You are on page 1of 378

0

‫هذا الكتاب‬
‫يتناول هذا الكتاب خمسة أبعاد مهم ة يحت اج الم ربي إلى مراعاته ا في‬
‫تربية األوالد‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫البعد اإليم اني‪ :‬وه و المع ارف اإليماني ة العميق ة ال تي تش كل قناع ات‬
‫المؤمن العقلية والروحية‪ ،‬والتي تبرمجه بع د ذل ك ليس ير في الحي اة وف ق م ا‬
‫تمليه حقيقة الكون واإلنسان والحياة‪.‬‬
‫البعد الروحي‪ :‬وهو ما ينتجه البعد اإليم اني من آث ار في روح الم ؤمن‬
‫ليصلها باهلل عبودية وخشوعا وإذعانا وترق في مقامات السلوك إلى هللا‪.‬‬
‫البع د األخالقي‪ :‬وه و ته ذيب النفس وف ق اآلداب الش رعية‪ ،‬وكس وتها‬
‫بكسوة اإلنسانية التي ترفع عنها ما تتطلبه طبيعته ا من س لوكات ق د تخرجه ا‬
‫عن الكمال اإلنساني إلى البهيمية‪.‬‬
‫البعد االجتماعي‪ :‬وهو االرتباط الصحي بالمجتمع‪ ،‬فيتأدب معه وفق ما‬
‫تتطلبه العالقات االجتماعية من آداب‪ ،‬ويكون عضوا إيجابيا فيه‪.‬‬
‫البع د المع رفي‪ :‬وه و ال تزود بك ل العل وم والمع ارف ال تي أتاحه ا هللا‬
‫لإلنسان‪ ،‬ليتعرف من خاللها على أسرار حقيقته وحقيق ة الك ون‪ ،‬وليس هل م ا‬
‫تتطلبه حياته من مرافق‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫فقه األسرة برؤية مقاصدية‬

‫(‪)7‬‬

‫األبعاد الشرعية لتربية األوالد‬


‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬
‫‪/http://www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة الثانية‬

‫‪2017 – 1438‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



3
‫فهرس المحتويات‬
‫‪4‬‬ ‫فهرس المحتويات‬
‫‪16‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪19‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬البعد اإليماني في تربية األوالد‬
‫‪19‬‬ ‫أوال ـ ضرورة التربية اإليمانية لبناء الشخصية السوية‬
‫‪24‬‬ ‫‪ 1‬ـ السالم النفسي‬
‫‪27‬‬ ‫الموت‪:‬‬
‫‪29‬‬ ‫الرزق‪:‬‬
‫‪31‬‬ ‫تقلبات المقادير‪:‬‬
‫‪32‬‬ ‫‪ 2‬ـ الرقابة اإليمانية‬
‫‪36‬‬ ‫‪ 3‬ـ القوة واإلنتاج‬
‫‪41‬‬ ‫ثانيا ـ مصادر التربية اإليمانية وضوابط استثمارها‬
‫‪42‬‬ ‫‪ 1‬ـ الوحي‬
‫‪46‬‬ ‫الحضور الواعي‪:‬‬
‫‪48‬‬ ‫الحذر من التحريف‪:‬‬
‫‪53‬‬ ‫‪ 2‬ـ عالم النفس والكون‬
‫‪55‬‬ ‫ثالثا ـ شروط المعارف اإليمانية‬
‫‪55‬‬ ‫‪ 1‬ـ اليقين‬
‫‪62‬‬ ‫‪ 2‬ـ الصدق‬
‫‪68‬‬ ‫رابعا ـ أركان التربية اإليمانية‬
‫‪69‬‬ ‫‪ 1‬ـ اإليمان باهلل‬
‫‪70‬‬ ‫التوحيد‪:‬‬
‫‪74‬‬ ‫أسماء هللا الحسنى‪:‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪ 2‬ـ اإليمان بالنبوات‬
‫‪81‬‬ ‫القدوة‪:‬‬
‫‪83‬‬ ‫الجذور التاريخية لإلسالم واإلنسان‪:‬‬
‫‪85‬‬ ‫تمثيل حقيقة اإلسالم‪:‬‬
‫‪87‬‬ ‫‪ 3‬ـ اإليمان بعالم الغيب‬
‫‪93‬‬ ‫علمية اإليمان بالغيب‪:‬‬
‫‪95‬‬ ‫عالم الغيب ال عالم الخرافة‪:‬‬
‫‪97‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬البعد الروحي في تربية األوالد‬
‫‪97‬‬ ‫أوال ـ عبادات القلب‬
‫‪104‬‬ ‫‪ 1‬ـ عبودية الحب‬
‫‪107‬‬ ‫التعريف بعظمة هللا وصفات كماله‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫‪109‬‬ ‫التعريف بإحسان هللا‪:‬‬
‫‪110‬‬ ‫توثيق الصلة باهلل‪:‬‬
‫‪110‬‬ ‫منشطات السلوك‪:‬‬
‫‪112‬‬ ‫‪ 2‬ـ عبودية الشكر‬
‫‪114‬‬ ‫التأمل في نعم هللا‪:‬‬
‫‪116‬‬ ‫عبادة إحصاء النعم‪:‬‬
‫‪121‬‬ ‫أذكار الشكر‪:‬‬
‫‪127‬‬ ‫‪ 3‬ـ عبودية الصبر‬
‫‪134‬‬ ‫معرفة حقيقة وظيفة اإلنسان في هذه الدنيا‪:‬‬
‫‪137‬‬ ‫معرفة جزاء الصبر‪:‬‬
‫‪140‬‬ ‫الثقة بحصول الفرج‪:‬‬
‫‪140‬‬ ‫قصص الصابرين‪:‬‬
‫‪142‬‬ ‫ثانيا‪ :‬عبادات الجوارح‬
‫‪144‬‬ ‫‪ 1‬ـ إسالم الصبي‬
‫‪144‬‬ ‫التمييز‪:‬‬
‫‪147‬‬ ‫العقل‪:‬‬
‫‪148‬‬ ‫التبعية‪:‬‬
‫‪149‬‬ ‫التبعية لألبوين‪:‬‬
‫‪151‬‬ ‫التبعية للدار‪:‬‬
‫‪152‬‬ ‫‪ 2‬ـ صالة الصبي‬
‫‪152‬‬ ‫حكم أمر الصبي بالصالة‪:‬‬
‫‪153‬‬ ‫حكم صالة الصبي‪:‬‬
‫‪155‬‬ ‫شروط صحة صالة الصبي‪:‬‬
‫‪155‬‬ ‫الذهاب باألوالد إلى المساجد‪:‬‬
‫‪157‬‬ ‫صالة الجماعة بالصبيان‪:‬‬
‫‪158‬‬ ‫إمامة الصبي‪:‬‬
‫‪160‬‬ ‫موقف الصبي في الصف‪:‬‬
‫‪161‬‬ ‫‪ 3‬ـ صيام الصبي‬
‫‪161‬‬ ‫العمر الذي يؤمر فيه الصبي بالصيام‪:‬‬
‫‪162‬‬ ‫وقت وجوب الصوم على الصبي‪:‬‬
‫‪163‬‬ ‫بلوغ الصبي أثناء الصوم‪:‬‬
‫‪164‬‬ ‫قضاء ما مضى من الشهر قبل بلوغه‪:‬‬
‫‪165‬‬ ‫‪ 4‬ـ حج الصبي‬
‫‪167‬‬ ‫إجزاء حج الصبي عن حجة اإلسالم‪:‬‬
‫‪169‬‬ ‫البلوغ حال اإلحرام‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫‪171‬‬ ‫إحرام الصبي‪:‬‬
‫‪172‬‬ ‫أفعال الحج‪:‬‬
‫‪173‬‬ ‫نفقة الحج‪:‬‬
‫‪174‬‬ ‫لزوم الفدية‪:‬‬
‫‪175‬‬ ‫ما يلزمه من الفدية‪:‬‬
‫‪175‬‬ ‫لزوم القضاء‪:‬‬
‫‪177‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬البعد األخالقي في تربية األوالد‬
‫‪178‬‬ ‫أوال ـ الوقاية من أسباب االنحراف‬
‫‪178‬‬ ‫‪ 1‬ـ البيئة والمحيط التربوي‬
‫‪179‬‬ ‫األسرة‬
‫‪185‬‬ ‫الخادم‬
‫‪190‬‬ ‫المحيط التربوي‬
‫‪191‬‬ ‫‪ 2‬ـ وسائل اإلعالم‬
‫‪193‬‬ ‫التلفزيون‬
‫‪200‬‬ ‫المجالت‬
‫‪206‬‬ ‫اإلنترنت‬
‫‪211‬‬ ‫ثانيا ـ عالج مظاهر االنحراف‬
‫‪212‬‬ ‫‪ 1‬ـ منابع االنحراف ومظاهره‬
‫‪212‬‬ ‫منابع االنحراف‬
‫‪217‬‬ ‫مظاهر االنحراف‬
‫‪227‬‬ ‫‪ 2‬ـ أساليب عالج االنحراف‬
‫‪229‬‬ ‫األساليب العلمية‬
‫‪235‬‬ ‫االنحراف الجنسي‬
‫‪236‬‬ ‫الكبر‬
‫‪248‬‬ ‫الغضب‬
‫‪254‬‬ ‫األساليب العملية‬
‫‪259‬‬ ‫االنحراف الجنسي‬
‫‪262‬‬ ‫الكبر‬
‫‪265‬‬ ‫الغضب‬
‫‪267‬‬ ‫ثالثا ـ الفضائل الخلقية وكيفية تنميتها‬
‫‪269‬‬ ‫‪ 1‬ـ حقيقة الخلق وضوابطه‬
‫‪269‬‬ ‫حقيقة الخلق‬
‫‪270‬‬ ‫أصول األخالق‪:‬‬
‫‪278‬‬ ‫ضوابط التخلق‬
‫‪288‬‬ ‫‪ 2‬ـ طريق التخلق‬

‫‪6‬‬
‫‪290‬‬ ‫مجاهدة النفس‬
‫‪295‬‬ ‫المراغمة‪:‬‬
‫‪295‬‬ ‫المواظبة‪:‬‬
‫‪298‬‬ ‫سياسة النفس‬
‫‪305‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬البعد االجتماعي في تربية األوالد‬
‫‪305‬‬ ‫أوال ـ آداب العالقات االجتماعية‬
‫‪308‬‬ ‫‪ 1‬ـ آداب االستئذان‬
‫‪310‬‬ ‫أ ـ االستئذان لدخول البيوت‬
‫‪312‬‬ ‫ما ال يحتاج إلى استئذان‪:‬‬
‫‪312‬‬ ‫البيوت العامة‪:‬‬
‫‪314‬‬ ‫الضرورة‪:‬‬
‫‪315‬‬ ‫البيت الذي فيه المنكر‪:‬‬
‫‪316‬‬ ‫آداب استئذان الدخول للبيوت‬
‫‪316‬‬ ‫صيغة االستئذان‪:‬‬
‫‪317‬‬ ‫االستئذان ثالثا‪:‬‬
‫‪320‬‬ ‫موضع الوقوف‪:‬‬
‫‪320‬‬ ‫عدم التطلع للبيت‪:‬‬
‫‪321‬‬ ‫االستئناس‪:‬‬
‫‪322‬‬ ‫السالم‪:‬‬
‫‪323‬‬ ‫حق صاحب البيت في عدم اإلذن‪:‬‬
‫‪323‬‬ ‫ب ـ اإلستئذان داخل البيوت‬
‫‪326‬‬ ‫االستئذان على الزوجة‪:‬‬
‫‪326‬‬ ‫االستئذان على المحارم‪:‬‬
‫‪328‬‬ ‫ج ـ االستئذان خارج البيوت‬
‫‪329‬‬ ‫استعمال منافع الغير‪:‬‬
‫‪331‬‬ ‫استئذان ولي األمر‪:‬‬
‫‪332‬‬ ‫استئذان األبوين‪:‬‬
‫‪333‬‬ ‫‪ 2‬ـ آداب التحية‬
‫‪334‬‬ ‫أ ـ أحكام التحية‬
‫‪335‬‬ ‫حكم البدء بالسالم‪:‬‬
‫‪338‬‬ ‫حكم رد السالم‪:‬‬
‫‪339‬‬ ‫من يبدأ بالسالم‪:‬‬
‫‪340‬‬ ‫السالم عند مفارقة المجلس‪:‬‬
‫‪341‬‬ ‫ب ـ من يلقى عليه السالم‬
‫‪341‬‬ ‫السالم على المنشغل‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫‪344‬‬ ‫السالم على الصبي‪:‬‬
‫‪345‬‬ ‫السالم على النساء‪:‬‬
‫‪346‬‬ ‫السالم على الفساق‪:‬‬
‫‪347‬‬ ‫السالم على الكفار غير المحاربين‪:‬‬
‫‪349‬‬ ‫حكم االستقالة من السالم‪:‬‬
‫‪349‬‬ ‫رد السالم على الكفار‪:‬‬
‫‪350‬‬ ‫كيفية الرد على سالم الكفار‪:‬‬
‫‪352‬‬ ‫ج ـ صيغة السالم‬
‫‪355‬‬ ‫الرد بأحسن منها‪:‬‬
‫‪356‬‬ ‫السالم بصيغة الجماعة‪:‬‬
‫‪357‬‬ ‫تعريف السالم‪:‬‬
‫‪358‬‬ ‫رفع الصوت به قدر اإلبالغ‪:‬‬
‫‪360‬‬ ‫‪ 3‬ـ آداب الزيارة والضيافة‬
‫‪361‬‬ ‫مقاصد الزيارة‬
‫‪361‬‬ ‫زيارة الصالحين‪:‬‬
‫‪363‬‬ ‫عيادة المريض‪:‬‬
‫‪365‬‬ ‫زيارة األقارب‪:‬‬
‫‪366‬‬ ‫آداب الزيارة‬
‫‪366‬‬ ‫تحديد الموعد‪:‬‬
‫‪367‬‬ ‫مراعاة النظافة والنظام‪:‬‬
‫‪369‬‬ ‫خفة الزيارة‪:‬‬
‫‪370‬‬ ‫آداب الضيافة‬
‫‪370‬‬ ‫إكرام الضيف‪:‬‬
‫‪373‬‬ ‫احترام الضيف‪:‬‬
‫‪374‬‬ ‫الخفة وعدم التكلف‪:‬‬
‫‪377‬‬ ‫‪ 4‬ـ آداب المجالس‬
‫‪378‬‬ ‫أ ـ اختيار الجليس‬
‫‪378‬‬ ‫التأثر بالمنكر‪:‬‬
‫‪379‬‬ ‫اإلقرار على المنكر‪:‬‬
‫‪381‬‬ ‫ب ـ احترام الجليس‬
‫‪381‬‬ ‫أن ال يقام من مجلسه‪:‬‬
‫‪383‬‬ ‫طرح الوسادة للزائر‪:‬‬
‫‪384‬‬ ‫عدم التفريق بين الجالسين‪:‬‬
‫‪384‬‬ ‫عدم الجلوس في وسط الحلقة‪:‬‬
‫‪385‬‬ ‫ج ـ آداب الحديث في المجالس‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫‪386‬‬ ‫د ـ احترام المجلس‬
‫‪387‬‬ ‫‪ 5‬ـ آداب الكالم‬
‫‪388‬‬ ‫أ ـ الكالم عند الحاجة‬
‫‪393‬‬ ‫ب ـ تجنب الكالم المحظور‬
‫‪394‬‬ ‫الخوض في الباطل‪:‬‬
‫‪394‬‬ ‫المراء والجدال‪:‬‬
‫‪395‬‬ ‫الغيبة‪:‬‬
‫‪398‬‬ ‫النميمة‪:‬‬
‫‪400‬‬ ‫ج ـ التعبير الصحيح واختيار األلفاظ‬
‫‪400‬‬ ‫صدق التعبير‪:‬‬
‫‪403‬‬ ‫التفاؤل والنشاط‪:‬‬
‫‪404‬‬ ‫الفحش وبذاءة اللسان‪:‬‬
‫‪404‬‬ ‫التفاصح‪:‬‬
‫‪405‬‬ ‫التلطف في التعبير‪:‬‬
‫‪406‬‬ ‫‪ 6‬ـ آداب المشي‬
‫‪407‬‬ ‫حرمة الطريق‪:‬‬
‫‪410‬‬ ‫إماطة األذى عن الطريق‪:‬‬
‫‪411‬‬ ‫احترام الطريق‪:‬‬
‫‪412‬‬ ‫‪ 7‬ـ آداب المعاشرة مع أصناف الناس‬
‫‪419‬‬ ‫مع الكبار‪:‬‬
‫‪420‬‬ ‫مع األصدقاء‪:‬‬
‫‪425‬‬ ‫مع الوالدين‪:‬‬
‫‪428‬‬ ‫مع المستضعفين‪:‬‬
‫‪430‬‬ ‫ثانيا ـ المساهمة في التنمية االجتماعية‬
‫‪433‬‬ ‫‪ 1‬ـ تنمية طاقة التحمل‬
‫‪435‬‬ ‫الصبر على األذى‪:‬‬
‫‪440‬‬ ‫تحمل المشاق‪:‬‬
‫‪442‬‬ ‫‪ 2‬ـ االستغناء عن المجتمع‬
‫‪443‬‬ ‫النهي عن السؤال‪:‬‬
‫‪449‬‬ ‫الحض على العمل والتكسب‪:‬‬
‫‪454‬‬ ‫النهي عن الترف‪:‬‬
‫‪460‬‬ ‫‪ 3‬ـ خدمة المجتمع‬
‫‪467‬‬ ‫التكافل‪:‬‬
‫‪473‬‬ ‫التناصر‪:‬‬
‫‪475‬‬ ‫التناصح‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫‪479‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬البعد المعرفي في تربية األوالد‬
‫‪484‬‬ ‫أوال ـ أنواع المعرفة ومراتب تعلمها‬
‫‪487‬‬ ‫‪ 1‬ـ المعارف والحقائق‬
‫‪490‬‬ ‫أ ـ تالوة اآليات‬
‫‪503‬‬ ‫االجتماع على القرآن الكريم‪:‬‬
‫‪504‬‬ ‫القراءة على كل حال‪:‬‬
‫‪508‬‬ ‫إشاعة التالوة في كل المحال‪:‬‬
‫‪512‬‬ ‫ب ـ علوم الكتاب والحكمة‬
‫‪513‬‬ ‫علوم الكتاب‬
‫‪515‬‬ ‫علوم وسائل‪:‬‬
‫‪517‬‬ ‫علوم مقاصد‪:‬‬
‫‪524‬‬ ‫علم الحكمة‬
‫‪532‬‬ ‫مقاصد األحكام‪:‬‬
‫‪535‬‬ ‫أدوات االستنباط‪:‬‬
‫‪536‬‬ ‫أحكام العقل‪:‬‬
‫‪541‬‬ ‫علوم التزكية‬
‫‪542‬‬ ‫‪ 2‬ـ السياسات والصناعات‬
‫‪543‬‬ ‫أ ـ الناحية العلمية المحضة‪:‬‬
‫‪545‬‬ ‫ب ـ الناحية العملية‪:‬‬
‫‪548‬‬ ‫ثانيا ـ مواصفات طالب العلم‬
‫‪549‬‬ ‫‪ 1‬ـ اإلخالص‬
‫‪550‬‬ ‫التخلص من طلب العوض‪:‬‬
‫‪553‬‬ ‫العمل بالعلم‪:‬‬
‫‪555‬‬ ‫االشتغال بالعلوم النافعة‪:‬‬
‫‪557‬‬ ‫‪ 2‬ـ المجاهدة‬
‫‪559‬‬ ‫اغتنام الفرص في طلب العلم‪:‬‬
‫‪560‬‬ ‫االستمرار في طلب العلم‪:‬‬
‫‪563‬‬ ‫‪ 3‬ـ األدب‬

‫‪10‬‬
‫المقدمة‬
‫كم ا أن الش رع الحكيم بين لن ا الس بل والوس ائل واألس اليب ال تي نم ارس‬
‫بواسطتها التربية بأفضل ما يمكن وأج داه‪ ،‬كم ا عرفن ا ذل ك في الج زء الس ابق من‬
‫هذه السلسلة‪ ،‬فإنه في الركن الت الي للتربي ة‪ ،‬وأهم أسس ها‪ ،‬وه و (أبع اد التربي ة) لم‬
‫يتركنا ـ كذلك ـ ألنفسنا‪ ،‬لنعجن طينة فلذات أكبادنا بما تتطلبه أهواؤنا المتباين ة‪ ،‬ب ل‬
‫وضع لنا مالمح الشخصية السوية المتكامل ة ال تي تمث ل اإلنس ان في أرقى درج ات‬
‫كماله الممكنة‪ ،‬وأمرنا أن نبني من خاللها أنفسنا‪ ،‬ومن ولينا أمره من أهلنا‪.‬‬
‫ولذلك لم يكن البحث في هذه األبع اد فض وال من الق ول أو حش وا من الكالم‪،‬‬
‫بل هو من صميم الدين‪ ،‬وهو في الدين من صميم الفقه‪ ،‬ألن الفقيه ـ كم ا ذكرن ا في‬
‫األجزاء السابقة ـ هو من يبحث عن تنفيذ األوامر اإللهية وفق مقاصدها الحكيمة‪ ،‬ال‬
‫الذي ينتظر ما أحدثه الناس ليحكم فيه صحة أو بطالنا‪ ،‬أو إباحة أو تحريما‪.‬‬
‫وق د رأين ا من خالل اس تقراء النص وص‪ ،‬ومن خالل م ا نتص وره من‬
‫مواص فات الشخص ية المتكامل ة‪ :‬أن هن اك خمس ة أبع اد‪ ،‬من اس تكملها كملت‬
‫شخصيته‪ ،‬وصار متحققا بمراد هللا من وجوده‪ ،‬وهذه األبعاد الخمسة هي‪:‬‬
‫البعد اإليماني‪ :‬وهو المعارف اإليمانية العميقة ال تي تش كل قناع ات الم ؤمن‬
‫العقلية والروحية‪ ،‬والتي تبرمجه بع د ذل ك ليس ير في الحي اة وف ق م ا تملي ه حقيق ة‬
‫الكون واإلنسان والحياة‪.‬‬
‫البعد الروحي‪ :‬وهو ما ينتجه البعد اإليماني من آثار في روح المؤمن ليصلها‬
‫باهلل عبودية وخشوعا وإذعانا وترق في مقامات السلوك إلى هللا‪.‬‬
‫البعد األخالقي‪ :‬وهو تهذيب النفس وف ق اآلداب الش رعية‪ ،‬وكس وتها بكس وة‬
‫اإلنسانية التي ترفع عنها ما تتطلب ه طبيعته ا من س لوكات ق د تخرجه ا عن الكم ال‬
‫اإلنساني إلى البهيمية‪.‬‬
‫البعد االجتماعي‪ :‬وه و االرتب اط الص حي ب المجتمع‪ ،‬فيت أدب مع ه وف ق م ا‬
‫تتطلبه العالقات االجتماعية من آداب‪ ،‬ويكون عضوا إيجابيا فيه‪.‬‬
‫البعد المعرفي‪ :‬وهو التزود بكل العلوم والمعارف ال تي أتاحه ا هللا لإلنس ان‪،‬‬
‫ليتعرف من خاللها على أسرار حقيقته وحقيقة الكون‪ ،‬وليسهل ما تتطلبه حيات ه من‬
‫مرافق‪.‬‬
‫وبه ذه األبع اد الخمس ة يب نى اإلنس ان‪ ،‬كم ا أن ه باألرك ان الخمس ة يب نى‬
‫اإلسالم(‪ ،)1‬وهذه األبعاد اقتباس من تلك األركان‪:‬‬
‫‪ )(1‬نحب أن بين أن كون هذه الخمس ة هي أرك ان اإلس الم من المتف ق علي ه بين المس لمين جميع ا‪ ،‬خالف ا لمن‬
‫يزعم أن الشيعة يخالفون المسلمين في ذلك‪ ،‬ففي (وسائل الشيعة ‪ 27 :1‬حديث(‪ )33‬أب واب مق ّدم ة العب ادات‪ ،‬أم الي‬
‫الطوسي‪ 518 :‬المجلس(‪ )10‬حديث(‪ :)1134‬عن الرضا‪ ،‬عن آبائ ه‪ ،‬عن رس ول هللا ‪( :‬ب ني اإلس الم على خمس‬
‫خصال‪ :‬على الشهادتين والقرينتين)‪ ،‬قيل له‪ :‬أ ّم ا الشهادتان فقد عرفناهما فما القرينتان؟ قال‪( :‬الصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬فإنّ ه‬
‫ال تقبل إحداهما إالّ باألُخرى‪ ،‬والصيام‪ ،‬وحجّ البيت من استطاع إليه سبيالً‪ ،‬وختم ذلك بالوالية)‬
‫وفي (وسائل الشيعة‪ 19 :1:‬حديث(‪ )15‬أبواب مق ّدمة العبادات‪ ،‬الكافي ‪ 31 :2‬كتاب اإليمان والكف ر)‪ :‬عن أبي‬
‫وأن مح ّمداً عبده ورسوله‪ ،‬وإقام ة الص الة‪،‬‬‫جعفر في حديث‪ ،‬قال‪( :‬بني اإلسالم على خمس‪ :‬شهادة أن ال إله إلى هللا ّ‬

‫‪11‬‬
‫فالشهادتان بما تحمالنه من معارف عميقة تشيران إلى البعد اإليماني‪.‬‬
‫والصالة بما تحمله من صلة باهلل تشير إلى البعد الروحي‪.‬‬
‫والصيام بما يحمله من تهذيب للطبيعة اإلنسانية يشير إلى البعد األخالقي‪.‬‬
‫والزكاة بما تحمل ه من تكاف ل اجتم اعي وإحس اس ب آالم اآلخ رين تش ير إلى‬
‫البعد االجتماعي‪.‬‬
‫والحج بما يحمله من س ياحة في األرض‪ ،‬وتع رف على أرض هللا وخل ق هللا‬
‫يشير إلىالبعد المعرفي‪.‬‬
‫وقد حاولنا في ه ذا الج زء ال ذي ط ال ـ رغم ا عن ا ـ أن نبحث عن الط رق‬
‫العملية في تحصيل ك ل م ا يحت اج إلي ه من ه ذه األبع اد‪ ،‬وق د رجعن ا في ذل ك إلى‬
‫المصادر المختلفة من القرآن الكريم ال ذي ه و األص ل‪ ،‬والس نة المطه رة(‪ ،)1‬وإلى‬
‫كالم العلماء والمختصين فيما يتطلبه كل محل من معارف‪.‬‬
‫ونحب أن نبين ـ هن ا ـ إلى أن ا في كث ير من األحي ان ق د نهتم ب ذكر األمثل ة‬
‫والنماذج‪ ،‬وقد نطيل فيها إذا اقتضى األمر ذلك‪ ،‬وذل ك ألن الم ربي ق د يحت اج ه ذا‬
‫النوع من النماذج‪.‬‬
‫وسبب ذلك هو أن الكالم النظري اإلجمالي وحده قد يساء فهمه‪ ،‬وقد يص عب‬
‫تطبيقه‪ ،‬فلذلك نذكر ما يوضح إجمال ه‪ ،‬ويفس ر غموض ه‪ ،‬كم ا ن ذكر من األدل ة م ا‬
‫نرى أنه يوصل إلى برد اليقين‪ ،‬ولو طالت‪ ،‬ألن العبرة بالنتيجة‪ ،‬ال بالوسيلة‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك ما ذكرنا في المبحث األول من البعد اإليم اني‪ ،‬فق د فص لنا‬
‫الكالم في (ضرورة البعد اإليماني) ودوره في تك وين الشخص ية‪ ،‬وذل ك ألن هن اك‬
‫قناعة منشرة باعتب ار ه ذا البع د أم را ثانوي ا‪ ،‬أو ال عالق ة ل ه بالشخص ية الس وية‪،‬‬
‫فلذلك أطلنا الكالم فيه‪ ،‬إلقناع المربي بضرورته وأهميته‪.‬‬
‫وقد حاولنا أن نبحث عن األدل ة النص ية لك ل م ا ن ذكره من أحك ام‪ ،‬ول و من‬
‫باب اإلشارة‪ ،‬فلذلك اعتبرنا موعظ ة لقم ان ‪ ‬أص ال رجعن ا إلي ه في ك ل مح ل‪،‬‬
‫باعتبارها لم تذكر في القرآن الك ريم حكاي ة أو مج رد قض ايا‪ ،‬تن وع طرحه ا في ه‪،‬‬
‫وإنما باعتبارها مقصودة بحد ذاتها في تشكيل شخصية األوالد وتربيتهم‪.‬‬

‫وإيتاء الزكاة‪ ،‬وحجّ البيت‪ ،‬وصيام شهر رمضان)‬


‫أما اعتبار الوالية من األرك ان‪ ،‬فالوالي ة عن دهم تع ني الحاكمي ة‪ ،‬وق د ت دخل في مض مون الش هادتين‪ ،‬ألن من‬
‫مضامينها حاكمية هللا ورسوله ‪ ،‬ومن واله هللا ورسوله ‪.‬‬
‫‪ )(1‬تساهلنا في ه ذا الج زء في تخ ريج األح اديث‪ ،‬فاكتفين ا ب الرجوع إلى تخريج ات العلم اء‪ ،‬وخاص ة ( ك نز‬
‫العمال )‪ ،‬و(الجامع الصغير ) دون أن نرجع إلى المصادر األصلية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الفصل األول‬
‫البعد اإليماني في تربية األوالد‬
‫أوال ـ ضرورة التربية اإليمانية لبناء الشخصية السوية‬
‫إن الهدف األساسي الذي يسعى كل م رب لتحقيق ه ه و بن اء شخص ية س وية‬
‫لمن يربيه‪ ،‬تجعله إنسانا سليما في نفسيته‪ ،‬أمينا في أخالقه‪ ،‬قويا في عمله وإنتاجه‪.‬‬
‫فهذه العناصر الثالثة هي األركان األساسية ال تي تتك ون منه ا الشخص ية(‪)1‬‬
‫السوية‪:‬‬
‫ألن من فقد السالم النفسي سيس قط في كه وف الخ وف المرعب ة ال تي تلم ؤه‬
‫حزنا وأسفا وضيقا واكتئابا‪ ،‬فيغرق في أوهامها‪ ،‬أو يتخلص منه ا ب الهرب من ك ل‬
‫شيء أو الهرب لكل شيء‪ ،‬ولذلك كان السالم هو بشرى المؤمن في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫بل هو مقدمة كل كمال ولذة في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫أم ا من فق د األمان ة‪ ،‬فه و لص أو خ ائن أو ك اذب‪ ،‬ق د يغف ل عن ه المجتم ع‬
‫والقانون‪ ،‬فيخرج بزيه ومظه ره ال يس تر عورت ه أي س اتر‪ ،‬وق د ال يغفل ون عن ه‪،‬‬
‫فيتسر عورات خيانته بأثواب شفافة قد تلقي عنه في أي حين ليظهر على حقيقته‪.‬‬
‫أما من فقد القوة‪ ،‬فهو متواكل ضعيف عاجز ال يستطيع من أمره وال من أمر‬
‫الناس شيئا‪ ،‬فوجوده كعدمه وحياته كموته‪.‬‬
‫فالعنصر األول الزم لبناء (أنا) اإلنسان السوي‪ ،‬والعنصر الثاني الزم لوقاية‬
‫النفس والمجتمع من الوحش الذي ق د يس كن (أن ا اإلنس ان)‪ ،‬والعنص ر الث الث الزم‬
‫إلخراج اإلنسانية من السلبية إلى اإليجابية‪ ،‬ومن االستهالك بكل أنواعه إلى اإلنتاج‬
‫بكل أنواعه‪.‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن األدلة على ضرورة التربية اإليمانية في بناء الشخص ية‬
‫الس وية للطف ل وغ يره تتكش ف من خالل ض رورة اإليم ان لتحقي ق ه ذه األرك ان‬
‫الثالثة‪ ،‬فاإليمان هو المنبع الذي تستقى منه هذه الفضائل العظيمة‪ ،‬ول ذلك ك ان أول‬
‫ما وعظ به لقمان ‪ ‬ابنه أن قال له‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ال لُ ْق َم انُ ِال ْبنِ ِه َوهُ َو يَ ِعظُ هُ يَ ا بُنَ َّ‬
‫ي ال‬
‫ك لَظُ ْل ٌم َع ِظي ٌم﴾ (لقمان‪)13:‬‬
‫تُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ إِ َّن ال ِّشرْ َ‬

‫‪ )(1‬عرف بعضهم الشخص ية بـ ( أنه ا وح دة متكامل ة الص فات والمم يزات‪ ،‬الجس مية والعقلي ة واالجتماعي ة‬
‫يزا واض حً ا‪ ،‬فهي تش مل‬ ‫والمزاجية التي تبدو في التعامل االجتماعي للفرد‪ ،‬وال تي تم يزه عن غ يره من األف راد تمي ً‬
‫دوافع الفرد وعواطفه وميوله واهتماماته وسماته الخلقي ة وآراءه ومعتقدات ه‪ ،‬كم ا تش مل عادات ه االجتماعي ة وذك اءه‬
‫ومواهبه الخاصة ومعلوماته وما يتخ ذه من أه داف ومث ل وقيم اجتماعي ة) انظ ر‪ :‬األم راض النفس يةوالعقلية ألحم د‬
‫عزت‪.54:‬‬
‫وقد ع رفت مجل ة علم النفس (المجل د األول‪ ،‬الع دد األول) الشخص ية‪ ،‬بأنه ا ( نظ ام متكام ل من مجموع ة من‬
‫تمييزا بينً ا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الخصائص الجسمية والوجدانية النزوعية واإلدراكية التي تعين هوية الفرد وتميزه عن غيره من األفراد‬
‫نقال عن المرجع السابق‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫فالشرك إشارة لكل م ا ينح رف بالعقي دة عن حقيقته ا وأه دافها‪ ،‬وي دخل في ه‬
‫اإللحاد والتحريف‪ ،‬ويدخل في ه الكث ير من الض الالت ال تي تس ربت للمؤم نين كم ا‬
‫تسربت قبل ذلك لغيرهم‪ ،‬فبقدر الض اللة يك ون البع د عن هللا‪ ،‬ويق در البع د عن هللا‬
‫يكون انحراف الشخصية‪.‬‬
‫ويشير إلى هذه الضرورة أيضا قوله ‪ ‬وهو يعظ ابن عب اس ‪(:‬ي ا غالم إني‬
‫أعلمك كلمات‪ :‬احفظ هَّللا يحفظك‪ ،‬احفظ هَّللا تجده تجاهك‪ ،‬إذا س ألت فس أل هَّللا ‪ ،‬وإذا‬
‫استعنت فاست َع ْن باهَّلل ‪ ،‬واعلم أن األمة لو اجتمعت َعلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفع وك‬
‫إال بشيء ق د كتب ه هَّللا ل ك‪ ،‬وإن اجتمع وا َعلَى أن يض روك بش يء لم يض روك إال‬
‫بشيء قد كتبه هَّللا عليك‪ ،‬رفعت األقالم وجفت الصحف)(‪)1‬‬
‫وفي رواي ة‪(:‬احف ظ هَّللا تج ده أمام ك‪ ،‬تع رف إِلَى هَّللا في الرخ اء يعرف ك في‬
‫الشدة‪ ،‬واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك‪ ،‬وما أصابك لم يكن ليخطئ ك‪ ،‬واعلم أن‬
‫النصر مع الصبر‪ ،‬وأن الفرج مع الكرب‪ ،‬وأن مع العسر يسرا)‬
‫ففي هذه الموعظة إشارة للجوانب الثالثة من السالم واألمانة والقوة‪ ،‬وهو ما‬
‫سنبين مواضع اإلشارة منه في محالها‪.‬‬
‫ونحب أن ن بين أن الدراس ات النفس ية الحديث ة أك دت أهمي ة ه ذا الج انب‬
‫وضرورته‪ ،‬وال بأس أن نسوق هنا ما قاله بعض المختصين في هذا‪ ،‬وهو ال دكتور‬
‫(هنري لنك) الطبيب النفسي األمريكي‪ ،‬صاحب كتاب (العودة إلى اإليمان)‬
‫فقد قال منكرا على النظريات التي أشاعتها بعض المدارس النفس ية الحديث ة‪،‬‬
‫رادا ب ذلك على خص وم التربي ة الديني ة‪(:‬إن تربي ة األطف ال لمن أش ق الواجب ات‬
‫وأخطره ا وأدقه ا‪ ،‬ومش اكلها ش ديدة التعقي د والعس ر‪ ،‬وهي بع د ذل ك ذات أوج ه‬
‫متناقضة عند حلها يكون معها اآلب اء في مس يس الحاج ة إلى أي ة معون ة خارجي ة‪،‬‬
‫مهما بلغت درجة تواض عها وبس اطتها‪ ..‬وق د ك ان طبيعي اً‪ :‬بع د أن اس تغنى اآلب اء‬
‫المستنيرون عن المعتقدات الدينية‪ ،‬وضربوا بها عرض الحائط‪ ،‬أن يولوا وج وههم‬
‫شطر مصدر جديد من مصادر المعونة‪ ،‬فلم يجدوا أمامهم سوى علم النفس الخ اص‬
‫باألطفال‪ ،‬ولكن علم نفس األطفال لم يكن بعد‪ ،‬على استعداد لتقديم المعونة لهم‪ ،‬ألن‬
‫الثقة به ذا العلم لم تكن ق د تع دت الثق ة النظري ة ح تى ذل ك ال وقت‪ .‬وك ان البره ان‬
‫العلمي حينذاك في مهده صغيراً برغم تعدد نظريات ه‪ .‬ومن هن ا ب دأ اآلب اء يعتنق ون‬
‫هذه النظريات التي كان أبرزها أن العقوبة البدنية ضارة من الوجه ة النفس ية‪ .‬وأن ه‬
‫من األفضل إقناع الطفل بعمل شيء م ا‪ ،‬ال إرغام ه ب القوة والعن ف علي ه‪ ،‬وأن ه ال‬
‫يجوز كبت الطف ل ب ل على العكس يجب منح ه الفرص ة كي يع بر عن ذات ه‪ ..‬وأن ه‬
‫يجب منح األطف ال عالوة منتظم ة ح تى يمكنهم إدراك قيم ة الم ال‪ ،‬وأن بعض‬
‫األطف ال يول دون بط بيعتهم عص بيين أو ذوى حساس ية مرهف ة‪ ،‬وعلي ه فال يج وز‬
‫إرغامهم على أن يفعلوا‪ ،‬ويعملوا ما يفعله ويعمل ه غ يرهم‪ .‬ولألس ف‪ ،‬لم يظه ر أي‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫برهان علمي أو نفسي يؤيد هذه النظريات‪ ،‬بل بالعكس ثبت أن ك ل ه ذه النظري ات‬
‫خاطئة)(‪)1‬‬
‫وانطالقا من هذا العجز الذي م ني ب ه علم النفس في القي ام ب دور الب ديل عن‬
‫اإليمان يدعو هذا الطبيب النفسي إلى ضرورة العودة إلى اإليمان‪ ،‬يقول‪(:‬فقد سمعنا‬
‫الكثيرين من اآلباء ي رددون‪ :‬انهم ال يبعث ون ب أوالدهم إلى ال دروس الديني ة أو إلى‬
‫محالت العبادة‪ ،‬حتى يصلوا إلى السن التي يدركون عندها م ا يج ري‪ .‬غ ير أن م ا‬
‫يضايقهم‪ ،‬ويقض مضجعهم هو هذا السؤال‪ :‬ت رى ه ل يكتس ب ه ؤالء األوالد ذل ك‬
‫الشعور القوي الذي يمكنهم به أن يميزوا بين الخطأ والص واب؟ ه ل يؤمن ون بتل ك‬
‫المثل الخلقية الواضحة التي آمنا بها من ذ طفولتن ا؟‪ ..‬لق د قلن ا فيم ا مض ى أن بعض‬
‫األعمال خطأ والبعض اآلخر صواب‪ ،‬ألن هللا سبحانه وتعالى ق د بين ذل ك‪ ،‬أو ألن‬
‫كتابه قد أورد ذلك بمعنى آخر‪ .‬وقد تكون هذه الطريقة فطرية بدائية‪ ،‬غ ير أن ه مم ا‬
‫ال شك في ه أن تأثيره ا ك ان طيب ا ً فق د عرفن ا على األق ل الكث ير عن طيب األفع ال‬
‫وخبيثه ا‪ .‬أم ا اآلن فإنن ا ال نق ول ألوالدن ا إال أن ه ذا التص رف خط أ‪ ،‬وأن ذاك‬
‫صواب‪ ،‬ألننا نرى ذلك‪ ،‬أو ألن المجتمع قد اتفق على ذلك‪ .‬فهل لهذا الود من الق وة‬
‫والبيان ما لسابقه؟ وهل ل ه مث ل أث ره وه ل يكتس ب أطفالن ا القيم الخلقي ة األساس ية‬
‫للحياة دون الحاجة إلى ضغط العقائد الدينية‪ ،‬تلك القيم التي نتقبلها ونس لم به ا ح تى‬
‫بعد أن أصبحنا ال نسلم بمصدرها اإللهي؟)(‪)2‬‬
‫ويعود إلى ذلك حين يتحدث عن مقدار م ا يس ديه ال دين من ع ون لآلب اء في‬
‫تربية أبنائهم وتهذيبهم‪ ،‬وتك وين شخص ياتهم الفاض لة فيق ول‪(:‬وب ديهي أن األطف ال‬
‫يختلف ون‪ ،‬س واء بط بيعتهم أم بحس ب وراثتهم‪ ،‬ولكن مهم ا ك انت ه ذه الطبيع ة أو‬
‫الوراثة طيبة جيدة‪ ،‬فإنه ال يمكن غرس العادات األساسية بغير (النظ ام) ولم ا ك ان‬
‫استياء الطفل من النظام واتجاهه عكسياً‪ ،‬كلم ا ح اولت إنم اء الع ادات الطيب ة في ه‪،‬‬
‫أمراً ال مف ر من ه‪ ،‬ك ان من ال واجب اس تخدام ك ل وس يلة ذات ت أثير أو ذات ص فة‬
‫إرغامية‪ ،‬تساعد على اإلسراع في اكتساب ه ذه الع ادات‪ .‬والواق ع أن معظم اآلب اء‬
‫يكون ون في أش د الحاج ة إلى االس تعانة بنص ائح غ يرهم‪ ،‬في أثن اء عملي ة غ رس‬
‫العادات المرغوبة في أطفالهم‪ .‬وإذا بحثنا من الناحيتين‪ :‬العقلية والنفسية‪ ،‬وج دنا أن‬
‫أعظم مصادر هذا العون هو الدين‪ ..‬فااليمان بوجود هللا ورسله وكتبه يهيئ لألبوين‬
‫ملجأ أمينا ً موثوقا ً ب ه يلجئ ون إلي ه‪ ،‬ويض ع بين أي ديهم س لطة ك برى على أطف الهم‬
‫كانوا يفتقرون إليها حتى لو لم يؤمنوا بها‪ .‬فإن هؤالء اآلب اء ال ذين ك انوا يتس اءلون‬
‫كيف ينمون ع ادات أوالدهم الخلقي ة ويش كلونها‪ ،‬في حين تنقص هم هم أنفس هم تل ك‬
‫التأثيرات الدينية التي كانت قد شكلت أخالقهم من قبل‪ ،‬ك انوا في الحقيق ة يج ابهون‬
‫مشكلة ال حل لها‪ ،‬فلم يوجد بعد ذلك البديل الكامل الذي يحل محل تلك القوة الهائل ة‬
‫‪ )(1‬العودة إلى اإليمان‪.113 :‬‬
‫‪ )(2‬العودة إلى اإليمان‪.110:‬‬

‫‪15‬‬
‫التي يخلقها اإليمان بالخالق وبناموس ه الخلقي اإللهي في قل وب الن اس‪.‬فتج د اآلب اء‬
‫الذين تحرروا من اإليمان عن طريق ثقافتهم وأعمال فكرهم حيارى متس ائلين على‬
‫الدوام‪ .‬إذن كيف يتسنى ألولئك الحيارى أن يكونوا أنفسهم ملجأ ألوالدهم؟)(‪)1‬‬
‫وهو يذكر الدراسات المقارنة المؤك دة ل ذلك‪ ،‬فيق ول‪ ،‬وه و يتح دث عن أث ر‬
‫دور العب ادة في تش كيل شخص ية الطف ل‪(:‬ليس من المس تغرب أن ي دلنا االختب ار‬
‫الس ابق ال ذكر على أن الطف ل ال ذي يس تمع إلى ال دروس الديني ة يتمت ع بص فات‬
‫شخص ية أفض ل ممن ال يحض رها‪ ،‬وأن الطف ل ال ذي ي ذهب وال داه إلى المعب د ذو‬
‫شخصية أحسن من الطفل الذي ال يذهب والداه إليه‪ .‬وقد اتضح لي بعد دراسة كاملة‬
‫لعشرة آالف شخص‪ ،‬أن أولئك الذين يواظبون على الذهاب إلى دور العبادة‪ ،‬ك انوا‬
‫ذوى صفات شخصية أفضل ممن ال يذهبون)(‪)2‬‬
‫وهو يطلب من اآلباء االهتمام بهذه الناحية منذ السنين األولى للطفل‪ ،‬قب ل أن‬
‫يتسرب إليه االنحراف‪ ،‬يقول‪(:‬إن الوقت األمثل لتعليم الطف ل كي ف يخض ع دوافع ه‬
‫لقيم عليا‪ ،‬هو السن التي يستطيع فيها أن يتقبل ما يقال له دون أن يفهمه‪ ،‬فإذا اس تقر‬
‫رأي اآلباء على عدم إرسال أوالدهم إلى الدروس الديني ة‪ ،‬ح تى يبلغ وا الس ن ال تي‬
‫يفهمون عن دها م ا يس تمعون إلي ه‪ ،‬فهم في الحقيق ة يتبع ون مب دأ هام اً‪ ،‬ألن ال وقت‬
‫يكون قد فات إلصالح ما فسد إذا بلغ الطفل السن التي يفهم بها ك ل م ا حول ه‪ ،‬فان ه‬
‫حينئذ يكون قد أضاع من عمره سنين ثمينة)(‪)3‬‬
‫انطالق ا من ه ذا الكالم ال ذي س قناه لمن يس تهينون به ذه الناحي ة المهم ة من‬
‫التربية‪ ،‬سنحاول في هذا المبحث أن ن بين أث ر اإليم ان في تحقي ق األرك ان الثالث ة‬
‫التي تتكون منها الشخصية السوية لإلنسان‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ السالم النفسي‬
‫ويشير إليه من موعظة رسول هللا ‪ ‬البن عباس قوله‪(:‬احفظ هَّللا يحفظ ك)‪،‬‬
‫وقوله ‪(:‬واعلم أن األمة لو اجتمعت َعلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفع وك إال بش يء‬
‫قد كتبه هَّللا لك‪ ،‬وإن اجتمعوا َعلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إال بشيء قد كتب ه‬
‫هَّللا عليك‪ ،‬رفعت األقالم وجفت الصحف)‪ ،‬وقوله ‪(:‬واعلم أن م ا أخط أك لم يكن‬
‫ليصيبك‪ ،‬وما أصابك لم يكن ليخطئك)‬
‫ففيها يخبر رسول هللا ‪ ‬ابن عباس بأن هللا هو الحفيظ الذي يحفظ العب د من‬
‫كل طوارق السوء‪ ،‬وأنه ـ لذلك ـ ل و اجتمعت ك ل الق وى على أن تض ر من حفظ ه‬
‫هللا‪ ،‬فلن تستطيع‪ ،‬ولو اجتمعت على عكس ذل ك ب أن تنفع ه لم تس تطع‪ ،‬ألن هللا ه و‬
‫النافع الضار‪ ،‬وهذا ما يجمع شتات اإلنسان وهمته فال يخ اف إال هللا‪ ،‬وال يرج و إال‬
‫هللا‪.‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ 119 :‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ )(2‬العودة إلى اإليمان‪.122 :‬‬
‫‪ )(3‬العودة إلى اإليمان‪.130 :‬‬

‫‪16‬‬
‫ولهذا يخبرن ا الق رآن الك ريم أن ه ال يش عر ب األمن الحقيقي إال الم ؤمن ال ذي‬
‫شغل قلبه باهلل‪ ،‬ولم يش تت قلب ه بين الش ركاء‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿:‬الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َولَ ْم يَ ْلبِ ُس وا‬
‫ك لَهُ ُم اأْل َ ْمنُ َوهُ ْم ُم ْهتَ ُدونَ ﴾ (األنعام‪ ،)82:‬وفي ذل ك إش ارة إلى أن‬ ‫إِي َمانَهُ ْم بِظُ ْل ٍم أُولَئِ َ‬
‫مصدر المخاوف هو الشرك‪ ،‬واشتغال القلب بغير هللا‪.‬‬
‫وكلما اشتد الشرك وعظم عظمت المخاوف‪ ،‬وكلم ا نقص الش رك أو تالش ى‬
‫نقصت المخاوف أو تالشت‪ ،‬فمعرفة هللا والتوجه إلي ه هي ب ر األم ان‪ ،‬وهي س فينة‬
‫نوح التي من ركبها لم تغرق ه األم واج‪ ،‬وهي ظ ل هللا ال ذي يحتمي ب ه من أحرقت ه‬
‫شموس الرعب‪.‬‬
‫وقد أخبر تعالى في آية أخرى أن الش رك ه و مص در ال رعب‪ ،‬وأن ه عقوب ة‬
‫ب بِ َم ا‬ ‫ب الَّ ِذينَ َكفَرُوا الرُّ ْع َ‬ ‫إلهية تقتضيها طبيعة الكفر‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬سنُ ْلقِي فِي قُلُو ِ‬
‫س َم ْث َوى الظَّالِ ِمينَ ﴾ (آل‬ ‫أَ ْش َر ُكوا بِاهَّلل ِ َم ا لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه ُس ْلطَانا ً َو َم أْ َواهُ ُم النَّا ُر َوبِ ْئ َ‬
‫عمران‪ ،)151:‬فقد أخبر تعالى أن مصدر خوفهم هو شركهم باهلل‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك ذكر هللا تعالى مواقف المؤمنين الصادقين الذين مألوا قلوبهم‬
‫باهلل‪ ،‬فرزقهم األمن التام‪ ،‬والسكينة المطلقة‪ ،‬فهذا إبراهيم ‪ u‬وحده في األرض يوحد‬
‫هللا‪ ،‬ووحده في األرض يعبد هللا‪ ،‬وتدعوه غيرته على أن يعبد غير هللا‪ ،‬ورأفته على‬
‫الج اهلين باهلل‪ ،‬فيتح دى قوم ه‪ ،‬ويتح دى األرض معهم‪ ،‬فيحطم األص نام من غ ير‬
‫خ وف وال وج ل‪ ،‬وه و ي درك المص ير ال ذي يتع رض ل ه من يحطم تل ك األوث ان‬
‫المقدسة‪.‬‬
‫ولكن إبراهيم ‪ u‬انشغل باهلل‪ ،‬وبجوار هللا عن ك ل المخ اوف ال تي يت ذرع به ا‬
‫الخلق‪ ،‬وعندما خوفه قوم ه من آلهتهم ال تي دع ا إلى نب ذها‪ ،‬ق ال متعجب ا‪َ ﴿ :‬و َك ْي فَ‬
‫أَخَافُ َما أَ ْش َر ْكتُ ْم َوال تَ َخ افُونَ أَنَّ ُك ْم أَ ْش َر ْكتُ ْم بِاهَّلل ِ َم ا لَ ْم يُنَ ِّزلْ بِ ِه َعلَ ْي ُك ْم ُس ْلطَانا ً فَ أَيُّ‬
‫ق بِاأْل َ ْم ِن إِ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ (األنعام‪)81:‬‬ ‫ْالفَ ِريقَي ِْن أَ َح ُّ‬
‫فإبراهيم ‪ u‬في ذلك الموقف ك ان يق ارن بين الق وة الوهمي ة ال تي يس تند إليه ا‬
‫قومه‪ ،‬والق وة الوهمي ة ال تي ك انوا يتص ورون أنهم يملكونه ا‪ ،‬وبين ق وة هللا تع الى‬
‫فأخبر أن قومه أولى بالخوف منه‪.‬‬
‫وقد عقب هللا تعالى على قول إبراهيم ‪ u‬مقررا ه ذه الحقيق ة المطلق ة‪ ،‬ومقنن ا‬
‫هذه السنة اإللهية التي ال تتخلف‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِسُوا إِي َم انَهُ ْم بِظُ ْل ٍم‬
‫ك لَهُ ُم اأْل َ ْمنُ َوهُ ْم ُم ْهتَ ُدونَ ﴾ (األنعام‪)82:‬‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫وعلى خطى إبراهيم ‪ u‬سار أصحاب محمد ‪ ‬الذين‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ قَ ا َل لَهُ ُم النَّاسُ‬
‫اخ َشوْ هُ ْم فَزَا َدهُ ْم إِي َمانا ً َوقَالُوا َح ْس بُنَا هَّللا ُ َونِ ْع َم ْال َو ِكي لُ﴾ (آل‬ ‫اس قَ ْد َج َمعُوا لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫إِ َّن النَّ َ‬
‫عمران‪)173:‬‬
‫ولذلك فإن مصدر المخاوف التي تع تري النف وس فتمأله ا هم ا وحزن ا‪ ،‬ه و‬
‫حصاد نبات الغفلة والشرك‪ ،‬وهم ا مرت ع من مرات ع الش يطان‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا‬
‫ون إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (آل عم ران‪:‬‬ ‫َذلِ ُك ُم ال َّش ْيطَانُ يُ َخ ِّوفُ أَوْ لِيَ ا َءهُ فَال تَخَ افُوهُ ْم َوخَ افُ ِ‬
‫‪)175‬‬

‫‪17‬‬
‫وبخالف هذا نجد الغافلين والجاحدين أكثر الناس مخ اوف‪ ،‬فهم يخ افون ك ل‬
‫شيء‪ ،‬وقد يدركون ما يخافون‪ ،‬وقد ال يدركون‪ ،‬كما عبر بعض هم عن نفس ه بقول ه‬
‫عن مخاوفه التي ال تنتهي‪ ،‬والتي ال يعلم لها س ببا‪(:‬إن ني أعيش في خ وف دائم‪ ،‬في‬
‫رعب من الن اس واألش ياء‪ ،‬ورعب من نفس ي‪ ،‬ال ال ثروة أعطت ني الطمأنين ة‪ ،‬وال‬
‫المرك ز الممت از أعطانيه ا وال الص حة‪ ،‬وال الرجول ة‪ ،‬وال الم رأة‪ ،‬وال الحب‪ ،‬وال‬
‫السهرات الحمراء‪ ...‬ضقت بكل شيء‪ ،‬بعد أن جربت كل شيء)‬
‫فالمعرفة الص حيحة باهلل وال تي تتول د عنه ا جمي ع المع ارف‪ ،‬وتص حح به ا‬
‫جميع الفهوم‪ ،‬وتنشق عنها جميع المشاعر هي ال تي تقي الم ؤمن من الخ وف ال ذي‬
‫يستعبد الناس‪.‬‬
‫وسنحاول هنا ـ باختصار ـ تبيان دور اإليم ان في الوقاي ة من ثالث مخ اوف‬
‫كبرى‪ ،‬هي في أصلها أم المخاوف ومنبعها‪:‬‬
‫الموت‪:‬‬
‫فالموت هو الشبح األكبر ال ذي يمأل القلب بالمخ اوف‪ ،‬فيت وزع من ه الخ وف‬
‫لنفس اإلنسان وسلوكه ومواقفه‪ ،‬شعر بذلك أو لم يشعر‪.‬‬
‫وال يقي من أذى ه ذا الش بح‪ ،‬ب ل ال يقتل ه إال اإليم ان باهلل المح يي المميت‪،‬‬
‫وبحقائق اآلخرة‪ ،‬التي تجعل الموت رحلة سعيدة ينتقل بها اإلنسان إلى عوالم أكم ل‬
‫وأجمل‪.‬‬
‫أما العلم األول‪ ،‬فيخلص اإلنسان من عبودية المخاوف لكل القوى التي مثله ا‬
‫يت﴾ (البق رة‪ ،)258:‬وحينه ا ينط ق الم ؤمن بم ا‬ ‫النمروذ عندما قال‪ ﴿ :‬أَنَا أُحْ يِي َوأُ ِم ُ‬
‫نطق به سعيد بن جبير عندما ه دده الحج اج بالقت ل فق ال ل ه‪(:‬ل و علمت أن الم وت‬
‫والحياة في يدك ما عبدت إلها غيرك)‬
‫فقد كان سعيد يدرك أن ما يتشبث به الحجاج من قوة وهم عظيم س كن عقل ه‪،‬‬
‫فاهلل تعالى هو مالك اآلجال‪ ،‬ال الحجاج وال أي طاغي ة غ يره‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولِ ُك ِّل‬
‫أُ َّم ٍة أَ َج ٌل فَإِ َذا َجا َء أَ َجلُهُ ْم ال يَ ْستَأْ ِخرُونَ َسا َعةً َوال يَ ْستَ ْق ِد ُمونَ ﴾ (ألع راف‪ ،)34:‬وق ال‬
‫ض ّراً َوال نَ ْفعا ً إِاَّل َما َشا َء هَّللا ُ لِ ُكلِّ أُ َّم ٍة أَ َج ٌل إِ َذا َجا َء أَ َجلُهُ ْم‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ ال أَ ْملِ ُ‬
‫ك لِنَ ْف ِسي َ‬
‫فَال يَ ْستَأْ ِخرُونَ َسا َعةً َوال يَ ْستَ ْق ِد ُمونَ ﴾ (يونس‪ ،)49:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ َذا َجا َء أَ َجلُهُ ْم ال‬
‫يَ ْستَأْ ِخرُونَ َسا َعةً َوال يَ ْستَ ْق ِد ُمونَ ﴾ (النحل‪( ﴾61:‬األعراف‪)34 :‬‬
‫فل ذلك ال يف ر من الم وت إال واهم س يطر علي ه الخ وف‪ ،‬فمنع ه من التفك ير‬
‫السليم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ إِ َّن ْال َموْ تَ الَّ ِذي تَفِرُّ ونَ ِم ْنهُ فَإِنَّهُ ُمالقِي ُك ْم ثُ َّم تُ َر ُّدونَ إِلَى عَالِ ِم‬
‫ب َوال َّشهَا َد ِة فَيُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ (الجمعة‪ ،)8:‬وقال تع الى‪ ﴿ :‬أَ ْينَ َم ا تَ ُكونُ وا‬ ‫ْال َغ ْي ِ‬
‫ُوج ُم َشيَّ َد ٍة ﴾ (النساء‪ ،)78:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ لَ وْ ُك ْنتُ ْم‬ ‫ت َولَوْ ُك ْنتُ ْم فِي بُر ٍ‬ ‫يُ ْد ِر ْك ُك ُم ْال َموْ ُ‬
‫اج ِع ِهم﴾ (آل عمران‪)154:‬‬ ‫ب َعلَ ْي ِه ُم ْالقَ ْت ُل إِلَى َم َ‬
‫ض ِ‬ ‫فِي بُيُوتِ ُك ْم لَبَ َر َز الَّ ِذينَ ُكتِ َ‬
‫أما العلم الثاني‪ ،‬فيلط ف من العلم األول‪ ،‬ألن ه يحي ل الم وت باب ا من أب واب‬
‫السعادة‪ ،‬أو هو ـ بتعبير النورسي ـ بمثابة التقاعد الذي يناله اإلنسان بع د أن تس تنفذ‬
‫جميع قواه العملية‪ ،‬يقول بديع الزمان‪( :‬إن الموت ليس عدماً‪ ،‬وال اِعداماً‪ ،‬وال فنا ًء‪،‬‬

‫‪18‬‬
‫وال لعبة العبث‪ ،‬وال إنقراضا ً بالذات من غير فاعل‪ ،‬بل هو‪ :‬تسريح من العم ل‪ ،‬من‬
‫ل دن فاع ل حكيم‪ ،‬وه و اس تبدال مك ان بمك ان‪ ،‬وتب ديل جس م بجس م‪ ،‬وانته ا ٌء من‬
‫ق الحكمة اإللهية)(‪)1‬‬ ‫وظيفة‪ ،‬وانطالق من سجن الجسم‪ ،‬وخلق منتظم جديد ِوف َ‬
‫أما ما بعد الموت‪ ،‬فهو المحل الذي يلقى المؤمن في ه ك ل م ا هفت إلي ه نفس ه‬
‫في الدنيا وقص رت عن ه ي داه‪ ،‬فه و الب اب ال ذي تنفتح من كوت ه األم اني‪ ،‬وتتحق ق‬
‫الرغبات‪ ،‬فهو قدوم على هللا‪ ،‬ومن ال يحب القدوم على هللا‪ ،‬وقد قيل ألع رابي اش تد‬
‫مرضه‪ :‬إنك ستموت‪ ،‬فقال‪ :‬وإلى أين يذهب بي بع د الم وت؟ ق الوا‪ :‬إلى هللا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ويحكم‪ ،‬وكيف أخاف الذهاب إلى من ال أرى الخير إال من عنده؟‬
‫ولهذا قال يحيى بن معاذ‪(:‬ال يكره لق اء الم وت إال م ريب‪ ،‬فه و ال ذي يق رب‬
‫الحبيب من الحبيب)‬
‫ولهذا أخبر هللا تع الى أن المالئك ة تبش ر المؤم نين‪ ،‬وتنه اهم عن االستس الم‬
‫لشبح الخوف والحزن‪ ،‬وت ذكرهم بالمص ير ال ذي يق دمون علي ه‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن‬
‫اس تَقَا ُموا تَتَنَ َّز ُل َعلَ ْي ِه ُم ْال َمالئِ َك ةُ أَاَّل تَخَ افُوا َوال تَحْ زَ نُ وا‬
‫الَّ ِذينَ قَ الُوا َربُّنَ ا هَّللا ُ ثُ َّم ْ‬
‫َوأَب ِْشرُوا بِ ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُك ْنتُ ْم تُو َع ُدونَ ﴾ (فصلت‪)30:‬‬
‫وانطالقا من هذه المع ارف اإليماني ة ص اح س حرة فرع ون في وجه ه بق وة‬
‫اض‬
‫ٍ‬ ‫ض َم ا أَ ْنتَ قَ‬
‫ت َوالَّ ِذي فَطَ َرنَ ا فَ ا ْق ِ‬ ‫اإليمان‪ ﴿ :‬لَ ْن نُ ْؤثِ َركَ َعلَى َما َجا َءنَا ِمنَ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ضي هَ ِذ ِه ْال َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا ﴾ (طـه‪)72:‬‬ ‫إِنَّ َما تَ ْق ِ‬
‫وعلى خط اهم س ار الص الحون متح دين ك ل المش انق ال تي نص بت لهم‪،‬‬
‫وعاصفين بكل رياح الخوف التي أرادت أن تجتثهم‪ ،‬كعم ير بن الحم ام األنص اري‬
‫الذي سمع النبي ‪ ‬يقول في غزوة بدر ألصحابه‪(:‬والذي نفسي بي ده م ا من رج ل‬
‫يقاتلهم اليوم ‪-‬المشركين‪ -‬فيقتل صابراً محتسبا ً مقبالً غير مدبر إال أدخله هللا الجن ة)‬
‫فيقول عمير متعجبا‪(:‬بخ بخ)‪ ،‬فقال ‪(:‬مم تبخبخ يا ابن الحم ام؟ فق ال‪(:‬أليس بي ني‬
‫وبين الجنة إال أن أتقدم فأقات ل ه ؤالء فأقت ل؟ فق ال ‪(:‬بلى)‪ ،‬وك ان في ي د عم ير‬
‫تمرات يأكل منها فقال‪ :‬أأعيش حتى أك ل ه ذه التم رات؟ إنه ا لحي اة طويل ة! وألقى‬
‫التمرات من يده وأقبل يقاتل ويقول(‪:)2‬‬
‫ل‬ ‫إال التقى وعم‬ ‫ركض ا ً إلى هللا بغ ير‬
‫اد‬ ‫المع‬ ‫زاد‬
‫وك ل زاد عرض ة‬ ‫والص بر في هللا على‬
‫اد‬ ‫للنف‬ ‫اد‬ ‫الجه‬
‫غير التقى والصبر والرشاد‬
‫ومثله أنس بن النضر الذي قاتل في أحد قتال من يطلب الموت‪ ،‬وعندما لقي ه‬
‫سعد بن معاذ قال له‪ :‬يا سعد‪ ،‬الجنة ورب النضر‪ :‬أجد ريحها من وراء أحد‪.‬‬

‫‪ )(1‬المكتوبات‪ :‬المكتوب العشرون‪ ،‬الكلمة السابعة‪.‬‬

‫‪ )(2‬تاريخ الطبري‪.2/33 :‬‬

‫‪19‬‬
‫الرزق‪:‬‬
‫وهو الشبح الثاني من أشباح الخوف‪ ،‬وه و ال ذي يح ول من يعب ده أو يش رك‬
‫باهلل فيه إلى عبد لكل من يملك دين ارا أو درهم ا‪ ،‬فال يهن أ ل ه عيش‪ ،‬وال يس تقر ل ه‬
‫سكن‪ ،‬بل يصير محال لتنزالت الشياطين‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬وذل ك ألن الش يطان يع ده‬
‫الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول إن لم تح رص على الجم ع واالدخ ار فربم ا تم رض‬
‫وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في الس ؤال فال ي زال ط ول العم ر يتعب ه في‬
‫الطلب خوفا من الفقر ويضحك عليه في احتماله التعب نقدا مع الغفلة عن هللا لت وهم‬
‫تعب في ثاني الحال وربما ال يك ون وفي مثل ه قي ل‪ :‬ومن ينف ق الس اعات في جم ع‬
‫ماله مخافه فقر فالذي فعل الفقر)(‪)1‬‬
‫أما المؤمن‪ ،‬فقد وقي من هذا الخوف‪ ،‬ووقي من نتائجه‪ ،‬ألنه يعلم أن هللا ه و‬
‫الرزاق ذو القوة المتين‪ ،‬فكل رزق هو رزقه‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ أَ َرأَ ْيتُ ْم َم ا أَ ْن زَ َل هَّللا ُ‬
‫ق َربِّ ُك ْم﴾‪ ،‬وق ال تع الى‪:‬‬ ‫ق ﴾ (ي ونس‪ ،)59:‬وق ال تع الى‪ُ ﴿ :‬كلُ وا ِم ْن ِر ْز ِ‬ ‫لَ ُك ْم ِم ْن ِر ْز ٍ‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا ﴾ (الجاثـية‪)5:‬‬ ‫ق فَأَحْ يَا بِ ِه اأْل َرْ َ‬ ‫﴿ َو َما أَ ْنزَ َل هَّللا ُ ِمنَ ال َّس َما ِء ِم ْن ِر ْز ٍ‬
‫بل إن هللا تعالى يدعونا أن نأكل من المائدة التي مألها من رزقه‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫اش ُكرُوا هَّلِل ِ إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾‬
‫ت َما َرزَ ْقنَ ا ُك ْم َو ْ‬ ‫﴿ يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ُكلُوا ِم ْن طَيِّبَا ِ‬
‫(البقرة‪ ،)172:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و ُكلُوا ِم َّما َر َزقَ ُك ُم هَّللا ُ َحالالً طَيِّب ا ً َواتَّقُ وا هَّللا َ الَّ ِذي أَ ْنتُ ْم‬
‫بِ ِه ُم ْؤ ِمنُونَ ﴾ (المائدة‪)88:‬‬
‫وهو يذم ال ذين خ افوا على أن ينقص رزقهم‪ ،‬فقتل وا أوالدهم ح تى ال ي أكلوا‬
‫َس َر الَّ ِذينَ قَتَلُوا أَوْ ال َدهُ ْم َسفَها ً بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َو َح َّر ُم وا َم ا َر َزقَهُ ُم‬ ‫معهم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قَ ْد خ ِ‬
‫ضلُّوا َو َما َكانُوا ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ (األنع ام‪ ،)140:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وال‬ ‫هَّللا ُ ا ْفتِ َرا ًء َعلَى هَّللا ِ قَ ْد َ‬
‫ق نَحْ نُ نَ رْ ُزقُ ُك ْم َوإِيَّاهُم﴾ (األنع ام‪ ،)151:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وال‬ ‫تَ ْقتُلُوا أَوْ ال َد ُك ْم ِم ْن إِ ْمال ٍ‬
‫طئ ا ً َكبِ يراً﴾‬ ‫ق نَحْ نُ نَ رْ ُزقُهُ ْم َوإِيَّا ُك ْم إِ َّن قَ ْتلَهُ ْم َك انَ ِخ ْ‬ ‫َش يَةَ إِ ْمال ٍ‬ ‫تَ ْقتُلُ وا أَوْ ال َد ُك ْم خ ْ‬
‫(االسراء‪)31:‬‬
‫وهذا األمن النفسي الذي يستشعره من علم أن الرزق بيد هللا هو ال ذي يجع ل‬
‫يديه ال تمتدان بالرغبة إال إلى هللا‪ ،‬ولذلك لم تطمح عين ا رس ول هللا ‪ ‬لم ا أعطت ه‬
‫قريش‪ ،‬بل قال‪(:‬يا عم وهللا لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن‬
‫أترك هذا األمرحتى يظهره هللا او أهلك فيه ما تركته)‬
‫وعلى هديه كان الصالحون أرفع الناس نفوسهم‪ ،‬وعندما قال هارون للفضيل‬
‫بعد مواعظه الرقيقة‪(:‬عليك دين) قال‪(:‬نعم‪ ،‬دين لربي يحاسبني عليه‪ ،‬فالويل لي إن‬
‫س ألني والوي ل لي إن ناقش ني والوي ل لي إن لم ألهم حج تي) ق ال‪(:‬إنم ا أع ني دين‬
‫العباد)‪ ،‬قال‪(:‬إن ربي لم يأمرني بهذا‪ ،‬أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫ق َو َم ا أُ ِري ُد أَ ْن‬ ‫ُون َم ا أُ ِري ُد ِم ْنهُ ْم ِم ْن ِر ْز ٍ‬ ‫س إِاَّل لِيَ ْعبُ د ِ‬‫ت ْال ِج َّن َواأْل ِ ْن َ‬‫﴿ َو َم ا خَ لَ ْق ُ‬
‫ون﴾ (الذريات‪ 56:‬ـ ‪)57‬‬ ‫ُط ِع ُم ِ‬‫ي ْ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/243 :‬‬

‫‪20‬‬
‫تقلبات المقادير‪:‬‬
‫الشبح الثالث من أشباح الخوف‪ ،‬ه و التقلب ات ال تي تص يب الحي اة‪ ،‬فتملؤه ا‬
‫زه وا وس رورا‪ ،‬أو ك درا وأحزان ا‪ ،‬وهي تقلب ات ينس بها أك ثر الن اس لل زمن كم ا‬
‫ينسبون تقلبات الشتاء والصيف للشمس واألرض والك واكب‪ ،‬وكم ا ينس بون جمي ع‬
‫األشياء ألربابها الوهميين‪ ،‬األسماء التي ال مسميات لها‪.‬‬
‫لكن المؤمن ي رى في ه ذه التقلب ات رس ائل رباني ة يتع رف من خالله ا على‬
‫رب ه‪ ،‬فيجع ل من الك ون وم ا يج ري في ه من أن واع الت دابير محراب ا من مح اريب‬
‫الخشوع هلل‪.‬‬
‫ولهذا نهى النبي ‪ ‬أن يسب الدهر‪ ،‬وأخبر بأن هللا هو الدهر‪ ،‬ونرى الق رآن‬
‫الكريم ينسب األيام هلل‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا يَ ْغفِرُوا لِلَّ ِذينَ ال يَرْ ُج ونَ أَيَّا َم هَّللا ِ‬
‫ي قَوْ ما ً بِ َما َكانُوا يَ ْك ِسبُونَ ﴾ (الجاثـية‪)14:‬‬ ‫لِيَجْ ِز َ‬
‫بل أمر هللا تعالى موسى ‪ ‬بأن يخبر قومه بتقلبات مقادير هللا‪ ،‬قال تع الى‪:‬‬
‫ور َو َذ ِّكرْ هُ ْم بِأَي َِّام‬
‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫وس ى بِآياتِنَ ا أَ ْن أَ ْخ ِرجْ قَوْ َم كَ ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬ ‫﴿ َولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ُم َ‬
‫ور﴾ (اب راهيم‪ )5:‬فجمي ع التقلب ات ال تي م رت‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫ت لِ ُك ِّل َ‬
‫صب ٍ‬ ‫هَّللا ِ إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يا ٍ‬
‫وس ى لِقَوْ ِم ِه‬ ‫ال ُم َ‬ ‫ببني إس رائيل مم ا ورد في الق رآن الك ريم كقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ب َويُ َذبِّحُونَ‬ ‫آل فِرْ عَوْ نَ يَسُو ُمونَ ُك ْم ُس و َء ْال َع َذا ِ‬ ‫ْاذ ُكرُوا نِ ْع َمةَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ أَ ْن َجا ُك ْم ِم ْن ِ‬
‫َظي ٌم﴾ (اب راهيم‪ )6:‬تص ريفات‬ ‫أَ ْبنَا َء ُك ْم َويَ ْستَحْ يُونَ نِ َسا َء ُك ْم َوفِي َذلِ ُك ْم بَال ٌء ِم ْن َربِّ ُك ْم ع ِ‬
‫إلهية سخر لها من سخر‪.‬‬
‫ولهذه المعرفة قيمة كبيرة في التخفيف من وقع البالء‪ ،‬فمن ع رف أن البالي ا‬
‫من مواله وسيده الذي هو أرحم به من والدته ووال ده‪ ،‬كي ف يس تثقل البالء أم كي ف‬
‫يخافه‪ ،‬وقد قال ابن عطاء هللا عن الفرق بين الع ارف المس غرق في حض رة س يده‪،‬‬
‫وبين الغاف ل في النظ ر إلى تص اريف األق دار فق ال‪(:‬الغاف ل إذا أص بح ينظ ر م اذا‬
‫يفعل‪ ،‬والعاقل ينظر ماذا يفعل هللا به)‬
‫وقد كان عمر بن عبد العزي ز يق ول‪(:‬أص بحت وم الي س رور إال في مواق ع‬
‫القدر)‬
‫‪ 2‬ـ الرقابة اإليمانية‬
‫هَّللا‬
‫ويش ير إليه ا من موعظ ة رس ول هللا ‪ ‬البن عب اس قول ه‪(:‬احف ظ تج ده‬
‫تجاه ك)‪ ،‬فمن ش عر بمواجه ة هللا ل ه كي ف يعص يه‪ ،‬وله ذا ك ان من وس ائل تربي ة‬
‫الصالحين تعميق معاني المراقبة هلل وما يؤدي إليها من التعريف باهلل‪.‬‬
‫واإليمان بذلك هو الحصن الوحيد الذي يقي من تحصن ب ه من ذل ك ال وحش‬
‫الكاسر الذي يختبئ في كيانه‪ ،‬والذي ق د ي برز في أي لحظ ة إن لم يج د من وازع ا‬
‫من دين أو رادعا من خلق‪.‬‬
‫وقد تنبه اإلنسان ـ باعتبار طبيعت ه المعق دة ـ إلى حاجت ه إلى ه ذه الحص ون‬
‫األخالقية التي تضبط سلوكه‪ ،‬فقال الفيلس وف البريط اني المعاص ر برتران د رس ل‬
‫معبرا عن هذا االكتشاف‪( :‬اإلنسان أكثر تعقيداً في نزعاته ورغبات ه من أي حي وان‬

‫‪21‬‬
‫آخر‪ ،‬وتنشأ الصعوبات التي يواجهها من هذا التعقيد‪ ،‬فهو ليس اجتماعيا ً تمام ا ً مث ل‬
‫النم ل والنح ل‪ ،‬وال ه و انف رادي تمام ا ً مث ل األس ود والنم ور‪ ،‬إن ه حي وان ش به‬
‫اجتم اعي‪ ،‬وبعض نزعات ه ورغبات ه اجتم اعي‪ ،‬وبعض ها انف رادي ويب دو الج انب‬
‫االجتماعي في طبيعته من أن الحبس االنف رادي يعت بر عقوب ة بالغ ة الش دة‪ ،‬ويب دو‬
‫الجانب اآلخر في حبه لالستقالل بأموره الخاصة‪ ،‬وعدم استعداده للتحدث فيه ا إلى‬
‫الغرب اء‪ .‬وألنن ا لس نا اجتم اعيين تمام ا ً فنحن في حاج ة إلى أخالق‪ ،‬لت وحي لن ا‬
‫باألهداف‪ ،‬وإلى قواعد أخالقية لتفرض علينا قواعد التصرفات‪ ،‬والنحل ‪-‬كما يبدو‪-‬‬
‫ليس في حاجة إلى شيء من هذا‪ ،‬فهو يتصرف بما تملي ه علي ه مص لحة الجماع ة)‬
‫(‪)1‬‬
‫وقال جمال الدين األفغ اني مش يرا إلى قص ور الق انون عن توف ير الحص انة‬
‫األخالقية‪( :‬ليس بخاف أن قوة الحكومة إنما تأتي على كف العدوان الظاهر‪ ،‬ورف ع‬
‫الظلم البين‪ ،‬أما االختالس والزور المموه والباط ل الم زين والفس اد المل ون بص بغ‬
‫من الصالح‪ ،‬ونحو ذلك مما يرتكبه أرباب الشهوات‪ ،‬فمن أين للحكومة أن تس تطيع‬
‫دفعه؟ وأنى يكون لها االطالع على خفي ات الحي ل‪ ،‬وكامن ات الدس ائس ومطوي ات‬
‫الخيان ة ومس تورات الغ در ح تى تق وم ب دفع ض رره؟ على أن الح اكم وأعوان ه ق د‬
‫يكونون‪ ،‬بل كثيراً ما كانوا ويكونون ممن تملكهم الش هوات‪ ،‬ف أي وازع يأخ ذ على‬
‫أيدي أصحاب السلطة‪ ،‬ويمنعهم من مطاوعة شهواتهم المتسلطة على عقولهم؟ وأي‬
‫غ وث ينق ذ ض عفاء الرعاي ا وذوي المس كنة منهم من ش ره أولئ ك المتس لطين‬
‫وحرصهم؟)(‪)2‬‬
‫وقال الفيلسوف األلماني (فيختة)‪(:‬األخالق من غير دين عبث)‬
‫ونحن ال ننكر هنا أث ر الق انون وال دوره‪ ،‬وال ن دعو إلى رف ع الق وانين لع دم‬
‫غناها‪ ،‬وإنما نقول بأن القوانين تحتاج إلى وازع ذاتي يدعو إلى تطبيقها‪ ،‬وال يك ون‬
‫ه ذا ال وازع في غ ير اإليم ان‪ ،‬ألن ال ذي يطب ق الق انون تحت عص ا الش رطي‪،‬‬
‫سيخرقه إذا ما غاب الشرطي‪ ،‬يقول الدكتور محمد عبد هللا دراز‪(:‬ال قيام للحي اة في‬
‫الجماعة إال بالتعاون بين أعض ائها‪ ،‬وه ذا التع اون إنم ا يتم بق انون ينظم عالقات ه‪،‬‬
‫ويحدد حقوقه وواجباته‪ .‬وه ذا الق انون ال غ نى ل ه عن س لطان ن ازع وازع‪ ،‬يكف ل‬
‫مهابته في النفوس‪ ،‬ويمنع انتهاك حرماته‪ .‬ونق رر أن ه ليس على وج ه األرض ق وة‬
‫تكافئ قوة الت دين‪ ،‬أو ت دانيها في كفال ة اح ترام الق انون وض مان تماس ك المجتم ع‪،‬‬
‫واستقرار نظامه‪ ،‬والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه‪ ..‬والسر في ذلك أن اإلنس ان‬
‫يمتاز عن سائر الحيوانات الحية بأن حركاته وتص رفاته االختياري ة يت ولى قيادته ا‬
‫شيء ال يقع عليه سمعه وال بصره‪ ،‬وال يوضع في يده وال في عنقه‪ .‬وال يجري في‬
‫دمه وال في عضالته وال في أعصابه‪ ،‬وإنما هو معنى إنساني روحاني اسمه الفكرة‬

‫‪ )(1‬المجتمع البشري في األخالق والسياسة‪ ،‬لبرتراندرسل‪.10:‬‬


‫‪ )(2‬رسالة الرد على الدهريين‪.72:‬‬

‫‪22‬‬
‫والعقيدة‪ ،‬ولقد ضل قوم قلبوا هذا الوض ع‪ ،‬وحس بوا أن الفك ر والض مير ال ي ؤثران‬
‫في الحياة المادية واالقتصادية بل يتأثران بها‪ . .‬أجل إن اإلنسان يساق من باطن ه ال‬
‫من ظ اهره‪ ،‬وليس ت ق وانين الجماع ات وال س لطان الحكوم ات بك افيين وح دهما‬
‫إلقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق وتؤدى الواجبات على وجهها الكام ل‪ ،‬ف إن‬
‫الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوب ة المالي ة‪ .‬ال يلبث أن يهمل ه‬
‫متى اطم أن إلى أن ه س يفلت من طائل ة الق انون‪ ..‬ومن الخط أ ال بين أن نظن أن في‬
‫نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا ً للسالم والرخاء وعوضا ً عن التربية والته ذيب‬
‫الديني والخلقي‪ ،‬ذلك ألن العلم سالح ذو حدين يص لح لله دم والت دمير‪ ،‬كم ا يص لح‬
‫للبناء والتعمير‪ ،‬والبد في حسن استخدامه من رقيب أخالقي يوجهه لخير اإلنس انية‬
‫وعمارة األرض ال إلى الشر والفساد ذلكم الرقيب هو العقيدة واإليمان)(‪)1‬‬
‫وسنكتفي هنا لتقرير هذه الحق ائق ب ذكر مث ال درج المعاص رون على ذك ره‬
‫ألهميته وقيمته‪ ،‬وهو ما فعلته الواليات المتحدة األمريكية بعد أن انتشرت فيها عادة‬
‫السكر وشرب الخمور انتشاراً أقنع الحكومة بضرر ذل ك على اإلنس ان األم ريكي‪،‬‬
‫فلجأت للقانون كرادع عن هذا السلوك‪.‬‬
‫وقصة ذلك من البداية أنه حوالي عام ‪1918‬ث ارت المش كلة في ال رأي الع ام‬
‫األم ريكي‪ ،‬وفي ع ام ‪1919‬أدخ ل في الدس تور األم ريكي تحت عن وان (التع ديل‬
‫الثامن عشر)‪ ،‬وفي نفس الس نة أي د ه ذا التع ديل ب أمر حظ ر‪ ،‬أطل ق علي ه الت اريخ‬
‫قانون (فولستد)‪.‬‬
‫وقد أعدت لتنفيذ هذا التحريم داخل األراضي األمريكي ة كاف ة وس ائل الدول ة‬
‫وإمكاناتها الضخمة‪ :‬فجند األسطول كله لمراقب ة الش واطئ‪ ،‬منع ا ً للته ريب‪ ،‬وجن د‬
‫الطيران لمراقبة الج و‪ ،‬وش غلت أجه زة الحكوم ة واس تخدمت ك ل وس ائل الدعاي ة‬
‫واإلعالم لمحارب ة الخم ر‪ ،‬وبي ان مض ارها وجن دت ك ذلك المجالت والص حف‬
‫والكتب والنشرات والصور والسينما واألحاديث والمحاضرات وغيرها‪.‬‬
‫ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزي د على س تين مليون ا ً‬
‫من الدوالرات‪ ،‬وأن ما أصدرته من كتب ونشرات يبلغ عشرة باليين ص فحة‪ ،‬وم ا‬
‫تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم ‪-‬في مدة أربعة عشر عاماً_ ال يقل عن م ائتين‬
‫وخمسين مليون جنيه‪ ،‬وق د أع دم في ه ذه الم دة ثالثمائ ة نفس‪ ،‬وس جن ‪532،335‬‬
‫نفس‪ ،‬وبلغت الغرام ات س تة عش ر ملي ون جني ه‪ ،‬وص ادرت من األمالك م ا بل غ‬
‫أربعمائة ملي ون وأربع ة ماليين جني ه‪ ،‬ولكن ك ل ذل ك لم ي زد األم ة األمريكي ة إال‬
‫تمسكا بالخمر‪ ،‬وعناداً في تعاطيها‪ ،‬حتى اض طرت الحكوم ة س نة ‪1933‬الى إلغ اء‬
‫هذا القانون‪ ،‬وإباحة الخمر إباحة مطلقة(‪.)2‬‬
‫وهكذا فشل القانون بكل ما وف ر ل ه من وس ائل تنفي ذ في حمي اة اإلنس ان من‬
‫‪ )(1‬من كتاب ( الدين ) للدكتور محمد عبد هللا دراز‪.‬‬
‫‪ )(2‬ذكر هذه اإلحصاءات األستاذ أبو األعلى المودودي في كتاب ه (تنقيح ات) وعن ه نقله ا األس تاذ أب و الحس ن‬
‫الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ص ‪177‬هامش‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫مرض سلوكي واحد‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك‪ ،‬وفي مجتمع لم يكن يقل عن المجتمع األم ريكي حب ا للخم ر‬
‫وال غراما بها‪ ،‬استطاعت آية واحدة‪ ،‬أو أم ر إلهي واح د أن يقض ي على الخم ر ال‬
‫في مجتمع المدينة وحدها‪ ،‬ب ل في المجتمع ات اإلس المية جميع ا من ذ أربع ة عش ر‬
‫ص ابُ‬‫قرن ا‪ ،‬وهي قول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِنَّ َم ا ْالخَ ْم ُر َو ْال َمي ِْس ُر َواأْل َ ْن َ‬
‫ان فَاجْ تَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ (المائدة‪)90:‬‬ ‫َواأْل َ ْزال ُم ِرجْ سٌ ِم ْن َع َم ِل ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ويحكي الصحابة عن البداية‪ ،‬قال أبو سعيد ‪ :‬سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول‪(:‬ي ا‬
‫أيها الناس إن هللا يبغض الخمر‪ ،‬ولعل هللا سينزل فيه ا أم راً‪ ،‬فمن ك ان عن ده ش يء‬
‫فليبعه ولينتفع به) ـ وذلك قبل التحريم النهائي ـ قال أبو س عيد‪ :‬فم ا لبثن ا إال يس يراً‪،‬‬
‫حتى قال‪(:‬إن هللا حرم الخم ر‪ ،‬فمن أدركت ه ه ذه اآلي ة ‪-‬يع ني آي ة المائ دة الس ابقة‪-‬‬
‫وعنده منها ش يء فال يش رب وال ي بيع)‪ ،‬ق ال أب و س عيد‪ :‬فاس تقبل الن اس بم ا ك ان‬
‫عندهم منها طرق المدينة فسفكوها ‪-‬أي صبوها وأسالوها(‪.)1‬‬
‫ولم يكن للشرطة وال من يدعمهم حينها وجود‪ ،‬ب ل ك ان اإليم ان وح ده‪ ،‬عن‬
‫أنس قال‪ :‬كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب فجاءهم آت فقال‪ :‬إن الخمر حرمت‪...‬‬
‫فقال أبو طلحة‪ :‬قم يا أنس فأهرقها‪ ...‬فأهرقها(‪.)2‬‬
‫وعن أبي موسى قال‪ :‬بينما نحن قعود على ش راب لن ا ونحن نش رب الخم ر‬
‫حل ة ـ أي حالالً ـ إذ قمت ح تى آتي رس ول هللا ‪ ‬فأس لم علي ه وق د ن زل تح ريم‬
‫ص ابُ َواأْل َ ْزال ُم ِرجْ سٌ ِم ْن‬ ‫الخمر‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِنَّ َم ا ْالخَ ْم ُر َو ْال َمي ِْس ُر َواأْل َ ْن َ‬
‫َع َم ِل ال َّش ْيطَا ِن فَاجْ تَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ (المائدة‪ ،)90:‬فجئت إلى أص حابي‪ ،‬فقرأته ا‬
‫عليهم‪ ...‬ق ال‪ :‬وبعض الق وم ش ربته في ي ده ش رب بعض ا ً وبقي بعض في اإلن اء‪...‬‬
‫فقال باإلناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا‪ :‬انتهينا‬
‫ربنا‪ ...‬انتهينا ربنا)(‪)3‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم تأثير اإليمان في الردع عن القت ل في ال وقت ال ذي لم‬
‫يكن هناك شرطة وال سجون وال إعدام‪ ،‬فقال تعالى ذاكرا قص ة اب ني آدم ب الحق‪﴿ :‬‬
‫ق إِ ْذ قَ َّربَا قُرْ بَانا ً فَتُقُب َِّل ِم ْن أَ َح ِد ِه َما َولَ ْم يُتَقَبَّلْ ِمنَ اآْل َخ ِر‬
‫َوا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ ا ْبن َْي آ َد َم بِ ْال َح ِّ‬
‫اس ٍط‬ ‫ي يَدَكَ لِتَ ْقتُلَنِي َم ا أَنَ ا بِبَ ِ‬ ‫طتَ إِلَ َّ‬‫ك قَا َل إِنَّ َما يَتَقَبَّ ُل هَّللا ُ ِمنَ ْال ُمتَّقِينَ لَئِ ْن بَ َس ْ‬ ‫قَا َل أَل َ ْقتُلَنَّ َ‬
‫ي إِلَ ْيكَ أِل َ ْقتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ هَّللا َ َربَّ ْال َعالَ ِمينَ ﴾ (المائدة‪ 27:‬ـ ‪)28‬‬ ‫يَ ِد َ‬
‫‪ 3‬ـ القوة واإلنتاج‬
‫وهي الركن الثالث من أركان الشخصية السوية‪ ،‬ألن الضعيف ال يستطيع أن‬
‫يفعل لنفسه شيئا‪ ،‬فكيف يفعل لغيره‪.‬‬
‫ولهذا ذم هللا تعالى المستضعفين الذين قعد بهم عجزهم وكسلهم عن الخ روج‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبري‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫عن ضعفهم‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ ت ََوفَّاهُ ُم ْال َمالئِ َك ةُ ظَ الِ ِمي أَ ْنفُ ِس ِه ْم قَ الُوا فِي َم ُك ْنتُ ْم‬
‫اس َعةً فَتُهَ ا ِجرُوا فِيهَ ا‬ ‫ض قَ الُوا أَلَ ْم تَ ُك ْن أَرْ ضُ هَّللا ِ َو ِ‬ ‫َض َعفِينَ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫قَ الُوا ُكنَّا ُم ْست ْ‬
‫صيراً﴾ (النساء‪ ،)97:‬فسماهم تعالى ظالمين م ع أنهم‬ ‫ت َم ِ‬ ‫ك َمأْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َو َسا َء ْ‬‫فَأُولَئِ َ‬
‫أقروا بأنهم كانوا مستضعفين‪.‬‬
‫ولم يس تثن تع الى من ه ؤالء إال من عج ز عج زا يقع ده عن أي حيل ة‪ ،‬ق ال‬
‫ال َوالنِّ َس ا ِء َو ْال ِو ْل دَا ِن ال يَ ْس تَ ِطيعُونَ ِحيلَ ةً َوال‬ ‫َض َعفِينَ ِمنَ الرِّ َج ِ‬ ‫تع الى‪ ﴿ :‬إِاَّل ْال ُم ْست ْ‬
‫ك َع َسى هَّللا ُ أَ ْن يَ ْعفُ َو َع ْنهُ ْم َو َكانَ هَّللا ُ َعفُ ّواً َغفُوراً﴾ (النساء‪)99:‬‬ ‫يَ ْهتَ ُدونَ َسبِيالً فَأُولَئِ َ‬
‫ب ل إن الق رآن الك ريم ينهى ه ؤالء المستض عفين عن أن يقع د بهم ض عفهم‬
‫الحسي عن االستعداد والهم‪ ،‬ولهذا يثني على الصالحين المستضعفين بقول ه تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوال َعلَى الَّ ِذينَ إِ َذا َم ا أَتَ وْ كَ لِتَحْ ِملَهُ ْم قُ ْلتَ ال أَ ِج ُد َم ا أَحْ ِملُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ت ََولَّوْ ا َوأَ ْعيُنُهُ ْم‬
‫تَفِيضُ ِمنَ ال َّد ْم ِع َحزَن ا ً أَاّل يَ ِج دُوا َم ا يُ ْنفِقُ ونَ ﴾ (التوب ة‪ ،)92:‬وله ذا أث نى عليهم ‪‬‬
‫بقوله‪(:‬إن بالمدينة أقواما ً ما قطعتم واديا ً وال سرتم س يراً إال وهم معكم) ق الوا‪ :‬وهم‬
‫بالمدينة؟ قال‪(:‬نعم حبسهم العذر)(‪)1‬‬
‫بل إن هللا تعالى اشترط في هؤالء المستضعفين النصح هلل ورس وله في ح ال‬
‫ض ى َوال َعلَى‬ ‫الض َعفَا ِء َوال َعلَى ْال َمرْ َ‬ ‫ْس َعلَى ُّ‬ ‫قعودهم وعج زهم‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫يل‬‫صحُوا هَّلِل ِ َو َرسُولِ ِه َما َعلَى ْال ُمحْ ِسنِينَ ِم ْن َسبِ ٍ‬ ‫الَّ ِذينَ ال يَ ِج ُدونَ َما يُ ْنفِقُونَ َح َر ٌج إِ َذا نَ َ‬
‫َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ (التوبة‪)91:‬‬
‫ولهذا‪ ،‬ف إن دين هللا تع الى ال يق وم ب ه وال يمثل ه إال األقوي اء أص حاب الهمم‬
‫العالية‪ ،‬أما الذين يتصورون الدين ضعفا وتماوتا وذل ة‪ ،‬فهم ال يميت ون شخص ياتهم‬
‫فقط‪ ،‬بل يميتون الدين أيضا‪.‬‬
‫وق د ك ان رس ول هللا ‪ ‬وه و الق دوة األول للمؤم نين إذا مش ى أس رع في‬
‫مشيته‪ ،‬كأنما ينحدر من صبب‪ ،‬يقول أبو هريرة ‪(:‬ما رأيت أحداً أحس ن من رس ول‬
‫هللا ‪ ‬كأن الشمس تجرى في وجهه‪ ،‬وال رأيت أحداً أس رع في مش يته من ه‪ ،‬كأنم ا‬
‫األرض تطوى له‪ ،‬وإنما لنجهد أنفسنا‪ ،‬وإنه لغير مكترث)(‪)2‬‬
‫ويش ير إلى ه ذا ال ركن من موعظ ة رس ول هللا ‪ ‬البن عب اس قول ه ‪:‬‬
‫(واعلم أن األمة لو اجتمعت َعلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إال بشيء قد كتب ه هَّللا‬
‫لك‪ ،‬وإن اجتمعوا َعلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إال بشيء قد كتب ه هَّللا علي ك‪،‬‬
‫رفعت األقالم وجفت الص حف)‪ ،‬وقول ه ‪ (:‬إذا س ألت فاس أل هَّللا ‪ ،‬وإذا اس تعنت‬
‫فاست َع ْن باهَّلل )‪ ،‬وقوله ‪(:‬واعلم أن النصر مع الصبر‪ ،‬وأن الفرج مع الك رب‪ ،‬وأن‬
‫مع العسر يسرا)‬
‫ألن أساس القوة ه و ش عور الق وي ب أن ل ه من الم دد م ا يتغلب ب ه على ك ل‬
‫صعب‪ ،‬ولذلك قال ‪ ‬في الحديث الذي يبين مصادر ق وة الم ؤمن‪(:‬الم ؤمن الق وي‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث غريب وأخرجه أحمد وابن حبان وابن سعد‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫خير وأحب إلى هللا من المؤمن الض عيف‪ ،‬وفي ك ل خ ير‪ ،‬اح رص على م ا ينفع ك‬
‫واستعن باهلل وال تعجز‪ ،‬وإن أصابك ش يء فال تق ل‪ :‬ل و أني فعلت لك ان ك ذا وك ذا‪،‬‬
‫ولكن قل قدر هللا وما شاء فعل‪ ،‬فان لو تفتح عمل الشيطان)(‪ )1‬فجعل االستعانة باهلل‬
‫منافية وصادة ألوهام العجز‪.‬‬
‫وله ذا ق ال تع الى ي ذكر موق ف رس ول هللا ‪ ،‬وه و في الغ ار يتح دى‬
‫َص َرهُ هَّللا ُ إِ ْذ أَ ْخ َر َج هُ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا ثَ انِ َي ْاثنَي ِْن إِ ْذ هُ َم ا‬ ‫صرُوهُ فَقَ ْد ن َ‬ ‫المشركين‪ ﴿ :‬إِالّ تَ ْن ُ‬
‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬
‫صا ِحبِ ِه ال تَحْ َز ْن إِ َّن َ َم َعنَا فَأ ْنزَ َل ُ َس ِكينَتَهُ َعلَ ْي ِه َوأيَّ َدهُ بِ ُجنُ و ٍد‬ ‫َار إِ ْذ يَقُو ُل لِ َ‬ ‫فِي ْالغ ِ‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾‬ ‫الس ْفلَى َو َكلِ َم ةُ هَّللا ِ ِه َي ْالع ُْليَ ا َوهَّللا ُ ع ِ‬‫لَ ْم ت ََروْ هَا َو َج َع َل َكلِ َم ةَ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا ُّ‬
‫(التوبة‪)40:‬‬
‫فش عور رس ول هللا ‪ ‬بمعي ة هللا جعل ه يتح دى ك ل م ا أع د المش ركين من‬
‫وسائل الرصد التي تريد أن تغتاله وتغتال دينه‪.‬‬
‫وبمثل هذا القول علم هللا تعالى موسى ‪ u‬مصححا تصوره لفرعون وزبانيت ه‪:‬‬
‫﴿ َكاَّل فَ ْاذهَبَ ا بِآياتِنَ ا إِنَّا َم َع ُك ْم ُم ْس تَ ِمعُونَ ﴾ (الش عراء‪ ،)15:‬وكأن ه يق ول ل ه‪(:‬كال ي ا‬
‫موسى فال يساوي فرعون شيئا ما دمت معك)‬
‫ولهذا سار موسى ‪ u‬رابط الجأش‪ ،‬شجاعا‪ ،‬في عزة تقصر معها عزة كل م ا‬
‫أحيط بفرعون من هالة وزينة‪ ،‬فقد كان مع موسى ‪ u‬ربه تع الى‪ ،‬وله ذا أج اب ب ني‬
‫إسرائيل بعد أن أدركهم فرعون وجنده بقوله الذي يستعيد فيه موسى ‪ u‬ماقيل ل ه في‬
‫ين﴾ (الشعراء‪)62:‬‬ ‫ذلك اليوم‪َ ﴿ :‬كاَّل إِ َّن َم ِع َي َربِّي َسيَ ْه ِد ِ‬
‫ولهذا الشعور تأثيره العظيم في بث العزيمة في نفس الم ؤمن‪ ،‬ألن ه حينه ا ال‬
‫ينظر إلى قوته المحدودة‪ ،‬وإنما ينظر إلى قوة هللا التي تمده بالمدد كل حين‪ ،‬ب ل إن ه‬
‫ب لَ ُك ْم َوإِ ْن‬‫ص رْ ُك ُم هَّللا ُ فَال َغ الِ َ‬ ‫ينفي قوت ه بجنب ق وة هللا‪ ،‬وله ذا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ ْن يَ ْن ُ‬
‫ص ُر ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ِه َو َعلَى هَّللا ِ فَ ْليَتَ َو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ ﴾ (آل عم ران‪:‬‬ ‫يَ ْخ ُذ ْل ُك ْم فَ َم ْن َذا الَّ ِذي يَ ْن ُ‬
‫‪ ،)160‬فاعتبر النصر من هللا والخذالن من هللا‪.‬‬
‫ولهذا تحدى األنبياء ـ صلوات هللا وس المه عليهم ـ أق وامهم‪ ،‬فلم يبه رهم م ا‬
‫أعد لهم من صنوف الفتن‪ ،‬قال تعالى ذاكرا قول هودا ‪ ‬لقوم ه بع د تك ذيبهم ل ه‪:‬‬
‫اش هَدُوا أَنِّي بَ ِري ٌء ِم َّما تُ ْش ِر ُكونَ ِم ْن دُونِ ِه فَ ِكي دُونِي َج ِميع ا ً ثُ َّم ال‬ ‫﴿ إِنِّي أُ ْش ِه ُد هَّللا َ َو ْ‬
‫َاص يَتِهَا إِ َّن َربِّي‬ ‫آخ ٌذ بِن ِ‬ ‫ت َعلَى هَّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُك ْم َما ِم ْن دَابَّ ٍة إِاَّل ه َُو ِ‬ ‫تُ ْن ِظرُو ِن إِنِّي ت ََو َّك ْل ُ‬
‫ص َرا ٍط ُم ْستَقِ ٍيم﴾ (هود‪ 54:‬ـ ‪)56‬‬ ‫َعلَى ِ‬
‫والقوة التي نريدها هنا ليست ق وة الي د والس الح فق ط‪ ،‬وإنم ا ق وة الشخص ية‬
‫التي تجعل صاحبها جبال من جبال الصمود والهمة والعزيمة في جميع المجاالت‪.‬‬
‫ولهذا فإن القوي ال يبهره السلطان وال الخدم وال الحش م‪ ،‬ألن ش عوره بمعي ة‬
‫هللا يجعل كل شيء أمامه هباء أو كالهباء إذا تأملته لم تجده شيئا‪ ،‬وق د طلب الخليف ة‬
‫األموي هشام بن عبد الملك طاووس اليماني يوما ً إلى مجلس ه‪ ،‬فلم ا دخ ل علي ه‪ ،‬لم‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫يسلم عليه بامرة المؤمنين‪ ،‬ولكن قال‪(:‬السالم عليك يا هشام) وجلس بازائ ه‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫كيف أنت يا هشام؟ فغضب هشام غضبا ً شديداً حتى هم بقتله‪ ،‬وقال له‪ :‬ي ا ط اووس‬
‫ما الذي حملك على ما ص نعت؟ ق ال‪ :‬وم ا ال ذي ص نعت؟ ف ازداد غض با ً وغيظ اً‪،‬‬
‫وقال‪ :‬خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبِّل يدي‪ ،‬ولم تس لم على ب إمرة المؤم نين‪،‬‬
‫ولم تكنني‪ ،‬وجلست بازائي بغير إذني‪ ،‬وقلت كيف أنت يا هشام‪ ،‬قال‪ :‬أم ا م ا فعلت‬
‫من وضع نعلي بحاشية بساطك فإني أض عهما بين ي دي رب الع زة ك ل ي وم خمس‬
‫مرات‪ ،‬وأما قولك لم تقبِّل يدي فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول‪(:‬ال يحل لرجل‬
‫أن يقبِّل يد أحد إال امرأته من ش هوة‪ ،‬أو ول ده من رحم ة) وأم ا قول ك لم تس لم على‬
‫بإمرة المؤمنين فليس كل الن اس راض ين بإمرت ك‪ ،‬فك رهت أن أك ذب‪ ،‬وأم ا قول ك‬
‫جلست بازائي فإني سمعت أمير المؤمنين عليا ً يقول‪(:‬إذا أردت أن تنظ ر إلى رج ل‬
‫من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام)‪ ،‬فقال هشام‪ :‬عظ ني … فق ال‪:‬‬
‫سمعت من أمير المؤمنين علي أن في جهنم حيات كالقالل‪ ،‬وعقارب كالبغال‪ ،‬تل دغ‬
‫كل أمير ال يعدل في رعيته ‪ -‬ثم قام‪.‬‬
‫والقوي ال تغريه األموال مهما كانت‪ ،‬فلذلك ال يم د ي ده لغ ير رب ه‪ ،‬وال ي بيع‬
‫دينه بأي رش وة مهم ا عظمت‪ ،‬وق د بعث الن بي ‪ ‬عب د هللا بن رواح ة إلى خي بر‪،‬‬
‫ليقوم بتقدير ثمر النخل فيها‪ ،‬إذ كان لهم نصفها‪ ،‬وللمس لمين نص فها‪ ،‬وق ام عب د هللا‬
‫بالمهمة فقال‪ :‬في هذه ك ذا‪ ،‬وفي ه ذه ك ذا‪ ،‬فجم ع اليه ود ل ه حلي ا ً من حلى نس ائهم‬
‫وقالوا له‪ :‬هذا لك‪ ،‬وخفف عنا في القسمة وتجاوز فقال‪(:‬يا معشر اليهود‪ ..‬وهللا وهللا‬
‫إنكم لمن أبغض خلق هللا إلي‪ ،‬وما ذاك بحاملي أن أحيف عليكم‪ .‬أم ا ال ذي عرض تم‬
‫له من الرشوة فإنها سحت‪ ،‬وإنا ال نأكلها) فلم يملك اليهود إال أن ق الوا‪ :‬به ذا ق امت‬
‫السموات واألرض‪.‬‬
‫والقوي هو الذي ال يمكله جيبه وال أمواله‪ ،‬بل يملكه ا ليص رفها في مواض ع‬
‫الحق والخير‪ ،‬ألن من أخطر الض عف البخ ل‪ ،‬وله ذا جم ع ‪ ‬بين البخ ل والجبن‪،‬‬
‫فقال‪(:‬اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخ ل واله رم وع ذاب الق بر‬
‫وفتنة الدجال)(‪)1‬‬

‫ثانيا ـ مصادر التربية اإليمانية وضوابط استثمارها‬


‫تتحدد آثار التربية اإليمانية انطالقا من المصادر التي تستقى منها‪ ،‬فالمص در‬
‫هو الذي يحدد صحة العقيدة‪ ،‬كما أنه المحدد لتأثيرها في النفس‪.‬‬
‫ولهذا فإن أس اس ك ل االنحراف ات العقدي ة ه و التحريف ات ال تي لحقت بكتب‬
‫ال ديانات المختلف ة‪ ،‬بحيث أص بحت تحم ل ص ورا مش وهة عن هللا تع الى‪ ،‬ال تزي د‬
‫المتعلقين بها إال جهال باهلل‪.‬‬
‫وانطالقا من القرآن الكريم‪ ،‬ف إن للعقي دة مص درين أساس يين كب يرين‪ ،‬بق در‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد وعبد بن حميد ومسلم والنسائي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫االستفادة منهما تترسخ العقيدة في النفس‪ ،‬وينفعل لها السلوك والوجدان‪.‬‬
‫وق د ع بر الق رآن الك ريم عن ه ذين المص درين بمص طلح (اآلي ات)‪ ،‬وه و‬
‫مصطلح قرآني يعني‪ :‬العالمات الواضحات الباهرات‪.‬‬
‫ك‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إلى المصدر األول بقوله تع الى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد أ ْنزَ لنَ ا إِلَ ْي َ‬
‫ات هَّللا ِ‬ ‫ت َو َما يَ ْكفُ ُر بِهَا إِاَّل ْالفَا ِسقُونَ ﴾ (البق رة‪ ،)99:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬تِ ْل كَ آيَ ُ‬ ‫ت بَيِّنَا ٍ‬ ‫آيَا ٍ‬
‫ُ‬
‫ق َوإِنَّكَ لَ ِمنَ ال ُمرْ َسلِينَ ﴾ (البقرة‪ ،)252:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ذلِ كَ نَ ْتل وهُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫نَ ْتلُوهَا َعلَ ْيكَ بِال َح ِّ‬
‫ْس وا َس َوا ًء ِم ْن‬ ‫ت َوال ِّذ ْك ِر ْال َح ِك ِيم﴾ (آل عمران‪ ،)58:‬وقال تع الى‪ ﴿ :‬لَي ُ‬ ‫ك ِمنَ اآْل يا ِ‬ ‫َعلَ ْي َ‬
‫ت ِ آنَا َء الل ْي ِل َوهُ ْم يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ (آل عمران‪)113:‬‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬
‫ب أ َّمةٌ قَائِ َمةٌ يَ ْتلونَ آيَا ِ‬ ‫ُ‬ ‫أَ ْه ِل ال ِكتَا ِ‬
‫ْ‬
‫ض‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬ ‫وأشار إلى المصدر الث اني بقول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي خَ ْل ِ‬
‫ق َّ‬
‫اس َو َم ا أَ ْن َز َل هَّللا ُ‬ ‫ك الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َم ا يَ ْنفَ ُع النَّ َ‬ ‫ار َو ْالفُ ْل ِ‬
‫الف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬
‫اختِ ِ‬ ‫َو ْ‬
‫يف‬ ‫َص ِر ِ‬ ‫ث فِيهَ ا ِم ْن ُك ِّل دَابَّ ٍة َوت ْ‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَ ا َوبَ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِمنَ ال َّس َما ِء ِم ْن َما ٍء فَأحْ يَا بِ ِه اأْل رْ َ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعقِلُونَ ﴾ (البق رة‪،)164:‬‬ ‫ض آَل يا ٍ‬‫ب ْال ُم َس َّخ ِر بَ ْينَ ال َّس َما ِء َواأْل َرْ ِ‬ ‫اح َوال َّس َحا ِ‬ ‫ال ِّريَ ِ‬
‫ُ‬
‫ت أِل ولِي‬ ‫ار آَل يا ٍ‬ ‫الف اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫اختِ ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ق ال َّس َما َوا ِ‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي خَ ْل ِ‬
‫ب﴾ (آل عمران‪)190:‬‬ ‫اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫وس نحاول في ه ذا المبحث أن نتع رف على كيفي ة االس تفادة من ه ذين‬
‫المص درين في التربي ة اإليماني ة‪ ،‬والض وابط ال تي تحمي ه ذا االس تثمار من أي‬
‫انحراف‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الوحي‬
‫ونري د ب ه الق رآن الك ريم‪ ،‬وم ا يفس ره ويبين ه ويعم ق معاني ه من الس نة‬
‫الصحيحة‪ ،‬فالقرآن الكريم هو الكت اب الوحي د المع رف باهلل‪ ،‬فال يع رف هللا إال هللا‪،‬‬
‫وهللا هو المتكلم بالقرآن الكريم‪ ،‬فلذلك كان هللا تعالى هو معرف نفسه بنفسه‪.‬‬
‫زيادة على ذلك‪ ،‬فإن في القرآن الكريم كل حقائق الوجود ال تي تعم ق مع اني‬
‫اإليم ان في نفس الم ؤمن‪ ،‬وال تي ترف ع عن ه ك ل ح يرة ق د تلجئ ه إليه ا الفلس فات‬
‫ك‬ ‫والتره ات ال تي ال تعتم د على المص ادر المعص ومة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ونَ َّز ْلنَ ا َعلَ ْي َ‬
‫َاب تِ ْبيَانا ً لِ ُك ِّل َش ْي ٍء ﴾ (النحل‪)89:‬‬ ‫ْال ِكت َ‬
‫ُور ﴾‪ ،‬وم ا في‬ ‫الص د ِ‬ ‫ولهذا كان من أوصاف القرآن الكريم أنه ﴿ َِشفَا ٌء لِ َما فِي ُّ‬
‫الصدور مصطلح قرآني يعني المعارف والوجدانات المختلف ة ال تي تتحكم في حي اة‬
‫اإلنسان‪ ،‬والصدور هي محل القلب‪ ،‬الذي هو محل التعقل‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَفَلَ ْم‬
‫ان يَ ْس َمعُونَ بِهَا فَإِنَّهَ ا ال تَ ْع َمى‬ ‫ض فَتَ ُكونَ لَهُ ْم قُلُوبٌ يَ ْعقِلُونَ بِهَا أَوْ آ َذ ٌ‬ ‫يَ ِسيرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ُور﴾ (الحج‪)46:‬‬ ‫ْصا ُر َولَ ِك ْن تَ ْع َمى ْالقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّ د ِ‬ ‫اأْل َب َ‬
‫وذلك ألن االنحرافات المختلف ة ال تي تحمله ا العقائ د الض الة هي عب ارة عن‬
‫أمراض خطيرة ال يكفي في عالجها المنطق البرهاني وحده الذي مارس ه الفالس فة‬
‫والمتكلمون‪ ،‬وال المنطق الوج داني ال ذي مارس ه الص وفية واإلش راقيون‪ ،‬ألن ك ل‬
‫أولئك يتوجهون بخطابهم للطيفة من لطائف اإلنسان ال يعدونها‪ ،‬بينما القرآن الكريم‬
‫يخاطب اللطائف جميعا‪ ،‬وبالحقائق التي ال يزورها البرهان‪ ،‬وال يضللها الوجدان‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫وكمثال على ذلك يبين يسر أساليب القرآن الكريم وش مولها وجماله ا وعم ق‬
‫معانيها قراءة واعية لسورة الطور‪ ،‬فهي وحدها كفيلة بتعميق معاني من اإليم ان ال‬
‫تستطيع مجلدات ضخمة من الجدل أن تغ رس م ا تغرس ه‪ ،‬يق ول س يد قطب معرف ا‬
‫بهذه السورة العظيمة‪( :‬هذه الس ورة تمث ل حمل ة عميق ة الت أثير فى القلب البش ري‪،‬‬
‫ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات واألباطيل التي تساوره وتتدسس إليه‬
‫وتختبئ هنا وهناك في حناياه‪ .‬ودحض لكل حج ة وك ل ع ذر ق د يتخ ذه للحي دة عن‬
‫الحق والزيغ عن اإليمان‪ ..‬حملة ال يصمد لها قلب يتلقاها‪ ،‬وهي تالحقه حتى تلجئ ه‬
‫إلى اإلذع ان واالستس الم! وهي حمل ة يش ترك فيه ا اللف ظ والعب ارة‪ ،‬والمع نى‬
‫والم دلول‪ ،‬والص ور والظالل‪ ،‬واإليقاع ات الموس يقية لمق اطع الس ورة وفواص لها‬
‫على الس واء‪ .‬ومن ب دء الس ورة إلى ختامه ا تت والى آياته ا كم ا ل و ك انت ق ذائف‪،‬‬
‫وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق‪ ،‬وصورها وظالله ا كم ا ل و ك انت س ياطا الذع ة‬
‫للحس ال تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام)(‪)1‬‬
‫والق رآن الك ريم يق دم له ذه المط اردة ألف ول اله واجس والش كوك بمش هدين‬
‫يضعان اإلنسان أمام األمر الواقع‪ ،‬وكأنهما يقوالن له‪(:‬إن النتيجة التي سوف ينتهي‬
‫إليها موقفك هما هاتان النتيجتان ال غير)‬
‫وهاتان النتيجتان تخاطبان النفس واألهواء التي قد تتحكم في العقول‪ ،‬فتمنعها‬
‫من التدبر السليم‪ ،‬والوعي الحقيقي لما تخاطب به‪ ،‬فتحاول أن تلوي الحقائق لتنسجم‬
‫مع األهواء‪ ،‬فل ذلك تب دأ ه ذه الس ورة بخن ق ه ذه األه واء أوال لت تيح للعق ل الت دبر‬
‫الواعي لما يخاطب به من أدلة عقلية‪.‬‬
‫أما المشهد األول‪ ،‬فيخاطب ما في اإلنسان من خ وف على مص يره ومص ير‬
‫فو ْي ٌل يَوْ َمئِ ٍذ لِ ْل ُم َك ِّذبِينَ الَّ ِذينَ هُ ْم فِي‬‫أحالمه‪ ،‬فينبهها بهذا التنبيه الشديد‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬‬
‫َار َجهَنَّ َم َد ّعا ً هَ ِذ ِه النَّا ُر الَّتِي ُكنتُم بِهَا تُ َك ِّذبُونَ أَفَ ِسحْ ٌر‬ ‫ض يَ ْل َعبُونَ يَوْ َم يُ َد ُّعونَ إِلَى ن ِ‬ ‫خَ وْ ٍ‬
‫َص بِرُوا َس َواء َعلَ ْي ُك ْم إِنَّ َم ا تُجْ َزوْ نَ‬ ‫صرُونَ اصْ لَوْ هَا فَاصْ بِرُوا أَوْ اَل ت ْ‬ ‫هَ َذا أَ ْم أَنتُ ْم اَل تُ ْب ِ‬
‫َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ (الطور‪ 11:‬ـ ‪)16‬‬
‫أما المشهد الثاني‪ ،‬فيخ اطب م ا في اإلنس ان من ح رص على اقتن اص أك بر‬
‫قدر من اللذات والشهوات مع البعد عن كل ما ينغصها من المنغصات‪ ،‬يقول تعالى‪:‬‬
‫اب ْال َج ِح ِيم‬ ‫ت َون َِع ٍيم فَ ا ِك ِهينَ بِ َم ا آتَ اهُ ْم َربُّهُ ْم َو َوقَ اهُ ْم َربُّهُ ْم َع َذ َ‬ ‫﴿ إِ َّن ْال ُمتَّقِينَ فِي َجنَّا ٍ‬
‫ص فُوفَ ٍة َوزَ َّوجْ نَ اهُم بِ ُح ٍ‬
‫ور‬ ‫ُكلُوا َوا ْش َربُوا هَنِيئا ً بِ َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ُمتَّ ِكئِينَ َعلَى ُسر ٍ‬
‫ُر َّم ْ‬
‫ان أَ ْل َح ْقنَ ا بِ ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم َو َم ا أَلَ ْتنَ اهُم ِّم ْن َع َملِ ِهم‬
‫ين َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َواتَّبَ َع ْتهُ ْم ُذ ِّريَّتُهُم بِإِي َم ٍ‬ ‫ِع ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ين َوأ ْم َددنَاهُم بِفا ِكهَ ٍة َولحْ ٍم ِّم َّما يَشتَهُونَ يَتَنَ ازَ ُعونَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب َر ِه ٌ‬ ‫ئ بِ َما َك َس َ‬ ‫ُ‬
‫ِّمن َش ْي ٍء كلُّ ا ْم ِر ٍ‬
‫ون ﴾‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ان لهُ ْم َك أنهُ ْم لؤل ٌؤ َّمكن ٌ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫فِيهَ ا َكأْس ا ً اَّل لَ ْغ ٌو فِيهَ ا َو تَ أثِي ٌم َويَط وفُ َعل ْي ِه ْم ِغل َم ٌ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬
‫(الطور‪ 17:‬ـ ‪)24‬‬
‫وبعد هذا الوص ف الجمي ل ال ذي ت ترنح النفس طرب ا وهي تتطل ع إلي ه ينق ل‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.3391 :‬‬

‫‪29‬‬
‫القرآن الكريم مش هدا ألولئ ك المتنعمين‪ ،‬وهم جالس ون في ري اض الجن ة يتح دثون‬
‫ْض يَت ََس اءلُونَ قَ الُوا‬ ‫ضهُ ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫عن سر ذلك التنعم العظيم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْقبَ َل بَ ْع ُ‬
‫وم إِنَّا ُكنَّا ِمن قَ ْب ُل‬ ‫اب َّ‬
‫الس ُم ِ‬ ‫إِنَّا ُكنَّا قَ ْب ُل فِي أَ ْهلِنَ ا ُم ْش فِقِينَ فَ َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْينَ ا َو َوقَانَ ا َع َذ َ‬
‫نَ ْدعُوهُ إِنَّهُ ه َُو ْالبَرُّ ال َّر ِحي ُم ﴾(الطور‪ 25 :‬ـ ‪)28‬‬
‫وانطالقا من هذا المشهد الذي تتمنى كل نفس أن تعيشه‪ ،‬وانطالقا من سد كل‬
‫الثغ رات ال تي تح اول ظلم ات الش ياطين والنفس مأله ا بأس راب الش بهات ي أتي‬
‫الخطاب القرآني للعقل البشري المتحرر من أسر اله وى ل يرد ك ل اله واجس ال تي‬
‫تمليها الشياطين‪:‬‬
‫ويبدأ القرآن الكريم خطابه بتصحيح الرسالة‪ ،‬فالرسالة هي الطريق المع رف‬
‫باهلل‪ ،‬ومن لم يصدق برسل هللا لن يعرف هللا‪ ،‬وال مراد هللا‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬فَ َذ ِّكرْ فَ َم ا‬
‫ون قُ لْ‬ ‫ْب ْال َمنُ ِ‬ ‫اع ٌر نَّتَ َربَّصُ بِ ِه َري َ‬ ‫ك بِ َكا ِه ٍن َواَل َمجْ نُو ٍن أَ ْم يَقُولُونَ َش ِ‬ ‫ت َربِّ َ‬ ‫أَنتَ بِنِ ْع َم ِ‬
‫صينَ أَ ْم تَ أْ ُم ُرهُ ْم أَحْ اَل ُمهُم بِهَ َذا أَ ْم هُ ْم قَ وْ ٌم طَ ا ُغونَ أَ ْم‬ ‫ت ََربَّصُوا فَإِنِّي َم َع ُكم ِّمنَ ْال ُمتَ َربِّ ِ‬
‫ص ا ِدقِينَ ﴾ (الط ور‪ 29:‬ـ‬ ‫ث ِّم ْثلِ ِه إِن َك انُوا َ‬ ‫يَقُولُونَ تَقَ َّولَهُ بَل اَّل ي ُْؤ ِمنُونَ فَ ْليَأْتُوا بِ َح ِدي ٍ‬
‫‪)34‬‬
‫ثم يبين ضرورة وج ود هللا ووج ود كم االت هللا ليس تقيم الك ون على م ا ه و‬
‫ت‬‫الس َما َوا ِ‬ ‫علي ه‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَ ْم ُخلِقُ وا ِم ْن َغ ْي ِر َش ْي ٍء أَ ْم هُ ُم ْالخَ الِقُونَ أَ ْم َخلَقُ وا َّ‬
‫ص ْي ِطرُونَ أَ ْم لَهُ ْم ُس لَّ ٌم‬ ‫ض بَ ل اَّل يُوقِنُ ونَ أَ ْم ِعن َدهُ ْم َخ َزائِنُ َربِّكَ أَ ْم هُ ُم ْال ُم َ‬ ‫َواأْل َرْ َ‬
‫َات َولَ ُك ُم ْالبَنُونَ أَ ْم تَسْأَلُهُ ْم أَجْ راً‬
‫ين أَ ْم لَهُ ْالبَن ُ‬‫ت ُم ْستَ ِم ُعهُم بِس ُْلطَا ٍن ُّمبِ ٍ‬ ‫ْ‬
‫يَ ْستَ ِمعُونَ فِي ِه فَ ْليَأ ِ‬
‫فَهُم ِّمن َّم ْغ َر ٍم ُّم ْثقَلُونَ أَ ْم ِعن َدهُ ُم ْال َغيْبُ فَهُ ْم يَ ْكتُبُونَ أَ ْم ي ُِري ُدونَ َك ْي داً فَالَّ ِذينَ َكفَ رُوا هُ ُم‬
‫ْال َم ِكي ُدونَ أَ ْم لَهُ ْم إِلَهٌ َغ ْي ُر هَّللا ِ ُس ْب َحانَ هَّللا ِ َع َّما ي ُْش ِر ُكونَ َوإِن يَ َروْ ا ِك ْس فا ً ِّمنَ َّ‬
‫الس َما ِء‬
‫َساقِطا ً يَقُولُوا َس َحابٌ َّمرْ ُكو ٌم فَ َذرْ هُ ْم َحتَّى يُاَل قُوا يَوْ َمهُ ُم الَّ ِذي فِي ِه يُصْ َعقُونَ ﴾(الط ور‪:‬‬
‫‪ 35‬ـ ‪)44‬‬
‫وكل لفظة من هذه األلف اظ ـ بم ا تزرع ه في العق ل من تص ديق ـ ع الم من‬
‫عوالم األدلة مصاغ بأحسن أسلوب وأرقه وأجمله‪.‬‬
‫ولو قارنا هذا األسلوب القرآني الشامل في خطابه‪ ،‬وال دقيق في توجيه ه م ع‬
‫ما حاول به المتكلمون وغيرهم من استبدال أساليب القرآن الكريم بأساليب الفالسفة‬
‫لوجدنا الفرق شاسعا‪.‬‬
‫فأس اليب الفالس فة جاف ة ال تزي د القلب إال ش بهات‪ ،‬ألنه ا من حب ك العق ل‪،‬‬
‫والعقل الذي أنشأ الدليل يمكن أن ينش ئ م ا ينقض ه أو م ا ي وهم أن ه ينقض ه‪ ،‬فيتي ه‬
‫اإلنسان في الدور‪ ،‬أو يموت على دين العجائز‪.‬‬
‫ومن مظ اهر المنهج ال تربوي في الق رآن الك ريم تكري ره للمع اني اإليماني ة‬
‫وتقريره لها باألساليب المختلفة المنسجمة مع ك ل العق ول‪ ،‬ففي ك ل س ورة‪ ،‬ب ل في‬
‫كل آية تعرض حقائق اإليمان لتحل كل اإلشكاالت‪ ،‬وتجيب على كل الشبهات‪.‬‬
‫ولهذا كان البناء القرآني متميزا‪ ،‬فالحقائق اإليمانية القرآني ة موزع ة في ك ل‬
‫ت‬
‫سورة‪ ،‬بل في كل آية‪ ،‬قال بديع الزمان‪(:‬واعلم ان ه ال يمكن لك ِل أح ٍد في ك ل وق ٍ‬

‫‪30‬‬
‫قراءة تمام القرآن الذي هو دواء وشفاء لك ل أح ٍد في ك ل وقت‪ .‬فله ذا أ ْد َر َج الحكي ُم‬
‫الرحيم اكثر المقاصد القرآنية في اكثر سوره؛ ال سيما الطويلة منها‪ ،‬ح تى ص ارت‬
‫السبيل لكل أح ٍد‪ ،‬دون أن يَحْ ُر َم أحداً‪ ،‬فكرر التوحي د‬ ‫َ‬ ‫ك ُل سورة قرآنا ً صغيراً‪ ،‬فسهّل‬
‫والحشر وقصة موسى ‪)1()‬‬
‫وهذا التكرار‪ ،‬بحسب الحاجة للدواء‪ ،‬وهو كتكرار الدواء المادي الذي يصفه‬
‫األطب اء‪ ،‬و(كم ا أن الحاج ات الجس مانية مختلف ةٌ في األوق ات؛ ك ذلك الحاج ات‬
‫قسـم في كل آن كـ (هو هللا) لل روح‬ ‫المعنوية األنسـانية ايضا ً مختلفة األوقـات‪ .‬فالى ٍ‬
‫‪ -‬كحاجة الجسم الى الهواء ‪ -‬والى قسم في كل ساعة كـ (بسم هللا))‬
‫فبن اء الق رآن الك ريم على ه ذا بن اء عالجي يس تدعي اللمس ات المختلف ة‬
‫المتكررة (فتكرار اآليات والكلمات اذن للداللة على تكرّر االحتي اج‪ ،‬ولالش ارة الى‬
‫ش دة االحتي اج اليه ا‪ ،‬ولتنبي ه ع رق االحتي اج وإيقاظ ه‪ ،‬وللتش ويق على االحتي اج‪،‬‬
‫ولتحريك اشتهاء االحتياج الى تلك األغذية المعنوية)(‪)2‬‬
‫انطالقا من هذا فإن القرآن الكريم ـ ومثله السنة الص حيحة ـ ال ي ؤتي ثم اره‬
‫التربوية إال بشروط‪ ،‬منها‪:‬‬
‫الحضور الواعي‪:‬‬
‫فاهلل تع الى ش رط لمن يري د ج ني ثم ار الق رآن الك ريم ثالث ة ش روط‪ ،‬فق ال‬
‫ق‪،)37:‬‬ ‫ك لَ ِذ ْك َرى لِ َم ْن َكانَ لَهُ قَ ْلبٌ أَوْ أَ ْلقَى َّ‬
‫الس ْم َع َوهُ َو َش ِهي ٌد﴾ ( ّ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫فاهلل تعالى جعل كالمه ذكرى ال ينتفع بها إال من جمع هذه األمور الثالثة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يكون له قلب حي واع‪ ،‬فإذا فقد هذا القلب لم ينتفع بالذكرى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يصغي بسمعه فيميله كله نحو المخاطب‪ ،‬فإن لم يفعل لم ينتفع بكالمه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يحض ر قلب ه وذهن ه عن د المكلم ل ه‪ ،‬وه و الش هيد أي الحاض ر‬
‫غيرالغائب‪ ،‬فإن غاب قلبه لم ينتفع بالخطاب‪.‬‬
‫وهذه الشروط التي نص عليها القرآن الكريم هي نفس الشروط ال تي يش ترط‬
‫تحققه ا في أي ش يء نري د إدراك ه والتع رف علي ه‪ ،‬فـ (المبص ر ال ي درك حقيق ة‬
‫المرئي إال إذا كانت له قوة مبصرة‪ ،‬وحدق بها نحو المرئي‪ ،‬ولم يكن قلب ه مش غوال‬
‫بغير ذلك‪ ،‬فإن فقد القوة المبصرة أو لم يحدق نحو المرئي أو حدق نحوه ولكن قلب ه‬
‫كله في موضع آخر لم يدركه‪ ،‬فكثيرا م ا يم ر ب ك إنس ان أو غ يره وقلب ك مش غول‬
‫بغ يره فال تش عر بم روره فه ذا الش أن يس تدعي ص حة القلب وحض وره وكم ال‬
‫اإلصغاء)(‪)3‬‬
‫وله ذا جع ل الغ زالي من الف رق المغ رورة فرق ة (اغ تروا بق راءة الق رآن‬
‫فيهذونه هذا وربما يختمونه في اليوم والليل م رة‪ ،‬ولس ان أح دهم يج ري ب ه وقلب ه‬

‫‪ )(1‬الكلمات‪ ،‬الكلمة التاسعة عشرة‪.‬‬


‫‪ )(2‬الكلمات‪ ،‬الكلمة التاسعة عشرة‪.‬‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين‪.3/231 :‬‬

‫‪31‬‬
‫ي تردد في أودي ة األم اني إذ ال يتفك ر في مع اني الق رآن لي نزجر بزواج ره ويتع ظ‬
‫بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع االعتبار فيه إلى غير ذلك من‬
‫مقاصد التالوة‪ ،‬فهو مغ رور يظن أن المقص ود من إن زال الق رآن الهمهم ة ب ه م ع‬
‫الغفلة عنه)(‪)1‬‬
‫ً‬
‫وقد ض رب مثال له ذا بعب د كتب إلي ه م واله ومالك ه كتاب ا وأش ار علي ه في ه‬
‫باألوامر والن واهي‪ ،‬فلم يص رف عنايت ه إلى فهم ه والعم ل ب ه‪ ،‬ولكن اقتص ر على‬
‫حفظه فه و مس تمر على خالف م ا أم ره ب ه م واله‪ ،‬إال أن ه يك رر الكت اب بص وته‬
‫ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق للعقوبة‪ ،‬مهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو‬
‫مغرور‪.‬‬
‫الحذر من التحريف‪:‬‬
‫فإن القرآن الكريم مع عمق معانيه وش مولها يس ير واض ح مفص ل ال يحت اج‬
‫إلى تلك المبالغات الكث يرة ال تي أرادت أن تفس ره فزادت ه غموض ا أو تحريف ا‪ ،‬وال‬
‫يحتاج إلى ما أغرق المتكلمون فيه من األدلة‪ ،‬فه و يحم ل الحق ائق ودالئله ا‪ ،‬بيس ر‬
‫وجمال وضبط‪.‬‬
‫فمن حيث األدل ة‪ ،‬يح وي الق رآن الك ريم أص ول الدل ة وفروعه ا‪ ،‬بعب ارات‬
‫مؤثرة جميلة تحيط بجميع اإلنسان‪ ،‬فال يجد لنفسه معها إال القبول والتصديق‪.‬‬
‫يقول ابن القيم‪(:‬ليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين واآلي ات على‬
‫المطالب العالية‪ :‬من التوحيد‪ ،‬وإثبات الصفات‪ ،‬وإثبات المعاد والنبوات‪ ،‬ورد النحل‬
‫الباطلة واآلراء الفاس دة‪ ،‬مث ل الق رآن‪ .‬فإن ه كفي ل ب ذلك كل ه‪ ،‬متض من ل ه على أتم‬
‫الوجوه وأحسنها‪ ،‬وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا‪ .‬فه و الش فاء على الحقيق ة من‬
‫أدواء الش به والش كوك‪ ،‬ولكن ذل ك موق وف على فهم ه ومعرف ة الم راد من ه‪ .‬فمن‬
‫رزقه هللا تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانا بقلبه‪ ،‬كما يرى الليل والنه ار‪ ،‬وعلم‬
‫أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقوالتهم بين علوم ال ثقة بها‪ ،‬وإنما هى آراء‬
‫وتقليد‪ .‬وبين ظن ون كاذب ة ال تغ نى من الح ق ش يئا‪ .‬وبين أم ور ص حيحة ال منفع ة‬
‫للقلب فيها‪ .‬وبين علوم صحيحة ق د وع روا الطري ق إلى تحص يلها‪ ،‬وأط الوا الكالم‬
‫فى إثباتها‪ ،‬مع قلة نفعها)(‪)2‬‬
‫وقد ذكرنا مثاال لذلك بمجرد قراءة واعية لس ورة الط ور‪ ،‬وهي مج رد مث ال‬
‫على أسلوب القرآن الكريم في االستدالل‪.‬‬
‫أما من حيث مواضيع العقيدة‪ ،‬فإن القرآن الكريم يقررها ك ذلك منس جمة م ع‬
‫العقل والفطرة‪ ،‬فيصف هللا تعالى بكل صفات الكمال‪ ،‬وينفي عنه كل ما ال يليق ب ه‪،‬‬
‫وما ال يليق باأللوهية مما حرفته األديان واألهواء‪.‬‬
‫فه و أدق كت اب وأش مله في وص ف هللا تع الى وبي ان عظمت ه وال دعوة إلى‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/401 :‬‬


‫‪ )(2‬إغاثة اللهفان‪.1/44 :‬‬

‫‪32‬‬
‫محبته وعبادته‪ ،‬فال يخرج قارئ القرآن الكريم من قراءته الواعية له إال محبا لرب ه‬
‫معظما له عارفا به عابدا له مستشعرا حضوره في كل حركة وسكنة‪.‬‬
‫يقول الغزالي عند ذك ر م ا يستحض ره الق ارئ من مع ان أثن اء قراءت ه‪(:‬أم ا‬
‫الس ِمي ُع البَص يرُ﴾‬ ‫ْس َك ِم ْثلِ ِه ش ي ٌء َوهُ َو َّ‬ ‫ص فات هللا ع ز وج ل؛ فكقول ه تع الى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫الس ال ُم ال ُم ْؤ ِمنُ ال ُمهَ ْي ِمنُ العزي ُز ال َجبَّا ُر ال ُمتَ َكبِّرُ﴾‬ ‫ك القُ ُّدوسُ َّ‬ ‫وكقول ه تع الى‪ ﴿ :‬ال َملِ ُ‬
‫فليتأمل معاني هذه األسماء والصفات لينكشف له أسرارها فتحته ا مع ان مدفون ة ال‬
‫ي رسول هللا ش يئا ً كتم ه عن‬ ‫تنكشف إال للموفقين‪ ،‬وإليه أشار علي بقوله‪(:‬ما أسر إل َّ‬
‫الناس إال أن يؤتي هللا عز وجل عبداً فهما ً في كتاب ه فليكن حريص ا ً على طلب ذل ك‬
‫الفهم‪ ،‬وق ال ابن مس عود ‪(:‬من أراد علم األوّلين واآلخ رين فليث وّر الق رآن) وأعظم‬
‫علوم القرآن تحت أس ماء هللا ع ز وج ل وص فاته إذ لم ي درك أك ثر الخل ق منه ا إال‬
‫أموراً الئقة بأفهامهم ولم يعثروا على أغوارها)(‪)1‬‬
‫ومثل األوصاف المباشرة هلل‪ ،‬التي امتأل بها القرآن الكريم‪ ،‬والتي تدل عليه ا‬
‫أسماء هللا الحسنى معرف ة هللا من خالل م ا ذك ره من افعال ه‪ ،‬يق ول الغ زالي‪(:‬وأم ا‬
‫أفعاله تعالى؛ فكذكره خلق السموات واألرض وغيره ا‪ ،‬فليفهم الت الي منه ا ص فات‬
‫هللا عز وجل إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمت ه على عظمت ه‪ .‬فينبغي أن يش هد‬
‫في الفعل الفاعل دون الفعل‪ ،‬فمن عرف الحق رآه في ك ل ش يء إذ ك ل ش يء فه و‬
‫منه وإليه وبه وله فهو الك ل على التحقي ق‪ .‬ومن ال ي راه في ك ل م ا ي راه فكأن ه م ا‬
‫عرفه‪ .‬ومن عرفه ع رف أن ك ل ش يء م ا خال هللا باط ل وأن ك ل ش يء هال ك إال‬
‫وجهه)(‪)2‬‬
‫ويبين منهج التدبر الصحيح المنتج لثمر اإليمان عن د ق راءة أمث ال قول ه ق ال‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬أَفَ َرأَ ْيتُ ْم َما تَحْ ُرثُونَ ﴾ (الواقعة‪ ،)63:‬وغيرها‪ ،‬فيقول‪(:‬فال يقصر نظره على‬
‫الماء والنار والحرث والمني‪ ،‬بل يتأمل في الم ني وه و نطف ة متش ابهة األج زاء ثم‬
‫ينظ ر في كيفي ة انقس امها إلى اللحم والعظم والع روق والعص ب وكيفي ة تش كل‬
‫أعضائها باألشكال المختلفة من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها‪ ،‬ثم إلى‬
‫ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من الس مع والبص ر والعق ل وغيره ا‪ ،‬ثم إلى م ا‬
‫ظهر فيها من الصفات المذموم ة من الغض ب والش هوة والك بر والجه ل والتك ذيب‬
‫خَص ي ٌم‬
‫ِ‬ ‫والمجادلة كما قال تع الى‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ َر اأْل ِ ْن َس انُ أَنَّا خَ لَ ْقنَ اهُ ِم ْن نُ ْ‬
‫طفَ ٍة فَ إِ َذا هُ َو‬
‫ين﴾ (يّـس‪ )77:‬فيتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى عجب العجائب وهو الص فة‬ ‫ُمبِ ٌ‬
‫التي منها صدرت هذه األعاجيب فال يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع)(‪)3‬‬
‫هذا هو منهج التدبر الصحيح‪ ،‬وهو ال ذي يثم ر المعرف ة باهلل‪ ،‬المعرف ة ال تي‬
‫تثمر التعظيم والمحبة‪ ،‬والتي تنتج من خاللها العبودية في أرق صورها‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.1/283 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.1/283 :‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.1/283 :‬‬

‫‪33‬‬
‫أم ا م ا يح اول البعض الترك يز علي ه في البحث عم ا في الق رآن الك ريم من‬
‫إضافات هلل‪ ،‬فيعتبرونها أصل العقي دة‪ ،‬ومنتهاه ا‪ ،‬فه و من تحري ف الق رآن الك ريم‬
‫بالهرب من الحقائق المقررة في النصوص إلى ما يكتنفها من التعبير‪.‬‬
‫ع َم َع هَّللا ِ إِلَه ا ً آ َخ َر ال إِلَ هَ إِاَّل هُ َو ُك لُّ َش ْي ٍء‬ ‫فاهلل تعالى عندما يقول‪َ ﴿ :‬وال تَ ْد ُ‬
‫ك إِاَّل َوجْ هَهُ لَهُ ْال ُح ْك ُم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ ﴾ (القصص‪ )88:‬يدعو إلى إفراده بالعبودية‪،‬‬ ‫هَالِ ٌ‬
‫ألن كل من عداه هالك في الحال أو في الم آل‪ ،‬لكن االنص راف عن مقص د النص ـ‬
‫وهو نوع من التحريف ـ يجعل اآلية وكأنه ا تق ررا ص فة ذاتي ة هلل اس مها (الوج ه)‬
‫تجع ل ك ل من لم يس لم به ا مبت دعا منحرف ا ض اال‪ ،‬ثم ت أمر الم ؤمن به ا أن ي ؤمن‬
‫بحقيقتها وبوجودها من غير أن يعرف لها أي معنى أو أي داللة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ومث ل ذل ك قول ه تع الى‪ ﴿ :‬أَ ِن ا ْق ِذفِي ِه فِي التَّابُو ِ‬
‫ت فَا ْق ِذفِي ِه فِي اليَ ِّم فَليُلقِ ِه اليَ ُّم‬
‫ص نَ َع َعلَى َع ْينِي﴾‬ ‫ْت َعلَ ْي كَ َم َحبَّةً ِمنِّي َولِتُ ْ‬‫الس ا ِح ِل يَأْ ُخ ْذهُ َع د ٌُّو لِي َو َع ُد ٌّو لَ هُ َوأَ ْلقَي ُ‬
‫بِ َّ‬
‫(طـه‪ ،)39:‬فاهلل تعالى يخبر موسى ‪ ‬بأنه قد صنع على عين هللا أي أن هللا رب اه‬
‫وحفظه وكفل له عناية خاصة‪.‬‬
‫ك بِأ َ ْعيُنِنَ ا َو َوحْ يِنَ ا ﴾ (ه ود‪ ،)37 :‬فاهلل‬ ‫اص ن َِع ْالفُ ْل َ‬‫ومثل ذل ك قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫تعالى يبشرهم بعنايته وحض وره من غ ير أن يقص د الق رآن الك ريم تقري ر وص ف‬
‫خاص هلل اسمه (العيون) ال يدرى معناه وال يفقه تفسيره‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد في السنة من قوله ‪ ‬لمن شق آذان األنعام محذرا إياه من‬
‫غض ب هللا‪(:‬موس ى هللا أَ َح ُّد من موس اك‪ ،‬وس اعد هللا أش د من س اعدك)(‪ ،)1‬ف راح‬
‫هؤالء يثبتون به صفة الساعد‪ ،‬ألن الساعد مضاف إلى هللا‪.‬‬
‫يقول سيد قطب معلقا على أمثال هذه النصوص‪(:‬كل ما ي رد في الق رآن وفي‬
‫الحديث من ه ذه الص ور والمش اهد إنم ا ه و تق ريب للحق ائق ال تي ال يمل ك البش ر‬
‫إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه‪ ،‬وفي صورة يتصورونها‪ .‬ومنه هذا‬
‫التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة‪ ،‬التي ال تتقيد بشكل‪ ،‬وال تتحيز في ح يز‪،‬‬
‫وال تتحدد بحدود)(‪)2‬‬
‫ولهذا ضحك ‪ ‬لما جاءه َحبْر من األحبار‪ ،‬فق ال‪(:‬ي ا محم د إن ا نج د أن هّللا‬
‫ع َّز وج َّل يجع ل الس ماوات على إص بع‪ ،‬واألرض ين على إص بع‪ ،‬والش جر على‬
‫إصبع‪ ،‬والماء والثرى على إص بع‪ ،‬وس ائر الخل ق على إص بع‪ ،‬فيق ول‪ :‬أن ا المل ك‪.‬‬
‫ق قَ ْد ِر ِه‬‫فض حك رس ول هّللا ‪ ‬ح تى ب دت نواج ذه‪ ،‬ثم ق رأ‪َ ﴿ :‬و َم ا قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫ط ِوي ٌ‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه ُسب َْحانَهُ َوتَ َع الَى َع َّما‬ ‫ات َم ْ‬ ‫او ُ‬ ‫ضتُهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َوال َّس َم َ‬
‫َواأْل َرْ ضُ َج ِميعا ً قَ ْب َ‬
‫كونَ ﴾ (الزمر‪)3( ))67:‬‬ ‫يُ ْش ِر ُ‬
‫ولو أراد القرآن الكريم اعتبار تلك اإلضافات أو المشاهد أوص افا هلل ل ذكرها‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في الكبير‪ ،‬وفي السنن بعضه‪ ،‬مجمع الزوائد‪.4/32 :‬‬


‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.3062 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫مفردا له مهتما بها داعيا للدعوة إليه وتعريف هللا بها‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬نَبِّئْ ِعبَ ا ِدي‬
‫أَنِّي أَنَا ْال َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم﴾ (الحجر‪ ،)49:‬فلم يقل هللا في آية من القرآن‪(:‬نبئ عب ادي ان‬
‫لي عينا أو يدا أو ساقا‪)..‬‬
‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ك تُ ْؤتِي ال ُمل كَ َم ْن ت ََش ا ُء َوتَ ْن ِز ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ك ال ُمل ِ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ومثل ذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬ق ِل اللهُ َّم َمالِ َ‬
‫ك َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء‬ ‫ْ‬
‫ك ِم َّم ْن ت ََش ا ُء َوتُ ِع ُّز َم ْن ت ََش ا ُء َوتُ ِذلُّ َم ْن ت ََش ا ُء بِيَ ِدكَ الخَ ْي ُر إِنَّ َ‬ ‫ْال ُم ْل َ‬
‫قَ ِديرٌ﴾ (آل عم ران‪ ،)26:‬فق د ذك ر أوص افا وأفع اال لك ل منه ا ت أثيره العمي ق في‬
‫المعرفة باهلل‪.‬‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫ولهذا ك ان س يد آي ات الق رآن الك ريم قول ه تع الى‪ ُ ﴿ :‬ال إِلَ هَ إِاَّل هُ َو ال َح ُّي‬
‫ض َم ْن َذا الَّ ِذي يَ ْش فَ ُع‬ ‫ت َو َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ْالقَيُّو ُم ال تَأْ ُخ ُذهُ ِسنَةٌ َوال نَوْ ٌم لَهُ َما فِي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫ِع ْن َدهُ إِاَّل بِإِ ْذنِ ِه يَ ْعلَ ُم َما بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َو َم ا َخ ْلفَهُ ْم َوال ي ُِحيطُ ونَ بِ َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه إِاَّل بِ َم ا‬
‫ض َوال يَ ؤُو ُدهُ ِح ْفظُهُ َم ا َوهُ َو ْال َعلِ ُّي ْال َع ِظي ُم﴾‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫َش ا َء َو ِس َع ُكرْ ِس يُّهُ َّ‬
‫الس َم َ‬
‫(البقرة‪ ،)255:‬وكلها أوصاف لتنزيه هللا وكمال ه‪ ،‬وليس فيه ا ش يء مم ا يب الغ في ه‬
‫هؤالء‪ ،‬بل يعتبرونه أصل العقيدة الذي ال تكمل العقيدة إال به‪.‬‬
‫وهذا التحريف يشبه إلى حد كبير ما وقع في ه اليه ود عن دما ق ال لهم موس ى‬
‫‪ ‬ببس اطة وتلقائي ة وه و يبلغهم عن أم ر هللا‪ ﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ يَ أْ ُم ُر ُك ْم أَ ْن تَ ْذبَحُوا بَقَ َرةً﴾‬
‫(البق رة‪ ،)67:‬فتص وروا أنهم لن يعرف وا البق رة إال بع د أن يعرف وا لونه ا وطوله ا‬
‫وعرضها وعملها وكسلها‪.‬‬
‫ق ال تع الى مبين ا ه ذه النزع ة الجدلي ة ال تي ال تهتم بالحقيق ة بق در م ا تهتم‬
‫ارضٌ َوال‬ ‫ال إِنَّهُ يَقُو ُل إِنَّهَا بَقَ َرةٌ ال فَ ِ‬ ‫ع لَنَا َربَّكَ يُبَي ِّْن لَنَا َما ِه َي قَ َ‬ ‫بتفاصيلها‪ ﴿ :‬قَالُوا ا ْد ُ‬
‫ع لَنَا َربَّكَ يُبَي ِّْن لَنَ ا َم ا لَوْ نُهَ ا قَ ا َل إِنَّهُ‬ ‫ان بَ ْينَ َذلِكَ فَا ْف َعلُوا َما تُ ْؤ َمرُونَ قَالُوا ا ْد ُ‬ ‫بِ ْك ٌر ع ََو ٌ‬
‫ع لَنَ ا َربَّكَ يُبَي ِّْن لَنَ ا َم ا ِه َي‬ ‫اظ ِرينَ قَالُوا ا ْد ُ‬ ‫ص ْف َرا ُء فَاقِ ٌع لَوْ نُهَا تَسُرُّ النَّ ِ‬ ‫يَقُو ُل إِنَّهَا بَقَ َرةٌ َ‬
‫هتَ ُدونَ ﴾ (البقرة‪ 68:‬ـ ‪)1( )70‬‬ ‫إِ َّن ْالبَقَ َر تَ َشابَهَ َعلَ ْينَا َوإِنَّا إِ ْن َشا َء هَّللا ُ لَ ُم ْ‬
‫بل هو يشبه ما وقع فيه بعض المفسرين الذي راح وا يبحث ون في دج ل أه ل‬
‫الكت اب وفي أح اديث القص اص عن تفاص يل أع رض الق رآن الك ريم عن ذكره ا‪،‬‬
‫وكأن المعاني القرآنية ال تفهم إال بشرحها وتفصيلها مع أن الق رآن الك ريم نهى عن‬
‫ترك األصل واالعتبار واالنشغال بالتفاصيل التي قد ال تسمن وال تغ ني من ج وع‪،‬‬
‫قال تعالى وهو يقص قص ة أه ل الكه ف‪َ ﴿ :‬س يَقُولُونَ ثَالثَ ةٌ َرابِ ُعهُ ْم َك ْلبُهُ ْم َويَقُولُ ونَ‬
‫ب َويَقُولُ ونَ َس ْب َعةٌ َوثَ ا ِمنُهُ ْم َك ْلبُهُ ْم قُ لْ َربِّي أَ ْعلَ ُم‬ ‫خَ ْم َس ةٌ َسا ِد ُس هُ ْم َك ْلبُهُ ْم َرجْ م ا ً بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ت فِي ِه ْم ِم ْنهُ ْم أَ َحداً﴾‬ ‫ار فِي ِه ْم إِاَّل ِم َرا ًء ظَا ِهراً َوال تَ ْستَ ْف ِ‬ ‫بِ ِع َّدتِ ِه ْم َما يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِاَّل قَلِي ٌل فَال تُ َم ِ‬
‫(الكهف‪)22:‬‬
‫فنهى عن أمرين كالهما مما انحرف به هؤالء عن المعاني القرآنية‪:‬‬
‫األول‪ :‬ه و الم راء والج دل والغ وص عن التفاص يل بمج رد التحلي ل العقلي‬

‫‪ )(1‬وقريب من هذا ما سأل بعض اليه ود رس ول هللا ‪ ،‬كم ا ق ال مجاه د ق ال‪ :‬ج اء يه ودي فق ال‪ :‬ي ا محم د‬
‫أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ من نحاس هو؟ أم من لؤلؤ‪ ،‬أو ياقوت؟ قال‪ ،‬فجاءت صاعقة فأخذته‪ ،‬وأن زل هّللا ‪:‬‬
‫ُصيبُ بِهَا َم ْن يَشَا ُء َوهُ ْم ي َُجا ِدلُونَ ِفي هَّللا ِ َوه َُو َش ِدي ُد ْال ِم َح ِ‬
‫ال﴾ (الرعد‪)13:‬‬ ‫ق فَي ِ‬
‫اع َ‬
‫الصَّو ِ‬
‫َ‬ ‫﴿ َويُرْ ِس ُل‬

‫‪35‬‬
‫الذي ال يملك أدوات التحليل‪ ،‬فيغوص في بحر االحتماالت ال تي ال تزي د الم رء إال‬
‫حيرة‪.‬‬
‫والث اني‪ :‬ه و البحث في ت راث األمم المح رف عم ا يزي د الحق ائق القرآني ة‬
‫تفاصيل‪ ،‬وكأن القرآن الكريم ـ المهيمن على كل الكتب ـ مفتقر إلى غيره في تقري ر‬
‫حقائقه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عالم النفس والكون‬
‫وهو الميدان الثاني المعرف باهلل‪ ،‬وبالحقائق اإليمانية‪ ،‬ولذلك تكثر اإلشارات‬
‫القرآنية آليات هللا في اآلفاق واألنفس‪.‬‬
‫فأولو األلباب‪ ،‬وهم (العارفون) كما اص طلح عليهم المت أخرون يجعل ون من‬
‫ق‬‫آيات هللا الكوني ة رس ائل يتعرف ون من خالله ا على هللا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي خَ ْل ِ‬
‫ب﴾ (آل عم ران‪:‬‬ ‫ت أِل ُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ‬ ‫الف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬
‫ار آَل ي ا ٍ‬ ‫اختِ ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫الس َما َوا ِ‬ ‫َّ‬
‫‪)190‬‬
‫ب ل إن هللا ق دم ه ذا النظ ر ال واعي للك ون من أولي األلب اب على عب اداتهم‪،‬‬
‫وكأن عباداتهم أثر لهذا النظر الواعي‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هَّللا َ قِيَاما ً َوقُ ُع وداً‬
‫اطالً‬ ‫ض َربَّنَ ا َم ا خَ لَ ْقتَ هَ َذا بَ ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬
‫الس َم َ‬‫ق َّ‬ ‫َو َعلَى ُجنُ وبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ‬
‫ار﴾ (آل عمران‪)191:‬‬ ‫اب النَّ ِ‬
‫ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬
‫ولذلك اعتبر تع الى م ا في الك ون من آي ات م ذكرات ألولي األلب اب‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ض ثُ َّم ي ُْخ ِر ُج بِ ِه زَرْ ع ا ً‬ ‫﴿ أَلَ ْم ت ََر أَ َّن هَّللا َ أَ ْنزَ َل ِمنَ ال َّس َما ِء َما ًء فَ َس لَ َكهُ يَنَ ابِي َع فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ُ‬
‫ص فَ ّراً ثُ َّم يَجْ َعلُ هُ ُحطَام ا ً إِ َّن فِي َذلِ كَ لَ ِذ ْك َرى أِل ولِي‬ ‫ُم ْختَلِف ا ً أَ ْل َوانُ هُ ثُ َّم يَ ِهي ُج فَتَ َراهُ ُم ْ‬
‫ب﴾ (الزمر‪)21:‬‬ ‫اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ولهذا نجد القرآن الكريم ممتلئا باآليات الكوني ة المعرف ة باهلل‪ ،‬والداعي ة إلي ه‬
‫لتنزع النظرة االعتيادية للكون‪ ،‬والتي تحيله شيئا بسيطا مألوفا ال قيمة له إال القيم ة‬
‫التي يستسخر من أجلها‪.‬‬
‫فلهذا نجد الخلق قد يس بحون بحم د من اكتش ف س را حق يرا من أس رار ه ذا‬
‫الكون‪ ،‬واستخدمه لمصلحة من المصالح‪ ،‬ثم ال يس بحون بحم د ص احب الس ر‪ ،‬ب ل‬
‫صاحب الكون جميعا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ار ال ُمنش آت فِي البَحْ ِر‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ولهذا نسب تعالى السفن إليه‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬ول هُ ال َج َو ِ‬
‫ْ‬
‫ار فِي البَحْ ِر‬ ‫ْ‬
‫الم﴾ (الرحمن‪ ،)24:‬وقال في اآلي ة األخ رى‪َ ﴿ :‬و ِم ْن آيَاتِ ِه ال َج َو ِ‬ ‫َكاأْل َ ْع ِ‬
‫الم﴾ (الشورى‪)32:‬‬ ‫َكاأْل َ ْع ِ‬
‫ثم عقب مخاطبا الحائرين في سبب اعتبارها من آيات هللا ونعمه مع أنه ا من‬
‫ك‬ ‫ظلَ ْلنَ َر َوا ِك َد َعلَى ظَ ْه ِر ِه إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫صنع البش ر‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬إِ ْن يَ َش أْ ي ُْس ِك ِن ال َ‬
‫رِّيح فَيَ ْ‬
‫ور﴾ (الشورى‪)33:‬‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬
‫صب ٍ‬ ‫ت لِ ُك ِّل َ‬ ‫آَل يا ٍ‬
‫وفي مقابل ذلك لو شاء ألرسل الريح قوية عاتية‪ ،‬فأخذت السفن وأحالتها عن‬
‫سيرها المستقيم‪ ،‬فص رفتها ذات اليمين أو ذات الش مال‪ ،‬آبق ة ال تس ير على طري ق‬
‫وال إلى جهة مقصد؛ قال تعالى عقب اآلية السابقة‪ ﴿ :‬أَوْ يُ وبِ ْقه َُّن بِ َم ا َك َس بُوا َويَ ْع فُ‬

‫‪36‬‬
‫ير﴾ (الشورى‪)34:‬‬ ‫ع َْن َكثِ ٍ‬
‫وهكذا يقال في جميع آيات هللا التي يتص ور البش ر أنهم أص حابها‪ ،‬الم الكون‬
‫هللا‪ ،‬ثم يعزلون هللا عنها‪.‬‬
‫ولهذا يضرب القرآن الكريم األمثال بالنحل والذباب والعنكب وت ح تى ص ار‬
‫ذلك موضع استهزاء من اليه ود والمش ركين‪ ،‬ف رد عليهم تع الى بقول ه‪ ﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ ال‬
‫ق‬ ‫ضةً فَ َم ا فَوْ قَهَ ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ وا فَيَ ْعلَ ُم ونَ أَنَّهُ ْال َح ُّ‬ ‫يَ ْستَحْ يِي أَ ْن يَضْ ِر َ‬
‫ب َمثَالً َما بَعُو َ‬
‫ُضلُّ بِ ِه َكثِيراً َويَ ْه ِدي بِ ِه‬ ‫ِم ْن َربِّ ِه ْم َوأَ َّما الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَيَقُولُونَ َما َذا أَ َرا َد هَّللا ُ بِهَ َذا َمثَالً ي ِ‬
‫ضلُّ بِ ِه إِاَّل ْالفَا ِسقِينَ ﴾ (البقرة‪)26:‬‬ ‫َكثِيراً َو َما يُ ِ‬
‫ثالثا ـ شروط المعارف اإليمانية‬
‫المعرفة المطلوبة في اإليمان باهلل هي المعرفة اليقينية الجازم ة الموافق ة لم ا‬
‫عرف هللا به نفسه‪ ،‬وهي بذلك تتميز بخاصيتين اثنتين‪ :‬اليقين والصدق‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ اليقين‬
‫والمراد به العلم الجازم بحقائق اإليم ان‪ ،‬بحيث ال يتط رق إلى الع ارف أدنى‬
‫شك في المعرف‪ ،‬بل تكون معرفته به أشد من معرفته بنفسه التي بين جنبيه‪.‬‬
‫وقد كان البحث في هذا الجانب هو ما دفع المتكلمين إلى البحث التفصيلي في‬
‫الشبهات وأنواع االعتراضات للرد عليها‪ ،‬ونصرة الح ق‪ ،‬وال ض رر فيه ا من ه ذا‬
‫الجانب لمن احتاج إلى ذلك‪.‬‬
‫ولكن الضرر على من تصور أنه ال يعرف هللا إال بعد الخ وض فيم ا خ اض‬
‫فيه المتكلمون من أدلة‪ ،‬ألنه سيتيه بالدليل عن المدلول‪ ،‬ب ل ق د يل تزم بال دليل م ا ال‬
‫يصح التزامه‪ ،‬كما وقع في ذلك الكثير من متكلمي المسلمين‪.‬‬
‫واألخطر من ذلك كل ه أن يتح ول اإليم ان باهلل ج دال لس انيا فارغ ا ال روح ا‬
‫يبعث الحياة في وجدان صاحبها وسلوكه‪.‬‬
‫ولهذا اشتد تح ذير الس لف من ص ناعة المتكلمين‪ ،‬واش تد في ه فقه اء اإلس الم‬
‫الكبار في النهي عنه لما رأوا من آثاره االجتماعية‪:‬‬
‫فهذا الشافعي مع علم ه الجلي ل‪ ،‬وعلم ه ب أحوال الف رق ومجادالته ا وش غبها‬
‫اشتد نهيه عن صناعة المتكلمين لعقم سبلها مع العامة‪ :‬قال ابن عبد األعلى‪ :‬سمعت‬
‫الشافعي يوم ناظر حفصا ً الفرد ـ وك ان من متكلمي المعتزل ة ـ يق ول‪(:‬ألن يلقى هللا‬
‫عز وجل العب د بك ل ذنب م ا خال الش رك باهلل خ ير ل ه من أن يلق اه بش يء من علم‬
‫الكالم‪ ،‬ولقد سمعت من حفص كالما ً ال أقدر أن أحكيه)‪ ،‬وقال‪(:‬ق د اطلعت من أه ل‬
‫الكالم على شيء ما ظننته قط وألن يبتلى العبد بكل ما نهى هللا عنه ما ع دا الش رك‬
‫خير له من أن ينظر في الكالم)‬
‫أن الشافعي سئل عن شيء من الكالم فغضب وقال‪ :‬س ل‬ ‫وحكى الكرابـيسي‪ّ :‬‬
‫عن هذا حفصا ً الفرد وأصحابه‪ ،‬أخزاهم هللا‪ ،‬ولما مرض الشافعي دخل عليه حفص‬
‫الفرد فقال له‪ :‬من أنا؟ فقال‪ :‬حفص الفرد‪ ،‬ال حفظك هللا وال رعاك حتى تت وب مم ا‬

‫‪37‬‬
‫أنت في ه‪ .‬وق ال‪(:‬ل و علم الن اس م ا في الكالم من األه واء لف رّوا من ه ف رارهم من‬
‫األسد)‪ ،‬وقال‪(:‬إذا سمعت الرجل يقول االسم هو المس مى أو غ ير المس مى‪ ،‬فاش هد‬
‫بأن ه من أه ل الكالم وال دين ل ه)‪ ،‬وق ال‪(:‬حكمي في أص حاب الكالم أن يض ربوا‬
‫بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال‪ :‬هذا جزاء من ترك الكت اب والس نة‬
‫وأخذ في الكالم)(‪)1‬‬
‫أما أحمد بن حنبل‪ ،‬فقد اشتد نهيه عنه‪ ،‬بل تعرض بس ببه لمحنت ه المعروف ة‪،‬‬
‫قال‪(:‬ال يفلح صاحب الكالم أبداً‪ ،‬وال تك اد ت رى أح داً نظ ر في الكالم إال وفي قلب ه‬
‫دغل)‪ ،‬وقد بالغ في ذمه حتى هج ر الح ارث المحاسبـي م ع زه ده وورع ه بس بب‬
‫تصنيفه كتابا ً في الرد على المبتدعة وق ال ل ه‪(:‬ويح ك ألس ت تحكي ب دعتهم أ ّوالً ثم‬
‫ت رد عليهم ألس ت تحم ل الن اس بتص نيفك على مطالع ة البدع ة والتفك ر في تل ك‬
‫الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث)‬
‫ومثل ذلك اإلمام مالك‪ ،‬فقد نبه إلى خطره العظيم بقول ه‪(:‬أرأيت إن ج اءه من‬
‫هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد؟)‬
‫ب ل إن المتكلمين أنفس هم نبه وا إلى خط ورة ه ذا العلم على العام ة‪ ،‬ف ألف‬
‫الغزالي كتابه المعروف (إلجام العوام عن علم الكالم)‬
‫والس ر في ذل ك أن أك ثره ج دل ال يعم ق في اإليم ان في النفس‪ ،‬وله ذا ق ال‬
‫الغ زالي عن علم الكالم بع دما طلب البحث في ه عن الحقيق ة‪(:‬فص ادفته علم ا وافي ا‬
‫بمقصوده غير واف بمقصودي)(‪)2‬‬
‫فه و واف بمقص ودهم من حيث حراس ة ال دين من الش به‪ ،‬ولكن ه غ ير واف‬
‫بمقصود من طلب حقيقة اإليمان‪.‬‬
‫وهو لهذا التحديد الوظيفي لعلم الكالم يرى أن المرتب ة اإليماني ة للمتكلمين ال‬
‫تختل ف عن م راتب الع وام‪ ،‬وله ذا ينص ح المتكلم بقول ه‪(:‬فليعلم المتكلم ح ده ممن‬
‫الدين‪ ،‬وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج‪ ،‬فإذا تجرد الحارس للحراسة‬
‫لم يكن من جملة الحاج‪ ،‬والمتكلم إذا تج رد للمن اظرة والمدافع ة‪ ،‬ولم يس لك طري ق‬
‫اآلخرة لم يكن من جملة علماء الدين أصال)‪ ،‬ثم يعقب على ذل ك بقول ه‪(:‬وليس عن د‬
‫المتكلم من الدين إال العقيدة التي شاركه فيها سائر العوام‪ ،‬وإنم ا يتم يز عن الع امي‬
‫بسرعة المجادلة والحراسة)(‪)3‬‬
‫ولذلك ينتقد الغزالي الطريق ة التعميمي ة في ع رض مس ائل العقي دة بالمن اهج‬
‫الكالمية لما تثيره من شبهات وتشكيكات‪ ،‬ويرى أن يقتصر في البالد التي تقل فيه ا‬
‫البدعة وال تختلف فيها المذاهب على العقائد المعروفة دون التع رض لألدل ة إلى أن‬
‫تقع الشبهة‪ ،‬وحينذاك تذكر األدلة بقدر الحاج ة‪ ،‬ف إن ك انت البدع ة ش ائعة‪ ،‬وخي ف‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.1/95 :‬‬


‫‪ )(2‬الغزالي‪ ،‬المنقذ من الضالل‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫‪ )(3‬الغزالي‪ ،‬إحياء علوم الدين‪.1/23 :‬‬

‫‪38‬‬
‫على الع وام أن يخ دعوا به ا‪ ،‬فال ب أس من ع رض األدل ة وتعميم العلم به ا بحس ب‬
‫الحاجة إلى ذلك(‪ ،)1‬أما في غير تل ك المواض ع ف إن الغ زالي ي رى حرم ة خ وض‬
‫العوام في علم الكالم وإلجامهم عنه إال ألحد شخصين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ رجل وقعت له شبهة ال يمكن إزالتها عن ه بكالم وعظي‪ ،‬وعلم أن الق ول‬
‫الكالمي المرتب يرفع شبهته ويداويها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ شخص كامل العقل راس خ الق دم في ال دين ث ابت اإليم ان يري د تحص يله‬
‫ليداوي به مريضا إذا وقعت له شبهة‪ ،‬أو يفحم به مبتدعا‪ ،‬أو يحرس معتقده إذا أراد‬
‫المبتدع إغواءه(‪.)2‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن البديل الذي يرسمه الغزالي للعامة وللنشء هو ما عبر عنه بقول ه‬
‫أن ما ذكرناه في ترجم ة العقي دة ينبغي أن يق دم‬ ‫ـ بعد ذكره لعقيدة مختصرة ـ‪(:‬اعلم ّ‬
‫إلى الصبـي في أوّل نشوه ليحفظه حفظا ً ثم ال يزال ينكشف له معناه في ك بره ش يئا ً‬
‫فشيئاً؛ فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم االعتقاد واإليقان والتصديق به‪ ،‬وذلك مما يحص ل‬
‫في الصبـي بغير برهان)(‪)3‬‬
‫فالطريق ـ كما يرسمه الغزالي ـ ه و التلقين‪ ،‬فالحف ظ وح ده ك اف في تقري ر‬
‫كثير من األمور من غير حاجة إلى تفاصيل األدلة العقلية‪ ،‬والتي قد ال تزيد المتعلق‬
‫بها غير المزيد من الشبهات‪.‬‬
‫وقد عل ل الغ زالي ه ذا‪ ،‬فق ال‪(:‬فمن فض ل هللا س بحانه على قلب اإلنس ان أن‬
‫شرحه في أوّل نشوه لإليمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان)‬
‫ثم بين البرهان الواقعي لذلك بقوله ـ وهو ينتق د المغ الين من المتكلمين ال ذين‬
‫تصوروا أن اإليمان ال يتحقق إال عبر صناعتهم ـ‪(:‬وكيف ينكر ذل ك وجمي ع عقائ د‬
‫العوام مبادئها التلقين المجرّد والتقليد المحض؟)‬
‫وبع د التلقين ـ وال ذي ه و بمثاب ة الب ذر ـ ينص ح الغ زالي بتعه ده بالس قي‬
‫والتقوية‪ ،‬قال‪(:‬نعم يكون االعتقاد الحاص ل بمج رّد التقلي د غ ير خ ال عن ن وع من‬
‫الضعف في االبتداء على مع نى أن ه يقب ل اإلزال ة بنقيض ه ل و ألقي إلي ه فال ب د من‬
‫تقويته وإثباته في نفس الصبـي والعامي حتى يترسخ وال يتزلزل)(‪)4‬‬
‫والطريق إلى ذل ك ليس بالج دل‪ ،‬ق ال‪(:‬وليس الطري ق في تقويت ه وإثبات ه أن‬
‫يعلم صنعة الجدل والكالم)‬
‫وإنما بأنوار العبادة‪ ،‬قال‪(:‬بل يشتغل بتالوة القرآن وتفس يره وق راءة الح ديث‬
‫ومعانيه‪ .‬ويشتغل بوظائف العبادات فال يزال اعتقاده يزداد رسوخا ً بما يقرع س معه‬
‫من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد األح اديث وفوائ دها وبم ا يس طع‬

‫‪ )(1‬الغزالي‪ ،‬إحياء علوم الدين‪.1/98 :‬‬


‫‪ )(2‬الغزالي‪ ،‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.174 ،173‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.1/94 :‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.1/94 :‬‬

‫‪39‬‬
‫علي ه من أن وار العب ادات ووظائفه ا وبم ا يس ري إلي ه من مش اهدة الص الحين‬
‫ومجالستهم وسيماهم وسماعهم وهيئاتهم في الخض وع هلل ع ز وج ل والخ وف من ه‬
‫واالس تكانة ل ه فيك ون أوّل التلقين كإلق اء ب ذر في الص در‪ ،‬وتك ون ه ذه األس باب‬
‫كالسقي والتربـية له حتى ينمو ذلك البذر ويقوى ويرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها‬
‫ثابت وفرعها في السماء)‬
‫وكما أن النبتة تحرس من كل م ا ق د يؤذيه ا‪ ،‬ويمن ع نموه ا‪ ،‬فك ذلك يح رس‬
‫يقين الصبي والعامي من كل ما قد يتسرب إليه مم ا ي دخل الش بهات والش كوك إلى‬
‫نفسه‪ ،‬والطريق إلى ذلك هو تحصينه من الجدل‪ ،‬ق ال الغ زالي‪(:‬وينبغي أن يح رس‬
‫فإن ما يشوّشه الجدل أكثر مم ا يمه ده وم ا‬ ‫سمعه من الجدل والكالم غاية الحراسة‪ّ ،‬‬
‫يفسره أكثر مما يص لحه‪ ،‬ب ل تقويت ه بالج دل تض اهي ض رب الش جرة بالمدق ة من‬
‫الحديد رجاء تقويتها بأن تكثر أجزاؤها وربما يفتتها ذلك ويفسدها وهو األغلب)‬
‫ويضرب األمثلة على ذلك بالواقع‪ ،‬واقع المؤمنين الطيبين الذي تلقوا اإليمان‬
‫تلقينا‪ ،‬ثم ق ووه ب أنوار الطاع ة‪ ،‬ف ازدادوا إيمان ا م ع إيم انهم‪ ،‬وبين المتكلمين ال ذي‬
‫تص وروا أنهم بإقن اع العق ل‪ ،‬أو بس الحه يص لون إلى الحق ائق‪ ،‬فق ال‪(:‬والمش اهدة‬
‫تكفيك في ه ذا بـيانا ً فناهي ك بالعي ان برهان اً‪ .‬فقس عقي دة أه ل الص الح والتقى من‬
‫عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمج ادلين ف ترى اعتق اد الع امي في الثب ات ك الطود‬
‫الشامخ ال تحرّكه الدواهي والص واعق وعقي دة المتكلم الح ارس اعتق اده بتقس يمات‬
‫الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا إال من س مع منهم‬
‫دليل االعتقاد فتلقفه تقليداً كما تلقف نفس االعتقاد تقلي داً؛ إذ ال ف رق في التقلي د بـين‬
‫تعلُّم الدليل أو تعلم المدلول فتلقين الدليل شيء واالستدالل ب النظر ش يء آخ ر بعي د‬
‫عنه)(‪)1‬‬
‫وله ذا نش أ م ا يس مى بـ (المعرف ة)‪ ،‬وهي مص طلح يع ني العلم باهلل ال عن‬
‫طريق االستدالل العقلي‪ ،‬وإنما عن طريق اليقين اإليماني‪ ،‬ال ذي يستش هد باهلل على‬
‫هللا‪ ،‬ويبرهن باهلل على هللا‪ ،‬وهنا يتجلى الفرق العظيم بين إيمان من عاش يبحث عن‬
‫البراهين على هللا‪ ،‬وبين الذين بدأ حياته مع هللا‪.‬‬
‫ولهذا (أجمع العارفون على أن ال دليل على هللا ه و هللا وح ده‪ ،‬وس بيل العق ل‬
‫عندهم سليل العاقل في حاجته إلى الدليل ألنه محدث والمحدث اليدل إال على مثله)‬
‫وقد سئل النوري‪(:‬ما الدليل على هللا؟ قال‪(:‬هللا)‪ ،‬ق ال فم ا العق ل ق ال‪(:‬العق ل‬
‫عاجز والعاجز ال يدل إال على عاجز مثله)‬
‫وقد وضع ابن عط اء العق ل ال ذي يعتم د علي ه الع الم في محل ه عن دما ق ال‪:‬‬
‫(العقل آلة للعبودية ال لإلشراف على الربوبية)‬
‫وعبر آخر عن ذلك بقوله‪(:‬العقل يج ول ح ول الك ون ف إذا نظ ر إلى المك ون‬
‫ذاب)‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.1/94 :‬‬

‫‪40‬‬
‫وعبر أب و بك ر القحط بي على اس تحالة التع رف على هللا بالعق ل بقول ه‪(:‬من‬
‫لحقته العقول فهو مقهور إال من جهة اإلثبات‪ ،‬ولوال أنه تع رف إليه ا األلط اف لم ا‬
‫أدركته من جهه اإلثبات)‬
‫وقد قال بعض الصالحين معبرا عن عجز العقل‪:‬‬
‫سرحه في ح يرة يلهو‬ ‫من رام ه بالعق ل‬
‫دا‬ ‫مسترش‬
‫يق ول من حيرت ه ه ل‬ ‫شاب بالتلبيس أس راره‬
‫هو‬
‫ولكن هذه المعرفة التي تغني عن كثرة الحجج البرهانية‪ ،‬وال تراود ص احبها‬
‫الشبهات والشكوك تحتاج إلى مرآة صافية ال تشوه الحقائق‪ ،‬فعلى قدر جالء الم رآة‬
‫تتجلى أنوار الحق‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫وجنب أن يحرك ه النس يم‬ ‫إذا س كن الغ دير على‬
‫فاء‬ ‫ص‬
‫ك ذاك الش مس تب دو‬ ‫ب دت في ه الس ماء بال‬
‫وم‬ ‫والنج‬ ‫تراء‬ ‫ام‬
‫يرى في صفوها هللا العظيم‬ ‫ك ذاك قل وب أرب اب‬
‫التجلي‬
‫وه ذا ه و الف رق األساس ي بين علم الكالم والمعرف ة أو علم اإليم ان‪ ،‬ف العلم‬
‫بحث واس تدالل‪ ،‬والمعرف ة ش هود وعي ان‪ ،‬والعلم مكاب دة وش ك‪ ،‬والمعرف ة راح ة‬
‫ويقين‪.‬‬
‫العارف يرى ما يؤمن به ويعيشه‪ ،‬أما العالم أو طالب العلم فيكتفي بأن يبحث‬
‫عن أدلة ما يسمع عنه‪ ،‬وقد يحجب باألدلة عن المدلول‪ ،‬وبالطريق عن الغاية‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي يقلب فيه العالم صفحات الكون ليستدل به عن رب ه‪ ،‬ينطل ق‬
‫العارف من ربه ليستدل به على الكون‪ ،‬قال ابن عطاء هللا‪(:‬الكونُ كلُّه ظُ ْلمةٌ‪ ،‬وإنَّم ا‬
‫ق فيه‪ ،‬فمن رأى الكونَ ولم يشه ُدهُ فيه أو عنده أو قَ ْبلَ ه أو بَ ْع دَه فق د‬ ‫أنا َرهُ ظهو ُر الح ِّ‬
‫ب اآلثار)‬ ‫المعارف ب ُس ُح ِ‬
‫ِ‬ ‫ت عنه شموسُ‬ ‫األنوار‪ ،‬وحُجبَ ْ‬
‫ِ‬ ‫أَ ْع َو َزهُ وجو ُد‬
‫‪ 2‬ـ الصدق‬
‫ونريد به مطابقة العقيدة لما جاءت به النصوص‪ ،‬ألن مصدر العقي دة األول ـ‬
‫كما ذكرنا سابقا ـ هو الوحي‪ ،‬أما العقل فهو مدعم للوحي وأداة من أدواته‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬ف إن ك ل من يح اول أن ين افس ال وحي في تقري ر العقائ د ي رد قول ه‪،‬‬
‫فالغيب ال يعمله إال من كشف هللا له حجبه‪ ،‬وليس ذل ك لغ ير المعص ومين ص لوات‬
‫هللا وسالمه عليهم‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الكثير من العقائد ـ وفي األبواب المختلفة منها ـ تحتاج إلى زي ادة‬
‫تمحيص لتحقيق الحق منها وتمييزه عن الباطل‪.‬‬
‫وهذا يستدعي زيادة على ما ذكرن ا من حف ظ النص وص من التحري ف ال ذي‬
‫يخرجها عما سيقت له إلى التثبت في النقول المختلفة سواء ما ورد منها منسوبا إلى‬
‫رسول هللا ‪ ‬أو ما ورد منسوبا للصحابة أو التابعين ومن بعدهم‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ألن التساهل في النقول هو الذي أدى إلى إلزام الناس بعقائد ال دلي ل يؤي دها‪،‬‬
‫بل إنها في أحس ن أحواله ا أس طورة من األس اطير أو خراف ة من الخراف ات ي زداد‬
‫معتقدها باعتقادها جهال ال علما‪.‬‬
‫وقد طال التلفيق النصوص الظنية‪ ،‬فوضعت األح اديث لتس اهم في تأكي د م ا‬
‫قرره العقل أو الذوق من تحريف لمعاني العقيدة في هللا وفي عوالم هللا‪.‬‬
‫ففي كتاب [إبط ال الت أويالت]‪ ،‬وال ذي يعت بر نموذج ا لتحري ف حقيق ة (هللا)‬
‫وحقيقة (اإليمان باهلل) نجد الروايات الكثيرة الباطلة التي تؤيد ما اختاره صاحبه من‬
‫التشبيه المتستر بالتنزيه‪.‬‬
‫فهو ينق ل مثال ـ ليق رر إثب ات الص ورة هلل ـ ه ذه الرواي ة الباطل ة‪(:‬غض ب‬
‫موسى على قومه في بعض م ا ك انوا يس ألونه‪ ،‬فلم ا ن زل ال َح َج ر ق ال‪ :‬اش ربوا ي ا‬
‫حمير‪ ،‬فأوحى هللا إليه‪ :‬تعمد إلى عبيد من عبيدي خلقتهم على مثل ص ورتي فتق ول‬
‫اشربوا يا حمير‪ ،‬قال‪ :‬فما برح حتى أصابته عقوبة)(‪)1‬‬
‫وهو ينقل ـ إلثبات صفة للذات اس مها (ال ذراع) ـ رواي ات ال تثبت‪ ،‬وليس ت‬
‫ص ريحة فيم ا أراده(‪ ،)2‬منه ا ه ذا األث ر‪(:‬خل ق هللا المالئك ة من ن ور ال ذراعين‬
‫والصدر)‬
‫ويعلق عل هذا بقول ه‪(:‬الكالم في ه ذا الخ بر في فص لين‪ :‬أح دهما في إثب ات‬
‫الذراعين والصدر‪ ،‬والثاني في خلق المالئكة من ن وره) فجع ل ال ذراعين والص در‬
‫والنور صفات‪.‬‬
‫وهو ينقل ـ إلثبات صفة لل ذات اس مها (الفخ ذ واألم ام والخل ف) ـ بالرواي ة‬
‫الباطلة التالي ة‪(:‬إذا ك ان ي وم القيام ة ي ذكر داود ذنب ه فيق ول هللا ع ز وج ل ل ه‪ :‬كن‬
‫أمامي‪ ،‬فيقول‪ :‬رب ذنبي‪ ،‬فيقول هللا‪ :‬كن خلفي فيقول‪ :‬رب ذنبي ذنبي‪ ،‬فيقول هللا له‬
‫خذ بقدمي )(‪ ،)3‬ثم يذكر الرواية الباطلة التالية‪(:‬إن هللا عز وجل ليق رب داود ح تى‬
‫يضع يده على فخذه يقول‪ :‬ادن منا أزلفت لدينا)‬
‫ثم يعلق على هذا الهراء بقول ه‪(:‬اعلم أن ه غ ير ممتن ع حم ل ه ذا الخ بر على‬
‫ظاهره‪ ،‬إذ ليس فيه م ا يحي ل ص فاته وال يخرجه ا عم ا تس تحقه ألن ا ال نثبت ق دما‬
‫وفخذا جارحة وال أبعاضا‪ ،‬بل نثبت ذلك صفة كما أثبتن ا ال ذات والوج ه والي دين …‬
‫وال نثبت أيض ا أمام ا وخلف ا على وج ه الح د والجه ة‪ ،‬ب ل نثبت ذل ك ص فة غ ير‬
‫محدودة)‬
‫وه و ينق ل عن مقات ل بن س ليمان ـ المع روف بقول ه بالتجس يم ـ فينق ل عن‬
‫ق َويُ ْدعَوْ نَ إِلَى‬‫طريقه عن عبد هللا بن مسعود في قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَوْ َم يُ ْكشَفُ ع َْن َس ا ٍ‬
‫ال ُّسجُو ِد فَال يَ ْست َِطيعُونَ ﴾ (القلم‪)42:‬قوله‪(:‬يعني ساقه اليمين‪ ،‬فيضيء من ن ور س اقه‬

‫‪ )(1‬إبطال التأويالت‪.1/97 :‬‬


‫‪ )(2‬إبطال التأويالت‪.1/203 :‬‬
‫‪ )(3‬إبطال التأويالت‪.1/206 :‬‬

‫‪42‬‬
‫ور َربِّهَا ﴾ (الزمر‪ )69:‬يعني ن ور‬‫ت اأْل َرْ ضُ بِنُ ِ‬
‫األرض‪ ،‬فذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْش َرقَ ِ‬
‫ساقه اليمين)‬
‫لكن المؤلف ال يبالي بهذا كله‪ ،‬فحسبه أن يحمل الحديث أي إش ارة للتجس يم‪،‬‬
‫فيصح الضعيف‪ ،‬ويقوم الموضوع‪.‬‬
‫ولم يتورع مؤلف الكت اب أن ي ورد ه ذه الرواي ة في كت اب يع رف باهلل‪ :‬عن‬
‫ُوس‪ ،‬فقي ل لي ههن ا ام رأة ق د رأت‬ ‫عبدهللا بن الحسين ال ِمصِّيصي قال‪ :‬دخلت طَ َرس َ‬
‫الجن الذين وفدوا إلى النبي ‪ ،‬فأتيته ا‪ ،‬ف إذا هي ام رأة مس تلقية على قفاه ا فقلت‪:‬‬
‫رأيت أح دا من الجن ال ذين وف دوا إلى رس ول هللا‪‬؟ ق الت‪ :‬نعم‪ ،‬ح دثني عبدهللا‬
‫سمحج قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رس ول هللا‪ ،‬أين ك ان ربن ا قب ل أن يخل ق الس موات واألرض؟‬
‫قال‪(:‬على حوت من نور يتلجلج في النور)‬
‫بل ينقل من األباطيل ما يدلل به على قعود النبي ‪ ‬على العرش م ع هللا(‪،)1‬‬
‫ويفس ر ب ه المق ام المحم ود ال ذي وع ده ب ه رب ه‪ ،‬ثم يق ول معتم دا على الرواي ات‬
‫الموضوعة‪(:‬فلزمنا اإلنكار على من رد ه ذه الفض يلة ال تي قالته ا العلم اء وتلقوه ا‬
‫بالقبول‪ ،‬فمن ردها فهو من الفرق الهالكة)‪ ،‬بل وينقل عن بعضهم تكفير منكر ذلك‪.‬‬
‫ومن الجانب اآلخر ـ جانب االنح راف الوج داني ـ نج د األح اديث المدعم ة‬
‫للشرك بكل صوره‪ ،‬ومن ذلك هذا الحديث الباطل‪(:‬لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه)(‪)2‬‬
‫فهذا الهراء الباطل ـ المشتهر ببين العامة ـ يفتح باب الشرك على مص راعيه‬
‫فيجعل ميزان االعتقاد هو النفع‪ ،‬فكل من أعتقد في شيء وظنه نافع ا ح تى ل و ك ان‬
‫حجرا جعله هللا كذلك‪ ،‬وكل من أتاه نفع من عقيدة ما كان هذا اعتقادا صحيحا‪.‬‬
‫وهذا ما انحرف بكثير من الطي بين البس طاء عن المع ارف القرآني ة الممتلئ ة‬
‫بالعلمية والعقالنية إلى ما يسمونه دين العجائز‪ ،‬وينسبون في ذلك حديثا إلى رس ول‬
‫هللا ‪ ‬يقول‪(:‬عليكم بدين العجائز)(‪)3‬‬
‫ويأتي أصحاب الكشف الذين أرادوا رسم ص ورة معين ة للك ون تتناس ب م ع‬
‫مشاهداتهم‪ ،‬فيضعون هذا الحديث الباطل المنسوب إلى جابر بن عبد هللا األنصاري‬
‫(ق ال قلت‪ :‬ي ا رس ول هللا ب أبي أنت وأمي أخ برني عن أول ش يء خلق ه هللا قب ل‬
‫األنبياء‪ ،‬قال‪ :‬يا جابر أن هللا تعالى خلق قبل األنبياء نور نبيك من نوره‪ ،‬فجعل ه ذا‬
‫النور يدور بالقدرة حيث يش اء هللا تع الى ولم يكن في ذل ك ال وقت ل وح وال قلم وال‬
‫جنة وال نار‪ ،‬وال ملك وال س ماء وال أرض وال ش مس وال قم ر‪ ،‬فخل ق من الج زء‬

‫‪ )(1‬إبطال التأويالت‪ 1/72 :‬و‪.2/476‬‬


‫‪ )(2‬قال ابن القيم‪ :‬هو من كالم عباد األص نام ال ذين يحس نون ظنهم باألحج ار‪ ،‬وق ال ابن حج ر العس قالني‪ :‬ال‬
‫أصل له ونحو "من بلغه عن هللا شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانا به ورج اء ثواب ه أعط اه هللا ذل ك وإن لم يكن ك ذلك"‬
‫انظر تعليق ناصر الدين السلسلة الضعيفة‪.1/67:‬‬
‫‪ )(3‬ذكره الشيخ علي القارئ في األسرار المرفوعة في األخبار الموضوعة وقال بعده‪ :‬قال السخاوي‪ :‬ال أص ل‬
‫له بهذا اللفظ‪ ،‬وقال الزركشي‪ :‬رواه الديلمي عن ابن عمر بلفظ "إذا كان آخ ر الزم ان واختل ف األه واء فعليكم ب دين‬
‫البادية" "النساء" وسنده واه بل قال الصنعاني موضوع‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫األول القلم ومن الجزء الثاني اللوح ومن الثالث العرش ثم قسم الجزء الرابع أربع ة‬
‫أج زاء فخل ق من الج زء األول حمل ة الع رش‪ ،‬ومن الج زء الث اني الكرس ي‪ ،‬ومن‬
‫الثالث باقي المالئكة ثم قس م الج زء الراب ع أربع ة أج زاء‪ ،‬فخل ق من الج زء األول‬
‫السموات ومن الجزء الث اني األراض ين‪ ،‬ومن الج زء الث الث الجن ة والن ار‪ ،‬وقس م‬
‫الجزء الرابع أربع ة أج زاء‪ ،‬فخل ق من الج زء األول ن ور أبص ار المؤم نين‪ ،‬ومن‬
‫الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة باهلل ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد‪ :‬ال إل ه إال‬
‫هللا محمد رسول هللا‪ ،‬ثم نظر إليه فترشح النور عرقا فتقطرت منه مائتا أل ف قط رة‬
‫وعشرين ألفا وأربعة اآللف قط رة فخل ق هللا من ك ل قط رة روح ن بي ورس ول‪ ،‬ثم‬
‫تنفس ت روح أرواح األنبي اء فخل ق هللا من أنفاس هم أرواح األولي اء والس عداء‬
‫والش هداء والمطيعين من المؤم نين إلى ي وم القيام ة‪ ،‬ف العرش من ن وري والعق ل‬
‫والعلم والتوفي ق من ن وري‪ ،‬والكروبي ون من ن وري والعق ل والعلم والتوفي ق من‬
‫نوري‪ ،‬وأرواح األنبياء والرسل من نوري‪ ،‬والسعداء والصالحون من ن ائح ن وري‬
‫ثم خلق هللا آدم من األرض وركب فيه النور وهو الجزء الرابع ثم أنتق ل من ه ش يث‬
‫وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أن وص ل إلى ص لب عب د هللا بن عب د المطلب‬
‫ومنه إلى وجه أمي آمنة ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين‪ ،‬وخاتم النبيين‬
‫وقائد الغر المحجلين)‬
‫وهذا الحديث ـ لألسف ـ يردد في بعض المجامع‪ ،‬وكأنه حقيقة الحقائق‪ ،‬وهو‬
‫عمدة من يزعم أن الرسول ‪ ‬هو قبة الك ون‪ ،‬وأول الوج ود‪ ،‬وأن ه ج زء من ن ور‬
‫هللا ـ تعالى هللا عما يقولون علوا كبيرا ـ‪ ،‬وأن كل المخلوقات خلقت بأجزاء منه‪.‬‬
‫وفي مقاب ل ه ؤالء‪ :‬الوض اعون ال ذين أرادوا ْش ين الن بي ‪ ،‬فوض عوا‬
‫األحاديث التي تحيله ‪ ‬طباخا أو طبيب أعشاب يصف من الدواء ما يصح وم ا ال‬
‫يصح‪ ،‬ومن ذلك‪(:‬ربيع أمتي العنب والبطيخ)‪ ،‬ومنه (ومن أكل فوله بقشرها أخ رج‬
‫هللا منه من الداء مثلها)‪ ،‬و(الباذنجان شفاء من كل داء)‪ ،‬و(الباذنجان لم ا أك ل ل ه)‪،‬‬
‫و(أكل السمك يذهب الجسد)(‪)1‬‬
‫وه ذه األح اديث هي ال تي يس تغلها الط اعنون في رس الة رس ول هللا ‪،‬‬
‫والكتب التبشيرية مملوءة بمثل هذه السخافات‪.‬‬
‫أما ع والم الغيب‪ ،‬الع والم ال تي يص ورها الق رآن الك ريم‪ ،‬وتص ورها الس نة‬
‫الص حيحة تص ويرا جميال يجع ل القلب يهف وا متطلع ا إليه ا‪ ،‬فتنح رف به ا ه ذه‬
‫النصوص الباطلة انحراف ا عظيم ا‪ ،‬ففي بعض ها مثال (أن هللا خل ق مالئك ة الس ماء‬
‫األولى على صورة بقرة‪ ،‬الثانية على صورة العقب ان‪ ،‬والثالث ة على ص ورة الن اس‬
‫والرابعة على صورة الحور العين‪ ،‬والخامسة على صورة الطيور‪ ،‬والسادس ة على‬
‫صورة الخيل المسومة‪ ،‬والسابعة حملة العرش الكروبيون)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬انظر تنزيه الشريعة ‪.267-235‬‬


‫‪ )(2‬ذكره صاحب تنزيه الشريعة ‪ 213‬وعزاه ألبي الشيخ في العظمة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫وزعموا أن هاروت وماروت كانا ملكين ألقى هللا عليهما الش بق‪ ،‬وأن ام رأة‬
‫من أه ل األرض فتنتهم فوقع وا به ا فمس خ هللا كوكب ا في الس ماء فهي الزه رة‬
‫المعروفة وأن هذين الملكين اختارا عذاب الدنيا)(‪)3‬‬
‫أما الحقائق الفلكية والجغرافية التي ال يختلف تصوير النصوص المقدسة له ا‬
‫مع أحدث الحقائق العلمية‪ ،‬فتنص هذه النقول على خرافات عجيبة‪:‬‬
‫فتجعل المجرة لعاب حية تحت العرش‪ ،‬وتروي في ذلك عن الرسول ‪ ‬أنه‬
‫قال‪(:‬يا معاذ أني مرسلك إلى قوم أهل كتاب فإذا سئلت عن المجرة التي في الس ماء‬
‫فقل لهم هي لعاب حية تحت العرش)‬
‫وأن الش مس ت رمى ب الثلج ح تى ال تح رق الخالئ ق‪ ،‬فنس بوا إلي ه ‪(:‬وك ل‬
‫بالشمس تسعة مالئك ة يرمونه ا ب الثلج ك ل ي وم ول وال ذل ك م ا أتت على ش يء إال‬
‫أحرقته)‬
‫وأن األرض على الماء‪ ،‬والم اء على ص خرة‪ ،‬والص خرة على ظه ر ح وت‬
‫يلتقي طرفاه بالعرش‪ ،‬والحوت على كاهل ملك قدماه في الهواء‪.‬‬
‫وأن العنكبوت مسخ‪ ،‬وأن سهيل ـ النجم المعروف ـ كان عشارا يسمو الن اس‬
‫في األرض بالظلم فمسخه هللا‪.‬‬
‫وأن النخلة من فض ل طين ة آدم‪ ،‬وأن هللا خل ق جبال يق ال ل ه (ق اف) محي ط‬
‫بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها األرض فإذا أراد هللا أن يزل زل قري ة أم ر‬
‫ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي القرية فيزلزلها ويحركها ثم تتح رك القري ة دون‬
‫القرية وأن األرض على صخرة‪ ،‬والصخرة على قرن ثور فإذا ح رك الث ور رأس ه‬
‫تحركت األرض‪.‬‬
‫ونحن لم نذكر هذه األمثلة إال النتشارها وانتشار أمثاله ا في أوس اط العام ة‪،‬‬
‫وكأنها حقائق ال يقل وجوب التسليم بها عن التس ليم بحق ائق الق رآن الك ريم‪ ،‬ب ل إن‬
‫حقائق القرآن الكريم في تصورهم أقل قداسة ألنها مما يحتمل التأويل‪ ،‬أم ا ه ذه فال‬
‫تأويل فيها‪.‬‬
‫رابعا ـ أركان التربية اإليمانية‬
‫بعد معرفة المصادر األساسية التي يتلقى منه ا الم ربي الم ادة ال تي يري د أن‬
‫يثبتها في نفس من يربيه‪ ،‬ومعرفة الشروط التي ينبغي تحص يلها لمن يري د التحق ق‬
‫بحقيقة التربي ة اإليماني ة‪ ،‬نتس اءل اآلن عن موض وع التربي ة اإليماني ة أو المس ائل‬
‫التي ينبغي للمربي أن يهتم بها‪ ،‬أو األركان التي تعتمد عليها التربية اإليمانية‪.‬‬
‫ونقول ـ مسبقا ـ إن كل ما ورد في النصوص من أركان اإليم ان ومواض يعه‬
‫هو ما ينبغي للمربي أن يعلمه ويربي النشء عليه‪.‬‬
‫وهو ما وردت الدالل ة علي ه في مواض ع من الق رآن الك ريم‪ ،‬كقول ه تع الى‪:‬‬

‫‪ )(3‬تنزيه الشريعة ‪.209‬‬

‫‪45‬‬
‫ب َولَ ِك َّن ْالبِ َّر َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ وْ ِم‬ ‫ق َو ْال َم ْغ ِر ِ‬‫ْس ْالبِ َّر أَ ْن تُ َولُّوا ُوجُوهَ ُك ْم قِبَ َل ْال َم ْش ِر ِ‬ ‫﴿ لَي َ‬
‫ب َوالنَّبِيِّينَ ﴾ (البقرة‪ ،)177:‬وقوله تعالى‪ ﴿ :‬آ َمنَ ال َّرسُو ُل بِ َما‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اآْل ِخ ِر َوال َمالئِ َك ِة َوال ِكتَا ِ‬
‫ق بَ ْينَ أَ َح ٍد‬ ‫أُ ْن ِز َل إِلَ ْي ِه ِم ْن َربِّ ِه َو ْال ُم ْؤ ِمنُونَ ُك ٌّل آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو َمالئِ َكتِ ِه َو ُكتُبِ ِه َو ُر ُسلِ ِه ال نُفَ ِّر ُ‬
‫صيرُ﴾ (البق رة‪ ،)285:‬وقول ه‬ ‫ِم ْن ُر ُسلِ ِه َوقَالُوا َس ِم ْعنَا َوأَطَ ْعنَا ُغ ْف َرانَكَ َربَّنَا َوإِلَ ْيكَ ْال َم ِ‬
‫ب الَّ ِذي نَ َّز َل َعلَى َر ُس ولِ ِه‬ ‫تع الى‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا آ ِمنُ وا بِاهَّلل ِ َو َر ُس ولِ ِه َو ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب الَّ ِذي أَ ْن َز َل ِم ْن قَ ْب ُل َو َم ْن يَ ْكفُرْ بِاهَّلل ِ َو َمالئِ َكتِ ِه َو ُكتُبِ ِه َو ُر ُسلِ ِه َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر فَقَ ْد‬ ‫َو ْال ِكتَا ِ‬
‫ضالال بَ ِعيداً﴾ (النساء‪)136:‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫َ‬
‫هَّللا‬
‫اج َد ِ َم ْن آ َمنَ‬ ‫أو بتخصيص بعض األركان كما قال تعالى‪ ﴿ :‬إِنَّ َما يَ ْع ُم ُر َم َس ِ‬
‫ُس لِ ِه‬ ‫بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر ﴾ (التوبة‪ ،)18:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬م ْن َكانَ َع ُد ّواً هَّلِل ِ َو َمالئِ َكتِ ِه َور ُ‬
‫َو ِجب ِْري َل َو ِمي َكا َل فَإِ َّن هَّللا َ َع ُد ٌّو لِ ْل َكافِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪)98:‬‬
‫وذكر ‪ ‬األركان األساسية لإليمان‪ ،‬فقال‪(:‬اإليمان‪ :‬أن ت ؤمن باهلل ومالئكت ه‬
‫وكتبه ورسله وتؤمن بالجن ة والن ار والم يزان وت ؤمن ب البعث بع د الم وت وت ؤمن‬
‫بالقدر خيره وشره)(‪)1‬‬
‫وانطالقا من هذا‪ ،‬قسم علماء التوحيد قضايا اإليم ان إلى ثالث ة أرك ان‪ :‬هي‬
‫األلوهي ات‪ ،‬والنب وات‪ ،‬والس معيات‪ ،‬أو هي اإليم ان باهلل‪ ،‬وبالرس ل ـ ص لوات هللا‬
‫وسالمه عليهم ـ وبعالم الغيب‪.‬‬
‫ولهذا التقسيم أهمية ك برى بس بب اختالف من اهج التعام ل م ع ك ل ركن من‬
‫هذه األركان‪.‬‬
‫وسنحاول في هذا المبحث تبيان أهم ما ينبغي تعليمه للنشء من هذه األركان‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ اإليمان باهلل‬
‫أول عنصر من العناصر التي تتشكل منها الشخصية السوية للطفل هو إيمانه‬
‫باهلل تعالى إيمانا حقيقيا يقينيا مؤثرا فاعال‪ ،‬ألن هذا اإليمان هو الذي يوج ه س لوكه‪،‬‬
‫ويحصن اعتقاداته‪ ،‬ويضبط نوازع نفسه‪.‬‬
‫ولهذا قال رس ول هللا ‪ ‬معلم ا ً البن عب اس‪ ،‬وق د ك ان حينه ا ال ي زال طفال‬
‫صغيرا‪(:‬يا غالم إني أعلمك كلمات احفظ هللا يحفظك احف ظ هللا تج ده تجاه ك‪ ،‬وإذا‬
‫سألت فاسأل هللا‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن باهلل)‬
‫والقرآن الكريم نص على رعاية ه ذا الج انب في تربي ة الطف ل‪ ،‬فق ال تع الى‬
‫ي‬ ‫ال لُ ْق َمانُ ِال ْبنِ ِه َوهُ َو يَ ِعظُ هُ يَ ا بُنَ َّ‬ ‫حاكيا عن التربية النموذجية للقمان ‪َ ﴿ : ‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫َظي ٌم ﴾‬‫إن ال ِّشرْ كَ لَظُ ْل ٌم ع ِ‬ ‫ال تُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ َّ‬
‫واإليم ان باهلل ه و أص ل العقائ د وأساس ها وغايته ا‪ ،‬فالمعرف ة باهلل هي ال تي‬
‫تحدد درجات اإليمان‪ ،‬وبقدر تحقق العبد بها يكون قرب ه من هللا أو بع ده عن ه‪ ،‬كم ا‬
‫قال ‪(:‬إن أتقاكم وأعلمكم باهلل أنا)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه النسائي‪ ،‬والطبراني في الكبير‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.1/12 :‬‬

‫‪46‬‬
‫والمعرفة باهلل هي التي تحدد من جهة أخرى جميع س لوكيات اإلنس ان خ يرا‬
‫أو شرا‪ ،‬فالسلوك ثمرة المعرفة‪.‬‬
‫والتربية اإليمانية في ه ذا الج انب ترك ز على أم رين أساس يين كالهم ا مم ا‬
‫وردت النصوص بالتركيز عليه‪ ،‬باعتبارهما أساس العقائد‪ ،‬هما‪:‬‬
‫التوحيد‪:‬‬
‫وهو أهم ما يهتم المربي بترسيخه في نفس المتربي من قض ايا اإليم ان‪ ،‬ألن‬
‫أساس كل العقائد هو التوحيد‪ ،‬كما أن منبع كل االنحرافات هو الشرك‪.‬‬
‫ولهذا كانت الدعوة للتوحيد ـ بمعناه العميق الشامل ـ هي أساس دعوة الرس ل‬
‫ُس لِنَا أَ َج َع ْلنَ ا ِم ْن‬
‫ك ِم ْن ر ُ‬ ‫ـ عليهم السالم ـ كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬واسْأَلْ َم ْن أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ َ‬
‫دُو ِن الرَّحْ َم ِن آلِهَةً يُ ْعبَ ُدونَ ﴾ (الزخرف‪ ،)45:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِكَ ِم ْن‬
‫ُون﴾ (االنبياء‪)25:‬‬ ‫َرسُو ٍل إِاَّل نُو ِحي إِلَ ْي ِه أَنَّهُ ال إِلَهَ إِاَّل أَنَا فَا ْعبُد ِ‬
‫وقد ذكر هللا تعالى عن كل من الرسل ـ عليهم السالم ـ أنهم افتتح وا دع وتهم‬
‫ال يَا قَوْ ِم ا ْعبُدُوا هَّللا َ َما لَ ُك ْم ِم ْن‬‫بتوحيد هللا‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا نُوحا ً إِلَى قَوْ ِم ِه فَقَ َ‬
‫إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ﴾ (ألعراف‪ ،)59:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِلَى عَا ٍد أَخَاهُ ْم هُوداً قَا َل يَ ا قَ وْ ِم ا ْعبُ دُوا‬
‫هَّللا َ َم ا لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ أَفَال تَتَّقُ ونَ ﴾ (ألع راف‪ ،)65:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِلَى ثَ ُم و َد‬
‫ال يَ ا قَ وْ ِم ا ْعبُ دُوا هَّللا َ َم ا لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ﴾ (ألع راف‪ ،)73:‬وق ال‬ ‫أَخَاهُ ْم َ‬
‫صالِحا ً قَ َ‬
‫ال يَ ا قَ وْ ِم ا ْعبُ دُوا هَّللا َ َم ا لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ﴾‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬وإِلَى َم ْديَنَ أَ َخ اهُ ْم ُش َعيْبا ً قَ َ‬
‫(ألعراف‪)85:‬‬
‫ولهذا كان التوحيد هو أول ما يُدخل به إلى اإلسالم‪ ،‬وآخر م ا يخ رج ب ه من‬
‫الدنيا‪ ،‬كما قال ‪(:‬من كان آخر كالمه ال إله إال هللا دخل الجنة)(‪)1‬‬
‫ولهذا ك ان من س نة رس ول هللا ‪ ‬الت أذين في أذن المول ود‪ ،‬ليك ون أول م ا‬
‫يسمعه توحيد هللا تعالى‪.‬‬
‫وقد كانت أم سليم الرميصاء أم أنس بن مالك خادم الرسول ‪ ‬أسلمت وكان‬
‫أنس صغيراً‪ ،‬لم يفطم بعد‪ ،‬فجعلت تلقن أنسا ً قل‪ :‬ال إل ه إال هللا‪ ،‬ق ل أش هد أن ال إل ه‬
‫إال هللا‪ ،‬ففعل‪ ،‬فيقول لها أبوه‪ :‬ال تفسدي على ابني فتقول‪ :‬إني ال أفسده(‪.)2‬‬
‫ولهذا ـ كذلك ـ ورد الشرع بحماي ة الطف ل من ك ل م ا ق د ي زرع الش رك في‬
‫قلبه‪ ،‬وألجل هذا نهى رسول هللا ‪ ‬عن تعليق التمائم تعويداً للصغير االعتماد على‬
‫هللا وحده‪ ،‬فقال ‪( :‬من علق تميمة‪ ،‬فال أتم هللا له)(‪)3‬‬
‫وعلى الم ربي أن يرس خ مع نى التوحي د العمي ق الش امل ال التوحي د ال ذي‬
‫يصوره البعض‪ ،‬فيقصرونه على مظاهر معينة يحرفون بها معناه‪.‬‬
‫فالتوحيد في حقيقته يع ني (تف رده تع الى ب الخلق واإليج اد‪ ،‬وتف رده بالتق دير‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد وأبو داود والحاكم‪.‬‬


‫‪ )1(2‬سير أعالم النبالء ‪.2/305‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد والحاكم‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫والتدبير‪ ،‬وتفرده بالتشريع والتكليف‪ ،‬وتفرده بالجزاء والثواب والعقاب)‬
‫وينبغي على المربي أن يبين أهمية هذا التفرد وتأثيره في ه ذا البن اء المب دع‬
‫للكون‪ ،‬كما أخبر تعالى عن النتيجة التي يؤول إليها الك ون ل و ت رك التص رف في ه‬
‫ش‬‫آللهة متعددة‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬لَوْ َكانَ فِي ِه َما آلِهَةٌ إِاَّل هَّللا ُ لَفَ َس َدتَا فَ ُسب َْحانَ هَّللا ِ َربِّ ْال َعرْ ِ‬
‫صفُونَ ﴾ (االنبياء‪)22:‬‬ ‫َع َّما يَ ِ‬
‫فلذلك كان من رحمة هللا أن جعل كل شي له‪ ،‬ولم يجعل شيئا من أم ر الخل ق‬
‫لغيره‪ ،‬ولهذا أخبر تعالى أنه ل و جعلت خ زائن الرحم ة بي د الخل ق ألمس كوا خش ية‬
‫خَش يَةَ‬‫اإلنفاق‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ لَ وْ أَ ْنتُ ْم تَ ْملِ ُك ونَ خَ زَ ائِنَ َرحْ َم ِة َربِّي إِذاً أَل َ ْم َس ْكتُ ْم ْ‬
‫اق َو َكانَ اأْل ِ ْن َسانُ قَتُوراً﴾ (االسراء‪)100:‬‬ ‫اأْل ِ ْنفَ ِ‬
‫وبمثل ذلك أخبر تعالى عن إمساكه لتماسك الس موات واألرض وانتظامهم ا‪،‬‬
‫ض أَ ْن تَ ُزوال َولَئِ ْن زَ الَتَا إِ ْن أَ ْم َس َكهُ َما‬
‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫كما قال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ يُ ْم ِس ُ‬
‫ك ال َّس َم َ‬
‫ِم ْن أَ َح ٍد ِم ْن بَ ْع ِد ِه إِنَّهُ َكانَ َحلِيم ا ً َغفُ وراً﴾ (ف اطر‪ ،)41:‬ول و ت رك األم ر لغ يره لم ا‬
‫أطاق ذلك‪.‬‬
‫وينطلق الم ربي من ه ذ التوحي د ليربط ه بمقام ات اإليم ان جميع ا كالتوك ل‬
‫والشكر والرجاء والخوف وغيرها‪ ،‬فهي كلها من مقتضيات التوحيد‪.‬‬
‫وينطلق من هذا ليربطه بت أثير ه ذا التوحي د في حيات ه جميع ا‪ ،‬ب أن ال ي رى‬
‫حاكما وال مشرعا لسلوكه وتصرفاته‪ ،‬بل ومواجيده وأفكاره إال هللا‪.‬‬
‫يقول سيد قطب ـ وهو يبين مقتضيات التوحيد ـ‪(:‬كم ا أن المس لم يعتق د أن ال‬
‫إله إال هللا‪ ،‬وأن ال معبود إال هللا‪ ،‬وأن ال خ الق إال هللا‪ ،‬وأن ال رازق إال هللا‪ ،‬وأن ال‬
‫ن افع أو ض ار إال هللا‪ ،‬وأن ال متص رف في ش أنه –وفي ش أن الك ون كل ه‪ -‬إال هللا…‬
‫فيتوجه هلل وحده بالشعائر التعبدية‪ ،‬ويتوجه هلل وحده ب الطلب والرج اء‪ ،‬ويتوج ه هلل‬
‫وحده بالخشية والتقوى ‪ ،‬كذلك يعتق د المس لم أن ال ح اكم إال هللا‪ ،‬وأن ال مش رع إال‬
‫هللا‪ ،‬وأن ال منظم لحي اة البش ر وعالق اتهم وارتباط اتهم ب الكون وباألحي اء وبب ني‬
‫اإلنسان من جنسه إال هللا ‪ ..‬فيتلقى من هللا وحده التوجي ه والتش ريع‪ ،‬ومنهج الحي اة‪،‬‬
‫ونظام المعيشة‪ ،‬وقواعد االرتباطات‪ ،‬وميزان القيم واالعتبارات ‪ ..‬سواء‪)1()..‬‬
‫وأول مص در يعم ق ه ذه المع اني التوحيدي ة في النفس ه و الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫فبالقراءة الواعي ة ل ه نج ده يرب ط بين مقتض يات التوحي د جميع ا‪ ،‬فال يقص ر ت أثير‬
‫التوحيد على بعضها‪ ،‬فيظل العبد موحدا هلل في جانب مشركا به في جانب آخر‪.‬‬
‫وقد نقل سيد قطب بعض النماذج عن ربط القرآن الك ريم بين عقي دة التوحي د‬
‫وبين مقتضياتها في الحياة جميعا‪ ،‬ومن األمثلة التي ذكرها ما ورد في سورة البق رة‬
‫َّحي ُم ﴾(البق رة‪،)163 :‬‬ ‫اح ٌد الَّ إِلَهَ إِالَّ ه َُو ال رَّحْ َمنُ ال ر ِ‬ ‫من قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِلَـهُ ُك ْم إِلَهٌ َو ِ‬
‫فقد بدأ تعالى بتقرير وحدانية هللا تعالى‪ ،‬وهي القضية التي تأتي اآليات التالية لت بين‬
‫حقيقتها ومقتضياتها‪.‬‬

‫‪ )(1‬خصائص التصور اإلسالمي‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وأول مقتضيات هذه الوحدانية‪ :‬وحدانية التدبير اإللهي للكون‪ ،‬وه و م ا ورد‬
‫ك‬ ‫ار َو ْالفُ ْل ِ‬ ‫ف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫ض َو ْ‬
‫اختِالَ ِ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫في قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي خَ ْل ِ‬
‫الس َما ِء ِمن َّماء فَأَحْ يَ ا بِ ِه‬ ‫اس َو َم ا أَن زَ َل هّللا ُ ِمنَ َّ‬ ‫الَّتِي تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِ َم ا يَنفَ ُع النَّ َ‬
‫ب ْال ُم َس ِّخ ِر بَ ْينَ‬‫الس َحا ِ‬ ‫اح َو َّ‬ ‫يف الرِّ يَ ِ‬‫ث فِيهَا ِمن ُك ِّل دَآبَّ ٍة َوتَصْ ِر ِ‬ ‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َوبَ َّ‬ ‫األرْ َ‬
‫ت لقَوْ ٍم يَ ْعقِلونَ ﴾ (البقرة‪)164 :‬‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ض آليَا ٍ‬ ‫َ‬
‫ال َّس َماء َواألرْ ِ‬
‫ومن مقتضيات هذه المعرفة التي تجعل هللا هو المتصرف الوحي د في الك ون‬
‫هو وحدانية التوجه إلى هللا‪ ،‬وأول ذلك إفراد القلب هلل بالمحبة والوالء‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫وا أَ َش ُّد ُحبّا ً هّلِّل ِ‬ ‫اس َمن يَتَّ ِخ ُذ ِمن دُو ِن هّللا ِ أَندَاداً ي ُِحبُّونَهُ ْم َكحُبِّ هّللا ِ َوالَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬ ‫﴿ َو ِمنَ النَّ ِ‬
‫ب إِذْ‬ ‫ْ‬ ‫هّللا‬ ‫َ‬ ‫هّلِل‬
‫اب أ َّن القُ َّوةَ ِ َج ِميع ا ً َوأ َّن َ َش ِدي ُد ال َع َذا ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َولَوْ يَ َرى الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا إِذ يَ َروْ نَ ال َع َذ َ‬
‫ال الَّ ِذينَ‬‫ت بِ ِه ُم األَ ْس بَابُ َوقَ َ‬ ‫اب َوتَقَطَّ َع ْ‬ ‫وا َو َرأَ ُو ْا ْال َع َذ َ‬ ‫ُوا ِمنَ الَّ ِذينَ اتَّبَ ُع ْ‬ ‫تَبَرَّأَ الَّ ِذينَ اتُّبِع ْ‬
‫ت‬ ‫ُوا ِمنَّا َك َذلِكَ يُ ِري ِه ُم هّللا ُ أَ ْع َم الَهُ ْم َح َس َرا ٍ‬ ‫ُوا لَوْ أَ َّن لَنَا َك َّرةً فَنَتَبَرَّأَ ِم ْنهُ ْم َك َما تَبَ َّرؤ ْ‬ ‫اتَّبَع ْ‬
‫ار ﴾(البقرة‪)165-167 :‬‬ ‫َار ِجينَ ِمنَ النَّ ِ‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم َو َما هُم بِخ ِ‬
‫ومن مقتضيات هذا التوجه اإليماني القلبي هلل إسالم الجوارح والحي اة جميع ا‬
‫هلل‪ ،‬فاهلل هو المشرع للحي اة ال العق ول وال األه واء وال المجتمع ات‪ ،‬وال الش عوب‪،‬‬
‫ت‬ ‫وا ُخطُ َوا ِ‬ ‫ض َحالَالً طَيِّب ا ً َوالَ تَتَّبِ ُع ْ‬ ‫وا ِم َّما فِي األَرْ ِ‬ ‫ق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا النَّاسُ ُكلُ ْ‬
‫وا َعلَى هّللا ِ َم ا الَ‬ ‫ين إِنَّ َما يَأْ ُم ُر ُك ْم بِالسُّو ِء َو ْالفَحْ َشاء َوأَن تَقُولُ ْ‬ ‫ال َّش ْيطَا ِن إِنَّهُ لَ ُك ْم َعد ٌُّو ُّمبِ ٌ‬
‫وا بَلْ نَتَّبِ ُع َما أَ ْلفَ ْينَا َعلَ ْي ِه آبَاءنَ ا أَ َولَ وْ َك انَ‬ ‫تَ ْعلَ ُمونَ َوإِ َذا قِي َل لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَن َز َل هّللا ُ قَالُ ْ‬
‫ق بِ َم ا الَ يَ ْس َم ُع‬ ‫ُوا َك َمثَ ِل الَّ ِذي يَ ْن ِع ُ‬‫آبَا ُؤهُ ْم الَ يَ ْعقِلُونَ َشيْئا ً َوالَ يَ ْهتَ ُدونَ َو َمثَ ُل الَّ ِذينَ َكفَر ْ‬
‫ت َم ا‬ ‫وا ِمن طَيِّبَ ا ِ‬ ‫وا ُكلُ ْ‬ ‫ي فَهُ ْم الَ يَ ْعقِلُونَ يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬ ‫ص ٌّم بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ‬‫إِالَّ ُدعَاء َونِدَاء ُ‬
‫ُوا هّلِل ِ إِن ُكنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ إِنَّ َم ا َح َّر َم َعلَ ْي ُك ُم ْال َم ْيتَ ةَ َوال َّد َم َولَحْ َم‬ ‫اش ُكر ْ‬ ‫َر َز ْقنَ ا ُك ْم َو ْ‬
‫اغ َوالَ َع ا ٍد فَال إِ ْث َم َعلَ ْي ِه إِ َّن هّللا َ‬ ‫ُ‬
‫ير َو َما أ ِه َّل بِ ِه لِ َغ ْي ِر هّللا ِ فَ َم ِن ْ‬
‫اض طُ َّر َغ ْي َر بَ ٍ‬ ‫نز ِ‬‫ْال ِخ ِ‬
‫َّحي ٌم ﴾(البقرة‪)168-173 :‬‬ ‫َغفُو ٌر ر ِ‬
‫وهك ذا تجم ع ه ذه اآلي ات الكريم ة في س ياق واح د بين مقتض يات التوحي د‬
‫جميعا‪ ،‬مرتبة بعضها على بعض‪ ،‬ألن كل واحد منها أثر من آثار ما قبله‪.‬‬
‫أسماء هللا الحسنى‪:‬‬
‫وهي المعرفة الثانية بع د التوحي د‪ ،‬وإن ك ان التوحي د في حقيت ه ج زء منه ا‪،‬‬
‫ولكنه ألهميته‪ ،‬ولما تعرض له من تحريف أفرد بتلك األهمية الخاصة‪.‬‬
‫وأس ماء هللا تع الى هي المع ارف ال تي أذن هللا تع الى فيه ا لوس ائل إدراكن ا‬
‫البس يطة أن تتع رف به ا على كم االت األلوهي ة‪ ،‬وهي ل ذلك من األهمي ة بحيث ال‬
‫يمكن مقارنتها بأي معرفة من المعارف األخرى‪ ،‬ألن كل ما في الكون أثر من آثار‬
‫أسماء هللا‪.‬‬
‫وهي لذلك أبواب عالقتن ا باهلل‪ ،‬ألن لك ل اس م من أس ماء هللا داللت ه الخاص ة‬
‫التي تتطلب عبوديتها الخاصة‪.‬‬
‫وله ذا علمن ا تع الى أن ن دعوه بأس مائه الحس نى‪ ،‬مستش فعين به ا إلي ه‪،‬‬
‫ُس نَى فَ ا ْدعُوهُ بِهَ ا ﴾‬ ‫ومتوس طين به ا لدي ه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وهَّلِل ِ اأْل َ ْس َما ُء ْالح ْ‬

‫‪49‬‬
‫(األعراف‪)180:‬‬
‫وذلك ألن الدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة باهلل‪ ،‬فالمعرف ة‬
‫بأسماء هللا وصفاته العليا هي التي تدعو إلى الثقة فيه‪ ،‬وهي التي ت دعو إلى س ؤاله‪،‬‬
‫وقد أشار ابن عقيل إلى سر الصلة بين الدعاء وأسماء هللا الحس نى‪ ،‬فق ال‪(:‬ق د ن دب‬
‫هللا تعالى إلى ال دعاء‪ ،‬وفي ذل ك مع ا ٍن‪ :‬أح دها‪ :‬الوج ود‪ ،‬ف إن من ليس بموج ود ال‬
‫يُدعى‪ ،‬الثاني‪ :‬الغنى‪ ،‬فإن الفقير ال يُ دعى‪ ،‬الث الث‪ :‬الس مع‪ ،‬ف إن األص م ال يُ دعى‪،‬‬
‫الراب ع‪ :‬الك رم‪ ،‬ف إن البخي ل ال يُ دعى‪ ،‬الخ امس‪ :‬الرحم ة‪ ،‬ف إن القاس ي ال يُ دعى‪،‬‬
‫السادس‪ :‬القدرة‪ ،‬فإن العاجز ال يُدعى)‬
‫وهكذا لو ذهبنا نعد م ع ابن عقي ل لوج دنا أن أس ماء هللا تع الى تقتض ي رف ع‬
‫أيدينا إليه بالسؤال‪ ،‬بل إفراده في هذا الرفع‪.‬‬
‫ولهذا ن رى ام تزاج أدعيت ه ‪ ‬بأس ماء هللا‪ ،‬وهي كث يرة تغ ني ش هرتها عن‬
‫التمثيل لها‪.‬‬
‫وقد كان ‪ ‬جالسا ورجل يصلي‪ ،‬ثم دعا‪ :‬اللهم إني أسألك ب أن ل ك الحم د ال‬
‫إل ه إال أنت وح دك ال ش ريك ل ك‪ ،‬المن ان ب ديع الس موات واألرض‪ ،‬ي ا ذا الجالل‬
‫واإلكرام‪ ،‬يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار‪ ،‬فقال النبي ‪(:‬لق د دع ا‬
‫هللا باسمه العظيم)(‪)1‬‬
‫وقد علم ‪ ‬من أصابه هم أو حزن أن يقول‪(:‬اللهم إني عبدك‪ ،‬ابن عبدك ابن‬
‫أمتك في قبضتك‪ ،‬ناصيتي بيدك م اض في حكم ك‪ ،‬ع دل في قض اؤك أس ألك بك ل‬
‫اسم هو لك‪ ،‬سميت ب ه نفس ك‪ ،‬أو أنزلت ه في كتاب ك‪ ،‬أو علمت ه أح دا من خلق ك‪ ،‬أو‬
‫اس تأثرت ب ه في علم الغيب عن دك‪ ،‬أن تجع ل الق رآن ربي ع قل بي‪ ،‬ون ور بص ري‪،‬‬
‫وجالء حزني‪ ،‬وذهاب غمي)(‪ ،)2‬ثم بين أثر ذلك في نفسه‪ ،‬فقال‪(:‬فما قالها عبد ق ط‬
‫إال أبدله هللا بحزنه فرحا)‬
‫وعلم رسول هللا ‪ ‬عائشة أن تقول إذا وافقت ليل ة الق در‪(:‬ق ولى‪ :‬اللهم إن ك‬
‫عفو تحب العفو فاعف عنى)(‪)3‬‬
‫ولهذه األسماء ـ زي ادة على ذل ك ـ تأثيره ا ال تربوي العظيم‪ ،‬ألنه ا األس اس‬
‫الذي تنبني عليه جميع مقامات اإليمان‪.‬‬
‫وقد اتفق على هذا ك ل العلم اء والرب انيين‪ ،‬يق ول الع ز بن عب د الس الم‪(:‬فهم‬
‫مع اني أس ماء هللا تع الى وس يلة إلى معاملت ه بثمراته ا من‪ :‬الخ وف‪ ،‬والرج اء‪،‬‬
‫والمهابة‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والتوكل‪ ،‬وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)(‪)4‬‬
‫ويق ول مفص ال أس باب ذل ك‪(:‬ذك ُر هللا بأوص اف الجم ال م وجب للرحم ة‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد وأبو داود‪ ،‬والترمذي‪ ،‬والنسائي وابن ماجة وغيرهم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن السني وابن حبان‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن النجار‪.‬‬
‫‪ )(4‬شجرة المعارف واألحوال‪ ،‬ص ‪.1‬‬

‫‪50‬‬
‫وبأوص اف الكم ال م وجب للمهاب ة‪ ،‬وبالتوّح د باألفع ال م وجب للتوك ل‪ ،‬وبس عة‬
‫الرحمة موجب للرجاء‪ ،‬وبش دة النقم ة م وجب للخ وف‪ ،‬وب التفرّد باإلنع ام م وجب‬
‫للشكر)‬
‫ويبين ابن القيم تأثير أسماء هللا الحسنى في كل عب ادة من العب ادات الظ اهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬بل يجعل كل العبادات أثر من آثار المعرفة بأس ماء هللا الحس نى‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫(لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها‪ ،‬أعني‪ :‬من موجب ات العلم‬
‫به ا والتحقي ق بمعرفته ا‪ ،‬وه ذا مط رد في جمي ع أن واع العبودي ة ال تي على القلب‬
‫والجوارح)(‪)1‬‬
‫ثم يذكر األمثلة الموضحة لذلك‪ ،‬فيقول‪(:‬فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالض ّر‬
‫والنفع‪ ،‬والعط اء والمن ع‪ ،‬والخل ق وال رزق‪ ،‬واإلحي اء واإلمات ة‪ :‬يثم ر ل ه عبودي ة‬
‫التوكل عليه باطناً‪ ،‬ولوزام التوكل وثمراته ظاهراً‪ ،‬وعلمه بس معه تع الى وبص ره‪،‬‬
‫وعلمه أنه ال يخفى عليه مثقال ذرة‪ ،‬وأنه يعلم السر‪ ،‬ويعلم خائنة األعين وم ا تُخفي‬
‫الصدور‪ :‬يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على ك ل م ا ال يرض ي هللا‪،‬‬
‫وأن يجعل تعلق هذه األعضاء بما يحبه هللا ويرضاه‪ ،‬فيثمر له ذل ك‪ :‬الحي اء باطن اً‪،‬‬
‫ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح‪ ،‬ومعرفت ه بغن اه وج وده وكرم ه وب ره‬
‫وإحس انه ورحمت ه ت وجب ل ه س عة الرج اء‪ ...‬وك ذلك معرفت ه بجالل هللا وعظمت ه‬
‫وعزه‪ ،‬تثمر له الخضوع واالستكانة والمحبة‪ ،‬وتثمر له تلك األحوال الباطنة أنواعا ً‬
‫من العبودية الظاهرة‪ ،‬هي موجباتها‪ ..‬فرجعت العبودية كله ا إلى مقتض ى األس ماء‬
‫والصفات)‬
‫ويبين أثر التعبد بأسماء هللا تعالى في الوقاية من األمراض القلبي ة‪ ،‬كالحس د‪،‬‬
‫والكبر‪ ،‬اللذين هما منبع كل أمراض القلوب‪ ،‬فيقول‪(:‬لو عرف ربّه بصفات الكم ال‬
‫ونعوت الجالل‪ ،‬لم يتكبر ولم يحسد أحداً عى م ا آت اه هللا ؛ ف إن الحس د في الحقيق ة‬
‫نوع من معاداة هللا ؛ فإنه يكره نعمة هللا على عبده وقد أحبها هللا‪ ،‬ويحب زوالها عنه‬
‫وهللا يكره ذلك‪ ،‬فهو مضاد هلل في قضائه وقدره ومحبته وكراهته)(‪)2‬‬
‫ويبين أثر التبعد بأس ماء هللا تع الى وص فاته في الوق وف الص لب أم ا المحن‬
‫والباليا‪ ،‬فيقول‪(:‬من صحت له معرفة ربه والفق ه في أس مائه وص فاته علم يقين ا ً أن‬
‫المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ض روب من المص الح والمن افع‬
‫التي ال يحصيها علمه وال فكرته‪ ،‬بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها فيم ا يحب)‬
‫(‪ ،)3‬ويقول‪(:‬فكل ما ت راه في الوج ود من ش ر وألم وعقوب ة ونقص في نفس ك وفي‬
‫غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط‪ ،‬وهو عدل هللا وقسطه‪ ،‬وإن أج راه على ي د‬
‫ظالم‪ ،‬فالمسلط له أعدل العادلين‪ ،‬كما قال تعالى لمن أفس د في األرض‪ ﴿ :‬فَ إِ َذا َج ا َء‬

‫‪ )(1‬مفتاح دار السعادة‪ 90 /2 :‬باختصار‪ ،‬وانظر‪ :‬طريق الهجرتين‪ ،‬ص ‪.43‬‬


‫‪ )(2‬الفوائد‪ ،‬ص ‪.150‬‬
‫‪ )(3‬الفوائد‪ ،‬ص ‪.85‬‬

‫‪51‬‬
‫ار َو َكانَ َو ْع داً‬ ‫َو ْع ُد أُوالهُ َما بَ َع ْثنَا َعلَ ْي ُك ْم ِعبَاداً لَنَا أُولِي بَأْ ٍ‬
‫س َش ِدي ٍد فَ َجاسُوا ِخ َ‬
‫الل ال ِّديَ ِ‬
‫َم ْفعُوالً﴾ (االسراء‪)5:‬‬
‫وقد اهتم الغزالي في كتابه الجليل (المقصد األسنى) بالبع د ال تربوي ألس ماء‬
‫هللا الحسنى‪ ،‬فكان يذكر عند نهاية شرح كل اسم حظ العبد السلوكي منه‪ ،‬فهو يعت بر‬
‫ولكل صفة من صفات هللا تعالى أو اسم من أسمائه أثره الخاص به‪ ،‬والذي ال يمكن‬
‫لإلنسان الحصول عليه إذا لم يستولي على قلب ه مع نى ذل ك االس م او تل ك الص فة‪،‬‬
‫وهو معنى اإلحصاء الذي ورد في قوله ‪(:‬إن هلل تسعة وتس عين اس ما مائ ة غ ير‬
‫واحد من أحصاها دخل الجنة)(‪)1‬‬
‫وليس اإلحصاء أن يسمع لفظها أو يفهم في اللغة تفسيرها‪ ،‬أو يعتقد وجودها‪،‬‬
‫فإن سماع اللفظ ال يستدعي إال سالمة السمع‪ ،‬وأما فهم وضعها اللغوي فال يستدعي‬
‫إال المعرفة بالعربية‪ ،‬وأما اعتقاد ثبوت معناها هلل تعالى فال يستدعي إال فهم مع اني‬
‫هذه األلفاظ والتصديق بها‪ ،‬بل إن اإلحصاء ـ كم ا يش رحه الغ زالي ـ ه و أن ين ال‬
‫المؤمن ثالثة حظوظ من معاني أسماء هللا الحسنى‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ معرف ة مع اني تل ك األس ماء معرف ة كش فية ش هودية‪ ،‬ولفظ ا (المكاش فة‬
‫والمش اهدة) الل ذان يك ثر الغ زالي من اس تعمالهما في كتب ه ال يري د بهم ا الرؤي ة‬
‫البصرية والحسية‪ ،‬وإنما هما استعارة لغلب ة اليقين على البص يرة الباطن ة ال تي هي‬
‫أقوى من البصر الحسي(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ استعظام ما ينكشف له من صفات الجالل على وجه يشوقه إلى االتصاف‬
‫بما يمكن من تلك الصفات‪ ،‬ليؤهله ذلك إلى التقرب من هللا تع الى‪ ،‬فالمعرف ة ـ كم ا‬
‫يرى الغزالي ـ بذر الشوق(‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ الس عي إلى اكتس اب الممكن من تل ك الص فات والتخل ق به ا‪ ،‬والتحلي‬
‫بمحاسنها‪ ،‬وبذلك يصر العبد (ربانيا) متحققا بالقرب من ربه تعالى‪.‬‬
‫والغزالي يجعل الحظ األكبر في الوصول إلى هذه الدرجة ه و تعظيم أس ماء‬
‫هللا‪ ،‬فبقدر التعظيم يكون الشوق‪ ،‬وبقدر الشوق يكون الس لوك‪ ،‬يق ول‪(:‬ولن يتص ور‬
‫أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشرافها إال ويتبعه شوق إلى تلك الصفة وعش ق‬
‫ل ذلك الكم ال والجالل وح رص على التحلي ب ذلك الوص ف إن ك ان ذل ك ممكن ا‬
‫للمستعظم بكماله فإن لم يكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه ال محالة)‬
‫ويرجع سبب خلو القلب عن الشوق الدافع للعمل إلى سببين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ض عف المعرف ة واليقين بك ون الوص ف المعل وم من أوص اف الجالل‬
‫والكمال‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ امتالء القلب بشوق آخر مستغرقا به‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي وابن ماجة ‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/312 :‬‬
‫‪ )(3‬المقصد األسنى‪ ،‬ص‪.32‬‬

‫‪52‬‬
‫ويشبه ذل ك بالتلمي ذ‪ ،‬فإن ه إذا ش اهد كم ال أس تاذه في العلم انبعث ش وقه إلى‬
‫التشبه واالقتداء ب ه إال إذا ك ان ممل وءا ب الجوع مثال‪ ،‬ف إن اس تغراق باطن ه بش وق‬
‫القوت ربما يمنع انبعاث شوق العلم‪.‬‬
‫ويخلص الغ زالي من ه ذا إلى وج وب تج رد الن اظر في أس ماء هللا إلى هللا‬
‫حتى ينال حظه منها‪ ،‬قال‪(:‬ولهذا ينبغي أن يكون الناظر في صفات هللا تع الى خالي ا‬
‫بقلبه عن إرادة ما سوى هللا عز وجل‪ ،‬فإن المعرفة بذر الشوق)‬
‫‪ 2‬ـ اإليمان بالنبوات‬
‫وه و العنص ر الث اني من األرك ان األساس ية لإليم ان‪ ،‬ول ذلك امتألت آي ات‬
‫الق رآن الك ريم بالثن اء عليهم وذك ر قصص هم وأح والهم لتمأل القل وب محب ة لهم‬
‫وإجالال‪ ،‬وتشحن الطاقات قدوة وسلوكا‪ ،‬فيعيش المؤمن في صحبة النماذج الطاهرة‬
‫الرفيعة‪ ،‬فيترفع من خاللها إلى اآلفاق العليا من الكمال اإلنساني‪.‬‬
‫وخير مصدر ـ بل يكاد يكون المصدر الوحي د للتع رف على حقيق ة الرس ل ـ‬
‫صلوات هللا وسالمه عليهم ـ هو القرآن الكريم‪ ،‬فهو الكتاب المؤرخ لحياتهم المرشد‬
‫لكمالهم المصحح لألخطاء الكثيرة والتحريفات العظيمة التي لحقتهم‪.‬‬
‫وللقرآن الكريم طرق مختلف ة في إيص النا باألنبي اء‪ ،‬ومأل مش اعرنا ب ذكرهم‬
‫ومحبتهم واالهتداء بهديهم‪:‬‬
‫منها أن يأتي إلى نبي من األنبياء‪ ،‬فيستوفي قصته‪ ،‬ويسرد تفاصيل ما حصل‬
‫له‪ ،‬فتمتلئ عين القلب بشخص ذلك النبي‪ ،‬وتصبح حياته نبراسا يضيئ حياة محبي ه‬
‫المؤمنين به‪.‬‬
‫ومنه ا أن ي أتي إلى مش هد من مش اهد األنبي اء‪ ،‬فيس توفي أحداث ه‪ ،‬ليعيش‬
‫المؤمن ذلك الموقف‪ ،‬ويرسم منه لحياته من المواقف ما يضاهي ذلك الموقف أو ما‬
‫يجدد حياته‪.‬‬
‫ومنها أن يعدد أسماء األنبياء ويذكرها كل حين لترتسم م ع ك ل اس م ص ورة‬
‫نموذج من نماذج البر‪ ،‬وعمالق من عمالقة الصالح‪ ،‬ويكون ذلك اإلعج اب مقدم ة‬
‫ت َّمن نَّ َشاء‬ ‫االقتداء‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وتِ ْلكَ ُح َّجتُنَا آتَ ْينَاهَا إِب َْرا ِهي َم َعلَى قَوْ ِم ِه نَرْ فَ ُع د ََر َجا ٍ‬
‫وب ُكالًّ هَ َد ْينَا َونُوحا ً هَ َد ْينَا ِمن قَ ْب ُل َو ِمن‬ ‫ق َويَ ْعقُ َ‬ ‫إِ َّن َربَّكَ َح ِكي ٌم َعلِي ٌم َو َوهَ ْبنَا لَهُ إِ ْس َحا َ‬
‫ُّوب َويُوسُفَ َو ُمو َسى َوهَ ارُونَ َو َك َذلِكَ نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِس نِينَ‬ ‫ُذ ِّريَّتِ ِه دَا ُوو َد َو ُسلَ ْي َمانَ َوأَي َ‬
‫س َولُوطا ً‬ ‫اس ُك ٌّل ِّمنَ الصَّالِ ِحينَ َوإِ ْس َما ِعي َل َو ْاليَ َس َع َويُونُ َ‬ ‫َو َز َك ِريَّا َويَحْ يَى َو ِعي َسى َوإِ ْليَ َ‬
‫َو ُكالًّ فض َّْلنَا َعلَى ْال َعالَ ِمينَ َو ِم ْن آبَائِ ِه ْم َو ُذرِّ يَّاتِ ِه ْم َوإِ ْخ َوانِ ِه ْم َواجْ تَبَ ْينَ اهُ ْم َوهَ َد ْينَاهُ ْم إِلَى‬
‫ص َرا ٍط ُّم ْستَقِ ٍيم﴾ (األنعام‪ 83:‬ـ ‪)87‬‬ ‫ِ‬
‫وبع د أن ذك ر تع الى ه ذا الع دد من األس ماء عقب على ذل ك بقول ه تع الى‪:‬‬
‫ك الَّ ِذينَ هَدَى هَّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه﴾ (األنعام‪)90:‬‬ ‫﴿ أُولَئِ َ‬
‫والقرآن الكريم يمأل ص درا الم ؤمن ش وقا لكث ير من األنبي اء المنتش رين في‬
‫بقاع األرض على أمداد عم ر الت اريخ‪ ،‬فص فوة هللا المخت ارة لم تكن مقتص رة على‬
‫ق بَ ِش يرًا‬ ‫أرض دون أرض أو زمن دون زمن‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّا أَرْ َس ْلنَاكَ بِ ْال َح ِّ‬

‫‪53‬‬
‫َونَ ِذيرًا َوإِ ْن ِم ْن أُ َّم ٍة إِال خال فِيهَا نَ ِذيرٌ﴾ [فاطر‪.]24 :‬‬
‫ويخبر في آية أخرى أن ما ذكر في القرآن الكريم من األنبي اء مج رد نم اذج‬
‫ذكرت من باب التمثيل ال الحصر‪ ،‬وأن قانون الت دافع بين الخ ير والش ر‪ ،‬واألنبي اء‬
‫وأقوامهم متمثل فيهم جميعا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك لِّ أُ َّم ٍة َر ُس وال أَ ْن اُ ْعبُ دُوا‬
‫ت َعلَ ْي ِه الضَّاللَةُ فَ ِسيرُوا فِي‬ ‫هَّللا َ َواجْ تَنِبُوا الطَّا ُغوتَ فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن هَدَى هَّللا ُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َحقَّ ْ‬
‫ض فَا ْنظُرُوا َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ ْال ُم َك ِّذبِينَ ﴾ [النحل‪.]36 :‬‬ ‫األَرْ ِ‬
‫وكان ‪ ‬يصف خلقة األنبياء وصورهم لتقريب ما يصفه الق رآن الك ريم من‬
‫أحوالهم‪ ،‬قال ‪(:‬رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فابيض جع د‬
‫عريض الصدر وأما موسى فآدم جس يم ق الوا ف ابراهيم ق ال انظ روا إلى ص احبكم)‬
‫(‪ ،)1‬وقال ‪(:‬رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجال طواال جع دا كأن ه من‬
‫رج ال ش نؤة ورأيت عيس ى بن م ريم مرب وع الخل ق إلى الحم رة والبي اض س بط‬
‫الرأي)‬
‫انطالق ا من ه ذا س نذكر هن ا بعض اآلث ار التربوي ة لإليم ان بالرس ل‪ ،‬وم ا‬
‫يس تدعيه من ط رق التعري ف بهم‪ ،‬وم ا ينبغي اح ترازه من ذل ك على حس ب م ا‬
‫يقتضيه المقام‪:‬‬
‫القدوة‪:‬‬
‫ويش ير إلى ه ذه الناحي ة المهم ة الناتج ة عن اإليم ان الص حيح بالرس ل ـ‬
‫صلوات هللا وسالمه عليهم ـ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬أُولَئِ َ‬
‫ك الَّ ِذينَ هَ دَى هَّللا ُ فَبِهُ دَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه ﴾‬
‫(األنع ام‪ ،)90:‬ف الغرض األول من اإليم ان بالرس ل إيمان ا يول د المحب ة في قل وب‬
‫أصحابه هو اتخاذهم نماذج يقتدى بها‪ ،‬وأنوارا يهتدى بهديها‪.‬‬
‫وذلك ألن المعارف تظل أرواحا مجردة قد ال تجد من يلتفت إليه ا ح تى تج د‬
‫األجساد الطاهرة التي تمثلها‪ ،‬فتخرج من عالم المثال إلى عالم الواقع‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك تمثيل الرسل ـ صلوات هللا وس المه عليهم ـ ل دور التج رد‬
‫واإلخالص في التعامل مع هللا‪ ،‬وهذا م ا ت برهن علي ه خطبهم ألق وامهم في الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬والتي يحرص القرآن الكريم على ذكرها وتكرارها لتص بح في مح ل نظ ر‬
‫المقتدي‪ ،‬فال يتيه بالحوادث عن مواضع القدوة‪ ،‬قال تعالى على ألسنتهم‪ ﴿ :‬يَا قَوْ ِم ال‬
‫ي إِاَّل َعلَى الَّ ِذي فَطَ َرنِي أَفَال تَ ْعقِلُ ونَ ﴾ (ه ود‪ ،)51:‬وق ال‬ ‫أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ راً إِ ْن أَجْ ِر َ‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬اتَّبِعُوا َم ْن ال يَسْأَلُ ُك ْم أَجْ راً َوهُ ْم ُم ْهتَ ُدونَ ﴾ (يّـس‪ ،)21:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن‬
‫ت أَ ْن أَ ُك ونَ ِمنَ ْال ُم ْس لِ ِمينَ ﴾‬ ‫ي إِاَّل َعلَى هَّللا ِ َوأُ ِم رْ ُ‬ ‫ت ََولَّ ْيتُ ْم فَ َما َسأ َ ْلتُ ُك ْم ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِر َ‬
‫(يونس‪)72:‬‬
‫ُ‬
‫ولهذا أمر رسول هللا ‪ ‬أن يردد أق والهم‪ ،‬اقت داء بهم فق ال تع الى‪ ﴿ :‬ق لْ َم ا‬
‫أَ ْس أَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِاَّل َم ْن َش ا َء أَ ْن يَتَّ ِخ َذ إِلَى َربِّ ِه َس بِيالً﴾ (الفرق ان‪ ،)57:‬وق ال‬
‫ي إِاَّل َعلَى َربِّ ْال َع الَ ِمينَ ﴾ (الش عراء‪:‬‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا أَ ْس أَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِر َ‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.4/22:‬‬

‫‪54‬‬
‫ي إِاَّل َعلَى هَّللا ِ َوهُ َو‬ ‫‪ ،)109‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ َما َس أ َ ْلتُ ُك ْم ِم ْن أَجْ ٍر فَهُ َو لَ ُك ْم إِ ْن أَجْ ِر َ‬
‫َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ (سـبأ‪ ،)47:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر َو َما أَنَ ا‬
‫ِمنَ ْال ُمتَ َكلِّفِينَ ﴾ (صّ ‪)86:‬‬
‫وله ذا ك ان ‪ ‬يستحض ر مواق ف األنبي اء ليعي د إحياءه ا من جدي د‪ ،‬فك ان‬
‫يستحض ر في المواق ف المختلف ة م ا حص ل إلخوان ه من األنبي اء‪ ،‬عن عب د هّللا بن‬
‫مسعود قال‪ :‬قسم رس ول هّللا ‪ ‬ذات ي وم قس ما ً فق ال رج ل من األنص ار‪ :‬إن ه ذه‬
‫القسمة ما أريد بها وجه هّللا ‪ ،‬قال‪ ،‬فقلت‪ :‬يا عدو هّللا أما ألخ برن رس ول هّللا ‪ ‬بم ا‬
‫قلت‪ ،‬فذكرت ذلك للنبي ‪ ‬فاحمر وجهه ثم قال‪(:‬رحمة هّللا على موسى‪ ،‬لق د أوذي‬
‫بأكثر من هذا فصبر)(‪)1‬‬
‫ْ‬
‫يب َعلَ ْي ُك ُم اليَوْ َم‬ ‫ْ‬
‫وفي موقف آخر قال ‪(:‬أقول كما قال أخي يوسف‪ ﴿ :‬ال تَث ِر َ‬
‫َّاح ِمينَ ﴾ (يوسف‪)2())92:‬‬ ‫يَ ْغفِ ُر هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهُ َو أَرْ َح ُم الر ِ‬
‫وقد استدل ابن عباس بهذا على مشروعية سجدة سورة ص‪ ،‬فعن العوام قال‪:‬‬
‫سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال‪ :‬س ألت ابن عب اس م ا من أين س جدت؟ فق ال‪:‬‬
‫ك الَّ ِذينَ هَ دَى هَّللا ُ‬ ‫أوم ا تق رأ‪َ ﴿ :‬و ِم ْن ُذرِّ يَّتِ ِه دَا ُو َد َو ُس لَ ْي َمان﴾ (األنع ام‪ ﴿ ،)84:‬أُولَئِ َ‬
‫فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه﴾ (األنعام‪)90:‬؟ فكان داود عليه الصالة والسالم ممن أمر نبيكم ‪ ‬أن‬
‫يقتدي به‪ ،‬فسجدها داود عليه الصالة والسالم‪ ،‬فسجدها رسول هّللا ‪)3()‬‬
‫وهك ذا يص بح األنبي اء ـ ص لوات هللا وس المه عليهم ـ مص ابيح تض يئ‬
‫للمهتدين‪ ،‬وتبصرهم بالطريق الصحيح‪ ،‬وقد قال ابن القيم‪ ،‬وهو ي دعو إلى االقت داء‬
‫باألنبياء في جدهم في طريق هللا‪(:‬ي ا مخنث الع زم أين أنت‪ ،‬والطري ق طري ق تعب‬
‫فيه آدم‪ ،‬وناح ألجله نوح‪ ،‬ورمى في النار الخليل‪ ،‬وأض جع لل ذبح اس ماعيل‪ ،‬وبي ع‬
‫يوس ف بثمن بخس‪ ،‬ولبث في الس جن بض ع س نين‪ ،‬ونش ر بالمنش ار زكري ا‪ ،‬وذبح‬
‫السيد الحصور يحيى‪ ،‬وقاسى الضر أيوب‪ ،‬وزاد على المقدار بكاء داود‪ ،‬وسار مع‬
‫الوحش عيسى‪ ،‬وعالج الفقر وأنواع األذى محمد ‪ ‬تزها أنت باللهو واللعب)(‪)4‬‬
‫وهذه الصفة تقتضي عصمة الرسل ـ صلوات هللا وسالمه عليهم ـ‪ ،‬وتقتض ي‬
‫اقتصار المربي على هذه العصمة‪ ،‬وذلك ألن تصوير اإلثم في تص رفات األنبي اء ـ‬
‫كما تفعل بعض كتب التفس ير والمواع ظ ـ ي نزع منهم الثق ة‪ ،‬ويجعلهم محال للنق د‪،‬‬
‫وهو ما قد يتذرع به لسلوك سبيل المعصية بحج ة أن األنبي اء م ع مك انتهم الرفيع ة‬
‫وقع منهم الخطأ‪.‬‬
‫الجذور التاريخية لإلسالم واإلنسان‪:‬‬
‫فالقرآن الكريم بتفصيله لقصص األنبياء يش ير إلى ت اريخ يك اد يك ون مهمال‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم واللفظ ألحمد‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب وابن السني في عمل يوم وليلة‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(4‬الفوائد‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫في دواوين تاريخ البشرية‪ ،‬وهو تاريخ المعرفة باهلل وعبادته‪.‬‬
‫وهو تاريخ متصل من ل دن آدم ‪ ‬إلى رس ول هللا ‪ ‬ال ي ؤثر في اتص اله‬
‫اختالف األزمنة وال اختالف األمكنة‪ ،‬وال اختالف القوميات‪.‬‬
‫ولهذا آثاره الكبيرة في السلوك‪،‬ألنه يرفع الغربة عن المؤمن‪ ،‬ويفسر التاريخ‬
‫تفسيرا إيمانيا ال تفسيرا ماديا كما يفسره الغافلون‪ ،‬يقول سيد قطب ـ وه و يع دد نعم‬
‫هللا عليه بالعيش في ظالل القرآن الكريم ـ‪(:‬والمؤمن ذو نس ب عري ق‪ ،‬ض ارب في‬
‫شعاب الزمان‪ .‬إنه واح د من ذل ك الم وكب الك ريم‪ ،‬ال ذي يق ود خط اه ذل ك الره ط‬
‫الكريم‪:‬نوح وإب راهيم وإس ماعيل وإس حاق‪ ،‬ويعق وب ويوس ف‪ ،‬وموس ى وعيس ى‪،‬‬
‫ومحمد‪ ..‬عليهم الصالة والسالم‪ ..‬هذا الموكب الكريم‪ ،‬الممتد في شعاب الزمان من‬
‫قديم‪ ،‬يواجه ‪ -‬كما يتجلى في ظالل الق رآن ‪ -‬مواق ف متش ابهة‪ ،‬وأزم ات متش ابهة‪،‬‬
‫وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور‪ ،‬وتغير المكان‪ ،‬وتعدد األقوام‪.‬‬
‫يواجه الضالل والعمى والطغيان والهوى‪ ،‬واالضطهاد والبغي‪ ،‬والتهديد والتشريد‪.‬‬
‫ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو‪ ،‬مطمئن الضمير‪ ،‬واثقا من نص ر هللا‪ ،‬متعلق ا‬
‫ال الَّ ِذينَ َكفَ رُوا‬ ‫بالرجاء فيه‪ ،‬متوقعا في ك ل لحظ ة وع د هللا الص ادق األكي د‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫ض نَا أَوْ لَتَ ُع ود َُّن فِي ِملَّتِنَ ا فَ أَوْ َحى إِلَ ْي ِه ْم َربُّهُ ْم لَنُ ْهلِ َك َّن‬ ‫ُس لِ ِه ْم لَنُ ْخ ِر َجنَّ ُك ْم ِم ْن أَرْ ِ‬‫لِر ُ‬
‫ك لِ َم ْن خَ افَ َمقَ ا ِمي َو َخ افَ َو ِعي ِد﴾‬ ‫ض ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم َذلِ َ‬ ‫الظَّالِ ِمينَ َولَنُ ْس ِكنَنَّ ُك ُم اأْل َرْ َ‬
‫(ابراهيم‪ 13:‬ـ ‪ )14‬موقف واحد وتجربة واحدة‪ .‬وتهديد واحد‪ .‬ويقين واح د‪ .‬ووع د‬
‫واحد للموكب الكريم‪ ..‬وعاقبة واح دة ينتظره ا المؤمن ون في نهاي ة المط اف‪ .‬وهم‬
‫يتلقون االضطهاد والتهديد والوعيد)(‪)1‬‬
‫وقد يقال هنا‪ :‬فلماذا لم يذكر القرآن إال من كان يعرفه الن اس‪ ،‬وأه ل الكت اب‬
‫من األنبياء‪ ،‬أوليس في الغض عن ذكر غيرهم‪ ،‬غضا من الت اريخ‪ ،‬ومح وا ألجي ال‬
‫من الصالحين؟‬
‫والجواب عن ذلك‪ :‬إن القرآن الكريم جعل من قصص األنبي اء حروف ا تنب ني‬
‫منها الحياة المثالية للمؤمن‪ ،‬ومن شأن الحروف أن تكون قليلة محصورة‪ ،‬وإال ك ان‬
‫تكلف حفظها مانعا من استعمالها‪.‬‬
‫وهكذا اختار القرآن الكريم نماذج معينة تحمل مواض ع ع بر مختلف ة لتك ون‬
‫أنوارا يهتدى بها‪ ،‬فإذا ما حصل النور ببعضهم أغنى ذلك عن ذكر جميعهم‪.‬‬
‫أما غيرهم‪ ،‬فيكفي أن يشير بالثن اء عليهم واالع تراف بهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ص صْ َعلَ ْي كَ‬ ‫ص نَا َعلَ ْي كَ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن لَ ْم نَ ْق ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫ك ِم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬ ‫﴿ َولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ُرسُال ِم ْن قَ ْبلِ َ‬
‫َس َر‬ ‫ق َوخ ِ‬ ‫ض َي بِ ْال َح ِّ‬ ‫َو َما َكانَ لِ َرسُو ٍل أَ ْن يَأْتِ َي بِآيَ ٍة إِال بِ إِ ْذ ِن هَّللا ِ فَ إِ َذا َج ا َء أَ ْم ُر هَّللا ِ قُ ِ‬
‫هُنَالِكَ ْال ُم ْب ِطلُونَ ﴾[غافر‪.]78 :‬‬
‫زيادة على ذلك‪ ،‬فإن سائل هذا السؤال ال يفهم أسرار مقاص د الق رآن الك ريم‬
‫من سرد قصص األنبياء‪ ،‬فاألنبياء في القرآن الكريم ـ على خالف ما في كتب أه ل‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.1/12 :‬‬

‫‪56‬‬
‫الكتاب ـ يراد منها العبرة والتمثيل والتصوير ليعايشها المؤمن أفكارا وقدوة وسلوكا‬
‫ال مجرد أحداث تاريخية‪.‬‬
‫فلذلك كان من الحكمة أن يذكر المعروفين من األنبياء‪ ،‬ألن غير المع روفين‪،‬‬
‫ق د تنك رهم الجم اهير‪ ،‬وق د تعت برهم من أس اطير األولين‪ ،‬وق د حص ل بعض ه ذا‬
‫عندما أنكر البعض قصة عاد وثمود لعدم ورودها في كتب أهل الكتاب‪.‬‬
‫ثم إن من يريد أن يوضح مسألة أويقرب قضية من القضايا يحت اج إلى إي راد‬
‫األمثلة المبسطة المعروفة عن د من يخ اطبهم‪ ،‬وإال ك ان توض يحه إبهام ا‪ ،‬وش رحه‬
‫تعقيدا‪.‬‬
‫تمثيل حقيقة اإلسالم‪:‬‬
‫فاهلل تع الى يس وق القص ص ليق رر حقيق ة اإلس الم ومتطلبات ه‪ ،‬فالرس ل ـ‬
‫صلوات هللا وس المه عليهم ـ هم خ ير من يمث ل اإلس الم في أرقى درجات ه‪ ،‬وله ذا‬
‫يش رح هللا تع الى حقيق ة إس الم إب راهيم ‪ ‬بض رب األمثل ة عن والئ ه الت ام هلل‪،‬‬
‫وإسالم وجهه كله له‪.‬‬
‫فه و ي دعو أقارب ه إلى هللا‪ ،‬بك ل م ا أوتي من ص نوف اللين‪ ،‬طامع ا في‬
‫إسالمهم‪ ،‬لكنه بمجرد أن تبينت له ع داوتهم هلل ت برأ منهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا َك انَ‬
‫ا ْستِ ْغفَا ُر إِ ْب َرا ِهي َم أِل بِي ِه إِاَّل ع َْن َموْ ِع َد ٍة َو َع َدهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ َعد ٌُّو هَّلِل ِ تَبَرَّأَ ِم ْنهُ إِ َّن‬
‫إِ ْب َرا ِهي َم أَل َ َّواهٌ َحلِي ٌم﴾ (التوبة‪)114:‬‬
‫وهو يشتاق إلى الولد كسائر البشر ـ بعد أن يهجره قومه ويتركوه‪ ،‬بل ي ذيقوه‬
‫م ا تمكن وا من ه من بالء ـ‪ ،‬فيق ول‪ ﴿ :‬إِنِّي َذا ِهبٌ إِلَى َربِّي َس يَ ْه ِدي ِن َربِّ هَبْ لِي ِمنَ‬
‫الصَّالِ ِحينَ ﴾‬
‫وتأتيه البشارة بعد عمر طويل‪ ﴿ :‬فَبَ َّشرْ نَاهُ بِ ُغاَل ٍم َحلِ ٍيم ﴾‬
‫وبمجرد أن يبشر به يؤمر بأن ينقل ابن ه الرض يع م ع أم ه إلى بل د غ ير ذي‬
‫ك‬ ‫ع ِع ْن َد بَ ْيتِ َ‬ ‫ت ِم ْن ُذ ِّريَّتِي بِ َوا ٍد َغ ْي ِر ِذي زَرْ ٍ‬ ‫زرع‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ربَّنَا إِنِّي أَ ْس َك ْن ُ‬
‫ْال ُم َحر َِّم ﴾ (ابراهيم‪ ،)37:‬فينقله‪ ،‬ويبعده عنه عمرا طويال‪.‬‬
‫بل يتركه في موق ف مأس اوي أليم على قلب األب ال ذي انتظ ر ابن ه ط ويال‪،‬‬
‫وقد روي عن ابن عباس قوله في حديث ذلك‪(:‬ثم جاء بها إبراهيم وبإبنه ا إس ماعيل‬
‫وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت‪ ،‬عن د دوح ة ف وق زم زم في أعلى المس جد‬
‫وليس بمكة يومئذ أحد‪ ،‬وليس بها ماء‪ ،‬فوضعهما هنال ك ووض ع عن دها ِجراب ا ً في ه‬
‫تمر‪ ،‬وسقاء فيه ماء‪ ،‬ثم قفّى إبراهيم منطلقا ً فتبعت ه أم إس ماعيل فق الت‪ :‬ي ا إب راهيم‬
‫أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس وال شيء؟ فقالت له ذل ك م راراً‬
‫وجعل ال يلتفت إليه ا‪ ،‬فق الت‪ :‬آهّلل أم رك به ذاً؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬ق الت‪ :‬إذاً ال يض يعنا‪ ،‬ثم‬
‫رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث ال يرونه استقبل بوجهه البيت‪،‬‬
‫ت ِم ْن ُذرِّ يَّتِي بِ َوا ٍد َغ ْي ِر ِذي‬ ‫ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال‪َ ﴿ :‬ربَّنَا إِنِّي أَ ْس َك ْن ُ‬
‫اس تَ ْه ِوي إِلَ ْي ِه ْم‬‫الص الةَ فَاجْ َع لْ أَ ْفئِ َدةً ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ك ْال ُم َح ر َِّم َربَّنَ ا لِيُقِي ُم وا َّ‬ ‫ع ِع ْن َد بَ ْيتِ َ‬ ‫زَرْ ٍ‬

‫‪57‬‬
‫(ابراهيم‪)1())37:‬‬ ‫ت لَ َعلَّهُ ْم يَ ْش ُكرُونَ ﴾‬‫َوارْ ُز ْقهُ ْم ِمنَ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ثم بعد رجوعه البنه الذي أمضى كث يرا من حيات ه بعي دا عن ه‪ ،‬ي ؤمر بذبح ه‬
‫بي ده في ال وقت ال ذي ص ار يرج وا خ يره وعون ه‪ ،‬ق ال تع الى حاكي ا قص ة ذل ك‪،‬‬
‫ي إِنِّي أَ َرى فِي ْال َمنَ ِام أَنِّي أَ ْذبَ ُح كَ فَ انظُرْ‬ ‫ْي قَ َ‬
‫ال يَ ا بُنَ َّ‬ ‫الس ع َ‬ ‫ونتيجته‪ ﴿ :‬فَلَ َّما بَلَ َغ َم َعهُ َّ‬
‫َ‬
‫الص ابِ ِرينَ فَلَ َّما أ ْس لَ َما‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬
‫ت ا ْف َعلْ َما تُ ْؤ َم ُر َس ت َِج ُدنِي إِن َش اء ُ ِمنَ‬ ‫َما َذا تَ َرى قَا َل يَا أَبَ ِ‬
‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِس نِينَ إِ َّن‬ ‫ص َّد ْقتَ الرُّ ْؤيَ ا إِنَّا َك َذلِ َ‬‫َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِي ِن َونَا َد ْينَاهُ أَ ْن يَا إِ ْب َرا ِهي ُم قَ ْد َ‬
‫َظ ٍيم َوت ََر ْكنَ ا َعلَ ْي ِه فِي اآْل ِخ ِرينَ َس اَل ٌم َعلَى‬ ‫ْح ع ِ‬ ‫هَ َذا لَهُ َو ْالبَاَل ء ْال ُمبِينُ َوفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ‬
‫ك نَجْ ِزي ْال ُمحْ ِسنِينَ إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَ ا ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َوبَ َّش رْ نَاهُ بِإِ ْس َحا َ‬
‫ق نَبِيّ ا ً ِّمنَ‬ ‫إِ ْب َرا ِهي َم َك َذلِ َ‬
‫ين﴾‬ ‫ق َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِ ِه َم ا ُمحْ ِس ٌن َوظَ الِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه ُمبِ ٌ‬ ‫ار ْكنَ ا َعلَ ْي ِه َو َعلَى إِ ْس َحا َ‬ ‫الصَّالِ ِحينَ َوبَ َ‬
‫(الصافات‪ 101:‬ـ ‪)113‬‬
‫فهذه النماذج وغيرها توضح حقيقة إسالم الوجه هلل في منتهى كماله ا‪ ،‬وله ذا‬
‫أمرنا‪ ،‬بل أمر قب ل ذل ك رس ولنا ‪ ‬أن يتب ع مل ة إب راهيم في مواض ع متع ددة من‬
‫ص َرا ٍط ُم ْس تَقِ ٍيم ِدين ا ً قِيَم ا ً ِملَّةَ‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي َربِّي إِلَى ِ‬
‫ك‬ ‫إِ ْب َرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َما َكانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (األنعام‪ ،)161:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬ثُ َّم أَوْ َح ْينَا إِلَ ْي َ‬
‫أَ ِن اتَّبِ ْع ِملَّةَ إِ ْب َرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َما َكانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (النحل‪)123:‬‬
‫ويمن على المؤمنين أن هداهم إلى ملة إبراهيم فقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َجا ِهدُوا فِي هَّللا ِ‬
‫ج ِملَّةَ أَبِي ُك ْم إِ ْب َرا ِهي َم هُ َو‬ ‫ِّين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫ق ِجهَا ِد ِه ه َُو اجْ تَبَا ُك ْم َو َم ا َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي ال د ِ‬ ‫َح َّ‬
‫َس َّما ُك ُم ْال ُم ْسلِ ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل َوفِي هَ َذا لِيَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َش ِهيداً َعلَ ْي ُك ْم َوتَ ُكونُوا ُش هَدَا َء َعلَى‬
‫َص ُموا بِاهَّلل ِ هُ َو َم وْ ال ُك ْم فَنِ ْع َم ْال َم وْ لَى َونِ ْع َم‬ ‫اس فَأَقِي ُموا الصَّالةَ َوآتُ وا ال َّز َك اةَ َوا ْعت ِ‬ ‫النَّ ِ‬
‫صيرُ﴾ (الحج‪)78:‬‬ ‫النَّ ِ‬
‫ويعتبر كل انحراف عن ملة إب راهيم س فها من ال رأي‪ ،‬وانحراف ا عن الح ق‪،‬‬
‫وكأن إبراهيم ‪ ‬هو المقياس الذي يقاس ب ه اإلس الم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَ رْ َغبُ‬
‫اص طَفَ ْينَاهُ فِي ال ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي اآْل ِخ َر ِة لَ ِمنَ‬‫ع َْن ِملَّ ِة إِ ْب َرا ِهي َم إِاَّل َم ْن َس فِهَ نَ ْف َس هُ َولَقَ ِد ْ‬
‫الصَّالِ ِحينَ ﴾ (البقرة‪)130:‬‬
‫ورد على من دعا إلى غير ملته‪ ،‬وذم قوله‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَالُوا ُكونُوا هُ وداً‬
‫ارى تَ ْهتَدُوا قُلْ بَلْ ِملَّةَ إِب َْرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َما َكانَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (البق رة‪،)135:‬‬ ‫َص َ‬‫أَوْ ن َ‬
‫ق هَّللا ُ فَاتَّبِعُوا ِملَّةَ إِب َْرا ِهي َم َحنِيفا ً َو َم ا َك انَ ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (آل‬ ‫ص َد َ‬‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ َ‬
‫عمران‪)95:‬‬
‫وذلك ألن أكمل توجه هلل وأحسنه هو توجه إبراهيم ‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َمنْ‬
‫أَحْ َس نُ ِدين ا ً ِم َّم ْن أَ ْس لَ َم َوجْ هَ هُ هَّلِل ِ َوهُ َو ُمحْ ِس ٌن َواتَّبَ َع ِملَّةَ إِ ْب َرا ِهي َم َحنِيف ا ً َواتَّ َخ َذ هَّللا ُ‬
‫إِ ْب َرا ِهي َم خَ لِيالً﴾ (النساء‪)125:‬‬
‫‪ 3‬ـ اإليمان بعالم الغيب‬
‫عوالم الغيب ـ في أصلها ـ هي الع والم ال تي خفيت على الم ؤمن‪ ،‬أو ال تي ال‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫تستطيع وسائل اإلدراك العادية التعرف عليها‪ ،‬أوالتي جاءت النصوص المعصومة‬
‫بالداللة عليها‪ ،‬وهي ب ذلك تش مل ك ل قض ايا اإليم ان‪ ،‬كم ا ق ال تع الى في وص ف‬
‫ب َويُقِي ُمونَ الصَّالةَ َو ِم َّما َرزَ ْقنَاهُ ْم يُ ْنفِقُ ونَ ﴾ (البق رة‪:‬‬ ‫المؤمنين‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫‪)3‬‬
‫وأخبر أن المؤمنين الصادقين ال يحول بينهم وبين الخوف من هللا أو التعام ل‬
‫اإليماني معه كونه غيبا عن حواسهم‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا لَيَ ْبلُ َونَّ ُك ُم‬
‫ب فَ َم ِن ا ْعتَ دَى‬ ‫ص ْي ِد تَنَالُهُ أَ ْي ِدي ُك ْم َو ِر َم ا ُح ُك ْم لِيَ ْعلَ َم هَّللا ُ َم ْن يَخَافُ هُ بِ ْال َغ ْي ِ‬ ‫هَّللا ُ بِ َش ْي ٍء ِمنَ ال َّ‬
‫بَ ْع َد َذلِكَ فَلَهُ َع َذابٌ أَلِي ٌم﴾ (المائ دة‪ ،)94:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ يَ ْخ َش وْ نَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ب‬
‫َوهُ ْم ِمنَ السَّا َع ِة ُم ْشفِقُونَ ﴾ (االنبياء‪ ،)49:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا تُ ْن ِذ ُر َم ِن اتَّبَ َع ال ِّذ ْك َر‬
‫ب فَبَ ِّشرْ هُ بِ َم ْغفِ َر ٍة َوأَجْ ٍر َك ِر ٍيم﴾ (يّـس‪ ،)11:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬م ْن‬ ‫َوخَ ِش َي الرَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ق‪ ،)33:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولِيَ ْعلَ َم هَّللا ُ َم ْن‬ ‫ب﴾ ( ّ‬ ‫ب ُمنِي ٍ‬ ‫ب َو َج ا َء بِقَ ْل ٍ‬ ‫خَش َي ال رَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ‬ ‫ِ‬
‫َزي ٌز﴾ (الحدي د‪ ،)25:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ي‬
‫ٌّ‬ ‫و‬
‫َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫هَّللا‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫إ‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫ر‬‫ُ‬ ‫و‬‫ُ َ‬ ‫ه‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ص‬
‫ُ‬ ‫يَ ْن‬
‫ب لَهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ َوأَجْ ٌر َكبِيرٌ﴾ (الملك‪)12:‬‬ ‫يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫واشتد في عتاب بني إسرائيل الذين طلبوا أن ي روا هللا جه رة ح تى يص دقوا‬
‫وس ى لَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لَ كَ َحتَّى نَ َرى هَّللا َ َج ْه َرةً فَأَخَ َذ ْت ُك ُم‬ ‫ب ه‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قُ ْلتُ ْم يَ ا ُم َ‬
‫َّاعقَةُ َوأَ ْنتُ ْم تَ ْنظُرُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)55:‬وأخبر أن ه ؤالء أنفس هم طلب وا من رس ول‬ ‫الص ِ‬
‫ب‬‫هللا ‪ ‬كتابا من الغيب يرونه حسا‪ ،‬فرد هللا تعالى عليهم بقوله‪ ﴿ :‬يَسْأَلُكَ أَ ْه ُل ْال ِكتَا ِ‬
‫ك فَقَالُوا أَ ِرنَا هَّللا َ َج ْه َرةً‬ ‫أَ ْن تُن َِّز َل َعلَ ْي ِه ْم ِكتَابا ً ِمنَ ال َّس َما ِء فَقَ ْد َسأَلُوا ُمو َسى أَ ْكبَ َر ِم ْن َذلِ َ‬
‫ات فَ َعفَوْ نَ ا ع َْن‬ ‫فَأ َ َخ َذ ْتهُ ُم الصَّا ِعقَةُ بِظُ ْل ِم ِه ْم ثُ َّم اتَّ َخ ُذوا ْال ِعجْ َل ِم ْن بَ ْع ِد َم ا َج ا َء ْتهُ ُم ْالبَيِّنَ ُ‬
‫ك َوآتَ ْينَا ُمو َسى س ُْلطَانا ً ُمبِيناً﴾ (النساء‪)153:‬‬ ‫َذلِ َ‬
‫وهذا ألن أصل التكلي ف يقتض ي الغيب‪ ،‬فل و أن قض ايا اإليم ان ك ان دليله ا‬
‫الحس ووسائل اإلدراك العادية لما كان هناك أي تكليف باإليمان بها‪.‬‬
‫ومثل ذلك‪ :‬االمتحان الذي يجري ه األس تاذ لتالمي ذه‪ ،‬فل و أن ه وض ع اإلجاب ة‬
‫المباش رة على الس بورة‪ ،‬ثم طلب منهم أن يجيب وا على أس ئلته لم ا اختلف وا في نق ل‬
‫اإلجابة مباشرة دون عناء‪ ،‬ولما اختلف جهدهم في اإلجابة عنها‪ ،‬ولما تميز المتفوق‬
‫ك َولَ وْ‬ ‫منهم والجاد من الغبي والهازل‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَالُوا لَوْ ال أُ ْن ِز َل َعلَ ْي ِه َملَ ٌ‬
‫ض َي اأْل َ ْم ُر ثُ َّم ال يُ ْنظَرُونَ ﴾ (األنعام‪)8:‬‬ ‫أَ ْن َز ْلنَا َملَكا ً لَقُ ِ‬
‫ولكن ع الم الغيب أو الس معيات ـ كمص طلح ـ قص ر على م ا ال يمكن‬
‫االستدالل عليه بالعقل المجرد‪ ،‬وما كان في نفس الوقت في ح يز اإلمك ان‪ ،‬فتخ رج‬
‫أبواب األلوهية والنبوات النسجام العقل مع النصوص في الداللة عليها‪.‬‬
‫فلذلك يكتفى في مثل هذه المسائل باألدلة المعصومة‪ ،‬ويعزل العق ل عن البت‬
‫فيها بقول أو بدليل إال دليل اإلمك ان‪ ،‬وله ذا ق ال تع الى بع د ذك ر ك ثر من األخب ار‬
‫ب نُو ِحي ِه إِلَ ْيكَ َو َما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم إِ ْذ ي ُْلقُ ونَ أَ ْقال َمهُ ْم أَيُّهُ ْم‬ ‫ك ِم ْن أَ ْنبَا ِء ْال َغ ْي ِ‬ ‫والقصص‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫ك ِم ْن‬ ‫َص ُمونَ ﴾ (آل عمران‪ ،)44:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬تِ ْل َ‬ ‫يَ ْكفُ ُل َمرْ يَ َم َو َما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم إِ ْذ يَ ْخت ِ‬
‫اص بِرْ إِ َّن‬ ‫ك َم ا ُك ْنتَ تَ ْعلَ ُمهَ ا أَ ْنتَ َوال قَوْ ُم كَ ِم ْن قَ ْب ِل هَ َذا فَ ْ‬ ‫ب نُو ِحيهَ ا إِلَ ْي َ‬ ‫أَ ْنبَ ا ِء ْال َغ ْي ِ‬

‫‪59‬‬
‫وحي ِه إِلَ ْي كَ َو َم ا‬ ‫ْال َعاقِبَةَ لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ (هود‪ ،)49:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ذلِ كَ ِم ْن أَ ْنبَ ا ِء ْال َغ ْي ِ‬
‫ب نُ ِ‬
‫ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم إِ ْذ أَجْ َمعُوا أَ ْم َرهُ ْم َوهُ ْم يَ ْم ُكرُونَ ﴾ (يوسف‪ ،)102:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬قُ ِل هَّللا ُ‬
‫ت َواأْل َرْ ض﴾ (الكهف‪)26:‬‬ ‫أَ ْعلَ ُم بِ َما لَبِثُوا لَهُ َغيْبُ ال َّس َما َوا ِ‬
‫ولهذا اإليمان تأثيره النفسي والتربوي الكبير على اإلنسان‪ ،‬ب ل إن ه ينقل ه من‬
‫عالم البهيمية الذي تلقيه فيه غرائزه وأهواؤه إلى عالم اإلنسانية الرفي ع‪ ،‬يق ول س يد‬
‫قطب‪(:‬واإليمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها اإلنس ان‪ ،‬فيتج اوز مرتب ة الحي وان‬
‫الذي ال يدرك إال ما تدركه حواسه‪ ،‬إلى مرتبة اإلنسان الذي يدرك أن الوجود أك بر‬
‫وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس ‪ -‬أو األجه زة ال تي هي‬
‫امت داد للح واس ‪ -‬وهي نقل ة بعي دة األث ر في تص ور اإلنس ان لحقيق ة الوج ود كل ه‬
‫ولحقيقة وجوده الذاتي‪ ،‬ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود‪ ،‬وفي إحساسه‬
‫ب الكون وم ا وراء الك ون من ق درة وت دبير‪ .‬كم ا أنه ا بعي دة األث ر في حيات ه على‬
‫األرض ؛ فليس من يعيش في الح يز الص غير ال ذي تدرك ه حواس ه كمن يعيش في‬
‫الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أص داءه وإيحاءات ه في أطوائ ه‬
‫وأعماقه‪ ،‬ويشعر أن م داه أوس ع في الزم ان والمك ان من ك ل م ا يدرك ه وعي ه في‬
‫عمره القصير المحدود)(‪)1‬‬
‫ويرد على المفكرين المعاصرين الذين يتصورون اإليمان بعوالم الغيب نوعا‬
‫من الهروب عن الواق ع‪ ،‬فيق ول‪(:‬لق د ك ان اإليم ان ب الغيب ه و مف رق الطري ق في‬
‫ارتقاء اإلنسان عن عالم البهيمة‪ .‬ولكن جماع ة الم اديين في ه ذا الزم ان‪ ،‬كجماع ة‬
‫الماديين في كل زم ان‪ ،‬يري دون أن يع ودوا باإلنس ان القهق ري‪ ..‬إلى ع الم البهيم ة‬
‫الذي ال وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية " وه و النكس ة ال تي وقى‬
‫هللا المؤمنين إياها‪ ،‬فجعل صفتهم المميزة‪ ،‬صفة‪ :‬ال ذين يؤمن ون ب الغيب والحم د هلل‬
‫على نعمائه‪ ،‬والنكسة للمنتكسين والمرتكسين!)(‪)2‬‬
‫ولهذا اإليمان زيادة على هذا الترفع باإلنسان تأثيره الكبير في السالم النفس ي‬
‫الذي هو منطلق كل خير‪ ،‬وقد ضرب اإلم ام ب ديع الزم ان ل ذلك مثال فس ربه قول ه‬
‫ب﴾ (البقرة‪ ،)3:‬فقال‪(:‬ان كنت تريد ان تعرف م دى م ا‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫في االيمان من سعادة ونعمة‪ ،‬ومدى ما فيه من لذة وراحة‪ ،‬فاستمع الى هذه الحكاية‬
‫القصيرة)(‪)3‬‬
‫ثم ذكر أنه خرج رجالن في سياحة ذات يوم‪ ،‬من أجل االس تجمام والتج ارة‪.‬‬
‫فمضى احدهما وكان أنانيا ً شقيا ً الى جهة‪ ،‬ومضى اآلخر وهو رباني سعيد الى جهة‬
‫ثانية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فاالناني المغ رور ال ذي ك ان متش ائما لقي بل دا في غاي ة الس وء والش ؤم في‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.1/39:‬‬


‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.1/40:‬‬
‫‪ )(3‬الكلمات‪ ،‬الكلمة الثانية‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫نظره‪ ،‬جزاءاً وفاقا ً على تشاؤمه‪ ،‬حتى انه كان يرى ‪ -‬أينما اتجه ‪ -‬عج زةً مس اكين‬
‫يصرخون ويولولون من ضربات ايدي رجال طغاة قساة ومن اعمالهم المد ّمرة‪.‬‬
‫فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من ام اكن‪ ،‬ح تى اتخ ذت‬
‫المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام‪ .‬فلم يجد لنفسه عالجا ً لحاله الم ؤلم المظلم‬
‫غير السُكر‪ ،‬فرمى نفسه في نشوته لكيال يشعر بحاله‪ ،‬إذ ص ار ك ل واح د من اه ل‬
‫هذه المملكة يتراءى له عدواً يتربص به‪ ،‬واجنبيا ً يتنكر له‪ ،‬فظل في عذاب وج داني‬
‫مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءاً يائسا ً مريراً‪.‬‬
‫أ ّما اآلخر الرجل الربّاني العاب د هلل‪ ،‬والب احث عن الح ق‪ ،‬فق د ك ان ذا أخالق‬
‫حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال‪.‬‬
‫فه ذا الرج ل الص الح ي رى في المملك ة ال تي دخله ا احتف االت رائع ة‬
‫ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق‪ .‬وفي كل طرف سـروراً‪ ،‬وفي كل زاويـة‬
‫حبـوراً‪ ،‬وفي كل مكان محاريب ذكر‪ .‬حتى لقد صار يرى ك ل ف رد من أف راد ه ذه‬
‫المملكة صديقا ً صدوقا ً وقريب ا ً حبيب ا ً ل ه‪ .‬ثم ي رى ان المملك ة كله ا تعلن ‪ -‬في حف ل‬
‫التسريح العام ‪ -‬هتافات الف رح بص يحة مص حوبة بكلم ات الش كر والثن اء‪ .‬ويس مع‬
‫فيهم أيضا ً أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات‬
‫العالية والتهليالت الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون الى الخدمة والجندية‪.‬‬
‫فبينما كان ذلك الرجل االول المتشائم منشغالً بألم ه وآالم الن اس كلهم‪ ..‬ك ان‬
‫الثاني السعيد المتفائل مسروراً مع سرور الناس كلهم فرحا ً م ع ف رحهم‪ .‬فض الً عن‬
‫انه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده‪.‬‬
‫ولدى عودته الى أهله‪ ،‬يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه‪ ،‬وعن أخب اره‪ ،‬فيعلم ك ل‬
‫شئ عن حاله فيقول له‪(:‬يا هذا لقد جننتَ ! فان ما في باطنك من الش ؤم انعكس على‬
‫ظاهرك بحيث أص بحتَ تت وهم أن ك ل ابتس امة ص راخ ودم وع‪ ،‬وأن ك ل تس ريح‬
‫واجازة نهب وسلب‪ .‬عُد الى رشدك‪ ،‬وطهّر قلبك‪ ..‬لعل هذا الغشاء النكد ي نزاح عن‬
‫عيني ك‪ .‬وعس ى أن تبص ر الحقيق ة على وجهه ا األبلج‪ .‬ف إن ص احب ه ذه المملك ة‬
‫ومالكه ا وه و في منتهى درج ات الع دل والمرحم ة والربوبي ة واالقت دار والتنظيم‬
‫المبدع والرفق‪ ..‬وان مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آث ار‬
‫بأم عينيك‪ ...‬ال يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور)‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع الى صوابه رويدا رويدا‪ ،‬ويفكر‬
‫ليرض هللا عن ك؛‬‫َ‬ ‫بعقله ويقول متندماً‪(:‬نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر‪..‬‬
‫فلقد انقذتني من جحيم الشقاء)‬
‫ثم يفسر المعاني الجليلة التي يحملها هذا المثال‪ ،‬فيقول‪(:‬فيا نفسي! اعلمي ان‬
‫الرجل االول هو الكافر أو الفاس ق الغاف ل فه ذه ال دنيا في نظ ره بمثاب ة م أتم ع ام‪،‬‬
‫وجميع االحيـاء ايت ام يبك ون تألم ا ً من ضــربات ال زوال وص فعات الف راق‪ ..‬أم ا‬
‫االنس ان والحي وان فمخلوق ات س ائبة بال راع وال مال ك‪ ،‬تتم زق بمخ الب األج ل‬
‫وتعتصر بمعصرته‪..‬وأما الموجودات الض خام ـ كالجب ال والبح ار ـ فهي في حكم‬

‫‪61‬‬
‫الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة‪ ..‬وامثال هذه األوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من‬
‫كفر االنسان وضاللته تذيق صاحبها عذابا ً معنويا ً مريراً‪.‬‬
‫أما الرجل الثاني‪ ،‬فهو المؤمن الذي يعرف خالق ه ح ق المعرف ة وي ؤمن ب ه‪،‬‬
‫فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني‪ ،‬وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان‪ ،‬ومي دان‬
‫ابتالء واختبار االنس والجان‪ ..‬أما الوفيات كافة ـ من حي وان وانس ان ـ فهي اعف اء‬
‫من الوظائف‪ ،‬وانه اء من الخ دمات‪ ،‬فال ذين أنه وا وظ ائف حي اتهم‪ ،‬يو ّدع ون ه ذه‬
‫الدار الفانية وهم مسرورون معنوياً‪ ،‬حيث انهم ينقلون الى عالم آخر غير ذي قل ق‪،‬‬
‫خ ال من اوض ار الم ادة واوص اب الزم ان والمك ان وص روف ال دهر وط وارق‬
‫الحدثان‪ ،‬لينفسح المجال واسعا ً لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم‪ ..‬اما المواليد‬
‫كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي َسوقة تجنيد عسكرية‪ ،‬وتسلُّم سالح‪ ،‬وتسنّم وظائف‬
‫راض‬
‫ٍ‬ ‫وواجبات‪ ،‬فك ل ك ائن انم ا ه و موظ ف وجن دي مس رور‪ ،‬وم أمور مس تقيم‬
‫قانع‪...‬وأما االص وات المنبعث ة واالص داء المرت دة من ارج اء ال دنيا فهي إم ا ذك ر‬
‫وتسبيح لتسنم الوظائف والش روع فيه ا‪ ،‬أو ش كر وتهلي ل اي ذانا ً باالنته اء منه ا‪ ،‬أو‬
‫أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته‪..‬‬
‫فالموجودات كلها ـ في نظر هذا المؤمن ـ خدام مؤنس ون‪ ،‬وموظف ون أخالّء‪،‬‬
‫وكتبٌ حلوة لسيده الك ريم ومالك ه ال رحيم‪ ..‬وهك ذا يتجلى من ايمان ه كث ير ج داً من‬
‫أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق)‬
‫بعد هذا‪ ..‬فإن اآلث ار العظيم ة لإليم ان ب الغيب ال تتحق ق إال إذا لقيت طرح ا‬
‫سليما من المربي‪ ،‬ونرى تقيد هذا الطرح بما يلي‪:‬‬
‫علمية اإليمان بالغيب‪:‬‬
‫نعم إن قضايا اإليمان بالغيب ال يمكن إدراكها ب الحس المج رد‪ ،‬وال بوس ائل‬
‫اإلدراك العادية‪ ،‬ومع ذل ك‪ ،‬ف إن للعق ل مج اال فيه ا‪ ،‬إم ا في التع رف على إمكاني ة‬
‫وجودها‪ ،‬أو في تصور ما يحمله اإليمان بالغيب من حقائق‪.‬‬
‫أما مجال التعقل‪ ،‬فالقرآن الكريم ي برهن على الغيب باألدل ة العقلي ة الكث يرة‪،‬‬
‫فيربهن على البعث والقيامة بما يرى في اإلنسان واألرض من آثار ت دل على ق درة‬
‫هللا المطلقة بإعادة الحياة‪ ،‬فاهلل هو المبدئ المعيد‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِ ْن ُك ْنتُ ْم‬
‫ض َغ ٍة‬ ‫طفَ ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثُ َّم ِم ْن ُم ْ‬ ‫ب ثُ َّم ِم ْن نُ ْ‬ ‫ث فَإِنَّا َخلَ ْقنَ ا ُك ْم ِم ْن تُ َرا ٍ‬ ‫ب ِمنَ ْالبَ ْع ِ‬ ‫فِي َر ْي ٍ‬
‫ُمخَ لَّقَ ٍة َو َغي ِْر ُمخَ لَّقَ ٍة لِنُبَيِّنَ لَ ُك ْم َونُقِرُّ فِي اأْل َرْ َح ِام َما نَ َشا ُء إِلَى أَ َج ٍل ُم َس ّم ًى ثُ َّم نُ ْخ ِر ُجك ْمُ‬
‫ِط ْفالً ثُ َّم لِتَ ْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُتَ َوفَّى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َكيْال يَ ْعلَ َم‬
‫َت‬ ‫ت َوأَ ْنبَت ْ‬‫ت َو َربَ ْ‬ ‫ض هَا ِم َدةً فَإِ َذا أَ ْنزَ ْلنَا َعلَ ْيهَا ْال َما َء ا ْهتَ َّز ْ‬
‫َم ْن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َشيْئا ً َوت ََرى اأْل َرْ َ‬
‫يج﴾ (الحج‪)5:‬‬ ‫ج بَ ِه ٍ‬ ‫ِم ْن ُك ِّل َزوْ ٍ‬
‫فاهلل تع الى يس تدل بقدرت ه المطلق ة على نق ل اإلنس ان من ط ور إلى ط ور‬
‫بقدرته على البعث الذي ه و في حقيقت ه ال يع دوا أن يك ون ط ورا من أط وار حي اة‬
‫اإلنسان الممتدة‪.‬‬
‫ومثل ذلك عالم المالئكة وغيرها من العوالم الغيبية التي خلقها هللا ـ كما خلق‬

‫‪62‬‬
‫اإلنسان ـ يقول سيد قطب‪(:‬ونسأل‪:‬ماذا عند أدعياء العقلية العلمية‪ ،‬من علمهم ذات ه‪،‬‬
‫يحتم عليهم نفي ه ذا الخل ق المس مى بالمالئك ة‪ ،‬وإبع اده عن دائ رة التص ور‬
‫والتصديق؟ ماذا لديهم من علم يوجب عليهم ذلك؟‬
‫إن علمهم ال يملك أن ينفي وجود حياة من ن وع آخ ر غ ير الحي اة المعروف ة‬
‫في األرض في أجرام أخرى‪ ،‬يختلف تركيب جوها وتختلف طبيعتها وظروفها عن‬
‫ج و األرض وظروفه ا‪ ..‬فلم اذا يجزم ون بنفي ه ذه الع والم‪ ،‬وهم ال يملك ون دليال‬
‫واحدا على نفي وجودها؟‬
‫إنن ا ال نح اكمهم إلى عقي دتنا‪ ،‬وال إلى ق ول هللا س بحانه! إنم ا نح اكمهم إلى‬
‫علمهم الذي يتخذونه إلها‪ ..‬فال نجد إال أن المك ابرة وح دها ‪ -‬من غ ير أي دلي ل من‬
‫هذا العلم ‪ -‬هي التي تقودهم إلى هذا اإلنك ار غ ير العلمي! المج رد أن ه ذه الع والم‬
‫غيب؟ لقد نرى حين نناقش هذه القضية أن الغيب الذي ينكرونه هو الحقيقة الوحي دة‬
‫التي يجزم هذا العلم الي وم بوجوده ا ؛ ح تى في ع الم الش هادة ال ذي تلمس ه األي دي‬
‫وتراه العيون)(‪)1‬‬
‫ويق ول النورس ي مبين ا علمي ة اإليم ان بالمالئك ة‪(:‬ان الك رة االرض ية وهي‬
‫واحدة من األجرام السماوية‪ ،‬على كثافتها وضآلة حجمها‪ ،‬قد اصبحت موطنا ً لما ال‬
‫يحد من االحياء وذوي المشاعر‪ ،‬حتى لقد اصبحت أقذر وأخسّ األماكن فيها من ابع‬
‫وم واطن لكث ير من األحي اء‪ ،‬ومحش راً ومعرض ا ً للكائن ات الدقيق ة‪ .‬فالض رورة‬
‫أن‪ :‬ه ذا‬ ‫والبداه ة والح دس الص ادق واليقين الق اطع جميع ا ً ت دل وتش هد ب ل تعلن ّ‬
‫الفض اء الواس ع والس موات ذات ال بروج واألنجم والك واكب كله ا مليئ ة باألحي اء‬
‫وبذوي االدراك والشعور)(‪)2‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن المربي الصادق ال يكتفي بتقرير الحقائق الغيبي ة مج ردة‪ ،‬يكل ف‬
‫بها عقل المتلقي تكليفا‪ ،‬بل يحاول أن يلطفها ويقوي رسوخها بما يبثه من أدلة‪ ،‬ف إن‬
‫إبراهيم ‪ ‬م ع علم ه بق درة هللا المطلق ة على اإلحي اء طلب من هللا م ا يزي د ه ذه‬
‫ال إِ ْب َرا ِهي ُم َربِّ أَ ِرنِي َك ْيفَ تُحْ يِي ْال َموْ تَى‬ ‫الطمأنينة قوة ورسوخا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ص رْ ه َُّن إِلَ ْي كَ‬‫ال فَ ُخ ْذ أَرْ بَ َعةً ِمنَ الطَّي ِْر فَ ُ‬ ‫ط َمئِ َّن قَ ْلبِي قَ َ‬ ‫قَا َل أَ َولَ ْم تُ ْؤ ِم ْن قَا َل بَلَى َولَ ِك ْن لِيَ ْ‬
‫ْ‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾‬ ‫ثُ َّم اجْ َعلْ َعلَى ُك ِّل َجبَ ٍل ِم ْنه َُّن ج ُْزءاً ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن يَأتِينَكَ َسعْيا ً َوا ْعلَ ْم أَ َّن هَّللا َ ع ِ‬
‫(البقرة‪)260:‬‬
‫أما مجال التصور‪ ،‬فإن الكثير من قضايا اإليمان الغيبي يمكن قياسه على م ا‬
‫خلق هللا في األرض من ظواهر‪ ،‬من باب تقريب عالم الغيب من عالم الحس‪ ،‬ومثل‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن‬ ‫ت أَ َّن لَهُ ْم َجنَّا ٍ‬ ‫ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وبَ ِّش ِر الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬
‫ُز ْقنَا ِم ْن قَ ْب ُل َوأُتُوا بِ ِه‬‫ُزقُوا ِم ْنهَا ِم ْن ثَ َم َر ٍة ِر ْزقا ً قَالُوا هَ َذا الَّ ِذي ر ِ‬ ‫تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر ُكلَّ َما ر ِ‬
‫ُمتَ َشابِها ً َولَهُ ْم فِيهَا أَ ْز َوا ٌج ُمطَهَّ َرةٌ َوهُ ْم فِيهَ ا خَالِ ُدونَ ﴾ (البق رة‪ )25:‬أي يش به الش كل‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.1044 :‬‬


‫‪ )(2‬الكلمات‪ ،‬الكلمة التاسعة والعشرون‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫الشكل‪ ،‬ولكن الطعم غير الطعم‪ ،‬ومثل ذلك قول ه ‪ ‬في ذك ر س درة المنتهى‪(:‬ف إذا‬
‫ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قالل هجر)(‪)1‬‬
‫عالم الغيب ال عالم الخرافة‪:‬‬
‫عالم الغيب هو العالم الذي وردت النصوص المعص ومة باإلخب ار عن ه‪ ،‬أم ا‬
‫عالم الخرافة فهو العالم الذي دخل العقيدة اإلسالمية ـ لألسف ـ تحت مظلة النقل من‬
‫أه ل الكت اب إحس انا للظن بهم‪ ،‬أو تحت مظل ة األح اديث المنك رة والمعلول ة‬
‫والموضوعة‪ ،‬أو تحت مظلة العقل الذي تع دى ط وره وحقيقت ه ووظيفت ه‪ ،‬أو تحت‬
‫مظلة الكشف الذي يختلط في ه ال وهم بالحقيق ة‪ ،‬أو تحت مظالت أخ رى كث يرة ليس‬
‫بينها مصدر معصوم‪.‬‬
‫فلذلك‪ ،‬يمكن اعتبار كل ما لح ق ه ذا الع الم الغي بي من غ ير أدل ة معص ومة‬
‫ضربا من الخرافة ال يصح أن يمتلئ به عقل المؤمن وال ضميره‪.‬‬
‫واألمثل ة على دخ ول الخراف ة ه ذه الع والم الغيبي ة كث يرة‪ ،‬منه ا ـ مثال ـ‬
‫الخرافات التي نس جت ح ول المالئك ة الم وكلين ب العرش ـ عليهم الس الم ـ وال تي‬
‫تلبست بلباس الحديث الشريف‪ ،‬فذكرت أنهم (ثمانية أمالك على صورة األوع ال)‪،‬‬
‫وأن (لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وك ل‬
‫وجه منها يسأل هللا الرزق لذلك الجنس)‪ ،‬و(أن فوق السماء السابعة ثماني ة أو ع ال‬
‫بين أظالفهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظه ورهن الع رش)‪ ،‬وأن ه‬
‫أنشد بين يدي النبي ‪ ‬قول أمية بن أبي الصلت‪:‬‬
‫والنس ر لألخ رى وليث‬ ‫رج ل وث ور تحت رج ل‬
‫مرصد‬ ‫ه‬ ‫يمين‬
‫حمراء يصبح لونها يت ورد‬ ‫والش مس تطل ع ك ل آخ ر‬
‫ة‬ ‫ليل‬
‫ة وإال تجلد‬ ‫إال معذب‬ ‫ليس ت بطالع ة لهم في‬
‫لها‬ ‫رس‬
‫فقال النبي ‪(:‬صدق)‬
‫وقد رويت هذه األساطير ـ لألس ف ـ في كتب التفس ير المعتم دة‪ ،‬وهي مم ا‬
‫يح رص العام ة على مثل ه‪ ،‬وهي خراف ات ال ح ظ له ا من العلم‪ ،‬وال ح ظ لراويه ا‬
‫وملفقها من الذوق‪ ،‬وقد رد عليها ـ بحمد هللا ـ الشيخ محمد زاهد الك وثري‪ ،‬برس الة‬
‫س ماها (فص ل المق ال في بحث األوع ال) أو (فص ل المق ال في تمحيص أحدوث ة‬
‫األوعال)‪ ،‬فذكر المص ادر ال تي أخ رجت ه ذه النص وص وتتب ع أق والهم تمحيص ا‬
‫وتحليال وانتهى إلى أنّها أقاصيص دخيلة ال أصل لها‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫البعد الروحي في تربية األوالد‬
‫يعتبر البعد الروحي من أهم األبعاد التربوية من ناحيتين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أنه مدد للبعد األول‪ ،‬إذ أن اإليمان ـ كما يقول العلماء ـ يزيد وينقص‪،‬‬
‫يزيد بالطاعات‪ ،‬وينقص بالمعاصي‪ ،‬ولذلك يكفي االهتمام بهذا البعد لتحقيق مع اني‬
‫اإليمان وترسيخها عن تكل ف األدل ة الكث يرة ال تي ق د ال تفي د ش يئا م ع من تلطخت‬
‫روحه باألهواء والشهوات والشبهات‪.‬‬
‫ت ْال ِج َّن‬
‫الثانية‪ :‬أنه أصل غاي ة وج ود اإلنس ان‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا خَ لَ ْق ُ‬
‫َواأْل ِ ْن َ‬
‫س إِاَّل لِيَ ْعبُدُو ِن﴾ (الذريات‪)56:‬‬
‫والبعد الروحي يقوم على ركيزتين أساسيتين ال غنى إلحداهما عن األخرى‪،‬‬
‫هم ا‪ :‬عبودي ة القلب‪ ،‬وعبودي ة الج وارح‪ ،‬وس نتحدث في ه ذ الفص ل عن كلت ا‬
‫العبوديتين مع بيان الطرق التربوية واألحكام الفقهية المتعلقة بهما‪.‬‬
‫أوال ـ عبادات القلب‬
‫نريد بعبادات القلب‪ :‬العبادات ال تي ليس له ا جارح ة ت ؤدى به ا‪ ،‬وال مظه ر‬
‫ي دل عليه ا‪ ،‬وإنم ا هي مجموع ة مش اعر وأحاس يس يمتلئ به ا القلب‪ ،‬وينفع ل له ا‬
‫الوجدان‪ ،‬فهي عبادات الباطن كما أن الشعائر التعبدية هي عبادات الظاهر‪.‬‬
‫ولكن هذه العبادات مع بطونها وخفائها يمكنها أن تحول اإلنسان عالما فري دا‬
‫من الكماالت والمواهب والطاقات‪.‬‬
‫وذلك ألن الوقود الذي يحرك طاقة أي إنسان ينطلق من تلك المشاعر قبل أن‬
‫ينطلق من غيرها‪ ،‬بل إن العقل نفسه ـ وهو أعظم طاق ة إنس انية ـ ق د يع زل ع زال‬
‫تاما إذا ما تعارض مع أي شعور من المشاعر الطاغية‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن التربية الس ليمة ـ وال تي ال تهتم بطالء النش ء طالء س رعان م ا‬
‫تغيره األيام ـ تنطلق من هذا النوع من العبودية لتعبر إلى غيره‪.‬‬
‫وهي في تلك الممارسة تثبت في نفس النشء جمي ع المع اني النبيل ة والخالل‬
‫الطيبة التي ستنبت بعد ذلك السلوك الطيب والخلق العظيم‪.‬‬
‫وقد كان من حكمة المربي الص الح محم د بن س وار أن ربى ال ولي الص الح‬
‫سهل بن عبد هللا التستري على هذه العب ادة قب ل أن يربي ه على العب ادات الظ اهرة‪،‬‬
‫قال سهل‪ :‬كنت وأنا ابن ثالث سنين أقوم باللي ل ف أنظر إلى ص الة خ الي محم د بن‬
‫سوار فقال لي يوماً‪ :‬أال تذكر هللا الذي خلقك فقلت‪ :‬كيف أذكره؟ قال‪ :‬قل بقلبك عن د‬
‫تقلبك في ثيابك ثالث مرات من غير أن تح ّرك به لسانك‪ ،‬هللا معي هللا ناظر إل َّ‬
‫ي هللا‬
‫شاهدي‪ ،‬فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال‪ :‬قل في كل ليل ة س بع م رات‪ ،‬فقلت ذل ك ثم‬

‫‪65‬‬
‫أعلمته فقال‪ :‬قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة‪ ،‬فقلته فوق ع في قلبـي حالوت ه‪ ،‬فلم ا‬
‫كان بعد سنة قال لي خالي‪ :‬احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك‬
‫في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فلم أزل على ذلك سنين فوجدت ل ذلك حالوة في س ري‪ ،‬ثم ق ال‬
‫لي خ الي يوم اً‪ :‬ي ا س هل من ك ان هللا مع ه ون اظراً إلي ه وش اهده أيعص يه؟ إي اك‬
‫والمعصية)‬
‫فإن هذا النموذج ال تربوي ي بين لن ا البرن امج ال ذي وض عه محم د بن س وار‬
‫ليغرس في قلب سهل معنى مراقبة هللا والشعور بحضوره والذي تنبني علي ه جمي ع‬
‫عبادات القلوب‪.‬‬
‫ولذلك نرى أن على المربي الصالح أن يضع برنامجا يتناسب م ع عم ر من‬
‫يربيه وقدرات ه بحيث يخلص من ذل ك البرن امج إلى نت ائج تربوي ة ص حيحة تعم ق‬
‫المعاني الروحية التي هي أصل العبادات وحقيقتها‪.‬‬
‫وال يمكننا هنا أن نضع برنامجا لذلك‪ ،‬وإنما س نحاول أن ن بين بعض أمه ات‬
‫عبادات القلوب وأهميتها وأثرها السلوكي‪ ،‬ثم كيفية تربية النشء عليها‪.‬‬
‫وهي تحت اج إلى ص بر عظيم وت درج‪ ،‬ألن الخط اب الموج ه إلى القل وب‬
‫يستدعي معرفة لغات القلوب‪.‬‬
‫وهذه العبادات التي سنذكرها تكاد تحصر عالقة القلب م ع هللا‪ ،‬بحيث تجع ل‬
‫من غيرها مما ذكره علماء السلوك فروعا دانية منها‪.‬‬
‫وهي كلها أثر من آثار المعرفة باهلل واإليمان به‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ف الحب ه و عبودي ة القلب النابع ة من معرف ة جمي ع ص فات كم ال هللا‬
‫وإحسانه وفضله‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ والشكر هو عبودية القلب النابعة من معرفة إحسان هللا وكرمه وجوده‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ والصبر والرضا هما عبودية القلب النابع ة من معرف ة هللا المبتلي اآلم ر‬
‫الناهي‪.‬‬
‫وقيل أن نشرع في بيانها وفي كيفية تربي ة النش ء عليه ا نحب أن نش ير إلى‬
‫مسألتين مهمتين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬هي أن البعض يغالي في صعوبة التحقق بهذه األنواع من العب ادات‪،‬‬
‫بحيث يكاد يجعل منها أمرا مستحيال‪ ،‬فيشترط للتحقق بها شروطا صعبة‪ ،‬ويتصور‬
‫أنه بدون واسطة روحي ـ مهما كانت درجته من العلم والتق وى ـ يس لم ل ه اإلنس ان‬
‫نفسه تسليما كليا‪ ،‬ال يظفر بهذه العبادات‪.‬‬
‫وه ذا خط أ عظيم‪ ،‬ألن هللا تع الى لم يكلفن ا بالمس تحيل‪ ،‬زي ادة على أن تل ك‬
‫الشروط قد ال يظفر بها ك ل حين وال لك ل الن اس‪ ،‬وم ا في النص وص من المع اني‬
‫العظيمة كفيل بتربية النفس وتعميق هذه العبادات في القلوب خاص ة إن وج دت من‬
‫الصالحين من العلماء والوعاظ من يعمقها ويرسخها في نفوس العامة‪.‬‬
‫ونحن ال نعترض هنا على ضرورة وجود الواسطة الروحي المجرب‪ ،‬ف ذلك‬
‫له دور كبير في اختصار السلوك‪ ،‬ولكنا نتصور أن هذا الواسطة ال روحي ال يع ني‬

‫‪66‬‬
‫أن يكون فردا بعينه من الناس قد يرث ه ذه الوس اطة عن أبي ه أو ج ده‪ ،‬ولكنه ا ق د‬
‫تكون فكرا اجتماعيا ينشره واعظ أو يدعو إليه عالم أو يمارس ه عاب د بحيث يص بح‬
‫معنى من المعاني الصالحة المنتشرة في المجتمع‪.‬‬
‫وقد ذكر علماء الس لوك المس لمين أن مج رد االهتم ام به ذه العب ادات القلبي ة‬
‫وحب الظف ر به ا‪ ،‬ب ل وتكل ف حص ولها ك اف في تحقي ق ه ذا المحب ول و ببعض‬
‫معانيها‪ ،‬يقول الغزالي في بيان أقسام التواجد ـ الذي هو تكلف األحوال ال حص ولها‬
‫تلقائيا ـ‪(:‬وهذا التواجد المتكلف فمن ه م ذموم وه و ال ذي يقص د ب ه الري اء وإظه ار‬
‫اإلفالس منها‪ ،‬ومنه ما هو محمود وهو التوص ل إلى اس تدعاء‬ ‫األحوال الشريفة مع ِ‬
‫األحوال الشريفة واكتسابها واجتالبها بالحيلة‪ ،‬فإن للكسب مدخالً في جلب األح وال‬
‫الش ريفة‪ ،‬ول ذلك أم ر رس ول هللا ‪ ‬من لم يحض ره البك اء في ق راءة الق رآن أن‬
‫يتباكى ويتحازن فإن هذه األحوال قد تتكلف مبادئها ثم تتحقق أواخرها)(‪)1‬‬
‫واستدل لذلك بالواقع الذي يدل على أن مبادي كل ش يء تنطل ق من التكل ف‪،‬‬
‫يقول‪(:‬وكيف ال يكون التكلف سببا ً في أن يص ير المتكل ف في اآلخ رة طبع اً‪ .‬وك ل‬
‫من يتعلم القرآن أوالً يحفظه تكلفاً‪ ،‬ويقرؤه تكلفا ً مع تمام التأمل وإحضار ال ذهن‪ ،‬ثم‬
‫يصير ذلك دي دنا ً للس ان مط رداً ح تى يج ري ب ه لس انه في الص الة وغيره ا وه و‬
‫غافل‪ ،‬فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائ ه إلى آخره ا ويعلم أن ه قرأه ا‬
‫في حال غفلته‪ ،‬وكذلك الكاتب يكتب في االبتداء بجهد ش ديد ثم تتم رن على الكتاب ة‬
‫يدُه فيصير الكتب له طبعا ً فيكتب أوراقا ً كثيرة وهو مستغرق القلب بفكر آخر)‬
‫وانطل ق من ه ذا الواق ع ال ذي ه و تعب ير عن اس تعداد الفط رة البش رية‬
‫باالنصباغ بصبغة ما تهتم به‪ ،‬إلى إمكانية السير إلى هللا والتحقق بالمعاني الروحي ة‬
‫النبيلة بمجرد تكلفها واالهتمام بها‪ ،‬قال‪(:‬فك ذلك األح وال الش ريفة ال ينبغي أن يق ع‬
‫اليأس منها عند فقدها‪ ،‬بل ينبغي أن يتكلف اجتالبها بالسماع وغيره‪ ،‬فلقد ش وهد في‬
‫العادات من اشتهى أن يعشق شخصا ً ولم يكن يعشقه فلم يزل يردد ذكره على نفس ه‬
‫ويديم النظر إلي ه ويق رّر على نفس ه األوص اف المحبوب ة واألخالق المحم ودة في ه‬
‫حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخا ً خ رج عن ح ّد اختي اره‪ ،‬فاش تهى بع د ذل ك‬
‫الخالص من ه فلم يتخلص‪ .‬فك ذلك حب هللا تع الى والش وق إلى لقائ ه والخ وف من‬
‫س خطه وغ ير ذل ك من األح وال الش ريفة؛ إذا فق دها اإلنس ان فينبغي أن يتكل ف‬
‫اجتالبها بمجالسة الموص وفين به ا ومش اهدة أح والهم وتحس ين ص فاتهم في النفس‬
‫وبالجلوس معهم في السماع وبال دعاء والتض رع إلى هللا تع الى في أن يرزق ه تل ك‬
‫الحلة بأن يـيسر له أسبابها)‬
‫وقد استدل الغزالي لهذا من النصوص بما كان ي دعو ب ه ‪ ‬من طلب محب ة‬
‫هللا‪ ،‬ق ال‪(:‬وي دل على إمك ان تحص يل الحب وغ يره من األح وال باألس باب ق ول‬
‫رس ول هللا في دعائ ه‪( :‬اللَّهُ َّم ارْ ز ْقنِي ُحبَّكَ َوحُبَّ َم ْن أَ َحبَّكَ َوحُبَّ َم ْن يُقَ رِّ بُنِي إِلَ ٰى‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.2/256 :‬‬

‫‪67‬‬
‫ُحبِّكَ )‪ ،‬فقد فزع عليه السالم إلى الدعاء في طلب الحب)‬
‫الثانية‪ :‬أن البعض قد يحتقر هذا النوع من العب ادات‪ ،‬لتص وره أن العب ادة ال‬
‫تعني غير السلوكيات الظاهرة‪ ،‬وأن االنغماس في ه ذه العب ادات الروحي ة ق د ي زج‬
‫بصاحبه في ترهات الصوفية وشطحاتهم‪.‬‬
‫وهذا خطأ أعظم من الخطأ السابق‪ ،‬ألن النص وص المقدس ة مليئ ة بالح ديث‬
‫عن ه ذه الج وانب الروحي ة العميق ة‪ ،‬ب ل ال تعت بر الت دين إال امتالء النفس به ذه‬
‫المع اني‪ ،‬وله ذا ق ال تع الى لألع راب ال ذين اكتف وا برس وم اإلس الم عن حقائق ه‪،‬‬
‫ت اأْل َ ْع َرابُ آ َمنَّا قُ لْ لَ ْم تُ ْؤ ِمنُ وا َولَ ِك ْن‬ ‫وبعباداته الظاهرة عن عبادات ه الباطن ة‪ ﴿ :‬قَ الَ ِ‬
‫قُولُوا أَ ْسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل اأْل ِ ي َمانُ فِي قُلُوبِ ُك ْم ﴾ (الحجرات‪)14:‬‬
‫واإليمان المراد هنا هو اإليم ان الحقيقي الفاع ل الم ؤثر ال ذين إذا اس تقر في‬
‫قل وبهم جعلهم يش عرون بمن ة هللا عليهم باإليم ان ال إيم ان ال ذين يمن ون على هللا‬
‫بإيمانهم‪.‬‬
‫ولهذا حصر هللا تعالى وصف اإليمان فيمن تحقق بهذاه العبادات القلبية‪ ،‬ق ال‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُ هُ‬ ‫ت قُلُ وبُهُ ْم َوإِ َذا تُلِيَ ْ‬‫تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِك َر هَّللا ُ َو ِجلَ ْ‬
‫زَا َد ْتهُ ْم إِي َمانا ً َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَت ََو َّكلُونَ ﴾ (ألنفال‪)2:‬‬
‫وأخبر عن المؤمنين بأنهم يحبون هللا‪ ،‬بل هم أشد حبا هلل‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ِمنَ‬
‫اس َم ْن يَتَّ ِخ ُذ ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ أَ ْن دَاداً ي ُِحبُّونَهُ ْم َكحُبِّ هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ آ َمنُ وا أَ َش ُّد ُحبّ ا ً هَّلِل ِ ﴾‬
‫النَّ ِ‬
‫(البقرة‪)165:‬‬
‫وعندما أخبر ‪ ‬عن كمال اإليمان ربطه بهذه المعاني القلبية‪ ،‬ق ال ‪(:‬ذاق‬
‫طعم اإليم ان من رض ي باهلل رب ا وباإلس الم دين ا وبمحم د رس وال)(‪ ،)1‬والرض ى‬
‫عبادة من العبادات القلبية‪.‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أن حالوة اإليم ان ال تتحق ق إال لمن ق دم محب ة هللا ورس وله على‬
‫وج َد حالوة اإليمان‪ :‬أن يك ون هللا ورس وله‬ ‫الث ّم ْن ُك َّن فيه َ‬ ‫من سواهما‪ ،‬قال ‪(:‬ثَ ٌ‬
‫كرهَ أن يعود في الكفر‬ ‫أحب إليه مما سواه ُما‪ ،‬وأن يُحبَّ المر َء ال يُحبهُ إال هلل‪ ،‬وأن يَ َ‬
‫كما يكره أن يُقذف في النار)‬
‫ب ل إن العب ادات الظ اهرة ـ حس بما ت دل النص وص ـ ال تكفي م ا لم تكن‬
‫مصحوبة بهذه المعاني الروحية والعبادات القلبية‪:‬‬
‫فالصالة جسد بال روح إن لم يصحبها الخش وع ال ذي ه و عب ادة القلب‪ ،‬ق ال‬
‫تعالى في وصف المؤمنين الذين تحقق وا ب الفالح‪ ﴿ :‬قَ ْد أَ ْفلَ َح ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ الَّ ِذينَ هُ ْم فِي‬
‫صالتِ ِه ْم خَا ِشعُونَ ﴾ (المؤمنون‪ ،)2:‬فجعل الخشوع وصفا مفرقا بين ص الة الم ؤنين‬ ‫َ‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫فل ذلك من الخط أ أن نعلم أبناءن ا الص الة وال نعلمهم الخش وع‪ ،‬ألنن ا ب ذلك‬
‫نحولهم إلى دمى متحركة ال عبادا هلل‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫ولن نعلمهم الخشوع إال إذا ربيناهم على هذه العبادات الروحية‪ ،‬ألنه ا أص ل‬
‫الخشوع‪ ،‬ومادته‪ ،‬ومنبعه الذي منه يس تقي‪ ،‬يق ول الغ زالي في بي ان دور العب ادات‬
‫القلبي ة ودوره ا في حض ور القلب وخش وعه في الص الة‪(:‬أم ا التعظيم؛ فهي حال ة‬
‫للقلب تتولد من معرفتين‪ ،‬إح داهما‪ :‬معرف ة جالل هللا ع ز وج ل وعظمت ه وه و من‬
‫أصول اإليمان ف إن من ال يعتق د عظمت ه ال ت ذعن النفس لتعظيم ه‪ .‬الثاني ة‪ :‬معرف ة‬
‫حق ارة النفس وخس تها وكونه ا عب داً مس خراً مربوب ا ً ح تى يتول د من المعرف تين‬
‫االستكانة واالنكسار والخشوع هلل سبحانه فيعبر عنه بالتعظيم‪ ،‬وما لم تمتزج معرفة‬
‫حقارة النفس بمعرفة جالل هللا ال تنتظم حالة التعظيم والخشوع‪ ،‬فإن المس تغني عن‬
‫غ يره اآلمن على نفس ه يج وز أن يع رف من غ يره ص فات العظم ة‪ ،‬وال يك ون‬
‫الخشوع والتعظيم حاله ألن القرينة األخرى وهي معرفة حق ارة النفس وحاجته ا لم‬
‫تقترن إليه)(‪)2‬‬
‫وله ذا وص ف هللا تع الى عب ادات الص الحين بكونه ا عب ادات خاش عين ال‬
‫الص ال ِة َوإِنَّهَ ا لَ َكبِ ي َرةٌ إِاَّل َعلَى‬
‫صب ِْر َو َّ‬ ‫عبادات متحركين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْست َِعينُوا بِال َّ‬
‫ص لَحْ نَا لَ هُ‬ ‫ْالخَا ِش ِعينَ ﴾ (البقرة‪ ،)45:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬فَا ْستَ َج ْبنَا لَ هُ َو َوهَ ْبنَ ا لَ هُ يَحْ يَى َوأَ ْ‬
‫َاش ِعينَ ﴾‬ ‫ت َويَ ْدعُونَنَا َرغَبا ً َو َرهَبا ً َو َكانُوا لَنَا خ ِ‬ ‫ار ُعونَ فِي ْال َخ ْي َرا ِ‬ ‫َزوْ َجهُ إِنَّهُ ْم َكانُوا يُ َس ِ‬
‫ت َو ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ت‬ ‫(االنبي اء‪ ،)90:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن ْال ُم ْس لِ ِمينَ َو ْال ُم ْس لِ َما ِ‬
‫ت َو ْال ِ‬
‫خَاش ِعينَ‬ ‫الص ابِ ِرينَ َو َّ‬
‫الص ابِ َرا ِ‬ ‫ت َو َّ‬ ‫الص ا ِدقَا ِ‬‫الص ا ِدقِينَ َو َّ‬ ‫ت َو َّ‬ ‫َو ْالقَانِتِينَ َو ْالقَانِتَ ا ِ‬
‫ُوجهُ ْم‬‫ت َو ْال َحافِ ِظينَ فُ ر َ‬ ‫ت َوالصَّائِ ِمينَ َوالصَّائِ َما ِ‬ ‫ص ِّدقَا ِ‬ ‫َص ِّدقِينَ َو ْال ُمتَ َ‬
‫ت َو ْال ُمت َ‬ ‫َو ْالخَا ِش َعا ِ‬
‫ت أَ َع َّد هَّللا ُ لَهُ ْم َم ْغفِ َرةً َوأَجْ راً َع ِظيم اً﴾‬ ‫ت َوال َّذا ِك ِرينَ هَّللا َ َكثِ يراً َوال َّذا ِك َرا ِ‬ ‫َو ْال َحافِظَ ا ِ‬
‫(األحزاب‪)35:‬‬
‫وهذه الص الة ال تي هي أم العب ادات ال ت ؤثر في ص احبها‪ ،‬فتعم ق في نفس ه‬
‫معاني اإليمان‪ ،‬وتجتث منه منابع الفحشاء والمنكر إال إذا لقحها بلقاح الخشوع‪.‬‬
‫ومثل ذلك الزكاة والصدقات‪ ،‬فإنها وإن ك انت إنفاق ا مالي ا محض ا‪ ،‬والمنتف ع‬
‫األول بها هم الفقراء إال أن هللا تعالى اعتبر الرياء الذي هو فقدان اإلخالص ـ واذي‬
‫هو عبادة من عبادات القلوب ـ عند أدائه ا محبط ا له ا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ‬
‫اس َوال يُ ْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ‬‫ق َمالَ هُ ِرئَ ا َء النَّ ِ‬ ‫ص َدقَاتِ ُك ْم بِ ْال َمنِّ َواأْل َ َذى َكالَّ ِذي يُ ْنفِ ُ‬‫آ َمنُوا ال تُ ْب ِطلُوا َ‬
‫َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر ﴾ (البقرة‪ ،)264:‬ثم شبه هذا اإلنفاق وع دم انتف اع ص احبه ب ه‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ص ْلداً ال يَ ْق ِدرُونَ َعلَى َش ْي ٍء‬ ‫صابَهُ َوابِ ٌل فَتَ َر َك هُ َ‬ ‫ان َعلَ ْي ِه تُ َرابٌ فَأ َ َ‬ ‫﴿ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل َ‬
‫ص ْف َو ٍ‬
‫ِم َّما َك َسبُوا َوهَّللا ُ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْال َكافِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪)264:‬‬
‫وض رب مثال على ذل ك ببعض األع راب ال ذين انتفى من أذه انهم الج انب‬
‫ب َم ْن يَتَّ ِخ ُذ َم ا‬ ‫التعبدي في الزكاة‪ ،‬فاعتبروها مغرم ا‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ‬
‫ق َم ْغ َرما ً ﴾ (التوبة‪)98:‬‬ ‫يُ ْنفِ ُ‬
‫وفي مقابلهم األعراب الذين فهموا حقيقته ا‪ ،‬فجعلوه ا وس يلة تق رب إلى هللا‪،‬‬

‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.1/152 :‬‬

‫‪69‬‬
‫ت ِع ْن َد‬ ‫ب َم ْن ي ُْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َويَتَّ ِخ ُذ َما يُ ْنفِ ُ‬
‫ق قُ ُربَ ا ٍ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ‬
‫ت ال َّرسُو ِل أَال إِنَّهَا قُرْ بَةٌ لَهُ ْم َسيُ ْد ِخلُهُ ُم هَّللا ُ فِي َرحْ َمتِ ِه إِ َّن هَّللا َ َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم﴾‬ ‫هَّللا ِ َو َ‬
‫صلَ َوا ِ‬
‫(التوبة‪)99:‬‬
‫وهكذا جميع أعمال البر ال يستقيم أمرها‪ ،‬وال ينتفع به ا م ا لم تكن مص حوبة‬
‫بعبادات قلبية تتوجه بها حقيق ة إلى هللا‪ ،‬لتنفي عنه ا الطقوس ية الحرفي ة ال تي تحي ل‬
‫العبادات أجسادا بال روح‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ عبودية الحب‬
‫أول عبودية يسعى الم ربي لغرس ها في قلب الول د‪ ،‬هي عبودي ة الحب‪ ،‬حب‬
‫هللا وحب الرسول ‪ ‬وحب الصالحين وحب دينه‪ ،‬كم ا ق ال ‪(:‬ك ان داود يق ول‪:‬‬
‫اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك‪ ،‬والعمل الذي يبلغني حبك؛ اللهم اجع ل حب ك‬
‫أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد)(‪)1‬‬
‫وهذا يستدعي تركيز الم ربي على عبودي ة المحب ة قب ل أي عبودي ة أخ رى‪،‬‬
‫ألن حقيقة اإلسالم السامية تبدأ من الحب هلل‪ ،‬ومن األنس باهلل‪ ،‬فال تكم ل عب ادة وال‬
‫يطهر سلوك إال إذا استقى من بحر الحب‪ ،‬وقد قيل لعبد الواحد بن زيد‪ :‬هاهنا رجل‬
‫قد تعبد خمسين سنة‪ ،‬فقصده فقال له‪ :‬يا حبـيب أخبرني عنك هل قنعت به؟ قال‪ :‬ال‪،‬‬
‫قال أنست به؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬ق ال‪ :‬فه ل رض يت عن ه؟ ق ال‪ :‬ال‪ ،‬ق ال‪ :‬فإنم ا مزي دك من ه‬
‫الص وم والص الة؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال‪ :‬ل وال أني أس تحي من ك ألخبرت ك ب أن معاملت ك‬
‫خمسين سنة مدخولة‪.‬‬
‫ولهذا قال ابن القيم‪(:‬فلو بطلت مس ألة المحب ة لبطلت جمي ع مقام ات اإليم ان‬
‫واإلحسان‪ ،‬ولتعطلت منازل السير إلى هللا فإنها روح كل مق ام ومنزل ة وعم ل ف إذا‬
‫خال منها فهو ميت ال روح فيه ونسبتها إلى األعمال كنسبة اإلخالص إليه ا ب ل هي‬
‫حقيقة اإلخالص بل هي نفس اإلسالم فإنه االستسالم بالذل والحب والطاع ة هلل فمن‬
‫ال محبة له ال إسالم له البتة)(‪)2‬‬
‫فاإلسالم هو دين الحب السامي الذي يمأل الروح والجس د‪ ،‬ويتخ ذ من الك ون‬
‫كله محرابا للحب السامي‪ ،‬وروضة من رياض المودة‪.‬‬
‫بل إن هذ الحب هو حقيقة (شهادة أن ال إله إال هللا)‪ ،‬ألن اإلله ه و ال ذي يأل ه‬
‫العباد حبا وذال وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له‪.‬‬
‫وال يمكن أن تستقيم أي عبودي ة ال تغ ذى بل واعج الحب‪ ،‬وه ل تمكن اإلناب ة‬
‫بدون المحبة والرضى والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيق ة‬
‫إال صبر المحبين فإن ه إنم ا يتوك ل على المحب وب في حص ول محاب ه ومراض يه؟‬
‫وهكذا كل عبادات القلوب ال تستقيم وال تكمل إال بالحب‪.‬‬
‫زيادة على أن من امتأل قلبه بحب هللا لن تعجز في إقناعه بأي أمر من أوام ر‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود والترمذي والحاكم‪.‬‬


‫‪ )(2‬روضة المحبين‪.419 :‬‬

‫‪70‬‬
‫هللا أو حكم من أحكامه‪ ،‬بل يكفي أن تخ بره ب أن ذل ك من مح اب هللا أو من األم ور‬
‫التي يبغضها‪ ،‬فيكون في ذلك أكبر داع أو صارف للطاعة‪ ،‬وله ذا ش رط هللا تع الى‬
‫الطواعية المطلقة هلل أثناء طاعت ه‪ ،‬وهي ال تتحق ق إال بالمحب ة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا‬
‫ضى هَّللا ُ َو َرسُولُهُ أَ ْمراً أَ ْن يَ ُكونَ لَهُ ُم ْال ِخيَ َرةُ ِم ْن أَ ْم ِر ِه ْم ﴾‬
‫َكانَ لِ ُم ْؤ ِم ٍن َوال ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ‬
‫(األحزاب‪)36:‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن الك اذب يتخلى عن كذب ه إن علم أن هللا يحب الص دق‪ ،‬والعام ل‬
‫يبادر إلى عمله بإتقان إن علم أن هللا يحب إذا عم ل أح د عمال أن يتقن ه‪ ،‬وهك ذا في‬
‫كل األعمال‪ ،‬فـ (الرغبة في هللا وإرادة وجهه والشوق إلى لقائه هي رأس مال العب د‬
‫ومالك أمره وقوام حياته الطيبة وأصل سعادته وفالحه ونعيم ه وق رة عين ه ول ذلك‬
‫خلق وبه أمر وب ذلك أرس لت الرس ل وأن زلت الكتب وال ص الح للقلب وال نعيم إال‬
‫ب أن تك ون رغبت ه إلى هللا ع ز وج ل وح ده فيك ون ه و وح ده مرغوب ه ومطلوب ه‬
‫ومراده)(‪)1‬‬
‫ولهذا كانت المحبة اإللهية هي الحادي الذي حرك قلوب وجوارح الص الحين‬
‫ألزكى األعمال‪ ،‬ي روى عن المس يح ‪ ‬أن ه ق ال‪(:‬إذا رأيت الف تى مش غوفا ً بطلب‬
‫الرب تعالى فقد ألهاه ذلك عما سواه)‪ ،‬وقال أبو سليمان الداراني ‪(:‬إن هلل عب اداً ليس‬
‫يشغلهم عن هللا خوف النار وال رجاء الجنة فكيف تشغلهم الدنيا عن هللا؟)‬
‫وعندما تعجب بعض أصحاب مع روف الك رخي من ك ثرة مجاهدات ه في هللا‬
‫سأله‪(:‬أخبرني ي ا أب ا محف وظ أي ش يء هاج ك إلى العب ادة واالنقط اع عن الخل ق؟‬
‫فسكت فقال‪ :‬ذكر الموت‪ ،‬فقال‪ :‬وأي شيء الموت؟ فقال‪ :‬ذكر القبر والبرزخ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وأي شيء القبر؟ فقال‪ :‬خوف النار ورجاء الجن ة‪ ،‬فق ال‪ :‬وأي ش يء ه ذا؟ إن ملك ا ً‬
‫هذا كله بـيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بـينك وبـينه معرفة كفاك جمي ع‬
‫هذا‪.‬‬
‫وق ال أب و بك ر الكت اني‪ :‬ج رت مس ألة في المحب ة بمك ة أي ام الموس م فتكلم‬
‫الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا‪(:‬هات م ا عن دك ي ا ع راقي) ف أطرق‬
‫رأسه ودمعت عيناه ثم قال‪(:‬عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقوق ه‬
‫ناظر إليه بقلبه أحرق قلبه أن وار هويت ه وص فا ش ربه من ك أس وده ف إن تكلم فباهلل‬
‫وإن نطق فمن هللا وإن تحرك فبأمر هللا وإن س كت فم ع هللا فه و باهلل وهلل وم ع هللا)‬
‫فبكى الشيوخ وقالوا‪(:‬ما على هذا مزيد جبرك هللا يا تاج العارفين)‬
‫انطالق ا من ه ذا‪ ،‬ف إن الم ربي يمكن أن يض ع برنامج ا تربوي ا يؤس س على‬
‫أساسه المحبة في قلب الولد هلل تعالى‪ ،‬ك ذلك البرن امج ال ذي وض عه خ ال س هل بن‬
‫عبد هللا التستري‪.‬‬
‫وأول م ا يب دأ ب ه ه ذا البرن امج م ا ذكرن اه في أس لوب الق دوة من أن يك ون‬
‫المربي ربانيا‪ ،‬ألن فاقد الشيء ال يعطيه‪ ،‬ولوال قيام محمد بن سوار اللي ل لم ا تنب ه‬

‫‪ )(1‬روضة المحبين‪.405:‬‬

‫‪71‬‬
‫التستري إلى حاله اإليمانية التي جعلته مطيعا مستسلما لتوجيهه‪.‬‬
‫فلذلك كان لهج المربي بذكر هللا وبذكر محبت ه هلل وتعظيم ه هلل ودعائ ه هلل أن‬
‫يرزقه محبته كما كان يفعل رسول هللا ‪ ‬كفيل ب أن يجع ل من ه ذا المع نى العظيم‬
‫هدفا نبيال يسعى الولد للتحقق به‪.‬‬
‫زي ادة على ه ذا‪ ،‬ف إن هن اك بعض األس اليب ال تي يمكن اس تخدامها لتعمي ق‬
‫محبة هللا في قلب الولد منذ نعومة أظفاره‪ ،‬منها‪:‬‬
‫التعريف بعظمة هللا وصفات كماله‪:‬‬
‫ألن كل كمال محبوب عند الفطرة السليمة‪ ،‬ويتحقق ذلك عن طريق التعريف‬
‫بصفات هللا وأسمائه الحس نى م ع بي ان حقائقه ا ومظاهره ا وتعمي ق معانيه ا‪ ،‬فمن‬
‫عرف هللا تعالى أحبّه ال محالة‪ ،‬وهذا مشاهد في الواقع مع الخلق في تم يز بعض هم‬
‫على بعض ببعض القوى التي ال تنفع وال تضر‪ ،‬وم ع ذل ك ن رى الخل ق مأس ورين‬
‫في هواهم ال يملكون من أمرهم شيئا‪.‬‬
‫ويذكر الغ زالي مثال معاص را ل ه‪،‬وه و م ا يفعل ه المتعص بون للم ذاهب من‬
‫أن الرج ل ق د يج اوز ب ه حب ه‬ ‫مظ اهر ت دل على م دى حبهم ألئمتهم‪ ،‬فق ال‪(:‬ح تى ّ‬
‫لصاحب مذهبه ح ّد العشق فيحمله ذلك على أن ينف ق جمي ع مال ه في نص رة مذهب ه‬
‫وال ذب عن ه ويخ اطر بروح ه في قت ال من يطعن في إمام ه ومتبوع ه‪ ،‬فكم من دم‬
‫أريق في نصرة أرباب المذاهب)(‪)1‬‬
‫وهذا الحب المفرط البالغ درجة العشق ال يرتبط بحب الص ورة‪ ،‬وإنم ا بحب‬
‫الكماالت التي تصورها المحب في محبوبه‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬وليت ش عري من يحب‬
‫الش افعي مثالً فلم يحب ه ولم يش اهد ق ط ص ورته؟ ول و ش اهده ربم ا لم يستحس ن‬
‫صورته‪ ،‬فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو لصورته الباطنة ال لص ورته‬
‫فإن صورته الظ اهرة ق د انقلبت تراب ا ً م ع ال تراب‪ ،‬وإنم ا يحب ه لص فاته‬ ‫الظاهرة‪ّ ،‬‬
‫الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم واإلحاطة بمدارك ال دين وانتهاض ه إلف ادة‬
‫علم الشرع ولنشره هذه الخيرات في العالم‪ ،‬وهذه أمور جميل ة ال ي درك جماله ا إال‬
‫بنور البصيرة‪ ،‬فأما الحواس فقاصرة عنها)(‪)2‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن التعريف بكمال هللا وجماله الداعي إلى محبت ه يك ون عن طري ق‬
‫التعريف به تعالى سواء عن طريق داللة المتلقي على آيات هللا في الكون‪ ،‬وهذا م ا‬
‫قد يتكفل به معلم و العل وم المحض ة من بي ان كم االت الص نعة اإللهي ة الدال ة على‬
‫كمال الصانع‪.‬‬
‫أو عن طريق آيات هللا في القرآن الك ريم‪ ،‬ف القرآن الك ريم ه و الكت اب ال ذي‬
‫تجلى هللا تعالى من خالله لعباده ليعرفوه‪ ،‬ولكن بشرط الت دبر والتفهم لمعاني ه‪ ،‬ق ال‬
‫ب أَ ْقفَالُهَ ا﴾ (محم د‪ ،)24:‬وق ال تع الى‪:‬‬
‫تع الى‪ ﴿ :‬أَفَال يَتَ َدبَّرُونَ ْالقُ رْ آنَ أَ ْم َعلَى قُلُ و ٍ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/299 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/299 :‬‬

‫‪72‬‬
‫ب﴾ (صّ ‪)29:‬‬ ‫ك لِيَ َّدبَّرُوا آيَاتِ ِه َولِيَتَ َذ َّك َر أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫﴿ ِكتَابٌ أَ ْنزَ ْلنَاهُ إِلَ ْيكَ ُمبَا َر ٌ‬
‫فهذا هو المقصود األعظم من إنزال القرآن‪ ،‬ولهذا كان ‪ ‬يتج اوب م ع ك ل‬
‫آية بمشاعره وعواطفه دعا ًء واستغفاراً ورجا ًء‪ ،‬وكأن ه يح دث هللا من خالل كتاب ه‪،‬‬
‫قال حذيفة‪ :‬صليت مع الرسول ‪ ‬ذات ليلة فافتتح البقرة‪ ،‬فقلت يركع عند المائة ثم‬
‫مضى‪ ،‬فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها‪ ،‬ثم افتتح النساء فقرأه ا ثم‬
‫افتتح آل عمران فقرأها‪ ،‬يقرأ مترسالً إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح‪ ،‬وإذا م ر بس ؤال‬
‫ر بتعوّذ تعوّذ)(‪)1‬‬ ‫سأل‪ ،‬وإذا م ّ‬
‫التعريف بإحسان هللا‪:‬‬
‫فيفص ل للول د ن واحي فض له تع الى وب ره ب ه‪ ،‬فيق دم ل ه ك ل خ ير وإحس ان‬
‫باعتباره هدية من هللا لعباده‪ ،‬وذلك ألن مشاهدة بره تع الى وإحس انه وآالئ ه ونعم ه‬
‫الظاهرة والباطنة داعية إلى محبته‪ ،‬والقلوب ق د جبلت على محب ة من أحس ن إليه ا‬
‫وبغض من أساء إليها‪.‬‬
‫وله ذا روي في األث ر أن هللا أوحى إلى داود ‪(:‬ي ا داود أحبب ني وحبب‬
‫عبادي إلي وحبب ني إلى عب ادي) ق ال‪(:‬ي ا رب ه ذا أن ا أحب ك وأحبب عب ادك إلي ك‬
‫فكيف أحببك إلى عبادك؟) قال‪ (:‬تذكرني عندهم فإنهم ال يذكرون مني إال الحسن)‬
‫ولن يتكلف المربي في بيان ذلك عنت ا‪ ،‬ف إن إحس ان هللا على عب اده ممت د في‬
‫كل نفس ولحظة والعبد يتقلب في نعم الرب دائما ً في كل األحوال‪ ،‬وقد قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫َوإِ ْن تَ ُع ُّدوا نِ ْع َمةَ هَّللا ِ ال تُحْ صُوهَا إِ َّن هَّللا َ لَ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ (النحل‪)18:‬‬
‫ات‬‫زيادة على بيان حماية هللا لعباده من كل ما يؤذيهم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬لَ هُ ُم َعقِّبَ ٌ‬
‫ِم ْن بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِم ْن خَ ْلفِ ِه يَحْ فَظُونَهُ ِم ْن أَ ْم ِر هَّللا ِ﴾ (الرعد‪ ،)11:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ َم ْن‬
‫ُ‬
‫ض ونَ ﴾ (االنبي اء‪،)42:‬‬ ‫ْر ُ‬ ‫ار ِمنَ الرَّحْ َم ِن بَلْ هُ ْم ع َْن ِذ ْك ِر َربِّ ِه ْم ُمع ِ‬ ‫يَ ْكأَل ُك ْم بِاللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬
‫فهو سبحانه المنعم بالكالءة والحفظ والحراسة من كل المؤذين‪.‬‬
‫توثيق الصلة باهلل‪:‬‬
‫وذل ك باإلكث ار من النواف ل وال ذكر‪ ،‬كم ا ق ال ‪ ‬في الح ديث القدس ي‪(:‬من‬
‫ع ادى لي ولي ا ً فق د آذنت ه ب الحرب‪ ،‬وم ا تق رب إلي عب دي بش يء أحب إلي مم ا‬
‫افترضته عليه‪ ،‬ومايزال عب دي يتق رب إلي بالنواف ل ح تى أحب ه‪ ،‬ف إذا أحببت ه كنت‬
‫سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬وي ده ال تي يبطش به ا‪ ،‬ورجل ه ال تي‬
‫يمشي بها‪ ،‬وإن سألني ألعطيينه وألن استعاذني ألعيذنّه)(‪)2‬‬
‫ولهذا وص ف هللا تع الى عب اده الص الحين في الق رآن الك ريم ب دوام الطاع ة‬
‫اج ِع يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم‬
‫ض ِ‬‫واللجوء إلى هللا‪ ،‬فمن أوصافهم أنهم ﴿ تَت ََجافَى ُجنُ وبُهُ ْم ع َِن ْال َم َ‬
‫خَ وْ فا ً َوطَ َمعا ً َو ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم يُ ْنفِقُونَ ﴾ (الس جدة‪ )16:‬ومن أوص افهم أنهم ﴿ َك انُوا قَلِيالً‬
‫ِمنَ اللَّ ْي ِل َما يَ ْه َجعُونَ ﴾ (الذريات‪)17:‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.8/131 :‬‬

‫‪73‬‬
‫ونحن ال ندعو هنا إلى العمل بحرفية هذه النصوص ـ خاص ة م ع الص غار ـ‬
‫ولكنا نقول بأن مجرد انشغال الخاطر بحب عبادة هللا والتفرغ لها يمكن أن يؤثر في‬
‫إقرار المحبة هلل في النفس خاصة إن صاحبها الع زم الص ادق‪ ،‬أو ص احبها التف رغ‬
‫في بعض األحيان‪ ،‬كأن يقوم الوالد مع والده ب دورة روحي ة يك ثر فيه ا من النواف ل‬
‫والذكر لتكون زادا إيمانيا يشحن الطاقات‪.‬‬
‫منشطات السلوك‪:‬‬
‫من حكايات الصالحين‪ ،‬وأشعار المحبين‪ ،‬واألناشيد التي تحمل ه ذه المع اني‬
‫الجليلة‪ ،‬فكلها له تأثيره التربوي العظيم في تعميق هذه المعاني في النفس‪.‬‬
‫يقول الغزالي عن ه ذا الس بيل‪(:‬ومن أس بابها‪ ،‬الس ماع ومجالس ة الص الحين‬
‫والخائفين والمحسنين والمشتاقين والخاشعين‪ ،‬فمن جالس شخصا ً سرت إليه صفاته‬
‫من حيث ال يدري)(‪)1‬‬
‫وله ذا ك ان المجاه دون يس تثيرون داعي ة الغ زو بالتش جيع وتحري ك الغي ظ‬
‫والغض ب على الكف ار وتحس ين الش جاعة واس تحقار النفس والم ال با ِإلض افة إلي ه‬
‫باألشعار المشجعة‪ ،‬كما قال المتنبـي‪:‬‬
‫وتقاس الذ َّل غير مكر َِّم‬
‫ِ‬ ‫فإن ال تمت تحت السيوف مكرَّما ً تمت‬ ‫ْ‬
‫وقوله‪:‬‬
‫اللئيم‬
‫ِ‬ ‫الطبع‬
‫ِ‬ ‫وتلك خديعةُ‬ ‫يرى الجبنا ُء َّ‬
‫أن الجبنَ حز ٌم‬
‫بل قد كان الصحابة يرتجزون في الجهاد وغيره لبث الحماس والنشاط‪ ،‬ومن‬
‫ذلك ما روي عن البراء قال‪ :‬رأيت رس ول هللا ‪ ‬ي وم الخن دق ينق ل ال تراب ح تى‬
‫وارى التراب شعر صدره وهو يرتجز برجز عبد هللا بن رواحة يقول(‪:)2‬‬
‫دقنا وال‬ ‫وال تص‬ ‫اللهم ل وال أنت م ا‬
‫لينا‬ ‫ص‬ ‫دينا‬ ‫اهت‬
‫دام إن‬ ‫وثبت األق‬ ‫ف أنزلن س كينة علين ا‬
‫القينا‬
‫وإن أرادوا فتن ة أبينا‬ ‫إن األولى قد بغوا علينا‬
‫ولهذا يمكن أن يوضع له ذا األس لوب ال تربوي من األناش يد م ا يثبت مع اني‬
‫المحبة هلل في القلوب‪ ،‬خاصة ونحن في عصر يكاد يقصر فيه استعمال المحبة على‬
‫المحبة الشهوانية التي تنحرف بالفطرة البشرية انحراف ا عظيم ا‪ ،‬وتح ول العب د من‬
‫عبودية هللا إلى عبودية الهوى‪.‬‬
‫ولهذا كان من أهم الوسائل التي يقضى بها على هذا الحب الشاذ‪ ،‬ه و تعمي ق‬
‫معاني الحب اإليماني البديل‪ ،‬ألن الحب طاقة ال يمحوه إال مثله أو أعظم من ه‪ ،‬كم ا‬
‫قال الشاعر‪:‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.2/256 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.5/140 :‬‬

‫‪74‬‬
‫فاستجمعت مذ رأت ك العين أه وائي‬ ‫ك انت لقل بي أه واء مفرق ةٌ‬
‫وص رت م ولى ال ورى م ذ ص رت‬ ‫فص ار يحس دني من كنت‬
‫والئي‬ ‫م‬ ‫ده‬ ‫أحس‬
‫ش غالً ب ذكرك ي ا دي ني ودني ائي‬ ‫تركت للناس دني اهم ودينهم‬
‫وكما روي عن بشر بن الحارث أنه قال يحكي عن نفسه‪ :‬مررت برجل وق د‬
‫ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس‪ ،‬فتبعته فقلت له‪ :‬لم‬
‫ألن معش وقي ك ان بح ذائي‬ ‫ضربت؟ فقال‪ :‬ألني عاشق‪ ،‬فقلت له‪ :‬ولم س كت؟ ق ال‪ّ :‬‬
‫ي‪ ،‬فقلت‪ :‬فلو نظرت إلى المعشوق األكبر قال‪ :‬فزعق زعقة خ ّر ميتاً‪.‬‬ ‫ينظر إل َّ‬
‫‪ 2‬ـ عبودية الشكر‬
‫وهو الثناء على المحسن بما أواله من معروف‪ ،‬أو هو بعبارة أشمل (ظه ور‬
‫أثر النعم اإللهية على العبد في قلبه إيمان اً‪ ،‬وفي لس انه حم داً وثن ا ًء‪ ،‬وفي جوارح ه‬
‫عبادة وطاعة)‬
‫ويشير إلى أهمية تربية األبناء على شكر هللا من الق رآن الك ريم من موعظ ة‬
‫ص ْينَا اأْل ِ ْن َس انَ بِ َوالِ َد ْي ِه َح َملَ ْت هُ أُ ُّمهُ َو ْهن ا ً َعلَى َو ْه ٍن‬ ‫لقم ان(‪  )1‬قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َو َّ‬
‫صيرُ﴾ (لقمان‪ ،)14:‬فقد ب دأ لقم ان‬ ‫ي ْال َم ِ‬ ‫صالُهُ فِي عَا َمي ِْن أَ ِن ا ْش ُكرْ لِي َولِ َوالِ َد ْيكَ إِلَ َّ‬ ‫َوفِ َ‬
‫‪ ‬بشكر هللا‪ ،‬ثم عقب عليه شكر الوالدين‪ ،‬وفي ذلك إشارة تضاف إلى ما سبق ما‬
‫ذكرنا من ضرورة االهتمام بتنمية معاني العبادات القلبية في نفوس النشء‪.‬‬
‫وعلى طريقة الفقهاء في استنباط األدلة على األحكام الشرعية نق ول‪ :‬إن ك ل‬
‫النصوص تدل على وجوب شكر هللا‪ ،‬وهي من القطعية في الوضوح والداللة م ا ال‬
‫يقل عن أدل ة أرك ان ال دين وأص وله‪ ،‬فل ذلك ن رى من المس تغرب أن نهتم باعتب ار‬
‫الصالة والصيام وغيرها واجبات نحرص عليها‪ ،‬ونتفنن في طرق تعليمها وتدريب‬
‫األبناء عليها‪ ،‬ثم ال نهتم بهذا الركن الركين من أركان الدين‪.‬‬
‫وال بأس من سوق بعض األدلة هنا على هذا‪:‬‬
‫فاهلل تع الى ي أمر بالش كر بص يغة الج زم‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَ ْاذ ُكرُونِي أَ ْذ ُك رْ ك ْمُ‬
‫َوا ْش ُكرُوا لِي َوال تَ ْكفُرُو ِن﴾ (البقرة‪ ،)152:‬بل نرى أنه جعل عدم الش كر كف را‪ ،‬كم ا‬
‫ض ى لِ ِعبَ ا ِد ِه‬ ‫ق ال تع الى في اآلي ة األخ رى‪ ﴿ :‬إِ ْن تَ ْكفُ رُوا فَ إِ َّن هَّللا َ َغنِ ٌّي َع ْن ُك ْم َوال يَرْ َ‬
‫از َرةٌ ِو ْز َر أُ ْخ َرى ثُ َّم إِلَى َربِّ ُك ْم َم رْ ِج ُع ُك ْم‬ ‫ض هُ لَ ُك ْم َوال تَ ِز ُر َو ِ‬ ‫ْال ُك ْف َر َوإِ ْن ت َْش ُكرُوا يَرْ َ‬
‫ُور﴾ (الزمر‪)7:‬‬ ‫ت الصُّ د ِ‬ ‫فَيُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ إِنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ‬
‫بل جعل الشكر من دالئل العبادة الصحيحة‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫ت َما َر َز ْقنَا ُك ْم َوا ْش ُكرُوا هَّلِل ِ إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾ (البق رة‪ ،)172:‬وق ال‬ ‫ُكلُوا ِم ْن طَيِّبَا ِ‬
‫‪ )(1‬اختلف المفسرون في هذه اآلية والتي بعدها هي اعتراض بين أثناء وصية لقمان ‪ ،‬أو هي مم ا أوص ى‬
‫به لقمان ‪ ‬ابنه؛ أخبر هللا به عنه؛ أي قال لقمان البنه‪ (:‬ال تشرك باهلل وال تطع في الشرك والديك‪ ،‬ف إن هللا وص ى‬
‫بهما في طاعتهما مما ال يك ون ش ركا ومعص ية هلل تع الى ) وكال المعن يين محتم ل‪ ،‬وإن ك ان الكث ير من المفس رين‬
‫رجحوا كونها من غير كالم لقم ان ‪ ‬بن اء على أن ه اتين اآلي تين نزلت ا في ش أن س عد بن أبي وق اص‪ ،‬وال ن رى‬
‫تعارضا بين نزولها في شأن سعد وبين اعتبار هذا الكالم من كالم لقمان ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫اش ُكرُوا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ إِ ْن ُك ْنتُ ْم إِيَّاهُ تَ ْعبُ ُدونَ ﴾‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬فَ ُكلُوا ِم َّما َر َزقَ ُك ُم هَّللا ُ َحالالً طَيِّب ا ً َو ْ‬
‫(النحل‪)114:‬‬
‫هَّللا‬ ‫ْ‬
‫بل رتب العقوبة العظيمة على عدم الشكر‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬ما يَف َع ُل ُ بِ َع َذابِ ُك ْم‬
‫إِ ْن َشكَرْ تُ ْم َوآ َم ْنتُ ْم َو َكانَ هَّللا ُ َشا ِكراً َعلِيماً﴾ (النس اء‪ ،)147:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ تَ أ َ َّذنَ‬
‫َربُّ ُك ْم لَئِ ْن َشكَرْ تُ ْم أَل َ ِزي َدنَّ ُك ْم َولَئِ ْن َكفَرْ تُ ْم إِ َّن َع َذابِي لَ َش ِدي ٌد﴾ (ابراهيم‪)7:‬‬
‫ولذلك فإن القول بفرضية عب ادة الش كر تجع ل من الواجب ات على ال ولي أن‬
‫يربي ولده عليه‪ ،‬ومن واجبات جميع المؤسس ات المكلف ة برعاي ة النش ء وت ربيتهم‬
‫تعميق معاني الشكر في نفوس األوالد‪.‬‬
‫وقبل أن نسرد بعض الطرق التي تعمق معنى هذه العبادة في النفس نحب أن‬
‫نبين أن لهذه العبادة تأثيرها العظيم على السلوك الديني واألخالقي واالجتماعي‪.‬‬
‫وقد سبق أن ذكرنا في تعريف الشكر أنه ظهور أث ر النعم اإللهي ة على العب د‬
‫في قلبه إيماناً‪ ،‬وفي لسانه حمداً وثنا ًء‪ ،‬وفي جوارحه عبادة وطاعة‪.‬‬
‫وهذا الركن األخير هو الذي نقصده باآلثار السلوكية لهذه العبادة القلبية‪ ،‬ق ال‬
‫الغزالي في بيان حقيق ة ه ذا ال ركن واألفع ال ال تي يمكن أن تص در ك أثر من آث ار‬
‫الشكر القلبي‪(:‬وه ذا العم ل يتعل ق ب القلب وباللس ان وب الجوارح أم ا ب القلب فقص د‬
‫الخير وإضماره لكاف ة الخل ق‪ .‬وأم ا باللس ان فإظه ار الش كر هلل تع الى بالتحمي دات‬
‫الدال ة علي ه‪ ،‬وأم ا ب الجوارح‪ :‬فاس تعمال نعم هللا تع الى في طاعت ه والت وقي من‬
‫االستعانة بها على معصيته‪ ،‬حتى إن شكر العينين‪ :‬أن تستر كل عيب ت راه لمس لم‪،‬‬
‫وشكر األذنين‪ :‬أن تستر كل عيب تس معه في ه‪ ،‬في دخل ه ذا في جمل ة ش كر نعم هللا‬
‫تعالى بهذه األعضاء والشكر باللسان‪ :‬إلظه ار الرض ا عن هللا تع الى وه و م أمور‬
‫به)(‪)1‬‬
‫بع د ه ذا‪ ،‬ف إن من األس اليب التربوي ة ال تي تعم ق مع نى الش كر في نف وس‬
‫األوالد‪:‬‬
‫التأمل في نعم هللا‪:‬‬
‫ألن هللا تعالى جعل هذه النعم أسبابا لدعوة العباد إلى شكره تعالى‪ ،‬ولهذا ق ال‬
‫ت لَ َعلَّهُ ْم يَ ْش ُكرُونَ ﴾ (اب راهيم‪،)37:‬‬ ‫إب راهيم ‪ ‬في دعائ ه‪َ ﴿ :‬وارْ ُز ْقهُ ْم ِمنَ الثَّ َم َرا ِ‬
‫فدعا هللا تعالى أن يرزقهم من الثمرات ليكون ذلك علة لشكرهم‪.‬‬
‫ولهذا يختم هللا تع الى اآلي ات ال ذاكرة لفض له على عب اده ومنن ه عليهم به ذه‬
‫الفاص لة‪ ﴿ :‬لَ َعلَّ ُك ْم ت َْش ُكرُونَ ﴾‪ ،‬كم ا ق ال تع الى في نهاي ة ذك ر النعم المودع ة في‬
‫البحار‪َ ﴿ :‬وهُ َو الَّ ِذي َس َّخ َر ْالبَحْ َر لِتَ أْ ُكلُوا ِم ْن هُ لَحْ م ا ً طَ ِريّ ا ً َوت َْس ت َْخ ِرجُوا ِم ْن هُ ِح ْليَ ةً‬
‫اخ َر فِي ِه َولِتَ ْبتَ ُغوا ِم ْن فَضْ لِ ِه َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (النحل‪)14:‬‬ ‫ت َْلبَسُونَهَا َوتَ َرى ْالفُ ْلكَ َم َو ِ‬
‫وقال في نعمة تسخير الحيوانات لإلنس ان‪َ ﴿ :‬و ْالبُ ْدنَ َج َع ْلنَاهَ ا لَ ُك ْم ِم ْن َش َعائِ ِر‬
‫ت ُجنُوبُهَ ا فَ ُكلُ وا ِم ْنهَ ا‬ ‫اف فَ إِ َذا َو َجبَ ْ‬‫ص َو َّ‬ ‫هَّللا ِ لَ ُك ْم فِيهَ ا خَ ْي ٌر فَ ْاذ ُكرُوا ْ‬
‫اس َم هَّللا ِ َعلَ ْيهَ ا َ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/72 :‬‬

‫‪76‬‬
‫ط ِع ُموا ْالقَانِ َع َو ْال ُم ْعتَ َّر َك َذلِكَ َس َّخرْ نَاهَا لَ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (الحج‪)36:‬‬ ‫َوأَ ْ‬
‫ار لِت َْس ُكنُوا‬ ‫وقال في نعمة الليل والنهار‪َ ﴿ :‬و ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َج َع َل لَ ُك ُم اللَّ ْي َل َوالنَّهَ َ‬
‫فِي ِه َولِتَ ْبتَ ُغوا ِم ْن فَضْ لِ ِه َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (القصص‪)73:‬‬
‫ون أُ َّمهَ اتِ ُك ْم ال تَ ْعلَ ُم ونَ َش يْئا ً‬ ‫وقال في نعمة اإلدراك‪َ ﴿ :‬وهَّللا ُ أَ ْخ َر َج ُك ْم ِم ْن بُطُ ِ‬
‫صا َر َواأْل َ ْفئِ َدةَ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (النحل‪)78:‬‬ ‫َو َج َع َل لَ ُك ُم ال َّس ْم َع َواأْل َ ْب َ‬
‫وق ال في نعم ة العف و عن الخطيئ ة‪ ﴿ :‬ثُ َّم َعفَوْ نَ ا َع ْن ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد َذلِ كَ لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (البقرة‪)52:‬‬
‫وقال في نعمة بعث بني إس رائيل‪ ،‬وفي ه إش ارة إلى نعم ة البعث مطلق ا‪ ﴿ :‬ث َّمُ‬
‫بَ َع ْثنَا ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد َموْ تِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (البقرة‪)56:‬‬
‫َص َر ُك ُم هَّللا ُ بِبَ ْد ٍر َوأَ ْنتُ ْم أَ ِذلَّةٌ فَ اتَّقُوا هَّللا َ لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫وق ال في نعم ة النص ر‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد ن َ‬
‫تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (آل عمران‪)123:‬‬
‫ض َو َج َع ْلنَ ا لَ ُك ْم‬ ‫وق ال في نعم ة التمكين في األرض‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد َم َّكنَّا ُك ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ش قَلِيالً َما تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (ألعراف‪)10:‬‬ ‫فِيهَا َم َعايِ َ‬
‫َض َعفُونَ‬ ‫وقال في نعمة التأييد والنصر واإليواء‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُك رُوا إِ ْذ أَ ْنتُ ْم قَلِي ٌل ُم ْست ْ‬
‫ت‬‫َص ِر ِه َو َرزَ قَ ُك ْم ِمنَ الطَّيِّبَ ا ِ‬ ‫آوا ُك ْم َوأَيَّ َد ُك ْم بِن ْ‬
‫ض تَخَافُونَ أَ ْن يَتَخَطَّفَ ُك ُم النَّاسُ فَ َ‬ ‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (ألنفال‪)26:‬‬
‫بل إن هذه العلة أصل في األحكام التش ريعية‪ ،‬ألنه ا أيض ا ـ بمنط ق الق رآن‬
‫الكريم ـ من نعم هللا على عباده‪ ،‬فلذلك قال تعالى بعد األمر بصيام رمضان‪ ﴿ :‬ي ُِري ُد‬
‫هَّللا ُ بِ ُك ُم ْاليُس َْر َوال ي ُِري ُد بِ ُك ُم ْال ُع ْس َر َولِتُ ْك ِملُوا ْال ِع َّدةَ َولِتُ َكبِّرُوا هَّللا َ َعلَى َما هَ دَا ُك ْم َولَ َعلَّ ُك ْم‬
‫تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (البقرة‪)185:‬‬
‫وقال في نهاي ة األم ر بتش ريعات الطه ارة‪َ ﴿ :‬م ا ي ُِري ُد هَّللا ُ لِيَجْ َع َل َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن‬
‫ج َولَ ِك ْن ي ُِري ُد لِيُطَهِّ َر ُك ْم َولِيُتِ َّم نِ ْع َمتَهُ َعلَ ْي ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (المائدة‪)6:‬‬ ‫َح َر ٍ‬
‫ارةُ أَ ْي َم انِ ُك ْم إِ َذا َحلَ ْفتُ ْم َواحْ فَظُ وا‬ ‫ك َكفَّ َ‬ ‫وق ال في نهاي ة أحك ام لغ و اليمين‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫أَ ْي َمانَ ُك ْم َك َذلِكَ يُبَيِّنُ هَّللا ُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (المائدة‪)89:‬‬
‫عبادة إحصاء النعم‪:‬‬
‫وهي من العب ادات ال تي تنفتح نواف ذها على محب ة هللا وش كره‪ ،‬ب ل التحق ق‬
‫بأكثر مقامات اإليمان‪ ،‬وبهذه العبودية يحفظ الولد من بالء عد األموال الذي ذمه هللا‬
‫تعالى في قوله‪ ﴿ :‬الَّ ِذي َج َم َع َماالً َو َع َّد َدهُ﴾ (الهمزة‪)2:‬‬
‫ص وهَا إِ َّن‬ ‫وقد أشار إلى هذه العبادة قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن تَ ُع ُّدوا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ ال تُحْ ُ‬
‫اأْل ِ ْن َسانَ لَظَلُو ٌم َكفَّارٌ﴾ (ابراهيم‪ ،)34:‬وهذه اآلية تش ير إلى الص نف الغاف ل عن ع د‬
‫نعم هللا‪ ،‬أو الغائب بالنعم عن المنعم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬
‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن تَ ُع ُّدوا نِ ْع َمة ِ ال تحْ صُوهَا إِ َّن َ ل َغف و ٌر َر ِحي ٌم﴾ (النح ل‪:‬‬‫هَّللا‬ ‫َ‬
‫‪ ،)18‬وهي تخاطب المؤمن الذي يجد نفسه عاجزا عن عد نعم هللا‪ ،‬فيستنجد بمغفرة‬
‫هللا ورحمته‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وإليها اإلشارة الصريحة بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأ َّما بِنِ ْع َم ِة َربِّكَ فَ َح دِّث﴾ (الض حى‪:‬‬

‫‪77‬‬
‫‪ ،)11‬أي انشر ما أنعم هّللا علي ك بالش كر والثن اء‪ ،‬والتح دث بنعم هّللا ‪ ،‬واالع تراف‬
‫بها‪،‬‬
‫وله ذا ذم هللا تع الى الغ افلين عن النعم الت اركين للش كر‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ لَ ذوُ‬
‫اس َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َرهُ ْم ال يَ ْش ُكرُونَ ﴾ (يونس‪ ،)60:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وه َُو الَّ ِذي‬ ‫فَضْ ٍل َعلَى النَّ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫ار َوا فئِ َدةَ قَلِيالً َما تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (المؤمنون‪)78:‬‬ ‫ْص َ‬ ‫أَ ْن َشأ َ لَ ُك ُم ال َّس ْم َع َوا ب َ‬
‫َ‬ ‫أْل‬
‫ْرفُ ونَ نِ ْع َمتَ هَّللا ِ ثُ َّم‬
‫وأخ بر تع الى أن ه ذا ح ال الك افرين‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَع ِ‬
‫يُ ْن ِكرُونَهَا َوأَ ْكثَ ُرهُ ُم ْال َكافِرُونَ ﴾ (النحل‪)83:‬‬
‫وقد كان من سنة السلف التحدث بنعم هللا‪ ،‬ولو كانت من باب العبادات ألمنهم‬
‫من الرياء من جهة‪ ،‬والعتبارها من أعظم نعم هللا عليهم‪ ،‬وقد عبر عن هذا الس لوك‬
‫اإلمام الحسن بقوله‪(:‬إذا أصبت خيرا‪ ،‬أو عملت خيرا‪ ،‬فحدث به الثق ة من إخوان ك)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومث ل ذل ك ظه ور النعم على ح ال العب د‪ ،‬وق د روي عن مال ك بن نض لة‬
‫الجشمي قال‪ :‬كنت عند رسول هّللا ‪ ‬جالسا‪ ،‬فرآني رث الثياب فقال‪(:‬أل ك م ال؟)‪،‬‬
‫قلت‪(:‬نعم‪ ،‬يا رسول هّللا ‪ ،‬من كل المال)‪ ،‬فقال ‪(:‬إذا آتاك هّللا ماال فلير أثره عليك)‬
‫(‪)2‬‬
‫ولهذا كان السلف يسأل بعضهم بعض ا عن حال ه‪ ،‬يقص د من ذل ك اس تخراج‬
‫شكر هللا‪ ،‬والتحدث بنعم هللا‪ ،‬ومن ذلك ما يروى عن بعضهم أنه ق ال ألخي ه‪َ (:‬ك ْي فَ‬
‫ت؟) ق ال‪(:‬بخ ير)‪ ،‬فأع اد الس ؤال ح تى ق ال في الثالث ة‪(:‬بخ ير أحم د هللا‬ ‫ص بَحْ ُ‬ ‫أَ ْ‬
‫ك)‪،‬‬‫ت ِم ْن َ‬ ‫(هذا الِّ ِذي أَ َر ْد ُ‬‫وأشكره)‪ ،‬فقال‪ٰ :‬‬
‫قال الغزالي‪(:‬وكان السلف يتساءلون ونيتهم استخراج الشكر هلل تعالى ليك ون‬
‫الشاكر مطيعا ً والمستنطق له به مطيع ا ً وم ا ك ان قص دهم الري اء بإظه ار الش وق‪،‬‬
‫وكل عب د س ئل عن ح ال فه و بـين أن يش كر أو يش كو أو يس كت؛ فالش كر طاع ة‬
‫والشكوى معصية قبـيحة من أهل ال دين‪ ،‬وكي ف ال تقبح الش كوى من مل ك المل وك‬
‫وبـيده كل شيء إلى عبد مل وك ال يق در على ش يء؛ ف األحرى بالعب د إن لم يحس ن‬
‫الصبر على البالء والقضاء وأفضى به الضعف إلى الش كوى أن تك ون ش كواه إلى‬
‫هللا تعالى‪ ،‬فهو المبلي والقادر على إزال ة البالء‪ .‬وذل العب د لم واله ع ز‪ ،‬والش كوى‬
‫إلى غيره ذل؛ وإظهار الذل للعبد مع كونه عبداً مثله ذل قبـيح)(‪)3‬‬
‫ونحب أن ننب ه هن ا إلى أن من األخط اء التربوي ة رب ط الحم د على النعم‬
‫الحادث ة دون النعم المس تقرة المس تمرة‪ ،‬ألن ذل ك ق د يش وه مع نى الحم د في قلب‬
‫المتلقي‪ ،‬فيتصور أن النعم محصورة فيما يراه ال أنها تشمل كل شيء‪.‬‬
‫‪(:‬إن هلل تع الى عقوب ات ب الفقر ومثوب ات ب الفقر؛ من‬ ‫ولهذا ق ال اإلم ام علي ّ‬

‫‪ )(1‬رواه ابن جرير‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه النسائي‪.‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.4/84 :‬‬

‫‪78‬‬
‫عالمات الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن عليه خلقه ويطي ع ب ه رب ه وال يش كو حال ه‪،‬‬
‫ويشكر هللا تعالى على فقره‪ ،‬ومن عالماته ـ إذا كان عقوب ة ـ أن يس وء علي ه خلق ه‬
‫ويعصي ربه بترك طاعته ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء)‬
‫وهذا يدل على أن شكر هللا يكون في حال الفقر والغني‪ ،‬وال ينحصر في حال‬
‫الغنى وحده‪.‬‬
‫بل ورد ما هو أخطر من ذلك‪ ،‬فقد ورد الترغيب في حمد هللا حتى في الحالة‬
‫التي يبلغ فيها الحزن باإلنسان منته اه‪ ،‬ق ال ‪(:‬إذا م ات ول د العب د ق ال هللا تع الى‬
‫لمالئكته‪ :‬قبضتم ولد عبدي؟ فيقول ون‪ :‬نعم‪ ،‬فيق ول‪ :‬قبض تم ثم رة ف ؤاده؟ فيقول ون‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬فماذا قال عبدي؟ فيقول ون‪ :‬حم دك واس ترجع‪ ،‬فيق ول هللا تع الى‪ :‬ابن وا‬
‫لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد)(‪)1‬‬
‫فالحمد عبادة ذاتية هلل ال تتعلق بتقلبات المق ادير وتص اريف األح وال‪ ،‬وله ذا‬
‫كان ‪ ‬ـ وهو الذي كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع ـ يحمد هللا على نعمة‬
‫طعام قد نمتلئ حزنا إذا م ا ق دم إلين ا‪ ،‬ويحم د هللا على نعم ة العافي ة وه و محف وف‬
‫بأنواع المخاطر التي تريد أن تجتثه من أصوله‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن تعريف المتلقي أنواع النعم ومحاول ة إحص ائها ل ه دور كب ير في‬
‫تحقيقه بهذه العبادة‪ ،‬ألن الشكر ينطلق من معرفة النعمة منسوبة إلى خالقها‪.‬‬
‫وقد اهتم العلماء بتعداد النعم وتصنيفها‪ ،‬ولهم طرق كثيرة في ذلك‪:‬‬
‫منها‪ :‬ردها إلى أصولها‪ ،‬فالنعم أصول وفروع‪ ،‬فالصحة نعمة أصلية‪ ،‬يتفرع‬
‫عنها‪ :‬الحركة‪ ،‬والمشي‪ ،‬والعمل‪ ،‬والرياضة‪ ،‬واألكل‪ ،‬والش رب‪ ،‬والن وم‪ ،‬والس فر‪،‬‬
‫والتعلم‪ ..‬ومثل الصحة‪ :‬الوقت‪ ،‬والعلم‪ ،‬والم ال‪ ..‬فهي نعم أص لية تن درج تحت ك ل‬
‫واحدة نعم ال تحصى‪.‬‬
‫وق د كتب الغ زالي فص وال طويل ة في تص نيف النعم‪ ،‬ومن التص نيفات ال تي‬
‫ذكرها (أن األسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها‪ ،‬فقلم ا يص فو خيره ا‬
‫كالمال واألهل والولد واألقارب والجاه وس ائر األس باب‪ ،‬ولكن تنقس م إلى م ا نفع ه‬
‫أكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر األسباب‪ ،‬وإلى م ا ض ره أك ثر‬
‫من نفعه في حق أكثر األش خاص كالم ال الكث ير والج اه الواس ع‪ ،‬وإلى م ا يك افىء‬
‫ض رور نفع ه وه ذه أم ور تختل ف باألش خاص؛ ف رب إنس ان ص الح ينتف ع بالم ال‬
‫الصالح وإن كثر فينفقه في سبـيل هللا ويصرفه إلى الخيرات‪ ،‬فه و م ع ه ذا التوفي ق‬
‫نعمة في حقه‪ ،‬ورب إنسان يستضر بالقليل أيضا ً إذ ال يزال مستصغراً له شاكيا ً من‬
‫ربه طالبا ً للزيادة عليه‪ ،‬فيكون ذلك مع هذا الخذالن بالء في حقه)(‪)2‬‬
‫أن النعمة يعبر بها عن ك ل لذي ذ‪ ،‬والل ذات باإلض افة إلى اإلنس ان من‬ ‫ومنها ّ‬
‫حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغ يره ثالث ة أن واع‪ :‬عقلي ة‪ ،‬وبدني ة مش تركة م ع‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي وقال‪ :‬هذا حديث حسن غريب‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/100 :‬‬

‫‪79‬‬
‫بعض الحيوانات‪ ،‬وبدنية مشتركة مع جميع الحيوانات‪:‬‬
‫أم ا العقلي ة فكل ذة العلم والحكم ة‪ ،‬إذ ليس يس تلذها الس مع والبص ر والش م‬
‫والذوق وال البطن وال الفرج‪،‬‬
‫أم ا الثاني ة‪ :‬فهي ل ذة يش ارك اإلنس ان فيه ا بعض الحيوان ات كل ذة الرئاس ة‬
‫والغلبة واالستيالء‪ ،‬وذلك موجود في األسد والنمر وبعض الحيوانات‪.‬‬
‫وأما الثالثة‪ :‬فهي ما يشارك فيها سائر الحيوانات كل ذة البطن والف رج‪ ،‬وه ذه‬
‫أكثرها وج وداً وهي أخس ها‪ ،‬ول ذلك اش ترك فيه ا ك ل م ا دبّ ودرج ح تى الدي دان‬
‫والحشرات‪.‬‬
‫ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة‪ ،‬وهو أش ّدها التص اقا ً بالمتغ افلين‪،‬‬
‫فإن جاوز ذل ك ارتقى إلى الثالث ة فص ار أغلب الل ذات علي ه ل ذة العلم والحكم ة‪ ،‬ال‬
‫سيما لذة معرفة هللا تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله‪ ،‬وهذه رتبة الص ّديقين(‪.)1‬‬
‫وق د كتب بعض المعاص رين مص نفا النعم ال تي تص يب اإلنس ان إلى ثالث‬
‫أصناف أساسية هي(‪:)2‬‬
‫النعم المرتبط ة ب الخلق‪ :‬وتش مل النعم ال تي أنعم هللا به ا علين ا بوص فنا‬
‫مخلوقات‪ ،‬فهي نعم متفرعة عن نعمة الخلق واإليجاد‪ ،‬وهي تش مل سلس لة ال تنتهي‬
‫من الترتيبات الكونية جعلت حياتنا على ه ذا الك وكب ممكن ة‪ ،‬وق د ع رف اإلنس ان‬
‫اليوم ما لم يكن يعرفه أسالفه عن هذه الترتيبات‪ ،‬وعرف من دقتها أن أي خلل يق ع‬
‫في واحد منها يجعل الحياة على األرض مستحيلة‪..‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أنه لو كانت األرض أقرب إلى الش مس مم ا هي علي ه‬
‫اآلن لكانت كالكواكب القريبة منها كوكبا ً ملتهب ا ً وس اخنا ً تص ل حرارت ه إلى بض ع‬
‫مئ ات‪ ،‬ول و ك ان القم ر أق رب إلى األرض من ه اآلن الرتف ع الم د في البح ار إلى‬
‫الدرجة التي تغرق فيها المناطق الس احلية المأهول ة‪ ،‬وإذا زاد الم د أزالت األم واج‬
‫أعلى قمم الجبال في أيام‪ ،‬ولو لم يكن لألرض غالف ه وائي لم يمكن وج ود حي اة‪،‬‬
‫ولو لم يكن فيها ماء لم يظهر كائن حي واحد‪ ،‬ولو لم تكن ت دور على نفس ها وح ول‬
‫الشمس لم يمكن بقاؤها في م دارها‪ ،‬ب ل إن وقوفوه ا للحظ ة واح دة يع ني اجت ذاب‬
‫الشمس لها وفناءها السريع باالن دماج م ع ه ذا النجم المش تعل ال ذي ي زود األرض‬
‫بحاجتها من الضوء وهو على بعد مئة وخمسين مليونا ً من الكيلوم ترات‪ ..‬واألمثل ة‬
‫ال تحصى‪.‬‬
‫النعم المرتبط ة ب النوع‪ :‬وهي تش مل النعم ال تي أنعم هللا به ا علين ا بوص فنا‬
‫آدميين‪ ،‬فهي نعم متفرعة عن نعمة اآلدمية واإلنسانية‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه تعالى خلقه بي ده‪،‬‬
‫ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وأس جد ل ه مالئكت ه‪ ،‬وجعل ه ع اقالً ناطق اً‪ ،‬وس خر ل ه م ا في‬
‫الس موات واألرض‪ ،‬وأن زل إلي ه الكتب‪ ،‬وبعث إلي ه الرس ل‪ ،‬ووع ده على اإليم ان‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬إحياء علوم الدين‪.4/89 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عز الدين توفيق‪ ،‬فضيلة الشكر‪..‬العملة النادرة في ه ذا العص ر‪ ،‬مجل ة البي ان‪ ،114 :‬ص‪:‬‬
‫‪.68‬‬

‫‪80‬‬
‫والطاعة بالجنة‪.‬‬
‫فه ذه الش مس‪ ،‬وه ذا القم ر‪ ،‬وه ذه النج وم‪ ،‬والجب ال‪ ،‬والبح ار‪ ،‬واألنه ار‬
‫واألشجار‪ ،‬والدواب‪ ،‬واألنع ام‪ ،‬واألس ماك‪ ،‬والمع ادن‪ ،‬والثم ار‪ ..‬كله ا س خرة ل ه‪،‬‬
‫يأكل‪ ،‬ويلبس‪ ،‬ويفترش‪ ،‬ويدخر‪ ،‬ويتنزه‪ ..‬فتمت نعمة هللا عليه بما أعط اه من ق درة‬
‫على التسخير‪ ،‬وبما جعل في هذا الكون من استعداد للتسخير‪.‬‬
‫النعم المرتبط ة بالهداي ة‪ :‬وتش مل النعم ال تي أنعم هللا به ا علين ا بوص فنا‬
‫مسلمين‪ ،‬فهي نعم متفرعة عن نعمة الهداية واإليمان‪ ،‬وأعظمها في الدنيا هي‪ :‬نعمة‬
‫اإليمان نفسه‪ ،‬وأعظمها في اآلخرة‪ :‬رضوان هللا تعالى ورؤيته‪ ،‬وجواره في جنت ه‪،‬‬
‫وصحبة األنبي اء والص ديقين والش هداء والص الحين من عب اده‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬‬
‫ي إِ ْس ال َم ُك ْم بَ ِل هَّللا ُ يَ ُم ُّن َعلَ ْي ُك ْم أَ ْن هَ دَا ُك ْم‬
‫يَ ُمنُّونَ َعلَ ْي كَ أَ ْن أَ ْس لَ ُموا قُ لْ ال تَ ُمنُّوا َعلَ َّ‬
‫صا ِدقِينَ ﴾ (الحج رات‪ ،)17:‬وق ال تع الى‪ْ ﴿ :‬اليَ وْ َم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫ت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم‬ ‫لِإْل ِ ي َما ِن إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫يت لَ ُك ُم اأْل ِ سْال َم ِدينا ً ﴾ (المائدة‪)3:‬‬ ‫ض ُ‬‫ت َعلَ ْي ُك ْم نِ ْع َمتِي َو َر ِ‬‫َوأَ ْت َم ْم ُ‬
‫وتتف رع عن نعم ة الهداي ة واإليم ان نعم كث يرة‪ ،‬منه ا‪ :‬األمن‪ ،‬والس كينة‪،‬‬
‫والمغفرة‪ ،‬والرحمة‪ ،‬والتيسير‪ ،‬والرزق الواسع‪ ،‬والبركة في المال والعمل واألهل‪،‬‬
‫وغيرها كثير‪.‬‬
‫أذكار الشكر‪:‬‬
‫ألجل اإلعانة على إحصاء النعم وردت األذكار الكث يرة الدال ة على حم د هللا‬
‫على نعمه المختلفة‪ ،‬وهذه األذكار له ا دوره ا ال تربوي الكب ير‪ ،‬ذل ك ألن تحفيظه ا‬
‫للصغير من أول نشوئه‪ ،‬وتعليمه معانيها‪ ،‬والحرص على تنفي ذه له ا ل ه ل ه أث ر في‬
‫تحقيقه بمعانيها‪ ،‬كما رأينا مثل ذلك مع سهل التستري ‪.‬‬
‫وذل ك ألن ج وهر قلب الص بي ال ي زال محفوظ ا من أدران الش بهات‬
‫والشهوات‪ ،‬فلذلك سرعان ما ينصبغ بصبغة ما يلتزمه أو يداوم عليه‪.‬‬
‫فلذلك يمكن للوال د الص الح أن يجم ع أبن اءه على ه ذه األذك ار في دعون به ا‬
‫جماعة في أوقاتها باستغراق واستشعار لمعانيها‪ ،‬لتفعل فعلها بعد ذلك بالتدريج‪.‬‬
‫وال بأس أن نذكر هنا بعض هذه األذكار‪ ،‬كنم اذج للمع اني الروحي ة العميق ة‬
‫التي تقررها في النفس‪ ،‬وخاصة معنى الشكر الذي نحن بصدده‪.‬‬
‫ففي الصباح عندما يستيقظ ينبه إلى حمد ربه على نعمة استيقاظه كما يحم ده‬
‫على نوم ه‪ ،‬فق د ك ان رس ول هللا ‪ ‬إذا أوى إلى فراش ه ق ال‪(:‬باس مك اللهم أحي ا‬
‫وأموت؛ وإذا استيقظ قال‪ :‬الحمد هلل الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)(‪)1‬‬
‫ويعدد ‪ ‬في ذكر آخر بعض هذه النعم التي تس تحق الحم د‪ ،‬فيق ول ‪(:‬إذا‬
‫استيقظ أحدكم فليقل‪ :‬الحمد هلل الذي رد علي روحي‪ ،‬وعافاني في جس دي‪ ،‬وأذن لي‬
‫بذكره)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن السني بإسناد صحيح ‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫وفي ذكر آخر يقال عند االستيقاظ من الليل يع دد نعم ا أخ رى‪ ،‬ق ال ‪(:‬م ا‬
‫من رجل ينتبه من نومه فيقول‪ :‬الحمد هلل الذي خلق الن وم واليقظ ة‪ ،‬الحم د هلل ال ذي‬
‫بعثني سالما سويا‪ ،‬أشهد أن هللا يحيي الموتى وهو على كل ش يء ق دير‪ .‬إال ق ال هللا‬
‫تعالى‪ :‬صدق عبدي)(‪)1‬‬
‫فإذا طلعت شمس اليوم حمد هللا على طلوعها‪ ،‬وعلى فضل هللا باليوم الجديد‪،‬‬
‫فق د ك ان ‪ ‬إذا طلعت الش مس ق ال‪(:‬الحم د هلل ال ذي جللن ا الي وم عافيت ه‪ ،‬وج اء‬
‫بالشمس‪ ،‬من مطلعها‪ ،‬اللهم أصبحت أشهد لك بم ا ش هدت ب ه لنفس ك‪ ،‬وش هدت ب ه‬
‫مالئكتك وحملة عرشك وجميع خلقك إن ك أنت هللا ال إل ه إال أنت الق ائم بالقس ط‪ ،‬ال‬
‫إل ه إال أنت العزي ز الحكيم‪ ،‬اكتب ش هادتي بع د ش هادة مالئكت ك وأولي العلم‪ ،‬اللهم‬
‫أنت السالم ومنك السالم وإليك السالم‪ ،‬أسألك يا ذا الجالل واإلكرام أن تستجيب لنا‬
‫دعوتنا‪ ،‬وأن تعطينا رغبتنا‪ ،‬وأن تغنينا عمن أغنيته عنا من خلق ك‪ ،‬اللهم أص لح لي‬
‫ديني الذي هو عص مة أم ري‪ ،‬وأص لح لي دني اي ال تي فيه ا معيش تي‪ ،‬وأص لح لي‬
‫آخرتي التي إليها منقلبي)(‪)2‬‬
‫وكان ‪ ‬يقول إذا أصبح‪(:‬أصبحنا وأصبح الملك هلل ع ز وج ل‪ ،‬والحم د هلل‪،‬‬
‫والكبرياء والعظمة هلل‪ ،‬والخلق واألمر واللي ل والنه ار وم ا س كن فيهم ا هلل تع الى‪،‬‬
‫اللهم! اجع ل أول ه ذا النه ار ص الحا‪ ،‬وأوس طه نجاح ا وآخ ره فالح ا‪ ،‬ي ا أرحم‬
‫الراحمين)(‪)3‬‬
‫فإذا أمسى كان أول ما يذكره ه و حم د رب ه تع الى‪ ،‬فيق ول‪(:‬أمس ينا وأمس ى‬
‫الملك هلل‪ ،‬والحمد هلل ال إله إال هللا وحده ال شريك له)(‪)4‬‬
‫فإذا جاء الشهر الجديد حمد هللا على نعم ة هللا بقدوم ه‪ ،‬فق د ك ان ‪ ‬إذا رأى‬
‫الهالل ق ال‪(:‬هالل خ ير ورش د‪ ،‬هالل خ ير ورش د‪ ،‬هالل خ ير ورش د‪ ،‬آمنت باهلل‬
‫الذي خلقك‪ ،‬ثالث مرات‪ ،‬ثم يقول‪ :‬الحمد هلل الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر ك ذا)‬
‫(‪)5‬‬
‫وكان يتذكر في كل نعمة المنعم بها‪ ،‬بل يسبق ذكر المنعم النعمة‪:‬‬
‫فقد ك ان ‪ ‬ي ذكر نعم ة الص ورة‪ ،‬ويحم د هللا المص ور‪ ،‬فك ان إذا نظ ر في‬
‫المرآة قال‪(:‬الحمد هلل‪ ،‬اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي)(‪)6‬‬
‫وك ان ‪ ‬ي أمر بحم د نعم ة العافي ة إذا رؤي المبتل ون‪ ،‬ق ال ‪(:‬من رأى‬
‫مبتلى فقال‪ :‬الحم د هلل ال ذي عاف اني مم ا ابتالك ب ه وفض لني على كث ير ممن خل ق‬

‫‪ )(1‬رواه ابن السني ‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن السني‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن السني‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه ابن السني‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫البالء)(‪)1‬‬
‫تفضيال‪ ،‬لم يصبه ذلك‬
‫ف إذا حض ر الطع ام حم د هللا على نعم ة الطع ام‪ ،‬فق د ك ان ‪ ‬إذا ف رغ من‬
‫طعامه قال‪(:‬اللهم أطعمت وسقيت وأغ نيت وأق نيت وه ديت وأحس نت‪ ،‬فل ك الحم د‬
‫على م ا أعطيت)‪ ،‬وك ان يق ول‪(:‬الحم د هلل ال ذي من علين ا وه دانا‪ ،‬وال ذي أش بعنا‬
‫وأروانا‪ ،‬وكل اإلحسان آتانا)(‪)2‬‬
‫فإذا رزق الث وب الجدي د حم د هللا على ه ذا ال رزق‪ ،‬ق ال ‪(:‬من لبس ثوب ا‬
‫جديدا فقال‪ :‬الحمد هلل الذي كساني ما أواري به ع ورتي وأتجم ل ب ه في حي اتي‪ ،‬ثم‬
‫عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به‪ ،‬كان في حفظ هللا‪ ،‬وفي كنف هللا ع ز وج ل‪،‬‬
‫وفي ستر هللا حيا وميتا)(‪)3‬‬
‫بل كان ‪ ‬يتعامل م ع ه ذا الجدي د معامل ة خاص ة دال ة على مبل غ الش عور‬
‫بالنعمة‪ ،‬فقد كان إذا اس تجد ثوب ا س ماه باس مه عمام ة أو قميص ا أو رداء ثم يق ول‪:‬‬
‫(اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه‪ ،‬أسألك خيره وخير ما صنع له‪ ،‬وأع وذ ب ك من ش ره‬
‫وشر ما صنع له)(‪)4‬‬
‫وفي حديث آخر يجمع بين الحمد والت بري من الح ول والق وة ليخلص الحم د‬
‫ب ذلك هلل تع الى‪ ،‬ق ال ‪(:‬من لبس ثوب ا فق ال‪ :‬الحم د هلل ال ذي كس اني ه ذا الث وب‬
‫ورزقنيه من غير حول مني وال قوة‪ ،‬غفر هللا له ما تقدم من ذنبه)(‪)5‬‬
‫فإذا رجع إلى بيته كان أول ما يقول‪(:‬الحمد هلل ال ذي كف اني وآواني‪ ،‬والحم د‬
‫هلل الذي أطعمني وسقاني‪ ،‬والحمد هلل ال ذي من علي‪ ،‬أس ألك أن تج يرني من الن ار)‬
‫(‪)6‬‬
‫فإذا عبد هللا حمد هللا على نعمة التوفيق‪ ،‬فقد كان ‪ ‬إذا أفطر قال‪(:‬الحم د هلل‬
‫الذي أعانني فصمت‪ ،‬ورزقني فأفطرت)(‪)7‬‬
‫بل امتد حمد هللا في األذكار الشرعية حتى ش مل نعم ة الخالء‪ ،‬فق د ك ان ‪‬‬
‫إذا خرج من الخالء قال‪(:‬الحمد هلل الذي أذاق ني لذت ه‪ ،‬وأبقى في قوت ه‪ ،‬ودف ع ع ني‬
‫أذاه)‪ ،‬وفي ذكر آخر قال ‪(:‬غفرانك‪ ،‬الحمد هلل الذي أذهب عني األذى وعاف اني)‬
‫(‪)8‬‬
‫وبما أن األحوال ال نهاية لها‪ ،‬وال يمكن إحصاؤها‪ ،‬فق د ورد األم ر بحم د هلل‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن السني‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود (‪ )4020‬والترمذي (‪)1767‬‬
‫‪ )(5‬رواه ابن السني (‪ ،)272‬وقال الحافظ ابن حجر‪ :‬إسناد الحديث حسن‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه ابن السني‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه ابن السني‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه أبو داود (‪ ،)30‬والترمذي (‪ ،)7‬وابن ماجه (‪)300‬‬

‫‪83‬‬
‫في كل األحوال‪ ،‬واعتبار العمل الخالي من الحمد ممحوق البركة‪ ،‬قال ‪(:‬كل أمر‬
‫ذي بال ال يبدأ فيه بالحمد هلل أقطع)(‪)1‬‬
‫باإلضافة إلى كل هذا وردت األذك ار الكث يرة في حم د هللا مقرون ة ب النعم أو‬
‫مطلقة لتشمل كل النعم‪ ،‬وورد الجزاء الجليل عليها‪ ،‬قال ‪(:‬ألن أقول س بحان هللا‪،‬‬
‫والحمد هلل‪ ،‬وال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكبر‪ ،‬أحب إلي مم ا طلعت علي ه الش مس)‪ ،‬وأخ بر‬
‫‪ ‬أن‪(:‬أحب الكالم إلى هللا تع الى أرب ع‪ :‬س بحان هللا‪ ،‬والحم د هلل‪ ،‬وال إل ه إال هللا‪،‬‬
‫وهللا أكبر‪ ،‬ال يضرك بأيهن بدأت)(‪)2‬‬
‫ووردت هذه األذكار مقرونة باألعداد الضخمة كبديل عن اإلحصاء المعجز‪،‬‬
‫عن جويرية أم المؤمنين‪ ،‬أن النبي ‪ ‬خ رج من عن دها بك رة حين ص لى الص بح‪،‬‬
‫وهي في مسجدها‪ ،‬ثم رجع بعد أن أضحى‪ ،‬وهي جالسة في ه‪ ،‬فق ال‪(:‬م ا زلت الي وم‬
‫على الحالة التي فارقت ك عليه ا؟ ق الت‪ :‬نعم‪ ،‬فق ال الن بي ‪ :‬لق د قلت بع دك أرب ع‬
‫كلمات ثالث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن‪ :‬س بحان هللا وبحم ده ع دد‬
‫خلقه‪ ،‬ورضا نفسه‪ ،‬وزنة عرشه‪ ،‬ومداد كلماته)(‪)3‬‬
‫وهكذا نجد األدعية الكثيرة الواردة عن ورثة النبي ‪ ‬من أهل بيت ه الطي بين‬
‫الط اهرين ال ذين ترك وا لن ا الكث ير من األدعي ة والمناجي ات ال تي تس اهم في تعليم‬
‫الشكر‪ ،‬ومنها مناجاة الشاكرين المروية عن اإلمام السجاد‪ ،‬والتي يقول فيه ا‪( :‬إلهي‬
‫أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك‪ ،‬وأعجزني عن إحص آء ثنآئ ك فيض فض لك‪،‬‬
‫وش غلني عن ذك ر محام دك ت رادف عوآئ دك‪ ،‬وأعي اني عن نش ر عوارف ك ت والي‬
‫أيديك‪ ،‬وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعمآء‪ ،‬وقابله ا بالتقص ير‪ ،‬وش هد على نفس ه‬
‫باإلهمال والتضييع‪ ،‬وأنت ال رؤوف ال رحيم ال بر الك ريم‪ ،‬ال ذي ال يخيب قاص ديه‪،‬‬
‫وال يطرد عن فنآئه آملي ه‪ ،‬بس احتك تح ط رح ال ال راجين‪ ،‬وبعرص تك تق ف آم ال‬
‫المس ترفدين‪ ،‬فال تقاب ل آمالن ا ب التخييب واإلي اس‪ ،‬وال تلبس نا س ربال القن وط‬
‫واإلبالس)‬
‫ويقول فيه ا‪( :‬إلهي تص اغر عن د تع اظم آالئ ك ش كري‪ ،‬وتض اءل في جنب‬
‫إكرامك إياي ثنآئي ونشري‪ ،‬جللتني نعمك من أن وار اإليم ان حلال‪ ،‬وض ربت علي‬
‫لطآئف برك من العز كلال‪ ،‬وقلدتني منك قالئ د ال تح ل‪ ،‬وطوقت ني أطواق ا ال تف ل‪،‬‬
‫فآالؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها‪ ،‬ونعمآؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكه ا‬
‫فضال عن استقصآئها‪ ،‬فكيف لي بتحصيل الش كر‪ ،‬وش كري إي اك يفتق ر إلى ش كر‪،‬‬
‫فكلما قلت‪ :‬لك الحمد‪ ،‬وجب علي لذلك أن أقول‪ :‬لك الحمد)‬
‫ويقول فيها‪( :‬إلهي فكما غذيتنا بلطفك‪ ،‬وربيتن ا بص نعك‪ ،‬فتمم علين ا سوابـغ‬
‫النعم‪ ،‬وادف ع عن ا مك اره النقم‪ ،‬وآتن ا من حظ وظ ال دارين أرفعه ا وأجله ا ع اجال‬

‫‪ )(1‬األربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫وآجال‪ ،‬ولك الحمد على حسن بالئك وسبوغ نعمآئك حمدا يوافق رض اك‪ ،‬ويم تري‬
‫العظيم من برك ونداك‪ ،‬يا عظيم يا كريم‪ ،‬برحمتك يا أرحم الراحمين)‬
‫‪ 3‬ـ عبودية الصبر‬
‫وهي من أهم العبادات التي تتعلق التربي ة الص حية لألوالد به ا‪ ،‬ول ذلك ورد‬
‫صابَكَ إِ َّن َذلِكَ ِم ْن ع َْز ِم‬ ‫في موعظة لقمان ‪ ‬البنه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬واصْ بِرْ َعلَى َما أَ َ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)17:‬‬ ‫اأْل ُم ِ‬
‫فقد ختم هللا باألمر بالصبر جملة من العب ادات ال تي ال يس تقيم دين الم رء إال‬
‫به ا‪ ،‬وهي الص الة واألم ر ب المعروف والنهي عن المنك ر‪ ،‬ق ال تع الى على لس ان‬
‫ُوف َوا ْن هَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر ﴾ (لقم ان‪،)17:‬‬ ‫ي أَقِ ِم الصَّالةَ َو ْأ ُمرْ بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫لقمان ‪ ﴿ :‬يَا بُنَ َّ‬
‫وفي ذلك داللة على افتقار كال العبادتين إلى الصبر‪.‬‬
‫انطالقا من األهمية العظمى للتربية على الصبر نحاول هن ا أن ن ذكر أهم م ا‬
‫يتعلق به من أحكام وثمرات وط رق تربوي ة ترس خ حقيقت ه في نف وس األوالد‪ ،‬فق د‬
‫وصف هللا الصابرين بأوصاف وخصّهم بخص ائص لم تكن لغ يرهم‪،‬وذك ر الص بر‬
‫في نحو تسعين موضعا ً من الكتاب الكريم‪ ،‬وأضاف أكثر ال درجات والخ يرات إلى‬
‫الصبر وجعلها ثمرة له‪.‬‬
‫وقد اتفق العلماء على أن أصل الصبر واجب‪ ،‬ألنه ال يستقيم التعامل التعبدي‬
‫مع هللا بدون الصبر‪ ،‬ويدل على هذا الوجوب أدلة كثيرة‪.‬‬
‫منها ورود النصوص بصيغة األم ر الج ازم‪ ،‬وهي تفي د الوج وب‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫يرةٌ إِاَّل َعلَى ْالخَا ِش ِعينَ ﴾ (البق رة‪،)45:‬‬ ‫صب ِْر َوالصَّال ِة َوإِنَّهَا لَ َكبِ َ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْستَ ِعينُوا بِال َّ‬
‫ص ابِرُوا َو َرابِطُ وا َواتَّقُ وا هَّللا َ لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫اص بِرُوا َو َ‬ ‫وق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْ‬
‫تُ ْفلِحُونَ ﴾ (آل عمران‪)200:‬‬
‫ومنه ا ورود النص وص ب النهي عن ض د الص بر من االس تعجال والض جر‬
‫صبَ َر أُولُوا ْال َع ْز ِم ِمنَ الرُّ ُس ِل‬ ‫والجزع وغيرها‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَاصْ بِرْ َك َما َ‬
‫َوال تَ ْستَ ْع ِجلْ لَهُ ْم﴾ (االحقاف‪ ،)35:‬وقوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا لَقِيتُ ُم الَّ ِذينَ‬
‫ار﴾ (ألنفال‪ ،)15:‬وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬ ‫َكفَرُوا زَحْ فا ً فَال تُ َولُّوهُ ُم اأْل َ ْدبَ َ‬
‫أَ ِطيعُوا هَّللا َ َوأَ ِطيعُوا ال َّرسُو َل َوال تُ ْب ِطلُ وا أَ ْع َم الَ ُك ْم﴾ (محم د‪ ،)33:‬ب ل إن النص وص‬
‫اآلم رة ب االلتزام بطاع ة هللا تع الى هي في حقيقته ا آم رة بالص بر الفتق ار الص بر‬
‫للثبات على االلتزام‪.‬‬
‫ومنه ا أن هللا تع الى حكم بالخس ران على من لم يكن من أه ل الص بر فق ال‬
‫تع الى أوال‪ ﴿ :‬إِ َّن اأْل ِ ْن َس انَ لَفِي ُخ ْس ٍر﴾ (العص ر‪ ،)2:‬ثم اس تثنى أص حاب الص فات‬
‫الص ب ِْر﴾‬ ‫اص وْ ا بِ َّ‬ ‫اص وْ ا بِ ْال َح ِّ‬
‫ق َوتَ َو َ‬ ‫ت َوت ََو َ‬ ‫الص الِ َحا ِ‬ ‫التالية‪ ﴿ :‬إِاَّل الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫(العص ر‪ ،)3:‬ومث ل ذل ك تخص يص هللا تع الى أص حاب اليمين ب أنهم أه ل الص بر‬
‫اص وْ ا‬ ‫الص ب ِْر َوتَ َو َ‬ ‫اص وْ ا بِ َّ‬‫والمرحم ة فق ال تع الى‪ ﴿ :‬ثُ َّم َك انَ ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوت ََو َ‬
‫بِ ْال َمرْ َح َم ِة﴾ (البلد‪)17:‬‬
‫ومنها اقتران الصبر بأركان اإلسالم ومقامات اإليمان واإلحسان‪ ،‬وهي كله ا‬

‫‪85‬‬
‫من الفرائض‪ ،‬وفي ذلك دليل على اقترانه معها في حكم الوجب‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫الص ال ِة‬ ‫الص ب ِْر َو َّ‬ ‫اس ت َِعينُوا بِ َّ‬ ‫‪ 1‬ـ اقتران الصبر بالص الة كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫َوإِنَّهَا لَ َكبِي َرةٌ إِاَّل َعلَى ْالخَا ِش ِعينَ ﴾ (البقرة‪)45:‬‬
‫ص بَرُوا‬ ‫‪ 2‬ـ اقتران الصبر باألعم ال الص الحة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِاَّل الَّ ِذينَ َ‬
‫ك لَهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ َوأَجْ ٌر َكبِيرٌ﴾ (هود‪)11:‬‬ ‫ت أُولَئِ َ‬ ‫َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ص بِرْ فَ إِ َّن هَّللا َ ال‬ ‫ق َويَ ْ‬ ‫‪ 3‬ـ اقتران الصبر بالتقوى‪ ،‬كما قال تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّهُ َم ْن يَتَّ ِ‬
‫ُضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ (يوسف‪)90:‬‬ ‫ي ِ‬
‫ق‬ ‫ْ‬
‫اص وْ ا بِ ال َح ِّ‬ ‫‪ 4‬ـ اق تران الص بر بالتواص ي ب الحق‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وت ََو َ‬
‫صب ِْر﴾ (العصر‪)3:‬‬ ‫صوْ ا بِال َّ‬‫َوت ََوا َ‬
‫اص وْ ا‬ ‫الص ب ِْر َوت ََو َ‬ ‫اص وْ ا بِ َّ‬ ‫‪ 5‬ـ اقتران الصبر بالرحمة‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬وت ََو َ‬
‫بِ ْال َمرْ َح َمة﴾ (البلد‪)17:‬‬
‫‪ 6‬ـ اقتران الصبر باليقين‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلنَا ِم ْنهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ َ ْم ِرنَ ا‬
‫صبَرُوا َو َكانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ (السجدة‪)24:‬‬ ‫لَ َّما َ‬
‫‪ 7‬ـ اق تران الص بر بكث ير من أعم ال ال بر‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن ْال ُم ْس لِ ِمينَ‬
‫ت‬ ‫الص ا ِدقَا ِ‬ ‫الص ا ِدقِينَ َو َّ‬ ‫ت َو َّ‬ ‫ت َو ْالقَ انِتِينَ َو ْالقَانِتَ ا ِ‬ ‫ت َو ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬ ‫َو ْال ُم ْس لِ َما ِ‬
‫ت‬ ‫َص ِّدقَا ِ‬ ‫َص ِّدقِينَ َو ْال ُمت َ‬ ‫ت َو ْال ُمت َ‬ ‫َاش َعا ِ‬ ‫َاش ِعينَ َو ْالخ ِ‬ ‫ت َو ْالخ ِ‬ ‫الص ابِ َرا ِ‬ ‫الص ابِ ِرينَ َو َّ‬ ‫َو َّ‬
‫ت َوال َّذا ِك ِرينَ هَّللا َ َكثِ يراً‬ ‫ُوجهُ ْم َو ْال َحافِظَ ا ِ‬ ‫ت َو ْال َح افِ ِظينَ فُ ر َ‬ ‫الص ائِ َما ِ‬ ‫الص ائِ ِمينَ َو َّ‬ ‫َو َّ‬
‫َظيم اً﴾ (األح زاب‪ ،)35:‬وق ال تع الى‪:‬‬ ‫ت أَ َع َّد هَّللا ُ لَهُ ْم َم ْغفِ َرةً َوأَجْ راً ع ِ‬ ‫َوال َّذا ِك َرا ِ‬
‫ار﴾ (آل عم ران‪:‬‬ ‫﴿ الصَّابِ ِرينَ َوالصَّا ِدقِينَ َو ْالقَ انِتِينَ َو ْال ُم ْنفِقِينَ َو ْال ُم ْس تَ ْغفِ ِرينَ بِاأْل َ ْس َح ِ‬
‫‪)17‬‬
‫ومع هذه األدل ة الكث يرة وغيره ا‪ ،‬ف إن الص بر ق د يك ون مس تحبا في بعض‬
‫األحوال‪ ،‬وذلك فيما لو ك ان الص بر عن أم ر مس تحب‪ ،‬ومم ا ي دل على ذل ك قول ه‬
‫لص ابِ ِرينَ ﴾‬ ‫ص بَرْ تُ ْم لَهُ َو خَ ْي ٌر لِ َّ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِبُوا بِ ِم ْث ِل َما عُوقِ ْبتُ ْم بِ ِه َولَئِ ْن َ‬
‫(النحل‪ ،)126:‬في هذه اآلية تخيير للمؤمن بين عقوبة من ظلمه‪ ،‬كما قال تع الى في‬
‫االية األخرى‪ ﴿ :‬فَ َم ِن ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم فَا ْعتَدُوا َعلَ ْي ِه بِ ِم ْث ِل َم ا ا ْعتَ دَى َعلَ ْي ُك ْم ﴾ (البق رة‪:‬‬
‫‪ ،)194‬وبين الصبر مع اعتباره هو األفضل‪ ،‬ولذلك وصفه بالخيري ة وعقب عليه ا‬
‫ق ِم َّما‬ ‫ض ْي ٍ‬ ‫ك فِي َ‬ ‫ص ْبرُكَ إِاَّل بِاهَّلل ِ َوال تَحْ زَ ْن َعلَ ْي ِه ْم َوال تَ ُ‬ ‫بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬واصْ بِرْ َو َما َ‬
‫يَ ْم ُكرُونَ ﴾ (النحل‪)127:‬‬
‫بناء على ه ذا ف إن تم رين األوالد على الص بر هلل وباهلل‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬‬
‫ك إِاَّل بِاهَّلل ِ ﴾ (النحل‪ )127:‬له تأثيره ال تربوي الكب ير على س لوكه‬ ‫ص ْب ُر َ‬‫َواصْ بِرْ َو َما َ‬
‫الروحي واألخالقي واالجتماعي‪ ،‬ألن كل ذلك يفتقر إلى الصبر في تحقيقه‪.‬‬
‫وله ذا اعت بر تع الى الص بر من وس ائل التزكي ة مثل ه مث ل الص الة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫خَاش ِعينَ ﴾ (البقرة‪)45:‬‬ ‫يرةٌ إِاَّل َعلَى ْال ِ‬ ‫صب ِْر َوالصَّال ِة َوإِنَّهَا لَ َكبِ َ‬ ‫﴿ َوا ْست َِعينُوا بِال َّ‬
‫وأخبر تعالى أن تأييده لعباده على أنفسهم أو على عدوهم مرتبط بمدى صدق‬
‫َص بِرُوا َوتَتَّقُ وا َويَ أْتُو ُك ْم ِم ْن فَ وْ ِر ِه ْم هَ َذا يُ ْم ِد ْد ُك ْم َربُّ ُك ْم‬ ‫ص برهم‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬بَلَى إِ ْن ت ْ‬

‫‪86‬‬
‫آالف ِمنَ ْال َمالئِ َك ةُ ُم َس ِّو ِمينَ ﴾ (آل عم ران‪ ،)125:‬وق ال ‪(:‬واعلم أن‬ ‫ٍ‬ ‫بِ َخ ْم َس ِة‬
‫النصر مع الصبر)(‪)1‬‬
‫وأخبر تعالى أن كيد أعدائهم مهما كان نوعه ومهم ا ك ان موض وعه مرتب ط‬
‫ض رُّ ُك ْم َك ْي ُدهُ ْم َش يْئا ً إِ َّن هَّللا َ بِ َم ا‬ ‫َص بِرُوا َوتَتَّقُ وا ال يَ ُ‬ ‫بالص بر‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن ت ْ‬
‫يَ ْع َملُونَ ُم ِحيطٌ﴾ (آل عمران‪)120:‬‬
‫وسنذكر هنا بعض ثم رات الص بر العملي ة في الس لوك ال روحي‪ ،‬ال ذي ه و‬
‫أساس كل سلوك وروحه ومنطلقه‪ ،‬وذل ك ألن أداء جمي ع الطاع ات‪ ،‬واالنته اء عن‬
‫جميع المعاصي يفتقر إلى الصبر ابتداء ودواما‪ ،‬كما قال تعالى في أه ل العلم ال ذين‬
‫ص الِحا ً َوال‬ ‫علموا قومهم المفتونين بقارون‪َ ﴿ :‬و ْيلَ ُك ْم ثَ َوابُ هَّللا ِ خَ ْي ٌر لِ َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ‬
‫يُلَقَّاهَا إِاَّل الصَّابِرُونَ ﴾ (القصص‪ ،)80:‬وكما قال عند األمر بالدفع بالتي هي أحس ن‪:‬‬
‫َظ ٍيم﴾ (فصلت‪)35:‬‬ ‫ظع ِ‬ ‫صبَرُوا َو َما يُلَقَّاهَا إِاَّل ُذو َح ٍّ‬ ‫﴿ َو َما يُلَقَّاهَا إِاَّل الَّ ِذينَ َ‬
‫وهذ يشير إلى صعوبة السلوك وشدته‪ ،‬وذلك ـ كما يعبر الغزالي ـ ألن النفس‬
‫بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبـية‪ ،‬كما قال بعض الع ارفين‪(:‬م ا من نفس‬
‫إال وهي مضمرة م ا أظه ره فرع ون من قول ه‪ ﴿ :‬أَنَ ا َربُّ ُك ْم األَ ْعلَى ﴾ ولكن فرع ون‬
‫وجد له مجاالً وقبوالً فأظهره إذ استخف قومه فأطاعوه)(‪)2‬‬
‫ولذلك فإن العبودية شاقة على النفس مطلقاً‪ ،‬سواء بسبب الكسل كالصالة‪ ،‬أو‬
‫بسبب البخل كالزكاة‪ ،‬أو بسببهما جميعا ً ك الحج والجه اد‪ ،‬ول ذلك ك ان الص بر على‬
‫االلتزام على الطاعة نوعا من أنواع الصبر على الشدائد‪.‬‬
‫فقب ل الطاع ة‪ ،‬يحت اج المطي ع إلى تص حيح الني ة واإلخالص والص بر عن‬
‫شوائب الرياء ودواعي اآلفات وعقد العزم على اإلخالص والوف اء‪ .‬وذل ك كل ه من‬
‫الصبر الشديد لكثرة آفات الرياء وعظم مكائ د النفس‪ ،‬وله ذا ق دم هللا تع الى الص بر‬
‫ت أُولَئِ كَ لَهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ‬ ‫الص الِ َحا ِ‬ ‫ص بَرُوا َو َع ِملُ وا َّ‬ ‫على العمل فق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِاَّل الَّ ِذينَ َ‬
‫َوأَجْ ٌر َكبِيرٌ﴾ (هود‪)11:‬‬
‫وحال الطاعة يحتاج المطيع إلى الص بر كي ال يغف ل عن هللا في أثن اء عمل ه‬
‫وال يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه ويدوم على شرط األدب إلى آخر العمل األخ ير‬
‫فيالزم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ‪ ،‬وهو أيض ا ً من ش دائد الص بر‪ ،‬وإلي ه‬
‫ص بَرُوا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَت ََو َّكلُ ونَ ﴾‬ ‫اإلش ارة بقول ه تع الى‪ ﴿ :‬نِ ْع َم أَجْ ُر ْال َع ا ِملِينَ الَّ ِذينَ َ‬
‫(العنكبوت‪ 58:‬ـ ‪)59‬‬
‫وبعد الفراغ من العمل‪ ،‬يحتاج المطي ع إلى الص بر عن إفش ائه والتظ اهر ب ه‬
‫للس معة والري اء والص بر عن النظ ر إلي ه بعين العجب وعن ك ل م ا يبط ل عمل ه‬
‫ص َدقَاتِ ُك ْم بِ ْال َمنِّ َواأْل َ َذى﴾‬ ‫ويحبط أثره كما قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تُ ْب ِطلُوا َ‬
‫(البقرة‪ ،)264:‬فمن لم يصبر بعد الصدقة عن المن واألذى فقد أبط ل عمل ه‪ ،‬وله ذا‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/70 :‬‬

‫‪87‬‬
‫ول َوال تُ ْب ِطلُ وا أَ ْع َم الَ ُك ْم﴾‬ ‫َّس َ‬ ‫قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ ِطي ُع وا هَّللا َ َوأَ ِطي ُع وا الر ُ‬
‫(محمد‪)33:‬‬
‫ومثل حاجة الطاعات إلى الصبر وافتقارها إليه وكونه ركنا من أركانها‪ ،‬فإن‬
‫المعاصي كذلك تفتقر إلى الصبر‪ ،‬بل إن أشد أن واع الص بر ـ كم ا ي ذكر الغ زالي ـ‬
‫هي الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة (ف إن الع ادة طبـيعة خامس ة‪،‬‬
‫فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند هللا تعالى‬
‫فال يقوى باعث الدين على قمعها)(‪)1‬‬
‫والصبر ـ زيادة على هذا التأثير السلوكي ـ هو العالج الرباني لك ل م ا يهجم‬
‫على اإلنسان من صروف البالء التي هي من ضرورات تكليفه واختب اره لتمحيص‬
‫معدنه‪:‬‬
‫فهو العالج الذي يواجه ب ه أذى الخل ق‪ ،‬وه و م ا نص علي ه قول ه تع الى في‬
‫َص بِ َر َّن َعلَى َم ا آ َذ ْيتُ ُمونَ ا َو َعلَى هَّللا ِ فَ ْليَت ََو َّك ِل‬ ‫ج واب المؤم نين لمن آذاهم‪َ ﴿ :‬ولَن ْ‬
‫ْال ُمت ََو ِّكلُونَ ﴾ (ابراهيم‪ ،)12:‬وهو توجيه هللا لرسول هللا ‪ ‬وللثلة المؤمنة في ال وقت‬
‫ال ذي اجتمعت عليهم ص نوف األع داء‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وال تُ ِط ِع ْال َك افِ ِرينَ‬
‫َو ْال ُمنَ افِقِينَ َو َد ْع أَ َذاهُ ْم َوت ََو َّكلْ َعلَى هَّللا ِ َو َكفَى بِاهَّلل ِ َو ِكيالً﴾ (األح زاب‪ ،)48:‬وق ال‬
‫اص بِرْ َعلَى َم ا يَقُولُ ونَ َوا ْه ُج رْ هُ ْم هَجْ راً َج ِميالً﴾ (المزم ل‪ ،)10:‬وق ال‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫ص ْدرُكَ بِ َم ا يَقُولُ ونَ فَ َس بِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ َو ُك ْن ِمنَ‬ ‫ق َ‬ ‫ضي ُ‬ ‫ك يَ ِ‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد نَ ْعلَ ُم أَنَّ َ‬
‫الس ا ِج ِدينَ ﴾ (الحج ر‪ 97:‬ـ ‪ ،)98‬فأرش د إلى مقابل ة األذى بعب ادة هللا ال بمواجهت ه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫َاب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم‬ ‫ُ‬
‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬لَتُ ْبلَ ُو َّن فِي أَ ْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْنفُ ِس ُك ْم َولَتَ ْس َمع َُّن ِمنَ الَّ ِذينَ أوتُوا ْال ِكت َ‬
‫ُ‬ ‫َو ِمنَ الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُكوا أَذ ً‬
‫ور﴾ (آل‬ ‫ى َكثِيراً َوإِ ْن تَصْ بِرُوا َوتَتَّقُوا فَ إِ َّن َذلِ كَ ِم ْن َع ْز ِم اأْل ُم ِ‬
‫ص بَرْ تُ ْم‬ ‫عمران‪ ،)186:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِبُوا بِ ِم ْث ِل َما ُع وقِ ْبتُ ْم بِ ِه َولَئِ ْن َ‬
‫لَه َُو خَ ْي ٌر لِلصَّابِ ِرينَ ﴾ (النحل‪)126:‬‬
‫وهو العالج لح ر المص ائب ال تي ت نزل على اإلنس ان من غ ير اختي اره وال‬
‫اختيار أحد من الخلق‪ ،‬ألنه نوع من مواجه ة المق ادير اإللهي ة من غ ير ض جر وال‬
‫جزع‪ ،‬قال الغزالي‪(:‬فإن قلت‪ :‬فبماذا تنال درجة الص بر في المص ائب وليس األم ر‬
‫إلى اختياره؟ فهو مضطر ش اء أم أبى‪ ،‬ف إن ك ان الم راد ب ه أن ال يتك ون في نفس ه‬
‫كراهي ة المص يبة ف ذلك غ ير داخ ل في اختي ار ف اعلم أن ه إنم ا يخ رج عن مق ام‬
‫الصابرين بالجزع وشق الجيوب وض رب الخ دود والمبالغ ة في الش كوى وإظه ار‬
‫الكآب ة وتغيـير الع ادة في الملبس والمف رش والمطعم‪ ،‬وه ذه األم ور داخل ة تحت‬
‫اختياره فينبغي أن يجتنب جميعها ويظهر الرض ا بقض اء هللا تع الى ويبقى مس تم ّراً‬
‫أن ذلك كان وديعة فاسترجعت)(‪)2‬‬ ‫على عادته‪ ،‬ويعتقد ّ‬
‫فالصبر بذلك هو الحصن الذي يحتمي به المؤمن من ك ل األم راض النفس ية‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/71 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/73 :‬‬

‫‪88‬‬
‫التي تسببها أنواع البالء‪.‬‬
‫وعطاء الصبر النفسي ال يتوقف عند هذا الح د‪ ،‬ب ل ه و العالج النفس ي لك ل‬
‫النواحي الفطرية التي قد ال تتناسب مع كمال اإلنسان وسيره السلوكي‪:‬‬
‫أْل‬
‫ق ا ِ ْن َس انُ‬ ‫فهو عالج االستعجال الذي هو فطرة بشرية‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ ﴿ :‬خلِ َ‬
‫ِم ْن ع ََج ٍل ﴾ (االنبياء‪ ،)37:‬وهذا العالج له أهميته الكبرى في جميع مي ادين الحي اة‪،‬‬
‫فال يمكن أن يقوم المستعجل بأي عمل كامل صحيح‪.‬‬
‫ً‬
‫وهو عالج الغض ب‪ ،‬ول ذلك لم ا خ رج ي ونس ‪ ‬مغاض با قوم ه ابتاله هللا‬
‫ك َوال تَ ُك ْن‬ ‫اص بِرْ لِ ُح ْك ِم َربِّ َ‬
‫بالحوت‪ ،‬فتعلم الص بر في بطن الح وت‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَ ْ‬
‫ت إِ ْذ نَادَى َوهُ َو َم ْكظُو ٌم﴾ (القلم‪)48:‬‬ ‫ب ْالحُو ِ‬ ‫اح ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫َك َ‬
‫وهو عالج اليأس‪ ،‬ألن اليائس يستعجل حصول الثمرة‪ ،‬ول ذلك ح ذر يعق وب‬
‫ي ْاذهَبُوا فَت ََح َّسسُوا ِم ْن يُوسُفَ َوأَ ِخي ِه َوال تَيْأ َ ُس وا‬ ‫‪ ‬أوالده من اليأس‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬يَابَنِ َّ‬
‫ح هَّللا ِ إِاَّل ْالقَوْ ُم ْال َكافِرُونَ ﴾ (يوسف‪)87:‬‬ ‫ح هَّللا ِ إِنَّهُ ال يَيْأَسُ ِم ْن َروْ ِ‬ ‫ِم ْن َروْ ِ‬
‫وهو مع معجون الشكر عالج عمى القل وب عن إدراك الحق ائق‪ ،‬وله ذا ورد‬
‫في أربع مواضع في القرآن الك ريم اإلخب ار بأن ه ال ينتف ع باآلي ات إال أه ل الص بر‬
‫والشكر‪ ،‬ألن اإليمان نصفان‪ :‬صبر وشكر‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ُمو َسى بِآياتِنَ ا‬
‫ت لِ ُك لِّ‬
‫ك آَل ي ا ٍ‬ ‫ور َو َذ ِّكرْ هُ ْم بِأَي َِّام هَّللا ِ إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫أَ ْن أَ ْخ ِرجْ قَوْ َم كَ ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬
‫ت‬‫ور﴾ (ابراهيم‪ ،)5:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬أَلَ ْم تَ َر أَ َّن ْالفُ ْلكَ تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر بِنِ ْع َم ِ‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫صب ٍ‬ ‫َ‬
‫ور﴾ (لقمان‪ ،)31:‬وقال تع الى‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫َّار‬
‫َ ٍ‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫لِّ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ل‬
‫ٍ ِ‬ ‫ت‬ ‫يا‬ ‫آَل‬ ‫ك‬‫هَّللا ِ ِ ِ َ ْ ِ َ ِ ِ ِ ِ ِ َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫ت‬‫ا‬ ‫ي‬‫آ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ي‬‫ُر‬ ‫ي‬‫ل‬
‫يث َو َم َّز ْقنَ اهُ ْم ُك َّل‬ ‫ارنَا َوظَلَ ُم وا أَ ْنفُ َس هُ ْم فَ َج َع ْلنَ اهُ ْم أَ َح ا ِد َ‬ ‫اع ْد بَ ْينَ أَ ْس فَ ِ‬ ‫﴿ فَقَالُوا َربَّنَ ا بَ ِ‬
‫ص بَّار َش ُكور﴾ (سـبأ‪ ،)19:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ ْن يَ َش أْ‬
‫ٍ‬ ‫ت لِ ُك لِّ َ ٍ‬ ‫ك آَل ي ا ٍ‬ ‫ق إِ َّن فِي َذلِ َ‬ ‫ُم َم َّز ٍ‬
‫ور﴾‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫صب ٍ‬ ‫ت لِ ُك ِّل َ‬ ‫ظلَ ْلنَ َر َوا ِك َد َعلَى ظَ ْه ِر ِه إِ َّن فِي َذلِ كَ آَل ي ا ٍ‬ ‫رِّيح فَيَ ْ‬
‫ي ُْس ِك ِن ال َ‬
‫(الشورى‪)33:‬‬
‫وك ل م ا ذكرن ا من ثم ار الص بر هي غيض من فيض‪ ،‬فثم رات الص بر‬
‫التربوية ك أجره ال حس اب وال ع د له ا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا يُ َوفَّى َّ‬
‫الص ابِرُونَ‬
‫ب﴾ (الزمر‪ ،)10:‬فهم ا أج ران أخ روي ال نعلم مق داره‪ ،‬ودني وي‬ ‫أَجْ َرهُ ْم بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫بالثمرات التربوية الكثيرة التي ال تعد وال تحصى‪.‬‬
‫ولذلك جعل هللا تعالى الصبر من صفات أئم ة اله دى‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلن اَ‬
‫صبَرُوا َو َكانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ (السجدة‪)24:‬‬ ‫ِم ْنهُ ْم أَئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ َ ْم ِرنَا لَ َّما َ‬
‫بل هو من صفات أولي العزم من الرسل الذين هم قادة الخلق‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬‬
‫صبَ َر أُولُوا ْال َع ْز ِم ِمنَ الرُّ س ُِل ﴾ (االحقاف‪)35:‬‬ ‫فَاصْ بِرْ َك َما َ‬
‫والصبر كغيره من العبادات الروحية من األمور الكسبية ال تي يمكن للمكل ف‬
‫أن يؤديها ويتخلق بها‪ ،‬ألن هللا تعالى ال يكلفن ا بمس تحيل ال تس تطيعه فطرتن ا‪ ،‬وإال‬
‫كان ذلك التكليف عبثا‪ ،‬ولهذا ورد في السنة م ا يفي د إمكاني ة التحق ق بالص بر‪ ،‬ق ال‬

‫‪89‬‬
‫‪(:‬ومن يتصبّر يصبّره هللا)(‪ ،)1‬وهو بذلك كس ائر األخالق كم ا ق ال ‪ ‬في بقي ة‬
‫الحديث‪(:‬ومن يستعفف يعفه هللا‪ ،‬ومن يستغن يغنه هللا‪ ،‬وم ا أعطي عب د عط اء ه و‬
‫خير وأوسع من الصبر)‬
‫وسنذكر هنا بعض المعارف التي لها تأثيرها الكبير في التحق ق به ذه العب ادة‬
‫العظيمة‪:‬‬
‫معرفة حقيقة وظيفة اإلنسان في هذه الدنيا‪:‬‬
‫وهذه هي المعرف ة األساس ية ال تي تض ع اإلنس ان في محل ه الحقيقي في ه ذا‬
‫الكون‪ ،‬وبالتالي تبرر سلوكياته فيه‪ ،‬وهي مثل تعرف العامل في المنجم على طبيعة‬
‫وظيفته التي تقتضي وجوده في ذلك الجو‪.‬‬
‫ولهذا يعرفنا القرآن الكريم دائما بحقيقة هذه الحياة الدنيا وأنواع الكبد والكدح‬
‫الذي يعانيه اإلنسان فيها وما ُجبِلت عليه من المش قة والعن اء لتك ون ه ذه المع ارف‬
‫زادا لصبرنا على ما فيها من المشاق‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫كدر وأنت تريدها= صفو من اآلالم واألكدار‬ ‫*جبلت على ٍ‬
‫ومكلف األيام ضد طباعها = متطلب في الماء جذوة نار*‬
‫فغاية وجود اإلنسان في هذه الدنيا هي الكدح إلى أن يالقي ربه‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ك َك ْدحا ً فَ ُمالقِي ِه﴾ (االنشقاق‪ ،)6:‬ب ل إن هللا تع الى‬ ‫﴿ يَا أَيُّهَا اأْل ِ ْن َسانُ إِنَّ َ‬
‫ك َكا ِد ٌح إِلَى َربِّ َ‬
‫عبر عن هذا الكبد(‪ )2‬بصيغة الظرفية‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َخلَ ْقنَا اأْل ِ ْن َسانَ فِي َكبَ ٍد﴾ (البلد‪)4:‬‬
‫وقد ذكر سيد قطب بعض مظاهر الكبد التي يعانيه ا اإلنس ان في ه ذه الحي اة‬
‫منذ مجيئه إليها إلى خروجه منها‪ ،‬فقال‪ ..( :‬فالخلية األولى ال تستقر في الرحم حتى‬
‫تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف المالئمة للحياة والغذاء ‪ -‬بإذن‬
‫ربها ‪ -‬وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج‪ ،‬فت ذوق من المخ اض ‪ -‬إلى ج انب‬
‫ما تذوقه الوالدة ‪ -‬ما تذوق‪ ،‬وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ض غط ودف ع‬
‫حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم‪ ..‬ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد األشق والكب د‬
‫األمر‪ .‬يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي ال عه د ل ه ب ه‪ ،‬ويفتح فم ه ورئتي ه ألول‬
‫مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتب دأ دورت ه الهض مية ودورت ه‬
‫الدموي ة في العم ل على غ ير ع ادة! ويع اني في إخ راج الفض الت ح تى ي روض‬
‫أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد‪ ،‬وكل حركة بع د ذل ك كب د‪.‬‬
‫والذي يالحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجه د‬
‫العنيف للقيام به ذه الحرك ة الس اذجة‪ ..‬وعن د ب روز األس نان كب د‪ .‬وعن د انتص اب‬
‫القامة كبد‪ .‬وعند الخطو الثابت كب د‪ .‬وعن د التعلم كب د‪ .‬وعن د التفك ر كب د‪ .‬وفي ك ل‬
‫تجرب ة جدي دة كب د كتجرب ة الحب و والمش ي س واء! ثم تف ترق الط رق‪ ،‬وتتن وع‬
‫المشاق ؛ هذا يكدح بعضالته‪ .‬وهذا يكدح بفك ره‪ .‬وه ذا يك دح بروح ه‪ .‬وه ذا يك دح‬
‫‪ )(1‬رواه الحكيم الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬أصل الكبد من قولك‪ :‬كبد الرجل كبدا فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت‪ ،‬فاتس ع في ه ح تى اس تعمل في ك ل‬
‫ً‬
‫تعب ومشقة‪ ،‬ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫للقمة العيش وخرقة الكساء‪ .‬وهذا يكدح ليجع ل األل ف ألفين وعش رة آالف‪ ...‬وه ذا‬
‫يكدح لملك أو جاه‪ ،‬وهذا يكدح في سبيل هللا‪ .‬وهذا يكدح لشهوة ونزوة‪ .‬وه ذا يك دح‬
‫لعقيدة ودعوة‪ .‬وهذا يك دح إلى الن ار‪ .‬وه ذا يك دح إلى الجن ة‪ ..‬والك ل يحم ل حمل ه‬
‫ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد األك بر لألش قياء‪ .‬وتك ون‬
‫الراحة الكبرى للسعداء) (‪)1‬‬
‫ثم ختم ذلك بقول ه‪(:‬إن ه الكب د طبيع ة الحي اة ال دنيا تختل ف أش كاله وأس بابه‪،‬‬
‫ولكنه هو الكبد في النهاية‪ .‬فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحي اة ال دنيا لينتهي‬
‫إلى الكبد األشق األمر في األخرى‪ .‬وأفلح الف الحين من يك دح في الطري ق إلى رب ه‬
‫ليلقاه بمؤهالت تنهي عنه كبد الحياة‪ ،‬وتنتهي به إلى الراح ة الك برى في ظالل هللا)‬
‫(‪)2‬‬
‫بل إن الفخر الرازي في تعليقه على ه ذه اآلي ة ﴿لَقَ ْد َخلَ ْقنَ ا اأْل ِ ْن َس انَ فِي َكبَ ٍد﴾‬
‫(البلد‪ )4:‬ينفي وجود الل ذة أص ال‪ ،‬ألن ال دنيا طبعت على اآلالم‪ ،‬ق ال‪(:‬وعن دي في ه‬
‫وجه آخر‪ ،‬وهو أنه ليس في ه ذه ال دنيا ل ذة البت ة‪ ،‬ب ل ذاك ال ذي يظن أن ه ل ذة فه و‬
‫خالص عن األلم‪ ،‬فإن ما يتخيل من اللذة عن د األك ل فه و خالص عن د ألم الج وع‪،‬‬
‫وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خالص عن ألم الح ر وال برد‪ ،‬فليس لإلنس ان‪،‬‬
‫إال ألم أو خالص عن ألم وانتقال إلى آخر‪ ،‬فه ذا مع نى قول ه تع الى‪ ﴿ :﴿ :‬لَقَ ْد َخلَ ْقنَ ا‬
‫اأْل ِ ْن َ‬
‫سانَ فِي َكبَ ٍد﴾ (البلد‪)3())4:‬‬
‫بل إن الفخر الرازي عرج من هذا إلى االستدالل على البعث‪ ،‬فقال‪(:‬ويظه ر‬
‫منه أنه ال بد لإلنس ان من البعث والقيام ة‪ ،‬ألن الحكيم ال ذي دب ر خلق ة اإلنس ان إن‬
‫كان مطلوبه منه أن يتألم‪ ،‬فهذا ال يليق بالرحم ة‪ ،‬وإن ك ان مطلوب ه أن ال يت ألم وال‬
‫يلتذ‪ ،‬ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطل وب‪ ،‬وإن ك ان مطلوب ه أن يلت ذ‪ ،‬فق د‬
‫بينا أنه ليس في هذه الحياة ل ذة‪ ،‬وأن ه خل ق اإلنس ان في ه ذه ال دنيا في كب د ومش قة‬
‫ومحنة‪ ،‬فإذا ال بد بعد ه ذه ال دار من دار أخ رى‪ ،‬لتك ون تل ك ال دار دار الس عادات‬
‫واللذات والكرمات)‬
‫وهذا هو الفهم اإلسالمي األصيل لحقيقة الدنيا وحقيقة تعامل اإلنسان معها ال‬
‫الذي يعتبر الكبد مبررا لجم ع أك بر ق در من الل ذات الوهمي ة‪ ،‬ألن الل ذات الوهمي ة‬
‫تظل وهمية ولو جمع منها ما ال طاقة للجبال بحمله‪.‬‬
‫معرفة جزاء الصبر‪:‬‬
‫انطالقا من المعرفة السابقة فإن اللبيب هو الذي يس تثمر فيم ا ال ب د ل ه من ه‪،‬‬
‫فيغنم أكبر الغنائم من غير أن يخسر شيئا‪ ،‬فما دام الكبد وصفا الزم ا لل دنيا يس توي‬
‫فيه السعيد والشقي‪ ،‬فإنه من الشقاء استثمار هذا الكبد في غ رس زرع الكب د ال دائم‪،‬‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.6/3910 :‬‬


‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.6/3910 :‬‬
‫‪ )(3‬التفسير الكبير‪.31/167 :‬‬

‫‪91‬‬
‫َاص بَةٌ﴾ (الغاش ية‪ ،)3:‬ثم عقب‬ ‫كما قال تعالى في وصف بعض الكادحين‪ ﴿ :‬عَا ِملَ ةٌ ن ِ‬
‫عليها بمصير كدحها‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿ :‬تَصْ لَى نَاراً َحا ِميَةً﴾ (الغاشية‪)4:‬‬
‫وله ذا ينهى هللا تع الى المؤم نين عن التقص ير في طلب الع دو‪ ،‬ويعل ل ذل ك‬
‫بأنهم مع عدوهم في األلم س واء‪ ،‬ولكنهم يمت ازون عن ع دوهم بم ا يرج ون من هللا‬
‫من األجر مما ال يرجوه عدوهم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وال تَ ِهنُوا فِي ا ْبتِغَا ِء ْالقَ وْ ِم إِ ْن تَ ُكونُ وا‬
‫تَأْلَ ُمونَ فَإِنَّهُ ْم يَ أْلَ ُمونَ َك َم ا تَ أْلَ ُمونَ َوتَرْ ُج ونَ ِمنَ هَّللا ِ َم ا ال يَرْ ُج ونَ َو َك انَ هَّللا ُ َعلِيم ا ً‬
‫َح ِكيم اً﴾ (النس اء‪ ،)104:‬ق ال ابن كث ير‪(:‬أي أنتم وإي اهم س واء فيم ا يص يبكم من‬
‫الجراح واآلالم‪ ،‬ولكن أنتم ترجون من هّللا المثوبة والنصر والتأييد كما وع دكم إي اه‬
‫في كتابه وعلى لسان رسوله ‪ ‬وهو وعد حق‪ ،‬وخبر صدق‪ ،‬وهم ال يرجون شيئا ً‬
‫من ذلك‪ ،‬فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه‪ ،‬وفي إقامة كلمة هّللا وإعالئها)(‪)1‬‬
‫وبذلك تصف هذه اآلية سبيال من سبل التحق ق بالص بر‪ ،‬ب ل تخفي ف الص بر‬
‫وتحويل ناره إلى لذة إيمانية عظيمة‪ ،‬يغفل صاحبها بما أعد له من أجر عم ا يعاني ه‬
‫من بالء‪ ،‬كم ا روي عن ام رأة فتح الموص لي‪ ،‬أنه ا ع ثرت‪ ،‬وانقط ع ظفره ا‪،‬‬
‫فضحكت‪ ،‬فقيل لها‪ :‬أما تجدين الوجع؟ فقالت‪ :‬إن لذة ثوابه أزالت عن قلبـي م رارة‬
‫وجعه)‪ ،‬وقال شريح‪(:‬إني ألصاب بالمصيبة فأحمد هللا عليها أربع م رات أحم ده إذ‬
‫لم تكن أعظم مما هي وأحمده إذ رزقني الصبر عليها وأحمده إذ وفقني لإلس ترجاع‬
‫لما أرجو فيه من الثواب وأحمده إذ لم يجعلها في ديني)‬
‫بل أخبر ‪ ‬أن أهل العافية عندما يعاينون جزاء الصابرين يودون ل و ك انت‬
‫الدنيا بالء محض ا‪ ،‬ق ال ‪(:‬ي ود أه ل العافي ة ي وم القيام ة حين يعطى أه ل البالء‬
‫الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)(‪)2‬‬
‫وال بأس أن نذكر هن ا بعض أجزي ة الص بر مم ا ق د ي ذكر للول د على س بيل‬
‫الموعظة أو المعلومة أو الحوار كما ذكرنا في أساليب التربية‪.‬‬
‫اص بِرُوا‬ ‫فاهلل تع الى علّ ق الفالح علي ه فق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْ‬
‫صابِرُوا َو َرابِطُوا َواتَّقُوا هَّللا َ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ (آل عمران‪ ،)200:‬والفالح هو الف وز‬ ‫َو َ‬
‫الحقيقي الشامل بخيري الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫وأخبر تعالى أن جزاء الص بر ال ح د ل ه وال حس اب‪ ،‬وه و مم ا يزي د طم ع‬
‫ب﴾‬ ‫الص ابِرُونَ أَجْ َرهُ ْم بِ َغ ْي ِر ِح َس ا ٍ‬ ‫المؤمنين في التخلق به‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِنَّ َما يُ َوفَّى َّ‬
‫(الزمر‪ ،)10:‬أي بغير نهاية‪ ،‬ألن كل شيء دخل تحت الحس اب فه و متن اه‪ ،‬فم ا ال‬
‫نهاية له كان خارجا ً عن الحساب‪.‬‬
‫وق د ص ور الس لف ذل ك‪ ،‬فق ال األوزاعي‪(:‬ليس ي وزن لهم وال يك ال‪ ،‬إنم ا‬
‫يغرف لهم غرفاً)‪ ،‬وقال ابن جريج‪(:‬بلغ ني أن ه ال يحس ب عليهم ث واب عملهم ق ط‪،‬‬
‫ولكن يزادون على ذلك)‪ ،‬وقال سليمان بن القاسم‪(:‬كل عمل يعرف ثوابه إال الصبر‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير‪.1/551 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي وقال‪ :‬هذا حديث غريب‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫ألجل هذه اآلية)‬
‫َّ‬
‫الص ابِ ِرينَ ال ِذينَ إِ َذا‬ ‫ومن جزاء الصابرين م ا ورد في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وبَ ِّش ِر َّ‬
‫ات ِم ْن َربِّ ِه ْم‬ ‫ص لَ َو ٌ‬ ‫اج ُع ونَ أُولَئِ كَ َعلَ ْي ِه ْم َ‬ ‫ص يبَةٌ قَ الُوا إِنَّا هَّلِل ِ َوإِنَّا إِلَ ْي ِه َر ِ‬
‫ص ابَ ْتهُ ْم ُم ِ‬ ‫أَ َ‬
‫َو َرحْ َمةٌ َوأُولَئِكَ هُ ُم ْال ُم ْهتَ ُدونَ ﴾ (البقرة‪ 155:‬ـ ‪ ،)157‬فقد جعل هللا تعالى للص بر في‬
‫هذه اآليات ثالث ة أن واع من الج زاء ك ل واح د منه ا ع الم من ع والم الج زاء‪ ،‬هي‬
‫الصالة منه والرحمة والهداية‪.‬‬
‫ومن جزاء الصابرين أن مالئكته تسلم عليهم في الجن ة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬س ال ٌم‬ ‫ّ‬
‫ار﴾ (الرعد‪)24:‬‬ ‫صبَرْ تُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقبَى ال َّد ِ‬
‫َعلَ ْي ُك ْم بِ َما َ‬
‫ومن جزائهم المكانة العظيم ة ال تي ينزلونه ا في ال دنيا واآلخ رة‪ ،‬وال تي هي‬
‫ُ‬
‫ور﴾‬ ‫صبَ َر َو َغفَ َر إِ َّن َذلِكَ لَ ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫أكبر من كل جاه دنيوي‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َم ْن َ‬
‫الص الةَ‬ ‫ي أقِ ِم َّ‬ ‫َ‬ ‫(الشورى‪ ،)43:‬ومما جاء في وصية لقمان الحكيم ‪ ‬لولده‪ ﴿ :‬يَ ا بُنَ َّ‬
‫ور﴾‬ ‫ُ‬
‫صابَكَ إِ َّن َذلِكَ ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫ُوف َوا ْنهَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َواصْ بِرْ َعلَى َما أَ َ‬ ‫َو ْأ ُمرْ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫(لقمان‪)17:‬‬
‫بل إن هللا تعالى علّ ق محبت ه بالص بر‪ ،‬وجعله ا أله ل الص بر‪ ،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫يل هَّللا ِ َو َم ا‬ ‫ص ابَهُ ْم فِي َس بِ ِ‬ ‫﴿ َو َكأَي ِّْن ِم ْن نَبِ ٍّي قَات ََل َم َع هُ ِربِّيُّونَ َكثِ ي ٌر فَ َم ا َوهَنُ وا لِ َم ا أَ َ‬
‫ض ُعفُوا َو َما ا ْستَ َكانُوا َوهَّللا ُ يُ ِحبُّ الصَّابِ ِرينَ ﴾ (آل عمران‪)146:‬‬ ‫َ‬
‫وقد أخبر ‪ ‬عن بعض جزاء الصابرين‪ ،‬فبشر الذي يصبر على فق د عيني ه‬
‫بالجنة‪ ،‬فقال‪(:‬إن هللا تعالى قال إذا ابتليت عب دي بحبيبتي ه ثم ص بر عوض ته منهم ا‬
‫الجنة)(‪)1‬‬
‫وبشر الصابر على فقد صفيّه من أه ل ال دنيا بالجن ة‪ ،‬فق ال‪(:‬ومالعب د م ؤمن‬
‫عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إال الجنة)(‪)2‬‬
‫ولما مرضت األمة الس وداء بالص رع ج اءت تش تكي للن بي ‪ ‬فق الت‪ :‬إني‬
‫ت ص برت ول ك الجن ة‪ ،‬وإن ش ئت‬ ‫ع هللا لي‪ ،‬ق ال‪(:‬إن ش ئ ِ‬ ‫أُصرع وإني أتكشف ف اد ُ‬
‫ك)‪ ،‬فق الت‪(:‬أص بر ولكن ادع هللا لي أال أتكش ف)‪ ،‬ف دعا له ا‬ ‫دع وت هللا أن يعافي ِ‬
‫فكانت تصرع وال تتكشف(‪.)3‬‬
‫الثقة بحصول الفرج‪:‬‬
‫وه و من أهم األدوي ة‪ ،‬وي دل على حس ن الظن باهلل‪ ،‬ف إن هللا تع الى برحمت ه‬
‫ُس ِر ي ُْس راً﴾‬ ‫ْر ي ُْس راً إِ َّن َم َع ْالع ْ‬ ‫جعل مع كل عسر يسرين‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ َّن َم َع ْال ُعس ِ‬
‫(الشرح‪ 5:‬ـ ‪ ،)6‬فعرف العسر بـ [أل] ليبقى هو نفسه‪ ،‬ونكر اليس ر دالل ة على أن ه‬
‫يسر ثان‪ ،‬ألن من ع ادة الع رب إذا ذك روا اس ما معرف ا ثم ك رروه‪ ،‬فه و ه و‪ ،‬وإذا‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫نكروه ثم كرروه فهو غيره‪ ،‬وهما اثنان(‪.)1‬‬
‫ولهذا قال ابن عباس ‪(:‬يقول هّللا تعالى خلقت عس را واح دا‪ ،‬وخلقت يس رين‪،‬‬
‫ولن يغلب عسر يسرين)‪ ،‬وقال ابن مسعود ‪(:‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ل و ك ان العس ر في‬
‫حجر‪ ،‬لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين)‪ ،‬بل ورد في الحديث‬
‫عن النبي ‪ ‬في هذه السورة قوله‪(:‬لن يغلب عسر يسرين)(‪)2‬‬
‫وأساس انتظ ار الف رج ه و الش عور بق رب هللا ورحمت ه‪ ،‬والتفك ر في فض له‬
‫ورأفته والذي يجر إلى إحسان الظن به‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫حسنا أمس وس وى أودك‬ ‫أحس ن الظن ب رب‬
‫ودك‬ ‫ع‬
‫كان باألمس سيكفيك غدك‬ ‫إن ربا كان يكفيك الذي‬
‫الفرج)(‪)3‬‬ ‫وقد اعتبر ‪ ‬انتظار الفرج عبادة‪ ،‬فقال‪(:‬أفضل العبادة انتظار‬
‫قال الحكيم الترم ذي مبين ا س ر اعتب ار انتظ ارالفرج عب ادة‪(:‬ألن في انتظ ار‬
‫الفرج قطع العالئق واألسباب إلى هللا تعالى وتعلق القلب ب ه وش خوص األم ل إلي ه‬
‫والتبري من الحول والقوة فهذا خالص اإليمان)(‪)4‬‬
‫قصص الصابرين‪:‬‬
‫ألن هللا تعالى جعل من قصص الصالحين حاديا يسوق عب اده الص الحين إلى‬
‫سبيله‪ ،‬ولذلك كلما استكثر المربي من هذا النوع من القص ص ال تربوي ك ان ينش ر‬
‫القيم النبيل ة في نفس الول د‪ ،‬ويعم ق في ه مع اني الحق ائق ال تي تنط وي عليه ا ه ذه‬
‫العبادات العظيمة‪.‬‬
‫وله ذا ي رد في الق رآن الك ريم ذك ر نم اذج الص ابرين من أولي الع زم من‬
‫الرس ل‪ ،‬فه ذا ن وح ‪ ‬ص بر في دعوت ه لقوم ه ص براً عظيم ا ً دام أل ف س نة إال‬
‫خمسين عاماً‪ ،‬صبر على الجهاد والدعوة‪ ،‬وصبر على اإلي ذاء والس خرية‪ ،‬اتهم وه‬
‫بالجنون والسحر والضالل‪ ،‬وهو يقابل كل ذلك بالصبر‪.‬‬
‫وهذا إبراهيم ‪ ‬يتع رض للمحن العظيم ة‪ ،‬فيص بر ص بر الموح د الم وقن‬
‫بوع د هللا‪ ،‬ح تى أن ه لم ا ألقي في الن ار لم يت أفف ولم يض طرب‪ ،‬ب ل ص اح ق ائال‪:‬‬
‫(حسبي هللا ونعم الوكيل)‪ ،‬بل إنه لما أُ ِمر ب ذبح ول ده ص بر وه ّم ب ذبح الول د‪ ،‬وأخ ذ‬
‫الس كين وأض جع الول د استس الما ً ألم ر هللا‪ ،‬وله ذا مدح ه هللا تع الى وجعل ه للن اس‬
‫اس إِ َمام ا ً ﴾‬ ‫ت فَأَتَ َّمه َُّن قَا َل إِنِّي َج ِ‬
‫اعلُ كَ لِلنَّ ِ‬ ‫إماما‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬وإِ ِذ ا ْبتَلَى إِ ْب َرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َما ٍ‬
‫(البقرة‪)124:‬‬
‫وه ذا موس ى ‪ ‬يواج ه التهدي د واإلي ذاء من قوم ه وق وم فرع ون قبلهم‪،‬‬

‫‪ )(1‬هذا قول ثعلب‪ ،‬وقد خالفه آخرون منهم الجرجاني‪ ،‬انظر‪ :‬القرطبي‪.20/108 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه الحاكم عن‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الديلمي‪.‬‬
‫‪ )(4‬نوادر األصول‪.2/221 :‬‬

‫‪94‬‬
‫فيصبر على ذلك جميعا‪ ،‬ولهذا كان ‪ ‬يذكره في مواق ف البالء ال تي تع رض ل ه‪،‬‬
‫فيقول‪(:‬رحم هللا موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)‬
‫وهذا عيسى ‪ ‬يعانى من بني إسرائيل م ا يع اني‪ ،‬ح تى ت آمروا على قتل ه‬
‫وصلبه وصبر حتى رفعه هللا إليه‪.‬‬
‫وهذا خاتم األنبياء ‪ ‬يتعرض لألذى واالضطهاد‪ ،‬بكل صنوفه وأن واع‪ ،‬فال‬
‫يضطرب وال يتأثر‪ ،‬وال تنهد عزيمته بل ينقى س ائرا في طري ق هللا إلى أن نص ره‬
‫هللا على أعدائه وبلغ ما كلف به من الراسلة أتم بالغ وأحسنه‪.‬‬
‫وعلى هدي رسول هللا ‪ ‬سار ورثة النبوة ومن بعدهم وفي قصصهم جميعا‬
‫عبرة ألولي األلباب‪ ،‬فيستكثر منها المربي قدر ما أطاق‪ ،‬فهي جن د هللا ال ذي يعم ل‬
‫عمله في إصالح القلوب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬عبادات الجوارح‬
‫نريد بعبادات الجوارح‪ :‬العبادات التي نصت عليه ا أحك ام الش ريعة‪ ،‬ويش ير‬
‫ي أَقِ ِم الصَّالةَ َو ْأ ُم رْ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ُوف َوا ْن هَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر‬ ‫إليها قول لقمان ‪ ‬البنه‪ ﴿ :‬يَا بُنَ َّ‬
‫ُ‬ ‫أْل‬ ‫ْ‬ ‫َواصْ بِرْ َعلَى َما أَ َ‬
‫ور﴾ (لقمان‪ ،)17:‬فقد أم ر لقم ان ‪‬‬ ‫ك إِ َّن َذلِكَ ِم ْن عَز ِم ا ُم ِ‬ ‫صابَ َ‬
‫ابنه بإقامة الصالة‪ ،‬وهي من أهم عبادات الجوارح‪.‬‬
‫ولهذه العبادات تأثيرها الخط ير في الحي اة الروحي ة للص بي‪ ،‬ب ل في تك وين‬
‫شخصيته بجميع جوانبها‪.‬‬
‫فحرص ه على الص الة مثال في مواقيته ا ـ زي ادة على معانيه ا الروحي ة‬
‫العظيمة ـ يدربه على النظام والنظافة واالستقامة‪ ،‬فإن صالها في جماعة كان ل ذلك‬
‫أبعاد اجتماعية باإلضافة إلى األبعاد النفسية‪ ،‬ولهذا اعتبر القرآن الكريم الصالة من‬
‫الص ال ِة‬‫الص ب ِْر َو َّ‬‫اس ت َِعينُوا بِ َّ‬ ‫الوسائل التي يستعان بها على التربية‪ ،‬فقال تع الى‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫اس ت َِعينُوا‬ ‫َوإِنَّهَا لَ َكبِي َرةٌ إِاَّل َعلَى ْالخَا ِش ِعينَ ﴾ (البقرة‪ ،)45:‬وقال‪ ﴿ :‬يَا أيُّهَ ا ال ِذينَ آ َمنُ وا ْ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫صب ِْر َوالصَّال ِة إِ َّن هَّللا َ َم َع الصَّابِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪)153:‬‬
‫بِال َّ‬
‫ب ل نص الق رآن الك ريم على أن الص الة تنهى عن الفحش اء والمنك ر‪ ،‬وهي‬
‫الص الةَ إِ َّن‬ ‫تعبير قرآني شامل لكل الرذائل النفسية واالجتماعية‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿ :‬وأَقِ ِم َّ‬
‫الصَّالةَ تَ ْنهَى َع ِن ْالفَحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر﴾ (العنكبوت‪)45:‬‬
‫وهذه اآلية تخبر عن هدف مهم من أهداف الصالة‪ ،‬وه و نفس ه ه دف جمي ع‬
‫عب ادات الج وارح‪ ،‬وه و تزكي ة لنفس وتطهيره ا من الرذائ ل ال تي تخرجه ا عن‬
‫حقيقتها اإلنسانية‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء وجوه ا من العل ل ال تي تجع ل الص الة ناهي ة ص احبها عن‬
‫الفحشاء والمنكر‪ ،‬ومن أجمل ما قيل في ذلك ما ذكره الفخر الرازي من وجوه ت بين‬
‫أهمية الصالة ودورها النفسي واالجتماعي الدنيوي واألخروي‪ ،‬ومن الوج وه ال تي‬
‫ذكرها‪:‬‬
‫‪ .1‬أن من كان يخدم ملكا ً عظيم الشأن كث ير اإلحس ان ويك ون عن ده بمنزل ة‪،‬‬

‫‪95‬‬
‫ويرى عبداً من عباده قد طرده طرداً ال يتصور قبوله‪ ،‬وفاته الخبر بحيث ال ي رجى‬
‫حصوله‪ ،‬يستحيل من ذلك المقرب عرف ا ً أن ي ترك خدم ة المل ك وي دخل في طاع ة‬
‫ذلك المطرود فكذلك العبد إذا صلى هلل صار عب داً ل ه‪ ،‬وحص ل ل ه منزل ة المص لي‬
‫يناجي ربه‪ ،‬فيستحيل منه أن يترك عبادة هللا ويدخل تحت طاعة الشيطان المطرود‪،‬‬
‫لكن م رتكب الفحش اء والمنك ر تحت طاع ة الش يطان فالص الة تنهي عن الفحش اء‬
‫والمنكر‪.‬‬
‫‪ .2‬أن من يباشر القاذورات كالزبال والكناس يكون له لباس نظي ف إذا لبس ه‬
‫ال يباش ر مع ه الق اذورات وكلم ا ك ان ثوب ه أرف ع يك ون امتناع ه وه و البس ه عن‬
‫القاذورات أكثر فإذا لبس واحد منهم ثوب ديباج يستحيل من ه مباش رة تل ك األش ياء‬
‫عرفاً‪ ،‬فكذلك العبد إذا صلى لبس لباس التقوى ألنه واقف بين يدي هللا واضع يمين ه‬
‫على شماله؛ على هيئة من يقف بمرأى مل ك ذي هيب ة‪ ،‬ولب اس التق وى خ ير لب اس‬
‫يكون نسبته إلى القلب أعلى من نسبة الديباج المذهب إلى الجسم‪ ،‬فإذن من لبس هذا‬
‫اللباس يستحيل منه مباش رة ق اذورات الفحش اء والمنك ر‪ .‬ثم إن الص لوات متك ررة‬
‫واحدة بعد واحدة فيدوم هذا اللبس فيدوم االمتناع‪.‬‬
‫‪ .3‬أن من يكون أمير نفسه يجلس حيث يريد فإذا دخل في خدمة ملك وأعطاه‬
‫منصبا ً له مقام خاص ال يجلس صاحب ذلك المنصب إال في ذلك الموضع‪ ،‬فلو أراد‬
‫أن يجلس في صف النعال ال يترك فكذلك العبد إذا صلى دخل في طاعة هللا ولم يبق‬
‫بحكم نفسه وصار له مقام معين‪ ،‬إذ صار من أصحاب اليمين‪ ،‬فلو أراد أن يق ف في‬
‫غير موضعه وهو موقف أصحاب الشمال ال يترك‪ ،‬لكن مرتكب الفحش اء والمنك ر‬
‫من أصحاب الشمال وهذا الوجه إشارة إلى عصمة هللا يع ني من ص لى عص مه هللا‬
‫عن الفحشاء والمنكر‪.‬‬
‫‪ .4‬أن من يكون بعيداً عن الملك ال يبالي بما فعل من األفع ال يأك ل م ا يش اء‬
‫ويجلس أين يشاء‪ ،‬فإذا صارت له قربة يسيرة من الملك‪ ،‬فإنها تمنعه من تعاطي م ا‬
‫كان يفعله‪ ،‬فإذا زادت قربته وارتفعت منزلت ه ح تى ص ار أم يراً حينئ ذ تمنع ه ه ذه‬
‫المنزلة عن األكل في ذلك المكان والجلوس مع أولئك الخالن‪ ،‬كذلك العبد إذا صلى‬
‫وسجد صار له قربة ما لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وٱ ْس ُج ْد َوٱ ْقت َِرب ﴾ (العلق‪ )19 :‬فإذا كان ذلك‬
‫القدر من القربة يمنع ه من المعاص ي والمن اهي‪ ،‬فبتك رر الص الة والس جود ت زداد‬
‫مكانته‪ ،‬حتى يرى على نفسه من آثار الكرامة م ا يس تقذر مع ه من نفس ه الص غائر‬
‫فضالً عن الكبائر(‪.)1‬‬
‫ومثل ذلك الصوم‪ ،‬فقد جعل هللا تعالى من حكم الصوم الوصول إلى التق وى‪،‬‬
‫وهي التعبير الشرعي عن كل الكماالت الخلقية والنفسية‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ‬
‫ب َعلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة‪)183:‬‬
‫صيَا ُم َك َما ُكتِ َ‬
‫ب َعلَ ْي ُك ُم ال ِّ‬
‫آ َمنُوا ُكتِ َ‬
‫وهكذا جميع العبادات‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الفخر الرازي‪.25/64 :‬‬

‫‪96‬‬
‫انطالق ا من ه ذا‪ ،‬سنقتص ر في ه ذا المبحث على أهم األحك ام الفقهي ة ال تي‬
‫ذكرها الفقهاء مما يرتبط بالجوانب التعبدية لألوالد‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ إسالم الصبي‬
‫يتحقق إسالم الصبي بأحد سببين‪ ،‬كلها مما وقع فيه خالف الفقه اء‪ ،‬أح دهما‪:‬‬
‫إسالمه هو لتعقله اإلسالم‪ ،‬والثاني‪ :‬تبعيته إلسالم أحد أبويه‪ ،‬أو تبعا ل دار اإلس الم‪،‬‬
‫وذل ك في ح ال م وت أح د أبوي ه أو كليهم ا‪ ،‬وسنفص ل األحك ام المرتبط ة به ذين‬
‫السببين فيما يلي‪:‬‬
‫التمييز‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في صحة إسالم الصبي إذا أسلم قبل بلوغه على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن الص بي يص ح إس المه في الجمل ة‪ ،‬وه و ق ول أبي حنيف ة‪،‬‬
‫وصاحبيه‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وابن أبي شيبة‪ ،‬وأبي أيوب‪ ،‬وقول اإلمامية‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬عموم قوله ‪(:‬من قال‪ :‬ال إله إال هللا دخل الجنة)‪ ،‬وقوله ‪(:‬أم رت أن‬
‫أقاتل الناس حتى يقولوا‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إال‬
‫بحقها‪ ،‬وحسابهم على هللا)(‪ ،)1‬وهذه األخبار يدخل في عمومها الصبي‪.‬‬
‫‪ .2‬عن جابر ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪(:‬ك ل مول ود يول د على الفط رة ح تى‬
‫يعرب عنه لسانه‪ ،‬فإذا أعرب عنه لسانه‪ ،‬فإما شاكرا وإما كفورا)(‪)2‬‬
‫‪ .3‬م ا ص ح أن رس ول هللا ‪ ‬ع رض اإلس الم على ابن ص ياد‪ ،‬وق د ك ان‬
‫صغيرا‪ ،‬فعن ابن عمر ‪ :‬أن عمر انطلق م ع رس ول هللا ‪ ‬في ره ط من أص حابه‬
‫قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الص بيان عن د أطم ب ني مغال ة‪ ،‬وق د ق ارب ابن‬
‫صياد يومئذ الحلم فلم يشعر حتى ضرب رسول هللا ‪ ‬ظهره بي ده‪ ،‬ثم ق ال رس ول‬
‫هللا ‪ ‬البن صياد‪ :‬أتشهد أني رسول هللا؟ فنظ ر إلي ه ابن ص ياد‪ ،‬فق ال‪ :‬أش هد أن ك‬
‫رس ول األم يين‪ ،‬فق ال ابن ص ياد لرس ول هللا ‪ :‬أتش هد أني رس ول هللا فرفص ه‬
‫رسول هللا ‪ ‬وقال‪(:‬آمنت باهلل وبرسله)‪ ،‬وذكر الحديث(‪.)3‬‬
‫‪ .4‬أن عليا أسلم صبيا‪ ،‬وقال‪(:‬سبقتكم إلى اإلسالم ط را ص بيا م ا بلغت أوان‬
‫حلم)‬
‫‪ .5‬أن هللا تعالى دعا عباده إلى دار السالم‪ ،‬وجع ل طريقه ا اإلس الم‪ ،‬وجع ل‬
‫من لم يجب دعوت ه في الجحيم والع ذاب األليم‪ ،‬فال يج وز من ع الص بي من إجاب ة‬
‫دعوة هللا‪ ،‬مع إجابته إليها‪ ،‬وس لوكه طريقه ا‪ ،‬وال إلزام ه بع ذاب هللا‪ ،‬والحكم علي ه‬
‫بالنار‪ ،‬وسد طريق النجاة عليه مع هربه منها‪.‬‬
‫‪ .6‬أن اإلسالم عبادة محضة‪ ،‬فصحت من الصبي العاقل‪ ،‬كالصالة والحج‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الشافعي والبيهقي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫‪ .7‬أن قول الن بي ‪(:‬رف ع القلم عن ثالث)(‪ )1‬ال حج ة للمخ الفين في ه‪ ،‬ألن‬
‫هذا يقتضي أن ال يكتب عليه ذلك‪ ،‬واإلسالم يكتب له ال عليه‪ ،‬ويس عد ب ه في ال دنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬فهو كالصالة تصح منه وتكتب له وإن لم تجب علي ه‪ ،‬وك ذلك غيره ا من‬
‫العبادات المحضة‪.‬‬
‫‪ .8‬أن القلم مرفوع عن الصبي في الفروع الشرعية فأما في األصول العقلي ة‬
‫فممنوع‪ ،‬ووجوب اإليمان من األحكام العقلية‪ ،‬فيجب على كل عاقل‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يصح إسالمه ح تى يبل غ‪ ،‬وه و ق ول الش افعي وزف ر‪ ،‬ومن‬
‫األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬قوله ‪(:‬رفع القلم عن ثالثة) ومن بينها ذكر (الصبي حتى يبلغ)‬
‫‪ .2‬أنه قول تثبت به األحكام‪ ،‬فلم يصح من الصبي كالهبة‪.‬‬
‫‪ .3‬أنه أحد من رفع القلم عنه‪ ،‬فلم يصح إسالمه‪ ،‬كالمجنون‪ ،‬والنائم‪.‬‬
‫‪ .4‬أن الص بي ل و ص ح إس المه إم ا أن يص ح فرض ا‪ ،‬وإم ا أن يص ح نفال‬
‫ومعلوم أن التنفل باإلسالم محال‪ ،‬والفرضية بخطاب الشرع‪ ،‬والقلم عنه مرفوع‪.‬‬
‫‪ .5‬أن ص حة اإلس الم من األحك ام الض ارة‪ ،‬فإن ه س بب لحرم ان الم يراث‬
‫والنفقة‪ ،‬ووقوع الفرقة بين الزوجين‪ ،‬والص بي ليس من أه ل التص رفات الض ارة‪،‬‬
‫ولهذا لم يصح طالقه وعتاقه‪ ،‬ولم يجب عليه الصوم والصالة‪ ،‬فال يصح إسالمه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫من العجيب أن تك ون ه ذه المس ألة موض ع خالف‪ ،‬ألن الح ق فيه ا ظ اهر‪،‬‬
‫والصبي في أصل فطرت ه كم ا ورد في الح ديث مس لم‪ ،‬فل ذلك ال يزي ده إق راره إال‬
‫دخوال في زمرة المسلمين‪.‬‬
‫أما المحاذير التي جعلت الفقهاء يترددون في الحكم بإسالمه‪ ،‬فإنها ال تساوي‬
‫شيئا أمام اإلس الم‪ ،‬ف أي غنيم ة من اإلس الم ح تى يق ارن به ا الخ وف على ض ياع‬
‫ميراثه أو وجوب الزكماة في ماله‪.‬‬
‫وقد رد ابن قدامة على هذه المحاذير المتوهمة‪ ،‬فقال‪(:‬فإن قي ل‪ :‬ف إن اإلس الم‬
‫يوجب الزكاة عليه في ماله‪ ،‬ونفق ة قريب ه المس لم‪ ،‬ويحرم ه م يراث قريب ه الك افر‪،‬‬
‫ويفسخ نكاحه‪ .‬قلنا‪ :‬أما الزك اة فإنه ا نف ع ؛ ألنه ا س بب الزي ادة والنم اء‪ ،‬وتحص ين‬
‫المال والثواب‪ ،‬وأما الميراث والنفقة‪ ،‬فأمر متوهم‪ ،‬وهو مجبور بميراثه من أقارب ه‬
‫المس لمين‪ ،‬وس قوط نفق ة أقارب ه الكف ار‪ ،‬ثم إن ه ذا الض رر مغم ور في جنب م ا‬
‫يحص ل ل ه من س عادة ال دنيا واآلخ رة‪ ،‬وخالص ه من ش قاء ال دارين والخل ود في‬
‫الجحيم‪ ،‬في نزل منزل ة الض رر في أك ل الق وت‪ ،‬المتض من ق وت م ا يأكل ه‪ ،‬وكلف ة‬
‫تحري ك في ه لم ا ك ان بق اؤه ب ه لم يع د ض ررا‪ ،‬والض رر في مس ألتنا في جنب م ا‬
‫يحصل من النفع‪ ،‬أدنى من ذلك بكثير)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم‪.‬‬


‫‪ )(2‬المغني‪.9/23 :‬‬

‫‪98‬‬
‫العقل‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء القائلون بصحة إسالم الصبي على أن من شروط صحة إس المه‬
‫أن يعق ل اإلس الم‪ ،‬أي أن يعلم على األق ل بعض المع ارف الض رورية في اإلس الم‬
‫ككون هللا تعالى ربه ال شريك ل ه‪ ،‬وأن محم دا عب ده ورس وله‪ ،‬ألن الطف ل ال ذي ال‬
‫يعقل‪ ،‬ال يتحقق منه اعتقاد اإلسالم‪ ،‬وإنما كالمه لقلقة بلس انه‪ ،‬وال ي دل على ش يء‪،‬‬
‫واختلفوا في اشتراط سن معينة لتحقق هذا الشرط على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن يكون له عشر سنين‪ ،‬وقد ذكره الخرقي‪ ،‬ألن النبي ‪ ‬أم ر‬
‫بضربه على الصالة لعشر‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يشترط في ذلك سنا معينة‪ ،‬بل يكفي أن يعق ل اإلس الم‪ ،‬ق ال‬
‫ابن قدامة ردا على الخرقي‪(:‬وأما اشتراط العشر‪ ،‬فإن أك ثر المص ححين إلس المه‪،‬‬
‫لم يش ترطوا ذل ك‪ ،‬ولم يح دوا ل ه ح دا من الس نين‪ ،‬وحك اه ابن المن ذر عن أحم د)‪،‬‬
‫وروى عن أحمد أنه (إذا كان ابن سبع سنين فإسالمه إس الم)‪ ،‬وق ال ابن أبي ش يبة‪:‬‬
‫(إذا أسلم وهو ابن خمس سنين‪ ،‬جعل إسالمه إسالما)‪ ،‬وقال أبو أيوب‪(:‬أجيز إس الم‬
‫ابن ثالث سنين‪ ،‬من أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه)(‪ ،)1‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن المقصود متى ما حصل‪ ،‬ال حاجة إلى زيادة عليه‪.‬‬
‫‪ .2‬أن النبي ‪ ‬قال‪(:‬مروهم بالصالة لسبع)‪ ،‬فدل على أن ذلك ح د ألم رهم‪،‬‬
‫وصحة عباداتهم‪ ،‬فيكون حدا لصحة إسالمهم‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على اختالف س ن التمي يز‬
‫بين األوالد‪ ،‬فلذلك تكون العبرة بالتمييز ال بالسن‪.‬‬
‫وق د ق ال ابن قدام ة معلق ا على كالم أبي أي وب ال ذي أج از إس الم ابن ثالث‬
‫سنين‪(:‬وهذا ال يكاد يعقل اإلس الم‪ ،‬وال ي دري م ا يق ول‪ ،‬وال يثبت لقول ه حكم‪ ،‬ف إن‬
‫وجد ذلك من ه ودلت أحوال ه وأقوال ه على معرف ة اإلس الم‪ ،‬وعقل ه إي اه‪ ،‬ص ح من ه‬
‫كغيره)(‪)2‬‬
‫وقد رأينا في عصرنا من يحفظ األجزاء الكث يرة من الق رآن الك ريم في مث ل‬
‫هذه السن‪ ،‬فلذلك تكون العبرة بالقدرة على التمييز‪ ،‬خاصة إذا ضممنا ذلك إلى قولنا‬
‫بأن األصل فطرية إسالم الصبي‪.‬‬
‫التبعية‪:‬‬
‫وهي السبيل الثاني من الس بل ال تي اعت بر به ا الفقه اء إس الم الص بي‪ ،‬وله ا‬
‫حالتان‪ ،‬هما‪:‬‬
‫التبعية لألبوين‪:‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.9/23 :‬‬
‫‪ )(2‬المغني‪.9/23 :‬‬

‫‪99‬‬
‫اختل ف الفقه اء في اعتب ار إس الم األب وين أو أح دهما إس الما للص بي على‬
‫األقوال التالية‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن إس الم أح د األب وين إس الم ألوالده الص غار‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الشافعي وأحمد‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن الولد يتبع أبويه في ال دين‪ ،‬ف إن اختلف ا‪ ،‬وجب أن يتب ع المس لم منهم ا‪،‬‬
‫كولد المسلم من الكتابية‪.‬‬
‫‪ .2‬أن اإلس الم يعل و وال يعلى‪ ،‬ألن ه دين هللا ال ذي رض يه لعب اده‪ ،‬وبعث ب ه‬
‫رسله دعاة لخلقه إليه‪ ،‬وألنه تحصل به السعادة في الدنيا واآلخرة‪ ،‬ويتخلص ب ه في‬
‫الدنيا من القتل واالسترقاق وأداء الجزية‪ ،‬وفي اآلخرة من سخط هللا وعذابه‪.‬‬
‫‪ .3‬أن الدار دار اإلسالم يحكم بإسالم لقيطها‪ ،‬ومن ال يعرف حاله فيها‪.‬‬
‫‪ .4‬أن األم أحد األبوين‪ ،‬فيتبعها ولدها في اإلسالم‪ ،‬كاألب‪ ،‬بل األم أولى ب ه‪،‬‬
‫ألنها أخص به‪ ،‬ألنه مخل وق منه ا حقيق ة‪ ،‬وتختص بحمل ه ورض اعه‪ ،‬ويتبعه ا في‬
‫الرق والحرية والتدبير والكتابة‪.‬‬
‫‪ .5‬أن تخيير الغالم الذي استدل به المخالفون وارد في الحضانة ال في الدين‪.‬‬
‫واختل ف ه ؤالء في إقام ة الح د علي ه في ح ال إدراك ه وإبائ ه اإلس الم على‬
‫رأيين‪:‬‬
‫الرأي األول‪ :‬يجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل‪ ،‬وهو قول الحنابلة‪ ،‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬القياس على أوالد المسلمين‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه مسلم فإذا رجع عن إسالمه‪ ،‬وجب قتله‪.‬‬
‫الرأي الثاني‪ :‬إذا أسلم أبواه أو أح دهما‪ ،‬وأدرك ف أبى اإلس الم‪ ،‬أج بر علي ه‪،‬‬
‫ولم يقتل‪ ،‬وهو قول الحنفية‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إن أسلم األب‪ ،‬تبعه أوالده‪ ،‬وإن أسلمت األم لم يتبعوه ا‪ ،‬وه و‬
‫قول المالكية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن ولد الحربيين يتبع أباه دون أمه‪ ،‬بدليل الموليين إذا كان لهما ولد‪ ،‬ك ان‬
‫والؤه لمولى أبيه دون مولى أمه‪ ،‬ولو كان األب عبدا أو األم م والة‪ ،‬ف أعتق العب د‪،‬‬
‫لجر والء ولده إلى مواليه‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الولد يشرف بشرف أبيه‪ ،‬وينتسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه‪ ،‬فوجب أن‬
‫يتبع أباه في دينه أي دين كان‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬إذا بلغ خير بين دين أبي ه ودين أم ه‪ ،‬فأيهم ا اخت اره ك ان على‬
‫دينه‪ ،‬وهو قول الثوري‪ ،‬ومن األدلة على ذلك حديث الغالم ال ذي أس لم أب وه‪ ،‬وأبت‬
‫أمه أن تسلم‪ ،‬فخيره النبي ‪ ‬بين أبيه وأمه‪.‬‬

‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة الق ول الث الث باعتب ار اإلس الم ال يتحق ق إال‬

‫‪100‬‬
‫باالختيار والرغبة‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬ال إِ ْك َراهَ فِي الد ِ‬
‫ِّين ﴾(البقرة‪)256:‬‬
‫أما في األحكام المرتبطة بالدين كالميراث وغيره‪ ،‬فإنا نرى تبعيت ه لخيرهم ا‬
‫دينا في ذلك‪ ،‬ما دام لم يميز ولم يحدد اختياره‪ ،‬وهو ما اختاره الجصاص‪ ،‬قال‪(:‬أم ا‬
‫إتباع الصغير ألبيه في أحكام اإلسالم فال خالف فيه‪ .‬وأما تبعيته ألم ه ف اختلف في ه‬
‫العلماء واضطرب فيه قول مالك‪ .‬والص حيح في ال دين أن ه يتب ع من أس لم من أح د‬
‫أبويه‪ ،‬للح ديث الص حيح عن ابن عب اس ق ال‪ :‬كنت أن ا وأمي من المستض عفين من‬
‫المؤمنين‪ ،‬وذلك أن أمه أسلمت ولم يسلم العباس فاتبع أمه في ال دين‪ ،‬وك ان ألجله ا‬
‫من المؤمنين)(‪)1‬‬
‫التبعية للدار‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الصبي الذي توفي وال داه أو أح دهما في دار الح رب ال‬
‫يحكم بإسالمه‪ ،‬ألنها دار ال يحكم بإسالم أهلها‪.‬‬
‫واختلفوا فيما لو ماتا أو مات أحدهما في دار اإلس الم‪ ،‬ه ل يحكم بإس المه أم‬
‫ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إذا مات أحد أبوي الولد الكافرين في دار اإلس الم‪ ،‬ص ار الول د‬
‫مسلما بموته‪ ،‬ولكنه مع ذلك يقسم له ميراث أبي ه‪ ،‬وه و ق ول الحنابل ة‪ ،‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬قول ه ‪(:‬ك ل مول ود يول د على الفط رة‪ ،‬ف أبواه يهودان ه وينص رانه‬
‫ويمجسانه)(‪ ، )2‬فاعتبر كفره بفعل أبويه‪ ،‬فإذا مات أحدهما‪ ،‬انقطعت التبعية‪ ،‬فوجب‬
‫إبقاؤه على الفطرة التي ولد عليها‪.‬‬
‫‪ .2‬أن المسألة مفروضة فيمن مات أبوه في دار اإلسالم‪ ،‬وقضية ال دار الحكم‬
‫بإسالم أهلها‪ ،‬ولذلك حكمنا بإسالم لقيطها‪ ،‬وإنما ثبت الكفر للطف ل ال ذي ل ه أب وان‪،‬‬
‫فإذا عدما أو أحدهما‪ ،‬وجب إبقاؤه على حكم الدار‪ ،‬النقطاع تبعيته لمن يكفر بها‪.‬‬
‫‪ .3‬أنه يقسم له الميراث‪ ،‬ألن إسالمه إنم ا ثبت بم وت أبي ه ال ذي اس تحق ب ه‬
‫الميراث‪ ،‬فهو سبب لهما‪ ،‬فلم يتقدم اإلسالم المانع من الميراث على استحقاقه‪ ،‬وألن‬
‫الحرية المعلقة بالموت ال توجب الميراث‪ ،‬فيجب أن يكون اإلسالم المعل ق ب الموت‬
‫ال يمنع الميراث‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬ال يحكم بإسالمه بموتهم ا وال م وت أح دهما‪ ،‬وق د نس به ابن‬
‫قدامة ألكثر الفقهاء ؛ ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أنه يثبت كفره تبعا‪ ،‬ولم يوج د من ه إس الم‪ ،‬وال ممن ه و ت ابع ل ه ف وجب‬
‫إبقاؤه على ما كان عليه‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه لم ينقل عن النبي ‪ ‬وال عن أحد من خلفائه‪ ،‬أنه أجبر أح دا من أه ل‬
‫الذمة على اإلسالم بموت أبيه‪ ،‬م ع أن ه لم يخ ل زمنهم عن م وت بعض أه ل الذم ة‬

‫‪ )(1‬الجصاص‪.4/139 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي ‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫عن يتيم‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أن لها عالقة بجانبين‪:‬‬
‫‪ .1‬جانب دنيوي ترتبط به األحكام الفقهية للصبي الكافر والمسلم‪ ،‬ون رى في‬
‫هذه الحالة أن تجرى عليه أحكام الكفرة‪.‬‬
‫‪ .2‬جانب أخروي‪ ،‬وهو اعتباره مسلما كما نص عليه أصحاب الق ول األول‪،‬‬
‫وهو ما دل عليه الحديث‪.‬‬
‫وال تناقض بين الجانبين‪ ،‬فال يض ر الص بي أن ي دفن في مق ابر الك افرين أو‬
‫المسلمين إن كان مسلما‪ ،‬وقد ذكرنا تفاصيل المسألة‪ ،‬واألق وال المختلف ة فيه ا‪ ،‬وم ا‬
‫نراه من ترجيح في كتاب (أسرار األقدار) من سلسلة (رسائل السالم)‬
‫‪ 2‬ـ صالة الصبي‬
‫من أهم م ا ينبغي أن يح رص علي ه ال ولي على تربي ة األوالد أن يعلمهم‬
‫الصالة‪ ،‬ويمرنهم عليها‪ ،‬بل يحرص على أن يصلوا معه جماعة‪ ،‬أو يصلي بهم في‬
‫المس جد‪ ،‬وق د وردت بك ل ه ذا النص وص الش رعية‪ ،‬ومعه ا أحك ام الفقه اء مم ا‬
‫سنعرض لتفاصيله في هذا المطلب‪.‬‬
‫حكم أمر الصبي بالصالة‪:‬‬
‫اتف ق الفقه اء على أن من أوجب الواجب ات على ال ولي ومن في معن اه من‬
‫المسؤولين على تربية الولد أن يأمروه بالصالة‪ ،‬كما قال الن بي ‪(:‬علم وا الص بي‬
‫الصالة لسبع سنين‪ ،‬واضربوه عليها ابن عشر سنين)(‪)1‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على أنه ال فرق في ذلك بين الصبي والصبية‪ ،‬قال الن ووي‪:‬‬
‫(وقد اقتصر المصنف على الصبي‪ ،‬ولو قال‪ :‬الصبي والصبية لك ان أولى‪ ،‬وأن ه ال‬
‫فرق بينهما بال خالف‪ ،‬صرح به أصحابنا لحديث عم رو بن ش عيب ال ذي ذكرن اه)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقد نص الفقهاء ك ذلك على أن األم ر ال وارد في الح ديث يش مل ك ل من ل ه‬
‫والية على الصبي‪ ،‬قال الن ووي‪(:‬وه ذا األم ر والض رب واجب على ال ولي س واء‬
‫كان أبا أو جدا أو وصيا أو قيما من جهة القاضي‪ ،‬صرح به أص حابنا منهم ص احبا‬
‫الشامل والعدة وآخرون‪ .‬ذكره صاحب العدة في آخ ر ب اب موق ف اإلم ام والم أموم‬
‫هناك‪ ،‬وذكره المزني عن الشافعي في المختصر)(‪)3‬‬
‫ويدل على هذا النصوص الكثيرة الواردة بأمر األهل بالصالة‪ ،‬أو نحوه ا من‬
‫الص ال ِة ﴾ (طـه‪ ،)132:‬وقول ه‬ ‫العبادات وتق وى هللا‪ ،‬كقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و ْأ ُم رْ أَ ْهلَ كَ بِ َّ‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا قُوا أَ ْنفُ َس ُك ْم َوأَ ْهلِي ُك ْم نَاراً َوقُو ُدهَا النَّاسُ َو ْال ِح َج ا َرةُ َعلَ ْيهَ ا‬

‫‪)(1‬رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة‪.‬‬


‫‪ )(2‬المجموع‪.3/11 :‬‬
‫‪ )(3‬المجموع‪.3/11 :‬‬

‫‪102‬‬
‫َمالئِ َكةٌ ِغالظٌ ِشدَا ٌد ال يَ ْعصُونَ هَّللا َ َما أَ َم َرهُ ْم َويَ ْف َعلُ ونَ َم ا يُ ْؤ َمرُونَ ﴾ (التح ريم‪،)6:‬‬
‫وقول ه ‪(:‬كلكم راع ومس ئول عن رعيت ه‪ ،‬والرج ل راع في أهل ه ومس ئول عن‬
‫رعيته)(‪)1‬‬
‫حكم صالة الصبي‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في وجوب الصالة على الصبي ابن عشر سنين على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال تجب الص الة على الص بي ح تى يبل غ‪ ،‬وه و ق ول جم اهير‬
‫الفقهاء‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬قوله ‪(:‬رفع القلم عن ثالث‪ :‬عن الصبي حتى يبلغ)‬
‫‪ .2‬أنه صبي فلم يجب عليه كالصغير‪ ،‬وألن الصبي ض عيف العق ل والبني ة‪،‬‬
‫وال بد من ضابط يضبط الحد الذي تتكامل فيه بنيته وعقله‪ ،‬فإنه يتزاي د تزاي دا خفي‬
‫التدريج‪ ،‬فال يعلم ذلك بنفسه‪ ،‬والبلوغ ضابط لذلك‪ ،‬ولهذا تجب ب ه الح دود‪ ،‬وتؤخ ذ‬
‫به الجزية من الذمي إذا بلغه‪ ،‬ويتعلق به أكثر أحكام التكليف‪ ،‬فكذلك الصالة‪.‬‬
‫‪ .3‬أن التأديب المشروع في حقه للتمرين والتعويد‪ ،‬كالضرب على تعلم الخط‬
‫والقرآن والصناعة وأشباهها‪ ،‬وال خالف في أنها تصح من الصبي العاقل‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬تجب الص الة على الص بي قب ل بلوغ ه‪ ،‬وه و ق ول لبعض‬
‫الحنابلة(‪)2‬؛ ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن العقوبة ال تشرع إال لترك واجب‪.‬‬
‫‪ .2‬أن حد الواجب‪ :‬ما عوقب على تركه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو وجوب الصالة على الصبي قبل البلوغ‪ ،‬مع‬
‫كون العقوبة مسلطة على المتولي أمره في حال تقصيره‪.‬‬
‫ويدل على هذا ما ورد به النص من ضربه على الص الة إذا بل غ عش را‪ ،‬وال‬
‫يضرب إال على واجب‪.‬‬
‫ويدل عليه من الناحية المقاصدية أن ته اون اآلب اء س ببه ع ادة تص ورهم أن‬
‫الصبي قد رفع عنه القلم‪ ،‬فال يحاسب على تصرفاته‪ ،‬فلذلك ي تركون ل ه حريت ه في‬
‫هذا المجال‪ ،‬مع أن حياته جميعا مرتبطة بالتربية التي يتلقاها في فترة صباه‪.‬‬
‫شروط صحة صالة الصبي‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أنه يعتبر لصالة الصبي من الش روط م ا يعت بر في ص الة‬
‫البالغ من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ونحوها‪.‬‬
‫ونرى أنه مع هذا يمكن التساهل في بعض الش روط أحيان ا‪ ،‬ألن المقص د من‬
‫أمر الصبي بالصالة ه و التم رين والت أديب‪ ،‬فل ذلك يهتم االهتم ام األول ب الحرص‬
‫على الصالة في مواقيتها‪ ،‬ثم يدرب بعد ذلك تدريجيا على شروطها‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬ذكر ابن قدامة أن الدافع إليه ما روي أن أحمد قد نقل عنه في ابن أربع عشرة‪ :‬إذا ترك الص الة يعي د‪ ،‬وق د‬
‫أول ابن قدامة هذه الرواية على أن أحمد‪ ،‬رحمه هللا أمر بذلك على طريق االحتياط‪ .‬المغني‪.1/357 :‬‬

‫‪103‬‬
‫وربما يستدل لهذا بقوله ‪(:‬ال يقبل هللا ص الة ح ائض إال بخم ار)(‪ ،)1‬فه و‬
‫يدل على صحة صالة غير الحائض بغير الخمار‪ ،‬أي أن الص بية الص غيرة ـ وهي‬
‫ممن يؤمر بالصالة باتفاق الفقهاء ـ ال يشترط في ستر عورتها م ا يش ترط في س تر‬
‫عورة المرأة‪.‬‬
‫وربما يستدل لهذا كذلك بحديث عمرو بن مسلمة ـ وال ذي س نذكره في محل ه‬
‫من هذا المطلب ـ‪ ،‬وفيه‪(:‬فنظ روا فلم يكن أح د أك ثر قرآن ا ً م ني لم ا كنت أتلقى من‬
‫ي ب ردة‬‫الركبان فقدموني بين أيديهم وأن ا ابن س ت س نين أو س بع س نين وك انت عل َّ‬
‫كنت إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي‪ :‬أال تغط ون عن ا إس ت ق ارئكم‬
‫فاشتروا فقطعوا لي قميصا ً فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص)(‪)2‬‬
‫الذهاب باألوالد إلى المساجد‪:‬‬
‫وهي من المس ائل الواقعي ة المهم ة ال تي تحت اج إلى فهم وتوعي ة ص حيحة‬
‫للتعامل معها تعامال شرعيا يصب في تنمية البعد الروحي للول د‪ ،‬وذل ك ألن الواق ع‬
‫يعج بأحد نوعين‪ ،‬كالهما من السلوك المتطرف‪:‬‬
‫األول‪ :‬هو التش دد في من ع األوالد من ال ذهاب إلى المس اجد‪ ،‬ب ل وإخ راجهم‬
‫منها حال دخولهم‪ ،‬وأحيانا بتشدد قد يسبب لهم عقدة من المساجد وأهلها‪ ،‬ويستدلون‬
‫لهذا بما يروونه عنه ‪ ‬أنه قال‪(:‬جنبوا مساجدكم صبيانكم وخص وماتكم وح دودكم‬
‫وشراءكم وبيعكم وجمروها يوم جمعكم واجعل وا على أبوابه ا مط اهركم)(‪ ،)3‬وفي‬
‫رواية (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومج انينكم وش راءكم وبيعكم وخص وماتكم ورف ع‬
‫أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في‬
‫الجمع)(‪)4‬‬
‫ويستدلون لذلك بما كان يفعله عمر من أن ه ك ان إذا رأى ص بيانا يلعب ون في‬
‫المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة وكان يعس المسجد بعد العشاء‪ ،‬فال ي ترك في ه‬
‫أحدا(‪.)5‬‬
‫الث اني‪ :‬ه و التس اهل م ع األوالد في المس اجد‪ ،‬تس اهال أدى في كث ير من‬
‫األحيان إلى جعل المساجد محال للعب واللهو‪ ،‬بحيث تش وش على المص لين م ا هم‬
‫فيه من عبادة هللا‪.‬‬
‫ويستدل هؤالء بالنصوص الدال ة على ع دم من ع األوالد من المس اجد‪ ،‬وهي‬
‫أقوى مما استدل به المخالفون‪ ،‬ومن تلك النصوص‪:‬‬
‫‪ .1‬ما روي عن أبي هريرة قال‪ :‬كنا نصلي مع النبي ‪ ‬العشاء‪ ،‬فإذا س جد‬
‫‪ )(1‬رواه ابن حبان‪ ،‬والحاكم‪ ،‬والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري والنسائي بنحوه‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن ماجه‪ ،‬وقال بن الجوزي إنه حديث ال يص ح ورواه ال بزار من ح ديث بن مس عود وق ال ليس ل ه‬
‫أصل من حديثه وله طريق أخرى واهية‪ ،‬انظر‪ :‬تلخيص الحبير‪.4/188 :‬‬
‫‪ )(5‬ابن كثير‪.3/294 :‬‬

‫‪104‬‬
‫وثب الحسن والحسين على ظه ره‪ ،‬ف إذا رف ع رأس ه أخ ذهما من خلف ه أخ ذاً رفيق ا ً‬
‫ويض عهما على األرض ف إذا ع اد ع ادا ح تى قض ى ص الته ثم أقع د أح دهما على‬
‫فخذيه قال‪ :‬فقمت إليه فقلت‪(:‬يا رسول هَّللا أردهم ا) ف برقت برق ة فق ال لهم ا‪(:‬الحق ا‬
‫بأمكما فمكث ضؤوها حتى دخال)(‪)1‬‬
‫‪ .2‬حديث أمامة المتفق عليه‪.‬‬
‫‪ .3‬عن أنس أن الن بي ‪ ‬ق ال‪(:‬إني ألس مع بك اء الص بي وأن ا في الص الة‬
‫فأخفف مخافة أن تفتتن أمه)(‪)2‬‬
‫وانطالقا من هذا الخالف الواقعي ن رى أن النص وص الص حيحة تنص على‬
‫جواز إدخال األوالد المساجد‪ ،‬والمصلحة الشرعية تقتض ي إدخ الهم المس اجد‪ ،‬ألن‬
‫المس جد من أهم المؤسس ات التربوي ة ال تي ينم و الول د في أحض انها ويس تمد من‬
‫بركاتها‪.‬‬
‫ولكن المسجد ينبغي أن يظل في ذهن الولد مرتبطا بالقداسة والحرمة‪ ،‬فل ذلك‬
‫لو تركت له حرية العبث فيه واللعب ل ذهبت عن ه حرمت ه‪ ،‬زي ادة على ت أثيره على‬
‫المصلين بتشويشهم وشغلهم عما هم فيه من عبادة‪.‬‬
‫فل ذلك ك ان الق ول الوس ط ه و أن ي ذهب ال ولي أو الم ربي م ع األوالد إلى‬
‫المسجد‪ ،‬بل يجعلهم أمامه وبجنبه‪ ،‬ويعم ق فيهم قب ل ذل ك حرم ة المس جد باعتب اره‬
‫بيت هللا‪ ،‬وبيتا للعبادة‪ ،‬فذلك كفيل بأن يستفيدوا من المسجد تربويا من جهة‪ ،‬وتحف ظ‬
‫للمسجد هيبته وقدسيته من جهة أخرى‪.‬‬
‫صالة الجماعة بالصبيان‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في انعقاد الجماعة بالصبيان على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬صحة انعقاد الجماعة باثنين أح دهما ص بي من غ ير ف رق بين‬
‫الفرض والنفل‪ ،‬وهو قول الشافعية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬عن ابن عب اس ق ال‪ :‬بت عن د خ التي ميمون ة فق ام الن بي ‪ ‬يص لي من‬
‫الليل‪ ،‬فقمت أصلي معه فقمت عن يساره فأخذ برأس ي وأق امني عن يمينه(‪ ،)3‬وفي‬
‫لفظ‪ :‬صليت مع النبي ‪ ‬وأنا يومئذ ابن عشر وقمت إلى جنب ه عن يس اره فأق امني‬
‫عن يمينه قال وأنا يومئذ ابن عشر سنين(‪)4‬‬
‫‪ .2‬أن رفع القلم الذي استدل ب ه المخ الفون ال ي دل على ع دم ص حة ص الته‬
‫وانعقاد الجماعة به ولو سلم لكان مخصصا ً بحديث ابن عباس ونحوه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال تنعقد إمامة من معه صبي فق ط‪ ،‬ق ال الش وكاني‪(:‬وق د ذهب‬
‫إلى أن الجماع ة ال تنعق د بص بي اله ادي والناص ر والمؤي د باهَّلل وأب و حنيف ة‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪ ،‬وابن عساكر‪ ،‬وفي إسناد أحمد كامل بن العالء وفيه مقال معروف‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الجماعة‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫وأصحابه)‪ ،‬ومن األدلة على ذل ك‪ :‬قول ه ‪(:‬رف ع القلم عن ثالث)‪ ،‬ف ذكر الص بي‬
‫حتى يبلغ‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬التفريق بين الفرض والنفل‪ ،‬فتص ح في النافل ة‪ ،‬وال تص ح في‬
‫الفريضة‪ ،‬وهو قول مالك ورواية عن أبي حنيفة‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول بناء على ما ذكرنا س ابقا من أن‬
‫الصبي مكلف بالصالة‪ ،‬زيادة على ما في ذلك من المص الح الش رعية‪ ،‬ومن أهمه ا‬
‫إقامة الوالد الصالة جماعة في بيته مع أوالده ليمرنهم على الصالة ويعودهم عليها‪.‬‬
‫إمامة الصبي‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في جواز إمامة الصبي على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬جواز إمام ة الص بي‪ ،‬وه و ق ول الحس ن وإس حاق والش افعي‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬عن عمرو بن مسلمة قال‪ :‬لما كانت وقع ة الفتح ب ادر ك ل ق وم بإس المهم‬
‫وبادر أبي قومي بإسالمهم فلما قدم قال‪ :‬جئتكم من عند الن بي ‪ ‬حق ا ً فق ال‪ :‬ص لوا‬
‫صالة كذا في حين كذا وصالة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصالة فليؤذن أح دكم‬
‫ولي ؤمكم أك ثركم قرآن ا ً فنظ روا فلم يكن أح د أك ثر قرآن ا ً م ني لم ا كنت أتلقى من‬
‫ي ب ردة‬‫الركبان فقدموني بين أيديهم وأن ا ابن س ت س نين أو س بع س نين وك انت عل َّ‬
‫كنت إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي‪ :‬أال تغط ون عن ا إس ت ق ارئكم‬
‫فاشتروا فقطعوا لي قميصا ً فما فرحت بشيء فرحي ب ذلك القميص)(‪ ،)1‬ورواه أب و‬
‫داود وقال فيه‪( ﴾:‬وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين)‬
‫‪ .2‬أن قوله‪(:‬صلوا صالة كذا في حين كذا وصالة كذا في حين كذا) يدل على‬
‫أن ذلك كان في فريضة‪.‬‬
‫‪ .3‬قوله‪(:‬فإذا حضرت الصالة فليؤذن لكم أح دكم) ال يحتم ل غ ير الفريض ة‬
‫ألن النافلة ال يشرع لها األذان‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم جواز إمامة الصبي‪ ،‬وقد نسبه الشوكاني للهادي والناصر‬
‫والمؤيد باهَّلل من أهل البيت‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬عن ابن مسعود قال‪(:‬ال يؤم الغالم حتى تجب عليه الحدود)‬
‫‪ .2‬عن ابن عباس قال‪(:‬ال يؤم الغالم حتى يحتلم)(‪)2‬‬
‫‪ .3‬أن صالته غير صحيحة ألن الصحة معناها موافقة األم ر والص بي غ ير‬
‫مأمور‪.‬‬
‫‪ .4‬أن العدالة شرط لإلمامة والصبي غير عدل(‪.)3‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري والنسائي بنحوه‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواهما األثرم في سننه‪.‬‬
‫‪ )(3‬وقد رد على هذا بأن العدالة نقيض الفسق وهو غير فاسق ألن الفس ق ف رع تعل ق الطلب وال تعل ق وانتف اء‬
‫كون صالته واجبة عليه ال يستلزم عدم صحة إمامته‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫القول الثالث‪ :‬كراهة إمامة الصبي‪ ،‬وهو قول الش عبي واألوزاعي والث وري‬
‫ومالك‪.‬‬
‫القول الرابع‪ :‬اإلجزاء في النوافل دون الف رائض‪ ،‬وه و المش هور عن أحم د‬
‫وأبي حنيفة‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن حديث عمرو المذكور كان في نافلة ال فريضة‪.‬‬
‫‪ .2‬ما روي عن أحمد بن حنبل أنه كان يضعف أمر عم رو بن س لمة وروى‬
‫عن ذلك عنه الخطابي في المعالم(‪.)1‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو التشدد في ش روط اإلمام ة‪ ،‬ول ذلك ن رى أن‬
‫إمامة الصالة تقتضي البلوغ والعقل والعدالة والعلم ونحو ذلك‪.‬‬
‫موقف الصبي في الصف‪:‬‬
‫وهي من المس ائل المهم ة والواقعي ة‪ ،‬ومم ا يتعل ق ب ه اس تفادة األوالد من‬
‫دخولهم المساجد وصالتهم فيها‪ ،‬وقد وردت النصوص بتقدم ص فوف الرج ال على‬
‫الغلمان‪ ،‬وتقدم صفوف الغلمان على النساء‪ ،‬ومن تلك النصوص‪:‬‬
‫‪ .1‬عن أبي مالك األشعري ‪ :‬عن رسول هَّللا ‪ ‬أن ه ك ان يس وي بين األرب ع‬
‫ركعات في القراءة والقيام ويجع ل الركع ة األولى هي أط ولهن لكي يث وب الن اس‪،‬‬
‫ويجعل الرجال قدام الغلمان‪ ،‬والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان(‪.)2‬‬
‫‪ .2‬عن أبي مال ك األش عري ق ال‪(:‬أال أح دثكم بص الة الن بي ‪ ‬ق ال‪ :‬فأق ام‬
‫الصالة وصف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم فذكر صالته)(‪)3‬‬
‫‪ .3‬عن أنس أن جدته مليكة دعت رسول هَّللا ‪ ‬لطعام صنعته فأك ل ثم ق ال‪:‬‬
‫(قوموا فألصلي لكم)‪ ،‬فقمت إلى حص ير لن ا ق د س ود من ط ول م ا لبس‪ ،‬فنض حته‬
‫بماء‪ ،‬فقام عليه رسول هَّللا ‪ ‬وقمت أن ا والي تيم وراءه وق امت العج وز من ورائن ا‬
‫فصلى لنا ركعتين ثم انصرف(‪.)4‬‬
‫‪ .4‬عن أنس قال‪ :‬صليت أنا والي تيم في بيتن ا خل ف الن بي ‪ ‬وأمي خلفن ا أم‬
‫سليم(‪.)5‬‬
‫ً‬
‫وقد قيد العلماء هذه النصوص فيما لو كان األوالد اث نين فص اعدا‪ ،‬ف إن ك ان‬
‫صبي واحد دخل مع الرجال وال ينفرد خلف الصف‪ ،‬ويدل على ذل ك م ا روي عن‬
‫أنس قال‪ :‬صليت أنا واليتيم في بيتن ا خل ف الن بي ‪ ‬وأمي خلفن ا أم س ليم(‪ ،)6‬ف إن‬
‫‪ )(1‬وقد رد على هذا بأن عمرو بن سلمة صحابي مشهور‪ ،‬قال في التقريب‪ :‬صحابي صغير نزل بالبصرة وقد‬
‫روى ما يدل على أنه وفد على النبي ‪ ‬كما تقدم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الجماعة إال ابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫اليتيم لم يقف منفرداً بل صف مع أنس‪.‬‬
‫ونرى أن يخصص لألوالد في حال كثرتهم والخشية على نظافة المس جد‪ ،‬أو‬
‫الخشية من تشويشهم على المصلين مكان خاص يصلون فيه‪ ،‬كم ا خص ص للنس اء‬
‫هذا المكان‪ ،‬بشرط أن يكون معهم من الكبار من يوجههم ويعلمهم‪ ،‬فيستفيدون ب ذلك‬
‫من كال الجهتين‪ :‬الدخول للمسجد والصالة فيه‪ ،‬والتأدب بآداب المسجد‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ صيام الصبي‬
‫وهو من العبادت المهمة التي لها تأثيرها التربوي الكبير في ص قل شخص ية‬
‫الولد‪ ،‬وتمرينه على الرجولة واإلرادة والبعد عن مظاهر الترف من صغره‪.‬‬
‫وسنكتفي هنا بالح ديث عم ا ذك ره الفقه اء من مس ائل تخص ص يام الص بي‬
‫محاولين تبيان ما يحقق المقاصد الشرعية من هذه العبادة‪.‬‬
‫العمر الذي يؤمر فيه الصبي بالصيام‪:‬‬
‫اختل ف الفقه اء في العم ر ال ذي ي ؤمر في الص بي بالص يام على األق وال‬
‫التالية(‪:)1‬‬
‫القول األول‪ :‬إذا بلغ عشر سنين يلزم بالصيام‪ ،‬بشرط أن يطيق الصوم‪ ،‬وهو‬
‫قول عطاء‪ ،‬والحسن‪ ،‬وابن سيرين‪ ،‬والزهري وقتادة‪ ،‬والش افعي‪ ،‬وق د نص وا على‬
‫أنه يلزم بالصيام‪ ،‬ويضرب على تركه‪ ،‬ليتمرن علي ه‪ ،‬ويتع وده‪ ،‬كم ا يل زم الص الة‬
‫ويؤمر بها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إذا أطاق صوم ثالثة أي ام تباع ا‪ ،‬ال يخ ور فيهن وال يض عف‪،‬‬
‫حمل صوم شهر رمض ان‪ ،‬وه و ق ول األوزاعي‪ ،‬ومن األدل ة على ذل ك‪ :‬قول ه ‪‬‬
‫(إذا أطاق الغالم صيام ثالثة أيام وجب عليه صيام الش هر كل ه) وفي رواي ة‪(:‬تجب‬
‫الصالة على الغالم إذا عقل والصوم إذا أطاق والحدود والشهادة إذا احتلم)(‪)2‬‬
‫الق ول الث الث‪ :‬إذا بل غ ثن تي عش رة س نة يكل ف الص وم للع ادة‪ ،‬وه و ق ول‬
‫إسحاق‪.‬‬
‫الق ول الراب ع‪ :‬أن الص وم ال يش رع في ح ق الص بيان‪ ،‬وه و المش هور عن‬
‫المالكية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ارتباط صوم الص بي بقدرت ه وطاقت ه‪ ،‬وهي‬
‫تختلف باختالف السن‪ ،‬والفصل الذي يصام فيه‪ ،‬واختالف قدرة الصبي الجسمية‪.‬‬
‫وال يمكن قياس الصوم على الص الة هن ا‪ ،‬ألن ه ل و ك ان األم ر ك ذلك‪ ،‬لنص‬
‫عليه ‪ ‬كما نص على الصالة‪.‬‬
‫ون رى قب ل أن ي ؤمر الص بي على الص وم أن يم رن على الج وع والعطش‬
‫أحيانا‪ ،‬كتدريب له ال على الصوم فقط‪ ،‬وإنم ا على م ا تقتض يه الحي اة من مت اعب‪،‬‬

‫‪ )(1‬المجموع‪.6/254 :‬‬
‫‪ )(2‬قال الشوكاني‪ (:‬هذا الحديث ذكره السيوطي في الجامع الصغير وقال أخرجه المرهبي عن ابن عباس )‬

‫‪108‬‬
‫كما سنرى في البعد االجتماعي‪.‬‬
‫وقت وجوب الصوم على الصبي‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في العمر الذي يجب فيه الصوم على الصبي على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يجب عليه الصوم حتى يبلغ‪ ،‬قال ابن قدامة‪(:‬وهذا قول أك ثر‬
‫أهل العلم)‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬ق ول الن بي ‪(:‬رف ع القلم عن ثالث‪ :‬عن الص بي ح تى يبل غ‪ ،‬وعن‬
‫المجنون حتى يفيق‪ ،‬وعن النائم حتى يستيقظ)‬
‫‪ .2‬أنه عبادة بدنية‪ ،‬فلم تجب على الصبي‪ ،‬كالحج‪.‬‬
‫‪ .3‬أن حديث المخالفين مرسل‪ ،‬مع أنه يمكن حمل ه على االس تحباب‪ ،‬وس ماه‬
‫واجبا‪ ،‬تأكيدا الستحبابه‪ ،‬كقوله ‪(:‬غسل الجمعة واجب على كل محتلم)(‪)1‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يجب على الغالم المطيق له إذا بلغ عشرا‪ ،‬وهو قول بعض‬
‫الحنابلة(‪ ،)2‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيب ة‪ ،‬عن أبي ه‪ ،‬ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا‬
‫‪(:‬إذا أطاق الغالم صيام ثالثة أيام‪ ،‬وجب عليه صيام شهر رمضان)(‪)3‬‬
‫‪ .2‬أن ه عب ادة بدني ة‪ ،‬فأش به الص الة‪ ،‬وق د أم ر الن بي ‪ ‬ب أن يض رب على‬
‫الصالة من بلغ عشرا‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ارتباط وجوب الصوم بالبلوغ‪ ،‬مع أنه يش دد‬
‫عليه قبل ذلك‪ ،‬حرصا على تمرنه على الصوم قبل البلوغ‪.‬‬
‫ولو صح الحديث الذي ذكره أصحاب الق ول الث اني لك ان نص ا في المس ألة‪،‬‬
‫ومخالفة جماهير العلماء له من أدلة عدم صحته‪.‬‬
‫بلوغ الصبي أثناء الصوم‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيم ا ل و بل غ الص بي أثن اء ص ومه رمض ان‪ ،‬ه ل يجب علي ه‬
‫قضاء ذلك اليوم أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إذا نوى الصبي الصوم من الليل‪ ،‬فبلغ في أثناء النهار باالحتالم‬
‫أو السن‪ ،‬يتم صومه‪ ،‬وال قضاء عليه‪ ،‬وهو قول للحنابلة‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن نية صوم رمضان حصلت ليال فيجزئه كالبالغ‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه ال يمتنع أن يك ون أول الص وم نفال وباقي ه فرض ا‪ ،‬كم ا ل و ش رع في‬
‫صوم يوم تطوعا‪ ،‬ثم نذر إتمامه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أنه يلزمه القضاء‪ ،‬وهو قول للحنابلة‪ ،‬واخت اره أب و الخط اب‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري‪ ،2/3:‬وأبو داود رقم (‪)337‬‬
‫‪ )(2‬قال القاضي‪ (:‬المذهب عندي‪ ،‬رواية واحدة‪ :‬أن الصالة والصوم ال تجب حتى يبلغ‪ ،‬وما قال ه أحم د في من‬
‫ترك الصالة يقضيها‪ .‬نحمله على االستحباب )‬
‫‪ )(3‬رواه أبو نعيم في المعرفة والديلمي‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫‪ .1‬أنه عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها‪ ،‬فلزمت ه إعادته ا‪،‬‬
‫كالصالة‪ ،‬والحج إذا بلغ بعد الوقوف‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه ببلوغه يلزمه صوم جميعه‪ ،‬والماضي قب ل بلوغ ه نف ل‪ ،‬فلم يج ز عن‬
‫الفرض‪.‬‬
‫‪ .3‬أنه لو نذر صوم يوم يقدم فالن فقدم والناذر صائم ؛ لزمه القضاء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو الق ول األول بن اء على ت وفر جمي ع ش رائط‬
‫صحة الصوم من الني ة واالمتن اع عن المفط رات‪ ،‬زي ادة على أن ه ال يمكن اعتب ار‬
‫صومه لغوا‪ ،‬فنوجب عليه قضاءه‪.‬‬
‫قضاء ما مضى من الشهر قبل بلوغه‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في وجوب قضاء ما مضى من شهر رمض ان إذا بل غ الص بي‬
‫أثناء الشهر على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن ما مضى من الشهر قبل بلوغ الصبي ال يجب قض اؤه‪ ،‬ق ال‬
‫ابن قدامة‪(:‬هذا قول عامة أهل العلم)‪ ،‬ألن ه زمن مض ى في ح ال ص باه‪ ،‬فلم يلزم ه‬
‫قضاء الصوم فيه‪ ،‬كما لو بلغ بعد انسالخ رمضان‪.‬‬
‫الق ول الث اني‪ :‬يقض يه إن ك ان أفط ره وه و مطي ق لص يامه‪ ،‬وه و ق ول‬
‫األوزاعي‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة م ا ذكرن اه س ابقا من ع دم القض اء مطلق ا‪ ،‬ألن‬
‫الشرع خص القضاء بأحوال معينة محدودة‪ ،‬زيادة على ما في ذلك من المفاس د من‬
‫تصور الصبي أنه بإمكانه التفريط في الواجبات‪ ،‬ثم االكتفاء بعد ذلك بقضائها‪ ،‬وهو‬
‫ما قد يريبه على خلق اإلهمال في حياته جميعا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ حج الصبي‬
‫اتفق الفقهاء على جواز حج الصبي‪ ،‬بل استحبابه‪ ،‬وقد نقل ابن عب د ال بر من‬
‫نصوا على هذا‪ ،‬فقال‪(:‬أجازه مالك والشافعي وسائر فقه اء الـحجاز من أص حابهما‬
‫وغيرهم‪ ،‬وأجازه الثوري وأبو حنـيفة وسائر فقه اء الكوفـيـين‪ ،‬وأج ازه األوزاعي‬
‫واللـيث بن س عد‪ ،‬فـيمن س لك سبـيلهما من أه ل الش ام ومص ر‪ ،‬وك ل من ذكرن اه‬
‫يستـحب الـحج بالصبيان‪ ،‬ويأمر به ويستـحسنه‪ ،‬وعلـى ذل ك جمه ور العلـماء من‬
‫كل قرن)(‪)1‬‬
‫بل نقل اإلجماع على ذلك‪ ،‬قال الطحاوي‪(:‬وهذا مما ق د أجم ع الن اس جميع ا‬
‫عليه‪ ،‬ولم يختلفوا أن للصبي حجا‪ ،‬كما أن له صالة)(‪)2‬‬
‫ولكن مع هذا‪ ،‬قد ذكر ابن عب د ال بر خالف ا في المس ألة لم ي ذكر قائل ه‪ ،‬ق ال‪:‬‬

‫‪ )(1‬التمهيد‪.1/101 :‬‬
‫‪ )(2‬شرح معاني اآلثار‪.2/257 :‬‬

‫‪110‬‬
‫(وقالت طائفة‪ :‬ال يحج بالصبـيان‪ ،‬وه و ق ول ال يش تغل ب ه‪ ،‬وال يع رج علي ه‪ ،‬ألن‬
‫النبـي ‪ ‬حج بأغيلـمة بنـي عب د الـمطلب وحج الس لف بصبـيانهم‪ ،‬وق ال فـي‬
‫الصبـي له حج‪ ،‬وللذي يحجه أجر‪ ،‬يعنـي بمعونته له وقـيامه فـي ذلك به‪ ،‬فسقط كل‬
‫ما خالف هذا من القول)(‪)1‬‬
‫واتفق وا على أن الص بي يث اب على ذل ك الحج‪ ،‬وإن لم يكن مفروض ا علي ه‪،‬‬
‫قال الشافعي مبينا أدلة هذا ـ وإن كانت من المعل وم من ال دين بالض رورة ـ‪(:‬إن هللا‬
‫(جل ثناؤه) بفضل نعمته‪ ،‬أثاب الن اس على األعم ال أض عافها ومن على المؤم نين‬
‫بأن ألحق بهم ذرياتهم‪ ،‬ووفر عليهم أعمالهم‪ .‬فقال‪ ﴿ :‬أَ ْل َح ْقنَا بِ ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم َو َم ا أَلَ ْتنَ اهُ ْم‬
‫ِم ْن َع َملِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء ﴾ (الطور‪ ،)21:‬فكما من على الذراري بإدخالهم جنته بال عمل‬
‫كان أن من عليهم بأن يكتب عليهم عمل البر في الحج‪ :‬وإن لم يجب عليهم من ذل ك‬
‫المعنى )‬
‫وقد أجاب ابن عبد البر على االعتراض الذي طرحه‪ ،‬وهو (ما مع نى الـحج‬
‫بالصغير‪ ،‬وهو عندكم غير مـجزىء عنه من حج ة اإلس الم إذا بل غ‪ ،‬ولـيس مـمن‬
‫تـجري له وعلـيه؟)‪ ،‬فقال‪(:‬أم ا ج ري القلـم ل ه بالعم ل الصالـح فغ ير مس تنكر أن‬
‫يكتب للصبـي درجة وحسنة فـي اآلخرة بصالته وزكاته وحجه وسائر أعم ال ال بر‬
‫التـي يعملها علـى سنتها‪ ،‬تفضال من هللا عز وجل علـيه‪ ،‬كم ا تفض ل علـى الـميت‬
‫بأن يؤجر بصدقة الـحي عنه‪ ،‬ويلـحقه ثواب ما لـم يقصده‪ ،‬ولـم يعمله‪ ،‬مثل ال دعاء‬
‫له‪ ،‬والصالة علـيه‪ ،‬ونـحو ذلك‪ .‬أال ترى أنهم أجمع وا علـى أن أم روا الصبـي إذا‬
‫عقل الصالة بأن يصلـي‪ ،‬وقد صلـى رسول هللا ب أنس والـيتـيم مع ه‪ ،‬والعج وز من‬
‫ورائهما‪ .‬وأكثر السلف علـى ايج اب الزك اة فـي أم وال الـيتامى‪ ،‬ويستـحيل أن ال‬
‫يؤجروا علـى ذلك‪ ،‬وكذلك وصاياهم إذا عقلوا‪ .‬ولل ذي يق وم ب ذلك عنهم أج ر‪ ،‬كم ا‬
‫للذي يحجبهم أجر‪ ،‬فضال من هللا ونعمة‪ ،‬فألي شيء يحرم الصغير التعرض لفضل‬
‫هللا؟)(‪)2‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في بعض المسائل المتعلقة بحج الصبي‪ ،‬وال تي س نعرض‬
‫لها في هذا المطلب(‪:)3‬‬
‫إجزاء حج الصبي عن حجة اإلسالم‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في إجزاء حج الصبي عن حجة اإلسالم على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن الصبي إذا حج قبل بلوغ ه‪ ،‬أج زأه ذل ك من حج ة اإلس الم‪،‬‬
‫ولم يكن عليه أن يحج بع د ذل ك بع د بلوغ ه‪ ،‬وق د ذك ره أب و جعف ر الطح اوي فـي‬
‫(شرح معانـي اآلثار) من غير أن يس ميه‪ ،‬ق ال‪(:‬ذهب ق وم إلـى أن الصبـي إذ حج‬
‫قبل بلوغه أجزأه من حجة اإلسالم‪ ،‬ولـم يكن علـيه أن يحج بعد بلوغه)‪ ،‬ومن األدلة‬
‫‪ )(1‬التمهيد‪.1/101 :‬‬
‫‪ )(2‬التمهيد‪.1/103 :‬‬
‫‪ )(3‬من مراجع هذا المطلب‪ :‬التمهي د‪ ،1/101 :‬المجم وع‪ ،7/30 :‬ش رح الزرق اني‪ ،2/523 :‬م واهب الجلي ل‪:‬‬
‫‪ ،2/478‬شرح النووي على مسلم‪.9/99 :‬‬

‫‪111‬‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬عن ابن عباس أن ام رأة س ألت الن بي ‪ ‬عن ص بي‪ :‬ه ل له ذا من حج؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬ولك أجر(‪.)1‬‬
‫‪ .2‬أنه ال يصح قياس الحج على الصالة في اإلجزاء ـ كم ا فع ل المخ الفون ـ‬
‫ألن هللا تعالى إنم ا أوجب الحج على من وج د إلي ه س بيال‪ ،‬ولم يوجب ه على غ يره‪،‬‬
‫فكان من لم يجد سبيال إلى الحج‪ ،‬فال حج عليه‪ ،‬كالصبي الذي لم يبلغ‪.‬‬
‫‪ .3‬أن الفقه اء ق د أجمع وا أن من لم يج د س بيال إلى الحج‪ ،‬فحم ل على نفس ه‬
‫ومشى حتى حج‪ ،‬أن ذلك يجزيه‪ ،‬وإن وجد إلي ه س بيال بع د ذل ك‪ ،‬لم يجب علي ه أن‬
‫يحج ثانية‪ ،‬للحجة التي قد كان حجها قبل وجوده السبيل‪ .‬فكان النظ ر ‪ -‬على ذل ك ‪-‬‬
‫أن يكون كذلك الصبي إذا حج قبل البلوغ‪ ،‬ففعل ما لم يجب علي ه‪ ،‬أج زاه ذل ك‪ ،‬ولم‬
‫يجب عليه أن يحج ثانية بعد البلوغ‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يجزيه من حجة اإلس الم‪ ،‬وعلي ه بع د بلوغ ه حج ة أخ رى‪،‬‬
‫وهو قول جماهير الفقهاء‪ ،‬بل حكي اإلجماع على ذلك‪ ،‬قال ابن المنذر‪(:‬أجم ع أه ل‬
‫العلم‪ ،‬إال من ش ذ عنهم ممن ال يعت د بقول ه خالف ا على أن الص بي إذا حج في ح ال‬
‫صغره‪ ،‬والعبد إذا حج في حال رقه‪ ،‬ثم بلغ الص بي وعت ق العب د‪ ،‬أن عليهم ا حج ة‬
‫اإلسالم‪ ،‬إذا وجدا إليهما سبيال)‪ ،‬ثم ذك ر من الق ائلين به ذا‪(:‬ك ذلك ق ال ابن عب اس‪،‬‬
‫وعطاء‪ ،‬والحسن‪ ،‬والنخعي‪ ،‬والثوري‪ ،‬ومال ك‪ ،‬والش افعي‪ ،‬وإس حاق‪ ،‬وأب و ث ور‪،‬‬
‫وأصحاب الرأي‪ .‬قال الترمذي‪ :‬وقد أجمع أهل العلم عليه)‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬قوله ‪(:‬إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا‪ ،‬أيما صبي حج به‬
‫أهله فمات أجزأت عنه‪ ،‬فإن أدرك فعليه الحج‪ ،‬وأيما ممل وك حج ب ه أهل ه‪ ،‬فم ات‪،‬‬
‫أجزأت عنه‪ ،‬فإن أعتق‪ ،‬فعليه الحج)(‪)2‬‬
‫‪ .2‬أن الحج عبادة بدنية‪ ،‬فعلها قبل وقت وجوبها‪ ،‬فلم يمنع ذلك وجوبها علي ه‬
‫في وقتها‪ ،‬كما لو صلى قبل الوقت‪ ،‬وكما لو صلى‪ ،‬ثم بلغ في الوقت‪.‬‬
‫‪ .3‬أن الحديث الذي استدل به المخالفون إنما في ه أن رس ول هللا ‪ ‬أخ بر أن‬
‫للصبي حجا‪ ،‬كما أن له صالة‪ ،‬وليست تلك الصالة بفريضة عليه‪ .‬فك ذلك أيض ا ق د‬
‫يجوز أن يكون له حج‪ ،‬وليس ذلك الحج بفريضة عليه‪.‬‬
‫‪ .4‬أن هذا الحديث إنما هو حج ة على من زعم أن ه ال حج للص بي‪ ،‬فأم ا من‬
‫يقول‪ :‬إن له حجا‪ ،‬وإنه غير فريضة‪ ،‬فلم يخالف شيئا من هذا الحديث‪ ،‬وإنما خ الف‬
‫تأويل مخالفة خاصة‪.‬‬
‫‪ .5‬أن ابن عب اس ال ذي روى ه ذا الح ديث عن رس ول هللا ‪ ،‬ق ال بأن ه ال‬
‫يجزيه بعد بلوغه من حجة اإلسالم‪ ،‬واألصل أن من روى حديثا فه و أعلم بتأويل ه‪،‬‬
‫فعن أبي السفر‪ ،‬قال‪ :‬سمعت ابن عباس يقول‪(:‬يا أيها الناس‪ ،‬أسمعوني م ا تقول ون‪،‬‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم‪ ،‬ابن خزيمة‪ ،‬البيهقي‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪ )(2‬ذك ره ابن قدام ة‪ ،‬وق ال‪ (:‬رواه س عيد‪ ،‬في ( س ننه)‪ ،‬والش افعي‪ ،‬في ( مس نده)‪ ،‬عن ابن عب اس من قول ه )‬
‫انظر‪ :‬المغني‪.3/104 :‬‬

‫‪112‬‬
‫وال تخرجوا‪ ،‬تقولون قال ابن عباس أيما غالم حج به أهله‪ ،‬فمات‪ ،‬فقد قض ى حج ة‬
‫اإلسالم‪ ،‬ف إن أدرك فعلي ه الحج‪ ،‬وأيم ا عب د حج ب ه أهل ه فم ات‪ ،‬فق د قض ى حج ة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فإن أعتق فعليه الحج)‪ ،‬وعن يونس بن عبي د ص احب الحلي‪ ،‬ق ال‪ :‬س ألت‬
‫ابن عب اس عن الممل وك إذا حج ثم عت ق بع د ذل ك؟ ق ال‪ :‬علي ه الحج أيض ا‪ ،‬وعن‬
‫الصبي يحج ثم يحتلم‪ ،‬قال‪ :‬يحج أيضا‪.‬‬
‫‪ .6‬قول رسول هللا ‪(:‬رفع القلم عن ثالثة‪ ،‬عن الصغير ح تى يك بر)‪ ،‬فثبت‬
‫أن القلم عن الصبي مرفوع‪ ،‬ثبت أن الحج عليه غير مكتوب‪.‬‬
‫‪ .7‬أن اإلجماع منعقد على أن الص بي ل و دخ ل في وقت ص الة فص الها‪ ،‬ثم‬
‫بلغ بعد ذلك في وقته ا أن علي ه أن يعي دها‪ ،‬وه و في حكم من لم يص لها‪ ،‬فلم ا ثبت‬
‫ذلك من اتفاقهم‪ ،‬ثبت أن الحج كذلك‪ ،‬وأنه إذا بلغ وقد حج قبل ذلك‪ ،‬أنه في حكم من‬
‫لم يحج‪ ،‬وعليه أن يحج بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ .8‬أن ما استدل به المخالفون من الذي ال يجد السبيل‪ ،‬إنما سقط الفرض عنه‬
‫لعدم الوصول إلى البيت‪ ،‬فإذا مشى فص ار إلى ال بيت‪ ،‬فق د بل غ ال بيت‪ ،‬وص ار من‬
‫الواجدين للسبيل‪ ،‬فوجب الحج عليه لذلك‪ ،‬فلذلك قلنا إنه أج زأه حج ة‪ ،‬وألن ه ص ار‬
‫بعد بلوغه البيت‪ ،‬كمن كان منزل ه هنال ك‪ ،‬فعلي ه الحج‪ .‬وأم ا الص بي فف رض الحج‬
‫غير واجب عليه‪ ،‬قبل وصوله إلى البيت‪ ،‬وبعد وص وله إلي ه‪ ،‬لرف ع القلم عن ه ف إذا‬
‫بلغ بعد ذلك‪ ،‬فحينئذ وجب عليه فرض الحج‪ .‬فلذلك قلن ا‪ :‬إن م ا ق د ك ان حج ه قب ل‬
‫بلوغه‪ ،‬ال يجزيه‪ ،‬وأن عليه أن يستأنف الحج بعد بلوغه‪ ،‬كمن لم يكن حج قبل ذلك‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الثاني‪ ،‬بناء على أن الحج يختل ف عن‬
‫الصالة والصوم‪ ،‬فأسرار مقاصده ال يفقهها إال من من بلغ عمرا يسمح له بذلك‪.‬‬
‫زيادة على أنه فرض مرة واحدة في العمر‪ ،‬بخالف العب ادات األخ رى ال تي‬
‫تتكرر بدورات منتظمة‪.‬‬
‫البلوغ حال اإلحرام‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن ه إذا بل غ الص بي ف أحرم ووق ف بعرف ة‪ ،‬وأتم المناس ك‪،‬‬
‫أجزأه عن حجة اإلسالم‪ ،‬قال ابن قدامة‪(:‬ال نعلم فيه خالفا) والدليل على ذلك أن ه لم‬
‫يفته شيء من أركان الحج‪ ،‬وال فعل شيئا منه قبل وجوبه‪.‬‬
‫أما إن بلغ وهو محرم‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في إجزاء حجه عن حج ة اإلس الم‬
‫على األقوال التالية‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أج زأه عن حج ة اإلس الم‪ ،‬وه و ق ول ابن عب اس‪ ،‬والش افعي‪،‬‬
‫وإسحاق‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أنه أدرك الوقوف حرا بالغا فأجزأه‪ ،‬كما لو أحرم تلك الساعة‪.‬‬
‫‪ .2‬أنه جائز لكل من نوى باهالله اإلحرام‪ ،‬أن يصرفه إلـى م ا ش اء من حج‬
‫أو عمرة‪ ،‬وذلك لحديث علـي‪ ،‬إذ قال له رس ول هللا ‪ ‬حين أقب ل من الـيمن‪ ،‬مهال‬
‫بالـحج (بم أهللت)؟ قال‪ :‬قلت لبـيك اللهم‪ ،‬باهالل كاهالل النبـي ‪ ،‬فقال له رسول‬

‫‪113‬‬
‫هللا ‪ ،‬فإنـي أهللت بالـحج‪ ،‬وسقت الهدي ولـم ينك ر علـيه رس ول هللا ‪ ‬مقالت ه‪،‬‬
‫وال أمره بتـجديد نـية الفراد أو قران‪ ،‬أو متعة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يجزئه ذلك عن حجة اإلسالم‪ ،‬وهو قول مالك‪ ،‬واخت اره ابن‬
‫المنذر‪ ،‬ومن األدلة على ذل ك‪ :‬أن هللا تع الى أم ر ك ل من دخـل فـي حج أو عم رة‬
‫بإتمام ما دخـل فـيه‪ ،‬لقوله‪َ ﴿ :‬وأَتِ ُّموا ْال َح َّج َو ْال ُع ْم َرةَ هَّلِل ِ ﴾ (البق رة‪ ،)196:‬ومن رفض‬
‫إحرامه‪ ،‬لم يتم حجه‪ ،‬وال عمرته‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬أن الصبي إن جدد إحراما بعد أن احتلم قب ل الوق وف‪ ،‬أج زأه‪،‬‬
‫وإال فال‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن إحرامه لم ينعقد واجبا‪ ،‬فال يجزئ عن الواجب‪ ،‬كما لو بقي على حاله‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الـحج الذي كان فـيه لـ َّما لـم يكن يجزي عنه‪ ،‬ولـم يكن الف رض الز ًم ا‬
‫له حين أحرم به‪ ،‬ثم لزمه حين بلغ‪ ،‬استـحال أن يش تغل عن ف رض ق د تعين علـيه‬
‫بنافل ة‪ ،‬ويعط ل فرض ه‪ ،‬كمن دخـل فـي نافل ة واقـيمت علـيه الـمكتوبة‪ ،‬وخش ي‬
‫فوتها‪ ،‬قطع النافلة ودخـل الـمكتوبة‪.‬‬
‫‪ .3‬أنه احتاج إلـى اإلحرام‪ ،‬ألن الـحج مفتقر إلـى النـية‪ ،‬ألن النـية واإلح رام‬
‫من فرائضه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول بناء على كونه ك ان بالغ ا أثن اء‬
‫الوق وف بعرف ة‪ ،‬ولم يكن اعتب ا ر إحرام ه لغ وا‪ ،‬زي ادة على أن التك اليف الكث يرة‬
‫للحج‪ ،‬وكثرة الحجيج يستدعي التيسير في هذا الجانب‪.‬‬
‫إحرام الصبي‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن الصبي إن كان مميزا أحرم بإذن وليه‪ ،‬واختلفوا فيما ل و‬
‫كان غير مميز على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أحرم عنه وليه؛ فيص ير محرم ا ب ذلك‪ ،‬وق د روي عن عط اء‪،‬‬
‫والنخعي‪ ،‬وهو قول مالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬ما روى ابن عباس قال‪ :‬رفعت امرأة صبيا‪ ،‬فق الت‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬أله ذا‬
‫حج؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ولك أجر)‬
‫‪ .2‬عن السائب بن يزيد‪ ،‬قال‪ :‬حج بي مع النبي ‪ ‬وأنا ابن سبع سنين‪.‬‬
‫‪ .3‬أن أبا حنيفة قال‪ :‬يجتنب ما يجتنبه المحرم‪ .‬ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم‬
‫كان إحرامه صحيحا‪.‬‬
‫‪ .4‬أن النذر ال يجب به شيء‪ ،‬بخالف هذه المسألة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال ينعقد إحرام الصبي‪ ،‬وال يصير محرما ب إحرام ولي ه‪ ،‬وه و‬
‫قول أبي حنيفة‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪ :‬أن اإلحرام سبب يلزم به حكم‪ ،‬فلم يص ح من‬
‫الصبي‪ ،‬كالنذر‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة من ب اب التيس ير ورف ع الح رج‪ ،‬وه و ناحي ة‬

‫‪114‬‬
‫ملحوظة في فقه العبادات القول األول‪.‬‬
‫أفعال الحج‪:‬‬
‫تنقسم أفعال الصبي في الحج إلى قسمين(‪:)1‬‬
‫م ا يمكن ه أن يفعل ه بنفسه‪ :‬وذل ك ك الوقوف بعرف ة والم بيت بمزدلف ة‪،‬‬
‫ونحوهما‪ ،‬وقد اتفق الفقهاء على أنه يلزمه فعله‪ ،‬وال ينوب غيره عنه فيه‪.‬‬
‫ويدخل في هذا النوع اإلحرام‪ ،‬فإن الصبي يجرد كما يجرد الكبير‪ ،‬وقد روي‬
‫عن عائشة ا أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم‪.‬‬
‫ما ال يمكنه أن يفعله بنفسه‪ :‬وذل ك لعج زه عن ه‪ ،‬وق د اتف ق الفقه اء على أن‬
‫الولي يقوم بذلك نيابة عنه‪ ،‬قال ابن المنذر‪(:‬كل من حفظت عنه من أهل العلم ي رى‬
‫الرمي عن الصبي الذي ال يق در على ال رمي‪ ،‬ك ان ابن عم ر يفع ل ذل ك‪ .‬وب ه ق ال‬
‫عطاء‪ ،‬والزهري‪ ،‬ومالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وإسحاق )‬
‫وقد روي عن ابن عم ر ‪ :‬أن ه ك ان يحج ص بيانه وهم ص غار‪ ،‬فمن اس تطاع‬
‫منهم أن يرمي رمى‪ ،‬ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه‪.‬‬
‫وروى عن أبي إسحاق‪ ،‬أن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة‪.‬‬
‫وقال ج ابر ‪ :‬خرجن ا م ع رس ول هللا ‪ ‬حجاج ا‪ ،‬ومعن ا النس اء والص بيان‪،‬‬
‫فأحرمنا عن الصبيان)(‪ ،)2‬فق ال‪(:‬فلبين ا عن الص بيان‪ ،‬ورمين ا عنهم)‪ ،‬وفي رواي ة‬
‫الترمذي‪ ،‬قال‪(:‬فكنا نلبي عن النساء‪ ،‬ونرمي عن الصبيان)‬
‫وقد نص بعض الفقهاء على أنه يس تحب إش راك الص بي في ه ذا الن وع من‬
‫األفع ال‪ ،‬ق ال القاض ي‪(:‬إن أمكن ه أن ين اول الن ائب الحص ى ناول ه‪ ،‬وإن لم يمكن ه‬
‫استحب أن يوضع الحصى في يده فيرمي عنه‪ ،‬وإن وضعها في يد الصغير‪ ،‬ورمى‬
‫بها‪ ،‬فجعل يده كاآللة‪ ،‬فحسن‪ .‬وال يجوز أن يرمي عن ه إال من ق د رمى عن نفس ه ؛‬
‫ألنه ال يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه)‬
‫ومثل ذلك في الطواف‪ ،‬فإنه إن أمكنه المشي مشى‪ ،‬وإال طيف به محموال أو‬
‫راكبا‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الطواف بالكبير محموال لعذر يجوز‪ ،‬فالصغير أولى‪.‬‬
‫وقد نص الفقهاء هنا على عدم اشتراط إحرام الحامل‪ ،‬وع دم اش تراط إس قاط‬
‫الف رض عن نفس ه‪ ،‬أو ع دم إس قاطه‪ ،‬ألن الط واف للمحم ول ال للحام ل‪ ،‬ول ذلك‬
‫أجازوا أن يطوف راكبا‪.‬‬
‫واشترطوا فيمن يطوف بالصبي أن ينوي الطواف عن الصبي‪ ،‬فإن لم ينو لم‬
‫يجزئه ؛ ألنه لما لم تعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره‪ ،‬كما في اإلحرام‪.‬‬
‫نفقة الحج‪:‬‬

‫‪ )(1‬المغني‪.3/108:‬‬
‫‪ )(2‬رواه سعيد‪ ،‬في سننه وابن ماجه‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫اختلف الفقهاء في المال الذي تجب فيه نفقة‪ ،‬هل هو مال الصبي أو مال وليه‬
‫على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬م ا زاد على نفق ة الحض ر‪ ،‬فيجب في م ال ال ولي ؛ وه و ق ول‬
‫القاضي‪ ،‬واختاره أبو الخطاب‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪ :‬أنه كلفه ذل ك‪ ،‬وال حاج ة ب ه‬
‫إليه‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن النفقة كلها على الصبي‪ ،‬وهو ق ول ث ان للحنابل ة‪ ،‬ألن الحج‬
‫له‪ ،‬فنفقته عليه‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬قياسا له على البالغ‪.‬‬
‫‪ .2‬أن فيه مصلحة له بتحصيل الثواب له‪ ،‬ويتمرن عليه‪ ،‬فصار ك أجر المعلم‬
‫والطبيب‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول‪ ،‬بن اء على الح رص على م ال‬
‫الصبي‪ ،‬خاصة مع اتف اق أك ثر الفقه اء على أن ه ال يغني ه عن حج ة اإلس الم‪ ،‬وق د‬
‫اختار هذا القول ابن ابن قدامة‪ ،‬قال مس تدال ل ذلك‪(:‬ف إن الحج ال يجب في العم ر إال‬
‫مرة‪ .‬ويحتمل أن ال يجب‪ ،‬فال يجوز تكليف ه ب ذل مال ه من غ ير حاج ة إلي ه للتم رن‬
‫عليه)(‪)1‬‬
‫لزوم الفدية‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو وقع الصبي في محظور من محظورات اإلح رام‪ ،‬ه ل‬
‫تجب عليه الفدية أم ال على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ما أصاب الصبـي من صيد أو لب اس أو طيب ف دي عن ه‪ ،‬وه و‬
‫قول مالك والشافعي‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال جزاء علـيه وال فدية‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬وهي التفريق بين ما يعتبر فيه السهو‪ ،‬وما ال يعتبر‪ ،‬وهو قول‬
‫الحنابلة‪ ،‬وذلك كما يلي‪:‬‬
‫ما يعتبر فيه السهو‪ :‬وذلك مثل اللباس والطيب‪ ،‬فقد نص وا على أن ه ال فدي ة‬
‫على الصبي فيه؛ ألن عمده خطأ‪.‬‬
‫ما ال يعتبر فيه السهو‪ :‬وذلك مثل الصيد‪ ،‬وحلق الشعر‪ ،‬وتقليم األظفار‪ ،‬وقد‬
‫نصوا على أن عليه فيه الفدية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أن حج الصبي يكاد يكون من باب التم رين على‬
‫الحج‪ ،‬وليس حجا كامال‪ ،‬فلذلك يتساهل فيه‪ ،‬وأسهل األقوال هنا هو القول الثاني‪.‬‬
‫ما يلزمه من الفدية‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في المال الذي تلزم منه الفدي ة‪ ،‬ه ل ه و م ال الص بي أو م ال‬

‫‪ )(1‬المغني‪.3/108:‬‬

‫‪116‬‬
‫وليه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬في مال ه ؛ ألنه ا وجبت بجنايت ه‪ ،‬أش بهت الجناي ة على اآلدمي‪.‬‬
‫قال ابن المنذر‪ :‬أجمع أهل العلم على أن جنايات الصبيان الزمة لهم في أموالهم‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬على الولي‪ ،‬وهو قول مالك ؛ ألنه حصل بعقده أو إذن ه‪ ،‬فك ان‬
‫عليه‪ ،‬كنفقة حجه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة م ا ذكرن اه س ابقا من أن ه ال يكل ف الص بي في‬
‫الحج بأي نفقة‪ ،‬باعتبار حجه ال يغنيه عن حجة اإلس الم‪ ،‬زي ادة على م ا ذكرن ا في‬
‫ال ترجيح الس ابق من أن ه ال يجب علي ه ش يء من الفدي ة على حس ب م ا ذهب إلي ه‬
‫الحنفية‪.‬‬
‫لزوم القضاء‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو وقع الصبي فيما يفسد حجه‪ ،‬هل يجب علي ه قض اؤه أم‬
‫ال على قولين كالهما مما ذهب إليه الحنابلة‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يجب عليه قض اؤه‪ ،‬لئال تجب عب ادة بدني ة على من ليس من‬
‫أهل التكليف‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يجب عليه قض اؤه‪ ،‬ألن ه إفس اد غ ير م وجب للفدي ة‪ ،‬ف أوجب‬
‫القضاء‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة ه و الق ول األول بن اء على أن الحج ليس واجب ا‬
‫عليه‪ ،‬فهو كحج التطوع‪ ،‬والمتطوع أمير نفسه‪.‬‬
‫زيادة على ما يؤدي إلي ه الق ول بل زوم القض اء من التك اليف الش اقة ال تي لم‬
‫يفرضها الشرع‪ ،‬خاصة وأن بناء الحج على التيسير لربطه باالستطاعة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫البعد األخالقي في تربية األوالد‬
‫وهو من أهم األبعاد‪ ،‬وأكثرها تأثيرا في الحياة‪ ،‬وإنما جعلناه البعد الث الث من‬
‫أبعاد التربية‪ ،‬لكونه نتيجة وثمرة للبع دين الس ابقين‪ ،‬ف األخالق تنب ني على العقائ د‪،‬‬
‫وعلى مدى اإلذعان لها‪.‬‬
‫ويعني هذا البعد ـ باختصار ـ الحفاظ على سالمة الفطرة اإلنسانية من كل ما‬
‫ق د ي ؤثر فيه ا من انحراف ات نتيج ة مالبس ة البيئ ة واالختالط بالن اس والتع رض‬
‫للمؤثرات المختلفة‪.‬‬
‫ولهذا اعتبرنا ركن الصوم من األرك ان ال تي ترم ز إلى ه ذا البع د‪ ،‬باعتب ار‬
‫رياضة الصوم أو تمرين الصوم جزءا من الجهد الذي يحد به من ت أثيرات مالبس ة‬
‫اإلنسان للشهوات‪.‬‬
‫وفي هذا الفصل نحاول البحث في القواعد والتطبيقات واألصول ال تي تح دد‬
‫لنا كيفية تحقيق هذا البعد في حياة األوالد‪ ،‬فه و ال يبحث في تفاص يل األخالق‪ ،‬ب ل‬
‫يختص ببيان أصول هذا البعد وأسسه ومنابعه‪.‬‬
‫وقد قسمناه إلى ثالثة مباحث‪ ،‬تكاد تحصر كل ما يتعلق به‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬وقاية األوالد من أسباب االنح راف‪ ،‬وهي أول عملي ة يق وم به ا الم ربي‪،‬‬
‫وهو كاألرضية لما بعده‪.‬‬
‫‪ .2‬مظاهر االنحراف ومنابعها وكيفية عالجها‪ ،‬وهي العملية التالية لما قبلها‪،‬‬
‫فالوقاية تسبق العالج‪.‬‬
‫‪ .3‬الفضائل الخلقية‪ ،‬وكيفية تنميتها وتحصيلها‪ ،‬وهي الهدف األسمى من ه ذا‬
‫البعد‪ ،‬وقد أخرناها‪ ،‬باعتبارها ال يمكن تحقيقها بدون تحقيق المرتبتين السابقتين‪.‬‬
‫ونحب أن ننبه هنا إلى أنا أكثرنا من النماذج واألمثلة في هذا الباب‪ ،‬ألهميتها‬
‫من جهة‪ ،‬ولتكون نماذج لغيرها من جهة أخرى‪.‬‬
‫أوال ـ الوقاية من أسباب االنحراف‬
‫وه و أول م ا ينبغي أن يهتم الم ربي ب ه‪ ،‬كم ا يهتم في بداي ة عم ر الص غير‬
‫بتلقيحه من كل األوبئة التي قد تصيبه‪ ،‬ألنه ال يمكنه أن يبني بناء أخالقيا رفيع ا م ا‬
‫دام هناك من يحمل المعاول لهدم ذلك البناء‪.‬‬
‫ويشير إلى هذه الناحية المهمة في التربية األخالقية خصوصا‪ ،‬ب ل في س ائر‬
‫النواحي التربوية قوله ‪(:‬مروا أوالدكم بالصالة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم‬
‫عليها وهم أبناء عشر وفرِّ قوا بينهم في المضاجع)(‪ )1‬فقرن االهتمام ب التفريق بينهم‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫في المضاجع باالهتمام بالصالة نفسها‪ ،‬ألن الص الة إنش اء وبن اء‪ ،‬والتفري ق وقاي ة‬
‫من الهدم‪ ،‬والعاق ل من يب ني‪ ،‬ويق وي البن اء‪ ،‬ثم ه و يص وب نظ ره في ك ل ناحي ة‬
‫مخافة الهدم‪.‬‬
‫انطالقا من هذا سنتحدث في ه ذا المبحث عن أهم أس باب االنح راف وكيفي ة‬
‫الوقاية منها‪ ،‬وقد رأينا من خالل استقراء الواقع أنها تعود إلى سببين كبيرين‪:‬‬
‫‪ .1‬البيئة والمحيط بتياراته المختلفة‪ ،‬واألنم اط الجدي دة للحي اة‪ ،‬وال تي ع زل‬
‫على أساسها الوالدان من أن يكون لهما الحظ األكبر في التربية‪.‬‬
‫‪ .2‬وسائل اإلعالم المختلفة‪ ،‬والتي صار لها تأثيره ا الكب ير في التربي ة س لبا‬
‫أو إيجابا‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ البيئة والمحيط التربوي‬
‫ال خالف في مدى ما للبيئة من تأثير عظيم في التربية ـ سلبا كان ذلك الت أثير‬
‫أو إيجابا ـ ويشير إلى هذا من القرآن الكريم قوله تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ تَ َوفَّاهُ ُم ْال َمالئِ َك ةُ‬
‫ض قَ الُوا أَلَ ْم تَ ُك ْن أَرْ ضُ‬ ‫َض َعفِينَ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ظَالِ ِمي أَ ْنفُ ِس ِه ْم قَالُوا فِي َم ُك ْنتُ ْم قَ الُوا ُكنَّا ُم ْست ْ‬
‫صيراً﴾ (النساء‪)97:‬‬ ‫ت َم ِ‬‫اس َعةً فَتُهَا ِجرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ َمأْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َو َسا َء ْ‬ ‫هَّللا ِ َو ِ‬
‫فهؤالء المستضعفين لم يع ذروا م ع استض عافهم‪ ،‬ب ل اعت بروا من الظ المين‬
‫ألنفسهم‪ ،‬بسبب أن استضعفاهم كان بس بب كس لهم وتث اقلهم إلى األرض‪ ،‬فق د ك ان‬
‫بإمكانهم أن يهاجروا‪ ،‬ولكنهم لم يفعلوا‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬ورد في القرآن الكريم ربط األم ر بالعب ادة ببي ان س عة األرض‪ ،‬ق ال‬
‫َّاي فَا ْعبُ دُو ِن﴾ (العنكب وت‪،)56:‬‬ ‫اس َعةٌ فَإِي َ‬ ‫ضي َو ِ‬ ‫ي الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن أَرْ ِ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬يَا ِعبَا ِد َ‬
‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ يَا ِعبَا ِد الَّ ِذينَ آ َمنُوا اتَّقُوا َربَّ ُك ْم لِلَّ ِذينَ أَحْ َسنُوا فِي هَ ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َح َس نَةٌ‬
‫ب﴾ (الزمر‪)10:‬‬ ‫َوأَرْ ضُ هَّللا ِ َوا ِس َعةٌ إِنَّ َما ي َُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْ َرهُ ْم بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫وسر ذلك أن البيئة التي تحيط باإلنسان والتي تبدأ باألس رة لتتع داها إلى ك ل‬
‫ما يحيط به لها تأثيرها الخطير في استقامته أو استقامة من يربيه‪.‬‬
‫انطالقا من هذا نحاول أن نذكر هنا بعض المسؤولين في هذه البيئة التربوية‪،‬‬
‫والسلبيات التي قد تقع منهم‪ ،‬فيقع األوالد بسببها في االنحراف‪.‬‬
‫األسرة‬
‫وهي أول ما يتعرض له الطفل من المؤثرات البيئية‪ ،‬فلذلك كان الس تقرارها‬
‫واضطرابها التأثير الكبير على سلوكه‪.‬‬
‫وقد بحثَت مؤسسة (اليونسكو) في هيئة األمم المتحدة عن المؤثرات الخارجة‬
‫اص يّون قَ َّدموا‬ ‫ص ِ‬ ‫عن الطبيعة في نفس الطفل‪ ،‬وبعد دراس ٍة مستفيض ٍة قام به ا االختِ َ‬
‫ك فيه أن البيئة المستقرة سيكولوجياً‪ ،‬واألس رة الموح دة ال تي‬ ‫هذا التقرير‪ِ (:‬م َّما ال ش َّ‬
‫يعيش أعضاؤها في ج و من العط ف المتب ادل هي أول أس اس يرتك ز علي ه تَكيّ ف‬
‫الطفل من الناحية العاطفية‪ ،‬وعلى ه ذا األس اس يس تند الطف ل فيم ا بع د في ترك يز‬
‫رضية‪ ،‬أما إذا ُش ِّوهَت شخصية الطف ل بس وء معامل ة‬ ‫عالقاته االجتماعية بصورة ُم ِ‬
‫الوالدين فقد يعجز عن االندماج في المجتمع)‬

‫‪119‬‬
‫وقد ذهب علماء النفس إلى أن اضطراب البيئة‪ ،‬وما تحويه من تعقيدات‪ ،‬وما‬
‫تشتمل عليه من أنواع الحرمان‪ ،‬كل ه ذا يجع ل الطف ل يش عر بأن ه يعيش في ع الم‬
‫ق ضعيف ال َحو َل له‬ ‫متناقض‪ ،‬مليء بالغش والخداع‪ ،‬والخيانة والحسد‪ ،‬وأنه مخلو ٌ‬
‫وال قُ َّوة تجاه هذا العالم العنيف‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪ ‬في الحديث الذي يبين عظم مس ؤولية الوال دين في عجن طين ة‬
‫الصبي‪(:‬ما من مولود إال ولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجس انه كم ا‬
‫تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)(‪)1‬‬
‫وله ذا نج د خط اب الم ربين في الع ادة موجه ا لآلب اء باعتب ارهم المس ؤول‬
‫األعظم عن التربية‪ ،‬كما قال الغ زالي‪(:‬والص بي أمان ة عن د والدي ه‪ ،‬وقلب ه الط اهر‬
‫جوهرة نفيسة سا َذجة خالية من كل نقش وصورة‪ ،‬وهو قاب ٌل لك ل م ا يُنقش‪ ،‬ومائ ٌل‬
‫لكل ما يُمال إليه‪ ،‬فإن ُع ِّود الخبر و ُعلِّ َمه نشأ عليه و ُس ِع َد في الدنيا واآلخرة وشاركه‬
‫علم له ومؤدب)(‪)2‬‬ ‫في ثوابه كل ُم ٍ‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن األسرة يمكن أن تكون محال صالحا للتربية‪ ،‬بحيث ينشأ‬
‫الولد في ظلها مس تقيما معت دال مس لما‪ ،‬ويمكن أن تتح ول إلى مس تنقع آس ن يخ رج‬
‫األجيال المنحرفة الضالة عن سواء السبيل‪.‬‬
‫وه ذا يس تدعي البحث عن الش روط ال تي يمكن تحقيقه ا في األس رة لينجح‬
‫مسعاها التربوي‪ ،‬ولن نفصل الكالم في هذه المسألة هن ا‪ ،‬فك ل ه ذه السلس لة تبحث‬
‫عن السبيل لتحقيق هذه الغاية المثلى‪ ،‬ولكنا سنقتص ر هن ا على بي ان ش رط أساس ي‬
‫في نجاح التربية‪ ،‬وهو حسن االختيار‪.‬‬
‫ونريد به ما سبق أن ذكرناه في المجموعة األولى من هذه السلسلة من حس ن‬
‫اختيار الرجل لزوجته‪ ،‬وعدم قبول المرأة بغير الكفء لها في دينها‪.‬‬
‫ويدخل في هذا الباب ما سبق ذكره في محله من هذه السلسلة من التش ديد في‬
‫الزواج بالكافرات‪ ،‬لخطرهن على تربية األبناء‪ ،‬وقد قال سيد قطب في تعلي ل قول ه‬
‫بالحرمة‪(:‬ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم‪ ،‬فال ذي ال يمكن‬
‫إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودي ة أو المس يحية أو الالديني ة تص بغ بيته ا وأطفاله ا‬
‫بص بغتها‪ ،‬وتخ رج جيال أبع د م ا يك ون عن اإلس الم‪ ،‬وبخاص ة في ه ذا المجتم ع‬
‫الجاهلي الذي نعيش فيه‪ ،‬والذي ال يطلق عليه اإلسالم إال تج وزا في حقيق ة األم ر‪،‬‬
‫والذي ال يمسك من اإلسالم إال بخيوط واهية ش كلية تقض ي عليه ا القض اء األخ ير‬
‫زوجة تجيء من هناك)(‪)3‬‬
‫وسر هذا التشديد على ضرورة اختيار الزوجة ه و م ا لألم من ت أثير خط ير‬
‫على تربية ابنها‪ ،‬فالصبي في مراحله األولى ـ والتي تبدأ من خاللها تربيت ه ـ يأخ ذ‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/72 :‬‬
‫‪ )(3‬في ظالل القرآن‪.1/241 :‬‬

‫‪120‬‬
‫من أمه أكثر من أبيه‪ ،‬بل يمتد هذا التأثير فيما لو كان األب مش غوال خ ارج ال بيت‪،‬‬
‫وهو األعم األغلب‪ ،‬بحيث تنفرد األم عادة بالتربية في أكثر األوقات‪.‬‬
‫ولهذا جعل الشرع الحضانة لها في حال االف تراق‪ ،‬وق د روي في النص وص‬
‫ما يدل على تعليل ذلك‪ ،‬وهو يدل على المسؤولية العظمى المناط ة ب األم‪ ،‬فعن عب د‬
‫هللا بن عمرو بن العاص‪ ،‬أن امرأة قالت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إن ابني هذا ك ان بط ني ل ه‬
‫وعاء‪ ،‬وثديي له سقاء‪ ،‬وحجري له ح واء‪ ،‬وإن أب اه طلق ني‪ ،‬وأراد أن ينزع ه م ني‬
‫فقال رسول هللا ‪(:‬أنت أحق به ما لم تنكحي)(‪)1‬‬
‫ق ال الص نعاني تعليق ا على ه ذا الح ديث‪(:‬الح ديث دلي ل على أن األم أح ق‬
‫بحضانة ولدها إذا أراد األب انتزاعه منها‪ ،‬وقد ذكرت هذه المرأة ص فات اختص ت‬
‫بها تقتضي استحقاقها وأولويتها بحضانة ولدها‪ ،‬وأقره ا ‪ ‬على ذل ك‪ ،‬وحكم له ا‪،‬‬
‫ففي ه تنبي ه على المع نى المقتض ي للحكم‪ ،‬وأن العل ل والمع اني المعت برة في إثب ات‬
‫األحكام مستقرة في الفطر السليمة)(‪)2‬‬
‫ولهذا اعتبرها ‪ ‬مسؤولة عن بيت الزوجية‪ ،‬فقال‪(:‬والم رأة راعي ة في بيت‬
‫زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها)‬
‫ووردت النصوص الكثيرة اآلمرة بحسن الصحابة لها‪ ،‬ففي الحديث أن رجال‬
‫قال‪ :‬يا رسول هللا من أحق الناس بحس ن ص حابتي؟ ق ال‪ :‬أم ك‪ ،‬ق ال‪ :‬ثم من؟ ق ال‪:‬‬
‫أمك‪ ،‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪ :‬أمك‪ ،‬قال‪ :‬ثم من؟ قال‪ :‬أبوك)(‪)3‬‬
‫وق د أث نى ‪ ‬على الم رأة ال تي تتف رغ ألبنائه ا‪ ،‬وتنش غل بمص الحهن عن‬
‫مصالحها‪ ،‬فقد روي أن رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬إن خير نساء ركبن اإلبل نساء قريش ؛‬
‫بعل في ذات يده)(‪)4‬‬
‫أحناه على ول ٍد في صغره‪ ،‬وأرعاه على ٍ‬
‫ومثل هذا ما يروى عن أم سُليم‪ ،‬وهي إحدى الس ابقات إلى اإلس الم‪ ،‬أن ه لم ا‬
‫قتل زوجها وكانت شابة حدثة‪ ،‬فقالت‪ :‬ال أفطم أنسًا حتى يد الثدي‪ ،‬وال أتزوج ح تى‬
‫يجلس في المجالس ويأمرني‪ ،‬فوفت بعهدها وبرت بول دها‪ ،‬ثم لم ا ق دم ‪ ‬المدين ة‬
‫وكبر أنس أرسلت به إلى رسول هللا ‪ ‬ليخدمه ويتعلم من أدب النبوة ويعلمها‪.‬‬
‫قال أنس يذكر مظهرا من مظاهر تربية أمه ل ه‪ :‬م َّر بي رس ول هللا ‪ ‬وأن ا‬
‫ألعب مع الصبيان فسلم علينا‪ ،‬ثم دعاني فبعثني إلى حاجة له فجئت وقد أبط أت عن‬
‫أمي‪ ،‬فقالت‪ :‬م ا حبس ك؟ أين كنت؟ فقلت‪ :‬بعث ني رس ول هللا ‪ ‬إلى حاج ة فق الت‪:‬‬
‫وما هي؟ فقلت‪ :‬إنها سر‪ ،‬فقالت‪(:‬أي بني‪ ،‬ال تحدث بسر رسول هللا ‪)‬‬
‫وك ان أنس يع رف له ا تل ك المن ة ويق ول‪(:‬ج زى هللا أمي ع ني خ يرًا‪ ،‬لق د‬
‫أحسنت واليتي)‬

‫‪ )(1‬رواه الحاكم‪ ،2/225 :‬البيهقي‪ ،8/4 :‬الدارقطني‪ 3/304 :‬أبو داود‪ ،2/283 :‬أحمد‪.2/182 :‬‬
‫‪ )(2‬سبل السالم‪.3/227 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪.7/7:‬‬

‫‪121‬‬
‫وقد ضرب القرآن الكريم المثل ب دور األم الخط ير بقص ة موس ى ‪ ،‬فق د‬
‫ك ان في أول طفولت ه تحب رعاي ة أم وص لت من الش فافية الروحي ة إلى درج ة أن‬
‫ض ِعي ِه فَ إِ َذا ِخ ْف ِ‬
‫ت‬ ‫وس ى أَ ْن أَرْ ِ‬ ‫أوحى هللا تعالى إليها‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿ :‬وأَوْ َح ْينَ ا إِلَى أُ ِّم ُم َ‬
‫اعلُوهُ ِمنَ ْال ُمرْ َس لِينَ )‬ ‫ك َو َج ِ‬ ‫َعلَ ْي ِه فَأ َ ْلقِي ِه فِي ْاليَ ِّم َوال تَخَافِي َوال تَحْ زَ نِي إِنَّا َرا ُّدوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫(القصص‪)7:‬‬
‫ثم تلقفت ه ي د أخ رى له ا من اإليم ان العظيم م ا جعله ا تق ول‪َ ﴿ :‬ربِّ ا ْب ِن لِي‬
‫ك بَيْت ا ً فِي ْال َجنَّ ِة َونَ ِّجنِي ِم ْن فِرْ َع وْ نَ َو َع َملِ ِه َونَجِّ نِي ِمنَ ْالقَ وْ ِم الظَّالِ ِمينَ ﴾‬ ‫ِع ْن َد َ‬
‫(التحريم‪)11:‬‬
‫وأص بحت ب ذلك مثالً ض ربه هللا للرج ال والنس اء المؤم نين‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ب هَّللا ُ َمثَالً لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا ا ْم َرأَتَ فِرْ عَوْ نَ ﴾(التحريم‪)11:‬‬ ‫ض َر َ‬‫﴿ َو َ‬
‫ومن نماذج األمهات الصالحات في القرآن الكريم أم مريم التي نذرت م ا في‬
‫بطنها محررا هلل‪ ،‬خالصا من كل شرك أو عبودية لغ يره‪ ،‬داعي ة هللا أن يتقب ل منه ا‬
‫طنِي ُم َحرَّراً‬ ‫ت لَكَ َما فِي بَ ْ‬ ‫ت ِع ْم َرانَ َربِّ إِنِّي نَ َذرْ ُ‬ ‫ت ا ْم َرأَ ُ‬
‫نذرها‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِ ْذ قَالَ ِ‬
‫فَتَقَبَّلْ ِمنِّي إِنَّكَ أَ ْنتَ ال َّس ِمي ُع ْال َعلِي ُم﴾ (آل عمران‪)35:‬‬
‫بل نرى توجهها ال دائم هلل‪ ،‬تخاطب ه بحض ور في أدق الش ؤون‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ْس ال َّذ َك ُر‬
‫ت َولَي َ‬ ‫ض َع ْ‬ ‫ض ْعتُهَا أُ ْنثَى َوهَّللا ُ أَ ْعلَ ُم بِ َم ا َو َ‬ ‫ت َربِّ إِنِّي َو َ‬ ‫ض َع ْتهَا قَ الَ ْ‬‫﴿ فَلَ َّما َو َ‬
‫الش ْيطَا ِن ال َّر ِج ِيم﴾ (آل‬ ‫َك اأْل ُ ْنثَى َوإِنِّي َس َّم ْيتُهَا َم رْ يَ َم َوإِنِّي أ ِعي ُذهَا بِ كَ َو ُذرِّ يَّتَهَ ا ِمنَ َّ‬
‫ُ‬
‫عمران‪)36:‬‬
‫ومنهن مريم ابنة عمران أم المس يح ‪ ،‬فق د جعله ا الق رآن الك ريم آي ة في‬
‫الطه ر والقن وت هلل‪ ،‬والتص ديق بكلمات ه‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم رْ يَ َم ا ْبنَتَ ِع ْم َرانَ الَّتِي‬
‫َت ِمنَ‬‫ت َربِّهَ ا َو ُكتُبِ ِه َو َك ان ْ‬‫ت بِ َكلِ َم ا ِ‬ ‫ص َّدقَ ْ‬
‫َت فَرْ َجهَ ا فَنَفَ ْخنَ ا فِي ِه ِم ْن رُو ِحنَ ا َو َ‬ ‫صن ْ‬ ‫أَحْ َ‬
‫ْالقَانِتِينَ ﴾ (التحريم‪)12:‬‬
‫وهذا الدور الخطير لألم يستدعي تربية خاصة وتعليم ا خاص ا يؤهله ا للقي ام‬
‫بهذا الدور الخطير‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫أع دت ش عبًا طيب‬ ‫ةٌ إذا‬ ‫األم مدرس‬
‫راق‬
‫ِ‬ ‫األع‬ ‫ددتها‬ ‫إع‬
‫وقال اآلخر‪:‬‬
‫رض ع الرج ال جهال ة‬ ‫وإذا النساء نش أن في أمي ة‬
‫وال‬ ‫وخم‬
‫هم الحي اة وخلف اه ذليال‬ ‫ليس الي تيم من انتهى أب واه‬
‫من‬
‫أ ًّم ا تخلت او أبً ا مش غوال‬ ‫إن اليتيم هو ال ذي تلقى ل ه‬
‫وقد كتبت بعضهن بعض المقترجات في هذا ال بأس من سوقها هنا‪ ،‬فهي من‬
‫فقه البدائل والحلول الشرعية‪ ،‬فمما اقترحته(‪:)1‬‬

‫‪ )(1‬دور المرأة التربوي المأمول والمعوقات‪ ،‬د‪ .‬أف راح بنت علي الحميض ي‪ ،‬مجل ة البي ان‪ :‬الع دد‪،161 :‬ص‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫غربلة المناهج الدراس ية‪ :‬بحيث يك ون الغ رض األساس ي من تل ك الغربل ة‬
‫وإع ادة الص ياغة إعان ة (الم رأة األم) في وظيفته ا داخ ل منزله ا ال ذي يُع د المق ر‬
‫الوظيفي الرئيسي له ا ؛ ال أن يك ون دور المن اهج الدراس ية تهيئ ة الم رأة لتم ارس‬
‫وظيف ة خ ارج الم نزل‪ ،‬وفي حال ة إع ادة التك وين والص ياغة ه ذه ؛ ف إن المن اهج‬
‫ستساهم في دعم دور األب وين في إع داد الفتي ات لالقتن اع أوالً بمهمتهن األولى‪ ،‬ثم‬
‫في التعرف على صور وأنماط عديدة ألصول التربية الس ليمة وطرقه ا‪ ،‬وال تي من‬
‫الممكن االنتق اء منه ا حس ب ع دد من المعطي ات ووفق ا ً للظ روف المواتي ة‪ ،‬وبه ذا‬
‫ستؤدي المناهج الدراسية دورين أساسين‪:‬‬
‫‪ .1‬دوراً إعداديا ً للمرأة للقيام بوظيفتها التربوية‪.‬‬
‫‪ .2‬دوراً مسانداً ؛ حيث ستشكل المناهج معينا ً نافع ا ً تس تمد من ه الم رأة س بالً‬
‫وطرقا ً تربوية ناجحة ونافعة‪.‬‬
‫اإلعالم‪ :‬نظراً ألن إعداد المرأة لممارسة وظيفتها التربوية يشكل ثقالً عظيما ً‬
‫في النظ رة الش املة لمص لحة األم ة عموم ا ً ؛ ف إن إع ادة اهتمام ات اإلعالم بتل ك‬
‫المسألة من األهمية بمكان؛ وهو أمر يستلزم قيام جمي ع القن وات اإلعالمي ة ب إبراز‬
‫ذلك الدور والتركيز على ممارسة المرأة دورها بنفسها ؛ فهي وظيفة ال يجوز فيه ا‬
‫التوكيل‪ ،‬ب ل إن تص دي الم رأة ل دورها بنفس ها بوص فها أيض ا ً مربي ة يع د مس لكا ً‬
‫عظيم ا ً في رقي األم ة‪ ،‬ب ل ه و الطري ق األساس ي لتحقي ق آم ال األم ة ثم إع ادة‬
‫صياغتها فعليا ً عبر التربية إلى ن واتج قيِّم ة تض اف إلى رص يد األم ة الحض اري‪،‬‬
‫وألجل ذلك فإن من الضروري أن تضع وسائل اإلعالم ضمن أهدافها تبني المفهوم‬
‫الق ائم على أن رقي األم ة مطلب إس المي حض اري لن يت أتى إال من خالل إع ادة‬
‫تك وين النظري ات التربوي ة وتأسيس ها بم ا يتف ق م ع األص ول والمص ادر الس ليمة‬
‫التربوية المعتمدة على المصادر اإلس المية‪ ،‬وأيض ا ً من خالل إع داد الك وادر ال تي‬
‫تستطيع ترجمة تلك النظريات إلى واقع ؛ أي العناي ة والتش جيع إلع داد الم رأة األم‬
‫المربية ال تي تمتص م ا يجب أن تفعل ه لتعي د تكوين ه رحيق ا ً تربوي ا ً ي داوي ج راح‬
‫األمة‪.‬‬
‫تبني مسؤولية التربية‪ :‬ال تس تطيع الم رأة أن ت ؤدي دوره ا ال تربوي م ا لم‬
‫تتبن تل ك القض ية وج دانيا ً من خالل حمله ا له ّم التربي ة‪ ،‬ويقينه ا الت ام ب دورها في‬ ‫َّ‬
‫إعداد الفرد‪ ،‬وانعكاس ذلك على ص الحه وص الح األم ة‪ ،‬ثم س عيها ال دؤوب نح و‬
‫تزويد من تعول تربويا ً بما صح وتأكد من مغانم تربوية كس بتها من خالل م ا نالت ه‬
‫في رقيه ا ال تربوي اإلس المي‪ ،‬ويت أتى ذل ك عن طري ق دعم حص يلتها العلمي ة‬
‫الشرعية ؛ إذ إن جزءاً من مهامها التربوية يعنى بتشكيل عقي دة األبن اء ومراقبته ا‪،‬‬
‫وتعديل أي خلل يطرأ عليها‪.‬‬
‫الخادم‬
‫س بق أن ذكرن ا في (الحق وق المادي ة للزوج ة) أن أك ثر الفقه اء نص وا على‬
‫‪.134‬‬

‫‪123‬‬
‫اعتبار الخادم حقا من حقوق الزوجة على زوجها‪ ،‬وقد رجحنا ـ هناك ـ عدم اعتبار‬
‫الخادم حقا من حق وق الزوج ة لـ (ع دم ورود أي دلي ل ص ريح في وج وب إخ دام‬
‫الرجل لزوجته‪ ،‬وال دليل يدل عليه من المصالح الشرعية‪ ،‬بل هو من الرفاهية التي‬
‫قد يحسن بها الرجل إلى زوجته‪ ،‬وتكون مستحبة بذلك‪ ،‬وقد يكون من ال ترف ال ذي‬
‫تضيع بموجبه الحقوق وتقع الحرمات فيحرم بسبب ذلك)‬
‫وقد رجحنا ـ من الوجهة الواقعية ـ أن (ما نراه ربما يوجه القول إلى الحرم ة‬
‫أك ثر من توجيه ه لالس تحباب‪ ،‬فالخ ادم ته ان‪ ،‬وق د يس تعلى عليه ا‪ ،‬وق د تتهم في‬
‫عرضها‪ ،‬والزوجة تتربع في بيتها‪ ،‬كسلطانة على عرشها‪ ،‬تأمر وتنهى‪ ،‬وال تنشغل‬
‫بغير زينته ا‪ ،‬وبغ ير أخالق ال ترف ال تي زاد فيه ا اس تخدامها للخ دم‪ ،‬فهي رعن اء‬
‫كسول مستعلية متكبرة‪ ..‬وقد ترمي بأوالدها إلى الخادم تطعمهم‪ ،‬وتسقيهم‪ ،‬وتربيهم‬
‫كما تشاء‪ ،‬فال يعرف ون إذا ش بوا أم ا لهم غ ير الخ ادم‪ ،‬أم ا أمهم فهي منش غلة عنهم‬
‫بنفسها أو ترفها)‬
‫ونحن ال نتراجع عن ذلك الترجيح هنا‪ ،‬وإنما نريد تأكي ده باألخط ار الكب يرة‬
‫التي يجرها الخدم على أوالد المسلمين‪ ،‬وسنفسح المج ال للدراس ات واإلحص ائيات‬
‫لتثبت ذلك وتؤكد ما رأيناه من ترجيح‪.‬‬
‫وسنذكر هنا آثار الخدم سواء على ما ذكرنا من أبع اد التربي ة أو أس اليبها أو‬
‫على الحقوق النفسية للطفل‪:‬‬
‫فللخدم ـ على حسب ما نرى في الواقع‪ ،‬وعلى حسب م ا ت دل اإلحص ائيات ـ‬
‫تأثير كبير على األبعاد التي جاء الشرع لترسيخها في نفس النشء المؤمن الصالح‪،‬‬
‫وكأمثلة على ذلك‪:‬‬
‫على التربي ة اإليماني ة‪ :‬أفادت إح دى الدراس ات الميداني ة في إح دى ال دول‬
‫الخليجية أن (‪ )%75 - 60‬غير مسلمات‪ ،‬وأن (‪ )%97.5‬منهن يمارسن طقوسهن‬
‫الدينية‪ ،‬ونسبة كبيرة منهن وثنيات‪ ،‬كم ا أن (‪ )%50‬منهن يقمن باإلش راف الكام ل‬
‫على األطفال وأن (‪ )%25‬منهن يكلمن األوالد في قضايا الدين والعقيدة‪.‬‬
‫فكيف يتسنى للطفل أن يتربى تربية إيمانية سليمة وقوية‪ ،‬وهو يتعرض له ذه‬
‫الزوابع العظيمة من دواعي االنحراف؟‬
‫على التربي ة األخالقي ة‪ :‬أثبتت الدراس ات الميداني ة أن (‪ )%58.6‬من‬
‫الخادمات (المربيات) جئن من مجتمعات تحبذ إقامة العالقات الجنسية قبل ال زواج‪،‬‬
‫فال يتورعن عن االختالط بالرجال‪ ،‬وال م انع ل ديهن من تن اول الخم ر والس جائر‪،‬‬
‫واألغ رب من ذل ك أن (‪ )%68.3‬منهن ال تزي د أعم ارهن عن العش رين‪ ،‬و(‬
‫‪ )%42.4‬منهن لم يسبق له الزواج‪.‬‬
‫وفي دراسة أُخرى دلّت على أن (‪ )%58.6‬منهن يحبذن ممارسة الجنس قبل‬
‫ال زواج‪ ،‬و(‪ )%36.2‬منهن جئن من مجتمع ات تتن اول أطعم ة محرم ة‪ ،‬و(‪)%43‬‬
‫منهن جئن من مجتمعات تتناول الخم ور بص ورة عادي ة‪ ،‬و(‪ )%14‬منهن يس تقبلن‬
‫أص دقائهن (الرج ال) في ال بيوت ال تي يعملن به ا و(‪ )%51.18‬منهن يش رحن‬

‫‪124‬‬
‫ألطفالهن عن حياة األطفال في مجتمعاتهن‪.‬‬
‫على البعد المعرفي‪ :‬فالمربية أتت من مجتمع ات مختلف ة في ثقافته ا ولغته ا‪،‬‬
‫وهي نفسها قد تكون ض ائعة بين ثق افتين‪ ،‬ح ائرة بين نظ امين‪ ،‬فال هي تجي د اللغ ة‬
‫العربية حتى تنق ل ثقافتن ا العربي ة اإلس المية للطف ل‪ ،‬وال هي تس تطيع نق ل ثقافته ا‬
‫األجنبية والنتيجة عزلة عن ثقافته‪.‬‬
‫وال شك أن الخادمات والمربيات يحاولن تنشئة األبناء حس ب قناع اتهم‪ ،‬فهي‬
‫إن كانت مثقفة ‪ -‬كما هو الحال في األسر الغنية ‪ -‬فإنها ت ؤثر في األطف ال أك ثر من‬
‫والديهم إلنشغال الوالدين وتخليهما عن مهم ة التربي ة للخادم ة (المربي ة)‪ ،‬ب دعوى‬
‫أنها مثقف ة ومتخصص ة في التربي ة‪ ،‬كم ا أن له ؤالء المربي ات ‪ -‬في تل ك األس ر ‪-‬‬
‫مقدرة على اإلقناع والتأثير على الوالدين‪ ،‬فضالً عن األبناء‪.‬‬
‫وبالتالي تنقل عدوى المفاهيم غير اإلس المية إلى ال بيوت المس لمة‪ ،‬فالمربي ة‬
‫هي ال تي تخت ار مالبس األطف ال وبخاص ة البن ات‪ ،‬وهي ال تي ت ؤثر عليهن في‬
‫نظرتهن إلى الحجاب واألزياء‪ ،‬وغير ذلك من اآلداب واألخالق‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإن لها تأثيرها الخطير على اللغة‪ ،‬فمن المعل وم أن المربي ة‬
‫تالزم الطف ل في مرحل ة نم وه األولى وال تي يكتس ب فيه ا اللغ ة‪ ،‬ومن الب ديهي أن‬
‫الطف ل يلتق ط منه ا م ا يس معه من ألف اظ‪ ،‬فيه ا من العربي ة الركيك ة‪ ،‬واإلنجليزي ة‬
‫الركيكة‪ ،‬واألوردو وغ ير ذل ك‪ ،‬مم ا يعت بر ح اج ًزا يع وّق نم و الطف ل اللغ وي‪ ،‬إذ‬
‫يضطر إلى محاكاتها‪.‬‬
‫وق د دلّت الدراس ات على أن (‪ )%8‬من مجموع ة المربي ات في بعض دول‬
‫الخليج لهن إلمام باللغة العربي ة‪ ،‬وفي بعض ال دول األخ رى (‪ )%6.2‬فق ط‪ ،‬وأن (‬
‫‪ )%25‬من أطفال األس ر الغني ة يقل دون المربي ات في اللهج ة‪ ،‬وأك ثر من (‪)%40‬‬
‫منهم تشوب لغتهم لغة أجنبية‪ ،‬ويتعرضون لمضايقات من أقرانهم بسبب ذلك‪.‬‬
‫على أس اليب التربي ة الش رعية‪ :‬ذكرن ا في الج زء الس ابق أهمي ة األس اليب‬
‫التربوي ة الص حيحة في التنش ئة الس ليمة لألوالد‪ ،‬فهي ركن من أرك ان التربي ة ال‬
‫يستغنى عنه‪ ،‬وقد ذكرنا الكثير من األمور التي قد تس يء إلى تربي ة الطف ل‪ ،‬وال تي‬
‫نرى الخدم منبعا من منابعها‪ ،‬وكأمثلة على ذلك مما تدل عليه الدراسات‪:‬‬
‫القدوة السيئة‪ :‬فالطفل مولع بتقليد من ي راه ‪ -‬م ع ض عفه واعتم اده على من‬
‫حول ه ‪ -‬من الكب ار‪ ،‬وم ع م ا ذكرن اه من أح وال ه ؤالء الخ دم‪ ،‬ه ل س تناط بهم‬
‫مسؤولية تربية وإعداد جيل المس تقبل؟ ومن يك ون الق دوة لهم في ال بيوت‪ ،‬للتفري ق‬
‫بين الحالل والحرام عند غياب الوالدين ووجود الخادمة؟!‬
‫الجزاء‪ :‬ذلك ألن القيم تُصاغ في نفس الطفل منذ طفولت ه المبك رة‪ ،‬من خالل‬
‫تفاعله مع ما حوله ويتشرب موازين الحكم على األشياء واألفعال‪ ،‬والخ ير والش ر‪،‬‬
‫وم ع م ا ه و مع روف من أح وال الخ دم والمربي ات‪ ،‬ه ل نتوق ع قي ًم ا س وية؟ ف إن‬
‫الخادم ة ق د تك افىء الطف ل على أفعال ه القبيح ة وتعاقب ه على أفعال ه الحس نة‪ ،‬وإذا‬
‫وجدت مؤثرات تربوية إيجابية س وية كالمدرس ة والوال دين والمس جد وغ ير ذل ك‪،‬‬

‫‪125‬‬
‫فإنها معرضة للتشويش والنقض في نفس الطفل بتلك األخرى السلبية‪.‬‬
‫افتقاد القوام ة التربوي ة‪ :‬فالمربية (الخادم ة) ال تي تق وم عن الطف ل بجمي ع‬
‫المهام‪ ،‬وهي مطالبة بأن تبادر إلى خدمته وطاعته في ك ل م ا يري د وي رغب‪ ،‬فهي‬
‫تريد إرضاء الطفل‪ ،‬وال تفكر في لومه أو عقابه ألنها (خادم ة) وحينئ ٍذ ال يس تطيع‬
‫الطفل أن يفرق بين الخير والشر‪ ،‬وبالتالي ال ينمو ضميره ب ل إن ذل ك ينس حب في‬
‫نفس الطف ل وفي س نواته األولى ‪ -‬خاص ة ‪ -‬على مدرس يه ‪ -‬فق د الحظن ا بعض‬
‫األطفال ‪ -‬وبسذاجة وعفوية وبراءة ‪ -‬يتوقع من أُستاذه ما يراه من الخادمة‪.‬‬
‫التدليل السلبي‪ :‬والذي يؤدي إلى االتكالية التي تنتج اإلخف اق والفش ل‪ ،‬حيث‬
‫ال يعتمد الطفل على نفسه‪ ،‬وإنما تقوم عن ه الخادم ة بجمي ع المه ام فينش أ بعي دًا عن‬
‫النشاط‪ ،‬قريبًا من الكسل‪ ،‬ومن وجد كل أمر يُهيأ له دون عناء أنّى له أن يسعى وأن‬
‫يحاول‪ ،‬وبالتالي يتعرض لإلخفاق في أول احتمال له‪.‬‬
‫كم ا ي ؤثر ذل ك على تفاعل ه وانس جامه م ع المجتم ع‪ ،‬حيث لم يت درب على‬
‫تحمل المس ؤولية‪ ،‬ل ذا نج ده عن دما يخ رج من بيت ه ويتعام ل م ع ق وانين المدرس ة‬
‫والمجتمع‪ ،‬سرعان ما يضيق ذرعًا بم ا يواجه ه من مواق ف‪ ،‬أو م ا يطلب من ه من‬
‫تكليفات‪.‬‬
‫على الحق وق النفس ية‪ :‬فالمربي ة (الخادم ة) غ ير مؤهل ة إلش باع عاطف ة‬
‫األمومة عند األطفال‪ ،‬فالعواطف ال تدخل ضمن وظيفة المربية‪ ،‬وإنما تفيض تلقائيًا‬
‫من قلب األم إلى أبنائها‪ ،‬والنتجية أن ينشأ الطف ل في حي اة ينقص ها الحب والعط ف‬
‫فتتولد عنده الميول العدوانية‪.‬‬
‫كما أن وجود المربية يُضعف عالقة الطفل بوالديه‪ ،‬فإن عاطفة الطفل ت وزع‬
‫على من يرعاه ويُحسن إليه‪.‬‬
‫وللطفل حاج ات في أن يك ون موض ع تق دير ومحب ة اآلخ رين‪ ،‬وأن يب ادلهم‬
‫نفس المشاعر واالنفعاالت‪ ،‬والخادمة غ ير مؤهل ة ل ذلك‪ .‬فمن يس تطيع أن يجبره ا‬
‫على أن تكون سعيدة ومبتسمة دائ ًما في وجهه‪ ،‬كما ه و ش أن األم م ع أبنائه ا‪ ،‬ومن‬
‫الذي يطالبها أن تتكلف ما ال تستطيع‪ ،‬وهي البعيدة عن أسرتها وموطنها‪ ،‬تفتقر إلى‬
‫األمن النفسي‪ ،‬وفاقد الشيء ال يعطيه‪.‬‬
‫وبسبب هذه اآلثار السلبية السيئة التي يفرزها هذا المرض ال داخلي العُض ال‬
‫على المجتم ع الخليجي‪ ،‬خاص ة‪ ،‬س ارع مكتب التربي ة الع ربي ل دول الخليج إلى‬
‫توجي ه كت اب إلى مجلس وزراء العم ل والش ؤون االجتماعي ة في ال دول العربي ة‬
‫الخليجية في دورته الرابعة بالرياض (يناير ‪1982‬م) والذي نظم بدوره ندوة علمية‬
‫حول أثر المربيات األجنبيات على تقاليد األسرة المسلمة في منطقة الخليج‪ ،‬ناقش ت‬
‫المخ اطر الناجم ة عن اآلث ار االجتماعي ة والديني ة والثقافي ة والتربوي ة للمربي ات‬
‫األجنبيات على المجتمع اإلسالمي‪.‬‬
‫المحيط التربوي‬
‫ونريد به المحيط الذي يتلقى فيه الول د تعليم ه‪ ،‬وبالت الي يتلقى تربيت ه‪ ،‬فلك ل‬

‫‪126‬‬
‫طرف من األطراف المكونة لذلك المحيط تأثيره التربوي الخطير‪ ،‬ولن نتحدث هن ا‬
‫ـ كما سلف الذكر ـ عن إيجابيات هذا المحيط أو ما ينبغي حوله‪ ،‬فقد خصصنا ل ذلك‬
‫فصال خاصا‪ ،‬وإنما نريد أن نتحدث عما يمكن أن يتعرض له الولد في ه ذا المحي ط‬
‫من م ؤثرات س لبية يتحتم على الق ائمين المص لحين أن يقوموه ا‪ ،‬وأول التق ويم‬
‫الوقاية‪.‬‬
‫فمع أن المناهج الحديثة ال تخل و من اإليجابي ات إال أن هن اك س لبيات كث يرة‬
‫يتعين على الم ربي أن يتع رف عليه ا ليقي من يربي ه من نتائجه ا‪ ،‬ونحن من خالل‬
‫استعراض هذه اآلثار والنتائج ـ كما ينص عليها المختصون ـ ال نقول بمقاطعة ه ذه‬
‫المناهج وال ننصح به‪ ،‬وال نرى صحة فتوى من يفتي بذلك‪ ،‬بل نرى أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬السعي الدؤوب لتغيير هذه المن اهج لتتواف ق م ع الش ريعة اإلس المية‪،‬‬
‫وذل ك بالتخطي ط طوي ل الم دى‪ ،‬لنواج ه تخطي ط غيرن ا‪ ،‬وه ذا التخطي ط يس تدعي‬
‫حضورنا في هذه المناهج‪ ،‬بل تفوقنا فيها‪ ،‬ال غيابنا‪ ،‬بل إن اآلث ار الخط يرة لغيابن ا‬
‫هي التي أفرزت هذا الواقع‪.‬‬
‫الث اني‪ :‬ه و وض ع المن اهج البديل ة لمقاوم ة س لبيات ه ذه المن اهج‪ ،‬وال تي‬
‫سنوضح تصرورنا لها في محلها الخاص من الفصل الخاص بالبعد التعليمي‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وسائل اإلعالم‬
‫وهي من األهمي ة والتغلغ ل في المجتم ع والت أثير بحيث يمكن اعتباره ا‬
‫موازية لما سبق من مؤثرات‪ ،‬فلذلك خصصناها بمطلب خ اص‪ ،‬وال ذي من خالل ه‬
‫نحاول أن نبين كيفية الوقاي ة من آث ار وس ائل اإلعالم(‪ ،)1‬وكيفي ة اإلف ادة منه ا من‬
‫جهة أخرى باعتبار اإلعالم في العصر الحالي أصبح من أخطر األدوات ـ س لبا أو‬
‫إيجابا ـ فقد تط ورت وس ائل اإلعالم ومض امينه تط ورا كب يرا مس تغلة التط ورات‬
‫التقني ة المتس ارعة ح تى وص لت إلى م ا نعرف ه من التلف از واإلذاع ة والص حافة‬
‫واإلنترنت وغيرها‪.‬‬
‫فاإلعالم ـ في هذه الوس ائل جميع ا ـ يخ اطب كاف ة ش رائح المجتم ع‪ ،‬ومنهم‬
‫األطف ال‪ ،‬والطف ل ‪ -‬وه و المس تقبل لوس يلة اإلعالم‪ -‬عنص ر غض ط ري س هل‬
‫التشرب لما ينقل إليه‪ ،‬فصفحته البيضاء قابلة لإلشباع بأي شيء يقدم له‪.‬‬
‫وتأثر الطفل بالوسيلة اإلعالمية أعظم وأشد من الكبير‪ ،‬فالكبير يفكر وي درك‬
‫ويميز ويختار ويرفض‪ ،‬أما الصغيرفيفتقد الكثير من القدرة على ال رفض ب ل ح تى‬
‫عندما يربى على رفض بعض المواد اإلعالمية فإنه سرعان م ا يع ود إليه ا عن دما‬
‫يغيب الموج ه والمس ؤول عن ه‪ ،‬وليس األم ر عن ادا إال أن ه يحس ن الظن بك ل م ا‬
‫يعرض عليه من الجانب اآلخر كما يفتقد القدرة على الرفض المطلق ويض عف عن‬
‫االختيار والتمييز‪.‬‬
‫لذلك كان الطفل ه دفا رئيس ا لكث ير من األنظم ة حيث ي ربى الطف ل ويوج ه‬
‫‪ )(1‬عرف اإلعالم بأنه عملية نقل المعلومات من المرسل صاحب الرس الة إلى المس تقبل المع ني به ا متض منة‬
‫الوسيلة المستخدمة والمضمون داخلها واإلعالم‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫ألهداف سيئة بجهود إعالمية وتوجيهية متأنية وتكبر مع ه ه ذه الوس ائل اإلعالمي ة‬
‫لدرجة أنها تصبح جزءا من شخصيته عندما ينضج(‪.)1‬‬
‫انطالقا من هذا سنذكر هنا أهم هذه الوسائل اإلعالمية‪ ،‬مركزين على ما فيها‬
‫من سلبيات بغية التنبي ه إلى مخاطره ا‪ ،‬معتق دين في نفس ال وقت أنه ا من الوس ائل‬
‫ال تي يمكن االس تفادة منه ا إن أحس ن الم ربي كي ف يس تثمرها‪ ،‬خاص ة م ع دخ ول‬
‫اإلعالم اإلسالمي هذه الوسائل‪.‬‬
‫فمن اإليجابيات المتعلقة بالطفل على سبيل المثال ال الحصر(‪:)2‬‬
‫تنمية الجانب المعرفي للطفل‪ :‬حيث تقوم وسائل اإلعالم بمهمة التعليم س واء‬
‫أكان ذلك بش كل مباش ر أو غ ير مباش ر وتك ون مرتبط ة بم ا يق دم خالل المدرس ة‬
‫وأحيانا تقدم مواد تعليمية لطفل ما قبل المدرسة‪.‬‬
‫تنمي ة وص قل مه ارات الطف ل‪ :‬حيث تع نى الكث ير من ه ذه الوس ائل بتنمي ة‬
‫المهارات سواء ما تعلق منها بالعمل اليدوي‪ ،‬أو ما تعلق بالقدرات الذهنية والعقلية‪،‬‬
‫ومع ذلك فقد تكون هذه المهارات إيجابية ضمن أهدافها مثل التجارب العلمي ة‪ ،‬وق د‬
‫تكون سلبية مثل سلوكيات المجرمين وحيلهم التي تعرض في القص ص على س بيل‬
‫المثال‪.‬‬
‫االرتباط بالمجتمع‪ :‬حيث يربط اإلعالم الطفل بمحيطه وبيئته وييسر له س بل‬
‫التواصل معه بشكل سهل وفعال ويحبب له الجماعية في العمل ويؤك د ل ه ارتباط ه‬
‫بقيم المجتمع وأخالقه وسلوكه وقبل ذلك دينه وشريعته إذا كانت الوسيلة اإلعالمي ة‬
‫تعتني بهذه المواضيع وتجعلها ضمن أهدافها وقد يك ون األث ر عكس ذل ك تمام ا إذا‬
‫كانت الوسائل اإلعالمية ال تقيم اعتبارا للقيم واألخالق والدين‪.‬‬
‫الترويح‪ :‬وهذا األمر ليس ترفا أو رفاهية بل واق ع ويس د حاج ة ل دى الطف ل‬
‫لكن الب د أن يتناس ب م ع س ن الطف ل وقدرات ه وبيئت ه وال يتع ارض م ع واجبات ه‬
‫األخرى ومسؤولياته‪.‬‬
‫بعد هذه األمثلة عن بعض من افع وس ائل اإلعالم نع رج إلى بعض الس لبيات‬
‫لتوقيها‪ ،‬وقد اخترنا لذلك ثالث وسائل إعالمية‪ ،‬هي أهم الوسائل وأكثره ا انتش ارا‪،‬‬
‫وهي التلفزيون‪ ،‬والمجلة‪ ،‬واإلنترنت‪.‬‬
‫التلفزيون‬
‫وهو من أهم وسائل اإلعالم وأكثرها انتشارا‪ ،‬بحيث ال يكاد يخل و بيت من ه‪،‬‬
‫بل من كل األجهزة المرتبطة به‪ ،‬والتي تتيح استقبال قنوات الع الم أجم ع‪ ،‬وقب ل أن‬
‫تحدث عن السلبيات التي ينبغي على المربي حماية من يربي ه عنه ا‪ ،‬ن ذكر ـ لل ذين‬
‫يتصورون أن مجرد رمي هذه الوسيلة بالسلبية تحجر ممقوت ـ بعض أق وال عقالء‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مشروع مجلة رائدة للطفل‪ ،‬للدكتور مالك إبراهيم األحمد‪.‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مشروع مجلة رائدة للطفل‪ ،‬للدكتور مالك إبراهيم األحمد‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫الغرب‪ ،‬ممن رأى خطورة هذه الجهزة على إنسانية اإلنسان(‪.)1‬‬
‫يقول يوري ديو زيكوف وهو أخصائي اجتماعي‪(:‬إدمان مشاهدة التلفاز وباء‬
‫حسِّية)(‪)2‬‬‫سيكولوجي جديد يعم كوكبنا ؛ إنه إذ يسلِّينا يلوث طبيعتنا السيكولوجية وال ِ‬
‫وذهب الكاتب األم ريكي (ج يري مان در) في كتاب ه (أرب ع مناقش ات إللغ اء‬
‫التلفزي ون) ال ذي أودع ه خالص ة تجربت ه في حق ل اإلعالم إلى الق ول‪(:‬ربم ا ال‬
‫نس تطيع أن نفع ل أي ش يء ض د الهندس ة الوراثي ة والقناب ل النيوتروني ة‪ ،‬ولكنن ا‬
‫نس تطيع أن نق ول (ال) للتلفزي ون ونس تطيع أن نلقي بأجهزتن ا في مقلب الزبال ة ؛‬
‫حيث يجب أن تكون‪ ،‬وال يستطيع خبراء التلفزيون تغيير ما يمكن أن يخلفه الجه از‬
‫من تأثيرات على مشاهديه‪ ،‬هذه التأثيرات الواقعة على الجسد والعقل ال تنفصل عن‬
‫تجربة المشاهدة)(‪)3‬‬
‫وأضاف‪(:‬إنني ال أتخيل إال عَالَم ا ً مليئ ا ً بالفائ دة عن دما أتخي ل عَالَم ا ً ب دون‬
‫تلفزيون‪ ،‬إن ما نفقده سيعوض عنه أكثر بواسطة احتكاك بشري أكبر‪ ،‬وبعث جدي د‬
‫للبحث والنشاط الذاتي)(‪)4‬‬
‫أما السياسيون‪ ،‬فقد ناشد (هيلم وت ش ميت) مستش ار ألماني ا الغربي ة الس ابق‬
‫(اآلب اء واألمه ات أن يغلق وا أجه زة التلفزي ون على األق ل يوم ا ً واح داً خالل‬
‫األسبوع)‪ ،‬وقد رفض رئيس جمهورية فنزويال أن يسمح بإدخال التلفزي ون المل ون‬
‫إلى بالده‪ ،‬زاعما ً أنه سيكون دافعا ً جديداً لزيادة الروح االستهالكية المحقونة)(‪)5‬‬
‫وحكى األستاذ مروان كجك أن صديقا ً له زار أستاذه الجامعي في بيته وك ان‬
‫هذا األستاذ نصرانياً‪ ،‬فالحظ األخ أنه ليس لدى أستاذه تلفزيون فسأله عن سبب ذلك‬
‫فأجاب‪(:‬أأنا مجنون حتى آتي إلى بيتي بمن يشاركني في تربية أبنائي؟)(‪)6‬‬
‫بعد هذه الشهادات‪ ،‬فإن من أهم اآلثار الخطيرة لهذا الجهاز‪:‬‬
‫التغريب‪ :‬وهو من أعظم األخطار‪ ،‬ألنه ال يتعلق بالسلوك وحده‪ ،‬وإنما يتعلق‬
‫بالحياة جميعا‪ ،‬حيث أنه يشيع نمطية معينة من الحياة بفكره ا وس لوكها هي نمطي ة‬
‫اإلنسان الغربي‪ ،‬باعتباره المصدر األول للمواد اإلعالمية‪.‬‬
‫وفي دراسة أجراها اليونسكو تذكر‪(:‬إن إدخال وسائل إعالم جديدة وخاص ة‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬األسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون‪ ،‬بص مات على ول دي‪ ،‬التلفزي ون بين اله دم والبن اء‪ ،‬س موم‬
‫على الهواء‪ ،‬فري د الت وني ؛ اإلنس ان حي وان تلفزي وني‪ ،‬البث المباش ر حق ائق وأرق ام‪ ،‬د ناص ر العم ر ؛ التلفزي ون‬
‫وحكمه في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬الشيخ عبد هللا بن حميد‪.‬‬
‫وانظر‪ :‬محمد بن أحمد إسماعيل‪ ،‬ماذا تعرف عن‪ :‬العجل الفضي‪ ،‬أعدها للنش ر‪:‬إس الم دعدوش ة‪ ،‬مجل ة البي ان‪:‬‬
‫‪ ،143‬ص‪.70:‬‬
‫‪ )(2‬بص مات على ول دي‪ ،‬ص‪ 6‬نقال عن جري دة األنب اء الكويتي ة‪ ،‬بت اريخ‪7/198/ 13‬م‪ ،‬مق ال ح ول ت أثير‬
‫التلفزيون على األسرة‪.‬‬
‫‪ )(3‬األسرة المسلمة‪ ،‬ص ‪.252‬‬
‫‪ )(4‬أربع مناقشات إللغاء التلفزيون ص ‪ 346‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ )(5‬انظر اإلعالم اإلذاعي والتلفزيوني ص ‪.238‬‬
‫‪ )(6‬أربع مناقشات إللغاء التلفزيون‪ ،‬ص‪ ،348‬بتصرف‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫التلفزيون في المجتمعات التقليدية أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين‪،‬‬
‫وممارسات حضارية كرسها الزمن)(‪)1‬‬
‫وفي تعليقه على دخول البث المباشر إلى ت ونس ق ال األس تاذ فهمي هوي دي‪:‬‬
‫(خرج االستعمار من شوارع تونس عام ‪1956‬م ولكنه رج ع إليه ا ع ام ‪1989‬م لم‬
‫يرج ع إلى األس واق فق ط‪ ،‬ولكن ه رج ع ليش اركنا الس كن في بيوتن ا‪ ،‬والخل وة في‬
‫غرفنا‪ ،‬والمبيت في أ ِسرَّة نومن ا‪ .‬رج ع ليقض ي على ال دين واللغ ة واألخالق‪ ،‬ك ان‬
‫يقيم بيننا بالكره‪ ،‬ولكنه رجع لنستقبله بالحب والترحاب‪ ،‬نتلذذ بمشاهدته‪ ،‬والجلوس‬
‫معه‪ ،‬إنه االستعمار الجديد ال كاستعمار األرض وإنما استعمار القلوب‪ ،‬إنه الخطر‬
‫الذي يهدد األجيال الحاضرة والقادمة‪ ،‬يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيف ات‪،‬‬
‫واآلباء واألمهات)(‪)2‬‬
‫وفي بحث كتب ه ج ون كون دري ح ول التلفزي ون والطف ل األم ريكي أك د أن‬
‫البيئة القيمية للتلفزيون يشوبها الخلل بنفس القدر ال ذي يش وب البيئ ة الفكري ة‪ ،‬ومن‬
‫خالل ما تطرحه اإلعالنات التلفزيونية كانت قيم السيطرة والنفعية واألناقة والتم يز‬
‫االجتماعي من أكثرها ورودًا‪ ،‬وكانت قيم الشجاعة والتسامح من أقلها ورودًا ؛ ه ذا‬
‫باإلضافة إلى تحريف الحقائق والقيم حول الجريمة والعقاب‪.‬‬
‫وفي نهاية البحث يقول جون كوندري‪ :‬إن التلفزيون ال يمكن أن يك ون مفي دًا‬
‫كمصدر للمعلومات لألطفال ؛ بل إن ه يمكن أن يمث ل مص درًا خط رًا للمعلوم ات ؛‬
‫فهو يقدم أفكارًا تتسم بالزيف والبعد عن الواقعية‪ ،‬وهو ال يمل ك نس ق قيم متماس ًكا‪،‬‬
‫بخالف تعميقه للنزعة االستهالكية‪ .‬وهو ال يقدم سوى ق در مح دود من المعلوم ات‬
‫عن الذات‪ ،‬وذلك كله يجعل من التلفزيون أداة رديئة للتكيف االجتماعي)‬
‫وه ذه النمطي ة هي ال تي حطمت‪ ،‬وال زالت تحطم قيم مجتمعاتن ا المحافظ ة‪،‬‬
‫فتنشر الرذيلة‪ ،‬وتقتل الغيرة‪ ،‬فال ريب أن توالي هذه المشاهد المس موعة وتكراره ا‬
‫يجعلها مع الوقت شيئا ً عادي اً‪ ،‬ف ير ِّوض المش ا ِهد على غض الط رف عن الفض ائل‬
‫وقبول الخيانة الزوجية‪ ،‬إلى غير ذلك من األحوال‪.‬‬
‫فلهذا صرنا نرى البسطاء من الناس ص اروا يقبل ون أن يحتض ن رج ل بنت ا ً‬
‫شابة؛ ألنه يمثل دور أبيها! فلم يعودوا يستنكرونه‪ ،‬وتعجب أن ترى ال زوج المس لم‬
‫يجلس مع زوجه وبناته وأبنائه أمام التلفزي ون‪ ،‬وهم ي رون م ا يعرض ه من مش اهد‬
‫إباحية‪ ،‬وتسكر أهله تلك المشاهد‪ ،‬ويلذ لزوجت ه وبنات ه وأبنائ ه ه ذه المن اظر وه و‬
‫قرير العين‪ ،‬يضحك ملء فيه‪ ،‬وينام ملء جفنه‪ ،‬وهكذا تتعود القل وب رؤي ة من اظر‬
‫احتساء الخمور والتدخين‪ ،‬وإتيان الف واحش‪ ،‬والت برج واالختالط‪ ،‬وت ألف النف وس‬
‫هذه األحوال ويكون التطبيع مع المعاصي والكبائر والدياثة(‪.)3‬‬

‫‪ )(1‬البث المباشر‪ ،‬ص‪ 73‬نقال عن أصوات متعددة‪ ،‬ص ‪.338‬‬


‫‪ )(2‬نقال عن األهرام‪27/6/1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ )(3‬بصمات على ولدي‪ ،‬ص‪.11‬‬

‫‪130‬‬
‫أم ا على مس توى العقي دة والفك ر‪ ،‬فمن خالل س يطرة الس وق األمريكي ة‬
‫والياباني ة على مسلس الت وأفالم الص غار ن رى انعك اس االعتق اد في ق وة الش مس‬
‫والطبيعة والصليب وغيرها ؛ ب ل إن المسلس ل يتض من أحيانً ا أك ثر من رب‪ ،‬ه ذا‬
‫باإلضافة إلى تشويه مسيرة اإلسالم وقيمه من خالل المواد المعروضة‪.‬‬
‫أم ا على مس توى المث ل العلي ا لإلنس ان‪ ،‬ف إن ه ذه المث ل أص بحت ال تع دوا‬
‫اإلنسان الغربي او من يلهث خلفه‪ ،‬يقول الكاتب محم د عب د هللا الس مان مش يراً إلى‬
‫حلقة تلفزيونية استضيف فيها بعض طلبة مدرسة معروفة للمتفوقين يق ول الك اتب‪:‬‬
‫(كان المتوقع أن تكون الحلقة إلى آخر دقيقة فيها من الحلقات الجادة التي يتلقى منها‬
‫سائر الطلبة دروسا ً في التفوق‪ .‬وسأل مقدم البرنامج الطلب ة واح داً واح داً عن مثل ه‬
‫األعلى في الحياة‪ ،‬وكانت اإلجابات مذهلة ؛ فالمثل األعلى لدى الطلبة المتفوقين هم‬
‫على الترتيب ولست أدري أهو ترتيب تصاعدي أم تنازلي؟‪ :‬عبد الحليم حافظ‪ ،‬بليغ‬
‫حم دي‪ ،‬ن زار قب اني‪ ،‬محم د عب د الوه اب‪ ،‬أنيس منص ور‪ .‬قلت تعقيب ا ً على ه ذه‬
‫اإلجابات‪ :‬لم أكن أنتظر من هؤالء المتفوقين أن يقولوا‪ :‬إن مثلنا األعلى هو أبو بكر‬
‫أو عم ر أو علي أو خال د بن الولي د‪ ،‬ب ل كنت أتوق ع أن يق ول واح د منهم‪ :‬إن مثلي‬
‫األعلى هو‪ :‬أبي)(‪)1‬‬
‫االنحراف الخلقي‪ :‬وقد رأينا أن الشريعة ح رمت ك ل الوس ائل المفض ية إلى‬
‫االنحراف مهم ا اختلفت ألوان ه‪ ،‬والتلفزي ون من أعظم وس ائل االنح راف بمختل ف‬
‫أنواعه‪.‬‬
‫كاالنحراف اإلجرامي مثال حيث توصلت الدراسات التحليلية إلى (أن التلف از‬
‫بما يعرضه من أفالم ومناظر إجرامية أو انحاللية(‪ )2‬ق د ي ؤدي إلى انح راف كث ير‬
‫من النشء عن طريق ما تخلفه من خياالت يعيش ها‪ ،‬كم ا ت بين من مجموع ة ذك ور‬
‫منح رفين ق د تن اولتهم تل ك الدراس ة أن أح د األفالم أث ارت فيهم الرغب ة في حم ل‬
‫الس الح‪ ،‬وعلمتهم كيفي ة ارتك اب الس رقات وتض ليل الب وليس‪ ،‬وش جعتهم على‬
‫المخاطرة بارتكاب الجرائم)(‪)3‬‬
‫وفي والية ميامي هاجم اثنان من الفتيان الصغار امرأة فضرباها على رأسها‬
‫بمؤخرة المسدس‪ ،‬وما إن أغمي عليها حتى قاما بركلها بأرجلهما تماما ً مثلما شاهدا‬
‫في األفالم البوليسية(‪)4‬‬
‫وفي واشنطن قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه علي ه وه و‬
‫نائم‪ ،‬ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه‪ ،‬وكان عمر‬

‫‪ )(1‬األسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون ص ‪ 271‬ـ ‪.272‬‬


‫‪ )(2‬راجع كتاب‪ :‬األسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزي ون‪ ،‬ص ‪ 134‬لبي ان أث ر مش اهد العن ف والجريم ة ال تي‬
‫يعرضها التلفاز على الشباب‪.‬‬
‫‪ )(3‬راج ع‪ :‬اإلعالم اإلذاعي والتلفزي وني‪ ،‬ص‪ 32‬حيث يق ول د س تيفن بان ا ح بيب بجامع ة كولومبي ا‪ :‬إذاك ان‬
‫السجن هو جامعة الجريمة‪ ،‬فإن التلفزيون هو المدرسة اإلعدادية النحراف األحداث‪.‬‬
‫‪ )(4‬اإلسالم في مواجهة الجاهلية‪ ،‬ص‪.190 189‬‬

‫‪131‬‬
‫هذا الصغير ست سنوات(‪.)1‬‬
‫وكيف ال يحصل هذا‪ ،‬وقد أحصت إح دى المجالت الفرنس ية مش اهد العن ف‬
‫التي رآها المشاهدون خالل أسبوع واحد من شهر أكت وبر ‪ ،1988‬فك انت كالت الي‪:‬‬
‫‪ 670‬جريم ة قت ل‪ 15 ،‬حال ة اغتص اب‪ 848 ،‬مش اجرة‪ 419 ،‬حال ة تراش ق‬
‫بالرصاص أو انفجار‪ 14 ،‬حال ة خط ف أو س رقة‪ 32 ،‬حال ة احتج از ره ائن‪27 ،‬‬
‫مش هد تع ذيب‪ ،‬عل ًم ا أن ه لم يؤخ ذ بالحس بان مش اهد العن ف النفس ي أو اللفظي أو‬
‫اإليجابي‪.‬‬
‫والدراسات الغربية كافة تؤك د أن ال ذين يقوم ون باألعم ال العدواني ة هم من‬
‫الم دمنين على مش اهدة ب رامج التلفزي ون العنيف ة ؛ وق د أثبت باحث ان أمريكي ان أن‬
‫معدل انتحار المراهقين ازداد بنسبة ‪ %13.5‬ل دى الفتي ات و‪ %5.2‬ل دى الص بيان‬
‫خالل األي ام ال تي تعقب اإلش ارة أو اإلعالن عن وق وع حال ة انتح ار في األخب ار‬
‫المصورة أو في أحد األفالم‪.‬‬
‫أما االنحراف الجنسي‪ ،‬فحدث وال ح رج‪ ،‬فكث ير من األطف ال في بداي ة س ن‬
‫المراهق ة أو قبله ا بقلي ل يش اهدون التلفزي ون على أن ه مص در للمعلوم ات ح ول‬
‫الس لوك الجنس ي ؛ وه و يص ور الجنس على نح و زائ ف ومح رف‪ ،‬وعلى وج ه‬
‫حيواني ال يراعي قي ًما وال ُمثالً وال آدابًا‪.‬‬
‫وهو لذلك أعظم وسيلة لقتل الحياء الذي قال فيه ‪(:‬إن مما أدرك الناس من‬
‫كالم النبوة األولى‪ ،‬إذا لم تستح فاصنع ما ش ئت)(‪ ،)2‬فمن أخط ر مفاس د التلفزي ون‬
‫هو القضاء على ذلك الخلق الفطري األصيل‪.‬‬
‫أخطاره على الصحة النفسية‪ :‬تكاد الدراسات العلمي ة ال تي أج ريت لدراس ة‬
‫آثار التلفاز على الصحة النفسية تجمع على ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬أن ه ي درب مش اهديه على الكس ل ال ذهني‪ ،‬ويش يع فيهم روح الس لبية‪،‬‬
‫ويجعلهم إ َّمعات يميلون م ع ال ريح حيث م الت‪ ،‬وأن ه ينفث في روعهم روح (ع دم‬
‫المسؤولية) واالستسالم‪ ،‬واالنهزامية‪ ،‬ويصرفهم عن معالي األم ور‪ ،‬ويش غلهم عن‬
‫األهداف السامية‪ ،‬ويزيد رقعة الخواء الفكري في نفوسهم(‪.)3‬‬
‫‪ .2‬أنه يولد الغلظة في المش اعر‪ ،‬والبالدة في الحس‪ ،‬كم ا ت ؤثر المسلس الت‬
‫البوليسية ومشاهد العنف والقتل على نفسية األطفال(‪.)4‬‬
‫‪ .3‬أنه يظهر للصغار أن الكبار يحيون حياة حافلة بالصراع والتنافس فيش وه‬
‫مفاهيمهم مبكراً‪.‬‬
‫‪ .4‬التعود على الضجيج والصخب الذي يض ر بحاس ة الس مع فيس بب كث يراً‬

‫‪ )(1‬اإلسالم في مواجهة الجاهلية‪ ،‬ص‪.185‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد والبخاري وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر األسرة المسلمة‪ ،‬ص‪113‬ـ ‪.114‬‬
‫‪ )(4‬انظر بصمات على ولدي ص ‪23‬ـ ‪.24‬‬

‫‪132‬‬
‫من حاالت الصداع واالضطرابات العصبية والتوتر‪.‬‬
‫‪ .5‬تعلق قلب الشباب المراهقين بمذيع ة أو ممثل ة أو مغني ة حس ناء‪ ،‬وابتالؤه‬
‫بمعصية العشق الذي يتلف الدنيا والدين‪ ،‬واألخطار نفسها يخشى منها على الفتي ات‬
‫الالئي هن أضعف قلوبا ً وأسرع استجابة لداعية الهوى‪.‬‬
‫المجالت‬
‫وهي من وسائل اإلعالم التي لها أهميتها الكبرى في التثقيف والتوعية‪ ،‬وله ا‬
‫خطورتها كذلك على السلوك األخالقي‪ ،‬أو القيم التي لها أثرها الخطير في التربي ة‪،‬‬
‫وسنركز هنا على المجالت المختصة باألطف ال(‪ ،)1‬ونكتفي منه ا ب ذكر نم وذج من‬
‫تأثير هذه المجالت على غرس العنف في نفوس الصغار‪.‬‬
‫ولن نذكر هنا آثار المجالت الغربية‪ ،‬ف إن س مومها تتع دى العن ف إلى غ يره‬
‫من جميع مظاهر االنحراف‪ ،‬بل سنذكر بعض المجالت العربية‪ ،‬وذلك على ض وء‬
‫دراسة حول (صحافة الطف ل في الع الم الع ربي وتأثيره ا على شخص يته واتجاه ه‬
‫نحو العنف والعدوانية)‪ ،‬وه و موض وع رس الة دكت وراه ال تي تق دمت به ا الباحث ة‬
‫(سحر فاروق الصادق) إلى كلية اإلعالم جامعة القاهرة(‪.)2‬‬
‫فقد تن اولت الدراس ة أربع ة عناص ر أساس ية هي مض مون العن ف ووس يلته‬
‫مجالت األطف ال‪ ،‬وجمه وره وهم قُ رّاء ه ذه المجالت‪ ،‬ثم ُكتّ اب الس يناريو‬
‫‪ )(1‬ب رزت مجالت األطف ال بش كل ملم وس في الغ رب في بداي ة الق رن العش رين مواكب ة انتش ار الص حافة‬
‫وتطورها وكانت في بداياتها محدودة االنتشار تعنى بالرسوم الهزلية بشكل كبيرك ذلك ص درت مالح ق لألطف ال في‬
‫الصحف الرئيسة كعامل جذب لألسرة القتناء الصحيفة‪.‬‬
‫وغلب على هذه المجالت جانب التسلية والفكاهة ثم تطورت بش كل كب ير متوافق ة م ع تط ور الطباع ة وانتش ار‬
‫أدواتها فضال عن تيسر سبل المواصالت وقدرات الناس الشرائية‪.‬‬
‫ومع تقدم العلم والمعرفة أخذت القصص المص ورة جانب ا واس عا من مجالت األطف ال وح تى الكب ار وانتش رت‬
‫بشكل كبير‪.‬‬
‫كذلك تنوعت المجالت بحسب سن المخاطب وغطت مراحل عمرية مبكرة جدا حتى إن هن اك مجالت لألطف ال‬
‫في الس نة األولى من أعم ارهم كم ا تص در مجالت لألطف ال خاص ة بال ذكور وأخ رى باإلن اث وهن اك مجالت‬
‫متخصصة بالتعليم وأخرى علمية وثالثة منوعة ونالت فترة ما قبل المدرسة نصيبا هاما من سوق المجالت‪.‬‬
‫ففي اليابان ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬هناك مجلة لألطفال الذين ت تراوح أعم ارهم بين ‪ 5-3‬س نوات ت وزع ‪ 300‬أل ف‬
‫نسخة أسبوعيا وفي فرنسا هن اك مجل ة ب وبي تص در لألطف ال في س ن ‪ 15‬ش هرا وتعتم د على الرس وم التوض يحية‬
‫لألشياء القريبة من الطفل ويطلع عليها الطفل بمساعدة والديه وفي اليابان كذلك مؤسس ة تجاري ة واح دة تع نى بلعب‬
‫األطفال تصدر ‪ 54‬مجلة لألطفال شهريا أما في أمريكا فتصدر ‪ 338‬مجلة ‪1988‬م تغطي كافة أعمار األطفال وكافة‬
‫اهتماماتهم توزع أكثر من ‪ 53‬مليون نسخة‪.‬‬
‫وتصدر عن بعض المؤسسات الكنسية واألحزاب الدينية الغربية مجالت لألطفال تهتم ببث القيم النصرانية ل دى‬
‫األطفال وال تخلو من مواد أدبية أو فكاهي ة تس اعد على ت رويج المجل ة وهي ت وزع في كث ير من األحي ان مجان ا أو‬
‫بسعر تشجيعي لألطفال وهي غالبا ال تعبأ بالتكاليف المالية نظرا ألهدافها الدينية ووجود مص ادر مالي ة قوي ة وثابت ة‬
‫تدعمها‪.‬‬
‫إضافة للنصارى يحرص اليهود ‪-‬بمؤسساتهم الدينية‪ -‬على إصدار مجالت لألطفال لتحق ق ارتب اط أبن اء اليه ود‬
‫بالتوراة والمجتمع اليهودي‪.‬‬
‫ويحرص الغرب ‪-‬كجزء من اهتمامه الواسع باإلنسان الغربي ‪ -‬على المعاقين بكاف ة فئ اتهم وب األخص األطف ال‬
‫فيقدم لهم خدمات إعالمية خاصة حيث تصدر بعض المجالت في أوروبا وأمريكا طبعة خاصة بالعمي ان لغ ة براي ل‬
‫وهذا خالف المجالت الخاصة أصال بالمعوقين مثل العميان والصم وغيرهم‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صحافة األطفال تعلّم أوالدنا العنف‪ ،‬كريمة حسن‪ ،‬جريدة القاهرة‪ ،‬دراسات إعالمية‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫والرسامون القائمون بالعمل‪.‬‬
‫ورصدت الدراسة مظاهر العن ف المق دم للطف ل من خالل مجالت ه‪ ،‬وتحلي ل‬
‫مالمح هذا العنف‪ ،‬ومعدالت ه المنش ورة في ق الب قصص ي فق دمت دراس ة تحليلي ة‬
‫لتسع مجالت لألطفال تمثل ست مجالت مصرية هي عالء الدين‪ ،‬وميكي‪ ،‬وس وبر‬
‫ميكي‪ ،‬وسمير‪ ،‬وكابتن س مير‪ ،‬وقط ر الن دى‪ ،‬إلى ج انب ثالث مجالت عربي ة هي‬
‫العربي الصغير‪ ،‬وماجد‪ ،‬وباسم‪ ،‬بمجموع (‪ )104‬أع داد منه ا في الف ترة من ين اير‬
‫ح تى ديس مبر ‪1997‬م‪ .‬ثم ق امت بدراس ة جمه ور األطف ال الق ارئ له ذه المجالت‬
‫وقوام ه (‪ )400‬طف ل ت تراوح أعم ارهم م ا بين (‪ 11‬و‪ )16‬عا ًم ا وينتم ون جمي ًع ا‬
‫لمرحلة التعليم اإلعدادي وتم أخذ العينة من أحياء شعبية وصناعية وراقية (الدقي ‪-‬‬
‫بوالق الدكرور ‪ -‬حلوان ‪ -‬مدينة نصر)‪ ،‬ومن مدارس مختلفة (حكومي ة ‪ -‬تجريبي ة‬
‫– خاص ة)‪ ،‬ومن الص فوف الدراس ية الثالث ة (األول والث اني والث الث اإلع دادي)‪،‬‬
‫ومن الذكور واإلناث‪ ،‬وداخل كل حي من األحياء األربعة تم اختي ار أرب ع م دارس‬
‫بشكل عشوائي بمعرفة اإلدارات التعليمية التابعة لها هذه األحي اء بحيث تتمث ل به ا‬
‫أن واع الم دارس الثالث الم ذكورة‪ ،‬وداخ ل ك ل مدرس ة من خالل ق وائم الفص ول‬
‫لسنوات الدراسة تم تحديد فصل في كل سنة دراسية تبعًا لع دد فص ولها بالمدرس ة‪،‬‬
‫وتم اختيار األطف ال من داخ ل الفص ول م ع مراع اة الع دد الكلي داخ ل ك ل فص ل‬
‫والتمثيل النسبي لإلناث وال ذكور وأج اب (‪ )%99‬من أطف ال العين ة ب أنهم يق رأون‬
‫مجلة للطفل أما من يتابع مجلتين أو أكثر فكانت النسبة (‪.)%54.1‬‬
‫وكش فت نت ائج الدراس ة عن ارتف اع مع دالت العن ف المنش ور في ص حف‬
‫األطفال المصرية والعربية بشكل يدعو إلى القلق‪ ،‬حيث بلغت نسبة القص ص ال تي‬
‫تحمل عنفًا (‪ )%40.4‬من إجمالي القصص موضوع الدراسة‪.‬‬
‫وب دت مجالت س وبر ميكي‪ ،‬وميكي‪ ،‬وباس م‪ ،‬على رأس قائم ة ص حف‬
‫األطف ال من حيث كم العن ف المنش ور على ص فحاتها‪ ،‬بينم ا ب دت مجالت عالء‬
‫الدين‪ ،‬وقطر الندى‪،‬والعربي الصغير‪ ،‬أقل صحف الدراسة من حيث العن ف المق دم‬
‫بها‪ ،‬واتسم العنف المنشور بمجالت األطفال بسمات تمثل في مجملها عوامل ج ذب‬
‫للطفل نحوه‪ ،‬كما بدت النسبة الكبرى من مظاهر العن ف المنش ور نابع ة من دواف ع‬
‫اجتماعية مألوفة للطفل يمكنه فهمها والتفاعل معها‪ ،‬كما ظهرت أماكن العنف قريبة‬
‫من واقع الطفل يمكنه تقليدها‪ ،‬األمر الذي يقرّب العنف من عقله ويم ّكنه من اختزان‬
‫صوره وأحيانًا تقليده‪.‬‬
‫وكانت مظاهر العنف عنفًا بدنيًا مثل‪(:‬الضرب ‪ -‬مطاردات ‪ -‬تكسير أش ياء ‪-‬‬
‫تل ويح أو ض رب بالس الح ‪ -‬دف ع اآلخ رين بعن ف ‪ -‬قت ل ‪ -‬اغتي ال ‪ -‬س رقة –‬
‫اختطاف)‪ ،‬أو عنفًا لفظيًا مثل‪(:‬السب والقذف والتشبيهات الجارحة وكلم ات التهدي د‬
‫بأعمال انتقامية‪ ،‬أو سخرية من اآلخرين باللف ظ أو بالض حك‪ ،‬أو الص راخ أو ح تى‬
‫كلمات التحريض والتهديد بالعنف)‪ ،‬ويتم تق ديم ه ذه الم ادة في س ياق يخل و من أي‬

‫‪134‬‬
‫أشكال للعقاب‪ ،‬بل قدم البعض منها في شكل ينصف القائم به‪.‬‬
‫وأوضحت الدراسة االرتف اع الواض ح في نس بة المي ول العنيف ة ل دى أطف ال‬
‫العينة‪ ،‬وكشفت النتائج عن زيادة ه ذه المي ول بين من يتعرض ون لوس ائل اإلعالم‪،‬‬
‫مما يؤكد دعم وسائل اإلعالم لتلك الميول لدى األطفال‪ ،‬وتبين أن اتجاهات األطفال‬
‫ال ذين يتخ ذون ق دوتهم من النم اذج اإلعالمي ة (األبط ال والشخص يات الكرتوني ة‬
‫والدرامية وغيرها)‪ ،‬ق د ب دت مرتفع ة نح و العن ف بينم ا ك انت منخفض ة ل دى من‬
‫يتخذون قدوتهم من نماذج االتصال الشخصي (األب ‪ -‬العم ‪ -‬الم درس) وأوض حت‬
‫الدراس ة ك ذلك أن هن اك دوراً إيجابيً ا للتنش ئة األس رية يتعل ق بمعامل ة األبن اء‬
‫ومشاركتهم بالمناقشة لما يقرأون‪ ،‬أو هذا الدور يكون إيجابيًا م ع األبن اء إذا ب دأ في‬
‫سن مبكرة‪ ،‬تكون فيه اتجاهات األطفال نحو العن ف منخفض ة‪ ،‬بينم ا يتض اءل ه ذا‬
‫الدور إذا بدأ مع األبناء في س ن متقدم ة يك ون األبن اء ق د كوّن وا اتجاه اتهم العنيف ة‬
‫بالفعل‪.‬‬
‫أيض ا أن الطف ل إذا تع رض أو الح ظ بش كل دوري‬ ‫وأظه رت الدراس ة ً‬
‫مجموع ة من األبط ال يمارس ون العن ف فإن ه يمكن أن يتعلّم العن ف منهم‪ ،‬وأحيانً ا‬
‫يمكنه تقليدهم‪ ،‬خاصة إذا كان س ياق العم ل ي برز العن ف في ص ورة حس نة يحق ق‬
‫لصاحبه مزايا‪ ،‬ك ذلك ع دم وج ود أي ش كل من أش كال العق اب‪ ،‬ك ذلك كلم ا تزاي د‬
‫معدل قراءة األطفال لمضامين عنيفة زادت لديهم االتجاهات المرتفعة نحو العن ف‪،‬‬
‫وتمثلت ه ذه النتيج ة بش كل كب ير لمن ينتم ون لبيئ ة عمالي ة وفي مراح ل عمري ة‬
‫متوسطة (‪14-13‬سنة) وينتمون للتعليم التجريبي‪.‬‬
‫وإذا تعرض الطفل لظروف تنشئة أسرية سلبية ت زداد اتجاهات ه نح و العن ف‬
‫ويتضح هذا األمر بين أبناء التعليم الخاص والمنتمين لبيئات عمالية‪.‬‬
‫وقدمت الدراسة حصرًا لحجم العنف‪ ،‬فتم رصده تبعًا لع دد القص ص العنيف ة‬
‫حيث بلغت نسبة القصص العنيفة (‪ ،)%40.4‬وجاء حجم العنف تبعًا لعدد ص فحاته‬
‫(الصفحات الكاملة من العنف) نسبتها (‪ ،)%26.8‬وتبعًا لعدد البراويز العنيف ة ال تي‬
‫تضمنتها قص ص الرس وم المتتابع ة المص ورة (‪ ،)%33.5‬وعلى نط اق القص ص‬
‫األدبية التي تقدم للطفل في ش كل أس طر بلغت نس بة األس طر العنيف ة به ا ‪%12.3‬‬
‫وهي أقل نسب العنف المنش ور‪ .‬ك ذلك أوض حت الدراس ة أن ه كلم ا ك ان مض مون‬
‫القصة مترج ًما كانت نسبة العنف مرتفعة بعكس لو كان كاتب القصة عربيًا‪.‬‬
‫كذلك قامت الباحثة بدراسة ثمانية عشر مب دعًا وهم من المنتجين والمنتظمين‬
‫في نشر أعمالهم الخاص ة بالطف ل في المجالت الم ذكورة‪ ،‬وأوض حت الدراس ة أن‬
‫هناك اتجاهًا سائدًا بين العاملين في حقل الطفل يقر تقديم العنف ونشره لألطف ال من‬
‫منطل ق ض وابط ال تح د من ت أثيره الس لبي على الطف ل‪ ،‬ك ذلك تس اعد األوض اع‬
‫الصحفية والمادية لصحف األطفال على دعم تقديم العنف عبر صفحاتها وذلك لعدم‬
‫تحقق الدور التربوي واالجتماعي له ذه الص حف‪ ،‬إض افة إلى اتج اه الق ائمين على‬
‫ه ذه الص حف لتع ويض انص راف األطف ال عن ص حافتهم بتق ديم العن ف‪ ،‬لهم في‬

‫‪135‬‬
‫محاولة منهم إلعادة جذب الطفل لمطبوعاتهم‪ .‬كذلك تساعد األوض اع المهني ة على‬
‫نش ر العن ف‪ ،‬فالق ائمون على سياس ات التحري ر ال يم انعون في تقديم ه‪ ،‬والمن اخ‬
‫المجتمعي أصبح العنف أحد مظ اهره حيث يتفاع ل المب دعون مع ه فتول د أفك ارهم‬
‫مشبعة به‪.‬‬
‫وتوصي الباحثة في نهاية دراستها بأن ه إذا ك ان هن اك ض رورة لتق ديم م ادة‬
‫صحفية عنيفة لألطفال وحتى هذه النسبة القليلة ال بد أن تحتوي على ض وابط للح د‬
‫من تأثير العنف المق روء على الطف ل‪ ،‬بحيث ترتك ز على زي ادة ووض وح العق اب‬
‫داخل القصة‪ ،‬وال تتضمن أية نتائج لصالح مقترفي العنف‪.‬‬
‫وه ذا م ا ي دعو إلى االهتم ام بالب ديل ال ذي يقي النش ء من أمث ال ه ذه‬
‫االنحرافات‪ ،‬وقد كتب بعض الباحثين المعاصرين مشروعا لمجلة إس المية خاص ة‬
‫باألطفال(‪ ،)1‬تكون ب ديال عن الكم الض خم من المجالت ال تي تمتلئ به ا األس واق‪،‬‬
‫وقد خلص في األخير إلى بعض الخصائص التي تتصف به ا ه ذه المجل ة‪ ،‬ال ب أس‬
‫من سوقها هنا ألهميتها‪:‬‬
‫‪ .1‬االستفادة من التوجيه ات التربوي ة المعاص رة بحيث تك ون المجل ة راف دا‬
‫تربويا هاما لألطفال‪.‬‬
‫‪ .2‬إدراك أهداف المجلة بشكل كامل وإنزال مواد المجلة على هذه األهداف‪.‬‬
‫‪ .3‬وجود متخصصين في أدب األطفال وعلم التربية وعلم النفس إض افة إلى‬
‫متخصصين في الشؤون الفنية قادرين على تحويل الفك رة إلى واق ع عملي ملم وس‬
‫جذاب ومقبول لألطفال‪.‬‬
‫‪ .4‬الوعي بخصائص الطفولة وحاجتها وميولها‪.‬‬
‫‪ .5‬تحديد شخص يات المجل ة بش كل دقي ق بحيث تحق ق أغ راض المجل ة من‬
‫خاللها التنوع بين األساليب الصحفية المستخدمة‪.‬‬
‫‪ .6‬التنويع في المواد بما يشوق األطفال ويحفزهم على القراءة‪.‬‬
‫‪ .7‬الكتابة باللغة العربية البسيطة وبأسلوب سهل ق ادر على إيص ال الرس الة‬
‫المطلوبة للمرحلة العمرية المقصودة‪.‬‬
‫‪ .8‬الت وازن بين القص ص المص ورة وب اقي م واد المجل ة بحيث ال تطغى‬
‫األولى على صفحاتها‪.‬‬
‫‪ .9‬االستفادة من الفنون المعاصرة في اإلخراج والتصميم والطباعة‪.‬‬
‫‪ .10‬إشراك الطفل في تحرير أجزاء من المجلة‪.‬‬
‫لذلك البد من مراعاة ما يلي في مجالت األطفال‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون الكاتب ‪-‬ما أمكن‪ -‬من المختصين بأدب األطفال‪.‬‬
‫‪ .2‬عدم تكثيف المادة والموضوعات‪.‬‬
‫‪ .3‬مراعاة السن‪.‬‬

‫‪ )(1‬مشروع مجلة رائدة للطفل‪ ،‬من سلسلة كتاب األمة‪ ،‬للدكتور مالك إبراهيم األحمد‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫‪ .4‬التنوع في المواد‪.‬‬
‫‪ .5‬البعد عن التكرار المتماثل‪.‬‬
‫‪ .6‬التجديد والتنوع في القالب الفني واألساليب المستخدمة بين فترة وأخرى‪.‬‬
‫‪ .7‬استخدام الصور والرسوم بشكل جيد يغري باالطالع‪.‬‬
‫‪ .8‬االستفادة من اإلمكانات الحديثة في التصميم واإلخراج والطباع ة فالطف ل‬
‫يميز بين هذه األمور واأللوان عنصر أساس في تذوق الطفل للمادة‪.‬‬
‫‪ .9‬التشويق في المحتوى‪.‬‬
‫‪ .10‬التواصل مع الطفل من خالل مساهماته ونشرها‪.‬‬
‫‪ .11‬البساطة وسهولة الفهم بالنسبة للمادة المطروحة‪.‬‬
‫‪ .12‬الحركة والحيوية في الجانب الفني والموضوعي‪.‬‬
‫‪ .13‬األسلوب السلس الخفيف المناسب‪.‬‬
‫‪ .14‬عدم إغفال جانب المرح والفكاهة المحبب للطفل‪.‬‬
‫اإلنترنت‬
‫وهي من الوس ائل المعاص رة‪ ،‬ب ل من أخطره ا وأنفعه ا في نفس ال وقت‪،‬‬
‫ولذلك تحتاج مراقبة خاصة‪ ،‬ألن ما فيها من الخير ال يمكن أن يترك ألجل م ا فيه ا‬
‫من الشر‪ ،‬وما فيها من الشر يستدعي مراقب ة مس تمرة‪ ،‬ويس تدعي م ع ذل ك جه ودا‬
‫جب ارة من المخلص ين ليض عوا من ب دائل الخ ير‪ ،‬ومن قوام ع الش ر م ا يض اعف‬
‫خيرها‪ ،‬ويقمع شرها‪.‬‬
‫وبما أن غرضنا في هذا المبحث ذكر ذرائع الفساد في هذه الوس ائل لتجتنب‪،‬‬
‫ال ذكر نواحي الخير‪ ،‬فسننقل هنا من المختصين ما يبين خط ورة ه ذه الوس يلة(‪،)1‬‬
‫وهي خط ورة ال تس تدعي إيقافه ا أو منعه ا أو الق ول بتحريمه ا‪ ،‬وإنم ا تس تدعي‬
‫التوجيه والمراقبة المستمرة‪.‬‬
‫وقد كتبت إحدى المجالت بالش بكة تحت عن وان (أطفال ك واإلن ترنت آمن ون‬
‫وسعداء دائم اً)‪(:‬اإلن ترنت مص در إمت اع لألطف ال س واء اس تخدمت للعب أو ألداء‬
‫الواجبات ببرامجها المفيدة وصورها الجميلة وألعابه ا‪ ،‬وم ع ذل ك فهي ال تخل و من‬
‫الخطر عليهم)‬
‫ثم تفصل بعض نواحي الخطر‪ ،‬فتقول‪(:‬رغم روعة اإلنترنت إال أنه ال يخل و‬
‫من األخطار خصوصا ً على األطفال ؛ وذلك بسبب العدد الض خم من المواق ع غ ير‬
‫الالئقة الموجودة في مواقع الويب ؛ لذلك فإن شبكة اإلنترنت ال تعد المكان المناسب‬
‫ليبحث األطفال فيه ا ويجول ون دون رقاب ة ؛ فهي تمتلئ بطوف ان من المواق ع ال تي‬
‫تحض على العنصرية والضغينة‪ ،‬وتش جع على تع اطي المخ درات وص نع القناب ل‬
‫وكل الطرق األخرى التي من الممكن جداً أن تؤثر سلبا ً على سلوك أطفالنا)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دراسات تربوية‪ ،‬اإلنترنت وتربية األوالد‪ ،‬عبد الرحمن بن عبد هللا المطرودي‪.‬‬
‫‪ )(2‬مجلة مفتاح اإلنترنت العدد الثالث‪ ،‬ص ‪.14‬‬

‫‪137‬‬
‫وقد أخرجت دار الشبكة العربية عدداً بعنوان (اإلسالم واإلنترنت) وكان أحد‬
‫المواضيع بعنوان (الطفل المسلم مظلوم)‪ ،‬ومما جاء فيه‪(:‬الطفل المسلم مظلوم على‬
‫اإلنترنت ؛ فال يكاد يجد في المواقع اإلس المية ركن ا ً ي أوي إلي ه ويج د في ه م ا يش د‬
‫انتباهه ويشبع نفسيته ويراعي عقله‪ ...‬وإنما نشير إلى حقيق ة أن ه ذه الم واد جميع ا ً‬
‫ليس فيها ما هو مصاغ خصيصا ً للطفل يناسب عقله وتفكيره)(‪)1‬‬
‫وكتب آخر في مجلة (مفتاح اإلنترنت) يقول‪(:‬لألس ف لم نج د مواق ع عربي ة‬
‫لألطف ال تهتم كم ا تهتم المواق ع األجنبي ة وتق دم ألطفالن ا م ا يق دمون س واء في‬
‫المعلومات وروعة في التصميم‪ ،‬وكلنا أمل في رؤية شيء عربي ملفت وقيم)(‪)2‬‬
‫وكتب آخ ر في مجل ة (عص ر الحاس ب) يق ول‪(:‬دع ا ع دد من الخ براء‬
‫المتخصصين في مج ال األمن على ش بكة اإلن ترنت إلى وض ع مع ايير فني ة تح دد‬
‫طبيعة المواقع التي يتعامل معه ا األطف ال وتحدي د الفئ ات الس نية المناس بة) إلى أن‬
‫يقول‪(:‬وكان مسح أجراه مركز أن برج للسياسات في واشنطن األمريكية قد أك د أن‬
‫أطفاالً تتراوح أعمارهم بين ‪ 17 - 8‬سنة قد أبدوا رغبتهم في كشف أسرارهم على‬
‫اإلنترنت واألوضاع المالية آلبائهم مما يعتبر مؤشراً لنشر خالف ات أس رية يتس بب‬
‫فيها األطفال عبر اإلنترنت)(‪)3‬‬
‫وكتب آخر في مجل ة (مفت اح اإلن ترنت) تحت عن وان (نص ائح في التص فح‬
‫اآلمن) قال فيه كاتبه ألحد األبوين‪(:‬نقول أخبر أطفالك أال يعطوا أي ة معلوم ات عن‬
‫مك ان س كنهم أو عن أنفس هم‪ .‬أخ برهم أال ي ردوا على أي ة رس ائل إلكتروني ة عن‬
‫مصادر غير معروفة‪ .‬أخبرهم أن يعلموك إذا استلموا أية رسائل إلكترونية غريب ة‪.‬‬
‫راقب أطفالك عندما يتحدثون عبر اإلنترنت واعرف مع من كانوا يتخاطبون‪ .‬أخبر‬
‫أطفالك أال يقابلوا أشخاصا ً تعرفوا عليهم عبر اإلنترنت مقابلة شخصية)(‪)4‬‬
‫وكتبت مجلة (آفاق اإلنترنت)(‪ )5‬في زاوية (آباء وأبناء) بعنوان (ال تتكلم مع‬
‫الغرباء) وبجانب ه عن وان كب ير ه و (راقب أوالدك) ذك ر في ه المؤل ف وأط ال عن‬
‫األضرار والطريقة لحماي ة األطف ال‪ ،‬وبعض المواق ع الس يئة ال تي حص لت عليه ا‬
‫لبعض األطفال من جراء االتصال باإلنترنت‪.‬‬
‫فهذه التحذيرات جميعا تدل على مبلغ خطورة استعمال هذه الوسيلة وخاص ة‬
‫مع النقص الشديد للمواقع اإلسالمية الخاصة بهذا المجال‪.‬‬
‫فلهذا نجد في هذه الوسيلة كل أسباب االنح راف ووس ائله‪ ،‬وق د كتبت إح دى‬

‫‪ )(1‬مجلة مفتاح اإلنترنت العدد الثالث‪ ،‬ص ‪.26‬‬


‫‪ )(2‬مجلة مفتاح اإلنترنت العدد الثالث‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ )(3‬مجلة مفتاح اإلنترنت‪ ،‬العدد األول‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪ )(4‬مجلة مفتاح اإلنترنت العدد الثالث‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ )(5‬مجلة آفاق اإلنترنت‪ ،‬العدد الثاني‪ ،‬ص ‪.69‬‬

‫‪138‬‬
‫المجالت(‪)1‬عنوان ا ً باس م‪( :‬ع الم اإلن ترنت الس فلي‪ ...‬قرص نة ب رامج‪ ...‬إباحي ة‪...‬‬
‫مافي ا‪ ...‬غس يل أم وال‪ ...‬مخ درات‪ ...‬قم ار‪ ...‬عنص رية‪ ...‬منظم ات اله اكر‪...‬‬
‫إرهاب‪ ...‬متفج رات‪ ،)...‬ثم عن ونت داخ ل المجل ة (ع الم إن ترنت الس فلي ينادي ك‪،‬‬
‫يبسط لك ذراعي ه‪ ،‬يل وح ل ك بكاف ة المغري ات الق ذرة ال تي ابتكره ا اإلنس ان ع بر‬
‫التاريخ‪ ...‬برامج كاملة بالمجان‪ ...‬صور وأفالم إباحية‪ ...‬مخدرات‪ ...‬قمار‪ ...‬أموال‬
‫قذرة‪ ...‬فهل تستجيب؟) وهكذا كان العنوان‪ ،‬واستمر العرض اثن تي عش رة ص فحة‬
‫في نفس العدد‪.‬‬
‫ق ال المؤل ف في نفس الموض وع‪(:‬ربم ا يق ول البعض إن العدي د من البل دان‬
‫العربية حجبت هذه المواقع عن مستخدمي إنترنت فيها فال توجد ضرورة لفتح ه ذا‬
‫الملف‪ .‬ونقول لهؤالء‪ :‬إن الواقع يؤكد استحالة الحجب الكامل ألسباب عديدة أهمها‪:‬‬
‫‪ .1‬تظهر على شبكة ويب يوميا ً آالف المواقع الجديدة ومن المستحيل حجبه ا‬
‫مباشرة وفق التقنيات المستخدمة حاليا ً في عملية الفلترة‪.‬‬
‫‪ .2‬يمكن اس تخدام خ دمات إن ترنت مث ل التخ اطب والدردش ة والبري د‬
‫اإللكتروني لالتصال مع المشبوهين وتبادل معلومات ممنوعة أو صور فاضحة‪.‬‬
‫‪ .3‬توفر تقنيات لتجاوز البروكسي وإلغاء الفلترة المرتبطة به‪.‬‬
‫‪ .4‬تتوفر حاليا ً إمكانية استقبال إنترنت عبر األقمار الصناعية‪.‬‬
‫ويستمر المؤلف في دراسة عالم الش بكة الس فلي في أع داد من المجل ة منه ا‬
‫لعدد الثاني‪ ،‬وفي العدد الثامن لذات المجلة من نفس العام جاء غالف المجل ة يحم ل‬
‫العنوان اآلتي (أول جريمة قتل بسبب منتديات ويب العربية)‬
‫وكتبت مجلة اإلسالم واإلنترنت تق ول (كي ف نحتمي من ش رور اإلن ترنت ‪-‬‬
‫كفر وجنس وعنف و‪..‬؟)‬
‫وكان هذا هو عنوان المقال‪ ،‬وبدأ كاتب المقال بقوله‪(:‬اكتسب اإلنترنت سمعة‬
‫سيئة بسبب انفتاحها غير المحكوم أخالقيا ً وال سياسيا ً وال ثقافياً‪ ،‬وبس بب اس تغاللها‬
‫البشع من قبل عصابات الجريمة المنظمة وتجار األعراض والداعين إلى كل رذيلة‬
‫وفاحشة وفوضى تمردية‪ ...‬ففرغت كثير من فوائدها العظيمة وإنجازاته ا الض خمة‬
‫في بحر آسن كريه من الرائحة والمنظر‪ )...‬إلى أن يقول‪(:‬هذه مشكلة ال نعاني منها‬
‫في الشرق فحسب كما يظن البعض‪ ...‬بل إن العائالت الغربية تشكو مر الشكوى ما‬
‫يغ زو عق ر بي وتهم وعق ول أوالدهم وحواس بهم ع بر أجه زة الكم بيوتر المنزلي ة‬
‫الموصولة باإلنترنت‪ .‬كما أن عدداً من الدول تشكو من الغزو الثقافي الغ ربي ال ذي‬
‫يتدفق عليها من كل مك ان ع بر األرض والفض اء وع بر خط وط اله اتف وأس الك‬
‫الكهرباء)(‪)2‬‬
‫وكتبت مجل ة (س عودي ش وبر) تكتب في الع دد العاش ر للس نة الثاني ة مق االً‬

‫‪ )(1‬إنترنت العالم العربي‪ ،‬في عددها الثاني للسنة الثالثة‪.‬‬


‫‪ )(2‬إنترنت العالم العربي‪ ،‬العدد األول السنة الرابعة‪ ،‬ص ‪.36‬‬

‫‪139‬‬
‫بعنوان (إغالق (ياهو) لماذا؟) وقد نقلت المجلة تفسيرات على لسان المتحدث باس م‬
‫مدينة الملك عب د العزي ز للعل وم والتقني ة يق ول فيه ا (إن حجب أندي ة (ي اهو) ج اء‬
‫بدعوى إلحاق الضرر باألخالق والقيم واآلداب الشرعية‪ ...‬إلخ )(‪)1‬‬
‫وفي حوار من خالل مجلة (الجندي المسلم) حول اإلباحية في اإلن ترنت م ع‬
‫مشعل بن عبد هللا القرحي األستاذ المساعد في معهد بحوث الحاسب اآللي في مدينة‬
‫الملك عبد العزيز للعلوم والتقني ة ق ال‪(:‬ق امت بعض الش ركات بدراس ة ع دد زوار‬
‫صفحات الدعارة واإلباحي ة في اإلن ترنت فوج دت إح دى الش ركات أن بعض ه ذه‬
‫الص فحات يزوره ا عش رون أل ف زائ ر يومي اً‪ ،‬وأك ثر من ‪ 200‬ص فحة مش ابهة‬
‫تستقبل ‪ 1400‬زائر يوميا ً ؛ ولذلك صرحت وزارة العدل األمريكية قائل ة‪ :‬لم يس بق‬
‫في فترة من تاريخ وسائل اإلعالم بأمريكا أن تفشى مثل هذا العدد الهائ ل من م واد‬
‫ال دعارة أم ام ه ذه الك ثرة من األطف ال في ه ذه الك ثرة من ال بيوت‪ ،‬كم ا تفي د‬
‫اإلحصائيات بأن ‪ %63‬من المراهقين الذين يرتادون ص فحات وص ور ال دعارة ال‬
‫يدري أولياء أمورهم بطبيعة ما يتصفحونه على اإلنترنت‪ .‬علما ً بأن الدراسات تفي د‬
‫أن أكثر مستخدمي المواد اإلباحية تتراوح أعمارهم ما بين ‪ 17 - 12‬سنة)(‪)2‬‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإن أك ثر م ا في ش بكة اإلن ترنت مم ا يتعل ق بتربي ة األوالد‬
‫سلبي جداً‪ ،‬فال توجد مواق ع مجدي ة في تربي ة األوالد ع دا العناي ة ببعض الج وانب‬
‫الجزئية وخصوصا ً في المواق ع الغربي ة مث ل العناي ة بالجس م والص حة والرياض ة‬
‫والفن فقط‪.‬‬
‫ثانيا ـ عالج مظاهر االنحراف‬
‫وهو من العلوم المهمة التي يسعى المربي لتعلمها‪ ،‬كما يسعى لتعلم أع راض‬
‫األمراض الحسية‪ ،‬ليتقيها أو يعالجها‪.‬‬
‫وال نستطيع في هذا المحل أن نفص ل ك ل م ا يتعل ق به ذا الج انب‪ ،‬فمظ اهر‬
‫االنحراف أكثر من أن يحيط به ا كت اب‪ ،‬والم ربي ال يحت اج إلى التفاص يل الكث يرة‬
‫التي قد ال يرى نفسه بحاجة إليها‪.‬‬
‫ولذلك اكتفينا هنا بإعطاء القواعد الكبرى التي وضعها علماء اإلسالم لتحقيق‬
‫هذا النوع من التطبيب‪.‬‬
‫وقد ذكرنا من النماذج واألمثلة التطبيبية في بعض المحال ما يستدل ب ه على‬
‫غيره‪ ،‬فهي ليست مقصودة بذاتها‪ ،‬بقدر ما هي أمثلة لغيرها‪.‬‬
‫وقد رأينا أن الكالم المنهجي في هذا يستدعي الحديث عن عنصرين‪:‬‬
‫‪ .1‬التعرف على منابع االنحراف وأصولها‪ ،‬والمظاهر التي تبدو من خاللها‪.‬‬
‫‪ .2‬التعرف على األساليب المختلفة لعالج ما يبدو من مظاهر االنح راف‪ ،‬أو‬

‫‪ )(1‬إنترنت العالم العربي‪ ،‬العدد األول السنة الرابعة‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫‪ )(2‬إنترنت العالم العربي‪ ،‬العدد األول السنة الرابعة‪ ،‬ص ‪.107‬‬

‫‪140‬‬
‫ما ينبع منها‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ منابع االنحراف ومظاهره‬
‫أول ما ينبغي على المربي الب دء ب ه لعالج االنح راف ال ذي ق د يق ع في ه من‬
‫تكفل بتربيته ه و التع رف على االنح راف ونوع ه‪ ،‬ألن ه ب دون معرف ة الم رض ال‬
‫يمكن العالج‪.‬‬
‫وما سنذكره في هذا المطلب موجه خصوص ا للم ربي‪ ،‬ألن ه ق د ال يفطن إلى‬
‫مواضع االنحراف‪ ،‬بل قد يلتبس عليه األمر‪ ،‬فيتص ور الم رض ص حة والمعص ية‬
‫طاع ة واالنح راف اس تقامة‪ ،‬كم ا أش ار إلى ذل ك قول ه تع الى‪ ﴿ :‬ال تَحْ َس بَ َّن الَّ ِذينَ‬
‫يَ ْف َرحُونَ بِ َما أَتَوْ ا َويُ ِحبُّونَ أَ ْن يُحْ َمدُوا بِ َما لَ ْم يَ ْف َعلُ وا فَال تَحْ َس بَنَّهُ ْم بِ َمفَ ازَ ٍة ِمنَ ْال َع َذا ِ‬
‫ب‬
‫َولَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم﴾ (آل عم ران‪ ،)188:‬فه ؤالء لجهلم معص يتهم تص وروها طاع ة‪،‬‬
‫وطمعوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا‪.‬‬
‫ولهذا كان تعلم هذا النوع من العلم فرضا على كل م رب‪ ،‬كم ا يتعلم مظ اهر‬
‫األمراض الحسية ليتسنى له عالجها أو الذهاب إلى من يعالجها‪.‬‬
‫وانطالق ا من ه ذا س نتحدث في ه ذا المطلب عن من ابع االنح راف‪ ،‬ثم عن‬
‫مظاهر االنحراف‪:‬‬
‫منابع االنحراف‬
‫وه و أهم م ا ينبغي على الم ربي التع رف علي ه‪ ،‬ألن لك ل انح راف منبع ه‬
‫الخاص في النفس اإلنسانية‪ ،‬وذلك يستدعي التعرف على حقيقة اإلنسان ومكوناته ا‬
‫وما ينتج عن تكونها من تفاعالت‪ ،‬وقد ضرب الغزالي لذلك مثال‪ ،‬فقال‪(:‬وذل ك ألن‬
‫طين ة اإلنس ان عجنت من أخالط مختلف ة‪ ،‬فاقتض ى ك ل واح د من األخالط في‬
‫المعجون منه أثراً من اآلثار كما يقتضي السكر والخ ل والزعف ران في السكنجبـين‬
‫آثاراً مختلفة)(‪)1‬‬
‫وقد اختلف المصنفون في هذه المنابع‪ ،‬وهو ليس خالفا فقهيا له أدلت ه النابع ة‬
‫من االجتهاد‪ ،‬وإنما هو اختالف تحليلي‪ ،‬يك اد يك ون من اختالف التن وع ال اختالف‬
‫التضاد‪.‬‬
‫وس نكتفي هن ا ب ذكر تص نيفين له ذه المن ابع‪ ،‬تص نيف ابن القيم‪ ،‬وتص نيف‬
‫الغزالي‪.‬‬
‫فق د ذك ر ابن القيم أن (منش أ جمي ع األخالق الس افلة وبناؤه ا على أربع ة‬
‫أركان‪ :‬الجهل والظلم والشهوة والغضب)(‪ )2‬ويبين وجه هذا التقسيم ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬أن الجهل يري ه الحس ن في ص ورة الق بيح‪ ،‬والق بيح في ص ورة الحس ن‪،‬‬
‫والكمال نقصا‪ ،‬والنقص كماال‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه‪ ،‬فيغضب في موض ع‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/16 :‬‬


‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/308 :‬‬

‫‪141‬‬
‫الرض ى‪ ،‬ويرض ى في موض ع الغض ب‪ ،‬ويجه ل في موض ع األن اة‪ ،‬ويبخ ل في‬
‫موض ع الب ذل‪ ،‬ويب ذل في موض ع البخ ل‪ ،‬ويحجم في موض ع اإلق دام‪ ،‬ويق دم في‬
‫موضع اإلحجام‪ ،‬ويلين في موض ع الش دة‪ ،‬ويش تد في موض ع اللين‪ ،‬ويتواض ع في‬
‫موضع العزة‪ ،‬ويتكبر في موضع التواضع‪.‬‬
‫‪ .3‬أن الش هوة تحمل ه على الح رص والش ح والبخ ل وع دم العف ة والنهم ة‬
‫والجشع والذل والدناءات كلها‪.‬‬
‫‪ .4‬أن الغضب يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه‪.‬‬
‫ثم ذكر أن منبع هذه الصفات األربعة أصالن‪ ،‬هما نبع المنابع‪ ،‬وهما‪ :‬إف راط‬
‫النفس في الضعف‪ ،‬وإفراطها في القوة‪.‬‬
‫فيتول د من إفراطه ا في الض عف‪ :‬المهان ة والبخ ل والخس ة والل ؤم وال ذل‬
‫والحرص والشح وسفساف األمور واألخالق‪.‬‬
‫ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحدة والفحش والطيش‪.‬‬
‫ويتولد من تزاوج أح د الخلقين ب اآلخر‪ :‬أوالد غي ة كث يرون‪( ،‬ف إن النفس ق د‬
‫تجم ع ق وة وض عفا‪ ،‬فيك ون ص احبها أج بر الن اس إذا ق در‪ ،‬وأذلهم إذا قه ر‪ ،‬ظ الم‬
‫عن وف جب ار‪ ،‬ف إذا قه ر ص ار أذل من ام رأة‪ ،‬جب ان عن الق وي‪ ،‬ج ريء على‬
‫الضعيف)(‪)1‬‬
‫وقد قسم الغزالي من ابع االنح راف في النفس اإلنس انية إلى إلى أرب ع من ابع‪،‬‬
‫أن لإلنس ان أوص افا ً وأخالق ا ً كث يرة على م ا ع رف ش رحه في كت اب‬ ‫فق ال‪(:‬اعلم ّ‬
‫عجائب القلب وغوائله‪ ،‬ولكن تنحص ر مث ارات ال ذنوب في أرب ع ص فات‪ :‬ص فات‬
‫ربوبـية‪ ،‬وصفات شيطانية‪ ،‬وصفات بهيمية‪ ،‬وصفات سبعية)(‪)2‬‬
‫ويختلف المحل الذي تنبع منه ال ذنوب ال تي تنب ع من ه ذه المن ابع‪ ،‬فمنه ا م ا‬
‫ينبع على القلب‪ ،‬ومنها ما ينبع على الجوارح‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬ثم تنفجر ال ذنوب من‬
‫ه ذه المن ابع على الج وارح‪ ،‬فبعض ها في القلب خاص ة ك الكفر والبدع ة والنف اق‬
‫وإض مار الس وء للن اس‪ ،‬وبعض ها على العين والس مع‪ ،‬وبعض ها على اللس ان‪،‬‬
‫وبعضها على البطن والفرج‪ ،‬وبعضها على اليدين وال رجلين وبعض ها على جمي ع‬
‫البدن)(‪)3‬‬
‫ويختلف الخلق ـ كذلك ـ في غلبة بعض الصفات على بعض‪ ،‬فمنهم من تغلب‬
‫عليه البهيمية‪ ،‬ومنهم تغلب عليهم السبعية‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وتختلف ك ذلك غلب ة بعض الص فات بحس ب عم ر اإلنس ان‪،‬يق ول الغ زالي‪:‬‬
‫(وه ذه الص فات له ا ت دريج في الفط رة‪ ،‬فالص فة البهيمي ة هي ال تي تغلب أ ّوالً ثم‬
‫تتلوها الصفة السبعية ثانياً‪ ،‬ثم إذا اجتمعا استعمال العقل في الخداع والمك ر والحيل ة‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/309 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/16 :‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.4/16 :‬‬

‫‪142‬‬
‫وهي الص فة الش يطانية‪ ،‬ثم ب اآلخرة تغلب الص فات الربوبـية وهي الفخ ر والع ز‬
‫والعلو وطلب الكبرياء وقصد االستيالء على جميع الخلق)‬
‫وسنذكر هنا باختصار ما قد ينبع من هذه المنابع من أنواع االنحراف‪:‬‬
‫الصفات الربوبـية‪ :‬وهي م ا أودع في اإلنس ان من ش عور بأنانيت ه وحقيقت ه‬
‫العظيمة وما سخر لها من مخلوقات‪ ،‬فيعتق د بربوبيت ه على األش ياء‪ ،‬س واء ص رح‬
‫بذلك كما صرح فرعون‪ ،‬عندما صرخ قائال‪ ﴿ :‬أَنَا َربُّ ُك ُم اأْل َ ْعلَى﴾ (النازعـات‪،)24:‬‬
‫أو لم يصرح‪.‬‬
‫وهذه الصفة بهذا الفهم السيئ‪ ،‬ينتج عنها الكثير من االنحراف ات منه ا ـ كم ا‬
‫يذكر الغزالي ـ الكبر والفخ ر والجبري ة وحب الم دح والثن اء والع ز والغ نى وحب‬
‫دوام البقاء وطلب االستعالء على الكافة حتى كأنه يريد أن يق ول‪ :‬أن ا ربكم األعلى‪،‬‬
‫(وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ولم يعدوها ذنوب اً‪ :‬وهي‬
‫المهلكات العظيمة التي هي كاألمهات ألكثر المعاصي)(‪)1‬‬
‫الصفة الشيطانية‪ :‬وهي الصفات التي ابتدأت بها ش يطانية الش يطان‪ ،‬ومنه ا‬
‫انطلقت‪ ،‬ولذلك أطلق هللا هذا اللقب على اإلنس كما أطلقه على شياطين الجن‪ ،‬فق ال‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا لَقُوا الَّ ِذينَ آ َمنُوا قَالُوا آ َمنَّا َوإِ َذا خَ لَ وْ ا إِلَى َش يَا ِطينِ ِه ْم قَ الُوا إِنَّا َم َع ُك ْم إِنَّ َم ا‬
‫اطينَ‬ ‫ك َج َع ْلنَ ا لِ ُك لِّ نَبِ ٍّي َع ُد ّواً َش يَ ِ‬ ‫نَحْ نُ ُم ْستَه ِْزئُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)14:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َك َذلِ َ‬
‫ْض ُز ْخ رُفَ ْالقَ وْ ِل ُغ رُوراً﴾ (األنع ام‪،)112:‬‬ ‫ْض هُ ْم إِلَى بَع ٍ‬ ‫وحي بَع ُ‬ ‫س َو ْال ِجنِّ يُ ِ‬ ‫اأْل ِ ْن ِ‬
‫الش ْيطَانُ لِ َربِّ ِه َكفُ وراً﴾‬ ‫ين َو َك انَ َّ‬ ‫اط ِ‬‫الش يَ ِ‬ ‫وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن ْال ُمبَ ِّذ ِرينَ َك انُوا إِ ْخ َوانَ َّ‬
‫(االسراء‪)27:‬‬
‫بل أم ر باالس تعاذة من ش ياطين اإلنس ان‪ ،‬كاالس تعاذة بش ياطين الجن س واء‬
‫اس ِمنَ‬‫ُور النَّ ِ‬ ‫صد ِ‬ ‫اس الَّ ِذي ي َُوس ِْوسُ فِي ُ‬ ‫اس ْال َخنَّ ِ‬‫بسواء‪ ،‬قال تعالى‪ِ ﴿ :‬م ْن َش ِّر ْال َو ْس َو ِ‬
‫اس﴾ (الناس‪ 4:‬ـ ‪)6‬‬ ‫ْال ِجنَّ ِة َوالنَّ ِ‬
‫وينبع من هذه الصفات ـ كما يذكر الغزالي ـ (الحسد والبغي والحيلة والخداع‬
‫واألمر بالفساد والمنك ر وفي ه ي دخل الغش والنف اق وال دعوة إلى الب دع والض الل)‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وكل هذه الصفات أشار إليه القرآن الك ريم في مواض ع مختلف ة عن د تعريف ه‬
‫لكيد الشيطان وكيفية مواجهته‪.‬‬
‫الصفة البهيمية‪ :‬وهي االنحرافات التي تنبع من بهيمية اإلنس ان‪ ،‬وذل ك ألن‬
‫هللا تعالى أودع اإلنسان من الش هوة م ا يحف ظ ب ه وج وده على ه ذه األرض‪ ،‬فل وال‬
‫شهوة األكل لفني جسده‪ ،‬ولم يستطع أداء ما كلف به من وظيفة‪ ،‬ولوال شوهة الفرج‬
‫ما استمر نوعه‪.‬‬
‫ولكن االنحراف هو استعمال ه ذه الش هوة في غ ير م ا خلقت ل ه‪ ،‬كم ا ع بر‬
‫تعالى عن انحراف قوم لوط ‪ ‬حين خرجوا بالشهوة عن محله ا ال ذي خلقت ل ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/16 :‬‬

‫‪143‬‬
‫فقال تعالى‪ ﴿ :‬أَتَأْتُونَ ال ُّذ ْك َرانَ ِمنَ ْال َعالَ ِمينَ َوتَ َذرُونَ َم ا خَ لَ َ‬
‫ق لَ ُك ْم َربُّ ُك ْم ِم ْن أَ ْز َو ِ‬
‫اج ُك ْم‬
‫بَلْ أَ ْنتُ ْم قَوْ ٌم عَا ُدونَ ﴾ (الشعراء‪)166:‬‬
‫وقال عن انح راف الزن ا ال ذي يض ع الش هوة في غ ير محله ا‪َ ﴿ :‬وال تَ ْق َربُ وا‬
‫ال ِّزنَى إِنَّهُ َكانَ فَا ِح َشةً َو َسا َء َسبِيالً﴾ (االسراء‪)32:‬‬
‫وينبع من هذه الصفات ـ كما يذكر الغ زالي ـ الش ره والكلب والح رص على‬
‫قضاء شهوة البطن والفرج‪ ،‬ومنه يتشعب الزنى واللواط والسرقة وأكل مال األيت ام‬
‫وجمع الحطام ألجل الشهوات‪.‬‬
‫الصفة السبعية‪ :‬وهي االنحرافات التي تنب ع من س بعية اإلنس ان‪ ،‬وذل ك ألن‬
‫هللا تع الى أودع اإلنس ان من الغض ب والحمي ة م ا ي دافع ب ه عن وج وده على ه ذه‬
‫األرض‪ ،‬ألنه لوال هذه الحمية الفترسته السباع‪ ،‬ولم ا اس تطاع حف ظ وج وده ال ذي‬
‫تتعلق به وظيفته‪.‬‬
‫يقول الغزالي في بيان الحاجة إلى هذه الغرائز‪(:‬فافتقر ألجل جلب الغذاء إلى‬
‫جندين‪ :‬باطن‪ ،‬وهو الشهوة‪ .‬وظاهر‪ ،‬وهو اليد واألعضاء الجالبة للغذاء‪ ،‬فخل ق في‬
‫القلب من الشهوات ما احتاج إليه‪ ،‬وخلقت األعضاء التي هي آالت الشهوات ف افتقر‬
‫ألجل دفع المهلكات إلى جندين‪ :‬باطن‪ ،‬وهو الغضب الذي به يدفع المهلك ات وينتقم‬
‫من األعداء‪ .‬وظاهر‪ ،‬وهو اليد والرجل اللتين بهما يعم ل بمقتض ى الغض ب‪ ،‬وك ل‬
‫ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كاألسلحة وغيرها)(‪)1‬‬
‫وينبع من هذه الصفات ـ كما ي ذكر الغ زالي ـ الغض ب والحق د والتهجم على‬
‫الناس بالضرب والقتل واستهالك األموال‪ ،‬ويتفرّع عنها جمل من الذنوب‪.‬‬
‫مظاهر االنحراف‬
‫أش ار الق رآن الك ريم إلى تص نيفات مختلف ة لل ذنوب(‪ ،)2‬ورتب على ك ل‬
‫تصنيف منها ما يتعلق به من آثار‪:‬‬
‫ومن ذلك تصنيف الذنوب إلى ذنوب ظاهرة وذنوب باطنة‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫اطنَ هُ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْك ِس بُونَ اأْل ِ ْث َم َس يُجْ زَ وْ نَ بِ َم ا َك انُوا يَ ْقت َِرفُ ونَ ﴾‬ ‫َو َذرُوا ظَ ا ِه َر اأْل ِ ْث ِم َوبَ ِ‬
‫(األنعام‪ ،)120:‬فقد قسم ال ذنوب في ه ذه اآلي ة إلى ذن وب ظ اهرة وذن وب باطن ة‪،‬‬
‫وأمر ب ترك جميعه ا‪ ،‬ومثل ه في ه ذا التص نيف قول ه تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ إِنَّ َم ا َح َّر َم َربِّ َي‬
‫ق َوأَ ْن تُ ْش ِر ُكوا بِاهَّلل ِ َم ا لَ ْم‬ ‫ش َما ظَهَ َر ِم ْنهَا َو َما بَطَنَ َواأْل ِ ْث َم َو ْالبَ ْغ َي بِ َغ ْي ِر ْال َح ِّ‬ ‫ْالفَ َوا ِح َ‬
‫يُنَ ِّزلْ بِ ِه س ُْلطَانا ً َوأَ ْن تَقُولُوا َعلَى هَّللا ِ َما ال تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ (ألعراف‪)33:‬‬
‫ومنها تصنيف الذنوب إلى ص نفي اإلثم والع دوان‪ ،‬وق د ورد ذل ك في خمس‬
‫مواضع من القرآن الكريم‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬ثُ َّم أَ ْنتُ ْم هَ ؤُال ِء تَ ْقتُلُ ونَ أَ ْنفُ َس ُك ْم َوتُ ْخ ِر ُج ونَ‬
‫ان ﴾ (البقرة‪ ،)85:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ار ِه ْم تَظَاهَرُونَ َعلَ ْي ِه ْم بِاأْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َو ِ‬‫فَ ِريقا ً ِم ْن ُك ْم ِم ْن ِديَ ِ‬
‫ان ﴾ (المائدة‪ ،)2:‬وق ال‬ ‫اونُوا َعلَى اأْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َو ِ‬ ‫﴿ َوتَ َعا َونُوا َعلَى ْالبِ ِّر َوالتَّ ْق َوى َوال تَ َع َ‬
‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/6 :‬‬
‫‪ )(2‬لهذه التصنيفات أهمية كبيرة في اس تعمال العالج المناس ب لك ل ذنب‪ ،‬وه و كتص نيف األطب اء لألم راض‬
‫ليسهل عليهم التعامل مع كل نوع بما يناسبه من أدوية‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ان﴾ (المائ دة‪ ،)62:‬وق ال‬ ‫ار ُعونَ فِي اأْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َو ِ‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬وتَ َرى َكثِ يراً ِم ْنهُ ْم ي َُس ِ‬
‫ول ﴾ (المجادل ة‪ ،)8:‬وق ال‬ ‫َّس ِ‬ ‫ت الر ُ‬ ‫ْص يَ ِ‬ ‫ان َو َمع ِ‬‫اجوْ نَ بِ اأْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َو ِ‬‫تع الى‪َ ﴿ :‬ويَتَنَ َ‬
‫ت‬‫ْص يَ ِ‬ ‫ان َو َمع ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫أْل‬
‫اج ْيتُ ْم فَال تَتَنَ ا َجوْ ا بِ ا ِ ث ِم َوال ُع ْد َو ِ‬ ‫تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا ال ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا تَنَ َ‬
‫َّ‬
‫ال َّرسُو ِل﴾ (المجادلة‪)9:‬‬
‫واإلثم‪ :‬الفعل الذي يستحق علي ه ص احبه ال ذم‪ .‬والع دوان‪ :‬اإلف راط في الظلم‬
‫والتجاوز فيه‪ .‬وقد قال ابن جرير‪ :‬اإلثم‪ :‬ترك ما أمر هّللا بفعل ه‪ ،‬والع دوان مج اوزة‬
‫ما حد هّللا في دينكم ومجاوزة ما فرض هّللا عليكم في أنفسكم وفي غيركم‪.‬‬
‫ومنها تصنيف الذنوب إلى كبائر وصغائر‪ ،‬كما أش ار إلى ذل ك قول ه تع الى‪:‬‬
‫َض بُوا هُ ْم يَ ْغفِ رُونَ ﴾ (الش ورى‪:‬‬ ‫ش َوإِ َذا َم ا غ ِ‬ ‫اح َ‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ يَجْ تَنِبُونَ َكبَائِ َر اأْل ِ ْث ِم َو ْالفَ َو ِ‬
‫‪)37‬‬
‫ومنها تصنيف الذنوب إلى إثم وفواحش‪ ،‬ثم كبائر ولمم‪ ،‬كما في قوله تع الى‪:‬‬
‫اس ُع ْال َم ْغفِ َر ِة هُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ُك ْم‬‫ش إِاَّل اللَّ َم َم إِ َّن َربَّكَ َو ِ‬ ‫اح َ‬ ‫﴿ الَّ ِذينَ يَجْ تَنِبُونَ َكبَائِ َر اأْل ِ ْث ِم َو ْالفَ َو ِ‬
‫ون أ َّمهَ اتِ ُك ْم فَال تُزَ ُّكوا أَ ْنفُ َس ُك ْم هُ َو أَ ْعلَ ُم‬ ‫ُ‬ ‫ض َوإِ ْذ أَ ْنتُ ْم أَ ِجنَّةٌ فِي بُطُ ِ‬ ‫إِ ْذ أَ ْن َش أ َ ُك ْم ِمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫بِ َم ِن اتَّقَى﴾ (لنجم‪)32:‬‬
‫وقد اهتم علماء السلوك المسلمين ـ انطالقا من الق رآن الك ريم‪ ،‬وانطالق ا من‬
‫تحليل الذنوب وآثارها وكيفية عالجها ـ بتصنيف أنواع االنح راف‪ ،‬لي ذكروا بع دها‬
‫ما يرونه من عالج لكل صنف‪.‬‬
‫وقد اتفق العلماء عل التقسيمين التاليين‪:‬‬
‫مظاهر االنحراف بحسب متعلقها‪ :‬وربما يشير إلى هذا النوع من الذنوب م ا‬
‫قسم هللا تعالى به الذنوب إلى إثم وعدوان‪ ،‬وذلك ألن اإلثم م ا ك ان بين العب د ورب ه‬
‫تعالى أما العدوان‪ ،‬فهو ما كان من التعدي على مصالح الخلق‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬اعلم‬
‫أن الذنوب تقسم إلى ما بـين العبد وبـين هللا تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العب اد‪ .‬فم ا‬ ‫ّ‬
‫يتعل ق بالعب د خاص ة ك ترك الص الة والص وم والواجب ات الخاص ة ب ه وم ا يتعل ق‬
‫بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله النفس وغص به األم وال وش تمه األع راض وك ل‬
‫متناول من حق الغير‪ ،‬فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه‪ ،‬وتناول‬
‫الدين باإلغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصي وتهيـيج أس باب الج رأة‬
‫على هللا تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرج اء على ج انب الخ وف)‬
‫(‪)1‬‬
‫ولهذا التقسيم أهميته الكبرى من جهات مختلفة‪:‬‬
‫فمن جهة المغفرة‪ ،‬فإن (ما يتعلق بالعباد ف األمر في ه أغل ظ‪ ،‬وم ا بـين العب د‬
‫وبـين هللا تع الى إذا لم يكن ش ركا ً ف العفو في ه أرجى وأق رب‪ ،‬وق د ج اء في الخ بر‪،‬‬
‫الدواوين ثالثة‪ :‬ديوان يغفر‪ ،‬وديوان ال يغفر‪ ،‬وديوان ال يترك‪ :‬فالديوان الذي يغفر‪:‬‬
‫ذنوب العباد بـينهم وبـين هللا تعالى‪ ،‬وأما الديوان الذي ال يغفر‪ :‬فالشرك باهلل تع الى‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/36 :‬‬

‫‪145‬‬
‫وأما الديوان الذي ال يترك‪ .‬فمظالم العباد أي ال بد وأن يطالب بها حتى يعفى عنها)‬
‫ومن جه ة تش ديد الم ربي على من يربي ه‪ ،‬فإن ه ال ينبغي للم ربي‪ ،‬وخاص ة‬
‫الوال د أن يتس اهل م ع ابن ه في مص الح الن اس‪ ،‬ف إن ل ذلك خطورت ه الكب يرة على‬
‫مستقبل ابنه‪ ،‬كما سنوضح ذلك في الفصل الخاص بالبعد االجتماعي‪.‬‬
‫مظاهر االنحراف بحسب صغرها وكبرها‪ :‬نعم‪ ،‬إن كل معصية هلل كبيرة(‪،)1‬‬
‫والمربي الصالح هو الذي يحمي من يربيه عن كل المعاصي‪ ،‬ولكن م ع ذل ك‪ ،‬ف إن‬
‫اإلنسان غير معصوم‪ ،‬ومن الخطا أن نتعامل مع أخطائه معامل ة واح دة‪ ،‬فال نف رق‬
‫بين من ما كبر منها وعظم‪ ،‬وبين ما صغر منها‪.‬‬
‫ولهذا ورد القرآن الكريم به ذا التقس يم‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ ْن تَجْ تَنِبُ وا َكبَ ائِ َر َم ا‬
‫تُ ْنهَوْ نَ َع ْنهُ نُ َكفِّرْ َع ْن ُك ْم َسيِّئَاتِ ُك ْم َونُ ْد ِخ ْل ُك ْم ُمدْخَ الً َك ِريماً﴾ (النساء‪ ،)31:‬وقال تعالى‪﴿ :‬‬
‫َضبُوا هُ ْم يَ ْغفِرُونَ ﴾ (الشورى‪،)37:‬‬ ‫ش َوإِ َذا َما غ ِ‬ ‫َوالَّ ِذينَ يَجْ تَنِبُونَ َكبَائِ َر اأْل ِ ْث ِم َو ْالفَ َوا ِح َ‬
‫ش إِاَّل اللَّ َم َم﴾ (لنجم‪)32:‬‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ يَجْ تَنِبُونَ َكبَائِ َر اأْل ِ ْث ِم َو ْالفَ َو ِ‬
‫اح َ‬
‫وقد وردت النصوص الكثيرة بعد بعض ال ذنوب الكب ائر‪ ،‬وهي ـ كم ا ي ذكر‬
‫ابن حجر ـ نوعان‪:‬‬
‫النصوص الصريحة باعتبار الذنب كبيرة‪ :‬وهي األصل الذي يعتمد عليه في‬
‫عد الكبائر‪ ،‬ومن تلك النصوص قوله ‪(:‬أال أنبئكم ب أكبر الكب ائر ثالث ا‪ :‬اإلش راك‬
‫باهلل‪ ،‬وعقوق الوال دين‪ ،‬وش هادة ال زور وق ول ال زور وك ان متكئ ا فجلس فم ا زال‬
‫يكررها حتى قلنا ليته سكت)(‪ ،)2‬وسئل ‪(:‬أي الذنب أعظم؟ قال‪ :‬أن تجعل هلل ندا‬
‫وهو خلقك‪ ،‬قلت‪ :‬إن ذلك لعظيم‪ ،‬ثم أي؟ قال‪ :‬وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك‪،‬‬
‫قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬أن تزاني حليل ة ج ارك)(‪ ،)3‬وق ال ‪(:‬من الكب ائر ش تم الرج ل‬
‫والديه‪ ،‬قيل‪ :‬وهل يشتم الرج ل والدي ه؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬يس ب الرج ل أب ا الرج ل وأم ه‪،‬‬
‫فيسب أباه وأمه)(‪ ،)4‬وفي رواية للبخ اري أن ه ذه األخ يرة من أك بر الكب ائر‪ ،‬وفي‬
‫رواية له أيضا عد الشرك‪ ،‬والعقوق‪ ،‬والقتل‪ ،‬واليمين الغموس من الكبائر‪ ،‬وعد في‬
‫أخرى الشرك‪ ،‬والقتل إال بالحق‪ ،‬وأكل مال الي تيم‪ ،‬والرب ا‪ ،‬والت ولي ي وم الزح ف‪،‬‬

‫‪ )(1‬أنكر بعض العلماء هذا التقسيم‪ ،‬وذهبوا إلى أن كل المعاصي كبائر‪ ،‬منهم األستاذ أبو إسحاق اإلس فراييني‪،‬‬
‫والقاضي أبو بكر الباقالني‪ ،‬وإمام الحرمين في " اإلرشاد "‪ ،‬وابن القشيري في " المرشد " بل حكاه ابن ف ورك عن‬
‫األشاعرة واخت اره في تفس يره فق ال‪ (:‬معاص ي هللا تع الى عن دنا كله ا كب ائر‪ ،‬وإنم ا يق ال لبعض ها ص غيرة وكب يرة‬
‫باإلضافة إلى ما هو أكبر منها )‪ ،‬ثم أول اآلية اآلتية‪ ﴿ :‬إِ ْن تَجْ تَ ِنبُوا َكبَا ِئ َر َما تُ ْنهَوْ نَ َع ْن هُ نُ َكفِّرْ َع ْن ُك ْم َس يِّئَا ِت ُك ْم َونُ ْد ِخ ْل ُك ْم‬
‫َريماً﴾ (النساء‪ )31:‬بما ال يدل عليه ظاهرها‪.‬‬‫ُمدْخَ الً ك ِ‬
‫وما ذهب إليه هؤالء العلماء صحيح من جهة أن كل المعاصي خط يرة س واء ك انت ص غيرة أو كب يرة‪ ،‬ب ل من‬
‫الحرج تلقيب المعصية بكونها صغيرة‪ ،‬قال القاض ي عب د الوه اب‪ :‬ال يمكن أن يق ال في معص ية‪ :‬إنه ا ص غيرة‪ ،‬إال‬
‫على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا الجمع ما رواه الط براني عن ابن عب اس‪ ،‬أن ه ذك ر عن ده الكب ائر فق ال‪ (:‬ك ل م ا نهي عن ه فه و‬
‫كبيرة )‪ ،‬وفي رواية عنه‪ (:‬كل شيء عصي هللا فيه فهو كبيرة )‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫وقذف المحصنات المؤمنات الغافالت موبقات‪ ،‬وفي رواية صحيحة عد ه ذه الس بع‬
‫وعقوق الوالدين المسلمين واستحالل البيت الحرام كبائر‪.‬‬
‫النصوص المخبرة باللعن أو الغضب أو الوعيد ش ديد‪ :‬فهي تشير إلى ك ون‬
‫الذنب كبيرا‪ ،‬وإال لما رتب عليه ذلك العقاب الش ديد‪ ،‬ومن ذل ك قول ه ‪(:‬ثالث ة ال‬
‫يكلمهم هللا وال ينظر إليهم وال يزكيهم ولهم عذاب أليم‪ .‬قال أب و ذر‪ :‬فقرأه ا رس ول‬
‫هللا ‪ ‬ثالث م رات‪ ،‬فقلت‪ :‬خ ابوا وخس روا من هم ي ا رس ول هللا؟ ق ال‪ :‬المس بل‬
‫إزاره‪ - :‬أي خيالء كما في رواي ات أخ ر ‪ -‬والمن ان‪ :‬ال ذي ال يعطي ش يئا إال من ة‪،‬‬
‫والمنف ق س لعته ب الحلف الك اذب)(‪ ،)1‬وفي رواي ة أنهم‪(:‬ش يخ زان‪ ،‬ومل ك ك ذاب‪،‬‬
‫وعائل مستكبر)(‪ ،)2‬وفي رواية أنهم (رجل على فضل ماء بفالة يمنعه ابن السبيل‪،‬‬
‫ورجل بايع رجال سلعة بعد العصر فحلف باهلل ألخذها بكذا وكذا فص دقه وه و على‬
‫غير ذلك‪ ،‬ورجل بايع إماما ال يبايعه إال للدنيا فإن أعطاه منها ما يري د وفى ل ه وإن‬
‫لم يعطه لم يف له)(‪)3‬‬
‫ومنه ا قول ه ‪(:‬إن هلل تع الى عب ادا ال يكلمهم ي وم القيام ة وال ي زكيهم وال‬
‫ينظر إليهم)‪ ،‬قيل‪(:‬ومن أولئك يا رسول هللا؟ قال‪ :‬مت برئ من والدي ه راغب عنهم ا‬
‫أو متبرئ من ولده‪ ،‬ورجل أنعم عليه قوم فكف ر نعمتهم وت برأ منهم)(‪ ،)4‬وق ال ‪:‬‬
‫(ال يدخل الجنة قتات)(‪)5‬أي نمام‪ ،‬وقال ‪(:‬ثالث ال يدخلون الجن ة‪ :‬م دمن خم ر‪،‬‬
‫وقاطع رحم‪ ،‬ومصدق بالسحر)(‪ ،)6‬وقال ‪(:‬ثالث أنا خصمهم يوم القيامة‪ :‬رج ل‬
‫أعطى بي ثم غدر‪ ،‬ورجل باع حرا فأكل ثمنه‪ ،‬ورجل استأجر أجيرا فاس توفى من ه‬
‫العمل ولم يوفه أج ره)(‪ ،)7‬وق ال ‪(:‬ال ي دخل الجن ة ع اق‪ ،‬وال م دمن خم ر‪ ،‬وال‬
‫نمام)(‪ ،)8‬وقال ‪(:‬ال يدخل الجنة عاق وال مدمن خمر وال مكذب بقدر)(‪ ،)9‬وقال‬
‫‪(:‬لعن هللا من ذبح لغ ير هللا‪ ،‬لعن هللا من لعن والدي ه‪ ،‬لعن هللا من آوى مح دثا‪،‬‬
‫لعن هللا من غير منار األرض أي طرقها)(‪ ،)10‬وقال ‪(:‬ثالثة ال ي دخلون الجن ة‪:‬‬
‫العاق لوالديه‪ ،‬والديوث‪ ،‬ورجلة النساء)(‪)11‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه أحمد والبخاري‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه أحمد والنسائي‪.‬‬
‫‪ )(9‬رواه أحمد وابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(10‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(11‬رواه الحاكم وصححه‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫وقد اختلف العلماء ـ انطالقا من أمثال هذه النص وص ـ في ع د الكب ائر‪ ،‬ب ل‬
‫بدأ الخالف من لدن الصحابة‪ ،‬فق ال ابن مس عود ‪ :‬هن أرب ع‪ .‬وق ال ابن عم ر ‪ :‬هن‬
‫سبع‪ .‬وقال عبد هللا بن عمرو ‪ :‬هن تسع‪ .‬وكان ابن عباس إذا بلغ ه ق ول ابن عم ر ‪:‬‬
‫الكبائر سبع‪ ،‬يقول‪ :‬هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع‪.‬‬
‫وللغزالي تقرير جيد في هذه المس ألة يمكن االس تفادة من ه في تحدي د الكب ائر‬
‫التي لم ترد بها النصوص‪ ،‬انطلق فيه من النظرة المقاصدية ألحكام الش ريعة‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫(نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعا ً أن مقصود الشرائع كله ا س ياق الخل ق‬
‫إلى جوار هللا تعالى وسعادة لقائه‪ ،‬وأنه ال وصول لهم إلى ذلك إال بمعرفة هللا تعالى‬
‫ومعرفة صفاته وكتبه ورسله‪ ..‬وال يكون العب د عب داً م ا لم يع رف رب ه بالربوبـية‬
‫ونفسه بالعبودية وال ب ّد أن يعرف نفس ه ورب ه‪ ،‬فه ذا ه و المقص ود األقص ى ببعث ة‬
‫األنبـياء‪ ،‬ولكن ال يتم هذا إال في الحي اة ال دنيا‪ ..‬فص ار حف ظ ال دنيا أيض ا ً مقص وداً‬
‫تابعا ً للدين ألنه وسيلة إليه‪ .‬والمتعلق من الدنيا ب اآلخرة ش يئان‪ :‬النف وس واألم وال‪،‬‬
‫فكل ما يس ّد باب معرفة هللا تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يس ّد ب اب حي اة النف وس‬
‫ويليه باب ما يس ّد المعايش التي بها حياة الناس)(‪)1‬‬
‫فهذه هي النواحي الثالثة التي جاءت الش ريعة لحفظه ا‪ ،‬ق ال الغ زالي‪(:‬فه ذه‬
‫ثالث مراتب‪ ،‬فحف ظ المعرف ة على القل وب‪ ،‬والحي اة على األب دان‪ ،‬واألم وال على‬
‫األشخاص ضروري في مقص ود الش رائع كله ا‪ ،‬وه ذه ثالث ة أم ور ال يتص وّر أن‬
‫أن هللا تعالى يبعث نبـيا ً يريد ببعث ه إص الح الخل ق في‬ ‫تختلف فيها الملل‪ ،‬فال يجوز ّ‬
‫دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله؛ أو ي أمرهم ب إهالك‬
‫النفوس وإهالك ألموال)‬
‫انطالقا من هذا صنف الكبائر إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫ما يمنع من معرفة هللا تعالى ومعرفة رسله‪ :‬كالكفر‪ ،‬فال كبـيرة فوق الكف ر‪،‬‬
‫إذ الحج اب بـين هللا وبـين العب د ه و الجه ل‪ ،‬والوس يلة المقرّب ة ل ه إلي ه ه و العلم‬
‫والمعرفة‪ ،‬وقربه بقدر معرفته‪ ،‬وبعده بقدر جهله‪.‬‬
‫ويتلوه الجهل الذي ال يسمى كفراً‪ ،‬وذلك مثل األمن من مكر هللا والقن وط من‬
‫رحمته‪ ،‬فإن هذا أيضا ً عين الجهل‪ ،‬فمن عرف هللا لم يتصوّر أن يك ون آمن ا ً وال أن‬
‫يكون آيساً‪.‬‬
‫ويتلوه كل البدع المتعلقة بذات هللا وصفاته وأفعاله وبعض ها أش ّد من بعض‪،‬‬
‫وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات هللا س بحانه بأفعال ه‬
‫وشرائعه وبأوامره ونواهيه‪.‬‬
‫ما يمنع من حفظ النفوس‪ :‬ألنه ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة‬
‫باهلل‪ ،‬فقت ل النفس ال محال ة من الكب ائر وإن ك ان دون الكف ر‪ ،‬ألن ذل ك يص دم عين‬
‫المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود‪ ،‬إذ حياة الدنيا ال ت راد إال لآلخ رة والتوص ل‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/19 :‬‬

‫‪148‬‬
‫إليها بمعرفة هللا تعالى‪.‬‬
‫ويتلو هذه الكبـيرة قطع األطراف وكل ما يفض ي إلى الهالك ح تى الض رب‬
‫وبعضها أكبر من بعض‪ ،‬ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنى واللواط‪ ،‬ألنه لو اجتم ع‬
‫الناس على االكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل‪ ،‬ودفع الموجود قريب‬
‫من قطع الوجود‪.‬‬
‫ويتلوه الزنى‪ ،‬فإن ه ـ م ع كون ه ال يف وت أص ل الوج ود ـ يش وّش األنس اب‬
‫ويبطل التوارث والتناصر وجملة من األمور التي ال ينتظم العيش إال بها(‪.)1‬‬
‫ما يمنع من حفظ األموال‪ :‬ألنها معايش الخل ق فال يج وز تس لط الن اس على‬
‫تناولها كيف شاءوا حتى باالستيالء والس رقة وغيرهم ا‪ ،‬ب ل ينبغي أن تحف ظ لتبقى‬
‫ببقائها النفوس‪ ،‬إال أن األموال إذا أخذت أمكن اس تردادها وإن أكلت أمكن تغريمه ا‬
‫فليس يعظم األمر فيها‪ ،‬نعم إذا جرى تناوله ا بطري ق يعس ر الت دارك ل ه فينبغي أن‬
‫يكون ذلك من الكبائر‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فإن ما دلت األدلة على كونه من الص غائر ق د يص ير من‬
‫الكبائر إذا اتصف بالصفتين التاليتين‪:‬‬
‫اإلصرار والمواظبة‪ :‬وإليه اإلشارة بقوله تع الى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ يَجْ تَنِبُ ونَ َكبَ ائِ َر اأْل ِ ْث ِم‬
‫ش إِاَّل اللَّ َم َم﴾ (لنجم‪ ،)32:‬فمن األقوال في تفسيرها ما قاله مجاه د والحس ن‪:‬‬ ‫َو ْالفَ َوا ِح َ‬
‫(هو الذي ي أتي ال ذنب ثم ال يع اوده)‪ ،‬وق ال الزه ري‪(:‬اللمم أن ي زني ثم يت وب فال‬
‫يعود‪ ،‬وأن يسرق أويشرب الخمر ثم يتوب فال يعود)‬
‫اح َشةً أَوْ ظَلَ ُموا أَ ْنفُ َسهُ ْم َذ َك رُوا‬ ‫ويدل على هذا قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ إِ َذا فَ َعلُوا فَ ِ‬
‫ُص رُّ وا َعلَى َم ا فَ َعلُ وا َوهُ ْم‬ ‫وب إِاَّل هَّللا ُ َولَ ْم ي ِ‬
‫اس تَ ْغفَرُوا لِ ُذنُوبِ ِه ْم َو َم ْن يَ ْغفِ ُر ال ُّذنُ َ‬ ‫هَّللا َ فَ ْ‬
‫ك‬ ‫ُ‬
‫يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ (آل عمران‪ ،)135:‬فق د ض من لهم المغف رة بقول ه تع الى عقبه ا‪ ﴿ :‬أولَئِ َ‬
‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َونِ ْع َم أَجْ ُر‬ ‫َجزَا ُؤهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ ِم ْن َربِّ ِه ْم َو َجنَّ ٌ‬
‫اس ُع ْال َم ْغفِ َر ِة﴾‬‫ْال َعا ِملِينَ ﴾ (آل عمران‪ ،)136:‬ومثل ذلك قوله عقيب اللمم‪ ﴿ :‬إِ َّن َربَّكَ َو ِ‬
‫(لنجم‪)32:‬‬
‫ولذلك قيل‪ :‬ال صغيرة مع إص رار وال كبـيرة م ع اس تغفار‪ ،‬فكبـيرة واح دة‬
‫تنصرم وال يتبعها مثلها لو تصوّر ذلك كان العفو عنه ا أرجى من ص غيرة ي واظب‬
‫العبد عليها‪.‬‬
‫وقد شبه الغزالي ذلك بقطرات من الم اء تق ع على الحج ر على ت وال فت ؤثر‬
‫فيه‪ ،‬وذلك القدر من الماء لو صب عليه دفعة واحدة لم يؤثر‪.‬‬
‫احتق ار ال ذنب‪ :‬ويش ير إلى ه ذا قول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ ْذ تَلَقَّوْ نَ هُ بِأل ِس نَتِك ْم َوتَقول ونَ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ْس لَ ُك ْم بِ ِه ِع ْل ٌم َوتَحْ َس بُونَهُ هَيِّن ا ً َوهُ َو ِع ْن َد هَّللا ِ َع ِظي ٌم﴾ (الن ور‪،)15:‬‬ ‫بِ أ َ ْف َوا ِه ُك ْم َم ا لَي َ‬
‫وبقول بعض الص حابة م‪(:‬إنكم لتعمل ون أعم االً هي في أعينكم أدق من الش عر كن ا‬
‫نعدها على عهد رسول هللا ‪ ‬من الموبقات)‬
‫‪ )(1‬ما ذكره الغزالي هنا في حفظ النفوس خصه آخرون بقسم خاص‪ ،‬سموه ( حفظ النسل )‪ ،‬ويدخل فيه ( حفظ‬
‫العرض)‬

‫‪149‬‬
‫ويعل ق الغ زالي على ه ذا بقول ه‪(:‬إذ ك انت معرف ة الص حابة بجالل هللا أتم‪،‬‬
‫فك انت الص غائر عن دهم باإلض افة إلى جالل هللا تع الى من الكب ائر‪ ،‬وبه ذا الس بب‬
‫يعظم من العالم ما ال يعظم من الجاهل‪ ،‬ويتج اوز عن الع امي في أم ور ال يتج اوز‬
‫في أمثالها عن العارف‪ ،‬ألن الذنب والمخالفة يكبر بقدر معرفة المخالف)(‪)1‬‬
‫وق د روي أن ه أوحى هللا تع الى إلى بعض أنبـيائه‪(:‬ال تنظ ر إلى قل ة الهدي ة‬
‫وانظ ر إلى عظم مه ديها‪ ،‬وال تنظ ر إلى ص غر الخطيئ ة وانظ ر إلى كبري اء من‬
‫واجهته بها)‬
‫ولهذا قال من قال من العلماء بأن الذنوب كلها كبائر‪ ،‬كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫والسر في هذا ـ كما يذكر الغ زالي ـ أن اس تعظام العب د لل ذنب ـ مهم ا ك ان‬
‫صغيرا ـ يص در عن نف ور القلب عن ه وكراهيت ه ل ه‪ ،‬وذل ك النف ور يمن ع من ش دة‬
‫تأثيره به‪ ،‬أما استصغاره‪ ،‬فيصدر عن األلف به وذلك يوجب ش ّدة األث ر في القلب‪،‬‬
‫والقلب ه و المطل وب تن ويره بالطاع ات‪ ،‬والمح ذور تس ويده بالس يئات‪ ،‬ول ذلك ال‬
‫يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة فإن القلب ال يتأثر بما يجري في الغفلة‪.‬‬
‫ويدخل في هذا النوع ـ وإن كان الغ زالي ق د ذك ره قس ما مس تقال ـ الس رور‬
‫بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن كونه سبب‬
‫الشقاوة‪.‬‬
‫وهو يدخل في ما سبق ذكره‪ ،‬بل ه و مرتب ة أعظم من المرتب ة الس ابقة‪ ،‬ألن‬
‫هذا لم يحتقر المعصية فقط‪ ،‬بل وتبجح بها أيضا‪.‬‬
‫وي ذكر الغ زالي األمثل ة الواقعي ة ل ذلك‪ ،‬فيق ول‪(:‬ح تى إن من المذنبـين من‬
‫يتمدح بذنبه ويتبجح به لش ّدة فرحه بمقارفته إياه‪ ،‬كما يقول‪ :‬أما رأيتني كيف م زقت‬
‫عرض ه‪ ،‬ويق ول المن اظر في مناظرت ه‪ :‬أم ا رأيت ني كي ف فض حته وكي ف ذك رت‬
‫مساوئه حتى أخجلته وكيف استخففت ب ه وكي ف لبس ت علي ه؟ ويق ول المعام ل في‬
‫التجارة‪ :‬أما رأيت كيف روّجت عليه الزائف وكيف خدعت ه وكي ف غبنت ه في مال ه‬
‫وكيف استحمقته؟)(‪)2‬‬
‫ويعلق على هذه األمثلة بقوله‪(:‬فهذا وأمثاله تك بر ب ه الص غائر ف إن ال ذنوب‬
‫مهلكات‪ ،‬وإذا دفع العبد إليها وظفر الشيطان ب ه في الحم ل عليه ا فينبغي أن يك ون‬
‫في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العد ّو علي ه وبس بب بع ده من هللا تع الى‪ ،‬ف المريض‬
‫الذي يفرح بأن ينكسر إن اؤه ال ذي في ه دواءه ح تى يتخلص من ألم ش ربه ال ي رجى‬
‫شفاؤه)‬
‫ويدخل في هذا النوع ـ وإن ك ان الغ زالي ق د ذك ره قس ما مس تقال ـ أن ي أتي‬
‫الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على‬
‫ستر هللا الذي سدله عليه وتحري ك لرغب ة الش ر فيمن أس معه ذنب ه أو أش هده فعل ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/32 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/32 :‬‬

‫‪150‬‬
‫فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فغلظت به‪ ،‬فإن انض اف إلى ذل ك ال ترغيب للغ ير‬
‫فيه والحمل عليه وتهيئة األسباب له صارت جناية رابعة وتفاحش األمر‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪(:‬كل أم تي مع افى إال المج اهرين‪ ،‬وإن من اإلجه ار أن يعم ل‬
‫الرجل بالليل عمال ثم يصبح وقد س تره هللا فيق ول‪ :‬عملت البارح ة ك ذا وك ذا‪ ،‬وق د‬
‫بات يستره ربه فيصبح يكشف ستر هللا عز وجل عنه)(‪)1‬‬
‫ويدخل في المجاهرة أن يقع الذنب من شخص يكون قدوة لغ يره‪ ،‬ألن ه بفعل ه‬
‫المعص ية يض ل خلق ا كث يرا ممن يقت دي ب ه فيه ا‪ ،‬يق ول الغ زالي بع د ع ده لبعض‬
‫الذنوب التي يقع فيها بعض العلماء بال شعور أو اك تراث‪(:‬فه ذه ذن وب يتب ع الع الم‬
‫عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آم اداً متطاول ة‪ ،‬فط وبى لمن إذا‬
‫مات ماتت ذنوبه معه)(‪)2‬‬
‫سن سنَّة س يئة فعلي ه وزره ا‬‫ويشير إلى هذا النوع من الذنوب قوله ‪(:‬من َّ‬
‫ووزر من عمل بها ال ينقص من أوزارهم شيئاً)(‪ ،)3‬وقال ابن عباس ‪(:‬وي ل للع الم‬
‫من األتباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في اآلفاق)‬
‫وشبه بعضهم زلة العالم‪ ،‬فقال‪(:‬مثل زل ة الع الم مث ل انكس ار الس فينة تغ رق‬
‫ويغرق أهلها)‬
‫ويذكر الغزالي أن عالما ً ـ من األمم الس الفة ـ ك ان يض ل الن اس بالبدع ة ثم‬
‫أدركته توبة فعمل في اإلصالح دهراً‪ ،‬فأوحى هللا تعالى إلى نبـيهم‪(:‬قل ل ه إن ذنب ك‬
‫لو كان فيما بـيني وبـينك لغفرته لك‪ ،‬ولكن كيف بمن أض للت من عب ادي ف أدخلتهم‬
‫النار)‬
‫‪ 2‬ـ أساليب عالج االنحراف‬
‫انطالقا مما سبق فإن المربي الناصح إذا ما رأى منبعا من منابع االنح راف‪،‬‬
‫أو مظهرا من مظاهره يتس رب لمن يربي ه ليدنس ه بأوحال ه‪ ،‬فإن ه يس ارع لتطه يره‬
‫ووقايته بكل ما أمكنه من السبل والوسائل‪.‬‬
‫وهذا يستدعي علما خاصا‪ ،‬ال يمكننا ذكر تفاصيله هنا‪ ،‬ولكنا نحاول انطالق ا‬
‫مما ذكره المرب ون وعلم اء الس لوك من المس لمين أن نلم بجمل ه وقواع ده ليتخ ذها‬
‫المربي قوانين يسير على ضوئها في إصالح من تكفل بتربيته‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر ه ذه األس اليب المقاوم ة لالنح راف أو المعالج ة ل ه‪ ،‬نحب أن‬
‫نرد على من يتصور األخالق صفات راسخة يستحيل تحويلها أو تغييره ا‪ ،‬لينطل ق‬
‫من ذل ك إلى اس تحالة ت أثير التربي ة في اإلص الح‪ ،‬وتنتش ر األمث ال المثبط ة في‬
‫المجتمع عن هذه الفكرة‪ ،‬وهي خطيرة جدا ال بما تحمله من يأس فق ط‪ ،‬وإنم ا ألنه ا‬
‫تض اد دع وة الرس ل ـ ص لوات هللا وس المه عليهم ـ ال ذين ك ان من أهم وظ ائفهم‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/32 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن ماجه‪ ،‬رقم ‪.23‬‬

‫‪151‬‬
‫التزكية التي تع ني تطه ير عب اد هللا من رذائ ل األخالق‪ ،‬وتحليتهم بمحاس نها‪ ،‬كم ا‬
‫ث فِي ِه ْم‬ ‫ذك ر تع الى ذل ك في مواض ع من الق رآن الك ريم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ربَّنَ ا َوا ْب َع ْ‬
‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َويُ زَ ِّكي ِه ْم إِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز‬ ‫ك َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَ َ‬ ‫َرسُوالً ِم ْنهُ ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ َ‬
‫ث فِي ِه ْم َرسُوالً‬ ‫ْال َح ِكي ُم﴾ (البقرة‪ ،)129:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َم َّن هَّللا ُ َعلَى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ إِ ْذ بَ َع َ‬
‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َوإِ ْن َك انُوا ِم ْن قَ ْب ُل‬ ‫ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُ َز ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَ َ‬
‫ث فِي اأْل ُ ِّميِّينَ‬ ‫ين﴾ (آل عم ران‪ ،)164:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي بَ َع َ‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬
‫ض ٍ‬ ‫لَفِي َ‬
‫َاب َوال ِح ْك َم ةَ َوإِ ْن َك انُوا ِم ْن قَ ْب ُل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫َرسُوالً ِم ْنهُ ْم يَ ْتلو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُ َز ِّكي ِه ْم َويُ َعل ُمهُ ُم ال ِكت َ‬
‫ين﴾ (الجمعة‪)2:‬‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫لَفِي َ‬
‫ومن األدل ة ال تي ذكره ا الغ زالي للق ائلين ب أن األخالق ال تتغ ير بطري ق‬
‫الرياضة‪:‬‬
‫ْ‬
‫‪ 1‬ـ أن ال ُخلُق هو صورة الباطن كما أن الخَ لق هو ص ورة الظ اهر‪ ،‬فالخلق ة‬
‫الظاهرة ال يقدر على تغيـيرها فالقصير ال يقدر أن يجعل نفسه طويالً‪ ،‬وال الطوي ل‬
‫يقدر أن يجعل نفسه قص يراً‪ ،‬وال القبـيح يق در على تحس ين ص ورته‪ ،‬فك ذلك القبح‬
‫الباطن يجري هذا المجرى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن حسن الخلق ال يكون إال بقمع الشهوة والغض ب‪ ،‬والتجرب ة ت دل على‬
‫استحالة هذا‪ ،‬ألنهما من مقتضيات المزاج والطبع‪.‬‬
‫والرد على هذا من النصوص ال يمكن اس تيفاؤه ـ هن ا ـ ألن ك ل النص وص‬
‫الحاضة على التخلق باألخالق الحسنة أو الناهية عن األخالق السيئة ترد على هذا‪،‬‬
‫ألن الشرع ال يأمر بالمستحيل‪ ،‬وقد قال تعالى‪ ﴿ :‬ال تُ َكلَّفُ نَ ْفسٌ إِاَّل ُو ْس َعهَا﴾ (البق رة‪:‬‬
‫ت َو َعلَ ْيهَا َما ا ْكتَ َسبَت﴾‬ ‫‪ ،)233‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬ال يُ َكلِّفُ هَّللا ُ نَ ْفسا ً إِاَّل ُو ْس َعهَا لَهَا َما َك َسبَ ْ‬
‫ت ال نُ َكلِّفُ نَ ْفس ا ً إِاَّل‬ ‫الص الِ َحا ِ‬‫(البق رة‪ ،)286:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫ُو ْس َعهَا ﴾ (ألعراف‪ ،)42:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬ال يُ َكلِّفُ هَّللا ُ نَ ْفسا ً إِاَّل َما آتَاهَا ﴾ (الطالق‪)7:‬‬
‫ومن النصوص الصرريحة الدالة على ه ذا قول ه ‪ ‬ألش ج عب د القيس ‪(:‬إن‬
‫فيك لخلقين يحبهم ا هللا‪ :‬الحلم واألن اة(‪ ،)1‬فق ال‪(:‬أخلقين تخلقت بهم ا‪ ،‬أم جبل ني هللا‬
‫عليهما؟) فقال‪(:‬بل جبلك هللا عليهما) فقال‪(:‬الحمد هلل الذي جبلني على خلقين يحبهما‬
‫هللا ورسوله)(‪)2‬‬
‫وقد كان النبي ‪ ‬يقول في دعاء االستفتاح‪(:‬اللهم اهدني ألحسن األخالق‪ ،‬ال‬
‫يهدي ألحسنها إال أنت‪ ،‬واصرف عني سيئها‪ ،‬ال يصرف عني سيئها إال أنت)(‪)3‬‬
‫أما من حيث الواقع‪ ،‬وهو ما تتذرع به أمثال هذه األقوال المثبط ة‪ ،‬فننق ل م ا‬
‫قال الغزالي‪ ،‬وفيه أبلغ الرد‪(:‬وكيف ينكر هذا في حق اآلدمي وتغيـير خل ق البهيم ة‬
‫ممكن إذ ينقل البازي من االستيحاش إلى األنس‪ ،‬والكلب من شره األكل إلى التأدب‬

‫‪ )(1‬التثبت وترك العجلة‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البيهقي‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫واإلمساك والتخلية‪ ،‬والفرس من الجم اح إلى السالس ة واالنقي اد وك ل ذل ك تغيـير‬
‫لألخالق)(‪)1‬‬
‫انطالق ا من ه ذا‪ ،‬ف إن هن اك أس لوبين أساس يين لعالج االنح راف‪ ،‬يحت اج‬
‫المربي إلى استعمالهما جميعا ـ على ض وء م ا ذكرن ا في الج زء الخ اص بأس اليب‬
‫التربية ـ هما‪ :‬العلم والعمل‪.‬‬
‫األساليب العلمية‬
‫وينطل ق ه ذا األس لوب من المقول ة المعروف ة المش هورة (حيات ك من ص نع‬
‫أفك ارك)‪ ،‬فاألفك ار ال تي ينص بغ به ا العق ل هي ال تي ينص بغ له ا بع ده الوج دان‬
‫والسلوك والحياة جميعا‪.‬‬
‫فلذلك كان أول ما ينبغي أن يهتم ب ه الم ربي ه و حف ظ عق ل المتلقي من ك ل‬
‫شبهة أو أفكار منحرفة قد تجرفه إلى االنحراف من حيث يشعر أو ال يشعر‪.‬‬
‫واألساس لذلك هو ما ذكرنا في التربية اإليمانية من االجتهاد في تقوية إيم ان‬
‫المتلقي‪ ،‬فاإليمان الصحيح الق وي الم ؤثر ه و الكفي ل بتحوي ل أبخس المع ادن ذهب ا‬
‫خالصا‪.‬‬
‫ولهذا يقرن هللا تعالى اإليم ان بالعم ل الص الح‪ ،‬ويق دم اإليم ان علي ه‪ ،‬وكأن ه‬
‫يشير إلى أن العمل الصالح أثر من آثار اإليم ان‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وبَ ِّش ِر الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَارُ﴾ (البقرة‪)25:‬‬ ‫ت أَ َّن لَهُ ْم َجنَّا ٍ‬ ‫َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ت ﴾ في خمس ين‬ ‫الص الِ َحا ِ‬ ‫وق د تك ررت ه ذه الالزم ة ﴿ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫موضعا من القرآن الكريم‪ ،‬وكل ذلك ألهمية اقتران اإليمان بالعمل الصالح‪.‬‬
‫ويش ير إلى ه ذا المع نى بص راحة قول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ قَ الُوا َربُّنَ ا هَّللا ُ ثُ َّم‬
‫اس تَقَا ُموا تَتَنَ َّز ُل َعلَ ْي ِه ُم ْال َمالئِ َك ةُ أَاَّل تَخَ افُوا َوال تَحْ َزنُ وا َوأَب ِْش رُوا بِ ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُك ْنتُ ْم‬ ‫ْ‬
‫اس تَقَا ُموا فَال‬ ‫تُو َع ُدونَ ﴾ (فص لت‪ ،)30:‬وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ قَ الُوا َربُّنَ ا هَّللا ُ ثُ َّم ْ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َوال هُ ْم يَحْ َزنُونَ ﴾ (االحقاف‪ ،)13:‬فقد عطف هللا تعالى االستقامة‪ ،‬التي‬ ‫خَ وْ ٌ‬
‫تضاد االنح راف على اإليم ان بح رف (ثم) ال ذي يفي د ال ترتيب‪ ،‬وكأن ه يق ول‪(:‬إن‬
‫االستقامة أثر من آثار قولهم (ربنا هللا)‬
‫ويشير إلى هذا في التربية النبوية‪ ،‬قول الصحابة ‪(:‬اإليمان قبل القرآن)‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن أكثر الذنوب تحوي شركا شعر به ص احبه أو لم يش عر‪ ،‬وكمث ال‬
‫على ذلك ارتباط الطغيان باالستغناء عن هللا‪ ،‬كما يش ير إلي ه قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬كاَّل إِ َّن‬
‫طغَى أَ ْن َرآهُ ا ْستَ ْغنَى﴾ (العلق‪ 6:‬ـ ‪ ،)7‬فق د رتب هللا تع الى الطغي ان ال ذي‬ ‫اأْل ِ ْن َسانَ لَيَ ْ‬
‫هو منتهى أنانية اإلنسان وكبريائه على شعوره باالستغناء عن هللا‪ ،‬وكأنه عالم ق ائم‬
‫بذاته‪ ،‬فلذلك يطلب من غيره أن يتوجه له بالعبودية كما يتوجه هلل‪.‬‬
‫ض بِ َغ ْي ِر‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫اس تَ ْكبَرُوا فِي ا رْ ِ‬ ‫وكمثال على ذلك أيضا قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَأ َ َّما َع ا ٌد فَ ْ‬
‫ق َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي خَ لَقَهُ ْم ه َُو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َك انُوا‬ ‫ْال َح ِّ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/56 :‬‬

‫‪153‬‬
‫بِآياتِنَا يَجْ َح ُدونَ ﴾ (فصلت‪ ،)15:‬فإن انبهار عاد بما أعطيت من قوة جعلها تغف ل عن‬
‫قوة هللا‪ ،‬وهو ما جعلها تستكبر في األرض بغير حق‪.‬‬
‫ومثلما يؤدي الشرك والكفر إلى االنحراف‪ ،‬فإن االنح راف ي ؤدي ك ذلك إلى‬
‫الشرك والكفر‪ ،‬وهذا من أخطر آثاره‪ ،‬ولهذا يقال (المعاصي بريد الكفر)‪ ،‬وإلى هذا‬
‫اس تَ ْكبَ َر‬ ‫يس أَبَى َو ْ‬ ‫يشير قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالئِ َك ِة ْ‬
‫اس ُجدُوا آِل َد َم فَ َس َجدُوا إِاَّل إِ ْبلِ َ‬
‫َو َكانَ ِمنَ ْال َكافِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪ ،)34:‬فق د رتب تع الى كف ره على معص يتين خط يرتين‬
‫هما اإلباء الذي هو االعتراض على هللا‪ ،‬والكبر‪.‬‬
‫ولهذا أخبر تعالى أن كل من رد الحق الذي جاء به األنبياء رده بسبب ك بره‪،‬‬
‫الذي هو أثر من آثار كفره‪ ،‬كما أن الكفر ثمرة من ثمار تكبره‪ ،‬قال تعالى‪ ِ ﴿ :‬أَفَ ُكلَّ َما‬
‫َجا َء ُك ْم َرسُو ٌل بِ َما ال تَ ْه َوى أَ ْنفُ ُس ُك ُم ا ْستَ ْكبَرْ تُ ْم فَفَ ِريق ا ً َك َّذ ْبتُ ْم َوفَ ِريق ا ً تَ ْقتُلُ ونَ ﴾ (البق رة‪:‬‬
‫ار هُ ْم‬ ‫ص َحابُ النَّ ِ‬ ‫‪ ،)87‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآياتِنَا َوا ْستَ ْكبَرُوا َع ْنهَ ا أُولَئِ كَ أَ ْ‬
‫فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ (األعراف‪ ،)36:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآياتِنَا َوا ْستَ ْكبَرُوا َع ْنهَا‬
‫ال تُفَتَّ ُح لَهُ ْم أَ ْب َوابُ ال َّس َما ِء َوال يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َحتَّى يَلِ َج ْال َج َم ُل فِي َس ِّم ْال ِخيَ ا ِط َو َك َذلِكَ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا إِنَّا بِالَّ ِذي‬ ‫ال الَّ ِذينَ ْ‬ ‫نَجْ ِزي ْال ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ (األع راف‪ ،)40:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا ِم ْن‬ ‫ُ‬
‫ال ْال َمأَل الَّ ِذينَ ْ‬ ‫آ َم ْنتُ ْم بِ ِه َك افِرُونَ ﴾ (األع راف‪ ،)76:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫ك يَا ُش َعيْبُ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َعكَ ِم ْن قَرْ يَتِنَا أَوْ لَتَعُود َُّن فِي ِملَّتِنَا قَ ا َل أَ َولَ وْ‬ ‫قَوْ ِم ِه لَنُ ْخ ِر َجنَّ َ‬
‫ار ِهينَ ﴾ (األعراف‪)88:‬‬ ‫ُكنَّا َك ِ‬
‫وانطالقا من هذا‪ ،‬فإن التوجه ات بمختل ف أنواعه ا سياس ية أو اقتص ادية أو‬
‫نفس ية أو اجتماعي ة له ا الت أثير الكب ير في ص ناعة األخالق منحرف ة ك انت أو‬
‫مستقيمة‪ ،‬ألن لكل معرفة تأثيرها المباشر في حقيقة اإلنسان الكلي ة‪ ،‬وال تي تبرزه ا‬
‫في سلوكها الظاهري إن وج دت الفرص ة إلبرازه ا‪ ،‬أو تخبئه ا م تى وج دت ل ذلك‬
‫محال‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك ما يمكن تسميته باألخالق الرأسمالية(‪ ،)1‬وهي أكثر أخالق‬
‫العصر‪ ،‬فهي ثمرة طبيعية للواقع العق دي المنح رف‪ ،‬وهي أخالق تنمحي في ظله ا‬
‫كل المبادئ اإلنسانية‪ ،‬ألن كل المبادئ ال تساوي شيئا أمام رنين الدنانير وال دراهم‪،‬‬
‫يروي األستاذ محمد قطب عن شقيقه سيد أنه أثن اء زيارت ه ألمريك ا ك ان ذات م رة‬
‫جالسا ً في حديقة فاقترب من ه رج ل أبيض‪ ،‬وس أله‪ :‬من أين أنت؟ فأج اب س يد‪ :‬من‬
‫مصر‪ ،‬فرد علي ه ق ائالً‪ :‬إذن أنت مس لم‪ ،‬ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال‪ :‬إذن ح دثني عن اإلس الم‪،‬‬
‫فأخذ سيد يحدثه عن اإلسالم‪ ،‬والرجل منصت باهتمام حتى أنهى سيد حديثه‪ ،‬عندها‬
‫قال الرجل‪ :‬جميل ما قُلته‪ ،‬ولكن الدوالر هو اإلله الوحيد الذي أعرفه‪.‬‬
‫فالرأسمالية حولت اإلنسان إلى عب د ذلي ل أم ام الم ال‪ ،‬يق دم ل ه ك ل ع رابين‬
‫الذل‪ ،‬بل يح رق في محرقت ه ك ل القيم واألخالق‪ ،‬كم ا ق ال ‪(:‬تعس عب د ال دينار‬
‫وعب د ال درهم وعب د الخميص ة إن أعطي رض ي‪ ،‬وإن لم يع ط تعس وانتكس‪ ،‬وإذا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الصلة بين األخالق والعقيدة‪ ،‬د‪ .‬جالل الدين محمد صالح‪ ،‬مجلة البيان‪ :‬العدد‪ ،85‬ص‪.22‬‬

‫‪154‬‬
‫شيك فال انتقش طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل هللا أشعث رأسه مغ برة ق دماه‬
‫إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن في الساقة ك ان في الس اقة إن اس تأذن لم‬
‫يؤذن له وإن شفع لم يشفع)(‪.)1‬‬
‫فق د ذك ر ‪ ‬في ه ذا الح ديث نم وذج العب د المقه ور التعيس أم ام ال ثروة‬
‫والمظاهر‪ ،‬وذك ر في مقابل ه الم ؤمن المتح رر األش عث األغ بر المتخلص من ك ل‬
‫عبودية عدا عبوديته لربه‪ ،‬ثم ذكر أن هذا العبد هو وحده الذي يستطيع الضرب في‬
‫األرض في سبيل هللا‪.‬‬
‫ومن نتائج هذه األخالق الرأسمالية على المستوى األممي م ا ن راه من جش ع‬
‫وحرص قد تباد إلروائه شعوب بأكملها‪ ،‬كما فع ل ب الهنود الحم ر بحث ا ً عن ال ذهب‬
‫األصفر‪ ،‬وكما فعل مع سكان مستعمراته في إفريقيا حيث اقتيد منهم األل وف ‪ -‬بع د‬
‫أن نهب خيرات أوطانهم ‪ -‬مكبلين باألغالل في األعناق واأليدي واألق دام اس تغالالً‬
‫لسواعدهم وق وة أجس امهم في اس تثمار اقتص ادي ال يع ود نفع ه إال إلى الرأس مالي‬
‫ذاته‪.‬‬
‫ثم من وحي أخالق ه الرأس مالية اعتم د معي ار الل ون وال ثراء في التفاض ل ؛‬
‫فالنازي ة في ألماني ا‪ ،‬جعلت الع رق اآلري أفض ل من وج د على األرض‪ ،‬والرج ل‬
‫األبيض عموما ً في أوروبا وأمريكا وأفريقيا مارس أخالقي ات التفري ق العنص ري‪،‬‬
‫واصطفى ذاته لتكون في القمة‪ ،‬واضطهد الس ود ‪ -‬لمج رد أنهم س ود ‪ -‬في أمريك ا‪،‬‬
‫وح تى وقت ق ريب في جن وب إفريقي ا‪ ،‬ولم تنعت ق ه ذه الش عوب من قبض ته‬
‫واضطهاداته إال عبر تضحيات باهظة التكاليف ونض االت عني دة ومتواص لة ح تى‬
‫ان تزعت من بين فكي ه ش يئا ً من حقوقه ا‪ ،‬ثم في تن اقض ص ارخ كث يراً م ا نس مع‬
‫ضجيجه عن حق وق اإلنس ان‪ ،‬مص اغة وف ق اختيارات ه واستحس اناته‪ ،‬منطلق ة من‬
‫جذور عقائد محرفة‪ ،‬وأهواء قاصرة‪ ،‬وأخالقيات نفعية‪ ،‬تساير الظلم وتسانده إذا م ا‬
‫رأت فيه مبتغاها‪.‬‬
‫وما يق ال في األخالق الرأس مالية يق ال في األخالق االش تراكية والش يوعية‪،‬‬
‫وهي أخالق ظن البعض أنه ا تنق ذهم من وحش الرأس مالية الكاس ر‪ ،‬لكنه ا أوقعتهم‬
‫في وحش آخر‪ ،‬ال يقل فتكه عن فتك الوحش الرأسمالي‪.‬‬
‫فهي أخالق تنطلق من أصوله اإللحادية‪ ،‬كما تنطل ق األخالق الرأس مالية من‬
‫أصول شركية‪ ،‬وهي تقرر أن سعادة اإلنس ان تكمن في أخالقي ات الص راع الطبقي‬
‫التي تدفع به ‪ -‬حسب زعمهم ‪ -‬إلى حي اة الرف اه والرغ د في مجتم ع ش يوعي تغيب‬
‫عنه الدولة وتختفي فيه شارات الشرطة ويحكمه قانون (من كل حسب طاقت ه ولك ل‬
‫حسب حاجته)‪ ،‬وهو نهج يرفض في نظمه األخالقية كل سلوك يعيق تقدمه أيا ً ك ان‬
‫مصدره وينعته باألخالق البرجوازية‪ ،‬وقبح الشيء وحسنه يتح دد فق ط ب النظر إلى‬
‫مردوده على طبقة البروليتاريا على حد تعبيرهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫وانطالق ا ً من ه ذه النظ رة انح رف المؤمن ون به ذه العقائ د في ك ل ش عاب‬
‫الس لوكيات المتردي ة‪ ،‬فأش اعوا حال ة الخ وف ال دائم‪ ،‬وأفس دوا بالمرتب ات الكب يرة‬
‫واالمتيازات رجال الجيش والب وليس واألجه زة السياس ية واألف راد المطيع يين من‬
‫طبقة المثقفين‪ ،‬وأسكتوا قمعا ً كل صوت مقاوم‪.‬‬
‫وفي كتاب مدرسي عن األخالق الماركسية معد للمدارس الثانوية في المج ر‬
‫سنة ‪ 1978‬م‪ ،‬يقول‪(:‬إن الطفل ابنا ً كان أو بنتا ً ال يصح بحال أن يُقدم على قتل أم ه‬
‫إال إذا أصبحت خائنة للطبقة العاملة‪)1()..‬‬
‫وخيانة الطبقة العاملة ـ في تصور ه ذه العقي دة ـ هي إب داء النق د لس لوكيات‬
‫الفك ر االش تراكي وأئمت ه أو التعام ل مع ه بش يء من الح ذر والحيط ة‪ ،‬واألمان ة‬
‫األخالقية في زعمهم هي الفناء في شخصية القيادة الماركسية‪ ،‬والدينونة لمقوالتها‪،‬‬
‫وتكريس عبادتها‪ ،‬ولعلنا الحظنا جميع ا ً كي ف أن الش عب الك وري الش مالي أحتش د‬
‫ح ول ص نم ال زعيم الك وري غ داة هالك ه س اجداً راكع اً‪ ،‬ب ل إن من الحج ارة من‬
‫اكتسب شيئا ً من القداسة في كوريا لكون ه حظى بجلس ة من رائ د الفك ر االش تراكي‬
‫الكوري ؛ ففي تابوت زجاجي بساحات أحد المصانع بكوريا الشمالية عرض حج ر‬
‫بداخله‪ ،‬ومكتوب عليه هذه العبارة‪(:‬الحجر الذي جلس عليه الرفيق الح بيب المبج ل‬
‫عندما كان يتحدث)(‪)2‬‬
‫انطالقا من هذا نحاول أن نذكر هن ا بعض النم اذج عن كيفي ة اس تعمال ه ذا‬
‫األسلوب في عالج االنحرافات الخلقية أو في الوقاية منها‪ ،‬م ع التنبي ه إلى الرج وع‬
‫إلى الجزء الخاص بأساليب التربية لصياغة هذه األساليب وف ق الض وابط المق ررة‬
‫هناك‪.‬‬
‫وس نذكر هن ا بعض النم اذج عن االنحراف ات والعالج العملي له ا‪ ،‬ثم ن ذكر‬
‫نفس ه ذه االنحراف ات عن د ذك ر األس اليب العملي ة للجم ع بين األس لوب العلمي‬
‫والعملي في عالج االنحرافات‪.‬‬
‫االنحراف الجنسي‬
‫وهو من أخطر االنحرافات التي قد يتعرض له ا األوالد في المراح ل األولى‬
‫ل تربيتهم‪ ،‬وله ذا ق رن ‪ ‬بين األم ر بالص الة‪ ،‬وبين التفري ق بينهم في المض اجع‪،‬‬
‫فقال ‪(:‬مروا أوالدكم بالصالة وهم أبناء سبع سنين واض ربوهم عليه ا وهم أبن اء‬
‫عش ر وفرِّ ق وا بينهم في المض اجع)‪ ،‬وه و كالحماي ة لهم من أي انح راف ق د‬
‫يتعرضون له‪.‬‬
‫وقد أشار األخصائي النفسي بديع القشاعلة في مقال له بعن وان (نظري ات في‬
‫علم النفس والحديث الشريف) إلى األسرار المودعة في ه ذا الح ديث‪ ،‬فق ال‪(:‬يح دد‬
‫محمد ‪ ‬في هذا الحديث فترات زمنية للتعامل مع الطفل‪ ....‬أما الجزء األخ ير من‬

‫‪ )(1‬انظر علي عزت بيكفوتش‪ :‬اإلسالم بين الشرق والغرب ‪ 206 /‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر علي عزت بيكفوتش‪ :‬اإلسالم بين الشرق والغرب ‪.207 /‬‬

‫‪156‬‬
‫الحديث وهو (فرق وا بينهم في المض اجع) فن اب ٌع من تط ور النم و الجنس ي في ه ذه‬
‫المرحلة والتي تعد نقطة تحول من الكمون الجنسي إلى حالة النشاط الجنسي وال ذي‬
‫يبدأ مع مرحلة البلوغ‪ ،‬حيث نجد أن األطفال حينما يصلون إلى س ن العاش رة يك ثر‬
‫لديهم حب االستطالع عن النواحي الجنسية والفسيولوجية كما وأن االنتب اه في ه ذه‬
‫المرحلة يزداد وتزداد دقته األم ر ال ذي يس اعده على إدراك االختالف بين األش ياء‬
‫وإدراك الشبه أيضا ً بينها‪ .‬نتيجة لهذا فإنه يستطيع أن يق دم تفس يراً بس يطا ً لألم ور‪،‬‬
‫وهذه صورة راقية من التفكير لم نكن نلحظها في المراحل السابقة من النمو‪.‬‬
‫إن هذه الفترة هي فترة ميل إلى األمور الجنسية والتعرف عليه ا والعبث به ا‬
‫وهذا جعله هللا تعالى ليكون تمهيداً لمرحلة البلوغ والتي يمكن أن تحدث فيها عملي ة‬
‫الزواج)‬
‫وانطالقا من هذا‪ ،‬فإن أهم ما يحمي الولد من االنحراف الجنسي ه و توعيت ه‬
‫بأحكامه الشرعية وآثارها النفسية واالجتماعية والص حية‪ ،‬وآاثره ا في عالقت ه م ع‬
‫ربه‪.‬‬
‫وقد رأينا في الجزء الخاص بأساليب التربية كيف عالج ‪ ‬الشاب الذي أراد‬
‫أن يؤذن له في هذا النوع من االنحراف‪ ،‬فقال ‪(:‬أترضاه ألمك؟!)‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬ق ال‬
‫رسول هللا ‪(:‬فإن الناس ال يرضونه ألمهاتهم)‪ ،‬قال‪(:‬أترضاه ألختك؟!)‪ ،‬قال‪ :‬ال‪،‬‬
‫قال‪(:‬فإن الناس ال يرض ونه ألخ واتهم)(‪ ،)1‬وهك ذا ص ار ال زنى أبغض ش يء إلى‬
‫ذلك الشاب فيما بعد‪ ،‬بسبب هذا اإلقناع العقلي‪.‬‬
‫فلذلك يمكن أن يع رف الول د في مراح ل تمي يزه عن مخ اطر ال زنى‪ ،‬بحيث‬
‫يقبح في نفسه قبحا شديدا‪ ،‬ال يمكن للمغريات وال للوسائل الحديث ة مهم ا بل غ تفننه ا‬
‫أن تؤثر فيه‪.‬‬
‫وقد شهد أساتذة الصحة النفسية على مدى تأثير الوعي اإليم اني في الحماي ة‬
‫من هذا االنحراف‪ ،‬يقول د‪ .‬حامد زهران أستاذ الصحة النفس ية‪(:‬إن علين ا كم ربين‬
‫أن نعرف أن األطفال يص لهم معلوم ات من زمالئهم في المدرس ة والش ارع‪ ..‬وق د‬
‫يقرأون كتبا بها أفكار مشوهة‪ ،‬وقد يطلعون في عصرنا الحالي علي مص ادر س يئة‬
‫في اإلنترنت‪ ،‬وهناك ايضا القن وات الفض ائية‪ ،‬علين ا أن نعلم أطفالن ا آداب الس لوك‬
‫الجنسي‪ .‬إن أقرب العل وم للتربي ة الجنس ية هي التربي ة الديني ة‪ ،‬ألن ال دين يع ترف‬
‫تماما ب الغريزة الجنس ية وينظم الس لوك الجنس ي تمام ا من الناحي ة الديني ة قب ل أي‬
‫شيء آخر‪ ،‬ولهذا ف المفروض أن نهتم بتعليم أحك ام ال دين‪ ..‬وح دود هللا فيم ا يتعل ق‬
‫بالسلوك الجنسي والحالل والحرام في ه‪ ..‬ومن هن ا س نجد أن اإلط ار ال ذي نتح دث‬
‫عنه سوف يؤدي إلي نتائج أفضل من إهماله)‬
‫الكبر‬
‫وهو من أخطر االنحرافات التي تحول بين من وقع فيه ا وبين ك ل مص لحة‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد بإسناد جيد‪ ،‬المسند [‪.]5/256‬‬

‫‪157‬‬
‫يحققه ا لنفس ه أو يحققه ا لغ يره‪ ،‬وال نس تغرب أن يب دأ ه ذا االنح راف للص بية من‬
‫صغرهم‪ ،‬فإن كل الرذائل منشأها من الصغر‪ ،‬ثم تزيد األيام والتربية الفاسدة بع دها‬
‫رسوخها‪.‬‬
‫وعالج هذا االنحراف بحسب ما ت دل النص وص‪ ،‬وبحس ب م ا ي ذكر علم اء‬
‫السلوك نوعان‪ :‬إجمالي‪ ،‬وتفصيلي‪:‬‬
‫العالج اإلجم الي‪ :‬ونري د ب ه العالج ال ذي يص لح لك ل مظه ر من مظ اهر‬
‫الم رض‪ ،‬فال يختص بم رض من األم راض‪ ،‬وال بس بب من األس باب‪ ،‬وه و في‬
‫حقيقته عالج وقائي‪ ،‬فإذا ما دب الداء‪ ،‬فال يكتفى به‪ ،‬بل ينظر إل أسبابه ليع الج من‬
‫خاللها‪ ،‬كما سنرى في العالج التفصيلي‪.‬‬
‫وقد نص القرآن الكريم على أن العالج العلمي له ذا االنح راف يش مل ن وعين‬
‫من المعارف‪:‬‬
‫معرفة ضعف النفس‪ :‬فيعرف قصورها وضعفها‪ ،‬وأنها أقل من أن تترفع أو‬
‫تتعدى طورها‪ ،‬وهذه المعرفة تجعل صاحبها يطأطئ رأسه تواض عا وخجال من أن‬
‫يتعدى طوره أو يدعي ما ليس له‪.‬‬
‫ت هَّللا ِ بِ َغ ْي ِر‬
‫ويشير إلى هذه المعرفة قوله تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ ي َُج ا ِدلُونَ فِي آيَ ا ِ‬
‫الس ِمي ُع‬ ‫اس تَ ِع ْذ بِاهَّلل ِ إِنَّهُ هُ َو َّ‬
‫ُور ِه ْم إِاَّل ِك ْب ٌر َم ا هُ ْم بِبَالِ ِغي ِه فَ ْ‬
‫صد ِ‬ ‫س ُْلطَا ٍن أَتَ اهُ ْم إِ ْن فِي ُ‬
‫صيرُ﴾ (غافر‪ ،)56:‬ألن هؤالء قوم رأوا أنهم أن اتبعوا الن بي ‪ ‬ق ل ارتف اعهم‪،‬‬ ‫ْالبَ ِ‬
‫ونقصت أح والهم‪ ،‬وأنهم يرتفع ون إذا لم يكون وا تبع ا‪ ،‬ف أعلم هللا ع ز وج ل أنهم ال‬
‫يبلغون االرتفاع الذي أملوه بالتكذيب‪.‬‬
‫ولهذا يرد القرآن الكريم المتكبرين إلى نش أتهم األولى ليعرف وا حقيقتهم‪ ،‬ق ال‬
‫طفَ ٍة خَ لَقَ هُ فَقَ َّد َرهُ ثُ َّم َّ‬
‫الس بِي َل‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬قُتِ َل اإْل ِ ن َسانُ َما أَ ْكفَ َرهُ ِم ْن أَيِّ َش ْي ٍء خَ لَقَ هُ ِمن نُّ ْ‬
‫يَ َّس َرهُ ﴾(عبس‪ 17:‬ـ ‪)20‬‬
‫يقول الغزالي معلقا على هذه اآلية الكريمة‪(:‬فقد أش ارت اآلي ة إلى أول خل ق‬
‫اإلنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه‪ ،‬فلينظر اإلنسان ذلك ليفهم معنى هذه اآلية‪ .‬أما‬
‫أول اإلنسان فهو أنه لم يكن شيئا ً مذكوراً وقد كان في حيز العدم ده وراً ب ل لم يكن‬
‫لعدمه أول وأي شيء أخس وأقل من المح و والع دم؟ وق د ك ان ك ذلك في الق دم‪ ،‬ثم‬
‫خلقه هللا من أرذل األشياء‪ ،‬ثم من أقذرها إذ قد خلقه من تراب‪ ،‬ثم من نطف ة‪ ،‬ثم من‬
‫علقة‪ ،‬ثم من مضغة‪ ،‬ثم جعله عظماً‪ ،‬ثم كسا العظم لحماً‪ ،‬فقد كان هذا بداية وج وده‬
‫حيث ك ان ش يئا ً م ذكوراً‪ ،‬فم ا ص ار ش يئا ً م ذكوراً إال وه و على أخس األوص اف‬
‫والنعوت إذ لم يخلق في ابتدائه كامالً بل خلق ه جم اداً ميت ا ً ال يس مع وال يبص ر وال‬
‫يحس وال يتحرّك وال ينطق وال يبطش وال ي درك وال يعلم‪ ،‬فب دأ بموت ه قب ل حيات ه‬
‫وبضعفه قبل ق ّوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه وببكم ه‬
‫قبل نطقه وبضاللته قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل قدرته)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/358 :‬‬

‫‪158‬‬
‫ال َم ْن‬ ‫ب لَنَ ا َمثَالً َون َِس َي َخ ْلقَ هُ قَ َ‬ ‫ض َر َ‬ ‫وإلى هذا العالج يشير قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫يُحْ يِي ْال ِعظَا َم َو ِه َي َر ِمي ٌم﴾ (يّـس‪ ،)78:‬يقول سيد معلقا على اآلية‪(:‬فما النطفة التي ال‬
‫يشك اإلنسان في أنها أصله الق ريب؟ إنه ا نقط ة من م اء مهين‪ ،‬ال ق وام وال قيم ة!‬
‫نقطة من ماء تحوي ألوف الخاليا‪ ..‬خلي ة واح دة من ه ذه األل وف هي ال تي تص ير‬
‫جنين ا‪ .‬ثم تص ير ه ذا اإلنس ان ال ذي يج ادل رب ه ويخاص مه ويطلب من ه البره ان‬
‫والدليل‪ ،‬والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطف ة ذل ك الخص يم الم بين‪ .‬وم ا‬
‫أبع د النقل ة بين المنش أ والمص ير! أفه ذه الق درة يس تعظم اإلنس ان عليه ا أن تعي ده‬
‫وتنشره بعد البلى والدثور؟)(‪)2‬‬
‫معرفة عظمة هللا‪ :‬وهي العالج العلمي الثاني‪ ،‬ألن كل متكبر ال يتك بر ـ في‬
‫الحقيقة ـ على الخلق‪ ،‬وإنما يتكبر على هللا‪ ،‬ولهذا كان الصالحون يرددون‪(:‬ال تحقر‬
‫أحداً من خلق هّللا فإنه تعالى ما احتقره حين خلق ه)‪ ،‬ويقول ون‪(:‬فال يك ون هّللا يظه ر‬
‫العناية بإيجاد من أوجده من عدم وتأتي أنت تحتقره فإن ذلك احتقار بمن أوجده)‬
‫ويدل على هذه المعرفة النصوص القرآنية الكثيرة‪،‬كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما قَ َدرُوا‬
‫َاب الَّ ِذي َج ا َء‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه إِ ْذ قَالُوا َما أَ ْنزَ َل هَّللا ُ َعلَى بَ َش ٍر ِم ْن َش ْي ٍء قُلْ َم ْن أَ ْن َز َل ْال ِكت َ‬ ‫هَّللا َ َح َّ‬
‫يس تُ ْبدُونَهَا َوتُ ْخفُونَ َكثِيراً َو ُعلِّ ْمتُ ْم َم ا لَ ْم‬ ‫اط َ‬ ‫اس تَجْ َعلُونَهُ قَ َر ِ‬ ‫ى لِلنَّ ِ‬‫بِ ِه ُمو َسى نُوراً َوهُد ً‬
‫ض ِه ْم يَ ْل َعبُ ونَ ﴾ (األنع ام‪ ،)91:‬وق ال‬ ‫تَ ْعلَ ُموا أَ ْنتُ ْم َوال آبَ ا ُؤ ُك ْم قُ ِل هَّللا ُ ثُ َّم َذرْ هُ ْم فِي خَ وْ ِ‬
‫َزي ٌز﴾ (الحج‪ ،)74 :‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه إِ َّن هَّللا َ لَقَ ِويٌّ ع ِ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ما قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫ط ِوي ٌ‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه‬ ‫ات َم ْ‬‫ْضتُهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َوال َّس َما َو ُ‬
‫ق قَ ْد ِر ِه َواأْل َرْ ضُ َج ِميعا ً قَب َ‬ ‫قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (الزمر‪)67:‬‬
‫فق د جع ل هللا تع الى ع دم تق دير هللا ومعرف ة عظمت ه س ببا في ك ل تل ك‬
‫االنحرافات الخلقية التي تنبع من منبع الكبر‪.‬‬
‫ولهذا كان جهل النمروذ باهلل هو الذي يجعل يدعي األلوهية‪ ،‬كما قال تع الى‪:‬‬
‫ال إِ ْب َرا ِهي ُم َربِّ َي الَّ ِذي‬ ‫﴿ أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذي َحا َّج إِب َْرا ِهي َم فِي َربِّ ِه أَ ْن آتَ اهُ هَّللا ُ ْال ُم ْل كَ إِ ْذ قَ َ‬
‫ق‬ ‫س ِمنَ ْال َم ْش ِر ِ‬ ‫يت قَا َل إِ ْب َرا ِهي ُم فَ إِ َّن هَّللا َ يَ أْتِي بِ َّ‬
‫الش ْم ِ‬ ‫ال أَنَا أُحْ يِي َوأُ ِم ُ‬ ‫يت قَ َ‬ ‫يُحْ يِي َويُ ِم ُ‬
‫ب فَبُ ِهتَ الَّ ِذي َكفَ َر َوهَّللا ُ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ (البقرة‪)258:‬‬ ‫ت بِهَا ِمنَ ْال َم ْغ ِر ِ‬ ‫فَأْ ِ‬
‫وجهل فرع ون باهلل ه و ال ذي جعل ه ي دعي األلوهي ة‪ ،‬ويس تعلي في األرض‬
‫ق َوظَنُّوا أَنَّهُ ْم‬ ‫ض بِ َغ ْي ِر ْال َح ِّ‬
‫اس تَ ْكبَ َر هُ َو َو ُجنُ و ُدهُ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫بغير حق‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫إِلَ ْينَا ال يُرْ َجعُونَ ﴾ (العنكبوت‪ ،)39:‬بل هو الذي جعله يقول‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا ْال َمأَل ُ َما َعلِ ْمتُ‬
‫ص رْ حا ً لَ َعلِّي أَطَّلِ ُع إِلَى‬ ‫ين فَاجْ َع لْ لِي َ‬ ‫لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغي ِْري فَأَوْ قِ ْد لِي يَا هَا َمانُ َعلَى الطِّ ِ‬
‫إِلَ ِه ُمو َسى َوإِنِّي أَل َظُنُّهُ ِمنَ ْال َكا ِذبِينَ ﴾ (القصص‪)38:‬‬
‫العالج التفص يلي‪ :‬ونري د ب ه العالج ال ذي ينظ ر إلى األس باب الداعي ة له ذا‬
‫النوع من االنحراف‪ ،‬وهي في عادتها شبه ناتجة عن أخطاء فكري ة ابت دعتها النفس‬
‫أو انتشرت في المجتم ع‪ ،‬فتلقاه ا من تلقاه ا تليقن ا وتقلي دا‪ ،‬ب ل ق د يظن الكم ال في‬

‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.2977 :‬‬

‫‪159‬‬
‫اعتقادها‪.‬‬
‫وق د ذك ر الغ زالي انطالق ا من اس تقراء األس باب الداعي ة له ذا الن وع من‬
‫االنحراف في عصره إلى سبعة أسباب‪ ،‬تكاد تكون حاصرة ألسباب الكبر‪ ،‬وال يكاد‬
‫يخرج عنها في عصرنا أي سبب من األسباب‪ ،‬فلذلك نكتفي هنا بذكر هذه األس باب‬
‫التي ذكرها الغزالي‪ ،‬وكيفية عالجها‪ ،‬لتكون أنموذجا لغيرها من أنواع االنحراف‪:‬‬
‫النسب‪ :‬وه و تع اظم اإلنس ان بنس ب ي دلي ب ه لمن يتص ور فيهم الش رف أو‬
‫الرفعة‪ ،‬وقد ذكر الغزالي عالجين معرفيين لهذا السبب(‪:)1‬‬
‫األولى‪ :‬أن المتكبر بالنس ب إن ك ان خسيس ا ً في ص فات ذات ه فمن أين يج بر‬
‫خسته بكمال غيره؟ بل لو كان الذي ينسب إليه حي ا ً لك ان ل ه أن يق ول‪ :‬الفض ل لي‪:‬‬
‫ومن أنت؟‪ ،‬وهذا كما قيل‪:‬‬
‫شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا‬‫ٍ‬ ‫لئن فخرت بآبا ٍء ذوي‬
‫الثانية‪ :‬أن يعرف نسبه الحقيقي‪ ،‬فيعرف أب اه وج ده ف إن أب اه الق ريب نطف ة‬
‫قذرة وج ّده البعيد تراب ذليل‪ ،‬فمن أصله التراب المهين الذي يداس باألقدام ثم خمر‬
‫طينة حتى صار حمأ ً مسنونا ً كيف يتكبر؟ وأخس األشياء ما إليه انتسابه إذ يقال‪(:‬ي ا‬
‫أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة)‬
‫فإن كان كونه من أبـيه أقرب من كون ه من ال تراب فنق ول‪ :‬افتخ ر ب القريب‬
‫دون البعيد‪ ،‬فالنطفة والمضغة أقرب إلي ه من األب فليحق ر نفس ه ب ذلك‪ ،‬ثم إن ك ان‬
‫ذلك يوجب رفعة لقرب ه ف األب األعلى من ال تراب فمن أين رفعت ه؟ وإذا لم يكن ل ه‬
‫رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده؟‬
‫الجمال‪ :‬والعالج الذي ذكره الغزالي لهذا السبب الذي قد يدفع ص احبه للك بر‬
‫أن ال يقتصر نظر هذ المتكبر إلى ظاهره كما تقتصر البه ائم‪ ،‬ب ل ينظ ر إلى باطن ه‬
‫نظ ر العقالء‪ ،‬فإن ه مهم ا نظ ر إلى باطن ه رأى من القب ائح م ا يك در علي ه تع ززه‬
‫بالجم ال فإن ه وك ل ب ه األق ذار في جمي ع أجزائ ه‪ :‬الرجي ع في أمعائ ه‪ ،‬والب ول في‬
‫مثانته‪ ،‬والمخاط في أنفه‪ ،‬وال بزاق في في ه‪ ،‬والوس خ في أذني ه‪ ،‬وال دم في عروق ه‪،‬‬
‫والصديد تحت بشرته‪ ،‬والصنان تحت إبطه‪ ،‬يغس ل الغائ ط بـيده ك ل ي وم دفع ة أو‬
‫دفعتين‪ ،‬ويتردد كل يوم إلى الخالء مرة أو مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعين ه‬
‫الستقذره فضالً عن أن يمسه أو يشمه‪ ،‬كل ذلك ليع رف قذارت ه وذل ه ه ذا في ح ال‬
‫توسطه‪.‬‬
‫ً‬
‫ولو ت رك نفس ه في حيات ه يوم ا لم يتعه دها ب التنظيف والغس ل لث ارت من ه‬
‫األنتان واألقذار‪ ،‬وصار أنتن وأقذر من الدواب المهمل ة ال تي ال تتعه د نفس ها ق ط‪.‬‬
‫فإذا نظر إنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار‪ ،‬وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر‬
‫األقذار لم يفتخر بجماله ال ذي ه و كخض راء ال دمن وكل ون األزه ار في الب وادي‪،‬‬
‫فبـينما هو كذلك إذ صار هشيما ً تذروه الرياح‪ ،‬كيف ولو كان جماله باقي ا ً وعن ه ذه‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/361:‬‬

‫‪160‬‬
‫القب ائح خالي ا ً لك ان يجب أن ال يتك بر ب ه على القبـيح‪ ،‬إذ لم يكن قبح القبـيح إلي ه‬
‫فينفيه‪ ،‬وال كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه؟ كيف وال بقاء له بل هو في ك ل‬
‫حين يتصوّر أن يزول بمرض أو ج دري أو قرح ة أو س بب من األس باب؟ فكم من‬
‫وجوه جميلة ق د س مجت به ذه األس باب؟ فمعرف ة ه ذه األم ور ت نزع من القلب داء‬
‫الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها‪.‬‬
‫وفي أول أمره خل ق من األق ذار الش نيعة الص ور‪ ،‬من النطف ة‪ ،‬وأخ رج من‬
‫مج رى األق ذار‪ .‬إذ خ رج من الص لب‪ ،‬ثم من ال ذكر مج رى الب ول‪ ،‬ثم من ال رحم‬
‫مفيض دم الحيض‪ ،‬ثم خرج من مجرى القذر‪.‬‬
‫الق ّوة‪ :‬وهي من أسباب الكبر التي كثر ورودها في القرآن الك ريم‪ ،‬ألنه ا أهم‬
‫األسباب التي حالت بين المستبدين والتسليم لرسل هللا‪ ،‬قال تعالى ضاربا المثل بعاد‪:‬‬
‫ق َوقَ الُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن‬ ‫ض بِ َغي ِْر ْال َح ِّ‬
‫﴿ فَأ َ َّما عَا ٌد فَا ْستَ ْكبَرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫هَّللا َ الَّ ِذي َخلَقَهُ ْم هُ َو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َكانُوا بِآيَاتِنَا يَجْ َح ُدونَ ﴾(فصلت‪)15:‬‬
‫وه و ال ذي ح ال بين أك ثر الق رى وبين طاع ة أنبيائه ا واإلس الم هلل‪ ،‬فك ان‬
‫فرحهم حائال بينهم وبين كل خير‪،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬كالَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َكانُوا أَ َش َّد ِم ْن ُك ْم قُ َّوةً‬
‫اس تَ ْمتَ َع الَّ ِذينَ ِم ْن‬‫اس تَ ْمتَ ْعتُ ْم بِخَ اَل قِ ُك ْم َك َم ا ْ‬ ‫َوأَ ْكثَ َر أَ ْم َوااًل َوأَوْ اَل دًا فَ ْ‬
‫اس تَ ْمتَعُوا بِخَ اَل قِ ِه ْم فَ ْ‬
‫ت أَ ْع َم الُهُ ْم فِي ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َر ِة‬ ‫ُ‬
‫َاض وا أوْ لَئِ كَ َحبِطَ ْ‬ ‫ض تُ ْم َكالَّ ِذي خ ُ‬ ‫قَ ْبلِ ُك ْم بِخَاَل قِ ِه ْم َو ُخ ْ‬
‫ك هُ ْم ْالخَا ِسرُونَ ﴾(التوبة‪)69:‬‬ ‫َوأُوْ لَئِ َ‬
‫بل إن القرآن الكريم يخبر بأن هذا الترفع بالقوة والقدرة ه و الس بب المباش ر‬
‫ت اأْل َرْ ضُ ُز ْخ ُرفَهَ ا‬ ‫في هالك القرى وتدمير الحضارات‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬حتَّى إِ َذا أَخَ َذ ْ‬
‫ص يدًا‬ ‫َت َوظَ َّن أَ ْهلُهَا أَنَّهُ ْم قَا ِدرُونَ َعلَ ْيهَا أَتَاهَا أَ ْم ُرنَ ا لَ ْياًل أَوْ نَهَ ارًا فَ َج َع ْلنَاهَ ا َح ِ‬ ‫َوا َّزيَّن ْ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾(يونس‪)24:‬‬ ‫ص ُل اآْل يَا ِ‬‫ك نُفَ ِّ‬‫س َك َذلِ َ‬‫َكأ َ ْن لَ ْم تَ ْغنَ بِاأْل َ ْم ِ‬
‫وهذا النوع من الكبر قد ال يقتص ر على ف رد بعين ه‪ ،‬ب ل يعم ش عوبا بأكمله ا‬
‫تظن نفسها أرفع من شعوب أخرى‪ ،‬لفضل ق وة رزقته ا جعلته ا تمأل األرض ك برا‬
‫واستعالء‪.‬‬
‫والعالج الذي ذكره الغزالي لهذا السبب ه و نظ ر العق ل لم ا يمكن أن يس لط‬
‫عليه من العلل واألمراض‪ ،‬وأنه لو توجع عرق واحد في يده لص ار أعج ز من ك ل‬
‫عاجز وأذل من كل ذليل‪ ،‬وأنه لو سلبه الذباب شيئا ً لم يستنقذه منه وأن بقة لو دخلت‬
‫في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته‪ ،‬وأن شوكة لو دخلت في رجله ألعجزته‪ ،‬وأن‬
‫حمى يوم تحلل من قوّته ما ال ينجبر في م ّدة‪.‬‬
‫أن ي دفع عن نفس ه ذباب ة ال‬ ‫فمن ال يطيق شوكة وال يقاوم بقة وال يق در على ّ‬
‫ينبغي أن يفتخر بقوّته‪ ،‬ثم إن قوي اإلنسان فال يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل‬
‫أو جمل‪ ،‬وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم(‪)1‬؟‬
‫المال والجاه‪ :‬وهما ـ كما ينص القرآن الكريم ـ من أكبر أسباب الكبر الحائلة‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/362 :‬‬

‫‪161‬‬
‫بين األقوام وأنبيائهم‪:‬‬
‫أما المال‪ ،‬فقد ذكر تعالى أن المترفين‪ ،‬وهم عبي د األم وال‪ ،‬هم أول من يق ف‬
‫في وجه األنبياء ـ ص لوات هللا وس المه عليهم ـ ق ال تع الى مع برا عن ه ذه الس نة‬
‫ال ُم ْت َرفُوهَ ا إِنَّا بِ َم ا أُرْ ِس ْلتُ ْم بِ ِه‬
‫ير إِاَّل قَ َ‬ ‫االجتماعي ة‪َ ﴿ :‬و َم ا أَرْ َس ْلنَا فِي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَ ِذ ٍ‬
‫َك افِرُونَ َوقَ الُوا نَحْ نُ أَ ْكثَ ُر أَ ْم َوااًل َوأَوْ اَل دًا َو َم ا نَحْ نُ بِ ُم َع َّذبِينَ ﴾(س بأ‪ )34،35:‬ق ال‬
‫قتادة‪:‬مترفوها‪ :‬أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها‪.‬‬
‫أما الج اه‪ ،‬فق د أخ بر تع الى أن ه الحائ ل بين ق ريش‪ ،‬واتب اع رس ول هللا ‪،‬‬
‫بحج ة أن محم دا ‪ ‬لم يكن ل ه من الج اه م ا ك ان لوجه اء القري تين‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫َظ ٍيم﴾ (الزخرف‪)31:‬‬ ‫﴿ َوقَالُوا لَوْ ال نُ ِّز َل هَ َذا ْالقُرْ آنُ َعلَى َرج ٍُل ِمنَ ْالقَرْ يَتَي ِْن ع ِ‬
‫والعالج الذي ذكره الغزالي لهذا السبب من أسباب الكبر ه و النظ ر في م آل‬
‫ذلك المال والجاه الذي يتعزز به‪ ،‬فإن المتكبر بماله كأنه متك بر بفرس ه وداره‪ ،‬ول و‬
‫مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليالً‪ ،‬والمتك بر بتمكين الس لطان وواليت ه ال بص فة‬
‫في نفسه ب نى أم ره على قلب ه و أش ّد غليان ا ً من الق در‪ ،‬ف إن تغ ير علي ه ك ان أذل‬
‫الخلق‪ ،‬وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته فهو ظاهر الجه ل‪ ،‬كي ف والمتك بر ب الغنى‬
‫لو تأمل لرأى في اليهود من يزيد علي ه في الغ نى وال ثروة والتجم ل؟ ف أف لش رف‬
‫يسبقك به اليهودي وأف لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيع ود ص احبه ذليالً‬
‫مفلساً؟ فهذه أسباب ليست في ذاته‪ ،‬وما هو في ذاته ليس إليه دوام وج وده وه و في‬
‫اآلخرة وبال ونكال‪ ،‬فالتفاخر به غاية الجهل‪ ،‬وكل ما ليس إلي ك فليس ل ك‪ ،‬وش يء‬
‫من هذه األمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه ل ك وإن اس ترجعه زال عن ك‪ ،‬وم ا‬
‫أنت إال عبد مملوك ال تقدر على شيء‪ .‬ومن عرف ذلك ال بد وأن يزول كبره‪.‬‬
‫وقد مثل الغزالي لهذ المصير بمث ال ق د يس تبعد في الواق ع‪ ،‬ولكن ه عين ح ق‬
‫اليقين الذي يحيق بكل متكبر‪ ،‬وهو أن هذا الذي يفتخر الغافل بقوّت ه وجمال ه ومال ه‬
‫وحرّيت ه واس تقالله وس عة منازل ه وك ثرة خيول ه وغلمان ه‪ ،‬إذ ش هد علي ه ش اهدان‬
‫وأن أبوي ه كان ا ممل وكين ل ه‪ ،‬فعلم ذل ك‬ ‫عدالن عند حاكم منصف بأنه رقي ق لفالن ّ‬
‫وحكم به الحاكم‪ ،‬فجاء مالكه فأخذه وأخذ جميع ما في يده‪ ،‬وهو م ع ذل ك يخش ى أن‬
‫أن ل ه مالك اً‪،‬‬ ‫يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالك ه ليع رف ّ‬
‫ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوسا ً في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب واله وام‬
‫وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها‪ ،‬وقد بقي ال يملك نفسه وال ماله وال‬
‫يعرف طريقا ً في الخالص ألبت ة‪ ،‬أف ترى من ه ذا حال ه ه ل يفخ ر بقدرت ه وثروت ه‬
‫وقوّته وكماله أم يذل نفسه ويخضع؟ وهذا ح ال ك ل عاق ل بص ير فإن ه ي رى نفس ه‬
‫كذلك فال يملك رقبته وبدنه وأعض ائه ومال ه‪ ،‬وه و م ع ذل ك بـين آف ات وش هوات‬
‫وأم راض وأس قام هي كالعق ارب والحي ات يخ اف منه ا الهالك‪ .‬فمن ه ذا حال ه ال‬
‫يتكبر بقوّته وقدرته إذ يعلم أنه ال قدرة له وال قوة(‪.)1‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/362 :‬‬

‫‪162‬‬
‫العلم‪ :‬وهو من أس باب الك بر الخط رة‪ ،‬ألن (ق در العلم عظيم عن د هللا عظيم‬
‫عند الناس‪ ،‬وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما‪ ،‬بل ال قدر لهم ا أص الً إال‬
‫إذا كان معهما علم وعمل)(‪)1‬‬
‫وق د أخ بر تع الى أن ه ذا الن وع من الك بر ك ان من أس باب ابتع اد الجه ال‬
‫المتسترين بحجاب العلم عن الحق وعن متابعة األنبياء‪ ،‬فقال تع الى‪ ﴿ :‬فَلَ َّما َج ا َء ْتهُ ْم‬
‫ق بِ ِه ْم َم ا َك انُوا بِ ِه يَ ْس تَه ِْزئُون﴾‬ ‫ت فَ ِر ُح وا بِ َم ا ِع ْن َدهُ ْم ِم ْن ْال ِع ْل ِم َو َح ا َ‬ ‫ُس لُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَ ا ِ‬
‫ر ُ‬
‫(غافر‪)83:‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم نموذج المتكبر بعلم ه في ش خص ق ارون عن دما ق ال‬
‫معبرا عن حقيقته‪ ﴿ :‬إِنَّ َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي﴾ (القصص‪ ،)78:‬ف رد علي ه تع الى‬
‫ُون َم ْن هُ َو أَ َش ُّد ِم ْن هُ قُ َّوةً َوأَ ْكثَ ُر‬ ‫قائال‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ ْعلَ ْم أَ َّن هَّللا َ قَ ْد أَ ْهلَكَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ِمنَ ْالقُ ر ِ‬
‫َج ْمعا ً َوال يُسْأ َ ُل ع َْن ُذنُوبِ ِه ُم ﴾ (القصص‪)78:‬‬
‫وقد ذكر الغزالي لعالج هذا السبب من أسباب الكبر معرفتين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬يش ير إليه ا قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬مثَ ُل الَّ ِذينَ ُح ِّملُ وا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَ ا‬
‫ت هَّللا ِ َوهَّللا ُ ال يَ ْه ِدي ْالقَ وْ َم‬‫س َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيا ِ‬ ‫ار يَحْ ِم ُل أَ ْسفَاراً بِ ْئ َ‬ ‫َك َمثَ ِل ْال ِح َم ِ‬
‫الظَّالِ ِمينَ ﴾ (الجمعة‪ ،)5:‬وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَا ْن َسلَخَ ِم ْنهَ ا‬
‫اوينَ ﴾ (ألع راف‪ ،)175:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَ وْ ِش ْئنَا‬ ‫الش ْيطَانُ فَ َك انَ ِمنَ ْال َغ ِ‬ ‫فَأ َ ْتبَ َع هُ َّ‬
‫ب إِ ْن تَحْ ِم لْ َعلَ ْي ِه‬ ‫ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُ هُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬ ‫لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم‬
‫ص َ‬ ‫ص ْالقَ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ث َذلِ كَ َمثَ ُل ْالقَ وْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآياتِنَ ا فَا ْق ُ‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْكهُ يَ ْلهَ ْ‬ ‫يَ ْلهَ ْ‬
‫يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪)176:‬‬
‫فقد مثل هللا تعالى من يعلم وال يعمل بالحمار والكلب‪ ،‬وه و دلي ل على خس ة‬
‫قدر من يترفع بعلم لم ينفعه‪ ،‬فهو أشبه فيه بما يستقذره من الحمار والكلب‪.‬‬
‫ولهذا وردت النص وص الكث يرة تح ذر من المخ اطر ال تي يتع رض له ا من‬
‫يكون علمه حجة علي ه ي وم القيام ة‪ ،‬ق ال الغ زالي‪(:‬فمهم ا خط ر للع الم عظم ق دره‬
‫باإلضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده‪ ،‬فإن خط ره أعظم‬
‫أن قدره أعظم من قدر غيره‪ ،‬فهذا بذاك‪ .‬وهو كالملك المخ اطر‬ ‫من خطر غيره كما ّ‬
‫بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فق يراً‪ ،‬فكم‬
‫من عالم يشتهي في اآلخرة سالمة الجهال؟ والعياذ باهلل منه‪ .‬فه ذا الخط ر يمن ع من‬
‫التكبر‪ ،‬فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه‪ ،‬فكيف يتكبر من ه ذا حال ه؟‬
‫فال ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة‪ ،‬وقد ك ان بعض هم يق ول‪ :‬ي ا‬
‫ليتني لم تلدني أمي ويأخذ اآلخر تبنة من األرض ويقول‪ :‬ي ا ليت ني كنت ه ذه التبن ة‬
‫ويقول اآلخر‪ :‬ليتني كنت طيراً أؤكل ويقول اآلخر‪ :‬ليت ني لم أك ش يئا ً م ذكوراً ك ل‬
‫ذلك خوفا ً من خطر العاقبة‪ ،‬فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حاالً من الطير ومن ال تراب‪.‬‬
‫ومما أطال فكره في الخطر الذي ه و بص دده زال بالكلي ة ك بره‪ ،‬ورأى نفس ه كأن ه‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/363 :‬‬

‫‪163‬‬
‫الخلق)(‪)1‬‬ ‫شر‬
‫وضرب الغزالي مثاال مشخصا لهذه المعرفة‪ ،‬بعبد أمره سيده ب أمور فش رع‬
‫فيها‪ ،‬فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداه ا على‬
‫أن سيده أرسل إليه رسوالً يخرجه من ك ل م ا‬ ‫ما يرتضيه سيده أم ال؟ فأخبره مخبر ّ‬
‫هو فيه عريانا ً ذليالً ويلقيه على بابه في الح ّر والشمس زمانا طويالً‪ ،‬حتى إذا ضاق‬
‫ً‬
‫األم ر علي ه وبل غ ب ه المجه ود أم ر برف ع حس ابه وفتش عن جمي ع أعمال ه قليله ا‬
‫وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم ال ي روح عن ه س اعة‪ ،‬وق د علم ّ‬
‫أن‬
‫سيده قد فع ل بطوائ ف عبـيده مث ل ذل ك وعف ا عن بعض هم وه و ال ي دري من أي‬
‫الفريقين يكون؟ فإذا تفكر في ذل ك انكس رت نفس ه وذل وبط ل ع زه وك بره وظه ر‬
‫حزنه وخوفه ولم يتكبر على أح د من الخل ق‪ ،‬ب ل تواض ع رج اء أن يك ون ه و من‬
‫شفعائه عند نزول العذاب‪.‬‬
‫قال الغزالي معقب ا على ه ذا المث ل‪(:‬فك ذلك الع الم إذا تفك ر فيم ا ض يعه من‬
‫أوامر ربه بجناي ات على جوارح ه وب ذنوب في باطن ه من الري اء والحق د والحس د‬
‫والعجب والنفاق وغ يره‪ ،‬وعلم بم ا ه و بص دده من الخط ر العظيم فارق ه ك بره ال‬
‫محالة)(‪)2‬‬
‫الثانية‪ :‬معرفة محبة هللا للتواضع‪ ،‬وأن الك بر ال يلي ق إال باهلل تع الى وح ده‪،‬‬
‫وأنه إذا تكبر صار ممقوتا ً عند هللا بغيضاً‪ ،‬وقد أحب هللا منه أن يتواض ع وق ال ل ه‪:‬‬
‫إن لك عندي قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لنفس ك ق دراً فال ق در ل ك عن دي‪،‬‬
‫فال ب ّد وأن يكلف نفسه ما يحبه مواله منه‪.‬‬
‫الدين‪ :‬وهو من األسباب التي قد تكون داعية للكبر‪ ،‬خاص ة لمن اقتص ر من‬
‫الدين على ظواهره الحرفية‪ ،‬وغفل عن مقاصده‪ ،‬وحقائقه الباطنية‪.‬‬
‫ولعالج الكبر بالدين أدوية كثيرة‪ ،‬كلها مما وردت النص وص بالدالل ة علي ه‪،‬‬
‫أهمها التأمل فيما حجب عن اإلنسان من خاتمته‪ ،‬كما ق ال ‪ ..(:‬ف إن الرج ل منكم‬
‫ليعمل بعمل أه ل الجن ة ح تى م ا يك ون بين ه وبينه ا إال ذراع فيس بق علي ه الكت اب‬
‫فيعمل بعمل أهل النار فيدخل الن ار‪ ،‬وإن الرج ل ليعم ل بعم ل أه ل الن ار ح تى م ا‬
‫يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة)‬
‫(‪)3‬‬
‫يقول الغزالي‪(:‬اعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة‪ ،‬بل لو نظر‬
‫إلى ك افر لم يمكن ه أن يتك بر علي ه‪ ،‬إذ يتص ور أن يس لم الك افر فيختم ل ه باإليم ان‬
‫ويض ل ه ذا الع الم فيختم ل ه ب الكفر‪ ،‬والكبـير من ه و كبـير عن د هللا في اآلخ رة‪،‬‬
‫والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند هللا من أهل النار وهو ال يدري ذلك‪ ،‬فكم‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/363 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/363 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه البيهقي‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫من مسلم نظر إلى عمر قبل إسالمه فاستحقره وازدراه لكفره وقد رزقه هللا اإلس الم‬
‫وفاق جميع المس لمين؟ إال أب ا بك ر وح ده‪ ،‬ف العواقب مطوي ة عن العب اد وال ينظ ر‬
‫العاقل إال إلى العاقبة‪ ،‬وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة)(‪)1‬‬
‫وقد ذكر الغ زالي أدب المتواض عين والمع ارف ال تي ينطلق ون منه ا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(فإذن من حق العبد أن ال يتكبر على أحد‪ .‬بل إن نظر إلى الجاهل قال‪ :‬ه ذا عص ى‬
‫هللا بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني‪ .‬وإن نظر إلى عالم قال‪ :‬هذا قد علم ما لم‬
‫أعلم فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى كبـير هو أكبر منه سنا ً قال‪ :‬ه ذا ق د أط اع هللا‬
‫قبلي فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى صغير قال‪ :‬إني عصيت هللا قبله فكي ف أك ون‬
‫مثله؟ وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال‪ :‬ما يدريني لعله يختم ل ه باإلس الم ويختم لي‬
‫ي؟ فبمالحظ ة‬ ‫ي‪ ،‬كم ا لم يكن ابت داؤها إل َّ‬ ‫بم ا ه و علي ه اآلن‪ ،‬فليس دوام الهداي ة إل َّ‬
‫الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه)(‪)2‬‬
‫الغضب‬
‫وه و من أخط ر االنحراف ات وأعق دها‪ ،‬وذل ك لكون ه من حيث أص له ش يئا‬
‫فطريا طبيعيا‪ ،‬ال ينفك عن ه أح د‪ ،‬ب ل ه و ـ أحيان ا ـ يظه ر في الص غير أك ثر من‬
‫ظهوره في الكبير‪.‬‬
‫ولذلك يتطلب معالجة حاذقة ال تزيل ه من أص له‪ ،‬فه و كم ا ذكرن ا فط ري ال‬
‫يمكن انفكاك الطبع عنه‪ ،‬وإنما تحد من آثاره أو توجهه الوجهة السليمة‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر ما يمكن اس تثماره من المع ارف لعالج ه ذا االنح راف‪ ،‬نحب‬
‫أن نذكر بعض الطرق الخاطئة التي يواجه بها ـ ع ادة ـ غض ب الص غير‪ ،‬وأهمه ا‬
‫وأخطرها االستسالم أمام غضبه‪ ،‬بحيث تنفذ طلباته مهما اشتدت حرص ا على كف ه‬
‫عن غضبه‪ ،‬وه ذا أس لوب خ اطئ يجعل ه يعم د إلى الغض ب كأس لوب من أس اليب‬
‫الحصول على ما يريد‪.‬‬
‫ألن الطف ل في مرحلت ه االولى ت أبى‬ ‫ومنه ا الص رامة الش ديدة في معاملت ه‪ّ ،‬‬
‫شخصيته النامية ان توج ه الي ه األوام ر بح دة وتهكم‪ ..‬الن ع دم اح ترام شخص يته‬
‫يعتبر احد انواع االعتداء التي تثير غضب الطفل‪ ،‬بل كل إنسان‪.‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن المع ارف ال تي يع الج به ا الغض ب نوع ان‪ ،‬كم ا س بق‬
‫ذكره في العالج العلمي للكبر‪:‬‬
‫العالج اإلجمالي‪ :‬ونريد به ـ ما ذكرنا سابقا ـ من أنه العالج الذي يصلح لك ل‬
‫مظه ر من مظ اهر الم رض‪ ،‬فال يختص بم رض من األم راض‪ ،‬وال بس بب من‬
‫األسباب‪ ،‬وهو في حقيقته عالج وقائي‪ ،‬فإذا ما دب ال داء‪ ،‬فال يكتفى ب ه‪ ،‬ب ل ينظ ر‬
‫إل أسبابه ليعالج من خاللها‪ ،‬كما سنرى في العالج التفصيلي‪.‬‬
‫ومن المعارف التي يمكن استخدامها‪ ،‬بل يبذل المربي ك ل وس عه لملء عق ل‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/364 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/364 :‬‬

‫‪165‬‬
‫ووجدان من يربيه بمعانيها‪:‬‬
‫الث واب‪ :‬فيتفك ر في النص وص ال تي وردت في فض ل كظم الغي ظ والعف و‬
‫والحلم واالحتمال ف يرغب في ثواب ه‪ ،‬فتمنع ه ش دة الح رص على ث واب الكظم عن‬
‫التشفي واالنتقام وينطفيء عنه غيظه‪.‬‬
‫ويدل على هذا من فعل السلف ما روي أن عمر بن عبد العزيز أمر بض رب‬
‫اظمينَ الغَيظَ ﴾‪ ،‬فقال لغالمه‪ :‬خل عنه‪.‬‬ ‫رجل ثم قرأ قوله تعالى‪ ﴿ :‬وال َك ِ‬
‫العقاب‪ :‬فيتفكر في العقاب الذي أعده هللا تعالى لمن نفذ ما يتطلبه غض به من‬
‫غير حق‪ ،‬ويش ير إلي ه م ا روي عن أم س لمة ق الت‪ :‬ك ان رس ول هللا ‪ ‬في بي تي‬
‫وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان الغضب في وجهه وخ رجت أم‬
‫سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهيمة‪ ،‬فق الت أراك تلع بين به ذه‬
‫البهيمة ورسول هللا ‪ ‬يدعوك فق الت‪(:‬ال وال ذي بعث ك ب الحق م ا س معتك)‪ ،‬فق ال‬
‫رسول هللا ‪(:‬لوال خشية القود ألوجعتك بهذا السواك)(‪ ،)1‬وفي رواي ة‪(:‬لض ربتك‬
‫بهذا السواك)‪ ،‬فقد جعل ‪ ‬مخافة القصاص يوم القيام ة س ببا يمنع ه من إيالم ه ذه‬
‫الخادم‪.‬‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يعالج ما ستعرض له الخدم والمستضعفون من سوء المعامل ة‬
‫بتذكير أهليهم وسادتهم بالقصاص يوم القيام ة‪ ،‬عن أبي مس عود الب دري ق ال‪ :‬كنت‬
‫أض رب غالم ا لي بالس وط فس معت ص وتا من خلفي‪ :‬اعلم أب ا مس عود فلم أفهم‬
‫الصوت من الغضب فلم ا دن ا م ني إذا ه و رس ول هللا ‪ ‬ف إذا ه و يق ول‪ :‬اعلم أب ا‬
‫مسعود أن هللا تعالى أقدر عليك منك على هذا الغالم‪ ،‬فقلت ال أضرب مملوك ا بع ده‬
‫أبدا)(‪ ،)2‬وفي رواية‪ :‬فقلت‪(:‬يا رسول هللا هو حر لوجه هللا تعالى) فق ال‪(:‬أم ا ل و لم‬
‫تفعل للفحتك النار أو لمستك النار)‬
‫وعن عائش ة أن رجال قع د بين ي دي رس ول هللا ‪ ‬فق ال‪ :‬إن لي ممل وكين‬
‫يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أن ا منهم‪ ،‬فق ال رس ول‬
‫هللا ‪(:‬إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم‪ ،‬فإن‬
‫كان عقابك بقدر ذنوبهم ك ان كفاف ا ال ل ك وال علي ك‪ ،‬وإن ك ان عقاب ك إي اهم ف وق‬
‫ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل)‪ ،‬فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي‪ ،‬فقال له رس ول‬
‫ازينَ ْالقِ ْس طَ لِيَ وْ ِم ْالقِيَا َم ِة فَال‬
‫َض ُع ْال َم َو ِ‬‫هللا ‪(:‬أما تقرأ قول هللا تبارك وتعالى‪َ ﴿ :‬ون َ‬
‫اسبِينَ ﴾ (االنبياء‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫تُ ْ‬
‫ظلَ ُم نَ ْفسٌ َشيْئا ً َوإِ ْن َكانَ ِم ْثقَا َل َحبَّ ٍة ِم ْن خَرْ َد ٍل أتَ ْينَا بِهَا َوكفى بِنَا َح ِ‬
‫َ‬
‫‪ ،)47‬فقال الرجل‪(:‬يا رسول هللا ما أجد لي ولهؤالء خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم‬
‫كلهم أحرار)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه أبو يعلى‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد بسند صحيح‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫القيامة)(‪)4‬‬ ‫وقال ‪(:‬من ضرب سوطا ظلما اقتص منه يوم‬
‫وقد روى الغزالي عن بعض الكتب القديمة‪(:‬يا ابن آدم اذكرني حين تغض ب‬
‫أذكرك حين أغضب فال أمحقك فيمن أمحق)‪ ،‬وروى أنه م ا ك ان في ب ني إس رائيل‬
‫ملك إال ومعه حكيم إذا غضب أعطاه ص حيفة فيه ا (ارحم المس كين واخش الم وت‬
‫واذكر اآلخرة)‪ ،‬فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه‪.‬‬
‫وقد ذكر الغزالي القناعات التي يقن ع الص الح به ا نفس ه إن ألم ب ه الغض ب‪،‬‬
‫فقال‪(:‬أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى اإلنتق ام ويمنع ه من كظم الغي ظ‪ ،‬وال ب د‬
‫وأن يكون له سبب مثل قول الشيطان ل ه‪ :‬إن ه ذا يحم ل من ك على العج ز وص غر‬
‫النفس والذلة والمهانة وتصير حقيراً في أعين الناس فيقول لنفسه‪ :‬ما أعجبك تأنفين‬
‫من االحتمال اآلن وال تأنفين من خزي يوم القيام ة واالفتض اح إذا أخ ذ ه ذا بـيدك‬
‫وانتقم من ك؟ وتح ذرين من أن تص غري في أعين الن اس وال تح ذرين من أن‬
‫تص غري عن د هللا والمالئك ة والنبـيـين؟ فمهم ا كظم الغي ظ فينبغي أن يكظم ه هلل‪،‬‬
‫وذلك يعظمه عند هللا‪ ،‬فما له وللناس؟ وذلك من ظلم ه ي وم القيام ة أش د من ذل ه ل و‬
‫انتقم اآلن‪ ،‬أفال يحب أن يكون هو القائم إذا ن ودي ي وم القيام ة‪ :‬ليقم من أج ره على‬
‫هللا‪ ،‬فال يقوم إال من عفا؟ فه ذا وأمثال ه من مع ارف اإليم ان ينبغي أن يك رره على‬
‫قلبه)(‪)2‬‬
‫الع واقب‪ :‬فيتفك ر في النت ائج ال تي ي ؤول إليه ا غض به‪ ،‬من االنتق ام والحق د‬
‫والعداوة والشماتة وغير ذلك مما قد يقابل به‪ ،‬بخالف ما لو أمس ك غض به وتعام ل‬
‫تعامال عقالنيا مع ما استدعاه غضبه‪.‬‬
‫يق ول الغ زالي‪(:‬وه ذا يرج ع إلى تس ليط ش هوة على غض ب وليس ه ذا من‬
‫أعمال اآلخرة وال ثواب عليه‪ ،‬ألنه متردد على حظوظه العاجل ة يق دم بعض ها على‬
‫بعض‪ ،‬إال أن يكون محذوره أن تتشوش علي ه في ال دنيا فراغت ه للعلم والعم ل وم ا‬
‫يعينه على اآلخرة فيكون مثابا ً عليه)(‪)3‬‬
‫وما ذكره الغزالي ـ هنا ـ مهم في عالج االنحراف بما يقتضيه ض ده‪ ،‬فتع الج‬
‫حدة الغضب بالشهوة التي تقلل أثره‪ ،‬وتح د من خط ره‪ ،‬كم ا تقل ل الش هوة الجارف ة‬
‫بالغضب الذي يستدعي النخوة وحماية العرض‪.‬‬
‫حاله عند الغضب‪ :‬فيتفكر في حاله عند الغضب من ذه اب وق اره واحترام ه‬
‫وصيرورته محال للسخرية واالس تهزاء‪ ،‬ب ل يتح ول في ح ال غض به من اإلنس ان‬
‫اهادئ الوقور إلى صورة ال تختلف كثيرا عن صورة الكلب العقور‪ ،‬ق ال الغ زالي‪:‬‬
‫(ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي‪،‬‬
‫ومش ابهة الحليم اله ادي الت ارك للغض ب لألنبـياء واألولي اء والعلم اء والحكم اء‪،‬‬

‫‪ )(4‬رواه الطبراني بسند حسن‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/173:‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.3/173:‬‬

‫‪167‬‬
‫ويخير نفسه بـين أن يتشبه بالكالب والسباع وأراذل الناس وبـين أن يتشبه بالعلم اء‬
‫واألنبـياء في عادتهم لتميل نفسه إلى حب االقتداء بهؤالء إن كان قد بقي معه مسكة‬
‫من عقل)(‪)1‬‬
‫العالج التفصيلي‪ :‬ونريد به ـ ما ذكرنا سابقا ـ من أنه العالج الذي ينظ ر إلى‬
‫األسباب الداعية لهذا النوع من االنحراف‪ ،‬وهي في عادتها ش به ناتج ة عن أخط اء‬
‫فكرية ابتدعتها النفس أو انتشرت في المجتمع‪ ،‬فتلقاها من تلقاه ا تليقن ا وتقلي دا‪ ،‬ب ل‬
‫قد يظن الكمال في اعتقادها‪.‬‬
‫وق د روي أن يحيـى ق ال لعيس ى ـ عليهم ا الس الم ـ‪ :‬أي ش يء أش د؟ ق ال‪:‬‬
‫غضب هللا‪ ،‬فما يقرب من غضب هللا‪ ،‬قال أن تغضب‪ ،‬قال‪ :‬فما يبدي الغض ب وم ا‬
‫ينبته؟ قال عيسى‪ :‬الكبر والفخر والتعزز والحمية‪.‬‬
‫وقد ذكر الغزالي األسباب المهيجة للغض ب‪ ،‬أو المن ابع النفس ية الدافع ة ل ه‪،‬‬
‫ف ذكر‪ :‬الزه و والعجب والم زاح واله زل واله زء والتعيـير والمم اراة والمض ا ّدة‬
‫والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه‪.‬‬
‫ثم بين طريق العالج في مواجهة الغض ب من خالله ا‪ ،‬فق ال‪(:‬وهي بأجمعه ا‬
‫أخالق رديئة مذمومة شرعا ً وال خالص من الغضب مع بق اء ه ذه األس باب فال ب د‬
‫من إزالة هذه األسباب بأضدادها‪ .‬فينبغي أن تميت الزهو بالتواض ع‪ .‬وتميت العجب‬
‫بمعرفتك بنفسك‪ ،‬وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في االنتس اب‬
‫أب واح د؛ وإنم ا اختلف وا في الفض ل أش تاتا ً فبن و آدم جنس واح د وإنم ا الفخ ر‬
‫بالفضائل؛ والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها‪ ،‬ف إذا لم تخ ل‬
‫عنها فال فض ل ل ك على غ يرك‪ ،‬فلم تفتخ ر وأنت من جنس عب دك من حيث البني ة‬
‫والنسب واألعض اء الظ اهرة والباطن ة؟ وأم ا الم زاح فتزيل ه بالتش اغل بالمهم ات‬
‫الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك‪ .‬وأم ا اله زل فتزيل ه بالج د‬
‫في طلب الفضائل واألخالق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغ ك إلى س عادة اآلخ رة‪.‬‬
‫وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك‪ .‬وأم ا‬
‫التعبـير فالح ذر عن الق ول القبـيح وص يانة النفس عن م ر الج واب‪ .‬وأم ا ش دة‬
‫الح رص على مزاي ا العيش ف تزال بالقناع ة بق در الض رورة طلب ا ً لع ز االس تغناء‬
‫وترفعا ً عن ذل الحاجة)(‪)2‬‬
‫ومن أهم أس باب الغض ب وأخطره ا تعظيم الغض ب واعتق اد أن ه ن وع من‬
‫الشجاعة والرجولية وعزة النفس وكبر الهم ة‪( ،‬وتلقيب ه باأللق اب المحم ودة غب اوة‬
‫وجهالً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه‪ .‬وق د يتأك د ذل ك بحكاي ة ش دة الغض ب عن‬
‫األك ابر في مع رض الم دح بالش جاعة‪ ،‬والنف وس مائل ة إلى التش به باألك ابر فيهيج‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/173:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/172:‬‬

‫‪168‬‬
‫بسببه)(‪)1‬‬ ‫الغضب إلى القلب‬
‫ولهذا عالج ‪ ‬هذا السبب بأن اعتبر الشديد الق وي المتمكن من الرجول ة من‬
‫يمسك نفسه عند الغضب‪ ،‬فقال ‪(:‬ليس الشديد بالصرعة‪ ،‬إنما الش ديد ال ذي يمل ك‬
‫نفسه عند الغضب)(‪ ،)2‬وفي رواية أخرى‪(:‬أتحسبون أن الش دة في حم ل الحج ارة؟‬
‫إنم ا الش دة في أن يمتلئ أح دكم غيظ ا ثم يغلب ه)(‪ ،)3‬وفي رواي ة‪(:‬أال أدلكم على‬
‫أشدكم؟ أملككم لنفسه عند الغضب)(‪)4‬‬
‫وتأمل الواقع وح ده ي دل على أن الغض ب الم ذموم ال يق ع في الع ادة إال من‬
‫الضعفاء الذين يستسلمون ألهوائهم أو تصرعهم أهواؤهم ال من األقوياء المتمك نين‬
‫من أنفسهم‪ ،‬قال الغزالي‪(:‬وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل ه و م رض قلب‬
‫ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها‪ ،‬وآي ة أن ه لض عف النفس أن الم ريض‬
‫أس رع غض با ً من الص حيح‪ ،‬والم رأة أس رع غض با ً من الرج ل‪ ،‬والصبـي أس رع‬
‫غضبا ً من الرجل الكبـير‪ ،‬والش يخ الض عيف أس رع غض با ً من الكه ل‪ ،‬وذو الخل ق‬
‫السيـىء والرذائ ل القبـيحة أس رع غض با ً من ص احب الفض ائل‪ .‬ف الرذل يغض ب‬
‫لشهوته إذا فاتته اللقمة‪ ،‬ولبخله إذا فاتته الحبة‪ ،‬ح تى أن ه يغض ب على أهل ه وول ده‬
‫وأصحابه‪ .‬بل القوي من يملك نفسه عند الغضب)(‪)5‬‬
‫األساليب العملية‬
‫وهي األساليب التي تستدعي مواجهة حاسمة وعملية لالنحراف الذي قد يق ع‬
‫فيه اإلنسان‪ ،‬وهي تكملة لألساليب العلمية ال تي س بق ذكره ا‪ ،‬فال يفي د العم ل دون‬
‫العلم‪ ،‬كم ا ال يغ ني العلم الخ الي عن العم ل‪ ،‬فكالهم ا جن دان أساس يان لمواجه ة‬
‫االنحراف والقضاء على آثاره‪.‬‬
‫وق د دلت النص وص الكث يرة على إمكاني ة تغي ير أخالق النفس بالمجاه دة‬
‫والرياضة الروحية‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬أَ ْم َح ِس ْبتُ ْم أَ ْن تُ ْت َر ُك وا َولَ َّما يَ ْعلَ ِم هَّللا ُ الَّ ِذينَ َجاهَ دُوا‬
‫ِم ْن ُك ْم َولَ ْم يَتَّ ِخ ُذوا ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ َوال َر ُس ولِ ِه َوال ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َولِي َج ةً َوهَّللا ُ َخبِ ي ٌر بِ َم ا‬
‫تَ ْع َملُونَ ﴾ (التوبة‪ ،)16:‬فإن الوالء التام هلل والتبرؤ التام من غ يره يس تدعي مواجه ة‬
‫عملي ة حاس مة‪ ،‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ َجاهَ دُوا فِينَ ا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُس بُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َم َع‬
‫ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ (العنكبوت‪ ،)69:‬فقد اعتبر ما تبذله النفس من عناء في س بيل االس تقامة‬
‫على منهج هللا نوعا من أنواع الجهاد‪.‬‬
‫وورد في الح ديث قول ه ‪(:‬إنم ا العلم ب التعلم‪ ،‬والحلم ب التحلم‪ ،‬ومن يتح ر‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/172:‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد والبيهقي ‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(5‬إحياء علوم الدين‪.3/172:‬‬

‫‪169‬‬
‫الخير يعطه‪ ،‬ومن يتق الشر يوقه)(‪ ،)1‬وه و ي دل على أن رياض ة النفس للحص ول‬
‫على الحلم ممكنة‪.‬‬
‫واألس اس ال ذي ينطل ق من ه م ا س نذكره من األس اليب العملي ة ه و اإلرادة‬
‫الجازمة القوية التي تقرر مواجهة الخطيئة وقمعها للحصول على االس تقامة‪ ،‬وه ذه‬
‫اإلرادة تس تدعي م ا ذكرن ا س ابقا من تقوي ة اإليم ان‪ ،‬وتقوي ة الص لة الروحي ة باهلل‬
‫بالعبادة‪ ،‬فالعبادة الصادقة هي أساس الفضائل ومنبعها‪ ،‬وقد قال تع الى في الص الة‪:‬‬
‫﴿ إِ َّن الصَّالةَ تَ ْنهَى َع ِن ْالفَحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر﴾ (العنكبوت‪ ،)45:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْستَ ِعينُوا‬
‫خَاش ِعينَ ﴾ (البق رة‪ ،)45:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا‬ ‫صب ِْر َوالصَّال ِة َوإِنَّهَا لَ َكبِي َرةٌ إِاَّل َعلَى ْال ِ‬ ‫بِال َّ‬
‫هَّللا‬ ‫أَيُّهَا ال ِذينَ آ َمنُوا ا ْست َِعينُوا بِال َّ‬
‫صب ِْر َوالصَّال ِة إِ َّن َ َم َع الصَّابِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪)153:‬‬ ‫َّ‬
‫والقاعدة التي يتفق عليها كل ما سنذكره من أدوية‪ ،‬وما لم نذكره هو ما يمكن‬
‫التعبير عنه بمضادة الصفات‪.‬‬
‫فاألخالق اإلنسانية كالجسد‪ ،‬تداوى علله بما يداوى به الجسد‪ ،‬وكما أن أدواء‬
‫الجسد تداوى بما يناقضها‪ ،‬فكذلك أدوية األخالق‪ ،‬ق ال الغ زالي مفس را ه ذا المث ال‬
‫ومبين ا وج ه التش ابه بين الجس د والنفس ال تي هي مح ل الخل ق‪(:‬مث ال النفس في‬
‫عالجها بمحو الرذائ ل واألخالق الرديئ ة عنه ا وجلب الفض ائل واألخالق الجميل ة‬
‫إليها‪ ،‬مثال البدن في عالجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة ل ه وجلبه ا إلي ه‪ .‬وكم ا‬
‫أن الغ الب على أص ل الم زاج االعت دال وإنم ا تع تري المع دة المض رة بع وارض‬
‫األغذية واألهوية واألحوال‪ ،‬فكذلك كل مولود يول د معت دالً ص حيح الفط رة‪ ،‬وإنم ا‬
‫أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ـ أي باالعتياد والتعليم تكتسب الرذائل ـ وكما‬
‫أن البدن في االبتداء ال يخلق كامالً وإنما يكمل ويق وى بالنش وء والتربـية بالغ ذاء؛‬
‫فك ذلك النفس تخل ق ناقص ة قابل ة للكم ال؛ وإنم ا تكم ل بالتربـية وته ذيب األخالق‬
‫والتغذية بالعلم‪ .‬وكما أن البدن إن كان صحيحا ً فشأن الطبـيب تمهيد القانون الحاف ظ‬
‫للصحة‪ ،‬وإن كان مريض ا ً فش أنه جلب الص حة إلي ه؛ فك ذلك النفس من ك إن ك انت‬
‫زكية طاهرة مهذبة‪ ،‬فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد ق ّوة إليها واكتساب زيادة‬
‫صفائها‪ ،‬وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها)(‪)2‬‬
‫وانطالقا من هذه القواسم المشتركة بين الجسد والنفس‪ ،‬ي ذكر الغ زالي كيفي ة‬
‫عالج النفس متخذا من الجسد مع برا ل ذلك‪ ،‬ق ال‪(:‬وكم ا أن العل ة المغ يرة العت دال‬
‫البدن الموجبة للمرض ال تع الج إال بض دها ف إن ك انت من ح رارة فب البرودة‪ ،‬وإن‬
‫كانت من برودة فبالحرارة‪ ،‬فكذلك الرذيلة التي هي م رض القلب عالجه ا بض دها‪.‬‬
‫فيعالج مرض الجهل بالتعلم‪ ،‬ومرض البخ ل بالتس خي‪ ،‬وم رض الك بر بالتواض ع‪،‬‬
‫ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً‪ .‬وكما أنه ال بد من االحتمال لمرارة الدواء‬
‫وش دة الص بر عن المش تهيات لعالج األب دان المريض ة‪ ،‬فك ذلك ال ب د من احتم ال‬

‫‪ )(1‬رواه ابن عساكر ‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/60:‬‬

‫‪170‬‬
‫مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب ب ل أولى‪ .‬ف إن م رض الب دن يخلص‬
‫منه بالموت ومرض القلب والعياذ باهلل تعالى مرض يدوم بعد الموت أبد اآلباد)‬
‫وهذا التداوي الروحي يستدعي ضوابط ومعايير كم ا يس تدعيه عالج الجس د‬
‫سواء بسواء‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬وكما أن كل مبرد ال يصلح لعلة سببها الح رارة إال إذا‬
‫كان على حد مخصوص ـ ويختلف ذلك بالشدة والضعف وال دوام وعدم ه وب الكثرة‬
‫والقلة‪ ،‬وال بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحف ظ معي اره زاد‬
‫الفساد ـ فكذلك النقائض التي تعالج بها األخالق ال بد لها من معيار‪ .‬وكما أن معي ار‬
‫الدواء مأخوذ من عيار العلة ح تى إن الطبـيب ال يع الج م ا لم يع رف أن العل ة من‬
‫حرارة أو برودة‪ ،‬فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ض عيفة أم قوي ة؟ ف إذا‬
‫عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وس نه وس ائر‬
‫أحواله ثم يعالج بحسبها)(‪)1‬‬
‫وهذا يستدعي في نظر الغزالي ق ائمين على العالج ال روحي كم ا أن للجس د‬
‫من يقوم على عالجه‪ ،‬وهذا المعالج الروحي هو الشيخ المتبوع‪ ،‬يقول الغزالي مبينا‬
‫دور هذا الشيخ‪(:‬فكذلك الشيخ المتب وع ال ذي يطبب نف وس المري دين ويع الج قل وب‬
‫المسترشدين ينبغي أن ال يهجم عليهم بالرياضة والتك اليف في فن مخص وص وفي‬
‫طريق مخص وص م ا لم يع رف أخالقهم وأمراض هم‪ .‬وكم ا أن الطبـيب ل و ع الج‬
‫جميع المرضى بعالج واحد قتل أكثرهم‪ ،‬فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط‬
‫واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم)(‪)2‬‬
‫ويذكر الغزالي األمثلة عن كيفية تط بيب الش يخ للمري دين‪ ،‬فيق ول‪(:‬ينبغي أن‬
‫ينظر في مرض المريد وفي حال ه وس نه ومزاج ه وم ا تحتمل ه بنيت ه من الرياض ة‬
‫ويبني على ذلك رياضته‪ .‬فإن كان المريد مبتدئا ً ج اهالً بح دود الش رع فيعلم ه أوالً‬
‫الطه ارة والص الة وظ واهر العب ادات‪ ،‬وإن ك ان مش غوالً بم ال ح رام أو مقارف ا ً‬
‫لمعصية في أمره أوالً بتركه ا‪ ،‬ف إذا ت زين ظ اهره بالعب ادات وطه ر عن المعاص ي‬
‫الظاهرة جوارحه نظر بقرائن األحوال إلى باطنه ليتفطن ألخالق ه وأم راض قلب ه‪،‬‬
‫فإن رأى معه ماالً فاضالً عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وف رغ‬
‫قلبه من ه ح تى ال يلتفت إلي ه‪ ،‬وإن رأى الرعون ة والك بر وع زة النفس غالب ة علي ه‬
‫فيأمره أن يخرج إلى األسواق للكدية والسؤال‪ ،‬فإن عزة النفس والرئاس ة ال تنكس ر‬
‫إال بالذل وال ذ ّل أعظم من ذلك السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك م دة ح تى ينكس ر‬
‫كبره وعز نفسه‪ ،‬فإن الكبر من األمراض المهلكة وكذلك الرعون ة‪ ،‬وإن رأىالغ الب‬
‫علي ه النظاف ة في الب دن والثي اب ورأى قلب ه م ائالً إلى ذل ك فرح ا ً ب ه ملتفت ا ً إلي ه‬
‫استخدمه في تعه د بـيت الم اء وتنظيف ه وكنس المواض ع الق ذرة ومالزم ة المطبخ‬
‫ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة‪ .‬فإن ال ذين ينظف ون ثي ابهم‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/60:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/61:‬‬

‫‪171‬‬
‫ويزينونها ويطلب ون المرقع ات النظيف ة والس جادات الملون ة ال ف رق بـينهم وبـين‬
‫العروس التي تزين نفسها طول النهار‪ ،‬فال فرق بـين أن يعبد اإلنسان نفسه أو يعب د‬
‫صنما ً فمهما عبد غير هللا تعالى فقد حجب عن هللا‪ ،‬ومن راعى في ثوبه شيئا ً س وى‬
‫كونه حالالً وطاهراً مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه)(‪)1‬‬
‫وه ذا الش يخ الم ربي يحت ال على النفس بم ا يعي دها إلى ص وابها‪ ،‬فـ (من‬
‫لطائف الرياضة إذا كان المريد ال يسخو بترك الرعونة رأسا ً أو بترك صفة أخ رى‬
‫ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله من الخل ق الم ذموم إلى خل ق م ذموم آخ ر‬
‫أخف منه‪ ،‬كالذي يغسل الدم بالبول‪ ،‬ثم يغس ل الب ول بالم اء إذا ك ان الم اء ال يزي ل‬
‫الدم‪ .‬كما يرغب الصبـي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه‪ ،‬ثم ينق ل‬
‫من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب‪ ،‬ثم ينقل من ذل ك ب الترغيب في الرياس ة وطلب‬
‫الجاه‪ ،‬ثم ينقل من الجاه بالترغيب في اآلخرة‪ ،‬فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الج اه‬
‫دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه‪ ،‬وكذلك سائر الصفات)(‪)2‬‬
‫ومثل ذلك ما لو رأى شره الطعام غالبا ً عليه ألزمه الصوم وتقليل الطع ام‪ ،‬ثم‬
‫يكلفه أن يهيـىء األطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وه و ال يأك ل منه ا ح تى يق وي‬
‫بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما لو رآه شابا ً متشوقا ً إلى النكاح وه و ع اجز عن الط ول في أمره‬
‫بالصوم‪ ،‬وربما ال تسكن شهوته بذلك في أمره أن يفط ر ليل ة على الم اء دون الخ بز‬
‫وليلة على الخ بز دون الم اء‪ .‬ويمنع ه اللحم واألدم رأس ا ً ح تى ت ذل نفس ه وتنكس ر‬
‫شهوته‪ ...‬فال عالج في مبدإ اإلرادة أنفع من الجوع‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما لو رأى الغضب غالبا ً عليه فإن ه يلزم ه الحلم والس كوت وس لط‬
‫عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق‪ ،‬ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يم رن نفس ه‬
‫على االحتمال معه‪.‬‬
‫وقد حكى الغزالي عن بعضهم أنه كان يع ّود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة‬
‫الغضب‪ ،‬فكان يستأجر من يشتمه على مأل من الناس ويكلف نفس ه الص بر‪ ،‬ويكظم‬
‫غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل‪.‬‬
‫وذكر عن بعضهم أنه كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب‪ ،‬ف أراد أن‬
‫يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب األمواج‪.‬‬
‫وذكر عن عباد الهند أنهم يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول اللي ل على‬
‫نصبة واحدة‪.‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬نح اول في ه ذا المطلب أن ن ذكر بعض النم اذج عن كيفي ة‬
‫ممارسة األساليب العملية مع االنحرافات الثالث السابقة‪:‬‬
‫االنحراف الجنسي‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/61:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/62:‬‬

‫‪172‬‬
‫وهو أخطر أنواع االنحراف‪ ،‬وذلك يحتاج إلى مجاهدة كبيرة في الوقاية منه‪،‬‬
‫وخاص ة عن د ظه ور مبادي ه‪ ،‬كم ان ب ه إلى ذل ك قول ه ‪(:‬وفرق وا بينهم في‬
‫المضاجع)‬
‫وذلك ألن معالجة األمر من بدايت ه تمكن من مواجهت ه‪ ،‬بخالف م ا ل و ت رك‬
‫يعلم في النفس عمله‪ ،‬فإنه من الصعوبة الشديدة مقاومته‪ ،‬وقد ضرب الغ زالي ل ذلك‬
‫مثال قريبا يتعلق بنوع من أنواع االنحراف الجنسي‪ ،‬وه و العش ق‪ ،‬فق ال‪(:‬مث ال من‬
‫يكسر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الداب ة عن د توجهه ا إلى‬
‫باب لتدخله‪ ،‬وما أهون منعها بص رف عنانه ا‪ .‬ومث ال من يعالجه ا بع د اس تحكامها‬
‫مثال من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجره ا إلى ورائه ا‪.‬‬
‫وم ا أعظم التف اوت بـين األم رين في اليس ر والعس ر‪ ،‬فليكن االحتي اط في ب دايات‬
‫األم ور فأم ا في أواخره ا فال تقب ل العالج إال بجه د جهي د يك اد ي ؤدي إلى ن زع‬
‫الروح)(‪)1‬‬
‫انطالق ا من ه ذا‪ ،‬ف إن أهم األس اليب العملي ة لعالج االنح راف الجنس ي ه و‬
‫االبتعاد عن االختالط المسبب للفتنة‪ ،‬وهو ما أشار إليه الحديث السابق‪.‬‬
‫فلذلك كان من األخطاء الكبيرة التي وقعت فيها أك ثر المجتمع ات اإلس المية‬
‫هو إشاعة االختالط في التعليم‪ ،‬بحيث أصبح من الصعوبة الشديدة وقاي ة ك ل جنس‬
‫من إغراءات الجنس اآلخر‪.‬‬
‫ومن العالج العملي لهذا االنحراف هو شغل وقت من خيف عليه الوق وع في‬
‫هذا االنحراف بكل شغل يلفت نظره عن هذا الباب‪.‬‬
‫وذلك ألن الخواطر الشهوانية التي تعمر قلب اإلنسان بس بب غفلت ه وفراغ ه‬
‫هي التي تحرضه على المعصية وتحمله عليها‪.‬‬
‫وقد ضرب الغزالي مثال النفس اإلنسانية في ذلك بقب ة مض روبة له ا أب واب‬
‫تنص ب إلي ه األح وال من ك ل ب اب‪ ،‬أو ه و مث ل ه دف تنص ب إلي ه الس هام من‬
‫الجوانب‪ ،‬أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى‬
‫فيها صورة بعد صورة‪ ،‬وال تخلو عنها‪ ،‬أو هو مثل حوض تنصب فيه مياه مختلف ة‬
‫من أنهار مفتوحة إليه(‪.)2‬‬
‫ومداخل هذه اآلثار المتجددة في القلب ظاهرة وباطنة‪:‬‬
‫أما الظاهرة فالحواس الخمس‪ ،‬وأخطرها بالنسبة لما نحن فيه حاسة البص ر‪،‬‬
‫وأما الباطنة فالخيال والشهوة والغضب واألخالق المركبة من مزاج اإلنس ان‪ ،‬ف إذا‬
‫أدرك بالحواس شيئا حصل منه أث ر في القلب‪ ،‬ف إن ك ف عن اإلحس اس فالخي االت‬
‫الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء‪ ،‬وبحسب انتق ال الخي ال‬
‫ينتقل القلب من حال إلى حال آخر‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/101:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/26:‬‬

‫‪173‬‬
‫ف القلب في تغ ير وت أثر دائم نتيج ة ه ذه الخي االت واألفك ار الحاص لة في ه‪،‬‬
‫وأخص هذه اآلثار ما يطلق عليه بالخواطر(‪ ،)1‬وهي (ما يحصل في القلب األفك ار‬
‫واألذكار إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر)‬
‫وهذه الخواطر هي المحرك الذي ينش ر الرغب ة واإلرادة (ف إن الني ة والع زم‬
‫واإلرادة إنما تكون بعد خطور المن وى بالب ال ال محال ة فمب دأ األفع ال الخ واطر ثم‬
‫الخاطر يحرك الرغب ة والرغب ة تح رك الع زم والع زم يح رك الني ة والني ة تح رك‬
‫األعضاء)‬
‫فلذلك كانت الخواطر هي األساس الذي تنشر من ه العف ة أو الرذيل ة‪ ،‬وك انت‬
‫هي المحل الذي يبدأ به العالج‪ ،‬وتتأسس الوقاية‪.‬‬
‫فالق درة على ص رف الخ واطر وتوجيهه ا وجه ة ص حيحة يقي القلب من‬
‫السهام التي يوجهها هذا الحب اآلثم إلى القلب‪ ،‬كما قال الشافعي ‪(:‬صحبت الصوفية‬
‫فلم أستفد منهم سوى حرفين أحدهما قولهم الوقت سيف فإن لم تقطعه قطع ك وذك ر‬
‫الكلمة اآلخرى ونفسك إن أشغلتها بالحق وإال اشتغلتك بالباطل)‬
‫والطري ق إلى ذل ك ه و توجي ه القلب إلى الخ واطر الص الحة‪( ،‬وهي على‬
‫أربعة أصول‪ :‬خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه‪ ،‬وخطرات يستدفع بها مض ار‬
‫دنياه‪ ،‬وخطرات يسجلب بها مصالح آخرته‪ ،‬وخطرات يستدفع به ا مض ار آخرت ه)‬
‫(‪)2‬‬
‫فإذا تمكن العبد من حصر فكره في جلب هذه المصالح ودفع تلك المفاسد نجا‬
‫من هذا النوع من االنحراف‪ ،‬وكسب من المصالح ما يعوض تلك اللذة الوهمية التي‬
‫تجلبها له خواطره‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه فى ه ذه‬
‫االقسام األربعة‪ ،‬فإذا انحصرت له فيها فما أمكن اجتماعه منها لم يتركه لغ يره وإذا‬
‫تزاحمت عليه الخطرات كتزاحم متعلقاتها قدم األهم فاالهم الذي يحشى فوته وأخ ر‬
‫الذي ليس باهم وال يخاف فوته)(‪)3‬‬
‫الكبر‬
‫بعد امتالء الوجدان بالمواعظ الناهية عن ه ذا االنح راف‪ ،‬وال تي س بق ذك ر‬
‫جملها في العالج العلمي‪ ،‬فإن العالج العملي ينطلق من مضادة المجته د م ا يتطلب ه‬
‫ك بره من س لوك‪ ،‬ف إن طلب ك بره الوق وف جلس‪ ،‬وإن طلب الجل وس وق ف‪ ،‬وإن‬
‫طلب أرفه الثياب لبس أزهدها‪ ،‬وإن طلب عدم المرور بطري ق م ر به ا‪ ،‬وإن طلب‬
‫عدم التحرك بحركة تحركها‪ ،‬وهكذا إلى أن يتم عالجه‪.‬‬
‫ومن األمور العملية التي ذكره ا الغ زالي (أن يجيب دع وة الفق ير ويم ر إلى‬
‫السوق في حاجة الرفقاء واألقارب‪ ،‬فإن ثقل علي ه فه و ك بر‪ ،‬ف إن ه ذه األفع ال من‬

‫‪ )(1‬وتسمى بالخواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافال عنها‪.‬‬
‫‪ )(2‬الجواب الكافي‪.108:‬‬
‫‪ )(3‬الجواب الكافي‪.108:‬‬

‫‪174‬‬
‫مكارم األخالق والثواب عليها جزيل‪ ،‬فنفور النفس عنها ليس إال لخبث في الباطن‪،‬‬
‫فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المع ارف ال تي تزي ل‬
‫داء الكبر)(‪)1‬‬
‫ومنها (أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البـيت‪ ،‬فإن‬
‫أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء‪ ،‬فإن كان يثقل ذلك عليه مع خل ّو الطريق فهو ك بر‪،‬‬
‫وإن كان ال يثقل عليه إال مع مشاهدة الناس فهو رياء‪ ،‬وكل ذلك من أم راض القلب‬
‫وعلله المهلكة له إن لم تتدارك)‬
‫ويروى في ذلك عن عبد هللا بن سالم أنه حم ل حزم ة حطب فقي ل ل ه ي ا أب ا‬
‫يوسف‪ :‬قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك قال‪ :‬أجل ولكن أردت أن أج رب نفس ي‬
‫هل تنكر ذلك؟ فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك األنفة حتى جرّبه ا أهي‬
‫صادقة أم كاذبة؟‬
‫ويعينه على ذلك مطالعة أخالق المتواضعين‪ ،‬فقد كان ‪ ‬يأكل على األرض‬
‫ويقول‪(:‬إنَّ َما أَنَا َع ْب ٌد آ ُك ُل َك َما يَأْ ُك ُل ال َع ْبدُ)(‪ ،)2‬وقيل لس لمان‪ .‬لم ال تلبس ثوب ا ً جدي داً؟‬
‫فقال‪(:‬إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوما ً لبست جديداً)‬
‫وأكبر ما يفيد في هذا هو التذلل هلل والخشوع بين يديه‪ ،‬والذي ال يكمل إال في‬
‫الصالة الحقيقية‪ ،‬فكل أقوالها وحركاتها تربي مع اني التواض ع في نفس الق ائم به ا‪،‬‬
‫قال الغزالي‪(:‬وفي الص الة أس رار ألجله ا ك انت عم اداً‪ ،‬ومن جملته ا م ا فيه ا من‬
‫التواضع بالمثول قائم ا ً وب الركوع والس جود‪ ،‬وق د ك انت الع رب ق ديما ً ي أنفون من‬
‫اإلنحناء‪ ،‬فكان يسقط من يد الواحد سوطه فال ينحني ألخذه‪ ،‬وينقطع شراك نعله فال‬
‫ينكس رأسه إلصالحه‪ ..‬فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا ب ه‬
‫لتنكسر بذلك خيالؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قل وبهم‪ ،‬وب ه أم ر س ائر‬
‫الخلق‪ ،‬فإن الركوع والسجود والمثول قائما ً هو العمل الذي يقتضيه التواضع)(‪)3‬‬
‫ومن مظاهر الصدق في معالجة هذا النوع من االنحراف‪ ،‬أن يمتحن اإلنسان‬
‫نفسه أو يمتحنه من يربيه‪ ،‬ليقمع األسباب الخفية لهذا االنحراف‪.‬‬
‫ومن صور االمتحان التي ذكرها الغزالي أن يناظر في مس ألة م ع واح د من‬
‫أقرانه‪ ،‬فإن ظهر شيء من الحق على لسان ص احبه فثق ل علي ه قبول ه واالنقي اد ل ه‬
‫واالعتراف به والشكر له على تنبـيهه وتعريفه وإخراجه الحق‪ ،‬ف ذلك ي دل على أن‬
‫فيه كبراً دفيناً‪ ،‬فيعالجه بالعلم ـ كما ذكرنا سابقا ـ بأن يذكر نفسه خسة نفس ه وخط ر‬
‫عاقبته وأن الكبر ال يليق إال باهلل تعالى‪.‬‬
‫وبالعمل بأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من االعتراف بالحق وأن يطل ق اللس ان‬
‫بالحمد والثناء‪ ،‬ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على االستفادة ويقول‪ :‬ما أحسن م ا‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/368 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن عدي في الكامل‪.‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.3/360 :‬‬

‫‪175‬‬
‫فطنت له وقد كنت غافالً عنه فجزاك هللا خيراً كما نبهتني له فالحكمة ضالة المؤمن‬
‫فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها‪.‬‬
‫ويشترط الغ زالي له ذا الس لوك المواظب ة علي ه م دة إلى أن ي ؤتي ثم اره في‬
‫النفس‪ ،‬قال‪(:‬فإذا واظب على ذلك مرات متوالي ة ص ار ذل ك ل ه طبع اً‪ ،‬وس قط ثق ل‬
‫الحق عن قلبه وطاب له قبوله‪ ،‬ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه ما فيهم ففيه كبر‪،‬‬
‫فإن كان ذلك ال يثقل عليه في الخلوة ويثقل عليه في المأل فليس في ه ك بر وإنم ا في ه‬
‫رياء)(‪)1‬‬
‫وفي هذه الحالة يحتاج إلى عالج الرياء بأس اليبه العلمي ة والعملي ة الخاص ة‪،‬‬
‫والمذكورة في محالها من كتب السلوك‪.‬‬
‫ومن صوره ـ كما يذكر الغزالي ـ أن يجتمع مع األقران واألمثال في المحافل‬
‫ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس في الص دور تحتهم‪ ،‬ف إن ثق ل علي ه ذل ك‬
‫فهو متكبر‪ ،‬فليواظب عليه تكلفا ً حتى يسقط عنه ثقله‪ ،‬فبذلك يزايله الكبر‪.‬‬
‫وقد نبه الغزالي ـ هنا ـ إلى حيلة ش يطانية يتلبس به ا المتك بر ال ذي ي رى في‬
‫صورة المتواضع‪ ،‬فقال‪(:‬وههنا للشيطان مكيدة وه و أن يجلس في ص ف النع ال أو‬
‫يجعل بـينه وبـين األق ران بعض األرذال فيظن أن ذل ك تواض ع وه و عين الك بر‪،‬‬
‫ف على نف وس المتك برين إذ يوهم ون أنهم ترك وا مك انهم باالس تحقاق‬ ‫فإن ذلك يخ ّ‬
‫والتفضل‪ ،‬فيكون قد تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيض اً‪ ،‬ب ل ينبغي أن يق دم أقران ه‬
‫ويجلس بـينهم بجنبهم وال ينحط عنهم إلى صف النعال‪ ،‬فذلك هو الذي يخ رج خبث‬
‫الكبر من الباطن)(‪)2‬‬
‫الغضب‬
‫ينطل ق العالج العملي النح راف الغض ب من مواجه ة أس باب الغض ب بم ا‬
‫يضادها‪ ،‬كما ذكرنا في الكبر ـ قال الغزالي‪(:‬وكل خلق من هذه األخالق وص فة من‬
‫هذه الصفات يفتقر في عالجه إلى رياضة وتحمل مشقة‪ ،‬وحاصل رياض تها يرج ع‬
‫إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها‪ ،‬ثم المواظب ة على مباش رة‬
‫أضدادها مدة مديدة حتى تص ير بالع ادة مألوف ة هين ة على النفس‪ ،‬ف إذا انمحت عن‬
‫النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل)(‪)3‬‬
‫وه ذا يس تدعي في كث ير من األحي ان أعوان ا يس تعان بهم على دف ع ه ذا‬
‫االنحراف‪ ،‬ويروي المعتم ر بن س ليمان من ذل ك أن ه ك ان رج ل من األمم الس الفة‬
‫يغضب فيشت ّد غضبه فكتب ثالث صحائف وأعطى كل صحيفة رجالً وق ال لألول‪:‬‬
‫إذا غضبت فأعطني هذه‪ ،‬وقال الثاني‪ :‬إذا سكن بعض غضبـي فأعطني هذه‪ ،‬وق ال‬
‫الثالث إذا ذهب غضبـي فأعطني هذه‪ ،‬فاشتد غضبه يوما ً ف أعطي الص حيفة األولى‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/367 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/367 :‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.3/172 :‬‬

‫‪176‬‬
‫فإذا فيها (ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأك ل بعض ك‬
‫بعض اً)‪ ،‬فس كن بعض غض به‪ ،‬ف أعطي الثاني ة ف إذا فيه ا (ارحم من في األرض‬
‫يرحمك من في السماء)‪ ،‬فأعطي الثالثة فإذا فيها (خذ الناس بحق هللا فإنه ال يص لهم‬
‫إال ذلك)‬
‫ويروى أن المهدي غضب على رج ل فق ال شبـيب‪(:‬ال تغض ب هلل بأش د من‬
‫غضبه لنفسه)‪ ،‬فقال‪ :‬خلوا سبـيله‪.‬‬
‫ومما يعين على هذا انشغال القلب بالمهمات التي تصرفه عن غض به‪ ،‬وعم ا‬
‫يستدعيه غضبه من سلوك‪ ،‬ألن انشغال القلب دواء ألكثر العلل‪.‬‬
‫ومن أعظم األش غال اش تغال اإلنس ان بمص يره‪ ،‬وي روى في ه ذا أن س لمان‬
‫شتمه بعضهم‪ ،‬فقال له‪(:‬إن خفت موازيني فأنا شر مما تق ول وإن ثقلت موازي ني لم‬
‫يضرني ما تقول)‪ ،‬فقد كان همه مصروفا ً إلى اآلخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما يروى أنه شتم رجل الربـيع بن خثيم فقال‪(:‬ي ا ه ذا ق د س مع هللا‬
‫كالمك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول‪ ،‬وإن لم أقطعها فأنا شر‬
‫مما تقول)‬
‫أو ينشغل بحقوق ربه وعيوب نفسه‪ ،‬ويروى في هذا أن رجال س ب أب ا بك ر‬
‫فقال‪(:‬ما ستر هللا عن ك أك ثر) ق ال الغ زالي معلق ا على قول ه‪(:‬فكأن ه ك ان مش غوالً‬
‫بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي هللا حق تقاته ويعرفه حق معرفته‪ ،‬فلم يغض به‬
‫نسبة غيره إياه إلى نقصان‪ ،‬إذ ك ان ينظ ر إلى نفس ه بعين النقص ان‪ ،‬وذل ك لجالل ة‬
‫قدره)‬
‫ومثل ذلك ما يروى أن امرأة مالك بن دينار ق الت ل ه‪ :‬ي ا م رائي‪ ،‬فق ال‪(:‬م ا‬
‫عرفني غيرك)‬
‫وسب رجل الشعبـي فقال‪(:‬إن كنت صادقا ً فغفر هللا لي‪ ،‬وإن كنت كاذبا ً فغفر‬
‫هللا لك)‬
‫أما حال الغضب‪ ،‬فيعالج بما ورد في السنة من أنواع العالج‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫االستعاذة‪ :‬كما ورد في الحديث ع َْن سليمان بن ص رد ق ال‪ :‬كنت جالس ا م ع‬
‫النبي ‪ ‬ورجالن يستبان‪ ،‬وأحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداج ه فق ال َر ُس ول‬
‫هَّللا ِ ‪(:‬إني ألعلم كلمة لو قالها لذهب َع ْنه ما يجد‪ ،‬لو ق ال أع وذ باهَّلل ِم ْن الش يطان‬
‫ال رجيم ذهب َع ْن ه م ا يج د)‪ ،‬فق الوا ل ه إن الن بي ‪ ‬ق ال‪(:‬تع وذ باهَّلل ِم ْن الش يطان‬
‫الرجيم)(‪)1‬‬
‫ً‬
‫تغيير الحركة‪ :‬وذل ك ب الجلوس في ح ال كون ه قائم ا‪ ،‬واالض طجاع إن ك ان‬
‫جالسا ً ألن (سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة) فقد قال رس ول هللا‪(:‬أال‬
‫إن الغض ب جم رة توق د في ج وف ابن آدم‪ ،‬أال ت رون إلى حم رة عيني ه وانتف اخ‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫أوداجه‪ ،‬فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فاألرض األرض)(‪ ،)1‬وقال ‪(:‬إذا غض ب‬
‫أحدكم وهو قائم فليجلس‪ ،‬فإن ذهب عنه الغضب وإال فليضطجع)(‪)2‬‬
‫الوضوء‪ :‬فإن لم ي زل ذل ك فليتوض أ بالم اء الب ارد أو يغتس ل‪ ،‬ف إن الن ار ال‬
‫يطفئها إال الماء‪ ،‬قال ‪(:‬الغضب من الشيطان‪ ،‬والشيطان خل ق من الن ار‪ ،‬والم اء‬
‫يطفئ النار‪ ،‬فإذا غضب أحدكم فليغتسل)(‪ ،)3‬وقال ‪(:‬إنما الغضب من الش يطان‪،‬‬
‫والشيطان خلق من النار‪ ،‬وإنما تطفأ النار بالماء‪ ،‬فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)(‪)4‬‬

‫ثالثا ـ الفضائل الخلقية وكيفية تنميتها‬


‫بعد تهيئة تربة نفس المتلقي بوقايت ه من ك ل أس باب االنح راف‪ ،‬ثم عالج م ا‬
‫يظهر من مظ اهره‪ ،‬أو م ا يختفي من منابع ه‪ ،‬ف إن العم ل األض خم ال ذي يق وم ب ه‬
‫الم ربي ه و تكمي ل نفس المتلقي‪ ،‬وغ رس الفض ائل الخلقي ة ال تي تهيئه ا للمقام ات‬
‫الرفيعة‪ ،‬وتحققها بالكمال اإلنساني‪.‬‬
‫وذلك ألن درجة التحقق بالفضائل هي التي تحدد درجة كمال اإلنسان‪ ،‬ولهذا‬
‫ك لَ َعلَى ُخلُ ٍ‬
‫ق َع ِظ ٍيم﴾ (القلم‪)4:‬‬ ‫أثنى هللا تعالى على نبيه ‪ ‬فقال‪َ ﴿ :‬وإِنَّ َ‬
‫ولهذا وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلق ا‪،‬‬
‫ق ال ‪(:‬خي اركم أحاس نكم أخالق ا)(‪ ،)5‬وق ال ‪(:‬إن من أكم ل المؤم نين إيمان ا‬
‫أحسنهم خلقا‪ ،‬وخياركم خياركم لنسائهم)(‪)6‬‬
‫بل ورد ما هو أعظم من ذلك‪ ،‬وهو أن درجة القرب من رسول هللا ‪ ‬بق در‬
‫حسن الخلق‪ ،‬قال ‪(:‬إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلس ا ي وم القيام ة أحاس نكم‬
‫أخالق ا وإن من أبغض كم إلي وأبع دكم م ني ي وم القيام ة الثرث ارون والمتش دقون‬
‫والمتفيقهون) قالوا‪(:‬يا رسول هللا قد علمنا الثرثارون والمتش دقون فم ا المتفيهق ون)‬
‫قال‪(:‬المتكبرون)(‪)7‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن الدرجات العليا واألجور العظيمة ال يحوزها إال من حسن خلق ه‪،‬‬
‫فقال ‪(:‬ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخل ق‪ ،‬وإن هللا‬
‫تعالى ليبغض الفاحش البذيء)(‪ ،)8‬وقال ‪(:‬أن ا زعيم ب بيت في ربض الجن ة لمن‬
‫ت رك الم راء وإن ك ان محق ا‪ ،‬وب بيت في وس ط الجن ة لمن ت رك الك ذب وإن ك ان‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪:‬رقم ‪ 2192‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد وأبو داود والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن عساكر‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أحمد ‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫مازحا‪ ،‬وي بيت في أعلى الجن ة لمن حس ن خلق ه)(‪ ،)1‬فجع ل ال بيت العل وي ج زاء‬
‫ألعلى المقامات الثالثة‪ ،‬وهي حسن الخلق واألوس ط ألوس طها وه و ت رك الك ذب‪،‬‬
‫واألدنى ألدناها وهو ت رك المم اراة وإن ك ان مع ه ح ق وال ريب أن حس ن الخل ق‬
‫مشتمل على هذا كله‪.‬‬
‫وسئل ‪ ‬عن أكثر ما يدخل الناس الجن ة‪ ،‬فق ال‪(:‬تق وى هللا وحس ن الخل ق)‪،‬‬
‫وسئل ‪ ‬عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال‪(:‬الفم والفرج)(‪)2‬‬
‫بل أخبر ‪ ‬أن (المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(‪)3‬‬
‫انطالق ا من ه ذه المنزل ة الرفيع ة له ذه الفض ائل الخلقي ة س نتحدث في ه ذا‬
‫المبحث عن أمرين مهمين‪ ،‬كالهما من قواعد هذا الباب وأصوله‪:‬‬
‫األول‪ :‬هو التع رف على حقيق ة الخل ق وض وابطه‪ ،‬وال تي من خالله ا يمكن‬
‫التعرف على منابعه ومظاهره‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬هو التعرف على الطرق التي تن ال به ا الفض ائل الخلقي ة‪ ،‬وال تي من‬
‫خالل ممارستها يمكن للمربي أن يغرس هذه الفضائل في النفس‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ حقيقة الخلق وضوابطه‬
‫حقيقة الخلق‬
‫لعل أشهر تعريف للخلق هو أنه (هيئة في النفس راسخة تصدر عنها األفعال‬
‫بسهولة ويسر)(‪ ،)4‬ولعل أول من أطلق ه ذا التعري ف به ذه األلف اظ ه و أب و حام د‬
‫الغزالي(‪ ،)5‬وقد دعاه إلى هذا التعريف‪ ،‬هو تحليله للمكونات ال تي يص در منه ا أي‬
‫سلوك أخالقي‪ ،‬وهي ـ بحسب النظر العقلي ـ أربعة أمور‪:‬‬
‫الفعل‪ :‬وهو السلوك الظاهر سواء ك ان جميال أو قبيح ا‪ ،‬وه ذا ال يعت بر بح د‬
‫ذاته خلقا‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬ليس الخلق عبارة عن الفعل‪ ،‬فرب ش خص خلق ه الس خاء‬
‫وال يبذل إما لفقد المال أو لمانع‪ ،‬وربما يكون خلقه البخل وه و يب ذل إم ا لب اعث أو‬
‫لرياء)‬
‫القدرة‪ :‬وهو المصدر ال ذي انطل ق من ه الفع ل‪ ،‬والغ زالي ال يعتبره ا أيض ا‬
‫خلق ا‪ ،‬وال محال للخل ق‪ ،‬وذل ك (ألن نس بة الق وة إلى اإلمس اك واإلعط اء ب ل إلى‬
‫الض ّدين واحد‪ .‬وكل إنسان خل ق ب الفطرة ق ادر على اإلعط اء واإلمس اك‪ ،‬وذل ك ال‬
‫يوجب خلق البخل وال خلق السخاء)‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني‪ ،‬وإسناده صحيح‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.3/52 :‬‬
‫‪ )(5‬ويدل على هذا قوله في إحياء علوم الدين‪ (:‬اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيق ة حس ن الخل ق وأن ه م ا ه و‪،‬‬
‫وما تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته‪ ،‬بل ذكر كل واحد من ثمرات ه م ا خط ر ل ه‬
‫وم ا ك ان حاض راً في ذهن ه ولم يص رفوا العناي ة إلى ذك ر ح ده وحقيقت ه المحيط ة بجمي ع ثمرات ه على التفص يل‬
‫واالستيعاب ) انظر‪ :‬إحياء علوم الدين‪.3/52 :‬‬

‫‪179‬‬
‫المعرفة‪ :‬ألنه من المكونات األساس ية ألي س لوك أخالقي‪ ،‬وه و ك ذلك ليس‬
‫خلقا‪ ،‬وال من الخلق‪ ،‬ألن (المعرفة تتعلق بالجميل والقبـيح جميعا ً على وج ه واح د)‬
‫(‪)1‬‬
‫الهيئة النفسية‪ :‬التي يتمكن بها صاحب الخلق من المي ل إلى أح د الج انبين‪،‬‬
‫ويتيسر عليه أحد األمرين؛ إما الحسن وإما القبـيح‪ ،‬والغزالي يقص ر الخل ق عليه ا‪،‬‬
‫ألنها هي موضع االختيار الذي يحدد الجهة التي يميل إليها اإلنسان حسنا أو قبحا‪.‬‬
‫أصول األخالق‪:‬‬
‫انطالق ا من معرف ة حقيق ة الخل ق‪ ،‬وأن ه الهيئ ة الراس خة ال تي تنطل ق منه ا‬
‫األفعال الحسنة أو القبيحة‪ ،‬فقد تحدث علماء األخالق من المسلمين ـ كما تح دث من‬
‫قبلهم ـ عن األصول التي تنطلق منه ا األخالق‪ ،‬منطلقين في ذل ك من قي اس الخل ق‬
‫الظاهر على الخلق الباطن‪ ،‬فالخلق هو الصورة الظاهرة‪ ،‬كما أن الهيئة التي تصدر‬
‫منها األخالق هي الصورة الباطنة‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬كم ا أن حس ن الص ورة الظ اهر‬
‫مطلقا ً ال يتم بحسن العينين دون األنف والفم والخد ب ل ال ب د من حس ن الجمي ع ليتم‬
‫حسن الظاهر؛ فكذلك في الباطن أربعة أركان ال بد من الحسن في جميعها ح تى يتم‬
‫حسن الخلق‪ .‬فإذا استوت األركان األربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق)‬
‫وهذه األركان األربع ة‪ ،‬كم ا ي رى الغ زالي هي (ق وّة العلم‪ ،‬وق وة الغض ب‪،‬‬
‫وقوّة الشهوة‪ ،‬وقوّة العدل بـين هذه القوى الثالث)‬
‫وقبل أن نذكر رأي الغزالي في أصول األخالق ومنابعه ا‪ ،‬نحب أن ننب ه إلى‬
‫أن النص وص القرآني ة‪ ،‬ومثله ا النص وص النبوي ة ق د ذك رت أنواع ا من أص ول‬
‫األخالق بحسب التقسيمات المختلفة‪ ،‬بل إن الغزالي نفسه ـ كما سنرى ـ ينص على‬
‫أن األصول التي اعتمدها وردت اإلشارة إليها من القرآن الكريم‪.‬‬
‫وأول ما يفاجئن ا في الق رآن الك ريم من ه ذه األص ول ه و قول ه تع الى وه و‬
‫يجم ع مك ارم األخالق‪ُ ﴿ :‬خ ِذ ْال َع ْف َو َو ْأ ُم رْ بِ ْالعُرْ ِ‬
‫ف َوأَ ْع ِرضْ ع َِن ْال َج ا ِهلِينَ ﴾‬
‫(ألعراف‪)199:‬‬
‫فقد نص السلف على أن ه ذه اآلي ة من أجم ع اآلي ات لمك ارم األخالق‪ ،‬ق ال‬
‫اإلمام جعف ر الص ادق‪(:‬أم ر هللا نبي ه بمك ارم األخالق وليس في الق رآن آي ة أجم ع‬
‫لمكارم األخالق من هذه اآلية) (‪)2‬‬
‫بل قد وردت النص وص النبوي ة الدال ة على احت واء ه ذه اآلي ة على أص ول‬
‫األخالق‪ ،‬مفسرة لها بما يقتضي انحصار األخالق فيها‪ ،‬فعن جابر ق ال‪ :‬لم ا ن زلت‬
‫ف َوأَ ْع ِرضْ ع َِن ْال َج ا ِهلِينَ ﴾ (ألع راف‪ )199:‬ق ال‬ ‫هذه اآلية ﴿ ُخ ِذ ْال َع ْف َو َو ْأ ُمرْ بِ ْالعُرْ ِ‬
‫النبي ‪(:‬يا جبريل ما تأويل هذه اآلية؟ قال‪ :‬حتى أس أل‪ ،‬فص عد ثم ن زل فق ال‪ :‬ي ا‬
‫محمد إن هللا يأمرك أن تصفح عمن ظلمك‪ ،‬وتعطي من حرمك‪ ،‬وتصل من قطع ك‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/52 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري وأبو داود والنسائي‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫فق ال الن بي ‪(:‬أال أدلكم على أش رف أخالق ال دنيا واآلخ رة؟ ق الوا‪ :‬وم ا ذاك ي ا‬
‫رسول هللا؟ قال‪ :‬تعفو عمن ظلمك‪ ،‬وتعطي من حرمك‪ ،‬وتصل من قطعك)(‪)1‬‬
‫وهذا يد على انحصار الخالق في هذه األصول‪ ،‬وق د نظمه ا بعض الش عراء‬
‫فقال‪:‬‬
‫ممن كملت في ه ف ذلك‬ ‫مكارم األخالق في ثالث ة‬
‫تى‬ ‫الف‬
‫تقطع ه والعف و عمن‬ ‫إعطاء من تحرمه ووصل‬
‫دى‬ ‫اعت‬ ‫من‬
‫ويدل على هذا ما ورد في نصوص أخرى من أن هذه األخالق المذكورة في‬
‫اآلي ة هي من أمه ات األخالق وخيره ا‪ ،‬كم ا روي ذل ك في أح دايث مختلف ة‪ ،‬فعن‬
‫علي قال‪ :‬قال رس ول هللا ‪(:‬أال أدل ك على خ ير أخالق األولين واآلخ رين؟ ق ال‪:‬‬
‫قلت ي ا رس ول هللا‪ ،‬نعم‪ .‬ق ال‪ :‬تعطي من حرم ك‪ ،‬وتعف و عمن ظلم ك‪ ،‬وتص ل من‬
‫قطعك)(‪ ،)2‬وعن عقبة بن ع امر ق ال‪ :‬ق ال لي رس ول هللا ‪(:‬أال أخ برك بأفض ل‬
‫أخالق أه ل ال دنيا واآلخ رة‪ ،‬تص ل من قطع ك‪ ،‬وتعطي من حرم ك‪ ،‬وتعف و عمن‬
‫ظلم ك)(‪ ،)3‬وعن عائش ة أن الن بي ‪ ‬ق ال‪(:‬أال أدلكم على ك رائم األخالق لل دنيا‬
‫واآلخرة؟ أن تصل من قطعك‪ ،‬وتعطي من حرمك‪ ،‬وتجاوز عمن ظلمك)(‪)4‬‬
‫ولهذا ك انت ه ذه اآلي ة الكريم ة ـ بم ا تحمل ه من المع اني الجليل ة ـ ش عارا‬
‫للصالحين‪ ،‬وضياء يهتدون به في تعاملهم مع الخلق‪.‬‬
‫وقد حاول العلماء انطالقا من هذا أن ي بينوا وج ه انحص ار األخالق في ه ذه‬
‫األصول‪ ،‬فقال القرطبي‪(:‬هذه اآلية من ثالث كلم ات‪ ،‬تض منت قواع د الش ريعة في‬
‫المأمورات والمنهيات‪ .‬فقوله‪ُ ﴿ :‬خ ِذ ْال َع ْف َو ﴾ دخ ل في ه ص لة الق اطعين‪ ،‬والعف و عن‬
‫المذنبين‪ ،‬والرفق ب المؤمنين‪ ،‬وغ ير ذل ك من أخالق المطيعين‪ .‬ودخ ل في قول ه‪﴿ :‬‬
‫ف ﴾ صلة األرح ام‪ ،‬وتق وى هللا في الحالل والح رام‪ ،‬وغض األبص ار‪،‬‬ ‫َو ْأ ُمرْ بِ ْالعُرْ ِ‬
‫واالستعداد لدار القرار‪ .‬وفي قوله‪َ ﴿ :‬وأَ ْع ِرضْ ع َِن ْال َج ا ِهلِينَ ﴾ الحض على التعل ق‬
‫بالعلم‪ ،‬واإلعراض عن أهل الظلم‪ ،‬والتنزه عن منازع ة الس فهاء‪ ،‬ومس اواة الجهل ة‬
‫األغبياء‪ ،‬وغير ذلك من األخالق الحميدة واألفعال الرشيدة)(‪)5‬‬
‫وقال ابن القيم‪ ،‬وهو ي بين وج ه انحص ار األخالق في ه ذ اآلي ة‪(:‬ال ريب أن‬
‫للمطاع مع الناس ثالثة أحوال‪:‬‬
‫‪ .1‬أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم‪.‬‬
‫‪ .2‬أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن مردويه‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البيهقي في شعب اإليمان‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫‪ )(5‬القرطبي‪.7/344 :‬‬

‫‪181‬‬
‫‪ .3‬أن الناس معه قسمان‪ :‬موافق له موال ومعاد له معارض‪.‬‬
‫وعلي ه في ك ل واح د من ه ذه واجب‪ ،‬فواجب ه في أم رهم ونهيهم أن ي أمر‬
‫بالمعروف وهو المعروف الذي به ص الحهم وص الح ش أنهم‪ ،‬وينه اهم عن ض ده‪،‬‬
‫وواجبه فيما يبذلونه ل ه من الطاع ة أن يأخ ذ منهم م ا س هل عليهم وط وعت ل ه ب ه‬
‫أنفسهم س ماحة واختي ارا‪ ،‬وال يحملهم على العنت والمش قة فيفس دهم‪ ،‬وواجب ه عن د‬
‫جهل الجاهلين عليه اإلعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالمثل واالنتقام منهم لنفسه)(‪)1‬‬
‫فهذه اآلية الكريمة هي أول ما نسترشد به في بيان أصول األخالق وأركانها‪،‬‬
‫وعلى ه ديها تح دث الس لف ومن بع دهم على أص ول أخ رى لألخالق بحس ب‬
‫التقسيمات المختلفة‪.‬‬
‫ومن األقوال في ذلك‪ ،‬وهي تحتاج إلى تحليل ال نرى محال لتفصيله هنا ق ول‬
‫اإلم ام علي‪(:‬حس ن الخل ق في ثالث خص ال اجتن اب المح ارم وطلب الحالل‬
‫والتوسعة على العيال)‪ ،‬وقال الحسن ‪(:‬حسن الخلق بسط الوجه وب ذل الن دى وك ف‬
‫يخاص م من ش ّدة معرفت ه باهلل‬
‫َ‬ ‫يخاص م وال‬
‫ِ‬ ‫األذى)‪ ،‬وق ال الواس طي‪(:‬ه و أن ال‬
‫تعالى)‪ ،‬وقال شاه الكرماني‪(:‬هو كف األذى واحتمال المؤن)‪ ،‬وقال بعضهم‪(:‬هو أن‬
‫يكون من الناس قريبا ً وفيما بـينهم غريباً)‪ ،‬وقال الواسطي‪(:‬ه و إرض اء الخل ق في‬
‫الس راء والض راء)‪ ،‬وق ال أب و عثم ان‪(:‬ه و الرض ا عن هللا تع الى)‪ ،‬وس ئل س هل‬
‫التستري عن حس ن الخل ق فق ال‪(:‬أدن اه االحتم ال وت رك المكاف أة والرحم ة للظ الم‬
‫واالستغفار ل ه والش فقة علي ه)‪ ،‬وق ال م رة‪(:‬أن ال يتهم الح ق في ال رزق ويث ق ب ه‬
‫ويسكن إلى الوفاء بما ضمن فيطيعه وال يعصيه في جميع األمور فيم ا بـينه وبـينه‬
‫وفيما بـينه وبـين الناس)‬
‫ومن األقوال في ذلك قول الشيخ عبدالقادر الكيالني‪(:‬كن مع الحق بال خل ق‪،‬‬
‫ومع الخلق بال نفس)‪ ،‬وقد ذكر ابن القيم هذا القول معظم ا ل ه‪ ،‬وق ال‪(:‬م دار حس ن‬
‫الخلق مع الحق ومع الخلق على حرفين ذكرهما الشيخ عبدالقادر الكيالني)(‪)2‬‬
‫ثم ذكر وجه انحصار الخلق‪ ،‬بل السلوك فيهما جميعا‪ ،‬فق ال‪(:‬فتأم ل م ا أج ل‬
‫هاتين الكلمتين مع اختص ارهما وم ا أجمعهم ا لقواع د الس لوك ولك ل خل ق جمي ل‪،‬‬
‫وفساد الخلق إنما ينشأ من توس ط الخل ق بين ك وبين هللا تع الى وتوس ط النفس بين ك‬
‫وبين خلقه‪ ،‬فمتى عزلت الخلق حال كونك مع هللا تعالى‪ ،‬وعزلت النفس حال كونك‬
‫مع الخلق فقد فزت بكل ما أشار إليه القوم وشمروا إليه وحاموا حوله)(‪)3‬‬
‫ومن أص ول األخالق م ا نص علي ه ابن القيم من اجتم اع األخالق في ثالث ة‬
‫أشياء في (العلم والجود والصبر)(‪ ،)4‬ووجه انحصار األخالق في هذه األصول هو‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/305:‬‬
‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/326:‬‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين‪.2/326:‬‬
‫‪ )(4‬مدارج السالكين‪.2/317:‬‬

‫‪182‬‬
‫أن‪:‬‬
‫‪ .1‬العلم يرشد إلى مواقع بذل المعروف‪ ،‬والفرق بينه وبين المنك ر‪ ،‬وترتيب ه‬
‫في وض عه مواض عه فال يض ع الغض ب موض ع الحلم وال ب العكس وال اإلمس اك‬
‫موضع البذل وال بالعكس‪ ،‬بل يعرف مواق ع الخ ير والش ر ومراتبه ا وموض ع ك ل‬
‫خلق أين يضعه وأين يحسن استعماله‪.‬‬
‫‪ .2‬الجود يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه واالستقصاء منها بحقوق غ يره‪،‬‬
‫فالجود هو قائد جيوش الخير‪.‬‬
‫‪ .3‬الصبر يحف ظ علي ه اس تدامة ذل ك‪ ،‬ويحمل ه على االحتم ال وكظلم الغي ظ‬
‫وكف األذى وعدم المقابلة‪ ،‬وهو أكبر العون على ني ل ك ل مطل وب من خ ير ال دنيا‬
‫يرةٌ إِاَّل َعلَى‬
‫الص ال ِة َوإِنَّهَ ا لَ َكبِ َ‬ ‫اس ت َِعينُوا بِ َّ‬
‫الص ب ِْر َو َّ‬ ‫واآلخرة كما ق ال هللا تع الى‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫ْالخَا ِش ِعينَ ﴾ (البقرة‪)45:‬‬
‫ومن أصول األخالق ما نص عليه ابن القيم ـ ك ذلك ـ من قي ام األخالق على‬
‫أربعة أركان (ال يتصور قيام ساقه إال عليها‪ :‬الصبر والعفة والشجاعة والعدل)(‪،)1‬‬
‫ووجه انحصار األخالق في هذه األصول هو أن‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الص بر‪ ،‬وه و يحمل ه على االحتم ال وكظم الغي ظ وك ف األذى والحلم‬
‫واألناة والرفق وعدم الطيش والعجلة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ العف ة‪ ،‬وهي تحمل ه على اجتن اب الرذائ ل والقب ائح من الق ول والفع ل‬
‫وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة‬
‫والنميمة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الشجاعة‪ ،‬وهي تحمله على ع زة النفس وإيث ار مع الي األخالق والش يم‪،‬‬
‫وعلى الب ذل والن دى ال ذي ه و ش جاعة النفس وقوته ا على إخ راج المحب وب‬
‫ومفارقته‪ ،‬وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وش جاعتها يمس ك عنائه ا‬
‫ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال ‪(:‬ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد‬
‫الذي يملك نفسه عند الغضب) وهوحقيقة الشجاعة‪ ،‬وهي ملكة يقتدر بها العب د على‬
‫قهر خصمه)‬
‫‪ 4‬ـ العدل‪ ،‬وهو يحمله على اعتدال أخالقه وتوسطه فيها بين طرفي اإلف راط‬
‫والتفريط‪ ،‬فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقح ة وعلى‬
‫خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توس ط‬
‫بين الغضب والمهانة وسقوط النفس‪.‬‬
‫ومن أص ول األخالق م ا س بقت إلي ه اإلش ارة من محاول ة الغ زالي حص ر‬
‫أمه ات األخالق في اربع ة أص ول هي (الحكم ة‪ ،‬والش جاعة‪ ،‬والعف ة‪ ،‬والع دل)‪،‬‬
‫واعتبار باقي األخالق فروعا لها‪ ،‬ق ال الغ زالي‪(:‬ولم يبل غ كم ال االعت دال في ه ذه‬
‫األربع إال رسول هللا ‪ ،‬والناس بع ده متف اوتون في الق رب والبع د من ه‪ ،‬فك ل من‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/308:‬‬

‫‪183‬‬
‫قرب منه في هذه األخالق فهو قريب من هللا تع الى بق در قرب ه من رس ول هللا ‪،‬‬
‫وكل من جمع كمال هذه األخالق استحق أن يكون بـين الخل ق ملك ا ً مطاع ا ً يرج ع‬
‫الخلق كلهم إليه ويقت دون ب ه في جمي ع األفع ال‪ ،‬ومن انف ك عن ه ذه األخالق كله ا‬
‫واتص ف بأض دادها اس تحق أن يخ رج من بـين البالد والعب اد فإن ه ق د ق رب من‬
‫الش يطان اللعين المبع د‪ ،‬فينبغي أن يبع د‪ ،‬كم ا أن األوّل ق ريب من المل ك المق رّب‬
‫فينبغي أن يقت دي ب ه ويتق رّب إلي ه ف إن رس ول هللا ‪ ‬لم يبعث إال ليتمم مك ارم‬
‫األخالق)(‪)1‬‬
‫وقد استتدل الغزالي لهذه األصول بقوله تعالى في أوصاف المؤم نين‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا بِاهَّلل ِ َو َر ُس ولِ ِه ثُ َّم لَ ْم يَرْ تَ ابُوا َو َجاهَ دُوا بِ أ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فِي‬
‫ك هُ ُم الصَّا ِدقُونَ ﴾ (الحجرات‪)15:‬‬ ‫َسبِي ِل هَّللا ِ أُولَئِ َ‬
‫وبين وجه اإلشارة في اآلية‪ ،‬فقال‪(:‬فاإليمان باهلل وبرس وله من غ ير ارتي اب‬
‫هو ق ّوة اليقين‪ ،‬وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة‪ ،‬والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي‬
‫يرج ع إلى ض بط ق وة الش هوة‪ ،‬والمجاه دة ب النفس هي الش جاعة ال تي ترج ع إلى‬
‫استعمال ق ّوة الغضب على شرط العقل وح ّد االعتدال)‬
‫وق د انطل ق الغ زالي لوض ع ه ذا التص نيف الحاص ر من الق وى الموهوب ة‬
‫لإلنسان‪ ،‬ألن الهيئ ة الراس خة ال تي تص در عنه ا األخالق تتعام ل م ع تل ك الق وى‬
‫وتوجهها‪.‬‬
‫وهذا تعريفه لهذه األصول‪ ،‬ومنابعها‪ ،‬والثمرات األخالقية التي تصدر منها‪:‬‬
‫الحكمة‪ :‬وهي حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخط أ في جمي ع األفع ال‬
‫االختيارية‪ ..‬من اعتدالها يحصل‪ :‬حسن التدبـير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة‬
‫الظن والتفطن لدقائق األعمال وخفايا آفات النف وس‪ ..‬ومن إفراطه ا‪ :‬يص در المك ر‬
‫والخداع والدهاء‪ . .‬ومن تفريطها‪ :‬يصدر البله والحمق والجن ون وقل ة التجرب ة في‬
‫األمور‪.‬‬
‫والف رق بـين الحم ق والجن ون‪ :‬أن األحم ق مقص وده ص حيح ولكن س لوكه‬
‫الطريق فاسد فال تكون له رؤية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغ رص‪،‬‬
‫وأما المجنون فإنه يختار ما ال ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً‪.‬‬
‫العدل‪ :‬وهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع‪ ،‬أو هي حال ة‬
‫للنفس وق وّة به ا تس وس الغض ب والش هوة وتحملهم ا على مقتض ى الحكم ة‬
‫وتضبطهما في االسترسال واالنقباض على حسب مقتضاها‪.‬‬
‫وقد فسر هذه التعريف بقوله‪(:‬فالعقل مثاله مثال الناصح المشير‪ .‬وقوة الع دل‬
‫هي القدرة‪ ،‬ومثالها مثال المنفذ الممضي إلشارة العقل‪ .‬والغضب هو الذي تنف ذ في ه‬
‫اإلشارة‪ ،‬ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحت اج إلى أن ي ؤدب ح تى يك ون استرس اله‬
‫وتوقفه بحسب اإلشارة ال بحسب هيجان شهوة النفس‪ .‬والشهوة مثالها مث ال الف رس‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/55 :‬‬

‫‪184‬‬
‫الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروّض ا ً مؤ ّدب ا ً وت ارة يك ون جموح اً‪،‬‬
‫فمن استوت فيه هذه الخصال واعت دلت فه و حس ن الخل ق مطلق اً‪ .‬ومن اعت دل في ه‬
‫بعض ها دون البعض فه و حس ن الخل ق باإلض افة إلى ذل ك المع نى خاص ة كال ذي‬
‫يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض)(‪)1‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن هذا األصل هو الضابط لسائر األوصاف والق وى اإلنس انية‪ ،‬ب ل‬
‫هو األص ل في اعتباره ا أخالق ا‪ ،‬فـ (حس ن الق وّة الغضبـية واعت دالها يع بر عن ه‬
‫بالشجاعة‪ ،‬وحسن قوّة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعف ة‪ ،‬ف إن م الت ق وّة الغض ب‬
‫عن االعتدال إلى طرف الزيادة تس مى ته وّراً‪ ،‬وإن م الت إلى الض عف والنقص ان‬
‫تسمى جبنا ً وخوراً‪ .‬وإن م الت ق وّة الش هوة إلى ط رف الزي ادة تس مى ش رهاً‪ ،‬وإن‬
‫مالت إلى النقصان تسمى جموداً‪ ،‬والمحمود ه و الوس ط وه و الفض يلة‪ ،‬والطرف ان‬
‫رذيلتان مذمومتان‪ ،‬والعدل إذا فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل ل ه ض ّد واح د‬
‫ومقابل وهو الجور‪ ،‬وأما الحكم ة فيس مى إفراطه ا عن د االس تعمال في األغ راض‬
‫الفاس دة خبث ا ً وجرب زة‪ ،‬ويس مى تفريطه ا بله اً‪ ،‬والوس ط ه و ال ذي يختص باس م‬
‫الحكمة)‪.‬‬
‫وس نرى في المطلب الت الي أن م ا س ماه الغ زالي (الع دل) هن ا ه و نفس‬
‫(االستقامة) كما اصطلح عليها الشرع‪ ،‬فهي ضابط األخالق ومقوم اعوجاجها‪.‬‬
‫الش جاعة‪ :‬وهي ك ون ق وّة الغض ب منق ادة للعق ل في إق دامها واحجامه ا‪،‬‬
‫ويص در منه ا الك رم والنج دة والش هامة وكس ر النفس واالحتم ال والحلم والثب ات‬
‫وكظم الغي ظ والوق ار والت ودد وأمثاله ا وهي أخالق محم ودة‪ .‬وأم ا إفراطه ا وه و‬
‫التهوّر‪ .‬فيصدر منه الصلف والبذخ واالستشاطة والتك بر والعجب‪ .‬وأم ا تفريطه ا‪:‬‬
‫فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس واالنقب اض عن تن اول‬
‫الحق الواجب‪.‬‬
‫العفة‪ :‬وهي تأ ّدب قوّة الشهوة بتأديب العقل والش رع‪ ،‬ويص در منه ا الس خاء‬
‫والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطاف ة والمس اعدة والظ رف وقل ة‬
‫الطمع‪.‬‬
‫وأما ميلها إلى اإلفراط أو التفريط‪ :‬فيحصل من ه الح رص والش ره والوقاح ة‬
‫والخبث والتب ذير والتقت ير والري اء والهتك ة والمجان ة والعبث والمل ق والحس د‬
‫والشماتة والتذلل لألغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك‪.‬‬
‫ضوابط التخلق‬
‫كما أن جمال األشياء وحسنها يتجلى أكثر م ا يتجلى في تناس قها‪ ،‬وانتظامه ا‬
‫م ع بعض ها انتظام ا ينفي طغي ان بعض ها على بعض‪ ،‬فك ذلك األخالق ـ ال تي هي‬
‫ص ورة الب اطن ـ تس تدعي تناس قا بين أص ولها‪ ،‬يجع ل منه ا مظه را من مظ اهر‬
‫الجمال‪ ،‬ومجلى من مجالي الحسن‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/58:‬‬

‫‪185‬‬
‫وكمثال قرآني على ذلك موقفه من أكل الشهوات أو اس تعمالها‪ ،‬وال ذي تنش أ‬
‫عنه األخالق الخاصة بهذه القوة من قوى اإلنسان‪ ،‬فقد ورد ذكره في القرآن الك ريم‬
‫مقيدا بما يمنع ه من الطغي ان‪ ،‬ق ال تع الى‪ ،‬وكأن ه يع رض مائ دة نعم ه على خلق ه‪:‬‬
‫ت َوالنَّ ْخ َل َوال َّزرْ َع ُم ْختَلِف ا ً أُ ُكلُ هُ‬ ‫ت َو َغي َْر َم ْعرُو َشا ٍ‬ ‫ت َم ْعرُو َشا ٍ‬ ‫﴿ َوهُ َو الَّ ِذي أَ ْن َشأ َ َجنَّا ٍ‬
‫َوال َّز ْيتُونَ َوالرُّ َّمانَ ُمت ََش ابِها ً َو َغ ْي َر ُمت ََش ابِ ٍه ُكلُ وا ِم ْن ثَ َم ِر ِه إِ َذا أَ ْث َم َر َوآتُ وا َحقَّهُ يَ وْ َم‬
‫ْرفِينَ ﴾ (األنعام‪)141:‬‬ ‫ْرفُوا إِنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُمس ِ‬‫صا ِد ِه َوال تُس ِ‬ ‫َح َ‬
‫ففي اآلية الكرية دعوة لألكل تنافي ما يدعو إليه الرهبان من الج وع‪ ،‬ولكنه ا‬
‫ال تنسجم كذلك مع ما يدعوا إليه أهل الشهوات من االقتص ار على األك ل المج رد‪،‬‬
‫بل تضم إليه أمرين‪:‬‬
‫‪ .1‬عدم اإلسراف‪ ،‬حتى ال ينمي هذا األكل في اإلنس ان أخالق اليهيمي ة ال تي‬
‫ال تبالي ما تأكل‪ ،‬وال كيف تأكل‪ ،‬وهذا ما نص عليه قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا بَنِي آ َد َم ُخ ُذوا‬
‫اش َربُوا َوال تُ ْس ِرفُوا إِنَّهُ ال يُ ِحبُّ ْال ُم ْس ِرفِينَ ﴾‬ ‫ِزينَتَ ُك ْم ِع ْن َد ُك ِّل َم ْس ِج ٍد َو ُكلُ وا َو ْ‬
‫(ألعراف‪)31:‬‬
‫‪ .2‬الب ذل‪ ،‬وع دم نس يان المحت اجين‪ ،‬ألن الش هوة ق د تول د الح رص المول د‬
‫للبخل‪ ،‬فلذلك تعارض الشهوة بالبذل‪.‬‬
‫ومن األمثلة ـ كذلك ـ قول ه تع الى‪ ،‬وه و يحض في وقت واح د على اإلنف اق‬
‫طهَا ُك َّل ْالبَ ْس ِط فَتَ ْق ُع َد َملُوم ا ً‬ ‫ْس ْ‬ ‫ك َم ْغلُولَ ةً إِلَى ُعنُقِ كَ َوال تَب ُ‬ ‫والتقتير‪َ ﴿ :‬وال تَجْ َعلْ يَ َد َ‬
‫َمحْ ُس وراً﴾ (االس راء‪ ،)29:‬فغ ل الي د إلى العن ق يول د ص فة البخ ل‪ ،‬وهي من ش ر‬
‫الصفات‪ ،‬وبسط اليد كل البسط‪ ،‬قد يولد الفاق ة والفق ر‪ ،‬وه و ك ذلك منب ع من من ابع‬
‫االنحراف‪ ،‬كما قال ‪(:‬كاد الفقر أن يكون كفرا)(‪)1‬‬
‫وهك ذا نج د ك ل س لوك محم ود مكتن ف بخلقين ذميمين وه و وس ط بينهم ا‪،‬‬
‫وطرفاه خلقان ذميمان‪ ،‬ومن األمثل ة ال تي ذكره ا ابن القيم ل ذلك‪ :‬أن الج ود يكتنف ه‬
‫خلقا البخل والتبذير‪ ،‬والتواضع يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو (ف إن النفس‬
‫متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أح د الخلقين ال ذميمين والب د‪ ،‬ف إذا انح رفت‬
‫عن خلق التواضع انحرفت إما إلى ك بر وعل و وإم ا إلى ذل ومهان ة وحق ارة‪ ،‬وإذا‬
‫انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهان ة‬
‫بحيث يطمع في نفسه عدوه‪ ،‬ويفوته كثير من مصالحه‪ ،‬ويزعم أن الحام ل ل ه على‬
‫ذلك الحياء وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس)(‪)2‬‬
‫ومنها أن الهيئة النفسية إن انحرفت عن خل ق الص بر المحم ود انح رفت إم ا‬
‫إلى جزع وهلع وجشع وتسخط وإما إلى غلظة كب د وقس وة قلب وتحج ر طب ع كم ا‬
‫قال بعضهم‪:‬‬
‫تبكي علينا وال نبكي على أحد فنحن أغلظ أكبادا من اإلبل‬

‫‪ )(1‬رواه أبو نعيم في الحلية‪ ،‬ورواه الطبراني‪.‬‬


‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/309 :‬‬

‫‪186‬‬
‫ومنها أن الهيئة النفسية إذا انحرفت عن خل ق الحلم انح رفت إم ا إلى الطيش‬
‫والترف والحدة والخفة‪ ،‬وإما إلى الذل والمهانة والحقارة‪ ،‬فف رق بين من حلم ه حلم‬
‫ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل‪:‬‬
‫كل حلم أتى بغير اقتدار حجة الجىء إليها اللئام‬
‫ومنها أن الهيئة النفسية إذا انحرفت عن خلق األناة والرفق انح رفت إم ا إلى‬
‫عجلة وطيش وعنف‪ ،‬وإما إلى تفريط وإضاعة‪ ،‬والرفق واألناة بينهما‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها هللا للمؤمنين انحرفت إم ا إلى ك بر‪،‬‬
‫وإما إلى ذل‪ ،‬والعزة المحمودة بينهما‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت إما إلى تهور وإقدام غير محم ود‪،‬‬
‫وإما إلى جبن وتأخر مذموم‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت إما إلى‬
‫حسد‪ ،‬وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون‪.‬‬
‫وإذا انح رفت عن القناع ة انح رفت إم ا إلى ح رص وكلب‪ ،‬وإم ا إلى خس ة‬
‫ومهانة وإضاعة‪.‬‬
‫وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت إما إلى قسوة‪ ،‬وإم ا إلى ض عف قلب‬
‫وجبن نفس‪( ،‬كمن ال يق دم على ذبح ش اة وال إقام ة ح د وت أديب ول د‪ ،‬وي زعم أن‬
‫الرحمة تحمله على ذلك‪ ،‬وقد ذبح أرحم الخلق بيده في موض ع واح د ثالث ا وس تين‬
‫بدنة‪ ،‬وقطع األيدي من الرجال والنس اء‪ ،‬وض رب األعن اق‪ ،‬وأق ام الح دود‪ ،‬ورجم‬
‫بالحجارة حتى مات المرجوم‪ ،‬وكان أرحم خلق هللا على اإلطالق وأرأفهم)(‪)1‬‬
‫ومثل ذلك طالقة الوجه والبشر المحمود‪ ،‬فإن ه وس ط بين التع بيس والتقطيب‬
‫وتصعير الخد وطي البشر عن البشر‪ ،‬وبين االسترس ال م ع ك ل أح د بحيث ي ذهب‬
‫الهيبة ويزي ل الوق ار ويطم ع في الج انب‪ ،‬كم ا أن االنح راف األول يوق ع الوحش ة‬
‫والبغضة والنفرة في قلوب الخل ق‪ ،‬وص احب الخل ق الوس ط مهيب محب وب عزي ز‬
‫جانبه حبيب لقاؤه وفي صفة نبينا ‪( ‬من رآه بديهة هابه ومن خالطه عشرة أحبه)‬
‫وانطالقا من ه ذا‪ ،‬ف إن األخالق تحت اج إلى ض وابط تحميه ا من من ط رفي‬
‫اإلفراط والتفريط‪ ،‬وتجعلها متناسقة مع بعضها البعض‪ ،‬فال يطغى فيها ج انب على‬
‫جانب بحيث يؤثر ذلك في جماله وكماله‪.‬‬
‫وق د ع بر الق رآن الك ريم عن ه ذه الض وابط ال تي تحمي األخالق بمص طلح‬
‫(االس تقامة)‪ ،‬ال ذي ورد في مواض ع متع ددة من الق رآن الك ريم‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن‬
‫اس تَقَا ُموا تَتَنَ َّز ُل َعلَ ْي ِه ُم ْال َمالئِ َك ةُ أَاَّل تَخَ افُوا َوال تَحْ زَ نُ وا‬
‫الَّ ِذينَ قَ الُوا َربُّنَ ا هَّللا ُ ثُ َّم ْ‬
‫َوأَب ِْشرُوا بِ ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُك ْنتُ ْم تُو َع ُدونَ ﴾ (فص لت‪ ،)30:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ قَ الُوا‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َوال هُ ْم يَحْ زَ نُونَ ﴾ (االحقاف‪ ،)13:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫َربُّنَا هَّللا ُ ثُ َّم ا ْستَقَا ُموا فَال َخوْ ٌ‬
‫﴿ َوأَلَّ ِو ا ْستَقَا ُموا َعلَى الطَّ ِريقَ ِة أَل َ ْسقَ ْينَاهُ ْم َما ًء َغدَقاً﴾ (الجـن‪)16:‬‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/310 :‬‬

‫‪187‬‬
‫وحى إِلَ َّ‬
‫ي‬ ‫وأمر تعالى بالدعوة إليها‪ ،‬فقال تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ إِنَّ َم ا أَنَ ا بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يُ َ‬
‫اس تَ ْغفِرُوهُ َو َو ْي ٌل لِ ْل ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (فص لت‪ ،)6:‬وق د‬ ‫أَنَّ َما إِلَهُ ُك ْم إِلَهٌ َوا ِح ٌد فَا ْستَقِي ُموا إِلَ ْي ِه َو ْ‬
‫لبى رسول هللا ‪ ‬هذا األمر اإللهي‪ ،‬عن سفيان بن عبدهللا قال‪ :‬قلت‪(:‬يا رسول هللا‪،‬‬
‫قل لي في اإلسالم قوال ال أسأل عنه أحدا غيرك) قال‪(:‬ق ل آمنت باهلل ثم اس تقم)(‪،)1‬‬
‫وعن ثوب ان عن الن بي ‪ ‬ق ال‪(:‬اس تقيموا ولن تحص وا واعلم وا أن خ ير أعم الكم‬
‫الصالة وال يحافظ على الوضوء إال مؤمن)(‪)2‬‬
‫اب َم َع كَ‬ ‫ُ‬
‫وقد فسرها في قوله تعالى لرسوله ‪ ﴿ :‬فَا ْستَقِ ْم َك َم ا أ ِم رْ تَ َو َم ْن تَ َ‬
‫صيرٌ﴾ (هود‪ ،)1121:‬ف بين أن االس تقامة ض د الطغي ان‬ ‫َوال ت ْ‬
‫َط َغوْ ا إِنَّهُ بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ‬
‫وهو مجاوزة الحدود فى كل شىء‪.‬‬
‫واالستقامة ـ كما عرفها العماء ـ هي االستمرار في جهة واحدة من غير أخ ذ‬
‫في جهة اليمين وال جهة الشمال؛ وال جهة اإلفراط وال جهة التفريط‪.‬‬
‫وهذا هو مصدر صعوبة تحقيقه ا‪ ،‬ألن الوس ط الحقيقي ال ذي ال ينح رف إلى‬
‫أي جه ة من الجه ات ص عب تحقيق ه في الحس‪ ،‬فكي ف بتحقيق ه في المع نى‪ ،‬ق ال‬
‫الغزالي‪(:‬ولما كان الوسط الحقيقي بـين الطرفين في غاية الغموض‪ ،‬بل هو أدق من‬
‫الشعر وأح ّد من السيف فال جرم ومن استوى على هذا الصراط المستقيم في ال دنيا‪،‬‬
‫جاز على مثل هذا الص راط في اآلخ رة‪ ،‬وقلم ا ينف ك العب د عن مي ل عن الص راط‬
‫المستقيم ـ أعني الوسط ـ حتى ال يميل إلى أحد الجانبـين فيكون قلبه متعلقا ً بالج انب‬
‫الذي مال إليه‪ .‬ولذلك ال ينفك عن عذاب ما‪ ،‬واجتياز على النار وإن كان مثل البرق‬
‫ض يّاً﴾ (م ريم‪ ،)71:‬أي‬ ‫ار ُدهَا َكانَ َعلَى َربِّكَ َح ْتما ً َم ْق ِ‬
‫﴿وإِ ْن ِم ْن ُك ْم إِاَّل َو ِ‬‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه‪ .‬وألجل عسر االستقامة‬
‫وجب على كل عبد أن يدعو هللا تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قول ه تع الى‪:‬‬
‫ستَقِي َم﴾ (الفاتحة‪ )6:‬إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة)(‪)3‬‬ ‫﴿ا ْه ِدنَا الصِّ َراطَ ْال ُم ْ‬
‫ولهذا ذكر أن أمره تعالى بتحقيق غاية االستقامة ال وارد في س ورة ه ود ه و‬
‫الذي شيب رسول هللا ‪ ،)4( ‬فقد روى عن أبي عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا‬
‫علي السري يقول‪ :‬رأيت النبي ‪‬في المن ام فقلت‪ :‬ي ا رس ول هللا! روي عن ك أن ك‬
‫قلت‪(:‬ش يبتني ه ود) فق ال‪(:‬نعم) فقلت ل ه‪ :‬م ا ال ذي ش يبك منه ا؟ قص ص األنبي اء‬
‫وهالك األمم! فقال‪(:‬ال‪ ،‬ولكن قوله‪ ﴿ :‬فَا ْستَقِ ْم َك َما أُ ِمرْ تَ ﴾(هود‪.)1121:‬‬
‫وق د ذك ر الغ زالي أص ال س لوكيا مهم ا في التربي ة على االس تقامة الممثل ة‬
‫لحقيقة األوامر اإللهي ة‪ ،‬فق ال (إن أردت أن تع رف الوس ط ف انظر إلى الفع ل ال ذي‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.3/63 :‬‬
‫‪ )(4‬قال ابن عباس ‪ (:‬ما نزل على رسول هللا ‪ ‬آية هي أشد وال أشق من هذه اآلية عليه‪[ ،‬يقصد قوله تع الى‪:‬‬
‫﴿ فَا ْستَقِ ْم َك َما أُ ِمرْ تَ ﴾(هود‪ ])112:‬ولذلك قال ألصحابه حين قالوا ل ه‪ :‬لق د أس رع إلي ك الش يب! فق ال‪ (:‬ش يبتني ه ود‬
‫وأخواتها)‬

‫‪188‬‬
‫يوجبه الخلق المحذور‪ ،‬فإن كان أسهل عليك وأل ذ من ال ذي يض اده فالغ الب علي ك‬
‫ذلك الخلق الموجب له‪ ،‬مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عن دك وأيس ر علي ك‬
‫من بذله لمستحقه‪ ،‬فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظب ة على الب ذل‪،‬‬
‫فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف عليك من اإلمس اك ب الحق فق د‬
‫غلب علي ك التب ذير ف ارجع إلى المواظب ة على اإلمس اك‪ ،‬فال ت زال ت راقب نفس ك‬
‫وتستدل على خلقك بتسيير األفعال وتعسيرها حتى تنقطع عالقة قلب ك عن االلتف ات‬
‫إلى المال فال تميل إلى بذله وال إلى إمساكه‪ ،‬بل يصير عندك كالم اء فال تطلب في ه‬
‫إال إمس اكه لحاج ة محت اج أو بذل ه لحاج ة محت اج‪ ،‬وال ي ترجح عن دك الب ذل على‬
‫اإلمساك)(‪)1‬‬
‫وهو أصل سلوكي مهم‪ ،‬ولكنه مع ذلك فيه من الصعوبة ما فيه‪ ،‬ألن االطالع‬
‫على حقيق ة م ا تس تلذه النفس وم ا يخ ف عليه ا يك اد يك ون مس تحيال‪ ،‬فللنفس من‬
‫التقلبات ما يعجز معه التعرف على حقيقة مطالبها وأذواقها عرفانا كامال‪.‬‬
‫وله ذا أذن الش رع في المقارب ة‪ ،‬وهي درج ة أدنى من االس تقامة‪ ،‬كم ا نص‬
‫على ذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَاتَّقُوا هَّللا َ َما ا ْستَطَ ْعتُ ْم ﴾ (التغابن‪ ،)16:‬فقد أم ر ب التقوى في‬
‫حدود االستطاعة‪ ،‬وهي نوع من المقاربة‪.‬‬
‫وال تعارض بين هذه اآلية وبين قول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّقُ وا هَّللا َ‬
‫ق تُقَاتِ ِه َوال تَ ُموتُ َّن إِاَّل َوأَ ْنتُ ْم ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ (آل عمران‪ )102:‬ح تى ي زعم النس خ‪ ،‬ألن‬ ‫َح َّ‬
‫القرآن الكريم كله محكم‪ ،‬وإنما لكل آية مجالها‪.‬‬
‫ومجرد التأمل في سياق اآليتين يكفي للداللة على مجال كل منهما‪:‬‬
‫فاآلية المرخصة في المقاربة وردت أثناء قوله تع الى‪ ﴿ :‬ي ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫َص فَحُوا َوتَ ْغفِ رُوا فَ إِ َّن‬ ‫اج ُك ْم َوأَوْ اَل ِد ُك ْم َع ُد ّواً لَّ ُك ْم فَاحْ َذرُوهُ ْم َوإِن تَ ْعفُ وا َوت ْ‬ ‫إِ َّن ِم ْن أَ ْز َو ِ‬
‫هَّللا َ َغفُ و ٌر َّر ِحي ٌم إِنَّ َم ا أَ ْم َوالُ ُك ْم َوأَوْ اَل ُد ُك ْم فِ ْتنَ ةٌ َوهَّللا ُ ِعن َدهُ أَجْ ٌر َع ِظي ٌم فَ اتَّقُوا هَّللا َ َم ا‬
‫ك هُ ُم‬ ‫ق ُش َّح نَ ْف ِس ِه فَأُوْ لَئِ َ‬‫ا ْستَطَ ْعتُ ْم َوا ْس َمعُوا َوأَ ِطيعُوا َوأَنفِقُوا خَ ْي راً أِّل َنفُ ِس ُك ْم َو َمن يُ و َ‬
‫ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾(التغابن‪ 14 :‬ـ ‪)16‬‬
‫فهي ت رخص في المقارب ة في األم ور ال تي يص عب فيه ا الض بط‪ ،‬ب ل ق د‬
‫يستحيل‪ ،‬وذلك في عالقة الرجل مع أهل ه وأوالده‪ ،‬ونح و ذل ك كم ا ق ال تع الى في‬
‫صعوبة تحقيق العدل الكامل بين الزوجات‪َ ﴿ :‬ولَ ْن ت َْس ت َِطيعُوا أَ ْن تَ ْع ِدلُوا بَ ْينَ النِّ َس ا ِء‬
‫َولَوْ َح َرصْ تُ ْم فَال تَ ِميلُوا ُك َّل ْال َم ْي ِل فَتَ َذرُوهَا َك ْال ُم َعلَّقَ ِة َوإِ ْن تُصْ لِحُوا َوتَتَّقُوا فَإِ َّن هَّللا َ َكانَ‬
‫َغفُوراً َر ِحيماً﴾ (النساء‪)129:‬‬
‫ولهذا ورد التيسير وسرعة المغفرة في األخطاء المتعلقة بهذا الج انب‪ ،‬م ادام‬
‫من وقع فيها يتحرى االستقامة ما استطاع‪ ،‬فعن حذيفة ق ال‪ :‬كن ا جلوس ا عن د عم ر‬
‫فقال‪ :‬أيكم يحفظ حديث رسول هللا ‪ ‬في الفتنة كما قال؟ قال فقلت‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪ :‬فق ال‪:‬‬
‫إنك لجريء! وكيف؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬سمعت رسول هللا ‪ ‬يق ول‪ :‬فتن ة الرج ل في أهل ه‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/63 :‬‬

‫‪189‬‬
‫وماله ونفسه وجاره يكفرها الصالة والص يام والص دقة واألم ر ب المعروف والنهي‬
‫عن المنكر) الحديث(‪.)1‬‬
‫بل ورد في حديث ض عيف أن م ا يحص ل لإلنس ان بس بب هموم ه في طلب‬
‫المعيشة يكفر الذنوب‪ ،‬فقال ‪(:‬إن من الذنوب ذنوبا ال تكفرها الصالة وال الص يام‬
‫وال الحج وال العمرة‪ ،‬تكفرها الهموم في طلب المعيشة)(‪)2‬‬
‫وفي هذا وأمثاله ورد قوله ‪(:‬ذروني ما ت ركتكم فإنم ا هل ك من ك ان قبلكم‬
‫بكثرة سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه م ا اس تطعتم وإذا‬
‫نهيتكم عن شيء فدعوه)(‪)3‬‬
‫أم ا اآلي ة المش ددة اآلم رة بل زوم تق وى هللا ح ق تقات ه‪ ،‬أو اآلم رة بل زوم‬
‫االستقامة في قمة درجاتها‪ ،‬فقد وردت في سياق قوله تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ َواْ‬
‫َاب يَ ُر ُّدو ُكم بَ ْع َد إِي َمانِ ُك ْم َكافِ ِرينَ َو َك ْي فَ تَ ْكفُ رُونَ‬ ‫وا ْال ِكت َ‬ ‫ُوا فَ ِريقا ً ِّمنَ الَّ ِذينَ أُوتُ ْ‬
‫إِن تُ ِطيع ْ‬
‫اط‬
‫ص َر ٍ‬ ‫ي إِلَى ِ‬ ‫َص م بِاهّلل ِ فَقَ ْد هُ ِد َ‬ ‫ات هّللا ِ َوفِي ُك ْم َر ُس ولُهُ َو َمن يَ ْعت ِ‬ ‫َوأَنتُ ْم تُ ْتلَى َعلَ ْي ُك ْم آيَ ُ‬
‫ق تُقَاتِ ِه َوالَ تَ ُم وتُ َّن إِالَّ َوأَنتُم ُّم ْس لِ ُمونَ‬ ‫وا هّللا َ َح َّ‬‫وا اتَّقُ ْ‬ ‫ُّم ْس تَقِ ٍيم يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ُوا نِ ْع َمتَ هّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ ُكنتُ ْم أَ ْعدَاء فَأَلَّفَ‬ ‫وا َو ْاذ ُكر ْ‬ ‫وا بِ َح ْب ِل هّللا ِ َج ِميعا ً َوالَ تَفَ َّرقُ ْ‬
‫ص ُم ْ‬ ‫َوا ْعتَ ِ‬
‫ار فَأَنقَ َذ ُكم ِّم ْنهَ ا‬ ‫ص بَحْ تُم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َوان ا ً َو ُكنتُ ْم َعلَ َى َش فَا ُح ْف َر ٍة ِّمنَ النَّ ِ‬ ‫بَ ْينَ قُلُ وبِ ُك ْم فَأ َ ْ‬
‫ك يُبَيِّنُ هّللا ُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَ ُدونَ ﴾(آل عمران‪ 100:‬ـ ‪)103‬‬ ‫َك َذلِ َ‬
‫وهو سياق المفاصلة بين اإليمان والكفر‪ ،‬بإخالص الوجه هلل والتبرؤ المطلق‬
‫من الكفر‪ ،‬وهو أمر مستطاع من جهة‪ ،‬ويستدعي الحسم من جهة أخرى‪ ،‬ولهذا قال‬
‫تع الى في ه ذا الن وع من التق وى مبين ا موق ف إب راهيم ‪ ‬من أبي ه‪َ ﴿ :‬و َم ا َك انَ‬
‫ا ْستِ ْغفَا ُر إِ ْب َرا ِهي َم أِل بِي ِه إِاَّل ع َْن َموْ ِع َد ٍة َو َع َدهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ َعد ٌُّو هَّلِل ِ تَبَرَّأَ ِم ْنهُ إِ َّن‬
‫إِ ْب َرا ِهي َم أَل َ َّواهٌ َحلِي ٌم﴾ (التوبة‪)114:‬‬
‫ويدل لهذا قول ابن عباس ـ وهو ترجمان القرآن ـ بعدم نسخها‪ ،‬فقد روي أن ه‬
‫قال‪(:‬إنها لم تنسخ‪ ،‬ولكن حق تقاته أن يجاهد هلل حق جهاده‪ ،‬وال يأخ ذه في هللا لوم ة‬
‫الئم‪ ،‬ويقوموا هلل بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم)‪ ،‬وهو نفس ما ذكرنا مما‬
‫يدل عليه السياق‪.‬‬
‫أما ما أورده المفسرون من قول ه ‪(:‬ح ق تقات ه أن يط اع فال يعص ى‪ ،‬وأن‬
‫يذكر فال ينسى‪ ،‬وأن يشكر فال يكفر)(‪ ،)4‬وهو أمر يكاد يك ون مس تحيال‪ ،‬فليس ه و‬
‫من هذا الباب‪ ،‬بل مراده ‪ ‬ـ وهللا أعلم بمراد رسوله ـ أن التق وى الكامل ة هي ه ذه‬
‫التقوى‪ ،‬ال أنها هي التقوى المأمور بها‪ ،‬ألن التقوى المأمور بها نوعان‪:‬‬
‫نوع شديد‪ :‬وهو تحقي ق ك ل الطاع ات ب أعلى قممه ا م ع ال براءة من جمي ع‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر‪ ،‬وقال‪ :‬غريب جدا‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫المعاصي إيمانا وسلوكا‪ ،‬وهذا ال يتحق ق في منتهى كمال ه به ذه الص فة إال في ح ق‬
‫المعصومين ـ صلوات هللا وسالمه عليهم ـ‪ ،‬وإنم ا ذك ر وأم ر ب ه ح تى يش عر ك ل‬
‫شخص بتقصيره في حق هللا مهما اجتهد في ذلك الحق‪.‬‬
‫نوع مستطاع ‪ :‬وهو إخالص الوجه هلل والبراءة من الكفر‪ ،‬وهو أصل أصول‬
‫الدين الذي ال مندوحة في تركه‪.‬‬
‫وقد ورد في السنة ما يؤيد أن المطلوب ه و ب ذل الجه د المس تطاع للوص ول‬
‫إلى قمة االستقامة‪ ،‬ال األمر باالس تقامة ذاته ا‪ ،‬ب ل االس تقامة غاي ة ش ريفة تتف اوت‬
‫النفوس الفاضلة في الدنو منها‪ ،‬ومع ذلك ال تكف عن طلبها لذلك الدنو وشوقها ل ه‪،‬‬
‫قال ‪(:‬لن يدخل أحدا عمله الجنة)‪ ،‬قالوا‪ :‬وال أنت يا رس ول هللا؟ ق ال‪ :‬وال أن ا إال‬
‫أن يتغمدني هللا بفضل رحمته‪ ،‬فسددوا وقاربوا‪ ،‬وال يتمن أحدكم الموت‪ ،‬إما محسن‬
‫فلعله يزداد خيرا‪ ،‬وإما مسيء فلعله أن يستعتب)(‪)1‬‬
‫وعلى ما ذكرناه من االكتفاء بالمقاربة مع الشوق لالستقامة هو ما نص علي ه‬
‫علم اء الس لوك المس لمين‪ ،‬ق ال الغ زالي‪(:‬فاالس تقامة على س واء السبـيل في غاي ة‬
‫الغموض‪ ،‬ولكن ينبغي أن يجتهد اإلنسان في الق رب من االس تقامة إن لم يق در على‬
‫حقيقتها‪ .‬فكل من أراد النجاة فال نج اة ل ه إال بالعم ل الص الح‪ ،‬وال تص در األعم ال‬
‫الص الحة إال عن األخالق الحس نة فليتفق د ك ل عب د ص فاته وأخالق ه‪ ،‬وليع ّددها‬
‫وليشتغل بعالج واحد واحد فيها على الترتيب)(‪)2‬‬
‫انطالقا من هذا يذكر السلف أص لين يك ثرون الوص ية بهم ا من تحق ق بهم ا‬
‫ق رب من االس تقامة ـ ال تي هي قم ة قمم األخالق الفاض لة ـ قرب ا عظيم ا‪ ،‬هم ا‬
‫(االقتصاد في األعمال واالعتصام بالسنة)(‪)3‬‬
‫قال بعض السلف‪(:‬ما أمر هللا بأمر إال وللشيطان فيه نزغتان‪ ،‬إما إلى تفري ط‬
‫وإما إلى مجاوزة‪ ،‬وهي اإلفراط وال يبالي بأيهما ظفر‪ ،‬زيادة أو نقصان)‪،‬‬
‫وقال النبي ‪ ‬لعبدهللا بن عمرو‪(:‬يا عب د هللا بن عم رو إن لك ل عام ل ش رة‬
‫ولكل شرة فترة فمن ك انت فترت ه إلى س نة أفلح ومن ك انت فترت ه إلى بدع ة خ اب‬
‫وخسر)(‪ ،)4‬وقد قال له ذلك حين أمره باالقتصاد في العمل‪.‬‬
‫يقول ابن القيم معلقا على أهمية هذه الوصايا‪ ،‬ووجه االكتفاء بها في حص ول‬
‫االس تقامة‪(:‬إن الش يطان يش م قلب العب د ويخت بره‪ ،‬ف إن رأى في ه داعي ة للبدع ة‬
‫وإعراضا عن كمال االنقياد للسنة أخرجه عن االعتصام بها‪ ،‬وإن رأى فيه حرص ا‬
‫على الس نة وش دة طلب له ا لم يظف ر ب ه من ب اب اقتطاع ه عنه ا ف أمره باالجته اد‬
‫والجور على النفس ومج اوزة ح د االقتص اد فيه ا ق ائال ل ه‪ :‬إن ه ذا خ ير وطاع ة‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم ‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/64:‬‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين‪.2/107:‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي برقم (‪ )2455‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح غريب‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫والزيادة واالجتهاد فيها أكمل‪ ،‬فال تفتر مع أه ل الفت ور وال تنم م ع أه ل الن وم‪ ،‬فال‬
‫يزال يحثه ويحرضه ح تى يخرج ه عن االقتص اد فيه ا‪ ،‬فيخ رج عن ح دها كم ا أن‬
‫األول خارج عن هذا الحد فكذا هذا اآلخر خارج عن الحد اآلخر)(‪)1‬‬
‫‪ 2‬ـ طريق التخلق‬
‫قبل الحديث عن المنهج اإلسالمي للتخل ق ن ردد م ا ذكرن ا س ابقا من أن ك ل‬
‫األدلة الشرعية والعقلية والعادية ت دل على أن األخالق من األم ور القابل ة للتغي ير‪،‬‬
‫وهذ هو األساس األول لالهتمام بالمناهج المثلى التي تحقق التخلق‪.‬‬
‫ألن الق ول بع دم إمكاني ة تغي ير األخالق‪ ،‬أو أن الطب ع يغلب التطب ع‪ ،‬أو م ا‬
‫يشاع من األمثال الشعبية الكثيرة التي تجعل كل إنسان قالبا معين ا يس تحيل تحريف ه‬
‫ألي جهة يحيل البحث عن المناهج‪ ،‬ألن البحث عنها أو تنفيذها يصبح تعبا ال طائل‬
‫وراءه‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك‪ ،‬فإن النفوس مختلف ة في ق درتها على تغي ير أخالقه ا‪ ،‬انطالق ا‬
‫من أسباب كث يرة‪ ،‬له ا أهميته ا الك برى في ه ذا الب اب‪ ،‬وق د ع د الغ زالي من ه ذه‬
‫األسباب على سبيل الحصر‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ق وة الغري زة في أص ل الجبل ة وامت داده م ّدة الوج ود ف إن ق وة الش هوة‬
‫والغضب والتكبر موجودة في اإلنسان‪ ،‬ولكن أصعبها أمراً وأعصاها على التغيـير‬
‫قوة الشهوة‪ ،‬فإنها أقدم وجوداً‪ ،‬إذ الصبـي في مبدإ الفطرة تخلق ل ه الش هوة‪ ،‬ثم بع د‬
‫سبع سنين ربما يخلق له الغضب‪ ،‬وبعد ذلك يخلق له قوة التميـيز‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حس نا ً‬
‫ومرضيا ً والناس فيه(‪.)2‬‬
‫وانطالقا من هذا قسم أصناف الخلق من حيث القدرة على تغيير أخالقهم إلى‬
‫أربع مراتب‪ ،‬لها أهميتها الكبرى في التعامل التربوي مع مختلف األصناف‪:‬‬
‫األولى‪ :‬وهي مرتبة من ال يميز بـين الح ق والباط ل والجمي ل والقبـيح‪ ،‬ب ل‬
‫بقي كم ا فط ر علي ه خالي ا ً عن جمي ع االعتق ادات ولم تس تتم ش هوته أيض ا ً باتب اع‬
‫اللذات‪ ،‬وقد سماه الغزالي (اإلنس ان المغف ل)‪ ،‬وذك ر ان ه أس رع الن اس للعالج‪ ،‬فال‬
‫يحتاج إال إلى معلم ومرشد‪ ،‬وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة فيحسن خلقه‬
‫في أقرب زمان‪ ،‬وسبب ذلك أن انحرافه كان بسبب جهله فقظ‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬وهي مرتبة من عرف قبح القبـيح‪ ،‬ولكنه لم يتعوّد العمل الصالح‪ ،‬بل‬
‫زين له سوء عمله فتعاط اه انقي اداً لش هواته وإعراض ا ً عن ص واب رأي ه الس تيالء‬
‫الشهوة عليه‪ ،‬ولكن علم تقصيره في عمله‪ ،‬والغزالي يعتبره جاهال وضاال‪.‬‬
‫وهو ـ في نظر الغزالي ـ محل قاب ل للرياض ة‪ ،‬إن انتهض له ا بج د وتش مير‬
‫وحزم‪ ،‬ولكن مع ذلك‪ ،‬فإن أمره أصعب من األول‪ ،‬إذ قد تض اعفت الوظيف ة علي ه؛‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/107:‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/63:‬‬

‫‪192‬‬
‫إذ عليه قلع ما رس خ في نفس ه أ ّوالً من ك ثرة االعتي اد للفس اد‪ ،‬ثم يغ رس في نفس ه‬
‫صفة االعتياد للصالح‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬وهي مرتبة من يعتقد في األخالق القبـيحة أنها الواجب ة المستحس نة‪،‬‬
‫وأنها حق وجميل وتربى عليها‪ ،‬والغزالي يعتبره جاهال وض اال وفاس قا‪ ،‬وي رى أن‬
‫عالجه يكاد يكون مستحيال‪ ،‬بسبب تضاعف أسباب الضالل‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬وهي مرتب ة من يك ون م ع نش ئه على ال رأي الفاس د وتربـيته على‬
‫العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر‪ ،‬واستهالك النفوس ويباهي به ويظن أن ذل ك‬
‫يرفع قدره‪ ،‬والغزالي يعتبره جاهال وضاال وفاسقا وشريرا‪.‬‬
‫وه و ي رى الص عوبة الش ديدة لعالج من ه ذا حال ه‪ ،‬وي رى أن م ا ذك ر من‬
‫استحالة تعيير األخالق قد ينطبق عليه‪ ،‬قال‪(:‬وهذا هو أص عب الم راتب‪ .‬وفي مثل ه‬
‫قيل‪ :‬ومن العناء رياضة الهرم‪ ،‬ومن التعذيب تهذيب الذيب)(‪)1‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فقد ذكر علم اء الس لوك المس لمين ط ريقين مهمين للتخل ق‪،‬‬
‫يختلف الجهد المبذول فيهما بحسب طبيعة النف وس ومرتبته ا في س رعة االنقي اد أو‬
‫بطئه‪ ،‬وهذان الطريقان هما‪:‬‬
‫مجاهدة النفس‬
‫كما أن كل كمال في اإلنسان ال يتحقق إال بجهد عظيم يبذله لتحقيقه‪ ،‬كما ق ال‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد خَ لَ ْقنَا اأْل ِ ْن َسانَ فِي َكبَ ٍد﴾ (البلد‪ ،)4:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا اأْل ِ ْن َسانُ إِنَّكَ َك ا ِد ٌح‬
‫إِلَى َربِّكَ َك ْدحا ً فَ ُمالقِي ِه﴾ (االنشقاق‪ ،)6:‬فإن الهيئ ة النفس ية لإلنس ان‪ ،‬وال تي تص در‬
‫عنها األخالق تحتاج هي األخرى ـ إذا م ا أراد ص احبها تع ديلها ـ إلى جه د عظيم‬
‫ورياضة شديدة‪ ،‬خاصة إذا انحرفت انحرافا خطيرا عن الجبلة التي خلقت عليها‪.‬‬
‫س‬ ‫ويشير إلى هذا الطريق قوله تع الى‪َ ﴿ :‬وأَ َّما َم ْن خَ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه َونَهَى النَّ ْف َ‬
‫ع َِن ْالهَ َوى فَإِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي ْال َم أْ َوى﴾ (النازعـات‪ 40:‬ـ ‪ ،)41‬وقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ‬
‫َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ (العنكبوت‪)69:‬‬
‫بل يشير إلى هذا كل النصوص التي تدل على اختالف م راتب النف وس‪ ،‬ألن‬
‫االنتقال من مرتب ة إلى مرتب ة يحت اج إلى مجاه دة عظيم ة‪ ،‬ق ال تع الى عن أخط ر‬
‫س أَل َ َّما َرةٌ بِالسُّو ِء إِاَّل َم ا َر ِح َم َربِّي إِ َّن َربِّي‬ ‫مراتب النفس‪َ ﴿ :‬و َما أُبَ ِّر ُ‬
‫ئ نَ ْف ِسي إِ َّن النَّ ْف َ‬
‫س اللَّ َّوا َم ِة﴾‬‫َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ (يوسف‪ ،)53:‬وقال عن النفس المجاهدة‪َ ﴿ :‬وال أُ ْق ِس ُم بِ النَّ ْف ِ‬
‫ط َمئِنَّةُ﴾ (الفجر‪:‬‬ ‫(القيامة‪ ،)2:‬وقال عن النفس التي بلغت مرادها‪ ﴿ :‬يَا أَيَّتُهَا النَّ ْفسُ ْال ُم ْ‬
‫‪)27‬‬
‫وتنطلق المجاهدة من مسلمة هي (أن إعطاء النفس مناها‪ ،‬وتيليغها م ا تري ده‬
‫من شهواتها هو سبب انتكاستها عن حقيقتها)‪ ،‬فلذلك ك انت المجاه دة هي رد النفس‬
‫إلى جادة الصواب بالتشدد عليها والتضييق على مراداتها حتى تستقيم على الحق‪.‬‬
‫ال إِ َّن‬ ‫وت بِ ْال ُجنُو ِد قَ َ‬ ‫ص َل طَ الُ ُ‬ ‫وقد يشير إلى هذا قول طالوت لجنوده‪ ﴿ :‬فَلَ َّما فَ َ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/56:‬‬

‫‪193‬‬
‫ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ‬
‫ط َع ْم هُ فَإِنَّهُ ِمنِّي إِاَّل َم ِن ا ْغتَ َرفَ‬ ‫ب ِم ْنهُ فَلَي َ‬ ‫هَّللا َ ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ‬
‫ُغرْ فَ ةً بِيَ ِد ِه فَ َش ِربُوا ِم ْن هُ إِاَّل قَلِيالً ِم ْنهُ ْم﴾ (البق رة‪ ،)249:‬فق د ك ان ه ذا نوع ا من‬
‫االبتالء‪ ،‬فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك‪ ،‬ومن غلبته‬
‫شهوته في الماء وعصى األمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى‪.‬‬
‫فالم اء مب اح ال حرم ة في ه ب دليل أن ه أج از االغ تراف من ه‪ ،‬ولكن ه أم رهم‬
‫بمجاهدة النفس في تركه‪ ،‬ليظه ر م دى تحكمهم في أنفس هم وش هواتهم‪ ،‬ألن أس اس‬
‫الفساد هو تحكم النفس في اإلنسان‪ ،‬ال تحكم اإلنسان في النفس‪.‬‬
‫ولهذا وردت العقوب ة الش ديدة لمن أفط ر متعم دا في رمض ان‪ ،‬وذل ك لتع ود‬
‫إلنسان سيطرته على نفسه‪ ،‬فال تهلكه في الهالكين‪.‬‬
‫وفي الدالل ة على ه ذا ت روى اآلث ار الكث يرة ال تي تك اد تجع ل ه ذه المس ألة‬
‫إجماعا‪ ،‬كما قال جعفر بن حميد‪(:‬أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم ال ي درك‬
‫إال بترك النعيم)‬
‫ومن اآلثار المروية عن األنبياء ـ ص لوات هللا وس المه عليهم ـ في ذل ك م ا‬
‫ي روى أن هللا تع الى أوحى إلى داود ‪(:‬ي ا داود ح ذر وان ذر أص حابك أك ل‬
‫الشهوات‪ ،‬فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة)‪ ،‬وق ال عيس ى‬
‫‪(:‬طوبى لمن ترك ش هوة حاض رة لموع ود غ ائب لم ي ره)‪ ،‬وي روى أن ام رأة‬
‫العزي ز ق الت ليوس ف ‪ ،‬بع د أن مل ك خ زائن األرض وقع دت ل ه على رابـية‬
‫الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اث ني عش ر ألف ا ً من عظم اء مملكت ه‪:‬‬
‫(سبحان من جعل الملوك عبـيداً بالمعص ية وجع ل العبـيد ملوك ا ً بط اعتهم ل ه‪ .‬إن‬
‫الحرص والشهوة صيرا الملوك عبـيداً وذلك جزاء المفسدين‪ ،‬وإن الصبر والتق وى‬
‫صيرا العبـيد ملوك اً)‪ ،‬فق ال يوس ف ‪ ،‬كم ا أخ بر هللا تع الى عن ه‪ ﴿ :‬إِنَّهُ َم ْن يَتَّ ِ‬
‫ق‬
‫ضي ُع أَجْ َر ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ (يوسف‪)90:‬‬ ‫َويَصْ بِرْ فَإِ َّن هَّللا َ ال يُ ِ‬
‫وهكذا اآلثار الواردة عن السلف‪ ،‬فعن اإلمام علي قال‪(:‬من اش تاق إلى الجن ة‬
‫ي‬‫سال عن الشهوات في الدنيا)‪ ،‬وعن سفيان الثوري قال‪ :‬م ا ع الجت ش يئا ً أش د عل َّ‬
‫ي‪ ،‬وكان أبو العباس الموص لي يق ول لنفس ه‪ :‬ي ا نفس ال‬ ‫من نفسي مرة لي ومرة عل َّ‬
‫في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين وال في طلب اآلخرة مع العباد تجتهدين كأني ب ك‬
‫بـين الجنة والن ار تحبس ين‪ ،‬ي ا نفس أال تس تحين وق ال الحس ن‪ :‬م ا الداب ة الجم وح‬
‫بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك‪ ،‬وقال رجل لعمر بن عب د العزي ز ‪ :‬م تى أتكلم؟‬
‫قال‪ :‬إذا اشتهيت الصمت‪ ،‬قال‪ :‬متى أصمت؟ قال‪ :‬إذا اش تهيت الكالم‪ ،‬وك ان مال ك‬
‫بن دينار يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يش تهيه ق ال لنفس ه‪ :‬اص بري فوهللا م ا‬
‫ي‪.‬‬
‫أمنعك إال من كرامتك عل َّ‬
‫ووصف يحيـى بن معاذ الرازي طريق ا ك امال من ط رق الس لوك األخالقي‪،‬‬
‫فق ال‪(:‬جاه د نفس ك بأس ياف الرياض ة‪ .‬والرياض ة على أربع ة أوج ه‪ :‬الق وت من‬
‫الطعام‪ ،‬والغمض من المن ام‪ ،‬والحاج ة من الكالم‪ ،‬وحم ل األذى من جمي ع األن ام‪،‬‬
‫فيتولد من قل ة الطع ام م وت الش هوات‪ ،‬ومن قل ة المن ام ص فو اإلرادات‪ ،‬ومن قل ة‬

‫‪194‬‬
‫الكالم السالمة من اآلفات‪ ،‬ومن احتمال األذى البلوغ إلى الغايات‪ ،‬وليس على العبد‬
‫شيء أشد من الحلم عند الجفاء والص بر على األذى‪ ،‬وإذا تح ركت من النفس إرادة‬
‫الشهوات واآلثام وهاجت منها حالوة فضول الكالم جردت عليها سيوف قلة الطعام‬
‫من غمد التهجد وقلة المنام‪ ،‬وضربتها بأيدي الخم ول وقل ة الكالم ح تى تنقط ع عن‬
‫الظلم واالنتقام‪ ،‬فتأمن من بوائقها من بـين سائر األنام وتصفيها من ظلم ة ش هواتها‬
‫فتنجو من غوائل آفاتها؛ فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحاني ة فتج ول في‬
‫ميدان الخيرات وتس ير في مس الك الطاع ات ك الفرس الف ارة في المي دان وكالمل ك‬
‫المتنزه في البستان)‬
‫وقد يق ال هن ا‪ :‬لق د وردت النص وص الكث يرة بإباح ة الطيب ات‪ ،‬والش هوات‪،‬‬
‫فكيف يقال بتركها ومجاهدة النفس في مخالفتها‪ ،‬وما عالقة ذلك بالسلوك األخالقي؟‬
‫والجواب عن هذا‪ :‬أن الطيبات تظل مباحة ال يحرمها أحد‪ ،‬وكيف يجسر أحد‬
‫ت ِمنَ‬ ‫على تحريم م ا أح ل هللا ﴿ قُ لْ َم ْن َح َّر َم ِزينَ ةَ هَّللا ِ الَّتِي أَ ْخ َر َج لِ ِعبَ ا ِد ِه َوالطَّيِّبَ ا ِ‬
‫ص ُل اآْل ي ا ِ‬
‫ت‬ ‫صةً يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َك َذلِكَ نُفَ ِّ‬ ‫ق قُلْ ِه َي لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا خَالِ َ‬ ‫الر ِّْز ِ‬
‫لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ (ألعراف‪)32:‬‬
‫ولكن الذي أباح هذه الطيبات هو ال ذي نهى عن االنش غال به ا عن هللا‪ ،‬وعن‬
‫ك َم َع الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم‬ ‫اص بِرْ نَ ْف َس َ‬
‫تكميل النفس‪ ،‬وقد قال تعالى لرسوله ‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫ك َع ْنهُ ْم تُ ِري ُد ِزينَةَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوال تُ ِط ْع‬ ‫بِ ْال َغدَا ِة َو ْال َع ِش ِّي ي ُِري ُدونَ َوجْ هَهُ َوال تَ ْع ُد َع ْينَا َ‬
‫َم ْن أَ ْغفَ ْلنَا قَ ْلبَهُ ع َْن ِذ ْك ِرنَا َواتَّبَ َع هَ َواهُ َو َكانَ أَ ْم ُرهُ فُرُطاً﴾ (الكهف‪ ،)28:‬وقال تع الى‪:‬‬
‫ك ثَ َواب ا ً َوخَ ْي ٌر‬ ‫ات خَ ْي ٌر ِع ْن َد َربِّ َ‬ ‫ات الصَّالِ َح ُ‬ ‫﴿ ْال َما ُل َو ْالبَنُونَ ِزينَةُ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َو ْالبَاقِيَ ُ‬
‫أَ َمالً﴾ (الكهف‪)46:‬‬
‫زيادة على ذلك‪ ،‬فإن من لم يج رب نفس ه في إمس اكها عن المب اح‪ ،‬م ا ال ذي‬
‫يضمن له قوته على إمساك نفسه عن الحرام‪ ،‬وألجل هذا شرع الصوم‪ ،‬حتى ت ترك‬
‫النفس شهواتها المباحة بمحض إرادتها‪ ،‬ولهذا قال تعالى عقب األمر بالص وم‪ ﴿ :‬يَ ا‬
‫ب َعلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُ ونَ ﴾‬ ‫الص يَا ُم َك َم ا ُكتِ َ‬ ‫ب َعلَ ْي ُك ُم ِّ‬ ‫أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ُكتِ َ‬
‫(البقرة‪)183:‬‬
‫فتقوى هللا تحت اج إلى الت ورع عن بعض الحالل لتجنب الوق وع في الح رام‪،‬‬
‫قال الغزالي‪(:‬ال يمكن إص الح القلب لس لوك طري ق اآلخ رة م ا لم يمن ع نفس ه عن‬
‫التنعم بالمباح‪ ،‬فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات)(‪)1‬‬
‫وضرب األمثال على ذلك‪ ،‬فقال‪(:‬من أراد حف ظ لس انه من الغيب ة والفض ول‬
‫فحقه أن يلزمه السكوت؛ إال عن ذكر هللا وإال عن المهمات في ال دين‪ ،‬ح تى تم وت‬
‫من ه ش هوة الكالم فال يتكلم إال بح ق فيك ون س كوته عب ادة وكالم ه عب ادة‪ .‬ومهم ا‬
‫اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إال م ا ال يح ل‪،‬‬
‫وكذلك سائر الشهوات‪ ،‬ألن الذي يشتهي به الحالل هو بعينه ال ذي يش تهي الح رام‪،‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/67:‬‬

‫‪195‬‬
‫فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام فإن لم يعوّدها االقتصار على‬
‫قدر الضرورة من الشهوات غلبته‪ .‬فهذه إحدى آفات المباحات)‬
‫وزيادة على هذا‪ ،‬فإن التنعم المبالغ في ه بال دنيا‪ ،‬بحج ة إباحته ا يجع ل النفس‬
‫(ثملة كالسكران الذي ال يفيق من س كره‪ .‬وذل ك الف رح بال دنيا س م قات ل يس ري في‬
‫العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال يوم القيام ة‪ ،‬وه ذا‬
‫هو موت القلب)‬
‫ولهذا ورد في القرآن الكريم النهي عن الركون للدنيا‪ ،‬واالطمئنان إليها‪ ،‬ق ال‬
‫ك الَّ ِذينَ ا ْشت ََر ُوا ْال َحيَ اةَ ال ُّد ْنيَا بِ اآْل ِخ َر ِة فَال يُخَ فَّفُ َع ْنهُ ُم ْال َع َذابُ َوال هُ ْم‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬أُولَئِ َ‬
‫ص رُونَ ﴾ (البق رة‪ ،)86:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا إِاَّل لَ ِعبٌ َولَ ْه ٌو َولَل َّدا ُر‬ ‫يُ ْن َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫اآْل ِخ َرةُ خَ ْي ٌر لِل ِذينَ يَتَّقُ ونَ أفَال تَ ْعقِلُ ونَ ﴾ (األنع ام‪ ،)32:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َذ ِر ال ِذينَ‬ ‫َّ‬
‫اتَّخَ ُذوا ِدينَهُ ْم لَ ِعبا ً َولَهْواً َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا ﴾ (األنع ام‪ ،)70:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن‬
‫اط َم أَنُّوا بِهَ ا َوالَّ ِذينَ هُ ْم ع َْن آيَاتِنَ ا‬ ‫ض وا بِ ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َو ْ‬
‫الَّ ِذينَ ال يَرْ ُج ونَ لِقَا َءنَ ا َو َر ُ‬
‫غَافِلُونَ ﴾ (يونس‪)7:‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن المجاه دة الص حيحة المض بوطة بالض وابط الش رعية‪،‬‬
‫هي المجاهدة التي يكون لها برنامج خاص هادف ينطلق من معرفة ص فات النفس‪،‬‬
‫وأمراضها‪ ،‬ثم كيفية عالجها‪ ،‬وقد وضع الغزالي في كتاب (التفك ر) برنامج ا ل ذلك‬
‫يمكن االستفادة منه في هذا المجال‪ ،‬وقد فصلنا هذا البرن امج في رس الة خاص ة من‬
‫رسائل السالم سميناها (مرابطات النفس اللوامة)‬
‫ولذلك س نكتفي هن ا ب ذكر موض وع المجاه دة‪ ،‬وكيفي ة اس تثمارها في تنمي ة‬
‫االستقامة كما أردتها الشريعة‪ ،‬فالمجاهدة تستلزم ركنين أساسيين‪:‬‬
‫المراغمة‪:‬‬
‫وذلك بحمل النفس على األعمال التي يقتض يها الخل ق المطل وب من س لوك‪،‬‬
‫فيتصرف بفعله‪ ،‬وإن خال من ذلك قلبه وهيئته النفسية‪ ،‬وذلك ألن الفع ال الج وارح‬
‫آثارها ـ ال محالة ـ على القلب والهيئة النفسية‪ ،‬كم ا أن للهيئ ة النفس ية تأثيره ا على‬
‫الجوارح‪.‬‬
‫وقد ضرب الغزالي لهذا أمثلة ونم اذج يمكن االس تفادة منه ا في التربي ة ع ل‬
‫ىسائر األخالق‪ ،‬قال‪(:‬فمن أراد مثالً أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف‬
‫تعاطي فعل الجواد وه و ب ذل الم ال‪ ،‬فال ي زال يط الب نفس ه وي واظب علي ه تكلف ا ً‬
‫مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعا ً ويتيس ر علي ه فيص ير ب ه ج واداً‪ ،‬وك ذا من‬
‫أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الك بر فطريق ه أن ي واظب على‬
‫أفعال المتواضعين مدة مديدة وه و فيه ا مجاه د نفس ه ومتكل ف إلى أن يص ير ذل ك‬
‫خلقا ً له وطبعا ً فيتيسّر عليه)(‪)1‬‬
‫ثم ق ال معمم ا ذل ك على س ائر األخالق‪(:‬وجمي ع األخالق المحم ودة ش رعا ً‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/58:‬‬

‫‪196‬‬
‫تحصل بهذا الطريق‪ ،‬وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذي ذاً فالس خي ه و ال ذي‬
‫يستلذ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة‪ ،‬والمتواضع هو ال ذي يس تلذ‬
‫التواضع ولن ترسخ األخالق الديني ة في النفس‪ ،‬م ا لم تتع ود النفس جمي ع الع ادات‬
‫الحسنة وما لم تترك جميع األفعال السيئة‪ ،‬وما لم تواظب علي ه مواظب ة من يش تاق‬
‫إلى األفع ال الجميل ة ويتنعم به ا‪ ،‬ويك ره األفع ال القبـيحة ويت ألم به ا‪ ،‬كم ا ق ال‪:‬‬
‫الص ال ِة)‪ ،‬ومهم ا ك انت العب ادات وت رك المحظ ورات م ع‬ ‫ت قُ َّرةُ َع ْينِي فِي َّ‬
‫(و ُج ِعلَ ْ‬
‫َ‬
‫كراهة واستثقال فهو النقصان وال ينال كمال السعادة به)‬
‫المواظبة‪:‬‬
‫انطالقا من الركن األول‪ ،‬ف إن حم ل النفس على خل ق من األخالق لن ي ؤتي‬
‫ثماره بترسيخ الخل ق في النفس إال بالمواظب ة والتك رار‪ ،‬فللتك رار أث ره العظيم في‬
‫ترسيخ الخلق‪ ،‬كما أن للتكرار أث ره في ترس يخ أي ش يء من األش ياء في ال ذاكرة‪،‬‬
‫قال الغزالي‪(:‬وهذا من عجيب العالقة بـين القلب والجوارح ـ أع ني النفس والب دن ـ‬
‫فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الج وارح ح تى ال تتح رك إال على‬
‫وفقها ال محالة‪ ،‬وكل فعل يجري على الجوارح فإنه ق د يرتف ع من ه أث ر إلى القلب‪،‬‬
‫واألمر فيه دور)(‪)1‬‬
‫ويضرب لذلك مثاال بمن أراد أن يصير الح ذق في الكتاب ة ل ه ص فة نفس ية ـ‬
‫حتى يصير كاتبا ً بالطبع ـ فال طري ق ل ه إال أن يتع اطى بجارح ة الي د م ا يتعاط اه‬
‫الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن‪ ،‬فإن فعل الك اتب ه و‬
‫الخط الحس ن فيتش به بالك اتب تكلف اً‪ ،‬ثم ال ي زال ي واظب علي ه ح تى يص ير ص فة‬
‫راسخة في نفسه‪ ،‬فيصدر منه في اآلخر الخط الحسن طبعا ً كما كان يصدر من ه في‬
‫االبتداء تكلفاً‪ ،‬فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً‪ ،‬ولكن األول بتكل ف إال‬
‫أنه ارتفع منه أث ر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارح ة فص ار يكتب الخ ط‬
‫الحسن بالطبع‪.‬‬
‫ويطبق هذ المثل على التربية األخالقي ة‪ ،‬فيق ول‪(:‬وك ذلك من أراد أن يص ير‬
‫فقيه النفس فال طري ق ل ه إال أن يتع اطى أفع ال الفقه اء‪ ،‬وه و التك رار للفق ه ح تى‬
‫تنعطف من ه على قلب ه ص فة الفق ه فيص ير فقي ه النفس‪ .‬وك ذلك من أراد أن يص ير‬
‫سخيا ً عفي ف النفس حليم ا ً متواض عا ً فيلزم ه أن يتع اطى أفع ال ه ؤالء تكلف ا ً ح تى‬
‫يصير ذلك طبعا ً له‪ ،‬فال عالج له إال ذلك‪ ،‬وكم ا أن ط الب فق ه النفس ال يـيأس من‬
‫ني ل ه ذه الرتب ة بتعطي ل ليل ة وال يناله ا بتك رار ليل ة‪ ،‬فك ذلك ط الب تزكي ة النفس‬
‫وتكميلها وتحليتها باألعمال الحس نة ال يناله ا بعب ادة ي وم وال يح رم عنه ا بعص يان‬
‫يوم)(‪)2‬‬
‫ولهذا كانت العبادات حميع ا تس تدعي التك رار وتتطلب ه لت ؤتي ثماره ا ال تي‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/67:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/67:‬‬

‫‪197‬‬
‫أرادها الش رع‪ ،‬ول ذلك ق ال تع الى في الص الة‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ هُ ْم َعلَى َ‬
‫ص التِ ِه ْم دَائِ ُم ونَ ﴾‬
‫(المع ارج‪ ،)23:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ اآْل ِخ َر ِة ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ ِه َوهُ ْم َعلَى‬
‫صالتِ ِه ْم يُ َحافِظُونَ ﴾ (األنعام‪)92:‬‬
‫َ‬
‫هّللا‬
‫وقد ورد في الح ديث قول ه ‪(:‬أحب األعم ال إلى أدومه ا وإن ق لّ)(‪،)1‬‬
‫وقالت عائشة ‪(:‬وكان رسول هّللا ‪ ‬إذا عمل عمالً داوم عليه)‪ ،‬وقال البن عم رو ‪:‬‬
‫(يا عبد هللا ال تكن مثل فالن كان يقوم الليل‪ ،‬فترك قيام الليل)(‪)2‬‬
‫ولهذا ذكرنا في المبحث السابق أن المواظبة على الصغائر ق د تك ون أخط ر‬
‫من فعل كبيرة واحدة من غير تكرار وال عودة‪.‬‬
‫ومما يدل على تأثير المواظبة على الفعل في ترسيخه في النفس أن النفس إذا‬
‫أدمنت ش يئا ص عب إقالعه ا عن ه‪ ،‬ب ل ق د يص بح خ روج ال روح أه ون عليه ا من‬
‫اإلقالع‪ ،‬يق ول الغ زالي في رد اس تغراب ت أثير المواظب ة في ترس يخ األخالق‬
‫والعبادات والتلذذ بها‪(:‬ال ينبغي أن يستبعد مص ير الص الة إلى ح د تص ير هي ق رة‬
‫العين‪ ،‬ومصير العبادات لذيذة فإن العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك؛‬
‫فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة‪ ،‬ون رى المق امر ق د يغلب علي ه من‬
‫الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار‪ ،‬مع أن القمار‬
‫ربما سلبه ماله وخرب بـيته وتركه مفلسا ً ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به‪ ،‬وذلك لط ول‬
‫إلفه له وصرف نفسه إليه مدة‪ .‬وكذلك الالعب بالحمام قد يقف طول النه ار في ح ر‬
‫الشمس قائما ً على رجليه وهو ال يحسّ بألمها لفرحه ب الطيور وحركاته ا وطيرانه ا‬
‫وتحليقها في جو السماء‪ ،‬بل نرى الفاجر العيار يفتخر بما يلقاه من الضرب والقط ع‬
‫والصبر على السياط‪ ،‬وعلى أن يتقدم به للصلب وهو مع ذلك متبجح بنفسه وبقوّت ه‬
‫في الصبر على ذلك‪ ،‬حتى يرى ذل ك فخ راً لنفس ه‪ ،‬ويقط ع الواح د منهم إرب ا ً إرب ا ً‬
‫على أن يقر بما تعاطاه أو تعاط اه غ يره فيص ر على اإلنك ار وال يب الي بالعقوب ات‬
‫فرحا ً بما يعتقده كماالً وشجاعة ورجولية‪ ،‬فقد صارت أحواله مع ما فيها من النك ال‬
‫ق رة عين ه وس بب افتخ اره‪ ،‬ب ل ال حال ة أخس وأقبح من ح ال المخنث في تش بهه‬
‫باإلناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحال ه‬
‫وافتخار بكمال ه في تخنث ه يتب اهى ب ه م ع المخن ثين‪ ،‬ح تى يج ري بـين الحج امين‬
‫والكناسين التفاخر والمباهاة كما يجرى بـين الملوك والعلماء‪ .‬فكل ذلك نتيجة العادة‬
‫والمواظب ة على نم ط واح د على ال دوام م دة مدي دة ومش اهدة ذل ك في المخ الطين‬
‫والمعارف)(‪)3‬‬
‫ف إذا ك انت ه ذه الس لوكيات م ع انحرافه ا وخروجه ا عن الفط رة والطبيع ة‬
‫اإلنسانية قد رسخت في قلوب أصحابها هذا الرسوخ فكيف ال يرسخ الح ق والخ ير‬

‫‪ )(1‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.3/59 :‬‬

‫‪198‬‬
‫والجمال‪ ،‬وهو من مقتضيات الجبلة وطبيعتها؟‬
‫ُ‬
‫ولعله ألجل هذا قال تعالى في تأثير الصالة بالمداومة عليها‪ ﴿ :‬ا ْت ُل َم ا أ ِ‬
‫وح َي‬
‫ب َوأَقِ ِم الصَّالةَ إِ َّن الصَّالةَ تَ ْنهَى ع َِن ْالفَحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر َولَ ِذ ْك ُر هَّللا ِ أَ ْكبَ ُر‬
‫ك ِمنَ ْال ِكتَا ِ‬
‫إِلَ ْي َ‬
‫َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َما تَصْ نَعُونَ ﴾ (العنكبوت‪)45:‬‬
‫فقد أخ بر ب أن الص الة ب ذاتها بش رط القي ام به ا ـ وه و يع ني أول م ا يع ني‬
‫المحافظة عليها ـ سيكون له تأثيره ال محالة في نهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر‪.‬‬
‫سياسة النفس‬
‫وهي ال ركن الث اني من أرك ان التخل ق‪ ،‬وق د يحس به البعض توجه ا من‬
‫التوجهات‪ ،‬أو مدرسة من مدارس السلوك ـ كم ا س نذكر عن ابن القيم ـ ولكن ه في‬
‫الحقيقة ال يغني الركن األول عن الثاني‪ ،‬وال الثاني عن األول‪ ،‬وإن ك ان ق د أس يء‬
‫فهم الركن األول بسبب عدم ضبطه بالضوابط الشرعية‪.‬‬
‫ولشرح هذا الركن وكيفيته نذكر مقالة ابن القيم وتعظيم ه له ذا ال ركن‪ ،‬فق ال‬
‫مقدما لحديثه عن هذا الركن‪(:‬فصل نافع جدا عظيم النفع للسالك يوص له عن ق ريب‬
‫ويسيره بأخالقه التي ال يمكنه إزالتها‪ ،‬فإن أصعب ما على الطبيعة اإلنس انية تغي ير‬
‫األخالق التي طبعت النفوس عليها)(‪)1‬‬
‫وه و ي رد على من اجته د في الرياض ات الص عبة من غ ير الحص ول على‬
‫طائل‪ ،‬فيقول‪(:‬وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عمل وا عليه ا‪،‬‬
‫ولم يظفر أكثرهم بتبديلها‪ ،‬لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها‪،‬‬
‫فإذا جاء سلطان تلك األخالق وبرز كس ر جي وش الرياض ة وش تتها واس تولى على‬
‫مملكة الطبع)‬
‫بينما هذا الطريق الذي ذكره ـ وه و م ا س ميناه بسياس ة النفس ـ (يص ل ب ه‬
‫السالك مع تلك األخالق وال يحتاج إلى عالجها وإزالتها ويكون س يره أق وى وأج ل‬
‫وأسرع من سير العامل على إزالتها)‬
‫وقد ذكر مثاال قدم به ـ وهو مهم ج دا في تص وير قيم ة ه ذا ال ركن ـ‪ ،‬وه و‬
‫المواقف المحتملة من نهر ج ار في ص ببه ومنح دره يري د تغري ق أرض وعم ران‬
‫ودور وأص حابها يعلم ون أن ه ال ينتهي ح تى يخ رب دورهم ويتل ف أراض يهم‬
‫وأموالهم‪ ،‬وهذا النهر الجاري يشبه في الحقيقة ما أمدت ب ه النفس من ق وى يمكنه ا‬
‫إن جرت بحسب الهوى تخريب جميع حقيقة اإلنسان‪.‬‬
‫فالمواقف حول هذا النهر لها ثالث احتماالت ال تعدوها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ فإما أن تنصرف القوى إلى سكره وحبسه وإيقافه‪ ،‬فال تصنع ه ذه الفرق ة‬
‫كبير أمر‪ ،‬ألن ه يوش ك أن يجتم ع‪ ،‬ثم يحم ل على الس كر‪ ،‬فيك ون إفس اده وتخريب ه‬
‫أعظم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وإم ا أن ت روم إغالق ه من منبع ه‪ ،‬ولكن ه ي أبى عليه ا غاي ة اإلب اء‪ ،‬ألن‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/311 :‬‬

‫‪199‬‬
‫الطبيعة النهرية ال تستسلم بسهولة له ذا‪ ،‬فل ذلك (هم دائم ا في قط ع الينب وع‪ ،‬وكلم ا‬
‫سدوه من موضع نبع من موضع‪ ،‬فاشتغل ه ؤالء بش أن ه ذا النه ر عن الزراع ات‬
‫والعمارات وغرس األشجار)(‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ وإما أن تصرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العم ران إلى موض ع‬
‫ينتفعون بوصوله إليه وال يتضررون به‪( ،‬فصرفوه إلى أرض قابلة للنبات وس قوها‬
‫به فأنبتت أنواع العشب والكإل والثمار المختلفة األصناف)‬
‫وهذا االحتمال األخير هو خير االحتماالت وأحسنها واصوبها‪ ،‬وهكذا تك ون‬
‫سايسة النفس مع قواها الجارفة‪ ،‬يقول ابن القيم‪(:‬فإذا تبين ه ذا المث ل فاهلل تع الى ق د‬
‫اقتض ت حكمت ه أن ركب اإلنس ان ب ل وس ائر الحي وان على طبيع ة محمول ة على‬
‫قوتين غضبية وشهوانية و‪ ،‬هي اإلرادي ة‪ ،‬وهات ان القوت ان هم ا الحاملت ان ألخالق‬
‫النفس وص فاتها‪ ،‬وهم ا مركوزت ان في جبل ة ك ل حي وان‪ ،‬فبق وة الش هوة واإلرادة‬
‫يجذب المنافع إلى نفسه‪ ،‬وبقوة الغضب يدفع المضار عنها‪ ،‬فإذا استعمل الشهوة في‬
‫طلب ما يحتاج إليه تولد منها الحرص‪ ،‬وإذا استعمل الغضب في دف ع المض رة عن‬
‫نفسه تولد منه الق وة والغ يرة‪ ،‬ف إذا عج ز عن ذل ك الض ار أورث ه ق وة الحق د‪ ،‬وإن‬
‫أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غ يره مس تبدا ب ه أورث ه الحس د‪ ،‬ف إن ظف ر ب ه‬
‫أورثته شدة شهوته وإرادت ه خل ق البخ ل والش ح‪ ،‬وإن اش تد حرص ه وش هوته على‬
‫الشيء ولم يمكنه تحص يله إال ب القوة الغض بية فاس تعملها في ه أورث ه ذل ك الع دوان‬
‫والبغي والظلم‪ ،‬ومنه يتولد الكبروالفخر والخيالء فإنها أخالق متولدة من بين ق وتي‬
‫الشهوة والغضب وتزوج أحدهما بصاحبه)(‪)2‬‬
‫وهك ذا ل و ت ركت ه ذه الق وى النفس ية تفع ل فعله ا‪ ،‬فإنه ا ال ب د أن تنتهي‬
‫بص احبها إلى ه ذه األن واع الخط يرة من االنح راف‪ ،‬وهي بمثاب ة ته ديم عم ران‬
‫النفس‪ ،‬وتنكيس حقيقتها‪ ،‬وهذا ما فعلته النف وس الجاهل ة‪ ،‬يق ول ابن القيم‪(:‬ف النفوس‬
‫الجاهلة الظالمة تركت ه ومج راه‪ ،‬فخ رب دي ار اإليم ان وقل ع آث اره وه دم عمران ه‬
‫وأنبت موضعها كل شجرة خبيث ة من حنظ ل وض ريع وش وك وزق وم‪ ،‬وه و ال ذي‬
‫يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد)‬
‫وبخالف النفوس الزكية الفاض لة‪ ،‬فإنه ا أدركت خط ورة جري ان ه ذا النه ر‬
‫على حقيقة ااإلنسان‪ ،‬فراحت تبحث عن مخرج يقيه ا طغي ان ه ذا النه ر‪ ،‬ف افترقت‬
‫إلى ثالث فرق‪:‬‬
‫أم ا الفرق ة األولى‪ ،‬وهم أص حاب الرياض ات والمجاه دات والخل وات‬
‫والتمرينات‪ ،‬فقد راموا قطعه من ينبوع ه‪ ،‬ف أبت عليهم ذل ك حكم ة هللا تع الى‪ ،‬وم ا‬
‫طبع عليه الجبل ة البش رية ولم تنق د ل ه الطبيع ة‪ ،‬فاش تد القت ال ودام الح رب وحمى‬
‫الوطيس وصارت الحرب دوال وسجاال‪ ،‬وهؤالء صرفوا قواهم إلى مجاه دة النفس‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/311 :‬‬


‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/312 :‬‬

‫‪200‬‬
‫على إزالة تلك الصفات‪.‬‬
‫أم ا الفرق ة الثاني ة‪ ،‬فق د أعرض وا عن جري ان النه ر‪ ،‬وراح وا يحص نون‬
‫العمران‪ ،‬ويحكمون بناءه وأساسه‪ ،‬العتقادهم أن ذلك النهر البد أن يصل إليه‪ ،‬ف إذا‬
‫وصل وصل إلى بناء محكم‪ ،‬فلم يهدمه بل أخذ عنه يمينا وش ماال‪ ،‬فه ؤالء ص رفوا‬
‫قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة‪ ،‬وإحكام البناء وأولئك ص رفوها في قط ع الم ادة‬
‫الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء‪.‬‬
‫أما الفرقة الثالثة‪ ،‬وهي أحكم الفرق وأع دلها‪ ،‬فـ (رأت أن ه ذه الص فات م ا‬
‫خلقت سدى وال عبثا وأنها بمنزلة ماء يسقى ب ه ال ورد والش وك والثم ار والحطب‪،‬‬
‫وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليه ا‪ ،‬وأن م ا خ اف من ه أولئ ك ه و نفس‬
‫سبب الفالح والظفر‪ ،‬فرأوا أن الك بر نه ر يس قي ب ه العل و والفخ ر والبط ر والظلم‬
‫والعدوان‪ ،‬ويسقي به عل و الهم ة واألنف ة والحمي ة والمراغم ة ألع داء هللا وقه رهم‬
‫والعلو عليهم‪ ،‬وهذه درة في صدفة فصرفوا مجراه إلى ه ذا الغ راس‪ ،‬واس تخرجوا‬
‫ه ذه ال درة من ص دفته وأبق وه على حال ه في نفوس هم لكن اس تعملوه حيث يك ون‬
‫استعماله أنفع)(‪)1‬‬
‫وهذه الفرق ة هي ال تي اس تثمرت ص فات النفس‪ ،‬ب ل ح ولت مج رى نهره ا‬
‫لتسقي بها الخالل الرفيعة واألخالق النبيلة‪.‬‬
‫ويشير إلى ما فعلته هذه الفرقة من النصوص قوله ‪ ‬ألبي دجان ة‪ ،‬وق د رآه‬
‫يتبختر بين الصفين‪(:‬إنها لمشية يبغض ها هللا إال في مث ل ه ذا الموض ع)‪ ،‬يق ول ابن‬
‫القيم معلقا على هذا الحديث‪(:‬فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودي ة‪ ،‬وكي ف‬
‫استحال القاطع موصال)(‪)2‬‬
‫بينما تظل الفرقتان اللتان خافتا من النهر ولم تستسخراه بمنأى عن ما يحمل ه‬
‫النهر من صدف وجواهر‪ ،‬بل قد يوقعه ذل ك في الخل ط والش به بق در مبالغ اتهم في‬
‫رياضاتهم‪ ،‬وبعدهم عن ما أرشدت إلي ه الرس ل من س بل اإلص الح‪ ،‬ق ال ابن القيم‪:‬‬
‫(صاحب الرياضات والعام ل بطري ق الرياض ات والمجاه دات والخل وات هيه ات‬
‫هيهات إنما يوقعه ذلك في اآلفات والشبهات والضالالت ف إن تزكي ة النف وس مس لم‬
‫إلى الرس ل وإنم ا بعثهم هللا له ذه التزكي ة ووالهم إياه ا وجعله ا على أي ديهم دع وة‬
‫وتعليما وبيانا وإرشادا ال خلقا وال إلهاما فهم المبعوثون لعالج نفوس األمم‪ ،‬ق ال هللا‬
‫ث فِي اأْل ُ ِّميِّينَ َرسُوالً ِم ْنهُ ْم يَ ْتلُ و َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُ َز ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي بَ َع َ‬
‫ين﴾ (الجمعة‪))2:‬‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬ ‫ض ٍ‬ ‫َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َوإِ ْن َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَفِي َ‬
‫ْال ِكت َ‬
‫ويش به ابن القيم من اقتص ر في تطه ير نفس ه من غ ير رج وع لم ا ج اء في‬
‫الشريعة ب المريض ال ذي يع الج نفس ه برأي ه‪( ،‬أين يق ع رأي ه من معرف ة الط بيب‪،‬‬
‫فالرس ل أطب اء القل وب‪ ،‬فال س بيل إلى تزكيته ا وص الحها إال من ط ريقهم وعلى‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/314 :‬‬


‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/314 :‬‬

‫‪201‬‬
‫أيديهم وبمحض االنقياد والتسليم لهم)‬
‫وقد يحسب بعض المغرمين بالخالف أن هذا خالف بين ابن القيم والغ زالي‪،‬‬
‫وأن الغ زالي ي رى قم ع ص فات النفس‪ ،‬بينم ا ابن القيم ي رى سياس تها‪ ،‬وه ذا خط أ‬
‫كبير‪ ،‬فإن سياسة النفس ال تتم إال بمجاهدتها‪.‬‬
‫أما قمع النفس‪ ،‬فإن الغزالي لم يقل به‪ ،‬ب ل رد علي ه أبل غ ال رد‪ ،‬ق ال في رده‬
‫على من قال باستحالة تغيير األخالق‪(:‬وأما الخي ال اآلخ ر ال ذي اس تدلوا ب ه‪ :‬وه و‬
‫قولهم إن اآلدمي ما دام حيا ً فال تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائر هذه‬
‫األخالق‪ ،‬فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاه دة قم ع ه ذه الص فات‬
‫بالكلية ومحوها وهيهات فإن الش هوة خلقت لفائ دة وهي ض رورية في الجبل ة‪ ،‬فل و‬
‫انقطعت شهوة الطعام لهلك اإلنسان‪ ،‬ولو انقطعت شهوة الوقاع النقطع النسل‪ ،‬ول و‬
‫انعدم الغضب بالكلية لم يدفع اإلنسان عن نفسه ما يهلك ه ولهل ك‪ .‬ومهم ا بقي أص ل‬
‫الشهوة فيبقى ال محالة حب المال ال ذي يوص له إلى الش هوة ح تى يحمل ه ذل ك على‬
‫إمساك المال)(‪)1‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن المطل وب ـ كم ا ي رى الغ زالي ـ ليس إماط ة ذل ك بالكلي ة‪( ،‬ب ل‬
‫المطلوب ردها إلى االعتدال الذي هو وسط بـين اإلفراط والتفري ط‪ .‬والمطل وب في‬
‫صفة الغضب حسن الحمية وذلك بأن يخلو عن التهوّر وعن الجبن جميعاً‪ .‬وبالجملة‬
‫أن يكون في نفسه قويا ً ومع قوته منقاداً للعقل‪ .‬ول ذلك ق ال هللا تع الى‪ ﴿ :‬أَ ِش َّدا ُء َعلَى‬
‫ار ُر َح َما ُء بَ ْينَهُ ْم ﴾ (الفتح‪ )29:‬وصفهم بالش دة وإنم ا تص در الش دة عن الغض ب‬ ‫ْال ُكفَّ ِ‬
‫ولو بطل الغضب لبطل الجهاد‪ ،‬وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية واألنبـياء‬
‫عليهم السالم لم ينفكوا عن ذلك)‬
‫اظ ِمينَ ْال َغ ْي ظ﴾ (آل عم ران‪،)134:‬‬ ‫واستدل الغزالي لهذ بقوله تع الى‪َ ﴿ :‬و ْال َك ِ‬
‫فلم يقل تعالى‪(:‬والفاقدين الغيظ)‪ ،‬بل (رد الغضب والشهوة إلى ح ّد االعت دال بحيث‬
‫ال يقهر واحد منهما العق ل وال يغلب ه‪ ،‬ب ل يك ون العق ل ه و الض ابط لهم ا والغ الب‬
‫عليهما ممكن‪ ،‬وهو المراد بتغيـير الخل ق فإن ه ربم ا تس تولي الش هوة على اإلنس ان‬
‫بحيث ال يقوى عقله على دفعها فيقدم على االنبساط إلى الفواحش‪ .‬وبالرياضة تعود‬
‫إلى ح ّد االعتدال فدل أن ذل ك ممكن‪ ،‬والتجرب ة والمش اهدة ت دل على ذل ك دالل ة ال‬
‫شك فيها)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/58:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/58:‬‬

‫‪202‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫البعد االجتماعي في تربية األوالد‬
‫وهو البعد الذي يبحث في عالقة اإلنسان بالمجتمع‪ ،‬أو ه و البع د ال ذي يهيء‬
‫الفرد المسلم للتعايش اإليجابي مع المجتمع‪.‬‬
‫وهذا التعايش يقتضي أمرين‪ ،‬أو يتأسس على أمرين‪ ،‬بكليهما وردت األحكام‬
‫الشرعية مجملة ومفصلة‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫‪ .1‬السلوك األمثل الذي يجعل الفرد إلفا مألوفا‪ ،‬محبا محبوبا‪ ،‬وهو م ا أطلقن ا‬
‫عليه هنا (آداب العالقات االجتماعية)‬
‫‪ .2‬التأثير اإليجابي في المجتمع بخدمت ه وإفادت ه‪ ،‬ومحاول ة االس تغناء عن ه‪،‬‬
‫وهو ما أطلقنا عليه هنا (المساهمة في التنمية االجتماعية)‬
‫وعلى هذين األمرين تتأسس مباحث هذا الفصل‪ ،‬وق د حاولن ا أن نرك ز على‬
‫الجوانب العملية ـ باعتبار الفقه خاصا بالمسائل العملية ـ كعادتنا في هذه السلسلة‪.‬‬
‫أوال ـ آداب العالقات االجتماعية‬
‫اآلداب ال تي تظه ر في س لوك المس لم م ع عالقات ه المختلف ة هي مظه ر من‬
‫مظاهر الخلق الرفيع‪ ،‬والس لوك النبي ل‪ ،‬ألن الخل ق الب اطن ال ي دل علي ه إال األدب‬
‫الظاهر‪.‬‬
‫زيادة على أن ه ذه اآلداب هي ال تي تجع ل للمت أدب به ا مكانت ه االجتماعي ة‬
‫التي تخوله االستفادة من المجتمع وإفادته‪ ،‬ألن الجلف الغليظ إم ا ن افر من المجتم ع‬
‫أو المجتمع نافر عنه‪ ،‬وقد قال ‪(:‬المؤمن يألف ويؤلف وال خير فيمن ال يألف وال‬
‫يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس)(‪)1‬‬
‫ولهذا اهتم القرآن الك ريم ب اآلداب االجتماعي ة‪ ،‬وق د ورد في موعظ ة لقم ان‬
‫ض َم َرح ا ً إِ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ ُك َّل‬ ‫ش فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ك لِلنَّ ِ‬
‫اس َوال تَ ْم ِ‬ ‫ص عِّرْ َخ َّد َ‬ ‫‪َ ﴿ :‬وال تُ َ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)18:‬‬ ‫ُم ْختَا ٍل فَ ُخ ٍ‬
‫وورد في الق رآن الك ريم التنبي ه إلى كث ير من أص ول اآلداب االجتماعي ة‪،‬‬
‫طفَا ُل ِم ْن ُك ُم ْال ُحلُ َم فَ ْليَ ْستَأْ ِذنُوا َك َم ا‬‫كآداب االستئذان‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا بَلَ َغ اأْل َ ْ‬
‫ك يُبَيِّنُ هَّللا ُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم﴾ (النور‪)59:‬‬ ‫ا ْستَأْ َذنَ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َك َذلِ َ‬
‫ْس َعلَى اأْل َ ْع َمى َح َر ٌج َوال َعلَى‬ ‫أو آداب الزي ارة كم ا في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫ْ‬
‫يض َح َر ٌج َوال َعلَى أَ ْنفُ ِس ُك ْم أَ ْن تَ أ ُكلُوا ِم ْن بُيُ وتِ ُك ْم أَوْ‬ ‫ج َح َر ٌج َوال َعلَى ْال َم ِر ِ‬ ‫اأْل َ ْع َر ِ‬
‫ت أَ ْع َم ا ِم ُك ْم‬ ‫خَواتِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬‫ت أَ َ‬ ‫ت إِ ْخ َوانِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬ ‫ت أُ َّمهَاتِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬
‫ت آبَائِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬ ‫بُيُو ِ‬
‫‪ )(1‬رواه الدارقطني في األفراد والضياء‪ ،‬وفي حديث آخر‪ (:‬المؤمن يألف ويؤلف وال خ ير فيمن ال ي ألف وال‬
‫يؤلف ) رواه أحمد والطبراني في الكبير‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫ص ِديقِ ُك ْم‬ ‫ت خَاالتِ ُك ْم أَوْ َما َملَ ْكتُ ْم َمفَاتِ َحهُ أَوْ َ‬ ‫ت أَ ْخ َوالِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬ ‫ت َع َّماتِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬‫أَوْ بُيُو ِ‬
‫ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَا ٌح أَ ْن تَ أْ ُكلُوا َج ِميع ا ً أَوْ أَ ْش تَاتا ً فَ إِ َذا َد َخ ْلتُ ْم بُيُوت ا ً فَ َس لِّ ُموا َعلَى أَ ْنفُ ِس ُك ْم‬ ‫لَي َ‬
‫ُ‬
‫ت لَ َعل ُك ْم تَ ْعقِلونَ ﴾ (النور‪)61:‬‬ ‫َّ‬ ‫آْل‬ ‫هَّللا‬
‫ك يُبَيِّنُ ُ لَ ُك ُم ا يا ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ار َكة طَيِّبَة َك َذلِ َ‬ ‫هَّللا‬ ‫ً‬
‫تَ ِحيَّة ِم ْن ِع ْن ِد ِ ُمبَ َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫أو آداب المج الس‪ ،‬كم ا في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أيُّهَ ا ال ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا قِي َل لَ ُك ْم‬
‫يل ا ْن ُش ُزوا فَا ْن ُش ُزوا يَرْ فَ ِع هَّللا ُ الَّ ِذينَ‬ ‫ح هَّللا ُ لَ ُك ْم َوإِ َذا قِ َ‬‫س فَا ْف َسحُوا يَ ْف َس ِ‬ ‫تَفَ َّسحُوا فِي ْال َم َجالِ ِ‬
‫ت َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ َخبِيرٌ﴾ (المجادلة‪)11:‬‬ ‫آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم َد َر َجا ٍ‬
‫ض ضْ ِم ْن‬ ‫ك َوا ْغ ُ‬ ‫ص ْد فِي َم ْش يِ َ‬ ‫أو آداب الكالم‪ ،‬كم ا في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وا ْق ِ‬
‫ير﴾ (لقم ان‪ ،)19:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا‬ ‫ت ْال َح ِم ِ‬ ‫ص وْ ُ‬ ‫ت لَ َ‬ ‫ك إِ َّن أَ ْن َك َر اأْل َصْ َوا ِ‬
‫صوْ تِ َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫ت النَّبِ ِّي َوال تَجْ هَ رُوا لَ هُ بِ القَوْ ِل َك َج ْه ِر‬ ‫ص وْ ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ص َواتَ ُك ْم فَ وْ َ‬ ‫َ‬
‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَرْ فَ ُع وا أ ْ‬
‫ْض أَ ْن تَحْ بَطَ أَ ْع َمالُ ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم ال تَ ْش ُعرُونَ ﴾ (الحجرات‪)2:‬‬ ‫ْض ُك ْم لِبَع ٍ‬‫بَع ِ‬
‫أو آداب التحية‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِت َِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأَحْ َسنَ ِم ْنهَا أوَْ‬
‫ُر ُّدوهَا إِ َّن هَّللا َ َكانَ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َح ِسيباً﴾ (النساء‪)86:‬‬
‫ك‬ ‫ص عِّرْ َخ َّد َ‬ ‫أو آداب المشي‪ ،‬كم ا وق د ورد في موعظ ة لقم ان ‪َ ﴿ :‬وال تُ َ‬
‫ور﴾ (لقم ان‪،)18:‬‬ ‫ال فَ ُخ ٍ‬ ‫ض َم َرحا ً إِ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ ُك َّل ُم ْختَ ٍ‬ ‫ش فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اس َوال تَ ْم ِ‬ ‫لِلنَّ ِ‬
‫ال‬ ‫ض َولَ ْن تَ ْبلُ َغ ْال ِجبَ َ‬ ‫ق اأْل َرْ َ‬ ‫ض َم َرحا ً إِنَّكَ لَ ْن ت َْخ ِر َ‬ ‫ش فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وال تَ ْم ِ‬
‫طُوالً﴾ (االسراء‪)37:‬‬
‫أو آداب التعامل مع مختلف أصناف الناس بما يناسبهم‪ ،‬كما في قول ه تع الى‪:‬‬
‫ْض ُك ْم بَعْضا ً ﴾ (النور‪)63:‬‬ ‫﴿ ال تَجْ َعلُوا ُدعَا َء ال َّرسُو ِل بَ ْينَ ُك ْم َك ُدعَا ِء بَع ِ‬
‫وقد كان ‪ ‬يعلم الصحابة أصول هذه اآلداب وفروعها‪ ،‬وق د ق ال لهم م رة‪:‬‬
‫(إنكم قادمون على إخوانكم‪ ،‬فأح ِسنوا لبا َسكم‪ ،‬وأصلحوا ِرحالكم‪ ،‬حتى تك ون ك أنكم‬
‫ش)(‪ ،)1‬والنص وص واألمثل ة‬ ‫حش وال التَفَحُّ َ‬ ‫إن هللا ال يُحبُّ الفُ َ‬ ‫ش ا َمةُ في الن اس‪ ،‬ف َّ‬
‫على ذلك كثيرة تفيض بها كتب السنة‪.‬‬
‫ولهذا نجد المؤلفات الكثيرة المرتبطة بهذا النوع من التربي ة‪ ،‬فكتب وا في ك ل‬
‫نوع من أنواع اآلداب دقيقه وجليله إما مخصوص ا بمص نفات خاص ة‪ ،‬أو مجموع ا‬
‫م ع غ يره من ف روع العلم‪ ،‬يس توي في ذل ك كتب الح ديث أو الفق ه أو المواع ظ أو‬
‫التفسير وغيرها من الفنون الشرعية‪.‬‬
‫وبما أن هذا الفرع من فروع التربية هو من أهم ما يربط المس لم بدين ه أوال‪،‬‬
‫ثم بمجتمعه ثانيا‪ ،‬فسنحاول أن نجمع في هذا المبحث أكبر قدر من اآلداب ال تي له ا‬
‫عالق ة ب المجتمع‪ ،‬مص نفا بحس ب م ا ذك ر في الق رآن الك ريم من أن واع اآلداب‪،‬‬
‫باعتباره األصل الذي يرجع إليه في ذلك‪.‬‬
‫وهي ـ كما رأينا ـ تشمل ما يلي‪:‬‬
‫أوال ـ آداب االستئذان‬
‫ثانيا ـ آداب التحية‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود وأحمد والحاكم في ( المستدرك)‬

‫‪204‬‬
‫ثالثا ـ آداب الزيارة والضيافة‬
‫رابعا ـ آداب المجالس‬
‫خامسا ـ آداب الكالم‬
‫سادسا ـ آداب المشي‬
‫سابعا ـ آداب المعاشرة مع أصناف الناس‬
‫‪ 1‬ـ آداب االستئذان‬
‫وهو من أهم اآلداب التي تدل على اعتبار المسلم لغيره واحترامه ل ه‪ ،‬فل ذلك‬
‫ال يتصرف أي تصرف ال يخصه أو ال يملكه إال بعد استئذان صاحبه‪.‬‬
‫وهو من األحكام التي خصت بالتفصيل في القرآن الكريم ألهميته ا‪ ،‬ولعالق ة‬
‫حرم ة الم ؤمن به ا‪ ،‬ولكونه ا من الس لوك الحض اري الرفي ع ال ذي ج اء اإلس الم‬
‫ليغرسه في نفوس المؤمنين به‪.‬‬
‫فقد كانوا في الجاهلية ـ فيما يتعلق باالستئذان لدخول البيوت مثال ـ يهجم ون‬
‫هجوما‪ ،‬فيدخل الزائر البيت‪ ،‬ثم يقول‪:‬لقد دخلت‪ ،‬وكان يقع أن يكون ص احب ال دار‬
‫مع أهله في الحالة التي ال يجوز أن يراهما عليها أحد‪.‬‬
‫وك ل ذل ك ك ان ي ؤذي النف وس‪ ،‬ويج رح كرامته ا‪ ،‬ويح رم ال بيوت أمنه ا‬
‫وسكينتها ؛ كما يعرض النفوس من هن ا ومن هن اك للفتن ة‪ ،‬حين تق ع العين على م ا‬
‫يثير‪.‬‬
‫يق ول س يد قطب مبين ا س ر اهتم ام الق رآن الك ريم به ذه الناحي ة‪(:‬إن ه ذه‬
‫التفاصيل الدقيقة في آداب االستئذان تؤكد فيم ا تؤك د حرم ة ال بيوت‪ ،‬ول زوم حف ظ‬
‫أهله ا من ح رج المفاج آت‪ ،‬وض يق المباغت ات‪ ،‬والمحافظ ة على س تر الع ورات‪.‬‬
‫عورات كثيرة تعني ك ل م ا ال يُ رغب االطالع علي ه من أح وال الب دن‪ ،‬وص نوف‬
‫الطعام واللباس وسائر المتاع‪ ،‬بل حتى عورات المشاعر والحاالت النفسية‪ ،‬حاالت‬
‫الخالف األسري‪ ،‬حاالت البكاء والغضب والتوجع واألنين‪ .‬كل ذلك مم ا ال ي رغب‬
‫االطالع علي ه ال من الغ ريب وال من الق ريب‪ ،‬إنه ا دق ائق يحفظه ا ويس ترها أدب‬
‫االستئذان)(‪)1‬‬
‫ولكنه مع هذا االهتمام القرآني الشديد بهذه الناحية‪ ،‬ومع تبيين السنة لتفص يل‬
‫آدابها ـ كما سنرى ـ نالحظ تقصير المسلمين فيها تقصيرا شديدا بع د بهم عن ه دي‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫وقد بدأ هذا التقصير من لدن السلف األول من بعض األجالف الغالظ‪ ،‬فلذلك‬
‫جاء إنكار الصالحين من السلف على هذا التقص ير‪ ،‬فق د روي عن ابن عب اس ‪(:‬أن‬
‫االس تئذان ت رك العم ل ب ه الن اس)‪ ،‬وروى قت ادة عن يح يى بن يعم ر ق ال‪(:‬ثالث‬
‫ض َر ْالقِ ْس َمةَ أُولُ و ْالقُ رْ بَى َو ْاليَتَ ا َمى‬
‫محكم ات ت ركهن الن اس قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َح َ‬
‫َو ْال َم َسا ِكينُ فَارْ ُزقُوهُ ْم ِم ْنهُ َوقُولُ وا لَهُ ْم قَ وْ الً َم ْعرُوف اً﴾ (النس اء‪ ،)8:‬وآي ة االس تئذان‪:‬‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.2508 :‬‬

‫‪205‬‬
‫﴿ يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا لِيَ ْستَأْ ِذ ْن ُك ُم الَّ ِذينَ َملَ َك ْ‬
‫ت أَ ْي َمانُ ُك ْم َوالَّ ِذينَ لَ ْم يَ ْبلُ ُغ وا ْال ُحلُ َم ِم ْن ُك ْم ثَ َ‬
‫الث‬
‫ت ﴾ (النور‪ ،)58:‬وقول ه‪﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا النَّاسُ إِنَّا خَ لَ ْقنَ ا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُ ْنثَى َو َج َع ْلنَ ا ُك ْم‬ ‫َمرَّا ٍ‬
‫ارفوا ﴾ (الحجرات‪)13:‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ُشعُوبا َوقَبَائِ َل لِتَ َع َ‬
‫أما في عصرنا‪ ،‬ف األمر أش د وأخط ر‪ ،‬حيث نج د ع ودة خط يرة إلى الب داوة‬
‫الجاهلي ة ال تي ال تع رف حرم ة‪ ،‬وال تتقي ع ورة‪ ،‬يق ول س يد قطب‪(:‬ونحن الي وم‬
‫مسلمون‪ ،‬ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت)(‪)1‬‬
‫وقد يستغرب هذا‪ ،‬فقد يق ول البعض‪(:‬كي ف ال نس تأذن‪ ،‬ونحن ن دق األب واب‬
‫قبل ولوجها؟)‬
‫وه ذا من س وء الفهم لحقيق ة االس تئذان في م راده الش رعي‪ ،‬وق د ذك ر س يد‬
‫بعض األمثلة عن تقصير واقعنا في أحكام االستئذان‪ ،‬فقال‪(:‬وإن الرج ل ليهجم على‬
‫أخيه في بيته‪ ،‬في أية لحظة من لحظات الليل والنهار‪ ،‬يطرقه ويطرقه ويطرق ه فال‬
‫ينصرف أبدا حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له‪ .‬وقد يكون في البيت هاتف يمل ك أن‬
‫يستأذن عن طريقه‪ ،‬قبل أن يجيء‪ ،‬ليؤذن ل ه أو يعلم أن الموع د ال يناس ب ؛ ولكن ه‬
‫يهمل هذا الطري ق ليهجم في غ ير أوان‪ ،‬وعلى غ ير موع د‪ ،‬ثم ال يقب ل الع رف أن‬
‫ي رد عن ال بيت ‪ -‬وق د ج اء ‪ -‬مهم ا ك ره أه ل ال بيت تل ك المفاج أة بال إخط ار وال‬
‫انتظار! ونحن اليوم مسلمون‪ ،‬ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام‪.‬‬
‫فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك ش يئا! ونط رقهم في اللي ل المت أخر‪،‬‬
‫ف إن لم ي دعونا إلى الم بيت عن دهم وج دنا في أنفس نا من ذل ك ش يئا! دون أن نق در‬
‫أعذارهم في هذا وذاك‪ ،‬ذلك أننا ال نتأدب بأدب اإلسالم ؛ وال نجعل هوان ا تبع ا لم ا‬
‫جاء به رسول هللا ‪ ‬إنما نحن عبيد لعرف خاطى ء‪ ،‬ما أن زل هللا ب ه من س لطان)‬
‫(‪)2‬‬
‫انطالقا من هذه األهمية الشديدة التي أوالها الش رع لالس تئذان‪ ،‬س نحاول في‬
‫هذا المطلب أن نذكر كيفية االستئذان وأحكامها بحسب ورودها في الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫وبحسب القسمة العقلية‪ ،‬والتي ال يخفى وجه الحصر فيها‪.‬‬
‫أ ـ االستئذان لدخول البيوت‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ويشير إليه مبينا آدابه قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أيُّهَا ال ِذينَ آ َمن وا ال ت دخلوا بُيُوت ا غ ْي َر‬
‫بُيُ وتِ ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْنِ ُس وا َوتُ َس لِّ ُموا َعلَى أَ ْهلِهَ ا َذلِ ُك ْم خَ ْي ٌر لَ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ ﴾ (الن ور‪:‬‬
‫‪ ،)27‬ففي هذه اآلية الكريمة نهي صريح عن اقتح ام ال بيوت من غ ير اس تئذان وال‬
‫استئناس‪ ،‬ثم بيان آلداب ذلك‪.‬‬
‫والخط اب في اآلي ة ش امل لجمي ع المؤم نين‪ ،‬فل ذلك نص الفقه اء على أن‬
‫ق على ك ل داخ ل من ق ريب وبعي د من الرج ل والم رأة‪ ،‬ومن األعمى‬ ‫االستئذان ح ٌّ‬
‫والبصير‪ ،‬ومن الصغير والكبير‪.‬‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.2510 :‬‬


‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.2510 :‬‬

‫‪206‬‬
‫وقد روي في الس نة م ا ي دل على ذل ك‪ ،‬فعن عط اء بن يس ار أن رس ول هللا‬
‫سأله رجل فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أستأذن على أمي؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬قال الرج ل‪ :‬إني معه ا‬
‫في البيت؟ فقال رسول هللا ‪(:‬استأذن عليها)‪ ،‬فقال الرج ل‪ :‬إني خادمه ا‪ .‬فق ال ل ه‬
‫رسول هللا ‪(:‬استأذن عليه ا‪ ،‬أتحب أن تراه ا عريان ة؟)‪ ،‬ق ال‪ :‬ال‪ .‬ق ال‪(:‬فاس تأذن‬
‫عليها)(‪)1‬‬
‫أما األعمى فإن ه يس تأذن كالبص ير‪ ،‬ألن ه لربم ا ي درك بس معه م ا ال يدرك ه‬
‫البصير ببصره‪ ،‬وقد قال ‪(:‬من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يف رون‬
‫منه‪ ،‬صُبَّ في أذنه اآلنك(‪ )2‬يوم القيامة)(‪)3‬‬
‫أما الصغير‪ ،‬فإنه يستأذن كم ا يس تأذن الكب ير‪ ،‬وق د ك ان أنس بن مال ك دون‬
‫البلوغ يستأذن على رسول هللا ‪ ،‬وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم ‪.‬‬
‫وس ر ه ذا االهتم ام باالس تئذان وش موله ك ل أص ناف المكلفين أن هللا تع الى‬
‫جع ل ال بيوت س كنا‪( ،‬يفيء إليه ا الن اس ؛ فتس كن أرواحهم؛ وتطمئن نفوس هم ؛‬
‫وي أمنون على ع وراتهم وحرم اتهم‪ ،‬ويلق ون أعب اء الح ذر والح رص المرهق ة‬
‫لألعصاب)(‪)4‬‬
‫وال تكون البيوت كذلك إال إذا كانت حرما آمنا ال يس تبيحه أح د إال بعلم أهل ه‬
‫وإذنهم‪ ،‬وفي الوقت الذي يريدون‪ ،‬وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس‪.‬‬
‫ولهذا وردت النصوص محذرة من اقتح ام ه ذه الحرم ة أوانتهاكه ا‪ ،‬فحرم ة‬
‫البيوت من حرمة اإلنسان‪ ،‬قال ‪(:‬من اطلع في بيت ق وم من غ ير إذنهم ح ل لهم‬
‫أن يفقؤوا عينه)(‪ ،)5‬وعن سهل بن سعد أن رجال اطلع في جحر في باب رسول هللا‬
‫‪ ‬ومع رسول هللا ‪ ‬مدرى يرجل به رأسه؛ فقال له رسول هللا ‪(:‬لو أعلم أن ك‬
‫تنظر لطعنت به في عينك إنم ا جع ل هللا اإلذن من أج ل البص ر)(‪ ،)6‬وعن أنس أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬لو أن رجال اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما‬
‫كان عليك من جناح)(‪)7‬‬
‫انطالق ا من ه ذا س نتحدث هن ا عن ف رعين كالهم ا مم ا ورد النص علي ه‬
‫تصريحا أو إشارة‪:‬‬
‫ما ال يحتاج إلى استئذان‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أن األحكام السابقة خاصة بالبيوت التي له ا أهله ا الم الكين‬

‫‪ )(1‬رواه مالك بإسناد جيد‪.‬‬


‫‪ )(2‬اآلنك‪ :‬هو الرصاص المذاب‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(4‬في ظالل القرآن‪.2510 :‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه مسلم ‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫له ا‪ ،‬وفي الظ روف العادي ة‪ ،‬أم ا إن لم يكن له ا س اكن‪ ،‬أو حص لت ض رورة من‬
‫الضرورات تستدعي اقتحام البيوت‪ ،‬فإن ذلك جائز‪ ،‬كما سنفصله فيما يلي‪:‬‬
‫البيوت العامة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَا ٌح أ ْن تَ ْد ُخلوا‬
‫وإليها اإلشارة بقوله تعالى بعد آيات االستئذان‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫ع لَ ُك ْم َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َما تُ ْب ُدونَ َو َما تَ ْكتُ ُمونَ ﴾ (النور‪)29:‬‬
‫بُيُوتا ً َغ ْي َر َم ْس ُكونَ ٍة فِيهَا َمتَا ٌ‬
‫ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَ ا ٌح ﴾ دلي ل على ال ورع الش ديد ال ذي‬ ‫والتعبير بقول ه تع الى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫تلقى به الصحابة المنتجبون ه ذه األوام ر اإللهي ة‪ ،‬وق د روي في س بب ن زول ه ذه‬
‫اآلية أن بعض الناس لما نزلت آية االستئذان تعمق في األمر‪ ،‬فكان ال يأتي موضعا‬
‫خربا وال مسكونا إال س لم واس تأذن؛ ف نزلت ه ذه اآلي ة‪ ،‬أب اح هللا تع الى فيه ا رف ع‬
‫االستئذان في كل بيت ال يسكنه أحد ألن العل ة في االس تئذان إنم ا هي ألج ل خ وف‬
‫الكشفة على الحرمات فإذا زالت العلة زال الحكم‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه البيوت على األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬إنها البيوت التي تبنى على الطرقات‪ ،‬ي أوي إليه ا المس افرون‪،‬‬
‫ومثلها الخانات‪ ،‬وهو قول قتادة ومجاهد والضحاك ومحمد بن الحنفية‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إنها الدكاكين ال تي في األس واق‪ ،‬وه و ق ول الحس ن البص ري‬
‫وإبراهيم النخعي والشعبي‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن علي بن أبي طالب استظل في خيم ة فارس ي بالس وق من المط ر دون‬
‫إذن منه‪.‬‬
‫‪ .2‬أن ما روي عن ابن عمر من أنه كان يستأذن في دخ ول ح وانيت الس وق‬
‫كان من ورعه‪ ،‬فقد ذكر ذلك لعكرمة فقال‪ :‬ومن يطيق ما كان يطيقه ابن عمر؟ قال‬
‫الجص اص‪(:‬وليس في فع ل ابن عم ر ه ذا دالل ة على أن ه رأى دخوله ا بغ ير إذن‬
‫محظورا‪ ،‬ولكنه احتاط لنفسه‪ ،‬وذلك مباح لكل واحد)‬
‫القول الثالث‪ :‬هي البيوت الخربة ال تي ي دخلها الن اس للب ول والغائ ط‪ ،‬وه و‬
‫قول عطاء‪.‬‬
‫القول الرابع‪ :‬أنها بيوت مكة‪ ،‬وقد روي عن محمد بن الحنفية‪ ،‬واألص ل في‬
‫هذا القول ـ كما يذكر اإلمام مالك ـ مبني على القول ب أن بي وت مك ة غ ير متملك ة‪،‬‬
‫وأن الناس فيها شركاء‪.‬‬
‫القول الخامس‪ :‬كل مكان فيه انتفاع‪ ،‬وله فيه حاجة‪ ،‬وهو قول جابر بن زيد‪،‬‬
‫فقد قال‪(:‬ليس يعني بالمتاع الجهاز‪ ،‬ولكن ما سواه من الحاجة؛ أما منزل ينزله ق وم‬
‫من ليل أو نهار‪ ،‬أو خربة يدخلها لقضاء حاجة‪ ،‬أو دار ينظر إليها فه ذا مت اع وك ل‬
‫منافع الدنيا متاع)‪،‬وقد علق على هذا القول أبو جعف ر النح اس‪ ،‬فق ال‪(:‬وه ذا ش رح‬
‫حسن من قول إمام من أئمة المسلمين‪ ،‬وهو موافق للغ ة‪ .‬والمت اع في كالم الع رب‪:‬‬
‫المنفعة؛ ومنه أمتع هللا بك‪ .‬ومنه قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَ َمتِّعُوه ُّن﴾ (األحزاب‪))49:‬‬
‫واختار هذا القول ابن أبو بكر بن الع ربي‪ ،‬فق ال‪(:‬أم ا من فس ر المت اع بأن ه‬
‫جميع االنتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل‪ ،‬وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له‬

‫‪208‬‬
‫من االنتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم‪ ،‬والساكن يدخل‬
‫الخانات وهي الفنادق‪ ،‬أي الفنادق‪ ،‬والزبون يدخل الدكان لالبتي اع‪ ،‬والح اقن ي دخل‬
‫الخالء للحاجة؛ وكل يؤتي على وجهه من بابه)(‪)1‬‬
‫وهو قول الحنفية فق د نص وا على أن ال بيوت إذا لم يكن له ا س اكن‪ ،‬وللم رء‬
‫فيها منفعة‪ ،‬فيجوز له أن يدخلها من غير استئذان‪ ،‬كالخانات والرباطات التي تك ون‬
‫للمارة‪ ،‬والخرابات التي تقضى فيها حاجة البول والغائط‪.‬‬
‫وقريب منه قول المالكية‪ ،‬فقد نصوا على أن ذلك مبني على العرف‪ ،‬فيب اح‬
‫أن يدخل اإلنسان بغير استئذان كل مح ل مط روق‪ ،‬كالمس جد‪ ،‬والحم ام‪ ،‬والفن دق‪،‬‬
‫وبيت العالم‪ ،‬والقاضي‪ ،‬والطبيب ‪ -‬وهو المكان ال ذي يس تقبل في ه الن اس ‪ -‬لوج ود‬
‫اإلذن العام بدخوله‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الخامس‪ ،‬بناء على أن األصل في هذا‬
‫النوع من البيوت فتحه ا لك ل منتف ع به ا‪ ،‬فال حاج ة لالس تئذان فيه ا‪ ،‬ب ل ق د يك ون‬
‫االستئذان مؤذيا‪ ،‬ألنه سيشغل غيره من المنتفعين بذلك المحل بالمستأذن‪.‬‬
‫فمن استأذن ـ مثال ـ للدخول إلى مكتبة عمومية آذى الحاضرين وشغلهم عم ا‬
‫هم فيه‪ ،‬ومثل ذلك كل المحال العمومية‪.‬‬
‫الضرورة‪:‬‬
‫وهي من أص ول االس تثناءات في ك ل المس ائل‪ ،‬فالض رورات ت بيح‬
‫المحظورات‪ ،‬ومن الضرورات التي نص عليها الفقهاء‪:‬‬
‫‪ .1‬ما إذا كان في ترك االستئذان ل دخول بيت إحي اء لنفس أو م ال‪ ،‬ح تى ل و‬
‫استأذن وانتظر اإلذن تلفت النفس وضاع المال‪.‬‬
‫‪ .2‬إذا كان ال بيت مش رفا على الع دو‪ ،‬يقات ل من ه الع دو‪ ،‬ويوق ع ب ه النكاي ة‪،‬‬
‫يجوز دخوله بغير استئذان ؛ لما في دفع العدو من إحياء نفوس المسلمين وأموالهم‪.‬‬
‫‪ .3‬إذا سقط ثوب ه في بيت غ يره‪ ،‬وخ اف ل و أعلم ه أخ ذه‪ ،‬ج از ل ه ال دخول‬
‫ألخذه بغير استئذان‪ ،‬مع اشتراط أن يعلم الصلحاء أنه إنما دخل لذلك‪.‬‬
‫‪ .4‬لو نهب منه ثوبا ودخل الناهب داره ال بأس بدخولها ليأخذ حقه‪.‬‬
‫البيت الذي فيه المنكر‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في جواز دخول البيت الذي يتعاطى فيه المنكر بغير استئذان‪،‬‬
‫بقصد تغيير المنكر‪ ،‬هل يجوز ذلك أم ال على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يجوز الدخول عليهم بغير إذنهم‪ ،‬وهو ق ول الحنفي ة والمالكي ة‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن الدار لم ا اتخ ذت لتع اطي المنك ر فق د س قطت حرمته ا‪ ،‬وإذا س قطت‬
‫حرمتها جاز دخولها بغير استئذان‪.‬‬

‫‪ )(1‬أحكام القرآن‪.3/376 :‬‬

‫‪209‬‬
‫‪ .2‬أن تغيير المنكر فرض‪ ،‬فلو شرط اإلذن لتعذر التغيير‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬التفريق بين ما يمكن اس تدراكه ب اإلذن‪ ،‬وم ا ال يمكن إدراك ه‪،‬‬
‫وهو قول الشافعية‪ ،‬وتفصيل ذلك كما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬أن المنكر إن كان مما يفوت استدراكه‪ ،‬جاز له دخول ه لمن ع ذل ك المنك ر‬
‫بغير استئذان‪ ،‬ومثال ذلك ما لو أخبره من يثق بصدقه‪ :‬أن رجال خال برج ل ليقتل ه‪،‬‬
‫أو خال بامرأة ليزني بها‪ ،‬فيج وز ل ه في مث ل ه ذه الح ال أن يتجس س‪ ،‬ويق دم على‬
‫الكشف والبحث حذرا من فوات ما ال يستدرك‪ ،‬من إزهاق روح معصوم‪ ،‬وانته اك‬
‫عرض المحارم‪ ،‬وارتكاب المحظورات‪.‬‬
‫‪ .2‬أن ما لم يفت اس تدراكه‪ ،‬كم ا إذا دخ ل معه ا ال بيت ليس اومها على أج رة‬
‫الزنا‪ ،‬ثم يخرجان ليزني ا في بيت آخ ر‪ ،‬أو إذا ك ان مم ا يمكن إنك اره ورفع ه بغ ير‬
‫دخول‪ ،‬لم يحل له الدخول بغير استئذان‪ ،‬كما إذا سمع المحتسب أصوات تاله منكرة‬
‫من دار تظاهر أهلها بأصواتهم‪ ،‬أنكره ا خ ارج ال دار‪ ،‬ولم يهجم عليه ا بال دخول ؛‬
‫ألن المنكر ظاهر‪ ،‬وليس له أن يكشف عما سواه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو جواز ذلك مطلقا‪ ،‬بشرط أن يك ون ذل ك من‬
‫أهل ه ممن وكلهم الش رع به ذه المهم ة‪ ،‬أو من ين وب عنهم‪ ،‬ألن فتح ذل ك من غ ير‬
‫تنظيم سيؤدي إلى مفاسد كبيرة‪.‬‬
‫ويستثنى من ذلك أحوال خاصة تبحث في أبواب الحسبة‪ ،‬ال مج ال لتفص يلها‬
‫هنا‪.‬‬
‫آداب استئذان الدخول للبيوت‬
‫من اآلداب التي نص عليها الفقهاء مما يتعلق بآداب االستئذان داخل البيوت‪:‬‬
‫صيغة االستئذان‪:‬‬
‫ورد في السنة بيان الهيئ ة المثلى لالس تئذان‪ ،‬وهي أن يق ول الرج ل‪ :‬الس الم‬
‫عليكم أأدخل؛ فإن أذن له دخل‪ ،‬وإن أمر بالرجوع انصرف‪ ،‬وإن سكت عنه استأذن‬
‫ثالثا؛ ثم ينصرف من بعد الثالث‪ ،‬ويدل على هذه الصيغة ما روي عن ربعي ق ال‪:‬‬
‫حدثنا رجل من ب ني ع امر اس تأذن على الن بي ‪ ‬وه و في بيت‪ ،‬فق ال‪ :‬ألج؟ فق ال‬
‫النبي ‪ ‬لخادم ه‪(:‬أخ رج إلى ه ذا فعلم ه االس تئذان)‪ ،‬فق ال ل ه‪(:‬ق ل الس الم عليكم‬
‫أأدخل)‪ ،‬فسمعه الرجل فقال‪ :‬السالم عليكم أأدخل؟ فأذن له النبي ‪ ‬فدخل(‪ ،)1‬وفي‬
‫رواية‪ :‬فقال رسول هللا ‪ ‬ألمة له يقال لها روضة‪(:‬قولي له ذا يق ول الس الم عليكم‬
‫أدخل؟)(‪)2‬‬
‫ولكن هذ الصيغة ال يقصد منها ألفاظه ا‪ ،‬فلك ل بيئ ة مص طلحاتها وتعابيره ا‬
‫الخاصة بها‪ ،‬ولكن المراد منها هو تأكيد داللتها على اإلذن‪ ،‬ولهذا نص الفقهاء على‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبري‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫جواز االستئذان بالندا ٍء أو القرع أو النحنحة أو نحو ذلك‪ ،‬وخاصة إن ك ان ذل ك في‬
‫بيته‪ ،‬قالت زينب امرأة عبد هللا بن مسعود ‪(:‬كان عبد هللا إذا دخل تنحنح وص َّوت)‪،‬‬
‫قال اإلمام أحمد‪(:‬يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته؛ لئال‬
‫يدخل بغتة)‪ ،‬وقال مرةً‪(:‬إذا دخل يتنحنح)‬
‫ومن السنة في الصيغة ـ كذلك ـ أن يذكر المستأذن اسمه‪ ،‬أو يذكر م ا يُع رف‬
‫به‪ ،‬نفيا للغموض واللبس‪ ،‬وألن في ذكر االسم إسقاط كلف ة الس ؤال والج واب‪ ،‬وق د‬
‫روي عن جابر قال‪ :‬أتيت إلى النبي ‪ ‬في دين كان على أبي‪ ،‬فدققت الباب‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫من ذا؟‪ ،‬فقلت‪ :‬أنا‪ ،‬فقال النبي ‪ :‬أنا أنا!) كأنه كرهها(‪ ،)1‬وسبب كراهة النبي ‪‬‬
‫لقول الطارق‪(:‬أنا) أنها التفيد شيئا‪.‬‬
‫ولهذا كان الصحابة يسمون أنفسهم إذا قيل لهم (من هذا؟)‪ ،‬فقد روي عن أبي‬
‫ذر قال‪ :‬خرجت ليلة من الليالي‪ ،‬فإذا رسول هللا ‪ ‬يمشي وحده‪ ،‬فجعلت أمش ي في‬
‫ظل القمر‪ ،‬فالتفت فرآني‪ ،‬فقال‪(:‬من هذا؟) فقلت‪(:‬أبو ذر)(‪)2‬‬
‫االستئذان ثالثا‪:‬‬
‫إذا استأذن على إنسان‪ ،‬فتحقق أنه لم يسمع االستئذان‪ ،‬فله أن يكرر االستئذان‬
‫حتى يسمعه‪ ،‬أما إذا استأذن عليه فظن أنه لم يس مع‪ ،‬فق د اختل ف الفقه اء في تك رار‬
‫االستئذان فوق ثالث على األقوال التالية‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬الس نة أال يك رر االس تئذان أك ثر من ثالث م رات‪،‬وه و ق ول‬
‫الجمهور‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ت أَ ْي َم انُ ُك ْم َوالَّ ِذينَ لَ ْم‬ ‫ْ‬
‫‪ .1‬قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا لِيَ ْس تَأ ِذ ْن ُك ُم الَّ ِذينَ َملَ َك ْ‬
‫الث َمرَّات﴾ (النور‪ ،)58:‬فقد استدل بها بعض هم على ه ذا‪ ،‬ق ال‬ ‫يَ ْبلُ ُغوا ْال ُحلُ َم ِم ْن ُك ْم ثَ َ‬
‫يزيد‪ :‬ثالث دفعات‪ .‬قال‪ :‬فورد القرآن في المماليك والصبيان‪ ،‬وسنة رس ول هللا ‪‬‬
‫في الجميع(‪.)3‬‬
‫‪ .2‬عن أبي سعيد الخدري قال‪ :‬كنت في مجلس من مجالس األنصار‪ ،‬إذ جاء‬
‫أبو موسى األشعري‪ ،‬كأنه م ذعور فق ال‪ :‬اس تأذنت على عم ر ثالث ا‪ ،‬فلم ي أذن لي‪،‬‬
‫فرجعت‪ ،‬فقال‪ :‬ما منعك؟ قلت‪ :‬استأذنت ثالثا فلم ي ؤذن لي ف رجعت‪ ،‬وق ال رس ول‬
‫هللا ‪(:‬إذا اس تأذن أح دكم ثالث ا فلم ي ؤذن ل ه فل يرجع)‪ ،‬فق ال ‪ -‬أي عم ر –‪(:‬وهللا‬
‫لتقيمن عليه بينة)‪ ،‬قال أبو موس ى‪(:‬أمنكم أح د س معه من الن بي ‪‬؟)‪ ،‬ق ال أبي بن‬
‫كعب‪(:‬فوهللا ال يقوم معك إال أصغر القوم‪ ،‬فكنت أصغر القوم‪ ،‬فقمت معه‪ ،‬فأخبرت‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬وقد تعقب على هذا االستدالل ابن عبدالبر بقوله‪ (:‬ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإن ه غ ير مع روف عن‬
‫الث َم رَّات ﴾ أي في ثالث أوق ات‪ ،‬وي دل‬ ‫العلماء في تفسير اآلية التي نزع بها‪ ،‬والذي عليه جمه ورهم في قول ه‪ ﴿ :‬ثَ َ‬
‫ص ال ِة ْال ِع َش ا ِء﴾‬ ‫َضعُونَ ثِيَابَ ُك ْم ِمنَ الظَّ ِه َ‬
‫ير ِة َو ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫صال ِة ْالفَجْ ِر َو ِحينَ ت َ‬
‫على صحة هذا القول ذكره فيها ‪ِ ‬م ْن قَب ِْل َ‬
‫(النور‪)58:‬‬

‫‪211‬‬
‫ذلك)(‪)1‬‬ ‫عمر أن النبي ‪ ‬قال‬
‫القول الثاني‪ :‬له أن يزيد على الثالث‪ ،‬حتى يتحقق سماعه‪ ،‬وهو قول مال ك‪،‬‬
‫قال ابن وهب قال مالك‪(:‬االستئذان ثالث‪ ،‬ال أحب أن يزي د أح د عليه ا‪ ،‬إال من علم‬
‫أنه لم يسمع‪ ،‬فال أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع)‬
‫القول الثالث‪ :‬أن ه إن ك ان بلف ظ الس الم المش روع لم يع ده‪ ،‬وإن ك ان بغ يره‬
‫أعاده‪ ،‬حكاه النووي‪ ،‬ومن األدلة على ذلك ما روي عن قيس بن سعد هو ابن عبادة‬
‫قال‪:‬زارنا رسول هللا ‪ ‬في منزلن ا فق ال‪ :‬الس الم عليكم ورحم ة هللا ف رد س عد ردا‬
‫خفيا‪ .‬قال قيس‪:‬فقلت‪:‬أال ت أذن لرس ول هللا ‪ ‬؟ فق ال‪:‬دع ه يك ثر علين ا من الس الم‪.‬‬
‫فقال رسول هللا ‪ ‬السالم عليكم ورحمة هللا ‪ .‬فرد سعد ردا خفيا‪ .‬ثم قال رسول هللا‬
‫‪ :‬السالم عليكم ورحمة هللا ‪ .‬ثم رجع رسول هللا ‪ ‬وأتبعه س عد فق ال‪:‬ي ا رس ول‬
‫هللا إني كنت أس مع تس ليمك وأرد علي ك ردا خفي ا لتك ثر علين ا من الس الم ‪-‬‬
‫فقال‪:‬فانصرف معه رسول هللا ‪ ‬وأمر له سعد بغسل فاغتس ل ؛ ثم ناول ه خميص ة‬
‫مصبوغة بزعفران أو ورس‪ ،‬فاشتمل بها‪ ،‬ثم رفع رسول هللا ‪ ‬يديه‪ ،‬وه و يق ول‪:‬‬
‫اللهم اجعل صالتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة) الحديث(‪.)2‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن األصل ه و ال تزام م ا ورد في الس نة من‬
‫االستئذان ثالثا‪ ،‬والحكمة من ذل ك أن الغ الب من الكالم إذا ك رر ثالث ا س مع وفهم؛‬
‫ولذلك كان النبي ‪ ‬إذا تكلم بكلمة أعادها ثالثا حتى يفهم عن ه‪ ،‬وإذا س لم على ق وم‬
‫سلم عليهم ثالثا‪.‬‬
‫ويدل عدم اإلذن بعد الثالث على أن صاحب المنزل قد يكون غير راغب في‬
‫اإلذن‪ ،‬فلذلك من احترامه عدم اإللحاح عليه باالستئذان‪.‬‬
‫ولكنه في الحال التي تنص عليها هذه المسألة‪ ،‬والتي ال تك ون إال في ال بيوت‬
‫الكبيرة التي يدل ظاهرها على عدم سماع أهل البيت االستئذان‪ ،‬يجوز الزي ادة على‬
‫الثالث‪ ،‬ألن المقصد من الثالث هو تأكيد سماع صاحب الدار‪.‬‬
‫وقد نص الفقهاء هنا على مدة االنتظار بين كل استئذانين‪ ،‬فنص الحنفية على‬
‫أنه يمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ اآلكل‪ ،‬والمتوضئ‪ ،‬والمصلي بأربع ركعات‪،‬‬
‫حتى إذا كان أحد على عمل من هذه األعمال فرغ منه‪ ،‬وإن لم يكن على عمل منه ا‬
‫كانت عنده فرصة يأخذ فيها حذره‪ ،‬ويصلح شأنه قبل أن يدخل الداخل‪.‬‬
‫وال ن رى ص حة ه ذا‪ ،‬وال أن ل ذلك ح دا معين ا‪ ،‬ألن ذل ك يحتل ف ب اختالف‬
‫المحال‪ ،‬واختالف القصد‪ ،‬واألص ل بق اء المطل ق على م ا ه و علي ه تيس يرا لحي اة‬
‫الناس‪.‬‬
‫موضع الوقوف‪:‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم وغيرهما‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود والنسائي‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫من آداب االستئذان أن ال يقف المستأذن قبالة الب اب إن ك ان الب اب مفتوح ا‪،‬‬
‫ولكنه ينحرف ذات اليمين أو ذات الشمال‪ ،‬فقد ك ان ذل ك من ه دي رس ول هللا ‪،‬‬
‫فعن عبد هللا بن بسر قال‪ :‬كان رسول هللا ‪ ‬إذا أتى باب ق وم لم يس تقبل الب اب من‬
‫تلق اء وجه ه‪ ،‬ولكن من ركن ه األيمن أو األيس ر‪ ،‬ويق ول‪(:‬الس الم عليكم‪ ،‬الس الم‬
‫عليكم)(‪)1‬‬
‫وقد ك ان ‪ ‬يعلم الص حابة ه ذا اله دي‪ ،‬فعن ه ذيل بن ش رحبيل ق ال‪ :‬ج اء‬
‫رجل فوقف على باب رسول هللا ‪ ‬يستأذن‪ ،‬فقام على الباب ‪ -‬وفي رواية‪ :‬مستقبل‬
‫الباب ‪ -‬فقال له النبي ‪(:‬هكذا عنك أو هكذا‪ ،‬فإنما االستئذان من النظر)‬
‫أم ا إن ك ان الب اب م ردودا فل ه أن يق ف حيث ش اء ويس تأذن‪ ،‬وإن ش اء دق‬
‫الباب‪ ،‬وقد روي عن أبي موسى األشعري أن رسول هللا ‪ ‬كان في حائط بالمدينة‬
‫على قُف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رس ول هللا ‪(:‬إي ذن‬
‫له وبشره بالجنة)(‪)2‬‬
‫عدم التطلع للبيت‪:‬‬
‫فال يحل للمستأذن النظر في داخل البيت ألن لل بيوت حرمته ا‪ ،‬وق د ق ال ‪‬‬
‫مبين ا عل ة االس تئذان‪(:‬إنم ا االس تئذان من النظ ر)‪ ،‬وق د روي أن ج ارا لحذيف ة بن‬
‫اليمان وقف‪ ،‬وجعل ينظر إلى ما في البيت وهو يق ول‪ :‬الس الم عليكم أأدخ ل؟ فق ال‬
‫حذيفة‪ :‬أما بعينك فقد دخلت‪ ،‬وأما باستك فلم تدخل‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء هنا فيما لو نظر المستأذن إلى داخل البيت فج نى ص احب‬
‫البيت على عين ه فه ل يض من أم ال ـ بن اء على اختالفهم في األح اديث ال تي س بق‬
‫ذكرها ـ على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ليس ه ذا على ظ اهره‪ ،‬ف إن فق أ فعلي ه الض مان‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الجمهور‪ ،‬وقد أجابوا على النص السابق بالوجوه التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬أن الخبر منسوخ‪ ،‬وكان قبل نزول قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن عَاقَ ْبتُ ْم فَ َعاقِبُوا بِ ِم ْث ِل‬
‫صبَرْ تُ ْم لَهُ َو َخ ْي ٌر لِلصَّابِ ِرينَ ﴾ (النحل‪126:‬‬
‫َما عُوقِ ْبتُ ْم بِ ِه َولَئِ ْن َ‬
‫‪ .2‬أن يك ون خ رج على وج ه الوعي د ال على وج ه الحتم‪ ،‬والخ بر إذا ك ان‬
‫مخالفا لكتاب هللا تعالى ال يجوز العمل به‪.‬‬
‫‪ .3‬أن النبي ‪ ‬كان يتكلم بالكالم في الظاهر وهو يريد شيئا آخ ر؛ كم ا ج اء‬
‫في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه ق ال لبالل‪(:‬قم ف اقطع لس انه)‪ ،‬وإنم ا أراد‬
‫بذلك أن يدفع إليه شيئا‪ ،‬ولم يرد به القطع في الحقيقة‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى ال ينظر بعد ذل ك‬
‫في بيت غيره‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال ضمان عليه وال قصاص؛ وقد رجحه القرطبي‪ ،‬ق ال‪(:‬وه و‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫الصحيح إن شاء هللا تعالى) واستدلوا على ذلك بما ذكرنا من األحاديث‪.‬‬
‫االستئناس‪:‬‬
‫ْ‬
‫ويدل عليه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬حتَّى تَ ْستَأنِسُوا ﴾(الن ور‪ )27:‬وه و تعب ير ي دل على‬
‫التلط ف في االس تئذان‪ ،‬يق ول س يد قطب في س ر التعب ير به ذا اللف ظ‪(:‬ويع بر عن‬
‫االستئذان باالستئناس ‪ -‬وهو تعبير يوحي بلطف االس تئذان‪ ،‬ولط ف الطريق ة ال تي‬
‫يجيء بها الطارق‪ ،‬فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به‪ ،‬واستعدادا الستقباله‪ ،‬وهي‬
‫لفتة دقيقة لطيفة‪ ،‬لرعاية أحوال النف وس‪ ،‬ولتق دير ظ روف الن اس في بي وتهم‪ ،‬وم ا‬
‫يالبسها من ضرورات ال يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل‬
‫أو نهار)(‪)1‬‬
‫ويعبر عبد الفتاح أبو غدة عن بعض مظاهر تطبيق االس تئناس‪ ،‬فيق ول‪(:‬وإذا‬
‫قرع الباب فليكن برفق ولين من غير إزعاج أو إيذاء وال ازدياد في اإلص رار‪ ،‬وال‬
‫يفتح الباب بنفسه‪ ،‬وإذا أذن له في الدخول فليتريث‪ ،‬وال يستعجل في الدخول‪ ،‬ريثما‬
‫يتمكن صاحب البيت من فسح الطريق وتمام التهيؤ‪ ،‬وال ي رم ببص ره هن ا وهن اك‪،‬‬
‫فما جعل االستئذان إال من أجل النظر)(‪)2‬‬
‫وقد كان الصحابة يقرع ون ب اب رس ول هللا ‪ ‬باألظ افر(‪ ،)3‬أدب ا منهم م ع‬
‫رسول هللا ‪.‬‬
‫وذل ك ألن ال دق الع نيف يس يء كث يرا للمس تأذن علي ه‪ ،‬وق د روي ان ام رأة‬
‫جاءت إلى اإلمام أحمد بن حنبل تسأله عن شىء من أم ور ال دين‪ ،‬ودقت الب اب دق ا‬
‫فيه بعض العنف‪ ،‬فخرج وهو يقول‪ :‬هذا الشرط ‪ -‬جمع شرطي ‪.-‬‬
‫وهذا الدق اللطيف يكون فيمن كان جلوسه قريبا من باب ه‪ ،‬وأم ا من بع د عن‬
‫الباب‪ ،‬فيقرع عليه قرعا يسمعه في مكانه من غيرعنف‪.‬‬
‫السالم‪:‬‬
‫وينص على هذا األدب قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وتُ َسلِّ ُموا َعلَى أَ ْهلِهَا﴾ (الن ور‪ ،)27:‬وق د‬
‫روي في تطبيق هذا األمر اإللهي عن كلدة بن حنب ل أن ص فوان بن أمي ة بعث ه إلى‬
‫رسول هللا ‪ ‬بلبن وجداية وضغابيس والنبي ‪ ‬بأعلى مكة‪ ،‬فدخلت ولم أسلم فقال‬
‫(ارجع فقل السالم عليكم)‪ ،‬وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية(‪.)4‬‬
‫ويستحب الس الم مطلق ا‪ ،‬ول و دخ ل بيت نفس ه وليس في ه أح د؛ ومن الص يغ‬
‫الورادة في ذلك ما ذكره القرطبي بقوله‪(:‬قال علماؤنا‪ :‬يق ول الس الم علين ا من ربن ا‬
‫التحي ات الطيب ات المبارك ات‪ ،‬هلل الس الم‪ .‬رواه ابن وهب عن الن بي ‪ ،‬وس نده‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.2508 :‬‬


‫‪ )(2‬من أدب اإلسالم ـ عبد الفتاح أبو غدة‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري في األدب المفرد‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫ضعيف)(‪)1‬‬
‫ومنها ما قال قتادة‪(:‬إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السالم علين ا وعلى عب اد‬
‫هللا الصالحين؛ فإنه يؤمر بذلك)‪،‬قال‪(:‬وذكر لنا أن المالئكة ترد عليهم)‬
‫حق صاحب البيت في عدم اإلذن‪:‬‬
‫َ‬
‫يل لَ ُك ُم ارْ ِج ُع وا فَ ارْ ِجعُوا هُ َو أ ْز َكى لَ ُك ْم‬ ‫وينص على هذا قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن قِ َ‬
‫َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ َعلِي ٌم﴾ (النور‪)28:‬‬
‫وق د ذكرن اه في اآلداب ألن الع رف يتص ور أن رد المس تأذن معص ية‪ ،‬ب ل‬
‫كبيرة من الكبائر‪،‬حتى لو كان للمستأذن عليه ظروفه الخاصة الشديدة التي ال تسمح‬
‫له باإلذن‪ ،‬يقول سيد قطب‪(:‬من حق ص احب ال بيت أن يق ول بال غضاض ة للزائ ر‬
‫والط ارق‪ :‬ارج ع‪ .‬فللن اس أس رارهم وأع ذارهم‪ ،‬وهم أدرى بظ روفهم‪ ،‬فم ا ك ان‬
‫االستئذان في البيوت إال من أجل ه ذا‪ ،‬وعلى المس تأذن أن يرج ع من غ ير ح رج‪،‬‬
‫وحسبه أن ينال التزكية القرآنية)(‪)2‬‬
‫بل ك ان الص حابة المنتجب ون يطلب ون ه ذا األدب حرص ا على ه ذا الج زاء‬
‫القرآني‪ ،‬قال بعض المهاجرين‪(:‬لقد طلبت عمري كله ه ذه اآلي ة فم ا أدركته ا‪ ،‬لق د‬
‫طلبت أن أستأذن على بعض إخواني ليقول لي‪ :‬ارج ع‪ ،‬ف أرجع وأن ا مغتب ط‪ .‬لقول ه‬
‫ك ْم ﴾ (النور‪)3())28:‬‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬ه َُو أَ ْز َكى لَ ُ‬
‫ب ـ اإلستئذان داخل البيوت‬
‫ت‬ ‫ْ‬
‫ويشير إليه مبينا آدابه قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا لِيَ ْس تَأ ِذ ْن ُك ُم الَّ ِذينَ َملَ َك ْ‬
‫َضعُونَ‬ ‫صال ِة ْالفَجْ ِر َو ِحينَ ت َ‬ ‫ت ِم ْن قَب ِْل َ‬ ‫أَ ْي َمانُ ُك ْم َوالَّ ِذينَ لَ ْم يَ ْبلُ ُغوا ْال ُحلُ َم ِم ْن ُك ْم ثَ َ‬
‫الث َمرَّا ٍ‬
‫ْس َعلَ ْي ُك ْم َوال َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫ت لَ ُك ْم لَي َ‬
‫الث َع وْ َرا ٍ‬ ‫صال ِة ْال ِع َش ا ِء ثَ ُ‬ ‫ير ِة َو ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫ثِيَابَ ُك ْم ِمنَ الظَّ ِه َ‬
‫ت َوهَّللا ُ َعلِي ٌم‬ ‫ْض َك َذلِكَ يُبَيِّنُ هَّللا ُ لَ ُك ُم اآْل يا ِ‬
‫ض ُك ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫ُجنَا ٌح بَ ْع َده َُّن طَ َّوافُونَ َعلَ ْي ُك ْم بَ ْع ُ‬
‫ك يُبَيِّنُ‬ ‫ْ‬
‫اس تَأ َذنَ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َك َذلِ َ‬ ‫ْ‬
‫طفَا ُل ِم ْن ُك ُم ْال ُحلُ َم فَ ْليَ ْستَأ ِذنُوا َك َما ْ‬‫َح ِكي ٌم َوإِ َذا بَلَ َغ اأْل َ ْ‬
‫هَّللا ُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم﴾ (النور‪)59:‬‬
‫فقد نص العلماء على أن األحكام الواردة في هاتين اآليتين خاصة باالستئذان‬
‫داخل البيوت‪ ،‬كما أن اآلية السابقة خاصة بأحكام االستئذان على البيوت‪.‬‬
‫واآلية الكريمة تنص على أن الخدم من الرقيق‪ ،‬واألطفال المميزين ال ذين لم‬
‫يبلغوا الحلم يدخلون بال استئذان إال في ثالثة أوق ات تنكش ف فيه ا الع ورات ع ادة‪،‬‬
‫فهم يستأذنون فيها‪ ،‬وهذه األوقات هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قب ل ص الة الفج ر حيث يك ون الن اس في ثي اب الن وم ع ادة‪ ،‬أو أنهم‬
‫يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ وقت الظهيرة عند القيلولة‪ ،‬حيث يخلع ون مالبس هم في الع ادة ويرت دون‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪.12/219 :‬‬
‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.2508 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبري‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫ثياب النوم للراحة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ بعد صالة العشاء حين يخلعون مالبسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل‪..‬‬
‫وقد سمى القرآن الكريم هذه األوقات الثالث ة (ع ورات) النكش اف الع ورات‬
‫فيها‪ ،‬وهو بذلك يشير إلى ضرورة التوقي في غير هذه األوق ات لئال ي رى الص بية‬
‫والخدم ما ال ينبغي أن يرى‪ ،‬يقول سيد قطب‪(:‬وهو أدب يغفله الكثيرون في حي اتهم‬
‫المنزلي ة‪ ،‬مس تهينين بآث اره النفس ية والعص بية والخلقي ة‪ ،‬ظ انين أن الخ دم ال تمت د‬
‫أعينهم إلى عورات السادة! وأن الصغار قبل البلوغ ال ينتبهون لهذه المن اظر‪ .‬بينم ا‬
‫يقرر النفسيون اليوم ‪ -‬بعد تقدم العلوم النفسية ‪ -‬أن بعض المش اهد ال تي تق ع عليه ا‬
‫أنظار األطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ؛ وقد تص يبهم ب أمراض‬
‫نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها‪ .‬والعليم الخبير يؤدب المؤمنين به ذه اآلداب ؛‬
‫وهو يريد أن يبني أمة سليمة األعصاب‪ ،‬سليمة الصدور‪ ،‬مهذبة المش اعر‪ ،‬ط اهرة‬
‫القلوب‪ ،‬نظيفة التصورات)(‪)1‬‬
‫ومع أن هذه األحكام واضحة في أن القصد منها الت وقي عن الع ورات داخ ل‬
‫ال بيوت‪ ،‬ألن المقص د األساس ي من تش ريع االس تئذان ه و ت وقي الع ورات‪ ،‬ف إن‬
‫البعض قال بنسخها أو حملها محامل تنفي إحكامها أو داللتها التطبيقية‪ ،‬وذل ك غ ير‬
‫صحيح‪.‬‬
‫وقد رد على هذه األقوال ابن عباس‪ ،‬مبين ا العل ة فيه ا‪ ،‬فعن عكرم ة أن نف را‬
‫من أهل العراق قالوا‪ :‬يا ابن عباس‪ ،‬كيف ترى في ه ذه اآلي ة ال تي أمرن ا فيه ا بم ا‬
‫ت‬‫أمرنا وال يعمل بها أحد‪ ،‬قول هللا تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا لِيَ ْس تَأْ ِذ ْن ُك ُم الَّ ِذينَ َملَ َك ْ‬
‫ت ﴾ (الن ور‪ ،)58:‬فق ال ابن عب اس ‪:‬‬ ‫الث َم رَّا ٍ‬ ‫أَ ْي َمانُ ُك ْم َوالَّ ِذينَ لَ ْم يَ ْبلُ ُغ وا ْال ُحلُ َم ِم ْن ُك ْم ثَ َ‬
‫(إن هللا حليم رحيم ب المؤمنين يحب الس تر‪ ،‬وك ان الن اس ليس ل بيوتهم س تور وال‬
‫حجال‪ ،‬فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرج ل على أهل ه‪ ،‬ف أمرهم هللا‬
‫باالستئذان في تلك العورات‪ ،‬فجاءهم هللا بالستور والخير‪ ،‬فلم أر أح دا يعم ل ب ذلك‬
‫بعد)‬
‫قال القرطبي تعليقا على هذا التفسير‪(:‬هذا متن حس ن‪ ،‬وه و ي رد ق ول س عيد‬
‫وابن جبير؛ فإنه ليس فيه دليل على نسخ اآلية‪ ،‬ولكن على أنه ا ك انت على ح ال ثم‬
‫زالت‪ ،‬فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها ق ائم كم ا ك ان‪ ،‬ب ل حكمه ا للي وم ث ابت في‬
‫كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها)(‪)2‬‬
‫وقد روي عن الشعبي أنه قال في اآلية‪(:‬ليست بمنسوخة)‪ ،‬فقيل له‪(:‬إن الناس‬
‫ال يعملون بها) ؛ فقال‪(:‬هللا عز وجل المستعان)‬
‫بعد التعرف على العلة الشرعية من هذا النوع من أنواع االس تئذان‪ ،‬ف إن في‬
‫هذا النوع من التساهل م ا ليس في الن وع الس ابق‪ ،‬وس نبين التفاص يل المتعلق ة به ذ‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.2532 :‬‬


‫‪ )(2‬القرطبي‪.12/303 :‬‬

‫‪216‬‬
‫المطلب في المسائل التالية‪:‬‬
‫االستئذان على الزوجة‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أنه يجوز للرجل عدم االستئذان على زوجت ه إذا ك انت في‬
‫بيته‪ ،‬وليس معها غيرها‪ ،‬ألنه يحل ل ه أن ينظ ر إلى س ائر جس دها‪ ،‬ولكن م ع ذل ك‬
‫يندب له اإليذان بدخوله بنحو التنحنح‪ ،‬وطرق النعل‪ ،‬ونحو ذلك ؛ ألنها ربما ك انت‬
‫على حالة ال تريد أن يراها زوجها عليها‪.‬‬
‫ْ‬
‫وقد روي في هذا عن ج ابر أن رس ول هللا ‪( ‬نهى أن يَط رُق الرج ل أهل ه‬
‫ليالً‪-‬أي أن ي اتيهم ليالً من س فر أو غ يره على غفل ة كأن ه‪ ،-‬يتخ ونهم أو يلتمس‬
‫عثراتهم)(‪)1‬‬
‫االستئذان على المحارم‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء فيما لو كان في بيته أحد محارمه‪ ،‬كأمه أو أخته أو نح و ذل ك‪،‬‬
‫من رجل أو امرأة‪ ،‬هل يجب االستئذان أم ال على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬ال يحل ل ه أن ي دخل علي ه بغ ير اس تئذان‪ ،‬وه و ق ول الحنفي ة‬
‫والمالكية‪ ،‬ويكون االستئذان عندهم في ه ذه الحال ة واجب ا ال يج وز ترك ه‪ ،‬ب ل ق ال‬
‫المالكية‪ :‬من جحد وجوب االستئذان يكفر‪ ،‬ألنه مما علم من الدين بالض رورة‪ ،‬ق ال‬
‫ابن القاسم قال مالك‪ :‬ويس تأذن الرج ل على أم ه وأخت ه إذا أراد أن ي دخل عليهم ا‪،‬‬
‫ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫‪ .1‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا بَلَ َغ اأْل َ ْ‬
‫طفَ ا ُل ِم ْن ُك ُم ْال ُحلُ َم فَ ْليَ ْس تَأ ِذنُوا َك َم ا ْ‬
‫اس تَأ َذنَ الَّ ِذينَ‬
‫ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َك َذلِكَ يُبَيِّنُ هَّللا ُ لَ ُك ْم آيَاتِ ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم﴾ (النور‪)59:‬‬
‫‪ .2‬عن عط اء بن يس ار أن رجال س أل رس ول هللا ‪ ،‬فق ال‪ :‬أس تأذن على‬
‫أمي؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬إنه ا معي في ال بيت‪ .‬فق ال رس ول هللا ‪(:‬اس تأذن عليه ا)‪،‬‬
‫فق ال الرج ل‪ :‬إني خادمه ا‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪(:‬اس تأذن عليه ا‪ ،‬أتحب أن تراه ا‬
‫عريانة؟)‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬فاستأذن عليها)(‪)2‬‬
‫‪ .3‬قال عبد هللا بن مسعود ‪(:‬عليكم أن تستأذنوا على أمه اتكم وأخ واتكم)(‪،)3‬‬
‫وعن عطاء قال‪ :‬سألت ابن عب اس أأس تأذن على أخ تي؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬إنه ا معي‬
‫في البيت وأنا أنفق عليها‪ ،‬قال‪ :‬استأذن عليها(‪ ،)4‬وعن حذيفة بن اليم ان‪ ،‬أن ه س أله‬
‫رجل فقال‪ :‬أستأذن على أختي؟ فقال‪ :‬إن لم تستأذن رأيت ما يسوءك‪.‬‬
‫‪ .4‬ق ال موس ى بن طلح ة بن عبي د هللا م ا‪ :‬دخلت م ع أبي على أمي‪ ،‬ف دخل‬
‫واتبعت ه‪ ،‬ف التفت ف دفع في ص دري ح تى أقع دني على األرض! وق ال‪ :‬أت دخل‬
‫بغيرإذن؟!‪ .‬وقال نافع مولى عبد هللا بن عمر ما‪ :‬كان ابن عم ر إذا بل غ بعض ول ده‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مالك‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(4‬الجصاص‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫الحلم ‪-‬أي مبلغ الرجال ‪ -‬عزله ‪-‬أي أفرده عن حجرته ‪-‬فلم يدخل على ابن عم ر إال‬
‫بإذن‪.‬‬
‫‪ .5‬أن ه إذا دخ ل عليه ا بغ ير اس تئذان‪ ،‬فربم ا ك انت مكش وفة الع ورة‪ ،‬فيق ع‬
‫بصره على ما ال يحل له النظر إليه منها‪ ،‬ولذلك وجب االستئذان‪ ،‬سدا للذريعة‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يجوز للرجل أن يدخل على محارمه الذين يسكنون مع ه بغ ير‬
‫استئذان‪ ،‬ولكن عليه أن يش عرهم بدخول ه بنح و تنحنح‪ ،‬وط رق نع ل‪ ،‬ونح و ذل ك‪،‬‬
‫وهو قول الشافعية‪ ،‬قال قتادة‪(:‬إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك‪ ،‬فهم أحق من س لمت‬
‫عليهم‪ .‬فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا‪ :‬تنحنح واض رب برجل ك ح تى ينتبه ا‬
‫لدخولك؛ ألن األهل ال حشمة بينك وبينها‪ .‬وأما األم واألخت فقد يكونا على حال ة ال‬
‫تحب أن تراهما فيها)‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المس ألة ه و أن الخالف في ه ذا ربم ا يك ون خالف ا في‬
‫التعب ير عن حكم المس ألة‪ ،‬ال خالف ا حقيقي ا‪ ،‬ألن الق ول األول نص على حكم‬
‫االستئذان‪ ،‬أما القول الثاني‪ ،‬فنص على كيفيته بالنسبة لمن هم في البيت‪ ،‬فال خالف‬
‫في أصل وجوب االستئذان‪ ،‬فيما نرى‪.‬‬
‫وربما يكون في القول الثاني مراعاة للتيسير الم راعى في ه ذه الناحي ة‪ ،‬ألن‬
‫االستئذان في البيت قد يثقل كل حين‪ ،‬فلذلك يتساهل في طريقته‪ ،‬فيكون القص د في ه‬
‫مجرد اإلعالم ال طلب الدخول ونحوه‪.‬‬
‫وقد روي أن عُبيدة عامر بن عبدهللا بن مس عود ق ال‪ :‬ك ان أبي – عبدهللا بن‬
‫مسعود‪ -‬إذا دخل الدار اس تأنس‪-‬أي أش عر أهله ا بم ا يؤنس هم‪ -‬وتكلَّم ورف ع ص وته‬
‫حتى يستأنسوا‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحم د ‪ :‬إذا دخ ل الرج ل بيت ه‪ ،‬اس تحب ل ه أن يتنحنح أو يح رك‬
‫نعليه‪ .‬قال عبد هللا ابن اإلم ام أحم د‪ :‬ك ان أبي إذا دخ ل‪-‬أي رج ع‪ -‬من المس جد الى‬
‫البيت‪ ،‬يَضْ ِربٌ برجله قب ل أن ي دخل ال دار‪ ،‬ح تى يس مع ض رب نعل ه لدخول ه الى‬
‫الدار‪ ،‬وربما تنحنح‪ ،‬ليعلم من في الدار بدخوله‪.‬‬
‫ج ـ االستئذان خارج البيوت‬
‫وهو االستئذان في كل الشؤون‪ ،‬ألنه ال يحق ألحد أن يتصرف في حق غيره‬
‫إال بإذن ه‪ ،‬ويش ير إلى ه ذا األدب م ا ذك ره تع الى في وص ف الص حابة ‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُونَ الَّ ِذينَ آ َمنُوا بِاهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َوإِ َذا َكانُوا َم َع هُ َعلَى أَ ْم ٍر َج ا ِم ٍع لَ ْم يَ ْذهَبُوا َحتَّى‬
‫اس تَأْ َذنُو َ‬
‫ك‬ ‫يَ ْس تَأْ ِذنُوهُ إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْس تَأْ ِذنُونَ َ‬
‫ك أُولَئِ كَ الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِاهَّلل ِ َو َر ُس ولِ ِه فَ إِ َذا ْ‬
‫ْض َشأْنِ ِه ْم فَأْ َذ ْن لِ َم ْن ِش ْئتَ ِم ْنهُ ْم َوا ْستَ ْغفِرْ لَهُ ُم هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ (النور‪)62:‬‬‫لِبَع ِ‬
‫ولهذه وردت النصوص بوجوب استئذان كل صاحب ح ق في اس تعمال حق ه‬
‫أو االنتفاع له‪ ،‬ومن ذلك ما ورد من أنه على المس لم إذا دخ ل بيت إنس ان أال يتق دم‬
‫عليه في الصالة‪ ،‬وال يجلس في مكان جلوسه المخصص ل ه إال بع د اس تئذانه‪ ،‬ق ال‬

‫‪218‬‬
‫بإذنه)(‪)1‬‬ ‫‪(:‬ال يؤم الرجل في سلطانه‪ ،‬وال يجلس على تكرمته في بيته إال‬
‫بل ورد النص على وجوب االستئذان حتى عند الجل وس بين شخص ين‪ ،‬ق ال‬
‫‪(:‬ال يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إال بإذنهما)‬
‫ومثل هذا النهي النهي عن النظر في كتاب غيره إال بع د اس تئذانه‪ ،‬ق ال ‪:‬‬
‫(من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار)(‪)2‬‬
‫انطالق ا من ه ذا س نذكر ـ هن ا ـ بعض النم اذج عم ا ورد في الش رع من‬
‫مواضع االس تئذان‪ ،‬وال تي ن رى التقص ير فيه ا أو اعتباره ا من األع راف ال تي ال‬
‫عالقة لها بالدين‪.‬‬
‫استعمال منافع الغير‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أنه ال يجوز لإلنسان التصرف في مل ك غ يره‪ ،‬أو في ح ق‬
‫الغير إال بإذن من الشارع‪ ،‬أو من صاحب الحق(‪ ،)3‬وإال كان ذلك اعتداء محرما‪.‬‬
‫وي دل على ه ذا الحكم قول ه ‪(:‬ال يحلبن أح د ماش ية غ يره إال بإذن ه)(‪،)4‬‬
‫فالنبي ‪ ‬لم يقصد هنا اللبن بعينه‪ ،‬وإنما قصد كل حق للغير‪ ،‬فال يجوز أك ل طع ام‬
‫الغير إال بإذن المالك‪ ،‬أو في حالة الضرورة‪ ،‬وال يجوز سكنى داره إال بإذنه‪.‬‬
‫وق د اختل ف الفقه اء ـ هن ا ـ في وج وب االس تئذان لألك ل من ثم ر البس تان‬
‫وشرب لبن الماشية على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال يجوز ألحد أن يحلب ماشية أحد وال أن يأكل من ثمر بس تانه‬
‫إال بإذنه‪ ،‬وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية‪ ،‬لما روي عن عب د هللا بن عم ر أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬ال يحلبن أحد ماش ية ام رئ بغ ير إذن ه‪ ،‬أيحب أح دكم أن ت ؤتى‬
‫مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه‪ ،‬فإنما تخزن لهم ضروع مواش يهم أطعم اتهم‪،‬‬
‫فال يحلبن أحد ماشية أحد إال بإذنه)(‪)5‬‬
‫القول الثاني‪ :‬جواز األكل من ثم ر البس تان‪ ،‬وحلب الماش ية بغ ير اس تئذان‪،‬‬
‫وإن لم يعلم حال صاحبه‪ ،‬وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومن األدل ة‬
‫على ذل ك م ا روي عن س مرة بن جن دب عن الن بي ‪ ‬ق ال‪(:‬إذا أتى أح دكم على‬
‫ماشية‪ ،‬فإن كان فيها صاحبها فليس تأذنه‪ ،‬ف إن أذن ل ه فليحلب وليش رب‪ ،‬إن لم يكن‬
‫فيها فليصوت ثالثا‪ ،‬فإن أجاب فليستأذنه‪ ،‬وإال فليتحلب وليشرب وال يحمل)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(3‬وقد يبذل ذلك الغ ير اإلذن بالتص رف في ملك ه‪ ،‬أو في حق ه ب ادئ ذي ب دء من غ ير اس تئذان‪ ،‬ك أن يق ول‬
‫ألجيره‪ :‬أذنت لك أن تأكل مما تصنعه من مأكوالت دون أن تحمل منه ش يئا‪ ،‬وعندئ ذ فال حاج ة لالس تئذان لحص ول‬
‫مقصوده‪ ،‬وه و اإلذن‪ .‬وق د ال يب ذل اإلذن‪ .‬وعندئ ذ‪ ،‬يجب على من أراد التص رف في مل ك غ يره اس تئذانه في ذل ك‬
‫التصرف‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم وغيرهما‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري ومسلم وغيرهما‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أبو داود والترمذي وصححه‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول األول‪ ،‬وعلى كليهم ا ي دل النص ان‬
‫اللذان استدل بهما الفريقان‪.‬‬
‫أما النص األول فهو مبني على األصل‪ ،‬وهو حرم ة اس تعمال ح ق الغ ير أو‬
‫منفعته من غير إذنه‪ ،‬زي ادة على أن اللبن والفواك ه ونحوه ا م ال‪ ،‬فأكله ا من غ ير‬
‫استئذان صاحبها أو من غير تعويضه بعد استئذانه أكل للمال بالباطل‪.‬‬
‫أما النص الثاني‪ ،‬فهو زيادة على تقريره حق االستئذان وتأكيده ل ه نص على‬
‫حالة خاص ة تبقى محص ورة في ح دودها‪ ،‬وهي ق د ال تق ع إال في البادي ة لش خص‬
‫انقطعت به السبيل‪ ،‬فصار مضطرا‪ ،‬والضرورات تبيح المحظورات(‪.)1‬‬
‫ومع ذلك نص النبي ‪ ‬على مراعاة االستئذان‪ ،‬ولو من باب التعبد‪ ،‬حرص ا‬
‫على عدم استحالل حقوق الغير من غير استئذانهم‪ ،‬ففي الحديث تأكيد لالس تئذان ال‬
‫ترخيص في تركه‪.‬‬
‫استئذان ولي األمر‪:‬‬
‫وينص على هذا اآليات الكثيرة التي تحض على وج وب اس تئذان رس ول هللا‬
‫‪ ،‬فرس ول هللا ‪ ‬ه و ولي أم ر المس لمين األول‪ ،‬وي دخل في طاعت ه ووج وب‬
‫استئذانه وجوب استئذان كل ولي أمر للمسلمين في حدود الطاعة الشرعية‪.‬‬
‫والعلة من ذلك أن لواليات أقيمت رعاية للمصالح وحفاظا عليه ا‪ ،‬واس تئذان‬
‫من له الوالية في حدود واليته أمر ال بد منه ؛ لتستقيم األمور وتحسم الفوضى‪.‬‬
‫ومن الفروع التي ذكرها الفقهاء لهذا الموضع من مواضع االس تئذان أن ه إذا‬
‫غزا األمير بالناس‪ ،‬لم يحل ألحد ممن مع ه أن يخ رج من المعس كر ليحض ر ال زاد‬
‫والعتاد‪ ،‬وال أن يبارز أح دا من الع دو‪ ،‬وال أن يح دث ح دثا إال بإذن ه ؛ ألن األم ير‬
‫أعرف بحال الناس‪ ،‬وحال العدو‪ ،‬ومكامنهم ومواضعهم وقربهم وبعدهم‪ ،‬فإذا خرج‬
‫خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كمينا للع دو أو طليع ة لهم فيأخ ذوه‪ ،‬أو يرح ل‬
‫األمير بالمسلمين ويتركه فيهلك‪.‬‬
‫ويدخل في هذا استئذان التلميذ من أستاذه‪ ،‬والعامل من رئيسه‪ ،‬وهكذا في كل‬
‫المصالح‪.‬‬
‫ولكن هذا مضبوط بما احتمل االستئذان فيه وجوها يحتاج إلى ترجيح أح دها‬
‫من ولي األمر‪ ،‬أما إذا لم يحتمل هذه الوجوه‪ ،‬فإن االستئذان فيه قد يكون حراما‪ ،‬بل‬
‫كبيرة من الكبائر‪.‬‬
‫ولهذا ذم هللا تعالى بعض المستأذنين الذين يستأذنون فيما ال ينبغي االس تئذان‬
‫ص َدقُوا َوتَ ْعلَ َم‬‫في ه‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬عفَ ا هَّللا ُ َع ْن كَ لِ َم أَ ِذ ْنتَ لَهُ ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَ كَ الَّ ِذينَ َ‬
‫ْال َكا ِذبِينَ ﴾ (التوبة‪ ،)43:‬ثم أخبر أن هذا النوع من االستئذان ال يطلبه المؤمنون‪ ،‬قال‬

‫‪ )(1‬من الوجوه التي ذكرها ابن حجر للجمع بين الحديثين‪:‬‬


‫‪ .1‬حمل اإلذن على ما إذا علم طيب نفس صاحبه‪ ،‬والنهي على ما إذا لم يعلم‪.‬‬
‫‪ . 2‬تخصيص اإلذن بابن السبيل دون غيره‪ ،‬أو بالمطر أو بحال المجاعة مطلقا‪ .‬انظر‪ :‬فتح الباري‪.5/89 :‬‬

‫‪220‬‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬ال يَ ْستَأْ ِذنُ َ‬
‫ك الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر أَ ْن ي َُجا ِهدُوا بِ أ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم‬
‫َوهَّللا ُ َعلِي ٌم بِ ْال ُمتَّقِينَ ﴾ (التوبة‪ ،)44:‬وإنما يفعله من خال قلبه من اإليمان‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫ت قُلُ وبُهُ ْم فَهُ ْم فِي َر ْيبِ ِه ْم‬ ‫إِنَّ َم ا يَ ْس تَأْ ِذنُكَ الَّ ِذينَ ال ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر َوارْ تَ ابَ ْ‬
‫يَتَ َر َّد ُدونَ ﴾ (التوبة‪)45:‬‬
‫ولهذا عوقب هؤالء بان ال يصحبوا رسول هللا ‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ ْن َر َج َع كَ‬
‫ُوج فَقُلْ لَ ْن ت َْخ ُر ُج وا َم ِع َي أَبَ داً َولَ ْن تُقَ اتِلُوا َم ِع َي‬ ‫ك لِ ْل ُخر ِ‬ ‫هَّللا ُ إِلَى طَائِفَ ٍة ِم ْنهُ ْم فَا ْستَأْ َذنُو َ‬
‫ضيتُ ْم بِ ْالقُعُو ِد أَ َّو َل َم َّر ٍة فَا ْق ُعدُوا َم َع ْالخَالِفِينَ ﴾ (التوبة‪)83:‬‬ ‫َع ُد ّواً إِنَّ ُك ْم َر ِ‬
‫وهذا النوع من االستئذان يصدق على من يزور لولي األمر ما ال حقيق ة ل ه‪،‬‬
‫من أنواع البهتان ليأخذ بذلك ما ال يحق له أخذه من عطلة أو منفعة ونحوها‪.‬‬
‫استئذان األبوين‪:‬‬
‫وهو يدخل فيما سبق‪ ،‬فاألبوان هما من أولياء أمور اإلنسان‪ ،‬فل ذلك ك ان من‬
‫احترامهما استئذانهما في أي شيء قد يكرهانه‪ ،‬برا بهما‪ ،‬ومراعاة لحقهما‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإنه لو أراد الول د أن يخ رج‪ ،‬لم ا يخ اف علي ه الهالك من ه‪،‬‬
‫كخروجه إلى غزو غير مفروض عليه عين ا‪ ،‬أو أراد الخ روج لم ا ال يخش ى علي ه‬
‫الهالك من ه‪ ،‬ولكن يخش ى عليهم ا الض يعة‪ ،‬كمن أراد الخ روج إلى الحج وأب واه‬
‫معس ران ونفقتهم ا علي ه‪ ،‬وليس عن ده من الم ال م ا يفي بنفق ة الحج ‪ -‬من ال زاد‬
‫والراحلة ‪ -‬ونفقتهما‪ ،‬وكما إذا أراد الخروج لطلب العلم في بلدة أخرى‪ ،‬أو للتجارة‪،‬‬
‫وخاف على والديه الضيعة‪ ،‬فليس له أن يخرج إال بإذنهما‪.‬‬
‫ويدل على هذا من النصوص‪:‬‬
‫‪ .1‬جاء رجل إلى رس ول هللا ‪ ،‬فق ال‪ :‬جئت أبايع ك على الهج رة وت ركت‬
‫أبوي يبكيان‪ ،‬فقال ‪ ‬ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما)(‪)1‬‬
‫‪ .2‬عن عبد هللا بن عمرو ‪ :‬جاء رجل إلى رسول هللا ‪ ،‬فقال ي ا رس ول هللا‬
‫أجاهد؟ فقال‪ :‬ألك أبوان؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬ففيهما فجاهد)‬
‫أم ا إن ك ان العم ل ال ب د ل ه من ه‪ ،‬كافتراض ه علي ه ف رض عين فال يش ترط‬
‫استئذانهما لعمله‪ ،‬كما في حالة الجه اد‪ ،‬إذا هجم الع دو على بل د من بالد المس لمين‪،‬‬
‫فإنه يخرج لدفعه بغير إذن أبيه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ آداب التحية‬
‫تعت بر التحي ة من أهم م ا يوث ق الم ودة بين أف راد المجتم ع‪ ،‬فل ذلك ق ال ‪:‬‬
‫(والذي نفسي بيده‪ ،‬ال تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا وال تؤمن وا ح تى تح ابوا أفال أدلكم‬
‫على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السالم بينكم)(‪)2‬‬
‫بل اعتبر ‪ ‬إفشاء السالم من دالئل خيرية المسلم‪ ،‬فق د روي أن رجال س أل‬
‫رسول هللا ‪:‬أي اإلسالم خير؟ ق ال‪(:‬تطعم الطع ام وتق رأ الس الم على من ع رفت‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود والنسائي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫ومن لم تعرف)(‪)1‬‬
‫َ‬
‫وقد نص على هذا األدب قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِت َِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأحْ َس نَ ِم ْنهَ ا‬
‫أَوْ ُر ُّدوهَا إِ َّن هَّللا َ َكانَ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َح ِسيباً﴾ (النساء‪ ،)86:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ َذا َدخَ ْلتُ ْم‬
‫ار َكةً طَيِّبَةً ﴾ (النور‪)61:‬‬ ‫بُيُوتا ً فَ َسلِّ ُموا َعلَى أَ ْنفُ ِس ُك ْم تَ ِحيَّةً ِم ْن ِع ْن ِد هَّللا ِ ُمبَ َ‬
‫بل أخبر تعالى بأن هذا األدب العظيم هو أدب المؤمنين جميع ا‪ ،‬على أحق اب‬
‫التاريخ‪ ،‬ومهما اختلفت أجناسهم‪ ،‬فقد أخبر تعالى عن دخول المالئك ة على إب راهيم‬
‫‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿ :‬إِ ْذ َدخَ لُوا َعلَ ْي ِه فَقَالُوا َسالما ً قَا َل إِنَّا ِم ْن ُك ْم َو ِجلُونَ ﴾ (الحج ر‪،)52:‬‬
‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬إِ ْذ َدخَ لُوا َعلَ ْي ِه فَقَالُوا َسالما ً قَا َل َسال ٌم قَوْ ٌم ُم ْن َكرُونَ ﴾ (الذريات‪)25:‬‬
‫وقبل ذلك‪ ،‬أخبر ‪ ‬عن تحية آدم ‪ ‬والمالئكة ـ عليهم الس الم ـ ق ال ‪:‬‬
‫(خلق هللا آدم طوله ستون ذراعا‪ ،‬فلما خلقه قال له‪ :‬اذهب فسلم على أولئك النفر من‬
‫المالئكة جلوس فاس تمع م ا يحيون ك ب ه فإنه ا تحيت ك وتحي ة ذريت ك فق ال‪ :‬الس الم‬
‫عليكم‪ ،‬فقالوا‪ :‬السالم عليك ورحمة هللا فزادوه ورحمة هللا)(‪)2‬‬
‫وأخبر تعالى عن تحية المؤمنين في الجنة وما يحييهم به هللا‪ ،‬وما تح ييهم ب ه‬
‫المالئك ة‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿ :‬د ْع َواهُ ْم فِيهَ ا ُس ب َْحانَكَ اللَّهُ َّم َوت َِحيَّتُهُ ْم فِيهَ ا َس ال ٌم َوآ ِخ ُر‬
‫َد ْع َواهُ ْم أَ ِن ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ ﴾ (ي ونس‪ ،)10:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬س ال ٌم َعلَ ْي ُك ْم بِ َم ا‬
‫ار﴾ (الرعد‪ ،)24:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وأُ ْد ِخ َل الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا‬ ‫صبَرْ تُ ْم فَنِ ْع َم ُع ْقبَى ال َّد ِ‬‫َ‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا بِ إِ ْذ ِن َربِّ ِه ْم تَ ِحيَّتُهُ ْم فِيهَ ا‬ ‫ا‬‫َّ‬ ‫ن‬‫ج‬
‫ِ َ ِ َ ٍ‬‫ت‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َّ‬
‫الص‬
‫َسال ٌم﴾ (ابراهيم‪ ،)23:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬تَ ِحيَّتُهُ ْم يَوْ َم يَ ْلقَوْ نَهُ َسال ٌم َوأَ َع َّد لَهُ ْم أَجْ راً َك ِريماً﴾‬
‫(األحزاب‪)44:‬‬
‫انطالقا من هذه النصوص المبين ة لقيم ة التحي ة وأثره ا‪ ،‬ج اءت النص وص‬
‫واألحكام الشرعية الكث يرة ال تي تنف ذ ه ذا األم ر وتحق ق مقاص ده‪ ،‬وس نتناول ه ذه‬
‫األحكام على طريقة الفقهاء في تناول المسائل الفقهية‪ ،‬فال فرق بين أحكام العب ادات‬
‫والمعامالت وهذه األحكام‪.‬‬
‫أ ـ أحكام التحية‬
‫أول التفاصيل ال تي ينبغي على المس لم تعلمه ا نح و ه ذا األدب ه و التع رف‬
‫على تفاصيل األحكام المتعلق ة بإفش اء الس الم‪ ،‬من الب دء بالس الم‪ ،‬ورده‪ ،‬ومن يب دأ‬
‫بالسالم‪ ،‬والسالم عند مفارقة المجلس‪ ،‬كما سنفصله فيما يلي‪:‬‬
‫حكم البدء بالسالم‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم البدء بالسالم على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن االبتداء بالسالم واجب‪ ،‬وهو قول الحنفي ة‪ ،‬وه و رواي ة عن‬
‫أحمد وقول مقابل للمشهور عند المالكية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬قول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ َذا َدخَ ْلتُ ْم بُيُوت ا ً فَ َس لِّ ُموا َعلَى أَ ْنفُ ِس ك ْم تَ ِحيَّة ِم ْن ِعن ِد ِ‬
‫هَّللا‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫ار َكةً طَيِّبَةً ﴾ (النور‪ ،)61:‬وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِت َِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأَحْ َسنَ ِم ْنهَ ا أَوْ‬
‫ُمبَ َ‬
‫ً‬ ‫هَّللا‬
‫ُر ُّدوهَا إِ َّن َ َكانَ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َح ِسيبا﴾ (النساء‪)86:‬‬
‫‪ .2‬قوله ‪(:‬للمسلم على المسلم ست بالمعروف‪ :‬يسلم عليه إذا لقيه‪ ،‬ويجيب ه‬
‫إذا دعاه‪ ،‬ويشمته إذا عطس‪ ،‬ويعوده إذا مرض‪ ،‬ويتب ع جنازت ه ويحب ل ه م ا يحب‬
‫لنفسه)(‪)1‬‬
‫‪ .3‬عن البراء بن عازب قال‪ :‬أمرن ا رس ول هللا ‪ ‬بس بع‪ :‬بعي ادة الم ريض‪،‬‬
‫واتب اع الجن ائز‪ ،‬وتش ميت الع اطس‪ ،‬ونص ر الض عيف‪ ،‬وع ون المظل وم‪ ،‬وإفش اء‬
‫السالم‪ ،‬وإبرار القسم)(‪)2‬‬
‫‪ .4‬قال رسول هللا ‪(:‬ال تدخلون الجنة حتى تؤمنوا وال تؤمنوا حتى تحابوا‪،‬‬
‫أو ال أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السالم بينكم)(‪)3‬‬
‫‪ .5‬قال رسول هللا ‪ ‬يق ول‪(:‬ي ا أيه ا الن اس أفش وا الس الم وأطعم وا الطع ام‬
‫وصلوا األرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسالم)(‪)4‬‬
‫‪ .6‬ق ال رس ول هللا ‪(:‬يج زئ عن الجماع ة إذا م روا أن يس لم أح دهم‪،‬‬
‫ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم)(‪)5‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن السالم سنة مستحبة‪ ،‬وليس بواجب‪ .‬وهو س نة على الكفاي ة‬
‫إن ك ان المس لمون جماع ة بحيث يكفي س الم واح د منهم‪ ،‬ول و س لموا كلهم ك ان‬
‫أفضل‪ ،‬وهو قول المالكية والشافعية والحنابل ة‪ ،‬ومن األدل ة على ذل ك‪ :‬نفس األدل ة‬
‫السابقة حملوها على الندب‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول بناء عى ظاهر ق ول ال براء بن‬
‫عازب قال‪ :‬أمرنا رسول هللا ‪ ‬بسبع‪ :‬بعيادة المريض‪ ،‬واتب اع الجن ائز‪ ،‬وتش ميت‬
‫العاطس‪ ،‬ونصر الضعيف‪ ،‬وعون المظلوم‪ ،‬وإفشاء السالم‪ ،‬وإبرار القسم)(‪ ،)6‬ألن‬
‫األصل في األمر حمله على الوجوب‪.‬‬
‫زيادة على النصوص الدالة على أن هذا من حقوق المسلم على أخي ه‪ ،‬زي ادة‬
‫على أن اإليذاء يتحقق إن مر المسلم على أخيه دون أن يلقي عليه السالم‪.‬‬
‫لكن هذا األمر ـ فيما نرى ـ خاص بمن يعرفه المؤمن‪ ،‬أو دخول ه إلى مح ل‪،‬‬
‫أو ذهابه إلى جماع ة‪ ،‬ونح و ذل ك‪ ،‬ال ع ام لجمي ع الن اس للح رج الش ديد ب التكليف‬
‫بالسالم على كل من يمر به‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد والترمذي وابن ماجة‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الدارمي والترمذي وقال‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أبو داود عن علي‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫ويدل على هذ التفريق بين من يعرف المؤمن أو ال يعرف م ا روي عن عب د‬
‫هللا بن عمرو أن رجال سأل النبي ‪(:‬أي اإلسالم خير؟)‪ ،‬قال‪(:‬تطعم الطعام وتقرأ‬
‫السالم على من عرفت وعلى من لم تعرف)‪ ،‬فقوله‪(:‬أي اإلس الم خ ير؟) دلي ل على‬
‫أن هذا من المستحبات ال من الواجبات‪.‬‬
‫وق د نص الم اوردي على أن ه إذا مش ى في الس وق أو الش وارع المطروق ة‬
‫كثيرا ونحو ذلك مما يكثر فيه المتالقون أن السالم هنا إنما يكون لبعض الناس دون‬
‫بعض‪ ،‬ألن ه ل و س لم على ك ل من لقي لتش اغل ب ه عن ك ل منهم‪ ،‬ولخ رج ب ه عن‬
‫العرف‪.‬‬
‫ومن العلل التي قد يعتل بها البعض هنا خش ية أن ال ي رد علي ه النش غال من‬
‫ألقي عليهالسالم أو تكبره‪ ،‬وقد رد النووي على هذه العلة بقوله‪(:‬إذا م ّر على واح د‬
‫وغلب على ظنه أنه إذا سلَّم ال ير ّد علي ه‪ ،‬إم ا لتكبّ ر المم رور علي ه‪ ،‬وإم ا‬ ‫َ‬ ‫أو أكثر‬
‫إن‬‫الظن‪ ،‬ف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِإلهماله الما ّر أو السالم‪ ،‬وإما لغير ذلك‪ ،‬فينبغي أن يُسلِّم وال يتركه له ذا‬
‫السال َم مأمو ٌر به‪ ،‬والذي أُ ِم َر به الما ّر أن يُس لّم ولم ي ؤمر ب أن يحص ل ال ر ّد م ع أن‬
‫الظن فيه وير ّد)‬
‫ّ‬ ‫الممرور عليه قد يُخطىء‬
‫ورد على من قال بغير ذلك بقول ه‪(:‬وأم ا ق ول َمن ال تحقي ق عن ده‪ :‬إن س ال َم‬
‫ق الممرور عليه فه و جهال ة ظ اهرة وغب اوة بيِّن ة‪،‬‬ ‫الما ّر سبب لحصول ا ِإلثم في ح ّ‬
‫فإن المأمورات الشرعية ال تسقط عن المأمور بها بمثل هذه الخي االت‪ ،‬ول و نظرن ا‬
‫إلى هذا الخيال الفاسد لتركنا إنكار المنكر على َمن فعله جاهالً كونه منك راً‪ ،‬وغلب‬
‫على ظننا أنه ال ينزجر بقولنا‪ ،‬فإن إنكارنا عليه وتعريفنا له قبحه يكون س ببا ً ِإلثم ه‬
‫اإلنك ار بمث ل ه ذا‪ ،‬ونظ ائر ه ذا كث يرة‬ ‫ك في أنُّا ال ن ترك ِ‬ ‫إذا لم يقل ع عن ه‪ ،‬وال ش ّ‬
‫معروفة)‬
‫وهو يرى في نفس الوقت أنه يُس تحبّ لمن س لّم على إنس ان وأس معه س المه‬
‫وتوجّه عليه الر ّد بشروطه فلم يرد؛ أن يحلِّل ه من ذل ك فيق ول‪(:‬أبرأت ه من حقّي في‬
‫ق ه ذا‬ ‫ر ّد السالم)‪ ،‬أو جعلتُه في ِح ٍّل منه ونحو ذلك‪ ،‬ويلفظ بهذا‪ ،‬فإن ه يس قط ب ه ح ّ‬
‫اآلدمي‪.‬‬
‫ولسنا ندري ما الذي استدل به على هذا الن وع من االس تحالل‪ ،‬ألن ه إن ك ان‬
‫ترك من ترك الرد بسبب الكبر‪ ،‬ف إن االس تحالل ال يج دي مع ه ش يئا‪ ،‬واالثم واق ع‬
‫عليه ال محالة‪.‬‬
‫وإن كان تركه تشاغال بأمر مهم شرعي‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬أو بسبب عدم س ماعه‪،‬‬
‫فال حاجة لالستحالل كذلك‪ ،‬ألنه ال إثم عليه‪ ،‬حتى يستحل له‪.‬‬
‫وال نرى سبا غير هذين السببين‪.‬‬
‫حكم رد السالم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اتفق الفقهاء على أن رد السالم واجب‪ ،‬بدليل قوله تع الى‪َ ﴿ :‬وإِذا ُحيِّيت ْم بِت َِحيَّ ٍة‬
‫فَ َحيُّوا بِأَحْ َسنَ ِم ْنهَا أَوْ ُر ُّدوهَا إِ َّن هَّللا َ َكانَ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َح ِس يباً﴾ (النس اء‪ ،)86:‬فق د‬
‫أمر هللا تعالى برد التحية‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫واتفقوا على أنه إن ك ان المس لم علي ه واح دا تعين علي ه ال رد‪ ،‬أم ا إن ك انوا‬
‫جماعة‪ ،‬فقد اختلف وا في ن وع وج وب ال رد‪ ،‬ه ل ه و واجب عي ني على ك ل واح د‬
‫منهم‪ ،‬أو هو فرض كفاية عليهم‪ ،‬على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬هو ف رض كفاي ة عليهم‪ ،‬ف إن رد واح د منهم س قط الح رج عن‬
‫الب اقين‪ ،‬وإن ترك وه كلهم أثم وا كلهم‪ ،‬وإن ردوا كلهم فه و النهاي ة في الكم ال‬
‫والفض يلة‪ ،‬فل و رد غ يرهم لم يس قط ال رد عنهم‪ ،‬ب ل يجب عليهم أن ي ردوا‪ ،‬ف إن‬
‫اقتصروا على رد ذلك األجنبي أثموا‪ ،‬وهو قول مال ك والش افعي‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أن النبي ‪ ‬قال‪(:‬يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أح دهم‪ ،‬ويج زئ‬
‫عن الجلوس أن يرد أحدهم)(‪ ،)1‬وهذا نص في موضع الخالف‪.‬‬
‫‪ .2‬أن رسول هللا ‪‬قال‪( :‬يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم‬
‫أجزأ عنهم)(‪ ،)2‬وهذا يدل على أن الواحد يكفي في ال رد؛ ألن ه ال يق ال أج زأ عنهم‬
‫إال فيما قد وجب‪.‬‬
‫‪ .3‬ما أجمعوا عليه من أن الواحد يسلم على الجماعة وال يحت اج إلى تكري ره‬
‫على عداد الجماعة‪ ،‬كذلك ي رد الواح د عن الجماع ة وين وب عن الب اقين كف روض‬
‫الكفاية‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬رد السالم من الفروض المتعينة‪ ،‬وهو قول الكوفيين‪ ،‬حتى قال‬
‫قتادة والحس ن‪ :‬إن المص لي ي رد الس الم كالم ا إذا س لم علي ه وال يقط ع ذل ك علي ه‬
‫صالته؛ ألنه فع ل م ا أم ر ب ه‪ ،‬ومن األدل ة على ذل ك أن الس الم خالف ال رد؛ ألن‬
‫االبت داء ب ه تط وع ورده فريض ة‪ ،‬ول و رد غ ير المس لم عليهم لم يس قط ذل ك عنهم‬
‫فرض الرد‪ ،‬فدل على أن رد السالم يلزم كل إنسان بعينه‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن الرجح في المسألة هو القول األول‪ ،‬ال لما ورد فيه من الحديث‪ ،‬فق د‬
‫تكلم فيه‪ ،‬وإنما لتناسب هذا مع مقاصد الشرع من رفع الحرج في مثل هذه األم ور‪،‬‬
‫زيادة على أن المسلم يرفع عنه األذى رد بعض من يسلم عليه‪.‬‬
‫من يبدأ بالسالم‪:‬‬
‫اتف ق الفقه اء على أن ال راكب يس لم على الماش ي‪ ،‬والماش ي على القاع د‪،‬‬
‫والقليل على الكثير‪ ،‬والصغير على الكبير‪.‬‬
‫وذلك لما ورد في الحديث من قوله ‪(:‬يسلم الراكب على الماش ي والماش ي‬
‫على القاعد والقليل على الكثير)(‪ ،)3‬وفي رواية زيادة (الصغير على الكبير)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مالك‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫ويج وز أن يخ الف ذل ك من غ ير كراه ة‪ ،‬فيس لم الماش ي على ال راكب‪ ،‬أو‬
‫الجالس عليهما‪ ،‬والكثير على القليل‪ ،‬والكبير على الص غير‪ ،‬ابت داء‪ ،‬وذل ك ألن من‬
‫سن لهما البدء قد يغفل‪ ،‬فيسبقه اآلخر بالسالم‪.‬‬
‫وإنما ذكر رسول هللا ‪ ‬ما ذكر من باب تنظيم آداب العالق ات االجتماعي ة‪،‬‬
‫حتى يعرف كل واحد ما ينبغي أن يفعله‪.‬‬
‫وقد نص الفقهاء على أن هذا خاص فيما لو تالقى االثنان في طري ق‪ ،‬أم ا إذا‬
‫ورد على قعود أو قاعد‪ ،‬فإن الوارد يبدأ بالسالم على كل حال‪ ،‬س واء ك ان ص غيرا‬
‫أو كان كبيرا‪ ،‬قليال أو كثيرا‪.‬‬
‫وق د نص الفقه اء على كراه ة تخص يص طائف ة بالس الم دون غ يرهم؛ ألن‬
‫القصد من السالم المؤانسة واأللفة‪ ،‬وفي تخصيص البعض إيح اش للب اقين‪ ،‬وربم ا‬
‫صار سببا للعداوة‪ ،‬وهذه العلة قد ال يكتفى فيها بمجرد الكراهة‪ ،‬فإذية المس لم ح رام‬
‫يعرفه أو ال يعرفه‪.‬‬
‫السالم عند مفارقة المجلس‪:‬‬
‫كما يكون السالم في بداية اللقاء‪ ،‬فإنه يكون عن د إرادة التف رق‪ ،‬ق ال ‪(:‬إذا‬
‫انتهى أح دكم إلى مجلس فليس لم‪ ،‬ف إن ب دا ل ه أن يجلس فليجلس‪ ،‬ثم إذا ق ام فليس لم‪،‬‬
‫فليست األولى بأحق من اآلخرة)(‪)1‬‬
‫بل ورد ما هو أكبر من ذلك‪ ،‬فقد قال ‪(:‬إذا لقي أحدكم أخ اه فليس لم علي ه‪،‬‬
‫فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر‪ ،‬ثم لقيه‪ ،‬فليسلم عليه)(‪)2‬‬
‫وق د ك ان ه ذا ه دي الص حابة‪ ،‬ق ال أنس ‪(:‬ك ان أص حاب رس ول هللا ‪‬‬
‫يتماش ون‪ ،‬ف إذا اس تقبلتهم ش جرةٌ أو أكم ةٌ‪ ،‬تفرق وا يمين ا ً وش ماالً‪ ،‬وإذا التق وا من‬
‫بعض)‪ ،‬وعن نافع قال‪ :‬كنت أساير رجال من فقهاء الشام‬ ‫ٍ‬ ‫ورائها‪ ،‬سلم بعضهم على‬
‫يقال له عبدهللا بن زكريا فحبستني دابتي تبول‪ ،‬ثم أدركته ولم أس لم علي ه؛ فق ال‪ :‬أال‬
‫تسلم؟ فقلت‪ :‬إنما كنت معك آنفا؛ فقال‪ :‬وإن صح؛ لقد ك ان أص حاب رس ول هللا ‪‬‬
‫يتسايرون فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض‪.‬‬
‫ب ـ من يلقى عليه السالم‬
‫وهو الركن الثاني من األركان التي ينبغي تعلمها من مسائل التحية‪ ،‬فقد يلقى‬
‫السالم في غير المواضع التي أمر فيها بالسالم‪ ،‬وقد يك ون في ذل ك إح راج للمس لم‬
‫عليه‪ ،‬فلذلك تحتاج هذه المسائل إلى هذا الضبط الشرعي‪:‬‬
‫السالم على المنشغل‪:‬‬
‫وهو من انشغل بوظيفة من الوظائف التي تمنعه من إجابة الس الم‪ ،‬أو يك ون‬
‫في إجابته انصراف عما هو بشأنه‪ ،‬ومن األمثلة التي ذكرها الفقهاء لهذا‪:‬‬
‫الس الم على الم ؤذن والمقيم‪ :‬نص أك ثر الفقه اء على كراه ة الس الم على‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم ‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود وابن ماجة والبيهقي ‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫المشتغل ب اآلذان واإلقام ة‪ ،‬ألن الفص ل بين جم ل األذان مكروه ة‪ ،‬ول و ك ان ذل ك‬
‫الفصل إشارة كما ذهب إلى ذل ك المالكي ة‪ ،‬خالف ا للش افعية‪ ،‬فق د نص وا على أن ل ه‬
‫الرد باإلشارة‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنه ال يسن السالم على من ي ؤذن أو يقيم‪ ،‬وال يجب علي ه‬
‫الرد‪ ،‬بل يجوز بالكالم وال يبطل األذان أو اإلقامة‪.‬‬
‫ومن هذا الباب نصوا على أنه يكره السالم على المل بي بحج أو عم رة لنفس‬
‫العلة‪.‬‬
‫السالم على المصلي ورده السالم‪ :‬ويختلف حكم ذلك بحسب إلقاء الس الم أو‬
‫رده‪ ،‬كما يلي‪:‬‬
‫إلق اء الس الم على المص لي‪ :‬اختل ف الفقه اء في حكم الس الم على المنش غل‬
‫بالصالة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬السالم على المصلي سنة‪ ،‬وهو قول المالكي ة‪ ،‬بن اء على ق ولهم‬
‫في حكم السالم‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬السالم على المصلي جائز‪ ،‬وهو قول عن د الحنابل ة‪ ،‬فق د س ئل‬
‫أحمد عن الرجل يدخل على القوم وهم يصلون أيسلم عليهم؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو أن للمصلي من الشغل بصالته ما يمنع ه من‬
‫االنشغال بالسالم‪ ،‬فلذلك نرى كراهة السالم عليه‪ ،‬ألنه في أق ل أحوال ه ق د يخرج ه‬
‫عما هو فيه من االنشغال بالصالة‪.‬‬
‫رد السالم من المصلي‪ :‬اختلف الفقهاء في حكم رد السالم من المص لي على‬
‫أقوال مختلفة قد يجمعها هذا القوالن‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬أن ال ي رد الس الم بلس انه ؛ ألن ه كالم‪ ،‬وال بي ده ؛ ألن ه س الم‬
‫معنى‪ ،‬حتى لو صافح بنية التسليم تفسد صالته‪ ،‬وهو ق ول الحنفي ة‪ ،‬وق د ذك روا أن‬
‫رد المصلي السالم باإلشارة مكروه وبالمصافحة مفسد(‪.)1‬‬
‫وقريب منه قول الشافعية‪ ،‬فقد قالوا بعدم وجوب ال رد علي ه‪ ،‬ومثلهم الحنابل ة‬
‫فقد ذهبوا إلى أن رد المصلي السالم بالكالم عم دا يبط ل الص الة‪ ،‬أم ا رد المص لي‬
‫السالم باإلشارة فهو مشروع عندهم‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن المصلي ال يرد السالم باللفظ‪ ،‬فإن رد عمدا أو جهال بط ل‪،‬‬
‫ورده باللفظ سهوا يقتضي سجود الس هو‪ ،‬ب ل يجب علي ه أن ي رد الس الم باإلش ارة‪،‬‬
‫وهو قول المالكية‪ ،‬بل ذهبوا إلى أنه يجوز ابتداء المصلي السالم على غ يره‪ ،‬وه و‬
‫في الصالة باإلشارة بيد أو رأس‪ ،‬وال يلزمه السجود لذلك‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬

‫‪ )(1‬وقد نصوا على أن المصلي ال يلزمه رد السالم لفظا بعد الفراغ من الص الة‪ ،‬ب ل ي رد في نفس ه في رواي ة‬
‫عن أبي حنيفة‪ .‬في رواية أخرى عنه أنه يرد بعد الفراغ‪ ،‬إال أن أبا جعفر قال‪ :‬تأويله إذا لم يعلم أنه في الصالة‪ .‬وعند‬
‫محمد يرد بعد الفراغ‪ ،‬وعن أبي يوسف ال يرد‪ ،‬ال قبل الفراغ وال بعده في نفسه‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫نرى أن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة بناء على تعارض فرضين‪ :‬الص الة‬
‫والسالم‪ ،‬ف ذهب بعض هم إلى الجم ع بينهم ا كم ا نص المالكي ة‪ ،‬وذهب البعض إلى‬
‫تقديم فرض الصالة‪.‬‬
‫ونرى تقديم فرض الصالة ـ هنا ـ ألن لكل وقت عبادت ه الخاص ة ب ه‪ ،‬وال رد‬
‫باإلشارة شاغل عن الصالة‪ ،‬فلذلك ن رى األولى ع دم فعل ه إال إذا اض طر إلى ذل ك‬
‫اضطرارا‪.‬‬
‫الس الم على المنش غل ب القراءة وال ذكر‪ :‬نص الفقه اء على أن األولى ت رك‬
‫السالم على المنشغل بقراءة الق رآن‪ ،‬ف إن س لم كف اه ال رد باإلش ارة‪ ،‬وإن رد باللف ظ‬
‫استأنف االستعاذة ثم يقرأ(‪.)1‬‬
‫ومثل ذلك السالم على المنشغل بالذكر من دعاء وتدبر ونحوه‪ ،‬ألنه كالس الم‬
‫على المنشغل بالقراءة‪ ،‬بل إن األظهر ـ كم ا ذك ر الن ووي ـ أن ه إن ك ان مس تغرقا‬
‫بالدعاء مجمع القلب عليه فالسالم عليه مكروه‪ ،‬للمشقة التي تلحقه من ال رد‪ ،‬وال تي‬
‫تقطعه عن االستغراق بالدعاء‪ ،‬وهي أكثر من المشقة التي تلحق اآلكل إذا سلم عليه‬
‫ورد في حال أكله‪.‬‬
‫أم ا الس الم في ح ال خطب ة الجمع ة فيك ره االبت داء ب ه ألنهم م أمورون‬
‫باإلنصات للخطبة‪ ،‬فإن سلم لم يردوا عليه لتقصيره‪ ،‬وقيل‪ :‬إن كان اإلنصات واجبا‬
‫لم يرد عليه‪ ،‬وإن كان سنة رد عليه‪ ،‬وال يرد عليه أكثر من واحد على كل وجه‪.‬‬
‫الس الم على المنش غل باألك ل‪ :‬نص الفقه اء على أن ه ال يس لم على من ك ان‬
‫منشغال باألكل واللقمة في فمه‪ ،‬فإن سلم لم يستحق الج واب‪ ،‬أم ا إذا س لم علي ه بع د‬
‫البلع أو قبل وضع اللقمة في فمه فال يتوجه المن ع ويجب الج واب‪ ،‬ويس لم في ح ال‬
‫البيع وسائر المعامالت ويجب الجواب‪.‬‬
‫الس الم على قاض ي الحاج ة‪ :‬ومثل ه من ك ان م ع أهل ه أو في في الحم ام أو‬
‫والنائم أو والغائب خلف جدار‪ ،‬وقد نص الفقه اء على كراه ة التس ليم على ه ؤالء‪،‬‬
‫ف إذا س لم عليهم لم يس تحق الج واب‪ ،‬أم ا حكم ال رد منهم فه و الكراه ة من قاض ي‬
‫الحاجة والمجامع‪ ،‬وأما من في الحمام فيستحب له الرد‪.‬‬
‫السالم على الصبي‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على مش روعية الس الم على الص بيان‪ ،‬واختلف وا في م دى ه ذه‬
‫المش روعية‪ ،‬فنص الحنفي ة على أن الس الم على الص بي أفض ل من ترك ه‪ ،‬وذهب‬
‫المالكية إلى أنه مشروع‪ ،‬وذكر الشافعية والحنابلة أنه سنة‪.‬‬
‫ومما يدل على ذلك من النص وص م ا روي عن أنس أن ه م ر على ص بيان‪،‬‬
‫فسلم عليهم‪ ،‬وقال‪ :‬كان النبي ‪ ‬يفعله(‪.)2‬‬
‫واتفقوا على أن ج واب الس الم من الص بي غ ير واجب ؛ لع دم تكليف ه‪ ،‬وق د‬

‫‪ )(1‬واختار النووي أنه يسلم عليه‪ ،‬ويجب عليه الرد لفظا‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫سبق في مواضع كثيرة ذكر أدلة ذلك‪.‬‬
‫واختلفوا فيما لو أجاب صبي السالم بدل الجماعة‪ ،‬هل يسقط رد السالم ب رده‬
‫عن الباقين أم ال على‬
‫القول األول‪ :‬يس قط رد الس الم ب رده عن الب اقين إن ك ان ع اقال‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الحنفية ؛ وهو قول األجهوري من المالكية والشاشي من الشافعية‪ ،‬ومن األدل ة على‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬أنه من أهل الفرض في الجمل ة‪ ،‬ب دليل ح ل ذبيحت ه م ع أن التس مية فيه ا‬
‫فرض عندهم‪.‬‬
‫‪ .2‬القياس على أذانه للرجال‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬عدم سقوط فرض رد السالم عن الجماع ة ب رد الص بي‪ ،‬وه و‬
‫األصح عند الشافعية‪ ،‬وبه قطع القاضي والمتولي من الشافعية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو التورع في المس ألة‪ ،‬وإن ك ان الظ اهر ه و‬
‫صحة االكتفاء بسالمه خاصة إن كان مميزا عاقال‪،‬كما ذهب إلى ذلك الحنفية‪.‬‬
‫أما من حيث األدل ة‪ ،‬فهي متكافئ ة في ه ذه المس ألة‪ ،‬ذل ك م ا جع ل ص احب‬
‫الفواكه الدواني من المالكية يقول‪(:‬ولنا في ه وقف ة ؛ ألن ال رد ف رض على الب الغين‪،‬‬
‫ورد الصبي غير فرض عليه فكيف يكفي عن الفرض الواجب على المكلفين؟ فلع ل‬
‫األظهر عدم االكتفاء برده عن البالغين)(‪)1‬‬
‫السالم على النساء‪:‬‬
‫اتفق الفقهاء على أن سالم المرأة على المرأة له نفس حكم س الم الرج ل على‬
‫الرجل‪ ،‬ورد السالم من المرأة على مثلها كالرد من الرجل على سالم الرجل‪.‬‬
‫أما سالم الرجل على المرأة ؛ فيختلف بحسب عالقتها بها‪ ،‬وكونها محل فتنة‬
‫أو ال‪ ،‬كما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إن ك انت تل ك الم رأة زوج ة أو من المح ارم فس المه عليه ا س نة‪ ،‬ورد‬
‫السالم منها عليه واجب‪ ،‬بل يسن أن يسلم الرجل على أهل بيته ومحارمه‪،‬‬
‫‪ 2‬ـ إن كانت تلك المرأة أجنبي ة‪ ،‬ف إن ك انت عج وزا أو ام رأة ال تش تهى‪ ،‬أو‬
‫أمن الفتنة فالسالم عليها س نة‪ ،‬ورد الس الم منه ا على من س لم عليه ا لفظ ا واجب‪،‬‬
‫ومما يدل على ذلك ما روي عن س هل بن س عد ق ال‪(:‬ك انت لن ا عج وز ترس ل إلي‬
‫بضاعة نخل بالمدينة فتأخذ من أصول السلق فتطرح ه في ق در‪ ،‬وتكركر(‪ )2‬حب ات‬
‫من شعير‪ ،‬فإذا صلينا الجمعة انصرفنا ونسلم عليها فتقدمه إلينا)(‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ ومثل ذلك سالم الرجل على جماع ة النس اء‪ ،‬ب دليل م ا روي عن أس ماء‬

‫‪ )(1‬الفواكه الدواني‪.2/323 :‬‬


‫‪ )(2‬تكركر أي‪ :‬تطحن‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫علينا)(‪)1‬‬ ‫بنت يزيد قالت‪(:‬مر علينا رسول هللا ‪ ‬في نسوة فسلم‬
‫‪ 4‬ـ أما إن كانت تلك المرأة شابة يخشى االفتتان به ا‪ ،‬أو يخش ى افتتانه ا هي‬
‫أيضا بمن سلم عليها فقد اختلف الفقهاء ف ذلك على قولين‪:‬‬
‫الق ول األول‪ :‬كراه ة الس الم عليه ا وج واب الس الم‪ ،‬وه و ق ول المالكي ة‬
‫والشافعية والحنابلة‪ ،‬وقريب منه قول الحنفية‪ ،‬فقد نص وا على أن الرج ل ي رد على‬
‫سالم المرأة في نفسه إن س لمت هي علي ه‪ ،‬وت رد هي أيض ا في نفس ها إن س لم ه و‬
‫عليها‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬حرمة ردها عليه‪ ،‬وهو قول الشافعية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو ترك السالم عند خشية الفتن ة‪ ،‬ولكن ه إذا م ا‬
‫سلمت عليه يرد السالم جهرا‪ ،‬ح تى ال يحص ل في ذل ك أي ح رج على من س لمت‬
‫عليه‪ ،‬خاصة إن كان ممن يقتدى به‪ ،‬ألن تركه الرد قد يكون في ه من الفتن ة م ا ه و‬
‫أخطر من الفتنة التي خشي منها‪.‬‬
‫السالم على الفساق‪:‬‬
‫نص أكثر الفقهاء على كراهة السالم على من يجاهر بالفسق أو البدعة ردعا‬
‫له وتحذيرا من فسوقه‪ ،‬ومن النصوص الدالة على ذل ك م ا ورد في قص ة كعب بن‬
‫مالك حين تخلف عن غزوة تبوك ه و ورفيق ان ل ه فق ال‪ :‬ونهى رس ول هللا ‪ ‬عن‬
‫كالمنا‪ ،‬قال‪ :‬وكنت آتي رسول هللا ‪ ،‬فأس لم علي ه ف أقول‪(:‬ه ل ح رك ش فتيه ب رد‬
‫السالم أم ال؟)(‪)2‬‬
‫وروي عن عبد هللا بن عمرو قال‪(:‬ال تسلموا على شراب الخمر)(‪)3‬‬
‫ونرى أن هذا الحكم ال ينبغي أن يكون مطلقا‪ ،‬فقد يكون في إلقاء السالم عليه‬
‫تألفيا لقلبه أو دفعا لشره‪ ،‬وق د روي عن عائش ة ق الت ج اء مخرم ة بن نوف ل فلم ا‬
‫سمع رسول هللا ‪ ‬صوته قال‪ :‬بئس أخو العشيرة‪ ،‬فلم ا دخ ل أدن اه وبش ب ه ح تى‬
‫خرج‪ ،‬فلما خرج قلت‪ :‬ي ا رس ول هللا قلت ل ه وه و على الب اب‪ :‬م ا قلت فلم ا دخ ل‬
‫بششت به حتى خرج؟ قال‪ :‬أعهدتني فحاشا؟ إن شر الناس من يتقى شره(‪.)4‬‬
‫وق د نص على ه ذا االعتب ار الن ووي‪ ،‬فق ال‪(:‬ف إن اض طر إلى الس الم على‬
‫الظلمة‪ ،‬بأن دخل عليهم وخاف ترتب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلم‬
‫سلم عليهم)‬
‫وذكر عن أبي بكر بن العربي أنه يسلم وينوي أن الس الم اس م من أس ماء هللا‬
‫تعالى‪ ،‬فيكون المعنى هللا عليكم رقيب‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري في األدب المفرد‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن عساكر‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫وقال أبو داود‪ :‬قلت ألحمد‪ :‬أمر بالقوم يتقاذفون أسلم عليهم؟ قال ه ؤالء ق وم‬
‫سفهاء‪ ،‬والسالم اسم من أسماء هللا تع الى‪ ،‬قلت ألحم د‪ :‬أس لم على المخنث؟ ق ال ال‬
‫أدري السالم اسم من أسماء هللا عز جل‪.‬‬
‫السالم على الكفار غير المحاربين‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم السالم على الكفار من غ ير المح اربين على األق وال‬
‫التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬كراهة السالم عليهم‪ ،‬وه و م ذهب أك ثر الفقه اء‪ ،‬على اختالف‬
‫منهم في بعض الفروع‪ ،‬فنص الحنفية على أن السالم على أه ل الذم ة مك روه‪ ،‬وال‬
‫بأس أن يسلم على الذمي إن كانت له عنده حاجة ؛ ألن السالم حينئ ذ ألج ل الحاج ة‬
‫ال لتعظيمه‪ ،‬ويجوز أن يقول‪ :‬السالم على من اتب ع اله دى‪ ،‬ونص المالكي ة على أن‬
‫ابتداء اليهود والنصارى وسائر ف رق الض الل بالس الم مك روه ؛ ألن الس الم تحي ة‬
‫والكافر ليس من أهلها‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬ما ما ورد من النهي عن تعظيمهم‪.‬‬
‫‪ .2‬قوله ‪(:‬ال تب دءوا اليه ود وال النص ارى بالس الم‪ ،‬ف إذا لقيتم أح دهم في‬
‫طريق فاضطروه إلى أضيقه)‬
‫القول الثاني‪ :‬يحرم ب داءة ال ذمي بالس الم‪ ،‬ول ه أن يحيي ه بغ ير الس الم ب أن‬
‫يقول‪ :‬هداك هللا أو أنعم هللا صباحك إن كانت له عنده حاج ة‪ ،‬وإال فال يبتدئ ه بش يء‬
‫من اإلك رام أص ال ؛ وه و ق ول أك ثر الش افعية‪ ،‬ق ال الن ووي في األذك ار‪(:‬اختل ف‬
‫أص حابنا في أه ل الذم ة‪ ،‬فقط ع األك ثرون بأن ه ال يج وز ابت داؤهم بالس الم‪ ،‬وق ال‬
‫آخرون ليس هو بحرام بل هو مكروه)‬
‫وقريب من هذا قول الحنابلة‪ ،‬فقد نصوا على أن بداءة أه ل الذم ة بالس الم ال‬
‫تجوز بلفظ السالم أو بغيره‪ ،‬قال أبو داود‪ :‬قلت ألبي عبد هللا‪ :‬تكره أن يقول الرج ل‬
‫للذمي كيف أص بحت؟ أو كي ف حال ك؟ أو كي ف أنت؟ أو نح و ه ذا؟ ق ال‪ :‬نعم ه ذا‬
‫عندي أكثر من السالم‪.‬‬
‫واستدلوا على ذلك ب أن في ذل ك بس ط ل ه وإين اس وإظه ار ود‪ ،‬وق د ق ال هللا‬
‫تع الى‪﴿ :‬ال تَ ِج ُد قَوْ م ا ً ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر يُ َوا ُّدونَ َم ْن َح ا َّد هَّللا َ َو َر ُس ولَهُ ﴾‬
‫(المجادلة‪)22:‬‬
‫القول الث الث‪ :‬أنه يج وز ابت داؤه بالس الم‪ ،‬ولكن يقتص ر المس لم على قول ه‪:‬‬
‫السالم عليك وال يذكره بلفظ الجم ع‪ ،‬وق د حك اه الم اوردي وجه ا لبعض الش افعية‪،‬‬
‫ووصفه النووي بأنه شاذ‪ ،‬وذكر الحنفية أنه لو قال للذمي‪(:‬أطال هللا بقاءك جاز) إن‬
‫نوى أنه يطيله ليسلم أو ليؤدي الجزية ألنه دعاء باإلسالم وإال فال يجوز‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو تحيتهم بما يحيون به أنفسهم من غ ير تحي ة‬
‫اإلسالم‪ ،‬من باب تأليف قلوبهم على اإلسالم‪ ،‬ويمكن أن يسلم عليهم باألسلوب الذي‬
‫سلم به رسول هللا ‪(:‬السالم على من اتبع الهدى) إال إذا كان في ذل ك إذي ة لهم أو‬

‫‪231‬‬
‫حرجا‪ ،‬فيتركه إلى التحيات التي يتعارفونها فيما بينهم بشرط أن ال تكون مما يحمل‬
‫طابعا دينيا يخصهم‪.‬‬
‫أم ا الح ديث ال ذي ذك ره أص حاب الق ول األول‪ ،‬فال ن رى عموم ه ك ل أه ل‬
‫الذمة‪ ،‬بل قد يكون خاصا بمن يؤثر في إصالحهم مثل ذلك األسلوب‪.‬‬
‫ويدل على هذا أن أسلوب الرس ول ‪ ‬م ع أه ل الكت اب‪ ،‬ب ل م ع المش ركين‬
‫أنفس هم‪ ،‬فق د ك ان يختل ف عن ه ذا اختالف ا ش ديدا‪ ،‬بحيث ك ان يؤل ف قل وبهم بك ل‬
‫أساليب التأليف‪.‬‬
‫حكم االستقالة من السالم‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم االستقالة‪ ،‬وهي أن يقول للك افر ال ذي س لم علي ه‪(:‬رد‬
‫سالمي الذي سلمته عليك ؛ ألني لو علمت أنك كافر ما سلمت عليك) على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يستحب إن سلم على من يظنه مسلما فبان ذمي ا أن يس تقيله ب أن‬
‫يقول له‪ :‬رد سالمي الذي سلمته عليك‪ ،‬وهو قول الشافعية والحنابلة‪ ،‬لم ا روي عن‬
‫ابن عمر أنه مر على رجل فسلم عليه فقيل‪ :‬إنه كافر فقال‪ :‬رد علي ما سلمت عليك‬
‫فرد عليه‪ ،‬فقال أكثر هللا مالك وولدك‪ ،‬ثم التفت إلى أصحابه فقال‪ :‬أكثر للجزية‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يستقيله‪ ،‬وهو قول المالكية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول الث اني‪ ،‬أم ا فع ل ابن عم ر‪ ،‬فال يمث ل‬
‫سماحة الشريعة‪ ،‬بل هو يخالف ما أمرنا به من تأليف قلوب غير المسلمين‪.‬‬
‫رد السالم على الكفار‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في حكم رد السالم على الكفار على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬ال بأس به‪ ،‬وهو قول الحنفية‪ ،‬وهو جائز أيضا عند المالكية وال‬
‫يجب إال إذا تحقق المسلم من لفظ السالم من الذمي‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬هو واجب‪ ،‬وهو قول الش افعية والحنابل ة‪ ،‬وق د نق ل النف راوي‬
‫عن األجهوري قوله‪(:‬إن تحقق المسلم أن الذمي نطق بالسالم بفتح السين‪ ،‬فالظ اهر‬
‫أنه يجب الرد عليه ؛ الحتمال أن يقصد به الدعاء)‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث اني ألم ر هللا تع الى ب رد التحي ة‬
‫مطلقا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِت َِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأَحْ َسنَ ِم ْنهَ ا أَوْ ُر ُّدوهَ ا إِ َّن هَّللا َ َك انَ‬
‫َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َح ِسيباً﴾ (النساء‪ ،)86:‬وقد قال ابن عب اس ‪(:‬من س لّم علي ك من خل ق‬
‫هّللا فاردد عليه‪ ،‬وإن كان مجوسيا ً ذلك بأن هّللا يقول‪ ،‬وذكر اآلية السابقة)(‪)1‬‬
‫كيفية الرد على سالم الكفار‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في كيفية الرد على من سلم من الكفار على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يقتصر في الرد على قوله‪ :‬وعليكم‪ ،‬بالواو والجم ع‪ ،‬أو وعلي ك‬

‫‪ )(1‬رواه ابن ابي حاتم‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫بالواو دون الجمع‪ ،‬وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة‪ ،‬ومن األدلة على ذلك‪:‬‬
‫‪ .1‬عن أنس ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪(:‬إذا س لم عليكم أه ل الكت اب فقول وا‬
‫عليكم(‪)2()1‬‬
‫‪ .2‬عن ابن عم ر أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪(:‬إذا س لم عليكم اليه ود فإنم ا يق ول‬
‫أحدهم‪ :‬السام عليكم فقل وعليك)(‪)3‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يقول في الرد‪ :‬عليك‪ ،‬بغير واو باإلفراد أو الجم ع‪ ،‬وه و ق ول‬
‫المالكية‪ ،‬ومن األدلة على ذلك ما روي عن ابن عم ر ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪(:‬إن‬
‫اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل عليك)‪ ،‬وفي رواي ة أخ رى ل ه‬
‫قال‪(:‬عليكم) بالجمع وبغير واو‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة أن هذا خاص بما ل و تحق ق من أنهم ق الوا ه ذا‬
‫الكالم‪ ،‬أما لو سلموا بسالم المسملين العادي‪ ،‬فإنه يجوز الرد عليهم بما يرد به على‬
‫المسلمين‪ ،‬وهو اختيار ابن القيم‪ ،‬قال‪(:‬هذا كله إذا تحق ق أن ه ق ال‪ :‬الس ام عليكم‪ ،‬أو‬
‫شك فيما قال‪ ،‬فلو تحقق السامع أن الذمي قال له‪(:‬سالم عليكم) ال شك في ه‪ ،‬فه ل ل ه‬
‫أن يق ول‪ :‬وعلي ك الس الم‪ ،‬أو يقتص ر على قول ه‪ :‬وعلي ك؟ فال ذي تقتض يه األدل ة‬
‫الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له‪ :‬وعليك السالم‪ ،‬فإن هذا من ب اب الع دل‪ ،‬وهللا‬
‫يأمر بالعدل واإلحسان‪ ،‬وق د ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِت َِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأَحْ َس نَ ِم ْنهَ ا أَوْ‬
‫ر ُّدوهَا ﴾ (النساء‪)4( ))86:‬‬ ‫ُ‬
‫وقد رد على ما قد يتوهم مع تعارض هذا مع النصوص السابقة‪ ،‬فقال‪(:‬فندب‬
‫إلى الفضل‪ ،‬وأوجب العدل‪ ،‬وال ينافي هذا شيئا من أحاديث الباب بوجه ما‪ ،‬فإنه ‪‬‬
‫إنما أمر باالقتصار على قول الراد (وعليكم)‪ ،‬بناء على السبب المذكور الذي ك انوا‬
‫يعتمدونه في تحيتهم‪ ،‬وأشار إليه في حديث عائشة‪،‬فق ال‪(:‬أال ترين ني قلت‪ :‬وعليكم‪،‬‬
‫لم ا ق الوا‪ :‬الس ام عليكم)‪ ،‬ثم ق ال‪(:‬إذا س لم عليكم أه ل الكت اب فقول وا‪ :‬وعليكم)‪،‬‬
‫واالعتب ار وإن ك ان لعم وم اللف ظ فإنم ا يعت بر عموم ه في نظ ير الم ذكور ال فيم ا‬
‫ك بِ ِه هَّللا ُ﴾ (المجادل ة‪ ،)8:‬ف إذا‬ ‫ك َحيَّوْ كَ بِ َم ا لَ ْم ي َُحيِّ َ‬‫يخالفه‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َج ا ُءو َ‬
‫زال هذا السبب وقال الكتابي‪(:‬سالم عليكم ورحمة هللا‪ ،‬فالعدل في التحية يقتضي أن‬
‫يرد عليه نظير سالمه)‬
‫ج ـ صيغة السالم‬
‫اتفق الفقهاء على أن التحية الشرعية التي ورد األمر بها‪ ،‬وورد األم ر ب الرد‬

‫‪ )(1‬قال الخطابي‪ :‬عامة المحدثين يروون هذا الحديث‪ ،‬فقولوا‪ :‬وعليكم‪ ،‬بإثب ات واو العط ف‪ ،‬وك ان ابن عيين ة‬
‫يرويه بغير واو‪ .‬وهو الصواب‪ ،‬ألنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي ق الوه بعين ه م ردودا عليهم خاص ة‪ ،‬وإذا أثبت‬
‫الواو وقع االشتراك معهم فيما قالوه؛ ألن الواو تجمع بين الشيئين‪ .‬النهاية [‪]2/427‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن حبان‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(4‬أحكام أهل الذمة‪.426:‬‬

‫‪233‬‬
‫عليها هي تحية اإلسالم التي ورد النص عليها ال تحية أي عرف من األعراف‪.‬‬
‫وبناء على هذا اتفقوا على أن أن التحية بغير السالم للمس لم‪ ،‬كنح و‪ :‬ص بحك‬
‫هللا بالخير‪ ،‬أو الس عادة‪ ،‬أو ط اب حم اك‪ ،‬أو ق واك هللا‪ ،‬من األلف اظ ال تي يس تعملها‬
‫الناس في العادة ال أصل لها‪ ،‬وال يجب الرد على قائلها‪ ،‬لكن لو دعا ل ه مقاب ل ذل ك‬
‫كان حسنا‪.‬‬
‫واتفق وا على أن ال رد على من حي ا بغ ير الس الم غ ير واجب‪ ،‬س واء أك انت‬
‫تحيته بلفظ‪ ،‬أم بإشارة باإلصبع‪ ،‬أو الكف أو الرأس‪ ،‬إال إشارة األخرس أو األص م‪،‬‬
‫فيجب الرد باإلشارة مع اللفظ‪ ،‬ليحصل به اإلفهام‪ ،‬ألن إشارته قائمة مقام العبارة‪.‬‬
‫واتفقوا على أن الرد بغير السالم على من ألقى الس الم ال يج زئ‪ ،‬وال يس قط‬
‫الرد ال واجب‪ ،‬ألن ه يجب أن يك ون بالمث ل‪ ،‬لقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِتَ ِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا‬
‫بِأَحْ َسنَ ِم ْنهَا أَوْ ُر ُّدوهَا إِ َّن هَّللا َ َكانَ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َح ِسيباً﴾ (النساء‪)86:‬‬
‫وهذا ألن اإلسالم جاء بهذه التحية كشعيرة من ش عائره وعب ادة من عبادات ه‪،‬‬
‫فال يصح إبدالها بغيرها‪.‬‬
‫فقد كان من عادة العرب قبل االس الم أن ه إذا لقي بعض هم بعض ا أن يقول وا‪:‬‬
‫(حياك هللا)(‪ ،)1‬فلما جاء االسالم أبدل ذلك بالسالم‪ ،‬فجعلوا التحية اس ما للس الم(‪.)2‬‬
‫قال تعالى‪ ﴿ :‬تَ ِحيَّتُهُ ْم يَوْ َم يَ ْلقَوْ نَهُ َسلَ ٰـ ٌم ﴾(األحزاب‪)44 :‬‬
‫وهذا االختيار اإللهي الذي ميز به المؤم نين ه و أرف ع االختي ارات وأعاله ا‬
‫وأكملها‪ ،‬فال يمكن ألي تحية أن تقارن مع تحية اإلسالم‪.‬‬
‫وق د بين الفخ ر ال رازي وجوه ا من تفض يل الس الم اإلس المي على تحي ة‬
‫الجاهلية‪ ،‬ومثلها يمكن تطبيقها على التحيات المعاصرة التي تطرح نفسها بدائل عن‬
‫تحية اإلسالم‪ ،‬ومن الوجوه التي ذكرها‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن الحي إذا كان سليما كان حي ا ال محال ة‪ ،‬وليس إذا ك ان حي ا ً‬
‫كان سليما‪ ،‬فقد تكون حياته مقرونة باآلفات والبليات‪ ،‬فثبت أن قول ه‪ :‬الس الم علي ك‬
‫أتم وأكمل من قوله‪ :‬حياك هللا‪.‬‬
‫الوج ه الث اني‪ :‬أن الس الم اس م من أس ماء هللا تع الى‪ ،‬فاالبت داء ب ذكر هللا أو‬
‫بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد ابقاء السالمة على عباده أكمل من قوله‪ :‬حياك‬
‫هللا‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أن ق ول االنس ان لغ يره‪ :‬الس الم علي ك في ه بش ارة بالس المة‪،‬‬
‫وقوله‪ :‬حياك هللا ال يفيد ذلك‪ ،‬فكان هذا أكمل‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإن السالم شعار من شعارات هذا ال دين‪ ،‬ومقص د كب ير من‬

‫‪ )(1‬واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة‪.‬‬


‫‪ )(2‬اختلف العلماء في معنى السالم على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬هو اسم من أسماء هللا تعالى‪ ،‬فقوله السالم عليك‪ ،‬أي اسم السالم علي ك‪ ،‬ومعن اه اس م هللا علي ك أي‬
‫أنت في حفظه كما يقال هللا يصحبك وهللا معك‪ ،‬وهو نص أحمد في رواية أبي داود‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬السالم بمعنى السالمة أي السالمة مالزمة لك‪ ،‬وهو قول الجمهور‪ ،‬وهو الظاهر‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫مقاصده‪ ،‬فقد ذك ر هللا تع الى س المه على عب اده الص الحين في مواض ع كث يرة من‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ِل ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ َو َسال ٌم َعلَى ِعبَا ِد ِه الَّ ِذينَ ْ‬
‫اص طَفَى آهَّلل ُ خَ ْي ٌر‬
‫أَ َّما يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (النمل‪ ،)59:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َسال ٌم َعلَى ْال ُمرْ َسلِينَ ﴾ (الصافات‪)181:‬‬
‫وح فِي ْال َع الَ ِمينَ ﴾‬
‫ب ل س لم عليهم بأس مائهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬س ال ٌم َعلَى نُ ٍ‬
‫(الصافات‪ ،)79:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬سال ٌم َعلَى إِ ْب َرا ِهي َم﴾ (الصافات‪ ،)109:‬وقال تع الى‪:‬‬
‫وس ى َوهَ ارُونَ ﴾ (الص افات‪ ،)120:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬س ال ٌم َعلَى إِلْ‬ ‫﴿ َس ال ٌم َعلَى ُم َ‬
‫يَا ِسينَ ﴾ (الصافات‪)130:‬‬
‫وق د اعت بر ابن الح اج إب دال الس الم من الب دع ال تي انح رف به ا المجتم ع‬
‫اإلسالمي عما ميز به من ل دن س لفه األول‪ ،‬ق ال‪(:‬وق د ورد في الس الم من الفض ل‬
‫والترغيب ما هو مشهور معروف كفى به أنه اسم من أسماء هللا تع الى ينطق ون ب ه‬
‫على ألسنتهم على سبيل االمتثال والتشريع فيكون بسببه من الذاكرين‪ ،‬وق د ورد في‬
‫الحديث الصحيح إخبارا عن رب الع زة ع ز وج ل يق ول‪(:‬من ذك رني ذكرت ه وأن ا‬
‫جليس من ذك رني) فيحص ل لهم ه ذا الخ ير العظيم والنعم ة الش املة‪ ،‬والغ الب أن‬
‫السالم المشروع إذ ذاك بيننا متروك‪ ،‬وكذلك المصافحة‪ ،‬فإن وق ع من ا الس الم ك ان‬
‫قولنا (صبحك هللا بالخير مساك هللا بالخير يوم مبارك ليل ة مبارك ة) وذل ك كل ه من‬
‫البدع والحوادث)(‪)1‬‬
‫بل إنه أنكر ذلك‪ ،‬واعتبره من البدع حتى لو كان دعاء‪ ،‬قال‪(:‬وإن كان دع اء‬
‫والدعاء كله حسن لكن إذا لم يصادم سنة كان مباحا أو مندوبا بحسب الواقع والني ة‪،‬‬
‫وأما إن ص ادم س نة فال يختلف ون في منع ه ؛ ألن علماءن ا ـ رحم ة هللا عليهم ـ ق د‬
‫اختلفوا في البدع هل تمنع مطلقا‪ ،‬وهو مذهب مالك وأك ثر أه ل العلم أو ال تمن ع إال‬
‫إذا عارضت السنن‪ ،‬وهو مذهب الشافعي ومن تبعه‪ ،‬وهذا من القسم ال ذي ع ارض‬
‫سنة ؛ ألنه ترك السالم الشرعي بسببه وأحل القيام والدعاء محل ه‪ ،‬وال قائ ل ب ه من‬
‫المسلمين‪ ،‬فإن قال العالم مثال أنا أفعل ذلك بعد السالم فجوابه أن الع وام يقت دون ب ه‬
‫في البدع وهم ال يعرفون السنة فيظنون أن تلك هي السنة التي ارتكبوها)(‪)2‬‬
‫وق د ذهب بعض الفقه اء إلى أن ه يج وز أن يق ول (كي ف أمس يت كي ف‬
‫أصبحت؟) بدال من السالم‪ ،‬واستدل لذلك بما روي أن رسول هللا ‪ ‬قال ألص حاب‬
‫الصفة‪(:‬كيف أصبحتم؟)(‪ ،)3‬وبما روي عن ج ابر قلت‪(:‬كي ف أص بحت ي ا رس ول‬
‫هللا؟) قال‪(:‬بخير من رجل لم يصبح صائما ولم يعد سقيما)(‪)4‬‬
‫وقد استدل بعض الحنابلة لهذا بقول اإلمام أحمد لصدقة وهم في جنازة‪(:‬يا أبا‬
‫محمد كيف أمسيت؟) فقال له‪(:‬مس اك هللا ب الخير)‪ ،‬وبقول ه للم روذي وقت الس حر‪:‬‬

‫‪ )(1‬المدخل‪.1/160 :‬‬
‫‪ )(2‬المدخل‪.1/160 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه عبد هللا بن أحمد عن الحسن مرسال‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن ماجة‪.،‬‬

‫‪235‬‬
‫(كيف أصبحت يا أبا بكر؟)‪ ،‬وقال‪ :‬إن أهل مك ة يقول ون إذا مض ى من اللي ل يري د‬
‫بعد النوم كيف أصبحت؟ فقال له المروذي‪ :‬ص بحك هللا بخ ير ي ا أب ا عب د هللا‪ ،‬وق د‬
‫ترجم الخالل لهذا بـ (قوله في السالم كيف أصبحت)‬
‫وال نرى صحة هذا‪ ،‬فليس فيما ذكروا أي دلي ل على ص حة اس تبدال الس الم‬
‫بأي تحية أخرى‪ ،‬أما ما ذكر عن أحمد‪ ،‬فهو ليس مصدرا من مصادر الشريعة‪.‬‬
‫أم ا األح اديث ال تي ذكروه ا فهي م ع ع دم نهوض ها لالس تدالل يحتم ل أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬قال لهم ذلك بعد أن سلم عليهم‪ ،‬ب دليل م ا روي من ح ديث أبي أس يد‬
‫الساعدي أنه ‪ ‬دخل على العباس فقال‪ :‬السالم عليكم قالوا وعليك الس الم ورحم ة‬
‫هللا وبركاته قال‪ :‬كيف أصبحتم؟ قالوا بخ ير نحم د هللا‪ ،‬كي ف أص بحت بأبين ا وأمن ا‬
‫أنت يا رسول هللا قال‪ :‬أصبحت بخير أحمد هللا(‪.)1‬‬
‫بعد هذا التنبيه إلى أهمية االقتصار على ما ورد في الشرع من هيئ ة التحي ة‪،‬‬
‫وكيفيتها نذكر هنا بعض ما نص عليه الفقهاء من آداب تتعلق بصيغتها‪:‬‬
‫الرد بأحسن منها‪:‬‬
‫وي دل علي ه قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِت َِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأَحْ َس نَ ِم ْنهَ ا أو ردوه ا﴾‬
‫(النساء‪ ،)86:‬أي إذا سلم عليكم أحد فردوا عليه أفضل مما سلم‪ ،‬أو ردوا عليه بمثل‬
‫ما سلم‪ ،‬وهذا يدل على أن الزيادة مندوبة‪ ،‬والمماثلة مفروضة‪.‬‬
‫ومما ورد في صيغة الزيادة وفضلها ما روي عن سلمان الفارسي‪ ،‬قال‪ :‬جاء‬
‫رجل إلى النبي ‪ ‬فقال‪ :‬السالم عليك يا رسول هّللا ‪ ،‬فق ال‪(:‬وعلي ك الس الم ورحم ة‬
‫هّللا )‪ ،‬ثم جاء آخر فقال‪ :‬السالم عليك يا رسول هّللا ورحم ة هّللا ؛ فق ال ل ه رس ول هّللا‬
‫‪(:‬وعليك السالم ورحمة هّللا وبركاته)‪ ،‬ثم جاء آخر فقال‪ :‬السالم عليك يا رس ول‬
‫هّللا ورحمة هّللا وبركاته‪ ،‬فق ال ل ه‪(:‬وعلي ك) فق ال ل ه الرج ل‪ :‬ي ا ن بي هّللا ب أبي أنت‬
‫وأمي‪ :‬أتاك فالن وفالن فسلما عليك فرددت عليهم أكثر مما رددت علي؟ فقال‪(:‬إنك‬
‫لم تدع لنا شيئاً‪ ،‬ق ال هّللا تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ُحيِّيتُ ْم بِت َِحيَّ ٍة فَ َحيُّوا بِأَحْ َس نَ ِم ْنهَ ا أَوْ ُر ُّدوهَ ا ﴾‬
‫(النساء‪ )86:‬فرددناها عليك)‪ ،‬ق ال ابن كث ير‪(:‬وفي ه ذا الح ديث دالل ة على أن ه ال‬
‫زيادة في السالم على هذه الصفة (السالم عليكم ورحمة هّللا وبركاته)‪ ،‬إذا ل و ش رع‬
‫أكثر من ذلك لزاده رسول هّللا ‪)2()‬‬
‫مما ورد في فضل الزي ادة‪ ،‬م ا وري عن عم ران بن حص ين أن رجال ج اء‬
‫إلى رس ول هّللا ‪ ‬فق ال‪ :‬الس الم عليكم ي ا رس ول هّللا ‪ ،‬ف رد علي ه ثم جلس‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(عشر)‪ ،‬ثم جاء آخر فقال‪ :‬السالم عليكم ورحمة هّللا يا رسول هّللا فرد عليه ثم جلس‬
‫فقال‪(:‬عشرون)‪ ،‬ثم جاء آخر فقال‪ :‬السالم عليكم ورحمة هّللا وبركاته فرد علي ه‪ ،‬ثم‬
‫جلس فقال‪(:‬ثالثون)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن ماجه‪.‬‬


‫‪ )(2‬ابن كثير‪.1/532 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد‪ ،‬والنسائي‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫السالم بصيغة الجماعة‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أن ه ينبغي أن يك ون الس الم كل ه بلف ظ الجماع ة‪ ،‬وإن ك ان‬
‫المسلم عليه واحدا‪ ،‬وق د عل ل إب راهيم النخعي ذل ك‪ ،‬فق ال‪(:‬إذا س لمت على الواح د‬
‫فقل‪ :‬السالم عليكم‪ ،‬فإن معه المالئكة)‬
‫ومث ل ذل ك في الج واب‪ ،‬فإن ه يك ون بلف ظ الجم ع؛ ق ال ابن أبي زي د‪(:‬يق ول‬
‫المسلم‪ :‬السالم عليكم‪ ،‬ويقول الراد‪ :‬وعليكم السالم)‬
‫تعريف السالم‪:‬‬
‫ورد اسالم في القرآن الكريم معرفا ومنكرا‪ ،‬فمن التنكير مثال قوله تعالى عن‬
‫ك‬ ‫ال َسلَ ٰـ ٌم َعلَ ْي َ‬ ‫ط بِ َسلَ ٰـ ٍم ّمنَّا ﴾ (هود‪ )48 :‬وقال عن الخليل‪ ﴿ :‬قَ َ‬ ‫يل ٰينُو ُح ٱ ْهبِ ْ‬‫نوح‪ ﴿ :‬قِ َ‬
‫وا َسلَ ٰـما ً قَ ا َل َسلَ ٰـ ٌم ﴾‬ ‫ك َربِي ﴾ (م ريم‪ )47 :‬وق ال في قص ة ل وط‪ ﴿ :‬قَ الُ ْ‬ ‫َسأ َ ْستَ ْغفِ ُر لَ َ‬
‫(هود‪ )69 :‬وقال عن يحيى‪َ ﴿ :‬و َسلَ ٰـ ٌم َعلَ ْي ِه ﴾ وق ال عن محم د ‪ ﴿ :‬قُ ِل ٱ ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ‬
‫َو َسلَ ٰـ ٌم َعلَ ٰى ِعبَا ِد ِه ﴾ (النمل‪ ،)59 :‬وقال عن المالئكة‪َ ﴿ :‬وال َملَ ٰـئِ َكةُ يَ ْد ُخلُونَ َعلَ ْي ِه ْم ّمن‬
‫ب َسلَ ٰـ ٌم َعلَ ْي ُك ُم ﴾ (الرع د‪ 23 :‬ـ ‪،)24‬وق ال عن رب الع زة‪َ ﴿ :‬س الَ ٌم قَ وْ الً ّمن‬ ‫ُك ّل بَ ا ٍ‬
‫رَّبّ َّر ِح ٍيم ﴾ (يۤس‪ )58 :‬وقال‪ ﴿ :‬فَقُلْ َسلَ ٰـ ٌم َعلَ ْي ُك ْم ﴾‬
‫ومن التعري ف قول ه تع الى عن موس ى ‪ ﴿ :‬فَأْتِيَ اهُ فَقُ وال إِنَّا َر ُس وال َربِّكَ‬
‫الس ال ُم َعلَى َم ِن اتَّبَ َع‬ ‫فَأَرْ ِسلْ َم َعنَا بَنِي إِسْرائي َل َوال تُ َع ِّذ ْبهُ ْم قَ ْد ِج ْئنَاكَ بِآيَ ٍة ِم ْن َربِّكَ َو َّ‬
‫وت ﴾‬ ‫ت َويَ وْ َم أَ ُم ُ‬ ‫ْالهُدَى﴾ (طـه‪ ،)47:‬وقال عن عيسى ‪َ ﴿ :‬وٱل َّسلَ ٰـ ُم َعلَ َّ‬
‫ى يَوْ َم ُولِ ْد ُّ‬
‫(مريم‪)33 :‬‬
‫وقد اتفق الفقهاء على أنه ال يص ح التحلي ل من الص الة إال معرف ا‪ ،‬واختلف وا‬
‫في سائر المواضع‪ ،‬هل التنكير أفضل أم التعريف؟‬
‫القول األول‪ :‬التنكير أفضل‪ ،‬وقد ذكره الفخ ر ال رازي‪ ،‬واس تدل ل ه ب الوجوه‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬أن لفظ السالم على سبيل التنكير كثير في القرآن فكان أفضل‪.‬‬
‫‪ .2‬أن كل ما ورد من هللا والمالئكة والمؤمنين فقد ورد بلفظ التنكير كما سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫‪ .3‬أن ما ورد باأللف والالم فانما ورد في تسليم االنسان على نفسه‪ ،‬كما ق ال‬
‫موس ى ‪َ ﴿ :‬وٱل َّسلَ ٰـ ُم َعلَ ٰى َم ِن ٱتَّبَ َع ٱ ْلهُ د َٰى ﴾ (ط ه‪ )47 :‬وق ال عيس ى ‪:‬‬
‫ى ﴾ (مريم‪)33 :‬‬ ‫﴿ َوٱل َّسلَ ٰـ ُم َعلَ َّ‬
‫‪ .4‬أن لفظ السالم باأللف والالم يدل على أص ل الماهي ة‪ ،‬والتنك ير ي دل على‬
‫أصل الماهية مع وصف الكمال‪ ،‬فكان هذا أولى‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬التعريف أفضل‪ ،‬وهو ق ول الجمه ور‪ ،‬ومن األدل ة على ذل ك‪:‬‬
‫كل ما ورد في النصوص من صيغ السالم‪ ،‬مما سبق ذكره‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬

‫‪237‬‬
‫ن رى أن األرجح في المس ألة ه و الق ول الث اني بن اء على أن ص يغة الس الم‬
‫تعبدية ال مجال فيها لالجتهاد‪ ،‬فلذلك ال يمكن اقتباس ما ورد فيها من القرآن الك ريم‬
‫لعدم النص على أنه المراد من التحية‪.‬‬
‫ثم كي ف ن رجح ص يغة من ص يغ الس الم ن رى رس ول هللا ‪ ‬يخالفه ا إلى‬
‫غيرها‪ ،‬ففهم رسول هللا ‪ ‬أعمق‪ ،‬وعلمه بذلك أعظم‪.‬‬
‫رفع الصوت به قدر اإلبالغ‪:‬‬
‫ألن الغرض من التحية سماعها‪ ،‬فلذلك كان ال واجب فيه ا رف ع الص وت به ا‬
‫قدر اإلبالغ سواء إفشاء أو ردا‪.‬‬
‫وقد ذكر القرطبي في ذلك ح ديثا‪ ،‬فق ال‪ :‬روي أن الن بي ‪ ‬ق ال‪(:‬إذا س لمتم‬
‫فأسمعوا‪ ،‬وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فاقعدوا باألمانة وال يرفعن بعضكم ح ديث‬
‫بعض)(‪)1‬‬
‫وروى عن عبدهللا بن الحارث قال‪(:‬إذا سلم الرجل على القوم ك ان ل ه فض ل‬
‫درجة‪ ،‬فإن لم يردوا عليه ردت عليه المالئكة ولعنتهم‪ .‬ف إذا رد المس لم علي ه أس مع‬
‫جوابه؛ ألنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له؛ أال ترى أن المس لم إذا س لم بس الم‬
‫لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سالما‪ ،‬فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع من ه‬
‫فليس بجواب)‬
‫وال يتنافى هذا م ع م ا ورد من ح ديث قيس بن س عد بن عب ادة‪ ،‬ق ال‪ :‬زارن ا‬
‫رسول هللا ‪ ‬في منزلنا فقال‪ :‬الس الم عليكم ورحم ة هللا ف رد س عد ردا خفي ا‪ .‬ق ال‬
‫قيس‪:‬فقلت‪:‬أال تأذن لرسول هللا ‪ ‬؟ فقال‪:‬دعه يكثر علينا من الس الم‪ .‬فق ال رس ول‬
‫هللا ‪ ‬السالم عليكم ورحمة هللا‪ ،‬فرد سعد ردا خفيا‪ ،‬ثم قال رسول هللا ‪ :‬الس الم‬
‫عليكم ورحمة هللا ‪ .‬ثم رجع رسول هللا ‪ ‬وأتبعه سعد فقال‪:‬ي ا رس ول هللا إني كنت‬
‫أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السالم) الحديث(‪ )2‬ال ذي اس تدل‬
‫به بعضهم على جواز اإلس رار حيث اكتفى ‪ ‬ب رد س عد ه ذا حيث لم ي أمره ب رد‬
‫يسمعه ولم ينكر عليه هذا الرد(‪.)3‬‬
‫ولكن هذا ال يدل على ذلك‪ ،‬ألنه قد بين غرضه من ذلك‪ ،‬فلذلك استحق دعاء‬
‫رسول هللا ‪ ،‬أما في الحالة العادي ة‪ ،‬فال ش ك في أن الس الم ال ي ؤدي غرض ه إن‬
‫أسره صاحبه ولم يرفع الصوت به‪.‬‬
‫وحد رفع الصوت أن يسمع غيره من غير إيذاء‪ ،‬وقد ورد في حديث المقداد‪:‬‬
‫أن النبي ‪ ‬كان يجيء من الليل فيسلم تسليما ال يوقظ نائما‪ ،‬ويسمع اليقظان)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬القرطبي‪ .5/303 :‬ولم أجده في المراجع التي اعتمدت عليها في التخريج‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود والنسائي‪.‬‬
‫‪ )(3‬واستدل كذلك بما روى أحمد عن حارثة بن النعمان قال‪ :‬مررت على رسول هللا ‪ ‬ومع ه جبري ل ج الس‬
‫في المقاعد فسلمت عليه ثم أجزت فلما رجعت وأبصرت النبي ‪ ‬قال‪ :‬هل رأيت الذي كان معي قلت نعم ق ال‪ :‬فإن ه‬
‫جبريل وقد رد عليك السالم )‪ ،‬وال داللة فيه كذلك‪،‬ألن رسول هللا ‪ ‬أخبره بجواب جبريل ‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫وبما أن الغرض من السالم هو إبالغ الغ ير لينش ر الم ودة‪ ،‬فإن ه يش رع لمن‬
‫سلم على أصم الجمع بين اللفظ واإلشارة‪ ،‬فإن لم يجمع لم يجب الج واب‪ ،‬ف إن س لم‬
‫علي ه أص م جم ع بين اللف ظ واإلش ارة في ال رد والج واب‪ ،‬فأم ا األخ رس فس المه‬
‫باإلشارة وكذلك جواب األخرس‪.‬‬
‫وقد قال المروذي عن اإلمام أحمد‪ :‬إن أبا عبد هللا لما اش تد ب ه الم رض ك ان‬
‫ربما أذن للناس فيدخلون عليه أفواجا فيسلمون عليه فيرد عليهم بيده‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ آداب الزيارة والضيافة‬
‫من أهم ما يظهر السلوك الحض اري الرفي ع للمس لم ه و آداب ه الرفيع ة ال تي‬
‫يظهرها عند زيارته لغيره‪ ،‬أو عند زيارة غير له‪.‬‬
‫وقد جاءت النصوص الكثيرة تبين آداب هذه الزيارة‪ ،‬لترفع عنها ثق ل أخالق‬
‫الجاهلية وكثافة طبعها‪ ،‬بل وردت في بعض المواضع بصيغة العتاب المتش دد‪ ،‬لم ا‬
‫في الزيارة الثقيلة من أذى شديد يص يب المس لم‪ ،‬ي دعوه الحي اء لتحمل ه‪ ،‬فتكف ل هللا‬
‫تعالى برحمته برفع مسبب هذا الحياء‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ال تَ ْد ُخلُوا‬
‫بُيُوتَ النَّبِ ِّي إِاَّل أَ ْن ي ُْؤ َذنَ لَ ُك ْم إِلَى طَ َع ٍام َغي َْر ن ِ‬
‫َاظ ِرينَ إِنَاهُ َولَ ِك ْن إِ َذا د ُِعيتُ ْم فَا ْد ُخلُوا فَإِ َذا‬
‫ي فَيَ ْس تَحْ يِي ِم ْن ُك ْم َوهَّللا ُ‬ ‫طَ ِع ْمتُ ْم فَا ْنتَ ِشرُوا َوال ُم ْستَأْنِ ِسينَ لِ َح ِدي ٍ‬
‫ث إِ َّن َذلِ ُك ْم َكانَ ي ُْؤ ِذي النَّبِ َّ‬
‫طهَ ُر‬ ‫ب َذلِ ُك ْم أَ ْ‬
‫اس أَلوه َُّن ِم ْن َو َرا ِء ِح َج ا ٍ‬ ‫ق َوإِ َذا َسأ َ ْلتُ ُموه َُّن َمتَاع ا ً فَ ْ‬‫ال يَ ْستَحْ يِي ِمنَ ْال َح ِّ‬
‫لِقُلُوبِ ُك ْم َوقُلُوبِ ِه َّن﴾ (األحزاب‪)53:‬‬
‫فاآلية الكريمة تتضمن آدابا لم تكن تعرفه ا الجاهلي ة في دخ ول ال بيوت‪ ،‬فق د‬
‫ك ان الن اس ي دخلون ال بيوت بال إذن من أص حابها ‪ -‬كم ا ذكرن ا ل ك في األحك ام‬
‫الخاصة باالستئذان ـ وكان بعضهم يدخل وحين ي رى طعام ا يوق د علي ه يجلس في‬
‫انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دع وة إلى الطع ام‪ ،‬وك ان بعض هم يجلس بع د‬
‫الطعام ‪ -‬سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو علي ه دون دع وة ‪ -‬ويأخ ذ في الح ديث‬
‫والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج‪.‬‬
‫واآلية الكريمة تعبر عن تأذي رسول هللا ‪ ،‬ولكنها في الحقيقة ـ ومن ب اب‬
‫أولى ـ تعبر عن كل مؤمن‪ ،‬ألن رسول هللا ‪ ‬وهو ص احب الخل ق العظيم‪ ،‬يت أذى‬
‫من مثل هذه التصرفات‪ ،‬فكيف بغيره؟ وله ذا ق ال وق ال حم اد بن زي د‪(:‬ه ذه اآلي ة‬
‫نزلت في الثقالء)‪ ،‬وقال إسماعيل بن أبي حكيم‪(:‬هو أدب أدب هللا به الثقالء)‪ ،‬وقال‬
‫ابن أبي عائشة‪(:‬حسبك من الثقالء أن الشرع لم يحتملهم)‬
‫انطالق ا من ه ذا الت أديب الرب اني‪ ،‬ف إن هن اك الكث يرمن اآلداب ال تي حض‬
‫الشرع على مراعاتها س واء عن د الزي ارة أو عن د االستض افة‪ ،‬تنفي الثق ل‪ ،‬وترف ع‬
‫األذى‪ ،‬نجمع مجامعها فيما يلي‪:‬‬
‫مقاصد الزيارة‬
‫تنطل ق اآلداب الش رعية جميع ا من تحدي د المقاص د واأله داف‪ ،‬ألن أي‬
‫تصرف يخلو من المقصد تصرف عبثي‪ ،‬ال ينتج عنه أي مصلحة‪ ،‬بل قد تنتج عن ه‬
‫المضرة الشخصية والمتعدية‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫ومن تحديد المقصد تتجلى اآلداب‪ ،‬ألن لكل مقص ده آداب ه الخاص ة ب ه‪ ،‬ق ال‬
‫النووي‪(:‬يستحب ‪ -‬للمسلم ‪ -‬استحبابا متاكدا زيارة الص الحين‪ ،‬واإلخ وان‪ ،‬والج يرا‬
‫ن‪ ،‬واألصد قاء‪ ،‬وا أل قا رب‪ ،‬وإكرامهم‪ ،‬وب رهم‪ ،‬وص لتهم‪ ،‬وض بط ذل ك يختل ف‬
‫باختالف أح والهم وم راتبهم وف راغهم‪ ،‬وينبغي أن تك ون زيارت ه لهم على وج ه ال‬
‫يكرهونه‪ ،‬وفي وقت يرتضونه)‬
‫وسنذكر هنا بعض األمثلة عن مقاصد الزيارة وآدابها لتكون نماذج لغيرها‪:‬‬
‫زيارة الصالحين‪:‬‬
‫من اإلخوان والعلماء والمربين وغيرهم ممن التزم بالش رع ودع ا ل ه‪ ،‬وهي‬
‫سنة من السنن العظيمة التي وردت النصوص مخبرة عن عظيم فضلها‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله ‪(:‬أن رجال زار أخا له في قرية أخرى فأرصد هللا ‪ -‬تع الى‬
‫‪ -‬على مدرجته ملكا فلما أتى عليه‪ ،‬قال أين تريد؟ قال‪ :‬أريد أخا لي في هذه القري ة‪،‬‬
‫قال‪ :‬هل لك عليه من نعمة تربه ا؟ ق ال‪ :‬ال‪ ،‬غ ير أني أحب ه في هللا ‪ -‬تع الى ‪ -‬ق ال‪:‬‬
‫فإني رسول هللا إليك بأن هللا ‪ -‬تعالى ‪ -‬قد أحبك كما أحببت ه في ه)(‪ ،)1‬وق ال ‪(:‬من‬
‫عاد مريضا أو زار أخ ا ل ه في هللا ‪ -‬تع الى ‪ -‬ن اداه منادي ان طبت وط اب ممش اك‪،‬‬
‫وتبوأت من الجنة منزال)(‪)2‬‬
‫ويس تحب أن يطلب من ص احبه الص الح أن ي زوره‪ ،‬وأن ي زوره أك ثر من‬
‫زيارته‪ ،‬لح ديث ابن عب اس ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪ ‬لجبري ل ‪(:‬م ا يمنع ك أن‬
‫تزورنا أكثر مما تزورنا؟)‪ ،‬فنزلت‪َ ﴿ :‬و َما نَتَنَ َّز ُل إِاَّل بِأ َ ْم ِر َربِّكَ لَهُ َما بَ ْينَ أَ ْي ِدينَا َو َم ا‬
‫سيّاً﴾ (مريم‪)3())64:‬‬ ‫خَ ْلفَنَا َو َما بَ ْينَ َذلِ َ‬
‫ك َو َما َكانَ َربُّ َ‬
‫ك نَ ِ‬
‫أم ا مقاص د ه ذا الن وع من الزي ارة‪ ،‬فيفص له ابن الح اج بقول ه في فص ل‬
‫خصص ه لزي ارة األولي اء والص الحين‪(:‬وينبغي ل ه أن ال يخلي نفس ه من زي ارة‬
‫األولي اء‪ ،‬والص الحين ال ذين ب رؤيتهم يح يي هللا القل وب الميت ة كم ا يح يي األرض‬
‫بوابل المطر‪ ،‬فتنشرح بهم الصدور الصلبة‪ ،‬وتهون برؤيتهم األم ور الص عبة إذ هم‬
‫وقوف على باب الكريم المنان فال يرد قاصدهم‪ ،‬وال يخيب مجالسهم‪ ،‬وال معارفهم‪،‬‬
‫وال محبهم إذ هم ب اب هللا المفت وح لعب اده‪ ،‬ومن ك ان ك ذلك فتتعين المب ادرة إلى‬
‫رؤيتهم‪ ،‬واغتنام بركتهم ؛ وألنه برؤية بعض هؤالء يحصل له من الفهم‪ ،‬والحف ظ‪،‬‬
‫وغيرهما ما قد يعجز الواصف عن وص فه‪ ،‬وألج ل ه ذا المع نى ت رى كث يرا ممن‬
‫اتصف بما ذكر له البرك ة العظيم ة في علم ه‪ ،‬وفي حال ه‪ ،‬فال يخلي نفس ه من ه ذا‬
‫الخير العظيم)(‪)4‬‬
‫واألولياء الذين يشير إليهم ابن الحاج هنا هم األولياء الحريصون على الهدي‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(4‬المدخل‪.2/139 :‬‬

‫‪240‬‬
‫النبوي المتأدبون بآدابه‪ ،‬ال من انحرف عنه‪ ،‬قال مستدركا على كالمه السابق‪(:‬لكن‬
‫بشرط أن يكون محافظا على اتب اع الس نة في ذل ك كل ه فليح ذر أن ي زور أح دا من‬
‫أهل البدع‪ ،‬وممن ال خطر له في الدين إال بالتمويه‪ ،‬وبعض اإلشارات‪ ،‬والعبارات)‬
‫ويذكرعن بعض األدعياء في عصره ممن يك ثر الن اس زي ارتهم‪ ،‬م ع أن ه ال‬
‫حظ لهم من الدين وال الخلق قال‪(:‬مع أنه قد قل في هذا الزمان من يضطر إلى ذل ك‬
‫من المدعين بل قد تجد بعض من ينتس ب إلى العلم يقع د بين ي دي بعض من ي دعي‬
‫الفقر والوالية‪ ،‬وه و مكش وف الع ورة‪ ،‬وق د ت ذهب علي ه أوق ات الص الة‪ ،‬وه و لم‬
‫يصل‪ ،‬ويعتذرون عنه بأن ه يح زب على نفس ه‪ .‬وق د رأيت بعض الفق راء الص لحاء‬
‫رحل إلى زيارة شخص من هذا الجنس نحو ثالثة أيام‪ ،‬أو أربع ة ح تى اجتم ع ب ه‪،‬‬
‫وهو عريان ليس عليه شيء يستره‪ ،‬وبين يديه بعض قضاة البلد‪ ،‬ورؤس ائها‪ ،‬وه ذا‬
‫أمر شنيع في الدين‪ ،‬وقلة حياء من عمل ال ذنوب‪ ،‬وارتك اب مخالف ة الس نة‪ ،‬وت رك‬
‫الفرائض إذ أن كشف العورة محرم‪ ،‬وكذلك النظر إليها‪ ،‬وإخراج الصالة عن وقتها‬
‫محرم اتفاقا فيرتكبون محرمات جمة‪ ،‬وهذا إنما ه و تمثي ل م ا‪ ،‬وإال فالمفاس د ال تي‬
‫تعتورهم في ذلك أكثر من أن تحصر‪ ،‬أو ترجع إلى قانون معروف في الغالب)(‪)1‬‬
‫وحكي عن بعض السلف أنه أثني عنده على شخص كان في وقته فخرج هو‪،‬‬
‫ومن أثنى عليه إلى زيارته‪ ،‬ودخال المسجد الذي ك ان يص لي في ه فلم يج داه فجلس ا‬
‫ينتظرانه فلما أن جاء‪ ،‬ودخل المسجد تنخم‪ ،‬وبصق فيه‪ ،‬فخرج هذا السيد‪ ،‬ولم يسلم‬
‫عليه‪ ،‬وخرج معه الشخص الذي كان أثنى عليه فقال له‪ :‬لم خرجت‪ ،‬ولم تسلم علي ه‬
‫فقال له‪ :‬إذا كان إنسان لم يأتمنه هللا تعالى على أدب من آداب الشريعة فكيف يأتمن ه‬
‫على سر من أسراره‪.‬‬
‫واألدب في هذا النوع من الزيارات االستفادة من ه ذا الص الح وطلب دعائ ه‬
‫والتماس نصحه وتوجيهه واألخذ من سمته‪.‬‬
‫عيادة المريض‪:‬‬
‫وهي من حقوق المسلم على أخيه‪ ،‬وقد وردت اآلثار الكثيرة في فضلها‪ ،‬ق ال‬
‫‪(:‬إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم‪ ،‬لم ي زل في خرف ة الجن ة ح تى يرج ع‪ ،‬قي ل ي ا‬
‫رسول هللا‪ ،‬وما خرفة الجنة؟ قال‪ :‬جناها)(‪ ،)2‬وق ال ‪(:‬من ع اد مريض ا لم يزل ه‬
‫يخوض في الرحمة حتى يجلس‪ ،‬فإذا جلس اغتمس فيها)(‪)3‬‬
‫ومن اآلداب التي ذكرها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لهذا النوع من الزيارة‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون عائد المريض نقي الثوب‪ ،‬طيب الرائح ة طيب نظاف ة‪ ،‬لتنش رح‬
‫نفسه وتنتعش صحته‪ ،‬وال يحس ن أن ي دخل إلي ه بمالبس الزين ة واألف راح‪ ،‬كم ا ال‬
‫يحسن أن يكون متطيبا بطيب شديد الرائحة‪ ،‬فقد يزعج الم ريض ويؤذي ه‪ ،‬لض عف‬

‫‪ )(1‬المدخل‪.2/139 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد وابن حبان في صحيحه‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫تحمله ووهن قوته‪.‬‬
‫‪ .2‬أن ال يخبر المريض أويتحدث عنده بما يغمه‪ ،‬من خبر تجارة خسرت ل ه‬
‫فيها سبب أو صلة‪ ،‬أوذك ر ميت‪ ،‬أوخ بر رديء لم ريض‪ ،‬أو نح و ذل ك مم ا يك در‬
‫المريض أو يحزنه أو يؤثر على صحته أو شعوره‪.‬‬
‫‪ .3‬أن ال يستخبر عن مرض المريض استخبار متقص‪ ،‬فإن ذلك التقصي من‬
‫العائد الينفع المريض إال أن يكون طبيبا له اختصاص بمرضه‪.‬‬
‫‪ .4‬أن ال يشيرعلى المريض بدواء وال بغذاء قد ك ان نفع ه ه و‪ ،‬أوس مع بأن ه‬
‫نافع‪ ،‬فإن ذلك ربما حمل المريض ‪ -‬بجهله أو لشدة ما به ‪ -‬أن يس تعمله‪ ،‬فيض ر ب ه‬
‫ويفسد على الطبيب عمله‪ ،‬وربما كان ذلك سببا لهالك المريض‪.‬‬
‫‪ .5‬أن ال يع ارض الط بيب بحض رة الم ريض‪ ،‬إذا لم يكن من أه ل العلم‬
‫واالختصاص‪ ،‬فيوقع للمريض الشك فيما وصفه الطبيب‪.‬‬
‫‪ .6‬أن ال يطيل الجلوس عنده‪ ،‬ألن له من الح االت المرض ية الخاص ة م ا ال‬
‫يسمح بإطالة الجلوس عنده‪ ،‬فعيادة المريض كجلسة الخطيب(‪ ،)1‬وقد ق ال ابن عب د‬
‫البر‪(:‬ومن زار صحيحا‪ ،‬أو عاد مريضا‪ ،‬فليجلس حيث يأمره‪ ،‬ف المرء أعلم بع ورة‬
‫منزل ه‪ .‬وعي ادة الم ريض س نة مؤك دة‪ ،‬وأفض ل العي ادة أخفه ا‪ .‬وال يطي ل العائ ذ‬
‫الجلوس عند العليل‪ ،‬إال أن يكون صديقا يأنس به‪،‬ويسره ذلك منه)‬
‫زيارة األقارب‪:‬‬
‫وهي من ص لة ال رحم ال تي ورد التش ديد في الحض عليه ا‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوا ْعبُ دُوا هَّللا َ َوال تُ ْش ِر ُكوا بِ ِه َش يْئا ً َوبِ ْال َوالِ َدي ِْن إِحْ َس انا ً َوبِ ِذي ْالقُ رْ بَى َو ْاليَتَ ا َمى‬
‫يل َو َم ا‬ ‫ب َواب ِْن َّ‬
‫الس بِ ِ‬ ‫ب بِ ْال َج ْن ِ‬
‫اح ِ‬ ‫ب َو َّ‬
‫الص ِ‬ ‫ار ْال ُجنُ ِ‬‫ار ِذي ْالقُرْ بَى َو ْال َج ِ‬ ‫ين َو ْال َج ِ‬
‫َو ْال َم َسا ِك ِ‬
‫ت أَ ْي َمانُ ُك ْم إِ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ َم ْن َكانَ ُم ْختَاالً فَ ُخوراً﴾ (النساء‪)36:‬‬ ‫َملَ َك ْ‬
‫وفي الحديث قال ‪(:‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخ ر فليك رم ض يفه‪ ،‬ومن‬
‫كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليصل رحمه‪ ،‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل‬
‫خيراً أو ليصمت)(‪)2‬‬
‫وفي التشديد في قطع الرحم‪ ،‬قال ‪(:‬إن هَّللا تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ‬
‫منهم قامت الرحم فقالت‪ :‬هذا مقام العائد بك من القطيع ة‪ .‬ق ال‪ :‬نعم أم ا ترض ين أن‬
‫أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬فذلك ل ك)‪ ،‬ثم ق ال َر ُس ول هَّللا ِ‬
‫ض َوتُقَطِّ ُع وا‬ ‫َس ْيتُ ْم إِ ْن تَ َولَّ ْيتُ ْم أَ ْن تُ ْف ِس دُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫‪(:‬اق رءوا إن ش ئتم‪ ﴿ :‬فَهَ لْ ع َ‬
‫ارهُ ْم﴾ (محمد‪ 22:‬ـ ‪)3( ))23‬‬ ‫ص َّمهُ ْم َوأَ ْع َمى أَب َ‬
‫ْص َ‬ ‫أَرْ َحا َم ُك ْم أُولَئِ َ‬
‫ك الَّ ِذينَ لَ َعنَهُ ُم هَّللا ُ فَأ َ َ‬
‫وقد انتشر في واقعنا أن الزيارة بين األقارب ال تكون إال بالمكافأة‪ ،‬فمن زي ر‬
‫زار‪ ،‬ومن قط ع قط ع‪ ،‬وق د أرش د ‪ ‬إلى خالف ه ذا‪ ،‬فق ال‪(:‬ليس الواص ل‬

‫‪ )(1‬يعنون جلسة الخطيب يوم الجمعة بين الخطبتين في قصرها وخفتها‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫وصلها)(‪)1‬‬ ‫بالمكافيء‪ ،‬ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه‬
‫وجاءه رجل‪ ،‬فقال‪ :‬ي ا َر ُس ول هَّللا ِ إن لي قراب ة أص لهم ويقطع وني‪ ،‬وأحس ن‬
‫إليهم ويس يئون إلي‪ ،‬وأحلم عنهم ويجهل ون علي‪ .‬فق ال‪(:‬لئن كنت كم ا قلت فكأنم ا‬
‫تسفهم المل(‪ ،)2‬وال يزال معك من هَّللا ظهير عليهم ما دمت على ذلك)(‪)3‬‬
‫آداب الزيارة‬
‫تتفق جميع أنواع الزيارات السابقة‪ ،‬وغيره ا في ه ذه اآلداب ال تي سنس وقها‬
‫هنا باختصار‪ ،‬فمن آداب الزيارة‪:‬‬
‫تحديد الموعد‪:‬‬
‫أول اآلداب وأهمها هو تحديد موعد الزيارة‪ ،‬ح تى ال يفاج أ الم زور ب الزائر‬
‫من غير استعداد ل ذلك‪ ،‬فيحرج ه أو يمنع ه من عم ل يلزم ه‪ ،‬وربم ا ال يص لح ه ذا‬
‫األدب في عصرنا إال لمن لديه وسائل االتصال التي يتمكن منها من إخبار الم زور‬
‫بزيارته‪.‬‬
‫ولكن ما ذكره السلف يشير إلى هذا‪ ،‬فقد اتفقوا على أن للمزور أن يرد زائره‬
‫إن لم يكن مستعدا الستقباله‪ ،‬كما ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن قِي َل لَ ُك ُم ارْ ِج ُع وا فَ ارْ ِجعُوا هُ َو‬
‫أَ ْز َكى لَ ُك ْم َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ َعلِي ٌم﴾ (النور‪)28:‬‬
‫يقول عبد الفتاح أبو غدة‪(:‬إذا زرت أح د إخوان ك دون موع د‪ ،‬أوعلى موع د‬
‫س ابق من ه‪ ،‬فاعت ذر ل ك عن قب ول زيارت ك ل ه‪ ،‬فاع ذره‪ ،‬فإن ه أدرى بح ال بيت ه‬
‫ومالبسات شأنه‪ ،‬فقد يكون جد لديه م انع من الموان ع الخاص ة‪ ،‬أوحص ل عن ده من‬
‫الحرج‪ :‬مااليسمح له باستقبالك وقتئذ‪ ،‬فله أن يعتذر لك تحرج)‬
‫ومما يتعلق بهذا األدب ما نص عليه بقوله‪(:‬وينبغي أن تتخ ير ال وقت المالئم‬
‫للزيارة‪ ،‬وأن تجلس المدة المناسبة التي تتالقى مع مقامك عند المزور‪ ،‬وم ع الح ال‬
‫التي هوعليها‪ ،‬فال تط ل‪ ،‬وال تثق ل‪ ،‬وال ت أت في وقت غ ير مالئم لزيارت ه‪ ،‬ك وقت‬
‫الطعام أوالنوم أوالراحة أو ا لسكون)‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ويقول الغزالي‪(:‬أما الدخول فليس من الس نة أن يقص د قوم ا متربص ا ل وقت‬
‫طعامهم فيدخل عليهم وقت األكل‪ ،‬فإن ذلك من المفاجأة‪ ،‬وقد نهي عنه)(‪)4‬‬
‫ويدل لهذا قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَ ْد ُخلُوا بُيُوتَ النَّبِ ِّي إِاَّل أَ ْن ي ُْؤذنََ‬
‫اظ ِرينَ إِنَ اهُ ﴾ (األح زاب‪ )53:‬أي غ ير متحي نين نض جه‬ ‫لَ ُك ْم إِلَى طَ َع ٍام َغ ْي َر نَ ِ‬
‫واستواءه‪ ،‬أي ال ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب االستواء تعرض تم لل دخول‪،‬‬
‫فإن هذا مما يكرهه هّللا ويذمه‪.‬‬
‫يقول الغزالي‪(:‬ولكن حق الداخل إذا لم يتربص واتفق أن صادفهم على طعام‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد والبخاري وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(2‬أي كأنما تطعمهم الرماد الحار‪ ،‬وهو تشبيه لما يلحقهم من اإلثم بما يلحق آك ل الرم اد الح ار من األلم‪ ،‬وال‬
‫شيء على هذا المحسن إليهم لكن ينالهم إثم عظيم بتقصيرهم في حقه وإدخالهم األذى عليه‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.2/9:‬‬

‫‪243‬‬
‫أن ال يأكل ما لم يؤذن له‪ ،‬فإذا قيل له‪ُ :‬ك لْ ‪ .‬نظ ر ف إن علم أنهم يقولون ه على محب ة‬
‫لمساعدته فليساعد‪ ،‬وإن كانوا يقولون ه حي اء من ه فال ينبغي أن يأك ل‪ ،‬ب ل ينبغي أن‬
‫يتعلل‪ ،‬أما إذا كان جائعا ً فقصد بعض إخوانه ليطعمه ولم يتربص ب ه وقت أكل ه فال‬
‫بأس به)(‪)1‬‬
‫مراعاة النظافة والنظام‪:‬‬
‫فليس من األدب أن يدخل الزائ ر بيت الم زور بح ذاء متس خ‪ ،‬أو هيئ ة رث ة‪،‬‬
‫فمن اآلداب التي ذكرها الشيخ عبد الفتاح‪( :‬عندما تزور بيت أخيك ‪ -‬أو تدخل بيت ك‬
‫– كن لطيف ا ً في م دخلك ومخرج ك‪ ،‬غاض ا طرف ك وص وتك‪ ،‬واخل ع ح ذاءك في‬
‫محله‪ ،‬وصف نعليك أثناء خلعهما‪ ،‬والتدعهما هكذا وهكذا‪ ..‬وقبل الدخول إلى بيت ك‬
‫أو بيت أخيك انظر في نعليك‪ ،‬فإذا رأيت فيهما شيئا من آثار الطريق فامطه عنهما‪،‬‬
‫وادلكهم ا في األرض لي نزاح عنهم ا م ا عل ق بهم ا‪ ،‬ف إن اإلس الم دين النظاف ة‬
‫واللطافة)‬
‫ومن األدب المرتبط بهذا أن ال ينازع الزائر م زوره المح ل المخص ص ل ه‪،‬‬
‫قال ‪(:‬ال يؤ ّمن الرجل الرج ل في س لطانه(‪ ،)2‬وال يقع د في بيت ه على تكرمته(‪)3‬‬
‫إال بإذنه)(‪)4‬‬
‫ومن العلل في هذا األدب ما ذكره الشيخ عبد الفتاح بقوله‪(:‬ال تنازع مض يفك‬
‫أو أخاك في المكان الذي يجلسك فيه من منزله‪ ،‬بل التجلس إال حيث يجلسك‪ ،‬فلعلك‬
‫‪ -‬إن جلست كما تريد‪ -‬تجلس إلى مكان في ه إطالل على ع ورة من ع ورات ال دار‪،‬‬
‫أو فيه إحراج لساكنيها‪ ،‬فعليك بامتثال ما يأمرك به مض يفك‪ ،‬واقب ل م ا يكرم ك ب ه‬
‫أيضاً)‬
‫ومن اآلداب التي تحق ق ه ذا المع نى م ا ذك ره الش يخ بقول ه‪(:‬إذا دخلت بيت‬
‫أخي ك أو ص ديقك‪ ،‬وأقع دك في ه‪ ،‬أوأنام ك في ه‪ ،‬فال تتفق ده ببص رك تفق د الف احص‬
‫الممحص‪ ،‬بل غض بصرك في أثناء قعودك أومنامك فيه‪ ،‬قاص را نظ رك على م ا‬
‫تحتاج إليه فحس ب‪ ،‬وال تفتح مغلق ا من خزان ة‪ ،‬أو ص ندوق‪ ،‬أو محفظ ة‪ ،‬أو ص رة‬
‫ملفوفة‪ ،‬أو شىء مستور‪ ،‬فإن هذا خالف أدب اإلسالم واألمانة التي خولك بها أخ و‬
‫ك أو محب ك ذخ ول بيت ه والمق ام عن ده‪ ،‬ف اعرف لزيارت ك آدابه ا‪ ،‬واس لك لحس ن‬
‫المعاشرة أبوابها‪ ،‬تزداد عند مضيفك حبا وأدبا‪ ،‬وهللا تعالى يرعاك ويتوالك)‬
‫ومنها ما ذكره الغزالي‪ ،‬وهو يتحدث عن آداب الضيافة‪ ،‬قال‪(:‬أدبه أن ي دخل‬
‫الدار وال يتص ّدر فيأخذ أحسن األماكن ب ل يتواض ع وال يط وّل االنتظ ار عليهم وال‬
‫يعج ل بحيث يف اجئهم قب ل تم ام االس تعداد‪ ،‬وال يض يق المك ان على الحاض رين‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬أي منزله ومكان سلطته‪.‬‬
‫‪ )(3‬التكرمة‪ :‬الموضع الخاص لجلوس صاحب البيت من فراش أو سرير أو نحوهما‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫بالزحمة‪ ،‬بل إن أشار إليه ص احب المك ان بموض ع ال يخالف ه البت ة فإن ه ق د يك ون‬
‫رتب في نفس ه موض ع ك ل واح د فمخالفت ه تش وّش علي ه‪ ،‬وإن أش ار إلي ه بعض‬
‫الضيفان باالرتفاع إكراما ً فليتواض ع‪ ،‬وال ينبغي أن يجلس في مقابل ة ب اب الحج رة‬
‫الذي للنساء وسترهم)(‪)1‬‬
‫خفة الزيارة‪:‬‬
‫وقد سبقت اإلشارة إلى ذلك في أول هذا المطلب‪ ،‬ب ل عن ك ل اآلداب تس عى‬
‫لنفي الثقل عن الزيارة‪ ،‬ونحب أن ننبه هنا مستدكين على ما ذكرنا من أن ذل ك ليس‬
‫على العموم‪ ،‬فإن من األخوان من ال يستشعر بثقله مهم ا فع ل‪ ،‬وه و م ا ع بر عن ه‬
‫ج َح َر ٌج َوال َعلَى ْال َم ِر ِ‬
‫يض‬ ‫ْس َعلَى اأْل َ ْع َمى َح َر ٌج َوال َعلَى اأْل َ ْع َر ِ‬ ‫تعالى بقوله‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫ت أُ َّمهَ اتِ ُك ْم أوَْ‬ ‫َ‬
‫ت آبَ ائِ ُك ْم أوْ بُيُ و ِ‬ ‫ْ‬
‫َح َر ٌج َوال َعلَى أَ ْنفُ ِس ُك ْم أ ْن تَ أ ُكلُوا ِم ْن بُيُ وتِ ُك ْم أوْ بُيُ و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت َع َّماتِ ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬
‫ت‬ ‫ت أَ ْع َم ا ِم ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬
‫ت أَ َخ َواتِ ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬ ‫ت إِ ْخ َوانِ ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬ ‫بُيُ و ِ‬
‫ص ِديقِ ُك ْم﴾ (النور‪)61:‬‬ ‫ت خَاالتِ ُك ْم أَوْ َما َملَ ْكتُ ْم َمفَاتِ َحهُ أَوْ َ‬ ‫أَ ْخ َوالِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬
‫يقول الغزالي مبينا حدود ذلك‪(:‬فإن دخل ولم يجد ص احب ال دار وك ان واثق ا ً‬
‫اإلذن‬ ‫بصداقته عالما ً بفرحه إذا أكل من طعامه فله أن يأكل بغير إذنه‪ ،‬إذ المراد من ِ‬
‫باإلذن ويحل ف‬ ‫الرضا ال سيما في األطعمة وأمرها على السعة‪ ،‬فرب رجل يصرح ِ‬
‫وهو غير راض فأكل طعامه مكروه‪ ،‬وربّ غائب لم ي أذن وأك ل طعام ه محب وب)‬
‫(‪)2‬‬
‫وي روي عن محم د بن واس ع وأص حابه أنهم ك انوا ي دخلون م نزل الحس ن‬
‫فيأكلون ما يجدون بغير إذن‪ ،‬وكان الحسن يدخل ويرى ذلك فيسر به ويق ول‪ :‬هك ذا‬
‫كنا‪.‬‬
‫وروى عن الحسن أنه كان قائما ً يأكل من متاع بقال في السوق يأخذ من ه ذه‬
‫الجونة تينة ومن هذه قسبة‪ ،‬فقال له هشام‪ :‬ما بدا ل ك ي ا أب ا س عيد في ال ورع تأك ل‬
‫ي آي ة األك ل فتال إلى قول ه تع الى‪ ﴿ :‬أَوْ‬ ‫متاع الرجل بغير إذنه؟ فقال‪ :‬يا لكع اتل عل َّ‬
‫ص ِديقِ ُك ْم ﴾ فقال‪ :‬فمن الصديق يا أبا سعيد؟ قال‪ :‬من استروحت إليه النفس‪ ،‬واطم أن‬ ‫َ‬
‫إليه القلب‪.‬‬
‫ومشى قوم إلى منزل سفيان الثوري فلم يجدوه ففتحوا الباب وأنزل وا الس فرة‬
‫وجعلوا يأكلون‪ ،‬فدخل الثوري وجعل يقول‪ :‬ذكرتموني أخالق السلف هكذا كانوا‪.‬‬
‫وزار ق وم بعض الت ابعين ولم يكن عن ده م ا يقدم ه إليهم‪ ،‬ف ذهب إلى م نزل‬
‫بعض إخوانه فلم يصادفه في المنزل فدخل فنظر إلى قدر ق د طبخه ا وإلى خ بز ق د‬
‫خبزه وغير ذلك فحمله كله فقدمه إلى أصحابه وقال‪ :‬كلوا فجاء رب الم نزل فلم ي ر‬
‫شيئا ً فقيل له‪ :‬قد أخذ فالن‪ ،‬فقال‪ :‬قد أحسن‪ ،‬فلما لقيه قال‪ :‬يا أخي إن عادوا فعد‪.‬‬
‫آداب الضيافة‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.2/15 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.2/10 :‬‬

‫‪245‬‬
‫وهي القسم المكمل للزيارة‪ ،‬ألن الشخص إما زائر أو م زور‪ ،‬والم زور ه و‬
‫المضيف‪ ،‬وهو الذي تتعلق به هذه اآلداب التي سنذكرها باختصار‪ ،‬ألنه له ا محله ا‬
‫الخاص‪.‬‬
‫إكرام الضيف‪:‬‬
‫ْف إِ ْب َرا ِهي َم ْال ُم ْك َر ِمينَ إِذْ‬
‫ضي ِ‬‫يث َ‬ ‫َ‬
‫وهو ما يشير إليه قوله تعالى‪ ﴿ :‬هَلْ أتَاكَ َح ِد ُ‬
‫َ‬
‫َد َخلُوا َعلَ ْي ِه فَقَالُوا َساَل ما ً قَا َل َساَل ٌم قَوْ ٌم ُّمن َكرُونَ فَ َرا َغ إِلَى أ ْهلِ ِه فَ َج اء بِ ِعجْ ٍل َس ِمي ٍن‬
‫ال أَاَل تَأْ ُكلُونَ إب راهيم المك رمين ﴾ (ال ذريات‪ 24:‬ـ ‪)27‬وقول ه تع الى‪:‬‬ ‫فَقَ َّربَهُ إِلَ ْي ِه ْم قَ َ‬
‫ت قَا َل يَا قَوْ ِم هَؤُال ِء بَنَاتِي‬ ‫ُ‬
‫﴿ َو َجا َءهُ قَوْ ُمهُ يُ ْه َر ُعونَ إِلَ ْي ِه َو ِم ْن قَ ْب ُل َكانُوا يَ ْع َملونَ ال َّسيِّئَا ِ‬
‫ْس ِم ْن ُك ْم َر ُج ٌل َر ِشي ٌد﴾ (ه ود‪،)78:‬‬ ‫ض ْيفِي أَلَي َ‬‫طهَ ُر لَ ُك ْم فَاتَّقُوا هَّللا َ َوال تُ ْخ ُزو ِن فِي َ‬ ‫ه َُّن أَ ْ‬
‫ففي اآلية األولى دليل على إكرام الضيف‪ ،‬وفي الثانية دليل على حمايته‪.‬‬
‫وقد ورد في السنة التش ديد في وج وب إكرامه(‪ ،)1‬ق ال ‪(:‬من ك ان ي ؤمن‬
‫باهلل واليوم اآلخر فليكرم ضيفه‪ ،‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخ ر فليص ل رحم ه‪،‬‬
‫ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خ يراً أو ليص مت)(‪ ،)2‬وق ال ‪(:‬من ك ان‬
‫يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليكرم ضيفه جائزته)‪ ،‬ق الوا‪ :‬وم ا جائزت ه ي ا َر ُس ول هَّللا ِ؟‬
‫قال‪(:‬يومه وليلته‪ .‬والضيافة ثالثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه) (‪ ،)3‬وفي‬
‫رواية‪(:‬وال يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه ح تى يؤثم ه) ق الوا‪ :‬ي ا َر ُس ول هَّللا ِ وكي ف‬

‫‪ )(1‬اختلف الفقهاء في حق الضيف‪ :‬هل هو واجب أو مستحب على قولين‪:‬‬


‫القول األول‪ :‬أن الضيافة من مكارم األخالق‪ ،‬ومحاسن الدين‪ ،‬وليست واجبة‪ ،‬وه و ق ول الجمه ور‪ ،‬ومن األدل ة‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫‪.1‬قوله ‪ (: ‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬فليكرم ضيفه جائزته‪ ،‬قالوا‪ :‬وما جائزته يا رسول هللا؟ قال‪ :‬ي وم‬
‫وليل ة‪ ،‬والض يافة ثالث ة أي ام‪ ،‬فم ا ك ان وراء ذل ك فه و ص دقة )‪ ،‬فلف ظ (جائزت ه) الم ذكور في الح ديث ي دل على‬
‫االستحباب فإن الجائزة هي العطية والصلة التي أصلها على الندب‪ ،‬وقلما يُستعمل هذا اللفظ في الواجب‪.‬‬
‫‪.2‬األحاديث القاضية بحرمة مال المسلم إال بطيب نفسه‪.‬‬
‫‪.3‬األحاديث الدالة على أن ليس في المال حق سوى الزكاة‪.‬‬
‫‪.4‬أما األحاديث الواردة في حق الضيف‪ ،‬فقد قال الخطابي‪(:‬إنما ك ان يل زم ذل ك في زمن ه ‪ ‬حيث لم يكن بيت‬
‫مال‪ ،‬وأما اليوم فأرزاقهم في بيت المال‪ ،‬ال حق لهم في أموال المسلمين ) أو أن هذا ك ان في أول اإلس الم‪ ،‬إذ ك انت‬
‫المواساة واجبة‪ ،‬فلما اتسع اإلسالم نُ ِ‬
‫سخ ذلك‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬وجوب الضيافة‪ ،‬وأنها واجبة ليل ة واح دة‪ ،‬وه و ق ول الليث بن س عد‪ ،‬وه و ق ول ابن ح زم‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫ض ري والبدوي والفقيه والجاهل‪ ،‬يوم وليلة مبرة وإتحاف‪ ،‬ثم ثالثة أيام ضيافة‪ ،‬وال مزي د‪،‬‬ ‫الح َ‬
‫( الضيافة فرض على َ‬
‫فإن زاد على ذلك فليس نراه الز ًم ا‪ ،‬وإن تمادى على قراه فحسن‪ ،‬فإن منع الضيافة الواجبة فله أخذها مغالبة‪ ،‬وكي ف‬
‫أمكنه‪ ،‬ويُقضى له بذلك )‪ ،‬وقد انتصر له الشوكاني‪ ،‬واستدل له بما يلي‪ ،‬زيادة على ما سبق من األدلة‪:‬‬
‫‪.1‬إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك‪ ،‬وهذا ال يكون في غير واجب‪.‬‬
‫‪.2‬التأكيد البالغ بجعل ذلك فرع اإليمان باهلل والي وم اآلخ ر‪ ،‬ويفي د أن فع ل خالف ه فع ل من ال ي ؤمن باهلل والي وم‬
‫اآلخر‪ ،‬ومعلوم أن فروع اإليمان مأمور بها‪ .‬ثم تعليق ذلك باإلكرام وهو أخص من الض يافة‪ ،‬فه و دال على لزومه ا‬
‫باألولى‪.‬‬
‫‪.3‬قوله ‪ (:‬فما وراء ذلك فهو صدقة) فهو صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة‪ ،‬بل واجب شرعًا‪.‬‬
‫‪.4‬قوله ‪ (:‬ليلة الضيف حق واجب) فهذا تصريح بالوجوب‪ ،‬لم يأت ما يدل على تأويله‪.‬‬
‫‪.5‬قوله ‪ (:‬فإن نصره حق على كل مسلم) فإن ظاهر هذا وجوب النصرة‪ ،‬وذلك فرع وجوب الضيافة‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫به)(‪)1‬‬ ‫يؤثمه؟ قال‪(:‬يقيم عند أخيه وال شيء يقريه‬
‫ومما يدل على أن هذه النصوص للوجوب‪ ،‬قوله ‪ ‬لعبد هللا بن عم رو َّ‬
‫‪(:‬إن‬
‫لجسدك عليك حقً ا‪ ،‬وإن لعين ك علي ك حقً ا‪ ،‬وإن ل زورك علي ك حقً ا‪ ،‬وإن لزوج ك‬
‫عليك حقًا)(‪ )2‬وقوله ‪(:‬أيما ض يف ن زل بق وم فأص بح الض يف محرو ًم ا فل ه أن‬
‫يأخذ بقدر قراه وال حرج عليه)(‪ ،)3‬بل روي أنه ‪ ‬قال‪(:‬أيم ا رج ل أض اف قو ًم ا‬
‫فأصبح الضيف محرو ًما‪ ،‬فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخ ذ بق رى ليلت ه من‬
‫زرعه وماله)(‪)4‬‬
‫بل ورد في النصوص م ا ي بين عل و أخالق الص الحين من تق ديمهم الض يف‬
‫على أنفسهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وي ْ‬
‫ُط ِع ُمونَ الطَّ َعا َم َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينا ً َويَتِيم ا ً َوأَ ِس يراً﴾‬
‫(االنسان‪)8:‬‬
‫وق د روي من فع ل الس لف م ا بين ك رم أخالقهم وعظيم إيث ارهم‪ ،‬فعن أبي‬
‫هريرة قال‪ :‬جاء رج ل إلى الن بي ‪ ‬فق ال‪ :‬إني مجه ود‪ .‬فأرس ل إلى بعض نس ائه‬
‫فقالت‪ :‬والذي بعثك بالحق ما عندي إال م اء‪ .‬ثم أرس ل إلى أخ رى فق الت مث ل ذل ك‬
‫حتى قلن كلهن مثل ذلك ال والذي بعثك بالحق ما عندي إال ماء‪ .‬فقال النبي ‪(:‬من‬
‫يضيف هذا الليلة؟) فقال رجل من األنصار‪ :‬أنا يا َرسُول هَّللا ِ‪ .‬فانطلق ب ه إلى رحل ه‬
‫فقال المرأته‪ :‬أكرمي ضيف َرسُول هَّللا ِ ‪ ،)‬وفي رواية ق ال المرأت ه‪ :‬ه ل عن دك‬
‫شيء؟ قالت‪ :‬ال إال قوت صبياني‪ .‬قال‪ :‬علليهم بشيء‪ ،‬وإذا أرادوا العش اء فن وميهم‪،‬‬
‫وإذا دخ ل ض يفنا ف أطفئي الس راج وأري ه أن ا نأك ل‪ .‬فقع دوا وأك ل الض يف وبات ا‬
‫طاويين‪ .‬فلما أصبح غدا على النبي ‪ ‬فقال‪(:‬لقد عجب هَّللا من ص نيعكما بض يفكما‬
‫الليلة)(‪)5‬‬
‫ومن هدي ه ‪ ‬في إك رام الض يف م ا ورد في خ بر إس الم ع دي بن ح اتم‬
‫الطائي‪ ،‬فق د روي أن ه ق دم على الن بي ‪ ،‬فأكرم ه ب الجلوس على وس ادة‪ ،‬وجلس‬
‫رسول هللا ‪ ‬على األرض‪ ،‬قال عدي‪ :‬ثم مضى بي رسول هللا ‪ ،‬حتى إذا دخ ل‬
‫بيته‪ ،‬تناول وسادة من أدم محشوة ليفا‪ ،‬فقذفها إلي فق ال‪ :‬اجلس على ه ذه‪ ،‬قلت‪ :‬ب ل‬
‫أنت فاجلس عليها‪ ،‬قال‪ :‬بل أنت‪ ،‬فجلست عليها‪ ،‬وجلس رسول هللا ‪ ‬باألرض‪.‬‬
‫احترام الضيف‪:‬‬
‫وهو أمر زائد على مجرد اإلكرام‪ ،‬ألنه يدل على الحفاوة ب ه‪ ،‬وع دم الض يق‬
‫من وجوده‪ ،‬زيادة على ما يبثه في نفسه من المحبة لمض يفه وهي مقص د جلي ل من‬
‫مقاص د الش ارع‪ ،‬وله ذا ق ال ‪(:‬وال ذي نفس محم د بي ده‪ ،‬ال ت دخلوا الجن ة ح تى‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري واللفظ له‪ ،‬ومسلم وغيرهما‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد ورواته ثقات والحاكم وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود والحاكم وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫تؤمن وا‪ ،‬وال تؤمن وا ح تى تح ابوا‪ ،‬أو ال أن بئكم بش يء إذا فعلتم وه تح اببتم؟ أفش وا‬
‫السالم بينكم)(‪)1‬‬
‫ومن مظاهر احترام الضيف التي ذكرها العلماء أن يق ّدم الطست إليه ليغسل‪،‬‬
‫فقد روي أنه اجتمع أنس بن مالك وثابت البناني على طعام فق ّدم أنس الطس ت إلي ه‬
‫فامتنع ثابت فقال أنس‪(:‬إذا أكرمك أخوك فاقبل كرامته وال تردها فإنما يكرم هللا عز‬
‫وجل)‬
‫ومنه ا أن ال يبت دىء بالطع ام ومع ه من يس تحق التق ديم بك بر س ن أو زي ادة‬
‫فض ل إال أن يك ون ه و المتب وع والمقت دى ب ه‪ ،‬فحينئ ذ ينبغي أن ال يط ول عليهم‬
‫االنتظار إذا اشرأبوا لألكل واجتمعوا له‪.‬‬
‫ومنها أن يدعوه لألكل‪ ،‬من غير إلحاح‪ ،‬قال الغزالي‪(:‬فإن قل ل رفيق ه نش طه‬
‫ورغبه في األكل وقال له‪ُ ( :‬كلْ ) وال يزيد في قوله‪ُ ( :‬كلْ ) على ثالث مرات فإن ذلك‬
‫إلحاح وإفراط)(‪)2‬‬
‫واستدل لذلك بأن رسول هللا ‪ ‬كان إذا خوطب في شيء ثالثا ً لم يراجع بعد‬
‫ثالث‪ ،‬وكان يكرّر الكالم ثالثاً‪( ،‬فليس من األدب الزيادة عليه)‬
‫ومن اإللحاح المنهي عنه الحلف عليه باألكل‪ ،‬قال الحس ن بن علي ‪(:‬الطع ام‬
‫أهون من أن يحلف عليه)‬
‫ومنها أن يقدم له الطعام من غير أن يقول له‪ :‬هل أق ّدم ل ك طعام اً؟ ب ل ينبغي‬
‫أن يق ّدم إن كان‪ ،‬قال الث وري‪(:‬إذا زارك أخ وك فال تق ل ل ه‪ :‬أتأك ل؟ أو أق ّدم إلي ك؟‬
‫ولكن ق ّدم فإن أكل وإال فارفع)‬
‫ومنها أن يتعامل مع كل ضيف بما يتناس ب مع ه‪ ،‬ق ال بعض الص الحين‪(:‬إذا‬
‫دخل عليكم الفقراء فقدموا إليهم طعاماً‪ ،‬وإذا دخل الفقه اء فس لوهم عن مس ألة‪ ،‬ف إذا‬
‫دخل القراء فدلوهم على المحراب)‬
‫ومنها أن ال يم يز الغ ني با ِإلجاب ة عن الفق ير‪ ،‬ف ذلك ه و التك بر المنهي عن ه‬
‫اإلجابة وقال‪ :‬انتظ ار المرق ة ذل‪ ،‬وق ال آخ ر‪:‬‬ ‫وألجل ذلك امتنع بعضهم عن أصل ِ‬
‫إذا وضعت يدي في قصعة غيري فق د ذلت ل ه رقب تي‪ ،‬ومن المتك برين ممن يجيب‬
‫األغنياء دون الفقراء وهو خالف السنّة‪.‬‬
‫ومن أهم مظاهر احترام الضيف أن ال يميز بين غ ني وفق ير‪ ،‬ألن ه إن م يز‬
‫بينهما كان احترام ه للم ال ال للض يف‪ ،‬فق د ك ان رس ول هللا ‪ ‬يجيب دع وة العب د‬
‫ودعوة المسكين‪.‬‬
‫ومر الحس ن بن علي بق وم من المس اكين ال ذين يس ألون الن اس على قارع ة‬
‫الطريق وق د نش روا كس راً على األرض في الرم ل‪ ،‬وهم ي أكلون وه و على بغلت ه‬
‫فسلم عليهم فقالوا له‪ :‬هلم إلى الغداء يا ابن بنت رس ول هللا ‪ ‬فق ال‪(:‬نعم‪ ،‬إن هللا ال‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد والترمذي والضياء‪.‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.2/7 :‬‬

‫‪248‬‬
‫يحب المس تكبرين)‪ ،‬ف نزل وقع د معهم على األرض وأك ل‪ ،‬ثم س لم عليهم وركب‬
‫وقال‪ :‬قد أجبتكم فأجيبوني‪ ،‬ق الوا‪ :‬نعم‪ ،‬فوع دهم وقت ا ً معلوم ا ً فحض روا فق ّدم إليهم‬
‫فاخر الطعام وجلس يأكل معهم‪.‬‬
‫الخفة وعدم التكلف‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وهي أصل من أصول هذا الباب يشير إليه قوله تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ َما أ ْس أل ُك ْم َعلَ ْي ِه‬
‫ِم ْن أَجْ ٍر َو َما أَنَا ِمنَ ْال ُمتَ َكلِّفِينَ ﴾ (صّ ‪ ،)86:‬أي وما أري د على م ا أرس لني هّللا تع الى‬
‫به‪ ،‬وال أبتغي زيادة عليه‪ ،‬بل ما أمرت به أديته‪ ،‬ال أزيد عليه وال أنقص منه‪.‬‬
‫وه ذا ال يقتص ر فق ط على ه ذا الب اب‪ ،‬ب ل يش مل جمي ع حي اة المس لم‪ ،‬ق ال‬
‫مسروق‪ :‬أتينا عبد هّللا بن مسعود فقال‪(:‬يا أيها الناس من علم شيئا ً فليقل ب ه‪ ،‬ومن لم‬
‫يعلم فليقل‪ :‬هّللا أعلم‪ ،‬فإن من العلم أن يقول الرجل لما ال يعلم‪ :‬هّللا أعلم‪ ،‬فإن هّللا ع َّز‬
‫وج َّل قال لنبيكم ‪ ﴿ :‬قُلْ َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر َو َما أَنَا ِمنَ ْال ُمتَ َكلِّفِينَ ﴾ (صّ ‪))86 :‬‬
‫(‪ ،)1‬وعن ابن عمر قال‪ :‬خ رج رس ول هللا ‪‬في بعض أس فاره‪ ،‬فس ار ليال فم روا‬
‫على رجل جالس عند مقراة له‪ ،‬فق ال ل ه عم ر‪ :‬ي ا ص احب المق راة أولغت الس باع‬
‫الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي ‪(:‬يا صاحب المقراة ال تخبره هذا متكلف له ا م ا‬
‫حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور)(‪)2‬‬
‫وهكذا في ب اب الض يافة‪ ،‬ف إن التكل ف س واء ك ان من المض يف او الض يف‬
‫يضاد مقاصد الشيعة منها‪ ،‬فتتحول من وسيلة للتآلف والتراحم والتكاف ل إلى وس يلة‬
‫للقطيعة والبغضاء وجميع األمراض النفسية‪.‬‬
‫ولهذا سنذكر هنا بعض ما يرتبط بهذا األدب من مظاهر‪:‬‬
‫خفة المضيف‪ :‬ومن أول مظاهرها ـ كما يذكر الغزالي ـ تقديم ما حضر‪ ،‬فإن‬
‫لم يحض ره ش يء ولم يمل ك‪ ،‬فال يس تقرض ألج ل ذل ك فيش وش على نفس ه‪ ،‬وإن‬
‫حضره ما هو محتاج إليه لقوته ولم تسمح نفسه بالتقديم فال ينبغي أن يقدم(‪.)3‬‬
‫وينقل عن بعض السلف قوله في تفسير التكل ف‪(:‬أن تطعم أخ اك م ا ال تأكل ه‬
‫أنت بل تقصد زيادة عليه في الجودة والقيمة)‬
‫وسبب هذا أن التكلف هو الذي يجع ل الض يف ثقيال على المض يف‪ ،‬بخالف‬
‫ما لو قدم ما يمكنه‪ ،‬وقد نبه إلى هذا الفضيل‪ ،‬فقال‪(:‬إنما تقاطع الناس بالتكلف ي دعو‬
‫أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه عن الرجوع إليه)‪ ،‬ولهذا قال بعضهم‪(:‬م ا أب الي بمن‬
‫أتاني من إخواني ف إني ال أتكل ف ل ه إنم ا أق رب م ا عن دي ول و تكلفت ل ه لك رهت‬
‫مجيئه ومللته)‪ ،‬وقال بعضهم‪(:‬كنت أدخ ل على أخ لي فيتكل ف لي فقلت ل ه‪ :‬إن ك ال‬
‫تأكل وحدك هذا وال أنا فم ا بالن ا إذا اجتمعن ا أكلن اه؟ فإم ا أن تقط ع ه ذا التكل ف أو‬
‫أقطع المجيء‪ ،‬فقطع التكلف ودام اجتماعنا بسببه)‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الدارقطني‪.‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.2/10 :‬‬

‫‪249‬‬
‫ومن مظاهر التكلف ـ كما يذكر الغزالي ـ أن يق دم جمي ع م ا عن ده فيجح ف‬
‫بعياله ويؤذي قلوبهم(‪ ،)1‬ويروي في ذلك أن رجالً دعا عليا ً فقال علي‪(:‬أجيبك على‬
‫ثالث ش رائط‪ :‬ال ت دخل من الس وق ش يئاً‪ ،‬وال ت دخر م ا في البـيت‪ ،‬وال تجح ف‬
‫بعيالك)‪ ،‬وكان بعضهم يقدم من كل ما في البـيت فال يترك نوع ا ً إال ويحض ر ش يئا ً‬
‫منه‪.‬‬
‫وهذا ال يتن افى م ع م ا ذكرن ا من إك رام الض يف‪ ،‬ألن اإلك رام ال يك ون إال‬
‫بالمقدور عليه‪ ،‬فالجود ال يكون إال بالموجود كما يقال‪.‬‬
‫ومن مظاهر التكلف أن يدعو من ال يحب إجابته‪ ،‬قال س فيان‪(:‬من دع ا أح داً‬
‫إلى طعام وهو يكره ا ِإلجابة فعليه خطيئة فإن أجاب المدعو فعليه خطيئتان)‬
‫خفة الض يف‪ :‬ومن أول مظاهره ا ـ كم ا ي ذكر الغ زالي ـ أن ال يق ترح وال‬
‫يتحكم بشيء بعينه فربما يشق على المزور إحضاره‪ ،‬فإن خيَّره أخوه بـين طع امين‬
‫فليتخير أيسرهما عليه(‪.)2‬‬
‫وهذا هو هدي رسول هللا ‪ ،‬ففي الحديث‪(:‬ما خ ير رس ول هللا بـين أم رين‬
‫إال اختار أيسرهما)(‪)3‬‬
‫ويروى من ذلك من هدي السلف عن أبـي وائل قال‪ :‬مضيت مع ص احب لي‬
‫نزور سلمان فقدم إلينا خبز شعير وملحا ً جريش اً‪ ،‬فق ال صاحبـي‪ :‬ل و ك ان في ه ذا‬
‫الملح سعتر كان أطيب‪ ،‬فخرج سلمان فرهن مطهرته وأخذ س عتراً‪ ،‬فلم ا أكلن ا ق ال‬
‫صاحبـي‪ :‬الحمد هلل الذي قنعنا بما رزقنا‪ .‬فقال س لمان‪ :‬ل و قنعت بم ا رزقت لم تكن‬
‫مطهرتي مرهونة‪.‬‬
‫وه ذا إذا ت وهم تع ذر ذل ك على أخي ه أو كراهت ه ل ه‪ ،‬أم ا إن علم أن ه يس ر‬
‫باقتراحه ويتيسر عليه‪ ،‬فال يكره له االقتراح‪ ،‬وقد روي أن الشافعي كان ن ازالً عن د‬
‫الزعف راني ببغ داد‪ ،‬وك ان الزعف راني يكتب ك ل ي وم رقع ة بم ا يطبخ من األل وان‬
‫ويسلمها إلى الجارية‪ ،‬فأخذ الشافعي الرقع ة في بعض األي ام وألح ق به ا لون ا ً آخ ر‬
‫بخطه‪ ،‬فلما رأى الزعفراني ذلك اللون أنكر وقال‪ :‬ما أم رت به ذا؟ فعرض ت علي ه‬
‫الرقع ة ملحق ا ً فيه ا خ ط الش افعي فلم ا وقعت عين ه على خط ه ف رح ب ذلك وأعت ق‬
‫الجارية سروراً باقتراح الشافعي عليه‪.‬‬
‫ومن مظاهرها أن ال يحوج مضيفه إلى اإللحاح علي ه في األك ل‪ ،‬ق ال جعف ر‬
‫ي من يحوج ني‬ ‫ي أكثرهم أكالً وأعظمهم لقمة وأثقلهم عل َّ‬‫بن محمد ‪(:‬أحب إخواني إل َّ‬
‫إلى تعهده في األكل)‬
‫ً‬
‫وينق ل الغ زالي في ذل ك عن بعض األدب اء قول ه‪(:‬أحس ن اآلكلين أكال من ال‬
‫يحوج صاحبه إلى أن يتفقده في األكل وحمل عن أخيه مؤنة القول)‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.2/10 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.2/11 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫‪ 4‬ـ آداب المجالس‬
‫والمراد من المجالس ك ل اجتم اع للش خص م ع غ يره‪ ،‬س واء ك ان ذل ك في‬
‫مدرسة أو مسجد أو ش ارع‪ ،‬وس واء ك ان ذل ك جلوس ا أو مش يا‪ ،‬وس واء ك ان ذل ك‬
‫بقصد أو بغير قصد‪.‬‬
‫فكل اجتماع كثر أفراده أو قلوا مجلس من المج الس ينطب ق علي ه م ا نص ت‬
‫عليه الشريعة من آداب‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وقد أشار إلى هذا النوع من اآلداب قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أيُّهَ ا ال ِذينَ آ َمنُ وا إِ َذا قِي َل‬
‫ح هَّللا ُ لَ ُك ْم َوإِ َذا قِي َل ا ْن ُش ُزوا فَا ْن ُش ُزوا يَرْ فَ ِع هَّللا ُ‬ ‫لَ ُك ْم تَفَ َّسحُوا فِي ْال َم َجالِ ِ‬
‫س فَا ْف َسحُوا يَ ْف َس ِ‬
‫ت َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ خَ بِيرٌ﴾ (المجادلة‪)11:‬‬ ‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم د ََر َجا ٍ‬
‫وه ذه اآلداب له ا أهميته ا االجتماعي ة الك برى‪ ،‬ألن ه ال يمكن أن يس تفيد أي‬
‫إنسان من غيره‪ ،‬وال يمكن ل ه أن يفي ده إال إذا ك ان ذل ك تحت ظالل األدب الرفي ع‬
‫الذي أرشدنا إليه اإلسالم‪.‬‬
‫ويمكن تقسيم هذه اآلداب إلى ثالثة أنواع‪ ،‬هي‪:‬‬
‫أ ـ اختيار الجليس‬
‫وه و أول اآلداب وأهمه ا‪ ،‬وإلي ه يش ير قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َرأَيْتَ الَّ ِذينَ‬
‫ك‬ ‫ث َغ ْي ِر ِه َوإِ َّما يُ ْن ِس يَنَّ َ‬ ‫وض ونَ فِي آيَاتِنَ ا فَ أ َ ْع ِرضْ َع ْنهُ ْم َحتَّى يَ ُخ ُ‬
‫وض وا فِي َح ِدي ٍ‬ ‫يَ ُخ ُ‬
‫ال َّش ْيطَانُ فَال تَ ْق ُع ْد بَ ْع َد ال ِّذ ْك َرى َم َع ْالقَوْ ِم الظَّالِ ِمينَ ﴾ (األنعام‪ ،)68:‬ففي اآلي ة الكريم ة‬
‫نهي عن القعود م ع ه ذا الص نف من الن اس‪ ،‬وفي ه دالل ة على وج وب اختي ار من‬
‫يجلس معهم‪.‬‬
‫وإليه اإلشارة كذلك بقول ه تع الى على لس ان الظ الم ي وم القيام ة‪ ﴿ :‬يَ ا َو ْيلَتَى‬
‫لَ ْيتَنِي لَ ْم أَتَّ ِخ ْذ فُالنا ً خَ لِيالً﴾ (الفرقان‪)28:‬‬
‫وسر هذا النهي هو أن هذا الجلوس قد يكون سببا ألمرين خطيرين كالهما له‬
‫تأثيره النفسي واالجتماعي‪:‬‬
‫التأثر بالمنكر‪:‬‬
‫وهو أول اخطار الجلوس مع الظالمين‪ ،‬وذلك ألن الطب ع يس رق من الطب ع‪،‬‬
‫كما قال ‪(:‬المرء على دين خليله‪ ،‬فلينظر أحدكم من يخالل)(‪ ،)1‬وقال اإلمام علي‬
‫‪(:‬الصحبة سارية والطبيعة سارقة) ولذا قالوا فيما نسب إلى اإلمام جعف ر الص ادق‪:‬‬
‫(احذر عدوك مرة‪ ،‬واحذر صديقك ألف مره)‪ ،‬فقد ذكر من معاني ه أن ه ال ينبغي أن‬
‫يتخذ كل أحد صديقا وخليال‪ ،‬بل ال بد أن يكون له نحو حسن الخل ق وحس ن الس يرة‬
‫والصالح وعدم الحرص على الدنيا‪ ،‬وهذا ال يوجد إال في واحد من ألف‪.‬‬
‫وق د قي ل‪(:‬ص حبة األخي ار ت ورث الخ ير وص حبة األش رار ت ورث الش ر‪،‬‬
‫كالريح إذا مرت على النتن حملت نتنا‪ ،‬وإذا مرت على الطيب حملت طيبا)‬
‫وإلى هذا اإلشارة بقوله تعالى على لسان الظالم يوم القيامة‪ ﴿ :‬يَ ا َو ْيلَتَى ل ْيتَنِي‬
‫َ‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود والترمذي ‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫لَ ْم أَتَّ ِخ ْذ فُالنا ً َخلِيالً﴾ (الفرقان‪)28:‬‬
‫وقد قال ‪ ،‬وهو يبين أهمية الجليس وت أثيره في جليس ه‪(:‬إنم ا مث ل الجليس‬
‫الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير‪ ،‬فحام ل المس ك إم ا أن يح ذيك‬
‫وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثياب ك وإم ا أن‬
‫تجد ريحا خبيثة)(‪)1‬‬
‫وبين ‪ ‬ما يمكن أن يستفيده الم ؤمن من مجالس ته للص الحين‪ ،‬فق د ورد في‬
‫الحديث عن ابن عباس قال‪ :‬قيل يا رسول هللا؛ أي جلس ائنا خ ير؟ ق ال‪(:‬من ذك ركم‬
‫باهلل رؤيته‪ ،‬وزاد في علمكم منطقه‪ ،‬وذكركم باآلخرة عمله)(‪)2‬‬
‫اإلقرار على المنكر‪:‬‬
‫وض ونَ فِي آيَاتِنَ ا‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫وه و م ا يش ير إلي ه قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َرأيْتَ ال ِذينَ يَ ُخ ُ‬
‫الش ْيطَانُ فَال تَ ْق ُع ْد بَ ْع َد‬ ‫ك َّ‬ ‫ث َغي ِْر ِه َوإِ َّما يُ ْن ِس يَنَّ َ‬ ‫فَأ َ ْع ِرضْ َع ْنهُ ْم َحتَّى يَ ُخوضُوا فِي َح ِدي ٍ‬
‫ال ِّذ ْك َرى َم َع ْالقَ وْ ِم الظَّالِ ِمينَ ﴾ (األنع ام‪ ،)68:‬ف أمر هللا نبي ه ب اإلعراض عن ال ذين‬
‫يخوض ون في آي ات هللا بالتك ذيب وإظه ار االس تخفاف إعراض ا يقتض ي اإلنك ار‬
‫عليهم وإظه ار الكراه ة لم ا يك ون منهم إال أن ي تركوا ذل ك ويخوض وا في ح ديث‬
‫غيره‪.‬‬
‫وذلك ألن في مجالستهم مختارا م ع ت رك النك ير دالل ة على الرض ا بفعلهم‪،‬‬
‫يس ى اب ِْن‬ ‫ان دَا ُو َد َو ِع َ‬‫رائيل َعلَى لِ َس ِ‬ ‫َ‬ ‫وقد ق ال تع الى‪ ﴿ :‬لُ ِعنَ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا ِم ْن بَنِي إِ ْس‬
‫َصوْ ا َو َكانُوا يَ ْعتَ ُدونَ ﴾ (المائ دة‪ ،)78:‬ثم بين س بب ه ذا اللعن بقول ه‬ ‫ك بِ َما ع َ‬ ‫َمرْ يَ َم َذلِ َ‬
‫س َما َك انُوا يَ ْف َعلُ ونَ تَ َرى َكثِ يراً ِم ْنهُ ْم‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬كانُوا ال يَتَنَاهَوْ نَ ع َْن ُم ْن َك ٍر فَ َعلُوهُ لَبِ ْئ َ‬
‫ب هُ ْم‬ ‫ت لَهُ ْم أَ ْنفُ ُس هُ ْم أَ ْن َس ِخطَ هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم َوفِي ْال َع َذا ِ‬ ‫س َما قَ َّد َم ْ‬‫يَتَ َولَّوْ نَ الَّ ِذينَ َكفَرُوا لَبِ ْئ َ‬
‫خَالِ ُدونَ ﴾ (المائدة‪ 79:‬ـ ‪)80‬‬
‫وقد أخبر ‪ ‬عن كيفية حصول ذلك‪ ،‬فقال‪(:‬إن أول ما دخل النقص على بني‬
‫إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق هللا ودع ما تصنع فإن ه ال‬
‫يحل لك ثم يلقاه من الغد فال يمنعه ذلك أن يك ون أكيل ه وش ريبه وقعي ده فلم ا فعل وا‬
‫ذل ك ض رب هللا قل وب بعض هم ببعض) ثم ق رأ اآلي ات الس ابقة‪ ،‬ثم ق ال‪(:‬كال وهللا‬
‫لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنك ر ولتأخ ذن على ي دي الظ الم ولتأطرن ه على‬
‫الح ق ولتقص رنه على الح ق قص را أو ليض ربن هللا بقل وب بعض كم على بعض‬
‫وليلعننكم كما لعنهم)(‪)3‬‬
‫وذلك ألن المجالسة ن وع من الرك ون إلى الجليس‪ ،‬وق د نهان ا هللا تع الى عن‬
‫الركون إلى الظالمين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وال تَرْ َكنُوا إِلَى الَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا فَتَ َم َّس ُك ُم النَّا ُر َو َم ا‬
‫صرُونَ ﴾ (هود‪)113:‬‬ ‫ُون هَّللا ِ ِم ْن أَوْ لِيَا َء ثُ َّم ال تُ ْن َ‬
‫لَ ُك ْم ِم ْن د ِ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو بكر البزار‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫ولكن هذا مقيد بما ذكرنا‪ ،‬أما إن كان قصده الدعوة هلل‪ ،‬أو تغيير المنك ر‪ ،‬فال‬
‫ح رج من الجل وس‪ ،‬ب ل ه و واجب‪ ،‬كم ا حكى تع الى عن األنبي اء ـ ص لوات هللا‬
‫وس المه عليهم ـ في ح وارهم م ع أق وامهم‪ ،‬وكم ا حكى عن الص احبين في س ورة‬
‫الكهف‪ ،‬وغيرها من مشاهد الحوار في القرآن الكريم‪.‬‬
‫وه ذا أيض ا مقي د منض بط بم دى اس تعدادهم للتلقي واالس تفادة‪ ،‬ف إن ك انوا‬
‫مستعدين للسماع والتأثر‪ ،‬فإن ه يس تحب الجل وس معهم للت أثير فيهم‪ ،‬وإن لم يكون وا‬
‫س َوتَ َولَّى أَن َج اءهُ‬ ‫مس تعدين ل ذلك‪ ،‬فال حاج ة للجل وس معهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬عبَ َ‬
‫َ‬
‫اس تَ ْغنَى فَ أنتَ لَ هُ‬ ‫اأْل َ ْع َمى َو َما يُ ْد ِريكَ لَ َعلَّهُ يَ َّز َّكى أَوْ يَ َّذ َّك ُر فَتَنفَ َع هُ ال ِّذ ْك َرى أَ َّما َم ِن ْ‬
‫ك أَاَّل يَ َّز َّكى َوأَ َّما َمن َج اءكَ يَ ْس َعى َوهُ َو يَ ْخ َش ى فَ أ َ ْنتَ َع ْن هُ تَلَهَّى﴾‬ ‫َص َّدى َو َما َعلَ ْي َ‬
‫ت َ‬
‫(عبس‪ 1:‬ـ ‪)10‬‬
‫ب ـ احترام الجليس‬
‫وهو من أهم آداب المجالسة‪ ،‬ألن الجليس إن ش عر بالمهان ة‪،‬أو لم يش عر بم ا‬
‫يستحقه من احترام قد يصرفه عن جليسه‪ ،‬فال يفي ده وال يس تفيد من ه‪ ،‬فتض يع ب ذلك‬
‫أهم مقاصد المجالس‪.‬‬
‫واحترام الجليس سنة رسول هللا ‪ ،‬فقد كان يكرم جلس اءه إكرام ا ال ح دود‬
‫له‪ ،‬وعن ابن عباس قال‪(:‬أعز الناس علي جليسي الذي يتخطى الناس إلي‪ ،‬أم ا وهللا‬
‫إن الذباب يقع عليه فيشق علي)‪ ،‬وسئل‪(:‬من أكرم الناس عليك؟ ق ال‪ :‬جليس ي ح تى‬
‫يفارقني)‪ ،‬وروي عنه قوله‪(:‬ثالثة ال أقدر على مكاف أتهم وراب ع ال يكافئ ه ع ني إال‬
‫هللا تعالى‪ ،‬فأما الذين ال أق در على مكاف أتهم‪ :‬فرج ل أوس ع لي في مجلس ه‪ ،‬ورج ل‬
‫سقاني على ظمإ‪ ،‬ورجل أغبرت قدماه في االختالف إلى بابي‪ ،‬وأما الرابع ال ذي ال‬
‫يكافئه عني إال هللا عز وجل فرجل عرضت له حاجة فظل ساهرا متفكرا بمن ينزل‬
‫حاجته وأصبح فرآني موضعا لحاجته‪ ،‬فهذا ال يكافئه ع ني إال هللا ع ز وج ل‪ ،‬وإني‬
‫ألستحي من الرجل أن يطأ بساطي ثالثا ال يرى عليه أثرا من أثري)‬
‫ومن مظاهر احترام الجليس التي وردت بها النصوص‪:‬‬
‫أن ال يقام من مجلسه‪:‬‬
‫ألن من جلس في محل صار حرما له‪ ،‬فال يق ام عن ه إال بإذن ه‪ ،‬وبطيب نفس‬
‫من ه‪ ،‬ق ال ‪(:‬ال يقيم الرج ل الرج ل من مجلس ه ثم يجلس في ه ولكن تفس حوا‬
‫وتوسعوا)(‪ ،)1‬فلف ظ الخ بر في ه ذا الح ديث في مع نى النهي‪ ،‬وق د ورد في رواي ة‬
‫أخرى‪(:‬ال يقيمن)(‪ )2‬بصيغة النهي مؤكدا‪.‬‬
‫وظاهر هذا النص يدل على التحريم‪ ،‬فمن سبق إلى موضع مب اح من مس جد‬
‫أو غيره لصالة أو غيرها من الطاعات فهو أح ق ب ه‪ ،‬ويح رم على غ يره أن يقيم ه‬
‫من ه إال لس بب من األس باب‪ ،‬كم ا ورد في الح ديث اآلخ ر قول ه ‪(:‬من ق ام من‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به)(‪ )1‬أي أنه إذا كان قد سبق في ه ح ق ألح د بقع وده‬
‫فيه من مصل أو غيره ثم فارقه ألي حاجة ثم عاد وقد قعد فيه أح د أن ل ه أن يقيم ه‬
‫منه‪.‬‬
‫وقد بين ابن الحاج التفاصيل المرتبطة بهذا األدب‪ ،‬فقال‪(:‬وينبغي له أيضا أن‬
‫ال يكون في مجلسه مكان مميز آلحاد الناس بل كل من سبق لموض ع فه و أولى ب ه‬
‫كما هو ذلك مشروع في انتظار الص الة‪ ،‬وال يق ام أح د من موض عه ج برا ويجلس‬
‫فيه غيره للنهي من صاحب الشريعة ‪ ‬عن ذلك ح تى ل و ق ام غ ير مع رض عن ه‬
‫لضرورة وعاد كان به أحق أيضا اللهم إال أن يكون الموضع معلوما عند الناس أن ه‬
‫ال يجلس فيه إال فالن‪ ،‬وهم محتاجون إليه في فتواه وعلم ه‪ ،‬ف إن جلس في غ يره لم‬
‫يعلم مكانه أو يعلم بمشقة فهذا مستثنى مما نهي عنه‪ ،‬فإن كان المسبوق صاحب علم‬
‫وفض يلة فحيثم ا جلس ك ان ص درا‪ ،‬وليس ت المواض ع ب التي تص در الن اس‪ ،‬وال‬
‫ترفعهم وإنما يرفع المرء ما هو حامل ه من علم وفض يلة ودين وتق وى‪ ،‬وإنم ا وق ع‬
‫التخص يص لمن ذك ر الحتي اجهم إلي ه في فت واه وعلم ه‪ ،‬وإن ك ان ال دليل مقتض اه‬
‫العموم فالضرورة خصصت الدليل العام‪ ،‬وليس هذا بأول دلي ل خص وذل ك كث ير‪،‬‬
‫وال ب أس أن يوس ع ل ه في المجلس م ا لم ي ؤد ذل ك إلى الض رر لقول ه ‪(:‬ولكن‬
‫تفسحوا وتوسعوا)(‪)2‬‬
‫وم ا ذك ره ابن الح اج ن راه ـ لألس ف ـ في مجتمعاتن ا ال تي أحيت الطبقي ة‬
‫الجاهلية‪ ،‬فميزت بين الناس على أسس ليس للشرع فيها نصيب‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن العربي أنواع المجالس‪ ،‬ومن يتصدر فيها‪ ،‬فق ال‪(:‬األول مجلس‬
‫‪ ‬يفسح فيه بالهجرة والعلم والسن‪ .‬الثاني مجلس الجمعات يتقدم فيه بالبكور إال ما‬
‫يلي اإلم ام‪ ،‬فإن ه ل ذوي األحالم والنهى‪ .‬الث الث‪ :‬مجلس ال ذكر يجلس في ه ك ل أح د‬
‫حيث انتهى به المجلس‪ .‬الرابع مجلس الح رب يتق دم في ه ذوو النج دة والم راس من‬
‫الناس‪ .‬الخامس مجلس الرأي والمشاورة يتقدم فيه من له بصر بالشورى)(‪)3‬‬
‫وما ذكره حسن وقوي‪ ،‬يمكن أن يستشهد له بالشواهد الكثيرة‪ ،‬كقول ه تع الى‪:‬‬
‫ت َوهَّللا ُ بِ َم ا تَ ْع َملُ ونَ َخبِ يرٌ﴾‬‫﴿ يَرْ فَ ِع هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ِم ْن ُك ْم َوالَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِع ْل َم د ََر َج ا ٍ‬
‫(المجادلة‪ )11:‬فيرتفع المرء بإيمانه أوال‪ ،‬ثم بعلمه ثانيا‪.‬‬
‫َ‬
‫وقد أرشد القرآن الكريم إلى بديل عن إقامة أي شخص‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أيُّهَا‬
‫ح هَّللا ُ لَ ُك ْم﴾ (المجادلة‪،)11:‬‬ ‫س فَا ْف َسحُوا يَ ْف َس ِ‬ ‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َذا قِي َل لَ ُك ْم تَفَ َّسحُوا فِي ْال َم َجالِ ِ‬
‫فهذا أمر بتحسين األدب في مجالسة رسول هللا ‪ ،‬حتى ال يضيقوا علي ه المجلس‪،‬‬
‫وأمر المسلمين بالتع اطف والت آلف ح تى يفس ح بعض هم لبعض‪ ،‬ح تى يتمكن وا من‬
‫االستماع من رسول هللا ‪ ‬والنظر إلي ه‪ .‬ق ال قت ادة ومجاه د‪(:‬ك انوا يتنافس ون في‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬المدخل‪.1/199 :‬‬
‫‪ )(3‬أحكام القرآن‪.4/168 :‬‬

‫‪254‬‬
‫مجلس النبي ‪ ،‬فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض)‬
‫طرح الوسادة للزائر‪:‬‬
‫ومثل ذلك في عصرنا أن يجلسه كرسيا وث يرا‪ ،‬أو في موض ع الئ ق جمي ل‪،‬‬
‫وقد كان هذا سنة رسول هللا ‪ ،‬بحس ب اإلمكاني ات المتاح ة في ذل ك ال وقت‪ ،‬عن‬
‫طارق قال‪ :‬كنا جلوسا عند الشعبي فجاء جرير بن يزي د‪ ،‬ف دعا ل ه الش عبي بوس ادة‬
‫فقلنا له‪ :‬ي ا أب ا عم رو‪ ،‬نحن عن دك أش ياخ‪ ،‬دع وت له ذا الغالم بوس ادة؟ فق ال‪(:‬إن‬
‫رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)(‪)1‬‬
‫وعن عاصم قال‪ :‬طرح أبو قالبة لرجل وسادة فقال أبو قالبة‪ :‬إنه كان يق ال‪:‬‬
‫ال ترد على أخيك كرامته‬
‫وعن جعفر عن أبيه قال‪ :‬دخ ل علي ورج ل‪ ،‬فط رح لهم ا وس ادتين‪ ،‬فجلس‬
‫علي ولم يجلس اآلخر‪ ،‬فقال علي‪ :‬ال يرد الكرامة إال حمار‪.‬‬
‫عدم التفريق بين الجالسين‪:‬‬
‫فال يفرق بين اثنين إال إذا ضاق المكان واحتاج إلى التفري ق‪ ،‬فيس تأذنهما في‬
‫ذلك‪ ،‬قال ‪(:‬ال يحل للرجل أن يفرق بين اثنين إال بإذنهما)(‪)2‬‬
‫ومن الحكم التي ذكرها العلماء ل ذلك أن ه ق د يك ون بينهم ا محب ة وم ودة‪ ،‬أو‬
‫حديث سر‪ ،‬وجلوسه بينهما يسوؤهما‪.‬‬
‫عدم الجلوس في وسط الحلقة‪:‬‬
‫وقد ورد النهي الشديد عن ذلك ح تى ع ده بعض هم من الكب ائر‪ ،‬فعن حذيف ة‪،‬‬
‫قال قال رسول هللا ‪(:‬لعن هللا من جلس وسط الحلقة)(‪)3‬‬
‫وروي أن رجال قعد وسط حلقة فقال حذيف ة‪(:‬ملع ون على لس ان محم د) أو‪:‬‬
‫(لعن هللا على لسان محمد ‪ ‬من جلس وسط الحلقة)(‪)4‬‬
‫وقد قيل في علة هذا النهي أنه إذا جلس في وس طها اس تدبر بعض هم بظه ره‬
‫فيؤذيهم بذلك ويسبونه ويلعنونه‪ ،‬ولذلك ق ال ‪(:‬ال حمى إال في ثالث ة)(‪ ،)5‬وذك ر‬
‫منها حلقة القوم‪ ،‬أي لهم أن يحموها حتى ال يتخطاهم أحد وال يجلس وسطها‪.‬‬
‫ج ـ آداب الحديث في المجالس‪:‬‬
‫من اآلداب التي ذكرها العلماء للحديث في المجالس أن ال يجيب إال من يسأل‬
‫فيها‪ ،‬وقد ذكروا من ذلك عن مجاهد بن جبر‪ ،‬قال‪ :‬ق ال لقم ان ‪ ‬البن ه‪ :‬إي اك إذا‬
‫سئل غيرك أن تكون أنت المجيب‪ ،‬كانك أصبت غنيمة‪ ،‬أوظفرت بعطي ة‪ ،‬فإن ك إن‬
‫فعلت ذلك‪ ،‬أزريت بالمسؤول‪ ،‬وعنفت السائل‪ ،‬ودللت السفهاء على س فاهة حلم ك‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن ماجة والبزار وابن خزيمة‪ ،‬والطبراني في الكبير‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد وأبو داود كتاب والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن والترمذي والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي وقال حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البيهقي‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫وسوء أدبك‪.‬‬
‫ومنها عدم تخجيل المحدث بإخبارك عن علمك بما يخ برك ب ه إن ك ان يظن‬
‫عدم معرفتك به‪ ،‬وي ذكر من ذل ك عن عط اء أبي رب اح‪ ،‬ق ال‪(:‬إن الش اب ليح دثني‬
‫بحديث‪ ،‬فأستمع له كأني لم أسمعه‪ ،‬ولقد سمعته قبل أن يولد)‬
‫وقال عب د هللا بن وهب القرش ي المص ري‪ ،‬ص احب اإلم ام مال ك والليث بن‬
‫سعد والثوري وغيرهم‪ :‬إني ألس مع من الرج ل الح ديث ق د س معته قب ل أن يجتم ع‬
‫أبواه‪ ،‬فأنصت له كأني لم أسمعه‪.‬‬
‫وق ال إب راهيم بن الجني د‪ :‬ق ال حكيم البن ه‪ :‬تعلم حس ن االس تماع‪ ،‬كم ا تتعلم‬
‫حسن الكالم‪ ،‬فإن حسن االستماع إمهالك للمتكلم حتى يفضي إليك بحديث ه‪ ،‬وإقبال ك‬
‫بالوجه والنظر عليه‪ ،‬وترك المشاركة له في حديث أنت تعرفه‪.‬‬
‫وأنشد الحافظ الخطيب البغدادي في هذا المقام‪:‬‬
‫وال تشارك في الحديث أهله وإن عرفت فرعه وأصله‬
‫ومنها الصبر على المحدث إلى أن ينتهي حديث ه وع دم مقاطعت ه‪ ،‬ق ال الهيثم‬
‫بن عدي‪ :‬قالت الحكماء‪:‬من األخالق السيئة مغالبة الرجل على كالمه‪ ،‬واالعتراض‬
‫فيه لقطع حديثه‪.‬‬
‫ومنها عدم الجه ر ب الكالم أو رف ع الص وت ب ه من غ ير حاج ة‪ ،‬ألن الجه ر‬
‫الزائ د عن الحاج ة يخ ل ب أدب المتح دث‪ ،‬وق د ورد في وص ية لقم ان ‪ ‬البن ه‪:‬‬
‫ير﴾(لقم ان‪ )19:‬أي اخفض‬ ‫ت ْال َح ِم ِ‬ ‫ك إِ َّن أَ ْن َك َر اأْل َصْ َوا ِ‬
‫ت لَ َ‬
‫صوْ ُ‬ ‫﴿ َوا ْغضُضْ ِم ْن َ‬
‫صوْ تِ َ‬
‫منه وال ترفعه عاليا إذا حادثت الناس‪ ،‬فإن الجهر الزائد بالصوت منكروقبيح‪.‬‬
‫د ـ احترام المجلس‬
‫ألن كل مجلس له حق على صاحبه‪ ،‬يسأل عنه يوم القيامة‪ ،‬بل ه و ج زء من‬
‫عمره‪ ،‬فلذلك كان االهتمام بما يجري في المجلس من أوكد اآلداب وأهمها‪.‬‬
‫وأول ما يحترم به المجلس أن ال يفارقه الجلوس إال وقد ضمخوه بطيب ذكر‬
‫هللا‪ ،‬قال ‪(:‬من قع د مقع دا لم ي ذكر هللا تع الى في ه ك انت علي ه من هللا ت رة‪ ،‬ومن‬
‫اضطجع مضطجعا ال يذكر هللا تعالى فيه كانت عليه من هللا ترة)(‪ ،)1‬وقال ‪(:‬م ا‬
‫جلس قوم مجلسا لم يذكروا هللا تعالى فيه ولم يص لوا على ن بيهم في ه إال ك ان عليهم‬
‫ترة‪ ،‬فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)(‪)2‬‬
‫وق د اختل ف الفقه اء في حكم الص الة على رس ول هللا ‪ ‬في المجلس على‬
‫األقوال التالية‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ا تجب كلم ا ذك ر اس مه ‪ ‬ول و اتح د المجلس‪ ،‬وه و ق ول‬
‫الطحاوي من الحنفية‪ ،‬والطرطوشي‪ ،‬وابن العربي‪ ،‬والفاكه اني من المالكي ة‪ ،‬وأبي‬
‫عبد هللا الحليمي وأبي حامد اإلسفراييني من الشافعية‪ ،‬وابن بطة من الحنابل ة‪ ،‬ومن‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود بإسناد حسن‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي وقال حديث حسن‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫علي)(‪)3‬‬ ‫األدلة على ذلك قوله ‪(:‬رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل‬
‫القول الثاني‪ :‬وجوب الصالة مرة في ك ل مجلس‪ ،‬وه و م ا ص ححه النس في‬
‫قال‪(:‬وه و كمن س مع اس مه م رارا‪ ،‬لم تلزم ه الص الة إال م رة‪ ،‬في الص حيح‪ ،‬ألن‬
‫تكرار اسمه ‪ ‬لحفظ سنته التي به ا ق وام الش ريعة‪ ،‬فل و وجبت الص الة بك ل م رة‬
‫ألفضى إلى الحرج)‪،‬وهو ق ول أبي عب د هللا الحليمي إن ك ان الس امع غ افال فيكفي ه‬
‫مرة في آخر المجلس‪.‬‬
‫الق ول الث الث‪ :‬ن دب التك رار في المجلس الواح د‪ ،‬ذك ره ابن عاب دين في‬
‫تحصيله آلراء فقهاء الحنفية‪.‬‬
‫الترجيح‪:‬‬
‫نرى أن األرجح في المسألة هو القول األول بناء على النصوص الواردة في‬
‫ذلك‪ ،‬زيادة على عدم المشقة في ذلك‪ ،‬فأي مشقة في أن ي ردد الس امع الص الة على‬
‫رسول هللا ‪ ‬كلما ذكر اسمه‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإنه يتساهل في الغفلة‪ ،‬فهو واجب مع ال ذكر والق درة‪ ،‬س اقط م ع‬
‫العجز والنسيان‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ آداب الكالم‬
‫الكالم هو رسول اإلنسان إلى المجتمع‪ ،‬بل هو مظه ر حقيقت ه‪ ،‬والمع بر عن‬
‫ذات ه‪ ،‬ف إن حس ن ك ان ص احبه مقرب ا حس نا‪ ،‬وإن س اء قالت ه األنفس‪ ،‬ونبت عن ه‬
‫األعين‪.‬‬
‫وإلى هذا األدب اإلشارة بالنص وص الكث يرة من الق رآن الك ريم‪ ،‬وأوله ا م ا‬
‫ص وْ تِكَ إِ َّن‬ ‫ض ضْ ِم ْن َ‬ ‫ص ْد فِي َم ْش يِكَ َوا ْغ ُ‬ ‫ورد في موعظة لقمان ‪ ‬البن ه‪َ ﴿ :‬وا ْق ِ‬
‫ير﴾ (لقمان‪)19:‬‬ ‫ت ْال َح ِم ِ‬ ‫ت لَ َ‬
‫صوْ ُ‬ ‫أَ ْن َك َر اأْل َصْ َوا ِ‬
‫ومن أمث ال النص وص الكث يرة ال تي تض م مج امع اآلداب وأص ولها كقول ه‬
‫الس و ِء ِمنَ ْالقَ وْ ِل إِاَّل َم ْن ظُلِ َم َو َك انَ هَّللا ُ َس ِميعا ً َعلِيم اً﴾‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬ال يُ ِحبُّ هَّللا ُ ْال َجه َْر بِ ُّ‬
‫س َو ْال ِجنِّ‬‫ك َج َع ْلنَا لِ ُك لِّ نَبِ ٍّي َع ُد ّواً َش يَا ِطينَ اأْل ِ ْن ِ‬ ‫(النساء‪ ،)148:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َك َذلِ َ‬
‫ك َما فَ َعلُوهُ فَ َذرْ هُ ْم َو َم ا‬ ‫ْض ُز ْخرُفَ ْالقَوْ ِل ُغرُوراً َولَوْ َشا َء َربُّ َ‬ ‫ضهُ ْم إِلَى بَع ٍ‬ ‫يُو ِحي بَ ْع ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب ِمنَ الق وْ ِل َوه دُوا إِلى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫يَ ْفتَرُونَ ﴾ (األنع ام‪ ،)112:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وه دُوا إِلى الطيِّ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ص َواتَ ُك ْم‬ ‫ص َرا ِط ْال َح ِمي ِد﴾ (الحج‪ ،)24:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَرْ فَ ُع وا أَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ْض أَ ْن تَحْ بَ طَ أَ ْع َم الُك ْمُ‬‫ْض ك ْم لِبَع ٍ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت النبِ ِّي َوال تَجْ هَرُوا ل هُ بِ القوْ ِل ك َج ْه ِر بَع ِ‬ ‫َّ‬ ‫صوْ ِ‬ ‫ق َ‬ ‫فَوْ َ‬
‫َوأَ ْنتُ ْم ال تَ ْش ُعرُونَ ﴾ (الحجرات‪)2:‬‬
‫وغيرها كثير‪ ،‬والتي يجمع مجامعها ثالثة أصول كبرى‪:‬‬
‫‪ .1‬أن ال يتكلم إال إذا احتاج إلى الكالم‪ ،‬فال يتكلم إال ب واجب أو مس تحب‪ ،‬أو‬
‫مباح ال يفرط به في واجب‪.‬‬
‫‪ .2‬أن ال يخوض في باطل‪ ،‬وال منكر من القول أو زورا‪.‬‬

‫‪ )(3‬رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب‪ ،‬والحاكم‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫‪ .3‬أن يختار في كالمه ما ندب إليه الشرع من ألف اظ‪ ،‬فيبتع د عن ك ل تعب ير‬
‫مؤذ‪ ،‬ولو كان مباحا في أصله‪ ،‬ويبتعد كذلك في إخراجه الحروف عن كل ما يؤذي‬
‫األسماع‪.‬‬
‫وسنفص ل بعض م ا يتعل ق به ذه األص ول في ه ذا المطلب‪ ،‬باختص ار‪ ،‬ألن‬
‫لذلك محله الخاص‪.‬‬
‫أ ـ الكالم عند الحاجة‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ويشير إلى هذا األصل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما يَلفِ ظ ِم ْن قَ وْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾‬
‫ق‪ ،)18:‬أي ما يتكلم بكلمة إال ولها من يرقبه ا‪ ،‬مع د ل ذلك يكتبه ا‪ ،‬ال ي ترك كلم ة‬ ‫( ّ‬
‫منها(‪.)1‬‬
‫هّللا‬
‫وإلى هذا اإلشارة بقوله ‪(:‬إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رض وان تع الى‬
‫ما يظن أن تبلغ م ا بلغت يكتب هّللا ع َّز وج َّل ل ه به ا رض وانه إلى ي وم يلق اه‪ ،‬وإن‬
‫الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط هّللا تعالى م ا يظن أن تبل غ م ا بلغت يكتب هّللا تع الى‬
‫عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)(‪ ،)2‬فكان علقمة يقول‪(:‬كم من كالم قد منعني ه ح ديث‬
‫بالل بن الحارث)‬
‫ولهذه الخطورة التي تحملها الكلمة ـ خيرا كانت أو شرا ـ كان من مجاه دات‬
‫الصالحين ما يسمى بمجاهدة (الصمت)‪ ،‬وهم ال يريدون بها الصمت المطلق‪ ،‬وإنما‬
‫يريدون صمت الحكمة‪ ،‬صمت الذي ال ينط ق كث يرا‪ ،‬ولكن ه إذا نطل ق ال ينط ق إال‬
‫بخير وفي موضعه المناسب له‪.‬‬
‫وقد روي في هذا أن عب د هللا بن مس عود ق ال ‪(:‬وهللا ال ذي ال إل ه إال ه و م ا‬
‫ش يء أح وج إلى ط ول س جن من لس ان)‪ ،‬وق ال ط اوس‪(:‬لس اني س بع إن أرس لته‬
‫أكلني)‪ ،‬وقال الحسن‪(:‬ما عق ل دين ه من لم يحف ظ لس انه)‪ ،‬وق ال بعض هم‪(:‬الص مت‬
‫يجمع للرجل فضيلتين؛ السالمة في دينه والفهم عن صاحبه)‪ ،‬وقال محمد بن واس ع‬
‫لمال ك بن دين ار‪(:‬ي ا أب ا يحيـى حف ظ اللس ان أش ّد على الن اس من حف ظ ال دينار‬
‫والدرهم)‪ ،‬وقال يونس بن عبـيد‪(:‬ما من الن اس أح د يك ون من ه لس انه على ب ال إال‬
‫رأيت صالح ذلك في سائر عمله)‪ ،‬وقال إبراهيم ال تيمي‪(:‬إذا أراد الم ؤمن أن يتكلم‬
‫نظر فإن كان له تكلم وإال أمسك‪ ،‬والفاجر إنما لسانه رس الً رس الً)‪ ،‬وق ال الحس ن‪:‬‬
‫(من كثر كالمه كثر كذبه‪ ،‬ومن كثر ماله كثرت ذنوبه‪ ،‬ومن ساء خلقه عذب نفسه)‬
‫وقد يستغرب هذا‪ ،‬فكيف يحتاج اللسان إلى ك ل ه ذه التش ديدات والعقوب ات‪،‬‬
‫وهو طاقة من طاقات اإلنسان‪ ،‬وهو في العالقات االجتماعية ضرورة ال غنى عنه‪.‬‬
‫وقد أجاب الغزالي على هذا مبينا الحدود التي يمكن أن يتصرف فيها اللسان‪،‬‬

‫أن س ليمان ‪ ‬بعث‬ ‫‪ )(1‬وقد روي ما يصور هذا من أحاديث األنبياء ـ صلوات هللا وسالمه عليهم ـ‪ ،‬فقد روي ّ‬
‫بعض عفاريته وبعث نفراً ينظرون ما يقول ويخبرونه‪ ،‬فأخبروه بأنه م َّر في السوق فرفع رأس ه إلى الس ماء ثم نظ ر‬
‫إلى الناس وهز رأسه فسأله سليمان عن ذلك فقال‪ :‬عجبت من المالئكة على رؤوس الناس ما أسرع م ا يكتب ون ومن‬
‫الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫والمخاطر التي تكتنف تلك الحدود‪ ،‬فق ال‪(:‬وي دلك على فض ل ل زوم الص مت أم ر‪،‬‬
‫وهو أن الكالم أربعة أقسام‪ :‬قسم هو ضرر محض‪ ،‬وقسم هو نفع محض‪ ،‬وقسم فيه‬
‫ضرر ومنفعة‪ ،‬وقسم ليس فيه ضرر وال منفعة‪ ،‬أما الذي ه و ض رر محض فال ب ّد‬
‫من السكوت عنه‪ ،‬وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة ال تفي بالض رر‪ ،‬وأم ا م ا ال منفع ة‬
‫فيه وال ضرر فهو فض ول واالش تغال ب ه تضيـيع زم ان وه و عين الخس ران‪ ،‬فال‬
‫يبقى إال القسم الرابع‪ ،‬فقد سقط ثالثة أرباع الكالم وبقي ربع‪ ،‬وهذا الربع فيه خط ر‬
‫إذ يمتزج بم ا في ه إثم من دق ائق الري اء والتص نع والغيب ة وتزكي ة النفس وفض ول‬
‫الكالم امتزاجا ً يخفى دركه فيكون اإلنسان به مخاطراً)(‪)1‬‬
‫وكل هذ األقسام األربعة التي ذكرها الغزالي‪ ،‬وال تي ت دل على حاج ة الس ان‬
‫إلى إلزامه الصمت في أكثر األحيان وردت به النصوص وتظافرت عليه األدلة‪.‬‬
‫بل ورد ما يعتبره من أساسيات الدين وأصوله‪ ،‬فعن معاذ بن جبل ق ال‪ :‬كنت‬
‫مع النبي ‪ ‬في سفر‪ ،‬فأصبحت يوما ً قريبا ً ونحن نسير‪ ،‬فقلت‪ :‬يا ب ني هّللا أخ برني‬
‫بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من الن ار‪ ،‬ق ال‪(:‬لق د س ألتني عن عظيم! وإن ه ليس ير‬
‫على من يس ره هللا علي ه‪ ،‬تعب د هللا وال تش رك ب ه ش يئا‪ ،‬وتقيم الص الة المكتوب ة‪،‬‬
‫وتؤدي الزكاة المفروض ة‪ ،‬وتص وم رمض ان‪ ،‬وتحج ال بيت؛ أال أدل ك على أب واب‬
‫الخير! الص وم جن ة‪ ،‬والص دقة تطفيء الخطيئ ة كم ا يطفيء الم اء الن ار‪ ،‬وص الة‬
‫الرجل في جوف الليل؛ أال أخبرك برأس األمر وعموده وذروة سنامه! رأس األم ر‬
‫اإلسالم‪ ،‬من أسلم س لم وعم وده الص الة‪ ،‬وذروة س نامه الجه اد؛ أال أخ برك بمالك‬
‫ذلك كله! فقلت‪ :‬بلى يا نبي هّللا ‪ ،‬فأخذ بلسانه‪ ،‬ثم قال‪(:‬ك ف علي ك ه ذا)‪ ،‬وأش ار إلى‬
‫لسانه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول هّللا وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به‪ ،‬فقال‪(:‬ثكلت ك أم ك ي ا مع اذ!‬
‫وهل يكب الناس في النار على وجوههم إال حصائد ألسنتهم)(‪)2‬‬
‫فقد ذكر الرسول ‪ ‬في هذا الحديث أصول اإلسالم الك برى‪ ،‬ثم جع ل مالك‬
‫األمر كله حفظ اللسان‪ ،‬ثم أكد ذلك بأن حص ائد األلس ن هي الس بب األك بر في كب‬
‫الناس على وجوههم في النار‪.‬‬
‫قد يقال‪ :‬نعم إن الكالم الذي ه و ض رر محض ح رام‪ ،‬ومثل ه م ا اختل ط في ه‬
‫الضرر بالنفع‪ ،‬ألن سد المفسدة اولى من جلب المصلحة‪ ،‬ولكن هن اك كالم ا كث يرا‬
‫ه و مب اح ال يمكن تحريم ه‪ ،‬وه و أك ثر الكالم‪ ،‬فك ف يق ال بأفض لية الص مت إال‬
‫للحاجة؟‬
‫والجواب عن ذلك هو قوله ‪(:‬من حسن اإلسالم المرء ترك ه م ا ال يعني ه)‬
‫(‪ ،)3‬فهذا الحديث الذي هو أصل من أصول اآلداب يحجر كثيرا من الكالم الذي ق د‬
‫يتصور إباحته‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/111 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي وقال‪ :‬هذا حديث غريب‪ ،‬وابن ماجه‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫يقول الغزالي مبينا أضرار هذ النوع من المب اح‪(:‬اعلم أن أحس ن أحوال ك أن‬
‫تحفظ ألفاظك من جميع اآلفات التي ذكرناه ا من الغيب ة والنميم ة والك ذب والم راء‬
‫والجدال وغيرها‪ ،‬وتتكلم فيما هو مباح ال ضرر عليك فيه وال على مسلم أص الً إال‬
‫أنك تتكلم بما أنت مستغن عنه وال حاجة بك إليه‪ ،‬فإنك مضيع به زمان ك ومحاس ب‬
‫على عمل لسانك وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير)(‪)1‬‬
‫ثم يذكر البدائل النافعة بدل ذلك الهذر الفارغ‪ ،‬فيقول‪(:‬ألنك لو صرفت زمان‬
‫الكالم إلى الفك ر ربم ا ك ان ينفتح ل ك من نفح ات رحم ة هللا عن د الفك ر م ا يعظم‬
‫جدواه‪ ،‬ولو هللت هللا سبحانه وذكرته وسبحته لكان خيراً لك فكم من كلمة يبنى به ا‬
‫قصراً في الجنة؟ ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه م درة ال ينتف ع‬
‫بها كان خاسراً خسرانا ً مبـيناً‪ ،‬وهذا مثال من ترك ذكر هللا تعالى واش تغل بمب اح ال‬
‫فإن المؤمن‬‫يعنيه فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر هللا تعالى‪ّ ،‬‬
‫ال يكون صمته إال فكراً ونظره إال عبرة ونطقه إال ذكراً)(‪)2‬‬
‫ب ل إن ض رر ه ذا الن وع من المب اح ال يقتص ر على كون ه مض يعا ل وقت‬
‫ص احبه فيم ا ال طائ ل وراءه‪ ،‬ب ل إن ه يتع دى ذل ك إلى م ا يحمل ه الكالم نفس ه من‬
‫مخاطر قد يغفل عنها‪.‬‬
‫وقد ذكر الغزالي ل ذلك أمثل ة واقعي ة مهم ة يحس ن التنبي ه إليه ا‪ ،‬واعتباره ا‬
‫نماذج لغيرها‪.‬‬
‫أما المثال األول‪ ،‬فهو أن (أن تجلس م ع ق وم فت ذكر لهم أس فارك وم ا رأيت‬
‫فيه ا من جب ال وأنه ار‪ ،‬وم ا وق ع ل ك من الوق ائع‪ ،‬وم ا استحس نته من األطعم ة‬
‫والثياب‪ ،‬وما تعجبت منه من مشايخ البالد ووقائعهم‪ .‬فهذه أم ور ل و س كت عنه ا لم‬
‫تأثم ولم تستضر‪ ،‬وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة وال نقص ان‪،‬‬
‫وال تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة األح وال العظيم ة‪ ،‬وال اغتي اب لش خص‬
‫وال مذمة لشيء مما خلقه هللا تعالى فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك ـ وأنّى تسلم من‬
‫اآلفات التي ذكرناها ـ)(‪)3‬‬
‫ومنها (أن تسأل غيرك عما ال يعنيك فأنت بالسؤال مضيع وقتك وق د ألج أت‬
‫ص احبك أيض ا ً ب الجواب إلى التضيـيع‪ ،‬ه ذا إذا ك ان الش يء مم ا ال يتط رّق إلى‬
‫السؤال عنه آفة‪ ،‬وأكثر األسئلة فيها آفات‪ .‬فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثالً فتق ول‬
‫له‪ :‬هل أنت صائم؟ فإن قال‪ :‬نعم‪ ،‬كان مظهراً لعبادت ه في دخل علي ه الري اء‪ ،‬وإن لم‬
‫يدخل سقطت عبادته من ديوان السر‪ ،‬وعبادة السر تفض ل عب ادة الجه ر ب درجات‪،‬‬
‫وإن ق ال‪ :‬ال‪ ،‬ك ان كاذب اً‪ ،‬وإن س كت ك ان مس تحقراً ل ك وت أذيت ب ه‪ ،‬وإن احت ال‬
‫لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه‪ .‬فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو للكذب‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/112 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/112 :‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.3/113 :‬‬

‫‪260‬‬
‫أو لالستحقار أو للتعب في حيلة ال دفع‪ ،‬وك ذلك س ؤالك عن س ائر عبادات ه‪ ،‬وك ذلك‬
‫سؤالك عن المعاصي وعن كل ما يخفيه ويستحي منه‪ .‬وسؤالك عما ح ّدث به غيرك‬
‫فتقول له‪ :‬ماذا تق ول؟ وفيم أنت؟ وك ذلك ت رى إنس انا ً في الطري ق فتق ول‪ :‬من أين؟‬
‫فربما يمنعه مانع من ذكره‪ ،‬ف إن ذك ره ت أذى ب ه واس تحيا‪ ،‬وإن لم يص دق وق ع في‬
‫الكذب وكنت السبب فيه‪ ...‬وكذلك تس أل عن مس ألة ال حاج ة ب ك إليه ا والمس ؤول‬
‫ربما لم تسمح نفسه بأن يقول ال أدري‪ ،‬فيجيب عن غير بصيرة)(‪)1‬‬
‫ب ـ تجنب الكالم المحظور‬
‫وه و األص ل الث اني من أص ول آداب الكالم‪ ،‬وه و ف رع من التفري ط في‬
‫األصل األول‪ ،‬ألن من راعى لسانه‪ ،‬فلم يتكلم إال لحاجة في دينه أو دنياه لم يق ع في‬
‫هذا المحظور‪ ،‬ألن هللا تعالى لم يحرم علين ا م ا نجلب ب ه مص الحنا المش روعة‪ ،‬أو‬
‫نرد به المفاسد الضارة‪.‬‬
‫ولهذا قال تعالى‪ ﴿ :‬ال يُ ِحبُّ هَّللا ُ ْال َجه َْر بِالسُّو ِء ِمنَ ْالقَوْ ِل إِاَّل َم ْن ظُلِ َم َو َك انَ هَّللا ُ‬
‫َس ِميعا ً َعلِيماً﴾ (النساء‪ ،)148:‬فقد أخبر عن بغضه للجهر بالسوء‪ ،‬واس تثنى من ظلم‬
‫إذا اضطر لذلك‪ ،‬وقد قال ابن عباس في تفس يرها‪(:‬ال يحب هّللا أن ي دعوا أح دا على‬
‫أحد إال أن يكون مظلوم اً‪ ،‬فإن ه ق د أرخص ل ه ي دعوا على من ظلم ه)‪ ،‬وق ال عب د‬
‫الكريم الجزري فيها‪(:‬هو الرج ل يش تمك فتش تمه‪ ،‬ولكن إن اف ترى علي ك فال تف تر‬
‫عليه)‪ ،‬ويشير إلى هذه األقوال قوله ‪(:‬المستبان ما قاال فعلى البادىء منهما م ا لم‬
‫يعتد المظلوم)(‪)2‬‬
‫وانطالقا من هذا‪ ،‬ف إن ك ل م ا وردت ب ه النص وص من الكالم المحظ ور ال‬
‫مص لحة في ه وال حاج ة ال في ال دنيا‪ ،‬وال في اآلخ رة‪ ،‬ب ل ه و ض رر محض‪ ،‬ال‬
‫يستثنى منه إال ما ضطر إليه‪ ،‬فيتناول بقدره‪ ،‬كما يتناول الجائع من الميتة بقدره‪.‬‬
‫وس نذكر هن ا بعض األمثل ة عن الكالم المحظ ور م ع تعريف ات مختص رة‬
‫منقولة من (كتاب آفات اللسان)(‪ )3‬للغزالي‪.‬‬
‫الخوض في الباطل‪:‬‬
‫وهو يدخل في اللغو من جهة كونه فضوال محضا ال منفع ة في ه‪ ،‬وي دخل في‬
‫الحرام من حيث أن ه يع بر ب ه عن الح رام‪ ،‬او ب التعبير الح رام‪ ،‬يق ول الغ زالي في‬
‫تعريفه‪(:‬وهو الكالم في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومج الس الخم ر ومقام ات‬
‫الفساق وتنعم األغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة‪ ،‬فإن‬
‫كل ذلك مما ال يحل الخوض فيه وهو حرام‪ .‬وأما الكالم فيما ال يع ني أو أك ثر مم ا‬
‫يعني فهو ت رك األولى وال تح ريم في ه‪ .‬نعم من يك ثر الكالم فيم ا ال يع ني ال ي ؤمن‬
‫عليه الخوض في الباطل‪ .‬وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث وال يع دو كالمهم‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/113 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬إحياء علوم الدين‪ 3/107 :‬ـ ‪.3/164‬‬

‫‪261‬‬
‫التفكه ب أعراض الن اس أو الخ وض في الباط ل‪ .‬وأن واع الباط ل ال يمكن حص رها‬
‫لكثرتها وتفننها‪ ،‬فلذلك ال مخلص منها إال باالقتصار على ما يعني من مهمات الدين‬
‫والدنيا)(‪)1‬‬
‫وإلى هذا الجنس من المحظ ورات اإلش ارة بالح ديث الس ابق‪ ،‬من قول ه ‪:‬‬
‫(وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من س خط هّللا تع الى م ا يظن أن تبل غ م ا بلغت يكتب هّللا‬
‫تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)(‪)2‬‬
‫المراء والجدال‪:‬‬
‫وي دخل ك ذلك في اللغ و‪ ،‬والكالم ال ذي ال حاج ة ل ه‪ ،‬ألن المج ادل ال يكتفي‬
‫بإبداء رأيه أو البرهنة علي ه‪ ،‬ب ل يظ ل ي ردد الكالم ويعي ده‪ ،‬مح اوال (إفح ام الغ ير‬
‫وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كالمه ونسبته إلى القصور والجهل فيه)‬
‫فيطعن في كالم الغير في لفظه بإظهار خلل فيه من جه ة النح و أو من جه ة‬
‫اللغة أو من جهة العربـية أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير من غير‬
‫حاجة إلى ذلك كله‪.‬‬
‫أو يطعن في المعنى‪ :‬فبأن يقول ليس كما تقول؛ وقد أخطأت فيه من وجه كذا‬
‫وكذا‪.‬‬
‫أو يطعن في قص ده‪ ،‬مث ل أن يق ول ه ذا الكالم ح ق ولكن ليس قص دك من ه‬
‫الحق‪ ،‬وإنما أنت فيه صاحب غرض‪ ،‬وما يجري مجراه‪.‬‬
‫وإلى هذا النوع اإلشارة بالنصوص القرآنية والنبوية الكثيرة‪ ،‬كقوله تع الى‪﴿ :‬‬
‫ان َم ِري ٍد﴾ (الحج‪ ،)3:‬وق ال‬ ‫اس َم ْن يُ َجا ِد ُل فِي هَّللا ِ بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َويَتَّبِ ُع ُك َّل َش ْيطَ ٍ‬ ‫َو ِمنَ النَّ ِ‬
‫ير﴾ (الحج‪:‬‬ ‫ب ُمنِ ٍ‬ ‫ى َوال ِكتَ ا ٍ‬ ‫اس َم ْن ي َُجا ِد ُل فِي هَّللا ِ بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َوال هُ د ً‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫ان أَتَ اهُ ْم إِ ْن فِي‬
‫ت هَّللا ِ بِ َغ ْي ِر ُس ْلطَ ٍ‬ ‫‪ ،)8‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ ي َُج ا ِدلُونَ فِي آيَ ا ِ‬
‫ص يرُ﴾ (غ افر‪،)56:‬‬ ‫الس ِمي ُع ْالبَ ِ‬‫اس تَ ِع ْذ بِاهَّلل ِ إِنَّهُ هُ َو َّ‬
‫ُور ِه ْم إِاَّل ِك ْب ٌر َما هُ ْم بِبَالِ ِغي ِه فَ ْ‬
‫صد ِ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫ت ِ أنى يُص َرفونَ ﴾ (غ افر‪،)69:‬‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬أل ْم ت َر إِلى ال ِذينَ ي َُج ا ِدلونَ فِي آيَ ا ِ‬
‫يص﴾ (الشورى‪)35:‬‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ويَ ْعلَ َم الَّ ِذينَ ي َُجا ِدلُونَ فِي آيَاتِنَا َما لَهُ ْم ِمن َم ِح ٍ‬
‫ْ‬
‫أما األحاديث‪ ،‬فكثيرة منها قوله ‪(:‬ما ض ل ق وم بع د ه دى ك انوا علي ه إال‬
‫أتوا الجدل)(‪ ،)3‬وقال ‪(:‬أنا زعيم ب بيت في ربض الجن ة لمن ت رك الم راء‪ ،‬وإن‬
‫كان محقا‪ ،‬وببيت في وسط الجنة لمن ت رك الك ذب‪ ،‬وإن ك ان م ا زح ا‪ ،‬وب بيت في‬
‫أعلى الجنة لمن حسن خلقه)(‪)4‬‬
‫الغيبة‪:‬‬
‫وهي من أخط ر آف ات اللس ان‪ ،‬وأكثره ا انتش ارا‪ ،‬وأض رها بالعالق ات‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/115 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود والضياء‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫االجتماعية التي جاء اإلسالم لتأسيسها والحفاظ على متانتها‪.‬‬
‫فل ذلك ك ان تحريمه ا‪ ،‬وتح ريم م ا تنب ع عن ه من آف ات‪ ،‬وم ا ينتج عنه ا من‬
‫مخ اطر أص ال من أص ول اإلس الم الك برى ال تي حف ظ به ا المجتم ع‪ ،‬أف رادا‪،‬‬
‫وجماعات‪.‬‬
‫ولذلك ورد تحريمها والتشديد على تحريمها في الق رآن الك ريم‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫َّس وا َوال‬ ‫ْض الظَّنِّ إِ ْث ٌم َوال تَ َجس ُ‬ ‫﴿ يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اجْ تَنِبُ وا َكثِ يراً ِمنَ الظَّنِّ إِ َّن بَع َ‬
‫ض ُك ْم بَعْضا ً أَي ُِحبُّ أَ َح ُد ُك ْم أَ ْن يَأْ ُك َل لَحْ َم أَ ِخي ِه َميْتا ً فَ َك ِر ْهتُ ُموهُ َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ‬
‫يَ ْغتَبْ بَ ْع ُ‬
‫تَ َّوابٌ َر ِحي ٌم﴾ (الحجرات‪)12:‬‬
‫ففي هذه اآلية الكريمة تحريم للغيبة‪،‬وع رض لمش هد ـ يمث ل حقيق ة الغيب ة ـ‬
‫(تتأذى له أشد النف وس كثاف ة وأق ل األرواح حساس ية‪ ،‬مش هد األخ يأك ل لحم أخي ه‬
‫ميتا‪.‬‬
‫والق رآن الك ريم‪ ،‬قب ل تح ريم الغيب ة يح رم م ا تنب ع من ه‪ ،‬ويب دأ بالتجس س‪،‬‬
‫والبحث عن عورات الناس‪ ،‬ألنه لوال هذا البحث المرضي ما حصلت الغيبة‪ ،‬وه ذا‬
‫التجسس والبحث عن عورات الناس‪ ،‬أو توهم عورات للن اس يحت اج للبحث عنه ا‪،‬‬
‫تفك ير مرض ي يحطم المجتم ع‪ ،‬ويجعل ه غ ير آمن على نفس ه وال عرض ه‪ ،‬وه و‬
‫خالف ما أراد هللا للمجتمع المسلم‪ ،‬يقول سيد قطب‪(:‬في المجتم ع اإلس المي الرفي ع‬
‫الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم‪ ،‬آم نين على بي وتهم‪ ،‬آم نين على أس رارهم‪،‬‬
‫آم نين على ع وراتهم‪ .‬وال يوج د م برر ‪ -‬مهم ا يكن ‪ -‬النته اك حرم ات األنفس‬
‫والبيوت واألسرار والع ورات‪ .‬ح تى ذريع ة تتب ع الجريم ة وتحقيقه ا ال تص لح في‬
‫النظام اإلسالمي ذريعة للتجسس على الناس‪ .‬فالن اس على ظ واهرهم‪ ،‬وليس ألح د‬
‫أن يتعقب بواطنهم‪ .‬وليس ألحد أن يأخذهم إال بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم‪.‬‬
‫وليس ألحد أن يظن أو يتوقع‪ ،‬أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخف اء مخالف ة م ا‪،‬‬
‫فيتجس س عليهم ليض بطهم! وك ل م ا ل ه عليهم أن يأخ ذهم بالجريم ة عن د وقوعه ا‬
‫وانكشافها‪ ،‬مع الضمانات األخرى التي ينص عليه ا بالنس بة لك ل جريم ة‪ .‬والمنب ع‬
‫الثاني هو الظن السيئ‪ ،‬وهو إما أن يكون نتيجة للتجسس‪ ،‬أو نتيجة للنفس المريضة‬
‫التي تلقي ما بها من أمراض على أع راض المس لمين‪ .‬ثم ي أتي تح ريم الغيب ة ال تي‬
‫هي المظهر الفعلي لهذه األمراض السابقة‪ ،‬بل هي اخطرها‪ ،‬وأشدها بتل ك الص يغة‬
‫المشددة من صيغ التحريم)(‪)1‬‬
‫وق د دع ا ه ذا التش ديد الص حابة إلى س ؤال رس ول هللا ‪ ‬عن ح د الغيب ة‬
‫وحقيقتها‪ ،‬فعن أبي هريرة قال‪:‬قيل‪:‬يا رسول هللا‪ ،‬ما الغيبة؟ فقال ‪(:‬ذك رك أخ اك‬
‫بما يكره)‪ ،‬قيل‪:‬أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال ‪(:‬إن كان فيه ما تقول فق د‬
‫اغتبته‪ ،‬وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.3346 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي وصححه‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫وقد كان ‪ ‬يتشدد في الغيبة تشددا عظيما‪ ،‬حتى مع أقرب الن اس إلي ه‪ ،‬وفي‬
‫أبسط ما نتصوره من الغيبة‪ ،‬عن عائشة قالت‪:‬قلت للنبي ‪(:‬حسبك من صفية ك ذا‬
‫وكذا) ـ قال عن مسدد تعني قصيرة ـ فقال ‪(:‬لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البح ر‬
‫لمزجته)‪ ،‬قالت‪(:‬وحكيت له إنسانا‪ ،‬فقال ‪(:‬ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا‬
‫وكذا )(‪)1‬‬
‫وأخ بر ‪ ‬بم ا رأى من أح وال المتفكهين ب أعراض المس لمين‪ ،‬فق ال‪( :‬لم ا‬
‫عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم‪ .‬قلت‪:‬من‬
‫هؤالء يا جبرائيل؟ قال‪:‬هؤالء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)(‪)2‬‬
‫وقد ذكر الغزالي بعض مظاهر الغيبة التي قد يغف ل عنه ا‪ ،‬ق ال في تعريفه ا‪:‬‬
‫(اعلم أن ح َّد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه‪ ،‬سواء ذكرت ه بنقص في بدن ه‬
‫أو نسبه أو في خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دني اه‪ ،‬ح تى في ثوب ه‬
‫وداره ودابته)‬
‫أم ا الب دن‪ :‬فك ذكر العمش والح ول والق رع والقص ر والط ول والس واد‬
‫والصفرة‪ ،‬وجميع ما يتصوّر أن يوصف به مما يكرهه كيفما ك ان‪ ،‬وق د س بق ذك ر‬
‫ح ديث عائش ة في ه ذا‪ ،‬وق د روي ان ابن س يرين ذك ر رجالً فق ال‪ :‬ذاك الرج ل‬
‫األسود‪ ،‬ثم قال‪ :‬أستغفر هللا إني أراني قد اغتبته‪ ،‬وذكر إبراهيم النخعي فوض ع ي ده‬
‫على عينه ولم يقل األعور‪.‬‬
‫وأما النسب‪ :‬فبأن تقول أبوه نبطي أو هندي أو فاسق أو خسيس أو إسكاف أو‬
‫زبال‪ ،‬أو شيء مما يكرهه كيفما كان‪.‬‬
‫وأما الخلق‪ :‬فبأن تقول هو سيـىء الخل ق بخي ل متك بر م راء ش ديد الغض ب‬
‫جبال عاجز ضعيف القلب متهوّر وما يجري مجراه‪.‬‬
‫وأما في أفعاله المتعلقة بالدين‪ :‬فكقولك هو سارق أو كذاب أو شارب خمر أو‬
‫خائن أو ظالم أو متهاون بالصالة أو الزك اة أو ال يحس ن الرك وع أو الس جود أو ال‬
‫يحترز من النجاسات أو ليس باراً بوالديه أو ال يضع الزك اة موض عها أو ال يحس ن‬
‫قسمها أو ال يحرس صومه عن الرفث والغيبة والتعرض ألعراض الناس‪.‬‬
‫وأما فعله المتعلق بالدنيا‪ :‬فكقولك إنه قليل األدب متهاون بالن اس‪ ،‬أو ال ي رى‬
‫ألحد على نفسه حقا ً أو يرى لنفسه الحق على الناس‪ ،‬أو أن ه كث ير الكالم ن ؤوم ين ام‬
‫في غير وقت النوم ويجلس في غير موضعه‪ ،‬وأما في ثوبه فكقولك إن ه واس ع الكم‬
‫طويل الذيل وسخ الثياب‪.‬‬
‫النميمة‪:‬‬
‫وهي التح ريش بين الن اس‪ ،‬ونق ل الح ديث لفس اد ذات بينهم وهي الحالق ة‪،‬‬
‫فلذلك كانت من أصول المحرمات‪ ،‬ألثرها الخطير على العالقات االجتماعية‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫ولذلك ورد ذكرها في مواضع في القرآن الكريم‪ ،‬بل لم ت رد إال في أوص اف‬
‫از َم َّش ا ٍء بِنَ ِم ٍيم﴾ (القلم‪ ،)11:‬وق ال‬ ‫الكف ار والمن افقين وأش باههم ق ال تع الى‪ ﴿ :‬هَ َّم ٍ‬
‫ْ‬
‫ك ُم الفِ ْتنَ ةَ(‪)1‬‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬لَوْ َخ َرجُوا فِي ُك ْم َما زَادُو ُك ْم إِاَّل خَ بَاالً َوأَل َوْ َ‬
‫ض عُوا ِخاللَ ُك ْم يَ ْب ُغ ونَ ُ‬
‫َوفِي ُك ْم َس َّما ُعونَ لَهُ ْم َوهَّللا ُ َعلِي ٌم بِالظَّالِ ِمينَ ﴾ (التوبة‪ ،)47:‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫﴿و ْي ٌل لِ ُكلِّ هُ َم َز ٍة‬
‫ب﴾ (المسد‪)4:‬‬ ‫﴿وا ْم َرأَتُهُ َح َّمالَةَ ْال َحطَ ِ‬
‫لُ َمزَ ٍة﴾ (الهمزة‪ ،)1:‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫وهي أشد خطورة من الغيبة‪ ،‬ألن مقصد صاحبها هوالتفري ق بين المؤم نين‪،‬‬
‫وهو خالف ما قصده الشارع من التأليف بينهم‪.‬‬
‫وقد أخبر ‪ ‬عن خطر النميمة‪ ،‬واعتبر أص حابها ش رار الن اس ن ق ال ‪:‬‬
‫(أال أخبركم بخياركم؟)‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى يا رسول هّللا ‪ ،‬قال‪(:‬ال ذين إذا رؤوا ذك ر هّللا ع َّز‬
‫وجلَّ)‪ ،‬ثم قال‪(:‬أال أخبركم بش راركم؟ المش اءون بالنميم ة‪ ،‬المفس دون بين األحب ة‪،‬‬
‫الباغون للبرآء ال َعنَت)(‪)2‬‬
‫وقد مر ‪ ‬بقبرين فقال‪(:‬إنهم ا ليع ذبان وم ا يع ذبان في كب ير‪ ،‬أم ا أح دهما‬
‫فكان ال يس تبرئ من الب ول‪ ،‬وأم ا اآلخ ر فك ان يمش ي بالنميم ة)(‪ ،)3‬وق ال ‪(:‬ال‬
‫يدخل الجنة قتات(‪)5()4‬‬
‫وعلى عكس النميمة التي تقصد التفريق بين المؤمنين‪ ،‬ولو باس تعمال س الح‬
‫الصدق في غير موضعه‪ ،‬ورد في الشرع اس تحباب اإلص الح بين المؤم نين‪ ،‬ول و‬
‫باس تعمال الك ذب المح رم‪ ،‬ق ال ‪(:‬ليس الك ذاب بال ذي يص لح بين الن اس فينمي‬
‫خيرا‪ ،‬ويقول خ يرا)(‪ ،)6‬وق ال ‪(:‬ال يص لح الك ذب إال في ثالث‪ :‬يح دث الرج ل‬
‫امراته ليرضيها والكذب في الحرب‪ ،‬والكذب ليصلح بين الناس)(‪)7‬‬
‫ج ـ التعبير الصحيح واختيار األلفاظ‬
‫وهو األصل الثالث من أص ول آداب الكالم‪ ،‬ألن المتكلم ق د يخل و كالم ه من‬
‫المحظورات التي ورد التصريح بالنهي عنها‪ ،‬وقد يخلو من آثار تلك المحظ ورات‪،‬‬
‫ولكن تعبيره يحوي أخطاء قد تكون لها آثارها الخطيرة على الصعد المختلفة‪.‬‬
‫ولهذا كان من س نة رس ول هللا ‪ ‬أن يتخ ير تعب يره (ويخت ار ألمت ه أحس ن‬
‫األلفاظ‪ ،‬وأجمله ا‪ ،‬وألطفه ا‪ ،‬وأبع دها من ألف اظ أه ل الجف اء والغلظ ة والفحش‪ ،‬فلم‬
‫يكن فاحشا ً وال متفحشا ً وال صخابا ً وال فظاً)(‪)8‬‬

‫‪ )(1‬أي وألسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة‪.‬‬
‫‪ )(4‬القتات‪ :‬النمام‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أحمد والبيهقي وأبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫‪ )(8‬زاد المعاد‪.1/731 :‬‬

‫‪265‬‬
‫وترجع أصول هذا الهدي النبوي إلى أصول اآلداب التالية‪:‬‬
‫صدق التعبير‪:‬‬
‫وه و أن يوض ع التعب ير في وض عه المناس ب ل ه‪ ،‬وليس الم راد ب ه ص دق‬
‫المعنى‪ ،‬ألن المعنى قد يكون صادقا‪ ،‬ولكن التعبير كاذب‪.‬‬
‫ومن هذا النوع نهيه ‪ ‬عن استعمال األلف اط الش ريفة في المواض ع ال تي ال‬
‫تستحقها‪ ،‬فقد نهى ‪ ‬أن تس مى ش جرة العنب كرم اً‪ ،‬فق ال ‪(:‬ال تقول وا‪ :‬الك رم‪،‬‬
‫ولكن قولوا‪ :‬العنب والحبلة)(‪ ،)1‬وقال ‪(:‬ال تسموا العنب الكرم‪ ،‬وال تقولوا‪ :‬خيبة‬
‫الدهر‪ ،‬فإن هللا هو الدهر)(‪)2‬‬
‫ونهى ‪ ‬أن يقال للمنافق(يا سيدنا)‪ ،‬فقال‪( :‬إذا قال الرجل للمن افق ي ا س يدنا‬
‫فقد أغضب ربه)(‪)3‬‬
‫ونهى ‪ ‬المملوك أن يقول لسيده أو لسيدته‪ :‬ربـي ورب تي‪ ،‬وللس يد أن يق ول‬
‫لمملوكه‪ :‬عبدي‪ ،‬ولكن يقول المالك‪ :‬فتاي وفتاتي‪ ،‬ويقول المملوك‪ :‬سيدي وسيدتي‪،‬‬
‫فقال ‪(:‬ال يقل أحدكم أطعم ربك‪ ،‬وضئ ربك‪ ،‬واسق ربك‪ ،‬وال يقل أح دكم ربي‪،‬‬
‫وليقل سيدي وموالي‪ ،‬وال يقل أحدكم‪ ،‬عبدي وأمتي‪ ،‬وليقل‪ :‬فتاي وفتاتي وغالمي)‬
‫(‪)4‬‬
‫ق‪ ،‬وطبـيبها ال ذي خلقه ا)(‪،)5‬‬ ‫وقال ‪ ‬لمن ادعى أنه طبـيب (أنت رج ٌل رفي ٌ‬
‫وربما أبشع من ه ذا التعب ير أن نس ميه حكيم ا‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬والج اهلون يس ّمون‬
‫الكافر الذي له عل ٌم بشيء من الطبـيعة حكيماً‪ ،‬وهو من أسفه الخلق)(‪)6‬‬
‫ونهى كل ما يوهم الشرك من األلفاظ‪ ،‬فنهى الخطيب عن قول ه‪(:‬من يط ع هللا‬
‫ورسوله فقد رشد‪ ،‬ومن يعصهما فقد غوى)‪ ،‬وقال له‪(:‬بئس الخطيب أنت)(‪)7‬‬
‫ونهى عن قول (ما شاء هللا وشاء فالن)‪ ،‬وقال‪(:‬ال تقولوا‪ :‬م ا ش اء هللا وش اء‬
‫ٌ‬
‫فالن)‪ ،‬وق ال ل ه رج ل‪( :‬م ا ش اء هللا‬ ‫فالن‪ ،‬ولكن قول وا‪ :‬م ا ش اء هللا‪ ،‬ثم م ا ش اء‬
‫وشئت‪ ،‬فقال(أجعلتني هلل نداً؟ قل‪ :‬ما شاء هللا وحده)(‪)8‬‬
‫قال ابن القيم‪(:‬وفي معنى هذا الشرك المنهي عنه قول من ال يت وقى الش رك‪:‬‬
‫أنا باهلل وبك‪ ،‬وأنا في حسب هللا وحسبك‪ ،‬ومالي إال هللا وأنت‪ ،‬وأن ا متوك ل على هللا‬
‫وعلي ك‪ ،‬وه ذا من هللا ومن ك‪ ،‬وهللا لي في الس ماء وأنت لي في األرض‪ ،‬ووهللا‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البيهقي ‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الحاكم والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد والبيهقي ‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(6‬زاد المعاد‪.2/353 :‬‬
‫‪ )(7‬رواه البيهقي في الشعب وأحمد‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫وحياتك‪ ،‬وأمثال هذا من األلفاظ التي يجعل فيه ا قائله ا المخل وق ن داً للخ الق‪ ،‬وهي‬
‫أش ّد منعا ً وقبحا ً من قوله‪ :‬ما شاء هللا وشئت‪ .‬فأما إذا قال‪ :‬أنا باهلل‪ ،‬ثم بك‪ ،‬وم ا ش اء‬
‫هللا‪ ،‬ثم شئت‪ ،‬فال بأس ب ذلك‪ ،‬كم ا في ح ديث الثالث ة‪( :‬ال بالغ لي الي وم إال باهلل ثم‬
‫بك)(‪)1‬‬
‫ومن هذا الباب ـ كذلك ـ نهى ‪ ‬أن تطلق ألفاظ الذم على من ليس من أهلها‪،‬‬
‫فقال ‪(:‬ال تق ل تعس الش يطان فإن ه يعظم ح تى يص ير مث ل ال بيت فيق ول بق وتي‬
‫صرعته ولكن قل بس م هللا فإن ك إذا قلت ذل ك تص اغر الش يطان ح تى يص ير مث ل‬
‫الذباب)(‪)2‬‬
‫وعلى قياس هذا قال ابن القيم‪(:‬ومثل ه ذا ق ول القائ ل‪ :‬أخ زى هللا الش يطان‪،‬‬
‫وقبح هللا الشيطان‪ ،‬ف إن ذل ك كل ه يفرح ه ويق ول‪ :‬علم ابن آدم أني ق د نلت ه بق وتي‪،‬‬
‫وذل ك مم ا يعين ه على إغوائ ه‪ ،‬وال يفي ده ش يئاً‪ ،‬فأرش د النبـ ّي من مس ه ش يء من‬
‫الشيطان أن يذكر هللا تعالى‪ ،‬وي ذكر اس مه‪ ،‬ويس تعيذ باهلل من ه‪ ،‬ف إن ذل ك أنف ع ل ه‪،‬‬
‫وأغيظ للشيطان)(‪)3‬‬
‫ومن هذا الباب نهيه ‪ ‬عن سب ال دهر‪ ،‬فق ال ‪(:‬ق ال هللا تع الى‪ :‬يؤذي ني‬
‫ابن آدم يسب الدهر‪ ،‬وأنا الدهر بيدي األمر أقلب الليل والنهار)(‪ ،)4‬وق ال ‪(:‬ق ال‬
‫هللا تعالى‪ :‬يؤذيني ابن آدم‪ ،‬يقول‪ :‬يا خيبة الدهر‪ ،‬فإني أنا الدهر‪ ،‬أقلب ليله ونه اره‪،‬‬
‫فإذا شئت قبضتهما)(‪)5‬‬
‫وقد ذكر ابن القيم المفاسد التي يتضمنها سب الدهر‪ ،‬وهي(‪:)6‬‬
‫ق مس خ ٌر من خل ق هللا‪ ،‬منق ا ٌد‬
‫‪ .1‬سبّه من ليس بأه ٍل أن يسب‪ ،‬فإن الدهر خل ٌ‬
‫ألمره‪ ،‬مذل ٌل لتسخيره‪ ،‬فسابّه أولى بالذم والسب منه‪.‬‬
‫‪ .2‬أن سبه متضمن للشرك‪ ،‬فإنه إنما سبه لظنه أنه يض ّر وينفع‪ ،‬وأنه مع ذلك‬
‫ق العط اء‪ ،‬ورف ع من ال‬ ‫ظالم قد ضر من ال يستحق الض رر‪ ،‬وأعطى من ال يس تح ّ‬
‫ق الرفعة‪ ،‬وحرم من ال يستحق الحرمان‪ ،‬وهو عن د ش اتميه من أظلم الظلم ة‪،‬‬ ‫يستح ّ‬
‫وأشعار هؤالء الظلمة الخونة في سبه كثيرةٌ جداً‪ .‬وكث ي ٌر من الجه ال يص رح بلعن ه‬
‫وتقبـيحه‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ .3‬أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه األفعال التي لو اتب ع الح ق فيه ا‬
‫أهواءهم لفسدت الس ماوات واألرض‪ ،‬وإذا وقعت أه واؤهم‪ ،‬حم دوا ال دهر‪ ،‬وأثن وا‬
‫عليه‪ .‬وفي حقيقة األمر‪ ،‬فربّ ال دهر تع الى ه و المعطي الم انع‪ ،‬الخ افض الراف ع‪،‬‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد‪.1/731 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(3‬زاد المعاد‪.1/731 :‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم ‪.‬‬
‫‪ )(6‬زاد المعاد‪.2/355 :‬‬

‫‪267‬‬
‫المع ّز المذ ّل‪ ،‬والدهر ليس له من األمر شيء‪ ،‬فمسبتهم لل دهر مس بة هلل ع ز وج ل‪،‬‬
‫ولهذا كانت مؤذيةً للرب تعالى‪.‬‬
‫التفاؤل والنشاط‪:‬‬
‫ألن للكالم تأثيره العظيم في بث األمل‪ ،‬أو بث اليأس‪ ،‬ولهذا نهى ‪ ‬عن كل‬
‫ما يؤدي إلى التشاؤم والعجز‪ ،‬ومن ذلك نهيه عن قول القائل بعد ف وات األم ر‪( :‬ل و‬
‫أني فعلت كذا وكذا)‪ ،‬ققال ‪( :‬وإن أصابك شيء فال تقل‪ :‬ل و أني فعلت لك ان ك ذا‬
‫وكذا‪ ،‬ولكن قل قدر هللا وما شاء فعل‪ ،‬فان لو تفتح عمل الشيطان)(‪)1‬‬
‫وسر هذا النهي أن هذا القول ال يحمل أي فائ دة إال الن دم على ماف ات مم ا ال‬
‫يمكن تدراكه‪ ،‬وهو ال يبث في النفس إال الحزن واليأس‪ ،‬وال ينشر في األعض اء إال‬
‫العجز والكسل‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬وذلك ألن قوله‪ :‬لو كنت فعلت كذا وكذا‪ ،‬لم يفتني م ا‬
‫فاتني‪ ،‬أو لم أقع فيما وقعت فيه‪ ،‬كال ٌم ال يجدي عليه أي فائدة‪ ،‬فإنه غير مستقبل لم ا‬
‫ل عثرته ب(لو)(‪)2‬‬ ‫استدبر من أمره‪ ،‬وغير مستقي ٍ‬
‫زيادة على أن في ذلك اتهام للقدر‪ ،‬بل عدم معرفة بأن هللا هو المستقل بتقدير‬
‫المقادير‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬وفي ضمن(لو) ادعاء أن األمر لو كان كما قدره في نفس ه‪،‬‬
‫لكان غير ما قضاه هللا وقدره وشاءه‪ ،‬فإن ما وقع مما يتمنى خالفه إنما وقع بقض اء‬
‫هللا وقدره ومشيئته‪ ،‬فإذا قال‪ :‬لو أني فعلت كذا‪ ،‬لكان خالف ما وق ع فه و مح ال‪ ،‬إذ‬
‫خالف المقدر المقضي محال‪ ،‬فقد تضمن كالمه ك ذبا ً وجهالً ومح االً‪ ،‬وإن س لم من‬
‫التكذيب بالقدر‪ ،‬لم يسلم من معارضته بقوله‪ :‬لو أني فعلت ك ذا‪ ،‬ل دفعت م ا ق در هللا‬
‫علي)(‪)3‬‬
‫الفحش وبذاءة اللسان‪:‬‬
‫والفحش ـ كما عرفه الغزالي ـ هو (التعبـير عن األمور المستقبحة بالعبارات‬
‫الصريحة)(‪ ،)4‬فيعبر بذيء اللسان بعبارات يستحيي منها ذو الطع السليم‪.‬‬
‫يقول الغزالي‪(:‬هن اك عب ارات فاحش ة يس تقبح ذكره ا ويس تعمل أكثره ا في‬
‫الش تم والتعيـير‪ ،‬وه ذه العب ارات متفاوت ة في الفحش وبعض ها أفحش من بعض‪.‬‬
‫وربم ا اختل ف ذل ك بع ادة البالد وأوائله ا مكروه ة وأواخره ا محظ ورة وبـينهما‬
‫درجات يتردد فيها)(‪)5‬‬
‫من ذلك نهيه أن يقول الرج ل‪( :‬خبثت نفس ي‪ ،‬ولكن ليق ل‪ :‬لقس ت نفس ي)(‪)6‬‬
‫ومعناهما واحد‪ ،‬أي‪ :‬غثت نفس ي‪ ،‬وس اء خلقه ا‪ ،‬فك ره لهم لف ظ الخبث لم ا في ه من‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪.‬‬


‫‪ )(2‬زاد المعاد‪.2/357 :‬‬
‫‪ )(3‬زاد المعاد‪.2/357 :‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.3/122 :‬‬
‫‪ )(5‬إحياء علوم الدين‪.3/122 :‬‬
‫‪ )(6‬رواه أحمد والبيهقي وأبو داود والنسائي‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫القبح والش ناعة‪ ،‬وأرش دهم إلى اس تعمال الحس ن‪ ،‬وهج ران القبـيح‪ ،‬وإب دال اللف ظ‬
‫المكروه بأحسن منه‪.‬‬
‫وله ذا ق ال ابن عب اس ‪(:‬إن هللا حيـي ك ريم يعف و ويكن و‪ ،‬ك نى ب اللمس عن‬
‫الجماع)‪ ،‬فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الجماع وليست بفاحشة‪.‬‬
‫التفاصح‪:‬‬
‫وهو المبالغة في االهتمام باأللف اظ وتزيينه ا‪ ،‬فينش غل بتزيينه ا عن المع نى‪،‬‬
‫وهو من التكلف الممقوت المنهي عنه‪ ،‬ولهذا أخبر ‪ ‬عن بغضه له ذا الص نف من‬
‫الناس‪ ،‬فقال‪(:‬أحبكم وأقربكم مني مجلسا في الجن ة أحاس نكم أخالق ا‪ ،‬وأبغض كم إلي‬
‫الثرث ارون المتش دقون المتفيهق ون)(‪ ،)1‬واعت بره ‪ ‬من ش رار المؤم نين‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(خي اركم أحاس نكم أخالق ا‪ ،‬الموط ؤون أكناف ا‪ ،‬وش راركم الثرث ارون المتفيهق ون‬
‫المتشدقون)(‪)2‬‬
‫وقد حصل في عهد رسول هللا ‪ ‬أن ضربت ضرة ضرة لها بعمود فس طاط‬
‫فقتلتها‪ ،‬فقضى رسول هللا ‪ ‬بديتها على عصبة القاتلة ولم ا في بطنه ا غ رة‪ ،‬فق ال‬
‫األعرابي‪ :‬يا رسول هللا! أتغرمني من ال طعم وال ش رب وال ص اح فاس تهل‪ ،‬فمث ل‬
‫ذلك يطل‪ ،‬فقال النبي ‪(:‬أسجعا كسجع األعراب)(‪ ،)3‬قال الغزالي في تعلي ل ه ذا‬
‫النهي الذي يتضمنه هذا الحديث‪(:‬ألن أثر التكلف والتصنع بـين عليه‪ ،‬ب ل ينبغي أن‬
‫يقتصر في كل شيء على مقصوده‪ ،‬ومقصود الكالم التفهيم للغرض وما وراء ذل ك‬
‫تصنع مذموم)(‪)4‬‬
‫التلطف في التعبير‪:‬‬
‫وهو من األصول المهمة في هذا الباب‪ ،‬ألن الص دق في التعب ير ق د يحم ل ـ‬
‫أحيانا ـ آالما شديدة يحتاج إلى البحث عن الطرق التي تلطفها‪.‬‬
‫وقد ذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بعض التعابير المثالية في ح ال اض طرار‬
‫المسلم لإلخبار عن شيء مكروه‪ ،‬ومما ذكره من طرق التلطف‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ إذا اضطررت إلى اإلخبار عن أمر مك روه‪ ،‬أو وق وع ح ادث مفج ع‪ ،‬أو‬
‫وفاة قريب أوعزيز على صاحبك أوقريبك‪ ،‬أوما شابه ذل ك‪ ،‬فيحس ن ب ك أن تلط ف‬
‫وقع الخبرعلى من تخبره به‪ ،‬وتمهد له تمهيدا يخفف ن زول المص اب علي ه‪ ،‬فتق ول‬
‫فيمن تخبرعن وفاته مثال‪(:‬بلغني أن فالنا كان مريضا مرض ا ش ديدا‪ ،‬وزادت حال ه‬
‫شدة‪ ،‬وسمعت أنه توفي رحمه هللا تعالى)‬
‫‪ 2‬ـ ال تخبرعن وفاة ميت بنحوم ا يقول ه بعض هم‪ :‬أت دري من ت وفي الي وم؟!‬
‫أوبقولك‪ :‬توفي اليوم فالن‪ ،...‬بل ينبغي أن تبدأ باسم الذي تخبرعن وفات ه قب ل ذك ر‬

‫‪ )(1‬رواه ابن عساكر‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه عبد الرزاق في الجامع‪.‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.3/121 :‬‬

‫‪269‬‬
‫وفاته‪ ،‬ألن من تخبره بذلك حين تس أله أي دري من ت وفي الي وم؟ أوتق ول ل ه‪ :‬ت وفي‬
‫اليوم‪ ،...‬يتبادر ف ورا إلى ذهن ه المروع ات الش داد‪ ،‬فيق در أن الوف اة وقعت ب أقرب‬
‫الناس إليه من مريض أوكب ير أوش اب‪ ،‬في تروع به ذه الص يغة من ك في الس ؤال أو‬
‫اإلخبار أشد الترويع‪ ،‬ول وقلت ل ه‪ :‬فالن‪ ...‬ت وفي الي وم‪ ،‬فب دأت باس م من تخ برعن‬
‫وفاته‪ ،‬لخف الوقع عليه‪ !،‬وانتفى الترويع‪ ،‬وبقي أصل الخبر المحزن أو المكروه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ينبغي أن تراعي صيغة اإلخبار عن الحريق أوالغريق أوالح ادث‪ ..‬فمه د‬
‫له بالتمهيد الذي يخفف شدة وقعه على النفس‪ ،‬واذكر اسم المص اب ب ه متلطف ا‪ ،‬وال‬
‫تصك سمع صاحبك أوقريبك أومجالسيك بالخبر المفج ع ص كا‪ ،‬ف إن بعض القل وب‬
‫تأذى بالخبر المفج ع أش د األذى‪ ،‬وربم ا يص عق بعض‬ ‫يكون تحملها ضعيفا‪ ،‬فربما َّ‬
‫األف راد ب ذلك‪ ،‬أويغمى علي ه‪،‬أو يص اب بس معه أو بص ره‪ ،‬فتلط ف باإلخب ار عن‬
‫المفجعات أذا اضطررت إلى ذلك‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تحين الوقت المالئم إلخباره إذا كان هناك داع إلخب ار‪ ،‬فال تخ بره ب ذلك‬
‫وه و على طع ام‪ ،‬أوقب ل الن وم أو في حال ة م رض أو اس تفزاز‪ ،‬أو نح و ذل ك من‬
‫األحوال‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ آداب المشي‬
‫وهو من اآلداب التي له ا عالق ة بالعالق ات االجتماعي ة من بعض الن واحي‪،‬‬
‫ش فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫وقد أش ار إليه ا في موعظ ة لقم ان ‪ ‬البن ه قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وال تَ ْم ِ‬
‫ص ْد فِي َم ْشيِكَ ﴾ (لقمان‪ 18:‬ـ ‪)19‬‬ ‫َم َرحا ً إِ َّن هَّللا َ ال يُ ِحبُّ ُك َّل ُم ْختَا ٍل فَ ُخ ٍ‬
‫ور َوا ْق ِ‬
‫وقد جمعت هاتان اآليتان كل ما يتعل ق بالمش ي من آداب‪ ،‬وفيهم ا دلي ل على‬
‫أن هذا النوع من اآلداب له عالقة باآلداب االجتماعي ة‪ ،‬يق ول س يد قطب‪(:‬والمش ي‬
‫في األرض مرحا ه و المش ي في تخاي ل ونفخ ة وقل ة مب االة بالن اس‪ ،‬وهي حرك ة‬
‫كريهة يمقتها هللا ويمقتها الخلق‪ .‬وهي تعبير عن شعور م ريض بال ذات‪ ،‬يتنفس في‬
‫مشية الخيالء! إن هللا ال يحب ك ل مخت ال فخ ور ‪ ..‬وم ع النهي عن مش ية الم رح‪،‬‬
‫بيان للمشية المعتدلة القاصدة‪ :‬واقصد في مشيك‪ ..‬والقصد هن ا من االقتص اد وع دم‬
‫اإلسراف‪ .‬وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني واالختي ال‪ .‬ومن القص د ك ذلك‪.‬‬
‫ألن المشية القاصدة إلى هدف‪ ،‬ال تتلكأ وال تتخايل وال تتبختر‪ ،‬إنما تمضي لقصدها‬
‫في بساطة وانطالق)(‪)1‬‬
‫وبما أنا قد تحدثنا عن تعبير المشي ونحوه عن الكبر في موض عه من‪(:‬البع د‬
‫األخالقي)‪ ،‬فسنكتفي هن ا ب ذكر ثالث ة آداب له ا عالق ة ب الطريق‪ ،‬وال تي هي مح ل‬
‫المشي‪:‬‬
‫حرمة الطريق‪:‬‬
‫وردت النصوص الكثيرة ال تي تعت بر الطري ق حق ا عام ا ال يج وز ألح د أن‬
‫يستأثر به أو يضيق على الناس أو يحد من حريتهم‪ ،‬فقال ‪(:‬من اقتطع من طريق‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.2709 :‬‬

‫‪270‬‬
‫أرضين)(‪)1‬‬ ‫المسلمين وأفنيتهم قيد شبر من األرض طوقه يوم القيامة من سبع‬
‫وقد أنكر ابن الحاج استبداد البعض بالطريق واعت بره اغتص ابا‪ ،‬فق ال‪(:‬ومن‬
‫ذلك الشراء من أصحاب الطبليات والدكك المستديمة في طريق المسلمين ومن يقعد‬
‫في ط ريقهم ي بيع ويش تري ؛ ألن ذل ك غص ب لطري ق المس لمين وليس ألح د في‬
‫طريق المسلمين إال أن يمر في حاجته أو يقف قدر ضرورته وال يجعله كأن ه دك ان‬
‫ي بيع في ه ويش تري ؛ ألن في ذل ك تض ييقا على المس لمين في طرق اتهم ول و ك انت‬
‫متسعة فذلك ال يجوز ال سيما والطرق في هذا الوقت ق د ض اقت عن الطري ق ال تي‬
‫ش رعت للن اس وذل ك على م ا قال ه العلم اء أن يم ر جمالن مع ا محمالن تبن ا في‬
‫الطريق ال يمس أح دهما اآلخ ر‪ .‬ف انظر رحمن ا هللا تع الى وإي اك إلى ح د الطري ق‬
‫المشروع وإلى ما عليه الطريق اليوم فكيف يجوز والحالة هذه شيء مما تقدم ذك ره‬
‫ال سيما إذا انضاف إلى ذلك أن يكون يوم الجمعة أو في وقت منص رف الن اس إلى‬
‫الخمس صلوات أو إلى تفقد أحوالهم في البيع والشراء‪ ،‬وأشد من هذا كل ه م ا يفعل ه‬
‫بعضهم من الجلوس بالطبليات على أبواب الجوامع فيض يقون على الن اس ط ريقهم‬
‫إلى بيت ربهم فهم غاصبون لذلك في وقت الحاجة إليه‪ .‬وك ل من اش ترى منهم فق د‬
‫أعانهم على ما فعلوه من الغصب فهو شريك معهم في اإلثم)(‪)2‬‬
‫وقد أنكر ابن الحاج التعامل مع هؤالء‪ ،‬بل اعتبره حرام ا‪ ،‬فق ال‪(:‬وليس ذل ك‬
‫مخصوصا بالمقاعد ليس إال بل كل من غصب شيئا من األرض فال ينبغي معاملت ه‬
‫إال من ضرورة داعية إلى ذلك ولم يوجد منه ب د كه ذه ال دكاكين ال تي يعمل ون به ا‬
‫مساطب يقطعونها من طريق المسلمين خارجة عن حوانيتهم قد ضاق الطري ق به ا‬
‫من الجانبين وسبب هذا كله عدم النظر إلى ما كلفه المرء من مراعاة الشرع وغفل ة‬
‫من غفل من بعض العلماء وترك السؤال من العام ة كم ا تق دم بيان ه غ ير م رة‪ .‬أال‬
‫ترى أن المعنى الذي ألجله منع الشراء من المكاس موجود في الشراء ممن اتصف‬
‫بشيء مما ذكر إذ أن ه ل و تح امى المس لمون الش راء من ه ألج ل م ا اتص ف ب ه من‬
‫غصب طريق المسلمين لنزع عن ذلك وإذا كان ذلك كذلك فالش راء منهم إعان ة لهم‬
‫على ما يفعلونه‪ ،‬وذلك ال ينبغي ؛ ألن المش تري يص ير ش ريكا لهم في إثم غص بهم‬
‫لطريق المسلمين)(‪)3‬‬
‫وقد نقل من تورع العلماء من ذلك عن اإلمام أحم د بن حنب ل أن ه ك ان عن ده‬
‫شيخ من الصلحاء يحضر مجلسه‪ ،‬وكان اإلمام يعظم ه لخ يره وبركت ه‪ ،‬ثم بلغ ه أن‬
‫الشيخ ليس جدار بيته بالطين من الخارج‪ ،‬فتركه اإلمام وكان من عادته أنه إذا ج اء‬
‫إلي ه أجلس ه إلى جانب ه ورحب ب ه‪ ،‬فلم ا أن بلغ ه عن ه ذل ك ترك ه ولم يقب ل علي ه‬
‫وأعرض عنه‪ ،‬فبقي كذلك أياما‪ ،‬فسأل الش يخ أص حاب اإلم ام عن س بب إعراض ه‬

‫‪ )(1‬نقال عن‪ :‬المدخل‪ ،2/79 :‬وقريب منه في الحلية ألبي نعيم وعبد الرزاق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المدخل‪.2/79 :‬‬
‫‪ )(3‬المدخل‪.2/79 :‬‬

‫‪271‬‬
‫عنه‪ ،‬فأخبروه أنه بلغه أنك ليست جدار بيت ك ب الطين من خ ارج‪ ،‬فج اء الش يخ إلى‬
‫اإلم ام فس أله عن م وجب هجران ه ل ه‪ ،‬ف أخبره اإلم ام ب ذلك‪ ،‬فق ال ل ه الش يخ‪(:‬لي‬
‫ضرورة في تلييس الجدار‪ ،‬وليس فيه كبير أمر في حق الم ارين)‪ ،‬فق ال ل ه اإلم ام‪:‬‬
‫ذلك غصب في طريقهم‪ ،‬فقال له الش يخ‪ :‬ه و ن زر يس ير‪ ،‬فق ال ل ه اإلم ام‪(:‬اليس ير‬
‫والكثير سواء في حق المسلمين)‪ ،‬فقال له‪ :‬كيف أفعل؟‪ ،‬فقال له اإلمام‪(:‬أحد أمرين‪:‬‬
‫إما أن تزيل التلييس‪ ،‬وإما أن تنقص الجدار وتدخله في ملك ك ق در التل ييس‪ ،‬فتبني ه‬
‫على ذلك ثم تليسه بعد ذلك)‪ ،‬فلم يكلمه اإلمام حتى امتثل ما أمره به(‪.)1‬‬
‫وليس هذا خاصا بالمتورعين فقط‪ ،‬ب ل ه و من األحك ام الش رعية ال تي نص‬
‫عليها الفقهاء‪ ،‬وال مجال لط رح مس ائلها هن ا‪ ،‬ولكن ا نكتفي باقتب اس ه ذا النص من‬
‫المبس وط لنعلم موق ف الش ريعة من اغتص اب الطري ق‪ ،‬ب ل ه واء الطري ق‪ ،‬ق ال‬
‫السرخسي‪(:‬وإذا مال حائط الرجل أو وهي فوقع على الطري ق األعظم فقت ل إنس انا‬
‫فال ضمان على صاحبه ألنه لم يوجد منه صنع هو تعد فإن ه وض ع البن اء في ملك ه‬
‫فال يكون متعديا في الوضع وال صنع ل ه في مث ل الحائ ط‪ ،‬ولكن ه ذا إذا ك ان بن اء‬
‫الحائط مستويا‪ ،‬فإن كان بناه في األصل مائال إلى الطري ق فه و ض امن لمن يس قط‬
‫عليه‪ ،‬ألنه متعد في شغل هواء الطريق ببنائه‪ ،‬وهواء الطريق كأصل الطري ق ح ق‬
‫المارة‪ ،‬فمن أحدث فيه ش يئا ك ان متع ديا ض امنا‪ ،‬فأم ا إذا بن اه مس تويا فإنم ا ش غل‬
‫ببنائه هواء ملكه وذلك ال يكون تعديا منه)(‪)2‬‬
‫وق د يق اس على ه ذا كل ه اتخ اذ األوالد الط رق مالعب لهم‪ ،‬بحيث ي ؤذون‬
‫المارة‪ ،‬بل قد يؤذون أنفسهم عندما يتعرضون للحوادث بسبب ذلك‪.‬‬
‫وهذا ما يستدعي ت دخل أولي األم ر بوض ع مح ال خاص ة للعب تقي األوالد‬
‫كما تقي المجتمع من مخاطر اللعب في الطرق‪ ،‬واستغاللها في غير ما وضعت له‪.‬‬
‫إماطة األذى عن الطريق‪:‬‬
‫وردت النصوص الكثيرة التي ترغب في تنظيف الطرق وإماطة األذى عنها‬
‫بما يفيد من مجموعها وجوب ذلك‪ ،‬وعلى األق ل وج وب ع دم التس بب في اتس اخها‬
‫ومن تل ك النص وص قول ه ‪ ‬بص يغة األم ر ال ذي يفي د الوج وب‪(:‬نح األذى عن‬
‫طريق المسلمين)(‪ ،)3‬وقال ‪(:‬أمط األذى عن الطريق فإنه لك ص دقة)(‪ ،)4‬وق ال‬
‫‪(:‬يا أبا برزة أمط األذى عن الطريق فإن لك بذلك صدقة)(‪)5‬‬
‫وأخ بر ‪ ‬عن الج زاء العظيم المع د لمن فع ل ه ذا‪ ،‬فق ال ‪(:‬م ر رج ل‬
‫بغصن شجرة على ظه ر الطري ق فق ال‪ :‬وهللا ألنحين ه ذا عن طري ق المس لمين ال‬

‫‪ )(1‬المدخل‪.2/79 :‬‬
‫‪ )(2‬المبسوط‪.27/9 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن حبان ‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري في األدب المفرد باب إماطة األذى رقم (‪)228‬‬
‫‪ )(5‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫يؤذيهم؛ فأدخل الجنة)(‪ ،)1‬وقال ‪(:‬ك انت ش جرة في طري ق الن اس ت ؤذي الن اس‬
‫فأتاها رجل فعزلها عن طريق الناس‪ ،‬ق ال‪ :‬فق ال رس ول هللا ‪(:‬فلق د رأيت ه يتقلب‬
‫في ظلها في الجنة)(‪)2‬‬
‫ويدخل في هذا تنظي ف جمي ع المح ال العام ة‪ ،‬كم ا ق ال ‪(:‬عرض ت علي‬
‫أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد‪ ،‬وعرضت علي ذنوب أم تي فلم‬
‫أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)(‪)3‬‬
‫ويدخل في هذا الباب ما ذكرناه من التس بب في حص ول األذى في الطري ق‪،‬‬
‫ومما ورد التنصيص عليه بالخصوص‪ ،‬بل اعتباره من المالعن قض اء الحاج ة في‬
‫الطريق‪ ،‬قال ‪(:‬اتقوا اللعانين الذي يتخلى في طري ق الن اس وأف نيتهم)(‪ ،)4‬وق ال‬
‫‪(:‬من س ل س خيمته(‪ )5‬على طري ق ع امر من ط رق المس لمين فعلي ه لعن ة هللا‬
‫ومالئكته والناس أجمعين)(‪ ،)6‬وقال ‪(:‬اتقوا المالعن الثالث‪ :‬أن يقعد أح دكم في‬
‫ظل يستظل فيه‪ ،‬أو في طريق‪ ،‬أو في نقع ماء)(‪)7‬‬
‫احترام الطريق‪:‬‬
‫وهو األدب الثالث‪ ،‬وه و مكم ل لألدب الس ابقين‪ ،‬ألن ه ي راعي الع ابرين في‬
‫الطريق‪ ،‬فال يؤذيهم‪ ،‬أو يمسهم بما يحد من حريتهم‪ ،‬وقد أشار إليه قول ه ‪(:‬إي اكم‬
‫والجل وس على الطرق ات‪ ،‬ف إن أبيتم إال المج الس ف أعطوا الطري ق حقه ا‪ :‬غض‬
‫البصر‪ ،‬وكف األذى‪ ،‬ورد السالم‪ ،‬واألمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر)(‪)8‬‬
‫وق د جم ع الطح اوي بين اآلث ار الناهي ة عن الجل وس في الطرق ات واآلث ار‬
‫المبحية لذلك‪ ،‬بع د أن أورد جمل ة منه ا بأس انيده‪ ،‬فق ال‪(:‬فتأملن ا م ا في ه ذه اآلث ار‬
‫فوجدنا فيها نهي رسول هللا ‪ ‬عن الجلوس بالصعدات‪ ،‬ثم أباح بعد ذل ك م ا أباح ه‬
‫من الجلوس فيها على الشرائط التي اشترطها على من أباحه ذلك منها‪ ،‬فوقفنا ب ذلك‬
‫على أن نهيه كان على الجلوس فيها إنما كان على الجلوس الذي ليس معه الش رائط‬
‫التي اشترطها عند إباحته الجلوس فيها على من آثر أن يجلس فيها وعلى أن إباحت ه‬
‫الجلوس فيه ا مض من بالش رائط ال تي اش ترطها في إباحت ه الجل وس فيه ا على من‬
‫أباحه ذلك منها وفي ذلك ما قد دل على تباين نهيه ‪ ‬وتباين إباحته‪ ،‬وأن كل واحد‬
‫منهم ا لمع نى ليس في اآلخ ر منهم ا وفي ه ذه اآلث ار م ا ي دل على إباح ة الن اس‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ومسلم ‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد والخرائطي في مكارم األخالق‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود والترمذي وقال‪ :‬هذا حديث غريب ال نعرفه إال من هذا الوجه‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن حبان ‪.‬‬
‫‪ )(5‬يعنى الغائط والنجو النهاية [‪]2/351‬‬
‫‪ )(6‬رواه الطبراني في األوسط والحاكم ‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه أحمد والبيهقي وأبو داود‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫أهلها)(‪)1‬‬ ‫االستعمال من طرقهم العامة ما ال ضرر فيه على أحد من‬
‫ولكن هذه اإلباحة بهذه الشرائط مقيدة بما ال يستضر به الناس‪ ،‬قال الطحاوي‬
‫معقبا على كالمه السابق‪(:‬وإذا كان ذلك كذلك كان معقوال أن الجلوس فيه ا إن ك ان‬
‫مما يضيق على المارين بها جلوس الجالسين به ا إياه ا غ ير داخ ل فيم ا أباح ه ‪‬‬
‫منها‪ ،‬وأن ذلك راجع إلى ما في حديث سهل بن معاذ الجهني عن أبيه أن رسول هللا‬
‫‪ ‬أم ر منادي ا في بعض غزوات ه لم ا ض يق الن اس المن ازل وقطع وا الطرق ات‬
‫فنادى ‪(:‬أن من ضيق منزال وقطع طريقا فال جهاد له)(‪)3() )2‬‬
‫‪ 7‬ـ آداب المعاشرة مع أصناف الناس‬
‫من أصول اآلداب التي ينبغي على الم ربي أن يعلمه ا من يربي ه‪ ،‬ويح رص‬
‫على ذلك‪ ،‬تعليمه كيفية التعامل مع أصناف الناس بحسب منازلهم ليعامل ك ل واح د‬
‫منهم بما تقتضيه منزلته من معاملة‪ ،‬فقد يصلح لصنف من الن اس م ا ال يص لح م ع‬
‫غيره‪ ،‬بل قد يكون نفس التصرف حسنة مع قوم سيئة مع غيرهم‪.‬‬
‫كما روي أن فتى جاء إلى سفيان بن عيينة من خلفه فجذب ه وق ال‪ :‬ي ا س فيان‬
‫حدثني‪ ،‬فالتفت سفيان إليه وقال‪(:‬يا بني من جهل أقدار الرجال فه و بنفس ه أجه ل)‪،‬‬
‫فهذا التصرف الذي فعله هذا الفتى قد يصلح مع أصدقائه‪ ،‬ولكنه ال يصلح بأي حال‬
‫من األحوال مع شيخه الذي يريد أن يتلقى عليه العلم‪.‬‬
‫وقد نبه إلى ه ذا االختالف في التعام ل م ع الن اس قول ه تع الى‪ ﴿ :‬ال تَجْ َعلُ وا‬
‫ض ُك ْم بَعْضا ً ﴾(الن ور‪ ،)63:‬فمم ا ق ال س عيد بن جب ير‬ ‫ُول بَ ْينَ ُك ْم َك ُدعَا ِء بَ ْع ِ‬
‫ُدعَا َء ال َّرس ِ‬
‫ومجاه د في تفس يرها‪ :‬قول وا ي ا رس ول هللا‪ ،‬في رف ق ولين‪ ،‬وال تقول وا ي ا محم د‬
‫بتجهم‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬أمرهم أن يشرفوه ويفخموه‪.‬‬
‫ض ونَ أَ ْ‬
‫ص َواتَهُ ْم ِع ْن َد‬ ‫وإلى ذل ك اإلش ارة أيض ا بقول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ُغ ُّ‬
‫ول هَّللا ِ أُولَئِ كَ الَّ ِذينَ ا ْمتَ َحنَ هَّللا ُ قُلُ وبَهُ ْم لِلتَّ ْق َوى لَهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ َوأَجْ ٌر َع ِظي ٌم﴾‬
‫َر ُس ِ‬
‫(الحجرات‪ ،)3:‬فقد أثنى هللا تعالى على هؤالء بهذا السلوك أمام رسول هللا ‪.‬‬
‫وفي مقابل هؤالء ورد ذم قوم أساءوا األدب مع رسول هللا ‪ ،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫ت أَ ْكثَ ُرهُ ْم ال يَ ْعقِلُونَ ﴾ (الحجرات‪)4:‬‬ ‫ك ِم ْن َو َرا ِء ْال ُح ُج َرا ِ‬ ‫﴿إِ َّن الَّ ِذينَ يُنَادُونَ َ‬
‫انطالقا من هذا تحدث العلماء بتفصيل شديد عن كيفية التعامل مع كل صنف‬
‫من الناس‪.‬‬
‫ومن أحسن ما ورد في ذلك وأشمله وأدق ه م ا ورد في [رس الة الحق وق] (‪)4‬‬
‫لإلمام زين العابدين بن الحسين‪ ،‬والتي شملت خمسين حقا ً على اإلنسان‪ ،‬ابت دا ًء من‬

‫‪ )(1‬مشكل اآلثار‪.1/154 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(3‬مشكل اآلثار‪.1/154 :‬‬
‫‪ )(4‬صحح روايتها بعد بحثه في أسانيدها العالمة الجاللي في كتابه جه اد اإلم ام الس جاد‪ ،‬ص‪ ،269‬وش رحها‬
‫العالمة السيد حسن القبانجي باس م (ش رح رس الة الحق وق لإلم ام علي بن الحس ين زين العاب دين)‪ ،‬وذك ر ش روحها‬
‫وترجماتها صاحب الذريعة‪ 7/42 :‬ومعجم المطبوعات النجفية‪ ،220/‬وموسوعة مؤلفي اإلمامية‪.1/233 :‬‬

‫‪274‬‬
‫حقوق هللا تعالى إلى ح ق نفس ه ومحيط ه ومجتمع ه ودولت ه‪ ،‬وحق وق أه ل األدي ان‬
‫األخرى ‪ .‬وتبدأ بإجمال كالفهرس‪ ،‬ثم تفصل الحقوق واحداً واحداً ‪.‬‬
‫وقد استهل اإلم ام ه ذه الرس الة بقول ه‪( :‬اعلم أن هلل ع ز وج ل علي ك حقوق ا ً‬
‫محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنه سكنتها‪ ،‬أو حال حلتها أو منزل ة نزلته ا‬
‫أو جارحة قلبتها أو آلة تص رفت فيه ا (بعض ها أك بر من بعض)‪ ،‬ف أكبر حق وق هللا‬
‫تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق‪ ،‬ثم م ا أوجب هللا‬
‫عز وجل علي ك لنفس ك من قرن ك إلى ق دمك‪ ،‬على اختالف جوارح ك‪ ،‬فجع ل ع ز‬
‫وجل للسانك عليك حقاً‪ ،‬ولسمعك علي ك حق اً‪ ،‬ولبص رك علي ك حق اً‪ ،‬ولي دك علي ك‬
‫حقاً‪ ،‬ولرجلك عليك حقاً‪ ،‬ولبطنك عليك حق اً‪ ،‬ولفرج ك علي ك حق اً‪ ،‬فه ذه الج وارح‬
‫الس بع ال تي به ا تك ون األفع ال‪ ،‬ثم جع ل ع ز وج ل ألفعال ك علي ك حقوق اً‪ ،‬فجع ل‬
‫لصالتك عليك حقاً‪ ،‬ولصومك عليك حقاً‪ ،‬ولصدقتك عليك حقاً‪ ،‬ولهديك عليك حقا ً ‪.‬‬
‫ثم تخرج الحق وق من ك إلى غ يرك من ذوي الحق وق علي ك فأوجبه ا علي ك حق وق‬
‫أئمتك‪ ،‬ثم حقوق رعيتك‪ ،‬ثم حقوق رحمك فهذه حقوق يتشعب منها حقوق)‬
‫وبعد هذا الذكر المجمل ألنواع الحقوق راح يفصل مج امع حق وق ك ل جه ة‬
‫من الجه ات‪ ،‬ومن أمثلته ا قول ه في ح ق األس تاذ والمعلم‪( :‬وح ق سائس ك ب العلم‬
‫التعظيم له‪ ،‬والتوقير لمجلسه‪ ،‬وحسن اإلستماع إليه‪ ،‬واإلقب ال علي ه‪( ،‬والمعون ة ل ه‬
‫على نفسك فيما ال غنى بك عن ه من العلم‪ ،‬ب أن تف رغ ل ه عقل ك‪ ،‬وتحض ره فهم ك‪،‬‬
‫وتزكي له قلبك‪ ،‬وتجلي له بصرك‪ ،‬ب ترك الل ذات ونقض الش هوات)‪ ،‬وأن ال ترف ع‬
‫علي ه ص وتك‪ ،‬وال تجيب أح داً يس أله عن ش ئ‪ ،‬ح تى يك ون ه و ال ذي يجيب‪ ،‬وال‬
‫تحدِّث في مجلسه أحداً‪ ،‬وال تغتاب عنده أحداً‪ ،‬وأن تدفع عنه إذا ذكر عن دك بس وء‪،‬‬
‫وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه‪ ،‬وال تجالس له عدواً وال تعادي له ولي اً‪ ،‬ف إذا فعلت‬
‫ذلك شهد لك مالئكة هللا بأنك قصدته‪ ،‬وتعلمت علمه هلل جل اسمه ال للناس)‬
‫ومن أمثلته ا قول ه في ح ق المس ؤول عن أي رعي ة‪( :‬وأم ا ح ق رعيت ك‬
‫بالس لطان ف أن تعلم أنهم ص اروا رعيت ك لض عفهم وقوت ك‪ ،‬فيجب أن تع دل فيهم‪،‬‬
‫وتكون لهم كالوالد الرحيم‪ ،‬وتغفر لهم جهلهم‪ ،‬وال تعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬وتشكر هللا عز‬
‫وجل على ما آتاك من القوة عليهم)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق التالميذ على األستاذ‪( :‬وأما حق رعيتك بالعلم ف أن‬
‫تعلم أن هللا عز وجل إنما جعلك قيما لهم فيم ا آت اك من العلم وفتح ل ك من خزائن ه‪،‬‬
‫ف إن أحس نت في تعليم الن اس‪ ،‬ولم تخ رق بهم‪ ،‬ولم تض جر عليهم‪ ،‬زادك هللا من‬
‫فضله ‪ .‬وإن أنت منعت الناس علمك‪ ،‬أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك‪ ،‬كان حقا ً‬
‫على هللا عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق الزوج ة‪( :‬وأم ا ح ق الزوج ة ف أن تعلم أن هللا ع ز‬
‫وجل جعلها لك سكنا ً وأنسا ً فتعلم أن ذلك نعمة من هللا عليك‪ ،‬فتكرمه ا وترف ق به ا‪،‬‬
‫وإن ك ان حق ك عليه ا أوجب ف إن له ا علي ك أن ترحمه ا ألنه ا أس يرك‪ ،‬وتطعمه ا‬
‫وتكسوها‪ ،‬وإذا جهلت عفوت عنها)‬

‫‪275‬‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق األم‪( :‬وأما حق أمك ف أن تعلم أنه ا حملت ك حيث ال‬
‫يحتمل أحد أحداً‪ ،‬وأعطت ك من ثم رة قلبه ا م ا ال يعطي أح د أح داً‪ ،‬ووقت ك بجمي ع‬
‫جوارحه ا‪ ،‬ولم تب ال أن تج وع وتطعم ك‪ ،‬وتعطش وتس قيك‪ ،‬وتع رى وتكس وك‪،‬‬
‫وتضحى وتظلك‪ ،‬وتهجر النوم ألجلك‪ ،‬ووقَ ْت كَ الح ر وال برد‪ ،‬لتك ون له ا‪ ،‬فإن ك ال‬
‫تطيق شكرها إال بعون هللا وتوفيقه)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق األب‪( :‬وأما ح ق أبي ك ف أن تعلم أن ه أص لك‪ ،‬وأن ه‬
‫لواله لم تكن‪ ،‬فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك‪ ،‬فاعلم أن أباك أص ل النعم ة علي ك‬
‫فيه‪ ،‬فاحمد هللا واشكره‪ ،‬على قدر ذلك)‬
‫ومن أمثلته ا قول ه في ح ق األوالد‪( :‬وأم ا ح ق ول دك ف أن تعلم أن ه من ك‬
‫ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره و شره‪ ،‬وأنك مسؤول عما وليته به من حس ن‬
‫األدب والداللة على ربه عز وجل‪ ،‬والمعونة له على طاعته‪ ،‬فاعمل في أمره عم ل‬
‫من يعلم أنه مثاب على اإلحس ان إلي ه‪ ،‬مع اقب على اإلس اءة إليه (فاعم ل في أم ره‬
‫عمل المتزين بحسن أثره علي ه في عاج ل ال دنيا المع ذر إلى رب ه فيم ا بين ك وبين ه‬
‫بحسن القيام عليه‪ ،‬واألخذ له منه)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق األخ‪( :‬وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبس طها‪،‬‬
‫وظهرك الذي تلتجي إليه‪ ،‬وعزك الذي تعتم د علي ه‪ ،‬وقوت ك ال تي تص ول به ا‪ ،‬فال‬
‫تتخ ذه س الحا ً على معص ية هللا‪ ،‬وال ع دة للظلم لخل ق هللا‪ ،‬وال ت دع نص رته على‬
‫نفسه‪ ،‬ومعونته على عدوه‪ ،‬والحول بينه وبين شياطينه وتأدي ة النص يحة إلي ه‪ ،‬ف إن‬
‫انقاد لربه وأحسن اإلجابة له‪ ،‬وإال فليكن هللا آثر عندك وأكرم عليك منه)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق صاحب الفضل‪( :‬وأم ا ح ق ذي المع روف علي ك‪،‬‬
‫فأن تشكره وتذكر معروفه‪ ،‬وتكسبه المقالة الحس نة‪ ،‬وتخلص ل ه ال دعاء فيم ا بين ك‬
‫وبين هللا عز وجل‪ ،‬فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعالنية‪ ،‬ثم إن ق درت على‬
‫مكافأته يوما ً كافأته)‬
‫ومن أمثلتها قوله في ح ق الجليس‪( :‬وأم ا ح ق جليس ك ف أن تلين ل ه جانب ك‪،‬‬
‫وتنصفه في مجاراة اللفظ وال تقوم من مجلسك إال بإذنه‪ ،‬ومن يجلس إليك يجوز ل ه‬
‫القيام عنك بغير إذنه‪ ،‬وتنسى زالته وتحفظ خيراته‪ ،‬وال تسمعه إال خيراً)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق الجار‪( :‬وأما حق ج ارك‪ ،‬فحفظ ه غائب اً‪ ،‬وإكرام ه‬
‫شاهداً‪ ،‬ونصرته إذا كان مظلوماً‪ ،‬وال تتبع له عورة‪ ،‬فإن علمت عليه س وءا س ترته‬
‫عليه‪ ،‬وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه‪ ،‬وال تسلمه عند شديدة‪،‬‬
‫وتقيل عثرته‪ ،‬وتغفر ذنبه‪( ،‬ال تتبع له عورة‪ ،‬وال تبحث له عن سوءة لتعرفها‪ ،‬ف إن‬
‫عرفتها منه من غير إرادة منك وال تكل ف‪ ،‬كنت لم ا علمت حص نا ً حص ينا ً وس تراً‬
‫س تيراً‪ ،‬ال تس تمع علي ه من حيث ال يعلم‪ ،‬وال تس لمه عن د ش ديدة‪ ،‬وال تحس ده عن د‬
‫نعمة‪ ،‬تقيله عثرته‪ ،‬وتغفر زلته‪ ،‬وال تذخر حلمك عنه إذا جهل عليك‪ ،‬وال تخرج أن‬
‫تكون سلما ً له‪ ،‬ترد عنه لسان الشتيمة‪ ،‬وتبطل في ه كي د حام ل النص يحة‪ ،‬وتعاش ره‬
‫معاشرة كريمة)‬

‫‪276‬‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق الرفيق‪( :‬وأما حق الصاحب‪ ،‬فأن تصحبه بالتفضل‬
‫واإلنصاف‪ ،‬وتكرمه كما يكرمك‪ ،‬وال تدع ه يس بق إلى مكرم ة‪ ،‬ف إن س بق كافأت ه‪،‬‬
‫وتوده كما يودك‪ ،‬وتزجره عما يهم به من معصية‪ ،‬وكن عليه رحم ة وال تكن علي ه‬
‫عذاباً)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق الشريك في العمل‪( :‬وأما ح ق الش ريك‪ ،‬ف إن غ اب‬
‫كفيته‪ ،‬وإن حضر رعيته‪ ،‬وال تحكم دون حكم ه‪ ،‬وال تعم ل برأي ك دون مناظرت ه‪،‬‬
‫وتحفظ عليه ماله‪ ،‬وال تخونه فيما عز أو هان من أمره‪ ،‬ف إن ي د هللا تب ارك وتع الى‬
‫على أيدي الشريكين ما لم يتخاونا)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق الغ ريم المط الب بحق ه‪( :‬وأم ا ح ق غريم ك ال ذي‬
‫يطالبك‪ ،‬فإن كنت موسرا أعطيته (ولم ترده وتمطله‪ ،‬فإن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪ :‬مطل‬
‫الغ ني ظلم)‪ ،‬وإن كنت معس راً أرض يته بحسن الق ول‪( ،‬وطلبت إليه طلب ا ً جميالً)‪،‬‬
‫ورددته عن نفسك رداً لطيفا ً‪( ،‬ولم تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته‪ ،‬ف إن ذل ك‬
‫لؤم )‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق من تعيش معه‪( :‬وحق الخليط أن ال تغره وال تغشه‬
‫وال تخدعه‪ ،‬وتتقي هللا تبارك وتعالى في أمره (وال تكذب ه‪ ،‬وال تغفل ه‪ ،‬وال تخدع ه‪،‬‬
‫وال تعمل في انتقاض ه‪ ،‬عم ل الع دو ال ذي ال يبقي على ص احبه‪ ،‬وإن اطم أن إلي ك‬
‫استقصيت له على نفسك وعلمت أن غبن المسترسل ربا )‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق الخصم المدعي‪( :‬وحق الخصم المدعي عليك‪ ،‬فإن‬
‫كان ما يدعي عليك حقا ً كنت شاهده على نفسك ولم تظلمه‪ ،‬وأوفيته حق ه‪ ،‬وإن ك ان‬
‫ما يدعي به باطالً‪ ،‬رفقت ب ه ولم ت أت في أم ره غ ير الرف ق‪ ،‬ولم تس خط رب ك في‬
‫أمره ‪( .‬فإن كان ما يدعي عليك حقا ً لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته‪،‬‬
‫وكنت خصم نفسك له‪ ،‬والحاكم عليها‪ ،‬والشاهد له بحق ه دون ش هادة الش هود ‪ .‬وإن‬
‫كان مايدعيه باطالً‪ ،‬رفقت به وردعته وناش دته بدين ه‪ ،‬وكس رت حدت ه عن ك ب ذكر‬
‫هللا‪ ،‬وألقيت حشو الكالم ولفظ ة الس وء ال ذي ال ي رد عن ك عادي ة ع دوك ب ل تب وء‬
‫بإثمه‪ ،‬وبه يشحذ عليك سيف عداوته‪ ،‬ألن لفظة السوء تبعث الش ر‪ ،‬والخ ير مقمع ة‬
‫للشر )‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق الخصم المدعى عليه‪( :‬وحق خص مك ال ذي ت دعي‬
‫عليه‪ ،‬إن كنت محقا ً في دعواك أجملت مقاولته‪ ،‬ولم تجحد حقه‪( ،‬فإن كان ما تدعي ه‬
‫حقا ً أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى‪ ،‬فإن للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه‪،‬‬
‫وقصدت قصد حجتك ب الرفق‪ ،‬وأمه ل المهل ة‪ ،‬وأبين البي ان‪ ،‬وألط ف اللط ف‪ ،‬ولم‬
‫تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال‪ ،‬فتذهب عنك حجت ك‪ ،‬وال يك ون ل ك في‬
‫ذلك د َرك )‪ ،‬وإن كنت مبطالً في دعواك اتقيت هللا عز وج ل‪ ،‬وتبت إلي ه‪ ،‬وت ركت‬
‫الدعوى)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق المستشير‪( :‬وأما حق المستش ير‪ ،‬ف إن حض رك ل ه‬
‫وجه رأي جهدت له في النصيحة‪ ،‬وأشرت عليه بما تعلم أنك ل و كنت مكان ه عملت‬

‫‪277‬‬
‫به‪ ،‬وذلك ليكن منك في رحمة ولين‪ ،‬ف إن اللين ي ونس الوحش ة‪ ،‬وإن الغل ظ ي وحش‬
‫من موضع األنس ‪ .‬وإن لم يحضرك له رأي وعرفت له من تثق برأيه وترضى ب ه‬
‫لنفسك‪ ،‬دللته عليه وأرشدته إليه‪ ،‬فكنت لم تأله خيراً‪ ،‬ولم تدخره نصحا ً )‪.‬‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق المستشار‪( :‬وحق المشير عليك أن ال تتهمه فيم ا ال‬
‫يوافق ك من رأي ه‪ ،‬وإن وافق ك حم دت هللا ع ز وج ل ‪( .‬فإنم ا هي اآلراء وتص رف‬
‫الناس فيها واختالفهم‪ ،‬فكن عليه في رأيه بالخي ار إذا اتهمت رأي ه ‪ .‬فأم ا تهمت ه فال‬
‫تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة‪ ،‬وال تدع شكره على م ا ب دا ل ك من‬
‫إشخاص رأيه‪ ،‬وحسن وجه مشورته‪ ،‬فإذا وافقك حمدت هللا وقبلت ذل ك من أخي ك‪،‬‬
‫باإلرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك )‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق المستنص ح‪( :‬وأم ا ح ق المستنص ح‪ ،‬ف إن حق ه أن‬
‫تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أن يحمل‪ ،‬ويخرج المخ رج ال ذي يلين‬
‫على مسامعه‪ ،‬وتكلمه من الكالم بما يطيق ه عقل ه‪ ،‬ف إن لك ل عق ل طبق ة من الكالم‪،‬‬
‫يعرفه ويجيبه‪ ،‬وليكن مذهبك الرحمة )‬
‫ومن أمثلته ا قول ه في ح ق الناص ح‪( :‬وح ق الناص ح أن تلين ل ه جناح ك‪،‬‬
‫وتصغي إليه بسمعك ( حتى تفهم عنه نصيحته)‪ ،‬فإن أتى بالصواب حم دت هللا ع ز‬
‫وجل‪( ،‬وقبلت منه وعرفت له نصيحته) وإن لم يوافق رحمت ه ولم تتهم ه‪( ،‬وعلمت‬
‫أنه لم يألك نصحا ً إال أنه أخطأ)‪ ،‬ولم تؤاخذه بذلك‪ ،‬إال أن يكون مستحقا ً للتهم ة‪ ،‬فال‬
‫تعبأ بشئ من أمره على حال)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق كبار الس ن‪( :‬وح ق الكب ير توق يره لس نه‪ ،‬وإجالل ه‬
‫لتقدمه في اإلسالم قبل ك‪ ،‬وت رك مقابلت ه عن د الخص ام‪ ،‬وال تس بقه إلى طري ق‪ ،‬وال‬
‫تتقدمه‪ ،‬وال تستجهله‪ ،‬وإن جهل عليك احتملته وأكرمته‪ ،‬لحق اإلسالم وحرمته)‬
‫ومن أمثلتها قوله في حق صغير السن‪( :‬وح ق الص غير رحمت ه في تعليم ه‪،‬‬
‫والعفو عنه‪ ،‬والستر عليه‪ ،‬والرفق به‪ ،‬والمعونة ل ه ‪( .‬والس تر على جرائ ر حداثت ه‬
‫فإنه سبب للتوبة‪ ،‬والمداراة له وترك مماحكته‪ ،‬فإن ذلك أدنى لرشده )‬
‫وغيرها كثير‪ ..‬انطالقا من هذا سنذكر هنا بعض التفاصيل المرتبط ة ببعض‬
‫أصناف الناس مما يحتاج الولد إلى تعلمه واالهتمام به‪:‬‬
‫مع الكبار‪:‬‬
‫فالكبار ذوو نفسيات خاصة‪ ،‬فلذلك يحت اجون إلى معامل ة خاص ة‪ ،‬وق د نص‬
‫على هذه المعاملة الخاصة فوله تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّما يَ ْبلُغ ََّن ِع ْندَكَ ْال ِكبَ َر أَ َح ُدهُ َما أَوْ ِكالهُ َم ا‬
‫فَال تَقُ لْ لَهُ َم ا أُفٍّ َوال تَ ْنهَرْ هُ َم ا َوقُ لْ لَهُ َم ا قَ وْ الً َك ِريم اً﴾ (االس راء‪ ،)23:‬فم ع أن‬
‫الوص ية بالوال دين عام ة ومطلق ة في الق رآن الك ريم إال أن ه خص الك بر بمزي د‬
‫اإلحسان‪ ،‬وضرورة القول الحسن لما تستلزمه هذه الفترة من ذلك‪.‬‬
‫وقد رود في الس نة الح ظ على اح ترام الكب ار‪ ،‬ومع املتهم بم ا يلي ق بهم من‬
‫معالمة تناسب مع احوالهم النفسية‪ ،‬قال ‪(:‬من لم يرحم ص غيرنا ولم يع رف ح ق‬

‫‪278‬‬
‫كبيرنا فليس منا)(‪ ،)1‬وقد ورد الح ديث بص يغ مختلف ة ت بين في مجموعه ا طريق ة‬
‫معاملة الكبير‪ ،‬ومن تلك الصيغ‪ ،‬قول ه ‪(:‬ليس من ا من لم ي رحم ص غيرنا وي وقر‬
‫كبيرنا)(‪ ،)2‬وقال ‪(:‬ليس منا من لم ي رحم ص غيرنا ويع رف ش رف كبيرن ا)(‪،)3‬‬
‫وقال ‪(:‬ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه)(‪)4‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬اعت بر إك رام الش يوخ من إجالل هللا‪ ،‬فق ال ‪(:‬إن من‬
‫إكرام جالل هللا إكرام ذي الشيبة المسلم واإلمام العادل وحام ل الق رآن ال يغل و في ه‬
‫وال يجفو عنه)(‪ ،)5‬وقال ‪(:‬من تعظيم جالل هللا ع ز وج ل إك رام ذي الش يبة في‬
‫اإلسالم‪ ،‬وإن من تعظيم جالل هللا إكرام اإلمام المقسط)(‪)6‬‬
‫وجاء أخوان إلى رسول هللا ‪ ،‬ليحدثاه بحادث ة وقعت لهم ا‪ ،‬وك ان أح دهما‬
‫أكبر من أخيه‪ ،‬فاراد أن يتكلم الصغير‪ ،‬فقال ل ه الن بي ‪(:‬ك بر ك بر)(‪ )7‬أي أع ط‬
‫الكبير حقه‪ ،‬ودع ألخيك األكبر الكالم‪.‬‬
‫مع األصدقاء‪:‬‬
‫من أهم ما ينبغي أن يحرص عليه المربي تعليم ابنه أو من تكفل بتربيه حسن‬
‫العشرة م ع أقران ه من إخوان ه وأص دقائه‪ ،‬ألن حس ن عالقتهم بهم ه و ال دليل على‬
‫حسن خلقه وكرم أدبه‪.‬‬
‫وقد صرحت النصوص الكثيرة بقيمة الصداقة واألخ وة‪ ،‬وماله ا من حق وق‪،‬‬
‫وأول ما يستشف منه من ذلك قوله تع الى‪َ ﴿ :‬وال َعلَى أَ ْنفُ ِس ُك ْم أَ ْن تَ أْ ُكلُوا ِم ْن بُيُ وتِ ُك ْم‬
‫ت أَخَ َواتِ ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬
‫ت‬ ‫ت إِ ْخ َوانِ ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬ ‫ت أُ َّمهَ اتِ ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬ ‫ت آبَ ائِ ُك ْم أَوْ بُيُ و ِ‬
‫أَوْ بُيُ و ِ‬
‫ت خَاالتِ ُك ْم أَوْ َما َملَ ْكتُ ْم َمفَاتِ َح هُ أَوْ‬ ‫ت أَ ْخ َوالِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬ ‫ت َع َّماتِ ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬ ‫أَ ْع َما ِم ُك ْم أَوْ بُيُو ِ‬
‫ص ِديقِ ُك ْم ﴾ (النور‪ )61:‬فقد قرن هللا تعالى في ه ذه اآلي ة الص داقة بالقراب ة القريب ة‪،‬‬ ‫َ‬
‫وأباح للصديق أن يأكل من بيت صديقه بدون حرج‪.‬‬
‫بل إن هللا تع الى يطل ق على الص داقة لقب ا عظيم ا‪ ،‬فيس ميها األخ وة‪ ،‬وك أن‬
‫األص دقاء ذوو أب واح د ه و اإليم ان واإلس الم‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن تَ ابُوا َوأَقَ ا ُموا‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ (التوب ة‪،)11:‬‬ ‫ِّين َونُفَصِّ ُل اآْل يا ِ‬ ‫الصَّالةَ َوآتَ ُوا ال َّز َكاةَ فَإِ ْخ َوانُ ُك ْم فِي الد ِ‬
‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬ا ْدعُوهُ ْم آِل بَائِ ِه ْم هُ َو أَ ْق َسطُ ِع ْن َد هَّللا ِ فَإِ ْن لَ ْم تَ ْعلَ ُم وا آبَ ا َءهُ ْم فَ إِ ْخ َوانُ ُك ْم فِي‬
‫الدِّي ِن َو َم َوالِي ُك ْم﴾ (األحزاب‪)5:‬‬
‫ب ل إن هللا تع الى حص ر عالق ة المؤم نين في األخ وة‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري في األدب وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي (راجع أحاديث الترمذي باب ما جاء في رحمة الصبيان كت اب ال بر رقم (‪،1921 ،1920‬‬
‫‪ ،)1922‬وأحمد عن أبي أمامة (‪)5/257‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد والترمذي والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه ابن عدي والبيهقي والخرائطي في مكارم األخالق‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه ابن الضريس ‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُونَ إِ ْخ َوةٌ فَأَصْ لِحُوا بَ ْينَ أَ َخ َو ْي ُك ْم َواتَّقُوا هَّللا َ لَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُمونَ ﴾ (الحجرات‪)10:‬‬
‫وورد في السنة النصوص الكث يرة ال تي تعظم ه ذه العالق ة‪ ،‬وت بين أص ولها‬
‫وكيفية التعامل معها‪ ،‬وقد ذكر ‪ ‬األصل األكبر لذلك‪ ،‬فقال‪( :‬ال يؤمن أحدكم حتى‬
‫يحب ألخيه ما يحب لنفسه)(‪)1‬‬
‫انطالق ا من ه ذا‪ ،‬ومن أهمي ة تب يين الم ربي آداب العالق ات بين من يربي ه‬
‫وأصدقائه وإخوانه‪ ،‬نحاول هنا استعراض ما أمكن من ه ذه اآلداب على حس ب م ا‬
‫ذكر علماء السلوك من المسلمين‪ ،‬وعلى حسب ما كانت عليه هذه العالق ة العظيم ة‬
‫في عهد السلف ‪.‬‬
‫وسنذكر هذه اآلداب مفرقة مع شواهدها‪ ،‬وهي تدل على األصول التي تستند‬
‫إليها هذه العالقة‪ ،‬ليقاس عليها غيرها(‪.)2‬‬
‫فمن تلك اآلداب معرف ة أس مائهم وبل دانهم ونح و ذل ك‪ ،‬ألن العالق ة تنطل ق‬
‫أصال من المعرفة‪ ،‬قال ابن عم ر ‪(:‬رآني الن بي ‪ ‬ألتفت فق ال‪(:‬إالم تلتفت؟) قلت‪:‬‬
‫إلى أخ لي أن ا في انتظ اره فق ال ‪(:‬إذا أحببت رجالً فس له عن اس مه واس م أبي ه‬
‫وجده وعشيرته ومنزله فإن مرض عدته وإن استعان بك أعنته)(‪)3‬‬
‫ومنها الصفح عن ع ثراتهم وت رك ت أنيبهم عليه ا‪ ،‬ق ال الفض يل بن عي اض‪:‬‬
‫(الفتوة الصفح عن عثرات اإلخوان)‬
‫ومنه ا قل ة الخالف ول زوم م وافقتهم فيم ا يبيح ه العلم والش ريعة‪ ،‬ق ال أب و‬
‫عثمان‪(:‬موافقة اإلخوان خير من الشفقة عليهم)‬
‫ومنها أن يحمدهم على حسن ثنائهم وإن لم يساعدهم باليد‪ ،‬ق ال علي ‪(:‬من لم‬
‫يحمل أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن)‬
‫ومنه ا أال يحس دهم على م ا ي رى عليهم من آث ار نعم ة هللا ب ل يف رح ب ذلك‬
‫ويحمد هللا على ذلك كما يحمده إذا كانت عليه فإن هللا تعالى ذم الحاس دين على ذل ك‬
‫ض لِ ِه فَقَ ْد آتَ ْينَ ا َ‬
‫آل إِ ْب َرا ِهي َم‬ ‫بقوله تعالى‪ ﴿ :‬أَ ْم يَحْ ُس ُدونَ النَّ َ‬
‫اس َعلَى َما آتَ اهُ ُم هَّللا ُ ِم ْن فَ ْ‬
‫َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َوآتَ ْينَاهُ ْم ُم ْلكا ً َع ِظيماً﴾ (النساء‪)54:‬‬ ‫ْال ِكت َ‬
‫ومنها سالمة قلب ه معهم والنص حية لهم وقبوله ا منهم لقول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِاَّل َم ْن‬
‫ب َسلِ ٍيم﴾ (الشعراء‪ ،)89:‬وقال سري الس قطي ‪(:‬من أج ل أخالق األب رار‬ ‫أَتَى هَّللا َ بِقَ ْل ٍ‬
‫سالمة الصدر لإلخوان والنصيحة لهم)‬
‫ومنها أال يعدهم ويخالفهم فإنه نفاق‪ ،‬قال الثوري ‪(:‬ال تعد أخاك وتخلفه فتعود‬
‫المحبة بغضة)‬
‫ومنه ا مالزم ة الحي اء معهم‪ ،‬ق ال اإلم ام علي ‪(:‬أحي وا الحي اء بمجالس ة من‬
‫يستحيا منه)‪ ،‬وقال أحمد بن حنبل ‪(:‬ما أوقعني في بلية إال صحبة من ال أحتشمه)‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.1/10:‬‬
‫‪ )(2‬انظر تفاصيل هذه اآلداب وغيرها في‪ :‬آداب العشرة وذكر والصحبة واألخوة‪ ،‬ألبي البركات الغزني‪.‬‬
‫‪ )(3‬قريب منه في‪ :‬الطبراني في الكبير عن ابن عمر‪ ،‬والخرائطي في مكارم األخالق‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫ومنها أن يراعي في صحبة أخوانه صالحهم ال مرادهم وداللته على رشدهم‬
‫ال على ما يحبونه‪ ،‬قال أبو صالح المزي ‪(:‬المؤمن من يعاش رك ب المعروف وي دلك‬
‫على صالح دينك ودنياك والمنافق من يعاش رك بالمماذع ة وي دلك على م ا تش تهيه‬
‫والمعصوم من فرق بين ترك األذى)‬
‫ومنها حمل كالمهم على أحسن الوجوه ما وجدت لذلك س بيال‪ ،‬ق ال س عيد بن‬
‫المسيب ‪(:‬كتب إلي بعض إخواني من الصحابة أن ضع أمر أخيك على األحسن م ا‬
‫لم تغلب)‬
‫ومنه ا اإلغض اء عن الص ديق في بعض المك اره‪ ،‬ق ال ابن المب ارك‪(:‬من‬
‫اس تخف بالعلم اء ذهبت آخرت ه ومن اس تخف ب األمراء ذهبت دني اه ومن اس تخف‬
‫باإلخوان ذهبت مروءته)‬
‫ومنها أال تقطع صديقا ً بعد مص ادقته وال ت رده بع د قب ول‪ ،‬كم ا ق ال حم دون‬
‫القصار‪(:‬اقبلوا إخوانكم باإليمان وردوهم بالكفر فإن هللا سبحانه وتعالى أوقع قدسية‬
‫الصداقة)‬
‫ومنها أال يضيع صداقة صديق بعد ود فإنها عزي زة وكتب ع الم إلى من ه و‬
‫مثله‪(:‬أن اكتب لي بشي ٍء ينفعني في عمري) فكتب إلي ه‪(:‬بس م هللا ال رحمن ال رحيم‪.‬‬
‫استوحش من ال إخوان له وفرط المقصر في طلبهم وأش د تفريط ا ً من ظف ر بواح د‬
‫منهم فضيعه ولوجد أن الكبريت األحمر أيسر من وجدانه وإني أطلب ه من ذ خمس ين‬
‫سنة ولم أجد إال نصف صديق) ‪.‬‬
‫ومنها إيثارهم بالكرام ة على نفس ه‪ ،‬ق ال أب و عثم ان‪(:‬من عاش ر الن اس ولم‬
‫يكرمهم وتكبر عليهم فذلك لقلة رأيه وعقل ه فإن ه يع ادي ص ديقه ويك رم ع دوه ف إن‬
‫إخوان ه في هللا أص دقاؤه ونفس ه ع دوه) ‪ ،‬وق ال القاس م بن محم د‪(:‬ق د جع ل هللا في‬
‫الصديق البار عوضا ً من الرحم المدبر)‬
‫ومنها حفظ أسرارهم‪ ،‬قيل‪(:‬أفشى رجل لصديق له سرا من أسراره فلما فرغ‬
‫قال له‪ :‬حفظته قال‪ :‬ال بل نسيته)‬
‫ْ‬
‫َعنهُ ْم‬ ‫ْفُ‬ ‫َ‬
‫ومنه ا ب ذل المش ورة لهم وقبوله ا منهم‪ ،‬كم ا ق ال هللا تع الى‪ ﴿ :‬ف اع‬
‫اورْ هُ ْم فِي اأْل َ ْم ِر﴾(آل عمران‪)159:‬‬
‫َوا ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َو َش ِ‬
‫ومنها قلة مخالفتهم في أسباب الدنيا ألنها أق ل خط راً من أن يخ الف فيه ا أخ‬
‫من األخوان‪ ،‬قال يحيى بن معاذ الرازي‪(:‬الدنيا بأجمعها ال تساوي غم ساعة فكي ف‬
‫بغم طول عمرك وقطع إخوانك بسببها مع قلة نصيبك منها)‬
‫ومنها ترك المداهنة في الدين‪ ،‬قال سهل بن عبد هللا التستري ‪(:‬ال يشم رائحة‬
‫الصدق من داهن نفسه أو غيره)‬
‫ومنها مجانبة التباغض والتدابر والتحاسد لقوله ‪(:‬إياكم والظن! ف إن الظن‬
‫أكذب الحديث‪ ،‬وال تجسسوا وال تحسسوا‪ ،‬وال تنافسوا‪ ،‬وال تحاسدوا‪ ،‬وال تباغضوا‬
‫وال تدابروا وكونوا عباد هللا إخوانا‪ ،‬وال يخطب الرجل على خطبة أخيه ح تى ينكح‬

‫‪281‬‬
‫يترك)(‪)1‬‬ ‫أو‬
‫ومنها قبول العذر من فاعله صدق أو كذب لق ول رس ول هللا ‪(:‬من اعت ذر‬
‫إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس) (‪)2‬‬
‫ومنها التسارع إلى قضاء حاجة رافعها إلي ك‪ ،‬لق ول اإلم ام جعف ر الص ادق‪:‬‬
‫(إني ألسارع إلى قضاء حوائج اإلخوان مخافة أن يستغنوا عني بردي إياهم)‬
‫ومنها الصبر على جفاء اإلخوان وإسقاط التهمة عنهم بعد صحة األخوة‪ ،‬قال‬
‫يحيى بن أكثم‪ :‬لما حض رت علقم ة العط ار الوف اة ق ال البن ه‪(:‬ي ا ب ني إذا ص حبت‬
‫الرجال فاصحب من إذا أخدمته صانك وإن ص حبته زان ك وإن تح ركت ب ك مؤن ة‬
‫صانك وإن أمددت بخير مد وإن رأى منك حسنة عدها أو سيئة سترها وإن أمسكت‬
‫ابت دأك أو ن زلت ب ك نازل ةٌ واس اك وإن قلت ص دقك أو ح اولت أم راً أم رك وإذا‬
‫تنازعتما في حق آثراك)‬
‫مع الوالدين‪:‬‬
‫وهو من أهم اآلداب التي ينبغي على المربي أن يلقنها لمربيه‪ ،‬وإليها اإلشارة‬
‫ص ْينَا اأْل ِ ْن َسانَ بِ َوالِ َد ْي ِه َح َملَ ْت هُ أُ ُّمهُ َو ْهن ا ً‬ ‫في موعظة لقمان ‪ ‬في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َو َّ‬
‫صيرُ﴾ (لقمان‪ )14:‬على‬ ‫ي ْال َم ِ‬ ‫ك إِلَ َّ‬ ‫صالُهُ فِي عَا َم ْي ِن أَ ِن ا ْش ُكرْ لِي َولِ َوالِ َد ْي َ‬ ‫َعلَى َو ْه ٍن َوفِ َ‬
‫قول من األقوال(‪.)3‬‬
‫ونحب أن نشير إلى أن هذه الوصية حملت اإلش ارة إلى ناحي ة مهم ة في ب ر‬
‫الولد لوالديه‪ ،‬وهي أن البر ال يعني تحول االبن إلى نسخة طبقة األصل لوالديه‪ ،‬بل‬
‫للولد شخصيته المس تقلة‪ ،‬فل ذلك عقب هللا تع الى اآلي ة الس ابقة بقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن‬
‫اح ْبهُ َما فِي ال ُّد ْنيَا‬ ‫ص ِ‬ ‫ك بِ ِه ِع ْل ٌم فَال تُ ِط ْعهُ َم ا َو َ‬ ‫ْس لَ َ‬ ‫َجاهَدَاكَ َعلَى أَ ْن تُ ْش ِركَ بِي َم ا لَي َ‬
‫ُ‬
‫ي َمرْ ِج ُع ُك ْم فَأنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ ﴾ (لقم ان‪:‬‬ ‫ي ثُ َّم إِلَ َّ‬ ‫َم ْعرُوفا ً َواتَّبِ ْع َسبِي َل َم ْن أَن َ‬
‫َاب إِلَ َّ‬
‫‪)15‬‬
‫وه ذا يع ني أن لالبن حريت ه الفكري ة والحياتي ة ال تي ال تتع ارض م ع ب ره‬
‫لوالدي ه‪ ،‬ألن الفك ر والس لوك ال يمكن أن ي ورث من الوال دين‪ ،‬ب ل ه و من ب اب‬
‫القناعات التي تحصل لإلنسان بحسب ما لديه من الطاقات والتوجهات‪.‬‬
‫وفي غير هذه الحالة وردت النصوص الكث يرة في الحض على ب ر الوال دين‬
‫واإلحسان إليهما‪:‬‬
‫فاهلل تعالى يقرن بر الوالدين في القرآن الكريم بتوحيده وعبادته‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ك أَاَّل تَ ْعبُدُوا إِاَّل إِيَّاهُ َوبِ ْال َوالِ َدي ِْن إِحْ َسانا ً إِ َّما يَ ْبلُغ ََّن ِع ْندَكَ ْال ِكبَ َر أَ َح ُدهُ َما أَوْ‬‫ضى َربُّ َ‬ ‫﴿ َوقَ َ‬
‫اخفِضْ لَهُ َما َجنَا َح ال ُّذ ِّل‬ ‫ِكالهُ َما فَال تَقُلْ لَهُ َما أُفٍّ َوال تَ ْنهَرْ هُ َما َوقُلْ لَهُ َما قَوْ الً َك ِريما ً َو ْ‬
‫ص ِغيراً﴾ (االس راء‪ 23:‬ـ ‪ ،)24‬ففي‬ ‫ِمنَ الرَّحْ َم ِة َوقُ لْ َربِّ ارْ َح ْمهُ َم ا َك َم ا َربَّيَ انِي َ‬
‫‪ )(1‬رواه مالك‪ ،‬وأحمد‪ ،‬ومسلم وأبو داود والترمذي ‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن ماجة عن جودان (جودان غير منس وب ويق ال ابن ج ودان س كن الكوف ة مختل ف في ص حبته‪ .‬ته ذيب‬
‫التهذيب (‪.)2/122‬‬
‫‪ )(3‬سبق أن ذكرنا الخالف في اعتبار هذا من قول لقمان ‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫هاتين اآليتين الكريمتين نجد التفاصيل الكثيرة المرتبطة ببر الوالدين وخاص ة ح ال‬
‫حاجتهما الشديدة إل هذا البر عند كبرهما‪.‬‬
‫ومثل ذلك في الس نة نج د التأكي د على وج وب بِ ّر الوال دين وال ترغيب في ه‪،‬‬
‫والترهيب من عقوقهما‪:‬‬
‫فرسول هللا ‪ ‬يعتبر رضا الوالدين من رضا هللا‪ ،‬قال ‪(:‬رض ا ال رب في‬
‫رضا الوالدين‪ ،‬وسخطه في سخطهما)(‪)1‬‬
‫وك ان ‪ ‬يوص ي من يأتي ه باالس تعداد ألم ر ق د يش ق على والدي ه ببرهم ا‬
‫واإلحسان إليهما‪ ،‬واستئذانهما ليخفف عنهما بعض م ا ق د يناالن ه من الجه د بس بب‬
‫ي‬ ‫ذلك‪ ،‬فقد جاء رجل إلى رسول هللا فقال‪ :‬جئت أبايعك على الهج رة‪ ،‬وت ركت أب و ّ‬
‫يبكيان‪ ،‬فقال رسول هللا ‪(:‬ارجع إليهما‪ ،‬فأضحكهما كما أبكيتهما)(‪)2‬‬
‫ومثل ذلك ما يروى عن معاوية بن جاهمة السلمي‪ :‬أن ه اس تأذن الرس ول ‪‬‬
‫بر أُ َّمه‪ ،‬ولم ا ك رر علي ه‪ ،‬ق ال ‪(:‬ويح ك‪ ..‬ال زم‬ ‫في الجهاد معه‪ ،‬فأمره أن يرجع ويَ َ‬
‫رجلها‪ ...‬فث ّم الجنة)(‪)3‬‬
‫وك ان ‪ ‬يؤك د على ح ق المستض عف من الوال دين‪ ،‬وهي األم‪ ،‬لحاجته ا‬
‫الشديدة إلى ولدها‪ ،‬فقد جاء رجل إلى رس ول هللا ‪ ‬فق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا من أح ُّ‬
‫ق‬
‫الناس بحسن صحابتي؟ قال‪(:‬أ ّمـك)‪ ،‬ق ال‪ :‬ثم من؟ ق ال‪(:‬أ ّمـك) ق ال‪ :‬ثم من؟ ق ال‪:‬‬
‫(أ ّمـك)‪ ،‬ق ال ثم من؟ ق ال‪(:‬أب وك)(‪ ،)4‬فمقتض ى ه ذا الح ديث أن يك ون لألم ثالث ة‬
‫أمثال ما لألب من البر‪ ،‬وذلك لصعوبة الحم ل ثم الوض ع ثم الرض اع‪ ،‬زي ادة على‬
‫مشاركتها األب في التربية‪.‬‬
‫وقد جاءت اإلشارة إلى هذا الح ق الخ اص ب األم في قول ه تع الى في وص ية‬
‫ص ْينَا اأْل ِ ْن َس انَ بِ َوالِ َد ْي ِه َح َملَ ْت هُ أُ ُّمهُ َو ْهن ا ً َعلَى َو ْه ٍن َوفِ َ‬
‫ص الُهُ فِي‬ ‫لقم ان ‪َ ﴿ :‬و َو َّ‬
‫عَا َمي ِْن ﴾ (لقمان‪)14:‬‬
‫وفي مقال ه ذا نج د التح ذير الش ديد من عق وق الوال دين‪ ،‬ق ال ‪(:‬ثالث ة ال‬
‫ينظر هللا إليهم ي وم القيام ة‪ :‬الع اق لوالدي ه‪ ،‬والم رأة المترجل ة المتش بهة بالرج ال‪،‬‬
‫والديوث‪ .‬وثالثة ال ي دخلون الجن ة‪ :‬الع اق لوالدي ه‪ ،‬والم دمن الخم ر‪ ،‬والمنّ ان بم ا‬
‫أعطى)(‪)5‬‬
‫ويقرن ‪ ‬بين العقوق والشرك‪ ،‬فيقول موصيا معاذا بن جبل قال‪(:‬ال تش رك‬
‫باهلل ش يئاً‪ ،‬وإن قتلت وح رّقت‪ ،‬وال تعقّ َّن وال ديك‪ ،‬وإن أم راك أن تخ رج من أهل ك‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أصحاب السنن إال الترمذي بسند صحيح‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد في المسند وابن ماجة ‪ -‬واللفظ له ‪.-‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه النسائي وأحمد والحاكم‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫ومالك) الحديث(‪.)1‬‬
‫وهذا البر هو سنة المرسلين ـ صلوات هللا وسالمه عليهم ـ‪ ،‬وقد روي أنه ‪‬‬
‫لما م ّر على قبر والدته آمنة بنت وهب ب األبواء حيث دفنت ‪ -‬وه و مك ان بين مك ة‬
‫والمدينة ‪ -‬ومعه أصحابه وجيشه وعددهم ألف فارس‪ ،‬وذلك عام الحديبي ة‪ ،‬فتوق ف‬
‫وذهب يزور قبر أمه‪ ،‬فبكى رسول هللا ‪ ‬وأبكى من حول ه‪ ،‬وق ال‪(:‬اس تأذنت ربي‬
‫أن أستغفر لها فلم يأذن لي(‪ ،)2‬واستأذنته أن أزور قبرها ف أذن لي‪ ،‬ف زوروا القب ور‬
‫فإنها تذكركم اآلخرة)(‪)3‬‬
‫وهكذا نرى القرآن الكريم يثني على يحيى ‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿ :‬وبَ ّراً بِ َوالِ َد ْي ِه‬
‫صيّاً﴾ (مريم‪)14:‬‬ ‫َولَ ْم يَ ُك ْن َجبَّاراً َع ِ‬
‫ْ‬
‫ويخ بر عن ق ول المس يح ‪َ ﴿ :،‬وبَ ّراً بِ َوالِ َدتِي َولَ ْم يَجْ َعلنِي َجبَّاراً َش قِيّاً﴾‬
‫(مريم‪)32:‬‬
‫مع المستضعفين‪:‬‬
‫والمراد بهم الفقراء والمعاقين ومن وضعتهم الحاجة في مواضع ق د يس تعف‬
‫عنها عامة الناس‪.‬‬
‫وقد وردت الوصية بتعظيم األدب مع هذا الصنف‪ ،‬ففي القرآن الك ريم تك رر‬
‫األمر باإلحس ان إلى ه ؤالء‪ ،‬وه و ال يع ني اإلحس ان الم ادي فق ط‪ ،‬ب ل يش مل ك ل‬
‫مظاهر اإلحسان‪،‬‬
‫ففي سورة القرة وحدها ـ وهي السورة الخاصة باألحكام الكبرى في اإلس الم‬
‫ـ نجد ثالثة مواضع توصي بهؤالء‪:‬‬
‫ففي اآلية األولى نجد الوصية بهؤالء من ميث اق هللا على ب ني إس رائيل‪ ،‬ق ال‬
‫رائيل ال تَ ْعبُ ُدونَ إِاَّل هَّللا َ َوبِ ْال َوالِ َدي ِْن إِحْ َس انا ً َو ِذي‬
‫َ‬ ‫ق بَنِي إِ ْس‬‫تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَ َخ ْذنَا ِميثَ ا َ‬
‫ُس نا ً َوأَقِي ُم وا َّ‬
‫الص الةَ َوآتُ وا ال َّز َك اةَ ثُ َّم‬ ‫اس ح ْ‬ ‫ْالقُرْ بَى َو ْاليَتَ ا َمى َو ْال َم َس ا ِكي ِن َوقُولُ وا لِلنَّ ِ‬
‫ْرضُونَ ﴾ (البقرة‪)83:‬‬ ‫ت ََولَّ ْيتُ ْم إِاَّل قَلِيالً ِم ْن ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم ُمع ِ‬
‫وفي اآلية الثانية نجد اإلحسان إلى هؤالء من أص ول ال بر المقترن ة بأص ول‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد بسند حسن‪.‬‬


‫‪ )(2‬استدل بعض المنحرفين بهذا الحديث على أن أم رسول هللا ‪ ‬في النار‪ ،‬وهذا من سوء الفهم للح ديث‪ ،‬ألن‬
‫االستغفار ال يكون إال لمكلف وأم رسول هللا ‪ ‬ليست مكلفة حتى يستغفر لها‪ ،‬فقد كانت من أهل الفترة‪ .‬ومن الوجوه‬
‫التي ذكرها العلماء إجابة عن هذا الفهم المنحرف‪:‬‬
‫ث َر ُس والً﴾(االس راء‪)15:‬‬ ‫‪ )1‬أن هذا الفهم يعارض معارضة صريحة قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ا ُكنَّا ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬
‫ير﴾ (سـبأ‪)44:‬‬ ‫ب يَ ْد ُرسُونَهَا َو َما أَرْ َس ْلنَا إِلَ ْي ِه ْم قَ ْبلَكَ ِم ْن نَ ِذ ٍ‬
‫مع قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما آتَ ْينَاهُ ْم ِم ْن ُكتُ ٍ‬
‫‪ )2‬أن بكاءه ‪ ‬على أمه ال يدل على أنها من أهل النار بأي وجه من الوج وه ب دليل أن ه بكى على إبن ه إب راهيم‬
‫كم ا في الص حيحين إذ ق ال ‪ (:‬ت دمع العين ويح زن القلب وال نق ول إال م ا يرض ي ربن ا وهللا ي ا إب راهيم إن ا ب ك‬
‫لمحزونون )‬
‫‪ )3‬إن هللا تعالى أذن له بزيارة قبرها ي دل على أنه ا مؤمن ة وليس ت ك افرة من أه ل الن ار وإال لتع ارض ص در‬
‫ص لِّ َعلَى‬
‫الحديث مع عجزه ناهيك أيضا أن هللا تعالى قد نهاه أن يقوم على قبور الكفار والمنافقين بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وال تُ َ‬
‫اسقُونَ ﴾ (التوبة‪)84:‬‬ ‫أَ َح ٍد ِم ْنهُ ْم َماتَ أَبَداً َوال تَقُ ْم َعلَى قَب ِْر ِه إِنَّهُ ْم َكفَرُوا بِاهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َو َماتُوا َوهُ ْم فَ ِ‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم وأبو داود والنسائي‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫ب َولَ ِك َّن ْالبِ َّر‬ ‫ق َو ْال َم ْغ ِر ِ‬ ‫ْس ْالبِ َّر أَ ْن تُ َولُّوا ُوجُوهَ ُك ْم قِبَ َل ْال َم ْش ِر ِ‬ ‫الدين‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫ال َعلَى ُحبِّ ِه َذ ِوي‬ ‫ْ‬
‫ب َوالنَّبِيِّينَ َوآتَى ال َم َ‬ ‫َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر َوال َمالئِ َك ِة َوال ِكتَ ا ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫الص الةَ َوآتَى‬ ‫ب َوأَقَ ا َم َّ‬ ‫ْالقُرْ بَى َو ْاليَتَا َمى َو ْال َم َسا ِكينَ َوا ْبنَ ال َّسبِي ِل َوالسَّائِلِينَ َوفِي الرِّ قَا ِ‬
‫ْ‬ ‫ال َّز َكاةَ َو ْال ُموفُونَ بِ َع ْه ِد ِه ْم إِ َذا عَاهَدُوا َوالصَّابِ ِرينَ فِي ْالبَأْ َسا ِء َو َّ‬
‫س‬ ‫الض رَّا ِء َو ِحينَ ْالبَ أ ِ‬
‫ص َدقُوا َوأُولَئِكَ هُ ُم ْال ُمتَّقُونَ ﴾ (البقرة‪)177:‬‬ ‫ك الَّ ِذينَ َ‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫وفي اآلية الثالثة نجد الوصية بهؤالء مقرونة بالوالدين‪ ،‬باعتبارها من الخ ير‬
‫ك َما َذا يُ ْنفِقُونَ قُلْ َما أَ ْنفَ ْقتُ ْم ِم ْن خَ ي ٍْر فَلِ ْل َوالِ َدي ِْن َواأْل َ ْق َربِينَ‬ ‫العظيم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬يَسْأَلونَ َ‬
‫ين َواب ِْن ال َّسبِي ِل َو َما تَ ْف َعلُوا ِم ْن خَ ي ٍْر فَإِ َّن هَّللا َ بِ ِه َعلِي ٌم﴾ (البقرة‪)215:‬‬ ‫َو ْاليَتَا َمى َو ْال َم َسا ِك ِ‬
‫وهك ذا نج د الوص ية به ؤالء في الق رآن الك ريم في ك ل المواض ع‪ ،‬ففي‬
‫االحتضار يقول تعالى مخاطبا المحتضر‪ ،‬وهو يودع آخر ساعاته من ال دنيا‪َ ﴿ :‬وإِ َذا‬
‫ض َر ْالقِ ْس َمةَ أُولُ و ْالقُ رْ بَى َو ْاليَتَ ا َمى َو ْال َم َس ا ِكينُ فَ ارْ ُزقُوهُ ْم ِم ْن هُ َوقُولُ وا لَهُ ْم قَ وْ الً‬ ‫َح َ‬
‫َم ْعرُوفاً﴾ (النساء‪)8:‬‬
‫وعند غم رة النص ر يخ اطب هللا المؤم نين ال ذي بل وا ألج ل الحص ول على‬
‫النصر‪ ،‬مذكرا لهم بحق المستضعفين‪َ ﴿ :‬ما أَفَا َء هَّللا ُ َعلَى َرسُولِ ِه ِم ْن أَ ْه ِل ْالقُ َرى فَلِلَّ ِه‬
‫يل َك ْي ال يَ ُك ونَ دُولَ ةً بَ ْينَ‬ ‫ين َواب ِْن َّ‬
‫الس بِ ِ‬ ‫َّس و ِل َولِ ِذي ْالقُ رْ بَى َو ْاليَتَ ا َمى َو ْال َم َس ا ِك ِ‬ ‫َولِلر ُ‬
‫َّس و ُل فَ ُخ ُذوهُ َو َم ا نَهَ ا ُك ْم َع ْن هُ فَ ا ْنتَهُوا َواتَّقُ وا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ‬ ‫اأْل َ ْغنِيَا ِء ِم ْن ُك ْم َو َما آتَ ا ُك ُم الر ُ‬
‫ب﴾ (الحشر‪)7:‬‬ ‫َش ِدي ُد ْال ِعقَا ِ‬
‫ب ل إن هللا تع الى يوص ي به ؤالء المستض عفين‪ ،‬ول و ك انوا س ببا في أذى‬
‫الس َع ِة أَ ْن ي ُْؤتُ وا أُولِي‬ ‫ض ِل ِم ْن ُك ْم َو َّ‬ ‫للمحس ن إليهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وال يَأْتَ ِل أُولُ و ْالفَ ْ‬
‫يل هَّللا ِ َو ْليَ ْعفُوا َو ْليَصْ فَحُوا أَال تُ ِحبُّونَ أَ ْن يَ ْغفِ َر‬ ‫اج ِرينَ فِي َسبِ ِ‬ ‫ْالقُرْ بَى َو ْال َم َسا ِكينَ َو ْال ُمهَ ِ‬
‫هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ (النور‪)22:‬‬
‫ولهذا كان من سنة رسول هللا ‪ ‬اإلحسان العظيم لهؤالء‪ ،‬بل كان ‪ ‬يعيش‬
‫وكأنه واحد منهم‪ ،‬بل ك ان ‪ ‬ي دعو أن يك ون واح دا منهم‪ ،‬ق ال ‪(:‬اللهم أحي ني‬
‫مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين)(‪)1‬‬
‫ق ال ابن أبي أوفى يص ف رس ول هللا ‪ :‬ك ان رس ول هللا ‪ ‬ال ي أنف وال‬
‫يستكبر أن يمشي مع األرملة والمسكين فيقضي حاجتهما‪.‬‬
‫وك ان ‪ ‬يوص ي به ؤالء المستض عفين‪ ،‬فيق ول‪(:‬أحب األعم ال إلى هللا من‬
‫أطعم مسكينا من جوع أو دفع عنه مغرما أو كشف عنه كربا)(‪)2‬‬
‫ويدخل في الباب األوامر الخاصة برعاية الخدم وحسن عشرتهم‪ ،‬باعتب ارهم‬
‫من المستضعفين‪ ،‬قال ‪(:‬هم إخوانكم جعلهم هللا تعالى تحت أيديكم فأطمعوهم مما‬
‫تأكلون وأكسوهم مما تلبسون وال تكلفوهم ما ال يطيقون)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه عبد بن حميد‪ ،‬وابن ماجة والطبراني في الكبير‪ ،‬والضياء‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه عبد الرزاق في المصنف‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫وكان آخر كالمه ‪ ‬وهو محتضر‪(:‬الصالة وما ملكت أيمانكم)‬
‫وكان ‪ ‬نعم القدوة في ذلك‪ ،‬قال أنس ‪(:‬خ دمت رس ول هللا ‪ ‬عش ر س نين‬
‫فما قال لشي ٍء فعلته‪ :‬لم فعلته‪ ،‬وال لشي ٍء لم أفعله لم ال فعلته)(‪)1‬‬

‫ثانيا ـ المساهمة في التنمية االجتماعية‬


‫قد يكون الفرد المسلم ملتزم ا بك ل م ا تتطلب ه حيات ه في المجتم ع من س لوك‬
‫وآداب‪ ،‬ولكنه يظل فردا حياديا‪ ،‬وجوده كعدمه إن لم تتش كل شخص يته بم ا يجعله ا‬
‫فاعلة ال منفعلة‪ ،‬ومؤثرة ال متأثرة‪ ،‬وهذا يتطلب تربيته على معان من السلوك قد ال‬
‫يفطن لها أو ال يهتم بها مع أن لها تأثيرها الخطير في قدرة ه ذا الف رد على إيص ال‬
‫ما يمكنه من النفع للمجتمع‪.‬‬
‫وقبل أن نتحدث عن األصول الجامع ة له ذا الن وع من التربي ة نحب أن ننب ه‬
‫إلى حض الشريعة بمصادرها المختلفة على كون المسلم ع امال ف اعال في مجتمع ه‬
‫وأمته ال مجرد فرد يعيش لنفسه ويموت لنفسه‪.‬‬
‫وأول ما نسترشد به في هذا المقام القرآن الك ريم‪ ،‬فه و الكت اب الوحي د ال ذي‬
‫يشكل الشخصية القوية الفاعلة الحية التي تكون نورا وحياة لنفسها وللمجتمع‪.‬‬
‫وأول ما يخرجنا به القرآن الكريم من قوقع ة الحي اد ال تي يرمين ا في ه العج ز‬
‫والكسل هو نهينا عن القعود والتثاقل إلى األرض‪:‬‬
‫فيقسم الناس بحسب قعودهم ونش اطهم إلى قس مين‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬ال يَ ْس ت َِوي‬
‫يل هَّللا ِ بِ أ َ ْم َوالِ ِه ْم‬
‫الض َر ِر َو ْال ُم َجا ِه ُدونَ فِي َس بِ ِ‬ ‫ْالقَا ِع ُدونَ ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َغ ْي ُر أُولِي َّ‬
‫َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فَض ََّل هَّللا ُ ْال ُم َجا ِه ِدينَ بِأ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم َعلَى ْالقَا ِع ِدينَ َد َر َج ةً َوكُاّل ً َو َع َد هَّللا ُ‬
‫َظيماً﴾ (النساء‪)95:‬‬ ‫اع ِدينَ أَجْ راً ع ِ‬ ‫ْال ُح ْسنَى َوفَض ََّل هَّللا ُ ْال ُم َجا ِه ِدينَ َعلَى ْالقَ ِ‬
‫ويخبر عن موقف الكسالى في كل عصر من حنينهم إلى القعود حرص ا على‬
‫أنفس هم وعلى م ا يتوهمون ه من ممتلك اتهم‪ ،‬ق ال تع الى عن المن افقين ممن ادع وا‬
‫ورةٌ أَ ْن آ ِمنُ وا بِاهَّلل ِ َو َجا ِه دُوا َم َع َر ُس ولِ ِه‬ ‫ت ُس َ‬ ‫ص حبة رس ول هللا ‪َ ﴿ :‬وإِ َذا أُ ْن ِزلَ ْ‬
‫اع ِدينَ ﴾ (التوبة‪ ،)86:‬وفي موقف‬ ‫ا ْستَأْ َذنَكَ أُولُوا الطَّوْ ِل ِم ْنهُ ْم َوقَالُوا َذرْ نَا نَ ُك ْن َم َع ْالقَ ِ‬
‫ُوج أَل َ َع ُّدوا لَهُ ُع َّدةً َولَ ِك ْن َك ِرهَ هَّللا ُ ا ْنبِ َع اثَهُ ْم‬
‫آخر يرد عليهم بقوله‪َ ﴿ :‬ولَوْ أَ َرادُوا ْال ُخر َ‬
‫اع ِدينَ ﴾ (التوب ة‪ ،)46:‬وق ال عن المن افقين من أص حاب‬ ‫يل ا ْق ُعدُوا َم َع ْالقَ ِ‬ ‫فَثَبَّطَهُ ْم َوقِ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫موسى ‪ ﴿ :‬قَالُوا يَا ُمو َسى إِنَّا لَ ْن نَ ْد ُخلَهَا أبَ داً َم ا دَا ُم وا فِيهَ ا فَ اذهَبْ أ ْنتَ َو َربُّ َ‬
‫فَقَاتِال إِنَّا هَاهُنَا قَا ِع ُدونَ ﴾ (المائدة‪)24:‬‬
‫ولهذا يأمر المؤمنين بالنفير مهما كانت أحوالهم‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬ا ْنفِ رُوا ِخفَاف ا ً‬
‫َوثِقَ االً َو َجا ِه دُوا بِ أ َ ْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْنفُ ِس ُك ْم فِي َس بِ ِ‬
‫يل هَّللا ِ َذلِ ُك ْم خَ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم ونَ ﴾‬
‫ت أَ ِو ا ْنفِرُوا‬ ‫(التوبة‪ ،)41:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ُخ ُذوا ِح ْذ َر ُك ْم فَا ْنفِرُوا ثُبَا ٍ‬
‫َج ِميعاً﴾ (النساء‪)71:‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫ويعاتبهم على تحديث أنفسهم بعدم النفير‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا َم ا لَ ُك ْم إِ َذا قِي َل‬
‫ض يتُ ْم بِ ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا ِمنَ اآْل ِخ َر ِة فَ َم ا‬
‫ض أَ َر ِ‬‫يل هَّللا ِ اثَّاقَ ْلتُ ْم إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫لَ ُك ُم ا ْنفِرُوا فِي َس بِ ِ‬
‫ع ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا فِي ا ِخ َر ِة إِ قَلِي لٌ﴾ (التوب ة‪ ،)38:‬ب ل يتش دد عليهم‪ ،‬فيتوع دهم‬‫اَّل‬ ‫آْل‬ ‫َمتَا ُ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫بالعذاب األليم إن لم ينفروا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِال تَ ْنفِ رُوا يُ َع ذ ْب ُك ْم َع َذابا ألِيم ا َويَ ْس تَ ْب ِدلْ‬
‫قَوْ ما ً َغ ْي َر ُك ْم َوال تَضُرُّ وهُ َشيْئا ً َوهَّللا ُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء قَ ِديرٌ﴾ (التوبة‪)39:‬‬
‫وهو نفير ال يقتصر على نفيرالجيش فقط‪ ،‬بل هو نفير يش مل الحي اة جميع ا‪،‬‬
‫فك ل في ه ذه الحي اة طاقت ه ال تي يخ دم األم ة من خالله ا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا َك انَ‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ لِيَ ْنفِ رُوا َكافَّةً فَلَ وْ ال نَفَ َر ِم ْن ُك لِّ فِرْ قَ ٍة ِم ْنهُ ْم طَائِفَ ةٌ لِيَتَفَقَّهُ وا فِي ال دِّي ِن‬
‫َولِيُ ْن ِذرُوا قَوْ َمهُ ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَ ْي ِه ْم لَ َعلَّهُ ْم يَحْ َذرُونَ ﴾ (التوبة‪)122:‬‬
‫والنفير يقتضي السعي واالجتهاد‪ ،‬فلذلك يرد في القرآن الك ريم ال ترغيب في‬
‫السعي بأجمل صيغ التعبير‪ ،‬قال تعالى عن صاحب موسى ‪َ ﴿ :‬و َج ا َء َر ُج ٌل ِم ْن‬
‫اخرُجْ إِنِّي لَكَ ِمنَ‬ ‫صى ْال َم ِدينَ ِة يَ ْس َعى قَا َل يَا ُمو َسى إِ َّن ْال َمأَل َ يَأْتَ ِمرُونَ بِكَ لِيَ ْقتُلُوكَ فَ ْ‬ ‫أَ ْق َ‬
‫صى‬ ‫اص ِحينَ ﴾ (القصص‪ ،)20:‬وقال تعالى عن ص احب الرس ل‪َ ﴿ :‬و َج ا َء ِم ْن أَ ْق َ‬ ‫النَّ ِ‬
‫ْال َم ِدينَ ِة َر ُج ٌل يَ ْس َعى قَ ا َل يَ ا قَ وْ ِم اتَّبِ ُع وا ْال ُمرْ َس لِينَ ﴾ (يّـس‪ ،)20:‬وق ال تع الى عن‬
‫ك يَ ْس َعى﴾ (عبس‪)8:‬‬ ‫صاحب محمد ‪َ ﴿ :‬وأَ َّما َم ْن َجا َء َ‬
‫والمؤمن لهذا االجتهاد والسعي الذي يمشي به في الناس هو في الحقيقة ن ور‬
‫يضيء ظلمات المجتم ع‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَ َو َم ْن َك انَ َميْت ا ً فَأَحْ يَ ْينَ اهُ َو َج َع ْلنَ ا لَ هُ نُ وراً‬
‫ج ِم ْنهَا َك َذلِكَ ُزيِّنَ لِ ْل َكافِ ِرينَ َم ا‬ ‫َار ٍ‬
‫ْس بِخ ِ‬ ‫ت لَي َ‬ ‫الظلُ َما ِ‬ ‫اس َك َم ْن َمثَلُهُ فِي ُّ‬ ‫يَ ْم ِشي بِ ِه فِي النَّ ِ‬
‫َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ (األنعام‪)122:‬‬
‫ولهذا تضمنت وص ية لقم ان ‪ ‬الحض على ه ذا الن وع من التربي ة‪ ،‬فق ال‬
‫اص بِرْ َعلَى َم ا‬ ‫ُوف َوا ْن هَ َع ِن ْال ُم ْن َك ِر َو ْ‬ ‫الص الةَ َو ْأ ُم رْ بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ي أَقِ ِم َّ‬ ‫تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا بُنَ َّ‬
‫ُ‬ ‫أَ َ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)17:‬‬ ‫ك ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫صابَكَ إِ َّن َذلِ َ‬
‫انطالق ا من ه ذه اآلي ات القرآني ة نح اول في ه ذا المبحث أن نتع رف على‬
‫األصول الكبرى لهذا النوع من التربية‪ ،‬وهي فيما نرى ثالث ة أص ول‪ :‬تنمي ة طاق ة‬
‫التحمل‪ ،‬واالستغناء عن المجتمع‪ ،‬وخدمة المجتمع‪.‬‬
‫ذل ك ألن المجتم ع يحت اج أوال إلى أف راد أقوي اء ال ت ؤثر فيهم البيئ ة وال م ا‬
‫يصابون به من أنواع البالء‪ ،‬ثم هم مستغنون عن مجتمعهم بما ل ديهم من الطاق ات‪،‬‬
‫فليسوا عالة على المجتمع‪ ،‬بل يجتهدون ليجعلوا من مجتمع اتهم عال ة عليهم‪ ،‬فخ ير‬
‫الناس أنفعهم للناس‪.‬‬
‫وخير من اتصف بهذه الصفات الرسل ـ صلوات هللا وس المه عليهم ـ‪ ،‬ألنهم‬
‫خير من مثل شخصية المسلم في أعلى درجاته ا‪ ،‬ول ذلك س يكونون مص درنا األول‬
‫في هذا المبحث‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ تنمية طاقة التحمل‬
‫ونريد بها أن يسعى المربي ليرفع ذلك الدالل الذي يسبه ال ترف في نفس من‬
‫يربيه‪ ،‬فيتحلى بسببه ب العجز المطل ق‪ ،‬أو يجع ل ك ل جه ده منص با على خدم ة م ا‬

‫‪287‬‬
‫يتطلبه ترفه من خدمات‪ ،‬فيصيرا عبدا لترفه وأهوائه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وإلى ه ذا األص ل اإلش ارة بقول ه تع الى‪ ﴿ :‬لَتُ ْبلَ ُو َّن فِي أ ْم َوالِ ُك ْم َوأ ْنف ِس ُك ْم‬
‫ى َكثِ يراً َوإِ ْن‬ ‫اب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َو ِمنَ الَّ ِذينَ أَ ْش َر ُكوا أَذ ً‬ ‫َولَت َْس َمع َُّن ِمنَ الَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِكتَ َ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ (آل عم ران‪ ،)186:‬وق ال تع الى‪﴿ :‬‬ ‫ك ِم ْن َع ْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫َص بِرُوا َوتَتَّقُ وا فَ إِ َّن َذلِ َ‬ ‫ت ْ‬
‫ت َوبَ ِّش ِر‬ ‫َّ‬
‫س َوالث َم َرا ِ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫َ‬
‫ص ِمنَ ا ْم َوا ِل َوا ْنفُ ِ‬ ‫أْل‬ ‫ْ‬
‫ُوع َونَق ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َولَنَ ْبل َونَّ ُك ْم بِ َش ْي ٍء ِمنَ الخَ وْ ِ‬
‫ف َوالج ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫الص ابِ ِرينَ ﴾ (البق رة‪ ،)155:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَنَ ْبل َونَّ ُك ْم َحتَّى نَ ْعلَ َم ال ُم َجا ِه ِدينَ ِم ْن ُك ْم‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َوالصَّابِ ِرينَ َونَ ْبل َو أ ْخبَا َر ُك ْم﴾ (محمد‪)31:‬‬
‫فاهلل تعالى يحضر األنفس المؤمنة الستقبال البالء بما يخ بر ب ه من س نته في‬
‫خلقه وسنته في المؤمنين‪ ،‬حتى تتأدب األنفس بأدب الصبر العظيم ال ذي يجع ل له ا‬
‫الطاقة على تحمل البالء‪.‬‬
‫وه و يخ بر أن المقص د من البالء‪ ،‬ليس ذات البالء‪ ،‬وإنم ا تمحيص األنفس‪،‬‬
‫وتب يين حقيقته ا‪ ،‬والتفري ق بين الطيب والخ بيث‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬م ا َك انَ هَّللا ُ لِيَ َذ َر‬
‫ُطلِ َع ُك ْم َعلَى‬ ‫ب َو َم ا َك انَ هَّللا ُ لِي ْ‬ ‫يث ِمنَ الطَّيِّ ِ‬ ‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َعلَى َما أَ ْنتُ ْم َعلَ ْي ِه َحتَّى يَ ِميزَ ْالخَ بِ َ‬
‫ُس لِ ِه َوإِ ْن تُ ْؤ ِمنُ وا َوتَتَّقُ وا‬ ‫ُس لِ ِه َم ْن يَ َش ا ُء فَ آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َور ُ‬ ‫ب َولَ ِك َّن هَّللا َ يَجْ تَبِي ِم ْن ر ُ‬ ‫ْال َغ ْي ِ‬
‫فَلَ ُك ْم أَجْ ٌر َع ِظي ٌم﴾ (آل عمران‪)179:‬‬
‫ب ل إن هللا تع الى يجع ل لمن نجح في امتح ان البالء الش ديد اإلمام ة في‬
‫األرض‪ ،‬واإلمام في االصطالح القرآني هو من ك ان قائ دا للن اس وق دوة لهم‪ ،‬ق ال‬
‫ال‬ ‫اس إِ َمام ا ً قَ َ‬ ‫اعلُ كَ لِلنَّ ِ‬ ‫ال إِنِّي َج ِ‬ ‫ت فَ أَتَ َّمه َُّن قَ َ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ِذ ا ْبتَلَى إِ ْب َرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َم ا ٍ‬
‫َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِي قَا َل ال يَنَا ُل َع ْه ِدي الظَّالِ ِمينَ ﴾ (البقرة‪)124:‬‬
‫وهللا تعالى كما يخبرنا بأن ه ه و المبتلي لعب اده ليمحص المح ق من المبط ل‪،‬‬
‫فإنه ي دعونا إلى أن نم ارس ه ذا األس لوب م ع أنفس نا وم ع من نربي ه لتم رن على‬
‫تحمل البالء‪.‬‬
‫فاهلل تعالى ـ مثال يأمرنا بابتالء اليتامى للنظر في قدرتهم على التعامل الس ليم‬
‫ُش داً‬ ‫اح فَ إِ ْن آن َْس تُ ْم ِم ْنهُ ْم ر ْ‬ ‫مع المال‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْبتَلُوا ْاليَتَا َمى َحتَّى إِ َذا بَلَ ُغوا النِّ َك َ‬
‫ف‬‫فَا ْدفَعُوا إِلَ ْي ِه ْم أَ ْم َوالَهُ ْم َوال تَأْ ُكلُوهَا إِس َْرافا ً َوبِدَاراً أَ ْن يَ ْكبَرُوا َو َم ْن َكانَ َغنِيّا ً فَ ْليَ ْستَ ْعفِ ْ‬
‫َو َم ْن َكانَ فَقِيراً فَ ْليَأْ ُكلْ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ُوف فَإِ َذا َدفَ ْعتُ ْم إِلَ ْي ِه ْم أَ ْم َوالَهُ ْم فَأ َ ْش ِهدُوا َعلَ ْي ِه ْم َو َكفَى بِاهَّلل ِ‬
‫َح ِسيباً﴾ (النساء‪)6:‬‬
‫وهو يخبرنا عن نموذج من نماذج البالء الذي قام به ط الوت لتمي يز جن وده‪،‬‬
‫ب ِم ْن هُ‬ ‫وت بِ ْال ُجنُو ِد قَ َ‬
‫ال إِ َّن هَّللا َ ُم ْبتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َ‬ ‫ص َل طَ الُ ُ‬ ‫فقال تعالى‪ ﴿ :‬فَلَ َّما فَ َ‬
‫ط َع ْمهُ فَإِنَّهُ ِمنِّي إِاَّل َم ِن ا ْغتَ َرفَ ُغرْ فَةً بِيَ ِد ِه فَ َش ِربُوا ِم ْن هُ إِاَّل قَلِيالً‬ ‫ْس ِمنِّي َو َم ْن لَ ْم يَ ْ‬ ‫فَلَي َ‬
‫او َزهُ ه َُو َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َعهُ قَالُوا ال طَاقَةَ لَنَا ْاليَ وْ َم بِ َج الُوتَ َو ُجنُ و ِد ِه قَ ا َل‬ ‫ِم ْنهُ ْم فَلَ َّما َج َ‬
‫ت فِئَ ةً َكثِ ي َرةً بِ إِ ْذ ِن هَّللا ِ َوهَّللا ُ َم َع‬ ‫الَّ ِذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ ْم ُمالقُ و هَّللا ِ َك ْم ِم ْن فِئَ ٍة قَلِيلَ ٍة َغلَبَ ْ‬
‫الصَّابِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪)249:‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن تنمية طاقة التحمل تس تند إلى رك نين أساس يين ال غ نى‬
‫عنهما‪ ،‬وال غنى ألحدهما عن اآلخر‪ ،‬أولهما الصبر على األذى‪ ،‬والثاني هو الق درة‬

‫‪288‬‬
‫على تحمل المشاق‪.‬‬
‫فق د يك ون الش خص ص ابرا إن ح ل ب ه األذى‪ ،‬ولكن ليس ت ل ه الق درة على‬
‫المبادرة لتحمل المشاق‪ ،‬فيصير صبره سلبيا‪ ،‬يتحمل ما يفاجئه‪ ،‬ال يبادر ليتحمل م ا‬
‫يمكن أن يحتاج إليه‪.‬‬
‫الصبر على األذى‪:‬‬
‫وه و م ا ورد في وص ية لقم ان بع د ذك ره لألم ر ب المعروف والنهي عن‬
‫ص ابَكَ‬ ‫اص بِرْ َعلَى َم ا أَ َ‬ ‫ُوف َوا ْنهَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َو ْ‬ ‫المنكر‪ ،‬كما قال تعالى‪َْ ﴿ :‬أ ُمرْ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)17:‬‬ ‫ك ِم ْن ع َْز ِم اأْل ُم ِ‬ ‫إِ َّن َذلِ َ‬
‫ألن مواجهة الناس باألمر ب المعروف والنهي عن المنك ر تس تدعي مواجه ة‬
‫الناس في العادة لهذا اآلمر بأصناف األذى‪.‬‬
‫ألن هذا الناصح المحتسب ال يواجه عقول الناس بقدر ما يواجه مواطن الشر‬
‫فيهم‪ ،‬وهي مواطن تأخذها الحمي ة ويس تفزها الش يطان‪ ،‬فال تس كت عن ه ذا اآلم ر‬
‫المحتسب‪.‬‬
‫ولهذا أخبر تعالى عن سنته في المرسلين أنهم يتعرض ون لك ل أن واع البالء‪،‬‬
‫ض لِي ُْخ ِر ُج وكَ ِم ْنهَ ا َوإِذاً ال يَ ْلبَثُ ونَ‬ ‫ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن َك ادُوا لَيَ ْس تَفِ ُّزونَكَ ِمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫ِخالفَكَ إِاَّل قَلِيالً﴾ (االسراء‪ ،)76:‬ثم قال بعدها مبينا أن ه ذا س نته في من أرس ل من‬
‫خلقه‪ُ ﴿ :‬سنَّةَ َم ْن قَ ْد أَرْ َس ْلنَا قَ ْبلَكَ ِم ْن ُر ُسلِنَا َوال ت َِج ُد لِ ُسنَّتِنَا تَحْ ِويالً﴾ (االسراء‪)77:‬‬
‫وأخ بر تع الى أنهم ك انوا يقول ون ألق وامهم‪ ،‬وهم يواجه ونهم ب أنواع البالء‪:‬‬
‫َص بِ َر َّن َعلَى َم ا آ َذ ْيتُ ُمونَ ا َو َعلَى هَّللا ِ‬ ‫﴿ َو َما لَنَا أَاَّل نَتَ َو َّك َل َعلَى هَّللا ِ َوقَ ْد هَ دَانَا ُس بُلَنَا َولَن ْ‬
‫فَ ْليَت ََو َّك ِل ْال ُمت ََو ِّكلُونَ ﴾ (ابراهيم‪)12:‬‬
‫ولهذا لم ا ج اء الص حابة إلى رس ول هللا ‪ ‬يستنص رونه دلهم على الص بر‬
‫والتحمل‪ ،‬قال خباب بن األرت ‪ :‬شكونا إِلَى َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬وهو متوسد ب ردة ل ه في‬
‫طل الكعبة فقلنا‪ :‬أال تستنصر لنا‪ ،‬أال تدعو لنا؟ فقال‪(:‬قد كان ِم ْن قبلكم يؤخذ الرج ل‬
‫فيحف ر ل ه في األرض فيجع ل فيه ا ثم ي ؤتى بال ِم ْنش ار فيوض ع َعلَى رأس ه فيجع ل‬
‫نصفين‪ ،‬ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك ع َْن دين ه! وهَّللا‬
‫ليتمن هَّللا هذا األمر حتى يسير الراكب ِم ْن صنعاء إِلَى حضرموت ال يخ اف إال هَّللا‬
‫والذئب َعلَى غنمه ولكنكم تستعجلون)(‪ ،)1‬وفي رواية‪(:‬وهو متوسد بردة وق د لقين ا‬
‫ِم ْن المشركين شدة)‬
‫وال نريد بالصبر هنا الصبر في مواضع المحن فقط‪ ،‬بل هناك من الصبر في‬
‫ميادين الحياة والتعمل مع الناس ما يحتاج إلى ق وة عظيم ة‪ ،‬ونحس ب أن م ا ع انى‬
‫موسى ‪ ‬من بالء مع قوم ه بع د نج اتهم من فرع ون أعظم من ص بره على كي د‬
‫فرعون وزبانيته‪.‬‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يتمثل ذكراه عندما يصيبه أي بالء‪ ،‬عن ابن مسعود ق ال‪ :‬لم ا‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫كان يوم حنين آثر َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬ناسا في القس مة‪ :‬ف أعطى األق رع بن ح ابس مائ ة‬
‫ِم ْن اإلب ل‪ ،‬وأعطى عيين ة بن حص ن مث ل ذل ك‪ ،‬وأعطى ناس ا ِم ْن أش راف الع رب‬
‫وآثرهم يومئذ في القسمة‪ .‬فقال رجل‪ :‬وهَّللا إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أري د فيه ا‬
‫وجه هَّللا ‪ .‬فقلت‪ :‬وهَّللا ألخبرن َر ُس ول هَّللا ِ ‪ ‬فأتيت ه فأخبرت ه بم ا ق ال فتغ ير وجه ه‬
‫حتى كان كالصرف ثم قال‪(:‬فمن يعدل إذا لم يعدل هَّللا ورسوله؟)‪ ،‬ثم قال‪(:‬يرحم هَّللا‬
‫موسى قد أوذي بأكثر ِم ْن هذا فصبر)‪ ،‬فقلت‪(:‬ال جرم ال أرفع إليه بعدها حديثا)(‪)1‬‬
‫وقد ذكرنا في المباحث السابقة أن الصبر أصل مهم من أص ول التربي ة‪ ،‬ب ل‬
‫ال يمكن للتربية أن تنجح إن لم ينجح صاحبها في تعلم خلق الصبر‪ ،‬ولذلك لما س ئل‬
‫سهل عن حسن الخلق قال‪(:‬أدن اه احتم ال األذى‪ ،‬وت رك المكاف أة‪ ،‬والرحم ة للظ الم‬
‫واالستغفار له والشفقة عليه)‪ ،‬وكلها تحتاج إلى الصبر‪.‬‬
‫وله ذا ك ان الص الحون يمرن ون أنفس هم على ه ذا الخل ق العظيم‪ ،‬ويجعل ون‬
‫عدتهم لمواجهة األذى‪ ،‬وهو ما اخبر ب ه تع الى عن عب اده الص الحين‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ْرضُونَ ﴾ (المؤمنون‪ ،)3:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َس ِمعُوا اللَّ ْغ َو‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ هُ ْم َع ِن اللَّ ْغ ِو ُمع ِ‬
‫ض وا َع ْن هُ َوقَ الُوا لَنَ ا أَ ْع َمالُنَ ا َولَ ُك ْم أَ ْع َم الُ ُك ْم َس ال ٌم َعلَ ْي ُك ْم ال نَ ْبت َِغي ْال َج ا ِهلِينَ ﴾‬ ‫أَ ْع َر ُ‬
‫(القصص‪ ،)55:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و ِعبَا ُد الرَّحْ َم ِن الَّ ِذينَ يَ ْم ُشونَ َعلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ض هَوْ نا ً َوإِ َذا‬
‫خَاطَبَهُ ُم ْال َجا ِهلُونَ قَالُوا َسالماً﴾ (الفرقان‪)63:‬‬
‫ومن أخبار الصالحين التي تمثل هذا المعنى القرآني خير تمثي ل م ا روي أن‬
‫إبراهيم بن أدهم خ رج يوم ا ً إلى بعض ال براري فاس تقبله رج ل جن دي فق ال‪ :‬أنت‬
‫عبد؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال له‪ :‬أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة‪ ،‬فقال الجن دي‪ :‬إنم ا أردت‬
‫العمران؟ فقال‪ :‬هو المقبرة‪ ،‬فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد‬
‫فاستقبله أصحابه فقالوا ما الخبر؟ فأخبرهم الجندي ما قال له فقالوا‪ ،‬هذا إب راهيم بن‬
‫أدهم فنزل الجندي عن فرسه وقبَّل يديه ورجليه وجعل يعت ذر إلي ه‪ ،‬فقي ل بع د ذل ك‬
‫له‪ :‬لم قلت له أنا عبد؟ فقال‪ :‬إنه لم يسألني‪ :‬عب د من أنت ب ل ق ال‪ :‬أنت عب د؟ فقلت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬ألني عبد هللا‪ ،‬فلما ضرب رأس ي س ألت هللا ل ه الجن ة قي ل كي ف وق د ظلم ك؟‬
‫فقال‪ :‬علمت أنني أؤج ر على م ا ن الني من ه فلم أرد أن يك ون نصيبـي من ه الخ ير‬
‫ونصيبه مني الشر‪.‬‬
‫وقد يحسب بعض المتنطعين المتكلفين أن هذا غل و‪ ،‬ولم ي دروا أي خ ير نم ا‬
‫من هذا الموقف الذي وقفه إبراهيم مع ذلك الجندي أو م ع أولئ ك الن اس الحض ور‪،‬‬
‫أو مع أمم من الناس جاءت بعد ذلك لتهتدي بهذا الموقف العظيم‪.‬‬
‫ويروى أن داعيا دعا أبا عثمان الح يري إلى دع وة ـ وك ان ال داعي ق د أراد‬
‫تجربته ـ فلما بلغ منزله قال له‪ :‬ليس ل ه وج ه‪ ،‬فرج ع أب و عثم ان‪ ،‬فلم ا ذهب غ ير‬
‫بعيد دعاه ثانيا ً فقال له‪ :‬يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان‪ ،‬فقال له مث ل مقالت ه األولى‬
‫فرجع‪ ،‬ثم دعاه الثالثة وقال‪ :‬ارجع على ما يوجب الوقت فرجع‪ ،‬فلما بلغ الباب ق ال‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫له مثل مقالته األولى فرجع أب و عثم ان‪ ،‬ثم ج اءه الرابع ة ف رده ح تى عامل ه ب ذلك‬
‫مرات‪ ،‬وأبو عثمان ال يتغير من ذلك‪ ،‬فأكب على رجليه وقال‪(:‬يا أس تاذ إنم ا أردت‬
‫فقال‪(:‬إن الذي رأيت مني ه و خل ق الكلب‪ ،‬إن الكلب‬ ‫ّ‬ ‫أن أختبرك فما أحسن خلقك)‪،‬‬
‫إذا دعي أجاب وإذا زجر انزجر)‬
‫وه و موق ف عظيم ل و تمث ل في المجتم ع لحف ظ المجتم ع من أك ثر أس باب‬
‫الشقاق التي يسببها التعالي والعزة الكاذبة‪.‬‬
‫ويروى عن هذ الصالح الذي ربى نفسه على الصبر الشديد‪ ،‬أنه اجت از يوم ا ً‬
‫في سكة فطرحت عليه إجان ة رم اد ف نزل عن دابت ه فس جد س جدة الش كر ثم جع ل‬
‫ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئاً‪ ،‬فقيل‪ :‬أال زبرتهم؟ فق ال‪ :‬إن من اس تحق الن ار‬
‫فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب‪.‬‬
‫وي روى أن أب ا عب د هللا الخي اط ك ان يجلس على دكان ه‪ ،‬وك ان ل ه حري ف‬
‫مجوسي يستعمله في الخياطة فكان إذا خاط له ش يئا ً حم ل إلي ه دراهم زائف ة‪ ،‬فك ان‬
‫أبو عبد هللا يأخذ منه وال يخبره بذلك وال ير ّدها عليه‪ ،‬فاتفق يوما ً أن أبا عبد هللا ق ام‬
‫لبعض حاجته‪ ،‬فأتى المجوسي فلم يج ده ف دفع إلى تلمي ذه األج رة واس ترجع م ا ق د‬
‫خاطه فكان درهما ً زائفاً‪ ،‬فلما نظر إليه التلميذ عرف أنه زائف فرده عليه‪ ،‬فلما عاد‬
‫أبو عبد هللا أخبره بذلك فقال‪ :‬بئس ما عملت‪ .‬هذا المجوسي يع املني به ذه المعامل ة‬
‫منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئال يغ ّر بها مسلماً‪.‬‬
‫وق ال يوس ف بن أس باط‪ :‬عالم ة حس ن الخل ق عش ر خص ال؛ قل ة الخالف‪،‬‬
‫وحسن اإلنصاف‪ ،‬وترك طلب العثرات‪ ،‬وتحس ين م ا يب دو من الس يئات‪ ،‬والتم اس‬
‫المعذرة‪ ،‬واحتمال األذى‪ ،‬والرجوع بالمالم ة على النفس‪ ،‬والتف رد بمعرف ة عي وب‬
‫نفسه دون عيوب غيره‪ ،‬وطالقة الوجه للصغير والكبـير‪ ،‬ولط ف الكالم لمن دون ه‬
‫ولمن فوقه‪.‬‬
‫وي روى أن ه قي ل لألحن ف بن قيس ممن تعلمت الحلم فق ال‪ :‬من قيس بن‬
‫عاصم‪ ،‬قيل وما بلغ من حلم ه؟ ق ال‪ :‬بـينما ه و ج الس في داره إذ أتت ه جاري ة ل ه‬
‫بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فم ات‪ ،‬فدهش ت الجاري ة‬
‫فقال لها‪ :‬ال روع عليك أنت حرة لوجه هللا تعالى‪.‬‬
‫وشتمه رجل وهو ال يجيبه وكان يتبع ه فلم ا ق رب من الحي وق ف وق ال‪ :‬إن‬
‫كان قد بقي في نفسك شيء فقله كي ال يسمعك بعض سفهاء الحي فيؤذوك‪.‬‬
‫ويروى أن عليا ً دعا غالما ً فلم يجبه فدعاه ثانيا ً وثالثا ً فلم يجبه‪ ،‬فقام إليه ف رآه‬
‫مضطجعا ً فقال‪ :‬أما تسمع يا غالم؟ ق ال‪ :‬بلى‪ ،‬ق ال‪ :‬فم ا حمل ك على ت رك إج ابتي؟‬
‫قال‪ :‬أمنت عقوبتك فتكاسلت‪ ،‬فقال‪ :‬امض فأنت حر لوجه هللا تعالى‪.‬‬
‫ويروى ن أويسا ً القرني كان إذا رآه الصبـيان يرمونه بالحج ارة فك ان يق ول‬
‫لهم‪ :‬يا إخوتاه إن كان وال بد فارموني بالصغار حتى ال تدموا س اقي فتمنع وني عن‬
‫الصالة‪.‬‬
‫وقالت امرأة لمالك بن دينار‪ :‬ي ا م رائي‪ ،‬فق ال‪ :‬ي ا ه ذه وج دت اس مي ال ذي‬

‫‪291‬‬
‫أضله أهل البصرة‪ .‬وكان ليحيـى بن زياد الحارثي غالم سوء فقي ل ل ه‪ :‬لم تمس كه؟‬
‫فقال‪ :‬ألتعلم الحلم عليه‪.‬‬
‫قال الغزالي بعد سوقه لهذه القصص وغيرها‪(:‬فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة‬
‫فاعتدلت أخالقها‪ ،‬ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها ف أثمرت الرض ا بك ل م ا‬
‫قدره هللا تعالى وهو منتهى حسن الخلق‪ .‬فإن من يكره فعل هللا تعالى وال يرضى ب ه‬
‫فهو غاية سوء خلقه‪ ،‬فهؤالء ظهرت العالم ات على ظ واهرهم كم ا ذكرن ا‪ .‬فمن لم‬
‫يصادف من نفسه هذه العالمات فال ينبغي أن يغ تر بنفس ه فيظن به ا حس ن الخل ق‪،‬‬
‫ب ل ينبغي أن يش تغل بالرياض ة والمجاه دة إلى أن يبل غ درج ة حس ن الخل ق فإنه ا‬
‫درجة رفيعة ال ينالها إال المقربون والصديقون)(‪)1‬‬
‫تحمل المشاق‪:‬‬
‫ْ‬
‫اب بِقُ َّو ٍة َوآتَ ْينَ اهُ ال ُح ْك َم‬ ‫ْ‬
‫ويشير إلى هذا الركن قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَ ا يَحْ يَى ُخ ِذ ال ِكتَ َ‬
‫صبِيّاً﴾ (مريم‪ )12:‬أي بجد وع زم‪ ،‬وق د روى عب د هّللا بن المب ارك بعض ا من ذل ك‬ ‫َ‬
‫الجد‪ ،‬فقال‪ :‬قال الصبيان ليحيى بن زكريا‪ :‬اذهب بنا نلعب‪ ،‬فقال‪ :‬ما لّلعب خلقنا‪.‬‬
‫ومثل ذلك أمره موسى ‪ ‬بأخذ الكت اب بق وة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َكتَ ْبنَ ا لَ هُ فِي‬
‫صيالً لِ ُك ِّل َش ْي ٍء فَ ُخ ْذهَا بِقُ َّو ٍة َو ْأ ُم رْ قَوْ َم كَ يَأْ ُخ ُذوا‬ ‫اأْل َ ْل َو ِ‬
‫اح ِم ْن ُك ِّل َش ْي ٍء َموْ ِعظَةً َوتَ ْف ِ‬
‫اسقِينَ ﴾ (األعراف‪)145:‬‬ ‫َار ْالفَ ِ‬ ‫ُ‬
‫بِأَحْ َسنِهَا َسأ ِري ُك ْم د َ‬
‫ولهذا أمر ‪ ‬في أول الدعوة بأمر (قم)‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْم فَأ َ ْن ِذرْ ﴾ (المدثر‪،)2:‬‬
‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ِم اللَّي َْل إِاَّل قَلِيالً﴾ (المزمل‪)2:‬‬
‫وكأنه تعالى يقول لرسول هللا ‪ ‬وألص حابه ال ذين مع ه‪ :‬قم‪ ،‬ف إن القع ود ال‬
‫يأتي بشيء‪( ،‬إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا‪ ،‬ولكنه يعيش صغيرا ويموت‬
‫صغيرا‪ .‬فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير‪ ..‬فمال ه والن وم؟ ومال ه والراح ة؟‬
‫وماله والفراش الدافئ‪ ،‬والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟!)(‪)2‬‬
‫وقد كان من حكمة هللا أن ربى الصحابة على هذا الجهد في أول الدعوة‪ ،‬ألن‬
‫الدعوة ال يقوم بها إال الرجال أصحاب الجد والحزم‪ ،‬عن س عيد بن هش ام‪ ..‬أن ه أتى‬
‫ابن عباس فسأله عن الوتر فقال‪ :‬أال أنبئك بأعلم أهل األرض ب وتر رس ول هللا ‪‬؟‬
‫قال‪:‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ائت عائشة فسلها‪ ،‬ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك‪..‬ثم يقول س عيد‬
‫بن هشام‪ :‬قلت‪ :‬يا أم المؤم نين أنبئي ني عن خل ق رس ول هللا ‪ ‬ق الت‪ :‬ألس ت تق رأ‬
‫القرآن؟ قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قالت‪ :‬فإن خلق رسول هللا ‪ ‬ك ان الق رآن‪ .‬فهممت أن أق وم‪ ،‬ثم‬
‫ب دا لي قي ام رس ول هللا ‪ ‬قلت‪:‬ي ا أم المؤم نين‪ ،‬أنبئي ني عن قي ام رس ول هللا ‪‬‬
‫قالت‪:‬ألست تقرأ هذه السورة‪ :‬يا أيها المزمل ؟ قلت‪:‬بلى‪ .‬قالت‪:‬فإن هللا افترض قي ام‬
‫اللي ل في أول ه ذه الس ورة ؛ فق ام رس ول هللا ‪ ‬وأص حابه ح وال ح تى انتفخت‬
‫أقدامهم‪ .‬وأمسك هللا ختامها في السماء اثني عشر شهرا‪ .‬ثم أنزل التخفي ف في آخ ر‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/72 :‬‬


‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.3744 :‬‬

‫‪292‬‬
‫الحديث(‪)1‬‬ ‫هذه السورة‪ ،‬فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة)‬
‫وهذا الجهد والجد تحتاجه ك ل دع وة وك ل رس الة‪ ،‬ب ل ك ل عم ل نبي ل‪ ،‬ألن‬
‫األعمال العظيمة أعمال جادة ال يقوم بها إال الجادون الذين قال تعالى في صفتهم‪﴿ :‬‬
‫ص لِ ِحينَ ﴾ (ألع راف‪:‬‬ ‫ض ي ُع أَجْ َر ْال ُم ْ‬ ‫ب َوأَقَا ُموا الصَّالةَ إِنَّا ال نُ ِ‬ ‫َوالَّ ِذينَ يُ َم ِّس ُكونَ بِ ْال ِكتَا ِ‬
‫‪)170‬‬
‫ففي هذا التعبير ما يبين مبلغ الجد الذي تحملى به هؤالء المتمسكون بالكت اب‬
‫الذي يعني الدين كله‪ ،‬يقول سيد قطب‪(:‬ن الصيغة اللفظية‪ :‬يمسكون تص ور م دلوالً‬
‫يكاد يحس ويرى‪ ،‬إنه ا ص ورة القبض على الكت اب بق وة وج د وص رامة الص ورة‬
‫التي يحب هللا أن يؤخذ به ا كتاب ه وم ا في ه‪ ..‬في غ ير تعنت وال تنط ع وال ت زمت‪..‬‬
‫فالج د والق وة والص رامة ش يء والتعنت والتنط ع وال تزمت ش يء آخ ر‪ ..‬إن الج د‬
‫والقوة والصرامة ال تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع! وال تنافي س عة األف ق ولكنه ا‬
‫تنافي االستهتار! وال تنافي مراعاة الواقع ولكنها تن افي أن يك ون الواق ع ه و الحكم‬
‫في شريعة هللا! فهو الذي يجب أن يظل محكوما ً بشريعة هللا)(‪)2‬‬
‫وهذا التحمل للمشاق يحتاج إلى تمرين شديد على ذلك‪ ،‬وكما ذك ر هللا تع الى‬
‫عن اختبار هذه األمة في أول أمرها بقيام الليل وغيره من التكاليف الشاقة(‪ )3‬اختبر‬
‫بني إسرائيل برفع الطور فوقهم حتى يلتزموا بأخذ الكتاب بق وة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ‬
‫ور ُخ ُذوا َم ا آتَ ْينَ ا ُك ْم بِقُ َّو ٍة َو ْاذ ُك رُوا َم ا فِي ِه لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫أَخ َْذنَا ِميثَ اقَ ُك ْم َو َرفَ ْعنَ ا فَ وْ قَ ُك ُم ُّ‬
‫الط َ‬
‫الطو َر ُخ ُذوا َما‬ ‫خَذنَا ِميثَاقَ ُك ْم َو َرفَ ْعنَا فَوْ قَ ُك ُم ُّ‬‫تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)63:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَ ْ‬
‫﴿وإِ ْذ نَتَ ْقنَ ا ْال َجبَ َل فَ وْ قَهُ ْم َكأَنَّهُ ظُلَّةٌ‬
‫آتَ ْينَا ُك ْم بِقُ َّو ٍة َوا ْس َمعُوا﴾ (البقرة‪ ،)93:‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫َوظَنُّوا أَنَّهُ َواقِ ٌع بِ ِه ْم ُخ ُذوا َما آتَ ْينَا ُك ْم بِقُ َّو ٍة َو ْاذ ُك رُوا َم ا فِي ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُ ونَ ﴾ (ألع راف‪:‬‬
‫‪)171‬‬
‫وتنفي ذ ه ذا ال ركن في الواق ع يحت اج إلى وض ع برن امج ترب وي يتمكن من‬
‫خالله المربي من تدريب من يربيه على تحمل المشاق مرحلة مرحلة حتى يصل به‬
‫إلى تحقيق الشخصية القوية المستعدة لتحمل األعباء العظيمة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ االستغناء عن المجتمع‬
‫وهو األصل الثاني من أصول المساهمة في تنمي ة المجتم ع‪ ،‬وه و أص ل من‬
‫األصول الكبرى لسببين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن المجتمع الذي يكتفي أفراده بطاقاتهم ـ فال يلقي بعضهم تبعاته على‬
‫بعض ـ مجتمع قوي‪ ،‬ألن كل فرد فيه أمة بنفسه‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.1388 :‬‬
‫ص ا ِبرُونَ يَ ْغلِبُ وا‬ ‫ال إِ ْن يَ ُك ْن ِم ْن ُك ْم ِع ْش رُونَ َ‬ ‫ض ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َعلَى ْالقِتَ ِ‬ ‫‪ )(3‬ومن ذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَ ا النَّ ِب ُّي َح رِّ ِ‬
‫ِمائَتَي ِْن َوإِ ْن يَ ُك ْن ِم ْن ُك ْم ِمائَةٌ يَ ْغلِبُوا أَ ْلفا ً ِمنَ الَّ ِذينَ َكفَرُوا ِبأَنَّهُ ْم قَوْ ٌم ال يَ ْفقَهُونَ ﴾ (ألنفال‪ ،)65:‬ثم ق ال في التخفي ف‪ ﴿ :‬اآْل نَ‬
‫صابِ َرةٌ يَ ْغلِبُوا ِمائَتَي ِْن َوإِ ْن يَ ُك ْن ِم ْن ُك ْم أَ ْلفٌ يَ ْغلِبُوا أَ ْلفَي ِْن بِ إِ ْذ ِن هَّللا ِ‬
‫ضعْفا ً فَإ ِ ْن يَ ُك ْن ِم ْن ُك ْم ِمائَةٌ َ‬‫خَ فَّفَ هَّللا ُ َع ْن ُك ْم َو َعلِ َم أَنَّ فِي ُك ْم َ‬
‫َوهَّللا ُ َم َع الصَّابِ ِرينَ ﴾ (ألنفال‪)66:‬‬

‫‪293‬‬
‫الثاني‪ :‬أن الفرد والمجتمع الذي يصل إلى درجة االكتف اء ال ذاتي سينص رف‬
‫بالضرورة إلى إكفاء الغير وإفادته‪ ،‬فتصبح له ذا الف رد كم ا للمجتم ع اإلمام ة على‬
‫غيره من األفراد والمجتمعات‪ ،‬وهو المقصد األكبر الذي يسعى كل ف رد ق وي‪ ،‬ب ل‬
‫كل مجتمع‪ ،‬بل كل أمة إلى تحقيقه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫كم ا ق ال تع الى عن أف راد ه ذه األم ة‪َ ﴿ :‬و َج َعلنَ اهُ ْم أئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ ْم ِرنَ ا ﴾‬
‫ض ِعفُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫(االنبي اء‪ ،)73:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ونُ ِري ُد أَ ْن نَ ُم َّن َعلَى الَّ ِذينَ ا ْستُ ْ‬
‫ارثِينَ ﴾ (القصص‪ ،)5:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلنَ ا ِم ْنهُ ْم أَئِ َّمةً‬ ‫َونَجْ َعلَهُ ْم أَئِ َّمةً َونَجْ َعلَهُ ُم ْال َو ِ‬
‫صبَرُوا َو َكانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُ ونَ ﴾ (الس جدة‪ ،)24:‬ب ل أخ بر أن عب اد‬ ‫يَ ْه ُدونَ بِأ َ ْم ِرنَا لَ َّما َ‬
‫الرحمن يطلب ون اإلمام ة ال على الن اس فق ط‪ ،‬وإنم ا على المتقين أيض ا‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫تعالى في اإلخبار عن دعائهم‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يَقُولُونَ َربَّنَا هَبْ لَنَ ا ِم ْن أَ ْز َوا ِجنَ ا َو ُذرِّ يَّاتِنَ ا‬
‫قُ َّرةَ أَ ْعيُ ٍن َواجْ َع ْلنَا لِ ْل ُمتَّقِينَ إِ َماماً﴾ (الفرقان‪)74:‬‬
‫ك‬ ‫﴿و َك َذلِ َ‬ ‫وق ال تع الى عن األم ة القوي ة ال تي تك ون له ا اإلمام ة على األمم‪َ :‬‬
‫َّس و ُل َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيداً﴾‬ ‫اس َويَ ُك ونَ الر ُ‬ ‫َج َع ْلنَ ا ُك ْم أُ َّمةً َو َس طا ً لِتَ ُكونُ وا ُش هَدَا َء َعلَى النَّ ِ‬
‫اس ﴾ (آل عمران‪)110:‬‬ ‫ت لِلنَّ ِ‬ ‫(البقرة‪ ،)143:‬وقال تعالى‪ُ ﴿ :‬ك ْنتُ ْم َخ ْي َر أُ َّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ‬
‫وه ذان الس ببان يس تدعيان تربي ة الف رد على أن يس تغني عن مجتمع ه ق در‬
‫طاقته‪ ،‬فال يكون عالة عليه‪ ،‬وال ثقال يكلفه‪ ،‬وقد دعت الش ريعة إلى ه ذه االس تغناء‬
‫ع بر التوجيه ات والتش ريعات المختلف ة‪ ،‬وس نذكر منه ا هن ا على س بيل المث ال ال‬
‫الحصر ما قد يساهم في تنمية هذا الجانب في نفس المتربي‪.‬‬
‫النهي عن السؤال‪:‬‬
‫ويدل على كون هذا أصال من أصول االستغناء قوله تع الى يخ بر عن رس له‬
‫ك الَّ ِذينَ هَدَى هَّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه قُ لْ ال أَ ْس أَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ راً إِ ْن هُ َو إِاَّل‬ ‫الكثيرين‪ ﴿ :‬أُولَئِ َ‬
‫ي‬ ‫ِذ ْك َرى لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ (األنعام‪ ،)90:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬يَا قَوْ ِم ال أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه أَجْ راً إِ ْن أَجْ ِر َ‬
‫إِاَّل َعلَى الَّ ِذي فَطَ َرنِي أَفَال تَ ْعقِلُونَ ﴾ (هود‪ ،)51:‬وقال تع الى‪ ﴿ :‬اتَّبِ ُع وا َم ْن ال يَ ْس أَلُ ُك ْم‬
‫ي‬ ‫أَجْ راً َوهُ ْم ُم ْهتَ ُدونَ ﴾ (يّـس‪ ،)21:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما أَسْأَلُ ُك ْم َعلَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِر َ‬
‫إِاَّل َعلَى َربِّ ْال َع الَ ِمينَ ﴾ (الش عراء‪ ،)109:‬وفي (الش عراء‪ ،)127:‬وفي (الش عراء‪:‬‬
‫‪ ،)145‬وفي(الشعراء‪ ،)164:‬وفي(الش عراء‪ )180:‬في مواض ع من الق رآن الك ريم‬
‫على ألسنة األنبياء المختلفين‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫والقرآن الكريم يخبر عن العلة في هذا االستغناء‪ ،‬فيق ول تع الى‪ ﴿ :‬أ ْم ت َْس ألهُ ْم‬
‫أَجْ راً فَهُ ْم ِم ْن َم ْغ َر ٍم ُم ْثقَلُونَ ﴾ (الطور‪ ،)40:‬وفي (القلم‪ )46:‬في موضعين من القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وذلك ألن من يطلب من غيره األج ر يثق ل علي ه‪ ،‬بخالف من يك ون خفيف ا‬
‫مستغنيا‪ ،‬فإنه يكون موضع محبة للناس‪.‬‬
‫وإلى هذا اإلشارة بما روي أن رجال جاء إلى الن بي ‪ ‬فق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا‬
‫دلني على عمل إذا عملت ه أحب ني هللا تع الى وأحب ني الن اس؟ فق ال ازه د في ال دنيا‬

‫‪294‬‬
‫الناس)(‪)1‬‬ ‫يحبك هللا وازهد فيما في أيدي الناس يحبك‬
‫ولهذا ذم هللا تع الى الس ؤال وم دح العف اف في الق رآن الك ريم‪ ،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫ض يَحْ َس بُهُ ُم‬‫ض رْ با ً فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫يل هَّللا ِ ال يَ ْس تَ ِطيعُونَ َ‬ ‫ص رُوا فِي َس بِ ِ‬ ‫﴿ لِ ْلفُقَ َرا ِء الَّ ِذينَ أُحْ ِ‬
‫اس إِ ْل َحاف ا ً َو َم ا تُ ْنفِقُ وا ِم ْن‬
‫ْرفُهُ ْم بِ ِس ي َماهُ ْم ال يَ ْس أَلونَ النَّ َ‬ ‫ْال َجا ِه ُل أَ ْغنِيَا َء ِمنَ التَّ َعفُّ ِ‬
‫ف تَع ِ‬
‫خَ ي ٍْر فَإِ َّن هَّللا َ بِ ِه َعلِي ٌم﴾ (البقرة‪ ،)273:‬أي ال يلِّحون في المس ألة(‪ ،)2‬ويكلف ون الن اس‬
‫مال ال يحتاجون إليه‪ ،‬فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة‪.‬‬
‫وقد كان ‪ ‬يربي الصحابة عل االستغناء والعفاف وعدم مد اليد للناس‪ ،‬ق ال‬
‫‪(:‬ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان‪ ،‬وال اللقمة واللقمتان‪ ،‬إنما المس كين‬
‫اس إِ ْل َحاف اً﴾ (البق رة‪:‬‬ ‫الذي يتعفف‪ ،‬اقرأوا إن شئتم‪ :‬يعني قوله تعالى‪ ﴿ :‬ال يَسْأَلونَ النَّ َ‬
‫‪)3())273‬‬
‫وكان يخبرهم بالوعيد الشديد الذي أعده هللا لمن يس أل من غ ير حاج ة‪ ،‬ق ال‬
‫‪(:‬من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليس تكثر)(‪ ،)4‬وق ال‬
‫‪(:‬ال تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى هللا وليس في وجهه مزعة لحم)(‪)5‬‬
‫وكان ‪ ‬يحدد لهم مقدار الحاجة حتى ال يدعي كل واحد الحاجة مع أنه ليس‬
‫من أهلها‪ ،‬قال ‪(:‬من س أل ول ه م ا يغني ه ج اءت مس ألته ي وم القيام ة خدوش ا ً أو‬
‫كدوحا ً في وجهه)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هّللا وما غناه؟ ق ال‪(:‬خمس ون درهم ا ً أو حس ابها‬
‫من الذهب)(‪)6‬‬
‫ويروى عن رجل من مزينة‪ ،‬أنه قالت ل ه أم ه‪ :‬أال تنطل ق فتس أل رس ول هّللا‬
‫‪ ‬كما يسأله الناس‪ ،‬قال‪ :‬فانطلقت أسأله فوجدت ه قائم ا يخطب‪ ،‬وه و يق ول‪(:‬ومن‬
‫استعف أعفه هّللا ‪ ،‬ومن استغنى أغناه هّللا ‪ ،‬ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد‬
‫س ال الن اس إلحاف اً)‪ ،‬فقلت بي ني وبين نفس ي‪ :‬لن ا ناق ة لهي خ ير من خمس أواق‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه ابن ماجه مرفوعا‪ :‬بإسناد حسنه بعضهم قال الترمذي وفيه بع د‪ ،‬ق ال الحاف ظ‪ (:‬وليس في رواي ة من‬
‫ت رك‪ ،‬لكن على ه ذا الح ديث المع ة من أن وار النب وة وال يمن ع ك ون راوي ه ض عيفا أن يك ون الن بي ‪ ‬قال ه‪ ،‬ق ال‬
‫الشعراني‪:‬وهذا الحديث من األربعة أحاديث التي عليها مدار اإلسالم وقد نظمها بعضهم بقوله‪:‬‬
‫عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كالم خير البرية‬
‫اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه‬
‫‪ )(2‬اختلف العلماء في النفي هنا‪ ،‬هل هو متوجه لإللحاف أم ألصل السؤال على قولين‪:‬‬
‫القول األول ‪ :‬أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة‪ ،‬وهو قول جمهور المفسرين‪ ،‬وبهذا يكون التعف ف ص فة ثابت ة‬
‫لهم‪ ،‬أي ال يسألون الناس إلحاحا وال غير إلحاح‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إن المراد نفي اإللحاف‪ ،‬أي أنهم يسألون غير إلح اف‪ ،‬وه و ق ول بعض المفس رين منهم الط بري‬
‫والزجاج‪ ،‬وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا‪.‬‬
‫ويدل لهذا القول األخير قوله ‪ (:‬ال تلحفوا في المسألة فوهللا ال يسألني أحد منكم ش يئا فتخ رج ل ه مس ألته م ني‬
‫شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته ) رواه الجماعة‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أحمد وأصحاب السنن‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫أسال)(‪)1‬‬ ‫ولغالمه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق‪ ،‬فرجعت ولم‬
‫وعن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه ق ال‪ :‬ن زلت أن ا وأهلي ببقي ع‬
‫الغرق د فق ال لي أهلي‪ :‬اذهب إلى رس ول هللا ‪ ‬فاس أله لن ا ش يئا ً نأكل ه‪ ،‬وجعل وا‬
‫يذكرون من حاجتهم‪ ،‬فذهبت إلى رسول هللا ‪ ‬فوجدت عنده رجال يس أله ورس ول‬
‫هللا ‪ ‬يقول‪(:‬ال أجد م ا أعطي ك)‪ ،‬فت ولى الرج ل عن ه وه و مغض ب وه و يق ول‪:‬‬
‫لعمري إن ك لتعطي من ش ئت! فق ال رس ول هللا ‪(:‬إن ه يغض ب علي أال أج د م ا‬
‫أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا)‪ ،‬قال األس دي‪ :‬فقلت للقح ة‬
‫لنا خير من أوقية(‪ )2‬ق ال‪ :‬ف رجعت ولم أس أله‪ ،‬فق دم على رس ول هللا ‪ ‬بع د ذل ك‬
‫بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا هللا)(‪ ،)3‬وهذا الحديث ي دل على أن الس ؤال‬
‫مكروه لمن له أوقية من فضة‪ ،‬فمن سأل وله هذا الحد والعدد والق در من الفض ة أو‬
‫ما يقوم مقامها ويكون عدال منها فه و ملح ف‪ ،‬وق د نق ل القرط بي ع دم الخالف في‬
‫هذا‪ ،‬فقال‪(:‬وما علمت أحدا من أهل العلم إال وهو يكره السؤال لمن ل ه ه ذا المق دار‬
‫من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث)(‪)4‬‬
‫بل ورد ما هو أقل من ذل ك‪ ،‬فق د روي عن علي عن الن بي ‪ ‬أن ه ق ال‪(:‬من‬
‫سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رس ول هللا‪ ،‬وم ا‬
‫ظهر الغنى؟ قال‪(:‬عشاء ليلة)(‪)5‬‬
‫وروي عن سهل بن الحنظلية عنه ‪ ‬ق ال‪(:‬من س أل وعن ده م ا يغني ه فإنم ا‬
‫يستكثر من النار)‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول هللا وما يغنيه؟ ـ وفي رواية‪ :‬وما الغنى ال ذي ال‬
‫تنبغي معه المسألة؟ ـ‪ ،‬فقال ‪(:‬قدر ما يغديه ويعشيه ـ وفي رواي ة ـ أن يك ون ل ه‬
‫شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم ـ)(‪)6‬‬
‫وهذا هو الذي أخذ به أهل الورع ـ وهو الدرجة المثلى التي يس عى المرب ون‬
‫لتحقيقها ـ‪ ،‬وقد سئل اإلمام أحمد بن حنبل ـ وهو إمام من أئمة الورع ـ عن المس ألة‬
‫متى تحل‪ ،‬فقال‪(:‬إذا لم يكن ما يغذيه ويعشيه على ح ديث س هل بن الحنظلي ة)‪ ،‬قي ل‬
‫ألبي عبدهللا‪ :‬فإن اضطر إلى المسألة؟ قال‪ :‬هي مباحة له إذا اض طر‪ .‬قي ل ل ه‪ :‬ف إن‬
‫تعفف؟ قال‪ :‬ذلك خير له‪ .‬ثم قال‪ :‬ما أظن أحدا يموت من الجوع‪ ،‬هللا يأتيه برزق ه)‪،‬‬
‫وقال إبراهيم بن أدهم‪(:‬سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين هللا تعالى‪،‬‬
‫فأنزل حاجتك بمن يملك الضر والنف ع‪ ،‬وليكن مفزع ك إلى هللا تع الى يكفي ك هللا م ا‬
‫سواه وتعيش مسرورا)‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه قال مالك‪ :‬واألوقية أربعون درهما‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مالك في الموطأ‪.‬‬
‫‪ )(4‬القرطبي‪.3/343 :‬‬
‫‪ )(5‬رواه الدارقطني‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫وقد أرشد هؤالء إلى البديل الشرعي الصحيح‪ ،‬والذي هو منزلة أهل الكمال‪،‬‬
‫وهو االلتجاء هلل وحد‪ ،‬وهو ما عبر عنه ‪ ‬بقوله‪(:‬من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس‬
‫لم تسد فاقته‪ ،‬ومن نزلت به فاقة فأنزلها باهلل فيوشك هللا تع الى ل ه ب رزق عاج ل أو‬
‫آجل)(‪ ،)1‬وفي رواية‪(:‬أرسل هللا ل ه ب الغنى‪ ،‬إم ا بم وت عاج ل أو غ نى آج ل)(‪،)2‬‬
‫وقال ‪(:‬من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس وأفضى به إلى هللا ك ان حق ا على هللا‬
‫أن يفتح له قوت سنة من حالل)(‪)3‬‬
‫وهذا ال يختص بما يتعلق بحاج ات المعيش ة فق ط ـ ب ل يش مل ك ل ش يء إال‬
‫السؤال المرتبط بالعلم ـ فقد كان ‪ ‬يبايع الناس على أن ال يسألوا شيئا‪ ،‬فعن ع وف‬
‫بن مالك قال‪ :‬كن ا عن د رس ول هللا ‪ ‬س بعة أو ثماني ة أو تس عة فق ال‪ :‬أال تب ايعون‬
‫رسول هللا ‪ ‬وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا‪ :‬قد بايعناك حتى قالها ثالثا؛ فبسطنا أيدينا‬
‫فبايعناه‪ ،‬فقال قائل‪ :‬يا رسول هللا! إنا قد بايعناك فعلى ماذا نبايع ك؟ ق ال‪(:‬أن تعب دوا‬
‫هللا وال تشركوا به شيئا وتصلوا الص لوات الخمس وتس معوا وتطيع وا وأس ر كلم ة‬
‫خفية ‪ -‬قال‪ :‬ال تسألوا الناس شيئا) قال‪ :‬ولقد كان بعضد‪ ،‬أولئك النفر يسقط ‪ -‬سوطه‬
‫فما يسأل أحدا أن يناوله إياه(‪.)4‬‬
‫وقد روي من تطبيق هذا عن بعض المتأخرين‪ ،‬وهو أبو حم زة الخراس اني‪،‬‬
‫وهو من كبار العباد أنه سمع أن أناسا ب ايعوا رس ول هللا ‪ ‬أال يس ألوا أح دا ش يئا‪،‬‬
‫فقال أبو حمزة‪ :‬رب! إن هؤالء عاهدوا نبيك إذ رأوه‪ ،‬وأن ا أعاه دك أال أس أل أح دا‬
‫شيئا؛ قال‪ :‬فخرج حاجا من الشام يريد مكة فبينما هو يمشي في الطريق من الليل إذ‬
‫بقي عن أصحابه لعذر ثم أتبعهم‪ ،‬فبينما هو يمشي إليهم إذ سقط في بئر على حاش ية‬
‫الطري ق؛ فلم ا ح ل في قع ره ق ال‪ :‬اس تغيث لع ل أح دا يس معني‪ .‬ثم ق ال‪ :‬إن ال ذي‬
‫عاهدته يراني ويسمعني‪ ،‬وهللا! ال تكلمت بحرف للبشر‪ ،‬ثم لم يلبث إال يسيرا إذ م ر‬
‫بذلك البئر نفر‪ ،‬فلما رأوه على حاشية الطريق ق الوا‪ :‬إن ه لينبغي س د ه ذا الب ئر؛ ثم‬
‫قطعوا خشبا ونصبوها على فم البئر وغطوه ا ب التراب؛ فلم ا رأى ذل ك أب و حم زة‬
‫قال‪ :‬هذه مهلكة‪ ،‬ثم أراد أن يستغيث بهم‪ ،‬ثم قال‪ :‬وهللا! ال أخرج منها أبدا؛ ثم رج ع‬
‫إلى نفسه فقال‪ :‬أليس قد عاهدت من يراك؟ فسكت وتوك ل‪ ،‬ثم اس تند في قع ر الب ئر‬
‫مفكرا في أمره‪ ،‬فإذا بالتراب يقع عليه؛ والخشب يرف ع عن ه‪ ،‬وس مع في أثن اء ذل ك‬
‫من يق ول‪ :‬ه ات ي دك! ق ال‪ :‬فأعطيت ه ي دي ف أقلني في م رة واح دة إلى فم الب ئر؛‬
‫فخرجت فلم أر أحدا؛ فسمعت هاتفا يقول‪ :‬كيف رأيت ثمرة التوكل؛ وأنشد‪:‬‬
‫ف أغنيتني ب العلم من ك عن‬ ‫نه اني حي ائي من ك أن أكش ف‬
‫الكشف‬ ‫وى‬ ‫اله‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود والترمذي وقال‪ :‬حديث حسن‪ ،‬والحاكم وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الحاكم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود وغيره‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫إلى غ ائبي واللط ف ي درك‬ ‫تلطفت في أم ري فأب ديت‬
‫اللطف‬ ‫ب‬ ‫اهدي‬ ‫ش‬
‫تخ برني ب الغيب أن ك في كف‬ ‫ت راءيت لي ب العلم ح تى كأنم ا‬
‫فتؤنس ني ب اللطف من ك‬ ‫أراني وبي من هيبتي لك وحشة‬
‫العطف‬ ‫وب‬
‫وذا عجب كي ف الحي اة م ع‬ ‫وتح يي محب ا أنت في الحب‬
‫الحتف‬ ‫ه‬ ‫حتف‬
‫فهذا التصرف‪ ،‬وإن كنا نرى عدم جوازه شرعا(‪ )1‬إال أن فيه فائدة‪ ،‬وهي ان‬
‫هللا تعالى يمن على من اكتفى به واستغنى به عن أي حاجة لخلقه‪ ،‬وه ذه الكفاي ة ق د‬
‫تكون باألسباب على ما تتطلبه الحكمة‪ ،‬وقد تكون من عالم القدرة المجردة‪ ،‬قال ابن‬
‫العربي تعليقا على الموقف الس ابق‪ :‬ه ذا رج ل عاه د هللا فوج د الوف اء على التم ام‬
‫والكمال‪ ،‬فاقتدوا به إن شاء هللا تهتدوا(‪.)2‬‬
‫الحض على العمل والتكسب‪:‬‬
‫وهو األصل الثاني من أصول االستغناء عن المجتمع‪ ،‬وقد يكون فرع ا عم ا‬
‫قبله أو نتيجة له‪ ،‬ألن من استغنى عن سؤال الناس ال بد أن يضطر للعمل والتكس ب‬
‫حتى يستغني بعمله عن سؤال الناس‪.‬‬
‫ولهذا دل ‪ ‬السائل الذي جاء يسأله الصدقة على العمل والكسب‪ ،‬فق د روي‬
‫أن رجال من األنصار أتى النبي ‪ ‬فسأله فقال‪ :‬أما في بيتك شيء؟ فق ال بلى حلس‬
‫نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب في ه الم اء فق ال‪ :‬ائت ني بهم ا‪ ،‬فأت اه بهم ا‪،‬‬
‫فأخذهما رسول هللا ‪ ‬بيده فقال‪ :‬من يشتري هذين؟ فقال رجل‪ :‬أنا آخذهما ب درهم‪،‬‬
‫فقال رسول هللا ‪(:‬من يزيد على درهم مرتين أو ثالثا؟)‪ ،‬فقال رجل‪ :‬أن ا أخ ذهما‬
‫بدرهمين‪ ،‬فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما األنصاري وقال‪ :‬اشتر بأحدهما‬
‫طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر باآلخر قدوما فائتني به‪ ،‬فلما أتاه به شد فيه رسول هللا‬
‫‪ ‬عودا بيده‪ ،‬ثم قال‪(:‬اذهب فاحتطب وب ع وال أرين ك خمس ة عش ر يوم ا)‪ ،‬ففع ل‬
‫وجاء فأصاب عشرة دراهم‪ ،‬فاشترى ببعضها ثوبا وببعض ها طعام ا‪ ،‬فق ال رس ول‬
‫هللا ‪(:‬هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك ي وم القيام ة‪ ،‬إن المس ألة‬

‫‪ )(1‬وقد أنكر أبو الفرج الجوزي هذا التص رف غاي ة اإلنك ار‪ ،‬فق ال‪ :‬س كوت ه ذا الرج ل في ه ذا المق ام على‬
‫التوكل بزعمه إعانة على نفسه‪ ،‬وذلك ال يحل؛ ولو فهم معنى التوكل لعلم أنه ال ينافي استغاثته في تلك الحالة؛ كما لم‬
‫يخرج رسول هللا ‪ ‬من التوكل بإخفائه الخ روج من مك ة‪ ،‬واس تئجاره دليال‪ ،‬واس تكتامه ذل ك األم ر‪ ،‬واس تتاره في‬
‫الغار‪ ،‬وقوله لسراقة‪( :‬اخف عنا)‪ .‬فالتوكل الممدوح ال ينال بفع ل محظ ور؛ وس كوت ه ذا الواق ع في الب ئر محظ ور‬
‫عليه‪ .‬انظر‪ :‬تلبيس إبليس‪ ،‬نقال عن‪ :‬القرطبي‪.9/308 :‬‬
‫‪ )(2‬القرطبي‪.9/308 :‬‬

‫‪298‬‬
‫موجع(‪)4‬‬ ‫ال تحل إال لثالث‪ :‬لذي فقر مدقع(‪ ،)1‬ول ذي غ رم(‪ )2‬مفظع(‪ ،)3‬ول ذي دم‬
‫(‪)5‬‬
‫ويدل لهذا األصل األدلة الكثيرة المستفيضة من القرآن الكريم‪:‬‬
‫فاهلل تعالى يقرن الضرب في األرض للعمل والتكسب بالجه اد في س بيل هللا‪،‬‬
‫ض ِربُونَ فِي‬ ‫ض ى َوآخَ رُونَ يَ ْ‬ ‫بل يقدمه عليه‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬علِ َم أَ ْن َس يَ ُكونُ ِم ْن ُك ْم َمرْ َ‬
‫يل هَّللا ِ فَا ْق َرأُوا َما تَيَ َّس َر ِم ْن هُ ﴾‬
‫ض يَ ْبتَ ُغونَ ِم ْن فَضْ ِل هَّللا ِ َوآخَ رُونَ يُقَاتِلُونَ فِي َسبِ ِ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫(المزمل‪ ،)20:‬قال القرطبي‪(:‬سوى هللا تعالى في ه ذه اآلي ة بين درج ة المجاه دين‬
‫والمكتسبين المال الحالل للنفقة على نفسه وعياله‪ ،‬واإلحسان واإلفضال‪ ،‬فك ان ه ذا‬
‫دليال على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ ألنه جمعه مع الجهاد في سبيل هللا)(‪)6‬‬
‫وقد وردت النصوص الكث يرة الدال ة على اعتب ار العم ل والكس ب نوع ا من‬
‫الجهاد في سبيل هللا‪ ،‬فقد روي أنه ‪ ‬قال‪(:‬أبشر‪ ،‬فإن الجالب إلى س وقنا كالمجاه د‬
‫في سبيل هللا‪ ،‬والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب هللا)(‪)7‬‬
‫ورأى بعض الصحابة شابا ً قوي ا ً يس رع إلى عمل ه‪ ،‬فق الوا‪ :‬ل و ك ان ه ذا في‬
‫سبيل هللا! فرد رسول هللا ‪ ‬عليهم بقوله‪( :‬ال تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان خرج يسعى‬
‫على ول ده ص غاراً فه و في س بيل هللا‪ ،‬وإن ك ان خ رج يس عى على أب وين ش يخين‬
‫كبيرين فهو سبيل هللا‪ ،‬وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل هللا‪ ،‬وإن‬
‫كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)(‪)8‬‬
‫ويقرن القرآن الكريم العمل والتكسب بالص الة‪ ،‬ال تي هي عم ود ال دين‪ ،‬ق ال‬
‫ض ِل هَّللا ِ َو ْاذ ُك رُوا‬ ‫ض َوا ْبتَ ُغ وا ِم ْن فَ ْ‬ ‫ت الصَّالةُ فَا ْنت َِش رُوا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ضيَ ِ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ َذا قُ ِ‬
‫هَّللا َ َكثِيراً لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾ (الجمعة‪)10:‬‬
‫ض الً ِم ْن َربِّ ُك ْم‬‫ْس َعلَ ْي ُك ْم ُجنَ ا ٌح أَ ْن تَ ْبتَ ُغ وا فَ ْ‬
‫ويقرنهما بالحج‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫ت فَ ْاذ ُكرُوا هَّللا َ ِع ْن َد ْال َم ْش َع ِر ْال َح َر ِام َو ْاذ ُك رُوهُ َك َم ا هَ دَا ُك ْم َوإِ ْن‬
‫فَإِ َذا أَفَضْ تُ ْم ِم ْن َع َرفَا ٍ‬
‫الض الِّينَ ﴾ (البق رة‪ ،)198:‬فمن األق وال في تفس ير قول ه تع الى‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ُك ْنتُ ْم ِم ْن قَ ْبلِ ِه لَ ِمنَ‬
‫﴿ لِيَ ْشهَدُوا َمنَافِ َع لَهُم﴾ (الحج‪ )28:‬أن المنافع (األجر في اآلخرة والتجارة في الدنيا)‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فقد اتفق الفقهاء على وجوب العمل والكسب‪ ،‬بل اتفقوا على‬
‫وجوب استغناء المجتمع اإلسالمي بما لديه من الطاقات عن سائر المجتمعات‪ ،‬وق د‬
‫‪ )(1‬المدقع هو الشديد الملصق صاحبه بالدقعاء يعني األرض التي ال نبات بها‪.‬‬
‫‪ )(2‬الغرم هو الذي يلزم صاحبه أداؤه يتكلف فيه ال في مقابلة عوض‪.‬‬
‫‪ )(3‬المفظع هو الشديد الشنيع‪.‬‬
‫‪ )(4‬هو الذي يتحمل عن قريبه أو حميمه أو نسيبه دية إذا قتل نفسا ليدفعها إلى أولياء المقتول‪ .‬ولو لم يفعل قت ل‬
‫قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(6‬القرطبي‪.19/55 :‬‬
‫‪ )(7‬رواه الحاكم‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫ذكر السرخسي في كتاب الكسب(‪ )1‬األدل ة الكث يرة على فرض ية العم ل والتكس ب‪،‬‬
‫ومما ساقه من األدلة‪:‬‬
‫‪ .1‬النصوص القرآنية والنبوية الكثيرة‪ ،‬قال في وجه االستدالل بها‪(:‬وفي هذا‬
‫بيان أن المرء باكتساب ما ال بد له منه ينال من الدرجات أعاله ا‪ ،‬وإنم ا ين ال ذل ك‬
‫بإقامة الفريضة)(‪)2‬‬
‫‪ .2‬أنه ال يتوصل إلى إقامة الفرض إال به فحينئذ كان فرضا بمنزلة الطه ارة‬
‫ألداء الصالة وذلك ألنه ال يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه‪ ،‬وإنما يحصل له ذل ك‬
‫بالقوت عادة‪ ،‬ولتحصيل الق وت ط رق االكتس اب أو التغ الب باالنته اب واالنته اب‬
‫يستوجب العقاب‪ ،‬وفي التغالب فساد وهللا تعالى ال يحب الفساد فعين جهة االكتساب‬
‫لتحصيل الق وت‪ ،‬وإنم ا ال يتوص ل إلى ذل ك إال بالكس ب‪ ،‬كم ا ال يتوص ل إلى أداء‬
‫الصالة إال بالطهارة‪.‬‬
‫‪ .3‬أن الكسب طريق المرس لين ـ ص لوات هللا وس المه عليهم ـ‪ ،‬وق د أمرن ا‬
‫بالتمسك بهداهم قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬أُولَئِ َ‬
‫ك الَّ ِذينَ هَدَى هَّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه﴾ (األنع ام‪،)90:‬‬
‫فقد كان أول من اكتسب أبونا آدم ‪ ‬قال هللا تعالى‪﴿ :‬فَقُ ْلنَا يَ ا آ َد ُم إِ َّن هَ َذا َع د ٌُّو لَ َ‬
‫ك‬
‫ك فَال ي ُْخ ِر َجنَّ ُك َما ِمنَ ْال َجنَّ ِة فَتَ ْشقَى﴾ (طـه‪ ،)117:‬أي تتعب في طلب ال رزق‪،‬‬ ‫َولِزَ وْ ِج َ‬
‫وقد كان نوح ‪ ‬نجارا يأكل من كسبه‪ ،‬وإدريس ‪ ‬كان خياط ا‪ ،‬وإب راهيم ‪‬‬
‫كان بزارا‪ ،‬وداود ‪ ‬كان يأكل من كسبه‪ ،‬وغيرهم ـ صلوات هللا وسالمه عليهم ـ‬
‫وقد رد على بعض الجهال الذين ذهبوا إلى حرمة التكس ب‪ ،‬ق ال‪(:‬وق ال ق وم‬
‫من جهال أهل التقشف وحم اقى أه ل التص وف‪ :‬إن الكس ب ح رام ال يح ل إال عن د‬
‫الضرورة بمنزل ة تن اول الميت ة وق الوا‪ :‬إن الكس ب ينفي التوك ل على هللا تع الى أو‬
‫ينقص منه)(‪)3‬‬
‫ولهذا الرد(‪ )4‬أهميته في ال رد على من يقت دي بهم من البط الين‪ ،‬وإن لم يق ل‬
‫‪ )(1‬وهو من رواية محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن ‪،‬قال السرخسي في التنوي ه بكت اب الكس ب وفض له‪:‬‬
‫( وفي ه من العل وم م ا ال يس ع جهله ا‪ ،‬وال التخل ف عن عمله ا‪ ،‬ول و لم يكن فيه ا إال حث المفلس ين على مش اركة‬
‫المكتسبين في الكسب ألنفسهم والتناول من كد يدهم لكان يحق على كل واحد إظه ار ه ذا الن وع من العلم اء) انظ ر‪:‬‬
‫كتاب الكسب‪32 :‬‬
‫‪ )(2‬الكسب‪.32 :‬‬
‫‪ )(3‬الكسب‪.37 :‬‬
‫‪ )(4‬وقد ذكر من أدلتهم‪:‬‬
‫‪.1‬أنا أمرنا بالتوكل‪ ،‬فما يتضمن نفي ما أمرنا به من التوكل يكون حراما‪ ،‬واستدلوا لذلك بقول ه ‪ (:‬ل و ت وكلتم‬
‫الس َما ِء ِر ْزقُ ُك ْم َو َم ا‬
‫على هللا حق التوكل لرزقتم‪ ،‬كما يرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا )‪ ،‬وقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وفِي َّ‬
‫تُو َع ُدونَ ﴾ (الذريات‪ ،)22:‬وفي هذا حث على ترك االشتغال بالكسب وبيان أن ما قدر له من الموعود يأتيه ال محالة‪.‬‬
‫‪.2‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ْأ ُمرْ أَ ْهلَكَ ِبالصَّال ِة َواصْ طَ ِبرْ َعلَ ْيهَا ال نَسْأَلُكَ ِر ْزقا ً نَحْ نُ نَرْ ُزقُ كَ َو ْال َعا ِقبَ ةُ ِللتَّ ْق َوى﴾ (طـه‪،)132:‬‬
‫والخطاب وإن كان لرسول هللا ‪ ‬فالمراد أمته‪ ،‬فقد أمروا بالصبر والصالة وترك االش تغال بالكس ب لطلب ال رزق‬
‫ُون﴾ (الذريات‪ ،)56:‬وفي االشتغال بالكسب ترك ما خلق الم رء ألجل ه‬ ‫ت ْال ِجنَّ َواأْل ِ ْن َ‬
‫س إِاَّل ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما خَ لَ ْق ُ‬
‫وأمر به من عبادة ربه‪.‬‬
‫‪.3‬ما رووه عن رسول هللا ‪ ‬من الكذب الموضوع‪ (:‬ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من المتاجرين‪ ،‬وإنم ا‬
‫َّاج ِدينَ ﴾ (الحجر‪)98:‬‬ ‫أوحي إلي ‪ ‬فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ َو ُك ْن ِمنَ الس ِ‬

‫‪300‬‬
‫بقولهم‪ ،‬ولن نسوق ذلك الرد هنا‪ ،‬ففي ما سبق من األدلة ما يكفي للرد على ذلك‪.‬‬
‫ب ل يكفي أن نس مع لل رد على ذل ك النص وص الكث يرة الداعي ة إلى إحي اء‬
‫األرض وعمارتها واستنباط م ا فيه ا من خ ير‪ ،‬وك أن ذل ك ه دف بح د ذات ه بغض‬
‫النظر عما يأتي به ذلك التكسب من رزق‪ ،‬قال ‪(:‬إن قامت الساعة وفي يد أحدكم‬
‫فسيلة(‪ ،)1‬فإن استطاع أن ال يقوم حتى يغرسها فليغرسها)(‪)2‬‬
‫بل أخبر ‪ ‬أن كل منتفع بذلك العمل يص ب في أج ر ص احب العم ل‪ ،‬فق ال‬
‫‪ ‬في إحياء األرض‪(:‬ما من امرئ يحي أرضا فتشرب منها كبد ح رى أو تص يب‬
‫منها عافية إال كتب هللا تعالى له به ج را)(‪ ،)3‬وق ال ‪(:‬من أحي ا أرض ا ميت ة فل ه‬
‫فيها أجر‪ ،‬وما أكلت العافية منها فهو له صدقة)(‪)4‬‬
‫وق ال ‪ ‬في غ رس الغ رس‪(:‬م ا من مس لم ي زرع زرع ا أو يغ رس غرس ا‬
‫فيأكل منه طير أو إنس ان أو بهيم ة إال ك انت ل ه ب ه ص دقة)(‪ ،)5‬وق ال ‪(:‬م ا من‬
‫رجل يغرس غرسا إال كتب هللا له من األجر قدر ما يخ رج من ثم ر ذل ك الغ رس)‬
‫(‪ ،)6‬وقال ‪(:‬ما من مسلم يغرس غرسا إال كان ما أكل منه ل ه ص دقة وم ا س رق‬
‫منه صدقة‪ ،‬وم ا أك ل الس بع فه و ل ه ص دقة‪ ،‬وم ا أكلت الط ير فه و ل ه ص دقة وال‬
‫يرزؤه(‪ )7‬أحد إال كان له صدقة)(‪)8‬‬
‫النهي عن الترف‪:‬‬
‫وهو األصل الثالث من أصول االستغناء عن الناس‪ ،‬ألن الش خص ق د يعم ل‬
‫ويتكسب‪ ،‬ولكن مبالغته في ال ترف‪ ،‬وفي إرض اء م ا تتطلب ه نفس ه من ش هواته ق د‬
‫يجعله فقيرا لغيره‪ ،‬مستعبدا لشهواته‪ ،‬عالة على المجتمع‪.‬‬
‫وقد اهتم علم اء الس لوك من المس لمين به ذا األص ل في التربي ة‪ ،‬وق د ذك ره‬
‫الغزالي في مواضع عند بيانه لكيفية تربي ة األوالد‪ ،‬ق ال عن د ذك ر أص ول وقايت ه‪:‬‬
‫(وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن األخالق ويحفظه من القرناء السوء وال‬
‫‪.4‬أن ما في القرآن من ذك ر ال بيع والش راء في بعض اآلي ات ليس الم راد ب ه التص رف في الم ال والكس ب ب ل‬
‫المراد تجارة العبد مع ربه تعالى ببذل النفس في طاعته واالشتغال بعبادته فذلك يسمى تجارة‪.‬‬
‫‪.5‬أن الصحابة لم يشتغلوا بالكسب فالقول م ع أص حاب الص فة م ك انوا يلزم ون المس جد فال يش تغلون بالكس ب‬
‫ومدحوا على ذل ك‪ ،‬وك ذلك الخلف اء الراش دون وغ يرهم من أعلى الص حابة لم يش تغلوا بالكس ب وهم األئم ة الس ادة‬
‫والقدوة القادة‪.‬‬
‫‪ )(1‬الفسيل‪ :‬صغار النخل وهي الودي والجمع فسالن مثل رغيف ورغفان الواحدة فس يلة وهي ال تي تقط ع من‬
‫األم أو تقلع من األرض فتغرس‪ .‬المصباح ‪.2/647‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد وعبد بن حميد‪ ،‬والبخاري في األدب وابن منيع‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد والترمذي وابن حبان‪ ،‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أحمد والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(7‬وال يرزؤه‪ :‬أي ال ينقصه ويأخذ منه‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫يعوده التنعم‪ ،‬وال يحبب إليه الزينة والرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك‬
‫هالك األبد)(‪)1‬‬
‫وقال عند ذكره آلداب األكل‪(:‬وأن يع ّود الخبز القفار في بعض األوقات حتى‬
‫ال يصير بحيث يرى األدم حتماً‪ ،‬ويقبح عن ده ك ثرة األك ل ب أن يش به ك ل من يك ثر‬
‫األكل بالبهائم‪ ،‬وبأن يذم بـين يديه الصبـي الذي يك ثر األك ل ويم دح عن ده الصبـي‬
‫المت أدب القلي ل األك ل‪ ،‬وأن يحبب إلي ه اإليث ار بالطع ام وقل ة المب االة ب ه والقناع ة‬
‫بالطعام الخشن أي طعام كان)(‪)2‬‬
‫وقال عند ذكر آداب اللباس‪(:‬وأن يحبب إليه من الثي اب البـيض دون المل ون‬
‫واإلبريسم ويقرّر عنده أن ذلك شأن النساء والمخن ثين وأن الرج ال يس تنكفون من ه‬
‫ويك رّر ذل ك علي ه‪ ،‬ومهم ا رأى على صبـي ثوب ا ً من إبريس م أو مل ون فينبغي أن‬
‫يستنكره ويذمه‪ ،‬ويحفظ الصبـي عن الصبـيان الذين ع ودوا التنعم والرفاهي ة ولبس‬
‫الثياب الفاخرة‪ ،‬وعن مخالفة كل من يسمعه ما يرغبه فيه‪ ،‬فإن الصبـي مهم ا أهم ل‬
‫في ابتداء نشوئه خرج في األغلب رديء األخالق كذابا ً حسوداً سروقا ً نماما ً لحوحا ً‬
‫ذا فضول وضحك وكياد ومجانة‪ ،‬وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب)(‪)3‬‬
‫وق ال ملخص ا أس س م ا ذك ر من آداب‪(:‬وبالجمل ة؛ يقبح إلى الصبـيان حب‬
‫الذهب والفضة والطمع فيهما ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحي ات والعق ارب‪،‬‬
‫فإن آفة حب الذهب والفضة والطمع فيهما أضر من آفة الس موم على الصبـيان ب ل‬
‫على األكابر أيضاً)(‪)4‬‬
‫وقال ابن القيم‪(:‬وينبغي لوليه أن يجنبنه الكسل والبطالة والدعة والراحة‪ ،‬ب ل‬
‫يأخ ذه بأض دادها‪ ،‬وال يريح ه إال بم ا يُجم ّنفس ه نفس ه وبدن ه للش غل‪ ،‬ف إن الكس ل‬
‫والبطالة عَواقِبُ سوء و َمغَبةُ نَدَم‪ ،‬وللجد والتعب عواقب حميدة‪ ،‬أم ا في ال دنيا وإم ا‬
‫في اآلخ رة‪ ،‬وإم ا فيهم ا‪ ،‬ف أروح الن اس أتعب الن اس‪،‬واتعب الن اس أروح الن اس‪،‬‬
‫فالسيادة في الدنيا والسعادة في اآلخرة)(‪)5‬‬
‫وقد اشار إلى هذا األصل اآليات القرآنية الكثيرة‪ ،‬فقد ورد ذك ر ال ترف في‬
‫القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها في موضع الذم له والتحذير منه‪:‬‬
‫ف القرآن الك ريم يعت بر ال ترف من أس باب هالك الق رى والمجتمع ات‪ ،‬ق ال‬
‫ق َعلَ ْيهَ ا ْالقَ وْ ُل‬‫ك قَرْ يَ ةً أَ َمرْ نَ ا ُم ْت َرفِيهَ ا فَفَ َس قُوا فِيهَ ا فَ َح َّ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا أَ َر ْدنَ ا أَ ْن نُ ْهلِ َ‬
‫فَ َد َّمرْ نَاهَا تَ ْد ِميراً﴾ (االسراء‪)16:‬‬
‫ولفظ (األمر) الذي ورد في اآلية يحتم ل مع اني كث يرة‪ ،‬وق ع بس ببه الخالف‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.3/73:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.3/74:‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.3/74:‬‬
‫‪ )(4‬إحياء علوم الدين‪.3/74:‬‬
‫‪ )(5‬تحفة المودود‪.241 :‬‬

‫‪302‬‬
‫بين المفس رين‪ ،‬ون رى أن معن يين من المع اني ل ه عالق ة بس نة هللا في إهالك‬
‫المجتمعات المترفة‪:‬‬
‫األول‪ :‬معنى (أمرنا) أكثرنا(‪ ،)1‬أي أكثرنا المترفين‪ ،‬بحيث يصبح غالبا على‬
‫القرى‪ ،‬أو يصبح هو األصل في المجتمع‪،‬فذلك مؤذن بهالكها‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬معنى (أمرنا) أ َّمرنا‪ ،‬قال ابن جرير (يحتمل أن يكون معن اه جعلن اهم‬
‫أمراء)‪ ،‬وهذا يستقيم على قراءة من قرأ ﴿ أ َّمرنا مترفيها ﴾‪ ،‬وقد يدل لهذا القول قول‬
‫ابن عب اس في اآلي ة‪(:‬س لطنا أش رارها فعص وا فيه ا‪ ،‬ف إذا فعل وا ذل ك أهلكهم هّللا‬
‫بالع ذاب‪ ،‬وي دل له ذا قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َك َذلِكَ َج َع ْلنَ ا فِي ُك لِّ قَرْ يَ ٍة أَ َك ابِ َر ُمجْ ِر ِميهَ ا‬
‫لِيَ ْم ُكرُوا فِيهَا َو َما يَ ْم ُكرُونَ إِاَّل بِأ َ ْنفُ ِس ِه ْم َو َما يَ ْش ُعرُونَ ﴾ (األنعام‪)123:‬‬
‫وتأمل ما حصل في تاريخ اإلسالم من سقوط الدول المختلفة يبين أن لل ترف‬
‫االجتماعي‪ ،‬أو ترف المسؤولين سببا كبيرا مباشرا‪ ،‬وال يتسع المقام ل ذكر الش واهد‬
‫هنا‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يعتبر المترفين أكبر عقبة في طريق كل إصالح‪ ،‬ب ل هم أول‬
‫من يقف في وجه الرسل ـ صلوات هللا وسالمه عليهم ـ‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬فَلَوْ ال َك انَ ِمنَ‬
‫ض إِاَّل قَلِيالً ِم َّم ْن أَ ْن َج ْينَ ا ِم ْنهُ ْم‬ ‫ُ‬
‫ُون ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم أولُو بَقِيَّ ٍة يَ ْنهَ وْ نَ ع َِن ْالفَ َس ا ِد فِي اأْل َرْ ِ‬‫ْالقُر ِ‬
‫ُ‬
‫َواتَّبَ َع الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا َما أ ْت ِرفُوا فِي ِه َو َكانُوا ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ (هود‪)116:‬‬
‫وأخبر عن أس لوب الم ترفين في ال رد على المرس لين‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وقَ ا َل‬
‫ْال َمأَل ُ ِم ْن قَوْ ِم ِه الَّ ِذينَ َكفَرُوا َو َك َّذبُوا بِلِقَا ِء اآْل ِخ َر ِة َوأَ ْت َر ْفنَاهُ ْم فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َم ا هَ َذا‬
‫إِاَّل بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يَأْ ُك ُل ِم َّما تَأْ ُكلُونَ ِم ْنهُ َويَ ْش َربُ ِم َّما تَ ْش َربُونَ ﴾ (المؤمن ون‪ ،)33:‬وق ال‬
‫ال ُم ْت َرفُوهَا إِنَّا بِ َما أُرْ ِس ْلتُ ْم بِ ِه َك افِرُونَ ﴾‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬و َما أَرْ َس ْلنَا فِي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَ ِذ ٍ‬
‫ير إِاَّل قَ َ‬
‫ير إِاَّل قَ ا َل‬ ‫ك َم ا أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ كَ فِي قَرْ يَ ٍة ِم ْن نَ ِذ ٍ‬ ‫(سـبأ‪ ،)34:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َك َذلِ َ‬
‫ار ِه ْم ُم ْقتَ ُدونَ ﴾ (الزخرف‪)23:‬‬ ‫ُ‬
‫ُم ْت َرفُوهَا إِنَّا َو َج ْدنَا آبَا َءنَا َعلَى أ َّم ٍة َوإِنَّا َعلَى آثَ ِ‬
‫والقرآن الكريم في األخير يذكر المص ير ال ذي يئ ول إلي ه الم ترفون فيق ول‪:‬‬
‫ب إِ َذا هُ ْم يَجْ أَرُونَ ﴾ (المؤمنون‪ ،)64:‬وقال تع الى‪﴿ :‬‬ ‫خَذنَا ُم ْت َرفِي ِه ْم بِ ْال َع َذا ِ‬
‫﴿ َحتَّى إِ َذا أَ ْ‬
‫ض وا َوارْ ِج ُع وا‬ ‫ك ُم ْت َرفِينَ ﴾ (الواقعة‪ ،)45:‬وقال تع الى‪) ﴿ :‬ال تَرْ ُك ُ‬ ‫إِنَّهُ ْم َكانُوا قَب َْل َذلِ َ‬
‫إِلَى َما أُ ْت ِر ْفتُ ْم فِي ِه َو َم َسا ِكنِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تُسْأَلُونَ ﴾ (االنبياء‪)13:‬‬
‫ولهذه الخطورة التي تكمن في الترف على حياة األفراد والمجتمعات كان ‪‬‬
‫يخشى على أمته عواقب الترف‪ ،‬قال ‪(:‬أخوف ما أخاف عليكم م ا يخ رج هللا لكم‬
‫من زهرة الدنيا)‪ ،‬قالوا‪ :‬وما زهرة الدنيا؟ قال‪(:‬بركات األرض) وذكر الحديث(‪.)2‬‬
‫‪ )(1‬وهو قول قتادة والحسن‪ ،‬قال ابن مسعود‪ :‬كنا نقول في الجاهلية للحي إذا ك ثروا‪ :‬أم ر أم ر ب ني فالن؛ ق ال‬
‫لبيد‪:‬‬
‫كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد‬
‫إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد‬
‫وفي حديث هرقل الحديث الصحيح‪ (:‬لقد أ ِمر أ ْم ُر ابن أبي كبشة‪ ،‬إنه ليخافه ملك بني األصفر ) أي كثر‪.‬‬
‫وقد أنكر هذ التفسير الكسائي وقال‪ :‬ال يقال من الكثرة إال آمرنا بالمد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫وعن دما ق دم أب و عبي دة بن الج راح بم ال من البح رين‪ ،‬وس معت األنص ار‬
‫بقدومه وافوا صالة الفجر مع َر ُس ول هَّللا ِ ‪ ،‬فلم ا ص لى َر ُس ول هَّللا ِ ‪ ‬انص رفوا‬
‫فتعرضوا له فتبسم َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬حين رآهم ثم قال‪(:‬أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة ق دم‬
‫بشيء من البحرين؟) فقالوا‪ :‬أجل يا َرسُول هَّللا ِ‪ .‬فقال ‪ِ ‬‬
‫‪(:‬أبشرُوا وأ ِّملُوا ما يَسُرُّ كم‪،‬‬
‫فوهللا ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من‬
‫كان قبلكم‪ ،‬فتنافسوها كما تنافسوها‪ ،‬فتهلككم كما أهلكتهم)(‪)1‬‬
‫وق ال أب و س عيد الخ دري ‪ :‬جلس َر ُس ول هَّللا ِ ‪ ‬على المن بر وجلس نا حول ه‬
‫فقال‪(:‬إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)(‪)2‬‬
‫وقال ‪(:‬الدنيا حل وة خض رة‪ ،‬وإن هَّللا تع الى مس تخلفكم فيه ا فينظ ر كي ف‬
‫تعملون؟ فاتقوا الدنيا‪ ،‬واتقوا النساء)(‪ ،)3‬وق ال ‪(:‬إن لك ل أم ة فتن ة وفتن ة أم تي‬
‫المال)(‪)4‬‬
‫وكان ‪ ‬نموذج الزاهد في الدنيا الراغب فيما عند هللا‪ ،‬وكان يق ول‪(:‬اللهم ال‬
‫عيش إال عيش اآلخرة)(‪ ،)5‬وعن أبي ذر ق ال‪ :‬كنت أمش ي م ع الن بي ‪ ‬في ح رة‬
‫المدينة فاستقبلنا أحد فقال‪(:‬يا أبا ذر) قلت‪ :‬لبيك ي ا َر ُس ول هَّللا ِ‪ .‬ق ال‪(:‬م ا يس رني أن‬
‫عندي مثل أحد هذا ذهبا ً تمضي علي ثالثة أيام وعندي منه دينار إال ش يء أرص ده‬
‫لدين إال أن أقول به في عب اد هَّللا هك ذا وهك ذا وهك ذا) عن يمين ه وعن ش ماله ومن‬
‫خلفه‪ .‬ثم سار فقال‪(:‬إن األك ثرين هم األقل ون ي وم القيام ة إال من ق ال هك ذا وهك ذا‬
‫وهكذا) عن يمينه وعن شماله وعن خلفه (وقليل ما هم) الحديث(‪)6‬‬
‫أما حياته ‪ ‬فيصفها عمر‪ ،‬فيقول‪ ،‬وقد ذكر ما أصاب الناس من ال دنيا‪(:‬لق د‬
‫رسُول هَّللا ِ ‪ ‬يظل اليوم يلتوي‪ ،‬ما يجد من الدقل(‪ )7‬ما يمأل به بطنه)(‪)8‬‬ ‫رأيت َ‬
‫ويصف تركت ه عم رو بن الح ارث أخ و جويري ة بنت الح ارث أم المؤم نين‬
‫فيقول‪(:‬ما ترك َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬عند موت ه دين اراً‪ ،‬وال درهم ا ً وال عب داً وال أم ة وال‬
‫شيئاً‪ ،‬إال بغلته البيض اء ال تي ك ان يركبه ا‪ ،‬وس الحه‪ ،‬وأرض ا ً جعله ا البن الس بيل‬
‫صدقة)(‪)9‬‬
‫وتصف عائشة حياتها معه ‪ ،‬وكيف كانوا يعيشون‪ ،‬فتقول‪(:‬ت وفي َر ُس ول‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه التِّر ِم ِذيُّ َوقَ َ‬
‫ال َح ِد ٌ‬
‫يث َح َسنٌ صحيح‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(7‬رديء التمر‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه ُمسلِ ٌم‪.‬‬
‫‪ )(9‬رواه البُخَ ِ‬
‫اريُّ ‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫هَّللا ِ ‪ ‬وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إال ش طر ش عير(‪ )1‬في رف لي ف أكلت من ه‬
‫حتى طال علي فكلته ففني) (‪ ،)2‬وقالت‪(:‬ما شبع آل محمد ‪ ‬من خبز شعير يومين‬
‫متتابعين حتى قبض) (‪ ،)3‬وفي رواية‪(:‬م ا ش بع آل محم د ‪ ‬من ذ ق دم المدين ة من‬
‫طعام البر ثالث ليال تباعا ً حتى قبض)‪ ،‬وكانت تقول البن أختها عروة‪(:‬وهللا يا ابن‬
‫أختي إن كنا لننظر إلى الهالل ثم الهالل ثم الهالل‪ :‬ثالثة أهلة في شهرين وما أوق د‬
‫في أبيات َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬نار)‪ ،‬ق ال‪ :‬ي ا خال ة فم ا ك ان يعيش كم؟ ق الت‪(:‬األس ودان‪:‬‬
‫التمر والماء‪ ،‬إال أنه قد كان ل َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬جيران من األنص ار وك انت لهم من ائح‬
‫رسُول هَّللا ِ ‪ ‬من ألبانها فيسقينا)(‪)4‬‬ ‫وكانوا يرسلون إلى َ‬
‫هَّللا‬
‫ويتأثر الصحابة لحاله‪ ،‬فيطلبون إصالحها‪ ،‬فيقول ـ كم ا ي روي عب د ابن‬
‫مسعود‪ ،‬قال‪ :‬نام َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬على حصير فقام وقد أثر في جنبه‪ .‬قلن ا‪ :‬ي ا َر ُس ول‬
‫هَّللا ِ لو اتخذنا لك وطاء‪ ،‬فق ال‪(:‬م ا لي ولل دنيا! م ا أن ا في ال دنيا إال ك راكب اس تظل‬
‫تحت شجرة ثم راح وتركها)(‪)5‬‬
‫وكان ‪ ‬يزهد أصحابه في الدنيا مذكرا لهم بمصيرها‪ ،‬وبحقيقة ما يظفر ب ه‬
‫اإلنسان منها‪ ،‬قال ‪(:‬يتبع الميت ثالثة‪ :‬أهل ه ومال ه وعمل ه؛ ف يرجع اثن ان ويبقى‬
‫واحد‪ :‬يرجع أهله وماله‪ ،‬ويبقى عمله)(‪ ،)6‬وقال ‪(:‬يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل‬
‫النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة‪ ،‬ثم يق ال‪ :‬ي ا ابن آدم ه ل رأيت خ يراً ق ط‪،‬‬
‫هل مر بك نعيم قط؟ فيقول‪ :‬ال وهللا يا رب! ويؤتى بأشد الن اس بؤس ا ً في ال دنيا من‬
‫أهل الجنة فيصبغ في الجنة فيقال له‪ :‬يا ابن آدم هل رأيت بؤسا ً قط‪ ،‬هل مر بك شدة‬
‫قط؟ فيقول‪ :‬ال وهللا ما مر بي بؤس قط‪ ،‬وال رأيت شدة قط)(‪)7‬‬
‫ويقارن لهم زهرة الدنيا وترفها باآلخرة‪ ،‬فيقول‪(:‬ما الدنيا في اآلخرة إال مث ل‬
‫ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)(‪)8‬‬
‫ت‪ ،‬فتناوله فأخذ‬ ‫ك(‪َ )10‬ميِّ ٍ‬ ‫ي أَ َس َّ‬
‫ويمر ‪ ‬بالسوق والناس َكنَفَتَ ْي ِه(‪ ،)9‬فمر بِ َج ْد ٍ‬
‫بأذنه ثم قال‪(:‬أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟) فقالوا‪ :‬ما نحب أنه لنا بشيء وما نص نع‬
‫ك فكي ف وه و‬ ‫به؟ قال‪(:‬أتحبون أنه لكم؟) قالوا‪ :‬وهللا لو كان حيا ً ك ان عيب ا ً أن ه أَ َس ّ‬

‫‪ )(1‬أي شيء من شعير‪ .‬كذا فسره الترمذي‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه التِّر ِم ِذيُّ َوقَ َ‬
‫ال‪َ :‬ح ِد ٌ‬
‫يث َح َسنٌ صحيح‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه ُمسلِ ٌم‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه ُمسلِ ٌم‪.‬‬
‫‪ )(9‬أي عن جانبيه‪.‬‬
‫‪ )(10‬الصغير األذن‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫ميت! فقال‪(:‬فوهللا للدنيا أهون على هَّللا من هذا عليكم)‬
‫وقد اعتبر ‪ ‬الم ترف عب دا لترف ه‪ ،‬فق ال ‪(: ‬تعس عب د ال دينار وال درهم‬
‫والقطيفة والخميصة! إن أعطي رضي‪ ،‬وإن لم يعط لم يرض)(‪)1‬‬
‫وكان ‪ ‬يحدد لهم مواضع الحاجات ح تى ال تمت د أعينهم إلى م ا زاد عليه ا‬
‫من أن واع ال ترف‪ ،‬فيق ول ‪(:‬ليس البن آدم ح ق في س وى ه ذه الخص ال‪ :‬بيت‬
‫يسكنه‪ ،‬وثوب يواري عورته‪ ،‬وجلف الخبز والماء)(‪)2‬‬
‫وفسر ‪ ﴿ :‬أَ ْلهَا ُك ُم التَّ َكاثُرُ﴾ (التك اثر‪ ،)1:‬فق ال‪(:‬يق ول ابن آدم‪ :‬م الي م الي!‬
‫وه ل ل ك ي ا ابن آدم من مال ك إال م ا أكلت ف أفنيت‪ ،‬أو لبس ت ف أبليت‪ ،‬أو تص دقت‬
‫فأمضيت؟)(‪)3‬‬
‫فهذه النصوص الكث يرة ت بين ع واقب ال ترف وخطورت ه‪ ،‬وكم االت القناع ة‬
‫والزه د‪ ،‬ألن األعم ال العظيم ة ال يق وم به ا إال من تخلص من عبوديت ه لل دينار‬
‫والدرهم والخميصة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ خدمة المجتمع‬
‫وهي األصل الثالث من أص ول المس اهمة في تنمي ة المجتم ع‪ ،‬وهي الناحي ة‬
‫اإليجابية من تلك األص ول‪ ،‬ألن م ا س بق من األص ول تقتص ر عالقت ه ب الفرد من‬
‫حيث وقايته المجتمع مما قد يصدر عنه من أذى‪.‬‬
‫أما هذا األصل‪ ،‬فهو ينظر إلى ما يقدم هذا الفرد للمجتمع من خدمات‪ ،‬فيقاس‬
‫كماله بعظم الخدمات التي يقدمها‪.‬‬
‫ُ‬
‫وإلى هذا األصل اإلشارة بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َّما َو َر َد َما َء َم ْديَنَ َو َج َد َعلَ ْي ِه أ َّمةً‬
‫ال َم ا ْ‬
‫خَطبُ ُك َم ا قَالَتَ ا ال ن َْس قِي‬ ‫اس يَ ْسقُونَ َو َو َج َد ِم ْن دُونِ ِه ُم ا ْم َرأَتَي ِْن تَ ُذودَا ِن قَ َ‬ ‫ِمنَ النَّ ِ‬
‫َحتَّى يُصْ ِد َر ال ِّرعَا ُء َوأَبُونَا َش ْي ٌخ َكبِ ي ٌر فَ َس قَى لَهُ َم ا ثُ َّم تَ َولَّى إِلَى الظِّ ِّل فَقَ ا َل َربِّ إِنِّي‬
‫ي ِم ْن َخي ٍْر فَقِيرٌ﴾ (القصص‪ 23:‬ـ ‪)24‬‬ ‫لِ َما أَ ْن َز ْلتَ إِلَ َّ‬
‫فهذا موقف بس يط‪ ،‬ولكن ه ي دل على نفس طيب ة ص احبة م روءة عالي ة‪ ،‬لق د‬
‫انتهى بموسى ‪ ‬السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين‪( .‬وص ل إلي ه وه و مجه ود‬
‫مك دود‪ ،‬وإذا ه و يطل ع على مش هد ال تس تريح إلي ه النفس ذات الم روءة‪ ،‬الس ليمة‬
‫الفطرة‪ ،‬كنفس موسى ‪ ‬وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء ؛‬
‫ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهم ا عن ورود الم اء‪ .‬واألولى عن د ذوي الم روءة‬
‫والفط رة الس ليمة‪ ،‬أن تس قي المرأت ان وتص درا بأغنامهم ا أوال‪ ،‬وأن يفس ح لهم ا‬
‫الرجال ويعينوهما‪.‬‬
‫ولم يقعد موسى الهارب المطارد‪ ،‬المس افر المك دود‪ ،‬ليس تريح‪ ،‬وه و يش هد‬
‫ه ذا المنظ ر المنك ر المخ الف للمع روف‪ .‬ب ل تق دم للم رأتين يس ألهما عن أمرهم ا‬

‫‪ )(1‬رواه البُخَ ِ‬
‫اريُّ ‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه التِّر ِم ِذيُّ وقال‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ُمسلِ ٌم‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫الغريب‪ :‬قال‪:‬ما خطبكما؟ ‪ .‬قالتا‪:‬ال نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ‪..‬‬
‫فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهم ا عن ال ورود‪ .‬إن ه‬
‫الضعف‪ ،‬فهما امرأت ان وه ؤالء الرع اة رج ال‪ .‬وأبوهم ا ش يخ كب ير ال يق در على‬
‫الرعي ومجالدة الرجال! وثارت نخوة موسى ‪ ‬وفطرت ه الس ليمة‪ .‬فتق دم إلق رار‬
‫األم ر في نص ابه‪ .‬تق دم ليس قي للم رأتين أوال‪ ،‬كم ا ينبغي أن يفع ل الرج ال ذوو‬
‫الشهامة‪ .‬وهو غريب في أرض ال يعرفها‪ ،‬وال سند له فيها وال ظهير‪ .‬وه و مك دود‬
‫قادم من سفر طويل بال زاد وال استعداد‪ .‬وهو مطارد‪ ،‬من خلفه اعداء ال يرحم ون‪.‬‬
‫ولكن هذا كله ال يقع د ب ه عن تلبي ة دواعي الم روءة والنج دة والمع روف‪ ،‬وإق رار‬
‫الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس)(‪)1‬‬
‫وإلى هذا األصل اإلشارة ـ كذلك ـ بقول ه تع الى في وص ف نبين ا محم د ‪:‬‬
‫﴿ َودَا ِعيا ً إِلَى هَّللا ِ بِإِ ْذنِ ِه َو ِس َراجا ً ُمنِيراً﴾ (األحزاب‪ ،)46:‬فقد اعتبر تع الى محم دا ‪‬‬
‫سراجا منيرا للخلق‪ ،‬فهو ش مس أرواح الخالئ ق‪ ،‬ون ور قل وبهم‪ ،‬وأي خدم ة أعظم‬
‫من هذه‪.‬‬
‫وهي خدمة أو خدمات تنطلق من رحم ة عظيم ة يمتلئ به ا قلب ه ‪ ‬ألمت ه‪،‬‬
‫َزي ٌز َعلَ ْي ِه َم ا َعنِتُّ ْم َح ِريصٌ َعلَ ْي ُك ْم‬ ‫ق ال تع الى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َج ا َء ُك ْم َر ُس و ٌل ِم ْن أَ ْنفُ ِس ُك ْم ع ِ‬
‫ُوف َر ِحي ٌم﴾ (التوبة‪)128:‬‬ ‫بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َرؤ ٌ‬
‫بل كان ‪ ‬في حرصه على حصول الخير للخلق أنه يك اد يقت ل نفس ه حزن ا‬
‫على إعراض هم عن هللا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬قَ ْد نَ ْعلَ ُم إِنَّهُ لَيَحْ ُزنُ كَ الَّ ِذي يَقُولُ ونَ فَ إِنَّهُ ْم ال‬
‫ت هَّللا ِ يَجْ َح ُدونَ ﴾ (األنعام‪ ،)33:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬فَال ت َْذهَبْ‬ ‫ك َولَ ِك َّن الظَّالِ ِمينَ بِآيَا ِ‬ ‫يُ َك ِّذبُونَ َ‬
‫ص نَعُونَ ﴾ (ف اطر‪ ،)8:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَلَ َعلَّكَ‬ ‫ت إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم بِ َم ا يَ ْ‬‫نَ ْفسُكَ َعلَ ْي ِه ْم َح َس َرا ٍ‬
‫ث أَ َسفاً﴾ (الكهف‪ ،)6 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬‬ ‫ار ِه ْم إِ ْن لَ ْم ي ُْؤ ِمنُوا بِهَ َذا ْال َح ِدي ِ‬ ‫ك َعلَى آثَ ِ‬ ‫بَا ِخ ٌع نَ ْف َس َ‬
‫ك أَاَّل يَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (الشعراء‪)3:‬‬ ‫لَ َعلَّكَ بَا ِخ ٌع نَ ْف َس َ‬
‫ْض هُ ْم أَوْ لِيَ ا ُء‬ ‫وإليه اإلشارة ـ كذلك ـ بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ْال ُم ْؤ ِمنُونَ َو ْال ُم ْؤ ِمن ُ‬
‫َات بَع ُ‬
‫ْض ﴾ (التوبة‪ )71:‬أي يتناصرون ويتعاضدون ويخدم بعضهم بعضا‪.‬‬ ‫بَع ٍ‬
‫هَّللا‬ ‫ٌ‬
‫وق ال تع الى واص فا من اس تحق معي ة رس ول هللا ‪ُ ﴿ :‬م َح َّمد َر ُس و ُل ِ‬
‫ار ُر َح َما ُء بَ ْينَهُ ْم ﴾(الفتح‪)29:‬‬ ‫َوالَّ ِذينَ َم َعهُ أَ ِش َّدا ُء َعلَى ْال ُكفَّ ِ‬
‫أما من السنة‪ ،‬فقد قال ‪(:‬مثل المؤم نين في ت وادهم وت راحمهم وتواص لهم‬
‫بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد ب الحمى والس هر)‬
‫(‪ ،)2‬وقال ‪(:‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وش بك بين أص ابعه(‪،)3‬‬
‫وقال ‪(:‬والذي نفسي بيده ال ي ؤمن أح دكم ح تى يحب ألخي ه من الخ ير م ا يحب‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.2686 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫لنفسه)(‪.)1‬‬
‫وق د ظه ر في المجتمع ات اإلس المية من يهتم به ذا الج انب‪ ،‬ويولي ه العناي ة‬
‫الخاصة‪ ،‬كما ظهر من يهتم بكل جانب من جوانب الدين ويختص فيه‪.‬‬
‫وق د أطل ق على ه ؤالء المهتمين به ذا الج انب لقب (الفتي ان)‪ ،‬وأطل ق على‬
‫سلوكهم (الفتوة)‪ ،‬ولعل ه ذا االص طالح ناش ئ من أن أك ثر من يتخص ص في ه ذا‬
‫الجانب يكون من الفتيان والشباب(‪ ،)2‬كما نج د في وقتن ا أك ثر من ينتس ب للكش افة‬
‫من الشباب واألحداث‪.‬‬
‫وقد ع رف ابن القيم (الفت وة) باعتباره ا م نزال من من ازل الس ائرين‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(حقيقتها هي منزلة اإلحس ان إلى الن اس‪ ،‬وك ف األذى عنهم‪ ،‬واحتم ال أذاهم‪ ،‬فهي‬
‫استعمال حسن الخلق معهم‪ ،‬فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله)(‪)3‬‬
‫وعرفها السبكي‪ ،‬فقال‪(:‬والفتوة من أعظم خصال الخير جامعة كمال المروءة‬
‫وحسن الخلق واإليثار على النفس واحتمال األذى وبذل الندى وطالقة الوجه والقوة‬
‫على ذلك‪ ،‬حتى تكون فتوته على ذل ك فت وة الفتي ان والص فح عن الع ثرات ويك ون‬
‫خصما لربه على نفسه وينص ف من نفس ه وال ينتص ف وال ين ازع فق يرا وال غني ا‬
‫ويس توي عن ده الم دح وال ذم وال دعاء والط رد وال يحتجب وال ي دخر وال يعت ذر‬
‫ويظهر النعمة ويحقق المحبة سرا وعلنا فإذا قوي على ذلك فه و الف تى وإذا اجتم ع‬
‫قوم على ذلك وتعاهدوا عليه فنعم ما هو)(‪)4‬‬
‫وهي قريبة من المروءة‪ ،‬وإن كان (المروءة) أعم منها‪ ،‬ألنه ا ـ كم ا يعرفه ا‬
‫ابن القيم ـ (استعمال م ا يجم ل وي زين مم ا ه و مختص بالعب د أو متع د إلى غ يره‪،‬‬
‫وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به أو متعلق بغيره)(‪)5‬‬
‫و (الفت وة) به ذا االس م لم ي رد ذكره ا في الق رآن الك ريم‪ ،‬وال في الس نة‬
‫المطهرة‪ ،‬وال حرج في ذلك‪ ،‬فكثير من المص طلحات ح دثت في األم ة بع د عص ر‬
‫الرسالة‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬وهذه منزلة شريفة لم تعبر عنها الش ريعة باس م الفت وة‪ ،‬ب ل‬
‫عبرت عنها باسم مكارم األخالق‪..‬فاسم الف تى ال يش عر بم دح وال ذم كاس م الش اب‬
‫والحدث‪ ،‬ولذلك لم يجىء اسم الفتوة في الق رآن وال في الس نة وال في لس ان الس لف‬
‫وإنما استعمله من بعدهم في مكارم األخالق‪ ..‬وأصلها عندهم أن يكون العبد أبدا في‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬اتفق المتحدثون على الفتوة على أن أصلها من الفتى‪ ،‬وه و الش اب الح ديث الس ن‪ ،‬ق ال هللا تع الى عن أه ل‬
‫الكهف‪ ﴿ :‬إِنَّهُ ْم فِ ْتيَةٌ آ َمنُوا ِب َربِّ ِه ْم َو ِز ْدنَاهُ ْم هُدىً ﴾ (الكهف‪ ،)13:‬وق ال عن ق وم إب راهيم ‪ ‬إنهم ق الوا‪َ ﴿ :‬س ِم ْعنَا فَ ً‬
‫تى‬
‫ان﴾ (يوس ف‪،)36:‬‬ ‫يَ ْذ ُك ُرهُ ْم يُقَا ُل لَهُ إِب َْرا ِهي ُم﴾ (االنبياء‪ ،)60:‬وق ال تع الى عن يوس ف ‪َ ﴿ :‬و َدخَ َل َم َع هُ ِّ‬
‫الس جْ نَ فَتَيَ ِ‬
‫ال لِفِ ْتيَانِ ِه اجْ َعلُوا بِ َ‬
‫ضا َعتَهُ ْم فِي ِر َحالِ ِه ْم﴾ (يوسف‪)62:‬‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين‪.2/340:‬‬
‫‪ )(4‬فتاوى السبكي‪.2/548 :‬‬
‫‪ )(5‬مدارج السالكين‪.2/340:‬‬

‫‪308‬‬
‫غيره)(‪)1‬‬ ‫أمر‬
‫وال ضير في كل هذا‪ ،‬ألن الشرع ال ينهى عما يتعارف عليه الناس من صيغ‬
‫التعبير‪ ،‬وإنما ينهى عن إدخال ما ليس من الدين في الدين‪ ،‬ولع ل ه ؤالء اض طروا‬
‫إلى ه ذا االص طالح‪ ،‬لع دم ورود م ا ي دل علي ه منفص ال عن غ يره‪ ،‬ألن مك ارم‬
‫األخالق شاملة‪ ،‬ال تختص بخدمة الغير فقط‪.‬‬
‫وق د ذك ر ابن القيم أن أق دم من تكلم في الفت وة اإلم ام جعف ر الص ادق‪ ،‬ثم‬
‫الفضيل بن عياض واإلم ام أحم د وس هل بن عبدهللا والجني د ثم الطائف ة‪ ،‬ف ذكر عن‬
‫اإلمام جعفر الصادق أن ه س ئل عن الفت وة فق ال للس ائل‪(:‬م ا تق ول أنت؟) فق ال‪(:‬إن‬
‫أعطيت شكرت وإن منعت صبرت)‪ ،‬فقال‪(:‬الكالب عندنا كذلك)‪ ،‬فق ال الس ائل‪(:‬ي ا‬
‫ابن رسول هللا ‪ ‬فما الفتوة عندكم؟)‪ ،‬فقال‪(:‬إن أعطينا آثرنا‪ ،‬وإن منعنا شكرنا)‬
‫وقال الفضيل بن عياض ‪(:‬الفتوة الصفح عن عثرات اإلخوان)‪ ،‬وق ال اإلم ام‬
‫أحمد‪ ،‬وقد سئل عن الفتوة‪(:‬ت رك م ا ته وى لم ا تخش ى)‪ ،‬وس ئل الجني د عن الفت وة‬
‫فقال‪(:‬ال تنافر فقيرا وال تعارض غنيا)‪ ،‬وقال الحارث المحاسبي‪(:‬الفتوة أن تنص ف‬
‫وال تنتصف)‪ ،‬وقال عمر بن عثمان المكي‪(:‬الفتوة حسن الخلق)‬
‫ويعبر الدقاق عن كمال الفتوة‪ ،‬فيقول‪(:‬هذا الخلق ال يك ون كمال ه إال لرس ول‬
‫هللا ‪ ،‬فإن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي‪ ،‬وهو يقول أمتي أمتي)(‪)2‬‬
‫وعرف صاحب المنازل منبع الفتوة وأصلها‪ ،‬فق ال‪(:‬أن ال تش هد ل ك فض ال‪،‬‬
‫وال ترى لك حقا)‪ ،‬وقد ش رحه ابن القيم بقول ه‪(:‬قلب الفت وة وإنس ان عينه ا أن تف نى‬
‫بشهادة نقصك وعيب ك عن فض لك وتغيب بش هادة حق وق الخل ق علي ك عن ش هادة‬
‫حقوقك عليهم)(‪)3‬‬
‫والحكايات والقصص ال ورادة عن ه ؤالء الفتي ان ت برز ناحي ة مهم ة‪ ،‬وهي‬
‫التنافس على األخالق العالية النبيلة‪ ،‬ووجود التنافس على الخير في المجتم ع يرف ع‬
‫المجتمع إلى آفاق عالية من التحضر‪ ،‬وله ذا م ر المجتم ع اإلس المي بف ترات يك اد‬
‫يعدم فيها الفقر لكثرة من يتنافس على الرحمة بالفقراء وخدمتهم‪.‬‬
‫ومن تلك الحكايات‪ ،‬وهي متعلقة بجانب من الفتوة‪ ،‬وهو التغاف ل عن عي وب‬
‫الغ ير وأخط ائهم‪ ،‬أن رجال من الفتي ان ت زوج ام رأة‪ ،‬فلم ا دخلت علي ه رأى به ا‬
‫الجدري‪ ،‬فقال‪ :‬اشتكيت عيني‪ ،‬ثم قال‪ :‬عميت‪ ،‬فبع د عش رين س نة م اتت‪ ،‬ولم تعلم‬
‫أنه بصير‪ ،‬فقيل له في ذلك‪ ،‬فق ال‪(:‬ك رهت أن يحزنه ا رؤي تي لم ا به ا)‪ ،‬فقي ل ل ه‪:‬‬
‫(سبقت الفتيان)‬
‫ومثل ذلك أن امرأة سألت حاتما عن مسألة‪ ،‬فاتفق أنه خرج منه ا ص وت في‬
‫تلك الحالة‪ ،‬فخجلت‪ ،‬فقال حاتم‪(:‬ارفعي صوتك)‪ ،‬فأوهمها أنه أصم‪ ،‬فس رت الم رأة‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/340:‬‬
‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/342:‬‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين‪.2/343:‬‬

‫‪309‬‬
‫بذلك‪ ،‬وقالت‪(:‬إنه لم يسمع الصوت) فلقب بحاتم األصم‪.‬‬
‫واستضاف رجل جماعة من الفتيان‪ ،‬فلما فرغوا من الطع ام خ رجت جاري ة‬
‫تص ب الم اء على أي ديهم‪ ،‬ف انقبض واح د منهم‪ ،‬وق ال‪(:‬ليس من الفت وة أن تص ب‬
‫النسوان الماء على أي دي الرج ال) فق ال آخ ر منهم‪(:‬أن ا من ذ س نين أدخ ل إلى ه ذه‬
‫الدار‪ ،‬ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجال)‬
‫وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى‪ ،‬فقال الرجل‪(:‬يا غالم قدم الس فرة)‪ ،‬فلم يق دم‪،‬‬
‫فقاله ا ثانياوثالث ا فلم يق دم‪ ،‬فنظ ر بعض هم إلى بعض‪ ،‬وق الوا‪(:‬ليس من الفت وة أن‬
‫يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا)‪ ،‬فقال الرجل‪(:‬لم أبطأت‬
‫بالسفرة)‪ ،‬فقال الغالم‪(:‬كان عليها نمل‪ ،‬فلم يكن من األدب تقديم الس فرة إلى الفتي ان‬
‫م ع النم ل‪ ،‬ولم يكن من الفت وة إلق اء النم ل وط ردهم عن ال زاد‪ ،‬فلبثت ح تى دب‬
‫النمل)‪ ،‬فقالوا‪(:‬يا غالم مثلك يخدم الفتيان)‬
‫قال ابن القيم‪(:‬ومن الفتوة التي ال تلحق م ا ي ذكر أن رجال ن ام من الح اج في‬
‫المدينة‪ ،‬ففقد هميانا فيه ألف دينار‪ ،‬فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد‪ ،‬فعلق به وق ال‪:‬‬
‫(أخذت همياني)‪ ،‬فقال‪(:‬أي شيء كان فيه؟)‪ ،‬قال‪(:‬ألف دينار)‪ ،‬فأدخله داره‪ ،‬ووزن‬
‫له ألف دينار‪ ،‬ثم إن الرجل وجد هميانه‪ ،‬فجاء إلى جعف ر معت ذرا بالم ال‪ ،‬ف أبى أن‬
‫يقبله منه‪ ،‬وقال‪(:‬شيء أخرجته من يدي ال أس ترده أب دا)‪ ،‬فق ال الرج ل للن اس‪(:‬من‬
‫هذا؟)‪ ،‬فقالوا‪(:‬هذا جعفر بن محمد )(‪)1‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن النصوص الكثيرة ت دل على أن ه ذا األص ل يق وم على‬
‫ثالثة أركان ال غنى ألحدها عن اآلخر‪ ،‬هي‪ :‬التكافل‪ ،‬والتناصح‪ ،‬والتناصر‪.‬‬
‫ووجه الحصر فيها‪ :‬أن الم ؤمن إم ا أن يك ون محتاج ا‪ ،‬فيع ان‪ ،‬أو ج اهال أو‬
‫منحرفا‪ ،‬فيعلم وينصح‪ ،‬أومظلوما‪ ،‬فينصر‪.‬‬
‫وكل ما عدا هذه الثالثة يدخل فيها بوجه من الوج وه‪ ،‬ول ذلك س نتحدث عنه ا‬
‫هنا باختص ار مش يرين إلى اهتم ام الش رع به ا‪ ،‬أم ا كيفي ات تنفي ذها‪ ،‬فله ا محاله ا‬
‫الخاصة بها‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬‫َ‬
‫وقد يشير إلى هذه األركان الثالثة مجتمعة قوله تعالى‪ ﴿ :‬ف اقت ََح َم ال َعقبَة َو َما‬
‫أَ ْد َراكَ َما ْال َعقَبَةُ فَ ُّك َرقَبَ ٍة أَوْ إِ ْ‬
‫ط َعا ٌم فِي يَوْ ٍم ِذي َم ْس َغبَ ٍة يَتِيم ا ً َذا َم ْق َربَ ٍة أَوْ ِم ْس ِكينا ً َذا‬
‫اص وْ ا بِ ْال َمرْ َح َم ِة﴾ (البل د‪ 11:‬ـ‬ ‫اص وْ ا بِ َّ‬
‫الص ب ِْر َوت ََو َ‬ ‫َم ْت َربَ ٍة ثُ َّم َكانَ ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوتَ َو َ‬
‫‪)17‬‬
‫فقوله تعالى‪ ﴿ :‬فك َرقبَ ٍة ﴾ يشير إلى النصرة‪ ،‬ألن أعظم نصر للم ؤمن ألخي ه‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫أن يفك رقبته من قيد من استعبده‪.‬‬
‫وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬أَوْ إِ ْ‬
‫ط َع ا ٌم فِي يَ وْ ٍم ِذي َم ْس َغبَ ٍة يَتِيم ا ً َذا َم ْق َربَ ٍة أَوْ ِم ْس ِكينا ً ذاَ‬
‫َم ْت َربَ ٍة ﴾ يشير إلى ركن التكافل االجتماعي‪.‬‬
‫اص وْ ا‬ ‫الص ب ِْر َوتَ َو َ‬‫اص وْ ا بِ َّ‬ ‫وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬ثُ َّم َك انَ ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوت ََو َ‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/343:‬‬

‫‪310‬‬
‫بِ ْال َمرْ َح َم ِة﴾ يشير إلى الركن الثالث‪ ،‬ركن التناصح بين المؤمنين‪.‬‬
‫وهذه بعض التفاصيل المرتبطة بهذه األركان الثالثة‪:‬‬
‫التكافل‪:‬‬
‫وهو إعانة المسلم ألخيه إعانة تخرجه من العوز إلى الغ نى‪ ،‬ويش ير إلى ه ذ‬
‫ار َواأْل ِ ي َم انَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم يُ ِحبُّونَ َم ْن‬‫من القرآن الكريم قوله تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ تَبَ َّوأُوا ال َّد َ‬
‫اج ةً ِم َّما أُوتُ وا َويُ ْؤثِرُونَ َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم َولَ وْ‬ ‫ُور ِه ْم َح َ‬ ‫صد ِ‬‫َاج َر إِلَ ْي ِه ْم َوال يَ ِج ُدونَ فِي ُ‬ ‫ه َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ق ُش َّح نَف ِس ِه فَأولَئِكَ هُ ُم ال ُمفلِحُونَ ﴾ (الحشر‪)9:‬‬ ‫ْ‬ ‫صةٌ َو َم ْن يُو َ‬ ‫صا َ‬ ‫َكانَ بِ ِه ْم خَ َ‬
‫ففي هذه اآلية إخبار عن اإليثار الذي تحلى به األنصار لم ا ق دم المه اجرون‬
‫إليهم‪ ،‬بعد أن تركوا في بالدهم كل ما يلزم لنفقتهم‪ ،‬فوجدوا لهم إخوان ا لهم اقتس موا‬
‫معهم زادهم‪ ،‬بل آثروهم على أنفسهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫اج ِرينَ الَّ ِذينَ أ ْخ ِر ُج وا‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وقد سبق ذكر اآلية السابقة قوله تعالى‪ ﴿ :‬لِلفُقَ َرا ِء ال ُمهَ ِ‬
‫ُ‬
‫صرُونَ هَّللا َ َو َرسُولَهُ أولَئِ كَ‬ ‫ار ِه ْم َوأَ ْم َوالِ ِه ْم يَ ْبتَ ُغونَ فَضْ الً ِمنَ هَّللا ِ َو ِرضْ َوانا ً َويَ ْن ُ‬
‫ِم ْن ِديَ ِ‬
‫هُ ُم الصَّا ِدقُونَ ﴾ (الحشر‪ ،)8:‬ف أخبر بفض ل المه اجرين ال ذي آث رهم األنص ار على‬
‫أنفسهم ليبين أن ذل ك اإليث ار وتل ك النفق ات لم ت ذهب عبث ا‪ ،‬ب ل وقعت في موقعه ا‬
‫الصحيح‪ ،‬ألن اإلنسان قد ينفق‪ ،‬ويؤثر ولكن ه ال يس د خلال‪ ،‬ال يحق ق مقص دا‪ ،‬ألن ه‬
‫رمى بنفقته في غير مواضعها‪ ،‬فعبثت بها الرياح‪.‬‬
‫وقد حفظت لن ا كتب الح ديث بعض م ا فعل ه األنص ار م ع المه اجرين‪ ،‬فعن‬
‫أنَس قال‪ :‬قال المه اجرون‪(:‬ي ا رس ول هّللا م ا رأين ا مث ل ق وم ق دمنا عليهم‪ ،‬أحس ن‬
‫مواساة في قليل وال أحسن ب ذالً في كث ير‪ ،‬لق د كفون ا المؤن ة وأش ركونا في المهن أ‪،‬‬
‫حتى لقد خشينا أن يذهبوا باألجر كل ه)‪ ،‬فق ال ‪(:‬ال‪ ،‬م ا أث نيتم عليهم ودع وتم هّللا‬
‫لهم)(‪)1‬‬
‫وظلوا هكذا حتى بعد أن فتح هللا على المؤمنين‪ ،‬وقد روي أن الن بي ‪ ‬دع ا‬
‫األنصار أن يقط ع لهم البح رين‪ ،‬فق الوا‪(:‬ال‪ ،‬إال أن تقط ع إلخوانن ا من المه اجرين‬
‫مثلها)‪ ،‬قال‪(:‬إما ال‪ ،‬فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة)(‪)2‬‬
‫بل روي أكثر من ذلك‪ ،‬فعن أبي هريرة قال‪ :‬قالت األنصار‪(:‬اقسم بينن ا وبين‬
‫إخواننا النخي ل)‪ ،‬فق ال‪(:‬ال)‪ ،‬فق الوا‪(:‬أتكفون ا المؤن ة ونش رككم في الثم رة؟) ق الوا‪:‬‬
‫(سمعنا وأطعنا)(‪)3‬‬
‫بل روي أكثر من ذلك‪ ،‬فقد كان األنصار من حرصهم على الحفاوة بإخوانهم‬
‫المهاجرين أنه ما نزل مهاجري على أنصاري إال بقرعة‪.‬‬
‫وكان المهاجرون في قمة االستغناء‪ ،‬كما كان إخ وانهم األنص ار فيقم الب ذل‪،‬‬
‫فق د روي أنهم لم ا ق دموا المدين ة آخى رس ول هللا ‪ ‬بين عب د ال رحمن بن ع وف‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫وسعد بن الربيع‪ ،‬فقال س عد لعب د ال رحمن‪(:‬إني أك ثر األنص ار م اال‪ ،‬فأقس م م الي‬
‫نصفين‪ ،‬ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك‪ ،‬فس ِّمها لي أطلقه ا‪ ،‬ف إذا انقض ت ع دتها‬
‫فتزوجها)‪ ،‬فقال عبد الرحمن‪(:‬بارك هللا لك في أهلك ومالك‪ ،‬أين سوقكم؟؟)‬
‫فدلوه على سوق بني قينق اع‪ ،‬فم ا انقلب إال ومع ه فض ل من أق ط وس من‪ ،‬ثم‬
‫زوجت)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تابع الغد َُو‪..‬ثم جاء يوما ً وبه أثر صفرة‪ ،‬فق ال الن بي ‪َ (:‬م ْهيَ ْم؟)‪ ،‬ق ال‪(:‬ت‬
‫قال‪(:‬كم سقتَ إليها)‪ ،‬قال‪(:‬نواة من ذهب!)(‪)1‬‬
‫ويعلق الشيخ محمد الغ زالي على ه ذين الم وقفين‪ ،‬فيق ول‪(:‬وإعج اب الم رء‬
‫بسماحة س عد ال يعدل ه إال إعجاب ه بنب ل عب د ال رحمن‪ ،‬ه ذا ال ذي زاحم اليه ود في‬
‫سوقهم‪ ،‬وب َّزهم في ميدانهم‪ ،‬واستطاع‪-‬بعد أيام‪-‬أن يكسب ما يعف به نفسه ويحص ن‬
‫به فرجه‪ ،‬إن علو الهمة من خالئق اإليمان؛ وقبح هللا وج وه أق وام انتس بوا لإلس الم‬
‫فأكلوه‪ ،‬وأكلوا به حتى أضاعوا كرامة الحق في هذا العالم)(‪)2‬‬
‫وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التكافل بصورة أخ رى جميل ة‪ ،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫ُط ِع ُمونَ الطَّ َعا َم َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينا ً َويَتِيما ً َوأَ ِسيراً إِنَّ َم ا نُ ْ‬
‫ط ِع ُم ُك ْم لِ َوجْ ِه هَّللا ِ ال نُ ِري ُد‬ ‫﴿ َوي ْ‬
‫ِم ْن ُك ْم َجزَ ا ًء َوال ُش ُكوراً﴾ (االنسان‪ 8:‬ـ ‪)9‬‬
‫ففي هاتين الكريمتين إخبار عن إيثار هؤالء المح اويج من المؤم نين غ يرهم‬
‫بالطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه‪ ،‬ثم هم ال يطلبون على ذلك جزاء وال شكورا‪.‬‬
‫وهو موقف يشبه كثيرا موقف موسى ‪ ‬عندما س قى للفت اتين‪ ،‬ثم أوى إلى‬
‫الظل من غير أن يشعر نفسه أو يشعر غيره أنه فعل شيئا‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬فَ َسقَى لَهُ َم ا‬
‫ي ِم ْن خَ ي ٍْر فَقِيرٌ﴾ (القصص‪)24:‬‬ ‫ثُ َّم تَ َولَّى إِلَى الظِّ ِّل فَقَا َل َربِّ إِنِّي لِ َما أَ ْنزَ ْلتَ إِلَ َّ‬
‫وهذه المواقف ـ في حقيقتها‪ ،‬وفي حقيقة اإلسالم ـ ليست شيئا ثانويا مس تحبا‪،‬‬
‫وإنما هي واجب من واجب من واجب ات ال دين‪ ،‬فق د ق ال ‪(:‬م ا آمن بي من ب ات‬
‫شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)(‪ ،)3‬وق ال ‪(:‬أيم ا أه ل عرص ة ب ات‬
‫فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة هللا وذمة رسوله)(‪)4‬‬
‫بل نص القرآن الكريم على هذا في مواضع مختلف ة بص يغ مش ددة ت دل على‬
‫أن األم ر ليس موك وال لرغب ات الن اس‪ ،‬وإنم ا ه و واجب من واجب ات ال دين‪ ،‬فال‬
‫يصح أن يموت الناس جوعا في نفس الوقت الذي تمتلئ ي ه خ زائن الكث يرين‪ ،‬ول و‬
‫دفعوا الزكاة‪.‬‬
‫فالواجب هو إغن اء المحت اجين ب أدنى م ا يجب إغن اؤهم ب ه‪ ،‬وم ا الزك اة إال‬
‫وسيلة لذلك‪ ،‬إن كفت فبها‪ ،‬وإن لم تكف وجب في أموال الجميع ما يكفيهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫والقرآن الكريم يحض على هذا ويصرح ب ه ويش ير إلي ه‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬ك لُّ‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬فقه السيرة‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البزار‪ ،‬والطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫ت يَت ََس اءلُونَ ع َِن ْال ُمجْ ِر ِمينَ َم ا‬ ‫ين فِي َجنَّا ٍ‬ ‫اب ْاليَ ِم ِ‬ ‫ص َح َ‬ ‫ت َر ِهينَ ةٌ إِاَّل أَ ْ‬ ‫نَ ْف ٍ‬
‫س بِ َما َك َس بَ ْ‬
‫ط ِع ُم ْال ِم ْس ِكينَ َو ُكنَّا نَ ُخ وضُ َم َع‬ ‫ك نُ ْ‬‫ص لِّينَ َولَ ْم نَ ُ‬ ‫ك ِمنَ ْال ُم َ‬ ‫َسلَ َك ُك ْم فِي َسقَ َر قَالُوا لَ ْم نَ ُ‬
‫الش افِ ِعينَ ﴾‬ ‫ِّين َحتَّى أَتَانَ ا ْاليَقِينُ فَ َم ا تَ ْنفَ ُعهُ ْم َش فَا َعةُ َّ‬ ‫ض ينَ َو ُكنَّا نُ َك ِّذبُ بِيَ وْ ِم ال د ِ‬ ‫ْالخَائِ ِ‬
‫(المدثر‪ 38:‬ـ ‪)48‬‬
‫فقد اعتبر تعالى ع دم إطع ام المس اكين من الج رائم ال تي تس بب ال دخول في‬
‫جهنم‪ ،‬ب ل تق رن ه ذه الجريم ة ب ترك الص الة‪ ،‬ثم تق دم على التك ذيب بال دين‪ ،‬ثم‬
‫يتوعدون بعدم نفع الشافعين فيهم‪.‬‬
‫بل لم يعف القرآن الك ريم من ه ذا ال واجب ح تى العام ة من الن اس ال ذين ال‬
‫يملكون م ا يطعم ون غ يرهم‪ ،‬ألن ه لم ي أمر باإلطع ام فق ط‪ ،‬ب ل أم ر ب الحض على‬
‫اإلطع ام‪ ،‬ليش مل ه ذا األم ر الجمي ع‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬كاَّل بَ ل اَّل تُ ْك ِر ُم ونَ ْاليَتِي َم َواَل‬
‫اث أَ ْكالً لَّ ّم ا ً َوتُ ِحبُّونَ ْال َم ا َل ُحبّ ا ً َج ّم اً﴾‬ ‫ين َوتَ أْ ُكلُونَ التُّ َر َ‬ ‫تَ َحاضُّ ونَ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِك ِ‬
‫(الفجر‪ 17:‬ـ ‪)20‬‬
‫وقال تعالى وه و ي ذكر موقف ا من مواق ف القيام ة الش ديدة‪ُ ﴿ :‬خ ُذوهُ فَ ُغلُّوهُ ثُ َّم‬
‫اس لُ ُكوهُ إِنَّهُ َك انَ اَل يُ ْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ‬ ‫صلُّوهُ ثُ َّم فِي ِس ْل ِس لَ ٍة َذرْ ُعهَ ا َس ْبعُونَ ِذ َراع ا ً فَ ْ‬ ‫ْال َج ِحي َم َ‬
‫ْس لَهُ ْاليَ وْ َم هَاهُنَ ا َح ِمي ٌم َواَل طَ َع ا ٌم إِاَّل ِم ْن‬ ‫ين فَلَي َ‬ ‫ْال َع ِظ ِيم َواَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِك ِ‬
‫َاطئُونَ ﴾ (الحاقة‪ 30:‬ـ ‪)37‬‬ ‫ِغ ْسلِي ٍن ال يَأْ ُكلُهُ إِاَّل ْالخ ِ‬
‫بل نجد ه ذا في س ورة كامل ة تك اد تك ون خاص ة به ذا الج انب يعت بر من ال‬
‫يحض على طعام المسكين مك ذبا بال دين‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَ َرأَيْتَ الَّ ِذي يُ َك ِّذبُ بِال د ِ‬
‫ِّين‬
‫ص لِّينَ الَّ ِذينَ هُ ْم عَن‬ ‫ين فَ َو ْي ٌل لِّ ْل ُم َ‬
‫فَ َذلِكَ الَّ ِذي يَ ُد ُّع ْاليَتِي َم َواَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِك ِ‬
‫صاَل تِ ِه ْم َساهُونَ الَّ ِذينَ هُ ْم يُ َرا ُؤونَ َويَ ْمنَعُونَ ْال َما ُعونَ ﴾(الماعون‪ 1:‬ـ ‪)7‬‬ ‫َ‬
‫يقول سيد قطب في تقديمه لهذه السورة‪(:‬ولقد يقول اإلنسان بلس انه‪:‬إن ه مس لم‬
‫وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه‪ .‬وقد يصلي‪ ،‬وقد يؤدي شعائر أخرى غير الص الة‬
‫ولكن حقيقة اإليمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعي دا عنه ا‪ ،‬ألن‬
‫لهذه الحقيقة عالمات تدل على وجوده ا وتحققه ا‪ .‬وم ا لم توج د ه ذه العالم ات فال‬
‫إيمان وال تصديق مهما قال اللس ان‪ ،‬ومهم ا تعب د اإلنس ان‪ .‬إن حقيق ة اإليم ان حين‬
‫تستقر في القلب تتحرك من فورها لكي تحقق ذاته ا في عم ل ص الح‪ ،‬ف إذا لم تتخ ذ‬
‫هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصال وهذا ما تقرره هذه السورة نصا)(‪)1‬‬
‫ويعل ق على قول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ َذلِكَ الَّ ِذي يَ ُد ُّع ْاليَتِي َم َواَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام‬
‫ْال ِم ْس ِكي ِن ﴾‪ ،‬فيقول‪(:‬إنها تبدأ بهذا االس تفهام ال ذي يوج ه ك ل من تت أتى من ه الرؤي ة‬
‫ليرى‪ :‬أرأيت الذي يكذب بال دين؟ وينتظ ر من يس مع ه ذا االس تفهام ل يرى إلى أين‬
‫تتجه اإلشارة وإلى من تتجه؟ ومن هو هذا الذي يكذب بالدين‪ ،‬وال ذي يق رر الق رآن‬
‫أن ه يك ذب بال دين‪ ..‬وإذا الج واب‪ :‬ف ذلك ال ذي ي دع الي تيم وال يحض على طع ام‬
‫المسكين )‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.3985:‬‬

‫‪313‬‬
‫فالقرآن الكريم يعرف الدين في هذه السورة تعريفا يختلف عم ا عه ده الن اس‬
‫من تعاريف‪ ،‬فه و ينق ل ال دين من المعاب د ال تي تص ورها الن اس إلى معاب د جدي دة‬
‫غفلت عنها الديان‪ ،‬يقول سيد‪(:‬وقد تكون ه ذه مفاج أة بالقي اس إلى تعري ف اإليم ان‬
‫التقليدي‪ ..‬ولكن هذا هو لباب األمر وحقيقته‪ ..‬إن الذي يكذب بالدين ه و ال ذي ي دفع‬
‫اليتيم دفعا بعنف ‪ -‬أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه‪ .‬والذي ال يحض على طعام المسكين‬
‫وال يوصي برعايته‪ .‬فلو صدق بالدين حقا‪ ،‬ولو استقرت حقيقة التصديق في قلبه ما‬
‫كان ليدع اليتيم‪ ،‬وما كان ليقعد عن الحض على طعام المسكين‪ .‬إن حقيقة التص ديق‬
‫بالدين ليست كلمة تقال باللسان ؛ إنم ا هي تح ول في القلب يدفع ه إلى الخ ير وال بر‬
‫بإخوان ه في البش رية‪ ،‬المحت اجين إلى الرعاي ة والحماي ة‪ .‬وهللا ال يري د من الن اس‬
‫كلمات‪ .‬إنما يريد منهم معها أعماال تصدقها‪ ،‬وإال فهي هب اء‪ ،‬ال وزن له ا عن ده وال‬
‫اعتبار)(‪)1‬‬
‫وقد ذك ر الغ زالي درج ات المؤم نين في قي امهم بم ا يتطلب ه ه ذا ال ركن من‬
‫البذل‪ ،‬وهي ثالث درجات‪:‬‬
‫األولى‪ :‬وهي أدناها أن تنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة‬
‫مالك‪ ،‬فإذا س نحت ل ه حاج ة وك انت عن دك فض لة عن حاجت ك أعطيت ه ابت داء ولم‬
‫تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق األخوة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن تنزل ه منزل ة نفس ك وترض ى بمش اركته إي اك في مال ك ونزول ه‬
‫منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال قال الحسن‪ :‬ك ان أح دهم يش ق إزاره بـينه‬
‫وبـين أخيه‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬وهي العلي ا أن ت ؤثره على نفس ك وتق ّدم حاجت ه على حاجت ك وه ذه‬
‫رتبة الص ّديقين ومنتهى درجات المتحابـين‪.‬‬
‫قال الغزالي تعقيبا على هذه ال درجات‪(:‬ف إن لم تص ادف نفس ك في رتب ة من‬
‫هذه الرتب مع أخيك فاعلم أن عقد األخ وة لم ينعق د بع د في الب اطن وإنم ا الج اري‬
‫بـينكما مخالطة رسمية ال وقع لها في العقل والدين‪ ،‬فقد قال ميم ون بن مه ران‪ :‬من‬
‫اإلفضال فليؤاخ أهل القبور)(‪)2‬‬ ‫رضي من ا ِإلخوان بترك ِ‬
‫التناصر‪:‬‬
‫وهو نصرة المسلم ألخيه في مواقف الشدة والحاجة‪ ،‬ألن األمن ركن أساس ي‬
‫ب‬‫ض َر َ‬ ‫في الحياة ال يقل عن ركن الغذاء‪ ،‬ولذلك جمع هللا تعالى بينهما في قوله‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫ت بِ أ َ ْنع ُِم ِ‬
‫هَّللا‬ ‫ط َمئِنَّةً يَأْتِيهَا ِر ْزقُهَا َرغَداً ِم ْن ُكلِّ َم َك ٍ‬
‫ان فَ َكفَ َر ْ‬ ‫َت آ ِمنَةً ُم ْ‬
‫هَّللا ُ َمثَالً قَرْ يَةً َكان ْ‬
‫ف بِ َما َكانُوا يَصْ نَعُونَ ﴾ (النحل‪ ،)112:‬وقال تعالى في‬ ‫ُوع َو ْال َخوْ ِ‬‫اس ْالج ِ‬ ‫فَأ َ َذاقَهَا هَّللا ُ لِبَ َ‬
‫ف﴾ (قريش‪)4:‬‬ ‫ُوع َوآ َمنَهُ ْم ِم ْن َخوْ ٍ‬
‫ط َع َمهُ ْم ِم ْن ج ٍ‬ ‫ذكر نعمه على قريش‪ ﴿ :‬الَّ ِذي أَ ْ‬
‫ألن أسباب الهالك ال تصيب اإلنسان من جهة الجوع وحده‪ ،‬بل تصيبه أيضا من األع داء‬

‫‪ )(1‬في ظالل القرآن‪.3985:‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.2/256 :‬‬

‫‪314‬‬
‫الذين يتربصون به‪ ،‬بل إن هذا الجانب أكثر ضررا باإلنسان من جانب الجوع‪.‬‬
‫َ‬
‫َاجرُوا َو َجاهَدُوا بِ أ ْم َوالِ ِه ْم‬ ‫وقد أشار إلى هذا الركن قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوه َ‬
‫ْض َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا‬ ‫ضهُ ْم أَوْ لِيَا ُء بَع ٍ‬ ‫َصرُوا أُولَئِكَ بَ ْع ُ‬ ‫آووْ ا َون َ‬ ‫َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فِي َسبِي ِل هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ َ‬
‫صرُو ُك ْم فِي ال دِّي ِن‬ ‫اجرُوا َوإِ ِن ا ْستَ ْن َ‬ ‫اجرُوا َما لَ ُك ْم ِم ْن َواَل يَتِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َحتَّى يُهَ ِ‬ ‫َولَ ْم يُهَ ِ‬
‫صيرٌ﴾ (ألنفال‪)72:‬‬ ‫ُ‬
‫ق َو ُ بِ َما تَ ْع َملونَ بَ ِ‬ ‫هَّللا‬ ‫فَ َعلَ ْي ُك ُم النَّصْ ُر إِاَّل َعلَى قَوْ ٍم بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَهُ ْم ِميثَا ٌ‬
‫ففي هذه اآلية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعض هم بعض ا‪ ،‬فال يص ح‬
‫أن ينعم المسلم باألمن في الوقت الذي يصاب إخوانه بكل أنواع البالء‪.‬‬
‫وقد قال ‪ ‬وهو يحض على رعاية هذا الركن‪(:‬المسلم أخو المسلم ال يس لمه‬
‫وال يخذله)‪ ،‬وقال ‪(:‬انصر أخاك ظالما ً أو مظلوماً)‪ ،‬قيل‪ :‬يا رس ول هللا! أنص ره‬
‫مظلوماً‪ ،‬فكيف أنصره ظالما؟)‪ ،‬قال‪(:‬تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه)(‪)1‬‬
‫وألجل تحقيق هذا الركن شرع الشارع الجه اد في س بيل هللا‪ ،‬ق ال تع الى في‬
‫تبرير األمر بالجهاد مع كونه إزهاقا لألرواح التي جاءت الش ريعة لحفظه ا‪َ ﴿ :‬و َم ا‬
‫ال َوالنِّ َس ا ِء َو ْال ِو ْل دَا ِن الَّ ِذينَ‬ ‫الرِّج ِ‬
‫َ‬ ‫َض َعفِينَ ِمنَ‬ ‫لَ ُك ْم ال تُقَ اتِلُونَ فِي َس بِي ِل هَّللا ِ َو ْال ُم ْست ْ‬
‫يَقُولُونَ َربَّنَا أَ ْخ ِرجْ نَا ِم ْن هَ ِذ ِه ْالقَرْ يَ ِة الظَّالِ ِم أَ ْهلُهَا َواجْ َعلْ لَنَا ِم ْن لَ ُد ْنكَ َولِيّا ً َواجْ َعلْ لَنَ ا‬
‫صيراً﴾ (النساء‪)75:‬‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫ِم ْن لَ ُد ْن َ‬
‫وقد ورد هذا التبرير في مواضع مختلف ة‪ ،‬وكله ا تنطل ق من أن الغ رض من‬
‫القت ال في اإلس الم ليس المقص ود من ه التوس ع وال االس تعمار والس يطرة‪ ،‬وإنم ا‬
‫المقصد منه نصرة المستضعفين‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬أُ ِذنَ لِلَّ ِذينَ يُقَاتَلُونَ بِ أَنَّهُ ْم ظُلِ ُم وا َوإِ َّن‬
‫َص ِر ِه ْم لَقَ ِديرٌ﴾ (الحج‪ ،)39:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وقَ اتِلُوا فِي َس بِي ِل هَّللا ِ الَّ ِذينَ‬ ‫هَّللا َ َعلَى ن ْ‬
‫يُقَ اتِلُونَ ُك ْم َوال تَ ْعتَ دُوا إِ َّن هَّللا َ ال يُ ِحبُّ ْال ُم ْعتَ ِدينَ ﴾ (البق رة‪ ،)190:‬وق ال تع الى‪:‬‬
‫يل هَّللا ِ َو ُك ْف ٌر بِ ِه‬ ‫ص ٌّد ع َْن َسبِ ِ‬ ‫َال فِي ِه قُلْ قِتَا ٌل فِي ِه َكبِي ٌر َو َ‬ ‫﴿ يَسْأَلونَكَ َع ِن ال َّشه ِْر ْال َح َر ِام قِت ٍ‬
‫َو ْال َم ْس ِج ِد ْال َح َر ِام َوإِ ْخ َرا ُج أَ ْهلِ ِه ِم ْنهُ أَ ْكبَ ُر ِع ْن َد هَّللا ِ َو ْالفِ ْتنَ ةُ أَ ْكبَ ُر ِمنَ ْالقَ ْت ِل َوال يَ َزالُ ونَ‬
‫ت َوهُ َو‬ ‫يُقَاتِلُونَ ُك ْم َحتَّى يَ ُر ُّدو ُك ْم ع َْن ِدينِ ُك ْم إِ ِن ا ْستَطَاعُوا َو َم ْن يَرْ تَ ِد ْد ِم ْن ُك ْم ع َْن ِدينِ ِه فَيَ ُم ْ‬
‫ار هُ ْم فِيهَ ا‬ ‫ص َحابُ النَّ ِ‬ ‫ت أَ ْع َم الُهُ ْم فِي ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َر ِة َوأُولَئِ كَ أَ ْ‬ ‫َك افِ ٌر فَأُولَئِ كَ َحبِطَ ْ‬
‫خَالِ ُدونَ ﴾ (البقرة‪)217:‬‬
‫وتحقيق هذا الركن يستدعي بذل الجهد في تحصيل القوة بأنواعه ا المختلف ة‪،‬‬
‫اط ْال َخ ْي ِل تُرْ ِهبُونَ بِ ِه َع ُد َّو‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ِع ُّدوا لَهُ ْم َما ا ْستَطَ ْعتُ ْم ِم ْن قُ َّو ٍة َو ِم ْن ِربَ ِ‬
‫هَّللا ِ َو َع ُد َّو ُك ْم﴾ (ألنف ال‪ ،)60:‬وق ال ذام ا من لم يع د لألم ر عدت ه‪ ،‬واعتب ه ك اذا في‬
‫دعواه‪َ ﴿ :‬ولَوْ أَ َرادُوا ْال ُخرُو َج أَل َ َع ُّدوا لَ هُ ُع َّدةً َولَ ِك ْن َك ِرهَ هَّللا ُ ا ْنبِ َع اثَهُ ْم فَثَبَّطَهُ ْم َوقِي َل‬
‫اع ِدينَ ﴾ (التوبة‪)46:‬‬ ‫ا ْق ُعدُوا َم َع ْالقَ ِ‬
‫وما ذكرناه هنا هو مظه ر من مظ اهر النص رة‪ ،‬ألن م ا ق د يتع رض ل ه أي‬
‫مسلم أعم من ذلك‪ ،‬وقد قال الغزالي يذكر نص رة المس لم أخ اه في عرض ه‪(:‬وأعظم‬
‫من ذلك تأثيراً في جلب المحبة الذب عن ه في غيبت ه مهم ا قص د بس وء أو تع رض‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري وأحمد‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫لعرض ه بكالم ص ريح أو تع ريض فح ق األخ وة التش مير في الحماي ة والنص رة‬
‫وتبكيت المتعنت وتغليظ القول عليه‪ ،‬والسكوت عن ذلك موغر للصدر ومنفر للقلب‬
‫وتقصير في حق األخوة‪ ..‬فأخسس بأخ يراك والكالب تفترسك وتمزق لحومك وهو‬
‫ساكت ال تحركه الشفقة والحمية للدفع عن ك وتمزي ق األع راض أش د على النف وس‬
‫من تمزيق اللحوم ولذلك شبهه هللا تعالى بأكل لحوم الميتة فق ال‪ ﴿ :‬أَي ُِحبُّ أَ َح ُد ُك ْم أَ ْن‬
‫خي ِه َميْتاً﴾ (الحجرات‪)1( ))12:‬‬ ‫يَأْ ُك َل لَحْ َم أَ ِ‬
‫وهذا ال ركن يس تدعي م ا س بق ذك ره من تحم ل الق درة على تحم ل المش اق‬
‫والصبر والعزيمة‪ ،‬وهي أركان أساسية في التربية ال غنى عنها‪.‬‬
‫التناصح‪:‬‬
‫وه و ال ركن الث الث من أرك ان خدم ة المجتم ع‪ ،‬وه و أساس ي من حيث أن‬
‫اإلنسان ليس جسدا فقط يحتاج إلى غذاء قد يكفي أم ره التكاف ل‪ ،‬أو حماي ة ق د يكفي‬
‫أمرها التناصر‪ ،‬ولكنه روح وعقل يحتاج إلى تعليم وتوجي ه وتربي ة ونص ح‪ ،‬وك ل‬
‫ذلك يستدعي وجود هذا الركن‪.‬‬
‫يقول الغزالي في بيان الحاج ة إلى ه ذا ال ركن‪(:‬ومن ذل ك التعليم والنص يحة‬
‫فليس حاجة أخيك إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال‪ ،‬فإن كنت غني ا ً ب العلم فعلي ك‬
‫مؤاساته من فضلك وإرشاده إلى كل ما ينفعه في الدين والدنيا‪ ،‬فإن علمته وأرش دته‬
‫ولم يعمل بمقتضى العلم فعليك النصيحة)(‪)2‬‬
‫وق ال ذو الن ون‪(:‬ال تص حب م ع هللا إال بالموافق ة‪ ،‬وال م ع الخل ق إال‬
‫بالمناصحة‪ ،‬وال مع النفس إال بالمخالفة‪ ،‬وال مع الشيطان إال بالعداوة)‬
‫وقد رد الغزالي على من اعتبر هذا سببا للوحش ة بين المؤم نين‪ ،‬فق ال‪(:‬اعلم‬
‫أن ا ِإليحاش‪ :‬إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفس ه فأم ا تنبـيهه على م ا ال‬
‫يعلمه فهو عين الشفقة وهو استمالة القلوب‪ ،‬أع ني قل وب العقالء‪ ،‬وأم ا الحمقى فال‬
‫يلتفت إليهم فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيت ه أو ص فة مذموم ة اتص فت به ا‬
‫ل تزكي نفس ك عنه ا ك ان كمن ينبه ك على حي ة أو عق رب تحت ذيل ك وق د همت‬
‫بإهالكك‪ ،‬فإن كنت تكره ذل ك فم ا أش د حمق ك والص فات الذميم ة عق ارب وحي ات‬
‫وهي في اآلخرة مهلكات فإنها تلدغ القلوب واألرواح وألمها أشد مما يلدغ الظواهر‬
‫واألجساد وهي مخلوقة من نار هللا الموقدة)(‪)3‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إلى ه ذا ال ركن في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬ث َّم ك انَ ِمنَ ال ِذينَ‬
‫صوْ ا بِ ْال َمرْ َح َم ِة﴾ (البل د‪ ،)17:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِاَّل الَّ ِذينَ‬ ‫صب ِْر َوتَ َوا َ‬ ‫آ َمنُوا َوت ََو َ‬
‫اصوْ ا بِال َّ‬
‫صب ِْر﴾ (العصر‪)3:‬‬ ‫اصوْ ا بِال َّ‬
‫ق َوت ََو َ‬‫صوْ ا بِ ْال َح ِّ‬
‫ت َوت ََوا َ‬‫آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ي أَقِ ِم‬ ‫وإلى ه ذا ال ركن اإلش ارة بق ول لقم ان ‪ ‬في وص يته البن ه‪ ﴿ :‬يَ ا بُنَ َّ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.2/181 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.2/182 :‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين‪.2/183 :‬‬

‫‪316‬‬
‫ك إِ َّن َذلِ كَ ِم ْن َع ْز ِم‬ ‫صابَ َ‬ ‫ُوف َوا ْنهَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َواصْ بِرْ َعلَى َما أَ َ‬ ‫الصَّالةَ َو ْأ ُمرْ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ (لقمان‪)17:‬‬ ‫اأْل ُم ِ‬
‫وقد اعتبر القرآن الكريم هذا الركن خاص ة من خص ائص ه ذه األم ة‪ ،‬فق ال‬
‫ُوف َوتَ ْنهَ وْ نَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر‬ ‫اس تَ أْ ُمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ت لِلنَّ ِ‬ ‫تع الى‪ُ ﴿ :‬ك ْنتُ ْم َخ ْي َر أُ َّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ‬
‫َوتُ ْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ﴾ (آل عمران‪)110:‬‬
‫واعت بر أداء ه ذا ال ركن من عالم ات المؤم نين الص ادقين‪ ،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫ار ُعونَ‬ ‫ُوف َويَ ْنهَ وْ نَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َوي َُس ِ‬ ‫﴿ ي ُْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َويَأْ ُمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ك ِمنَ الصَّالِ ِحينَ ﴾ (آل عمران‪ ،)114:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ‬ ‫ت َوأُولَئِ َ‬ ‫فِي ْالخَ ي َْرا ِ‬
‫ُوف َويَ ْنهَ وْ نَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َويُقِي ُم ونَ‬ ‫ْض يَأْ ُمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ضهُ ْم أَوْ لِيَا ُء بَع ٍ‬ ‫َات بَ ْع ُ‬ ‫َو ْال ُم ْؤ ِمن ُ‬
‫ُ‬
‫َزي ٌز‬ ‫الصَّالةَ َوي ُْؤتُ ونَ ال َّز َك اةَ َوي ُِطي ُع ونَ هَّللا َ َو َر ُس ولَهُ أولَئِ كَ َس يَرْ َح ُمهُ ُم هَّللا ُ إِ َّن هَّللا َ ع ِ‬
‫َح ِكي ٌم﴾ (التوبة‪ ،)71:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬التَّائِبُونَ ْال َعابِ ُدونَ ْال َحا ِم ُدونَ السَّائِحُونَ الرَّا ِكعُونَ‬
‫ُوف َوالنَّاهُونَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َو ْال َحافِظُونَ لِ ُحدُو ِد هَّللا ِ_ َوبَ ِّش ِر‬ ‫السَّا ِج ُدونَ اآْل ِمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (التوبة‪)112:‬‬
‫ب ل اعت بره من ص فات الرس ول ‪ ‬األساس ية‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ يَتَّبِ ُع ونَ‬
‫ي الَّ ِذي يَ ِجدُونَ هُ َم ْكتُوب ا ً ِع ْن َدهُ ْم فِي التَّوْ َرا ِة َواأْل ِ ْن ِجي ِل يَ أْ ُم ُرهُ ْم‬ ‫ي اأْل ُ ِّم َّ‬‫ول النَّبِ َّ‬
‫َّس َ‬ ‫الر ُ‬
‫ض ُع‬ ‫ث َويَ َ‬ ‫ت َويُ َح ِّر ُم َعلَ ْي ِه ُم ْالخَ بَ ائِ َ‬ ‫ُوف َويَ ْنهَاهُ ْم ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َويُ ِح لُّ لَهُ ُم الطَّيِّبَ ا ِ‬ ‫بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫َص رُوهُ‬ ‫َت َعلَ ْي ِه ْم فَالَّ ِذينَ آ َمنُ وا بِ ِه َو َع َّزرُوهُ َون َ‬ ‫ص َرهُ ْم َواأْل َ ْغال َل الَّتِي َك ان ْ‬ ‫َع ْنهُ ْم إِ ْ‬
‫ك هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ (ألعراف‪)157:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َواتَّبَعُوا النُّو َر الَّ ِذي أ ْن ِز َل َم َعهُ أولَئِ َ‬
‫واعتبره بعد ذلك من عالمات صحة التمكين في األرض‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ‬
‫ُوف َونَهَ وْ ا ع َِن‬ ‫الص الةَ َوآتَ ُوا ال َّز َك اةَ َوأَ َم رُوا بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫ض أَقَا ُموا َّ‬ ‫إِ ْن َم َّكنَّاهُ ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ُ‬
‫ور﴾ (الحج‪)41:‬‬ ‫ْال ُم ْن َك ِر َوهَّلِل ِ عَاقِبَةُ اأْل ُم ِ‬
‫وقد اعتبر ‪ ‬هذا التناصح ركنا من أركان الدين‪ ،‬فقال ‪(:‬الدين النصيحة)‬
‫ثالثا‪ ،‬قلنا لمن؟ قال‪(:‬هلل ولكتابه ولرسوله وألئمة المسلمين وعامتهم)(‪ ،)1‬فقد اعت بر‬
‫‪ ‬الدين نصيحة‪ ،‬ثم عد من النصيحة النصيحة ألئمة المسلمين وعامتهم‪.‬‬
‫ولكن هذا الركن يحتاج آدابا كثيرة ليس هذا محل تفصيلها‪ ،‬ولعل أهمها ـ كما‬
‫يذكر الغزالي ـ أن يكون ذلك في سر ال يطلع عليه أحد‪ ،‬ألن ما كان على المأل فه و‬
‫توبـيخ وفضيحة وما كان في السر فه و ش فقة ونص يحة‪ ،‬ق ال الش افعي ‪(:‬من وع ظ‬
‫أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه عالنية فقد فض حه وش انه)‪ ،‬وقي ل لمس عر‪:‬‬
‫أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال‪ :‬إن نصحني فيم ا بـيني وبـينه فنعم وإن ق ّر ع ني‬
‫بـين المأل فال‪.‬‬
‫واإلعالن كم ا أن‬ ‫باإلس رار ِ‬ ‫قال الغ زالي‪(:‬ف الفرق بـين التوبـيخ والنص يحة ِ‬
‫اإلغض اء‪ .‬ف إن أغض يت‬ ‫الف رق بـين الم داراة والمداهن ة ب الغرض الب اعث على ِ‬
‫باإلغضاء فأنت مدار وإن أغض يت لح ظ‬ ‫لسالمة دينك ولما ترى من إصالح أخيك ِ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫مداهن)(‪)2‬‬ ‫نفسك واجتالب شهواتك وسالمة جاهك فأنت‬
‫وتحقيق هذا الركن في الواق ع يحت اج إلى ب ذل الجه د لطلب العلم الص حيح ـ‬
‫كما سنوضحه في البعد المعرفي ـ ألن هذا الركن يقوم أساسا على العلم‪.‬‬

‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.2/182 :‬‬

‫‪318‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫البعد المعرفي في تربية األوالد‬
‫من األركان األساسية التي تتكون منها شخصية المسلم الص الح‪ ،‬ب ل ال يمكن‬
‫أن تتكون بدونها‪( :‬العلم والمعرفة)‪ ،‬فلذلك كان البعد المعرفي بعدا أساسيا من أبع اد‬
‫التربية اإلسالمية‪.‬‬
‫وق د دل على ه ذا البع د النص وص الكث يرة ال تي تجع ل من ه أول ركن من‬
‫األركان التي يقوم عليها الدين‪ ،‬فال يتحقق للمسلم أي إسالم بدون العلم‪.‬‬
‫فالتعرف على هللا الذي هو جوهر الدين وأص له وغايت ه وموض وعه يحت اج‬
‫إلى العلم‪ ،‬قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلَهَ إِاَّل هَّللا ُ ﴾(محمد‪)19:‬‬
‫ك‬ ‫اس ِم َربِّ َ‬ ‫ْ‬
‫ولهذا كان أول أمر من أوامر هذا ال دين ه و قول ه تع الى‪ ﴿ :‬ا ْق َرأ بِ ْ‬
‫الَّ ِذي خَ لَقَ﴾ (العلق‪ ،)1:‬ثم ك رر ه ذا األم ر في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬ا ْق َر ْأ َو َربُّكَ اأْل َ ْك َر ُم﴾‬
‫(العلق‪)3:‬‬
‫بل جعل هللا تعالى وظيفة الرسل ـ ص لوات هللا وس المه عليهم ـ هي وظيف ة‬
‫ث فِي ِه ْم‬ ‫المعلمين‪ ،‬قال تعالى ممتنا على هذه األمة‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َم َّن هَّللا ُ َعلَى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ إِ ْذ بَ َع َ‬
‫َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َوإِ ْن َك انُوا ِم ْن‬ ‫َرسُوالً ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُزَ ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكت َ‬
‫الل ُمبِي ٍن﴾ (آل عمران‪)164:‬‬ ‫ض ٍ‬ ‫قَ ْب ُل لَفِي َ‬
‫وأخبر أن كل األنبياء جاءوا أقوامهم بالبينات‪ ،‬وهي العلوم الواض حات ال تي‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وح َوعَا ٍد َوثَ ُم و َد َوالَّ ِذينَ‬ ‫قويت أدلتها‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬أَلَ ْم يَأتِ ُك ْم نَبَأ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم قَوْ ِم نُ ٍ‬
‫ت فَ َر ُّدوا أَ ْي ِديَهُ ْم فِي أَ ْف َوا ِه ِه ْم َوقَ الُوا‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم ال يَ ْعلَ ُمهُ ْم إِاَّل هَّللا ُ َجا َء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ب﴾ (ابراهيم‪)9:‬‬ ‫ك ِم َّما تَ ْدعُونَنَا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ‬ ‫إِنَّا َكفَرْ نَا بِ َما أُرْ ِس ْلتُ ْم بِ ِه َوإِنَّا لَفِي َش ٍّ‬
‫بل إن القرآن الكريم فوق ذلك كله أخبر عن مزية اإلنسان التي أهلته للخالفة‬
‫في األرض‪ ،‬وأهلت ه للتك ريم الرب اني‪ ،‬فق ال تع الى وه و يقص قص ة بداي ة خل ق‬
‫ال أَ ْنبِئُ ونِي بِأ َ ْس َما ِء‬ ‫ض هُ ْم َعلَى ْال َمالئِ َك ِة فَقَ َ‬ ‫اإلنسان‪َ ﴿ :‬وعَلَّ َم آ َد َم اأْل َ ْس َما َء ُكلَّهَا ثُ َّم ع ََر َ‬
‫ك أَ ْنتَ ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم‬ ‫صا ِدقِينَ قَالُوا ُسب َْحانَكَ ال ِع ْل َم لَنَا إِاَّل َما َعلَّ ْمتَنَ ا إِنَّ َ‬ ‫هَؤُال ِء إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫ْب‬ ‫ال أَلَ ْم أَقُ لْ لَ ُك ْم إِنِّي أَ ْعلَ ُم َغي َ‬ ‫قَ ا َل يَ ا آ َد ُم أَ ْنبِ ْئهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم فَلَ َّما أَ ْنبَ أَهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم قَ َ‬
‫ض َوأَ ْعلَ ُم َما تُ ْب ُدونَ َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكتُ ُمونَ ﴾ (البقرة‪ 31:‬ـ ‪)33‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫انطالقا من هذا وردت السنة بالحض على العلم والترغيب في ه ورف ع مكان ة‬
‫أهله‪ ،‬وسنسوق من النصوص هنا ما يبين المكانة الرفيعة لطلب العلم‪ ،‬بل جعل ه من‬
‫أهم ما يتقرب به العبد إلى ربه‪.‬‬
‫فقد أخبر ‪ ‬بأن العلم نوع من أنواع العبادة‪ ،‬ب ل ه و من أفض لها‪ ،‬ق ال ‪:‬‬
‫(أفضل العبادة الفقه‪ ،‬وأفضل الدين الورع)(‪ ،)1‬وصرح بذلك فقال ‪(:‬فض ل العلم‬
‫‪ )(1‬رواه الطبراني في معاجيمه الثالثة‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫خير من فضل العبادة‪ ،‬وخير دينكم الورع)(‪ ،)1‬وقال ‪(:‬قليل العلم خ ير من كث ير‬
‫وكفى ب المرء جهال إذا أعجب برأي ه)(‪،)2‬‬ ‫ٰ‬ ‫وكفى ب المرء فقه ا إذا عب د هللا‪،‬‬
‫ٰ‬ ‫العب ادة‪،‬‬
‫وقال ‪(:‬ما عبد هللا بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واح د أش د على الش يطان‬
‫من ألف عابد‪ ،‬ولكل شيء عماد وعماد ٰهذا الدين الفقه)(‪)3‬‬
‫وق ايس ‪ ‬بين بعض النواف ل وبين طلب العلم‪ ،‬فق ال ألبي ذر‪ ،‬وق د رأى‬
‫حرصه على النوافل‪(:‬ي ا أب ا ذر ألن تغ دو فتعلم آي ة من كت اب هللا خ ير ل ك من أن‬
‫تصلي مائة ركعة‪ ،‬وألن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من‬
‫أن تصلي ألف ركعة)(‪)4‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أن تعليم العلم ال يختلف عن الصدقات‪ ،‬فق ال‪(:‬أفض ل الص دقة أن‬
‫يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم)(‪)5‬‬
‫ويروى أنه ذكر لرسول هللا رجالن‪ :‬أح دهما عاب د واآلخ ر ع الم‪ ،‬فق ال ‪:‬‬
‫(فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)‪ ،‬ثم قال رسول هللا‪(:‬إن هللا ومالئكت ه‪،‬‬
‫وأهل السمٰ وات واألرض حتى النملة في جحرها‪ ،‬وحتى الحوت ليصلون على معلم‬
‫الناس الخير)(‪)6‬‬
‫وطلب العلم لذلك دليل على خيرية العبد الطالب للعلم‪ ،‬ب ل دلي ل على اجتب اء‬
‫هللا له‪ ،‬قال ‪(:‬من يرد هللا به خيرا يفقهه في الدين)(‪ ،)7‬وق ال ‪(:‬ي ا أيه ا الن اس‬
‫إنما العلم ب التعلم‪ ،‬والفق ه بالتفق ه‪ ،‬ومن ي رد هللا ب ه خ يرا يفقه ه في ال دين‪ ،‬و﴿ إنم ا‬
‫يخشى هللا من عباده العلماء﴾ (فاطر‪)8())82 :‬‬‫ٰ‬
‫وهذا االجتباء هو الذي يؤهله للجنة ولهذا التكريم ال ذي أخ بر ‪ ‬عن ه‪ ،‬ق ال‬
‫‪ ‬وهو يعدد فضل طالب العلم‪(:‬من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل هللا له طريقا‬
‫إلى الجنة‪ ،‬وإن المالئكة لتضع أجنحتها لط الب العلم رض ا بم ا يص نع‪ ،‬وإن الع الم‬
‫ليستغفر له من في السمٰ وات ومن في األرض حتى الحيتان في الماء‪ ،‬وفضل الع الم‬
‫على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب‪ ،‬وإن العلماء ورثة األنبياء‪ ،‬إن األنبياء‬
‫لم يورثوا دينارا وال درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)(‪)9‬‬
‫وقال ‪(:‬ما من رجل تعلم كلم ة‪ ،‬أو كلم تين‪ ،‬أو ثالث ا‪ ،‬أو أربع ا‪ ،‬أو خمس ا‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في األوسط‪ ،‬والبزار بإسناد حسن‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبراني في األوسط قال البيهقي‪ :‬ورويناه صحيحا ً من قول مطرف بن عبد هَّللا بن الشخير ثم ذكره‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الدارقطني والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن ماجه بإسناد حسن‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه ابن ماجه بإسناد حسن‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه البخاري ومسلم وابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(9‬رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫الجنة) (‪)1‬‬
‫مما فرض هللا عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إال دخل‬
‫ويخبر ‪ ‬عن بعض صور التكريم ال تي يقاب ل به ا المأل األعلى أه ل العلم‪،‬‬
‫فعن صفوان بن عسال المرادي قال‪ :‬أتيت الن بي ‪ ‬وه و في المس جد متكىء على‬
‫برد له أحمر‪ ،‬فقلت له‪ :‬ي ا رس ول هللا إني جئت أطلب العلم‪ ،‬فق ال‪( :‬مرحب ا بط الب‬
‫العلم إن طالب العلم تحفه المالئكة بأجنحته ا ثم ي ركب بعض هم بعض ا ح تى يبلغ وا‬
‫السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)(‪)2‬‬
‫بل إنه ‪ ‬يرفع درجة أه ل إلى درج ة األنبي اء‪ ،‬فيق ول ‪(:‬من ج اءه أجل ه‬
‫وهو يطلب العلم لقي هللا ولم يكن بينه وبين النبيـين إال درجة النبوة)(‪)3‬‬
‫أما األجور المعدة ألهل العلم‪ ،‬فإنه ا أض عاف مض اعفة‪ ،‬ق ال ‪(:‬من طلب‬
‫علما فأدركه كتب هللا ل ه كفلين من األج ر‪ ،‬ومن طلب علم ا فلم يدرك ه كتب هللا ل ه‬
‫كفال من األجر)(‪)4‬‬
‫ومن أج ور العلم أن ه يكف ر ال ذنوب‪ ،‬م ر رجالن على رس ول هللا ‪ ،‬وه و‬
‫يذكر فقال‪( :‬ٱجلسا فإنكما على خير)‪ ،‬فلما قام رسول هللا‪ ،‬وتفرق عنه أصحابه قام ا‬
‫فقاال‪ :‬يا رسول هللا إنك قلت لنا ٱجلسا فإنكما على خير‪ ،‬ألنا خاصة أم للن اس عام ة‪،‬‬
‫قال‪( :‬ما من عبد يطلب العلم إال كان كفارة ما تقدم)(‪)5‬‬
‫ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع‪ ،‬ق ال ‪(:‬إذا م ات ابن آدم‬
‫ٱنقطع عمله إال من ثالث‪ :‬صدقة جارية‪ ،‬أو علم ينتفع به‪ ،‬أو ولد ص الح ي دعو ل ه)‬
‫(‪)6‬‬
‫وفي حديث آخر مفصل‪ ،‬قال رسول هللا ‪(:‬إن مما يلحق الم ؤمن من عمل ه‬
‫وحسناته بعد موت ه علم ا علم ه ونش ره وول دا ص الحا ترك ه أو مص حفا ورث ه‪ ،‬أو‬
‫مسجدا بناه أو بيتا البن السبيل بناه‪ ،‬أو نهرا أجراه‪ ،‬أو صدقة أخرجه ا من مال ه في‬
‫صحته وحياته تلحقه من بعد موته)(‪)7‬‬
‫ونختم هذه النص وص بقول ه ‪(:‬تعلم وا العلم‪ ،‬ف إن تعلم ه هلل خش ية وطلب ه‬
‫عبادة‪ ،‬ومذاكرته تسبيح‪ ،‬والبحث عنه جه اد‪ ،‬وتعليم ه لمن ال يعلم ه ص دقة‪ ،‬وبذل ه‬
‫ألهله قرب ة الن ه مع الم الحالل والح رام ومن ار س بل أه ل الجن ة‪ ،‬وه و األنيس في‬
‫الوحش ة‪ ،‬والص احب في الغرب ة‪ ،‬والمح دث في الخل وة‪ ،‬وال دليل على الس راء‬
‫‪ )(1‬رواه أبو نعيم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد واللف ظ ل ه‪ ،‬وابن حب ان في ص حيحه‪ ،‬والح اكم وق ال‪ :‬ص حيح اإلس ناد‪،‬‬
‫وروى ابن ماجه نحوه باختصار‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في األوسط‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البزار والطبراني في األوسط‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه ابن ماجه بإسناد حسن والبيهقي‪ ،‬ورواه ابن خزيمة في صحيحه‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫والضراء‪ ،‬والسالح على األعداء والزين عند األخالء‪ ،‬يرفع هللا ب ه أقوام ا فيجعلهم‬
‫وينتهى إلى رأيهم‪ ،‬ت رغب‬
‫ٰ‬ ‫في الخ ير ق ادة قائم ة تقتص آث ارهم ويقت ٰ‬
‫دى بفع الهم‪،‬‬
‫المالئكة في خلتهم‪ ،‬وبأجنحتها تمسحهم‪ ،‬ويس تغفر لهم ك ل رطب وي ابس‪ ،‬وحيت ان‬
‫البحر وهوامه‪ ،‬وسباع البر وأنعام ه ألن العلم حي اة القل وب من الجه ل‪ ،‬ومص ابيح‬
‫العلى في ال دنيا‬
‫ٰ‬ ‫األبص ار من الظلم‪ ،‬يبل غ العب د ب ٱلعلم من ازل األخي ار وال درجات‬
‫واآلخرة‪ ،‬التفكر فيه يعدل الصيام‪ ،‬ومدارسته تعدل القيام‪ ،‬ب ه توص ل األرح ام وب ه‬
‫يعرف الحالل من الحرام‪ ،‬وهو إمام العمل‪ ،‬والعمل تابعه‪ ،‬يلهمه السعداء‪ ،‬ويحرم ه‬
‫األشقياء)(‪.)1‬‬
‫انطالقا من ه ذه األهمي ة ال تي أواله ا الش رع له ذا البع د‪ ،‬س نتناول في ه ذا‬
‫الفصل مبحثين‪:‬‬
‫‪ .1‬أنواع المعارف ومراتب تعلمها‪.‬‬
‫‪ .2‬مواصفات طالب العلم‪.‬‬
‫وكال األم رين من أساس يات ه ذا البع د‪ ،‬ف األول يبحث في المع ارف ال تي‬
‫تختل ف باختالفه ا شخص ية المع رف‪ ،‬والث اني يبحث في تحقي ق المتلقي م ا يؤهل ه‬
‫للتلقي‪.‬‬
‫وكالهما أيضا مما له عالقة بالجانب العملي‪ ،‬وهو الميدان األول للفقه‪.‬‬
‫أوال ـ أنواع المعرفة ومراتب تعلمها‬
‫إن العلم‪ ،‬وإن كان محمودا لذاته‪ ،‬فإن العمر أقص ر من أن يفي بحق ه‪ ،‬فل ذلك‬
‫كان من أولى أولويات المربي والمتلقي على ح د س واء تحدي د م ا يمكن أن يقض ى‬
‫العمر في تعلمه‪ ،‬سواء كان من فروض العين أو فروض الكفاية‪ ،‬أو ك ان مم ا نص‬
‫على استحبابه ولم يرق إلى حد الفرضية‪.‬‬
‫وذلك ألن اشتغال الطالب بغير ما يفيده أو يفيد مجتمعه ـ وإن كان علما مفيدا‬
‫ـ مضر بعلوم أخرى لها أولويتها وتق دمها على غيره ا‪ ،‬ومث ل ذل ك ابت داؤه ب المهم‬
‫وتقديمه على األهم‪ ،‬فإنه سيضر ال محالة بمنهج حياته جميعا‪.‬‬
‫وسنكتفي هنا بذكر ثالثة أمثل ة قرآني ة تش ير إلى ه ذه الحقيق ة العظيم ة ال تي‬
‫غف ل عنه ا اإلنس ان الغ ربي غفل ة مطلق ة‪ ،‬فاس تغل العلم للفت ك بالبش رية وت دمير‬
‫اإلنسان‪ ،‬وغفل عنها اإلنسان المسلم غفلة جزئية فسقط في مهاو خطيرة ال يخرج ه‬
‫منها إال رجوعه لسواء السبيل‪.‬‬
‫أما المثال األول‪ ،‬فهو قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذي آتَ ْينَ اهُ آيَاتِنَ ا فَا ْن َس لَ َخ‬
‫َاوينَ َولَوْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫ِم ْنهَا فَأ َ ْتبَ َعهُ ال َّش ْيطَانُ فَ َكانَ ِمنَ ْالغ ِ‬
‫ث َذلِ كَ َمثَ ُل ْالقَ وْ ِم‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْك هُ يَ ْلهَ ْ‬ ‫ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ‬
‫َواتَّبَ َع ه ََواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪ 175:‬ـ ‪ ،)176‬فهو‬ ‫ص َ‬ ‫ُص ْالقَ َ‬
‫الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآياتِنَا فَا ْقص ِ‬

‫‪ )(1‬رواه ابن عبد البر في كتاب العلم‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫مثال على من تبحر في علوم كث يرة‪ ،‬ربم ا ن ال منه ا ثم رات غ يرت مس ار حيات ه‬
‫المادية‪ ،‬ولكنه لم يلتفت إلى حقيقته التي تحولت كلبا إن تحمل علي ه يلهث أو تترك ه‬
‫يلهث‪ ،‬انسلخ من إنسانيته ألنه انسلخ قبل ذلك من آيات ربه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ومثل هذا المثل ما ورد في قوله تعالى عن بني إسرائيل‪َ ﴿ :‬مثَ ُل ال ِذينَ ُح ِّمل وا‬
‫س َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآي ا ِ‬
‫ت‬ ‫ار يَحْ ِم ُل أَ ْسفَاراً بِ ْئ َ‬ ‫التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَا َك َمثَ ِل ْال ِح َم ِ‬
‫هَّللا ِ َوهَّللا ُ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ (الجمعة‪ ،)5:‬فبن و إس رائيل حمل وا كتبهم وعرف وا‬
‫م ا فيه ا‪ ،‬ولكنهم نس وا م ا فيه ا من اله دي‪ ،‬ولم يش تغلوا بم ا يخ رج حقيقتهم عن‬
‫البهيمية التي أوقعتها فيها شهواتهم‪.‬‬
‫أما المثال الثاني‪ ،‬فهو قوله تعالى عن فرع ون وعل وم مص ر ال تي بل غ منه ا‬
‫ت لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ِري‬ ‫ال فِرْ عَوْ نُ يَا أَيُّهَا ْال َمأَل ُ َما َعلِ ْم ُ‬
‫العجب في عصرنا مبلغه‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫وس ى َوإِنِّي‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ص رْ حا ً لَ َعلِّي أطلِ ُع إِلَى إِلَ ِه ُم َ‬ ‫ين فَاجْ َع لْ لِي َ‬ ‫فَأَوْ قِ ْد لِي يَا هَا َم انُ َعلَى الطِّ ِ‬
‫أَل َظُنُّهُ ِمنَ ْال َكا ِذبِينَ ﴾ (القصص‪ ،)38:‬ففرعون يسعى ليرقى الفضاء ال ليتعرف على‬
‫ملكوت هللا ليجعله سبيله إلى هللا‪ ،‬وإنما يسعى من رقيه إلى تح دي هللا‪ ،‬وس بب ذل ك‬
‫هو أن فرعون غفل عن أهم العلوم‪ ،‬وهي العلوم التي تعرفه حقيقته وحقيقة ما حوله‬
‫حتى أنه في الوقت الذي يعرفه موسى باهلل مستدال له بما يعج ز العق ل عن تص وره‬
‫لم يلتفت إلى ذلك‪ ،‬ألن زهوه بم ا عن ده من العلم جعل ه يغف ل عن العلم ال ذي يملك ه‬
‫غيره‪.‬‬
‫ومثل هذا المثل ينطبق على عص رنا‪ ،‬العص ر ال ذي ت وهم في ه اإلنس ان أن ه‬
‫حقق حلم فرعون‪ ،‬ف رقى إلى القم ر‪ ،‬وق د ي رقى إلى غ يره من الك واكب‪ ،‬ولكن ه لم‬
‫اطالً﴾‬ ‫يرقه إنسانا‪ ،‬وإنما رقى بهيمة أو سبعا‪ ،‬رقاه ال ليقول‪َ ﴿ :‬ربَّنَا َم ا َخلَ ْقتَ هَ َذا بَ ِ‬
‫(آل عمران‪ ،)191:‬وإنما رقاه لينصب علم بلده الذي يمثل حقيقة عنصريته وأنانيته‬
‫وجبروته‪.‬‬
‫ومثل هؤالء قوم سيأتون بعدنا‪ ،‬سيبلغون في العلم م راتب تجعلهم يكتس حون‬
‫األرض جميعا‪ ،‬وينهبون ما فيه ا من خ يرات‪ ،‬ثم تس ول لهم أنفس هم‪ ،‬أو يس ول لهم‬
‫طغيانهم فيفكروا في (غزو الفضاء) كما فكروا في غ زو األرض‪ ،‬ق ال ‪ ‬متح دثا‬
‫عن هؤالء القوم‪(:‬حتى يأتوا بيت المقدس فيقولون‪ :‬قد قتلنا أهل الدنيا فق اتلوا من في‬
‫السماء‪ ،‬فيرمون بالنشاب إلى السماء‪ ،‬فيرجع نش ابهم مخض بة بال دم‪ ،‬فيقول ون‪ :‬ق د‬
‫قتلنا من في السماء)(‪)1‬‬
‫أما المثال الثالث‪ ،‬فهو مثال ق ارون ال ذي اش تغل ب العلوم ال تي تنمي ثروت ه‪،‬‬
‫سواء كانت علوم ا اقتص ادية أو تقني ة‪ ،‬ونس ي أن يع رف حقيقت ه وحقيق ة وج وده‪،‬‬
‫ال إِنَّ َم ا أُوتِيتُ هُ َعلَى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي﴾ (القص ص‪:‬‬ ‫فخسف به وبما يملكه‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫‪)78‬‬
‫َ‬
‫ت ف ِر ُح وا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ومثل هؤالء أقوام قال عنهم هللا تعالى‪ ﴿ :‬فل َّما َجا َءتهُ ْم ُر ُسلهُ ْم بِالبَيِّنَا ِ‬

‫‪ )(1‬هذا حديث يأجوج ومأجوج‪ ،‬رواه ابن جرير‪ ،‬عن حذيفة بن اليمان‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫ق بِ ِه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَه ِْزئُونَ ﴾ (غافر‪)83:‬‬ ‫بِ َما ِع ْن َدهُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم َو َحا َ‬
‫وهذا الذي نصت عليه ه ذه اآلي ة ه و م ا وقعت في ه ه ذه األم ة‪ ،‬س واء أم ة‬
‫اإلجاب ة أو أم ة ال دعوة‪ ،‬حيث انش غلت ب الفرح بم ا عن دها أو بم ا عن د غيره ا من‬
‫تط ور‪ ،‬وغفلت عن عل وم تخرجه ا عن بهيميته ا أو س بعيتها إلى حقيق ة اإلنس ان‬
‫المكرم‪.‬‬
‫وانطالقا من ه ذه المقدم ة الض رورية س نتحدث في ه ذا المبحث عن أن واع‬
‫العلوم والمعارف التي ينبغي تلقينها للنشء‪ ،‬واالهتمام بها‪ ،‬لتصلح الحياة بمفهومه ا‬
‫الش رعي‪ ،‬الحي اة ال دنيا والحي اة اآلخ رة‪ ،‬ق ال تع الى عن ق وم نفى عنهم العلم‪ ،‬أو‬
‫رماهم بالجهل‪ ،‬ثم قال مستدركا‪ ﴿ :‬يَ ْعلَ ُمونَ ظَا ِهراً ِمنَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم ع َِن اآْل ِخ َر ِة‬
‫هُ ْم غَافِلُونَ ﴾ (الروم‪)7:‬‬
‫فالعلوم بحسب هذه اآلية تنقسم إلى قسمين‪ :‬علوم تتعلق بظاهر الحي اة ال دنيا‪،‬‬
‫وعلوم تتعلق باآلخرة‪:‬‬
‫أما العلوم المتعلقة بالدنيا‪ ،‬فهي العل وم المنظم ة لحي اة اإلنس ان في ال دنيا‪ ،‬أو‬
‫الميسرة لإلنس ان أس باب العيش فيه ا‪ ،‬وهي عل وم مهم ة‪ ،‬ألن وظ ائف اإلنس ان ال‬
‫يمكن أداؤها إال في جو صالح ل ذلك األداء‪ ،‬وغاي ة ه ذه العل وم إم ا سياس ة األف راد‬
‫والمجتمع ات‪ ،‬أو الحص ول على تقني ات تيس ر مراف ق الحي اة‪ ،‬فهي عل وم سياس ية‬
‫صناعية‪ ،‬أوهي سياسات وصناعات‪ ،‬لها حظها من العلم بقدر نجاحه ا في تحص يل‬
‫هاتين الغايتين‪.‬‬
‫أما العلوم الثانية‪ ،‬فهي العل وم الحقيقي ة‪ ،‬ألنه ا تع نى باله دف ال ذي من أجل ه‬
‫وج د اإلنس ان واس تخلف‪ ،‬والغفل ة عنه ا أو وض عها في مرتب ة تلي مرتب ة العل وم‬
‫األولى تحرف حقيقة وظيف ة اإلنس ان على األرض‪ ،‬ألنه ا تجع ل وظيفيت ه قاص رة‬
‫على أن يؤمن في وجوده على األرض ما يتصوره من وسائل السعادة‪ ،‬من غير أن‬
‫يتطلع إلى ما بعدها‪ ،‬وكأنه وجد ليأكل ويلبس وي ركب ويس كن‪ ،‬ثم يم وت من غ ير‬
‫أن يحمل شيئا مما أفنى عمره من أجله‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ المعارف والحقائق‬
‫نقصد بالمعارف والحق ائق العل وم ال تي ال يس ع اإلنس ان جهله ا‪ ،‬الرتباطه ا‬
‫بحقيقته ووظيفته في هذا الوجود‪ ،‬فلذلك كانت لها الرتبة األولى‪ ،‬واألهمية القصوى‬
‫التي ال تدانيها أهمية أي علم أو معرفة‪.‬‬
‫وس ميناها بالحق ائق‪ ،‬ألنه ا حق ائق نهائي ة‪ ،‬ال مج ال فيه ا لالحتم االت وال‬
‫التط ور ال ذي يس ري للص ناعات والسياس ات‪ ،‬وذل ك ألن دور العق ل فيه ا ه و‬
‫االستنباط والفهم واالعتبار ال االختراع وال االبتداع‪.‬‬
‫وسميناها بالمعارف انطالقا من تفريق قديم بين العلم والمعرف ة‪ ،‬يجع ل العلم‬
‫عاما ينتهي عند التصديق بالمعلوم أو معرفة بعض صفاته التي تميزه عن غيره من‬

‫‪324‬‬
‫غير اشتراط سريان ذلك في السلوك والحياة(‪.)1‬‬
‫بخالف المعرفة التي تجعل صاحبها يبحث عما يريد معرفت ه بك ل كيان ه‪ ،‬ثم‬
‫يتفاعل معه بكل طاقاته‪ ،‬فالعالم من ل ه الق درة على الحف ظ او التحلي ل‪ ،‬ثم يحض ره‬
‫حفظه وتحليله كلما حتاج إليه‪ ،‬بينما العارف ـ عن د من فرق وا بين العلم والمعرف ة ـ‬
‫هو (من عرف هللا سبحانه بأسمائه وص فاته وافعال ه‪ ،‬ثم ص دق هللا في معاملت ه‪ ،‬ثم‬
‫أخلص ل ه في قص وده ونيات ه‪ ،‬ثم انس لخ من أخالق ه الرديئ ة وآفات ه‪ ،‬ثم تطه ر من‬
‫أوساخه وأدرانه ومخالفاته‪ ،‬ثم صبر على أحك ام هللا في نعم ه وبليات ه‪ ،‬ثم دع ا إلي ه‬
‫على بصيرة بدينه وآياته‪ ،‬ثم جرد الدعوة إليه وحده بم ا ج اء ب ه رس وله ولم يش بها‬
‫بآراء الرجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقوالتهم‪ ،‬ولم يزن بها ما ج اء ب ه‬
‫الرسول عليه من هللا أفضل صلواته)(‪)2‬‬
‫وإن شئنا أن نترك اسم العلم على هذا الن وع‪ ،‬انطالق ا من المحافظ ة على م ا‬
‫ورد في النصوص من فضل العلم‪ ،‬فلنضف إليه وص ف (الن افع)(‪ ،)3‬ألن اإلطالق‬
‫ق د يفي د م ع أه ل التحقي ق بينم ا أك ثر الن اس ينظ رون إلى لف ظ العلم المج رد‪ ،‬ثم‬
‫ينظرون في استعماله العرفي‪ ،‬ثم يتصورون قصور مصطلح العلم عليه‪.‬‬
‫وهذا هو الحاص ل‪ ،‬ف العلم في عص رنا ك اد ينحص ر فيم ا س ميناه (سياس ات‬
‫وصناعات)‪ ،‬أما المعارف الدينية التي تمثل الحقائق الكبرى‪ ،‬فلها أهميتها الثانوي ة‪،‬‬
‫بدليل أن الطالب يدرس أي فرع من تلك الصناعات الساعات الكثيرة منذ نشوئه‪ ،‬ثم‬
‫إذا جاء إلى علوم الدين أو السلوك لم يكد يدرس شيئا‪.‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن العل وم المرتبط ة به ذا الن وع تنقس م على قس مين‪ ،‬نص‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُس والً‬ ‫عليهما جميعا قوله تعالى في بيان وظائف الرسول ‪َ ﴿ :‬ربَّنَ ا َوا ْب َع ْ‬
‫ك أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾‬ ‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َويُ َز ِّكي ِه ْم إِنَّ َ‬
‫ِم ْنهُ ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِكَ َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَ َ‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُس والً ِم ْن‬ ‫(البقرة‪ ،)129:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َم َّن هَّللا ُ َعلَى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ إِ ْذ بَ َع َ‬
‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َوإِ ْن َك انُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَفِي‬ ‫أَ ْنفُ ِس ِه ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُ َز ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَ َ‬
‫‪ )(1‬هناك اختالف كبير في الفرق بين العلم والمعرفة‪ ،‬اشار الفخر الرازي إلى مجامعه‪ ،‬فذكر األقوال التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات‪.‬‬
‫‪ .2‬المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤالء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا ألن تصديقنا باس تناد‬
‫هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالض رورة فأم ا تص ور حقيقت ه ف أمر ف وق الطاق ة البش رية‬
‫وألن الشيء ما لم يعرف وجوده فال تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف ع الم وليس ك ل ع الم عارف ا ً ول ذلك‬
‫فإن الرجل ال يسمى بالعارف إال إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غياته ا‬
‫بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحداً من البشر ال يعرف هللا تعالى ألن االطالع على كنه هويته وسر ألوهيته‬
‫محال‪.‬‬
‫‪ .3‬من أدرك شيئا ً وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانيا ً وعرف أن هذا المدرك الذي أدرك ه ثاني ا ً ه و‬
‫الذي أدركه أوالً فهذا هو المعرف ة فيق ال‪ :‬ع رفت ه ذا الرج ل وه و فالن ال ذي كنت رأيت ه وقت ك ذا‪ .‬انظ ر‪ :‬الفخ ر‬
‫الرازي‪.3/396 :‬‬
‫‪ )(2‬مدراج السالكين‪.3/337 :‬‬
‫‪ )(3‬كما قال ‪ (:‬سلوا هللا علما نافعا‪ ،‬وتعوذوا باهلل من علم ال ينفع )‪( ،‬ابن ماجة وال بيهقي عن ج ابر)‪ ،‬وك ان‬
‫‪ ‬يقول في دعائه‪ (:‬اللهم إني أسألك علما نافعا وعمال متقبال ) الطبراني في األوسط عن جابر‪ ،‬وك ان يق ول‪ (:‬اللهم‬
‫انفعني بما علمتني‪ ،‬وعلمني ما ينفعني ) الطبراني في األوسط عن أنس‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫ث فِي اأْل ُ ِّميِّينَ َر ُس والً‬ ‫ضال ٍل ُمبِي ٍن﴾ (آل عمران‪ ،)164:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي بَ َع َ‬ ‫َ‬
‫اب َوال ِحك َم ةَ َوإِ ْن َك انُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَفِي‬‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫ِم ْنهُ ْم يَ ْتل و َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُ زَ ِّكي ِه ْم َويُ َعل ُمهُ ُم ال ِكتَ َ‬
‫ضال ٍل ُمبِي ٍن﴾ (الجمعة‪)2:‬‬ ‫َ‬
‫ففي هذه المواضع الثالث نج د الق رآن الك ريم نص على أن وظيف ة الرس ول‬
‫تنحصر في هذه الوظائف الثالث‪:‬‬
‫‪ .1‬تالوة آيات هللا‪.‬‬
‫‪ .2‬تعليم الكتاب والحكمة‪.‬‬
‫‪ .3‬التزكية‪.‬‬
‫والقرآن الكريم لم ي ذكر ه ذه الوظ ائف‪ ،‬لتبقى منحص رة في رس ول هللا ‪،‬‬
‫وبالتالي يبقى تأثيره ا منحص را فيمن ت ربى على ي د رس ول هللا ‪ ،‬وإنم ا ذكره ا‬
‫لتبقى سارية في األمة ما دامت مرتبطة بنبيها وبدينها‪.‬‬
‫وبذلك‪ ،‬فإن وجود هذه الوظائف في األم ة من الف روض ال تي ال يبقى لألم ة‬
‫قائمة بدونها‪.‬‬
‫وال يشترط أن تجتمع في شخص واح د‪ ،‬ب ل ق د تتف رق على جماع ات ش تى‬
‫لتسد كل جماعة ثغرة من ثغراتها‪.‬‬
‫وسنفصل ما يرتبط بكل قسم من تلك األقسام فيما يلي‪:‬‬
‫أ ـ تالوة اآليات‬
‫والمقصود منها ما يرتبط بالقرآن الكريم من قراءة وحفظ‪ ،‬وقد قدم هللا تع الى‬
‫ذكره ا في اآلي ات الس ابقة ألهميته ا‪ ،‬وباعتباره ا األص ل ال ذي ينطل ق من ه تعليم‬
‫الكتاب والحكمة‪ ،‬وتنطلق منه التزكية‪.‬‬
‫وله ذا ورد في النص وص ال دعوة الدائم ة لق راءة الق رآن الك ريم‪ ،‬باعتب اره‬
‫الكتاب الوحيد الذي يشمل الحقائق الكبرى للوجود‪ ،‬باإلضافة إلى كونه الكتاب الذي‬
‫ينظم الحياة جميعا حياة اإلنسان وحياة المجتمع‪ ،‬وحياة العقل وحياة السلوك‪.‬‬
‫ولهذا كان مجرد تشهير القرآن الكريم ونشره وبث تالوته واالهتم ام بحفظ ه‬
‫كافيا في تذليل كل العقبات التي تقف في وج ه الم ربي والداعي ة‪ ،‬وي دل ل ذلك قول ه‬
‫تع الى‪ ﴿ :‬فَال تُ ِط ِع ْال َك افِ ِرينَ َو َجا ِه ْدهُ ْم بِ ِه ِجهَ اداً َكبِ يراً﴾ (الفرق ان‪ ،)52:‬ق ال ابن‬
‫عباس‪ :‬بالقرآن‪.‬‬
‫ولهذا أمر هللا تعالى بإجارة المش رك إن اس تجار ب المؤمن‪ ،‬ثم اس تغالل ه ذه‬
‫الحاجة في إسماعه كالم هللا‪ ،‬وكأن ه يأمرن ا بدعوت ه إلى هللا بإبالغ ه رس الة هللا(‪،)1‬‬
‫ك فَ أ َ ِجرْ هُ َحتَّى يَ ْس َم َع َكال َم هَّللا ِ ثُ َّم أَ ْبلِ ْغ هُ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن أَ َح ٌد ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ا ْست ََج َ‬
‫ار َ‬
‫َمأْ َمنَهُ َذلِكَ بِأَنَّهُ ْم قَوْ ٌم ال يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ (التوبة‪)6:‬‬

‫‪ )(1‬ونحن نعجب أن يرد الخالف في هذه المسألة مع صراحة األدلة فيها‪ ،‬وقد ذكر النووي الخالف فيها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫( ويمتنع من كان ال يرجى إسالمه لم يجز تعليمه القرآن؟ قال أصحابنا إن كان ال يرجى إسالمه لم يجز تعليم ه‪ ،‬وإن‬
‫رجي إسالمة فوجهان‪ :‬أصحهما يجوز رجاء إسالمه‪ ،‬والثاني ال يجوز كم ا ال يج وز بي ع المص حف من ه وان رجي‬
‫إسالمه‪ ،‬وأما إذا رأيناه يتعلم فهل يمنع؟ فيه وجهان )‬

‫‪326‬‬
‫وق د ك ان ه ذا ه و أس لوب رس ول هللا ‪ ‬في ال دعوة‪ ،‬كم ا ك ان أس لوبه في‬
‫التربية‪:‬‬
‫ً‬
‫وقد روت لنا كتب السيرة أنه اجتمعت ق ريش يوم ا‪ ،‬فق الوا‪(:‬انظ روا أعلمكم‬
‫بالسحر والكهانة والشعر‪ ،‬فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب‬
‫ديننا‪ ،‬فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه) وبعد تشاور استقر رأيهم على عتبة بن ربيعة‪.‬‬
‫فأتى عتبة رسول هللا ‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد أنت خير أم عبد هّللا ؟ فسكت رس ول‬
‫هّللا ‪ ،‬فقال‪ :‬أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول هّللا ‪ ،‬فقال‪ :‬إن كنت تزعم‬
‫أن هؤالء خير منك فق د عب دوا اآلله ة ال تي عبت‪ ،‬وإن كنت ت زعم أن ك خ ير منهم‬
‫فتكلم حتى يسمع قولك‪ ،‬إنا وهّللا ما رأين ا ِس خَ لَةً ق ط أش أم على قوم ك من ك‪ ،‬ف رّقت‬
‫جماعتنا وشتّت أمرنا‪ ،‬وعبت ديننا‪ ،‬وفضحتنا في العرب‪ ،‬حتى لقد طار فيهم أن في‬
‫قريش ساحراً‪ ،‬وأن في قريش كاهناً‪ ،‬وهّللا ما ننتظر إال مثل ص يحة الحبلى أن يق وم‬
‫بعضنا إلى بعض بالس يوف‪ ،‬ح تى نتف انى‪ ،‬أيه ا الرج ل إن ك ان إنم ا ب ك الحاج ة‪،‬‬
‫جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجالً واحداً وإن ك ان إنم ا ب ك الب اءة ف اختر أي‬
‫نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً)‬
‫ولما انتهى عتبة من هذه الخطبة الطويل ة‪ ،‬وال تي تحت اج ك ل كلم ة منه ا إلى‬
‫فصول طويلة للرد عليها‪ ،‬توجه إليه رس ول هللا ‪ ‬به دوء ق ائال‪(:‬ف رغت؟)‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫(نعم)‪ ،‬فأخذ رسول هللا ‪ ‬سورة فصلت من أوله ا إلى أن بل غ قول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن‬
‫صا ِعقَ ِة عَا ٍد َوثَ ُمو َد﴾ (فصلت‪ ،)13:‬فأمسك عتب ة‬ ‫اعقَةً ِم ْث َل َ‬ ‫ص ِ‬‫أَ ْع َرضُوا فَقُلْ أَ ْن َذرْ تُ ُك ْم َ‬
‫على فيه‪ ،‬وناشده بالرحم‪ ،‬ورجع إلى أهل ه‪ ،‬ولم يخ رج إلى ق ريش‪ ،‬واحتبس عنهم‪،‬‬
‫وكاد يسلم لوال حرصه على مصالحه مع قومه‪.‬‬
‫ورس ول هللا ‪ ‬يش ير به ذا الموق ف إلى أس لوب دع وي وترب وي ل ه قيمت ه‬
‫العظمى‪ ،‬وه و (المجاه دة ب القرآن) المجاه دة الش املة لأله واء والش بهات‬
‫واالنحرافات‪ ،‬فهو كتاب علم وتربية وهداية‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك م ا فعل ه رس ول هللا ‪ ‬عن دما أرس ل الرس ل إلى مل وك الع الم‬
‫يدعوهم‪ ،‬فقد اقتصرت رسالته إلى هرقل على هذه الجمل المض مخة بعط ر الق رآن‬
‫الكريم (بسم هّللا الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد رسول هّللا إلى هرقل عظيم الروم‪ ،‬سالم‬
‫على من اتبع الهدى‪ ،‬أما بعد فأسلم تسلم‪ ،‬وأسلم يؤتك هّللا أجرك مرتين‪ ،‬فإن ت وليت‬
‫ب تَ َع الَوْ ا إِلَى َكلِ َم ٍة َس َوا ٍء بَ ْينَنَ ا َوبَ ْينَ ُك ْم أَاَّل‬‫فإنما عليك إثم األريسيين‪ ،‬و﴿ يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ُون هَّللا ِ فَ إِ ْن تَ َولَّوْ ا‬ ‫ضنَا بَعْض ا ً أَرْ بَاب ا ً ِم ْن د ِ‬ ‫نَ ْعبُ َد إِاَّل هَّللا َ َوال نُ ْش ِركَ بِ ِه َشيْئا ً َوال يَتَّ ِخ َذ بَ ْع ُ‬
‫سلِ ُمونَ ﴾ (آل عمران‪)1())64:‬‬ ‫فَقُولُوا ا ْشهَدُوا بِأَنَّا ُم ْ‬
‫ولهذا كان أشد شيء على الكفار والمنافقين ودع اة الس وء المجاه دة ب القرآن‬
‫ْرفُ فِي ُوجُو ِه الَّ ِذينَ َكفَ رُوا‬ ‫ت تَع ِ‬‫الكريم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا بَيِّنَا ٍ‬
‫ْال ُم ْن َك َر يَ َك ا ُدونَ يَ ْس طُونَ بِالَّ ِذينَ يَ ْتلُ ونَ َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِنَ ا قُ لْ أَفَ أُنَبِّئُ ُك ْم بِ َش رٍّ ِم ْن َذلِ ُك ُم النَّا ُر‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫صيرُ﴾ (الحج‪)72:‬‬ ‫س ْال َم ِ‬‫َو َع َدهَا هَّللا ُ الَّ ِذينَ َكفَرُوا َوبِ ْئ َ‬
‫ألن كالم البشر يحمل من الثغرات ما يمكن التسرب إليه من خاللها‪ ،‬بخالف‬
‫كالم هللا فإن ه ﴿ ال يَأْتِي ِه ْالبَ ِ‬
‫اط ُل ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه َوال ِم ْن خَ ْلفِ ِه تَ ْن ِزي ٌل ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِمي ٍد﴾‬
‫(فصلت‪)42:‬‬
‫ولهذا كان من األخطاء الكبرى التي وقعت فيها بعض المجتمعات اإلس المية‬
‫االنصراف عن القرآن الكريم إلى الجدل والكالم ال ذي ال طائ ل وراءه‪ ،‬كم ا ذكرن ا‬
‫ذلك سابقا‪.‬‬
‫وق د نص على أن ه ذا االنح راف ك ان أس لوبا من أس اليب الكف ار ال ذين‬
‫أعجزهم هدي الق رآن الك ريم‪ ،‬فراح وا يلغ ون ب أي كالم‪ ،‬أو ي أي أص وات ليس دوا‬
‫ال الَّ ِذينَ َكفَ رُوا ال ت َْس َمعُوا‬ ‫منافذ آذانهم عن سماع القرآن الك ريم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫آن َو ْال َغوْ ا فِي ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْغلِبُونَ ﴾ (فصلت‪ ،)26:‬قال مجاهد في تفسير اللغو هنا‪:‬‬ ‫لِهَ َذا ْالقُرْ ِ‬
‫(يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رس ول هّللا ‪ ‬إذا ق رأ الق رآن)‪،‬‬
‫وقد كانت قريش تفعله‪.‬‬
‫هذا في جانب الدعوة‪ ،‬أما جانب التربية‪ ،‬وهو ـ كم ا ذكرن ا ـ ال ينفص ل عن‬
‫العلم‪ ،‬ومن أخطر األخطار فصله عنه‪ ،‬فق د ك ان ‪ ‬يقتص ر في تربيت ه على منب ع‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫يقول سيد قطب في المعالم‪(:‬كان النبع األول الذي استقى منه ذلك الجي ل ه و‬
‫القرآن‪ .‬القرآن وحده‪ .‬فما ك ان ح ديث رس ول هللا ‪ ‬وهدي ه إال أث رًا من آث ار ذل ك‬
‫خلقه القرآن)(‪)1‬‬ ‫النبع‪ .‬فعندما سُئلت عائشة ا ‪ -‬عن ُخلق رسول هللا ‪  -‬قالت‪(:‬كان ُ‬
‫ويرد على من يتصور أن سبب ذلك ه و أن ه لم تكن للبش رية في ذل ك الحين‬
‫حضارة أو ثقافة‪ ،‬فقال‪(:‬كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه‪ ،‬ويتكيفون‬
‫به‪ ،‬ويتخرجون عليه‪ ،‬ولم يكن ذلك كذلك ألنه لم يكن للبش رية يومه ا حض ارة‪ ،‬وال‬
‫ثقافة‪ ،‬وال علم‪ ،‬وال مؤلفات‪ ،‬وال دراسات‪..‬كال! فقد ك انت هن اك حض ارة الروم ان‬
‫وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه‪ ،‬أو على امت داده‪ ،‬وك انت‬
‫هناك مخلفات الحضارة اإلغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنه ا‪ ،‬وه و م ا ي زال ينب وع‬
‫التفكير الغربي حتى اليوم‪ .‬وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأس اطيرها‬
‫وعقائ دها ونظم حكمه ا ك ذلك‪ .‬وحض ارات أخ رى قاص ية وداني ة‪ :‬حض ارة الهن د‬
‫وحضارة الص ين إلخ‪ .‬وك انت الحض ارتان الروماني ة والفارس ية تحف ان ب الجزيرة‬
‫العربية من شمالها ومن جنوبها‪ ،‬كم ا ك انت اليهودي ة والنص رانية تعيش ان في قلب‬
‫الجزيرة‪ ..‬فلم يكن إذن عن فقر في الحض ارات العالمي ة والثقاف ات العالمي ة يقص ر‬
‫ذل ك الجي ل على كت اب هللا وح ده‪ ..‬في ف ترة تكون ه‪ ..‬وإنم ا ك ان ذل ك عن تص ميم‬
‫مرسوم‪ ،‬ونهج مقصود)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه النسائي‪.‬‬
‫‪ )(2‬معالم في الطريق‪:‬‬

‫‪328‬‬
‫ويدل لهذا غضب رسول هللا ‪ ‬عندما رأى في يد عمر صحيفة من التوراة‪،‬‬
‫وقال‪(:‬إنه وهللا لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حل له إال أن يتبعني)(‪)1‬‬
‫ولهذا ورد الثناء في النصوص على تالوة الق رآن الك ريم‪ ،‬واعتب ار ذل ك من‬
‫الص الةَ َوأَ ْنفَقُ وا ِم َّما‬ ‫َاب هَّللا ِ َوأَقَ ا ُموا َّ‬
‫أعظم العبادات‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْتلُونَ ِكت َ‬
‫ُور﴾ (ف اطر‪ ،)29:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ‬ ‫َر َز ْقنَاهُ ْم ِس ّراً َوعَالنِيَةً يَرْ جُونَ تِ َجا َرةً لَ ْن تَب َ‬
‫ك هُ ُم‬ ‫ق تِال َوتِ ِه أُولَئِ كَ ي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ ِه َو َم ْن يَ ْكفُ رْ بِ ِه فَأُولَئِ َ‬ ‫آتَ ْينَ اهُ ُم ْال ِكتَ َ‬
‫اب يَ ْتلُونَ هُ َح َّ‬
‫ب أُ َّمةٌ قَائِ َم ةٌ‬ ‫ْالخَا ِسرُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)121:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬لَ ْيسُوا َس َوا ًء ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ت هَّللا ِ آنَا َء اللَّ ْي ِل َوهُ ْم يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ (آل عمران‪ ،)113:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ‬ ‫يَ ْتلُونَ آيَا ِ‬
‫ارةً لَ ْن‬ ‫َاب هَّللا ِ َوأَقَا ُموا الصَّالةَ َوأَ ْنفَقُوا ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم ِس ّراً َوعَالنِيَةً يَرْ جُونَ تِ َج َ‬
‫يَ ْتلُونَ ِكت َ‬
‫تَبُو َر﴾ (فاطر‪)29:‬‬
‫ولهذا كان خير المؤمين من تعلم القرآن أو علم ه‪ ،‬ق ال ‪(:‬خ يركم من تعلم‬
‫القرآن وعلمه)(‪ ،)2‬وكان أولى الناس باإلمام ة ق ارئ الق رآن‪ ،‬ق ال ‪(:‬ي ؤم الق وم‬
‫أقرؤهم لكتاب هللا تعالى)(‪ ،)3‬وكان القراء هم أص حاب الش ورى دون غ يرهم‪ ،‬عن‬
‫ابن عباس قال‪(:‬كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهوال وشبابا)(‪ ،)4‬ب ل‬
‫كان ‪ ‬يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للق رآن ف إن أش ير‬
‫إلى أحدهما قدمه في اللحد(‪.)5‬‬
‫ووعد باألجر العظيم على تالوته‪ ،‬بل تالوة حروفه‪ ،‬قال ‪(:‬من ق رأ حرف ا‬
‫من كتاب هللا تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬ال أقول أالم حرف ولكن أل ف‬
‫حرف والم حرف وميم حرف)(‪ ،)6‬وقال ‪(:‬الذي يقرأ القرآن وهو م اهر ب ه م ر‬
‫السفرة الكرام البررة‪ ،‬والذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق ل ه أج ران)‬
‫(‪)7‬‬
‫ووعد قارئه المنشغل به بإعطائه فوق ما يطلب من حظ وظ‪ ،‬ق ال ‪(:‬يق ول‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪ :‬من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيت ه أفض ل م ا أعطي‬
‫السائلين‪ ،‬وفضل كالم هللا سبحانه وتع الى على س ائر الكالم كفض ل هللا تع الى على‬
‫خلقه)(‪)8‬‬
‫ب ل إن أج ره ال يتوق ف علي ه‪ ،‬فه و يش مل والدي ه اأيض ا‪ ،‬ق ال ‪(:‬من ق رأ‬

‫‪ )(1‬رواه أبو يعلى‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه الترمذي وقال حديث حسن‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫القرآن وعمل بم ا في ه ألبس هللا والدي ه تاج ا ي وم القيام ة ض وؤه أحس ن من ض وء‬
‫الشمس في بيوت الدنيا فما ظنكم بالذي عمل بهذا)(‪)1‬‬
‫انطالقا من هذه األهمية ال تي جعله ا هللا في تالوة كتاب ه‪ ،‬اهتمت المجتمع ات‬
‫اإلسالمية بالتالوة‪ ،‬وبحفظ الق رآن الك ريم ومدارس ته‪ ،‬فك ان التعليم ينطل ق من أول‬
‫النشوء من القرآن الكريم‪ ،‬لتنتشر بركاته على العمر جميعا‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن خلدون اهتم ام المجتمع ات اإلس المية بتعليم الق رآن الك ريم من‬
‫الصغر‪ ،‬وأهمية ذلك‪ ،‬فقال‪(:‬اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار ال دين أخ ذ ب ه أه ل‬
‫الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ اإليمان‬
‫وعقائده من آيات القرآن‪ ،‬وبعض متون االحاديث وصار القرآن أص ل التعليم ال ذي‬
‫ينب ني علي ه م ا يحص ل بع د من الملك ات وس بب ذل ك أن التعليم في الص غر أش د‬
‫رسوخا وه و أص ل لم ا بع ده ألن الس ابق األول للقل وب كاألس اس للملك ات وعلى‬
‫حسب األساس‪ ،‬وأساليبه يكون حال من ينبني عليه)(‪)2‬‬
‫وقد كانت هناك طرق مختلفة لهذا التعليم‪ ،‬ال بأس من سوقها هنا‪ ،‬كما س اقها‬
‫ابن خلدون(‪ ،)3‬قبل أن نسوق ما نقترحه من طرق لتحقيق هذا ال ركن األساس ي من‬
‫أركان العلم‪.‬‬
‫أما أهل المغرب‪ ،‬فق د ك ان م ذهبهم يعتم د على االقتص ار على تعليم الق رآن‬
‫فق ط‪( ،‬وأخ ذهم أثن اء المدارس ة بالرس م ومس ائله‪ ،‬واختالف حمل ة الق رآن في ه‪ ،‬ال‬
‫يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم ال من ح ديث وال من فق ه وال من‬
‫شعر وال من كالم الع رب إلى أن يح ذق في ه أو ينقط ع دون ه‪ ،‬فيك ون انقطاع ه في‬
‫الغالب انقطاعا ً عن العلم بالجملة‪ ،‬ويسترم هذا األسلوب إلى أن يجاوزوا حد البل وغ‬
‫إلى الشبيبة‪ ،‬ومثل ذلك الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره)‬
‫أما أهل األندلس‪ ،‬فقد كان مذهبهم يعتمد على (تعليم القرآن والكتاب من حيث‬
‫هو‪ ،‬وهذا هو الذي يراعون ه في التعليم‪ ،‬إال أن ه لم ا ك ان الق رآن أص ل ذل ك وأس ه‬
‫ومنبع ال دين والعل وم جعل وه أص الً في التعليم‪ ،‬فال يقتص رون ل ذلك علي ه فق ط ب ل‬
‫يخلطون في تعليمهم للولدان رواي ة الش عر في الغ الب والترس ل وأخ ذ هم بق وانين‬
‫العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب‪.‬‬
‫وال تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم في ه بالخ ط أك ثر‬
‫من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة‪ ،‬وقد ش دا بعض الش يء‬
‫في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعل ق بأذي ال العلم على‬
‫الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقط اع س ند التعليم‬
‫في آفاقهم‪ ،‬وال يحصل بأيديهم إال ما حص ل من ذل ك التعليم األول وفي ه كفاي ة لمن‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬المقدمة‪.1/546 :‬‬
‫‪ )(3‬المقدمة‪.1/546 :‬‬

‫‪330‬‬
‫أرشده هللا تعالى واستعداد إذا وجد المعلم)‬
‫وأم ا أه ل ت ونس‪ ،‬فق د ك ان م ذهبهم يعتم د على (تعليمهم للول دان الق رآن‬
‫بالحديث في الغالب‪ ،‬ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مس ائلها‪ ،‬إال أن عن ايتهم‬
‫بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختالف روايات ه وقراءات ه أك ثر مم ا‬
‫سواه‪ ،‬وعنايتهم بالخ ط تب ع ل ذلك‪ .‬وبالجمل ة فط ريقتهم في تعليم الق رآن أق رب إلى‬
‫طريقة أه ل األن دلس‪ ،‬ألن س ند ط ريقتهم في ذل ك متص ل بمش يخة األن دلس ال ذين‬
‫أج ازوا عن د تغلب النص ارى على ش رق األن دلس‪ ،‬واس تقروا بت ونس وعنهم أخ ذ‬
‫ولدانهم بعد ذلك)‬
‫وأما أهل المشرق‪ ،‬فقد كان مذهبهم يعتمد على (دراسة القرآن وصحف العلم‬
‫وقوانينه في زمن الشبيبة‪ ،‬وال يخلطون بتعليم الخط‪ ،‬بل لتعليم الخ ط عن دهم ق انون‬
‫ومعلم ون ل ه على انف راده كم ا تتعلم س ائر الص نائع وال يت داولونها في مك اتب‬
‫الص بيان‪ .‬وإذا كتب وا لهم األل واح فبخ ط قاص ر عن اإلج ادة‪ .‬ومن أراد تعلم الخ ط‬
‫فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته)‬
‫وقد ذكر ابن خلدون اآلثار اإليجابية والسلبية لكل طريقة من الطرق السابقة‪،‬‬
‫فقال‪(:‬فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم االقتصار على الق رآن القص ور عن ملك ة‬
‫اللسان جملة‪ ،‬وذلك أن القرآن ال ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون‬
‫عن اإلتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن االستعمال على أس اليبه واالحت ذاء به ا‪،‬‬
‫وليس لهم ملكة في غير أساليبه فال يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظ ه‬
‫الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكالم‪.‬‬
‫وربما ك ان أه ل إفريقي ة في ذل ك أخ ف من أه ل المغ رب لم ا يخلط ون في‬
‫تعليمهم الق رآن بعب ارات العل وم في قوانينه ا كم ا قلن اه‪ ،‬فيقت درون على ش يء من‬
‫التصرف ومحاذاة المثل بالمث ل إال أن ملكتهم في ذل ك قاص رة عن البالغ ة لم ا أن‬
‫أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البالغة كما سيأتي في موضعه‪.‬‬
‫وأما أه ل األن دلس فأف ادهم التفنن في التعليم وك ثرة رواي ة الش عر والترس ل‬
‫ومدارس ة العربي ة من أول العم ر حص ول ملك ة ص اروا به ا أع رف في اللس ان‬
‫العربي وقصروا في سائر العل وم لبع دهم عن مدارس ة الق رآن والح ديث ال ذي ه و‬
‫أصل العلوم وأساسها‪ ،‬فكانوا لذلك أهل حظ وأدب ب ارع أو مقص ر على حس ب م ا‬
‫يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا)‬
‫وذكر عن أبي بكر بن العربي في كتاب رحلت ه إلى طريق ة غريب ة في وج ه‬
‫التعليم تقوم على تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما ه و م ذهب أه ل‬
‫األن دلس‪ ،‬ق ال‪(:‬ألن الش عر دي وان الع رب‪ .‬وي دعو إلى تقديم ه وتعليم العربي ة في‬
‫التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى الق وانين‬
‫ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر علي ه به ذه المقدم ة)‪ ،‬ثم ق ال‪(:‬وي ا غفل ة أه ل‬
‫بالدنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب هللا في أول أمره يقرأ م اال يفهم وينص ب في أم ر‬
‫غيره أهم عليه)‬

‫‪331‬‬
‫وقد عقب ابن خلدون على هذه الطريقة بقوله‪(:‬هذا ما أشار إليه القاض ي أب و‬
‫بكر رحمه هللا وهو لعمري مذهب حسن‪ ،‬إال أن العوائد ال تس اعد علي ه وهي أمل ك‬
‫ب األحوال‪ ،‬ووج ه م ا اختص ت ب ه العوائ د من تق دم دراس ة الق رآن إيث اراً للت برك‬
‫والثواب وخشية ما يعرض للول د في جن ون الص با من اآلف ات والقواط ع عن العلم‬
‫فيفوته القرآن‪ ،‬فإنه م ا دام في الحج ر منق اد للحكم‪ ،‬ف إذا تج اوز البل وغ وانح ل من‬
‫ربقة القهر فربم ا عص فت ب ه ري اح الش بيبة فألقت ه بس احل البطال ة‪ ،‬فيغتنم ون في‬
‫زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئال يذهب خلواً منه‪.‬‬
‫ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لك ان ه ذا الم ذهب‬
‫الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمش رق‪ ،‬ولكن هللا تع الى يحكم‬
‫ما يشار ال معقب لحكمه‪ ،‬وهو أحكم الحاكمين)(‪)1‬‬
‫هذه هي الطرق التي مارستها المجتمعات اإلسالمية في تعليمها‪ ،‬وهي ط رق‬
‫ال تزال بعض آثارها في المجتمعات المحافظة من المجتمع اإلسالمي‪.‬‬
‫ونالحظ عليها االهتمام بالقرآن الكريم كمصدر من مص ادر الثقاف ة والتعليم‪،‬‬
‫أو كمصدر لتحصيل الملكات األساسية للعلم كالخط‪ ،‬واللغة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وهذه الطريقة من االستفادة من الق رآن الك ريم ك ان له ا آثاره ا الس لبية على‬
‫الصعد التربوية‪ ،‬وإن كان لها آثارها اإليجابية على تحصيل تلك الملكات‪.‬‬
‫وذلك ألن القرآن الكريم يعطي كل شخص بحسب همت ه ومقص ده‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫‪(:‬إن هللا تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)(‪)2‬‬
‫فلذلك كان استغالل القرآن الكريم لهذه األم ور ل ه آث اره اإليجابي ة‪ ،‬ولكن ل ه‬
‫آثاره السلبية الخطيرة من حيث اعتباره وسيلة للتعليم‪ ،‬ال مقصدا له‪.‬‬
‫وق د اعت بر س يد قطب في تحليل ه ألس باب اس تفادة الجي ل الفري د ال ذي رب اه‬
‫رسول هللا ‪ ‬من القرآن الكريم مع قصور األجيال التالية عن ذلك الشأو الذي بلغه‬
‫الس ابقون‪ ،‬فق ال‪(:‬هن اك عام ل أساس ي آخ ر غ ير اختالف طبيع ة النب ع‪ .‬ذل ك ه و‬
‫اختالف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد‪ ..‬إنهم ‪ -‬في الجي ل األول ‪-‬‬
‫لم يكونوا يقرؤون القرآن بقص د الثقاف ة واالطالع‪ ،‬وال بقص د التش وق والمت اع‪ .‬لم‬
‫يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقاف ة‪ ،‬وال ليض يف إلى‬
‫حص يلته من القض ايا العلمي ة والفقهي ة محص والً يمأل ب ه جعبت ه‪ .‬إنم ا ك ان يتلقى‬
‫القرآن ليتلقى أمر هللا في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها‪ ،‬وشأن الحي اة‬
‫ال تي يحياه ا ه و وجماعت ه‪ ،‬يتلقى ذل ك األم ر ليعم ل ب ه ف ور س ماعه‪ ،‬كم ا يتلقى‬
‫الجندي في الميدان‪(:‬األمر اليومي) ال ليعم ل ب ه ف ور تلقي ه! ومن ثم لم يكن أح دهم‬
‫ليس تكثر من ه في الجلس ة الواح دة‪ ،‬ألن ه ك ان يحس أن ه إنم ا يس تكثر من واجب ات‬
‫وتكاليف يجعلها على عاتقه‪ ،‬فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظه ا ويعم ل به ا كم ا‬

‫‪ )(1‬المقدمة‪.1/546 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم وابن ماجة‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫جاء في حديث ابن مسعود )‬
‫والتلقي بهذه الصورة‪ ،‬كما يذكر سيد قطب‪ ،‬ال يمنع من االستفادة العلمية‪ ،‬بل‬
‫إنه على عكس ذلك يعمقها ويرسخها زيادة على ما يفيده من تربي ة وس لوك‪ ،‬يق ول‪:‬‬
‫(هذا الشعور‪ ..‬شعور التلقي للتنفيذ‪ ..‬كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المت اع وآفاقً ا‬
‫من المعرف ة‪ ،‬لم تكن لتفتح عليهم ل و أنهم قص دوا إلي ه بش عور البحث والدراس ة‬
‫واالطالع‪ ،‬وك ان ييس ر لهم العم ل‪ ،‬ويخف ف عنهم ثق ل التك اليف‪ ،‬ويخل ط الق رآن‬
‫بذواتهم‪ ،‬ويحوله في نفوسهم وفي حي اتهم إلى منهج واقعي‪ ،‬وإلى ثقاف ة متحرك ة ال‬
‫تبقى داخل األذهان وال في بطون الصحائف‪ ،‬إنّما تتحول آثارًا وأح داثًا تح ِّول خ ط‬
‫سير الحياة)‬
‫وسبب ذلك أن أول خاصية للق رآن الك ريم‪ ،‬وهي اله دف من نزول ه ه و أن ه‬
‫كتاب هداية ال كتاب ثقافة وال كتاب خط‪ ،‬يقول سيد‪(:‬إن هذا الق رآن ال يمنح كن وزه‬
‫إال لمن بُقبل علي ه به ذه ال روح‪ :‬روح المعرف ة المنش ئة للعم ل‪ .‬إن ه لم يجئ ليك ون‬
‫كتاب متاع عقلي‪،‬وال كتاب أدب وفن‪ .‬وال كتاب قصة وت اريخ ‪ -‬وإن ك ان ه ذا كل ه‬
‫من محتوياته ‪ -‬إنما جاء ليكون منهاح حياة‪ .‬منهاجًا إلهيًّا خالصًا)‬
‫وهو لذلك ينتقد من تخلف من األجيال عن ذلك الجي ل‪ ،‬بس بب خط أ اله دف‪،‬‬
‫وقصور الهمة‪ ،‬يقول‪(:‬إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل ه و ال ذي ص نع الجي ل األول‪.‬‬
‫ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خ رَّج األجي ال ال تي تلي ه‪ .‬وم ا من ش ك أن‬
‫هذا العامل الثاني كان عامالً أساسيًا كذلك في اختالف األجيال كلها عن ذلك الجي ل‬
‫المميز الفريد)‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن الطريقة المثلى لتعليم القرآن الك ريم‪ ،‬ه و أن تهتم الم دارس ـ أو‬
‫مؤسسات خاصة ـ على القرآن الكريم أوال وقبل كل شيء‪ ،‬فتجعله الم ادة األساس ية‬
‫للتعليم‪ ،‬بل المنبع األساسي للتعليم‪ ،‬فيبدأ التلميذ ـ من أول نشوئه ـ حيات ه على حف ظ‬
‫الق رآن الك ريم م ع تعمي ق معاني ه في النفس‪ ،‬م ع الترك يز على معاني ه التربوي ة‬
‫واإليمانية قبل كل شيء‪.‬‬
‫ولن يأخذ ذل ك وقت ا ط ويال إن تع اونت في ه جمي ع المؤسس ات التربوي ة من‬
‫المسجد والمدرسة والبيت‪ ،‬وغيرها من المؤسسات‪.‬‬
‫فإن استكمل الولد حفظه للقرآن الكريم‪ ،‬كان ذلك مؤهال له ل دخول الم دارس‬
‫ال تي تلقن ه م ا يري د التخص ص في ه من العل وم الش رعية أو من العل وم المرتبط ة‬
‫بالسياسات والصنائع‪.‬‬
‫في دخلها‪ ،‬وق د اكتس ى من أن وار الق رآن الك ريم‪ ،‬وتحلى بحليت ه م ا يؤهل ه‬
‫لالستفادة منها في أقصر األوقات‪ ،‬وبأكمل استفادة‪.‬‬
‫وقد يتص ور أن ه ذا من الغل و‪ ،‬فكي ف يقتص ر على الق رآن الك ريم‪ ،‬وهن اك‬
‫الكث ير مم ا يحت اج الص بي إلى تعلم ه من الرياض يات واللغ ات األجنبي ة وعل وم‬
‫الطبيعة والحياة وغيرها من العلوم الكثيرة؟‬
‫والج واب على ذل ك‪ :‬أن ك ل م ا ذك ر من العل وم وغيره ا مم ا تمارس ه‬

‫‪333‬‬
‫المدارس‪ ،‬وتبالغ في ممارسته لم ينجح في تكوين الجي ل الص الح المتعلم ال ذي يفي د‬
‫نفسه‪ ،‬ويفيد مجتمعه‪ ،‬وذلك ألن االنطالقة كانت خاطئة‪.‬‬
‫ومثال ذلك مثال من وضع في مستشفى‪ ،‬ولفترة مح دودة‪ ،‬فانش غل األطب اء ـ‬
‫بدل عالجه‪ ،‬وتأهيله للحياة خارج المستش فى ـ بتعليم ه الحس اب والج بر والعل وم‪،‬‬
‫فيخرج بمرضه كما دخل‪ ،‬لم ينتفع بما تعلم ه‪ ،‬وال يس تطيع أن ينف ع ألن م ا ب ه من‬
‫أمراض ال زال يجعل بينه وبين ذلك الحوائل‪.‬‬
‫ومثل ذلك مثل الصبي في أول نشوئه‪ ،‬فهو في وضع يمكن أن يشكل منه أي‬
‫قالب‪ ،‬لتب نى حيات ه بع د ذل ك على أس اس ذل ك الق الب‪ ،‬ف إن ف رط في تل ك الف ترة‪،‬‬
‫وانشغل المعلمون والمؤسسات التربوية بالحشو الخالي من التربي ة ك ان ل ذلك أث ره‬
‫السلبي الخطير‪.‬‬
‫ثم إن ه لن يعج ز من حف ظ الق رآن الك ريم وتعمقت معاني ه في نفس ه من أن‬
‫يحصل كل ما يتصور أنه فاته‪ ،‬في أقصر اآلماد‪ ،‬ألن الملكات ال تي اس تفادها أثن اء‬
‫حفظه للق رآن الك ريم‪ ،‬وأثن اء تعميق ه لمعاني ه س تكون أسس ا ص حيحة قوي ة ل ذلك‪،‬‬
‫وألكبر منه‪.‬‬
‫زيادة على ذلك فإن المدارس والجامعات تشكو االنحراف الخطير ال ذي يق ع‬
‫فيه المتعلمون‪ ،‬وهو م ا يح ول بينهم‪ ،‬وبين االس تفادة‪ ،‬وس ر ذل ك ه و م ا ب دأوا ب ه‬
‫حياتهم من االنشغال بالجمع ال بالتحقيق‪ ،‬وبصورة العلم ال بحقيقة العلم‪.‬‬
‫لكن هذا الحلم ال ذي نقترح ه‪ ،‬لن يج د في الواق ع ص داه‪ ،‬ألن الم دارس اآلن‬
‫موحدة المناهج في العالم أجمع‪ ،‬أو تكاد تك ون موح دة المن اهج‪ ،‬ومن المس تحيل أن‬
‫تنفصل المجتمعات اإلسالمية عن هذا التوحد‪.‬‬
‫فلذلك نرى بديال سهال ق د يحق ق بعض غاي ات ه ذا‪ ،‬وه و االهتم ام بإش اعة‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وتشجيع حفظه‪ ،‬والحرص على تلقين معانيه بكل الطرق‪.‬‬
‫ويبدأ كل ذلك بحفظه‪ ،‬فإن للتكرار دورا كبيرا‪ ،‬ال في الحفظ وحده‪ ،‬وإنما في‬
‫تقرير المعاني المحفوظة في النفس شعر صاحبها أو لم يشعر‪ ،‬ولذلك ك ان من س نة‬
‫النبي ‪ ‬ترديد اآلية الواحدة‪ ،‬أو اآليات المتعددة ليساعد ذلك على التدبر‪ ،‬فقد روي‬
‫عن أبي ذر قال‪(:‬قام النبي ‪ ‬بآية يرددها ح تى أص بح واآلي ة‪ ﴿ :‬إِ ْن تُ َع ِّذ ْبهُ ْم فَ إِنَّهُ ْم‬
‫كي ُم﴾ (المائدة‪)1())118:‬‬ ‫ك أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِ‬ ‫ك َوإِ ْن تَ ْغفِرْ لَهُ ْم فَإِنَّ َ‬‫ِعبَا ُد َ‬
‫ب الَّ ِذينَ اجْ ت ََر ُح وا‬ ‫وعن تميم الداري أنه كرر هذه اآلية حتى أصبح‪ ﴿ :‬أَ ْم َح ِس َ‬
‫ت َس َوا ًء َمحْ يَاهُ ْم َو َم َماتُهُ ْم َس ا َء َم ا‬ ‫ت أَ ْن نَجْ َعلَهُ ْم َكالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬ ‫ال َّسيِّئَا ِ‬
‫يَحْ ُك ُمونَ ﴾ (الجاثـية‪)21:‬‬
‫وردد ابن مسعود ‪َ ﴿ :‬ربِّ ِز ْدنِي ِع ْلم اً﴾ (طـه‪ ،)114:‬وردد س عيد بن جب ير‪:‬‬
‫ُظلَ ُم ونَ ﴾‬ ‫ت َوهُ ْم ال ي ْ‬ ‫س َم ا َك َس بَ ْ‬‫﴿ َواتَّقُوا يَوْ ما ً تُرْ َج ُع ونَ فِي ِه إِلَى هَّللا ِ ثُ َّم تُ َوفَّى ُك لُّ نَ ْف ٍ‬
‫(البقرة‪ ،)281:‬وغير ذلك مما تواترت روايته عن السلف‪ ،‬ومن بعدهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه النسائي وابن ماجه‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫ولكن هذه اإلشاعة قد تصطدم بأكثر األقوال الفقهية شهرة‪ ،‬بل نرى أن هناك‬
‫من يس تغل الفق ه‪ ،‬وآراء الفقه اء ليح رم المجتم ع من إش اعة الق رآن الك ريم‪ ،‬فيبقى‬
‫محصورا في دائرة ضيقة‪ ،‬وفي أوقات محدودة‪.‬‬
‫وسنذكر أمثلة هنا على ذلك‪ ،‬والرد عليها‪:‬‬
‫االجتماع على القرآن الكريم‪:‬‬
‫أو ما يسمى بالقرءة الجماعية للقرآن الكريم‪ ،‬فهي مع وضوح أدلته ا‪ ،‬نج دها‬
‫محل نكار كبير ممن يرمون بسهام البدعة كل ما يرونه من مظاهر المحافظ ة على‬
‫المجتمعات اإلسالمية‪.‬‬
‫ولس نا ن دري م ا اس تدلوا ب ه إال أنهم لم يس تدلوا بطالق ة النص وص ال تي لم‬
‫تحددطريقة معينة في القرءة‪.‬‬
‫ولم يس تدلوا بقول ه ‪(:‬م ا اجتم ع ق وم في بيت من بي وت هللا تع الى يتل ون‬
‫كت اب هللا ويتدارس ونه بينهم إال ن زلت عليهم الس كينة وغش يتهم الرحم ة وحفتهم‬
‫المالئكة‪ ،‬وذكرهم هللا فيمن عنده)(‪)1‬‬
‫ولم يستدلوا بفعل السلف‪ ،‬قال الن ووي‪(:‬وروى ابن أبي داود‪ :‬أن أب ا ال درداء‬
‫ك ان ي درس الق رآن مع ه نف ر يق رءون جميع ا‪ ،‬وروى ابن أبي داود فع ل الدراس ة‬
‫مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين)(‪)2‬‬
‫وإن كانوا مقلدين‪ ،‬فإنهم لم يستدلوا على أن هذا هو قول جماهير الفقهاء‪ ،‬قال‬
‫النووي‪(:‬أعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدالئل الظاهرة وأفعال الس لف‬
‫والخلف المتظاهر)(‪)3‬‬
‫ولم يخالف في ذلك إال ما روي عن الضحاك ومالك‪ ،‬م ع أن أص حاب مال ك‬
‫يتأولون قوله‪.‬‬
‫وإنما ذكرنا هذه المسألة هنا لما نراه من أهمية عق د الحل ق الجماعي ة للق رآن‬
‫الكريم في المساجد والبيوت وغيرها‪ ،‬لمساهمتها في تصحيح قراءة الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫وتيسير حفظه ومراجعته وااللتزام بذلك كله‪.‬‬
‫وقد كانت هذه الحلق القرآنية سنة حسنة في المجتمعات اإلسالمية‪ ،‬وق د ذك ر‬
‫الن ووي عن حي ان بن عطي ة واألوزاعي أنهم ا ق اال‪(:‬أول من أح دث الدراس ة في‬
‫مسجد دمشق هشام بن اسمعيل في قدمته على عبد الملك)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬أما ما روى ابن أبي داود عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب‪ :‬أنه أنكر هذه الدراسة‪ ،‬وق ال م ا رأيت‬
‫وال سمعت‪ ،‬وقد أدركت أصحاب رسول هللا ‪ ،‬يعني ما رأيت أحدأ فعلها‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك م ا روي عن وهب ق ال‪ :‬قلت لمال ك أرأيت الق وم يجتمع ون فيق رءون جميع ا س ورة واح دة ح تى‬
‫يختموها؟ فأنكر ذلك وعابه‪ ،‬وقال‪ :‬ليس هكذا تضيع الناس إنما كان يقرأ الرجل على اآلخر يعرضة‪.‬‬
‫فقد رد النووي على ذلك‪ ،‬فقال‪ (:‬فهذا االنكار منهما مخالف لما عليه السلف والخلف‪ ،‬ولما يقتض ية ال دليل‪ ،‬فه و‬
‫متروك‪ ،‬واالعتماد على ما تقدم من استحابها ) التبيان في آداب حملة القرآن‪.52 :‬‬
‫‪ )(3‬التبيان في آداب حملة القرآن‪.52 :‬‬
‫‪ )(4‬التبيان في آداب حملة القرآن‪.52 :‬‬

‫‪335‬‬
‫فهي سنة قديمة حصلت في عهد السلف األول يمكن إحياؤها‪ ،‬وتنظيمها‪ ،‬م ع‬
‫مراعاة اآلداب التي نرى اإلخالل بالكثير منها في القراءات الجماعية الموجودة في‬
‫مجتمعنا‪.‬‬
‫القراءة على كل حال‪:‬‬
‫وهذا من األمور المهمة‪ ،‬ألن اإلنسان قد ينشط في وقت من األوق ات لق راءة‬
‫الق رآن الك ريم‪ ،‬وف إذا م ا ذهب ليق رأ وج د الش روط الكث يرة ال تي يج د في عزم ه‬
‫القصور عن الوفاء بها‪.‬‬
‫فلذلك كان من الفقه المقاصدي عدم اعتبار تلك الشروط ما وجد لذلك س بيال‪،‬‬
‫وسنذكر هنا بعض تلك الش روط ال على الطريق ة ال تي اعت دنا عليه ا‪ ،‬فل ذلك محل ه‬
‫الخاص‪ ،‬وإنما سننتقي من أقوال الفقهاء‪ ،‬وأدلتهم ما يرفع تلك الشروط وآثارها‪.‬‬
‫فمنها اشتراط الطه ارة لق راءة الق رآن الك ريم س واء الطه ارة الص غرى أو‬
‫الطهارة الكبرى‪ ،‬وهو قول جماهير الفقه اء‪ ،‬ولكن األدل ة الص ريحة الظ اهرة على‬
‫خالفه‪.‬‬
‫ولذلك ذهب الظاهرية إلى خالف هذا القول‪ ،‬ق ال ابن ح زم‪(:‬وق راءة الق رآن‬
‫والس جود في ه ومس المص حف وذك ر هللا تع الى ج ائز‪ ،‬ك ل ذل ك بوض وء وبغ ير‬
‫وضوء وللجنب والحائض)‪ ،‬قال‪(:‬وهو قول داود وجميع أصحابنا)(‪)1‬‬
‫ثم روى هذا عن عن ربيعة قال‪ :‬ال بأس أن يق رأ الجنب الق رآن‪ ،‬وروى عن‬
‫حماد قال سألت سعيد بن المسيب عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ فقال‪ :‬وكيف ال يقرؤه‬
‫وهو في جوفه‪ ،‬وروى عن نصر الب اهلي‪ .‬ق ال‪ :‬ك ان ابن عب اس يق رأ البق رة وه و‬
‫جنب‪.‬‬
‫واستدل لهذا بأص ل مهم ينبغي مراعات ه في فق ه العب ادات‪ ،‬وه و (أن ق راءة‬
‫الق رآن والس جود في ه ومس المص حف وذك ر هللا تع الى أفع ال خ ير من دوب إليه ا‬
‫مأجور فاعلها‪ ،‬فمن ادعى المنع فيها في بعض األحوال كلف أن يأتي بالبرهان)‬
‫أما ما وري عن عبد هللا بن س لمة عن علي بن أبي ط الب أن رس ول هللا ‪‬‬
‫لم يكن يحجزه عن الق رآن ش يء ليس الجنابة(‪ ،)2‬فق د ق ال في ه ابن ح زم‪(:‬وه ذا ال‬
‫حجة لهم فيه ؛ ألنه ليس فيه نهي عن أن يقرأ الجنب القرآن‪ ،‬وإنما هو فعل من ه ‪‬‬
‫ال يلزم‪ ،‬وال بين ‪ ‬أنه إنما يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجناب ة‪ .‬وق د يتف ق ل ه‬
‫‪ ‬ترك القراءة في تلك الحال ليس من أجل الجناب ة‪ ،‬وه و ‪ ‬لم يص م ق ط ش هرا‬
‫كامال غير رمضان‪ ،‬ولم يزد ق ط في قيام ه على ثالث عش رة ركع ة‪ ،‬وال أك ل ق ط‬
‫على خوان‪ ،‬وال أكل متكئا‪ ،‬أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان أو أن يتهج د‬
‫المرء بأكثر من ثالث عشرة ركعة‪ ،‬أو أن يأكل على خوان‪ ،‬أو أن يأكل متكئا؟ ه ذا‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.1/83 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬

‫‪336‬‬
‫جدا)(‪)1‬‬ ‫ال يقولونه‪ ،‬ومثل هذا كثير‬
‫أما ما ورد من اآلثار القولي ة ال تي تنهي الجنب ومن ليس على طه ر عن أن‬
‫يقرأ ش يئا من الق رآن(‪ ،)2‬فق د ق ال فيه ا ابن ح زم‪(:‬ال يص ح منه ا ش يء‪ ،‬وق د بين ا‬
‫ضعف أسانيدها في غير موضع‪ ،‬ولو صحت لكانت حج ة على من ي بيح ل ه ق راءة‬
‫اآلية التامة أو بعض اآلية ؛ ألنها كلها نهي عن قراءة القرآن للجنب جملة)‬
‫ومنها اشتراط الطهارة لمس المصحف‪ ،‬وهو ما يح ول بين اإلنس ان وحم ل‬
‫المصحف معه أو في جيبه ليستغل وقت فراغه في قراءة القرآن الكريم‪ ،‬فلذلك ك ان‬
‫من التيسير ومن إشاعة القرآن الكريم عدم اشتراط ه ذا الش رط(‪ ،)3‬ق ال ابن ح زم‪:‬‬
‫(وأما مس المصحف فإن اآلثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه فإنه ال يص ح‬
‫منها ش يء ؛ ألنه ا إم ا مرس لة وإم ا ص حيفة ال تس ند وإم ا عن مجه ول وإم ا عن‬
‫ضعيف)(‪)4‬‬
‫واستدل لذلك بكتاب رسول هللا ‪ ‬الذي بعث به رس ول هللا ‪ ‬إلى هرق ل‪،‬‬
‫فقد كان فيه ىية قرآنية‪ ،‬هي قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب تَ َعالَوْ ا إِلَى َكلِ َم ٍة َس َوا ٍء بَ ْينَنَ ا‬
‫ضنَا بَعْض ا ً أَرْ بَاب ا ً ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ‬ ‫َوبَ ْينَ ُك ْم أَاَّل نَ ْعبُ َد إِاَّل هَّللا َ َوال نُ ْش ِر َ‬
‫ك بِ ِه َشيْئا ً َوال يَتَّ ِخ َذ بَ ْع ُ‬
‫فَإِ ْن ت ََولَّوْ ا فَقُولُوا ا ْشهَدُوا بِأَنَّا ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ (آل عمران‪ ،)64:‬قال ابن حزم‪(:‬فهذا رسول‬
‫هللا ‪ ‬ق د بعث كتاب ا وفي ه ه ذه اآلي ة إلى النص ارى وق د أيقن أنهم يمس ون ذل ك‬
‫الكتاب)‬
‫وقد رد على الشبهة التي يوردها المخ الفون من أن رس ول هللا ‪ ‬إنم ا بعث‬
‫إلى هرقل آية واحدة بقوله‪(:‬ولم يمنع ‪ ‬من غيرها وأنتم أهل قياس ف إن لم تقيس وا‬
‫على اآلية ما هو أكثر منها فال تقيسوا على هذه اآلية غيرها)‬
‫ب َم ْكنُ و ٍن ال يَ َم ُّس هُ إِاَّل ْال ُمطَهَّرُونَ ﴾ (الواقع ة‪ 78:‬ـ‬ ‫أما قوله تع الى‪ ﴿ :‬فِي ِكتَ ا ٍ‬
‫‪ )79‬الذي استدل به المخالفون فال داللة فيه على ذلك‪ ،‬قال ابن حزم‪(:‬فه ذا ال حج ة‬
‫لهم فيه ألنه ليس أمرا وإنم ا ه و خ بر‪ .‬وهللا تع الى ال يق ول إال حق ا‪ .‬وال يج وز أن‬
‫يص رف لف ظ الخ بر إلى مع نى األم ر إال بنص جلي أو إجم اع م تيقن‪ .‬فلم ا رأين ا‬
‫المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عز وج ل لم يعن المص حف وإنم ا‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.1/83 :‬‬
‫‪ )(2‬من ذلك ما روي عن ابن عمر‪ ،‬أن النبي ‪ ‬قال‪ (:‬ال تقرأ الحائض وال الجنب شيئا من الق رآن ) رواه أب و‬
‫داود‪ ،‬والترمذي‪ .‬وقال‪ :‬يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع‪ ،‬وقد ضعف‪ ،‬البخاري روايت ه عن أه ل الحج از‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫إنما روايته عن أهل الشام‪.‬‬
‫‪ )(3‬اختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء‪ ،‬فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم‪.‬‬
‫وه و م ذهب علي وابن مس عود وس عد بن أبي وق اص وس عيد بن زي د وعط اء والزه ري والنخعي والحكم وحم اد‪،‬‬
‫وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي‪ .‬واختلفت الرواية عن أبي حنيفة‪ ،‬فروي عنه أنه يمسه المح دث‪ ،‬وق د روي‬
‫هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما‪ .‬وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما ال مكت وب‬
‫فيه‪ ،‬وأما الكتاب فال يمسه إال طاهر‪.‬‬
‫‪ )(4‬المحلى‪.1/81 :‬‬

‫‪337‬‬
‫آخر)(‪)1‬‬ ‫عنى كتابا‬
‫وعلى اعتب اره مص حفا‪ ،‬فق د ذك ر المفس رون أق واال كث يرة في تفس ير‬
‫﴿ ْال ُمطَهَّرُونَ ﴾ تجعل االستدالل باآلية غير صحيح‪.‬‬
‫فق د ق ال أنس وس عيد وابن جب ير‪ :‬ال يمس ذل ك الكت اب إال المطه رون من‬
‫الذنوب وهم المالئكة‪ ،‬وق ال أب و العالي ة وابن زي د‪ :‬إنهم ال ذين طه روا من ال ذنوب‬
‫كالرسل من المالئكة والرسل من بني آدم‪ ،‬فجبريل النازل به مطهر‪ ،‬والرسل الذين‬
‫يجيئهم بذلك مطهرون‪ ،‬وقال الكلبي‪ :‬هم السفرة الكرام البررة‪ ،‬وهو نحو ما اخت اره‬
‫مال ك حيث ق ال‪ :‬أحس ن م ا س معت في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬ال يَ َم ُّس هُ إِاَّل ْال ُمطَهَّرُونَ ﴾‬
‫س َوت ََولَّى ﴾ (عبس‪﴿ :)1:‬فَ َم ْن َشا َء َذ َك َرهُ﴾‬ ‫(الواقعة‪ )79:‬أنها بمنزلة اآلية التي في ﴿ َعبَ َ‬
‫(عبس‪ )12:‬إلى قول ه تع الى‪ِ ﴿ :‬ك َر ٍام بَ َر َر ٍة﴾ (عبس‪ ))16:‬يري د أن المطه رين هم‬
‫المالئكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة عبس‪.‬‬
‫وعن علقمة قال‪ :‬أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف له فقلن ا ل ه‪ :‬ل و‬
‫توضأت يا أبا عبد هللا ثم قرأت علينا سورة كذا؟ فق ال س لمان‪ :‬إنم ا ق ال هللا تع الى‪:‬‬
‫ون ال يَ َم ُّسهُ إِاَّل ْال ُمطَهَّرُونَ ﴾ (الواقعة‪ 78:‬ـ ‪ )79‬وهو الذكر ال ذي في‬ ‫ب َم ْكنُ ٍ‬
‫﴿ فِي ِكتَا ٍ‬
‫السماء ال يمسه إال المالئكة‪.‬‬
‫وعن علقمة بن قيس‪ :‬إنه كان إذا أراد أن يتخذ مصحفا أمر نص رانيا فنس خه‬
‫له‪.‬‬
‫وق د الح ظ المالكي ة بعض الفق ه المقاص دي في ه ذه المس ألة‪ ،‬فأج ازوا مس‬
‫المصحف للعالم والمتعلم‪.‬‬
‫ومنها منع الحائض من قراءة القرآن الكريم أو مس المص حف‪ ،‬وه ذا يمن ع‬
‫النساء من حفظ القرآن الكريم‪ ،‬ألن حفظه يتطلب المداومة المس تمرة والتعه د‪ ،‬ف إذا‬
‫بقيت الم رأة طيل ة ف ترة حيض ها ونفاس ها بعي دة عن ه‪ ،‬لن تس تطيع حفظ ه وال‬
‫االستمرار على ذلك‪.‬‬
‫وقد ذهب مالك إلى جواز قراءة الحائض للقرآن الكريم‪ ،‬اعتبارا له ذه العل ة‪،‬‬
‫وقد تعجب ابن حزم من هذا‪ ،‬فقال‪(:‬وكذلك تف ريقهم بين الح ائض والجنب ب أن أم د‬
‫الحائض يطول‪ ،‬فهو محال‪ ،‬ألنه إن كانت قراءتها للقرآن حراما فال يبيحه لها طول‬
‫أمدها‪ ،‬وإن كان ذلك لها حالال فال معنى لالحتجاج بطول أمدها)(‪)2‬‬
‫إشاعة التالوة في كل المحال‪:‬‬
‫وذلك مما منعت من ه كث ير من الش روط والتش ديدات ال تي ذهب إليه ا بعض‬
‫الفقهاء‪ ،‬بحجة حرمة القرآن الكريم وطهارته غ افلين عن أن حرم ة الق رآن الك ريم‬
‫ذاتيه‪ ،‬ال تؤثر فيها المؤثرات‪ ،‬بل القرآن الكريم كالماء الطهور دوره األساس ي ه و‬
‫تطهير غيره والحفاظ على طهارته‪.‬‬

‫‪ )(1‬المحلى‪.1/83 :‬‬
‫‪ )(2‬المحلى‪.1/79 :‬‬

‫‪338‬‬
‫وتلك التشديدات تصب في مصب واحد‪ ،‬هو أن ال يقرأ القرآن الك ريم إال في‬
‫حالة واحدة‪ ،‬وهي أن يقرأ في محل طاهر كالمسجد ونحوه‪ ،‬وأن ال يكون هناك رفع‬
‫لألصوات‪ ،‬وأن يكون هناك حضور واستماع للحاضرين‪ ،‬وأن يكون هناك‪...‬‬
‫ش روط كث يرة تح د من إش اعة الق رآن الك ريم‪ ،‬بحيث ال يس معه إال ثل ة‬
‫مخصوصة‪ ،‬قد تكون مهتدية أصال بهديه‪ ،‬أما غيرها ممن يحتاج إلى هدايته‪ ،‬فيظل‬
‫محجوبا إل أن يهتدي‪ ،‬ولسنا ندري كيف يهتدي‪ ،‬ومنبع الهداية محجوب عنه‪.‬‬
‫ول ذلك ن رى أن يق ال بإش اعة ق راءة الق رآن الك ريم في ك ل المح ال‪ ،‬س واء‬
‫ارتفعت األصوات عليه أو لم ترتفع‪ ،‬وسواء كان ذلك في قنوات ومحال ملتزم ة أو‬
‫غير ملتزمة‪ ،‬وسواء كان الحضور محترمين للقرآن الكريم أو مستهزئين به‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم كالس يف ال ذي يجاه د ب ه‪ ،‬وال ح رج على الس يف أن تص يبه‬
‫الدماء‪ ،‬فهو أص ال موض وع ل ذلك‪ ،‬وق د ق ال تع الى في الق رآن الك ريم‪ ﴿ :‬فَال تُ ِط ِع‬
‫ْال َكافِ ِرينَ َو َجا ِه ْدهُ ْم بِ ِه ِجهَاداً َكبِيراً﴾ (الفرقان‪)52:‬‬
‫ولهذا كان رسول هللا ‪ ‬يشيع ق راءة الق رآن الك ريم في ك ل المح ال‪ ،‬وأم ام‬
‫لغط ولغو الالغين‪.‬‬
‫وفي القرآن الك ريم األدل ة الكث يرة على ذل ك‪ ،‬فاهلل تع الى يخ بر عن مواق ف‬
‫الكافرين والجاح دين من الق رآن الك ريم‪ ،‬وه و يتلى عليهم‪ ،‬وال يك ون ذل ك إال بع د‬
‫ق لَ َّما‬ ‫ت قَ ا َل الَّ ِذينَ َكفَ رُوا لِ ْل َح ِّ‬ ‫سماعهم له‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَ ا بَيِّنَ ا ٍ‬
‫ين﴾ (االحق اف‪ ،)7:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه آيَاتُنَ ا قَ ا َل‬ ‫َج ا َءهُ ْم هَ َذا ِس حْ ٌر ُمبِ ٌ‬
‫ال الَّ ِذينَ‬ ‫ت قَ َ‬ ‫أَ َسا ِطي ُر اأْل َ َّولِينَ ﴾ (القلم‪ ،)15:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا بَيِّنَ ا ٍ‬
‫ت بِقُ رْ آ ٍن َغ ْي ِر هَ َذا أَوْ بَد ِّْل هُ قُ لْ َم ا يَ ُك ونُ لِي أَ ْن أُبَ ِّدلَ هُ ِم ْن تِ ْلقَ ا ِء‬ ‫ال يَرْ جُونَ لِقَا َءنَا ا ْئ ِ‬
‫َظ ٍيم﴾‬ ‫اب يَ وْ ٍم ع ِ‬ ‫ْت َربِّي َع َذ َ‬ ‫َص ي ُ‬ ‫ي إِنِّي أَ َخ افُ إِ ْن ع َ‬ ‫نَ ْف ِس ي إِ ْن أَتَّبِ ُع إِاَّل َم ا يُ و َحى إِلَ َّ‬
‫ال الَّ ِذينَ َكفَ رُوا لِلَّ ِذينَ‬ ‫ت قَ َ‬ ‫(ي ونس‪ ،)15:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَ ا بَيِّنَ ا ٍ‬
‫آ َمنُوا أَيُّ ْالفَ ِريقَ ْي ِن خَ ْي ٌر َمقَام ا ً َوأَحْ َس نُ نَ ِديّاً﴾ (م ريم‪ ،)73:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى‬
‫ت تَ ْع ِرفُ فِي ُو ُج و ِه الَّ ِذينَ َكفَ رُوا ْال ُم ْن َك َر يَ َك ا ُدونَ يَ ْس طُونَ بِالَّ ِذينَ‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَ ا بَيِّنَ ا ٍ‬
‫س‬ ‫يَ ْتلُ ونَ َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِنَ ا قُ لْ أَفَ أُنَبِّئُ ُك ْم بِ َش رٍّ ِم ْن َذلِ ُك ُم النَّا ُر َو َع َدهَا هَّللا ُ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا َوبِ ْئ َ‬
‫صيرُ﴾ (الحج‪)72:‬‬ ‫ْال َم ِ‬
‫وهللا تعالى يخبر باحتجاج ه على الكف ار بك ون اآلي ات ك انت تتلى عليهم في‬
‫اس تَ ْكبَرْ تُ ْم‬ ‫ال دنيا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وأَ َّما الَّ ِذينَ َكفَ رُوا أَفَلَ ْم تَ ُك ْن آيَ اتِي تُ ْتلَى َعلَ ْي ُك ْم فَ ْ‬
‫َت آيَاتِي تُ ْتلَى َعلَ ْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم‬ ‫َو ُك ْنتُ ْم قَوْ ما ً ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ (الجاثـية‪ ،)31:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬قَ ْد َكان ْ‬
‫َعلَى أَ ْعقَابِ ُك ْم تَ ْن ِكصُونَ ﴾ (المؤمن ون‪ ،)66:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَلَ ْم تَ ُك ْن آيَ اتِي تُ ْتلَى َعلَ ْي ُك ْم‬
‫فَ ُك ْنتُ ْم بِهَا تُ َك ِّذبُونَ ﴾ (المؤمنون‪)105:‬‬
‫بل إن القرآن الكريم ـ منعا لكل تأويل ـ يصرح بس ماعهم للق رآن الك ريم م ع‬
‫كفرهم وعنادهم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا قَ الُوا قَ ْد َس ِم ْعنَا لَ وْ ن ََش ا ُء لَقُ ْلنَ ا‬
‫اطي ُر اأْل َ َّولِينَ ﴾ (ألنف ال‪ ،)31:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه‬ ‫ِم ْث َل هَ َذا إِ ْن هَ َذا إِاَّل أَ َس ِ‬
‫ب أَلِ ٍيم﴾ (لقم ان‪:‬‬ ‫آيَاتُنَا َولَّى ُم ْستَ ْكبِراً َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْس َم ْعهَا َكأ َ َّن فِي أُ ُذنَ ْي ِه َو ْق راً فَبَ ِّش رْ هُ بِ َع َذا ٍ‬

‫‪339‬‬
‫ُص رُّ ُم ْس تَ ْكبِراً َك أ َ ْن لَ ْم يَ ْس َم ْعهَا‬ ‫ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ثُ َّم ي ِ‬
‫‪ ،)7‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ْس َم ُع آيَ ا ِ‬
‫ب أَلِ ٍيم﴾ (الجاثـية‪)8:‬‬ ‫فَبَ ِّشرْ هُ بِ َع َذا ٍ‬
‫ثم كيف ال ينشر القرآن الكريم‪ ،‬ويشاع لكل طوائف الناس‪ ،‬وفيه من الخطاب‬
‫للناس جميعا ما ال يسعهم تركه وعدم االستماع إلي ه‪ ،‬ف القرآن الك ريم كم ا يخ اطب‬
‫الذين آمنوا يخاطب الناس بطوائفهم‪ ،‬كما يخطاب الكفار بمللهم ونحلهم؟‬
‫ثم كيف يسمع الناس كل الناس قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ ا ْعبُ دُوا َربَّ ُك ُم ال ِذي‬
‫َّ‬
‫خَ لَقَ ُك ْم َوالَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ ﴾ (البقرة‪)21:‬أو قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ ُكلُوا‬
‫ين﴾ (البقرة‪:‬‬ ‫ان إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬‫ت ال َّش ْيطَ ِ‬ ‫ض َحالالً طَيِّبا ً َوال تَتَّبِعُوا ُخطُ َوا ِ‬ ‫ِم َّما فِي اأْل َرْ ِ‬
‫َان ِم ْن َربِّ ُك ْم َوأَ ْنزَ ْلنَا إِلَ ْي ُك ْم نُ وراً‬ ‫‪ ،)168‬أو قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَ ْد َجا َء ُك ْم بُرْ ه ٌ‬
‫ق فَال تَ ُغ َّرنَّ ُك ُم‬ ‫ُمبِيناً﴾ (النساء‪ ،)174:‬أو قوله تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا النَّاسُ إِ َّن َو ْع َد هَّللا ِ َح ٌّ‬
‫ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا َوال يَ ُغ َّرنَّ ُك ْم بِاهَّلل ِ ْال َغرُورُ﴾ (فاطر‪)5:‬‬
‫اس تَ ِمعُوا لَ هُ إِ َّن‬ ‫ب َمثَ ٌل فَ ْ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫أو قوله وهو يأمرهم باالستماع‪َ ﴿ :‬ا أَيُّهَا النَّاسُ ُ‬
‫الذبَابُ َشيْئا ً ال‬ ‫الَّ ِذينَ تَ ْد ُعونَ ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ لَ ْن يَ ْخلُقُوا ُذبَابا ً َولَ ِو اجْ تَ َمعُوا لَهُ َوإِ ْن يَ ْسلُ ْبهُ ُم ُّ‬
‫طلُوبُ ﴾ (الحج‪)73:‬‬ ‫ضعُفَ الطَّالِبُ َو ْال َم ْ‬ ‫يَ ْستَ ْنقِ ُذوهُ ِم ْنهُ َ‬
‫أو قوله مخاطبا ال ذين كف روا‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ َكفَ رُوا ال تَ ْعتَ ِذرُوا ْاليَ وْ َم إِنَّ َم ا‬
‫تُجْ َزوْ نَ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ (التحريم‪)7:‬‬
‫ك‬ ‫ك بِ َربِّ َ‬ ‫أو قوله مخاطبا اإلنسان مجردا من كل دين‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا اأْل ِ ْن َسانُ َما َغ َّر َ‬
‫ْال َك ِر ِيم﴾ (االنفط ار‪ ،)6:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا اأْل ِ ْن َس انُ إِنَّكَ َك ا ِد ٌح إِلَى َربِّكَ َك ْدحا ً‬
‫فَ ُمالقِي ِه﴾ (االنشقاق‪)6:‬‬
‫والنظر المقاصدي الذي نراه من خالل هذه اإلشاعة هو أن أي شخص مهم ا‬
‫كان منحرفا قد يصادف غفلة من شهواته‪ ،‬أو صدودا من شيطانه‪ ،‬أو رقة في قلب ه‪،‬‬
‫فيصادف آية تخرجه من أوهامه لتضعه بين ي دي رب ه‪ ،‬فلم اذا نمن ع ه ذه اآلي ة من‬
‫الوصول إلى آذانه أو آذان قلبه‪.‬‬
‫وق د روي عن الفض يل بن عي اض أن س بب توبت ه ك ان (أن ه عش ق جاري ة‬
‫فواعدته ليال‪ ،‬فبينما هو ي رتقي الج دران إليه ا إذ س مع قارئ ا يق رأ‪ ﴿ :‬أَلَ ْم يَ أْ ِن لِلَّ ِذينَ‬
‫ق ﴾ (الحدي د‪ ،)16:‬فرج ع القهق رى‬ ‫آ َمنُوا أَ ْن ت َْخ َش َع قُلُوبُهُ ْم لِ ِذ ْك ِر هَّللا ِ َو َما نَزَ َل ِمنَ ْال َح ِّ‬
‫وهو يقول‪ :‬بلى وهللا قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة‪ ،‬وبعض هم‬
‫يقول لبعض‪ :‬إن فضيال يقطع الطريق‪ .‬فقال الفض يل‪ :‬أواه! أراني باللي ل أس عى في‬
‫معاصي هللا‪ ،‬قوم من المس لمين يخ افونني! اللهم إني ق د تبت إلي ك‪ ،‬وجعلت توب تي‬
‫إليك جوار بيتك الحرام‪.‬‬
‫بل روي عن الص حابة أنهم ك انوا يتح رون إس ماع المش ركين‪ ،‬ب ل وتحم ل‬
‫األذى في سبيل ذلك‪ ،‬فعن عروة بن الزب ير ق ال‪ :‬أول من جه ر ب القرآن بمك ة بع د‬
‫النبي ‪ ‬ابن مسعود؛ وذلك أن الصحابة قالوا‪ :‬ما سمعت قريش ه ذا الق رآن يجه ر‬
‫به قط‪ ،‬فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود‪ :‬أنا‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنا نخش ى علي ك‪ ،‬وإنم ا‬
‫نريد رجال له عش يرة يمنعون ه‪ ،‬ف أبى ثم ق ام عن د المق ام فق ال‪ ﴿ :‬بس م هللا ال رحمن‬

‫‪340‬‬
‫الرحيم‪ .‬الرحمن َعلَّ َم ْالقُرْ آنَ ﴾ (الرحمن‪ 1:‬ـ ‪ ،)2‬ثم تمادى رافعا بها ص وته وق ريش‬
‫في أنديتها‪ ،‬فتأملوا وقالوا‪ :‬ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا‪ :‬ه و يق ول ال ذي ي زعم محم د‬
‫أنه أنزل عليه‪ ،‬ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه‪.‬‬
‫فإذا أتيح لنا اليوم أن ننشر القرآن الكريم بالطرق المختلفة‪ ،‬فما الذي يمنع من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫بل نرى رأي ا ال نج د المق ام لالس تدالل علي ه هن ا‪ ،‬وه و أن تس جل التالوات‬
‫للقرآن المترجم باللغات المختلفة‪ ،‬مرتلة باألصوات الرخيمة الجذاب ة الم ؤثرة‪ ،‬على‬
‫أن تكون الترجمة نفسها في قمة البالغة الممكنة‪ ،‬ثم تشاع في البالد ال تي ال تع رف‬
‫العربية‪ ،‬ليكون ذلك طريقا من طرق إيصال هداية هللا إليها‪.‬‬
‫وال مانع من ذل ك‪ ،‬فيم ا ن رى‪ ،‬إال أع راف تعارفناه ا جعلتن ا نحتك ر الق رآن‬
‫الكريم مع كونه كالم هللا تعالى الموجه للبشرية جميعا‪ ،‬فص رنا نتص ور أن حرمت ه‬
‫تكون بكتابته كتابة مزخرفة‪ ،‬ثم يوضع في لوح مكنون ال يمسه أحد‪ ،‬وال يس مع ب ه‬
‫أحد‪ ،‬ليبقى طاهرا مقدسا‪ ،‬غافلين عما أمرنا به من الجهاد بالقرآن الكريم‪.‬‬
‫وإنما ذكرنا هذا‪ ،‬ألن في اإلنسان ميال إلى الكالم المؤثر سواء في بالغت ه أو‬
‫طريقة أدائه‪ ،‬ولذلك كان القرآن الكريم في قمة البالغة‪ ،‬وقد أمرنا بتزيين األصوات‬
‫به‪ ،‬ومن احتكار القرآن الكريم اعتبار ذلك خاصا بالعربية ال بغيرها من اللغات م ع‬
‫أن أكثر هذه األمة ـ أمة اإلجابة أو أمة الدعوة ـ من غير العرب‪.‬‬
‫ب ـ علوم الكتاب والحكمة‬
‫وهي القسم الثاني من أقسام العلوم التي كلف الرس ول ‪ ‬وكل ف أتباع ه من‬
‫بع ده بإش اعتها وتعليمه ا الن اس‪ ،‬وق د وردت في الق رآن الك ريم مرتب ة بترتي بين‬
‫مختلفين‪:‬‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُس والً ِم ْنهُ ْم‬‫األول‪ :‬تقديمها على التزكية‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ربَّنَ ا َوا ْب َع ْ‬
‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َويُ زَ ِّكي ِه ْم إِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾‬ ‫ك َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَ َ‬ ‫يَ ْتلُ و َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ َ‬
‫(البقرة‪ ،)129:‬وفي ذلك إشارة إلى دور الكتاب والحكمة في التزكية‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تقديم التزكية عليها‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َم َّن هَّللا ُ َعلَى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ إِذْ‬
‫َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َوإِ ْن‬
‫ث فِي ِه ْم َرسُوالً ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم يَ ْتلُو َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُزَ ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكت َ‬ ‫بَ َع َ‬
‫ث‬ ‫الل ُمبِي ٍن﴾ (آل عمران‪ ،)164:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي بَ َع َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَفِي َ‬
‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َوإِ ْن‬‫فِي اأْل ُ ِّميِّينَ َر ُس والً ِم ْنهُ ْم يَ ْتلُ و َعلَ ْي ِه ْم آيَاتِ ِه َويُ زَ ِّكي ِه ْم َويُ َعلِّ ُمهُ ُم ْال ِكتَ َ‬
‫الل ُمبِي ٍن﴾ (الجمعة‪ ،)2:‬وفي ذلك إش ارة إلى دور التزكي ة في‬ ‫ض ٍ‬ ‫َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَفِي َ‬
‫الفهم الراقي للكتاب والحكمة‪ ،‬وك ون ذل ك الفهم مرتبط ا بحص ول التزكي ة‪ ،‬ف العلم‬
‫بالكتاب والحكمة وسيلة من وسائل التزكية‪ ،‬كما أنه ثمرة من ثمراتها‪.‬‬
‫وبما أن المقصد من هذين العلمين‪ ،‬كما تشير إليه هذه اآليات هذان األمران‪:‬‬
‫التزكية‪ :‬وهي ـ كما سيأتي ـ تربية اإلنسان ليصبح أهال لعب ادة هللا والتع رف‬
‫عليه‪.‬‬
‫الفهم‪ :‬ليعرف الحقائق الكبرى المتجلية في العلم والحكمة‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫فاألول عملي يصب في تربية اإلنسان وإص الحه‪ ،‬والث اني علمي يص ب في‬
‫ترقية اإلنسان ورفعه وتمثيل حقيقته‪.‬‬
‫ولذلك سنتحدث عن مراعاة هذين المقصدين في علوم الكتاب والحكمة‪:‬‬
‫علوم الكتاب‬
‫نقصد بعلوم الكتاب العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم‪ ،‬وهي كثيرة ج دا ال تك اد‬
‫تنحصر‪ ،‬ففي القرآن الكريم كل حقائق الوجود‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ون َّ َْزلنَا عَ َل ْيكَ ْال ِك َت َ‬
‫اب ِت ْب َيان ًا ِل ُك لِّ‬
‫َش ْي ٍء ﴾ (النحل‪)89 :‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫زَل ِإ َل ْي كَ أ ْنزَ َل هُ ِب ِعل ِم ِه‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬
‫ومن مصدرها األص لي‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ل ِك ِن ُ َي ْش َه ُد ِب َم ا أ ْن َ‬
‫َو ْال َمال ِئ َكةُ َي ْش َه ُدونَ َو َك َفى ِباهَّلل ِ َش ِهيد ًا﴾ (النساء‪ ،)166:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ أ ْنزَ َل هُ ال ِذي َيعْ َل ُم‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ض ِإنَّهُ َكانَ َغفُور ًا َر ِحيماً﴾ (الفرقان‪ ،)6:‬وقال تع الى‪َ ﴿ :‬و َي َرى‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫السِّرَّ ِفي ال َّس َم َ‬
‫ْ‬
‫اط ال َع ِزي ِز ال َح ِمي ِد﴾‬ ‫ْ‬ ‫ص َر ِ‬ ‫ق َو َي ْه ِدي ِإ َلى ِ‬ ‫الَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِعل َم الَّ ِذي أ ْن ِز َل ِإ َل ْي كَ ِم ْن َربِّكَ هُ َو ال َح َّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫(سـبأ‪)6:‬‬
‫وذلك ألن كمال الحقائق يكون بتوفر أمرين‪:‬‬
‫‪ .1‬شمولها ووحدتها ودق ة انتظامه ا وإجابته ا على ك ل م ا يمكن طرح ه من‬
‫إشكاالت وتساؤالت‪.‬‬
‫‪ .2‬صحة مصدرها ودقته والوثوق به‪.‬‬
‫وكال األمرين ال يصدقان إال على القرآن الكريم‪ ،‬فهو الكتاب الوحي د ال ذي يش مل‬
‫أرقى المعارف‪ ،‬ومن أدق المصادر‪.‬‬
‫وقد أشار الرسول ‪ ‬إلى اعتبار القرآن الكريم مصدرا أساسيا للمع ارف‪ ،‬وت دبر‬
‫القرآن الكريم لذلك‪ ،‬فقال ‪(:‬أتاني جبريل فقال‪(:‬يا محمد إن األمة مفتون ة بع دك)‪ ،‬قلت‬
‫له‪(:‬فما المخرج يا جبريل؟)‪ ،‬قال‪(:‬كتاب هللا في ه نب أ م ا قبلكم وخ بر م ا بع دكم وحكم م ا‬
‫بينكم وهو حبل هللا المتين وهو الصراط المستقيم وهو قول فصل ليس بالهزل إن الق رآن‬
‫ال يليه من جبار فيعمل بغيره إال قصمه هللا وال يبتغي علما س واه إال أض له هللا وال يخل ق‬
‫عن رده وهو الذي ال تفنى عجائبه من يقل به يصدق ومن يحكم به يع دل ومن يعم ل ب ه‬
‫يؤجر ومن يقسم به يقسط)(‪)1‬‬
‫ولهذا أخبر السلف عن كثرة علوم القرآن الك ريم‪ ،‬وتش عبها‪ ،‬وأن فيه ا الغ نى لمن‬
‫استغنى بها وعرف كيف يستنبطها‪ ،‬قال ابن مسعود قال‪(:‬من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن‬
‫فيه خبر األولين واآلخرين)‪ ،‬قال ال بيهقي‪(:‬يع ني أص ول العلم)‪ ،‬وق ال اإلم ام علي ‪(:‬ل و‬
‫شئت ألوقرت سبعين بعير ًا من تفسير فاتحة الكتاب)‬
‫وقد ذكر الغزالي عن بعض العلماء قول ه‪(:‬لك ل آي ة س تون أل ف فهم وم ا بقي من‬
‫فهمها أكثر)‪ ،‬وذكر عن آخرين قولهم‪(:‬القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم‬
‫إذ ك ل كلم ة علم‪ .‬ثم يتض اعف ذل ك أربع ة أض عاف إذ لك ل كلم ة ظ اهر وب اطن وح ّد‬
‫ومطلع)‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫وال يبنبغي استغراب هذا الكالم‪ ،‬فالقرآن الك ريم كالم هللا‪ ،‬وكالم هللا ال يح اط ب ه‪،‬‬
‫كما أن هللا تعالى ال يحاط به‪.‬‬
‫ولو شئنا مثال تقريبيا لهذا‪ ،‬نقول‪ :‬إن عدد حروف الهجاء ال يج اوز في ك ل لغ ات‬
‫العالم أع دادا مح دودة‪ ،‬ولكن م ع ذل ك يمكن تك وين مئ ات اآلالف من الكلم ات من ه ذه‬
‫الحروف المعدودة‪ ،‬فإذا أردنا المعاني‪ ،‬فإن الع دد سيتض اعف أض عافا كث يرة ج دا‪ ،‬ف إذا‬
‫ضممنا إلى ذلك الجمل والفقرات‪ ،‬فإن التضاعف ال ينحصر أبدا‪.‬‬
‫وكذلك القرآن الكريم‪ ،‬بل هو أعظم من ذلك‪ ،‬ولكن هذه المع اني ال يفهمه ا إال من‬
‫يحلل أبجدية القرآن الكريم‪ ،‬ويفك ما فيه من مفايتح العلوم‪.‬‬
‫ولكنا ال نريد بعل وم الكت اب ه ذا الع دد الض خم من العل وم‪ ،‬إنم ا نري د ب ه علوم ا‬
‫محصورة لها أثرها إما في التزكية أو في الفهم‪.‬‬
‫ويمكن حصر العلوم التي حاولت استنباط علوم القرآن الكريم إلى قسمين‪ :‬أحدهما‬
‫وسيلة للفهم عن هللا‪ ،‬والثانية ثمرة لممارس ة تل ك الوس يلة‪ ،‬أو أن أح دهما عل وم وس ائل‪،‬‬
‫والثاني علوم مقاصد‪.‬‬
‫علوم وسائل‪:‬‬
‫وهي العل وم ال تي ال ينبغي لمن يري د فهم الق رآن الك ريم جهله ا‪ ،‬ويمكن‬
‫تقسيمها إلى نوعين من العلوم‪:‬‬
‫العلوم اللغوية‪ :‬وذلك ألن القرآن الكريم نزل بلغة العرب‪ ،‬وال يمكن فهمه إال‬
‫بإتقان ما يحتاج إليه من هذه اللغة‪ ،‬قال الغزالي في العلوم التي يتضمنها ه ذا الن وع‬
‫وقد سماها (المقدمات)‪(:‬وهي التي تج ري من ه مج رى اآلالت كعلم اللغ ة والنح و؛‬
‫فإنهما آلة لعلم كتاب هللا تعالى وسنة نبـيه‪ ،‬وليست اللغة والنحو من العلوم الش رعية‬
‫في أنفسهما‪ ،‬ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الش رع إذ ج اءت ه ذه الش ريعة بلغ ة‬
‫العرب وكل شريعة ال تظهر إال بلغ ة فيص ير تعلم تل ك اللغ ة آل ة‪ .‬ومن اآلالت علم‬
‫كتابة الخط إال أن ذلك ليس ضروريا ً إذ كان رسول هللا أميّ اً‪ .‬ول و تص ور اس تقالل‬
‫الحفظ بجميع ما يسمع الس تغنى عن الكتاب ة‪ ،‬ولكن ه ص ار بحكم العج ز في الغ الب‬
‫ضرورياً)(‪)1‬‬
‫العلوم التفسيرية‪ :‬وذلك لعدم اس تقالل اللغ ة وح دها في فهم الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫فلذلك نحتاج إلى مصادر روائية للداللة على الكثير من المعاني المرادة‪ ،‬وق د س مى‬
‫الغ زالي ه ذا الن وع (المتمم ات)‪ ،‬وقس مها إلى م ا يتعل ق باللف ظ كتعلم الق راءات‬
‫ومخ ارج الح روف وإلى م ا يتعل ق ب المعنى كالتفس ير؛ وإلى م ا يتعل ق بأحكام ه‬
‫كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر(‪.)2‬‬
‫وهذ العلوم بصنفيها ال يشترط المبالغة فيها إلى الدرجة التي تحجب صاحبها‬
‫عن علوم المقاصد التي هي مقصودة باألصالة‪ ،‬ولذلك نرى الغزالي ـ مع كون ه في‬

‫‪ )(1‬جواهر القرآن‪.36 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.1/17 :‬‬

‫‪343‬‬
‫عصر لم تيسر فيه أسباب العلم كما يسرت بعد ذل ك ـ ي دعو إلى االقتص اد في ه ذه‬
‫العلوم‪ ،‬واالقتصار منها على ما تمس إليه الحاجة‪ ،‬ألن كل ما يطلب لغيره ال ينبغي‬
‫أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه‪.‬‬
‫فهو يوصي بأن يقتصر من علم اللغة على ما يفهم من ه كالم الع رب وينط ق‬
‫به‪،‬ومن غريبها على غريب القرآن والحديث‪،‬دون التعمق في ذلك‪،‬ومن النح و على‬
‫ما يتعلق بالكتاب والسنة‪،‬أما التفسير فيكتفى بما يبلغ ضعف القرآن الك ريم أو ثالث ة‬
‫أضعافه‪ ،‬أما ما زاد على ذلك فهو كم ا يق ول الغ زالي ‪( :‬استقص اء مس تغنى عن ه)‬
‫(‪،)1‬وق د دع ا ب دل ذل ك إلى النظ ر في مقاص د الق رآن الك ريم وحقائق ه الباطن ة‬
‫باعتبارها الجوهر الذي يغطيه الصدف‪،‬أو اللباب الذي يحميه القشر‪.‬‬
‫وهذه العلوم يمكن تيسيرها ليتلقاها الناشئة باألساليب العصرية في أقل اآلماد‬
‫الممكنة‪ ،‬محفوظة من كل ما يمكن أن يفسد عقيدة أو يؤثر في سلوك‪.‬‬
‫ولهذا نرى أن ال يوضع بين ي دي الناش ئة إال الكتب الممحص ة المدقق ة ال تي‬
‫تراعى فيها كل شروط التك وين والتربي ة‪ ،‬ألن الكث ير مم ا كتب ه العلم اء ق د يك ون‬
‫متوجها للعلماء خاصة‪ ،‬ولطرحه بين العامة خط ره العظيم‪ ،‬خاص ة فيم ا اش تد في ه‬
‫الج دل‪ ،‬ألن ه ينق ل العام ة من التربي ة والتزكي ة المط البين به ا إلى الج دل ال ذي ال‬
‫يفيدهم تربية وال علما‪ ،‬بل إنه سيمأل قلوبهم حقدا على بعضهم بعضا‪.‬‬
‫وفي هذا السبيل نقترح ما يمكن تسميته بـ (تحديث التراث)‪ ،‬وهو ن وع جدي د‬
‫من خدمة التراث‪ ،‬فوق التهذيب والتحقيق واالختصار‪.‬‬
‫وهي خدمة تشمل المعنى وتشمل التعبير واألسلوب وطرق التصنيف ليصبح‬
‫التراث كغيره وسيلة من وسائل اإلصالح ال شيئا نفخر به من غير أن نستفيد منه‪.‬‬
‫علوم مقاصد‪:‬‬
‫وهي العل وم المقص ودة ب ذاتها‪ ،‬ألن الغ رض منه ا فهم م راد هللا من كالم ه‬
‫ورسالته لعباده‪ ،‬ومن الخطأ الكب ير أن نش تغل ب إعراب رس الة هللا وتب يين مزاياه ا‬
‫البالغية واإلعجازية‪ ،‬ثم نغفل عن المقصود منها‪.‬‬
‫ول ذلك ينتق د الغ زالي من اش تغلوا بعل وم الوس ائل عن عل وم المقاص د‪ ،‬أو‬
‫انش غلوا ب التالوة عن المتل و‪ ،‬فق ال‪(:‬اني أنبه ك على رق دتك أيه ا المسترس ل في‬
‫تالوت ك‪ ،‬المتخ ذ دراس ة الق رآن عمال المتلق ف من معاني ه ظ واهر وجمال‪ ،‬الى كم‬
‫تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها‪ ،‬أوما كان ل ك أن ت ركب متن‬
‫لجتها لتبصر عجائبها وتس افر الى جزائره ا الجتن اء أطايبه ا وتغ وص في عمقه ا‬
‫فتستغني بنيل جواهرها أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بادمان‬
‫النظ ر الى س واحلها وظواهره ا‪ ،‬أوم ا بلغ ك أن الق رآن ه و البح ر المحي ط ومن ه‬
‫يتش عب علم األولين واآلخ رين كم ا يتش عب عن س واحل البح ر المحي ط أنهاره ا‬
‫وجداولها‪ ،‬أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا ب الكبريت األحم ر‪،‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.1/17 :‬‬

‫‪344‬‬
‫وغاص وا في أعماقه ا فاس تخرجوا الي اقوت األحم ر وال در األزه ر والزبرج د‬
‫األخضر‪ ،‬وساحوا في سواحلها فالتقطوا العنبر األش هب والع ود ال رطب األنض ر‪،‬‬
‫وتعلقوا الى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق األكبر والمسك األذفر)(‪)1‬‬
‫ولهذا كان من اآلداب الباطنة التي ال يفقه حقائق القرآن الك ريم وأس راره إال‬
‫من تأدب بها ما سماه الغزالي بـ (التخصيص) وبين طريقت ه‪ ،‬وهي أن يق ّدر الت الي‬
‫أنه المقصود بكل خطاب في القرآن‪ ،‬باعتبار القرآن الك ريم كالم هللا ال ذي يخ اطب‬
‫به كل عبد من عباده(‪.)2‬‬
‫فلذلك إن سمع التالي أمراً أو نهيا ً ق ّدر أنه المنهي والمأمور‪ ،‬وإن س مع وع داً‬
‫أو وعي داً ق در أن ه المقص ود ب ذلك‪( ،‬وإن س مع قص ص األولين واألنبـياء علم أن‬
‫السمر غير مقصود وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه فما‬
‫من قصة في الق رآن إال وس ياقها لفائ دة في ح ق النبـي وأمت ه‪ .‬ول ذلك ق ال تع الى‪:‬‬
‫ك ِم ْن أَ ْنبَا ِء الرُّ س ُِل َما نُثَب ُ‬
‫ِّت بِ ِه فُؤَادَكَ ﴾ (هود‪ )120:‬فليق ّدر العب د أن‬ ‫﴿ َوكُاّل ً نَقُصُّ َعلَ ْي َ‬
‫هللا ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال األنبـياء وصبرهم على اإلي ذاء وثب اتهم في‬
‫الدين النتظار نصر هللا تعالى)‬
‫لكن هذا التخصيص يحتاج إلى علوم خاصة تعرف بمقاص د الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫وت بين الحق ائق ال تي تنط وي عليه ا‪ ،‬وذل ك ألن الحق ائق تختل ف بحس ب مقاص د‬
‫المتدبرين واهتماماتهم‪ ،‬ولذلك قد توصف بالعمق أحيانا والسطحية أحيانا أخرى‪.‬‬
‫وقد يغلب عليها االهتمام بالجانب الثقافي أو الج وانب األخ رى عن األه داف‬
‫المقصودة باألصالة‪.‬‬
‫فل ذلك ك ان من تعمي ق الحق ائق القرآني ة ه و ربطه ا بمقاص دها‪ ،‬ألن ش تات‬
‫الفروع تتوحد في نقطة المقصد‪.‬‬
‫وقد كان الغزالي من أكبر من اهتم بهذا الجانب‪ ،‬وذل ك أثن اء تقس يمه الق رآن‬
‫إلى محاور أساسية تدور عليها آياته‪،‬ثم الحديث عن تلك المح اور كم ا وردت في ه‪،‬‬
‫وقد جمع في كتاب ه (ج واهر الق رآن) س بعمائة وثالث وس تين آي ة تتعل ق بالمعرف ة‬
‫اإللهية‪ ،‬وسبعمائة وإحدى وأربعين آية تتعلق بالس لوك هلل تع الى‪ ،‬وق د س مى الن وع‬
‫األول ب الجواهر‪،‬وس مى الن وع الث اني بال درر‪ ،‬و(األول علمي‪ ،‬والث اني عملي‪،‬‬
‫وأصل اإليمان العلم والعمل )‪ ،‬ثم شرح جمل القس م الث اني في كتاب ه (األربعين في‬
‫أصول الدين)وضمه إلى كتابه (جواهر القرآن)‪،‬وأجاز كتابته مفردا‪.‬‬
‫و هو ينطلق في تحديده لمح اور الق رآن ومقاص ده من ه دف الق رآن الك ريم‬
‫األساسي‪ ،‬وهو (دعوة العباد إلى الجبار األعلى رب اآلخرة واألولى)‪ ،‬ف القرآن ه و‬
‫المعرف باهلل والداعي له‪،‬ولذا يحصر مقاصد القرآن ـ على أس اس ذل ك ـ في س تة‬

‫‪ )(1‬جواهر القرآن‪.21 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.1/251 :‬‬

‫‪345‬‬
‫أنواع‪،‬ثالثة هي األصول المهمة‪ ،‬وثالثة هي التوابع المتمة‪ ،‬وهذه المقاصد هي(‪:)3‬‬
‫المقاص د األص لية‪ :‬وهي ال تي ته دف إليه ا آي ات الق رآن الك ريم بالدرج ة‬
‫األولى‪ ،‬وتشمل المعارف األساسية الدالة على الحقائق الكلية الكبرى‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫معرف ة هللا تع الى‪ :‬ف القرآن الك ريم ه و ال دليل األك بر على هللا‪ ،‬والمع رف‬
‫األعظم به‪،‬وهو كما يقول جعفر الص ادق‪( :‬وهللا لق د تجلى هللا ع ز وج ل لخلق ه في‬
‫كالمه‪ ،‬ولكنهم ال يبصرون)‪ ،‬والمقاصد القرآنية المتعلقة باهلل عند الغزالي هي‪:‬‬
‫معرفة الذات‪ :‬وهي أهم المعارف وأعزه ا وأض يقها مج اال وأعس رها من اال‬
‫وأعصاها على الفكر‪،‬وال يح وي الق رآن الك ريم منه ا إال على تلميح ات وإش ارات‬
‫ترجع في رأي الغزالي إلى أمرين‪:‬‬
‫التق ديس المطلق‪ :‬وه و تنزي ه هللا تع الى عن ك ل وص ف يدرك ه الحس‪،‬أو‬
‫يتصوره الخيال‪ ،‬أو يس بق إلي ه ال وهم‪ ،‬أو يختلج ب ه ض مير‪ ،‬أو يقض ي ب ه تفك ير‪،‬‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء﴾ (الشورى‪،)11 :‬‬ ‫ولذلك عرف هللا تعالى ذاته لعباده بقوله تعالى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫الص َم ُد لَ ْم يَلِ ْد َولَ ْم يُولَ ْد َولَ ْم يَ ُكن لَّهُ ُكفُ واً أَ َح ٌد﴾‬
‫وقوله تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ هُ َو هَّللا ُ أَ َح ٌد هَّللا ُ َّ‬
‫(اإلخالص‪ 1:‬ـ‪)4‬‬
‫التعظيم المطلق‪ :‬وهو امتالء القلب مهابة هلل وشعورا بالعجز والضآلة أمامه‪،‬‬
‫نتيجة لفرط عدم إحاطة العقل بكنه حقيقت ه‪،‬كم ا ق ال تع الى‪ُ ﴿ :‬س ْب َحانَهُ َوتَ َع الَى َع َّما‬
‫ص فُونَ ﴾‬ ‫ش َع َّما يَ ِ‬‫صفُونَ ﴾ (األنع ام‪ ،)100:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَ ُس ب َْحانَ هَّللا ِ َربِّ ْال َع رْ ِ‬ ‫يَ ِ‬
‫(االنبياء‪)22:‬‬
‫والتفك ر في جالل هللا وعظمت ه ب الجمع بين ه ذين األم رين ه و ال ذي يثم ر‬
‫المعارف وألحوال اإليماني ة‪ ،‬دون التفك ر في المتش ابه من الص فات‪ ،‬فإن ه ال يثم ر‬
‫عند الجمه ور من الن اس إال التش بيه والتمثي ل‪،‬وله ذا لم ي رد في األذك ار الش رعية‬
‫المسنونة عن رسول هللا ‪ ‬إال ما يشير إلى ذلك‪.‬‬
‫وقد أشار الدهلوي إلى ما ذكره الغزالي‪ ،‬وأيده ب أن م ا ورد من األذك ار عن‬
‫رس ول هللا ‪ ‬ال يش ير إال للتنزي ه والتعظيم فيم ا يتعل ق ب ذات هللا تع الى‪ ،‬يق ول‬
‫ال دهلوي‪…(:‬ومنه ا ـ أي من األذك ار الش رعية ـ س بحان هللا وحقيقت ه تنزيه ه عن‬
‫األدناس والعيوب والنقائص‪ ،‬ومنها الحمد هلل‪ ،‬وحقيقته إثبات الكماالت واألوص اف‬
‫التامة له ؛ ف إذا اجتمعت ا في كلم ة واح دة ك انت أفص ح تعب ير عن معرف ة اإلنس ان‬
‫بربه‪،‬ألنه ال يستطيع أن يعرفه إال من صفات ذات يسلب عنه ا م ا نش اهده فين ا من‬
‫النقائص‪ ،‬ويثبت لها ما نشاهده فينا من كماالت من جهة كونه كماال)‬
‫والغزالي ينتقد بشدة المشبهة الذين ينكرون التنزيه المطلق هلل عن كل صفات‬
‫الحوادث (حتى قال بعض الحمقى من العوام‪:‬إن هذا وصف لبطيخ هندي ال وصف‬
‫إله‪ ،‬لظن المسكين أن الجاللة والعظمة في هذه األعضاء)‪ ،‬ويرد س بب ذل ك إلى أن‬
‫اإلنسان ال يعرف إال نفسه وال يعظم إال نفسه‪،‬وكل ما ال يس اويه في ص فاته ال يفهم‬

‫‪ )(3‬جواهر القرآن‪.23 :‬‬

‫‪346‬‬
‫العظمة فيه‪(،‬بل لو كان للذباب عقل‪ ،‬وقيل له‪:‬ليس لخالقك جناحان وال يد وال رج ل‬
‫والطيران‪ ،‬ألنكر ذلك وقال‪ :‬كيف يكون خالقي أنقص مني؟) (‪)1‬‬
‫معرفة الصفات‪ :‬وهي المجال الفسيح الذي يمكن االطالع عليه‪ ،‬دون إمكانية‬
‫اإللمام به‪ ،‬ولذلك كثرت اآليات المشتملة على العلم والقدرة والحياة والكالم والسمع‬
‫والبصر وغيرها‪ ،‬وهي ـ أيضا ـ تستدعي األمرين السابقين‪ :‬التنزي ه والتعظيم‪ ،‬ف إن‬
‫صفات هللا تعالت وتقدست أن تشابه صفاتنا‪ ،‬فلذلك يغلب على هذه المعرف ة اإليه ام‬
‫والتشبيه‪ ،‬ولهذا (ينبغي أن تقترن بنفي المشابهة‪،‬ونفي أصل المناسبة)‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْيء﴾ (الشورى‪ ،)11:‬ثم عقب ببيان‬ ‫وقد أشار إليه قوله تعالى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫صفتين من صفاته قد توهمان التشبيه هما الس مع والبص ر‪،‬الرتباطهم ا بالنس بة لن ا‬
‫صيرُ﴾ (الشورى‪)11:‬‬ ‫باألذن والعين‪،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وهُ َو ال َّس ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫ويرى الغزالي أنه بقدر معرفة المؤمن لصفات هللا تعالى وتنزيهها وتعظيمها‬
‫تكون معرفته بذاته تعالى‪ ،‬فمعرفة الص فات هي م دد معرف ة ال ذات‪،‬ول ذلك ك ثرت‬
‫األسماء الحسنى الدالة على عظمة صفات هللا تعالى‪.‬‬
‫معرف ة األفع ال‪ :‬وهي المج ال األفس ح واأليس ر لمعرف ة هللا‪،‬فمنه ا ي رقى‬
‫المتفكر لمعرف ة الص فات ال تي هي المع راج لمعرف ة ال ذات‪ ،‬ول ذلك ح وى الق رآن‬
‫(الكثير من آيات هللا وأفعاله كذكر السماوات والكواكب واألرض والجب ال والش جر‬
‫والحيوان والبحار والنبات وإنزال الماء الفرات وسائر أسباب الحياة)‪ ،‬وق د أم ر هللا‬
‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫تع الى ب التفكر في ه ذه المخلوق ات‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي َخ ْل ِ‬
‫ب﴾ (آل عمران‪)190:‬‬ ‫ت أِل ُولِي اأْل َ ْلبَا ِ‬ ‫الف اللَّ ْي ِل َوالنَّهَ ِ‬
‫ار آَل يا ٍ‬ ‫اختِ ِ‬ ‫َو ْ‬
‫وهو ينب ه إلى دور معرف ة أفع ال هللا تع الى‪ ،‬س واء م ا ظه ر منه ا في ع الم‬
‫الشهادة‪ ،‬أو ما بطن في عالم الغيب والملكوت‪ ،‬في التحقق بمعرفة هللا تع الى بقول ه‪:‬‬
‫(ليس من يعلم أنه تعالى عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملك وت‬
‫السماوات واألرض وخلق األرواح واألجساد‪ ،‬واطلع على ب دائع مملكت ه وغ رائب‬
‫الصنعة‪ ،‬ممعنا في التفصيل‪،‬ومستقصيا دقائق الحكم ة‪ ،‬ومس توفيا لط ائف الت دبير)‬
‫(‪)2‬‬
‫السلوك إلى هللا تعالى‪ :‬وهو الطريق الذي يصفه القرآن الكريم للوص ول إلى‬
‫ك َوتَبَتَّلْ‬ ‫هللا تعالى‪ ،‬وإليه اإلشارة بالنصوص الكثيرة كقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُك ِر ْ‬
‫اس َم َربِّ َ‬
‫إِلَ ْي ِه تَ ْبتِيالً﴾ (المزمل‪)8:‬‬
‫وعمدة السلوك القرآني ـ كما يذكر الغزالي ـ أمران‪ :‬المالزمة والمخالفة‪ ،‬أم ا‬
‫المالزمة فهي االنشغال التام بذكر هللا تعالى‪ ،‬وأما المخالفة فهي ترك كل م ا يش غل‬
‫عن هللا(‪.)3‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/434 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/435 :‬‬
‫‪ )(3‬جواهر القرآن‪.28 :‬‬

‫‪347‬‬
‫وق د جم ع الغ زالي اآلي ات المرش دة إلى طري ق الس لوك في كتاب ه (ج واهر‬
‫القرآن ودرره )‪،‬ثم شرح تفاصيلها في (األربعين في أصول الدين)‪.‬‬
‫معرف ة الي وم اآلخ ر‪ :‬وه و المص ير ال ذي يلق اه الع ارفون أو الجاح دون‪،‬‬
‫ويشتمل القرآن منه على ذكر النعيم الذي أعده هللا ألوليائه والخ زي والع ذاب ال ذي‬
‫يلقاه المبعدون عنه‪ ،‬وفي هذا القسم ـ كما يرى الغزالي ـ مجال كبير للبحث والنظ ر‬
‫باعتباره المصير الذي ينتظ ر البش رية جميع ا‪ ،‬ول ذلك أواله الق رآن الك ريم العناي ة‬
‫الكبرى‪ ،‬ويحصي الغزالي ما ورد فيه من اآليات بأنه ثلث القرآن‪.‬‬
‫المقاصد الفرعية‪ :‬وهي التي تتف رع عن المقاص د الس ابقة وتخ دمها‪ ،‬وهي ـ‬
‫عند الغزالي ـ ثالثة مقاصد هي‪:‬‬
‫القصص الق رآني‪ :‬س واء م ا تعل ق منه ا باألنبي اء والص الحين‪ ،‬أو م ا تعل ق‬
‫بالكفار والمنافقين‪ ،‬وفائدة هذا القسم كما يرى الغزالي هي التشويق وال ترغيب فيم ا‬
‫يتعلق بالمجيبين لدعوة هللا السالكين سبيله‪ ،‬واالعتبار والترهيب فيما يتعلق ب أحوال‬
‫الناكلين والناكبين عن اإلجابة‪ ،‬وكيفية قمع هللا لهم وتنكيله بهم‪.‬‬
‫وكأن الغزالي يدعو من خالل هذا القسم إلى استنباط سنن هللا في المجتمع ات‬
‫كما ينص عليها القرآن‪،‬كما رأينا ـ من قبل ـ دعوته إلى النظر في سنن هللا الكوني ة‪،‬‬
‫فكالهما ميدان لمعرفة هللا وسلوك سبيله‪ ،‬وكالهم ا حث الق رآن الك ريم على النظ ر‬
‫فيه واالعتبار به‪.‬‬
‫البراهين القرآنية‪ :‬وهذا القسم يتعرض لمحاجة الكف ار ومج ادلتهم وإيض اح‬
‫أباطيلهم وكشفها‪،‬وقد حوى القرآن الكريم كما يرى الغزالي على تفني د ثالث ة أن واع‬
‫من األباطيل تعتبر من أصول الضالل الكبرى‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬ذكر هللا تعالى بما ال يليق به من أن المالئك ة بنات ه وأن ل ه ول دا وش ريكا‬
‫وأنه ثالث ثالثة‪.‬‬
‫‪ .2‬ذكر رسول هللا ‪ ‬بأنه ساحر أو كاذب‪،‬وإنك ار نبوت ه‪،‬وأن ه بش ر كس ائر‬
‫الخلق فال يستحق أن يتبع‪.‬‬
‫‪ .3‬ذكر الي وم اآلخ ر وجح د البعث والنش ور والجن ة والن ار‪ ،‬وإنك ار عاقب ة‬
‫الطاعة والمعصية‪.‬‬
‫ويرى الغزالي إمكانية االستغناء ببراهين القرآن العلمية ـ إذا م ا تحققت آلي ة‬
‫التدبر ـ عن أدلة المتكلمين وبراهينهم‪،‬بل يمكن استنباط وجوه الحجج القاطع ة ال تي‬
‫يمكن االستدالل بها فيما لم يذكره القرآن الكريم من شبهات‪.‬‬
‫األحكام الفقهية‪ :‬ويش تمل ه ذا القس م على الح دود الش رعية ال تي تنظم أم ر‬
‫المعاش بأسباب الحفظ لوجوده‪،‬وأسباب الدفع لمفسداته‪.‬‬
‫وبالتدبر في هذا القسم يمكن اس تنباط محاس ن الش ريعة ومص الحها وحكمه ا‬
‫مما ال يوجد مثله في كتب الفقهاء‪ ،‬ويبدي الغزالي اهتماما كبيرا ـ في هذا الموضع ـ‬
‫ببيان مقاصد الشريعة وكلياتها‪ ،‬والتي ترجع إلى تنظيم أمر المعاش في ال دنيا ح تى‬
‫يتم أم ر التبت ل واالنقط اع إلى هللا تع الى ال ذي ه و المقص د الحقيقي من الوج ود‬

‫‪348‬‬
‫اإلنساني‪.‬‬
‫وذلك التنظيم يستدعي أسباب الحفظ لوجود ه‪،‬وأسباب ال دفع لمفس داته‪ ،‬وك ل‬
‫حدود الشريعة يمكن إرجاعها عند الغزالي إلى هذين القسمين‪،‬وهو لهذا يعتبر الفق ه‬
‫من علوم الدنيا فـ (الفقيه هو العالم بق انون السياس ة وطري ق التوس ط بين الخل ق إذا‬
‫تنازعوا بحكم الشهوات‪،‬فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخل ق‬
‫وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا)‬
‫هذه هي المقاصد الستة التي تدور حولها جميع آي ات الق رآن الك ريم في رأي‬
‫الغزالي‪،‬وهو ي دعو من خالل عرض ها إلى التفك ر فيه ا واس تنباط أص ناف العل وم‬
‫منها‪ ،‬فكل العلوم مغترفة من بحار القرآن الكريم‪.‬‬
‫ونحن لم نذكر هذه المقاص د هن ا بحس ب م ا ذكره ا الغ زالي على أنه ا رأي‬
‫شخصي للغزالي‪ ،‬وإنما ذكرناها باعتبار األدلة المتظافرة من النصوص تدل عليها‪.‬‬
‫وال نحسب أن هناك خالف ا في اعتباره ا‪ ،‬فهي من القطعي ة بحيث ال يختل ف‬
‫فيها‪ ،‬وإنما للغزالي فيها دقة التصنيف‪ ،‬والتنظيم‪ ،‬والتقسيم‪.‬‬
‫ولذلك نرى االهتمام بتلقين هذه المقاصد‪ ،‬وتعليمها والتركيز عليها عن د تعليم‬
‫علوم القرآن الكريم‪ ،‬ألن القرآن الكريم ليس كتاب ثقافة بقدر ما هو كتاب هداية‪.‬‬
‫علم الحكمة‬
‫ربما كان من الصعب تحديد معنى دقيق للحكم ة بس بب الخالف الطوي ل في‬
‫معناها‪ ،‬ولكنه مع ذلك ال غ نى عن تحدي د معناه ا‪ ،‬فهي وظيف ة من وظ ائف النب وة‬
‫التي يلزم وجودها واستمرارها لبقاء الهدي النبوي على األرض‪.‬‬
‫ولذلك سنحاول هنا معرفة معناها من خالل ما ورد في الق رآن الك ريم‪ ،‬ومن‬
‫خالل م ا ذك ر العلم اء في تعريفه ا مح اولين اس تخراج ق ول ج امع له ا‪ ،‬نس تطيع‬
‫بواسطته معرفة العلوم التي تتضمنها الحكمة‪.‬‬
‫الحكمة في القرآن الكريم‪ :‬كل المواضع التي وردت فيها الحكم ة في الق رآن‬
‫الكريم مواضع ثناء(‪ ،)1‬ويدل لذلك قوله تعالى‪ ﴿ :‬ي ُْؤتِي ْال ِح ْك َم ةَ َم ْن يَ َش ا ُء َو َم ْن يُ ْؤتَ‬
‫ب﴾ (البقرة‪ ،)269:‬وله ذا ذك ر‬ ‫ْال ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َي خَ يْراً َكثِيراً َو َما يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫القرطبي أنه يقال‪(:‬إن من أعطي الحكم ة والق رآن فق د أعطي أفض ل م ا أعطي من‬
‫جم ع علم كتب األولين من الص حف وغيره ا‪ ،‬ألن ه ق ال ألولئ ك‪َ ﴿ :‬و َم ا أُوتِيتُ ْم ِمنَ‬
‫ْال ِع ْل ِم إِاَّل قَلِيالً﴾ (االسراء‪ ،)85:‬وسمى هذا خيرا كث يرا‪ ،‬ألن ه ذا ه و جوام ع الكلم)‬
‫(‪)2‬‬
‫وقد اعتبر القرآن الكريم الحكمة نوع ا من أن واع النعم ال تي من هللا به ا على‬
‫عباده المؤمنين‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُكرُوا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم َو َما أَ ْنزَ َل َعلَ ْي ُك ْم ِمنَ ْال ِكتَا ِ‬
‫ب‬
‫َو ْال ِح ْك َم ِة يَ ِعظُ ُك ْم بِ ِه َواتَّقُوا هَّللا َ َوا ْعلَ ُموا أَ َّن هَّللا َ بِ ُكلِّ َش ْي ٍء َعلِي ٌم﴾ (البقرة‪)231:‬‬

‫‪ )(1‬خالفا للعلم‪ ،‬فقد ذكر في مواضع الثناء والذم جميعا‪ ،‬كما سبق ذكره‪.‬‬
‫‪ )(2‬القرطبي‪.3/330 :‬‬

‫‪349‬‬
‫وهو يخبره عن فضله على األنبياء ـ صلوات هللا وسالمه عليهم ـ بإعط ائهم‬
‫ب َو ِح ْك َم ٍة ثُ َّم‬ ‫ق النَّبِيِّينَ لَ َم ا آتَ ْيتُ ُك ْم ِم ْن ِكتَ ا ٍ‬‫الحكم ة‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَخَ َذ هَّللا ُ ِميثَ ا َ‬
‫ص ُرنَّهُ ﴾ (آل عم ران‪ ،)81:‬وق ال‬ ‫ق لِ َم ا َم َع ُك ْم لَتُ ْؤ ِمنُ َّن بِ ِه َولَتَ ْن ُ‬ ‫ص ِّد ٌ‬‫َجا َء ُك ْم َرسُو ٌل ُم َ‬
‫اب‬ ‫ْ‬
‫آل إِ ْب َرا ِهي َم ال ِكتَ َ‬ ‫هَّللا‬
‫اس َعلَى َما آتَاهُ ُم ُ ِم ْن فَضْ لِ ِه فَقَ ْد آتَ ْينَ ا َ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬أَ ْم يَحْ ُس ُدونَ النَّ َ‬
‫َظيم اً﴾ (النس اء‪ ،)54:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَهَ َز ُم وهُ ْم بِ إِ ْذ ِن هَّللا ِ‬ ‫َو ْال ِح ْك َمةَ َوآتَ ْينَ اهُ ْم ُم ْلك ا ً ع ِ‬
‫ك َو ْال ِح ْك َمةَ َو َعلَّ َمهُ ِم َّما يَ َشا ُء ﴾ (البق رة‪ ،)251:‬وق ال‬ ‫َوقَت ََل دَا ُو ُد َجالُوتَ َوآتَاهُ هَّللا ُ ْال ُم ْل َ‬
‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َوالتَّوْ َراةَ َواأْل ِ ْن ِجي َل﴾ (آل عم ران‪ ،)48:‬وق ال‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬ويُ َعلِّ ُم هُ ْال ِكتَ َ‬
‫ب﴾ (صّ ‪ ،)20:‬وق ال تع الى‪:‬‬ ‫ص َل ْال ِخطَ ا ِ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬و َش َد ْدنَا ُم ْل َك هُ َوآتَ ْينَ اهُ ْال ِح ْك َم ةَ َوفَ ْ‬
‫ال قَ ْد ِج ْئتُ ُك ْم بِ ْال ِح ْك َم ِة وَأِل ُبَيِّنَ لَ ُك ْم بَع َ‬
‫ْض الَّ ِذي ت َْختَلِفُ ونَ‬ ‫ت قَ َ‬ ‫﴿ َولَ َّما َجا َء ِعي َسى بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ُون﴾ (الزخرف‪)63:‬‬ ‫فِي ِه فَاتَّقُوا هَّللا َ َوأَ ِطيع ِ‬
‫وهو يمن على رسول هللا ‪ ‬بأن هللا أنزل عليه الحكمة‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْن َز َل‬
‫َظيم اً﴾‬ ‫ض ُل هَّللا ِ َعلَ ْي كَ ع ِ‬ ‫ك َم ا لَ ْم تَ ُك ْن تَ ْعلَ ُم َو َك انَ فَ ْ‬ ‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ َوعَلَّ َم َ‬ ‫هَّللا ُ َعلَ ْيكَ ْال ِكتَ َ‬
‫ك ِم َّما أَوْ َحى إِلَ ْيكَ َربُّكَ ِمنَ ْال ِح ْك َم ِة َوال تَجْ َع لْ َم َع‬ ‫(النساء‪ ،)113:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫هَّللا ِ إِلَها ً آ َخ َر فَتُ ْلقَى فِي َجهَنَّ َم َملُوما ً َم ْدحُوراً﴾ (االسراء‪)39:‬‬
‫ك‬ ‫يل َربِّ َ‬‫ع إِلَى َس بِ ِ‬ ‫وه و ي أمر باس تعمال الحكم ة وذكره ا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬ا ْد ُ‬
‫بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َموْ ِعظَ ِة ْال َح َسنَ ِة َو َجا ِد ْلهُ ْم بِالَّتِي ِه َي أَحْ َسنُ ﴾ (النحل‪ ،)125:‬وقال تع الى‪:‬‬
‫ت هَّللا ِ َو ْال ِح ْك َم ِة إِ َّن هَّللا َ َك انَ لَ ِطيف ا ً خَ بِ يراً﴾‬ ‫﴿ َو ْاذ ُك رْ نَ َم ا يُ ْتلَى فِي بُيُ وتِ ُك َّن ِم ْن آيَ ا ِ‬
‫(األحزاب‪)34:‬‬
‫وهو يخبر عند ذكره لنم وذج تربي ة األبن اء أن من ص فات الم ربي الص الح‬
‫(الحكمة)‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا لُ ْق َمانَ ْال ِح ْك َمةَ أَ ِن ا ْش ُكرْ هَّلِل ِ َو َم ْن يَ ْش ُكرْ فَإِنَّ َما يَ ْش ُك ُر‬
‫لِنَ ْف ِس ِه َو َم ْن َكفَ َر فَإِ َّن هَّللا َ َغنِ ٌّي َح ِمي ٌد﴾ (لقمان‪)12:‬‬
‫خالف العلماء في الحكمة‪ :‬انطالقا من اختالف وروده ا في الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫فقد وردت مفردة ومقترنة بالكتاب‪ ،‬اختلفت األقوال فيها بناء على هذين النوعين‪:‬‬
‫المفردة‪ :‬كما في قوله تعالى‪ ﴿ :‬ي ُْؤتِي ْال ِح ْك َمةَ َم ْن يَ َشا ُء َو َم ْن ي ُْؤتَ ْال ِح ْك َمةَ فَقَ دْ‬
‫ب﴾ (البق رة‪ ،)269:‬فق د فس رت في ه ذا‬ ‫أُوتِ َي َخيْراً َكثِيراً َو َم ا يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُولُ و اأْل َ ْلبَ ا ِ‬
‫الموض ع‪ ،‬بتفاس ير مختلف ة منه ا‪ :‬ق ول الس دي‪ :‬هي النب وة‪ ،‬وق ال ابن عب اس‪(:‬هي‬
‫المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدم ه وم ؤخره)‪ ،‬وق ال‬
‫قت ادة ومجاه د‪(:‬الحكم ة هي الفق ه في الق رآن)‪ ،‬وق ال مجاه د‪(:‬اإلص ابة في الق ول‬
‫والفعل)‪ ،‬وق ال ابن زي د‪(:‬الحكم ة العق ل في ال دين)‪ ،‬وق ال مال ك بن أنس‪(:‬الحكم ة‬
‫المعرفة بدين هللا والفقه فيه واالتباع له)‪ ،‬وروى عن ه ابن القاس م أن ه ق ال‪(:‬الحكم ة‬
‫التفكر في أمر هللا واالتب اع ل ه)‪ ،‬وق ال أيض ا‪(:‬الحكم ة طاع ة هللا والفق ه في ال دين‬
‫والعمل به)‪ ،‬وقال الربيع بن أنس‪(:‬الحكمة الخشية)‪ ،‬وقال إبراهيم النخعي‪(:‬الحكم ة‬
‫الفهم في القرآن)‪ ،‬وقاله زيد بن أسلم‪ ،‬وقال الحسن‪(:‬الحكمة ال ورع) وكأن ه فس رها‬
‫بثمرتها ومقتضاها‪.‬‬
‫ومن األقوال فيها أنها (معرفة األشياء بحقائقها)‪ ،‬وفيهذا إشارة إلى أن إدراك‬

‫‪350‬‬
‫ق مص ون‬ ‫الجزئيات ال كمال فيه ألنها إدراكات متغيرة‪ ،‬فأما إدراك الماهية‪ ،‬فإنه با ٍ‬
‫عن التغير والتبدل‪.‬‬
‫ومن األقوال فيه ا أنه ا (اإلتي ان بالفع ل ال ذي عاقبت ه محم ودة)‪ ،‬وقي ل‪(:‬هي‬
‫االقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البش رية وذل ك ب أن يجته د‬
‫بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه)(‪)1‬‬
‫وعرفها الفخر الرازي بأنها (اسم لكل علم حسن‪ ،‬وعمل صالح)‪ ،‬ق ال‪(:‬وه و‬
‫بالعلم العملي أخص من ه ب العلم النظ ري وفي العم ل أك ثر اس تعماالً من ه في العلم‪،‬‬
‫ومنها يقال أحكم العمل إحكاما ً إذا أتقنه وحكم بكذا حكماً)‬
‫قال ابن القيم‪(:‬وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك إنها معرفة الحق‬
‫والعمل ب ه واإلص ابة في الق ول والعم ل وه ذا ال يك ون إال بفهم الق رآن والفق ه في‬
‫شرائع اإلسالم وحقائق اإليمان)(‪)2‬‬
‫وقد عرفها هو بقوله‪(:‬الحكمة حكمتان علمية وعملية‪ ،‬فالعلمي ة االطالع على‬
‫ب واطن األش ياء ومعرف ة ارتب اط األس باب بمس بباتها خلق ا وأم را ق درا وش رعا‪،‬‬
‫والعلمية هي وضع الشيء في موضعه)‬
‫وقال القرطبي معلقا على األقوال السابقة‪(:‬وهذه األقوال كلها ـ ما عدا السدي‬
‫والربيع والحسن ـ قريب بعضها من بعض‪ ،‬ألن الحكم ة مص در من اإلحك ام وه و‬
‫اإلتقان في قول أو فعل‪ ،‬فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة ال تي هي الجنس‪ ،‬فكت اب‬
‫هللا حكمة‪ ،‬وسنة نبيه حكمة‪ ،‬وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكم ة‪ ،‬وأص ل الحكم ة‬
‫ما يمتنع به من السفه‪ ،‬فقيل للعلم حكمة‪ ،‬ألنه يمتنع به‪ ،‬وبه يعلم االمتن اع من الس فه‬
‫وهو كل فعل قبيح‪ ،‬وكذا القرآن والعقل والفهم)(‪)3‬‬
‫والحكمة بذلك تعني ـ عنده ـ العلم‪ ،‬وإنم ا ذك ر الحكم ة م ع ك ون العلم مغني ا‬
‫عنها ـ كما يقول القرطبي (اعتناء بها‪ ،‬وتنبيها على شرفها وفضلها)‬
‫المقرونة بالكتاب‪ :‬أكثر األقوال في الحكمة المقترن ة بالكت اب أنه ا (الس نة)‪،‬‬
‫قال الشافعي‪(:‬الحكمة سنة رسول هللا ‪ ‬وهو ق ول قت ادة‪ ،‬ق ال أص حاب الش افعي‪:‬‬
‫(والدليل عليه أنه تعالى ذكر تالوة الكتاب أوالً وتعليمه ثانيا ً ثم عطف عليه الحكمة‪،‬‬
‫فوجب أن يكون الم راد من الحكم ة ش يئا ً خارج ا ً عن الكت اب‪ ،‬وليس ذل ك إال س نة‬
‫الرس ول ‪ ،)‬وقي ل هي القض اء ب الوحي‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬وتفس يرها بالس نة أعم‬
‫وأشهر)(‪)4‬‬
‫اب‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫ولكن هذا قد يع ارض بقول ه تع الى مثال في المس يح ‪َ ﴿ :‬ويُ َعل ُم هُ ال ِكتَ َ‬
‫َو ْال ِح ْك َم ةَ َوالتَّوْ َراةَ َواأْل ِ ْن ِجي َل﴾ (آل عم ران‪ ،)48:‬وبقول ه في إب راهيم ‪ ﴿ :‬أَ ْم‬

‫‪ )(1‬الفخر الرازي‪.3/396 :‬‬


‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/478 :‬‬
‫‪ )(3‬القرطبي‪.3/330 :‬‬
‫‪ )(4‬مدارج السالكين‪.2/472 :‬‬

‫‪351‬‬
‫اب َو ْال ِح ْك َم ةَ‬
‫آل إِ ْب َرا ِهي َم ْال ِكتَ َ‬ ‫اس َعلَى َما آتَ اهُ ُم هَّللا ُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ض لِ ِه فَقَ ْد آتَ ْينَ ا َ‬ ‫يَحْ ُس ُدونَ النَّ َ‬
‫َوآتَ ْينَاهُ ْم ُم ْلكا ً َع ِظيما ﴾ (النساء‪)54:‬‬
‫ً‬
‫حقيقة الحكمة والعلوم المتفرعة عنها‪ :‬انطالقا مما سبق فإنا نرى أن المراد‬
‫بالحكم ة في أص لها األول‪ ،‬وغايته ا القص وى‪ ،‬هي الفهم عن هللا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿ فَفَهَّ ْمنَاهَا ُسلَ ْي َمانَ َوكُاّل ً آتَ ْينَا ُح ْكما ً َو ِع ْلماً﴾ (االنبياء‪)79:‬‬
‫فقد جعل هللا تعالى الفهم قرينا للعلم‪ ،‬وأخبر بأنه فهم سليمان ‪ ،‬وأن حكمه‬
‫كان نتيجة للفهم ال لمجرد العلم‪.‬‬
‫ث‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وقد ضرب مثاال لذلك‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬ودَا ُو َد َو ُسلَ ْي َمانَ إِذ يَحْ ُك َم ا ِن فِي ال َح رْ ِ‬
‫ت فِي ِه َغنَ ُم ْالقَوْ ِم َو ُكنَّا لِ ُح ْك ِم ِه ْم َشا ِه ِدينَ ﴾ (االنبياء‪،)78:‬‬
‫إِ ْذ نَفَ َش ْ‬
‫وقص ة ذل ك كم ا أورده ا المفس رون(‪ )1‬أن غنم ا رج ل دخلت ح رث آخ ر‪،‬‬
‫فعاثت في ه فس ادا‪ ،‬ف ذهبا إلى داود ‪ ،‬فحكم أن ي دفع الغنم إلى ص احب الح رث‪،‬‬
‫فلما خرج الخص مان على س ليمان ‪ ‬وك ان يجلس على الب اب ال ذي يخ رج من ه‬
‫الخص وم‪ ،‬وك انوا ي دخلون إلى داود من ب اب آخ ر فق ال‪ :‬بم قض ى بينكم ا ن بي هللا‬
‫داود؟ فقاال‪ :‬قضى ب الغنم لص احب الح رث‪ ،‬فق ال‪(:‬لع ل الحكم غ ير ه ذا‪ ،‬انص رفا‬
‫معي) فأتى أباه فقال‪(:‬ي ا ن بي هللا أن ك حكمت بك ذا وك ذا وإني رأيت م ا ه و أرف ق‬
‫ب الجميع)‪ ،‬ق ال‪ :‬وم ا ه و؟ ق ال‪(:‬ينبغي أن ت دفع الغنم إلى ص احب الح رث فينتف ع‬
‫بألبانها وسمونها وأصوافها‪ ،‬وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم علي ه‪ ،‬ف إذا ع اد‬
‫الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبل ة‪ ،‬رد ك ل واح د منهم ا م ال إلى‬
‫صاحبه)‪ ،‬فق ال داود ‪(:‬وفقت ي ا ب ني ال يقط ع هللا فهم)‪ ،‬وقض ى بم ا قض ى ب ه‬
‫سليمان ‪.‬‬
‫وهذا يدل على أن هناك أمران في كل مسألة‪:‬‬
‫‪ .1‬الحكم الحرفي للمسألة‪ ،‬وهو ما ينص عليه عادة ظاهر الشريعة أو ظ اهر‬
‫القانون‪ ،‬وهو ما حكم به هنا داود ‪ ،‬حيث عوض صاحب األرض قيمة ضرره‪،‬‬
‫فكانت قيمتها هي غنم اآلخر‪.‬‬
‫‪ .2‬الحكم المقاصدي للمسألة‪ ،‬وهو الحكم الذي يراعي مصلحة الج انبين‪ ،‬فال‬
‫يتضرر أحدهما لينفع اآلخر‪ ،‬وهو ما ح اول س ليمان ‪ ‬أن يص ل إلي ه ع بر ذل ك‬
‫الحكم‪ ،‬يقول س يد قطب معلق ا على الم وقفين جميع ا‪(:‬لق د اتج ه داود في حكم ه إلى‬
‫مجرد التعويض لصاحب الحرث‪ ،‬وهذا عدل فحسب‪ ،‬ولكن حكم سليمان تضمن مع‬
‫العدل البناء والتعمير‪ ،‬وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير‪ ،‬وهذا هو الع دل الحي‬
‫اإليجابي في صورته البانية الدافعة‪ ،‬وهو فتح من هللا وإلهام يهبه من يشاء)(‪)2‬‬
‫انطالقا من هذا نرى أن جميع ما أورده العلماء في تعري ف الحكم ة‪ ،‬وجمي ع‬
‫ما وردت به النصوص يصب في هذا القول‪ ،‬زيادة على أن هذا يس تلزم أنواع ا من‬

‫‪ )(1‬قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما‪.‬‬


‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.2390 :‬‬

‫‪352‬‬
‫الوظائف يجب وجودها في األمة ال يمكن دخولها إال من هذا الباب‪.‬‬
‫وذل ك ألن الفهم عن هللا يقتض ي ت وفر األدوات الالزم ة له ذا الفهم‪ ،‬وه ذه‬
‫األدات هي التي تحقق هذه الوظيفة الخطيرة من وظائف الدين‪.‬‬
‫وهذه األدوات حسبما نرى ثالثة ال غنى عنه ا هي‪ :‬العلم بمقاص د الش ريعة‪،‬‬
‫والعلم ب أدوات فهم النص وص واالس تنباط منه ا‪ ،‬والعلم باألحك ام العقلي ة‪ ،‬وكيفي ة‬
‫تطبيقها‪.‬‬
‫وذلك ألن الغرض من الفهم ه و اس تثمار العلم وتزكيت ه وتطبيق ه واس تعماله‬
‫في الموضع الالئق به‪ ،‬وال يكون ذلك إال بتوفر العلوم الثالثة السابقة‪.‬‬
‫فالعلم األول يدلنا على فهم مراد هللا‪ ،‬والعلم الثاني يدلنا على فهم كيفية تطبيق‬
‫م راد هللا‪ ،‬والعلم الث الث‪ ،‬وإن ك ان من العل وم الض رورية إال أن ه يقي عقولن ا من‬
‫الخروج عن الشرع الذي شرعه هللا لفطرنا التي فطرنا عليها‪.‬‬
‫وبهذه العلوم الثالثة يتبين لنا فضل الحكمة على العلم‪ ،‬كما سبق إيراد ما ذكر‬
‫القرطبي في قوله تعالى‪ ﴿ :‬ي ُْؤتِي ْال ِح ْك َمةَ َم ْن يَ َشا ُء َو َم ْن ي ُْؤتَ ْال ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َي خَ ْي راً‬
‫ب﴾ (البقرة‪)269:‬من أنه يق ال‪(:‬إن من أعطي الحكم ة‬ ‫َكثِيراً َو َما يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫والق رآن فق د أعطي أفض ل م ا أعطي من جم ع علم كتب األولين من الص حف‬
‫وغيرها‪ ،‬ألنه قال ألولئك‪َ ﴿ :‬و َم ا أُوتِيتُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم إِاَّل قَلِيالً﴾ (االس راء‪ ،)85:‬وس مى‬
‫هذا خيرا كثيرا‪ ،‬ألن هذا هو جوامع الكلم)‬
‫وذلك ألن العلم محدود بجمله وتفاصيله‪ ،‬ولكن الفهم ال حدود له‪ ،‬ألن ت زاوج‬
‫مفردات العلوم ينتج علوما جديدة‪ ،‬وهك ذا تتوال د العل وم لمن رزق ه هللا الق درة على‬
‫الفهم والتحليل واالستنباط‪.‬‬
‫يق ول الغ زالي‪(:‬والمع ارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت على ت رتيب‬
‫مخصوص أثم رت معرف ة أخ رى‪ ،‬فالمعرف ة نت اج المعرف ة‪ .‬ف إذا حص لت معرف ة‬
‫أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر‪ .‬وهكذا يتمادى النت اج‬
‫وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية‪ ،‬وإنم ا تنس ّد طري ق زي ادة المع ارف‬
‫ب الموت‪ .‬أو ب العوائق وه ذا لمن يق در على اس تثمار العل وم ويهت دي إلى طري ق‬
‫التفكير‪ .‬وأما أك ثر الن اس فإنم ا منع وا الزي ادة في العل وم لفق دهم رأس الم ال وه و‬
‫المعارف التي بها تستثمر العلوم‪ ،‬كالذي ال بضاعة له فإنه ال يقدر على الربح‪ ،‬وق د‬
‫يملك البضاعة ولكن ال يحسن صناعة التجارة فال يربح شيئاً‪ ،‬فكذلك قد يك ون مع ه‬
‫من المعارف ما هو رأس مال العل وم ولكن ليس يحس ن اس تعمالها وتأليفه ا وإيق اع‬
‫االزدواج المفضي إلى النتاج فيها)(‪)1‬‬
‫وهذا االنتاج المتزايد المتنامي لثمرات الحكمة‪ ،‬ال يكون في أكمل ص وره إال‬
‫الحسن‪(:‬إن أهل العق ل لم‬ ‫ّ‬ ‫لمن جمع مع الفهم وآلياته قلبا منورا بنور الذكر‪ ،‬كما قال‬
‫يزالوا يعودون بالذكر على الفكر‪ ،‬وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/426 :‬‬

‫‪353‬‬
‫بالحكمة)‬
‫وسنشرح هنا بعض ما يحت اج إلي ه من ه ذه العل وم باعتباره ا من الف روض‬
‫الالزم وجودها في األمة‪ ،‬بل من الالزم نشرها بين العامة والخاصة‪ ،‬وتربية أجيال‬
‫األمة عليها‪ ،‬ألنه من األخطاء التي وقعت فيه ا المجتمع ات اإلس المية الغ رق فيم ا‬
‫يسمى بالجزئية والحرفية نتيجة المبالغة في العلم‪ ،‬مع االبتعاد عن الحكمة ال تي هي‬
‫ثمرة العلم وأساسه‪.‬‬
‫مقاصد األحكام‪:‬‬
‫أس اس الفهم ومنطلق ه ه و معرف ة المقص د‪ ،‬فمن ع رف مقص د المتكلم أو‬
‫المشرع عرف كيف يقيس ما لم يذكر على ما ذكر‪ ،‬وعرف قبل ذلك كيف يطبق ما‬
‫أمر به مع مراعاة مقاصده‪.‬‬
‫ففائدة فهم مقاصد األحكام لها بذلك مظهران‪ :‬عملي وعلمي‪.‬‬
‫مظهر عملي‪ :‬بسببه ك انت الحكم ة خلق ا من األخالق‪ ،‬ب ل رأس ا من رؤوس‬
‫األخالق وأص ال من أص ولها‪ ،‬وله ذا يطل ق العلم اء على ه ذا الن وع بـ (الحكم ة‬
‫العملية)‪ ،‬وقد عرفها ابن القيم انطالقا من كالم الهروي بقول ه‪(:‬أن تعطي ك ل ش يء‬
‫حقه‪ ،‬وال تعديه حده‪ ،‬وال تعجله عن وقته‪ ،‬وال تؤخره عنه)(‪)1‬‬
‫ثم فصل هذا التعريف بقوله‪(:‬لما كانت األشياء لها م راتب وحق وق تقتض يها‬
‫شرعا وقدرا‪ ،‬ولها حدود ونهايات تصل إليها وال تتعداها‪ ،‬ولها أوقات ال تتقدم عنها‬
‫وال تتأخر‪ ،‬كانت الحكمة مراعاة هذه الجه ات الثالث ة ب أن تعطي ك ل مرتب ة حقه ا‬
‫الذي أحقه هللا لها بشرعه وقدره وال تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالف ا للحكم ة‪،‬‬
‫وال تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة وال تؤخرها عنه فتفوتها)‬
‫ثم قال معمما هذا المعنى وممثال له بما يقرب معن اه‪(:‬وه ذا حكم ع ام لجمي ع‬
‫األسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا‪ ،‬فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إض اعة الب ذر‬
‫وسقي األرض وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفس د‬
‫وتعجيلها عن وقتها كحص اده قب ل إدراك ه وكمال ه‪ ،‬وك ذلك ت رك الغ ذاء والش راب‬
‫واللباس إخالل بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه خروج عنه ا أيض ا وتعجي ل ذل ك‬
‫قبل وقته إخالل بها وتأخيره عن وقته إخالل بها)(‪)2‬‬
‫وانطالقا من هذا عرفها تعريفا آخر‪ ،‬ق ال في ه‪( :‬فالحكم ة إذا فع ل م ا ينبغي‪،‬‬
‫على الوجه الذي ينبغي‪ ،‬في الوقت الذي ينبغي)‬
‫وهذا المظهر العلمي بهذه الصفة ال يمكن تحقيقه إال بتحقيق المظه ر العملي‪،‬‬
‫فاهلل ال يعبد بالجهل‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإن التحقيق العملي لألحكام الشرعية ال ينفذه حق التنفي ذ إال‬
‫من فقه أسرار ومقاصد الشرع من ذلك الحكم‪ ،‬فمن عرف ـ مثال ـ أن مقصد الشرع‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين‪.2/472 :‬‬


‫‪ )(2‬مدارج السالكين‪.2/472 :‬‬

‫‪354‬‬
‫الص الةَ إِ َّن‬ ‫من الصالة الذكر‪ ،‬والنهي عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬وأَقِ ِم َّ‬
‫الصَّالةَ تَ ْنهَى َع ِن ْالفَحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر َولَ ِذ ْك ُر هَّللا ِ أَ ْكبَ ُر ﴾ (العنكب وت‪ )45:‬أقامه ا على‬
‫حقيقتها‪ ،‬ولم يحتل على هللا بأداء رسومها والغفلة عن حقيقتها‪.‬‬
‫ومن ع رف أن مقص د الش رع من النهي عن ق ول أف للوال دين ع رف أن‬
‫المقصد ليس ذات األف‪ ،‬وإنما كل ما يؤذيهما‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن العارف بمقاصد الشريعة المعايش لها تتجلى له من التفاصيل م ا‬
‫ال تتجلى للمس تغرق في الحرفيي ة والرس وم‪ ،‬وه ذا مظه ر من مظ اهر وف رة علم‬
‫الحكيم‪ ،‬وله ذا عقب تع الى التفاص يل ال تي وردت في الوص ايا ال واردة في س ورة‬
‫ك أَاَّل تَ ْعبُ دُوا إِاَّل إِيَّاهُ َوبِ ْال َوالِ َد ْي ِن إِحْ َس انا ً إِ َّما‬ ‫ض ى َربُّ َ‬ ‫اإلس راء من قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫ُ‬
‫ك ْال ِكبَ َر أَ َح ُدهُ َما أَوْ ِكالهُ َما فَال تَقُلْ لَهُ َما أفٍّ َوال تَ ْنهَرْ هُ َم ا َوقُ لْ لَهُ َم ا قَ وْ الً‬ ‫يَ ْبلُغ ََّن ِع ْن َد َ‬
‫ْ‬
‫ك ِمنَ ال ِح ْك َم ِة َوال‬ ‫ك َربُّ َ‬ ‫َ‬
‫َك ِريم ا ً﴾ (االس راء‪ )23:‬بقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ذلِ كَ ِم َّما أوْ َحى إِلَ ْي َ‬
‫تَجْ َعلْ َم َع هَّللا ِ إِلَها ً آخَ َر فَتُ ْلقَى فِي َجهَنَّ َم َملُوما ً َم ْدحُوراً﴾ (االسراء‪)39:‬‬
‫وسر ذلك‪ ،‬وهللا أعلم‪ ،‬أن تلك التفاصيل الواردة في تلك الوص ايا من الحكم ة‬
‫ومن وج وه االس تنباط المقاص دي‪ ،‬ف بر الوال دين ـ مثال ـ ورد في الق رآن الك ريم‬
‫مجمال‪ ،‬ولم يفصل بتلك التفاص يل إال في ذل ك الموض ع‪ ،‬فق د ذك ر جمي ع األح وال‬
‫المرتبطة بهما‪.‬‬
‫ومثل ذلك في األمر باإلنفاق‪ ،‬فقد ورد في أكثر القرآن الك ريم مطلق ا‪ ،‬ولكن ه‬
‫في ذلك الموضع ورد مقي دا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وال تَجْ َع لْ يَ دَكَ َم ْغلُولَ ةً إِلَى ُعنُقِ كَ َوال‬
‫ُطهَا ُك َّل ْالبَ ْس ِط فَتَ ْق ُع َد َملُوما ً َمحْ سُوراً﴾ (االسراء‪)29:‬‬ ‫تَ ْبس ْ‬
‫ومثل ذلك ما ورد من التفاصيل بعد ذكر إيتاء لقم ان ‪ ‬الحكم ة‪ ،‬فق د ذك ر‬
‫فيها من التفاصيل في كل موضع من المواضع م ا ي دل على مبل غ علم الحكيم‪ ،‬ق ال‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا لُ ْق َمانَ ْال ِح ْك َمةَ أَ ِن ا ْش ُكرْ هَّلِل ِ َو َم ْن يَ ْش ُكرْ فَإِنَّ َما يَ ْش ُك ُر لِنَ ْف ِس ِه َو َم ْن َكفَ َر‬
‫فَإِ َّن هَّللا َ َغنِ ٌّي َح ِمي ٌد﴾ (لقمان‪)12:‬‬
‫ففي هذه اآلية وحدها تفاصيل حقيقة الشكر ومقصده وعالقت ه باهلل‪ ،‬وعالقت ه‬
‫بالعبد‪...‬‬
‫مظهر علمي‪ :‬وهذا المظه ر ال يع رف إال من كلي ات الش ريعة والنص وص‪،‬‬
‫فمن عرفها ع رف مقص د الش ارع من التش ريعات المختلف ة‪ ،‬كم ا ذكرن ا س ابقا في‬
‫مقاصد القرآن الكريم‪.‬‬
‫زي ادة على ذل ك‪ ،‬ف إن النص وص الش رعية المعص ومة من الق رآن الك ريم‬
‫والسنة المطهرة نصت على أكثر المقاصد‪ ،‬بل ال تعرف المقاصد إال منها‪.‬‬
‫ففي القرآن الكريم مثال اإلخبار بالمقصد األصلي من خلق العباد‪ ،‬وهو أصل‬
‫ت ْال ِج َّن َواأْل ِ ْن َ‬
‫س إِاَّل‬ ‫المقاصد‪ ،‬ومنه تتشعب جميع األحك ام‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا خَ لَ ْق ُ‬
‫لِيَ ْعبُدُو ِن﴾ (الذريات‪ ،)56:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َم ا َخلَ ْقنَ ا ُك ْم َعبَث ا ً َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَ ا ال‬
‫تُرْ َجعُونَ ﴾ (المؤمنون‪)115:‬‬
‫وفي القرآن الكريم إخبار بمقصد إنزال القرآن الك ريم ح تى ال تتخ ذ دراس ته‬

‫‪355‬‬
‫عمال‪ ،‬وأحكامه ثقافة وقصصه سمرا‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن هَ َذا ْالقُ رْ آنَ يَ ْه ِدي لِلَّتِي ِه َي‬
‫ت أَ َّن لَهُ ْم أَجْ راً َكبِ يراً﴾ (االس راء‪،)9:‬‬ ‫َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬ ‫أَ ْق َو ُم َويُبَ ِّش ُر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ الَّ ِذينَ يَ ْع َملُونَ‬
‫ى لِ ْل ُمتَّقِينَ ﴾ (البق رة‪ ،)2:‬وكم ا دلت على‬ ‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِكَ ْال ِكتَ ابُ ال َري َ‬
‫ْب فِي ِه هُ د ً‬
‫هذا أوصافه الكثيرة على من أنه ن ور وه دى‪ ،‬ومب ارك‪ ،‬وم بين‪ ،‬وبش رى‪ ،‬وبش ير‬
‫ونذير‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫وفي القرآن الكريم إخبار بمقاصد كثير من األحكام‪ ،‬بل ال يكاد يذكر حكم إال‬
‫مختوم ا أو مس بوقا بالدالل ة على مقاص ده‪ ،‬فق د ذك ر حكم ة اع تزال النس اء في‬
‫المحيض وأنها دفع األذى‪ ،‬وحكمة تش ريع الحج وأنه ا تحص يل المن افع وذك ر هللا‪،‬‬
‫وحكم ة تش ريع ال زواج وأنه ا الس كن والم ودة والرحم ة وإعم ار الك ون‪ ،‬وحكم ة‬
‫تشريع الصوم وأنها تحصيل التقوى‪ ،‬وحكمة منع االقتراب من الزن ا‪ ،‬وأنه ا فحش ه‬
‫وسوء سبيله ومفاس د مآل ه‪ ،‬وحكم ة وج وب القت ال وأنه ا دف ع الظلم عن المس لمين‬
‫والذب عن دينهم واستقاللهم ومنعتهم وغير ذلك‪.‬‬
‫ومن القرآن الكريم استنبط الفقهاء القواع د الفقهي ة المختلف ة ال تي تص ب في‬
‫مقاصد الشرعية‪ ،‬مثل (المشقة تجلب التيسير )‪ ،‬و(الضرورات تبيح المحظورات)‪،‬‬
‫و(الضرورة تقدر بقدرها ) و(العادة محكمة)‬
‫ومثل ذلك السنة ال تي هي بي ان للق رآن الك ريم‪ ،‬فق د احت وت على التفاص يل‬
‫الكثيرة المبينة لمراعاة الشارع للمقاصد‪ ،‬ودور السنة هنا هو التفصيل والتنفيذ‪ ،‬ألن‬
‫أصول المقاصد منص وص عليه ا في الق رآن الك ريم‪ ،‬وه ذا م ا نب ه إلي ه الش اطبي‬
‫بقوله‪(:‬وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلب ا له ا‪ ،‬والتعري ف‬
‫بمفاسدها دفعا لها‪ ...‬وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها ال تزيد على تقرير هذه األم ور‪،‬‬
‫فالكتاب أتى بها أصوال يرجع إليها‪ ،‬والسنة أتت بها تفريع ا على الكت اب وبيان ا لم ا‬
‫فيه منها)‬
‫أدوات االستنباط‪:‬‬
‫ونريد بها العلوم اآللية التي تمكن من فهم مراد هللا‪ ،‬ألنه ب دون الفهم ال يمكن‬
‫التحقيق‪ ،‬وال العمل‪.‬‬
‫وربما أقرب العلوم اهتماما بتحقيق هذا الن وع من أن واع عل وم الحكم ة‪ ،‬ه و‬
‫علم أص ول الفق ه‪ ،‬فه و العلم ال ذي تخص ص في البحث عن آلي ات التعام ل م ع‬
‫النصوص واألحكام‪.‬‬
‫فلذلك كان وجوده فرضا الزما في األم ة‪ ،‬وك ان من تعليم الحكم ة تعليم ه ذا‬
‫العلم للخاص ة بتفاص يله الدقيق ة‪ ،‬وللعام ة بم ا يبص رهم من أن ك ل األحك ام‪ ،‬ول و‬
‫تصوروا بعدها عن النصوص هي فرع من فروع النصوص‪.‬‬
‫وبسبب الجهل بهذا العلم تصور الكثير من العامة من أدعياء العلم أن الفقه اء‬
‫خرجوا في أحكامهم وفتاواهم عن الكتاب والسنة‪ ،‬وأن آراءهم مجرد آراء ال عالقة‬
‫لها بالشريعة‪ ،‬وال يحل هذا الجهل المركب غير العلم بهذا العلم‪.‬‬
‫أحكام العقل‪:‬‬

‫‪356‬‬
‫ونريد به ا العل وم اآللي ة ال تي تمكن من االس تنتاج والعب ور من القض ية إلى‬
‫جميع ما يتربت عليها‪ ،‬ويتولد عنها‪ ،‬ألن المتكلم أو المش رع ال يس تطيع أن يفي في‬
‫كالمه بكل التفاصيل‪ ،‬فيدع للعقل ميدانه للعبور من المذكور إلى غير المذكور‪.‬‬
‫وه ذا الن وع من العلم ض روري ال غ نى عن ه‪ ،‬وإلي ه اإلش ارة بك ل اآلي ات‬
‫القرآني ة الداعي ة إلى إعم ال العق ل‪ ،‬والناهي ة عن مج اوزة أحكام ه‪ ،‬وك ل اآلي ات‬
‫المرغبة في الفكر‪ ،‬والتدبر‪ ،‬والتذكر‪ ،‬ونحوها‪.‬‬
‫فاهلل تعالى يمدح العارفين ب ه من أولي األلب اب‪ ،‬ويص ف م وقفهم من الك ون‬
‫ت‬ ‫الس َما َوا ِ‬ ‫ق َّ‬ ‫فيقول‪(:‬الَّ ِذينَ يَ ْذ ُكرُونَ هَّللا َ قِيَاما ً َوقُعُوداً َو َعلَى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ‬
‫ار﴾ (آل عمران‪)191:‬‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫ض َربَّنَا َما َخلَ ْقتَ هَ َذا بَا ِطالً ُسب َْحانَكَ فَقِنَا َع َذ َ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫والقرآن الكريم يحثنا على تأمل المعاني الواردة في القصص ح تى ال نخ رج‬
‫من مواضع العبرة إلى مواضع السمر‪ ،‬فقال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَ وْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَ اهُ بِهَ ا َولَ ِكنَّهُ‬
‫ث‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْك هُ يَ ْلهَ ْ‬‫ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ‬ ‫ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬‫أَ ْخلَ َد إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (ألع راف‪:‬‬ ‫ص َ‬ ‫ص ْالقَ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ك َمثَ ُل ْالقَ وْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآياتِنَ ا فَا ْق ُ‬ ‫َذلِ َ‬
‫‪)176‬‬
‫ويحثنا إلى النظر في األمثال بعين االعتب ار‪ ،‬فيق ول تع الى‪ ﴿ :‬لَ وْ أَ ْنزَ ْلنَ ا هَ َذا‬
‫اس‬‫َض ِربُهَا لِلنَّ ِ‬ ‫ك اأْل َ ْمثَا ُل ن ْ‬ ‫َصدِّعا ً ِم ْن خَ ْشيَ ِة هَّللا ِ َوتِ ْل َ‬ ‫َاشعا ً ُمت َ‬ ‫ْالقُرْ آنَ َعلَى َجبَ ٍل لَ َرأَ ْيتَهُ خ ِ‬
‫لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (الحشر‪)21:‬‬
‫والقرآن الكريم يدعونا إلى تأمل ما نشاهده من تغ يرات الطبيع ة لنس تدل به ا‬
‫اختَلَطَ بِ ِه‬ ‫على المصير‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِنَّ َما َمثَ ُل ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َك َما ٍء أَ ْنزَ ْلنَاهُ ِمنَ ال َّس َما ِء فَ ْ‬
‫َت‬‫ت اأْل َرْ ضُ ُز ْخ ُرفَهَ ا َوا َّزيَّن ْ‬ ‫ض ِم َّما يَأْ ُك ُل النَّاسُ َواأْل َ ْن َع ا ُم َحتَّى إِ َذا أَخَ َذ ِ‬ ‫ات اأْل َرْ ِ‬ ‫نَبَ ُ‬
‫ص يداً َك أ َ ْن لَ ْم‬ ‫َوظَ َّن أَ ْهلُهَا أَنَّهُ ْم قَا ِدرُونَ َعلَ ْيهَا أَتَاهَ ا أَ ْم ُرنَ ا لَ ْيالً أَوْ نَهَ اراً فَ َج َع ْلنَاهَ ا َح ِ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (يونس‪)24:‬‬ ‫ص ُل اآْل يا ِ‬ ‫ك نُفَ ِّ‬ ‫تَ ْغنَ بِاأْل َ ْم ِ‬
‫س َك َذلِ َ‬
‫وكل هذه األنظار تستدعي آليات معينة تنقل اإلنس ان من القض ية أو المس ألة‬
‫أو محل النظر إلى ما ينطوي تحته من معان‪.‬‬
‫وقد عرف الغزالي الفكر‪ ،‬ومثل له بما يوضح معناه وم ا يحتاج ه من آلي ات‪،‬‬
‫أن معنى الفكر ه و إحض ار معرف تين في القلب ليس تثمر منهم ا معرف ة‬ ‫فقال‪(:‬اعلم ّ‬
‫أن اآلخ رة‬ ‫أن من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا وأراد أن يع رف ّ‬ ‫ثالثة‪ .‬ومثاله‪ّ :‬‬
‫أولى باإليثار من العاجلة فله طريقان‪:‬‬
‫أح دهما‪ :‬أن يس مع من غ يره أن اآلخ رة أولى باإليث ار من ال دنيا‪ ،‬فيقل ده‬
‫ويص ّدقه من غير بصيرة بحقيقة األمر فيميل بعمله إلى إيث ار اآلخ رة اعتم اداً على‬
‫مجّرد قوله‪ ،‬وهذا ما يسمى تقليداً وال يسمى معرفة‪.‬‬
‫أن اآلخ رة أبقى‪.‬‬ ‫أن األبقى أولى باإليث ار‪ ،‬ثم يع رف ّ‬ ‫الث اني‪ :‬أن يع رف ّ‬
‫فيحصل له من ه اتين المعرف تين معرف ة ثالث ة وه و أن اآلخ رة أولى باإليث ار‪ ،‬وال‬
‫بأن اآلخرة أولى باإليثار إال بالمعرفتين السابقتين‪.‬‬ ‫يمكن تحقق المعرفة ّ‬
‫فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يس مى‬

‫‪357‬‬
‫وتدبراً)(‪)1‬‬ ‫تفكراً واعتباراً وتذكراً ونظراً وتأمالً‬
‫ثم بين وجه التغاير بين هذه المصطلحات‪ ،‬فقال‪(:‬أما التدبر والتأمل والتفك ر‪:‬‬
‫فعب ارات مترادف ة على مع نى واح د ليس تحته ا مع ان مختلف ة‪ .‬وأم ا اس م الت ذكر‬
‫أن اس م‪:‬‬ ‫واالعتبار والنظر‪ :‬فمختلفة المع اني وإن ك ان أص ل المس مى واح د؛ كم ا ّ‬
‫الص ارم‪ ،‬والمهن د‪ ،‬والس يف؛ يت وارد على ش يء واح د ولكن باعتب ارات مختلف ة‪..‬‬
‫فكذلك االعتبار‪ :‬ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة‬
‫ثالثة‪ ،‬وإن لم يقع العبور ولم يمكن إال الوق وف على المعرف تين فينطل ق علي ه اس م‪:‬‬
‫التذكر‪ ،‬ال اسم‪ :‬االعتب ار‪ .‬وأم ا النظ ر والتفك ر؛ فيق ع علي ه من حيث إن في ه طلب‬
‫معرف ة ثالث ة‪ ،‬فمن ليس يطلب المعرف ة الثالث ة ال يس مى ن اظراً‪ ،‬فك ل متفك ر فه و‬
‫متذكر‪ ،‬وليس كل متذكر متفكراً‪ .‬وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترس خ‬
‫وال تنمحي عن القلب‪ .‬وفائدة التفكر‪ :‬تكثير العلم واستجالب معرفة ليس ت حاص لة‪.‬‬
‫فهذا هو الفرق بـين التذكر والتفكر)(‪)2‬‬
‫ومع صراحة األدلة على ضرورة استعمال العقل واعتباره الوسيلة األساسية‬
‫لالستنباط نرى من لم يقدر للعقل ق دره‪ ،‬فيتص وره مناهض ا للنص وص أو مناقض ا‬
‫لها‪.‬‬
‫مع أن القرآن الكريم يكاد يصرح بأن أحكام العقل دين كأحك ام الش رع‪ ،‬ق ال‬
‫اس َعلَ ْيهَا ال تَ ْب ِدي َل لِخَ ْل ِ‬
‫ق هَّللا ِ‬ ‫ط َرتَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ َر النَّ َ‬‫تعالى‪ ﴿ :‬فَأَقِ ْم َوجْ هَكَ لِلدِّي ِن َحنِيفا ً فِ ْ‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ (الروم‪،)30:‬يقول الغ زالي معقب ا على‬ ‫ك الدِّينُ ْالقَيِّ ُم َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫َذلِ َ‬
‫هذه اآلية‪( :‬فسمى العقل دينا)‬
‫ولك ون أحك ام العق ل المج رد دين ا‪ ،‬ف إن التن اقض بين أحك ام العق ل وأحك ام‬
‫الشرع مستحيل‪ ،‬ب ل إن أس اس الش رع العق ل (فه و ك األس والش رع كالبن اء‪ ،‬ولن‬
‫يغني أ س ما لم يكن بناء‪ ،‬ولن يثبت بناء ما لم يكن أ س)‬
‫والغزالي يسمي الشرع ـ بسبب مراعاته الضرورية لألحكام العقلي ة ـ عقال‪،‬‬
‫فالشرع عقل من الخارج‪ ،‬والعقل شرع من داخل‪،‬وهما متعاضدان بل متحدان‪.‬‬
‫و بسبب هذا االتحاد بين أحكام العقل وأحكام الشرع‪،‬فإن تمجيد العق ل تمجي د‬
‫للشرع‪ ،‬وإعماله أعمال للشرع‪ ،‬ونبذه نبذ للشرع‪،‬ألن كليهما من وضع هللا ‪.‬‬
‫وال يهمنا بعد هذا‪ ،‬اسم اآللية التي نعرف بها أحكام العقل‪ ،‬وال واضعها‪ ،‬كما‬
‫ال يهمنا أن نعرف مصدر الدواء الشافي وال واضعه‪ ،‬إذا تحقق المقصد منه‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن العلم الذي عنى بأحك ام العق ل‪ ،‬وه و المنط ق ـ م ع قص وره عن‬
‫بلوغ الم راد من ه ـ ال ح رج في االس تفادة من ه‪ ،‬ب ل ن رى رجال ك الغزالي ينتص ر‬
‫للمنطق‪ ،‬ويعت بره غ ير غ ريب عن اإلس الم أو الفك ر اإلس المي‪ ،‬وليس دخيال م ع‬
‫الفلسفة كما يتصور البعض‪ ،‬يقول الغزالي‪(:‬ولكن المنطق ليس مخصوصا بهم [أي‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/426 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.4/426 :‬‬

‫‪358‬‬
‫بالفالسفة ]‪،‬وإنما هو األصل الذي نس ميه في فن الكالم (كت اب النظ ر)‪،‬وق د نس ميه‬
‫(كتاب الجدل)‪ ،‬وقد نسميه(مدارك العق ول)؛ف إذا س مع المتك ايس المستض عف اس م‬
‫(المنطق) ظن أنه فن غريب ال يعرفه المتكلمون‪ ،‬وال يطلع عليه إال الفالسفة )‬
‫ولهذا فإن الغزالي ألف في المنطق مجموعة كتب‪ ،‬وأدخل المنطق كتمهيدات‬
‫لبعض العلوم كعلم األصول‪،‬فقد كان يقدم له قبل الغزالي بمقدمات كالمي ة كتأس يس‬
‫فكري لقضايا أصول الفقه وربطها بأصول الدين‪،‬ف رأى الغ زالي أن األولى ربطه ا‬
‫بالمنطق لحاجة علم األصول لقضايا المنطق‪،‬يقول الغزالي عن مقدم ة المستص فى‪:‬‬
‫(وليست هذه المقدمة من جمل ة علم األص ول وال من مقدمات ه الخاص ة ب ه‪،‬ب ل هي‬
‫مقدمة العلوم كلها‪،‬ومن ال يحيط بها‪،‬فال ثقة بعلوم ه أص ال)‪،‬وق د ب دأ به ذا االهتم ام‬
‫بالمنطق عند الغزالي عهد جديد للثقاف ة اإلس المية‪،‬ام تزجت في ه بقض ايا وأس اليب‬
‫المناطقة‪.‬‬
‫وال نريد هنا أن نقحم المنطق في العلوم الش رعية‪ ،‬ولكن ا نري د ان ن دعو إلى‬
‫أسلمة هذه العلم‪ ،‬وإفادة األجيال به‪ ،‬فهو علم ضروري ال غنى عنه‪.‬‬
‫وقد حاول الغ زالي أن يض ع منطق ا جدي دا في كتاب ه (القس طاس المس تقيم)‪،‬‬
‫ومع أن تلك الموازين التي وضعها الغزالي مطابقة للموازين المنطقي ة اليوناني ة إال‬
‫أن للغزالي أهدافا أخرى وراء تلك الصياغة الجديدة لعلم المنطق لعل أهمها تق ريب‬
‫المنطق واالحتجاج له باألمثلة من القرآن الكريم لصنفين من الناس‪:‬‬
‫‪ .1‬ال ذين اس تهوتهم الفلس فة بم ا فيه ا من عل وم عقلي ة‪،‬فخلط وا بين حقه ا‬
‫وباطلها‪،‬وظنوا التناقض بين العلوم النقلية واألحكام العقلية‪.‬‬
‫‪ .2‬العلماء النصيين الذين رفضوا المنطق باعتباره فلسفة وعلما غري بين عن‬
‫الدين‪.‬‬
‫وال يتص ور التغ اير في ه ذا الج انب أيض ا بين الحكم ة العلمي ة والحكم ة‬
‫العملية‪ ،‬فآليات أحكام العقل ال بد أن تهدي من استنار بها إلى طري ق هللا وس بيله ال‬
‫محالة‪.‬‬
‫وقد ذكر الغزالي مثاال على تأثير أحكام العقل في تغ ير الح ال‪ ،‬وال ترقي في‬
‫مقامات السلوك‪ ،‬فقال‪(:‬إن أردت أن تفهم كيفية تغير الحال بالفكر فمثاله م ا ذكرن اه‬
‫أن اآلخ رة أولى باإليث ار‪ ،‬ف إذا رس خت ه ذه‬ ‫فإن الفكر فيه يعرّفن ا ّ‬
‫من أمر اآلخرة‪ّ ،‬‬
‫المعرفة يقينا ً في قلوبن ا تغ يرت القل وب إلى الرغب ة في اآلخ رة والزه د في ال دنيا‪.‬‬
‫وهذا ما عنيناه بالح ال‪ ،‬إذ ك ان ح ال القلب قب ل ه ذه المعرف ة حب العاجل ة والمي ل‬
‫إليها‪ ،‬والنفرة عن اآلخرة وقلة الرغبة فيها‪.‬‬
‫وبهذه المعرفة تغير حال القلب وتبدلت إرادته ورغبته‪ .‬ثم أثمر تغير اإلرادة‬
‫أعمال الجوارح في طراح الدنيا واإلقبال على أعمال اآلخرة)(‪)1‬‬
‫وقد ذكر لهذا العبور من المعرفة العقلية المجردة إلى الحال خمس درجات‪:‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/426 :‬‬

‫‪359‬‬
‫‪ .1‬التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب‪.‬‬
‫‪ .2‬التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما‪.‬‬
‫‪ .3‬حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها‪.‬‬
‫‪ .4‬تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة‪.‬‬
‫‪ .5‬خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتج ّدد له من الحال‪.‬‬
‫وشبه ذلك بمن (يضرب الحجر على الحديد فيخ رج من ه ن ار يستض يء به ا‬
‫الموضع فتصير العين مبصرة بع د أن لم تكن مبص رة وتنتهض األعض اء للعم ل‪،‬‬
‫فكذلك زناد نور المعرفة ه والفكر فيجم ع بـين المعرف تين كم ا يجم ع بـين الحج ر‬
‫والحديد‪ ،‬ويؤلف بـينهما تأليفا ً مخصوصا ً كم ا يض رب الحج ر على الحدي د ض ربا ً‬
‫مخصوصاً‪ ،‬فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحدي د‪ ،‬ويتغ ير القلب بس بب‬
‫هذا النور حتى يميل إلى ما يكن يميل إليه كما يتغير البصر بنور النار ف يرى م ا لم‬
‫يكن يراه‪ .‬ثم تنتهض األعضاء للعمل بمقتضى ح ال القلب كم ا ينتهض الع اجز عن‬
‫العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره)(‪)1‬‬
‫علوم التزكية‬
‫وهي العلوم المرتبطة بالسلوك سواء كان سلوكا ظاهري ا‪ ،‬أو س لوكا باطني ا‪،‬‬
‫وهي من العلوم الواجبة‪ ،‬الرتباطها بتطبيق مراد هللا من خلقه‪.‬‬
‫وللتعرف على أن واع العل وم المندرج ة في ه ذا الن وع نس وق الخالف ال ذي‬
‫أورده الغزالي حول أنواع العلوم المفروضة‪ ،‬فقد ذك ر أن العلم اء اختلف وا في ذل ك‬
‫إلى أكثر من عشرين فرقة‪( ،‬فقال المتكلمون‪ :‬ه و علم الكالم‪ ،‬إذ ب ه ي درك التوحي د‬
‫ويعلم ذات هللا سبحانه وصفاته‪ ،‬وقال الفقهاء‪ :‬هو علم الفق ه إذ ب ه تع رف العب ادات‬
‫والحالل والحرام وما يحرم من المعامالت وما يحل‪ ،‬وعنوا به ما يحتاج إليه اآلحاد‬
‫دون الوقائع النادرة‪ ،‬وقال المفسرون والمح ّدثون‪ :‬هو علم الكت اب والس نَّة‪ ،‬إذ بهم ا‬
‫يتوصل إلى العلوم كلها‪ .‬وقال المتصوّفة‪ :‬الم راد ب ه ه ذا العلم‪ ،‬فق ال بعض هم‪ :‬ه و‬
‫علم العبد بحاله ومقامه من هللا عز وجل‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬هو العلم باإلخالص وآف ات‬
‫النفوس وتميـيز لمة الملك من لمة الشيطان‪ .‬وقال بعض هم‪ :‬ه و علم الب اطن‪ ،‬وذل ك‬
‫يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذل ك وص رفوا اللف ظ عن عموم ه‪ .‬وق ال أب و‬
‫طالب المكي‪ :‬هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مب اني اإلس الم‪ ..‬ألن ال واجب‬
‫هذه الخمس فيجب العلم بكيفية العمل فيها وبكيفية الوجوب)(‪)2‬‬
‫وهذه العلوم المذكورة ال تعدو ثالثة علوم‪:‬‬
‫‪ .1‬علم التوحيد أو العقيدة أو اإليمان‪ ،‬أو األحكام العقلية‬
‫‪ .2‬علم الفقه أواألحكام العملية‪.‬‬
‫‪ .3‬علم التصوف أو السلوك أو اإلحسان‪ ،‬أو األحكام الوجدانية‪.‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.4/427 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين‪.1/14 :‬‬

‫‪360‬‬
‫أما ما ذكر المفسرون والمحدثون وغيرهم‪ ،‬فهي مصادر هذه العلوم‪ ،‬ال أنه ا‬
‫المقصودة بذاتها‪.‬‬
‫وقد تحدثنا عما يتعلق بهذه العلوم في المحال المختلفة من هذا الكتاب‪ ،‬ولذلك‬
‫نكتفي بالتعريف بها هنا‪ ،‬وقد نحتاج إلى التفصيل فيها إذا اقتضت الضرورة ذلك‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ السياسات والصناعات‬


‫ونقصد بهذا النوع من أنواع العلوم العلوم التي تهدف إلى تنظيم حي اة الن اس‬
‫على هذه األرض‪ ،‬وتيسير مرافقها‪.‬‬
‫وهي بذلك أقرب إلى كونها سياسات وص نائع منه ا إلى كونه ا علوم ا قائم ة‬
‫بذاتها‪ ،‬بحكم التطور الكبير الذي يحصل فيها‪ ،‬والذي يحيل ما قبلها تخلفا أوجهال‪.‬‬
‫ولهذا النوع ناحيتان لكل منهما وجهته وضوابطه‪:‬‬
‫أ ـ الناحية العلمية المحضة‪:‬‬
‫وهي الناحية التي تتأسس عليها السياسية أو الصناعة‪ ،‬ألن لك ل منهم ا أسس ا‬
‫علمية تقوم عليها‪ ،‬فالطب ـ مثال ـ يقوم على العلم بمكونات جسم اإلنسان ووظائفه ا‬
‫والعلل التي تعتريها واسبابها‪ ،‬فكل هذه العلوم علوم محضة‪ ،‬وهي من ه ذه الناحي ة‬
‫تدخل فيما ذكرناه من معرفة أفعال هللا‪ ،‬وله ذا ورد ذك ر كث ير مم ا يتعل ق به ذا في‬
‫القرآن الكريم كآية من آيات هللا‪ ،‬أو كنعم من نعمه‪.‬‬
‫وقد قال الغزالي في بيان نسبة هذه العلوم للق رآن الك ريم‪(:‬ثم ه ذه العل وم م ا‬
‫عددناها وما لم نعدها ليست أوائله ا خارج ة عن الق رآن‪ ،‬ف ان جميعه ا مغترف ة من‬
‫بحر واحد من بحار معرف ة هللا تع الى وه و بح ر األفع ال‪ ،‬وق د ذكرن ا أن ه بح ر ال‬
‫ساحل له‪ ،‬وأن البحر لو كان مدادا لكلمات ه لنف د البح ر قب ل أن تنف د‪ ،‬فمن أفع ال هللا‬
‫تعالى ـ وهو بحر األفعال ـ مثال الش فاء والم رض كم ا ق ال هللا تع الى عن اب راهيم‬
‫ت فَه َُو يَ ْشفِي ِن﴾ (الشعراء‪ ،)80:‬وه ذا الفع ل الواح د ال يعرف ه اال‬ ‫‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َم ِرضْ ُ‬
‫من عرف الطب بكمال ه‪ ،‬إذ ال مع نى للطب اال معرف ة الم رض بكمال ه وعالمات ه‪،‬‬
‫ومعرفة الشفاء وأسبابه)(‪)1‬‬
‫وضرب مثاال آخر عن ذلك بعلم الفلك‪ ،‬وهو ـ فيما ن رى ـ علم محض إال إذا‬
‫هدف من ورائه إلى تحقيق مصلحة من المصالح‪ ،‬فقال‪(:‬ومن افعاله تب ارك وتع الى‬
‫تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان وقد قال هللا تعالى‪﴿ :‬ال َّش ْمسُ َو ْالقَ َم ُر‬
‫ض يَا ًء َو ْالقَ َم َر نُ وراً‬
‫س ِ‬ ‫ان﴾ (الرحمن‪ ،)5:‬وقال تعالى‪ ﴿ :‬ه َُو الَّ ِذي َج َع َل َّ‬
‫الش ْم َ‬ ‫بِ ُح ْسبَ ٍ‬
‫َس فَ‬‫)وخ َ‬ ‫اب﴾ (يونس‪ ،)5:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َوقَ َّد َرهُ َمن ِ‬
‫َاز َل لِتَ ْعل ُموا َع َد َد ال ِّسنِينَ َوال ِح َس َ‬
‫ْالقَ َمرُ﴾ (القيامة‪ ،)8:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِكَ بِأ َ َّن هَّللا َ يُولِ ُج اللَّ ْي َل فِي النَّهَ ِ‬
‫ار َويُ ولِ ُج النَّهَ ا َر‬
‫﴿وال َّش ْمسُ تَجْ ِري لِ ُم ْس تَقَ ٍّر‬
‫صيرٌ﴾ (الحج‪ ،)61:‬وقال تعالى‪َ :‬‬ ‫فِي اللَّي ِْل َوأَ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع بَ ِ‬
‫لَهَا َذلِكَ تَ ْق ِدي ُر ْال َع ِزي ِز ْال َعلِ ِيم﴾ (يّـس‪ ،)38:‬وال يع رف حقيق ة س ير الش مس والقم ر‬
‫بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار وكيفية تكور أحدهما على اآلخ ر اال من‬
‫‪ )(1‬جواهر القرآن‪.45 :‬‬

‫‪361‬‬
‫برأسه)(‪)1‬‬ ‫عرف هيئات تركيب السموات واألرض وهو علم‬
‫ك‬ ‫أْل‬ ‫َ‬
‫وضرب مثاال آخر عن ذلك بقوله تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أيُّهَ ا ا ِ ْن َس انُ َم ا َغ َّركَ بِ َربِّ َ‬
‫ُور ٍة َما َش ا َء َر َّكبَ كَ ﴾ (االنفط ار‪ 6:‬ـ ‪،)8‬‬ ‫يص َ‬ ‫ك فِي أَ ِّ‬ ‫ْال َك ِر ِيم الَّ ِذي خَ لَقَكَ فَ َس َّوا َ‬
‫ك فَ َع َدلَ َ‬
‫فال يع رف م راد ه ذه اآلي ة (إال من ع رف تش ريح األعض اء من االنس ان ظ اهرا‬
‫وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها‪ ،‬وقد أشار في القرآن في مواضع اليها)‬
‫بل إن الغزالي بنور بصيرته اإليمانية يذكر بأن العل وم ال تنحص ر في عل وم‬
‫عصره‪ ،‬ويتنب أ بعل وم كث يرة س تظهر للوج ود‪ ،‬كله ا تغ ترف من بح ار أفع ال هللا‪،‬‬
‫فيقول‪(:‬بل أقول ظهر لنا بالبصيرة الواض حة ال تي ال يتم ارى فيه ا أن في االمك ان‬
‫والق وة أص نافا من العل وم بع د لم تخ رج من الوج ود‪ ،‬وإن ك ان في ق وة اآلدمي‬
‫الوصول اليها‪ ،‬وعلوم كانت قد خ رجت الى الوج ود واندرس ت اآلن فلن يوج د في‬
‫هذه األعصار على بسيط األرض من يعرفها‪ ،‬وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصال‬
‫ادراكها واإلحاطة بها)(‪)2‬‬
‫فالنواحي النظرية لم ا س ميناه بالص ناعات ي دخل في عل وم الكت اب من ه ذه‬
‫الناحية‪ ،‬وال غرابة في هذا‪ ،‬بل إن الكمال في اعتبارها كذلك‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكرناه يرفع عن ه ذه األن واع من العل وم جفافه ا ال ذي ن راه‪ ،‬ب ل‬
‫يجيب عن أكثر التساؤات التي تحير العلماء‪ ،‬بل يجعل الكون بص ورة أك ثر جم اال‬
‫من الصورة التي ترسمها هذه العلوم‪ ،‬وهي بعيدة عن هللا بعيدة عن هدي الكتاب‪.‬‬
‫وقد بين النورسي م دى الفوائ د ال تي تج نى من ه ذه العل وم إذا م ا اس تنارت‬
‫بن ور هللا‪ ،‬وبه دي اإليم ان‪ ،‬فيق ول‪(:‬العل وم ال تي تبحث في حقيق ة الموج ودات ‪-‬‬
‫كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان‪ ..‬ـ هذه العلوم التي هي (حكمة االشياء) يمكن‬
‫ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى الس م هللا (الحكيم) ج ل جالل ه في‬
‫االشياء‪ ،‬وهي تجلي ات ت دبير‪ ،‬وتربي ة‪ ،‬ورعاي ة‪ .‬وبرؤي ة ه ذه التجلي ات في من افع‬
‫االشياء ومصالحها تص بح تل ك الحكم ة حكم ة حق اً‪ ،‬أي باس تنادها الى ذل ك االس م‬
‫(الحكيم) والى ذل ك الظه ير تص بح حكم ة فعالً‪ ،‬وإالّ فإم ا أنه ا تنقلب الى خراف ات‬
‫وتصبح عبثا ً ال طائ ل من ورائه ا أو تفتح س بيالً الى الض اللة‪ ،‬كم ا ه و الح ال في‬
‫الفلسفة الطبيعية المادية‪)..‬‬
‫ويذكر عل ة مهم ة ل ذلك غ ابت عن العل وم الحديث ة‪ ،‬فأغرقته ا في الجزئي ة‪،‬‬
‫وأبع دتها عن جم ال الوح دة والتناس ق والكم ال‪ ،‬فق ال‪(:‬إن نظ ر النب وة والتوحي د‬
‫وااليمان يرى الحقائق في نور االلوهية واآلخرة ووحدة الك ون ألن ه متوج ه اليه ا‪،‬‬
‫أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فان ه ي رى االم ور من زاوي ة االس باب المادي ة‬
‫الكثيرة والطبيعة ألنه متوجه اليها‪ ،‬فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً‪ .‬فرب‬
‫غاية عظيمة جليلة لدى اهل الفلسفة تافهة وصغيرة ال تكاد ترى بين مقاص د علم اء‬

‫‪ )(1‬جواهر القرآن‪.46 :‬‬


‫‪ )(2‬جواهر القرآن‪.47 :‬‬

‫‪362‬‬
‫اص ول ال دين وعلم الكالم‪ .‬وله ذا فق د تق دم اه ل العلم التجري بي كث يراً في معرف ة‬
‫خواص الموجودات وتفاصيلها واوص افها الدقيق ة في حين تخلف وا كث يراً ح تى عن‬
‫ابس ط المؤم نين وأقلهم علم ا ً في مج ال العلم الحقيقي وه و العل وم اإللهي ة الس امية‬
‫والمعارف االخروية)‬
‫وانطالقا من هذا نقترح أسلمة لهذه العلوم‪ ،‬بربطها بمصدرها األول وحقيقتها‬
‫الكبرى‪.‬‬
‫ب ـ الناحية العملية‪:‬‬
‫وهي الناحي ة الثاني ة من ن واحي العل وم السياس ية والص ناعية‪ ،‬وهي أهم‬
‫الناحيتين بالنسبة لمصالح اإلنسان المادية‪ ،‬والقرآن الك ريم يش ير إلى ه ذه الناحي ة‪،‬‬
‫وال يستنكرها‪ ،‬بل يعتبرها من تمكين اإلنسان في األرض‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِنَّا َم َّكنَّا لَ هُ‬
‫ض َوآتَ ْينَاهُ ِم ْن ُك ِّل َش ْي ٍء َسبَباً﴾ (الكهف‪)84:‬‬ ‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فقد نوه القرآن الكريم بأنواع الصناعات‪ ،‬وقد ك انت محتق رة‬
‫في الجاهلية ال يقوم بها إال العبيد أوعامة الناس وبسطاؤهم‪:‬‬
‫فذكر صناعة الحديد‪ ،‬ونوه بها‪ ،‬وذكر اشتغال األنبياء والصالحين به ا‪ ،‬فق ال‬
‫ال ا ْنفُ ُخ وا َحتَّى إِ َذا َج َعلَ هُ‬ ‫الص َدفَي ِْن قَ َ‬ ‫َّ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬آتُونِي ُزبَ َر ْال َح ِدي ِد َحتَّى إِ َذا َس ا َوى بَ ْينَ‬
‫ط راً﴾ (الكه ف‪ ،)96:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَ ا دَا ُو َد ِمنَّا‬ ‫ال آتُونِي أُ ْف ِر ْغ َعلَ ْي ِه قِ ْ‬ ‫نَاراً قَ َ‬
‫فَضْ الً يَا ِجبَا ُل أَ ِّوبِي َم َعهُ َوالطَّ ْي َر َوأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِديدَ﴾ (سـبأ‪ ،)10:‬بل قرن بإنزال الحديد‬
‫اب‬ ‫ت َوأَ ْنزَ ْلنَ ا َم َعهُ ُم ْال ِكتَ َ‬ ‫ُس لَنَا بِ ْالبَيِّنَ ا ِ‬ ‫إن زال الكت اب‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿ :‬لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ر ُ‬
‫ْ‬
‫اس َولِيَ ْعلَ َم هَّللا ُ‬ ‫َو ْال ِمي َزانَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِ ْس ِط َوأَ ْن َز ْلنَا ْال َح ِدي َد فِي ِه بَأسٌ َش ِدي ٌد َو َمنَ افِ ُع لِلنَّ ِ‬
‫َزي ٌز﴾ (الحديد‪)25:‬‬ ‫ص ُرهُ َو ُر ُسلَهُ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ب إِ َّن هَّللا َ قَ ِويٌّ ع ِ‬ ‫َم ْن يَ ْن ُ‬
‫وذكر الصناعات النسيجية وأنواعها وأغرضاها‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬وهَّللا ُ َج َع َل لَ ُك ْم‬
‫ِم ْن بُيُ وتِ ُك ْم َس َكنا ً َو َج َع َل لَ ُك ْم ِم ْن ُجلُ و ِد اأْل َ ْن َع ِام بُيُوت ا ً ت َْس ت َِخفُّونَهَا يَ وْ َم ظَ ْعنِ ُك ْم َويَ وْ َم‬
‫ارهَا أَثَاثا ً َو َمتَاعا ً إِلَى ِحي ٍن﴾ (النحل‪)80:‬‬ ‫ارهَا َوأَ ْش َع ِ‬ ‫إِقَا َمتِ ُك ْم َو ِم ْن أَصْ َوافِهَا َوأَوْ بَ ِ‬
‫ض‬‫وذك ر م ا يرتب ط ب العمران من أعم ال‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وبَ َّوأَ ُك ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ال بُيُوت ا ً فَ ْاذ ُكرُوا آال َء هَّللا ِ َوال تَ ْعثَ وْ ا فِي‬ ‫تَتَّ ِخ ُذونَ ِم ْن ُسهُولِهَا قُصُوراً َوتَ ْن ِحتُ ونَ ْال ِجبَ َ‬
‫ض ُم ْف ِس ِدينَ ﴾ (ألعراف‪)74:‬‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ير‬ ‫ال َو ْال َح ِم َ‬ ‫وذكر الصناعات المرتبط ة بالنق ل‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ْال َخ ْي َل َو ْالبِ َغ َ‬
‫اص ن َِع ْالفُ ْل كَ‬‫ق َم ا ال تَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ (النح ل‪ ،)8:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ْ‬ ‫لِتَرْ َكبُوهَا َو ِزينَ ةً َويَ ْخلُ ُ‬
‫َاط ْبنِي فِي الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا إِنَّهُ ْم ُم ْغ َرقُونَ ﴾ (هود‪ ،)37:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫بِأ َ ْعيُنِنَا َو َوحْ يِنَا َوال تُخ ِ‬
‫ك تُحْ َملُونَ ﴾ (المؤمنون‪ ،)22:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و ِم ْن آيَاتِ ِه أَ ْن يُرْ ِس َل‬ ‫﴿ َو َعلَ ْيهَا َو َعلَى ْالفُ ْل ِ‬
‫ض لِ ِه‬ ‫ك بِ أ َ ْم ِر ِه َولِتَ ْبتَ ُغ وا ِم ْن فَ ْ‬ ‫ي ْالفُ ْل ُ‬ ‫ت َولِيُ ِذيقَ ُك ْم ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َولِتَجْ ِر َ‬ ‫ال ِّريَ ا َح ُمبَ ِّش َرا ٍ‬
‫َولَ َعلَّ ُك ْم ت َْش ُكرُونَ ﴾ (ال روم‪ ،)46:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَلَ ْم تَ َر أَ َّن ْالفُ ْل كَ تَجْ ِري فِي ْالبَحْ ِر‬
‫ور﴾ (لقمان‪)31:‬‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬ ‫صب ٍ‬ ‫ت لِ ُكلِّ َ‬ ‫ت هَّللا ِ لِي ُِريَ ُك ْم ِم ْن آيَاتِ ِه إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يا ٍ‬ ‫بِنِ ْع َم ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وذكر الصناعات البحرية‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬وهُ َو ال ِذي َس خ َر البَحْ َر لِتَ أكلوا ِمن هُ‬
‫ك َم َوا ِخ َر فِي ِه َولِتَ ْبتَ ُغ وا ِم ْن‬ ‫لَحْ ما ً طَ ِريّا ً َوتَ ْست َْخ ِرجُوا ِم ْنهُ ِح ْليَ ةً ت َْلبَ ُس ونَهَا َوتَ َرى ْالفُ ْل َ‬

‫‪363‬‬
‫ك فِي‬ ‫)ربُّ ُك ُم الَّ ِذي ي ُْز ِجي لَ ُك ُم ْالفُ ْل َ‬ ‫فَضْ لِ ِه َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُكرُونَ ﴾ (النحل‪ ،)14:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬‬
‫ْالبَحْ ِر لِتَ ْبتَ ُغوا ِم ْن فَضْ لِ ِه إِنَّهُ َكانَ بِ ُك ْم َر ِحيماً﴾ (االسراء‪)66:‬‬
‫بل إن القرآن الكريم دعانا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أن واع الق وى‪،‬‬
‫وي دخل فيه ا ه ذا الن وع من أن واع الق وى‪ ،‬ق وة الص ناعة والسياس ة‪ ،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫اط ْالخَ ي ِْل تُرْ ِهبُ ونَ بِ ِه َع ُد َّو هَّللا ِ َو َع ُد َّو ُك ْم﴾‬ ‫﴿ َوأَ ِع ُّدوا لَهُ ْم َما ا ْستَطَ ْعتُ ْم ِم ْن قُ َّو ٍة َو ِم ْن ِربَ ِ‬
‫(ألنفال‪)60:‬‬
‫والقرآن الكريم ال ينهانا عن هذه العلوم بذاتها‪ ،‬وإنما ينهانا على ما تفرزه في‬
‫اإلنسان من قيم الطغيان حين يبتدئ فيها باسم أهوائه ال باس م هللا‪ ،‬وله ذا ق ال تع الى‬
‫الس َما َء َعلَ ْي ُك ْم‬ ‫اس تَ ْغفِرُوا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُ وا إِلَ ْي ِه يُرْ ِس ِل َّ‬ ‫حاكيا قول ه ود ‪َ ﴿ :‬ويَ ا قَ وْ ِم ْ‬
‫َّ‬
‫ِم ْد َراراً َويَ ِز ْد ُك ْم قُ َّوةً إِلَى قُ َّوتِ ُك ْم َوال تَتَ َولوْ ا ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ (هود‪ )52:‬فهو لم يخ برهم ب أن‬
‫نتيجة إيمانهم باهلل زوال قوتهم التي كانوا يحرصون على الظهور بها‪ ،‬بل أخبر عن‬
‫زيادة قوتهم‪.‬‬
‫بل أخبر القرآن الكريم أن القوة التي ال تستضيء به دي هللا مص يرها الهالك‬
‫المحتم‪ ،‬ول ذلك ي دعونا إلى الس ير في األرض للبحث عن مص ير الحض ارات‬
‫العظيمة التي لم يبق منها إال فلول آثار ت دل على م دى طغيانه ا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم‬
‫ض فَيَ ْنظُرُوا َك ْي فَ َك انَ عَاقِبَ ةُ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َك انُوا أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً‬ ‫يَ ِسيرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ت فَ َم ا َك انَ هَّللا ُ‬ ‫ض َو َع َمرُوهَا أَ ْكثَ َر ِم َّما َع َمرُوهَا َو َجا َء ْتهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬ ‫َوأَثَارُوا اأْل َرْ َ‬
‫ظلِ ُم ونَ ﴾ (ال روم‪ ،)9:‬وق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ ِس يرُوا فِي‬ ‫ظلِ َمهُ ْم َولَ ِك ْن َك انُوا أَ ْنفُ َس هُ ْم يَ ْ‬ ‫لِيَ ْ‬
‫ض فَيَ ْنظُرُوا َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َو َكانُوا أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َم ا َك انَ هَّللا ُ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ض إِنَّهُ َكانَ َعلِيما ً قَ ِديراً﴾ (ف اطر‪،)44:‬‬ ‫ت َوال فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ْج َزهُ ِم ْن َش ْي ٍء فِي ال َّس َما َوا ِ‬ ‫لِيُع ِ‬
‫ض فَيَ ْنظُرُوا َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ الَّ ِذينَ َكانُوا ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم‬ ‫وقال تعالى‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ ِسيرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض فَأَخَ َذهُ ُم هَّللا ُ بِ ُذنُوبِ ِه ْم َو َم ا َك انَ لَهُ ْم ِمنَ هَّللا ِ‬ ‫َكانُوا هُ ْم أَ َش َّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َوآثَاراً فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ق﴾ (غافر‪ ،)21:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َك أَي ِّْن ِم ْن قَرْ يَ ٍة ِه َي أَ َش ُّد قُ َّوةً ِم ْن قَرْ يَتِ كَ الَّتِي‬ ‫ِم ْن َوا ٍ‬
‫ص َر لَهُ ْم﴾ (محمد‪)13:‬‬ ‫ك أَ ْهلَ ْكنَاهُ ْم فَال نَا ِ‬ ‫أَ ْخ َر َج ْت َ‬
‫وذلك ألن أخطر ما تنفخه الصناعة في عقول أصحابها ذلك االغترار بالقوة‪،‬‬
‫ق‬‫ض بِ َغ ْي ِر ْال َح ِّ‬ ‫اس تَ ْكبَرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫وال ذي حجبهم عن هللا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَأ َ َّما َع ا ٌد فَ ْ‬
‫َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي خَ لَقَهُ ْم ه َُو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قُ َّوةً َو َك انُوا بِآياتِنَ ا‬
‫يَجْ َح ُدونَ ﴾ (فصلت‪)15:‬‬
‫ثانيا ـ مواصفات طالب العلم‬
‫بعد تعرفن ا على أهمي ة العلم وأن واع العل وم ال تي تحت اج الشخص ية الس وية‬
‫لتعلمه ا نح اول في ه ذا المبحث أن نبحث عن مواص فات طلب العلم‪ ،‬كم ا يري دها‬
‫اإلسالم‪ ،‬ال كما يريد فرضها المنحلون‪.‬‬
‫فكما أن لإلسالم نظرته الكلي ة لم ا ينبغي أن ي درس من العلم‪ ،‬ف إن ل ه ك ذلك‬
‫منهجه في تحصيل ذلك العلم‪ ،‬واآلداب التي تحمي ذلك المنهج من أن يخرج به عما‬

‫‪364‬‬
‫أريد منه‪.‬‬
‫وغرضنا من ه ذا المبحث أن ي زرع الم ربي فيمن يربي ه ه ذه المواص فات‪،‬‬
‫ألنه ال يمكن لطالب العلم أن يحصل العلم أو يستفيد منه أو يفيد إال بعد تحصيلها‪.‬‬
‫وأول ما نستشفه من إشارات القرآن الكريم إلى ه ذا الج انب م ا قص ه علين ا‬
‫من قصة الخضر م ع موس ى ‪ ،u‬فهي قص ة له ا دالالته ا الكث يرة على آداب الطلب‬
‫ومنهج ه‪ ،‬وله ذا اهتم به ا العلم اء اهتمام ا ش ديدا‪ ،‬واعتبروه ا نموذج ا عن آداب‬
‫الطلب‪.‬‬
‫فقد مثل موسى ‪ u‬في تلك القص ة دور ط الب العلم الب ارع ال ذي ت وفرت في ه‬
‫جميع خصائص الطلب ومواصفاته‪ ،‬فلذلك نال مراده‪ ،‬وحصل ما كان يبغي ه‪ ،‬وفهم‬
‫من حكمة هللا في كونه ما زاده طمأنينة ورضا‪.‬‬
‫ويمكننا من خالل القص ة أن نس تخلص ثالث مواص فات ك برى اتص ف به ا‬
‫موس ى ‪ ،u‬وك أن هللا تع الى أراد من خالله ا أن يجعله ا موض ع ق دوة لن ا لتس تقى‬
‫مواصفات طالب العلم من خاللها‪.‬‬
‫وهذه المواصفات هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ اإلخالص‬
‫ويشير إليه من قصة موسى ‪ u‬مع الخضر كل ما حك اه هللا تع الى من القص ة‬
‫من مبت دئها إلى منتهاه ا‪ ،‬فكله ا تش ير إلى م دى إخالص موس ى ‪ u‬وص دقه‪ ،‬ح تى‬
‫إنكاره على الخضر ‪ u‬لم يكن له من مصدر غير إخالصه وصدقه‪.‬‬
‫وقد ورد في السنة ما يبين عمقا آخر من أعماق إخالص ه‪ ،‬وه و غايت ه ال تي‬
‫قصد الخضر ‪ u‬من أجلها‪ ،‬فقد ورد في الح ديث أن موس ى ‪ u‬بينم ا ك ان في مأل من‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬إذ جاءه رجل فقال‪ :‬هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى ‪ u‬يخبره عما‬
‫يعلمه‪(:‬ال)‪ ،‬فأوحى هللا إلى موسى ‪(:u‬بلى عبدنا خضر)‪ ،‬فسأل موسى ‪ u‬السبيل إليه‬
‫فجعل هللا له الحوت آية(‪ ،)1‬فقد كانت رحلته بسبب طلبه علم ما لم يعلمه‪.‬‬
‫ولن نتح دث هن ا عن أم ر الش رع ب اإلخالص‪ ،‬فه و من المعل وم بال دين‬
‫بالضرورة‪ ،‬وإنما نتح دث عن بعض ثم ار اإلخالص‪ ،‬وال تي تف رق العلم بمفهوم ه‬
‫الشرعي عن العلم بمفهومه المادي‪.‬‬
‫التخلص من طلب العوض‪:‬‬
‫ونريد ب ه تج رد ط الب العلم للعلم‪ ،‬بحيث ال يبتغي من علم ه أي ع وض من‬
‫جاه أو مال أو دنيا أو مناصب أو غير ذلك مما قد يستخدم العلم شبكة لتحصيله‪.‬‬
‫ألن امتالء قلب طالب العلم بالعوض‪ ،‬وتعلق همته بها يصرفه عن علمه‪ ،‬بل‬
‫يجعله كالمحتال الذي يتزين بصنوف الحيل ليحقق مراده‪.‬‬
‫اب‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ف َو ِرث وا ال ِكتَ َ‬ ‫ْ‬
‫ويشير إلى هذه الثمرة قوله تعالى‪ ﴿ :‬فَخَ لَ فَ ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم َخل ٌ‬
‫ض هَ َذا اأْل َ ْدنَى َويَقُولُونَ َسيُ ْغفَ ُر لَنَ ا َوإِ ْن يَ أْتِ ِه ْم َع َرضٌ ِم ْثلُ هُ يَأْ ُخ ُذوهُ أَلَ ْم‬
‫يَأْ ُخ ُذونَ ع ََر َ‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪365‬‬
‫ق َود ََر ُس وا َم ا فِي ِه َوال َّدا ُر‬ ‫ب أَ ْن ال يَقُولُ وا َعلَى هَّللا ِ إِاَّل ْال َح َّ‬ ‫ق ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫ي ُْؤخ َْذ َعلَ ْي ِه ْم ِميثَ ا ُ‬
‫اآْل ِخ َرةُ خَ ْي ٌر لِلَّ ِذينَ يَتَّقُونَ أَفَال تَ ْعقِلُونَ ﴾ (ألعراف‪ ،)169:‬فق د أخ بر هللا تع الى أن هم‬
‫هؤالء الخلف هو هذا العرض الزهيد من عرض الدنيا‪.‬‬
‫ويشير إليها قوله تعالى وهو يحكي ابتزاز علماء أهل الكتاب ألم وال الن اس‪:‬‬
‫اس بِ ْالبَا ِط ِل‬‫ال النَّ ِ‬ ‫ان لَيَ أْ ُكلُونَ أَ ْم َو َ‬ ‫ار َوالرُّ ْهبَ ِ‬ ‫﴿ يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ َّن َكثِيراً ِمنَ اأْل َحْ بَ ِ‬
‫ص ُّدونَ ع َْن َسبِي ِل هَّللا ِ ((التوبة‪)34:‬‬ ‫َويَ ُ‬
‫ويشير إليها قوله تع الى‪ ،‬وه و يحكي نب أ ال ذي انس لخ من آي ات هللا‪َ ﴿ :‬وا ْت ُل‬
‫اوينَ َولَ وْ ِش ْئنَا‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَا ْن َسلَخَ ِم ْنهَا فَأ َ ْتبَ َعهُ ال َّش ْيطَانُ فَ َك انَ ِمنَ ْال َغ ِ‬
‫ب إِ ْن تَحْ ِم لْ َعلَ ْي ِه‬ ‫ض َواتَّبَ َع هَ َواهُ فَ َمثَلُ هُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬ ‫لَ َرفَ ْعنَاهُ بِهَا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلَ َد إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم‬‫ص َ‬ ‫ص ْالقَ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ث َذلِ كَ َمثَ ُل ْالقَ وْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآياتِنَ ا فَا ْق ُ‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْكهُ يَ ْلهَ ْ‬ ‫يَ ْلهَ ْ‬
‫يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪ 175:‬ـ ‪)176‬‬
‫وأول نتيجة لهذا الركون للدنيا هو بيع آيات هللا بأي ثمن‪ ،‬قال تع الى مخاطب ا‬
‫صدِّقا ً لِ َما َم َع ُك ْم َوال تَ ُكونُ وا أَ َّو َل‬ ‫ت ُم َ‬ ‫بني إسرائيل ومن في حكمهم‪َ ﴿ :‬وآ ِمنُوا بِ َما أَ ْنزَ ْل ُ‬
‫ون﴾ (البقرة‪)41:‬‬ ‫َّاي فَاتَّقُ ِ‬‫َكافِ ٍر بِ ِه َوال تَ ْشتَرُوا بِآيَاتِي ثَ َمنا ً قَلِيالً َوإِي َ‬
‫ويخبر عن تحريفهم الكت اب من أج ل ه ذا الثمن القلي ل‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَ َو ْي ٌل‬
‫َاب بِأ َ ْي ِدي ِه ْم ثُ َّم يَقُولُونَ هَ َذا ِم ْن ِع ْن ِد هَّللا ِ لِيَ ْش تَرُوا بِ ِه ثَ َمن ا ً قَلِيالً فَ َو ْي ٌل‬
‫لِلَّ ِذينَ يَ ْكتُبُونَ ْال ِكت َ‬
‫ت أَ ْي ِدي ِه ْم َو َو ْي ٌل لَهُ ْم ِم َّما يَ ْك ِسبُونَ ﴾ (البقرة‪)79:‬‬ ‫لَهُ ْم ِم َّما َكتَبَ ْ‬
‫ويخبر عن كتمانهم الكتاب ـ وهو وج ه من وج وه التحري ف ـ من أج ل ه ذا‬
‫ب َويَ ْش تَرُونَ بِ ِه‬ ‫الثمن القليل‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ْكتُ ُم ونَ َم ا أَ ْن زَ َل هَّللا ُ ِمنَ ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ار َوال يُ َكلِّ ُمهُ ُم هَّللا ُ يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة َوال‬ ‫ك َم ا يَ أْ ُكلُونَ فِي بُطُ ونِ ِه ْم إِاَّل النَّ َ‬ ‫ثَ َمن ا ً قَلِيالً أُولَئِ َ‬
‫يُ َز ِّكي ِه ْم َولَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم﴾ (البق رة‪ ،)174:‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَخَ َذ هَّللا ُ ِميثَ ا َ‬
‫ق الَّ ِذينَ‬
‫ُور ِه ْم َوا ْشتَ َروْ ا بِ ِه ثَ َمن ا ً قَلِيالً‬ ‫اس َوال تَ ْكتُ ُمونَهُ فَنَبَ ُذوهُ َو َرا َء ظُه ِ‬ ‫أُوتُوا ْال ِكت َ‬
‫َاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّ ِ‬
‫س َما يَ ْشتَرُونَ ﴾ (آل عمران‪)187:‬‬ ‫فَبِ ْئ َ‬
‫ولذلك يذكر الغزالي من أول مواصفات علماء اآلخرة‪ ،‬إدراكهم لحقارة الدنيا‬
‫بجانب ما أوتوا من العلم‪ ،‬يق ول الغ زالي‪(:‬إن أق ل درج ات الع الم أن ي درك حق ارة‬
‫الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم اآلخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجالل ة‬
‫ملكها ويعلم أنهما متضادتان‪ ،‬وأنهما كالض رتين مهم ا أرض يت إح داهما أس خطت‬
‫األخ رى‪ ،‬وأنهم ا ككف تي الم يزان مهم ا رجحت إح داهما خفت األخ رى‪ ،‬وأنهم ا‬
‫كالمش رق والمغ رب مهم ا ق ربت من أح دهما بع دت عن اآلخ ر‪ ،‬وأنهم ا كق دحين‬
‫أحدهما مملوء واآلخ ر ف ارغ فبق در م ا تص ب من ه في اآلخ ر ح تى يمتلىء يف رغ‬
‫اآلخر‪ .‬فإن من ال يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما‬
‫يصفو منها فهو فاسد العقل‪ .‬فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يك ون من‬
‫العلماء من ال عقل له؟ ومن ال يعلم عظم أم ر اآلخ رة ودوامه ا فه و ك افر مس لوب‬
‫اإليمان فكيف يكون من العلماء من ال إيم ان ل ه ومن ال يعلم مض ادة ال دنيا لآلخ رة‬
‫وأن الجمع بـينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بش رائع األنبـياء كلهم‪ ،‬ب ل ه و‬

‫‪366‬‬
‫كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره‪ ،‬فكيف يع ّد من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله‬
‫ثم لم يؤثر اآلخرة على ال دنيا فه و أس ير الش يطان ق د أهلكت ه ش هوته وغلبت علي ه‬
‫شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته؟)(‪)1‬‬
‫وليس في هذا الكالم أي وجه لالع تراض‪ ،‬ألن ال دنيا الم رادة هن ا هي ال دنيا‬
‫التي تكون موضع طموح لصاحبها‪ ،‬بحيث تجعله يغير من ووظيفته التي خلق له ا‪،‬‬
‫وهي عبادة هللا إلى خدمة وجوده القصير المحدود في هذه الدنيا‪.‬‬
‫وقد جاء في الحديث قوله ‪(:‬من تعلم علما مما يبتغى به وجه هللا عز وج ل‬
‫ال يتعلمه إال ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)(‪ ،)2‬وق ال‬
‫‪(:‬من تعلم العلم ليباهي به العلم اء أو ليم اري ب ه الس فهاء أو يص رف ب ه وج وه‬
‫الناس إليه فهو في النار)(‪)3‬‬
‫وقد ورد في أخبار األنبياء النهي الشديد عن هذا السلوك‪:‬‬
‫ففي الحديث عنه ‪(:‬أنزل هللا في بعض كتابه وأوحى إلى بعض أنبيائه‪ :‬قل‬
‫لل ذين يتفقه ون بغ ير ال دين ويتعلم ون لغ ير العلم ويطلب ون ال دنيا بعم ل اآلخ رة‬
‫ويلبسون لباس مسوك(‪ )4‬الكب اش وقل وبهم قل وب ال ذئاب ألس نتهم أحلى من العس ل‬
‫وقلوبهم أمر من الص بر‪ ،‬إي اي يخ دعون أو بي يس تهزؤون ف بي حلفت ألتيحن لهم‬
‫فتنة تذر الحليم فيهم حيران)(‪)5‬‬
‫وفي أخبار داود ‪ u‬أنه مما اوحى هللا تعالى إليه‪(:‬إن أدنى ما أصنع بالع الم إذا‬
‫آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذي ذ مناج اتي‪ ،‬ي ا داود ال تس أل ع ني عالم ا ً ق د‬
‫أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي‪ ،‬يا داود‪،‬‬
‫ي هاربا ً كتبته جهب ذاً ومن كتبت ه‬ ‫إذا رأيت لي طالبا ً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إل َّ‬
‫جهبذاً لم أعذبه أبداً)‬
‫ويروى أن رجالً كان يخدم موسى ‪ u‬فجعل يقول‪ :‬ح ّدثني موس ى ص في هللا‪،‬‬
‫ح ّدثني موسى نجي هللا‪ ،‬حدثني موسى كليم هللا‪ ،‬حتى أثرى وكثر ماله‪ ،‬ففقده موسى‬
‫‪ u‬فجعل يسأل عنه وال يحس له خ براً ح تى ج اءه رج ل ذات ي وم وفي ي ده خ نزير‬
‫وفي عنقه حبل أسود‪ ،‬فقال له موسى ‪ :u‬أتعرف فالناً؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬ه و ه ذا الخ نزير‪،‬‬
‫فقال موسى ‪ :u‬يا رب أسألك أن ترده إلى حاله ح تى أس أله بم أص ابه ه ذا؟ ف أوحى‬
‫هللا عز وجل إليه‪ :‬لو دعوتني بالذي دعاني ب ه آدم فمن دون ه م ا أجبت ك في ه‪ ،‬ولكن‬
‫أخبرك لم صنعت هذا به؟ ألنه كان يطلب الدنيا بالدين‪.‬‬
‫ويروى عن عيسى ‪ u‬قوله‪(:‬كيف يكون من أه ل العلم من مس يره إلى آخرت ه‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪.1/60 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وابن ماجة ‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في األوسط ‪ ،‬والدارقطني في األفراد‪ ،‬وسعيد بن منصور عن أنس‪.‬‬
‫‪ )(4‬مسوك‪ :‬المسك‪ :‬الجلد‪ ،‬والجمع مسوك مثل فلس وفلوس‪ .‬المصباح المنير ‪.2/787‬‬
‫‪ )(5‬أبو سعيد النقاش في معجمه‪ ،‬وابن النجار ‪ -‬عن أبي الدرداء‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكالم ليخبر به ال‬
‫ليعمل به؟)‬
‫وقال مالك بن دينار‪ :‬قرأت في بعض الكتب الس الفة أن هللا تع الى يق ول‪(:‬إن‬
‫أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حالوة مناجاتي من قلبه)‬
‫العمل بالعلم‪:‬‬
‫وهو نتيجة حتمية لما سبق‪ ،‬ألن من فرغ قلبه من أهوائ ه عم ره بم ا يقتض يه‬
‫العلم من العمل الصالح‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا الركن من أركان اإلخالص في طلب العلم النصوص الكث يرة‬
‫كقوله تعالى مؤنبا بني إسرائيل‪ ﴿ :‬أَتَأْ ُمرُونَ النَّ َ‬
‫اس بِ ْالبِ ِّر َوتَ ْن َسوْ نَ أَ ْنفُ َس ُك ْم َوأَ ْنتُ ْم تَ ْتلُونَ‬
‫َاب أَفَال تَ ْعقِلُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)44:‬فقد عاتبهم على نسيانهم ألنفسهم مع كونهم يتلون‬ ‫ْال ِكت َ‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫بل شبههم في آية أخرى بالحمار الذي يحمل أسفارا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬مثَ ُل الَّ ِذينَ‬
‫س َمثَ ُل ْالقَوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا‬ ‫ار يَحْ ِم ُل أَ ْسفَاراً بِ ْئ َ‬
‫ُح ِّملُوا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَا َك َمثَ ِل ْال ِح َم ِ‬
‫ت هَّللا ِ َوهَّللا ُ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ (الجمعة‪)5:‬‬ ‫بِآيا ِ‬
‫ويعاتب المؤم نين ال ذي يخ الف ق ولهم فعلهم‪ ،‬فيق ول تع الى‪ ﴿ :‬يَ ا أَيُّهَ ا الَّ ِذينَ‬
‫آ َمنُوا لِ َم تَقُولُونَ َما ال تَ ْف َعلُونَ ﴾ (الصف‪ ،)2:‬ثم يبين لهم عظم عند هللا تعالى‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫﴿ َكب َُر َم ْقتا ً ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْن تَقُولُوا َما ال تَ ْف َعلُونَ ﴾ (الصف‪)3:‬‬
‫وفي السنة نجد األحاديث الكثيرة على اعتب ار العم ل الص الح ه و أول ثم رة‬
‫من ثمار العلم النافع‪:‬‬
‫فقد كان ‪ ‬يقول في دعائه‪(:‬اللهم غني أعوذ ب ك من نفس ال تش بع ومن علم‬
‫ال ينفع)(‪)1‬‬
‫وأخ بر ‪ ‬أن ه (يج اء بالرج ل ي وم القيام ة فيلقى في الن ار فتن دلق أقتابه(‪)2‬‬
‫فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل الن ار فيقول ون‪ :‬ي ا فالن م ا‬
‫شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيق ول‪ :‬كنت آم ركم ب الخير‬
‫وال آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه)(‪ ،)3‬وقال ‪(:‬كل علم وبال ه على ص احبه إال من‬
‫عمل به)(‪ )4‬وفي رواية مرفوعا‪(:‬أش د الن اس ع ذابا ي وم القيام ة ع الم لم ينفع ه هللا‬
‫بعلمه)‬
‫وضرب ‪ ‬للذي ال يعمل بعلم ه مثال‪ ،‬فق ال‪(:‬مث ل ال ذي يعلم الن اس الخ ير‬
‫وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق هي نفسها)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(2‬أقتابه‪ :‬األقتاب‪ :‬األمعاء‪ ،‬واحدها‪ :‬قتب بالكسر‪ ،‬وقي ل‪ :‬هي جم ع قتب‪ ،‬وقتب جم ع‪ ،‬وهي المعي‪ .‬النهاي ة (‬
‫‪)4/11‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم وغيرهما‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البزار وغيره‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫وقد وردت الروايات الكثيرة تحذر مما سيحصل لألمة من انفص ال العلم عن‬
‫العمل‪ ،‬قال حذيفة ‪(:‬إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هل ك‪ ،‬وس يأتي زم ان‬
‫من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا وذلك لك ثرة البط الين)‪ ،‬وق ال ابن مس عود ‪(:‬س يأتي‬
‫على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب فال ينتفع ب العلم يومئ ٍذ عالم ه وال متعلم ه‬
‫فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء فال يوجد‬
‫لها عذوبة‪ ،‬وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على اآلخرة‪ ،‬فعن د‬
‫ذلك يسلبها هللا تعالى ينابـيع الحكمة ويطفىء مصابـيح اله دى من قل وبهم فيخ برك‬
‫ع المهم حين تلق اه أن ه يخش ى هللا بلس انه والفج ور ظ اهر في عمل ه‪ ،‬فم ا أخص ب‬
‫األلسن يومئ ٍذ وما أجدب القلوب فوهللا ال ذي ال ٰإل ه إال ه و م ا ذل ك إال ألن المعلمين‬
‫علم وا لغ ير هللا تع الى والمتعلمين تعلم وا لغ ير هللا تع الى‪ .‬وفي الت وراة واإلنجي ل‬
‫مكتوب‪ :‬ال تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم)‬
‫االشتغال بالعلوم النافعة‪:‬‬
‫وهو الثمرة الثالثة من ثمرات اإلخالص‪ ،‬ألن من حسنت نيته في طلب العلم‪،‬‬
‫وجعل قصده من طلب العلم العمل ب ه ونف ع الخل ق لم يت ه في ب وادي العلم ال ذي ال‬
‫ينفع‪ ،‬ولم يته في مستنقعات الجدل‪.‬‬
‫وقد اعتبر الغزالي هذا عالمة من عالمات علماء اآلخ رة‪ ،‬فق ال‪(:‬ومنه ا‪ :‬أن‬
‫تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في اآلخرة الم رغب في الطاع ات مجتنب ا ً للعل وم‬
‫التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدال والقيل والقال)‬
‫وض رب مث اال ل ذلك‪ ،‬فق ال‪(:‬فمث ال من يع رض عن علم األعم ال ويش تغل‬
‫بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد ص ادف طبـيبا ً حاذق ا ً في وقت ض يق‬
‫يخشى فواته فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير واألدوي ة وغ رائب الطب وت رك‬
‫مهمه الذي هو مؤاخذ به‪ ،‬وذلك محض السفه)‬
‫وفي هذا الموضع يحسن ذكر قصة حاتم األصم مع شيخه شقيق البلخي ففيها‬
‫عبر عظيمة في هذا الباب‪ ،‬فقد روي عن حاتم األصم ـ تلميذ شقيق البلخي ـ أنه قال‬
‫له شقيق‪ :‬منذ كم صحبتني؟ قال حاتم‪ :‬منذ ثالث وثالثين سنة‪ ،‬قال‪ :‬فما تعلمت م ني‬
‫في هذه الم ّدة؟ قال‪ :‬ثم اني مس ائل‪ ،‬ق ال ش قيق ل ه‪ :‬إن ا هلل وإن ا إلي ه راجع ون ذهب‬
‫عمري معك ولم تتعلم إال ثماني مسائل؟ قال‪ :‬يا أستاذ لم أتعلم غيرها‪ ،‬وإني ال أحب‬
‫أن أكذب‪ ،‬فقال‪(:‬هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها)‬
‫ً‬
‫قال ح اتم‪(:‬نظ رت إلى ه ذا الخل ق ف رأيت ك ل واح د يحب محبوب ا فه و م ع‬
‫محبوب ه إلى الق بر‪ ،‬ف إذا وص ل إلى الق بر فارق ه فجعلت الحس نات محبوبـي‪ ،‬ف إذا‬
‫دخلت القبر دخل محبوبـي معي‪ .‬فقال‪ :‬أحسنت يا حاتم فما الثانية؟‬
‫فقال‪ :‬نظرت في قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ َّما َم ْن خَ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه َونَهَى النف َ‬
‫س ع َِن‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫أن قول ه س بحانه‬ ‫ْالهَ َوى فَ إِ َّن ْال َجنَّةَ ِه َي ْال َم أْ َوى﴾ (النازعـات‪ 40:‬ـ ‪ ،)41‬فعلمت ّ‬
‫وتعالى هو الحق فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرّت على طاعة هللا تعالى‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه ش يء ل ه قيم ة ومق دار‬

‫‪369‬‬
‫ق﴾‬ ‫رفعه وحفظه‪ ،‬ثم نظرت إلى قول هللا عز وجل‪َ ﴿ :‬ما ِع ْن َد ُك ْم يَ ْنفَ ُد َو َما ِع ْن َد هَّللا ِ بَ ا ٍ‬
‫(النح ل‪ ،)96:‬فكلم ا وق ع معي ش يء ل ه قيم ة ومق دار وجهت ه إلى هللا ليبقى عن ده‬
‫محفوظاً‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أني نظرت إلى هذا الخلق ف رأيت ك ل واح د منهم يرج ع إلى الم ال‬
‫وإلى الحسب والشرف والنسب‪ ،‬فنظرت فيها فإذا هي ال ش يء ثم نظ رت إلى ق ول‬
‫هللا تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد هَّللا ِ أَ ْتقَ ا ُك ْم ﴾(الحج رات‪ )13:‬فعملت في التق وى ح تى‬
‫أكون عند هللا كريماً‪.‬‬
‫الخامس ة‪ :‬أني نظ رت إلى ه ذا الخل ق وهم يطعن بعض هم في بعض ويلعن‬
‫بعضهم بعضا ً وأص ل ه ذا كل ه الحس د‪ ،‬ثم نظ رت إلى ق ول هللا ع ز وج ل‪ ﴿ :‬نَحْ نُ‬
‫يش تَهُ ْم فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا ﴾(الزخ رف‪ )32:‬ف تركت الحس د واجتنبت‬ ‫قَ َس ْمنَا بَ ْينَهُ ْم َم ِع َ‬
‫الخلق وعلمت أن القسمة من عند هللا سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني‪.‬‬
‫السادس ة‪ :‬نظ رت إلى ه ذا الخل ق يبغي بعض هم على بعض ويقات ل بعض هم‬
‫الش ْيطَانَ لَ ُك ْم َع د ٌُّو فَاتَّ ِخ ُذوهُ َع ُد ّواً ﴾‬ ‫بعض ا ً ف رجعت إلى ق ول هللا ع ز وج ل‪ ﴿ :‬إِ َّن َّ‬
‫(فاطر‪ ،)6:‬فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه ألن هللا تعالى شهد عليه أن ه‬
‫عد ّو لي فتركت عداوة الخلق غيره‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم هذه الكس رة في ذل فيه ا‬
‫ض‬‫نفسه ويدخل فيما ال يحل له‪ ،‬ثم نظرت إلى قوله تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا ِم ْن دَابَّ ٍة فِي اأْل َرْ ِ‬
‫إِاَّل َعلَى هَّللا ِ ِر ْزقُهَ ا﴾(ه ود‪ ،)6:‬فعلمت أني واح د من ه ذه ال دواب ال تي على هللا‬
‫رزقها‪ ،‬فاشتغلت بما هلل تعالى علي وتركت مالي عنده‪.‬‬
‫الثامنة‪ :‬نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخل وق‪ ،‬ه ذا على‬
‫ض يعته‪ ،‬وه ذا على تجارت ه‪ ،‬وه ذا على ص ناعته‪ ،‬وه ذا على ص حة بدن ه‪ ،‬وك ل‬
‫مخلوق متوكل على مخلوق مثله‪ ،‬ف رجعت إلى قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَت ََو َّكلْ َعلَى هَّللا ِ‬
‫فَه َُو َح ْسبُهُ﴾(الطالق‪ )3:‬فتوكلت على هللا عز وجل فهو حسبـي‪.‬‬
‫قال شقيق‪(:‬يا حاتم وفقك هللا تعالى فإني نظ رت في عل وم الت وراة واإلنجي ل‬
‫والزبور والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديان ة وهي ت دور على ه ذا‬
‫الثمان مسائل‪ ،‬فمن استعملها فقد استعمل الكتب األربعة)‬
‫وال ينبغي أن يفهم من هذا النص تحقير العلم‪ ،‬بل إن في ه الح ظ على العم ل‪،‬‬
‫ومن أعظم األعمال ـ كما ذكرنا في مقدمة هذا الفصل ـ طلب العلم‪.‬‬
‫في مقابل هذه النم اذج الط اهرة من طلب ة العلم نج د في عص رنا طلب ة العلم‬
‫منشغلين بكثير من األمور نرى أنه ا ـ ول و ك انت مباح ة في أص لها ـ إال أن وقت‬
‫طالب العم أغلى من أن يضيعه فيها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ المجاهدة‬
‫وهي ذل ك العن اء ال ذي يعاني ه ط الب العلم‪ ،‬وه و يجته د في التحص يل‬
‫والمراجعة والمذاكرة‪ ،‬ألنه بدون ذلك لن يحصل العلم‪.‬‬
‫ويشير إليه من قصة موس ى م ع الخض ر ‪ ‬م ا قطع ه موس ى في الرحل ة‬

‫‪370‬‬
‫لطلب األستاذ‪ ،‬حتى أنه قال‪ ﴿ :‬ال أَب َْر ُح َحتَّى أَ ْبلُ َغ َمجْ َم َع ْالبَحْ َر ْي ِن أَوْ أَ ْم ِ‬
‫ض َي ُحقُب اً﴾‬
‫(الكهف‪ )60:‬فقد أعلن تصميمه في المضي في رحلة البحث مهما امتد به الزمن‪.‬‬
‫قال الخطيب البغدادي‪(:‬قال بعض أهل العلم‪ ،‬إن فيما عاناه موسى من ال دأب‬
‫والسفر والصبر عليه من التواضع والخضوع للخضر‪ ،‬بعد معاناة قصده‪ ،‬مع مح ل‬
‫موسى من هللا وموضعه من كرامته وش رف نبوت ه ‪-‬دالل ة على ارتف اع ق در العلم‪،‬‬
‫وعلو منزل ة أهل ه‪ ،‬وحس ن التواض ع لمن يُلتمس من ه ويؤخ ذ عن ه ول و ارتف ع عن‬
‫التواضع لمخلوق أحد بارتفاع درج ة وس مو منزل ة ‪ -‬لس بق إلى ذل ك موس ى‪ ،‬فلم ا‬
‫أظه ر الج د واالجته اد واالنزع اج عن العطن‪ ،‬والح رص على االس تفادة م ع‬
‫االعتراف بالحاجة إلى أن يصل من العلم م ا ه و غ ائب عن ه دل على أن ه ليس في‬
‫الخلق من يعلو على هذه الحال وال يكبر عنها)(‪)1‬‬
‫ولهذا اتفق العلماء على أنه لن يبلغ أحد درجات أهل العلم حتى يقطع العالئق‬
‫الشاغلة والعوائ ق المانع ة‪ ،‬كم ا ق ال الش افعي ‪(:‬ال يطلب أح د العلم بالمل ك وع ز‬
‫النفس فيفلح‪ ،‬ولكن من طلبه ببذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح)‪ ،‬ونق ل‬
‫عن الخطيب البغدادي قوله‪(:‬ال ينال هذا العلم إال من عط ل دًكان ه‪ ،‬و َخ رّب بس تانه‬
‫وهجر إخوانه ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته)‪ ،‬وقد قيل‪(:‬العلم ال يعطيك بعضه‬
‫حتى تعطيه كلك)‪ ،‬وعن أبي مطيع معاوية بن يحيى قال‪(:‬أوحى هللا تع الى إلى داود‬
‫‪ ‬أن اتخذ نعلين من حدي د وعص ى من حدي د واطلب العلم ح تى تنكس ر العص ا‬
‫وتنخرق النعالن)(‪)2‬‬
‫وسنكتفي هنا بالحديث على جانبين أساسيين يتحقق بهما ص دق المجاه دة في‬
‫طلب العلم‪ ،‬هما‪:‬‬
‫اغتنام الفرص في طلب العلم‪:‬‬
‫والفرص هنا تشمل أوقات الفراغ والعطل ونحوها‪ ،‬وال تي ن رى الته اون في‬
‫استغاللها بحجة الراحة واالستجمام‪ ،‬وكأن العلم مشقة وتعب يحتاج فيه إلى الراحة‪.‬‬
‫إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا‬
‫فأخ ُذك للعلم قل لي متى؟‬ ‫ويلهيك حسن زمان الربيع‬
‫ويدخل في هذا الباب اغتنام فرصة الصغر والشباب باعتباره ا ف ترة الف راغ‬
‫والنشاط‪ ،‬وقد ورد في األثر‪(:‬مثل الذي يتعلم العلم في ص غره ك النقش على الحج ر‬
‫ومثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء)‬
‫ومع أن الشريعة لم تحدد ِسنا ً معينا ً لتلقي العلم‪ ،‬ومثل ذل ك لم يح دد المرب ون‬
‫المسلمون سنا لبداية التعليم(‪ ،)3‬بل ترك اآلباء أحرارا في تعليم أبن ائهم‪ ،‬ولم يُقَيَ دوا‬
‫بسن معينة إلرس ال أبن ائهم إلى الكت اب أو أم اكن التعليم‪ ،‬ولم ت َْفـرض الدول ة على‬ ‫ٍ‬
‫‪ )(1‬الرحلة‪ ،‬ص‪.107‬‬
‫‪ )(2‬الرحلة في طلب الحديث‪.86 :‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬بحثا مهم ا بعن وان‪ :‬المعلم والمتعلم في التربي ة اإلس المية‪ ،‬إع داد‪ :‬موج ه التربي ة اإلس المية‪ :‬عم اد‬
‫صالح إبراهيم محمد‪ ،‬خاص لموقع الدراسات والبحوث‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫اآلباء تعليم أبنائهم‪ ،‬ولكن اآلباء اهتموا ب ذلك ألن التعليم فرض ا من الف روض ال تي‬
‫فرضها اإلسالم وحث عليها‪.‬‬
‫وقد أدرك المرب ون المس لمون بوض وح أن التبك ير في طلب العلم ل ه فائ دة‬
‫كبيرة‪ ،‬وعظيم جدوى لنشاط الجسم وصفاء الذهن ولهذا آثروا أن يكون طالب العلم‬
‫ش ابا وأن يك ون عازب ا‪ ،‬فاس تحبوا التغ ريب عن األه ل والبع د عن ال وطن تفرغ ا‬
‫لواجبات العلم‪.‬‬
‫وك ان من نت ائج إقب ال الطالب على حلق ات التعليم وهم في س ن مبك رة أن‬
‫حذقوا قسطا كبيرا من العلوم‪ ،‬ووصلوا إلى مراكز علمي ة مرموق ة‪ ،‬وهم في مطل ع‬
‫الشباب ومقتبل العمر‪.‬‬
‫ومن األمثل ة ال تي حفظه ا الت اريخ على ذل ك أن ت اج ال دين الكن دي حف ظ‬
‫القراءات العشر وله عشرة أعوام‪ ،‬وحفظ اإلم ام الش افعي الق رآن الك ريم وه و ابن‬
‫سبع سنين‪ ،‬وحفظ الموطأ وهو ابن إحدى عشرة سنة‪ ،‬وكان يقال له وهو ابن خمس‬
‫ت يا أبا عبد هللا فقد آن لك وهللا أن تـُفـتي)‬
‫عشرة سنة‪(:‬افـْ ِ‬
‫وال يزال الواقع اإلس المي ي برز في ك ل حين النم اذج الكث يرة على نض وج‬
‫الصغار‪ ،‬وكل ذلك بسبب اهتمام األولياء ورعايتهم‪.‬‬
‫ولكن ه ذا ال يع ني إحج ام الكب ير عن طلب العلم‪ ،‬ب ل العلم عب ادة‪ ،‬والعب ادة‬
‫ك َحتَّى يَأْتِيَ كَ ْاليَقِينُ ﴾‬
‫مطلوب ة في الص غر والك بر‪ ،‬وق د ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وا ْعبُ ْد َربَّ َ‬
‫(الحجر‪)99:‬‬
‫وقد حكي أن بعض الحكماء رأى شيخا كبيرا يحب النظ ر في العلم ويس تحي‬
‫فقال له‪(:‬يا هذا أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله)‬
‫وذكر أن إبراهيم بن المهدي دخل على المأمون وعن ده جماع ة يتكلم ون في‬
‫الفقه فقال‪ :‬يا عم ما عندك فيم ا يق ول ه ؤالء‪ :‬فق ال‪ :‬ي ا أم ير المؤم نين ش غلونا في‬
‫الصغر واش تغلنا في الك بر‪ .‬فق ال‪ :‬لم ال نتعلم ه الي وم؟ ق ال‪ :‬أو يحس ن بمثلي طلب‬
‫العلم؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬وهللا ألن تموت طالب ا للعلم خ ير من أن تعيش قانع ا بالجه ل‪ .‬ق ال‪:‬‬
‫وإلى متى يحسن بي طلب العلم؟ قال‪ :‬ما حس نت ب ك الحي اة ؛ وألن الص غير أع ذر‬
‫وإن لم يكن في الجهل عذر ؛ ألنه لم تطل ب ه م دة التفري ط وال اس تمرت علي ه أي ام‬
‫اإلهمال‪.‬‬
‫وقد قيل في منثور الحكم‪ :‬جهل الصغير معذور‪ ،‬وعلمه محقور‪ ،‬فأما الكبير‬
‫فالجهل به أقبح‪ ،‬ونقصه عليه أفضح ؛ ألن علو الس ن إذا لم يكس به فض ال ولم يف ده‬
‫علما وكانت أيامه في الجهل ماضية‪ ،‬ومن الفضل خالية‪ ،‬كان الصغير أفضل منه ؛‬
‫ألن الرجاء له أكثر‪ ،‬واألم ل في ه أظه ر‪ ،‬وحس بك نقص ا في رج ل يك ون الص غير‬
‫المساوي له في الجهل أفضل منه‪.‬‬
‫االستمرار في طلب العلم‪:‬‬
‫وهو المظهر الثاني من مظاهر صدق المجاهدة في طلب العلم‪ ،‬ألن من أبرز‬

‫‪372‬‬
‫قل)(‪)1‬‬ ‫عالمات الصدق االستمرار‪ ،‬وقد قال ‪(:‬أحب األعمال إلى هللا أدومها وإن‬
‫وهذا هو دأب العلماء الفحول‪ ،‬قد روى صالح بن أحمد بن حنب ل‪ ،‬ق ال‪ :‬رأى‬
‫رجل مع أبي محبرةً‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا عب د هللا‪ ،‬أنت ق د بلغت ه ذا المبل غ‪ ،‬وأنت إم ام‬
‫المسلمين؟ يعني‪ :‬ومعك المحبرة تحملها؟! فقال‪(:‬مع المحبرة إلى المقبرة)(‪)2‬‬
‫وقال محمد بن إسماعيل الص ائغ‪ :‬كنت في إح دى س فراتي ببغ داد‪ ،‬فم ر بن ا‬
‫أحمد بن حنبل وهو يعدو‪ ،‬ونعاله في يده‪ ،‬فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه‪ ،‬فقال‪ :‬ي ا أب ا‬
‫عبد هللا‪ ،‬أال تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤالء الصبيان؟ قال‪(:‬إلى الموت)(‪)3‬‬
‫ومن أبرز عالمات االستمرار إكمال مراحل التعليم المختلفة‪ ،‬ألنه ال يص دق‬
‫تحقق العلم إال بإكمالها‪.‬‬
‫وتنقسم مراحل التعليم في عصرنا في أغلب الدول إلى أربعة أقسام هي‪:‬‬
‫‪ .1‬التعليم االبتدائي‪.‬‬
‫‪ .2‬التعليم الثانوي‪.‬‬
‫‪ .3‬التعليم الجامعي‪.‬‬
‫‪ .4‬البحث والدراسات العليا‪.‬‬
‫وهذه المراحل نفسها ـ تقريبا ـ هي المراحل التي كان معموال به ا في المنهج‬
‫التعليمي في المجتمع اإلسالمي مع فارق بسيط ومهم‪ ،‬وهو خض وع ه ذه المراح ل‬
‫في المنهج اإلسالمي للطاقات المختلفة ال لما تعرضه الم دارس الحديث ة من ق وانين‬
‫قد ينصرف الكثير بموجبها في أول مراحل تعليميهم‪.‬‬
‫يقول الدكتور أحمد شلبي في كتابه (تاريخ التربي ة اإلس المية)‪(:‬ومم ا ي دعو‬
‫للدهشة أن هذه المراحل األربعة كانت موجودة ومتميزة في العصور الوسطى عن د‬
‫المسلمين)‬
‫ويذكر في تأييد ذلك ما كتبه ابن خلدون في المقدمة عن ض رورة الت درج في‬
‫تلقين العلوم للمتعلم‪ ،‬حيث أن نظرية ابن خلدون عن مراح ل التعليم عن د المس لمين‬
‫تقوم على أن تلقين العلوم إنما يكون مفيدا إذا ك ان الت درج ش يئا فش يئا وقليالً قليالً‪،‬‬
‫بحيث يلقي عليه المدرس‪:‬‬
‫أوال‪ :‬مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب‪ ،‬ثم يشرحها ل ه على‬
‫سبيل اإلجمال مراعيا قوة عقله واستعداده‪.‬‬
‫ثاني ا‪ :‬يرفع ه في التلقين عن تل ك الرتب ة إلى أعلى منه ا ويس توفي الش رح‬
‫والبيان ويخرج عن اإلجمال إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود َمـلـ َ َكتِ ِه‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬ثم يرجع به وقد شدا فال ي ترك عويص ا وال مغلق ا إال وض حه وفتح ل ه‬
‫ُمقفلُه فيصل إلى المرحلة الرابعة وقد استولى على َملَ َكتِ ِه في هذا الفن‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البيهقي‪.‬‬
‫‪ )(2‬مناقب اإلمام أحمد‪ ،‬البن الجوزي‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪ )(3‬مناقب اإلمام أحمد‪ ،‬البن الجوزي‪ ،‬ص ‪.32‬‬

‫‪373‬‬
‫على أن المسلمين عرفوا في الواقع ما يشبه ه ذه المراح ل التعليمي ة الثالث‪،‬‬
‫فقد وجد التعليم االبتدائي في الكتاب‪ ،‬حيث كان التالميذ يتلقون مبادئ عامة يس يرة‪،‬‬
‫وأما التعليم الذي يشبه التعليم في المرحلة الجامعي ة فق د وج د في دك اكين ال وراقين‬
‫ومنازل العلماء والصالونات األدبية‪ ،‬أما المسجد فقد وج دت في ه المرحلت ان الثاني ة‬
‫والثالث ة‪ ،‬إذ ك ان يعق د في ه حلق ات يختل ف مس تواها‪ ،‬فمنه ا م ا ه و إلى اإلجم ال‬
‫والوضوح أ ْمـيَل وهذه أقرب إلى التعليم الثانوي‪ ،‬ومنها ما هو أرفع مس توى وأك ثر‬
‫عمقا وهو ما يشبه التعليم الجامعي‪.‬‬
‫أما المرحلة الرابعة مرحلة األبحاث والدراسات العليا فق د عرفه ا المس لمون‬
‫دون شك‪ ،‬ومن أبرز الشواهد عليها م ا ك ان في بيت الحكم ة‪ ،‬حيث ك انت مدرس ة‬
‫للبحث التجريبي المستند إلى المالحظة والتجربة‪ ،‬وأنها كانت مزيجا ( جامع ة‪ ،‬دار‬
‫كتب‪ ،‬ومكتب ترجمة)(‪)1‬‬
‫‪ 3‬ـ األدب‬
‫وه و الوص ف الث الث من أوص اف ط الب العلم المس لم‪ ،‬وه و من أهم‬
‫األوصاف‪ ،‬فقد اهتم النظام التعليمي اإلسالمي بهذه الناحية اهتماما شديدا‪ ،‬ف العلم ال‬
‫ينال إال باألدب‪.‬‬
‫ونرى في قصة موسى والخضر ـ عليهم ا الس الم ـ الكث ير من مظ اهر أدب‬
‫موسى باعتباره طالب علم مع أستاذه الخضر‪.‬‬
‫ويكفي في ذلك األسلوب الذي خاطبه به عندما لقيه‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬هَ لْ أَتَّبِ ُع كَ َعلَى‬
‫أَ ْن تُ َعلِّ َم ِن ِم َّما ُعلِّ ْمتَ ُر ْشدا ً﴾(الكهف‪ ،)66:‬ففيها كثير من وجوه األدب‪.‬‬
‫وقد ذكر الفخر الرازي من تحليله لآلية‪ ،‬وموقف موسى ‪ ‬فيها‪ ،‬كثيرا من‬
‫اآلداب التي ينبغي على طالب العلم الحقيقي أن يراعيها‪ ،‬ق ال‪(:‬اعلم أن ه ذه اآلي ات‬
‫ت دل على أن موس ى ‪ ‬راعى أنواع ا ً كث يرة من األدب واللط ف عن دما أراد أن‬
‫يتعلم من الخضر)‪ ،‬ومما ذكره من اآلداب(‪:)2‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫‪ .1‬أنه جعل نفسه تبعا ً له ألنه قال‪ ﴿ :‬هَ أتبِعُكَ ﴾‬
‫لْ‬
‫‪ .2‬أنه استأذن في إثبات هذا التبعية‪ ،‬فإن ه ق ال ه ل ت أذن لي أن أجع ل نفس ي‬
‫تبعا ً لك‪ ،‬وهذا مبالغة عظيمة في التواضع‪.‬‬
‫‪ .3‬أنه قال‪َ ﴿ :‬علَى أَ ْن تُ َعلِّ َم ِن ﴾ وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه‬
‫بالعلم‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫‪ .4‬أن ه ق ال‪ ﴿ :‬ت َعل َم ِن ِم َّما ُعل ْمتَ ﴾ وص يغة من للتبعيض فطلب من ه تعليم‬
‫بعض ما علمه هللا‪ ،‬وه ذا أيض ا ً مش عر بالتواض ع كأن ه يق ول ل ه ال أطلب من ك أن‬
‫تجعلني مساويا ً في العلم لك‪ ،‬بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علم ك‪ ،‬كم ا‬
‫يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المعلم والمتعلم في التربية اإلسالمية‪ ،‬إعداد‪ :‬موجه التربية اإلسالمية‪ :‬عم اد ص الح إب راهيم محم د‪،‬‬
‫خاص لموقع الدراسات والبحوث‪.‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الرازي‪.21/485 :‬‬

‫‪374‬‬
‫‪ .5‬أن قوله‪ِ ﴿ :‬م َّما عُلّ ْمتَ ﴾ اعتراف بأن هللا علمه ذلك العلم‪.‬‬
‫‪ .6‬أن قوله‪َ ﴿ :‬ر َشدًا ﴾ طلب منه لإلرشاد والهداية واإلرش اد ه و األم ر ال ذي‬
‫لو لم يحصل لحصلت الغواية والضالل‪.‬‬
‫‪ .7‬أن قول ه‪ ﴿ :‬تُ َعلّ َم ِن ِم َّما عُلّ ْمتَ ﴾ معن اه أن ه طلب من ه أن يعامل ه بمث ل م ا‬
‫عامله هللا به وفيه إشعار بأنه يك ون إنعام ك علي عن د ه ذا التعليم ش بيها ً بإنع ام هللا‬
‫تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً‪.‬‬
‫‪ .8‬أن المتابع ة عب ارة عن اإلتي ان بمث ل فع ل الغ ير ألج ل كون ه فعالً ل ذلك‬
‫الغير‪ ،‬فإنا إذا قلنا‪ :‬ال إله إال هللا فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا ي ذكرون ه ذه الكلم ة‬
‫فال يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة‪ ،‬ألنا ال نق ول ه ذه الكلم ة ألج ل أنهم‬
‫قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها‪ ،‬أما إذا أتين ا به ذه الص لوات‬
‫الخمس على موافقة فعل رسول هللا ‪ ‬فإنما أتينا بها ألجل أنه ‪ ‬أتى به ا ال ج رم‬
‫كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرس ول هللا ‪ ،‬إذا ثبت ه ذا فنق ول قول ه‪﴿ :‬هَ لْ‬
‫ك ﴾ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك األستاذ لمجرد كون ذلك األستاذ آتيا ً بها‪.‬‬ ‫أَتَّبِ ُع َ‬
‫وه ذا ي دل على أن المتعلم يجب علي ه في أول األم ر التس ليم وت رك المنازع ة‬
‫واالعتراض‪.‬‬
‫ك ﴾ يدل على طلب متابعته مطلق ا ً في جمي ع األم ور غ ير‬ ‫‪ .9‬أن قوله‪ ﴿ :‬ٱتَّبَ َع َ‬
‫مقيد بشيء دون شيء‪.‬‬
‫‪ .10‬أنه ثبت باإلخبار أن الخضر عرف أوالً أنه نبي بني إس رائيل وأن ه ه و‬
‫موس ى ص احب الت وراة وه و الرج ل ال ذي كلم ه هللا ع ز وج ل من غ ير واس طة‬
‫وخص ه ب المعجزات الق اهرة الب اهرة‪ ،‬ثم إن ه ‪ ‬م ع ه ذه المناص ب الرفيع ة‬
‫والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه األن واع الكث يرة من التواض ع وذل ك ي دل على‬
‫كونه ‪ ‬آتيا ً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو الالئ ق ب ه ألن ك ل من‬
‫كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أك ثر فك ان طلب ه‬
‫لها أشد وكان تعظيمه ألرباب العلم أكمل وأشد‪.‬‬
‫ك َعلَ ٰى أَن ﴾ فأثبت كونه تبعا له أوال ثم طلب ثاني ا أن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ .11‬أنه قال‪ ﴿ :‬هَلْ أَتَّبِ ُع َ‬
‫يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم‪.‬‬
‫ك َعلَ ٰى أَن ﴾ فلم يطلب على تل ك المتابع ة على التعليم‬ ‫‪ .12‬أنه قال‪ ﴿ :‬هَلْ أَتَّبِ ُع َ‬
‫شيئا ً كان قال ال أطلب منك على هذه المتابعة المال والج اه وال غ رض لي إال طلب‬
‫العلم‪.‬‬
‫وقد تحدث علماء التربية اإلسالمية عن كثير من آداب أه ل العلم‪ ،‬وخص وها‬
‫بالمصنفات‪ ،‬فذكروا‪:‬‬
‫‪ .1‬آداب المتعلم مع نفسه‪.‬‬
‫‪ .2‬آدابه مع شيوخه وأساتذته‪.‬‬
‫‪ .3‬آدابه مع أقرانه‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫‪ .4‬آدابه في حلقات العلم‪.‬‬
‫‪ .5‬آداب المتعلم مع الكتب والمكتبات (أدوات العلم)‪.‬‬
‫ولن نتحدث هنا عن تفاصيل ما ذكر من آداب‪ ،‬ولكنا نشير إشارات عامة إلى‬
‫بعضها‪ ،‬والتي يمكن اسثمار المربي لها ليحق ق فيمن يربي ه مواص فات ط الب العلم‬
‫المسلم‪.‬‬
‫فمن آداب طالب العلم أن يحترم معلمه ويعظمه ويتأدب بين يدي ه‪ ،‬وإلى ذل ك‬
‫اإلش ارة بقول ه ‪(:‬تعلم وا العلم وتعلم وا للعلم الس كينة والوق ار وتواض عوا لمن‬
‫تعلمون منه)(‪)1‬‬
‫ومن آداب طالب العلم (أن ال يدخل على أستاذه في غير المجلس الع ام بغ ير‬
‫إذنه سواء كان الشيخ وحده أو معه غيره‪ ،‬فإن اس تأذن ولم ي ؤذن ل ه انص رف‪ ،‬وال‬
‫يكرر االستئذان فإن لم يعلم األس تاذ يك رر االس تئذان ثالث ا أو يط رق الب اب طرق ا‬
‫خفيفا ثالثا بقدر ما يسمع‪ ،‬وأن يجتهد على أن يسبق في الحض ور إلى المجلس قب ل‬
‫حضور الش يخ‪ ،‬وال يت أخر بحيث يجع ل الش يخ في انتظ اره‪ ،‬وإذا حض ر ولم يج د‬
‫الشيخ انتظره حتى ال يف وت على نفس ه درس ه‪ ،‬وإن ك ان الش يخ نائم ا ص بر ح تى‬
‫يستيقظ )‬
‫ومن اآلداب (أن ال يسار في مجلسه ولو في مسألة وال يغم ز أح دا وال يك ثر‬
‫كالمه بغير ضرورة‪ ،‬وال يحكي ما يُضْ ِحك أو ما يتضمن س وء أدب‪ ،‬وال يتكلم بم ا‬
‫لم يسأله ش يخه عن ه‪ ،‬وال يض حك من دون الش يخ‪ ،‬وإن غلب ه الض حك تبس م بغ ير‬
‫صوت‪ ،‬وال يغتاب أحدا في مجلسه‪ ،‬وأن يخص الشيخ بالتحية وإن ك انت ل ه حاج ة‬
‫سبق القوم إلى خدمته‪ ،‬وال يمل من طول ص حبته‪ ،‬وإنم ا ه و كالنخل ة تنتظ ر ح تى‬
‫يسقط عليك منها منفعة)‬
‫(لـ َم)‬
‫ومن اآلداب (أن يُحسن خطابه م ع الش يخ بق در اإلمك ان وال يق ول ل ه ِ‬
‫و(ال) وال (نـ ُ َسـلـِّم) وال (من نَقَ َل هذا)‪ .....‬وإذا سمع الشيخ يذكر حكما في مس ألة أو‬
‫فائدة مستغربة أو يحكي حكاية أو ينشد شعرا وهو يحف ظ ذل ك أص غى إلي ه إص غاء‬
‫مستفيد في الحال متعطشا إليه فرح به وكأنه لم يسمعه قط)‪ ،‬قال عطاء‪ :‬إني ألس مع‬
‫الحديث من الرجل‪،‬وأنا أعلم به منه‪ ،‬فأريه من نفسي أني ال أحسن منه شيئا‪ ،‬وعن ه‬
‫قال‪ :‬إن الشاب ليتحدث بحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد‪.‬‬
‫ومن اآلداب (أن يت أدب م ع حاض ري مجلس ش يخه فإن ه أدب مع ه وهم‬
‫رفقاؤه‪ ،‬وال يجلس في وسط الحلقة وال قدام أحد إال لضرورة‪ ،‬وال يف رق بين اث نين‬
‫وال بين متصاحبين إال بإذنها‪ ،‬وإن أساء بعض الطلبة ال يتدخل ويترك األمر للش يخ‬
‫ويقدم النصيحة لهما سراً)‬
‫ومن اآلداب (أن يح رص على تحص يل الكتب ال تي يحت اج إليه ا ش را ًء أو‬
‫إجارةً أو إعارة ألنها آلة تحصيل العلم‪ ،‬وال يجعل تحصيلها وجمعه ا ه دفا ً ونص يبا ً‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في األوسط وابن عدي‪.‬‬

‫‪376‬‬
‫له من الفهم‪ ،‬بل ال بد من الوعي بما فيها)‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ومن اآلداب أن يكون طالب العلم متوثبا لألعالي متشوّقا للمعالي‪ ،‬كلما أدرك‬
‫منزلة طمح لما بعدها‪ ،‬وال يردد ما قال األول‪(:‬كم ترك األول لآلخ ر؟) ولكن بق ول‬
‫ما قال ابن مالك في التسهيل‪(:‬وإذا كانت العلوم ِمنَحا ً إلهية‪ ،‬وم واهب اختصاص ية‪،‬‬
‫فغير مستبعد أن يُدخر لبعض المتأخرين ما عس ر على كث ير من المتق دمين‪ .‬أعاذن ا‬
‫هللا من حسد يسد باب اإلنصاف‪ ،‬ويصد عن جميل األوصاف)‬
‫ومن أهم اآلداب وأرفعها ـ وما جعلناه خاتم ة له ذا الج زء ـ تق ديم تق وى هللا‬
‫تعالى والخشوع بين يديه‪ ،‬فقد وصف هللا تعالى أه ل العلم في الق رآن الك ريم ب أنهم‬
‫يسجدون هلل ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قُ لْ آ ِمنُ وا بِ ِه أَوْ ال‬
‫تُ ْؤ ِمنُوا إِ َّن الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم ِم ْن قَ ْبلِ ِه إِ َذا يُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم يَ ِخرُّ ونَ لِأْل َ ْذقَ ِ‬
‫ان ُس جَّداً َويَقُولُ ونَ‬
‫ُسب َْحانَ َربِّنَا إن َكانَ َو ْع ُد َربِّنَا لَ َم ْفعُوالً َويَ ِخرُّ ونَ لِألَ ْذقَا ِن يَ ْب ُك ونَ َويَ ِزي ُدهُ ْم ُخ ُش وعا ً ﴾‬
‫(االسراء‪ 107 :‬ـ ‪)109‬‬
‫قال عبد األعلى التيمي‪(:‬من أوتي من العلم ما ال يبكي ه لخلي ق أن ال يك ون‬
‫أوتي علما ً ينفعه‪ ،‬ألن هللا تعالىنعت العلماء‪ ،‬ثم قرأ اآليات السابقة)‬
‫وقد وصف هللا تعالى العلماء بانهم أهل خشية‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿ :‬إنَّ َم ا يَ ْخ َش ى هَّللا َ‬
‫َزي ٌز َغفُو ٌر ﴾[فاطر‪.]28 :‬‬ ‫إن هَّللا َ ع ِ‬‫ِم ْن ِعبَا ِد ِه ال ُعلَ َما ُء َّ‬
‫ت‬ ‫ووصفهم بأنهم يحذرون عذابه ويرجون رحمته‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬أَ َّم ْن هُ َو قَ انِ ٌ‬
‫اآلخ َرةَ َويَرْ ُج و َرحْ َم ةَ َربِّ ِه قُ لْ هَ لْ يَ ْس ت َِوي الَ ِذينَ‬ ‫آنَا َء اللَّ ْي ِل َس ا ِجداً َوقَائِم ا ً يَحْ َذ ُر ِ‬
‫ب ﴾ [الزمر‪.]9 :‬‬ ‫ُ‬
‫يَ ْعلَ ُمونَ َوالَّ ِذينَ ال يَ ْعلَ ُمونَ إنَّ َما يَتَ َذ َّك ُر أوْ لُوا األَ ْلبَا ِ‬
‫وعن أبي الدرداء قال‪ :‬كنا مع رسول هللا ‪ ،‬فش خص ببص ره إلى الس ماء‪،‬‬
‫ثم قال‪(:‬ه ذا أوان ي ُْختَلَسُ العلم من الن اس‪ ،‬ح تى ال يق دروا من ه على ش يء)‪ ،‬فق ال‬
‫زياد بن لبيد األنصاري‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬وكيف ي ُْختَلَسُ من ا وق د قرأن ا الق رآن؟ فوهللا‬
‫لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا‪ ،‬فقال‪(:‬ثكلتك أمك يا زياد‪ ،‬إن كنت ألعدك من فقهاء‬
‫أهل المدينة‪ ،‬هذه التوراة واإلنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟)‬
‫قال جبير‪ :‬فلقيت عبادة بن الصامت‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬أال تسمع ما يقول أخوك أبو‬
‫الدرداء‪ ،‬فأخبرته بالذي قال‪ ،‬قال‪ :‬صدق أبو ال درداء‪ ،‬إن ش ئت أخبرت ك ب أول علم‬
‫يرف ع من الن اس‪ :‬الخش وع‪ ،‬يوش ك أن ت دخل مس جد الجماع ة فال ت رى في ه رجالً‬
‫خاشعاً)‬
‫ولهذا كانوا يقولون‪(:‬ليس العلم بك ثرة الرواي ة‪ ،‬إنم ا العلم خش ية هللا)‪ ،‬وك ان‬
‫مالك يقول‪(:‬العلم والحكمة نور يهدي به هللا من يشاء‪ ،‬وليس بكثرة المسائل)‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫(إن حقّا ً على من طلب العلم أن يكون ل ه وق ار وس كينة وخش ية‪ ،‬وأن يك ون متبع ا ً‬
‫ألثر من مضى قبله)‬
‫وقيل لسعد بن إبراهيم‪ :‬من أفقه أهل المدينة؟ قال‪(:‬أتقاهم لربه)‬

‫‪377‬‬

You might also like