبت هللا الن ور‬
‫في قلبه‪ ،‬فاذا قال يا رب يا رب‪ ،‬ناداه الجليل جل جالله لبيك عب دي‪ ،‬س لني أعط ك‬
‫وتوكل علي أكفك‪ ،‬ثم يقول ج ل جالل ه لمالئكت ه‪ :‬مالئك تي انظ روا إلى عب دي فق د‬
‫تخلى في جوف هذا الليل المظلم‪ ،‬والبطالون الهون والغافلون نيام‪ ،‬اش هدوا أني ق د‬
‫غفرت له)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬رحم هللا رجال قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته‪ ،‬ف إن أبت نض ح في‬
‫وجهه ا الم اء‪ ،‬رحم هللا ام رأة ق امت من اللي ل فص لت وأيقظت زوجه ا‪ ،‬ف إن أبى‬
‫نضحت في وجهه الماء) (‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعا كتبا في ال ذاكرين‬
‫والذاكرات)(‪)5‬‬
‫وقال‪( :‬ما من امرئ تكون له صالة بليل فيغلبه عليها نو ٌم إال كتب هللا له أجر‬
‫صالته وكان نومه عليه له صدقة)(‪)6‬‬
‫وقد كانت سنة رسول هللا ‪ ‬فيها أن يقوم في أوق ات مختلف ة من اللي ل‪ ،‬فق د‬
‫سئلت أم سلمة عن قراءة النبي ‪ ‬وصالته‪ ،‬فقالت‪ :‬وما لكم وصالته كان يصلي ثم‬
‫ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ين ام ق در م ا ص لى ح تى يص بح ثم نعتت‬
‫قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا (‪.)7‬‬
‫وعن أنس قال‪ :‬ما كنا نشاء أن نرى النبي ‪ ‬في الليل مص ليا إال رأين اه وال‬
‫نشاء أن نراه نائما إال رأيناه(‪.)8‬‬
‫وقال ابن مسعود‪ :‬ص ليت م ع رس ول هللا ‪ ‬ليل ة فأط ال ح تى هممت ب أمر‬

‫‪ )(1‬الطبراني في (األوسط) ‪)4278( 4/306‬‬


‫‪ )(2‬أمالى الصدوق ص ‪.42‬‬
‫‪ )(3‬أمالى الصدوق ص ‪.168‬‬
‫‪ )(4‬أبو داود (‪ ،)1308‬والنسائي ‪.3/205‬‬
‫‪ )(5‬أبو داود (‪)1309‬‬
‫‪ )(6‬أبو داود (‪ ،)1313‬والنسائي ‪ ،3/257‬ومالك ‪.116،/1‬‬
‫‪ )(7‬أبو داود (‪ ،)1466‬والترمذي (‪)2923‬‬
‫‪ )(8‬النسائي ‪ ،214-3/213‬وهو عند البخاري (‪ )1141‬مطوالً‪.‬‬
‫‪268‬‬
‫سوء قيل‪ :‬وما هممت به‪ ،‬قال‪ :‬هممت أن أجلس وأدعه(‪.)1‬‬
‫وقال حذيفة‪ :‬صليت مع النبي ‪ ‬ذات ليل ة ف افتتح البق رة فقلت يرك ع به ا ثم‬
‫افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها‪ ،‬فقرأ مترسال إذا مر بآية فيها تس بيح‬
‫سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تع وذ ثم رك ع فجع ل يق ول‪( :‬س بحان ربي‬
‫العظيم) وكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال سمع هللا لمن حم ده ربن ا ل ك الحم د ثم‬
‫قام قياما طويال قريبا مما ركع ثم سجد‪ ،‬فقال‪( :‬سبحان ربي األعلى)‪ ،‬فكان س جوده‬
‫قريبا من قيامه(‪.)2‬‬
‫وقال ابن عباس‪ :‬بت عند خالتي ميمونة فقلت‪ :‬ألنظرن إلى صالة رسول ‪‬‬
‫فطرحت له وسادة فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع ‪ ‬وأهل ه في طوله ا‬
‫فنام حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ فجلس يمسح الن وم عن‬
‫وجهه بيديه‪ ،‬ثم قرأ العش ر اآلي ات الخ واتم من س ورة آل عم ران‪ ،‬ثم ق ام إلى ش ن‬
‫معلقة فتوضأ منها وأحسن وضوءه‪ ،‬ثم قام يصلى فقمت فص نعت مث ل م ا ص نع ثم‬
‫ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع ‪ ‬يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليم نى يفتله ا‪،‬‬
‫فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوت ر‪ ،‬ثم‬
‫اضطجع حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح(‪.)3‬‬
‫وسئلت عائشة عن قيام رس ول هللا ‪ ،‬فق الت‪ :‬ألس ت تق رأ ﴿يَاأَيُّهَ ا ْال ُم َّز ِّملُ﴾‬
‫[المزم ل‪ ..]1 :‬ف إن هللا اف ترض قي ام اللي ل في أول ه ذه الس ورة فق ام ن بي هللا ‪‬‬
‫وأصحابه حوال‪ ،‬وأمسك هللا خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ح تى أن زل هللا في‬
‫آخر هذه السورة التخفيف وصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة (‪.)4‬‬
‫وقد ورد من الرخصة فيها اإلذن بقض ائها لمن ن ام عنه ا في اللي ل‪ ،‬فق د ق ال‬
‫(إن هللا تب ارك وتع الى يب اهي مالئكت ه بالعب د يقض ي ص الة اللّي ل‬ ‫رس ول هللا ‪ّ :‬‬
‫بالنهار فيقول‪ :‬يا مالئكتي انظروا إلى عبدي يقضي ما لم أفترضه عليه أشهدكم أنّي‬
‫قد غفرت له)(‪)5‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪ :‬كلّما فاتك باللّيل فاقضه بالنهار‪ ،‬قال هللا تبارك وتعالى‪:‬‬
‫ار ِخ ْلفَ ةً لِ َم ْن أَ َرا َد أَ ْن يَ َّذ َّك َر أَوْ أَ َرا َد ُش ُكورًا﴾ [الفرق ان‪:‬‬
‫﴿ َوهُ َو الَّ ِذي َج َع َل اللَّ ْي َل َوالنَّهَ َ‬
‫‪ ،]62‬يعني أن يقضي الرجل ما فاته باللّيل بالنهار وما فات ه بالنه ار باللّي ل‪ ،‬واقض‬
‫ي وقت شئت من ليل أو نهار ما لم يكن وقت فريضة)(‪)6‬‬ ‫ما فاتك من صالة اللّيل أ ّ‬
‫وقال اإلمام الباقر‪( :‬أفضل قض اء ص الة اللّي ل في الس اعة الّ تي فاتت ك آخ ر‬
‫اللّيل‪ ،‬وليس بأس أن تقضيها بالنهار وقبل أن يزول الشمس) (‪)7‬‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)1135‬ومسلم (‪)773‬‬


‫‪ )(2‬مسلم (‪ ،)772‬والنسائي ‪.2/177‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪ ،)183‬ومسلم (‪)763‬‬
‫‪ )(4‬مسلم (‪)746‬‬
‫‪ )(5‬الفقيه ص ‪.132‬‬
‫‪ )(6‬الفقيه ص ‪.132‬‬
‫‪ )(7‬الفقيه ص ‪.132‬‬
‫‪269‬‬
‫وإلى جانب هذه الصلوات ورد في السنة المطهرة الكثير من الص لوات ال تي‬
‫ال ترتب ط باألي ام‪ ،‬وإنم ا تص لى في أوق ات أو مناس بات مختلف ة‪ ،‬ومنه ا ص الة‬
‫االستخارة‪ ،‬والتي تصلى لطلب الخيرة فيما يعرض من أمور‪ ،‬وله ا هيئ ات عدي دة‪،‬‬
‫منها ما حدث به ج ابر بن عب د هللا ق ال‪ :‬ك ان رس ول هللا ‪ ‬يعلمن ا االس تخارة في‬
‫األمور كله ا كم ا يعلمن ا الس ورة من الق رآن يق ول‪( :‬إذا هم أح دكم ب األمر فل يركع‬
‫ركعتين من غير الفريضة‪ ،‬ثم ليقل‪ :‬اللهم إني أستخيرك بعلم ك وأس تقدرك بق درتك‬
‫وأسألك من فضلك العظيم‪ ،‬فإنك تقدر وال أقدر وتعلم وال أعلم وأنت عالم الغي وب‪،‬‬
‫اللهم إن كنت تعلم أن هذا األمر خي ٌر لي في ديني ومعاشي وعأقبة أمري ـ أو ق ال‪:‬‬
‫عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم ب ارك لي في ه‪ ،‬اللهم وإن كنت تعلم أن‬
‫هذا األمر ش ٌر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال‪ :‬في عاجل أمري وآجل ه‬
‫ـ فاصرفه عني واص رفني عن ه‪ ،‬واق در لي الخ ير حيث ك ان ثم رض ني ب ه) ق ال‪:‬‬
‫(ويسمي حاجته) (‪)1‬‬
‫ومن هيئاتها ما حدث به اإلمام الباقر عن اإلمام السجاد أنه (إذا ه ّم ب أمر ح ّج‬
‫أو عمرة أو بيع أو شراء أو عت ق تطهّ ر‪ ،‬ث ّم ص لّى ركع تي االس تخارة فق رأ فيهم ا‬
‫بسورة الحشر وبسورة الرّحمن‪ ،‬ث ّم يقرأ المعوّذتين وقل ه و هللا أح د إذا ف رغ وه و‬
‫جالس ث ّم يقول‪( :‬الله ّم إن كان كذا وك ذا خ يرا لي في دي ني ودني اي وعاج ل أم ري‬
‫وآجله فص ّل على مح ّمد وآل مح ّمد ويسّره لي على أحسن الوجوه وأجملها‪ ،‬الله ّم إن‬
‫كان كذا وكذا شرّا لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فص ّل على مح ّم د وآل ه‬
‫واصرفه عنّي‪ ،‬ربّ ص ّل على مح ّمد وآله وأعزم لي على رشدي وإن ك رهت ذل ك‬
‫أو أبته نفسي)(‪)2‬‬
‫ومنها ما حدث به اإلمام الصادق قال‪( :‬إذا أراد أحدكم ش يئا فليص ّل ركع تين‬
‫ث ّم ليحمد هللا فليثن عليه وليص ّل على مح ّم د وأه ل بيت ه ويق ول‪ :‬الله ّم إن ك ان ه ذا‬
‫األمر خيرا لي في ديني ودنياي فيسّره لي وأقدره وإن كان غير ذلك فاص رفه عنّي‬
‫ي شيء أقرأ فيهما؟ فقال‪ :‬اقرأ فيهما ما شئت وإن شئت قرأت فيهما ق ل ه و‬ ‫فسألته أ ّ‬
‫هللا أحد وقل يا أيّها الكافرون)(‪)3‬‬
‫وقد ورد في فضلها عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬ما خاب من استخار وال ندم‬
‫من استشار وال عال من اقتصد)(‪)4‬‬
‫ومنها صالة الحاجة‪ ،‬ولها كيفيات عديدة منها ما روي عن رسول هللا ‪ ‬أنه‬
‫قال‪( :‬من كانت له إلى هللا حاجةٌ أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء‪،‬‬
‫ثم ليصل ركع تين‪ ،‬ثم ليثن على هللا وليص ل على الن بي ‪ ،‬ثم ليق ل‪ :‬ال إل ه إال هللا‬
‫الحليم الك ريم‪ ،‬س بحان هللا رب الع رش العظيم‪ ،‬الحم د هلل رب الع المين أس ألك‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪)1166‬‬
‫‪ )(2‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪ 470‬تحت رقم ‪.2‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪ 472‬تحت رقم ‪.6‬‬
‫‪( )(4‬األوسط) ‪ ،)6627( 6/365‬و(الصغير) ‪)980( 2/175‬‬
‫‪270‬‬
‫موجبات رحمتك وعزائم مغفرت ك والغنيم ة من ك ل ب ر‪ ،‬والس المة من ك ل إثم‪ ،‬ال‬
‫تدع لي ذنبا إالغفرته‪ ،‬وال هما إال فرجته‪ ،‬وال حاج ة هي ل ك رض ا إال قض يتها ي ا‬
‫أرحم الراحمين‪ ،‬ثم يسأل من أمر الدنيا واآلخرة ما شاء فإنه يقدر) (‪)1‬‬
‫ومن هيئاتها ما حدث به عثمان بن حنيف عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬إيت‬
‫الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين‪ ،‬ثم ادع به ذه ال دعوات‪ :‬اللهم إني أس ألك وأتوس ل‬
‫إليك بنبينا محم د ‪ ‬ن بي الرحم ة‪ ،‬ي ا محم د إني أتوج ه ب ك إلى ربي فيقض ي لي‬
‫حاجتي‪ ،‬وتذكر حاجتك(‪.)2‬‬
‫ومنها صالة التسابيح‪ ،‬وقد بهيئات مختلفة منه ا م ا روي عن ابن عب اس‪ :‬أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬قال للعباس‪( :‬يا عباس‪ ،‬يا عماه‪ ،‬أال أعطيك‪ ،‬أال أمنح ك أال أج يزك‪،‬‬
‫أال أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر هللا لك ذنبك‪ ،‬أوله وآخ ره‪ ،‬قديم ه‬
‫وحديثه‪ ،‬خطأه وعمده‪ ،‬صغيره وكبيره‪ ،‬سره وعالنيت ه‪ ،‬عش ر خص ال‪ :‬أن تص لي‬
‫أربع ركعات‪ ،‬تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة‪ ،‬فإذا ف رغت من الق راءة في‬
‫أول ركعة وأنت قائ ٌم قلت‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وال إل ه إال هللا‪ ،‬وهللا أك بر خمس‬
‫عشرة مرة‪ ،‬ثم تركع فتقولها وأنت راك ٌع عشرا‪ ،‬ثم ترفع رأسك من السجود فتقوله ا‬
‫عشرا‪ ،‬ثم تسجد فتقولها عشرا‪ ،‬ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا‪ ،‬فذلك خمسٌ وس بعون‬
‫في كل ركعة‪ ،‬تفعل ذلك في أربع ركعات‪ ،‬إن استطعت أن تصليها في كل يوم م رة‬
‫فافعل‪ ،‬فإن لم تفعل ففي كل جمعة‪ ،‬فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة‪ ،‬فإن لم تفعل ففي‬
‫كل سنة مرة‪ ،‬فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)(‪)3‬‬
‫هذا بعض ما ورد في فضائل نوافل الصالة؛ فابدأ بها ـ أيها المريد الصادق ـ‬
‫واحرص عليها‪ ،‬واعلم أن األفضل فيها أداؤها في بيتك‪ ،‬وبحس ب م ا يت اح ل ك من‬
‫وقت؛ فإن عرض لك ما هو أهم منها من علم تطلبه‪ ،‬أو خدمة تقدمها لغيرك؛ ف اعلم‬
‫أن ذلك أفضل‪ ،‬وسينيلك هللا فضل م ا نويت ه من نواف ل م ا دمت ق د ت ركت بعض ها‬
‫لتلك األغراض الشريفة‪.‬‬
‫وإن قدرت على أن تقضي ما فاتك منها بعد انتهائك من أش غالك‪ ،‬فل ك ذل ك‪،‬‬
‫وهو رخصة من هللا تعالى لتتدارك م ا فات ك من الخ ير‪ ،‬وق د قي ل لإلم ام الص ادق‪:‬‬
‫(جُعلت فداك‪ ،‬ربّما فاتتني صالة اللّيل الشهر والشهرين والثالث ة فأقض يها بالنه ار‪،‬‬
‫إن هللا يق ول‪َ ﴿ :‬وهُ َو الَّ ِذي َج َع َل‬
‫أيجوز ذلك ؟)‪ ،‬فقال‪( :‬قرّة عين ل ك وهللا ـ ثالث ا ً ـ ّ‬
‫ار ِخ ْلفَةً لِ َم ْن أَ َرا َد أَ ْن يَ َّذ َّك َر أَوْ أَ َرا َد ُش ُكورًا﴾ [الفرق ان‪ ،]62 :‬فه و قض اء‬
‫اللَّي َْل َوالنَّهَ َ‬
‫صالة النهار باللّيل‪ ،‬وقضاء صالة اللّيل بالنهار)(‪)4‬‬
‫وسئل عن رجل عليه من النوافل ما ال يدري كم هو لكثرته ؟‪ ..‬فقال‪( :‬يصلي‬
‫حتى ال يدري كم صلّى من كثرته‪ ،‬فيكون قد قضى بقدر ما عليه من ذلك)‪ ،‬فقيل له‪:‬‬
‫‪ )(1‬الترمذي (‪)479‬‬
‫‪ )(2‬الطبراني ‪)8311( 31-9/30‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود (‪ ،)1297‬وابن ماجه (‪)1387‬‬
‫‪)(4‬تفسير القمي ص‪.467‬‬
‫‪271‬‬
‫فإنه ال يقدر على القضاء من شغله‪ ،‬قال‪( :‬إن ُشغل في معيش ٍة ال بد منه ا‪ ،‬أو حاج ٍة‬
‫ألخ مؤمن فال شيء عليه‪ ،‬وإن كان ُشغله لجمع الدنيا فتشاغل بها عن الصالة فعليه‬ ‫ٍ‬
‫مستخف متهاون‪ ،‬مضيّع لسنّة رسول هللا ‪ ،)‬فقي ل ل ه‪:‬‬ ‫ٌّ‬ ‫القضاء‪ ،‬وإال لقي هللا وهو‬
‫فإنه ال يقدر على القضاء‪ ،‬فهل يصلح ل ه أن يتص ّدق؟‪ ..‬فس كت مليّ ا ثم ق ال‪( :‬نعم‪،‬‬
‫فليتص ّدق بقدر طوله‪ ،‬وأدنى ذلك م ّد لكل مسكين مك ان ك ل ص الة)‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬وكم‬
‫الصالة التي يجب فيها م ّد لكل مسكين ؟‪..‬‬
‫ً‬
‫قال‪( :‬لكل ركعتين من صالة الليل والنهار)‪ ،‬قلت‪ :‬ال يقدر‪ ،‬قال‪( :‬فم ّد إذا لكل‬
‫صالة الليل‪ ،‬وم ّد لصالة النهار‪ ،‬والصالة أفضل)(‪)1‬‬
‫نوافل الصيام‪:‬‬
‫أما نوافل الصيام؛ فهي ـ أيها المريد الصادق ـ كث يرة‪ ،‬وق د وق ع الخالف بين‬
‫الفقه اء في بعض ها‪ ،‬وه و ال يعني ك كث يرا؛ فاجته د لتطه ير نفس ك وت دريبها على‬
‫التقوى من خالل م ا أت اح هللا ل ك من دروس ه ذه المدرس ة العظيم ة‪ ،‬من غ ير أن‬
‫تنكر على من صام وال على من أفطر‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه أوصى أسامة بن زيد‪ ،‬فق ال‪( :‬ي ا‬
‫أسامة عليك بطريق الجنة‪ ،‬وإياك أن تختلج عنه ا)‪ ،‬فق ال أس امة‪ :‬ي ا رس ول هللا ‪‬‬
‫وما أيسر ما يُقطع به ذلك الطريق؟‪ ..‬فقال ‪( :‬الظمأ في الهواجر‪ ،‬وكسر النف وس‬
‫لذة الدنيا‪ ..‬يا أسامة‪..‬عليك بالصوم‪ ،‬فإنه ُجنّةٌ من النار‪ ،‬وإن استطعت أن يأتي ك‬ ‫عن ّ‬
‫ع فافعل‪ ..‬يا أسامة‪..‬عليك بالصوم فإنه قربةٌ إلى هللا)(‪)2‬‬ ‫الموت وبطنك جائ ٌ‬
‫ت للم ؤمن‬ ‫وفي وصية رسول هللا ‪ ‬لإلمام علي قوله‪( :‬يا علي‪..‬ثالث فرح ا ٍ‬
‫في الدنيا‪ :‬لقى االخوان‪ ،‬واإلفطار من الصيام‪ ،‬والتهجّد من آخر الليل)(‪)3‬‬
‫وق ال ‪( :‬الص ائم في عب ادة هللا‪ ،‬وإن ك ان نائم ا ً على فراش ه‪ ،‬م ا لم يغتب‬
‫مسلماً)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬قال هللا تبارك وتعالى‪( :‬ك ّل عمل ابن آدم هو له‪ ،‬غير الص يام ه و لي‬
‫وأنا أجزي به‪ ،‬والصيام ُجنّة العبد المؤمن يوم القيام ة‪ ،‬كم ا يقي أح دكم س الحه في‬
‫الدنيا‪ ،‬ولخلوف فم الصائم أطيب عند هللا ع ّز وجل من ريح المسك‪ ..‬والصائم يفرح‬
‫بفرحتين‪( :‬حين يفطر فيطعم ويشرب‪ ،‬وحين يلقاني فأُدخله الجنة)(‪)5‬‬
‫ائم يحض ر قوم ا ً يطعم ون إال س بّحت أعض اؤه‪ ،‬وك انت‬ ‫وق ال‪( :‬م ا من ص ٍ‬
‫صالة المالئكة عليه‪ ،‬وكانت صالتهم له استغفاراً)(‪)6‬‬
‫ويتأكد فضل صيام النافل ة في الح ر الش ديد‪ ،‬وق د ق ال اإلم ام الص ادق‪( :‬من‬
‫ّ‬
‫ويبش رونه‪،‬‬ ‫صام يوما ً في الح ّر فأصاب ظمأ‪ ،‬وكل هللا به ألف ملك يمسحون وجه ه‬
‫‪)(1‬المحاسن ص‪.315‬‬
‫‪ )(2‬دعائم اإلسالم ‪ 1/270‬ـ ‪.271‬‬
‫‪)(3‬الخصال ‪.1/62‬‬
‫‪)(4‬ثواب األعمال ص‪ ،46‬أمالي الصدوق ص‪.329‬‬
‫‪)(5‬الخصال ‪.1/24‬‬
‫‪)(6‬أمالي الصدوق ص‪.305‬‬
‫‪272‬‬
‫حتى إذا أفطر قال هللا ع ّز وجلّ‪( :‬ما أطيب ريح ك وروح ك‪..‬ي ا مالئك تي‪ ،‬اش هدوا‬
‫أني قد غفرت له)(‪)1‬‬
‫وهذا ال يعني عدم فضل الصيام في األي ام الب اردة‪ ،‬ففي الح ديث عن رس ول‬
‫هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء)(‪)2‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬الشتاء ربي ع الم ؤمن‪( :‬يط ول في ه ليل ه‪ ،‬فيس تعين ب ه‬
‫على قيامه‪ ،‬ويقصر فيه نهاره‪ ،‬فيستعين به على صيامه)(‪)3‬‬
‫ولصيام النافلة طرق كثيرة‪ ،‬يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تختار منها م ا‬
‫يناسبك‪ ،‬وقد روي في الحديث أن رسول هللا ‪( ‬كان أكثر ما يصوم من الش هور ش عبان‪،‬‬
‫وكان يصوم كثيرا من االيام والشهور تطوعا‪ ،‬وكان يص وم ح تى يق ال‪ :‬ال يفط ر‪ ،‬ويفط ر ح تى‬
‫يقال‪ :‬ال يصوم‪ ،‬وكان ربما صام يوما وأفطر يوما‪ ،‬ويقول‪ :‬هو أشد الصيام وهو صيام داود علي ه‬
‫السالم وإنه كان كثيرا ما يص وم أي ام ال بيض‪ ،‬وهي ي وم ثالث ة عش ر وي وم أربع ة عش ر‪ ،‬وي وم‬
‫النصف من الشهر‪ ،‬وكان ربما صام رجبا وشعبان ورمضان يصلها) (‪)4‬‬
‫وكان يقول‪( :‬أحب الصالة إلى هللا صالة داود عليه السالم وأحب الصيام إلى‬
‫هللا صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويص وم يوم ا ويفط ر‬
‫يوما) (‪)5‬‬
‫وذلك بشرط أال يضعفه الصوم عن أداء واجباته‪ ،‬كما ورد في رواي ة أخ رى‬
‫من الحديث‪( :‬كان يصوم يوما ويفطر يوما وال يفر إذا القى) (‪)6‬‬
‫ومن تلك األيام التي ورد لها فض ل خ اص‪ ،‬ص وم ي ومي االث نين والخميس‪،‬‬
‫فقد روي أن رسول هللا ‪ ‬كان يتح رى ص يام االث نين والخميس(‪ ،)7‬وعن دما س ئل‬
‫عن سبب ذلك قال (ذانك يومان تعرض فيهما األعمال على رب العالمين ف أحب أن‬
‫يعرض عملي وأنا صائ ٌم) (‪ ،)8‬وعندما سئل عن صوم االثنين قال‪( :‬فيه ولدت وفي ه‬
‫أنزل علي) (‪)9‬‬
‫ومنها صيام ثالثة أيام من ك ل ش هر‪ ،‬وق د ورد ال ترغيب الش ديد فيه ا‪ ،‬وفي‬
‫قضائها عند فواته ا‪ ،‬ب ل الفدي ة لمن عج ر عن ص يامها‪ ،‬فعن أبي ذر ق ال‪ :‬ق ال لي‬
‫رسول هللا ‪ ‬إذا صمت شيئا من الش هر فص م ثالث عش رة وأرب ع عش رة وخمس‬
‫عشرة) (‪)10‬‬
‫و قال اإلمام علي‪( :‬صيام شهر الصبر وثالثة أيّام من ك ّل شهر يذهب ببالبل‬

‫‪ )(1‬ثواب األعمال ص‪ ،48‬أمالي الصدوق ص‪.349‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،93/257 :‬واإلمامة والتبصرة‪.‬‬
‫‪)(3‬أمالي الصدوق ص‪.143‬‬
‫‪ )(4‬دعائم االسالم ج ‪ 1‬ص ‪.284‬‬
‫‪ )(5‬البخاري ‪ 1131‬مسلم ‪1159‬‬
‫‪ )(6‬البخاري ‪ 1977‬مسلم ‪.1159‬‬
‫‪ )(7‬النسائي‪.2320‬‬
‫‪ )(8‬النسائي ‪ 2358‬وابن ماجه ‪ 1740‬وأحمد ‪8161‬‬
‫‪ )(9‬مسلم‪.1162‬‬
‫‪ )(10‬النسائي ‪ 2424‬ابن ماجه ‪ 1707‬أحمد ‪210‬‬
‫‪273‬‬
‫إن هللا ع ّز وج ّل يق ول‪َ ﴿ :‬م ْن‬ ‫الصدر‪ ،‬وصيام ثالثة أيّام في ك ّل شهر ص يام ال ّدهر‪ّ ،‬‬
‫ر أَ ْمثالِها﴾)(‪)1‬‬
‫جا َء بِ ْال َح َسنَ ِة فَلَهُ َع ْش ُ‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬إذا ص ام أح دكم الثالث ة األيّ ام من الش هر فال يج ّ‬
‫ادلن‬
‫أحدا وال يجهل وال يسرع إلى الحلف واأليمان باهلل وإن جه ل علي ه أح د فليتح ّم ل)‬
‫(‪)2‬‬
‫وسئل ع ّمن لم يصم الثالثة من ك ّل شهر وهو يشت ّد عليه الصيام هل فيه فداء؟‬
‫ل يوم)(‪)3‬‬ ‫فقال‪( :‬م ّد من طعام في ك ّ‬
‫وسئل‪ :‬إنّي قد اشت ّد عل ّي صوم ثالث ة أيّ ام في ك ّل ش هر فم ا يج زئ عنّي أن‬
‫ل يوم بدرهم؟ فقال‪( :‬صدقة درهم أفضل من صيام يوم)(‪)4‬‬ ‫أتص ّدق مكان ك ّ‬
‫وسئل اإلمام الباقر‪ :‬صوم ثالثة أيّام في الشهر أؤ ّخره في الصيف إلى الش تاء‬
‫ي؟ فقال‪( :‬نعم فاحفظها)(‪)5‬‬ ‫فإنّي أجده أهون عل ّ‬
‫وسئل اإلمام الرضا عن علتها‪ ،‬فقال‪( :‬الن هللا تبارك وتعالى يق ول‪َ ﴿ :‬م ْن َج ا َء‬
‫بِ ْال َح َسنَ ِة فَلَهُ َع ْش ُر أَ ْمثَالِهَا﴾ [األنعام‪ ،]160 :‬فمن صام في كل عشرة أيام يوما فكأنما ص ام‬
‫الدهر كله‪ ،‬كما قال س لمان الفارس ى رحم ة هللا علي ه‪ :‬ص وم ثالث ة أي ام في الش هر‬
‫صوم الدهر كله‪ ،‬فمن وجد شيئا غير الدهر فليصمه) (‪)6‬‬
‫ومنها صيام يوم الجمعة‪ ،‬فق د ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪:‬‬
‫(من ص ام ي وم الجمع ة ص براً واحتس اباً‪ ،‬أُعطي أج ر عش رة أي ٍام غ رٍّ زه ٍر‪ ،‬ال‬
‫تشاكلهن أيام الدنيا)(‪)7‬‬ ‫ّ‬
‫وغيره ا من األي ام‪ ،‬ف احرص ـ أيه ا المري د الص ادق ـ على أداء م ا ق درت‬
‫منها‪ ،‬وإياك أن تدخل هواك أو عقلك في ذل ك‪ ،‬وق د روي أن اإلم ام الص ادق ق ال‪:‬‬
‫(كان أبي يقول‪( :‬ما من أحد أبغض إلى هللا ع ّز وج ّل من رجل يقال له‪ :‬كان رس ول‬
‫هللا ‪ ‬يفعل ك ذا وك ذا‪ ،‬فيق ول‪ :‬ال يع ّذبني هللا على أن أجته د في الص الة والص وم‬
‫أن رسول هللا ‪ ‬ترك شيئا من الفضل عجزا عنه)(‪)8‬‬ ‫كأنّه يرى ّ‬

‫‪ )(1‬الفقيه ص ‪.170‬‬
‫‪ )(2‬الكافي ج ‪ 4‬ص ‪.88‬‬
‫‪ )(3‬الفقيه ص ‪.170‬‬
‫‪ )(4‬الفقيه ص ‪.170‬‬
‫‪ )(5‬الفقيه ص ‪.170‬‬
‫‪ )(6‬عيون االخبار ج ‪ 2‬ص ‪.118‬‬
‫‪)(7‬صحيفة الرضا ص‪.12‬‬
‫‪ )(8‬الكافي ج ‪ 4‬ص ‪.90‬‬
‫‪274‬‬
‫المجاهدة الكبرى‬
‫كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن مجاه دة النفس‪ ،‬وكيفيته ا‪،‬‬
‫وعالقتها بالتزكية والترقي ة‪ ،‬وكيفي ة ال رد على أولئ ك ال ذين يس تدلون بم ا ورد في‬
‫النصوص المقدسة من حنيفية الدين وسماحته ورفع الحرج على بدعية المجاهدة‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن مجاه دة النفس هي مدرس ة من‬
‫م دارس التزكي ة والترقي ة الك برى؛ فتل ك الم راتب الرفيع ة ال تي يناله ا من ه ذبوا‬
‫أنفس هم وأدبوه ا وملؤوه ا بأص ناف المك ارم ال يمكن أن يناله ا الكس الى‪ ،‬وال‬
‫المقعدون‪ ،‬وال أصحاب الهمم الدنية‪ ،‬ب ل هي مخصص ة لل ذين جاه دوا أنفس هم في‬
‫ذات هللا‪ ،‬ح تى النت لهم‪ ،‬وأص بحت ط وع أي ديهم؛ ال تح ركهم الش هوات‪ ،‬وال‬
‫تستفزهم األهواء‪.‬‬
‫ولذلك أخبر هللا تعالى أن هدايته الشاملة مخصصة للذين جاه دوا أنفس هم في‬
‫سبيله‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هللا لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت‪:‬‬
‫‪]69‬‬
‫﴿وأَ َّما َم ْن خَ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه‬ ‫وأخبر عن جزاء من عارض هواه وجاهده‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫س ع َِن ْالهَ َوى (‪ )40‬فَإِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي ْال َمأْ َوى﴾ [النازعات‪]41 ،40 :‬‬ ‫َونَهَى النَّ ْف َ‬
‫وذلك ال يعارض ما ورد في النصوص المقدس ة من رف ع الح رج؛ كم ا ق ال‬
‫تعالى‪﴿ :‬طه (‪َ )1‬ما أَ ْنزَ ْلنَا َعلَ ْيكَ ْالقُرْ آنَ لِت َْش قَى﴾ [ط ه‪ ،]2 ،1 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬م ا ي ُِري ُد هللا‬
‫ج َولَ ِك ْن ي ُِري ُد لِيُطَه َِّر ُك ْم َولِيُتِ َّم نِ ْع َمتَ هُ َعلَ ْي ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم ت َْش ُكرُونَ ﴾‬
‫لِيَجْ َع َل َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن َح َر ٍ‬
‫[المائدة‪ ،]6 :‬ذلك أن لكليهما محله الخاص به‪.‬‬
‫فمن ك ان مه ذب النفس‪ ،‬طيب األخالق‪ ،‬منق ادا ألحك ام الش ريعة بظ اهره‬
‫وباطنه؛ فإنه ال يشعر بأي ح رج في أي عم ل يق وم ب ه‪ ،‬وال يحت اج لمجاه دة نفس ه‬
‫لذلك‪ ،‬بل إنه قد يتلذذ به‪ ،‬ويشعر بالسعادة أثناء أدائه‪.‬‬
‫أما من عداه‪ ،‬ممن لم تتهذب نفسه‪ ،‬ولم تتأدب؛ فإنه يحتاج إلى مجاه دتها إلى‬
‫أن تستقيم حالها‪ ،‬وتتعود على السلوك الصحيح‪ ،‬وحينها ترتف ع الكلف ة‪ ،‬ويص بح م ا‬
‫كان شاقا أمرا يسيرا سهال ال حرج فيه‪.‬‬
‫ولذلك جمع هللا تعالى بين المجاه دة ورف ع الح رج‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬و َجا ِه دُوا فِي هللا‬
‫ج﴾ [الحج‪]78 :‬‬ ‫ِّين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫ق ِجهَا ِد ِه ه َُو اجْ تَبَا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي الد ِ‬‫َح َّ‬
‫ذل ك أن رف ع الح رج‪ ،‬ال يع ني اتب اع األه واء‪ ،‬أو ت رك النفس وش هواتها‬
‫ورعوناته ا‪ ،‬وإنم ا يع ني ع دم مقاوم ة الفط رة األص لية‪ ،‬أم ا م ا اس تجد عليه ا‪،‬‬
‫وأفسدها؛ فإنه ال يمكن أن يهتدي اإلنس ان‪ ،‬وال أن يس ير في درب الص الحين م ا لم‬
‫يقاوم ذلك‪ ،‬ويجاهده إلى أن يصبح طبيعة فيه‪.‬‬
‫وأنت ترى ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ في ك ل ش يء‪ ..‬فص احب العض الت‬
‫الضعيفة‪ ،‬يحتاج إلى رياضات شديدة حتى يقوي عضالته‪ ..‬وال ذي يري د أن يكس ب‬
‫‪275‬‬
‫ماال كثيرا يحتاج إلى جهود تتوافق مع همته‪ ..‬والذي يريد أن يصير عالما أو باحث ا‬
‫يصل الليل بالنهار إلى أن يحقق ما تهفو إليه نفسه‪..‬‬
‫وهكذا األمر بالنسبة للتزكية والترقية؛ فإن ه ال يمكن أن ينالهم ا إال من جاه د‬
‫نفسه‪ ،‬ولم يتبع أهواءه‪ ،‬وإنما اس تعمل ك ل الط رق المش روعة ح تى يتحق ق بالمث ل‬
‫العليا‪ ،‬وح تى ت رتقي نفس ه إلى تل ك الم راتب الرفيع ة ال تي وص ل إليه ا أص حاب‬
‫النفوس المطمئنة‪.‬‬
‫ولذلك ورد في الح ديث التعب ير عن جه اد النفس بكون ه الجه اد األك بر‪ ،‬فق د‬
‫روي أن رسول هللا ‪ ‬بعث سريَّة‪ ،‬فلما رجع وا ق ال‪( :‬مرحب ا ً بق وم قض وا الجه اد‬
‫األصغر‪ ،‬وبقي عليهم الجه اد األك بر)‪ ،‬قي ل‪ :‬ي ا رس ول وم ا الجه اد األك بر؟ ق ال‪:‬‬
‫(جهاد النفس)‪ ،‬ثم قال‪( :‬أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال رسول هللا ‪( :‬ليس الشديد بالصرعة‪ ،‬إنما الشديد الذي‬
‫يملك نفسه عند الغضب)(‪ ،)2‬وهو يدل على أنه ال يمكن ألي إنسان أن يتحلى بالعفو‬
‫والحلم ما لم يجاهد نفسه على ذلك‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن لجهاد النفس مرتبتين‪:‬‬
‫أوالهما ترتبط بتزكية النفس من المثالب والرعون ات واألخالق الس يئة ال تي‬
‫تكتسبها من بيئتها أو محيطها أو أهوائها وشيطانها‪.‬‬
‫وثانيهما ترتبط بترقيتها وتحقيقها باألخالق العالية والروحانية السامية‪.‬‬
‫مجاهدة التزكية‪:‬‬
‫أما مجاهدة التزكية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مقاوم ة تل ك التزيين ات ال تي‬
‫تنحرف بالنفس عن طبيعتها وفطرتها الس ليمة؛ وتص حيح مس ارها ال ذي خلقه ا هللا‬
‫عليه‪ ،‬حتى تعود نقية إلى بارئة سليمة من كل الكدورات التي قد تلطخها‪.‬‬
‫س َع ِن‬ ‫وقد أش ار إلى ذل ك قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأَ َّما َم ْن خَ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه َونَهَى النَّ ْف َ‬
‫ْالهَ َوى (‪ )40‬فَإِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي ْال َمأْ َوى﴾ [النازعات‪]41 ،40 :‬‬
‫والمراد ب الهوى هن ا ك ل تل ك األوه ام ال تي تتلبس ب النفس نتيج ة لوس اوس‬
‫ش ياطين اإلنس والجن‪ ،‬وم ا يص احبها من رغب ات داخلي ة‪ ،‬ت وفر القابلي ة لتل ك‬
‫الوساوس‪.‬‬
‫ولذلك؛ فإن محو مصدر تلك األهواء‪ ،‬وتص حيح تل ك الرغب ات‪ ،‬يحت اج إلى‬
‫مقاومة شديدة‪ ،‬وجهاد ال يقل عن الجهاد الذي يقاوم به الظالمون والمستكبرون‪ ..‬بل‬
‫إن الجهاد الثاني ال يمكن أن يتحقق ما لم يكن يصاحبه الجهاد األول‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن القرآن الكريم ينسب كل الجرائم البشعة إلى النفس بسبب استسالم‬
‫َت لَ هُ نَ ْف ُس هُ قَ ْت َل أَ ِخي ِه‬
‫صاحبها ألهوائها‪ ،‬كما قال تعالى في قصة اب ني آدم‪﴿:‬فَطَ َّوع ْ‬
‫فَقَتَلَهُ فَأَصْ بَ َح ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ (‪( ﴾)30‬المائدة)‬

‫‪ )(1‬معاني االخبار ‪ ،160‬أمالي الصدوق ‪.279‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪276‬‬
‫وهكذا اعتبر هللا تعالى البخل هزيمة لإلنسان م ع نفس ه‪ ،‬فق ال‪﴿:‬فَ اتَّقُوا هللا َم ا‬
‫ك هُ ُم‬ ‫ق ُش َّح نَ ْف ِس ِه فَأُولَئِ َ‬ ‫ا ْستَطَ ْعتُ ْم َوا ْس َمعُوا َوأَ ِطيعُوا َوأَ ْنفِقُوا خَ ْي رًا أِل َ ْنفُ ِس ُك ْم َو َم ْن يُ و َ‬
‫ْال ُم ْفلِحُونَ (‪( ﴾)16‬التغابن)‬
‫واعت بر النفس هي ال تي ت زين لإلنس ان وتدفع ه لالرت داد عن ال دين وس وء‬
‫ي ال ذي أض ل المؤم نين بت وجيههم لعب ادة‬ ‫التعامل مع قضاياه‪ ،‬كم ا حص ل للس امر ّ‬
‫ت بِ َم ا لَ ْم‬ ‫ص رْ ُ‬ ‫خَطبُكَ يَا َس ا ِم ِريُّ (‪ )95‬قَ ا َل بَ ُ‬ ‫ال فَ َما ْ‬ ‫عجل صنعه من الحل ّي‪ ،‬فقال‪﴿:‬قَ َ‬
‫ت لِي نَف ِس ي (‪﴾)96‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ُول فَنَبَذتُهَا َو َك َذلِكَ َس َّولَ ْ‬ ‫ْضةً ِم ْن أَثَ ِر ال َّرس ِ‬ ‫ت قَب َ‬ ‫صرُوا بِ ِه فَقَبَضْ ُ‬ ‫يَ ْب ُ‬
‫(طه)‬
‫واعتبر أهواء النفس وراء ما يحصل من مخالفة لألنبياء ومن اعت داء عليهم‪،‬‬
‫فقال‪﴿ :‬فَ ُكلَّ َما َجا َء ُك ْم َرسُو ٌل بِ َما اَل تَه َْوى أَ ْنفُ ُس ُك ُم ا ْستَ ْكبَرْ تُ ْم فَفَ ِريقًا َك َّذ ْبتُ ْم َوفَ ِريقًا تَ ْقتُلُونَ‬
‫(‪( ﴾)87‬البقرة)‬
‫واعتبر ما فعله إخوة نبي هللا يوسف علي ه الس الم من تل ك الجريم ة النك راء‬
‫ال بَ لْ‬ ‫نتيجة النحراف نفسي أصابهم‪ ،‬فقال على لسان أبيهم يعقوب عليه الس الم‪﴿:‬قَ َ‬
‫َص فُونَ (‪﴾)18‬‬ ‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل َوهللا ْال ُم ْس تَ َعانُ َعلَى َم ا ت ِ‬ ‫ت لَ ُك ْم أَ ْنفُ ُس ُك ْم أَ ْم رًا فَ َ‬ ‫َس َّولَ ْ‬
‫(يوسف)‬
‫واعتبر الحسد حالة مرضية نفسية بين األف راد أو األمم والمجتمع ات‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ب لَوْ يَ ُر ُّدونَ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد إِي َم انِ ُك ْم ُكفَّارًا َح َس دًا ِم ْن ِع ْن ِد أَ ْنفُ ِس ِه ْم‬ ‫﴿ َو َّد َكثِي ٌر ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَا ِ‬
‫ْ‬
‫اص فَحُوا َحتَّى يَ أتِ َي هللا بِ أ َ ْم ِر ِه إِ َّن هللا َعلَى ُك لِّ‬ ‫ق فَ ا ْعفُوا َو ْ‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد َم ا تَبَيَّنَ لَهُ ُم ْال َح ُّ‬
‫َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر (‪( ﴾)109‬البقرة)‬
‫ال الَّ ِذينَ اَل يَرْ جُونَ‬ ‫فقال‪﴿:‬وقَ َ‬
‫َ‬ ‫واعتبر التكبر مرضا يعشعش في أرجاء النفس‪،‬‬
‫اس تَ ْكبَرُوا فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َو َعتَ وْ ا ُعتُ ًّوا‬ ‫لِقَا َءنَا لَوْ اَل أُ ْن ِز َل َعلَ ْينَا ْال َماَل ئِ َكةُ أَوْ ن ََرى َربَّنَا لَقَ ِد ْ‬
‫َكبِيرًا (‪( ﴾)21‬الفرقان)‬
‫واعتبر اإلعراض عن دين هللا ورسالة األنبياء إنم ا ينش أ من حال ة انح راف‬
‫نفسي يطلق عليه (س فاهة)‪ ،‬فق ال‪َ ﴿:‬و َم ْن يَ رْ َغبُ ع َْن ِملَّ ِة إِ ْب َرا ِهي َم إِاَّل َم ْن َس فِهَ نَ ْف َس هُ‬
‫َولَقَ ِد اصْ طَفَ ْينَاهُ فِي ال ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي اآْل ِخ َر ِة لَ ِمنَ الصَّالِ ِحينَ (‪( ﴾)130‬البقرة)‬
‫وبن اء على ذل ك كل ه‪ ،‬ف إن هللا تع الى ـ كم ا ينص ر من يجاه دون أع داءهم‬
‫وظالميهم ـ ينصر من يجاهدون أنفس هم في س بيله لته ذيبها وتربيته ا‪ ،‬وق د ورد في‬
‫الحديث القدسي‪ ،‬يقول هللا ع ّز وجلّ‪( :‬وع ّزتي وجاللي وعظمتي وكبريائي ون وري‬
‫شتت أمره‪ ،‬ولبّست علي ه دني اه‪ ،‬وش غلت‬ ‫ّ‬ ‫وعلوّي‪ ،‬ال يؤثر عبد هواه على هواي إال‬
‫قلب ه به ا‪ ،‬ولم أوت ه منه ا إال م ا ق ّدرت ل ه‪ ،‬وع زتي وجاللي وعظم تي وكبري ائي‬
‫ون وري وعل وّي‪ ،‬ال ي ؤثر عب د ه واي على ه واه إال اس تحفظته مالئك تي‪ ،‬وكفلت‬
‫السماوات واألرض رزقه‪ ،‬وكنت له من وراء تجارة ك ل ت اجر‪ ،‬وأتت ه ال دنيا وهي‬
‫راغمة)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،67/79 :‬وعدة الداعي‪.‬‬


‫‪277‬‬
‫وقال رسول هللا ‪ُ ( :‬حفّت الجنة بالمكاره‪ ،‬و ُحفّت النار بالشهوات‪ ،‬واعلموا‬
‫أنه ما من طاعة هللا شيء إال يأتي في ُكره‪ ،‬وما من معص ية هللا ش يء إال ي أتي في‬
‫إن ه ذه النفس أبع د‬ ‫شهوة‪ ،‬فرحم هللا رجال ن زع عن ش هوته‪ ،‬وقم ع ه وى نفس ه‪ ،‬ف ّ‬
‫أن‬‫شيء منزعا‪ ،‬وإنه ا ال ت زال ت نزع إلى معص ية في ه وى‪ ..‬واعلم وا عب اد هللا‪ّ ..‬‬
‫الم ؤمن ال يمس ي وال يص بح إال ونفس ه ظن ون عن ده‪ ،‬فال ي زال زاري ا عليه ا‪،‬‬
‫ومس تزيدا له ا‪ ،‬فكون وا كالس ابقين قبلكم‪ ،‬والماض ين أم امكم‪ ،‬قوّض وا من ال دنيا‬
‫تقويض الراحل‪ ،‬وطووها طي المنازل)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬ل ّما خلق هللا الجنّة قال لجبريل‪ :‬اذهب فانظر إليها‪ ،‬فذهب فنظر إليها‪،‬‬
‫ث ّم جاء‪ ،‬فقال‪ :‬أي ربّ ‪ ،‬وع ّزتك ال يسمع به ا أح د إاّل دخله ا‪ ،‬ث ّم حفّه ا بالمك اره‪ ،‬ث ّم‬
‫ق ال‪ :‬ي ا جبري ل‪ ،‬اذهب ف انظر إليه ا‪ ،‬ف ذهب فنظ ر إليه ا‪ ،‬ث ّم ج اء فق ال‪ :‬أي ربّ ‪،‬‬
‫وع ّزتك‪ ،‬لقد خشيت أن ال يدخلها أحد)‪ ،‬فل ّما خل ق هللا النّ ار ق ال‪ :‬ي ا جبري ل‪ ،‬اذهب‬
‫فانظر إليها‪ ،‬فذهب فنظر إليها‪ ،‬ث ّم جاء فق ال‪ :‬أي ربّ ‪ ،‬وع ّزت ك‪ ،‬ال يس مع به ا أح د‬
‫فيدخلها‪ ،‬فحفّها بال ّشهوات‪ ،‬ث ّم قال‪ :‬يا جبريل‪ ،‬اذهب فانظر إليها‪ ،‬فذهب فنظر إليها‪،‬‬
‫زتك‪ ،‬لقد خشيت أاّل يبقى أحد إاّل دخلها)(‪)2‬‬ ‫ث ّم جاء فقال‪ :‬أي ربّ ‪ ،‬وع ّ‬
‫وقال‪( :‬من أكل ما يشتهي‪ ،‬لم ينظر هللا إليه حتى ينزع أو يترك)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود لم يره)(‪)4‬‬
‫وقال اإلمام الص ادق‪( :‬اح ذروا أه واءكم كم ا تح ذرون أع داءكم فليس ش ئ‬
‫أعدى للرجال من اتباع أهوائهم‪ ،‬وحصائد ألسنتهم) (‪)5‬‬
‫ولهذا ـ مثلما تظهر الشجاعة في مواجهة الظالمين ـ تظهر أيضا في مواجه ة‬
‫أهواء النفس‪ ،‬وقد قال اإلمام علي‪( :‬أشجع الناس من غلب هواه)(‪)6‬‬
‫(إن أخوف ما أخ اف عليكم ط ول األم ل‪ ،‬واتب اع اله وى؛ فأم ا ط ول‬ ‫وقال‪ّ :‬‬
‫وإن ال دنيا ق د ت ولّت‬
‫األمل فينسي اآلخرة‪ ،‬وأما اتب اع اله وى فيص د عن الح ق‪..‬أال ّ‬
‫مدبرة‪ ،‬واآلخرة قد أقبلت مقبلة‪ ،‬ولكل واحدة منهما بنون‪ ،‬فكون وا من أبن اء اآلخ رة‬
‫فإن اليوم عمل وال حساب‪ ،‬واآلخ رة حس اب وال عم ل)‬ ‫وال تكونوا من أبناء الدنيا‪ّ ،‬‬
‫(‪)7‬‬
‫شهوته)(‪)8‬‬
‫وقال‪( :‬من كرمت عليه نفسه هانت عليه‬
‫وقد ذكر بعض الحكماء كيفية ممارسة هذا النوع من المجاهدة‪ ،‬فقال‪( :‬جاه د‬
‫نفسك بأسياف الرّياضة‪ .‬والرّياضة على أربعة أوجه‪ :‬الق وت من الطّع ام‪ ،‬والغمض‬

‫‪ )(1‬نهج البالغة‪ ،‬رقم ‪.174‬‬


‫‪ )(2‬أبو داود(‪ )4744‬والترمذي(‪ )2563‬وأصله في الصحيحين‪ ،‬انظر صحيح مسلم رقم(‪)2823 ،2822‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،67/78 :‬والتحميص‪.‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،67/74 :‬والخصال ‪.1/5‬‬
‫‪ )(5‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.335‬‬
‫‪)(6‬معاني األخبار ص‪.195‬‬
‫‪)(7‬أمالي الطوسي ‪.1/117‬‬
‫‪ )(8‬نهج البالغة‪ ،‬رقم ‪.449‬‬
‫‪278‬‬
‫من المنام‪ ،‬والحاجة من الكالم‪ ،‬وحمل األذى من جميع األنام‪ ،‬فيتولّد من قلّة الطّع ام‬
‫الس المة من‬ ‫الش هوات‪ ،‬ومن قلّ ة المن ام ص فو اإلرادات‪ ،‬ومن قلّ ة الكالم ّ‬ ‫م وت ّ‬
‫اآلف ات‪ ،‬ومن احتم ال األذى البل وغ إلى الغاي ات‪ .‬وليس على العب د ش يء أش ّد من‬
‫الش هوات‬ ‫والص بر على األذى‪ ،‬وإذا تح رّكت من النّفس إرادة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحلم عن د الجف اء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واآلث ام‪ ،‬وه اجت منه ا حالوة فض ول الكالم ج رّدت س يوف قل ة الطع ام من غم د‬
‫التّهجّد وقلّ ة المن ام‪ ،‬وض ربتها بأي دي الخم ول وقلّ ة الكالم‪ ،‬حتّى تنقط ع عن الظّلم‬
‫واالنتقام‪ ،‬فتأمن من بوائقها من بين سائر األنام‪ ،‬وتصفّيها من ظلمة شهواتها فتنج و‬
‫من غوائل آفاتها‪ ،‬فتصير عند ذلك نظيفة ونوريّة خفيفة روحانيّة‪ ،‬فتجول في مي دان‬
‫الخيرات‪ ،‬وتسير في مسالك الطّاعات‪ ،‬كالفرس الفاره في الميدان وكالمل ك المت ن ّزه‬
‫في البستان)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬أعداء اإلنس ان ثالث ة‪ :‬دني اه‪ ،‬وش يطانه‪ ،‬ونفس ه‪ ،‬ف احترس من ال ّدنيا‬
‫شهوات)(‪)2‬‬ ‫بال ّزهد فيها‪ ،‬ومن ال ّشيطان بمخالفته‪ ،‬ومن النّفس بترك ال ّ‬
‫وهذا ال يعني أن هذه الطرق متناسبة مع الن اس جميع ا‪ ،‬ب ل تختل ف النف وس‬
‫فيها‪ ،‬بحسب المثالب التي تتصف بها‪ ،‬وقد ذكر ذلك بعض الحكماء‪ ،‬فق ال‪( :‬طري ق‬
‫المجاهدة والرّياضة لك ّل إنس ان تختل ف بحس ب اختالف أحوال ه‪ .‬واألص ل في ه أن‬
‫يترك ك ّل واحد ما ب ه فرح ه من أس باب ال ّدنيا‪ ،‬فالّ ذي يف رح بالم ال‪ ،‬أو بالج اه‪ ،‬أو‬
‫بالقبول في الوعظ‪ ،‬أو ب الع ّز في القض اء والوالي ة‪ ،‬أو بك ثرة األتب اع في التّ دريس‬
‫واإلفادة‪ ،‬فينبغي أن يترك أوّال ما به فرحه‪ ،‬فإنّه إن منع عن شيء من ذلك وقيل له‪:‬‬
‫ثوابك في اآلخرة لم ينقص بالمنع‪ ،‬فكره ذلك وتألّم به فه و م ّمن ف رح بالحي اة ال ّدنيا‬
‫واطمأن بها‪ ،‬وذلك مهلك في حقّه‪ .‬ث ّم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل النّاس‪ ،‬ولينفرد‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وليترص د لم ا‬ ‫بنفسه‪ ،‬وليراقب قلبه‪ ،‬حتّى ال يشتغل إاّل بذكر هللا تعالى والفك ر في ه‪.‬‬
‫إن لك ّل وسوس ة‬ ‫يبدو في نفسه من شهوة ووسواس‪ ،‬حتّى يقمع مادتّه مهما ظه ر‪ ،‬ف ّ‬
‫سببا‪ ،‬وال تزول إاّل بقطع ذلك السّبب والعالقة‪ .‬وليالزم ذلك بقيّة العمر فليس للجهاد‬
‫آخر إاّل بالموت)(‪)3‬‬
‫وه و ال يع ني باالنقط اع عن الن اس أو العزل ة عنهم‪ ،‬العزل ة الدائم ة؛ ف ذلك‬
‫منهي عنه‪ ،‬وإنما أراد بها العزلة المؤقتة التي يحتاج السالك إليها كل حين لمراجع ة‬
‫نفسه وسلوكه‪ ،‬حتى ال يتسرب إليه من الطباع ما يخالف الفطرة السليمة‪.‬‬
‫مجاهدة الترقية‪:‬‬
‫أما مجاهدة الترقية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي ب ذل الجه د في ممارس ة ك ل‬
‫الوس ائل ال تي أمرن ا هللا تع الى باس تعمالها للتحق ق ب األخالق العالي ة‪ ،‬والروحاني ة‬
‫السامية‪ ..‬ذلك أن عاقبة تلك المجاهدات عظيمة جدا‪ ،‬وقد قال تع الى في فض ل قي ام‬
‫َاشئَةَ اللَّ ْي ِل ِه َي أَ َش ُّد َو ْ‬
‫طئًا َوأَ ْق َو ُم قِياًل ﴾ [المزمل‪]6 :‬‬ ‫الليل‪﴿ :‬إِ َّن ن ِ‬
‫‪ )(1‬الكالم ليحي بن معاذ الرازي‪ ،‬إحياء علوم الدين(‪)66 /3‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين(‪)71 /3‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين(‪)69 -67 /3‬‬
‫‪279‬‬
‫ويش ير إليه ا م ا رواه بعض أص حاب رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪ :‬كنت أبيت م ع‬
‫رس ول هللا ‪ ،‬فآتي ه بوض وئه وبحاجت ه‪ ،‬فق ال لي‪ :‬اس ألني‪ ،‬فقلت‪ :‬إني أس ألك‬
‫مرافقتك في الجنة‪ ،‬قال‪ :‬أو غير ذلك‪ ،‬قلت‪ :‬هو ذاك‪ ،‬قال‪( :‬فأعني على نفسك بكثرة‬
‫السجود) (‪)1‬‬
‫فالنبي ‪ ‬نبه هذا الصحابي إلى أن تلك المرتب ة الرفيع ة ال تي طلب التحق ق‬
‫بها‪ ،‬ال يمكن أن ينالها بالدعاء‪ ،‬وال بالشفاعة المجردة‪ ،‬وإنما تقتضي منه مجاه دات‬
‫نفسية‪ ،‬تجعله يكثر من السجود وذكر هللا‪.‬‬
‫ولهذا قرن هللا تعالى بين قيام الليل‪ ،‬والمق ام المحم ود‪ ،‬فق ال مخاطب ا رس وله‬
‫ك َع َسى أَ ْن يَ ْب َعثَكَ َربُّكَ َمقَا ًم ا َمحْ ُم ودًا﴾ [اإلس راء‪:‬‬ ‫‪َ ﴿ :‬و ِمنَ اللَّي ِْل فَتَهَ َّج ْد بِ ِه نَافِلَةً لَ َ‬
‫‪]79‬‬
‫وه و يش ير إلى أن ت رقي النفس من درج ة دني ا إلى درج ة علي ا يحت اج إلى‬
‫الكثير من المجاهدات‪ ،‬والتي يس تعان على أدائه ا بالص بر‪ ،‬ول ذلك ق رن هللا تع الى‬
‫صب ِْر‬ ‫﴿وا ْستَ ِعينُوا بِال َّ‬
‫الصبر بالصالة‪ ،‬وجعلها وسيلة للهداية الشاملة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫يرةٌ إِاَّل َعلَى ْالخَا ِش ِعينَ ﴾ [البقرة‪]45 :‬‬ ‫صاَل ِة َوإِنَّهَا لَ َكبِ َ‬
‫َوال َّ‬
‫وأخبر ‪ ‬عن دور المجاهدة في الخروج من كل الم راتب الدني ة‪ ،‬والتحق ق‬
‫الش يطان قع د البن آدم بأطرق ه‪ ،‬قع د في طري ق‬ ‫(إن ّ‬ ‫بك ل الم راتب الس نية‪ ،‬فق ال‪ّ :‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬فقال‪ :‬تسلم وتذر دينك ودين آبائ ك وآب اء آبائ ك؟ فعص اه وأس لم‪ ،‬وقع د ل ه‬
‫بطريق الهجرة‪ ،‬فقال‪ :‬تهاجر وت ذر أرض ك وس ماءك؟ وإنّم ا مث ل المه اجر كمث ل‬
‫الفرس في الطّول‪ ،‬فعصاه فهاجر‪ ،‬ث ّم قعد له بطريق الجهاد‪ ،‬فقال‪ :‬تجاهد؟ فهو جهد‬
‫النّفس والمال‪ ،‬فتقاتل فتقتل‪ ،‬فتنكح الم رأة ويقس م الم ال؟ فعص اه فجاه د‪ ،‬فمن فع ل‬
‫ذلك كان حقّا على هللا أن يدخله الجنّة‪ ،‬وإن غرق كان حقّا على هللا أن يدخله الجنّ ة‪،‬‬
‫أو وقصته دابّته كان حقّا على هللا أن يدخله الجنّة)(‪)2‬‬
‫وهك ذا ن رى رس ول هللا ‪ ‬يص ف الكث ير من أعم ال الخ ير لمن يري دون‬
‫ال ترقي‪ ،‬ففي الح ديث عن بعض أص حاب رس ول هللا ‪ ‬أن ه س أل رس ول هللا ‪‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أخبرني بعمل يدخلني الجنّة ويباعدني من النّار‪ ،‬فقال‪( : :‬لق د‬
‫يس ره هللا علي ه‪ ،‬تعب د هللا‪ ،‬وال تش رك ب ه‬ ‫س ألتني عن عظيم‪ ،‬وإنّ ه ليس ير على من ّ‬
‫شيئا‪ ،‬وتقيم الصّالة‪ ،‬وتؤتي ال ّزكاة‪ ،‬وتصوم رمض ان‪ ،‬وتح ّج ال بيت)‪ ،‬ث ّم ق ال‪( :‬أ ال‬
‫أدلّك على أبواب الخير‪( :‬الصّوم جنّة‪ ،‬والصّدقة تطفىء الخطيئة كم ا يطفىء الم اء‬
‫النّار‪ ،‬وصالة الرّجل من جوف اللّيل شعار الصّالحين)‪ ،‬ث ّم تال قوله تعالى‪﴿ :‬تَت ََجافَى‬
‫ضا ِج ِع يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم خَ وْ فً ا َوطَ َم ًع ا َو ِم َّما َرزَ ْقنَ اهُ ْم يُ ْنفِقُ ونَ (‪ )16‬فَاَل‬ ‫ُجنُوبُهُ ْم َع ِن ْال َم َ‬
‫تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َما أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن قُ َّر ِة أَ ْعي ٍُن َجزَ ا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [الس جدة‪،]17 ،16 :‬‬
‫ث ّم قال‪( :‬أال أخبرك برأس األمر كلّه وعم وده وذروة س نامه؟) ق ال‪ :‬بلى ي ا رس ول‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪ ،)489( )52 /2‬وأبو داود رقم (‪ ،)1320‬والنسائي ‪.227 /2‬‬
‫‪ )(2‬النسائي(‪)22 -21 /6‬‬
‫‪280‬‬
‫هللا‪ ،‬قال‪( :‬رأس األمر اإلسالم‪ ،‬وعموده الصّالة‪ ،‬وذروة سنامه الجهاد)‪ ،‬ث ّم ق ال‪( :‬أ‬
‫ف علي ك‬ ‫ال أخبرك بمالك ذلك كلّه؟)‪ ،‬قال‪ :‬بلى‪ ،‬يا نب ّي هللا‪ ،‬فأخ ذ بلس انه‪ ،‬ق ال‪( :‬ك ّ‬
‫هذا)(‪)1‬‬
‫وهكذا كانت سيرة رسول هللا ‪ ‬العملي ة‪ ،‬فق د روي أن ه ص لّى حتّى تش ققت‬
‫قدماه‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أتصنع هذا‪ ،‬وقد غفر لك ما تق ّدم من ذنبك وما ت أ ّخر؟‬
‫فقال‪( :‬أفال أكون عبدا شكورا)(‪)2‬‬
‫فجاهد نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ بك ثرة ال ذكر وال دعاء والمناج اة‪ ،‬وك ل‬
‫أعمال الخير‪ ،‬وجاهدها في حضور قلب ك م ع هللا‪ ،‬وس ترى كي ف ينقل ك هللا تع الى‪،‬‬
‫وبمقدار صدقك من دركات الغواية إلى درجات الهداية‪ ،‬وكيف يمن عليك بع د ذل ك‬
‫بإزالة كل أنواع التعب والمشقة التي تشعر بها أثناء مجاهدتك‪ ،‬ليب دلك ب دلها حالوة‬
‫تجدها في قلبك‪.‬‬
‫وقد روي عن الكثير من الصالحين من التصريحات م ا ي دل على ذل ك‪ ،‬فق د‬
‫قيل لبعض المداومين على قيام الليل‪ ،‬والحريصين عليه(‪ :)3‬كيف أنت واللّيل؟ ق ال‪:‬‬
‫(ما رأيته قطّ يريني وجهه ث ّم ينصرف وما تأ ّملته بعد)‬
‫وقال آخر‪( :‬أنا واللّيل فرسا رهان مرّة يسبقني إلى الفجر ومرّة يقطع ني عن‬
‫الفكر)‬
‫وقال آخر‪( :‬ساعة أنا فيها بين حالين أفرح بظلمت ه إذا ج اء وأغت ّم بفج ره إذا‬
‫طلع ما ت ّم فرحي به قطّ)‬
‫وقال آخر‪( :‬منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر)‬
‫وقال آخ ر‪( :‬إذا غ ربت الش مس ف رحت ب الظالم لخل وتي ب ربّي وإذا طلعت‬
‫حزنت لدخول الناس عل ّي)‬
‫ألذ من أهل اللهو في لهوهم‪ ،‬ولو ال اللّي ل م ا‬ ‫وقال آخر‪( :‬أهل اللّيل في ليلهم ّ‬
‫أحببت البقاء في ال ّدنيا)‬
‫وقال آخر‪( :‬لو عوّض هللا تعالى أهل اللّيل من ثواب أعمالهم م ا يجدون ه من‬
‫اللّ ّذة لكان ذلك أكثر من أعمالهم)‬
‫وقال آخر‪( :‬ليس في ال ّدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنّة إاّل ما يجده أهل التملّ ق‬
‫في قلوبهم باللّيل من حالوة المناجاة)‬
‫وق ال آخ ر‪( :‬ل ّذة المناج اة ليس من ال ّدنيا‪ ،‬إنّم ا ه و من الجنّ ة أظهره ا هللا‬
‫ألوليائه ال يجدها سواهم)‬
‫ّ‬ ‫اّل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وق ال آخ ر‪( :‬م ا بقي من ل ذات ال دنيا إ ثالث‪ :‬قي ام اللي ل‪ ،‬ولق اء اإلخ وان‬
‫والصالة في جماعة)‬
‫وقال آخر يصف فضل هللا على ه ذا الن وع من المجاه دين ألنفس هم‪ّ :‬‬
‫(إن هللا‬
‫‪ )(1‬الترمذي(‪)2616‬‬
‫‪ )(2‬البخاري [فتح الباري]‪ )4837(8 ،‬ومسلم(‪)2820‬‬
‫‪ )(3‬انظر هذه الروايات في المحجة البيضاء فى تهذيب االحياء‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص‪.398 :‬‬
‫‪281‬‬
‫ينظر باألسحار إلى قلوب المتيقّظين فيملؤها نورا فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير‪،‬‬
‫ث ّم ينتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين)‬
‫وه ذا كل ه فض ل من هللا تع الى على عب اده الص ادقين مع ه‪ ،‬إذ أن ه ال يكتفي‬
‫بمكافأتهم في اآلخرة‪ ،‬وإنما يكافئهم في الدنيا‪ ،‬فضال من ه وكرم ا‪ ،‬وق د روي أن هللا‬
‫(إن لي عبادا من عبادي يحبّوني واحبّهم‪ ،‬ويشتاقون‬ ‫تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه‪ّ :‬‬
‫إل ّي وأشتاق إليهم‪ ،‬ويذكروني وأذك رهم‪ ،‬وينظ رون إل ّي وأنظ ر إليهم‪ ،‬ف إن ح ذوت‬
‫طريقهم أحببتك‪ ،‬وإن عدلت عنهم مقتّك)‪ ،‬قال‪ :‬يا ربّ وما عالمتهم؟ قال‪( :‬يراعون‬
‫الظالل بالنهار كما ي راعي ال راعي غنم ه ويحنّ ون إلى غ روب الش مس كم ا ّ‬
‫يحن‬
‫الطير إلى أوكارها‪ ،‬فإذا جنّهم اللّيل واختلط الظالم وخال ك ّل ح بيب بحبيب ه نص بوا‬
‫لي أق دامهم‪ ،‬وافترش وا لي وج وههم‪ ،‬ون اجوني بكالمي وتملّق وني بإنع امي‪ ،‬ف بين‬
‫ص ارخ وب اكي‪ ،‬وبين مت أوّه وش اك‪ ،‬بعي ني م ا يتح ّمل ون من أجلي وبس معي م ا‬
‫يشتكون من حبّي‪ ،‬أوّل ما أعطيهم أقذف من ن وري في قل وبهم فيخ برون عنّي كم ا‬
‫أخبر عنهم‪ ،‬والثاني ة ل و ك انت الس ماوات الس بع واألرض وم ا فيه ا في م وازينهم‬
‫الستقللتها لهم‪ ،‬والثالثة أقبل بوجهي عليهم أ فترى من أقبلت بوجهي عليه أ يعلم أحد‬
‫ما أريد أن أعطيه؟)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)358 /1‬‬


‫‪282‬‬
‫المعاهدة الجازمة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المعاهدات والبيع ات ال تي ورد‬
‫ذكره ا في الق رآن الك ريم‪ ،‬والس نة المطه رة‪ ،‬وإمكاني ة اس تثمارها في التزكي ة‬
‫والترقية‪ ،‬وكيفية ذلك‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن المعاهدات والبيعات وم ا يرتب ط به ا‬
‫مسالك تربوية يمكن استخدامها في تهذيب النفس وترقيتها وإلزامها بم ا تكس ل على‬
‫عمله‪.‬‬
‫ذلك أن أكثر الوسائل التي وضعتها الشريعة للتزكية والترقية ص نفها الفقه اء‬
‫ضمن التطوع ات والنواف ل بن اء على عج ز أك ثر الن اس على أدائه ا‪ ..‬ول ذلك ف إن‬
‫النفس عند مالحظتها لهذا يصيبها الكسل والوهن بخالف المفروض عليها‪..‬‬
‫وله ذا ك ان أحس ن الط رق لتحوي ل بعض تل ك التطوع ات واجب ات القي ام‬
‫بمعاهدات مرتبطة بها‪ ،‬تلزم النفس بها‪ ،‬ألنها تحولت من كونه ا تطوع ا إلى كونه ا‬
‫فريضة‪ ،‬بسبب االلتزام بها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك إلزام النفس بورد قرآني كل يوم‪ ،‬ومثل ه من التهليالت‬
‫والتكبيرات والتسبيحات وأنواع التطوع المرتبط بالصيام والصدقات وغيره ا ع بر‬
‫القيام بمعاهدة تخصها‪ ،‬إما دائمة‪ ،‬أو مرتبطة بزمن معين‪.‬‬
‫فذلك مما يحمي السلوك من المزاجية والتقلب‪ ،‬ذلك أن اإلنسان ق د ينش ط في‬
‫فترة من الفترات‪ ،‬يقوم خاللها بكل أنواع البر‪ ،‬لكنه عند كس له يقع د عنه ا جميع ا‪..‬‬
‫لكنه إذا ما ألزم نفسه يصبح مضطرا لفعلها‪ ،‬وإلى قضائها في حال التقصير‪ ..‬وذلك‬
‫كله مما يساهم في ردع نفسه األمارة‪ ،‬وإمداد نفسه اللوامة بم ا يعينه ا على التح ول‬
‫إلى نفس مطمئنة‪.‬‬
‫ولذلك وصف هللا تعالى األب رار من عب اده بالوف اء بالن ذر‪ ،‬وه و ليس س وى‬
‫شكل من أشكال المعاهدات‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬ع ْينً ا يَ ْش َربُ بِهَ ا ِعبَ ا ُد هللا يُفَجِّ رُونَهَ ا‬
‫تَ ْف ِجيرًا (‪ )6‬يُوفُونَ بِالنَّ ْذ ِر َويَخَافُونَ يَوْ ًما َكانَ َشرُّ هُ ُم ْستَ ِطيرًا﴾ [اإلنسان‪]7 ،6 :‬‬
‫وذل ك ال يقتص ر على النواف ل والتطوع ات فق ط‪ ،‬ب ل يتع داها إلى الف رائض‬
‫والمحرمات‪ ،‬ذلك أن النفس األم ارة ق د تقتحم ح دود هللا من حيث ال تش عر‪ ،‬فل ذلك‬
‫تحتاج إلى منبه ينبهها‪ ،‬ولذلك أم ر هللا تع الى رس ول هللا ‪ ‬بأخ ذ البيع ة في أمث ال‬
‫ك َعلَى أَ ْن اَل‬ ‫ك ْال ُم ْؤ ِمنَ ُ‬
‫ات يُبَايِ ْعنَ َ‬ ‫تلك المسائل‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّبِ ُّي إِ َذا َج ا َء َ‬
‫ْر ْقنَ َواَل يَ ْزنِينَ َواَل يَ ْقتُ ْلنَ أَوْ اَل َده َُّن َواَل يَأْتِينَ بِبُ ْهت ٍ‬
‫َان يَ ْفت َِرينَ هُ‬ ‫يُ ْش ِر ْكنَ بِاهلل َش ْيئًا َواَل يَس ِ‬
‫اس تَ ْغفِرْ لَه َُّن هللا إِ َّن هللا‬‫ُوف فَبَ ايِ ْعه َُّن َو ْ‬
‫ْص ينَكَ فِي َم ْع ر ٍ‬ ‫بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه َّن َوأَرْ ُجلِ ِه َّن َواَل يَع ِ‬
‫َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [الممتحنة‪]12 :‬‬
‫فقد كانت تلك المحرم ات ال تي ذكرته ا اآلي ة الكريم ة متفش ية في الجاهلي ة‪،‬‬
‫لذلك طولب النساء بالبيعة ومعاهدة هللا على اجتنابها‪.‬‬
‫‪283‬‬
‫ولم تكن أمثال تلك البيعة خاصة بالنساء‪ ،‬بل ورد في الس نة المطه رة الكث ير‬
‫من أمثاله ا مم ا يتعل ق بالرج ال والنس اء جميع ا‪ ،‬ومن أمثلته ا م ا ح دث ب ه بعض‬
‫أصحاب رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬بايعنا النبي ‪ ‬على مثل ما بايع عليه النس اء‪ ،‬من‬
‫مات منا ولم يأت شيئا منهن ضمن له الجنة‪ ،‬ومن مات منا وقد أتى ش يئا منهن وق د‬
‫أقيم عليه الحد فهو كفارة‪ ،‬ومن م ات من ا وق د أتى ش يئا منهن فس تر علي ه فعلى هللا‬
‫حسابه) (‪)1‬‬
‫وعنه قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬اشترط علي فأنت أعلم بالشرط‪ .‬قال‪( :‬أبايع ك‬
‫على أن تعبد هللا وحده ال تشرك به شيئا‪ ،‬وتقيم الصالة‪ ،‬وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتنصح لكل‬
‫مسلم‪ ،‬وتبرأ من الشرك)(‪)2‬‬
‫وقال هذا الصحابي بعد ذلك‪ ،‬مخبرا عن ت أثير البيع ة علي ه‪( :‬ب ايعت رس ول‬
‫هللا ‪ ‬بيدي هذه على اإلسالم واشترط علي النصح لكل مسلم‪ ،‬ف ورب الكعب ة‪ ،‬إني‬
‫لكم ناصح أجمعين) (‪)3‬‬
‫وحدث صحابي آخر قال‪ :‬أتيت رسول هللا ‪ ‬ألبايعه‪ ،‬فقلت‪ :‬عالم تبايعني يا‬
‫رسول هللا؟ فمد رسول هللا ‪ ‬يده قال‪( :‬تش هد أن ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‬
‫وأن محم دا عب ده ورس وله‪ ،‬وتص لي الص لوات الخمس لوقته ا‪ ،‬وت ؤدي الزك اة‬
‫المفروضة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت‪ ،‬وتجاهد في سبيل هللا)‪ .‬قلت‪ :‬يا رس ول‬
‫هللا‪ ،‬كال نطيق إال اثن تين فال أطيقهم ا‪ :‬الزك اة‪ ،‬وهللا م ا لي إال عش ر ذود هن رس ل‬
‫أهلي وحمولتهن‪ .‬وأم ا الجه اد ف إني رج ل جب ان‪ ،‬ويزعم ون أن ه من ولى فق د ب اء‬
‫بغضب من هللا‪ ،‬وأخاف إن حضر القتال أن أخش ع بنفس ي ف أفر ف أبوء بغض ب من‬
‫هللا‪ .‬فقبض رسول هللا ‪ ‬يده ثم حركها‪ ،‬ثم قال‪( :‬يا بش ير‪ ،‬ال ص دقة وال جه اد فبم‬
‫إذن تدخل الجنة؟) قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أبسط يدك أبايعك‪ ،‬فبس ط ي ده فبايعت ه عليهن‬
‫كلهن(‪.)4‬‬
‫وحدث آخر قال‪ :‬كنا عند رسول هللا ‪ ‬تسعة أو ثمانية أو س بعة‪ ،‬فق ال‪( :‬أال‬
‫تبايعون رسول هللا ‪‬؟) فرددها ثالث م رات‪ .‬فق دمنا أي دينا فبايعن ا رس ول هللا ‪‬‬
‫فقلنا‪ :‬يا رسول هللا قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك؟ فقال‪( :‬على أن تعبدوا هللا‪ ،‬وال‬
‫تشركوا به شيئا‪ ،‬والصلوات الخمس‪ ،‬وأن ال تسألوا الناس شيئا)(‪)5‬‬
‫وقد قال ذلك الصحابي مخبرا عن تأثير تلك البيعة في سلوك المبايعين‪( :‬فلقد‬
‫رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يقول ألحد يناوله إياه)‬
‫ووصف صحابي آخر أث ر تل ك البيع ة على بعض من ب ايعوا‪ ،‬فق ال‪( :‬رأيت ه‬
‫بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه وهو راكب‪ ،‬فربما وق ع على ع اتق‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني‪ ،‬حياة الصحابة (‪)279 /1‬‬


‫‪ )(2‬رواه النسائي‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )( 4‬رواه الطبراني في األوسط‪ ،‬وأبو نعيم‪ ،‬والحاكم‪ ،‬والبيهقي‪ ،‬وابن عساكر‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم والرياني‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬وابن عساكر‪.‬‬
‫‪284‬‬
‫فيأخذه) (‪)1‬‬ ‫رجل‪ ،‬فيأخذه الرجل فيناوله‪ ،‬فما يأخذه حتى يكون هو ينزل‬
‫وعن صحابي آخر قال‪ :‬بايعني رسول هللا خمسا‪ ،‬وأوثقني س بعا‪ ،‬وأش هد هللا‬
‫علي سبعا‪ :‬أن ال أخاف في هللا لومة الئم‪ ،‬فدعاني رسول هللا ‪ ‬فقال‪( :‬هل ل ك إلى‬
‫البيعة ولك الجنة؟) قلت‪ :‬نعم‪ ،‬وبس طت ي دي‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪ ‬ـ وه و يش ترط‬
‫علي ‪ -‬أن ال أسأل الناس شيئا قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال‪( :‬وال سوطك إن سقط منك حتى ت نزل‬
‫فتأخ ذه‪ ..‬وأوص يك بتق وى هللا في س ر أم رك وعالنيت ه‪ ،‬وإذا أس أت فأحس ن‪ ،‬وال‬
‫تقبضن أمانة)(‪)2‬‬
‫وغيرها من المعاهدات والبيعات التي وردت في الس نة المطه رة‪ ،‬ب ل أش ار‬
‫إليها القرآن الك ريم‪ ،‬وأخ بر أن إل زام النفس ب العهود والوف اء به ا من ص فات أولي‬
‫ق (‪( ﴾)20‬الرعد)‬ ‫األلباب‪ ،‬فهم ﴿الَّ ِذينَ يُوفُونَ بِ َع ْه ِد هللا َواَل يَ ْنقُضُونَ ْال ِميثَا َ‬
‫وهي من صفات ورثة الفردوس فهم ﴿الَّ ِذينَ هُ ْم أِل َ َمانَاتِ ِه ْم َو َع ْه ِد ِه ْم َرا ُع ونَ (‬
‫‪( ﴾)8‬المؤمنون)‬
‫وهكذا أثنى هللا تعالى على األبرار الذين فهموا حقيقة البر ومارسوها‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ب َولَ ِك َّن ْالبِ َّر َم ْن آ َمنَ بِاهلل َو ْاليَ وْ ِم‬ ‫ق َو ْال َم ْغ ِر ِ‬ ‫ْس ْالبِ َّر أَ ْن تُ َولُّوا ُوجُوهَ ُك ْم قِبَ َل ْال َم ْش ِر ِ‬ ‫﴿لَي َ‬
‫ال َعلَى ُحبِّ ِه َذ ِوي ْالقُ رْ بَى َو ْاليَتَ ا َمى‬ ‫ب َوالنَّبِيِّينَ َوآتَى ْال َم َ‬ ‫اآْل ِخ ِر َو ْال َماَل ئِ َك ِة َو ْال ِكتَ ا ِ‬
‫صاَل ةَ َوآتَى ال َّز َكاةَ َو ْال ُموفُ ونَ‬ ‫ب َوأَقَا َم ال َّ‬ ‫يل َوالسَّائِلِينَ َوفِي الرِّ قَا ِ‬ ‫َو ْال َم َسا ِكينَ َوا ْبنَ ال َّسبِ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫س أولَئِ كَ الَّ ِذينَ‬ ‫الض رَّا ِء َو ِحينَ ْالبَ أ ِ‬ ‫الص ابِ ِرينَ فِي ْالبَأ َس ا ِء َو َّ‬ ‫بِ َع ْه ِد ِه ْم إِ َذا عَاهَ دُوا َو َّ‬
‫ص َدقُوا َوأُولَئِكَ هُ ُم ْال ُمتَّقُونَ (‪( ﴾)177‬البقرة)‬ ‫َ‬
‫بل اعت بر من ب ايع رس ول هللا ‪ ‬وعاه ده مبايع ا هلل ومعاه دا ل ه‪ ،‬فق ال‪﴿:‬إِ َّن‬
‫ث َعلَى نَ ْف ِس ِه‬ ‫ث فَإِنَّ َم ا يَ ْن ُك ُ‬ ‫ق أَ ْي ِدي ِه ْم فَ َم ْن نَ َك َ‬ ‫ك إِنَّ َما يُبَايِعُونَ هللا يَ ُد هللا فَ وْ َ‬ ‫الَّ ِذينَ يُبَايِعُونَ َ‬
‫َظي ًما (‪( ﴾)10‬الفتح)‬ ‫َو َم ْن أَوْ فَى بِ َما عَاهَ َد َعلَ ْيهُ هللا فَ َسي ُْؤتِي ِه أَجْ رًا ع ِ‬
‫ومع الثناء على أهل هللا الموفين بعهد هللا وردت النص وص مخ برة بوج وب‬
‫هذا الوفاء‪ ،‬وأنه ال يقل في وجوبه عن أي وفاء آخ ر‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬يَ ا بَنِي إِ ْس َرائِي َل‬
‫ُون (‬ ‫َّاي فَ ارْ هَب ِ‬ ‫وف بِ َع ْه ِد ُك ْم َوإِي َ‬ ‫ت َعلَ ْي ُك ْم َوأَوْ فُ وا بِ َع ْه ِدي أُ ِ‬ ‫ْاذ ُك رُوا نِ ْع َمتِ َي الَّتِي أَ ْن َع ْم ُ‬
‫‪( ﴾)40‬البقرة)‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫نُ‬ ‫َ‬
‫وقال‪﴿:‬وال تق َربُوا َما َل اليَتِ ِيم إِ بِالتِي ِه َي أحْ َس َحتى يَ ْبلغ أشدهُ َوأوْ فوا الك ْي َل‬ ‫َّ‬ ‫اَّل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َو ْال ِمي َزانَ بِ ْالقِ ْس ِط ال نكل نفسا إِ ُو ْس َعهَا َوإِذا قلت ْم فاع ِدلوا َولوْ كانَ ذا قرْ بَى َوبِ َع ْه ِد‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اَّل‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫فُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫هللا أَوْ فُوا َذلِ ُك ْم َوصَّا ُك ْم بِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ (‪( ﴾)152‬األنعام)‬
‫وقال‪﴿:‬وأَوْ فُوا بِ َع ْه ِد هللا إِ َذا عَاهَ ْدتُ ْم َوال تَ ْنقُضُوا اأْل َ ْي َمانَ بَ ْع َد تَوْ ِكي ِدهَا َوقَ ْد َج َع ْلتُ ُم‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫هللا َعلَ ْي ُك ْم َكفِيال إِن هللا يَ ْعل ُم َما تَف َعلونَ (‪( ﴾)91‬النحل)‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫وقد فهم الرب انيون من اآلي ات الحاض ة على وج وب الوف اء ب العقود أن أول‬
‫العقود هو العقد الذي يجريه العبد م ع رب ه‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا أَوْ فُ وا‬

‫‪ )(1‬أحمد‪ ،‬والنسائي وغيرهما‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد‬
‫‪285‬‬
‫الص ْي ِد َوأَ ْنتُ ْم ُح ُر ٌم إِ َّن‬ ‫بِ ْال ُعقُو ِد أُ ِحلَّ ْ‬
‫ت لَ ُك ْم بَ ِهي َمةُ اأْل َ ْن َع ِام إِاَّل َما يُ ْتلَى َعلَ ْي ُك ْم َغ ْي َر ُم ِحلِّي َّ‬
‫هللا يَحْ ُك ُم َما ي ُِري ُد (‪( ﴾)1‬المائدة)‬
‫فالعقود التي يجب الوف اء به ا ال تتوق ف على عق ود ال بيع والش راء‪ ،‬ب ل تعم‬
‫جميع العقود التي يعقدها العبد مع ربه‪ ،‬عن ابن عباس قال‪( :‬العهود ما أحل هللا وما‬
‫حرم‪ ،‬وما فرض وما حد في القرآن كله‪ ،‬وال تغدروا وال تنكثوا)‬
‫ولهذا كتب رس ول هللا ‪ ‬كتاب ا ً لعم رو ابن ح زم‪ ،‬حين بعث ه إلى اليمن يفق ه‬
‫أهلها ويعلمهم السنّة‪ ،‬ويأخ ذ ص دقاتهم‪ ،‬فكتب ل ه كتاب ا ً وعه داً‪ ،‬وأم ره في ه ب أمره‪،‬‬
‫فكتب‪( :‬بسم هللا الرحمن الرحيم هذا كتاب من هللا ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَوْ فُوا‬
‫بِ ْال ُعقُو ِد‪( ﴾)1(..‬المائدة) عهد من محمد رسول هللا ‪ ‬لعمرو بن ح زم حين بعث ه إلى‬
‫اليمن‪ ،‬أمره بتقوى هللا في أمره كله‪ ،‬فإن هللا مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(‪)1‬‬
‫ومما يبين خطورة هذه المعاهدات ووجوب الوف اء به ا تأكي د الق رآن الك ريم‬
‫ال ْاليَتِ ِيم‬
‫على أن هللا تعالى سيسأل عباده عن هذه العهود‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿:‬وال تَ ْق َربُ وا َم َ‬
‫إِاَّل بِالَّتِي ِه َي أَحْ َسنُ َحتَّى يَ ْبلُ َغ أَ ُش َّدهُ َوأَوْ فُ وا بِ ْال َع ْه ِد إِ َّن ْال َع ْه َد َك انَ َم ْس ؤُوالً (‪﴾)34‬‬
‫وقال‪﴿:‬ولَقَ ْد َكانُوا عَاهَ دُوا هللا ِم ْن قَ ْب ُل ال ي َُولُّونَ اأْل َ ْدبَ ا َر َو َك انَ َع ْه ُد هللا‬ ‫َ‬ ‫(االسراء)‪،‬‬
‫َم ْسؤُوالً (‪( ﴾)15‬األحزاب)‬
‫ومثل ذلك ما أخبر به عن عاقبة ذلك الذي لم يف هلل بعهده‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫الص الِ ِحينَ (‪ )75‬فَلَ َّما‬ ‫َّ‬ ‫﴿ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن عَاهَ َد هللا لَئِ ْن آتَانَا ِم ْن فَضْ لِ ِه لَنَ َّ‬
‫ص َّدقَ َّن َولَنَ ُكون ََّن ِمنَ‬
‫ْرضُونَ (‪ )76‬فَأ َ ْعقَبَهُ ْم نِفَاقً ا فِي قُلُ وبِ ِه ْم إِلَى‬ ‫آتَاهُ ْم ِم ْن فَضْ لِ ِه بَ ِخلُوا بِ ِه َوتَ َولَّوْ ا َوهُ ْم ُمع ِ‬
‫يَوْ ِم يَ ْلقَوْ نَهُ بِ َما أَ ْخلَفُوا هللا َما َو َعدُوهُ َوبِ َما َكانُوا يَ ْك ِذبُونَ ﴾ [التوبة‪]77 - 75 :‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الص ادق ـ ف اعلم أن ه ال يش ترط في المعاه دة أو‬
‫البيعة الحضور الشخصي لرسول هللا ‪ ‬بجسده الشريف‪ ،‬ذلك أنه يمكنك أن تعاهد‬
‫هللا مباشرة‪ ،‬أو يمكنك أن تعاهد أي شخص تثق فيه وفي صالحه وتقواه‪ ..‬ب ل يمكن‬
‫أن تتفق أنت وصديقك على عمل من أعمال الخير وتعاهدان هللا عليه‪..‬‬
‫بل يمكنك إن شئت أن تعاهد رسول هللا ‪ ‬وتبايعه مثلما كان يعاهده ويبايع ه‬
‫أصحابه؛ فجسد رسول هللا ‪ ‬ليس هو المطلوب في البيعة‪ ،‬وإنما روح ه وحقيقت ه‪،‬‬
‫وهما حاضرتان ال تغيبان إال على الغافلين‪ ..‬بل أنت نفس ك تخاطب ه في ك ل ص الة‬
‫وغيرها وتسلم عليه بصيغة المخاطب‪ ،‬وأنت تعلم أنه يسمعك ويرد عليك‪.‬‬
‫وهو ال يعني أن رسول هللا ‪ ‬يسمع سالمك فقط‪ ،‬بل هو يسمع غيره أيضا‪..‬‬
‫فاجعل من ذلك الغير معاهدتك له على االستقامة والصالح‪.‬‬
‫وقد ألف بعض الحكماء كتابا في هذا سماه [ل واقح األن وار القدس ية في بي ان‬
‫العهود المحمدية]‪ ،‬وقد قال في مقدمته‪( :‬اعلم يا أخي أن رسول هللا ‪ ‬لما كان ه و‬
‫الشيخ الحقيقي ألمة اإلجابة كلها‪ ،‬ساغ لنا أن نق ول في ت راجم عه ود الكت اب كله ا‪:‬‬
‫أخذ علينا العهد العام من رسول هللا ‪ ،‬أعني معش ر جمي ع األم ة المحمدي ة‪ ،‬فإن ه‬

‫‪ )(1‬رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‪.‬‬


‫‪286‬‬
‫‪ ‬إذا خاطب الصحابة بأمر أو نهي أو ترغيب أو ت رهيب انس حب حكم ذل ك على‬
‫جميع أمته إلى يوم القيامة‪ ،‬فهو الشيخ الحقيقي لنا)(‪)1‬‬
‫إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن ه ق د ورد في النص وص‬
‫المقدسة نوعان من المعاهدات‪ ،‬إحداهما ترتبط بالنفس‪ ،‬بتزكيتها وتربيتها وترقيتها‪،‬‬
‫والثاني مرتبط باألمة بالحفاظ على وحدتها وعزتها وقوتها‪.‬‬
‫معاهدة التزكية‪:‬‬
‫أم ا المعاه دة األولى‪ ،‬وهي معاه دة التزكي ة؛ فهي ترتب ط بإص الح النفس‬
‫وتهذيبها‪ ،‬ولذلك على المريد الصادق إذا رأى خلال في نفسه أن يسارع لعالجه عبر‬
‫معاهدة يجريها بينه وبين رب ه‪ ،‬يعاه ده فيه ا على أال يك رر ذل ك الخط أ‪ ..‬وإن رأى‬
‫تقص يرا في طاع ة من الطاع ات‪ ،‬راح يب ايع هللا تع الى على االل تزام به ا‪ ..‬وهك ذا‬
‫تصبح البيعة وسيلة إللزام نفسه‪ ،‬مثلم ا ك ان يفع ل رس ول هللا ‪ ‬م ع أص حابه في‬
‫تربيته لهم‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما حدث به بعض أصحاب رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬آخ ر‬
‫ّ‬
‫فأخف بهم الصّالة) (‪)2‬‬ ‫ما عهد إل ّي رسول هللا ‪( :‬إذا أممت قوما‬
‫وعن صحابي آخر قال‪ :‬رأيت رجال يصدر النّاس عن رأيه‪ ،‬ال يقول شيئا إاّل‬
‫صدروا عن ه‪ ،‬قلت‪ :‬من ه ذا؟ ق ال‪ :‬ه ذا رس ول هللا ‪ ،‬قلت‪ :‬أنت رس ول هللا ‪‬؟‬
‫قال‪( :‬أنا رسول هللا الّذي إذا أص ابك ض ّر فدعوت ه كش فه عن ك‪ ،‬وإن أص ابك ع ام‬
‫سنة(‪ )3‬فدعوته أنبتها ل ك وإذا كنت ب أرض قف راء أو فالة فض لّت راحلت ك فدعوت ه‬
‫ر ّدها عليك) قلت‪ :‬اعهد إل ّي‪ ،‬قال‪( :‬ال تس ب ّّن أح دا) ق ال‪ :‬فم ا س ببت بع ده ح رّا وال‬
‫رن ش يئا من المع روف‪ ،‬وأن تكلّم أخ اك‬ ‫عب دا وال بع يرا وال ش اة‪ ،‬ق ال‪( :‬و ال تحق ّ‬
‫الس اق‪،‬‬ ‫إن ذلك من المعروف‪ ،‬وارفع إزارك إلى نص ف ّ‬ ‫وأنت منبسط إليه وجهك‪ّ ،‬‬
‫فإن أبيت فإلى الكعبين‪ ،‬وإيّ اك وإس بال اإلزار‪ ،‬فإنّه ا من المخيل ة‪ّ ،‬‬
‫وإن هللا ال يحبّ‬
‫المخيلة‪ ،‬وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فال تعيّره بم ا تعلم في ه‪ ،‬فإنّم ا وب ال‬
‫ذلك عليه) (‪)4‬‬
‫وعن أ ّم عطيّة قالت‪ :‬أخذ علينا النّب ّي ‪ ‬عند البيعة أن ال ننوح‪ ،‬فما وفت منّا‬
‫امرأة غير خمس نسوة‪ :‬أ ّم سليم‪ ،‬وأ ّم العالء‪ ،‬وابنة أبي سبرة امرأة معاذ‪ ،‬وامرأتين‪،‬‬
‫أو ابنة أبي سبرة‪ ،‬وامرأة معاذ‪ ،‬وامرأة أخرى)(‪)5‬‬
‫وغيرها من الروايات التي سبق أن ذكرت لك بعض ا منه ا‪ ،‬وق د ق ال اإلم ام‬
‫الباقر في فضل ذلك‪( :‬أربع من كن فيه كم ل إس المه ومحص ت عن ه ذنوب ه‪ ،‬ولقي‬
‫ربه عزوجل وهو عن ه راض‪ :‬من وفى هلل عزوج ل بم ا يجع ل على نفس ه للن اس‪،‬‬

‫‪ )(1‬لواقح األنوار القدسية في بيان العهود المحمدية‪ ،‬ص‪.7‬‬


‫‪ )(2‬مسلم(‪)468‬‬
‫‪ )(3‬عام سنة‪ :‬أي عام جدب‪.‬‬
‫‪ )(4‬أبو داود(‪ )4084‬وقال األلباني‪ :‬صحيح‪ ،‬والترمذي(‪)2877‬‬
‫‪ )(5‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ )1306(3‬واللفظ له‪ .‬ومسلم(‪)936‬‬
‫‪287‬‬
‫وصدق لسانه مر الناس‪ ،‬واستحيا من كل قبيح عند هللا وعن د الن اس‪ ،‬وحس ن خلق ه‬
‫مع أهله) (‪)1‬‬
‫معاهدة النصرة‪:‬‬
‫أما المعاهدة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي معاهدة النصرة؛ وهي ترتب ط‬
‫بالج انب االجتم اعي في ال دين‪ ،‬ذل ك أن اختب ارات هللا تع الى لعب اده نوع ان‪ :‬ن وع‬
‫يرتبط بالنفس وعالقتها بربها‪ ..‬ونوع يرتبط بالمجتمع وعالقة النفس به‪.‬‬
‫وال يمكن أن تتحق ق التزكي ة‪ ،‬وال الترقي ة من دون مراع اة كال الن وعين‪،‬‬
‫واإلجابة على كل األسئلة المرتبطة بهما‪ ،‬والنجاح في كل االختبارات التي قد يبتلي‬
‫هللا عباده فيهما‪.‬‬
‫ولذلك كان رسول هللا ‪ ‬ال يكتفي ببيعة أصحابه على تزكية أنفس هم‪ ،‬وإنم ا‬
‫كان يضم إليها بيعتهم ومعاهدتهم على نصرة الدين‪.‬‬
‫وقد أشار هللا تعالى إلى ذلك‪ ،‬وبين فضل من وفى بعهده م ع هللا‪ ،‬وص دق في‬
‫بيعه وشرائه معه‪ ،‬فقال‪﴿:‬إِ َّن هللا ا ْشت ََرى ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ أَ ْنفُ َسهُ ْم َوأَ ْم َوالَهُ ْم بِأ َ َّن لَهُ ُم ْال َجنَّةَ‬
‫يُقَاتِلُونَ فِي َسبِي ِل هللا فَيَ ْقتُلُونَ َويُ ْقتَلُونَ َو ْعدًا َعلَ ْي ِه َحقًّ ا فِي التَّوْ َرا ِة َواإْل ِ ْن ِجي ِل َو ْالقُ رْ آ ِن‬
‫ك هُ َو ْالفَ وْ ُز ْال َع ِظي ُم (‬ ‫َو َم ْن أَوْ فَى بِ َع ْه ِد ِه ِمنَ هللا فَا ْستَ ْب ِشرُوا بِبَي ِْع ُك ُم الَّ ِذي بَايَ ْعتُ ْم بِ ِه َو َذلِ َ‬
‫‪( ﴾)111‬التوبة)‬
‫ص َدقُوا‬ ‫وأبلغ في الثناء على رجال من المؤمنين بقوله‪ِ ﴿:‬منَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ِر َج ا ٌل َ‬
‫ضى نَحْ بَهُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْنت َِظ ُر َو َم ا بَ َّدلُوا تَ ْب ِدياًل (‪)23‬‬ ‫َما عَاهَدُوا هللا َعلَ ْي ِه فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬
‫وب َعلَ ْي ِه ْم إِ َّن هللا َك انَ‬ ‫ب ْال ُمنَافِقِينَ إِ ْن َش ا َء أَوْ يَتُ َ‬ ‫ص ْدقِ ِه ْم َويُ َع ِّذ َ‬
‫ي هللا الصَّا ِدقِينَ بِ ِ‬ ‫لِيَجْ ِز َ‬
‫َغفُورًا َر ِحي ًما (‪( ﴾)24‬األحزاب)‬
‫ومما ورد في سبب نزولها أنها ن زلت في أنس بن النض ر‪ ،‬فق د ح دث بعض‬
‫قرابته عنه قال‪ :‬كان أنس عمي (أنس بن النضر)‪ ،‬لم يش هد م ع رس ول هللا ‪ ‬ي وم‬
‫ب در فش ق علي ه‪ ،‬وق ال‪ :‬أول مش هد ش هده رس ول هللا ‪ ‬غبت عن ه‪ ،‬لئن أراني هللا‬
‫تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول هللا ‪ ‬ل يرين هللا م ا أص نع‪ ،‬ق ال‪ :‬فه اب أن يق ول‬
‫غيرها‪ ،‬فشهد رسول هللا ‪ ‬يوم أُحد‪ ،‬فاستقبل سعد بن معاذ‪ ،‬فق ال ل ه أنس‪( :‬ي ا أب ا‬
‫عمرو أين‪ ،‬واها ً لريح الجنة إني أجده دون أحد)‪ ،‬قال‪ :‬فقاتلهم حتى قتل‪ ،‬قال‪ :‬فوجد‬
‫في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية‪ ،‬فقالت أخته عم تي الربي ع ابن ة‬
‫النضر‪ :‬فم ا ع رفت أخي إال ببنان ه‪ ،‬ق ال‪ :‬ف نزلت ه ذه اآلي ة‪ِ ﴿:‬منَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ِر َج ا ٌل‬
‫ضى نَحْ بَهُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْنت َِظ ُر َو َما بَ َّدلُوا تَ ْب ِديالً‬ ‫ص َدقُوا َما عَاهَدُوا هللا َعلَ ْي ِه فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬ ‫َ‬
‫(‪( ﴾)23‬األحزاب)‪ ،‬قال‪ :‬فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه)(‪)2‬‬
‫ومثله المقداد بن األسود الذي قام مجيبا رسول هللا ‪ ،‬يوم بدر عن دما ت ردد‬
‫بعض المترددين في نصرته ‪ ،‬فق ال‪( :‬ي ا رس ول هللا امض لم ا أم رك هللا‪ ،‬فنحن‬

‫‪ )(1‬الخصال ج ‪ 1‬ص ‪.106‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي‪.‬‬
‫‪288‬‬
‫معك‪ ،‬وهللا ما نقول لك كما قال ق وم موس ى لموس ى‪﴿ :‬فَ ْاذهَبْ أَ ْنتَ َو َربُّ َ‬
‫ك فَق اتِال إِنَّا‬
‫هاهُنا قا ِع ُدونَ ﴾ [المائدة ‪ ]24‬ولكن اذهب أنت ربك فق اتال إن ا معكم ا مق اتلون‪ ،‬عن‬
‫يمينك وشمالك‪ ،‬وبين يديك وخلفك‪ ،‬والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد‬
‫لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه)‪ ،‬فأشرق وجه رسول هللا ‪ ،‬وقال له خيرا ودعا‬
‫له(‪.)1‬‬
‫وذلك ليس محصورا بب در أو أح د أو غيره ا من الم واطن ال تي نص ر فيه ا‬
‫اإلسالم‪ ،‬بل إن الم ؤمن الص ادق في إيمان ه ه و من يعاه د هللا على نص رته في أي‬
‫محل يحتاج إلى ذلك‪ ،‬وذلك هو النجاح األعظم‪ ،‬والذي يثبت مدى ص دق النفس م ع‬
‫ربها‪.‬‬
‫ومن األمثلة ال تي علي ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ أن تعيش ها دائم ا‪ ،‬لتس تن‬
‫بأصحابها‪ ،‬وتفي بعهودك جميع ا‪ ،‬أولئ ك الص ادقين ال ذين عاه دوا اإلم ام الحس ين‬
‫على نصرته‪ ،‬وصدقوا في ذلك‪ ،‬إلى أن لقوا ربهم‪ ،‬وهو عنهم راض‪.‬‬
‫وقد فعلوا ذلك مع علمهم بالمص ير ال ذي ينتظ رهم‪ ،‬وم ع أن اإلم ام الحس ين‬
‫س مح لهم بترك ه‪ ،‬وب رأ ذمتهم من بيعت ه‪ ،‬لكنهم ظل وا أوفي اء له ا إلى أن تش رفوا‬
‫باختالط دمائهم مع دمه‪.‬‬
‫وقد روي أنه جمعهم قب ل المعرك ة؛ فق ال‪( :‬إني ال أعلم أص حابا أص ح منكم‬
‫وال أعدل وال أفضل أهل بيت‪ ،‬فجزاكم هللا عني خ يرا‪ ،‬فه ذا اللي ل ق د أقب ل فقوم وا‬
‫واتخذوا جمال‪ ،‬وليأخذ كل رجل منكم بيد صاحبه أو رج ل من إخ وتي وتفرق وا في‬
‫سواد ه ذا اللي ل وذروني وه ؤالء الق وم‪ ،‬ف إنهم ال يطلب ون غ يري‪ ،‬ول و أص ابوني‬
‫وقدروا على قتلي لما طلبوكم)(‪)2‬‬
‫حينها قام أخوه العباس وغيره من أقاربه ليع بروا عن ذل ك الص دق والثب ات‬
‫الذي نتج عن والئهم ألهل بيت النبوة‪ ،‬فقالوا‪( :‬لم نفعل ذلك ؟ لنبقى بع دك؟ ال أران ا‬
‫هللا ذلك أبدا)‪ ،‬فقال لهم اإلمام الحس ين‪( :‬ي ا ب ني عقي ل حس بكم من القت ل بمس لم بن‬
‫عقيل فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم)‪ ،‬فقالوا‪( :‬س بحان هللا‪ ..‬م ا نق ول للن اس؟ نق ول‪ :‬إن ا‬
‫تركنا شيخنا وسيدنا وب ني عمومتن ا خ ير االعم ام‪ ،‬ولم ن رم معهم بس هم ولم نطعن‬
‫معهم برمح‪ ،‬ولم نضرب معهم بسيف‪ ،‬وال ندري ما صنعوا‪ ،‬ال وهللا ما نفعل ذل ك‪،‬‬
‫ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا‪ ،‬ونقاتل معك حتى نرد م وردك‪ ،‬فقبح هللا العيش‬
‫بعدك)(‪)3‬‬
‫ثم قام مسلم بن عوسجة‪ ،‬فقال‪( :‬أنحن نخلي عنك‪ ،‬بما نعت ذر إلى هللا في أداء‬
‫حقك ؟ ال وهللا حتى أطعن في صدورهم ب رمحي‪ ،‬وأض ربهم بس يفي م ا ثبت قائم ه‬
‫في يدي‪ ،‬ولو لم يكن معي سالح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة‪ ،‬ال وهللا ال نخليك ح تى‬
‫يعلم هللا أنا قد حفظنا غيبة رسول هللا ‪ ‬فيك‪ ،‬أما وهللا لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم‬
‫‪ )(1‬سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (‪)26 /4‬‬
‫‪)(2‬تاريخ الطبري ‪ ،315 :3‬الكامل في التاريخ ‪.559 :2‬‬
‫‪ )(3‬تاريخ الطبري ‪ ،315 :3‬وقعة الطف‪..198 :‬‬
‫‪289‬‬
‫أحرق ثم أحيا ثم أذرى‪ ،‬يفعل بي ذلك س بعين م رة‪ ،‬م ا فارقت ك ح تى ألقى حم امي‬
‫دونك‪ ،‬فكيف ال أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة‪ ،‬ثم هي الكرامة التي ال انقض اء له ا‬
‫أبدا)(‪)1‬‬
‫وقام زهير بن القين‪ ،‬وقال‪( :‬وهللا لوددت أني قتلت ثم نش رت ثم قتلت‪ ،‬ح تى‬
‫أقتل هكذا ألف مرة‪ ،‬وإن هللا يدفع بذلك القت ل عن نفس ك وعن أنفس ه ؤالء الفتي ان‬
‫من أهل بيتك)(‪)2‬‬
‫وهكذا عبر الجمي ع عن وف ائهم‪ ..‬فاحف ظ كلم اتهم‪ ،‬لتردده ا في ال وقت ال ذي‬
‫يحتاج منك المستضعفون المظلومون إلى النصرة‪ ،‬لتقف معهم‪ ،‬ال على الحي اد‪ ،‬وال‬
‫مع أهل الباطل‪ ..‬فكالهما في الشر سواء‪.‬‬
‫وإن شئت أن تك ون أك ثر ص دقا‪ ،‬ف ردد ك ل ي وم م ع الص الحين المنتظ رين‬
‫للمهدي الذي اتفقت األمة جميعا على كونه المخلص الموعود الذي يمحو هللا به ك ل‬
‫تحريف وقع في الدين‪ ،‬وعلى يديه يتم النصر األك بر ال ذي وع د ب ه األنبي اء عليهم‬
‫السالم‪ ..‬مثله بين عينيك‪ ،‬وقل‪( :‬اللهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عش ت‬
‫من أي امي عه دا وعق دا وبيع ة ل ه في عنقي‪ ،‬ال أح ول عنه ا وال أزول أب دا‪ ،‬اللهم‬
‫اجعلني من أنصاره وأعوانه وال ذابين عن ه والمس ارعين إلي ه في قض اء حوائج ه‪،‬‬
‫والممتثلين ألوامره والمحامين عنه‪ ،‬والسابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه)‬
‫و ب ذلك تهيء نفس ك لنص رته‪ ،‬وللتحض ير ل ه‪ ،‬ح تى إذا م ا ش رفك هللا ب أن‬
‫تعيش زمانه‪ ،‬لم تكن من أعدائ ه‪ ،‬وإنم ا من أنص اره‪ ..‬ولم تكن من الراغ بين عن ه‪،‬‬
‫وإنما من الراغبين فيه‪.‬‬
‫وإن لم يش رفك هللا ب ذلك؛ فق د جعلت من نفس ك جن ديا ل ه‪ ..‬وس يتقبل هللا‬
‫جنديتك‪ ،‬ويثيبك عليها بقدر صدقك وإخالصك في بيعتك‪.‬‬
‫وأول مظ اهر ذل ك اإلخالص أن تتح رى األق رب للح ق من أه ل زمان ك؛‬
‫فتنصرهم في مواجهة الباطل‪ ،‬وال تقل على الحي اد‪ ،‬وال م ع أه ل الباط ل ض دهم‪..‬‬
‫فاهلل تعالى يختبر كل أهل زمان بما يثبت حقيقتهم‪ ،‬ويكشف عن سرائرهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬الكامل في التاريخ ‪.559 :2‬‬


‫‪ )(2‬الكامل في التاريخ ‪.559 :2‬‬
‫‪290‬‬
‫المشارطة الحازمة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الص ادق ـ تس ألني عن المش ارطة ال تي اتف ق علم اء‬
‫التزكية على اعتبارها مرابطة من مرابط ات النفس اللوام ة ال تي نص عليه ا قول ه‬
‫ص ابِرُوا َو َرابِطُ وا َواتَّقُ وا هللا لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِ ُح ونَ ﴾ [آل عم ران‪:‬‬ ‫تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ْ‬
‫اص بِرُوا َو َ‬
‫‪ ،]200‬وكيفيتها‪ ،‬واتفاق ما أوردوه عنها مع النصوص المقدسة‪.‬‬
‫وجوابا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن الحكم اء ـ بحس ب اس تلهامهم من‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬وتجاربهم في الس لوك العملي ـ ذك روا أنواع ا من المرابط ات‬
‫للنفس اللوام ة‪ ،‬تعينه ا على الس ير التخلقي والتحققي‪ ،‬وهي تب دأ بالمش ارطة‪ ،‬ال تي‬
‫يش رط فيه ا الس الك على نفس ه الش روط ال تي تعين ه على الس ير؛ فيوظ ف عليه ا‬
‫الوظائف المختلفة المرتبطة بالتزكية والترقية‪ ،‬ويلزمها على ذلك بأنواع المعاهدات‬
‫الجازمة الالزمة‪.‬‬
‫ثم يقوم بعد ذلك بمراقبة سلوكها‪ ،‬ليضيف إليه ا ك ل حين مش ارطات جدي دة‪،‬‬
‫ترتبط بحاجاتها المختلفة‪ ،‬مع مراقبة مدى التزامها بتلك المشارطات‪.‬‬
‫ثم يحاس بها على م دى تنفي ذها لم ا عاه دت هللا تع الى علي ه‪ ،‬ومن خالل‬
‫المحاسبة قد يعفو عنها‪ ،‬وقد يضيف لها من التكاليف الجديدة ما يهذبها ويربيها‪.‬‬
‫ف إذا وج د أثن اء محاس بته له ا تقص يرا فيم ا اش ترطه عليه ا عاقبه ا بعقوب ة‬
‫تتناسب مع ما اقترفته‪ ،‬فإن أكل لقمة شبهة عاقبه ا ب الجوع‪ ،‬وهك ذا ك ل ط رف من‬
‫أطراف بدنه يمنعه من شهوته حتى يتهذب‪ ،‬ويبتعد عن الحرام‪.‬‬
‫وهكذا يظل يجاهدها في ذات هللا‪ ،‬وبحسب الشريعة التي جاء به ا رس ول هللا‬
‫‪ ‬إلى أن تستقيم له‪ ،‬وتصبح طوع يديه‪ ،‬من غير أن يكف عن متابعتها ومراقبته ا‬
‫خشية أن يأتيه الشيطان من أي جهة‪.‬‬
‫أما الدليل على ذلك من النصوص المقدسة؛ فيشير إليها ما ورد من األحاديث‬
‫في الدعوة إلى الواجبات المرتبطة بك ل ي وم‪ ،‬وكأنه ا ت دعو المؤم نين إلى ش رطها‬
‫على أنفسهم‪ ،‬وإلزامهم بها‪ ،‬كما يلزمونها بالصلوات اليومية‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪( :‬على ك ّل نفس في ك ّل ي وم طلعت في ه الش مس‬
‫صدقة منه على نفسه)‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬من أين نتص ّدق وليس لنا أم وال؟ فق ال‪:‬‬
‫الص دقة التكب ير‪ ،‬وس بحان هللا والحم د هلل واس تغفر هللا‪ ،‬وت أمر‬ ‫(إن من أب واب ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫بالمعروف‪ ،‬وتنهى عن المنكر‪ ،‬وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحج ر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتهدي األعمى‪ ،‬وتسمع األص ّم واألبكم حتّى يفق ه‪ ،‬وت د ّل المس تد ّل على حاجت ه ق د‬
‫علمت مكانها‪ ،‬وتسعى بش ّدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث‪ ،‬وترفع بش ّدة ذراعيك م ع‬
‫ل ذلك من أبواب الصّدقة منك على نفسك) (‪)1‬‬ ‫الضّعيف‪ .‬ك ّ‬

‫‪ )(1‬أحمد (‪)169 ،168 /5‬‬


‫‪291‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬ك ّل سالمى من النّاس عليه صدقة‪ ،‬ك ّل ي وم تطل ع‬
‫فيه ال ّشمس‪ ..‬تع دل بين االث نين ص دقة‪ ،‬وتعين الرّج ل في دابّت ه فتحمل ه عليه ا‪ ،‬أو‬
‫ترفع له عليها متاعه صدقة‪ ،‬والكلمة الطّيّبة صدقة‪ ،‬وك ّل خطوة تمشيها إلى ّ‬
‫الص الة‬
‫صدقة‪ ،‬وتميط األذى عن الطّريق صدقة) (‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬على ك ّل مسلم صدقة)‪ ،‬فق الوا‪ :‬ي ا ن ب ّي هللا فمن لم‬
‫يجد؟‪ .‬قال‪( :‬يعمل بي ده فينف ع نفس ه ويتص ّدق)‪ ،‬ق الوا‪ :‬ف إن لم يج د؟ ق ال‪( :‬يعين ذا‬
‫الحاجة الملهوف)‪ ،‬قالوا‪ :‬فإن لم يجد؟ قال‪( :‬فليعمل بالمعروف‪ ،‬وليمس ك عن ّ‬
‫الش ّر‬
‫فإنّها له صدقة) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخ ر ق ال ‪( :‬في اإلنس ان س تون وثالثمائ ة مفص ل‪ ،‬فعلي ه أن‬
‫يتصدق عن كل مفصل منها صدقة)‪ ،‬قالوا‪ :‬ومن يطيق ذلك؟ ق ال‪( :‬النخاع ة تراه ا‬
‫في المسجد فتدفنها‪ ،‬والشيء تنحيه عن الطريق فإن لم تقدر فركعتا الضحى تج زى‬
‫عنك) (‪)3‬‬
‫وغيرها من األحاديث التي تبين ما على المؤمن فعله كل يوم‪ ،‬ل يزكي نفس ه‪،‬‬
‫ويرقيها‪ ،‬ويسير بها نحو الكمال المتاح لها‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك ما ورد من النصوص المقدسة التي تشبه عم ل الخل ق في‬
‫الدنيا بالتج ارة م ع هللا تع الى‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا هَ لْ أَ ُدلُّ ُك ْم َعلَى‬
‫ب أَلِ ٍيم (‪ )10‬تُ ْؤ ِمنُ ونَ بِاهلل َو َر ُس ولِ ِه َوتُ َجا ِه ُدونَ فِي َس بِ ِ‬
‫يل هللا‬ ‫تِ َجا َر ٍة تُ ْن ِجي ُك ْم ِم ْن َع َذا ٍ‬
‫بِأ َ ْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْنفُ ِس ُك ْم َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [الصف‪]11 ،10 :‬‬
‫ومن هذه اآلية راح الصالحون يش بهون المرابط ات المرتبط ة بالتزكي ة بم ا‬
‫يقوم به التجار‪ ،‬كم ا ع بر عن ذل ك بعض هم‪ ،‬فق ال‪( :‬اعلم أن مطلب المتع املين في‬
‫التجارات‪ ،‬المشتركين في البضائع عن د المحاس بة س المة ال ربح‪ ،‬وكم ا أن الت اجر‬
‫يستعين بشريكه؛ فيسلم إليه المال حتى يتجر ثم يحاسبه‪ ،‬فكذلك العقل هو التاجر في‬
‫طريق اآلخرة‪ ،‬وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس‪ ،‬ألن بذلك فالحه ا‪ ..‬وإنم ا فالحه ا‬
‫باألعم ال الص الحة‪ .‬والعق ل يس تعين ب النفس في ه ذه التج ارة‪ ،‬إذ يس تعملها‬
‫ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغالمه ال ذي يتج ر في مال ه)‬
‫(‪)4‬‬
‫وبناء على هذا التش بيه راح ي ذكر المرابط ات المرتبط ة ب النفس وتزكيته ا‪،‬‬
‫فق ال‪( :‬كم ا أن الش ريك يص ير خص ما منازع ا يجاذب ه في ال ربح‪ ،‬فيحت اج إلى أن‬
‫يشارطه أوال‪ ،‬ويراقبه ثانيا‪ ،‬ويحاسبه ثالثا‪ ،‬ويعاقبه أو يعاتب ه رابع ا‪ ،‬فك ذلك العق ل‬
‫يحتاج إلى مشارطة النفس أوال‪ ،‬فيوظف عليها الوظائف‪ ،‬ويشرط عليه ا الش روط‪،‬‬
‫ويرشدها إلى طرق الفالح ويجزم عليها األمر بسلوك تلك الط رق‪ ،‬ثم ال يغف ل عن‬

‫‪ )(1‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ )2989( 6‬ومسلم (‪)1009‬‬


‫‪ )(2‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ )1445( 3‬واللفظ له‪ ،‬مسلم (‪)1008‬‬
‫‪ )(3‬أحمد (‪ ،5/354‬رقم ‪ ،)23048‬وأبو داود (‪ ،4/361‬رقم ‪ ،)5242‬وابن خزيمة (‪ ،2/229‬رقم ‪)1226‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.15/6 ،‬‬
‫‪292‬‬
‫مراقبتها لحظة‪ ،‬فإنه لو أهملها لم ير منها إال الخيان ة وتض ييع رأس الم ال‪ ،‬كالعب د‬
‫الخ ائن إذا خالل ه الج ّو وانف رد بالم ال ثم بع د الف راغ ينبغي أن يحاس بها ويطالبه ا‬
‫بالوفاء بما شرط عليه ا‪ ،‬ف إن ه ذه تج ارة ربحه ا الف ردوس األعلى‪ ،‬وبل وغ س درة‬
‫المنتهى م ع األنبي اء والش هداء‪ ،‬فت دقيق الحس اب في ه ذا م ع النفس أهم كث يرا من‬
‫تدقيقه في أرباح الدنيا) (‪)1‬‬
‫وبناء على هذا ش رح كيفي ة إج راء المش ارطة‪ ،‬ف ذكر أن المش ارطة هي أن‬
‫(يش ارط النفس ويأخ ذ منه ا العه د والميث اق في ك ل ي وم وليل ة م رة أال ي رتكب‬
‫المعاص ي‪ ،‬وال يص در منه ا ش يء ي وجب س خط هللا‪ .‬وال يقص ر في ش يء من‬
‫الطاعات الواجبة‪ ،‬وال يترك ما تيسر ل ه من الخ يرات والنواف ل‪ .‬واألولى أن يك ون‬
‫ذلك بعد الفراغ عن فريضة الصبح وتعقيباتها‪ ،‬فيخاطب النفس ويقول لها‪ :‬ي ا نفس!‬
‫مالى بضاعة سوى‪ .‬العمر‪ ،‬ومهما فني فنى رأس المال‪ .‬ووق ع الي أس عن التج ارة‪،‬‬
‫وطلب الربح‪ ،‬وهذا اليوم الجديد‪ ،‬وقد أمهلني هللا فيه بعظيم لطفه‪ ،‬ولو توفانى لكنت‬
‫أتمنى أن يرجعنى إلى ال دنيا يوم ا واح دا ألعم ل ص الحا‪ ،‬فاحس بي أن ك ت وفيت ثم‬
‫رددت‪ ،‬فإياك أن تضيعي هذا اليوم‪ ،‬فان كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيس ة ال‬
‫عوض لها‪ ،‬يمكن أن يشترى بها كنزا من الكنوز ال يتناهى نعيمها أبد اآلباد) (‪)2‬‬
‫ثم يورد علها من المواعظ ما يلينها له‪ ،‬كأن يذكر له ا م ا ورد في الخ بر من‬
‫(أن كل عبد خلقت له بإزاء كل يوم وليلة من عمره أربع وعشرون خزانة مصفوفة‬
‫فإذا مات تفتح ل ه ه ذه الخ زائن‪ ،‬ويش اهد ك ل واح د منه ا وي دخلها‪ ،‬ف إذا فتحت ل ه‬
‫خزانة خلقت بإزاء الساعة التي أطاع هللا فيها‪ ،‬يراها مملوة ن ورا من حس ناته ال تي‬
‫عملها في تلك الساعة‪ ،‬فيناله من الفرح واالستبشار بمشاهدة تل ك األن وار ال تي هي‬
‫وس ائل عن د المل ك الجب ار م ا ل و وزع على أه ل الن ار ألدهش هم ذل ك الف رح عن‬
‫اإلحساس بألم النار‪ ،‬وإذا فتحت له خزانة خلقت بإزاء الساعة التي عصى هللا فيه ا‪،‬‬
‫يراها سوداء مظلمة يفوح نتنها ويتغشى ظالمه ا‪ ،‬فينال ه من اله ول والف زع م ا ل و‬
‫قسم على أهل الجنة لينغص عليهم نعيمها‪ ،‬فإذا فتحت له خزانة ب إزاء الس اعة ال تي‬
‫نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا‪ ،‬لم يشاهد فيه ا م ا يس ره وال م ا‬
‫يسوؤه‪ ،‬وهكذا يعرض عليه بعدد ساعات عمره الخزائن‪ ،‬وعن د ذل ك يتحس ر العب د‬
‫على اهماله وتقصيره‪ ،‬ويناله من الغبن ما ال يمكن وصفه)‬
‫ثم يخاطبها بعد ذلك قائال‪( :‬اجتهدى اليوم في أن تعمرى خزائنك‪ ،‬وال تدعيها‬
‫فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملك ك وال ترك ني إلى الكس ل والبطال ة فيفوت ك‬
‫من درجات العليين ما يدركه غيرك فتدركك الحس رة والغبن ي وم القيام ة إن دخلت‬
‫الجنة‪ ،‬إذ ألم الغبن والحسرة وانحط اط الدرج ة م ع وج ود م ا فوقه ا من ال درجات‬
‫الغير المتناهية التي نال اليها أبناء نوعك مما ال يطاق)‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.7 /15 ،‬‬


‫‪ )(2‬جامع السعادات‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص‪.94 :‬‬
‫‪293‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن المش ارطة تك ون في كال‬
‫الركنين من أركان السلوك التحققي والتخلقي‪ ..‬أو التزكية والترقية‪ ..‬كم ا اتف ق على‬
‫ذلك كل الحكماء‪ ،‬وبناء على طلبك سأشرح لك مجامع ما ذكروه‪.‬‬
‫المشارطة والتزكية‪:‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ف اعلم أن المش ارطة تختل ف ب اختالف‬
‫السالكين‪ ،‬والمراتب التي بلغوها‪ ،‬واآلفات التي يتعرض ون له ا‪ ..‬ول ذلك يحت اج من‬
‫يريد التزكية إلى تشخيص حال نفسه‪ ،‬والمث الب ال تي يمكن أن تك ون متص فة به ا‪،‬‬
‫ليعمل على مجاهدتها‪ ،‬ويضع لها البرنامج اليومي الخاص بذلك‪.‬‬
‫وبناء على كون المث الب الباطني ة ت برز ع بر الج وارح الظ اهرة؛ ف إن على‬
‫المريد الصادق أن يتفقد هذه الجوارح يوميا‪ ،‬ويلزمها بما تقتض يه األخالق الطيب ة‪،‬‬
‫إلى أن يتمكن من إصالح باطنه عبر إصالح ظاهره‪ ،‬باإلض افة لم ا ذكرت ه ل ك في‬
‫رسائلي السابقة حول مثالب النفس األمارة‪.‬‬
‫يقول بعض الحكماء ـ شارحا كيفية إجراء المش ارطة المرتبط ة بالتزكي ة ـ‪:‬‬
‫(ثم يستأنف لها وصية في اعضائه السبعة‪ :‬أعنى العين‪ ،‬واألذن‪ ،‬واللسان‪ ،‬والفرج‪،‬‬
‫والبطن‪ ،‬واليد‪ ،‬والرجل‪ ،‬ويسلمها إليها‪ ،‬ألنها رعايا خادمة لها في التج ارة‪ ،‬وال يتم‬
‫اعمال هذه التجارة إال بها‪ ،‬فيوصيها بحفظ هذه األعضاء عن المعاصي التي تصدر‬
‫عنها‪ ،‬وبإعمال كل منها فيما خلق ألجله‪ ،‬ثم يوصيها باالشتغال بوظ ائف الطاع ات‬
‫ال تي تتك رر علي ه في الي وم والليل ة‪ ،‬بالنواف ل والخ يرات ال تي تق در عليه ا‪ ،‬وه ذه‬
‫شروط يفتقر إليها كل يوم) (‪)1‬‬
‫وقد اتفق الحكماء على أن الثق ل والش دة تب دأ في أول األم ر‪ ،‬لكن النفس بع د‬
‫ذلك تتعود‪ ،‬وقد ال يصبح صاحبها محتاجا للمشارطة‪ ،‬لكن ه يظ ل محتاج ا للمراقب ة‬
‫والمحاسبة‪ ،‬حتى تصبح تلك الملكات الطيبة راسخة فيها مطمئنة إليها‪.‬‬
‫ويظل محتاج ا ك ذلك إلض افة المزي د من المش ارطات ألن (ك ل من يش تغل‬
‫بشيء من أعمال الدنيا‪ :‬من والية‪ ،‬أو تجارة‪ ،‬أو تدريس أو أمثال ذلك‪ ،‬ال يخلو ك ل‬
‫يوم منه من مهم جديد‪ ،‬وواقعة حادثة لها حكم جديد‪ ،‬وهلل فيها ح ق‪ ،‬فعلي ه أن يج دد‬
‫االش تراط على نفس ه باالس تقامة عليه ا واالنقي اد للح ق في مجاريه ا‪ ،‬وينبغي أن‬
‫يوصيها بالتدبر في عاقبة كل أمر يرتكبه في هذا اليوم والليلة) (‪)2‬‬
‫وقد روي في هذا أن رجال أتى النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬يارس ول هللا أوص ني‪ ،‬فق ال‬
‫له‪( :‬فهل أنت مس توص إن أوص يتك؟) ق ال ذل ك ثالث ا في كله ا يق ول الرج ل‪ :‬نعم‬
‫يارس ول هللا‪ ،‬فق ال ل ه رس ول هللا ‪( :‬ف إني أوص يك إذا أنت هممت ب أمر فت دبر‬
‫عاقبته‪ ،‬فان يك رشدا فامضه‪ ،‬وإن يك غيا فانته عنه) (‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬إنما أهل ك الن اس العجل ة‪ ،‬ول وأن الن اس تثبت وا لم‬
‫‪ )(1‬جامع السعادات‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص‪.96 :‬‬
‫‪ )(2‬جامع السعادات‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص‪.96 :‬‬
‫‪ )(3‬قرب االسناد ص ‪.32‬‬
‫‪294‬‬
‫أحد) (‪)1‬‬ ‫يهلك‬
‫وقال اإلمام علي‪( :‬اللجاجة تسلب الرأي‪ ،‬والطمأنينة قبل الحزم ض د الح زم‪،‬‬
‫والتدبير قبل العمل يؤمنك الندم‪ ،‬ومن تح رى القص د خفت علي ه الم ؤن‪ ،‬ومن كاب د‬
‫األمور عطب‪ ،‬ولوال التجارب عميت الم ذاهب‪ ،‬وفي التج ارب علم مس تأنف‪ ،‬وفي‬
‫التواني والعجز انتجت الهلكة) (‪)2‬‬
‫المشارطة والترقية‪:‬‬
‫وال تكتف ب ذلك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فالس ير إلى هللا ـ كم ا يحت اج إلى‬
‫األعمال ال تي ته ذب النفس وتزكيه ا ـ يحت اج ك ذلك إلى األعم ال ال تي تنمي فيه ا‬
‫الملكات الطيبة‪ ،‬وترقيها من خالله ا إلى الم راتب الرفيع ة‪ ،‬وال تي ال يمكن التحق ق‬
‫بها من دون السير إلى هللا بوظائف العبودية التي وردت بها الشريعة‪.‬‬
‫وبم ا أن تل ك الوظ ائف كث يرة‪ ،‬منه ا م ا يرتب ط باألي ام‪ ،‬ومنه ا م ا يرتب ط‬
‫بالمناسبات المختلفة‪ ،‬وال يمكن لكل الناس القي ام به ا جميع ا؛ فق د ذك ر الحكم اء أن‬
‫على كل مريد أن يأخذ منها ما يتناسب معه‪ ،‬ومع حاله‪.‬‬
‫يقول بعضهم في ذلك‪( :‬اعلم أن المريد لح رث اآلخ رة‪ ،‬الس الك لطريقه ا‪ ،‬ال‬
‫يخل و عن س تة أح وال‪ ،‬فإن ه إم ا عاب د‪ ،‬وام ا ع الم‪ ،‬وام ا متعلم‪ ،‬وام ا وال‪ ،‬وام ا‬
‫محترف‪ ،‬واما موحد مستغرق بالواحد الصمد عن غيره) (‪)3‬‬
‫وبن اء على ه ذا التقس يم ال ذي يمكن أن يش مل جمي ع أص ناف الن اس‪ ،‬ذك ر‬
‫الحكم اء المش ارطات المرتبط ة بالعبّ اد‪ ،‬وهم ك ل متف رغ للعب ادة‪ ،‬ليس ل ه ش غل‬
‫سواها؛ فهو ليس عالما وال طالب علم‪ ،‬وال موظفا‪ ،‬وال مسؤوال‪ ،‬وال مكلفا بأي علم‬
‫ص بْ (‪َ )7‬وإِلَى َربِّ َ‬
‫ك‬ ‫غير العبادة‪ ،‬وهو ما ينطبق عليه قوله تعالى‪﴿ :‬فَإِ َذا فَ َر ْغتَ فَا ْن َ‬
‫فَارْ غَبْ ﴾ [الشرح‪]8 ،7 :‬‬
‫وربما يشمل ه ذا القس م أولئ ك المتقاع دين ال ذين بلغ وا س نا معين ة‪ ،‬أزيحت‬
‫عنهم بها كل التكاليف والوظائف التي كانت تمنعهم من التفرغ للعبادة والذكر‪ ،‬كم ا‬
‫يشمل غيرهم ممن يفرغون أنفسهم أحيانا لذلك‪ ،‬بناء على دورات روحي ة يجرونه ا‬
‫ألنفسهم‪.‬‬
‫فهذا الصنف‪( :‬المتج رد للعب ادة ال ذي ال ش غل ل ه غيره ا أص ال‪ ،‬ول و ت رك‬
‫العبادة لجلس بطاال‪ ،‬فترتيب أوراده بأن يستغرق أك ثر أوقات ه‪ ،‬إم ا في الص الة‪ ،‬أو‬
‫في القراءة‪ ،‬أو في التسبيحات‪ ،‬فقد كان في الصالحين من ورده في اليوم اثن ا عش ر‬
‫ألف تسبيحة‪ ،‬وكان فيهم من ورده ثالثون ألفا‪ ،‬وكان فيهم من ورده ثالثمائ ة ركع ة‬
‫إلى ستمائة‪ ،‬وإلى ألف ركعة‪ ،‬وأقل ما نقل في أورادهم من الص اله مائ ة ركع ة في‬
‫اليوم والليلة‪ ،‬وكان بعض هم أك ثر ورده الق رآن‪ ،‬وك ان يختم الواح د منهم في الي وم‬
‫مرة وروى مرتين عن بعضهم‪ ،‬وكان بعضهم يقضى الي وم أو الليل ة في التفك ر في‬
‫‪ )(1‬المحاسن‪.215 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)342 /71‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.4/35 ،‬‬
‫‪295‬‬
‫آية واحدة يردده ا‪ ،‬وك ان بعض هم مقيم ا بمك ة‪ ،‬فك ان يط وف في ك ل ي وم س بعين‬
‫أسبوعا‪ ،‬وفي كل ليلة سبعين أسبوعا‪ ،‬وكان مع ذل ك يختم الق رآن في الي وم والليل ة‬
‫مرتين‪ ،‬فحسب ذلك فكان عشرة فراسخ‪ ،‬ويكون مع كل أسبوع ركعتان فهو مائت ان‬
‫وثمانون ركعة وختمتان وعشرة فراسخ) (‪)1‬‬
‫وق د ذك ر الحكم اء أن على المتف رغ للعب ادة أن ينظ ر فيم ا يناس به من تل ك‬
‫األوراد جميعا‪ ،‬ليلتزم به‪ ،‬ول ذلك ف إن (األفض ل يختل ف ب اختالف ح ال الش خص‪،‬‬
‫ومقصود األوراد تزكي ة القلب‪ ،‬وتطه يره‪ ،‬وتحليت ه ب ذكر هللا تع الى‪ ،‬وإيناس ه ب ه‪،‬‬
‫فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيرا فيه فليواظب عليه‪ ،‬فإذا أحس بماللة من ه‬
‫فلينتقل إلى غيره‪ ،‬ولذلك نرى األصوب الكثر الخلق توزيع هذه الخ يرات المختلف ة‬
‫على األوقات‪ ،‬واالنتقال فيها من نوع إلى نوع‪ ،‬ألن المالل هو الغالب على الطب ع‪،‬‬
‫وأحوال الشخص الواحد في ذل ك أيض ا تختل ف‪ ،‬ولكن إذا فهم فق ه األوراد وس رها‬
‫فليتب ع المع نى‪ ،‬ف إن س مع تس بيحة مثال وأحس له ا بوق ع في قلب ه فلي واظب على‬
‫تكرارها ما دام يجد لها وقعا)‬
‫أما المتفرغ للعلم والتدريس والكتابة ونحوها‪ ،‬فق د ذك ر الحكم اء أن (ترتيب ه‬
‫األوراد يخ الف ت رتيب العاب د‪ ،‬فإن ه يحت اج إلى المطالع ة للكتب‪ ،‬وإلى التص نيف‬
‫واإلفادة‪ ،‬ويحتاج إلى مدة لها ال محالة‪ ،‬فإن أمكنه استغراق األوقات فيه فهو أفض ل‬
‫م ا يش تغل بع د المكتوب ات ورواتبه ا‪ ،‬وي دل على ذل ك م ا ورد في فض يلة التعليم‬
‫والتعلم‪ ،‬وكيف ال يكون كذلك وفي العلم المواظب ة على ذك ر هللا تع الى‪ ،‬وتأم ل م ا‬
‫قال هللا تعالى وقال رسوله وفيه منفع ة الخل ق وه دايتهم إلى طري ق اآلخ رة‪ ،‬ورب‬
‫مسألة واحدة يتعلمها المتعلم فيصلح به ا عب ادة عم ره‪ ،‬ول و لم يتعلمه ا لك ان س عيه‬
‫ضائعا)‬
‫إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر أن تحتقر وظائف الع الم مقارن ة‬
‫بالعابد؛ فالعبادة التي ال يصحبها العلم ق د تص بح مس خرة للش يطان‪ ،‬وق د روي عن‬
‫اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬أتى عالم عابدا فقال له‪ :‬كي ف ص التك؟ فق ال‪ :‬مثلي يس أل‬
‫عن عبادته؟ وأنا أعبدهللا منذ كذا وكذا فقال‪ :‬كيف بك اؤك؟ ق ال‪ :‬أبكي ح تى تج ري‬
‫دموعي‪ ،‬فقال له العالم‪ :‬فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل‪ ،‬وإن‬
‫المدل ال يصعد من عمله شئ)(‪)2‬‬
‫ومما يروى في أخبار ب ني إس رائيل أن أن (رجال منهم يق ال ل ه‪ :‬خلي ع ب ني‬
‫إسرائيل لكثرة فساده‪ ،‬مر برج ل يق ال ل ه‪ :‬عاب د ب ني إس رائيل‪ ،‬وك انت على رأس‬
‫العابد غمامة تظله لمامر الخليع ب ه فق ال الخلي ع في نفس ه‪ :‬أن ا خلي ع ب ني إس رائيل‬
‫كيف أجلس بجنبه‪ ،‬وقال العابد‪ :‬هو خليع بني إسرائيل كي ف يجلس إلي‪ ،‬ف أنف من ه‬
‫وقال له‪ :‬قم عني فأوحى هللا إلى نبي ذلك الزمان‪ :‬مرهما فليستأنفا العمل‪ ،‬فقدغفرت‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪ ،4/35 ،‬بتصرف‪.‬‬


‫‪ )(2‬الكافي ج ‪ 2‬ص ‪.313‬‬
‫‪296‬‬
‫العابد) (‪)1‬‬‫للخليع وأحبطت عمل‬
‫ولهذا قال رسول هللا ‪ ‬في وصيته لإلمام علي‪( :‬ي ا علي ن وم الع الم أفض ل‬
‫من عبادة العابد الجاه ل‪ ..‬ي ا علي ركعت ان يص ليهما الع الم أفض ل من أل ف ركع ة‬
‫يصليها العابد) (‪)2‬‬
‫لكن ذلك ـ أيها المري د الص ادق ـ ال يع ني ك ل علم‪ ،‬وال ك ل العلم اء‪ ،‬وإنم ا‬
‫يعني أولئك العلماء الصادقين المخلصين الذين لم تجتذبهم األهواء‪ ،‬وال ثق ل ال دنيا‪،‬‬
‫وأما غيرهم‪ ،‬فأنت تعلم م ا ورد في حقهم في النص وص المقدس ة‪ ،‬ول ذلك على من‬
‫يري د من ه ؤالء التزكي ة أن يب دأ بتل ك األخالق ال تي يغرس ها الش يطان في نف وس‬
‫العلماء‪ ،‬ليستأصلها من نفسه‪ ،‬قبل أن تتحكم فيها‪ ،‬ثم ال يستطيع الخروج منها‪.‬‬
‫وقد ذكر بعض الحكماء البرنامج اليومي ألمث ال ه ؤالء ـ بن اء على العص ر‬
‫والظروف التي كانوا يعيش ونها‪ ،‬فق ال‪( :‬األولى بالع الم أن يقس م أوقات ه أيض ا ف ان‬
‫استغراق األوق ات في ت رتيب العلم ال يحتمل ه الطب ع‪ ،‬فينبغي أن يخص ص م ا بع د‬
‫الصبح إلى طلوع الشمس باألذكار واألوراد‪ ،‬وبع د الطل وع إلى ض حوة النه ار في‬
‫االفادة والتعليم‪ ،‬ان كان عنده من يس تفيد علم ا ألج ل اآلخ رة وان لم يكن فيص رفه‬
‫إلى الفكر ويتفكر فيما يشكل عليه من علوم الدين‪ ،‬فإن صفاء القلب بع د الف راغ من‬
‫الذكر وقبل االشتغال بهموم الدنيا يعين على التفطن للمشكالت‪ ،‬ومن ضحوة النه ار‬
‫إلى العص ر للتص نيف والمطالع ة‪ ،‬ال يتركه ا إال في وقت أك ل وطه ارة ومكتوب ة‬
‫وقيلولة خفيفة إن طال النهار‪ ،‬ومن العصر إلى االص فرار يش تغل بس ماع م ا يق رأ‬
‫بين يدي ه من تفس ير أو ح ديث أو علم ن افع‪ ،‬ومن االص فرار إلى الغ روب يش تغل‬
‫بال ذكر واالس تغفار والتس بيح‪ ،‬فيك ون ورده األول قب ل طل وع الش مس في عم ل‬
‫اللسان‪ ،‬وورده الثاني في عمل القلب بالفكر إلى الضحوة‪ ،‬ورده الثالث إلى العص ر‬
‫في عمل العين واليد بالمطالعة والكتابة‪ ،‬وورده الرابع بعد العصر في عم ل الس مع‬
‫ليروح فيه العين واليد فان المطالعة والكتابة بعد العصر ربما أض را ب العين‪ ،‬وعن د‬
‫االصفرار يعود إلى ذكر اللسان‪ ،‬فال يخلو جزء من النهار عن عم ل ل ه ب الجوارح‬
‫مع حضور القلب في الجميع) (‪)3‬‬
‫وأم ا المتف رغ لطلب العلم‪ ،‬فق د ذك ر الحكم اء أن أفض ل عم ل ل ه ه و طلب‬
‫العلم؛ ذلك أن (االشتغال بالتعلم أفضل من االشتغال باالذكار والنوافل؛ فحكم ه حكم‬
‫الع الم في ت رتيب األوراد‪ ،‬ولكن يش تغل باالس تفادة حيث يش تغل الع الم باإلف ادة‬
‫وبالتعليق والنسخ حيث يشتغل العالم بالتصنيف)‬
‫وأما المح ترف (ال ذي يحت اج إلى الكس ب لعيال ه فليس ل ه أن يض يع العي ال‬
‫ويس تغرق األوق ات في العب ادات‪ ،‬ب ل ورده في وقت الص ناعة حض ور الس وق‪،‬‬
‫واالش تغال بالكس ب‪ ،‬ولكن ينبغي أن ال ينس ى ذك ر هللا تع الى في ص ناعته‪ ،‬ب ل‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)198 /73‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)57 /77‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.4/36 ،‬‬
‫‪297‬‬
‫يواظب على التس بيحات واالذك ار وق راءة الق رءان‪ ،‬ف ان ذل ك يمكن أن يجم ع إلى‬
‫العمل‪ ،‬وانما ال يتيس ر م ع العم ل الص الة اال أن يك ون ن اظورا فإن ه ال يعج ز عن‬
‫إقام ة أوراد الص الة مع ه‪ ،‬ثم مهم ا ف رغ من كفايت ه ينبغي أن يع ود إلى ت رتيب‬
‫األوراد‪ ،‬وإن دوام على الكسب وتصدق بما فضل عن حاجته فهو أفض ل من س ائر‬
‫األوراد‪ ،‬ألن العبادات المتعدية فائ دتها أنف ع من الالزم ة‪ ،‬والص دقة والكس ب على‬
‫هذه النية عبادة له في نفسه تقربه إلى هللا تعالى‪ ،‬ثم يحصل به فائ دة للغ ير وتنج ذب‬
‫إليه بركات دعوات المسلمين ويتضاعف به األجر) (‪)1‬‬
‫وأما المسؤول (مثل االم ام والقاض ي والمت ولي لينظ ر في أم ور المس لمين‪،‬‬
‫فقيامه بحاجات المسلمين وأغراضهم على وفق الشرع وقصد اإلخالص أفض ل من‬
‫األوراد المذكورة‪ ،‬فحق ه أن يش تغل بحق وق الن اس نه ارا ويقتص ر على المكتوب ة‪،‬‬
‫ويقيم األوراد المذكورة بالليل‪ ،‬كما كان بعض هم يفعل ه‪ ،‬إذ ق ال‪ :‬م الى وللن وم‪ ،‬فل و‬
‫نمت بالنهار ضيعت المسلمين‪ ،‬ولو نمت بالليل ض يعت نفس ي‪ ،‬ذل ك أن ه يق دم على‬
‫العبادات البدنية أمران‪ ،‬أحدهما العلم‪ ،‬واآلخر الرفق بالمسلمين‪ ،‬ألن ك ل واح د من‬
‫العلم وفعل المعروف عمل في نفسه‪ ،‬وعبادة تفضل س ائر العب ادات‪ ،‬يتع دى فائدت ه‬
‫وانتشار جدواه‪ ،‬فكانا مقدمين عليه)(‪)2‬‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن كل ما ذكره الحكماء مرتبط بالسالكين الذين‬
‫لم يبل غ بهم س لوكهم درج ة النفس المطمئن ة‪ ،‬أم ا من بلغت نفس ه لتل ك الدرج ة‪،‬‬
‫ووصل إلى حد االستغراق في ال ذكر والمعرف ة‪ ،‬فإن ه (ال يفتق ر إلى تنوي ع األوراد‬
‫واختالفها بل ورده بعد المكتوبات واحد‪ ،‬وهو حضور القلب م ع هللا تع الى في ك ل‬
‫حال) (‪)3‬‬
‫وأمثال هؤالء (ال يخط ر بقل وبهم أم ر‪ ،‬وال يق رع س معهم ق ارع‪ ،‬وال يل وح‬
‫ألبصارهم الئح‪ ،‬إال كان لهم فيه عبرة وفكر ومزيد‪ ،‬فال مح رك لهم وال مس كن إال‬
‫هللا تعالى‪ ،‬فهؤالء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سببا الزديادهم‪ ،‬فال تتم يز عن دهم‬
‫عبادة عن عبادة‪ ..‬وهذه منتهى درجات الصديقين‪ ،‬وال وصول إليها إال بع د ت رتيب‬
‫األوراد والمواظبة عليها دهرا طويال‪ ،‬فال ينبغي أن يغتر المريد بما سمعه من ذل ك‬
‫فيدعي ه لنفس ه‪ ،‬ويف تر عن وظ ائف عبادت ه ف ذاك عالمت ه أن ال يهجس في قلب ه‬
‫وس واس‪ ،‬وال يخط ر في قلب ه معص ية‪ ،‬وال تزعج ه ه واجم األه وال‪ ،‬وال تس تفزه‬
‫عظائم االشغال) (‪)4‬‬
‫هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تمتثل ه ذه‬
‫التجارب العملية التي ذكرها الحكماء‪ ،‬واتفقوا عليها‪ ،‬واعلم أنك ال يمكنك أن تص ل‬
‫المراتب الرفيعة في سلم التخلق والتحقق ما لم تلزم نفسك بها‪ ،‬وتشرطها عليها‪.‬‬
‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/36 ،‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/37 ،‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.4/39 ،‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.4/40 ،‬‬
‫‪298‬‬
‫وال تكن حرفيا في ذلك؛ فهم قد ذكروا ما يتناس ب م ع عص ورهم وظ روفهم‬
‫وأحوالهم وبيئاتهم‪ ،‬فانظر أنت في ظروفك وبيئتك وما تطلبه منك الش ريعة واعم ل‬
‫بمقتضاه؛ فأنا ما ذكرت لك كلماتهم ووص اياهم لتأخ ذ به ا كم ا تأخ ذ بكلم ات رب ك‬
‫المقدسة‪ ،‬وإنما ذكرتها لك لتستفيد منها‪ ،‬وتبني عليها ما تراه متناسبا مع حالك‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫المراقبة المشددة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن المراقب ة ال تي ي ذكرها علم اء‬
‫التزكية‪ ،‬وحقيقتها‪ ،‬ودوافعه ا‪ ،‬ومراتبه ا‪ ،‬وكيفي ة التحق ق به ا‪ ،‬وه ل نص ت عليه ا‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬أم أنها اجتهاد مبني على التجربة؟‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن األصل الشرعي في المراقبة ه و م ا‬
‫ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ،‬وال ذي ورد بص يغ مختلف ة‪ ،‬أو في مواض ع‬
‫مختلفة‪ ،‬منها ما قال ه ‪ ‬لبعض أص حابه عن دما طلب من ه الوص ية‪ ،‬فق ال ل ه ‪:‬‬
‫(اعبد هللا كأنّك تراه‪ ،‬واعدد نفسك من الموتى)(‪)1‬‬
‫بل اعتبر ‪ ‬مراقبة هللا درجة من درجات اإلحسان‪ ،‬ففي الحديث عندما سأله‬
‫جبريل ‪ ‬عن اإلحسان‪ ،‬قال‪( :‬أن تعبد هللا كأنّك تراه فإنّك إن ال تراه فإنّ ه ي راك)‬
‫(‪)2‬‬
‫ق سبحانه وتع الى على ظ اهره‬ ‫وهو يعني (دوام علم العبد وتيقّنه باطّالع الح ّ‬
‫وباطنه)(‪ ،)3‬أو (دوام علم القلب بعلم هللا ع ّز وج ّل في السّكون والحركة علما الزم ا‬
‫مقترنا بصفاء اليقين)(‪)4‬‬
‫وهو يدل على أن الم راقب ال يتص رف بحس ب م ا تملي علي ه نفس ه‪ ،‬وإنم ا‬
‫بحسب ما يملي عليه الرقيب الذي يعلم علم اليقين أنه يالحظه‪ ،‬وي راقب تص رفاته‪،‬‬
‫وال تغيب عنه منها شاردة وال واردة‪ ،‬بل إنه يعلم السر وأخفى‪.‬‬
‫والمراقبة بذلك ترتبط باإليمان‪ ،‬فبقدر الحضور مع هللا‪ ،‬وبق در استش عار م ا‬
‫ورد في معيته مع عباده‪ ،‬بقدر ما تكون المراقبة أتم‪.‬‬
‫ولذلك كان لكثرة ذكر هللا مع حضور القلب دوره الكبير في تحوي ل المراقب ة‬
‫هلل تعالى إلى ملكة في نفس صاحبها ال يستطيع أن يتجاوزها‪ ،‬وذلك م ا يردع ه عن‬
‫نزغات نفسه األمارة‪ ،‬كما يروى أنه قيل لبعضهم‪ :‬متى يهشّ الرّاعي غنم ه بعص اه‬
‫أن عليه رقيبا)‬ ‫عن مراتع الهلكة؟ فقال‪( :‬إذا علم ّ‬
‫وقد قال ال ّشاعر معبرا عن ذلك‪:‬‬
‫إذا ما خلوت ال ّدهر يوما فال تقل‪ ...‬خلوت ولكن قل عل ّي رقيب‬
‫أن ما تخفيه عنه يغيب‬ ‫تحسبن هللا يغفل ساعة‪ ...‬وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب‪ ...‬وأن غدا للناظرين قريب‬ ‫ّ‬
‫ولهذا نجد الق رآن الك ريم يعم ق مع اني المراقب ة ب ذكره لحض ور هللا تع الى‬
‫ال دائم م ع خلق ه‪ ،‬بحيث ال يغيب عنهم أب دا‪ ،‬وكون ه ي راهم ويس معهم ويعلم ك ل‬
‫تصرفاتهم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ما يَ ُكونُ ِمن نَّجْ َوى ثَالَثَ ٍة إِالَّ ه َُو َرابِ ُعهُ ْم َوالَ خَ ْم َس ٍة إِالَّ هُ َو‬
‫‪ )(1‬قال المنذري في الترغيب والترهيب(‪ :)532 /3‬رواه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين(‪)68 /2‬‬
‫‪ )(4‬الوصايا للمحاسبى(‪ )313‬بتصرف واختصار‪.‬‬
‫‪300‬‬
‫َسا ِد ُسهُ ْم َوالَ أَ ْدنَى ِمن َذلِكَ َوالَ أَ ْكثَ َر إِالَّ هُ َو َم َعهُ ْم أَ ْينَ َم ا َك انُوا ثُ َّم يُنَبِّئُهُم بِ َم ا َع ِملُ وا‬
‫يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِ َّن هللا بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم﴾ (المجادلة‪)7،‬‬
‫‪﴿:‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنَا اإْل ِ ْن َس انَ َونَ ْعلَ ُم َم ا تُ َو ْس ِوسُ بِ ِه نَ ْف ُس هُ َونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن‬ ‫وقال َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ال قَ ِعي ٌد (‪َ )17‬ما يَلفِظ ِم ْن‬ ‫ين َو َع ِن ال ِّش َم ِ‬ ‫ْ‬
‫ان َع ِن اليَ ِم ِ‬ ‫َحب ِْل ْال َو ِري ِد (‪ )16‬إِذ يَتَلَقى ال ُمتَلَقِّيَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫قَوْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد (‪( ﴾)18‬ق)‪،‬‬
‫َ‬
‫ُور (‪ )13‬أاَل يَ ْعلَ ُم َم ْن‬ ‫ت الصُّ د ِ‬ ‫وقال‪َ ﴿:‬وأَ ِسرُّ وا قَوْ لَ ُك ْم أَ ِو اجْ هَرُوا بِ ِه إِنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ‬
‫ق َوهُ َو اللَّ ِطيفُ ْالخَ بِي ُر (‪( ﴾)14‬الملك)‬ ‫خَ لَ َ‬
‫ُ‬
‫آن َواَل تَ ْع َملونَ ِم ْن َع َم ٍل إِاَّل ُكنَّا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وقال‪َ ﴿:‬و َما تَ ُكونُ فِي َشأ ٍن َو َما تَ ْتلو ِم ْنهُ ِم ْن قُرْ ٍ‬
‫ض َواَل‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يض ونَ فِي ِه َو َم ا يَ ْع ُزبُ ع َْن َربِّكَ ِم ْن ِمثقَ ا ِل َذ َّر ٍة فِي اأْل رْ ِ‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم ُشهُودًا إِ ْذ تُفِ ُ‬
‫ين (‪( ﴾)61‬يونس)‬ ‫ب ُمبِ ٍ‬ ‫فِي ال َّس َما ِء َواَل أَصْ غ ََر ِم ْن َذلِكَ َواَل أَ ْكبَ َر إِاَّل فِي ِكتَا ٍ‬
‫ب اَل يَ ْعلَ ُمهَ ا إِاَّل هُ َو َويَ ْعلَ ُم َم ا فِي ْالبَ رِّ َو ْالبَحْ ِر َو َم ا‬ ‫‪﴿:‬و ِع ْن َدهُ َمفَ اتِ ُح ْال َغ ْي ِ‬
‫وقال َ‬
‫ْ‬
‫س إِاَّل فِي‬ ‫ب َواَل يَ ابِ ٍ‬ ‫ض َواَل َرط ٍ‬ ‫ت اأْل َرْ ِ‬ ‫تَ ْسقُطُ ِم ْن َو َرقَ ٍة إِاَّل يَ ْعلَ ُمهَا َواَل َحبَّ ٍة فِي ظُلُ َم ا ِ‬
‫ين (‪َ )59‬وهُ َو الَّ ِذي يَتَ َوفَّا ُك ْم بِاللَّ ْي ِل َويَ ْعلَ ُم َم ا َج َرحْ تُ ْم بِالنَّهَ ِ‬
‫ار ثُ َّم يَ ْب َعثُ ُك ْم فِي ِه‬ ‫ب ُمبِ ٍ‬‫ِكتَا ٍ‬
‫ضى أَ َج ٌل ُم َس ّمًى ثُ َّم إِلَ ْي ِه َمرْ ِج ُع ُك ْم ثُ َّم يُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ (‪( ﴾)60‬األنعام)‬ ‫لِيُ ْق َ‬
‫ال َحبَّ ٍة ِم ْن‬ ‫ك ِم ْثقَ َ‬‫ي إِنَّهَا إِ ْن تَ ُ‬ ‫وقال مخبرا عن موعظة لقمان ‪ ‬البنه‪﴿:‬يَا بُنَ َّ‬
‫ْ‬
‫ف‬ ‫ت بِهَ ا هللا إِ َّن هللا لَ ِطي ٌ‬ ‫ض يَ أ ِ‬ ‫ت أَوْ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬
‫الس َم َ‬ ‫ص ْخ َر ٍة أَوْ فِي َّ‬ ‫خَرْ َد ٍل فَتَ ُك ْن فِي َ‬
‫خَ بِي ٌر (‪( ﴾)16‬لقمان)‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تعمق في نفس الم ؤمن ك ل المع ارف ال تي‬
‫تؤدبه على مراقبة هللا تعالى‪ ،‬والشعور بحضوره الدائم‪.‬‬
‫ومما يعين على المراقبة أيضا استشعار رؤية المالئكة للعمل‪ ،‬وتسجيلهم ل ه‪،‬‬
‫ال قَ ِعي ٌد (‬ ‫الش َم ِ‬ ‫ان َع ِن ْاليَ ِمي ِن َوع َِن ِّ‬ ‫وشهادتهم عليه‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ ْذ يَتَلَقَّى ْال ُمتَلَقِّيَ ِ‬
‫‪َ )17‬م ا يَ ْلفِ ظُ ِم ْن قَ وْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾ [ق‪ ،]18 ،17 :‬وق ال‪َ :‬‬
‫﴿وإِ َّن َعلَ ْي ُك ْم‬
‫لَ َحافِ ِظينَ (‪ِ )10‬ك َرا ًما َكاتِبِينَ (‪ )11‬يَ ْعلَ ُمونَ َما تَ ْف َعلُونَ ﴾ [االنفطار‪]12 - 10 :‬‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه س ئل عن العب د كم مع ه من مل ك؟ فق ال‪:‬‬
‫ك على يمينك على حسناتك‪ ،‬وواح ٌد على الشمال‪ ،‬فإذا عملت حسنةً كتب عشرا‪،‬‬ ‫(مل ٌ‬
‫وإذا عملت س يئةً ق ال ال ذي على الش مال لل ذي على اليمين‪ :‬أكتب ؟‪ ..‬ق ال‪ :‬لعل ه‬
‫يستغفر ويتوب‪ ،‬فإذا قال ثالثا قال‪ :‬نعم اكتب‪ ،‬أراحنا هللا منه فبئس الق رين‪ ،‬م ا أق ّل‬
‫مراقبته هلل ع ّز وجلّ‪ ..‬وما أق ّل استحياؤه منه‪ ..‬يقول هللا‪َ ﴿ :‬ما يَ ْلفِ ظُ ِم ْن قَ وْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه‬
‫ات‬ ‫َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾ [ق‪ ،]18 :‬و َملَكان بين يديك ومن خلفك يقول هللا سبحانه‪﴿ :‬لَ هُ ُم َعقِّبَ ٌ‬
‫ك قابضٌ على ناص يتك‪ ،‬ف إذا تواض عت‬ ‫ِم ْن بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِم ْن خَ ْلفِ ِه﴾ [الرعد‪ ،]11 :‬ومل ٌ‬
‫هلل رفع ك‪ ،‬وإذا تجبّ رت على هللا وض عك وفض حك‪ ،‬وملك ان على ش فتيك‪ ،‬ليس‬
‫ك قائ ٌم على فيك‪ ،‬ال يدع أن تدخل الحية في‬ ‫يحفظان إال الصالة على محمد ‪ ،‬ومل ٌ‬
‫فيك‪ ،‬وملكان على عينيك‪ ..‬فهذه عشرة أمالك على كل آدمي‪ ،‬ومالئك ة اللي ل س وى‬
‫مالئكة النهار‪ ،‬فهؤالء عشرون ملكا على كل آدمي‪ ،‬وإبليس بالنه ار وول ده باللي ل‪،‬‬

‫‪301‬‬
‫﴿وإِ َّن َعلَ ْي ُك ْم لَ َح افِ ِظينَ ﴾ [االنفط ار‪ ،]10 :‬وق ال ع ّز وج لّ‪﴿ :‬إِ ْذ يَتَلَقَّى‬
‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫ال ُمتَلَقِّيَان﴾ [ق‪)1()]17 :‬‬
‫ِ‬
‫أن عليكم رص دا من‬ ‫وع بر اإلم ام علي عن ذل ك بقول ه‪( :‬اعلم وا عب اد هللا ّ‬
‫أنفسكم‪ ،‬وعيونا من جوارحكم‪ ،‬وحفّاظ صدق يحفظ ون أعم الكم وع دد أنفاس كم‪ ،‬ال‬
‫تستركم منهم ظلمة ليل داج (أي حالك)‪ ،‬وال يكنّكم منهم باب ذو رت اج (أي أغالق)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬ال يزال الرجل المسلم يُكتب محسنا ما دام س اكتا‪ ،‬ف إذا تكلّم كتب إم ا‬
‫محسنا أو مسيئا)(‪)3‬‬
‫وروي أنه م ّر برجل وهو يتكلم بفضول الكالم‪ ،‬فقال‪( :‬يا هذا‪..‬إنك تملي على‬
‫كاتبيك كتابا إلى ربك‪ ،‬فتكلّم بما يعنيك‪ ،‬ودع ما ال يعنيك)(‪)4‬‬
‫وقال اإلمام الص ادق معاتب ا بعض أص حابه ال ذين قص روا في زي ارة بعض‬
‫أن المؤمنَين إذا التقي ا فتص افحا أن زل هللا بين إبهاميهم ا مائ ة‬ ‫المؤمنين‪( :‬أما علمت ّ‬
‫رحمة‪ :‬تسعة وتسعين ألش ّدهما حبا‪ ،‬فإذا اعتنقا غمرتهما الرحمة‪ ،‬فإذا لبثا ال يريدان‬
‫بذلك إال وجه هللا تعالى‪ ،‬قيل لهم ا‪ُ :‬غف ر لكم ا‪ ،‬ف إذا جلس ا يتس اءالن ق الت الحفظ ة‬
‫فإن لهما سرا قد ستره هللا عليهما)‪ ،‬فقال الرجل‪:‬‬ ‫بعضها لبعض‪ :‬اعتزلوا بنا عنهما‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫(جعلت فداك‪ ..‬فال تسمع الحفظة قولهم ا وال تكتب ه) وق د ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬م ا يَلفِ ظ ِم ْن‬
‫قَوْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾ [ق‪ ،]18 :‬فنكس رأسه طويال ثم رفعه وقد فاضت دموعه‬
‫على لحيت ه‪ ،‬وق ال‪( :‬إن ك انت الحفظ ة ال تس معه وال تكتب ه فق د س معه ع الم الس ّر‬
‫وأخفى‪ ،‬يا إسحاق‪ ..‬خف هللا كأنك تراه‪ ،‬فإن كنت ال تراه فإنه يراك‪ ،‬فإن شككت أنه‬
‫ي راك فق د كف رت‪ ،‬وإن أيقنت أن ه ي راك ثم بارزت ه بالمعص ية فق د جعلت ه أه ون‬
‫الناظرين إليك)(‪)5‬‬
‫وق رب اإلم ام الك اظم كيفي ة تع رف المالئك ة عليهم الس الم على هم العب د‬
‫(إن العبد إذا ه ّم بالحسنة خرج نفَسه طيب الريح‪ ،‬فق ال‬ ‫بالطاعة أو المعصية‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫صاحب اليمين لصاحب الش مال‪ :‬قم‪ ..‬فإن ه ق د ه ّم بالحس نة‪ ،‬ف إذا فعله ا ك ان لس انه‬
‫قلم ه‪ ،‬وريق ه م داده‪ ،‬فأثبته ا ل ه‪ ،‬وإذا ه ّم بالس يئة خ رج نفس ه منتن ال ريح‪ ،‬فيق ول‬
‫صاحب الشمال لصاحب اليمين‪ :‬قف‪ ..‬فإنه قد ه ّم بالسيئة‪ ،‬فإذا هو فعلها ك ان لس انه‬
‫قلمه‪ ،‬وريقه مداده‪ ،‬فأثبتها عليه)(‪)6‬‬
‫﴿وقُ ِل ا ْع َملُوا‬
‫ومما يعين على المراقبة أيضا استشعار ما ورد في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫فَ َسيَ َرى هللا َع َملَ ُك ْم َو َرسُولُهُ َو ْال ُم ْؤ ِمنُونَ ﴾ [التوبة‪ ..]105 :‬فهذه اآلية الكريمة تص ور‬
‫الواق ع بك ل دق ة‪ ..‬فنحن والخل ق جميع ا جالس ون على خش بة المس رح‪ ..‬وك ل من‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،5/324 :‬وسعد السعود‪.‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،5/322 :‬ونهج البالغة‪.‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،5/327 :‬والعقائد ص‪.86‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،5/327 :‬والعقائد ص‪.86‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،5/324 :‬وكتاب قضاء الحقوق‪ ،‬ثواب األعمال‪ ،‬الكشي‪.‬‬
‫‪ )(6‬الكافي ‪.2/429‬‬
‫‪302‬‬
‫ذك رهم هللا تع الى يش اهدنا ويران ا‪ ..‬ونحن مخ يرون ب أن نرض ي هللا ورس وله‬
‫والمؤمنين‪ ،‬حين نؤدي أجم ل األدوار‪ ،‬أو أن نكتفي برؤي ة أولئ ك األص دقاء ال ذين‬
‫نخش ى أن نخس رهم‪ ،‬فل ذلك نض حي بالحقيق ة في س بيلهم‪ ،‬وحينه ا نك ون أس وأ‬
‫الممثلين‪ ،‬أولئك الذين يؤدون أقذر األدوار في أخطر فلم سينمائي يرتبط به مصيرنا‬
‫األبدي‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المري د الص ادق ـ ف اعلم أن المراقب ة وإن ك انت دائم ة‬
‫مستمرة‪ ،‬إال أنها تشتد في حالين‪:‬‬
‫أوالهما‪ :‬قبل العمل بالحرص على مشروعيته وإذن هللا فيه‪.‬‬
‫وثانيهم ا‪ :‬أثن اء العم ل بأدائ ه بالص ورة ال تي طلبه ا الش رع‪ ،‬والحف اظ على‬
‫المحبطات التي تفسده‪.‬‬
‫مراقبة المشروعية‪:‬‬
‫ْس لَ كَ بِ ِه ِع ْل ٌم‬
‫تعالى‪﴿:‬واَل تَ ْقفُ َم ا لَي َ‬
‫َ‬ ‫أما المراقبة األولى‪ ،‬فقد أشار إليها قوله‬
‫ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُولَئِكَ َكانَ َع ْنهُ َم ْسئُواًل (‪( ﴾)36‬اإلسراء)‬
‫إِ َّن ال َّس ْم َع َو ْالبَ َ‬
‫وفي الحديث‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬الحالل بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات‬
‫يعلمهن كثير من النّاس‪ .‬فمن اتّقى ال ّشبهات استبرأ لدينه وعرض ه‪ ،‬ومن وق ع في‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫وإن لك ّل مل ك حمى أال‬ ‫ال ّشبهات كراع يرعى حول الحمى يوش ك أن يرت ع في ه أال ّ‬
‫وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد‬ ‫وإن حمى هللا في أرضه محارمه أال ّ‬ ‫ّ‬
‫كلّه‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلّه‪ ،‬أال وهي القلب)(‪)1‬‬
‫وقال اإلمام علي‪( :‬الهوى شريك العمى‪ ،‬ومن التوفيق التوق ف عن د الح يرة‪،‬‬
‫ونعم طارد الهم اليقين‪ ،‬وعاقبة الكذب الندم‪ ،‬وفي الصدق السالمة‪ ،‬رب بعيد أق رب‬
‫من قريب‪ ،‬وغريب من لم يكن له حبـيب‪ ،‬والص ديق من ص دق غيب ه‪ ،‬وال يع دمك‬
‫من حبـيب سوء ظن‪ ،‬نعم الخلق التكرم‪ ،‬والحياء سبب إلى كل جميل‪ ،‬وأوثق العرى‬
‫التقوى‪ ،‬وأوثق سبب أخذت به سبب بـينك وبـين هللا تع الى إنم ا ل ك من دني اك م ا‬
‫أصلحت به مثواك‪ ،‬والرزق رزقان‪ :‬رزق تطلبه ورزق يطلب ك ف إن لم تأت ه أت اك‪،‬‬
‫وإن كنت جازعا ً على ما أص يب مم ا في ي ديك فال تج زع على م ا لم يص ل إلي ك‪،‬‬
‫واستدل على ما لم يكن بما كان فإنما األمور أش باه‪ ،‬والم رء يس ره درك م ا لم يكن‬
‫ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه‪ ،‬فما نالك من دنياك فال تكثرن ب ه فرح ا ً وم ا‬
‫فاتك منها فال تتبعه نفسك أس فاً‪ ،‬وليكن س رورك بم ا ق دمت وأس فك على م ا خلفت‬
‫وشغلك آلخرتك وهمك فيما بعد الموت)‬
‫فهذه النصوص المقدسة تدعونا إلى نوعين من المراقبة قبل العمل‪:‬‬
‫أما أوالهما‪ ،‬فالمراقبة المرتبطة بمدى موافقة العمل للش ريعة‪ ..‬فال يط اع هللا‬
‫إال بما شرع‪.‬‬
‫وأما الثانية‪ ،‬فتدعونا إلى النظر في دافعنا للعمل‪ ،‬أهو هلل خاصة أو ه و ه وى‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪303‬‬
‫النفس ومتابعة الشيطان؟‬
‫ولذلك؛ فإن المراقب هلل تعالى يتوقف قبل أي عمل يريد أن يقوم به‪ ،‬ويتثبت؛‬
‫فإن كان هلل تعالى أمضاه‪ ،‬وإن كان لغير هللا اس تحيا عن ه‪ ،‬ثم الم نفس ه على رغبت ه‬
‫فيه وهمه به وميله إليه وعرّفها سوء فعلها وسعيها في فضيحتها وأنها ع دوّة نفس ها‬
‫إن لم يتداركها هللا بعصمته(‪.)1‬‬
‫ومما يروى في هذا من اآلثار أنه (ينشر للعبد في كل حركة من حركاته وإن‬
‫صغرت ثالثة دواوين‪ :‬ال ديوان األوّل‪ :‬لم؟ والث اني‪ :‬كي ف؟ والث الث‪ :‬لمن؟ ومع نى‬
‫(ل َم) أي لم فعلت هذا أكان عليك أن تفعله لموالك أو ملت إليه بشهوتك وهواك؟ فإن‬
‫سلم منه بأن كان عليه أن يعمل ذلك لمواله سئل عن الديوان الث اني فقي ل ل ه‪ :‬كي ف‬
‫فعلت هذا‪ ،‬فإن هلل في كل عمل شرطا ً وحكما ً ال يدرك قدره ووقت ه وص فته إال بعلم‬
‫ّ‬
‫وظن؟ ف إن س لم من ه ذا نش ر ال ديوان‬ ‫فيقال له‪ :‬كي ف فعلت أبعلم محق ق أم بجه ل‬
‫الثالث وهو المطالبة باإلخالص فيقال له‪ :‬لمن عملت ألوجه هللا خالصا ً وفاء بقول ك‪:‬‬
‫(ال إله إال هللا) فيكون أجرك على هللا؟ أو لم راءاة خل ق مثل ك فخ ذ أج رك من ه؟ أم‬
‫عملته لتنال عاجل دنياك فقد وفيناك نصيبك من ال دنيا؟ أم عملت ه بس هو وغفل ة فق د‬
‫سقط أجرك وحبط عملك وخاب سعيك؟)(‪)2‬‬
‫وكل هذا يدعو إلى (المعرفة الحقيقية بأسرار األعمال وأغوار النفس ومكاي د‬
‫الشيطان‪ ،‬فمتى لم يعرف نفسه وربه وعدوّه إبليس ولم يع رف م ا يواف ق ه واه ولم‬
‫يميز بـينه وبـين ما يحبه هللا ويرضاه في نيته وهمته وفكرته وسكونه وحركت ه‪ ،‬فال‬
‫يسلم في هذه المراقبة‪ ..‬ب ل األك ثرون يرتكب ون الجه ل فيم ا يكره ه هللا تع الى وهم‬
‫يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‪ ..‬بل يجسبون أنهم يع ذرون ب ذلك‪ ،‬وهيه ات ب ل طلب‬
‫العلم فريضة على كل مسلم‪ ..‬ولهذا كانت ركعت ان من ع الم أفض ل من أل ف ركع ة‬
‫من غير ع الم‪ ،‬ألن ه يعلم آف ات النف وس ومكاي د الش يطان ومواض ع الغ رور فيتقي‬
‫ذلك‪ ،‬والجاهل ال يعرفه فكيف يحترز منه؟ فال يزال الجاهل في تعب والشيطان منه‬
‫في فرح وشماتة) (‪)3‬‬
‫ولهذا فإن المراقب لنفس ه ليس عج وال‪ ،‬وإنم ا يتوق ف عن الهم وعن الس عي‬
‫حتى ينكشف له بنور العلم أنه هلل تعالى فيمضيه‪ ،‬أو هو لهوى النفس فيتقيه ويزج ر‬
‫القلب عن الفكر فيه والهم به‪.‬‬
‫ذل ك أن الخط وة األولى في الباط ل إذا لم ت دفع أورثت الرغب ة‪ ،‬والرغب ة‬
‫تورث الهم‪ ،‬والهم يورث جزم القصد‪ ،‬والقصد يورث الفعل‪ ،‬والفعل ي ورث الب وار‬
‫والمقت‪ ..‬فلهذا على العاقل أن يحسم مادة الشر من منبع ه األوّل وه و الخ اطر ف إن‬
‫جميع ما وراءه يتبعه‪.‬‬
‫فإن أشكل علي ه‪ ،‬فلم ينكش ف ل ه فليتفك ر بن ور العلم‪ ،‬وليس تعذ باهلل من مك ر‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء فى تهذيب االحياء‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص‪158 :‬‬
‫‪ )(2‬المحجة البيضاء فى تهذيب االحياء‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص‪158 :‬‬
‫‪ )(3‬المحجة البيضاء فى تهذيب االحياء‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص‪159 :‬‬
‫‪304‬‬
‫الشيطان بواسطة الهوى‪ ..‬ف إن عج ز عن االجته اد والفك ر بنفس ه فليستض ئ بن ور‬
‫علم اء ال دين‪ ،‬وليف ّر جه ده من العلم اء المض لين المقبلين على ال دنيا ف راره من‬
‫الشيطان بل أش ّد‪ ،‬فقد روي أن هللا تعالى أوحى إلى داود ‪( :‬ال تسأل عني عالم ا ً‬
‫أسكره حب الدنيا فيقطعك عن محبتي‪ ..‬أولئك قطاع الطريق على عبادي)‬
‫فالقلوب المظلمة بحب الدنيا وش ّدة الشره والتك الب عليه ا محجوب ة عن ن ور‬
‫هللا تعالى‪ ،‬فإن مستضاء أنوار القل وب حض رة الربوبـية فكي ف يستض يء به ا من‬
‫استدبرها وأقبل على عدوّها وعشق بغيضها ومقيتها وهي شهوات الدنيا؟‬
‫مراقبة القبول‪:‬‬
‫أما المراقبة الثانية‪ ،‬فقد أشار إليها قول اإلمام علي‪( :‬كونوا على قبول العمل‪،‬‬
‫أش ّد عناية منكم على العمل)(‪)1‬‬
‫وقد روي في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه ق ال‪( :‬م ّر موس ى علي ه الس الم‬
‫برجل من أصحابه وهو ساج ٌد‪ ،‬وانصرف من حاجته وه و س اج ٌد‪ ،‬فق ال‪ :‬ل و ك انت‬ ‫ٍ‬
‫حاجتك بيدي لقضيتها لك فأوحى هللا إليه‪( :‬لو سجد حتّى ينقط ع عنق ه م ا قبلت ه‪ ،‬أو‬
‫يتحوّل ع ّما أكره إلى ما أُحبُّ )(‪)2‬‬
‫فهذا الرجل حرص على أداء العمل‪ ،‬ولكنه لم يحرص على توفير القابلية له‪،‬‬
‫ولذلك ضاع جهده هدرا‪.‬‬
‫وهذا ما يجعل العاقل مراقبا لعمله في كل لحظة‪ ،‬وهل م ا زال محافظ ا على‬
‫شرعيته‪ ،‬أم طرأ عليه ما يخرجه عن الشرعية؛ فليس كل ما بدأ شرعيا يظل كذلك‪،‬‬
‫ذلك أن الشيطان ال ييأس من العامل حين يبدأ العمل‪ ،‬بل يظ ل يتابع ه إلى أن يفس ده‬
‫عليه‪.‬‬
‫وقد ذكر بعض الحكماء أنواع المراقبة المرتبط ة باألعم ال المختلف ة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(ال يخلو العبد إم ا أن يك ون في طاع ة‪ ،‬أو في معص ية‪ ،‬أو في مب اح‪ :‬فمراقبت ه في‬
‫الطاعة باإلخالص واإلكمال ومراعاة األدب وحراستها عن اآلف ات‪ ..‬ومراقبت ه في‬
‫المعصية بالتوبة والندم واإلقالع والحياء واالشتغال ب التفكر‪ ..‬ومراقبت ه في المب اح‬
‫بمراعاة األدب‪ ،‬ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها‪ ..‬وبما أن العب د ال يخل و‬
‫في جملة أحواله عن بلية ال ب ّد له من الصبر عليها ونعمة ال ب ّد له من الش كر عليه ا‬
‫فعليه بمراقبة نفسه في تلك األحوال‪ ..‬بل ال ينف ك العب د في ك ل ح ال من ف رض هلل‬
‫تعالى عليه‪ :‬إما فعل يلزمه مباشرته‪ ،‬أو محظ ور يلزم ه ترك ه‪ ،‬أو ن دب حث علي ه‬
‫ليسارع به إلى مغفرة هللا تعالى ويس ابق ب ه عب اد هللا‪ ،‬أو مب اح في ه ص الح جس مه‬
‫وقلبه وفيه عون ل ه على طاعت ه‪ ..‬ولك ل واح د من ذل ك ح دود ال ب ّد من مراعاته ا‬
‫بدوام المراقبة)‬
‫بل إن الورع ـ أيها المريد الصادق ـ يراقب نفسه حتى في الساعات التي ه و‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،68/173 :‬والخصال ‪.1/11‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،90/341 :‬عن‪ :‬عدة الداعي ص‪.125‬‬
‫‪305‬‬
‫فيها مشغول الجوارح بالمطعم والمشرب‪ ،‬فإنه مع هذا االشتغال ال يخل و عن عم ل‬
‫ه و أفض ل األعم ال وه و ال ذكر والفك ر‪ ،‬ف إن الطع ام ال ذي يتناول ه مثالً في ه من‬
‫العجائب ما لو تفكر فيه وفطن له كان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح‪.‬‬
‫ومما ييسر لك ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ علمك أن (ساعات اإلنسان ثالث ة‪:‬‬
‫ساعة مضت ال تعب فيها على العب د كيفم ا انقض ت في مش قة أو رفاهي ة‪ ..‬وس اعة‬
‫مستقبلة لم تأت بعد ال يدري العبد أيعيش إليها أم ال‪ ،‬وال يدري ما يقض ي هللا فيه ا‪..‬‬
‫وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفس ه وي راقب فيه ا رب ه‪ ..‬ف إن لم تأت ه الس اعة‬
‫الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة‪ ،‬وإن أتته الساعة الثانية استوفى حق ه منه ا‬
‫كم ا اس توفى من األولى‪ ..‬وال يط ول أمل ه خمس ين س نة فيط ول علي ه الع زم على‬
‫المراقبة فيها‪ ،‬بل يكون ابن وقته‪ ،‬وكأنه في آخر أنفاسه‪ ،‬فلعله آخ ر أنفاس ه وه و ال‬
‫ي دري‪ ،‬وإذا أمكن أن يك ون آخ ر أنفاس ه‪ ،‬فينبغي أن يك ون على وج ه ال يك ره أن‬
‫يدركه الموت وهو على تلك الحالة)‬
‫وال تستهن به ذه المراقب ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ذل ك أن تض ييعها يع ني‬
‫ضياع كل شيء‪ ،‬ذلك أن هللا تعالى كما وفر األجور العظيمة على األعم ال‪ ،‬وض ع‬
‫القوانين لقبولها؛ والتقصير في النظر في تلك القوانين قد يعرض األعم ال لإلحب اط‬
‫والفساد‪ ،‬كما قال تعالى في تحذير الذين يس يئون األدب م ع رس ول هللا ‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫ت النَّبِ ِّي َواَل تَجْ هَ رُوا لَ هُ بِ ْالقَوْ ِل َك َج ْه ِر‬
‫ص وْ ِ‬ ‫ص َواتَ ُك ْم فَ وْ َ‬
‫ق َ‬ ‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل تَرْ فَ ُع وا أَ ْ‬
‫ْض أَ ْن تَحْ بَطَ أَ ْع َمالُ ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم اَل تَ ْش ُعرُونَ ﴾ [الحجرات‪]2 :‬‬
‫ْض ُك ْم لِبَع ٍ‬
‫بَع ِ‬
‫ومث ل ذل ك م ا ورد في إجاب ة ال دعاء‪ ..‬ف العبرة ليس ت بال دعاء فق ط‪ ،‬وإنم ا‬
‫بتوفير قابلية اإلجابة‪.‬‬
‫ومن ذل ك ت رك الح رام‪ ،‬ذل ك أن هللا تع الى ال يجيب من يأك ل الح رام‪ ،‬وق د‬
‫روي أن رجال أتى الن بي ‪ ‬فق ال‪( :‬ادع هللا أن يس تجيب دع ائي‪ ،‬فق ال ‪( :‬إذا‬
‫أردت ذلك فأطبْ كسبك)(‪)1‬‬
‫وقال ‪( :‬يا أيها الناس‪ ،‬إن هللا طيب ال يقب ل إال طيبً ا‪ ،‬وإن هللا أم ر المتقين‬
‫صالِحًا إِني بِ َما‬ ‫ت َوا ْع َملُوا َ‬‫بما أمر به المرسلين فقال‪﴿ :‬يَا أَيهَا الر ُس ُل ُكلُوا ِمنَ الطيبَا ِ‬
‫ت َم ا‬ ‫تَ ْع َملُ ونَ َعلِي ٌم﴾ [المؤمن ون‪ ،]51 :‬وق ال‪﴿ :‬يَ ا أَيهَ ا ال ِذينَ آ َمنُ وا ُكلُ وا ِم ْن طَيبَ ا ِ‬
‫َر َز ْقنَا ُك ْم﴾ [البقرة‪ ،)]172 :‬ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغ بر‪( :‬يم د يدي ه إلى‬
‫الس ماء‪ :‬ي ا رب ي ا رب‪ ،‬ومطعم ه ح رام‪ ،‬ومش ربه ح رام‪ ،‬وغ ِّذي ب الحرام‪ ،‬ف أنَّى‬
‫يستجاب لذلك؟!)(‪)2‬‬
‫وأخبر النبي ‪ ‬عن عدم استجابة هللا تعالى للس اكتين عن األم ر ب المعروف‬
‫ولتنهن عن المنكر‪ ،‬أو ليسلّطن هللا‬ ‫ّ‬ ‫أو النهي عن المنكر‪ ،‬فقال‪( :‬لتأمر ُّن بالمعروف‪،‬‬
‫شراركم على خياركم‪ ،‬فيدعو خياركم فال يُستجاب لهم)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،372 /90 :‬ودعوات الراوندي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم (‪)1015‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،90/378 :‬وفالح السائل‪.‬‬
‫‪306‬‬
‫وأخبر عن عدم استجابة هللا تعالى للمسيئين لألدب معه‪ ،‬كذلك ال ذي دع ا هللا‬
‫أن ال يغفر لفالن من الناس‪ ،‬فقال هللا له‪( :‬من ذا الذي يتألى علي أن ال أغف ر لفالن)‬
‫(‪)1‬‬
‫وأخبر عن عدم استجابة هللا تعالى سؤال ما ال يجوز سؤاله؛ ك أن ي دعو ب إثم‬
‫أو قطيعة رحم؛ فقال‪( :‬ال يزال يستجاب للعبد ما لم يدع ب إثم أو قطيع ة رحم‪ ،‬م ا لم‬
‫يستعجل) قيل‪ :‬يا رسول هللا ما االستعجال؟ قال‪ :‬يقول‪( :‬قد دعوت وق د دع وت‪ ،‬فلم‬
‫أر يستجيب لي‪ ،‬فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء) (‪)2‬‬
‫وأخبر عن عدم استجابة هللا تعالى سؤال من يعلق الدعاء بمش يئة هللا تع الى؛‬
‫كأن يقول‪ :‬اللهم اغفر لي إن شئت‪ ،‬فقال‪( :‬ال يقولن أحدكم‪ :‬اللهم اغفر لي إن شئت‪،‬‬
‫اللهم ارحمني إن شئت‪ ،‬ليعزم المسألة؛ فإنه ال مستكره له) (‪)3‬‬
‫وأخبر عن عدم استجابة هللا تعالى سؤال من يدعو بتعجيل العقوبة‪ ،‬فقد روي‬
‫أنه ‪ ‬رجاًل من المسلمين قد ضعف ح تى ص ار مث ل الف رخ فق ال ل ه‪( :‬ه ل كنت‬
‫ت دعو بش يء أو تس أله إي اه؟) ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬كنت أق ول‪ :‬اللهم م ا كنت مع اقبي ب ه في‬
‫اآلخ رة فافعل ه في ال دنيا‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪( :‬س بحان هللا! ال تطيق ه ـ أو‪ :‬ال‬
‫تس تطيعه ـ أفال قلت‪ :‬اللهم آتن ا في ال دنيا حس نة‪ ،‬وفي اآلخ رة حس نة‪ ،‬وقن ا ع ذاب‬
‫النار؟!) فدعا هللا له فشفاه(‪.)4‬‬
‫ومثل ذلك م ا ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ال ت دعوا على‬
‫أنفسكم إال بخير‪ ،‬وال ت دعوا على أوالدكم‪ ،‬وال ت دعوا على أم والكم‪ ،‬ال توافق وا من‬
‫هللا ساعة ي ُسأل فيها عطا ًء فيستجيب لكم)(‪)5‬‬
‫وهك ذا ورد في الرواي ات واألخب ار الكث يرة م ا ي بين أن اإلجاب ة والقب ول‬
‫تتوقفان على شروط كثيرة من لم يؤدها ال تتحقق له اإلجابة‪ ،‬وال القبول‪ ،‬ومنه ا م ا‬
‫روي في أخبار األنبياء أن موسى عليه السالم رأى رجالً يتضرّع تضرّعا عظيم اً‪،‬‬
‫ويدعو رافعا ً يديه ويبتهل‪ ،‬فأوحى هللا إلى موسى‪( :‬لو فع ل ك ذا وك ذا لم ا اس تجبت‬
‫ألن في بطنه حراماً‪ ،‬وعلى ظهره حراماً‪ ،‬وفي بيته حراماً)(‪)6‬‬ ‫دعاءه‪ّ ،‬‬
‫وروي أن هللا تعالى أوحى للمسيح عليه السالم‪( :‬يا عيس ى‪ ..‬ق ل لظلم ة ب ني‬
‫إسرائيل‪ :‬غس لتم وج وهكم‪ ،‬ودنّس تم قل وبكم‪ ،‬أَبي تغ ترّون ؟‪ ..‬أم عل ّي تج ترؤن ؟‪..‬‬
‫تتطيّبون الطيب ألهل الدنيا‪ ،‬وأج وافكم عن دي بمنزل ة الجي ف المنتن ة‪ ،‬ك أنّكم أق و ٌم‬
‫ميّتون‪ ..‬يا عيسى‪ ..‬قل لهم‪ :‬قلّموا أظفاركم من كسب الحرام‪ ،‬وأص ّموا أسماعكم عن‬
‫ذكر الخنا‪ ،‬وأقبلوا عل ّي بقلوبكم فإنّي لست أريد صوركم‪ ..‬يا عيسى‪ ..‬قل لظلمة بني‬
‫إسرائيل‪ :‬ال تدعوني والس حت تحت أق دامكم‪ ،‬واألص نام في بي وتكم‪ ،‬ف إنّي آليت أن‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)2621‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ ،)684‬ومسلم (‪)2735‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ ،)6339‬ومسلم (‪)2679‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم (‪)1688‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم (‪)3009‬‬
‫‪ )(6‬بحار األنوار‪ ،372 /90 :‬ودعوات الراوندي‪.‬‬
‫‪307‬‬
‫لعن لهم حتّى‬ ‫أجيب َمن دعاني‪ّ ،‬‬
‫وإن إجابتي إيّاهم ٌ‬
‫يتفرّقوا)(‪)1‬‬
‫وروي أن هللا تعالى أوحى إلى داود عليه السالم‪( :‬أن أبلغ قومك أنّه ليس من‬
‫عب ٍد منهم آمره بطاعتي فيطيعني‪ ،‬إالّ كان حقّا عل ّي أن أطيعه وأعينه على ط اعتي‪،‬‬
‫وإن سألني أعطيت ه‪ ،‬وإن دع اني أجبت ه‪ ،‬وإن اعتص م بي عص مته‪ ،‬وإن اس تكفاني‬
‫كفيته‪ ،‬وإن تو ّكل عل ّي حفظته من وراء عورته‪ ،‬وإن ك اده جمي ع خلقي كنت دون ه)‬
‫(‪)2‬‬
‫وروي أن هللا تعالى أوحى له‪( :‬قل للجبّ ارين‪( :‬ال ي ذكروني فإن ه ال ي ذكرني‬
‫عب ٌد إالّ ذكرته‪ ،‬وإن ذكروني ذكرتهم فلعنتهم)(‪)3‬‬
‫أن رجالً كان في بني إسرائيل قد دعا هللا أن يرزقه غالما ً يدعو ثالث ا ً‬ ‫وروي ّ‬
‫َ‬
‫أن هللا تعالى ال يجيبه قال‪( :‬يا ربّ ‪ ..‬أبعي ٌد أنا منك فال تسمع‬ ‫وثالثين سنة‪ ،‬فل ّما رأى ّ‬
‫ّ‬
‫ت في منام ه فق ال ل ه‪( :‬إن ك ت دعو هللا‬ ‫منّي ؟‪ ..‬أم قريبٌ أنت فال تجيبني ؟)‪ ..‬فأتاه آ ٍ‬
‫نقي‪ ،‬وبنيّ ٍة غير صادقة‪ ،‬فاقلع من ب ذائك‪ ،‬وليتّ ق‬ ‫ت غير ٍّ‬ ‫ق عا ٍ‬ ‫ب غل ٍ‬ ‫بلسا ٍن بذيّ‪ ،‬وقل ٍ‬
‫)‬ ‫(‬ ‫ّ‬
‫هللا قلبك‪ ،‬ولتحسن نيّتك)‪ ،‬ففعل الرجل ذلك فدعا هللا عز وج ّل فولد له غال ٌم ‪. 4‬‬
‫ال َربُّك ُمُ‬
‫﴿وقَ َ‬‫إن هللا يق ول‪َ :‬‬‫ومنها ما روي أن سائال س أل اإلم ام علي‪ ،‬فق ال‪ّ :‬‬
‫ا ْدعُونِي أَ ْستَ ِجبْ لَ ُك ْم﴾ [غ افر‪ ،]60 :‬ونحن ن دعو فال يُس تجاب لن ا‪ ،‬فق ال ل ه اإلم ام‬
‫(إن قلوبكم خانت بثم ان خص ا ٍل‪ :‬أوّله ا‪ :‬أنّكم ع رفتم هللا فلم ت ؤ ّدوا حقّ ه كم ا‬ ‫علي‪ّ :‬‬
‫ً‬
‫أوجب عليكم‪ ،‬فما أغنت عنكم معرفتكم شيئا‪ ..‬والثاني‪( :‬أنكم آمنتم برسوله ث ّم خالفتم‬
‫سنته وأمتّم شريعته‪ ،‬فأين ثمرة إيمانكم ؟‪ ..‬والثالثة‪ :‬أنّكم ق رأتم كتاب ه الم نزل عليكم‬
‫فلم تعملوا به‪ ،‬وقلتم‪ :‬سمعنا وأطعنا ث ّم خالفتم‪ ..‬والرابع ة‪ :‬أنكم قلتم أنكم تخ افون من‬
‫النار‪ ،‬وأنتم في ك ّل وقت تقدمون إليها بمعاص يكم ف أين خ وفكم ؟‪ ..‬والخامس ة‪ :‬أنكم‬
‫ت تفعل ون م ا يباع دكم منه ا‪ ،‬ف أين‬ ‫قلتم أنكم ترغب ون في الجنّ ة‪ ،‬وأنتم في ك ّل وق ٍ‬
‫رغبتكم فيها ؟‪ ..‬والسادسة‪ :‬أنكم أكلتم نعمة الم ولى ولم تش كروا عليه ا‪ ..‬والس ابعة‪:‬‬
‫أن هللا أمركم بعداوة الشيطان وقال‪﴿ :‬إِ َّن ال َّش ْيطَانَ لَ ُك ْم َعد ٌُّو فَاتَّ ِخ ُذوهُ َع ُد ًّوا﴾ [ف اطر‪:‬‬
‫‪ ]6‬فع اديتموه ب القول‪ ،‬وواليتم وه بال مخالف ة‪ ..‬والثامن ة‪ :‬أنكم جعلتم عي وب الن اس‬
‫ي‬‫ق ب اللوم من ه‪ ،‬ف أ ّ‬ ‫نصب عيونكم‪ ،‬وعي وبكم وراء ظه وركم‪ ،‬تلوم ون َمن أنتم أح ّ‬
‫دعاء يُستجاب لكم مع هذا ؟‪ ..‬وق د س ددتم أبواب ه وطرق ه ؟‪ ..‬ف اتّقوا هللا‪ ،‬وأص لحوا‬
‫أعمالكم‪ ،‬وأخلصوا سرائركم‪ ،‬وأمروا بالمعروف‪ ،‬وانهوا عن المنكر‪ ،‬فيستجيب هللا‬
‫لكم دعاءكم)(‪)5‬‬
‫وروي أن اإلمام الصادق سئل نفس السؤال‪ ،‬فقال‪( :‬ألنّكم ال تف ون هلل بعه ده‪،‬‬
‫وف بِ َع ْه ِد ُك ْم﴾ [البق رة‪ ،]40 :‬وهللا ل و وفيتم ل ه ل وفى‬ ‫وإن هللا يقول‪َ ﴿ :‬وأَوْ فُوا بِ َع ْه ِدي أُ ِ‬
‫ّ‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،373 /90 :‬وعدة الداعي ص‪.102‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،90/376 :‬وعدة الداعي‪.‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،90/320 :‬وفالح السائل ص‪.37‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،90/370 :‬وقصص األنبياء‪.‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،90/377 :‬ودعائم الدين‪.‬‬
‫‪308‬‬
‫لكم)(‪)1‬‬ ‫هللا‬
‫وق ال ل ه آخ ر‪( :‬ن دعو فال يُس تجاب لن ا)‪ ،‬فق ال لهم‪( :‬ألنّكم ت دعون َمن ال‬
‫تعرفونه)(‪)2‬‬
‫هذا جوابي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ على أس ئلتك‪ ،‬فاس ع ألن تس تعمل ه ذه‬
‫الوسيلة في تزكية نفسك وتربيتها لتصبح أهال للمراتب الرفيعة التي هيأها هللا لها‪.‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،90/368 :‬وتفسير القمي ص‪.38‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،368 /90 :‬والتوحيد ص‪.209‬‬
‫‪309‬‬
‫المحاسبة الدقيقة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المرابط ة الثالث ة من مرابط ات‬
‫النفس اللوام ة‪ ،‬تل ك ال تي اُتف ق على تس ميتها [المحاس بة]‪ ،‬وفائ دتها‪ ،‬وكيفيته ا‪،‬‬
‫والنصوص المقدسة الدالة عليها‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن المحاسبة ركن من أركان الس ير إلى‬
‫هللا‪ ،‬فال يمكن للسالك أن يزكي نفسه‪ ،‬وال أن يرتقي بها في مع ارج الكم ال المهيئ ة‬
‫لها ما لم يتعامل مع نفسه تعامل الشريك مع شريكه‪ ،‬يحاسبه على الدينار وال درهم‪،‬‬
‫والقليل والكثير‪ ،‬حتى تس تقيم لهم ا الش راكة‪ ،‬وال يمي ل به ا أح دهما حيث يمي ل ب ه‬
‫هواه‪.‬‬
‫وسر المحاسبة ـ أيها المريد الصادق ـ ينطلق من شعور السالك أنه ليس حرا‬
‫في تصرفاته‪ ،‬وإنما هو عبد لربه الذي خلقه‪ ،‬ووفر له كل ما يحتاجه في هذا العالم‪،‬‬
‫ال ليسكن له‪ ،‬أو يمارس فيه ما تشاء له نفسه أو مجتمعه‪ ،‬وإنم ا لينف ذ في ه الوظ ائف‬
‫التي كلف بها‪ ،‬وهي وظائف ال غرض له ا س وى تزكيت ه‪ ،‬وتهذيب ه‪ ،‬وتأهيل ه لع الم‬
‫أكثر جماال‪.‬‬
‫وبذلك فإن المحاسب لنفسه يشبه األستاذ الذي يحاسب تالميذه على دروسهم‪،‬‬
‫ومراجعتهم لها‪ ،‬وحلهم للمسائل التي يطلبها منهم‪..‬‬
‫وهذا ليس مجرد مثال تقريبي‪ ،‬بل هو الحقيقة‪ ،‬فاإلنس ان في ه ذه ال دنيا ليس‬
‫سوى تلميذ في المدرسة اإللهية؛ ف إن ك ان نجيب ا اح ترم الوظ ائف ال تي كل ف به ا‪،‬‬
‫وأجاب عن األسئلة التي يسأل عنها‪ ،‬وندم على ك ل مس ألة أخط أ في جوابه ا‪ ..‬وإن‬
‫كان بليدا كسوال مشاغبا‪ ،‬لم يكتف بالس خرية من األس ئلة‪ ،‬وال بع دم اإلجاب ة عنه ا‪،‬‬
‫وإنم ا يض يف إلى ذل ك م ا يفعل ه المش اغبون من الس خرية من األس تاذ والمدرس ة‬
‫واألسئلة‪.‬‬
‫وال دنيا ك ذلك مث ل الس وق ال ذي يت اجر في ه المت اجرون بأص ناف الس لع‪،‬‬
‫والتاجر الناجح هو الذي يحاسب نفسه على أنواع الس لع ال تي يعرض ها‪ ،‬واألس عار‬
‫التي يبيعها بها‪ ،‬وطريقة تعامله مع الزب ائن‪ ..‬ح تى ال يخس ر تجارت ه ال تي تتوق ف‬
‫على كل ذلك‪.‬‬
‫إذا علمت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن للمحاس بة ال تي ي ذكرها‬
‫الحكماء فرعان‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬عرض األعمال اليومي ة أو األس بوعية أو الش هرية على المش ارطة‬
‫التي اشترطها السالك على نفسه‪ ،‬وهل أداها‪ ،‬أم قصر فيها؟‬
‫وثانيهما‪ :‬التدقيق في كل عمل من األعمال ال تي ق ام به ا الس الك‪ ،‬وه ل هي‬
‫موافقة للشريعة‪ ،‬أم مخالفة لها‪ ،‬وهل أريد بها وجه هللا‪ ،‬أم أريد بها غيره‪.‬‬
‫المحاسبة والمشارطة‪:‬‬
‫‪310‬‬
‫أما األولى‪ ،‬وهي المحاس بة المرتبط ة بالمش ارطة؛ فق د ق ال بعض الحكم اء‬
‫يذكرها‪( :‬اعلم أن العبد كم ا يك ون ل ه وقت في أول النه ار يش ارط في ه نفس ه على‬
‫سبيل التوصية بالحق؛ فينبغي أن يكون له في آخر النهار س اعة يط الب فيه ا النفس‬
‫ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها‪ ،‬كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في‬
‫آخر كل سنة‪ ،‬أو شهر‪ ،‬أو يوم‪ ،‬حرصا منهم على الدنيا‪ ،‬وخوفا من أن يفوتهم منه ا‬
‫ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته‪ ،‬ولو حصل ذلك لهم فال يبقى إال أياما قالئل‪.‬‬
‫فكيف ال يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خط ر الش قاوة والس عادة أب د اآلب اد! م ا‬
‫هذه المساهلة إال عن الغفلة‪ ،‬والخذالن‪ ،‬وقلة التوفيق) (‪)1‬‬
‫ثم ش رح كيفي ة تعام ل الش ركاء م ع بعض هم‪ ،‬وه و نفس م ا يمكن أن يفعل ه‬
‫المحاس ب لنفس ه معه ا‪ ،‬فق ال‪( :‬ومع نى المحاس بة م ع الش ريك أن ينظ ر في رأس‬
‫المال‪ ،‬وفي الربح والخسران‪ ،‬ليتبين ل ه الزي ادة من النقص ان‪ .‬ف إن ك ان من فض ل‬
‫حاص ل اس توفاه وش كره وإن ك ان من خس ران طالب ه بض مانه وكلف ه تدارك ه في‬
‫المستقبل) (‪)2‬‬
‫ثم بين كيفية تطبيق السالك ذلك على نفسه‪ ،‬فقال‪( :‬فكذلك رأس مال العب د في‬
‫دينه الفرائض‪ ،‬وربحه النوافل والفضائل‪ ،‬وخسرانه المعاصي‪ .‬وموسم هذه التجارة‬
‫جملة النهار‪ ،‬ومعاملة نفسه األمارة بالسوء فيحاسبها على الفرائض أوال‪ ،‬فإن أداه ا‬
‫على وجهها شكر هّللا تعالى عليه‪ ،‬ورغبها في مثله ا‪ ،‬وإن فوّته ا من أص لها طالبه ا‬
‫بالقض اء‪ ،‬وإن أداه ا ناقص ة كلفه ا الج بران بالنواف ل‪ ،‬وإن ارتكب معص ية اش تغل‬
‫بعقوبتها‪ ،‬وتعذيبها‪ ،‬ومعاتبتها ليس توفى منه ا م ا يت دارك ب ه م ا ف رط‪ ،‬كم ا يص نع‬
‫التاجر بشريكه وكما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط‪ ،‬فيحف ظ م داخل‬
‫الزي ادة والنقص ان ح تى ال يغبن في ش يء منه ا‪ ،‬فينبغي أن يتقى غبين ة النفس‬
‫ومكرها‪ ،‬فإنها خداعة ملبسة مكارة فليطالبها أوال بتص حيح الج واب عن جمي ع م ا‬
‫تكلم به طول نهاره‪ ،‬وليتكفل بنفسه من الحساب ما سيتواله غيره في صعيد القيامة‪،‬‬
‫وهكذا عن نظ ره‪ ،‬ب ل عن خ واطره‪ ،‬وأفك اره‪ ،‬وقيام ه‪ ،‬وقع وده‪ ،‬وأكل ه‪ ،‬وش ربه‪،‬‬
‫ونومه‪ ،‬حتى عن سكوته إنه لم س كت‪ ،‬وعن س كونه لم س كن‪ .‬ف إذا ع رف مجم وع‬
‫الواجب على النفس‪ ،‬وصح عنده قدر أدى الواجب فيه‪ ،‬كان ذلك القدر محسوبا ل ه‪،‬‬
‫فيظهر له الب اقي على نفس ه‪ ،‬فليثبت ه عليه ا‪ ،‬وليكتب ه على ص حيفة قلب ه كم ا يكتب‬
‫الب اقي ال ذي على ش ريكه على قلب ه وفي جري دة حس ابه ثم النفس غ ريم يمكن أن‬
‫يستوفى منه الديون‪ .‬أما بعضها فبالغرامة والضمان‪ ،‬وبعضها بر ّد عين ه‪ ،‬وبعض ها‬
‫بالعقوب ة له ا على ذل ك‪ .‬وال يمكن ش يء من ذل ك إال بع د تحقي ق الحس اب وتمي يز‬
‫الباقي من الحق الواجب عليه‪ .‬فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالبة واالستيفاء) (‪)3‬‬
‫المحاسبة والتزكية‪:‬‬
‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪25 /15 ،‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪25 /15 ،‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪25 /15 ،‬‬
‫‪311‬‬
‫أما المحاسبة الثانية‪ ،‬والمرتبطة بالتزكية‪ ،‬ف إن الس الك الج اد الح ريص على‬
‫سعادته األبدية ال يكتفي بحساب نفسه على ما فعله في يومه أو في الف ترات القريب ة‬
‫منه‪ ،‬بل عليه أن يحاسبها على كل ما سلف منها‪ ،‬بل (ينبغي أن يحاس ب النفس على‬
‫جميع العمر يوما يوما‪ ،‬وساعة ساعة‪ ،‬في جميع األعضاء الظاهرة والباطنة) (‪)1‬‬
‫وقد روي في هذا عن بعض الصالحين أنه كان محاسبا لنفسه‪( ،‬فحسب يوم ا‬
‫فإذا هو ابن ستين سنة‪ ،‬فحسب أيامها فإذا هي أحد وعش رون أل ف ي وم وخمس مائة‬
‫يوم‪ ،‬فصرخ وقال‪ :‬يا ويلتي‪ ،‬ألقى الملك بأحد وعشرين أل ف ذنب! فكي ف وفي ك ل‬
‫يوم عشرة آالف ذنب! ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت‪ ،‬فسمعوا قائال يق ول‪ :‬ي ا ل ك‬
‫من ركضة إلى الفردوس األعلى!)(‪)2‬‬
‫وقد علق بعض الحكماء على ذلك بقوله‪( :‬فهكذا ينبغي أن يحاسب نفس ه على‬
‫األنف اس‪ ،‬وعلى معص يته ب القلب والج وارح في ك ل س اعة‪ .‬ول و رمى العب د بك ل‬
‫معصية حجرا في داره المتألت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره‪ ،‬ولكنه يتساهل‬
‫في حفظ المعاصي‪ ،‬والملكان يحفظان عليه ذلك‪ ،‬أحصاه هّللا ونسوه) (‪)3‬‬
‫هذا ما ذكره الحكماء والربانيون ـ أيها المريد الص ادق ـ فاس مع لهم‪ ،‬وإي اك‬
‫أن تسمع ألولئك المشاغبين الذين يكذبون عليك‪ ،‬ويمنونك‪ ،‬ويتركونك ألهوائ ك‪ ،‬ثم‬
‫يمألونك بعدها بأصناف الغ رور‪ ..‬فاهلل تع الى لم يخلق ك لتعبث ب ك األه واء‪ ،‬وإنم ا‬
‫خلقك لتؤدي ما عليك من وظائف‪.‬‬
‫وقد قال بعضهم معبرا عن الفرق بين ما يقول ه الحكم اء المري دون هلل‪ ،‬وبين‬
‫المدعين‪ ،‬فق ال‪( :‬المري د ي دعوك إلى الص دق فى المعامل ة‪ ،‬والم دعى ي دعوك إلى‬
‫الصد عن المحاسبة‪ ،‬ألن ح ال المري د الخ وف‪ ،‬والح زن والح ذر‪ ،‬وح ال الم دعى‬
‫األمن‪ ،‬واالغترار) (‪)4‬‬
‫و قال‪( :‬لما أهملوا أمر هّللا عز وجل أسلموا إلى عباده‪ ،‬ولما تركوا المحاس بة‬
‫ألنفسهم عموا عن عيوبهم‪ ،‬فكانت عقوبة الخذالن التعلق بالخلق دون هّللا عز وجل‪،‬‬
‫وكانت عقوبة الترك للرعاية رجوعهم إلى الخب‪ ،‬والحيل‪ ،‬والتدابر‪ ،‬والتقاطع فيم ا‬
‫بينهم‪ ،‬والتدابر‪ ،‬والتحاسد) (‪)5‬‬
‫وقد روي من محاسبة الصالحين ألنفس هم أن بعض هم ق ال يوم ا لوالدت ه‪ :‬ي ا‬
‫والدتي‪ ،‬أقسم عليك هل تناولت شيئا من الحرام بسببي أيام كنت ترضعيني؛ فإني ال‬
‫آمن أن يكون قد وصل إلى قل بي ش يء من ذل ك‪ ،‬وأن ا ال أعلم‪ ،‬فيحجب ني ذل ك عن‬
‫ربّي؟ فق الت ل ه أم ه‪ :‬ال أذك ر إال أني دخلت يوم ا إلى بعض جيرانن ا وأنت في‬
‫حجري‪ ،‬فأخ ذت ق ارورة دهنهم‪ ،‬ف دهنت رأس ك‪ ،‬ولم أعلمهم‪ ،‬ويوم ا آخ ر كحلت ك‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪25 /15 ،‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪25 /15 ،‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪25 /15 ،‬‬
‫‪ )(4‬األنوار في علم األسرار ومقامات األبرار (ص‪)21 :‬‬
‫‪ )(5‬االنوار فى علم االسرار ومقامات االبرار‪ ،‬ص‪133 :‬‬
‫‪312‬‬
‫بكحلهم ولم أستأذنهم‪ ،‬فقال الصالح‪( :‬إن هّللا تع الى يحاس ب عب اده على مثق ال ذرة‪،‬‬
‫أال ترين إلى قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َم ْن يَ ْع َملْ ِم ْثقا َل َذ َّر ٍة خَ يْراً يَ َرهُ (‪ )7‬و َم ْن يَ ْع َملْ ِم ْثقا َل َذ َّر ٍة‬
‫َش ًّرا يَ َرهُ﴾ [الزلزلة‪ ،]8 ،7 :‬وهذا أعظم من ذرة‪ ،‬فأخشى أن يقطع ني عن ربّي‪ ،‬ثم‬
‫قام‪ ،‬وسأل عن القوم‪ ،‬وطلب ورثتهم‪ ،‬فاستح ّل منهم لنفسه وألمه(‪.)1‬‬
‫ال تتعجب ـ أيها المريد الصادق ـ من هذه الحكاية‪ ،‬وال من غيره ا؛ فمن ق رأ‬
‫النصوص المقدس ة‪ ،‬وت دبر فيه ا‪ ،‬وع اش معانيه ا‪ ،‬يحت اط لنفس ه‪ ،‬وال يتب ع ه واه‪،‬‬
‫وكي ف يتبع ه‪ ،‬وه و يعلم أن م وازين اآلخ رة‪ ،‬لن ت ترك ذرة من األعم ال دون أن‬
‫تزنها‪ ،‬ودون أن يحاسب صاحبها عليها‪.‬‬
‫ل ذلك ب ادر الص الحون والعقالء إلى محاس بة أنفس هم قب ل أن يحاس بوا‪..‬‬
‫ازينَ ْالقِ ْسطَ لِيَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة فَاَل‬
‫َض ُع ْال َم َو ِ‬
‫﴿ون َ‬ ‫ووضعوا كل حين بين أعينهم قوله تعالى‪َ :‬‬
‫اسبِينَ ﴾ [األنبياء‪:‬‬ ‫ظلَ ُم نَ ْفسٌ َش ْيئًا َوإِ ْن َكانَ ِم ْثقَا َل َحبَّ ٍة ِم ْن خَرْ َد ٍل أتَ ْينَا بِهَا َو َكفَى بِنَا َح ِ‬
‫َ‬ ‫تُ ْ‬
‫‪ ،]47‬وقوله‪﴿ :‬يَوْ َمئِ ٍذ يَصْ ُد ُر النَّاسُ أَ ْشتَاتًا لِيُ َروْ ا أَ ْع َم الَهُ ْم (‪ )6‬فَ َم ْن يَ ْع َم لْ ِم ْثقَ ا َل َذ َّر ٍة‬
‫ال َذ َّر ٍة َش ًّرا يَ َرهُ﴾ [الزلزلة‪]8 - 6 :‬‬ ‫خَ ْيرًا يَ َرهُ (‪َ )7‬و َم ْن يَ ْع َملْ ِم ْثقَ َ‬
‫فله ذا لم ينتظ روا أن تنص ب لهم تل ك الم وازين في اآلخ رة‪ ،‬ب ل نص بوها‬
‫ألنفسهم في الدنيا؛ فحاسبوها على الص غير والكب ير‪ ،‬وب ادروا إلى التوب ة عن د ك ل‬
‫خطأ مهما احتقره الناس‪ ،‬أو لم يبالوا به‪.‬‬
‫وكل ذلك حذرا من أن يص يبهم م ا أص اب أولئ ك ال ذين وص فهم هللا تع الى‪،‬‬
‫ال هَ َذا‬ ‫ض َع ْال ِكتَابُ فَت ََرى ْال ُمجْ ِر ِمينَ ُم ْشفِقِينَ ِم َّما فِي ِه َويَقُولُ ونَ يَا َو ْيلَتَنَ ا َم ِ‬ ‫﴿و ُو ِ‬‫فقال‪َ :‬‬
‫ظلِ ُم‬ ‫اض رًا َواَل يَ ْ‬ ‫صاهَا َو َو َجدُوا َما َع ِملُوا َح ِ‬ ‫ص ِغي َرةً َواَل َكبِي َرةً إِاَّل أَحْ َ‬ ‫ب اَل يُغَا ِد ُر َ‬ ‫ْال ِكتَا ِ‬
‫ك أَ َحدًا﴾ [الكهف‪]49 :‬‬ ‫َربُّ َ‬
‫أو أولئك ال ذين نس وا أعم الهم‪ ،‬ولكن هللا تع الى لم ينس ها‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬يَ وْ َم‬
‫ص اهُ هَّللا ُ َون َُس وهُ َوهَّللا ُ َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾‬ ‫يَ ْب َعثُهُ ُم هَّللا ُ َج ِميعًا فَيُنَبِّئُهُ ْم بِ َما َع ِملُ وا أَحْ َ‬
‫[المجادلة‪]6 :‬‬
‫ولهذا؛ فإن الدليل األكبر على مشروعية المحاس بة‪ ،‬ب ل وجوبه ا ه و الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬فاهلل تعالى لم يخبرن ا عم ا يحص ل في اآلخ رة من أن واع الحس اب ال دقيق‪،‬‬
‫لنتسلى بها‪ ،‬وإنما لنأخذ حذرنا‪ ،‬فنحاس ب أنفس نا قب ل أن نحاس ب‪ ،‬وق د ق ال اإلم ام‬
‫الصّادق‪( :‬إذا أراد احدكم أن ال يسأل ربّه شيئا إال أعطاه فلييأس من النّاس كلهم وال‬
‫يكون له رجاء إاّل من عند هّللا ‪ ،‬ف اذا علم هّللا ذل ك من قلب ه لم يس أله ش يئا إال أعط اه‬
‫فحاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا عليها‪ ،‬فان للقيامة خمس ين موقف ا ك ل موق ف مق ام‬
‫سنَ ٍة﴾ [المعارج‪)2( )]4 :‬‬ ‫ألف سنة ث ّم تال ﴿فِي يَوْ ٍم َكانَ ِم ْقدَا ُرهُ خَ ْم ِسينَ أَ ْلفَ َ‬
‫وقال‪( :‬لو لم يكن للحساب مهولة إال حياء الع رض على هّللا تع الى وفض يحة‬
‫ق للمرء أن ال يهبط من رؤوس الجبال‪ ،‬وال يأوي إلى‬ ‫هتك السّتر على المخفيات لح ّ‬

‫‪ )(1‬روضة الحبور (ص ‪)58‬‬


‫‪ )(2‬الكافي‪ :‬ج ‪ 8‬ص ‪143‬‬
‫‪313‬‬
‫عمران‪ ،‬وال يشرب وال ينام إال عن اضطرار متّصل بالتّلف‪ ،‬ومث ل ذل ك يفع ل من‬
‫يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في ك ّل نفس ويعاين ب القلب الوق وف بين ي دي‬
‫الجبار حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة كأنه إلى عرصاتها مدع ّو وفي غمراتها مسؤول‪،‬‬
‫ازينَ ْالقِ ْس طَ لِيَ وْ ِم ْالقِيَا َم ِة فَاَل تُ ْ‬
‫ظلَ ُم نَ ْفسٌ َش ْيئًا َوإِ ْن َك انَ‬ ‫ض ُع ْال َم َو ِ‬‫﴿ونَ َ‬ ‫قال هّللا تعالى‪َ :‬‬
‫اسبينَ ﴾ [األنبياء‪)1( )]47 :‬‬
‫ال َحبَّ ٍة ِم ْن خَرْ د ٍَل أَتَ ْينَا بِهَا َو َكفَى بِنَا َح ِ ِ‬
‫ِم ْثقَ َ‬
‫وقال اإلم ام الك اظم‪( :‬ليس منّ ا من لم يحاس ب نفس ه في ك ل ي وم ف ان عم ل‬
‫حسنة استزاد هّللا وإن عمل سيّئة استغفر هّللا منها وتاب إليه)(‪)2‬‬
‫و قال اإلمام الباقر‪( :‬ال يغرّنك النّاس من نفسك فان األمر يص ل إلي ك دونهم‬
‫وال يقطع نهارك بكذا وكذا فان معك من يحفظ عليك عملك‪ ،‬فأحسن فاني لم أر شيئا‬
‫أحسن دركا وال أسرع طلبا من حسنة محدثة لذنب قديم)(‪)3‬‬
‫هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع ألن تحاسب نفسك قبل‬
‫أن تحا َسب‪ ،‬واسع لعرض أعمالك على موازين الشريعة اإللهية‪ ،‬قبل أن توضع في‬
‫موازين المحكمة اإللهية‪ ..‬واسع ألن تسير على السراط المستقيم في ال دنيا‪ ،‬قب ل أن‬
‫تكلف بالسير عليه في اآلخرة‪ ..‬فهو في الدنيا أكثر سعة‪ ،‬وأما في اآلخرة‪ ،‬فه و أح د‬
‫من السيف‪ ،‬وأدق من الشعرة‪.‬‬

‫‪ )(1‬مصباح الشريعة‪ :‬ص ‪85‬‬


‫‪ )(2‬الكافي‪ :‬ص ‪ 2‬ص ‪453‬‬
‫‪ )(3‬الكافي‪ :‬ج ‪ 2‬ص ‪454‬‬
‫‪314‬‬
‫المعاتبة والمعاقبة‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المرابطة األخ يرة ال تي ذكره ا‬
‫الحكم اء‪ ،‬وهي تل ك المعاتب ات والمعاقب ات ال تي ك انوا يطبقونه ا على أنفس هم‪،‬‬
‫ويتش ددون معه ا فيه ا‪ ،‬وم دى موافق ة ذل ك الش ريعة‪ ،‬وم دى تأثيره ا في التزكي ة‬
‫والترقية‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التعامل الصحيح مع النفس‪ ،‬يقتض ي‬
‫ذل ك‪ ،‬ذل ك أنه ا إن لم تخ ف العقوب ة‪ ،‬ركنت إلى األه واء‪ ،‬وش ردت به ا الس بل‪،‬‬
‫وصعب على صاحبها التحكم فيها‪.‬‬
‫لذلك قد يلجأ إلى فطامها عن بعض ما تحب‪ ،‬أو عقوبته ا بم ا تس تحق مثلم ا‬
‫يحصل مع الطفل الصغير الذي ال يفرق بين ما ينفعه وما يضره‪ ،‬كما عبر الش اعر‬
‫عن ذلك بقوله‪:‬‬
‫والنفس كالطفل إن تهمله شب على‪ ...‬حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم‬
‫فاصرف هواها وحاذر أن توليه‪ ...‬ان الهوى ما تولى يصم أو يصم‬
‫وراعها وهي في األعمال سائمة‪ ...‬وان هي استحلت المرعى فال تسم‬
‫كم حسنت لذة للمرء قاتلة‪ ...‬من حيث لم يدر أن السم في الدسم‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا عند ذكره ألمر هللا تعالى لبني إسرائيل بقت ل‬
‫وس ى لِقَوْ ِم ِه يَ ا قَ وْ ِم إِنَّ ُك ْم ظَلَ ْمتُ ْم‬ ‫ال ُم َ‬ ‫أنفسهم‪ ،‬بعد اتخاذهم العجل‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿:‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ارئِ ُك ْم فَا ْقتُلُوا أَ ْنفُ َس ُك ْم َذلِ ُك ْم خَ ْي ٌر لَ ُك ْم ِع ْن َد بَ ِ‬
‫ارئِ ُك ْم‬ ‫أَ ْنفُ َس ُك ْم بِاتِّخَا ِذ ُك ُم ْال ِعجْ َل فَتُوبُوا إِلَى بَ ِ‬
‫َّحي ُم (‪( ﴾)54‬البقرة)؟‬ ‫َاب َعلَ ْي ُك ْم إِنَّهُ ه َُو التَّوَّابُ الر ِ‬ ‫فَت َ‬
‫وقد روي في الحديث أنه انطلق رجل ذات يوم في عهد النبي ‪ ‬فنزع ثياب ه‬
‫وتمرّغ في الرمضاء‪ ،‬وجعل يقول لنفسه‪ :‬ذوقي ونار جهنم أش ّد ح ّراً أجيف ة باللي ل‬
‫بطالة بالنهار؟ فبـينما هو كذلك إذ أبصر النبـي ‪ ‬في ظل شجرة فأتاه فقال‪ :‬غلبتني‬
‫نفسي فقال له النبـي ‪( :‬ألم يكن لك بد من الذي صنعت‪ ،‬أما لق د فتحت ل ك أب واب‬
‫السماء‪ ،‬ولقد باهى هللا بك المالئكة)‪ ،‬ثم قال ألصحابه‪( :‬ت زودوا من أخيكم)‪ ،‬فجع ل‬
‫الرجل يقول له‪ :‬يا فالن ادع لي‪ ،‬ي ا فالن ادع لي‪ ،‬فق ال النبـي ‪( :‬عمهم)‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(اللهم اجعل التق وى زادهم‪ ،‬واجم ع على اله دى أم رهم)‪ ،‬فجع ل النبـي ‪ ‬يق ول‪:‬‬
‫(اللهم سدده)‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬اللهم اجعل الجنة مآبهم(‪.)1‬‬
‫وفي حديث آخر أن بعض أصحاب رسول هللا ‪ ،‬واسمه أبو لباب ة ـ بع دما‬
‫خالف ما أمره به رسول هللا ‪ ‬ـ أتى المسجد النبوي‪ ،‬فربط نفسه بسارية المس جد‪،‬‬
‫وحلف أال يحل ه إال رس ول هللا ‪ ‬بي ده‪ ،‬فلم ا بل غ رس ول هللا ‪ ‬خ بره ـ وك ان ق د‬
‫استبطأه ـ قال‪( :‬أما إنه لو جاءني الستغفرت له‪ ،‬أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بال ذي‬

‫‪ )(1‬رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس‪.‬‬


‫‪315‬‬
‫أطلقه من مكانه حتى يتوب هللا عليه)‬
‫وبقي أبو لبابة على تلك الحال إلى أن ن زلت توبت ه‪ ،‬ورس ول هللا ‪ ‬في بيت‬
‫أم س لمة‪ ،‬ق الت أم س لمة‪ :‬فس معت رس ول هللا ‪ ‬من الس حر يض حك‪ ،‬فقلت‪ :‬مم‬
‫تضحك يا رسول هللا أضحك هللا سنك؟ قال‪ :‬تيب علي أبي لبابة‪ ،‬قلت‪ :‬أفال أبشره يا‬
‫رسول هللا؟ قال‪ :‬بلى إن شئت‪ ..‬فقامت على باب حجرتها‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أب ا لباب ة أبش ر‬
‫فقد تاب هللا عليك‪ ،‬فثار الناس إليه ليطلقوه‪ ،‬فقال‪ :‬ال وهللا حتى يك ون رس ول هللا ‪‬‬
‫هو الذي يطلقني بيده الشريفة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وق د روي أن فاطم ة بنت رس ول هللا ‪ ‬ج اءت تحل ه؛ فق ال‪ :‬إنّي حلفت أال‬
‫يحلّني إال رسول هللا ‪ ‬فقال النبي ‪( :‬إن فاطمة بضعة مني)(‪)1‬‬
‫وقد أقام مربوطا ست ليالي أو سبع ليال‪ ،‬وقيل سبع عشرة ليلة‪ ..‬وكان تأتي ه‬
‫امرأته أو بنته في وقت كل صالة فتحله للصالة‪ ،‬ثم يعود فيربط ب العمود ح تى ك اد‬
‫يذهب سمعه وبصره‪.‬‬
‫وروي أنه قال للنبي ‪ ‬بعد أن تاب هللا عليه‪( :‬من تمام توب تي أن أهج ر دار‬
‫قوم أصبت فيها الذنب)‪ ،‬وروي أنه عاهد هللا أن ينخلع من ماله فقال له ‪(:‬يجزي ك‬
‫الثلث)(‪)2‬‬
‫وقد أقره رسول هللا ‪ ‬على فعله‪ ،‬ولو كان ذلك غير مشروع لنهاه‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأذكره لك مما قاله أو فعل ه‬
‫الصالحون بخصوص هذه المرابطة‪.‬‬
‫المعاتبة والتزكية‪:‬‬
‫أما المعاتب ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فيقص دون به ا تل ك المخاطب ات ال تي‬
‫يوجهها الصالحون ألنفسهم عتابا لها‪ ،‬وتص حيحا لمس ارها‪ ،‬ح تى تك ف عن غيه ا‪،‬‬
‫وتعود إلى رشدها‪.‬‬
‫وهي كثيرة جدا؛ فاهتم بمطالعتها‪ ،‬واالستفادة منها‪ ،‬وتعلم كي ف تخ اطب من‬
‫خاللها نفس ك‪ ،‬فهم لم يس جلوها في ال دواوين‪ ،‬ولم يحفظه ا ال رواة إال لتك ون س ندا‬
‫للس الكين والس ائرين‪ ،‬يه ذبون من خالله ا س لوكهم‪ ،‬ويرتق ون به ا في المع ارج‬
‫والمراتب التي هيئت لها‪.‬‬
‫ومن تلك المخاطبات قول بعض الصالحين لنفسه معاتبا لها‪( :‬ي ا نفس‪ ،‬ال في‬
‫الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين‪ ،‬وال في طلب اآلخرة مع العب اد تجته دين‪ .‬ك أنى ب ك‬
‫بين الجنة والنار تحبسين‪ .‬يا نفس‪ ،‬أال تستحين)‬
‫ّ‬
‫وقال آخر(‪ :)3‬يا نفس‪ ،‬ما أعظم جهلك‪ ،‬تدعين الحكمة والذكاء والفطن ة وأنت‬
‫أشد الناس غباوة وحمقا‪ ،‬أما تعرفين ما بين ي ديك من الجن ة والن ار‪ ،‬وأن ك ص ائرة‬
‫إلى إح داهما على الق رب‪ ،‬فم ا ل ك تف رحين‪ ،‬وتض حكين‪ ،‬وتش تغلين ب اللهو‪ ،‬وأنت‬
‫‪ )(1‬سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (‪)9 /5‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السيرة الحلبية‪.2/674 :‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪15/45 ،‬‬
‫‪316‬‬
‫مطلوبة لهذا الخطب الجسيم‪ ،‬وعساك اليوم تختطفين أو غ دا! ف أراك ت رين الم وت‬
‫بعيدا ويراه هّللا قريبا‪ .‬أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب‪ ،‬وأن البعيد ما ليس بآت؟‬
‫أما تعلمين أن الموت ي أتي بغت ة من غ ير تق ديم رس ول‪ ،‬ومن غ ير مواع دة‬
‫ومواط أة‪ ،‬وأن ه ال ي أتي في ش يء دون ش يء‪ ،‬ب ل ك ل نفس من األنف اس يمكن أن‬
‫يكون فيه الموت فجأة‪ ،‬فإن لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة‪ ،‬ثم يفض ي إلى‬
‫الموت‪ ،‬فما لك ال نستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب‪.‬‬
‫و إن كان مع علمك باطالعه عليك فما أشد وقاحتك‪ ،‬وأقل حي اءك ويح ك ي ا‬
‫نفس‪ ،‬لو واجهك أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف ك ان غض بك علي ه‪ ،‬ومقت ك ل ه‪،‬‬
‫فبأي جسارة تتعرض ين لمقت هّللا ‪ ،‬وغض به‪ ،‬وش ديد عقاب ه! أ فتظ نين أن ك تطيقين‬
‫عذاب ه؟ هيه ات هيه ات‪ ،‬ج ربي نفس ك‪ ،‬إن أله اك البط ر عن أليم عذاب ه فاحتبس ى‬
‫ساعة في الشمس‪ ،‬أو في بيت الحمام‪ ،‬أو قرّبي أص بعك من الن ار‪ ،‬ليت بين ل ك ق در‬
‫طاقتك‪.‬‬
‫أم تغ ترين بك رم هّللا وفض له‪ ،‬واس تغنائه عن طاعت ك وعبادت ك‪ ،‬فم ا ل ك ال‬
‫تعوّلين على كرم هّللا تعالى في مهمات دنياك‪ .‬فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحي ل‬
‫في دفعه‪ ،‬وال تكلينه إلى كرم هّللا تعالى! وإذا أرهقتك حاج ة إلى ش هوة من ش هوات‬
‫ال دنيا مم ا ال ينقض ي إال بال دينار وال درهم‪ ،‬فم ا ل ك ت نزعين ال روح في طلبه ا‬
‫وتحصيلها من وجوه الحيل‪ ،‬فلم ال تعوّلين على كرم هّللا تعالى ح تى يع ثر ب ك على‬
‫كنز‪ ،‬أو يس ّخر عبدا من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير س عي من ك وال طلب‪ ،‬أ‬
‫فتحسبين أن هّللا كريم في اآلخرة دون الدنيا‪ ،‬وق د ع رفت أن س نة هّللا ال تب ديل له ا‪،‬‬
‫وأن رب اآلخرة والدنيا واحد وأن ليس لإلنسان إال ما سعى‪.‬‬
‫ويح ك ي ا نفس‪ ،‬م ا أعجب نفاق ك ودعاوي ك الباطل ة‪ ،‬فإن ك ت ّدعين اإليم ان‬
‫﴿و َم ا ِم ْن دَابَّ ٍة فِي‬ ‫بلسانك وأث ر النف اق ظ اهر علي ك‪ ،‬ألم يق ل ل ك س يدك وم والك‪َ :‬‬
‫ض إِاَّل َعلَى هَّللا ِ ِر ْزقُهَا﴾ [هود‪ ،]6 :‬وقال في أمر اآلخرة‪َ ﴿:‬وأَ ْن لَي َ‬
‫ْس لِإْل ِ ْن َسا ِن إِاَّل‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫َما َس َعى﴾ [النجم‪ ]39 :‬فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاص ة‪ ،‬فكذبت ه بأفعال ك‪ .‬وأص بحت‬
‫تتك البين على طلبه ا تك الب الم دهوش المس تهتر‪ ،‬ووك ل أم ر اآلخ رة إلى س عيك‪،‬‬
‫فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر ما هذا من عالم ات اإليم ان‪ .‬ل و ك ان‬
‫اإليمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك األسفل من النار؟‬
‫وقال آخر(‪ :)1‬يا نفس‪ ..‬احزمي أمرك‪ ،‬فما لك بض اعة إال عم رك‪ ،‬فال تفني ه‬
‫في مآربك‪ ،‬ول ذاتك ومطالب ك‪ ،‬ألن ه إذا ف ني رأس الم ال حص لت الخس ارة‪ ،‬ووق ع‬
‫اليأس عن التجارة‪..‬‬
‫يا نفس‪ ..‬هذا يوم جديد‪ ،‬وهو عليك شهيد‪ ،‬فاعملي فيه هلل بطاعته‪ ،‬وإياك إياك‬
‫من إضاعته‪ ،‬فإن كل نفس من األنفاس‪ ،‬وحاسة من الحواس‪ ،‬جوهرة عظيم ة‪ ،‬ليس‬
‫لها من قيمة‪.‬‬

‫‪ )(1‬محاسبة النفس للشيخ تقى الدين إبراهيم بن علي العاملى الكفعمي‪ ،‬ص‪.38‬‬
‫‪317‬‬
‫يا نفس‪ ..‬إن كنت في معصية هللا ممن يعلم اطالعه‪ ،‬فلق د اج ترأت على أم ر‬
‫عظيم الشناعة‪ ،‬لجعلك إياه أهون الناظرين‪ ،‬وأخف المطلعين‪ ،‬وإن كنت تظ نين أن ه‬
‫ال يراك‪ ،‬فلقد كفرت بموالك‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬أترين لو أن أحدا من جلسائك‪ ،‬واجهك بم ا تمقتين ه‪ ،‬أو عامل ك بم ا‬
‫تكرهينه‪ ،‬لقلمت منه األظفار‪ ،‬وأحللت به دار البوار فب أي جس ارة تتعرض ين لمقت‬
‫هللا وعذابه‪ ،‬وشدة نكاله وعقاب ه؟ وق ربي إص بعك من الحميم‪ ،‬إن ألف اك البط ر عن‬
‫النظر في عقابه األليم‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬ويحك بل ويلك من العذاب‪ ،‬كأنك ال تؤمنين بيوم الحس اب‪ ،‬أتظ نين‬
‫أنك إذا مت انفلت‪ ،‬وإذا حشرت رددت؟! هيهات هيهات‪ ،‬كل ما توعدين آلت‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬إنك تقدمين على ما قدمت‪ ،‬وتجازين على م ا أس لفت‪ ،‬فال تخ دعنك‬
‫دنيا دنية‪ ،‬عن مراتب جنات علية‪ ،‬فإن لكل حسنة ثوابا‪ ،‬ولكل س يئة عقاب ا‪ ،‬وإن ه ال‬
‫بد لك في قبرك من قرين‪ ،‬ف إن ك ان ص الحا فب ه تستأنس ين‪ ،‬وإن ك ان طالح ا فمن ه‬
‫تستوحشين‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬ما هذه الحيرة والسبيل واضح‪ ،‬وما هذه الغفلة والمشير ناصح‪ ،‬إلى‬
‫كم تجمعين وال تقنعين‪ ،‬ولوارثك تودعين؟!‬
‫ي ا نفس‪ ..‬أتف رحين بنعيم زائ ل‪ ،‬وس رور راح ل؟! غفلت وأغفلت‪ ،‬وعلمت‬
‫فأهملت‪ ،‬إلى كم مواظبتك على الذنوب‪ ،‬وأنت بعين عالم الغيوب؟ فجمعك في ه ذه‬
‫الدنيا إلى تفريق‪ ،‬وسعتك إلى ض يق‪ ،‬فم ا ه ذه الطمأنين ة وأنت مزعج ة‪ ،‬وم ا ه ذا‬
‫الولوج وأنت مخرجة؟!‬
‫يا نفس‪ ..‬ال جرم أن ه تع الى تكف ل في ال دنيا بإص الح أحوال ك‪ ،‬فعالم كذبتي ه‬
‫بأفعالك؟ وأصبحت تتكالبين على طلب الدنيا تكالب المدهوش المستهتر‪ ،‬وأعرضت‬
‫عن اآلخرة إعراض المغرور المس تحقر‪ ،‬م ا ه ذا من عالم ات من يتب ع الس نة‪ ،‬أو‬
‫يبتغي الجنة‪..‬‬
‫يا نفس‪ ..‬أتحسبين أن تتركي سدى‪ ،‬ألم تكوني نطف ة من م ني يم نى‪ ،‬ثم كنت‬
‫علقة فخلق فسوى‪ ،‬أليس ذلك بقادر [ على ] أن يحيي الموتى ؟!‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬لو أن طبيب ا يهودي ا‪ ،‬أو حكيم ا نص رانيا‪ ،‬أخ برك في أل ذ أطعمت ك‬
‫بدائه‪ ،‬وعدم دوائه‪ ،‬ثم أمرك باالحتماء‪ ،‬عن بعض الغ ذاء‪ ،‬لص برت عن ه وتركت ه‪،‬‬
‫وجاهدت نفسك فيه‪ ..‬أفكان قول القرآن المبين‪ ،‬واألنبياء والمرسلين‪ ،‬أقل ت أثيرا من‬
‫ق ول يه ودي يخ بر عن تخمين‪ ،‬أو نص راني ين بئ عن غ ير يقين؟!‪ ..‬والعجب لمن‬
‫يحتمي عن الطعام ألذيته‪ ،‬كيف ال يحتمي عن الذنب ألليم عقوبته؟!‬
‫ي ا نفس‪ ..‬ومن العجب أن ه ل و أخ برك طف ل‪ :‬ب أن عقرب ا في جيب ك ل رميت‬
‫بثوبك‪ ،‬أو حي ة في إزارك ل رميت بأطم ارك‪ ..‬أفك ان ق ول األنبي اء واألب دال‪ ،‬أق ل‬
‫عندك من قول األطفال؟! أم صار حر نار جهنم وزقومها‪ ،‬أحقر عندك من العق رب‬
‫وسمومها؟! وال جرم فلو انكش ف للبه ائم عالنيت ك وس ريرتك‪ ،‬لض حكوا من غفل ة‬

‫‪318‬‬
‫سيرتك‪.‬‬
‫ي ا نفس‪ ..‬من ال يطعم الداب ة إال في الحض يض ال يق در على قط ع العقب ة؟!‬
‫ومن ال يملك قيراطا من المال كيف يفك الرقبة؟! وكي ف ب ك إذا أم رت بالص عود‪،‬‬
‫على عقبة كؤود‪ ،‬وطرسك موفور من السيئات‪ ،‬وظهرك موقور من التبعات‪ ،‬وأنت‬
‫مع ذلك عارية عطشانة‪ ،‬حافية غرثانة؟! فال شك هنالك أن المستريح‪ ،‬أحس ن ح اال‬
‫من الطليح‪ ،‬وال ج رم أن المبط ئين‪ ،‬أقبح ح اال من المس رعين‪ ،‬فاس تعدي لآلخ رة‪،‬‬
‫على قدر هول أرض الس اهرة‪ ،‬وال تك وني ممن يعج ز عن ش كر م ا أوتي‪ ،‬ويبغي‬
‫الزيادة فيما بقي‪ ،‬وينهى الناس وال ينتهي‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬ما المانع لك من المبادرة إلى صالح األعمال‪ ،‬وما الب اعث ل ك على‬
‫التسويف واالهمال‪ ،‬وهل سببه إال عجزك عن مخالفة شهوتك‪ ،‬وضعفك عن مؤالفة‬
‫أئمتك؟ وهب أن الجهد في آخر العم ر ن افع‪ ،‬وأن ه م رق إلى أس عد المط الع‪ ،‬فلع ل‬
‫اليوم آخر عمرك‪ ،‬ونهاية دهرك‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬غ البي الش هوة قب ل ق وة طراوته ا‪ ،‬فإنه ا إن ق ويت لم تق دري على‬
‫مقاومتها‪ ،‬ومثل ذلك‪ :‬أن الشهوة كالشجرة النابتة‪ ،‬والصخرة الثابتة‪ ،‬التي تعبد العب د‬
‫بقلعها أو أمر بنزعها‪ ،‬فمن ترك قلعها وعجز عن نزعها‪ ،‬ك ان كمن عج ز عن قل ع‬
‫شجرة وهو شاب قوي الهمة‪ ،‬فأخرها بعد أم ة إلى الض عف وابيض اض اللم ة‪ ،‬م ع‬
‫العلم بأن طول المدة تزيد الشجرة قوة وثباتا‪ ،‬وتولي القالع ضعفا وشتاتا‪.‬‬
‫ما قولك في مريض غمره األسقام‪ ،‬أشير عليه بترك الماء البارد ثالث ة أي ام‪،‬‬
‫ليصح ويتهنأ بش ربه م دى الش هور واألع وام‪ ،‬فم ا مقتض ى العق ل في افتع ال أم ر‬
‫الصبوة‪ ،‬وقضاء حق الشهوة‪ ،‬أيصبر الثالثة أيام ليتنعم طول عم ره؟ أم يقض ي في‬
‫الح ال ش هوة وط ره؟!‪ .‬وليت ش عري أألم الص بر عن الش هوات‪ ،‬وكظم الغي ظ عن‬
‫العقوبات‪ ،‬أعظم شدة‪ ،‬وأطول مدة‪ ،‬أم ألم النار‪ ،‬وغضب الجبار؟!‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬من ال يطيق الصبر عن قضاء ال وطر‪ ،‬كي ف يص بر ي وم الع رض‬
‫على حر سقر؟!‪.‬‬
‫يا نفس‪ ..‬إياك إياك أن ترضي غير هللا وتعرضي عنه‪ ،‬فإنه مانعك من الغ ير‬
‫وال يمنعك الغير من ه‪ ،‬والعجب من ك كي ف ت ذنبين والش اهد علي ك المل ك الجب ار؟!‬
‫وتضحكين ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار؟!‬
‫ت ب ه‪،‬‬
‫وقال آخر(‪ :)1‬يا نفس‪ ..‬اس معي م ني خمس ة تنبيه ات مقاب ل م ا تف وه ِ‬
‫ت منغمسة في الجهل المركب‪ ،‬سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل‪..‬‬ ‫وأن ِ‬
‫عمرك أبدي؟‪ ..‬وهل عندك عه د قطعي بالبق اء الى‬ ‫ِ‬ ‫يا نفسي الشقية!‪ ..‬هل أن‬
‫السنة المقبلة‪ ،‬بل الى الغد؟‪ ..‬فالذي جعل ك تملين وتس أمين من الطاع ة ه و توهم ك‬
‫األبدية والخلود‪ ،‬فتظهرين الدالل‪ ،‬وكأنك بترفك مخلدة في هذه الدنيا‪.‬‬
‫ي ا نفس ي الش رهة!‪ ..‬إن ك يومي ا ت أكلين الخ بز‪ ،‬وتش ربين الم اء‪ ،‬وتتنفس ين‬

‫‪ )( 1‬هذه المحاسبة مقتبس من (الكلمة الحادية والعشرون) من (الكلمات) للنورسي بتصرف‪.‬‬


‫‪319‬‬
‫الهواء‪ ،‬أما يورث هذا التكرار ملال وضجرا؟‪ ..‬كال‪ ..‬دون شك‪ ..‬ألن تكرار الحاج ة‬
‫ال يجلب الملل بل يجدد اللذة‪ ،‬لهذا؛ فالطاعة التي تجلب الغ ذاء لقل بي‪ ،‬وم اء الحي اة‬
‫لروحي‪ ،‬ونسيم الهواء للطيفة الربانية الكامنة في جسمي‪ ،‬البد أنها ال تجعل ك تملين‬
‫وال تسأمين أبدا‪.‬‬
‫يا نفسي الجزعة!‪ ..‬إنك تضطربين اليوم من تذكر عن اء العب ادات ال تي قمت‬
‫به ا في األي ام الماض ية‪ ،‬ومن ص عوبات الص الة وزحم ة المص ائب الس ابقة‪ ،‬ثم‬
‫تتفك رين في واجب ات العب ادات في األي ام المقبل ة وخ دمات أداء الص لوات‪ ،‬وآالم‬
‫المصائب‪ ،‬فتظهرين الج زع‪ ،‬وقل ة الص بر ونف اده‪ ..‬ه ل ه ذا أم ر يص در ممن ل ه‬
‫مسكة من عقل؟‪.‬‬
‫يا نفسي الطائشة!‪ ..‬يا ترى هل أن أداء هذه العبودي ة دون نتيج ة وج دوى؟!‬
‫وهل أن أجرتها قليلة ضئيلة ح تى تجعل ك تس أمين منه ا؟‪ .‬م ع أن أح دنا يعم ل إلى‬
‫المساء ويكد دون فتور إن رغبه أحد في مال أو أرهبه‪.‬‬
‫إن الصالة التي هي قوت لقلبك العاجز الفق ير وس كينة ل ه في ه ذا المض يف‬
‫الموقت وهو الدنيا‪ .‬وهي غذاء وضياء لمنزل ك ال ذي الب د أن ك ص ائرة الي ه‪ ،‬وه و‬
‫القبر‪ .‬وهي عهد وبراءة في محكمت ك ال تي ال ش ك أن ك تحش رين اليه ا‪ .‬وهي ال تي‬
‫ستكون نورا وبراقا على الصراط المستقيم الذي البد أنك سائرة عليه‪ ..‬فصالة ه ذه‬
‫نتائجها هل هي بال نتيجة وجدوى؟ أم أنها زهيدة األجرة؟‬
‫يا نفسي المغرمة بالدنيا!‪ ..‬هل أن فت ورك في العب ادة وتقص يرك في الص الة‬
‫ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ أم انك ال تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!‬
‫فيا عجبا هل أنت مخلوقة للدنيا فحسب‪ ،‬حتى تبذلي كل وقت ك له ا؟‪ .‬ت أملي!!‬
‫إنك ال تبلغين أصغر عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحي اة ال دنيا رغم‬
‫أنك أرقى من جميع الحيوانات فطرة‪..‬‬
‫هذه ـ أيها المريد الصادق ـ نماذج عن معاتبات الصالحين ألنفس هم‪ ،‬ويمكن ك‬
‫أن تجد الكثير من أمثالها في الكتب المخصصة لها؛ فاستفد منها‪ ،‬وتعلم أن تخ اطب‬
‫نفسك‪ ،‬وتعاتبها‪ ،‬حتى تقنعها بالسير في طريق هللا‪ ،‬وتبعد عنه ا ك ل تل ك الوس اوس‬
‫التي يسربها لك شياطين اإلنس والجن‪.‬‬
‫المعاقبة والتزكية‪:‬‬
‫أما المعاقبة ـ أيها المريد الصادق ـ فيقصدون بها ذلك التشدد الذي يمارس ونه‬
‫مع أنفسهم جراء مخالفتها ألحكام الشريعة‪ ،‬وق د ع بر بعض الحكم اء عن ض رورة‬
‫ه ذه المعاقب ة؛ فق ال‪( :‬مهم ا حاس ب اإلنس ان نفس ه فلم تس لم عن مقارف ة معص ية‬
‫وارتكاب تقصير في حق هللا تعالى‪ ،‬فال ينبغي أن يهملها‪ ..‬ألنه إن أهملها سهل عليه‬
‫مقارفة المعاصي‪ ،‬وأنست بها نفسه‪ ،‬وعسر عليه بعد ذلك فطامها‪ ،‬وكان ذلك س بب‬
‫هالكها‪ ،‬ب ل ينبغي أن يعاقبه ا‪ ،‬ف إذا أك ل لقم ة ش بهة بش هوة نفس ينبغي أن يع اقب‬
‫البطن بالجوع‪ ،‬وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر‪ ،‬وكذلك‬

‫‪320‬‬
‫شهواته)(‪)1‬‬ ‫يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن‬
‫ثم ذك ر بعض األمثل ة عن العقوب ات‪ ،‬ودوره ا في التزكي ة والترقي ة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(ومن لطائف العقوبات أن مريد هللا إذا رأى شرها في نفسه للطعام ألزمه ا بالص وم‬
‫وتقليل الطعام‪ ،‬ثم يكلفها أن تهيئ األطعمة اللذيذة ويق دمها إلى غ يره وه و ال يأك ل‬
‫منها حتى يق وي ب ذلك نفس ه فيتع ود الص بر وينكس ر ش رهه‪ ..‬ومث ل ذل ك إن رأى‬
‫الغضب غالبا ً عليه ألزم نفسه الحلم والسكوت‪ ،‬بل سلط على نفسه من يص حبه ممن‬
‫فيه سوء خلق‪ ،‬ويلزمها خدمته حتى يمرن نفسه على االحتمال معه)‬
‫ومن األمثلة التي ضربها الحكم اء على ذل ك م ا حكي عن بعض هم أن ه ك ان‬
‫يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغض ب‪ ،‬فك ان يس تأجر من يش تمه على مأل‬
‫من الناس ويكلف نفسه الصبر‪ ،‬ويكظم غيظه حتى صار الحلم ع ادة ل ه بحيث ك ان‬
‫يضرب به المثل‪.‬‬
‫وروي عن بعض هم ق ال‪ :‬ن ذرت أني كلم ا اغتبت إنس انا أن أص وم يوم ا‬
‫فأجهدني فكنت أغتاب وأص وم‪ ،‬فن ويت أني كلم ا اغتبت إنس انا أن أتص دق ب درهم‬
‫فمن حب الدراهم تركت الغيبة‪.‬‬
‫وروي عن بعضهم أنه دعاه رجل إلى طع ام ثالث م رات‪ ،‬ثم ك ان ي رده‪ ،‬ثم‬
‫يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك‪ ،‬حتى أدخله في المرة الرابعة‪ ،‬فس أله عن ذل ك‪ .‬فق ال‪:‬‬
‫(ق د رض ت نفس ي على ال ذل عش رين س نة‪ ،‬ح تى ص ارت بمنزل ة الكلب يط رد‬
‫فينطرد‪ .‬ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود‪ ،‬ولو رددتني خمسين م رة ثم دعوت ني بع د‬
‫ذلك ألجبت)‬
‫وروى عن بعض هم ك ان يستش عر في نفس ه الجبن وض عف القلب ف أراد أن‬
‫يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب األمواج‪.‬‬
‫وعن بعضهم أنه مر بغرفة فقال‪ :‬متى بنيت ه ذه ؟ ثم أقب ل على نفس ه فق ال‪:‬‬
‫تسألين عما ال يعنيك ! وهللا ألعاقبنك بصوم سنة‪ ،‬فصامها‪.‬‬
‫وعن بعضهم أنه قال‪ :‬أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحالوة ال تي كنت‬
‫أجدها‪ ،‬فأردت أن أن ام فلم أق در‪ ،‬فجلس ت فلم أط ق الجل وس‪ ،‬فخ رجت ف إذا رج ل‬
‫ملتف في عباءة مطروح على الطريق‪ ،‬فلما أحس بي قال‪ :‬يا أبا القاسم إلى الساعة‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا سيدي من غير موعد؟ قال‪ :‬بلى سألت هللا ع ز وج ل أن يح رك إلى قلب ك‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬قد فعل فما حاجتك؟ ق ال‪ :‬فم تى يص ير داء النفس دواءه ا؟ فقلت‪ :‬إذا خ الفت‬
‫النفس هواها‪ ،‬فأقبل على نفسه فقال‪ :‬اسمعي فقد أجبتك به ذا س بع م رات ف أبيت أن‬
‫تسمعيه إال من الجنيد ها قد سمعتيه‪ ،‬ثم انصرف وما عرفته‪.‬‬
‫وقال رجل لبعض الص الحين‪ :‬م تى أتكلم؟ ق ال‪ :‬إذا اش تهيت الص مت‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫متى أصمت؟ قال‪ :‬إذا اشتهيت الكالم‪.‬‬
‫وروي عن آخر أنه كان يطوف فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه‪ :‬اص بري‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.26 /15 ،‬‬


‫‪321‬‬
‫فوهللا ما أمنعك إال من كرامتك علي‪.‬‬
‫ً‬
‫وروي عن آخر أنه كان قد علق سوطا في مسجد بيته يخوّف به نفسه‪ ،‬وكان‬
‫يقول لنفسه‪ :‬ق ومي فوهللا ألزحفن ب ك زحف ا ً ح تى يك ون الكل ل من ك ال م ني‪ ..‬ف إذا‬
‫دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه‪ ،‬ويقول‪ :‬أنت أولى بالضرب من دابتي‪.‬‬
‫وك ان يق ول‪ :‬أيظن أص حاب محم د ‪ ‬أن يس تأثروا ب ه دونن ا‪ ..‬كال وهللا‬
‫لنزاحمهم عليه زحاما ً حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجاالً‪.‬‬
‫ومما يقرب من هذا‪ ،‬ويدل علي ه م ا ح دث ب ه بعض هم عن اإلم ام الص ادق‪،‬‬
‫قال‪ :‬خرجت مع أبي عبد هللا وهو يحدث نفس ه‪ ،‬ثم اس تقبل القبل ة فس جد ط ويال‪ ،‬ثم‬
‫ألزق خده االيمن بالتراب طويال‪ ،‬قال‪ :‬ثم مسح وجهه ثم ركب‪ ،‬فقلت ل ه‪ :‬ب ابي أنت‬
‫وأمي لقد صنعت شيئا ما رأيت ه ق ط‪ ،‬ق ال‪ :‬ي ا إس حاق إني ذك رت نعم ة من نعم هللا‬
‫عزوجل علي ف أحببت أن أذل ل نفس ي‪ ،‬ثم ق ال‪( :‬ي ا إس حاق م ا أنعم هللا على عب ده‬
‫بنعمة فشكرها بسجدة يحمد هللا فيها ففرغ منها حتى يؤمن ل ه بالمزي د من ال دارين)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومثله ما روي عن اإلم ام الك اظم أن ه بع د بعض الص لوات‪ ،‬خ ر هلل س اجدا‬
‫سجودا ط ويال؛ فس معه بعض هم يق ول بص وت ح زين في س جوده‪( :‬رب عص يتك‬
‫بلس اني ول و ش ئت وعزت ك ألخرس تني‪ ،‬وعص يتك ببص ري ول و ش ئت وعزت ك‬
‫لكمهتني‪ ،‬وعصيتك بس معي ول و ش ئت وعزت ك لص ممتني‪ ،‬وعص يتك بي دي ول و‬
‫شئت وعزتك لكنعتني‪ ،‬وعصيتك ب رجلي ول و ش ئت وعزت ك لج ذمتني‪ ،‬وعص يتك‬
‫بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي وليس هذا جزاؤك مني)‪ ،‬ثم أحص ي ل ه أل ف‬
‫مرة قوله‪( :‬العفو العفو)‪ ،‬ثم ألصق خده األيمن باألرض‪ ،‬وهو يقول بصوت حزين‪:‬‬
‫(بؤت إليك بذنبي‪ ،‬عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه ال يغفر الذنوب غ يرك‬
‫ياموالي) ثالث مرات‪ ،‬ثم ألصق خده األيسر باألرض‪ ،‬وهو يقول‪( :‬ارحم من أساء‬
‫واقترف واستكان واعترف) ثالث مرات ثم رفع رأسه(‪.)2‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن كل ه ذه الممارس ات الش ديدة‬
‫على النفس‪ ،‬لها تأثيرها التربوي الكبير‪ ،‬ذلك أن ال ذي تمتلئ نفس ه ب الكبر والعجب‬
‫والغرور يستحيل عليه أن يفعل بنفسه هذا‪ ،‬ولهذا روي عن المسيح عليه السالم أن ه‬
‫قال لبني إسرائيل‪ :‬أين ينبت الزرع؟ قالوا في التراب‪ .‬فقال‪ :‬بحق أقول لكم‪ ،‬ال تنبت‬
‫الحكمة إال في قلب مثل التراب‪.‬‬
‫ومما ي روى في ه ذا أن رجال من ال وزراء وأص حاب الج اه‪ ،‬ك ان يص حب‬
‫بعض الحكماء‪ ،‬ويعجب بكلماته‪ ،‬وذات يوم قال له‪ :‬أنا منذ ثالثين سنة أصوم الدهر‬
‫ال أفطر‪ ،‬وأقوم الليل ال أنام‪ ،‬وال أجد في قلبي من هذا العلم ال ذي ت ذكر ش يئا‪ ،‬وأن ا‬
‫أصدق به وأحبه‪ ،‬فقال له الحكيم‪ :‬ولو صمت ثالثمائة سنة‪ ،‬وقمت ليله ا م ا وج دت‬
‫من هذا ذرة‪ .‬قال ولم؟ قال ألنك محجوب بنفسك‪ .‬قال فلهذا دواء؟ ق ال نعم‪ .‬ق ال ق ل‬
‫‪ )(1‬مكارم االخالق ص ‪.304‬‬
‫‪ )(2‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪.326‬‬
‫‪322‬‬
‫لي حتى أعمله‪ .‬قال ال تقبله‪ ..‬قال‪ :‬فاذكره لي ح تى أعمل ه‪ .‬ق ال‪ :‬اذهب الس اعة إلى‬
‫المزين فاحلق رأسك ولحيتك‪ ،‬وانزع ه ذا اللب اس وات زر بعب اءة‪ ،‬وعل ق في عنق ك‬
‫مخالة مملوءة جوزا‪ ،‬وأجمع الصبيان حولك‪ ،‬وقل كل من ص فعنى ص فعة أعطيت ه‬
‫جوزة‪ ،‬وادخل السوق‪ ،‬وط ف األس واق كله ا عن د الش هود وعن د من يعرف ك وأنت‬
‫على ذلك فقال الرجل‪ :‬سبحان هَّللا ‪ ،‬تقول لي مثل هذا؟ فقال‪ :‬قولك سبحان هَّللا شرك‪،‬‬
‫قال‪ :‬وكيف؟ قال‪ :‬ألنك عظمت نفسك فسبحتها وما سبحت ربك‪ ،‬فقال‪ :‬هذا ال أفعله‪،‬‬
‫ولكن دلني على غيره‪ .‬فقال‪ :‬ابتدئ بهذا قبل كل شيء‪ .‬فقال‪ :‬ال أطيقه‪ ..‬قال‪ :‬قد قلت‬
‫لك إنك ال تقبل‪.‬‬
‫ال أريد من هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن أذكر لك أن الذي فعل ه ه ذا الحكيم‬
‫صحيحا‪ ،‬أو شرعيا؛ فهو ليس نبيا‪ ،‬وال من أئمة الهدى ال ذين أمرن ا باتب اع س ننهم‪،‬‬
‫ولكن مع نى م ا فعل ه ص حيح‪ ،‬ذل ك أن ال وزير م ع ممارس اته لكث ير من األعم ال‬
‫الصالحة إال أن ارتقاء نفسه إلى الدرجات العليا يحتاج الكثير من التواض ع‪ ،‬والبع د‬
‫عن كل ما يمأل النفس عجبا وغ رورا واس تكبارا‪ ،‬وله ذا دل ه الحكيم على بعض م ا‬
‫يقمع تلك األمراض التي تحول بينه وبين الترقي في مراتب الصالحين‪.‬‬
‫ولهذا كان بعض الشيوخ يربي مريديه بحس ب أح والهم مثلم ا يفع ل الط بيب‬
‫الذي لو عالج جميع المرضى بعالج واح د‪ ،‬قت ل أك ثرهم‪( ،‬فك ذلك الش يخ ل و أش ار‬
‫على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم‪ ،‬وأمات قل وبهم‪ .‬ب ل ينبغي أن ينظ ر‬
‫في مرض المري د‪ ،‬وفي حال ه‪ .‬وس نه‪ ،‬ومزاج ه‪ ،‬وم ا تحتمل ه بنيت ه من الرياض ة‪،‬‬
‫ويب نى على ذل ك رياض ته‪ ..‬ف إن رأى الرعون ة والك بر وع زة النفس غالب ة علي ه‪،‬‬
‫فيأمره أن يمارس ما يمارسه عامة الناس‪ ،‬ف إن ع زة النفس والرئاس ة ال تنكس ر إال‬
‫بالذل‪ ،‬فيكلفه المواظبة على ذلك مدة‪ ،‬حتى ينكسر كبره وعز نفس ه‪ .‬ف إن الك بر من‬
‫األم راض المهلك ة‪ ،‬وك ذلك الرعون ة‪ ..‬وإن رأى الغ الب علي ه النظاف ة في الب دن‬
‫والثياب‪ ،‬ورأى قلبه مائال إلى ذل ك‪ ،‬فرح ا ب ه‪ ،‬ملتفت ا إلي ه اس تخدمه في تعه د بيت‬
‫الماء وتنظيفه‪ ،‬وكنس المواضع القذرة‪ ،‬ومالزم ة المطبخ ومواض ع ال دخان‪ ،‬ح تى‬
‫تتشوش عليه رعونته في النظافة‪ .‬فإن ال ذين ينظف ون ثي ابهم ويزينونه ا‪ ،‬ويطلب ون‬
‫المرقع ات النظيف ة‪ ،‬والس جادات الملون ة‪ ،‬ال ف رق بينهم وبين الع روس ال تي ت زين‬
‫نفسها طول النهار‪ .‬فال فرق بين أن يعبد اإلنسان نفسه‪ ،‬أو يعب د ص نما‪ .‬فمهم ا عب د‬
‫غ ير هّللا تع الى‪ .‬فق د حجب عن هّللا ‪ .‬ومن راعى في ثوب ه ش يئا س وى كون ه حالال‬
‫وطاهرا مراعاة يلتفت إليها قلبه‪ ،‬فهو مشغول بنفسه) (‪)1‬‬
‫وإياك بعد هذا فاح ذر من أن تم ارس من العقوب ات على نفس ك م ا ال تواف ق‬
‫عليه الشريعة؛ فليس كل ما ذكر في كتب التزكية موافق لها‪ ،‬فأنت تعرف أن الدخن‬
‫الذي حذر منه رسول هللا ‪ ‬تسرب إلى كل العلوم‪ ،‬وحاول أن يفسدها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما يروون أن بعضهم نام ليل ة لم يقم يتهج د فيه ا ح تى‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪ ،8/111 ،‬بتصرف‪.‬‬


‫‪323‬‬
‫أصبح‪ ،‬فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع؛ فهذا مخ الف للش ريعة؛ ف ترك الن وم‬
‫ليال ف ترة طويل ة مض ر بالص حة‪ ،‬وق د جع ل هللا تع الى لمن ن ام عن ص الة اللي ل‬
‫الفرصة لقض ائه نه ارا‪ ،‬كم ا روي أن ه قي ل لإلم ام الص ادق‪( :‬جُعلت ف داك‪ ،‬ربّم ا‬
‫فاتتني صالة اللّيل الشهر والشهرين والثالثة فأقضيها بالنهار‪ ،‬أيجوز ذلك ؟)‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ار ِخ ْلفَ ةً لِ َم ْن‬
‫﴿وهُ َو الَّ ِذي َج َع َل اللَّ ْي َل َوالنَّهَ َ‬ ‫(قرّة عين لك وهللا ـ ثالثا ً ـ ّ‬
‫إن هللا يقول‪َ :‬‬
‫أَ َرا َد أَ ْن يَ َّذ َّك َر أَوْ أَ َرا َد ُش ُكورًا﴾ [الفرق ان‪ ،]62 :‬فه و قض اء ص الة النه ار باللّي ل‪،‬‬
‫وقضاء صالة اللّيل بالنهار)(‪)1‬‬
‫وسئل عن رجل عليه من النوافل ما ال يدري كم هو لكثرته ؟‪ ..‬فقال‪( :‬يصلي‬
‫حتى ال يدري كم صلّى من كثرته‪ ،‬فيكون قد قضى بقدر ما عليه من ذلك)‪ ،‬فقيل له‪:‬‬
‫فإنه ال يقدر على القضاء من شغله‪ ،‬قال‪( :‬إن ُشغل في معيش ٍة ال بد منه ا‪ ،‬أو حاج ٍة‬
‫ألخ مؤمن فال شيء عليه‪ ،‬وإن كان ُشغله لجمع الدنيا فتشاغل بها عن الصالة فعليه‬ ‫ٍ‬
‫مستخف متهاون‪ ،‬مضيّع لسنّة رسول هللا ‪ ،)‬فقي ل ل ه‪:‬‬ ‫ٌّ‬ ‫القضاء‪ ،‬وإال لقي هللا وهو‬
‫فإنه ال يقدر على القضاء‪ ،‬فهل يصلح ل ه أن يتص ّدق؟‪ ..‬فس كت مليّ ا ثم ق ال‪( :‬نعم‪،‬‬
‫فليتص ّدق بقدر طوله‪ ،‬وأدنى ذلك م ّد لكل مسكين مك ان ك ل ص الة)‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬وكم‬
‫الص الة ال تي يجب فيه ا م ّد لك ل مس كين ؟‪ ..‬ق ال‪( :‬لك ل ركع تين من ص الة اللي ل‬
‫والنه ار)‪ ،‬قلت‪ :‬ال يق در‪ ،‬ق ال‪( :‬فم ّد إذاً لك ل ص الة اللي ل‪ ،‬وم ّد لص الة النه ار‪،‬‬
‫والصالة أفضل)(‪)2‬‬
‫ومثل ذلك ما روي أن رجالً من بني إسرائيل‪ ،‬وضع يده على ما ال يحل ل ه؛‬
‫فوضعها في النار حتى شلت‪ ..‬وأن آخر حول رجل ه لي نزل إلى فع ل مح رم؛ ففك ر‬
‫وقال‪ :‬ماذا أردت أن أصنع ؟ فلما أراد أن يعيد رجل ه‪ ،‬ق ال‪ :‬هيه ات رج ل خ رجت‬
‫إلى معصية هللا ال ترج ع معي‪ ،‬فتركه ا ح تى تقطعت ب المطر والري اح‪ ..‬وأن آخ ر‬
‫نظر إلى ما ال يحل له‪ ،‬فقلع عينيه‪ ..‬وأن آخر احتاج إلى الغسل‪ ،‬وكان البرد ش ديدًا‪،‬‬
‫فوجد في نفسه توقفًا عن الغسل‪ ،‬فآلى أن ال يغتس ل إال في مرقعت ه‪ ،‬وأن ال ينزعه ا‬
‫وال يعصرها‪..‬‬
‫وغيره ا من الحكاي ات ال تي تمتلئ به ا كتب المواع ظ‪ ،‬فك ل ذل ك ال يج وز‬
‫لمخالفته الشريعة‪ ..‬وال يمكن ألح د أن ي زكي نفس ه أو يه ذبها أو يرقيه ا بعي دا عن‬
‫أحكامها التي وضعها هللا لعباده‪ ،‬وارتضاها لهم لعلمه بما يصلحهم‪.‬‬

‫‪)(1‬تفسير القمي ص‪.467‬‬


‫‪)(2‬المحاسن ص‪.315‬‬
‫‪324‬‬
‫الفكر والتأمل‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن الفك ر والتأم ل‪ ،‬ودورهم ا في‬
‫التزكية والترقية‪ ،‬وكيفية ال رد على أولئ ك ال ذين يحتق رون العق ل‪ ،‬ويتوهم ون أن ه‬
‫يتناقض مع الدين‪ ،‬ألن الدين مبني على النقل‪ ،‬ال على العقل‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الدين السليم مبني على العقل السليم‪..‬‬
‫وبقدر سالمة العقل يسلم الدين‪ ..‬وبقدر انحراف العقل ينحرف الدين‪.‬‬
‫واألم ر في ذل ك يش به األواني والطع ام‪ ..‬ف األواني إن ك انت ق ذرة ممل وءة‬
‫باألوساخ والسموم؛ فإن تأثيرها سينتقل إلى الطع ام‪ ،‬ح تى ل و ك ان عس ال مص فى‪،‬‬
‫ليتحول إلى عسل مملوء بالنجاسة وأصناف السموم‪.‬‬
‫لذلك كان صفاء العقل وسالمته هو الض امن لس المة ال دين‪ ،‬ح تى ال يتح ول‬
‫إلى دين األمزجة المنحرفة‪ ،‬واألهواء الفاسدة‪.‬‬
‫ومثل ذل ك التزكي ة والترقي ة؛ فإنه ا ال يمكن أن تتم إال بع د ع ودة العق ل إلى‬
‫محله الصحيح في التحكم في النفس‪ ،‬بعد أن يزيح عنها حكم القوى المتسلطة عليها‪،‬‬
‫والتي تتحكم فيها األهواء ومن يساندها من شياطين اإلنس والجن‪.‬‬
‫وحتى تعي هذا ـ أيها المريد الصادق ـ س أذكر ل ك م ا اتف ق علي ه الحكم اء‪،‬‬
‫ومن جميع الملل؛ فق د ذك روا أن الوج ود ال دنيوي لإلنس ان يتطلب وس ائل خاص ة‬
‫يتمكن بها اإلنس ان من الس كن على ه ذه األرض‪ ،‬كم ا يتطلب رائ د الفض اء لب اس‬
‫خاصا يتناسب مع جو القمر‪ ،‬أو أي جو يريد أن يتعامل معه‪.‬‬
‫واللباس الذي يتناسب مع هذه األرض‪ ،‬هو هذا الجسد ال ترابي‪ ،‬وخصائص ه‬
‫هي نفس خصائص المكونات الحية الموجودة على هذه األرض‪ ،‬فلذلك صار يفتق ر‬
‫إلى ما يحفظه‪ ،‬وما يدفع عنه الهالك‪..‬‬
‫وهذا الحفظ والتعهد يتطلب أعضاء تجلب الغذاء وغيره‪ ،‬وأعضاء ت دفع عن‬
‫النفس الهالك‪.‬‬
‫وكل هذه األعضاء التي سُلح بها بدن اإلنسان هي الوسائل األساس ية لتحقي ق‬
‫متطلبات الوجود من الغذاء والدفاع‪ ،‬بل ليس هناك جزء من جس د اإلنس ان ال يق وم‬
‫بهذا األمر‪.‬‬
‫ومع أن أكثر هذه األعض اء يق وم به ذه الوظ ائف تلقائي ا إال أن أص ل الغ ذاء‬
‫والدفاع رُكب في الجهاز اإلرادي لإلنسان فتنة وابتالء‪.‬‬
‫فرُكب في اإلنسان جهاز الشهوة الدافع إلى الغذاء والحفاظ على النس ل‪ ..‬كم ا‬
‫رُكب فيه جهاز الغضب الدافع إلى الحمية والحفاظ على الوجود‪ ..‬وهذان الجه ازان‬
‫ينتظم تحتهما كل ما تتطلبه النفس من غرائز الوج ود‪ ،‬وهم ا المس تعمالن ألعض اء‬
‫البدن في تحقيق متطلبات هذه الغرائز‪.‬‬
‫لقد قال بعض الحكماء يشرح ضرورة هذه الغرائز‪(:‬ف افتقر ألج ل جلب الغ ذاء إلى‬
‫‪325‬‬
‫جندين‪ :‬باطن‪ ،‬وهو الشهوة‪ .‬وظاهر‪ ،‬وهو اليد واألعضاء الجالبة للغذاء‪ ،‬فخلق في القلب‬
‫من الشهوات ما احتاج إليه‪ ،‬وخلقت األعضاء التي هي آالت الشهوات؛ فافتقر ألجل دف ع‬
‫المهلكات إلى جندين‪ :‬باطن‪ ،‬وهو الغض ب ال ذي ب ه ي دفع المهلك ات وينتقم من األع داء‪.‬‬
‫وظاهر‪ ،‬وهو اليد والرجل اللتين بهما يعمل بمقتضى الغضب‪ ،‬وكل ذلك بأمور خارج ة؛‬
‫فالجوارح من البدن كاألسلحة وغيرها)(‪)1‬‬
‫واألمر إلى هذا المحل تتف ق في ه النفس البش رية م ع النفس الحيواني ة‪ ،‬وليس‬
‫هناك أي خصوصية لإلنسان في هذه الجوانب‪ ،‬وليس هناك أي مجال للمدح أو الذم‬
‫لما يتعلق بمتطلبات هذه الغرائز‪.‬‬
‫وإنما يبدأ التكلي ف‪ ،‬وينش أ الم دح وال ذم من غري زة أخ رى له ا عالق ة به ذه‬
‫الغرائز من جهة‪ ،‬ولها عالقة بسر وج ود اإلنس ان من جه ة أخ رى‪ ،‬فهي بين بين‪،‬‬
‫وعلى أساس هذه الغريزة تتحدد عالقة اإلنسان بنفسه‪.‬‬
‫وهذه الغريزة هي غريزة اإلدراك المزودة بأدوات التعرف على العالم ال ذي‬
‫نزلت روح اإلنسان إليه‪ ،‬ذلك أن (المحتاج إلى الغذاء ما لم يع رف الغ ذاء لم تنفع ه‬
‫شهوة الغذاء وإلفه‪ ،‬فافتقر للمعرفة إلى جندين‪ :‬ب اطن‪ ،‬وه و إدراك الس مع والبص ر‬
‫والشم واللمس والذوق‪ ،‬وظاهر‪ ،‬وهو العين واألذن واألنف وغيرها)‬
‫وزود باإلضافة إلى هذه الحواس بوسائل التعامل مع المعلومات والمدركات‪،‬‬
‫(فإن اإلنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته‬ ‫ويمكن إدراكها بسهوله ّ‬
‫في نفسه وهو الخيال‪ ،‬ثم تبقى تلك الص ورة مع ه بس بب ش يء يحفظ ه وه و الجن د‬
‫الحافظ‪ ،‬ثم يتفكر فيما حفظه فيركب بعض ذلك إلى البعض‪ ،‬ثم يت ذكر م ا ق د نس يه‬
‫ويعود إليه‪ ،‬ثم يجم ع جمل ة مع اني المحسوس ات في خيال ه ب الحس المش ترك بـين‬
‫المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ)‬
‫فهذه هي الغرائز التي يحفظ بها اإلنس ان وج وده على ه ذه األرض ـ وال تي‬
‫ذكرها الحكماء بناء على دراستهم التحليلية لإلنسان ـ وربم ا اس تفادوا في ذل ك من‬
‫غيرهم‪ ..‬وال حرج عليهم في ذلك‪.‬‬
‫والف رق بين الرؤي ة اإليماني ة األخالقي ة والرؤي ة المادي ة االنحاللي ة له ذه‬
‫الغرائز‪ ،‬هي أن الرؤية الثانية تعتبرها أصال وهدفا وغاي ة‪ ،‬بينم ا الرؤي ة اإليماني ة‬
‫تراها مجرد وسائل لحفظ الوجود اإلنساني على األرض‪ ،‬أما الغاية فأكبر بكثير‪.‬‬
‫وقد ضرب بعض الحكماء مثاال عن حقيقة اإلنسان ـ ال تي هي روح ه وس ر‬
‫وجوده ـ وعالقت ه ببدن ه بمل ك في مدينت ه ومملكت ه‪ ،‬فالب دن مملك ة النفس وعالمه ا‬
‫ومس تقرها وم دينتها‪ ،‬والج وارح وقواه ا بمنزل ة الص ناع والعمل ة‪ ،‬والق وة العقلي ة‬
‫المفك رة كالمش ير الناص ح وال وزير العاق ل‪ ،‬والش هوة كالعب د يجلب الطع ام إلى‬
‫المدينة‪ ،‬والغضب والحمية كالحرس والشرطة‪.‬‬
‫أما العبد الجالب للطعام‪ ،‬والذي يمثل الشهوة‪ ،‬فهو كذاب ماكر مخادع‪ ،‬يتمثل‬

‫‪ )(1‬اإلحياء‪.3/5:‬‬
‫‪326‬‬
‫بصورة الناصح‪ ،‬وهو في عالقة ع داء ت ام م ع ال وزير الناص ح ح تى ال يخل و من‬
‫منازعته ومعارضته ساعة‪.‬‬
‫ً‬
‫فإذا كان الوالي في مملكته مستغنيا في تدبـيراته بوزيره معرض ا عن إش ارة‬ ‫ً‬
‫هذا العبد الخبـيث‪ ،‬أدبه صاحب شرطته‪ ،‬وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً ل ه مس لطا ً‬
‫من جهته على هذا العبد الخبـيث وأتباع ه وأنص اره‪ ،‬ح تى يص ير العب د مسوس ا ً ال‬
‫سائساً‪ ،‬ومأموراً مدبَراً ال أميراً مدبِراً‪.‬‬
‫وفي هذه الحالة يستقيم أمر البلد‪ ،‬وينتظم العدل بسببه‪.‬‬
‫وهكذا النفس متى اس تعانت بالعق ل‪ ،‬وأدبت بحمي ة الغض ب‪ ،‬وس لطتها على‬
‫الشهوة‪ ،‬واستعانت بإحداهما على األخرى تارة ب أن تقل ل مرتب ة الغض ب وغلوائ ه‬
‫بمخالفة الشهوة واستدراجها‪ ،‬وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتس ليط الغض ب والحمي ة‬
‫عليها وتقبـيح مقتضياتها‪ ،‬اعتدلت قواها وحسنت أخالقها‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن الذين يدعون العقالينة ويقولون للن اس‪( :‬إن ه ذه هي غرائ زكم‪..‬‬
‫فال تكبتوها‪ )..‬هم في الحقيقة يرمونهم كل مرة في هاوية من البهيمية يصعب عليهم‬
‫الخروج منه ا‪ ،‬ألن النفس إذا تع ودت ش يئا أدمنت علي ه‪ ..‬ف إذا أدمنت ب ان له ا أن ه‬
‫األصل‪ ..‬ثم يأتي هؤالء المحللون ليضموه إلى غرائز اإلنسان‪.‬‬
‫ولذلك نرى المدمنين على المخدرات كيف يش ق عليهم تركه ا‪ ..‬ول و خ يروا‬
‫بين تلبية غريزة الطع ام وغري زة األفي ون الخت اروا األفي ون‪ ..‬فه ل ن ترك له ؤالء‬
‫المحللين المجال ليفرضوا على اإلنسان صاحب الفطرة األصلية ما يقع فيه ض حايا‬
‫الغرائز الشاذة؟‬
‫وهذا ما يبين دور العقل السليم في التزكية‪ ،‬ذلك أن ه يجع ل ص احبه ص احب‬
‫إرادة‪ ..‬ال يستسلم لغرائزه‪ ..‬وإنما يهذبها لتستقيم مع الفطرة السليمة‪..‬‬
‫ولذلك اعتبر القرآن الكريم الغافلين عن أنفسهم ـ الذين توحد األنا فيهم ب النفس‪ ،‬فلم‬
‫يدركوا من وظائف وجودهم غير إرضاء الشهوات والغرائز ـ ناسين ألنفس هم وحقيقتهم‪،‬‬
‫اسقُونَ ‪( ‬الحشر‪)19:‬‬ ‫تعالى‪﴿:‬وال َت ُكونُوا َكالَّ ِذينَ َنسُوا هَّللا َ َفأَ ْن َساه ُْم َأ ْنفُ َسه ُْم أُو َل ِئكَ هُ ُم ْال َف ِ‬
‫َ‬ ‫قال‬
‫والفاسق ه و الخ ارج عن حقيقت ه المس تغرق في ش هواته الغاف ل عن وظيف ة‬
‫وجوده‪ ،‬واآلية تنبه إلى أن سر فسوقه هو نس يانه وغفلت ه عن هللا‪ ،‬وفي ذل ك إش ارة‬
‫إلى أن معرفة هللا هي األساس والمنطلق ال ذي ينطل ق من ه من يري د أن ي ترقى عن‬
‫حجاب النفس‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن ه ال يمكن ألح د أن ي زكي‬
‫نفسه‪ ،‬وهو يعزل عقله‪ ..‬ذلك أنه ال سير إلى هللا‪ ،‬وال إلى مقامات الس الكين إلي ه من‬
‫دون العقل‪ ..‬بل إن السير في الحقيقة ليس س وى تعمي ق للعق ل‪ ،‬وتوف ير للمزي د من‬
‫القابليات له‪.‬‬
‫ولهذا اعتبر هللا تعالى التفكير ـ الذي هو اآللية التي يستخدمها العق ل الس ليم ـ‬
‫وظيفة من وظائف الصالحين‪ ،‬ال تختلف عن الذكر وسائر العبادات‪ ،‬فقد ق ال يم دح‬

‫‪327‬‬
‫العارفين به من أولي األلباب‪ ،‬ويصف موقفهم من الكون‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هَّللا َ قِيَام ا ً‬
‫ض َربَّنَ ا َم ا َخلَ ْقتَ هَ َذا‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫َوقُعُوداً َو َعلَى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي َخ ْل ِ‬
‫ار﴾ (آل عمران‪)191:‬‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫اطالً ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬
‫بَ ِ‬
‫وفي الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬على العاق ل أن يك ون ل ه ثالث‬
‫ساعات‪ :‬ساعة يناجي فيها ربه ع ّز وجلّ‪ ،‬فيها وساعة يحاسب فيها ّ نفس ه‪ ،‬وس اعة‬
‫يتفكر فيما صنع هللا عز وجل إليه‪ ،‬وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحالل)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬فكرة س اعة خ ير من عب ادة س نة‪ ،‬وال يُن ال منزل ة التف ّك ر إال َمن ق د‬
‫خصه هللا بنور المعرفة والتوحيد)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬أغفل الناس من لم يتعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال)(‪)3‬‬
‫وق ال‪( :‬أعط وا أعينكم حظّه ا من العب ادة‪ ،‬ق الوا‪ :‬وم ا حظّه ا من العب ادة ي ا‬
‫رسول هللا؟ قال‪ :‬النظر في المصحف والتف ّكر فيه واالعتبار عند عجائبه)(‪.)4‬‬
‫وجاف عن الليل جنبك‪ ،‬واتق هللا رب ك)‬ ‫ِ‬ ‫وقال اإلمام علي‪( :‬نبّه بالتفكر قلبك‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وقال‪( :‬ما أكثر ال ِعبر‪ ،‬وأق ّل‬
‫االعتبار)(‪)6‬‬
‫الصادق‪( :‬أفضل العبادة‪ ،‬إدمان التفكر في هللا‪ ،‬وفي قدرته)(‪)7‬‬ ‫وقال اإلمام‬
‫أكثر عبادة أبي ذر ـ رحمة هللا عليه ـ التفكر واالعتبار)(‪)8‬‬ ‫وقال‪( :‬كان‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الفكر ـ كما يعرف ه الحكم اء ـ‬
‫هو (إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة)‬
‫أن اآلخ رة‬‫وكمث ال على ذل ك من م ال إلى ال دنيا وآثره ا‪ ،‬وأراد أن يع رف ّ‬
‫أولى باإليثار من العاجلة‪ ،‬ويقنع نفسه بذلك‪ ،‬فإن له طريقان(‪:)9‬‬
‫أحــدهما‪ :‬أن يس مع من غ يره أن اآلخ رة أولى باإليث ار من ال دنيا‪ ،‬فيقل ده‬
‫ويص ّدقه من غير بصيرة بحقيقة األمر فيميل بعمله إلى إيث ار اآلخ رة اعتم اداً على‬
‫مجّرد قوله‪ ،‬وهذا ما يسمى تقليداً‪ ،‬وال يسمى معرفة‪.‬‬
‫أن اآلخ رة أبقى‪.‬‬ ‫أن األبقى أولى باإليث ار‪ ،‬ثم يع رف ّ‬ ‫الثـــاني‪ :‬أن يع رف ّ‬
‫فيحصل له من ه اتين المعرف تين معرف ة ثالث ة وه و أن اآلخ رة أولى باإليث ار‪ ،‬وال‬
‫بأن اآلخرة أولى باإليثار إال بالمعرفتين السابقتين‪.‬‬‫يمكن تحقق المعرفة ّ‬
‫فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يس مى‬

‫‪ )(1‬معاني األخبار ص‪ ،334‬الخصال ‪.2/104‬‬


‫‪)(2‬مصباح الشريعة ص‪.20‬‬
‫‪)(3‬معاني األخبار ص‪.195‬‬
‫‪ )( 4‬رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر‪ ،‬ومن طريقه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة كما في المغني‪.‬‬
‫‪)(5‬الكافي ‪.2/54‬‬
‫‪)(6‬النهج ‪.2/217‬‬
‫‪)(7‬الكافي ‪.2/55‬‬
‫‪)(8‬الخصال ‪.1/23‬‬
‫‪ )(9‬إحياء علوم الدين‪.4/426 :‬‬
‫‪328‬‬
‫وتدبراً)(‪)1‬‬‫تفكراً واعتباراً وتذكراً ونظراً وتأمالً‬
‫وقد ذكر الحكماء وجه التغاير بين هذه المصطلحات‪ ،‬ف ذكروا أن (االعتب ار‪:‬‬
‫ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إن ه يع بر منهم ا إلى معرف ة ثالث ة‪ ،‬وإن لم‬
‫يقع العبور ولم يمكن إال الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم‪ :‬التذكر‪ ،‬ال اس م‪:‬‬
‫االعتبار‪ ..‬وأما النظر والتفكر؛ فيقع عليه من حيث إن في ه طلب معرف ة ثالث ة‪ ،‬فمن‬
‫ليس يطلب المعرف ة الثالث ة ال يس مى ن اظراً‪ ،‬فك ل متفك ر فه و مت ذكر‪ ،‬وليس ك ل‬
‫متذكر متفكراً‪ ..‬وفائدة الت ذكار تك رار المع ارف على القلب لترس خ وال تنمحي عن‬
‫القلب‪ ..‬وفائدة التفكر‪ :‬تكثير العلم واستجالب معرفة ليست حاصلة‪ .‬فهذا ه و الف رق‬
‫بـين التذكر والتفكر)(‪)2‬‬
‫إذا عرفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فاس مع لم ا س أذكره ل ك من كيفي ة‬
‫استعمال هذه الوسيلة العظيمة في التزكية والترقية‪.‬‬
‫الفكر والتزكية‪:‬‬
‫أم ا دور الفك ر في التزكي ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فيتض ح ل ك من خالل‬
‫المراحل التي تتحول فيها الفك رة إلى حال ة نفس ية‪ ،‬ثم إلى س لوك عملي‪ ،‬وق د ذك ر‬
‫الحكماء لذلك خمس مراحل‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ .1‬التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب‪.‬‬
‫‪ .2‬التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما‪.‬‬
‫‪ .3‬حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها‪.‬‬
‫‪ .4‬تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة‪.‬‬
‫‪ .5‬خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتج ّدد له من الحال‪.‬‬
‫وذلك يشبه من يضرب الحجر على الحديد؛ فيخرج من ه ن ار يستض ي ء به ا‬
‫الموضع‪ ،‬فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة‪ ،‬وتنتهض األعضاء للعم ل‪،‬‬
‫فكذلك زناد نور المعرفة ه و الفك ر‪ ،‬فيجم ع بين المعرف تين كم ا يجم ع بين الحج ر‬
‫والحديد‪ ،‬ويؤلف بينهما تأليفا مخصوص ا كم ا يض رب الحج ر على الحدي د ض ربا‬
‫مخصوصا‪ ،‬فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحدي د‪ ،‬ويتغ ير القلب بس بب‬
‫هذا النور حتى يميل إلى ما لم يكن يميل إليه‪ .‬كما يتغير البصر بنور النار فيرى م ا‬
‫لم يكن يراه‪ ،‬ثم تنتهض األعضاء للعمل بمقتضى ح ال القلب‪ ،‬كم ا ينتهض الع اجز‬
‫عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره)(‪)3‬‬
‫وق د ذك ر بعض الحكم اء كيفي ة اس تخدام الفك ر في التزكي ة؛ ف ذكر أن على‬
‫السالك ـ ليجتنب المثالب التي تسيطر عليه‪ ،‬وتحول نفس ه إلى نفس أم ارة ـ التفك ر‬
‫في كل ما يفعله ثالثة أنواع من التفكير(‪:)4‬‬
‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/426 :‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/426 :‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.4/427 :‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.67 /15 ،‬‬
‫‪329‬‬
‫األول‪ :‬التفك ر في أن ه مك روه عن د هّللا أم ال؛ ف رب ش يء ال يظه ر كون ه‬
‫مكروها‪ ،‬بل يدرك بدقيق النظر‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التفكر في أنه إن ك ان مكروه ا في طري ق االح تراز عن ه‪ ،‬وإن ك ان‬
‫محبوبا في كيفية الدوام عليه‪.‬‬
‫الثــالث‪ :‬أن ه ذا المك روه ه ل ه و متص ف ب ه في الح ال‪ ،‬فيترك ه‪ ،‬أو ه و‬
‫متعرض له في االستقبال فيحترز عنه‪ ،‬أو قارف ه فيم ا مض ى من األح وال فيحت اج‬
‫إلى تداركه‪.‬‬
‫وبما أن األفعال التي يمارسها اإلنسان أو يتصف بها أربعة أنواع‪ :‬الطاعات‪،‬‬
‫والمعاصي‪ ،‬والصفات المهلكات‪ ،‬والصفات المنجي ات؛ ف إن على الس الك أن يتفك ر‬
‫فيها جميعا‪.‬‬
‫ويبدأ ذلك بالمعاصي؛ فيفتش صبيحة كل يوم جميع أعضائه تفصيال‪ ،‬ثم بدنه‬
‫على الجملة‪ ،‬هل ه و في الح ال مالبس لمعص ية به ا فيتركه ا‪ ،‬أو البس ها ب األمس‬
‫فيتداركها بالترك والندم‪ ،‬أو هو متعرض لها في نه اره فيس تعد لالح تراز والتباع د‬
‫عنه ا فينظ ر في اللس ان‪ ،‬ويق ول‪ :‬إن ه متع رض للغيب ة‪ ،‬والك ذب‪ ،‬وتزكي ة النفس‪،‬‬
‫واالستهزاء بالغير‪ ،‬والمماراة‪ ،‬والممازح ة‪ ،‬والخ وض فيم ا ال يع نى‪ ،‬وغيره ا من‬
‫المك اره‪ ..‬فيق رر في نفس ه أنه ا مكروه ة عن د هّللا تع الى‪ ،‬ويتفك ر في النص وص‬
‫المقدسة الدالة على شدة العذاب فيها‪ ،‬ثم يتفكر في أحواله أنه كيف يتع رض له ا من‬
‫حيث ال يشعر‪ ،‬ثم يتفكر أنه كيف يحترز منه‪.‬‬
‫وهكذا يتعامل مع س ائر الج وارح‪ ،‬واآلف ات المرتبط ة به ا‪ ،‬ويجته د ل يزكي‬
‫نفس ه منه ا ع بر التفك ير في عواقبه ا‪ ،‬ح تى يطه ر جوارح ه جميع ا من ك ل تلبس‬
‫بالمعصية‪.‬‬
‫وهكذا يتعامل مع الطاعات‪ ،‬حيث ينظر أوّال في الفرائض المكتوبة عليه أن ه‬
‫كيف يؤديها‪ ،‬وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير‪ ،‬أو كيف يجبر نقصانها بكثرة‬
‫النوافل‪.‬‬
‫ثم يرجع إلى أعضائه عضوا عضوا فيتفكر في األفعال ال تي تتعل ق به ا مم ا‬
‫يحبه هّللا تعالى‪ ،‬فيقول مثال‪ :‬إن العين خلقت للنظ ر في ملك وت الس موات واألرض‬
‫عبرة‪ ،‬ولتستعمل في طاعة هّللا تعالى وتنظ ر في كت اب هّللا وس نة رس وله ‪ ،‬وأن ا‬
‫قادر على أن أشغل العين بذلك‪ ،‬فلم ال أفعله؟‬
‫و ك ذلك يق ول في س معه‪ :‬إنى ق ادر على اس تماع كالم مله وف‪ ،‬أو اس تماع‬
‫حكمة وعلم‪ ،‬أو استماع قراءة وذكر‪ ،‬فما لي أعطّله وقد أنعم هّللا عل ّي به‪ ،‬وأودعني ه‬
‫ألشكره‪ ،‬فما لي أكفر نعمة هّللا فيه بتضييعه أو تعطيله؟‬
‫و ك ذلك يتفك ر في اللس ان ويق ول‪ :‬إنى ق ادر على أن أتق رب إلى هّللا تع الى‬
‫بالتعليم‪ ،‬والوعظ والتودد إلى قلوب أه ل الص الح‪ ،‬وبالس ؤال عن أح وال الفق راء‪،‬‬

‫‪330‬‬
‫وإدخال السرور على قلب‬
‫وهكذا يتعامل مع مث الب النفس األم ارة‪ ،‬وهي اس تيالء الش هوة‪ ،‬والغض ب‪،‬‬
‫والبخ ل‪ ،‬والك بر‪ ،‬والعجب‪ ،‬والري اء والحس د‪ ،‬وس وء الظن‪ ،‬والغفل ة‪ ،‬والغ رور‪،‬‬
‫وغيرها؛ فيتفقد من قلبه هذه الصفات‪ ،‬فإن ظن أن قلبه منزه عنه ا فيتفك ر في كيفي ة‬
‫امتحانه‪ ،‬واالستشهاد بالعالمات عليه‪ ،‬فإن النفس أبدا تعد بالخير من نفسها وتخلف‪.‬‬
‫فإذا ا ّدعت التواضع وال براءة من الك بر فينبغي أن تج رب بحم ل حزم ة حطب في‬
‫السوق‪ ،‬كما كان األولون يجربون به أنفسهم‪ .‬وإذا ا ّدعت الحلم تعرض لغضب يناله‬
‫من غيره‪ ،‬ثم يجربها في كظم الغيط‪.‬‬
‫ف إذا دلت العالم ة على وجوده ا فك ر في األس باب ال تي تقبح تل ك الص فات‬
‫عنده‪ ،‬وتبين أن منش أها من الجه ل والغفل ة‪ ،‬كم ا ل و رأى في نفس ه عجب ا بالعم ل‪،‬‬
‫فيتفكر ويقول‪ :‬إنما عملي ببدني وجارحتى‪ ،‬وبقدرتي وإرادتى‪ ،‬وكل ذلك ليس م نى‬
‫وال إل ّي‪ ،‬وإنما هو من خلق هّللا وفض له عل ّي‪ ،‬فه و ال ذي خلق ني‪ ،‬وخل ق ج ارحتى‪،‬‬
‫وخلق قدرتى وإرادتى‪ ،‬وهو الذي حرك أعضائى بقدرته‪ .‬وك ذلك ق درتى وإرادتى‪،‬‬
‫فكيف أعجب بعملي أو بنفسي‪ ،‬وال أقوم لنفسي بنفس ي ف إذا أحس في نفس ه ب الكبر‪،‬‬
‫قرر على نفسه ما فيه من الحماقة ويقول لها‪ :‬لم ترين نفسك أكبر؟ والكب ير من ه و‬
‫عند هّللا كبير‪.‬‬
‫وهكذا يتعامل مع منازل النفس المطمئنة ومكارمها؛ فليتفكر كل يوم في قلب ه‬
‫ما الذي يع وزه من ه ذه الص فات ال تي هي المقرب ة إلى هّللا تع الى‪ ،‬ف إذا افتق ر إلى‬
‫شيء منها فليعلم أنها أحوال ال يثمرها إال علوم‪ ،‬وأن العلوم ال يثمرها إال أفكار فإذا‬
‫أراد أن يكتس ب لنفس ه أح وال التوب ة والن دم‪ ،‬فليفتش ذنوب ه أوال‪ ،‬وليتفك ر فيه ا‪،‬‬
‫وليجمعها على نفسه‪ ،‬وليعظمها في قلبه‪ ،‬ثم لينظ ر في الوعي د والتش ديد ال ذي ورد‬
‫في الشرع فيها‪ ،‬وليتحقق عن د نفس ه أن ه متع رض لمقت هّللا تع الى ح تى ينبعث ل ه‬
‫ح ال الن دم وإذا أراد أن يس تثير من قلب ه ح ال الش كر فلينظ ر في إحس ان هّللا إلي ه‪،‬‬
‫وأياديه عليه‪ ،‬وفي إرساله جميل ستره عليه على ما شرحنا بعضه في كتاب الشكر‪،‬‬
‫فليط الع ذل ك‪ ،‬وإذا أراد ح ال المحب ة والش وق فليتفك ر في جالل هّللا وجمال ه‪،‬‬
‫وعظمته‪ ،‬وكبريائه‪ ،‬وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه‪..‬‬
‫وهكذا يمكنه عن طريق الفكر أن يمأل نفسه بالمكارم‪ ،‬ويجنبها ك ل م ا تتلبس‬
‫به من المثالب‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لهذه الوصية التي قالها إم ام من‬
‫أئمة الهدى‪ ،‬وهو اإلمام موسى الكاظم‪ ،‬يخاطب فيها بعض تالميذه‪ ،‬وه و هش ام بن‬

‫‪331‬‬
‫الحكم(‪ ،)1‬يبين له فيها دور العقل في التزكية‪ ،‬فمما أوصاه قول ه له (‪( :)2‬ي ا هش ام‪..‬‬
‫لكل شيء دليل‪ ،‬ودليل العاقل التف ّكر‪ ،‬ودلي ل التف ّك ر الص مت‪ ..‬ولك ِّل ش يء مطيّ ة‪،‬‬
‫ومطية العاقل التواضع‪ ،‬وكفى بك جهالً أن تركب ما نُهيت عنه‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬لو كان في يدك جوزة وقال الناس‪ :‬في يدك لؤل ؤة‪ ،‬م ا ك ان ينفع ك‬
‫وأنت تعلم أنّها جوزة‪ ،‬ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس‪ :‬إنّه ا ج وزة‪ ،‬م ا ض رّك‬
‫وأنت تعلم أنّها لؤلؤة‪....‬‬
‫ك آخ ذ بناص يته‪ ،‬فال يتواض ع إال رفع ه هللا وال‬ ‫يا هشام‪ ..‬ما من عبد إال ومل ٌ‬
‫يتعاظم إال وضعه هللا‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬من س لط ثالث ا على ثالث فكأنم ا أع ان ه واه على ه دم عقل ه‪ :‬من‬
‫أظلم نور فكره بطول أمله‪ ،‬ومحا طرائف حكمته بفضول كالمه‪ ،‬وأطفأ نور عبرته‬
‫بشهوات نفسه‪ ،‬فكأنما أعان هواه على هدم عقل ه‪ ،‬ومن ه دم عقل ه أفس د علي ه دين ه‬
‫ودنياه‪.‬‬
‫يا هشام‪..‬كيف يزكو عند هللا عمل ك‪ ،‬وأنت ق د ش غلت عقل ك عن أم ر رب ك‪،‬‬
‫وأطعت هواك على غلبة عقلك‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬الص بر على الوح دة عالم ة ق وة العق ل‪ ،‬فمن عق ل عن هللا تب ارك‬
‫وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها‪ ،‬ورغب فيما عند ربه‪ ،‬وك ان هللا آنس ه في‬
‫الوحشة وصاحبه في الوحدة‪ ،‬وغناه في العيلة‪ ،‬ومعزه في غير عشيرة‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬نص ب الخل ق لطاع ة هللا وال نج اة إال بالطاع ة‪ ،‬والطاع ة ب العلم‪،‬‬
‫والعلم ب التعلم‪ ،‬والتعلم بالعق ل يعتق د‪ ،‬وال علم إال من ع الم رب اني‪ ،‬ومعرف ة الع الم‬
‫بالعقل‪.‬‬
‫يا هش ام‪ ..‬قلي ل العم ل من العاق ل مقب ول مض اعف‪ ،‬وكث ير العم ل من أه ل‬
‫الهوى والجهل مردود‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬إن العاقل رضي بالدون من الدنيا م ع الحكم ة‪ ،‬ولم ي رض بال دون‬
‫من الحكمة مع الدنيا‪ ،‬فلذلك ربحت تجارتهم‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬إن كان يغني ك م ا يكفي ك ف أدنى م ا في ال دنيا يكفي ك‪ ،‬وإن ك ان ال‬
‫يغنيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك‪.‬‬
‫يا هش ام‪ ..‬إن العقالء ترك وا فض ول ال دنيا فكي ف ال ذنوب‪ ،‬وت رك ال دنيا من‬
‫الفضل‪ ،‬وترك الذنوب من الفرض‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬إن العقالء زه دوا في ال دنيا ورغب وا في اآلخ رة‪ ،‬ألنهم علم وا أن‬
‫الدنيا طالبة ومطلوبة‪ ،‬واآلخرة طالبة ومطلوبة‪ ،‬فمن طلب اآلخرة طلبته الدنيا حتى‬

‫‪ )( 1‬قال عنه العالمة الحلي بعد ذكر مولده‪( :‬روى عن أبي عبد هللا وأبي الحسن‪ ،‬وكان ثقةً في الروايات‪ ،‬حس نَ‬
‫التحقيق بهذا األم ِر‪ ،‬ورويت م دا ِئ ُح ل ه جليل ةٌ عن اإلم امين الص ادق والك اظم‪ ،‬وك ان ممن فت َ‬
‫ق الكال َم في اإلما َم ِة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ب) [ خالص ة األق وال في معرف ة الرج ال‪ ،‬ص‬ ‫حاض َر الج وا ِ‬
‫ِ‬ ‫الكالم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بالنظر‪ ،‬وكان حاذقًا بص نا َع ِة‬
‫ِ‬ ‫َب‬
‫ب المذه َ‬ ‫وه ََّذ َ‬
‫‪]288‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،75/316 :‬والتحف ص‪.383‬‬
‫‪332‬‬
‫يستوفي منها رزقه‪ ،‬ومن طلب الدنيا طلبته اآلخرة فيأتيه الم وت فيفس د علي ه دني اه‬
‫وآخرته‪.‬‬
‫يا هش ام‪ ..‬من أراد الغ نى بال م ال‪ ،‬وراح ة القلب من الحس د‪ ،‬والس المة في‬
‫الدين‪ ،‬فليتضرع إلى هللا في مسألته بأن يكمل عقله‪ ،‬فمن عقل قن ع بم ا يكفي ه‪ ،‬ومن‬
‫قنع بما يكفيه استغنى‪ ،‬ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬كان اإلمام علي يقول‪ :‬ما من ش يء عب د هللا ب ه أفض ل من العق ل‪،‬‬
‫وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى‪:‬الكفر والشر من ه مأمون ان‪ ،‬والرش د‬
‫والخير منه مأموالن‪ ،‬وفضل ماله مبذول‪ ،‬وفضل قول ه مكف وف‪ ،‬نص يبه من ال دنيا‬
‫الق وت‪ ،‬وال يش بع من العلم ده ره‪ ،‬ال ذل أحب إلي ه م ع هللا من الع ز م ع غ يره‪،‬‬
‫والتواضع أحب إليه من الشرف‪ ،‬يستكثر قليل المع روف من غ يره‪ ،‬ويس تقل كث ير‬
‫المعروف من نفسه‪ ،‬ويرى الناس كلهم خيرا منه وأن ه ش رهم في نفس ه‪ ،‬وه و تم ام‬
‫األمر‪....‬‬
‫يا هشام‪ ..‬ال تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها‪ ،‬وال تمنعوها أهلها فتظلموهم‪.‬‬
‫ي ا هش ام‪ ..‬ال دين لمن ال م روة ل ه‪ ،‬وال م روة لمن ال عق ل ل ه‪ ،‬وإن أعظم‬
‫الناس قدرا‪ ،‬الذي ال يرى الدنيا لنفسه خطرا‪ ،‬أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إال الجن ة‪،‬‬
‫فال تبيعوها بغيرها‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬إن العاقل ال يحدث من يخاف تكذيب ه‪ ،‬وال يس أل من يخ اف منع ه‪،‬‬
‫وال يعد ما ال يق در علي ه‪ ،‬وال يرج و م ا يعن ف برجائ ه‪ ،‬وال يتق دم على م ا يخ اف‬
‫العجز عنه‪ ،‬وكان اإلمام علي يوصي أصحابه يقول‪( :‬أوص يكم بالخش ية من هللا في‬
‫السر والعالنية‪ ،‬والعدل في الرض ا والغض ب‪ ،‬واالكتس اب في الفق ر والغ نى‪ ،‬وأن‬
‫تصلوا من قطعكم‪ ،‬وتعف وا عمن ظلمكم‪ ،‬وتعط وا على من ح رمكم‪ ،‬وليكن نظ ركم‬
‫عبرا‪ ،‬وصمتكم فكرا‪ ،‬وقولكم ذكرا‪ ،‬وطبيعتكم السخاء‪ ،‬فإنه ال ي دخل الجن ة بخي ل‪،‬‬
‫وال يدخل النار سخي)‬
‫يا هشام‪ ..‬رحم هللا من استحيا من هللا حق الحياء‪ ،‬فحف ظ ال رأس وم ا ح وى‪،‬‬
‫والبطن وما وعى‪ ،‬وذك ر الم وت والبلى‪ ،‬وعلم أن الجن ة محفوف ة بالمك اره والن ار‬
‫محفوفة بالشهوات‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬من كف نفسه من أعراض الناس أقاله هللا عثرته يوم القيام ة‪ ،‬ومن‬
‫كف غضبه عن الناس كف هللا عنه غضبه يوم القيامة‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬إن العاقل ال يكذب وإن كان فيه هواه‪....‬‬
‫يا هشام‪..‬أفضل ما يتق رب ب ه العب د إلى هللا بع د المعرف ة ب ه‪ :‬الص الة‪ ،‬وب ر‬
‫الوالدين‪ ،‬وترك الحسد والعجب والفخر‪....‬‬
‫يا هش ام‪ ..‬إن ك ل الن اس يبص ر النج وم‪ ،‬ولكن ال يهت دي به ا إال من يع رف‬
‫مجاريها ومنازلها‪ ،‬وك ذلك أنتم تدرس ون الحكم ة‪ ،‬ولكن ال يهت دي به ا منكم إال من‬
‫عمل بها‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫يا هشام‪ ..‬إن المسيح علي ه الس الم ق ال للح واريين‪:‬ي ا عبي د الس وء‪ ..‬يه ولكم‬
‫طول النخلة‪ ،‬وتذكرون شوكها ومؤون ة مراقيه ا‪ ،‬وتنس ون طيب ثمره ا ومرافقه ا‪،‬‬
‫كذلك تذكرون مؤونة عمل اآلخرة‪ ،‬فيطول عليكم أمده‪ ،‬وتنسون ما تفضون إليه من‬
‫نعيمها ونورها وثمرها‪.‬‬
‫يا عبيد السوء‪ ..‬نقوا القمح وطيبوه وأدقوا طحنه تجدوا طعمه ويه نئكم أكل ه‪،‬‬
‫كذلك فأخلصوا اإليمان وأكملوه تجدوا حالوته وينفعكم غبه‪.‬‬
‫بحق أقول لكم‪ :‬لو وجدتم سراجا يتوقد بالقطران في ليل ة مظلم ة‪ ،‬الستض أتم‬
‫به ولم يمنعكم من ه ريح نتن ه‪ ،‬ك ذلك ينبغي لكم أن تأخ ذوا الحكم ة ممن وج دتموها‬
‫معه‪ ،‬وال يمنعكم منه سوء رغبته فيها‪.‬‬
‫يا عبيد الدنيا‪ ..‬بحق أقول لكم‪ :‬ال تدركون شرف اآلخرة إال بترك ما تحبون‪،‬‬
‫فال تنظروا بالتوبة غدا‪ ،‬فإن دون غد يوما وليلة‪ ،‬وقضاء هللا فيهما يغدو ويروح‪.‬‬
‫بحق أقول لكم‪ :‬إن من ليس عليه دين من الناس‪ ،‬أروح وأق ل هم ا ممن علي ه‬
‫ال دين‪ ،‬وإن أحس ن القض اء‪ ،‬وك ذلك من لم يعم ل الخطيئ ة أروح هم ا ممن عم ل‬
‫الخطيئ ة‪ ،‬وإن أخلص التوب ة وأن اب‪ ،‬وإن ص غار ال ذنوب ومحقراته ا من مكائ د‬
‫إبليس‪ ،‬يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم‪.‬‬
‫بحق أقول لكم‪ :‬إن الن اس في الحكم ة رجالن‪ :‬فرج ل أتقنه ا بقول ه وص دقها‬
‫بفعله‪ ،‬ورج ل أتقنه ا بقول ه وض يعها بس وء فعل ه‪ ،‬فش تان بينهم ا‪ ،‬فط وبى للعلم اء‬
‫بالفعل‪ ..‬وويل للعلماء بالقول‪..‬‬
‫ياعبيد الس وء‪ ..‬اتخ ذوا مس اجد ربكم س جونا ألجس ادكم وجب اهكم‪ ،‬واجعل وا‬
‫قلوبكم بيوتا للتق وى‪ ،‬وال تجعل وا قل وبكم م أوى للش هوات‪ ،‬إن أج زعكم عن د البالء‬
‫ألشدكم حبا للدنيا‪ ،‬وإن أصبركم على البالء ألزهدكم في الدنيا‪.‬‬
‫يا عبيد السوء‪ ..‬ال تكونوا شبيها بالحداء الخاطفة‪ ،‬وال بالثعالب الخادع ة‪ ،‬وال‬
‫بالذئاب الغادرة‪ ،‬وال باألسد العاتية‪ ،‬كما تفعل بالفراس‪ ،‬كذلك تفعلون بالناس‪ ،‬فريق ا‬
‫تخطفون‪ ،‬وفريقا تخدعون‪ ،‬وفريقا تغدرون بهم‪.‬‬
‫بحق أقول لكم‪ :‬ال يغني عن الجسد أن يكون ظاهره ص حيحا وباطن ه فاس دا‪،‬‬
‫كذلك ال تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم‪ ،‬وما يغني عنكم أن تنقوا‬
‫جلودكم وقلوبكم دنسة‪ ،‬ال تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة‪،‬‬
‫كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم‪ ،‬ويبقى الغل في صدوركم‪.‬‬
‫يا عبيد الدنيا‪ ..‬إنما مثلكم مثل السراج‪ ،‬يضيء للناس ويحرق نفسه‪.‬‬
‫يا بني إسرائيل‪ ..‬زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثوا على الركب‪ ،‬فإن هللا‬
‫يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة‪ ،‬كما يحيي األرض الميتة بوابل المطر‪....‬‬
‫يا هشام‪ ..‬قلة المنط ق حك ٌم عظيم‪ ،‬فعليكم بالص مت‪ ،‬فإن ه دع ة حس نة‪ ،‬وقل ة‬
‫وزر‪ ،‬وخفة من الذنوب‪ ،‬فحصنوا ب اب الحلم ف إن باب ه الص بر‪ ،‬وإن هللا ع ز وج ل‬
‫يبغض الض حاك من غ ير عجب‪ ،‬والمش اء إلى غ ير أرب‪ ،‬ويجب على ال والي أن‬

‫‪334‬‬
‫يكون كالراعي ال يغفل عن رعيته وال يتكبر عليهم‪ ،‬فاستحيوا من هللا في س رائركم‬
‫كما تستحيون من الناس في عالنيتكم‪ ،‬واعلموا أن الكلمة من الحكمة ضالة المؤمن‪،‬‬
‫فعليكم بالعلم قبل أن يرفع‪ ،‬ورفعه‪ :‬غيبة عالمكم بين أظهركم‪.‬‬
‫ي ا هش ام‪ ..‬تعلم من العلم م ا جهلت‪ ،‬وعلم الجاه ل مم ا علمت‪ ،‬وعظم الع الم‬
‫لعلمه‪ ،‬ودع منازعته‪ ،‬وصغر الجاهل لجهله وال تطرده‪ ،‬ولكن قربه وعلمه‪....‬‬
‫ي ا هش ام‪ ..‬ق ال هللا ج ل وع ز‪ :‬وع زتي وجاللي وعظم تي وق درتي وبه ائي‬
‫وعلوي في مكاني‪ ..‬ال يؤثر عبد هواي على هواه إال جعلت الغنى في نفس ه‪ ،‬وهم ه‬
‫في آخرته‪ ،‬وكففت عليه ضيعته‪ ،‬وضمنت السماوات واألرض رزقه‪ ،‬وكنت له من‬
‫وراء تجارة كل تاجر‪.‬‬
‫يا هشام‪ ..‬الغضب مفتاح الش ر‪ ،‬وأكم ل المؤم نين إيمان ا أحس نهم خلق ا‪ ،‬وإن‬
‫خالطت الناس فإن استطعت أن ال تخالط أح دا منهم إال من ك انت ي دك علي ه العلي ا‬
‫فافعل‪....‬‬
‫إلى آخر وصيته العظيمة الممتلئة بالحكم؛ فاحرص على حفظها‪ ،‬والعمل بم ا‬
‫فيها؛ فقد صدرت من تلمي ذ من تالمي ذ النب وة‪ ،‬ووارث من ورثته ا‪ ..‬وال يمكن ك أن‬
‫تسلك طريق الهداية‪ ،‬وأنت تخالف من جعلهم هللا تعالى معالم وأنوارا لها‪.‬‬
‫الفكر والترقية‪:‬‬
‫أما دور الفكر في الترقية ـ أيها المريد الصادق ـ فق د س بق لي الح ديث عن ه‬
‫في رس ائل كث يرة ل ك‪ ..‬ذل ك أن ك ل أح اديثي عن ال ذكر وق راءة الق رآن الك ريم‬
‫والص الة الخاش عة وغيره ا‪ ..‬ال يمكن أن تتم بعي دا عن العق ل والت دبر والتفك ر‬
‫والتذكر‪.‬‬
‫ذلك أن تلك األلفاظ واألفعال التي تقوم بها أثناء أدائ ك لتل ك العب ادات ليس ت‬
‫سوى أواني ال تملؤها إال المعاني التي يدل عليها التفكير فيما تقوله أو تفعله‪.‬‬
‫وقد شرح اإلمام الصادق كيفية الفك ر‪ ،‬ودوره في الترقي ة‪ ،‬وذل ك في جواب ه‬
‫لمن سأله عن قوله ‪( :‬تفكر ساعة خير من قيام ليلة)‪ ،‬وكيفية التفكر‪ ،‬فقال‪( :‬يم ر‬
‫بانوك ؟!‪..‬ما لك ال تتكلمين؟!‪)1().‬‬
‫ِ‬ ‫ساكنوك ؟‪ ..‬وأين‬
‫ِ‬ ‫بالخربة أو بالدار‪ ،‬فيقول‪ :‬أين‬
‫ق‬ ‫ّ‬
‫وقال‪( :‬اعتبروا بما مضى من الدنيا‪ ،‬هل بقى على أح د ؟‪ ..‬أو ه ل فيه ا ب ا ٍ‬
‫من الشريف‪ ،‬والوضيع‪ ،‬والغ ني‪ ،‬والفق ير‪ ،‬وال ولي‪ ،‬والع دو ؟‪ ..‬فك ذلك م ا لم ي أت‬
‫منها بما مضى أشبه من الم اء بالم اء‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬كفى ب الموت واعظ ا‪،‬‬
‫وبالعقل دليال‪ ،‬وبالتقوى زادا‪ ،‬وبالعبادة شغال‪ ،‬وباهلل مؤنساً‪ ،‬وبالقرآن بياناً)(‪)2‬‬
‫وقيل لإلمام الكاظم‪( :‬عظني وأوجز‪ ،‬فكتب إليه‪( :‬ما من شيء تراه عين ك إال‬
‫وفيه موعظة)(‪)3‬‬
‫وقال اإلمام الرضا‪( :‬ليس العبادة كثرة الصيام والصالة‪ ،‬وإنم ا العب ادة ك ثرة‬
‫‪)(1‬الكافي ‪.2/54‬‬
‫‪)(2‬مصباح الشريعة ص‪.20‬‬
‫‪)(3‬أمالي الصدوق ص‪.305‬‬
‫‪335‬‬
‫هللا)(‪)4‬‬ ‫التفكر في أمر‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ف اعلم أن الفك ر المرتب ط بالترقي ة‪،‬‬
‫يشمل كل شيء؛ فك ل م ا في الك ون دلي ل على هللا‪ ،‬وق د ق ال بعض الحكم اء ي ذكر‬
‫ذلك‪( :‬اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى هللا تعالى فهو فعل هللا وخلقه‪ .‬وك ل ذرة‬
‫من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف ففيها عجائب وغرائب تظهر بها‬
‫حكمة هللا وقدرته‪ ،‬وجالله وعظمته‪ .‬وإحصاء ذلك غير ممكن‪ ،‬ألنه ل و ك ان البح ر‬
‫مدادا لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره)‬
‫ثم ذكر مجامع ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬الموج ودات المخلوق ة منقس مة إلى م ا ال يع رف‬
‫أص لها فال يمكنن ا التفك ر فيه ا‪ ،‬وكم من الموج ودات ال تي ال نعلمه ا‪ ،‬كم ا ق ال هللا‬
‫ق اأْل َ ْز َو َ‬
‫اج ُكلَّهَ ا‬ ‫ق َما اَل تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [النحل‪ ،]8 :‬وقال‪ُ ﴿ :‬س ْب َحانَ الَّ ِذي خَ لَ َ‬ ‫﴿ويَ ْخلُ ُ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫ت اأْل رْ ضُ َو ِم ْن أ ْنفُ ِس ِه ْم َو ِم َّما اَل يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [يس‪ ،]36 :‬وإلى ما يعرف أص لها‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِم َّما تُ ْنبِ ُ‬
‫وجملتها وال يعرف تفصيلها‪ ،‬فيمكننا أن نتفكر في تفص يلها‪ ..‬وهي منقس مة إلى م ا‬
‫أدركن اه بحس البص ر‪ ،‬وإلى م ا ال ندرك ه بالبص ر‪ ،‬أم ا ال ذي ال ندرك ه بالبص ر‬
‫فكالمالئكة‪ ،‬والجن‪ ،‬والشياطين‪ ،‬والعرش‪ ،‬والكرسي‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬ومجال الفكر في‬
‫هذه األشياء مما يضيق ويغمض‪ ،‬فلنع دل إلى األق رب إلى األفه ام وهي الم دركات‬
‫بحس البصر‪ ،‬وذلك هو السموات السبع‪ ،‬واألرض‪ ،‬وما بينهما‪ .‬فالسماوات مش اهدة‬
‫بكواكبها‪ ،‬وشمسها‪ ،‬وقمرها‪ ،‬وحركتها‪ ،‬ودورانها في طلوعها وغروبها‪ ..‬واألرض‬
‫مشاهدة بما فيها من جبالها‪ ،‬ومعادنها‪ ،‬وأنهارها‪ ،‬وبحارها‪ ،‬وحيوانها‪ ،‬ونباتها‪ ..‬وما‬
‫بين السماء واألرض وهو الج و م درك بغيومه ا‪ ،‬وأمطاره ا‪ ،‬وثلوجه ا‪ ،‬ورع دها‪،‬‬
‫وبرقها‪ ،‬صواعقها‪ ،‬وشهبها‪ ،‬وعواصف رياحه ا‪ .‬فه ذه هي األجن اس المش اهدة من‬
‫السموات واألرض وما بينهما)‬
‫ثم ذكر وجه التفك ير فيه ا‪ ،‬وال ترقي من خالل ه؛ فق ال‪( :‬وجمي ع ذل ك مج ال‬
‫الفكر فال تتحرك ذرة في السموات واألرض من جماد‪ ،‬وال نب ات‪ ،‬وال حي وان‪ ،‬وال‬
‫فلك‪ ،‬وال كوكب‪ ،‬إال وهّللا تعالى هو محركها‪ ،‬وفي حركته ا حكم ة‪ ،‬أو حكمت ان‪ ،‬أو‬
‫عش ر‪ ،‬أو أل ف حكم ة‪ ،‬ك ل ذل ك ش اهد هَّلل تع الى بالوحداني ة‪ ،‬ودال على جالل ه‬
‫وكبريائه)‬
‫وهذا هو التفكير السليم ـ أيها المريد الصادق ـ وه و ال ذي أش ار إلي ه الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬بل دعا إليه‪ ،‬واعتبر أنه الوس يلة ال تي يس تخدمها أول و األلب اب لل ترقي في‬
‫ار‬‫ف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫اختِالَ ِ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬
‫ض َو ْ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫معارج العرف ان‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬إِ َّن فِي َخ ْل ِ‬
‫الس َماء ِمن َّماء فَأَحْ يَ ا‬ ‫اس َو َما أَنزَ َل هّللا ُ ِمنَ َّ‬ ‫ك الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َما يَنفَ ُع النَّ َ‬ ‫َو ْالفُ ْل ِ‬
‫ب ْال ُم َس ِّخ ِر‬
‫الس َحا ِ‬ ‫اح َو َّ‬ ‫يف الرِّ يَ ِ‬
‫َص ِر ِ‬ ‫ث فِيهَا ِمن ُكلِّ دَابَّ ٍة َوت ْ‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َوبَ َّ‬ ‫بِ ِه األرْ َ‬
‫ُ‬
‫ت لقوْ ٍم يَ ْعقِلونَ ﴾ (البقرة‪)164 :‬‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ض آليَا ٍ‬ ‫َ‬
‫بَ ْينَ ال َّس َماء َواألرْ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫هَّلِل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وقال‪﴿ :‬قُلْ إِنَّ َما أ ِعظكم بِ َوا ِح َد ٍة أن تَقو ُموا ِ َمثنَى َوف َرادَى ث َّم تَتَفكرُوا﴾ (س بأ‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،75/335 :‬والتحف ص‪.442‬‬


‫‪336‬‬
‫ض َو َم ا بَ ْينَهُ َم ا إِاَّل‬‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫‪ )46‬وقال‪﴿ :‬أَ َولَ ْم يَتَفَ َّكرُوا فِي أَنفُ ِس ِه ْم َما َخلَ َ‬
‫ق هَّللا ُ ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ض﴾‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫ق َوأَ َج ٍل ُّم َس ّمًى﴾ (الروم‪ ،)8 :‬وقال‪﴿ :‬قُ ِل انظُرُوا َم ا َذا فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬ ‫بِ ْال َح ِّ‬
‫ق ُخلِ َ‬
‫ق‬ ‫نس انُ ِم َّم ُخلِ َ‬ ‫اإل َ‬‫س لَّ َّما َعلَ ْيهَا َحافِظٌ فَ ْليَنظُ ِر ِ‬
‫(يونس‪ ،)101 :‬وقال‪﴿ :‬إِن ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫ب﴾ (الط ارق‪ ،)7 - 5 :‬وق ال‪﴿ :‬أَفَال‬ ‫ب َوالتَّ َرائِ ِ‬ ‫الص ْل ِ‬‫ق يَ ْخ ُر ُج ِمن بَي ِْن ُّ‬ ‫ِمن َّماء دَافِ ٍ‬
‫ت‬‫ص بَ ْ‬ ‫ال َك ْي فَ نُ ِ‬ ‫ْ‬
‫ت َوإِلَى ال ِجبَ ِ‬‫ت َوإِلَى ال َّس َماء َك ْيفَ ُرفِ َع ْ‬ ‫يَنظُرُونَ إِلَى ا ِإلبِ ِل َك ْيفَ ُخلِقَ ْ‬
‫ت﴾ (الغاشية‪ ،)20 - 17 :‬وقال‪﴿ :‬إِ َّن فِي َذلِكَ لَ ِذ ْك َرى لِ َمن‬ ‫ُط َح ْ‬‫ض َك ْيفَ س ِ‬ ‫َوإِلَى األَرْ ِ‬
‫﴿و َم ا يَ َّذ َّك ُر إِالَّ أُوْ لُ وا‬ ‫الس ْم َع َوهُ َو َش ِهي ٌد﴾ (ق‪ ،)37 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫َك انَ لَ هُ قَ ْلبٌ أَوْ أَ ْلقَى َّ‬
‫ب﴾ (آل عمران‪)7 :‬‬ ‫ْ‬
‫األلبَا ِ‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬تفكروا في آالء هللا‪ ،‬وال تفكروا في‬
‫هللا)(‪)1‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬أبصر قوما‪ ،‬فق ال‪( :‬م ا لكم؟) ق الوا‪ :‬نتفك ر في الخ الق‪ .‬فق ال‬
‫لهم‪( :‬تفكروا في خلقه وال تفكروا في الخالق‪ ،‬ال تقدرون قدره) (‪)2‬‬
‫هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع ألن تعمل بما فيه ا من‬
‫وصايا وحكم‪ ،‬واعلم أن زمام دينك بيد عقلك؛ فإياك أن تسلمه ألحد من الن اس‪ ..‬ب ل‬
‫استعمله في كل شيء؛ فال يمكن أن تهتدي إلى هللا‪ ،‬وال أن تس ير إلي ه‪ ،‬وأنت تع زل‬
‫عقلك وتتجاهله‪.‬‬

‫‪ )(1‬ابن أبي حاتم في تفس يره (‪ ،)12111‬والط براني في المعجم األوس ط (‪ ،)6319‬وأب و الش يخ في العظم ة (‬
‫‪)1/210‬‬
‫‪ )(2‬قوام السنة في الترغيب والترهيب (‪)670‬‬
‫‪337‬‬
‫االعتبار واالستبصار‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تس ألني عن االعتب ار واالستبص ار الل ذين‬
‫ورد ذكرهما وال دعوة إليهم ا في النص وص المقدس ة‪ ،‬وعالقتهم ا ب الفكر والتأم ل‪،‬‬
‫وعالقتهما بالتزكية والترقية‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن االعتب ار واالستبص ار آلت ان من‬
‫اآلالت التي يستعملها الفكر في التعرف على الحقائق والقيم‪ ،‬وسلوكها نتيجة لذلك‪.‬‬
‫ودورهما ال يكتفي ب التعرف على حق ائق األش ياء‪ ،‬وإنم ا يتع داه إلى ته ذيب‬
‫النفس وتزكيتها وتحقيقها ب القيم الرفيع ة ال تي ت تيح له ا ال ترقي في م راتب الكم ال‬
‫المهيأة لها‪.‬‬
‫واالفتقار إلى هاتين اآللتين يجعل اإلنس ان يم ر بالتج ارب المختلف ة‪ ،‬وي رى‬
‫بعينيه كل أصناف اآليات‪ ،‬ثم ال يع بر منه ا إلى الرس ائل المنطوي ة داخله ا؛ فيعمى‬
‫عن الحق‪ ،‬بعد أن أتيح له أن يبصره بعينيه‪.‬‬
‫ولذلك فإن االعتب ار واالستبص ار هم ا الل ذان يمكن ان النفس من العب ور من‬
‫الظواهر إلى البواطن‪ ..‬ومن الحروف إلى المعاني‪ ..‬ومن السطحية في التعام ل م ع‬
‫األشياء إلى العمق‪ ..‬وبذلك يتحول العابر إلى بصير باألشياء‪ ،‬وليس مجرد ص احب‬
‫علم بها‪.‬‬
‫ولذلك ورد في النصوص المقدسة الدعوة إلى االعتبار‪ ،‬وفي كل شيء‪ ..‬ذلك‬
‫أن هلل تعالى في كل شيء رسائل يرسلها إلى عب اده‪ ،‬ليعرف وه من خالله ا‪ ،‬ول يزكوا‬
‫أنفسهم ويطهروها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬قد كانَ لك ْم آيَة فِي فِئتي ِْن التقت ا فِئ ة تقاتِ ُل‬
‫ي ْال َع ْي ِن َوهَّللا ُ يُؤَ يِّ ُد بِنَصْ ِر ِه َم ْن يَ َشا ُء إِ َّن‬ ‫فِي َسبِي ِل هَّللا ِ َوأُ ْخ َرى َكافِ َرةٌ يَ َروْ نَهُ ْم ِم ْثلَ ْي ِه ْم َر ْأ َ‬
‫ار﴾ [آل عم ران‪]13 :‬؛ فه ذه اآلي ة الكريم ة ت دعو ك ل‬ ‫ْص ِ‬ ‫ك لَ ِعب َْرةً أِل ُولِي اأْل َب َ‬‫فِي َذلِ َ‬
‫الناس‪ ،‬وليس المعاصرين لرسول هللا ‪ ‬فقط‪ ،‬إلى تحليل ما حصل في غزوة ب در‪،‬‬
‫وكي ف نص ر هللا تع الى المؤم نين م ع قلتهم وض عفهم وظ روفهم الص عبة‪ ..‬ح تى‬
‫يستفيدوا من ذلك الكثير من المعارف‪ ،‬ابتداء من معرفتهم بالنبوة‪ ،‬وانتهاء بمعرفتهم‬
‫لسنن النصر وأسراره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫﴿وإِ َّن لك ْم فِي ا ن َع ِام ل ِع ْب َرة ن ْس قِيك ْم ِم َّما فِي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ومن األمثل ة عنه ا قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ت الن ِخي ِل‬‫َّ‬ ‫َ‬
‫اربِينَ (‪َ )66‬و ِم ْن ث َم َرا ِ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ص ا َس ائِغا لِلش ِ‬ ‫ث َود ٍَم لَبَنً ا خَالِ ً‬ ‫بُطُونِ ِه ِم ْن بَي ِْن فَ رْ ٍ‬
‫ب تَتَّ ِخ ُذونَ ِم ْنهُ َس َكرًا َو ِر ْزقًا َح َس نًا إِ َّن فِي َذلِ كَ آَل يَ ةً لِقَ وْ ٍم يَ ْعقِلُ ونَ ﴾ [النح ل‪:‬‬ ‫َواأْل َ ْعنَا ِ‬
‫‪ ،]67 ،66‬فهات ان اآليت ان الكريمت ان تنبه ان العق ل إلى البحث عن اآلي ات ال تي‬
‫تحملها هذه النعم اإللهية العظيمة‪ ،‬وهل يمكن أن توجد من غير موج د‪ ،‬أو يمكن أن‬
‫يوجدها غير العليم القدير الرحيم‪ ..‬وغيرها من األسماء الحسنى التي تدل عليها تلك‬
‫اآليات‪.‬‬
‫‪338‬‬
‫وبناء على هذا؛ فإن المراد من االعتبار واالستبصار في النصوص المقدسة‪،‬‬
‫هو (النّظر في حقائق األشياء‪ ،‬وجهات داللتها ليعرف ب النّظر فيه ا ش يء آخ ر من‬
‫جنسها) (‪)1‬‬
‫وبناء على طلبك ـ أيها المريد الص ادق ـ فسأش رح ل ك دورهم ا في التزكي ة‬
‫والترقية‪.‬‬
‫االعتبار والتزكية‪:‬‬
‫أما دورهما في التزكية ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فق د ورد في الدالل ة عليه ا‬
‫الكثير من النصوص المقدسة التي تدعو العقول والبصائر إلى االعتبار بم ا حص ل‬
‫لألمم السابقة‪ ،‬وكيف أداهم عجبهم وغ رورهم وك برهم إلى ذل ك الهالك ال ذي وق ع‬
‫بهم‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك قول ه تع الى في ال دعوة إلى االعتب ار بم ا حص ل‬
‫ب‬ ‫لفرعون‪ ،‬بعد أن بلغ ب ه اس تبداده وك بره إلى ادع اء األلوهي ة‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ َك َّذ َ‬
‫َصى (‪ )21‬ثُ َّم أَ ْدبَ َر يَ ْس َعى (‪ )22‬فَ َح َش َر فَنَادَى (‪ )23‬فَقَا َل أَنَ ا َربُّ ُك ُم اأْل َ ْعلَى (‪)24‬‬ ‫َوع َ‬
‫ال اآْل ِخ َر ِة َواأْل ولَى (‪ )25‬إِ َّن فِي َذلِ كَ لَ ِع ْب َرةً لِ َم ْن يَ ْخ َش ى﴾ [النازع ات‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فَأ َ َخ َذهُ هَّللا ُ نَ َك َ‬
‫‪]26 - 21‬‬
‫وهكذا يدعو القرآن الكريم الذين ظلموا أنفسهم بهج رهم للح ق‪ ،‬واس تكبارهم‬
‫عليه‪ ،‬إلى االعتبار بما حصل للقرون ال تي قبلهم‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬أَلَ ْم يَ َروْ ْا َك ْم أَ ْهلَ ْكنَ ا‬
‫ض َما لَ ْم نُ َم ِّكن لَّ ُك ْم َوأَرْ َس ْلنَا ال َّس َماء َعلَ ْي ِهم ِّم ْد َراراً‬ ‫ِمن قَ ْبلِ ِهم ِّمن قَرْ ٍن َّم َّكنَّاهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ْ‬
‫ار تَجْ ِري ِمن تَحْ تِ ِه ْم فَأ َ ْهلَ ْكنَاهُم بِ ُذنُوبِ ِه ْم َوأَ ْن َشأنَا ِمن بَ ْع ِد ِه ْم قَرْ ن ا ً آخَ ِرينَ ﴾‬ ‫َو َج َع ْلنَا األَ ْنهَ َ‬
‫[األنعام‪]6:‬‬
‫ت َو َم ا‬ ‫وا َو َجاء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَ ا ِ‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد أَ ْهلَ ْكنَا ْالقُرُونَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َّما ظَلَ ُم ْ‬
‫ض ِمن‬ ‫ك نَجْ ِزي ْالقَوْ َم ْال ُمجْ ِر ِمينَ ﴿‪ ﴾13‬ثُ َّم َج َع ْلنَا ُك ْم خَ الَئِفَ فِي األَرْ ِ‬ ‫وا َك َذلِ َ‬ ‫وا لِي ُْؤ ِمنُ ْ‬
‫َكانُ ْ‬
‫بَ ْع ِد ِهم لِنَنظُ َر َك ْيفَ تَ ْع َملُونَ ﴾ [يونس‪]14-13:‬‬
‫وقال‪َ ﴿ :‬و َكأَيِّن ِّمن قَرْ يَ ٍة ِه َي أَ َش ُّد قُ َّوةً ِّمن قَرْ يَتِ كَ الَّتِي أَ ْخ َر َج ْت كَ أَ ْهلَ ْكنَ اهُ ْم فَاَل‬
‫َاص َر لَهُ ْم﴾ [محمد‪]13:‬‬ ‫ن ِ‬
‫ويضرب لهم النماذج على ذلك‪ ،‬ومنها ما ورد في قوله تعالى‪﴿ :‬أَلَ ْم يَ أْتِ ِه ْم نَبَ أ ُ‬
‫ت‬‫ب َم ْديَنَ َو ْال ُم ْؤتَفِ َك ا ِ‬ ‫ص َحا ِ‬ ‫وح َو َع ا ٍد َوثَ ُم و َد َوقَ وْ ِم إِ ْب َرا ِهي َم ِوأَ ْ‬ ‫الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم قَوْ ِم نُ ٍ‬
‫ظلِ ُمونَ ﴾ [التوبة‪]70:‬‬ ‫وا أَنفُ َسهُ ْم يَ ْ‬‫ظلِ َمهُ ْم َولَـ ِكن َكانُ ْ‬ ‫ت فَ َما َكانَ هّللا ُ لِيَ ْ‬‫أَتَ ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وح َو َع ا ٍد‬ ‫ومنها ما ورد في قول ه تع الى‪﴿:‬أَلَ ْم يَ أتِ ُك ْم نَبَ أ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم قَ وْ ِم نُ ٍ‬
‫وا أَ ْي ِديَهُ ْم فِي‬ ‫ت فَ َر ُّد ْ‬ ‫َوثَ ُمو َد َوالَّ ِذينَ ِمن بَ ْع ِد ِه ْم الَ يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِالَّ هّللا ُ َجاء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُم بِ ْالبَيِّنَ ا ِ‬
‫ب﴿‪﴾9‬‬ ‫وا إِنَّا َكفَرْ نَ ا بِ َم ا أُرْ ِس ْلتُم بِ ِه َوإِنَّا لَفِي َش كٍّ ِّم َّما تَ ْدعُونَنَا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ‬ ‫أَ ْف َوا ِه ِه ْم َوقَالُ ْ‬
‫ض يَ ْدعُو ُك ْم لِيَ ْغفِ َر لَ ُكم ِّمن ُذنُ وبِ ُك ْم‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ك فَا ِط ِر َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫ت ُر ُسلُهُ ْم أَفِي هّللا ِ َش ٌّ‬ ‫قَالَ ْ‬
‫َص ُّدونَا َع َّما َك انَ‬ ‫وا إِ ْن أَنتُ ْم إِالَّ بَ َش ٌر ِّم ْثلُنَا تُ ِري ُدونَ أَن ت ُ‬ ‫َويُؤَ ِّخ َر ُك ْم إِلَى أَ َج ٍل ُّم َسـ ّمًى قَالُ ْ‬

‫‪ )(1‬الكليات للكفوي (‪)147‬‬


‫‪339‬‬
‫ت لَهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم إِن نَّحْ نُ إِالَّ بَ َش ٌر ِّم ْثلُ ُك ْم َولَـ ِك َّن‬ ‫يَ ْعبُ ُد آبَآ ُؤنَا فَأْتُونَا بِس ُْلطَا ٍن ُّمبِي ٍن﴿‪ ﴾10‬قَالَ ْ‬
‫هّللا َ يَ ُم ُّن َعلَى َمن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه َو َما َك انَ لَنَ ا أَن نَّأْتِيَ ُكم بِ ُس ْلطَا ٍن إِالَّ بِ إِ ْذ ِن هّللا ِ َوعلَى‬
‫َص بِ َر َّن‬ ‫هّللا ِ فَ ْليَتَ َو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِمنُونَ ﴿‪َ ﴾11‬و َم ا لَنَ ا أَالَّ نَت ََو َّك َل َعلَى هّللا ِ َوقَ ْد هَ دَانَا ُس بُلَنَا َولَن ْ‬
‫َعلَى َما آ َذ ْيتُ ُمونَا َو َعلَى هّللا ِ فَ ْليَتَ َو َّك ِل ْال ُمت ََو ِّكلُونَ ﴾ [إبراهيم‪]12-9:‬‬
‫تعالى‪﴿:‬وعَاداً َوثَ ُمو َد َوقَد تَّبَيَّنَ لَ ُكم ِّمن َّم َس ا ِكنِ ِه ْم َو َزيَّنَ‬ ‫َ‬ ‫ومنها ما ورد في قوله‬
‫ْص ِرينَ ﴿‪َ ﴾38‬وقَ ارُونَ‬ ‫يل َو َك انُوا ُم ْستَب ِ‬ ‫الس بِ ِ‬ ‫ص َّدهُ ْم ع َِن َّ‬ ‫الش ْيطَانُ أَ ْع َم الَهُ ْم فَ َ‬ ‫لَهُ ُم َّ‬
‫ض َو َم ا َك انُوا‬ ‫َ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا فِي اأْل رْ ِ‬ ‫ت فَ ْ‬ ‫ْ‬
‫وس ى بِالبَيِّنَ ا ِ‬ ‫َوفِرْ عَوْ نَ َوهَا َمانَ َولَقَ ْد َج اءهُم ُّم َ‬
‫َ‬
‫اص با ً َو ِم ْنهُم َّم ْن أخَ َذ ْت هُ‬ ‫َس ابِقِينَ ﴿‪ ﴾39‬فَكُاّل ً أَ َخ ْذنَا بِ َذنبِ ِه فَ ِم ْنهُم َّم ْن أرْ َس لنَا َعلَ ْي ِه َح ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ظلِ َمهُ ْم َولَ ِكن‬ ‫ض َو ِم ْنهُم َّم ْن أَ ْغ َر ْقنَا َو َم ا َك انَ هَّللا ُ لِيَ ْ‬ ‫صي َْحةُ َو ِم ْنهُم َّم ْن َخ َس ْفنَا بِ ِه اأْل َرْ َ‬ ‫ال َّ‬
‫َكانُوا أنفُ َسهُ ْم يَظلِ ُمونَ ﴾ [العنكبوت‪]40-38:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ويدعو القرآن الكريم إلى السير في األرض‪ ،‬واالعتبار بما حصل للظ المين‪،‬‬
‫ُون يَ ْم ُشونَ فِي َم َسا ِكنِ ِه ْم إِ َّن فِي َذلِكَ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬أَفَلَ ْم يَ ْه ِد لَهُ ْم َك ْم أَ ْهلَ ْكنَا قَ ْبلَهُم ِّمنَ ْالقُر ِ‬
‫ت أِّل ُوْ لِي النُّهَى﴾ [طه‪]128:‬‬ ‫آَل يَا ٍ‬
‫ُوش هَا َوبِ ْئ ٍر‬ ‫خَاويَةٌ َعلَى ُعر ِ‬ ‫وقال‪﴿ :‬فَ َكأَيِّن ِّمن قَرْ يَ ٍة أَ ْهلَ ْكنَاهَا َو ِه َي ظَالِ َمةٌ فَ ِه َي ِ‬
‫ض فَتَ ُك ونَ لَهُ ْم قُلُ وبٌ يَ ْعقِلُ ونَ بِهَ ا أَوْ‬ ‫ُّم َعطَّلَ ٍة َوقَصْ ٍر َّم ِشي ٍد﴿‪ ﴾45‬أَفَلَ ْم يَ ِسيرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ُور﴿‪﴾46‬‬ ‫ْصا ُر َولَ ِكن تَ ْع َمى ْالقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّ د ِ‬ ‫ان يَ ْس َمعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا اَل تَ ْع َمى اأْل َب َ‬ ‫آ َذ ٌ‬
‫ف َس نَ ٍة ِّم َّما‬ ‫ك َك أ َ ْل ِ‬ ‫ب َولَن ي ُْخلِ فَ هَّللا ُ َو ْع َدهُ َوإِ َّن يَوْ م ا ً ِعن َد َربِّ َ‬ ‫ك بِ ْال َع َذا ِ‬ ‫َويَ ْس تَ ْع ِجلُونَ َ‬
‫صيرُ﴾ [الحج‪:‬‬ ‫ي ْال َم ِ‬ ‫ْت لَهَا َو ِه َي ظَالِ َمةٌ ثُ َّم أَ ْ‬
‫خَذتُهَا َوإِلَ َّ‬ ‫تَ ُع ُّدونَ ﴿‪َ ﴾47‬و َكأَيِّن ِّمن قَرْ يَ ٍة أَ ْملَي ُ‬
‫‪]48-45‬‬
‫ض فَيَنظُ رُوا َك ْي فَ َك انَ عَاقِبَ ةُ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم‬ ‫وق ال‪﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ ِس يرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ُس لُهُم‬ ‫ض َو َع َمرُوهَا أَ ْكثَ َر ِم َّما َع َمرُوهَ ا َو َج اء ْتهُ ْم ر ُ‬ ‫َكانُوا أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َوأَثَارُوا اأْل َرْ َ‬
‫ظلِ ُم ونَ ﴿‪ ﴾9‬ثُ َّم َك انَ عَاقِبَ ةَ الَّ ِذينَ‬ ‫ظلِ َمهُ ْم َولَ ِكن َك انُوا أَنفُ َس هُ ْم يَ ْ‬ ‫ت فَ َما َك انَ هَّللا ُ لِيَ ْ‬ ‫بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ت هَّللا ِ َو َكانُوا بِهَا يَ ْستَه ِْزئُون﴾ [الروم‪]10-9:‬‬ ‫أَ َساؤُوا السُّوأَى أَن َك َّذبُوا بِآيَا ِ‬
‫ض فَيَنظُ رُوا َك ْي فَ َك انَ عَاقِبَ ةُ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم‬ ‫وق ال‪﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ ِس يرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫ت َواَل فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬‫ْج زَ هُ ِمن َش ْي ٍء فِي َّ‬ ‫َو َكانُوا أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َما َك انَ هَّللا ُ لِيُع ِ‬
‫اس بِ َما َك َسبُوا َم ا تَ َركَ َعلَى ظَه ِْرهَ ا ِمن‬ ‫ُؤَاخ ُذ هَّللا ُ النَّ َ‬
‫إِنَّهُ َكانَ َعلِيما ً قَ ِديراً﴿‪َ ﴾44‬ولَوْ ي ِ‬
‫ص يراً﴾‬ ‫َخ ُرهُ ْم إِلَى أَ َج ٍل ُّم َس ّمًى فَ إِ َذا َج اء أَ َجلُهُ ْم فَ إِ َّن هَّللا َ َك انَ بِ ِعبَ ا ِد ِه بَ ِ‬ ‫دَابَّ ٍة َولَ ِكن يُؤ ِّ‬
‫[فاطر‪]45-44:‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تدعو إلى النظر فيما حص ل لألمم الس ابقة‪،‬‬
‫والذين بقيت آثار بعضهم تشهد على ما كان لهم من قوة‪ ،‬ولكنهم في نهاي ة المط اف‬
‫خرجوا من الدنيا من غير أن يأخذوا منها شيئا‪.‬‬
‫ومن األمثلة عنها كل اآليات القرآني ة ال تي تقص قص ص األنبي اء وغ يرهم‪،‬‬
‫والتي لم تذكر في القرآن الكريم إال لغرض الع برة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬لَقَ ْد َك انَ فِي‬
‫ق الَّ ِذي بَ ْينَ يَ َد ْي ِه‬ ‫َص ِدي َ‬ ‫ب َم ا َك انَ َح ِديثًا يُ ْفتَ َرى َولَ ِك ْن ت ْ‬ ‫ص ِه ْم ِع ْب َرةٌ أِل ُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫قَ َ‬
‫‪340‬‬
‫يل ُك ِّل َش ْي ٍء َوهُدًى َو َرحْ َمةً لِقَوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ [يوسف‪]111 :‬‬
‫ص َ‬‫َوتَ ْف ِ‬
‫ولهذا ال يهتم القرآن الكريم بتفاصيل األحداث‪ ،‬بقدر اهتمامه بن واحي الع برة‬
‫فيها‪ ،‬ولذلك قد تتكرر القصة في المحال المختلفة‪ ،‬بناء على تن وع الع بر الموج ودة‬
‫فيها‪.‬‬
‫وهكذا ورد في أحاديث رس ول هللا ‪ ‬وأئم ة اله دى م ا ي دعو إلى االعتب ار‬
‫واالستبصار‪ ،‬ومنها قوله ‪ ‬جوابا لمن س أله عن محتوي ات ص حف موس ى علي ه‬
‫السالم‪ ،‬فقال له ‪( :‬كانت عبرا كلها‪ ،‬وفيها‪ :‬عجب لمن أيقن بالموت كيف يف رح؟‬
‫ولمن أيقن بالنار لم يضحك؟ ولمن يرى الدنيا وتقلبه ا بأهله ا لم يطمئن إليه ا؟ ولمن‬
‫يؤمن بالقدر كيف ينصب؟ ولمن أيقن بالحساب لم ال يعمل؟)(‪)1‬‬
‫ومنها ما روي عن اإلم ام علي في خطبت ه المعروف ة بـ (القاص عة)‪ ،‬وال تي‬
‫حذر فيها من إبليس‪ ..‬فمما ذكره فيها قوله‪( :‬فاعتبروا بما كان من فع ل هّللا ب إبليس‪،‬‬
‫إذ أحبط عمله الطّويل‪ ،‬وجهده الجهيد‪ ،‬وكان قد عبد هّللا ستّة آالف س نة‪ ،‬ال ي درى أ‬
‫من سني ال ّدنيا‪ ،‬أم من سني اآلخرة؟ عن كبر ساعة واحدة‪ ..‬فمن ذا بعد إبليس يس لم‬
‫على هّللا بمثل معصيته؟ كاّل ‪ ،‬ما كان هّللا سبحانه ليدخل الجنّة بش را ب أمر أخ رج ب ه‬
‫إن حكمه في أهل السّماء وأهل األرض لواحد‪ ،‬وما بين هّللا وبين أحد من‬ ‫منها ملكا‪ّ ،‬‬
‫خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه على العالمين)‬
‫ثم راح يحذر من الوقوع في حبائل الش يطان‪ ،‬وخدم ة مش روعة التح ريفي‪،‬‬
‫فقال‪( :‬فاحذروا عباد هّللا عد ّو هّللا ‪ ،‬أن يعديكم بدائه‪ ،‬وأن يستف ّزكم بندائ ه‪ ،‬وأن يجلب‬
‫عليكم بخيل ه ورجل ه‪ .‬فلعم ري لق د ف وّق لكم س هم الوعي د‪ ،‬وأغ رق إليكم ب النّزع‬
‫ُ‬
‫﴿ربِّ بِ َم ا أَ ْغ َو ْيتَنِي أل َزيِّن ََّن لَهُ ْم فِي األَرْ ِ‬
‫ض‬ ‫ال ّشديد‪ ،‬ورماكم من مكان قريب‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫بظن غ ير مص يب‪،‬‬ ‫َوألُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعين﴾ [الحج ر‪ ،]39:‬ق ذفا بغيب بعي د‪ ،‬ورجم ا ّ‬
‫ص ّدقه به أبناء الحميّة‪ ،‬وإخوان العصبيّة‪ ،‬وفرسان الكبر والجاهليّة‪ ،‬حتّى إذا انقادت‬
‫له الجامحة منكم‪ ،‬واس تحكمت الطّماعيّ ة من ه فيكم‪ ،‬فنجمت الح ال من ّ‬
‫الس ّر الخف ّي‬
‫إلى األمر الجل ّي‪ ،‬استفحل سلطانه عليكم‪ ،‬ودلف بجنوده نحوكم‪ ،‬ف أقحموكم ولج ات‬
‫الذلّ‪ ،‬وأحلّوكم ورطات القتل‪ ،‬وأوطؤوكم إثخان الجراحة‪ ،‬طعنا في عيونكم‪ ،‬وح ّزا‬ ‫ّ‬
‫في حلوقكم‪ ،‬ودقّا لمناخركم‪ ،‬وقصدا لمقاتلكم‪ ،‬وسوقا بخزائم القهر إلى النّ ار المع ّدة‬
‫لكم‪ ،‬فأصبح أعظم في دينكم حرجا‪ ،‬وأورى في دنياكم قدحا‪ ،‬من الّذين أص بحتم لهم‬
‫مناصبين‪ ،‬وعليهم متألّبين‪ ،‬فاجعلوا عليه ح ّدكم‪ ،‬وله ج ّدكم)‬
‫ثم عبر من ذلك إلى السالح الذي يس تعمله إبليس في التفري ق بين المؤم نين‪،‬‬
‫وهو نفسه السالح الذي أوقعه في الكبر والغواية‪ ،‬فقال‪( :‬فأطفئوا ما كمن في قلوبكم‬
‫من ن يران العص بيّة‪ ،‬وأحق اد الجاهليّ ة‪ ،‬فإنّم ا تل ك الحميّ ة تك ون في المس لم من‬
‫الش يطان ونخوات ه‪ ،‬ونزغات ه ونفثات ه‪ ،‬واعتم دوا وض ع التّ ذلّل على‬ ‫خط رات ّ‬
‫رؤوسكم‪ ،‬وإلقاء التّع ّزز تحت أقدامكم‪ ،‬وخلع التّكبّر من أعناقكم‪ ،‬واتّخذوا التّواض ع‬

‫‪ )(1‬الخصال ج ‪.104 :2‬‬


‫‪341‬‬
‫إن ل ه من ك ّل أ ّم ة جن ودا وأعوان ا‪،‬‬ ‫مس لحة بينكم‪ ،‬وبين ع دوّكم إبليس وجن وده‪ ،‬ف ّ‬
‫ورجال وفرسانا‪ ،‬وال تكون وا ك المتكبّر على ابن أ ّم ه‪ ،‬من غ ير م ا فض ل جعل ه هّللا‬
‫فيه‪ ،‬سوى ما ألحقت العظمة بنفسه‪ ،‬من عداوة الحسد‪ ،‬وق دحت الحميّ ة في قلب ه من‬
‫الش يطان في أنف ه من ريح الك بر‪ ،‬الّ ذي أعقب ه هّللا ب ه النّدام ة‪،‬‬
‫نار الغض ب‪ ،‬ونفخ ّ‬
‫وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة)‬
‫ثم دعا إلى االعتبار بما حص ل لألمم الس ابقة‪ ،‬فق ال‪( :‬ف اعتبروا بم ا أص اب‬
‫األمم المس تكبرين من قبلكم من ب أس هّللا وص والته‪ ،‬ووقائع ه ومثالت ه‪ ،‬واتّعظ وا‬
‫بمث اوي خ دودهم‪ ،‬ومص ارع جن وبهم‪ ،‬واس تعيذوا باهّلل من ل واقح الك بر‪ ،‬كم ا‬
‫تستعيذونه من طوارق ال ّدهر‪ .‬فلو ر ّخص هّللا في الكبر ألحد من عباده‪ ،‬لر ّخص فيه‬
‫لخاصّة أنبيائه وأوليائه‪ ،‬ولكنّ ه س بحانه ك رّه إليهم التّك ابر‪ ،‬ورض ي لهم التّواض ع‪،‬‬
‫فألص قوا ب األرض خ دودهم‪ ،‬وعفّ روا في التّ راب وج وههم‪ ،‬وخفض وا أجنحتهم‬
‫للمؤمنين‪ ،‬وكانوا قوما مستضعفين‪ ،‬قد اختبرهم هّللا بالمخمصة‪ ،‬وابتالهم بالمجهدة‪،‬‬
‫وامتحنهم بالمخاوف‪ ،‬ومخضهم بالمكاره)‬
‫ومن االعتبار الذي له دور كبير في التزكي ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ذك ر‬
‫الموت؛ ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬أكثروا من ذك ر ه ادم اللَّذات) (‪)1‬‬
‫فسئل عن ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬الموت‪ ،‬فما ذكره عبد على الحقيقة في سعة إال ضاقت علي ه‬
‫الدنيا‪ ،‬وال في شدة إال اتسعت عليه‪ ،‬والموت أول م نزل من من ازل اآلخ رة‪ ،‬وآخ ر‬
‫منزل من منازل الدنيا‪ ،‬فطوبى لمن اكرم عند ال نزول بأوله ا‪ ،‬وط وبى لمن احس ن‬
‫مشايعته في آخرها)(‪)2‬‬
‫ك ْن في الدنيا كأَنَّك غريب أو عابر سبيل) (‪)3‬‬‫وقال لبعض أصحابه‪ُ ( :‬‬
‫وس ئل‪( :‬أي المؤم نين أكيس)‪ ،‬ق ال‪( :‬أك ثرهم ذك را للم وت وأش ّدهم ل ه‬
‫استعدادا)(‪)4‬‬
‫وروي أن ه ‪ ‬خَ طَّ خطّ ا ً مربع ا ً وخ ط خطّ ا ً في الوس ط خارج ا ً من ه وخ طّ‬
‫خططا ً ص غاراً إلى ه ذا ال ذي في الوس ط من جانب ه ال ذي في الوس ط وق ال‪( :‬ه ذا‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهذا أجله محيطٌ به أو ق د أح اط ب ه‪ .‬وه ذا ال ذي ه و خ ار ٌج أمل ه‪ ،‬وه ذه‬
‫الخطط الصغار األعراض فإن أخطأه ُ هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا) (‪)5‬‬
‫ق منزلت ه من ع ّد غ دا من أجل ه‪ ..‬وم ا‬ ‫وقال اإلمام علي‪( :‬ما أنزل الموت ح ّ‬
‫أطال عبد األمل إاّل أساء العمل‪ ..‬ولو رأى العبد أجله وس رعته إلي ه ألبغض العم ل‬
‫من طلب ال ّدنيا(‪))6‬‬
‫وطلب بعضهم من اإلمام الب اقر أن يحدث ه بم ا ينتف ع ب ه‪ ،‬فق ال‪( :‬أك ثر ذك ر‬
‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪ ،)2307‬والنسائي (‪ ،)4 /4‬وابن ماجه (‪)4258‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)133 /6‬‬
‫‪ )(3‬البخاري‪)6416( ،‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ 257‬رقم ‪.29‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري (‪)6417‬‬
‫‪ )(6‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ 259‬رقم ‪.30‬‬
‫‪342‬‬
‫ال ّدنيا)(‪)1‬‬ ‫الموت فإنّه لم يكثر ذكره إنسان إاّل زهد في‬
‫وشكا بعضهم إلى اإلمام الصادق الوسواس‪ ،‬فقال له‪( :‬اذك ر تقطّ ع أوص الك‬
‫في قبرك‪ ،‬ورجوع أحبّائ ك عن ك إذا دفن وك في حفرت ك‪ ،‬وخ روج بن ات الم اء من‬
‫فإن ذلك يسلى عنك ما أنت فيه)‪ ،‬ق ال الرج ل‪( :‬ف و هللا‬ ‫منخريك‪ ،‬وأكل ال ّدود لحمك ّ‬
‫ما ذكرته إاّل سلي عنّي ما أنا فيه من ه ّم ال ّدنيا ‪) 2‬‬
‫)‬ ‫(‬
‫ّ‬
‫وقال‪( :‬من كان كفنه معه في بيته لم يكتب من الغافلين‪ ،‬وك ان م أجورا كلم ا‬
‫نظر إليه)(‪)3‬‬
‫وق ال‪( :‬إذا أنت حملت جن ازة فكن كأنّ ك أنت المحم ول وكأنّ ك س ألت ربّ ك‬
‫الرّجوع إلى ال ّدنيا ففعل فانظر ما ذا تستأنف)‪ ،‬ثم قال‪( :‬عجب لقوم حبس أوّلهم عن‬
‫آخرهم ث ّم نودي فيهم الرّحيل وهم يلعبون)(‪)4‬‬
‫وقال‪( :‬ذكر الم وت يميت الش هوات في النّفس ويقط ع من ابت الغفل ة ويق وّي‬
‫ق الطب ع ويكس ر أعالم اله وى ويطفي ن ار الح رص ويحقّ ر‬ ‫القلب بمواعد هللا وي ر ّ‬
‫ال ّدنيا‪ ..‬وذلك عندما يح ّل أطن اب خي ام ال ّدنيا ويش ّدها في اآلخ رة وال يس كن ن زول‬
‫الرّحمة على ذاكر الموت به ذه الص فة‪ ،‬ومن ال يعت بر ب الموت وقلّ ة حيلت ه وك ثرة‬
‫عجزه وطول مقامه في القبر وتحيره في القيامة فال خير فيه) (‪)5‬‬
‫وألجل تذكر الموت‪ ،‬واالعتبار به ورد األم ر بزي ارة المق ابر؛ ففي الح ديث‬
‫عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬كنت نهيتكم عن زيارة القبور‪ ،‬فزوروه ا‪ ،‬فإنّه ا تزهّ د‬
‫في ال ّدنيا وتذ ّكر اآلخرة) (‪)6‬‬
‫االعتبار والترقية‪:‬‬
‫أم ا دور االعتب ار واالستبص ار في الترقي ة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فك ل‬
‫النصوص المقدسة تدل عليه؛ ذلك أن هللا تعالى يدعونا إلى إع ادة ق راءة ك ل ش يء‬
‫في الكون بناء على الحقائق التي يقوم عليها‪ ،‬ال على األهواء التي صنعتها النفوس‪.‬‬
‫ذلك أن كل الكون بأعيانه وأحداث ه وج واهره وأعراض ه ليس س وى رس ائل‬
‫إلهية تدل على الحقائق الوجودية العظمى‪ ،‬والتي يترقى الس الك من خالل معرفته ا‬
‫في معارج الكمال المتاح له بحسب قابليته واستعداده الذي وفره لنفسه عبر ته ذيبها‬
‫وتزكيتها‪.‬‬
‫ولهذا كان أول ما أمر به رسول هللا ‪ ،‬بل ما أم رت ب ه أمت ه ـ كم ا يش ير‬
‫ك الَّ ِذي‬ ‫الحكماء ـ هو أن تعاد قراءة الكون باسم هللا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿:‬ا ْق َر ْأ بِ ْ‬
‫اس ِم َربِّ َ‬
‫خَ لَقَ﴾ (العلق‪ ،)1:‬فاآلية تحتمل من حيث اإلشارة أن يك ون اس م الموص ول مفع وال‬
‫به‪ ،‬ويصير المعنى حينئذ (اقرأ باسم ربك األشياء التي خلقها)‬
‫‪ )(1‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ 255‬رقم ‪.18‬‬
‫‪ )(2‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ 255‬رقم ‪.20‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ج ‪ 3‬ص ‪ 256‬رقم ‪.23‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ 258‬رقم ‪.29‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار (‪)133 /6‬‬
‫‪ )(6‬أحمد (‪ ،)38 /3‬والحاكم في المستدرك (‪)375 /1‬‬
‫‪343‬‬
‫والقرآن الكريم مليئ بهذا المعنى مما قد ال يحوجنا إلى هذا المعنى اإلش اري‬
‫الذي يفهمه الحكماء‪ ،‬بل فيه الداللة على كيفية قراءة الكون باسم هللا‪.‬‬
‫فاهلل تعالى يأمرنا بقراءة الرحمة اإللهية من خالل حي اة األرض بع د موته ا‪،‬‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا﴾ (الروم‪)50 :‬‬ ‫ت هَّللا ِ َك ْيفَ يُحْ يِي اأْل َرْ َ‬ ‫ار َرحْ َم ِ‬ ‫قال تعالى‪﴿:‬فَا ْنظُرْ إِلَى آثَ ِ‬
‫ويأمرنا باالستبشار تف اؤال بفض ل هللا‪ ،‬وفرح ا باهلل‪ ،‬وتنس ما لرحم ة هللا عن د‬
‫اح ب ُْش راً بَ ْينَ يَ َديْ‬ ‫تعالى‪﴿:‬وه َُو الَّ ِذي يُرْ ِس ُل الرِّ يَ َ‬‫َ‬ ‫هبوب الرياح التي يرسلها هللا‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت فَأ ْن َزلنَا بِ ِه ال َما َء فَأ ْخ َرجْ نَا بِ ِه ِم ْن ُك ِّل‬ ‫َ‬ ‫ت َس َحابا ً ثِقَاالً ُسقنَاهُ لِبَلَ ٍد َميِّ ٍ‬
‫ْ‬ ‫َرحْ َمتِ ِه َحتَّى إِ َذا أَقَلَّ ْ‬
‫ك نُ ْخ ِر ُج ْال َموْ تَى لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪)57:‬‬ ‫ت َك َذلِ َ‬‫الثَّ َم َرا ِ‬
‫ويعلمنا أن نقرأ لطف هللا وخبرته المحيطة بكل شي من خالل ح روف الم اء‬
‫الس َما ِء َم ا ًء‬ ‫الساقطة على األرض المخضرة‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬أَلَ ْم تَ َر أَ َّن هَّللا َ أَ ْن َز َل ِمنَ َّ‬
‫يف خَ بِيرٌ﴾ (الحج‪)63:‬‬ ‫ض َّرةً إِ َّن هَّللا َ لَ ِط ٌ‬‫فَتُصْ بِ ُح اأْل َرْ ضُ ُم ْخ َ‬
‫ويعلمنا أن نقرأ علم هللا وقدرته من خالل السطور المبثوث ة في تقلب الزم ان‬
‫بأعمارن ا‪ ،‬ق ال‪َ ﴿:‬وهَّللا ُ خَ لَقَ ُك ْم ثُ َّم يَتَ َوفَّا ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َك ْي ال يَ ْعلَ َم‬
‫بَ ْع َد ِع ْل ٍم َشيْئا ً إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم قَ ِديرٌ﴾ (النحل‪)70:‬‬
‫ويرينا قوة هللا القاهرة‪ ،‬وقدرته الشاملة باستعراض تفاص يل دقي ق المكون ات‬
‫وجليلها‪:‬‬
‫فالس موات ال تي ننبه ر لض خامتها ال تع دو أن تك ون ش يئا حق يرا ج دا أم ام‬
‫ْضتُهُ يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه َواأْل َرْ ضُ َج ِميعا ً قَب َ‬ ‫عظمة هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (الزمر‪)67:‬‬ ‫ط ِوي ٌ‬ ‫ات َم ْ‬ ‫او ُ‬ ‫َوال َّس َم َ‬
‫والقرآن الكريم يرشدنا من خالل هذه اآلية إلى أن سبب الجه ل بق در هللا ه و‬
‫عدم قراءة الكون باسم هللا‪ ،‬فهؤالء نظروا إلى عظم السموات واألرض غ افلين عن‬
‫خالقهما‪.‬‬
‫وليس من الغريب لهذا أن تحوي سيدة آي القرآن الكريم(‪ )1‬الحديث عن خل ق‬
‫هللا لتستتدل به على هللا‪ ،‬قال تعالى‪﴿:‬هَّللا ُ ال إِلَهَ إِاَّل هُ َو ْال َح ُّي ْالقَيُّو ُم ال تَأْ ُخ ُذهُ ِس نَةٌ َوال‬
‫ض َم ْن َذا الَّ ِذي يَ ْشفَ ُع ِع ْن َدهُ إِاَّل بِإِ ْذنِ ِه يَ ْعلَ ُم َما بَ ْينَ‬ ‫ت َو َما فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫نَوْ ٌم لَهُ َما فِي ال َّس َم َ‬
‫ت‬ ‫الس َما َوا ِ‬ ‫أَ ْي ِدي ِه ْم َو َما خَ ْلفَهُ ْم َوال ي ُِحيطُونَ بِ َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه إِاَّل بِ َما َشا َء َو ِس َع ُكرْ ِس يُّهُ َّ‬
‫ض َوال يَؤُو ُدهُ ِح ْفظُهُ َما َوهُ َو ْال َعلِ ُّي ْال َع ِظي ُم﴾ (البقرة‪)255:‬‬ ‫َواأْل َرْ َ‬
‫فاآلي ة الكريم ة ت دلنا على طري ق العب ور من الس موات واألرض إلى الحي‬
‫القي وم‪ ،‬ألن ه ال يك ون ه ذا اإلب داع العظيم في ه ذا الخل ق العظيم إال بحي اة المب دع‬
‫وقيوميته‪ ،‬فالتوازن والتكامل والبقاء في المخلوقات دليل قيام خالقها بها‪.‬‬
‫ومن هذه األبواب التي يفتحها لن ا الق رآن الك ريم للتع رف على هللا من خالل‬
‫كتاب الكون ما ورد فيه من استدالالت على البعث‪ ،‬فهي ـ عن د التأم ل ـ أدل ة على‬
‫‪ )(1‬عن أبي بن كعب قال‪ :‬قال رسول هللا ‪(:‬ي ا أب ا المن ذر أت دري أي آي ة من كت اب هللا مع ك أعظم؟)‪ ،‬ق ال‬
‫قلت‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪( :‬يا أبا المنذر أت دري أي آي ة من كت اب هللا مع ك أعظم؟) ق ال‪ :‬قلت‪ ﴿:‬هَّللا ُ ال إِلَ هَ إِاَّل هُ َو‬
‫ْال َح ُّي ْالقَيُّو ُم ﴾ (البقرة‪ :‬من اآلية‪ ،)255‬فضرب في صدري وقال‪( :‬ليهنك العلم يا أبا المنذر) رواه مسلم‪.‬‬
‫‪344‬‬
‫هللا أكثر من داللتها على البعث‪.‬‬
‫وهي تدل على هللا قبل البعث‪ ،‬ألن األساس الذي أوق ع ال دهريين والمنك رين‬
‫للبعث هو اعتقادهم باالستحالة العقلية لع ودة العظم ال رميم للحي اة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‬
‫ال َم ْن يُحْ يِي ْال ِعظَ ا َم َو ِه َي‬ ‫ب لَنَ ا َمثَالً َون َِس َي خَ ْلقَ هُ قَ َ‬ ‫ض َر َ‬ ‫ضاربا المثل ببعضهم‪َ ﴿:‬و َ‬
‫َر ِمي ٌم﴾ (يّـس‪)78:‬‬
‫والقرآن الكريم ـ لينفي هذه الشبهة‪ ،‬ويرف ع ه ذا االلتب اس ـ ال يتكل ف كالم ا‬
‫عقليا جافا كالكالم الذي يتعمده الفالسفة‪ ،‬بل يكتفي بأمرنا برف ع أبص ارنا وحواس نا‬
‫للنظر إلى األرض الخاشعة كيف تتحول بالماء الرب اني إلى جن ة من جن ان الحي اة‪،‬‬
‫ت‬ ‫خَاش َعةً فَ إِ َذا أَ ْن َز ْلنَ ا َعلَ ْيهَ ا ْال َم ا َء ا ْهتَ َّز ْ‬
‫ض ِ‬ ‫ك تَ َرى اأْل َرْ َ‬ ‫ق ال تع الى‪َ ﴿:‬و ِم ْن آيَاتِ ِه أَنَّ َ‬
‫ت إِ َّن الَّ ِذي أَحْ يَاهَا لَ ُمحْ يِي ْال َموْ تَى إِنَّهُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾ (فصلت‪ ،)39:‬وقال‪:‬‬ ‫َو َربَ ْ‬
‫ْ‬
‫َر فَأ ْنشَرْ نَا بِ ِه بَل َدةً َميْتا ً َك َذلِكَ تُ ْخ َر ُج ونَ ﴾ (الزخ رف‪:‬‬ ‫َ‬ ‫﴿ َوالَّ ِذي نَ َّز َل ِمنَ ال َّس َما ِء َما ًء بِقَد ٍ‬
‫ت فَأَحْ يَ ْينَ ا بِ ِه‬
‫اح فَتُثِ ي ُر َس َحابا ً فَ ُس ْقنَاهُ إِلَى بَلَ ٍد َميِّ ٍ‬ ‫‪ ،)11‬وقال‪َ ﴿:‬وهَّللا ُ الَّ ِذي أَرْ َس َل ال ِّريَ َ‬
‫ك النُّ ُشورُ﴾ (فاطر‪)9:‬‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َك َذلِ َ‬ ‫اأْل َرْ َ‬
‫أو يرش دهم إلى اس تعادة ت ذكر م ا س بق من النش أة األولى‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬قُ لْ‬
‫ق َعلِي ٌم﴾ (يّـس‪)79:‬‬ ‫يُحْ يِيهَا الَّ ِذي أَ ْن َشأَهَا أَ َّو َل َم َّر ٍة َوهُ َو بِ ُكلِّ خَ ْل ٍ‬
‫ويخاطب ال ذين ق الوا ـ مغ ترين بم ا ل ديهم من المع ارف ـ‪﴿:‬أَإِ َذا ُكنَّا ِعظَام ا ً‬
‫َو ُرفَات ا ً أَإِنَّا لَ َم ْبعُوثُ ونَ خَ ْلق ا ً َج ِدي داً﴾ (االس راء‪ ،)49 :‬ب أمرهم ب أن يتحول وا إلى أي‬
‫ارةً أَوْ َح ِدي داً أَوْ خَ ْلق ا ً ِّم َّما يَ ْكبُ ُر فِي‬ ‫وا ِح َج َ‬ ‫شيء شاءوا مما يعتقدون قوته‪﴿:‬قُ ل ُكونُ ْ‬
‫ُور ُك ْم﴾(االسراء‪ ،)51-50 :‬فإذا بقيت حيرتهم حينها ويقولون‪َ ﴿:‬من يُ ِعي ُدنَا﴾‪ ،‬ف إن‬ ‫صد ِ‬ ‫ُ‬
‫الج واب الق رآني يكتفي بت ذكيرهم ب النظر إلى مب دأ خلقهم‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬قُ ِل الَّ ِذي‬
‫فَطَ َر ُك ْم أَ َّو َل َم َّر ٍة﴾‬
‫وحين ذاك يب دل ه ؤالء الغ افلون عن كن وز المع ارف المخب أة في الس موات‬
‫واألرض الموضوع‪ ،‬فيسألون عن موعد ما ال يؤمنون به‪،‬وكأن عدم تحديد الموع د‬
‫هو الدليل على ما ينكرونه‪ ،‬قال تعالى‪﴿:‬فَ َسيُ ْن ِغضُونَ إِلَ ْيكَ ُرؤُو َسهُ ْم َويَقُولُونَ َمتَى هُ َو‬
‫قُلْ َع َسى أَن يَ ُكونَ قَ ِريباً﴾ (االسراء‪)51:‬‬
‫أم ا طري ق تحقي ق ذل ك‪ ،‬ف القرآن الك ريم ي دل علي ه ب النظر في الس موات‬
‫واألرض‪ ،‬فيستدل بالقدرة على النشأة الثانية بقدرته تعالى على النش أة األولى‪ ،‬ق ال‬
‫ق ِم ْثلَهُ ْم بَلَى َوهُ َو‬ ‫ض بِقَ ا ِد ٍر َعلَى أَ ْن يَ ْخلُ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫الس َما َوا ِ‬‫ق َّ‬ ‫ْس الَّ ِذي َخلَ َ‬ ‫تعالى‪﴿:‬أَ َولَي َ‬
‫ق ْال َعلِي ُم﴾ (يّـس‪)81:‬‬ ‫ْالخَ اَّل ُ‬
‫فكل شيء يسير على هللا‪ ،‬والكون كله يدل على ذلك اليسر‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬أَ َولَ ْم‬
‫ق ثُ َّم يُ ِعي ُدهُ إِ َّن َذلِ كَ َعلَى هَّللا ِ يَ ِس يرٌ﴾ (العنكب وت‪ ،)19:‬وق ال‬ ‫ئ هَّللا ُ ْال َخ ْل َ‬‫يَ َروْ ا َك ْيفَ يُ ْب ِد ُ‬
‫ق‪)15:‬‬ ‫ق َج ِدي ٍد﴾ ( ّ‬ ‫ْ‬
‫س ِم ْن خَ ل ٍ‬ ‫َ‬
‫ق ا َّو ِل بَلْ هُ ْم فِي ل ْب ٍ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫تعالى‪﴿:‬أَفَ َعيِينَا بِالخَ ل ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ويرد على غالظ القلوب من بني إسرائيل الذين صورت لهم عقولهم الغارق ة‬
‫في أوحال المادة أن هللا ـ تعالى عما يقول ون ـ يلحق ه العي اء‪ ،‬ف رد عليهم تع الى في‬

‫‪345‬‬
‫ض َولَ ْم يَ ْع َي بِخَ ْلقِ ِه َّن بِقَ ا ِد ٍر‬
‫ت َواأْل َرْ َ‬
‫اوا ِ‬ ‫قوله تعالى‪﴿:‬أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ق ال َّس َم َ‬
‫َعلَى أَ ْن يُحْ يِ َي ْال َموْ تَى بَلَى إِنَّهُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾ (االحقاف‪)33:‬‬
‫وهذه النظرة لسطور المكونات تكسبها من الجم ال م ا ال يكس بها أي وص ف‬
‫بشري‪ ،‬فال مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل‪ ،‬فيحزن ل ذبولها‬
‫بقدر ما سره تفتحها‪ ،‬وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف هللا ورحمته وجماله‪.‬‬
‫وشبه بعض الحكماء عبور المؤمن للكون الحسي الذي يستوي في النظر إليه‬
‫الع ارف والغاف ل‪ ،‬ب النظر إلى الم رآة‪ ،‬فهي من حيث أنه ا زجاج ة‪ ،‬ن رى مادته ا‬
‫الزجاجية‪ ،‬وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا‪ ،‬بينما إن كان القصد من النظ ر‬
‫الى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها‪ ،‬فالصورة تتوضح أمامن ا بينم ا يبقى زج اج‬
‫المرآة أمراً ثانوياً‪.‬‬
‫وقد وضع اصطالحين لذلك‪ ،‬ليوض ح من خالله ا النظ رة القرآني ة العرفاني ة‬
‫للكون‪ ،‬استفادهما من اصطالحات النحويين هما (المعنى االسمي للك ون‪ ،‬والمع نى‬
‫الحرفي له‪ ،‬فاالس م م ا دل على مع نى في نفس ه‪ ،‬أم ا الح رف فه و ال ذي‪ :‬د ّل على‬
‫معنى في غيره)‬
‫والنظرة القرآنية اإليمانية إلى الموجودات تجعله ا جميع ا حروف اً‪ ،‬تعبّ ر عن‬
‫مع نى في غيره ا‪ ،‬وه ذا المع نى ه و تجلي ات االس ماء الحس نى والص فات الجليل ة‬
‫للخالق العظيم المتجلية على الموجودات‪.‬‬
‫وله ذا اتف ق الحكم اء على أن حق ائق األش ياء‪ ،‬إنم ا هي األس ماء اإللهي ة‬
‫الحسنى‪ ،‬أما ماهية األشياء فهي ظالل تلك الحقائق‪ ..‬وقد قال بعضهم مخاطبا ً بعض‬
‫مريديه يوصيه‪(:‬حدد بصر اإليمان تج د هللا تع الى في ك ل ش يء‪ ،‬وعن د ك ل ش ئ‪،‬‬
‫وقبل كل شئ‪ ،‬وبعد كل شئ‪ ،‬وفوق كل شئ‪ ،‬وتحت كل شيء‪ ،‬قريبا ً من ك ل ش ئ‪،‬‬
‫ومحيط ا ً بك ل ش ئ‪ ،‬بق رب ه و وص فه‪ ،‬وبحيط ة هي نعت ه‪ ،‬وع د عن الظرفي ة‬
‫والح دود‪ ،‬وعن األم اكن والجه ات‪ ،‬وعن الص حبة والق رب في المس افات‪ ،‬وعن‬
‫الدور بالمخلوقات‪ ،‬وامح ق الك ل بوص فه األول واآلخ ر والظ اهر والب اطن‪ ،‬وه و‬
‫هو‪ ..‬كان هللا وال شئ معه‪ ،‬وهو اآلن على ما عليه كان)‬
‫وألهمية هذا النوع من القراءة الكونية‪ ،‬ولعالقته الوثيقة باإليم ان‪ ،‬ب ل ب أرفع‬
‫درجات اإليمان يثني القرآن الكريم على المؤمنين ال ذين أمض وا حي اتهم في ق راءة‬
‫رسائل هللا إليهم عبر مكوناته‪.‬‬
‫وأول ه ؤالء‪ ،‬وعلى رأس هم أولئ ك ال ذين يع بر عنهم الق رآن الك ريم ب أولي‬
‫األلباب‪ ،‬وهم الذين خرجوا من ظواهر المكونات إلى بواطنها‪ ،‬ولم تحجبهم الصور‬
‫المزخرفة للمكونات عن الحروف المسجلة فيها‪.‬‬
‫ولعل أعظم وصف قرآني لهم ه و م ا ورد في أواخ ر س ورة آل عم ران من‬
‫ت أِل ُولِي‬ ‫ار آَل ي ا ٍ‬ ‫الف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬
‫اختِ ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬ ‫قوله تعالى‪﴿:‬إِ َّن فِي َخ ْل ِ‬
‫ق ال َّس َما َوا ِ‬
‫ت‬ ‫ب الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هَّللا َ قِيَاما ً َوقُعُوداً َو َعلَى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ‬ ‫اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫‪346‬‬
‫ار﴾ (آل عمران‪)191:‬‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫ض َربَّنَا َما َخلَ ْقتَ هَ َذا بَا ِطالً ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫وفي هذه اآليات برهان جلي على األثر الذي تتركه القراءة اإليمانية لحروف‬
‫المكونات‪ ،‬فالقرآن الكريم قدم الفكر على الذكر‪ ،‬وقدم القراءة على التسبيح‪ ،‬ثم ذك ر‬
‫أن أول ما يقوله هؤالء العارفون‪ ،‬أو أول ما يقرؤون ه ه و أن ه ذا الخل ق العظيم لم‬
‫يخلق عبثا‪.‬‬
‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ومن اآليات المتحدث ة عن ه ذا الص نف قول ه تع الى‪﴿:‬ألَ ْم تَ َر أ َّن َ أ ْن َز َل ِمنَ‬
‫ض ثُ َّم ي ُْخ ِر ُج بِ ِه زَرْ عا ً ُم ْختَلِفا ً أَ ْل َوانُهُ ثُ َّم يَ ِهي ُج فَتَ َراهُ‬ ‫ال َّس َما ِء َما ًء فَ َسلَ َكهُ يَنَابِي َع فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ب﴾ (الزمر‪)21:‬‬ ‫ُمصْ فَ ّراً ثُ َّم يَجْ َعلُهُ ُحطَاما ً إِ َّن فِي َذلِكَ لَ ِذ ْك َرى أِل ُولِي اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ونالح ظ هن ا ك ذلك أن ه ؤالء الع ارفين ال يقتص رون على النظ ر إلى‬
‫المكونات‪ ،‬بل يبحثون في حركاتها وسكناتها وعجيب ما يحدث له ا من التح والت‪،‬‬
‫ليتعرفوا من خالل ذلك على هللا‪.‬‬
‫ويلي هؤالء ـ الذين تعمق وا في معرف ة هللا نتيج ة تعمقهم في معرف ة الك ون ـ‬
‫أصحاب العقول الراجحة ال ذين يم دون أبص ارهم لتأم ل جمي ع المكون ات في ال بر‬
‫ف‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬ ‫والبحر والسماء واألرض‪ ،‬قال تع الى‪﴿:‬إِ َّن فِي خَ ْل ِ‬
‫الس َما ِء‬ ‫اس َو َم ا أَن زَ َل هَّللا ُ ِم ْن َّ‬ ‫ك الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َما يَنفَ ُع النَّ َ‬ ‫ار َو ْالفُ ْل ِ‬
‫اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫اح‬
‫يف الرِّ يَ ِ‬ ‫َص ِر ِ‬ ‫ث فِيهَ ا ِم ْن ُك لِّ دَابَّ ٍة َوت ْ‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَ ا َوبَ َّ‬ ‫ِم ْن َم ا ٍء فَأَحْ يَ ا بِ ِه اأْل َرْ َ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ ﴾ (البقرة‪)164:‬‬ ‫ض آَل يَا ٍ‬‫ب ْال ُم َس َّخ ِر بَ ْينَ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬ ‫َوال َّس َحا ِ‬
‫ونالحظ في هذه اآلية الكريمة التفصيل في ذكر أنواع المكونات‪ ،‬ثم اإلخب ار‬
‫بأن ه ذه اآلي ات خاص ة بال ذين يعقل ون‪ ،‬وفي ذل ك إش ارة إلى الفري ق الث اني ممن‬
‫يستفيدون من آيات هللا‪ ،‬وهم ال ذين يس تعملون عق ولهم في االس تدالل على الخ الق‪،‬‬
‫وقد مث ل ه ؤالء علم اء التوحي د والكالم‪ ،‬بخالف اآلي ات الس ابقة ال تي ع برت عن‬
‫العقل باللب‪.‬‬
‫ومث ل ه ذه اآلي ة م ا ورد من تفاص يل ق د ال ي درك أكثره ا إال العلم اء‬
‫الى‪﴿:‬وفِي‬
‫َ‬ ‫المختص ون‪ ،‬والمع بر عنهم في الق رآن الك ريم بال ذين يعقل ون‪ ،‬ق ال تع‬
‫ص ن َوا ٍن‬ ‫ْ‬ ‫ان َو َغ ْي ُر ِ‬ ‫ص ْن َو ٌ‬‫ع َونَ ِخي ٌل ِ‬ ‫ب َوزَرْ ٌ‬ ‫ات ِم ْن أَ ْعنَا ٍ‬ ‫ات َو َجنَّ ٌ‬‫او َر ٌ‬‫ض قِطَ ٌع ُمتَ َج ِ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ت لِقَ وْ ٍم‬ ‫ك آَل ي ا ٍ‬ ‫ْض فِي اأْل ُ ُك ِل إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ْض هَا َعلَى بَع ٍ‬ ‫ض ُل بَع َ‬ ‫ي ُْس قَى بِ َم ا ٍء َوا ِح ٍد َونُفَ ِّ‬
‫يَ ْعقِلُونَ ﴾ (الرعد‪)4:‬‬
‫ومن األصناف القارئة لكتاب الكون ص نف المفك رين‪ ،‬وهم ال ذين يمزج ون‬
‫عنهم‪﴿:‬وهُ َو‬ ‫َ‬ ‫بين الرؤى المختلفة للكون ليستنتجوا منها المعارف اإللهية‪ ،‬قال تع الى‬
‫ت َج َع َل فِيهَ ا زَ وْ َجي ِْن‬ ‫ض َو َج َع َل فِيهَا َر َوا ِس َي َوأَ ْنهَارًا َو ِم ْن ُك لِّ الثَّ َم َرا ِ‬ ‫الَّ ِذي َم َّد اأْل َرْ َ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ (‪( ﴾)3‬الرعد‪)3 :‬‬ ‫ْاثنَ ْي ِن يُ ْغ ِشي اللَّ ْي َل النَّهَا َر إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يَا ٍ‬
‫ومن األصناف القارئ ة لكت اب الك ون أص حاب الح واس المرهف ة‪ ،‬أو ال ذين‬
‫شفت حواسهم لتدرك ما يختزن الظ اهر من حق ائق الب اطن‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬هُ َو الَّ ِذي‬
‫ت لِقَ وْ ٍم يَ ْس َمعُونَ (‪﴾)67‬‬ ‫ْصرًا إِ َّن فِي َذلِ كَ آَل يَ ا ٍ‬ ‫ار ُمب ِ‬ ‫َج َع َل لَ ُك ْم اللَّي َْل لِتَ ْس ُكنُوا فِي ِه َوالنَّهَ َ‬
‫‪347‬‬
‫(يونس‪)67 :‬‬
‫ق‬ ‫ْ‬
‫ومن األصناف القارئ ة لكت اب الك ون العلم اء‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿:‬و ِم ْن آيَاتِ ِه خَ ل ُ‬
‫ت لِ ْل َعالِ ِمينَ ﴾ (ال روم‪:‬‬ ‫اختِالفُ أَ ْل ِسنَتِ ُك ْم َوأَ ْل َوانِ ُك ْم إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يا ٍ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫‪)22‬‬
‫الكون‪﴿:‬و ِمنَ‬
‫َ‬ ‫وقد قصر الخشية من هللا على هؤالء‪ ،‬قال تعالى بعد تعداد آيات‬
‫ف أَ ْل َوانُهُ َك َذلِكَ إِنَّ َما يَ ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن ِعبَا ِد ِه ال ُعلَ َما ُء إِ َّن َ‬
‫هَّللا‬ ‫ْ‬ ‫اس َوال َّد َوابِّ َواأْل َ ْن َع ِام ُم ْختَلِ ٌ‬ ‫النَّ ِ‬
‫َزي ٌز َغفُورٌ﴾ (فاطر‪)28:‬‬ ‫ع ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ومن األصناف القارئة لكتاب الكون المؤمنون‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿:‬وهُ َو ال ِذي أ ْن زَ َل‬
‫خَض راً نُ ْخ ِر ُج ِم ْن هُ َحبّ ا ً‬ ‫ِ‬ ‫ِمنَ ال َّس َما ِء َما ًء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه نَبَاتَ ُك ِّل َش ْي ٍء فَأ َ ْخ َرجْ نَ ا ِم ْن هُ‬
‫ب َوال َّز ْيتُ ونَ َوالرُّ َّمانَ‬ ‫ت ِم ْن أَ ْعنَ ا ٍ‬ ‫ان دَانِيَ ةٌ َو َجنَّا ٍ‬ ‫ُمت ََرا ِكبا ً َو ِمنَ النَّ ْخ ِل ِم ْن طَ ْل ِعهَ ا قِ ْن َو ٌ‬
‫ت لِقَ وْ ٍم‬ ‫ُم ْش تَبِها ً َو َغ ْي َر ُمت ََش ابِ ٍه ا ْنظُ رُوا إِلَى ثَ َم ِر ِه إِ َذا أَ ْث َم َر َويَ ْن ِع ِه إِ َّن فِي َذلِ ُك ْم آَل ي ا ٍ‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ (األنعام‪)99:‬‬
‫ومن هذه األصناف القارئة المنيبون والمتقون‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬هُ َو الَّ ِذي يُ ِري ُك ْم‬
‫آيَاتِ ِه َويُنَ ِّز ُل لَ ُك ْم ِمنَ ال َّس َما ِء ِر ْزقا ً َو َما يَتَ َذ َّك ُر إِاَّل َم ْن يُنِيبُ ﴾ (غافر‪)13:‬‬
‫الش ْمسُ‬ ‫الى‪﴿:‬و ِم ْن آيَاتِ ِه اللَّ ْي ُل َوالنَّهَ ا ُر َو َّ‬ ‫َ‬ ‫ومنهم العابدون الموح دون‪ ،‬ق ال تع‬
‫اس ُجدُوا هَّلِل ِ الَّ ِذي خَ لَقَه َُّن إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾‬ ‫س َوال لِ ْلقَ َم ِر َو ْ‬ ‫َو ْالقَ َم ُر ال تَ ْس ُجدُوا لِل َّش ْم ِ‬
‫(فصلت‪)37:‬‬
‫تعالى‪﴿:‬و ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َج َع َل لَ ُك ُم اللَّ ْي َل َوالنَّهَ ا َر‬ ‫َ‬ ‫ومنهم الشاكرون الحامدون‪ ،‬قال‬
‫لِتَ ْس ُكنُوا فِي ِه َولِتَ ْبتَ ُغوا ِم ْن فَضْ لِ ِه َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (القصص‪)73:‬‬
‫وقد يجمع القرآن الكريم بين هذه األصناف في نسق واحد‪ ،‬كما ورد في قول ه‬
‫ُث ِم ْن دَابَّ ٍة‬ ‫ت لِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ (‪َ )3‬وفِي خَ ْلقِ ُك ْم َو َما يَب ُّ‬ ‫ض آَل يَا ٍ‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫تعالى‪﴿:‬إِ َّن فِي ال َّس َما َوا ِ‬
‫ق‬‫الس َما ِء ِم ْن ِر ْز ٍ‬ ‫ار َو َم ا أَن زَ َل هَّللا ُ ِم ْن َّ‬ ‫ف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫ات لِقَوْ ٍم يُوقِنُ ونَ (‪َ )4‬و ْ‬ ‫آيَ ٌ‬
‫ات لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ (‪( ﴾)5‬الجاثـية)‬ ‫اح آيَ ٌ‬ ‫يف الرِّ يَ ِ‬‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َوتَصْ ِر ِ‬ ‫فَأَحْ يَا بِ ِه اأْل َرْ َ‬
‫ونرى أن التأمل والتعمق في فواصل هذه اآليات يكش ف عن مع ارف جليل ة‬
‫ترتبط بهذه األصناف‪ ،‬ونوع المكونات التي تتأملها‪ ،‬وطريقة تأملها‪ ،‬وه و تص نيف‬
‫أساسي له عالقة كبيرة بالسلوك‪ ،‬وقد نتحدث عنه في المناسبات المرتبطة به‪.‬‬
‫ُ‬
‫اق َوفِي أنف ِس ِه ْم‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ولهذه األصناف جميعا ورد قوله تعالى‪َ ﴿:‬سنُ ِري ِه ْم آيَاتِنَا فِي اآْل فَ ِ‬
‫ف بِ َربِّكَ أَنَّهُ َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ (فص لت‪،)53:‬‬ ‫ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ‬ ‫َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْال َح ُّ‬
‫فهذه اآليات موجهة لهؤالء‪ ،‬أو هي بعب ارة أخ رى موجه ة لجمي ع الن اس‪ ،‬ولكن ال‬
‫يستفيد منها غير هؤالء‪.‬‬
‫أم ا غ يرهم من المعرض ين عن آي ات هللا ال ذين يقص رون نظ رهم على‬
‫شهواتهم‪ ،‬فال يرون في الك ون غ ير س وق لتغذي ة ه ذه الش هوات‪ ،‬ف القرآن الك ريم‬
‫الس َما َء َس ْقفا ً َمحْ فُوظ ا ً َوهُ ْم ع َْن‬ ‫يضعهم في صنف المعرضين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَ ا َّ‬
‫ت‬‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬ ‫الى‪﴿:‬و َك أَي ِّْن ِم ْن آيَ ٍة فِي َّ‬ ‫َ‬ ‫ض ونَ ﴾ (االنبي اء‪ ،)32:‬وق ال تع‬ ‫ْر ُ‬ ‫آيَاتِهَ ا ُمع ِ‬
‫‪348‬‬
‫ْرضُونَ ﴾ (يوسف‪)105:‬‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ض يَ ُمرُّ ونَ َعلَ ْيهَا َوهُ ْم َع ْنهَا ُمع ِ‬
‫وهؤالء هم األميون في عالم الحقائق‪ ،‬وإن قرأو جميع حروف العالم‪ ،‬وحللوا‬
‫جميع لغاته‪ ،‬فالعجب كل العجب ـ كما يقول بعض الحكماء ـ ممن يرى خط ا ً حس نا ً‬
‫أو نقشا ً حسنا ً على حائ ط فيستحس نه‪ ،‬فيص رف جمي ع هم ه إلى التفك ر في النق اش‬
‫والخطاط وأنه كيف نقشه وخطه وكي ف اقت در علي ه وال ي زال يس تعظمه في نفس ه‬
‫ويقول‪ :‬ما أحذقه وما أكمل ص نعته وأحس ن قدرت ه ثم ينظ ر إلى ه ذه العج ائب في‬
‫نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومص ّوره فال تدهشه عظمته وال يح يره جالل ه‬
‫وحكمته؟)(‪)1‬‬
‫هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الص ادق ـ فاس ع ألن تعم ل بم ا فيه ا؛‬
‫حتى يؤدي عقلك وظائف ه ال تي كل ف به ا‪ ،‬وال تي هي في طاقت ه‪ ..‬وال تكن كأولئ ك‬
‫الذين يسدون كل منافذ الحقيقة عن بصائرهم‪ ،‬ثم يتهمون هللا تعالى بأنه لم يجعل في‬
‫كونه من اآليات ما يهديهم إليه‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)439 /4‬‬


‫‪349‬‬
‫الرغبة والطمع‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرغب ة والطم ع في فض ل هللا‪،‬‬
‫وعالقته بالتزكية والترقية‪ ،‬وعالقته قبل ذل ك ب اإلخالص والتج رد‪ ،‬وه ل يتنافي ان‬
‫ويتناقضان معهما‪ ،‬أم لكل منهما محله الخاص به؟‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذك ر ل ك أن اإلخالص والتج رد ال يتنافي ان م ع‬
‫الرغبة والطمع في حد ذاتهما‪ ،‬وإنما باعتبار موقف المتحلي بهما؛ ف إن ك ان قص ده‬
‫من العمل الرغبة والطم ع المج ردين‪ ،‬بحيث ل و لم يُ وفر ل ه م ا ي رغب في ه ي ترك‬
‫العمل؛ فإن ذلك قادح في اإلخالص ومؤثر فيه؛ فقصد العم ل في الحقيق ة ليس ذات‬
‫الذي طلب منه العمل‪ ،‬وإنما تلك المطامع واألجور التي وفرها له‪.‬‬
‫وعلى ه ذا يحم ل ق ول اإلم ام علي‪( :‬إن قوم ا عب دوا هللا رغب ة فتل ك عب ادة‬
‫التجار‪ ،‬وإن قوما عبدوا هللا رهبة فتلك عبادة العبيد‪ ،‬وإن قوما عبدوا هللا شكرا فتلك‬
‫عبادة االحرار)(‪)1‬‬
‫وقول اإلمام الصادق‪( :‬العبّ اد ثالث ه‪ :‬ق وم عب دوا هّللا ع ّز وج ّل خوف ا‪ ،‬فتل ك‬
‫عبادة العبيد‪ ،‬وقوم عبدوا هّللا تبارك وتعالى طلبا للثّواب فتلك عبادة األج راء‪ ،‬وق وم‬
‫ل حبّا له فتلك عبادة األحرار)(‪)2‬‬‫عبدوا هّللا ع ّز وج ّ‬
‫(إن الناس يعبدون هّللا على ثالث ة أوج ه‪ ،‬فطبق ة يعبدون ه‬ ‫وقول اإلمام الباقر‪ّ :‬‬
‫رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع‪ ،‬وآخرون يعبدونه خوفا من النار‪،‬‬
‫ل فتلك عبادة الكرام) (‪)3‬‬ ‫فتلك عبادة العبيد وهي رهبة‪ ،‬ولكنّى أعبده حبّا له ع ّز وج ّ‬
‫ذلك أن هؤالء األئمة أنفسهم ي ذكرون الجن ة ورغب ة الص الحين وطمعهم في‬
‫أن ينالهم فضل هللا‪ ،‬فيدخلونها‪ ،‬وقد ورد عن اإلمام في وصفهم قوله‪( :‬عظم الخ الق‬
‫في أنفس هم‪ ،‬فص غر م ا دون ه في أعينهم‪ ،،‬فهم والجنّ ة كمن ق د رآه ا‪ ،‬فهم فيه ا‬
‫منعّمون‪ ،‬وهم والنّار كمن قد رآها‪ ،‬فهم فيها ّ‬
‫معذبون) (‪)4‬‬
‫وقال في أول خطبة في خالفته‪( :‬الفرائض‪ ،‬الف رائض! أ ّدوه ا إلى هّللا ت ؤ ّدكم‬
‫إلى الجنّة)(‪)5‬‬
‫ق هّللا‬
‫ومنها قوله في بعض خطب ه‪( :‬عب اد هّللا ‪ ،‬أوص يكم بتق وى هّللا ‪ ،‬فإنّه ا ح ّ‬
‫عليكم‪ ،‬والموجبة على هّللا حقّكم‪ ،‬وأن تستعينوا عليها باهّلل ‪ ،‬وتس تعينوا به ا على هّللا ‪،‬‬
‫فإن التّقوى في اليوم الحرز والجنّة‪ ،‬وفي غد الطّريق إلى الجنّة) (‪)6‬‬ ‫ّ‬
‫بل إن هللا تعالى وصف المؤمنين ذوي المراتب العالية ب الطمع في فض ل هللا‬
‫‪ )(1‬نهج البالغة ج ‪ 2‬ص ‪.197‬‬
‫‪ )(2‬اصول الكافي‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.84‬‬
‫‪ )(3‬علل الشرائع‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.41‬‬
‫‪ )(4‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة رقم (‪)193‬‬
‫‪ )(5‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة رقم (‪)167‬‬
‫‪ )(6‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة رقم (‪)191‬‬
‫‪350‬‬
‫ك يَرْ ُج ونَ‬ ‫يل هَّللا ِ أُولَئِ َ‬
‫َاجرُوا َو َجاهَ دُوا فِي َس بِ ِ‬ ‫تعالى‪ ،‬فقال‪﴿:‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوالَّ ِذينَ ه َ‬
‫َرحْ َمتَ هَّللا ِ َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [البقرة‪]218 :‬‬
‫وقال‪َ ﴿ :‬واَل تَ ِهنُوا فِي ا ْبتِغَا ِء ْالقَوْ ِم إِ ْن تَ ُكونُوا تَأْلَ ُمونَ فَإِنَّهُ ْم يَأْلَ ُمونَ َك َم ا تَ أْلَ ُمونَ‬
‫َوتَرْ جُونَ ِمنَ هَّللا ِ َما اَل يَرْ جُونَ َو َكانَ هَّللا ُ َعلِي ًما َح ِكي ًما﴾ [النساء‪]104 :‬‬
‫ك الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ يَ ْبتَ ُغ ونَ إِلَى َربِّ ِه ُم ْال َو ِس يلَةَ أَيُّهُ ْم أَ ْق َربُ َويَرْ ُج ونَ‬ ‫وقال‪﴿ :‬أُولَئِ َ‬
‫اب َربِّكَ َكانَ َمحْ ُذورًا﴾ [اإلسراء‪]57 :‬‬ ‫َرحْ َمتَهُ َويَخَافُونَ َع َذابَهُ إِ َّن َع َذ َ‬
‫ومث ل ذل ك م ا ورد في أح اديث رس ول هللا ‪ ‬الكث يرة‪ ،‬وال تي ي ذكر فيه ا‬
‫الجزاء الذي أعده هللا للمؤمنين أصحاب األعمال الصالحة‪ ،‬ولو كان ذل ك قادح ا في‬
‫اإلخالص لما ذكره رسول هللا ‪.‬‬
‫ل ذلك ال تص غ ـ أيه ا المري د الص ادق ـ لمن يحتق رون الجن ة ونعيمه ا‪،‬‬
‫ويتوهمون أن ذلك من الكمال؛ فما كان للكامل أن يحقر ما عظم هللا‪ ،‬أو يجحد فضل‬
‫هللا على عباده بما أعده لهم من النعيم‪.‬‬
‫والكامل هو الذي يتعامل مع كل ص فة أو فع ل إلهي بم ا يقتض يه؛ ف إن ذك ر‬
‫النعم شكرها‪ ،‬وإن ذكر البالء تعوذ منه‪ ،‬وصبر عليه إن نزل به‪ ،‬وإن ذكر هللا أحبه‬
‫وعبده وأخلص له‪..‬‬
‫وسأض رب ل ك مث اال يق رب لعقل ك ه ذا‪ ..‬أرأيت إن ك ان ل ك أس تاذ تحب ه‬
‫وتحترمه كثيرا‪ ،‬وتشعر أن ك تس تفيد من ه‪ ..‬فكلف ك بالقي ام بح ل مس ألة من المس ائل‬
‫الصعبة‪ ،‬وأخبرك أن حلك لها سيفيدك كثيرا في مستقبلك العلمي‪ ..‬وأخبرك أن ك من‬
‫خاللها يمكن ك أن تنتق ل إلى مرك ز من مراك ز األبح اث الك برى‪ ،‬وق د تن ال هن اك‬
‫الجوائز الكثيرة‪.‬‬
‫فرحت ـ بناء على ما ذكره ـ تقوم بحل تلك المسألة‪ ،‬وتفرح بتكليف ه ل ك به ا‪،‬‬
‫وأنت تشعر أنك ستقوم ب ذلك‪ ،‬ح تى ل و لم يع دك بم ا وع دك ب ه‪ ..‬فيكفي عن دك أن‬
‫يطلب منك ذلك‪ ..‬لكنك في نفس الوقت فرحت بطلبه‪ ،‬وزاد في تشجيعك‪ ،‬ألن ه ي تيح‬
‫لك فرصا أخرى للعلم والبحث‪ ..‬فهل ترى ذلك قادحا في إخالصك ألستاذك؟‬
‫وهك ذا األم ر بالنس بة للمؤم نين المخلص ين ال ذين يش عرون أن عب ادتهم هلل‬
‫ليست لطلب العوض‪ ،‬وإنما لكونه يستحق العبادة‪ ..‬ولكن ذلك ال يعني احتقار الهدايا‬
‫ال تي وع دهم به ا‪ ،‬ألن في احتقاره ا إس اءة لمن أه داها‪ ..‬باإلض افة إلى أن طم ع‬
‫المؤمنين في الجنة ليس لما أتيح فيها من النعيم الحسي فقط‪ ،‬ب ل لم ا فيه ا من النعيم‬
‫المعنوي‪ ،‬وأولها الظفر بالقرب اإللهي‪ ،‬ومعية الصالحين واألولياء‪ ..‬فالجن ة ليس ت‬
‫مرقصا كما يتوهم الغ افلون‪ ،‬ب ل هي مس جد لعب ادة هللا والتع رف علي ه والتواص ل‬
‫معه‪ ..‬ولذلك فإن حنين الصالحين إليها ال يختلف عن حنينهم للمساجد في الدنيا‪ ..‬بل‬
‫حنينهم لها أشد‪ ،‬ألنهم يالقون فيها كل أنبياء هللا وأئم ة اله دى ال ذين امتألت قل وبهم‬
‫شوقا إليهم‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما س أورده ل ك من النص وص‬

‫‪351‬‬
‫المقدسة التي تدل على دور الرغبة والطمع في التزكية والترقية‪.‬‬
‫الرغبة والتزكية‪:‬‬
‫أم ا دور الرغب ة في فض ل هللا تع الى في التزكي ة؛ في دل علي ه م ا ورد في‬
‫النص وص المقدس ة الكث يرة من ال ترغيب في التحلي ب األخالق الطيب ة‪ ،‬وت رك م ا‬
‫ينافيها‪ ،‬والوعد على ذلك الترك بنيل فضل هللا تعالى‪.‬‬
‫ومن أمثلتها قوله ‪ ‬في الدعوة لمجموعة من األخالق الطيبة‪( :‬اض منوا لي‬
‫إذا ح ّدثتم وأوف وا إذا وع دتم وأ ّدوا إذا‬ ‫س تّا من أنفس كم أض من لكم الجنّ ة‪ :‬اص دقوا ّ‬
‫اؤتمنتم واحفظوا فروجكم وغضّوا أبصاركم وكفّوا أيديكم) (‪)1‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة للتوحي د‪( :‬من م ات ال يش رك باهلل ش يئًا دخ ل الجن ة‪،‬‬
‫ومن مات ال يشرك باهلل شيئًا دخل الجنة‪ ،‬ومن مات يشرك باهلل شيئًا دخل النار)(‪)2‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة لكفال ة الي تيم‪ ،‬وال ترغيب فيه ا‪( :‬أن ا وكاف ل الي تيم في‬
‫الجنة هكذا)‪ ،‬وأشار بأصبعيه‪ :‬السبابة والوسطى وفرج بينهما(‪.)3‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة لخدمة المجتمع وإبعاد كل ما يؤذي ه‪( :‬لق د رأيت رجالً‬
‫يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق‪ ،‬كانت تؤذي الناس)(‪)4‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة للعفاف وطهارة اللسان‪( :‬من يضمن لي ما بين لحييه‪،‬‬
‫وما بين رجليه‪ ،‬أضمن له الجنة)(‪)5‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة لترك الغضب‪( :‬ال تغضب ولك الجنة)(‪)6‬‬
‫ومنها قوله في ال دعوة ل ترك العق وق‪ ،‬والتحلي ب البر‪( :‬الوال د أَوْ َس طُ أب واب‬
‫ض ْع ذلك الباب أو احفظه)(‪ ،)7‬وقوله عن األم لمن سأله‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬ ‫الجنة‪ ،‬فإن شئت فَأ ِ‬
‫رسول هللا أردت الغزو وجئتك استشيرك؟ فقال‪( :‬هل ل ك من أم؟) ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(الزمها‪ ،‬فإن الجنة عند رجلها)(‪)8‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة للصبر والرضا بقضاء هللا‪( :‬يقول هللا تعالى‪ :‬ما لعبدي‬
‫الم ؤمن عن دي ج زاء إذا قبض ت ص فيه من أه ل ال دنيا‪ ،‬ثم احتس به إال الجن ة)(‪،)9‬‬
‫وقول ه‪( :‬إذا م ات ول د العب د ق ال هللا لمالئكت ه‪ :‬قبض تم ول د عب دي؟ فيقول ون‪ :‬نعم‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬ماذا قال عب دي؟ فيقول ون‪ :‬حم دك‬
‫ع‪ ،‬فيقول هللا‪ :‬ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة‪ ،‬وسموه‪ :‬بيت الحمد)(‪)10‬‬ ‫وا ْستَرْ َج َ‬
‫ومنها قوله في التنفير من الكبر والغلول وال دين‪( :‬من م ات وه و ب ريء من‬
‫‪ )(1‬أحمد في المسند (‪ ،)323 /5‬وابن حبان رقم (‪ ،)271‬والحاكم في المستدرك (‪)359 /4‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم (رقم (‪)93‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (رقم ‪)5304‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم (رقم ‪)1914‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري (رقم (‪)6474‬‬
‫‪ )(6‬رواه الطبراني في األوسط (رقم (‪ )2374‬وأبو يعلي في المسند (رقم (‪)1593‬‬
‫‪ )(7‬رواه الترمذي (رقم ‪ )1900‬وابن حبان (رقم ‪ )2023‬والحاكم (‪)4/152‬‬
‫‪ )(8‬رواه أحمد (‪ )3/429‬والحاكم (‪)4/151‬‬
‫‪ )(9‬رواه البخاري (رقم ‪)6424‬‬
‫‪ )(10‬رواه الترمذي (رقم (‪)1021‬‬
‫‪352‬‬
‫الكبر وال ُغلُول وال َّديْن دخل الجنة)(‪.)1‬‬
‫ومنه ا قول ه في التنف ير من الفرق ة وال دعوة إلى الوح دة‪( :‬عليكم بالجماع ة‪،‬‬
‫وإياكم والفرقة‪ ،‬فإن الشيطان م ع الواح د‪ ،‬وه و من االث نين أبع د‪ ،‬من أراد بحبوب ة‬
‫الجنة‪ ،‬فليلزم الجماعة)(‪.)2‬‬
‫ومنه ا قول ه في ال دعوة للتع ايش م ع المجتم ع بحس ب م ا تقض يه األخالق‬
‫الطيبة‪ ،‬والسلوك االجتماعي الراقي‪( :‬من أحب أن يزحزح عن النار وي دخل الجن ة‬
‫فلتأته منيته وهو يؤمن باهلل والي وم اآلخ ر‪ ،‬ولي أت إلى الن اس ال ذي يُحب أن يُ ؤتى‬
‫إليه)(‪.)3‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة لزيارة المرضى‪( :‬من عاد مريضًا أو زار أ ًخ ا ل ه في‬
‫هللا‪ ،‬ناداه مناد‪ :‬أن طبت وطاب ممشاك‪ ،‬وتب َّوأت من الجنة منزالً)(‪.)4‬‬
‫ومنها قوله في الدعوة للتقوى وحسن الخلق‪ ،‬والتنفير مما يضادها‪( :‬أك ثر م ا‬
‫ي دخل الن اس الجن ة‪ :‬تق وى هللا وحس ن الخل ق‪ ،‬وأك ثر م ا ي دخل الن اس الن ار‪ :‬الفَم‬
‫والفَرْ ج)(‪)5‬‬
‫وغيره ا من األح اديث الكث يرة ال تي ت رغب في تطه ير النفس وتزكيته ا‬
‫وتحليتها بكل القيم الطيبة‪ ،‬والوعد على ذلك بدخول الجنة‪.‬‬
‫الرغبة والترقية‪:‬‬
‫أم ا دور الرغب ة في فض ل هللا تع الى في الترقي ة؛ في دل علي ه م ا ورد في‬
‫النصوص المقدسة الكثيرة من الترغيب في األعم ال الص الحة المرتبط ة به ا‪ ،‬كم ا‬
‫ت أُولَئِكَ أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ آَ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫[البقرة‪]82 :‬‬
‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت ِم ْن َذ َك ٍر أَوْ أ ْنثَى َوهُ َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأولَئِ َ‬ ‫َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬ ‫وق ال‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَ ْع َم لْ ِمنَ‬
‫ُظلَ ُمونَ نَقِيرًا﴾ [النساء‪.]124 :‬‬ ‫يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َواَل ي ْ‬
‫ت لَنُبَ ِّوئَنَّهُ ْم ِمنَ ْال َجنَّ ِة ُغ َرفً ا تَجْ ِري ِم ْن‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ آَ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا نِ ْع َم أَجْ ُر ْال َعا ِملِينَ ﴾ [العنكبوت‪]58 :‬‬
‫ص َحابُ‬ ‫ت َوأَ ْخبَتُ وا إِلَى َربِّ ِه ْم أُولَئِ َ‬
‫ك أَ ْ‬ ‫وقال‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آَ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ْال َجنَّ ِة هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [هود‪]23 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬الَّ ِذينَ تَتَ َوفَّاهُ ُم ْال َماَل ئِ َك ةُ طَيِّبِينَ يَقُولُ ونَ َس اَل ٌم َعلَ ْي ُك ُم ا ْد ُخلُ وا ْال َجنَّةَ بِ َم ا‬
‫ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [النحل‪]32 :‬‬
‫ص الِحًا فَأُولَئِ كَ يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َواَل ي ْ‬
‫ُظلَ ُم ونَ‬ ‫َاب َوآَ َمنَ َو َع ِم َل َ‬ ‫وقال‪﴿ :‬إِاَّل َم ْن ت َ‬
‫َش ْيئًا﴾ [مريم‪.]60 :‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (رقم ‪ )1572‬وابن ماجه (رقم ‪ )2412‬وابن حبان في صحيحه (رقم ‪ )198‬والحاكم (‪)2/26‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي (رقم (‪)2165‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (رقم ‪)1844‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي (رقم ‪)2008‬‬
‫‪ )(5‬رواه الترمذي (رقم ‪)2004‬‬
‫‪353‬‬
‫ض نَتَبَ َّوأُ ِمنَ ْال َجنَّ ِة‬
‫ص َدقَنَا َو ْع َدهُ َوأَوْ َرثَنَ ا اأْل َرْ َ‬‫وقال‪َ ﴿ :‬وقَالُوا ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َ‬
‫ْث نَ َشا ُء فَنِ ْع َم أَجْ ُر ْال َعا ِملِينَ ﴾ [الزمر‪]74 :‬‬ ‫َحي ُ‬
‫ور ْثتُ ُموهَا بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [الزخرف‪]72 :‬‬ ‫ُ‬
‫ك ْال َجنَّةُ الَّتِي أ ِ‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬وتِ ْل َ‬
‫ث ِم ْن ِعبَا ِدنَا َم ْن َكانَ تَقِيًّا﴾ [مريم‪]63 :‬‬ ‫ك ْال َجنَّةُ الَّتِي نُ ِ‬
‫ور ُ‬ ‫وقال‪﴿ :‬تِ ْل َ‬
‫وغيره ا من اآلي ات الكث يرة ال تي تعت بر العم ل الص الح ش رطا من ش روط‬
‫دخول الجنة‪ ،‬وهو يطلق على كل المك ارم ال تي تتحلى به ا النفس المطمئن ة‪ ،‬س واء‬
‫كان القصد منها الترقي في درجات التحقق‪ ،‬أو درجات التخلق‪.‬‬
‫أما األحاديث الواردة عن رسول هللا ‪ ‬في ذل ك‪ ،‬فهي كث يرة ج دا‪ ،‬فال نك اد‬
‫نجد عمال صالحا إال وله الجزاء الخاص به؛ فقد ك ان رس ول هللا ‪ ‬يم ارس دوره‬
‫التربوي في هذه األمة من خالل التبشير واإلنذار الذي اعتبره هللا تعالى من وظائفه‬
‫المكملة والمساعدة على وظيفة التزكية‪.‬‬
‫هدت من الن بي‬ ‫ُ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك ما حدث بعض أصحابه عن ه‪ ،‬ق ال‪ :‬ش‬
‫‪ ‬مجلسًا وصفَ فيه الجنَّة ح تى انتهى‪ ،‬ثم ق ال في آخ ر حديث ه‪( :‬فيه ا م ا ال ٌ‬
‫عين‬
‫ت‪ ،‬وال أُ ُذ ٌن س ِم َعت‪ ،‬وال خط ر على قلب بش ر) ثم ق رأ‪﴿ :‬تَت ََج افَى ُجنُ وبُهُ ْم َع ِن‬ ‫رأَ ْ‬
‫اج ِع يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم خَ وْ فًا َوطَ َم ًع ا َو ِم َّما َرزَ ْقنَ اهُ ْم يُ ْنفِقُ ونَ (‪ )16‬فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َم ا‬ ‫ض ِ‬ ‫ْال َم َ‬
‫زا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [السجدة‪1 )]17 ،16 :‬‬
‫( )‬
‫أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن قُ َّر ِة أَ ْعي ٍُن َج َ‬
‫فهذا الحديث يبين منهج رسول هللا ‪ ‬في التزكية‪ ،‬وتوظيف ه لنعيم الجن ة في‬
‫ترغيب المؤمنين في األعمال الصالحة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على تلك األعمال الصالحة التي له ا دوره ا في الترقي ة‪ ،‬وال تي‬
‫كان رسول هللا ‪ ‬يرغب في الجنة حين الدعوة إليها‪ ،‬ما ورد في قول ه في ال دعوة‬
‫لتعميق الحقائق اإليمانية في النفس‪( :‬من شهد أن ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪،‬‬
‫وأن محمدًا عبده ورس وله‪ ،‬وأن عيس ى عب د هللا ورس وله وكلمت ه ألقاه ا إلى م ريم‬
‫وروح منه‪ ،‬والجنة حق‪ ،‬والنار حق أدخله هللا الجنة على ما كان من العمل)(‪)2‬‬
‫ومثله ما روي أن رجال ج اء إلى الن بي ‪ ،‬فق ال‪ :‬دل ني على عم ل أعمل ه‪،‬‬
‫ي دنيني من الجن ة‪ ،‬ويباع دني من الن ار ق ال‪( :‬تعب د هللا ال تش رك ب ه ش يئًا‪ ،‬وتقيم‬
‫الصالة‪ ،‬وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصل ذا رحمك) فلما أدبر‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬إن تمسك‬
‫بما أمر به دخل الجنة)(‪)3‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة لقراءة القرآن الكريم أو بعض آياته وس وره‪ ،‬كقول ه‬
‫‪( :‬من قرأ آية الكرسي في دبر كل صالة مكتوبة‪ ،‬لم يمنع ه من دخ ول الجن ة إال‬
‫أن يموت)(‪)4‬‬
‫وقوله‪( :‬سورة من القرآن ما هي إال ثالثون آية‪ ،‬خاصمت عن صاحبها ح تى‬
‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)6/230‬و(‪ ،)8/396‬ومسلم (‪)2824‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري (رقم ‪ )3435‬ومسلم (رقم ‪)28‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (رقم ‪)13‬‬
‫‪ )(4‬رواه النسائي في سننه الكبرى (رقم ‪)9848‬‬
‫‪354‬‬
‫تبارك)(‪)1‬‬‫أدخلته الجنة‪ ،‬وهي سورة‬
‫وقول ه‪( :‬الق رآن ش افع مش فع‪ ،‬وماح ل مص دق‪ ،‬ومن جعل ه أمام ه ق اده إلى‬
‫الجنة‪ ،‬ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)(‪)2‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة للسجود‪ ،‬كقوله ‪( :‬إذا قرأ ابن آدم السجدة فس جد‪،‬‬
‫اع تزل الش يطان يبكي‪ ،‬يق ول‪ :‬ي ا ويلي‪ ،‬أُم ر ابن آدم بالس جود فس جد فل ه الجن ة‪،‬‬
‫وأمرت بالسجود فأبيت‪ ،‬فلي النار)(‪)3‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة للطهارة وإسباغها‪ ،‬كقول ه ‪( :‬م ا منكم من مس لم‬
‫يتوضَّأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أشهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬وحده ال شريك له‪،‬‬
‫وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‪ ،‬إال فتحت له أبواب الجن ة الثماني ة‪ ،‬ي دخل من أيه ا‬
‫شاء)(‪)4‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة لالس تغفار‪ ،‬كقول ه ‪( :‬س يد االس تغفار أن يق ول‪:‬‬
‫اللهم أنت ربي ال إل ه إال أنت‪ ،‬خلقت ني وأن ا عب دك‪ ،‬وأن ا على عه دك ووع دك م ا‬
‫ي‪ ،‬وأب وء ل ك ب ذنبي‪،‬‬ ‫استطعت‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت‪ ،‬أب وء ل ك بنعمت ك عل َّ‬
‫فاغفر لي فإنه ال يغفر الذنوب إال أنت‪ .‬من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه‬
‫قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة‪ ،‬ومن قالها من الليل وهو موقن به ا فم ات قب ل أن‬
‫يصبح فهو من أهل الجنة)(‪)5‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة لبعض األذكار‪ ،‬كقول ه ‪( :‬خص لتان أو خلت ان ال‬
‫يحافظ عليهما عبد مسلم إال دخل الجنة‪ ،‬هما يسير‪ ،‬ومن يعمل بهما قليل‪ ،‬يس بح في‬
‫دبر كل صالة عشرًا ويحمد عشرًا‪ ،‬ويك بر عش رًا‪ ،‬ف ذلك خمس ون ومائ ة باللس ان‪،‬‬
‫وألف وخمس مائة في الميزان‪ ،‬ويكبر أربعًا وثالثين إذا أخذ مضجعه‪ ،‬ويحمد ثالثً ا‬
‫وثالثين‪ ،‬ويسبح ثالثًا وثالثين‪ ،‬فذلك مائة باللسان وألف في الميزان) (‪)6‬‬
‫ومثله م ا ورد في ال دعوة ل ذكر هللا في مح ال الغفل ة‪ ،‬كقول ه ‪( :‬من دخ ل‬
‫السوق فقال‪ :‬ال إله إال هللا وحده ال ش ريك ل ه‪ ،‬ل ه المل ك ول ه الحم د‪ ،‬يح يى ويميت‬
‫وهو حي ال يموت‪ ،‬بيده الخير‪ ،‬وه و على ك ل ش يء ق دير‪ ،‬كتب هللا ل ه أل ف أل ف‬
‫حسنة‪ ،‬ومحا عنه ألف ألف سيئة‪ ،‬وبنى له بيتًا في الجنة)(‪)7‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة لطلب العلم‪ ،‬كقوله ‪( :‬من سلك طريقًا يلتمس فيه‬
‫عل ًما سهل هللا له به طريقًا في الجنة)(‪)8‬‬
‫ومثل ه م ا ورد في ال ترغيب األذان‪ ،‬كقول ه ‪( :‬من أذن ثن تي عش رة س نة‬

‫‪ )(1‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ :)7/127‬رواه الطبراني في الصغير واألوسط ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن حبان (رقم ‪ )167‬والطبراني في الكبير (‪ 9/132‬رقم ‪ 10/198( ،)8655‬رقم ‪)10450‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (رقم‪)81 :‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم (رقم‪)234 :‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري (رقم ‪)6306‬‬
‫‪ )(6‬رواه أبو داود (رقم (‪ )5065‬والنسائي (رقم (‪ )1347‬والترمذي (رقم ‪)3410‬‬
‫‪ )(7‬رواه الترمذي (رقم ‪ )3429-3428‬والحاكم (‪)539-1/538‬‬
‫‪ )(8‬رواه مسلم (رقم (‪)2699‬‬
‫‪355‬‬
‫وجبت له الجنة‪ ،‬وكتب له بتأذين ه في ك ل ي وم س تون حس نة‪ ،‬وبك ل إقام ة ثالث ون‬
‫حسنة)(‪)1‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة للصالة‪ ،‬كقوله ‪( :‬من صلى البردين دخل الجنة)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقوله‪( :‬خمس صلوات كتبهن هللا على العباد‪ ،‬فمن ج اء بهن لم يض يع منهن‬
‫شيئًا استخفافًا بحقهن‪ ،‬كان له عند هللا عهد أن يدخله الجن ة‪ ،‬ومن لم ي أت بهن فليس‬
‫له عند هللا عهد‪ ،‬إن شاء عذبه‪ ،‬وإن شاء أدخله الجنة)(‪)3‬‬
‫وقوله‪( :‬ما من مسلم يتوضأ فيُحْ ِسنُ ُوضُو َءهُ‪ ،‬ثم يقوم‪ ،‬فيصلي ركعتين‪ُ ،‬م ْقبِ ٌل‬
‫عليهما بقلبه ووجهه‪ ،‬إال وجبت له الجنة)(‪)4‬‬
‫وقوله‪( :‬ما من عبد مسلم يصلي هلل كل يوم ثن تي عش رة ركع ة تطو ًع ا غ ير‬
‫فريضة‪ ،‬إال بنى هللا له بيتًا في الجنة)(‪)5‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة لبعض القيم الروحية واالجتماعي ة‪ ،‬كقول ه ‪( :‬ي ا‬
‫وصلُّوا باللي ل والن اس‬‫وصلُوا األرحام‪َ ،‬‬ ‫أيها الناس أفشوا السالم‪ ،‬وأطعموا الطعام‪ِ ،‬‬
‫نيام‪ ،‬تدخلوا الجنة بسالم)(‪)6‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة للص يام وال ترغيب في ه‪ ،‬كقول ه ‪( :‬إن في الجن ة‬
‫بابًا‪ ،‬يقال له‪ :‬الريان‪ ،‬يدخل منه الصائمون يوم القيامة‪ ،‬ال ي دخل من ه أح د غ يرهم‪،‬‬
‫يقال‪ :‬أين الصائمون؟ فيقومون‪ ،‬ال ي دخل من ه أح د غ يرهم‪ ،‬ف إذا دخل وا أُغل ق‪ ،‬فلم‬
‫يدخل منه أحد)(‪)7‬‬
‫ومثل ه م ا ورد في ال دعوة للحج والعم رة‪ ،‬كقول ه ‪( :‬العم رة إلى العم رة‬
‫كفارة لما بينهما‪ ،‬والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة)(‪)8‬‬
‫ومثله ما ورد في الدعوة للجهاد في سبيل هللا‪ ،‬كقول ه ‪( :‬مث ل المجاه د في‬
‫سبيل هللا وهللا أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم‪َ ،‬وت ََو َّك َل هللا للمجاهد في‬
‫سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سال ًما مع أجر أو غنيمة)(‪)9‬‬
‫وغيره ا من األح اديث الكث يرة ال تي يق ترن فيه ا العم ل الص الح بالفض ل‬
‫اإللهي‪ ،‬ولوال تأثير ذلك الترغيب في النفس‪ ،‬ومس اهمته في تزكيته ا وترقيته ا‪ ،‬م ا‬
‫استعمله رسول هللا ‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن ماجه (رقم ‪ )728‬وال بيهقي في س ننه الك برى (‪ )1/433‬والط براني في الكب ير (رقم (‪ )345‬وفي‬
‫األوسط (رقم (‪)8728‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري (رقم ‪ )574‬ومسلم (رقم ‪)635‬‬
‫‪ )(3‬رواه أب و داود (رقم (‪ )1420‬وابن ماج ه (رقم (‪ )1401‬وابن حب ان (رقم ‪ )1729‬وأحم د (‪)5/315‬‬
‫والبيهقي (‪)1/361‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم (رقم ‪)234‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم (رقم ‪)728‬‬
‫‪ )(6‬رواه الترمذي (رقم (‪ )2485‬وابن ماجه (‪)3251‬‬
‫‪ )(7‬رواه البخاري (رقم (‪ )1896‬ومسلم (رقم (‪)1152‬‬
‫‪ )(8‬رواه البخاري (رقم ‪ )1773‬ومسلم (رقم ‪)1349‬‬
‫‪ )(9‬رواه البخاري (رقم ‪ )2787‬ومسلم (رقم ‪)1876‬‬
‫‪356‬‬
‫فلذلك احذر ـ أيها المريد الصادق ـ من أولئك ال ذين يس خرون من مث ل ه ذا‪،‬‬
‫وهم في نفس الوقت قد يتصارعون على فتات الدنيا القليل‪.‬‬
‫والعجب ممن يزهد في جنة هللا التي هي دار أنبيائه وأوليائ ه في نفس ال وقت‬
‫الذي يتكالب فيه على الدنيا‪ ،‬ويتوهم أنه من العارفين الحكماء‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫الرهبة والخشية‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرهبة والخشية‪ ،‬ودورهم ا في‬
‫التزكية والترقية‪ ،‬وعن أولئ ك ال ذين غلب عليهم اإلرج اء‪ ،‬فص اروا يس خرون من‬
‫كل من يحذر من ع ذاب هللا بحج ة أن ه ال يع رف رحم ة هللا الواس عة‪ ،‬وأن الع ذاب‬
‫ليس سوى عذوبة‪ ،‬وأن الوعيد ليس سوى مجرد تهديد‪ ..‬ورحمة هللا ستشمل الجميع‬
‫المسيء والمصلح‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن ه ؤالء ال ذين ي ذكرون ه ذا هم‬
‫ْس بِأ َ َم انِيِّ ُك ْم َوال أَ َم انِ ِّي أَ ْه ِل ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب‬ ‫أصحاب األماني الذين ذكرهم هللا تعالى في قوله‪﴿ :‬لَّي َ‬
‫َمن يَ ْع َملْ سُو ًءا يُجْ زَ بِ ِه َوالَ يَ ِج ْد لَهُ ِمن دُو ِن هّللا ِ َولِيًّا َوالَ ن ِ‬
‫َصيرًا﴾ [النساء‪]123:‬‬
‫فهم قد رسموا في أذهانهم صورة لربهم‪ ،‬ال يدل عليها الواقع‪ ،‬وال النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬وال أنبي اء هللا ورس له‪ ،‬وال أئم ة اله دى وورث ة النب وة‪ ،‬وإنم ا ت دل عليه ا‬
‫رغباتهم ال تي تمتلئ به ا نفوس هم‪ ..‬فل ذلك أت احوا له ا أن تض رب الحق ائق بعض ها‬
‫ببعض‪ ،‬فتتوهم أن الرحمة تتنافى مع العدالة أو مع العقوبة ال تي وض عها هللا تع الى‬
‫لمن يستحقونها‪.‬‬
‫ولذلك هم عبيد األه واء واألوه ام‪ ،‬وليس وا عبي د هللا ال ذي عرفن ا بنفس ه من‬
‫خالل كتبه ورسله وورثتهم الصادقين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا‪.‬‬
‫وقد قال رسول هللا ‪ ،‬وهو أعرف العارفين باهلل‪ ،‬وبرحمته الواسعة‪ :‬ـ (إنِّي‬
‫ق له ا أن تئ ط‪ ،‬م ا‬ ‫إن الس ماء أطت‪ ،‬وح َّ‬ ‫أرى ما ال ت َرون‪ ،‬وأسمع ما ال تس معون‪َّ ،‬‬
‫فيها موضع أربع أصابع إال وملك واضع جبهته ساجدًا هلل‪ ،‬وهللا لو تعلمون م ا أعلم‬
‫لض حكتم قليالً ولبكيتم كث يرًا‪ ،‬وم ا تل َّذذتم بالنس اء على الف رش‪ ،‬ولخ رجتم إلى‬
‫الصعدات تجأرون إلى هللا) (‪)1‬‬
‫فه ل ك ان رس ول هللا ‪ ‬غ افال عن رحم ة رب ه الواس عة حين نط ق به ذه‬
‫الكلمات؟ أم أنه كان يعرفها‪ ،‬ويعرف أن رحمة هللا ال تتناقض م ع ع دل هللا‪ ..‬وإنم ا‬
‫صيبُ بِ ِه َم ْن‬ ‫هي رحمة خاصة بمن توفرت فيه شروطها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ع َذابِي أُ ِ‬
‫ت ُك َّل َش ْي ٍء فَ َس أ َ ْكتُبُهَا لِلَّ ِذينَ يَتَّقُ ونَ َوي ُْؤتُ ونَ ال َّز َك اةَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم‬
‫أَ َشا ُء َو َرحْ َمتِي َو ِس َع ْ‬
‫بِآيَاتِنَا ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ [األعراف‪]156 :‬‬
‫فهل من األدب بعد هذا أن نفرض إرادتنا على هللا‪ ،‬ونلزمه ب أن ي رحم من لم‬
‫يستحق الرحمة بسبب تجاوزه للحدود والسنن التي أمر بعدم تجاوزها؟‬
‫وهكذا ـ أيها المريد الص ادق ـ إن رحت تت دبر الق رآن الك ريم‪ ،‬وفي وص فه‬
‫لعباد هللا الصالحين‪ ،‬ستجده مليئا بذكر رهبتهم وخشيتهم من هللا وعذابه‪ ،‬وهي رهبة‬
‫حقيقية‪ ،‬وليست تمثيال‪ ..‬ولو كانوا يعلمون أن الوعيد ليس سوى تهديد ال حقيق ة ل ه‪،‬‬
‫ما فعلوا ذلك‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه الترمذي وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫‪358‬‬
‫ولذلك؛ فإن الذين ينشرون مثل تلك األفكار‪ ،‬يح اربون من حيث ال يش عرون‬
‫وظيفة اإلنذار التي اعتبرها هللا تعالى من وظائف رس له الك رام عليهم الس الم‪ ،‬فق د‬
‫ث هَّللا ُ النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّش ِرينَ َو ُم ْن ِذ ِرينَ ﴾ (البق رة‪:‬‬ ‫اح َدةً فَبَ َع َ‬‫ق ال تع الى‪َ ﴿:‬ك انَ النَّاسُ أُ َّمةً َو ِ‬
‫اس َعلَى هَّللا ِ ُح َّجةٌ بَ ْع َد الرُّ ُس ِل‬ ‫‪ ،)213‬وقال‪ُ ﴿:‬ر ُسالً ُمبَ ِّش ِرينَ َو ُم ْن ِذ ِرينَ لِئَاَّل يَ ُك ونَ لِلنَّ ِ‬
‫َ‬
‫وح ِم ْن أ ْم ِر ِه َعلَى‬ ‫َزيزاً َح ِكيماً﴾ (النساء‪ ،)165:‬وقال‪﴿:‬يُن َِّز ُل ْال َمالئِ َكةَ بِالرُّ ِ‬ ‫َو َكانَ هَّللا ُ ع ِ‬
‫ون﴾ (النحل‪)2:‬‬ ‫َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه أَ ْن أَ ْن ِذرُوا أَنَّهُ ال إِلَهَ إِاَّل أَنَا فَاتَّقُ ِ‬
‫وأخبر عن ن وح علي ه الس الم أن ه ق ال لقوم ه‪﴿:‬أَ َو َع ِج ْبتُ ْم أَ ْن َج ا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن‬
‫َربِّ ُك ْم َعلَى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم لِيُ ْن ِذ َر ُك ْم َولِتَتَّقُوا َولَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُمونَ ﴾ (ألعراف‪)63:‬‬
‫وأخبر عن هود عليه السالم أنه قال لقومه‪﴿:‬أَ َوع َِج ْبتُ ْم أَ ْن َجا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن َربِّ ُك ْم‬
‫وح َوزَا َد ُك ْم فِي‬ ‫َعلَى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم لِيُ ْن ِذ َر ُك ْم َو ْاذ ُك رُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَ ا َء ِم ْن بَ ْع ِد قَ وْ ِم نُ ٍ‬
‫ق بَ ْسطَةً فَ ْاذ ُكرُوا آال َء هَّللا ِ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ (ألعراف‪)69:‬‬ ‫ْالخَ ْل ِ‬
‫ي هَ َذا‬ ‫وأخبر أن من مقاصد ن زول الق رآن الك ريم اإلن ذار‪ ،‬فق ال‪َ ﴿:‬وأُ ِ‬
‫وح َي إِلَ َّ‬
‫ق‬‫ص ِّد ُ‬ ‫ك ُم َ‬ ‫وقال‪﴿:‬وهَ َذا ِكتَابٌ أَ ْن َز ْلنَاهُ ُمبَا َر ٌ‬
‫َ‬ ‫ْالقُرْ آنُ أِل ُ ْن ِذ َر ُك ْم بِ ِه َو َم ْن بَلَغَ﴾ (األنعام‪،)19:‬‬
‫الَّ ِذي بَ ْينَ يَ َد ْي ِه َولِتُ ْن ِذ َر أُ َّم ْالقُ َرى َو َم ْن َحوْ لَهَا﴾ (األنعام‪ ،)92:‬وقال‪ِ ﴿:‬كتَ ابٌ أُ ْن ِز َل إِلَ ْي كَ‬
‫ك َح َر ٌج ِم ْنهُ لِتُ ْن ِذ َر بِ ِه َو ِذ ْك َرى لِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (ألعراف‪ ،)2 :‬وقال‪﴿:‬هَ َذا‬ ‫ص ْد ِر َ‬ ‫فَال يَ ُك ْن فِي َ‬
‫ُ‬
‫اح ٌد َولِيَ َّذ َّك َر أولُو اأْل َ ْلبَ ا ِ‬
‫اس َولِيُ ْن َذرُوا بِ ِه َولِيَ ْعلَ ُموا أَنَّ َما ه َُو إِلَهٌ َو ِ‬ ‫بَال ٌ‬
‫ب﴾ (اب راهيم‪:‬‬ ‫غ لِلنَّ ِ‬
‫‪)52‬‬
‫وهكذا اعتبر من وظائف العلماء وورثة الرسل عليهم الس الم اإلن ذار‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫﴿ َو َما َكانَ ْال ُم ْؤ ِمنُونَ لِيَ ْنفِ رُوا َكافَّةً فَلَ وْ ال نَفَ َر ِم ْن ُك لِّ فِرْ قَ ٍة ِم ْنهُ ْم طَائِفَ ةٌ لِيَتَفَقَّهُ وا فِي‬
‫الدِّي ِن َولِيُ ْن ِذرُوا قَوْ َمهُ ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَ ْي ِه ْم لَ َعلَّهُ ْم يَحْ َذرُونَ ﴾ (التوبة‪)122:‬‬
‫وهذا ال يعني ـ أيها المريد الصادق ـ االقتصار على اإلنذار دون التبش ير‪ ،‬أو‬
‫على نشر الرهبة دون الرغب ة؛ ف ذلك انح راف ال يق ل عن االنح راف ال ذي ينش ره‬
‫أصحاب األماني‪ ..‬ذل ك أن هللا تع الى ذك ر كال األم رين‪ ،‬واالقتص ار على أح دهما‬
‫تحريف لكلماته المقدسة‪.‬‬
‫ولهذا يقرن هللا تعالى ذكر الجنة بذكر الن ار‪ ..‬وذك ر الرحم ة ب ذكر العدال ة‪..‬‬
‫حتى تستقيم النف وس من خالل زرع الرغب ة والرهب ة فيه ا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬نَبِّئْ‬
‫ِعبَا ِدي أَنِّي أَنَا ْال َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم َوأَ َّن َع َذابِي ه َُو ْال َع َذابُ اأْل َلِي ُم﴾ (الحج ر‪ ،)50:‬وقول ه‪:‬‬
‫ص يرُ﴾‬ ‫ب ِذي الطَّوْ ِل ال إِلَ هَ إِاَّل هُ َو إِلَ ْي ِه ْال َم ِ‬ ‫ب َش ِدي ِد ْال ِعقَ ا ِ‬ ‫ب َوقَابِ ِل التَّوْ ِ‬ ‫﴿ َغ افِ ِر ال َّذ ْن ِ‬
‫(غافر‪)3:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال في الدعوة إلعمال العقل في المقارنة بين أهل النار وأهل الجن ة‪﴿ :‬أف َمن‬
‫ار خَ ْي ٌر أَم َّمن يَأْتِي آ ِمنًا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة﴾[فصلت‪ ،]40 :‬وقال‪َ ﴿ :‬ولَهُ ْم فِيهَا ِمن‬ ‫ي ُْلقَى فِي النَّ ِ‬
‫ار﴾[محم د‪ ،]15 :‬وق ال‪:‬‬ ‫ت َو َم ْغفِ َرةٌ ِّمن َّربِّ ِه ْم َك َم ْن هُ َو خَالِ ٌد فِي النَّ ِ‬ ‫ُك لِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫َاوينَ ﴾[الشعراء‪.]91 - 90 :‬‬ ‫ت ْال َج ِحي ُم لِ ْلغ ِ‬ ‫ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َوبُ ِّرزَ ِ‬ ‫﴿ َوأُ ْزلِفَ ِ‬
‫وغيرها من اآليات الكثيرة‪ ،‬ومثلها من أحاديث رسول هللا ‪ ‬وأئمة اله دى‪..‬‬

‫‪359‬‬
‫ولذلك فإن العارف الحقيقي باهلل ه و ال ذي يجم ع بين المعرف تين‪ ..‬وال داعي إلى هللا‬
‫على بصيرة هو الذي يستعمل كال الوسيلتين‪.‬‬
‫أما التالعب بالكلمات‪ ،‬وت وهم أن الع ذاب ليس س وى عذوب ة‪ ،‬فه ل يمكن أن‬
‫ُوا لَ وْ أَ َّن‬ ‫ينطبق على قوله تعالى في وصف حال أه ل الن ار وألمهم‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَ ر ْ‬
‫ب يَ وْ ِم ْالقِيَا َم ِة َم ا تُقُب َِّل ِم ْنهُ ْم‬ ‫ض َج ِميعًا َو ِم ْثلَهُ َم َعهُ لِيَ ْفتَد ْ‬
‫ُوا بِ ِه ِم ْن َع َذا ِ‬ ‫لَهُم َّما فِي األَرْ ِ‬
‫ار ِجينَ ِم ْنهَ ا َولَهُ ْم َع َذابٌ‬ ‫ار َو َم ا هُم بِ َخ ِ‬ ‫وا ِمنَ النَّ ِ‬ ‫يري ُدونَ أَن يَ ْخ ُر ُج ْ‬ ‫َولَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم ِ‬
‫ُّمقِي ٌم﴾ [المائ دة‪ ،]37-36:‬فه ل يمكن لمن ي نزل فن دقا ممتلئ ا بالعذوب ة أن يطلب‬
‫مغادرته؟‬
‫يع ال ي ُْس ِمنُ َوال‬ ‫ض ِر ٍ‬ ‫ْس لَهُ ْم طَ َعا ٌم إِالَّ ِمن َ‬ ‫َّ‬
‫وقال تعالى في وصف طعامهم‪﴿ :‬لي َ‬
‫ُوع﴾ [الغاشية‪ ،]7-6:‬فهل هذا وصف لعذاب أم لنعمة؟ وهل هو وص ف‬ ‫يُ ْغنِي ِمن ج ٍ‬
‫لسجن ممتلئ بزنزانات التعذيب‪ ،‬أم هو وصف لفنادق ممتلئة باللذة والعذوبة؟‬
‫وقال تعالى في وصف آالمهم وصياحهم وعذابهم‪﴿ :‬إِنا أَ ْعتَ ْدنَا لِلظ الِ ِمينَ نَ ارًا‬
‫الش َرابُ‬ ‫س َّ‬ ‫أَ َحاطَ بِ ِه ْم ُس َرا ِدقُهَا َوإِن يَ ْستَ ِغيثُوا يُغَاثُوا بِ َم اء َك ْال ُم ْه ِل يَ ْش ِوي ْال ُو ُج وهَ بِ ْئ َ‬
‫اءت ُمرْ تَفَقً ا﴾ [الكه ف‪ ،]29:‬فه ل يمكن لمن ن زل الفن ادق الممتلئ ة بالعذوب ة أن‬ ‫َو َس ْ‬
‫يندم أو يطلب الخروج منها؟‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المري د الص ادق ـ فاس مع لم ا س أحدثك ب ه مم ا ذكرت ه‬
‫النصوص المقدسة في دور الرهبة والخشية في التزكية والترقية‪.‬‬
‫الرهبة والتزكية‪:‬‬
‫أما دور الرهبة والخشية في التزكية؛ فه و ظ اهر للعق ول المج ردة البس يطة‬
‫ال تي تتف ق على أن تط بيق الق وانين ال يمكن أن يتم بص ورة س ليمة م ا لم يوض ع‬
‫بجانبها قوانين خاصة بالعقوبات المرتبطة بالجرائم المختلفة‪.‬‬
‫وهذا ليس مرتبطا بقوانين الدنيا فقط‪ ،‬وإنما هو قانون عام يش مل ك ل ش يء‪،‬‬
‫وقد قال بعض الحكماء ي ذكر دوره في التزكي ة‪( :‬إذا س كن الخ وف القل وب أح رق‬
‫مواضع الشهوات منها‪ ،‬وطرد الدنيا عنها)‬
‫وعبر آخر عن ذلك‪ ،‬فقال‪(:‬ما فارق الخوف قلبا إال خرب)‬
‫وعبر عنه آخر‪ ،‬فقال‪(:‬الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف‪ ،‬فإذا زال‬
‫عنهم الخوف ضلوا عن الطريق)‬
‫وهو ما دلت عليه النصوص المقدسة الكثيرة التي تعت بر الخ وف المتول د من‬
‫اإلنذار سوطا يضرب به الس الك نفس ه ح تى يق اوم االنح راف‪ ،‬ويق وم االعوج اج‪،‬‬
‫ويصحح السلوك‪.‬‬
‫ومن تلك النصوص قوله تعالى‪ ،‬وهو يدعو رسول هللا ‪ ‬أن ين ذر الك افرين‬
‫أو المقصرين بما أع د هللا تع الى لهم من عقوب ات على انح رافهم‪َ ﴿:‬وأَ ْن ِذرْ بِ ِه الَّ ِذينَ‬
‫ْس لَهُ ْم ِم ْن دُونِ ِه َولِ ٌّي َوال َش فِي ٌع لَ َعلَّهُ ْم يَتَّقُ ونَ ﴾‬ ‫يَ َخ افُونَ أَ ْن يُحْ َش رُوا إِلَى َربِّ ِه ْم لَي َ‬
‫(األنعام‪ ،)51:‬فقد اعتبرت اآلية الكريمة اإلنذار وسيلة من وسائل تحصيل التق وى‪،‬‬

‫‪360‬‬
‫وأسلوبا من األساليب الداعية إليها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك تلك النصوص ال تي تح ذر من القت ل‪ ،‬وك ل م ا ي ؤدي‬
‫ب هَّللا ُ‬ ‫َض َ‬ ‫إليه‪ ،‬كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَ ْقتُلْ ُم ْؤ ِمنً ا ُمتَ َع ِّمدًا فَ َج زَا ُؤهُ َجهَنَّ ُم خَالِ دًا فِيهَ ا َوغ ِ‬
‫َعلَ ْي ِه َولَ َعنَهُ َوأَ َع َّد لَهُ َع َذابًا َع ِظي ًما﴾ [النساء‪]93 :‬‬
‫ومثله ما ورد من األحاديث كقوله ‪(:‬أول ما يقضي بين الناس ي وم القيام ة‬
‫في الدماء)(‪ ،)1‬وقوله‪( :‬لزوال الدنيا أهول عند هّللا من قتل رج ل مس لم)(‪ ،)2‬وقول ه‪:‬‬
‫(من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي هللا يوم القيام ة مكت وب بين عيني ه‪ :‬آئس‬
‫من رحمة هللا)(‪)3‬‬
‫ف إن ه ذه النص وص الترهيبي ة وحدهاكافي ة في ردع أي نفس خبيث ة ق د ال‬
‫يردعها القصاص نفسه‪ ،‬ذلك أننا نجد في الواقع من يقول مه ددا‪(:‬س أقتله ول و قتلت‬
‫به)‪ ،‬ألن القوة الغضبية ـ كالقوة الش هوانية ـ ال يعقله ا إال ال ترهيب العظيم المنش ئ‬
‫للخوف في النفس من هللا من غضبه وعقابه‪.‬‬
‫ولهذا ذكر هللا تعالى نموذج المؤمن الذي ض حى بنفس ه خوف ا من هللا‪ ،‬وك ان‬
‫أقواهما قوة كما يذكر المفسرون‪ ،‬ولكن خوفه من هللا منعه من أن يبس ط ي ده ألخي ه‬
‫ك‬ ‫ي يَ َد َ‬ ‫ليقتله‪ ،‬قال تعالى ذاكرا سر توقف أحد ابني آدم عن قتل أخيه‪﴿:‬لَئِ ْن بَ َس ْ‬
‫طتَ إِلَ َّ‬
‫ك إِنِّي أَخَافُ هَّللا َ َربَّ ْال َعالَ ِمينَ إِنِّي أُ ِري ُد أَ ْن تَبُ و َء‬ ‫ك أِل َ ْقتُلَ َ‬
‫ي إِلَ ْي َ‬‫اس ٍط يَ ِد َ‬‫لِتَ ْقتُلَنِي َما أَنَا بِبَ ِ‬
‫ار َو َذلِكَ َجزَ ا ُء الظَّالِ ِمينَ ﴾ (المائدة‪ 28:‬ـ ‪)29‬‬ ‫ب النَّ ِ‬ ‫ك فَتَ ُكونَ ِم ْن أَصْ َحا ِ‬ ‫بإِ ْث ِمي َوإِ ْث ِم َ‬
‫ولهذا نج د النص وص المقدس ة تس تعمل ه ذه الوس يلة في النهي عن الرذائ ل‬
‫صغارها وكبارها؛ وهو ما يدل على دور ذلك في التزكية‪.‬‬
‫﴿واتَّقُ ْ‬
‫وا‬ ‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد من الترهيب من الكفر‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ت لِ ْل َكافِ ِرينَ ﴾ [آل عمران‪]131 :‬‬ ‫ار الَّتِي أُ ِع َّد ْ‬ ‫النَّ َ‬
‫وقال في الترهيب من الش رك‪﴿ :‬إِنَّهُ َمن ي ُْش ِر ْك بِاهّلل ِ فَقَ ْد َح َّر َم هّللا ُ َعلَي ِه ْال َجنَّةَ‬
‫َو َمأْ َواهُ النَّارُ﴾ [المائدة‪]72 :‬‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه ق ال‪( :‬من م ات وه و ي دعو من دون هللا‬
‫ندًا دخل النار) (‪)4‬‬
‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التكذيب ب البعث والنش ور‪ ،‬وي وم القيام ة‪،‬‬
‫الس ا َع ِة َس ِعيرًا﴾ [الفرق ان‪﴿ :‬‬ ‫ب بِ َّ‬ ‫كما قال تعالى‪﴿ :‬بَلْ َك َّذبُوا بِالسَّا َع ِة َوأَ ْعتَ ْدنَا لِ َمن َك َّذ َ‬
‫ق َج ِدي ٍد أُوْ لَئِ كَ الَّ ِذينَ‬
‫ْجبْ فَ َع َجبٌ قَوْ لُهُ ْم أَئِ َذا ُكنَّا تُ َرابًا أَئِنَّا لَفِي خَ ْل ٍ‬ ‫﴿وإِن تَع َ‬ ‫‪ ،]11‬وقال‪َ :‬‬
‫ار هُ ْم فِيهَ ا خَالِ دونَ ﴾‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك األغال ُل فِي أعنَاقِ ِه ْم َوأوْ لئِ كَ أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َكفَر ْ‬
‫ص َحابُ الن ِ‬ ‫ُوا بِ َربِّ ِه ْم َوأوْ لئِ َ‬
‫[الرعد‪]5 :‬‬
‫َّ‬
‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التكذيب بآيات هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ال ِذينَ‬
‫‪ )(1‬رواه نعيم بن حماد في الفتن‪ ،‬والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن ماجة والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪4497 :‬‬
‫‪361‬‬
‫ُس لَنَا فَ َس وْ فَ يَ ْعلَ ُم ونَ إِ ِذ اأْل َ ْغاَل ُل فِي أَ ْعنَ اقِ ِه ْم‬ ‫ب َوبِ َم ا أَرْ َس ْلنَا بِ ِه ر ُ‬ ‫َك َّذبُوا بِ ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ار يُ ْس َجرُونَ ﴾ [غافر‪]72 -70 :‬‬ ‫ْحبُونَ فِي ْال َح ِم ِيم ثُ َّم فِي النَّ ِ‬ ‫َوال َّساَل ِس ُل يُس َ‬
‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من السخرية من كلمات هللا والغفلة عنها‪ ،‬كم ا‬
‫آن َو ْال َغ وْ ا فِي ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْغلِبُ ونَ‬‫ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وقَ ا َل الَّ ِذينَ َكفَ رُوا اَل ت َْس َمعُوا لِهَ َذا ْالقُ رْ ِ‬
‫فَلَنُ ِذيقَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا َع َذابًا َش ِديدًا َولَنَجْ ِزيَنَّهُ ْم أَ ْس َوأَ الَّ ِذي َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ َذلِ كَ َج زَ اء‬
‫أَ ْعدَاء هَّللا ِ النَّا ُر لَهُ ْم فِيهَا دَا ُر ْال ُخ ْل ِد َجزَ اء بِ َم ا َك انُوا بِآيَاتِنَ ا يَجْ َح ُدونَ ﴾ [فص لت‪-26 :‬‬
‫‪]28‬‬
‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التفريق في اإليمان بين الكتب التي أنزله ا‬
‫ْض ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب‬ ‫هللا تع الى على رس له عليهم الس الم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬أَفَتُ ْؤ ِمنُ ونَ بِبَع ِ‬
‫ي فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َويَ وْ َم‬ ‫ْض فَ َم ا َج َزاء َمن يَ ْف َع ُل َذلِ كَ ِمن ُك ْم إِالَّ ِخ ْز ٌ‬ ‫َوتَ ْكفُ رُونَ بِبَع ٍ‬
‫ب﴾ [البقرة‪]85 :‬‬ ‫ْالقِيَا َم ِة يُ َر ُّدونَ إِلَى أ َش ِّد ال َع َذا ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ومن ذلك م ا ورد من ال ترهيب من قت ل األنبي اء وورثتهم اآلم رين بالقس ط‪،‬‬
‫ق َويَ ْقتُلُونَ الِّ ِذينَ‬ ‫ت هّللا ِ َويَ ْقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِ َغي ِْر َح ٍّ‬ ‫كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْكفُرُونَ بِآيَا ِ‬
‫ب أَلِ ٍيم﴾ [آل عمران‪]21 :‬‬ ‫ْ‬
‫اس فَبَ ِّشرْ هُم بِ َع َذا ٍ‬‫يَأ ُمرُونَ بِ ْالقِ ْس ِط ِمنَ النَّ ِ‬
‫﴿و َمن يَرْ تَ ِد ْد ِمن ُك ْم‬ ‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الردة‪ ،‬كما قال تع الى‪َ :‬‬
‫ك‬ ‫ُ‬
‫اآلخ َر ِة َوأوْ لَئِ َ‬ ‫ت أَ ْع َم الُهُ ْم فِي ال ُّد ْنيَا َو ِ‬ ‫ت َوهُ َو َك افِ ٌر فَأُوْ لَئِ كَ َحبِطَ ْ‬ ‫عَن ِدينِ ِه فَيَ ُم ْ‬
‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [البقرة‪]217 :‬‬ ‫أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫ومن ذلك م ا ورد من ال ترهيب من اإلع راض عن طاع ة هللا‪ ،‬واتب اع أئم ة‬
‫الضالل‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ لَ َعنَ ْال َكافِ ِرينَ َوأَ َع َّد لَهُ ْم َس ِعيرًا خَالِ ِدينَ فِيهَ ا أَبَ دًا اَل‬
‫ار يَقُولُونَ يَا لَ ْيتَنَا أَطَ ْعنَا هَّللا َ َوأَطَ ْعنَا‬ ‫صيرًا يَوْ َم تُقَلَّبُ ُوجُوهُهُ ْم فِي النَّ ِ‬ ‫يَ ِج ُدونَ َولِيًّا َواَل نَ ِ‬
‫ال َّر ُسواَل ﴾ [األحزاب‪]66 -64 :‬‬
‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الكذب على هللا‪ ،‬واالفتراء عليه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ب أَ َّن لَهُ ُم ْال ُح ْسنَى الَ َج َر َم أَ َّن‬ ‫َصفُ أَ ْل ِسنَتُهُ ُم ْال َك ِذ َ‬ ‫﴿ويَجْ َعلُونَ هّلِل ِ َما يَ ْك َرهُونَ َوت ِ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫ار َوأنهُم ُّمف َرطونَ ﴾ [النحل‪]62 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫لَهُ ُم ْالنَّ َ‬
‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من النفاق‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َع َد هللا ْال ُمنَ افِقِينَ‬
‫َار َجهَنَّ َم خَالِ ِدينَ فِيهَ ا ِه َي َح ْس بُهُ ْم َولَ َعنَهُ ُم هّللا ُ َولَهُ ْم َع َذابٌ ُّمقِي ٌم﴾‬ ‫ار ن َ‬ ‫ت َو ْال ُكفَّ َ‬ ‫َو ْال ُمنَافِقَا ِ‬
‫[التوبة‪ ،]68 :‬وقال‪﴿ :‬إِ َّن هّللا َ َجا ِم ُع ْال ُمنَ افِقِينَ َو ْال َك افِ ِرينَ فِي َجهَنَّ َم َج ِمي ًع ا﴾ [النس اء‪:‬‬
‫‪]140‬‬
‫ومن ذلك ما ورد من الترهيب من االستكبار عن عبادة هللا‪ ،‬واإلع راض عن‬
‫ار هُ ْم‬ ‫ص َحابُ النَّ ِ‬ ‫ُوا َع ْنهَا أُوْ لَئِكَ أَ ْ‬‫ُوا بِآيَاتِنَا َوا ْستَ ْكبَر ْ‬ ‫﴿والَّ ِذينَ َك َّذب ْ‬ ‫آياته‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [األعراف‪ ،]36 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَ ا َولَّى ُم ْس تَ ْكبِرًا َك أَن ل ْمَّ‬
‫ُص رُّ‬ ‫ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ثُ َّم ي ِ‬ ‫ب أَلِ ٍيم يَ ْس َم ُع آيَ ا ِ‬ ‫يَ ْس َم ْعهَا َكأ َ َّن فِي أُ ُذنَ ْي ِه َو ْق رًا فَبَ ِّش رْ هُ بِ َع َذا ٍ‬
‫ب أَلِ ٍيم﴾ [لقمان‪]8 -7 :‬‬ ‫ُم ْستَ ْكبِرًا َكأَن لَّ ْم يَ ْس َم ْعهَا فَبَ ِّشرْ هُ بِ َع َذا ٍ‬
‫وغيرها من اآليات الكثيرة‪ ،‬ومثلها من األحاديث الواردة عن رس ول هللا ‪‬‬

‫‪362‬‬
‫وأئمة الهدى التي تقرن بين المعاصي المختلفة‪ ،‬والعذاب المرتبط بها‪.‬‬
‫الرهبة والترقية‪:‬‬
‫أم ا دور الرهب ة والخش ية في الترقي ة؛ في دل علي ه م ا ورد من النص وص‬
‫المقدسة الكثيرة التي تدل على أن من صفات المقربين الرهبة والخشية‪ ،‬ولوال أنهما‬
‫من المقامات الرفيعة ما وصفوا بها‪..‬‬
‫وهو ما يدل أيض ا على أن وص فهم بهم ا ي دل على كونهم ا من أس باب ذل ك‬
‫الصالح الذي تحلوا به‪ ،‬وبذلك كانت الرهبة والخشية معراجا من مع ارج الس الكين‬
‫إلى هللا‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى في وصف من يعمر المساجد‪﴿ :‬إِنَّ َم ا يَ ْع ُم ُر‬
‫ش إِاَّل هَّللا َ‬ ‫الص اَل ةَ َوآتَى ال َّز َك اةَ َولَ ْم يَ ْخ َ‬ ‫َم َس ا ِج َد هَّللا ِ َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر َوأَقَ ا َم َّ‬
‫ك أَ ْن يَ ُكونُوا ِمنَ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [التوبة‪]18 :‬‬ ‫فَ َع َسى أُولَئِ َ‬
‫وقال في وصف الصالحين المسارعين في الخيرات‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ هُ ْم ِم ْن َخ ْشيَ ِة‬
‫ت َربِّ ِه ْم ي ُْؤ ِمنُ ونَ (‪َ )58‬والَّ ِذينَ هُ ْم بِ َربِّ ِه ْم اَل‬ ‫َربِّ ِه ْم ُم ْش فِقُونَ (‪َ )57‬والَّ ِذينَ هُ ْم بِآيَ ا ِ‬
‫يُ ْش ِر ُكونَ (‪َ )59‬والَّ ِذينَ ي ُْؤتُونَ َما آتَوْ ا َوقُلُ وبُهُ ْم َو ِجلَ ةٌ أَنَّهُ ْم إِلَى َربِّ ِه ْم َرا ِج ُع ونَ (‪)60‬‬
‫ت َوهُ ْم لَهَا َسابِقُونَ ﴾[المؤمنون‪]61 - 57 :‬‬ ‫ار ُعونَ فِي ْال َخ ْي َرا ِ‬ ‫ك يُ َس ِ‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫ت أُولَئِ كَ هُ ْم‬ ‫الص الِ َحا ِ‬ ‫وقال في وصف خير البرية‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫ات َع ْد ٍن تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ‬ ‫خَ ْي ُر ْالبَ ِريَّ ِة (‪َ )7‬جزَا ُؤهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َجنَّ ُ‬
‫ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرضُوا َع ْنهُ َذلِكَ لِ َم ْن خَ ِش َي َربَّهُ﴾ [البينة‪]8 ،7 :‬‬ ‫فِيهَا أَبَدًا َر ِ‬
‫وقال في وصف العلماء الصالحين‪﴿ :‬إِنَّ َما يَ ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن ِعبَا ِد ِه ْال ُعلَ َم ا ُء إِ َّن هَّللا َ‬
‫َزي ٌز َغفُورٌ﴾ [فاطر‪]28 :‬‬ ‫ع ِ‬
‫ث ِكتَابً ا ُمت ََش ابِهًا َمثَ انِ َي‬ ‫وقال في وصف الخاش عين‪﴿ :‬هَّللا ُ نَ َّز َل أَحْ َس نَ ْال َح ِدي ِ‬
‫تَ ْق َش ِعرُّ ِم ْنهُ ُجلُو ُد الَّ ِذينَ يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُدهُ ْم َوقُلُوبُهُ ْم إِلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ َذلِكَ هُدَى‬
‫هَّللا ِ يَ ْه ِدي بِ ِه َم ْن يَ َشا ُء َو َم ْن يُضْ لِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد﴾ [الزمر‪]23 :‬‬
‫خَش َي‬ ‫يظ (‪َ )32‬م ْن ِ‬ ‫ب َحفِ ٍ‬ ‫وقال في وصف األوابين‪﴿ :‬هَ َذا َما تُو َع ُدونَ لِ ُكلِّ أَ َّوا ٍ‬
‫ب﴾ [ق‪]33 ،32 :‬‬ ‫ب ُمنِي ٍ‬ ‫ب َو َجا َء بِقَ ْل ٍ‬
‫الرَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫بل إن القرآن الكريم ينفي التذكرة والهداية على من حرم الخشية‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫الس ا َع ِة أَيَّانَ ُمرْ َس اهَا (‪ )42‬فِي َم أَ ْنتَ ِم ْن ِذ ْك َراهَ ا (‪ )43‬إِلَى َربِّكَ‬ ‫﴿يَ ْس أَلُونَكَ َع ِن َّ‬
‫ُم ْنتَهَاهَا (‪ )44‬إِنَّ َما أَ ْنتَ ُم ْن ِذ ُر َم ْن يَ ْخ َش اهَا﴾ [النازع ات‪ ،]45 - 42 :‬فق د أخ بر هللا‬
‫تعالى في هذه اآلية الكريمة أن االستفادة من التربية النبوية قاص رة على من تت وفر‬
‫فيهم الخشية‪ ،‬دون غيرهم من الذين ال يبالون بالوعد والوعيد‪ ،‬أو يس خرون منهم ا‪،‬‬
‫أو يغفلون عنهما‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫اَّل‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وقال‪﴿ :‬طه (‪َ )1‬م ا أنزَ لنَ ا َعل ْي كَ الق رْ آنَ لِتَش قى (‪ )2‬إِ تَ ذ ِك َرة لِ َم ْن يَخ َش ى﴾‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫[طه‪]3 - 1 :‬‬
‫ْ‬
‫ع ُمثقل ة إِلى ِح ْملِهَ ا اَل يُحْ َم لْ ِمن هُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫از َرة ِوز َر أخ َرى َوإِ ْن تَ ْد ُ‬‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬واَل ت َِز ُر َو ِ‬
‫‪363‬‬
‫الص اَل ةَ َو َم ْن‬‫ب َوأَقَ ا ُموا َّ‬ ‫َش ْي ٌء َولَوْ َكانَ َذا قُرْ بَى إِنَّ َما تُ ْن ِذ ُر الَّ ِذينَ يَ ْخ َش وْ نَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫صيرُ﴾ [فاطر‪]18 :‬‬ ‫تَزَ َّكى فَإِنَّ َما يَتَ َز َّكى لِنَ ْف ِس ِه َوإِلَى هَّللا ِ ْال َم ِ‬
‫وقال بعد ذكره لما حصل لفرعون وملئه من العقوبة‪﴿ :‬إِ َّن فِي َذلِكَ لَ ِع ْب َرةً لِ َم ْن‬
‫يَ ْخ َشى﴾ [النازعات‪]26 :‬‬
‫وأمر بتذكير من له القابلية لذلك‪ ،‬وهو صاحب الخشية‪ ،‬فقال‪﴿:‬فَ َذ ِّكرْ إِ ْن نَفَ َع ِ‬
‫ت‬
‫ال ِّذ ْك َرى (‪َ )9‬سيَ َّذ َّك ُر َم ْن يَ ْخ َش ى (‪[ ﴾)10‬األعلى‪ ،]10 ،9 :‬أم ا غ يره‪ ،‬فق د اعت بره‬
‫ار ْال ُك ْب َرى﴾ [األعلى‪:‬‬ ‫ص لَى النَّ َ‬ ‫تع الى ش قيا‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬ويَتَ َجنَّبُهَ ا اأْل َ ْش قَى (‪ )11‬الَّ ِذي يَ ْ‬
‫‪]12 ،11‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال‪﴿:‬و َس َوا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أأ ْن َذرْ تَهُ ْم أ ْم لَ ْم تُ ْن ِذرْ هُ ْم اَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ (‪ )10‬إِنَّ َم ا تُ ْن ِذ ُر َم ِن‬
‫َ‬
‫ب فَبَ ِّشرْ هُ بِ َم ْغفِ َر ٍة َوأَجْ ٍر َك ِر ٍيم﴾ [يس‪]11 ،10 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ي‬ ‫غ‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫ب‬
‫َ ِ‬‫نَ‬ ‫م‬ ‫َّحْ‬
‫ر‬ ‫ال‬ ‫اتَّبَ َع ال ِّذ ْك َر َوخ ِ َ‬
‫ي‬ ‫َش‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة الكثيرة التي يخبر هللا تعالى فيها عن دور الرهبة‬
‫والخشية في التذكر واإلنابة والهداية‪ ،‬وهي الوس ائل ال تي ال يمكن ألح د أن ي رتقي‬
‫في معارج الكمال المتاحة له من دونها‪.‬‬
‫هذا جوابي عن أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع ألن تعمل بما فيه ا؛ فهي‬
‫مستنبطة من بحر كلمات هللا المقدسة‪ ،‬ومن معدن النبوة والرسالة‪ ،‬وليس ت من تل ك‬
‫المعادن التي اختلط فيها الحق بالباطل‪.‬‬
‫فال تسلم دينك لغير ربك‪ ،‬ولغير الوسائط التي جعلها هللا مصادر للهداية‪ ،‬أم ا‬
‫من عداها؛ فيخطئ ويصيب‪ ،‬ويضل ويهتدي‪ ..‬فإياك أن تقع في حبالها‪ ،‬فتن دم حيث‬
‫ال ينفعك الندم‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫معية الصالحين‬
‫كتبت إلي ـ أيها المري د الص ادق ـ تس ألني عن المعي ة ال تي ورد ذكره ا في‬
‫قوله تع الى‪﴿:‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّقُ وا هَّللا َ َو ُكونُ وا َم َع َّ‬
‫الص ا ِدقِينَ ﴾ (التوب ة‪،)119:‬‬
‫ودورها في التزكية والترقية‪ ،‬وكيفية التحقق بها‪.‬‬
‫وجوابا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن المعي ة ال تي وردت في تل ك اآلي ة‬
‫الكريمة من أكبر المدارس التربوي ة ال تي ال يمكن أن تتحق ق التزكي ة والترقي ة من‬
‫دونه ا؛ فال يمكن أن يس ير أح د في طري ق الكم ال دون أن يك ون ل ه ومع ه من‬
‫الصالحين من يتواصل معهم‪ ،‬ويكون له فيهم أسوة حسنة‪.‬‬
‫ول ذلك ت رى في الص الة ال تي تجتم ع فيه ا ك ل الم دارس التربوي ة ذك را‬
‫للصالحين‪ ،‬وتس ليما عليهم‪ ،‬ب ل ورد م ا ي دل على فض ل اإلكث ار من الص الة على‬
‫رسول هللا ‪ ‬في كل حركة من حركاتها من ركوع وسجود وتشهد وغيرها‪ ،‬وك ل‬
‫ذل ك ليس س وى ن وع من أن واع المعي ة م ع رس ول هللا ‪ ‬والص الحين من أمت ه‬
‫وغيرهم‪..‬‬
‫ولذلك؛ فإن المعية ـ أيها المريد الصادق ـ ال تع ني الحض ور الشخص ي م ع‬
‫ذلك الصالح الذي تريد ص حبته‪ ،‬ب ل يكفي أن يك ون قلب ك وروح ك حاض رة مع ه؛‬
‫فالعبرة باألرواح‪ ،‬ال باألجساد‪.‬‬
‫ولهذا نال شرف صحبة رسول هللا ‪ ‬أويس القرني‪ ،‬الذي ذك ره رس ول هللا‬
‫‪ ‬وأثنى عليه على الرغم من عدم مالقاته له‪ ،‬في نفس الوقت ال ذي ح رم من تل ك‬
‫الصحبة من شرفهم هللا بأن يصحبوه بروحه وجسده‪ ،‬لكنهم حرم وا من ش رف تل ك‬
‫الصحبة بكبرهم وعتوهم وطغيانهم‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن كيفي ة التحق ق بتل ك الص حبة‬
‫الشريفة‪ ،‬يتنوع بتنوع المصاحبين‪ ،‬وهما نوعان‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬من أوصلهم هللا تعالى إلى أعلى مراتب الكمال‪ ،‬فصاروا ب ذلك ق دوة‬
‫وأسوة لخلقه‪ ،‬من األنبياء وأئمة الهدى‪ ،‬وصحبة ه ؤالء تك ون بالتواص ل ال روحي‬
‫معهم‪ ،‬وبالتأسي والطاعة لهم‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬من ك انوا من المجته دين في الطاع ات‪ ،‬وك ان لهم اقت داء بأنبي ائهم‬
‫عليهم الس الم‪ ،‬وص حبة ه ؤالء تك ون بالتن افس والمس ارعة والتع اون معهم على‬
‫الخيرات‪.‬‬
‫وبم ا أن ال دنيا كله ا مدرس ة رباني ة لتخ ريج الص الحين‪ ،‬فإن ه يمكن اعتب ار‬
‫األولين أساتذة في هذه المدرسة‪ ،‬واعتبار غيرهم تالمي ذ فيه ا‪ ،‬وال يص ح أن يتتلم ذ‬
‫التلميذ على زميله‪ ،‬وإنما على أستاذه‪.‬‬
‫وإنما ذكرت لك هذا التفريق ـ أيها المريد الصادق ـ حتى ال تقع فيما وقع في ه‬
‫بعض هم من المبالغ ة في ح ال بعض التالمي ذ ممن يعتق دون ص الحهم؛ فراح وا‬
‫‪365‬‬
‫يطيعونهم في كل شيء‪ ،‬ويلغون بذلك عالقتهم م ع أس اتذتهم ال ذين أم روا بالتأس ي‬
‫بهم دون غيرهم‪.‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬سأشرح ل ك كيفي ة التعام ل م ع كال الص نفين؛ ف أعرني س مع‬
‫قلبك‪ ،‬ألبث لك ما ورد في ذل ك من النص وص المقدس ة‪ ،‬مم ا ي دلك على دور تل ك‬
‫الصحبة الشريفة في التزكية والترقية‪.‬‬
‫التواصل والتأسي‪:‬‬
‫أما الصحبة األولى ـ أيها المريد الصادق ـ وهي ص حبة التواص ل ال روحي‬
‫والتأسي العملي‪ ،‬فإنها خاصة بأولئك الذين بوأهم هللا تع الى تل ك الم راتب الرفيع ة؛‬
‫فصاروا أئمة للهداية‪ ،‬وأعالما للتقوى‪ ،‬ولذلك صار القرب منهم قربا من هللا تعالى‪.‬‬
‫ول ذلك ف إن المطل وب ليس حبهم فق ط‪ ،‬وإنم ا س لوك س بيلهم؛ فهم الس راط‬
‫المستقيم الذين يضل من انح رف عن ه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى بع د ذك ر أس ماء بعض هم‪:‬‬
‫ك الَّ ِذينَ هَدَى هَّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه﴾ (األنعام‪)90 :‬‬ ‫﴿أُولَئِ َ‬
‫ول هَّللا ِ أُ ْس َوةٌ َح َس نَةٌ لِ َم ْن َك انَ‬ ‫وقال عن رسول هللا ‪﴿ :‬لَقَ ْد َك انَ لَ ُك ْم فِي َر ُس ِ‬
‫يَرْ جُو هَّللا َ َو ْاليَوْ َم اآْل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِيراً﴾ (األحزاب‪)21:‬‬
‫وقال رسول هللا ‪ ‬داعيا إلى التأسي بأئم ة اله دى من بع ده‪( :‬فإن ه من يعش‬
‫منكم بعدي فسيرى اختالفا ً كثيراً‪ ،‬فعليكم بسنتي‪ ،‬وسنة الخلفاء الراش دين المه ديين‪،‬‬
‫تمسكوا به ا وعض وا عليه ا بالنواج ذ‪ ،‬وإي اكم ومح دثات األم ور‪ ،‬ف إن ك ل محدث ة‬
‫بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة)(‪)1‬‬
‫وأشرف مصاديق هذه الص حبة ص حبة رس ول هللا ‪ ،‬وهي ص حبة ممت دة‬
‫في المكان والزمان‪ ،‬ويمكن أن تتحقق لكل من يحب ذل ك‪ ،‬ف احرص ـ أيه ا المري د‬
‫الصادق ـ على أن تكون من أهلها حتى يتحقق في ك قول ه تع الى‪ُ ﴿ :‬م َح َّم ٌد َر ُس و ُل هَّللا ِ‬
‫َوالَّ ِذينَ َم َع هُ﴾ [الفتح‪]29 :‬؛ فق د أخ بر هللا تع الى عن مص اديق تل ك المعي ة من‬
‫الصفات‪ ،‬وكل من اتصف بها كان من أهلها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬
‫لقد قال هللا تعالى يذكر ذلك‪ُ ﴿ :‬م َح َّم ٌد َرسُو ُل ِ َوال ِذينَ َم َعهُ أ ِش دا ُء َعلى الكف ِ‬
‫ار‬
‫ض َوانًا ِس ي َماهُ ْم فِي‬ ‫ض اًل ِمنَ هَّللا ِ َو ِر ْ‬ ‫ُح َم ا ُء بَ ْينَهُ ْم تَ َراهُ ْم ُر َّك ًع ا ُس َّجدًا يَ ْبتَ ُغ ونَ فَ ْ‬
‫ر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ُوجُو ِه ِه ْم ِمن أث ِر ال ُّسجُو ِد﴾ [الفتح‪]29 :‬‬
‫وأخبر رسول هللا ‪ ‬عن أقرب الناس إليه؛ فلم يذكر زمانا‪ ،‬وال مكانا‪ ،‬وإنما‬
‫ذكر من الص فات م ا يمكن ألي ش خص أن يق وم ب ه‪ ،‬فق ال‪( :‬إن أق ربكم م ني ي وم‬
‫القيامة في كل موطن أكثركم علي صالة في الدنيا‪ ،‬من صلى علي مائة مرة في يوم‬
‫الجمعة وليلة الجمعة قضى هللا له مائة حاجة سبعين من حوائج اآلخ رة وثالثين من‬
‫ح وائج ال دنيا‪ ،‬ثم يوك ل هللا ب ذلك ملك ا يدخل ه في ق بري كم ا ي دخل عليكم اله دايا‬
‫يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه إلى عشيرته فأثبته عندي في صحيفة بيض اء)‬
‫(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود (‪ ،)5 /5‬والترمذي (‪)2676 /16‬‬


‫‪ )(2‬حياة األنبياء في قبورهم للبيهقي (ص‪.)93 :‬‬
‫‪366‬‬
‫فهذا الحديث يرسم خطة واضحة للمعية ال عالقة لها بالزم ان‪ ،‬وال بالمك ان‪،‬‬
‫بل عالقتها فقط بمدى التواصل مع رسول هللا ‪ ،‬وال ذي تمث ل الص الة علي ه أح د‬
‫أهم مقوماته‪.‬‬
‫ولذلك فإن الصالة على رسول هللا ‪ ‬من أعظم المدارس التربوي ة‪ ،‬ل دورها‬
‫الكبير في التواصل الروحي مع س يد األنبي اء‪ ،‬وإم ام األئم ة رس ول هللا ‪ ،‬وي دل‬
‫له ذا م ا ورد من النص وص المقدس ة الكث يرة في فض لها كقول ه تع الى‪﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ‬
‫ُص لُّونَ َعلَى النَّبِ ِّي يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َ‬
‫ص لُّوا َعلَ ْي ِه َو َس لِّ ُموا ت َْس لِيماً﴾‬ ‫َو َمالئِ َكتَ هُ ي َ‬
‫(األحزاب‪)56:‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أن أول جزاء يناله من صلى علي ه‪ ،‬أن يص لي هللا علي ه‪ ،‬وص الة‬
‫هللا على عباده تعني تطهيرهم وتزكيتهم وترقيتهم‪ ،‬ففي الحديث قال رس ول هللا ‪:‬‬
‫(من ص لى علي ص الة واح دة ص لى هللا علي ه عش ر ص لوات‪ ،‬وح ط عن ه عش ر‬
‫خطيئات)(‪ ،)1‬وحط الخطايا ال يع ني محوه ا من س جل الس يئات فق ط‪ ،‬وإنم ا يع ني‬
‫محوها من صفحة النفس‪ ،‬وبذلك يُزال الران على القلب‪ ،‬لتنكشف ل ه الحق ائق ال تي‬
‫كانت محجوبة عنه‪.‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬إنه أت اني المل ك فق ال‪ :‬ي ا محم د أم ا يرض يك أن‬
‫ربك عز وجل يقول إنه ال يصلي عليك أحد من أمت ك إال ص ليت علي ه عش رًا‪ ،‬وال‬
‫يسلم عليك أحد من أمتك إال سلمت عليه عشرًا؟ قلت‪ :‬بلى)(‪)2‬‬
‫بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك كله‪ ،‬فق د ق ال ‪ ‬يحكي عن هللا‬
‫تعالى‪( :‬من صلى عليك صليت عليه‪ ،‬ومن سلم عليك سلمت عليه)(‪)3‬‬
‫هل رأيت ـ أيها المريد الصادق ـ عظمة الص الة على رس ول هللا ‪ ..‬وه ل‬
‫رأيت تكريما للملتزم بها أعظم من ه ذا التك ريم‪ ..‬هللا خ الق ك ل ش يء‪ ،‬ومال ك ك ل‬
‫شيء‪ ،‬وملك كل شيء يربط صالته وسالمه علينا بصالتنا وسالمنا على نبيه ‪.‬‬
‫وهكذا أخبر ‪ ‬أن المالئكة ال ت زال تص لي على ال ذي يص لي علي ه‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(من صلى علي صالة لم تزل المالئكة تصلي علي ه م ا ص لى علي‪ ،‬فليق ل عب د من‬
‫ذلك أو ليكثر)(‪)4‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أن الذين يصلون عليه هم أولى الناس به‪ ،‬وبش فاعته ي وم القيام ة‪،‬‬
‫فقال‪( :‬إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صالة)(‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬إذا سمعتم المؤذن‪ ،‬فقولوا مثل م ا يق ول ثم ص لوا‬
‫علي‪ ،‬فإنه من صلى علي صالة صلى هللا عليه بها عشرا‪ ،‬ثم سلوا لي الوسيلة فإنها‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد وابن حبان‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد والحاكم‪..‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه الترمذي وابن حبان‪.‬‬
‫‪367‬‬
‫منزلة من الجنة ال تنبغي إال لعبد من عباد هللا وأرجو أن أكون أنا هو‪ ،‬فمن سأل هللا‬
‫لي الوسيلة حلت له الشفاعة)(‪)1‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن األجور الكثيرة بأنواعها المختلفة التي أعدها هللا لمن يص لون‬
‫مخلص ا من قلب ه ص لى هللا علي ه به ا‬
‫ً‬ ‫عليه‪ ،‬فقال‪( :‬من صلى علي من أم تي ص الة‬
‫عشر صلوات‪ ،‬ورفعه بها عشر درجات‪ ،‬وكتب له بها عش ر حس نات‪ ،‬ومح ا عن ه‬
‫بها عشر سيئات)(‪)2‬‬
‫وبما أن هللا رب الدنيا واآلخرة‪ ،‬فإنه جعل لمن ص لى على حبيب ه ‪ ‬أج ورا‬
‫دنيوية باإلضافة إلى األجور األخروية؛ فقد أخبر ‪ ‬أن ال ذي يجع ل ص الته كله ا‬
‫للنبي ‪ ‬يكفيه هللا هم ه ويغف ر ل ه ذنب ه‪ ،‬فق د س أل أبي بن كعب رس ول هللا ‪:‬كم‬
‫أجعل لك من صالتي؟ قال‪( :‬ما شئت)‪ ،‬قلت‪ :‬الربع؟ قال‪( :‬ما شئت‪ ،‬فإن زدت فه و‬
‫خير لك)‪ ،‬فقلت‪ :‬النصف؟ قال‪( :‬ما شئت وإن زدت فهو خير لك)‪ ،‬قلت‪ :‬أجع ل ل ك‬
‫صالتي كلها؟ قال‪( :‬إذا ي ُكفي همك ويغفر ذنبك)(‪)3‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر ق ال رج ل‪ :‬ي ا رس ول هللا أرأيت إن جعلت ص التي كله ا‬
‫عليك؟ قال‪( :‬إذا يكفيك هللا تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك)(‪)4‬‬
‫ولهذا ك ان من آداب ال دعاء تق ديم الص الة على الن بي ‪ ،‬فعن اإلم ام علي‬
‫قال‪( :‬كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد ‪)5()‬‬
‫وروي أن ه ‪ ‬س مع رجال ي دعو في ص الته لم يمج د هللا تع الى ولم يص ل‬
‫عليه‪ ،‬فقال‪( :‬عجل هذا)‪ ،‬ثم دعاه فقال له أو لغيره‪( :‬إذا صلى أحدكم‪ ،‬فليبدأ بتمجي د‬
‫ربه سبحانه والثناء عليه‪ ،‬ثم يصلي علي‪ ،‬ثم يدعو بعد بما شاء)(‪)6‬‬
‫وعن عب د هللا بن مس عود ق ال‪ :‬كنت أص لي والن بي ‪ ،‬فلم ا جلس ت ب دأت‬
‫بالثناء على هللا ثم الصالة على الن بي ‪ ‬ثم دع وت لنفس ي‪ ،‬فق ال الن بي ‪( :‬س ل‬
‫تعطه‪ ،‬سل تعطه)(‪)7‬‬
‫هذا هو الطري ق األول للتواص ل والمعي ة م ع رس ول هللا ‪ ..‬أم ا الطري ق‬
‫الثاني؛ فهو التأسي به‪ ،‬والتخلق بأخالقه‪ ،‬فقد قال ‪ ‬مبينا دور ذلك في القرب منه‪:‬‬
‫(إن من أحبكم إلي وأق ربكم م ني مجلس ا ي وم القيام ة أحاس نكم أخالق ا‪ ،‬وإن من‬
‫أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)(‪)8‬‬
‫فهذا الحديث يحدد حس ن الخل ق مقياس ا لمكان ة الم ؤمن من رس ول هللا ‪،‬‬
‫وهو مما ال عالقة له ال بالمكان‪ ،‬وال بالزمان‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم وأبو داود والترمذي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه النسائي والطبراني والبزار‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد والترمذي والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أبو داود والترمذي أحمد والنسائي والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(8‬سنن الترمذي‪.‬‬
‫‪368‬‬
‫ومثله قوله ‪( :‬خياركم أحاسنكم أخالق ا)(‪ )1‬فق د رب ط ‪ ‬الخيري ة في ه ذه‬
‫األمة‪ ،‬وفي غيرها من األمم باألخالق الحسنة‪.‬‬
‫أما الطريق الثالث‪ ..‬وهو نتيجة للطريقين السابقين‪ ،‬فهو محبة رس ول هللا ‪‬‬
‫التي تمأل الوجدان بكل العواط ف النبيل ة‪ ،‬ومم ا ي روى في ذل ك أن رجال ج اء إلى‬
‫النبي ‪ ‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ :‬إنك ألحبُّ إلي من نفسي‪ ،‬وإنك ألحب إلي من ول دي‪،‬‬
‫ذكرت م وتي‬ ‫ُ‬ ‫وإني ألكون في البيت فأذكرك‪ ،‬فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك‪ ،‬وإذا‬
‫دخلت الجن ة‬ ‫ُ‬ ‫رفت أن ك إذا دخلتَ الجن ة ُرفعتَ م ع النبي ئين‪ ،‬وإني إذا‬ ‫ُ‬ ‫وموت ك وع‬
‫هَّللا‬
‫خشيت أن ال أراك‪ ،‬فلم ير َّد النبي ‪ ‬حتى نزل جبري ل به ذه اآلي ة‪َ ﴿ :‬و َم ْن ي ُِط ِع َ‬
‫الش هَدَا ِء‬ ‫ك َم َع الَّ ِذينَ أَ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ النَّبِيِّينَ َو ِّ‬
‫الص دِّيقِينَ َو ُّ‬ ‫ول فَأُولَئِ َ‬
‫َّس َ‬ ‫َوالر ُ‬
‫رفِيقًا﴾ [النساء‪)2(]69 :‬‬ ‫ُ‬
‫َوالصَّالِ ِحينَ َو َحسُنَ أولَئِكَ َ‬
‫وفي حديث آخر أن رجال قال لرسول هللا ‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬م تى الس اعة؟‬
‫قال رسول هللا ‪( :‬ما أعددت لها ؟) قال‪( :‬وال صدقة‪ ،‬ولكني أحب هللا ورس وله)‪،‬‬
‫قال‪(:‬فأنت مع من أحببت)(‪)3‬‬
‫فهذا الحديث الشريف يربط المعي ة برس ول هللا ‪ ‬بمحبت ه‪ ..‬فك ل من أحب ه‪،‬‬
‫فهو معه‪ ،‬كان في زمانه ‪ ،‬أو لم يكن في زمانه‪.‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬أخبر عن إمكانية التواصل معه في كل زمان ع بر ه ذه‬
‫الوسيلة العظيمة‪ ،‬وسيلة المحبة والشوق والعواطف النبيلة‪ ،‬فق ال‪( :‬وددت أني لقيت‬
‫إخ واني)‪ ،‬فق ال ل ه أص حابه‪ :‬أوليس نحن إخوان ك؟ ق ال‪( :‬أنتم أص حابي‪ ،‬ولكن‬
‫إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)(‪)4‬‬
‫وفي رواية‪( :‬ومتى ألقى إخواني؟)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ألسنا إخوانك؟ ق ال‪:‬‬
‫(بل أنتم أصحابي‪ ،‬وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)(‪)5‬‬
‫بل ورد في أحاديث أخرى كثيرة ما يدل على المكانة الرفيعة التي يحظى بها‬
‫من لم يتشرف برؤيته ‪ ‬في الدنيا‪ ،‬وأنها ال تقل عن مكان ة ص حابته‪ ،‬فق د ورد في‬
‫الحديث الشريف عن النبي ‪ ‬قال‪( :‬من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي‪ ،‬ي و ُّد‬
‫أحدهم لو رآني بأهله وماله)(‪)6‬‬
‫وفي حديث آخ ر أن الن بي ‪ ‬ق ال‪( :‬إن أش َّد أم تي لي حب ا ق وم يكون ون أو‬
‫يجيئون‪ ،‬وفي رواي ة ‪ -‬يخرج ون بع دي‪ -‬ي ود ّأح دهم أن ه أعطى أهل ه ومال ه وأن ه‬
‫رآني)(‪)7‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الطبراني في األوسط والصغير‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(4‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪.)66 /10‬‬
‫‪ )(5‬وهي ألحمد‪ ،‬وأبي يعلى‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪369‬‬
‫وماله)(‪)8‬‬ ‫وقال‪( :‬ليأتين على أحدكم زمان ألن يراني أحبُّ إليه من مثل أهله‬
‫وهكذا األمر مع أئمة الهدى من بعده‪ ،‬والذين أمر رس ول هللا ‪ ‬ب الجمع بين‬
‫الصالة عليه وعليهم‪ ،‬فق ال‪( :‬من ق ال‪ :‬اللهم ص ل على محم د وعلى آل محم د كم ا‬
‫صليت على إبراهيم وآل إبراهيم‪ ،‬وبارك على محم د وعلى آل محم د كم ا ب اركت‬
‫على إبراهيم وآل إب راهيم‪ ،‬وت رحم على محم د وعلى آل محم د كم ا ت رحمت على‬
‫إبراهيم وآل إبراهيم‪ ،‬شهدت له يوم القيامة بالشهادة وشفعت له)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر أن رسول هللا ‪ ‬سئل‪ :‬يا رسول هللا هذا السّالم عليك فكيف‬
‫نص لّي؟ ق ال‪« :‬قول وا‪ :‬الله ّم ص ّل على مح ّم د عب دك ورس ولك كم ا ص لّيت على‬
‫إبراهيم‪ ،‬وبارك على مح ّمد وآل مح ّمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم)(‪)3‬‬
‫وهك ذا األم ر م ع جمي ع األنبي اء والمرس لين‪ ،‬وال ذين ذك رهم هللا تع الى في‬
‫القرآن الكريم لنتأسى بهم‪ ،‬ونمتلئ محبة وشوقا لهم‪ ،‬فاحرص ـ أيها المريد الص ادق‬
‫ـ على أن تقيم عالقة المودة بينك وبينهم‪ ،‬واحذر من تلك الخرافات واألساطير ال تي‬
‫بثها الحاقدون عليهم؛ فهم أطهر خلق هللا‪ ،‬ولوال ذلك ما أمرنا باالهتداء بهديهم‪.‬‬
‫ومثلهم أتب اعهم من الص الحين الص ادقين‪ ،‬ال ذي وص فهم اإلم ام الس جاد في‬
‫صالته عليهم‪ ،‬فقال‪( :‬اللهم وأتباع الرسل ومصدقوهم من أهل االرض بالغيب عن د‬
‫معارضة المعاندين لهم بالتكذيب واالشتياق إلى المرسلين بحق ائق االيم ان‪ .‬في ك ل‬
‫دهر وزمان أرسلت فيه رسوال‪ ،‬وأقمت الهله دليال‪ ،‬من ل دن آدم إلى محم د ‪ ‬من‬
‫أئمة الهدى‪ ،‬وقادة أهل التقى على جميعهم السالم‪ ،‬فاذكرهم منك بمغفرة ورض وان‪.‬‬
‫اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة‪ ،‬والذين أبلوا البالء الحس ن في‬
‫نص ره‪ ،‬وك انفوه وأس رعوا إلى وفادت ه وس ابقوا إلى دعوت ه واس تجابوا ل ه حيث‬
‫أسمعهم حجة رساالته‪ ،‬وفارقوا األزواج واالوالد في إظهار كلمت ه‪ ،‬وق اتلوا اآلب اء‬
‫واألبناء في تثبيت نبوت ه‪ ،‬وانتص روا ب ه ومن ك انوا منط وين على محبت ه يرج ون‬
‫تجارة لن تبور في مودته‪ ،‬والذين هجرتهم العشائر إذ تعلق وا بعروت ه‪ ،‬وانتفت منهم‬
‫القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته‪ ،‬فال تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفي ك‪ ،‬وأرض هم‬
‫من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك‪ ،‬وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك‪ ،‬واشكرهم‬
‫على هجرهم فيك ديار قومهم‪ ،‬وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه‪ ،‬ومن ك ثرت‬
‫في إع زاز دين ك من مظل ومهم‪ .‬اللهم وأوص ل إلى الت ابعين لهم بإحس ان ال ذين‬
‫يقولون‪ :‬ربنا اغفر لنا والخواننا الذين سبقونا بااليمان خ ير جزائ ك‪ ،‬ال ذين قص دوا‬
‫سمتهم‪ ،‬وتحروا وجهتهم‪ ،‬ومض وا على ش اكلتهم‪ ،‬لم يثنهم ريب في بص يرتهم‪ ،‬ولم‬
‫يختلجهم ش ك في قف و آث ارهم واالئتم ام بهداي ة من ارهم‪ ،‬مك انفين وم وازرين لهم‪،‬‬
‫يدينون بدينهم‪ ،‬ويهتدون بهديهم)(‪)4‬‬

‫‪ )(8‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪)6358‬‬
‫‪ )(4‬الصحيفة السجادية‪ ،‬ص‪.45‬‬
‫‪370‬‬
‫فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على هذه الصالة وأمثالها؛ ففيها من المعاني‬
‫ما يمأل قلبك بمحبتهم‪ ،‬ويهيئ نفسك لصحبتهم‪.‬‬
‫وهكذا‪ ..‬احرص ـ أيها المريد الصادق ـ على ص حبة مالئك ة هللا؛ فلم يثن هللا‬
‫تعالى عليهم في القرآن الكريم إال لتصحبهم‪ ،‬وتمتلئ محبة وشوقا إليهم‪.‬‬
‫ومن دعاء اإلمام الس جاد في الص الة عليهم‪( :‬اللهم وحمل ة عرش ك ال ذين ال‬
‫يفترون من تس بيحك‪ ،‬وال يس أمون من تقديس ك‪ ،‬وال يستحس رون من عبادت ك‪ ،‬وال‬
‫ي ؤثرون التقص ير على الج د في أم رك‪ ،‬وال يغفل ون عن الول ه إلي ك‪ .‬وإس رافيل‬
‫صاحب الصور‪ ،‬الش اخص ال ذي ينتظ ر من ك االذن وحل ول االم ر‪ ،‬فينب ه بالنفخ ة‬
‫صرعى ره ائن القب ور‪ .‬وميكائي ل ذو الج اه عن دك‪ ،‬والمك ان الرفي ع من طاعت ك‪.‬‬
‫وجبري ل االمين على وحي ك‪ ،‬المط اع في أه ل س ماواتك‪ ،‬المكين ل ديك‪ ،‬المق رب‬
‫عندك‪ ،‬والروح الذي هو على مالئك ة الحجب‪ ،‬وال روح ال ذي ه و من أم رك‪ .‬اللهم‬
‫فصل عليهم وعلى المالئكة الذين من دونهم من سكان سماواتك وأه ل االمان ة على‬
‫رساالتك‪ ،‬والذين ال تدخلهم س أمة من دؤوب‪ ،‬وال إعي اء من لغ وب وال فت ور‪ ،‬وال‬
‫تش غلهم عن تس بيحك الش هوات‪ ،‬وال يقطعهم عن تعظيم ك س هو الغفالت‪ ،‬الخش ع‬
‫االبصار فال يرومون النظر إلي ك‪ ،‬الن واكس االذق ان ال ذين ق د ط الت رغبتهم فيم ا‬
‫لديك المستهترون بذكر آالئك والمتواضعون دون عظمتك وجالل كبريآئ ك وال ذين‬
‫يقولون إذا نظ روا إلى جهنم تزف ر على أه ل معص يتك‪ :‬س بحانك م ا عب دناك ح ق‬
‫عبادتك‪ .‬فصل عليهم وعلى الروحانيين من مالئكتك‪ ،‬وأهل الزلف ة عن دك‪ ،‬وحم ال‬
‫الغيب إلى رس لك‪ ،‬والمؤتم نين على وحي ك وقبائ ل المالئك ة ال ذين اختصص تهم‬
‫لنفسك) (‪)1‬‬
‫فاحرص على أمثال هذه الص لوات ال تي تنبه ك إليهم‪ ،‬وإلى نعم ة هللا تع الى‬
‫علي ك بص حبتهم‪ ،‬ح تى تك ون من أه ل قول ه تع الى‪﴿ :‬إ َّن ال ذين ق الوا ربُّن ا هللاُ ثُ َّم‬
‫أن ال تخ افوا وال تح َزنُ وا وأب ِْش روا بال َجنَّ ِة ال تي كنتم‬ ‫استقاموا تَتَنَ َّز ُل علي ِه ْم المالئِ َكةُ ْ‬
‫تو َع ُدونَ ‪ .‬نحنُ أولياؤ ُكم في الحياة الدنيا وفي اآل ِخرة﴾ [فصلت‪ 30 :‬ـ ‪]31‬‬
‫المسارعة والمنافسة‪:‬‬
‫أما الصحبة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ وهي صحبة المس ارعة والمنافس ة‬
‫والتسابق في الخيرات؛ فهي مرتبطة ب المؤمنين‪ ،‬وفي ك ل األزمن ة واألمكن ة؛ كم ا‬
‫س ْال ُمتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين‪]26 :‬‬
‫ك فَ ْليَتَنَافَ ِ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وفِي َذلِ َ‬
‫واآلية‪ ،‬كما ترى عامة تش مل ك ل األزمن ة واألمكن ة والمج االت‪ ..‬فل ذلك إن‬
‫كان المسابق عابدا فهم منها السباق الجاري بين العابدين‪ ..‬وإن كان عالما فهم منه ا‬
‫السباق القائم بين العلماء‪ ..‬وهكذا تشمل اآلية كل أن واع الس باق ح تى الس باق الق ائم‬
‫بين الدول‪.‬‬
‫ولذلك قال اإلمام الصادق‪( :‬إذا رأيت مجته دا أبل غ من ك في االجته اد‪ ،‬ف وبخ‬

‫‪ )(1‬الصحيفة السجادية‪ ،‬ص‪.41‬‬


‫‪371‬‬
‫نفسك ولمها وعيرها وحثها على االزدياد عليه‪ ،‬واجعل لها زماما من االمر‪ ،‬وعنانا‬
‫من النهي وسقها كالرائض للفاره الذي الي ذهب عليه ا خط وة منه ا إال وق د ص حح‬
‫أولها وآخرها وكان رسول هللا ‪ ‬يصلي حتى تتروم قدماه‪ ،‬ويقول‪ :‬أفال أكون عبدا‬
‫شكورا أراد أن يعتبر به امته‪ ،‬فال تغفلوا عن االجتهاد‪ ،‬والتعبد والرياضة بحال‪ ،‬أال‬
‫وإنك لو وج دت حالوة عب ادة هللا‪ ،‬ورأيت بركاته ا‪ ،‬واستض أت بنوره ا‪ ،‬لم تص بر‬
‫عنها ساعة واحدة‪ ،‬ولو قطعت إربا إربا‪ .‬فما أعرض من أعرض عنها إال بحرم ان‬
‫فوائد السبق من العصمة والتوفيق) (‪)1‬‬
‫ول ذلك ورد الثن اء في الق رآن الك ريم على أص ناف الص الحين ح تى يج ري‬
‫التنافس بين المؤمنين في الفوز بأعلى المراتب‪..‬‬
‫ومثل ذلك ورد في أحاديث رسول هللا ‪ ‬ما ي دل على ذل ك‪ ،‬ومن ه قول ه ‪‬‬
‫ألصحابه حثا لهم على الصبر والثبات‪( :‬قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر‬
‫له في األرض‪ ،‬فيجاء بالمنشار على رأسه فيجعل بنصفين فما يصده ذلك عن دينه‪،‬‬
‫ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب فما يص ده ذل ك‪ ،‬وهللا ليتمن‬
‫هللا عز وجل هذا األمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ال يخ اف إال‬
‫هللا تعالى‪ ،‬والذئب على غنمه‪ ،‬ولكنكم تستعجلون) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر ذكر رسول هللا ‪ ‬ماشطة بنت فرع ون‪ ،‬فق ال‪( :‬لم ا ك انت‬
‫الليلة ال تي أس رى بي فيه ا وج دت رائح ة طيب ة فقلت‪ :‬م ا ه ذه الرائح ة الطيب ة ي ا‬
‫جبريل؟ قال‪ :‬هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأوالدها‪ ،‬قلت‪ :‬ما شأنها؟ ق ال‪ :‬بينم ا‬
‫هي تمش ط بنت فرع ون إذ س قط المش ط من ي دها‪ ،‬فق الت‪ :‬بس م هللا‪ ،‬فق الت بنت‬
‫فرعون‪ :‬أبي؟ فقالت‪ :‬ال ولكن ربي وربك ورب أبيك هللا‪ ،‬ق الت‪ :‬وإن ل ك رب ا غ ير‬
‫أبي؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قالت‪ :‬فأعلمه بذلك؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فأعلمته‪ ،‬فدعا بها فق ال‪ :‬ي ا فالن ة!‬
‫ألك رب غيري؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬ربي وربك هللا‪ ،‬فأمر ببقرة من نحاس‪ ،‬فأحميت ثم أخذ‬
‫أوالدها يلقون فيها واحدا بعد واحد‪ ،‬فقالت‪ :‬إن لي إليك حاجة! قال‪ :‬وما هي؟ قالت‪:‬‬
‫أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد فتدفننا جميعا! قال‪ :‬ذلك لك لما‬
‫لك علينا من الحق‪ ،‬فلم يزل أوالدها يلقون في البقرة حتى انتهى إلى ابن لها رضيع‬
‫فكأنما تقاعست من أجله فقال لها‪ :‬يا أمه! اقتحمي‪ ،‬فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب‬
‫اآلخرة‪ ،‬ثم ألقيت مع ولدها) (‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر دعا رسول هللا ‪ ‬إلى التأسي بأصحاب المسيح عليه السالم‬
‫في مواجهة الطغيان والتحري ف‪ ،‬فق ال‪( :‬خ ذوا العط اء م ا دام عط اءا‪ ،‬ف إذا ص ار‬
‫رشوة على الدين فال تأخ ذوه ولس تم بتاركي ه‪ ،‬يمنعكم من ذل ك المخاف ة والفق ر‪ ،‬أال‬
‫وان رحى االيمان دائرة‪ ،‬وان رحى اال سالم دائرة‪ ،‬فدوروا مع الكتاب حيث يدور‪،‬‬
‫أال وان السلطان والكت اب س يفترقان أال فال تف ارقوا الكت اب‪ ،‬أال ان ه س يكون عليكم‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)69 /70‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي‪.‬‬
‫‪372‬‬
‫أم راء إن أطعتم وهم أض لوكم‪ ،‬وان عص يتموهم قتل وكم)‪ ،‬ق الوا‪ :‬فكي ف نص نع ي ا‬
‫رسول هللا؟ قال‪( :‬كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم حملوا على الخش ب ونش روا‬
‫بالمناشير‪ ،‬موت في طاعة هللا‪ ،‬خير من حياة في معصية هللا) (‪)1‬‬
‫وهكذا نجد في أحاديث أئمة الهدى كث يرا من قص ص الص الحين وص فاتهم‪،‬‬
‫حتى تمتلئ القلوب بالشوق إليهم‪ ،‬وإلى أعمالهم الص الحة‪ ،‬ومن األمثل ة عنه ا ق ول‬
‫اإلمام علي في وصف المنتجبين من أصحاب رس ول هللا ‪( :‬لق د رأيت أص حاب‬
‫مح ّمد ‪ ،‬فما أرى أحدا يشبههم منكم! لقد كانوا يص بحون ش عثا غ برا‪ ،‬وق د ب اتوا‬
‫سجّدا وقياما‪ ،‬يراوحون بين جباههم وخ دودهم‪ ،‬ويقف ون على مث ل الجم ر من ذك ر‬
‫أن بين أعينهم ركب المع زى من ط ول س جودهم! إذا ذك ر هّللا هملت‬ ‫مع ادهم! ك ّ‬
‫الش جر ي وم ال رّيح العاص ف‪ ،‬خوف ا من‬ ‫أعينهم حتّى تب ّل جيوبهم‪ ،‬ومادوا كما يمي د ّ‬
‫العقاب‪ ،‬ورجاء للثّواب) (‪)2‬‬
‫وقال يصف بعض إخوانه‪( :‬كان لي فيما مضى أخ في هّللا ‪ ،‬وكان يعظم ه في‬
‫عيني‪ :‬صغر ال ّدنيا في عينه‪ ،‬وكان خارجا من سلطان بطنه‪ ،‬فال يشتهي ما ال يج د‪،‬‬
‫وال يك ثر إذا وج د‪ ،‬وك ان أك ثر ده ره ص امتا‪ ،‬ف إن ق ال ب ّذ الق ائلين‪ ،‬ونق ع غلي ل‬
‫السّائلين‪ ،‬وكان ضعيفا مستضعفا‪ ،‬فإن جاء الج ّد فهو ليث غاب‪ ،‬وص ّل واد‪ ،‬ال يدلي‬
‫بحجّة حتّى يأتي قاضيا‪ ،‬وكان ال يلوم أحدا على ما يجد الع ذر في مثل ه حتّى يس مع‬
‫اعتذاره‪ ،‬وكان ال يشكو وجعا إاّل عند برئه‪ ،‬وكان يق ول م ا يفع ل‪ ،‬وال يق ول م ا ال‬
‫الس كوت‪ ،‬وك ان على م ا يس مع‬ ‫يفع ل‪ ،‬وك ان إذا غلب على الكالم لم يغلب على ّ‬
‫أحرص من ه على أن يتكلّم‪ ،‬وك ان إذا بده ه أم ران ينظ ر أيّهم ا أق رب إلى اله وى‬
‫فيخالفه) (‪)3‬‬
‫ثم ق ال ألص حابه‪( :‬فعليكم به ذه الخالئ ق فالزموه ا‪ ،‬وتنافس وا فيه ا‪ ،‬ف إن لم‬
‫تستطيعوها فاعلموا ّ‬
‫أن أخذ القليل خير من ترك الكثير)‬
‫وقال عند استشهاد عمار بن ياسر‪( :‬إن امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قت ل‬
‫عمار‪ ،‬ولم يدخل علي ه بقتل ه مص يبة موجوع ة‪ ،‬لغ ير رش يد‪ .‬رحم هّللا عم ارا ي وم‬
‫أسلم‪ ،‬ورحم هّللا عمارا يوم قتل‪ ،‬ورحم هّللا عمارا ي وم يبعث حي ا‪ .‬لق د رأيت عم ارا‬
‫م ا ي ذكر من أص حاب رس ول هّللا ‪ ‬أربع ة إال ك ان الراب ع‪ ،‬وال خمس ة إاّل ك ان‬
‫ك في أن عمارا قد وجبت له الجنة‬ ‫الخامس‪ .‬وما كان أحد من أصحاب محمد ‪ ‬يش ّ‬
‫في غير موطن وال اثنين‪ ،‬فهنيئا لعمار الجنة‪ ،‬عم ار م ع الح ق أين م ا دار‪ ،‬وقات ل‬
‫عمار في النار) (‪)4‬‬
‫وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تعقد الصحبة مع هؤالء عبر مطالعة‬
‫سيرهم‪ ،‬وال دعاء لهم‪ ،‬والش عور بحض ورهم؛ فالص احب الحقيقي ه و من ص احب‬
‫‪ )(1‬المعجم الصغير للطبراني ‪ 42 /2‬ح (‪ ،)749‬مسند الشاميين للطبراني ‪ 379 /1‬ح (‪)658‬‬
‫‪ )(2‬نهج البالغة‪ :‬الخطبة رقم (‪)97‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة‪ :‬الحكمة (‪)289‬‬
‫‪ )(4‬أنساب األشراف‪ :‬ج ‪ 1‬ص ‪ 174‬ح ‪ ،419‬والطبقات الكبرى‪ :‬ج ‪ 3‬ص ‪.262‬‬
‫‪373‬‬
‫روحك‪ ،‬ال من صاحب جسدك‪.‬‬
‫وهذا ال يعني أال تتخذ من المؤمنين المعاصرين لك من تصاحبهم؛ فمع اذ هللا‬
‫أن يقول أحد ذلك‪ ..‬ولكن اح رص على أن تنتقي منهم من يعين ك على دين ك‪ ،‬ال من‬
‫ت َم َع ال َّرسُو ِل َسبِياًل (‪ )27‬يَا َو ْيلَتَا لَ ْيتَنِي‬ ‫يجعلك يوم القيامة تقول نادما‪﴿ :‬يَالَ ْيتَنِي اتَّ ْ‬
‫خَذ ُ‬
‫ض لَّنِي ع َِن ال ِّذ ْك ِر بَ ْع َد إِ ْذ َج ا َءنِي َو َك انَ َّ‬
‫الش ْيطَانُ‬ ‫لَ ْم أَتَّ ِخ ْذ فُاَل نً ا خَ لِياًل (‪ )28‬لَقَ ْد أَ َ‬
‫ان خَ ُذواًل ﴾ [الفرقان‪]29 - 27 :‬‬ ‫لِإْل ِ ْن َس ِ‬
‫وق د ق ال رس ول هللا ‪ ‬في فض ل الص حبة الص الحة‪( :‬إنم ا مث ل الجليس‬
‫الصالح وجليس السوء كحامل المسك ون افخ الك ير‪ ،‬فحام ل المس ك إم ا أن يح ذيك‬
‫(يعطيك)‪ ،‬وإما أن تبتاع منه‪ ،‬وإم ا أن تج د من ه ريح ا طيب ة‪ ،‬ون افخ الك ير إم ا أن‬
‫يحرق ثيابك‪ ،‬وإما أن تجد منه ريحا منتنة)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)(‪)2‬‬
‫وق ال‪(:‬إن من عب اد هللا ألناس ا م ا هم بأنبي اء وال ش هداء يغبطهم األنبي اء‬
‫والشهداء يوم القيامة بمكانهم من هللا)‪ ،‬قالوا يا رسول هللا تخبرن ا من هم؟ ق ال‪( :‬هم‬
‫ق وم تح ابوا ب روح هللا على غ ير أرح ام بينهم وال أم وال يتعاطونه ا‪ ،‬فوهللا إن‬
‫وجوههم لنور‪ ،‬وإنهم على نور‪ ،‬ال يخافون إذا خاف الناس‪ ،‬وال يحزن ون إذا ح زن‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ َزنُ ونَ (‪﴾)62‬‬ ‫الناس)‪ ،‬وقرأ ه ذه اآلي ة‪﴿:‬أَاَل إِ َّن أَوْ لِيَ ا َء هَّللا ِ اَل خَ وْ ٌ‬
‫(يونس)(‪)3‬‬
‫وسئل ‪ :‬يا رسول هللا أي جلسائنا خير؟ قال‪( :‬من ذك ركم هللا رؤيت ه‪ ،‬وزاد‬
‫في علمكم منطقه‪ ،‬وذكركم في اآلخرة عمله)(‪)4‬‬
‫وعن أبي ذر ق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا الرج ل يحب الق وم وال يس تطيع أن يعم ل‬
‫كعملهم ؟ قال‪( :‬أنت يا أب ا ذر م ع من أحببت) ق ال‪ :‬ف إني أحب هللا ورس وله‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫(فإنك مع من أحببت)‪ ،‬فأعادها أبو ذر فأعادها رسول هللا ‪.)5( ‬‬
‫وقد روي في الحديث م ا ي دل على دور ه ذه الص حبة الص الحة في التزكي ة‬
‫والترقي ة‪ ،‬فق د روي أن الن بي ‪ ‬آخى بين س لمان وأبي ال درداء‪ ،‬ف زار س لمان أب ا‬
‫الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة(‪ ،)6‬فقال‪ :‬ما شأنك؟ قالت‪ :‬أخوك أبو الدرداء ليس له‬
‫حاجة في الدنيا‪ ،‬فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما‪ ،‬فقال له‪ :‬ك ل ف إني ص ائم‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل‪ ،‬فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له‪ :‬نم‪ ،‬فن ام‪،‬‬
‫ثم ذهب يقوم فقال له‪ :‬نم‪ .‬فلما كان من آخر الليل قال سلمان‪ :‬قم اآلن‪ ،‬فصليا جميع ا‬
‫فقال له سلمان‪( :‬إن لربك عليك حق ا‪ ،‬وإن لنفس ك علي ك حق ا‪ ،‬وألهل ك علي ك حق ا‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني بإسناد حسن‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو يعلى‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(6‬متبذلة‪ :‬أي البسة ثياب المهنة تاركة ثياب الزينة‪.‬‬
‫‪374‬‬
‫سلمان)(‪)7‬‬ ‫فأعط كل ذي حق حقه)‪ ،‬فأتى النبي ‪ ،‬فذكر ذلك له فقال ‪( :‬صدق‬
‫فهك ذا يفع ل اإلخ وان م ع بعض هم بعض ا‪ ..‬ف إذا رأى في أخي ه عيب ا س ارع‬
‫لنصحه‪ ،‬وإذا رأى فيه تقصيرا سارع لتداركه‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫هذا جوابي ـ أيها المريد الصادق ـ على أس ئلتك؛ ف احرص على أن تك ثر من‬
‫األصحاب الصادقين المخلصين من كل األزمنة واألمكن ة؛ فعس ى أن تت نزل علي ك‬
‫األنوار التي تتنزل عليهم‪ ،‬وعساهم يش فعون ل ك في ال وقت ال ذي تك ون أح وج م ا‬
‫تكون إلى الشفاعة‪.‬‬

‫‪ )(7‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪375‬‬
‫مجالس اإليمان‬
‫كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن المج الس ال تي يجتم ع فيه ا‬
‫المؤمن ون لل ذكر وق راءة الق رآن الك ريم وس ماع المواع ظ وغيره ا‪ ،‬ودوره ا في‬
‫التزكية والترقية‪ ..‬وكيفية الرد على من يحكم ون على بعض ها بالبدع ة بحج ة ع دم‬
‫إقامة من يسمونهم سلفا لها‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذك ر ل ك أن من مقاص د الش ريعة الك برى ع دم‬
‫االكتفاء بتزكية األفراد‪ ،‬وإنما تزكي ة المجتم ع جميع ا‪ ،‬ذل ك أن ه ال يس اهم فق ط في‬
‫توفير البيئة الصالحة للتربية‪ ،‬وإنما يساهم أيضا في تيسير السلوك‪ ،‬وتحقيق الترقي‬
‫في معارج الكمال‪ ..‬فالنفوس يعدي بعضها بعضا‪ ،‬ويؤثر بعضها في بعض‪.‬‬
‫ولذلك أثنى هللا تعالى على إسماعيل عليه الس الم بس بب أم ره أهل ه بالص الة‬
‫ق ْال َو ْع ِد َو َك انَ‬ ‫يل إِنَّهُ َك انَ َ‬
‫ص ا ِد َ‬ ‫اع َ‬ ‫ب إِ ْس َم ِ‬ ‫والزك اة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُك رْ فِي ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ض يًّا﴾ [م ريم‪:‬‬ ‫َر ُسواًل نَبِيًّا (‪َ )54‬و َكانَ يَأْ ُم ُر أَ ْهلَهُ بِال َّ‬
‫صاَل ِة َوال َّز َكا ِة َو َكانَ ِع ْن َد َربِّ ِه َمرْ ِ‬
‫‪]55 ،54‬‬
‫الص اَل ِة‬ ‫ْ‬
‫الى‪﴿:‬وأ ُم رْ أَ ْهلَ كَ بِ َّ‬
‫َ‬ ‫ومثل ذلك أمر رس ول هللا ‪ ‬ب أن يفع ل‪ ،‬ق ال تع‬
‫ك ِر ْزقًا نَحْ نُ نَرْ ُزقُكَ َو ْال َعاقِبَةُ لِلتَّ ْق َوى﴾ [طه‪]132 :‬‬ ‫َواصْ طَبِرْ َعلَ ْيهَا اَل نَسْأَلُ َ‬
‫ولذلك؛ فإن االجتماع على ال ذكر والت ذكير والمواع ظ وغيره ا من الوس ائل‬
‫الكبرى المعينة للتزكية‪ ،‬بشرط توافقه ا م ع ض وابط الش ريعة‪ ،‬ح تى ال تخ رج إلى‬
‫البدعة‪.‬‬
‫وق د ورد في الح ديث عن عب د هللا بن رواح ة أن ه ك ان إذا لقي الرج ل من‬
‫أصحابه‪ ،‬يقول‪( :‬تعال نؤمن بربنا ساعة)‪ ،‬فقال ذات ي وم لرج ل‪ ،‬فغض ب الرج ل‪،‬‬
‫فجاء إلى النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أال ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمان ك‬
‫إلى إيمان ساعة؟ فقال الن بي ‪( :‬ي رحم هللا ابن رواح ة‪ ،‬إن ه يحب المج الس ال تي‬
‫تتباهى بها المالئكة) (‪)1‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك؛ ف إن تل ك المج الس ت دخل ض من مص اديق قول ه تع الى‪:‬‬
‫اونُوا َعلَى اإْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َوا ِن﴾ [المائدة‪]2 :‬‬ ‫﴿ َوتَ َعا َونُوا َعلَى ْالبِ ِّر َوالتَّ ْق َوى َواَل تَ َع َ‬
‫ذلك أن الشيطان قد يغلب بعض النفوس ويستحوذ عليها‪ ،‬وحينه ا تحت اج إلى‬
‫جهة خارجية تنقذها‪ ،‬وتلك المجالس من تلك الجهات‪ ،‬وأشرفها‪ ،‬وقد قال رس ول هللا‬
‫‪( :‬من واّل ه هللا ع ّز وج ّل من أمر المسلمين شيئا ف أراد ب ه خ يرا جع ل ل ه وزي ر‬
‫صدق‪ ،‬فإن نسي ذ ّكره وإن ذكر أعانه)(‪)2‬‬

‫وفي حديث آخ ر ق ال ‪( :‬الم ؤمن م رآة الم ؤمن‪ ،‬والم ؤمن أخ و الم ؤمن‪،‬‬

‫‪ )(1‬مسند أحمد (‪)309 /21‬‬


‫‪ )(2‬النسائي(‪ )159 /7‬وأبو داود(‪ )2932‬وأحمد(‪)70 /6‬‬
‫‪376‬‬
‫ورائه)(‪)1‬‬ ‫يكف عليه ضيعته ويحوطه من‬ ‫ّ‬
‫وقال ‪( :‬ما اجتمع قو ٌم في بيت من بيوت هللا يتلون كت اب هللا ويتدارس ونه‬
‫بينهم‪ ،‬إال ن زلت عليهم الس كينة وغش يتهم الرحم ة‪ ،‬وحفتهم المالئك ة‪ ،‬وذك رهم هللا‬
‫فيمن عنده)(‪)2‬‬
‫فهذا الحديث ـ أيها المريد الصادق ـ يدل على أن مجالس اإليمان نوعان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬االجتماع على قراءة القرآن الكريم وذكر هللا‪.‬‬
‫وثانيهما‪ :‬االجتماع لتدارس القرآن الكريم وسماع المواعظ والتذكيرات‪.‬‬
‫وسأشرح لك كال النوعين‪ ،‬وما ورد فيهما من النصوص المقدسة‪.‬‬
‫مجالس الذكر‪:‬‬
‫أما المجالس األولى ـ أيها المريد الصادق ـ فق د أش ار إليه ا‪ ،‬وإلى ش رعيتها‬
‫الكثير من النصوص المقدسة‪ ،‬وال عبرة بفعل السلف‪ ،‬وال ب تركهم‪ ،‬إذا ثبت النص‪،‬‬
‫ذلك أن العبرة بأقوال رسول هللا ‪ ،‬ومن أمرنا باالستنان بسننهم‪ ،‬ال بغيرهم‪.‬‬
‫ومن تل ك النص وص الص ريحة في مش روعية تل ك المج الس قول ه ‪ ‬في‬
‫الحديث القدسي‪( :‬يقول هللا تعالى‪ :‬أنا عند ظن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه إذا ذك رني‪ ،‬ف إن‬
‫ذكرني في نفسه ذكرت ه في نفس ي‪ ،‬وإن ذك رني في مأل ذكرت ه في مأل خ ير منهم‪،‬‬
‫وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراع ا‪ ،‬وإن تق رب إلي ذراع ا تق ربت إلي ه باع ا‪،‬‬
‫وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) (‪)3‬‬
‫فمص اديق ه ذا الح ديث تنطب ق على ك ل المع اني ال تي ت دل على ال ذكر في‬
‫المأل‪ ،‬وهي إما أن يذكر وهم يسمعون‪ ،‬أو يذكرون جميعا‪ ،‬مثلما يُفعل في التلبية في‬
‫الحج‪ ..‬فكل ذلك صحيح ووجيه وشرعي‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪( :‬إن هلل تع الى مالئك ة س يارة‪ ،‬يتبع ون مج الس‬
‫الذكر‪ ،‬فإذا وجدوا مجلسا ً فيه ذكر‪ ،‬قع دوا معهم‪ ،‬وح ف بعض هم بعض ا ً ب أجنحتهم‪،‬‬
‫حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا‪ ،‬فإذا تفرقوا عرجوا؛ فيسألهم هللا ع ز وج ل‬
‫وه و أعلم بهم‪ :‬من أين جئتم ؟ فيقول ون‪ :‬جئن ا من عن د عب ادك في األرض‪،‬‬
‫يسبحونك‪ ،‬ويكبرونك‪ ،‬ويهللونك‪ ،‬ويحمدونك‪ ،‬ويسألونك)‪ ،‬وفي نهاية الحديث يقول‬
‫هللا تعالى‪( :‬قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا‪ ،‬وأجرتهم مما استجاروا) (‪)4‬‬
‫فهذا الح ديث ي دل على فض ل االجتم اع لل ذكر‪ ،‬والجه ر ب ه من أه ل ال ذكر‬
‫جميعاً‪ ،‬ألنه قال‪ :‬يسبحونك‪ ،‬ويكبرونك‪ ،‬ويهللونك‪ ،‬ويحمدونك‪ ،‬ويسألونك) بص يغة‬
‫الجمع‪ ،‬والتي تدل على ترديد جميعهم لألذكار في نفس الوقت‪ ..‬وحتى لو أريد غير‬
‫ذلك؛ فإن الحديث يحتمل جميع المعاني‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪( :‬ألن أقعد مع قوم يذكرون هللا تعالى من ص الة‬
‫‪ )(1‬أبو داود(‪)4918‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود (‪ ،)1455‬وأصله في مسلم (‪.)2699‬‬
‫‪ )(3‬البخاري‪7405 ،‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ ،)6408‬ومسلم (‪)2689‬‬
‫‪377‬‬
‫الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل‪ ،‬وألن أقع د‬
‫مع قوم يذكرون هللا من صالة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعت ق‬
‫أربعة) (‪)1‬‬
‫والحديث واضح في مشروعية الذكر الجم اعي بص يغه المختلف ة‪ ،‬وفي ذك ر‬
‫رسول هللا ‪ ‬له‪ ،‬والترغيب في ه دلي ل على أن آث ار التزكي ة والترقي ة تك ون أك ثر‬
‫فاعلية عند األداء الجماعي‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث ما روي عن بعض أصحاب رسول هللا ‪ ،‬قال‪ :‬كنا عند‬
‫النبي ‪ ‬فقــال‪( :‬هل فيكم غريب ؟) يعني أهل الكتاب‪ ،‬فقلنا‪ :‬ال يا رسول هللا‪ ،‬فأمر‬
‫بغلق الباب‪ ،‬وق ال‪( :‬ارفع وا أي ديكم وقول وا ال إل ه إال هللا) فرفعن ا أي دينا س اعة‪ ،‬ثم‬
‫وض ع رس ول هللا ‪ r‬ي ده‪ ،‬ثم ق ال‪( :‬الحم د هلل‪ ،‬بعثت ني به ذه الكلم ة‪ ،‬وأمرت ني به ا‪،‬‬
‫ووعدتني عليها الجنة‪ ،‬وإنك ال تخلف الميعاد‪ ،‬ثم قال‪ :‬أبشروا فإن هللا عز وج ل ق د‬
‫غفر لكم) (‪)2‬‬
‫ومن تلك األحاديث أنه ‪ ‬خرج على حلقة من أصحابه فقال‪( :‬ما أجلسكم ؟)‬
‫قالوا‪ :‬جلسنا نذكر هللا ونحمده على ما هدانا لإلس الم‪َّ ،‬‬
‫ومن ب ه علين ا‪ .‬فق ال‪( :‬هللا م ا‬
‫أجلسكم إال هذا ؟) قالوا‪ :‬هللا ما أجلســــنا إال ذلك‪ .‬فقال‪( :‬أما إني لم أس تحلفكم تهم ة‬
‫لكم‪ ،‬ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن هللا عز وجل يباهي بكم المالئكة) (‪)3‬‬
‫وهذا الحديث واض ح في فض ل تل ك المج الس‪ ،‬ومباه اة هللا تع الى المالئك ة‬
‫بأصحابهم‪ ،‬دليل على تأثيرها في تزكية أنفسهم‪ ،‬وكونهم يستحقون بذلك ال ترقي في‬
‫معارج الكمال المتاحة لهم؛ فما كان هللا تعالى ليباهي بمن لم يكونوا كذلك‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث ما ورد في فضل الذكر مطلقا؛ ألنها تشمل جمي ع الص يغ‬
‫والهيئات‪ ،‬ومنها قوله ‪( :‬سبق المفردون)‪ ،‬قالوا‪ :‬وما المف ردون؟ ي ا رس ول هللا‪،‬‬
‫قال‪( :‬الذاكرون هللا كثيرا‪ ،‬والذاكرات) (‪)4‬‬
‫وق ال ‪( :‬أال أن بئكم بخ ير أعم الكم‪ ،‬وأزكاه ا عن د مليككم‪ ،‬وأرفعه ا في‬
‫درج اتكم وخ ير لكم من إنف اق ال ذهب وال ورق‪ ،‬وخ ير لكم من أن تلق وا ع دوكم‬
‫فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟) قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪( :‬ذكر هللا تعالى) (‪)5‬‬
‫مجالس التذكير‪:‬‬
‫أما المجالس الثانية ـ أيها المريد الص ادق ـ فتش ير إليه ا األح اديث الس ابقة‪،‬‬
‫ذلك أن كل ذكر جماعي ال يخلو من المواعظ والتذكيرات‪ ،‬ول ذلك ق رن رس ول هللا‬
‫‪ ‬بين القراءة الجماعية للقرآن الكريم‪ ،‬والتدارس‪ ،‬فقال‪( :‬م ا اجتم ع ق و ٌم في بيت‬
‫من بيوت هللا يتلون كتاب هللا ويتدارسونه بينهم‪ ،‬إال نزلت عليهم الس كينة وغش يتهم‬
‫‪ )(1‬أبو داود (‪)3667‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد في المسند (‪ ،)124 / 4‬والطبراني في الكبير (‪ 290 / 7‬ح ‪)7163‬‬
‫‪ )(3‬مسلم (‪)2701‬‬
‫‪ )(4‬مسلم‪ ،‬حديث ‪2676‬‬
‫‪ )(5‬البخاري‪ ،‬حديث ‪ ،7405‬مسلم حديث ‪2067‬‬
‫‪378‬‬
‫عنده)(‪)6‬‬ ‫الرحمة‪ ،‬وحفتهم المالئكة‪ ،‬وذكرهم هللا فيمن‬
‫باإلضافة إلى ذلك؛ فإن كل ما ورد في فضل المواعظ ينطبق عليها‪ ،‬ذل ك أن‬
‫المواعظ ال تكون عادة إال من جهة خارجية‪.‬‬
‫فأعر سمعك لها ـ أيها المريد الص ادق ـ واس تفد منه ا‪ ،‬وال يض رك إن ك ان‬
‫الواعظ ملتزما بم ا وع ظ ب ه‪ ،‬أو ك ان مقص را؛ ف أنت مط الب بإص الح نفس ك‪ ،‬ال‬
‫بمحاسبة غيرك‪ ،‬وقد ق ال بعض الحكم اء ي ذكر ش روط االنتف اع بالموعظ ة‪( :‬إنّم ا‬
‫ينتف ع بالعظ ة بع د حص ول ثالث ة أش ياء‪ :‬ش ّدة االفتق ار إليه ا‪ ،‬والعمى عن عيب‬
‫الواعظ‪ ،‬وتذ ّكر الوعد والوعيد)‬
‫ثم ذكر س ر الحاج ة إلى العمى عن عيب الواع ظ‪ ،‬ف ذكر أن ه (إذا اش تغل ب ه‬
‫ألن النّفوس مجبولة على ع دم االنتف اع بكالم من ال يعم ل‬ ‫حرم االنتفاع بموعظته‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بعلم ه وال ينتف ع ب ه‪ ،‬وه ذا بمنزل ة من يص ف ل ه الط بيب دواء لم رض ب ه مثل ه‪،‬‬
‫والطّبيب معرض عنه غير ملتفت إليه)‬
‫وألن ك إن فعلت ذل ك ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ص رت من ال ذين ي بررون‬
‫ألنفسهم المعاصي بحجة وقوع غ يرهم فيه ا‪ ..‬ول ذلك اس تمع للموعظ ة‪ ،‬وال يهم ك‬
‫الواعظ‪ ،‬إال إذا دعاك لألهواء؛ فحينها عليك النفور منه‪ ،‬ومن دعوته‪.‬‬
‫لكنك إن ُكلفت بالموعظة‪ ،‬فاحرص على أال تعظ إال فيما تحققت به‪ ،‬ح تى ال‬
‫اس بِ ْالبِرِّ َوتَ ْن َسوْ نَ أَ ْنفُ َس ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم‬ ‫تكون من الذين عاتبهم هللا تعالى‪ ،‬فقال‪﴿ :‬أَتَأْ ُمرُونَ النَّ َ‬
‫َاب أَفَاَل تَ ْعقِلُونَ ﴾ [البقرة‪]44 :‬‬ ‫تَ ْتلُونَ ْال ِكت َ‬
‫ُ‬
‫﴿و َم ا أ ِري ُد أَ ْن أخَ الِفَ ُك ْم إِلَى َم ا‬ ‫ُ‬ ‫وأخبر عن شعيب عليه السّالم أنه قال لقوم ه‪َ :‬‬
‫ت َوإِلَ ْي ِه‬ ‫أَ ْنهَا ُك ْم َع ْنهُ إِ ْن أُ ِري ُد إِاَّل اإْل ِ صْ اَل َح َما ا ْستَطَع ُ‬
‫ْت َو َما تَوْ فِيقِي إِاَّل بِاهَّلل ِ َعلَ ْي ِه تَ َو َّك ْل ُ‬
‫أُنِيبُ ﴾ [هود‪]88 :‬‬
‫ونهى هللا تعالى عن ذلك نهيا شديدا‪ ،‬فقال‪﴿:‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا لِ َم تَقُولُ ونَ َم ا اَل‬
‫تَ ْف َعلُونَ (‪َ )2‬كبُ َر َم ْقتًا ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْن تَقُولُوا َما اَل تَ ْف َعلُونَ ﴾ [الصف‪]3 ،2 :‬‬
‫وقد قال الشاعر معبرا عن بشاعة الذين يفعلون ذلك‪:‬‬
‫هاّل لنفس ك ك ان ذا التعليم؟‬
‫ّ‬ ‫ي ا أيّه ا الرّج ل المعلّم غ يره‬
‫ومن ّ‬
‫الض نى تمس ي وأنت‬ ‫تص ف ال ّدواء ل ذي ّ‬
‫الس قام وذي‬
‫قيم‬ ‫س‬ ‫نى‬ ‫ّ‬
‫الض‬
‫ع ار علي ك إذا فعلت عظيم‬ ‫ال تن ه عن خل ق وت أتي مثله‬
‫ف إذا انتهت عن ه ف أنت حكيم‬ ‫اب دأ بنفس ك فانهه ا عن غيّها‬
‫لكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ال يع ني إعراض ك عمن ذك رك أو وعظ ك‬
‫بحجة وقوعه في المعاصي؛ فأنت مطالب بأخذ الحكمة من أي فم خرجت‪ ،‬والحكمة‬
‫ضالة المؤمن‪ ،‬أين وجدها فهو أحق بها‪.‬‬
‫‪ )(6‬أبو داود (‪ ،)1455‬وأصله في مسلم (‪.)2699‬‬
‫‪379‬‬
‫بل حتى لو سمعت الحكمة من أفواه المجرمين والظلمة‪ ،‬فليس لك أن ترده ا‪،‬‬
‫ذلك أنك مطالب بالرد على الجريمة والظلم ال على الحكمة‪.‬‬
‫وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسد عليك ك ل مناف ذ الش يطان ال تي ق د‬
‫تتسرب إلى نفسك من خالل المواعظ والواعظين؛ فعليك بتلك المواعظ ال واردة في‬
‫الق رآن الك ريم؛ ف القرآن كل ه موعظ ة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ قَ ْد َج ا َء ْت ُك ْم‬
‫ُور َوهُدًى َو َرحْ َم ةٌ لِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [ي ونس‪،]57 :‬‬ ‫َموْ ِعظَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم َو ِشفَا ٌء لِ َما فِي الصُّ د ِ‬
‫اس َوهُدًى َو َموْ ِعظَ ةٌ لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ [آل عم ران‪ ،]138:‬وق ال‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد‬ ‫ان لِلنَّ ِ‬
‫وقال‪﴿ :‬هَ َذا بَيَ ٌ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ت َو َمثَاًل ِمنَ ال ِذينَ خَ لَ وْ ا ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َو َموْ ِعظَ ةً لِل ُمتَّقِينَ ﴾ [الن ور‪:‬‬ ‫ت ُمبَيِّنَا ٍ‬‫أَ ْن َز ْلنَا إِلَ ْي ُك ْم آَيَا ٍ‬
‫‪]34‬‬
‫وأخبر أن كل ما في الق رآن الك ريم مواع ظ للقل وب المس تعدة للتقب ل‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫الح ْك َم ِة يَ ِعظُ ُك ْم بِ ِه﴾ [البق رة‪:‬‬ ‫ب َو ِ‬‫﴿ َو ْاذ ُكرُوا نِ ْع َمةَ هللا َعلَ ْي ُك ْم َو َما أَ ْن َز َل َعلَ ْي ُك ْم ِمنَ ال ِكتَا ِ‬
‫‪]231‬‬
‫بل أخبر أنه أفضل المواعظ‪ ،‬فقال‪﴿ :‬إِ َّن هللاَ نِ ِع َّما يَ ِعظُ ُك ْم بِ ِه﴾ [النساء‪]58:‬‬
‫ومثلها م ا ورد في أح اديث رس ول هللا ‪ ‬ال ذي ال ينط ق عن اله وى‪ ،‬فك ل‬
‫أحاديث ه مواع ظ‪ ،‬فتأمله ا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ وت دبر فيه ا‪ ،‬واعب د هللا تع الى‬
‫بتالوتها‪ ،‬واحذر من الذين يحذرونك منها‪ ..‬واحذر من الذين يقبلون كل شيء فيه ا‪،‬‬
‫حتى لو خالف القرآن الك ريم‪ ،‬فيس تحيل على رس ول هللا ‪ ‬أن يخ الف كالم رب ه‪،‬‬
‫وإنما ذلك مما دس عليه‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قول ه ‪ ‬لمن طلب من ه أن يعظ ه‪( :‬إن م ع الع ز ذال‪،‬‬
‫وإن مع الحياة موت ا‪ ،‬وإن م ع ال دنيا آخ رة‪ ،‬وإن لك ل ش ئ حس يبا‪ ،‬وعلى ك ل ش ئ‬
‫رقيبا‪ ،‬وإن لكل حسنة ثوابا‪ ،‬ولكل سيئة عقابا‪ ،‬ولكل أجل كتابا وإنه ال بدلك ي ا قيس‬
‫من قرين يدفن معك وهو حي‪ ،‬وتدفن معه وأنت ميت فان كان كريم ا أكرم ك‪ ،‬وإن‬
‫كان لئيم ا أس لمك ثم ال يحش ر إال مع ك‪ ،‬وال تبعث إال مع ه‪ ،‬وال تس أل إال عن ه فال‬
‫تجعله إال صالحا فانه إن صلح آنست به وإن فسد ال تستوحش إال من ه وه و فعل ك)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومثله قوله ‪ ‬البن عباس‪( :‬يا غالم‪ ،‬إنّي أعلّمك كلمات‪ :‬احفظ هللا يحفظ ك‪،‬‬
‫احفظ هللا تجده تجاه ك‪ ،‬إذا س ألت فاس أل هللا‪ ،‬وإذا اس تعنت فاس تعن باهلل‪ ،‬واعلم ّ‬
‫أن‬
‫األ ّمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إاّل بشيء ق د كتب ه هللا ل ك‪ ،‬ول و‬
‫اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يض رّوك إاّل بش يء ق د كتب ه هللا علي ك‪ ،‬رفعت‬
‫األقالم‪ ،‬وجفّت الصّحف) (‪)2‬‬
‫ي خير وأحبّ إلى هللا من الم ؤمن‬ ‫وقال ‪ ‬في بعض مواعظه‪( :‬المؤمن القو ّ‬
‫الض عيف‪ ،‬وفي ك ّل خ ير‪ ،‬اح رص على م ا ينفع ك واس تعن باهلل وال تعج ز‪ ،‬وإن‬ ‫ّ‬
‫أصابك شيء فال تقل لو أنّي فعلت كان كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر هللا‪ .‬وما شاء فع ل‪،‬‬
‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)113 /77‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي (‪ ،)2516‬أحمد (‪)303 ،293 /1‬‬
‫‪380‬‬
‫ال ّ‬
‫شيطان) (‪)1‬‬ ‫فإن لو تفتح عمل‬‫ّ‬
‫ومثلها ما ورد من أحاديث أئم ة اله دى‪ ،‬وم واعظهم الكث يرة؛ فهي مس تلهمة‬
‫من الق رآن الك ريم‪ ،‬ومن بح ر النب وة ال ذي لم يك در‪ ..‬ف احرص على جمعه ا‪،‬‬
‫وقراءتها‪ ،‬واالستماع لها‪ ،‬حتى يتنور قلبك بنورها‪.‬‬
‫ومن أمثلتها قول اإلمام علي يعظ ابنه اإلمام الحسن‪( :‬أحي قلب ك بالموعظ ة‪،‬‬
‫وأمته بال ّزهادة‪ ،‬وقوّه باليقين‪ ،‬ونوّره بالحكمة‪ ،‬وذهلّل ب ذكر الم وت‪ ،‬وق ّرره بالفن اء‪،‬‬
‫وحذره صولة ال ّدهر‪ ،‬وفحش تقلّب اللّي الي واأليّ ام‪ ،‬واع رض‬ ‫ّ‬ ‫وبصّره فجائع ال ّدنيا‪،‬‬
‫عليه أخبار الماضين‪ ،‬وذ ّكره بما أصاب من كان قبلك من األوّلين‪ ،‬وسر في ديارهم‬
‫وآثارهم‪ ،‬فانظر فيما فعلوا وع ّما انتقلوا‪ ،‬وأين حلّوا ونزلوا‪ ،‬فإنّك تج دهم ق د انتقل وا‬
‫عن األحبّة‪ ،‬وحلّوا ديار الغربة‪ ،‬وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم) (‪)2‬‬
‫ومنها قوله لبعض أصحابه‪( :‬يا نوف‪ ،‬طوبى لل ّزاه دين في ال ّدنيا‪ ،‬الرّاغ بين‬
‫في اآلخ رة‪ ،‬أولئ ك ق وم اتّخ ذوا األرض بس اطا‪ ،‬وترابه ا فراش ا‪ ،‬وماءه ا طيب ا‪،‬‬
‫والقرآن شعارا‪ ،‬وال ّدعاء دث ارا‪ ،‬ث ّم قرض وا ال ّدنيا قرض ا على منه اج المس يح‪ ..‬ي ا‬
‫إن داود عليه السّالم قام في مثل هذه السّاعة من اللّي ل‪ ،‬فق ال‪ :‬إنّه ا لس اعة ال‬ ‫نوف‪ّ ،‬‬
‫شارا‪ ،‬أو عريفا‪ ،‬أو شرطيّا) (‪)3‬‬ ‫يدعو فيها عبد إاّل استجيب له‪ ،‬إاّل أن يكون ع ّ‬
‫ومنه ا قول ه عن د رجوع ه من ص فّين‪ ،‬بع د أن أش رف على القب ور بظ اهر‬
‫الكوفة‪( :‬يا أهل ال ّديار الموحشة‪ ،‬والمحا ّل المقفرة‪ ،‬والقبور المظلمة‪ ،‬يا أهل التّربة‪،‬‬
‫يا أهل الغربة‪ ،‬يا أهل الوحدة‪ ،‬يا أهل الوحشة‪ ،‬أنتم لن ا ف رط س ابق‪ ،‬ونحن لكم تب ع‬
‫الحق‪ ،‬أ ّما ال ّدور فقد سكنت‪ ،‬وأ ّما األزواج فقد نكحت‪ ،‬وأ ّما األموال فقد قسمت‪ ،‬هذا‬
‫خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟)‪ ،‬ث ّم التفت إلى من ك ان مع ه‪ ،‬فق ال‪( :‬أم ا ل و أذن‬
‫زاد التّقوى) (‪)4‬‬
‫أن خير ال ّ‬
‫لهم في الكالم ألخبروكم‪ّ :‬‬
‫ومنها قوله بعد مروره على مزبلة‪( :‬هذا ما بخل ب ه الب اخلون‪ ..‬ه ذا م ا كنتم‬
‫تتنافسون فيه باألمس)(‪)5‬‬
‫وقال في موعظة أخرى‪( :‬إنّما المرء في ال ّدنيا غ رض تنتض ل في ه المناي ا‪،‬‬
‫ونهب تبادره المصائب‪ ،‬ومع ك ّل جرعة ش رق‪ ،‬وفي ك ّل أكل ة غص ص‪ ،‬وال ين ال‬
‫العبد نعمة إاّل بفراق أخرى‪ ،‬وال يستقبل يوم ا من عم ره إاّل بف راق آخ ر من أجل ه‪،‬‬
‫فنحن أعوان المنون‪ ،‬وأنفس نا نص ب الحت وف‪ ،‬فمن أين نرج و البق اء‪ ،‬وه ذا اللّي ل‬
‫والنّهار لم يرفع ا من ش يء ش رفا‪ ،‬إاّل أس رعا الك رّة في ه دم م ا بني ا‪ ،‬وتفري ق م ا‬
‫جمعا) (‪)6‬‬
‫وغيرها من المواعظ الكثيرة له ولسائر أئمة الهدى؛ ف احرص عليه ا‪ ،‬ون ور‬
‫‪ )(1‬مسلم (‪)2664‬‬
‫‪ )(2‬نهج البالغة‪ :‬الكتاب رقم (‪)31‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة‪ :‬الحكمة (‪)104‬‬
‫‪ )(4‬نهج البالغة‪ :‬الحكمة (‪)130‬‬
‫‪ )(5‬نهج البالغة‪ :‬الحكمة (‪)195‬‬
‫‪ )(6‬نهج البالغة‪ :‬الحكمة (‪)191‬‬
‫‪381‬‬
‫قلبك بأنوارها‪ ،‬واعلم أن في ك ل كلم ة منه ا علم ا وحكم ة‪ ،‬وكي ف التك ون ك ذلك‪،‬‬
‫وهي التي استضاءت بنور الرسالة‪ ،‬وبرزت من معدن النبوة‪.‬‬
‫واحذر من تلك الرواي ات والمواع ظ ال تي دس ها عليهم أع داؤهم‪ ،‬وهم منه ا‬
‫برؤاء؛ فارجع إلى كالم ربك لتحاكم إليه كل م ا ش ككت في ه‪ ..‬واعلم أنهم أعظم من‬
‫أن يخالفوا كالم ربهم‪ ،‬وكيف يخالفونه‪ ،‬وقد أخ بر رس ول هللا ‪ ‬أنهم ال يفارقون ه‪،‬‬
‫وال يفارقهم‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫المرشد المربي‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن مشايخ التربية واإلرش اد ال ذين‬
‫ذكرهم علماء التزكية‪ ،‬واعتبروهم من الضرورات التي يحتاج إليها السالك‪ ،‬وال تي‬
‫ال يمكنه تزكية نفسه‪ ،‬وال ترقيتها من دونهم‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك ـ ابتداء ـ أن التزكي ة والترقي ة وظ ائف‬
‫شرعية مرتبطة بالنبوة‪ ،‬وهي الوحي دة المخول ة ببي ان ض رورة أي ش يء‪ ،‬أو ع دم‬
‫ضرورته‪ ..‬ذلك أنها تستمد معرفة الحقائق من المصادر المعصومة‪ ،‬ال التي اختل ط‬
‫فيها الحق بالباطل‪ ،‬والمقدس بالمدنس‪.‬‬
‫ولذلك؛ فإن ما يذكرونه حول هذه المسائل ممتلئ بدخن كثير‪ ،‬وال ينج و من ه‬
‫إال من لم يترك دينه ألحد من الناس‪ ..‬مهما ك انت مرتبت ه‪ ..‬ومهم ا ك انت ال دعاوى‬
‫التي يدعيها‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال لبعض أصحابه‪( :‬دينك دين ك‬
‫إنما هو لحمك ودمك‪ ،‬فانظر عمن تأخذ‪ ..‬خ ذ ال دين عن ال ذين اس تقاموا‪ ،‬وال تأخ ذ‬
‫عن الذين مالوا)(‪)1‬‬
‫وقال اإلمام الصادق‪( :‬إيّاك أن تنصب رجال دون الحجّة فتص ّدقه في ك ّل م ا‬
‫قال)(‪)2‬‬
‫وقال اإلمام الباقر‪( :‬ك ّل من دان هللا بعبادة يجهد فيها نفسه وال إمام ل ه من هللا‬
‫فسعيه غير مقبول‪ ،‬وهو ضا ّل متحيّر‪ ،‬وهللا شانئ ألعماله‪ ،‬ومثله كمثل ش اة ض لّت‬
‫عن راعيها وقطيعها‪ ،‬فهجمت ذاهبة وجائية يومها‪ ،‬فل ّما جنّها اللّي ل بص رت بقطي ع‬
‫من غير راعيها‪ ،‬فحنّت إليها واغترّت بها‪ ،‬وباتت معها في مربضها‪ ،‬فل ّم ا أن س اق‬
‫الرّاعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعه ا‪ ،‬فهجمت متحيّ رة تطلب راعيه ا وقطيعه ا‪،‬‬
‫فبص رت بغنم م ع راعيه ا فحنّت إليه ا‪ ،‬واغ ترّت به ا‪ ،‬فص اح به ا ال رّاعي الحقي‬
‫براعيك وقطيعك فإنّك تائهة متحيّرة عن راعي ك وقطيع ك‪ ،‬فهجمت ذع رة متحيّ رة‬
‫ن ا ّدة ال راعي له ا يرش دها إلى مرعاه ا وير ّده ا‪ ،‬فبين ا هي ك ذلك إذا اغتنم ال ذئب‬
‫ضيعتها فأكلها‪ ،‬وكذلك وهللا من أصبح من ه ذه اال ّم ة ال إم ام ل ه من هللا ع ّز وج ّل‬
‫ظاهرا عادال أصبح ضاالّ تائها)(‪)3‬‬
‫ولذلك‪ ،‬احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون تابعا لكل ما يذكرون ه في ه ذه‬
‫الجوانب‪ ،‬وخاصة تلك التي يدعون فيها إلى التبعية المطلقة للشيخ حتى لو انحرف‪،‬‬
‫وعدم تجويز اإلنكار عليه‪ ..‬فكل ذلك مخالف للشريعة‪ ،‬وهو نفس ما حصل لألدي ان‬
‫ال تي ح رفت‪ ،‬وال تي تح ول فيه ا رج ال ال دنيا إلى معص ومين ال ينتق دون‪ ،‬وال‬
‫‪ )(1‬رواه ابن عدي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الصدوق في معانى االخبار ص ‪.169‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ج ‪ 1‬ص ‪.375‬‬
‫‪383‬‬
‫ينصحون‪ ،‬وال يسددون‪.‬‬
‫ولكن ذلك ال يعني ـ أيه ا المري د الص ادق ـ ع دم أهمي ة الش يخ الم ربي‪ ،‬إن‬
‫توفرت فيه شروط التربية؛ ب ل ه و مث ل األس تاذ ـ إن ك ان عالم ا وص الحا ـ فإن ه‬
‫سيختصر لك الكثير من الجهد‪ ..‬لكنه إن كان ج اهال ومنحرف ا‪ ،‬فسيض لك‪ ،‬ويع ديك‬
‫بانحرافه وجهله‪.‬‬
‫لذلك إن أردت أن تحتاط في هذا الجانب؛ فعليك أن تنظر في أمرين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬أن تعرف حدود دور الشيخ المربي‪ ،‬وأنها ال تتجاوز نقل تجربته في‬
‫الته ذيب والتزكي ة إلي ك‪ ،‬وأن ه ليس معص وما‪ ،‬وأن ك لس ت ملزم ا باتباع ه جمي ع‬
‫حياتك‪ ..‬بل قد تستفيد منه في نفس الوقت الذي تستفيد من غ يره‪ ..‬ف إن رأيت نفس ك‬
‫قد استغنت عنه؛ فيمكنك تركه‪ ،‬مثلما تترك أستاذك الذي علمك وأدبك بعد أن ينتهي‬
‫دوره‪ ،‬مع بقاء احترامك له‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬أن تعرف أهلية المرشد الذي تريد أن تتخذه أستاذا لنفسك‪ ،‬وهل ه و‬
‫ص الح ل ذلك‪ ،‬أم ليس ص الحا‪ ،‬ح تى ال يتالعب بنفس ك المتالعب ون والتج ار‬
‫والدجاجلة‪.‬‬
‫إذا ع رفت ه ذا ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فاس مع لم ا سأش رحه ل ك من كال‬
‫الجانبين‪.‬‬
‫وظيفة المرشد‪:‬‬
‫أما وظيفة المرشد ـ أيها المريد الصادق ـ فهي محصورة في توجيهك إلى م ا‬
‫تهذب به نفسك‪ ،‬بعد تشخيصه ألدوائك‪ ،‬مثلما يفعل الط بيب ال ذي يع الج األم راض‬
‫بعد تعرفه عليها‪.‬‬
‫وقد قال بعضهم معبرا عن هذا الدور‪( :‬يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقت دي‬
‫به ال محالة‪ ،‬ليهديه إلى سواء الس بيل‪ ،‬ف إن س بيل ال دين غ امض! وس بل الش يطان‬
‫كثيرة ظاهرة‪ ،‬فمن لم يكن له شيخ يهديه‪ ،‬ق اده الش يطان إلى طرق ه ال محال ة‪ ،‬فمن‬
‫سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير‪ ،‬فقد خاطر بنفس ه وأهلكه ا‪ ،‬ويك ون المس تقل‬
‫بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها‪ ،‬فإنها تج ف على الق رب وإن بقيت م دة وأورقت‬
‫لم تثمر‪ ،‬فمعتصم المريد شيخه فليتمسك به)(‪)1‬‬
‫ثم ذكر بعض الممارسات التي يقوم بها الشيخ المربي عند تربيت ه المري دين‪،‬‬
‫ف ذكر أن على (الش يخ المتب وع ال ذي يطبب نف وس المري دين ويع الج قل وب‬
‫المسترشدين أن ال يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخص وص وفي طري ق‬
‫مخص وص م ا لم يع رف أخالقهم وأمراض هم‪ ،‬وكم ا أن الط بيب ل و ع الج جمي ع‬
‫المرضى بعالج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنم ط واح د‬
‫من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم‪ ،‬بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حال ه‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)3/56‬‬


‫‪384‬‬
‫رياضته) (‪)1‬‬ ‫وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة‪ ،‬ويبني على ذلك‬
‫ثم ذكر نماذج عما يمارس ه الش يخ الم ربي م ع تالمي ذه ومريدي ه ف إن (ك ان‬
‫المري د مبت دئا ج اهال بح دود الش رع‪ ،‬فيعلم ه أوال الطه ارة والص الة وظ واهر‬
‫العبادات‪ ،‬وإن كان مشغوال بمال حرام أو مقارفا لمعصية‪ ،‬فيأمره أوال بتركها‪ ،‬فإذا‬
‫ت زين ظ اهره بالعب ادات وطه ر عن المعاص ي الظ اهرة جوارح ه نظ ر بق رائن‬
‫األحوال إلى باطنه ليتفطن ألخالقه وأمراض قلبه‪ ،‬ف إن رأى مع ه م اال فاض ال عن‬
‫قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلب ه من ه ح تى ال يلتفت إلي ه‪،‬‬
‫وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يمارس ما يكسر ك بره‬
‫وعز نفسه‪ ..‬وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثي اب ورأى قلب ه م ائال إلى‬
‫ذلك فرح ا ب ه ملتفت ا إلي ه اس تخدمه في تعه د بيت الم اء وتنظيف ه وكنس المواض ع‬
‫القذرة ومالزمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتش وش علي ه رعونت ه في النظاف ة‪،‬‬
‫فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والس جادات الملون ة‬
‫ال فرق بينهم وبين العروس التي ت زين نفس ها ط ول النه ار‪ ،‬فال ف رق بين أن يعب د‬
‫اإلنس ان نفس ه أو يعب د ص نما‪ ،‬فمهم ا عب د غ ير هللا تع الى فق د حجب عن هللا ومن‬
‫راعى في ثوبه شيئا سوى كونه حالال وطاهرا مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مش غول‬
‫بنفسه)(‪)2‬‬
‫وهكذا قد يضطر الشيخ أن يمنع بعض المباحات عن المري د أو يكلف ه ببعض‬
‫ما لم يوجبه الشرع لتستقيم نفسه بذلك‪ ،‬وقد ذكر الق رآن الك ريم نهي ط الوت لجن ده‬
‫ص َل طَ الُ ُ‬
‫وت‬ ‫من شرب الم اء م ع ت وفره‪ ،‬ب ل م ع كثرت ه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬فَلَ َّما فَ َ‬
‫ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ‬
‫ط َع ْم هُ فَإِنَّهُ ِمنِّي‬ ‫بِ ْال ُجنُو ِد قَ َ‬
‫ال إِ َّن هَّللا َ ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ‬
‫ب ِم ْن هُ فَلَي َ‬
‫إِاَّل َم ِن ا ْغت ََرفَ ُغرْ فَ ةً بِيَ ِد ِه﴾ [البق رة‪ ،]249 :‬وذل ك ألن الجن دي ال ذي ال يطي ق أن‬
‫يصبر على الماء ال يمكنه أن يصبر على مواجهة جالوت‪.‬‬
‫هذه هي ح دود وظيف ة المرش د‪ ،‬وال تي ال يص ح ل ه أن يتجاوزه ا‪ ،‬أم ا تل ك‬
‫الدعاوى العريضة التي يزعمه ا بعض المش ايخ ألنفس هم‪ ،‬وأن في إمك انهم تحوي ل‬
‫مريديهم إلى صديقين‪ ،‬ولو من غير سلوك‪ ،‬وال مجاه دات‪ ،‬وال رياض ات روحي ة؛‬
‫فإن ذلك لم يكن للرسل عليهم السالم أنفسهم‪ ..‬فقد ص حبهم من انحرف وا عنهم‪ ،‬ومن‬
‫تحولوا إلى فسقة ومفسدين‪ ،‬فهل يمكن أن تكون قدرة الشيخ أعظم من ق درة الرس ل‬
‫عليهم السالم؟‬
‫لذلك ال تغتر ـ أيها المريد الصادق ـ إن أت اح هللا ل ك ص حبة بعض المش ايخ‬
‫الصالحين؛ فالعبرة ليست في الشيخ وإنما في صدقك وإرادتك وإخالصك‪.‬‬
‫أهلية المرشد‪:‬‬
‫أما أهلية المرشد‪ ،‬وقدرته على أداء وظيفت ه في التزكي ة والترقي ة؛ فق د نص‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)61 /3‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)61 /3‬‬
‫‪385‬‬
‫الحكماء عليها تحذيرا للمريدن من أن يقعوا بين أيدي الدجالين‪.‬‬
‫وقد عبر بعضهم عن ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬قد درج أشياخ الطريق كلهم على أن أح دا‬
‫منهم لم يتصدر للطريق إال بعد تبحره في عل وم الش ريعة‪ ،‬ولم يكن أح د في عص ر‬
‫ممن العصور إال وعلماء ذلك الزمان يتواضعون له ويعملون بإشارته)(‪)1‬‬
‫وقال آخر‪( :‬من ك ان في ه خمس خص ال ال تص ح مش يخته‪ :‬الجه ل بال دين‪..‬‬
‫وإسقاط حرمة المس لمين‪ ..‬وال دخول فيم ا اليع ني‪ ..‬واتب اع اله وى في ك ل ش يء‪..‬‬
‫وسوء الخلق من غير مباالة)‬
‫وقال آخر‪( :‬الشيوخ هم العارفون بالكتاب والسنة‪ ،‬قائلون بها في ظ واهرهم‪،‬‬
‫متحققون بها في سرائرهم‪ ،‬يراع ون ح دود هللا تع الى‪ ،‬ويوف ون بعه د هللا‪ ،‬ق ائمون‬
‫براسم الشريعة‪ ،‬ال يتأولون في الورع‪ ،‬آخذون باالحتياط‪ ،‬مجانبون أله ل التخلي ط‪،‬‬
‫مشفقون على األمة‪ ،‬ال يمقتون أحدا من العصاة‪ ،‬يحبون ما أحب هللا ويبغض ون م ا‬
‫أبغض هللا‪ ،‬يأمرون ب المعروف وينه ون عن المنك ر المجم ع علي ه‪ ،‬يس ارعون في‬
‫الخيرات‪ ،‬ويعفون عن الناس‪ ،‬يوقرون الكبير‪ ،‬ويرحمون الصغير‪ ،‬يميط ون األذى‬
‫عن الطري ق طري ق هللا وطري ق الن اس‪ ،‬ي ؤدون حق وق الن اس‪ ،‬ي برون عب اد هللا‪،‬‬
‫هينون لينون رحماء بين خلق هللا)‬
‫وقال آخر‪( :‬الشيخ هو من شهدت له ذاتك بالتقديم‪ ،‬وسرك بالتعظيم‪ ..‬الش يخ‪:‬‬
‫من هذبك بأخالقه‪ ،‬وأدبك بإطراقه‪ ،‬وأنار باطنك بإشراقه)(‪)2‬‬
‫وقال آخر‪( :‬الش يخ‪ :‬من إذا نص حك أفهم ك‪ ،‬وإذا ق ادك دل ك‪ ،‬وإذا أخ ذك نهض‬
‫بك‪ ..‬الشيخ‪ :‬هو من يلزمك الكتاب والسنة‪ ،‬ويبعدك عن المحدث ة والبدع ة‪ ..‬الش يخ‪:‬‬
‫ظاهره الشرع‪ ،‬وباطنه الشرع‪ ،‬الطريقة والشريعة)(‪)3‬‬
‫وقال آخر‪( :‬ينبغي لمن ع زم على االسترش اد وس لوك الرش اد أن يبحث عن‬
‫شيخ من أهل التحقيق سالك للطريق تارك لهواه راسخ الق دم في خدم ة م واله‪ ،‬ف إذا‬
‫وجهد فليمتثل ما أمر‪ ،‬ولينته عم ا نهى عن ه وزج ر)(‪ ،)4‬وق ال‪( :‬ال تص حب من ال‬
‫ينهضك حاله‪ ،‬وال يدلك على هللا مقاله)‬
‫وقال‪( :‬ليس ش يخك من س معت من ه‪ ،‬وإنم ا ش يخك من أخ ذت عن ه‪ ..‬وليس‬
‫شيخك من واجهتك عبارته وإنما شيخك الذي سرت فيك إشارته‪ ..‬وليس ش يخك من‬
‫دعاك إلى الباب وإنم ا ش يخك ال ذي رف ع بين ك وبين ه الحج اب‪ ..‬وليس ش يخك من‬
‫واجهك مقاله وإنما شيخك الذي نهض بك حاله‪ ..‬شيخك هو الذي أخرجك من سجن‬
‫الهوى ودخل بك على المولى‪ ..‬شيخك هو الذي ما زال يحدو مرآة قلبك حتى تجلت‬
‫فيها أنوار ربك أنهضك إلى هللا فنهضت إليه وسار بك ح تى وص لت إلي ه وم ا زال‬

‫‪ )(1‬األنوار القدسية لإلمام الشعراني ص (‪.)63‬‬


‫‪ )(2‬الشيخ ابن عباد الرندي‪ ،‬غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.174‬‬
‫‪ )(3‬الشيخ أحمد الرفاعي‪ ،‬الحكم الرفاعية‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ )(4‬مفتاح الفالح ص ‪.30‬‬
‫‪386‬‬
‫وربك)(‪)5‬‬ ‫محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه فز َّج بك في نور الحضرة وقال‪ :‬ها أنت‬
‫هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فأصخ بسمع قلبك له‪ ،‬واس تفد‬
‫من كل من يدعوك إلى تزكية نفس ك وته ذيبها‪ ،‬واجعل ه أس تاذا ل ك‪ ،‬م ا دام ي أمرك‬
‫بذلك‪.‬‬
‫فإن انحرف عنه إلى ما ال عالقة له به؛ فاحذر من ه‪ ،‬وابحث عن غ يره؛ فاهلل‬
‫تعالى لم يضمن ل ك العص مة فيمن يوجه ك‪ ،‬وإنم ا ض من ل ك العص مة في كلمات ه‬
‫المقدسة‪ ..‬فاجعلها إمامك الذي به تهتدي‪ ،‬ودستورك الذي إليه تتحاكم‪.‬‬

‫‪ )(5‬لطائف المنن ص ‪.167‬‬


‫‪387‬‬
‫العزلة التربوية‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن العزل ة وأنواعه ا‪ ،‬ودوره ا في‬
‫التزكي ة والترقي ة‪ ،‬والف رق بينه ا وبين الرهباني ة ال تي ال ي زال بعض أه ل الكت اب‬
‫يمارسونها‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن العزلة ـ بض وابطها الش رعية ـ من‬
‫أحسن المدارس التربوية‪ ،‬لما لها من دور كبير في التزكية والترقية‪ ،‬ول ذلك وردت‬
‫النصوص المقدسة بالحديث عنها‪ ،‬والثناء على أهلها‪.‬‬
‫وحتى ال تقع في سوء الفهم لتلك النصوص‪ ،‬مثلم ا وق ع لبعض الس الكين إلى‬
‫هللا‪ ،‬أذكر لك أن العزلة التربوية نوعان‪ :‬عزلة دائمة‪ ،‬وعزلة مؤقتة بوقت محدود‪.‬‬
‫وسأشرح لك كال النوعين‪ ،‬وآثارهما في التزكية والترقي ة‪ ،‬وم ا ي دل عليهم ا‬
‫من النصوص المقدسة‪.‬‬
‫العزلة الدائمة‪:‬‬
‫أما العزلة األولى؛ فهي تلك التي يضطر إليه ا بعض المؤم نين نتيج ة س كنه‬
‫في بيئة منحرفة تماما‪ ،‬وقد عجز عن إصالحها‪ ،‬وعجز مثل ذلك عن الرحيل عنها؛‬
‫فاضطر ألجل ذلك إلى الس كن بين أهله ا من غ ير أن تك ون ل ه أي مخالط ة معهم‪،‬‬
‫ألنه علم أن تلك المخالطة ستضر بدينه‪ ،‬وقد تضر بدنياه‪.‬‬
‫ومثل هذا من رأى أن مجالس أص دقائه وجيران ه ممتلئ ة باآلف ات من الغيب ة‬
‫والنميمة وغيره ا‪ ،‬وق د عج ز أن يص لحهم‪ ،‬أو ي وجههم؛ فاض طر إلى مق اطعتهم‪،‬‬
‫خشية أن تسري إليه أدواءهم‪ ،‬أو يكون شريكا لهم في جرائمهم‪.‬‬
‫وإلى هذا النوع اإلشارة بقوله تعالى عن إبراهيم عليه الس الم ـ عن دما عج ز‬
‫ُون هَّللا ِ َوأَ ْدعُو َربِّي َع َسى أَاَّل أَ ُكونَ‬ ‫عن إصالح قومه ـ‪َ ﴿ :‬وأَ ْعت َِزلُ ُك ْم َو َما تَ ْد ُعونَ ِم ْن د ِ‬
‫بِ ُدعَا ِء َربِّي َشقِيًّا﴾ [م ريم‪ ،]48 :‬ثم بين هللا تع الى برك ات تل ك العزل ة علي ه‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫وب َو ُكاًّل َج َع ْلنَ ا نَبِيًّ ا (‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْحا َ‬‫ُون هَّللا ِ َوهَ ْبنَا لَهُ إِس َ‬
‫﴿فَلَ َّما ا ْعتَزَ لَهُ ْم َو َما يَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن د ِ‬
‫ق َعلِيًّا﴾ [مريم‪]50 ،49 :‬‬ ‫‪َ )49‬و َوهَ ْبنَا لَهُ ْم ِم ْن َرحْ َمتِنَا َو َج َع ْلنَا لَهُ ْم لِ َسانَ ِ‬
‫ص ْد ٍ‬
‫ومثل ذلك قوله عن أص حاب الكه ف‪َ ﴿ :‬وإِ ِذ ا ْعتَزَ ْلتُ ُم وهُ ْم َو َم ا يَ ْعبُ ُدونَ إِاَّل هَّللا َ‬
‫ْف يَ ْن ُشرْ لَ ُك ْم َربُّ ُك ْم ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َويُهَيِّئْ لَ ُك ْم ِم ْن أَ ْم ِر ُك ْم ِمرْ فَقً ا﴾ [الكه ف‪:‬‬ ‫فَأْ ُووا إِلَى ْال َكه ِ‬
‫‪]16‬‬
‫ومث ل ذل ك م ا ورد في ذم أولئ ك ال ذين آث روا االنح راف بحج ة ك ونهم‬
‫مستض عفين‪ ،‬فلم يع تزلوا أق وامهم‪ ،‬وال رحل وا عنهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ‬
‫ض قَ الُوا‬ ‫ت ََوفَّاهُ ُم ْال َمالئِ َكةُ ظَالِ ِمي أَ ْنفُ ِس ِه ْم قَالُوا فِي َم ُك ْنتُ ْم قَالُوا ُكنَّا ُم ْستَضْ َعفِينَ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ص يراً﴾‬ ‫ت َم ِ‬ ‫اجرُوا فِيهَ ا فَأُولَئِ كَ َم أْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َو َس ا َء ْ‬ ‫اس َعةً فَتُهَ ِ‬ ‫أَلَ ْم تَ ُك ْن أَرْ ضُ هَّللا ِ َو ِ‬
‫(النساء‪)97:‬‬
‫وإلى هذا الصنف اإلشارة بتلك األحاديث ال تي ت دعو إلى اع تزال الن اس في‬
‫‪388‬‬
‫الفتن‪ ،‬خاصة بع د العج ز عن اإلص الح‪ ،‬كم ا ق ال ‪( :‬إن بين ي دي الس اعة فتن ا‬
‫كقطع الليل المظلم‪ ،‬يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا‪ ،‬ويمسي مؤمنا ويص بح‬
‫كافرا‪ ،‬القاعد فيها خي ٌر من القائم‪ ،‬والماشي فيها خير من الساعي‪ ،‬فكس روا قس يكم‪،‬‬
‫وقطعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة‪ ،‬فإن دخل على أحد منكم فليكن كخ ير‬
‫ابني آدم)(‪ )1‬قالوا‪ :‬فما تأمرنا؟ قال‪(:‬كونوا أحالس بيوتكم)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪(( :‬ستكون ٌ‬
‫فتن القاع د فيه ا خ ي ٌر من الق ائم‪ ،‬والق ائم‬
‫فيها خي ٌر من الماشي‪ ،‬والماشي فيها خي ٌر من الساعي‪ ،‬من تش رف إليه ا تستش رفه‪،‬‬
‫ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬يوشك أن يكون خير مال المسلم غن ٌم يتبع به ا ش عف الجب ال ومواق ع‬
‫القطر‪ ،‬يفر بدينه من الفتن)(‪)4‬‬
‫وذكر النبي ‪ ‬بعض الفتن‪ ،‬فسئل‪ :‬يا رسول هللا‪،‬من خير الن اس فيه ا؟ ق ال‪:‬‬
‫(رج ٌل في ماشية ي ؤدي حقه ا ويعب د رب ه‪ ،‬ورج ٌل آخذ ب رأس فرس ه يخي ف الع دو‬
‫ويخوفونه)(‪)5‬‬
‫وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم من ه ذه األح اديث القع ود عن نص رة‬
‫أهل الحق إن عرفتهم بأوصافهم التي ذكرها القرآن الكريم‪ ،‬مثلما فعل أولئ ك ال ذين‬
‫قعدوا عن نصرة اإلمام علي‪ ،‬بحجة اع تزال الفتن‪ ،‬م ع أن رس ول هللا ‪ ‬ذك ر لهم‬
‫اآليات والعالمات الدالة على أهل الحق‪ ،‬وأوجب عليهم نصرتهم‪.‬‬
‫ولذلك ال تجوز العزلة إال عند اختالط األمور‪ ،‬وعدم تبين الحق من الباط ل‪،‬‬
‫أما عند التمييز بينهما‪ ،‬والقدرة على نصرة الحق؛ فإن الحياد واالعتزال ليس س وى‬
‫نصرة للباطل‪.‬‬
‫وإلى النوع من العزلة أيضا ما ورد في كلمات أئم ة اله دى ال تي ت رغب في‬
‫العزلة‪ ،‬وتعتبرها السبيل إلى النجاة من الفتن‪ ،‬كما قال اإلمام علي‪( :‬ق ال عيس ى بن‬
‫م ريم‪( :‬ط وبى لمن ك ان ص مته فك را‪ ،‬ونظ ره ع برا‪ ،‬ووس عه بيت ه‪ ،‬وبكى على‬
‫خطيئته‪ ،‬وسلم الناس من يده ولسانه)(‪)6‬‬
‫وقال اإلم ام الب اقر‪( :‬ال يك ون العب د عاب دا هلل ح ق عبادت ه ح تى ينقط ع عن‬
‫الخلق كلهم إليه‪ ،‬فحينئذ يقول‪( :‬هذا خالص لي فيقبله بكرمه)(‪)7‬‬
‫وق ال اإلم ام الص ادق‪( :‬إن هللا ج ّل وع ّز أوحى إلى ن بي من أنبي اء ب ني‬
‫إسرائيل‪( :‬إن أحببت أن تلقاني غداّ في حظيرة القدس‪ ،‬فكن في ال دنيا وحي داً غريب ا ً‬

‫‪ )(1‬أبو داود (‪ )4259‬والترمذي (‪)2204‬‬


‫‪ )(2‬أبو داود (‪)2262‬‬
‫‪ )(3‬البخاري (‪ )3601‬ومسلم (‪.)2886‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪.)19‬‬
‫‪ )(5‬الترمذي (‪ )2177‬وأحمد (‪)6/419‬‬
‫‪ )(6‬الخصال ‪.1/142‬‬
‫‪ )(7‬بحار األنوار‪ ،67/111 :‬وعدة الداعي‪.‬‬
‫‪389‬‬
‫مهموما ً محزونا ً مستوحشا ً من الناس‪ ،‬بمنزلة الطير الواح د‪ ،‬ال ذي يط ير في أرض‬
‫القفار‪ ،‬ويأكل من رؤوس األشجار‪ ،‬ويشرب من م اء العي ون‪ ،‬ف إذا ك ان اللي ل آوى‬
‫وحده ولم يأو مع الطيور‪ ،‬أستأنس بربّه‪ ،‬واستوحش من الطيور)(‪)1‬‬
‫وقال‪( :‬إن قدرتم أن ال تُعرفوا فافعلوا‪ ،‬وما علي ك إن لم يثن علي ك الن اس ؟‪..‬‬
‫وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت عند هللا محمودا ؟!)(‪)2‬‬
‫(إن من أغبط أولي ائي عن دي عب دا مؤمن ا إذا ح ظّ من ص الح أحس ن‬ ‫وقال‪ّ :‬‬
‫عبادة ربه‪ ،‬و َعبَد هللا في السريرة وكان غامضا في الناس‪ ،‬فلم يُشر إلي ه باألص ابع‪،‬‬
‫وكان رزقه كفافا فصبر عليه‪ ،‬تعجّلت به المنية فق ّل تراث ه‪ ،‬وقلّت بواكي ه ـ ثالث ا ـ)‬
‫(‪)3‬‬
‫به)(‪)4‬‬ ‫وقال‪( :‬طوبى لعبد نوومة‪ ،‬عرف الناس قبل معرفتهم‬
‫وقال‪( :‬ما من مؤمن إال وقد جعل هللا له من إيمانه أنسا يسكن إلي ه‪ ،‬ح تى ل و‬
‫كان على قُلّة جبل لم يستوحش)(‪)5‬‬
‫وق ال اإلم ام الك اظم في وص يته لهش ام بن الحكم‪( :‬ي ا هش ام‪ ..‬الص بر على‬
‫الوحدة عالمة على قوة العقل‪ ،‬فمن عقل عن هللا اعتزل أهل الدنيا والراغ بين فيه ا‪،‬‬
‫ورغب فيما عند هللا‪ ،‬وكان هللا أنيسه في الوحشة‪ ،‬وص احبه في الوح دة‪ ،‬وغن اه في‬
‫العيلة‪ ،‬ومع ّزه من غير عشيرة‪ ..‬يا هشام‪ ..‬قلي ل العم ل م ع العلم مقب ول مض اعف‪،‬‬
‫وكثير العمل من أهل الجهل مردود)(‪)6‬‬
‫وقال اإلمام العسكري‪( :‬الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم)(‪)7‬‬
‫وقد قال بعض الحكماء يشير إلى ضرورة هذه العزل ة ودوره ا في التزكي ة‪:‬‬
‫(من خالط الن اس فال يخل و عن مش اهدة المنك رات‪ ،‬ف إن س كت عص ى هللا ب ه وإن‬
‫أنكره تعرّض ألنواع من الضرر ربّما يجرّه الخالص منه ا إلى معاص ي هي أك ثر‬
‫م ّما نهي عنه ابتداء‪ ،‬وفي العزلة خالص من هذا ّ‬
‫فإن األمر في إهماله شديد والقي ام‬
‫به شا ّ‬
‫ق) (‪)8‬‬
‫ثم ذكر من األمثلة على ذلك الغيبة‪ ،‬فقال‪( :‬أ ّما الغيبة وهي من المهلكات؛ فإن‬
‫فإن عادة الن اس كافّ ة‬
‫التحرّز عنها مع المخالطة عظيم ال ينجو منها إاّل الص ّديقون‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫التمضمض بأعراض الناس والتف ّكه به ا‪ ،‬والتنقّ ل بحالوته ا‪ ،‬فهي طعمتهم ول ذتهم‪،‬‬
‫وإليها يستروحون من وحشتهم في الوحشة؛ فإن خالطتهم ووافقت أثمت وتعرّض ت‬
‫لسخط هللا‪ ،‬وإن سكت كنت شريكا والمستمع أحد المغت ابين‪ ،‬وإن أنك رت أبغض وك‬

‫‪ )(1‬أمالي الصدوق ص‪.119‬‬


‫‪)(2‬أمالي الصدوق ص‪.396‬‬
‫‪ )(3‬قرب اإلسناد ص‪.28‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،67/110 :‬وكتاب الحسين بن سعيد‪.‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،67/111 :‬وعدة الداعي‪.‬‬
‫‪ )(6‬بحار األنوار‪ ،67/112 :‬وعدة الداعي‪.‬‬
‫‪ )(7‬بحار األنوار‪ ،67/111 :‬وعدة الداعي‪.‬‬
‫‪ )(8‬إحياء علوم الدين (‪)228 /2‬‬
‫‪390‬‬
‫وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا غيبة إلى الغيبة‪ ،‬وربّم ا زادوا على الغيب ة‬
‫وانتهوا إلى االستخفاف والشتم)(‪)1‬‬
‫ومن األمثلة عن الضرورات الداعية إليها ما س ماه [مس ارقة الطبع]‪ ،‬بس بب‬
‫(ما يشاهده من أعمال الناس وأخالقهم فهو داء دفين قلّما يتنبّه له العقالء فض ال عن‬
‫الغافلين‪ ،‬فال يجالس اإلنسان فاسقا م ّدة مع كونه منكرا عليه في باطنه إاّل ول و ق اس‬
‫نفس ه إلى م ا قب ل مجالس ته ألدرك بينه ا تفرق ة في النف رة عن الفس اد واس تثقاله إذ‬
‫يصير الفساد بكثرة المشاهدة هيّنا على الطبع ويس قط وقع ه واس تعظامه ل ه‪ ،‬وإنّم ا‬
‫الوازع عنه ش ّدة وقعه في القلب فإذا ص ار مستص غرا بط ول المش اهدة أو ش ك أن‬
‫تنحل الق ّوة الوازعة‪ ،‬ويذعن الطبع للميل إلي ه أو لم ا دون ه ومهم ا ط الت مش اهدته‬
‫للكبائر من غيره استحقر الص غائر من نفس ه‪ ،‬ول ذلك ي زدري الن اظر إلى األغني اء‬
‫نعمة هللا عليه فيؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده‪ ،‬ويؤثر مجالسة الفق راء في‬
‫استعظام ما أتيح له من النعم‪ ،‬فكذلك النظر إلى المطيعين والعصاة وه ذا ت أثيره في‬
‫الطبع‪ ،‬فمن يقصر نظ ره على مالحظ ة أح وال الص الحين في العب ادة والت ن ّزه عن‬
‫ال ّدنيا فال يزال ينظر إلى نفسه بعين االستصغار‪ ،‬وإلى عبادته بعين االستحقار‪ ،‬وما‬
‫دام يرى نفسه مقصّرا‪ ،‬ال يخلو عن داعية االجتهاد رغبة في االس تكمال واس تيماال‬
‫لالقت داء‪ ،‬ومن نظ ر إلى األح وال الغالب ة على أه ل ال ّزم ان وإعراض هم عن هللا‪،‬‬
‫وإقبالهم على ال ّدنيا‪ ،‬واعتيادهم للمعاصي استعظم أمر نفسه ب أدنى رغب ة في الخ ير‬
‫يصادفها في قلبه‪ ،‬وذل ك ه و الهالك‪ ،‬ويكفي في تغي ير الطب ع مج رّد س ماع الخ ير‬
‫ر فضال عن مشاهدته) (‪)2‬‬ ‫والش ّ‬
‫وإلى هذه المعاني اإلش ارة بم ا روي عن بعض هم أن ه ل زم المق ابر وال ّدفاتر‬
‫فقيل له‪ :‬في ذلك فقال‪ :‬لم أر أسلم من الوحدة‪ ،‬وال أوع ظ من ق بر‪ ،‬وال جليس ا أمت ع‬
‫من دفتر‪.‬‬
‫و كان بعضهم يريد الح ّج وأراد آخر مصاحبته‪ ،‬فقال له‪ :‬دعنا ويحك نتعايش‬
‫بستر هللا إنّي أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬جئت إلى مالك بن دينار وهو قاعد وح ده وإذا كلب ق د وض ع‬
‫حنكه على ركبته فذهبت أطرده فقال لي‪ :‬دعه يا هذا‪ ،‬هذا ال يض ّر وال ي ؤذي وه و‬
‫خير من الجليس السوء‪.‬‬
‫وقيل لبعضهم‪ :‬ما حملك على أن تعتزل الناس؟ قال‪ :‬خش يت أن أس لب دي ني‬
‫وال أشعر‪.‬‬
‫اّل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫و قال آخر‪ :‬اتقوا هللا واحذروا الناس فإنهم ما ركب وا ظه ر بع ير إ أدب روه‪،‬‬
‫وال ظهر جواد إاّل عقروه‪ ،‬وال قلب مؤمن إاّل خرّبوه‪.‬‬
‫ف لس قوط الحق وق‬ ‫و قال آخر‪ :‬أقلل المعارف فإنّ ه أس لم ل دينك وقلب ك‪ ،‬وأخ ّ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)228 /2‬‬


‫‪ )(2‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪17 :‬‬
‫‪391‬‬
‫عنك ألنّه كلّما كثرت المعارف كثرت الحقوق وعسر القيام بالجميع‪.‬‬
‫وكل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ال يؤخذ على إطالقه‪ ،‬وإنم ا باعتب ار المح ل‬
‫الذي يكون فيه المؤمن؛ فإن كان بين ناس مؤمنين صالحين تفيده صحبتهم‪ ،‬وتهذب ه‬
‫وتؤدب ه؛ أو ك ان بين ن اس يمكنهم أن يس تفيدوا من ه‪ ،‬أو يت أدبوا على يدي ه؛ فخلط ة‬
‫هؤالء أفضل‪ ،‬ألنه بين أن يستفيد منهم‪ ،‬أو يفيدهم‪.‬‬
‫ولذلك لم يبق إال أولئك المنحرف ون المنغلق ون ال ذين س دوا آذانهم عن س ماع‬
‫المواعظ أو النصائح‪ ،‬فلذلك كان األولى تركهم‪ ،‬وسؤال الهداي ة لهم؛ فلعله ا ت أتيتهم‬
‫من أبواب أخرى غير بابه‪.‬‬
‫ولهذا أمر هللا تعالى الرسل عليهم السالم ب اعتزال أق وامهم بع د الي أس منهم‪،‬‬
‫َص ُرنَا فَنُ َ‬
‫جِّي‬ ‫س الرُّ ُس ُل َوظَنُّوا أَنَّهُ ْم قَ ْد ُك ِذبُوا َج ا َءهُ ْم ن ْ‬ ‫﴿حتَّى إِ َذا ا ْستَيْأ َ َ‬
‫كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َم ْن نَ َشا ُء َوال يُ َر ُّد بَأ ُسنَا َع ِن القَوْ ِم ال ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ (يوسف‪)110:‬‬
‫العزلة المؤقتة‪:‬‬
‫أما العزلة الثانية‪ ،‬وهي المؤقتة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تل ك ال تي يطل ق‬
‫عليها بعضهم [الخلوة]‪ ،‬ويقص دون به ا االنف راد ب النفس م دة من ال زمن تط ول أو‬
‫تقصر‪ ،‬لتهذيبها وتزكيتها وترقيتها ومراجعة مواقفه ا‪ ،‬وطوله ا أو قص رها خاض ع‬
‫لتحقق الغرض منها‪.‬‬
‫وقد أشار بعض الحكماء إليها في قوله‪( :‬ما نفع القلب شي ء مثل عزلة يدخل‬
‫به ا مي دان فك رة)؛ ف الغرض من ه ذه العزل ة التفك ر في النفس وأخالقه ا وكيفي ة‬
‫تقويمها‪ ،‬وكيفية الرقي بها إلى معارج الكمال المهيأة لها‪.‬‬
‫وقد عل ق بعض هم على تل ك الحكم ة‪ ،‬فق ال‪( :‬الخل وة هي انف راد الق الب عن‬
‫الناس‪ ،‬إذ ال ينفرد القلب باهلل إال إذا انف رد الق الب‪ .‬والفك رة س ير القلب إلى حض رة‬
‫الرب‪ ،‬وهي على قسمين‪ :‬فكرة تص ديق وإيم ان‪ ،‬وفك رة ش هود وعي ان‪ .‬وال ش يء‬
‫كالح ْمي ة‪ ،‬والفك رة كال دواء‪ ،‬فال‬ ‫ِ‬ ‫أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفك رة‪ ،‬ألن العزل ة‬
‫ينفع الدواء بغير حمية‪ ،‬وال فائ دة في الحمي ة من غ ير دواء‪ ،‬فال خ ير في عزل ة ال‬
‫فكرة فيها وال نهوض بفكرة ال عزلة معها‪ ،‬إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب‪،‬‬
‫والمقصود من التف رغ ه و َج والَن القلب واش تغال الفك رة‪ ،‬والمقص ود من اش تغال‬
‫الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب‪ ،‬وتمكن العلم باهلل من القلب هو دواؤه وغاي ة‬
‫صحته‪ ،‬وهو الذي سماه هللا القلب الس ليم‪ ،‬ق ال هللا تع الى في ش أن القيام ة‪﴿ :‬يَ وْ َم اَل‬
‫يم (‪[ ﴾)89‬الشعراء‪)1()]89 ،88 :‬‬ ‫ب َسلِ ٍ‬ ‫يَ ْنفَ ُع َما ٌل َواَل بَنُونَ (‪ )88‬إِاَّل َم ْن أَتَى هَّللا َ بِقَ ْل ٍ‬
‫وشبه تأثير الخلوة التربوي بتأثير الحمية‪ ،‬فقال‪( :‬إن القلب كالمعدة إذا ق ويت‬
‫عليها األخالط مرضت‪ ،‬وال ينفعها إال الحمية‪ ،‬وهو قلة مواده ا‪ ،‬ومنعه ا من ك ثرة‬
‫األخالط (المع دة بيت ال داء‪ ،‬والحمي ة رأس ال دواء)‪ .‬وك ذلك القلب إذا ق ويت علي ه‬
‫الخواطر واستحوذ علي ه الحس م رض‪ ،‬وربم ا م ات‪ ،‬وال ينفع ه إال الحمي ة منه ا‪،‬‬

‫‪ )(1‬المنقذ من الضالل‪ ،‬ص‪.131‬‬


‫‪392‬‬
‫والفرار من مواطنها‪ ،‬وهي الخلطة‪ ،‬فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه‪،‬‬
‫واستقام قلبه‪ ،‬وإال بقي سقيما ً ح تى يلقى هللا بقلب س قيم بالش ك والخ واطر الرديئ ة‪،‬‬
‫نسأل هللا العافية)(‪)1‬‬
‫وذكر حكيم آخر سر تلك الفوائد‪ ،‬وعالقتها بالنفس واستعداداتها‪ ،‬فقال‪( :‬وأما‬
‫الخلوة ففائدتها دفع الشواغل‪ ،‬وضبط السمع والبص ر‪ ،‬فإنهم ا دهل يز القلب‪ ،‬والقلب‬
‫في حكم حوض تنصب إليه مياه كريه ة ك درة ق ذرة من أنه ار الح واس‪ .‬ومقص ود‬
‫الرياضة تفريغ الح وض من تل ك المي اه ومن الطين الحاص ل منه ا؛ ليتفج ر أص ل‬
‫الحوض‪ ،‬فيخرج منه الماء النظي ف الط اهر‪ .‬وكي ف يص ح ل ه أن ي نزح الم اء من‬
‫الحوض‪ ،‬واألنهار مفتوحة إليه ؟ فيتجدد في ك ل ح ال أك ثر مم ا ينقص‪ .‬فال ب د من‬
‫ضبط الحواس إال عن قدر الضرورة‪ ،‬وليس يتم ذلك إال بالخلوة)(‪)2‬‬
‫وذك ر حكيم آخ ر دوره ا في الترقي ة‪ ،‬فق ال (إن المت أهب الط الب للمزي د‪،‬‬
‫المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة وال ذكر‪ ،‬وف رَّغ المح ل من‬
‫الفكر‪ ،‬وقعد فقيراً ال شيء له عند ب اب رب ه‪ ،‬حينئ ذ يمنح ه هللا تع الى‪ ،‬ويعطي ه من‬
‫العلم به واألسرار اإللهية والمعارف الربانية ال تي أث نى هللا س بحانه به ا على عب ده‬
‫خض ر فق ال‪﴿ :‬ع ْب داً ِم ْن ِعبا ِدن ا آتين اهُ رح َم ةً ِم ْن عن ِدنا وعَلَّ ْمن اهُ ِم ْن لَ ُدنّا علم ا ً﴾‬
‫[الكهف‪ .]65 :‬وق ال‪﴿ :‬واتَّق وا هللاَ ويُ َعلِّ ُم ُك ُم هللاُ﴾ [البق رة‪ .]282 :‬ق ال‪ْ :‬‬
‫﴿إن تتَّق وا هللاَ‬
‫يَج َع لْ ل ُك ْم فُرقان ا ً﴾ [األنف ال‪ .]29 :‬وق ال‪﴿ :‬ويجع لْ لَ ُك ْم نُ وراً تمش ونَ به﴾ [الحدي د‪:‬‬
‫‪ ..]28‬فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع هللا وبه جلَّت هيبته وعظمت منته‪ ،‬من‬
‫العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة‪ ،‬بل كل صاحب نظر وبرهان‪ ،‬ليست‬
‫له هذه الحالة)(‪)3‬‬
‫وما ذكروه ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك تش بيهه ب المريض ال ذي ق د يع زل‬
‫في مح ال خاص ة‪ ،‬إلى أن تع ود إلي ه الص حة‪ ،‬وحينه ا يمكن ه أن يع ود لالختالط‬
‫بالمجتمع من جديد‪.‬‬
‫﴿واذكر اس م ربِّكَ وتَبَتَّلْ إلي ه تب تيال﴾ً‬‫ِ‬ ‫ويدل لهذا النوع من العزلة قوله تعالى‪:‬‬
‫[المزمل‪ ،]8 :‬فاآلية الكريمة تدعو إلى التبتل‪ ،‬وهو االنقط اع الت ام هلل تع الى‪ ،‬وه و‬
‫نفس معنى الخلوة‪.‬‬
‫ومما يدل عليه من السنة أن (أو ُل ما بُ ِدى َء به رسول هللا ‪ ‬من الوحي الرؤي ا‬
‫ِّب إلي ه‬
‫الصالحة في النوم‪ ،‬فكان ال ي رى رؤي ا إال ج اءت مث ل فل ق الص بح‪ ،‬ثم ُحب َ‬
‫ث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد‪ ،‬قب ل‬ ‫الخال ُء‪ ،‬وكان يخلو بغار ِحرا َء؛ فيتَ َحنَّ ُ‬
‫أن ينزع إلى أهله‪ ،‬ويتزود لذلك‪ ،‬ثم يرجع إلى خديجة‪ ،‬ويتزود لمثله ا‪ ،‬ح تى ج اءه‬
‫الحق‪ ،‬وهو في غار حراء)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬إيقاظ الهمم في شرح الحكم‪)1/30( ،‬‬


‫عل الدين (‪)76 /3‬ا‬
‫‪ )(2‬إحياء ِ‬
‫‪ )(3‬الفتوحات المكية‪)280 /1( ،‬‬
‫‪ )(4‬صحيح البخاري (‪)3 /1‬‬
‫‪393‬‬
‫وقد علق بعضهم على ه ذا الح ديث بقول ه‪( :‬في الح ديث دلي ل على أن الخل وة‬
‫عون لإلنسان على تعبده وصالح دينه‪ ،‬ألن الن بي ‪ ‬لم ا اع تزل عن الن اس وخال‬
‫بنفسه‪ ،‬أتاه هذا الخير العظيم‪ ،‬وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قس م ل ه من‬
‫مقام ات الوالي ة‪ ،‬وفي ه دلي ل على أن األوْ لى بأه ل البداي ة الخل وة واالع تزال‪ ،‬ألن‬
‫النبي ‪ ‬كان في أول أمره يخلو بنفسه‪ ..‬وفيه دليل على أن البداية ليس ت كالنهاي ة‪،‬‬
‫ألن النبي ‪ ‬أول ما بُ ِدى َء في نبوت ه ب المرائي‪ ،‬فم ا زال ‪ ‬ي رتقي في ال درجات‬
‫ك في اليقظة بالوحي‪ ،‬ثم ما زال ي رتقي‪ ،‬ح تى ك ان كق اب‬ ‫والفضل‪ ،‬حتى جاءه ال َمل ُ‬
‫قوسين أو أدنى‪ ،‬وهي النهاية‪ .‬فإذا كان هذا في الرس ل فكي ف ب ه في األتب اع؟! لكن‬
‫بين الرسل واألتباع فرق‪ ،‬وهو أن األتباع يترقون في مقامات الوالية ـ ما عدا مق ام‬
‫وي بس اطه ـ ح تى ينته وا إلى مق ام‬‫النبوة‪ ،‬فإنه ال سبيل لهم إليه ا‪ ،‬ألن ذل ك ق د طُ َ‬
‫المعرفة والرضا‪ ،‬وهو أعلى مقامات الوالية)(‪)5‬‬
‫هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ وأنا أنصحك بأن تتخذ لنفسك‬
‫في كل يوم أوقاتا‪ ،‬تتفرغ فيها لنفسك‪ ،‬وتهذيبها وتزكيته ا وترقيته ا‪ ..‬وهك ذا يمكن ك‬
‫أن تتخذ في كل أسبوع أو شهر مدة من الزمن‪ ،‬تراجع فيها مواقفك‪ ،‬وتحاس ب فيه ا‬
‫نفسك‪ ،‬حتى ال يسلب المجتمع حقيقتك عن ك‪ ..‬ف أنت س تذهب إلى هللا وح دك‪ ،‬وليس‬
‫م ع مجتمع ك‪ ..‬فاح ذر أن يغ روك عن نفس ك‪ ،‬وتص بح تابع ا ذليال لهم‪ ،‬م ع أن هللا‬
‫تعالى خلقك حرا عزيزا‪.‬‬
‫واسع ـ أيه ا المري د الص ادق ـ في تل ك الخل وات ال تي تختلي فيه ا بنفس ك‪،‬‬
‫وتراجع فيها مواقف ك أن تك ون ص ارما حازم ا؛ فك ل من رأيت ه حجاب ا بين ك وبين‬
‫الحق‪ ،‬فاقطعه وأزله وارفع ه‪ ..‬فال خ ير فيمن يحجب ك عن رب ك‪ ،‬وال خ ير فيمن ال‬
‫يعينك على تزكية نفسك‪.‬‬

‫‪ )(5‬بهجة النفوس شرح مختصر البخاري‪)1/10( ،‬‬


‫‪394‬‬
‫المخالطة التربوية‬
‫كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن مخالط ة المجتم ع‪ ،‬وكيفي ة‬
‫تحويله ا إلى مدرس ة تربوي ة ت زكى النفس وترقىه ا من خالل التلم ذة عليه ا‪ ،‬ح تى‬
‫تصبح بذلك كال من خلوة السالك وجلوته طريقا يسير به إلى الكمال المتاح له‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن م ا ذكرت ه من إمكاني ة تحوي ل‬
‫المخالطة إلى وسيلة تربوية للنفس لتزكيها وترقيها هو نفس ما وردت به النصوص‬
‫المقدسة‪ ،‬كما اختصر ذلك رسول هللا ‪ ‬في قوله‪( :‬الّذي يخالط الناس ويصبر على‬
‫أذاهم خير من الّذي ال يخالط النّاس وال يصبر على أذاهم)(‪)1‬‬
‫هذب بها النفس ال يمكن تطبيقها إال‬ ‫بل إن الكثير من التكاليف الشرعية التي تُ َّ‬
‫بالمخالطة‪ ،‬وإال أصبح المعتزل فردا حيادي ا‪ ،‬وج وده كعدم ه‪ ،‬ويفوت ه ب ذلك الخ ير‬
‫الكثير الذي أعده هللا تعالى لمن مارس الحياة االجتماعية بكل صعوباتها‪.‬‬
‫ولذلك يص نف هللا تع الى البش ر ـ بحس ب قع ودهم ونش اطهم ـ إلى قس مين‪،‬‬
‫فيقول‪﴿ :‬ال يَ ْست َِوي ْالقَا ِع ُدونَ ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َغ ْي ُر أُولِي الض ََّر ِر َو ْال ُم َجا ِه ُدونَ فِي َس بِي ِل‬
‫هَّللا ِ بِأ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فَض ََّل هَّللا ُ ْال ُم َجا ِه ِدينَ بِ أ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم َعلَى ْالقَا ِع ِدينَ َد َر َج ةً‬
‫َظيم اً﴾ (النس اء‪:‬‬ ‫اع ِدينَ أَجْ راً ع ِ‬ ‫ض َل هَّللا ُ ْال ُم َجا ِه ِدينَ َعلَى ْالقَ ِ‬ ‫َوكُاّل ً َو َع َد هَّللا ُ ْال ُح ْسنَى َوفَ َّ‬
‫‪)95‬‬
‫ويخبر عن موقف الكسالى في كل عصر من حنينهم إلى القع ود ـ ول و باس م‬
‫ورةٌ أَ ْن آ ِمنُ وا بِاهَّلل ِ‬ ‫ت ُس َ‬ ‫﴿وإِ َذا أُ ْن ِزلَ ْ‬ ‫الخل وة والعزل ة أو االبتع اد عن الفتن ـ فيق ول‪َ :‬‬
‫اع ِدينَ ﴾‬ ‫اس تَأْ َذنَكَ أُولُ وا الطَّوْ ِل ِم ْنهُ ْم َوق الوا ذرْ ن ا نكن َم َع الق ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َو َجا ِه دُوا َم َع َر ُس ولِ ِه ْ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫أَل‬
‫﴿ول وْ أ َرادُوا الخ رُو َج َع دوا ل هُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(التوبة‪ ،)86:‬وفي موقف آخر يرد عليهم بقول ه‪َ :‬‬
‫اع ِدينَ ﴾ (التوبة‪)46:‬‬ ‫ْ‬
‫يل ا ْق ُعدُوا َم َع الق ِ‬
‫َ‬ ‫ُع َّدةً َولَ ِك ْن َك ِرهَ هَّللا ُ ا ْنبِ َعاثَهُ ْم فَثَبَّطَهُ ْم َوقِ َ‬
‫وس ى إِنَّا لَ ْن نَ ْد ُخلَهَا‬ ‫وقال عن المنافقين من أصحاب موسى ‪﴿ :‬قَ الُوا يَ ا ُم َ‬
‫اع ُدونَ ﴾ (المائدة‪)24:‬‬ ‫ك فَقَاتِال إِنَّا هَاهُنَا قَ ِ‬ ‫أَبَداً َما دَا ُموا فِيهَا فَ ْاذهَبْ أَ ْنتَ َو َربُّ َ‬
‫ولهذا يأمر المؤمنين بالنفير مهما كانت أحوالهم‪ ،‬فيقول‪﴿ :‬ا ْنفِرُوا ِخفَافا ً َوثِقَ االً‬
‫يل هَّللا ِ َذلِ ُك ْم خَ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ (التوب ة‪:‬‬ ‫َو َجا ِهدُوا بِ أ َ ْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْنفُ ِس ُك ْم فِي َس بِ ِ‬
‫ت أَ ِو ا ْنفِ رُوا َج ِميع اً﴾‬ ‫‪ ،)41‬وق ال‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ُخ ُذوا ِح ْذ َر ُك ْم فَ ا ْنفِرُوا ثُبَ ا ٍ‬
‫(النساء‪)71:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ويعاتبهم على تحديث أنفسهم بعدم النفير‪﴿ :‬يَا أيُّهَا ال ِذينَ آ َمن وا َم ا لك ْم إِذا قِي َل‬
‫ض يتُ ْم بِ ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا ِمنَ اآْل ِخ َر ِة فَ َم ا‬ ‫ض أَ َر ِ‬
‫يل هَّللا ِ اثَّاقَ ْلتُ ْم إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫لَ ُك ُم ا ْنفِرُوا فِي َس بِ ِ‬
‫ع ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا فِي اآْل ِخ َر ِة إِاَّل قَلِيلٌ﴾ (التوبة‪)38:‬‬ ‫َمتَا ُ‬
‫ب ل يتش دد عليهم‪ ،‬فيتوع دهم بالع ذاب األليم إن لم ينف روا‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬إِالّ‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ج ‪ 5‬ص ‪.365‬‬


‫‪395‬‬
‫تَ ْنفِرُوا يُ َع ِّذ ْب ُك ْم َع َذابا ً أَلِيما ً َويَ ْستَ ْب ِدلْ قَوْ ما ً َغي َْر ُك ْم َوال تَضُرُّ وهُ َشيْئا ً َوهَّللا ُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء‬
‫قَ ِديرٌ﴾ (التوبة‪)39:‬‬
‫وهو نفير ال يقتصر على نفير الجيش فقط‪ ،‬بل هو نفير يشمل الحي اة جميع ا‪،‬‬
‫﴿و َم ا َك انَ‬
‫فلكل من في هذه الحياة طاقته التي يخدم األم ة من خالله ا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ لِيَ ْنفِ رُوا َكافَّةً فَلَ وْ ال نَفَ َر ِم ْن ُك لِّ فِرْ قَ ٍة ِم ْنهُ ْم طَائِفَ ةٌ لِيَتَفَقَّهُ وا فِي ال دِّي ِن‬
‫َولِيُ ْن ِذرُوا قَوْ َمهُ ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَ ْي ِه ْم لَ َعلَّهُ ْم يَحْ َذرُونَ ﴾ (التوبة‪)122:‬‬
‫والنفير يقتضي المخالطة والسعي واالجته اد‪ ،‬فل ذلك ي رد في الق رآن الك ريم‬
‫ال ترغيب في الس عي بأجم ل ص يغ التعب ير‪ ،‬ق ال تع الى عن ص احب موس ى علي ه‬
‫ك‬ ‫وس ى إِ َّن ْال َمأَل َ يَ أْتَ ِمرُونَ بِ َ‬
‫ال يَ ا ُم َ‬ ‫صى ْال َم ِدينَ ِة يَ ْس َعى قَ َ‬ ‫السالم﴿ َو َجا َء َر ُج ٌل ِم ْن أَ ْق َ‬
‫اص ِحينَ ﴾ (القصص‪ ،)20:‬وقال عن صاحب الرس ل‪:‬‬ ‫ك ِمنَ النَّ ِ‬ ‫اخرُجْ إِنِّي لَ َ‬ ‫لِيَ ْقتُلُوكَ فَ ْ‬
‫ْ‬
‫ال يَ ا قَ وْ ِم اتَّبِ ُع وا ال ُمرْ َس لِينَ ﴾ (يّـس‪،)20:‬‬ ‫صى ال َم ِدينَ ِة َر ُج ٌل يَ ْس َعى قَ َ‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫﴿ َو َجا َء ِم ْن أ ْق َ‬
‫ك يَ ْس َعى﴾ (عبس‪)8:‬‬ ‫وقال عن صاحب محمد ‪َ ﴿ :‬وأَ َّما َم ْن َجا َء َ‬
‫والمؤمن لهذا االجتهاد والسعي الذي يمشي به في الناس هو في الحقيقة ن ور‬
‫يضيء ظلمات المجتمع‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَ َو َم ْن َكانَ َميْتا ً فَأَحْ يَ ْينَاهُ َو َج َع ْلنَا لَهُ نُوراً يَ ْم ِش ي‬
‫ج ِم ْنهَا َك َذلِكَ ُزيِّنَ لِ ْل َك افِ ِرينَ َم ا َك انُوا‬ ‫خَار ٍ‬
‫ْس بِ ِ‬ ‫الظلُ َما ِ‬
‫ت لَي َ‬ ‫اس َك َم ْن َمثَلُهُ فِي ُّ‬ ‫بِ ِه فِي النَّ ِ‬
‫يَ ْع َملُونَ ﴾ (األنعام‪)122:‬‬
‫ولهذا تضمنت وصية لقمان عليه السالم الحض على هذا الن وع من التربي ة‪،‬‬
‫اص بِرْ َعلَى َم ا‬ ‫ُوف َوا ْن هَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َو ْ‬ ‫ي أَقِ ِم الصَّالةَ َو ْأ ُمرْ بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬يَا بُنَ َّ‬
‫ُ‬ ‫أَ َ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)17:‬‬ ‫ك ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫صابَكَ إِ َّن َذلِ َ‬
‫وبناء على هذه النصوص المقدسة‪ ،‬وغيرها كثير؛ فإن للمخالطة ـ بش روطها‬
‫وض وابطها الش رعية ـ دور ترب وي كب ير‪ ،‬يكم ل األدوار ال تي تق وم به ا العزل ة‬
‫الشرعية‪ ..‬فكالهما منهجان يستعمالن في المحال المناسبة لهما‪.‬‬
‫وهما يشبهان بذلك دور الجندي الذي ال ينزل إلى المعركة إال بعد أن يع تزل‬
‫الحرب‪ ،‬ويدرب نفسه بكل القدرات التي تمكنه من االنتصار‪.‬‬
‫أو مثل المريض الذي ال يخرج من المستشفى إال بعد أن يكتمل عالجه‪ ،‬حتى‬
‫ال يصاب من جديد بالعدوى‪ ،‬أو حتى ال ينقل مرضه إلى غيره‪.‬‬
‫وسأش رح ل ك كال ال دورين من خالل م ا ورد في النص وص المقدس ة‪ ،‬وم ا‬
‫ذكره الحكماء‪.‬‬
‫المخالطة والتزكية‪:‬‬
‫أول األدوار ال تي تؤديه ا المخالط ة في التربي ة والتزكي ة والته ذيب ـ أيه ا‬
‫المريد الصادق ـ م ا يمكن تس ميته [تنمي ة طاق ة التحم ل]‪ ،‬ذل ك أن النفس ـ بس بب‬
‫اعتزاله ا الطوي ل عن الخل ق ـ ال تتع رض للكث ير من أن واع البالء ال تي ترتب ط‬
‫بالمخالطة‪ ،‬وبذلك تصبح ضعيفة هش ة ق د ي ؤثر فيه ا أبس ط المواق ف‪ ،‬ول ذلك ف إن‬
‫تنمية قوتها ترتبط بمخالطة المجتمع‪.‬‬

‫‪396‬‬
‫وإلى هذا المعنى اإلشارة بقوله تعالى‪﴿ :‬لَتُ ْبلَ ُو َّن فِي أَ ْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْنفُ ِس ُك ْم َولَت َْس َمع َُّن‬
‫ى َكثِيراً َوإِ ْن تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُ وا‬ ‫ِمنَ الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِكت َ‬
‫َاب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َو ِمنَ الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُكوا أَذ ً‬
‫﴿ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم بِ َش ْي ٍء ِمنَ ْال َخوْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫ور﴾ (آل عمران‪ ،)186:‬وقوله‪َ :‬‬ ‫ك ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫فَإِ َّن َذلِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الص ابِ ِرينَ ﴾ (البق رة‪،)155:‬‬ ‫ت َوبَ ِّش ِر َّ‬ ‫َّ‬
‫س َوالث َم َرا ِ‬ ‫ُ‬ ‫أْل‬
‫ال َوا ْنف ِ‬ ‫أْل‬
‫ص ِمنَ ا ْم َو ِ‬ ‫ْ‬
‫ُوع َونَق ٍ‬ ‫َو ْالج ِ‬
‫الص ابِ ِرينَ َونَ ْبلُ َو أَ ْخبَ ا َر ُك ْم﴾ (محم د‪:‬‬ ‫﴿ولَنَ ْبلُ َونَّ ُك ْم َحتَّى نَ ْعلَ َم ْال ُم َجا ِه ِدينَ ِم ْن ُك ْم َو َّ‬
‫وقوله‪َ :‬‬
‫‪)31‬‬
‫فاهلل تعالى يحضر األنفس المؤمنة الستقبال البالء بما يخ بر ب ه من س نته في‬
‫خلقه وسنته في المؤمنين‪ ،‬حتى تتأدب األنفس بأدب الص بر العظيم ال ذي ي وفر له ا‬
‫الطاقة على تحمل البالء‪.‬‬
‫والفائدة الثانية من ذلك هي اكتشاف المؤمن لنفسه‪ ،‬وتشخيصه ألدوائه‪ ،‬ذلك‬
‫أنه ال يمكنه أن يشخصها‪ ،‬وهو بعيد عن المجتمع‪ ،‬وإلى ذل ك اإلش ارة بم ا ورد في‬
‫القرآن الك ريم من أن المقص د من البالء‪ ،‬ليس ذات البالء‪ ،‬وإنم ا تمحيص األنفس‪،‬‬
‫وتب يين حقيقته ا‪ ،‬والتفري ق بين الطيب والخ بيث‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬م ا َك انَ هَّللا ُ لِيَ َذ َر‬
‫ُطلِ َع ُك ْم َعلَى‬ ‫ب َو َم ا َك انَ هَّللا ُ لِي ْ‬ ‫يث ِمنَ الطَّيِّ ِ‬ ‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َعلَى َما أَ ْنتُ ْم َعلَ ْي ِه َحتَّى يَ ِميزَ ْالخَ بِ َ‬
‫ُس لِ ِه َوإِ ْن تُ ْؤ ِمنُ وا َوتَتَّقُ وا‬ ‫ُس لِ ِه َم ْن يَ َش ا ُء فَ آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َور ُ‬ ‫ب َولَ ِك َّن هَّللا َ يَجْ تَبِي ِم ْن ر ُ‬ ‫ْال َغ ْي ِ‬
‫فَلَ ُك ْم أَجْ ٌر َع ِظي ٌم﴾ (آل عمران‪)179:‬‬
‫ومما يروى في ذلك أن (حكيم ا من الحكم اء ص نّف كتب ا كث يرة في الحكم ة‬
‫ظن أنّه قد نال عند هللا منزلة‪ ،‬ف أوحى هللا إلى ن ب ّي زمان ه‪( :‬ق ل لفالن إن ك ق د‬ ‫حتّى ّ‬
‫مألت األرض نفاقا‪ ،‬وإنى ال أقبل من نفاق ك ش يئا)‪ ،‬فتخلى وانف رد في س رب تحت‬
‫األرض‪ ،‬وقال اآلن قد بلغت رضا ربي‪ .‬ف أوحى هّللا إلى نبي ه‪ ،‬ق ل ل ه إن ك لن تبل غ‬
‫رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم‪ ،‬فخرج إلى األس واق‪ ،‬وخال ط الن اس‬
‫وجالسهم وواكلهم‪ ،‬وأكل الطعام بينهم‪ ،‬ومشى في األسواق معهم‪ .‬فأوحى هّللا تع الى‬
‫إلى نبيه‪ ،‬اآلن قد بلغ رضاي)‬
‫وق د ق ال بعض الحكم اء ينك ر على المع تزلين عزل ة غ ير ش رعية‪ ،‬مبين ا‬
‫األمراض التي دعتهم إلى ذلك‪( :‬فكم من معتزل في بيته وباعثه الكبر‪ ،‬ومانع ه عن‬
‫المحافل أن ال يوقر أو ال يقدم‪ ،‬أو ي رى ال ترفع عن مخ الطتهم أرف ع لمحل ه‪ ،‬وأبقى‬
‫لطراوة ذكره بين الناس‪ ،‬وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه لو خال ط‪ ،‬فال تعتق د‬
‫فيه الزه د واالش تغال بالعب ادة فيتخ ذ ال بيت س ترا على مقابح ه‪ ،‬إبق اء على اعتق اد‬
‫الناس في زهده وتعبده‪ ،‬من غير استغراق وقت في الخلوة بذكر أو فكر)‬
‫ثم ذكر العالمات الدالة عليهم‪ ،‬فقال‪( :‬وعالمة هؤالء أنهم يحب ون أن ي زاروا‬
‫وال يحبون أن يزوروا ويفرحون بتقرب العوام والس الطين إليهم‪ ،‬واجتم اعهم على‬
‫بابهم وطرقهم‪ ،‬وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك‪ .‬ولو كان االشتغال بنفسه هو الذي‬
‫يبغض إلي ه المخالط ة وزي ارة الن اس‪ ،‬لبغض إلي ه زي اراتهم ل ه‪ ،‬كم ا حكين اه عن‬
‫الفضيل حيث قال‪ :‬وهل جئتني إال ألتزين لك وتتزين لي وعن حاتم األصم أنه ق ال‬

‫‪397‬‬
‫لألمير الذي زاره‪ :‬حاجتي أن ال أراك وال تراني‪ .‬فمن ليس مشغوال مع نفسه ب ذكر‬
‫هّللا ‪ ،‬فاعتزاله عن الناس سببه ش دة اش تغاله بالن اس‪ ،‬ألن قلب ه متج رد لاللتف ات إلى‬
‫نظرهم إليه بعين الوقار واالحترام والعزلة بهذا السبب جهل) (‪)1‬‬
‫ولهذا كان اإلمام الحسن يم ّر بالشحاذين‪ ،‬وبين أيديهم كسر الخ بز‪ ،‬فيقول ون‪:‬‬
‫هل ّم إلى الغداء يا ابن رسول هللا ‪ ،‬فكان ينزل على الطريق ويأكل معهم‪ ،‬ويق ول‪:‬‬
‫(إن هللا ال يحبّ المس تكبرين)(‪ ،)2‬وفي ذل ك إش ارة إلى أن المع تزلين لمث ل ه ذه‬ ‫ّ‬
‫المجالس مستكبرون من حيث ال يشعرون‪.‬‬
‫وله ذا ف إن الكث ير من مث الب النفس األم ارة ال يمكن معرفته ا من دون‬
‫مخالطة‪ ،‬ذلك أنها وح دها من يكش ف ج وهر اإلنس ان‪ ،‬وله ذا ي دعو هللا تع الى إلى‬
‫ابتالء اليتامى للنظر في قدرتهم على التعامل السليم مع المال قبل تسليمه لهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اح فَإِ ْن آنَ ْستُ ْم ِم ْنهُ ْم ُر ْشداً فَا ْدفَعُوا إِلَ ْي ِه ْم أَ ْم َوالَهُ ْم َوال‬ ‫﴿ َوا ْبتَلُوا ْاليَتَا َمى َحتَّى إِ َذا بَلَ ُغوا النِّ َك َ‬
‫ف َو َم ْن َك انَ فَقِ يراً فَ ْليَأْ ُك لْ‬ ‫تَأْ ُكلُوهَا إِس َْرافا ً َوبِدَاراً أَ ْن يَ ْكبَرُوا َو َم ْن َكانَ َغنِيّ ا ً فَ ْليَ ْس تَ ْعفِ ْ‬
‫ُوف فَإِ َذا َدفَ ْعتُ ْم إِلَ ْي ِه ْم أَ ْم َوالَهُ ْم فَأ َ ْش ِهدُوا َعلَ ْي ِه ْم َو َكفَى بِاهَّلل ِ َح ِسيباً﴾ (النساء‪)6:‬‬ ‫بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ومثل المال ك ل المس ؤوليات ال تي ال يمكن تحمله ا م ا لم ينجح ص احبها في‬
‫االختبارات التي يتعرض لها‪ ..‬ولهذا يخبرنا هللا تعالى عن نم وذج من نم اذج البالء‬
‫ال إِ َّن هَّللا َ‬ ‫وت بِ ْال ُجنُو ِد قَ َ‬ ‫ص َل طَ الُ ُ‬ ‫الذي قام به طالوت لتمي يز جن وده‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬فَلَ َّما فَ َ‬
‫ط َع ْم هُ فَإِنَّهُ ِمنِّي إِاَّل َم ِن ا ْغتَ َرفَ‬ ‫ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ‬ ‫ب ِم ْن هُ فَلَي َ‬ ‫ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ‬
‫او َزهُ ه َُو َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َعهُ قَالُوا ال طَاقَ ةَ‬ ‫ُغرْ فَةً بِيَ ِد ِه فَ َش ِربُوا ِم ْنهُ إِاَّل قَلِيالً ِم ْنهُ ْم فَلَ َّما َج َ‬
‫ت فِئَةً‬ ‫لَنَا ْاليَوْ َم بِ َجالُوتَ َو ُجنُو ِد ِه قَا َل الَّ ِذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ ْم ُمالقُو هَّللا ِ َك ْم ِم ْن فِئَ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبَ ْ‬
‫َكثِي َرةً بِإِ ْذ ِن هَّللا ِ َوهَّللا ُ َم َع الصَّابِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪)249:‬‬
‫ب ل إن هللا تع الى يجع ل لمن نجح في امتح ان البالء الش ديد اإلمام ة في‬
‫األرض‪ ،‬واإلمام في االصطالح القرآني هو من ك ان قائ دا للن اس وق دوة لهم‪ ،‬ق ال‬
‫ال َو ِم ْن‬ ‫اس إِ َماما ً قَ َ‬
‫ك لِلنَّ ِ‬ ‫اعلُ َ‬‫ال إِنِّي َج ِ‬ ‫ت فَأَتَ َّمه َُّن قَ َ‬
‫﴿وإِ ِذ ا ْبتَلَى إِ ْب َرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َما ٍ‬‫تعالى‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫ال ال يَنَا ُل َعه ِدي الظالِ ِمينَ ﴾ (البقرة‪)124:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُذ ِّريَّتِي قَ َ‬
‫والفائدة التربوية الثالثة للمخالطة هي ما ورد في وصية لقمان علي ه الس الم‬
‫﴿أ ُم رْ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ُوف‬ ‫بعد ذكره لألمر بالمعروف والنهي عن المنك ر‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ْ :‬‬
‫ُ‬ ‫َوا ْنهَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َواصْ بِرْ َعلَى َما أَ َ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)17:‬‬ ‫ك ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫صابَكَ إِ َّن َذلِ َ‬
‫ألن مواجهة الناس باألمر ب المعروف والنهي عن المنك ر تس تدعي مواجه ة‬
‫الناس في العادة لهذا اآلم ر بأص ناف األذى‪ ،‬ألن ه ذا الناص ح المحتس ب ال يواج ه‬
‫عق ول الن اس بق در م ا يواج ه م واطن الش ر فيهم‪ ،‬وهي م واطن تأخ ذها الحمي ة‬
‫ويستفزها الشيطان‪ ،‬فال تسكت عن هذا اآلمر المحتسب‪.‬‬
‫ولهذا أخبر تعالى عن سنته في المرسلين أنهم يتعرض ون لك ل أن واع البالء‪،‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.87 /6 ،‬‬


‫‪ )(2‬المناقب البن شهرآشوب ج ‪ 4‬ص ‪.23‬‬
‫‪398‬‬
‫ض لِي ُْخ ِر ُج وكَ ِم ْنهَ ا َوإِذاً ال يَ ْلبَثُ ونَ‬ ‫ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن َك ادُوا لَيَ ْس تَفِ ُّزونَكَ ِمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫ِخالفَكَ إِاَّل قَلِيالً﴾ (االسراء‪ ،)76:‬ثم قال بعدها مبينا أن ه ذا س نته في من أرس ل من‬
‫خلقه‪ُ ﴿ :‬سنَّةَ َم ْن قَ ْد أَرْ َس ْلنَا قَ ْبلَكَ ِم ْن ُر ُسلِنَا َوال ت َِج ُد لِ ُسنَّتِنَا تَحْ ِويالً﴾ (االسراء‪)77:‬‬
‫وأخ بر تع الى أنهم ك انوا يقول ون ألق وامهم‪ ،‬وهم يواجه ونهم ب أنواع البالء‪:‬‬
‫َص بِ َر َّن َعلَى َم ا آ َذ ْيتُ ُمونَ ا َو َعلَى هَّللا ِ‬ ‫﴿ َو َما لَنَا أَاَّل نَتَ َو َّك َل َعلَى هَّللا ِ َوقَ ْد هَ دَانَا ُس بُلَنَا َولَن ْ‬
‫فَ ْليَت ََو َّك ِل ْال ُمت ََو ِّكلُونَ ﴾ (ابراهيم‪)12:‬‬
‫والصبر المراد هن ا ليس الص بر في مواض ع المحن فق ط‪ ،‬وإنم ا الص بر في‬
‫جميع ميادين الحياة‪ ،‬ذلك أن التعامل مع الناس يحتاج إلى قوة عظيم ة‪ ،‬ول ذلك ف إن‬
‫القرآن الكريم يش ير إلى أن معان اة موس ى علي ه الس الم م ع قوم ه بع د نج اتهم من‬
‫فرعون أعظم من صبره على كيد فرعون وزبانيته‪.‬‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يتمثل ذكراه عندما يصيبه أي بالء‪ ،‬ففي الحديث أنه‪ :‬لم ا ك ان‬
‫يوم حنين آثر َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬ناس ا في القس مة‪ :‬ف أعطى األق رع بن ح ابس مائ ة ِم ْن‬
‫اإلبل‪ ،‬وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك‪ ،‬وأعطى ناسا ِم ْن أشراف العرب وآث رهم‬
‫يومئذ في القسمة‪ .‬فقال رجل‪ :‬وهَّللا إن هذه قسمة ما ع دل فيه ا وم ا أري د فيه ا وج ه‬
‫هَّللا ‪ .‬فقلت‪ :‬وهَّللا ألخبرن َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه حتى كان‬
‫كالصرف ثم قال‪(:‬فمن يعدل إذا لم يعدل هَّللا ورسوله؟)‪ ،‬ثم قال‪(:‬يرحم هَّللا موسى قد‬
‫أوذي بأكثر ِم ْن هذا فصبر)(‪)1‬‬
‫ولهذا وصف هللا تعالى الصالحين بمواجهة األذى وال رد علي ه‪ ،‬ال االع تزال‬
‫ض ونَ ﴾ (المؤمن ون‪،)3:‬‬ ‫ْر ُ‬ ‫﴿والَّ ِذينَ هُ ْم َع ِن اللَّ ْغ ِو ُمع ِ‬ ‫الكامل عن الخل ق‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫وقال‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َس ِمعُوا اللَّ ْغ َو أَ ْع َرضُوا َع ْنهُ َوقَالُوا لَنَا أَ ْع َمالُنَا َولَ ُك ْم أَ ْع َم الُ ُك ْم َس ال ٌم َعلَ ْي ُك ْم‬
‫﴿و ِعبَ ا ُد ال رَّحْ َم ِن الَّ ِذينَ يَ ْم ُش ونَ َعلَى‬ ‫ال نَ ْبتَ ِغي ْال َج ا ِهلِينَ ﴾ (القص ص‪ ،)55:‬وق ال‪َ :‬‬
‫ض هَوْ نا ً َوإِ َذا خَاطَبَهُ ُم ْال َجا ِهلُونَ قَالُوا َسالماً﴾ (الفرقان‪)63:‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ومن أخبار الصالحين التي تمثل هذا المعنى القرآني خير تمثي ل م ا روي أن‬
‫إبراهيم بن أدهم خ رج يوم ا ً إلى بعض ال براري فاس تقبله رج ل جن دي فق ال‪ :‬أنت‬
‫عبد؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال له‪ :‬أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة‪ ،‬فقال الجن دي‪ :‬إنم ا أردت‬
‫العمران؟ فقال‪ :‬هو المقبرة‪ ،‬فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد‬
‫فاستقبله أصحابه فقالوا ما الخبر؟ فأخبرهم الجندي ما قال له فقالوا‪ ،‬هذا إب راهيم بن‬
‫أدهم فنزل الجندي عن فرسه وقبَّل يديه ورجليه وجعل يعت ذر إلي ه‪ ،‬فقي ل بع د ذل ك‬
‫له‪ :‬لم قلت له أنا عبد؟ فقال‪ :‬إنه لم يسألني‪ :‬عب د من أنت ب ل ق ال‪ :‬أنت عب د؟ فقلت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬ألني عبد هللا‪ ،‬فلما ضرب رأس ي س ألت هللا ل ه الجن ة قي ل كي ف وق د ظلم ك؟‬
‫فقال‪ :‬علمت أنني أؤج ر على م ا ن الني من ه فلم أرد أن يك ون نصيبـي من ه الخ ير‬
‫ونصيبه مني الشر‪.‬‬
‫ويروى أن داعيا دع ا بعض الص الحين إلى وليم ة ـ وك ان ال داعي ق د أراد‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪399‬‬
‫تجربته ـ فلما بلغ منزله رده‪ ،‬وقال ل ه‪ :‬أنت لس ت م دعوا‪ ،‬فرج ع‪ ،‬فلم ا ذهب غ ير‬
‫بعيد دعاه ثانيا ً فقال له‪ :‬يا أستاذ ارجع فرجع‪ ،‬فقال له مثل مقالت ه األولى فرج ع‪ ،‬ثم‬
‫دعاه الثالثة وقال‪ :‬ارجع على ما يوجب الوقت فرجع‪ ،‬فلم ا بل غ الب اب ق ال ل ه مث ل‬
‫مقالت ه األولى فرج ع‪ ،‬ثم ج اءه الرابع ة ف رده ح تى عامل ه ب ذلك م رات‪ ،‬والرج ل‬
‫الصالح ال يتغير من ذلك‪ ،‬فأكب على رجليه وقال‪(:‬يا أستاذ إنم ا أردت أن أخت برك‬
‫ال‪(:‬إن ال ذي رأيت م ني ه و خل ق الكلب‪ ،‬إن الكلب إذا دعي‬ ‫ّ‬ ‫فما أحسن خلق ك)‪ ،‬فق‬
‫أجاب وإذا زجر انزجر)‬
‫وه و موق ف عظيم ل و تمث ل في المجتم ع لحف ظ المجتم ع من أك ثر أس باب‬
‫الشقاق التي يسببها التعالي والعزة الكاذبة‪.‬‬
‫ويروى عن هذ الصالح الذي ربى نفسه على الصبر الشديد‪ ،‬أنه اجت از يوم ا ً‬
‫في سكة فطرحت عليه إجانة رم اد ف نزل عن دابت ه فس جد س جدة الش كر‪ ،‬ثم جع ل‬
‫ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئاً‪ ،‬فقيل‪ :‬أال زبرتهم؟ فق ال‪ :‬إن من اس تحق الن ار‬
‫فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب‪.‬‬
‫ويروى أن اإلمام السجاد دعا غالما ً فلم يجبه فدعاه ثانيا ً وثالثا ً فلم يجبه‪ ،‬فق ام‬
‫إليه فرآه مضطجعا ً فقال‪ :‬أما تسمع يا غالم؟ ق ال‪ :‬بلى‪ ،‬ق ال‪ :‬فم ا حمل ك على ت رك‬
‫إجابتي؟ قال‪ :‬أمنت عقوبتك فتكاسلت‪ ،‬فقال‪ :‬امض فأنت حر لوجه هللا تعالى‪.‬‬
‫ويروى ن أويسا ً القرني كان إذا رآه الصبـيان يرمونه بالحج ارة فك ان يق ول‬
‫لهم‪( :‬يا إخوتاه إن كان وال بد فارموني بالصغار حتى ال تدموا ساقي فتمنعوني عن‬
‫الصالة)‬
‫وقالت امرأة لمالك بن دينار‪ :‬ي ا م رائي‪ ،‬فق ال‪ :‬ي ا ه ذه وج دت اس مي ال ذي‬
‫أضله أهل البصرة‪.‬‬
‫وقد قال بعض الحكماء يصف هذه النفوس‪( :‬فهذه نف وس ق د ذللت بالرياض ة‬
‫فاعتدلت أخالقها‪ ،‬ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها ف أثمرت الرض ا بك ل م ا‬
‫قدره هللا تعالى وهو منتهى حسن الخلق‪ .‬فإن من يكره فعل هللا تعالى وال يرضى ب ه‬
‫فهو غاية سوء خلقه‪ ،‬فهؤالء ظهرت العالم ات على ظ واهرهم كم ا ذكرن ا‪ .‬فمن لم‬
‫يصادف من نفسه هذه العالمات فال ينبغي أن يغ تر بنفس ه فيظن به ا حس ن الخل ق‪،‬‬
‫ب ل ينبغي أن يش تغل بالرياض ة والمجاه دة إلى أن يبل غ درج ة حس ن الخل ق فإنه ا‬
‫درجة رفيعة ال ينالها إال المقربون والصديقون)(‪)1‬‬
‫المخالطة والترقية‪:‬‬
‫أما الدور الثاني للمخالطة ـ أيه ا المري د الص ادق ـ فيتمث ل في ترقي ة النفس‬
‫ونيلها المراتب العالية التي تؤهلها للعروج في سلم الكمال المتاح لها‪.‬‬
‫ذلك أن هللا تعالى ربط بين الرقي والكمال وخدمة المجتمع بكل أنواع الخدمة‬
‫الممكنة؛ ومن حرم نفسه من تلك الخدمات‪ ،‬لن ينال تلك المراتب‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/72 :‬‬


‫‪400‬‬
‫وله ذا ك ان الرس ل عليهم الص الة والس الم وورثتهم أش رف الن اس وأكملهم‬
‫نتيجة لتلك األدوار العظيمة التي قاموا به ا في خدم ة مجتمع اتهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿ونُ ِري ُد أَ ْن نَ ُم َّن َعلَى الَّ ِذينَ‬‫﴿ َو َج َع ْلنَ اهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ َ ْم ِرنَ ا﴾ (االنبي اء‪ ،)73:‬وق ال‪َ :‬‬
‫ارثِينَ ﴾ (القص ص‪ ،)5:‬وق ال‪:‬‬ ‫ض َونَجْ َعلَهُ ْم أَئِ َّمةً َونَجْ َعلَهُ ُم ْال َو ِ‬ ‫ض ِعفُوا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ا ْستُ ْ‬
‫صبَرُوا َو َكانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ (السجدة‪)24:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫﴿ َو َج َعلنَا ِم ْنهُ ْم أئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ ْم ِرنَا لَ َّما َ‬‫ْ‬
‫وهكذا؛ فإن الذي يعتزل الناس عزلة مطلق ة تفوت ه الكث ير من أعم ال الخ ير‬
‫التي رتب هللا تعالى عليها الكثير من األجور التي ال يمكن أن تن ال من دونه ا‪ ،‬ومن‬
‫ذلك ما عبر عنه قوله تعالى‪﴿:‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوهَ ا َجرُوا َو َجاهَ دُوا بِ أ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فِي‬
‫ْض َوالَّ ِذينَ آ َمنُ وا َولَ ْم‬ ‫ْض هُ ْم أَوْ لِيَ ا ُء بَع ٍ‬ ‫َص رُوا أُولَئِ كَ بَع ُ‬ ‫آووْ ا َون َ‬ ‫َس بِي ِل هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ َ‬
‫ص رُو ُك ْم فِي ال دِّي ِن‬ ‫يُهَ ا ِجرُوا َم ا لَ ُك ْم ِم ْن َواَل يَتِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َحتَّى يُهَ ا ِجرُوا َوإِ ِن ا ْستَ ْن َ‬
‫ص يرٌ﴾ (ألنف ال‪:‬‬ ‫ق َوهَّللا ُ بِ َم ا تَ ْع َملُ ونَ بَ ِ‬
‫ص ُر إِاَّل َعلَى قَ وْ ٍم بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم ِميثَ ا ٌ‬ ‫فَ َعلَ ْي ُك ُم النَّ ْ‬
‫‪ ،)72‬ففي هذه اآلية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعضهم بعضا‪ ،‬وهو مم ا ال‬
‫يمكن تحققه للمعتزلين المحايدين‪.‬‬
‫وق د ق ال ‪ ‬يحض على رعاي ة ه ذا ال ركن من أرك ان األخ وة اإليماني ة‪:‬‬
‫(المسلم أخو المسلم ال يسلمه وال يخذله)‪ ،‬وق ال‪(:‬انص ر أخ اك ظالم ا ً أو مظلوم اً)‪،‬‬
‫قيل‪ :‬يا رسول هللا! أنصره مظلوماً‪ ،‬فكيف أنصره ظالم ا؟)‪ ،‬ق ال‪(:‬تمنع ه من الظلم؛‬
‫فذلك نصرك إياه)(‪)1‬‬
‫ومثل ذلك نصيحة الخلق مس لمين وغ يرهم‪ ،‬وال تي ال يمكن تحققه ا من دون‬
‫المخالط ة المش روعة‪ ،‬كم ا أش ار إلى ذل ك قول ه تع الى‪﴿:‬ثُ َّم َك انَ ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫صوْ ا بِ ْال َمرْ َح َم ِة﴾(البل د‪ ،)17:‬وق ال‪﴿:‬إِاَّل الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا‬ ‫صب ِْر َوتَ َوا َ‬‫صوْ ا بِال َّ‬ ‫َوت ََوا َ‬
‫صب ِْر﴾(العصر‪)3:‬‬ ‫صوْ ا بِال َّ‬ ‫ق َوتَ َوا َ‬ ‫صوْ ا بِ ْال َح ِّ‬
‫ت َوتَ َوا َ‬ ‫الصَّالِ َحا ِ‬
‫ي أَقِ ِم‬ ‫وإلى ه ذا اإلش ارة بق ول لقم ان علي ه الس الم في وص يته البنه‪﴿:‬يَ ا بُنَ َّ‬
‫ك إِ َّن َذلِ كَ ِم ْن َع ْز ِم‬ ‫صابَ َ‬ ‫ُوف َوا ْنهَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َواصْ بِرْ َعلَى َما أَ َ‬ ‫الصَّالةَ َو ْأ ُمرْ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)17:‬‬ ‫اأْل ُم ِ‬
‫وقد اعتبر القرآن الكريم هذا الركن خاص ة من خص ائص ه ذه األم ة‪ ،‬فق ال‬
‫ُوف َوتَ ْنهَ وْ نَ َع ِن ْال ُم ْن َك ِر‬ ‫اس تَ أْ ُمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ت لِلنَّ ِ‬ ‫تع الى‪ُ ﴿:‬ك ْنتُ ْم خَ ْي َر أُ َّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ‬
‫َوتُ ْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ﴾ (آل عمران‪)110 :‬‬
‫واعتبر أداء هذا الركن من عالمات المؤمنين الصادقين‪ ،‬فق ال‪﴿:‬ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِاهَّلل ِ‬
‫ت‬‫ار ُعونَ فِي ْالخَ ْي َرا ِ‬ ‫ُوف َويَ ْنهَ وْ نَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َوي َُس ِ‬ ‫َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َويَ أْ ُمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ك ِمنَ الصَّالِ ِحينَ ﴾ (آل عمران‪)114:‬‬ ‫َوأُولَئِ َ‬
‫واعتبره بعد ذلك من عالمات صحة التمكين في األرض‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬الَّ ِذينَ‬
‫ُوف َونَهَ وْ ا ع َِن‬ ‫الص الةَ َوآتَ ُوا ال َّز َك اةَ َوأَ َم رُوا بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ض أَقَا ُموا َّ‬ ‫إِ ْن َم َّكنَّاهُ ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ (الحج‪)41:‬‬ ‫ْال ُم ْن َك ِر َوهَّلِل ِ عَاقِبَةُ اأْل ُم ِ‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري وأحمد‪.‬‬
‫‪401‬‬
‫وقد اعتبر ‪ ‬هذا التناصح ركن ا من أرك ان ال دين‪ ،‬فق ال‪(:‬ال دين النص يحة)‬
‫ثالثا‪ ،‬قلنا لمن؟ قال‪(:‬هلل ولكتابه ولرسوله وألئمة المسلمين وعامتهم)(‪ ،)1‬فقد اعت بر‬
‫‪ ‬الدين نصيحة‪ ،‬ثم عد من النصيحة النصيحة ألئمة المسلمين وعامتهم‪.‬‬
‫ومن ذلك ما عبر عنه رسول هللا ‪ ‬بقوله‪( :‬ح ق المس لم على المس لم خمس‬
‫رد السالم وعيادة المريض وأتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس)(‪)2‬‬
‫وقوله‪( :‬حق المسلم على المسلم ست‪ :‬إذا لقيت ه فس لم علي ه‪ :‬وإذا دع اك فأجب ه‪ ،‬وإذا‬
‫أستنصحك فأنصح له‪ ،‬وإذا عطس فحمد هللا فشمته وإذا مرض فع ده‪ ،‬وإذا م ات فأتبع ه)‬
‫(‪)3‬‬
‫وقوله‪( :‬للمسلم على المسلم ست بالمعروف‪ :‬يس لم علي ه إذا لقي ه‪ ،‬ويجيب ه إذا دع اه‪،‬‬
‫ويشمته إذا عطس‪ ،‬ويعوده إذا مرض‪ ،‬ويتبع جنازته ويحب له ما يحب لنفسه)(‪)4‬‬
‫مال‪ ،‬وما زاد هللا عبد ًا بعف ٍو إال عز ًا‪ ،‬وما تواض ع أح ٌد‬
‫وقوله‪( :‬ما نقصت صدقةٌ من ٍ‬
‫هلل إال رفعه هللا)(‪)5‬‬
‫وقوله‪( :‬التواضع ال يزيد العبد إال رفعة فتواضعوا يرفعكم هللا‪ ،‬والعفو ال يزي د العب د‬
‫إال عزا فاعفوا يعزكم هللا‪ ،‬والصدقة ال تزيد المال إال كثرة فتصدقوا يرحمكم هللا)(‪)6‬‬
‫وقوله‪( :‬طوبى لمن تواضع في غير منقصة‪ ،‬وذل نفسه في غير مسألة‪ ،‬وأنفق م اال‬
‫جمعه في غير معصية‪ ،‬ورحم أهل الذل والمسكنة‪ ،‬وخالط أه ل الفق ه والحكم ة‪ ..‬ط وبى‬
‫لمن طاب كسبه‪ ،‬وصلحت سريرته‪ ،‬وكرمت عالنيته‪ ،‬وعزل عن الن اس ش ره‪ ..‬ط وبى‬
‫لمن عمل بعلمه‪ ،‬وأنفق الفضل من ماله‪ ،‬وأمسك الفضل من قوله)(‪)7‬‬
‫وقوله‪( :‬من يتواضع هلل درجة يرفعه هللا درج ة ح تى يجعل ه في أعلى عل يين‪ ،‬ومن‬
‫يتكبر على هللا درجة يضعه درجة حتى يجعله في أسفل سافلين)(‪)8‬‬
‫وقوله‪( :‬من تواضع ألخيه المسلم رفعه هللا‪ ،‬ومن ارتفع عليه وضعه هللا)(‪)9‬‬
‫وقوله‪( :‬تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عباد هللا‪ ،‬وتخرجوا من الكبر)‬
‫(‪)10‬‬
‫وقول ه‪( :‬عليكم بالتواض ع ف إن التواض ع في القلب وال ي ؤذين مس لم مس لما‪ ،‬فل رب‬
‫متضعف في أطمار لو أقسم على هللا ألبره)(‪)11‬‬
‫وقوله‪( :‬ما من آدمي إال وفي رأسه حكمة بي د مل ك ف إن تواض ع قي ل للمل ك‪ :‬ارف ع‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد والترمذي وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه ابن أبي الدنيا‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه الطبراني بسند حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(9‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(10‬رواه أبو نعيم‪.‬‬
‫‪ )(11‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪402‬‬
‫حكمته‪ ،‬وإذا تكبر قيل للملك‪ :‬ضع حكمته)(‪)1‬‬
‫هللا أحبه هللا)(‪)2‬‬
‫وقوله‪( :‬من تواضع هلل رفعه هللا‪ ،‬ومن اقتصد أغناه هللا‪ ،‬ومن ذكر‬
‫وقوله‪( :‬من تواضع هلل رفعه هللا فهو في نفسه ضعيف وفي أنفس الناس عظيم‪ ،‬ومن‬
‫تكبر وضعه هللا فهو في أعين الناس صغير وفي نفس ه كب ير ح تى له و أه ون عليهم من‬
‫كلب أو خنزير)(‪)3‬‬
‫وقوله‪( :‬ما من آدمي إال وفي رأسه حكمة موك ل به ا مل ك‪ ،‬ف إن تواض ع رفع ه هللا‪،‬‬
‫وإن ارتفع قمعه هللا‪ ،‬والكبرياء رداء هللا فمن نازع هللا قمعه)(‪)4‬‬
‫وقد جمع الكثير من هذه الحقوق اإلمام الصادق؛ فقد ق ال لمن س أله عن ح ق‬
‫المسلم على المسلم‪( :‬له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إال وه و علي ه واجب‪ ،‬إن‬
‫ضيع منها شيئا خرج من والية هللا وطاعته‪ ،‬ولم يكن هلل فيه من نصيب‪ ..‬أيسر ح ق‬
‫منها أن تحب ل ه م ا تحب لنفس ك‪ ،‬وتك ره ل ه م ا تك ره لنفس ك‪ ،‬والث اني أن تجتنب‬
‫سخطه وتتب ع مرض اته‪ ،‬وتطي ع أم ره‪ ،‬والث الث أن تعين ه بنفس ك‪ ،‬ومال ك ولس انك‬
‫ويدك ورجلك‪ ،‬والرابع أن تكون عينه ودليله ومرآت ه‪ ،‬والخ امس ال تش بع ويج وع‪،‬‬
‫وال ت روى ويظم أ‪ ،‬وال تلبس ويع رى والس ادس أن يك ون ل ك خ ادم وليس ألخي ك‬
‫خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه‪ ،‬ويصنع طعامه‪ ،‬ويمهد فراشه‪ ،‬والسابع‬
‫أن تبر قس مه‪ ،‬وتجيب دعوت ه‪ ،‬وتع ود مريض ه‪ ،‬وتش هد جنازت ه وإذا علمت أن ل ه‬
‫حاجة تبادره إلى قضائها وال تلجئه أن يسألكها‪ ،‬ولكن تبادره مبادرة‪ ،‬فاذا فعلت ذلك‬
‫وصلت واليتك بواليته وواليته بواليتك) (‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر قال‪( :‬إن من حق المؤمن على المؤمن المودة له في صدره‪،‬‬
‫والمواساة له في ماله‪ ،‬والخلف له في أهله‪ ،‬والنص رة ل ه على من ظلم ه‪ ،‬وإن ك ان‬
‫نافلة في المسلمين وكان غائبا‪ ،‬أخذ له بنصيبه‪ ،‬وإذا مات الزيارة إلى ق بره‪ ،‬وأن ال‬
‫يظلمه وأن ال يغشه وأن ال يخون ه وأن ال يخذل ه وأن ال يكذب ه وأن ال يق ول ل ه اف‬
‫وإن قال له اف فليس بينهما والية‪ ،‬وإذا قال ل ه أنت ع دوي فق د كف ر أح دهما‪ ،‬وإذا‬
‫اتهمه انماث االيمان في قلبه كما بنماث الملح في الماء) (‪)6‬‬
‫وغيرها من األحاديث الكثيرة التي ال يمكن تطبيقها لذلك الذي اع تزل الن اس‬
‫عزلة كلية‪ ،‬بحيث ال يصله شرهم‪ ،‬وال يصل إليهم خيره‪.‬‬
‫فاسع ـ أيها المريد الصادق ـ ألن تطب ق ه ذه األح اديث‪ ،‬وتجم ع بينه ا وبين‬
‫العزلة الشرعية؛ فلكل منهما محله الخاص به‪ ..‬ولهذا أعمل فكرك قبل أن تتص رف‬
‫أي تصرف لترى األقرب لرضوان هللا‪ ،‬هل هو أداؤه‪ ،‬ومخالطة المجتمع بسببه‪ ،‬أم‬
‫هو الصبر إلى أن تتحقق فيك من الصفات ما يمكنك من أدائه على أحسن وجه‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه الطبراني بسند حسن‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن النجار‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو نعيم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن صصرى‪.‬‬
‫‪ )(5‬الكافى ج ‪ 2‬ص ‪.169‬‬
‫‪ )(6‬الكافى ج ‪ 2‬ص ‪.171‬‬
‫‪403‬‬
‫إقامة الشهادة‬
‫كتبت إلي ـ أيه ا المري د الص ادق ـ تس ألني عن أولئ ك ال ذين تص وروا أن‬
‫غرض الدين قاصر على تزكي ة النفس وترقيته ا في م راتب الوالي ة‪ ،‬وأن الم ؤمن‬
‫الصالح هو الذي يكتفي بنفسه‪ ،‬أو بأهله األقربين دون أن يكون له اهتمام بما يجري‬
‫في العالم من أحداث سياسية وغيرها‪ ،‬وأنه ليس ملزم ا بإص الح الع الم‪ ،‬وإنم ا ه و‬
‫ملزم بإصالح نفسه فقط‪.‬‬
‫وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر ل ك أن ه ذا ال ذي وص فت لم يفهم أغ راض‬
‫اإلسالم‪ ،‬وال أغراض التزكية‪ ،‬ولذلك فاته من التزكية ومراتبها العالية بقدر قصور‬
‫فهمه‪.‬‬
‫ولو أن ه ع اد للمص ادر المقدس ة‪ ،‬ال تي ال يفهم ال دين إال منه ا‪ ،‬لع رف خط أ‬
‫المسار ال ذين اخت اره‪ ،‬والفهم ال ذي فهم ه‪ ،‬ذل ك أن هللا تع الى أم ر أف راد األم ة في‬
‫القرآن الكريم بأال يكتفوا بإصالح أنفسهم‪ ،‬وإنما بإعطاء النم وذج الص الح للص الح‬
‫والتقوى‪ ،‬حتى يهتدي بهم الخل ق‪ ،‬وق د س مى هللا تع الى ذل ك ش هادة‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫ْط ُشهَدَا َء هَّلِل ِ﴾ [النساء‪]135 :‬‬ ‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا ُكونُوا قَ َّوا ِمينَ بِ ْالقِس ِ‬
‫فاآلية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يتولوا وظيف ة ال دعوة للقس ط والعدال ة‪ ،‬في‬
‫ك ل مس توياتها ومجاالته ا‪ ،‬وأن ي وفروا ألنفس هم من الص فات م ا ي ؤهلم إلعط اء‬
‫النموذج الحسن في ذلك‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن المؤم نين ال ذين يكتف ون باالهتم ام بأنفس هم‪ ،‬ويقص رون في ح ق‬
‫ال دعوة إلى هللا‪ ،‬وإلى العدال ة ال تي أم ر به ا‪ ،‬ويقص رون في مواجه ة الظلم ة‬
‫والمستبدين‪ ،‬ال يختلف ون كث يرا عن أولئ ك ال ذين ك انوا يقول ون‪ :‬دع وا م ا لقيص ر‬
‫لقيصر‪ ،‬وما هلل هلل‪..‬‬
‫والمؤمن ال يقول ذلك‪ ..‬بل هو يسعى ألن يحكم شريعة هللا في خلق ه‪ ..‬ويحكم‬
‫معها كل قيم العدالة التي أمر بها‪ ..‬والتي ال يمكن أن تتحقق من دون شريعة هللا‪.‬‬
‫وهذا ما فعله الرس ل عليهم الس الم؛ ذل ك أن ه ل و ك ان قص دهم تزكي ة النفس‬
‫مجردة عن طلب العدالة‪ ،‬ومواجهة االستبداد والظلم‪ ،‬وتحقيق المجتمع الص الح لم ا‬
‫واجههم أقوامهم‪ ،‬ولما حاربوهم‪ ،‬وآذوهم‪..‬‬
‫ولهذا قرن هللا تعالى بين تض حيات األنبي اء‪ ،‬وتض حيات ال دعاة إلى القس ط‪،‬‬
‫ق َويَ ْقتُلُ ونَ الَّ ِذينَ يَ أْ ُمرُونَ‬
‫ت هَّللا ِ َويَ ْقتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِ َغي ِْر َح ٍّ‬
‫﴿إن الَّ ِذينَ يَ ْكفُرُونَ بِآيَا ِ‬
‫فقال‪َّ :‬‬
‫ب ألِ ٍيم﴾ [آل عمران‪]21 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫اس فَبَشرْ هُ ْم بِ َعذا ٍ‬ ‫َّ‬
‫ْط ِمنَ الن ِ‬ ‫بِ ْالقِس ِ‬
‫وعند مطالعتك ـ أيها المريد الصادق ـ لم ا ذك ره الق رآن الك ريم عن األنبي اء‬
‫عليهم السالم الذين بلغوا أوج مراتب الكمال‪ ،‬تجدهم مهتمين بالسلبيات المنتشرة في‬
‫مجتمعاتهم‪ ،‬ومهتمين بمواجهتها‪ ،‬والتض حية بك ل ش يء في س بيل ذل ك‪ ،‬كم ا ذك ر‬
‫تعالى ذلك عن شعيب عليه السالم‪ ،‬وأنه نادى في قومه قائال‪﴿ :‬يَ اقَوْ ِم ا ْعبُ دُوا هَّللا َ َم ا‬
‫‪404‬‬
‫لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ َواَل تَ ْنقُصُوا ْال ِم ْكيَا َل َو ْال ِم ي َزانَ إِنِّي أَ َرا ُك ْم بِخَ ْي ٍر َوإِنِّي أَخَ افُ َعلَ ْي ُك ْم‬
‫اس‬ ‫ْخَس وا النَّ َ‬ ‫ال َو ْال ِم يزَ انَ بِ ْالقِ ْس ِط َواَل تَب ُ‬ ‫اب يَوْ ٍم ُم ِحي ٍط (‪َ )84‬ويَاقَوْ ِم أَوْ فُ وا ْال ِم ْكيَ َ‬ ‫َع َذ َ‬
‫َّت ِ خَ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ َو َما‬‫هَّللا‬ ‫ض ُمف ِس ِدينَ (‪ )85‬بَقِي ُ‬‫ْ‬ ‫أَ ْشيَا َءهُ ْم َواَل تَ ْعثَوْ ا فِي ا رْ ِ‬
‫َ‬ ‫أْل‬
‫أَنَا َعلَ ْي ُك ْم بِ َحفِي ٍظ (‪[ ﴾)86‬هود‪ 84 :‬ـ ‪]87‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تدل على أنه كان يدعو إلى تغيير جذري بين قومه‪ ،‬يبدأ‬
‫من تصحيح عقائدهم‪ ،‬ثم يشمل بعد ذلك كل ج وانب حي اتهم السياس ية واالقتص ادية‬
‫واالجتماعية وغيرها‪.‬‬
‫اح َشةَ َما َسبَقَ ُك ْم بِهَ ا‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وهكذا عندما قال لوط عليه السالم لقومه‪﴿ :‬إِنَّ ُك ْم لَتَأتُونَ الفَ ِ‬
‫يل َوتَأتُونَ فِي نَ ا ِدي ُك ُم‬ ‫ْ‬ ‫ال َوتَ ْقطَعُونَ ال َّسبِ َ‬ ‫ِم ْن أَ َح ٍد ِمنَ ْال َعالَ ِمينَ (‪ )28‬أَئِنَّ ُك ْم لَتَأْتُونَ الر َ‬
‫ِّج َ‬
‫ْال ُم ْن َك َر﴾ [العنكب وت‪ ،]29 ،28 :‬ك ان ي دعو إلى حرك ة تغييري ة تب دأ ب األخالق‪،‬‬
‫وتنتهي بكل جوانب الحياة‪.‬‬
‫وهكذا عندما قال صالح عليه السالم لقومه‪﴿ :‬يَاقَوْ ِم ا ْعبُ دُوا هَّللا َ َم ا لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه‬
‫اس تَ ْغفِرُوهُ ثُ َّم تُوبُ وا إِلَ ْي ِه إِ َّن َربِّي‬ ‫اس تَ ْع َم َر ُك ْم فِيهَ ا فَ ْ‬
‫ض َو ْ‬ ‫َغ ْي ُرهُ هُ َو أَ ْن َش أ َ ُك ْم ِمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫قَ ِريبٌ ُم ِجيبٌ ﴾ [هود‪ ،]61 :‬وقال لهم‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُكرُوا إِ ْذ َج َعلَ ُك ْم ُخلَفَا َء ِم ْن بَ ْع ِد عَا ٍد َوبَ َّوأَ ُك ْم‬
‫ال بُيُوتًا فَ ْاذ ُكرُوا آاَل َء هَّللا ِ َواَل‬ ‫ض تَتَّ ِخ ُذونَ ِم ْن ُسهُولِهَا قُصُورًا َوتَ ْن ِحتُونَ ْال ِجبَ َ‬ ‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض ُم ْف ِس ِدينَ ﴾ [األعراف‪ ،]74 :‬كان يدعوهم ب ذلك إلى تغي ير حي اتهم‬ ‫تَ ْعثَوْ ا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫جميعا‪ ،‬حتى بيوتهم لتنسجم مع شريعة هللا‪ ،‬والفطرة التي فطرهم هللا عليها‪.‬‬
‫وهكذا عندما أرسل موسى وهارون عليهم ا الس الم لفرع ون‪ ،‬كان ا يحمل ون‬
‫معهما مطالب تغييرية كب يرة‪ ،‬ترتب ط بالمص ريين واإلس رائيليين‪ ،‬وق د ع بر عنه ا‬
‫آل‬ ‫﴿اذ ُك رُوا نِ ْع َم ةَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ أَ ْن َج ا ُك ْم ِم ْن ِ‬‫موس ى علي ه الس الم عن د قول ه لقوم ه‪ْ :‬‬
‫ب َويُ َذبِّحُونَ أَ ْبنَا َء ُك ْم َويَ ْستَحْ يُونَ نِ َسا َء ُك ْم َوفِي َذلِ ُك ْم بَاَل ٌء‬ ‫فِرْ عَوْ نَ يَسُو ُمونَ ُك ْم سُو َء ْال َع َذا ِ‬
‫َظي ٌم (‪َ )6‬وإِ ْذ تَ أ َ َّذنَ َربُّ ُك ْم لَئِ ْن َش كَرْ تُ ْم أَل َ ِزي َدنَّ ُك ْم َولَئِ ْن َكفَ رْ تُ ْم إِ َّن َع َذابِي‬ ‫ِم ْن َربِّ ُك ْم ع ِ‬
‫لَ َش ِدي ٌد (‪[ ﴾)7‬إبراهيم‪ 6 :‬ـ ‪]8‬‬
‫وهكذا كانت حركات جمي ع األنبي اء وورثتهم عليهم الص الة والس الم تحم ل‬
‫أمثال هذه المطالب الشرعية‪ ،‬وبذلك فإن ك ل تل ك ال دعوات دع وات ثوري ة‪ ،‬ألنه ا‬
‫ثارت على كل االنحراف ات‪ ،‬ابت داء من االنحراف ات العقدي ة‪ ،‬وانته اء باالنحراف ات‬
‫السلوكية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية وغيرها‪.‬‬
‫وهك ذا أخ بر هللا تع الى أن الكم ل من ه ذه األم ة هم ال ذين يس عون إلى ه ذه‬
‫الوظائف الشرعية‪ ،‬ألنه ال يمكنهم أن يزكوا أنفسهم حق التزكية‪ ،‬وال أن يرقوها في‬
‫مراتب الكمال‪ ،‬وهم منحرفون عن منهج األنبياء واألولياء والصديقين والشهداء‪.‬‬
‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أُ َّمةً َو َس طا ً لِتَ ُكون وا‬
‫ُ‬ ‫كما قال تعالى عند ذكره لوظائف األمة‪َ ﴿ :‬و َك َذلِ َ‬
‫اس َويَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيداً﴾ (البق رة‪ ،)143 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬و َجا ِه دُوا‬ ‫ُشهَدَا َء َعلَى النَّ ِ‬
‫ج ِملَّةَ أَبِي ُك ْم إِ ْب َرا ِهي َم‬ ‫ِّين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫ق ِجهَا ِد ِه هُ َو اجْ تَبَا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي الد ِ‬ ‫فِي هَّللا ِ َح َّ‬
‫هُ َو َس َّما ُك ُم ْال ُم ْسلِ ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل َوفِي هَ َذا لِيَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َش ِهيداً َعلَ ْي ُك ْم َوتَ ُكونُ وا ُش هَدَا َء‬

‫‪405‬‬
‫َص ُموا بِاهَّلل ِ هُ َو َم وْ ال ُك ْم فَنِ ْع َم ْال َم وْ لَى‬
‫اس فَأَقِي ُموا الصَّالةَ َوآتُ وا ال َّز َك اةَ َوا ْعت ِ‬ ‫َعلَى النَّ ِ‬
‫صيرُ﴾ (الحج‪)78:‬‬ ‫َونِ ْع َم النَّ ِ‬
‫وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعرف مدى علو مرتب ة الش هادة وإنق اذ‬
‫الخلق في مراتب السلوك‪ ،‬فاعلم أن الحكماء ذك روا أرب ع مراح ل لس ير الس الكين‪:‬‬
‫أولها السير من النفس إلى هللا‪ ،‬وهي رحل ة البحث عن هللا‪ ..‬وثانيه ا‪ :‬س ير اإلنس ان‬
‫من هللا في هللا‪ ،‬بحثا عن معرف ة هللا‪ ..‬وثالثه ا‪ :‬س ير اإلنس ان م ع هللا إلى خل ق هللا‪..‬‬
‫ورابعها‪ :‬سير اإلنسان مع هللا بين خلق هللا‪ ،‬إلنقاذ خلق هللا‪.‬‬
‫وهذه المرحلة األخيرة من س ير الس الكين‪ ،‬وهي رحلتهم إلنق اذ خل ق هللا من‬
‫عبودية الشيطان‪ ،‬هي التي سماها القرآن الكريم شهادة‪ ،‬ودعا إلى إقامتها مثل إقام ة‬
‫الصالة‪ ،‬وأخبر أنها من وظائف الرسل جميعا‪ ،‬كما قال تع الى‪﴿ :‬لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ر ُ‬
‫ُس لَنَا‬
‫َاب َو ْال ِمي َزانَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِ ْس ِط﴾ [الحديد‪]25 :‬‬ ‫ت َوأَ ْن َز ْلنَا َم َعهُ ُم ْال ِكت َ‬
‫بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫وله ذا ك ان من العالم ات الك برى لل وارث للنب وة‪ ،‬الس الك س بيلها‪ ،‬غ ير‬
‫المنحرف عنها‪ ،‬عدم الرك ون للظلم ة‪ ،‬أو الس كون لهم‪ ،‬أو الرض ا بأفع الهم‪ ،‬وإنم ا‬
‫مواجهتهم بكل ما أتيح لهم من أساليب‪.‬‬
‫ولهذا مارس كل أئم ة اله دى ه ذه الوظيف ة العظيم ة‪ ،‬إلى أن لق وا هللا تع الى‬
‫جميعا شهداء في هذا الطريق‪ ،‬كما عبر اإلمام الرضا عن ذلك بقوله‪( :‬وهللا‪ ،‬ما من ا‬
‫إال مقتول شهيد)(‪)1‬‬
‫وعندما سمع بعضهم يشكك في قتل الإمام الحسين‪ ،‬ويذكر أنه شبِّه لهم‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫(وهللا‪ ،‬لقد قتل الحسين‪ ،‬وقتل من كان خيراً من الحس ين‪ ،‬أم ير المؤم نين‪ ،‬والحس ن‬
‫بن علي‪ ،‬وما منا إال مقتول‪ ،‬وإني ـ وهللا ـ لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني)(‪)2‬‬
‫﴿ولَ ْن يَجْ َع َل هللا لِ ْل َك افِ ِرينَ َعلَى‬ ‫ثم رد على من اعتم د على قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َسبِياًل ﴾ [النساء‪ ]141 :‬لنفي قتل اإلمام الحسين بقوله‪( :‬لن يجعل هللا لك افر‬
‫على مؤمن حجة‪ ،‬ولقد أخبر هللا عز وجل عن كفار قتلوا النب يين بغ ير الح ق‪ ،‬وم ع‬
‫قتلهم إياهم لن يجعل هللا لهم على أنبيائه سبيال من طريق الحجة)‬
‫وروي أن اإلمام الحسن بن علي قال في مرضه الذي ت وفي في ه‪( :‬وهللا‪ ،‬إن ه‬
‫لعهد عهده إلينا رس ول هللا ‪ ‬أن ه ذا األم ر يملك ه اثن ا عش ر إمام ا ً من ول د علي‬
‫وفاطمة‪ ،‬ما منا إال مسموم‪ ،‬أو مقتول)(‪)3‬‬
‫وكل ذلك بسبب ذلك الوقوف الشديد في وجه الجور والظلم واالس تبداد وك ل‬
‫من يمثلهم‪ ،‬لحف ظ دين هللا من أن يص بح أداة من أدوات الظلم ة مثلم ا حص ل في‬
‫األديان األخرى‪.‬‬
‫وكنموذج لذلك ينفي كل تلك الترهات التي ينطق به ا من ال يعرف ون الوالي ة‬
‫وال مراتبها ما قاله اإلمام الحس ين‪ ،‬وه و س يد ش باب أه ل الجن ة‪ ،‬في تفس ير س بب‬
‫‪ )(1‬األمالي للصدوق ص‪ ،120‬وعيون أخبار الرضا ج‪ 2‬ص‪.256‬‬
‫‪ )(2‬عيون أخبار الرضا ج‪ 2‬ص‪.203‬‬
‫‪ )(3‬كفاية األثر ص‪ 226‬و‪ 227‬والصراط المستقيم ج‪ 2‬ص‪.128‬‬
‫‪406‬‬
‫أش َراً وال‬ ‫خروج ه على الظلم ة والمس تبدين‪ ،‬فق د ق ال في وص يته‪( :‬إنّي ل ْم أخ رج ِ‬
‫بطراً‪ ،‬وال مفسداً وال ظالماً‪ ،‬وإنّما خرجت لطلب اإلصالح في أُ ّمة ج ّدي ‪‬؛ أري د‬
‫ُ‬
‫أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر‪ ،‬وأسير بسيرة ج ّدي وأبي علي بن أبي طالب‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ق‪ ،‬و َم ْن ر ّد عل ّي أصبر حتّى يقض ي هللا بي ني‬ ‫ق فاهلل أولى بالح ّ‬ ‫ف َم ْن قبلني بقبول الح ّ‬
‫وبين القوم وهو خير الحاكمين)(‪)1‬‬
‫ب ل إن اإلم ام الحس ين نفس ه رد على تل ك المق والت ال تي تري د أن تح رف‬
‫اإلس الم‪ ،‬وتبع ده عن الغاي ة اإلص الحية الك برى ال تي ج اء به ا‪ ،‬لينق ذ البش رية‬
‫ويخلصها من كل أصناف الطغيان‪ ،‬فقد قال في بعض خطبه‪( :‬اعت بروا أيه ا الن اس‬
‫بم ا وع ظ هللا ب ه أولي اءه من س وء ثنائ ه على األحب ار‪ ،‬إذ يق ول‪﴿ :‬لَ وْ اَل يَ ْنهَ اهُ ُم‬
‫ص نَعُونَ ﴾‬ ‫س َم ا َك انُوا يَ ْ‬ ‫الس حْ تَ لَبِ ْئ َ‬‫ال َّربَّانِيُّونَ َواأْل َحْ بَ ا ُر ع َْن قَ وْ لِ ِه ُم اإْل ِ ْث َم َوأَ ْكلِ ِه ُم ُّ‬
‫يس ى‬ ‫يل َعلَى لِ َسا ِن دَا ُوو َد َو ِع َ‬ ‫[المائدة‪ ،]63 :‬وقال‪﴿ :‬لُ ِعنَ الَّ ِذينَ َكفَرُوا ِم ْن بَنِي إِس َْرائِ َ‬
‫صوْ ا َو َك انُوا يَ ْعتَ ُدونَ (‪َ )78‬ك انُوا اَل يَتَنَ اهَوْ نَ ع َْن ُم ْن َك ٍر فَ َعلُ وهُ‬ ‫اب ِْن َمرْ يَ َم َذلِكَ بِ َما َع َ‬
‫س َما َكانُوا يَ ْف َعلُونَ ﴾ [المائدة‪ ،]79 ،78 :‬وإنما عاب هللا ذلك عليهم؛ ألنهم ك انوا‬ ‫لَبِ ْئ َ‬
‫يرون من الظلمة الذين بين أظه رهم المنك ر والفس اد فال ينه ونهم عن ذل ك؛ رغب ة‬
‫اس‬‫فيم ا ك انوا ين الون منهم‪ ،‬ورهب ة مم ا يح ذرون‪ ،‬وهللا يق ول‪﴿ :‬فَاَل ت َْخ َش ُوا النَّ َ‬
‫ْض هُ ْم أَوْ لِيَ ا ُء بَع ٍ‬
‫ْض‬ ‫ات بَع ُ‬ ‫﴿و ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ُ‬‫اخ َش وْ ِن﴾ [المائ دة‪ ،]44 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫َو ْ‬
‫ال ُم ْن َكر﴾ [التوبة‪)2()]71 :‬‬
‫ِ‬ ‫ُوف َويَ ْنهَوْ نَ َع ِن ْ‬‫يَأْ ُمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫وبعد أن سرد هذه اآليات الكريمة الواضحة في الداللة على وج وب مواجه ة‬
‫المنكر من أي مصدر صدر‪ ،‬راح يفسرها لهم‪ ،‬ويبين أغراض ها والن واحي العملي ة‬
‫المرتبطة بها‪ ،‬فقال‪( :‬فب دأ هللا ب األمر ب المعروف والنهي عن المنك ر فريض ة من ه؛‬
‫لعلمه بأنه ا إذا أديت وأقيمت اس تقامت الف رائض كله ا‪ ،‬هينه ا وص عبها؛ وذل ك أن‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر دع اء إلى اإلس الم‪ ،‬م ع رد المظ الم‪ ،‬ومخالف ة‬
‫الظالم‪ ،‬وقسمة الفيء والغنائم‪ ،‬وأخذ الص دقات من مواض عها ووض عها في حقه ا)‬
‫(‪)3‬‬
‫ثم راح يخ اطب عق ولهم وع واطفهم وتل ك العه ود ال تي عاه دوا هللا به ا من‬
‫خالل إس المهم؛ فق ال‪( :‬أنتم أيته ا العص ابة‪ ،‬عص ابة ب العلم مش هورة‪ ،‬وب الخير‬
‫م ذكورة‪ ،‬وبالنص يحة معروف ة‪ ،‬وباهلل في أنفس الن اس مهاب ة؛ يه ابكم الش ريف‪،‬‬
‫ويكرمكم الضعيف‪ ،‬ويؤثركم من ال فضل لكم عليه‪ ،‬وال ي د لكم عن ده‪ ،‬تش فعون في‬
‫الح وائج إذا امتنعت من طالبه ا‪ ،‬وتمش ون في الطري ق بهيب ة المل وك وكرام ة‬
‫األكابر‪ ،‬أليس كل ذلك إنما نلتموه بم ا ي رجى عن دكم من القي ام بح ق هللا‪ ،‬وإن كنتم‬
‫عن أكثر حقه تقصرون‪ ،‬فاستخففتم بحق األئمة؛ فأما ح ق الض عفاء فض يعتم؛ وأم ا‬
‫حقكم ب زعمكم فطلبتم‪ ،‬فال م اال ب ذلتموه‪ ،‬وال نفس ا خ اطرتم به ا لل ذي خلقه ا‪ ،‬وال‬
‫‪ )(1‬الفتوح ‪ ،33 / 5‬مقتل الخوارزمي ‪.188 / 1‬‬
‫‪ )(2‬تحف العقول‪..237 :‬‬
‫‪)(3‬المرجع السابق‪..237 :‬‬
‫‪407‬‬
‫هللا) (‪)1‬‬‫عشيرة عاديتموها في ذات‬
‫ثم راح يذكرهم بالجن ة والن ار‪ ،‬والع ذاب ال ذي ينتظ ر الس اكتين عن المنك ر‬
‫ومواجهته‪ ،‬فقال‪( :‬أنتم تتمنون على هللا جنته ومجاورة رسله‪ ،‬وأمانا من عذابه‪ ،‬لق د‬
‫خشيت عليكم أيه ا المتمن ون على هللا أن تح ل بكم نقم ة من نقمات ه؛ ألنكم بلغتم من‬
‫كرام ة هللا منزل ة فض لتم به ا‪ ،‬ومن يع رف باهلل ال تكرم ون‪ ،‬وأنتم باهلل في عب اده‬
‫تكرم ون! وق د ت رون عه ود هللا منقوض ة فال تفزع ون‪ ،‬وأنتم لبعض ذمم آب ائكم‬
‫تفزعون! وذمة رسول هللا ‪ ‬محقورة‪ ،‬والعمى والبكم وال زمن في الم دائن مهمل ة‬
‫ال ترحم ون! وال في م نزلتكم تعمل ون‪ ،‬وال من عم ل فيه ا تعين ون! وباإلده ان‬
‫والمصانعة عند الظلمة تأمنون‪ ،‬كل ذلك مما أمركم هللا به من النهي والتن اهي وأنتم‬
‫عنه غافلون!) (‪)2‬‬
‫ولم يكن يكتفي بتلك المواعظ العامة‪ ،‬وإنما كان يفصل المنهج الذي ينبغي أن‬
‫تسير عليه األمة في حكمها وسياستها وكل شؤونها‪ ،‬وهو أن تكل األمور ألهل العلم‬
‫والوالية‪ ،‬ال غيرهم ممن ال يعرف حكم هللا‪ ،‬وال يستطيع مراعاتها؛ وقد قال لهم في‬
‫تلك الخطبة‪( :‬وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم علي ه من من ازل العلم اء ل و كنتم‬
‫تسعون ذلك؛ بأن مج اري األم ور واألحك ام على أي دي العلم اء باهلل‪ ،‬االمن اء على‬
‫حالله وحرامه‪ ،‬فأنتم المسلوبون تلك المنزلة‪ ،‬وما سلبتم ذلك إال بتف رقكم عن الح ق‬
‫واختالفكم في السنة بعد البينة الواضحة‪ .‬ولو صبرتم على األذى‪ ،‬وتحملتم المؤون ة‬
‫في ذات هللا‪ ،‬كانت امور هللا عليكم ترد‪ ،‬وعنكم تصدر‪ ،‬وإليكم ترجع‪ ،‬ولكنكم مكنتم‬
‫الظلمة من منزلتكم‪ ،‬واستسلمتم أم ور هللا في أي ديهم يعمل ون بالش بهات‪ ،‬ويس يرون‬
‫في الشهوات) (‪)3‬‬
‫ثم بين لهم المنهج ال ذي يمكن أن يس لكوه للتخلص من القي ود ال تي وض عها‬
‫الظلمة على رقابهم‪ ،‬وأولها حرصهم على الحياة‪ ،‬وخوفهم من الموت‪ ،‬وكأن ه ب ذلك‬
‫يهيئهم للمواجهة الكبرى التي تحققت في كربالء‪ ،‬ليقيم عليهم الحجة بنفس ه‪ ،‬بع د أن‬
‫أقامها عليهم بكلماته‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬س لطهم على ذل ك ف راركم من الم وت‪ ،‬وإعج ابكم‬
‫بالحياة التي هي مفارقتكم؛ فأس لمتم الض عفاء في أي ديهم‪ ،‬فمن بين مس تعبد مقه ور‪،‬‬
‫وبين مستض عف على معيش ته مغل وب‪ ،‬يتقلب ون في المل ك ب آرائهم‪ ،‬ويستش عرون‬
‫الخزي بأهوائهم؛ اقتداء باألشرار‪ ،‬وجرأة على الجبار‪ ،‬في كل بلد منهم على من بره‬
‫خطيب يصقع‪ ،‬فاألرض لهم شاغرة‪ ،‬وأيديهم فيه ا مبس وطة‪ ،‬والن اس لهم خ ول‪ ،‬ال‬
‫يدفعون يد المس‪ ،‬فمن بين جبار عنيد‪ ،‬وذي س طوة على الض عفة ش ديد‪ ،‬مط اع ال‬
‫يع رف المب دئ المعي د‪ .‬في ا عجب ا! وم ا لي ال أعجب واألرض من غ اش غش وم‪،‬‬
‫ومتص دق ظل وم‪ ،‬وعام ل على المؤم نين بهم غ ير رحيم‪ ،‬فاهلل الح اكم فيم ا في ه‬

‫‪)(1‬المرجع السابق‪..238 :‬‬


‫‪)(2‬المرجع السابق‪..238 :‬‬
‫‪)(3‬المرجع السابق‪..239 :‬‬
‫‪408‬‬
‫بيننا)(‪)1‬‬ ‫تنازعنا‪ ،‬القاضي بحكمه فيما شجر‬
‫هذه ـ أيها المريد الصادق ـ هي الكلمات الصادقة الممثلة للدين‪ ،‬وال تي علي ك‬
‫أن تعتم د عليه ا في تزكي ة نفس ك وترقيته ا‪ ،‬أم ا من ي دعوك إلى االكتف اء بنفس ك‪،‬‬
‫وعدم االهتم ام بش ؤون األم ة‪ ،‬وال باإلص الح‪ ،‬وال ب األمر ب المعروف والنهي عن‬
‫المنكر؛ فهو يدعوك إلى دين آخر‪ ،‬ليس دين اإلسالم‪.‬‬
‫ذلك أن القرآن الكريم الذي هو كتاب المسلمين المقدس‪ ،‬يقول مخاطبا رسول‬
‫ع َوا ْستَقِ ْم َك َما أُ ِمرْ تَ َواَل تَتَّبِ ْع أَ ْه َوا َءهُ ْم َوقُ لْ آ َم ْن ُ‬
‫ت بِ َم ا أَ ْن زَ َل هَّللا ُ‬ ‫ك فَا ْد ُ‬ ‫هللا ‪﴿ :‬فَلِ َذلِ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬
‫ت أِل ْع ِد َل بَ ْينَ ُك ُم ُ َربُّنَا َو َربُّ ُك ْم لَنَا أ ْع َمالنَا َولَ ُك ْم أ ْع َمال ُك ْم اَل ُح َّجةَ بَ ْينَنَ ا‬ ‫ب َوأُ ِمرْ ُ‬ ‫ِم ْن ِكتَا ٍ‬
‫صيرُ﴾ [الشورى‪]15 :‬‬ ‫ْ‬
‫َوبَ ْينَ ُك ُم هَّللا ُ يَجْ َم ُع بَ ْينَنَا َوإِلَ ْي ِه ال َم ِ‬
‫﴿و َم ْن أَحْ َسنُ قَوْ اًل‬ ‫ويخبر أن أرفع المراتب هي مراتب الدعاة إلى هللا‪ ،‬فيقول‪َ :‬‬
‫صالِحًا َوقَا َل إِنَّنِي ِمنَ ْال ُم ْسلِ ِمينَ ﴾ [فصلت‪]33 :‬‬ ‫ِم َّم ْن َدعَا إِلَى هَّللا ِ َو َع ِم َل َ‬
‫ويخبر عن الورثة الحقيقيين للرسول ‪ ،‬فيقول‪﴿ :‬قُلْ هَ ِذ ِه َس بِيلِي أَ ْد ُع و إِلَى‬
‫صي َر ٍة أَنَا َو َم ِن اتَّبَ َعنِي َو ُسب َْحانَ هَّللا ِ َو َما أَنَا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [يوسف‪]108 :‬‬ ‫هَّللا ِ َعلَى بَ ِ‬
‫واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ـ بقدر حرصك على إصالح الخلق ـ ييس ر‬
‫هللا تعالى لك إصالح نفسك‪ ..‬فاهلل هو الذي يزكي األنفس ويربيه ا‪ ..‬ول ذلك ف إن من‬
‫مواهب ه لمن يس عون في إص الح الخل ق بص دق وح رص أن يص لح لهم أنفس هم‪،‬‬
‫ويعينهم عليها‪ ،‬وفرق كبير بين أن تس عى أنت إلص الح نفس ك‪ ،‬وبين أن يت ولى هللا‬
‫عنك ذلك‪.‬‬

‫‪)(1‬المرجع السابق‪..239 :‬‬


‫‪409‬‬
‫الترويح الروحي‬
‫كتبت إلي ـ أيها المريد الص ادق ـ تس ألني عم ا يمارس ه بعض الس الكين من‬
‫مزج ذكر هللا تع الى أو الص الة على رس وله ‪ ‬بالش عر والغن اء‪ ،‬وعق د المج الس‬
‫الخاصة بذلك‪ ،‬والتي قد يتمايل فيها الحضور طربا مثلما يحصل في مج الس الله و‬
‫والطرب‪ ،‬ويعتبرون ذلك من ميسرات السلوك‪ ،‬والمعينات عليه‪.‬‬
‫وذكرت لي أدلة من ينكر ذلك‪ ،‬ويعتبرونه ضاللة وبدعة محرمة‪ ،‬تتنافى م ع‬
‫السلوك إلى هللا تعالى‪ ،‬والذي يلزم فيه الوقار والورع واالحتياط‪.‬‬
‫وجواب ا على س ؤالك الوجي ه أذك ر ل ك أن التح اكم في مث ل ه ذه األش ياء‬
‫وغيرها‪ ،‬ال يعود لألمزجة‪ ،‬وإنما للشريعة؛ فهي التي تفرق بين ما يرضاه هللا‪ ،‬وم ا‬
‫يسخط عليه‪.‬‬
‫ولذلك فقد نظرت بتأن وتدبر فيما ذكرت من أدل ة المح رمين ل ذلك؛ فلم أج د‬
‫دليال واحدا مقنعا‪ ..‬ومن األمثلة على ذلك استداللهم بقوله تعالى‪﴿ :‬أَفَ ِم ْن هَ َذا ْال َح ِدي ِ‬
‫ث‬
‫َض َح ُكونَ َواَل تَ ْب ُك ونَ (‪َ )60‬وأَ ْنتُ ْم َس ا ِم ُدونَ (‪[ ﴾)61‬النجم‪- 59 :‬‬ ‫تَ ْع َجبُ ونَ (‪َ )59‬وت ْ‬
‫‪ ،]61‬وأن ابن عباس فسر (سامدون) بالغناء بلغة حمير‪ ،‬فإن ه ذا ـ م ع كون ه ليس‬
‫دليال‪ ،‬فالتفس ير ليس قرآن ا‪ ،‬وإنم ا ه و فهم ورأي ـ إال أن ذل ك يس تدعي أن يح رَّم‬
‫الضحك وعدم البكاء أيضا‪ ،‬ألن اآلية الكريم ذكرت الضحك والبكاء‪.‬‬
‫﴿وال ُّش َع َرا ُء يَتَّبِ ُعهُ ُم‬
‫ومثل ذلك ما ذكرت عن بعضهم من استدالله بقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ْال َغ اوُونَ ﴾ [الش عراء‪ ،]224 :‬ف إن اآلي ة الكريم ة تقص د ذل ك الش عر المس تخدم في‬
‫أغراض غير شرعية‪ ،‬ولهذا ورد االستثناء بعد ذلك في قوله تعالى‪﴿ :‬إِاَّل الَّ ِذينَ آ َمنُوا‬
‫َص رُوا ِم ْن بَ ْع ِد َم ا ظُلِ ُم وا﴾ [الش عراء‪:‬‬ ‫ت َو َذ َك رُوا هَّللا َ َكثِ يرًا َوا ْنت َ‬‫الص الِ َحا ِ‬ ‫َو َع ِملُ وا َّ‬
‫‪ ،]227‬فه ذه اآلي ة الكريم ة تنفي الغواي ة عن ال ذين ي ذكرون هللا تع الى كث يرا في‬
‫شعرهم‪.‬‬
‫ْ‬
‫اس تَف ِزز َم ِن‬ ‫ْ‬ ‫ومثل ذلك ما ذكرت عن بعض هم من اس تدالله بقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫ك﴾ [اإلسراء‪ ،]64 :‬وأن ابن عباس فس رها بالغن اء‪ ،‬ف إن ذل ك‬ ‫صوْ تِ َ‬‫ا ْستَطَعْتَ ِم ْنهُ ْم بِ َ‬
‫وإن كان صحيحا‪ ..‬لكن الغناء مثيل الشعر‪ ،‬حس نه حس ن وقبيح ه ق بيح‪ ..‬باإلض افة‬
‫إلى أن الصوت الذي يستعمله الشيطان ليس خاصا بالغناء‪ ،‬وإنما بكل وس يلة تك ون‬
‫س ببا إلى معص ية هللا‪ ،‬باإلض افة إلى أن الغن اء وإن اس تعمله الش يطان في س بيل‬
‫الضاللة‪ ،‬فيصح أن يستعمله غيره في سبيل الخير واالستقامة‪.‬‬
‫اس َم ْن‬ ‫َّ‬
‫﴿و ِم ْن الن ِ‬ ‫ومثل ذلك ما ذكرت عن بعضهم من اس تدالله بقول ه تع الى‪َ :‬‬
‫َ‬
‫ك لهُ ْم َع ذابٌ‬ ‫َ‬ ‫يل هَّللا ِ بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َويَتَّ ِخ َذهَا هُ ُز ًوا أُولَئِ َ‬
‫ض َّل ع َْن َسبِ ِ‬
‫ث لِيُ ِ‬ ‫يَ ْشت َِري لَ ْه َو ْال َح ِدي ِ‬
‫ين﴾(لقمان‪ ،)6:‬وأن من المفسرين من فسر ذل ك بالغن اء‪ ،‬ف إن ه ذا وإن ص ح في‬ ‫ُم ِه ٌ‬
‫بعض الغناء‪ ،‬لكنه ال يصح في جميعه‪ ،‬و(ولو أن ام رأ اش ترى مص حفا ليض ل ب ه‬
‫عن سبيل هللا ويتخذها هزوا لك ان ك افرا‪ ،‬فه ذا ه و ال ذي ذم هللا تع الى وم ا ذم ق ط‬
‫‪410‬‬
‫تع الى من اش ترى له و الح ديث ليلتهي ب ه وي روح نفس ه‪ ،‬ال ليض ل عن س بيل هللا‬
‫تعالى‪ ..‬وكذلك من اشتغل عامدا عن الص الة بق راءة الق رآن‪ ،‬أو بق راءة الس نن‪ ،‬أو‬
‫بحديث يتحدث به‪ ،‬أو ينظر في ماله‪ ،‬أو بغناء‪ ،‬أو بغير ذلك‪ ،‬فه و فاس ق ع اص هلل‬
‫تعالى‪ ،‬ومن لم يضيع شيئا من الفرائض اشتغاال بما ذكرنا فهو محسن)(‪)1‬‬
‫ويدل على فساد كل تلك األدلة التي ذكروها ما ورد من الروايات عن رسول‬
‫هللا ‪ ‬والتي تدل بمفهومها ومنطوقها على إباحة إنشاد الشعر والغناء وغيرهما‪.‬‬
‫فق د روي في المص ادر الحديثي ة الكث يرة أن الص حابة تناش دوا األش عار‬
‫بحض رة الن ب ّي ‪ ‬ولم ينك ر عليهم‪ ،‬وفي قص ة كعب بن زه ير كفاي ة لمن ت دبرها‬
‫كي ف اس تمع من ه الن ب ّي ‪ ‬قص يدته المعروف ة (ب انت س عاد)‪ ،‬م ع م ا فيه ا من‬
‫التغ ّزالت‪ ،‬وكيف ج زاه ب العفو وال بردة زي ادة ل ه عن تقري ره ل ه في إنش اد الش عر‬
‫بحضرته(‪.)2‬‬
‫ومن ذلك ما حدث به أنس أن الن بي ‪ ‬ك ان في س فره وك ان غالم يح دو ب ه‪،‬‬
‫يقال له أنجشة‪ ،‬فقال النبي ‪( :‬رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير) (‪ ،)3‬وه و يش ير‬
‫إلى التأثير النفسي الذي يحدثه الحداء والصوت الحسن في النفس‪.‬‬
‫وح دث ع امر بن س عد ق ال‪ :‬دخلت على قرظ ة بن كعب وأبي مس عود‬
‫األنصاري في عرس وإذا جوار يغ نين فقلت‪ :‬أي ص احبا رس ول هللا ‪ ‬ومن أه ل‬
‫بدر يُفعل هذا عندكم؟!‪ ...‬فقاال‪ :‬اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن ش ئت ف اذهب فإن ه‬
‫قد رخص لنا في اللهو عن العرس(‪..)4‬‬
‫وغيره ا من النص وص الكث يرة ال تي يفهم منه ا مش روعية الغن اء واإلنش اد‬
‫والحداء والش عر وك ل الممارس ات ال تي يمارس ها من يس تعملون ه ذه الوس يلة في‬
‫الترويح عن أنفسهم من الطرق الشرعية الحالل‪.‬‬
‫وق د ذك ر بعض الحكم اء مس تغربا تح ريم مث ل ه ذا ال ذي لم ي رد أي دلي ل‬
‫ص ريح على حرمت ه‪ ،‬فق ال‪( :‬إن الغن اء اجتمعت في ه مع ان ينبغي أن يبحث عن‬
‫إن في ه س ماع ص وت طيب م وزون مفه وم المع نى‬ ‫أفراده ا ثم عن مجموعه ا‪ ،‬ف ّ‬
‫مح رك للقلب‪ ،‬فالوص ف األعم أن ه ص وت طيب‪ ،‬ثم الطيب ينقس م إلى الم وزون‬
‫وغ يره‪ .‬والم وزون ينقس م إلى المفه وم كاألش عار‪ ،‬وإلى غ ير المفه وم كأص وات‬
‫الجمادات وسائر الحيوانات)(‪)5‬‬
‫ثم تحدث عن إباحة كل ركن من هذه األركان المكون ة لحقيق ة الغن اء‪ ،‬ف ذكر‬
‫أن (سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب‪ ،‬ال ينبغي أن يحرم‪ ،‬بل هو حالل ألنه‬
‫إلنس ان عق ل وخمس‬ ‫يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخص وص ب ه‪ ،‬ول ِ‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.7/567:‬‬
‫‪ )(2‬ابن عليوة‪ ،‬القول المعروف‪ ،‬ص‪.68‬‬
‫‪ )(3‬صحيح البخاري (‪)58 /8‬‬
‫‪ )(4‬سنن النسائي (‪)135 /6‬‬
‫‪ )(5‬اإلحياء‪.2/270 :‬‬
‫‪411‬‬
‫حواس ولكل حاسة إدراك‪ ،‬وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ‪ ،‬فلذة النظ ر مثال في‬
‫المبصرات الجميلة كالخض رة والم اء الج اري والوج ه الحس ن‪ ،‬فك ذلك األص وات‬
‫المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العن ادل والمزام ير‪ ،‬ومس تكرهة كنهي ق‬
‫الحمير وغيرها)‬
‫فإن (الوزن وراء الحسن فكم‬ ‫ومثل ذلك النظر في الصوت الطيب الموزون‪ّ ،‬‬
‫من ص وت حس ن خ ارج عن ال وزن وكم من ص وت م وزون غ ير مس تطاب‪.‬‬
‫واألصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثالثة‪ :‬فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت‬
‫المزامير واألوت ار‪ ،‬وإم ا أن تخ رج من حنج رة إنس ان أو غ يره كص وت العن ادل‬
‫والقماري؛ فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ س ماعها‪،‬‬
‫فس ماع ه ذه األص وات يس تحيل أن يح رم لكونه ا طيب ة أو موزون ة فال ذاهب إلى‬
‫تحريم صوت العندليب وسائر الطي ور‪ .‬وال ف رق بـين حنج رة وحنج رة‪ ،‬وال بـين‬
‫جماد وحيوان)‬
‫ومثل ذلك النظر في الموزون والمفهوم‪ ،‬وهو الشعر؛ فهو (ال يخ رج إال من‬
‫حنجرة ا ِإلنسان فيقطع بإباحة ذل ك ألن ه م ا زاد إال كون ه مفهوم اً‪ .‬والكالم المفه وم‬
‫غير ح رام والص وت الطيب الم وزون غ ير ح رام‪ ،‬ف إذا لم يح رم اآلح اد فمن أين‬
‫يحرم المجموع؟ نعم ينظر فيما يفهم منه فإن كان فيه أمر محظور حرم نثره ونظمه‬
‫وحرم النطق ب ه س واء ك ان بألح ان أو لم يكن‪ ،‬ذل ك أن الش عر كالم فحس نه حس ن‬
‫وقبـيحه قبـيح‪ .‬ومهم ا ج از إنش اد الش عر بغ ير ص وت وألح ان ج از إنش اده م ع‬
‫األلحان؛ ألن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذل ك المجم وع مباح اً‪ .‬ومهم ا انض م‬
‫مباح إلى مباح لم يحرم إال إذا تضمن المجموع محظوراً ال تتضمنه اآلحاد)‬
‫ومثل ذلك النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغ الب علي ه‪،‬‬
‫(فلله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة لألرواح حتى إنه ا لت ؤثر فيه ا ت أثيراً‬
‫عجيباً‪ ،‬فمن األصوات ما يفرح‪ ،‬ومنها ما يحزن‪ ،‬ومنها ما ينوم‪ ،‬ومنها م ا يض حك‬
‫ويط رب‪ ،‬ومنه ا م ا يس تخرج من األعض اء حرك ات على وزنه ا بالي د والرج ل‬
‫والرأس‪ ،‬ومهما كان النظر في الغناء باعتبار تأثيره في القلب لم يج ز أن يحكم في ه‬
‫مطلقا ً بإباحة وال تح ريم‪ ،‬ب ل يختل ف ذل ك ب األحوال واألش خاص واختالف ط رق‬
‫النغمات‪ ،‬فحكمه حكم ما في القلب)‬
‫إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاس مع لم ا أح دثك عن ه من دور ه ذه‬
‫الوسيلة في التزكية والترقية‪.‬‬
‫الترويح والتزكية‪:‬‬
‫أما دور الترويح الذي ذكرت بالتزكية؛ فهو ظاهر‪ ،‬ذلك أن التشدد في تحريم‬
‫اللهو المباح سيجر صاحبه إلى اللهو الح رام‪ ،‬أو يجعل ه يعيش في حيات ه في ض نك‬
‫وضيق وحرج‪ ،‬مع أن هللا تع الى لم يقص د من دين ه إال تربي ة عب اده وت زكيتهم‪ ،‬ال‬
‫إيقاعهم في الحرج‪ ،‬ول ذلك ع اتب هللا تع الى من يحرم ون م ا أح ل هللا من الزين ة‪،‬‬

‫‪412‬‬
‫ق قُ لْ ِه َي لِلَّ ِذينَ‬ ‫ت ِمنَ ال ر ِّْز ِ‬ ‫فقال‪﴿ :‬قُلْ َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ هَّللا ِ الَّتِي أَ ْخ َر َج لِ ِعبَ ا ِد ِه َوالطَّيِّبَ ا ِ‬
‫ت لِقَ وْ ٍم يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾‬ ‫ص ُل اآْل يَ ا ِ‬ ‫ص ةً يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة َك َذلِكَ نُفَ ِّ‬ ‫آ َمنُ وا فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا خَالِ َ‬
‫[األعراف‪]32 :‬‬
‫ثم بين المقصد من التحريم‪ ،‬وكونه يشمل ما يؤثر في النفس وينحط بها‪ ،‬ق ال‬
‫ش َم ا ظَهَ َر ِم ْنهَ ا َو َم ا بَطَنَ َواإْل ِ ْث َم َو ْالبَ ْغ َي بِ َغ ْي ِر‬ ‫اح َ‬‫تعالى‪﴿ :‬قُلْ إِنَّ َم ا َح َّر َم َرب َِّي ْالفَ َو ِ‬
‫ق َوأَ ْن تُ ْش ِر ُكوا بِاهَّلل ِ َم ا لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه ُس ْلطَانًا َوأَ ْن تَقُولُ وا َعلَى هَّللا ِ َم ا اَل تَ ْعلَ ُم ونَ ﴾‬ ‫ْال َح ِّ‬
‫[األعراف‪]33 :‬‬
‫باإلض افة إلى ذل ك؛ ف إن األش عار والغن اء ال ذي يح وي المع اني الطيب ة‪ ،‬ال‬
‫يختل ف عن ال ذكر والت ذكير‪ ،‬فال ف رق بين أن يس مع الم ؤمن موعظ ة تتعل ق‬
‫بالشجاعة‪ ،‬وبين أن يسمع قصيدة أو أغنية تحث عليها‪ ،‬ول ذلك ك ان المجاه دون في‬
‫عهد رسول هللا ‪ ‬يرتجزون بالشعر أثناء جه ادهم‪ ،‬تش جيعا للنفس وحث ا له ا على‬
‫الثبات‪.‬‬
‫وقد روي عن عبد هللا بن رواحة أنه في غزوة مؤتة‪ ،‬وعندما أحس في نفس ه‬
‫بعض التردد‪ ،‬راح يردد منشدا مخاطبا نفسه‪:‬‬
‫طائع ة أو لتكرهنه‬ ‫أقس مت ي ا نفس‬
‫لتنزلنه‬
‫م الي أراك تك رهين‬ ‫فطالم ا ق د كنت‬
‫الجنة‬ ‫مطمئنة‬
‫ثم يقول‪:‬‬
‫وم ا تم نيت فق د‬ ‫ا نفس إال تقتلى‬ ‫ي‬
‫أعطيت‬ ‫وتي‬ ‫تم‬
‫وإن تأخرت فقد شقيت‬ ‫ا‬ ‫إن تفعلى فعلهم‬
‫ديت‬ ‫ه‬
‫ثم أقدم على المعركة ثابتا شجاعا إلى أن نال الشهادة‪ ،‬ولحق بص احبيه زي د‬
‫وجعفر‪.‬‬
‫ولهذا كان رسول هللا ‪ ‬يشجع الشعراء المؤمنين‪ ،‬ألن الكلمات الطيب ة ال تي‬
‫يقولونه ا تس اهم في نش ر الفض ائل‪ ،‬ومواجه ة الرذائ ل‪ ،‬وب ذلك يتحق ق اإلص الح‬
‫النفسي واالجتماعي‪ ،‬وقد ورد في الحديث أن النبي ‪ ‬كان يضع لحسان المنبر في‬
‫المسجد يقوم عليه قائما يهجو أهل الجاهلية‪ ،‬ويس خر من القيم ال تي ك انوا يتبنونه ا‪،‬‬
‫وقد قال ل ه رس ول هللا ‪ ‬مش جعا‪( :‬إن روح الق دس م ع حس ان م ا دام ين افح عن‬
‫رسول هللا ‪ )1()‬ومن قصائده التي رثى بها رسول هللا ‪:‬‬
‫منير وقد تعفو الرسوم وتهمد‬ ‫بطيب ة رس م للرس ول ومعهد‬
‫به ا من بر اله ادي ال ذي ك ان‬ ‫وال تمتحي اآلي ات من دار‬
‫يصعد‬ ‫حرمة‬
‫إلى آخ ر القص يدة‪ ،‬ومثله ا الكث ير من القص ائد ال تي تم دح رس ول هللا ‪،‬‬
‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪413‬‬
‫وتذكر أخالقه الطيبة‪ ،‬والتي تحولت بعد ذلك إلى أغان وأناشيد تنش د في المج الس‪،‬‬
‫ويطرب لها السامعون‪ ،‬ويتأثرون بمعانيها‪.‬‬
‫فما الضرر في ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وهي ـ بحس ب الواق ع ـ ال تنش ر‬
‫إال الفضيلة والخير‪ ،‬وتحث عليهما بأسلوب يفرح له البشر ويطربون‪ ..‬وهل يشترط‬
‫في المواعظ تأثيرها‪ ،‬أم جفافها؟‬
‫ول ذلك ف إني عن دما ت أملت ح ال من ذك رت‪ ،‬وال ذين وق ع اإلنك ار عليهم‪،‬‬
‫وجلست بعض مجالسهم سمعتهم يرددون أمثال هذه األبيات‪:‬‬
‫أن اش تكت ق دماه الض ر من‬ ‫ظلمت س نة من أحي ا الظالم‬
‫ورم‬ ‫الى‬
‫تحت الحج ارة كش حا م ترف‬ ‫وش د من س غب أحش اءه‬
‫األدم‬ ‫وى‬ ‫وط‬
‫عن نفس ه فأراه ا أيم ا ش مم‬ ‫وراودت ه الجب ال الش م من‬
‫ذهب‬
‫إن الض رورة ال تع دو على‬ ‫وأكدت زهده فيه ا ض رورته‬
‫العصم‬
‫والفريقين من عرب ومن عجم‬ ‫محم د س يد الك ونين والثقلين‬
‫وق د ت أملت فيه ا؛ فوج دت ك ل معانيه ا طيب ة‪ ،‬فهي ت ذكر رس ول هللا ‪‬‬
‫واألخالق الرفيعة التي كان يتص ف به ا‪ ،‬وهي ت دعو من خالل ذل ك إلى األم رين‪:‬‬
‫محبة رسول هللا ‪ ،‬ومحبة تلك القيم واألخالق العالية‪ ،‬وكالهم ا من األس س ال تي‬
‫ال تقوم التزكية إال بها‪ ..‬فهل في ذلك أي حرج؟‬
‫بل إني وجدت ما يفعلونه هو نفس م ا فعل ه رس ول هللا ‪ ،‬فق د ح دث أنس‪،‬‬
‫قال‪ :‬خرج رسول هللا ‪ ‬إلى الخندق‪ ،‬فإذا المهاجرون واألنصار يحفرون في غداة‬
‫باردة‪ ،‬فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال‪:‬‬
‫فاغفر لألنصار‬ ‫اللهم إن العيش عيش‬
‫والمهاجره‬ ‫اآلخره‬
‫فقالوا مجيبين له‪:‬‬
‫على الجهاد ما بقينا أبدا‬ ‫نحن الذين بايعوا محمدا‬
‫وعن البراء قال‪ :‬كان النبي ‪ ‬ينقل التراب يوم الخندق حتى أغم ر بطن ه أو‬
‫اغبر بطنه‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫وال تصدقنا وال صلينا‬ ‫وهللا لوال هللا ما اهتدينا‬
‫وثبت األقدام إن القينا‬ ‫فأنزلن سكينة علينا‬
‫إذا أرادوا فتنة أبينا‬ ‫إن األلى قد بغوا علينا‬

‫‪414‬‬
‫ورفع بها صوته أبينا أبينا(‪.)1‬‬
‫وروى أنس أن النبي ‪ ‬مر ببعض المدينة ف إذا ه و بج وار يض ربن ب دفهن‬
‫ويتغنين ويقلن‪:‬‬
‫يا حبذا محم د من ج ار‬ ‫نحن ج وار من ب ني‬
‫ار‬ ‫النج‬
‫فقال النبي ‪ :‬اللهم بارك فيهن (‪.)2‬‬
‫فهذه األبيات التي وصلتنا‪ ،‬والتي ق د يوج د غيره ا كث ير مم ا لم يص لنا ي دل‬
‫على اعتماد رسول هللا ‪ ‬ه ذه الوس يلة لتزكي ة النف وس وتربيته ا‪ ،‬لعلم ه بتأثيره ا‬
‫عليها‪.‬‬
‫الترويح والترقية‪:‬‬
‫أما دور الترويح ال ذي ذك رت بالترقي ة؛ ف إن ذل ك ت ابع للكلم ات ال تي ت ردد‬
‫وتنشد؛ فإن كانت كلمات تحث على معرفة هللا ومحبته ومحبة أوليائ ه؛ ف إن دوره ا‬
‫ال يختلف عن األذكار والصلوات والزيارات وغيره ا‪ ..‬وال ف رق بينهم ا س وى في‬
‫تلك األلحان التي ترتاح لها النفس‪.‬‬
‫بل إن لتلك األلحان تأثيرها الكبير؛ فف رق بين أن تس مع األدعي ة والص لوات‬
‫بأصوات عادية‪ ،‬وبين أن تسمعها بأصوات جميلة شجية متناسبة مع معانيها‪..‬‬
‫ولهذا سن الصالحون وضع األدعية في تلك القوالب الجميل ة‪ ،‬كم ا س نوا من‬
‫قبلها سماع القرآن الكريم باألصوات الجميلة المؤثرة‪.‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬هو الذي سن ذلك؛ ففي الحديث عنه ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ليس‬
‫يتغن بالقرآن)(‪)3‬‬ ‫ّ‬ ‫منّا من لم‬
‫ي أن يتغنّى(‪)4‬‬‫وفي ح ديث آخ ر ق ال ‪( :‬م ا أذن هللا لش يء م ا أذن لن ب ّ‬
‫بالقرآن) (‪)5‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬قال لبعض أصحابه‪( :‬لو رأيتني وأنا أستمع لقراءت ك البارح ة‬
‫لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود) (‪)6‬‬
‫بل إن القرآن الكريم هو الذي سن ذلك‪ ،‬وأش ار إلي ه‪ ،‬فق د ق ال هللا تع الى عن‬
‫اجبَا ُل أَ ِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر﴾ [سبأ‪]10 :‬‬
‫داود عليه السالم‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َد ِمنَّا فَضْ اًل يَ ِ‬
‫ولهذا؛ ف إن أمث ال تل ك األش عار ال تي تنش د‪ ،‬وال تي تحث على محب ة هللا‪ ،‬أو‬
‫محبه رسوله ‪ ‬ومحبة األولياء والصالحين؛ فال حرج فيها‪ ،‬بل إنها ال تختل ف عن‬
‫سائر ما دعت إليه النصوص المقدسة من األذكار والص لوات وغيره ا‪ ..‬ودورهم ا‬

‫‪ )(1‬البخاري‪ ،3/1103:‬مسلم‪.3/1429 :‬‬


‫‪ )(2‬ابن ماجة‪ ،1/612 :‬مسند أبي يعلى‪.6/134 :‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود (‪ 1469‬و‪ 1470‬و‪)1471‬‬
‫‪ )(4‬اختلفوا في معنى قوله (يتغنى) على أربعة أق وال‪ :‬أح دها‪ :‬تحس ين الص وت‪ .‬والث اني‪ :‬االس تغناء‪ .‬والث الث‪:‬‬
‫التحزن‪ .‬والرابع‪ :‬التشاغل به [ فتح الباري ‪])687( 8‬‬
‫‪ )(5‬البخاري‪ -‬الفتح ‪)5024( 8‬‬
‫‪ )(6‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ .)5048( 8‬ومسلم (‪)793‬‬
‫‪415‬‬
‫ال يختلف‪ ،‬فكالهما يرقي النفس إلى مراتب الكمال المتاحة لها بعد أن يمأله ا بتل ك‬
‫المعاني الجميلة التي تحويها تلك القصائد‪.‬‬
‫وقد مررت ـ أيها المريد الصادق ـ ببعض من ذكرت‪ ،‬وهم ينشدون بأصوات‬
‫جميلة قصيدة يقول صاحبها متغنيا بمحبة هللا‪:‬‬
‫ك انت لقل بي أه وا ٌء مفرّقة‬
‫ت ْ‬
‫مذ را َءتك العين أه وائي‬ ‫فاستجم َع ْ‬
‫رت م ولى ال ورى ُم ْذ ص رتَ‬ ‫وص ُ‬ ‫فص ار يحس دني من كنت‬
‫والئي‬ ‫م‬ ‫ده‬ ‫احس‬
‫وائي‬ ‫إاّل لغفلتهم عن عظم بل‬ ‫م ا الم ني في ك أحب ابي‬
‫دائي‬ ‫وأع‬
‫ش غالً بحب ك ي ا دي ني ودني ائي‬ ‫ُ‬
‫ركت للن اس دني اهم ودينهم‬ ‫ت‬
‫بين الض لوع وأخ رى بين أحش ائي‬ ‫أش علتَ في كب دي ن ارين‬
‫دة‬ ‫واح‬
‫وقد شعرت بتأثيرها الكبير في نفس ي‪ ،‬وأحس ب أن ك ل من يس معها سيش عر‬
‫بنفس التأثير‪ ،‬وبذلك فإنها تحدث في النفس نفس ما تحدثه األذكار من الحضور م ع‬
‫هللا‪ ،‬واألنس به‪ ،‬والشوق إليه‪ ..‬وكل ذلك معان جميلة ال يصح لعاقل أن ينكرها‪.‬‬
‫وما حصل لي‪ ،‬وربما حصل لك‪ ،‬ه و م ا حص ل للكث ير ممن يهتم ون بع الم‬
‫المعاني‪ ،‬ويتأثرون لها‪ ،‬وقد ذكر بعض الحكماء ذلك‪ ،‬فق ال‪( :‬الس ماع مهيج لم ا في‬
‫القلوب‪ ،‬محرك لما فيها‪ ،‬فلما كانت قلوب القوم معمرة بذكر هللا تع الى‪ ،‬ص افية من‬
‫كدر الشهوات‪ ،‬محترقة بحب هللا‪ ،‬ليس فيه ا س واه‪ ،‬ك ان الش وق والوج د والهيج ان‬
‫والقلق كامن في قلوبهم كمون النار في الزناد‪ ،‬فال تظهر إال بمص ادفة م ا يش اكلها‪،‬‬
‫فمراد القوم فيما يسمعون إنما هو مصادف ما في قلوبهم‪ ،‬فيستثيره بصدمة طروقه‪،‬‬
‫وقوة سلطانه‪ ،‬فتعجز القلوب عن الثبوت عن اصطدامه‪ ،‬فتبعث الجوارح بالحركات‬
‫والصرخات والصعقات‪ ،‬لثوران ما في القلوب)(‪)1‬‬
‫وقال آخر‪( :‬إن تأثير السماع في القلب محسوس‪ ،‬ومن لم يحرك ه الس ماع فه و‬
‫ناقص مائ ل عن االعت دال بعي د عن الروحاني ة زائ د في غل ظ الطب ع وكثافت ه على‬
‫الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإنها جميعا تتأثر بالنغمات الموزونة)(‪)2‬‬
‫ولذلك ما دام للسماع كل ه ذا الت أثير‪ ،‬م ا الم انع ـ أيه ا المري د الص ادق ـ من‬
‫استثماره في التربية والسلوك‪ ،‬وترقي ة المري دين في درج ات الكم ال المتاح ة لهم‪،‬‬
‫وقد قال بعض الحكماء في ذلك‪( :‬سماع من أحب هّللا وعشقه‪ ،‬واشتاق إلى لقائه‪ ،‬فال‬
‫ينظر إلى شي ء إال رآه فيه سبحانه‪ ،‬وال يقرع س معه ق ارع إال س معه من ه أو في ه‪،‬‬
‫فالس ماع في حق ه مهيج لش وقه ومؤك د لعش قه وحب ه‪ ،‬ومس تخرج من ه أح واال من‬
‫المكاشفات والمالطفات ال يحيط الوصف بها‪ ،‬يعرفه ا من ذاقه ا‪ ،‬وينكره ا من ك ّل‬

‫‪ )(1‬غذاء األلباب شرح منظومة اآلداب‪)1/127( ،‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)275 /2‬‬
‫‪416‬‬
‫ذوقها) (‪)1‬‬ ‫حسه عن‬
‫ثم ذكر تأثير تلك المستخرجات التي استجرجها الس ماع وم ا عقب ه من الوج د‪،‬‬
‫فقال‪( :‬ثم تكون تلك األحوال أسبابا لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقي ه‬
‫من الكدرات‪ ،‬كما تنقى النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث‪ ،‬ثم يتبع الص فاء‬
‫الحاصل به مش اهدات ومكاش فات‪ ،‬وهي غاي ة مط الب المح بين هَّلل تع الى‪ ،‬ونهاي ة‬
‫ثمرة القربات كلها)(‪)2‬‬
‫وبناء على هذا يخلص إلى أن السماع وما يتبعه ليس مباحا فقط‪ ،‬وإنما ه و من‬
‫المستحبات‪ ،‬فقال‪ ..( :‬فالمفض ي إليه ا – أي لتل ك األح وال ال تي س بق ذكره ا‪ -‬من‬
‫جملة القربات ال من جملة المعاصي والمباحات) (‪)3‬‬
‫ثم بين أن المنكر لهذا منكر للطبع والفطرة السليمة التي فطر هللا عليها األنفس‪،‬‬
‫والتي تميل إلى الغناء جبليا من غير تكلف‪ ،‬ولهذا ف إن من ينك ر ه ذا يس ميه (البلي د‬
‫الجامد القاسي القلب المحروم عن لذة السماع) ذلك أنه (يتعجب من الت ذاذ المس تمع‬
‫ووج ده واض طراب حال ه وتغ ير لون ه تعجب البهيم ة من ل ذة الل وزينج‪ ،‬وتعجب‬
‫الصبي من لذة الرياس ة واتس اع أس باب الج اه‪ ،‬وتعجب الجاه ل من ل ذة معرف ة هللا‬
‫تعالى ومعرفة جالله وعظمته وعجائب صنعه) (‪)4‬‬
‫ثم بين عل ة ه ذه البالدة‪ ،‬فق ال‪( :‬ولك ل ذل ك س بب واح د‪ ،‬وه و أن الل ذة ن وع‬
‫إدراك‪ ،‬واإلدراك يستدعي مدركا‪ ،‬ويستدعي قوة مدركة‪ ،‬فمن لم تكمل ق وة إدراك ه‬
‫لم يتصور منه التلذذ‪ ،‬فكيف ي دري ل ذة الطع وم من فق د ال ذوق‪ ،‬وكي ف ي درك ل ذة‬
‫األلحان من فقد السمع‪ ،‬ولذة المعقوالت من فقد العقل‪ ،‬وكذلك ذوق السماع) (‪)5‬‬
‫أما ما ذكرت ـ أيها المريد الصادق ـ من التأثر ال ذي يق ع للس امعين‪ ،‬وتماي ل‬
‫بعضهم نتيجة لذلك؛ فال ح رج في ه م ا دام تلقائي ا وغ ير متكل ف‪ ،‬وق د ذك ر الق رآن‬
‫الكريم أن التأثر يحدث أحواال في الجسد‪ ،‬ال يستطيع الفكاك منه ا‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬هَّللا ُ‬
‫نَ َّز َل أَحْ َسنَ ْال َح ِدي ِ‬
‫ث ِكتَابً ا ُمت ََش ابِهًا َمثَ انِ َي تَ ْق َش ِعرُّ ِم ْن هُ ُجلُ و ُد الَّ ِذينَ يَ ْخ َش وْ نَ َربَّهُ ْم ثُ َّم‬
‫تَلِينُ ُجلُو ُدهُ ْم َوقُلُوبُهُ ْم إِلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ﴾ [الزمر‪]23 :‬‬
‫وقد قال بعضهم يذكر س ر ذل ك‪( :‬وك ل حرك ة في الع الم العل وي أو الس فلي‬
‫فأص لها المحب ة‪ ..‬فل وال الحب م ا دارت األفالك وتح ركت الك واكب الن يرات‪ ،‬وال‬
‫هبت الري اح المس خرات‪ ،‬وال م رت الس حب الح امالت‪ ،‬وال تح ركت األجن ة في‬
‫بطون األمهات‪ ،‬وال انص دع عن الحب أن واع النب ات‪ ،‬واض طربت أم واج البح ار‬
‫والزاخ رات‪ ،‬وال تح ركت الم دبرات والمقس مات وال س بحت بحم د فاطره ا‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)279 /2‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)279 /2‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)279 /2‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين (‪)279 /2‬‬
‫‪ )(5‬إحياء علوم الدين (‪)279 /2‬‬
‫‪417‬‬
‫المخلوقات) (‪)1‬‬‫األرضون والسموات وما فيها من‬
‫وقال الشاعر يعبر عن أسرار تلك المواجيد واألحوال‪:‬‬
‫ولوال هوا ُكم فِي الحشا ما تَحرَّكن ا‬ ‫يحرُكن ا ذك ر األح اديث عنك ُم‬
‫ب الهَ َوى‬‫إذا لَم ت ُذق معنَى ش را ٍ‬ ‫فقُ ل لِلَّذي ينهَى عن َ‬
‫الوج د أهل هُ‬
‫ا‬ ‫دعن‬
‫ترفصت األشباح يا جاه َل المعنَى‬ ‫إذا اه ت َّزت األرواح ش وقا ً إِلَى‬
‫ا‬ ‫اللق‬
‫حن إِلَى المغنَى‬
‫إذا ذكر األوط ان َّ‬ ‫ص ي ا فتَى‬ ‫أما تنظ ُر الطير المقفَّ َ‬
‫طربُ األعض ا ُء فِي الحسّ‬
‫ِ‬ ‫فتض‬ ‫يُفَ ّر ُج بالتغري د م ا بِفُ ؤاد ِه‬
‫والمعنَى‬
‫ول إذا غنَى‬ ‫فته ُّ‬
‫تز أرب ابُ العق ِ‬ ‫اص ش وقا ً إِلَى‬
‫ِ‬ ‫ويرقصُ فِي األقف‬
‫اللقا‬
‫ق للع الَ ِم األس نَى‬ ‫ت ِّ‬
‫َهززه ا األش وا ُ‬ ‫ك ذلكَ أروا ُح ال ُمحبِّينَ ي ا فَتَى‬
‫وه ل يس تطيع الص بر من ش اهد‬ ‫بر وهي مش وقةٌ‬
‫أنلز ُمه ا بالص ِ‬
‫المعنَى‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫وال التماي ِل إن أخلص تَ من ب ِ‬
‫اس‬ ‫م ا في التواج ِد إن حققتَ من‬
‫رج‬ ‫ح‬
‫هُ قاسي‬ ‫ُحجبُ عمن قلب‬
‫يخفى وي َ‬ ‫إن السما َع ص فاء ن ور ص فوت ٍِه‬
‫ن ا ٌر لمن ص درُه ن اووسُ وس واس‬ ‫النور منش ِر ٌح‬
‫ِ‬ ‫ن و ٌر لمن قلبُ ه ب‬
‫ؤوس تري ك الص ف َو في‬
‫ِ‬ ‫در الك‬
‫ق ِ‬ ‫ها األروا ُح فهي‬ ‫را ٌح وأ ْكؤ ُ‬
‫ُس‬
‫الكاس‬ ‫على‬
‫وإن ِتق ادم العه د م ا المش تا ُ‬
‫ق‬ ‫ح ا ٍد ي ذ ّكرُكَ العه َد الق دي َم‬
‫كالناسي‬ ‫فليس ع ا ٌر إذا غنّى ل ه طرب ا ً‬
‫يئنُ بالن اس ال يخش ى من الن ِ‬
‫اس‬
‫هذه ـ أيها المريد الصادق ـ إجابتي على ما ط رحت من أس ئلة‪ ،‬وأن ا أدع وك‬
‫من خاللها أن تستعمل هذه الوسيلة كغيرها من الوسائل في تهذيب نفسك وترقيته ا‪،‬‬
‫مع الحذر من القصائد التي تنشد‪ ،‬فليست بالمعصومة‪ ،‬ف انتق منه ا م ا ت راه مناس با‬
‫إلصالح نفسك‪ ،‬وترقيتها‪ ،‬وال تلتفت للمنكرين؛ ف العبرة بم ا تنص علي ه النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬ال باألمزجة واألهواء‪.‬‬

‫‪ )(1‬الجواب الكافي‪.201 :‬‬


‫‪418‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫النفس اللوام ة هي النفس ال تي تق ع في المرتب ة الثاني ة بع د النفس األم ارة‪،‬‬
‫لتحضر صاحبها ألن تتحول نفسه إلى نفس مطمئنة‪..‬‬
‫ودورها بذلك محدود ومؤقت‪ ،‬ويمكن تحديده في جانبين‪ ،‬أو وظيفتين‪:‬‬
‫أوالهما‪ :‬تزكي ة النفس وته ذيبها من ك ل مث الب النفس األم ارة‪ ،‬ذل ك أن ه ال‬
‫يمكن أن تبنى األخالق الطيبة إال بعد اجتثاث ما يخالفها من األخالق الخبيثة‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬ترقية النفس إلى المحال التي تطمئن فيها لإليمان‪ ،‬لتصبح بذلك أهال‬
‫لدرجة النفس المطمئنة‪.‬‬
‫وهذان الدوران يحتاجان إلى التعرف على المناهج الص حيحة ال تي يمكن أن‬
‫تسير بالنفس سيرا صحيحا‪ ،‬حتى ال ينحرف بها صاحبها في الوقت الذي يري د في ه‬
‫تهذيبها والرقي بها‪.‬‬
‫ولذلك حاولنا في هذه الرس ائل أن ن ذكر المن اهج ال تي يمكن أن تق وم ب ذينك‬
‫الدورين‪ ،‬مع بيان أدلتها الشرعية‪ ،‬واألخطاء التي تسربت إليها‪ ،‬وحالت بينه ا وبين‬
‫أداء أدوارها الصحيحة‪.‬‬

‫‪419‬‬

You might also like