You are on page 1of 374

0

‫هذا الكتاب‬
‫يبحث ه ذا الكت اب في أهم المس ائل المرتبط ة بالمص ير‬
‫اإلنس اني‪ ،‬وس عادته وش قائه‪ ،‬والحق ائق المرتبط ة ب ذلك‪ ،‬من خالل‬
‫المصادر الدينية والعقلية والعلمية‪ ،‬وذلك في خمسة فصول هي‪:‬‬
‫‪ .1‬الموت والنشآت اإلنسانية‪ ،‬ويتضمن األدلة الدينية والعقلية‬
‫والعلمي ة الدال ة على أن الم وت ليس س وى مرحل ة من مراح ل‬
‫اإلنسان‪ ،‬وليس عدما‪ ،‬وال فناء‪.‬‬
‫‪ .2‬ال برزخ وتجلي ات الحق ائق‪ ،‬ويتن اول الحق ائق واألح داث‬
‫المرتبط ة بمرحل ة ال برزخ ال تي يكتش ف فيه ا اإلنس ان الكث ير من‬
‫الحقائق الغيبية‪ ،‬ويتعذب بذلك‪ ،‬أو يتنعم به‪.‬‬
‫‪ .3‬المع اد ‪ ..‬وتجلي ات العدالة‪ ،‬ويتن اول األح داث المرتبط ة‬
‫بالحشر والنش ر والحس اب والم وازين والس راط وغيره ا من ال تي‬
‫ورد في النصوص المقدسة ذكر تفاصيلها‪ ،‬مع بيان عالقتها بصفات‬
‫هللا التي دل عليها العقل والنقل‪ ،‬وخاصة العدالة التي تتجلى في ذل ك‬
‫الموقف بأكمل صورها‪.‬‬
‫‪ .4‬الجزاء اإللهي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪ ،‬وذكرنا فيه م ا‬
‫ورد في النصوص المقدس ة من أن واع الفض ل اإللهي أله ل الجن ة‪،‬‬
‫وأن واع العقوب ات اإللهي ة أله ل الن ار‪ ،‬وعالق ة ذل ك كل ه بالعم ل‬
‫والسلوك‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أسرار ما بعد الموت‬
‫بين الدين والعقل‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪2018 – 1440‬‬

‫مؤسسة العرفان للثقافة اإلسالمية‬



3
‫فهرس المحتويات‬
‫‪10‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪19‬‬ ‫الفصل األول‬
‫‪19‬‬ ‫الموت‪ ..‬والنشآت اإلنسانية‬
‫‪22‬‬ ‫أوال ـ الموت‪ ..‬وبراهين الفطرة‪:‬‬
‫‪25‬‬ ‫‪ .1‬الموت‪ ..‬وتصورات الحضارات القديمة‪:‬‬
‫‪30‬‬ ‫‪ .2‬الموت‪ ..‬وتصورات الحضارة الحديثة‪:‬‬
‫‪34‬‬ ‫ثانيا ـ الموت‪ ..‬وبراهين الدين‪:‬‬
‫‪37‬‬ ‫‪ 1‬ـ الموت وبرهان القدرة‪:‬‬
‫‪39‬‬ ‫‪ 2‬ـ الموت وبرهان الحكمة‪:‬‬
‫‪43‬‬ ‫‪ 3‬ـ الموت وبرهان الربوبية‪:‬‬
‫‪48‬‬ ‫‪ 4‬ـ الموت وبرهان العناية‪:‬‬
‫‪52‬‬ ‫‪ 5‬ـ الموت وبرهان العدالة‪:‬‬
‫‪57‬‬ ‫ثالثا ـ الموت‪ ..‬وبراهين العقل‪:‬‬
‫‪63‬‬ ‫الدليل األول‪ :‬ازدواجية الحقيقة اإلنسانية‬
‫‪66‬‬ ‫الدليل الثاني‪ :‬دليل الحركة‬
‫‪68‬‬ ‫رابعا ـ الموت‪ ..‬وبراهين العلم‪:‬‬
‫‪73‬‬ ‫‪ 1‬ـ الموت وحقيقة اإلنسان‪:‬‬
‫‪80‬‬ ‫‪ 2‬ـ الموت وحقيقة العقل‪:‬‬
‫‪82‬‬ ‫أ ـ العقل بحسب الرؤية العلمية القديمة‪:‬‬
‫‪86‬‬ ‫ب ـ العقل بحسب الرؤية العلمية الجديدة‪:‬‬
‫‪107‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪107‬‬ ‫البرزخ‪ ..‬وتجليات الحقائق‬
‫‪112‬‬ ‫أوال ـ البرزخ وتجليات حقيقة المصير‪:‬‬
‫‪115‬‬ ‫‪ 1‬ـ البرزخ‪ ..‬وتجليات مصير المقربين‪:‬‬
‫‪128‬‬ ‫‪ 2‬ـ البرزخ‪ ..‬وتجليات مصير أصحاب اليمن‪:‬‬
‫‪133‬‬ ‫‪ 3‬ـ البرزخ‪ ..‬وتجليات مصير أصحاب الشمال‪:‬‬
‫‪139‬‬ ‫ثانيا ـ البرزخ وتجليات حقيقة العمل‪:‬‬
‫‪141‬‬ ‫‪ 1‬ـ مراتب النعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫‪152‬‬ ‫‪ 2‬ـ كيفية النعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫‪155‬‬ ‫أ ـ الوجود الحسي للنعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫‪157‬‬ ‫ب ـ الوجود المتخيل للنعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫‪158‬‬ ‫ج ـ الوجود التشبيهي للنعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫‪160‬‬ ‫‪ 3‬ـ صور النعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫‪163‬‬ ‫أ ـ األدلة النقلية على تجسم األعمال‪:‬‬
‫‪166‬‬ ‫ب ـ األدلة العقلية على تجسم األعمال‪:‬‬
‫‪173‬‬ ‫‪ 4‬ـ نماذج من صور النعيم والعذاب في البرزخ وأسبابها‪:‬‬
‫‪178‬‬ ‫أ ـ نماذج من صور النعيم وأسبابها‪:‬‬
‫‪182‬‬ ‫ب ـ نماذج من صور العذاب وأسبابها‪:‬‬
‫‪190‬‬ ‫ثالثا ـ البرزخ والصلة بالحياة الدنيا‪:‬‬
‫‪192‬‬ ‫‪ 1‬ـ البرزخ‪ ..‬والتواصل مع الحياة الدنيا‪:‬‬
‫‪195‬‬ ‫أ ـ التواصل الممتد‪:‬‬
‫‪202‬‬ ‫ب ـ التواصل المحدود‪:‬‬
‫‪207‬‬ ‫‪ 2‬ـ البرزخ‪ ..‬واالنقطاع عن الحياة الدنيا‪:‬‬
‫‪209‬‬ ‫الفصل الثالث‬
‫‪209‬‬ ‫المعاد‪ ..‬وتجليات العدالة‬
‫‪216‬‬ ‫أوال ـ النشر والحشر‪ ..‬وتجليات العدالة‪:‬‬
‫‪224‬‬ ‫‪ 1‬ـ النفخ في الصور‪:‬‬
‫‪232‬‬ ‫‪ 2‬ـ التبديل والتهيئة‪:‬‬
‫‪239‬‬ ‫‪ 3‬ـ البعث والنشور‪:‬‬
‫‪240‬‬ ‫أ ـ البعث والحركة التكاملية‪:‬‬
‫‪243‬‬ ‫ب ـ البعث والتكامل الكوني‪:‬‬
‫‪248‬‬ ‫ج ـ البعث وخاتمة الحركة الدنيوية‪:‬‬
‫‪251‬‬ ‫د ـ البعث والمعاد الجسماني‪:‬‬
‫‪254‬‬ ‫الشبهة األولى‪:‬‬
‫‪256‬‬ ‫الشبهة الثانية‪:‬‬
‫‪257‬‬ ‫الشبهة الثالثة‪:‬‬
‫‪258‬‬ ‫‪ 4‬ـ الحشر والعرض‪:‬‬
‫‪259‬‬ ‫أ ـ مواقف أهل الحشر‪:‬‬
‫‪264‬‬ ‫ب ـ النعيم والعذاب‪:‬‬
‫‪270‬‬ ‫ج ـ االنتظار والشفاعة‪:‬‬
‫‪278‬‬ ‫د ـ االبتالء واالختبار‪:‬‬
‫‪292‬‬ ‫ثانيا ـ الحساب والموازين‪ ..‬وتجليات العدالة‪:‬‬
‫‪296‬‬ ‫‪ 1‬ـ األعمال وكتبها‪:‬‬
‫‪305‬‬ ‫أ ـ الكتب العامة‪:‬‬
‫‪309‬‬ ‫ب ـ الكتب الخاصة‪:‬‬
‫‪314‬‬ ‫‪ 2‬ـ الشهود وتنوعهم‪:‬‬
‫‪317‬‬ ‫أ ـ شهادة هللا‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫‪319‬‬ ‫ب ـ شهادة األنبياء‪:‬‬
‫‪323‬‬ ‫ج ـ شهادة الهداة‪:‬‬
‫‪333‬‬ ‫د ـ شهادة المالئكة‪:‬‬
‫‪336‬‬ ‫هـ ـ شهود آخرون‪:‬‬
‫‪342‬‬ ‫‪ 3‬ـ الحساب والمساءلة‪:‬‬
‫‪353‬‬ ‫أ ـ الشؤون الشخصية‪:‬‬
‫‪360‬‬ ‫ب ـ الشؤون المتعدية‪:‬‬
‫‪365‬‬ ‫‪ 4‬ـ الموازين ومعاييرها‪:‬‬
‫‪375‬‬ ‫أ ـ موازين األعمال ودرجاتها‪:‬‬
‫‪387‬‬ ‫ب ـ موازين االستقامة وآثارها‪:‬‬
‫‪398‬‬ ‫‪ 5‬ـ الشفاعة وشروطها‪:‬‬
‫‪401‬‬ ‫أ ـ اإلذن اإللهي‪:‬‬
‫‪405‬‬ ‫ب ـ قابلية الشافع‪:‬‬
‫‪409‬‬ ‫ج ـ الشفاعة بالحق‪:‬‬
‫‪419‬‬ ‫الفصل الرابع‬
‫‪419‬‬ ‫الجزاء اإللهي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‬
‫‪427‬‬ ‫أوال ـ الجزاء المعنوي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪:‬‬
‫‪433‬‬ ‫‪ 1‬ـ الفرح والحزن‪:‬‬
‫‪438‬‬ ‫‪ 2‬ـ الرضى والسخط‪:‬‬
‫‪441‬‬ ‫أ ـ الرضوان ومظاهره‪:‬‬
‫‪447‬‬ ‫ب ـ السخط ومظاهره‪:‬‬
‫‪449‬‬ ‫‪ 3‬ـ التكريم واإلهانة‪:‬‬
‫‪453‬‬ ‫‪ 4‬ـ التواصل والقطيعة‪:‬‬
‫‪455‬‬ ‫أ ـ التواصل ومظاهره‪:‬‬
‫‪464‬‬ ‫ب ـ القطيعة ومظاهرها‪:‬‬
‫‪467‬‬ ‫ثانيا ـ الجزاء الحسي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪:‬‬
‫‪474‬‬ ‫‪ 1‬ـ األجسام والصور‪:‬‬
‫‪474‬‬ ‫أ ـ تبعية األجسام والصور لألعمال‪:‬‬
‫‪476‬‬ ‫ب ـ انسجام األجسام مع الجزاء‪:‬‬
‫‪479‬‬ ‫ج ـ روحانية األجسام‪:‬‬
‫‪484‬‬ ‫‪ 2‬ـ المناخ والتضاريس‪:‬‬
‫‪485‬‬ ‫أ ـ مناخ وتضاريس الجنة‪:‬‬
‫‪489‬‬ ‫ب ـ مناخ وتضاريس جهنم‪:‬‬
‫‪496‬‬ ‫‪ 3‬ـ المساكن والفرش‪:‬‬
‫‪501‬‬ ‫‪ 4‬ـ الطعام والشراب‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫‪502‬‬ ‫أ ـ الطعام وأنواعه‪:‬‬
‫‪509‬‬ ‫ب ـ الشراب وأنواعه‪:‬‬
‫‪516‬‬ ‫‪ 5‬ـ الحلي والحلل‪:‬‬
‫‪520‬‬ ‫‪ 6‬ـ األزواج والولدان‪:‬‬
‫‪524‬‬ ‫أ ـ المرأة في الجنة وإلزامها بزوجها‪:‬‬
‫‪526‬‬ ‫ب ـ العالقة الزوجية في الجنة وسموها‪:‬‬
‫‪529‬‬ ‫ج ـ الولدان المخلدون بمثابة األبناء‪:‬‬
‫‪531‬‬ ‫ثالثا ـ مراتب الجزاء‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪:‬‬
‫‪538‬‬ ‫‪ 1‬ـ مراتب المنحرفين‪:‬‬
‫‪541‬‬ ‫أ ـ مرتبة المغضوب عليهم‪:‬‬
‫‪556‬‬ ‫ب ـ مرتبة الضالين‪:‬‬
‫‪562‬‬ ‫‪ 2‬ـ مراتب المهتدين‪:‬‬
‫‪568‬‬ ‫‪ 3‬ـ مراتب المقربين‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫مقدمة‬
‫تعتبر المس ائل المرتبط ة بحقيق ة الم وت‪ ،‬والمص ير اإلنس اني بع ده من أهم‬
‫المس ائل ال تي ال يمكن ألي عق ل من العق ول أال يهتم به ا‪ ،‬ذل ك أنه ا تعطي لوج ود‬
‫اإلنسان على هذه األرض أبعادا جديدة لم يكن ليتصورها لوال ذلك االعتقاد‪.‬‬
‫والوجوديون والمالحدة الذين يشاغبون بكونهم ال يهتمون إال بوج ودهم على‬
‫ه ذه األرض‪ ،‬وحي اتهم فيه ا‪ ،‬واس تثمارهم لك ل لحظ ة‪ ،‬ويض حكون س اخرين من‬
‫المؤمنين عند ذكرهم للموت وم ا بع ده‪ ،‬يك ذبون على أنفس هم‪ ،‬ذل ك أنهم في ق رارة‬
‫نفوسهم ال يختلفون عن سائر الناس في ش عورهم بالش وق للخل ود والحي اة األبدي ة‪،‬‬
‫ويتمنون لو يدوم ما هم فيه من نعيم‪ ..‬ويرون أن أكبر المنغصات حلول الموت بهم‪،‬‬
‫أو بمن يحبونه‪.‬‬
‫ولذلك نراهم يبذلون أمواال كثيرة لمراكز األبحاث رجاء أن تزي د في ش بابهم‬
‫سنوات معدودة‪ ،‬أو تطيل من أعمارهم‪ ،‬أو تقض ي على األم راض ال تي تص يبهم‪..‬‬
‫وكل ذلك ألجل سنوات محدودة ال تساوي مع الخلود شيئا‪.‬‬
‫وفوق ذلك نراهم ال يشعرون بأي سعادة عندما يمارسون تلك الحي اة الالهي ة‬
‫ال تي يتص ورون أنهم يف رون به ا من الم وت‪ ،‬أو أنهم يهزم ون به ا الم وت‪ ،‬ألن‬
‫الموت دائما يتعقبهم ويمر على خيالهم‪ ،‬ولهذا يحزن ون لك ل ش عرة تش يب‪ ،‬أو لك ل‬
‫مرض ينزل‪ ،‬أو لكل مصيبة تحل‪.‬‬
‫وهك ذا تم ر حي اتهم مليئ ة بالتش اؤم والي أس ال ذي ع بر عن ه [ش وبنهاور]‬
‫فيلسوف التشاؤم المعروف بقوله‪( :‬حياة اإلنسان كلها ليست إال نض اال مس تميتا من‬
‫أجل البقاء على قيد الحياة مع يقينه الكامل بأنه سيهزم في النهاي ة)‪ ..‬وقول ه‪( :‬ينبغي‬
‫أن ندمر في داخلنا‪ ،‬وبكل األشكال الممكنة‪ ،‬إرادة الحي اة‪ ،‬أو الرغب ة في الحي اة‪ ،‬أو‬
‫حب الحياة)‪ ..‬وقوله‪( :‬يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الم وت على م ا فعلن ا في الحي اة‬
‫ال دنيا‪ ..‬وأن ا أظن أن ه بإمكانن ا أن نحاس بها أواًل عن المزح ة الثقيل ة للوج ود ال ذي‬
‫فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟)‬
‫ومثل ه ق ال ع الم األعص اب‪ ،‬والمحل ل النفس ي النمس اوي (فكت ور فرنك ل)‪:‬‬
‫(للكثير من الناس اليوم وسائل للحياة‪ ،‬غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون ألجله)(‪)1‬‬
‫ولهذا نجدهم يلتمسون كل الوسائل واألساليب لالحتي ال على أنفس هم‪ ،‬لتظف ر‬
‫ببدائل جديدة عن المعاد الذي يعتق ده المؤمن ون‪ ،‬وق د ق ال بعض هم مع برا عن تل ك‬
‫البدائل‪( :‬رغم هذا فإنني أعتبر الحي اة (رغم عبثيته ا) مق ّدس ة ج دا‪ .‬فنحن الملح دين‬
‫على يقين بأننا نحظى بفرصة واحدة فقط للحياة ‪ -‬فرص ة واح دة ال غ ير‪ .‬فال حي اة‬
‫أخ رى وال بعث أرواح وال جن ة وال ن ار وم ا إلى ذل ك‪ .‬الحي اة مب اراة من جول ة‬
‫واحدة‪ ،‬لذا فمن المؤسف جدا أن يبعثره ا الم رء أو يض يعها س دى‪ ..‬ل ذا‪ ،‬فإلعط اء‬
‫هذه القدسية حقها الكامل‪ ،‬على المرء أن يستغل فترة وعيه الوجيزة جدا كك ائن حي‬

‫‪ )(1‬انظر هذه النصوص وغيرها في كتابي [كيف تناظر ملحدا]‪ ،‬ص‪.380‬‬

‫‪8‬‬
‫إلى أبعد الحدود‪ .‬ثقـّف نفسك وعلـّمها‪ ،‬عزيزي القارئ‪ ،‬ليتس نى ل ك رؤي ة عج ائب‬
‫هذا الكون لما هي علي ه فعال‪ ،‬بمن أى عن ض باب الفك ر ال ديني‪ .‬إس بح في المحي ط‬
‫الهن دي‪ ..‬راقب غ روب الش مس في وادي رم‪ ..‬دغ دغ رض يعا‪ ..‬تس لق ش جرة أو‬
‫جبل‪ ..‬تعلـّم حرفة يدوية كالنج ارة أو الفخ ارة‪ ..‬إش تر منظ ارا ودلي ل فض اء وفل ك‬
‫للمبتدئين وتمعن في أعماق الكون وابحث عن كواكبه ومجراته‪ ..‬كن س ببا لتحس ين‬
‫حياة غيرك من الناس األقل حظا واكتس ب من عمل ك ه ذا المتع ة والرض ا‪ ،‬فهن اك‬
‫الكثير من البشر ال ذين يعيش ون في ظ روف من الس وء ال توص ف‪ ،‬ويكس بون في‬
‫أسبوع ما قد تكسبه أنت في ساعة (هذا إن كانوا يكسبون شيئا أص ال)‪ ..‬ت برع بال دم‬
‫بين الحين واآلخر إن كانت صحتك تسمح‪ ..‬إدعم ميتما أو داراً للعجزة‪ ..‬إلخ)(‪)1‬‬
‫هذا هو العزاء الذي ذكره هذا الملحد‪ ،‬وذكره قبله وبعده الكثير من المالحدة‪،‬‬
‫وهو ال يختلف عن تلك المسكنات والمخدرات التي يهرب بها صاحبها عن الحقيق ة‬
‫المرة التي يعيشها‪.‬‬
‫وهذا العزاء الذي ذكره ال يمكن أبدا أن ينس جم م ع ك ل الن اس‪ ،‬وال م ع ك ل‬
‫العقول‪ ،‬بل هو خاص فق ط بطبق ة مح دودة من أص حاب األم وال ال ذين يمكنهم أن‬
‫يمارسوا ما يشتهون حتى يشعروا بالعزاء‪ ،‬أما أولئك المستضعفين الفق راء‪ ،‬وال ذين‬
‫تشكل الحياة عبئا كبيرا عليهم؛ فإن تلك العزاءات لن تفعل لهم شيئا‪ ،‬فالحياة عن دهم‬
‫مجموعة آالم‪..‬‬
‫ولذلك ال يستطيع اإللحاد أن ينقذهم من آالمهم‪ ،‬بل الوحيد ال ذي ينق ذهم منه ا‬
‫هو اإليمان‪ ،‬ولهذا نجد المالحدة‪ ،‬وألتفه األسباب ينهارون‪ ،‬وينتح رون‪ ،‬ألن الحي اة‬
‫عندهم ال معنى لها‪ ،‬ولذلك ال معنى لتحمل العذاب فيها‪.‬‬
‫في مقاب ل ه ؤالء نج د المؤم نين بالمع اد‪ ،‬وبالحي اة بع د الم وت‪ ،‬وبالمص ير‬
‫الجميل الذي ينتظرهم ن راهم ينظ رون إلى الحي اة بص ورة مختلف ة تمام ا‪ ،‬ذل ك أن‬
‫الموت في أعينهم ليس نهاية الرحلة‪ ،‬بل هو بداية لها‪ ..‬والقبر في أعينهم ليس محال‬
‫للظلمات األبدية المطبقة‪ ،‬وإنما هو محل للسعادة أو الشقاء‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولذلك تجدهم يستعملون كل الوسائل ليظفروا بتل ك الس عادة المخزن ة لهم في‬
‫دار المعاد‪ ،‬والتي لم تستطع هذه الدنيا‪ ،‬بجميع ما فيها تلبيتها لهم‪.‬‬
‫وهكذا كان اإليم ان بالمع اد مدرس ة تربوي ة ونفس ية كب يرة ته يئهم ليس يروا‬
‫نحول الكمال الذي هيئ لهم‪ ..‬فال يمكن لشخص أن يسير نحو الكمال‪ ،‬وهو يعتقد أن‬
‫رحلته في الحياة تنتهي بموته‪.‬‬
‫وله ذا ن رى األدي ان والفلس فات والم دارس التربوي ة المختلف ة تهتم بالمع اد‬
‫والحياة بعد الموت‪ ،‬وترى أنها من أهم القضايا ال تي ال يمكن االس تهانة به ا‪ ،‬ب ل ال‬
‫يمكن تشكيل منظومة تربوية كاملة من دونها‪.‬‬
‫وعلى رأس هذه المصادر التي اهتمت بهذه المسائل اهتماما عظيم ا‪ ،‬الق رآن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اإللحاد ومعنى الحياة‪ ،‬ليث البرزنجي‪ ،‬الحوار المتمدن‪-‬العدد‪.11:15 - 11 / 4 / 2005 - 1164 :‬‬

‫‪9‬‬
‫الكريم الذي يذكره في كل محل‪ ،‬ويربطه دائم ا باإليم ان باهلل‪ ،‬ذل ك أن اإليم ان باهلل‬
‫وحده‪ ،‬ليس له مفعول كبير عند أكثر الناس‪ ،‬ما لم يقترن به اإليمان باليوم اآلخر‪.‬‬
‫فاليوم اآلخر دليل على الرحمة والعدالة والقدرة والحكمة اإللهية‪ ،‬وه و أك بر‬
‫ما يرد على نظرية الشر التي يعتبرها المالحدة المعضلة الك برى ال تي تح ول بينهم‬
‫وبين اإليمان باهلل‪.‬‬
‫فعندما يوقن المؤمن أنه سينال بعد الم وت ج زاء ك ل ألم أص ابه‪ ،‬وأج ر ك ل‬
‫جهد بذله‪ ،‬وأن كل من أصابه ب أذى س ينال عقاب ه ال ذي لم ينل ه في ال دنيا‪ ،‬سيش عر‬
‫بالراحة‪ ،‬وسيهون عليه األلم‪ ،‬وسيقبل على جميع المكارم ينهل منه ا‪ ،‬ويض حي في‬
‫سبيلها بكل راحته ولذات ه‪ ..‬وه و م ا يس اهم في رفع ه إلى المقام ات العلي ا من س لم‬
‫األخالق والقيم النبيلة‪.‬‬
‫ولهذا نرى القرآن الكريم يجع ل المواع ظ وتأثيره ا محص ورة في المؤم نين‬
‫باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِ ُك ْم يُو َعظُ بِ ِه َم ْن َكانَ ي ُْؤ ِمنُ بِاهلل َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر﴾‬
‫َّس َ ُ‬
‫ول َوأولِي اأْل َ ِ‬
‫مْر‬ ‫[الطالق‪ ،]2 :‬وقال‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ ِطي ُع وا هللا َوأَ ِطي ُع وا الر ُ‬
‫ول إِ ْن ُك ْنتُ ْم تُ ْؤ ِمنُ ونَ بِاهلل َو ْاليَ وْ ِم‬ ‫ِم ْن ُك ْم فَإِ ْن تَنَ ا َز ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فَ ُر ُّدوهُ إِلَى هللا َوالر ُ‬
‫َّس ِ‬
‫ك خَ ْي ٌر َوأَحْ َسنُ تَأْ ِوياًل ﴾ [النساء‪]59 :‬‬ ‫اآْل ِخ ِر َذلِ َ‬
‫وهكذا يقرن رسول هللا ‪ ‬بين اإليم ان باهلل والي وم اآلخ ر‪ ،‬وك ل الس لوكات‬
‫الطيبة‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك قوله‪( :‬من كان يؤمن باهلل والي وم اآلخ ر فليق ل خ يرا‬
‫أو ليصمت‪ ،‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم االخر فليك رم ج اره‪ ،‬ومن ك ان ي ؤمن باهلل‬
‫واليوم االخر فليكرم ضيفه)(‪ ،)1‬وقوله‪( :‬من كان يؤمن باهلل والي وم اآلخ ر فليحس ن‬
‫إلى جاره‪ .‬ومن كان يؤمن باهلل والي وم اآلخ ر فليك رم ض يفه‪ .‬ومن ك ان ي ؤمن باهلل‬
‫واليوم اآلخر فليقل خيرا أو ليسكت)(‪)2‬‬
‫وغيرها من األحاديث الكثيرة التي ت بين أن ه ال يمكن أن تتحق ق لإلنس ان أي‬
‫دافعية للعمل الصالح‪ ،‬أو بذل الجهد والتضحية في سبيله ما لم يمتلئ قناع ة وإيمان ا‬
‫باليوم اآلخر‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن فاقد هذا اإليمان لن يتميز بأي شيء آخر عن المؤمن‬
‫به‪ ،‬فال هو يسعد في حياته الدنيا سعادة زائدة‪ ،‬وال هو يتخلى عن اآلالم التي تصيب‬
‫المؤمن باهلل‪ ،‬ألن اآلالم تصيبهم وتصيب البشر جميعا‪ ،‬ولكنها تُهون للم ؤمن نتيج ة‬
‫إيمان ه وتعظم للك افر نتيج ة جح وده‪ ،‬وله ذا أخ بر هللا تع الى أن تنعم اإلنس ان في‬
‫ص الِحًا ِم ْن‬ ‫اآلخرة لن يحول بينه وبين التنعم في الدنيا‪ ،‬كما ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬م ْن َع ِم َل َ‬
‫َذ َك ٍر أَوْ أُ ْنثَى َوهُ َو ُم ْؤ ِم ٌن فَلَنُحْ يِيَنَّهُ َحيَ اةً طَيِّبَ ةً َولَنَجْ ِزيَنَّهُ ْم أَجْ َرهُ ْم بِأَحْ َس ِن َم ا َك انُوا‬
‫يَ ْع َملُونَ ﴾ [النحل‪]97:‬‬
‫وفي الحديث قال رسول هللا ‪( :‬عجبا ألمر المؤمن! إن أمره كله ل ه خ ير‪،‬‬

‫‪ )(1‬البخاري [فتح الباري] ‪ ،)6146( 10‬ومسلم (‪ )47‬واللفظ له‪.‬‬


‫‪ )(2‬مسلم (‪)48‬‬

‫‪10‬‬
‫وليس ذلك ألحد إال للمؤمن‪ ،‬إن أصابته س راء ش كر‪ ،‬فك ان خ يرا ل ه‪ ،‬وإن أص ابته‬
‫ضراء صبر‪ ،‬فكان خيرا له‪ ،‬وليس ذلك ألحد إال للمؤمن)(‪)1‬‬
‫ولهذا نرى المدافعين عن اإليمان باهلل واليوم اآلخر ي وردون على الجاح دين‬
‫بها ذلك الرهان الذي عبر عنه أبو العالء المعري بقوله‪:‬‬
‫اد قلت‪:‬‬ ‫ال تبعث األجس‬ ‫بيب‬ ‫زعم المنجم والط‬
‫ا‬ ‫إليكم‬ ‫ا‬ ‫كالهم‬
‫أو ص ح ق ولي فالخس ار‬ ‫إن ص ح قولكم ا فلس ت‬
‫عليكما‬ ‫ر‬ ‫بخاس‬
‫وعبر عنه آخر بقوله‪( :‬قال الملحد للمؤمن‪ :‬ما موقفك اذا مت ولم تجد الجنة!‬
‫فرد المؤمن‪ :‬لن يكون اسوأ من موقفك اذا مت ووجدت النار!)‬
‫وعبر عنه مصطفى محمود في حواره مع ص ديقه الملح د‪ ،‬وال ذي ذك ر أن ه‬
‫قال له ساخرا‪( :‬ماذا يكون الحال ل و اخط أت حس اباتك‪ ،‬وانتهيت بع د عم ر طوي ل‬
‫إلى موت وتراب ليس بعده شيء؟)‪ ،‬فأجابه مصطفى محم ود بقول ه‪( :‬لن أك ون ق د‬
‫خسرت ش يئا‪ ..‬ولكنكم أنتم س وف تخس رون كث يرا ل و أص ابت حس اباتي وص دقت‬
‫توقعاتي‪ ..‬وإنها لصادقة‪ ..‬سوف تكون مفاجئة هائلة يا صاحبي)(‪)2‬‬
‫وعبر عنه ـ قبل ذلك كل ه ـ اإلم ام الص ادق م ع بعض المالح دة‪ ،‬حيث ق ال‬
‫مخاطب ا ل ه‪( :‬إن يكن األم ر على م ا يق ول ه ؤالء وه و على م ا يقول ون‪ ،‬يع ني‬
‫المؤمنين‪ ،‬فقد سلموا وعطبتم وإن يكن األمر على ما تقولون وليس كما تقولون فق د‬
‫استويتم وهم)‪ ،‬فقيل ل ه‪ :‬وأي ش يء نق ول وأي ش يء يقول ون م ا ق ولي وق ولهم إال‬
‫واحد؟ فقال‪( :‬وكيف يكون قولك وق ولهم واح دا‪ ،‬وهم يقول ون إن لهم مع ادا وثواب ا‬
‫وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران‪ ،‬وأنتم تزعمون أن السماء خ راب‬
‫ليس فيها أحد‪)3()..‬‬
‫وه و م ا يع رف اآلن باس م [ره ان باس كال]‪ ،‬وه و الره ان ال ذي اس تعمله‬
‫الفيزيائي والرياضي والفيلس وف الفرنس ي بل يز باس كال (‪ )1662 -1623‬وال ذي‬
‫يمكن صياغته على الشكل التالي(‪:)4‬‬
‫‪ -1‬إن آمنتَ باهلل وكان هللا موجوداً‪ ،‬فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة‪ ،‬وه ذا‬
‫ربح المحدود‪.‬‬
‫‪ -2‬إن لم ت ؤمن باهلل وك ان هللا موج وداً‪ ،‬فس يكون ج زاؤك الخل ود في جهنم‪،‬‬
‫وهذه خسارة المحدودة‪.‬‬
‫‪ -3‬إن آمنتَ باهلل وكان هللا غير موجود‪ ،‬فلن تُجزى على ذلك‪ ،‬وه ذه خس ارة‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)227 /8‬‬


‫‪ )(2‬حوار مع صديقي الملحد‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫‪ )(3‬الكافي‪ ،‬ج‪ 1‬ص‪..74‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الصراط المستقيم في الحجج والبراهين‪ :‬ره ان باس كال‪ ،‬آي ة هللا الس يد مرتض ى الش يرازي‪ ،‬ش بكة‬
‫النبأ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫محدودة‪.‬‬
‫‪ -4‬إن لم تؤمن باهلل وكان هللا غير موجود‪ ،‬فلن تُعاقب لكنك ستكون قد عشت‬
‫حياتك‪ ،‬وهذا ربح محدود‪.‬‬
‫بناء على هذه الدوافع العلمية والتربوية‪ ،‬نحاول في هذا الكتاب خطاب العق ل‬
‫اإلنساني بما يعرفه من مصادر وأساليب لالستدالل‪ ،‬ليتحول اإليمان عنده وفيه بهذا‬
‫العالم من مجرد احتمال بسيط أو عادي إلى حقيقة كبرى‪ ،‬ال يدل عليها ال دين فق ط‪،‬‬
‫بل يدل عليها العقل أيضا‪.‬‬
‫وهو ما يجعل من ذلك اإليمان مؤثرا ومحرك ا في الحي اة‪ ،‬ألن س بب الت أثير‬
‫المحدود لحقائق المعاد ال يعود إلى ذاتها‪ ،‬وإنما يعود إلى ذلك القصور في معرفتها‪،‬‬
‫أو معرفة براهينها‪ ،‬وه ذا ه و الواق ع لألس ف؛ ف أكثر الن اس يحمل ون إيمان ا جملي ا‬
‫تقلي ديا غ ير مؤي د ب البراهين الكافي ة‪ ،‬ول ذلك لم يع د إليم انهم ذل ك الت أثير الكب ير‬
‫المرتبط به‪.‬‬
‫وقد زاد في االنصراف عن االهتمام بهذا النوع من المسائل مع أهميتها ذل ك‬
‫التوظيف الخاطئ الذي قام به المتطرفون واإلرهابيون عندما راحوا يس تثمرون م ا‬
‫يرتبط بهذا الجانب في الدعوة للعنف والتطرف‪.‬‬
‫ولذلك دعانا كل هذا إلى االهتمام بهذه المسألة‪ ،‬وطرحها بطريقة ينسجم فيه ا‬
‫العقل مع النقل‪ ،‬والحقائق مع القيم‪.‬‬
‫وقد ذكر الغزالي في نتائج بحث ه عن س ر الغ رور واالبتع اد عن ال دين ذل ك‬
‫الموقف المعادي لمسائل المعاد‪ ،‬فقال ـ عند ذكره لغرور الكفار ـ‪( :‬فأول ما نب دأ ب ه‬
‫غ رور الك افر‪ ،‬وه و قس مان‪ :‬منهم من غرت ه الحي اة ال دنيا‪ ..‬ومنهم من غ ره باهلل‬
‫الغرور‪ ..‬أما الذين غ رتهم الحي اة ال دنيا وهم ال ذين ق الوا‪ :‬النق د خ ير من النس يئة‪..‬‬
‫ولذات الدنيا يقين‪ ..‬ولذات اآلخرة شك‪ ..‬وال يترك اليقين بالشك)(‪)1‬‬
‫ثم بين وجه فساد هذا الدليل‪ ،‬فقال‪( :‬وهذا قياس فاسد‪ ..‬وهو قياس إبليس لعنه‬
‫هللا تعالى فى قوله‪ :‬أنا خير منه‪ ..‬فظن أن الخيرية فى النسب‪ ..‬وعالج ه ذا الغ رور‬
‫شيئان‪ :‬إما بتصديق وهو اإليمان‪ ..‬وإما ببرهان‪ ..‬أم ا التص ديق فه و أن يص دق هللا‬
‫تعالى فى قوله ﴿ َو َما ِع ْن َد هللا َخ ْي ٌر َوأَ ْبقَى أَفَاَل تَ ْعقِلُ ونَ ﴾ [القص ص‪ ..]60 :‬وتص ديق‬
‫الرسول ‪ ‬فيما جاء به‪..‬وأما البرهان‪ :‬وهو أن يعرف وجه فساد قياسه‪ ..‬أن قول ه‪:‬‬
‫الدنيا نقد واآلخرة نسيئة مقدمة صحيحة وأما قوله‪ :‬النقد خير من النسيئة‪ .‬فهو مح ل‬
‫التلبيس) (‪)2‬‬
‫بناء على هذا كله قسمنا الكتاب بحسب المراحل ال تي يم ر به ا اإلنس ان بع د‬
‫الموت‪ ،‬والتي وردت بها النصوص المقدسة‪ ،‬ودل عليها العقل‪ ،‬إلى خمسة فصول‪:‬‬
‫تناولنا في الفصل األول‪ :‬الموت والنشآت اإلنسانية‪ ،‬وحاولنا أن ن برهن في ه‬

‫‪ )(1‬أصناف المغرورين (ص‪)25 :‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪( ،‬ص‪)25 :‬‬

‫‪12‬‬
‫باألدل ة الديني ة والعقلي ة والعلمي ة الكث يرة على أن الم وت ليس س وى مرحل ة من‬
‫مراحل اإلنسان‪ ،‬وليس عدما‪ ،‬وال فناء‪.‬‬
‫وتناولنا في الفصل الثاني‪ :‬البرزخ وانكشاف الحقائق‪ ،‬وبينا في ه م ا ورد في‬
‫النصوص المقدسة من حقائق ترتبط بهذه المرحلة التي يكتشف فيها اإلنسان الكث ير‬
‫من الحقائق الغيبية‪ ،‬ويتعذب بذلك‪ ،‬أو يتنعم به‪.‬‬
‫وتناولن ا في الفص ل الث الث‪ :‬المع اد‪ ..‬وتجلي ات العدالة‪ ،‬وبين ا في ه األح داث‬
‫المرتبطة بالحشر والنشر والحساب والموازين والسراط وغيره ا من ال تي ورد في‬
‫النصوص ذكر تفاصيلها‪ ،‬مع بيان عالقتها بصفات هللا التي دل عليها العقل والنقل‪،‬‬
‫وخاصة العدالة التي تتجلى في ذلك الموقف بأكمل صورها‪.‬‬
‫وتناولن ا في الفص ل الراب ع‪ :‬الج زاء اإللهي‪ ..‬وتجلي ات العدال ة والرحمة‪،‬‬
‫وذكرنا فيه ما ورد في النص وص المقدس ة من أن واع الفض ل اإللهي أله ل الجن ة‪،‬‬
‫وأنواع العقوبات اإللهي ة أله ل الن ار‪ ،‬وعالق ة ذل ك كل ه بالعم ل والس لوك‪ ،‬ليك ون‬
‫الفضل اإللهي دافعا للعمل‪ ،‬ال للكسل‪ ،‬فكلما ورد ذكر الجنة في القرآن الك ريم ذك ر‬
‫معه العمل الصالح‪ ،‬ولذلك ال يصح أن يُ ذكر النعيم مج ردا عن األعم ال المرتبط ة‬
‫به‪ ،‬كما ال يصح ألحد في الدنيا أن يذكر فضل سلعة دون أن يذكر الثمن ال ذي تب اع‬
‫به‪.‬‬
‫وهكذا ذكرنا فيه ما ورد في النصوص المقدسة من أنواع العقوب ات اإللهي ة‪،‬‬
‫واألعم ال المرتبط ة به ا‪ ،‬مثلم ا ن رى في ق وانين العقوب ات الدنيوي ة من رب ط ك ل‬
‫جريمة بالعقوبة المناسبة لها‪.‬‬
‫وننب ه إلى أنن ا حاولن ا الرج وع لجمي ع المص ادر المقدس ة اإلس المية وغ ير‬
‫اإلسالمية‪ ،‬باعتبارها جميعا تتفق على اإليمان بما بعد الموت‪ ،‬كما ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫الص ابِئِينَ َم ْن آ َمنَ بِاهلل َو ْاليَ وْ ِم اآْل ِخ ِر َو َع ِم َل‬
‫ارى َو َّ‬ ‫ص َ‬‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوالَّ ِذينَ هَادُوا َوالنَّ َ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ زَ نُ ونَ ﴾ [البق رة‪،]62 :‬‬ ‫ص الِحًا فَلَهُ ْم أَجْ ُرهُ ْم ِعنْ َد َربِّ ِه ْم َواَل َخ وْ ٌ‬‫َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ص ا َرى َمن آ َمنَ بِاهلل َواليَ وْ ِم‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الص ابِئونَ َوالن َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وق ال‪﴿ :‬إِن ال ِذينَ آ َمن وا َوال ِذينَ هَ ادُوا َو َّ‬ ‫َّ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ زنونَ ﴾ [المائدة‪]69 :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صالِحًا فَاَل َخوْ ٌ‬ ‫اآْل ِخ ِر َو َع ِم َل َ‬
‫وهك ذا رجعن ا في االس تدالالت العقلي ة لك ل الم دارس الفلس فية والكالمي ة‬
‫وغيرها‪ ،‬من المسلمين وغير المس لمين‪ ،‬ألن الحكم ة ض الة الم ؤمن‪ ،‬أين وج دها‪،‬‬
‫فهو أحق بها‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الفصل األول‬
‫الموت‪ ..‬والنشآت اإلنسانية‬
‫ال يمكننا اكتشاف أسرار ما بعد الموت‪ ،‬ما لم نعرف الموت نفسه‪ ،‬وه ل ه و‬
‫النهاية التي تنتهي معها الحياة‪ ،‬وتنتهى معها جمي ع أس رارها‪ ،‬أم ه و البداي ة لحي اة‬
‫جديدة‪ ،‬وبقوانين جديدة‪ ،‬نحتاج إلى التعرف عليها‪ ،‬لنعرف كيف نهيئ أنفسنا لها‪.‬‬
‫وهذا يدعونا إلى البحث عن حقيقة الحياة نفسها‪ ..‬فال يمكننا أن نعرف الموت‬
‫ما لم نعرف الحياة‪ ،‬وهل هي مختصرة في هذا الجسد الذي تنقطع صلة اإلنسان ب ه‬
‫بعد موته‪ ،‬أم أنها شيء آخر؟‬
‫وهذا يدعونا ـ أيضا ـ إلى البحث عن ه ذا الجس د ال ذي نعيش ب ه‪ ،‬وه ل ه و‬
‫نحن‪ ،‬أم أنه ليس سوى مركب لحقيقة أخرى تمثل األنا الحقيقي‪ ،‬ونحن ال نراه ا‪ ،‬ال‬
‫بسبب عدم وجودها‪ ،‬وإنم ا لكونه ا مث ل العين ال تي ن رى به ا‪ ،‬وفي نفس ال وقت ال‬
‫تستطيع أن ترى نفسها إال من خالل غيرها؟‬
‫وهك ذا يص بح البحث في الم وت وحقيقت ه مرتبط ا بالحي اة وحقيقته ا‪ ..‬وه ل‬
‫قوانين الحياة التي نعرفها قوانين الزم ة ال تنف ك عنه ا‪ ،‬أم أن هن اك ق وانين أخ رى‬
‫للحياة غير القوانين التي نعرفها؟‬
‫أو بعب ارة أخ رى‪ :‬ه ل الحي اة مختص رة في ه ذه الص ورة ال تي يتنفس فيه ا‬
‫اإلنس ان األكس وجين‪ ،‬ويش رب الم اء‪ ،‬ويأك ل الطع ام‪ ،‬ويتح رك برجلي ه‪ ،‬ويمس ك‬
‫األشياء بيديه‪ ..‬أم أنه يمكن أن تكون هناك حياة أخرى ال يحت اج فيه ا اإلنس ان‪ ،‬وال‬
‫غيره من األحياء إلى كل ذلك؟‬
‫ه ذه هي التس اؤالت ال تي ينطل ق منه ا البحث في الم وت‪ ،‬وق د أج اب عنه ا‬
‫العقل اإلنساني إجابتين متناقضتين‪:‬‬
‫أم ا األولى‪ :‬فهي إجاب ة أك ثر عقالء الع الم من الفالس فة والمفك رين ورج ال‬
‫الدين وعلى مدار التاريخ‪ ،‬وهي اعتبار الموت بداية لمرحلة جديدة‪ ،‬وأن هناك حياة‬
‫أخرى غير الحياة التي نراها‪ ،‬وأن اإلنسان ليس قاصرا على هذا الجسد‪ ،‬بل الجس د‬
‫ليس سوى مركب من مراكبه التي يستبدلها بغيرها بعد أن تنتهي صالحيتها‪.‬‬
‫وأما الثانية‪ :‬فهي إجابة بعض العقالء والعلم اء أيض ا‪ ..‬وهم مح دودون ج دا‬
‫مقارن ة ب األولين‪ ..‬وي رون أن للحي اة ص ورة واح دة هي ال تي نراه ا في المعام ل‬
‫البيولوجية‪ ..‬وأن ما عداها هو الموت المطبق‪ ،‬والذي يعني العدم المطبق‪.‬‬
‫ولألسف فإن هذه النظرة الثانية مع افتقارها لكل األدوات العلمية‪ ،‬ومخالفته ا‬
‫لكل العقول‪ ،‬وعلى مدار التاريخ‪ ،‬صارت توصف بالعلمية‪ ،‬وصار لها امتداد كب ير‬
‫في الواقع‪ ،‬وهو ما هيأ األرضية لإللحاد‪ ..‬ذلك أن إنكار حي اة أخ رى خ ارج نط اق‬
‫المادة يستدعي بالضرورة اإللحاد‪..‬‬

‫‪14‬‬
‫والمشكلة األكبر ليس في تبني هذه الجه ة لتل ك الرؤي ة والموق ف من الحي اة‬
‫والموت‪ ،‬وإنما في احتكارها للعلم‪ ،‬وتوهمها أن الحقيقة محصورة فيما تفكر فيه‪ ،‬أو‬
‫فيما تكشفه لها المخابر والمعامل‪.‬‬
‫ول ذلك نراه ا تس تعلي على ك ل ال رؤى ال تي تخالفه ا‪ ،‬وتتهمه ا بالخراف ة‪،‬‬
‫وتخرجها من نطاق العلمية‪ ،‬وكأنها المسؤولة عن العلم‪ ،‬والمفوض له ا التمي يز بين‬
‫ما هو علم‪ ،‬وما هو خرافة‪ ،‬م ع العلم أن كب ار العلم اء والعقالء على م دار الت اريخ‬
‫يخالفونها في هذه الوجهة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على هذا االس تعالء م ا نقلت ه كب ار وس ائل اإلعالم عن هوكين غ‬
‫وموقف ه من الجن ة‪ ،‬فق د أورد موق ع (‪ )CNN‬اإلخب اري الت ابع ألك بر ش بكة قن وات‬
‫أمريكية هذا الخبر وبهذا العنوان المثير [هوكين غ‪ :‬ال وج ود للجن ة والحي اة اآلخ رة‬
‫قصة خرافية]‪ ،‬ثم أوردت الخ بر‪ ،‬وك أن هوكين غ اكتش ف دواء عج ز األطب اء عن‬
‫اكتشافه‪ ،‬حيث ورد في الخبر‪( :‬مفهوم [الجنة] أو أي نوع من الحياة اآلخ رة عب ارة‬
‫عن [قصة خرافية] هذا ما قاله عالم الفيزياء البريطاني الش هير س تيفن هوكين غ في‬
‫مقابلة صحفية هذا االسبوع‪ ،‬وس ط احتم ال أن تث ير تص ريحاته ج دالً واس عا ً آخ ر‬
‫خصوصا ً بين رجال الدين والالهوت‪ ..‬وأض اف هوكين غ في المقابل ة ال تي نش رتها‬
‫صحيفة الغارديان البريطانية األحد‪( :‬أنا أعتبر الدماغ كجهاز كم بيوتر يتوق ف عن‬
‫العمل عندما تفشل مكوناته)‪ ،‬مض يفاً‪( :‬ليس هن اك من جن ة أو حي اة آخ رة ألجه زة‬
‫كمبيوتر محطمة‪ ،‬وهي أشبه بقصة خرافية للناس الذين يخشون من الظالم)(‪)1‬‬
‫هذا ما نقلته هذه القناة اإلخبارية التي يتابعه ا مئ ات الماليين‪ ،‬ول و أنه ا نقلت‬
‫كالم كل العلماء في المسألة لكان مقبوال‪ ،‬لكن اهتمامها ا لخاص برؤية هوكين غ م ع‬
‫تلك الهال ة العظمى ال تي أعطيت ل ه‪ ،‬ح ول األم ر من موق ف شخص ي إلى مس ألة‬
‫علمية‪ ،‬يستثمر فيها العلم ـ وبطريقة خاطئة ـ لغرس أيديولجيات اإللحاد‪.‬‬
‫ولذلك نحاول في هذا الفصل بيان مدى تهافت التصورات ال تي يعتم د عليه ا‬
‫المنكرون للعالم اآلخر‪ ،‬والذين يحكمون على الحياة وفق م ا يرون ه ويعيش ونه‪ ،‬من‬
‫غير إعطائها فرصة أخرى لتعبر عن نفسها بطريقة جديدة‪.‬‬
‫ومن خالل استقرائنا لألدلة التي يمكن اعتمادها في هذا الباب‪ ،‬فق د رأين ا أن ه‬
‫يمكن تقسميها إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫أولها ـ براهين الفطرة‪ :‬ونقصد بها تلك األدلة النابعة من عالم النفس‪ ،‬وال ذي‬
‫دل عليه الواقع‪ ،‬ولجميع البشر‪ ،‬وفي جميع فترات التاريخ‪.‬‬
‫ثانيها ـ ب راهين ال دين‪ :‬ونقص د به ا تل ك األدل ة ال تي اتفقت عليه ا األدي ان‪،‬‬
‫وخصوصا اإلسالم باعتباره الدين المهيمن عليها‪ ،‬والشارح لحقائقها‪.‬‬
‫ثالثه ا ـ ب راهين العقل‪ :‬ونقص د به ا تل ك األدل ة ال تي نص عليه ا الفالس فة‬
‫والمتكلمون‪ ،‬ودلت عليها العقول السليمة التي لم تدنس بدنس اإللحاد‪.‬‬
‫‪ )(1‬هوكين غ‪ :‬ال وج ود للجن ة والحي اة اآلخ رة قص ة خرافي ة‪ ،‬موق ع (‪ )CNN‬اإلخب اري‪ ،‬الس بت‪18 ،‬‬
‫حزيران‪/‬يونيو ‪.2011‬‬

‫‪15‬‬
‫رابعا ـ ب راهين العلم‪ :‬ونقص د به ا تل ك األدل ة ال تي دل العلم المتواض ع من‬
‫خاللها على أن الحياة أكبر من أن تختصر فيما نعرفه منها‪.‬‬
‫أوال ـ الموت‪ ..‬وبراهين الفطرة‪:‬‬
‫ْص رُونَ ﴾‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫﴿وفِي أ ْنف ِس ُك ْم أفَال تُب ِ‬ ‫ويشير إلى هذا الن وع من األدل ة قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿س نُ ِري ِه ْم آيَاتِنَ ا فِي اآْل فَ ِ‬
‫اق َوفِي أ ْنفُ ِس ِه ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أنَّهُ‬ ‫(الذاريات‪ ،)21:‬وقول ه‪َ :‬‬
‫ف بِ َربِّكَ أَنَّهُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ (فصلت‪)53:‬‬‫ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ‬
‫ْال َح ُّ‬
‫وهو من البراهين التي استدل بها الفالسفة وغ يرهم‪ ،‬ويمكن ألي ش خص أن‬
‫يكتشفها في نفسه‪ ،‬فاهلل تعالى أودع فينا من المعارف ما نتفق عليه جميعا‪.‬‬
‫ومن أكبر األدلة عليها أننا نجد الشيخ الكبير‪ ،‬والذي ق د ه رم جس ده‪ ،‬وانح ل‬
‫أكثر خالياه ال يزال يملك في نفسه ومشاعره كل همم الشباب ورغباتهم‪ ..‬بل إننا قد‬
‫نجده يخطط وي دخر لس نوات كث يرة ال يطم ع ألن يعيش له ا‪ ..‬ول و أن نفس ه ك انت‬
‫تابعة لجسده‪ ،‬لما فكر مثل هذا التفكير‪ ،‬وال هم بمثل هذه الهمم‪.‬‬
‫وهكذا نرى في النفس اإلنسانية تطلع ا للخل ود وش وقا إلي ه‪ ..‬ول ذلك يس تعمل‬
‫اإلنس ان ك ل الوس ائل للف رار من الم وت‪ ،‬ومن أس بابه‪ ..‬وه ذه الرغب ة ال يمكن أن‬
‫تكون ناشئة عن ف راغ‪ ..‬ذل ك أن لك ل رغب ة من الرغب ات الموج ودة في النفس م ا‬
‫يغطيها‪ ،‬ويلبي حاجتها‪.‬‬
‫فالعطش والرغب ة في الم اء‪ ..‬دلتن ا على وج ود الم اء‪ ..‬والرغب ة في الطع ام‬
‫دلتن ا على وج ود ك ل األطعم ة ال تي نش تهيها‪ ،‬وبحس ب األذواق ال تي ركبت في‬
‫طباعنا‪..‬‬
‫وهكذا نجد كل الرغبات لها ما يلبيها في الواقع‪ ،‬وبأنواع كث يرة ج دا‪ ..‬تف وق‬
‫حد الضرورة والحاجة‪..‬‬
‫ومثل هذا الرغبة في الخل ود والس عادة األبدي ة‪ ..‬فهي موج ودة فين ا‪ ،‬ويك ذب‬
‫على نفسه من يزعم عدم إحساسه بها‪ ..‬ولذلك كانت هذه الرغبة دليال على وجود ما‬
‫يمثلها في الواقع‪ ..‬مثلما نستدل بوجود الماء والطعام وكل ما نشعر بحاجتنا إليه‪.‬‬
‫بل إن الشعور بالرغبة في الخلود أعظم من كل الرغبات‪ ..‬ول ذلك لم يؤس س‬
‫الطب وال كل العلوم المرتبطة به إال للسعي لتحقيق بعض متطلبات تلك الرغبة‪.‬‬
‫وق د أش ار إلى ه ذا المع نى ب ديع الزم ان النورس ي بقول ه‪( :‬ي رى العلم اء‬
‫المحققون أن أفكار البش ر وتص وراتِه اإلنس انيةَ ال تي ال تتن اهى المتولّ دةَ من آمال ه‬
‫غ ير المتناهي ة‪ ،‬الحاص لةَ من ميول ه ال تي ال تُح د‪ ،‬الناش ئةَ من قابليات ه غ ير‬
‫المحصورة‪ ،‬المندمجةَ في استعداداته الفطرية غير المحدودة‪ ،‬المندرج ةَ في ج وهر‬
‫روحه‪ ،‬كلُّ منها تم ّد أص اب َعها فتش ير وتح دُق ببص ِرها فتتو ّج ه إلى ع الم الس عادة‬
‫األبدية وراء عالم الشهادة هذا‪ .‬فالفطرةُ التي ال تك ذب أب دا وال تي فيه ا م ا فيه ا من‬
‫مي ٍل شديد قطعي ال يتزحز ُح إلى الس عادة األخروي ة الخال دة تعطي للوج دان حدس ا‬

‫‪16‬‬
‫األبدية)(‪)1‬‬ ‫قطعيا على تحقق الحيا ِة األخرى والسعادة‬
‫دار الدنيا القصيرة ه ذه ال تكفي ـ كم ا أنه ا ليس ت ظرف ا ـ‬‫إن َ‬‫ويقول‪( :‬نعم‪ّ ،‬‬
‫وإثماره ا‪ ،‬فالب ّد أن‬
‫ِ‬ ‫إلظهار ما ال يح ّد من االستعدادات المندمجة في روح اإلنس ان‬
‫إن ج وهر اإلنس ان عظيم‪ ،‬ل ذا فه و رم ز‬ ‫يُر َسل هذا اإلنسان إلى ع الم آخ ر‪ ..‬نعم‪ّ ،‬‬
‫وإن ماهيتَ ه عالي ة وراقي ة؛ ل ذا أص بحت جنايتُ ه عظيم ة؛ فال‬‫لألبدية ومر ّشح له ا‪ّ .‬‬
‫يشبه الكائنات األخرى‪ ،‬وإن نظا َمه دقيق ورائع‪ ،‬فلن تك ونَ نهايتُ ه دون نظ ام‪ ،‬ولن‬
‫يُه َمل ويذهب عبثا‪ ،‬ولن يُحكم علي ه بالفن اء المطل ق ويه رب إلى الع دم‪ .‬وإنم ا تفتح‬
‫جهن ُم أفواهَها فاغرةً‪ ..‬تنتظره‪ ..‬والجنة تبسط ذراعيها الحتضانه‪)2()..‬‬
‫وه ذا ال دليل يش به كث يرا ال دليل األنطول وجي ألنس لم وديك ارت‪ ،‬ودلي ل‬
‫الص ديقين للف ارابي وابن س ينا والمال ص درا‪ ..‬فك ل ه ذه األدل ة تعتم د على تل ك‬
‫الحقائق التي ركزت في نفس اإلنسان‪ ،‬فأصبحت من الب ديهيات ال تي ال يحت اج إلى‬
‫االستدالل لها‪.‬‬
‫وكمث ال على ذل ك ف إن ال دليل ال ذي ينص على أن (الموج ود ال ذي ال يمكن‬
‫تصور شيء أعظم منه ال يمكن أن يوجد في العق ل وح ده‪ ،‬وبالفع ل‪ ،‬ح تى إذا ك ان‬
‫موجودا في العقل وحده‪ ،‬فمن الممكن أن نتصور موجودا مثله ل ه وج ود في الواق ع‬
‫أيض ا‪ ،‬وه و بالت الي أعظم من ه‪ ،‬وعلي ه‪ ،‬إذا ك ان موج ودا في العق ل وح ده‪ ،‬ف إن‬
‫الموجود الذي ال يمكن تصور شيء أعظم منه سيكون من طبيعة تس تلزم أن يك ون‬
‫باإلمكان تصور شيء أعظم منه) (‪)3‬‬
‫والذي ينسب إلى أنسلم يمكن تطبيقه هنا‪ ،‬فاإلنسان يش عر ب أن ه ذه الحي اة ال‬
‫تكفي لتلبية رغباته الكثيرة‪ ،‬وال تفي ب رد حقوق ه المس تلبة‪ ،‬ول ذلك يتطل ع إلى حي اة‬
‫أخرى‪ ،‬يجد في نفسه شوقا كبيرا إليها‪.‬‬
‫وهذه ليست عقدة نفسية كما يتوهم الذين يجعلون من الحياة بعد الم وت نوع ا‬
‫من التفكير الرغبوي‪ ،‬ذلك أن هذه الرغبة متفق عليها بين البشر جميعا‪ ،‬وفي جمي ع‬
‫العصور‪ ،‬وهي تدل على أن لها واقعا لم نكتشفه ألننا لم نرحل بعد إلى ذلك العالم‪.‬‬
‫ولو كانت تفكيرا رغبويا النحصرت في أش خاص دون أش خاص‪ ،‬أو طائف ة‬
‫دون طائفة‪ ،‬مثلما نرى الكث ير من النزغ ات الش اذة‪ ،‬أو العق د النفس ية ال تي يح اول‬
‫المرضى أن يحولوا منها حقائق واقعية‪ ،‬ولو كانت كذلك الشترك البش ر جميع ا في‬
‫االنفعال لها‪ ،‬مثلما يشتركون في عطشهم وجوعهم وأشواقهم المختلفة‪.‬‬
‫بناء على هذا سنذكر هنا نماذج مختلفة تدل على مدى فطري ة ه ذا االعتق اد‪،‬‬
‫وشموله لكل الناس قديما وحديثا‪ ،‬ومن يوصفون بالخرافة‪ ،‬أو من يوصفون بك ونهم‬
‫من أهل العلم‪.‬‬

‫‪ )(1‬الكلمات‪ ،‬ص‪.607‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.612‬‬
‫‪ )(3‬إميل برهييه في تاريخ الفلسفة (‪)3/51‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ .1‬الموت‪ ..‬وتصورات الحضارات القديمة‪:‬‬
‫من المالحظات الجديرة باالهتمام أننا نرى كل الحضارات تعتق د الحي اة بع د‬
‫الموت‪ ،‬وبوجود الروح‪ ،‬وإن كانت تختل ف في تص وير ذل ك‪ ،‬بن اء على الخراف ات‬
‫التي صورها لها الخيال أو رجال الدين‪ ،‬وأكبر دلي ل على ذل ك تل ك الطق وس ال تي‬
‫تقام للموتى‪ ،‬ولم تكن لتقام لو كان الموت انفصاال نهائيا عن الحياة‪ ،‬وبكل معانيها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك الحض ارة المص رية القديم ة‪ ،‬وال تي ك انت تق وم على‬
‫الكثير من المعتقدات‪ ،‬وكان من أهمها تلك المعتقدات المرتبطة بالحياة بع د الم وت‪،‬‬
‫يقول بعض الباحثين في ذلك‪( :‬إيمان المصريين بوالدة جديدة بعد الم وت أص بحت‬
‫القوة الدافعة وراء ممارسات جنازة خاصة بهم‪ .‬وكأن الموت مجرد انقطاع مؤقت‪،‬‬
‫بدالً من التوق ف الكام ل عن الحي اة‪ ،‬وأن ه يمكن ض مان الحي اة األبدي ة عن طري ق‬
‫وسائل مثل التقوى لآللهة‪ ،‬والحفاظ على الشكل المادي من خالل التحني ط‪ ،‬وتوف ير‬
‫التماثيل والمعدات الجنائزية األخرى)(‪)1‬‬
‫وينقل عن باحث آخر قوله‪( :‬وقد تأثر موقف المص ريين الق دماء من الم وت‬
‫بإيمانهم بالخلود‪ ،‬واعت بروا الم وت بمثاب ة انقط اع م ؤقت‪ ،‬ب دالً من توق ف الحي اة‪.‬‬
‫ولضمان استمرارية الحياة بعد الموت‪ ،‬ألقى الناس تحية لآللهة‪ ،‬سواء أثن اء حي اتهم‬
‫أو بعدها على األرض‪ .‬عندما ماتوا‪ ،‬كانوا محنطين‪ ،‬حتى ال روح س وف تع ود إلى‬
‫الجس م‪ ،‬مم ا يعطيه ا التنفس والحي اة‪ ،‬وق د وض عت المع دات المنزلي ة والطع ام‬
‫والشراب على تقديم ط اوالت خ ارج غرف ة ال دفن لتوف ير احتياج ات الش خص في‬
‫الع الم بع د ال دفن‪ .‬كم ا تم تض مين النص وص الجنائزي ة المكتوب ة ال تي تتك ون من‬
‫نوبات أو صالة لمساعدة الموتى في طريقهم إلى عالم ما بعد الحرب)(‪)2‬‬
‫ويذكر الباحثون أن المصريين في حضارتهم القديمة كانوا يؤمن ون ب البعث‪،‬‬
‫وأن معتقداتهم تذكر أنه يمكن لإلنسان أن يحاف ظ على حيات ه بع د الم وت إذا حاف ظ‬
‫على كينونته‪ ،‬وهي تتركب عندهم من ‪ 4‬أجزاء‪ :‬االسم (رين)‪ ،‬ال روح (ب ا)‪ ،‬الظ ل‬
‫(شيوت) والنفس (كا)‪.‬‬
‫وجميع هذه األجزاء ـ كم ا ي رى المص ريون الق دامى ـ (تول د م ع اإلنس ان‪،‬‬
‫فاالسم والروح والظل والنفس ترافقه مدى الحياة وما بعد الحي اة كج زء من كيان ه‪،‬‬
‫وعن د الم وت تبقى ه ذه المركب ات مالزم ة للميت‪ ،‬وتبقى الـ [با]؛ أي ال روح‪ ،‬حية‬
‫حتى بعد موت الجسد‪ .‬وقد صوّرها المصريون في رسوماتهم على هيئة جسد طائر‬
‫برأس بشري‪ ،‬وهي تطير منتقلة ما بين العالم المادي والعالم األخروي‪ ،‬تتماهى مع‬
‫حركة الشمس‪ ،‬تحلق في بزوغها ثم تعود إلى الق بر والع الم الس فلي عن د الغ روب‪.‬‬
‫وقد آمن المصريون بأن الـ [با] ال يمكنها العودة إلى القبر م ا لم تتع رف على جس د‬

‫‪ )(1‬إشكالية الموت في الديانات السماوية واألرضية‪ ،‬يسرى وجيه الس عيد‪ ،‬مجل ة ذوات الص ادرة عن مؤسس ة‬
‫مؤمنون بال حدود‪ ،‬عدد ‪.43‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬وقد نقلت النص عن موسوعة ستانفورد للفلسفة‪ ،‬في تعريف الموت‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫الميت‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬ال يمكن للمرء أن يعود إلى الحياة إذا فني جس د الميت ولم تتع رف‬
‫الروح إليه‪ .‬ولهذا حرص المصريون على المحافظ ة على الجس د‪ ،‬فمارس وا مهم ة‬
‫التحنيط التي تخدم المرء في ع ودة روح ه إلى جس ده بع د الم وت؛ فب دون جس د ال‬
‫يوجد اسم وال ظل وال نفس‪ ،‬وهي أمور يحتاجها الميت للمثول أم ام محكم ة اآلله ة‬
‫للمحاسبة على أفعاله‪ ،‬ومن ثم ي ُبعث من جديد في الحياة األخرى)(‪)1‬‬
‫وهم يربطون هذه المعتقدات ال تي تختل ط فيه ا الحقيق ة بالخراف ة ب الكثير من‬
‫السلوكات التي يمتزج فيها العقل مع الشعوذة‪ ،‬وقد وصلنا ما يس مى بكت اب الم وتى‬
‫الفرعوني‪ ،‬والذي يعرف ببردية [ح ونفر]‪ ،‬وه و يتك ون من مجموع ة مفص لة من‬
‫التعاويذ والتمائم السحرية التي كانت تنقش على ج دران المق ابر أو على الت وابيت‪،‬‬
‫وذلك إب ان عص ر الدول ة القديم ة (م ا بين ‪ 2780‬ق‪.‬م و‪ 2263‬ق‪.‬م)‪ ،‬لتتح ول إلى‬
‫بردية مكتوبة خالل عصر الدول ة الوس طى والحديث ة (م ا بين ‪ 2134‬ق‪.‬م و‪1069‬‬
‫ق‪.‬م)‪ ،‬حيث تكتب نص وص التعاوي ذ وتوض ع البردي ة في الت ابوت إلى ج انب‬
‫المومياء‪.‬‬
‫وق د اس تغل الكهن ة ه ذه المعتق دات في طلب األم وال الكث يرة لكتاب ة تل ك‬
‫التعويذات والتمائم التي تنجي صاحبها بعد الموت‪ ..‬يقول بعض الباحثين‪( :‬ولم يكن‬
‫هذا األمر متوفراً لكل المصريين‪ ،‬ﻷنه مكلف جداً‪ .‬لذلك‪ ،‬اختص ت ب ه طبق ة معين ة‬
‫من النبالء والموظفين وخدام اآللهة في المعبد‪ .‬تل ك التعاوي ذ والتم ائم ال تي يحمله ا‬
‫الكت اب هي تعليم ات إرش ادية تم ّكن الميت من تخطي العقب ات والمخ اطر ال تي‬
‫ستصادف روحه في أثن اء رحلت ه إلى الحي اة األخ رى‪ ،‬وتدل ه أيض ا ً على الوس ائل‬
‫التي يتعين عليه أن يستخدمها‪ ،‬ليتمم ه ذه الرحل ة بنج اح من دون أن يتع رض ألي‬
‫سوء)(‪)2‬‬
‫وتحفظ لنا الكتب المصرية القديمة الكثير من األدعية والتعويذات الدالة على‬
‫اعتقادهم بالقوانين التي تحكم عالم ما بعد الموت‪ ،‬ومنها أنهم كانوا ي رددون‪( :‬لم أقم‬
‫بشر ضد الناس‪ ،‬لم أط َغ على الضعفاء‪ ،‬لم أقم بأي شيء باطل‪ ،‬لم أت رك أي إنس ان‬
‫ي إنسان أن يشتغل أكثر من م ا ه و ق ادر علي ه‪ ،‬لم أت رك أيّ ا ً ك ان‬
‫جائع‪ ،‬لم أرغم أ ّ‬
‫يبكي ويتألم من شيء قمت به‪ ،‬أنا نظيف أنا نظيف أنا نظيف)(‪)3‬‬
‫ونفس الشيء نجده في الحضارة السومرية‪ ،‬وقد قال بعض الباحثين في ذلك‪:‬‬
‫(إن مصادر معتقدات بالد ما بين النه رين في اآلخ رة ت أتي من ف ترات متم يزة في‬
‫ت اريخ بالد م ا بين النه رين‪ ،‬وتش مل الثقاف ات الس ومرية واألكادي ة والبابلي ة‬
‫واآلشورية‪ .‬لذلك‪ ،‬يجب أن نكون حريصين على عدم اعتبار معتقدات ما بعد النه ر‬

‫‪ )( 1‬هاجس البعث‪ :‬الموت والقيامة في الحضارات اإلنسانية‪ ،‬أحالم رحال‪ ،‬مدونة األجنحة والنور‪ ،‬على الرابط‬
‫التالي‪https://ahlam002.wordpress.com :‬‬
‫‪ )(2‬كتاب الموتى الفرعوني وأسطورة البعث من الموت والحساب أمام اآلله ة‪ ،‬مه دي ب و عبي د‪ ،‬موق ع ش باب‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬على الرابط التالي‪.http://ar.mideastyouth.com/?p=47790 :‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫في بالد ما بين النهرين ثابتة أو موحدة‪ .‬ومثل كل النظم الثقافية‪ ،‬تحولت أفك ار بالد‬
‫م ا بين النه رين من الحي اة اآلخ رة على م ر ال زمن‪ .‬كم ا تب اينت المعتق دات‬
‫والممارسات المتعلقة بالحياة اآلخرة مع الوضع االجتم اعي واالقتص ادي وتختل ف‬
‫في النم اذج الديني ة الرس مية والش عبية‪ .‬وم ع ه ذا‪ ،‬ف إن االس تمرارية الثقافي ة بين‬
‫الحضارة السومرية وخلفائها تسمح بتوليف مصادر متنوعة من أج ل توف ير مقدم ة‬
‫عمل لمفاهيم بالد ما بين النهرين في الحياة اآلخرة)(‪)1‬‬
‫ومن األس اطير ال تي ك انت تنتش ر إب ان الحض ارة الس ومرية‪ ،‬والمرتبط ة‬
‫بالحياة بعد الموت تلك األسطورة التي تذكر أن (اإلله الراعي دوم وزي (تم وز في‬
‫الصيغة البابلية) كان قد تجنب الوق وع في ش باك اإلله ة عش تار‪ ،‬فس لمته عقاب ا ً ل ه‬
‫لناظر العالم السفلي‪ .‬وبعد حين شعرت عشتار بالندم على فعلتها‪ ،‬فقررت إنقاذه من‬
‫الموت‪ .‬عقدت عشتار صفقة مع آلهة العالم السفلي إلعادة دوم وزي‪ ،‬على أن يح ل‬
‫أحد مكانه لبضعة أشهر يعود فيها إلى الحياة‪ ،‬ثم بع د ف ترة ي نزل للع الم الس فلي من‬
‫جديد‪ .‬تطوعت كوشتينانا (أخت دوموزي) لفدائه‪ ،‬حيث تحل محله في العالم السفلي‬
‫لستة أشهر من كل عام‪ ،‬ويتمتع هو بحريته في هذه الم دة على س طح األرض‪ .‬ويتم‬
‫ذلك عن طريق طائر الفنيق أو العنقاء‪ ،‬كرمز لعودته للحياة)(‪)2‬‬
‫وبناء على هذه األسطورة أص بح ط ائر الن ار المس مى بط ائر الف نيق رم زاً‬
‫للبعث والعودة للحياة‪ ،‬وبعدها أصبح الكنعانيون يحتفلون ك ل ع ام في بداي ة الربي ع‬
‫بعي د ع ودة دوم وزي (تم وز) للحي اة‪ ،‬حيث ت تزامن عودت ه م ع مواعي د الزراع ة‬
‫عندهم‪ ،‬فأص بح عي د عودت ه رم زاً النبع اث ال زرع وع ودة العش ب األخض ر إلى‬
‫الحياة من بعد الموت‪ ،‬رمزاً للخصوبة والتناسل والتجدد‪ ،‬واستعملوا ال بيض كرم ز‬
‫لقيامة ت ّموز‪ ،‬حيث يخرج الكتكوت (الصوص) من البيضة‪ ،‬بمثل ما يخ رج ال زرع‬
‫من األرض وتخرج الحياة من القبر(‪.)3‬‬
‫وه ذه األس طورة في حقيقته ا تش ير إلى م ا ت دل علي ه الكث ير من المظ اهر‬
‫ار َرحْ َم ِ‬
‫ت هللا‬ ‫الطبيعية على وجود الحياة بعد الموت‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬فَا ْنظُرْ إِلَى آثَ ِ‬
‫ك لَ ُمحْ ِي ْال َم وْ تَى َوهُ َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر ﴾‬ ‫َك ْيفَ يُحْ ِي اأْل َرْ َ‬
‫ض بَعْ َد َموْ تِهَ ا إِ َّن َذلِ َ‬
‫[الروم‪]50 :‬‬
‫وهكذا نجد ك ل ال ديانات الس ماوية تتب نى نفس الموق ف من‬
‫الموت‪ ،‬وأنه ليس النهاية‪ ،‬بل هو البداية لحياة جديدة‪ ،‬لها قوانينها‬
‫الخاصة‪ ،‬كما ورد في اإلنجيل‪( :‬من يأك ل جس دي ويش رب دمي‬

‫‪ )(1‬انظ ر‪ :‬مق االً ح ول ع ادات بالد م ا بين النه رين القديم ة في الحي اة اآلخ رة‪ ،‬بقلم م‪ .‬تشوكس ي‪ ،‬في ‪20‬‬
‫حزيران ‪ /‬يونيو ‪ ،2014‬نقال عن المرجع السابق‪..‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬هاجس البعث‪ :‬الموت والقيامة في الحضارات اإلنسانية‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫يثبت في وأنا فيه وبه ننال الحياة األبدية) (يو‪.)56 :6‬‬
‫وهك ذا نج د ال دروز وال ديانات الهندي ة ومنه ا البوذي ة والهندوس ية‪ ،‬ت ؤمن‬
‫بالتناسخ‪ ،‬أي عودة الروح بعد الموت في خلق جدي د‪( .‬إذ ي رى ال دروز على س بيل‬
‫المث ال أن روح اإلنس ان الميت تنتق ل بع د وفات ه إلى جس د طف ل ح ديث ال والدة‪،‬‬
‫وتس تمر بالتناس خ من خَ ل ق آلخ ر ح تى تحين القيام ة فتجتم ع األرواح وتص عد‬
‫للمحاسبة)(‪)1‬‬
‫‪ .2‬الموت‪ ..‬وتصورات الحضارة الحديثة‪:‬‬
‫على الرغم من فشو اإللح اد والمادي ة عن د أك ثر الفالس فة والمفك رين ال ذين‬
‫يدعون تمثيل الحضارة الحديثة‪ ،‬نتيجة موقفهم السلبي من رجال الدين الذي أس اءوا‬
‫استخدام الدين والتعبير عنه‪ ،‬إال أننا مع ذلك نجد رغبة كب يرة عن دهم في تحق ق م ا‬
‫يقوله المؤمنون من الحياة بعد الموت‪.‬‬
‫وقد عبر عن تلك الرغبة الفطري ة البروفيس ور (كنجه ام) في كتاب ه [ ‪Plato's‬‬
‫‪ :]Apalogy‬فقال‪( :‬إن عقيدة الحياة بعد الموت (ال أدرية مفرحة)(‪)2‬‬
‫وقد علق على هذه العبارة وحيد ال دين خ ان بقول ه‪( :‬من الممكن اعتب ار ه ذا‬
‫القول خالصة أفكار فالس فتنا الملح دين المعاص رين؛ فهم ي رون أن عقي دة اآلخ رة‬
‫اخترعته ا عقلي ة االنس ان الباحث ة عن ع الم ح ر‪ ،‬مس تقل عن ح دود ه ذا الع الم‪،‬‬
‫ومشكالته‪ ،‬مليء باألفراح‪ .‬وانما يدفعه إلى االيمان بهذه العقي دة أمل ه في الحص ول‬
‫على حياته المفضلة‪ ،‬التي الجهد فيها والكدح‪ ..‬وأن هذه العقيدة تنتهي باالنسان إلى‬
‫عالم مثالي وخيالي‪ ،‬حيث يحلم بأنه سوف يظفر به بعد الم وت‪ .‬ولكن الحقيق ة ـ كم ا‬
‫يراها الفالسفة ـ أن الوجود لشيء كهذا العالم الثاني في األمر االقع!)(‪)3‬‬

‫ثم أضاف ردا عليهم‪( :‬وفي رأيي‪ :‬أن هذا المطلب االنساني ـ في ح د ذات ه ـ‬
‫(دليل نفسي) قوي على وجود عالم آخر‪ ،‬كالظمأ‪ ،‬فهو يدل على الماء‪ ،‬وعلى عالقة‬
‫خاصة باطنة بين الماء وبين االنسان‪ .‬وهكذا فان تطلع االنسان ـ نفس يا ـ إلى ع الم‬
‫آخر دليل في ذاته على أن شيئا مثل ذلك موجود في الحقيقة‪ ،‬أو أن ه ـ على االق ل ـ‬
‫خليق أن يوجد‪ .‬وه ذا المطلب النفس ي يؤك د عالق ة مص يرنا به ذه الحقيق ة‪ ،‬وي دلنا‬
‫التاريخ على وجود هذه الغريزة االنسانية منذ أقدم العص ور على مس توى انس اني‪،‬‬
‫وهو أمر الأستطيع فهمه‪ :‬كيف يمكن أن يؤثر أمر باطل على البشر في ه ذا الش كل‬
‫األبدي‪ ،‬وعلى مستوى انس اني؟ وه ذا الواق ع نفس ه ي دلنا على قرين ة قوي ة بامك ان‬
‫وجود العالم اآلخر‪ .‬وانكار هذه الحاجة النفسية‪ ،‬ب دون أدل ة‪ ،‬يعت بر جهال وتعص با)‬
‫(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬نقال عن اإلسالم يتحدى‪ ،‬ص‪.92‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.92‬‬

‫‪21‬‬
‫وبين م دى التن اقض ال ذي يق ع في ه المنك رون له ذه الحقيق ة الفطري ة ال تي‬
‫يجدونها في أنفسهم‪ ،‬ب ل ال يملك ون الف رار منه ا‪ ،‬فق ال‪( :‬إن ال ذين ينك رون حاج ة‬
‫نفسية عظيمة مثل هذه زاعمين أنه ا باطل ة‪ ،‬هم من أعج ز الن اس حق ا عن تفهم أي‬
‫(واقع) على سطح األرض بعد هذا‪ ..‬ولو ك انوا يزعم ون الفهم في الواق ع فالأدري‬
‫بأي دليل؟‪ ..‬وعن أي برهان؟‪ ..‬ولو كانت هذه األفكار نتاج المجتمع‪ ،‬كما يزعمون‪،‬‬
‫فكيف التزال تطابق التفكير االنساني‪ ،‬بهذه الصورة المدهش ة‪ ،‬من اق دم العص ور؟‬
‫هل تجدون مثاال ألية أفكار إنسانية أخرى ظلت باقية إلى العص ر الحاض ر‪ ،‬وبه ذا‬
‫التسلس ل الرائ ع من ذ أل وف الس نين؟ ه ل يس تطيع أذكى اذكي ائهم أن يخ ترع فك را‬
‫واهيا‪ ،‬ثم يدخله إلى النفس االنسانية‪ ،‬وكأنه موجود بها منذ األزل؟)(‪)1‬‬
‫وينق ل وحي د ال دين خ ان إلثب ات ه ذا ال دليل الكث ير من النق ول من العلم اء‬
‫الغربيين‪ ،‬منها قول األستاذ [وينوود ريد]‪( :‬إنه ألمر ه ام ي دعونا إلى التفك ير فيم ا‬
‫اذا كانت لنا عالقة شخصية مع االله؟ هل هناك عالم غير عالمنا ه ذا؟ وه ل س وف‬
‫نلقى جزاء أعمالنا في ذلك العالم؟ ان هذا السؤال ليس بعقدة فلسفية عظيمة فحسب‪،‬‬
‫وانما هو في نفس الوقت أعظم أسئلتنا العملية أيضا‪ .‬انه س ؤال تتعل ق ب ه مص الحنا‬
‫الكثيرة؛ فحياتنا الراهنة قصيرة جدا‪ ،‬أفراحها عادية موقوتة‪ ،‬آذ اننا عندما نظفر بما‬
‫نحلم به‪ ،‬يفاجئنا الموت‪ ،‬ول و اس تطعنا االهت داء إلى طري ق خاص ة تجع ل أفراحن ا‬
‫دائمة وأبدية‪ ،‬فلن يرفض العمل به أحد غير البله والمجانين منا) (‪)2‬‬
‫ثم ذكر كيف أن هذا العالم راح يعرض عن هذا الدليل النفسي م ع قوت ه بن اء‬
‫على غلبة التفكير المادي‪ ،‬حيث أن ذلك الكاتب نفسه اس تطرد‪ ،‬ف أنكر ذل ك المطلب‬
‫النفس ي الكب ير من أج ل أم ور الوزن له ا والقيم ة؛ حيث ق ال تعقيب ا على كالم ه‬
‫السابق‪( :‬إن هذه العقيدة كانت معقولة جدا حين كن ا ال نبحث جوانبه ا بعم ق وج د‪..‬‬
‫ولكن بعد هذا البحث اتضح لن ا أنه ا أم ر س خيف‪ ،‬ويمكن إثب ات س خافته بس هولة‪،‬‬
‫فالفالح المحروم العقل الجاهل اليتحم ل مس ؤولية خطاي اه‪ ،‬وس يدخل الجن ة‪ ،‬ولكن‬
‫العب اقرة مث ل (جوت ه)‪ ،‬و(روس و)‪ ،‬س وف يح ترقون في ن ار الجحيم؛ فألن يخل ق‬
‫االنسان محروم العقل خير له من أن يكون من أمثال جوته وروسو!! ان هذا الكالم‬
‫تافه وسخيف) (‪)3‬‬
‫وه ذا الكالم الالمنطقي يش به كث يرا م ا ذك ره الق رآن الك ريم عن الولي د بن‬
‫المغيرة‪ ،‬ذلك الذي تبين له الحق‪ ،‬لكنه راح يتملص منه بأعذار واهي ة ال قيم ة له ا‪،‬‬
‫ت لَ هُ َم ااًل َممْ دُودًا (‪)12‬‬ ‫ت َو ِحي دًا (‪َ )11‬و َج َع ْل ُ‬ ‫وقد ق ال في ش أنه‪َ ﴿ :‬ذرْ نِي َو َم ْن خَ لَ ْق ُ‬
‫ط َم ُع أَ ْن أَ ِزي َد (‪َ )15‬كاَّل إِنَّهُ َك انَ‬‫ت لَ هُ تَ ْم ِهي دًا (‪ )14‬ثُ َّم يَ ْ‬ ‫َوبَنِينَ ُش هُودًا (‪َ )13‬و َمهَّ ْد ُ‬

‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.92‬‬


‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.92‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.93‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.92‬‬

‫‪22‬‬
‫صعُودًا (‪ )17‬إِنَّهُ فَ َّك َر َوقَ َّد َر (‪ )18‬فَقُتِ َل َك ْيفَ قَ َّد َر (‪)19‬‬ ‫آِل يَاتِنَا َعنِيدًا (‪َ )16‬سأُرْ ِهقُهُ َ‬
‫س َوبَ َس َر (‪ )22‬ثُ َّم أَ ْدبَ َر َو ْ‬
‫اس تَ ْكبَ َر (‪)23‬‬ ‫ثُ َّم قُتِ َل َك ْيفَ قَ َّد َر (‪ )20‬ثُ َّم نَظَ َر (‪ )21‬ثُ َّم َعبَ َ‬
‫ال إِ ْن هَ َذا إِاَّل ِسحْ ٌر ي ُْؤثَ ُر (‪ )24‬إِ ْن هَ َذا إِاَّل قَوْ ُل ْالبَ َش ِر (‪[ ﴾)25‬المدثر‪]25-11 :‬‬ ‫فَقَ َ‬
‫وهو يشبه أيضا ـ كما يذكر وحيد الدين خان ـ موق ف [الل ورد كل وين] تج اه‬
‫التحقيق العلمي الذي قام ب ه (ماكس ويول)؛ فق د زعم الل ورد أن ه اليس تطيع أن يفهم‬
‫نظرية ما إال بعد وضع نموذجها الميكانيكي‪ ،‬وبناء على ه ذا الف رض أنك ر نظري ة‬
‫ماكسويل عن البرق والمغناطيس‪ ،‬ألنها لم تحل في إحدى نماذج اللورد المادية‪.‬‬
‫وقد ذكر وحيد ال دين خ ان موق ف الع الم الكب ير (س وليفان) من ه ذا وقول ه‪:‬‬
‫(كيف يروق ألحد أن يدعي أن الطبيعة الب د أن تك ون كم ا يض عها مهن دس الق رن‬
‫التاسع عشر في معمله؟)‪ ،‬وعقب عليه قائال‪( :‬وسوف أوجه ه ذا الكالم إلى األس تاذ‬
‫(وين وود)‪( :‬كي ف يج وز لفيلس وف الق رن العش رين أن ي رى‪ :‬أن يك ون الك ون‬
‫الخارجي‪ ،‬في حقيقة األمر مطابقا لما يزعمه هو؟)(‪)1‬‬
‫ثم أضاف يقول‪( :‬إن كاتبنا لم يستطع أن يفهم أمرا في غاية البساطة‪ :‬ه و أن‬
‫الحقيقة التحتاج إلى الواقع الخ ارجي‪ ،‬وانم ا الواق ع الخ ارجي ه و ال ذي يك ون في‬
‫حاجة إلى (الحقيقة)‪ ..‬فالحقيقة أن لهذا الكون الها‪ ،‬وسوف نمثل أمامه يوم الحساب‪.‬‬
‫فالبد لكل منا ـ سواء أكان روس و أم ك ان مواطن ا عادي ا ـ أن يك ون وفي ا ومطيع ا‬
‫اللهه؛ فنجاتنا لن يحققها جحودنا‪ ،‬ب ل هي تكمن في ايمانن ا وطاعتن ا‪ ..‬والغ ريب أن‬
‫كاتبنا لم يرق له أن يطالب (جوته) و(روسو) أن يسلكا مس لك الح ق‪ ،‬وانم ا ط الب‬
‫الحق بالتغير! ولما لم يطع الح ق راح ينك ره!! وه ذا أش به بمن ينك ر ق انون حف ظ‬
‫األسرار العكس رية‪ ،‬ال ذي يك رم أحيان ا جن ديا بس يطا‪ ،‬ويع دم عالم ا ممت ازا‪ ،‬مث ل‬
‫(روزنبيرج وعقيلته الحسناء) بالكرسي الكهربائي!!) (‪)2‬‬
‫ثانيا ـ الموت‪ ..‬وبراهين الدين‪:‬‬
‫يتصور الكثير من المالحدة أو منكري المعاد بأن ال براهين الديني ة ال عالق ة‬
‫لها بالبراهين العقلية أو العلمي ة أو الفطري ة‪ ..‬وه ذا غ ير ص حيح من وج وه كث يرة‬
‫جدا‪ ،‬لعل أولها وأهما قيام البناء الديني على ضرورة وجود إله‪ ،‬وهي ضرورة تدل‬
‫عليها أدلة عقلية كثيرة‪ ،‬لم يذكرها رجال الدين فقط‪ ،‬وإنم ا ذكره ا كب ار العقالء في‬
‫العالم‪ ،‬سواء كانوا في المجال الفلسفي‪ ،‬أو المجال العلمي‪.‬‬
‫وإثب ات وج ود إل ه‪ ،‬وبتل ك الص فات ال تي ي دل عليه ا العق ل‪ ،‬وت دل عليه ا‬
‫المظاهر الكونية التي نراها كافية إلثبات المعاد‪ ،‬ومن جهات عقلية عديدة‪.‬‬
‫وهكذا فإن إثبات رساالت األنبياء عليهم السالم قائمة أيض ا على أدل ة عقلي ة‬
‫كثيرة‪ ،‬ولذلك فإن قبولهم يستدعي قبول كل م ا ج اءوا ب ه‪ ،‬ومن أهم م ا ج اءوا ب ه‪،‬‬
‫واتفقوا عليه‪ ،‬إثبات الحياة بعد الموت‪ ،‬والكثير مما يرتبط بتلك الحياة‪.‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.93‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.94‬‬

‫‪23‬‬
‫لقد ذكر القرآن الكريم ذلك‪ ،‬واعتبر هذه المسألة من أهم المسائل بعد اإليم ان‬
‫باهلل تع الى‪ ،‬وله ذا يق ترن دائم ا اإليم ان باهلل باإليم ان ب اليوم اآلخ ر‪ ،‬باعتبارهم ا‬
‫الشطران الكبيران للعقيدة التي جاء بها جميع األنبياء‪.‬‬
‫وله ذا ك ان من أول وظ ائف الرس ل عليهم الس الم التبش ير واإلن ذار‪ ،‬وهم ا‬
‫وظيفتان مرتبطتان بمصير اإلنسان بعد موته‪ ،‬قال تعالى مخبرا عن خط اب خزن ة‬
‫ت أَ ْب َوابُهَ ا‬ ‫ق الَّ ِذينَ َكفَ رُوا إِلَى َجهَنَّ َم ُز َم رًا َحتَّى إِ َذا َجا ُءوهَ ا فُتِ َح ْ‬ ‫جهنم ألهلها‪َ ﴿ :‬و ِسي َ‬
‫ت َربِّ ُك ْم َويُ ْن ِذرُونَ ُك ْم لِقَا َء يَوْ ِم ُك ْم‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َوقَا َل لَهُ ْم َخ َزنَتُهَا أَلَ ْم يَأتِ ُك ْم ُر ُس ٌل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلونَ َعلَ ْي ُك ْم آيَا ِ‬
‫ب َعلَى ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [الزمر‪]71 :‬‬ ‫ت َكلِ َمةُ ْال َع َذا ِ‬ ‫هَ َذا قَالُوا بَلَى َولَ ِك ْن َحقَّ ْ‬
‫وهكذا أخبر القرآن الكريم أن كل األنبي اء ك انوا يعلم ون بالمع اد‪ ،‬ويخ برون‬
‫أقوامهم به‪ ،‬وفي ذلك رد بليغ على من يتوهمون تطور العقائد‪ ،‬فقد ح دثنا هللا تع الى‬
‫ْض َع ُد ٌّو َولَ ُك ْم‬‫ض ُك ْم لِبَع ٍ‬ ‫ال ا ْهبِطُوا بَ ْع ُ‬ ‫عن أب البشرية آدم عليه السالم‪ ،‬وقوله له‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫ال فِيهَا تَحْ يَوْ نَ َوفِيهَا تَ ُموتُونَ َو ِم ْنهَا تُ ْخ َرجُونَ ﴾‬ ‫ين‪ ،‬قَ َ‬ ‫ع إِلَى ِح ٍ‬ ‫ض ُم ْستَقَ ٌّر َو َمتَا ٌ‬ ‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫[األعراف‪ ،]24 :‬وأخبر أن إبليس كان يعلم أن هناك مع ادا للخالئ ق‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬ربِّ‬
‫وم﴾ [الحج ر‪:‬‬ ‫ت ْال َم ْعلُ ِ‬ ‫وم ْال َو ْق ِ‬‫ك ِمنَ ْال ُمنظَ ِرينَ إِلَى يَ ِ‬ ‫فَأَن ِظرْ نِي إِلَى يَوْ ِم يُ ْب َعثُونَ قَا َل فَإِنَّ َ‬
‫‪]38 - 36‬‬
‫وأخ بر عن ن وح علي ه الس الم‪ ،‬وأن ه ق ال لقوم ه أثن اء تبلي غ رس الة هللا لهم‪:‬‬
‫ض نَبَاتًا ثُ َّم ي ُِعي ُد ُك ْم فِيهَا َوي ُْخ ِر ُج ُك ْم إِ ْخ َراجًا﴾ [نوح‪]18 - 17 :‬‬ ‫﴿ َوهللا أَنبَتَ ُكم ِّمنَ األَرْ ِ‬
‫وأخبر عن إبراهيم عليه السالم ـ وه و الن بي ال ذي تتف ق على تبجيل ه جمي ع‬
‫َطيئَتِي يَوْ َم الدِّي ِن﴾ [الش عراء‪:‬‬ ‫ط َم ُع أَن يَ ْغفِ َر لِي خ ِ‬ ‫الديانات السماوية ـ قوله‪َ ﴿ :‬والَّ ِذي أَ ْ‬
‫ي َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ يَوْ َم يَقُو ُم ْال ِح َسابُ ﴾ [إبراهيم‪]41 :‬‬ ‫‪ ،]82‬وقوله‪َ ﴿ :‬ربَّنَا ا ْغفِرْ لِي َولِ َوالِ َد َّ‬
‫ب ل إن الق رآن الك ريم قص علين ا قص ة س ؤال إب راهيم عن كيفي ة إحي اء هللا‬
‫ال‬‫بْرا ِهي ُم َربِّ أَ ِرنِي َكيْفَ تُحْ ِي ْال َم وْ تَى قَ ا َل أَ َولَ ْم تُ ْؤ ِم ْن قَ َ‬ ‫للموتى‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَا َل إِ َ‬
‫ص رْ ه َُّن إِلَيْكَ ثُ َّم اجْ َع لْ َعلَى ُك لِّ‬ ‫ط َمئِ َّن قَ ْلبِي قَا َل فَ ُخ ْذ أَرْ بَ َعةً ِمنَ الطَّي ِْر فَ ُ‬ ‫بَلَى َولَ ِك ْن لِيَ ْ‬
‫ْ‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾ [البقرة‪]260 :‬‬ ‫ك َس ْعيًا َوا ْعلَ ْم أَ َّن هللا ع ِ‬ ‫َجبَ ٍل ِم ْنه َُّن ج ُْز ًءا ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن يَأتِينَ َ‬
‫وهكذا نجد القرآن الكريم يخبرنا عن موسى عليه السالم‪ ،‬وأن هللا خاطب ه في‬
‫س بِ َم ا ت َْس َعى فَالَ‬ ‫الس ا َعةَ ءاَتِيَ ةٌ أَ َك ا ُد أُ ْخفِيهَ ا لِتُجْ زَى ُك لُّ نَ ْف ٍ‬ ‫المناج اة بقول ه‪ ﴿ :‬إِ َّن َّ‬
‫ك َع ْنهَا َم ْن الَ ي ُْؤ ِمنُ بِهَا َواتَّبَ َع ه ََواهُ فَتَرْ دَى﴾ [طه‪ ،]16 - 15 :‬وقد كانت هذه‬ ‫ص َّدنَّ َ‬
‫يَ ُ‬
‫المناجاة أول وحي تلقاه موسى عليه السالم‪ ،‬وهي دليل على أهمية المسألة‪ ،‬وانبن اء‬
‫الدين عليها‪.‬‬
‫وأخبرنا عنه قوله في دعائه‪َ ﴿ :‬وا ْكتُبْ لَنَا فِي هَ ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َح َسنَةً َوفِي اآل ِخ َر ِة إِناَّ‬
‫ك﴾ [األعراف‪]156﴿ :‬‬ ‫هُ ْدنَا إِلَ ْي َ‬
‫ويذكر تلك المعجزة التي حصلت في عهده‪ ،‬والتي كان من أغراض ها إثب ات‬
‫ْض هَا َك َذلِكَ‬
‫اض ِربُوهُ بِبَع ِ‬ ‫إحياء هللا للموتى‪ ،‬كما قال تعالى في قص ة البق رة‪ ﴿ :‬فَقُ ْلنَ ا ْ‬
‫يُحْ يِي هللاُ ْال َموْ تَى َوي ُِري ُك ْم آيَاتِ ِه لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْعقِلُونَ ﴾ [البقرة‪]73﴿ :‬‬
‫وهكذا أخبرنا عن مؤمن آل فرعون الذي كان في عهد موس ى علي ه الس الم‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫وأنه قال لقومه‪َ ﴿ :‬ويَا قَوْ ِم إِنِّي أَخَافُ َعلَ ْي ُك ْم يَوْ َم التَّنَا ِد يَوْ َم تُ َولُّونَ ُم ْدبِ ِرينَ َم ا لَ ُكم ِّمنَ‬
‫َاص ٍم َو َمن يُضْ لِ ِل هللا فَ َما لَهُ ِم ْن هَا ٍد﴾ [غافر‪ ،]33 - 32 :‬وق ال‪ ﴿ :‬يَ ا قَ وْ ِم‬ ‫هللا ِم ْن ع ِ‬
‫ار﴾ [غافر‪]39 :‬‬ ‫ْ‬
‫اآلخ َرةَ ِه َي دَا ُر القَ َر ِ‬ ‫ع َوإِ َّن ِ‬ ‫إِنَّ َما هَ ِذ ِه ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا َمتَا ٌ‬
‫أما رسول هللا ‪ ،‬والرسالة الخاتمة‪ ،‬فإنها أكبر المصادر المفص لة ألس رار‬
‫ما بعد الموت‪ ،‬والبراهين الدال ة عليه ا‪ ،‬وهي ب راهين ممتلئ ة بالعقالني ة والفطري ة‬
‫والعلمية‪ ،‬وكلها ترجع إلى صفات هللا تعالى خالق الكون‪ ..‬وال تي ي دل عليه ا العق ل‬
‫والواقع‪ ،‬ذل ك أن ص فة الط بيب تقتض ي عالج المرض ى‪ ،‬وص فة ال رحيم تقتض ي‬
‫تحقق الرحمة‪ ،‬وصفة الكريم تقتض ي ت نزل الك رم‪ ..‬وص فة العدال ة تقتض ي تحق ق‬
‫العدل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬كانت كل صفات هللا تعالى التي دل عليها العقل والدين والواق ع أك بر‬
‫األدلة على عدم انحصار الحياة في هذا العالم الذي نعيشه‪.‬‬
‫بناء على هذا س نذكر هن ا نم اذج عن ذل ك‪ ،‬من خالل خمس ص فات ك برى‪،‬‬
‫هي‪ :‬القدرة‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والربوبية‪ ،‬والعناية‪ ،‬والعدالة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الموت وبرهان القدرة‪:‬‬
‫لعل أول الشبهات التي تعترض المنكرين للحياة بعد الموت توهمهم اس تحالة‬
‫ذلك‪ ،‬وهو توهم ناتج عن قياس الخالق ب المخلوق‪ ،‬م ع أن ه ؤالء المنك رين أنفس هم‬
‫وفي حياتهم العادية يرفضون القيام بأمثال هذه القياسات‪.‬‬
‫ذلك أن االستحالة عادة ال ترتبط بالقضية بقدر ما ترتبط بمن وكلت إليه‪ ..‬فلو‬
‫أن المريض وكل عالجه لعامي وجاهل بالطب‪ ،‬لكان تحقيق ذلك مستحيال‪ ،‬بخالف‬
‫ما لو وكل أمره لطبيب خبير‪ ..‬فإن االستحالة ترفع‪ ،‬والسبب بس يط‪ ،‬وه و أن ال ذي‬
‫تولى ذلك خبير‪ ،‬له القدرة على ذلك‪.‬‬
‫وهك ذا إذا طلب من ك ح ل معادل ة رياض ية‪ ،‬ف ذكرت اس تحالة حله ا‪ ،‬أو‬
‫صعوبته‪ُ ،‬ذكر لك أن االس تحالة مرتبط ة بعقل ك‪ ،‬ال بعق ول الرياض يين‪ ..‬ذل ك أنهم‬
‫يمكنهم حلها بسهولة‪.‬‬
‫وهكذا في ك ل المس ائل‪ ،‬تج دهم يفرق ون بين الق درات المختلف ة‪ ،‬ويربط ون‬
‫االستحالة بالطاقة والقدرة‪ ،‬كما ذكر هللا تعالى ذلك‪ ،‬فقال‪﴿ :‬لِيُ ْنفِ ْق ُذو َس َع ٍة ِم ْن َس َعتِ ِه‬
‫َو َم ْن قُ ِد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقُهُ فَ ْليُ ْنفِ ْق ِم َّما آتَاهُ هللا اَل يُ َكلِّفُ هللا نَ ْفسًا إِاَّل َما آتَاهَا﴾ [الطالق‪]7 :‬‬
‫ولهذا نجد الق رآن الك ريم ينب ه ه ؤالء ال ذين يقيس ون ق دراتهم بق درة هللا إلى‬
‫النظر في الك ون‪ ،‬الكتش اف م دى ض عفهم وجهلهم وعج زهم أم ام ق وة هللا وعلم ه‬
‫وقدرته المطلقة‪.‬‬
‫وهذا دليل عدم علمية هذا النوع من التفك ير‪ ،‬ذل ك أن الع الم ال ذي ي رى ه ذا‬
‫الكون‪ ،‬ودقته ونظامه‪ ،‬ويرى جسم اإلنسان‪ ،‬وم ا أودع في ه من الطاق ات‪ ،‬ال يحي ل‬
‫على الصانع البديع الذي صمم هذا الكون واإلنسان بأن يعيده‪ ،‬أو يحييه‪.‬‬
‫ولذلك رد القرآن الكريم على منكري البعث لتوهمهم استحالته‪ ،‬بإثب ات ق درة‬
‫ال َم ْن‬ ‫ب لَنَا َمثَاًل َونَ ِس َي خَ ْلقَهُ قَ َ‬ ‫ض َر َ‬ ‫﴿و َ‬ ‫هللا المطلقة التي يدل عليها الواقع‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬

‫‪25‬‬
‫ق َعلِي ٌم‬ ‫يُحْ ِي ْال ِعظَا َم َو ِه َي َر ِمي ٌم (‪ )78‬قُلْ يُحْ يِيهَا الَّ ِذي أَ ْن َشأَهَا أَ َّو َل َم َّر ٍة َوه َُو بِ ُك لِّ خَ لْ ٍ‬
‫ْس‬ ‫ض ِر نَ ارًا فَ إِ َذا أَ ْنتُ ْم ِمنْهُ تُوقِ ُدونَ (‪ )80‬أَ َولَي َ‬ ‫(‪ )79‬الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ْم ِمنَ ال َّش َج ِر اأْل َ ْخ َ‬
‫ق ْال َعلِي ُم (‬ ‫ق ِم ْثلَهُ ْم بَلَى َوهُ َو ْالخَ اَّل ُ‬ ‫ض بِقَا ِد ٍر َعلَى أَ ْن يَ ْخلُ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬ ‫الَّ ِذي خَ لَ َ‬
‫وت‬ ‫‪ )81‬إِنَّ َما أَ ْم ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد َش ْيئًا أَ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُكونُ (‪ )82‬فَ ُسب َْحانَ الَّ ِذي بِيَ ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫ُك ِّل َش ْي ٍء َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ (‪[ ﴾ )83‬يس‪]83 - 78 :‬‬
‫وهك ذا ي دعو هللا العق ول المتحج رة ال تي تحص ر معارفه ا فيم ا ت راه‪ ،‬وفي‬
‫قدراتها المحدودة‪ ،‬وتتوهم أن قدرة هللا مثل قدرتها‪ ،‬ب أن تنظ ر في الك ون ل ترى أن‬
‫ق درة هللا ال تي ص ممته ذل ك التص ميم الب ديع يس تحيل أن يمتن ع ذل ك عليه ا‪ ،‬وه ذا‬
‫خطاب ممتلئ بالعلمية والعقالنية‪.‬‬
‫وهكذا يخ اطب الق رآن الك ريم المنك رين للمع اد‪ ،‬ب أن ينظ روا في الس موات‬
‫واألرض‪ ،‬ليس تدلوا بالق درة على النش أة الثاني ة بالق درة على النش أة األولى‪ ،‬ق ال‬
‫ق ِم ْثلَهُ ْم بَلَى َوهُ َو‬ ‫ض بِقَ ا ِد ٍر َعلَى أَ ْن يَ ْخلُ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫ق ال َّس َما َوا ِ‬ ‫ْس الَّ ِذي َخلَ َ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬أَ َولَي َ‬
‫ق ْال َعلِي ُم﴾ (يّس‪ ،)81:‬فك ل ش يء يس ير على هللا‪ ،‬والك ون كل ه ي دل على ذل ك‬ ‫ْالخَ اَّل ُ‬
‫ق ثُ َّم ي ُِعي ُدهُ إِ َّن َذلِكَ َعلَى هللا يَ ِسي ٌر ﴾‬ ‫ئ هللا ْالخَ ْل َ‬ ‫اليسر‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ َروْ ا َك ْيفَ يُ ْب ِد ُ‬
‫[العنكبوت‪]19 :‬‬
‫ويخاطب هللا تعالى الذين قالوا ـ مغترين بم ا ل ديهم من المع ارف ـ‪﴿ :‬أَإِ َذا ُكنَّا‬
‫ِعظَاما ً َو ُرفَاتا ً أَإِنَّا لَ َم ْبعُوثُونَ َخ ْلقا ً َج ِديداً﴾ (االسراء‪ ،)49 :‬ب أمرهم ب أن يتحول وا إلى‬
‫ارةً أَوْ َح ِدي داً أَوْ َخ ْلق ا ً ِّم َّما يَ ْكبُ ُر‬ ‫أي شيء شاءوا مما يتعتقدون قوته‪﴿ :‬قُل ُكونُوا ِح َج َ‬
‫ُور ُك ْم﴾ (االس راء‪ ،)51 - 50 :‬ف إذا بقيت ح يرتهم حينه ا ويقول ون‪َ ﴿ :‬من‬ ‫صد ِ‬ ‫فِي ُ‬
‫ي ُِعي ُدنَا﴾‪ ،‬فإن الجواب القرآني يكتفي بت ذكيرهم ب النظر إلى مب دأ خلقهم‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫﴿قُ ِل الَّ ِذي فَطَ َر ُك ْم أَ َّو َل َم َّر ٍة﴾‬
‫ثم ي ذكر الق رآن الك ريم ابتع اد أولئ ك الجاح دين عن المنهج العلمي‪ ،‬عن دما‬
‫يفرون من أصل القضية إلى فروعها‪ ،‬وذلك بالسؤال عن موعد م ا ال يؤمن ون ب ه‪،‬‬
‫ك‬ ‫ض ونَ إِلَيْ َ‬ ‫وكأن عدم تحديد الموعد هو الدليل على ما ينكرونه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَ َسيُ ْن ِغ ُ‬
‫ُرؤُو َسهُ ْم َويَقُولُونَ َمتَى هُ َو قُلْ َع َسى أَن يَ ُكونَ قَ ِريباً﴾ (االسراء‪)51:‬‬
‫‪ 2‬ـ الموت وبرهان الحكمة‪:‬‬
‫وهو من البراهين الواضحة ج دا‪ ،‬ذل ك أن العق ل يحكم ب أن تص رفات العليم‬
‫الخبير ال تكون إال بناء على حكمة جليلة قد نعلمها‪ ،‬وقد ال نعلمها‪ ،‬وعدم علمنا به ا‬
‫ال يعني عدم وجودها‪ ،‬فلذلك إن أخبرنا عنها بنفسه‪ ،‬أو أرسل من يخبر عنه ا‪ ،‬ك ان‬
‫في ذلك موافقة لما تقتضيه العقول‪.‬‬
‫وقد أرسل هللا لنا من يدلنا على حكمته من خلقه‪ ،‬ويبين لن ا األه داف الك برى‬
‫لكل ما نراه في الكون والحياة‪ ،‬وأنه لم يخلق عبثا‪ ،‬بل لك ل ش يء غاي ة من ورائ ه‪،‬‬
‫قال تعالى‪ ﴿ :‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َما خَ لَ ْقنَا ُك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَا اَل تُرْ َجعُونَ ﴾ [المؤمن ون‪،]115 :‬‬
‫ق اَل إِلَ هَ‬ ‫ك ْال َح ُّ‬ ‫ثم عقب بعدها ببيان استحالة العبث على هللا‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَتَ َع الَى هللا ْال َملِ ُ‬
‫ش ْال َك ِر ِيم﴾ [المؤمنون‪]116 :‬‬ ‫إِاَّل هُ َو َربُّ ْال َعرْ ِ‬

‫‪26‬‬
‫وهكذا اعتبر القرآن الكريم ة خل و الك ون من الغاي ة نوع ا من الباط ل ال ذي‬
‫يتنزه عن ه الح ق‪ ،‬وكي ف ال يت نزه عن ه‪ ،‬وخلق ه م ع ض عفهم وقص ورهم ي نزهون‬
‫الس َما َء َواأْل َرْ َ‬
‫ض َو َم ا‬ ‫تعالى‪﴿:‬و َما خَ لَ ْقنَا َّ‬
‫َ‬ ‫تصرفاتهم من أن تكون للعبث المجرد‪ ،‬قال‬
‫ار﴾ [ص‪]27 :‬‬ ‫اطاًل َذلِكَ ظَ ُّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَ َو ْي ٌل لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا ِمنَ النَّ ِ‬ ‫بَ ْينَهُ َما بَ ِ‬
‫ولذلك لم يكن للحق أن يتحقق لوال وجود حياة أخرى تكمل هذه الحياة‪ ،‬وتسد‬
‫ض َو َم ا‬‫ت َواأْل َرْ َ‬
‫اوا ِ‬ ‫القصور والنقص الموجود فيها‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿:‬و َم ا خَ لَ ْقنَ ا َّ‬
‫الس َم َ‬
‫يل ﴾ [الحجر‪]85 :‬‬ ‫ص ْف َح ْال َج ِم َ‬ ‫بَ ْينَهُ َما إِاَّل بِ ْال َح ِّ‬
‫ق َوإِ َّن السَّا َعةَ آَل تِيَةٌ فَاصْ فَ ِ‬
‫ح ال َّ‬
‫وفي دع وة هللا تع الى إلى الص فح‪ ،‬وربط ه بالقيام ة دلي ل على أن العدال ة‬
‫المطلقة ستكون هناك‪ ،‬ليُقتص من الظالمين‪ ،‬ويأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم‪ ،‬وه و‬
‫ما ال نجده في الدنيا إال قليال‪ ..‬ولذلك كان من مقتضيات الحكم ة والعدال ة أن ت ؤدى‬
‫الحقوق ألهلها‪ ،‬سواء في هذه الدار أو في غيرها‪.‬‬
‫والعلماء يعترفون بانبناء الكون على الحكمة‪ ،‬ولهذا نش أت ك ل العل وم‪ ،‬فهي‬
‫تفترض دائما ومبدئيا أن لكل موجود غاية‪ ،‬وأنه ليس هن اك ش يء بال فائ دة‪ ،‬أو بال‬
‫دور‪ ،‬حتى تلك الفكرة التي ذكرها البيولوجيون أواخر القرن التاسع عش ر‪ ،‬ليؤي دوا‬
‫نظرية التط ور‪ ،‬وال تي تنص على أن (األعض اء الض امرة أو اآلثاري ة) ال وظيف ة‬
‫لها‪ ،‬ألنها من بقايا التطور‪ ،‬راح العلم بعد تط وره يفن د أطروح اتهم‪ ،‬وي بين أن له ا‬
‫وظائف لم يتفطن لها أهل القرن التاسع عش ر‪ ،‬وك ان األص ل ـ ل و تواض عوا‪ ،‬ولم‬
‫يدخلوا األيديولوجيا في العلم ـ أن يسلموا بعدم خلوه ا من الحكم ة‪ ،‬ول و لم يكتش فوا‬
‫سرها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك الموقف من [الغ دة الص نوبرية](‪ ،)1‬فق د ذهب الكث ير‬
‫من العلماء في القرن التاسع عشر إلى كونه ا عض وا أثري ا‪ ،‬ليس ت ل ه أي وظيف ة‪،‬‬
‫وبرروا ذلك بصغر حجمها‪ ،‬وهذا ما جعلهم ال يهتمون بالبحث فيها‪.‬‬
‫بينما رأى آخرون استحالة خلوها من الوظيفة‪ ،‬بناء على ما يرون ه في جس م‬
‫اإلنس ان‪ ،‬وأن ه ال يوج د في ه ش يء من دون أن تك ون ل ه حكم ة‪ ،‬وغي اب معرفتن ا‬
‫بالحكمة ال يعني عدم وجودها‪ ،‬فلذلك راحوا يفترضون فرضيات كث يرة‪ ،‬ويطبق ون‬
‫عليها المنهج العلمي إلى أن وصلوا إلى التعرف على دورها‪.‬‬
‫وهكذا كان التطور العلمي سببا في اكتشاف الحكمة المجهولة من هذا العضو‬
‫البس يط‪ ،‬وه و ي دل على أن العق ل ال ذي يلج أ إلى نفي الحكم ة‪ ،‬وي دعو ب ذلك إلى‬
‫التخلي عن البحث عنها عقل كسول‪ ،‬بخالف العقل الذي يبحث عن الحكمة المختفية‬
‫وراء ما يراه من مظاهر‪.‬‬
‫ولهذا كان الذي يسأل عن سر الكون‪ ،‬والحكمة من ه‪ ،‬ويبحث ج ادا عن ذل ك‪،‬‬
‫وعبر المناهج المختلفة أكثر علمية من ذل ك العق ل الكس ول ال ذي ي رى خل و أبس ط‬
‫أجزاء الكون من العبث في نفس الوقت الذي يتوهم فيه أن الكون بجملته خلق عبثا‪،‬‬
‫‪ )( 1‬الغدة الصنوبرية‪ :‬هي غدة صغيرة الحجم من الغدد الصماء تقع في المخ وهي المسؤولة عن إفراز هرمون‬
‫الميالتونين ولها عالقة بتنظيم معدل النمو الجسمي وكذلك عمليات النضج الجنسي في الكائن الحي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫وال جدوى منه‪ ،‬وال حكمة من ورائه‪.‬‬
‫ومثل ذلك مثل من يدخل قصرا يرى فيه الجمال واإلتقان‪ ،‬وأن كل شيء في ه‬
‫مص مم وف ق تص ميم ب ديع‪ ،‬ولغاي ات نبيل ة‪ ..‬لكن ه وبع د التع رف على أس رار ك ل‬
‫تفاصيله وغرفه‪ ،‬يذكر أن القصر جميعا بني لغير حكمة‪ ،‬وأن ه مج رد عبث‪ ..‬وه ذا‬
‫مستحيل فالحكمة في التفاصيل والجزئيات والفروع تدل على الحكم ة في األه داف‬
‫والغايات والكليات‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم بعض المظاهر ال تي نس تطيع من خالله ا أن نكتش ف‬
‫ي ِمنَ ْال َميِّ ِ‬
‫ت‬ ‫أن الحياة أعظم من أن تنحصر بالصورة التي نراها‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ي ُْخ ِر ُج ْال َح َّ‬
‫َوي ُْخ ِر ُج ْال َميِّتَ ِمنَ ْال َح ِّي َويُحْ ِي اأْل َرْ َ‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا َو َك َذلِكَ تُ ْخ َرجُونَ ﴾ [الروم‪]19 :‬‬
‫وق د عل ق عليه ا ب ديع الزم ان النورس ي في [رس الة الحش ر] مبين ا وج وه‬
‫االستدالل بها على هذا المعنى‪ ،‬فقال‪( :‬ما دامت (الحياة) هي حكمة خل ق الكائن ات‪،‬‬
‫وأهم نتيجتها وجوهرها‪ ،‬فال تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية‬
‫القصيرة الناقصة المؤلمة‪ ،‬بل إن الخواص التسع والعشرين للحياة وعظمة ماهيتها‪،‬‬
‫وما يُفهم من غاي ة ش جرتِها ونتيجته ا‪ ..‬م ا هي إاّل الحي اة األبدي ة‪ ،‬والحي اة اآلخ رة‬
‫والحياة الحية ب َح َجرها وترابِها وشجرها في دار السعادة الخالدة‪ .‬وإاّل يلزم أن تظ ل‬
‫شجرة الحياة المجهَّزة بهذه األجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور ـ وال س يما‬
‫اإلنسان ـ دون ثمر وال فائدة وال حقيقة‪ ،‬ولظ ل اإلنس انُ تعس ا وش قيا وذليال وأح ط‬
‫من العصفور بعشرين درجة‪ ،‬بالنسبة لسعادة الحياة‪ ،‬مع أن ه أس مى مخل وق وأك رم‬
‫ذوي الحياة وأرف ع من العص فور بعش رين درج ة‪ .‬ب ل العق ُل ال ذي ه و أثمن نعم ة‬
‫يص بح بال ًء ومص يبة على اإلنس ان بتفك ره في أح زان الزم ان الغ ابر ومخ اوف‬
‫المستقبل‪ ،‬فيع ِّذب قلبَه دائم ا مع ّك را ص فو ل ذة واح دة بتس عة آالم!‪ .‬والش ك أن ه ذا‬
‫باطل مائة في المائة) (‪)1‬‬
‫ُ‬
‫ثم راح يتساءل قائال‪( :‬يا ترى هل يمكن لربّ قدير‪ ،‬يهيئ ما يلزم حيات ك من‬
‫الحاج ات المتعلق ة به ا جميع ا وي وفر ل ك أجهزتَه ا كله ا س واء في جس مك أو في‬
‫حديقتك أو في بلدك‪ ،‬ويرسلُه في وقته المناسب بحكم ة وعناي ة ورحم ة‪ ،‬ح تى إن ه‬
‫يعلم رغبةَ معدتك فيم ا يكف ل ل ك العيش والبق اء‪ ،‬ويس مع م ا تَهت ف ب ه من ال دعاء‬
‫بث من األطعم ة اللذي ذة غ ير‬ ‫الخاص الجزئي للرزق ُمبديا قبولَه ل ذلك ال دعاء بم ا ّ‬
‫المح دودة ليُطمئِن تل ك المع دة! فه ل يمكن له ذا الم دبّر الق دير أن ال يعرف ك؟ وال‬
‫يراك؟ وال يهيئ األسباب الضرورية ألعظم غاية لإلنسان وهي الحياة األبدي ة؟ وال‬
‫يستجيب ألعظم دعاء وأه ّم ه وأع ّم ه‪ ،‬وه و دع اء البق اء والخل ود؟ وال يقبل ه بع دم‬
‫إنشائه الحياة اآلخرة وإيجاد الجنة؟ وال يسمع دعاء هذا اإلنسان وهو أسمى مخل وق‬
‫في الكون بل هو سلطان األرض ونتيجتها‪ ..‬ذل ك ال دعاء الع ام الق وي الص ادر من‬
‫األعم اق‪ ،‬وال ذي يه ز الع رش والف رش! فه ل يمكن أن ال يهتم ب ه اهتما َم ه ب دعاء‬

‫‪ )(1‬الكلمات‪ ،‬بديع الزمان النورسي‪ ،‬ص‪..١١٤‬‬

‫‪28‬‬
‫المعدة الصغيرة وال يُرضي هذا اإلنسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمتَه المطلق ة‬
‫لإلنكار؟ كال‪ ..‬ثم كال ألف ألف مرة كال) (‪)1‬‬
‫ليس ذلك فقط ما يتساءل عنه العقل الحكيم‪ ،‬بل إن هناك أسئلة أخرى كث يرة‪،‬‬
‫منها ما عبر عنه النورسي بقوله‪( :‬هل يقبل العقل ـ بوج ه من األوج ه ـ أن الق دير‬
‫الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب ص نعتَه‬
‫كثيرا‪ ،‬ويحبّب نفسه بها إلى مخلوقاته وهو أشد حبا لمن يحبونه‪ ..‬فهل يعقل أن يُفني‬
‫حياةَ َمن هو أكثر حبا له‪ ،‬وهو المحبوب‪ ،‬وأهل للحب‪ ،‬وعابد لخالقه فط رةً؟ ويُف ني‬
‫كذلك لبَّ الحياة وجوهرها وهو ال روح‪ ،‬ب الموت األب دي واإلع دام النه ائي‪ ،‬ويولّ د‬
‫جف وة بين ه وبين محبي ه وي ؤلمهم أش ّد اإليالم‪ ،‬فيجع ل س َّر رحمت ه ون ور محبت ه‬
‫معرّضا لإلنكار!) (‪)2‬‬
‫ثم يجيب عن ذلك قائال‪( :‬حا َشا هلل ألف مرة حاشا هلل‪ ..‬فالجمال المطلق ال ذي‬
‫زيّن بتجليه ه ذا الك ون وج ّمل ه‪ ،‬والرحم ة المطلق ة ال تي أبهجت المخلوق ات قاطب ة‬
‫وزيّنتها‪ ،‬الشك أنهما منـ ّزهتان ومقدستان بال نهاي ة وال ح د عن ه ذه القس اوة وعن‬
‫هذا القبح المطلق والظلم المطلق) (‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ الموت وبرهان الربوبية‪:‬‬
‫ويش ير إلى ه ذا البره ان قول ه تع الى في س ورة الفاتح ة‪ْ :‬‬
‫﴿ال َحمْ ُد هَّلِل ِ َربِّ‬
‫ِّين (‪[ ﴾ )4‬الفاتحة‪ ،]5 - 2 :‬فقد جمع‬ ‫ْال َعالَ ِمينَ (‪ )2‬الرَّحْ َم ِن ال َّر ِح ِيم (‪َ )3‬مالِ ِ‬
‫ك يَوْ ِم الد ِ‬
‫هللا تعالى في هذه السورة الكريمة‪ ،‬التي هي أم الق رآن‪ ،‬بين ربوبيت ه ومالكيت ه لي وم‬
‫الدين‪ ،‬ذلك أن الربوبي ة تقتض ي وج ود دار يتحق ق فيه ا الج زاء اإللهي للمحس نين‬
‫والمسيئين على حد سواء‪ ،‬وإال لما كان هناك معنى للتكاليف‪.‬‬
‫ذلك أن الربوبية ـ ال تي هي ص فة من ص فات هللا تع الى‪ ،‬واس م من أس مائه‬
‫الحسنى ـ تتضمن الكثير من المعاني المقتضية لذلك‪ ،‬فربوبية هللا للعالمين (تتض من‬
‫تصرفه فيه‪ ،‬وتدبيره له‪ ،‬ونفاذ أمره كل وقت فيه‪ ،‬وكونه معه ك ل س اعة في ش أن‪،‬‬
‫يخل ق وي رزق؛ ويميت ويح يي‪ ،‬ويخفض ويرف ع؛ ويعطي ويمن ع؛ ويع ز وي ذل‪،‬‬
‫ويصرف األمور بمشيئته وإرادته)‬
‫وكل هذه المع اني تس تلزم ع دم اقتص ار الحي اة على ه ذه الحي اة ال دنيا ال تي‬
‫نعيشها‪ ،‬بل تقتضي وجود دار أخرى‪ ،‬وحياة أخ رى‪ ،‬ألنن ا ال ن رى في ه ذه الحي اة‬
‫تحقق الكثير من هذه المعاني مع أن الربوبية تستدعيها‪.‬‬
‫ولهذا ورد في القرآن الكريم اإلخبار بأن الدار األخرى هي الدار التي تتحقق‬
‫فيها الحياة الحقيقية‪ ،‬وذلك ألن الربوبية تتجلى فيها بشكل كامل‪ ،‬بخالف ه ذه ال دار‬
‫﴿و َم ا هَ ِذ ِه‬ ‫التي هيئت فيها األمور بناء على االختبار واالبتالء اإللهي‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬

‫‪ )(1‬الكلمات‪ ،‬بديع الزمان النورسي‪ ،‬ص‪..١١٤‬‬


‫‪ )(2‬الكلمات‪ ،‬بديع الزمان النورسي‪ ،‬ص‪..١١5‬‬
‫‪ )(3‬الكلمات‪ ،‬بديع الزمان النورسي‪ ،‬ص‪..١١5‬‬

‫‪29‬‬
‫ار اآْل ِخ َرةَ لَ ِه َي ْال َحيَ َوانُ لَ وْ َك انُوا يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾‬ ‫ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا إِاَّل لَهْ ٌو َولَ ِعبٌ َوإِ َّن ال َّد َ‬
‫[العنكبوت‪]64 :‬‬
‫ولذلك تتجلى في تل ك الحي اة ال تي تلي الم وت مباش رة األش ياء على م ا هي‬
‫علي ه في الواق ع‪ ،‬كم ا ق ال تع الى مخ برا عن س اعة االحتض ار‪ ﴿ :‬فَلَ وْ اَل إِ َذا بَلَ َغ ِ‬
‫ت‬
‫ْص رُونَ‬ ‫ْالح ُْلقُو َم (‪َ )83‬وأَ ْنتُ ْم ِحينَئِ ٍذ تَ ْنظُرُونَ (‪َ )84‬ونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَيْ ِه ِم ْن ُك ْم َولَ ِك ْن اَل تُب ِ‬
‫ص ا ِدقِينَ (‪ )87‬فَأ َ َّما إِ ْن‬ ‫َيْر َم ِدينِينَ (‪ )86‬تَرْ ِجعُونَهَ ا إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬ ‫(‪ )85‬فَلَ وْ اَل إِ ْن ُك ْنتُ ْم غ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت ن َِع ٍيم (‪َ )89‬وأ َّما إِ ْن َكانَ ِم ْن أصْ َحا ِ‬
‫ب‬ ‫ان َو َجنَّ ُ‬‫َكانَ ِمنَ ْال ُمقَ َّربِينَ (‪ )88‬فَ َروْ ٌح َو َري َْح ٌ‬
‫ين (‪َ )91‬وأَ َّما إِ ْن َكانَ ِمنَ ْال ُم َك ِّذبِينَ الضَّالِّينَ‬ ‫ب ْاليَ ِم ِ‬‫ْاليَ ِمي ِن (‪ )90‬فَ َساَل ٌم لَكَ ِم ْن أَصْ َحا ِ‬
‫(‪ )92‬فَنُ ُز ٌل ِم ْن َح ِم ٍيم (‪َ )93‬وتَصْ لِيَةُ َج ِح ٍيم ﴾ [الواقعة‪]94 - 83 :‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تخبر عن الحقيقة التي تظهر لإلنسان بمجرد انتهاء فترة‬
‫االمتحان‪ ،‬حيث يبدو له مصيره الذي صنعه بيديه ماثال بين عينيه‪.‬‬
‫وهكذا يخبر هللا تعالى أن من صفات الدار اآلخرة ال تي س تقع ال محال ة أنه ا‬
‫ت ْال َواقِ َع ةُ (‬‫تخفض من حقه التخفيض‪ ،‬وترفع من حقه الرفع‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬إِ َذا َوقَ َع ِ‬
‫ضةٌ َرافِ َعةٌ (‪[ ﴾)3‬الواقعة‪]3 - 1 :‬‬ ‫ْس لِ َو ْق َعتِهَا َكا ِذبَةٌ (‪َ )2‬خافِ َ‬ ‫‪ )1‬لَي َ‬
‫وقد أش ار إلى ه ذا المع نى ب ديع الزم ان النورس ي‪ ،‬في رس الة الحش ر‪ ،‬فق د‬
‫تساءل قائال‪( :‬أمن الممكن لـ َمن ل ه ش أن الربوبي ة وس لطنة األلوهي ة‪ ،‬فأوج َد كون ا‬
‫بديعا كهذا الكون؛ لغايات سامية‪ ،‬ولمقاصد جليلة‪ ،‬إظهارا لكمال ه‪ ،‬ثم ال يك ون لدي ه‬
‫ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاص د باإليم ان والعبودي ة‪ ،‬وال يع اقِب‬
‫أهل الضاللة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض واالستخفاف‪..‬؟!)(‪)1‬‬
‫وذكر في مقدمة الرسالة قصة توضيحية جميلة‪ ،‬قدم لها بقول ه‪( :‬ي ا أخي! إِن‬
‫وبعض شؤون اآلخرة على وج ٍه يُالئم فه َم عام ة الن اس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رمتَ إيضاح أم َر الحشر‬
‫فاستمع معي إلى هذه الحكاية القصيرة)(‪)2‬‬
‫وألهمية القصة نلخص بعض محتوياته ا‪ ،‬فهي تص وير تقري بي لحقيق ة تل ك‬
‫الحياة‪ ،‬وأحيانا كثيرة يكون التقريب نفسه برهان ا‪ ..‬ألن الحج اب بين بعض العق ول‬
‫وتعقل المعاني هو تلك التوهمات والصور األسطورية والخرافية التي سرت إليه ا؛‬
‫فإذا ما زالت األسطورة حلت بدلها الحقيقة‪.‬‬
‫وتبدأ حكاية النوسي التقريبية بـ (اث نين ذهب ا مع ا إلى مملك ة رائع ة الجم ال‬
‫كالجنة ـ التش بيه هن ا لل دنيا ـ وإذا بهم ا يَري ان أن أهله ا ق د ترك وا أب واب بي وتهم‬
‫وحوانيتهم ومحالتهم مفتوحة ال يهتم ون بحراس تها‪ ..‬ف األموا ُل والنق ود في متن اول‬
‫األيدي دون أن يحميها أحد) (‪ ..)3‬وهذا تصوير تقريبي للدنيا‪ ،‬ال تي نج د فيه ا النعم‬
‫بمختلف أشكالها‪ ،‬وكأنه ال مالك لها‪.‬‬

‫‪ )(1‬الكلمات‪ ،‬النورسي‪ ،‬ص‪.67‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.49‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.49‬‬

‫‪30‬‬
‫وقد كان أحد االثنين ـ كما ورد في القصة ـ ص الحا يس تعمل عقل ه‪ ،‬واآلخ ر‬
‫منحرفا متبعا لهواه‪ ،‬وق د راح بن اء على م ا رآه من س هولة الس رقة‪( ،‬يس رق حين ا‬
‫ويغصب حينا آخر مرتكبا كل أنواع الظلم والسفاهة‪ ،‬واألهلون ال يبالون به كث يرا)‬
‫(‪)1‬‬
‫وعندما رآه صديقه الصالح يفعل ذلك قال له‪( :‬ويحك ماذا تفعل؟ إن ك س تنال‬
‫عقابك‪ ،‬وستلقيني في باليا ومصائب‪ .‬فهذه األموال أموال الدولة‪ ،‬وه ؤالء األهل ون‬
‫قد أصبحوا ـ بعوائلهم وأطفالهم ـ جن ود الدول ة أو موظفيه ا‪ ،‬ويُس تخدمون في ه ذه‬
‫الوظائف بب ّزتهم المدنية‪ ،‬ولذلك لم يُب الوا ب ك كث يرا‪ ،‬واعلم أن النظ ام هن ا ص ارم‪،‬‬
‫فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان‪ ..‬أسرع يا صاحبي باالعتذار وب ادر‬
‫إلى التوسل) (‪)2‬‬
‫ولكن ص احبَه لم يقب ل ذل ك‪ ،‬ب ل راح ي ردد‪( :‬دع ني‪ ..‬فه ذه األم وال ليس ت‬
‫أموال الدولة‪ ،‬بل هي أموال مشاعة‪ ،‬ال مال ك له ا‪ .‬يس تطيع ك ل واح د أن يتص رف‬
‫فيها كم ا يش اء‪ .‬فال أرى م ا يمنع ني من االس تفادة منه ا‪ ،‬أو االنتف اع به ذه األش ياء‬
‫الجميلة المنثورة أمامي‪ ،‬واعلم أنى ال أص ّدق بما ال تراه عيناي) (‪)3‬‬
‫وهنا راح صاحبه يقنعه باستحالة أن تكون تلك المملكة الجميل ة المنظم ة من‬
‫دون سلطان أو حاكم‪ ،‬وقال له أثناء حديثه معه‪( :‬إن ك بال ش ك تعلم أن ه ال قري ة بال‬
‫مخت ار‪ ،‬وال إب رة بال ص انع وبال مال ك‪ ،‬وال ح رف بال ك اتب‪ ..‬فكي ف يس وغ ل ك‬
‫القول‪ :‬إنه ال حاكم وال سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تك ون‬
‫هذه األموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بال مالك) (‪)4‬‬
‫ثم راح يذكر له األدلة الكثيرة على اقتضاء الصنعة للصانع‪ ،‬والمملكة للملك‪،‬‬
‫وكان من ضمنه أقواله له قوله‪( :‬أال ترى في أرجاء هذه المملكة إعالن ات الس لطان‬
‫وبياناته‪ ،‬وأعال َمه التي ترفرف في كل ركن‪ ،‬وختمه الخ اص وس ّكته وطرّت ه على‬
‫األموال كلها‪ ،‬فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟)‬
‫وبعد تلك األدلة الكثيرة راح ذلك الس فيه يس لم ج دال بوج ود الس لطان‪ ،‬لكن ه‬
‫راح يعلل ممارساته الخاطئة في تلك المملكة بذرائع جديدة‪ ،‬حيث ردد على مسامعه‬
‫نقص من خزائن ه م ا‬‫قوله‪( :‬لنسلّم بوجود السلطان‪ ،‬ولكن‪ ..‬م اذا يمكن أن تض رَّه وتُ َ‬
‫زه لنفسي منها؟ ثم إني ال أرى هنـا عقابا من سـجن أو ما يشبهه!) (‪)5‬‬ ‫أحو ُ‬
‫وهنا أجابه صاحبه المؤمن بقوله‪( :‬يا هذا‪ ،‬إن هذه المملكة التي نراها م ا هي‬
‫إاّل ميدان امتحا ٍن واختبار‪ ،‬وساحة تدريب ومناورة‪ ،‬وهي معرض صنائع الس لطان‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.49‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.50‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.50‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.50‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.50‬‬

‫‪31‬‬
‫البديعة‪ ،‬ومضيف مؤقت جدا‪ ..‬أال ترى أن قافلة تأتي يوميا وترحل أخ رى وتغيب؟‬
‫فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة‪ ،‬إنها تُمأل وتُخلى باستمرار‪ ،‬وسوف تُف رغ نهائي ا‬
‫وتبدل بأخرى باقية دائم ة‪ ،‬وينق ل إليه ا الن اس جميع ا فيث اب أو يُع اقب ك ّل حس ب‬
‫عمله) (‪)1‬‬
‫وهنا راح الص احب يس أل عن إمكاني ة وج ود محكم ة ك برى‪ ،‬ودار للث واب‬
‫واإلحسان‪ ،‬وأخرى للعقاب والسجن‪ ،‬وقد أجابه ص ديقه ب اثني عش ر ص ورة‪ ،‬ت دل‬
‫على ضرورة وجود تلك المحكم ة‪ ..‬س نعرض لم ا نحتاج ه منه ا عن د الح ديث عن‬
‫برهان العدالة‪.‬‬
‫والخالصة أن هذه القصة التقريبية تصور الواقع بدق ة‪ ،‬وت برهن علي ه‪ ..‬فم ا‬
‫ن راه من النعم العظيم ة‪ ،‬والتنظيم ال دقيق ي دل على ض رورة وج ود إل ه يمل ك ه ذا‬
‫الكون‪ ،‬ويدبر أموره‪ ،‬وكل األدلة العقلية تدل على ذلك‪.‬‬
‫ثم إن هذا اإلله ـ بحسب ما يدل علىه الكون ـ يستحيل أن يترك خلقه من دون‬
‫عناية أو رعاية أو اهتمام‪ ..‬وكيف يفعل ذلك‪ ،‬وهو يرعى أبسط حاجاتهم منذ نشأتهم‬
‫األولى إلى وفاتهم؟‬
‫وذلك يدل وحده على ضرورة استمرار الحياة‪ ،‬وإال لكان كل هذا الكون وكل‬
‫هذه النعم ال معنى لها‪ ..‬فما معنى أن يستضيف أحدهم شخصا‪ ،‬ثم يقتل ه بع د انته اء‬
‫ض يافته؟‪ ..‬وم ا مع نى أن ي ربي األس تاذ تالمي ذه‪ ،‬ويعلمهم‪ ،‬ثم يس لمهم في نهاي ة‬
‫المطاف إلى الموت الذي يقضي عليهم قضاء كليا؟‬
‫هذه بعض تجليات هذا البرهان‪ ،‬وسنتحدث عنه بتفص يل أك ثر عن د الح ديث‬
‫عن الجنة والنار‪ ،‬باعتبارهم ا المح ل ال ذي تتجلى في ه الربوبي ة بص ور الج زاء أو‬
‫صورة العقاب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الموت وبرهان العناية‪:‬‬
‫وهو من ال براهين الواض حة لك ل من قلب طرف ه فيم ا وض ع هللا تع الى في‬
‫الكون من دالئل عنايته بخلقه‪ ،‬وتلبيته لحاجاتهم دون أن يسألوها‪ ..‬وهو ال يدل فق ط‬
‫على وجود هللا‪ ،‬كما استدل على ذلك الفالسفة والمتكلمون(‪ ،)2‬وإنما يدل أيض ا على‬
‫اس تمرارية الحي اة‪ ،‬ألنه ا من أك بر الحاج ات ال تي يش عر اإلنس ان بض رورتها‪..‬‬
‫ولوالها لكانت الحياة عبثا‪ ،‬وال معنى لها‪.‬‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.50‬‬
‫‪ )(2‬وخصوصا ابن رشد الذي أولى هذا الدليل عنايت ه الك برى‪ ،‬وق د ق ال مع برا عن ذل ك‪( :‬الطري ق ال تي نب ه‬
‫الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرىء الكتاب العزي ز وج دت تنحص ر في جنس ين‪ :‬أح دهما‪ :‬طري ق‬
‫الوقوف على العناية باإلنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذه (دليل العناية) والطريقة الثانية‪ :‬ما يظهر‬
‫من اختراع جواهر األشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد واإلدراكات الحسية والعقل‪ ،‬ولنسم ه ذه (دلي ل‬
‫االختراع)‪ ،‬ثم ذكر وجه االستدالل على البرهان األول [برهان العناية]‪ ..‬فذكر أنه ينب ني على أص لين بق در فهمهم ا‬
‫والرسوخ في معرفتهما‪ ،‬بقدر ما يتوضح البرهان‪ ،‬وتزال اإلشكاالت المرتبطة به‪ ،‬أما األصل األول‪ ،‬فهو (أن جمي ع‬
‫الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود اإلنسان)‪ ،‬وأما األصل الثاني‪ ،‬فهو (أن ه ذه الموافق ة ض رورة من قب ل فاع ل‬
‫قاصد لذلك‪ ،‬مريد‪ ،‬إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة باالتفاق‪ ..‬أي صدفة) [انظر الدليل بتفص يل في كت ابي‪ :‬كي ف‬
‫تناظر ملحدا‪ ،‬ص‪]59‬‬

‫‪32‬‬
‫وهو برهان يدل ـ من طريق آخ ر ـ على إرس ال هللا الرس ل‪ ،‬وإن زال الكتب‬
‫الشارحة لحقائق الوجود‪ ،‬وقوانين الحياة‪ ،‬ولذلك يستدل المتكلمون به ذا ال دليل على‬
‫النبوات‪ ،‬كما يستدلون به على وجود هللا‪.‬‬
‫وهو ب ذلك‪ ،‬وفي ك ل األح وال ي دل على ض رورة تكمي ل ه ذه الحي اة بحي اة‬
‫أخرى‪ ،‬تسد نقصها‪ ،‬وتوفر كل الحاجات التي افتقرت إليها هذه الحياة‪.‬‬
‫ولذلك نرى القرآن الكريم يربط بين عناية هللا بعباده في الدنيا‪ ،‬وبين الح ديث‬
‫عن اآلخرة‪ ،‬ليذكر أن رب الدنيا هو رب اآلخرة‪ ،‬وأن ال ذي اس تطاع أن ي وفر ك ل‬
‫هذه األقوات في الدنيا‪ ،‬لن يعج ز عن توفيره ا في اآلخ رة‪ ..‬وأن ال ذي وف ر الحي اة‬
‫األولى لن يعز عليه أن يوفر الحياة األخرى‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في سورة النبأ‪ ،‬والتي تتحدث عن اليوم اآلخ ر‬
‫باعتباره من القض ايا ال تي وق ع فيه ا الخالف‪ ،‬فبع د تقري ر ذل ك الخالف في الي وم‬
‫اآلخر بدأت اآليات الكريمة مباشرة في االستدالل بالعناية اإللهية على وجود الحي اة‬
‫ال أَوْ تَ ادًا (‪َ )7‬وخَ لَ ْقنَ ا ُك ْم‬ ‫ض ِمهَ ادًا (‪َ )6‬و ْال ِجبَ َ‬ ‫األخرى‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬أَلَ ْم نَجْ َع ِل اأْل َرْ َ‬
‫اش ا‬ ‫أَ ْز َواجًا (‪َ )8‬و َج َع ْلنَا نَوْ َم ُك ْم ُسبَاتًا (‪َ )9‬و َج َع ْلنَا اللَّي َْل لِبَاسًا (‪َ )10‬و َج َع ْلنَا النَّهَ ا َر َم َع ً‬
‫(‪َ )11‬وبَنَ ْينَ ا فَ وْ قَ ُك ْم َس ْبعًا ِش دَادًا (‪َ )12‬و َج َع ْلنَ ا ِس َراجًا َوهَّاجًا (‪َ )13‬وأَ ْنزَ ْلنَ ا ِمنَ‬
‫ت أَ ْلفَافًا ﴾ [النب أ‪- 6 :‬‬ ‫ت َما ًء ثَجَّاجًا (‪ )14‬لِنُ ْخ ِر َج بِ ِه َحبًّا َونَبَاتًا (‪َ )15‬و َجنَّا ٍ‬ ‫ص َرا ِ‬‫ْال ُم ْع ِ‬
‫‪]16‬‬
‫وبعد هذه اآليات الكريمة ال تي تض منت مج امع النعم ال تي أنعم هللا به ا على‬
‫ص ِل َك انَ ِميقَاتًا (‪)17‬‬ ‫عباده‪ ،‬بدأ الحديث عن اليوم اآلخر‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿:‬إِ َّن يَ وْ َم ْالفَ ْ‬
‫َت أَ ْب َوابًا (‪)19‬‬ ‫الس َما ُء فَ َك ان ْ‬ ‫ت َّ‬ ‫ور فَتَ أْتُونَ أَ ْف َواجًا (‪َ )18‬وفُتِ َح ِ‬ ‫الص ِ‬ ‫يَ وْ َم يُ ْنفَ ُخ فِي ُّ‬
‫َت َس َرابًا﴾ [النبأ‪]20 - 17 :‬‬ ‫ت ْال ِجبَا ُل فَ َكان ْ‬ ‫َو ُسيِّ َر ِ‬
‫واآليات الكريمة تربط بين ما نراه في الدنيا من آثار المواقيت على األش ياء‪،‬‬
‫وتقلباتها‪ ،‬بذكر اليوم اآلخر‪ ،‬وكونه مرحلة من مراحل هذا الكون‪ ،‬ونشأة من نشآت‬
‫الحياة‪ ..‬والذي قدر على خلق النشأة األولى لن يضعف عن خلق النشأة الثانية‪.‬‬
‫وهكذا نرى القرآن الكريم يرب ط بين عناي ة هللا تع الى بعب اده في ه ذه النش أة‬
‫بذكر النشأة اآلخرة‪ ،‬باعتبارها من مقتضيات عناي ة هللا تع الى بعب اده‪ ،‬ومن األمثل ة‬
‫على ذلك ما ورد فيه عند ذكر األطوار التي يمر به ا اإلنس ان في حيات ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫طفَ ةً ِّمن َّمنِ ٍّي يُ ْمنَى ثُ َّم َك انَ َعلَقَ ةً‬ ‫ك نُ ْ‬‫ك ُس دًى أَلَ ْم يَ ُ‬ ‫نس انُ أَن يُتْ َر َ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬أَيَحْ َسبُ ا ِإل َ‬
‫ْس َذلِ كَ بِقَ ا ِد ٍر َعلَى أَن يُحْ يِ َي‬ ‫ق فَ َس َّوى فَ َج َع َل ِمنْهُ ال َّزوْ َجي ِْن ال َّذ َك َر َواألُنثَى أَلَي َ‬ ‫فَ َخلَ َ‬
‫ث فَإِنَّا‬ ‫ب ِّمنَ ْالبَ ْع ِ‬ ‫ْال َموْ تَى﴾ [القيامة‪ ،]40 - 36 :‬وقال‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن ُكنتُ ْم فِي َر ْي ٍ‬
‫َيْر ُمخَ لَّقَ ٍة لِّنُبَيِّنَ‬
‫طفَ ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثُ َّم ِمن ُّمضْ َغ ٍة ُّمخَ لَّقَ ٍة َوغ ِ‬ ‫ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ‬ ‫خَ لَ ْقنَا ُكم ِّمن تُ َرا ٍ‬
‫لَ ُك ْم َونُقِرُّ فِي األَرْ َح ِام َما نَ َشاء إِلَى أَ َج ٍل ُّم َس ّمًى ثُ َّم نُخْ ِر ُج ُك ْم ِط ْفاًل ثُ َّم لِتَ ْبلُ ُغ وا أَ ُش َّد ُك ْم‬
‫َو ِمن ُكم َّمن يُتَ َوفَّى َو ِمن ُكم َّمن يُ َر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َكيْال يَ ْعلَ َم ِمن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َش ْيئًا َوتَ َرى‬
‫يج﴾‬ ‫ج بَ ِه ٍ‬ ‫َت ِمن ُك ِّل زَ وْ ٍ‬ ‫ت َوأَنبَت ْ‬ ‫ت َو َربَ ْ‬ ‫ض هَا ِم َدةً فَ إِ َذا أَن َز ْلنَ ا َعلَ ْيهَ ا ْال َم اء ا ْهتَ َّز ْ‬‫األَرْ َ‬
‫طفَ ةً فِي قَ َر ٍ‬
‫ار‬ ‫ين ثُ َّم َج َع ْلنَاهُ نُ ْ‬ ‫اإلن َسانَ ِمن سُاللَ ٍة ِّمن ِط ٍ‬ ‫[الحج‪ ،]5 :‬وقال‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد خَ لَ ْقنَا ِ‬

‫‪33‬‬
‫ض َغةَ ِعظَامًا فَ َك َس وْ نَا‬ ‫ض َغةً فَخَ لَ ْقنَ ا ْال ُم ْ‬ ‫طفَ ةَ َعلَقَ ةً فَخَ لَ ْقنَ ا ْال َعلَقَ ةَ ُم ْ‬ ‫َّم ِكي ٍن ثُ َّم خَ لَ ْقنَ ا النُّ ْ‬
‫اركَ هللا أَحْ َسنُ ْالخَالِقِينَ ثُ َّم إِنَّ ُك ْم بَ ْع َد َذلِ كَ لَ َميِّتُ ونَ‬ ‫ْال ِعظَا َم لَحْ ًما ثُ َّم أَن َشأْنَاهُ َخ ْلقًا آخَ َر فَتَبَ َ‬
‫ثُ َّم إِنَّ ُك ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة تُ ْب َعثُونَ ﴾ [المؤمنون‪]16 - 13 :‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة جميع ا تعت بر الحي اة األخ رى ال تي تلي الم وت مرحل ة‬
‫جديدة‪ ،‬مثلها مثل مرحلة الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة‪ ..‬فاإلنسان ال يف نى‬
‫بالموت‪ ،‬وإنما ينقطع تحكمه في جسده فقط‪..‬‬
‫وهكذا يخاطب القرآن الكريم العقول بالتأمل في النش أة ال تي تعيش ها‪ ،‬وال تي‬
‫يسميها النشأة األولى‪ ،‬لتعبر منها لسائر النش آت ال تي تنتظره ا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد‬
‫َعلِ ْمتُ ُم النَّ ْشأَةَ األُولَى فَلَوْ ال تَذ َّكرُونَ ﴾ [الواقعة‪ ،]62 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وهُ َو الَّ ِذي يَ ْبدَأُ ْالخَ لْ َ‬
‫ق ثُ َّم‬
‫ض َوهُ َو ْال َع ِزي ُز‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ي ُِعي ُدهُ َوهُ َو أَهْ َونُ َعلَيْ ِه َولَ هُ ْال َمثَ ُل األَ ْعلَى فِي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫ب َك َم ا بَ د َْأنَا أَ َّو َل‬ ‫َط ِوي ال َّس َما َء َكطَ ِّي الس ِِّجلِّ لِ ْل ُكتُ ِ‬ ‫ْال َح ِكي ُم﴾ [الروم‪ ،]27 :‬وقال‪﴿ :‬يَوْ َم ن ْ‬
‫نس انُ أَئِ َذا‬ ‫اعلِينَ ﴾ [األنبياء‪ ،]104 :‬وقال‪َ ﴿ :‬ويَقُو ُل ا ِإل َ‬ ‫ق نُّ ِعي ُدهُ َو ْعدًا َعلَ ْينَا إِنَّا ُكنَّا فَ ِ‬ ‫خَ ْل ٍ‬
‫ك َش ْيئًا﴾ [م ريم‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ت لَ َسوْ فَ أ ْخ َر ُج َحيًّا أَ َوال يَ ْذ ُك ُر ا ِإلن َسانُ أَنَّا خَ لَ ْقنَاهُ ِمن قَ ْب ُل َولَ ْم يَ ُ‬ ‫َما ِم ُّ‬
‫‪]67 - 66‬‬
‫وقد عبر ب ديع الزم ان النورس ي عن المع اني ال تي ت دل عليه ا ه ذه اآلي ات‬
‫الكريمة‪ ،‬ووجه االس تدالل به ا على وج ود نش آت أخ رى‪ ،‬فق ال‪( :‬إن ت زيينَ وج ه‬
‫العالم به ذه المص نوعات الجميل ة اللطيف ة‪ ،‬وجعْل الش مس س راجا‪ ،‬والقم ر ن ورا‪،‬‬
‫وسطح األرض مائدة للنعم‪ ،‬ومألها بأل ِّذ األطعمة الشهية المتنوعة‪ ،‬وجعل األش جار‬
‫أواني وصحافا تتجدد مرارا كل موسم‪ ..‬كل ذلك يُظهر سخا ًء وج ودا ال ح ّد لهم ا‪..‬‬ ‫َ‬
‫فالبد أن يكون لمثل هذا الجود والسخاء المطلقين‪ ،‬ولمثل هذه الخزائن التي ال تنف د‪،‬‬
‫دار ض يافة دائم ة‪ ،‬ومح َّل س عادة خال دة‬ ‫ولمثل هذه الرحمة التي وسعت كل شيء‪َ ،‬‬
‫يحوي ما تشتهيه األنفسُ وتل ُّذ األعين وتس تدعي قطع ا أن يخل د المتل ذذون في تل ك‬
‫الدار‪ ،‬ويظلوا مالزمين لتلك السعادة ليبتعدوا عن الزوال والفراق‪ ،‬إذ كم ا أن زوال‬
‫اللذة ألم فزوا ُل األلم لذة كذلك‪ ،‬فمثل هذا السخاء ي أبى اإلي ذا َء قطع ا‪ ..‬أي إن األم ر‬
‫يقتضي وجو َد جن ة أبدي ة‪ ،‬وخل ود المحت اجين فيه ا؛ ألن الج ود والس خاء المطلَقين‬
‫يتطلبان إحسانا وإنعاما مطلَقين‪ ،‬واإلحسان واإلنعام غير المتن اهيين يتطلب ان تنعم ا‬
‫وامتنانا غير متن اهيين‪ ،‬وه ذا يقتض ي خل و َد إنع ام َمن يس تحق اإلحس ان إلي ه‪ ،‬كي‬
‫يُظهر شكره وامتنانه بتنعّمه الدائم إزاء ذلك اإلنعام الدائم‪ ..‬وإاّل فاللذة اليسيرة ـ التي‬
‫ين ّغصها الزوا ُل والفراق ـ في هذه الفترة الوجيزة ال يمكن أن تنسجم ومقتض ى ه ذا‬
‫الجود والسخاء)(‪)1‬‬
‫وهكذا استدل بالعناية اإللهية بإرسال الرس ل‪ ،‬على ذل ك‪ ،‬فق ال‪ ..( :‬وأنص ت‬
‫إلى ال داعين األداّل ء إلى محاس ن الربوبي ة‪ ،‬وهم األنبي اء عليهم الس الم واألولي اء‬
‫اس لمش اهدة كم ال ص نعة الص انع ذي‬ ‫الصالحون‪ ،‬كي ف أنهم يُرش دون جميع ا الن َ‬

‫‪ )(1‬الكلمات‪ ،‬ص‪.72‬‬

‫‪34‬‬
‫الجالل بتشهيرهم صنعتَه البديعة ويلفتون أنظارهم إليه ا‪ ..‬إذن‪ ،‬فلص انع ه ذا الع الم‬
‫كم ال فـائـق عظيم مث ير لإلعج اب‪ ،‬خف ّي مـستتر‪ ،‬فه و يريـد إظه اره به ذه‬
‫المصنوعات البديعة‪ ،‬ألن الكمال الخفي الذي ال نقص فيه ينبغي اإلعالنَ عن ه على‬
‫رؤوس أشهـا ٍد مقـدِّرين مسـتحسنين مع َجبين بـه‪ .‬وأن الكمال الدائـم يقتضي ظه ورا‬
‫المعجب الـذي ال يـدوم‬ ‫َ‬ ‫المعجبين‪ ،‬إذ‬ ‫َ‬ ‫دائما‪ ،‬وهذا بـدوره يستدعى دوا َم المستحسنين‬
‫بقاؤه تـسقط في نظره قيمة ُ الكمال)(‪)1‬‬
‫‪ 5‬ـ الموت وبرهان العدالة‪:‬‬
‫وهو من البراهين الواضحة التي دلت عليها القوانين التي بني عليه ا الك ون‪،‬‬
‫فكلها تشير إلى أنه بني بموازين دقيقة‪ ،‬وأنه لو تغيرت تلك الموازين النه د الك ون‪،‬‬
‫ولم يبق بالصورة التي هو عليها‪.‬‬
‫فالعلم الحديث(‪ )2‬يذكر أن ه ل و ك انت قش رة األرض أس مك مم ا هي بمق دار‬
‫بض عة أق دام‪ ،‬المتص ث اني أكس يد الكرب ون األوكس جين‪ ،‬ولم ا أمكن وج ود حي اة‬
‫النبات‪ ،‬ولو كان الهواء أرفع كث يرا مم ا ه و علي ه‪ ،‬ف إن بعض الش هب ال تي تس ير‬
‫بسرعة تترواح بين ستة أمي ال وأربعين ميال في الثاني ة‪ ،‬في إمكانه ا أن تش عل ك ل‬
‫ش يء قاب ل لالح تراق‪ ،‬ول و ك انت تس ير ببطء رصاص ة البندقي ة الرتطمت كله ا‬
‫باألرض‪.‬‬
‫وهكذا يذكرون أن الهواء سميك بالق در الالزم بالض بط لم رور األش عة ذات‬
‫التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع‪ ،‬وال تي تقت ل الج راثيم وتنتج الفيتامين ات‪،‬‬
‫دون أن تضر باإلنسان‪ ،‬إال إذا عرض نفسه لها مدة أطول من الالزم‪.‬‬
‫ويذكرون أن األوكسجين لو كان بنسبة ‪ 50‬في المائة مثال أو أكثر في الهواء‬
‫بدال من ‪ 21‬في المائة فإن جميع المواد القابلة لالح تراق في الع الم تص بح عرض ة‬
‫لالشتعال‪ ،‬لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة ال بد أن تلهب الغابة حتى‬
‫لتكاد تنفجر‪.‬‬
‫وغيرها من األمثلة الكثيرة التي تؤكدها البحوث والدراسات العلمية كل يوم‪،‬‬
‫اس َي َوأَ ْنبَ ْتنَا فِيهَ ا ِم ْن‬‫ض َم َد ْدنَاهَا َوأَ ْلقَ ْينَا فِيهَا َر َو ِ‬ ‫والتي أشار إليها قوله تعالى‪َ ﴿:‬واأْل َرْ َ‬
‫﴿وإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء إِاَّل ِع ْن َدنَا خَ زَائِنُهُ َو َما نُن َِّزلُهُ‬ ‫ون﴾ (الحجر‪ ،)19:‬وقوله‪َ :‬‬ ‫ُك ِّل َش ْي ٍء َموْ ُز ٍ‬
‫ض َع ْال ِميزَ انَ ﴾ (الرحمن‪)7 :‬‬ ‫وم﴾ [الحجر‪ ،]21 :‬وقوله‪َ ﴿:‬وال َّس َما َء َر َف َع َها َو َو َ‬ ‫َر َم ْعلُ ٍ‬
‫إِاَّل بِقَد ٍ‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تنص على أن ك ل م ا خلق ه هللا تع الى ب ني على‬
‫َر﴾‬‫أساس توازن دقيق جدا‪ ،‬كما عبر عن ذل ك قول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء َخلَ ْقنَ اهُ بِقَ د ٍ‬
‫[القمر‪]49 :‬‬
‫وهكذا لو ذهبنا إلى الش ريعة ال تي أن زلت على جمي ع الرس ل عليهم الص الة‬
‫والسالم‪ ،‬لرأينا العدل من أوائل القيم التي كلفوا بالدعوة إليها‪ ،‬ب ل بالس عي لتحقيقه ا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.73‬‬


‫‪ )( 2‬انظر‪ :‬كتاب العلم يدعو إلى اإليمان أ‪ .‬كريسي مورسون رئيس أكاديمية العلوم في واشنطن‬

‫‪35‬‬
‫اب َو ْال ِم يزَ انَ‬‫زَل َن ا َم َعهُ ُم ْال ِك َت َ‬
‫ت َو َأ ْن ْ‬ ‫رُس َلنَا ِب ْال َب ِّي َن ا ِ‬
‫رْس ْلنَا ُ‬
‫في األرض‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ل َق ْد َأ َ‬
‫ْ‬
‫رُس َلهُ‬‫ص رُ هُ َو ُ‬ ‫زَلنَا ْال َح ِدي َد ِفي ِه َبأسٌ َش ِدي ٌد َو َم َن ا ِف ُع ِللنَّ ِ‬
‫اس َو ِل َيعْ َل َم هللا َم ْن َي ْن ُ‬ ‫ْط َو َأ ْن ْ‬
‫ِل َيقُو َم النَّاسُ ِب ْال ِقس ِ‬
‫يز﴾ (الحديد‪)25:‬‬ ‫ب ِإ َّن هللا َق ِويٌّ ع َِز ٌ‬ ‫ِب ْال َغ ْي ِ‬
‫وأخبر أن كل ما ورد به القرآن الكريم من األحكام أحك ام تق وم على القس ط‪،‬‬
‫بل هي القسط عينه‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬قُ لْ أَ َم َر َربِّي بِ ْالقِ ْس ِط َوأَقِي ُم وا ُو ُج وهَ ُك ْم ِعنْ َد ُك ِّل‬
‫صينَ لَهُ ال ِّدينَ َك َما بَدَأَ ُك ْم تَعُو ُدونَ ﴾ (ألعراف‪)29:‬‬ ‫َم ْس ِج ٍد َوا ْدعُوهُ ُم ْخلِ ِ‬
‫وهكذا نجد فيه الدعوة للعدل‪ ،‬وفي جميع المجاالت‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َح َك ْمتُ ْم‬
‫اس أَ ْن تَحْ ُك ُم وا بِ ْال َع ْد ِل إِ َّن هللا نِ ِع َّما يَ ِعظُ ُك ْم بِ ه﴾ (النس اء‪ ،)58 :‬وق ال‪ ﴿ :‬فَ إِ ْن‬ ‫بَ ْينَ النَّ ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ص لِحُوا بَ ْينَهُ َم ا بِال َع ْد ِل َوأ ْق ِس طوا إِ َّن هللا يُ ِحبُّ ال ُم ْق ِس ِطينَ ﴾ (الحج رات‪،)9 :‬‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ت فَأ َ ْ‬ ‫فَا َء ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَّلِل‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫وق ال‪َ ﴿:‬ي ا أ ُّي َه ا ال ِذينَ آ َمنُ وا ُكونُ وا َق َّو ِامينَ ِبال ِق ْس ِط ُش َهدَا َء ِ َو َل وْ َع َلى أ ْنفُ ِس ُك ْم أ ِو ال َوا ِل َدي ِْن‬ ‫َ‬
‫َلْووا َأوْ‬
‫قْر ِبينَ ِإ ْن َي ُك ْن َغ ِن ّي اً َأوْ َف ِق ير ًا َفاهلل َأوْ َلى ِب ِه َم ا َفال َتتَّ ِب ُع وا ْال َه َوى َأ ْن َتعْ ِدلُوا َو ِإ ْن ت ُ‬ ‫َواأْل َ َ‬
‫عْرضُوا َفإِ َّن هللا َكانَ ِب َما تَعْ َملُونَ خَ ِبير ًا﴾ (النساء‪ ،)135:‬وغيرها من اآليات الكريمة‪.‬‬ ‫تُ ِ‬
‫ولذلك كان من أسماء هللا الحسنى اسم العدل‪ ،‬وقد عرفه الغزالي‪ ،‬وبين م دى‬
‫انطباقه على هللا تعالى من خالل النظر في الكون‪ ،‬فق ال‪( :‬الع دل ه و ال ذي يص در‬
‫منه فعل العدل المضاد للجور والظلم‪ ،‬ولن يعرف الع ادل من لم يع رف عدل ه‪ ،‬وال‬
‫يعرف عدل ه من لم يع رف فعل ه‪ ،‬فمن أراد أن يفهم ه ذا الوص ف فينبغي أن يحي ط‬
‫علما بأفع ال هللا تع الى من ملك وت الس موات إلى منتهى ال ثرى ح تى إذا لم ي ر في‬
‫خلق الرحمن من تفاوت‪ ،‬ثم رجع البصر فما رأى من فطور‪ ،‬ثم رج ع م رة أخ رى‬
‫فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير‪ ،‬وق د به ره جم ال الحض رة الربوبي ة وح يره‬
‫اعتدالها وانتظامها‪ ،‬فعند ذلك يعبق بفهمه شيء من معاني عدله تعالى وتقدس)(‪)1‬‬
‫وهذه المعاني جميعا ال تكتفي في داللتها على وصف هللا بالع دل‪ ،‬أو وص ف‬
‫كونه ورسله وشرائعه به‪ ،‬وإنما تدل أيضا على ض رورة وج ود حي اة أخ رى غ ير‬
‫هذه الحياة‪ ،‬يتحقق فيها العدل بصورته الكاملة‪.‬‬
‫وقد عبر النورسي عن وجه الداللة في ذلك‪ ،‬فقال ـ متس ائال ـ‪( :‬أمن الممكن‬
‫لخالق ذي جـالل أظهر ســـلطان ربــوبـيـتـه بتـدبيـر قـانــون الوجــود ابـتــداء من‬
‫الذرات وانتهاء بالمجرات‪ ،‬بغاية الحكمة والنـظام وبمنتهى العدالـة والم يزان‪ ..‬أن‬
‫ال يعا ِمل باإلحســان من احتـموا بتـلك الربوبيـة وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة‪ ،‬وأن‬
‫عصـوا بكفرهم وطغيانهم تل ك الحكم ةَ والعدالــة؟‪ ..‬بينم ا‬ ‫َ‬ ‫ال يجازي أولئـك الذيــن‬
‫اإلنسان ال يَلقى ما يستحقه من الث واب أو العق اب في ه ذه الحي اة الفاني ة على وج ه‬
‫يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة إالّ نادرا‪ ،‬ب ل ي ؤ َّخر‪ ،‬إذ يرح ل أغلبُ أه ل الض اللة‬
‫دون أن يلقوا عقابهم‪ ،‬ويذهب أكث ُر أهل الهداية دون أن ينالوا ثوابهم‪ ..‬فالبد أن تُناط‬
‫القضية ُ بمحكمة عادلة‪ ،‬وبلقا ٍء آيل إلى سعادة عظمى)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬المقصد األسنى‪.98:‬‬
‫‪ )(2‬الكلمات‪ ،‬ص‪.70‬‬

‫‪36‬‬
‫ثم دعا إلى النظر في الكون‪ ،‬للعبور منه إلى هذه الحقيقة‪ ،‬فقال‪( :‬إن منح ك ل‬
‫شيء وجودا بموازين حساسة‪ ،‬وبمقاييس خاصة‪ ،‬وإلبا َسه ص ورة معين ة‪ ،‬ووض َعه‬
‫في موضع مالئم‪ ..‬ي بيّن بوض وح أن األم ور تس ير وف ق عدال ة وم يزان مطلقين‪..‬‬
‫وكذا‪ ،‬إعطاء كل ذي حق حقَّه وفق استعداده ومواهبه‪ ،‬أي إعطاء كل ما يلزم‪ ،‬وم ا‬
‫هو ضروري لوجوده‪ ،‬وتوفير جميع ما يحتاج إلى بقائه في أفضل وضع‪ ،‬يد ّل على‬
‫أن يد عدالة مطلقة هي التي تُسيّر األمور‪ ..‬وكذا‪ ،‬االستجابة المستمرة والدائم ة لم ا‬
‫يُسأل بلسان االستعداد أو الحاجة الفطرية‪ ،‬أو بلس ان االض طرار‪ ،‬تُظه ر أن عدال ةً‬
‫مطلقة‪ ،‬وحكمة مطلقة هما اللتان تُجريان عجلة الوجود)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا كله يتس اءل النورس ي ق ائال‪( :‬ه ل من الممكن أن تهم ل ه ذه‬
‫العدال ةُ وه ذه الحكم ة تل ك الحاج ةَ العظمى‪ ،‬حاج ةَ البق اء ألس مى مخل وق وه و‬
‫اإلنسان؟ في حين أنهما تستجيبان ألدنى حاج ة ألض عف مخل وق؟ فه ل من الممكن‬
‫أن ت ر ّدا أه َّم م ا يرج وه اإلنس انُ وأعظ َم م ا يتمن اه‪ ،‬وأاّل تص ونا حش مة الربوبي ة‬
‫وتتخلّفا عن اإلجابة لحقوق العباد؟)(‪)2‬‬
‫ثم يجيب قائال‪( :‬غ ير أن اإلنس ان ال ذي يقض ي حي اةً قص يرةً في ه ذه ال دنيا‬
‫الفانية ال ينال ولن ينال حقيقةً مثل هذه العدالة‪ .‬وإنما تؤ َّخر إلى محكمة كبرى‪ .‬حيث‬
‫تقتضي العدالةُ الحقة أن يالقي ه ذا اإلنس ان الص غير ثوابَ ه وعقاب ه ال على أس اس‬
‫صغره‪ ،‬بل على أساس ضخامة جنايته‪ ،‬وعلى أس اس أهمي ة ماهيت ه‪ ،‬وعلى أس اس‬
‫عظمة مهمته‪ ..‬وحيث إن هذه الدنيا العابرة بعيدة كل البعد عن أن تكون محال لمث ل‬
‫هذه العدالة والحكمة بما يخص هذا اإلنسان ـ المخلوق لحياة أبدي ة ـ فالب د من جن ٍة‬
‫أبدية‪ ،‬ومن جهنم دائمة للعادل الجليل ذي الجمال وللحكيم الجميل ذي الجالل) (‪)3‬‬
‫وقد ذكر في بداية الرسالة‪ ،‬وفي الحكاية التي ح اول أن يق رب به ا ض رورة‬
‫وجود حياة أخرى‪ ،‬اثني عشر صورة تدل على ضرورة وج ود تل ك الحي اة‪ ،‬وكله ا‬
‫ترتبط بالعدل في الجزاء‪ ،‬نكتفي منها بالمعاني التالية(‪:)4‬‬
‫‪ .1‬أ ِمنَ الممكن لس لطن ٍة‪ ،‬والس يما كه ذه الس لطنة العظمى‪ ،‬أن ال يك ون فيه ا‬
‫ثواب للمطيعين وال عقاب للعاصين؟‪ ..‬ولما كان العق اب والث واب في حكم المع دوم‬
‫دار أخرى‪.‬‬‫في هذه الدار‪ ،‬فالبد إذن من محكم ٍة كبرى في ٍ‬
‫‪ .2‬تأمل سير األح داث واإلج راءات في ه ذه المملك ة‪ ،‬كي ف ي و َّزع ال رزقُ‬
‫ك هذه السلطنة وملي ُكها ذو كرم‬ ‫رغدا حتى على أضعف كائن فيها وأفقره‪ ..‬إذن فمالِ ُ‬
‫عظيم‪ ،‬وذو رحمة واسعة‪ ،‬وذو عزة شامخة‪ ،‬وذو غيرة جليلة ظ اهرة‪ ،‬وذو ش رف‬
‫س ٍام‪ .‬ومن المعل وم أن الك رم يس توجب إنعام ا‪ ،‬والرحم ة ال تحص ل دون إحس ان‪،‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.71‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.71‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.71‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الكلمات‪ ،‬ص‪ ،50‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫والعزة تقتضي الغيرة‪ ،‬والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين‪ ،‬بينما ال يتحق ق‬
‫ف مم ا يلي ق بتل ك الرحم ة وال ب ذلك الش رف‪.‬‬ ‫في ه ذه المملك ة ج زء واح د من أل ٍ‬
‫فيرحل الظالم في عزته وجبروته ويرحل المظل وم في ذل ه وخنوع ه‪ .‬فالقض ية إذن‬
‫مؤجّلة إلى محكمة كبرى‪.‬‬
‫نجز األعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظ ام ب ديع‪ ،‬وتأم ل كي ف‬ ‫‪ .3‬انظر‪ ،‬كيف تُ َ‬
‫يزان ص ائب‪ .‬ومن المعل وم أن حكم ةَ‬ ‫ٍ‬ ‫يُنظر إلى المعامالت بمنظار عدال ٍة حق ة وم‬
‫الحكومة وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتك ريمهم‪ .‬والعدال ةُ المحض ة‬
‫تتطلب رعاية حقوق الرعية‪ ،‬لتص ان هيب ة الحكوم ة وعظم ة الدول ة‪ ..‬غ ير أن ه ال‬
‫يبدو هنا إاّل جزء ضئيل من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة‪ ،‬وبتلك العدالة‪ ..‬فالقضية إذن‬
‫مؤجلة بال ريب إلى محكمة كبرى‪.‬‬
‫‪ .4‬انظر إلى ما ال يعد وال يحصى من الجواهر الن ادرة المعروض ة في ه ذه‬
‫المعارض‪ ،‬مما يُبرز لنا أن لسلطان ه ذه المملك ة س خا ًء غ ير مح دود‪ ..‬ولكن مث ل‬
‫هــذا الســــخاء الدائــــم‪ ،‬ومثـل هـذه الخزائـــن ال تي ال تنف د‪ ،‬يتطلب ان حتم ا دار‬
‫ضيافة خالدة أبديـــة‪ ،‬فيها ما تشتهيه األنفس‪ .‬ويقـتـضـيـــان ك ذلك خل و َد المتنعمين‬
‫زوال األلم‬
‫َ‬ ‫المتـلذذيــن فيها‪ ،‬من غيـر أن يذوقوا ألــ َم الفـراق وال زوال؛ إذ كم ا أن‬
‫لذة فزوال اللذة ألم كذلك‪.‬‬
‫‪ .5‬تأمل‪ ،‬كيف أن لهذا السلطان ـ الذي ال نظير ل ه ـ رأف ة عظيم ة‪ ،‬إذ يغيث‬
‫الملهوف المستغيث‪ ،‬ويستجيب للداعي المستجير‪ ،‬وإذا م ا رأى أدنى حاج ة ألبس ط‬
‫فرد من رعاياه فإنه يقضيها بكل رأفة وشفقة‪ ..‬فه ل ِمن الممكن لمن يمل ك ك َّل ه ذه‬
‫القدرة الفائقة‪ ،‬وكل هذه الرأفة الشاملة‪ ،‬أن ال يعطي عباده المطيعين له ما يرغب ون‬
‫اهتمام أدنى رغبة ألصغر فرد من رعاياه؟‬ ‫ٍ‬ ‫فيه؟ وهو الذي يقضي بكل‬
‫ثالثا ـ الموت‪ ..‬وبراهين العقل‪:‬‬
‫ونقصد بها تلك البراهين التي استعملها الفالسفة وغيرهم‪ ،‬إم ا إلثب ات خل ود‬
‫النفس‪ ،‬أو إلثب ات الي وم اآلخ ر‪ ،‬وهي تتق اطع في أج زاء كث يرة منه ا ب البراهين‬
‫السابقة‪ ،‬لكنا آثرنا تخصيص ها بمبحث خ اص‪ ،‬العتباره ا من نت ائج العق ل المج رد‬
‫عن االستناد ألي نص مقدس‪.‬‬
‫ولع ل من أك بر أن واع ه ذه ال براهين اتف اق أك ثر الفالس فة على اس تمرارية‬
‫الحي اة بع د الم وت‪ ،‬وإن اختلف وا في العل ة ال تي تع ود إليه ا تل ك االس تمرارية‪ ،‬أو‬
‫كيفيتها‪ ،‬وال يهمنا ذلك هنا‪ ،‬ألن اله دف ه و إثب ات القض ية‪ ،‬ال إثب ات كيفيته ا‪ ،‬وال‬
‫مصدرها‪ ،‬فذلك شأن آخر‪.‬‬
‫وال نستطيع أن نورد هنا كل ما ذكره الفالسفة اليونانيين أو غيرهم‪ ،‬لكثرت ه‪،‬‬
‫ول ذلك نكتفي باقتب اس بعض م ا ذك ره ع الم وفيلس وف يمكن اعتب اره من كب ار‬
‫الم ؤرخين والمحققين في الفلس فة والعل وم المرتبط ة به ا‪ ،‬وه و األس تاذ الكب ير‬
‫المعاصر [يحي محمد] الذي نص على إجماع الفالسفة القدامى على ما ذكرن ا‪ ،‬فق د‬
‫قال‪( :‬يجمع الفالسفة على أن النفس لها أصل إلهي س ابق على الب دن‪ ،‬وهم من ه ذا‬

‫‪38‬‬
‫المنطلق اعتق دوا بض رورة مفارقته ا ل ه بع د اكتم ال مهمته ا من بل وغ الح د ال ذي‬
‫يجعلها قابلة لالنفصال عنه كلياً‪ .‬مما يعني أن النفس ال ب د له ا أن تع ود إلى عالمه ا‬
‫االلهي الذي تنزلت منه‪ .‬أي فكما أن هناك تنزالً‪ ،‬فهناك عود وصعود)(‪)1‬‬
‫وه و ي ذكر ن وعين من الخالف ال ذي أدى إلي ه النظ ر الفلس في المج رد في‬
‫المسألة‪:‬‬
‫أولهما ـ الخالف في النفس التي يستمر وجودها بن اء على المف اهيم الفلس فية‬
‫المرتبطة بحقيقة اإلنسان‪ ،‬حيث (يؤك د الفالس فة ب أن النفس ال تي تف ارق الب دن هي‬
‫تلك التي تتصف بالتجرد‪ ،‬وتكون موضعا ً للعلم العقلي‪ ،‬فهم يتفقون ـ كم ا ينق ل ابن‬
‫رشد ـ على أن النفس المخالطة للهيولى‪ ،‬والتي توصف بأنها مخلّقة النواع االجسام‬
‫واالبدان االرضية ومصورة لها‪ ،‬تع ود الى مادته ا الـروحانية اإللـهية‪ ،‬أم ا النفس‬
‫التي ال تخالط الهيولى والتي ليس لها عالقة بتخليق البدن وتصويره‪ ،‬ف ان الفالس فة‬
‫يختلفون في حدود ما هو قابل للتجرد والرج وع الى األص ل اإللهي‪ .‬فعن د ارس طو‬
‫أن جميع قوى النفس تبطل سوى العقل المكتسب المس مى بالعق ل المس تفاد‪ ،‬بخالف‬
‫العقلين المتبقيين‪ ،‬وهما العقل الهيوالني والعقل بالملكة‪ .‬فالعقل الهي والني ه و عق ل‬
‫بالقوة‪ ،‬اي محض استعداد لقبول وادراك المعقوالت‪ ،‬فهو بالتالي خ ال من الص ور‪.‬‬
‫أم ا العق ل بالملك ة فه و العق ل ال ذي تحص ل في ه المعق والت وك ان من الممكن‬
‫استحضارها متى شاءت النفس من غير جهد وال تكلف‪ .‬في حين ان العقل المس تفاد‬
‫فهو ذلك الذي تكون فيه المعقوالت حاض رة عن د العق ل من غ ير غي اب‪ .‬فه ذه هي‬
‫قوى العق ل الثالث‪ ،‬وكله ا داث رة عن د ارس طو باس تثناء العق ل األخ ير‪ ،‬لكن أتب اع‬
‫ارسطو من المشائين القدامى وجدوا أن العقل الهيوالني هو أيضا ً محفوظ بالبق اء ال‬
‫يقبل الفساد واالندثار)(‪)2‬‬
‫الثاني‪ :‬الخالف في كيفية المع اد‪ ،‬وق د ذك ر أن الفالس فة ذك روا فيه ا أربع ة‬
‫أطروحات‪ ،‬هذه خالصتها‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ .1‬أن المعاد ليس جسمانيا‪ ،‬وإنما يجب ان يكون محال للعلم بما ال ينقسم‪ ،‬وال‬
‫يمكن االشارة اليه حسياً‪ ،‬وهو قول أغلب الفالسفة‪ ،‬فابن س ينا ‪ -‬مثالً ‪ -‬ص رح بنفي‬
‫المعاد الجسماني في رسالة (االضحوية في ام ر المع اد)(‪ )3‬وفي رس الة (دف ع الغم‬
‫من الموت)(‪ ،)4‬وفي كتاب (المبدأ والمعاد) ذكر عنوانا ً أومأ في ه الى ذل ك المع نى‪،‬‬
‫حيث جاء فيه‪( :‬في السعادة والشقاوة الوهمية في اآلخرة دون الحقيقية)(‪)5‬‬
‫لكن ربما يكون مقصد ابن س ينا من ه ذا ليس نفي المع اد الجس ماني مطلق ا‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الفلسفة والعرفان واإلشكاليات الدينية‪ :‬دراسة معرفية تع نى بتحلي ل نظ ام الفلس فة والعرف ان وفهم ه‬
‫لإلشكاليات الدينية‪ ،‬يحيى محمد‪ ،‬ص‪.146‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.146‬‬
‫‪ )(3‬ابن سينا‪ :‬رسالة أضحوية في أمر المعاد‪ ،‬ص‪ 51-50‬و‪.57-55‬‬
‫‪ )(4‬رسالة في دفع الغم من الموت‪ ،‬ص‪..50‬‬
‫‪ )(5‬المبدأ والمعاد‪ ،‬ص‪..114‬‬

‫‪39‬‬
‫وإنما اعتبار المعاد الجس ماني من القض ايا ال تي دل عليه ا الش رع‪ ،‬بخالف المع اد‬
‫الروحاني أو النفسي التي دل عليه ا النظ ر الفلس في المج رد‪ ،‬وي دل ل ذلك قول ه في‬
‫(إلهي ات الش فاء)‪( :‬يجب أن تعلم ان المع اد من ه مقب ول من الش رع وال س بيل الى‬
‫اثباته اال من طريق الشريعة وتصديق خ بر النب وة‪ ،‬وه و ال ذي للب دن عن د البعث‪..‬‬
‫ومنه ما ه و م درك بالعق ل والقي اس البره اني‪ ،‬وق د ص دقته النب وة‪ ،‬وه و الس عادة‬
‫والشقاوة الثابتتان بالمقاييس اللتان لالنفس)(‪)1‬‬
‫‪ .2‬أن الخل ود ليس فردي اً‪ ،‬ب ل إن النف وس البش رية بع د الم وت تتح د بعق ل‬
‫اإلنسانية الشامل والمعبر عنه بالعقل الفعال‪ ،‬ويشبه ذلك الضوء حيث ينقسم بانقسام‬
‫االجسام المضيئة‪ ،‬ثم يتحد عند انتفاء االجسام‪ ،‬وكذا االمر في النفوس م ع االب دان‪،‬‬
‫اذ تتحد بانتفاء األخيرة‪ ،‬وقد حكاه ابن رشد عن الفالسفة المشائين‪.‬‬
‫‪ .3‬أن المعاد الجسماني يع بر عن ع الم وس يط وج امع بين الع المين الحس ي‬
‫والعقلي‪ ،‬وهو عالم الخي ال وال ُمث ل المعلق ة‪ ،‬فه و يجم ع ص ور جمي ع الموج ودات‬
‫العقلية والحس ية‪ .‬وتتص ف ه ذه ال ُمث ل بأنه ا خارجي ة منفص لة عن النفس في ع الم‬
‫التجرد واآلخرة‪ ،‬على شاكلة ما ك ان يقول ه أفالط ون م ع بعض الف وارق‪ ،‬حيث أن‬
‫ال ُمثل االفالطونية نورية ثابتة‪ ،‬بينم ا ال ُمث ل المعلق ة على ص نفين‪ ،‬فمنه ا المس تنيرة‬
‫للسعداء‪ ،‬كما منها الظلمانية لألشقياء‪ ..‬وفي جميع االحوال فإن ال ُمثل المعلقة ليس ت‬
‫حالّة في قوام مادي‪ ،‬كما إنه ا ليس ت خي االت نفس ية داخلي ة‪ ،‬وه و أم ر يتس ق م ع‬
‫نظريته النورية في الش هود والحض ور‪ ،‬حيث في ه ذه الحال ة تك ون النفس مدرك ة‬
‫لتلك ‹البرازخ› من ال ُمثل إدراكا ً حضوريا ً بالشهود‪ ،‬وهذا ما تبنته الفلسفة اإلشراقية‬
‫للسهروردي‪.‬‬
‫‪ .4‬أن هناك أنواع ا ً متع ددة من المع اد للممكن ات الوجودي ة حس ب مراتبه ا؛‬
‫تصل الى ستة أنواع‪ ،‬وتتصف أغلب ه ذه المع ادات بأنه ا ص ورية وقائم ة بحس ب‬
‫اعتبارات نظرية االتحاد‪ ،‬فكل شيء يتحد بما يناسبه‪ ،‬ومن بين هذه المعادات هن اك‬
‫المعاد الخاص باإلنسان والذي بدوره يشتمل على عدد من المعادات بحسب مقاماته‬
‫ومراتبه‪.‬‬
‫ً‬
‫ويعتبر صدر المتألهين أبرز القائلين بتعدد أنواع المع اد تبع ا العتق اده بتع دد‬
‫أنواع البشر‪ ،‬فاإلنسان عنده‪ ،‬وإن ك ان نوع ا ً واح داً في الظ اهر بحس ب م ا تخ رج‬
‫مادته الجسمانية من القوة الى الفعل‪ ،‬لكنه متخ الف الماهي ة في الب اطن‪ ،‬بحس ب م ا‬
‫يخرج عقله الهيوالني من القوة الى الفعل‪ ،‬فعند خروج النفوس من الق وة الهيوالني ة‬
‫تصير أنواعا ً متخالفة بحسب غلبة الصفات ورسوخ الملك ات‪ ،‬فك ل ن وع من جنس‬
‫ما يغلب عليه من صفات بهيمي ة أو س بعية أو ش يطانية أو مالئكي ة‪ ،‬وك ل ف رد من‬
‫اإلنسان يع ود الى مبدئ ه ال ذي انش أه‪ ،‬ف البعض يك ون الح ق عل ة وج وده ومباش ر‬
‫تكوينه بيديه‪ ،‬فيكون معاده اليه‪ ،‬وبعض آخر يك ون مب دأ وج وده الق ريب ه و آخ ر‬

‫‪ )(1‬إلهيات الشفاء‪ ،‬ص‪..423‬‬

‫‪40‬‬
‫مراتب العقول المفارق ة‪ ،‬ل ذا فمع اده يك ون الي ه‪ ،‬كم ا ان هن اك بعض ا ً ثالث ا ً يك ون‬
‫وجوده بمدخلية بعض الشياطين الذين هم ع ّمار عالم الش ر‪ ،‬ل ذلك فمع اده الى الن ار‬
‫التي هي أصل وجوده حيث يتألف منها الشيطان‪ ،‬وهكذا (‪.)1‬‬
‫هذه خالصة للرؤى الفلس فية في المس ألة‪ ،‬ولك ل رؤي ة منه ا أدلته ا الخاص ة‬
‫بها‪ ،‬والجامع بينها جميعا هو إثبات استمرارية الحياة بع د الم وت‪ ،‬وإن اختلف وا في‬
‫كيفية تلك االستمرارية‪ ،‬ومن أهم األدلة التي اعتمدوا عليها في ذلك(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أن معلوم ات اإلنس ان مج ردة عن الم واد‪ ،‬ف العلم المتعل ق به ا يك ون ال‬
‫محالة مطابقا ً لها‪ ،‬فيكون مج رداً لتجرده ا‪ ،‬فمحل ه ـ وه و النفس ـ يجب أن يك ون‬
‫كذلك‪ ،‬الستحالة حلول المجرد في المادي‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ 2‬ـ الماديات قابلة للقسمة‪ ،‬وعارض النفس ـ وهو العلم ـ غير منقس م‪ ،‬فمحل ه‬
‫ـ وهو النفس ـ ال ب د أن يك ون ك ذلك‪ ،‬ث ّم إن مح ّل العل وم الكلي ة ل و ك ان جس ما ً أو‬
‫جس مانيا ً النقس مت تل ك العل وم‪ ،‬ألن الح ا ّل في المنقس م منقس م‪ ،‬وانقس ام العل وم‬
‫والمفاهيم الذهنية مستحيل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ إن النفوس البشرية تقوى على أفعال وإدراكات ال تتناهى‪ ،‬كتعقّل األعداد‬
‫غير المتناهية‪ ،‬والقوة الجسمانية ال تقوى على ما ال يتناهى‪ ،‬فهي إذن غيرها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ل و ك ان وع اء العلم ه و ال دماغ أو غ يره من آالت التعقّ ل‪ ،‬لك انت ك ّل‬
‫معلوم ٍة تضاف إليه تشغل حيزاً منه‪ ،‬وألصبحت القابلية العلمية لإلنس ان متناهي ة ؛‬
‫ألن قابلية المادة على استيعاب المعلومات محدودة كالص حيفة ال تي تمتلئ بالكتاب ة‪،‬‬
‫أو القرص الذي يمتلئ بالصوت أو الصورة‪ ،‬وذل ك يع ني أن اإلنس ان ل و س مح ل ه‬
‫عمره أن يستوفي كل وعائه العلمي‪ ،‬فسيصل إلى مرحلة يفقد فيه ا اس تعداده للتعلم‪،‬‬
‫وذلك محال‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ العلم الب ديهي حاص له أن في ذات اإلنس ان حقيق ة ثابت ة يش عر به ا على‬
‫طول العمر وحتى بعد النشور‪ ،‬ويعبّر عنها باألنا‪ ،‬فلو كان اإلنس ان ه و ه ذا الب دن‬
‫المحسوس ألصبح عرضةً للتب ّدل والتغيّ ر‪ ،‬والُس دل الس تار على جمي ع معلومات ه‬
‫ألن أجزاء الب دن متب ّدل ة‬‫وأفكاره‪ ،‬ولكان شعوره باألنا أمراً باطالً وإحساسا ً خاطئاً‪ّ ،‬‬
‫متغيّرة‪ ،‬ففي ك ّل يوم تموت ماليين الخاليا وتح ّل محلّه ا خالي ا جدي دة‪ ،‬وق د حس ب‬
‫العلماء معدل هذا التج ّدد‪ ،‬فظهر أنه يحصل بصورة شاملة في البدن مرة ك ّل عش ر‬
‫سنين‪ ،‬أما بعد الموت فإن البدن يضمح ّل ويتالش ى‪ ،‬والمتب ّدل غ ير الث ابت الب اقي‪،‬‬
‫وعليه فإن مالك وحدة شخصية اإلنسان واالساس في ثبات أفكاره ومعلومات ه رغم‬
‫حصول التغير في البناء الجسمي هو الروح‪.‬‬
‫فإن من نظر‬ ‫‪ 6‬ـ إن القوى الجسمانية تضعف وتك ّل مع توارد األفعال عليها‪ّ ،‬‬
‫إلى قرص الشمس ط ويالً ال يك اد ي درك في الح ال غ يره إدراك ا ً تام اً‪ ،‬أم ا الق وى‬

‫‪ )(1‬تفسير صدر المتألهين‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.56-55‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المعاد يوم القيامة‪ ،‬علي موسى الكعبي‪ ،‬ص‪ ،58‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫النفسانية فإنها ال تضعف بسبب كثرة األفعال‪ ،‬بل عند كثرة التعقالت تق وى وت زداد‬
‫نشاطاً‪ ،‬فالحاصل لها عند كثرة األفعال هو ض ّد م ا يحص ل للق وى الجس مانية عن د‬
‫كثرة األفعال‪ ،‬فوجب أن ال تكون جسمانية‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ حص ول األض داد في الق وى النفس انية وع دم حص ولها في الق وى‬
‫بأن السواد مضا ّد للبياض‪ ،‬وجب أن يحصل في الذهن ماهية‬ ‫الجسمانية‪ ،‬فإذا حكمنا ّ‬
‫السواد والبياض‪ ،‬والبداهة حاكم ة ب أن اجتم اع األض داد في األجس ام مح ال‪ ،‬فل ّم ا‬
‫حصل اجتماعها في القوى النفسانية وجب أن ال تكون جسمانية‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ إن المادة الجس مانية إذا حص لت فيه ا ص ور ونق وش مخصوص ة‪ ،‬ف إن‬
‫وجود تلك الصور يمنع من حص ول غيره ا إالّ بع د إزال ة االُولى‪ ،‬بينم ا يس توعب‬
‫التعقّل والتص ّور الذهني الصور المتعاقبة التي يستطيع اإلنس ان أن يستحض رها أو‬
‫يتخيلها في لحظة م ا بمق دار وجوده ا الخ ارجي دون حاج ة إلى الت درّج أو م رور‬
‫ي وال متحيّز‪.‬‬‫الزمان ودون أن يمتلئ المح ّل بها‪ ،‬فال بد أن يكون محلها غير ماد ّ‬
‫هذه أبرز األدلة التي استدل بها الفالسفة على تجرد الروح‪ ،‬ومن ثم استمرار‬
‫حياتها بعد الموت‪ ،‬وقد ح اول مص طفى محم ود عن د حديث ه عن ال روح في كتاب ه‬
‫[حوار مع صديقي الملحد] أن يصيغها بطريقة مبسطة‪ ،‬تتناسب مع اللغة المستعملة‬
‫في عصرنا‪ ،‬ويمكن تصنيف ما ذكره إلى دليلين اثنين‪.‬‬
‫الدليل األول‪ :‬ازدواجية الحقيقة اإلنسانية‬
‫فأول المؤشرات التي تساعدنا على التدليل على وجود الروح هو أن اإلنس ان‬
‫ذو طبيعة مزدوجة (‪:)1‬‬
‫‪ .1‬طبيعة خارجية ظاهرة مش هودة هي جس ده تتص ف بك ل ص فات الم ادة‪،‬‬
‫فهي قابلة للوزن والقياس متحيزة في المكان متزمنة بالزمان دائمة التغير والحرك ة‬
‫والصيرورة من حال إلى حال ومن لحظة إلى لحظة‪ ،‬فالجسد تتداول عليه األح وال‬
‫من ص حة إلى م رض إلى س منة إلى ه زال إلى نش اط إلى كس ل‪ ..‬وملح ق به ذه‬
‫الطبيعة الجسدية ش ريط من االنفع االت والعواط ف والغرائ ز والمخ اوف ال يك ف‬
‫لحظة عن الجريان في الدماغ‪ ،‬وألن هذه الطبيعة واالنفعاالت الملحق ة به ا تتص ف‬
‫بخواص المادة نقول إن جسد اإلنسان ونفسه الحيوانية هما من المادة‪.‬‬
‫‪ .2‬طبيع ة داخلي ة مخالف ة تمام ا لألولى ومغ ايرة له ا‪ ،‬تتص ف بالس كون‬
‫والالزمان والالمكان والديمومة‪ ..‬وهي العقل بمع اييره الثابت ة وأقيس ته ومقوالت ه‪..‬‬
‫والضمير بأحكامه‪ ،‬والحس الجمالي‪ ،‬والـ [أن ا] ال تي تحم ل ك ل تل ك الص فات من‬
‫عقل وضمير وحس جمالي وحس أخالقي‪.‬‬
‫وهذه الـ [أنا] غير الجسد تمام ا وغ ير النفس الحيواني ة ال تي تلتهب ب الجوع‬
‫والش بق‪ ،‬ذل ك أنه ا ال ذات العميق ة المطلق ة وعن طري ق ه ذه ال ذات والكينون ة‬
‫والشخوص والمث ول في الع الم‪ ..‬وه و ش عور ث ابت ممت د ال يط رأ علي ه التغ ير ال‬

‫‪ )(1‬حوار مع صديقي الملحد (ص‪)37 :‬‬

‫‪42‬‬
‫يس من وال يه زل وال يم رض وال يتص ف بالزم ان‪ ..‬وليس في ه م اض وحاض ر‬
‫ومستقبل‪ ..‬إنما ه و آن مس تمر ال ينص رم كم ا ينص رم الماض ي‪ ..‬وإنم ا يتمث ل في‬
‫شعور بالدوام‪ ..‬بالديمومة‪.‬‬
‫هنا نوع آخر من الوجود ال يتصف بصفات المادة فال هو يطرأ علي ه التغ ير‬
‫وال هو يتحيز في المكان أو يتزمن بالزمان وال هو يقبل ال وزن والقي اس‪ ..‬ب العكس‬
‫نجد أن هذا الوجود هو الثابت الذي نقيس به المتغ يرات والمطل ق ال ذي نع رف ب ه‬
‫كل ما هو نسبي في عالم المادة‪.‬‬
‫ويعرض مصطفى محمود لصديقه الملحد المتمسك ب رأي الفالس فة الم اديين‬
‫في اعتبار اإلنسان ذا طبيع ة واح دة هي الطبيع ة المادي ة مجموع ة مش اهد نعيش ها‬
‫تثبت ازدواجية الطبيع ة اإلنس انية‪ ،‬وتثبت في نفس ال وقت س يطرة الطبيع ة الثاني ة‬
‫على األولى‪.‬‬
‫ومن أهمها تضحية اإلنسان بنفسه‪ ،‬فـ (لحظة التض حية ب النفس حينم ا يض ع‬
‫الفدائي حزام ال ديناميت ح ول جس ده‪ ،‬ويتق دم ليحطم الدباب ة ومن فيه ا‪ ..‬أين جس ده‬
‫هنا؟‪ ..‬أين المصلحة المادية التي يحققها بموته‪ ..‬ومن الذي يأمر اآلخر؟‪ ..‬إن الروح‬
‫تقرر إعدام الجس د في لحظ ة مثالي ة تمام ا ال يمكن أن يفس رها م ذهب م ادي ب أي‬
‫مكسب مادي والجسد ال يستطيع أن يقاوم هذا األمر‪ ..‬وال يمل ك أي ق وة لمواجهت ه‪،‬‬
‫ال يمل ك إال أن يتالش ى تمام ا‪ ..‬وهن ا يظه ر أي الوج ودين ه و األعلى‪ ..‬وأي‬
‫الطبيعتين هي اإلنسان حقا)(‪)1‬‬
‫ومن األدل ة العلمي ة المرتبط ة به ذا‪( ،‬م ا يج ري اآلن من ح وادث الب تر‬
‫واالستبدال وزرع األعضاء‪ ..‬وم ا نق رأه عن القلب اإللك تروني والكلي ة الص ناعية‬
‫وبنك الدم وبنك العيون ومخازن اإلكسسوار البشري حيث يج ري ت ركيب الس يقان‬
‫واألذرع والقلوب‪ ..‬إلى هذه الدرجة يج ري ف ك الجس م وتركيب ه واس تبداله دون أن‬
‫يحدث شيء للشخصية ألن هذه الذراع أو تلك الساق‪ ..‬ك ل ه ذه األش ياء ليس ت هي‬
‫اإلنس ان‪ ..‬فه ا هي تنق ل وتس تبدل وتوض ع مكانه ا بطاري ات ومس امير وقط ع من‬
‫األلومنيوم دون أن يح دث ش يء‪ ..‬فاإلنس ان ليس ه ذه األعض اء وإنم ا ه و ال روح‬
‫الجالسة على عجلة القيادة لتدير هذه الماكينة التي اسمها الجس د‪ ..‬إنه ا اإلدارة ال تي‬
‫يمثله ا مجلس إدارة من خالي ا المخ‪ ..‬ولكنه ا ليس ت المخ‪ ..‬ف المخ مثل ه مث ل خالي ا‬
‫الجسد يصدع باألوامر التي تصدر إليه ويعبر عنها ولكنه في النهاي ة ليس أك ثر من‬
‫قفاز لها‪ ..‬قفاز تلبسه هذه الي د الخفي ة ال تي اس مها ال روح وتتص رف ب ه في الع الم‬
‫المادي) (‪)2‬‬
‫وبناء على هذا كل ه‪ ،‬ف إن الش واهد كله ا ت دل على أن اإلنس ان ل ه طبيعت ان‪:‬‬
‫(طبيعة جوهرية حاكمة هي روحه‪ ..‬وطبيعة ثانوية زائل ة هي جس ده‪ ..‬وم ا يح دث‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.39‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.39‬‬

‫‪43‬‬
‫بالموت أن الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال والطبيعة الخالدة تلتح ق ب الخلود فيلتح ق‬
‫الجسد بالتراب وتلتحق الروح بعالمها الباقي) (‪)1‬‬
‫الدليل الثاني‪ :‬دليل الحركة‬
‫وهو من األدلة الواضحة‪ ،‬التي تسلم لها جمي ع العق ول؛ فـ (الحرك ة ال يمكن‬
‫رصدها إال من خارجه ا‪ ،‬فال يمكن ألح د أن ي درك الحرك ة وأن تتح رك معه ا في‬
‫نفس الفلك وإنما ال بد من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها) (‪)2‬‬
‫وكمثال على ذلك ـ يورده مص طفى محم ود ـ (ت أتي علي ك لحظ ة وأنت في‬
‫أسانسير متح رك ال تس تطيع أن تع رف ه ل ه و واق ف أم متح رك ألن ك أص بحت‬
‫قطعة واحدة معه في حركته‪ ..‬ال تستطيع إدراك هذه الحركة إال إذا نظرت من ب اب‬
‫األسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج‪ ..‬ونفس الحال ة في قط ار يس ير بنعوم ة‬
‫على القضبان‪ ..‬ال تدرك حرك ة مث ل ه ذا القط ار وأنت في ه إال لحظ ة ش روعه في‬
‫الوقوف أو لحظة إطاللك من النافذة على الرصيف الثابت في الخ ارج‪ ..‬وبالمث ل ال‬
‫يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رص دها من القم ر أو األرض‪ ..‬كم ا‬
‫ال يمكنك رصد األرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من القمر) (‪)3‬‬
‫وبناء على هذا كله ال يستطيع اإلنسان أن يحيط بحالة إال إذا خرج خارجها‪..‬‬
‫وهذه القاعدة يمكن تطبيقها مع الزمن‪ ،‬ذلك أننا (ما كنا نستطيع إدراك مرور‬
‫الزمن لوال أن الجزء المدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور‬
‫الزمني المستمر ـ أي على عتبة خلود ـ ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل‬
‫لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا‪ ،‬والنصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني‬
‫بدون أن يالحظ شيئا) (‪)4‬‬
‫والنتيجة التي تدل عليها هذه الحقيقة هي (أن هناك جزءا من وجودنا خارج ا‬
‫عن إطار المرور الزم ني ـ أي خال د ـ ه و ال ذي يالح ظ ال زمن من عتب ة س كون‬
‫ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا ال يك بر وال يش يخ وال يه رم وال ينص رم‪ ..‬وي وم‬
‫يسقط الجسد ترابا سوف يظل هذا الجزء على حاله حيا حياته الخاصة غير الزمنية‬
‫هذا الجزء هو الروح) (‪)5‬‬
‫وه ذا الوج ود ال ذي يتع الى على ال زمن‪ ،‬ش يء يستش عره ك ل إنس ان (على‬
‫صورة حضور وديمومة وشخوص وكينونة مغايرة تمام ا للوج ود الم ادي المتغ ير‬
‫المتقلب النابض مع الزمن خارجه‪ ..‬وهذه الحالة الداخلية ال تي ن دركها في لحظ ات‬
‫الصحو الباطني‪ ..‬هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي ب داخلنا ويض ع ي دنا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬
‫‪ )(5‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.41‬‬

‫‪44‬‬
‫الروح) (‪)1‬‬ ‫على هذا اللغز الذي اسمه‬
‫وهكذا كان الشعور نفسه دليلن ا إلى وج ود ال روح‪ ،‬وإلى الطبيع ة المزدوج ة‬
‫التي يتشكل منها كيانن ا‪ ،‬وال تي يكفي النظ ر إليه ا في التع رف على حقيق ة ال روح‪،‬‬
‫والكثير من خصائصها‪..‬‬
‫ومن أهمها ـ كما يذكر مصطفى محم ود ـ م ا ي دعو إلي ه المالح دة أنفس هم‪،‬‬
‫وهو الحرية‪ ،‬فـ (شعورنا الفطري بالحرية‪ ،‬ولو كنا أجساما مادية ضمن إطار حي اة‬
‫مادية تحكمنا القوانين المادية الحتمية لم ا ك ان هن اك مع نى له ذا الش عور الفط ري‬
‫بالحرية) (‪)2‬‬
‫رابعا ـ الموت‪ ..‬وبراهين العلم‪:‬‬
‫ال نقصد ببراهين العلم هنا توف ير م ا يطلب ه أولئ ك ال ذين يط البون ك ل حين‬
‫باألدلة الحسية المخبرية على إثبات الحقائق المرتبطة بالمعاد‪ ،‬أو بغيره من الحقائق‬
‫اإليمانية‪ ،‬ويعتبرون عدم القدرة على إثبات ذلك عجزا‪ ،‬ويستنتجون من عدم الق درة‬
‫على اإلثبات عدم الثبوت‪.‬‬
‫ولو أن البشر استطاعوا تحقيق ذلك‪ ،‬ووصلوا بم داركهم الحس ية إلى معرف ة‬
‫أسرار الحياة بعد الموت‪ ،‬لما بقي هناك معنى للتكليف واالختبار‪ ..‬ذلك أن االختب ار‬
‫ب ﴾ [المائدة‪،]94 :‬‬ ‫منوط باإليمان بالغيب‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬لِيَ ْعلَ َم هللا َم ْن يَخَافُهُ بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ب َوهُ ْم ِمنَ السَّا َع ِة ُم ْشفِقُونَ ﴾ [األنبياء‪]49 :‬‬ ‫وقال‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن ذلك العقل الساذج الذي يطالب بالدليل الحسي ال يختلف عن عقل‬
‫ذلك البدوي في الجاهلية الذي طالب رسول هللا ‪ ‬به ذه المط الب ال تي ذكره ا هللا‬
‫﴿وقَ الُوا لَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لَ كَ َحتَّى‬ ‫تعالى محتقرا الطريقة التي يفك ر به ا أص حابها‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫ب فَتُفَجِّ َر اأْل َ ْنهَ ا َر‬
‫يل َو ِعنَ ٍ‬ ‫ض يَ ْنبُوعًا (‪ )90‬أَوْ تَ ُكونَ لَكَ َجنَّةٌ ِم ْن ن َِخ ٍ‬ ‫تَ ْف ُج َر لَنَا ِمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫ْ‬
‫ِخاَل لَهَا تَ ْف ِجيرًا (‪ )91‬أَوْ تُ ْسقِطَ ال َّس َما َء َك َما زَ َع ْمتَ َعلَ ْينَا ِك َسفًا أَوْ تَأتِ َي بِاهلل َو ْال َماَل ئِ َك ِة‬
‫ك َحتَّى‬ ‫ُف أَوْ تَرْ قَى فِي ال َّس َما ِء َولَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لِ ُرقِيِّ َ‬ ‫ْت ِم ْن ُز ْخر ٍ‬ ‫ك بَي ٌ‬ ‫قَبِياًل (‪ )92‬أَوْ يَ ُكونَ لَ َ‬
‫ت إِاَّل بَ َشرًا َر ُسواًل ﴾ [اإلس راء‪- 90 :‬‬ ‫تُنَ ِّز َل َعلَ ْينَا ِكتَابًا نَ ْق َر ُؤهُ قُلْ ُسب َْحانَ َربِّي هَلْ ُك ْن ُ‬
‫‪]93‬‬
‫وعدم إدراك المدارك الحسية لحقيقة الحياة بعد الموت‪ ،‬ال يعني كون المسألة‬
‫غير علمي ة‪ ،‬فنت ائج العلم أك بر من أن تحص ر في الم دارك الحس ية‪ ،‬ب ل إن العق ل‬
‫يستعمل وسائل أخرى للوصول إلى الحقائق‪.‬‬
‫والعلماء أنفسهم يذكرون أن مجال العلم محدود ج دا‪ ،‬فه و مرتب ط بالم دارك‬
‫والوسائل‪ ،‬فإذا انعدمت المدارك والوسائل توقف العلم‪ ،‬نفيا وإثباتا‪.‬‬
‫فال يس تطيع الط بيب ال ذي لم تت وفر لدي ه نت ائج التحالي ل‪ ،‬وال التص وير‬
‫اإلشعاعي‪ ،‬وال غيرها من وسائل التشخيص أن يعرف المرض‪ ،‬وال أن يعالجه‪ ،‬بل‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.41‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.41‬‬

‫‪45‬‬
‫يظل محتارا في تلك االحتماالت الكث يرة‪ ،‬ال تي وإن أط اق أن يلغي بعض ها ببعض‬
‫الخبرة إال أنه ال يطيق أن يلغي أكثرها‪.‬‬
‫وهكذا لوال اختراع المراصد والمجاهر والوس ائل المختلف ة لم ا اس تطعنا أن‬
‫نكتشف أجزاء كبيرة من الكون كانت غير معروفة لألجيال الس ابقة‪ ،‬وع ذرها ليس‬
‫في كونها غير موجودة في عهودها‪ ،‬وإنما في عدم إدراكها‪.‬‬
‫ولهذا نص الحكماء جميعا على تلك الحكمة المعروفة القائل ة‪[ :‬ع دم اإلثب ات‬
‫ال يع ني ع دم الثب وت](‪ ،)1‬أو [ع دم العلم بال دليل ليس نفي ا للمعل وم]‪ ،‬أو [ع دم‬
‫الوجدان ليس نفيا ً للوجود]‬
‫وهي الحكمة التي نص عليها القرآن الكريم عند بيانه ألسباب الكفر وتك ذيب‬
‫األنبياء‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬بَلْ َك َّذبُوا بِ َما لَ ْم يُ ِحيطُوا بِ ِع ْل ِم ِه َولَ َّما يَ أْتِ ِه ْم تَأْ ِويلُ هُ َك َذلِكَ َك َّذ َ‬
‫ب الَّ ِذينَ‬
‫ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم فَا ْنظُرْ َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ الظَّالِ ِمينَ ﴾ [يونس‪]39 :‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن العلم الحقيقي ممتلئ بالتواضع‪ ،‬وهو يقر بالجه ل الكث ير‪ ،‬وأن ه ال‬
‫يستطيع أن يحكم على العالم واألشياء من خالل المعارف البسيطة ال تي أح اط به ا‪،‬‬
‫بل أحاط بجزئيات قليلة منها‪.‬‬
‫ولهذا نجد طبيبا وباحثا كب يرا مث ل [ألكس يس كاري ل](‪ )2‬يش ن حمل ة ش ديدة‬
‫على الذين يحملون العلم ما ال يحتمل‪ ،‬أو يعتبرون العلم وسيلة إلنكار الحقائق ال تي‬
‫دل عليها العقل بناء على عدم قدرة المخ ابر أن ت برهن عليه ا‪ ،‬ألن مج ال المخ ابر‬
‫مرتبط بالعوالم الخاصة بها‪.‬‬
‫وهو يعزو سبب ذل ك في كتاب ه القيم [اإلنس ان ذل ك المجه ول] إلى ذل ك الخط أ‬
‫الذي يقع فيه الكثيرون‪ ،‬وهو توهم أن التقدم الذي حصل في العلوم المادية والتقنية حصل‬
‫مثله في علوم اإلنسان‪ ،‬وذلك غير صحيح‪ ،‬يق ول ألكس يس‪( :‬هن اك تف اوت عجيب بين‬
‫علوم الجماد وعلوم الحياة؛ فعلوم الفلك والميكانيك ا والطبيع ة تق وم على آراء يمكن‬
‫التعبير عنها بسداد وفصاحة باللغة الحسابية‪ ..‬بيد أن موقف علوم الحياة يختلف عن‬
‫ذلك كل االختالف حتى ليبدو كأن أولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في‬
‫غاب متشابك األشجار‪ ،‬أو أنهم في قلب دغل سحري التك ف أش جاره ال تي الع داد‬
‫لها عن تغيير أماكنها وأحجامها‪ ..‬فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق التي‬
‫يس تطيعون أن يص فوها‪ ،‬ولكنهم يعج زون عن تعرفه ا أو تحدي دها في مع ادالت‬
‫جبرية)(‪)3‬‬
‫وهك ذا رد ع الم النفس الس لوكي (ب‪ .‬ف‪ .‬س كينر) على ال ذين يحتق رون‬

‫‪ )(1‬اإلثبات‪ :‬مأخوذ من الفعل أثبت ومعن اه إقام ة الحج ة وال دليل والبره ان‪ ،‬والثب وت‪ :‬م أخوذ من الفع ل ثبت‬
‫ومعناه األمر الثابت يقينا في الواقع بغض النظر علمنا به أو لم نعلم به‪ ،‬ويعبر اللغوي ون عن اإلثب ات (بفع ل متع د)‪،‬‬
‫والثبوت (فعل الزم) فاإلثبات أو (واسطة اإلثبات) علة اعتقادك والثبوت أو (واسطة الثبوت) تعني العلة الحقيقية‪.‬‬
‫‪ )(2‬كان طبيبًا جرّ احً ا فرنسيا‪ ،‬ولد في ‪ 1873‬وتوفي في ‪ 1944‬في باريس‪ ،‬حصل على جائزة نوب ل في الطب‬
‫عام ‪..1912‬‬
‫‪ )(3‬االنسان ذلك المجهول‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪46‬‬
‫الفالس فة الق دامى‪ ،‬مت وهمين أن العلم الح ديث قض ى على الفلس فة‪ ،‬أو أن ه تط ور‬
‫بحيث لم يع د هن اك م برر لوجوده ا‪ ،‬فق ال‪( :‬ك ان من الممكن أن يق ال قب ل ألفين‬
‫وخمسمائة عام أن االنسان كان يفهم نفسه كما كان يفهم ك ل ج زء آخ ر من عالم ه‪.‬‬
‫لكن فهم ه لنفس ه الي وم ه و أق ل من فهم ه ألي ش يء آخ ر‪ .‬لق د تق دمت الفيزي اء‬
‫والبيولوجيا تقدما كبيرا اال أنه لم يحدث أي تطور مشابه في علم الس لوك البش ري‪،‬‬
‫فليس للفيزي اء والبيولوجي ا اليوناني ة اآلن س وى قيم ة تاريخي ة‪ ،‬ولكن مح اورات‬
‫أفالطون التزال مقررة على الطالب ويستش هد به ا كم ا ل و أنه ا تلقي ض وءا على‬
‫السلوك البشري‪ ،‬وما نحسب أن بمقدور أرسطو أن يفهم صفحة واحدة من الفيزي اء‬
‫والبيولوجيا الحديثة‪ ،‬ولكن سقراط وأصدقاءه لن يج دوا ص عوبة في متابع ة أح دث‬
‫المناقشات الجارية في مجال الشؤون االنسانية‪ .‬وفيما يتعلق بالتكنولوجيا فقد قطعن ا‬
‫خطوات هائلة في السيطرة على عالمي الفيزي اء والبيولوجي ا‪ ،‬ولكن ممارس اتنا في‬
‫الحكم والتربية لم تتحسن تحسنا ملحوظا)(‪)1‬‬
‫وهكذا يصرح كل العلماء المحققين بأن المعارف العلمية المرتبط ة باإلنس ان‬
‫محدودة جدا‪ ،‬ولذلك ليس لها أن تقرر تلك القرارات الخطيرة التي يدعيها المبتدئون‬
‫من الب احثين‪ ،‬وال ذين تص وروا أنهم وص لوا إلى الحق ائق ال تي يمكنهم من خالله ا‬
‫اختصار الحياة في هذه الحياة‪.‬‬
‫يقول الفيلسوف الكبير د‪ .‬محمد كامل حس ين(‪ )2‬في كتاب ه (وح دة المعرف ة)‪:‬‬
‫(إذا أردن ا أن تك ون ص ورة المعرف ة كامل ة تام ة فليس لن ا من اص من البحث في‬
‫طبيعة العقل وكنهه‪ ،‬فهو جهاز التفكير الذي به تتحدد المعرفة) (‪)3‬‬
‫لكنه يدرك مدى صعوبة البحث في هذا‪ ،‬وعدم توفر اإلمكانيات الكافي ة للعلم‬
‫في البحث في مثل هذه المسائل‪ ،‬فقال‪( :‬ولكنن ا الن رى الب دء به ذا البحث‪ .‬ألن ذل ك‬
‫يكون خطأ منهجياً‪ .‬وقد بينا من قبل أن البدء بالبحث في تحديد العالقات بين غاي ات‬
‫األمور ومعقداتها اليؤدي الى الحقيقة‪ .‬والبحث في طبيعة العقل يجب أن يكون آخر‬
‫البحوث كله ا‪ .‬ويجب أن النتناول ه اال بع د أن يتم علمن ا ب الكون واالنس ان‪ .‬ويكفين ا‬
‫اآلن أن ننظر الى العقل على أنه نور يلقى على األشياء فيضيئَها‪ ،‬ويتيح لن ا فهمه ا‪.‬‬
‫ولنا أن نستخدمه جهازاً للتفكير دون أن نفهم ماهيته‪ ،‬ح تى تتم لن ا ص ورة المعرف ة‬
‫كاملة فنضعه منها موضعا حقا ال نستطيعه في أول البحث)(‪)4‬‬
‫وبناء على هذا ينصح بع دم البحث عن حقيق ة العق ل ـ وال ذي يمث ل الحقيق ة‬
‫اإلنسانية ـ فذلك مما ال يمكن للعلم إدراكه بوسائله المحدودة‪ ،‬وإنما محاولة استعمال‬

‫‪ )(1‬تكنولوجيا السلوك اإلنساني‪ ،‬سكينر‪ ،‬ترجمة عبد القادر يوسف‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة رقم ‪ 32‬ص ‪.7‬‬
‫‪ )(2‬الدكتور محمد كامل حسين (‪ ،)1977 - 1901‬أستاذ جراحة عظام مص ري وأديب‪ ،‬وأول م دير لجامع ة‬
‫إبراهيم (جامعة عين شمس حاليًا) عند إنشائها عام ‪ ،1950‬وأول رئيس لجمعية جراحة العظام المصرية عند إنشائها‬
‫سنة ‪..1948‬‬
‫‪ )(3‬وحدة المعرفة‪ ،‬الدكتور محمد كامل حسين‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.11‬‬

‫‪47‬‬
‫عالم اآلفاق للتعرف على عالم العقل‪ ،‬وهو نفس ما ذكره الق رآن الك ريم حين م زج‬
‫اق َوفِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ‬
‫بين كال العلمين‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬س نُ ِري ِه ْم آيَاتِنَ ا فِي اآْل فَ ِ‬
‫ف بِ َربِّكَ أَنَّهُ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ [فصلت‪]53 :‬‬ ‫ق أَ َولَ ْم يَ ْك ِ‬
‫ْال َح ُّ‬
‫يقول د‪ .‬محمد كامل حس ين مع برا عن ه ذا المع نى‪( :‬في الك ون نظ ام‪ ،‬وفي‬
‫العقل نظ ام‪ ،‬والمعرف ة هي مطابق ة ه ذين النظ امين‪ .‬والنظام ان من مع دن واح د‪،‬‬
‫والمطابق ة بينهم ا ممكن ة لم ا فيهم ا من تش ابه‪ .‬ول ولم يكون ا متش ابهين الس تحالت‬
‫المعرف ة‪ .‬ول ولم تكن المطابق ة بينهم ا ممكن ة م اعلم أح د ش يئا ً ؛ وتش ابه النظ امين‬
‫الكوني والعقلي ليس فرضا ً يحتاج الى برهان ؛ بل هو جوهر إمكان المعرف ة‪ .‬ومن‬
‫أنكره فقد أنكر المعرفة كلها‪ .‬وهذا االنكار خط أ ي دل علي ه م احقق العق ل من ق درة‬
‫على التحكم في كثير من األمور الطبيعية‪ .‬ولم نكن لنستطيع تحقي ق ش يء من ذل ك‬
‫لو أن النظامين كانا مختلفين‪ ،‬ومهما تتغير المعرفة ومذاهب التفك ير وفهمن ا للك ون‬
‫فإن الحقيقة التي ثبتت ثبوتا ً قطعيا ً هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل) (‪)1‬‬
‫بن اء على ه ذا نح اول في ه ذا المبحث التع رف على بعض األم ارات ال تي‬
‫استطاع العلم أن يكتشف من خاللها عدم اقتصار الحقيق ة اإلنس انية على المكون ات‬
‫البيولوجية التي يحويها جسمه‪ ،‬وهو ما يعني وج ود مك ون آخ ر غ ير ه ذه الخالي ا‬
‫واألنسجة التي يعتريها الموت‪ ..‬وهو ما يعني أن الموت الذي يصيب ه ذه األجه زة‬
‫ال يمكن تعميمه على غيرها‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الموت وحقيقة اإلنسان‪:‬‬
‫يستند أص حاب النظري ة العلمي ة القديم ة على نفيهم للحي اة بع د الم وت‪ ،‬إلى‬
‫نظرتهم لإلنسان‪ ،‬باعتباره كيانا ماديا‪ ،‬ينتهي‪ ،‬أو ينعدم بمجرد تحلل ه‪ ،‬أو كم ا ع بر‬
‫عن هذه النظرة (ت ر‪ .‬مايلز) عند جوابه على س ؤال يق ول‪( :‬ه ل هن اك حي اة بع د‬
‫الموت؟)‪ ،‬فقد قال‪( :‬ال‪ ...‬الحياة بعد الموت‪ ،‬ألن الحياة التي أعرفه ا التوج د اال في‬
‫ظروف معينة من تركيب العناصر المادي ة‪ .‬وه ذا ال تركيب الكيم اوي اليوج د بع د‬
‫الموت‪ ،‬اذن‪ :‬فالحياة بعد الموت)(‪)2‬‬
‫ويضيف‪( :‬البعث بعد الموت حقيقة تمثيلية‪ ،‬وليس بحقيقة لفظية‪ ..‬إنها قض ية‬
‫قوية عندي أن االنس ان يبقى حي ا بع د الم وت‪ ،‬وه ذه القض ية من الممكن لفظي ا أن‬
‫تك ون حقيق ة‪ ،‬وهي قابل ة الختب ار ص حتها أو بطالنه ا بالتجرب ة‪ ،‬ولكن المس الة‬
‫الرئيسية في طريقنا هي أننا النملك وسيلة لمعرفة االجابة القطعية عن ه ذا الس ؤال‬
‫اال بعد الموت‪ ،‬ولذلك يمكننا أن نقيس) (‪)3‬‬
‫والقياس الذي قام ب ه (ت ر‪ .‬م ايلز) ه و‪( :‬بن اء على علم االعص اب اليمكن‬
‫معرفة العالم الخارجي‪ ،‬واالتصال ب ه‪ ،‬اال عن دما يعم ل ال ذهن االنس اني في حالت ه‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.11‬‬


‫‪ )(2‬نقال عن اإلسالم يتحدى‪ :‬ص‪.84‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.84‬‬

‫‪48‬‬
‫العادية‪ ،‬وأما بعد الموت‪ ،‬فه ذا االدراك مس تحيل‪ ،‬نظ را إلى بع ثرة ت ركيب النظ ام‬
‫الذهني)(‪)1‬‬
‫وهك ذا نج د ع الم الفيزي اء المع روف س تيفن هوكين غ يقيس اإلنس ان على‬
‫الكمبيوتر‪ ،‬فيقول‪( :‬أنا أعتبر الدماغ كجهاز كمبيوتر يتوقف عن العمل عندما تفش ل‬
‫مكوناته)‪ ،‬وقال أيضا (ليس هناك من جنة أو حياة آخرة ألجهزة كم بيوتر محطم ة‪،‬‬
‫وهي أشبه بقصة خرافية للناس الذين يخشون من الظالم)(‪)2‬‬
‫وهذا القياس الذي ذكره كال العالمين وغيرهما هو نفسه الذي ذكره هللا تعالى‬
‫عن أولئك البدو السذج من أه ل الجاهلي ة ال ذين ك انوا ي رددون ك ل حين مخ اطبين‬
‫وت َونَحْ يَ ا َو َم ا يُ ْهلِ ُكنَ ا إِاَّل ال َّد ْهرُ﴾ [الجاثي ة‪:‬‬ ‫المؤمنين‪َ ﴿ :‬ما ِه َي إِاَّل َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا نَ ُم ُ‬
‫‪]24‬‬
‫ْ‬
‫﴿و َم ا لَهُ ْم بِ َذلِكَ ِم ْن ِعل ٍم إِ ْن هُ ْم إِاَّل يَظُنُّونَ ﴾‬
‫وق د رد هللا تع الى عليهم‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫[الجاثية‪ ،]24 :‬وهو وصف لحقيقة الطريق ة ال تي يفك رون به ا‪ ،‬وال تي ال تع دو أن‬
‫تك ون ظن ا ووهم ا العالق ة ل ه ب الواقع‪ ،‬وال بالوس ائل ال تي يس تعملها العلم اء في‬
‫البحث‪.‬‬
‫ولذلك كان القياس ال ذي اس تعملوه غ ير ص حيح‪ ،‬ب ل هن اك قياس ات أخ رى‬
‫أقوى من هذا القياس(‪ )3‬؛ وهي تؤكد أن بعثرة الذرات المادي ة في الجس م اإلنس اني‬
‫ال تقضي على الحياة؛ ألن (الحياة) شيء آخر‪ ،‬وهي مستقلة بذاتها‪ ،‬باقي ة بع د فن اء‬
‫الذرات المادية وتغيرها‪.‬‬
‫فالجس م االنس اني يت ألف من خالي ا ص غيرة ج دا ومعق دة‪ ،‬يزي د ع ددها في‬
‫الجسم االنساني العادي على ‪ 260 ،0000000000000‬خلية‪ ،‬وهي مثل الط وب‬
‫الصغير‪ ،‬ينبني منه هيكل أجسامنا‪ ،‬لكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطي ني‬
‫شاسع جدا‪ ..‬فطوب الطين الذي يس تخدم في العم ارات يبقى كم ا ه و‪ ..‬بينم ا يتغ ير‬
‫طوب الجسم اإلنساني في كل دقيقة‪ ،‬بل في كل ثانية‪.‬‬
‫فالخاليا تنقص بسرعة‪ ،‬ك اآلالت ال تي تتآك ل باحتكاكه ا واس تهالكها‪ ،‬ولكن‬
‫هذا النقص يعوضه الغذاء‪ ،‬فهو يهيء للجسم قوالب الط وب ال تي يحت اج اليه ا بع د‬
‫نقص خالياه واستهالكها‪ ،‬وهكذا فإن الجسم يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة‪.‬‬
‫وهو ـ بذلك ـ يشبه النهر الج اري الممل وء دائم ا بالمي اه‪ ،‬اليمكن أن نج د ب ه‬
‫نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ برهة‪ ،‬ألنه اليس تقر‪ ،‬ف النهر يغ ير نفس ه بنفس ه‬
‫دائما‪ ،‬ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل‪ ،‬ولكن الم اء اليبقى‪ ،‬ب ل‬
‫يتغير‪.‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.84‬‬


‫‪ )( 2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬ال وجود للجنة‪ ،‬والحياة اآلخرة قصة خرافية‪ ،‬موقع السي ان ان‪ ،‬وغيره ا من المواق ع‬
‫اإلخبارية‪..‬‬
‫‪ )(3‬رجعنا في الرد على ما يقوله الم اديون في ه ذا الج انب إلى كت اب‪ :‬اإلس الم يتح دى‪ :‬ص‪ ،85‬فم ا بع دها‪،‬‬
‫ونفس الرد نجده في مراجع أخرى كثيرة‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫و بناء على هذا‪ ،‬فإنه يأتي وقت التبقى في ه أي ة خلي ة قديم ة في الجس م‪ ،‬ألن‬
‫الخالي ا الجدي دة أخ ذت مكانه ا‪ ..‬وه ذه العملي ة تتك رر في ه ذه الطفول ة والش باب‬
‫بس رعة ثم تس تمر به دوء ملح وظ في الكهول ة‪ ،‬ول و حس بنا مع دل التج دد في ه ذه‬
‫العملية فسوف نخرج بأنها تحدث مرة كل عشرة سنين‪.‬‬
‫لكن مع ذلك‪ ،‬ومع أن الجسم يتعرض للفناء المادي الظاهري‪ ،‬إال أن اإلنسان‬
‫في الداخل اليتغير‪ ،‬بل يبقى كما كان‪ :‬علمه‪ ،‬وعاداته‪ ،‬وحافظته‪ ،‬وأمانيه‪ ،‬وأفكاره‪،‬‬
‫تبقى كلها كما كانت‪.‬‬
‫فهو يشعر دائما‪ ،‬وفي جميع مراحل حياته بأنه هو (االنس ان الس ابق)‪ ،‬ال ذي‬
‫وجد منذ عشرات السنين‪ ،‬ولكنه اليحس بأن شيئا من أعضائه ق د تغ ير‪ ،‬ابت داء من‬
‫أظافر رجليه حتى شعر رأسه‪.‬‬
‫وبذلك فإنه لو كان االنسان يفنى بفناء الجسم‪ ،‬لكان الزما أن يتاثر على األقل‬
‫بفناء الخاليا وتغيرها الكامل‪ ،‬ولكننا نعرف جيدا أن هذا اليحدث؛ وهذا الواقع يؤكد‬
‫أن (االنسان) أو (الحياة االنسانية) ش يء آخ ر غ ير الجس م‪ ،‬وهي باقي ة رغم تغ ير‬
‫الجسم وفنائه‪ ،‬وهو كنهر مستمر فيه سفر الخاليا بصفة دائمة‪.‬‬
‫وبذلك يمكن تعريف اإلنسان أو الشخصية ـ كما يذكر وحيد الدين خان ـ بأنها‬
‫(عدم التغير في عالم التغيرات) (‪( ،)1‬ولو كان الموت فناء (لالنس ان)‪ ،‬فمن الممكن‬
‫ان نقول ـ بعد كل مرحلة من مراحل حدوث هذا التغ ير الكيم اوي ال ذي يج ري في‬
‫الجسم ـ إن االنسان قد مات‪ ،‬وإن ه يعيش حي اة أخ رى جدي دة بع د موت ه! ومعن اه أن‬
‫الرجل الذي أراه في الخمسين من عمره‪ ،‬وهو يمش ي في الش ارع على رجلي ه‪ ،‬ق د‬
‫مات خمس مرات في هذه الحياة القصيرة؛ فاذا لم يمت هذا اإلنسان بعد فناء أج زاء‬
‫جسمه المادية خمس مرات‪ ،‬فكيف أستطيع أن أعتق د بأن ه م ات في الم رة السادس ة‬
‫على وجه اليقين؟ والسبيل له اآلن إلى الحياة؟)(‪)2‬‬
‫ويذكر وحيد الدين خان ردود أصحاب الفلسفة المادية على هذا الدليل‪ ،‬والتي‬
‫لخصها [الس ير جيم ز] بقول ه‪( :‬إن (الش عور) اليوج د كوح دة‪ ،‬وانم ا ه و وظيف ة‪،‬‬
‫وتفاعل وتنسيق وقد أصر الكث يرون من فالس فتنا المح دثين على أن (الش عور) في‬
‫ذات ه ليس اال التفاع ل وال رد العص بي لم ا يح دث من حرك ة ونش اط في الع الم‬
‫الخارجي‪ .‬وبناء على هذه النظرية المجال للتساؤل عن إمك ان الحي اة بع د الم وت‪،‬‬
‫نظرا لتحلل النظام الجسماني‪ ،‬وألن المركز العص بي في الجس م لم يع د ل ه وج ود‪،‬‬
‫وهو الذي كان يتفاعل وينسق مع العالم الخارجي؛ وهم يعتقدون بن اءا على ه ذا أن‬
‫نظرية الحياة بعد الموت أصبحت غير ذات أساس عقلي أو واقعي) (‪)3‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.85‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.85‬‬

‫‪50‬‬
‫وقد رد على هذا بقوله‪( :‬لو كانت هذه هي حقيقة االنسان‪ ،‬فلنجرب أن نخل ق‬
‫انسانا حيا ذا شعور‪ ،‬ونحن ـ ـ ـ اليوم ـ نعرف بكل وضوح جميع العناصر ال تي يت ألف‬
‫منها جسم االنسان‪ ،‬وهذه العناصر توجد في األرض وفي الفضاء الخارجي‪ ،‬بحيث‬
‫يمكننا الحص ول عليه ا‪ ،‬وق د علمن ا دق ائق بن اء النظ ام الجس ماني‪ ،‬وعرفن ا هيكل ه‬
‫وأنسجته‪ ،‬ولدينا فنانون مهرة يستطيعون أن يصنعوا أجساما كجس م األنس ان‪ ،‬بك ل‬
‫مواص فاتها‪ ،‬فلنج رب ـ ل و ك ان معارض و ال روح يص رون على حقيق ة مب دئهم ـ‬
‫ولنص نع مئ ات من أمث ال ه ذه األجس ام‪ ،‬ولنض عها في ش تى المي ادين‪ ،‬في بقع ة‬
‫األرض الفسيحة‪ ،‬ثم لننتظر ذلك الوقت الذي تمشى فيه هذه األجس ام وتتكلم وتأك ل‬
‫بناء على تأثيرات العالم الخارجي) (‪)1‬‬
‫وهكذا يمكن أن نج د ردودا كث يرة على م ا ذك ره س تيفن هوكين غ من تش بيه‬
‫اإلنسان بعد موته بالكمبيوتر العاطل‪ ،‬الذي لن يعود للعمل أب دا(‪ ،)2‬فل و أن هوكين غ‬
‫فكر جيدا فيما يقول‪ ،‬وأجرى مقارنة ص حيحة بين الكم بيوتر واإلنس ان‪ ،‬ألدرك أن‬
‫الكمبيوتر بمكوناته المادية ال قيمة له بدون طاقة وبرنامج تشغيل يربط ه بم ا حول ه‬
‫من ُمدخالت علمية‪.‬‬
‫وهكذا اإلنسان البد له من طاقة تحركه وتبعث فيه الحياة‪ ،‬وتجعله قادراً على‬
‫التع رف على ذات ه وعلى م ا حول ه‪ ،‬وتجعل ه يختل ف عن الحج ر والش جر وس ائر‬
‫الحيوان‪ ،‬اختالفا ً شاسعا ً في اإلدراك والقدرات‪ ،‬فإذا غ ابت عن ه تل ك الطاق ة غ اب‬
‫اإلدراك‪ ،‬وهذا م ا نش اهده في الج نين في بطن أم ه في الش هور األولى من الحم ل‬
‫حيث يكون كتلة لحم ال إدراك فيها‪ ،‬وما نشاهده في اإلنسان بعد الموت حيث يصير‬
‫كتلة لحم ال إدراك فيها‪ ،‬وما بينهما نج ده مفعم ا بالحي اة واإلدراك‪ ،‬والعق ل يُحتم أن‬
‫الحي يزيد عن الميت بشيء ما يهبه الحياة واإلدراك‪ ،‬كما أن الكمبيوتر الذي يعم ل‬
‫يزي د عن ال ذي ال يعم ل بالطاق ة المحرك ة‪ ،‬وه ذا الش يء ه و ال ذي يطل ق علي ه‬
‫المؤمنون اسم [الروح]‬
‫وهكذا نجد أن إدراك الكمبيوتر لل ُمدخالت العلمية ناتج عن برمجة س ابقة من‬
‫اإلنسان‪ ،‬فهل يمكن لإلنسان أن يدرك ما حوله ب دون برمج ة س ابقة‪ ،‬فم ا تنقل ه لن ا‬
‫الح واس الخمس ة ليس إال إش ارات كهربائي ة تنتق ل من الح واس إلى العق ل ع بر‬
‫األعصاب فيتم التعرف عليها في العقل‪ ،‬فكل م ا نش عر ب ه من ه ذا الك ون ليس إال‬
‫إشارات كهربائية بداخل الدماغ‪ ،‬فما الذي جعل الدماغ يتعرف على ك ل م ا تدرك ه‬
‫الحواس ويُفرق بينها بدقة شديدة؟‬
‫وبمناسبة تش بيه اإلنس ان ب الكمبيوتر نحب أن نوض ح هن ا إش كالية يطرحه ا‬
‫الكث ير‪ ،‬وهي م ا يحص ل عن د الم وت‪ ،‬وه ل ال نزع أو القبض مرتب ط ب الروح أو‬
‫النفس؟‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫‪ )(2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬رد القرآن والعلم على ال ُملحد ستيفن هوكينغ في نفي الروح والخالق‪.20/6/2011 ،‬‬
‫ُ‬

‫‪51‬‬
‫فلعل أحسن مثال يقرب صورة الروح والنفس وعالقتهما بالحقيقة اإلنس انية‪،‬‬
‫ويبعد عنا الكثير من ذلك الج دل ال ذي يح وم حوله ا‪ ،‬وح ول المقب وض‪ ،‬وه ل ه و‬
‫النفس أو الروح‪ ،‬هو ما نتعامل به مع أجهزة الكمبيوتر‪.‬‬
‫حيث أننا نأتي أوال بجهاز الكم بيوتر‪ ،‬وه و عب ارة عن مجموع ة من القط ع‬
‫يمكن تشبيهها بأعضاء اإلنسان‪ ..‬فلك ل قطع ة وظيفته ا ال تي ت ؤدي دورا معين ا في‬
‫الجهاز‪.‬‬
‫وهي ال تس تطيع أن ت ؤدي أي دور قب ل أن ننفخ فيه ا روح النظ ام‪ ..‬فعن دما‬
‫يصبح الويندوز منصبا على الجهاز يتحول إلى جهاز متح رك‪ ،‬يم ارس الكث ير من‬
‫الوظائف‪.‬‬
‫وحينها يمكن لصاحبه أن يفعل فيه بإرادته ما يشاء‪ ،‬وكل ما يفعل ه في ه يمكن‬
‫تسجيله عبر البرامج الكثيرة التي تسجل كل ما يفعل في الجهاز‪.‬‬
‫وعندما يمل صاحب الجهاز من جهازه‪ ،‬ويريد أن يغيره‪ ،‬يأخذ نسخة من كل‬
‫برامجه وأعماله‪ ،‬وربما يأخذ نسخة من النظام نفس ه ال ذي ك ان يعم ل ب ه‪ ،‬ثم يق وم‬
‫بوضعه في جهاز آخر‪ ،‬وبتغييرات طفيفة‪.‬‬
‫هذا المثال يقرب لنا كث يرا حقيق ة ال روح والنفس والجس د‪ ،‬ومن يقبض منه ا‬
‫جميعا‪.‬‬
‫أما الجسد‪ ،‬فيشبه تلك القطع الصلبة التي يتكون منها جهاز الكمبيوتر‪ ،‬وال تي‬
‫قد ترمى عند عطبها التام‪ ،‬من غير أن يتض رر ك ل م ا م ورس عليه ا من أعم ال‪،‬‬
‫ألنه يمكن نسخها وحفظها في جهاز آخر‪.‬‬
‫وأما النظام والتطبيقات المرتبطة ب ه‪ ،‬فهي تش به ال روح‪ ،‬وال تي وص فت في‬
‫وح قُ ِل‬‫ك ع َِن ال رُّ ِ‬ ‫القرآن الكريم بكونها من عالم األم ر‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ويَ ْس أَلُونَ َ‬
‫الرُّ و ُح ِم ْن أَ ْم ِر َربِّي َو َما أُوتِيتُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم إِاَّل قَلِياًل ﴾ [اإلسراء‪ ،]85 :‬وق ال في اآلي ة‬
‫اركَ هللا َربُّ ْال َعالَ ِمينَ ﴾ [األعراف‪]54 :‬‬ ‫ق َواأْل َ ْم ُر تَبَ َ‬
‫األخرى‪ ﴿ :‬أَاَل لَهُ ْال َخ ْل ُ‬
‫ولذلك يمكن اعتبار أرواح البشر جميع ا واح دة‪ ،‬فكلهم ق د نص ب فيهم نظ ام‬
‫واحد‪ ،‬ولذلك نراهم يتشابهون في فطرهم السليمة التي لم تدنس‪.‬‬
‫وأما النفس‪ ،‬فتشبه تلك االختيارات التي يقوم بها صاحب الجهاز‪ ،‬حيث يق رأ‬
‫ما يشاء من الكتب‪ ،‬ويستمع لما يشاء من األصوات‪ ،‬ويشاهد لما يشاء من الص ور‪..‬‬
‫وبذلك فإن عالم النفس هو العالم الذي يستثمر فيه اإلنس ان طاق ات الجس د وطاق ات‬
‫الروح‪ ،‬ويوجهها للوجهة التي يريد‪ ،‬وبحرية تامة‪.‬‬
‫َ‬
‫وقد أشار إلى هذا التشبيه اإلم ام الص ادق بقول ه‪َ ( :‬مث ُل روح الم ؤمن وبدن ه‬
‫ح الصندوق‪ ،‬ولم يعبأ به)(‪)1‬‬ ‫كجوهرة في صندوق‪ ،‬إذا أخرجت الجوهرة منه ُّ‬
‫اط ِر َ‬
‫ك‬ ‫وأشار إليه اإلمام السجاد بقوله‪( :‬الموت للمؤمن كنزع ثياب َو ِس َخ ٍة قَ ِملَ ٍة وفَ ِّ‬
‫قي و ٍد وأغال ٍل ثقيل ة‪ ،‬واإلس تبدال ب أفخر الثي اب وأطيبه ا روائح‪ ،‬وأوط أ الم راكب‪،‬‬

‫‪ )(1‬مختصر البصائر‪.67/‬‬

‫‪52‬‬
‫وآنس المنازل‪ .‬وللكافر كخلع ثي اب ف اخرة‪ ،‬والنق ل عن من ازل أنيس ة‪ ،‬واإلس تبدال‬
‫بأوسخ الثياب وأخشنها‪ ،‬وأوحش المنازل‪ ،‬وأعظم العذاب)(‪)1‬‬

‫وبناء على ه ذا‪ ،‬ف إن الم وت‪ ،‬ه و عب ارة عن اس تبدال الجس د ال ذي أص ابه‬
‫العطب بجهاز آخر مع مراعاة اختيارات صاحب الجهاز‪ ،‬ولذلك يرى اإلنس ان ك ل‬
‫أعماله ال تي ك ان يعمله ا محفوظ ة بإتق ان‪ ،‬ذل ك أن من مزاي ا الجس د الجدي د ال ذي‬
‫يستبدل به الجسد الفاني أنه تظهر فيه األشياء بصورها الحقيقية‪..‬‬
‫‪ 2‬ـ الموت وحقيقة العقل‪:‬‬
‫رأينا سابقا أن الفالسفة القدامى الذين اتفق وا على خل ود النفس‪ ،‬وع دم موته ا‬
‫بموت الجسد‪ ،‬استدلوا على ذل ك بتل ك االكتش افات ال تي توص لوا إليه ا عن طري ق‬
‫التأمل‪ ،‬والذي أداهم إلى أن عقل اإلنسان مس تقل عن جس ده‪ ،‬ذل ك أن الجس د يه رم‬
‫وي ذبل وينتاب ه الكث ير من الض عف‪ ،‬بينم ا عقل ه يبقى متق دا وس ليما ح تى في تل ك‬
‫الفترات الصعبة الشديدة‪.‬‬
‫ومن أك بر األدل ة على ذل ك أن الكث ير من المنج زات اإلبداعي ة في الش عر‬
‫والفلسفة والحكمة كتبت في ظل ظروف ص عبة‪ ،‬لم يكن يمكن للعق ل أن يب دعها ل و‬
‫كان تابعا للجسد‪.‬‬
‫وه ذه الحقيق ة ال تي اكتش فها العق ل‪ ،‬ب ل الفط رة والبديه ة‪ ،‬دل عليه ا العلم‬
‫الحديث‪ ،‬وخاصة بعد تخلصه من فترة المادية التي طغت عليه إبان الق رون األولى‬
‫من عصر النهضة‪.‬‬
‫ونحب أن نقتبس هنا مادة علمي ة مهم ة تتعل ق بت اريخ التط ور العلمي ح ول‬
‫الموقف من العقل وعالقت ه بالجس د‪ ،‬وذل ك من أهم م ا كتب في ه ذا المج ال‪ ،‬وه و‬
‫(العلم فى منظوره الجدي د)(‪ ،)2‬ال ذي ألف ه اثن ان من العلم اء الكب ار المع روفين فى‬
‫أمريكا الش مالية أح دهما [روب رت أغ روس] أح د أعالم الفيزي اء النظري ة ورئيس‬
‫كلي ة العل وم في جامع ة أوت اوى بكن دا‪ ،‬والث اني [ج ورج ستانس يو] أح د الفالس فة‬
‫المتضلعين في فلسفة العلوم‪ ،‬ورئيس شعبة الفلسفة في نفس الجامعة ونفس البلد‪.‬‬
‫وكالهما حاول في ه ذا الكت اب (ه دم أرك ان المادي ة العلمي ة‪ ،‬تل ك النظري ة‬
‫الكوني ة ال تى اس تهلها فرانس يس بيك ون وج اليلو فى مطل ع الق رن الس ابع عش ر‪،‬‬
‫واستمرت إلى العقود األولى من القرن العشرين‪ ،‬ثم إثبات وجود هللا تع الى‪ ،‬وبي ان‬
‫الحكمة والغاية من إبداع الك ون وخل ق اإلنس ان‪ ،‬وذل ك باالس تناد إلى النت ائج ال تى‬
‫انتهى إليه ا أقط اب العلم اء والب احثين المعاص رين فى مج االت الفيزي اء‬
‫والكوزمولوجيا ومبحث األعصاب وجراحة الدماغ وعلم النفس اإلنسانى)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬معاني األخبار‪.4/289 :‬‬


‫‪ )(2‬هو كتاب من سلسلة (عالم المعرفة) التى كان يصدرها المجلس الوطنى للثقاف ة ب الكويت‪ ،‬وعن وان الكت اب‬
‫األصلي هو (‪ )The New Story of Science‬من تأليف ‪ Robert M. Augros‬و‪..George N. Stanciu‬‬
‫‪ )(3‬العلم في منظوره الجديد‪( ،‬ص ‪.)7‬‬

‫‪53‬‬
‫وقد ذكر ص احبا ه ذا الكت اب العلمي القيم ـ عن د تأريخهم ا لموق ف العلم اء‬
‫الغربيين من العقل وعالقته بالدماغ أو بس ائر الجس د ـ أن هن اك موقف ان‪ ،‬أح دهما‬
‫قديم ومادي‪ ،‬وسببه عدم ت وفر الوس ائل الكافي ة للتحقي ق العلمي‪ ،‬والث اني متط ور‪،‬‬
‫ويقترب اقترابا كبيرا مما ذكرته األديان والفالسفة وغيرهم‪.‬‬
‫وسنعرض هن ا بعض م ا ذك راه‪ ،‬لنت بين م دى رجعي ة من ال يزال ون ينف ون‬
‫وجود العقل‪ ،‬أو يختصرونه في الدماغ‪ ،‬ألن رؤيتهم رؤية كالسيكية قديمة‪ ،‬ولم يعد‬
‫لها أي مصداقية في البحث العلمي الخالي من األيديولوجية المادية‪.‬‬
‫أ ـ العقل بحسب الرؤية العلمية القديمة‪:‬‬
‫يذكر الكاتبان أن الرؤية العلمية القديمة‪ ،‬وبسبب عدم ت وفر الوس ائل العلمي ة‬
‫الكافية التي تتيح لهم التحقيق في حقيقة العقل وعالقته بالجسد راحوا يعتم دون مب دأ‬
‫البساطة‪ ،‬وذلك بتفسير األشياء الطبيعية بلغة المادة وحدها‪.‬‬
‫وقد اعتمدوا في هذا على القياس على جميع األش ياء الطبيعي ة‪ ،‬وال تي (تنش أ‬
‫في نهاية المطاف عن تفاعالت بين جسيمات تتكون منها هذه األشياء‪ ،‬فالماء س ائل‬
‫على نحو ما نعرفه ألن جزيئاته تنزلق بجانب بعض ها بعض ا بقلي ل من اإلحتك اك‪،‬‬
‫والمطاط متمغط ألن جزيئات ه بحكم مرونته ا تغ ير ش كلها بس هولة‪ ،‬والم اس ش ديد‬
‫الصالبة ألن ذرات الكربون الموجودة فيه متراصة بشكل على هيئة شعرية محكمة‬
‫النسج‪ ..‬والبد أن األمر نفسه ينطبق على العقل)(‪)1‬‬
‫ومن األمثلة على العلماء الذين اعتمدوا هذه الرؤية عالم األحياء [توماس هـ‪.‬‬
‫هكسلي]‪ ،‬وهو من علماء القرن التاسع عشر‪ ،‬وال ذي ذك ر أن (األفك ار ال تي أع بر‬
‫عنها بالنطق‪ ،‬وأفكارك فيما يتعلق بها إنما هي عبارة عن تغيرات جزيئية) (‪)2‬‬
‫وقد نتجت عن هذه الرؤية المادية الكثير من المف اهيم الخاطئ ة عن اإلنس ان‪،‬‬
‫أولها وأخطرها س لب حريت ه ذل ك أن ه م ا دام العق ل منبثق ا من الم ادة‪ ..‬والم ادة ال‬
‫تتصرف إال بضرورة ميكانيكية‪ ،‬فإن الرؤية العلمية القديمة كانت تمي ل إلى تفس ير‬
‫تص رفات اإلنس ان بلغ ة الغري زة‪ ،‬والفس يولوجيا (علم وظ ائف‬
‫األعضاء)‪،‬والكيمياء‪.‬والفيزياء‪ ،‬حيث ال مجال هناك لحرية االختيار‪.‬‬
‫وب ذلك ف إن ه ذه الرؤي ة ك انت ت رى أن التغ يرات المادي ة هي ال تي تس بب‬
‫األفكار‪ ،‬ال العكس‪ ،‬كما عبر عن ذلك [و‪.‬ك كليفورد]‪ ،‬أح د علم اء الرياض يات في‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬في محاضرة له عن العلوم عن هذه الفكرة بإيج از بلي غ‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(إذا قال أحد أن اإلرادة تؤثر في المادة فقوله ليس كاذبا ً فحسب‪ ،‬وإنما هو هراء)(‪)3‬‬
‫وهكذا وص ف هكس لي العالق ة بين العق ل والجس د بقول ه‪( :‬يب دو أن ال وعي‬
‫متصل بآليات الجسم كنتيج ة ثانوي ة لعم ل الجس م‪ ،‬ال أك ثر‪ ،‬وأن ليس ل ه أي ق دره‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.25‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.27‬‬

‫‪54‬‬
‫ك انت على تع ديل عم ل الجس م مثلم ا يالزم ص فير البخ ار حرك ة الق اطرة دونم ا‬
‫تأثيرعلى آليتها) (‪)1‬‬
‫ومن تلك المفاهيم والمستلزمات لذلك التص ور الم ادي للعق ل ـ وفق ا للنظ رة‬
‫القديمة ـ ما يرتب ط بموض وعنا‪ ،‬وه و (أن ه الش يء في اإلنس ان يمكن أن يبقى بع د‬
‫الموت‪ ،‬ذلك أنه إذا كان التفك ير واإلرادة نش اطين من أنش طة ال دماغ‪ ،‬فليس هن اك‬
‫سبب يجعلنا نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بعد فناء الدماغ‪ ،‬وإذا ك ان‬
‫كل جزء من أجزاء اإلنسان مادة فالبد من أن يكون ك ل ج زء من ه عرض ه للفن اء‪.‬‬
‫ففي النظرة القديمة الخلود إال للمادة) (‪)2‬‬
‫ولكن مع كل هذه االدعاءات‪ ،‬لم يستطع أحد في القرن التاسع عشر أن يح دد‬
‫بالضبط كيفية انبثاق العقل من المادة‪ ،‬بل كان علماء الفسيولوجيا يتوقع ون أن ي أتي‬
‫المستقبل بالجواب‪.‬‬
‫وقد كتب هكسلي عام ‪ 1886‬يقول‪( :‬وهك ذا سيوس ع علم وظ ائف األعض اء‬
‫في المستقبل شيئا فشيئا من عالم المادة وقوانينها إلى أن يص بح مس اويا في امت داده‬
‫نطاق المعرفة والشعور والعمل) (‪ ..)3‬لكن نبوءاته لم تتحقق‪ ،‬بل تحقق عكسها كم ا‬
‫سنرى‪.‬‬
‫وهكذا سرت آثار الرؤية القديمة على الدراسات النفس ية‪ ،‬فبع د فروي د ظه ر‬
‫المذهب السلوكي‪ ،‬الذي أسسه [جون ب‪ .‬واتسن] الذي ح از على درج ة ال دكتوراه‬
‫في علم النفس من جامعة شيكاغو عام ‪.1903‬‬
‫فبعد أن قام واتسن بإجراء تجارب واسعة النطاق على الج رذان والعص افير‬
‫والق رود س عى إلى إرس اء علم النفس كف رع موض وعي كلي ا ً من ف روع العلم‬
‫الط بيعي‪ ،‬ليس أح وج إلى م ا س ماه االس تبطان من علم الكيمي اء أو الفيزي اء‪ ،‬على‬
‫أساس أن السلوك‪ ،‬من بين جميع األعمال التي يقوم بها اإلنس ان‪ ،‬ه و وح ده القاب ل‬
‫للمراقبة من الخارج بالتجارب الموضوعية‪ .‬ففي رأي واتسن أن الس لوك وح ده‪ ،‬ال‬
‫الوعي‪ ،‬هو الموضوع الصحيح لعلم النفس‪.‬‬
‫ً‬
‫وبناء على هذا أنكرت المدرسة السلوكية العقل أص ال‪ ،‬ورأت أن البحث في ه‬
‫غير مجد‪ ،‬وتبعا ً لذلك أكدت أن جسم اإلنسان هو الحقيقة اإلنسانية الوحيدة‪ ،‬وأن من‬
‫الواجب أن يستبعد (العقل) ومعه جميع بهارجه من مجال العلوم‪.‬‬
‫وب ذلك ك انت المدرس ة الس لوكية أك ثر ايغ االً في المادي ة من علم النفس‬
‫الفرويدي‪ ،‬وبذلك ك ان التح ول عن م ذهب فروي د إلى الم ذهب الس لوكي تق دما ً في‬
‫أفول نجم العقل‪.‬‬
‫وق د ذك ر واتس ن أن أول خط وة ك ان علي ه أن يتخ ذها كع الم نفس ي مل تزم‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.28‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.28‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.28‬‬

‫‪55‬‬
‫بالمنهج العلمي أن يسقط من (مفردات ه العلمي ة جمي ع العب ارات الذاتي ة كاإلحس اس‬
‫واإلدراك والصورة الذهنية والرغبة والغاية‪ ،‬بل التفكير والعاطفة النطوائهم ا على‬
‫تعريف ذاتي) (‪)1‬‬
‫ويض يف ق ائالً‪( :‬إن الس لوكي ال يع ترف بم ا يس مى الس مات الذهني ة أو‬
‫النزعات أو الميول) (‪)2‬‬
‫أما جوانب العقل التي ال يمكن إنكارها فيتحتم أن تع رف من جدي د بعب ارات‬
‫س لوكية فحس ب‪ ،‬وهك ذا أص بح التفك ير يس مى (التكلم دون الص وتي)‪ ،‬وق د أعلن‬
‫واتسن أن (التكلم والتفكير‪ ،‬إذا فهما على الوجه الصحيح‪ ،‬يسهمان إسهاما ً كبيراً في‬
‫تحطيم الخرافة القائلة إن هناك شيئا ً يدعى (الحياة العقلية)‬
‫وتتجلى مادي ة واتس ن المنهجي ة أك ثر حين يتح دث عن دواعي التص رفات‬
‫اإلنسانية فيقول‪( :‬إن اإلنسان بوصفه نتيجة طبيعية للطريقة التي ركب به ا وللم ادة‬
‫التي جبل منها‪ ،‬البد ل ه من أن يتص رف كم ا يتص رف بالفع ل (إلى أن يعي د التعلم‬
‫صياغته)‬
‫والس لوكية تط رح الم ادة وتركيب ات الم ادة باعتباره ا األس باب الوحي دة‬
‫لتصرفات اإلنسان‪ .‬واإلنسان بهذا المنظار‪ ،‬قطعة هامدة من المادة البد من تش غيلها‬
‫بقوى خارجية‪.‬‬
‫وهم يستندون في هذا إلى قوانين الفيزياء ال تي تنص على أن الجس م الس اكن‬
‫يظل ساكنا ً ما لم تؤثر فيه قوة من الخارج‪ ،‬وبذلك فإن اإلنسان ال يتصرف من تلقاء‬
‫نفسه‪ ،‬بل يخضع لتصرفات تفرض عليه‪.‬‬
‫ويذكر واتسن للسلوكية هدفين اثنين‪( :‬التنب ؤ بالنش اط اإلنس اني)‪ ،‬و(ص ياغة‬
‫قوانين ومبادئ يستطيع المجتمع المنظم بواسطتها ضبط تصرفات اإلنسان)‪ .‬فإذا لم‬
‫يكن اإلنسان أكثر من كيان مادي فليس هن اك م ا ي دعو إلى االعتق اد بع دم إمكاني ة‬
‫برمجته كما تبرمج اآللة‪.‬‬
‫وقد عبر عن هذه الرؤية المادية وإلغائها لك ل الحق ائق والمش اعر المرتبط ة‬
‫باإلنسان‪ ،‬فقال‪( :‬الناس على استعداد لالع تراف ب أنهم حيوان ات‪ ،‬ولكنهم باإلض افة‬
‫إلى ذلك شيء آخر‪ ..‬وهذا الشيء اآلخر ه و ال ذي يخل ق المش اكل‪ ..‬وين درج تحت‬
‫هذا (الشيء اآلخر) كل م ا يع رف بال دين‪ ،‬والحي اة بع د الم وت‪ ،‬واألخالق‪ ،‬وحب‬
‫األطفال والوالدين والوطن وما شاكل ذلك‪ .‬والحقيقية العارية هي أنك‪ ،‬كعالم نفسي‪،‬‬
‫البد لك في هذه الحالة‪ ،‬إذا أردت أن تظل علمي المنهج‪ ،‬أن تص ف س لوك اإلنس ان‬
‫بعبارات ال تختلف عن تلك التي تستخدمها في وصفك لس لوك الث ور ال ذي تنح ره‪،‬‬
‫وهذه الحقيقة قد صرفت وما فتئت تصرف الكثيرين من ذوي النفوس الرعديدة عن‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.77‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.77‬‬

‫‪56‬‬
‫السلوكية) (‪)1‬‬
‫وق د القت نظري ات واتس معارض ة ش ديدة‪ ،‬اض طر بع دها إلى اع تزال‬
‫المجتمع األكاديمي نهائيا ً في عام ‪ ،1921‬وأخ ذ يش تغل بمهن ة تجاري ة في المي دان‬
‫اإلعالني‪.‬‬
‫ب ـ العقل بحسب الرؤية العلمية الجديدة‪:‬‬
‫بخالف الرؤية السابقة ـ وال تي س ببها انتش ار الفلس فة المادي ة بع د الص راع‬
‫الذي حصل مع الكنيسة ورجال الدين ـ ذهبت الرؤية العلمية الجديدة ـ بع د أن زال‬
‫ذلك االنبهار بالعلم‪ ،‬وعرف العقل اإلنساني محدوديته ـ إلى اإلقرار بوج ود العق ل‪،‬‬
‫وأنه خارج المادة‪ ،‬وأن له عالقة بالجسم‪ ،‬وال دماغ خصوص ا‪ ،‬ولكن ه ليس ال دماغ‪،‬‬
‫وإنما شيء آخر‪.‬‬
‫وقد أثبت العلم ذلك بأدلة كثيرة‪ ،‬ابتدأت أوال ـ كما يذكر ص احبا كت اب [العلم‬
‫في منظوره الجديد] ـ بتلك النظرة العلمية الجديدة للكون‪ ،‬والتي ظهرت بعد بنظرية‬
‫النسبية وميكانيكا الكم اللتين برهنتا على محورية العقل حتى في مجال الفيزياء‪.‬‬
‫ثم حظيت هذه النظرة الجديدة بتأييد كبار العلماء‪ ،‬في علم األعصاب‪ ،‬والذين‬
‫كشفوا النقاب عن أدلة تثبت استقالل العقل‪ ،‬واستحالة إرجاعه إلى المادة‪.‬‬
‫وهكذا ظهرت في علم النفس المعاصر حركة تتج ه إلى النتيج ة ذاته ا‪ ،‬وهي‬
‫أولية العقل‪ ،‬ففي أعقاب الحرب العالمية الثاني ة ش عر كث يرون من علم اء النفس أن‬
‫إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفس ي‪ ،‬وإلغ اء العق ل في الس لوكية‪ ،‬ق د‬
‫أفضيا إلى تجري د اإلنس ان من إنس انيته في علم النفس‪ ،‬معت برين أن ه ذا موق ف ال‬
‫يطاق في فرع من فروع المعرف ة مك رس لخدم ة الجنس البش ري‪ ،‬وب ذلك التحمت‬
‫في الخمس ينات من ه ذا الق رن (ق وة ثالث ة) في علم النفس إلى ج انب الق وتين‬
‫األخريين‪:‬التحليل النفسي والسلوكية(‪.)2‬‬
‫وقد وصف العالم النفسي [فرانك ت‪ .‬سفرين] هذه الحركة الجديدة بقوله‪( :‬إن‬
‫أتباعه ا ال يتكلم ون بص وت واح د‪ ،‬وال يش كلون مدرس ة فكري ة مس تقلة‪ ،‬وال هم‬
‫متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد‪ .‬بل إن كل ما يجمع بينهم هو اله دف‬
‫المشترك المتمثل في (أنسنة) علم النفس‪ .‬ففي اجتماع وطني للرابطة األمريكية لعلم‬
‫النفس عقد في عام ‪ ،1971‬قررت هذه الحرك ة الجدي دة أن تطل ق على نفس ها اس م‬
‫(علم النفس اإلنساني)(‪)3‬‬
‫وقد شرح الع الم النفس ي [اي رفن ل‪ .‬تش ايلد]‪ ،‬األس تاذ بجامع ة بي ل‪ ،‬المنحى‬
‫األساسي لعلم النفس الجديد فقال‪( :‬يعرف علم النفس اإلنساني باإلنسان ال ذي يتخ ذه‬
‫نموذجا ً له‪ ،‬وبإصراره على أن جمل ة المع ارف العلمي ة س تتنامى بأقص ى ق در من‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.78‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.79‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.80‬‬

‫‪57‬‬
‫المنفعة إذا هي اهتدت بتصور لإلنسان كما يعرف ه و نفس ه‪ ،‬ال ب أي محاك اة غ ير‬
‫إنسانية) (‪)1‬‬
‫وقد علل هذا بأن ما قام ب ه الم اديون من اختي ار نم اذج أخ رى للتعب ير عن‬
‫اإلنسان أو وصفه كانوا مخطئين فيها‪( ،‬فما الذي يجعلنا بحاجة إلى نموذج لإلنس ان‬
‫إذا كنا نحن أنفسنا من بني اإلنسان‪ ،‬فالنموذج شبه مؤقت يؤخذ من شيء يقع خارج‬
‫موض وع البحث ذات ه‪ .‬وه و يفي د حين تك ون طبيع ة الش يء بعي دة عن ا أو مبهم ة‪.‬‬
‫فالنموذج الكوكبي للذرة الذي وضعه [نيلزبور] يفيد في أغراض معينة‪ ،‬إذ ال سبيل‬
‫أمامنا لنعرف ما هي أحاس يس ال ذرة‪ ،‬ولكن ل دينا بالفع ل معلوم ات من داخلن ا عن‬
‫كيفية إحساس اإلنسان بنفسه)(‪)2‬‬
‫وبن اء على ذل ك‪( ،‬فعلم النفس اإلنس اني‪ ،‬إذاً‪ ،‬يتك ون من جمي ع تي ارات علم‬
‫النفس الفكرية التي ينظر فيها إلى اإلنسان‪ ،‬على نحو م ا‪ ،‬كم ا ينظ ر ه و ع ادة إلى‬
‫نفسه‪ ،‬أي بوصفه إنساناً‪ ،‬ال مجرد حي وان أو آل ة‪ .‬فاإلنس ان ق وة واعي ة‪ ،‬وه ذه هي‬
‫نقطة االنطالق‪ .‬فهو يجرب‪ ،‬وهو يقرر‪ ،‬وهو يتصرف‪ .‬فإذا وج دت ظ روف يمكن‬
‫في ظله ا أن تتحق ق منفع ة ب النظر إلى اإلنس ان تمام ا ً من الخ ارج‪ ،‬كم ا ل و ك ان‬
‫يستجيب لحافز خارجي استجابة آلية منتظمة يتس نى التنب ؤ به ا‪ ،‬فربم ا ك ان األخ ذ‬
‫بنم وذج آلي مفي داً في مث ل ه ذه الظ روف‪ .‬ولكن علم النفس اإلنس اني ينطل ق من‬
‫افتراض كون مثل هذه الظروف حاالت خاصة‪ ،‬ومن أن تأس يس علم النفس بأكمل ه‬
‫عليها سيكون افتقاراً لهذا العلم‪ ،‬وقيدا من شأنه أن يحول دون تطبيقه العام على فهم‬
‫طبيعة اإلنسان)(‪)3‬‬
‫وم ا ذك ره علم اء النفس من أتب اع النظ رة الجدي دة حص ل مثل ه في علم‬
‫األعصاب‪ ،‬بعد أن جاء الق رن العش رون بكش وف رائع ة عن الفس يولوجيا‪ ،‬وال تي‬
‫خالفت كل ما ادعاه أصحاب النظرة القديمة‪.‬‬
‫وقد بدأ ذلك ـ كما يذكر صاحبا كت اب [العلم في منظ وره الجدي د] بـ [الس ير‬
‫تشارلز سرنغتون] الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا األعصاب الحديثة‪ ،‬فنتيجة بحوثه‬
‫الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص إلى هذه النتيجة المهمة ال تي ع بر عنه ا‬
‫بقول ه‪( :‬هك ذا ظه ر ف رق ج ذري بين الحي اة والعق ل؛ فالحي اة هي مس ألة كيمي اء‬
‫وفيزياء‪ ،‬أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء)(‪)4‬‬
‫وهو يقصد بمصطلح [الحياة] هنا إلى ما س ماه الفالس فة [النفس الحيواني ة]‪،‬‬
‫وهي م ا تحتاج ه حي اة الجس د من متطلب ات كالتغذي ة الذاتي ة‪ ،‬واس تقالب الخالي ا‬
‫والنم و‪ ،‬ذل ك أن ه ذه الظ واهر تتم بواس طة ق وانين الفيزي اء والكيمي اء‪ ،‬ويمكن‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.81‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.81‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.81‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.27‬‬

‫‪58‬‬
‫تفس يرها بلغ ة ه ذين العلمين‪ ،‬بخالف أنش طة العق ل فهي تتج اوز آلي ات الفيزي اء‬
‫والكيمياء‪.‬‬
‫وق د وافق ه على ه ذا [الس ير ج ون اكلس] المتخص ص في علم األعص اب‪،‬‬
‫والذي عبر عن النتيجة ال تي أوص لته إليه ا أبحاث ه‪ ،‬فق ال‪( :‬التج ارب ال تي تنم عن‬
‫الوعي تختلف في نوعها كل االختالف عما يح دث في آلي ة األعص اب‪ ،‬وم ع ذل ك‬
‫فإن مايحدث في آلية األعصاب شرط ضروري للتجربة‪ .‬وإن كان هذا ش رطا ً غ ير‬
‫كاف) (‪)1‬‬
‫ولتوضيح ذلك س اق المؤلف ان مث اال توض يحيا ي بين كيفي ة حص ول الرؤي ة‪،‬‬
‫وعالقتها بالجسد والعقل‪ ،‬والمثال هو أن أشعة الشمس المنعكسة من الش جرة ت دخل‬
‫في بؤب ؤ العين‪ ،‬ثم تم ر من خالل العدس ة ال تي ترك ز ص ورة مقلوب ة ومص غرة‬
‫للشجرة على شبكة العين‪ ،‬فتحدث فيها تغيرات فيزيائية وكيميائية‪..‬‬
‫لكن هذا ليس هو اإلبصار‪ ..‬إذ لو أن الذي حصل لعينه هذا كان فاقد ال وعي‪،‬‬
‫لم يبصر شيئا‪ ،‬مع أن تركيز تلك الصورة على شبكية عينيه‪ ،‬أحدث نفس التغ يرات‬
‫الفيزيائية والكيمائية‪.‬‬
‫وهذا مثل تركيز آلة التصوير على صورة ما‪ ،‬حيث يتعرض الفيلم الموج ود‬
‫في اآللة لتغيرات فيزيائية وكيميائية‪،‬ولكن آلة التص وير التبص ر ب المعنى الح رفي‬
‫في األلوان واألشكال التي تسجلها‪.‬‬
‫وبذلك‪ ،‬فإننا إذا أردنا أن نفسر اإلبصار نحتاج إلى بحث أك ثر وأعم ق‪ ،‬ذل ك‬
‫أن الشبكية‪ ،‬وهي صفحة من المستقبالت ش ديدة ال تراص (عش رة ماليين مخ روط‬
‫ومائ ة ملي ون قض يب) تب دأ حين ينش طها الض وء المنبعث من الش جرة بإرس ال‬
‫نبضات الى العصب البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البص رية‪ ..‬وك ل‬
‫هذا قابل ألن يفسر بلغة الفيزياء والكيمياء‪( ،‬ولكن أين مكان اللون األخضر من كل‬
‫هذا؟ فالدماغ نفسه رمادي اللون أبيضه‪ ..‬فكي ف يس تطيع أن يتلقى لون ا جدي داً دون‬
‫أن يفق د لون ه الس ابق؟ وكي ف يس تطيع ال دماغ أن يبص ر الض وء إذا ك ان مغلق ا ً‬
‫ومعزوالً تماما عن أي ضوء؟)(‪)2‬‬
‫وبناء على هذا يؤكد [السير جون اكلس] على سر اإلدراك الحسي فيتس اءل‪:‬‬
‫(أليس صحيحا ً أن أكثر تجاربن ا ش يوعا ً تقب ل دون أي تق دير لم ا تنط وي علي ه من‬
‫غموض هائل؟ ألسنا ال نزال كاألطفال في نظرتنا إلى مانقبل ه من تجاربن ا المتعلق ة‬
‫بالحي اة الواعي ة‪ .‬فال ن تريث إال ن ادراً للتفك ير في أعجوب ة التجرب ة الواعي ة أو‬
‫لتقديرها؟ فالبصر‪ ،‬مثال‪ ،‬يعطينا في كل لحظة صورة ثالثية األبعاد لع الم خ ارجي‪،‬‬
‫ويركب في هذه الصورة من سمات اإللتماع والتلون ما الوجود له إال في اإلبص ار‬
‫الناشيء عن نشاط الدماغ‪ .‬ونحن بالطبع ندرك اآلن النظائر المادي ة له ذه التج ارب‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.28‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪59‬‬
‫المتول دة من اإلدراك الحس ي كح دة المص در المش ع والط ول الم وجي لإلش عاع‬
‫المنبعث‪ ،‬وم ع ذل ك فعملي ات اإلدراك ذاته ا تنش أ بطريق ة مجهول ة تمام ا عن‬
‫المعلومات المنقولة بالرموز من شبكية العين إلى الدماغ) (‪)1‬‬
‫ويضرب مثال على ذلك بالص ورة ال تي تس لط على الش بكية‪ ،‬فهي (ال تع ود‬
‫أبدا إلى الظهور مجددا في الدماع‪ ،‬بل البد للعق ل ال واعي من أن يعي د تركيبه ا من‬
‫أنماط النبضات المرموزة‪ ،‬فكل عملية إدراك حسي تتكون من ثالث مراح ل‪:‬المنب ه‬
‫األص لي لعض و الحس‪ ،‬والنبض ات العص بية المرس لة إلى ال دماغ‪ ،‬ونم ط النش اط‬
‫العصبي المثار في الدماغ) (‪)2‬‬
‫ويلخص أكلس ه ذه العملي ة فيق ول‪( :‬إن عملي ة النق ل من عض و الحس إلى‬
‫قشرة المخ تستخدم نمطا من النبض ات العص بية مع براً عنه ا برم وز تش به رم وز‬
‫مورس‪ ،‬وتنحصر فيها النقاط في تسلسالت زمنية شتى‪ .‬ومن المؤك د أن ه ذا النق ل‬
‫المرموز يختلف تمام اإلختالف عن عملي ة الحف ز األص لي لعض و الحس المع ني‪،‬‬
‫كما أن النمط المكاني ‪ /‬الزماني للنشاط العصبي المثار في قش رة المخ مختل ف ه و‬
‫اآلخ ر ك ل األختالف‪ ،‬وعملي ة الترجم ة المزدوج ة ه ذه تض خم أعجوب ة اإلدراك‬
‫الحسي‪ .‬ذلك أن هذه السلسلة من الترجم ات الفيزيائي ة‪ /‬الكيمائي ة تس فر عن تجرب ة‬
‫حس ية مح ددة كإبص ار الل ون األخض ر‪ ،‬وفي ه ذه النقل ة م ا يبعث على ق در من‬
‫الذهول ليس أدنى إثارة للعجب من حالة شخص يفهم فج أة نص ا ت رجم ل ه من لغ ة‬
‫يجهلها إلى لغة أخرى يجهلها كذلك) (‪)3‬‬
‫وبن اء على ه ذا فع الم اإلحس اس‪ ،‬وفق ا للنظ رة الجدي دة‪ ،‬يتوق ف على ع الم‬
‫الفيزياء والكيمياء‪ ،‬ولكنه ليس مقصوراً عليه‪ ،‬ذلك أن ه من المؤك د أن وج ود كت اب‬
‫ما يتوقف على عناصر ال ورق والص مغ والح بر ال تي يتك ون منه ا‪،‬ومن دونه ا ال‬
‫يمكن أن يوجد الكتاب‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فالكتاب اليٌفهم فهم ا ً كافي ا ً بمج رد إج راء تحلي ل‬
‫كيميائي للح بر وأللي اف ال ورق‪ ،‬وح تى ل و عرفن ا طبيع ة ك ل ج زء من جزيئ ات‬
‫الورق والحبر معرفة كاملة فذلك ال يكشف لن ا ش يئا عن محت وى الكت اب‪ ،‬ذل ك أن‬
‫محتوى الكتاب يشكل نظاما ً أسمى يتجاوز عالم الفيزياء والكيمياء‪ ،‬وبطريقة مماثلة‬
‫تؤك د النظ رة الجدي دة أن أحاسيس نا تتوق ف على أعض اء الجس م‪ ،‬ولكن اليمكن‬
‫حصرها في الخواص الفيزيائية والكيميائية للمادة) (‪)4‬‬
‫و هكذا يستعمل [شرنغتون] مث ال البص ر اليض اح أن النظ رة القديم ة ال تى‬
‫يسميها [مخطط الطاقة] ال تس تطيع أن تعل ل إحساس نا بنجم ن راه‪ ،‬فمخط ط الطاق ة‬
‫يتن اول ه ذا االحس اس ويص ف م رور االش عاع من النجم إلى العين والص ورة‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪60‬‬
‫الضوئية الصغيرة ال تى تتش كل ل ه فى ق اع العين وم ا يس فر عن ه ذل ك من النش اط‬
‫الض وئى الكيمي ائى فى الش بكية وسلس لة التف اعالت ال تى يحتم ل أن تح دث ابت داء‬
‫بالعصب وانتهاء بالدماغ‪ ،‬وكذلك التش ويش الكهرب ائى فى ال دماغ‪ ،‬ولكن ه ال يق ول‬
‫شيئا عن إبصارنا للنجم‪ ،‬فمخطط الطاقة ال يفسر ادراكنا ان للنجم سطوعا واتجاه ا‬
‫وبعدا وال كيفية تحول الصورة فى قاع العين الى نجم نراه فوق رؤوسنا‪.‬‬
‫والنتيجة التي يذكرها مؤلفا كتاب [العلم في منظوره الجديد] هي أن (النش اط‬
‫الفسيولوجى والكيميائى للدماغ وفقا للنظرة العلمية الجديدة أمر ضروري لإلحساس‬
‫م تزامن مع ه‪ ،‬ولكن ه ليس اإلحس اس بعين ه‪ ،‬والم ادة وح دها ال تس تطيع أن تفس ر‬
‫اإلدراك الحس ى؛ ف النظرة القديم ة تس تطيع أن تتح دث عن الموج ات الض وئية‬
‫والتغيرات الكيميائية والنبضات الكهربائية فى األعص اب ونش اط خالي ا المخ‪ ،‬أم ا‬
‫عن عمليات اإلبصار والش م وال ذوق والس مع واللمس ذاته ا فليس عن د المادي ة م ا‬
‫تقوله) (‪)1‬‬
‫وبعبارة أخرى‪( ،‬إن اإلدراك الحس ى حقيق ة‪ ،‬ولكن ه ليس الم ادة وال ه و من‬
‫خواص المادة وليس فى مقدور المادة أن تفسره) (‪)2‬‬
‫وبن اء على ه ذا كل ه يص رح [ش رنغتون] ب أن (ك ون وجودن ا مؤلف ا من‬
‫عنصرين جوهريين أمر ليس فى تصورى أبعد احتماال بطبيعت ه من اقتص اره على‬
‫عنص ر واح د‪ ،‬ف النظرة الجدي دة تف ترض وج ود عنص رين ج وهريين فى‬
‫اإلنسان‪:‬الجسم والعقل) (‪)3‬‬
‫وب ذلك ف إن العلم في رؤيت ه الجدي دة‪ ،‬اس تطاع أن يكتش ف وج ود العق ل‪،‬‬
‫وانفصاله عن الجسد‪ ،‬أو كونه مكونا آخر لإلنسان غير الجسد‪ ،‬عبر مثال بسيط ه و‬
‫اإلدراك البصري‪ ،‬الذي هو نوع من أنواع اإلدراك الحسى‪.‬‬
‫فكيف به عندما يريد أن يفسر سائر اإلدراك ات وعالقته ا ببعض ها فـ (كلم ة‬
‫إدراك تعنى (المعرفة او الوعى) وبهذا المع نى ف أى نش اط ينط وى على معرف ة أو‬
‫إدراك هو من أنشطة العقل المدرك‪ ،‬فالمسالة كلها تبدأ باإلدراك الحسى‪ ،‬والح واس‬
‫الخارجي ة هى األس اس األول لك ل المع ارف اإلنس انية ومص درها‪ ،‬ومن دون‬
‫المعلوم ات اآلتي ة من ه ذه الح واس ال يك ون ل دى ال ذاكرة أى ش ىء تت ذكره‪ ،‬وال‬
‫للخي ال أى ش يء يتص وره‪ ،‬وال للعق ل أى ش ىء يفهم ه‪ ،‬وك ل حاس ة من الح واس‬
‫الخمس ت درك ص فة مح ددة من ص فات األش ياء المادية‪ ..‬فنحن نس تطيع مثال أن‬
‫نعرف حجم قطعة نقدية عن طريق حاسة البصر أو حاسة اللمس واللمس وحده بين‬
‫الحواس الخارجية الخمس موزع على مختل ف أن واع أج زاء الجس م أم ا الخ واص‬
‫األربع األخرى فكل منها يقتصر على عضو متخصص‪:‬العين أو األذن أو األنف أو‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪61‬‬
‫اللسان)(‪)1‬‬
‫وإلى جانب هذه الحواس الخارجية (نج د تحت تص رفنا مجموع ة كب يرة من‬
‫ملكات اإلحساس الداخلى‪ ،‬فنحن نمل ك الق درة على اإلحس اس ال بالبي اض وبحالوة‬
‫الطعم فحس ب‪ ،‬ب ل على ادراك الف ارق بينهم ا‪ ،‬ف العين ت درك البي اض وال ت درك‬
‫الحالوة‪ ،‬واللس ان ي درك الحالوة‪ ،‬وال ي درك البي اض‪ ،‬فال اللس ان وال العين‬
‫يس تطيعان التمي يز بين البي اض والحالوة ألن أي ا منهم ا ال ي درك االث نين مع ا‪،‬‬
‫ويصدق هذا القول نفسه على الفرق بين ارتفاع الصوت وارتفاع الحرارة‪ ،‬ذلك ألن‬
‫أى ملكة قادرة على مقارنة شيئين ال بد لها من أن تعرفهما كليهم ا‪ ،‬وم ا من حاس ة‬
‫خارجية تستطيع أن تؤدى هذه المهمة تبعا لذلك ال بد من أن تكون فينا حاسة داخلية‬
‫تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها الحواس الخارجي ة وأن تم يز بينهما)‬
‫(‪)2‬‬
‫وهكذا (نحن نمل ك الق درة على أن نس تدعى أم ورا لم تع د حاض رة‪ ،‬فعملي ة‬
‫التذكر شىء حاضر بالفع ل‪ ،‬ولكن الش ىء ال ذى نت ذكره ليس ك ذلك‪ ،‬إذ إن إدراكن ا‬
‫الحسى األص لى ق د زال على نح و م ا‪ ،‬ولكن ه م ع ذل ك تحت تص رفنا فال ذاكرة ال‬
‫تستحض ر التجرب ة الماض ية فحس ب‪ ،‬ب ل تستحض رها بوص فها ح دثا ماض يا‪،‬‬
‫وتس تطيع ترتيبه ا من حيث ص لتها بتج ارب أخ رى ماض ية‪ .‬ب ل إن األدعى الى‬
‫الدهشة هو قدرتنا على أن نجعل أنفس نا نت ذكر الش ىء المنس ى‪.‬ص حيح أن ال ذاكرة‬
‫تخوننا أحيانا فال نستطيع أن نتذكر اسم ش خص م ا‪ ،‬ولكنن ا نس تطيع فى الغ الب أن‬
‫نحمل أنفسنا على تذكره بالتركيز على أمور أخرى مرتبطة بذلك االسم) (‪)3‬‬
‫وهكذا نحن نملك الخيال‪ ،‬وهو (ملكة حسية داخلية أخرى نستطيع بواس طتها‬
‫أن نتصور ال األشياء المدركة بالحواس فحس ب‪ ،‬ب ل األش ياء ال تى ال ت دركها ه ذه‬
‫الحواس كجبل من ذهب أو فيل بحجم البرغوث‪ ،‬فالخيال‪ ،‬بخالف الذاكرة‪ ،‬يس تخدم‬
‫المعلومات الواردة من الحواس الخارجية الخمس بحرية وبطريقة إبداعية) (‪)4‬‬
‫وهك ذا نحن نمل ك الق درة على (اإلحس اس ب العواطف‪ ،‬ك الحب والغض ب‬
‫والفرح والخوف واألمل والرغب ة والح زن‪ ،‬وال تي تربطن ا بالع الم بطريق ة أخ رى‬
‫مختلفة كذلك‪ .‬فكل عاطفة تنشأ من فع ل ملك ة حس ية‪ ،‬س واء ك انت حاس ة خارجي ة‬
‫كالخيال‪ ،‬أو الذاكرة فالغض ب مثال يث يره اإلحس اس بالض رر أو اإلهان ة والخ وف‬
‫يحركه تخيل وقوع شر يتهددنا فى المستقبل والحزن يس ببه اإلحس اس ب ألم حاض ر‬
‫أو تذكر ألم مضى زمانه كذلك من طبيع ة العاطف ة أن يحس به ا‪ ،‬ب ل إن العواط ف‬
‫تسمى أحيانا أحاسيس لوثاقة صلتها بحاسة اللمس‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬وم ع أن األحاس يس‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.30‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬

‫‪62‬‬
‫تسبب وتالزم على الدوام كل عاطفة‪ ،‬فإن العواطف ذاتها ليست أفعاال تن درج تحت‬
‫اإلدراك الحسى‪ .‬فالخوف ال يدل على مجرد اإلحساس بش ىء م ا‪ ،‬وإنم ا ي دل على‬
‫موقف أو رد فعل إزاء ذل ك الش ىء‪ .‬والعاطف ة ليس ت عملي ة اإلبص ار‪ ،‬ولكنه ا رد‬
‫الفعل إزاء الشىء المبصر والذى يجعلنا نميل إليه أو يدفعنا بعيدا عنه)(‪)1‬‬

‫وهكذا نحن نملك الق درة على (إدراك ماهي ة األش ياء‪ ،‬وه و أم ر ال تس تطيع‬
‫الحواس القيام به‪ ،‬وال ملكة الخيال ذاتها‪ ،‬فإذا حاولنا مثال أن نتخيل ما ه و الحي وان‬
‫فالصورة التى ترتسم فى أخيلتنا الحسية تختص بحيوان بعينه له صفات مح ددة من‬
‫حيث الحجم والشكل واللون ومن المستحيل تك وين ص ورة حس ية لم ا يش ترك في ه‬
‫جميع الحيوانات ومع ذلك فليس من المستحيل على العقل أن يفهم م ا ه و الحي وان)‬
‫(‪)2‬‬
‫بل نحن نملك القدرة على إدراك أشياء أكبر بكثير‪ ،‬مثل (المكان الذى يتحدث‬
‫عن ه أينش تاين)‪ ،‬وال ذي ال يمكن تص وره‪ ،‬كم ا ق ال ع الم الفيزي اء الفلكي ة [وليم‬
‫كوفمان]‪( :‬ومن المس تحيل عملي ا أن نتص ور متص ل المك ان والزم ان الملت وى ذا‬
‫األبعاد األربعة)‪ ،‬فالمكان الرباعى األبع اد ال يس تطيع أن يحس ب ه أو يتخيل ه ح تى‬
‫علماء الفيزياء والرياضيات‪ ،‬ولكن يمكن فهمه‪.‬‬
‫وب ذلك ف إن العق ل فى مج ال العل وم (يس مو على قي ود الخي ال‪ ،‬وه و حاس ة‬
‫داخلية فالعقل البشرى إذا ليس متميزا من الخيال فحسب بل هو قدرة إدراكية تفوق ه‬
‫بكثير والعق ل ال الح واس ه و ال ذى يص نع العلم ألن ه وح ده يس تطيع أن يستكش ف‬
‫ماهية األشياء وعللها)(‪)3‬‬
‫بل نحن نملك القدرة على أشياء أك بر من اإلدراك نفس ه‪ ،‬وهى اإلرادة (ومن‬
‫اليس ير التمي يز بين اإلرادة والعاطف ة ألن االث نين يمكن أن تتص ادما واألعم ال‬
‫الجريئ ة ت برهن على أن اإلرادة تف رض نفس ها ح تى على الخ وف من الم وت‬
‫فالعواطف تثيرها الحواس ولكن اإلرادة تختار وفقا لما يراه العقل‪ ،‬بل إننا كثيرا م ا‬
‫نقول إن فالنا من الناس قد تغلب على عاطفته ألنه كان عنده سبب وجيه للقيام بذلك‬
‫فالحيوان يتبع حكم اإلحس اس والعاطف ة ولكن اإلنس ان يتمت ع بق درة على االختي ار‬
‫وفقا لما يفهمه عقله)(‪)4‬‬
‫وقد ذكر مؤلفا كتاب [العلم في منظوره الجديد] بمناسبة ح ديثهما عن عالق ة‬
‫اإلرادة بالعق ل‪ ،‬اكتش افا علمي ا رائع ا‪ ،‬ال يمكن لمن يح ترم عقل ه أن يرفض ه‪ ،‬أو‬
‫يتالعب بنتائجه‪ ،‬أو يحاول الهروب منها‪ ،‬فهي تشكل دليال حسيا على وجود العقل‪.‬‬
‫يقول المؤلفان في التقديم له ذا االكتش اف‪( :‬وفيم ا يتعل ق بالعالق ة بين العق ل‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.31‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.33‬‬

‫‪63‬‬
‫واإلرادة تم بعض أروع اكتشافات القرن العشرين خالل عملي ات جراحي ة أجراه ا‬
‫ويلدربنفيلد على أدمغة م ا يرب و على أل ف م ريض فى حال ة ال وعى‪ ،‬ومالحظ ات‬
‫بنفيل د ح ول وظيف ة ال دماغ تف وق فى حجيته ا وكماله ا جمي ع األدل ة الس ابقة غ ير‬
‫المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات‪ ،‬ومن عمليات جراحية أجريت‬
‫على أدمغة أشخاص مبنجين‪ ،‬وكان بنفيلد‪ ،‬والذى يعود ل ه الفض ل األول فى ادم اج‬
‫مباحث األعصاب وفسيولوجيا األعصاب وجراحة األعصاب‪ ،‬وقد شرع فى بحوثه‬
‫الرائدة فى الثالثينات من هذا القرن غير أن اآلثار الكاملة المترتب ة على اكتش افه لم‬
‫تتضح إال حين نشر كتابه المسمى [لغز العقل]) (‪)1‬‬
‫لق د اكتش ف بنفيل د ع ام ‪ 1993‬بمحض الص دفة أن تنبي ه من اطق معين ه فى‬
‫الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى‪.‬‬
‫لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول األمر‪ ،‬ثم أخذته الدهشة‪ ،‬فعندما المس القطب‬
‫الكهربائى قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة (بيس بول) فى‬
‫مدين ة ص غيرة‪ ،‬وي راقب ول دا ص غير يزح ف تحت الس ياج‪ ،‬ليلح ق بجمه ور‬
‫المتفرجين‪ ،‬وهناك مريضة أخرى سمعت آالت موسيقية تعزف لحن ا من األلح ان‪..‬‬
‫قال بنفليد‪( :‬أعدت تنبيه الموض ع نفس ه ثالثين م رة مح اوال تض ليلها‪ ،‬وأمليت ك ل‬
‫استجابة على كاتبه‪ ،‬وكلما أعدت تنبي ه الموض ع ك انت المريض ة تس مع اللحن من‬
‫جديد‪ ،‬وكان اللحن يبدأ فى المكان نفس ه‪ ،‬ويس تمر من الالزم ة إلى مقط ع األغني ة‪،‬‬
‫وعندما دندنت‪ ،‬مصاحبة الموسيقا‪ ،‬كان إيقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له) (‪)2‬‬
‫لقد كان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمث ل ه ذه التفاص يل‬
‫الحية‪ ،‬ويفترضون على الفور أن الجراح هو المس ؤول عن تنبي ه ال ذاكرة ال تى م ا‬
‫ك انت تت اح ل واله‪ ،‬وك ان ك ل م ريض ي درك أن التفاص يل هى من واق ع تجارب ه‬
‫الماضية‪ ،‬وكان من الواضح أن األشياء التى كان قد أوالها عنايته هى وح دها ال تى‬
‫أودعها فى محفوظات دماغه‪.‬‬
‫وكان بنفيلد من وقت آلخر يحذر المريض أنه سينبه دماغ ه‪ ،‬ولكن ه ال يفع ل‬
‫ذلك‪ ،‬وفى مثل هذه الحاالت لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطالقا‪.‬‬
‫ثم إن مالمسة المنطقة الخاص ة ب النطق فى ال دماغ ت ؤدى إلى فق دان م ؤقت‬
‫للقدرة على الكالم عند المريض‪ ،‬ونظرا النعدام اإلحساس فى الدماغ‪ ،‬فالمريض ال‬
‫ي درك أن ه مص اب بالحبس ة إال عن دما يح اول أن يتكلم أو يفهم الكالم‪ ،‬فيعج ز عن‬
‫ذلك‪ ،‬وقد روى بنفيلد ما حدث‪ ،‬فق ال‪( :‬أخ ذ أح د مس اعدى يع رض على الم ريض‬
‫ص ورة فراش ة وض عت القطب الكهرب ائى حيث كنت أف ترض وج ود قش رة المخ‬
‫الخاصة بالنطق‪ ،‬فظل المريض صامتا للحظات‪ ،‬ثم طقط ق بأص ابعه كم ا ل و ك ان‬
‫غاض با‪ ،‬ثم س حبت القطب‪ ،‬فتكلم فى الح ال‪ ،‬وق ال‪ :‬اآلن أق در على الكالم‪ ،‬إنه ا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.33‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.34‬‬

‫‪64‬‬
‫فراشة لم أكن قادرا على النطق بكلمة (فراشة) فحاولت أن أنطق بكلمة (عثة)‬
‫لق د فهم الرج ل بعقل ه الص ورة المعروض ة على الشاش ة‪ ،‬وطلب عقل ه من‬
‫مركز الكالم فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم المائ ل فى ذهن ه‪ ،‬وه ذا‬
‫يعنى أن آلية الكالم ليست متماثلة مع العقل‪ ،‬وإن كانت موجه ة من ه‪ ،‬فالكلم ات هى‬
‫أدوات تعبير عن األفكار‪ ،‬ولكنها ليس ت األفك ار ذاته ا‪ ،‬وحين عج ز الم ريض عن‬
‫التفوه بالكلمة النسداد الكالم عنده استغرب‪ ،‬وأمر بالبحث عن اس م ش ئ مش ابه ه و‬
‫(العث ه) وعن دما فش ل في ذل ك أيض ا طقط ق بأص ابعه غض با (إذ إن ه ذا العم ل‬
‫الحركى ال يخضع لمركز الكالم)‪ ،‬وأخيرا عندما انفتح مركز الكالم عن د الم ريض‬
‫شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره‪ ،‬وقد استنتج بنفيلد أن المريض‬
‫حصل على كلمات من آلية الكالم عندما عرض مفاهيم‪ ،‬ونحن نستطيع االستعاض ة‬
‫عن ضمير الغائب فى عملية االستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عمال آليا)‬
‫وهك ذا توص ل بنفيل د إلى نت ائج مماثل ة فى من اطق ال دماغ ال تى تض بط‬
‫الحركات‪ ،‬قال‪( :‬عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوض ع القطب على القش رة‬
‫الحركية فى أحد نصفى كرة دماغه كنت أسأله م رارا عن ذل ك‪ ،‬وك ان جواب ه على‬
‫الدوام (أنا لم أحرك ي دى ولكن ك أنت ال ذى حركته ا) وعن دما أنطقت ه ق ال‪( :‬أن ا لم‬
‫أخرج هذا الصوت أنت سحبته منى)‬
‫وق د لخص بنفيل د ذل ك بقول ه‪( :‬إن القطب الكهرب ائي يمكن أن يخل ق عن د‬
‫الم ريض أحاس يس بس يطة متنوع ة‪ ،‬ك أن يجعل ه ي دير رأس ه أو عيني ه أو يح رك‬
‫أعضاءه أو يخرج أصواتا‪ ،‬وقد يعيد إلى الذاكرة إحساسا حي ا بتج ارب ماض ية‪ ،‬أو‬
‫يوهمه بأن التجربة الحاض رة هى تجرب ة مألوف ة‪ ،‬أو أن األش ياء ال تى يراه ا تك بر‬
‫وتدنو منه‪ ،‬ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك‪ ،‬وهو يص در أحكام ا على ك ل‬
‫ه ذه األم ور وربم ا ق ال‪ :‬إن األش ياء تك بر) ولكن ه يس تطيع م ع ذل ك أن يم د ي ده‬
‫اليسرى‪ ،‬ويقاوم هذه الحركة‪.‬‬
‫ونتيج ة مراقب ة مئ ات المرض ى به ذه الطريق ة انتهى بنفيل د إلى أن عق ل‬
‫المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية ال ب د من أن يك ون‬
‫ش يئا آخ ر يختل ف كلي ا عن فع ل األعص اب الالإرادي‪ ،‬وم ع أن مض مون ال وعي‬
‫يتوقف إلى حد كبير على النشاط‪ ،‬فاإلدراك نفسه ال يتوقف على ذلك‪.‬‬
‫وباستخدام هذه األساليب المراقبة استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة ت بين‬
‫مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة وجمي ع الح واس الداخلي ة والخارجي ة‬
‫غير أنه لم يكن في المستطاع تحديد موقع العقل أو اإلرادة في أي جزء من الدماغ‪،‬‬
‫فالدماغ هو مقر اإلحساس والذاكرة والعواط ف والق درة على الحرك ة‪ ،‬ولكن ه ليس‬
‫مقر العقل أو اإلرادة‪.‬‬
‫وق د أعلن بنفيل د عن نت ائج أبحاث ه ق ائال‪( :‬ليس في قش رة ال دماغ أي مك ان‬
‫يس تطيع التنبي ه الكهرب ائي في ه أن يجع ل الم ريض يعتق د أو يق رر ش يئا‪ ،‬والقطب‬
‫الكهرب ائي يس تطيع أن يث ير األحاس يس وال ذكريات غ ير أن ه ال يق در أن يجع ل‬

‫‪65‬‬
‫المريض يصطنع القياس المنطقى‪ ،‬أو يحل مسائل فى الجبر‪ ،‬بل إن ه ال يس تطيع أن‬
‫يح دث فى ال ذهن أبس ط عناص ر الفك ر المنطقي‪ ،‬والقطب الكهرب ائي يس تطيع أن‬
‫يجعل جس م الم ريض يتح رك‪ ،‬ولكن ه ال يس تطيع أن يجعل ه يري د تحريك ه‪ ،‬إن ه ال‬
‫يستطيع أن يكره اإلرادة‪ ،‬فواضح أذا أن العق ل البش رى واإلرادة البش رية ليس له ا‬
‫أعضاء جسدية)‬
‫بعد هذا االكتشاف‪ ،‬والذي أعقبته اكتشافات كثيرة ت دل على ض رورة وج ود‬
‫العقل‪ ،‬وكونه كائنا آخر غير الجسد‪ ،‬نختم ه ذا المبحث ببعض م ا ورد في حواري ة‬
‫ذكرها د‪ .‬عمرو شريف في كتابه المهم [رحلة عقل]‪ ،‬وقد جرت ـ كما ي ذكر ـ بين ه‬
‫وال دكتور جي موريالن د من جه ة‪ ،‬باعتبارهم ا يمثالن الفك ر اإليم اني‪ ،‬م ع بعض‬
‫المالحدة الماديين (‪.)1‬‬
‫وقد بدأ فيه الملحد سؤاله عن تعريف الوعي‪ ،‬فأجاب المؤمن بقول ه‪( :‬ال وعي‬
‫هو القدره على التأمل فيما حولنا وفيما بداخلنا‪ ،‬إنه يقف وراء االحاس يس واالفك ار‬
‫والمعتقدات والرغبات وحرية االختيار ؛ إنه ما يجعلنا نشعر بأننا أحياء‪ ..‬إن الوعي‬
‫ببساطه ه و الف رق بين االنس ان المس تيقظ واالنس ان الن ائم‪ ..‬ويمكن تش بيه ال وعي‬
‫بالتيار الكهربائي الذي اليعمل الكمبيوتر إال به‪ ،‬إذا تتالشى قدرات الكم بيوتر إذا تم‬
‫فصل التيار الكهربائي عنه)‬
‫قال الملحد‪ :‬يعتبر كثير من البيولوجيين أن العقل المس ؤول عن ال وعي نت اج‬
‫مباش ر للمخ الم ادي‪ ،‬تمام ا ً كم ا تنتج الكليت ان الب ول‪ ،‬ل ذلك يعتق د أنص ار التط ور‬
‫الدارويني أنه ما إن وصل المخ إلى الحجم الحالي وتعقيده المذهل حتى ب زغ العق ل‬
‫تلقائيا ً كخطوة تطورية‪ ..‬ألكن أمينا ً معك‪ ،‬اليمكنني أن أتصور أن التطور العشوائي‬
‫قادر على تشكيل العقل اإلنساني بكل ملكاته فما رأيك أنت؟‬
‫أجاب المؤمن‪ :‬لست وحدك ال ذي تج د ص عوبة في ذل ك‪ ،‬أنظ ر إلى م ايقول‬
‫أستاذ الفلسفة البريطاني بجامعة أكسفورد كولن ماكجين‪( :‬ال أستطيع أن أتصور أن‬
‫المادة يمكن بأي آلي ة بيولوجي ة أن تكتس ب العق ل‪ ،‬إن العق ل كالحي اة ض يف جدي د‬
‫تماما ً على الكون‪ ،‬إنه قفزة هائلة من نوع مختلف والينبغي أن يتهرب ال بيولوجيون‬
‫التطوريون من المشكلة بأن يغضوا النظر عنها)‬
‫وأضاف المؤمن‪ :‬إن القائلين ب بزوغ العق ل من المخ الم ادي يواجه ون أرب ع‬
‫مشكالت‪:‬‬
‫‪ -1‬إن قولهم هذا يعني أن الماده تتميز بعقل كامن فيها‪ ،‬وعند وص ول الم ادة‬
‫إلى درجة معينة من تعقيد البنية تتفجر وتظه ر ه ذه الق درات الكامن ة‪ ،‬وق د أض فوا‬
‫على المادة بذلك صفات تخالف تماما ً المفاهيم المادي ة إنه ا ص فات أق رب لمنظ ور‬
‫المتدينين من منظور الماديين‪.‬‬
‫‪ -2‬إذا انبثق العقل من المادة دون استمداد من ذك اء مطل ق أعلى فكي ف نث ق‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬رحلة عقل‪ ،‬د‪ .‬عمرو شريف‪ ،‬ص ‪ ،233‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫في أحكامه؟ ومن باب التشبيه إذا قام شخص متخلف عقليا ً ببرمجة الكم بيوتر‪ ،‬ه ل‬
‫تثق فيما نحصل عليه من مخرجات الكمبيوتر‪ ،‬فما أدراك ل و لم يكن له ذا الم برمج‬
‫عقالً بالمرة‪.‬‬
‫‪ -3‬تؤمن عقولنا بالعديد من المفاهيم البديهية التي النطلب دليالً عليها وأوله ا‬
‫اعتقادنا في سالمة عقولنا وأحكامنا فمن أين أتت هذه المفاهيم التي نب ني عليه ا ك ل‬
‫أم ور حياتن ا وك ل أفكارن ا ومفاهيمن ا‪ ،‬وكي ف تك ون إف رازاً مباش راً للنش اط‬
‫الكهروكيميائي وكيف يجعلنا المخ نثق في هذه المفاهيم البديهية بهذا اليقين؟‬
‫‪ -4‬إن بزوغ العقل من المادة يتطلب خضوعه لقوانينها الكيميائية والفيزيائي ة‬
‫وماتتسم به من حتمية‪ ،‬إن افتراض الحتمية يتنافى مع مايتمتع به اإلنسان من حري ة‬
‫االختيار فأنت تستطيع أن تستكمل قراءة هذا الفصل أو أن تغلق الكتاب‪.‬‬
‫قاطع الملحد المؤمن قائال‪ :‬وماذا لو افترضنا أن العقل انبثاق مباشر من المخ‬
‫كما يعتقد الماديون فما الذي يترتب على ذلك؟‬
‫أجاب المؤمن‪ :‬لو صدق هذا المنظور لما وج د العق ل اإلنس اني أص الً‪ ،‬ف إذا‬
‫كان العقل نتاجا ً مباشراً للمادة (المخ) لتبنى جميع البشر رأيا واحدا في ك ل قض ية‪،‬‬
‫إذ أن النظرة المادية واحدة كما نجد في العلوم الطبيعية معنى ذلك أن تختفي النظرة‬
‫النسبية لألمور والتي هي أهم سمات العقل اإلنساني‪.‬‬
‫قال الملحد‪ :‬لقد طرحت العوائ ق المنطقي ة أم ام فك رة انبث اق العق ل من المخ‬
‫المادي‪ ،‬واستنتجت من وجود هذه العوائق أن العقل ليس من نتاج المخ‪ ،‬إن مثل هذا‬
‫الدليل يعتبر عند علماء المنطق دليالً سلبياً‪ ،‬فهل لديك دليل إيجابي على ذلك؟‬
‫أجاب المؤمن‪ :‬سأقدم لك أدلة تجريبية‪ ،‬والشك أن الدليل التجريبي هو أق وى‬
‫األدلة العلمية‪ ،‬لقد أجرى دكتور ويلدر بنفيلد مؤسس علم جراحة األعصاب الحديث‬
‫أكثر من ألف عملية جراحية لمرضى الصرع الذين اليستجيبون للعالج‪ ،‬وقد حاول‬
‫أثناء إجراء هذه الجراحات أن يتوصل إلى موضع العقل داخل المخ البشري‪ ،‬وذلك‬
‫عن طريق التنشيط الكهربائي لمراكز القشرة المخية المختلفة في الوقت الذي يكون‬
‫فيه المريض تحت التخدير الموضعي‪ ،‬وعند تنشيط منطقة معينة كانت يد الم ريض‬
‫تتحرك فيحاول المريض أن يمنعها عن الحركة بيده األخرى‪ ،‬وعندما ناقش بينفيل د‬
‫مرضاه أجابوا بأنهم اليستطيعون منعها‪ ..‬ومعنى ذل ك أن ه بينم ا ك انت إح دى ي دي‬
‫الم ريض تحت التحكم المباش ر للنش اط الكهرب ائي للقش رة المخي ة ك انت إرادة‬
‫المريض تحاول منعها باستخدام اليد األخرى‪ ،‬وذلك يؤكد أن لإلنسان إرادة منفصلة‬
‫عن النش اط الكهروكيمي ائي للمخ‪ ،‬وب الرغم من أن دكت ور بنفيل د ك ان يه دف من‬
‫أبحاثه إلى إثبات أن مخ اإلنسان هز كل شيء وليس وراءه شيء آخر فإن ه أق ر في‬
‫النهاية بأن كل من المخ والعقل يمثل وجوداً مستقالً وذو طبيعة مختلفة‪.‬‬
‫وكذلك أكد دكتور [روجر سبيري]‪ ،‬وهو حاصل على ج ائزة نوب ل ألبحاث ه‬
‫حول اختالف وظائف ك ل من نص في المخ‪ ،‬بع د تجارب ه وأبحاث ه المستفيض ة عن‬
‫المخ البش ري أن الوظ ائف العقلي ة التعتم د على نش اطات المخ الم ادي وإن ك انت‬

‫‪67‬‬
‫تستعمله كآلة‪.‬‬
‫قال الملحد‪ :‬الشك أن قضية مصدر العقل اإلنساني من أهم القضايا في حياتنا‬
‫وإن لم تثر اهتمام العامة‪ ،‬فهل هن اك المزي د من األدل ة على أن العق ل ش يء والمخ‬
‫شيء آخر؟‬
‫ً‬
‫ق ال الم ؤمن‪ :‬اس تميحك ع ذرا ل دي موع د لزي ارة الط بيب إلج راء بعض‬
‫الفحوص ات المعملي ة واإلش عاعية ليطمئن ني على وظ ائف قل بي ورئ تي ومخي‪..‬‬
‫وكذلك رسم المخ الكهربائي لإلطمئنان على صحة أو خطأ أفكاري ومشاعري‪..‬‬
‫ثم ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬الش ك أن أي ة فحوص ات تج رى على المخ لن تس تطيع أن‬
‫تطل ع على أفكارن ا وتق وم ص حتها أو خطأه ا إن ماي دور في عقولن ا أم ر ش ديد‬
‫الخصوصية‪.‬‬
‫ق اطع الملح د الم ؤمن ق ائالً‪ :‬لق د أثبت العلم إمكاني ة االطالع على نش اطاتنا‬
‫العقلية فاألطباء يستطيعون اآلن عن طريق تسجيل نشاط المخ الكهربائي ومالحظة‬
‫حركات العينين أثناء نومنا أن يحددوا متى نحلم‪.‬‬
‫قال المؤمن‪ :‬هل تستطيع حرك ات العين ونش اط المخ الكهرب ائي أن يخبران ا‬
‫بمحتوى أحالمنا‪ ،‬البد أن نوقظ الش خص ليخبرن ا عن مض مون حلم ه‪ ..‬إن النش اط‬
‫الكهربائي الذي نسجله أثناء أحالمنا يعني أن هناك تالزم ا بين نش اطنا العقلي وبين‬
‫نشاط المخ الكهربائي‪ ،‬لكن ذلك اليحدد أيهما السبب وأيهما النتيجة‪.‬‬
‫وقف الملحد متحفزا وقال‪ :‬لدي دليل علمي قوي ال أحس بك ق ادرا على دفع ه‬
‫يؤكد أن المخ هو مصدر العقل‪ ،‬بل ومصدر الشعور بالذات‪ ..‬لق د اس تطاع االنس ان‬
‫من ذ ق ديم الزم ان التحكم في درج ة وعي ه وح دة عقل ه وش عوره بذات ه عن طري ق‬
‫العقاقير المخدره والمهلوسة والخمور‪ ..‬كذلك استطاع أطباء األمراض النفس ية عن‬
‫طري ق العق اقير ال تي تع دل في كيمي اء المخ أن يغ يروا من مش اعر اإلنس ان ب ل‬
‫ويغيروا من نظرته لذاته وللوجود‪ ،‬وقد استطاعوا عن طريق العق اقير أن يص لحوا‬
‫الكثير مما يصيب الوعي والعقل والنفس‪ ..‬أال يثبت ذل ك كل ه أن كيمي اء المخ وراء‬
‫كل شيء‪ ،‬ومن ثم فإن الوعي والعقل والشعور بالذات تنبثق جميعها من المخ؟‬
‫أجاب المؤمن مبتس ماً‪ :‬من التش بيهات ال تي تس تخدم كث يراً وتع بر جي دا عن‬
‫ً‬
‫العالقة بين عقل اإلنسان ومخه هو تشبيهه بالعالقة بين الموجات الكهرومغناطيسية‬
‫التي تحمل البث التلفزيزني (العق ل) وأجه زة التلفزي ون المس تقبلة (المخ)‪ ،‬والش ك‬
‫أننا نستطيع عن طريق التحكم في أجهزة التلفزيون أن نغ ير الكث ير من مواص فات‬
‫البث الذي نستقبله‪ ،‬فنحن نستطيع أن نجعل الصورة ملونة أو غير ملونة‪ ،‬زاهي ة أو‬
‫معتمة‪ ،‬نجعلها صافية أو مشوشة‪ ،‬نرفع من شدة الصوت أو نخفض ه ب ل ونس تطيع‬
‫أن نقوي من قدرة الجهاز على االستقبال‪ ،‬كل ذلك والبث التلفزي زني اليتغ ير‪ ،‬ه ذا‬
‫ماتفعله تمام ا ً العق اقير المخ درة والمهلوس ة والخم ور والعق اقير الطبي ة في جه از‬
‫التلفزيون أقصد في (المخ)‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ق ال الملح د‪ :‬لق د أثبت لي تجريبي ا ومنطقي ا أن عق ل اإلنس ان ظ اهرة غ ير‬

‫‪68‬‬
‫مادية‪ ،‬وليس نتاجا ً للمخ البشري الم ادي‪ ،‬فه ل العق ل ه و حقيق ة اإلنس ان وظ اهره‬
‫وجوهره؟‬
‫أجاب المؤمن‪ :‬ال‪ ،‬فإذا كان الوعي من وظائف العقل‪ ،‬فإن العق ل من مظ اهر‬
‫الذات اإلنسانية‪.‬‬
‫تساءل الملحد‪ :‬وماهي الذات اإلنسانية؟ ولما التقبل فكرة أن العق ل ه و آخ ر‬
‫المطاف‪ ،‬وأنه هو ذات اإلنسان؟‬
‫قال المؤمن‪ :‬دعني أروي لك حكاي ة حقيقي ة مؤلم ة لكنه ا ت بين بوض وح م ا‬
‫أٌقصد‪ ،‬تعرضت إحدى طالباتي في الجامعة لحادث ش ديد أثن اء ش هر العس ل فق دت‬
‫على اثره الوعي لعدة أيام‪ ،‬وعندما استعادت وعيها‪ ،‬كانت تع اني من فق دان ج زئي‬
‫للذاكرة‪ ،‬أنساها بأنها متزوجة‪ ،‬كما ك انت تع اني من تغ ير في شخص يتها وس لوكها‬
‫وكخط وة عالجي ة عرض وا عليه ا تس جيأل لحف ل زفافه ا‪ ،‬ف أدركت ت دريجيا ً أنه ا‬
‫متزوجة من ذل ك الرج ل كم ا اس تعادت ت دريجيا ً شخص يتها وطبيعته ا‪ ،‬لق د ك انت‬
‫سوزي طوال فترة غيابها عن وعيها هي سوزي بالنسبة لنا‪ ،‬كما كانت تدرك طوال‬
‫فترة فق دانها الج زئي لل ذاكرة وتغ ير شخص يتها أنه ا س وزي أال يثبت ذل ك أن لن ا‬
‫وجوداً حقيقيا ً مختلفا ً عن وعينا وذاكرتنا وشخصيتنا‪ ..‬إننا نظل نحن حتى وإن غبن ا‬
‫عن وعينا ووهنت ذاكرتنا وتشوهت شخصيتنا وطبيعتنا‪.‬‬
‫إذا شرحنا مخ اإلنسان‪ ،‬جزءاً جزءاً وإذا استطعنا أن ننظ ر داخ ل ك ل خلي ة‬
‫من خالياه فلن نضع أي دينا على موض ع ال ذات اإلنس انية‪ ،‬نحن النع رف شخص ية‬
‫اإلنسان عن طريق الفحوصات المعملية واإلشعاعية ولكن عن طريق معرف ة كي ف‬
‫يشعر هذا اإلنسان‪ ،‬فيما يفكر‪ ،‬ماهي طموحاته‪ ،‬ماهي نظرته للوجود‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫والخالصة أن حقيقة اإلنسان تتجاوز جسمه ومخه وعقل ه ووعي ه‪ ،‬فللج وهر‬
‫الذي يشعر أنه وجود واحد متكامل يقول عن نفسه أنا‪ ،‬لذلك أعلن سير جونز إكيل ز‬
‫عن د تس لمه لج ائزة نوب ل في الطب عن أبحاث ه في بايولوجي ا المخ ق ائال‪( :‬أج دني‬
‫مض طراً إلى الق ول بطبيعة غ ير مادية ل ذاتي وعقلي طبيعة تتفق مع مايس ميه‬
‫المتدينون الروح)‬
‫كذلك أعلن [السير شيرينجتون] قبل وفاته بخمسة أيام أن ال روح ه و ج وهر‬
‫اإلنسان الذي اليفني بالموت‪.‬‬
‫اندفع الملحد قائالً‪ :‬لقد قفز شيرينجتون قفزة كبيرة بحديثه عن خل ود ج وهر‬
‫اإلنسان فما دليله العلمي على ذلك؟‬
‫أجاب ه الم ؤمن‪ :‬لعل ك س معت عن خ برات ال ذين اق تربوا من الم وت‪ ،‬فق د‬
‫أظهرت العديد من الدراسات الموثقة حول ه ذا الموض وع أن إدراك اإلنس ان يمت د‬
‫إلى مابع د توق ف المخ عن العم ل‪ ،‬واش تملت إح دى أهم ه ذه الدراس ات على ‪63‬‬
‫مريض ا ً أص يبوا بنوب ات قلبي ة ش ديدة‪ ،‬أُعلن إثره ا وف اتهم اكلينيكي ا ً لكنهم تم اثلوا‬
‫للشفاء‪ ،‬وحكى بعضهم أموراً عجيبة‪ ،‬حيث ذكر بعضهم أنهم شعروا أنهم مف ارقون‬
‫ألجسادهم‪ ،‬وأنهم يطوفون فوقها ويشاهدون األطباء والممرضات وهم يتعاملون مع‬

‫‪69‬‬
‫جسدهم المسجى ثم إذا بهم يهبطون ليدخلوا مره أخرى في أجسادهم‪ ،‬وذكر بعضهم‬
‫أنه شاهد نفقا ً ط ويالً مظلم ا ً ورأى آخ ره دائ رة من الن ور‪ ،‬وذك ر أح دهم أن ه رأى‬
‫حذاء للتنس ملقى فوق سطح المستش فى‪ ،‬وق د ثبت ص حة ذل ك‪ ..‬لق د ذك روا أم وراً‬
‫شاهدوها وانطبعت في ذاكرتهم‪ ،‬وتجاوز بعضها قدرات حواس هم على اإلدراك في‬
‫فترة انقطع فيها االكسجين عن المخ‪.‬‬
‫أاليعني ذلك أنه هناك ذاتا ً مس تقلة عن المخ له ا ق درات إدراكي ة عالي ة وهي‬
‫مصدر الشعور بالذات ومصدر العقل‪ ،‬وأن هذه الذات تظل على وعيها عندما يك اد‬
‫عمل المخ أن يتوقف‪.‬‬
‫إذا كان هذا االستنتاج غير مقبول من الم اديين‪ ،‬ف إن المنص فين منهم يق رون‬
‫بعجزهم عن تفسير كيف تنبثق القدرات العقلية عن المخ المادي‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫البرزخ‪ ..‬وتجليات الحقائق‬
‫بعد أن عرفنا اتفاق العقالء والعلماء واألديان والفطر الس ليمة ال تي لم ت دنس‬
‫بالفلسفات المادية على أن سر اإلنسان وحقيقته لن تفنى بموته‪ ،‬يتوقف العق ل والعلم‬
‫والفطر عن معرفة ما سيحصل بالضبط لذلك العقل أو تل ك ال روح ال تي لم يحص ل‬
‫لها ما حصل لجسدها الذي كانت تمتطيه‪.‬‬
‫وذلك ألن اإلنسان في تلك المرحلة لم يعد محكوم ا ب القوانين ال تي تحكم ه ذا‬
‫العالم‪ ،‬وإنما انتقل إلى عالم آخ ر ل ه قوانين ه الخاص ة ب ه‪ ،‬وال تي ال يمكن للعق ل أو‬
‫العلم المجرد أن يكتشفها بأي سبيل من السبل‪.‬‬
‫ولهذا كان الملجأ الوحيد للتعرف على ذلك الع الم ه و ال دين باعتب اره الناف ذة‬
‫التي يطل منها اإلنسان على ع الم الغيب‪ ،‬أو باعتب اره المص در ال ذي ي بين حق ائق‬
‫الوجود التي ال يمكن للعقل المجرد أن يكتشفها‪.‬‬
‫ولهذا يطلق علماء العقائد على المباحث المرتبطة بهذا الجانب [الس معيات]‪،‬‬
‫أي أن المصدر فيها هو النص الذي نسمعه من النبي‪ ،‬والذي ينقله عن ربه‪.‬‬
‫وليس في كونها [سمعيات] أي غضاضة‪ ،‬أو منافاة للعقل كما يدعي أصحاب‬
‫الفلس فات المادي ة‪ ..‬ذل ك أنن ا ال نس لم بم ا نس معه من الن بي إال بع د أن تثبت نبوت ه‬
‫بالدالئل الكثيرة‪ ،‬والتي يسلم لها العقل‪ ،‬ويقر بها‪ ،‬وال يجد مفرا منه ا‪ ..‬وأك بر دلي ل‬
‫على ذلك هو تسليم أصحاب العقول الكبيرة من آالف الفالسفة والعلماء للنبي‪ ..‬وهم‬
‫لم يسلموا له إال بعد أن ثبتت لهم نبوته‪.‬‬
‫وهكذا بالنسبة لألصل األول في العقائد‪ ،‬والذي يطلق علي ه [اإللهي ات]‪ ،‬فهي‬
‫أيضا لم يسلم لها إال بعد ثبوتها بالدليل العقلي‪ ،‬والدليل على ذل ك أن كب ار الفالس فة‬
‫ممن لم يؤمن وا باألدي ان‪ ،‬أو لم يعرف وا األدي ان يس لمون بوج ود هللا‪ ،‬وب الكثير من‬
‫صفاته‪.‬‬
‫وكمثال يقرب ذلك‪ ،‬ويبين مدى معقوليته‪ ،‬أنه لو ثبت علميا أن هناك حياة في‬
‫كوكب ما؛ فإن العلم ال يستطيع أن يتنبأ بنوع تلك الحياة‪ ،‬وال تفاصيل أسرارها‪ ،‬وال‬
‫القوانين التي تحكمها‪.‬‬
‫لكن ه إن تمكن من أن يرس ل بعض رواد الفض اء‪ ،‬لي ذهب ل ذلك الك وكب‪،‬‬
‫ويكتشف أسراره‪ ،‬فإنه سيقبل كل ما جاء به‪ ،‬مع أنه لم يصل إلى تل ك المع ارف إال‬
‫عن طريق السمع المجرد‪ ..‬ذلك أنه ال يمكن لكل الناس أن يرحلوا لذلك الكوكب‪.‬‬
‫وما لنا نذهب بعيدا‪ ..‬فأكثر معارفنا مبنية على السماع‪ ،‬والثقة في الذين نسمع‬
‫منهم‪ ،‬حتى لو لم يثبت لنا صدق ما ذكروه‪ ،‬أو لم نستطع تحليله في المخابر‪.‬‬
‫وأك بر دلي ل على ذل ك أن ك ل علم الت اريخ مب ني على ه ذا‪ ،‬فل و لم نث ق في‬

‫‪71‬‬
‫المؤرخين الذين سجلوا األحداث‪ ،‬لزال علم التاريخ‪.‬‬
‫وهكذا لو لم نثق في وكاالت الفض اء‪ ،‬لم ا س لمنا بتل ك المج رات والك واكب‬
‫التي تذكرها‪ ،‬ألنه يمكن ألي شخص‪ ،‬وببرامج بسيطة أن ينشئ أي صورة شاء‪ ،‬أو‬
‫أي فلم أراد‪.‬‬
‫وهكذا األمر بالنسبة للمؤمنين الذين تواترت لديهم األدلة على ص دق الرس ل‬
‫عليهم السالم‪ ،‬ولذلك يسلمون لهم‪ ،‬ولكل ما جاءوا به‪ ،‬وخاصة م ع ع دم تن افره م ع‬
‫العقل‪ ،‬بل توافقه التام معه‪ ،‬ومع جميع القيم النبيلة‪ ،‬ذلك أن لتلك الحق ائق المرتبط ة‬
‫بالبرزخ آثارها الكبيرة في السلوك واألخالق والراح ة النفس ية‪ ،‬ول ذلك ك ان البحث‬
‫فيها مجديا ونافع ا من ك ل الج وانب‪ ،‬على عكس م ا ي ذكره أولئ ك الم اديون ال ذين‬
‫يتوهمون البحث فيما بعد الموت صارفا عن شؤون الحياة‪.‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعرف على أسرار عالم البرزخ‪ ،‬وه و‬
‫العالم الذي يبدأ من وفاة اإلنسان‪ ،‬أو قبل وفات ه بلحظ ات مع دودة‪ ،‬وينتهي ب البعث‪،‬‬
‫وبميالد النشأة اآلخرة‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم هذا المصطلح [البرزخ]‪ ،‬وبين بدايت ه ونهايت ه‪ ،‬فق ال‬
‫ون (‪ )99‬لَ َعلِّي أَ ْع َم ُل‬ ‫ال َربِّ ارْ ِج ُع ِ‬ ‫ت قَ َ‬ ‫﴿حتَّى إِ َذا َج ا َء أَ َح َدهُ ُم ْال َم وْ ُ‬ ‫ذاك را بدايت ه‪َ :‬‬
‫ت َكاَّل إِنَّهَا َكلِ َم ةٌ هُ َو قَائِلُهَ ا َو ِم ْن َو َرائِ ِه ْم بَ رْ زَ ٌخ إِلَى يَ وْ ِم يُ ْب َعثُ ونَ ﴾‬ ‫صالِحًا فِي َما ت ََر ْك ُ‬ ‫َ‬
‫[المؤمنون‪ ،]100 ،99 :‬فهاتان اآليتان الكريمتان تذكران أن اإلنس ان عن دما يأتي ه‬
‫الموت‪ ،‬أي في اللحظة التي تنزع فيها روحه‪ ،‬يشعر بالمصير الذي سيص ير إلي ه‪..‬‬
‫ولذلك يطلب الرجوع‪.‬‬
‫اب‬ ‫ور فَاَل أَ ْن َس َ‬
‫ثم ذكر بعدها النهاية التي ينتهي إليها‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬فَإِ َذا نُفِ َخ فِي الصُّ ِ‬
‫بَ ْينَهُ ْم يَوْ َمئِ ٍذ َواَل يَتَ َسا َءلُونَ ﴾ [المؤمنون‪ ،]101 :‬وهي النفخ في الصور‪ ،‬ال ذي يك ون‬
‫بمثابة دق جرس نهاية الدنيا بملكها وملكوتها‪.‬‬
‫وهكذا ذكر في سورة الواقعة بعض المش اهد ال تي يراه ا اإلنس ان في س اعة‬
‫ت ْالح ُْلقُ و َم (‪َ )83‬وأَ ْنتُ ْم ِحينَئِ ٍذ تَ ْنظُ رُونَ (‪)84‬‬ ‫احتضاره‪ ،‬وقبل موت ه‪﴿ :‬فَلَ وْ اَل إِ َذا بَلَ َغ ِ‬
‫َيْر َم ِدينِينَ (‪)86‬‬ ‫ْص رُونَ (‪ )85‬فَلَ وْ اَل إِ ْن ُك ْنتُ ْم غ َ‬ ‫قْربُ إِلَيْ ِه ِم ْن ُك ْم َولَ ِك ْن اَل تُب ِ‬‫َونَحْ نُ أَ َ‬
‫ان‬‫صا ِدقِينَ (‪ )87‬فَأ َ َّما إِ ْن َك انَ ِمنَ ْال ُمقَ َّربِينَ (‪ )88‬فَ َروْ ٌح َو َري َْح ٌ‬ ‫تَرْ ِجعُونَهَا إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫ب‬
‫ص َحا ِ‬ ‫ك ِم ْن أَ ْ‬ ‫ين (‪ )90‬فَ َس اَل ٌم لَ َ‬ ‫ب ْاليَ ِم ِ‬‫ص َحا ِ‬ ‫ت نَ ِع ٍيم (‪َ )89‬وأَ َّما إِ ْن َك انَ ِم ْن أَ ْ‬ ‫َو َجنَّ ُ‬
‫الض الِّينَ (‪ )92‬فَنُ ُز ٌل ِم ْن َح ِم ٍيم (‪)93‬‬ ‫َّ‬ ‫ْاليَ ِمي ِن (‪َ )91‬وأَ َّما إِ ْن َك انَ ِمنَ ْال ُم َك ِّذبِينَ‬
‫اس ِم َربِّكَ ْال َع ِظ ِيم (‪﴾)96‬‬ ‫ق ْاليَقِي ِن (‪ )95‬فَ َس بِّحْ بِ ْ‬ ‫َوتَصْ لِيَةُ َج ِح ٍيم (‪ )94‬إِ َّن هَ َذا لَهُ َو َح ُّ‬
‫[الواقعة‪ 83 :‬ـ ‪]96‬‬
‫وق د رأين ا من خالل النص وص المقدس ة الكث يرة ال واردة في ه ذا الع الم أن‬
‫ق َذلِكَ َما‬ ‫ت بِ ْال َح ِّ‬‫ت َس ْك َرةُ ْال َموْ ِ‬‫﴿و َجا َء ْ‬‫أحسن وصف له هو ما نص عليه قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ُك ْنتَ ِم ْنهُ ت َِحيدُ﴾ [ق‪ ،]19 :‬فهذه اآلية الكريم ة ت بين أن اإلنس ان بع د موت ه‪ ،‬أو حين‬
‫موته تنكشف له الحقائق‪ ،‬ويتجلى له ما كان غافال عنه‪ ،‬ذلك أنه لم يكن ي رى س وى‬
‫عالم الملك‪ ،‬وغافال عن عالم الملكوت‪ ..‬وبعد الموت يظهر له ما كان خافيا عنه من‬

‫‪72‬‬
‫هذا العالم‪.‬‬
‫وهذان العالمان ال يمكن للعقل أن ينكرهما‪ ،‬أما عالم الملك‪ ،‬فهو عالم الشهادة‬
‫الذي نعيشه‪ ،‬ونرى قوانينه‪ ،‬أما عالم الملكوت‪ ،‬فهو ذلك العالم الخفي الذي ال نتمكن‬
‫من السفر إليه أو رؤيته‪ ..‬ولكنا مع ذلك ال نستطيع أن ننكره‪.‬‬
‫وكيف ننكره‪ ،‬ونحن نرى الكثير من المظاهر التي تدل علي ه‪ ،‬وأوله ا الن وم‪،‬‬
‫والذي قد نرى فيه الكثير من العجائب‪ ،‬ب ل ق د ن رى في ه المس تقبل‪ ،‬أو م ا خفي من‬
‫األمور‪.‬‬
‫س‬ ‫َ‬
‫ولهذا اعتبر القرآن الكريم النوم نوعا من الم وت‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬هللا يَتَ َوفَّى اأْل ْنفُ َ‬
‫ض ى َعلَ ْيهَ ا ْال َم وْ تَ َويُرْ ِس ُل‬ ‫ك الَّتِي قَ َ‬ ‫ت فِي َمنَا ِمهَ ا فَيُ ْم ِس ُ‬ ‫ِحينَ َموْ تِهَ ا َوالَّتِي لَ ْم تَ ُم ْ‬
‫ت لِقَوْ ٍم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [الزمر‪]42 :‬‬ ‫ك آَل يَا ٍ‬ ‫اأْل ُ ْخ َرى إِلَى أَ َج ٍل ُم َس ّمًى إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫وهكذا يقر أكثر الفالس فة والحكم اء واألدي ان على أن هن اك من يس تطيع أن‬
‫يدخل في نوع من الموت االختياري‪ ،‬والذي يستطيع من خالله أن يرى من األشياء‬
‫ما ال يراه غيره‪ ،‬وهو ما يعبر عنه بالكشف والمشاهدة‪.‬‬
‫ك ِغطَا َءكَ‬ ‫أو كما أشار إليه قوله تعالى‪﴿ :‬لَقَ ْد ُك ْنتَ فِي َغ ْفلَ ٍة ِم ْن هَ َذا فَ َك َش ْفنَا َع ْن َ‬
‫ك ْاليَوْ َم َح ِدي ٌد﴾ [ق‪]22 :‬‬ ‫ص ُر َ‬‫فَبَ َ‬
‫فاآلية الكريمة تشير إلى أن الحجاب بين عالم الملك والملك وت ليس الجس د‪،‬‬
‫وإنما الغفلة‪ ،‬ولذلك يمكن لمن رفع الغفلة عن قلب ه أن ي رى الحق ائق في ال دنيا قب ل‬
‫اآلخرة‪ ،‬كما أشار إلى ذلك ما ورد في الح ديث عن الح ارث بن مال ك االنص اري‪،‬‬
‫قال‪ :‬مررت بالنبي ‪ ‬فقال‪( :‬كيف أصبحت يا حارث؟) قال‪ :‬أصبحت مؤمن ا حق ا‪.‬‬
‫فقال‪( :‬انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة‪ ،‬فم ا حقيق ة إيمان ك؟) فق ال‪ :‬ق د ع زفت‬
‫نفسي عن الدنيا‪ ،‬وأس هرت ل ذلك ليلي‪ ،‬واطم أن نه اري‪ ،‬وك أني أنظ ر إلى ع رش‬
‫ربي بارزا‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل النار‬
‫يتضاغون فيها‪ .‬فقال‪( :‬يا حارث عرفت فالزم) (‪)1‬‬
‫ولكن مع ذلك يظ ل الجس د ومتطلبات ه ه و الحج اب األك بر ال ذي يح ول بين‬
‫اإلنسان وبين رؤية العالم اآلخر‪ ،‬ولهذا كان الم وت بمثاب ة رف ع الغط اء والحج اب‬
‫الذي تنكشف به الحقائق‪ ،‬كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله‪:‬‬
‫أفرس تحتك أم حمار‬ ‫سوف ترى إذا انجلى الغبار‬
‫بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل بيان تجليات الحقائق في عالم البرزخ‪،‬‬
‫وقد رأينا أنه يمكن تصنيفها إلى أرب ع تجلي ات ك برى‪ ،‬كله ا دلت عليه ا النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تجلي حقيقة المصير‪ :‬فيع رف الميت محل ه من الس عادة والش قاء‪ ،‬مثلم ا‬
‫يعرف التلميذ بعد انتهاء االمتحان نجاحه أو رسوبه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تجلي حقيقة اإليمان‪ :‬وذلك بعد االختبار الذي يتعرض له‪ ،‬والذي يكشف‬
‫‪ )(1‬مصنف ابن أبي شيبة ‪ 6/170‬ح(‪ ،)30425‬المعجم الكبير للطبراني ‪ 3/266‬ح(‪)3367‬‬

‫‪73‬‬
‫عن حقيقة إيمانه‪ ،‬ومدى رسوخه فيه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تجلي حقيقة العمل‪ :‬حيث يرى الميت عمله في صورة حس نة أو قبيح ة‪،‬‬
‫ويظل مالزما له‪ ،‬يتنعم به‪ ،‬أو يتعذب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تجلى حقيق ة ال دنيا‪ :‬ذل ك أن الميت في ع الم ال برزخ يمكن ه ـ بق وانين‬
‫سنراها ـ أن يتواصل مع عالم الدنيا‪ ،‬فيستفيد منهم‪ ،‬ويفيدهم‪.‬‬
‫ه ذه هي التجلي ات الك برى ال تي دلتن ا عليه ا النص وص المقدس ة‪ ،‬وال تي‬
‫سنحاول شرحها‪ ،‬وبيان أدلتها‪ ،‬وفهم بعض أسرارها من خالل المباحث التالية‪:‬‬
‫أوال ـ البرزخ وتجليات حقيقة المصير‪:‬‬
‫تذكر النصوص المقدسة أن أول التجليات وأخطرها تجلي المصير الذي ظل‬
‫الميت طول عمره يؤسس له‪ ،‬ويبني بنيانه‪..‬‬
‫ولعل أقرب مث ال يق رب ص ورة ذل ك م ا يفعل ه بعض هم في حياتن ا الدنيوي ة‬
‫عندما يؤتى به معصب العينين ليرى بنيانه الذي ظ ل س نين طويل ة يب ذل جه ده في‬
‫إكماله‪ ،‬وليكتشف المفاجأة السارة بنفسه‪.‬‬
‫وهكذا األمر مع رفع تلك الحجب التي كانت تح ول بين اإلنس ان وبين إدراك‬
‫حقيقة البناء الذي كان يبنيه‪ ،‬وهل كان بناء سعادة‪ ،‬أم بناء شقاء‪.‬‬
‫حيث تذكر النصوص المقدسة أن ذلك التجلي ال يتم بع د الم وت‪ ،‬وإنم ا قبل ه‬
‫في لحظة الغرغرة‪ ،‬وهي اللحظة التي تكون مقدمة للموت‪ ،‬حينها يكتش ف اإلنس ان‬
‫الحقيقة‪ ،‬قبل أن يغادر عالم الدنيا‪ ،‬كما أشار إلى ذل ك قول ه تع الى‪﴿ :‬فَلَ وْ اَل إِ َذا بَلَ َغ ِ‬
‫ت‬
‫ْص رُونَ‬ ‫ْالح ُْلقُو َم (‪َ )83‬وأَ ْنتُ ْم ِحينَئِ ٍذ تَ ْنظُرُونَ (‪َ )84‬ونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَيْ ِه ِم ْن ُك ْم َولَ ِك ْن اَل تُب ِ‬
‫صا ِدقِينَ ﴾ [الواقعة‪- 83 :‬‬ ‫(‪ )85‬فَلَوْ اَل إِ ْن ُك ْنتُ ْم َغي َْر َم ِدينِينَ (‪ )86‬تَرْ ِجعُونَهَا إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫‪]87‬‬
‫فاآليات الكريمة تشير إلى تلك اللحظة المفصلية ال تي يكتش ف فيه ا اإلنس ان‬
‫الحقائق التي كان غافال عنها‪ ،‬وهو ما يدل على أن عالم اآلخر مختلط بع الم ال دنيا‪،‬‬
‫وأنه ليس من فرق بينهما سوى في أدوات اإلدراك التي يقتضيها التكليف‪.‬‬
‫اس اَل يَ ْعلَ ُم ونَ (‪ )6‬يَ ْعلَ ُم ونَ‬ ‫﴿ولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫وهو ما يش ير إلي ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ظَا ِهرًا ِمنَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم ع َِن اآْل ِخ َر ِة هُ ْم غَافِلُونَ ﴾ [الروم‪ ،]7 ،6 :‬فاآلية الكريمة‬
‫تشير إلى أن الغفلة هي الحجاب الذي ح ال بين اإلنس ان وبين رؤي ة ع الم اآلخ رة‪،‬‬
‫وهي التي جعلته يكتفي بظاهر الحياة الدنيا‪ ،‬دون البحث عن باطنها‪ ،‬وال ذي تتش كل‬
‫منه اآلخرة‪.‬‬
‫وقد قال مح ّمد الحسين‌الحسيني الطهراني مبينا داللة اآلية الكريم ة على ه ذا‬
‫المعنى‪( :‬يمكن االستنتاج من جع ل ظ اهر الحي اة ال دنيا في اآلي ة االولى في مقاب ل‬
‫وأن الحي اة ال دنيا له ا ظ اهر وب اطن‪،‬‬ ‫ان اآلخرة هي باطن الدنيا وحقيقته ا‪ّ ،‬‬ ‫اآلخرة ّ‬
‫وذلك بقرينة تقابلهما وكون أحدهما قسيما ً لآلخر)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬معرفة المعاد‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.40 :‬‬

‫‪74‬‬
‫وهكذا استنتج ه ذا المع نى من قول ه تع الى‪﴿ :‬ا ْعلَ ُم وا أَنَّ َم ا ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا لَ ِعبٌ‬
‫ب ْال ُكفَّا َر‬ ‫ث أَ ْع َج َ‬ ‫ال َواأْل َوْ اَل ِد َك َمثَ ِل َغ ْي ٍ‬ ‫َولَهْ ٌو َو ِزينَ ةٌ َوتَفَ ا ُخ ٌر بَ ْينَ ُك ْم َوتَ َك اثُ ٌر فِي اأْل َ َ‬
‫مْو ِ‬
‫نَبَاتُهُ ثُ َّم يَ ِهي ُج فَت ََراهُ ُمصْ فَ ًّرا ثُ َّم يَ ُكونُ ُحطَا ًما َوفِي اآْل ِخ َر ِة َع َذابٌ َش ِدي ٌد َو َم ْغفِ َرةٌ ِمنَ هللا‬
‫ُور ﴾ [الحدي د‪ ،]20 :‬ذل ك أن ه (من الممكن‬ ‫ع ْال ُغر ِ‬ ‫ان َو َما ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا إِاَّل َمتَا ُ‬ ‫َو ِرضْ َو ٌ‬
‫ان] ال واردة في‬ ‫ض َو ٌ‬ ‫آْل‬
‫أن تكون عبارة [ َوفِي ا ِخ َر ِة َع َذابٌ َش ِدي ٌد َو َم ْغفِ َرةٌ ِمنَ هللا َو ِر ْ‬
‫أن الحي اة ال دنيا هي في األخ رة ع ذاب ش ديد‬ ‫اآلي ة معطوف ة على لف ظ لعب؛ أي ّ‬
‫ومغف رة من هللا ورض وان؛ فالحي اة ال دنيا ظاهره ا تلكم الم راتب الخمس‪ :‬له و‪،‬‬
‫ولعب‪ ،‬وزينة‪ ،‬وتفاخر بينكم‪ ،‬وتكاثر في األموال واألوالد‪ ،‬وباطنها ـ أي اآلخ رة ـ‬
‫عذاب شديد وغفران الربّ الودود ورضوانه)(‪)1‬‬
‫ب َوإِ َّن‬ ‫ْ‬
‫ْجلُونَكَ بِال َع َذا ِ‬ ‫ومثله قال بهاء الدين العاملي مستدال بقوله تعالى‪﴿ :‬يَ ْستَع ِ‬
‫(إن الحيّ ات والعق ارب‪ ،‬ب ل والن يران‬ ‫َجهَنَّ َم لَ ُم ِحيطَةٌ بِ ْال َك افِ ِرينَ ﴾ [العنكب وت‪ّ :]54 :‬‬
‫التي تظهر في القبر والقيامة‪ ،‬هي بعينها األعمال القبيحة واألخالق الذميمة والعقائد‬
‫أن‬ ‫الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة به ذه الص ورة وتجلببت به ذه الجالبيب‪ ،‬كم ا ّ‬
‫ال روح والريح ان والح ور والثم ار هي األخالق الزكي ة واألعم ال الص الحة‬
‫واالعتقادات الحقّة التي ب رزت في ه ذا الع الم به ذا ال زي وتس َّمت به ذا االس م‪ ،‬إذ‬
‫الحقيقة الواحدة تختلف ص ورها ب اختالف األم اكن‪ ،‬فتحلّى في ك ّل م وطن بحلي ة‪،‬‬
‫ك‬ ‫إن اس م الفاع ل في قول ه تع الى‪﴿ :‬يَ ْس تَ ْع ِجلُونَ َ‬ ‫وتزيّى في ك ّل نش أة ب زيّ‪ ،‬وق الوا‪ّ :‬‬
‫ب َوإِ َّن َجهَنَّ َم لَ ُم ِحيطَةٌ بِ ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [العنكبوت‪ ]54 :‬ليس بمع نى االس تقبال ب أن‬ ‫بِ ْال َع َذا ِ‬
‫ُ‬
‫يكون المراد أنّها ستحيط بهم في النشأة األخرى)(‪)2‬‬
‫وهذا المعنى لم ي ذكره الطه راني وال الع املي فق ط‪ ،‬وإنم ا ذك ره الكث ير من‬
‫المتكلمين والعرفاء‪ ،‬والذي يذكرون أن الكشف الذي يفتحه هللا على بصائر األولياء‬
‫يريهم حقائق ذلك العالم الذي ال ت راه أبص ارهم الحس ية‪ ،‬كم ا أش ار إلى ذل ك قول ه‬
‫ت لِ ْل ُمتَ َو ِّس ِمينَ ﴾ [الحج ر‪ ،]75 :‬وقول ه ‪( :‬اتق وا فراس ة‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يَ ا ٍ‬
‫المؤمن؛ فإنه ينظر بنور هللا)(‪)3‬‬
‫وقد ذكر الغزالي الكثيرة من الروايات الدالة على هذا‪ ،‬ثم علق عليه ا بقول ه‪:‬‬
‫(وما حكي من تفرس المشايخ وإخب ارهم عن اعتق ادات الن اس وض مائرهم يخ رج‬
‫عن الحصر‪ ..‬والحكاية ال تنفع الجاحد ما لم يشاهد ذلك من نفسه‪ ،‬ومن أنكر األصل‬
‫أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي ال يقدر أحد على جحده أمران‪ :‬أح دهما عج ائب‬
‫الرؤيا الصادقة‪ ،‬فإنه ينكشف بها الغيب‪ ،‬وإذا جاز ذلك في الن وم فال يس تحيل أيض ا‬
‫في اليقظ ة‪ ،‬فلم يف ارق الن وم اليقظ ة إال في رك ود الح واس‪ ،‬وع دم اش تغالها‬
‫بالمحسوسات؛ فكم من مستيقظ غائص ال يسمع وال يبصر الشتغاله بنفسه‪ ،‬والث اني‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.40 :‬‬


‫‪ )(2‬نقال عن‪ :‬بحار األنوار‪.229 / 7 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي (‪)3127‬‬

‫‪75‬‬
‫إخبار رسول هللا ‪ ‬عن الغيب وأمور في المس تقبل كم ا اش تمل علي ه الق رآن وإذا‬
‫جاز ذلك للنبي ‪ ‬جاز لغيره إذ النبي عب ارة عن ش خص كوش ف بحق ائق األم ور‬
‫وشغل بإصالح الخلق‪ ،‬فال يستحيل أن يكون في الوجود ش خص مكاش ف بالحق ائق‬
‫وال يشتغل بإصالح الخلق وهذا ال يسمى نبيا بل يسمى وليا)(‪)1‬‬
‫وبن اء على ه ذا ذك ر الغ زالي إمكاني ة االطالع على كال الع المين الظ اهر‬
‫والباطن‪ ،‬فقال‪( :‬فمن آمن باألنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه ال محالة أن يق ر‬
‫بأن القلب له بابان‪ :‬ب اب إلى خ ارج وه و الح واس‪ ،‬وب اب إلى الملك وت من داخ ل‬
‫القلب وهو باب اإللهام والنفث في الروع والوحي‪ ،‬فإذا أقربهما جميع ا لم يمكن ه أن‬
‫يحصر العلوم في التعلم ومباشرة األسباب المألوف ة‪ ،‬ب ل يج وز أن تك ون المجاه دة‬
‫سبيل إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة‬
‫وعالم الملكوت) (‪)2‬‬
‫ولعل ما ذكره كل هؤالء يفسر بدقة ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد هللا‬
‫قال‪( :‬كنا مع النبي ‪ ‬فارتفعت ريح منتنة‪ ،‬فقال‪( :‬أتدرون ما هذه الريح؟ ه ذه ريح‬
‫الذين يغتابون المؤمنين)(‪)3‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا المبحث التع رف على تجلي ات مص ير الم وتى‪،‬‬
‫بحسب ما دلت علي ه النص وص المقدس ة‪ ،‬وال تي ذك رت أن تل ك التجلي ات تختل ف‬
‫بحسب اختالف درجات الع املين‪ ،‬وهي درج ات ال نهاي ة له ا‪ ،‬لكن الق رآن الك ريم‬
‫قسمها إلى ثالثة أقسام كبرى‪ :‬المقربين‪ ،‬وأهل اليمين‪ ،‬وأهل الشمال‪.‬‬
‫وسنوضح بعض ما ورد عنها في العناوين التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ البرزخ‪ ..‬وتجليات مصير المقربين‪:‬‬
‫يذكر القرآن الكريم أن أفضل التجلي ات وأعظمه ا وأس عدها التجلي المرتب ط‬
‫بمصير المق ربين‪ ،‬ذل ك ألنهم ك انوا أك ثر الخل ق رغب ة في هللا وفيم ا عن ده‪ ،‬وله ذا‬
‫بمجرد أن تزاح عن أعينهم غمامة الحجاب ت برز لهم الجن ان العظيم ة ال تي ك انت‬
‫مخفية عنهم‪ ،‬حيث يشمون روائحها العطرة‪ ،‬وهم ممتلئون بالبشارة‪.‬‬
‫وق د ذك ر هللا تع الى ذل ك‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬فَأ َ َّما إِ ْن َك انَ ِمنَ ْال ُمقَ َّربِينَ (‪ )88‬ف َروْ ٌح‬
‫َ‬
‫ت نَ ِع ٍيم ﴾ [الواقعة‪ ،]89 ،88 :‬أي أنهم في تلك اللحظ ة ال تي تفص لهم‬ ‫ان َو َجنَّ ُ‬
‫َو َري َْح ٌ‬
‫عن الحياة الدنيا‪ ،‬يشمون الروح والريحان‪ ،‬ويرون الجنان‪..‬‬
‫فلذلك ال عجب أن يخرجوا من الدنيا بكل نشاط‪ ..‬وكيف ال يكون ذلك ك ذلك‪،‬‬
‫وأنفسهم قد صارت مليئة بالطمأنين ة والراح ة والس عادة‪ ،‬كم ا أش ار إلى ذل ك قول ه‬
‫تعالى في خط اب ه ذا الن وع من النف وس الممتلئ ة بس كينة اإليم ان‪﴿ :‬يَاأَيَّتُهَ ا النَّ ْفسُ‬
‫ض يَّةً (‪ )28‬فَ ا ْد ُخلِي فِي ِعبَ ا ِدي (‪)29‬‬ ‫اض يَةً َمرْ ِ‬‫ك َر ِ‬‫ط َمئِنَّةُ (‪ )27‬ارْ ِج ِعي إِلَى َربِّ ِ‬ ‫ْال ُم ْ‬
‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)25 /3‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)25 /3( ،‬‬
‫‪ )(3‬مسند أحمد ‪ 23/97‬ح(‪ 14784‬البخاري في "األدب المفرد" (‪ ،)732‬والخ رائطي في "مس اوئ األخالق"‬
‫(‪)189‬‬

‫‪76‬‬
‫َوا ْد ُخلِي َجنَّتِي (‪[ ﴾)30‬الفجر‪]30 - 27 :‬‬
‫وفي وصفه تعالى للنفس بكونها مطمئنة إشارة إلى ص فة أخ رى من ص فات‬
‫المق ربين‪ ،‬وربم ا تك ون الس بب في جع ل الم وت يس يرا عليهم‪ ،‬وه و اإلطمئن ان‬
‫الحاصل من اإليمان‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوت ْ‬
‫َط َمئِ ُّن قُلُوبُهُ ْم بِ ِذ ْك ِر هللا أَاَل بِ ِذ ْك ِر‬
‫َط َمئِ ُّن ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد‪]28 :‬‬ ‫هللا ت ْ‬
‫يقول ناصر مكارم الشيرازي مبينا مدى أسباب هذه الصفة وأهميتها‪( :‬ويعود‬
‫اطمئنان النفس‪ ،‬إلطمئنانها بالوعود اإللهية من جهة‪ ،‬وإلطمئنانه ا لم ا اخت ارت من‬
‫طريق‪ ..‬وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت‪ ،‬ومطمئن ة عن د أه وال‬
‫حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضاً)(‪)1‬‬
‫وأشار إلى النزع اليسير المرتبط بهم مقارنة ب النزع المرتب ط بأه ل الش مال‪،‬‬
‫ت َس ْب ًحا (‪)3‬‬ ‫الس ابِ َحا ِ‬ ‫ت ن َْش طًا (‪َ )2‬و َّ‬ ‫اش طَا ِ‬ ‫ت غَرْ قًا (‪َ )1‬والنَّ ِ‬ ‫از َع ا ِ‬ ‫فق ال‪َ ﴿ :‬والنَّ ِ‬
‫ت َس ْبقًا (‪[ ﴾)4‬النازعات‪]4 - 1 :‬‬ ‫فَالسَّابِقَا ِ‬
‫فمن األقوال الواردة في تفسير اآليات الكريمة ما روي عن ابن مسعود وابن‬
‫عباس وغيرهما أن المراد من [النازعات غرقا]‪( :‬المالئكة‪ ،‬حين تنزع أرواح ب ني‬
‫آدم‪ ،‬فمنهم من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها‪ ،‬ومنهم من تأخذ روحه بس هولة‬
‫وكأنما حلته من نشاط)(‪)2‬‬
‫ت غَرْ ق اً] هي المالئك ة‬ ‫از َع ا ِ‬ ‫وروي عن اإلمام علي قوله في تفسيرها‪َ [( :‬والنَّ ِ‬
‫ت نَ ْشطاً] هي المالئك ة تنش ط أرواح الكفّ ار‪ ،‬م ا بين‬ ‫اشطَا ِ‬ ‫تنزع أرواح الكفّار‪،‬و[النَّ ِ‬
‫ت َسبْحاً]المالئك ة تس بح ب أرواح المؤم نين‬ ‫األظفار والجلد حتّى تخرجها‪،‬و[السَّابِ َحا ِ‬
‫ت َس بْقاً] هي المالئك ة تس بق بعض ها بعض ا ً ب أرواح‬ ‫الس ابِقَا ِ‬
‫الس ماء واألرض‪[ ،‬فَ َّ‬
‫المؤمنين إلى هللا تعالى)(‪)3‬‬
‫وهك ذا ورد في الق رآن الك ريم وص ف معامل ة المالئك ة لهم‪ ،‬وهم في تل ك‬
‫الحالة بين الحياة والموت‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ تَتَ َوفَّاهُ ُم ْال َماَل ئِ َكةُ طَيِّبِينَ يَقُولُ ونَ َس اَل ٌم‬
‫َعلَ ْي ُك ُم ا ْد ُخلُوا ْال َجنَّةَ بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [النحل‪]32 :‬‬
‫وقد وصف هؤالء المقربون في اآلية الكريمة بكونهم طيبين‪ ،‬أي أنه ال يوجد‬
‫فيهم ش يء من الخبث ال ذي ق د يك ون موج ودا في أه ل اليمين‪ ،‬وق د ذك ر الفخ ر‬
‫الرازي سر ذلك السالم الذي حظي به هؤالء الطيبون من المالئكة في ذلك الموقف‬
‫الحرج‪ ،‬فقال‪( :‬وقوله‪ :‬طيبين كلمة مختص رة جامع ة للمع اني الكث يرة‪ ،‬وذل ك ألن ه‬
‫يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به‪ ،‬واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم‬
‫موصوفين ب األخالق الفاض لة م برئين عن األخالق المذموم ة‪ ،‬وي دخل في ه ك ونهم‬
‫مبرئين عن العالئق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطه ارة‪ ،‬وي دخل في ه‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل (‪)198 /20‬‬


‫‪ )(2‬تفسير ابن كثير ت سالمة (‪)312 /8‬‬
‫‪ )(3‬كنز العمال ‪ 545 :2‬ح‪.4686‬‬

‫‪77‬‬
‫أن ه ط اب لهم قبض األرواح وأنه ا لم تقبض إال م ع البش ارة بالجن ة ح تى ص اروا‬
‫كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله ال يتألم بالموت)(‪)1‬‬
‫ق‬‫ويشير إلى هذا أيضا قوله تعالى في سبب أهلي ة أه ل الجن ة للجن ة‪َ ﴿ :‬و ِس ي َ‬
‫ت أَ ْب َوابُهَا َوقَ ا َل لَهُ ْم خَزَ نَتُهَ ا‬ ‫الَّ ِذينَ اتَّقَوْ ا َربَّهُ ْم إِلَى ْال َجنَّ ِة ُز َمرًا َحتَّى إِ َذا َجا ُءوهَا َوفُتِ َح ْ‬
‫َساَل ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم فَا ْد ُخلُوهَا خَالِ ِدينَ ﴾ [الزمر‪]73 :‬‬
‫وهذا يعني الصفاء التام لهؤالء المقربين إما بعدم ارتكابهم المعاصي مطلق ا‪،‬‬
‫أو بتوبتهم منها توبة نصوحا بحيث أهلتهم لذلك المقام الرفيع‪.‬‬
‫ول فَأُولَئِ كَ َم َع ال ِذينَ أ ْن َع َم هللا َعلَ ْي ِه ْم‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّس َ‬‫ولعل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ْن ي ُِط ِع هللا َوالر ُ‬
‫ُ‬
‫الص الِ ِحينَ َو َح ُس نَ أولَئِ كَ َرفِيقًا﴾ [النس اء‪]69 :‬‬ ‫الش هَدَا ِء َو َّ‬ ‫الص دِّيقِينَ َو ُّ‬
‫ِمنَ النَّبِيِّينَ َو ِّ‬
‫يشير إلى هذا الصنف‪ ،‬والذي اعتبر سراطه هو السراط المستقيم‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫ب َعلَ ْي ِه ْم َواَل‬
‫ضو ِ‬ ‫َيْر ْال َم ْغ ُ‬
‫ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْي ِه ْم غ ِ‬ ‫ا ْه ِدنَا الصِّ َراطَ ْال ُم ْستَقِي َم (‪ِ )6‬‬
‫الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة‪]7 ،6 :‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم العالقة الطيبة بين هذا الصنف والمالئكة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ زَ نُونَ (‪ )62‬الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َكانُوا يَتَّقُ ونَ (‬ ‫﴿أَاَل إِ َّن أَوْ لِيَا َء هللا اَل َخوْ ٌ‬
‫ك هُ َو ْالفَ وْ ُز‬ ‫ت هللا َذلِ َ‬ ‫‪ )63‬لَهُ ُم ْالبُ ْش َرى فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآْل ِخ َر ِة اَل تَبْ ِدي َل لِ َكلِ َم ا ِ‬
‫ْال َع ِظي ُم ﴾ [يونس‪]64 - 62 :‬‬
‫فقد روي أن الذي يقوم بالتبشير والتثبيت المالئكة عليهم السالم‪ ،‬ورب ط ه ذه‬
‫البشارات بهم يدل على تلك الص حبة الطيب ة ال تي ك انت بين المؤم نين وبينهم‪ ،‬فق د‬
‫كانوا نعم الرفاق واألصدقاء‪ ،‬ولذلك كانوا أولياءهم في الحياة الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬بل‬
‫في كل المحال‪.‬‬
‫وقد روي عن بعض الصالحين أنه كان إذا أصبح قال‪( :‬مرحب ا بمالئك ة هللا‪،‬‬
‫اكتبوا‪ :‬بسم هللا الرحمن ال رحيم‪ ،‬س بحان هللا والحم د هلل وال إل ه إال هللا وهللا أك بر)‪،‬‬
‫وكان آخر يأخذ إفطاره‪ ،‬ثم يغمسه في الماء في جر كان له في بيت مظلم‪ ،‬ثم يقول‪:‬‬
‫(يا مالئكتي طالت صحبتي لكما فإن كان لكما عندهللا شفاعة فاشفعا لي)‬
‫وله ذا تق ول المالئك ة للمؤم نين عن د االحتض ار‪( :‬نحن كن ا أولي اءكم؛ أي‪:‬‬
‫قرناءكم في الحياة الدنيا‪ ،‬نسددكم ون وفقكم ونحفظكم ب أمر هللا‪ ،‬وك ذلك نك ون معكم‬
‫في اآلخرة‪ ،‬نؤنس منكم الوحشة في القبور‪ ،‬وعند النفخة في الصور‪ ،‬ون ؤمنكم ي وم‬
‫البعث والنشور‪ ،‬ونجاوز بكم الصراط المستقيم‪ ،‬ونوصلكم إلى جنات النعيم)‬
‫وكل هذه النصوص المقدسة تبين أن الم وت ـ بالنس بة له ذا الص نف ـ ليس‬
‫سوى لحظة من لحظات السعادة‪ ،‬بل من أجمل لحظاتها‪ ،‬ذل ك أنهم في تل ك اللحظ ة‬
‫تزاح عنهم كل الهموم واآلالم واألحزان‪ ،‬ولذلك ال يشعرون أبدا ب أي ألم لمف ارقتهم‬
‫للحياة الدنيا‪ ،‬وكيف يشعر باأللم من وصل إلى مبتغاه الذي ظل طول عم ره يس عى‬
‫إليه؟‬

‫‪ )(1‬تفسير الرازي (‪)202 /20‬‬

‫‪78‬‬
‫وقد روي في هذا عن اإلمام الص ادق أن ه س ئل‪( :‬ص ف لن ا الم وت؟) فق ال‪:‬‬
‫(ه و للمؤم نين ك أطيب ريح يش مه فينعس لطيب ه‪ ،‬فينقط ع التعب واأللم كل ه عن ه‪.‬‬
‫وللكافر كلسع األفاعي‪ ،‬وكلدغ العقارب وأشد)‪ ،‬فقيل له‪( :‬فإن قوما ً يقولون هو أش د‬
‫من نشر بالمناشير‪ ،‬وقرض بالمقاريض‪ ،‬ورضخ بالحجارة‪ ،‬وتدوير قطب األرحي ة‬
‫في األحداق؟)‪ ،‬فقال‪( :‬ك ذلك ه و على بعض الك افرين والف اجرين‪ ،‬أال ت رون منهم‬
‫من يعاين تلك الشدائد‪ ،‬فذلك الذي هو أشد من هذا‪ ،‬إال عذاب اآلخرة‪ ،‬فإن ه أش د من‬
‫عذاب الدنيا)‪ ،‬قيل‪( :‬فم ا لن ا ن رى ك افراً يس هل علي ه ال نزع فينطفئ وه و يتح دث‬
‫ويضحك ويتكلم‪ ،‬وفي المؤمنين من يكون أيضا ً كذلك‪ .‬وفي المؤمنين والكافرين من‬
‫يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟)‪ ،‬فقال‪( :‬ما كان من راحة هن اك للمؤم نين‬
‫فهو عاجل ثوابه‪ .‬وما كان من شدة فهو تمحيصه من ذنوب ه‪ ،‬ل يرد إلى اآلخ رة نقي ا ً‬
‫نظيفا ً مستحقا ً لثواب هللا‪ ،‬ليس له مانع دونه‪ .‬وما كان من سهولة هناك على الك افر‪،‬‬
‫فليوفى أجر حسناته في الدنيا‪ ،‬ليرد اآلخرة وليس له إال ما يوجب عليه العذاب‪ ،‬وما‬
‫كان من شدة على الكافر هناك‪ ،‬فهو ابتداء عقاب هللا عند نفاد حس ناته‪ .‬ذلكم ب أن هللا‬
‫َع ْد ٌ‬
‫ل ال يجور)(‪)1‬‬
‫وق ال اإلم ام الحس ين ألص حابه ي وم عاش وراء بع دما ع اين م دى ص دقهم‬
‫وتض حياتهم‪( :‬ص براً ب ني الك رام‪ ،‬فم ا الم وت إالّ قنط رة تع بر بكم عن الب ؤس‬
‫والضرّاء إلى الجن ان الواس ع والنعيم الدائم ة‪ ،‬ف أيّكم يك ره أن ينتق ل من س جن إلى‬
‫ان أبي ح دثني‬ ‫قصر؟ وما هو ألعدائكم إالّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وع ذاب‪ّ ،‬‬
‫(إن الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر‪ ،‬والموت جسر ه ؤالء إلى‬ ‫عن رسول هللا ‪ّ :‬‬
‫كذبت)(‪)2‬‬ ‫جنانهم‪ ،‬وجسر هؤالء إلى جحيمهم‪ ،‬ما كذبت وال ُ‬
‫وله ذا ال ن رى ص حة تل ك النص وص ال تي وردت في بعض كتب الح ديث‬
‫والمواع ظ‪ ،‬وال تي تص ور معان اة رس ول هللا ‪ ‬الش ديدة م ع الم وت(‪ )3‬في نفس‬
‫الوقت الذي تصور فيه تيسير موت الصالحين‪ ،‬وفرحهم به‪.‬‬
‫وقد علق الفيض الكاشاني على ما ورد من ذلك في [إحياء علوم الدين] فق ال‬
‫متعجبا في الباب الخاص بـ [كالم المحتضرين من الصالحين]‪( :‬وقد ذكر أبو حام د‬
‫في هذا الباب أقاوي ل الص حابة والت ابعين وطائف ة من الص وفية عن د م وتهم وبك اء‬
‫بعضهم حينئذ وضحك بعضهم ونس ب إلى بعض هم الط رب واالستبش ار والس رور‬
‫عند موته مع أنه ذكر في باب وفاة رسول هللا ‪ ‬أنه اشتد في النزع كرب ه‪ ،‬وظه ر‬
‫‪ )(1‬عيون أخبار الرضا‪.274 / 1 :‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪.154 / 6 :‬‬
‫(أن رسول هللا ‪ ‬كانت بين يدي ه َر َ‬
‫كْوة‪ ،‬أو علب ة فيه ا‬ ‫‪ )(3‬من األمثلة على تلك الرويات ما روي عن عائشة‪ّ :‬‬
‫ماء‪ ،‬فجعل يدخل يديه في الماء‪ ،‬فيمسح بها وجه ه ويق ول‪ :‬ال إل ه إال هللا‪ ،‬إن للم وت س كرات‪ ،‬ثم نص ب ي ده فجع ل‬
‫يقول‪ :‬في الرفيق األعلى‪ ،‬حتى قبض ومالت يده) (رواه البخاري (‪)6510‬‬
‫ومنها ما روي عنها أنها قالت‪( :‬مات النبي ‪ ‬وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي‪ ،‬فال أكره ش دة الم وت ألح د أب داً بع د‬
‫النبي ‪( )‬رواه البخاري (‪)4446‬‬
‫وعنها قالت‪( :‬ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول هللا ‪( )‬رواه الترمذي (‪)979‬‬

‫‪79‬‬
‫أنينه‪ ،‬وترادف قلقه‪ ،‬وارتف ع حنين ه‪ ،‬وتغ ير لون ه‪ ،‬وع رق جبين ه‪ ،‬واض طربت في‬
‫االنقباض واالنبساط شماله ويمينه‪ ،‬حتى بكى لمصرعه من حض ره‪ ،‬وانتحب لش دة‬
‫حاله من شاهد منظره‪ ،‬ولم يمهله ملك الموت ساعة‪ ،‬وذكر في الحكايات السابقة أن‬
‫ملك الموت أمهل رجال حتى توضأ وصلى ركعتين‪ ،‬وذكر في ش أن الخلي ل والكليم‬
‫في باب سكرات الموت ما سمعت‪ ،‬وهذا من أعجب العجائب‪ ،‬ولنط و م ا ذك ره في‬
‫هذا الباب طيا فإن بعضه كلمات ال طائل تحتها وبعضه رعونات ودع اوي‪ ،‬ين ادي‬
‫أكثرها باإلعجاب)(‪)1‬‬
‫ويدل لهذا ما ورد في تيسير موت الشهداء‪ ،‬كما قال ‪( :‬ما يجد الش هيد من‬
‫مس القتل‪ ،‬إال كما يجد أحدكم مس القرصة)(‪)2‬‬
‫وقد علق عليه المناوي بقوله‪( :‬يع ني أن ه تع الى يه ون علي ه الم وت ويكفي ه‬
‫سكراته وكربه‪ ،‬بل رب شهيد يتلذذ ببذل نفسه في سبيل هللا طيبة به ا نفس ه ؛ كق ول‬
‫خبيب األنصاري حين قتل‪ :‬ولس ت أب الي حين أقت ل مس لما‪ ..‬علي أي ش ق ك ان هلل‬
‫مصرعي)(‪)3‬‬
‫ف إذا ك ان ه ذا كرام ة من هللا تع الى للش هداء‪ ،‬ف إن أولى الن اس به ا س يدهم‬
‫وموالهم ومن بذل حياته كلها في سبيل هللا‪ ،‬وهو رسول هللا ‪..‬‬
‫لذلك نرى أن كل ما يروى في وفاته ‪ ،‬ما عدا مرضه وألمه لمرض ه‪ ،‬من‬
‫آثار الفئة الباغية التي حاولت أن تسيء إليه ‪ ‬في كل شيء‪ ،‬حتى في كيفية وفاته‪.‬‬
‫وإال فإن رس ول هللا ‪ ‬ال ذي ع اش حيات ه كله ا مش تاقا إلى هللا‪ ،‬ك ان أس عد‬
‫الناس بتلك اللحظات التي تقربه لذلك اللقاء‪..‬‬
‫وقد أشار ابن كثير إلى ذلك الكم من الرواي ات الموض وعة ح ول وفات ه ‪،‬‬
‫فقال‪( :‬وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارًا كثيرةً فيها نكارات وغرابة شديدة‪،‬‬
‫أضربنا عن أكثرها صفحا لضعف أس انيدها‪ ،‬ونك ارة متونه ا‪ ،‬وال ِس يَّما م ا ي ورده‬
‫كثير من القُصَّاص المتأخرين وغيرهم‪ ،‬فكثير منه موضوع ال محالة)(‪)4‬‬
‫إلى جانب تل ك النص وص القرآني ة ورد في الرواي ات الكث ير من األح اديث‬
‫التي تفصل بعض تلك المجمالت‪ ،‬والتي ال يمكن قبولها بك ل م ا فيه ا‪ ،‬ألن بعض ها‬
‫قد يكون من تصرف الرواة‪ ،‬وبعضها من الدخيل الموضوع‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث ما روي أنه ‪ ‬قال‪( :‬الميت تحضره المالئكة‪ ،‬ف إذا ك ان‬
‫الرجل صالحاً‪ ،‬قال‪ :‬اخرجي أيتها النفس الطيب ة ك انت في الجس د الطيب‪ ،‬اخ رجي‬
‫حميدة‪ ،‬وأبشري بروح وريحان‪ ،‬وربّ غير غضبان‪ ،‬فال يزال يقال له ا ذل ك ح تى‬
‫تخرج‪ ،‬ثم يعرج بها إلى السماء‪ ،‬فيستفتح لها‪ ،‬فيقال‪ :‬من هذا؟ فيق ول‪ :‬فالن‪ ،‬فيق ال‪:‬‬
‫‪ )(1‬المحجة البيضاء في تهذيب اإلحياء‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.282 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪ ،)7953‬والترمذي (‪ ،)1668‬والنسائي (‪ ،)3161‬وابن ماجة (‪ ،)2802‬وابن حبان (‪،)4655‬‬
‫والبيهقي (‪)18525‬‬
‫‪ )(3‬فيض القدير (‪)182 /4‬‬
‫‪ )(4‬البداية والنهاية" (‪)5/256‬‬

‫‪80‬‬
‫مرحب ا ً ب النفس الطيب ة ك انت في الجس د الطيب‪ ،‬ادخلي حمي دة‪ ،‬وأبش ري ب روح‬
‫وريحان‪ ،‬ورب غير غضبان‪ ،‬فال يزال يق ال له ا ذل ك ح تى ينتهى به ا إلى الس ماء‬
‫الس و ُء‪ :‬ق ال‪ :‬اخ رجي أيته ا النفس‬
‫ال تي فيه ا هللا تب ارك وتع الى ف إذا ك ان الرج ل ُّ‬
‫وغس اق‪ ،‬وآخ ر‬‫ّ‬ ‫الخبيثة‪ ،‬كانت في الجسد الخبيث‪ ،‬اخرجي ذميمة‪ ،‬وأبش ري بحميم‬
‫من شكله أزواج‪ ،‬فال يزال يق ال له ا ذل ك ح تى تخ رج‪ ،‬ثم يع رج به ا إلى الس ماء‪،‬‬
‫فيستفتح لها‪ ،‬فيقال‪ :‬من هذا؟ فيقال‪ :‬فالن‪ ،‬فيق ال‪ :‬ال مرحب ا ً ب النفس الخبيث ة‪ ،‬ك انت‬
‫ك أبواب الس ماء‪ ،‬فيرس ل به ا من‬ ‫في الجسد الخبيث‪ ،‬ارجعي ذميمة‪ ،‬فإنها ال تفتح لَ ِ‬
‫السماء‪ ،‬ثم تصير إلى القبر)(‪)1‬‬
‫حيث نالحظ في هذه األحاديث تل ك اللغ ة التجس يمية ال تي نج دها عن د كعب‬
‫األحبار وتالميذه من الصحابة‪ ،‬وهي قوله‪( :‬حتى ينتهى به ا إلى الس ماء ال تي فيه ا‬
‫هللا تبارك وتعالى)‪ ،‬مع أنهم تناقض قولهم في ك ون هللا ف وق الس موات‪ ،‬وأن ه ف وق‬
‫العرش‪ ،‬وأن السموات واألرض بالنسبة للعرش كحلقة في فالة‪.‬‬
‫وهذا ال يعني طرح الحديث جميعا‪ ،‬فق د يك ون ص حيحا‪ ،‬ويك ون الموض وع‬
‫فيه هو ذلك النص فقط‪ ،‬ذلك أن الكثير من رواة الحديث‪ ،‬لم يكونوا يكتف ون برواي ة‬
‫الحديث‪ ،‬وإنما كانوا يضيفون إليه ش روحهم وتفس يراتهم باإلض افة إلى روايتهم ل ه‬
‫بالمعنى‪.‬‬
‫ومن األمثلة على هذا م ا روي عن أبي هري رة عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪:‬‬
‫(أفضل الصدقة ما ترك غنى‪ ،‬واليد العليا خ ير من الي د الس فلى‪ ،‬واب دأ بمن تع ول‪.‬‬
‫تقول المرأة‪ :‬إما أن تطعمني وإما أن تطلق ني‪ ،‬ويق ول العب د‪ :‬أطعم ني واس تعملني‪،‬‬
‫ويقول االبن‪ :‬أطعمني‪ ،‬إلى من تدعني)(‪)2‬‬
‫وقد روي أن أباهريرة س ئل بع د روايت ه للح ديث‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬ي ا أب ا هري رة‪،‬‬
‫سمعت هذا من رسول هللا ‪‬؟ قال‪( :‬ال‪ ،‬هذا من كيس أبي هريرة) (‪)3‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فلو أن أولئك الذين سمعوا ذلك الحديث لم يس ألوه‪ ،‬لم ا ت بين‬
‫لنا الفرق بين ما رواه عن رسول هللا ‪ ،‬وما كان من فهمه وتفس يره الخ اص ب ه‪،‬‬
‫وهو وإن احترمناه إال أنه ال يمكن اعتباره أبدا نصا مقدسا‪.‬‬
‫وبناء على هذا يمكن التعامل مع كل األحاديث الواردة في هذا الب اب‪ ،‬وال تي‬
‫اختلط فيها التفسير البشري‪ ،‬أو الرؤية البشرية مع الحقائق المقدسة‪.‬‬
‫ولعل من أكثرها وضوحا ما رواه البراء بن ع ازب ق ال‪ :‬كن ا في جن ازة في‬
‫بقيع الغرقد‪ ،‬فأتانا النبي ‪ ،‬فقع د وقع دنا حول ه‪ ،‬ك أن على رؤوس نا الط ير‪ ،‬وه و‬
‫يلحد له‪ ،‬فقال‪( :‬أعوذ باهلل من عذاب القبر‪ ،‬ثالث مرات‪ ،‬ثم قال‪( :‬إن العب د الم ؤمن‬
‫إذا كان في إقب ال من اآلخ رة وانقط اع من ال دنيا‪ ،‬ن زلت إلي ه المالئك ة‪ ،‬ك أن على‬
‫‪ )(1‬رواه ابن ماجه (‪ ،)3456‬وأحمد (‪ ،)8754( )364 /2‬والطبري في (مسند عمر) (‪ )503 /2‬وقال‪ :‬إسناده‬
‫صحيح‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪ )7423( 252 /2‬وفي ‪ ،)10175( 476 /2‬والبخاري‪ 5355 :‬وأبو داود‪..1676 :‬‬
‫‪ )(3‬التخريج السابق‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫وجوههم الشمس‪ ،‬معهم كفن من أكفان الجنة‪ ،‬وحنوط من حنوط الجنة‪ ،‬فجلسوا منه‬
‫مد البصر‪ ،‬ثم يجيء مل ك الم وت ح تى يجلس عن د رأس ه‪ ،‬فيق ول‪ :‬ي ا أيته ا النفس‬
‫الطيبة‪ ،‬اخرجي إلى مغفرة من هللا ورضوان‪ ،‬قال‪ :‬فتخرج تسيل كما تس يل القط رة‬
‫من في السقاء‪ ،‬فيأخذها‪ ،‬فإذا أخذها لم ي دعوها في ي ده طرف ة عين‪ ،‬ح تى يأخ ذوها‬
‫فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحن وط‪ ،‬ويخ رج منه ا ك أطيب نفح ة مس ك وج دت‬
‫على وج ه األرض‪ ،‬ق ال‪ :‬فيص عدون به ا‪ ،‬فال يم رون به ا‪ ،‬يع ني على مأل من‬
‫المالئكة‪ ،‬إال قالوا‪ :‬ما هذه الروح الطيبة؟ فيقول ون‪ :‬فالن ابن فالن‪ ،‬بأحس ن أس مائه‬
‫التي كانوا يسمونه بها في الدنيا‪ ،‬حتى ينتهوا بها إلى السماء‪ ،‬فيس تفتحون ل ه‪ ،‬فيفتح‬
‫ل ه‪ ،‬فيش يعه من ك ل س ماء مقربوه ا‪ ،‬إلى الس ماء ال تي تليه ا‪ ،‬ح تى ينتهي به ا إلى‬
‫السماء التي فيها هللا‪ ،‬فيقول هللا عز وجل‪ :‬اكتبوا كت اب عب دي في عل يين‪ ،‬وأعي دوه‬
‫إلى األرض‪ ،‬فإني منها خلقتهم‪ ،‬وفيها أعيدهم‪ ،‬ومنه ا أخ رجهم ت ارة أخ رى‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫فتعاد روحه في جسده‪ ،‬فيأتيه ملكان‪ ،‬فيجلسانه‪ ،‬فيقوالن ل ه‪ :‬من رب ك؟ فيق ول ربي‬
‫هللا‪ ،‬فيقوالن له‪ :‬ما دينك؟ فيقول‪ :‬ديني اإلسالم‪ ،‬فيق والن ل ه‪ :‬م ا ه ذا الرج ل ال ذي‬
‫بعث فيكم؟ فيقول‪ :‬هو رسول هللا‪ ،‬فيقوالن ل ه‪ :‬م ا علم ك؟ فيق ول‪ :‬ق رأت كت اب هللا‬
‫فآمنت به وصدقت‪ ،‬فينادي مناد من السماء‪ :‬أن صدق عب دي‪ ،‬فأفرش وه من الجن ة‪،‬‬
‫وافتحوا له بابا ً إلى الجنة‪ ،‬قال‪ :‬فيأتيه من روحه ا وطيبه ا‪ ،‬ويفس ح ل ه في ق بره م د‬
‫بصره‪ ،‬قال‪ :‬ويأتيه رجل حس ن الوج ه‪ ،‬حس ن الثي اب‪ ،‬طيب ال ريح‪ ،‬فيق ول‪ :‬أبش ر‬
‫بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد‪ ،‬فيقول ل ه‪ :‬من أنت؟ فوجه ك الوج ه ال ذي‬
‫يجيء بالخير‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا عملك الصالح‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب‪ ،‬أقم الساعة حتى أرجع إلى‬
‫أهلي ومالي)(‪)1‬‬
‫ضر المؤمن أتت ه‬ ‫ومثل ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي ‪ ‬قال‪( :‬إذا ُح ِ‬
‫مالئكة الرحمة بحريرة بيضاء‪ ،‬فيقولون‪ :‬اخرجي راضية مرض يا ً عن ك‪ ،‬إلى روح‬
‫هللا وريح ان‪ ،‬ورب غ ير غض بان‪ ،‬فتخ رج ك أطيب ريح المس ك ح تى إن ه ليناول ه‬
‫بعضهم بعض اً‪ ،‬ح تى ي أتوا ب ه ب اب الس ماء‪ ،‬فيقول ون‪ :‬م ا أطيب ه ذه ال ريح ال تي‬
‫ج اءتكم من األرض!‪ ،‬في أتون ب ه أرواح المؤم نين‪ ،‬فلهم أش ُّد فرح ا ً ب ه من أح دكم‬
‫بغائبه يقدم عليه‪ ،‬فيسألونه‪ :‬ماذا فعل فالن؟ ماذا فعل فالن؟ فيقولون‪ :‬دعوه فإنه كان‬
‫في غم الدنيا‪ ،‬فإذا قال‪ :‬أما أت اكم؟ ق الوا‪ُ :‬ذهب ب ه إلى أم ه الهاوي ة‪ ،‬وإن الك افر إذا‬
‫احتضر أتته مالئكة العذاب بمسح‪ ،‬فيقولون‪ :‬اخ رجي س اخطة مس خوطا ً علي ك إلى‬
‫عذاب هللا ـ عز وج ل ـ؛ فتخ رج ك أنتن ريح جيف ة‪ ،‬ح تى ي أتون ب ه ب اب األرض‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار)(‪)2‬‬
‫فهذان الحديثان يذكران تكفين نفس اإلنسان أو روحه عند قبضها‪ ،‬وهو يعني‬
‫أنها تموت هي األخرى‪ ،‬وهو يتنافى مع النصوص التي تبين أن الموت ال عالقة له‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود (‪ ،)4753‬وأحمد (‪)18557( )287 /4‬‬


‫‪ )(2‬رواه النسائي (‪ ،)8 /4‬وابن حبان (‪ ،)3014( )284 /7‬والحاكم (‪ )504 /1‬وقال‪ :‬سنده صحيح‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫ب النفس وال ب الروح‪ ،‬وإنم ا عالقت ه ال تتع دى الجس د‪ ،‬أو انفص ال ارتب اط ال روح‬
‫بالجسد‪.‬‬
‫وربما يكون المقصود ب ذلك ه و توف ير الجس د الجدي د ال ذي ت نزل في ه نفس‬
‫اإلنسان بعد وفاته‪ ..‬والذي يتناسب مع طبيعتها‪ ،‬كما سنذكر ذلك في المبحث الثاني‪.‬‬
‫ويش ير إلي ه قول ه تع الى في وص ف مص ير الش هداء‪ ،‬وك ونهم أحي اء حي اة‬
‫يل هللا أَ ْم َواتًا بَلْ أَحْ يَا ٌء ِعنْ َد َربِّ ِه ْم يُرْ زَ قُ ونَ (‬ ‫حقيقية‪َ ﴿ :‬واَل تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ قُتِلُوا فِي َسبِ ِ‬
‫ض لِ ِه َويَ ْستَب ِْش رُونَ بِالَّ ِذينَ لَ ْم يَ ْل َحقُ وا بِ ِه ْم ِم ْن خَ ْلفِ ِه ْم‬
‫‪ )169‬فَ ِر ِحينَ بِ َما آتَ اهُ ُم هللا ِم ْن فَ ْ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ َزنُونَ ﴾ [آل عمران‪]170 ،169 :‬‬ ‫أَاَّل خَ وْ ٌ‬
‫ويشير إليه من الحديث ما ورد في الرواية عن ابن عباس قال‪ :‬بينم ا رس ول‬
‫هللا ‪ ‬جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد الس الم‪ ،‬ثم ق ال‪( :‬ي ا أس ماء ه ذا‬
‫جعف ر بن أبي ط الب م ع جبري ل وميكائي ل وإس رافيل س لموا علين ا ف ردي عليهم‬
‫السالم‪ ،‬وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل مم ره على رس ول هللا ‪‬‬
‫بثالث أو أرب ع‪ ،‬فق ال‪ :‬لقيت المش ركين فأص بت في جس دي من مق اديمي ثالث ا‬
‫وسبعين بين رمية وطعنة وضربة‪ ،‬ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت‪ ،‬ثم أخ ذت‬
‫بي دي اليس رى فقطعت‪ ،‬فعوض ني هللا من ي دي جن احين أط ير بهم ا م ع جبري ل‬
‫وميكائيل أنزل من الجنة حيث ش ئت‪ ،‬وآك ل من ثماره ا م ا ش ئت)‪ ،‬فق الت أس ماء‪:‬‬
‫(هينئا ً لجعفر ما رزقه هللا من الخير‪ ،‬ولكن أخاف أن ال يصدق الناس فاصعد المنبر‬
‫أخبر به)‪ ،‬فصعد المنبر فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال‪( :‬يا أيها الناس إن جعف را م ع‬
‫جبريل وميكائيل‪ ،‬له جناحان عوضه هللا من يديه س لم علي‪ ،‬ثم أخ برهم كي ف ك ان‬
‫أمره حيث لقي المشركين)‪ ،‬فاستبان للناس بعد الي وم ال ذي أخ بر رس ول هللا ‪ ‬أن‬
‫جعفر لقيهم‪ ،‬فلذلك سمي الطيار في الجنة)(‪)1‬‬
‫فهذا الحديث يشير إلى أن جعفر بن أبي طالب ع وض مباش رة جس دا جدي دا‬
‫متناسبا مع نفسه المطمئنة الممتلئة باإليمان‪ ،‬وأنه في تلك اللحظ ات مباش رة‪ ،‬ص ار‬
‫يطير مع المالئكة‪ ،‬ويتعامل مع كال العالمين‪ :‬ع الم ال دنيا‪ ،‬وع الم اآلخ رة‪ ،‬أو ع الم‬
‫الملك وعالم الملكوت‪.‬‬
‫وهذا الحديث أيضا يتنافى م ع تل ك األح اديث ال تي تص ور أرواح الش هداء‪،‬‬
‫وكونها توضع في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة‪ ،‬وت أوي إلى‬
‫قناديل معلقة في الع رض‪ ،‬بخالف أرواح غ يرهم من المؤم نين‪ ،‬وال تي توض ع في‬
‫أجواف طير يعلق بثمر الجنة وال ينتقل في أرجائها(‪.)2‬‬
‫‪ )(1‬رواه الحاكم (‪ 210 - 209 /3‬و‪ )212‬ورواه الطبراني في األوسط مختصراً ‪-‬كما في مجمع الزوائد (‪/9‬‬
‫‪)272‬‬
‫‪ )(2‬من األحاديث الواردة في ذلك ما روي عن مس روق ق ال‪ :‬س ألنا عبدهللا (ه و ابن مس عود) عن ه ذه اآلي ة‪:‬‬
‫يل هَّللا ِ أَ ْم َواتًا بَلْ أَحْ يَا ٌء ِع ْن َد َربِّ ِه ْم يُرْ زَ قُونَ ﴾ [آل عمران‪ ،]169 :‬قال‪ :‬أَ َما إنَّا سألنا عن‬
‫﴿ َواَل تَحْ َسبَنَّ الَّ ِذينَ قُتِلُوا ِفي َس ِب ِ‬
‫اءت‪ ،‬ثم ت أوي إلى‬ ‫طير ُخضْ ر‪ ،‬لها قناديل معلَّقة بالعرش‪ ،‬تسر ُح من الجن ة حيث ش ْ‬ ‫ٍ‬ ‫جوف‬
‫ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬أرواحُهم في‬
‫تلك القناديل‪ ،‬فاطلع إليهم ربُّهم اطالعةً‪ ،‬فقال‪ :‬هل تش تهون ش يئًا؟ ق الوا‪ :‬أي ش يء نش تهي‪ ،‬ونحن نس رح من الجن ة‬
‫أرواحن ا‬
‫َ‬ ‫حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثالث مرات‪ ،‬فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يَسْأَلوا‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رب‪ ،‬نري د أن ت ر َّد‬

‫‪83‬‬
‫فهذه األحاديث ال تختلف عن تل ك األح اديث ال تي تص ور المالئك ة بص ورة‬
‫الحيوانات‪ ،‬مثلما يروون عن العباس بن عبد المطلب قال‪ :‬كنا بالبطحاء في عصابة‬
‫فيهم رس ول هللا ‪ ،‬فم رت س حابة‪ ،‬فق ال‪ :‬ت درون م ا ه ذه‪ ،‬ق الوا‪ :‬س حاب‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫والم زن‪ ،‬ق الوا‪ :‬والم زن‪ ،‬ق ال‪ :‬والعن ان‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬ت درون كم بع د م ا بين الس ماء‬
‫واألراضين‪ ،‬قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬إما واحدة أو اثن تين أو ثالث وس بعين س نة‪ ،‬ثم الس ماء‬
‫فوق ذلك‪ ،‬حتى عد سبع سموات‪ ،‬ثم فوق السابعة بحر بين أعاله وأسفله مثل ما بين‬
‫سماء إلى سماء‪ ،‬ثم فوق ذلك كله ثماني ة أمالك أوع ال‪ ،‬م ا بين أظالفهم إلى ركبهم‬
‫مثل ما بين سماء إلى سماء‪ ،‬ثم فوق ظهورهم العرش بين أعاله وأسفله مثل م ا بين‬
‫سماء إلى سماء‪ ،‬وهللا تعالى فوق ذلك)(‪)1‬‬
‫فك ل ه ذه األح اديث من األوه ام ال تي وض عتها الفئ ة الباغي ة لتص رف عن‬
‫المعاني القرآنية‪ ،‬وتمأل القلوب نفرة منها‪ ..‬ولذلك كان فيما ورد في الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫غنى عن أكثر تلك التفاصيل التي يوردونها‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم يكتفي بذكر النعيم العظيم الذي يجده هؤالء المقربون بمختلف‬
‫أصنافهم‪ ،‬وي ذكر ف رحهم الش ديد ب ه‪ ،‬وي ذكر حي اتهم الحقيقي ة‪ ،‬ويكتفي ب ذلك‪ ،‬ألن‬
‫التفاصيل المرتبطة بذلك العالم ال يمكن لمن في هذا العالم أن يدركها‪.‬‬
‫وقد أشار اإلمام الصادق إلى هذا المع نى عن دما س ئل عن أرواح المؤم نين‪،‬‬
‫فقال‪( :‬في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها‪ ،‬ويش ربون من ش رابها‪ ،‬ويقول ون‬
‫ربّنا أقم لنا الساعة‪ ،‬وانجز لنا ما وعدتنا)‪ ،‬وسئل عن أرواح المشركين‪ ،‬فق ال‪( :‬في‬
‫النار يعذبون‪ ،‬ويقولون ربّنا ال تقم لنا الساعة وال تنجز لنا ما وعدتنا)(‪ ،)2‬وهذا يدل‬
‫على أن لهم أجسادهم الخاصة بهم‪ ،‬ولم يوضعوا في حواصل الطيور وغيرها‪.‬‬
‫بل قد روي ما ي دل على إنك اره لتل ك الرواي ات‪ ،‬فق د قي ل ل ه‪( :‬جعلت ف داك‬
‫أن أرواح المؤمنين في حواصل طي ور خض ر ح ول الع رش)‪ ،‬فق ال‪( :‬ال‪،‬‬ ‫يروون ّ‬
‫الم ؤمن أك رم على هللا من أن يجع ل روح ه في حوص لة ط ير‪ ،‬لكن في أب دان‬
‫كأبدانهم)(‪ ،)3‬وفي رواية‪( :‬فإذا قبضه هللا ع ّزوج ّل صيّر تلك الروح في قالب كقالبه‬
‫في الدنيا فيأكلون ويشربون‪ ،‬فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الص ورة ال تي ك انت‬
‫في الدنيا)(‪)4‬‬
‫‪ 2‬ـ البرزخ‪ ..‬وتجليات مصير أصحاب اليمين‪:‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم التجلي ات المرتبط ة بمص ير ه ؤالء‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬وأَ َّما إِنْ‬

‫نقتل في سبيلك مرةً أخرى‪ ،‬فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا)[مسلم (‪])1887‬‬ ‫في أجسا ِدنا حتى َ‬
‫بعض ا؟ فق ال رس ول هللا‬
‫ً‬ ‫ومنها ما روي عن أم هانئ أنها سألت رسول هللا ‪ :‬أنتزاور إذا م ْتنَ ا‪ ،‬وي رى بعض نا‬
‫دخلت كل نفس في جس ِدها)[رواه أحمد (‪])27387‬‬ ‫ْ‬ ‫‪( :‬تكون النسم طيرً ا تعلق بالشجر‪ ،‬حتى إذا كانوا يوم القيامة‬
‫‪ )(1‬رواه وأبو داود في سننه‪ ،)93 /5( ،‬والدارمي في الرد على بشر المريسي‪ :‬ص ‪...448‬‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار‪ ،269 / 6 :‬الحديث ‪ 122‬و‪.126‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪.268 / 6 :‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪.270 / 6 :‬‬

‫‪84‬‬
‫ين (‪[ ﴾)91‬الواقع ة‪،90 :‬‬ ‫ب ْاليَ ِم ِ‬ ‫ص َحا ِ‬‫ك ِم ْن أَ ْ‬ ‫ين (‪ )90‬فَ َساَل ٌم لَ َ‬ ‫ب ْاليَ ِم ِ‬ ‫َكانَ ِم ْن أَصْ َحا ِ‬
‫‪]91‬‬
‫وهي تشير إلى الرتبة التالية لرتبة الفائزين‪ ،‬والتي يعبر عنه ا بعض العلم اء‬
‫برتبة الناجين‪ ،‬ولهذا وص ف الق رآن الك ريم جزاءه ا بكون ه س الما‪ ،‬بخالف ج زاء‬
‫المقربين الذي وصفه بكونه روحا وريحانا وجنة نعيم‪.‬‬
‫وقد وصفهم اإلم ام الص ادق‪ ،‬وف رق بينهم وبين الص ادقين‪ ،‬فق ال‪( :‬الم ؤمن‬
‫مؤمن ان‪ ،‬فم ؤمن ص َّدق بعه د هللا ووفى بش رطه‪ ،‬وذل ك ق ول هللا ع ز وج ل‪ِ :‬منَ‬
‫ص َدقُوا َما عَاهَدُوا هللا َعلَ ْي ِه‪ ،‬ف ذلك ال ذي التص يبه أه وال ال دنيا وال‬ ‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ِر َجا ٌل َ‬
‫ؤمن كخام ة ال زرع‪،‬تع وجُّ أحيان ا ً‬ ‫أهوال اآلخرة‪ ،‬وذلك ممن يَشفع وال يُشفع ل ه‪.‬وم ٌ‬
‫وتقوم أحياناً‪ ،‬فذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا وأهوال اآلخرة وذلك ممن يُشفع له وال‬
‫يَشفع)(‪)1‬‬
‫وفي رواية‪( :‬ومؤمن زلت به ق دم‪ ،‬ف ذلك كخام ة ال زرع كيفم ا كفأت ه ال ريح‬
‫انكفأ‪ ،‬وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا واآلخرة‪ ،‬ويشفع له وهو على خير)‬
‫ويدخل في هؤالء من يسميهم القرآن الك ريم [المقتص دين]‪ ،‬وال ذين وض عهم‬
‫هللا تعالى ضمن أصناف المؤمنين المتبعين لورثة الكت اب‪﴿ :‬ثُ َّم أَوْ َر ْثنَ ا ْال ِكتَ َ‬
‫اب الَّ ِذينَ‬
‫ت بِإِ ْذ ِن هللا‬‫ق بِ ْال َخي َْرا ِ‬‫ص ٌد َو ِم ْنهُ ْم َسابِ ٌ‬ ‫اصْ طَفَ ْينَا ِم ْن ِعبَا ِدنَا فَ ِم ْنهُ ْم ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه َو ِم ْنهُ ْم ُم ْقتَ ِ‬
‫ك ه َُو ْالفَضْ ُل ْال َكبِي ُر ﴾ [فاطر‪]32 :‬‬ ‫َذلِ َ‬
‫ويدخل فيهم أولئك الذين وصفهم هللا تعالى بقوله‪َ ﴿ :‬وآخَ رُونَ ا ْعت ََرفُوا بِ ُذنُوبِ ِه ْم‬
‫وب َعلَ ْي ِه ْم إِ َّن هللا َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم ﴾‬ ‫َس ى هللا أَ ْن يَتُ َ‬ ‫ص الِحًا َوآخَ َر َس يِّئًا ع َ‬ ‫خَ لَطُ وا َع َماًل َ‬
‫[التوبة‪]102 :‬‬
‫وما ورد في النصوص المقدسة يشير إلى أن نعيم ال برزخ بص ورته الكامل ة‬
‫الجميلة ال يناله إال المقربون‪ ،‬أما أصحاب اليمين‪ ،‬فنعيمهم أقل بكثير‪ ،‬بل قد يختل ط‬
‫نعيمهم ببعض الع ذاب الن اتج عن تقص يرهم في الطاع ات أو قي امهم ببعض‬
‫المعاصي‪ ،‬كما سنرى ذلك في المبحث الثاني‪.‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن ه ؤالء‪ ،‬وإن نعم وا بالس الم في ه ذا المح ل‪ ،‬إال أنهم لم ينعم وا‬
‫ب الفوز الحقيقي ال ذي جعل ه هللا للمق ربين الطي بين‪ ،‬وله ذا يتح ول ال برزخ لهم إلى‬
‫مدرسة تستمر فيه ا ت ربيتهم وإص الحهم ح تى يتخلص وا من تل ك الرعون ات ال تي‬
‫كانت تختلط مع أعمالهم الصالحة‪.‬‬
‫وتبدأ تلك الدروس التربوية والتصحيحية من لحظات الموت نفس ها‪ ،‬فش عور‬
‫ه ؤالء ب الموت يختل ف عن ش عور الس ابقين المق ربين ال ذين رأين ا ش وقهم ل ه‪،‬‬
‫ومسارعتهم إليه‪ ،‬وهوانه عليهم‪ ،‬وس بب ذل ك ه و ع دم طم أنينتهم الكامل ة‪ ،‬بس بب‬
‫المعاصي والتقصير الذي وقعوا فيه‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد روي عن اإلمام علي أنّه قال‪( :‬ما من المؤمنين عب ٌد يق ارف أم را نهين اه‬

‫‪ )(1‬الكافي‪.2/248:‬‬

‫‪85‬‬
‫عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّة تُمحَّصُ بها ذنوبه‪ ،‬إ ّما في ٍ‬
‫مال‪ ،‬وإ ّما في ول ٍد‪ ،‬وإ ّم ا في‬
‫نفسه‪ ،‬حتَّى يلقى هللا ع ّز وج ّل وما له ذنبٌ ‪ ،‬وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُش َّد ُد‬
‫به عليه عند موته)(‪)1‬‬
‫وروي أن اإلمام الكاظم دخل على رجل قد غرق في سكرات الموت وه و ال‬
‫يجيب داعيا‪ ،‬فقالوا له‪ :‬يا ابن رسول هللا وددنا لو عرفن ا كي ف الم وت وكي ف ح ال‬
‫صاحبنا؟ فقال‪( :‬الموت هو المصفاة تص في المؤم نين من ذن وبهم‪ ،‬فيك ون آخ ر ألم‬
‫يصيبهم كفارة آخر وزر بقي عليهم‪ ،‬ويصفي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر ل ذة‬
‫أو راحة تلحقهم هو آخر ثواب حس نة تك ون لهم‪ ،‬وأم ا ص احبكم ه ذا فق د نخ ل من‬
‫الذنوب نخال وصفي من اآلثام تصفية وخلص حتى نقي كما ينقى الثوب من الوس خ‬
‫وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار األبد)(‪)2‬‬
‫ومن الروايات الواردة في شدة تلك السكرات ما حدث به شداد بن أوس ق ال‪:‬‬
‫(الم وت أفظ ع ه ول في ال دنيا واآلخ رة على المؤم نين‪ ،‬والم وت أش د من نش ر‬
‫بالمناشير‪ ،‬وقرض بالمقاريض‪ ،‬وغلي في القدور‪ ،‬ول و أن الميت نُش ر ف أخبر أه ل‬
‫الدنيا بألم الموت‪ ،‬ما انتفعوا بعيش‪ ،‬وال لذوا بنوم)(‪)3‬‬
‫وروي عن عوانة بن الحكم قال‪( :‬ك ان عم رو بن الع اص يق ول‪ :‬عجب ا ً لمن‬
‫ت‬‫نزل به الموت وعقله معه كيف ال يصفه‪ ،‬فلما نزل به قال ل ه ابن ه عب د هللا‪ :‬ي ا أب ِ‬
‫إنك كنت تقول‪ :‬عجبا ً لمن نزل ب ه الم وت وعقل ه مع ه كي ف ال يص فه؟ فص ف لن ا‬
‫الموت ق ال‪( :‬ي ا ب ن ّي الم وت أج ل من أن يوص ف‪ ،‬ولكن سأص ف ل ك من ه ش يئاً‪،‬‬
‫أجدني كأن على عنقي جبال رضوى‪ ،‬وأجدني كأن في جوفي الشوك‪ ،‬وأجدني كأن‬
‫نفسي تخرج من ثقب إبرة)(‪)4‬‬
‫وقد حاول الغزالي أن يقرب صورة ذلك االحتضار المؤلم‪ ،‬فق ال‪( :‬واعلم أن‬
‫شدة األلم في سكرات الموت ال يعرفه ا بالحقيق ة إال من ذاقه ا‪ ،‬ومن لم ي ذقها فإنم ا‬
‫يعرفها إما بالقياس إلى اآلالم التي أدركها‪ ،‬وإما باالستدالل بأحوال الناس في النَزع‬
‫على شدة ما هم فيه‪ ..‬فأما القياس‪ :‬الذي يشهد له فهو أن ك ل عض و ال روح في ه فال‬
‫يحس باأللم‪ ،‬فإذا كان فيه الروح فالمدرك لأللم هو ال روح‪ ،‬فمهم ا أص اب العض و‪،‬‬
‫جرح أو حريق سرى األثر إلى الروح‪ ،‬فبق در م ا يس ري إلى ال روح يت ألم‪ ،‬يتف رق‬
‫على اللحم والدم وسائر األج زاء‪ ،‬فال يص يب ال روح إال بعض األلم؛ ف إن ك ان من‬
‫اآلالم ما يباشر نفس الروح وال يالقي غيره فما أعظم ذلك األلم وما أش ده‪ ،‬والنَ زع‬
‫عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جمي ع أجزائ ه‪ ،‬ح تى لم يب ق ج زء من‬
‫أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إال وقد حل ب ه األلم‪ ..‬ف ألم النَ زع يهجم على‬

‫‪ )(1‬الخصال‪ :‬ج‪ 2‬ص‪.635‬‬


‫‪ )(2‬معاني األخبار‪ ٢٨٩ :‬ح ‪..6‬‬
‫‪ )(3‬ابن أبي الدنيا‪( ،‬الموت) (ص‪)69 :‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن سعد في (الطبقات الكبرى) (‪)260 /4‬‬

‫‪86‬‬
‫نفس الروح ويس تغرق جمي ع أجزائ ه؛ فإن ه المنْزوع المج ذوب من ك ل ع رق من‬
‫العروق‪ ،‬وعصب من األعصاب‪ ،‬وجزء من األجزاء‪ ،‬ومفصل من المفاصل‪ ،‬ومن‬
‫أصل كل شعرة وبشرة من العرق إلى القدم‪ ..‬فال تسل عن بدن يجذب منه كل عرق‬
‫من عروقه‪ ،‬ولو كان المجذوب عرقا ً واحداً لك ان ألم ه عظيم اً‪ ،‬فكي ف والمج ذوب‬
‫نفس الروح المتألم‪ ،‬ال من عرق واحد‪ ،‬بل من جميع العروق‪ ،‬ثم يموت ك ل عض و‬
‫من أعضائه تدريجياً‪ ،‬فتبرد أوالً قدماه‪ ،‬ثم ساقاه‪ ،‬ثم فخذاه‪ ،‬ولكل عضو س كرة بع د‬
‫سكرة‪ ،‬وكربة بعد كربة‪ ،‬ح تى يبل غ به ا إلى الحلق وم‪ ،‬فعن د ذل ك ينقط ع نظ ره عن‬
‫الدنيا وأهلها)(‪)1‬‬
‫وله ذا ق د يش عر ه ؤالء بس كرات الم وت الش ديدة‪ ،‬ويت ألمون له ا‪ ،‬وربم ا‬
‫يتذكرون حينها ما اق ترفوا من المعاص ي‪ ،‬وين دمون عليه ا‪ ،‬وب ذلك يتخلص ون من‬
‫الكثير منها‪.‬‬
‫ف إن لم يك ف ذل ك ع اينوا من أن واع اآلالم في ف ترة ال برزخ م ا يس اهم في‬
‫تطييبهم وتطهيرهم‪ ..‬فإن لم يك ف ذل ك‪ ،‬أو ك انت معاص يهم من ال ذنوب المتعدي ة‪،‬‬
‫م روا على مواق ف الحس اب‪ ،‬وهن اك يتعرض ون للمزي د من عملي ات التطه ير‬
‫واإلصالح التي تؤهلهم لدخول الجنة المناسبة لمرتبتهم‪.‬‬
‫وق د ورد في الرواي ات م ا ي دل على أن مص ير بعض ه ؤالء يبقى مجه وال‬
‫لغرض التهذيب‪ ،‬ومنها ما روي عن اإلمام الصادق أنه سئل‪( :‬ص ف لن ا الم وت)‪،‬‬
‫فقال‪( :‬على الخبير سقطتم‪ ،‬هو أحد أمور ثالث ة ي رد علي ه‪ :‬إم ا بش ارة بنعيم األب د‪،‬‬
‫وإما بشارة بعذاب األبد‪ ،‬وإما تخوي ف وتهوي ل وأم ر مبهم ال ي دري من أي الف رق‬
‫هو؟ فأما ولينا والمطيع ألمرنا فهو المبشربنعيم األبد‪ ،‬وأما عدونا والمخالف ألمرن ا‬
‫فهو المبشر بع ذاب األب د‪ ،‬وأم ا المبهم أم ره ال ذي ال ي دري م ا حال ه فه و الم ؤمن‬
‫المسرف على نفسه‪ ،‬الي دري م ا ي ؤول إلي ه حال ه‪ ،‬يأتي ه الخبرمبهم ا ً مخوف ا ً ثم لن‬
‫يسويه هللا تعالى بأعدائنا‪ ،‬ولكن يخرج ه من الن ار بش فاعتنا‪ ،‬ف اعملوا وأطيع وا وال‬
‫تتكلوا والتستصغروا عقوب ة هللا‪ ،‬ف إن من المس رفين من ال تلحق ه ش فاعتنا إال بع د‬
‫عذاب هللا بثالث مائة ألف سنة)(‪)2‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن النص وص المقدس ة ت بين أن الع دل اإللهي ي أبى أن يس وي بين‬
‫جمي ع المؤم نين‪ ،‬فهم وإن اتفق وا في اإليم ان إال أنهم يختلف ون في درجت ه‪ ،‬وفي‬
‫مسلتزماتها من العمل الصالح‪ ،‬وقد قال هللا تعالى مفرقا بين المؤم نين في ذل ك‪﴿ :‬اَل‬
‫الض َر ِر َو ْال ُم َجا ِه ُدونَ فِي َس بِي ِل هللا‬ ‫يَ ْس ت َِوي ْالقَا ِع ُدونَ ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ غَيْ ُر أُولِي َّ‬
‫اع ِدينَ َد َر َج ةً َو ُكاًّل‬
‫بِأ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فَض ََّل هللا ْال ُم َجا ِه ِدينَ بِأ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم َعلَى ْالقَ ِ‬
‫َظي ًما﴾ [النساء‪]95 :‬‬ ‫اع ِدينَ أَجْ رًا ع ِ‬ ‫ض َل هللا ْال ُم َجا ِه ِدينَ َعلَى ْالقَ ِ‬ ‫َو َع َد هللا ْال ُح ْسنَى َوفَ َّ‬
‫وهذا االختالف في الدرجات يستدعي اختالف التعامل مع كل درج ة‪ ،‬بحيث‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)461 /4‬‬


‫‪ )(2‬اعتقادات الصدوق‪.29 ،‬‬

‫‪87‬‬
‫يكون لكل إنسان جزاؤه الخاص به‪ ،‬والذي يختلف فيه عن غيره‪ ،‬وإن ك ان يص نف‬
‫ضمن صنف معين‪ ،‬فليس كل المقربين بدرجة واحدة‪ ،‬وليس كل أهل اليمين بدرجة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ البرزخ‪ ..‬وتجليات مصير أصحاب الشمال‪:‬‬
‫اهتم القرآن الكريم بعرض مشاهد كثيرة ألصحاب الشمال‪ ،‬وهم الذين ح ادوا‬
‫هللا‪ ،‬إما بعدم اإليمان مطلقا‪ ،‬أو بعدم الخضوع لما يتطلب ه اإليم ان من تك اليف‪ ،‬م ع‬
‫اإلصرار على ذلك‪.‬‬
‫وهي كلها تدخل ضمن دائرة العدل اإللهي‪ ،‬ذلك أن إقامة الحجة على العب اد‪،‬‬
‫وبي ان المص ير ال ذين ينتظ رهم عن دما يخ الفون األوام ر من الض روريات ال تي‬
‫تقتض يها العدال ة‪ ،‬ول ذلك ن رى ك ل الق وانين ال تكتفي ب ذكر الج رائم‪ ،‬وإنم ا تض ع‬
‫بجانبها العقوبات المرتبطة بها‪.‬‬
‫وهذا يدخل أيضا ضمن دائرة اإلنذار التي هي من وظ ائف الرس ل الك برى‪،‬‬
‫فكلهم كانوا مبشرين ومنذرين‪ ،‬ولهذا عن دما يع ترض المجرم ون ي وم القيام ة على‬
‫ُس ٌل ِم ْن ُك ْم‬ ‫العقوب ات ال تي تس لط عليهم تجيبهم المالئك ة الموكل ة بهم‪ ﴿ :‬أَلَ ْم يَ أْتِ ُك ْم ر ُ‬
‫ت َكلِ َم ةُ‬ ‫ت َربِّ ُك ْم َويُنْ ِذرُونَ ُك ْم لِقَ ا َء يَ وْ ِم ُك ْم هَ َذا قَ الُوا بَلَى َولَ ِك ْن َحقَّ ْ‬‫يَ ْتلُ ونَ َعلَ ْي ُك ْم آيَ ا ِ‬
‫س َمثْ َوى‬ ‫اب َجهَنَّ َم خَالِ ِدينَ فِيهَ ا فَبِ ْئ َ‬ ‫ب َعلَى ْال َك افِ ِرينَ (‪ )71‬قِي َل ا ْد ُخلُ وا أَ َ‬
‫بْو َ‬ ‫ْال َع َذا ِ‬
‫ْال ُمتَ َكب ِِّرينَ ﴾ [الزمر‪]72 ،71 :‬‬
‫ْش َر ْال ِجنِّ‬ ‫ب ل إن هللا نفس ه يت ولى س ؤال عب اده عن ذل ك‪ ،‬ويق ول لهم‪﴿ :‬يَا َمع َ‬
‫س أَلَ ْم يَأْتِ ُك ْم ُر ُس ٌل ِم ْن ُك ْم يَقُصُّ ونَ َعلَ ْي ُك ْم آيَاتِي َويُنْ ِذرُونَ ُك ْم لِقَ ا َء يَ وْ ِم ُك ْم هَ َذا قَ الُوا‬‫َواإْل ِ ْن ِ‬
‫َش ِه ْدنَا َعلَى أَ ْنفُ ِسنَا َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا َو َش ِهدُوا َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم أَنَّهُ ْم َك انُوا َك افِ ِرينَ ﴾‬
‫[األنعام‪]130 :‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الذين يزهدون في الحديث عن أمثال ه ذه المس ائل‪ ،‬أو يعتبرونه ا‬
‫تشويها لمفهوم األلوهية في اإلس الم‪ ،‬أو يمألون الن اس بالرج اء الك اذب‪ ،‬يخ الفون‬
‫المقاصد التي وردت النصوص الكثيرة بها‪ ،‬ال نصوص السنة وحدها‪ ،‬بل نصوص‬
‫القرآن الكريم أيضا‪.‬‬
‫حيث نج د في ه المش اهد الكث يرة ال تي تص ور أن واع اآلالم ال تي يم ر به ا‬
‫المجرمون في المراحل المختلفة التي تمر به ا حي اتهم ابت داء من ال برزخ‪ ،‬وانته اء‬
‫ب دار الق رار‪ ،‬ومن تل ك المش اهد م ا ورد من نص وص ح ول بي ان مص يرهم عن د‬
‫الموت‪ ،‬ومنها ما ورد في آخر سورة الواقعة بعد ذك ر المق ربين وأص حاب اليمين‪،‬‬
‫﴿وأَ َّما إِ ْن َكانَ ِمنَ ْال ُم َك ِّذبِينَ الضَّالِّينَ (‪ )92‬فَنُ ُز ٌل ِم ْن َح ِم ٍيم (‪َ )93‬وتَصْ لِيَةُ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫َج ِح ٍيم﴾ [الواقعة‪]94 - 92 :‬‬
‫وهي ت دل ـ كم ا ذكرن ا س ابقا ـ على أن ه ذا الص نف ك ان يعيش في ه ذه‬
‫األجواء بروحه ونفسه‪ ،‬وباطن دنياه‪ ،‬ولذلك بمجرد أن يرفع عن ه الحج اب في تل ك‬
‫اللحظات الخطيرة‪ ،‬يكتشف الحقيق ة‪ ،‬ويع رف أن ه لم يكن س وى مث ل ذل ك المخ در‬
‫الذي يعيش كل ألوان العذاب‪ ،‬وإن كان يتوهم أنه يعيش بسالم وطمأنينة‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن هذا الصنف يعاين العذاب ابتداء من تلك اللحظات‪ ،‬وهو‬
‫جزاء موافق لعمله‪ ،‬ألنه ال يبدو له حينها إال الصور الحقيقية ألعماله التي قدمها‪.‬‬
‫وق د ورد في النص وص المقدس ة م ا ي دل على أن ه ذا الص نف‪ ،‬وفي تل ك‬
‫اللحظات العصيبة‪ ،‬يطلب الع ودة للحي اة لتص حيح م ا أخط أ في ه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ت‬ ‫صالِ ًحا فِي َما تَ َر ْك ُ‬ ‫ُون (‪ )99‬لَ َعلِّي أَ ْع َم ُل َ‬ ‫ال َربِّ ارْ ِجع ِ‬ ‫ت قَ َ‬ ‫﴿حتَّى إِ َذا َجا َء أَ َح َدهُ ُم ْال َموْ ُ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َكاَّل إِنَّهَ ا َكلِ َم ة هُ َو قَائِلهَ ا َو ِم ْن َو َرائِ ِه ْم بَ رْ زَ ٌخ إِلَى يَ وْ ِم يُ ْب َعث ونَ ﴾ [المؤمن ون‪،99 :‬‬ ‫ٌ‬
‫كْر هللا َو َم ْن‬ ‫مْوالُ ُك ْم َواَل أَوْ اَل ُد ُك ْم ع َْن ِذ ِ‬ ‫‪ ،]100‬وق ال‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اَل تُ ْل ِه ُك ْم أَ َ‬
‫َاسرُونَ (‪َ )9‬وأَ ْنفِقُوا ِم ْن َما َرزَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَأْتِ َي أَ َح َد ُك ُم‬ ‫ك هُ ُم ْالخ ِ‬ ‫يَ ْف َعلْ َذلِكَ فَأُولَئِ َ‬
‫الص الِ ِحينَ (‪)10‬‬ ‫َّ‬ ‫ق َوأَ ُك ْن ِمنَ‬ ‫ب فَأ َ َّ‬
‫ص َّد َ‬ ‫ت فَيَقُو َل َربِّ لَوْ اَل أَ َّخرْ تَنِي إِلَى أَ َج ٍل قَ ِري ٍ‬ ‫ْال َموْ ُ‬
‫َخ َر هللا نَ ْفسًا إِ َذا َجا َء أَ َجلُهَا َوهللا َخبِ ي ٌر بِ َم ا تَ ْع َملُ ونَ (‪[ ﴾ )11‬المن افقون‪- 9 :‬‬ ‫َولَ ْن يُؤ ِّ‬
‫‪]11‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم أن هذه الحسرة تظ ل في قل وبهم يرددونه ا ك ل حين‪،‬‬
‫اس يَوْ َم يَ أْتِي ِه ُم ْال َع َذابُ فَيَقُ و ُل‬ ‫﴿وأَ ْن ِذ ِر النَّ َ‬
‫مع علمهم أنها لن تجديهم شيئا‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ب نُ ِجبْ َد ْع َوتَ كَ َونَتَّبِ ِع الرُّ ُس َل أَ َولَ ْم تَ ُكونُ وا‬ ‫الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا َربَّنَ ا أَ ِّخرْ نَ ا إِلَى أَ َج ٍل قَ ِري ٍ‬
‫أَ ْق َس ْمتُ ْم ِم ْن قَبْ ُل َم ا لَ ُك ْم ِم ْن َز َوا ٍل (‪َ )44‬و َس َك ْنتُ ْم فِي َم َس ا ِك ِن الَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا أَ ْنفُ َس هُ ْم‬
‫ال﴾ [إبراهيم‪]45 ،44 :‬‬ ‫ض َر ْبنَا لَ ُك ُم اأْل َ ْمثَ َ‬
‫َوتَبَيَّنَ لَ ُك ْم َك ْيفَ فَ َع ْلنَا بِ ِه ْم َو َ‬
‫ومن المشاهد القرآنية التي ص ورت تل ك المعان اة الش ديدة ال تي يالقيه ا ه ذا‬
‫﴿ولَ وْ تَ َرى إِ ْذ يَتَ َوفَّى الَّ ِذينَ َكفَ رُوا‬ ‫الص نف عن د الم وت‪ ،‬م ا ورد في قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ت‬ ‫يق (‪َ )50‬ذلِ كَ بِ َم ا قَ َّد َم ْ‬ ‫اب ْال َح ِر ِ‬ ‫ْال َماَل ئِ َكةُ يَضْ ِربُونَ ُوجُوهَهُ ْم َوأَ ْدبَا َرهُ ْم َو ُذوقُوا َع َذ َ‬
‫ْس بِظَاَّل ٍم لِ ْل َعبِي ِد (‪[ ﴾)51‬األنفال‪]51 ،50 :‬‬ ‫أَ ْي ِدي ُك ْم َوأَ َّن هللا لَي َ‬
‫وعلل ذلك‪ ،‬وبين سببه في موضع آخر‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬ذلِكَ بِ أَنَّهُ ْم قَ الُوا لِلَّ ِذينَ َك ِرهُ وا‬
‫ارهُ ْم (‪ )26‬فَ َكيْفَ إِ َذا تَ َوفَّ ْتهُ ُم‬ ‫مْر َوهللا يَ ْعلَ ُم إِ ْس َر َ‬ ‫ْض اأْل َ ِ‬ ‫َما نَ َّز َل هللا َس نُ ِطي ُع ُك ْم فِي بَع ِ‬
‫ك بِأَنَّهُ ُم اتَّبَعُوا َما أَسْخَ طَ هللا َو َك ِرهُ وا‬ ‫ْال َماَل ئِ َكةُ يَضْ ِربُونَ ُوجُوهَهُ ْم َوأَ ْدبَا َرهُ ْم (‪َ )27‬ذلِ َ‬
‫ِرضْ َوانَهُ فَأَحْ بَطَ أَ ْع َمالَهُ ْم﴾ [محمد‪]28 - 26 :‬‬
‫ولتق ريب ه ذا‪ ،‬ن ذكر أن المالئك ة عليهم الس الم يمثل ون ال والء المطل ق هلل‬
‫تعالى‪ ،‬ولذلك فإن كل تصرفاتهم مبنية على ذل ك ال والء‪ ،‬فهم رحم ة ولط ف وأدب‬
‫مع المؤمنين الص ادقين‪ ..‬وهم في نفس ال وقت ش دة وع ذاب وقس وة على الظ المين‬
‫الجاحدين‪.‬‬
‫وهذا الوصف هو الذي دعا هللا المؤمنين إلى تمثل ه‪ ،‬ح تى يكون وا س لما لمن‬
‫سالم‪ ،‬وحربا لمن حارب‪ ،‬كما قال تعالى في وصف الفائزين بمعي ة رس ول هللا ‪:‬‬
‫ار ُر َح َما ُء بَ ْينَهُ ْم﴾ [الفتح‪]29 :‬‬ ‫﴿ ُم َح َّم ٌد َرسُو ُل هللا َوالَّ ِذينَ َم َعهُ أَ ِش َّدا ُء َعلَى ْال ُكفَّ ِ‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن النزع المرتبط بهؤالء ش ديد ج دا‪ ،‬وه و يش ير إلى م دى تش بثهم‬
‫بالدنيا‪ ،‬وحرصهم الشديد عليها‪ ،‬كما يشير إلى أنهم بع د مع اينتهم لم ا ينتظ رهم من‬
‫أهوال يزداد خوفهم وحرص هم‪ ،‬وله ذا يحص ل لهم م ا وص فه هللا تع الى في قول ه‪:‬‬
‫اسطُو أَ ْي ِدي ِه ْم أَ ْخ ِرجُوا أَ ْنفُ َس ُك ُم‬ ‫ت َو ْال َماَل ئِ َكةُ بَ ِ‬ ‫ت ْال َموْ ِ‬ ‫﴿ َولَوْ ت ََرى إِ ِذ الظَّالِ ُمونَ فِي َغ َم َرا ِ‬

‫‪89‬‬
‫ق َو ُك ْنتُ ْم ع َْن آيَاتِ ِه‬ ‫َيْر ْال َح ِّ‬
‫اب ْالهُ و ِن بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَقُولُ ونَ َعلَى هللا غ َ‬ ‫ْاليَوْ َم تُجْ َزوْ نَ َع َذ َ‬
‫تَ ْستَ ْكبِرُونَ (‪َ )93‬ولَقَ ْد ِج ْئتُ ُمونَ ا فُ َرادَى َك َم ا َخلَ ْقنَ ا ُك ْم أَ َّو َل َم َّر ٍة َوتَ َر ْكتُ ْم َم ا َخ َّو ْلنَ ا ُك ْم‬
‫ور ُك ْم َو َم ا نَ َرى َم َع ُك ْم ُش فَ َعا َء ُك ُم الَّ ِذينَ زَ َع ْمتُ ْم أَنَّهُ ْم فِي ُك ْم ُش َر َكا ُء لَقَ ْد تَقَطَّ َع‬ ‫َو َرا َء ظُهُ ِ‬
‫ض َّل َع ْن ُك ْم َما ُك ْنتُ ْم ت َْز ُع ُمونَ (‪[ ﴾ )94‬األنعام‪]94 ،93 :‬‬ ‫بَ ْينَ ُك ْم َو َ‬
‫ولهذا يرد هللا تعالى على أولئك العتاة المجرمين المط البين بأدل ة حس ية على‬
‫ال الَّ ِذينَ اَل يَرْ جُونَ لِقَا َءنَا لَ وْ اَل‬‫﴿وقَ َ‬ ‫وجود المالئكة أو غيرهم من العالم الغيبي بقوله‪َ :‬‬
‫أُ ْن ِز َل َعلَ ْينَا ْال َماَل ئِ َكةُ أَوْ ن ََرى َربَّنَا لَقَ ِد ا ْستَ ْكبَرُوا فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َو َعتَ وْ ا ُعتُ ًّوا َكبِ يرًا (‪)21‬‬
‫يَوْ َم يَ َروْ نَ ْال َماَل ئِ َكةَ اَل ب ُْش َرى يَوْ َمئِ ٍذ لِ ْل ُمجْ ِر ِمينَ َويَقُولُ ونَ ِحجْ رًا َمحْ ُج ورًا (‪﴾ )22‬‬
‫[الفرقان‪]23 - 21 :‬‬
‫ومنذ ذلك الحين تبدأ مشاهد الع ذاب الكث يرة تع رض على ه ؤالء‪ ،‬وتم ارس‬
‫ق بِآ ِل فِرْ عَوْ نَ ُس و ُء‬ ‫﴿و َحا َ‬ ‫معهم إلى أن تقوم القيامة‪ ،‬كما قال تعالى عن آل فرعون‪َ :‬‬
‫آل‬ ‫الس ا َعةُ أَ ْد ِخلُ وا َ‬ ‫ض ونَ َعلَ ْيهَ ا ُغ ُد ًّوا َوع َِش يًّا َويَ وْ َم تَقُ و ُم َّ‬ ‫ب (‪ )45‬النَّا ُر يُ ْع َر ُ‬ ‫ْال َع َذا ِ‬
‫ب﴾ [غافر‪]46 ،45 :‬‬ ‫فِرْ عَوْ نَ أَ َش َّد ْال َع َذا ِ‬
‫وليس في اآليات الكريمة ـ كما يزعم المنكرون لهذا الن وع من الع ذاب ـ أي‬
‫داللة على كون ذل ك الع ذاب خاص ا بهم‪ ،‬وكي ف يس تقيم ذل ك م ع العدال ة اإللهي ة‪،‬‬
‫وال تي تض ع الق وانين والس نن‪ ،‬وتطبقه ا على الجمي ع بحس ب أعم الهم‪ ،‬ال بحس ب‬
‫أشخاصهم‪.‬‬
‫وقد ورد في األحاديث والروايات عرض الكثير من المشاهد المرتبط ة به ذا‬
‫الصنف‪ ،‬وهي ـ كم ا ذكرن ا س ابقا ـ منه ا م ا حاف ظ ال رواة على ألفاظ ه ومعاني ه‪،‬‬
‫ويمكن قبوله قبوال مطلقا لموافقت ه لم ا ورد في الق رآن الك ريم‪ ،‬ومنه ا م ا تص رفوا‬
‫فيه‪ ،‬بالرواية بالمعنى‪ ،‬أو إضافة بعض الشروحات واإليضاحات‪ ،‬ولهذا ال نس تطيع‬
‫الجزم بقبوله‪ ،‬وقد نجزم برفضه‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪( :‬إن العبد الك افر إذا ك ان في انقط اع من ال دنيا‬
‫وإقب ال من اآلخ رة‪ ،‬ن زل إلي ه من الس ماء مالئك ة س ود الوج وه‪ ،‬معهم المس وح‪،‬‬
‫فيجلسون منه مد البصر‪ ،‬ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‪ ،‬فيقول‪ :‬أيته ا‬
‫النفس الخبيث ة‪ ،‬اخ رجي إلى س خط من هللا وغض ب‪ ،‬ق ال‪ :‬فتتف رق في جس ده‪،‬‬
‫فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبل ول‪ ،‬فيأخ ذها‪ ،‬ف إذا أخ ذها لم ي دعوها‬
‫في يده طرفة عين‪ ،‬حتى يجعلوها في تلك المسوح‪ ،‬ويخرج منها ك أنتن ريح خبيث ة‬
‫وجدت على وجه األرض‪ ،‬فيصعدون بها‪ ،‬فال يمرون بها على مأل من المالئك ة إال‬
‫قالوا‪ :‬م ا ه ذا ال روح الخ بيث؟ فيقول ون فالن ابن فالن‪ ،‬ب أقبح أس مائه ال تي ك انوا‬
‫يسمونه بها في الدنيا‪ ،‬حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا‪ ،‬فيستفتح له‪ ،‬فال يفتح ل ه‪ ،‬ثم‬
‫الس َما ِء َواَل يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َحتَّى يَلِ َج ْال َج َم ُل‬ ‫قرأ رس ول هللا ‪﴿ :‬اَل تُفَتَّ ُح لَهُ ْم أَبْ َوابُ َّ‬
‫فِي َس ِّم ْال ِخيَا ِط ﴾ [األعراف‪ ،]40 :‬فيقول هللا عز وجل‪ :‬اكتبوا كتاب ه في س جين‪ ،‬في‬
‫﴿و َم ْن ي ُْش ِر ْك بِاهلل فَ َكأَنَّ َم ا خَ َّر ِمنَ‬ ‫األرض السفلى‪ ،‬فتطرح روح ه طرح اً‪ ،‬ثم ق رأ‪َ :‬‬
‫ق﴾ [الحج‪ ،]31 :‬فتع اد‬ ‫ان َس ِحي ٍ‬ ‫َهْوي بِ ِه ال رِّي ُح فِي َم َك ٍ‬ ‫الس َما ِء فَت َْخطَفُ هُ الطَّيْ ُر أَوْ ت ِ‬ ‫َّ‬

‫‪90‬‬
‫روحه في جسده‪ ،‬ويأتيه ملكان فيجلسانه‪ ،‬فيقوالن له‪ :‬من ربك؟ فيقول‪ :‬هاه‪ ،‬هاه‪ ،‬ال‬
‫أدري‪ ،‬فيقوالن له‪ :‬ما هذا الرجل الذي بعث فيكم‪ ،‬فيقول‪ :‬هاه هاه‪ ،‬ال أدري‪ ،‬فينادي‬
‫مناد من السماء‪ :‬أن كذب‪ ،‬فأفرشوه من النار‪ ،‬وافتحوا له باب ا ً إلى الن ار‪ ،‬فيأتي ه من‬
‫حرها وسمومها‪ ،‬ويض يق علي ه ق بره‪ ،‬ح تى تختل ف أض العه‪ ،‬ويأتي ه رج ل ق بيح‬
‫الوجه‪ ،‬قبيح الثياب منتن الريح‪ ،‬فيقول‪ :‬أبشر بالذي يسوؤك‪ ،‬ه ذا يوم ك ال ذي كنت‬
‫توعد‪ ،‬فيقول‪ :‬من أنت‪ ،‬فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا عملك الخبيث‪،‬‬
‫فيقول رب ال تقم الساعة)(‪)1‬‬
‫وهذا الحديث يصور مشهدا من المشاهد المرتبطة بهؤالء‪ ،‬وه و ال يع ني أن‬
‫الجميع يكون هذا حالهم‪ ،‬بدليل أن هناك من ال يدفن في المقابر‪ ،‬وهناك من يحترق‪،‬‬
‫فال يبقى منه شيء‪ ،‬وهناك من تأكله السباع‪ ..‬ولهذا‪ ،‬فإن العبرة فيه ب المعنى الع ام‪،‬‬
‫أو بكونه يصور مشهدا من المشاهد‪ ،‬وليس كل المشاهد‪.‬‬
‫وقد ذكرنا ه ذا‪ ،‬ألن البعض يتش بث ببعض األلف اظ ال واردة في الح ديث‪ ،‬ثم‬
‫يلغيه جميعا بسبب تلك اللفظة‪ ،‬وهذا غير صحيح‪.‬‬
‫ثانيا ـ البرزخ وتجليات حقيقة العمل‪:‬‬
‫بما أن البرزخ مدرسة من أهم المدارس التربوية التي ي ربي هللا فيه ا عب اده‪،‬‬
‫ويخرجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬ويخلصهم من رعون ات نفوس هم وأه وائهم ال تي‬
‫تسلطت عليهم‪ ،‬ولم يستطيعوا في الدنيا الفكاك منها‪ ،‬فإن تجليات حقيق ة العم ل‪ ،‬من‬
‫أهم الدروس التي تقدم في هذه المرحلة‪.‬‬
‫ذلك أن المعاصي والشهوات والشبهات وكل أنواع الضالل ت برز بص ورتها‬
‫الحقيقية التي كان يخفيها ذل ك ال تزيين ال ذي ُزينت ب ه‪ ،‬س واء من الش يطان‪ ،‬أو من‬
‫النفس األمارة بالسوء‪.‬‬
‫ولذلك عندما يكتش ف اإلنس ان الحقيق ة‪ ،‬ويت ألم له ا ألم ا ش ديدا‪ ،‬يس اهم ذل ك‬
‫مساهمة كبيرة في تخليصه منها‪ ،‬إن كان مس تعدا ل ذلك التخليص‪ ،‬وإال فإن ه يحت اج‬
‫إلى دور تربوية أخرى‪ ،‬قد تكون جهنم من بينها‪.‬‬
‫فاإلنسان بذلك بين أمرين‪ :‬بين أن يس وى أم وره في ال دنيا‪ ،‬بإص الح نفس ه‪،‬‬
‫واالتباع الصادق للرسل‪ ،‬وعدم محادة هللا ورس وله‪ ..‬وبين أن ي ترك ذل ك لآلخ رة‪،‬‬
‫والتي يرى فيها من األهوال ما ال يمكن تصوره‪ ،‬لتكون هي التي تربيه‪ ،‬مثلما يُفعل‬
‫مع الكسول الذي يحتاج إلى التأنيب‪ ،‬أو المجرم الذي يحتاج إلى العقاب‪.‬‬
‫وقد أشار الغ زالي إلى ه ذا المع نى عن د حديث ه عن ض رورة التوب ة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(ازدوج في طينة اإلنسان شائبتان‪ ،‬واصطحب فيه سجيتان‪ ،‬وكل عبد مصحح نسبه‬
‫إما إلى الملك أو إلى آدم أو إلى الشيطان؛ فالتائب قد أقام البرهان على ص حة نس به‬
‫إلى آدم بمالزم ة ح د اإلنس ان‪ ،‬والمص ر على الطغي ان مس جل على نفس ه بنس ب‬
‫الشيطان؛ فإما تصحيح النسب إلى المالئكة بالتجرد لمحض الخير فخارج عن ح يز‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود (‪ ،)4753‬وأحمد (‪)18557( )287 /4‬‬

‫‪91‬‬
‫اإلمكان‪ ،‬فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجنا محكما ال يخلصه إال إحدى‬
‫الن ارين‪ :‬ن ار الن دم‪ ،‬أو ن ار جهنم؛ ف اإلحراق بالن ار ض رورى في تخليص ج وهر‬
‫اإلنسان من خبائث الشيطان‪ ،‬وإليك اآلن اختيار أهون النارين‪ ،‬والمبادرة إلى أخ ف‬
‫الشرين‪ ،‬قبل أن يطوى بساط االختيار‪ ،‬ويساق إلى دار االضطرار‪ ،‬إما إلى الجن ة‪،‬‬
‫وإما إلى النار)(‪)1‬‬
‫وما ذكرناه وذكره الغزالي‪ ،‬وإن ك ان مرتبط ا بك ل المعاص ي‪ ،‬إال أن هن اك‬
‫معاص ي ال يكفي فيه ا الن دم‪ ،‬وال التوب ة‪ ،‬وال غيرهم ا‪ ،‬وال تكفي فيه ا مرحل ة‬
‫البرزخ‪ ..‬وهي المعاصي المتعدية‪ ،‬والتي نصبت لها موازين خاصة‪ ،‬وله ا مواق ف‬
‫يوم القيامة‪ ،‬عندما يجتمع الخالئ ق في ص عيد واح د‪ ،‬وهن اك تع اد الخص ومات من‬
‫جديد لترد الحقوق إلى أصحابها‪ ،‬وفق قوانين العدالة اإللهية المطلقة‪.‬‬
‫وبم ا أن مرحل ة ال برزخ مرحل ة تربوي ة محض ة‪ ،‬ي ذوق فيه ا اإلنس ان آالم‬
‫ذنوب ه‪ ،‬ليمتلئ نف ورا منه ا‪ ،‬فق د ورد في الرواي ات خلوه ا من الش فاعة‪ ،‬إال أنه ا‬
‫تعوض بدل ذلك بوصول جزاء تلك األعمال المتعدية ال تي ق ام به ا ص احبها‪ ،‬كم ا‬
‫قال ‪( :‬إذا مات اإلنسان‪ ،‬انقطع عنه عمله إال من ثالثة‪ ،‬إال من صدقة جارية‪ ،‬أو‬
‫علم ينتفع به‪ ،‬أو ولد صالح يدعو له)(‪)2‬‬
‫ومن الروايات الواردة في هذا ما روي عن اإلمام الصادق أنه ق ال‪( :‬أم ا في‬
‫القيامة فكلكم ـ يقص د المؤم نين الص الحين ـ في الجن ة بش فاعة الن بي المط اع‪ ،‬أو‬
‫وص ي الن بي‪ ،‬ولك ني وهللا أتخ وف عليكم في ال برزخ)‪ ،‬قلت‪ :‬وم ا ال برزخ؟ ق ال‪:‬‬
‫(القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة)(‪)3‬‬
‫ومع هذا‪ ،‬فإن هذا األمر قد ال يكون عاما‪ ،‬ذلك ألن لكل إنسان في ذلك الع الم‬
‫حكم ه الخ اص‪ ،‬وذل ك بحس ب درجت ه ومرتبت ه ون وع معاص يه‪ ..‬وله ذا ورد في‬
‫النصوص ما قد يشير إلى إمكانية الشفاعة هناك كما في سائر المحال‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا نح اول في ه ذا المبحث التع رف على م راتب الم وتى في‬
‫البرزخ‪ ،‬وأنواع نعيمهم وعذابهم‪ ،‬وم دى ارتب اط ذل ك بالعم ل‪ ،‬م ع التنبي ه إلى أنن ا‬
‫ذكرنا بتفصيل الرد على ما يطرح ه من ي دعون التن وير من إنك ار م ا يرتب ط به ذا‬
‫العالم من نعيم أو عذاب في كتاب [التنويريون والصراع مع المقدسات]‬
‫‪ 1‬ـ مراتب النعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫بن اء على ك ون العدال ة اإللهي ة‪ ،‬وتربي ة هللا لعب اده‪ ،‬من أهم تجلي ات النش أة‬
‫األخرى‪ ،‬والمرتبط ة بجمي ع المراح ل ال تي يم ر به ا اإلنس ان‪ ،‬ابت داء من الم وت‪،‬‬
‫وانتهاء بدار القرار؛ فإن للم وتى في ال برزخ‪ ،‬س واء ق بروا‪ ،‬أو لم يق بروا‪ ،‬م راتب‬
‫كثيرة‪ ،‬ربما تساوي في عددها عدد البشر أنفسهم‪ ،‬ذلك أنه من المستبعد أن يتس اوى‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)2 /4‬‬


‫‪ )(2‬أحمد ‪)8831(2/372‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ‪.3/242‬‬

‫‪92‬‬
‫اثنان من البشر في جميع ما فعلوه‪.‬‬
‫ولذلك فإن أول المراحل التي يكتشف فيها اإلنس ان مرتبت ه مرحل ة ال برزخ‪،‬‬
‫وابتداء من الموت‪ ،‬كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫وأول ما يكتشفه إيمانه‪ ،‬وهل كان إيمانا حقيقيا راس خا‪ ،‬أم ك ان مج رد ألف اظ‬
‫يرددها‪ ،‬ولذلك ورد في النصوص القطعية الكثيرة ما يدل على ذلك االختبار اإللهي‬
‫الذي يكشف عن حقيقة اإليم ان‪ ،‬ب ل إن الق رآن الك ريم أش ار إلي ه في قول ه تع الى‪:‬‬
‫ُض لُّ هللا‬‫ت فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآْل ِخ َر ِة َوي ِ‬ ‫ِّت هللا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا بِ ْالقَوْ ِل الثَّابِ ِ‬ ‫﴿يُثَب ُ‬
‫الظَّالِ ِمينَ َويَ ْف َع ُل هللا َما يَ َشا ُء ﴾ [إبراهيم‪]27 :‬‬
‫وقد ورد في تفسيرها عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬المسلم إذا س ئل في الق بر‪،‬‬
‫ِّت هللا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫ش هد أن ال إل ه إال هللا وأن محم دا رس ول هللا‪ ،‬ف ذلك قول ه‪ ﴿ :‬يُثَب ُ‬
‫ر ِة﴾)(‪)1‬‬ ‫ت فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآْل ِخ َ‬
‫بِ ْالقَوْ ِل الثَّابِ ِ‬
‫وفي حديث آخر توضيح أكثر تفصيال‪ ،‬فقد قال ‪( :‬فيأتي ه ملك ان فيجلس انه‬
‫فيقوالن له‪ :‬من ربك؟ فيقول‪ :‬ربي هللا‪ .‬فيقوالن له‪ :‬ما دينك؟ فيقول‪ :‬دي ني اإلس الم‪.‬‬
‫فيقوالن له‪ :‬ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول‪ :‬هو رسول هللا‪ .‬فيق والن ل ه‪ :‬وم ا‬
‫علمك؟ فيقول‪ :‬قرأت كت اب هللا‪ ،‬ف آمنت ب ه وص دقت‪ .‬فين ادي من اد من الس ماء‪ :‬أن‬
‫صدق عبدي‪ ،‬فأفرشوه من الجنة‪ ،‬وألبس وه من الجن ة‪ ،‬وافتح وا ل ه باب ا إلى الجن ة‪،‬‬
‫فيأتيه من روحها وطيبها‪ ،‬ويفسح له في قبره مد بصره)(‪)2‬‬
‫وطبعا هذا الحديث ليس عام ا لك ل المؤم نين‪ ،‬ذل ك أن منهم من يع ذب‪ ،‬وإن‬
‫كان مؤمنا بسبب معاصيه‪ ،‬كما سنرى ذلك‪.‬‬
‫أما الذي لم يكن صادقا في إيمانه‪ ،‬أو كان إيمانه مجرد ألفاظ يردده ا دون أن‬
‫يكون لها أي معنى في نفسه‪ ،‬فإنه يعجز عن اإلجابة‪ ،‬أو يجيب إجابات خاطئة‪ ،‬كم ا‬
‫وضع ذلك قوله ‪( :‬ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقوالن له‪ :‬من ربك؟ فيقول‪ :‬هاه هاه‪،‬‬
‫ال أدري‪ .‬فيقوالن له‪ :‬ما دينك؟ فيقول‪ :‬هاه هاه‪ ،‬ال أدري‪ .‬فيقوالن له‪ :‬ما هذا الرجل‬
‫ال ذي بعث فيكم؟ فيق ول‪ :‬ه اه ه اه‪ ،‬ال أدري‪ .‬فين ادي من اد من الس ماء‪ :‬أن ك ذب‬
‫فأفرشوه من النار‪ ،‬وافتحوا له بابا إلى الن ار‪ .‬فيأتي ه من حره ا وس مومها‪ ،‬ويض يق‬
‫عليه قبره‪ ،‬حتى تختلف فيه أضالعه) (‪)3‬‬
‫وهذا ال يعني اقتصار االمتحان على ه ذه األس ئلة‪ ،‬ذل ك أن ال برزخ مدرس ة‬
‫تربوية‪ ،‬والقائمون فيه من المالئكة يقومون بال دورين جميع ا‪ ،‬دور االمتح ان لتبلى‬
‫السرائر‪ ،‬وتكش ف الحق ائق‪ ،‬ودور التربي ة والتوجي ه من خالل م ا يحص ل في ه من‬
‫أنواع النعيم أو العذاب‪ ،‬والذي ال يعدو أن يكون صورا مجسمة وحية لألعمال التي‬

‫‪ )(1‬صحيح البخاري برقم (‪)4699‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪ )4/287‬وسنن أبي داود برقم (‪ )4753‬وسنن النسائي ب رقم (‪ )4/78‬وس نن ابن ماج ة ب رقم (‬
‫‪)1548‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد (‪ )4/287‬وسنن أبي داود برقم (‪ )4753‬وسنن النسائي ب رقم (‪ )4/78‬وس نن ابن ماج ة ب رقم (‬
‫‪)1548‬‬

‫‪93‬‬
‫قام بها صاحبها‪..‬‬
‫ومن النصوص التي تدل على أن هناك أس ئلة أخ رى غ ير تل ك األس ئلة‪ ،‬م ا‬
‫نص عليه قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ تَ َوفَّاهُ ُم ْال َماَل ئِ َكةُ ظَالِ ِمي أَ ْنفُ ِس ِه ْم قَالُوا فِي َم ُك ْنتُ ْم قَ الُوا‬
‫اجرُوا فِيهَ ا فَأُولَئِ كَ‬ ‫اس َعةً فَتُهَ ِ‬ ‫ض قَ الُوا أَلَ ْم تَ ُك ْن أَرْ ضُ هللا َو ِ‬ ‫ُكنَّا ُم ْستَضْ َعفِينَ فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ال َوالنِّ َس ا ِء َو ْال ِولْدَا ِن‬ ‫الرِّج ِ‬
‫َ‬ ‫صيرًا (‪ )97‬إِاَّل ْال ُم ْستَضْ َعفِينَ ِمنَ‬ ‫ت َم ِ‬ ‫َمأْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َو َسا َء ْ‬
‫َس ى هللا أَ ْن يَ ْعفُ َو َع ْنهُ ْم َو َك انَ‬ ‫اَل يَ ْستَ ِطيعُونَ ِحيلَةً َواَل يَ ْهتَ ُدونَ َسبِياًل (‪ )98‬فَأُولَئِ كَ ع َ‬
‫هللا َعفُ ًّوا َغفُورًا﴾ [النساء‪]99 - 97 :‬‬
‫ومن الروايات التي تدل على أن هن اك أس ئلة أخ رى غ ير تل ك األس ئلة‪ ،‬م ا‬
‫رواه عبد هللا بن سالم قال‪ :‬سألت رسول هللا ‪ ‬عن أوّل ملك ي دخل في الق بر على‬
‫الميّت قبل منك ر ونك ير‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪ :‬مل ك يتألأل وجه ه كالش مس اس مه‪:‬‬
‫رومان يدخل على الميّت‪ ،‬ث ّم يق ول ل ه‪ :‬اكتب م ا عملت من حس نة وس يّئة‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫ي شيء أكتب؟ أين قلمي ودواتي ومدادي؟ فيقول‪ :‬ريقك م دادك وقلم ك إص بعك‪،‬‬ ‫بأ ّ‬
‫ي ش يء أكتب وليس معي ص حيفة؟ ق ال‪ :‬ص حيفتك كفن ك ف اكتب‪،‬‬ ‫فيق ول‪ :‬على أ ّ‬
‫فيكتب ما عمله في الدنيا خيرا‪ ،‬وإذا بل غ س يّئاته يس تحي من ه‪ ،‬فيق ول ل ه المل ك‪ :‬ي ا‬
‫خ اطئ م ا تس تحي من خالق ك حين عملت ه في ال دنيا فتس تحي اآلن‪ ،‬ف يرفع المل ك‬
‫العمود ليضربه‪ ،‬فيقول‪ :‬ارفع عنّي حتّى أكتبها‪ ،‬فيكتب فيها جميع حسناته‪ ،‬وس يئاته‬
‫ي شيء أختم؟ وليس معي خاتم‪ ،‬فيقول‪ :‬اختمها‬ ‫ث ّم يأمره أن يطوي ويختم‪ ،‬فيقول‪ :‬بأ ّ‬
‫ان أَ ْل َز ْمنَ اهُ‬
‫بظفرك وعلّقها في عنقك إلى يوم القيامة كما قال هللا تع الى‪َ ﴿ :‬و ُك َّل إِ ْن َس ٍ‬
‫شورًا ﴾ [اإلسراء‪)1()]13 :‬‬ ‫طَائِ َرهُ فِي ُعنُقِ ِه َونُ ْخ ِر ُج لَهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة ِكتَابًا يَ ْلقَاهُ َم ْن ُ‬
‫وهذا الحديث يصور ما يحصل بص ورة تقريبي ة‪ ،‬ألن ه ال يمكن لمن في ه ذا‬
‫العالم أن يعرف حقيقة ما يجري في ذلك العالم بكل دقة‪ ،‬والغ رض ال ذي س قناه من‬
‫أجله هو في قول الملك لإلنسان‪( :‬يا خ اطئ م ا تس تحي من خالق ك حين عملت ه في‬
‫الدنيا فتستحي اآلن)‬
‫وهذه الكتابة تشبه ما يطالب به المحقق ون في المب احث المج رمين من كتاب ة‬
‫جرائمهم‪ ،‬وتوضيحها بكل دقة‪ ،‬ليكون االعتراف مقدمة للجزاء والعقوبة‪.‬‬
‫ولألسف‪ ،‬فإن البعض من النقاد ال ينظرون للمعاني التي تحويه ا أمث ال ه ذه‬
‫األحاديث‪ ،‬وإنما يتعجبون من الكتابة على الكفن‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬بل إن بعض هم يش كل‬
‫على الحديث بأنه لو حصلت تلك الكتابة‪ ،‬لرأيناها في الكفن‪ ..‬وهذا من ع دم فهم م ا‬
‫يجري في ذلك العالم‪ ،‬وكيفيته‪ ،‬كما سنرى ذلك إن شاء هللا في المطلب التالي لهذا‪.‬‬
‫ومن األحاديث الواردة في االختبارات المرتبطة بعالم البرزخ قول ه ‪( :‬إن‬
‫ك‬ ‫هذه األمة تبتلى في قبورها فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أص حابه‪ ،‬ج اء َملَ ٌ‬
‫شديد اإلنتهار فيقول له‪ :‬ما كنت تقول في هذا الرجل)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬الشيرازي‪ ،‬رياض السالكين‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪..67 - 66‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد(‪)3/346‬‬

‫‪94‬‬
‫ولهذا نرى األحاديث المرتبطة بهذه االختب ارات ت ذكر مالئك ة آخ رين غ ير‬
‫منكر ونكير‪ ..‬وهو يدل على أن لكل مرحلة المالئكة المكلفين بها‪ ،‬مثلما يحصل في‬
‫الدنيا‪ ،‬من توكيل كل علم إلى أساتذته المختصين فيه‪.‬‬
‫وقد قال الكتاني يذكر بعض ما ورد في هذا‪( :‬فَتَّانُو القبر أربعة منك ر ونك ير‬
‫وناكور‪ ،‬وسيدهم رومان‪..‬وإن الحافظ ابن حجر س ئل‪ :‬ه ل ي أتي الميت مل ك إس مه‬
‫روم ان؟ فأج اب بأن ه ورد بس ند في ه لين‪ ،‬وذك ره ال رافعي في ت اريخ ق زوين عن‬
‫الطواالت ألبي الحسن القط ان‪ ،‬بس نده برج ال م وثقين إلى ض مرة بن ح بيب ق ال‪:‬‬
‫فتان القبر أربعة‪ :‬منكر ونكير وناكور وسيدهم رومان‪ ،‬وهذا الوقف له حكم الرف ع‪،‬‬
‫إذ ال يقال مثله من قبل الرأي فهو مرسل)(‪)1‬‬
‫وقد ورد في الروايات ـ عند الفريقين ـ ما يدل على أن أمث ال ه ذه األس ئلة ال‬
‫تطرح لكل الم وتى‪ ،‬وال لك ل األمم‪ ،‬وإنم ا لمن ق امت عليهم الحج ة‪ ،‬وأرس ل إليهم‬
‫الرسل‪ ،‬ووردتهم البينات الدالة على ص دقه؛ ففي الح ديث ق ال ‪( :‬إن ه ذه األم ة‬
‫تبتلى في قبورها‪ ،‬فلو ال أن ال تدافنوا لدعوت هللا أن يسمعكم من عذاب الق بر ال ذي‬
‫أسمع منه)(‪)2‬‬
‫وقد قال ابن عبد البر معلقا على أمثال تلك الروايات‪( :‬اآلث ار الثابت ة في ه ذا‬
‫الباب إنما تدل على أن الفتنة في القبر ال تك ون إال لم ؤمن أو من افق‪ ،‬ممن ك ان في‬
‫الدنيا منسوبا ً إلى أه ل القبل ة ودين اإلس الم‪ ،‬ممن حقن دم ه بظ اهر الش هادة‪ .‬وأم ا‬
‫الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودين ه ونبي ه‪ ،‬وإنم ا يس أل عن ه ذا‬
‫أهل اإلسالم)(‪)3‬‬
‫وق ال الص نعاني مبين ا الس ر في ذل ك‪( :‬واعلم أن ه ق د وردت أح اديث على‬
‫اختصاص هذه األمة بالسؤال في القبر دون األمم السالفة‪.‬قال العلماء‪ :‬والسر فيه أن‬
‫األمم كانت تأتيهم الرسل‪ ،‬فإن أطاعوهم فالمراد‪ ،‬وإن عصوهم اعتزلوهم وعولجوا‬
‫بالعذاب‪ .‬فلما أرسل هللا محمداً ‪ ‬رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب وقَبِل اإلسالم‬
‫ممن أظه ره س واء أخلص أم ال‪ ،‬وقيض هللا لهم من يس ألهم في القب ور ليخ رج هللا‬
‫سرهم بالسؤال‪ ،‬وليميز هللا الخبيث من الطيب)(‪)4‬‬
‫ولسنا ندري مدى دقة هذا التعليل أو صحته‪ ،‬ألن ع الم ال برزخ ليس مرتبط ا‬
‫باألمم بقدر ارتباطه باألفراد‪ ،‬ذلك أن لك ل ف رد في ذل ك الع الم حكم ه الخ اص ب ه‪،‬‬
‫والمرتبط بعمله‪.‬‬
‫ولذلك فإن التعلي ل األحس ن من ه ذا ربط ه باإليم ان والكف ر‪ ،‬ال به ذه األم ة‬
‫وغيره ا‪ ،‬وق د ورد في ذل ك عن اإلم ام الص ادق أن ه س ئل‪( :‬أص لحك هللا َمن‬

‫‪ )(1‬تنزيه الشريعة للكتاني‪.372/‬‬


‫‪ )(2‬صحيح مسلم(‪)8/161‬‬
‫‪ )(3‬التمهيد (‪)22/252‬‬
‫‪ )(4‬سبل السالم (‪)2/113‬‬

‫‪95‬‬
‫ض اإليمان ومن محض الكف ر)‪ ،‬فقي ل ل ه‪:‬‬ ‫المسؤولون في قبورهم؟)‪ ،‬قال‪( :‬من ُم ِح َ‬
‫(فبقية هذا الخلق؟)‪ ،‬قال‪( :‬يلهى وهللا عنهم‪ ،‬ما يُعبأ بهم)(‪)1‬‬
‫وبناء على كل هذا‪ ،‬فإن األسئلة واالختبارات التي يتع رض له ا اإلنس ان في‬
‫عالم البرزخ ال يمكن حصرها‪ ،‬ولكن ورد في الروايات ما يدل على بعضها‪ ،‬ومنها‬
‫السؤال عن مواالة المؤمنين الذين أمر رس ول هللا ‪ ‬بم واالتهم‪ ،‬ومع اداة األع داء‬
‫ال ذين أم رت ه ذه األم ة بع داوتهم‪ ،‬ذل ك أن بني ان ال دين ال يس تقيم إال بم واالة‬
‫الصالحين‪ ،‬واتباعهم‪ ،‬ومعادة الفجرة‪ ،‬ومواجهتهم‪.‬‬
‫ومن تل ك الرواي ات م ا روي عن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال‪( :‬إن الم ؤمن إذا‬
‫أخرج من بيته شيعته المالئكة إلى قبره يزدحمون عليه‪،‬حتى إذا انتهي ب ه إلى ق بره‬
‫قالت له األرض‪ :‬مرحبا ب ك وأهال‪ ،‬أم ا وهللا لق د كنت أحب أن يمشـي علي مثل ك‪،‬‬
‫لترين ما أصنع بك‪ .‬فتوسع له مد بص ره‪ ،‬وي دخل علي ه في ق بره ملك ا الق بر وهم ا‬
‫قعيدا القبر منكر ونكير‪ ،‬فيلقيان فيه الروح إلى حقوي ه‪ ،‬فيقعدان ه ويس أالنه فيق والن‬
‫له‪ :‬من ربك؟ فيقول‪ :‬هللا‪ ،‬فيقوالن‪ :‬ما دينك؟ فيقول‪ :‬اإلس الم‪ ،‬فيق والن‪ :‬ومن نبي ك؟‬
‫فيق ول‪ :‬محم د‪ .‬فيق والن‪ :‬ومن إمام ك؟ فيق ول‪ :‬فالن‪ .‬ق ال‪ :‬فين ادي من اد من‬
‫السماء‪:‬صدق عبدي‪ ،‬أفرشوا له في ق بره من الجن ة‪ ،‬وافتح وا ل ه في ق بره باب ا ً إلى‬
‫الجنة‪ ،‬وألبسوه من ثياب الجنة حتى يأتينا‪ ،‬وما عندنا خير ل ه‪ .‬ثم يق ال ل ه‪ :‬نم نوم ة‬
‫عروس‪ ،‬نم نومة ال حلم فيه ا‪ ..‬وإن ك ان ك افراً خ رجت المالئك ة تش يعه إلى ق بره‬
‫يلعنونه‪ ،‬حتى إذا انتهى به إلى قبره ق الت ل ه األرض‪ :‬ال مرحب ا ً ب ك وال أهالً‪ ،‬أم ا‬
‫ي مثلك‪ ،‬الجرم لترين ما أصنع بك اليوم‪ ،‬فتضيق‬ ‫وهللا لقد كنت أبغض أن يمشي عل َّ‬
‫عليه حتى تلتقي جوانحه ! قال‪ :‬ثم يدخل علي ه ملك ا الق بر وهم ا قعي دا الق بر منك ر‬
‫ونك ير‪ ،‬ويلقي ان في ه ال روح إلى حقوي ه فيق والن ل ه‪:‬من رب ك؟فيتلجلج ويق ول‪ :‬ق د‬
‫س معت الن اس يقول ون‪ .‬فيق والن ل ه‪ :‬ال دريت ! ويق والن ل ه‪ :‬م ا دين ك؟ فيتلجلج‪،‬‬
‫فيقوالن له‪ :‬ال دريت ! ويقوالن ل ه‪ :‬من نبي ك؟ فيق ول‪ :‬ق د س معت الن اس يقول ون‪،‬‬
‫فيقوالن له‪ :‬ال دريت ! ويسأل عن إمام زمانه‪ .‬قال‪ :‬فين ادي من اد من الس ماء‪ :‬ك ذب‬
‫عبدي‪ ،‬أفرشوا له في قبره من النار وألبس وه من ثي اب الن ار‪ ،‬وافتح وا ل ه باب ا ً إلى‬
‫النار حتى يأتينا‪ ،‬وما عن دنا ش ر ل ه‪ ،‬فيض ربانه بمرزب ة ثالث ض ربات ليس منه ا‬
‫ضربة إال يتطاير قبره ناراً‪ ،‬لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميماً)(‪)2‬‬
‫ومنها ما روي عن اإلم ام الس جاد‪ ،‬فق د روي أن ه وع ظ الن اس ق ائال‪( :‬أيّه ا‬
‫الناس اتّقوا هللا‪ ،‬واعلموا أنّكم إليه ترجعون‪ ،‬فتجد ك ّل نفس م ا عملت في ه ذه ال دنيا‬
‫أن بينها وبينه أم داً بعي داً‪ ،‬ويح ذركم‬ ‫من خير محضراً‪ ،‬وما عملت من سوء تود لو ّ‬
‫ان أجلك أس رع ش يء‬ ‫هللا نفسه‪ ،‬ويحك ابن آدم‪ ،‬الغافل‪ ،‬وليس بمغفول عنه‪ .‬ابن آدم ّ‬
‫ُ‬
‫إليك‪ ،‬قد أقبل نحوك حثيثا ً يطلبك ويوشك ان يدركك‪ ،‬وكأن ق د أوفيتَ أجل ك وقبض‬

‫‪ )(1‬الكافي الكليني (‪)284 /3‬‬


‫‪ )(2‬الكافي (‪)3/239‬‬

‫‪96‬‬
‫الملك روحك‪ ،‬وصرتَ إلى منزل وحيداً ف رد إلي ك في ه روح ك‪ ،‬واقتحم علي ك في ه‬
‫ملكاك‪ :‬منكراً ونكيراً‪ ،‬لمساءلتك وشديد امتحانك‪ ،‬أال ّ‬
‫وإن أوّل ما يسأالنك عن ربّ ك‬
‫الذي كنت تعبده‪ ،‬وعن نبيِّك الذي أُرسل إليك‪ ،‬وعن دينك الذي كنت تدين ب ه‪ ،‬وعن‬
‫كتابك الذي كنت تتلوه‪ ،‬وعن إمامك ال ذي كنت تت والّه‪ ،‬ث ّم عن عم رك فيم ا أفنيت ه؟‬
‫ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك)(‪)1‬‬
‫بناء على هذه األسئلة وغيرها يميز بين الم وتى‪ ،‬فمنهم من يك ون في مرتب ة‬
‫الفائزين‪ ،‬ومنهم من يكون في مرتبة الهالكين‪ ،‬ومنهم من يكون في مرتب ة الن اجين‪،‬‬
‫وهكذا‪ ..‬مثلما يحصل في االمتحانات البشرية التمييز بين الممتحنين‪.‬‬
‫وقد ضرب الغزالي ل ذلك مثال مقرب ا‪ ،‬وذل ك عن د حديث ه عن [كيفي ة ت وزع‬
‫الدرجات والدركات في اآلخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا]‪ ،‬قال في مقدمته‪:‬‬
‫(اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة‪ ،‬واآلخرة من عالم الغيب والملكوت‪ .‬وأعنى‬
‫بالدنيا حالتك قبل الم وت‪ ،‬وب اآلخرة حالت ك بع د الم وت‪ .‬ف دنياك وآخرت ك ص فاتك‬
‫وأحوالك يسمى القريب الداني منها دنيا‪ ،‬والمتأخر آخرة‪ .‬ونحن اآلن نتكلم من الدنيا‬
‫في اآلخرة فإنا اآلن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك‪ ،‬وغرض نا ش رح اآلخ رة وهي‬
‫عالم الملكوت)(‪)2‬‬
‫ثم بين أن ه ال (يتص ور ش رح ع الم الملك وت في ع الم المل ك إال بض رب‬
‫األمثال‪ ..‬وهذا ألن عالم الملك نوم باإلض افة إلى ع الم الملك وت‪ ..‬وم ا س يكون في‬
‫اليقظة ال يتبين لك في النوم‪ ،‬إال األمثال المحجوب ة إلى التعب ير‪ ،‬فك ذلك م ا س يكون‬
‫في يقظة اآلخرة ال يتبين في نوم الدنيا إال في كثرة األمثال‪ .‬وأعنى بكثرة األمثال ما‬
‫تعرفه من علم التعبير) (‪)3‬‬
‫وبناء على هذا ذك ر أن ه ال يمكن (تعري ف ت وزع ال درجات وال دركات على‬
‫الحسنات والسيئات‪ ،‬إال بضرب المثال)‬
‫والمثال الذي ذكره هو أن ه في ح ال اس تيالء مل ك من المل وك على إقليم من‬
‫األقاليم؛ فإنه سيتعامل مع أهله بحسب تعاملهم معه‪( ،‬فيقت ل بعض هم فهم اله الكون‪،‬‬
‫ويعذب بعضهم مدة وال يقتلهم فهم المعذبون‪ ،‬ويخلى بعض هم فهم الن اجون‪ ،‬ويخل ع‬
‫على بعضهم فهم الفائزون) (‪)4‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬فإن المراتب الكبرى ألهل البرزخ‪ ،‬بحسب رؤي ة الغ زالي‪،‬‬
‫أربعة‪ :‬الهالكون‪ ،‬والمعذبون‪ ،‬والناجون‪ ،‬والفائزون‪.‬‬
‫ولكل مرتبة األعمال التي تتعلق بها‪( ،‬فإن كان الملك عادال‪ ،‬لم يقسمهم كذلك‬
‫إال باستحقاق‪ ،‬فال يقتل إال جاحدا الستحقاق الملك‪ ،‬معاندا له في أص ل الدول ة‪ ..‬وال‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.223 / 6 :‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)23 /4‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)23 /4( ،‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪)23 /4( ،‬‬

‫‪97‬‬
‫يعذب إال من قص ر في خدمت ه م ع االع تراف بملك ه وعل و درجت ه‪ ..‬وال يخلى إال‬
‫معترفا له برتبة الملك‪ ،‬لكنه لم يقصر ليع ذب ولم يخ دم ليخل ع علي ه‪ ..‬وال يخل ع إال‬
‫على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة‪ ،‬ثم ينبغي أن تكون خلع الف ائزين متفاوت ة‬
‫الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة‪ ،‬وإهالك الهالكين إما تحقيق ا بح ز الرقب ة‪ ،‬أو‬
‫تنكيال بالمثلة‪ ،‬بحسب درجاتهم في المعاندة‪ ،‬وتع ذيب المع ذبين في الخف ة‪ ،‬والش دة‪،‬‬
‫وطول المدة وقصرها‪ ،‬واتحاد أنواعها واختالفها‪ ،‬بحسب درجات تقصيرهم فتنقسم‬
‫كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات ال تحصى وال تنحصر)(‪)1‬‬
‫وبن اء على ه ذا‪ ،‬ف إن (الن اس في اآلخ رة هك ذا يتف اوتون‪ .‬فمن هال ك‪ ،‬ومن‬
‫معذب مدة‪ ،‬ومن ناج يحل في دار السالمة‪ ،‬ومن فائز‪ ..‬والفائزون ينقسمون إلى من‬
‫يحلون في جنات عدن‪ ،‬أو جنات المأوى أو جنات الفردوس‪ ..‬والمع ذبون ينقس مون‬
‫إلى من يع ذب قليال‪ ،‬وإلى من يع ذب أل ف س نة إلى س بعة آالف س نة‪ ..‬وك ذلك‬
‫الهالكون اآليسون من رحمة هللا تتفاوت درك اتهم‪ .‬وه ذه ال درجات بحس ب اختالف‬
‫الطاعات والمعاصي)(‪)2‬‬
‫ثم ذك ر األعم ال المرتبط ة بك ل مرتب ة‪ ،‬ف ذكر أن المرتب ة األولى مرتب ة‬
‫اله الكين ال تك ون إال (للجاح دين والمعرض ين‪ ،‬والمتج ردين لل دنيا‪ ،‬المك ذبين باهلل‬
‫ورسله وكتبه‪ ،‬فإن السعادة األخروية في القرب من هللا والنظر إلى وجهه‪ ،‬وذل ك ال‬
‫ين ال أص ال إال بالمعرف ة ال تي يع بر عنه ا باإليم ان والتص ديق‪ .‬والجاح دون هم‬
‫المنك رون‪ ،‬والمك ذبون هم اآليس ون من رحم ة هللا تع الى أب د اآلب اد‪ ،‬وهم ال ذين‬
‫يك ذبون ب رب الع المين‪ ،‬وبأنبيائ ه المرس لين‪ ،‬إنهم عن ربهم يومئ ذ لمحجوب ون ال‬
‫محالة‪ ،‬وكل محجوب عن محبوبه فمح ول بين ه وبين م ا يش تهيه ال محال ة‪ ،‬فه و ال‬
‫محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق) (‪)3‬‬
‫وأم ا المرتب ة الثانية‪ ،‬فمرتب ة المع ذبين‪ ،‬وهي مرتب ة (من تحلى بأص ل‬
‫اإليمان‪ ،‬ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه فإن رأس اإليمان ه و التوحي د‪ ،‬وه و أن ال‬
‫يعبد إال هللا‪ .‬ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه‪ ،‬فهو موحد بلسانه ال بالحقيقة) (‪)4‬‬
‫ثم بين وجوه التقصير وعالقتها بالعذاب‪ ،‬فقال‪( :‬ولما كان الص راط المس تقيم‬
‫الذي ال يكمل التوحيد إال باالستقامة علي ه أدق من الش عر‪ ،‬وأح د من الس يف‪ ،‬مث ل‬
‫الصراط الموصوف في اآلخرة‪ ،‬فال ينفك بشر عن ميل عن االستقامة ول و في أم ر‬
‫يسير‪ ،‬إذ ال يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل‪ ،‬وذلك قادح في كمال التوحي د‪،‬‬
‫بقدر ميله عن الصراط المستقيم‪ ..‬فذلك يقتضي ال محالة نقصانا في درجات القرب‪.‬‬
‫ومع كل نقصان ناران‪ :‬نار الفراق لذلك الكمال الف ائت بالنقص ان‪ ،‬ون ار جهنم كم ا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪)24 /4( ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)24 /4( ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)25 /4( ،‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪)25 /4( ،‬‬

‫‪98‬‬
‫وصفها القرآن‪ ،‬فيكون كل مائ ل عن الص راط المس تقيم مع ذبا م رتين من وجهين‪،‬‬
‫ولكن شدة ذلك العذاب وخفته‪ ،‬وتفاوته بحسب طول المدة‪ ،‬إنما يكون بسبب أمرين‪:‬‬
‫أحدهما قوة اإليمان وضعفه‪ ،‬والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته) (‪)1‬‬
‫وأما المرتبة الثالثة‪ ،‬فمرتب ة الن اجين‪ ،‬وهم ـ كم ا ي ذكر الغ زالي ـ (ق وم لم‬
‫يخ دموا فيخل ع عليهم‪ ،‬ولم يقص روا فيع ذبوا‪ .‬ويش به أن يك ون ه ذا ح ال المج انين‬
‫والص بيان من الكف ار‪ ،‬والمعت وهين‪ ،‬وال ذين لم تبلغهم ال دعوة في أط راف البالد‪،‬‬
‫وعاشوا على البله وعدم المعرفة‪ ،‬فلم يكن لهم معرفة‪ ،‬وال جح ود‪ ،‬وال طاع ة‪ ،‬وال‬
‫معصية‪ ،‬فال وسيلة تقربهم‪ ،‬وال جناية تبعدهم‪ ،‬فم ا هم من أه ل الجن ة وال من أه ل‬
‫النار) (‪)2‬‬
‫وسنذكر المصير المرتبط بهؤالء في الفصل الثالث‪ ،‬عند الحديث عن العدال ة‬
‫اإللهية‪ ،‬وسنرى الروايات التي تدل على أنهم يتعرضون الختبارات خاصة تكش ف‬
‫عن ج واهرهم وس رائرهم؛ فمن نجح فيه ا ن ال ثواب ه‪ ،‬ومن لم ينجح ن ال عقاب ه‪..‬‬
‫وبذلك يتساوى البشر جميعا في االختبار‪ ،‬وهو من مقتضيات العدالة‪.‬‬
‫وأما المرتبة الرابعة‪ ،‬فمرتبة الفائزين‪ ،‬وهم ـ كما يذكر الغزالي ـ (الع ارفون‬
‫دون المقلدين‪ .‬وهم المقربون الس ابقون‪ .‬ف إن المقل د وإن ك ان ل ه ف وز على الجمل ة‬
‫بمقام في الجنة‪ ،‬فه و من أص حاب اليمين‪ .‬وه ؤالء هم المقرب ون‪ .‬وم ا يلقى ه ؤالء‬
‫يجاوز حد البيان) (‪)3‬‬
‫‪ 2‬ـ كيفية النعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫من اإلشكاالت الكبرى التي يطرحها المنكرون لم ا يج ري في ع الم ال برزخ‬
‫ما يرتبط بالتصورات المتعلقة بكيفية حصول ذلك‪ ،‬وهو من األم ور العجيب ة‪ ،‬ذل ك‬
‫أن هللا تعالى أعظم من أن يقترح عليه‪ ،‬ول ذلك يكفي الم ؤمن أن يعتق د بم ا ورد في‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬دون أن يكلف خياله‪ ،‬وال عقله معرفة كيفي ة ذل ك‪ ،‬فق درة هللا ال‬
‫حدود لها‪.‬‬
‫وهؤالء المنكرون‪ ،‬أو الذين يثيرون الش غب في مث ل ه ذه المس ائل‪ ،‬ب دعوى‬
‫العلمية‪ ،‬ال حظ لهم منها‪ ،‬ذلك أنه إذا رأينا عالم ا كب يرا اخ ترع آالف االختراع ات‬
‫الدقيقة‪ ،‬ال نتعجب إن استطاع أن يضيف إليها اختراع ا جدي دا ت وهم البش ر جميع ا‬
‫صعوبته أو استحالته‪.‬‬
‫فإن جاز ذلك لهذا العقل البسيط‪ ،‬ال ذي لم يكن ل ه من دور س وى تقلي د بعض‬
‫مخلوقات هللا باختراعاته؛ فكيف بالصانع البديع‪ ،‬الذي ال يمكن إحص اء مص نوعاته‬
‫ومخترعاته وإبداعاته؟‬
‫اًل‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ب لنَ ا َمث َون َِس َي‬
‫ض َر َ‬
‫﴿و َ‬
‫وله ذا رد هللا تع الى على المنك رين للبعث بقول ه‪َ :‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪)26 /4( ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)26 /4( ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)26 /4( ،‬‬

‫‪99‬‬
‫خَ ْلقَهُ قَا َل َم ْن يُحْ ِي ْال ِعظَا َم َو ِه َي َر ِمي ٌم (‪ )78‬قُ لْ يُحْ يِيهَ ا الَّ ِذي أَ ْن َش أَهَا أَ َّو َل َم َّر ٍة َوهُ َو‬
‫ض ِر نَارًا فَإِ َذا أَ ْنتُ ْم ِم ْنهُ تُوقِ ُدونَ (‬‫ق َعلِي ٌم (‪ )79‬الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ْم ِمنَ ال َّش َج ِر اأْل َ ْخ َ‬ ‫بِ ُك ِّل َخ ْل ٍ‬
‫ق ِم ْثلَهُ ْم بَلَى َوهُ َو‬ ‫ض بِقَ ا ِد ٍر َعلَى أَ ْن يَ ْخلُ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫الس َما َوا ِ‬ ‫ق َّ‬ ‫ْس الَّ ِذي َخلَ َ‬‫‪ )80‬أَ َولَي َ‬
‫ول لَ هُ ُك ْن فَيَ ُك ونُ (‪ )82‬فَ ُس ْب َحانَ‬ ‫ق ْال َعلِي ُم (‪ )81‬إِنَّ َما أَمْ ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد َش ْيئًا أَ ْن يَقُ َ‬‫ْالخَ اَّل ُ‬
‫وت ُك ِّل َش ْي ٍء َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ (‪[ ﴾ )83‬يس‪]83 - 78 :‬‬ ‫الَّ ِذي بِيَ ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫وربما يكون من األسباب التي دعتهم إلى ذلك أيضا تصورهم أن م ا ورد في‬
‫األح اديث والرواي ات ي دل على الواق ع بحس ب م ا تتوهم ه أخيلتهم‪ ،‬وه ذا غ ير‬
‫صحيح؛ فالنصوص المقدسة تتحدث عن هذه األمور من باب [خ اطبوا الن اس على‬
‫قدر عقولهم]‪ ،‬وليس من باب الحقيقة المطلق ة‪ ،‬تل ك ال تي ال يمكن اكتش افها إال لمن‬
‫عاشها‪.‬‬
‫ولهذا قال ابن عب اس عن نعيم الجن ة‪ ،‬وعالقت ه بنعيم ال دنيا‪( :‬ليس في الجن ة‬
‫شي ٌء يشبه ما في الدنيا إال األسماء)(‪)1‬‬
‫باإلضافة إلى أن هناك من الروايات ما يدل على أن عالم البرزخ يشبه كثيرا‬
‫عالم األحالم‪ ،‬ولذلك تُ رى في ه األش ياء الرمزي ة بص يغتها المجس مة‪ ،‬كم ا ورد في‬
‫الرواية التي تقول‪( :‬السخاء شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا‪ ،‬فمن تعلق بغصن‬
‫منها أدته إلى الجنة والبخل شجرة في النار وأغص انها في ال دنيا فمن تعل ق بغص ن‬
‫منها أدته إلى النار)(‪)2‬‬
‫وذلك كله من مقتضيات التربية ووسائلها‪ ،‬والتي تستعملها المالئك ة م ع أه ل‬
‫البرزخ إلخراجهم من الظلمات إلى الن ور‪ ،‬ع بر تع ريفهم بحق ائق الوج ود ال تي لم‬
‫يستطيعوا هضمها في حياتهم الدنيا‪.‬‬
‫ومن هذا الباب أيضا ت وهمهم أن الم راد من ع ذاب الق بر ونعيم ه‪ ،‬ارتباط ه‬
‫بالقبر الحقيقي المعروف‪ ،‬وهذا غير صحيح‪ ،‬فهذه التسمية جاءت من ب اب الغ الب‪،‬‬
‫ال من ب اب الحقيق ة المطلق ة‪ ،‬والتس مية الص حيحة ل ذلك‪ ،‬بحس ب م ا ي ذكر الق رآن‬
‫الكريم هي [البرزخ]‪ ،‬وهي المرحلة الفاصلة بين الحياتين الدنيا واآلخرة‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬كاَّل إِنَّهَا َكلِ َمةٌ هُ َو قَائِلُهَا َو ِم ْن َو َرائِ ِه ْم بَ رْ زَ ٌخ إِلَى يَ وْ ِم يُ ْب َعثُ ونَ ﴾ [المؤمن ون‪:‬‬
‫‪]100‬‬
‫ولهذا نرى العلماء ينبهون كل حين إلى أن المراد بالقبر هي حياة البرزخ‪ ،‬ال‬
‫القبر في حد ذاته‪ ،‬كما قال النووي‪( :‬ال يمنع من سؤال الملكين وع ذاب الق بر ك ون‬
‫الميت قد تفرقت أجزاؤه‪ ،‬كما نشاهد في العادة‪ ،‬أو أكلته الس باع أو حيت ان البح ر أو‬
‫نحو ذلك‪ ،‬فكما أن هللا تعالى يعيده للحشر‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك‪ ،‬فكذا‬
‫يعيد الحي اة إلى ج ز ٍء من ه أو أج زا ٍء وإن أكلت ه الس باع والحيت ان‪ ،‬ف إن قي ل‪ :‬فنحن‬
‫نشاهد الميت على حاله في قبره‪ ،‬فكيف يس أل ويقع د ويض رب بمط ارق من حدي د‬

‫‪ )(1‬رواه أبو نُ َعيْم في صفة الجنة (‪)2 / 21‬‬


‫‪ )(2‬االختصاص‪ ،٢٥٢ :‬وورد باختالف في ألفاظه في أمالي الطوسي ‪.٨٩ :٢‬‬

‫‪100‬‬
‫ممتنع‪ ،‬بل له نظير في العادة‪ ،‬وهو النائم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وال يظهر له أثر؟! فالجواب أن ذلك غير‬
‫فإنه يجد لذةً وآال ًما ال نحس نحن شيئًا منها‪ ،‬وكذا يجد اليقظان لذةً وآلمًا لم ا يس معه‬
‫أو يفكر فيه وال يشاهد ذلك جليسه منه‪ ،‬وكذا كان جبرائي ل ي أتي الن بي ‪ ‬فيخ بره‬
‫ب الوحي الك ريم وال يدرك ه الحاض رون‪ ،‬وك ل ه ذا ظ اهر جلي‪ ،‬وأم ا ض ربه‬
‫بالمطارق فال يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب)(‪)1‬‬
‫وقد ح اول العلم اء ل رد تل ك التخيالت واألوه ام والش بهات أن يبس طوا ه ذا‬
‫المعنى‪ ،‬ويقربوه خاصة ألولئك الذين يذكرون أنهم ي رون الم وتى بص ورة عادي ة‪،‬‬
‫وال يرون أي آثار للعذاب عليهم‪.‬‬
‫ومنهم الغزالي الذي عقب على تل ك النص وص المقدس ة ال تي ت ذكر الحي ات‬
‫والعقارب وأنواع العذاب‪ ،‬بذكر درجات اإليمان بهذا؛ فق ال‪( :‬فأمث ال ه ذه األخب ار‬
‫لها ظواهر صحيحة‪ ،‬وأسرار خفيّة‪ ،‬ولكنها عن د أرب اب البص ائر واض حة‪ ،‬فمن لم‬
‫تنكشف له حقائقها فال ينبغي أن ينكر ظواهرها‪ .‬بل أقل درج ات اإليم ان التص ديق‬
‫والتسليم‪ ،‬فإن قلت‪ :‬فنحن نشاهد الكافر في ق بره م دة ونراقب ه‪ ،‬وال نش اهد ش يئا من‬
‫ذلك‪ ،‬فما وجه التصديق على خالف المشاهدة؟)(‪)2‬‬
‫ثم راح يجيب على ه ذا الس ؤال‪ ،‬ب أن للم ؤمن ثالث مقام ات في التص ديق‬
‫بأمثال هذا‪ ،‬سنذكرها مع بعض التفاصيل المرتبطة بها من خالل العناوين التالية‪:‬‬
‫أ ـ الوجود الحسي للنعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫وهو أكملها وأظهره ا وأص حها وأس لمها وأكثره ا أدب ا م ع هللا‪ ،‬وه و يع ني‬
‫التص ديق بأنه ا ـ أي الحي ات والعق ارب ـ موج ودة فعال‪ ،‬كم ا ورد في النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬وهي تل دغ الميت‪ ،‬ولكن ا النش اهدها‪ ،‬ألن (ه ذه العين ال تص لح لمش اهدة‬
‫األمور الملكوتية‪ ،‬وكل ما يتعلق باآلخرة فهو من عالم الملكوت‪ .‬أما ترى الص حابة‬
‫رضي هللا عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل‪ ،‬وما كانوا يش اهدونه‪ ،‬ويؤمن ون‬
‫بأنه عليه السالم يشاهده؟)(‪)3‬‬
‫ثم خ اطب الغ زالي من يش كك في ه ذا‪ ،‬بقول ه‪( :‬ف إن كنت ال ت ؤمن به ذا‬
‫فتصحيح أصل اإليمان بالمالئكة والوحي أهم علي ك‪ .‬وإن كنت آمنت ب ه‪ ،‬وج وّزت‬
‫أن يشاهد النبي ما ال تشاهده األمة‪ ،‬فكيف ال تجوّز ه ذا في الميت؟ وكم ا أن المل ك‬
‫ال يشبه اآلدميين والحيوان ات‪ ،‬فالحي ات والعق ارب ال تي تل دغ في الق بر ليس ت من‬
‫جنس حيات عالمنا‪ ،‬بل هي جنس آخر‪ ،‬وتدرك بحاسة أخرى) (‪)4‬‬
‫ونحب أن نذكر هنا رأيا نراه‪ ،‬ونستغفر هللا من الخطأ فيه‪ ،‬وه و أن في جس د‬
‫اإلنسان قسمان‪ :‬قسم يبلى‪ ،‬ويتحول إلى تراب‪ ،‬وهو كل خالياه‪ ،‬وأجهزته‪ ،‬ال تي ق د‬

‫‪ )(1‬مسلم بشرح النووي جـ ‪ 9‬صـ ‪.224‬‬


‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)500 /4‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)500 /4( ،‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪)500 /4( ،‬‬

‫‪101‬‬
‫تتحول إلى أعضاء في كائنات أخرى‪ ،‬من بينها إخوانه في اإلنسانية نفسها‪.‬‬
‫وأما الثاني‪ ،‬فهو ذلك الجزء البسيط غير المرئي الذي يختصر في ه اإلنس ان؛‬
‫والذي يمكن من خالله التعرف على كل أجهزته وخصائصه‪ ،‬باعتبره الشيفرة ال تي‬
‫تمثل ه‪ ،‬فهن اك ش يفرة تمث ل الكب د‪ ،‬وأخ رى القلب‪ ،‬وأخ رى الرئ ة‪ ..‬وهك ذا ح تى‬
‫خصائص اإلنسان الجسمية نجدها في تلك الشيفرات الصغيرة جدا‪ ،‬والتي يقر العلم‬
‫بوجودها‪.‬‬
‫ولذلك نرى أن كل ما ورد من النصوص المقدسة فيما يتعل ق بعالق ة ال روح‬
‫بالجسد مرتبط بذلك الجزء البسيط‪ ،‬الذي قد ال يرى حتى بالمجاهر‪.‬‬
‫وقد دلن ا على ه ذا المع نى م ا ورد في الح ديث من قول ه ‪ ‬في وص ف م ا‬
‫يحصل عند البعث‪( :‬ثم يُنزل هللاُ من السماء ماء‪ ،‬فينبتون كم ا ينبت البق ل‪ ،‬ليس من‬
‫اإلنسان شيء إال يبلى‪ ،‬إال عظما ً واحداً‪ ،‬وهو عجْ ب الذنَب‪ ،‬ومنه يركب الخلق ي وم‬
‫القيامة)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال ‪( :‬كل ابن آدم يأكله ال ترابُ إال َعجْ ب ال َّذنَب‪ ،‬من ه‬
‫ُخلِق وفيه يُر َّكب)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬وليس من اإلنسان ش يء إال يَبلى إال عظمًا واح دًا‬
‫كب الخلق يوم القيامة)(‪)2‬‬ ‫الذنَب‪ ،‬ومنه يُر َّ‬ ‫وهو َعجْ ب َّ‬
‫وفي حديث آخ ر‪ ،‬ق ال ‪( :‬يأك ل ال ترابُ ك َّل ش يء من اإلنس ان إال َعجْ ب‬
‫دل منه يَنشأ)(‪)3‬‬ ‫َذنَبه)‪ ،‬قيل‪ :‬وما هو يا رسول هللا؟ قال‪( :‬مث ُل َحبة خَرْ ٍ‬
‫فهذا الحديث يشير إلى أن هذا المحل من اإلنسان هو ال ذي نش أ من ه‪ ،‬وانتق ل‬
‫إليه من آبائه وأجداده‪ ،‬كما يشير إلى ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَخَ َذ َربُّكَ ِم ْن بَنِي آ َد َم ِم ْن‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُوا بَلَى َش ِه ْدنَا أَ ْن تَقُولُ وا يَ وْ َم‬
‫ُور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم َوأَ ْشهَ َدهُ ْم َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم أَلَس ُ‬
‫ظُه ِ‬
‫ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا غَافِلِينَ ﴾ [األعراف‪ ،]172 :‬فاآلية الكريمة تش ير إلى أن ك ل‬
‫البشر كانوا في ذلك الجزء البسيط من جسد آدم عليه السالم‪ ،‬ثم انتقلوا بعد ذل ك إلى‬
‫ذريته‪..‬‬
‫وهكذا ورد في الرواية عن أئم ة أه ل ال بيت‪ ،‬فعن اإلم ام الص ادق أن ه ق ال‪:‬‬
‫(البدن يبلى إال طينته التي خلق منه ا فإنه ا ال تبلى‪ ،‬تبقي في الق بر مس تديرة‪ ،‬ح تى‬
‫يخلق منها كما خلق أول مرة)(‪)4‬‬
‫وال أحب أن أذك ر هن ا م ا ي ورده المهتم ون باإلعج از العلمي في الق رآن‬
‫الك ريم‪ ،‬من الرب ط بين ه ذه النص وص‪ ،‬وم ا ي ذكره العلم الح ديث‪ ،‬ألني أرى أن‬
‫اكتشاف ه ذا األم ر بدق ة‪ ،‬لم يحن بع د‪ ،‬والبح وث العلمي ة ال تي ي ذكرونها ال يمكن‬
‫االستشهاد بها في هذا المحل‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ )4651‬ومسلم (‪)2955‬‬


‫‪ )(2‬سنن أبي داود ج‪ 4‬الحديث رقم ‪.4743‬‬
‫‪ )(3‬صحيح ابن حبان ج‪.5/55‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪.3/251:‬‬

‫‪102‬‬
‫ولو أني أقر بأن العلم الحديث قرب الكث ير من األش ياء ال تي ك انت مس تبعدة‬
‫في هذا الج انب‪ ،‬ومن بينه ا ذل ك االس تغراب ال ذي يحص ل في فهم اآلي ة الس ابقة‪،‬‬
‫والتي تذكر أن البشر جميعا خاطبهم هللا تعالى من خالل خطابه لبذورهم التي كانت‬
‫موجودة في جسد آدم عليه السالم‪.‬‬
‫ب ـ الوجود المتخيل للنعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫وقد ذكره الغزالي لتقريب المسألة‪ ،‬والرد على المس تبعدين المنك رين‪ ،‬وليس‬
‫للحقيقة المطلقة‪ ،‬وقد عبر عنه بقوله‪( :‬أن تتذكر أمر النائم‪ ،‬وأنه ق د ي رى في نوم ه‬
‫حية تلدغه‪ ،‬وهو يتألم بذلك‪ ،‬حتى تراه يصبح في نومه‪ ،‬ويعرق جبينه‪ ،‬وقد ي نزعج‬
‫من مكانه‪ .‬كل ذلك يدركه من نفسه‪ ،‬ويتأذى به كما يت أذى اليقظ ان‪ ،‬وه و يش اهده‪،‬‬
‫وأنت ترى ظاهره ساكنا‪ ،‬وال ترى حواليه حية‪ ،‬والحية موجودة في حقه‪ ،‬والع ذاب‬
‫حاصل‪ ،‬ولكنه في حقك غير مشاهد‪ .‬وإذا ك ان الع ذاب في ألم الل دغ‪ ،‬فال ف رق بين‬
‫حية تتخيل أو تشاهد) (‪)1‬‬
‫وطبعا؛ فإن مراد الغ زالي من ه ذا ه و التق ريب‪ ،‬ال الحقيق ة المطلق ة‪ ،‬ألنه ا‬
‫غيب‪ ،‬والذي خلق النوم‪ ،‬وأودع فيه تلك القدرات‪ ،‬يمكن أن يخلق غ يره‪ ،‬وال عجب‬
‫في ذلك عند صاحب القدرة المطلقة‪.‬‬
‫ولهذا عرف اإلمام الباقر الم وت عن دما س ئل عن حقيقت ه بقول ه‪( :‬ه و الن وم‬
‫الذي يأتيكم في كل ليلة إال أنه طويل مدته‪ ،‬ال يُ ْنتَبَ هُ من ه إال ي وم القيام ة‪ ،‬فمنهم من‬
‫رأى في منامه من أصناف الف رح م ا ال يُقَ ا َد ُر قَ ْدرُه‪ ،‬ومنهم من رأى في نوم ه من‬
‫أصناف األهوال ما اليقادر قدره‪ ،‬فكيف حال من فرح في الم وت ووج ل في ه! ه ذا‬
‫هو الموت فاستعدوا له)(‪)2‬‬
‫وسئل اإلمام الصادق عن ص فة الم وت‪ ،‬فق ال‪( :‬ه و للمؤم نين ك أطيب ريح‬
‫يشمه فينعس لطيبه‪ ،‬فينقطع التعب واأللم كله عنه‪ .‬وللكافر كلس ع األف اعي‪ ،‬وكل دغ‬
‫العقارب وأشد)‬
‫وربما يشير إلى هذا من القرآن الكريم قوله تعالى‪﴿ :‬قَالُوا يَا َو ْيلَنَا َم ْن بَ َعثَنَا ِمنْ‬
‫ق ْال ُمرْ َسلُونَ ﴾ [يس‪]52 :‬‬ ‫َمرْ قَ ِدنَا هَ َذا َما َو َع َد الرَّحْ َمنُ َو َ‬
‫ص َد َ‬
‫وهذا ال يعني عدم التنعم والعذاب‪ ،‬ذلك أنن ا عن د الن وم نش عر بك ل المش اعر‬
‫التي يشعر بها المس تيقظون‪ ،‬حيث نمتلئ س عادة‪ ،‬أو حزن ا‪ ،‬من دون أن يقل ل الن وم‬
‫من ذلك شيئا‪.‬‬
‫وإن شئنا الحقيقة‪ ،‬فإن النصوص المقدسة تدل على أن كل حياة متدنية تعت بر‬
‫موتا ونوما بالنسبة لما قبلها‪ ،‬كما وردت اإلشارة إلى ذلك في األثر‪( :‬الناس نيام فإذا‬
‫ماتوا انتبهوا)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)501 /4‬‬


‫‪ )(2‬اإلعتقادات للصدوق‪.53/‬‬
‫‪ )(3‬رواه البيهقي في الزهد الكب ير (‪ )515‬من ق ول س هل التس تري‪ ،‬ورواه أب و الفض ل الزه ري في حديث ه (‬
‫‪ )710‬من قول بشر بن الحارث‪..‬‬

‫‪103‬‬
‫ج ـ الوجود التشبيهي للنعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫وه و أدنى الم راتب‪ ،‬وق د ع بر عن ه الغ زالي بقول ه‪ ..( :‬أن ك تعلم أن الحي ة‬
‫بنفسها ال تؤلم‪ ،‬بل الذي يلقاك منها وهو السم‪ ،‬ثم السم ليس هو األلم‪ ،‬بل ع ذابك في‬
‫األثر الذي يحص ل في ك من الس م؛ فل و حص ل مث ل ذل ك األث ر من غ ير س م لك ان‬
‫العذاب قد توفر‪ ،‬وكان ال يمكن تعريف ذلك الن وع من الع ذاب إال ب أن يض اف إلى‬
‫السبب الذي يفض ي إلي ه في الع ادة‪ ..‬وتك ون ثم رة الس بب حاص لة وإن لم تحص ل‬
‫صورة السبب‪ :‬والسبب يراد لثمرته ال لذاته)(‪)1‬‬
‫ثم ختم هذه المراتب ـ كعادته ـ بنصيحة غالية قال فيه ا‪( :‬وال ذي أوص يك ب ه‬
‫أن ال تكثر نظرك في تفصيل ذلك‪ ،‬وال تشتغل بمعرفته‪ ،‬بل اشتغل بالت دبير في دف ع‬
‫العذاب كيفما كان‪ ،‬فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك‪ ،‬كنت كمن‬
‫أخذه سلطان وحبسه ليقطع ي ده ويج دع أنف ه‪ ،‬فأخ ذ ط ول اللي ل يتفك ر في أن ه ه ل‬
‫يقطعه بسكين‪ ،‬أو بسيف‪ ،‬أو بموسى‪ ،‬وأهمل طري ق الحيل ة في دف ع أص ل الع ذاب‬
‫عن نفسه‪ ،‬وهذا غاية الجهل‪ ،‬فقد علم على القطع أن العب د ال يخل و بع د الم وت من‬
‫عذاب عظيم‪ ،‬أو نعيم مقيم‪ ،‬فينبغي أن يكون االستعداد ل ه‪ .‬فأم ا البحث عن تفص يل‬
‫العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان)(‪)2‬‬
‫وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي ما أشار إليه الغزالي من التس ليم ألم ور الغيب‬
‫من دون بحث فيها‪ ،‬وال في كيفيته ا‪ ،‬لتجاوزه ا ح دود العق ول؛ فق ال‪( :‬ق د ت واترت‬
‫األخب ار عن رس ول هللا ‪ ‬في ثب وت ع ذاب الق بر ونعيم ه لمن ك ان ل ذلك أهاًل ‪،‬‬
‫وسؤال الملكين‪ ،‬فيجب اعتقاد ثبوت ذلك واإليمان ب ه‪ ،‬وال يتكلم في كيفيت ه؛ إذ ليس‬
‫للعقل وقوف على كيفيته‪ ،‬لكونه ال عهد له به في ه ذه ال دار‪ ،‬والش رع ال ي أتي بم ا‬
‫تحيله العقول‪ ،‬ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول‪ ،‬فإن عَوْ َد ال روح إلى الجس د ليس‬
‫على الوجه المعهود في الدنيا‪ ،‬بل تعاد الروح إليه إع ادة غ ير اإلع ادة المألوف ة في‬
‫الدنيا‪ ،‬وسؤال الملكين في القبر يك ون لل روح والب دن جميعًا‪ ،‬وك ذلك ع ذاب الق بر‬
‫يكون للروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة‪ ،‬تنعم الروح وتع ذب مف ردة‬
‫عن البدن ومتصلة به)(‪)3‬‬
‫‪ 3‬ـ صور النعيم والعذاب في البرزخ‪:‬‬
‫من أهم المسائل المرتبطة بقوانين النشأة األخرى‪ ،‬ما عبر عن ه قول ه تع الى‪:‬‬
‫ت ِم ْن سُو ٍء ت ََو ُّد لَ وْ أَ َّن بَ ْينَهَ ا‬ ‫ضرًا َو َما َع ِملَ ْ‬‫ت ِم ْن خَ ي ٍْر ُمحْ َ‬ ‫س َما َع ِملَ ْ‬ ‫﴿يَوْ َم تَ ِج ُد ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫وف بِ ْال ِعبَا ِد﴾ [آل عم ران‪ ،]30 :‬وقول ه‪:‬‬ ‫َوبَ ْينَهُ أَ َمدًا بَ ِعيدًا َوي َُح ِّذ ُر ُك ُم هللا نَ ْف َسهُ َوهللا َر ُء ٌ‬
‫او ْيلَتَنَا َم ا ِل هَ َذا ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب‬ ‫ض َع ْال ِكتَابُ فَتَ َرى ْال ُمجْ ِر ِمينَ ُم ْشفِقِينَ ِم َّما فِي ِه َويَقُولُونَ يَ َ‬ ‫﴿ َو ُو ِ‬
‫ك‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬
‫اض رًا َو يَظلِ ُم َربُّ َ‬ ‫ُ‬
‫صاهَا َو َو َج دُوا َم ا َع ِمل وا َح ِ‬ ‫َ‬ ‫اَّل‬
‫يرة إِ أحْ َ‬ ‫ً‬ ‫اَل‬
‫يرة َو َكبِ َ‬ ‫ً‬ ‫ص ِغ َ‬ ‫اَل يُغَا ِد ُر َ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)501 /4‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)501 /4( ،‬‬
‫‪ )(3‬شرح العقيدة الطحاوية البن أبي العز الحنفي جـ ‪ 2‬صـ ‪.163‬‬

‫‪104‬‬
‫ت﴾ [التكوير‪]14 :‬‬ ‫ت نَ ْفسٌ َما أَحْ َ‬
‫ض َر ْ‬ ‫أَ َحدًا﴾ [الكهف‪ ،]49 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬علِ َم ْ‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تبين أن األعمال التي يقوم به ا اإلنس ان في‬
‫حياته الدنيا هي نفسها التي تتجسم له بعد ذلك في صور من النعيم والعذاب‪.‬‬
‫وهو م ا أش ار إلي ه قول ه ‪( :‬ي ا عب ادي إنم ا هي أعم الكم أحص يها لكم ثم‬
‫أوفيكم إياها‪ ،‬فمن وجد خيرا فليحمد هللا‪ ،‬ومن وجد غ ير ذل ك فال يل ومن إال نفس ه)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومثله ما ورد من أحاديث تتعلق بعالم البرزخ وتجلي العم ل في ه في ص ورة‬
‫حس نة للم ؤمن‪ ،‬وقبيح ة لغ ير الم ؤمن‪ ،‬ففي الح ديث ال ذي يص ف في ه ‪ ‬مص ير‬
‫المؤمن‪ ،‬وبعد أن ينجح في اإلجابة على األسئلة التي تطرح عليه‪ ،‬ق ال ‪( :‬ين ادي‬
‫مناد من السماء‪ :‬أن صدق عبدي‪ ،‬فأفرشوه من الجنة‪ ،‬وألبس وه من الجن ة‪ ،‬وافتح وا‬
‫له بابا ً إلى الجنة‪ ،‬قال‪ :‬فيأتيه من روحه ا وطيبه ا‪ ،‬ويفس ح ل ه في ق بره م ّد بص ره‪،‬‬
‫ق ال‪ :‬ويأتي ه رج ل حس ن الوج ه حس ن الثي اب‪ ،‬طيب ال ريح‪ ،‬فيق ول‪ :‬أبش ر بال ذي‬
‫يسرك‪ ،‬أبشر برضوان من هللا‪ ،‬وجنات فيها نعيم مقيم‪ ،‬هذا يومك الذي كنت توع د‪،‬‬
‫فيقول ل ه‪ :‬وأنت فبش رك هللا بخ ير‪ ،‬من أنت؟ فوجه ك الوج ه ال ذي يجيء ب الخير‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬أنا عملك الصالح‪ ،‬فوهللا ما علمتك إال كنت س ريعا ً في طاع ة هللا‪ ،‬بطيئ ا ً في‬
‫معصية هللا‪ ،‬فجزاك هللا خيراً‪ ،‬ثم يفتح له باب من الجنة‪ ،‬وباب من النار‪ ،‬فيقال‪ :‬هذا‬
‫منزلك لو عصيت هللا‪ ،‬أبدلك هللا به هذا‪ ،‬فإذا رأى ما في الجنة‪ ،‬قال‪ :‬ربِّ عجل قيام‬
‫الساعة‪ ،‬كيما أرجع إلى أهلي ومالي‪ ،‬فيقال له‪ :‬اسكن) (‪)2‬‬
‫وفي المقابل ذكر ‪ ‬أن العبد الكافر أو الفاجر بعد أن يسيء اإلجاب ة (ين ادي‬
‫منا ٍد في السماء أن كذب‪ ،‬فافرشوا له من النار‪ ،‬وافتحوا له بابا ً إلى النار‪ ،‬فيأتي ه من‬
‫حرها وسمومها‪ ،‬ويضيق عليه في قبره‪ ،‬حتى تختل ف في ه أض العه‪ ،‬ويأتي ه رج ل‬
‫قبيح الوجه‪ ،‬قبيح الثياب‪ ،‬منتن الريح‪ ،‬فيقول‪ :‬أبشر بالذي يسوؤك‪ ،‬هذا يومك ال ذي‬
‫كنت توعد‪ ،‬فيقول‪ :‬وأنت فبشرك هللا بالش ر‪ ،‬من أنت؟ فوجه ك الوج ه ال ذي يجيء‬
‫بالشر‪ ،‬فيقول‪ :‬أن ا عمل ك الخ بيث‪ ،‬فوهللا م ا علمت ك إال كنت بطيئ ا ً عن طاع ة هللا‪،‬‬
‫سريعا ً إلى معصية هللا‪ ،‬فجزاك هللا شرا)(‪)3‬‬
‫وورد في ح ديث آخ ر قول ه ‪( :‬ف إذا أُخرج وا من قب ورهم خ رج م ع ك ّل‬
‫ل إنسان يصحبه في قبره)(‪)4‬‬ ‫ألن عمل ك ّ‬ ‫إنسان عمله الذي كان عمله في دار الدنيا‪ّ ،‬‬
‫وقال ‪ ‬في وص يته لقيس بن عاص م‪( :‬ي ا قيس‪ ،‬إن م ع الع ز ذالً‪ ،‬وإن م ع‬
‫الحياة موتاً‪ ،‬وإن مع الدنيا آخرة‪ ،‬وان لك ّل شيء حسيباً‪ ،‬وعلى كل شيء رقيباً‪ ،‬وإن‬
‫لكل حسنة ثواباً‪ ،‬ولك ّل سيئة عقابا‪ ،‬وإن لكل أجل كتاباً‪ ،‬وإنه ‪ -‬يا قيس ‪ -‬البد لك من‬

‫‪ )(1‬صحيح مسلم ‪ 4/1994‬ح(‪)2577‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود (‪ ،)4753‬وأحمد (‪ ،)18557( )287 /4‬والبيهقي في (شعب اإليمان) (‪)300 /1‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود (‪ ،)4753‬وأحمد (‪)18637( )295 /4‬‬
‫‪ )(4‬البرهان‪.87 / 4 :‬‬

‫‪105‬‬
‫حي وت دفن مع ه وأنت ميت‪ ،‬ف إن ك ان كريم ا ً أكرم ك‪ ،‬وإن‬ ‫قرين‪ ،‬يدفن معك وهو ُّ‬
‫كان لئيما ً أسلمك‪ ،‬ثم ال يحشر إال معك‪ ،‬وال تحشر إال معه‪ ،‬وال تس أل إال عن ه‪ ،‬وال‬
‫تبعث إال معه‪ ،‬فال تجعله إال صالحاً‪ ،‬فإنه إن كان صالحا ً لم ت أنس إال ب ه‪ ،‬وإن ك ان‬
‫فاحشا ً لم تستوحش إال منه وهو عملك)(‪)1‬‬
‫وهكذا ورد في الرواية ما يدل على الصحبة الدائمة للعمل الص الح لإلنس ان‪،‬‬
‫وفي مراحله المختلفة‪ ،‬فعن اإلمام الصادق أن ه ق ال‪( :‬إذا بعث هللا الم ؤمن من ق بره‬
‫خرج معه مثال يقدمه أمامه‪ ،‬كلّما رأى المؤمن هوالً من أهوال يوم القيامة‪ ،‬ق ال ل ه‬
‫المثال‪ :‬ال تفزع وال تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من هللا ع ّزوج ّل حتى يقف بين‬
‫يدي هللا ع ّزوج ّل فيحاسبه حسابا ً يسيراً‪ ،‬ويأمر به إلى الجنة والمث ال أمام ه‪ ،‬فيق ول‬
‫له الم ؤمن‪ :‬يرحم ك هللا نعم الخ ارج‪ ،‬خ رجت معي من ق بري‪ ،‬وم ا زلت تبش رني‬
‫بالسرور والكرامة من هللا ح تى رأيت ذل ك‪ ،‬فيق ول‪ :‬من أنت؟ فيق ول‪ :‬أن ا الس رور‬
‫شرك)(‪)2‬‬ ‫الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا‪ ،‬خلقني هللا ع ّزوج ّل منه ألُب ّ‬
‫وقال مبينا تجسم األعمال المختلفة في الصور المناس بة له ا‪( :‬إذا م ات العب د‬
‫نهن وجه اً‪ ،‬وأبه ّ‬
‫اهن‬ ‫ست صور‪ ،‬فيهن ص ورة هي أحس ّ‬ ‫المؤمن دخل معه في قبره ُ‬
‫ُ‬
‫وأنطقهن صورة‪ ،‬قال‪ :‬فيقف صورة عن يمينه‪ ،‬وأخ رى عن‬ ‫ّ‬ ‫وأطيبهن ريحاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هيئة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يس اره‪ ،‬وأخ رى بين يدي ه‪ ،‬وأخ رى خلف ه‪ ،‬وأخ رى عن د رجلي ه‪ ،‬ويق ف ال تي هي‬ ‫ُ‬
‫أحسنهن ف وق رأس ه‪ ،‬ف إن أتى عن يمين ه‪ ،‬منعت ه ال تي عن يمين ه‪ ،‬ث ّم ك ذلك إلى أن‬ ‫ّ‬
‫أحسنهن صورة من أنتم جزاكم هللا عني خيراً؟‬ ‫ّ‬ ‫يؤتى من الجهات الست‪ ،‬قال‪ :‬فتقول‬
‫فتقول التي عن يمين العبد‪ :‬أنا الصالة‪ ،‬وتقول التي عن يس اره‪ :‬أن ا الزك اة‪ ،‬وتق ول‬
‫التي بين يديه‪ ،‬أنا الصيام‪ ،‬وتقول التي خلف ه‪ ،‬أن ا الحج والعم رة‪ ،‬وتق ول ال تي عن د‬
‫رجلي ه‪ :‬أن ا ب ر من وص لت من إخوان ك‪ ،‬ث ّم يقلن‪ :‬من أنت؟ ف أنت أحس ننا وجه اً‪،‬‬
‫وأطيبنا ريحاً‪ ،‬وأبهانا هيئة‪ ،‬فتقول‪ :‬أنا الوالية آلل مح ّمد)(‪)3‬‬
‫وبما أن هذه المسألة من المسائل المشكلة التي وقع االعتراض عليها‪ ،‬خاصة‬
‫من طرف أولئك الذين ينكرون أو يؤولون ما ورد من النصوص ح ول ه ذا الع الم‪،‬‬
‫لذلك سنذكر هنا ما أورده المتكلمون من أدلة على ذلك‪ ،‬مصنفين لها‪ ،‬بحسب نوعها‬
‫إلى نقلية وعقلية‪.‬‬
‫أ ـ األدلة النقلية على تجسم األعمال‪:‬‬
‫أورد المتكلم ون المؤي دون لتجس م األعم ال الكث ير من اآلي ات القرآني ة‬
‫واألحاديث النبوية الدال ة على ذل ك‪ ،‬وسنقتص ر هن ا على م ا ذك ره العالم ة جعف ر‬
‫السبحاني في تفسيره الموضوعي [مفاهيم القرآن]‪ ،‬مع بيان وج وه االس تدالل ال تي‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.175:77 :‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار‪.197 / 7 :‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار (‪)235 /6‬‬

‫‪106‬‬
‫ذكرها‪ ،‬والتي قد نضيف إليها ما نراه مناسبا(‪:)4‬‬
‫َ‬
‫ت يَ ْس َعى نُ و ُرهُ ْم بَ ْينَ أيْ ِدي ِه ْم‬ ‫‪ 1‬ـ قوله تعالى‪﴿ :‬يَ وْ َم تَ َرى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ك هُ َو ْالفَ وْ ُز‬ ‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َذلِ َ‬ ‫َوبِأ َ ْي َمانِ ِه ْم بُ ْش َرا ُك ُم ْاليَوْ َم َجنَّ ٌ‬
‫ات لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا ا ْنظُرُونَ ا نَ ْقتَبِسْ ِم ْن نُ ِ‬
‫ور ُك ْم‬ ‫ْال َع ِظي ُم (‪ )12‬يَوْ َم يَقُو ُل ْال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ‬
‫ُور لَهُ بَ ابٌ بَا ِطنُ هُ فِي ِه الرَّحْ َم ةُ‬ ‫ب بَ ْينَهُ ْم بِس ٍ‬ ‫ُر َ‬ ‫يل ارْ ِجعُوا َو َرا َء ُك ْم فَ ْالتَ ِمسُوا نُورًا فَض ِ‬ ‫قِ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َوظَا ِه ُرهُ ِم ْن قِبَلِ ِه ال َع َذابُ (‪ )13‬يُنَادُونَهُ ْم ألَ ْم نَ ُك ْن َم َع ُك ْم قَالوا بَلَى َولَ ِكنَّ ُك ْم فَتَ ْنتُ ْم أ ْنفُ َس ُك ْم‬
‫َّص تُ ْم َوارْ تَ ْبتُ ْم َو َغ َّر ْت ُك ُم اأْل َ َم انِ ُّي َحتَّى َج ا َء أَمْ ُر هللا َو َغ َّر ُك ْم بِاهلل ْال َغ رُو ُر ﴾‬ ‫َوتَ َرب ْ‬
‫[الحديد‪]14 - 12 :‬‬
‫فه ذه اآلي ات الكريم ة ت بين أن ن ور المؤم نين يس عى أم امهم وبين أي ديهم‪،‬‬
‫ليضيء لهم الظلمات التي تمأل ذلك الموقف‪ ،‬كما تبين أن مب دأ اكتس اب ذل ك الن ور‬
‫كان في الدنيا‪ ،‬وبالعمل الصالح‪.‬ولهذا يطلبون من المن افقين الع ودة لل دنيا الكتس اب‬
‫ذلك النور‪ ..‬وهو يدل على أن نفس ذلك العمل تحول إلى ذلك النور‪.‬‬
‫يل هللا‬ ‫ض ةَ َواَل يُ ْنفِقُونَهَ ا فِي َس بِ ِ‬ ‫َب َو ْالفِ َّ‬‫‪ .2‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يَ ْكنِ ُزونَ ال َّذه َ‬
‫كْوى بِهَ ا ِجبَ اهُهُ ْم‬ ‫ار َجهَنَّ َم فَتُ َ‬‫ب أَلِ ٍيم (‪ )34‬يَ وْ َم يُحْ َمى َعلَ ْيهَ ا فِي نَ ِ‬ ‫فَبَ ِّش رْ هُ ْم بِ َع َذا ٍ‬
‫َو ُجنُوبُهُ ْم َوظُهُو ُرهُ ْم هَ َذا َما َكن َْزتُ ْم أِل َ ْنفُ ِس ُك ْم فَ ُذوقُوا َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْكنِ ُزونَ ﴾ [التوب ة‪،34 :‬‬
‫‪ ،]35‬واآلية صريحة في أن الذهب والفضة يحمى عليها في ن ار جهنم فتك وى به ا‬
‫جباه المكنزين وجلودهم وظهورهم‪ ،‬كما أنها صريحة في أن النار نفس ما اكت نزوه‬
‫في النشأة األولى‪ ،‬فكأن للكنز ظهورين‪ :‬ظهورا بصورة الفلز وآخ ر بص ورة الن ار‬
‫المكوية‪ ،‬وهذا ي دل على أن لك ل عم ل من خ ير وش ر ظه ورين ووج ودين حس ب‬
‫اختالف النشآت‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬واَل يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ يَبْخَ لُونَ بِ َما آتَاهُ ُم هللا ِم ْن فَضْ لِ ِه هُ َو خَيْرًا‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬ ‫اث َّ‬ ‫لَهُ ْم بَ لْ هُ َو َش ٌّر لَهُ ْم َس يُطَ َّوقُونَ َم ا بَ ِخلُ وا بِ ِه يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة َوهَّلِل ِ ِم ي َر ُ‬
‫ض َوهللا بِ َما تَ ْع َملُونَ َخبِيرٌ﴾ [آل عمران‪ ،]180 :‬فه ذه اآلي ة الكريم ة ت بين أن‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ما كان يبخل به اإلنس ان من ال ذهب والفض ة وغيرهم ا يظه ر في النش أة األُخ رى‬
‫طوق العنق وتلتف حوله‪ ،‬وتقحمه النار‪.‬‬ ‫بهيئة سلسلة من نار تُ ِّ‬
‫ص ْخ َر ٍة أَوْ‬ ‫ال َحبَّ ٍة ِم ْن خَرْ َد ٍل فَتَ ُك ْن فِي َ‬ ‫ك ِم ْثقَ َ‬ ‫ي إِنَّهَا إِ ْن تَ ُ‬
‫‪ 4‬ـ قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَابُنَ َّ‬
‫يف خَ بِي ٌر ﴾ [لقمان‪ ،]16 :‬فاآلي ة‬ ‫ت بِهَا هللا إِ َّن هللا لَ ِط ٌ‬ ‫ض يَأْ ِ‬ ‫ت أَوْ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫فِي ال َّس َما َوا ِ‬
‫الكريم ة ت دل على أن نفس العم ل ي ؤتى ب ه ي وم القيام ة‪ ،‬في ؤتى بالص الة والزك اة‬
‫بثوبهما المناسب للنشأة األُخروية‪ ،‬وهكذا الحال في األعمال غير الصالحة‪.‬‬
‫ال َذ َّر ٍة‬ ‫‪ 5‬ـ قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َم ْن يَ ْع َملْ ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َخ ْيرًا يَ َرهُ (‪َ )7‬و َم ْن يَ ْع َم لْ ِم ْثقَ َ‬
‫َش ًّرا يَ َرهُ (‪[ ﴾)8‬الزلزل ة‪ ،]8 ،7 :‬فالض مير في قول ه‪( :‬يَ َرهُ) يرج ع إلى العم ل‬
‫المستفاد من قوله‪( :‬يَ ْع َملْ ) أو إلى الخير والشر‪ ،‬وعلى كال التقديرين فاإلنسان ي رى‬
‫عمله من صالح وطالح‪ ،‬فيرى السرقة والنميمة بوجودهما المناسب لتلك النشأة كم ا‬

‫‪ )(4‬انظر‪ :‬مفاهيم القرآن‪ ،8/332.،‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫يرى اإلحسان والعمل والخير بظهورها المناسب لتلك النشأة‪.‬‬
‫ويؤيد هذا ما روي عن اإلمام السجاد‪ ،‬أنه قال في بعض مواعظه‪( :‬واعلم ي ا‬
‫أن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة‪ ..‬يوم ال تقال في ه‬ ‫ابن آدم! ّ‬
‫عثرة‪ ،‬وال يؤخذ من أحد فدية‪ ،‬وال تقبل من أحد معذرة‪ ،‬وال ألحد فيه مس تقبل توب ة‬
‫ليس إاّل الجزاء باإلحسان والجزاء بالسيّئات‪ ،‬فمن كان من المؤم نين عم ل في ه ذه‬
‫الدنيا مثقال ذ ّرة من خير وجده‪ ،‬ومن كان من المؤمنين عم ل في ه ذه ال دنيا مثق ال‬
‫ر وجده)(‪)1‬‬ ‫ذرّة من ش ّ‬
‫وقال اإلمام الباقر في تفسير تلك اآليات الكريمة‪( :‬إن كان من أهل النار وق د‬
‫كان عمل في الدنيا مثقال ذرّة خيرا يره يوم القيامة حس رة إن ك ان عمل ه لغ ير هللا‪،‬‬
‫ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره‪ .‬يقول‪ :‬إن ك ان من أه ل الجنّ ة رأى ذل ك الش ّر ي وم‬
‫القيامة ث ّم غفر له)(‪)2‬‬
‫وهذه الرواية تدل على الغرض ال تربوي من ذل ك الش ر ال ذي ي راه الم ؤمن‬
‫مجسما بعينيه‪ ،‬وهو ما يجعل ه ين دم على فعل ه‪ ،‬ويس تغفر‪ ،‬وب ذلك يس تحق المغف رة‬
‫بفضل هللا‪ ،‬لكفاية ذلك في إصالحه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ قول ه تع الى‪﴿ :‬فَ إِ ْن لَ ْم تَ ْف َعلُ وا َولَ ْن تَ ْف َعلُ وا فَ اتَّقُوا النَّا َر الَّتِي َوقُو ُدهَ ا النَّاسُ‬
‫ت لِ ْل َكافِ ِرينَ ﴾ [البق رة‪ ،]24 :‬وقول ه‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا قُ وا أَ ْنفُ َس ُك ْم‬ ‫ارةُ أُ ِع َّد ْ‬
‫َو ْال ِح َج َ‬
‫ْص ونَ هللا َم ا‬ ‫ارةُ َعلَ ْيهَا َماَل ئِ َك ةٌ ِغاَل ظٌ ِش دَا ٌد اَل يَع ُ‬ ‫َوأَ ْهلِي ُك ْم نَارًا َوقُو ُدهَا النَّاسُ َو ْال ِح َج َ‬
‫أَ َم َرهُ ْم َويَ ْف َعلُونَ َما ي ُْؤ َمرُونَ ﴾ [التحريم‪ ،]6 :‬وقوله‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا لَ ْن تُ ْغنِ َي َع ْنهُ ْم‬
‫ُ‬
‫ار﴾ [آل عم ران‪ ،]10 :‬وقول ه‪:‬‬ ‫أَ ْم َوالُهُ ْم َواَل أَوْ اَل ُدهُ ْم ِمنَ هللا َش ْيئًا َوأولَئِكَ هُ ْم َوقُو ُد النَّ ِ‬
‫ار ُدونَ ﴾ [األنبياء‪]98 :‬‬ ‫صبُ َجهَنَّ َم أَ ْنتُ ْم لَهَا َو ِ‬ ‫﴿إِنَّ ُك ْم َو َما تَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن دُو ِن هللا َح َ‬
‫فهذه اآليات الكريمة تعتبر العصاة واألصنام واألوثان (الحجارة) وقوداً لن ار‬
‫جهنم‪ ،‬والوقود ما تشعل به النار‪ ،‬فيصير وجود اإلنس ان واألص نام المعب ودة ب ؤرة‬
‫نار تؤجج به نار الجحيم‪.‬‬
‫ار هَ لْ تُجْ زَ وْ نَ إِاَّل‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫الس يِّئ ِة فكبَّت ُو ُج وههُ ْم فِي الن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫‪ 7‬ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َمن َجا َء بِ َّ‬
‫اَّل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اَل‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫اَل‬ ‫ْ‬
‫َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [النمل‪ ،]90 :‬وقوله‪ ﴿ :‬فاليَوْ َم تظل ُم نفسٌ ش ْيئا َو تجْ زوْ نَ إِ َما‬
‫َ‬
‫ب اأْل َلِ ِيم (‪َ )38‬و َم ا تُجْ زَ وْ نَ إِاَّل‬ ‫ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [يس‪ ،]54 :‬وقوله‪ ﴿ :‬إِنَّ ُك ْم لَ َذائِقُو ْال َع َذا ِ‬
‫َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [الصافات‪ ،]39 ،38 :‬فاآليات الكريمة واضحة في أن الجزاء هو‬
‫نفس العم ل وليس ش يئا ً وراء العم ل؛ فبظه وره حس ب النش أة األُخ رى يج زى ب ه‬
‫اإلنسان من صالح وطالح‪.‬‬
‫ص رُكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫‪ 8‬ـ قوله تعالى‪﴿ :‬لَقَد كنتَ فِي َغفل ٍة ِمن هَ ذا ف َك َش فنَا عَنْكَ ِغط ا َءكَ فبَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫أن اإلنس ان ك ان في غفل ة من ي وم‬ ‫ْاليَوْ َم َح ِدي ٌد ﴾ [ق‪ ،]22 :‬فاآلية الكريمة تدل على ّ‬
‫وان لك ّل نفس سائقا ً وشهيداً‪ ،‬وأن هذه الحقيق ة ك انت مس تورة عن اإلنس ان‬ ‫الوعيد‪ّ ،‬‬

‫‪ )(1‬الكافي ‪..61 :8‬‬


‫‪ )(2‬تفسير القمى ‪..434 :2‬‬

‫‪108‬‬
‫في هذه النشأة ويرتفع الغطاء عن بصره وبصيرته فيرى ما خفي عليه ويتذكره‪.‬‬
‫ب ـ األدلة العقلية على تجسم األعمال‪:‬‬
‫وقف المتكلمون من األدل ة النص ية الس ابقة م وقفين‪ :‬موق ف ي رى أنه ا على‬
‫ظاهرها‪ ،‬احتراما لظاهرها‪ ،‬ولعدم امتن اع ذل ك عقال‪ ،‬وموق ف ي رى تأويله ا‪ ،‬بن اء‬
‫على تصوره الستحالة ذلك عقال‪.‬‬
‫ولذلك فإن مناقشة هذه المسألة من الناحي ة العقلي ة‪ ،‬يحت اج أوال إلى التع رف‬
‫على أدلة المنكرين لها‪ ،‬لنرى مدى وجاهتها‪.‬‬
‫وقد لخص هذه األدل ة المجلس ي في قول ه‪( :‬الق ول باس تحالة انقالب الج وهر‬
‫عرضاً‪ ،‬والعرض جوهراً في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة اآلخرة ق ريب‬
‫من السفسطة‪ ،‬إذ النشأة اآلخرة ليست إالّ مثل تلك النش أة‪ ،‬وتخلّ ل الم وت واإلحي اء‬
‫بينهما ال يصلح أن يصير منشأ ألمثال ذلك‪ ،‬والقياس على ح ال الن وم واليقظ ة أش د‬
‫سفسطة إذ ما يظهر في النوم إنّما يظهر في الوجود العلمي‪ ،‬وما يظه ر في الخ ارج‬
‫فإنّم ا يظه ر ب الوجود العي ني‪ ،‬وال اس تبعاد كث يراً في اختالف الحق ائق بحس ب‬
‫الوجودين‪ ،‬وأ ّما النشأتان فهما من الوجود العيني وال اختالف بينهما إالّ بم ا ذكرن ا‪،‬‬
‫وقد عرفت أنّه ال يصلح الختالف الحكم العقلي في ذلك)‬
‫ثم ذكر كيفية التعامل مع النصوص التي تشير إلى ذلك‪ ،‬بقوله‪( :‬وأ ّما اآلي ات‬
‫أن هللا تع الى يخل ق ه ذه‬‫واألخبار فهي غير صريحة في ذلك‪ ،‬إذ يمكن حمله ا على ّ‬
‫بازاء تلك أو هي جزاؤها‪ ،‬ومثل هذا المجاز شائع‪ ،‬وبهذا الوجه وق ع التص ريح في‬
‫كثير من األخبار واآليات)(‪)1‬‬
‫وقد رد على هذا القائلون بتجسم األعمال بأدلة كث يرة خص ت بالت أليف منه ا‬
‫رسالة كتبها محمد إسماعيل الخواجوئي بعن وان [رس الة تجس م األعم ال]‪ ،‬ق ال في‬
‫ّ‬
‫وتجس د‬ ‫مق دمتها‪( :‬ه ذه رس الة وج يزة في ت رجيح الق ول بتج وهر األع راض‪،‬‬
‫األعمال‪ ،‬مبنيّة على مق ّدمة وفصول أربعة‪ ،‬نذكر فيها م ا ك ان حاض را للب ال‪ ،‬وم ا‬
‫سيحضره في تضاعيف البحث‪ ،‬بفيض من يفيض العلوم واإلفضال)(‪)2‬‬
‫وقد أورد فيها باإلضافة إلى النص وص المقدس ة‪ ،‬وم ا يؤديه ا من الرواي ات‬
‫واألخب ار‪ ،‬الكث ير من األدل ة العقلي ة‪ ،‬إم ا منفص لة أو كإجاب ة على اإلش كاالت‬
‫المطروحة‪.‬‬
‫ومن ردوده فيه ا م ا نقل ه عن ابن س ينا من قول ه‪( :‬ك ّل م ا ق رع س معك من‬
‫الغرائب فذره في بقع ة اإلمك ان م ا لم ي ردك عن ه ق ائم البره ان)‪ ،‬وق د عل ق علي ه‬
‫بقوله‪( :‬وتجسيم األعراض وإن كان من الغرائب إاّل أنّه لم يرد عن ه ق ائم البره ان‪،‬‬
‫أن قدرة هللا الق ادر ص الحة إليج اد ك ّل ممكن‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫فهو في بقعة اإلمكان‪ ،‬فقد تقرّر ّ‬
‫نسبة الكائنات بأسرها إلى قدرت ه س بحانه نس بة واح دة‪ ،‬ففي الحقيق ة ال غراب ة في ه‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.229 / 7 :‬‬


‫‪ )(2‬رسالة تجسم األعمال‪ ،‬ص‪.85‬‬

‫‪109‬‬
‫فضال عن االمتن اع‪ ،‬فل ّم ا ك ان ممكن ا وأخ بر ب ه الص ادق ـ على م ا في كث ير من‬
‫اآليات والروايات الواردة ـ وجب اإليمان به‪ ،‬والتصديق بص دقه‪ ،‬وت رك تأوي ل م ا‬
‫د ّل ظاهرا على جوازه بل وقوعه‪ ،‬فان تأويل الظاهر إنّما يجوز إذا د ّل على خالف ه‬
‫القاطع‪ ،‬وهنا ليس كذلك) (‪)1‬‬
‫وهك ذا نق ل عمن أطل ق عليهم محققي الحكم اء‪ ،‬بعض النص وص في ذل ك‪،‬‬
‫باعتب ار أن ه ل و ك ان غ ير مقب ول عقال م ا قبل ه الكث ير من الحكم اء‪ ،‬ومن تل ك‬
‫النصوص ما نقله عن فيثاغورس من قوله‪( :‬اعلم أنّك ستعارض بأفك ارك وأقوال ك‬
‫وأفعال ك‪ ،‬وس يظهر من ك ّل حرك ة فكريّ ة أو قوليّ ة أو فعليّ ة ص ور روحانيّ ة‬
‫وجس مانيّة‪ ،‬ف إن ك انت الحرك ة غض بيّة ش هويّة ص ارت م ا ّدة ش يطان يؤذي ك في‬
‫حياتك‪ ،‬ويحجبك عن مالقاة النور بعد وفاتك‪ .‬وإن كانت الحركة عقليّة صارت ملكا‬
‫تلتذ بمنادمته في دنياك‪ ،‬وتهتدي بنوره في أخ راك إلى ج وار هللا وكرامت ه‪ .‬وأمث ال‬ ‫ّ‬
‫ل على تجسّد األعمال في كالمه كثيرة)(‪)2‬‬ ‫هذا م ّما يد ّ‬
‫ومن ال ردود على تل ك الش به م ا أورده ص در المت ألّهين في كتاب ه [المب دأ‬
‫والمعاد]‪ ،‬والذي حاول أن يقرب المسألة للعقول بطرق مختلفة‪ ،‬اعتمد فيه ا منهج ه‬
‫أن ك ّل ص فة تغلب على ب اطن اإلنس ان في‬ ‫في الحكمة المتعالية‪ ،‬منها قول ه‪( :‬كم ا ّ‬
‫الدنيا وتستولي على نفسه بحيث تصير ملكة لها‪ ،‬يوجب صدور أفع ال من ه مناس بة‬
‫لها بسهولة يصعب عليه صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة‪ ،‬وربما بل غ ض رب‬
‫من القسم األوّل ح ّد اللزوم‪ ،‬وضرب من القس م الث اني ح ّد االمتن اع‪ ،‬ألج ل رس وخ‬
‫تلك الصفة‪ .‬لكن لما كان ه ذا الع الم دار االكتس اب والتحص يل قلم ا تص ل األفع ال‬
‫المنسوبة إلى اإلنسان الموسومة بكونها باالختيار في شيء من طرفيه ا ح ّد الل زوم‬
‫واالمتناع بالقياس إلى قدرة اإلنسان وإرادت ه دون ال دواعي والص وارف الخارجي ة‬
‫لكون النفس متعلّقة بم ادة بدني ة قابل ة لالنفع االت واالنقالب ات من حال ة إلى حال ة‪،‬‬
‫فالشقي ربما يصير باالكتس اب س عيداً وب العكس‪ ،‬بخالف اآلخ رة فانّه ا ليس ت دار‬
‫االكتساب والتحصيل‪ ،‬كما أشير إليه بقوله تعالى‪﴿ :‬اَل يَ ْنفَ ُع نَ ْفسًا إِي َمانُهَا لَ ْم تَ ُك ْن آ َمن ْ‬
‫َت‬
‫ت فِي إِي َمانِهَ ا خَيْرًا ﴾ [األنع ام‪ ،]158 :‬وك ّل ص فة بقيت في النفس‬ ‫ِم ْن قَ ْب ُل أَوْ َك َسبَ ْ‬
‫ورسخت فيها وانتقلت معه ا إلى ال دار اآلخ رة ص ارت كأنّه ا لزمته ا ول زمت له ا‬
‫اآلثار واألفعال الناشئة منها بصورة تناسبها في عالم اآلخرة واألفعال واآلثار ال تي‬
‫ك انت تل ك الص فات مص ادر له ا في ال دنيا‪ ،‬وربم ا تخلفت عنه ا ألج ل العوائ ق‬
‫ألن ال دنيا دار تع ارض األض داد وت زاحم‬ ‫والص وارف الجس مانية االتفاقي ة‪ّ ،‬‬
‫المتمانعات بخالف اآلخ رة لكونه ا دار الجم ع واالتف اق ال ت زاحم وال تض اد فيه ا‪،‬‬
‫واألسباب هناك أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرض ية فكلّم ا‬
‫يصلح أثر الصفة النفسانية لم يتخلّف عنها هناك كما يتخل ف عنه ا هاهن ا لمص ادفة‬

‫‪ )(1‬رسالة تجسم األعمال‪ ،‬ص‪.89 :‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫م انع ل ه ومعاوق ة ص ارف عن ه‪ ،‬إذ ال س لطنة هن اك للعل ل العرض ية واألس باب‬
‫االتفاقية ومبادئ الشرور بل الملك هلل الواحد القهار)(‪)1‬‬
‫ولتقريب ذلك ضرب مث االً من طبيع ة اإلنس ان‪ ،‬ع بر عن ه بقول ه‪ّ :‬‬
‫(إن ش دة‬
‫الغضب في رجل توجب ثوران دمه‪ ،‬واحمرار وجه ه‪ ،‬وح رارة جس ده‪ ،‬واح تراق‬
‫أن الغضب صفة نفسانية موج ودة في ع الم ال روح اإلنس اني وملكوت ه‬ ‫موا ّده‪ ،‬على ّ‬
‫والحرك ة والحم رة والح رارة واالح تراق من ص فات األجس ام وق د ص ارت ه ذه‬
‫الجهات والعوارض الجسمانية نتائج لتلك الصفة النفسانية في هذا الع الم‪ ،‬فال عجب‬
‫من أن يكون سورة هذه الصفة المذمومة مما يلزمه ا في النش أة األُخ رى ن ار جهنم‬
‫التي تطّلع على األفئدة فاحترقت صاحبها كما يلزم هاهن ا عن د ش دة ظهوره ا وق وة‬
‫تأثيره ا إذا لم يكن ص ارف عقلي أو زاج ر ع رفي يلزمه ا من ض ربان الع روق‬
‫واضطراب األعضاء وقبح المنظر ربما يؤدي إلى الضرب الشديد والقتل لغيره بل‬
‫لنفسه‪ ،‬وربما يموت غيظا ً ف إذا تأم ل أح د في اس تتباع ه ذه الص فة المذموم ة لتل ك‬
‫اآلثار فيمكن أن يقيس عليها أكثر الصفات المؤذيات واالعتقادات المهلك ات وكيفي ة‬
‫انبعاث نتائجها ولوازمها يوم اآلخرة من النيران وغيرها‪ ،‬وك ذا ح ال أض دادها من‬
‫حس نات األخالق واالعتق ادات وكيفي ة اس تنباط النت ائج والثم رات من الجن ات‬
‫والرضوان والوجوه الحسان)(‪)2‬‬
‫(إن الجس م ال رطب م تى فع ل م ا في‬ ‫وضرب مثاال آخر من الطبيعة‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫طبعه من الرطوبة في جسم اآلخر قَبِ َل الجسم المنفعل الرطوبةَ فص ار رطب ا ً مثل ه‪،‬‬
‫ومتى فعل فعله الرطوبة في قاب ل غ ير جس م ك القوة الدراك ة الحس ية والخيالي ة إذا‬
‫انفعلت عن رطوبة ذلك الجسم الرطب‪ ،‬لم يقبل األث ر ال ذي قبل ه الجس م الث اني ولم‬
‫يصر بسببه رطبا ً بل يقبل شيئا ً آخر من ماهي ة الرطوب ة له ا ط ور خ اص في ذل ك‬
‫كما يقبل القوة الناطقة متى نالت الرطوبة أو حضرتها في ذاتها شيئا ً آخر من ماهية‬
‫الرطوبة وطبيعتها من حيث هي‪ ،‬ولها ظهور آخر عقلي فيه بنحو وج ود عقلي م ع‬
‫هوية عقلية‪ ،‬فانظر حكم تفاوت النشآت في ماهية واحدة لص فة واح دة‪ ،‬كي ف فعلت‬
‫وأثرت في موضع الجسم شيء وفي قوة أُخرى ش يئا ً آخ ر‪ ،‬وفي ج وهر ش يئا ً آخ ر‬
‫ألن الماهية واحدة والوجودات متخالفة‪ ،‬وه ذا‬ ‫وك ّل من هذه الثالثة حكاية لآلخرين‪ّ ،‬‬
‫القدر يكفي المستبصر ألن يؤمن بجميع ما وعد هللا ورسوله أو توعد عليه في لسان‬
‫الشرع من الصور األُخروية المرتبة على االعتقادات الحقّ ة أو الباطل ة أو األخالق‬
‫الحسنة والقبيحة المستتبعة لل ذات واآلالم إن لم يكن من أه ل المكاش فة والمش اهدة)‬
‫(‪)3‬‬
‫وما ذكره صدر المتألهين وغ يره في ه ذا المج ال أص بح أك ثر وض وحا في‬

‫‪ )(1‬المبدأ والمعاد‪.341 :‬‬


‫‪ )(2‬المبدأ والمعاد‪..343 :‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.341 ،‬‬

‫‪111‬‬
‫عص رنا ه ذا بس بب الق وانين العلمي ة المرتبط ة بالم ادة‪ ،‬وتحوله ا إلى طاق ة‪ ،‬أو‬
‫العكس‪ ..‬باإلضافة إلى تح ول الطاق ة إلى أش كال مختلف ة‪ ،‬وق د ورد في الموس وعة‬
‫البريطاني ة‪( :‬الم ادة والطاق ة مظه ران لحقيق ة واح دة‪ ،‬الم ادة عب ارة عن الطاق ات‬
‫المتراكمة‪ ،‬وربما تتب ّدل المادة في ظروف خاصة إلى الطاقة‪ ،‬فتكون الطاقة وج وداً‬
‫منبسطا ً للمادة‪ ،‬كتب ّدل مادة الغذاء ال ذي يتناول ه اإلنس ان إلى حرك ة‪ ،‬وكتب ّدل وق ود‬
‫الحافالت إلى طاقة حركية‪ ..‬ويعتبر مفهوم حفظ الطاقة أحد المفاهيم األساسية ال ذي‬
‫أن كاف ة التف اعالت والتح والت‬‫يكون حاكما ً على كافة الظ واهر الطبيعي ة‪ ،‬بمع نى ّ‬
‫التي تحدث في عالم الطبيعة ال تخرج عن هذا اإلطار العام وهو ّ‬
‫أن عموم الطاقة ال‬
‫يتغير فيه ا أب داً‪ .‬فالطاق ة يمكن أن تتب ّدل إلى أن واع مختلف ة‪ ،‬وه ذه األن واع تش مل‬
‫الطاقة الحركية‪ ،‬الحرارية‪ ،‬الكهربائية‪ ،‬الكيميائية‪ ،‬والنووية)(‪)1‬‬
‫وقد حاول السبحاني أن يربط بين تجسم األعمال‪ ،‬وما ذكره العلم حول المادة‬
‫والطاقة‪ ،‬فقال‪( :‬ك ّل عمل يقوم به اإلنسان ـ سواء كان طاعة أو معصية ـ يع ّد جزءاً‬
‫من عالم المادة وليس له حقيقة إالّ تب دل ج زء ض ئيل من الم ادة إلى طاق ة حركي ة‪،‬‬
‫فتعود حقيقة العمل في اإلنسان إلى تبدل المادة إلى طاقة)(‪)2‬‬
‫ثم فسر ذلك بأن تجسّم األعمال يبتني على قواعد أربع‪:‬‬
‫‪ .1‬حقيقة العمل‪ ،‬وهو تبديل المادة إلى طاقة‪.‬‬
‫‪ .2‬الطاقة الموجودة في العالم ثابتة ال تتغير‪.‬‬
‫‪ .3‬المادة والطاقة حقيقتها واحدة‪.‬‬
‫أن المادة تتب ّدل إلى الطاقة فهكذا تتب ّدل الطاقة في ظروف خاص ة إلى‬ ‫‪ .4‬كما ّ‬
‫المادة‪.‬‬
‫وبناء على هذه المقدمات نستنتج أن (تجسم األعمال ال ذي ترج ع حقيقت ه إلى‬
‫تب ّدل الطاقة إلى المادة أم ر ممكن وإن لم يكن واقع ا ً في ع الم الطبيع ة‪ ،‬ولع ّل العلم‬
‫سيحقق هذه األمنية) (‪)3‬‬
‫باإلضافة إلى ما ذكره السبحاني وغيره‪ ،‬يمكن تقريب المسألة بم ا ن راه اآلن‬
‫في عص رنا من تحوي ل الص وت أو الص ورة إلى هيئ ة رقمي ة‪ ،‬يمكن تحويله ا إلى‬
‫مجسمات إذا ما وضعت القوانين الخاصة بذلك‪..‬‬
‫وبذلك تزول كل تلك اإلشكاالت التي يذكرها النافون لتجسم األعمال‪ ،‬أما م ا‬
‫ع داها من اإلش كاالت‪ ،‬وهي تع ارض التجس م م ع نص وص أخ رى‪ ،‬فق د ذكره ا‬
‫السبحاني‪ ،‬وأجاب عليها‪ ،‬وأهمها هذان االعتراضان‪:‬‬
‫أن الجزاء يوم القيامة أمر جعلي‬‫األول‪ :‬ما ورد من النصوص التي تدل على ّ‬
‫أشبه بمجازات المجرمين أو بإثابة المطيعين‪ ،‬وعلى ذلك يكون الجزاء أمراً خارج ا ً‬

‫‪ )(1‬دائرة المعارف البريطانية‪.894 / 6 :‬‬


‫‪ )(2‬مفاهيم القرآن‪.8/347 ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.8/347 ،‬‬

‫‪112‬‬
‫عن نطاق عمل اإلنسان بل مفروضا ً عليه من الخارج‪.‬‬
‫وقد أجاب عليه بأن الجمع بين النص وص المقدس ة يقتض ي ذل ك‪ ،‬باإلض افة‬
‫تجس م األعم ال وتمثّله ا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلى أنه (ال مانع من أن يكون هناك نعمة ونقم ة من خالل‬
‫وجنة ونار خارجين عن إط ار عم ل اإلنس ان وفعل ه‪ ،‬ف الجزاء األوّل أم ر تكوي ني‬
‫يالزم وج ود اإلنس ان‪ ،‬والث اني أم ر جعلي مف روض علي ه حس ب م ا اكتس ب من‬
‫الحسنات والسيّئات) (‪)1‬‬
‫الثاني‪ :‬ما ورد من الشفاعة‪ ،‬ذلك أنه إذا كانت الصور المثالية أمراً تكويني ا ً‬
‫من لوازم وجود اإلنسان بحيث ال ينفك عن وجوده مهما ن زل أو س كن‪ ،‬فم ا مع نى‬
‫الشفاعة التي تمحو المجازات الجعلية المفروضة عليه من خارج وجوده؟‬
‫(أن الملكات المكتسبة وإن كانت خالّقة للص ور‬ ‫وقد أجاب عليه السبحاني‪ ،‬بـ ّ‬
‫المثالية جميلة ك انت أو قبيح ة ش اء أم أبى‪ ،‬لكن ثم ة مرتب ة من الش فاعة ت ؤثر في‬
‫صميم اإلنسان وذاته بنحو تؤثر على ملكاته الس يئة وليس ت أثير الش فيع في ملك ات‬
‫المشفوع له بأصعب من تأثير دعاء الن بي ‪ ‬عن د االعج از في ع الم الك ون حيث‬
‫ان دع اء‬‫يعود ـ بفضل دعائه ـ الميت حيا ً واألعمى بصيراً والسقيم ص حيحاً‪ ،‬فكم ا ّ‬
‫النبي وإرادته تؤثر في التكوين‪ ،‬فهكذا الحال في شفاعة الن بي ‪ ‬في اآلخ رة ت ؤثر‬
‫في الملكات السيئة وتقلبها رأسا ً على عقب‪ ،‬ونظير ذلك دعاء المذنب في هذه ال دنيا‬
‫واستغفاره قبل الموت حيث إنّه يؤثر فيما اكتسب من الملكات ويقلبه ا إلى غيره ا‪..‬‬
‫وبذلك فإن تأثير الملكات في الصور المثالية يتم على نحو المقتضي ال العلة التام ة‪،‬‬
‫فهي تؤثر مادام العامل الخارجي وإالّ فال‪ ،‬وبذلك يمكن الجم ع بين الق ول بالش فاعة‬
‫وتجسّم األعمال) (‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ نماذج من صور النعيم والعذاب في البرزخ وأسبابها‪:‬‬
‫بن اء على م ا س بق من االختالف الش ديد في م راتب المنعمين والمع ذبين‪،‬‬
‫وهيئات األعمال التي تظهر لهم‪ ،‬فيتنعمون بها أو يعذبون‪ ،‬وبناء على ع دم إمكاني ة‬
‫حصر ذلك‪ ،‬ألن لكل شخص عالمه الخاص به‪ ،‬والذي شكله بنفسه طيلة حياته‪ ،‬فإنا‬
‫نكتفي هن ا ب ذكر بعض النم اذج عن ص ور النعيم والع ذاب ال واردة في النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬والتي لم يقصد منها الحصر‪ ،‬وإنما قصد منها التنبيه‪ ،‬والعاقل هو ال ذي ال‬
‫يكتفي بالمذكور‪ ،‬وإنما يعبر من ه لغ ير الم ذكور‪ ،‬ألن م ا لم ي ذكر ق د ال يك ون أق ل‬
‫خطرا مما ذكر‪.‬‬
‫فمن األمثلة والنماذج على ذلك ما ورد تلك الموعظة ال تي ق دمها رس ول هللا‬
‫‪ ‬لألمة من خالل وصفه لبعض ما يحصل في ذلك العالم‪ ،‬ففي الحديث أن رسول‬
‫هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬رأيت الليل ة رجلين أتي اني فأخ ذا بي دي‪ ،‬فأخرج اني إلى األرض‬
‫المقدسة‪ ،‬فإذا رجل جالس‪ ،‬ورجل قائم بيده كلُّوب من حدي ٍد (الحديدة التي يؤخذ به ا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.8/348 ،‬‬


‫‪ )(2‬مفاهيم القرآن‪.8/349 ،‬‬

‫‪113‬‬
‫اللحم ويعلق)‪ ،‬يدخل ذلك الكلوب في ش دقه (ج انب فم ه) ح تى يبل غ قف اه‪ ،‬ثم يفع ل‬
‫بشدقه اآلخر مثل ذلك‪ ،‬ويلتئم (يشفى) شدقه هذا‪ ،‬فيعود فيصنع مثله‪ ،‬قلت‪ :‬ما ه ذا؟‬
‫طجع على قف اه‪ ،‬ورج ل ق ائم على‬ ‫ٍ‬ ‫قاال‪ :‬انطلق‪ ،‬فانطلقنا حتى أتين ا على رج ٍل مض‬
‫بفهر (بحجر ملء الكف) ـ أو صخر ٍة ـ فيشدخ (يكسر) به رأسه‪ ،‬ف إذا ض ربه‬ ‫ٍ‬ ‫رأسه‬
‫تدهده (تدحرج) الحجر‪ ،‬فانطلق إليه ليأخذه‪ ،‬فال يرج ع إلى ه ذا ح تى يل تئم رأس ه‪،‬‬
‫وعاد رأسه كما هو‪ ،‬فعاد إليه‪ ،‬فض ربه‪ ،‬قلت‪ :‬من ه ذا؟ ق اال‪ :‬انطل ق‪ ،‬فانطلقن ا إلى‬
‫التنور‪ ،‬أعاله ضيق وأسفله واسع يتوق د تحت ه ن ارًا‪ ،‬ف إذا اق ترب ارتفع وا‬ ‫ب مثل ُّ‬ ‫ثق ٍ‬
‫حتى كاد أن يخرجوا‪ ،‬فإذا خمدت رجعوا فيها‪ ،‬وفيها رجال ونساء عراة‪ ،‬فقلت‪ :‬من‬
‫دم في ه رج ل ق ائم على وس ط‬ ‫هذا؟ قاال‪ :‬انطل ق‪ ،‬فانطلقن ا ح تى أتين ا على نه ٍر من ٍ‬
‫النهر‪ ،‬وعلى شط النهر ر ُج ٌل بين يديه حجارة‪ ،‬فأقب ل الرج ل ال ذي في النه ر‪ ،‬ف إذا‬
‫بحجر في فيه‪ ،‬فرده حيث كان‪ ،‬فجعل كلما جاء ليخ رج‬ ‫ٍ‬ ‫أراد أن يخرج رمى الرجل‬
‫بحجر‪ ،‬فيرجع كما ك ان‪ ،‬فقلت‪ :‬م ا ه ذا؟ ق اال‪ :‬انطل ق‪ ،‬فانطلقن ا ح تى‬
‫ٍ‬ ‫رمى في فيه‬
‫انتهينا إلى روض ٍة خضراء‪ ،‬فيها شجرة عظيم ة‪ ،‬وفي أص لها ش يخ وص بيان‪ ،‬وإذا‬
‫رجل قريب من الش جرة بين يدي ه ن ار يوق دها‪ ،‬فص عدا بي في الش جرة‪ ،‬وأدخالني‬
‫أر ق ط أحس ن منه ا‪ ،‬فيه ا رج ال ش يوخ وش باب‪ ،‬ونس اء‪ ،‬وص بيان‪ ،‬ثم‬ ‫دارًا لم َ‬
‫أخرجاني منها‪ ،‬فصعدا بي الشجرة‪ ،‬فأدخالني دارًا هي أحسن وأفضل‪ ،‬فيها ش يوخ‬
‫وشباب)(‪)1‬‬
‫وبع د أن ذك ر رس ول هللا ‪ ‬ه ذه المش اهد ال تي رآه ا‪ ،‬ومأل القل وب ش وقا‬
‫لمعرفة أسرارها‪ ،‬راح يوضح ذلك‪ ،‬ويبينه‪ ،‬ليربي أمته من خالله‪ ،‬فق د ق ال مخ برا‬
‫عن تفسير المالئكة لما رآه‪( :‬أما ال ذي رأيت ه يش ق ش دقه‪ ،‬فك ذاب يح دث بالكذب ة‪،‬‬
‫فتحمل عنه حتى تبلغ اآلفاق‪ ،‬فيصنع به إلى يوم القيامة‪ ،‬والذي رأيته يش دخ رأس ه‪،‬‬
‫فرجل علمه هللا القرآن‪ ،‬فنام عنه باللي ل‪ ،‬ولم يعم ل في ه بالنه ار‪ ،‬يفع ل ب ه إلى ي وم‬
‫القيامة‪ ،‬والذي رأيته في الثقب فهم الزناة‪ ،‬والذي رأيته في النهر آكلو الربا‪ ،‬والشيخ‬
‫في أصل الشجرة إبراهيم عليه السالم‪ ،‬والصبيان حوله فأوالد الن اس‪ ،‬وال ذي يوق د‬
‫النار مالك خازن النار‪ ،‬وال دار األولى ال تي دخلت دار عام ة المؤم نين‪ ،‬وأم ا ه ذه‬
‫الدار فدار الشهداء) (‪)2‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما أخبر عنه ‪ ‬من ضغطة القبر‪ ،‬والتي وقع الخالف‬
‫في شمولها أو عدم شمولها‪ ،‬الختالف الروايات الواردة في ذلك‪.‬‬
‫فمن الروايات الواردة في شمولها للناس جميعا‪ ،‬قوله ‪ ‬عن د وف اة س عد بن‬
‫معاذ‪( :‬هذا الذي تحرك له العرش‪ ،‬وفتحت له أبواب السماء‪ ،‬وشهده سبعون ألفا ً من‬
‫المالئكة‪ ،‬لقد ضم ضمة‪ ،‬ثم فرج عنه) (‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري حديث‪.1386 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري حديث‪.1386 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه النسائي (‪ ،)100 /4‬والطبراني (‪)5340( )10 /6‬‬

‫‪114‬‬
‫وروي عنه أنه ‪ ‬قال حينها‪( :‬إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجي ا ً منه ا نج ا‬
‫سعد بن معاذ) (‪ ،)1‬وفي رواية‪( :‬لو نجا أحد من ض مة الق بر‪ ،‬لنج ا س عد بن مع اذ‪،‬‬
‫ولقد ض َّم ضمة‪ ،‬ثم رخي عنه) (‪)2‬‬
‫بل روي أنه ال ينجو منها ح تى الص بية‪ ،‬ففي الح ديث أن الرس ول ‪ ‬ق ال‪:‬‬
‫(لو أفلت أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي) (‪)3‬‬
‫وبن اء على ه ذا نص أك ثر العلم اء على ه ذا الش مول‪ ،‬فق د ق ال أب و بك ر‬
‫ال دمياطي الش افعي‪( :‬ص رحت الرواي ات واآلث ار ب أن ض مة الق بر عام ة للص الح‬
‫وغيره‪ ،‬وقد قال الشهاب ابن حجر‪ :‬قد جاءت األحاديث الكثيرة بض مة الق بر‪ ،‬وأن ه‬
‫الينجو منها صالح وال غيره)(‪)4‬‬
‫بل إن بعضهم راح يروي ما يخفف تل ك الض غطة‪ ،‬وي بين علته ا‪ ،‬فق د روى‬
‫صاحب [السيرة الحلبية] أن رسول هللا ‪ ‬قال لعائشة‪( :‬ياعائش ة إن ض غطة الق بر‬
‫على الم ؤمن كض مة األم الش فيقة ي ديها على رأس ابنه ا‪ ،‬يش كو إليه ا الص داع !‬
‫وضرب منكر ونكير عليه كالكحل في العين! ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكافرين‬
‫أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا ً يقبض على الصخر)(‪)5‬‬
‫وروى الس يوطي عن محم د ال تيمي قول ه‪( :‬ك ان يق ال أن ض مة الق بر إنم ا‬
‫أصلها أنها أمهم‪ ،‬ومنها خلقوا‪ ،‬فغابوا عنه ا الغيب ة الطويل ة‪ ،‬فلم ا ُر َّد إليه ا أوالده ا‬
‫ضمتهم ضمة الوالدة غاب عنها َولَدُها ثم قدم عليها)(‪)6‬‬
‫لكن ذلك ال يستقيم م ع تل ك الرواي ات ال تي يروونه ا‪ ،‬وال تي تنص على أن ه‬
‫(يلتئم عليه القبر حتى تختلف أضالعه‪ ،‬فال يزال يعذب حتى يبعث)(‪ ،)7‬أو (يض يق‬
‫عليه قبره حتى تختلف أضالعه ويسُلّط عليه في قبره تسعة وتسعون تِنِّيناً‪ ،‬لكل تنين‬
‫سبعة رؤوس تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث‪.‬ولو أن تنينا ً منها ينفخ في األرض لم‬
‫تنبت زرعاً)(‪)8‬‬
‫وك ل ه ذه الرواي ات ك ان يمكن قبوله ا‪ ،‬ل و أنه ا ربطت األم ر باألعم ال‪،‬‬
‫وموازين العدالة المرتبطة بها‪ ،‬أما تعميمها‪ ،‬لتشمل الجميع ح تى الص بية الص غار‪،‬‬
‫فإنا نرى اختالفها مع القرآن الكريم‪ ،‬بل مع األحاديث النبوية ال تي تص ور الم ؤمن‬
‫ممتلئا بالسعادة منذ اللحظة األولى التي يرى فيها مالئكة الموت‪ ،‬وهي تط وف ب ه‪،‬‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد(‪ ،)24707( )98 /6‬والبيهقي في (شعب اإليمان) (‪)396( )358 /1‬‬
‫‪ )(2‬رواه الطبراني في (المعجم الكبير) (‪ ،)10849( )334 /10‬وفي (المعجم األوسط) (‪)6593( )349 /6‬‬
‫‪ )(3‬رواه الط براني في (المعجم الكب ير) (‪ ،)3859( )121 /4‬وفي (المعجم األوس ط) (‪،)2753( )146 /3‬‬
‫وابن عدي في (الكامل) (‪)322 /2‬‬
‫‪ )(4‬إعانة الطالبين (‪)2/164‬‬
‫‪ )(5‬السيرة الحلبية‪.2/673:‬‬
‫‪ )(6‬شرح النسائي(‪)4/103‬‬
‫‪ )(7‬معالم التنزيل للبغوي (‪)3/235‬‬
‫‪ )(8‬تفسير الثعلبي (‪)6/265‬‬

‫‪115‬‬
‫وتبش ره؛ فال يس تقيم التبش ير م ع ذل ك الع ذاب ال ذي ينتظ ره‪ ،‬إال إذا ك ان ل ه من‬
‫األعمال ما يستوجب ذلك‪.‬‬
‫وه ذا م ا ذهب إلي ه أئم ة أه ل ال بيت‪ ،‬فق د عل ل اإلم ام الص ادق الض غطة‬
‫بالتقص ير في ش كر النعم‪ ،‬فق د روى عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ض غطة الق بر‬
‫للمؤمن‪ ،‬كفارة لما كان منه من تضييع النعم)(‪.)1‬‬
‫وروي أنه سئل عنها‪ ،‬فقيل له‪ :‬أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ فقال‪( :‬نعوذ باهلل‬
‫منه ا‪ ،‬م ا أق ل من يفلت من ض غطة الق بر)(‪ ،)2‬وه ذا ي دل على أن هن اك من يفلت‬
‫منها‪ ،‬وأن األمر مرتبط بالعمل‪.‬‬
‫وروي عنه التصريح بنجاة المؤمنين الص ادقين منه ا‪ ،‬لع دم اس تحقاقهم له ا‪،‬‬
‫فعنه ق ال ـ يص ف م وت الم ؤمن ـ‪( :‬ف إذا أدرج في أكفان ه ووض ع على س ريره‪،‬‬
‫خرجت روحه تمش ي بين أي دي الق وم ق دماً‪ .‬وتَلَقَّاه أرواح المؤم نين يس لمون علي ه‬
‫ويبشرونه بما أعد هللا له جل ثناؤه من النعيم‪ .‬فإذا وضع في قبره ُر َّد إليه الروح إلى‬
‫وركيه‪ ،‬ثم يسأل عما يعلم‪ ،‬فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رس ول هللا‬
‫‪ ‬فيدخل عليه من نورها وضوئها وبردها وطيب ريحها)‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬جعلت ف داك‬
‫فأين ضغطة القبر؟ فقال‪( :‬هيهات ما على المؤمنين منها شئ‪ ،‬وهللا إن ه ذه األرض‬
‫لتفتخ ر على ه ذه فتق ول‪ :‬وط أ على ظه ري م ؤمن ولم يط أ على ظه رك م ؤمن‪،‬‬
‫وتقول ل ه األرض‪:‬وهللا لق د كنت أحب ك وأنت تمش ي على ظه ري‪ ،‬فأم ا إذا وليت ك‬
‫فستعلم ماذا أصنع بك‪ ،‬فيفسح له مد بصره)(‪)3‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن كل ما ورد في النصوص المقدسة يدل على ارتب اط ك ل‬
‫جزاء أو عقوبة باألعمال التي تناسبها‪ ،‬بل ورد فيها م ا ي دل على إمكاني ة ممارس ة‬
‫أعمال معينة في الدنيا‪ ،‬لتجنب أن واع معين ة من الع ذاب‪ ،‬وه ذا م ا ي دل على البع د‬
‫التربوي للعقائد اإلسالمية‪ ،‬وأثرها في تقويم السلوك‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الروايات التي تذكر إمكانية تجنب ض غطة‬
‫القبر‪ ،‬واألعمال المرتبطة بذلك‪ ،‬وهو ما يجعل من القول بعدم شمولها أكثر جدوى‪،‬‬
‫باإلضافة لكونها أقرب لعدالة هللا ورحمته بعباده‪.‬‬
‫بناء على هذا س نذكر هن ا بعض النم اذج ال واردة في األح اديث والرواي ات‪،‬‬
‫عن أنواع النعيم والعذاب الموجودة بالبرزخ مع ذكر أسبابها‪.‬‬
‫أ ـ نماذج من صور النعيم وأسبابها‪:‬‬
‫بن اء على أن ه ال يمكن حص ر األعم ال الص الحة ال تي يراه ا الم ؤمن في‬
‫البرزخ على هيئ ة نعيم ول ذات وس عادة‪ ،‬ف إن األح اديث ذك رت بعض ذل ك‪ ،‬ال من‬
‫باب الحصر ـ كما ذكرنا ـ وإنما من باب التنبيه إلى أهمية كل عم ل ص الح‪ ،‬ودوره‬

‫‪ )(1‬علل الشرائع(‪)1/309‬‬
‫‪ )(2‬الكافي (‪)3/236‬‬
‫‪ )(3‬الكافي (‪)3/130‬‬

‫‪116‬‬
‫في إسعاد المؤمن‪ ،‬وإبعاد كل أسباب الشقاء عنه‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قول ه ‪ ‬في وص ف ح ال الميت الم ؤمن‪ ،‬وكي ف ت دافع‬
‫عنه أعماله الصالحة‪ ،‬وهو ما يدل على تجسمها في صور حسية يراه ا‪( :‬إن الميت‬
‫يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين‪ ،‬فإن كان مؤمنا كانت الصالة عند رأس ه‪ ،‬وك ان‬
‫الص وم عن يمين ه‪ ،‬وك انت الزك اة عن يس اره‪ ،‬وك ان فع ل الخ يرات من الص دقة‬
‫والصالة والصلة والمعروف واإلحسان إلى الناس عند رجليه‪ ،‬فيؤتى من قبل رأسه‬
‫فتقول الصالة‪ :‬ما قبلي مدخل‪ ،‬ويؤتى من عن يمينه‪ ،‬فيقول الصوم م ا قبلي م دخل‪،‬‬
‫ويؤتى من عن يساره فتقول الزك اة م ا قبلي م دخل‪ ،‬وي ؤتى من قب ل رجلي ه فيق ول‬
‫فع ل الخ يرات م ا قبلي م دخل‪ ،‬فيق ال ل ه‪ :‬اقع د فيقع د‪ ،‬وتمث ل ل ه الش مس ق د دنت‬
‫للغروب فيقال له ما تقول في ه ذا الرج ل ال ذي ك ان فيكم‪ ،‬وم ا تش هد ب ه؟ فيق ول‪:‬‬
‫دع وني أص لي‪ ،‬فيقول ون‪ :‬إن ك س تفعل ولكن أخبرن ا عم ا نس ألك عن ه ق ال‪ :‬وعم‬
‫تسألوني عنه؟ فيقولون‪ :‬أخبرنا عما نسألك عنه‪ ،‬فيق ول‪ :‬دع وني أص لي‪ .‬فيقول ون‪:‬‬
‫إنك ستفعل ولكن أخبرنا عما نسألك عنه‪ ،‬قال‪ :‬وعم تسألوني؟ فيقول ون‪ :‬أخبرن ا م ا‬
‫تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم وما تشهد به عليه؟ فيقول‪ :‬محمدا‪ ،‬أشهد أنه عبد‬
‫هللا‪ ،‬وأنه جاء بالحق من عند هللا‪ ،‬فيقال له‪ :‬على ذلك حييت‪ ،‬وعلى ذلك مت‪ ،‬وعلى‬
‫ذلك تبعث إن شاء هللا‪ ،‬ثم يفتح له باب من قبل النار فيقال له‪ :‬انظر إلى منزلك وإلى‬
‫ما أعد هللا لك‪ ،‬لو عصيت فيزداد غبط ة وس رورا‪ ،‬ثم يفتح ل ه ب اب من قب ل الجن ة‬
‫فيقال له‪ :‬انظر إلى منزلك‪ ،‬وإلى ما أعد هللا لك فيزداد غبطة وسرورا)(‪)1‬‬
‫وورد في بعض الرواي ات م ا تقول ه تل ك األعم ال الص الحة في ال دفاع عن‬
‫المؤمن الذي قام بها‪ ،‬ومنه ا ه ذه الرواي ة ال تي ت ذكر أن ه (إذا م ات العب د الص الح‬
‫فوضع في قبره أتي بفراش من الجنة‪ ،‬وقيل له‪ :‬نم هنيئا ً لك ق رة العين‪ ،‬فرض ي هللا‬
‫عنك‪ ،‬قال ويفسح له في قبره مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة‪ ،‬فينظ ر إلى حس نها‬
‫ويج د ريحه ا وتحتوش ه أعمال ه الص الحة‪ :‬الص يام‪ ،‬والص الة‪ ،‬وال بر‪ ،‬فتق ول ل ه‪:‬‬
‫أنصبناك واظمأناك وأسهرناك فنحن الي وم بحيث تحب‪ ،‬نحن أنس اؤك ح تى تص ير‬
‫إلى منزلك من الجنة) (‪)2‬‬
‫وفي رواي ة أخ رى‪( :‬إذا وض ع العب د الص الح في ق بره احتوش ته أعمال ه‬
‫الصالحة الصالة والصيام والحج والجه اد والص دقة‪ ،‬ق ال‪ :‬وتجيء مالئك ة الع ذاب‬
‫من قبل رجليه فتقول الصالة‪ :‬إليكم عنه فقد أطال القيام هلل عليهما‪ ،‬ق ال‪ :‬في أتون من‬
‫قبل رأسه فيقول الصيام‪ :‬ال سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه هلل تع الى في ال دنيا‪ ،‬ق ال‬
‫فيأتون من قبل جسده فيقول الجهاد والحج‪ :‬إليكم عنه فقد أنصب نفسه‪ ،‬وأتعب بدنه‪،‬‬
‫وحج وجاه د هلل ع ز وج ل ال س بيل لكم علي ه‪ ،‬ق ال‪ :‬في أتون من قب ل يدي ه فتق ول‬
‫الصدقة‪ :‬كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين ح تى وقعت في‬

‫‪ )(1‬المستدرك على الصحيحين للحاكم (‪)535 /1‬‬


‫‪ )(2‬نقال عن‪ :‬أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور‪ ،‬البن رجب‪( ،‬ص‪)31 :‬‬

‫‪117‬‬
‫يد هللا عز وجل ابتغاء وجهه فال سبيل لكم عليه‪ ،‬فيقال‪ :‬هنيئا ً طيبا ً حيا ً وميت اً‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫ويأتيه مالئكة الرحمة فتفرشه فراشا ً من الجنة ودثاراً من الجنة ويفسح ل ه في ق بره‬
‫مد البصر‪ ،‬ويؤتى بقنديل من الجنة فيستض يء بن وره إلى ي وم يبعث ه هللا من ق بره)‬
‫(‪)1‬‬
‫وهكذا ورد في األحاديث والروايات أن لسور بعينها تأثير خاص في الوقاي ة‬
‫من عذاب القبر‪ ،‬وهذا يدل على أن لكل سورة قرآني ة آثاره ا الخاص ة ال تي يج دها‬
‫المؤمن يوم القيامة‪ ،‬فعن النبي ‪ ‬أنه قال‪( :‬إن سورة من القرآن ثالثون آية ش فعت‬
‫لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك)(‪)2‬‬
‫وقد فسر ذلك عبد هللا بن مسعود بقوله‪( :‬من قرأ تبارك الذي بي ده المل ك ك ل‬
‫ليلة منعه هللا بها من عذاب القبر‪ ،‬وكنا في عهد رسول هللا ‪ ‬نسميها المانعة‪ ،‬وإنها‬
‫في كتاب هللا سورة من قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب)(‪)3‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد في فضل قراءة سورتي البقرة وآل عمران‪ ،‬ودورهم ا في‬
‫ال دفاع عن المهتم بهم ا‪ ،‬ق ال ‪( :‬اق رءوا الق رآن فإن ه ي أتي ي وم القيام ة ش فيعا‬
‫ألصحابه‪ ،‬اقرءوا الزهراوين البقرة‪ ،‬وسورة آل عمران‪ ،‬فإنهما تأتي ان ي وم القيام ة‬
‫كأنهما غمامتان‪ ،‬أو كأنهما غيايتان‪ ،‬أو كأنهما فرقان من طير صواف‪ ،‬تحاجان عن‬
‫أصحابهما‪ ،‬اقرءوا سورة البقرة‪ ،‬فإن أخذها برك ة‪ ،‬وتركه ا حس رة‪ ،‬وال تس تطيعها‬
‫البطلة)(‪)4‬‬
‫وهكذا نرى األحاديث الكثيرة التي تصور النعيم العظيم الذي يناله المؤمن ون‬
‫بس بب أعم الهم الص الحة‪ ،‬ومن الرواي ات ال واردة في ذل ك‪ ،‬وال تي تص ور بعض‬
‫النعيم الذي يعيشونه طيلة فترة البرزخ‪ ،‬ما حدث به اإلمام علي قال‪( :‬يُفتح لولي هللا‬
‫من منزله من الجنة إلى قبره تس عة وتس عون باب اً‪ ،‬ي دخل عليه ا روحه ا وريحانه ا‬
‫وطيبها ولذتها ونورها إلى يوم القيامة‪ ،‬فليس شئ أحب إليه من لقاء هللا‪ ،‬فيق ول‪ :‬ي ا‬
‫ي قيام الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي‪ ،‬فإذا ك انت ص يحة القيام ة‬ ‫رب عجل عل َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خرج من قبره مستورة عورته‪ ،‬مس كنة روعت ه‪ ،‬ق د أعطي األمن واألم ان‪ ،‬وبش ر‬
‫بالرضوان والروْ ح والريحان والخيرات الحسان‪ ،‬فيستقبله الملكان الل ذان كان ا مع ه‬
‫في الحياة الدنيا‪ ،‬فينفض ان ال تراب عن وجه ه وعن رأس ه وال يفارقان ه‪ ،‬ويبش رانه‬
‫ويمنيانه)(‪)5‬‬
‫وعن اإلمام الصادق قال‪(:‬المؤمن إذا قبضه هللا تعالى صيَّ َر روح ه في ق الب‬
‫كقالبه في الدنيا‪ ،‬فيأكلون ويشربون‪ .‬فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة ال تي‬

‫‪ )(1‬نقال عن‪ :‬المرجع السابق‪( ،‬ص‪)31 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي (‪ )2891‬وأبو داود (‪ )1400‬وابن ماجه (‪)3786‬‬
‫‪ )(3‬رواه النسائي (‪)179 / 6‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم (‪)804‬‬
‫‪ )(5‬المفيد في اإلختصاص‪.349/‬‬

‫‪118‬‬
‫فالن)(‪)6‬‬ ‫كانت في الدنيا‪..‬لو رأيته لقلت‬
‫ب ـ نماذج من صور العذاب وأسبابها‪:‬‬
‫بم ا أن ال برزخ مدرس ة من الم دارس التربوي ة ال تي ي ربي هللا فيه ا عب اده‪،‬‬
‫إلخراجهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬وتهذيب نفوس هم لتص لح لل دخول للجن ة ال تي ال‬
‫يدخل إليها إال الطيبون‪ ،‬فقد اهتمت النصوص المقدس ة ب أنواع ال دروس ال تي تق دم‬
‫في هذه المرحلة أكثر من اهتمامها بالنعيم الذي يلقاه المقيمون فيها‪.‬‬
‫ول ذلك اش تهرت مس ائل ال برزخ‪ ،‬باص طالح [ع ذاب الق بر]‪ ،‬ذل ك ل ورود‬
‫النصوص الكثيرة التي تبين األسباب التي يتعذب بها المقيمون في هذه المرحلة‪.‬‬
‫وهي تدخل ضمن اإلنذار النبوي‪ ،‬وهو ال يقل أهمية عن التبشير النب وي‪ ،‬إن‬
‫لم يكن يفوق ه‪ ،‬فالتبش ير ق د يكفي في ه الح ديث والح ديثان‪ ،‬لكن اإلن ذار يحت اج إلى‬
‫المزيد من التفاصيل‪.‬‬
‫ولهذا عندما ن ذهب إلى الط بيب ألي عل ة من العل ل‪ ،‬ال نج ده يص ف لن ا م ا‬
‫يجوز أكله‪ ،‬وإنما يصف لنا م ا يض رنا أكل ه‪ ،‬ويح ذرنا من ه‪ ،‬وي بين الع واقب ال تي‬
‫تنجر وراء ذلك‪ ..‬وهكذا فعل الرسول ‪ ‬عندما يربط األعمال السيئة بما تس توجبه‬
‫من العقوبات‪.‬‬
‫واإلنذار نفسه يتضمن تبشيرا‪ ،‬ذل ك أن التح ذير من تل ك الج رائم وال ذنوب‪،‬‬
‫يبين أن االبتع اد عنه ا‪ ،‬يقي ص احبها من المهال ك ال تي تعترض ه‪ ،‬وفي ذل ك أعظم‬
‫بشارة‪ ،‬ولذلك قيل‪( :‬ألن تلقى قوما يخوفونك حتى تجد األمان‪ ،‬خير من أن تج د من‬
‫يؤمنك إلى أن تجد المخافة)‬
‫وق د ح اول ابن القيم في كت اب ال روح أن يجم ع الكث ير من األح اديث من‬
‫المص ادر الس نية‪ ،‬وال تي ذك ر فيه ا رس ول هللا ‪ ‬األس باب الموجب ة للع ذاب في‬
‫ال برزخ‪ ،‬فق ال‪( :‬إن ع ذاب الق بر أث ر غض ب هللا تع الى وس خطه على عب ده‪ ،‬فمن‬
‫أغضب هللا وأسخَطه في هذه الدار ثم لم يتُبْ ‪ ،‬وم ات على ذل ك ك ان ل ه من ع ذاب‬
‫الق بر بق در غض ب هللا وس خطه علي ه‪ ،‬وع ذاب الق بر ه و نتيج ة لمعاص ي القلب‪،‬‬
‫والعين‪ ،‬واألذن‪ ،‬والفم‪ ،‬واللس ان‪ ،‬والبطن‪ ،‬والف رج‪ ،‬والي د‪ ،‬والرِّج ل‪ ،‬والب دن كل ه؛‬
‫فالنم ام‪ ،‬والك ذاب‪ ،‬والمغت اب‪ ،‬وش اهد ال زور‪ ،‬وق اذف المحص ن‪ ،‬وال داعي إلى‬
‫البدعة‪ ،‬والقائل على هللا تع الى ورس وله ‪ ‬م ا ال علم ل ه ب ه‪ ،‬وآك ل الرب ا‪ ،‬وآك ل‬
‫أموال اليتامى‪ ،‬وآكل السحت من الرشوة‪ ،‬وآكل مال أخيه المسلم بغ ير ح ق أو م ال‬
‫المعاه د‪ ،‬وش ارب الخم ر‪ ،‬وال زاني‪ ،‬والل وطي‪ ،‬والس ارق‪ ،‬والخ ائن‪ ،‬والغ ادر‪،‬‬
‫والمخادع‪ ،‬والماكر‪ ،‬وآخذ الربا‪ ،‬ومعطيه‪ ،‬وكاتبه‪ ،‬وشاهداه‪ ،‬والمحتال على إس قاط‬
‫ف رائض هللا تع الى‪ ،‬وارتك اب محارم ه‪ ،‬وم ؤذي المس لمين‪ ،‬ومتتب ع ع وراتهم‪،‬‬
‫والح اكم بغ ير م ا أن زل هللا‪ ،‬والمف تي بغ ير م ا ش رعه هللا‪ ،‬والمعين على اإلثم‬
‫والعدوان‪ ،‬وقاتل النفس التي حرم هللا‪ ،‬وال ُمعطل لحقائق أس ماء هللا وص فاته الملح د‬

‫‪ )(6‬رواه الشيخ الطوسي في التهذيب(‪)1/466‬‬

‫‪119‬‬
‫فيها‪ ،‬والمقدم رأيه على سنة رسول ‪ ،‬والنائحة‪ ،‬والمستمع إليها‪ ،‬والمغنون الغناء‬
‫ال ذي حرم ه هللا تع الى ورس وله ‪ ،‬والمس تمع إليهم‪ ،‬والمطفف ون في الكي ل‬
‫والم يزان‪ ،‬والجب ارون‪ ،‬والمتك برون‪ ،‬والم راؤون‪ ،‬والهم ازون‪ ،‬واللم ازون‪،‬‬
‫والط اعنون على الس لف الص الح‪ ،‬وال ذين ي أتون الكهن ة والمنجمين والع رَّافين‬
‫فيسألونهم ويصدقونهم‪ ،‬وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم‪ ،‬وال ذي‬
‫ف‬‫إذا خوفته باهلل تعالى وذ َّكرته به لم ينزجر‪ ،‬ف إذا خوفت ه بمخل وق مثل ه خ اف وك َّ‬
‫عما هو فيه‪ ،‬والذي يجاهر بالمعصية ويفتخر به ا بين الن اس‪ ،‬وال ذي ال تأمن ه على‬
‫مالك وحرمتك‪ ،‬والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الناس اتقاء شره‪ ،‬والذي ي ؤخر‬
‫الصالة إلى آخر وقتها وينقره ا‪ ،‬وال ي ذكر هللا فيه ا إال قلياًل ‪ ،‬وال ي ؤدي زك اة مال ه‬
‫طيبة بها نفسه‪ ،‬وال يحج مع قدرته على الحج‪ ،‬وال يؤدي م ا علي ه من الحق وق م ع‬
‫قدرته عليها‪ ،‬والذي ال يبالي بم ا حص ل من الم ال‪ ،‬من حالل أو ح رام‪ ،‬وال يص ل‬
‫رحمه‪ ،‬وال يرحم المسكين‪ ،‬وال األرملة‪ ،‬وال اليتيم‪ ،‬وال الحي وان البهيم‪ ،‬ب ل يزج ر‬
‫اليتيم‪ ،‬وال يحض على طعام المسكين‪ ،‬وي رائي الن اس بعمل ه؛ ليكس ب م دحهم ل ه‪،‬‬
‫ويمنع الماعون‪ ،‬ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه‪ ،‬وبذنوبهم عن ذنب ه ‪ -‬فك ل ه ؤالء‬
‫وأمث الهم يع ذبون في قب ورهم به ذه الج رائم‪ ،‬بحس ب كثرته ا وقلته ا‪ ،‬وص غيرها‬
‫وكبيرها)(‪)1‬‬
‫وسنكتفي هنا بذكر بعض ما ورد في النصوص المقدسة من ذل ك‪ ،‬ل نرى من‬
‫خاللها دور اإليمان بالبرزخ في التربية واإلصالح‪.‬‬
‫‪ .1‬الظلم والطغيان واالستبداد‪ :‬ولعله من أك بر أس باب الع ذاب في ال برزخ‪،‬‬
‫وإليه اإلشارة بقوله ‪( :‬اتقوا الظلم‪ ،‬فإن الظلم ظلمات يوم القيام ة‪ ،‬واتق وا الش ح‪،‬‬
‫فإن الشح أهلك من كان قبلكم‪ ،‬حملهم على أن سفكوا دم اءهم واس تحلوا مح ارمهم)‬
‫(‪ ،)2‬ويوم القيامة‪ ،‬ال يشمل الموقف فق ط‪ ،‬ب ل يب دأ من الم وت نفس ه‪ ،‬كم ا ورد في‬
‫الحديث‪( :‬إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته)(‪)3‬‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ومن النصوص الدالة على هذا قوله تعالى عن آل فرعون‪ ﴿ :‬النا ُر يُع َرضُونَ‬
‫ب﴾ [غ افر‪،]46 :‬‬ ‫آل فِرْ عَوْ نَ أَ َش َّد ْال َع َذا ِ‬
‫َعلَ ْيهَا ُغ ُد ًّوا َو َع ِشيًّا َويَوْ َم تَقُو ُم السَّا َعةُ أَ ْد ِخلُوا َ‬
‫فه ذه اآلي ة الكريم ة أخ برت أنهم وفي ال وقت الح الي يعرض ون على الن ار غ دوا‬
‫وعشيا‪ ،‬ولم يملك صبحي منصور ـ وهو من المنكرين لعذاب البرزخ ـ بع د إي راده‬
‫لها إال أن يسلم بها‪ ،‬لكنه راح يحتال عليها بك ون ع ذاب ال برزخ مرتبط ا فق ط ب آل‬
‫فرعون‪ ،‬ولسنا ن دري م ا وج ه التخص يص‪ ،‬م ع أن الق رآن الك ريم يعتم د األمث ال‬
‫والنماذج ليقرر الحق ائق‪ ،‬والعاق ل ه و ال ذي يفهم الحق ائق بإطالقه ا‪ ،‬ال ذل ك ال ذي‬
‫يقصرها على شواهدها‪.‬‬
‫‪ )(1‬الروح البن القيم‪ ،‬ص‪..101‬‬
‫‪ )(2‬صحيح مسلم ‪ 4/1996‬ح(‪)2578‬‬
‫‪ )(3‬رواه أب و نعيم في (الحلي ة) (‪ ،)268-6/267‬وابن عس اكر في (تاريخ ه) ( ‪ ،)37/214‬وأورده ال ديلمي في‬
‫(مسند الفردوس) (‪)1/285/1117‬‬

‫‪120‬‬
‫ومنها قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َذرْ هُ ْم َحتَّى يُالقُوا يَوْ َمهُ ُم الَّ ِذي فِي ِه يُصْ َعقُونَ يَ وْ َم ال يُ ْغنِي‬
‫صرُونَ َوإِ َّن لِلَّ ِذينَ ظَلَ ُموا َع َذابًا ُدونَ َذلِكَ َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َرهُ ْم ال‬ ‫َع ْنهُ ْم َك ْي ُدهُ ْم َش ْيئًا َوال هُ ْم يُن َ‬
‫يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [الطور‪ ،]47 - 45:‬وهذا يحتمل أن ي راد ب ه ع ذابهم بالقت ل وغ يره في‬
‫الدنيا‪ ،‬وأن يراد به عذابهم في البرزخ‪ ،‬وهو أظهر‪ ،‬ألن كثيراً منهم مات ولم يع ذب‬
‫في الدنيا‪ ،‬أو المراد أعم من ذلك‪.‬‬
‫ْ‬
‫ت َوال َماَل ئِ َك ةُ‬ ‫ْ‬
‫ت ال َم وْ ِ‬ ‫َّ‬
‫ومنها قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ولَ وْ تَ َرى إِ ِذ الظالِ ُمونَ فِي َغ َم َرا ِ‬
‫ُ‬
‫ون بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَقُول ونَ َعلَى هللا‬ ‫اب ْالهُ ِ‬ ‫بَا ِسطُو أَ ْي ِدي ِه ْم أَ ْخ ِرجُوا أَ ْنفُ َس ُك ُم ْاليَوْ َم تُجْ َزوْ نَ َع َذ َ‬
‫ق َو ُك ْنتُ ْم ع َْن آيَاتِ ِه تَ ْستَ ْكبِرُونَ ﴾ [األنعام‪]93 :‬‬ ‫َغ ْي َر ْال َح ِّ‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تتوعد الظلمة بالعذاب الشديد‪ ،‬وهي تنطب ق‬
‫على جميع المراحل التي يمر بها اإلنسان في حياته‪ ،‬ابتداء من حياته ال دنيا‪ ..‬وال تي‬
‫جعل هللا فيها الكثير من أنواع العذاب للظلمة‪ ،‬والتي ق د ال يش عر به ا غ يرهم‪ ،‬كم ا‬
‫ض ْن ًكا َونَحْ ُش ُرهُ يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة‬ ‫يش ةً َ‬ ‫كْري فَ إِ َّن لَ هُ َم ِع َ‬
‫ض ع َْن ِذ ِ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ْن أَ ْع َر َ‬
‫أَ ْع َمى﴾ [طه‪]124 :‬‬
‫ب‬ ‫﴿و ِم َّم ْن َح وْ لَ ُك ْم ِمنَ اأْل َعْ َرا ِ‬ ‫‪ .2‬الكف ر والنف اق‪ :‬ويش ير إلي ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ُمنَافِقُونَ َو ِم ْن أَ ْه ِل ْال َم ِدينَ ِة َم َردُوا َعلَى النِّفَ ِ‬
‫اق اَل تَ ْعلَ ُمهُ ْم نَحْ نُ نَ ْعلَ ُمهُ ْم َسنُ َع ِّذبُهُ ْم َم َّرتَ ْي ِن‬
‫َظ ٍيم ﴾ [التوبة‪ ،]101 :‬فقوله‪َ ( :‬سنُ َع ِّذبُهُ ْم َم َّرتَي ِْن) يشير إلى أن‬ ‫بع ِ‬ ‫ثُ َّم ي َُر ُّدونَ إِلَى َع َذا ٍ‬
‫أحدهما في الدنيا‪ ،‬واآلخر في البرزخ‪ ،‬كما ذكر ذلك المفسرون‪.‬‬
‫وق د رأين ا س ابقا م ا ورد من الع ذاب ال ذي يلق اه ه ذان الص نفان‪ ،‬وق د ورد‬
‫التصريح باسم المنافق‪ ،‬أو المرتاب في كث ير من الرواي ات‪ ،‬كم ا في قول ه ‪..( :‬‬
‫وأما الكافر والمنافق في ُقال له‪)1()..‬‬
‫وق د ذك ر ‪ ‬أن ه رأى عم رو بن ع امر الخ زاعي (يج ر قص به في الن ار ـ‬
‫أمعاءه ـ؛ كان أول من سيب الس وائب)(‪ ،)2‬وك ان أيض ا أول من غ ير دين إب راهيم‬
‫بالشرك وتحريم ما لم يحرمه هللا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الذنوب المرتبطة باللسان‪ :‬كالغيب ة والنميم ة وغيره ا‪ ،‬وال تي ورد فيه ا‬
‫قوله ‪ ‬لمعاذ بن جبل‪( :‬أال أخبرك بمالك ذلك كله؟)‪ ،‬قال‪ :‬بلى يا رسول هللا‪ ،‬فأخذ‬
‫بلسانه‪ ،‬وقال‪( :‬كف عليك هذا)‪ ،‬قال‪ :‬يا نبي هللا وإنا لمؤاخذون بما نتكلم ب ه؟ فق ال‪:‬‬
‫(ثكلتك أم ك وه ل يكب الن اس على وج وههم ‪-‬أو ق ال على من اخرهم‪ -‬إال حص ائد‬
‫ألسنتهم؟!)(‪)3‬‬
‫وقد ورد في األحاديث والروايات ما يدل على ذلك‪ ،‬ومنه ا م ا روي عن ابن‬
‫عباس قال‪( :‬ليلة أسري بنبي هللا ‪ ‬نظر في النار فإذا قوم ي أكلون الجي ف ق ال من‬
‫هؤالء يا جبريل؟ قال هؤالء الذين ي أكلون لح وم الن اس‪ ،‬ورأى رجال أحم ر أزرق‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪)1374‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪)4623‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي [رقم‪ ]2616 :‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪..‬‬

‫‪121‬‬
‫الناقة)(‪)1‬‬
‫جدا قال من هذا يا جبريل؟ قال هذا عاقر‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال ‪( :‬لما عرج بي مررت بق وم لهم أظف ار من نح اس‬
‫يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤالء يا جبريل؟ قال هؤالء ال ذين ي أكلون‬
‫لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)(‪)2‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر‪ ،‬ق ال ‪( :‬ثم م ررت على نس اء ورج ال معلقين بث ديهن‬
‫فقلت‪ :‬من هؤالء يا جبري ل؟ فق ال ه ؤالء الهم ازون واللم ازون وذل ك قول ه ‪ -‬ع ز‬
‫وجل ‪َ ﴿ :-‬و ْي ٌل لِ ُكلِّ هُ َم َز ٍة لُ َم َ‬
‫ز ٍة﴾ [الهمزة‪)3()]1 :‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر عن ابن عب اس ق ال‪ :‬م ر الن بي ‪ ‬بق برين فق ال‪( :‬إنهم ا‬
‫ليعذبان‪ ،‬وما يعذبان في كبير‪ ،‬أما أحدهما فكان ال يستتر من البول وأما اآلخر فكان‬
‫يمشي بالنميمة)(‪)4‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬يصف رسول هللا ‪ ‬ما يحصل في البرزخ للكذابين‪ ،‬فعن ه‬
‫قال‪( :‬فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه‪ ،‬وإذا آخر ق ائم علي ه بكل وب من حدي د‪،‬‬
‫وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه‪ ،‬ومنخره إلى قفاه‪ ،‬وعين ه إلى‬
‫قفاه‪ ،‬قال‪ :‬ثم يتحول إلى الجانب اآلخر فيفعل ب ه مث ل م ا فع ل بالج انب األول‪ ،‬فم ا‬
‫يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفع ل مث ل م ا‬
‫فعل المرة األولى‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬سبحان هللا ! ما هذان؟)‪ ..‬ثم قال عن ه ذا المع ذب في‬
‫آخر الحديث‪( :‬إنه الرجل يغدو من بيته‪ ،‬فيكذب الكذبة تبلغ اآلفاق)(‪)5‬‬
‫‪ 4‬ـ الذنوب المرتبطة بالطهارة‪ :‬وقد أش ار إلي ه قول ه ‪( :‬إن عام ة ع ذاب‬
‫القبر من البول؛ فتنزهوا منه)(‪)6‬‬
‫‪5‬ـ الذنوب المرتبطة باألموال‪ :‬وقد أشار إليها قوله ‪( :‬فانطلقن ا فأتين ا على‬
‫نهر أحمر مثل الدم‪ ،‬وإذا في النهر رجل سابح يسبح‪ ،‬وإذا على شط النهر رج ل ق د‬
‫جمع عنده حجارة كثيرة‪ ،‬وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جم ع‬
‫عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق يسبح ثم يرجع إليه كلم ا رج ع إلي ه‬
‫فغر له فاه فألقمه حجرا) إلى أن قال‪( :‬وأما الرجل الذي أتيت عليه يس بح في النه ر‬
‫ويلقم الحجر فإنه آكل الربا) (‪)7‬‬
‫ومنه ا قول ه ‪ ‬في ح ديث الرج ل ال ذي غ ل الث وب(‪ )8‬في بعض مغازي ه‪:‬‬

‫‪ )(1‬البعث والنشور للبيهقي ‪ 1/146‬ح(‪)188‬‬


‫‪ )(2‬سنن أبي داود ‪ 4/269‬ح(‪)4878‬‬
‫‪ )(3‬رواه البيهقي في شعب اإليمان‪.5/2301 ،‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري (‪ )218‬ومسلم (‪)292‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري (‪)7074‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري (‪)7076‬‬
‫‪ )(7‬البخاري حديث‪.1386 :‬‬
‫‪ )(8‬الغلول‪ :‬هو أخذ الغازي شيئا من الغنيمة دون عرضه على ولي األمر لقسمته‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫(والذي نفسي بيده إن الشملة [ثوب] التي أخ ذها ي وم خي بر من المغ انم‪ ،‬لم تص بها‬
‫المقاسم‪ ،‬لتشتعل عليه نارا)(‪)1‬‬
‫ومنها قوله ‪ ‬في اإلخب ار عن عقوب ة اللص وص‪( :‬لق د جيء بالن ار‪ ،‬وذلكم‬
‫حين رأيتموني ت أخرت مخاف ة أن يص يبني من لفحه ا‪ ،‬وح تى رأيت فيه ا ص احب‬
‫المحجن يجر قصبه في النار ؛ كان يس رق الح اج بمحجن ه (‪ ،)2‬ف إن فطن ل ه ق ال‪:‬‬
‫إنما تعلق بمحجني‪ ،‬وإن غفل عنه ذهب به)(‪)3‬‬
‫ومنه ا م ا ورد في المته اونين في أداء م ا عليهم من دي ون‪ ،‬فعن س عد بن‬
‫األطول قال‪ :‬مات أخي وت رك ثالث مائ ة دين ار‪ ،‬وت رك ول دا ص غارا‪ ،‬ف أردت أن‬
‫أنفق عليهم‪ ،‬فقال لي رسول هللا ‪( :‬إن أخاك محبوس بدينه‪ ،‬فاذهب فاقض عن ه)‪.‬‬
‫قال‪ :‬فذهبت فقضيت عنه‪ ،‬ثم جئت فقلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬قد قضيت عن ه ولم يب ق إال‬
‫امرأة تدعي دينارين‪ ،‬وليست لها بينة‪ .‬قال‪( :‬أعطها‪ ،‬فإنها صادقة)(‪)4‬‬
‫‪6‬ـ الذنوب المرتبطة باألعراض‪ :‬ويشير إليها قوله ‪ ‬في الحديث الس ابق‪:‬‬
‫(فانطلقنا فأتينا على مثل التنور‪ ،‬فإذا فيه لغط وأصوات‪ ،‬قال‪ :‬فاطلعنا فيه‪ ،‬ف إذا في ه‬
‫رج ال ونس اء ع راة‪ ،‬وإذا هم ي أتيهم لهب من أس فل منهم‪ ،‬ف إذا أت اهم ذل ك اللهب‬
‫ضوض وا [أي‪ :‬ص احوا] ق ال‪ :‬قلت لهم ا‪ :‬م ا ه ؤالء؟) وفي آخ ره‪( :‬وأم ا الرج ال‬
‫والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني)‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ال ذنوب المرتبط ة بالته اون بالعب ادات‪ :‬وق د أش ار إليه ا قول ه ‪ ‬في‬
‫المتهاونين في قراءة القرآن الكريم‪( :‬أتينا على رجل مضطجع وإذا آخ ر ق ائم علي ه‬
‫بصخرة‪ ،‬وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه‪ ،‬فيتدهده الحجر ه ا هن ا فيتب ع‬
‫الحجر فيأخذه فال يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان‪ ،‬ثم يعود عليه فيفعل به مث ل‬
‫ما فعل المرة األولى‪ .‬قال‪ :‬قلت لهما‪ :‬سبحان هللا ! ما هذان؟)‪ ،‬وفيه‪( :‬وال ذي رأيت ه‬
‫يشدخ رأسه فرجل علمه هللا القرآن‪ ،‬فنام عنه بالليل‪ ،‬ولم يعمل به بالنهار)‬
‫وفي رواية أخ رى ت ذكرهم‪ ،‬وت ذكر المته اونين في الص الة‪ ،‬ق ال ‪( :‬أم ا‬
‫الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخ ذ الق رآن فيرفض ه وين ام‬
‫عن الصالة المكتوبة)‬
‫وفي حديث آخر يذكر المتهاونين في صيام رمضان‪ ،‬قال ‪( :‬بين ا أن ا ن ائم‬
‫إذ أت اني رجالن‪ ،‬فأخ ذا بض بعي‪ ،‬وأتي ا بي جبال فق اال لي‪ :‬اص عد‪ .‬فقلت‪ :‬إني ال‬
‫أطيقه‪ .‬فقاال‪ :‬إنا سنسهله لك‪ .‬قال‪ :‬فص عدت ح تى إذا كنت في س واء الجب ل‪ ،‬إذا أن ا‬
‫بأصوات شديدة‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذه األصوات؟ قال‪ :‬هذا عواء أهل الن ار‪ .‬ثم انطل ق بي‪،‬‬
‫ف إذا بق وم معلقين بع راقيبهم‪ ،‬مش ققة أش داقهم‪ ،‬تس يل أش داقهم دم ا‪ ،‬ق ال‪ :‬قلت‪ :‬من‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪ )4234‬ومسلم (‪)115‬‬


‫‪ )(2‬المحجن‪ :‬عصا معوجة الرأس‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (‪)904‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد (‪ )16776‬وابن ماجه (‪)2/82‬‬

‫‪123‬‬
‫صومهم)(‪)1‬‬ ‫هؤالء؟ قال‪ :‬هم الذين يفطرون قبل تحلة‬
‫‪ 7‬ـ الذنوب المرتبط ة بالمس يئين لل دين‪ :‬وهم الذين يمثلون ه تم ثيال خاطئ ا‪،‬‬
‫فيقفون حجابا بين الخل ق وال دين الص حيح‪ ،‬وإليهم اإلش ارة بقول ه ‪( :‬رأيت ليل ة‬
‫أسري بي رجاال تقرض شفاههم بمق اريض من ن ار‪ ،‬فقلت‪ :‬من ه ؤالء ي ا جبري ل؟‬
‫فقال‪ :‬الخطباء من أمتك يأمرون الن اس ب البر وينس ون أنفس هم‪ ،‬وهم يتل ون الكت اب‬
‫أفال يعقلون؟!)(‪)2‬‬
‫وفي رواية‪( :‬أتيت ليل ة أس ري بي على ق وم تق رض ش فاههم بمق اريض من‬
‫ن ار‪ ،‬كلم ا قرض ت وفت‪ ،‬فقلت‪ :‬ي ا جبري ل من ه ؤالء؟ ق ال‪ :‬خطب اء أمت ك ال ذين‬
‫يقولون ما ال يفعلون‪ ،‬ويقرءون كتاب هللا وال يعملون به)(‪)3‬‬
‫ثالثا ـ البرزخ والصلة بالحياة الدنيا‪:‬‬
‫بم ا أن ال برزخ مح ل من مح ال الج زاء اإللهي‪ ،‬وال ذي يرتب ط بأس ماء هللا‬
‫الحس نى‪ ،‬ف إن من تجليات ه التعام ل م ع أهل ه بحس ب أعم الهم‪ ،‬وم واقفهم‪ ،‬وم ا في‬
‫قلوبهم‪ ،‬وذلك ما تقتضيه عدالة هللا ال تي ت أبى التس وية بين المختلفين‪ ،‬وتأب اه ك ذلك‬
‫ربانية هللا‪ ،‬والتي تقتضي أن يتعامل مع كل خطيئة بما يناسبها من أساليب التربية‪.‬‬
‫وبما أن أهم المواقف التي طولب المؤمن ون به ا‪ ،‬الموق ف من الحي اة ال دنيا‪،‬‬
‫وعدم االستغراق فيها‪ ،‬وعدم تبديلها بالدار اآلخ رة‪ ،‬ب ل طولب وا ب أن يعتبروه ا دار‬
‫مم ر‪ ،‬ال دار مق ر‪ ،‬ودار فن اء‪ ،‬ال دار خل ود‪ ،‬ودارا لزراع ة العم ل الص الح‪ ،‬ال‬
‫لالنشغال عنه بما وضع فيها من متاع وزينة‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا كل ه‪ ،‬ف إن تل ك المواق ف ت برز في اآلخ رة ب أنواع التواص ل‬
‫واالنقطاع مع هذه الحياة‪ ،‬فالنصوص المقدسة تشير‪ ،‬بل تؤكد على أن الزاهدين في‬
‫الدنيا‪ ،‬الراغ بين في هللا‪ ،‬لن تنقط ع ص لتهم بالحي اة ال دنيا‪ ،‬وال بأهله ا‪ ،‬وال بالت أثير‬
‫فيها‪ ،‬بأي وجه من وجوه التأثير‪.‬‬
‫بخالف أولئك الذين استغرقوا في الحياة الدنيا‪ ،‬واطمأنوا لها‪ ،‬وتصوروا أنهم‬
‫مخلدون فيها‪ ،‬وأنه ليس هناك حياة غيرها؛ فإن هؤالء يعاقبون باالنقط اع الت ام عن‬
‫ه ذه الحي اة‪ ،‬وإن أتيح لهم ذل ك‪ ،‬فه و من ب اب ت ربيتهم‪ ،‬ح تى يعرف وا قيم ة ذل ك‬
‫االستغراق والحب الذي صرفهم عن هللا‪.‬‬
‫وأما غيرهم من الذين خلطوا عمال صالحا وآخ ر س يئا‪ ،‬ف إن ص لتهم بالحي اة‬
‫الدنيا‪ ،‬تكون بحسب أعمالهم‪ ،‬وزهدهم‪ ،‬وورعهم‪ ،‬ورغبتهم فيما عند هللا‪ ،‬وقد ذكرنا‬
‫أنه ال يمكن عد درجات ذلك‪ ،‬ألن لكل إنسان عالمه الخاص به‪ ،‬والمرتبط بما قدم ه‬
‫من أعمال‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا‪ ،‬س نذكر في ه ذا المبحث م ا ورد في النص وص عن ص لة‬

‫‪ )(1‬رواه ابن حبان والحاكم (‪)1/290،210‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪)3/120‬‬
‫‪ )(3‬رواه البيهقي في شعب اإليمان‪ ،‬انظر‪ :‬صحيح الجامع (‪)128‬‬

‫‪124‬‬
‫الموتى بالحياة الدنيا‪ ،‬اتصاال وانقطاعا‪.‬‬
‫وقبل ذلك ننبه إلى ما نبهنا إليه س ابقا من أن ق وانين النش أة األخ رى تختل ف‬
‫عن قوانين هذه النشأة‪ ،‬ولذلك فقد يكون الشخص في الجنة أو في غيرها‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت تكون له عالقة بقبره‪ ،‬أو زواره‪ ،‬أو غيرهم‪.‬‬
‫وننب ه ك ذلك إلى أن الجن ة والن ار المرتبط ة بأه ل ال برزخ ـ كم ا ورد في‬
‫الرواي ات ـ ليس ت هي نفس الجن ة والن ار ال تي ال ي دخلها أهله ا إال بع د الحس اب‬
‫ونصب الموازين‪ ،‬لتكون دار قرارهم‪.‬‬
‫وقد ورد في ذلك عن اإلم ام الص ادق أن ه س ئل عن قول ه تع الى في ح ق آل‬
‫آل فِرْ َع وْ نَ‬ ‫فرعون‪ ﴿ :‬النَّا ُر يُع َْرضُونَ َعلَ ْيهَا ُغ ُد ًّوا َو َع ِشيًّا َويَوْ َم تَقُو ُم السَّا َعةُ أَ ْد ِخلُ وا َ‬
‫ب﴾ [غافر‪ ،]46 :‬فقال‪( :‬ما تقول الناس فيها؟)‪ ،‬فقي ل ل ه‪ :‬يقول ون إنه ا في‬ ‫أَ َش َّد ْال َع َذا ِ‬
‫نار الخلد‪ ،‬وهم ال يعذبون فيما بين ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬فهم من السعداء؟) فقيل‪ :‬فكيف هذا؟‬
‫الس ا َعةُ أَ ْد ِخلُ وا‬ ‫فقال‪( :‬إنما هذا في الدنيا‪ ،‬وأما في نار الخلد فهو قوله‪َ ﴿ :‬ويَوْ َم تَقُ و ُم َّ‬
‫ب ﴾ [غافر‪]46 :‬‬ ‫آ َل فِرْ عَوْ نَ أَ َش َّد ْال َع َذا ِ‬
‫﴿ولِ َم ْن خَ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه َجنَّتَ ا ِن﴾‬ ‫وهكذا يشير إلى هذا قول ه تع الى عن الجن ة‪َ :‬‬
‫[الرحمن‪ ،]46 :‬ويشير إليه ما ورد من أن جن ة آدم علي ه الس الم غ ير جن ة الخل د‪،‬‬
‫وقد روي عن اإلمام الصادق أن ه س ئل عن جن ة آدم‪ ،‬فق ال‪( :‬جن ة من جن ات ال دنيا‬
‫تطلع عليه فيها الشمس والقمر‪ ،‬ولو كانت من جنات الخلد ما خرج منها أبداً)(‪)1‬‬
‫‪ 1‬ـ البرزخ‪ ..‬والتواصل مع الحياة الدنيا‪:‬‬
‫ورد في النص وص الكث يرة م ا ي دل على دوام الص لة بين المؤم نين في‬
‫ال برزخ‪ ،‬وإخ وانهم من المؤم نين في ال دنيا‪ ،‬كم ا ي دل على ذل ك قول ه تع الى عن‬
‫يل هللا أَ ْم َواتًا بَلْ أَحْ يَا ٌء ِعنْ َد َربِّ ِه ْم يُرْ َزقُ ونَ‬‫الشهداء‪َ  :‬واَل تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ قُتِلُوا فِي َسبِ ِ‬
‫(‪ )169‬فَ ِر ِحينَ بِ َما آتَاهُ ُم هللا ِم ْن فَضْ لِ ِه َويَ ْستَب ِْش رُونَ بِالَّ ِذينَ لَ ْم يَ ْل َحقُ وا بِ ِه ْم ِم ْن َخ ْلفِ ِه ْم‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ َزنُونَ ‪[ ‬آل عمران‪]170 ،169 :‬‬ ‫أَاَّل خَ وْ ٌ‬
‫وورد في الحديث عن أنس‪ ،‬قال‪ :‬بعث ق وم إلى الن بي ‪ ‬أن‪ :‬ابعث إلين ا من‬
‫يعلمنا القرآن والسنة‪ ،‬فبعث إليهم سبعين رجال من األنص ار يق ال لهم الق راء وفيهم‬
‫خالي حرام‪ ،‬يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل‪ ،‬ويتعلمون‪ ،‬وكانوا بالنه ار يج يئون‬
‫بالم اء فيض عونه في المس جد‪ ،‬ويحتطب ون فيبيعون ه‪ ،‬ويش ترون ب ه الطع ام أله ل‬
‫الص فة‪ ،‬وللفق راء‪ ،‬فبعثهم رس ول هللا ‪ ‬فتعرض وا لهم فقتل وهم قب ل أن يبلغ وا‬
‫المكان‪ ،‬فقالوا‪ :‬اللهم بلغ عنا أنا قد لقيناك فرضيت عنا‪ ،‬ورض ينا عن ك‪ ،‬ق ال‪ :‬ف أتى‬
‫رجل خالي حرام ا من خلف ه فطعن ه ب الرمح ح تى أنف ذه‪ ،‬فق ال ح رام‪ :‬ف زت ورب‬
‫الكعبة‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬إن إخوانكم قد قتلوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬اللهم بلغ عنا نبين ا أن ا ق د‬
‫لقيناك ورضينا عنك ورضيت عنا)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬علل الشرائع‪ ،2/600 :‬والكافي‪.3/247:‬‬


‫‪ )(2‬الجهاد البن أبي عاصم ‪ 2/494‬ح(‪ ،)185‬مستخرج أبي عوانة ‪ 4/462‬ح(‪)7345‬‬

‫‪125‬‬
‫ومثله ما روي عن ابن عباس قال‪ :‬بينم ا رس ول هللا ‪ ‬ج الس وأس ماء بنت‬
‫عميس قريبة من ه إذ رد الس الم‪ ،‬ثم ق ال‪( :‬ي ا أس ماء ه ذا جعف ر بن أبي ط الب م ع‬
‫جبريل وميكائيل وإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم الس الم‪ ،‬وق د أخ برني أن ه لقي‬
‫المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رس ول هللا ‪ ‬بثالث أو أرب ع‪ ،‬فق ال‪ :‬لقيت‬
‫المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثالثا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة‪،‬‬
‫ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت‪ ،‬ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت‪ ،‬فعوضني هللا‬
‫من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث ش ئت‪ ،‬وآك ل‬
‫من ثمارها ما شئت)‪ ،‬فق الت أس ماء‪( :‬هينئ ا ً لجعف ر م ا رزق ه هللا من الخ ير‪ ،‬ولكن‬
‫أخاف أن ال يصدق الناس فاصعد المنبر أخبر ب ه)‪ ،‬فص عد المن بر فحم د هللا وأث نى‬
‫عليه‪ ،‬ثم قال‪( :‬يا أيها الناس إن جعفرا مع جبريل وميكائيل‪ ،‬له جناحان عوض ه هللا‬
‫من يديه سلم علي‪ ،‬ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين)‪ ،‬فاستبان للن اس‬
‫بعد اليوم الذي أخبر رسول هللا ‪ ‬أن جعفر لقيهم‪ ،‬فل ذلك س مي الطي ار في الجن ة)‬
‫(‪)1‬‬
‫بل إن ابن القيم نفسه ـ وهو تلميذ ابن تيمية‪ ،‬الذي ينفي صلة األحياء ب الموتى‬
‫وتأثيرهم ـ عقد في كتابه [الروح] فصال خاصا بعنوان [هل يعرف األموات زي ارة‬
‫األحياء وسالمهم أم ال]‪ ،‬ومما جاء فيه قوله‪( :‬قال ابن عب د ال بر ثبت عن الن بي ‪‬‬
‫أنه قال‪( :‬ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم علي ه إال رد هللا‬
‫عليه روحه حتى يرد عليه الس الم)‪ ،‬فه ذا نص في أن ه بعين ه‪ ،‬وي رد علي ه الس الم‪،‬‬
‫وفي الصحيحين عنه من وجوه متعددة أنه أم ر بقتلى ب در‪ ،‬ف ألقوا في قليب ثم ج اء‬
‫حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم‪ :‬يا فالن ابن فالن ويا فالن ابن فالن هل وج دتم‬
‫ما وعدكم ربكم حقا؛ فإني وجدت ما وعدني ربى حقا؟ فقال له عمر‪ :‬ي ا رس ول هللا‬
‫ما تخاطب من أقوام قد جيفوا‪ ،‬فقال‪( :‬والذي بعثنى بالحق م ا أنتم بأس مع لم ا أق ول‬
‫منهم ولكنهم ال يس تطيعون جواب ا)‪ ،‬وثبت عن ه ‪ ‬أن الميت يس مع ق رع نع ال‬
‫المشيعين له إذا انصرفوا عنه‪ ،‬وقد شرع النبي ‪ ‬ألمته إذا سلموا على أهل القبور‬
‫أن يس لموا عليهم س الم من يخاطبون ه‪ ،‬فيق ول‪( :‬الس الم عليكم دار ق وم مؤم نين)‪،‬‬
‫وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل‪ ،‬ولوال ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم‬
‫والجماد)(‪)2‬‬
‫ولكن هذه الصلة ووثاقتها وتأثيره ا يعتم د على الدرج ة ال تي بلغه ا الم ؤمن‬
‫بإيمان ه‪ ،‬ذل ك أن من المؤم نين من يكتفي ب ذلك النعيم ال ذي أع د ل ه‪ ،‬بس بب عمل ه‬
‫الصالح‪ ،‬أو ربما يحصل له ما يشبه الن وم الممتلئ بالراح ة في انتظ ار البعث‪ ،‬كم ا‬
‫قال ‪( :‬إذا قبر الميت أتاه ملكان يقال ألحدهما المنكر واآلخر النكير فيق والن‪ :‬م ا‬
‫كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول‪ :‬ما كان يقول هو عبد هللا ورسوله أشهد أن ال إل ه‬
‫‪ )(1‬رواه الحاكم (‪ 210 - 209 /3‬و‪ )212‬ورواه الطبراني في األوسط مختصراً ‪-‬كما في مجمع الزوائد (‪/9‬‬
‫‪)272‬‬
‫‪ )(2‬الروح (ص‪)5 :‬‬

‫‪126‬‬
‫إال هللا وأن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬فيقوالن قد كنا نعلم أنك تقول هذا‪ ،‬ثم يفسح ل ه في‬
‫قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال له‪ :‬نم فيق ول‪ :‬أرج ع إلى أهلي‬
‫فأخبرهم‪ ،‬فيقوالن‪ :‬نم كنومة العروس الذي ال يوقظه إال أحب أهله إليه ح تى يبعث ه‬
‫هللا من مضجعه ذلك)(‪)1‬‬
‫أما المقربون‪ ،‬أو الساعون في خدمة اإلس الم‪ ،‬ف إن الص لة بينهم وبين الحي اة‬
‫الدنيا تبقى وثيقة جدا‪ ،‬ذلك أنهم يراقبون كل ما يحصل‪ ،‬ويعينون المؤم نين بال دعاء‬
‫وغيره‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا س نذكر هن ا م ا ي دل على كال الص لتين من خالل المص ادر‬
‫المقدسة‪ ،‬وهي ما يخرج ع الم ال برزخ من كون ه عالم ا غيبي ا محض ا إلى ع الم ل ه‬
‫عالقة بعالم الشهادة‪ ،‬وهو ما يعطي مبررا آخر السمه [البرزخ]‬
‫أ ـ التواصل الممتد‪:‬‬
‫وهو التواصل الخ اص ب المنعم عليهم‪ ،‬وال ذين امتألوا زه دا في ال دنيا‪ ،‬كم ا‬
‫امتألوا حب ا هلل‪ ،‬وتض حية في س بيله‪ ،‬ول ذلك هي أ هللا تع الى لهم ه ذا الج زاء ال ذي‬
‫يتناسب مع اهتماماتهم وحرص هم؛ فهم ال يري دون النعيم الخ اص بهم فق ط‪ ،‬ب ل هم‬
‫كذلك‪ ،‬وفوقه حريصون على اإلسالم الذي عاشوا حياتهم كلها من أجله‪.‬‬
‫ص َدقُوا َم ا‬ ‫وق د أش ار إلى ه ذا الص نف قول ه تع الى‪ِ ﴿ :‬منَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ِر َج ا ٌل َ‬
‫ض ى نَحْ بَ هُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْنتَ ِظ ُر َو َم ا بَ َّدلُوا تَبْ ِدياًل ﴾‬ ‫عَاهَ دُوا هللا َعلَيْ ِه فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن قَ َ‬
‫ص ْدقِ ِه ْم ﴾ [األحزاب‪]24 :‬‬ ‫ي هللا الصَّا ِدقِينَ بِ ِ‬ ‫[األحزاب‪ ،]23 :‬وقد قال بعدها‪﴿ :‬لِيَجْ ِز َ‬
‫ومن مقتضيات ذل ك الج زاء‪ ،‬كم ا ه و الع ادة في الك رم اإللهي‪ ،‬إعط اء من‬
‫يجزون ما تقتضيه رغبتهم وحاجتهم‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا ش وق رس ول هللا ‪ ‬لرؤي ة المؤم نين ال ذين لم يكتب لهم أن‬
‫يعيشوا في عهده‪ ،‬بل سماهم [إخوانا]‪ ،‬وهذا يدل على أن له صلة وثيقة بهم‪ ،‬ال تق ل‬
‫عن صلته بأصحابه‪ ،‬بل إن األخوة في اللغة أكرم وأرف ع درج ة من الص حبة‪ ،‬فعن‬
‫أنس بن مال ك ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬وددت أني لقيت إخ واني)‪ ،‬ق ال‪ :‬فق ال‬
‫أصحاب النبي ‪ :‬أوليس نحن إخوانك؟ قال‪( :‬أنتم أص حابي‪ ،‬ولكن إخ واني ال ذين‬
‫آمنوا بي ولم يروني)(‪)2‬‬
‫ويشير إلى هذا أيضا قوله تع الى‪َ ﴿ :‬وقُ ِل ا ْع َملُ وا فَ َس يَ َرى هللا َع َملَ ُك ْم َو َر ُس ولهُُ‬
‫الش هَا َد ِة فَيُنَبِّئُ ُك ْم بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ ﴾ (التوب ة‪:‬‬
‫ب َو َّ‬ ‫َو ْال ُم ْؤ ِمنُونَ َو َستُ َر ُّدونَ إِلَى عَالِ ِم ْال َغ ْي ِ‬
‫‪ ،)105‬فهذه الرؤية ال تقتصر على المؤمنين األحياء‪ ،‬بل تشمل غيرهم أيضا‪.‬‬
‫وهي تتجاوز الرؤية المجردة‪ ،‬بل إنها رؤية مؤثرة‪ ،‬ذلك أن أصحاب البرزخ‬
‫يمكنهم أن يساهموا في خدمة األحياء عبر دعائهم‪ ،‬كما دل على ذلك قول ه ‪( :‬إن‬
‫أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من األموات‪ ،‬فإن كان خيراً استبشروا به‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪)1071‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪ 20/38‬ح(‪ ،)12579‬وأبو يعلي (‪ ،)3390‬والطبراني في األوسط (‪)5490‬‬

‫‪127‬‬
‫هديتنا)(‪)1‬‬ ‫وإن كان غير ذلك قالوا‪ :‬اللهم ال تمتهم حتى تهديهم كما‬
‫وهذا النص يبين أن مجال التأثير مرتبط باالهتمام‪ ،‬فإن ك ان اهتم ام الم ؤمن‬
‫قاصرا على أقارب ه وعش يرته امت د ت أثيره إليه ا فق ط‪ ،‬وإن ك ان متع ديا ش مل ك ل‬
‫الدائرة التي يهتم بها‪.‬‬
‫ولهذا وردت األحاديث تبين مدى س عة دائ رة ت أثير رس ول هللا ‪ ‬في حي اة‬
‫األمة جميعا‪ ،‬وهم لذلك يمكنهم أن يتوسلوا ب ه أو يس تغيثوا مثلم ا ك انوا يفعل ون في‬
‫حياته تماما‪ ،‬ألن موته ‪ ‬لم يقطع صلته باهلل‪ ،‬ب ل إن ه زاده ا‪ ،‬ول ذلك ك ان اللج وء‬
‫إليه لجوءا إلى وسيلة شرعية من أعظم الوسائل‪.‬‬
‫﴿ولَ وْ أَنَّهُ ْم إِذْ‬ ‫ولهذا فهم كل العلم اء ـ م ا ع دا التكف يريين ـ من قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ظَلَ ُموا أَ ْنفُ َسهُ ْم َجا ُءو َ‬
‫ك فَا ْستَ ْغفَرُوا هللا َوا ْستَ ْغفَ َر لَهُ ُم ال َّرسُو ُل لَ َو َجدُوا هللا تَ َّوابًا َر ِحيمًا﴾‬
‫[النساء‪ ]64 :‬شمولها لكل األزمنة‪ ،‬وعدم اقتصارها على زمان حياته ‪.‬‬
‫والروايات الكثيرة حول االس تدالل باآلي ة من ل دن الس لف األول‪ ،‬ت دل على‬
‫اشتهار ذلك‪ ،‬واعتباره‪ ،‬حتى أصبح معروفا لدى العامة والخاصة‪ ،‬وقد روى العتبي‬
‫(توفى ‪ 228‬هـ) في ذلك ـ وهو من مش ايخ الش افعي‪ ،‬وح ّدث عن س فيان بن عيين ة‬
‫وغ يره ـ عن محم د بن ح رب الهاللي‪ ،‬ق ال‪ :‬دخلت المدين ة‪ ،‬ف أتيت ق بر الن بي ‪‬‬
‫إن هللا أن زل‬ ‫فزرته وجلست بحذائه‪ ،‬فجاء أعرابي فزاره‪ ،‬ث َّم قال‪( :‬يا خ ير الرس ل‪ّ ،‬‬
‫اس تَ ْغفَرُوا هللا‬ ‫﴿ولَ وْ أَنَّهُ ْم إِ ْذ ظَلَ ُم وا أَ ْنفُ َس هُ ْم َج اءُوكَ فَ ْ‬
‫عليك كتاب ا ً ص ادقا ً ق ال فيه َ‬
‫َوا ْستَ ْغفَ َر لَهُ ُم ال َّرسُو ُل لَ َو َجدُوا هللا تَ َّوابًا َر ِحي ًما﴾ [النساء‪ ،]64 :‬وإنّي جئت ك مس تغفراً‬
‫ربّك من ذنوبي مستشفعا ً فيها بك‪ .‬ث َّم بكى وأنشأ يقول‪:‬‬
‫طيبهن الق اع‬‫ّ‬ ‫فط اب من‬ ‫ي ا خ ير من دفنت بالق اع‬
‫واألك ُم‬ ‫أعظمه‬
‫في ه العف اف وفي ه الج ود‬ ‫لقبر أنت س اكنه‬ ‫ٍ‬ ‫الفداء‬ ‫نفسي‬
‫ر ُم‬ ‫والك‬
‫ث َّم استغفر وانصرف(‪.)2‬‬
‫وقد ذكر الشوكاني وجه االستدالل بها‪ ،‬فقال‪( :‬ووج ه االس تدالل به ا أن ه ‪‬‬
‫حي في قبره بع د موت ه كم ا في ح ديث‪ :‬األنبي اء أحي اء في قب ورهم‪ ،‬وق د ص ححه‬
‫البيهقي وألف في ذلك جزءا)(‪)3‬‬
‫وق ال الس بكي‪( :‬دلت اآلي ة على الحث على المجيء إلى الرس ول ‪‬‬
‫واالستغفار عنده واستغفاره لهم‪ ،‬وذلك وإن كان ورد في حال الحياة‪ ،‬فهي رتب ة ل ه‬
‫ال تنقطع بموته‪ ،‬تعظيما له‪ ..‬واآلية وردت في أق وام معي نين في حال ة الحي اة‪ ،‬فتعم‬
‫بعم وم العل ة ك ل من وج د في ه ذل ك الوص ف في الحي اة وبع د الم وت‪ ،‬ول ذلك فهم‬
‫‪ )(1‬قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪ :)327 /2‬رواه الطبراني في الكبير واألوسط‪.‬‬
‫‪ )(2‬أخرج هذه الرواية ابن الج وزي في (مث ير الع زم الس اكن ٰ‬
‫إلى أش رف األم اكن) وابن عس اكر في (ت اريخ‬
‫دمشق) والقسطالني بأسانيدهم‪ ،‬انظر‪ :‬شفاء السقام‪ ،63 - 62 :‬مختصر تاريخ دمشق ‪ ،408 :2‬والمواهب اللدنية ‪:4‬‬
‫‪.583‬‬
‫‪ )(3‬نيل األوطار ‪.105 /3‬‬

‫‪128‬‬
‫العلماء من اآلية العموم في الحالتين‪ ،‬واستحبوا لمن أتى قبره ‪ ‬أن يتلو ه ذه اآلي ة‬
‫ويستغفر هللا تعالى)(‪)1‬‬
‫بل إن فقهاء الصحابة استدلوا بهذه اآلية على ذلك‪ ،‬فقد روي عن عب د هللا بن‬
‫مسعود قال‪( :‬إن في النساء لخمس آيات ما يسرني بهن الدنيا وم ا فيه ا‪ ،‬وق د علمت‬
‫أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها وذكر منها‪َ ﴿ :‬ولَ وْ أَنَّهُ ْم إِ ْذ ظَلَ ُم وا أَ ْنفُ َس هُ ْم َج اءُوكَ‬
‫َّس و ُل لَ َو َج دُوا هللا تَ َّوابًا َر ِحيمًا﴾[النس اء‪،)2()]64 :‬‬ ‫اس تَ ْغفَ َر لَهُ ُم الر ُ‬
‫اس تَ ْغفَرُوا هللا َو ْ‬
‫فَ ْ‬
‫ففرح ابن مسعود بهذه اآلية ظاهر في أنها عامة‪.‬‬
‫وقد أيد ذل ك بأح اديث كث يرة تش ير إلى م دى ت أثير رس ول هللا ‪ ‬في حي اة‬
‫األمة‪ ،‬بعد وفاته‪ ،‬ومنها قوله حديث الرجل الضرير ال ذي أتى إلى الن بي ‪ ‬فق ال‪:‬‬
‫دعوت‪ ،‬وإن شئتَ صبرتَ وهو خ ير؟ ق ال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ع هللا أن يعافيني‪ ،‬فقال ‪ :‬إن شئت‬ ‫اد ُ‬
‫ّ‬
‫فاد ُعهُ‪ ،‬فأمره ‪ ‬أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويُصلي ركعتين وي دعو به ذا ال دعاء‪:‬‬
‫(اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبي الرحمة ي ا مح ّم د إنّي أتو ّج ه ب ك إلى ربّي‬
‫في حاجتي لتُقضى‪ ،‬الله ّم شفّعه ف ّي)‪ ،‬قال الراوي‪ :‬فوهللا ماتفرّقنا وطال بن ا الح ديث‬
‫ض ّر(‪.)3‬‬
‫حتى دخل علينا كأن لم يكن به ُ‬
‫وقد فهم الصحابة وكل العلماء ـ ما عدا التكفيريين ـ من الحديث شموله لحي اة‬
‫رسول هللا ‪ ،‬وبعدها‪ ،‬حتى راوي الحديث فهم منه ذلك‪ ،‬فقد روي عن عثم ان بن‬
‫أن رجالً كان يختلف على عثمان بن عفان في حاجته‪ ،‬وكان عثمان ال يلتفت‬ ‫حنيف ّ‬
‫إليه وال ينظر في حاجته‪ ،‬فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه‪ ،‬فقال له عثمان بن ح نيف‪:‬‬
‫ائت الميضأة ثم ائت المسجد فص ّل فيه ركعتين وقل‪ :‬اللهم إنّي أس ألك وأتوج ه إلي ك‬
‫بنبيّك محمد ‪ ‬نبي الرحمة‪ ،‬يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقض ي لي ح اجتي‪.‬‬
‫وتذكر حاجتك ورُح حتى أروح معك‪ ،‬فانطلق الرجل فصنع ما قال له‪ ،‬ثم أتى ب اب‬
‫عثمان بن عفان فجاءه البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عف ان‪ ،‬فأجلس ه‬
‫معه على الطنفسة‪ ،‬فقال‪ :‬حاجتك‪ ،‬فذكر حاجته وقضاها ل ه‪ ،‬ثم ق ال ل ه‪ :‬م ا ذك رت‬
‫إن الرج ل‬ ‫حاجتك حتى كان الس اعة‪ ،‬وق ال‪:‬م ا ك انت ل ك من حا ّج ة‪ ،‬فاذكره ا‪ ،‬ثم ّ‬
‫خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له‪ :‬ج زاك هللا خ يراً‪ ،‬م ا ك ان ينظ ر في‬
‫حاجتي وال يلتفت إل ّي حتى كلّمتَه ف ّي‪ ،‬فقال عثمان بن ح نيف‪ :‬وهللا م ا كلّمتُ ه في ك‪،‬‬
‫ولكنّي شهدت رسول هللا ‪ ‬وأتاه ض رير فش كا إلي ه ذه اب بص ره فق ال ل ه الن بي‬
‫‪ ..‬إلى آخر الحديث(‪.)4‬‬

‫‪ )(1‬شفاء السقام‪..82 - 81 :‬‬


‫‪ )(2‬معجم الطبراني ‪ ،220 /9‬قال الهيثمي ‪( :71 /7‬رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد في المسند (‪ ،)138 / 4‬والترمذي (تحفة ‪ ،)133 ،132 / 10‬والنسائي في عمل اليوم والليلة‬
‫(ص ‪ ،)417‬وابن ماجة في السنن (‪ )441 / 1‬والبخاري في التاريخ الكبير (‪ )210 / 6‬والطبراني في المعجم الكبير‬
‫(‪ ،)19/ 9‬وفي الدعاء أيض ا ً (‪ )1289 / 2‬والح اكم في المس تدرك (‪ )519 ،313 / 1‬وص ححه وس لمه ال ذهبي‬
‫والبيهقي في دالئل النبوة (‪ ،)166 / 6‬وفي الدعوات الكبير‪.‬‬
‫‪ )(4‬المعجم الكبير للطبراني‪ 9/30:‬و‪.31‬‬

‫‪129‬‬
‫وهكذا ورد في الروايات ما يدل على عالقة رس ول هللا ‪ ‬بأمت ه‪ ،‬ومعرفت ه‬
‫بها‪ ،‬وتواصله معها‪ ،‬ومن تلك األحاديث م ا رواه عب د هللا بن مس عود أن الن بي ‪‬‬
‫قال‪( :‬حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم‪ ،‬ووفاتي خير لكم تعرض علي أعم الكم‪،‬‬
‫فما رأيت من خير حمدت هللا عليه‪ ،‬وما رأيت من شر استغفرت هللا لكم)(‪)1‬‬
‫وه ذا الح ديث واض ح في الدالل ة على عالق ة رس ول هللا ‪ ‬بأمت ه‪ ،‬وع دم‬
‫اقتصارها على حياته الدنيوية‪ ،‬وقد اتف ق أك ثر المح دثين على تص حيحه‪ ،‬فق د رواه‬
‫البزار في مسنده (‪ )2‬بإسناد رجاله رجال الصحيح‪ ،‬كما نص على ذلك الحافظ ن ور‬
‫ال دين الهيثمي(‪ ،)3‬وق ال الحاف ظ الس يوطي‪ :‬س نده ص حيح(‪ ،)4‬وق ال الحافظ ان‬
‫العراقيان – الزين وابنه ولي الدين –‪( :‬إس ناده جي د)(‪ ،)5‬وروى الح ديث ابن س عد‬
‫بإسناد حسن مرسل(‪.)6‬‬
‫وقد ألف فيه المحدث الكبير عبد هللا بن الصديق الغماري جزءا حديثيا خاصا‬
‫سماه (نهاي ة اآلم ال في ص حة وش رح ح ديث ع رض األعم ال) قرظ ه ل ه ش قيقه‬
‫الحافظ السيد أحمد بن الص ديق الغم اري الحس ني‪ ،‬وذك ر في ه بتفص يل كلم ات من‬
‫ص ححوه من أمث ال الحاف ظ الن ووي‪ ،‬والحاف ظ ابن ال تين‪ ،‬والقرط بي‪ ،‬والقاض ي‬
‫عياض‪ ،‬وابن حجر العس قالني‪ ،‬والحاف ظ زين ال دين الع راقي‪ ،‬وول ده الحاف ظ ولي‬
‫الدين العراقي أب و زرع ة‪ ،‬والحاف ظ الس يوطي‪ ،‬والحاف ظ الهيثمي كم ا في (مجم ع‬
‫الزوائد)‪ ،‬والمن اوي في (فيض الق دير)‪ ،‬والحاف ظ المح دث الس يد أحم د الغم اري‪،‬‬
‫وعبد هللا بن الصديق وغيرهم كثير‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فقد أكد هذا الحديث بقول ه ‪( :‬إن هللا ع ز وج ل إذا أراد‬
‫رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعل ه له ا فرط ا وس لفا بين ي ديها‪ ،‬وإذا أراد‬
‫هلك ة أم ة ع ذبها ونبيه ا حي فأهلكه ا وه و ينظ ر ف أقر عين ه بهلكته ا حين ك ذبوه‬
‫وعصوا أمره)(‪)7‬‬
‫بل إن المحدث الكتاني ذك ر ت واتر ذل ك‪ ،‬فق د ق ال في [نظم المتن اثر]‪( :‬ق ال‬
‫السيوطي في مرقاة الصعود‪ :‬تواترت بحياة األنبياء في قب ورهم األخب ار‪ ،‬وق ال في‬
‫[إنباء األذكياء بحياة األنبياء] ما نصه‪( :‬حياة النبي ‪ ‬في قبره هو وس ائر األنبي اء‬
‫معلومة عندنا علما قطعيا‪ ،‬لما قام عندنا من األدلة في ذل ك‪ ،‬وت واترت به ا األخب ار‬

‫‪ )(1‬رواه ال بزار (كش ف األس تار ‪ )1/397‬ق ال الحاف ظ الهيثمي في مجم ع الزوائ د ( ‪ )9/24‬رجال ه رج ال‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫‪ )(2‬كشف األستار عن زوائد البزار (‪)1/397‬‬
‫‪ )(3‬مجمع الزوائد (‪)9/24‬‬
‫‪ )(4‬الخصائص الكبرى (‪)2/281‬‬
‫‪ )(5‬طرح التثريب (‪)3/297‬‬
‫‪ )(6‬الطبقات (‪ ،)2/194‬وانظر‪ :‬فيض القدير (‪)3/401‬‬
‫‪ )(7‬صحيح مسلم ‪ 4/1791‬ح(‪)2288‬‬

‫‪130‬‬
‫الدالة على ذلك‪ ،‬وقد ألف األم ام ال بيهقي رحم ه هللا تع الى ج زءا في حي اة األنبي اء‬
‫عليهم الصالة والس الم في قب ورهم)‪ ،‬وق ال ابن القيم في كت اب ال روح‪( :‬ص ح عن‬
‫النبي ‪ ‬أن األرض ال تأكل أجساد األنبياء‪ ،‬وأنه ‪ ‬اجتمع باألنبياء ليل ة اإلس راء‬
‫في بيت المقدس‪ ،‬وفي السماء خصوصا بموسى‪ ،‬وقد أخبر بأنه‪( :‬ما من مسلم يس لم‬
‫عليه إال رد هللا عليه روحه حتى يرد عليه السالم)‪ ،‬إلى غ ير ذل ك مم ا يحص ل من‬
‫جملته القطع بأن موت األنبياء إنما هو راج ع إلى أن غيب وا عن ا بحيث ال ن دركهم‪،‬‬
‫وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في المالئك ة‪ ،‬ف إنهم أحي اء موج ودون وال‬
‫نراهم)(‪)1‬‬
‫ويدل لهذا أيضا ما رواه أب و هري رة ق ال‪ :‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬وال ذي نفس‬
‫أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا وحكما عدال‪ ،‬فليكسرن الصليب‬
‫ويقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين ولي ذهبن الش حناء وليعرض ن الم ال فال يقبل ه‬
‫أحد‪ ،‬ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد ألجبته)‪ ،‬وقد رواه الح اكم في المس تدرك‪،‬‬
‫وقال‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة‪ ،‬وسلمه الذهبي (‪.)2‬‬
‫وهذه النصوص وغيرها‪ ،‬ال تدل على اقتص ار ه ذا الج زاء على رس ول هللا‬
‫‪ ،‬بل إنها ت دل على ش موله لك ل ورثت ه الص ادقين ال ذين عاش وا حي اتهم جميع ا‬
‫يحملون نفس حرصه واهتمامه باألمة‪ ،‬ولذلك يتاح لهم من التأثير ما يتاح له ‪.‬‬
‫ونحب أن ننبه هنا إلى أن صلة المقربين أو غ يرهم بالحي اة ال دنيا‪ ،‬ال تتن افى‬
‫مع كونهم في الجنة‪ ،‬أو غيرها‪ ،‬ذلك أن م ا نعرف ه من ك ون الش خص ال يك ون في‬
‫مكانين في نفس الوقت مرتبط بالحي اة ال دنيا‪ ،‬وقوانينه ا‪ ،‬أم ا الحي اة األخ رى‪ ،‬فله ا‬
‫قوانينها الخاصة بها‪.‬‬
‫وقد دلت النصوص على إمكانية أن يكون الشخص هناك في مك انين أو ع دة‬
‫أمكن ة في نفس ال وقت‪ ..‬ب ل دلت على أن ه يمكن أن يس تمع لماليين الن اس‪ ،‬وي رد‬
‫عليهم في نفس الوقت‪ ،‬مثلما ذكر رسول هللا ‪ ‬عن نفسه‪ ،‬أنه يرد الس الم على من‬
‫سلم عليه‪..‬وقد يكون أولئك المسلّمون بالماليين‪ ،‬وفي نفس الوقت‪..‬‬
‫وذلك ال يعني انشغال رسول هللا ‪ ‬بالتسليم‪ ،‬بل يعني أنه يمارس ذلك الدور‬
‫مع غيره من األدوار في نفس الوقت‪ ،‬مثلما تق وم أجهزتن ا الحس ية بالقي ام بأعماله ا‬
‫من دون أن يطغى بعض ها على بعض‪ ،‬ففي وقت واح د نس مع بآذانن ا‪ ،‬ون رى‬
‫بعيوننا‪ ،‬ونشم بأنوفنا‪ ،‬ويمارس قلبنا وجميع أجهزتنا أدوارها بك ل دق ة من غ ير أن‬
‫يطغى بعضها على بعض‪ ،‬أو يمنع بعضها بعضا‪.‬‬
‫وقد ورد في حديث اإلسراء أن رس ول هللا ‪ ‬أم األنبي اء‪ ،‬وص لى بهم‪ ،‬وفي‬
‫نفس الوقت رآهم في السموات‪ ،‬فقد روي أن رسول هللا ‪ ‬قال‪ ..( :‬وقد رأيتني في‬
‫جماعة من األنبياء‪ ،‬فإذا موسى عليه السالم قائم يصلى‪ ،‬فإذا رجل ضرب جعد كأنه‬

‫‪ )(1‬نظم المتناثر ‪( 135‬حديث رقم ‪)115‬‬


‫‪ )(2‬المستدرك (‪)2/595‬‬

‫‪131‬‬
‫من رجال شنوءة‪ ،‬وإذا عيسى ابن مريم عليه السالم قائم يصلي‪ ،‬وإذا إب راهيم علي ه‬
‫السالم قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم ـ ـ يعني‪ :‬نفسه ـ فح انت الص الة ف أممتهم)‬
‫(‪)1‬‬
‫وعن ابن عب اس ق ال‪( :‬فلم ا دخ ل الن بي ‪ ‬المس جد األقص ى ق ام يص لي‪،‬‬
‫فالتفت‪ ،‬ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه)(‪)2‬‬
‫ب ـ التواصل المحدود‪:‬‬
‫وهو التواصل الخاص بأه ل اليمين‪ ،‬أو ب المؤمنين ال ذي لم ت رق هممهم إلى‬
‫همم المقربين والمنعم عليهم‪ ،‬وهؤالء لهم تواصل أيضا مع أهل الحياة الدنيا‪ ،‬ولكنه‬
‫محدود بقدر هممهم‪.‬‬
‫وقد أقر بهذا التواصل كل العلماء بم ا فيهم المنك رون للتوص ل الم ؤثر‪ ،‬فق د‬
‫ذكر ابن القيم إجماع السلف على ذلك‪ ،‬حيث قال‪( :‬والسلف مجمعون على هذا‪ ،‬وقد‬
‫تواترت اآلثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به) (‪)3‬‬
‫ثم س اق أمثل ة كث يرة عن ذل ك منه ا م ا رواه عن ابن أبى ال دنيا في [كت اب‬
‫القبور] في باب [معرف ة الم وتى بزي ارة األحي اء]‪ ،‬ومنه ا أن م ا رواه عن عائش ة‬
‫قالت‪ :‬قال رسول هللا ‪( :‬ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إال استأنس ب ه‬
‫ورد عليه حتى يقوم)(‪)4‬‬
‫ومنه ا م ا روي أن بعض هم س أل رس ول هللا ‪ ،‬فق ال‪( :‬ي ا رس ول هللا! ّ‬
‫إن‬
‫طريقي على الموتى‪ ،‬فهل من كالم أتكلم به إذا مررت عليهم؟)‪ ،‬فق ال‪( :‬ق ل ّ‬
‫الس الم‬
‫عليكم يا أهل القبور من المسلمين والمؤمنين‪ ،‬أنتم لنا سلف‪ ،‬ونحن لكم تبع‪ ،‬وإنّ ا إن‬
‫شاء هللا بكم الحقون)‪ ،‬فقيل له‪( :‬يا رسول هللا؛ يسمعون؟)‪ ،‬قال‪( :‬يسمعون‪ ،‬ولكن ال‬
‫يستطيعون أن يجيبوا)‪ .‬قال‪( :‬يا أبا رزين؛ أال ترض ى أن ي ر ّد علي ك من المالئك ة)‬
‫(‪)5‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬قال‪( :‬ما من أحد يم ّر على ق بر أخي ه الم ؤمن ك ان يعرف ه في‬
‫الدنيا يسلّم عليه إال عرفه ورد عليه السالم)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)172‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪)167 / 4‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.6‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.6‬‬
‫‪ )(5‬خرّ جه العقيلي في (الضعفاء) (‪ /1191 /4‬ترجمة‪ -1576 :‬الصميعي)‪.‬‬
‫‪ )(6‬قال ابن رجب‪ :‬رواه ابن عبد البر‪ ،‬وق ال عب د الح ق اإلش بيلي‪ :‬إس ناده ص حيح‪ .‬يش ير إلى أن روات ه كلهم‬
‫ثقات‪ ،‬أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور‪ ،‬ص‪.81 :‬‬

‫‪132‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬وقف على مصعب بن عمير حين رجع من أحد‪ ،‬فوق ف علي ه‬
‫وعلى أصحابه‪ ،‬فق ال‪( :‬أش هد أنكم أحي اء عن د هللا‪ ،‬ف زوروهم‪ ،‬وس لّموا عليهم‪ ،‬ف و‬
‫الذي نفسي بيده ال يسلّم عليهم أحد إال ر ّدوا عليه إلى يوم القيامة)(‪)7‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬قال‪( :‬ما من رجل يزور قبر أخيه‪ ،‬ويجلس عنده‪ ،‬إال اس تأنس‬
‫ور ّد عليه‪ ،‬حتى يقوم)(‪)2‬‬
‫ومنه ا م ا رواه عن رج ل من آل عاص م الجح درى ق ال‪ :‬رأيت عاص ما‬
‫الجحدرى في منامى بعد موته بسنتين فقلت‪ :‬أليس قدمت ق ال‪ :‬بلى قلت‪ :‬ف أين أنت؟‬
‫قال‪ :‬أنا وهللا في روضة من ري اض الجن ة أن ا ونف ر من أص حابي نجتم ع ك ل ليل ة‬
‫جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد هللا المزنى فنتلقى أخب اركم‪ ،‬ق ال‪ :‬قلت‪ :‬أجس ادكم‬
‫أم أرواحكم؟ ق ال‪ :‬هيه ات بليت االجس ام وإنم ا تتالقى األرواح‪ ،‬ق ال‪ :‬قلت‪ :‬فه ل‬
‫تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال‪ :‬نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم الس بت إلى طل وع‬
‫الشمس‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬فكيف ذلك دون األيام كلها قال لفضل يوم الجمعة وعظمته) (‪)3‬‬
‫وغيرها من النص وص الكث يرة ال تي ت بين الص لة الوثيق ة بين المؤم نين في‬
‫البرزخ مع إخوانهم المؤمنين في الدنيا‪.‬‬
‫وهذه الصلة ـ كما تشير النصوص الكثيرة ـ ليس ت ص لة عادي ة فق ط‪ ،‬وإنم ا‬
‫هي صلة مؤثرة من الجه تين‪ ،‬أي أن الم وتى يمكنهم أن ينفع وا األحي اء‪ ،‬واألحي اء‬
‫يمكنهم أن ينفعوا الموتى‪.‬‬
‫أم ا نف ع الم وتى لألحي اء‪ ،‬فيش ير إلي ه قول ه ‪( :‬إن أعم الكم تع رض على‬
‫أقاربكم وعشائركم من األموات‪ ،‬فإن كان خيراً استبش روا ب ه‪ ،‬وإن ك ان غ ير ذل ك‬
‫قالوا‪ :‬اللهم ال تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا)(‪)4‬‬
‫وأما انتفاع الموتى باألحياء‪ ،‬فله أدلة كثيرة جدا‪ ،‬واختلفت األم ة في ه بين من‬
‫يجعله محدودا‪ ،‬وفي طاعات محدودة جدا‪ ،‬ويمثله من يحاولون قط ع ص لة األحي اء‬
‫بالموتى‪ ،‬ويؤولون كل النصوص الواردة في ذلك‪ ،‬وبين من يرى اتس اع ذل ك لك ل‬
‫األعمال الصالحة‪.‬‬
‫وقد أشار ابن القيم إلى األقوال الواردة في ذلك‪ ،‬فقال جوابا على سؤال يق ول‬
‫(هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعى األحي اء أم ال؟)‪( :‬الج واب أنه ا تنتف ع من‬
‫س عى األحي اء ب أمرين مجم ع عليهم ا بين أه ل الس نة من الفقه اء وأه ل الح ديث‬
‫والتفس ير‪ ،‬أح دهما م ا تس بب إلي ه الميت في حيات ه‪ ،‬والث اني دع اء المس لمين ل ه‬
‫واس تغفارهم ل ه والص دقة والحج على ن زاع م ا ال ذي يص ل من ثواب ه ه ل ث واب‬
‫اإلنفاق أو ثواب العمل‪ ،‬فعند الجمهور يصل ثواب العمل نفسه‪ ،‬وعند بعض الحنفية‬
‫‪ )(7‬أخرجه الحاكم (‪ )248 /2‬وقال‪( :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين) وتعقبه الذهبي بقوله‪( :‬كذا ق ال؛‬
‫وأنا أحسبه موضوعا‪ ،‬وقطن لم يرويا له‪ ،‬وعبد األعلى لم يخرجا له)‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن أبي الدنيا في كتاب (القبور)‪ ،‬وكتاب (من عاش بعد الموت)‪ ،‬رقم (‪)41‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.6‬‬
‫‪ )(4‬قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪ :)327 /2‬رواه الطبراني في الكبير واألوسط‪..‬‬

‫‪133‬‬
‫إنما يص ل ث واب اإلنف اق‪ ،‬واختلف وا في العب ادة البدني ة كالص وم والص الة وق راءة‬
‫الق رآن وال ذكر فم ذهب اإلم ام أحم د وجمه ور الس لف وص ولها وه و ق ول بعض‬
‫أصحاب أبى حنيفة نص على هذا اإلمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال‬
‫قيل ألبى عبد هللا الرجل يعمل الشيء من الخ ير من ص الة أو ص دقة أو غ ير ذل ك‬
‫فيجعل نصفه ألبيه أو ألمه قال أرجو أو قال الميت يصل إليه ك ل ش يء من ص دقة‬
‫أو غيرها وقال أيضا اقرأ آية الكرسي ثالث م رات وق ل ه و هللا أح د وق ل اللهم إن‬
‫فضله ألهل المقابر والمشهور من مذهب الشافعي ومال ك أن ذل ك ال يص ل‪ ،‬وذهب‬
‫بعض أه ل الب دع من أه ل الكالم أن ه ال يص ل إلى الميت ش يء البت ة الدع اء وال‬
‫غيره)(‪)1‬‬
‫وقال ابن قدامه رحم ه هللا‪( :‬وأي قرب ة فعله ا‪ ،‬وجع ل ثوابه ا للميت المس لم‪،‬‬
‫نفعه ذلك‪ ،‬إن شاء هللا‪ ،‬أما الدعاء‪ ،‬واالستغفار‪ ،‬والصدقة‪ ،‬وأداء الواجبات‪ ،‬فال أعلم‬
‫فيه خالفا‪ ،‬إذا كانت الواجبات‪ ،‬مما يدخله النيابة)(‪)2‬‬
‫وقال المحقق الحلي‪( :‬كل ما يفعل ه الحي من القُ َرب يج وز أن يجع ل ثوابه ا‬
‫للميت‪ ،‬لما روي عن الن بي ‪ ‬أن ه ق ال لعم رو بن الع اص‪ :‬ل و ك ان أب وك مس لما ً‬
‫فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه‪ ،‬بلغه ذل ك‪ ،‬ومن طري ق األص حاب م ا‬
‫ُص لَّى عن الميت؟فق ال‪( :‬نعم‪ ،‬ح تى أن ه‬ ‫رواه عمر بن يزي د عن اإلم ام الص ادق‪ :‬ي َ‬
‫يكون في ضيق فيُوسع عليه)‪ ،‬ويقال له‪ُ ( :‬خفف عن ك بص الة أخي ك عن ك)‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫(من عم ل من المس لمين عن ميت عمالً ص الحاً‪ ،‬أض عف ل ه أج ره‪ ،‬ونف ع هللا ب ه‬
‫الميت)(‪)3‬‬
‫وقد حاول الشهيد الثاني في كتابه [ذكرى الش يعة في أحك ام الش ريعة] جم ع‬
‫﴿والَّ ِذينَ َج ا ُءوا ِم ْن‬ ‫األدلة الكثيرة على ذلك ردا على المخالفين‪ ،‬ومنها قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫بَ ْع ِد ِه ْم يَقُولُونَ َربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَ ا وَإِل ِ ْخ َوانِنَ ا الَّ ِذينَ َس بَقُونَا بِاإْل ِ ي َم ِ‬
‫ان َواَل تَجْ َع لْ فِي قُلُوبِنَ ا‬
‫ك‬ ‫اس تَ ْغفِرْ لِ َذ ْنبِ َ‬
‫﴿و ْ‬
‫وف َر ِحي ٌم﴾ [الحش ر‪ ،]10 :‬وقول ه‪َ :‬‬ ‫ك َر ُء ٌ‬ ‫ِغاًّل لِلَّ ِذينَ آ َمنُ وا َربَّنَ ا إِنَّ َ‬
‫ت﴾ [محمد‪]19 :‬‬ ‫َولِ ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫وهكذا استدل بما روي أن امرأة من جُهين ة ج اءت إلى الن بي ‪ ‬فق الت‪ :‬إن‬
‫أُمي نذرت أن تحج‪ ،‬فلم تحج حتـى ماتت‪ ،‬أفأحجُّ عنهـا؟ ق ال‪( :‬نعـم‪ُ ،‬ح ِّجي عنه ا‪،‬‬
‫ت قاضيته؟ اقضوا هللا‪ ،‬فاهلل أحق بالوفاء)(‪)4‬‬ ‫دين‪ ،‬أكن ِ‬ ‫أرأيت لو كان على أ ّمك ٌ‬
‫ومثله م ا روي أن رجال ق ال للن بي ‪( :‬إن أمي افتلتت نفس ها‪ ،‬وأظنه ا ل و‬
‫تكلمت تصدقت‪ ،‬فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال‪( :‬نَ َع ْم)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬الروح (ص‪)117 :‬‬


‫‪ )(2‬المغني (‪)2/226‬‬
‫‪ )(3‬المعتبر(‪)1/340‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ‪ ،2/656‬حديث رقم (‪ ،)1754‬ومسلم ‪ ،2/804‬حديث رقم (‪)1148‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري (‪ ،)1388‬ومسلم (‪)1004‬‬

‫‪134‬‬
‫وروى عن اإلمام الصادق قوله‪( :‬إن الميت يفرح ب الترحم علي ه واإلس تغفار‬
‫له‪ ،‬كما يفرح الحي بالهدية تهدى إليه)‪ ،‬وعنه قال‪( :‬ستة تلح ق الم ؤمن بع د وفات ه‪:‬‬
‫ولد يس تغفر ل ه‪ ،‬ومص حف يخلف ه‪ ،‬وغ رس يغرس ه‪ ،‬وص دقة م اء يجري ه‪ ،‬وقليب‬
‫يحفره‪ ،‬وسنة يؤخذ به ا من بع ده)‪ ،‬وق ال‪( :‬من عم ل من المس لمين عن ميت عمالً‬
‫صالحاً‪ ،‬أضعف له أجره ونفع هللا عز وجل به الميت) (‪)6‬‬
‫وروى أنه سئل‪ :‬يصل إلى الميت الدعاء والصدقة والصالة ونحو هذا؟ فقال‪:‬‬
‫(نعم)‪ ،‬فقيل له‪ :‬أو يعلم من صنع ذلك به؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬يكون مسخوطا ً عليه‪ ،‬فيُرضى‬
‫عنه)‬
‫وروى عنه قوله‪( :‬إن الصالة والصوم والصدقة والحج والعمرة‪ ،‬وكل عم ل‬
‫صالح‪ ،‬ينفع الميت‪ .‬ح تى أن الميت ليك ون في ض يق فيوس ع علي ه‪ ،‬ويق ال إن ه ذا‬
‫بعمل ابنك فالن‪ ،‬وبعمل أخيك فالن‪ ،‬أخوه في الدين)‬
‫وروى عن اإلمام الكاظم أنه سئل عن الرجل يحج ويعتم ر ويص لي ويص وم‬
‫ويتصدق عن والديه وذوي قرابته؟ قال‪( :‬ال بأس به‪ ،‬يؤجر فيم ا يص نع‪ ،‬ول ه أج ر‬
‫آخر بصلته قرابته)‪ ،‬فقيل له‪ :‬وإن كان ال يرى ما أرى وهو ناص ب؟ ق ال‪( :‬يخف ف‬
‫عنه بعض ما هو فيه)‬
‫وهذه األحاديث والروايات تدل على مدى اتساع الرحمة اإللهي ة ال تي تجع ل‬
‫للميت الفرص الكثيرة التي تعوض عن كثير من التقصير ال ذي وق ع في ه‪ ،‬وخاص ة‬
‫إن أوصى بذلك‪ ،‬أو ترك من األوالد الصالحين من يقوم بذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ البرزخ‪ ..‬واالنقطاع عن الحياة الدنيا‪:‬‬
‫ورد في النص وص المقدس ة م ا ي دل على ذل ك االنقط اع ال ذي يع اقب ب ه‬
‫الحريصون على الحياة الدنيا‪ ،‬والذين أضاعوا دينهم بسببها‪ ،‬ويشير إليه من الق رآن‬
‫ين (‪)8‬‬ ‫ِّين (‪َ )7‬و َما أَ ْد َرا َ‬
‫ك َم ا ِس جِّ ٌ‬ ‫َاب ْالفُج ِ‬
‫َّار لَفِي ِسج ٍ‬ ‫الكريم قوله تعالى‪َ ﴿ :‬كاَّل إِ َّن ِكت َ‬
‫ِكتَابٌ َمرْ قُو ٌم (‪َ )9‬و ْي ٌل يَوْ َمئِ ٍذ لِ ْل ُم َك ِّذبِينَ ﴾ [المطففين‪]10 - 7 :‬‬
‫والذي فسره ذلك الحديث الذي يصف ما يحصل للظلمة والكفار عند م وتهم‪،‬‬
‫ففيه قال ‪( :‬وإن العبد الك افر إذا ك ان في انقط اع من ال دنيا وإقب ال من اآلخ رة‪،‬‬
‫نزل إليه من السماء مالئكة سود الوجوه‪ ،‬معهم المسوح‪ ،‬فيجلسون منه م د البص ر‪،‬‬
‫ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‪ ،‬فيق ول‪ :‬أيته ا النفس الخبيث ة‪ ،‬اخ رجي‬
‫إلى سخط من هللا وغضب‪ ،‬قال‪ :‬فتتفرق في جسده‪ ،‬فينتزعها كما ينتزع الس فود من‬
‫الصوف المبلول‪ ،‬فيأخذها‪ ،‬فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين‪ ،‬حتى يجعلوه ا‬
‫في تل ك المس وح‪ ،‬ويخ رج منه ا ك أنتن ريح خبيث ة وج دت على وج ه األرض‪،‬‬
‫فيص عدون به ا‪ ،‬فال يم رون به ا على مأل من المالئك ة إال ق الوا‪ :‬م ا ه ذا ال روح‬
‫الخبيث؟ فيقولون فالن ابن فالن‪ ،‬بأقبح أس مائه ال تي ك انوا يس مونه به ا في ال دنيا‪،‬‬
‫حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا‪ ،‬فيستفتح له‪ ،‬فال يفتح له‪ ،‬ثم قرأ رس ول هللا ‪ :‬ال‬

‫‪ )(6‬الشيعة في أحكام الشريعة (‪)2/66‬‬

‫‪135‬‬
‫تفتح لهم أبواب السماء وال يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‪ ،‬فيق ول هللا‬
‫عز وجل‪ :‬اكتبوا كتابه في سجين‪ ،‬في األرض السفلى)(‪)1‬‬
‫وعن اإلمام الصادق أنه سئل عن أرواح المشركين فقال‪( :‬في الن ار يع ذبون‬
‫يقولون‪ :‬ربنا ال تقم لنا الساعة‪ ،‬وال تنجز لنا ما وعدتنا‪ ،‬وال تلحق آخرنا بأولنا)(‪)2‬‬
‫وكما ذكرنا سابقا‪ ،‬ف إن ه ذا ال نس تطيع تعميم ه على ك ل األح وال‪ ،‬ألن ه ق د‬
‫يكون من مقاصد العدالة والتربية والجزاء اإللهي أن يريه من الدنيا ما يؤدب به‪.‬‬
‫وقد روي في ذلك عن اإلمام الصادق قوله‪( :‬إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما‬
‫يحب‪ ،‬ويستر عنه ما يكره‪ .‬وإن الكافر ليزور أهله ف يرى م ا يك ره ويس تر عن ه م ا‬
‫يحب‪ .‬قال‪ :‬ومنهم من يزور كل جمعة‪ ،‬ومنهم من يزور‪ ،‬على قدر عمله)(‪)3‬‬
‫وقال‪( :‬ما من مؤمن وال ك افر إال وه و ي أتي أهل ه عن د زوال الش مس‪ ،‬ف إذا‬
‫رأى أهله يعملون بالص الحات‪ ،‬حم د هللا على ذل ك‪ ،‬وإذا رأى الك افر أهل ه يعمل ون‬
‫بالصالحات كانت عليه حسرة) (‪)4‬‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود (‪ ،)4753‬وأحمد (‪.)18557( )287 /4‬‬


‫‪ )(2‬الكافي (‪)3/245‬‬
‫‪ )(3‬الكافي (‪)3/230‬‬
‫‪ )(4‬الكافي (‪)3/231‬‬

‫‪136‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫المعاد‪ ..‬وتجليات العدالة‬
‫من أهم الحقائق الوجودية التي ال يمكن فهم النشأتين األولى واألخرى إال من‬
‫خاللها ما يمكن أن نطلق عليه قانون [البدء واإلع ادة]‪ ،‬وهم ا قانون ان متجلي ان في‬
‫كل شيء‪ ،‬وينطلقان من كون هللا تعالى [مبدئا معيدا]‬
‫فه ذان االس مان من أس ماء هللا الحس نى يحالن اإلش كاالت والعق د الكث يرة‬
‫المرتبطة بحقائق هذه النشأة الدنيوية المبدئية البسيطة‪ ،‬وحقائق تلك النشأة األخروية‬
‫التي يتحقق فيها المعاد‪ ،‬بصورته المثالية‪ ،‬المستندة لتجليات األسماء الحسنى‪.‬‬
‫وعدم فهم هذين االسمين‪ ،‬والحقائق المرتبطة بهما‪ ،‬يجعل من المعاد وحقائقه‬
‫وتجلياته المختلفة مجرد مظاهر متنافرة ال شيء يجمع بينها‪.‬‬
‫وحتى نبسط هذا المفهوم لعقولنا البسيطة مع االحتفاظ بقدسية هللا وتعاليه عن‬
‫ضرب األمثال‪ ،‬ومع بيان أن األمثال ال يؤخذ بها من جميع النواحي‪ ،‬بل يكتفى فيها‬
‫بالجهة التي ضرب من أجلها فقط‪ ،‬نذكر أنه ل و أعطي اإلنس ان فرص تان‪ ..‬فرص ة‬
‫نسميها البداية‪ ،‬وفرصة نسميها المعاد‪.‬‬
‫أما في فرصته األولى‪ ،‬فتضطره الظروف ألن يسكن بلدة بعينها‪ ،‬ويك ون ل ه‬
‫جيران‪ ،‬وتكون له وظيفة تب نى على أس اس تك وين علمي معين‪ ..‬ويك ون ل ه ه وى‬
‫ألطعمة معينة‪ ،‬أو غيرها‪ ،‬وقد يحصل له في هذه الفترة أمراض بس بب ذل ك‪ ..‬وق د‬
‫يحصل له مشاكل بسبب تصرفات تصرفها‪.‬‬
‫وبعد أن تنتهي هذه الفرصة األولى‪ ..‬يقال له‪ :‬منحناك فرصة أخرى‪ ..‬ولحياة‬
‫جديدة‪ ،‬تكون فيها بكامل صحتك ووعيك وعقل ك‪ ..‬وأنت فيه ا بالخي ار بين أن تعي د‬
‫نفس الحياة السابقة‪ ،‬أو تبدأ حياة جديدة‪ ،‬ومع جميع الخيارات التي تريد‪.‬‬
‫فمن البديهي لكل عاقل تتاح ل ه ه ذه الفرص ة أن يب ني حيات ه الجدي دة‪ ،‬وف ق‬
‫الدروس التي استفادها من حياته األولى‪ ..‬فإن كان له في فرص ته األولى‪ ،‬أو مبدئ ه‬
‫أصدقاء خانوه‪ ،‬وآخرون وفوا له‪ ،‬فإنه الشك سيختار في فرص ته الثاني ة األص دقاء‬
‫الذين وفوا له‪ ،‬وكانوا متناسبين مع طبيعته‪..‬‬
‫وهكذا في اختياره لبيته وجيرانه ووظيفته وتخصصه الدراسي‪ ..‬وهو في كل‬
‫شيء‪ ،‬ومع كل قرار‪ ،‬يستفيد من كل ما فاته في فرصته السابقة‪.‬‬
‫بل إنه يت دارك ص حته قب ل أن يح ل ب ه الم رض ال ذي ح ل ب ه في فرص ته‬
‫األولى‪ ،‬فيتجنب كل ما يسببه‪ ،‬ويتجنب معه كل األسباب التي جعلته يقع في مش اكل‬
‫مع محيطه أو غيره‪.‬‬
‫والخالصة أن حياته الثاني ة س تكون أك ثر مثالي ة وجم اال من حيات ه األولى‪،‬‬
‫ألنه استطاع أن يستفيد من كل تجاربه السابقة‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬فإن اسم هللا تع الى [المعي د]‪ ،‬يع ني وض ع حي اة جدي دة لل ذين‬
‫يريد إعادتهم‪ ،‬تتشكل وفق رغباتهم وأهوائهم والمب اني ال تي ب نيت عليه ا نفوس هم‪،‬‬
‫وال تي أسس وها بمحض رغبتهم وح ريتهم طيل ة الف ترة ال تي أتيحت لهم فيه ا ك ل‬
‫الفرص‪.‬‬
‫وعندما نعود للقرآن الكريم ـ بصحبة هذا المثال التقريبي ـ لتأمل م ا ورد في ه‬
‫حول هذين االسمين‪ ،‬أو حول هذا االسم المركب‪ ،‬والقوانين المرتبطة به‪ ،‬نج د ه ذا‬
‫المعنى واضحا جليا‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك‪ ،‬م ا ورد في س ورة ال بروج‪ ،‬فق د ذك ر فيه ا ه ذان‬
‫ئ َوي ُِعيدُ﴾ [البروج‪،]13 :‬‬ ‫االسمان مرتبطان بفعل هللا تعالى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِنَّهُ ه َُو يُ ْب ِد ُ‬
‫وكأنهما تعلالن سر تلك الفتنة التي حصلت للمؤمنين‪ ،‬والبطش الشديد الذي حل بهم‬
‫من طرف أولئك الطغاة المستبدين‪..‬‬
‫وكأنها تذكر بأن من مقتضيات البداية أن تكون بذلك الشكل لتتم يز األن واع‪،‬‬
‫ويختار كل صنف ما يشتهي‪ ،‬وبع د اإلع ادة يتحق ق التمي يز‪ ،‬وين ال ك ل ص نف م ا‬
‫أسس عليه شخصيته في حياته األولى‪.‬‬
‫ول ذلك يمكنن ا أن نق رأ ه ذه اآلي ات الكريم ة‪ ،‬ل نرى فيه ا الع زاء اإللهي‬
‫للمؤم نين‪ ،‬والتح ذير اإللهي للمس تبدين‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿:‬إِ َّن الَّ ِذينَ فَتَنُ وا ْال ُم ْؤ ِمنِينَ‬
‫ق (‪ )10‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬ ‫ت ثُ َّم لَ ْم يَتُوبُوا فَلَهُ ْم َع َذابُ َجهَنَّ َم َولَهُ ْم َع َذابُ ْال َح ِري ِ‬
‫َو ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر َذلِ كَ ْالفَ وْ ُز ْال َكبِ ي ُر (‪ )11‬إِ َّن‬ ‫ت لَهُ ْم َجنَّ ٌ‬‫َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ئ َوي ُِعي ُد (‪َ )13‬وهُ َو ْال َغفُ و ُر الْ َودُو ُد (‪ُ )14‬ذو‬ ‫ش َربِّكَ لَ َش ِدي ٌد (‪ )12‬إِنَّهُ هُ َو يُبْ ِد ُ‬ ‫ط َ‬ ‫بَ ْ‬
‫ش ْال َم ِجي ُد (‪ )15‬فَعَّا ٌل لِ َما ي ُِري ُد (‪[ ﴾ )16‬البروج‪]17 - 10 :‬‬ ‫ْال َعرْ ِ‬
‫وهذا المعنى نراه في قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِلَ ْي ِه َمرْ ِج ُع ُك ْم َج ِميعًا َو ْع َد هللا َحقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ‬
‫ت بِ ْالقِ ْس ِط َوالَّ ِذينَ َكفَ رُوا لَهُ ْم‬ ‫ي الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬ ‫ْالخَ ْل َ‬
‫ق ثُ َّم يُ ِعي ُدهُ لِيَجْ ِز َ‬
‫َش َرابٌ ِم ْن َح ِم ٍيم َو َع َذابٌ أَلِي ٌم بِ َم ا َك انُوا يَ ْكفُ رُونَ ﴾ [ي ونس‪ ،]4 :‬فاآلي ة الكريم ة‬
‫واضحة في بيان سر اإلعادة‪ ،‬وأنه إعطاء ك ل ش يء م ا يس تحقه مم ا يتناس ب م ع‬
‫طبيعته‪.‬‬
‫ُ‬
‫وانطالقا من هذا المعنى ف إن ك ل الثغ رات ال تي تك ون في المب دأ تص لح في‬
‫المعاد‪ ،‬ولهذا سمى هللا تعالى هذه الحياة بالحي اة ال دنيا‪ ،‬باعتباره ا مج رد بداي ة‪ ،‬أو‬
‫مجرد فرصة للجميع‪ ،‬ليختاروا فيها ما يتناسب مع طبائعهم‪.‬‬
‫وقد روي أن رسول هللا ‪ ‬مر بشاة ميتة شائلة برجلها‪ ،‬فق ال‪( :‬أت رون ه ذه‬
‫هينة على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على هللا من ه ذه على ص احبها‪،‬‬
‫ولو كانت الدنيا تزن عند هللا جناح بعوضة‪ ،‬ما سقى كافرا منها قطرة أبدا)(‪)1‬‬
‫وروي عن اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬ل و يعلم الن اس م ا في فض ل معرف ة هللا‬
‫عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع هللا به االعداء من زهرة الحي اة ال دنيا ونعيمه ا‬

‫‪ )(1‬سنن ابن ماجه ‪ 2/1376‬ح(‪.)4110‬‬

‫‪138‬‬
‫وكانت دني اهم أق ل عن دهم مم ا يطؤون ه ب أرجلهم‪ ،‬ولنعم وا بمعرف ة هللا ع ز وج ل‬
‫وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجن ان م ع أولي اء هللا‪ ،‬إن معرف ة هللا ع ز‬
‫وجل انس من كل وحشة‪ ،‬وصاحب من كل وحدة‪ ،‬ون ور من ك ل ظلم ة‪ ،‬وق وة من‬
‫كل ضعف‪ ،‬وشفاء من كل سقم) (‪)1‬‬
‫وقبل ذلك وصف هللا تعالى الدنيا بالهوان‪ ،‬وأنه ا مج رد دار للتمي يز‪ ،‬ول ذلك‬
‫يختلط فيها الخبيث بالطيب‪ ،‬كما في قول ه تع الى مقارن ا بين الحي اة ال دنيا‪ ،‬أو حي اة‬
‫ت َوإِنَّ َما تُ َوفَّوْ نَ أُجُو َر ُك ْم‬ ‫س َذائِقَةُ ْال َموْ ِ‬ ‫المبدأ‪ ،‬والحياة اآلخرة‪ ،‬أو حياة المعاد‪ُ ﴿ :‬كلُّ نَ ْف ٍ‬
‫ع‬‫ار َوأُ ْد ِخ َل ْال َجنَّةَ فَقَ ْد فَ ازَ َو َم ا ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا إِاَّل َمتَ ا ُ‬ ‫يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة فَ َم ْن ُزحْ ِز َح ع َِن النَّ ِ‬
‫ُور ﴾ [آل عمران‪]185 :‬‬ ‫ْال ُغر ِ‬
‫وقال مخاطب ا ال ذين تث اقلوا إلى الحي اة ال دنيا‪ ،‬جواب ا على اعتراض هم ال ذي‬
‫ب﴾ [النس اء‪:‬‬ ‫َال لَوْ اَل أَ َّخرْ تَنَا إِلَى أَ َج ٍل قَ ِري ٍ‬ ‫عبروا عنه بقولهم‪َ ﴿ :‬ربَّنَا لِ َم َكتَبْتَ َعلَ ْينَا ْالقِت َ‬
‫ظلَ ُمونَ فَتِياًل ﴾ [النساء‪]77 :‬‬ ‫ع ال ُّد ْنيَا قَلِي ٌل َواآْل ِخ َرةُ خَ ْي ٌر لِ َم ِن اتَّقَى َواَل تُ ْ‬‫‪﴿ :]77‬قُلْ َمتَا ُ‬
‫وقال مقارنا بين كال الحياتين‪َ ﴿ :‬و َما ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا إِاَّل لَ ِعبٌ َولَ ْه ٌو َولَل َّدا ُر اآْل ِخ َرةُ‬
‫خَ ْي ٌر لِلَّ ِذينَ يَتَّقُونَ أَفَاَل تَ ْعقِلُونَ ﴾ [األنعام‪ ،]32 :‬وقال‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َم ا لَ ُك ْم إِ َذا‬
‫ضيتُ ْم بِ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا ِمنَ اآْل ِخ َر ِة فَ َما‬‫ض أَ َر ِ‬‫يل هللا اثَّاقَ ْلتُ ْم إِلَى اأْل َرْ ِ‬ ‫يل لَ ُك ُم ا ْنفِرُوا فِي َسبِ ِ‬ ‫قِ َ‬
‫ع ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا فِي اآْل ِخ َر ِة إِاَّل قَلِيلٌ﴾ [التوبة‪]38 :‬‬ ‫َمتَا ُ‬
‫بل إنه اعتبر الحياة اآلخرة هي الحي اة الحقيقي ة‪ ،‬ال ه ذه الحي اة ال دنيا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ار اآْل ِخ َرةَ لَ ِه َي ْال َحيَ َوانُ لَ وْ َك انُوا‬ ‫﴿ َو َم ا هَ ِذ ِه ْال َحيَ اةُ ال ُّد ْنيَا إِاَّل لَهْ ٌو َولَ ِعبٌ َوإِ َّن ال َّد َ‬
‫يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [العنكبوت‪]64 :‬‬
‫وله ذا ف إن المعامل ة في المع اد‪ ،‬س تكون وف ق الخص ائص ال تي اكتس بها‬
‫اإلنسان‪ ،‬أو شكل منها طبيعته في المبدأ‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ اتَّ َخ ُذوا ِدينَهُ ْم لَ ْه ًوا َولَ ِعبًا‬
‫َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا فَ ْاليَوْ َم نَ ْن َس اهُ ْم َك َم ا ن َُس وا لِقَ ا َء يَ وْ ِم ِه ْم هَ َذا َو َم ا َك انُوا بِآيَاتِنَ ا‬
‫يَجْ َح ُدونَ ﴾ [األعراف‪]51 :‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن كل المواقف ال تي ُذك رت في النص وص المقدس ة ح ول‬
‫المعاد ال يقصد منها س وى تمي يز األص ناف بعض ها على بعض‪ ،‬بحيث ي نزل ك ل‬
‫صنف المحل المناسب لطبيعته‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وقد عبر هذا المعنى صدر المتألهين بقوله في تفسير قوله تعالى‪ ﴿ :‬يَوْ َم تبَ د ُل‬
‫َّار﴾ [إب راهيم‪( :]48 :‬إن‬ ‫اح ِد ْالقَه ِ‬ ‫ات َوبَ َر ُزوا هَّلِل ِ ْال َو ِ‬ ‫او ُ‬ ‫ض َو َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫َيْر اأْل َرْ ِ‬
‫اأْل َرْ ضُ غ َ‬
‫لجميع الموجودات الطبيعية حركة جوهرية ذاتية‪ ،‬وتح والً من ص ورة إلى ص ورة‬
‫حتى يقع لها الرجوع إلى هللا بعد صيرورتها غير نفسها‪ ،‬بحسب الص ورة الس ابقة‪،‬‬
‫وتحولها إلى نشأة أخرى‪ ،‬ولو كانت هذه الطبائع ثابتة الجوهرية مستمرة الهوية‪ ،‬لم‬
‫تنتقل هذه ال دار إلى دار اآلخ رة‪ ،‬ولم تتب دل األرض غ ير األرض‪ ،‬وال الس ماوات‬

‫‪ )(1‬الكافي‪ ،‬ح‪.8/202 : 347‬‬

‫‪139‬‬
‫السماوات)(‪)1‬‬ ‫غير‬
‫وهذا يعني أن اإلنسان في مرحلته األولى أتيح له أن يرى أنماطا مختلف ة من‬
‫الناس‪ ،‬ومظاهر مختلفة من الحياة‪ ،‬ولكن ه ـ بمحض رغبت ه ـ اخت ار نمط ا معين ا‪،‬‬
‫وحياة معينة‪ ،‬ولذلك ك ان من مقتض يات العدال ة والرحم ة اإللهي ة‪ ،‬وق وانين المب دأ‬
‫والمعاد‪ ،‬أن يوفر له عند إعادته كل ما كان يميل إليه‪ ،‬ويرغب فيه‪.‬‬
‫ت﴾ (التك وير‪ ،)7:‬وقول ه‪:‬‬ ‫﴿وإِ َذا النُّفُ وسُ ُز ِّو َج ْ‬
‫وله ذا اإلش ارة بقول ه تع الى‪َ :‬‬
‫﴿وإِ َذا أُ ْلقُ وا ِم ْنهَ ا َم َكان ا ً‬
‫اجهُ ْم﴾ (الصافات‪ ،)22 :‬وقول ه‪َ :‬‬ ‫﴿احْ ُشرُوا الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا َوأَ ْز َو َ‬
‫ك ثُبُوراً﴾ (الفرقان‪)13:‬‬ ‫ضيِّقا ً ُمقَ َّرنِينَ َدعَوْ ا هُنَالِ َ‬
‫َ‬
‫فقد ورد في تفسير هذه اآليات أن المراد منه الجمع بين النظ راء أو األش كال‬
‫منهم ك ل ص نف إلى ص نف(‪ ،)2‬وق د ورد في الح ديث قول ه ‪ ‬في تفس ير اآلي ة‪:‬‬
‫(يقرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون كعمله)‬
‫وقال ابن عباس‪(:‬ذلك حين يكون الناس أزواجا ثالثة‪ ،‬السابقون زوج ‪ -‬يعني‬
‫صنفا ‪ -‬وأصحاب اليمين زوج‪ ،‬وأصحاب الشمال زوج)‬
‫وعنه أيضا‪(:‬قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل الن ار‪ ،‬فيض م الم برز‬
‫في الطاعة إلى مثله‪ ،‬والمتوسط إلى مثله‪ ،‬وأهل المعصية إلى مثله)‬
‫وقال ابن مسعود‪(:‬لو أن رجالً قام بـين ال ركن والمق ام يعب د هللا س بعين س نة‬
‫لبعثه هللا يوم القيامة مع من يحب)‬
‫يث ِمنَ‬‫وقد بينت النص وص عل ة ه ذا التفري ق بقول ه تع الى‪ ﴿:‬لِيَ ِم ي َز هللا ْالخَ بِ َ‬
‫ْض فَيَرْ ُك َمهُ َج ِميعا ً فَيَجْ َعلَهُ فِي َجهَنَّ َم أُولَئِ كَ هُ ُم‬
‫ضهُ َعلَى بَع ٍ‬
‫يث بَ ْع َ‬ ‫ب َويَجْ َع َل ْال َخبِ َ‬‫الطَّيِّ ِ‬
‫ْالخَا ِسرُونَ ﴾ (ألنفال‪)37:‬‬
‫فالبشر في ذلك مثل الشوائب التي تختلط بالمعادن النفيسة‪ ،‬فإنها بعد عرضها‬
‫على كير االمتحان يميز الذهب‪ ،‬فيوضع في أعناق الحسان‪ ،‬وي رمى بالش وائب إلى‬
‫القمامات‪.‬‬
‫وبما أن ذلك التمييز يحتاج إلى أدوات تمييز‪ ،‬وموازين‪ ،‬ومق اييس تم يز به ا‬
‫المعادن النفيسة ومراتبها‪ ،‬والمعادن الخسيسة ومراتبها‪ ،‬وخبراء يش رفون على ك ل‬
‫ذلك‪ ،‬فقد وضع هللا تعالى لدار المعاد كذلك من الموازين ما تقتضيه العدالة اإللهي ة‪،‬‬
‫ول و أن هللا تع الى ق ادر على التمي يز بينهم من دون حاج ة لتل ك الم وازين‪ ..‬ولكن‬
‫عدالة هللا تأبى إال أن تتعامل مع العباد وفق السنن‪ ،‬لتقيم الحجج عليهم‪.‬‬
‫وقد كان من مقتضيات تل ك العدال ة ذل ك التم ايز العظيم بين الخل ق‪ ،‬والق ائم‬
‫على أساس صورة النفس التي تشكلت في الدنيا‪ ،‬ونوع المعدن الذي تمخض ت عن ه‬
‫األن ا‪ ،‬يق ول الغ زالي‪( :‬الن اس في اآلخ رة ينقس مون أص نافا ً وتتف اوت درج اتهم‬
‫ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتا ً ال يدخل تحت الحصر كما تف اوتوا في س عادة‬

‫‪ )(1‬أسرار اآليات‪ ،‬ص‪.86‬‬


‫‪ )(2‬انظر هذه النصوص في‪ :‬الدر المنثور‪.8/429:‬‬

‫‪140‬‬
‫الدنيا وش قاوتها وال تف ارق اآلخ رة في ه ذا المع نى أص الً البت ة‪ ،‬ف إن م دبر المل ك‬
‫والملكوت واحد ال شريك له‪ .‬وسنته الصادرة عن إرادت ه األزلي ة مط ردة ال تب ديل‬
‫لها) (‪)1‬‬
‫ضهُ ْم َعلَى‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وقد أشار إلى هذا التمايز الشديد قوله تعالى‪ ﴿:‬ا ْنظرْ َك ْيفَ فَضَّلنَا بَ ْع َ‬
‫ضيالً﴾ (االسراء‪ )21:‬أي (ولتفاوتهم في الدار‬ ‫ت َوأَ ْكبَ ُر تَ ْف ِ‬ ‫ْض َولَآْل ِخ َرةُ أَ ْكبَ ُر َد َر َجا ٍ‬
‫بَع ٍ‬
‫اآلخرة أكبر من تفاوتهم الدنيا‪ ،‬فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسالسلها‬
‫وأغاللها‪ ،‬ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها‪ ،‬ثم أهل الدركات‬
‫يتفاتون فيما هم فيه‪ ،‬كما أن أهل الدرجات يتفاوتون)‬
‫ولكن هذا التمييز يحتاج إلى محال كثيرة للتفريق بين األص ناف بعض ها عن‬
‫بعض‪ ،‬وس نحاول في ه ذا الفص ل التع رف على ه ذه المح ال‪ ،‬وعالقته ا بالع دل‬
‫اإللهي‪ ،‬ذلك أن العدل يقتضي أن يوضع كل شيء في محل ه المناس ب‪ ،‬وال يج ازى‬
‫إال بما يستحق‪.‬‬
‫وقد رأينا من خالل استقراء النصوص أن هناك محلين كبيرين لذلك التمييز‪:‬‬
‫أولهما ما يطلق عليه النش ر والحشر‪ :‬وه و م ا ورد في النص وص الكث يرة‬
‫من األهوال التي يراه ا البش ر عن د قي ام القيام ة‪ ،‬لتثبت لهم من ق درة هللا م ا ك انوا‬
‫يجحدونه‪ ،‬ويروا بأعينهم األدلة الحسية التي كانوا يطالبون بها‪.‬‬
‫ثانيهما الحساب والموازين والكتب والس راط وغيرها‪ :‬وال تي تع رض فيه ا‬
‫األعم ال‪ ،‬وتق اس ب الموازين المختلف ة‪ ،‬ح تى يم يز بين البش ر‪ ،‬وف ق أعم الهم‪،‬‬
‫وأحوالهم‪ ،‬ومواقفهم‪ ،‬وتوجهاتهم‪.‬‬
‫وسنش رح ه ذه المع اني‪ ،‬والنص وص المقدس ة ال تي ت دل عليه ا من خالل‬
‫المباحث التالية‪:‬‬
‫أوال ـ النشر والحشر‪ ..‬وتجليات العدالة‪:‬‬
‫بعد تلك الفترة الطويلة التي يمر بها أهل البرزخ‪ ،‬والتي يتلق ون فيه ا دروس ا‬
‫كث يرة‪ ،‬ومن مختل ف األن واع‪ ،‬ومن أص ناف مختلفين من المالئك ة‪ ،‬ك ل حس ب‬
‫تخصصه‪ ،‬تقوم القيامة‪ ،‬وتقع الواقعة‪ ،‬ويفترق الناس ثالث فرق كبرى‪ ،‬نص عليه ا‬
‫ض ةٌ َرافِ َع ةٌ (‪ )3‬إِ َذا‬ ‫ت ْال َواقِ َعةُ (‪ )1‬لَي َ‬
‫ْس لِ َو ْق َعتِهَا َكا ِذبَ ةٌ (‪ )2‬خَافِ َ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬إِ َذا َوقَ َع ِ‬
‫ً‬
‫َت هَبَا ًء ُم ْنبَثّا (‪َ )6‬و ُك ْنتُ ْم أَ ْز َواجًا‬ ‫ت ْال ِجبَا ُل بَ ًّسا (‪ )5‬فَ َكان ْ‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ َر ًّجا (‪َ )4‬وبُ َّس ِ‬ ‫ُر َّج ِ‬
‫ص َحابُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ثَاَل ثَةً (‪ )7‬فأصْ َحابُ ال َم ْي َمنَ ِة َما أصْ َحابُ ال َم ْي َمنَ ِة (‪َ )8‬وأصْ َحابُ ال َمشأ َم ِة َما أ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك ْال ُمقَ َّربُونَ (‪[ ﴾)11‬الواقعة‪]11 - 1 :‬‬ ‫ْال َم ْشأ َ َم ِة (‪َ )9‬والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (‪ )10‬أُولَئِ َ‬
‫وهذه اآليات الكريمة تشير إلى بدء نشأة أخرى بعد انتهاء تلك النشأة بقسميها‬
‫[ال دنيوي وال برزخي]‪ ،‬يص نف الخل ق على أساس ها إلى أص نافهم الحقيقي ة‪ ،‬وف ق‬
‫موازين هللا‪ ،‬ال وفق الموازين التي وضعوها بأهوائهم‪.‬‬
‫ض ةٌ‬ ‫وقد ذك ر الق رآن الك ريم أن من أهم خص ائص ه ذه المرحل ة أنه ا [خَافِ َ‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين‪)24 /4( ،‬‬

‫‪141‬‬
‫َرافِ َعةٌ]‪ ،‬فهي تخفض المرتفعين المستكبرين‪ ،‬وتريهم صورهم الحقيقي ة ال تي ك انوا‬
‫يسترونها بكبريائهم وطغيانهم‪.‬‬
‫وفي نفس ال وقت ترف ع أولئ ك البس طاء ال ذين خفض هم الظلم ة‪ ،‬واحتق رهم‬
‫الناس‪ ،‬لتريهم صورهم الحقيقية الممتلئة بالجمال‪ ،‬والذي كان مغطى ب ذلك الوش اح‬
‫الدنيوي الذي حال بين البشر ورؤيتهم‪.‬‬
‫وقد ورد في القرآن الكريم ما يش ير إلى الكث ير من الق وانين ال تي تحكم ذل ك‬
‫العالم الجديد‪ ،‬وال ذي لن يك ون خاض عا لم ا نعرف ه في عالمن ا من ق وانين الفيزي اء‬
‫واالجتماع وغيرها‪..‬‬
‫حتى صور البشر في ذلك العالم لن تكون هي نفسها صورهم اليوم‪ ..‬ذل ك أن‬
‫الحكم هناك لألعمال المتجسدة في كل شيء‪ ،‬حتى في الصور‪ ،‬كم ا أش ار إلى ذل ك‬
‫اس َرةٌ‬ ‫َاظ َرةٌ (‪َ )23‬و ُوجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ بَ ِ‬ ‫ض َرةٌ (‪ )22‬إِلَى َربِّهَا ن ِ‬ ‫قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬وجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ نَا ِ‬
‫(‪ )24‬تَظُ ُّن أَ ْن يُ ْف َع َل بِهَا فَاقِ َرةٌ ﴾ [القيامة‪]25 - 22 :‬‬
‫اح َكةٌ ُم ْستَب ِْش َرةٌ (‪)39‬‬ ‫ض ِ‬ ‫وقال في موضع آخر‪ُ ﴿:‬و ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ ُم ْس فِ َرةٌ (‪َ )38‬‬
‫ك هُ ُم ْال َكفَ َرةُ ْالفَ َج َرةُ (‪﴾ )42‬‬ ‫َو ُوجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ َعلَ ْيهَا َغبَ َرةٌ (‪ )40‬تَرْ هَقُهَا قَت ََرةٌ (‪ )41‬أُولَئِ َ‬
‫[عبس‪]40 - 38 :‬‬
‫َاشيَ ِة (‪ُ )1‬وجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ خَا ِش َعةٌ (‪﴾)2‬‬ ‫يث ْالغ ِ‬ ‫وقال في موضع آخر‪﴿:‬هَلْ أَتَاكَ َح ِد ُ‬
‫اض يَةٌ (‪﴾ )9‬‬ ‫َاع َم ةٌ (‪ )8‬لِ َس ْعيِهَا َر ِ‬ ‫[الغاشية‪ ،]2 ،1 :‬وفي مقابلها‪ُ ﴿ :‬و ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ ن ِ‬
‫[الغاشية‪]10 - 8 :‬‬
‫ت‬ ‫وقال في موض ع آخ ر‪﴿:‬يَ وْ َم تَ ْبيَضُّ ُو ُج وهٌ َوت َْس َو ُّد ُو ُج وهٌ فَأ َ َّما الَّ ِذينَ ْ‬
‫اس َو َّد ْ‬
‫اب بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُ رُونَ (‪َ )106‬وأَ َّما الَّ ِذينَ‬ ‫ُو ُج وهُهُ ْم أَ َكفَ رْ تُ ْم بَعْ َد إِي َم انِ ُك ْم فَ ُذوقُوا ْال َع َذ َ‬
‫َّت ُوجُوهُهُ ْم فَفِي َرحْ َم ِة هللا هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [آل عمران‪]107 ،106 :‬‬ ‫ا ْبيَض ْ‬
‫ولذلك فإن كل معايير الجمال ال تي نراه ا في ه ذه ال دنيا ترتف ع هن اك‪ ،‬حيث‬
‫يصبح جمال ال ُخلق هو الم ؤثر في جم ال الخلق ة؛ فمن ك ان أحس ن الن اس ُخلق ا في‬
‫الدنيا‪ ،‬فهو مل ك جم ال ذل ك الع الم‪ ،‬أم ا من ع داه‪ ،‬فه و ممتلئ بالك دورة والغش اوة‬
‫والغبرة‪ ..‬ألنه انشغل بجسده عن روحه‪ ،‬وبقالبه عن قلبه‪ ..‬ولذلك رأى وجهه هن اك‬
‫بصورته الحقيقية التي كان يسترها في الدنيا بألوان الطالء‪.‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬أخ بر أن األم ر ال يرتب ط فق ط ب األلوان‪ ،‬وإنم ا يرتب ط‬
‫بالقوالب الجسمية أيضا‪ ،‬تلك القوالب التي أش ار إليه ا قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ْال ُو ُح وشُ‬
‫ت﴾ [التكوير‪ ،]5 :‬وقوله‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يُحْ َشرُونَ َعلَى ُوجُو ِه ِه ْم إِلَى َجهَنَّ َم أُولَئِكَ َش ٌّر‬ ‫ُح ِش َر ْ‬
‫ضلُّ َسبِياًل ﴾ [الفرقان‪]34 :‬‬ ‫َم َكانًا َوأَ َ‬
‫فقد ورد في الكثير من األحاديث بيان ذل ك‪ ،‬ووص ف عج ائب الص ور ال تي‬
‫يتح ول إليه ا الظلم ة والمجرم ون بس بب ج رائمهم‪ ..‬ففي الح ديث في تفس ير قول ه‬
‫ض لُّ َس بِياًل ﴾‬ ‫تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يُحْ َشرُونَ َعلَى ُو ُج و ِه ِه ْم إِلَى َجهَنَّ َم أُولَئِ كَ َش رٌّ َم َكانًا َوأَ َ‬
‫[الفرقان‪ ،]34 :‬قال رسول هللا ‪ ‬ـ بعد أن رأى استغرابهم في ذل ك وس ؤالهم عن ه‬
‫ـ‪( :‬أليس الذي أمشاه على الرجلين في ال دنيا ق ادرا على أن يمش يه على وجهه ي وم‬

‫‪142‬‬
‫القيامة)(‪)1‬‬
‫وقد علق ابن حجر على هذا الح ديث بقول ه ـ ردا على ال ذين ح اولوا تأويل ه‬
‫عن ظاهره ـ (قوله ‪( :‬أليس الذي أمش اه) ظ اهر في أن الم راد بالمش ي حقيقت ه؛‬
‫فلذلك استغربوا حتى سألوا عن كيفيته) (‪)2‬‬
‫ثم علل ذلك بقوله‪( :‬والحكمة في حش ر الك افر على وجه ه‪ :‬أن ه ع وقب على‬
‫عدم السجود هلل في الدنيا‪ ،‬بأن يسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارا لهوانه‪ ،‬بحيث‬
‫صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات) (‪)3‬‬
‫ومثل ه ذك ر ناص ر مك ارم الش يرازي األق وال الكث يرة في المس ألة‪ ،‬ورجح‬
‫ظاهر النص القرآني‪ ،‬فقال‪( :‬أقوال كثيرة بين المفسّرين في ما هو المقص ود بحش ر‬
‫فس روا ذل ك بنفس معن اه الحقيقي‪،‬‬ ‫هذه الفئة من المجرمين على وج وههم‪ ،‬بعض هم ّ‬
‫إن مالئك ة الع ذاب يس حبونهم إلى جهنم وهم ملقَ ون على وج وههم إلى‬ ‫وق الوا‪ّ :‬‬
‫األرض‪ ،‬وهذا عالم ة على مه انتهم وذلتهم‪ ،‬ألنّهم ك انوا في ال دنيا في غاي ة الك بر‬
‫والغرور واإلستهانة بخلق هللا‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى تجسيد لضاللتهم في‬
‫هذا العالم‪ ،‬ذلك أن من يسحبونه بهذه الصورة ال يرى ما أمام ه ب أي ش كل‪ ،‬وغاف ل‬
‫عما حوله‪ ،‬والبعض اآلخر أخذوا بمعناه الكنائي‪ ،‬فقالوا تارة ه ذه الجمل ة كناي ة عن‬
‫تعلق قلوب أولئك بالدنيا‪ ،‬فهم يسحبون إلى جهنم ألن وجوه قلوبهم ال زالت مرتبطة‬
‫بالدنيا وقالوا تارةً اُخرى‪ :‬إنها كناية مستعملة في األدب العربي حيث يقول ون‪ :‬فالن‬
‫م َّر على وجهه‪ ،‬يعني أنّه لم يكن يدري أين يذهب‪ ..‬لكن الواضح أنّنا مع عدم الدليل‬
‫على المعنى الكنائي‪ ،‬الب ّد من حملها على المعنى األوّل‪ ،‬وهو المعنى الحقيقي)(‪)4‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن صفة خلقة المستكبرين الظلمة‪ ،‬فقال‪( :‬يحش ر‬
‫المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر(‪ )5‬في صور الرجال‪ ،‬يغشاهم الذل من كل مكان)‬
‫(‪ ،)6‬وفي رواية‪( :‬يبعث هللا يوم القيامة ناسا ً في صور الذر يطؤهم الناس بأق دامهم‪،‬‬
‫فيق ال‪ :‬م ا ه ؤالء في ص ور ال ذر؟ فيق ال‪ :‬ه ؤالء المتك برون في ال دنيا) (‪ ،)7‬وفي‬
‫رواية‪( :‬يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرج ال ؛ يغش اهم ال ذل‬
‫من كل مكان ؛ يساقون إلى سجن في جهنم يقال له‪( :‬ب ولس)‪ ،‬تعل وهم ن ار األني ار‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ ،)6158‬ومسلم (‪)7265‬‬


‫‪ )(2‬فتح الباري) (‪)382 /11‬‬
‫‪ )(3‬فتح الباري) (‪)382 /11‬‬
‫‪ )(4‬تفسير األمثل مكارم الشيرازي (‪)250 /11‬‬
‫‪ )(5‬قد ٌر ضئيل ج ًًّّدا‪ ،‬بالغ الصِّغر‪ُ ،‬مثِّل بالنمل ة الص غيرة أو ب رأس النمل ة أو الهب ا َءة المنبث ة في اله واء ويمكن‬
‫ّ‬
‫رؤيتها في شعاع ال ّشمس الداخل من النافذة‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه الترم ذي (‪ ،)2492‬وأحم د (‪ ،)6677( )179 /2‬والبخ اري في (األدب المف رد) (‪ .)557‬ق ال‬
‫الترمذي‪ :‬حسن صحيح‬
‫‪ )(7‬رواه البزار كما في (مجمع الزوائد) (‪)337 /10‬‬

‫‪143‬‬
‫الخبال)(‪)1‬‬
‫يسقون من عصارة أهل النار‪ :‬طينة‬
‫وهذا يتناسب تماما مع ذلك الخلق الذي شكلوا منه نفوسهم في الدنيا‪ ،‬وهو م ا‬
‫جعلهم يرون لها من الشرف والفضل ما ليس لغيرها؛ ولذلك كانوا يطالبون غ يرهم‬
‫أن ينحنوا لهم‪ ،‬ويذلوا بين أيديهم‪ ،‬ولهذا جازاهم هللا بكأس الذل التي جرعوها لخل ق‬
‫هللا‪ ،‬ليذوقوها‪ ،‬ويتأدبوا بتذوقها‪.‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن هيئة أولئك الذين يذلون أنفس هم في ال دنيا من‬
‫غير حاجة‪ ،‬فيقف ون بين ي دي األك ابر واألص اغر يتس ولون‪ ،‬ويمرغ ون ك رامتهم‪،‬‬
‫وربما يبيعون دينهم بسبب ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي ي وم‬
‫القيام ة وليس في وجه ه مزع ة لحم) (‪ ،)2‬وق ال‪( :‬من س أل ول ه م ا يغني ه؛ ج اءت‬
‫خموشا ً أو كدوحا ً في وجهه يوم القيامة) (‪ ،)3‬وقال‪( :‬ال يزال العبد يسأل وهو غني؛‬
‫حتى يخلق وجهه‪ ،‬فال يكون له عند هللا وجه) (‪)4‬‬
‫وقد فسر الحديث بأنه (يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطا ً ال ق در ل ه وال‬
‫جاه‪ ،‬أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه‪ ،‬لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناي ة من‬
‫األعضاء‪ ،‬لكونه أذل وجهه بالسؤال‪ ،‬أو أن ه يبعث ووجه ه عظم كل ه؛ فيك ون ذل ك‬
‫شعاره الذي يعرف به)‪ ،‬لكن الحفاظ على ظاهره ه و األص ل ال ذي ت دل علي ه ك ل‬
‫األدلة‪.‬‬
‫وهك ذا أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن هيئ ة المختلس ين والمرتش ين واللص وص‪،‬‬
‫والذين كانوا ينصبون في الدنيا من المحامين من يخرجهم من جرائمهم كم ا تخ رج‬
‫الشعرة من العجين‪ ،‬لكنهم في الدار اآلخرة ال يملكون ذلك‪ ،‬ألن العدالة المطلقة هي‬
‫التي تحكم ذلك العالم‪ ،‬قال ‪( :‬ال أعرفن أحدكم ي أتي ي وم القيام ة يحم ل ش اة له ا‬
‫ثغاء‪ ،‬فينادي‪ :‬يا محمد‪ ،‬يا محمد‪ ،‬ف أقول‪ :‬ال أمل ك ل ك من هللا ش يئا‪ ،‬ق د بلغت ك‪ .‬وال‬
‫أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جمال ل ه رغ اء‪ ،‬فيق ول‪ :‬ي ا محم د‪ ،‬ي ا محم د‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬ال أملك لك من هللا شيئا‪ ،‬قد بلغتك‪ .‬وال أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحم ل‬
‫فرسا له حمحمة‪ ،‬ينادي‪ :‬يا محمد‪ ،‬ي ا محم د‪ .‬ف أقول‪ :‬ال أمل ك ل ك من هللا ش يئا‪ ،‬ق د‬
‫بلغتك‪ .‬وال أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعا من أدم‪ ،‬ينادي‪ :‬ي ا محم د‪ ،‬ي ا‬
‫محمد‪ .‬فأقول‪ :‬ال أملك لك من هللا شيئا‪ ،‬قد بلغتك)(‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر عن أبي حميد الس اعدي ق ال‪ :‬اس تعمل رس ول هللا ‪ ‬رجال‬
‫من األزد يقال له‪ :‬ابن اللتبية على الصدقة‪ ،‬فجاء فقال‪ :‬هذا لكم وهذا أهدي لي‪ .‬فق ام‬
‫رسول هللا ‪ ‬على المنبر فقال‪( :‬ما بال العامل نبعثه فيجيء فيق ول‪ :‬ه ذا لكم وه ذا‬
‫‪ )(1‬البخاري في األدب المفرد‪ ،‬والترمذي وحسنه ‪ ،‬انظر‪ :‬المشكاة (‪.)5112‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ ،)1474‬ومسلم (‪)1040‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود (‪ ،)1626‬والترمذي (‪ ،)650‬والنسائي (‪ ،)97 /5‬وابن ماجه (‪ ،)1502‬وأحمد (‪( )388 /1‬‬
‫‪ ،)3675‬والحاكم (‪ ،)565 /1‬والبيهقي (‪)13586( )24 /7‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني (‪ ،)17546( )333 /20‬والبزار كما في (مجمع الزوائد) (‪)99 /3‬‬
‫‪ )(5‬تفسير الطبري (‪.)7/358‬‬

‫‪144‬‬
‫أهدي لي‪ .‬أفال جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إلي ه أم ال؟ وال ذي نفس محم د‬
‫بيده ال يأتي أحد منكم منها بشيء إال جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له‬
‫رغاء‪ ،‬أو بقرة لها خوار‪ ،‬أو شاة تيعر)‪ ،‬ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال‪:‬‬
‫(اللهم هل بلغت) ثالثا(‪)1‬‬
‫ت بِ َما َغ َّل‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وهو ما صرح به قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما َكانَ لِنَبِ ٍّي أ ْن يَ ُغ َّل َو َم ْن يَ ْغللْ يَأ ِ‬
‫ُظلَ ُمونَ ﴾ [آل عمران‪]161 :‬‬ ‫ت َوهُ ْم اَل ي ْ‬ ‫يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة ثُ َّم تُ َوفَّى ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫س َما َك َسبَ ْ‬
‫هذه مج رد نم اذج عن بعض الص ور والمش اهد ال تي ت دل على حقيق ة ذل ك‬
‫الع الم‪ ،‬وكون ه مبني ا على ص ورة النف وس ال تي تش كلت في ال دنيا‪ ،‬أو في مرحل ة‬
‫البرزخ‪.‬‬
‫ونفس الشيء ينطبق على القوانين والظواهر الطبيعية‪ ،‬حيث ستكون مختلف ة‬
‫تماما عما نراه من قوانين وظواهر‪ ،‬ذلك أنها ال تكون عامة‪ ،‬ب ل ترتب ط بك ل ف رد‪،‬‬
‫حسب طبيعته‪ ،‬والعمل الذي قام به في الدنيا‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في العرق الشديد الذي يصيب الخالئق‪ ،‬والذي‬
‫يتفاوت بحسب أعمالهم‪ ،‬مع أن قوانين ال دنيا ال تقب ل ذل ك‪ ،‬ف الحر إن ن زل أص اب‬
‫الجميع‪ ،‬لكنه هناك يصيبهم بحسب أعمالهم‪.‬‬
‫ففي الحديث وقال ‪( :‬تدنو الشمس يوم القيامة من الخل ق ح تى تك ون منهم‬
‫كمق دار المي ل‪ ..‬فيك ون الن اس على ق در أعم الهم في الع رق‪ .‬فمنهم من يك ون إلى‬
‫كعبيه‪ .‬ومنهم من يكون إلى ركبتيه‪ .‬ومنهم من يك ون إلى حقوي ه‪ .‬ومنهم من يلجم ه‬
‫العرق إلجاماً) وأشار رسول هللا ‪ ‬بيده إلى فيه) (‪)2‬‬
‫وه ذا ال يع ني أن الم راد بالش مس في ه ذا الح ديث هي ه ذه الش مس ال تي‬
‫نعرفها‪ ،‬وإنما هو مثل تقريبي‪ ،‬فالكون حينذاك يختلف تماما عن الصورة التي ن راه‬
‫ات َوبَ َر ُزوا هَّلِل ِ‬‫او ُ‬ ‫ض َو َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫َيْر اأْل َرْ ِ‬ ‫بها اليوم‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬يَوْ َم تُبَ َّد ُل اأْل َرْ ضُ غ َ‬
‫َّار﴾ [إبراهيم‪]48 :‬‬ ‫ْال َوا ِح ِد ْالقَه ِ‬
‫وفي نفس الوقت الذي يمتلئ فيه أولئك بالعرق والحر الش ديد‪ ،‬يخ بر رس ول‬
‫هللا ‪ ‬عن أح وال المؤم نين الص ادقين ال ذين تحمل وا ح ر المجاه دات في ال دنيا‪،‬‬
‫ولذلك جازاهم هللا تعالى بالظل الظلي ل في اآلخ رة‪ ،‬ق ال ‪ ‬في ال ترغيب في ذل ك‬
‫الظل‪( :‬سبعة يظلهم هللا في ظل ه ي وم ال ظ ل إال ظل ه‪ :‬إم ام ع ادل‪ ،‬وش اب نش أ في‬
‫عب ادة رب ه‪ ،‬ورج ل قلب ه معل ق في المس اجد‪ ،‬ورجالن تحاب ا في هللا اجتمع ا علي ه‬
‫وتفرقا عليه‪ ،‬ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال‪ ،‬فقال إني أخ اف هللا‪ ،‬ورج ل‬
‫تصدق أخفى ح تى ال تعلم ش ماله م ا تنف ق يمين ه‪ ،‬ورج ل ذك ر هللا خالي اً‪ ،‬ففاض ت‬
‫عيناه) (‪)3‬‬

‫‪ )(1‬صحيح البخاري برقم (‪ )7174 ،2597‬وصحيح مسلم برقم (‪.)1832‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم (‪)2864‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ ،)660‬مسلم (‪.)1031‬‬

‫‪145‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬أتدرون من السابقون إلى ظ ل هللا ي وم القيام ة؟)‪،‬‬
‫ق الوا‪ :‬هللا ورس وله أعلم‪ :‬ق ال‪( :‬ال ذين إذا أعط وا الح ق قبل وه‪ ،‬وإذا س ألوه ب ذلوه‪،‬‬
‫وحكموا للناس كحكمهم ألنفسهم)(‪)1‬‬
‫ً‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬من أنظر معسرا أو وضع عنه‪ ،‬أظله هللا في ظله)‬
‫(‪)2‬‬
‫وهكذا أخبر ‪ ‬عن دور الصدقة في حماية صاحبها من ذل ك الح ر الش ديد‪،‬‬
‫قال ‪( :‬الرجل فى ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)(‪)3‬‬
‫وهك ذا ورد في النص وص م ا ي دل على أن ك ل الق وانين االجتماعي ة ال تي‬
‫نعرفها في الدنيا‪ ،‬تنهار هناك‪ ،‬حيث ﴿يَفِ رُّ ْال َم رْ ُء ِم ْن أَ ِخي ِه (‪َ )34‬وأُ ِّم ِه َوأَبِي ِه (‪)35‬‬
‫ئ ِم ْنهُ ْم يَوْ َمئِ ٍذ َشأْ ٌن يُ ْغنِي ِه ﴾ [عبس‪]37 - 34 :‬‬ ‫صا ِحبَتِ ِه َوبَنِي ِه (‪ )36‬لِ ُكلِّ ا ْم ِر ٍ‬
‫َو َ‬
‫بل إن األمر أخطر من ذلك كله‪ ،‬فقد ورد في النصوص المقدسة ما يذكر تلك‬
‫المشاهد التي تصور كيف يساق المستبدون الظلمة‪ ،‬وأمام الن اس جميع ا‪ ،‬ب األغالل‬
‫والسالس ل‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وأَ َّما َم ْن أُوتِ َي ِكتَابَ هُ بِ ِش َمالِ ِه فَيَقُ و ُل يَ الَ ْيتَنِي لَ ْم أُوتَ‬
‫اض يَةَ (‪َ )27‬م ا أَ ْغنَى َعنِّي‬ ‫ت ْالقَ ِ‬ ‫ِكتَابِيَ ْه (‪َ )25‬ولَ ْم أَ ْد ِر َم ا ِح َس ابِيَ ْه (‪ )26‬يَالَ ْيتَهَ ا َك انَ ِ‬
‫ص لُّوهُ (‪ )31‬ثُ َّم‬ ‫ك َعنِّي ُس ْلطَانِيَ ْه (‪ُ )29‬خ ُذوهُ فَ ُغلُّوهُ (‪ )30‬ثُ َّم ْال َج ِحي َم َ‬ ‫َمالِيَ ْه (‪ )28‬هَلَ َ‬
‫اس لُ ُكوهُ (‪ )32‬إِنَّهُ َك انَ اَل يُ ْؤ ِمنُ بِاهلل ْال َع ِظ ِيم (‪)33‬‬ ‫فِي ِس ْل ِسلَ ٍة َذرْ ُعهَا َس ْبعُونَ ِذ َراعًا فَ ْ‬
‫ْس لَهُ ْاليَوْ َم هَاهُنَا َح ِمي ٌم (‪َ )35‬واَل طَ َع ا ٌم إِاَّل‬ ‫َواَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِكي ِن (‪ )34‬فَلَي َ‬
‫ين (‪ )36‬اَل يَأْ ُكلُهُ إِاَّل ْالخَا ِطئُونَ (‪[ ﴾ )37‬الحاقة‪]37 - 25 :‬‬ ‫ِم ْن ِغ ْسلِ ٍ‬
‫في نفس الوقت الذي يجد فيه المؤمنون كل ألوان الراحة والسعادة والسرور‪،‬‬
‫حتى أن ذلك الموقف الطويل يخفف على المؤمن؛ فيمر عليه كما تمر الص الة‪ ،‬ففي‬
‫الحديث عن رسول هللا ‪ ،‬أنه قال‪( :‬يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)‪ ،‬فقي ل‪ :‬م ا‬
‫أطول هذا اليوم‪ ،‬فقال النبي ‪( :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬إنه ليخف ف على الم ؤمن ح تى‬
‫يكون أخف عليه من صالة مكتوبة يصليها في الدنيا)(‪ ،)4‬وفي رواي ة‪( :‬يه ون ذل ك‬
‫على المؤمن كتدلي الش مس للغ روب إلى أن تغ رب)‪ ،‬وفي رواي ة‪( :‬إن هللا ليخف ف‬
‫على من يشاء من عباده طوله كوقت صالة مفروضة)‬
‫وهكذا نرى أن الحكم في كل شيء في ذلك الموقف للعمل‪ ،‬فالزمان والمك ان‬
‫والصور وكل شيء مرتبط بتلك التشكالت التي تشكلت بها النفوس في الدنيا‪.‬‬
‫بناء على هذا نحاول في هذا المبحث تتبع األحداث الكبرى ال تي تح دث ذل ك‬
‫اليوم ابتداء من النفخ بالصور‪ ،‬وانتهاء بحشر الخالئق للحساب‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ النفخ في الصور‪:‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد رقم ‪..67-65‬‬


‫‪ )(2‬صحيح مسلم (‪.)3006‬‬
‫‪ )(3‬رواه القضاعى (‪ ،1/94‬رقم ‪ ،)103‬وأبو يعلى (‪ ،3/300‬رقم ‪ ،)1766‬والديلمى (‪ ،2/285‬رقم ‪)3316‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب‪ ،‬انظر‪ :‬المغني عن حمل األسفار (ص‪)1901 :‬‬

‫‪146‬‬
‫وق د ورد الح ديث عن ه في مواض ع متع ددة من الق رآن الك ريم(‪ ،)5‬وبص يغ‬
‫مختلفة‪ ،‬وكلها تقرب الحقيقة ال تي ال يمكن تص ورها وال تخي ل كيفيته ا‪ ،‬وهي ت دل‬
‫على أن ذلك الحدث العظيم ستنتهي به النشأة األولى‪ ،‬وتبدأ به النشأة الثانية‪ ،‬ول ذلك‬
‫ورد في القرآن الكريم ذكر نفختين في الصور‪ ،‬إحداهما تعلن نهاي ة النش أة األولى‪،‬‬
‫والثانية تعلن بداية النشأة الثانية‪ ،‬بشكلها الجديد‪ ،‬وقوانينها الجديدة‪..‬‬
‫واألمر ال يقتصر على مجرد اإلعالن‪ ،‬وإنما يتعداه إلى ال دور التكوي ني‪ ،‬أي‬
‫أن النفخة األولى تكون سببا في نهاية النشأة التكوينية األولى‪ ،‬والنفخة الثانية تك ون‬
‫س ببا في نهاي ة النش أة التكويني ة الثاني ة‪ ،‬كم ا يش ير إلى ذل ك ك ون النفخ في طين‬
‫ق‬‫ك لِ ْل َماَل ئِ َك ِة إِنِّي َخ الِ ٌ‬
‫ال َربُّ َ‬‫اإلنسان سببا في تشكل اإلنسان‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫ت فِي ِه ِم ْن رُو ِحي فَقَ ُع وا‬ ‫صا ٍل ِم ْن َح َمإٍ َم ْسنُو ٍن (‪ )28‬فَإِ َذا َس َّو ْيتُهُ َونَفَ ْخ ُ‬ ‫ص ْل َ‬‫بَ َشرًا ِم ْن َ‬
‫اج ِدينَ ﴾ [الحجر‪]29 ،28 :‬‬ ‫لَهُ َس ِ‬
‫وكم ا أش ار إلي ه م ا ك ان يفعل ه المس يح علي ه الس الم من النفخ في الطين‪،‬‬
‫فيتح ول إلى ط ير ب إذن هللا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َر ُس واًل إِلَى بَنِي إِ ْس َرائِي َل أَنِّي قَ ْد‬
‫يْر فَ أ َ ْنفُ ُخ فِي ِه فَيَ ُك ونُ طَيْرًا‬ ‫ق لَ ُك ْم ِمنَ الطِّي ِن َكهَ ْيئَ ِة الطَّ ِ‬
‫ِج ْئتُ ُك ْم بِآيَ ٍة ِم ْن َربِّ ُك ْم أَنِّي أَ ْخلُ ُ‬
‫بِإِ ْذ ِن هللا﴾ [آل عمران‪]49 :‬‬
‫وهك ذا‪ ،‬ف إن لتين ك النفخ تين أثرهم ا التكوي ني س واء بالص عق واإلمات ة‪ ،‬أو‬
‫باإلحياء من جديد‪ ،‬وفق القوانين الجديدة‪..‬‬
‫والصعق واإلماتة ال تعنيان إعدام الموجودات‪ ،‬كما عرفنا في النش أة األولى‪،‬‬
‫وإنما تعني التحول إلى هيئة أخرى متناسبة مع الوضع الجديد‪ ،‬وقوانينه‪.‬‬
‫ومع ما ورد في القرآن الكريم ح ول النفخ في الص ور‪ ،‬وردت ك ذلك الكث ير‬
‫من األحاديث والروايات‪ ،‬والتي نرى أنه ا جميع ا محاول ة لتق ريب ص ورة الح دث‬
‫لتلك المجتمعات البدوية البسيطة‪ ،‬والتي ال يمكنها أن تستوعب الق وانين ال تي يس ير‬
‫عليها الكون‪ ،‬ولذلك خوطبت على قدر عقولها‪.‬‬
‫ولذلك سنكتفي هنا بما ورد في القرآن الكريم‪ ،‬ففيه اإلشارات الكثيرة الكافية‪،‬‬
‫لتبيين أهمية ذلك الحدث وقيمته‪ ،‬بل وعالقته بالعدالة أيضا‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومن تلك اآلي ات قول ه تع الى في بي ان الغ رض من كال النفخ تين‪َ ﴿ :‬ونفِخ فِي‬
‫ض إِاَّل َم ْن َشا َء هللا ثُ َّم نُفِ َخ فِي ِه أُ ْخ َرى‬ ‫ت َو َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬‫ق َم ْن فِي ال َّس َما َوا ِ‬ ‫ص ِع َ‬‫ور فَ َ‬
‫الصُّ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫فَإِ َذا هُ ْم قِيَا ٌم يَنظرُونَ ﴾ [الزمر‪]68 :‬‬
‫وهذا يدل على انحصار ع دد النفخ ات في اثن تين‪ ،‬ال كم ا ي ذكره البعض من‬
‫ور فَفَ ِز َع َم ْن فِي‬ ‫الص ِ‬ ‫﴿ويَ وْ َم يُ ْنفَ ُخ فِي ُّ‬ ‫أنها ثالثة بناء على ما فهموه من قوله تعالى‪َ :‬‬
‫َاخ ِرينَ ﴾ [النم ل‪ ،]87 :‬حيث‬ ‫َ‬
‫ض إِاَّل َم ْن َشا َء هللا َو ُكلٌّ أتَوْ هُ د ِ‬‫ت َو َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫ال َّس َم َ‬
‫توهموا أنها نفخة أخرى عدا نفخة الصعق‪ ،‬ونفخة اإلحياء‪.‬‬

‫‪ )( 5‬و رد الحديث عن (النفخ في الصور) في أكثر من عشر آيات قرآنية هي‪ :‬هي‪( :‬الكهف ـ ‪ )99‬و(المؤمن ون‬
‫ـ (‪( ،)101‬يس ـ ‪( ،)51‬الزم ر ـ ‪( ،)68‬ق ـ ‪( ،)20‬الحاق ة ـ ‪( ،)13‬األنع ام ـ ‪( ،)73‬ط ه ـ ‪( ،)102‬النم ل ـ ‪،)87‬‬
‫(النبأ ـ ‪)18‬‬

‫‪147‬‬
‫َت‬‫وذهب آخرون إلى أنها أربع نفخات‪ ،‬بناء على فهمهم لقوله تعالى‪﴿ :‬إِ ْن َكان ْ‬
‫ض رُونَ ﴾ [يس‪ ،]53 :‬ول ذلك ذك روا أن‬ ‫ص ْي َحةً َوا ِح َدةً فَ إِ َذا هُ ْم َج ِمي ٌع لَ َد ْينَا ُمحْ َ‬ ‫إِاَّل َ‬
‫الغ رض من ه ذه النفخ ة جم ع الخل ق وإحض ارهم‪ ،‬وأنه ا نفخ ة أخ رى باإلض افة‬
‫للنفخات السابقة‪.‬‬
‫وال م انع من أن يك ون هن اك ه ذه الص يحة المرتبط ة ب الجمع واإلحض ار‪،‬‬
‫ولكنها ال تعتبر من النفخ في الصور‪ ،‬ألن القرآن الكريم‪ ،‬وفي مواضع أخ رى ح دد‬
‫َّاجفَ ةُ (‪ )6‬تَ ْتبَ ُعهَ ا الرَّا ِدفَ ةُ (‪ )7‬قُلُ وبٌ‬
‫العدد باثنتين‪ ،‬كقوله تع الى‪ ﴿ :‬يَ وْ َم تَرْ ُج فُ الر ِ‬
‫ْصا ُرهَا خَا ِش َعةٌ﴾ [النازعات‪]9 - 6 :‬‬ ‫يَوْ َمئِ ٍذ َوا ِجفَةٌ (‪ )8‬أَب َ‬
‫والخالصة من كل هذا أن تل ك النفخ ة تش به ذل ك الج رس ال ذي ي دق لنهاي ة‬
‫الحصص الدراسية‪ ،‬وال ذي تتخلل ه بعض الراح ة‪ ،‬لي دق من جدي د‪ ،‬لتب دأ حص ص‬
‫أخرى‪ ،‬أو هو نهاية هذه النشأة بقوانينها‪ ،‬وبداي ة النش أة الجدي دة بقوانينه ا الجدي دة‪،‬‬
‫والتي يقر العلم الحديث إمكانيتها‪.‬‬
‫فكل العلماء اآلن ـ على خالف الماضين الذين كانوا يتوهمون للكون ص ورة‬
‫واحدة ـ يرون أن للكون صورا كثيرة جدا ال نهاية لها‪ ،‬ولكل كون قوانين ه الخاص ة‬
‫به‪ ،‬وطبعا هم يذكرون هذا من باب االحتمال‪ ،‬ال من باب الواقع‪.‬‬
‫ولذلك ما المانع أن ينشأ كون جديد‪ ،‬بناء على معطيات جديدة‪ ،‬ويكون ل ه من‬
‫التنظيم والدقة ما يفوق هذا الكون بكثير؟‬
‫وهذا ما تدل عليه النصوص المقدسة‪ ،‬فالقرآن الكريم مع إشاراته الكثيرة إلى‬
‫دقة هذا الكون ونظامه وجماله‪ ،‬وكونه مرآة لتجلي الحقائق لجميع العقالء‪ ،‬لكن ه في‬
‫نفس الوقت ي ذكر أن النش أة األخ رى أك ثر دالل ة على ذل ك كل ه‪ ،‬ألنه ا مبني ة على‬
‫الق درة‪ ،‬بخالف ه ذه النش أة المبني ة على الحكم ة‪ ،‬ألنه ا من مقتض يات االبتالء‬
‫واالختبار‪.‬‬
‫ض‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬ ‫وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وهُ َو الَّ ِذي خَ لَ َ‬
‫ور َع الِ ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫ب‬ ‫الص ِ‬ ‫ق َولَهُ ْال ُم ْل ُ‬
‫ك يَوْ َم يُ ْنفَ ُخ فِي ُّ‬ ‫ق َويَوْ َم يَقُو ُل ُك ْن فَيَ ُكونُ قَوْ لُهُ ْال َح ُّ‬‫بِ ْال َح ِّ‬
‫َوال َّشهَا َد ِة َوهُ َو ْال َح ِكي ُم ْالخَ بِيرُ﴾ [األنعام‪،]73 :‬‬
‫فاآلية الكريمة تشير إلى أنه مع كون هللا تعالى مالكا وملكا في ك ل األوق ات‪،‬‬
‫وعلى كل األكوان‪ ،‬إال أن ذلك يتجلى بوضوح عند النفخ في الص ور‪ ،‬وعن د النش أة‬
‫الثانية‪ ،‬وقد قال السبحاني تعليقا عليها‪( :‬حكومة هللا على ع الم الوج ود ومالكيت ه ل ه‬
‫قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم القيامة‪ ،‬وال يختص ذل ك بي وم القيام ة‬
‫وحده‪ ،‬لكن هناك عوامل وأسبابا ً تؤثر في مس ار ه ذه ال دنيا وتق دمها نح و أه دافها‪،‬‬
‫لذلك قد يغفل ا ِإلنسان أحيان ا ً عن وج ود هللا وراء ه ذه األس باب والعوام ل‪ ،‬أ ّم ا في‬
‫ذلك الي وم ال ذي تتعط ل في ه جمي ع األس باب والعوام ل‪ ،‬ف إِ ّن حكوم ة هللا ومالكيت ه‬
‫تكونان أجلى وأوضح من أي وقت سابق)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)340 /4( ،‬‬

‫‪148‬‬
‫ار ُزونَ اَل‬ ‫ق (‪ )15‬يَ وْ َم هُ ْم بَ ِ‬ ‫ويش ير إلى ذل ك قول ه تع الى‪ ﴿ :‬لِيُنْ ِذ َر يَ وْ َم التَّاَل ِ‬
‫َّار﴾ [غافر‪]16 ،15 :‬‬ ‫اح ِد ْالقَه ِ‬ ‫ك ْاليَوْ َم هَّلِل ِ ْال َو ِ‬
‫يَ ْخفَى َعلَى هللا ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء لِ َم ِن ْال ُم ْل ُ‬
‫وهذا ي دل على أن الف زع ال ذي يص يب الخالئ ق ال يرتب ط ب المؤمنين ال ذين‬
‫كانوا يعلمون‪ ،‬ويوقنون بقدرة هللا المطلقة‪ ،‬وإنما يف زع ل ه من لم يكن ي ؤمن ب ذلك‪،‬‬
‫ور (‪ )8‬فَ َذلِكَ يَوْ َمئِ ٍذ يَوْ ٌم ع َِس ي ٌر (‪َ )9‬علَى ْال َك افِ ِرينَ‬ ‫كما قال تعالى‪﴿ :‬فَإِ َذا نُقِ َر فِي النَّاقُ ِ‬
‫ير﴾ [المدثر‪]10 - 8 :‬‬ ‫َغ ْي ُر يَ ِس ٍ‬
‫ور فَفَ ِز َع َم ْن‬ ‫وبذلك فإن االستثناء الوارد في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ويَوْ َم يُ ْنفَ ُخ فِي الصُّ ِ‬
‫ض إِاَّل َم ْن َش ا َء هللا َو ُك لٌّ أَتَ وْ هُ دَا ِخ ِرينَ ﴾ [النم ل‪]87 :‬‬ ‫ت َو َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬
‫خاص بأولئ ك المؤم نين الموق نين ال ذين ال يدهش هم م ا يرون ه من مظ اهر الق درة‬
‫اإللهي ة‪ ،‬ألنهم ك انوا أص ال موق نين به ا‪ ،‬ب ل ربم ا يك ون ذل ك م دعاة لس عادتهم‬
‫وفرحهم(‪.)1‬‬
‫وقد ق ال الغ زالي مش يرا إلى ه ذا المع نى‪( :‬واذا انكش فت الغط اء عن أعين‬
‫ك ْاليَ وْ َم هَّلِل ِ‬‫الغافلين؛ فشاهدوا األمر كذلك‪ ،‬سمعوا عند ذلك نداء المن ادي ﴿ لِ َم ِن ْال ُملْ ُ‬
‫َّار﴾ [غافر‪ ،]16 :‬ولقد كان الملك هلل الواحد القهار كل يوم‪ ،‬ال ذلك الي وم‬ ‫ْال َوا ِح ِد ْالقَه ِ‬
‫على الخصوص‪ ،‬ولكن الغافلين ال يسمعون هذا النداء إال ذلك الي وم؛ فه و نب أ عم ا‬
‫يتجدد للغافلين من كشف األحوال حيث ال ينفعهم الكشف؛ فنع وذ باهلل الحليم الك ريم‬
‫من الجهل والعمى‪ ،‬فإنه أصل أسباب الهالك)(‪)2‬‬
‫ويش ير إلى ه ذا‪ ،‬ب ل يص رح ب ه قول ه تع الى في ذك ر الس ابقين‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ‬
‫ت لَهُ ْم ِمنَّا ْال ُح ْسنَى أُولَئِكَ َع ْنهَا ُم ْب َع ُدونَ (‪ )101‬اَل يَ ْس َمعُونَ َح ِسي َسهَا َوهُ ْم فِي َم ا‬ ‫َسبَقَ ْ‬
‫ع اأْل َ ْكبَ ُر َوتَتَلَقَّاهُ ُم ْال َماَل ئِ َكةُ هَ َذا يَوْ ُم ُك ُم‬
‫ت أَ ْنفُ ُسهُ ْم خَالِ ُدونَ (‪ )102‬اَل يَحْ ُزنُهُ ُم ْالفَزَ ُ‬ ‫ا ْشتَهَ ْ‬
‫الَّ ِذي ُك ْنتُ ْم تُو َع ُدونَ ﴾ [األنبياء‪]103 - 101 :‬‬
‫وقد ورد في الحديث أنه لما ع اد رس ول هللا من تب وك إلى المدني ة المن ورة‪،‬‬
‫قدم إليه عمرو بن معدي كرب فق ال ل ه الن بي ‪( :‬أس لم ي ا عم رو يؤمن ك هللا من‬
‫الفزع األكبر)‪ ،‬قال‪ :‬يا محمد وما الفزع األكبر؟ فإني ال أفزع فقال‪( :‬ي ا عم رو إن ه‬
‫ليس كما تظن وتحسب‪ ،‬إن الناس يصاح بهم ص يحة واح دة فال يبقى ميت إال نش ر‬
‫وال حي إال م ات إال م ا ش اء هللا‪ ،‬ثم يص اح بهم ص يحة أخ رى فينش ر من م ات‬
‫ويصفون جميعا‪ ،‬وتنشق السماء‪ ،‬وتهد األرض‪ ،‬وتخ ر الجب ال ه دا‪ ،‬وت رمى الن ار‬
‫‪ )(1‬ذكر العلماء أقواال كث يرة في المس تثنين من الص عقة‪ ،‬وق د جمعه ا ابن حج ر في عش رة أق وال‪ ،‬فق ال [فتح‬
‫الباري(‪( :]) 11/320‬وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال‪ :‬األول‪ :‬أنهم الموتى كلهم لكونهم ال إحساس لهم‪ ..‬الثاني‪:‬‬
‫هم الشهداء‪ ..‬الثالث‪ :‬األنبياء والى ذلك جنح البيهقي‪..‬قال ووجهه عن دي أنهم أحي اء عن د ربهم كالش هداء‪ ،‬وق د ج وز‬
‫النبي ‪ ‬أن يكون موسى ممن استثنى هللا‪ ..‬الرابع‪ :‬قال يحيى بن س الم في تفس يره‪ :‬بلغ ني أن آخ ر من يبقى جبري ل‬
‫وميكائيل وإسرافيل وملك الموت‪ ..‬الخامس‪ :‬يمكن أن يؤخذ مم ا في الراب ع‪ ..‬الس ادس‪ :‬األربع ة الم ذكورون وحمل ة‬
‫العرش وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل‪ ..‬وسنده ضعيف مضطرب‪ ..‬الس ابع‪ :‬موس ى وح ده أخرج ه الط بري‬
‫بسند ضعيف‪ ..‬الثامن‪ :‬الولدان الذين في الجنة والحور العين‪ ..‬التاسع‪ :‬هم وخزان الجنة والن ار وم ا فيه ا من الحي ات‬
‫والعقارب‪ ..‬العاشر‪ :‬المالئكة كلهم جزم به أبو محمد بن حزم‪ ..‬قال البيهقي‪ :‬استض عف بعض أه ل النظ ر أك ثر ه ذه‬
‫األقوال)‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)90 /4‬‬

‫‪149‬‬
‫بمثل الجبال شررا فال يبقى ذو روح إال انخلع قلبه وذكر دين ه وش غل بنفس ه إال م ا‬
‫شاء هللا‪ ،‬فأين أنت يا عمرو من ه ذا؟ ق ال‪ :‬أال إني أس مع أم را عظيم ا‪ ،.‬ف آمن باهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم)(‪)1‬‬
‫ولذلك فإن من مظاهر العدالة المرتبطة بالنفخ في الصور ذلك االستثناء‪ ،‬ألن‬
‫هللا تعالى أرحم من أن يصيب عباده الص الحين المق ربين ب الفزع‪ ،‬وكي ف يص يبهم‬
‫به‪ ،‬وهم كانوا يقرون له بذلك قبل أن يروه‪ ،‬ويعلمون أن ه ص احب الق درة المطلق ة‪،‬‬
‫وأنه ال يعجزه شيء في األرض‪ ،‬وال في السماء‪.‬‬
‫بعد هذا‪ ،‬وبناء على أن من أغراض هذا الكتاب تق ريب المع ارف المرتبط ة‬
‫بالمعاد إلى العقول‪ ،‬ونفي الشبهات التي تثار حوله‪ ،‬فإنا س نذكر هن ا بعض الص ور‬
‫التقريبية للنفخ في الصور‪ ،‬والتي تساهم ال في كشف حقيقته‪ ،‬فذلك مس تحيل‪ ،‬وإنم ا‬
‫في توضيحه وتقريبه ونفي الشبهات عنه‪.‬‬
‫فالنفخ في الصور‪ ،‬قد يكون مرتبطا بالصوت‪ ،‬وقد يك ون مرتبط ا بالص ور‪،‬‬
‫وقد يكون تأثيرا في الكون جميعا‪ ،‬مثلما نفعل عندما نضع تيارا كهربائيا عالي ا على‬
‫مساحة معدنية معينة‪ ،‬وإذا بها تهتز جميعا‪ ،‬وقد يكون على شكل التأثير الذي يطل ق‬
‫عليه [الحرب االلكترونية]‪ ،‬وغيرها من األشكال الكثيرة التي ال نستطيع حصرها‪.‬‬
‫وقد ذكر بعض المهتمين بربط الحقائق القرآنية بحقائق العلم بعض ما يق رب‬
‫ذلك‪ ،‬مستندا إلى م ا ورد في الق رآن الك ريم من إهالك األمم بالص يحات‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ار ِه ْم‬
‫ص بَحُوا فِي ِديَ ِ‬ ‫الص ي َْحةُ فَأ َ ْ‬
‫﴿وأَخَ َذ الَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا َّ‬ ‫تعالى مخبرا عما حصل لثمود‪َ :‬‬
‫َجاثِ ِمينَ ﴾ [هود‪ ،]67 :‬وقال مخبرا عما حصل ألهل مدين‪َ ﴿ :‬ولَ َّما َج ا َء أَ ْم ُرنَ ا نَ َّج ْينَ ا‬
‫ص بَحُوا فِي‬ ‫الص ْي َحةُ فَأ َ ْ‬‫ت الَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا َّ‬ ‫ُش َع ْيبًا َوالَّ ِذينَ آ َمنُ وا َم َع هُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنَّا َوأَخَ َذ ِ‬
‫َت ثَ ُمودُ﴾ [ه ود‪،94 :‬‬ ‫ار ِه ْم َجاثِ ِمينَ (‪َ )94‬كأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَوْ ا فِيهَا أَاَل بُ ْعدًا لِ َم ْديَنَ َك َما بَ ِعد ْ‬ ‫ِديَ ِ‬
‫صي َْحةُ ُم ْش ِرقِينَ (‪ )73‬فَ َج َع ْلنَ ا عَالِيَهَ ا‬ ‫‪ ،]95‬وقال عما حصل لقوم لوط‪ ﴿ :‬فَأ َ َخ َذ ْتهُ ُم ال َّ‬
‫يل﴾ [الحج ر‪ ،]74 ،73 :‬وق ال مخ برا عن‬ ‫َسافِلَهَا َوأَ ْمطَرْ نَ ا َعلَ ْي ِه ْم ِح َج ا َرةً ِم ْن ِس جِّ ٍ‬
‫أن واع الهالك ال تي أص ابت األمم الجاح دة ألنبيائه ا‪﴿ :‬فَ ُكاًّل أَخَ ْذنَا بِ َذ ْنبِ ِه فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن‬
‫ض َو ِم ْنهُ ْم‬‫خَس ْفنَا بِ ِه اأْل َرْ َ‬ ‫الص ي َْحةُ َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َ‬ ‫صبًا َو ِم ْنهُ ْم َم ْن أَخَ َذتْهُ َّ‬ ‫أَرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه َحا ِ‬
‫ظلِ ُمونَ ﴾ [العنكبوت‪]40 :‬‬ ‫ظلِ َمهُ ْم َولَ ِك ْن َكانُوا أَ ْنفُ َسهُ ْم يَ ْ‬ ‫َم ْن أَ ْغ َر ْقنَا َو َما َكانَ هللا لِيَ ْ‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬رأى أن هذه الص يحة ن وع من األس لحة الص وتية‪ ،‬ال تي دل‬
‫العلم على أن لها تأثيرها الكبير‪ ،‬وإن لم تتوصل التقنية العلمية بعد إلى اختراعها‪.‬‬
‫يقول في ذلك‪( :‬هن اك عالق ة بين الص وت والص عق‪ ،‬ألن الص وت المرتف ع‬
‫جداً يملك قوة تدميرية‪ ،‬ويمكن أن يحرق أكثر من النار نفسها‪ ،‬والعلماء ح تى الي وم‬
‫يح اولون الحص ول على ص وت يك ون ل ه أث ر ت دميري‪ ،‬ولكن تج اربهم ال ت زال‬
‫محدودة‪ ،‬ألن المشكلة في تصميم الجهاز الذي يصدر هذا الصوت)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)110 /7‬‬


‫‪ )(2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬النفخ في الص ور‪ :‬حقيق ة علمي ة وقرآني ة‪ ،‬المهن دس عب د ال دائم كحي ل‪ ،‬موق ع أس رار‬
‫اإلعجاز العلمي‪..‬‬

‫‪150‬‬
‫ثم بين عالق ة الص وت ب البوق‪ ،‬فق ال‪( :‬يق ول الب احثون في ه ذا المج ال إن‬
‫أفضل طريقة لتوليد أخطر أنواع الذبذبات الص وتية الفعال ة والش ديدة‪ ،‬هي أن نول د‬
‫الصوت من خالل م ا يش به الب وق على ش كل حل زون ه وائي‪ ،‬وه و جه ازا يش به‬
‫القرن‪ ،‬ألن هذه الطريقة ستولد الموج ات الص وتية ذات ال ترددات تحت الص وتية‪،‬‬
‫والتي تعتبر األخطر على اإلنسان والحيوان والجماد)(‪)1‬‬
‫وبين األث ر اإليج ابي للص وت في بعث الحي اة وتنش يطها‪ ،‬فق ال‪( :‬للص وت‬
‫تأثيرات كثيرة‪ ،‬فقد أثبتت األبحاث الحديثة أن كل شيء في الكون له تردده الخ اص‬
‫به‪ ،‬ويسمى الرنين الطبيعي‪ ،‬فعندما نعرض هذا الجسم لتردد صوتي مح دد يس اوي‬
‫الرنين الطبيعي لهذا الجس م فإن ه يب دأ ب االهتزاز والتج اوب‪ .‬ول ذلك ف إن ال ترددات‬
‫الصوتية إذا كانت ذات مجال ترددي واسع سوف تستجيب لها كل الموجودات على‬
‫األرض‪ ..‬وإذا علمن ا أن للص وت ت أثيرات على الخالي ا الحي ة‪ ،‬فالخلي ة تص در‬
‫ترددات صوتية وتتأثر بالترددات الصوتية‪ ،‬والترددات الص وتية ت ؤثر على نش اط‬
‫الخاليا فتكون سببا ً في شفائها‪ ..‬ك ذلك للص وت ق درات عجيب ة على ت دمير الخالي ا‬
‫السرطانية‪ ،‬وبنفس الوقت يمكن للذبذبات الصوتية أن تطيل عم ر الخلي ة وتنش طها‬
‫وتجعلها أكثر حيوية) (‪)2‬‬
‫ونقل عن بعض الب احثين من أمث ال الفرنس ي [فابي ان]‪( ،‬أن للص وت ق درة‬
‫على تفج ير الخالي ا الس رطانية‪ ،‬وبنفس ال وقت ق درة على تنش يط الخالي ا وإع ادة‬
‫الحيوية والطاقة لها) (‪)3‬‬
‫طبعا‪ ،‬وكما هو ظاهر‪ ،‬فنحن لم ننقل ه ذه النص وص لتص وير م ا سيحص ل‬
‫بالضبط‪ ،‬فذلك مستحيل‪ ،‬وإنما ه و محاول ة تقريبي ة لص د تل ك الش به ال تي ينش رها‬
‫أولئ ك ال ذين يتص ورون أنهم وح دهم من يص دقون العلم‪ ،‬ومن يتبع ون المنهج‬
‫العلمي‪ ،‬مع أن المنهج العلمي أكثر تواضعا من أن يقول ذلك‪ ،‬ومثله التأم ل العقلي‪،‬‬
‫وقد ق ال [فرنس يس بيك ون] في ال رد على ه ؤالء‪( :‬القلي ل من الفلس فة يمي ل بعق ل‬
‫اإلنس ان إلى اإللح اد‪ ،‬ولكن التعم ق فيه ا ينتهي ب العقول إلى اإليم ان‪ ..‬إذا أمعن‬
‫(العقل) النظر وشهد سلسلة األسباب كيف تتصل حلقاتها فأنه ال يجد بدًا من التس ليم‬
‫باهلل)(‪)4‬‬
‫‪ 2‬ـ التبديل والتهيئة‪:‬‬
‫ات َوبَ َر ُزواْ‬
‫او ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ويشير إليه قوله تعالى‪﴿ :‬يَوْ َم تبَد ُل األرْ ضُ َغي َْر األرْ ِ‬
‫ض َوال َّس َم َ‬
‫هللِ ْال َوا ِح ِد ْالقَه ِ‬
‫َّار ﴾ [إبراهيم‪]48 :‬‬
‫والتبديل ـ كما تشير النص وص المقدس ة ـ يب دأ مباش رة بع د النفخ ة األولى‪،‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(4‬نقال عن‪ُ :‬ملحدون محدثون معاصرون‪ ،‬د‪ .‬رمسيس عوض‪ ،‬ص ‪..58‬‬

‫‪151‬‬
‫بتلك الزلزلة العظيمة التي يعاينها الخالئق‪ ،‬والتي وص فها هللا تع الى بقول ه‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫ض َع ٍة‬ ‫َظي ٌم (‪ )1‬يَوْ َم تَ َروْ نَهَا ت َْذهَ ُل ُك لُّ ُمرْ ِ‬ ‫النَّاسُ اتَّقُوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َز ْلزَ لَةَ السَّا َع ِة َش ْي ٌء ع ِ‬
‫ارى َو َم ا هُ ْم بِ ُس َكا َرى‬ ‫اس ُس َك َ‬ ‫ت َح ْم ٍل َح ْملَهَ ا َوتَ َرى النَّ َ‬ ‫َض ُع ُكلُّ َذا ِ‬ ‫ت َوت َ‬ ‫ض َع ْ‬ ‫َع َّما أَرْ َ‬
‫اب هللا َش ِدي ٌد (‪[ ﴾)2‬الحج‪]2 ،1 :‬‬ ‫َولَ ِك َّن َع َذ َ‬
‫بل إن هناك سورة خاص ة به ا‪ ،‬وبم ا يح دث أثناءه ا‪ ،‬وهي س ورة الزلزل ة‪،‬‬
‫ت اأْل َرْ ضُ‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ ِز ْلزَ الَهَ ا (‪َ )1‬وأَخْ َر َج ِ‬ ‫لْزلَ ِ‬
‫وال تي يق ول هللا تع الى فيه ا‪﴿ :‬إِ َذا ُز ِ‬
‫ك أوْ َحى لَهَا (‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ارهَا (‪ )4‬بِأ َّن َربَّ َ‬ ‫َ‬
‫ِّث أ ْخبَ َ‬ ‫ال اإْل ِ ْن َسانُ َما لَهَا (‪ )3‬يَوْ َمئِ ٍذ تُ َحد ُ‬ ‫أَ ْثقَالَهَا (‪َ )2‬وقَ َ‬
‫‪[ ﴾)5‬الزلزلة‪]5 - 1 :‬‬
‫ويبدو من خالل هذه اآليات‪ ،‬ومن خالل تتمته ا‪ ،‬وهي قول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَوْ َمئِ ٍذ‬
‫ال َذ َّر ٍة خَيْرًا يَ َرهُ (‪َ )7‬و َم ْن‬ ‫يَصْ ُد ُر النَّاسُ أَ ْشتَاتًا لِيُ َروْ ا أَ ْع َم الَهُ ْم (‪ )6‬فَ َم ْن يَ ْع َم لْ ِم ْثقَ َ‬
‫يَ ْع َملْ ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َش ًّرا يَ َرهُ (‪[ ﴾)8‬الزلزلة‪ ]8 - 6 :‬أن هذه الزلزلة ـ الواردة في هذه‬
‫الس ورة ـ بخالف الزلزل ة األولى‪ ،‬مرتبط ة بالنفخ ة الثاني ة‪ ،‬وال تي يتم فيه ا بعث‬
‫الخالئق‪ ،‬وتشكل األرض بشكلها الجديد‪ ،‬مع قوانينها الجديد‪ ،‬وله ذا ذك ر هللا تع الى‬
‫أن األرض تجيب البشر‪ ،‬وتحدثهم‪ ،‬وتخبر بوحي هللا لها‪ ،‬وهو من الظواهر العادي ة‬
‫في النشأة األخرى‪ ،‬بخالف النشأة األولى‪.‬‬
‫وهكذا يذكر القرآن الكريم أن من أغراض ذلك التبديل‪ ،‬وتل ك التهيئ ة توف ير‬
‫ارزَ ةً َو َح َش رْ نَاهُ ْم فَلَ ْم نُ َغ ا ِدرْ‬ ‫ض بَ ِ‬ ‫﴿وتَ َرى اأْل َرْ َ‬ ‫محل مناسب للعرض‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ار ُزونَ اَل يَ ْخفَى َعلَى هللا ِم ْنهُ ْم َش ْي ٌء لِّ َم ِن‬ ‫ِم ْنهُ ْم أَ َحدًا﴾ [الكهف‪ ،]47 :‬وقال‪﴿ :‬يَوْ َم هُم بَ ِ‬
‫َّار ﴾ [غافر‪]16 :‬‬ ‫اح ِد ْالقَه ِ‬ ‫ك اليوْ َم هَّلِل ِ ْال َو ِ‬
‫ْال ُم ْل ُ‬
‫ويبدو كذلك أن األرض في تلك النشأة الجديدة‪ ،‬وب القوانين الجدي دة‪ ،‬س تكون‬
‫أكبر من األرض ال تي نعرفه ا‪ ،‬ومختلف ة في تضاريس ها ومناخه ا عنه ا‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫َت لِ َربِّهَ ا‬ ‫ت (‪َ )4‬وأَ ِذن ْ‬ ‫ت َم ا فِيهَ ا َوتَ َخلَّ ْ‬ ‫ت (‪َ )3‬وأَ ْلقَ ْ‬ ‫﴿وإِ َذا اأْل َرْ ضُ ُم َّد ْ‬ ‫تع الى يص فها‪َ :‬‬
‫ت (‪[ ﴾)5‬االنشقاق‪]5 - 3 :‬‬ ‫َو ُحقَّ ْ‬
‫وحتى الجبال والمرتفعات التي كانت تشكل ح واجز ك برى فيه ا‪ ،‬ت دك‪ ،‬كم ا‬
‫ت األَرْ ضُ َو ْال ِجبَ ا ُل فَ ُد َّكتَا َد َّكةً‬ ‫ور نَ ْفخَ ةٌ َوا ِح َدةٌ َو ُح ِملَ ِ‬ ‫قال تعالى‪ ﴿ :‬فَإِ َذا نُفِخَ فِي الصُّ ِ‬
‫ت ْال َواقِ َعةُ ﴾ [الحاقة‪]15 - 13 :‬‬ ‫َوا ِح َدةً فَيَوْ َمئِ ٍذ َوقَ َع ِ‬
‫وأخ بر هللا تع الى أنه ا تتح ول عن ص البتها وقس وتها؛ فتص بح هين ة لين ة‬
‫ت ْال ِجبَ ا ُل َكثِيبًا‬ ‫كالرم ل الن اعم‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬يَ وْ َم تَرْ ُج فُ األَرْ ضُ َو ْال ِجبَ ا ُل َو َك انَ ِ‬
‫َّم ِهيالً ﴾ [المزمل‪ ،]14:‬أي أنها تصبح ككثبان الرمل بعد أن ك انت حج ارة ص ماء‪،‬‬
‫والرمل المهيل‪ :‬هو الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده‪.‬‬
‫ْ‬
‫﴿وتَك ونُ ال ِجبَ ا ُل‬ ‫ُ‬ ‫وأخ بر أنه ا تص بح ك العهن‪ ،‬وه و الص وف‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫وش﴾ [القارعة‪]5 :‬‬ ‫َك ْال ِع ْه ِن﴾ [المعارج‪ ،]9 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وتَ ُكونُ ْال ِجبَا ُل َك ْال ِع ْه ِن ْال َم ْنفُ ِ‬
‫ت ﴾ [التك وير‪:‬‬ ‫وأخبر عن إزالتها بتسييرها ونسفها‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ْال ِجبَ ا ُل ُس ي َِّر ْ‬
‫ت ﴾ [المرسالت‪]10:‬‬ ‫﴿وإِ َذا ْال ِجبَا ُل نُ ِسفَ ْ‬
‫‪ ،]3‬وقال‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وبين ح ال األرض بع د ذل ك التس يير والنس ف‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬ويَ وْ َم ن َس يِّ ُر ال ِجبَ ا َل‬

‫‪152‬‬
‫ارزَ ةً ﴾ [الكهف‪]47:‬‬ ‫ض بَ ِ‬ ‫َوت ََرى األَرْ َ‬
‫وبذلك تصبح األرض ظاهرة ال ارتفاع فيها‪ ،‬وال انخفاض‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ص فًا ال تَ َرى فِيهَ ا‬ ‫ص ْف َ‬ ‫نس فُهَا َربِّي ن َْس فًا فَيَ َذ ُرهَا قَاعًا َ‬ ‫﴿ َويَسْأَلُونَكَ َع ِن ْال ِجبَ ا ِل فَقُ لْ يَ ِ‬
‫ِع َوجًا َوال أَ ْمتًا ﴾ [طه‪]107 - 105:‬‬
‫وقد ورد تقريب صفة تلك األرض التي يقع فيها العرض والحس اب في قول ه‬
‫‪( :‬يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء‪ ،‬كقرص ة النقي‪ ،‬ليس فيه ا‬
‫معلم ألحد)(‪)1‬‬
‫وهكذا ورد وصف األهوال التي تحدث في البحار‪ ،‬وأنها تفجر وتشتعل ناراً‪،‬‬
‫ت﴾‬ ‫﴿وإِ َذا ْالبِ َح ا ُر ُس ِّج َر ْ‬ ‫ت ﴾ [االنفطار‪ ،]3:‬وقال‪َ :‬‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ْالبِ َحا ُر فُ ِّج َر ْ‬
‫[التكوير‪]6:‬‬
‫أما السماء‪ ،‬فقد ورد أنها تمور وتضطرب اضطرابا ً عظيماً‪ ،‬كما قال تع الى‪:‬‬
‫الس َما ُء َم وْ رًا ﴾ [الط ور‪ ،]9 :‬ثم تنفط ر وتتش قق‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َذا‬ ‫﴿يَوْ َم تَ ُمو ُر َّ‬
‫ت﴾‬ ‫َت لِ َربِّهَ ا َو ُحقَّ ْ‬‫ت َوأَ ِذن ْ‬ ‫انش قَّ ْ‬
‫الس َما ُء َ‬ ‫ت﴾ [االنفطار‪ ،]1 :‬وق ال‪﴿ :‬إِ َذا َّ‬ ‫ال َّس َما ُء انفَطَ َر ْ‬
‫ت ال َّس َما ُء فَ ِه َي‬ ‫[االنشقاق‪ ،]2 - 1 :‬وعند ذلك تصبح واهية‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وان َشقَّ ِ‬
‫يَوْ َمئِ ٍذ َوا ِهيَةٌ ﴾ [الحاقة‪]16:‬‬
‫وقد ورد فوق ذلك كله في القرآن الك ريم م ا يش ير إلى معاين ة الخل ق لبعض‬
‫تلك األهوال الشديدة‪ ،‬وفزعهم منها‪ ،‬مثلما رأينا في اآليات التي تتحدث عن الزلزلة‬
‫بشقيها‪ :‬الزلزلة األولى‪ ،‬والزلزلة الثانية‪.‬‬
‫وورد كذلك في الحديث ما يدل على معاينة البشر لبعض تلك التغ يرات ال تي‬
‫تحصل بعد النفخة الثانية‪ ،‬وبعد البعث‪ ،‬ومنها ما ورد في تفس ير قول ه تع الى‪﴿ :‬يَ وْ َم‬
‫َّار ﴾ [إب راهيم‪،]48 :‬‬ ‫اح ِد ْالقَه ِ‬ ‫وا هللِ ْال َو ِ‬‫ات َوبَ َر ُز ْ‬‫او ُ‬ ‫ض َوال َّس َم َ‬ ‫تُبَ َّد ُل األَرْ ضُ َغ ْي َر األَرْ ِ‬
‫فقد سئل عنها رسول هللا ‪ ،‬فقال‪( :‬هم في الظلمة دون الجسر)(‪ ،)2‬وه و مح ل ال‬
‫يمكننا أن نعرف حقيقته‪ ،‬ولكن المهم فيه هو أنه يجيب على اإلش كال ال ذي يطرح ه‬
‫من ال يس تطيع الجم ع بين معاين ة األه وال‪ ،‬والبق اء على قي د الحي اة‪ ،‬ذل ك أن تل ك‬
‫األحداث كفيلة بأال تبقي أحدا حيا‪.‬‬
‫ونرى ـ مثلما ذكرنا س ابقا‪ ،‬وبن اء على العدال ة اإللهي ة ـ أن المؤم نين ال ذين‬
‫كانوا يسلمون للقدرة اإللهية‪ ،‬ويؤمنون بها معفون من الفزع المرتبط بتلك األهوال‪،‬‬
‫وإن كانوا ال يعفون من رؤيتها باعتبارها تشكل المزيد من الطمأنين ة لهم‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ال‬‫ال إِب َْرا ِهي ُم َربِّ أَ ِرنِي َك ْيفَ تُحْ ِي ْال َم وْ تَى قَ َ‬ ‫﴿وإِ ْذ قَ َ‬ ‫تعالى عن إبراهيم عليه السالم‪َ :‬‬
‫ص رْ ه َُّن إِلَيْكَ ث َّمُ‬ ‫َ‬
‫يْر ف ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ال فخ ذ أرْ بَ َع ة ِمنَ الط ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ط َمئِ َّن قلبِي ق َ‬ ‫أَ َولَ ْم تُ ْؤ ِم ْن قَا َل بَلَى َولَ ِك ْن لِيَ ْ‬
‫ْ‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾‬ ‫اجْ َعلْ َعلَى ُك ِّل َجبَ ٍل ِم ْنه َُّن ُج ْز ًءا ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن يَأتِينَ كَ َس ْعيًا َوا ْعلَ ْم أَ َّن هللا ع ِ‬
‫[البقرة‪]260 :‬‬

‫‪ )(1‬صحيح البخاري برقم (‪ )6521‬وصحيح مسلم برقم (‪)2790‬‬


‫‪ )(2‬صحيح مسلم برقم‪.)315( :‬‬

‫‪153‬‬
‫فمع كون إبراهيم عليه السالم كان موقنا بإحي اء هللا للم وتى‪ ،‬ولكن ه أحب أن‬
‫ك نُ ِري إِبْ َرا ِهي َم‬ ‫﴿و َك َذلِ َ‬‫يعاين مشاهد ذلك‪ ،‬لتكون ضمن م ا ع بر عن ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ض َولِيَ ُكونَ ِمنَ ْال ُموقِنِينَ ﴾ [األنعام‪]75 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫َملَ ُكوتَ ال َّس َم َ‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن معاينة المؤمنين لتلك المشاهد العظيمة‪ ،‬ال يكون بصحبة الف زع‪،‬‬
‫وإنما يكون بصحبة الخشية والتعظيم هلل‪ ،‬والخش ية هي خ وف مختل ط بالرج اء‪ ،‬أو‬
‫بالتقدير والتعظيم‪.‬‬
‫ونحب أن نذكر هنا ردا على أولئك الذين يتصورون أن القيامة مرتبطة فق ط‬
‫باألرض‪ ،‬وباإلنسان خصوصا‪ ،‬بأن األمر ليس كذلك‪ ،‬بل هي مرتبط ة بك ل الك ون‬
‫الذي نعرفه‪ ،‬وبك ل س كانه‪ ،‬س واء ك انوا من البش ر أو غ يرهم‪ ،‬ول و أن النص وص‬
‫المقدسة لم تحدثنا إال على البشر‪ ،‬لعدم طاقة العقول الحديث عن غيرهم‪.‬‬
‫ب َك َما بَ دَأنَاْ‬ ‫َط ِوي ال َّس َما َء َكطَ ِّي الس ِِّجلِّ لِ ْل ُكتُ ِ‬ ‫ويشير إلى هذا قوله تعالى‪﴿ :‬يَوْ َم ن ْ‬
‫اعلِينَ ﴾ [األنبياء‪]104 :‬‬ ‫ق نُ ِعي ُدهُ َو ْعدًا َعلَ ْينَا إِنَّا ُكنَّا فَ ِ‬ ‫أَ َّو َل َخ ْل ٍ‬
‫وحتى نتصور ما يحص ل من أه وال في ذل ك الموق ف نع رض هن ا ب دايات‬
‫ثالث سور قرآنية وردت الدعوة لقراءتها‪ ،‬لتصور م ا يح دث‪ ،‬فق د ق ال رس ول هللا‬
‫أن ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين‪ ،‬فليقرأ‪( :‬إذا الشمس كورت)‬ ‫‪َ ( :‬م ْن سرّه ْ‬
‫و(إذا السماء انفطرت) و(إذا السماء انشقت)(‪)1‬‬
‫الش ْمسُ‬ ‫أم ا الس ورة األولى‪ ،‬س ورة التك وير‪ ،‬فق د ب دئت بقول ه تع الى‪﴿ :‬إِ َذا َّ‬
‫ت(‬ ‫ت (‪َ )3‬وإِ َذا ْال ِع َش ا ُر ُعطِّلَ ْ‬ ‫ت (‪َ )2‬وإِ َذا ْال ِجبَا ُل ُسي َِّر ْ‬ ‫ت (‪َ )1‬وإِ َذا النُّجُو ُم ا ْن َكد ََر ْ‬ ‫ُك ِّو َر ْ‬
‫ت (‪)7‬‬ ‫ت (‪َ )6‬وإِ َذا النُّفُ وسُ ُز ِّو َج ْ‬ ‫ت (‪َ )5‬وإِ َذا ْالبِ َح ا ُر ُس جِّ َر ْ‬ ‫ُش َر ْ‬ ‫‪َ )4‬وإِ َذا ْال ُو ُح وشُ ح ِ‬
‫ت (‪َ )10‬وإِ َذا‬ ‫الص ُحفُ نُ ِش َر ْ‬ ‫ت (‪َ )9‬وإِ َذا ُّ‬ ‫ت (‪ )8‬بِ أَيِّ َذ ْن ٍ‬
‫ب قُتِلَ ْ‬ ‫َوإِ َذا ْال َم وْ ُءو َدةُ ُس ئِلَ ْ‬
‫ت‬ ‫ت (‪َ )13‬علِ َم ْ‬ ‫ُ‬
‫ت (‪َ )12‬وإِ َذا ْال َجنَّةُ أ ْزلِفَ ْ‬ ‫ت (‪َ )11‬وإِ َذا ْال َج ِحي ُم ُس ع َِّر ْ‬ ‫الس َما ُء ُك ِش طَ ْ‬ ‫َّ‬
‫ت (‪[ ﴾)14‬التكوير‪]14 - 1 :‬‬ ‫ض َر ْ‬ ‫نَ ْفسٌ َما أَحْ َ‬
‫ت (‪َ )1‬وإِ َذا‬ ‫الس َما ُء ا ْنفَطَ َر ْ‬ ‫وأما سورة االنفطار‪ ،‬فقد بدئت بقول ه تع الى‪﴿ :‬إِ َذا َّ‬
‫ت نَ ْفسٌ‬ ‫ت (‪َ )4‬علِ َم ْ‬ ‫ت (‪َ )3‬وإِ َذا ْالقُبُ و ُر بُ ْعثِ َر ْ‬ ‫ت (‪َ )2‬وإِ َذا ْالبِ َح ا ُر فُجِّ َر ْ‬ ‫ْال َك َوا ِكبُ ا ْنتَثَ َر ْ‬
‫ت (‪[ ﴾ )5‬االنفطار‪]6 - 1 :‬‬ ‫ت َوأَ َّخ َر ْ‬ ‫َما قَ َّد َم ْ‬
‫َت‬ ‫ت (‪َ )1‬وأَ ِذن ْ‬ ‫وأما سورة االنشقاق‪ ،‬فقد بدئت بقوله تعالى‪ :‬إ ﴿إِ َذا ال َّس َما ُء ا ْن َشقَّ ْ‬
‫َت لِ َربِّهَ ا‬ ‫ت (‪َ )4‬وأَ ِذن ْ‬ ‫ت َم ا فِيهَ ا َوتَخَ لَّ ْ‬ ‫ت (‪َ )3‬وأَ ْلقَ ْ‬ ‫ت (‪َ )2‬وإِ َذا اأْل َرْ ضُ ُم َّد ْ‬ ‫لِ َربِّهَا َو ُحقَّ ْ‬
‫ت (‪[ ﴾)5‬االنشقاق‪]5 - 1 :‬‬ ‫َو ُحقَّ ْ‬
‫فه ذه اآلي ات الكريم ة تص ور بعض المش اهد ال تي تحص ل ذل ك الحين‪ ،‬أو‬
‫تقربها‪ ،‬وما قاله المفسرون حولها مجرد توضيح بحسب الثقافة المتاح ة لعص رهم‪،‬‬
‫ال الحقيقة بعينها‪ ،‬ألنها ال يمكن تصورها‪ ،‬والقرآن الكريم يستعمل اللغة التي يفهمها‬
‫الناس جميعا‪ ،‬وال يمكن لتلك اللغة أن تعبر عن تلك األحداث بصورتها الكاملة‪.‬‬
‫وبناء على ذلك نذكر هنا ما قاله العلماء حول بعض تلك المعاني ال واردة في‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪)235 / 2‬‬

‫‪154‬‬
‫الق رآن الك ريم‪ ،‬وال تي ق د يج د الش يطان منه ا ثغ رات للتس لل وبث الش بهات‪ ،‬وال‬
‫نذكرها من باب كونها الحقيقة التي ستجري بالضبط‪ ،‬ألن ذلك غيب محض‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ورد في شأن الشمس والنج وم‪ ،‬مث ل قول ه تع الى‪﴿ :‬فَ إِ َذا النُّ ُج و ُم‬
‫ت(‬ ‫ت (‪َ )1‬وإِ َذا النُّ ُج و ُم ا ْن َك َد َر ْ‬‫ت ﴾ [المرسالت‪ ،]8 :‬وقوله‪﴿ :‬إِ َذا ال َّش ْمسُ ُك ِّو َر ْ‬ ‫طُ ِم َس ْ‬
‫‪[ ﴾)2‬التكوير‪ ،]2 ،1 :‬فقد أثبت العلم أن الشمس‪ ،‬وغيرها من النجوم ـ على خالف‬
‫النظرة التقليدية القديمة المبنية على ثبات الكون ـ تموت وتنطمس‪ ،‬ولها نهاية تنتهي‬
‫إليها‪.‬‬
‫وقد أثبتت االكتشافات العلمية الحديثة أن (النجوم تولد وتمر بمراحل عدي دة‪،‬‬
‫فهي تخلق ثم تصير إلى مرحل ة تس مى فيه ا ه ذه النج وم بنج وم النس ق الرئيس ي‪،‬‬
‫ويستمر النجم على هذا الطور غالبية عمره‪ ،‬وبعد ذل ك يس تمر التح ول إلى مرحل ة‬
‫جديدة وهكذا حتى يتحول إلى نجم منكدر ال ضوء فيه)(‪)1‬‬
‫وتذكر هذه الدراسات أن (الشمس س تتمدد ويص بح حجمه ا كب يراً‪ ،‬وبالت الي‬
‫فإنها لن تستطيع أن تستمر طويالً في اإلمساك بتالبيب أطرافه ا‪ ،‬فته رب الطبق ات‬
‫الخارجية منها تدريجيا ً ـ في شكل حلقات غازي ة تخ رج متتابع ة في منظ ر مهيب ـ‬
‫وفي تلك الحالة ستطال تلك الحلقات جمي ع الك واكب الخارجي ة ح تى (بلوت و)‪ ،‬ب ل‬
‫وجميع أطراف المنظومة الشمسية‪ .‬وتعرف تلك المرحلة من حي اة النج وم بمرحل ة‬
‫(السدم الكوكبية)‪ ،‬حيث تلفظ النج وم طبقاته ا الخارجي ة في ش كل حلق ات مس تديرة‬
‫تشبه في منظرها الخارجي الكواكب في اس تدارة ش كلها‪ .‬ونجم (القيث ارة) ه و أح د‬
‫أشهر تلك األمثلة التي يعرفها الفلكيون من بين آالف النج وم ال تي رص دناها‪ ،‬وهي‬
‫تلفظ طبقاتها الخارجية)(‪)2‬‬
‫وفي تلك المرحلة (تفقد الشمس ما يزيد عن ثلث كتلتها لتص بح بع د ذل ك لب ا ً‬
‫عاريا ً صغيراً حرارته شديدة‪ ،‬ويتوق ف نبض التف اعالت النووي ة في الب اطن لت برد‬
‫الشمس ت دريجيا ً ويتص اغر حجمه ا كث يراً وت دخل إلى مق ابر النج وم فيم ا يع رف‬
‫بمرحل ة (األق زام البيض اء)‪ .‬وفي تل ك المرحل ة تك ون كثاف ة الم ادة عالي ة بدرج ة‬
‫رهيبة‪ ،‬حيث يزن السنتيمتر المكعب من م ادة الق زم األبيض ح والي طن واح د من‬
‫مادة األرض‪ ،‬كم ا أن حجم الش مس في تل ك المرحل ة سيتص اغر ليص بح في حجم‬
‫األرض تقريباً) (‪)3‬‬
‫وغيرها من األحداث التي تقرب كث يرا م ا ورد في قول ه تع الى عن الش مس‬
‫ت﴾ [التك وير‪ ،]1 :‬فمم ا ورد في معناه ا (ذهب‬ ‫في ذل ك الي وم‪﴿ :‬إِ َذا َّ‬
‫الش ْمسُ ُك ِّو َر ْ‬
‫ضوؤها‪ ،‬وأظلمت)‬
‫وبما أن الشمس نجم من النج وم‪ ،‬والق وانين ال تي تس ري عليه ا تس ري على‬
‫‪ )(1‬حياة النجوم بين العلم والقرآن الكريم‪ ،‬للدكتور محمد ص الح الن واوي‪ ،‬نقال عن موق ع اإلعج از العلمي في‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫سائر النجوم‪ ،‬فإن ما ذكره العلم حولها ينطبق عليها أيضا‪.‬‬
‫وهكذا ذك روا فيم ا ورد في ش أن تفج ير البح ار وتس جيرها ردا على أولئ ك‬
‫الذين لم تستطع عقولهم أن تستسيغ تلك الحرائق المهولة ال تي تص يب البح ار‪ ،‬فمن‬
‫الحقائق العلمية المتفق عليها أن الماء يتكون من مادتين هم ا الهي دروجين(ذرتين)‪..‬‬
‫واالكس جين(ذرة واح دة)‪ ،‬والهي دروجين‪ :‬عنصرش ديد االش تعال ويس تعمل في‬
‫عمليات الصهر‪ ،‬واالكسجين عنصر يساعد على االشتعال وهو وقود النار‪.‬‬
‫وسبب عدم احتراق الماء يع ود لك ون (العنص رين ق د احترق ا أص ال بعملي ة‬
‫الدمج فيما بينهما وأصبحا عاليا الكثافة‪ ،‬وله ذا فإن ه م تى تم الجم ع بين الهي دوجين‬
‫واالكسجين كيميائيا فانهما يفقدان خاصتيهما‪ ،‬ويتحوالن إلى م ادة أخ رى ال تش تعل‬
‫بل تساعد على إطفاء الحرائق)‬
‫لكن إذا تم كس ر الرابط ة التس اهمية ال تي ترب ط بين ذرتي الهي دروجين‬
‫واألكسجين بواسطة اإلنشطار‪ ،‬فإن ذلك (ينتج عنه طاق ة خيالي ة‪ ،‬نس ميها في وقتن ا‬
‫الحاضر بالقنبلة الهيدروجينية‪ ،‬وهي أشد انفجارا بكثير من القنبلة النووية)‬
‫وهذا ال يعني تفسيرنا للتسجير بهذا المعنى‪ ،‬وإنما ه و مج رد تق ريب لم ا ق د‬
‫يحص ل بن اء على المعطي ات العلمي ة المت وفرة ل دينا‪ ،‬أم ا الحقيق ة ال تي ستحص ل‬
‫بالضبط‪ ،‬فتحتاج منا إلى معرفة أسرار أخرى للك ون أك بر وأعظم‪ ،‬والعلم أض عف‬
‫من أن يصل إليها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ البعث والنشور‪:‬‬
‫يمكن اعتبار القرآن الك ريم المص در الوحي د من بين جمي ع الكتب الس ماوية‬
‫ال تي ت ذكر حق ائق البعث والنش ور‪ ،‬وبلغ ة علمي ة عقلي ة راقي ة؛ لم يزده ا التط ور‬
‫العلمي الكبير الذي شهدناه في عصرنا إال قوة ورسوخا‪.‬‬
‫ففي أحاديث ه الكث يرة عن البعث والنش ور‪ ،‬وعن رد الش به ال تي يثيره ا‬
‫المشركون حوله‪ ،‬والتي يمكننا أن نجد من خاللها مادة علمية كافية‪ ،‬تجعلنا نس تغني‬
‫بها عن كثير من المباحث الكالمية والفلسفية‪ ،‬بل تجعلنا فوق ذلك نرد على ما يث ار‬
‫حوله من شبه‪ ،‬بكل بساطة ويسر‪.‬‬
‫فالعرض القرآني للبعث يتضمن كلتا الناحيتين‪ :‬ناحية حقيقة البعث‪ ،‬وعالقت ه‬
‫بالجسد والروح والنفس‪ ..‬وناحية البراهين المثبتة لذلك‪ ،‬واألمثلة المقربة له‪.‬‬
‫وس نحاول هن ا انطالق ا من اآلي ات المرتبط ة ب البعث أن نس تخلص أهم‬
‫خصائص هذه المرحلة الخط يرة من المراح ل ال تي يم ر به ا اإلنس ان في مس يرته‬
‫التكاملية‪:‬‬
‫أ ـ البعث والحركة التكاملية‪:‬‬
‫من أهم المالحظات ال تي نراه ا في الق رآن الك ريم عن د ذك ره للبعث ـ وفي‬
‫مواضع متعددة منه ـ ربطه له بالمراحل والتطورات التي م رت به ا خلق ة اإلنس ان‬
‫ين (‪ )12‬ثُ َّم َج َع ْلنَ اهُ نُ ْ‬
‫طفَ ةً فِي‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد خَ لَ ْقنَ ا اإْل ِ ْن َس انَ ِم ْن ُس اَل لَ ٍة ِم ْن ِط ٍ‬
‫ض َغةَ ِعظَامًا‬ ‫ض َغةً فَ َخلَ ْقنَ ا ْال ُم ْ‬ ‫ين (‪ )13‬ثُ َّم َخلَ ْقنَا النُّ ْ‬
‫طفَةَ َعلَقَةً فَ َخلَ ْقنَا ْال َعلَقَةَ ُم ْ‬ ‫قَ َر ٍ‬
‫ار َم ِك ٍ‬

‫‪156‬‬
‫فَ َك َس وْ نَا ْال ِعظَ ا َم لَحْ مًا ثُ َّم أَ ْن َش أْنَاهُ خَ ْلقًا آ َخ َر فَتَبَ ا َركَ هللا أَحْ َس نُ ْال َخ الِقِينَ (‪﴾)14‬‬
‫[المؤمنون‪]14 - 12 :‬‬
‫وبعد أن ذكر كل هذه المراحل ـ والتي اكتش ف العلم الح ديث م دى واقعيته ا‬
‫وصدقها على الرغم من مخالفتها لثقافة البيئة التي نزل فيها(‪ )1‬ـ راح يذكر المرحلة‬
‫األخيرة في سلم الترقي نحو الكمال اإلنس اني‪ ،‬وال تي ع بر عنه ا قول ه تع الى‪ ﴿ :‬ثُ َّم‬
‫ك لَ َميِّتُ ونَ (‪ )15‬ثُ َّم إِنَّ ُك ْم يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة تُ ْب َعثُ ونَ (‪[ ﴾ )16‬المؤمن ون‪- 15 :‬‬ ‫إِنَّ ُك ْم بَ ْع َد َذلِ َ‬
‫‪ ،]17‬وهذا يدل على أن ذلك البعث مرحلة جديدة من مراحل التطور اإلنساني نح و‬
‫الكمال‪.‬‬
‫وهكذا ورد في قوله تعالى في سورة الحج عن د تع داد مراح ل تط ور الخلق ة‬
‫اإلنسانية باعتبارها برهانا من براهين البعث‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِ ْن ُك ْنتُ ْم فِي‬
‫طفَ ٍة ثُ َّم ِم ْن َعلَقَ ٍة ثُ َّم ِم ْن ُمضْ َغ ٍة ُمخَ لَّقَ ٍة‬ ‫ب ثُ َّم ِم ْن نُ ْ‬ ‫ب ِمنَ ْالبَ ْع ِ‬
‫ث فَإِنَّا خَ لَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن تُ َرا ٍ‬ ‫َر ْي ٍ‬
‫َو َغي ِْر ُم َخلَّقَ ٍة لِنُبَيِّنَ لَ ُك ْم َونُقِرُّ فِي اأْل َرْ َح ِام َما نَ َشا ُء إِلَى أَ َج ٍل ُم َس ّمًى ثُ َّم نُخْ ِر ُج ُك ْم ِط ْفاًل‬
‫ثُ َّم لِتَ ْبلُ ُغوا أَ ُش َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُتَ َوفَّى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ي َُر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َك ْياَل يَ ْعلَ َم ِم ْن بَ ْع ِد‬
‫َت ِم ْن ُك ِّل‬ ‫ت َوأَ ْنبَت ْ‬ ‫ت َو َربَ ْ‬ ‫ض هَا ِم َدةً فَإِ َذا أَ ْنزَ ْلنَا َعلَ ْيهَا ْال َما َء ا ْهتَ َّز ْ‬
‫ِع ْل ٍم َش ْيئًا َوتَ َرى اأْل َرْ َ‬
‫يج ﴾ [الحج‪]5 :‬‬ ‫ج بَ ِه ٍ‬ ‫َزوْ ٍ‬
‫ق َوأَنَّهُ يُحْ ِي ْال َم وْ تَى َوأَنَّهُ‬ ‫ثم قال بعدها معلال سر ذلك‪َ ﴿ :‬ذلِكَ بِ أ َ َّن هللا هُ َو ْال َح ُّ‬
‫ور‬‫ث َم ْن فِي ْالقُبُ ِ‬ ‫ْب فِيهَ ا َوأَ َّن هللا يَ ْب َع ُ‬ ‫َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر (‪َ )6‬وأَ َّن السَّا َعةَ آتِيَةٌ اَل َري َ‬
‫(‪[ ﴾)7‬الحج‪]7 ،6 :‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تعتبر النشأة الثاني ة مرحل ة تطوري ة ك برى‬
‫عقب انتهاء مراحل النشأة األولى‪ ،‬وهي تشير ك ذلك إلى أن تل ك النش أة مختلف ة في‬
‫طبيعتها وشكلها عن النشأة األولى‪ ،‬وأكثر تطورا منها‪.‬‬
‫وقد أشار صدر المتألّهين إلى ذلك في قوله‪( :‬اآليات التي ذكرت فيه ا النطف ة‬
‫وأطوارها الكمالية‪ ،‬وتقلّباتها من صورة النقص إلى صورة أكم ل‪ ،‬ومن ح ال أدون‬
‫أن له ذه األط وار والتح والت غاي ة‬ ‫إلى ح ال أعلى‪ ،‬ف الغرض من ذكره ا‪ ،‬إثب ات ّ‬
‫أخيرة‪ ،‬فلإلنسان تو ّجه طبيعي نحو الكمال‪ ،‬ودين إلهي فطري في التقرّب إلى المبدأ‬
‫الفعّال‪ ،‬والكمال الالئق بحال اإلنس ان المخل وق أ ّوالً من ه ذه الطبيع ة‪ ،‬وإالّ ك ان ال‬
‫يوجد في هذا العالم األدنى‪ ،‬بل في ع الم اآلخ رة ال تي إليه ا ال رجعى‪ ،‬وفيه ا الغاي ة‬
‫والمنتهى‪ ،‬فبالضرورة إذا استوفى اإلنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في ح دود‬
‫حركت ه الجوهري ة الفطري ة‪ ،‬من الجمادي ة والنباتي ة‪ ،‬والحيواني ة‪ ،‬وبل غ أش ّده‬
‫الص وري‪ ،‬وت ّم وج وده ال دنيوي الحي واني‪ ،‬فالب ّد أن يتوج ه نح و النش أة اآلخ رة‬
‫ويخ رج من الق وة إلى الفع ل‪ ،‬ومن ال دنيا إلى األُخ رى‪ ،‬ثم الم ولى‪ ،‬وه و غاي ة‬
‫الغايات‪ ،‬ومنتهى األشواق والحركات) (‪)2‬‬

‫‪ )(1‬ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب معجزات علمية (ص‪ ،354 :‬فما بعدها)‬
‫‪ )(2‬األسفار‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ‪.159‬‬

‫‪157‬‬
‫أن اإلنس ان‬ ‫وقال السبحاني معبرا عن هذا المعنى بلغة أكثر عصرية‪( :‬ن رى ّ‬
‫منذ تكون ه نطف ة فعلق ة فمض غة‪ ،‬إلى أن يفتح عين ه على الوج ود‪ ،‬في ح ال حرك ة‬
‫دائمة وسعي متواصل ليس ل ه ثب ات وال ق رار‪ ،‬وه و يطلب بحركت ه وس عيه ش يئا ً‬
‫يفقده؛ فعلى ذلك ال ب ّد من وجود يوم يزول فيه وصف الالقرار‪ ،‬وي دخل م نزالً في ه‬
‫القرار والثبات‪ ،‬يكون غاية المطاف)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن (الحركة وإن كانت تتوقف ب الموت وال ي رى بع دها في‬
‫لكن تفسير الموت ببطالن اإلنسان وشخصيته الساعية‪ ،‬إبطال للغاية‬ ‫اإلنسان سعي‪ّ ،‬‬
‫التي كان يتوخاها من حركته‪ ،‬فالب ّد أن يكون الموت وروداً إلى م نزل آخ ر‪ ،‬يص ل‬
‫فيه إلى الغاية المتوخاة من سعيه وجهاده‪ ،‬وذلك المنزل هو النشأة األخروية) (‪)2‬‬
‫ثم رد على الوجوديين والماديين الذين يعت برون الغاي ة من الحرك ة والس عي‬
‫والكدح‪ ،‬هو نيل اللذائذ المادية والتجمالت الظاهرية‪ ،‬بأن (اإلنسان مهما ن ال منه ا‪،‬‬
‫أن ل ه ض الة أُخ رى‬ ‫ال يخمد عطشه‪ ،‬بل يستمر في س عيه وطلب ه‪ ،‬وه ذا ي د ّل على ّ‬
‫أن‬ ‫يتو ّجه نحوها‪ ،‬وإن لم يعرف حقيقتها‪ ،‬فهو يطلب الكمال الالئق بحاله‪ ،‬ويتص ور ّ‬
‫مالذ الحياة غايته‪ ،‬ومنتهى سعيه‪ ،‬ولكن ه س وف يرج ع عن ك ل غاي ة يص ل إليه ا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ويعطف توجهه إلى شي آخر) (‪)3‬‬
‫ويدعم هذا المعنى الكثير من البراهين الفلسفية‪ ،‬فالحرك ة الب د له ا من غاي ة‬
‫تنتهي إليها‪ ،‬وإال كانت عبثا مجردا ال معنى ل ه‪ ،‬وله ذا ن رى الق رآن الك ريم يعت بر‬
‫البعث غاية مكملة لتلك الحرك ة التكاملي ة ال تي حص لت في النش أة األولى‪ ،‬ويعت بر‬
‫ق َوأَنَّهُ‬‫أنها ضرورة يقتضيها الحق ويستلزمها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِكَ بِأ َ َّن هللا هُ َو ْال َح ُّ‬
‫يُحْ ِي ْال َموْ تَى َوأَنَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِدي ٌر ﴾ [الحج‪]6 :‬‬
‫وهكذا يذكر القرآن الكريم أنه لوال ه ذه النش أة المكمل ة لتل ك الحرك ة لك انت‬
‫النشأة األولى نشأة عبثية ال معنى لها‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َم ا َخلَ ْقنَ ا ُك ْم َعبَثًا‬
‫ش‬ ‫ق اَل إِلَ هَ إِاَّل هُ َو َربُّ ْال َع رْ ِ‬ ‫ك ْال َح ُّ‬‫َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَا اَل تُرْ َج ُع ونَ (‪ )115‬فَتَ َع الَى هللا ْال َملِ ُ‬
‫ْال َك ِر ِيم (‪[ ﴾)116‬المؤمنون‪]116 ،115 :‬‬
‫ولذلك نرى القرآن الكريم ينص على الغاي ة ال تي تس ير إليه ا ك ل الكائن ات‪،‬‬
‫وأنها معرفة هللا والتواصل معه‪ ،‬ألنها البداية ال تي أس س من أجله ا الك ون جميع ا‪،‬‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُم ْنتَهَى﴾ [النجم‪]42 :‬‬
‫ت‬‫وهكذا يصور البعث باعتباره رجوعا إلى هللا‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬كاَّل إِ َذا بَلَ َغ ِ‬
‫اق (‬ ‫الس ِ‬ ‫ق بِ َّ‬ ‫الس ا ُ‬ ‫ق (‪َ )28‬و ْالتَفَّ ِ‬
‫ت َّ‬ ‫ق (‪َ )27‬وظَ َّن أَنَّهُ ْالفِ َرا ُ‬ ‫التَّ َراقِ َي (‪َ )26‬وقِي َل َم ْن َرا ٍ‬
‫ك ال رُّ جْ َعى﴾‬ ‫ق ﴾ [القيامة‪ ،]30 - 26 :‬وقال‪﴿ :‬إِ َّن إِلَى َربِّ َ‬ ‫ك يَوْ َمئِ ٍذ ْال َم َسا ُ‬
‫‪ )29‬إِلَى َربِّ َ‬
‫[العلق‪]8 :‬‬

‫‪ )(1‬اإللهيات‪ ،‬جعفر السبحاني‪ ،‬ج‪،4‬ص‪.176‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.178‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.179‬‬

‫‪158‬‬
‫وهومعنى قولنا [إنا هلل وإنا إليه راجع ون]‪ ،‬وال ذي ي ردده الم ؤمن ك ل حين‪،‬‬
‫اج ُع ونَ ﴾ [البق رة‪:‬‬ ‫صيبَةٌ قَ الُوا إِنَّا هَّلِل ِ َوإِنَّا إِلَيْ ِه َر ِ‬
‫صابَ ْتهُ ْم ُم ِ‬ ‫كما قال تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ إِ َذا أَ َ‬
‫‪ ،]156‬وذلك ليذكر نفسه بأن ما فاته ليس هو الغاية‪ ،‬وإنما الغاية هللا‪.‬‬
‫ب ـ البعث والتكامل الكوني‪:‬‬
‫ال يكتفي القرآن الكريم بتقرير تلك الحقائق‪ ،‬وربطها بع الم اإلنس ان‪ ،‬ب ل إن ه‬
‫يش مل به ا جمي ع الكائن ات‪ ،‬ففي النش أة األخ رى يبعث ك ل ش يء ك ان في النش أة‬
‫األولى‪ ،‬ولكن بصورة جديدة تتناسب مع طبيعته واختياراته المتاحة له‪.‬‬
‫﴿و َم ا ِم ْن دَابَّ ٍة فِي‬ ‫وإلى ذل ك اإلش ارة بقول ه تع الى عن ع الم الحيوان ات‪َ :‬‬
‫َّطنَ ا فِي ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫َاح ْي ِه إِاَّل أُ َم ٌم أَ ْمثَالُ ُك ْم َم ا فَر ْ‬
‫ب ِم ْن َش ْي ٍء ثُ َّم‬ ‫ض َواَل طَائِ ٍر يَ ِطي ُر بِ َجن َ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫إِلَى َربِّ ِه ْم يُحْ َشرُونَ ﴾ [األنعام‪ ،]38 :‬فهذه اآلية الكريمة ال تكتفي بتقري ر حقيق ة تل ك‬
‫العوالم‪ ،‬وأنها أمم قائمة بذاتها‪ ،‬وإنما تضيف إليها كونه ا تحش ر إلى هللا‪ ،‬كم ا أش ار‬
‫ت﴾ [التكوير‪]5 :‬‬ ‫﴿وإِ َذا ْال ُوحُوشُ ُح ِش َر ْ‬ ‫إلى ذلك قوله تعالى في اآلية األخرى‪َ :‬‬
‫وهذا كله ينسجم مع الغائية التكاملية التي يسير بها الكون جميع ا‪ ،‬كم ا أش ار‬
‫ض َو َما بَ ْينَهُ َما اَل ِعبِينَ (‪ )16‬لَوْ أَ َر ْدنَ ا‬ ‫﴿و َما خَ لَ ْقنَا ال َّس َما َء َواأْل َرْ َ‬
‫إلى ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬
‫اعلِينَ (‪[ ﴾)17‬األنبي اء‪ ،]17 ،16 :‬وه ذا‬ ‫أَ ْن نَتَّ ِخ َذ لَهْ ًوا اَل تَّ َخ ْذنَاهُ ِم ْن لَ ُدنَّا إِ ْن ُكنَّا فَ ِ‬
‫يع ني أن ك ل ش يء خل ق لغاي ة‪ ،‬ولم يخل ق عبث ا‪ ،‬وذل ك م ا ينفي عن البعث تل ك‬
‫الصورة البسيطة التي نتوهمه بها‪ ،‬والتي تجعله خاصا باإلنس ان‪ ،‬وإنم ا ه و حرك ة‬
‫تشمل كل شيء‪ ،‬ليصاغ من جديد وفق ما تقتضيه النشأة الثانية من قوانين‪.‬‬
‫وقد أشار رس ول هللا ‪ ‬إلى ه ذا المع نى عن دما ذك ر أن أعم ال الحيوان ات‬
‫أيضا تع رض في ذل ك الموق ف بع د بعثه ا‪ ،‬فق ال‪( :‬لت ؤدن الحق وق إلى أهله ا ي وم‬
‫القيامة‪ ،‬حتى يقاد للشاة الجلحاء‪ ،‬من الشاة القرناء)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر أن رسول هللا ‪ ‬رأى شاتين تنتطحان‪ ،‬فقال ألبي ذر‪ :‬يا أبا‬
‫ذر‪ ،‬هل تدري فيم تنتطحان؟ قال؟ ال‪ ،‬قال‪ :‬لكن هللا يدري‪ ،‬وسيقضي بينهما) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬يقضي هللا بين خلق ه الجن واإلنس والبه ائم‪ ،‬وإن ه‬
‫ليقيد يومئذ الجماء من القرناء)(‪)3‬‬
‫لكن هذا الحديث أدرج فيه لألس ف م ا ال ن راه من ه‪ ،‬أو م ا ن رى أن ه إض افة‬
‫تحتاج إلى أدلة أكثر ق وة‪ ،‬وهي م ا روي أن ه ‪ ‬ق ال‪( :‬ح تى إذا لم يب ق تبع ة عن د‬
‫ت تُ َرابًا﴾‬ ‫واحدة ألخرى قال هللا‪ :‬كونوا تراب ا‪ ،‬فعن د ذل ك يق ول الك افر‪﴿ :‬يَ الَ ْيتَنِي ُك ْن ُ‬
‫[النبأ‪)]40 :‬‬
‫ومثله ما ورد في حديث الصور الطويل‪ ،‬والذي رفعه أبو هريرة إلى رس ول‬
‫هللا ‪ ،‬فمما ورد فيه‪( :‬فيميز هللا الناس‪ ،‬وينادي األمم داعي ا لك ل أم ة إلى كتابه ا‪،‬‬

‫‪ )(1‬صحيح مسلم ‪ 4/1997‬ح(‪)2582‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد ‪)21768( 5/162‬‬
‫‪ )(3‬ابن جرير في تفسيره (‪.)18 - 17 / 30‬‬

‫‪159‬‬
‫واألمم جاثي ة من اله ول‪ ..‬فيقض ي هللا بين خلق ه إال الثقلين‪ ،‬اإلنس والجن‪ ،‬فيقض ي‬
‫بين الوحوش والبهائم‪ ،‬حتى إنه ليقيد الجماء من ذات القرن‪ ،‬فإذا فرغ هللا من ذل ك‪،‬‬
‫فلم تبق تبعة عند واحدة ألخرى‪ ،‬قال هللا لها‪ :‬كوني تراب ا‪ ،‬فعن د ذل ك ﴿يَقُ و ُل ْال َك افِ ُر‬
‫يَالَ ْيتَنِي ُك ْن ُ‬
‫ت تُ َرابًا﴾ [النبأ‪)]40 :‬‬
‫فه ذه اإلض افة ال تي ت بين مص ير ك ل تل ك الع والم من الحيوان ات بمختل ف‬
‫أنواعه ا ال يمكن أن نعتق دها من خالل ه ذه الرواي ات المتوقف ة على آح اد ال رواة‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أنها ال تتناسب مع عدالة هللا‪ ..‬فاهلل تع الى أع دل وأرحم وأك رم من أن‬
‫يحول الحيوانات إلى تراب‪ ،‬ألنه بذلك ينزلها عن مرتبتها التي كانت عليها من غير‬
‫ذنب ارتكبته‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك يتن افى م ع الربوبي ة ذل ك أن من معانيه ا النم اء والرفع ة‬
‫والبركة‪ ..‬أي أنه سبحانه وتعالى ينقل األشياء من حال ة أس وأ إلى حال ة أحس ن‪ ..‬إال‬
‫لمن رضي لنفسه أن ينحدر وينزل‪ ،‬وذلك ال يكون في الحيوانات ال تي لم يكلفه ا هللا‬
‫تعالى‪.‬‬

‫والذي دفعنا إلى ذلك ما ورد في النصوص الكثيرة من معرفة تلك الحيوانات‬
‫ب الكثير من المع ارف اإليمانية(‪ ،)1‬ول ذلك ك ان تحويله ا من مرتبته ا الراقي ة إلى‬
‫مرتبة دونية‪ ،‬ال يتناسب مع الحركة التكاملية التي أشارت إليها النصوص المقدسة‪.‬‬
‫وقد قال اإلمام السجاد يبين ما لتل ك البه ائم من المع ارف‪( :‬م ا بهمت البه ائم‬
‫عن ه فلم تبهم عن أربع ة‪ :‬معرفته ا ب الرب تب ارك وتع الى‪ ،‬ومعرفته ا ب الموت‪،‬‬
‫ومعرفتها باالنثى من الذكر‪ ،‬ومعرفتها بالمرعى الخصب)(‪)2‬‬
‫وهكذا ورد في األحاديث الكثيرة ما يبين ك ثرة ذك ر الحيوان ات هلل‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫‪( :‬اركبوها سالمة‪ ،‬ودوعها سالمة‪ ،‬وال تتخ ذوها كراس ي ألح اديثكم في الط رق‬
‫واألسواق‪ ،‬فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا هلل منه)(‪)3‬‬
‫وروي في بعض اآلثار‪( :‬ما أحد سب شيئا من الدنيا دابة وال غيرها ويق ول‪:‬‬
‫أخزاك هللا أو لعنك هللا إال قالت‪ :‬بل أخزى هللا تعالى أعصانا هلل تعالى)‬
‫وهكذا نرى أن هناك مخلوقات أخرى يرتبط بها البعث‪ ،‬بناء على ما ورد في‬
‫القرآن الكريم من وجود سكان آخ رين في الك ون غ ير البش ر‪ ،‬كم ا ورد التص ريح‬
‫ض ِم ْن دَابَّ ٍة‬ ‫ت َو َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫﴿وهَّلِل ِ يَ ْس ُج ُد َم ا فِي َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫ب ذلك في قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫َو ْال َماَل ئِ َكةُ َوهُ ْم اَل يَ ْستَ ْكبِرُونَ ﴾ [النحل‪]49 :‬‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫الى‪﴿:‬و ِم ْن آيَاتِ ِه َخلْ ُ‬
‫َ‬ ‫ب ل ورد في ه م ا ي دل على بعثهم‪ ،‬ق ال تع‬
‫ث فِي ِه َما ِم ْن دَابَّ ٍة َوه َُو َعلَى َج ْم ِع ِه ْم إِذا يَ َشا ُء ق ِديرٌ﴾ [الشورى‪]29 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َو َما بَ َّ‬
‫[وهُ َو َعلَى َج ْم ِع ِه ْم إِ َذا يَ َشا ُء قَ ِديرٌ] دالل ة على إمكاني ة ت وفر‬ ‫وفي قوله تعالى َ‬
‫‪ )(1‬أشرنا إليها بتفصيل في كتاب [أكوان هللا]‬
‫‪ )(2‬بحار األنوار (‪)50 /61‬‬
‫‪ )(3‬أحمد ‪ )15714( 3/439‬و‪)15731( 3/440‬‬

‫‪160‬‬
‫الفرصة للبشر لمالقاة سكان أه ل الس ماء‪ ،‬وه و التطل ع ال ذي ال يزال ون يتطلع ون‬
‫إليه‪.‬‬
‫وهكذا نجد في الروايات ما يبين أن هناك خلقا آخرين سيتعرض ون لنفس م ا‬
‫تعرض له أهل هذه النش أة‪ ،‬ليك ون مص يرهم مرتبط ا أيض ا بخي اراتهم‪ ،‬ومنه ا م ا‬
‫ق اأْل َ َّو ِل بَ لْ هُ ْم فِي لَ ْب ٍ‬
‫س‬ ‫روي أن اإلمام الباقر سئل عن قوله تع الى‪ ﴿ :‬أَفَ َعيِينَ ا بِ ْال َخ ْل ِ‬
‫ق َج ِدي ٍد﴾ [ق‪ ،]15 :‬فقال‪( :‬تأويل ذل ك أن هللا ع ز وج ل إذا أف نى ه ذا الخل ق‬ ‫ِم ْن َخ ْل ٍ‬
‫وهذا العالم‪ ،‬وأسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد هللا عزوج ل عالم ا غ ير‬
‫هذا الع الم‪ ،‬وج دد خلق ا من غ ير فحول ة وال ان اث يعبدون ه ويوحدون ه‪ ،‬وخل ق لهم‬
‫أرضا غير هذه االرض تحملهم‪ ،‬وسماء غير هذه السماء تظلهم‪ ،‬لعل ك ت رى أن هللا‬
‫عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد وترى أن هللا عزوج ل لم يخل ق بش را غ يركم؟‬
‫بلى وهللا لقد خلق هللا تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم‪ ،‬أنت في آخر تلك‬
‫العوالم وأولئك اآلدميين)(‪)1‬‬
‫وفي رواي ة أخ رى‪( :‬لق د خل ق هللا عزوج ل في االرض من ذ خلقه ا س بعة‬
‫عالمين ليس هم من ولد آدم‪ ،‬خلقهم من أديم االرض فأسكنهم فيها واح دا بع د واح د‬
‫مع عالمه‪ ،‬ثم خلق هللا عزوجل آدم أبا البشر‪ ،‬وخل ق ذريت ه من ه‪ ،‬وال وهللا م ا خلت‬
‫الجنة من أرواح المؤمنين منذ خلقها‪ ،‬وال خلت النار من أرواح الكفار والعصاة منذ‬
‫خلقها عزوجل‪ ،‬لعلكم ترون أنه إذا كان يوم القيامة وصير هللا أبدان أه ل الجن ة م ع‬
‫أرواحهم في الجن ة‪ ،‬وص ير أب دان أه ل الن ار م ع أرواحهم في الن ار أن هللا تب ارك‬
‫وتعالى ال يعبد في بالده‪ ،‬وال يخلق خلقا يعبدونه ويوحدون ه؟ ! بلى وهللا‪ ،‬ليخلقن هللا‬
‫خلقا من غير فحولة وال إن اث‪ ،‬يعبدون ه ويوحدون ه ويعظمون ه‪ ،‬ويخل ق لهم أرض ا‬
‫ض‬‫َيْر اأْل َرْ ِ‬ ‫تحملهم وسماء تظلهم‪ ،‬أليس هللا عزوج ل يق ول‪ ﴿ :‬يَ وْ َم تُبَ َّد ُل اأْل َرْ ضُ غ َ‬
‫ق اأْل َ َّو ِل بَ لْ هُ ْم فِي‬
‫ات ﴾ [إبراهيم‪ ]48 :‬وق ال هللا عزوج ل‪ ﴿ :‬أَفَ َعيِينَ ا بِ ْالخَ ْل ِ‬ ‫او ُ‬ ‫َوال َّس َم َ‬
‫ج ِدي ٍد﴾ [ق‪)2()]15 :‬‬
‫ق َ‬ ‫س ِم ْن َخ ْل ٍ‬ ‫لَ ْب ٍ‬
‫ج ـ البعث وخاتمة الحركة الدنيوية‪:‬‬
‫ورد في النصوص الكث يرة م ا ي بين م دى عالق ة البعث بالنهاي ة ال تي ينتهي‬
‫إليها السير التكاملي لإلنسان‪ ،‬والذي يبين نهاية الخيارات ال تي ارتض اها لنفس ه في‬
‫حياته الدنيا‪ ،‬وربما يدخل فيها تصحيحاته لها في حياته البرزخية إن تمكن من ذلك‪.‬‬
‫ول ذلك ورد م ا ي دل على أن ه من الخاتم ة تص اغ البداي ة ال تي يتش كل منه ا‬
‫اإلنسان في نشأته الجديدة‪ ،‬وورد فيها أن الخاتمة هي التي تح دد مص يره‪ ،‬والش كل‬
‫الذي يكون عليه‪ ،‬ولهذا قال هللا تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّقُ وا هللا َح َّ‬
‫ق تُقَاتِ ِه َواَل‬
‫تَ ُموتُ َّن إِاَّل َوأَ ْنتُ ْم ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ [آل عمران‪]102 :‬‬
‫وقد بين ذلك أح اديث كث يرة لرس ول هللا ‪ ‬ت بين خط ر الخاتم ة وأهميته ا‪،‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار ‪ -‬العالمة المجلسي (‪)374 /8‬‬


‫‪ )(2‬بحار األنوار ‪ -‬العالمة المجلسي (‪)319 /54‬‬

‫‪161‬‬
‫ومنها قوله ‪( :‬إن الرجل منكم ليعمل ح تى م ا يك ون بين ه وبين الجن ة إال ذراع‪،‬‬
‫فيسبق عليه كتابه‪ ،‬فيعمل بعمل أهل النار‪ ،‬ويعمل حتى ما يكون بينه وبين الن ار إال‬
‫ذراع‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب‪ ،‬فيعمل بعمل أهل الجنة)(‪)1‬‬
‫وقوله ‪( :‬فيسبق عليه الكتاب) اليعني الجبر‪ ،‬وال أن هللا فرض عليه ذل ك‪،‬‬
‫ولكنه يعني ـ حسبما تدل النصوص الكثيرة ـ على أنه الخيار ال ذي اخت اره اإلنس ان‬
‫بمحض رغبته‪ ،‬وهو طبعا لن يخالف ما في علم هللا عنه‪ ،‬كما شرحنا ذل ك بتفص يل‬
‫في كتاب [أسرار األقدار]‬
‫وروي عن س هل‪ ،‬ق ال‪( :‬التقى الن بي ‪ ‬والمش ركون في بعض مغازي ه‪،‬‬
‫فاقتتلوا‪ ،‬فمال ك ل ق وم إلى عس كرهم‪ ،‬وفي المس لمين رج ل ال ي دع من المش ركين‬
‫شاذة وال فاذة إال اتبعها فضربها بسيفه‪ ،‬فقيل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ما أج زأ أح د م ا أج زأ‬
‫فالن‪ ،‬فقال‪( :‬إنه من أهل النار)‪ ،‬فقالوا‪ :‬أين ا من أه ل الجن ة‪ ،‬إن ك ان ه ذا من أه ل‬
‫النار؟ فق ال رج ل من الق وم‪ :‬ألتبعن ه‪ ،‬ف إذا أس رع وأبط أ كنت مع ه‪ ،‬ح تى ج رح‪،‬‬
‫فاستعجل الموت‪ ،‬فوضع نصاب سيفه باألرض‪ ،‬وذبابه بين ثديي ه‪ ،‬ثم تحام ل علي ه‬
‫فقتل نفسه‪ ،‬فجاء الرجل إلى النبي ‪ ‬فقال‪ :‬أشهد أنك رسول هللا‪ ،‬فقال‪( :‬وما ذاك)‪،‬‬
‫فأخبره‪ ،‬فقال‪( :‬إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة‪ ،‬فيما يب دو للن اس‪ ،‬وإن ه لمن أه ل‬
‫النار‪ ،‬ويعمل بعمل أهل النار‪ ،‬فيما يبدو للناس‪ ،‬وهو من أهل الجنة)(‪)2‬‬
‫ولذلك كان أكثر خوف الص الحين من الخاتم ة المغيب ش أنها‪ ،‬وال تي يجتم ع‬
‫فيه ا ك ل الق رارات المص يرية ال تي يتخ دها اإلنس ان طيل ة حيات ه‪ ،‬ول ذلك يمكن‬
‫اعتبارها الخالصة التي ينتهي إليها اإلنسان‪.‬‬
‫وقد أشار الغزالي إلى سر ذلك‪ ،‬فق ال‪( :‬اعلم أن س وء الخاتم ة على رتب تين‪:‬‬
‫إحداهما أعظم من األخرى؛ فأما الرتبة العظيم ة الهائل ة ف أن يغلب على القلب عن د‬
‫سكرات الموت وظهور أهواله إم ا الش ك وإم ا الجح ود‪ ،‬فتقبض ال روح على ح ال‬
‫غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بين ه وبين‬
‫هللا تعالى أبدا‪ ،‬وذلك يقتضي البعد الدائم والع ذاب المخل د‪ ..‬والثاني ة وهي دونه ا أن‬
‫يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أم ور ال دنيا وش هوة من ش هواتها؛ فيتمث ل‬
‫ذلك في قلبه ويستغرقه حتى ال يبقى في تلك الحالة متسع لغيره؛ فيتفق قبض روح ه‬
‫في تلك الحال؛ فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليه ا‪،‬‬
‫ومهما انصرف الوجه عن هللا تعالى حصل الحجاب‪ ،‬ومهم ا حص ل الحج اب ن زل‬
‫العذاب‪ ،‬إذ نار هللا الموقدة ال تأخذ إال المحجوبين عنه‪ ،‬فأما المؤمن الس ليم قلب ه من‬
‫حب الدنيا المصروف همه إلى هللا تعالى‪ ،‬فتقول له النار‪ :‬جز يا م ؤمن ف إن ن ورك‬
‫أطفأ لهبي‪ ،‬فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلب ة حب ال دنيا‪ ،‬ف األمر مخط ر ألن‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ )3208‬ومسلم (‪)2643‬‬


‫‪ )(2‬صحيح البخاري ‪ 5/133‬ح(‪)4207‬‬

‫‪162‬‬
‫عليه)(‪)1‬‬ ‫المرء يموت على ما عاش‬
‫وله ذا ورد في الح ديث قول ه ‪( :‬يبعث ك ل عب د على م ا م ات علي ه)(‪،)2‬‬
‫وورد في األحاديث ذكر بعض األمثلة على ذلك‪ ،‬ومنها أن المحرم بالحج أو العمرة‬
‫إذا مات وهو ك ذلك‪ ،‬بعث ي وم القيام ة ملبي ا‪ ،‬فق د روي عن ابن عب اس في الرج ل‬
‫ال ذي وقص ته ناقت ه وه و مح رم م ع الن بي ‪ ‬في حج ة ال وداع‪ ،‬فق ال الن بي ‪:‬‬
‫(اغس لوه بم اء وس در‪ ،‬وكفن وه في ث وبين‪ ،‬وال تحنط وه‪ ،‬وال تخم روا رأس ه‪ ،‬فإن ه‬
‫يبعث يوم القيامة ملبيا) (‪)3‬‬
‫ومثله روي أن الشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما‪ ،‬اللون ل ون ال دم‪،‬‬
‫والريح ريح المسك‪ ،‬فقد قال ‪( :‬ال يكلم أحد في سبيل هللا ـ وهللا أعلم بمن يكلم في‬
‫سبيله ـ إال جاء يوم القيامة وجرحه يثعب‪ ،‬اللون لون دم‪ ،‬والريح ريح مسك) (‪)4‬‬
‫وعلى خالفهم يك ون ح ال المنح رفين عن الس راط المس تقيم‪ ،‬وق د ورد في‬
‫القرآن الك ريم عن الغ ال من الغنيم ة قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَ ْغلُ لْ يَ أْ ِ‬
‫ت بِ َم ا َغ َّل يَ وْ َم‬
‫ْالقِيَا َم ِة﴾ [آل عمران‪]161 :‬‬
‫وورد فيه عن آكل الربـا‪ ،‬وكي ف يبعث ي وم القيام ة ك المجنون ال ذي أص ابه‬
‫المس قال تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يَأْ ُكلُونَ ال ِّربَا اَل يَقُو ُمونَ إِاَّل َك َما يَقُو ُم الَّ ِذي يَتَخَ بَّطُهُ َّ‬
‫الش ْيطَانُ‬
‫ِمنَ ْال َمسِّ ﴾ [البقرة‪]275 :‬‬
‫وورد في الحديث عن الغادر‪ ،‬وأنه ترفع له راي ة ي وم القيام ة ت بين غدرت ه‪،‬‬
‫قال النبي ‪( :‬إذا جمع هللا األولين واآلخرين يوم القيامة‪ ،‬يرف ع لك ل غ ادر ل واء‪،‬‬
‫فقيل‪ :‬هذه غدرة فالن بن فالن) (‪)5‬‬
‫د ـ البعث والمعاد الجسماني‪:‬‬
‫ربما تعتبر مسألة المعاد وكيفيته من أهم المسائل ال تي خ اض فيه ا الفالس فة‬
‫والمتكلمون‪ ،‬واختلفوا فيها اختالفا ش ديدا إلى الدرج ة ال تي وص ل فيه ا األم ر ح د‬
‫التكفير‪ ،‬مع أن المسألة ال تستدعي كل ذلك‪.‬‬
‫فالجميع حاولوا أن يقحموا أنفسهم فيما ال طاق ة لهم ب ه؛ فالم ادة ال تي يتك ون‬
‫منها اإلنسان بعد البعث وشكلها وهيئتها والقوانين التي تخضع له ا‪ ،‬وغ ير ذل ك من‬
‫المب احث ن وع من البحث فيم ا ال يطيق ه العق ل‪ ،‬الفتق اده لألش باه والنظ ائر‪ ،‬وله ذا‬
‫يكتفى فيها بما ورد من التقريبات والتوضيحات‪.‬‬
‫ونحسب أن القرآن الكريم عندما ع رض المس ألة‪ ،‬ورد فيه ا على المش ركين‬
‫كان اهتمامه بالمعاد‪ ،‬وبكون ه حقيق ة ملموس ة‪ ،‬ولم يع رض لتفاص يل كيفيته ا‪ ،‬ول و‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)173 /4‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم برقم (‪)2878‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري برقم (‪ ،)1265‬رواه مسلم برقم (‪)1206‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري برقم (‪ ،)2803‬رواه مسلم برقم (‪)1876‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري برقم (‪ ،)3187 ،3186‬رواه مسلم برقم (‪)1735‬‬

‫‪163‬‬
‫عرض لها‪ ،‬فإنه من باب التقريب‪ ،‬مثلما يذكر عن الجنة والنار ونحوهما‪.‬‬
‫ولهذا فإن إنكار المعاد ـ حسب تصوري ـ ال يرتبط بأمث ال تل ك التص ورات‪،‬‬
‫ألنها مجرد محاوالت لفهم ما يحصل بالضبط‪ ،‬والجميع كما ذكرن ا ال ينك ره‪ ،‬ولكن‬
‫قد ينكر هيئة من الهيئات المرتبطة به‪ ،‬ولذلك ال يص ح اتهام ه ب الكفر‪ ،‬فه و خط ير‬
‫جدا‪ ،‬خاصة مع إيمان هذا الفريق بالمعاد‪ ،‬وإيمانه قبل ذلك باهلل تعالى‪.‬‬
‫وسنسوق هنا بعض ما ذكروه من آراء في المسألة‪ ،‬ونعقب عليه ا بم ا ن راه‪،‬‬
‫ومن خالل فهمنا للنصوص المقدسة حول الموضوع‪.‬‬
‫ومن أحس ن تل ك التحقيق ات في ن وع الخالف وأس بابه م ا نص علي ه ص در‬
‫المتألهين بقوله‪( :‬اتّفق المحققون من الفال سفة والملّيين على أحقّي ة المع اد‪ ،‬وثب وت‬
‫النشأة الباقية‪ ،‬لكنهم اختلفوا في كيفيته‪ ،‬ف ذهب جمه ور اإلس الميين وعام ة الفقه اء‬
‫أن الروح عن دهم جس م س ار في‬ ‫وأصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط‪ ،‬بناء على ّ‬
‫الب دن س ريان الن ار في الفحم‪ ،‬والم اء في ال ورد‪ ،‬وال زيت في الزيت ون‪ ،‬وذهب‬
‫ألن الب دن ينع دم‬ ‫جمهور الفال سفة وأتباع الم ّشائين إلى أنّه روح اني أي عقلي فق ط ّ‬
‫بصوره وأعراضه لقطع تعلق النفس بها‪ ،‬فال يعاد بشخصه تارة أخرى‪ ،‬إذ المع دوم‬
‫ال يعاد‪ ،‬والنفس جوهر باق ال س بيل للفن اء إلي ه‪ ،‬فتع ود إلى ع الم المفارق ات لقط ع‬
‫التعلقات بالموت الطبيعي‪ ،‬وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة‬
‫من المتكلمين كالغزالي والكعبي والحليمي والراغب األصفهاني وكثيرمن أص حابنا‬
‫اإلمامي ة كالش يخ المفي د‪ ،‬وأبي جعف ر الطوس ي‪ ،‬والس يد المرتض ى‪ ،‬والمحق ق‬
‫الطوسى‪ ،‬والعالمة الحلّي‪ ،‬رضوان هللا تعالى عليهم أجمعين إلى الق ول بالمع ادين‪،‬‬
‫أن النفس مجرّدة تعود إلى البدن)(‪)1‬‬ ‫ذهابا ً إلى ّ‬
‫وإلى جانب هذا نجد النصوص الكث يرة من الس نة والش يعة في تكف ير جاح د‬
‫المعاد الجسماني‪ ،‬ومن أمثلتها قول الشيخ محم د بن خلي ل حس ن ه رّاس‪ ،‬وه و من‬
‫كبار علماء المدرسة السلفية المعاصرين‪( :‬ويجب اإليمان بالبعث على الص فة ال تي‬
‫بينها هللا في كتابه‪ ،‬وهو أنه جمع ما تحلل من أجزاء األجساد التي ك انت في ال دنيا‪،‬‬
‫وإنشاؤها خلق ا جدي دا‪ ،‬وإع ادة الحي اة إليه ا‪ ،‬ومنك ر البعث الجس ماني ـ كالفالس فة‬
‫والنصارى ـ كافر‪ ،‬وأما من أقر به ولكنه زعم أن هللا يبعث األرواح في أجسام غير‬
‫األجسام التي كانت في الدنيا؛ فهو مبتدع وفاسق)(‪)2‬‬
‫وق ال عض د ال دين اإليجي‪ ،‬وه و من كب ار علم اء المدرس ة الس نية من‬
‫األشاعرة‪( :.‬المعاد الجسماني هو المتبادر من إطالق أهل الشرع‪ ،‬إذ هو الّذي يجب‬
‫االعتقاد به‪ ،‬ويكفر من أنكره‪ ،‬وهوحق‪ ،‬لشهادة نصوص القرآن في مواضع متعددة‬
‫بحيث ال تقبل التأويل‪ ،‬كقوله تعالى‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ َر اإْل ِ ْن َسانُ أَنَّا خَ لَ ْقنَاهُ ِم ْن نُ ْ‬
‫طفَ ٍة فَ إِ َذا هُ َو‬
‫ال َم ْن يُحْ ِي ْال ِعظَ ا َم َو ِه َي َر ِمي ٌم (‬ ‫ب لَنَا َمثَاًل َون َِس َي خَ ْلقَ هُ قَ َ‬
‫ض َر َ‬ ‫خَصي ٌم ُمبِ ٌ‬
‫ين (‪َ )77‬و َ‬ ‫ِ‬

‫‪ )(1‬األسفار‪ ،‬ج‪ ،9‬ص ‪.165‬‬


‫‪ )(2‬شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص‪)64 :‬‬

‫‪164‬‬
‫ق َعلِي ٌم (‪[ ﴾ )79‬يس‪- 77 :‬‬‫‪ )78‬قُ لْ يُحْ يِيهَ ا الَّ ِذي أَ ْن َش أَهَا أَ َّو َل َم َّر ٍة َوهُ َو بِ ُك لِّ َخلْ ٍ‬
‫‪ ،]80‬قال المفسرون نزلت هذه اآلية في أُب ّى بن كعب فإن ه خاص م رس ول هللا ‪،‬‬
‫وأتاه بعظم قد ر ّم وبلى‪ ،‬ففتّه بيده‪ ،‬وقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أترى هللا يحيي هذه بعدما ر ّمت‪،‬‬
‫قال‪( :‬نعم‪ ،‬ويبعثك ويدخلك النار)‪ ،‬وهذا مما يقلع عرق التأويل بالكلية‪ ،‬ول ذلك ق ال‬
‫اإلمام الرازى‪( :‬إنّه ال يمكن الجمع بين اإليم ان بم ا ج اء ب ه الن بي وإنك ار الحش ر‬
‫الجسماني) (‪)1‬‬
‫وق ال المجلس ي‪ ،‬وه و من كب ار علم اء المدرس ة الش يعية‪( :‬إعلم ّ‬
‫أن الق ول‬
‫بالمعاد الجسماني م ّما اتفق عليه جميع المليين وه و من ض روريات ال دين ومنك ره‬
‫خ ارج من ع داد المس لمين‪ ،‬واآلي ات الكريم ة على ذل ك ّ‬
‫ناص ة ال يعق ل تأويله ا‪،‬‬
‫واألخبارفيه متواترة ال يمكن ر ّدها وال الطعن فيها) (‪)2‬‬
‫ولكنا مع كوننا نؤمن بما ورد في النصوص المقدسة من التجسد الحس ي ـ ال‬
‫ألهل النشأة األخرى فقط‪ ،‬بل حتى ألعمالهم أيضا ـ ن رى ع دم التس رع في التكف ير‬
‫في مثل هذه المسائل‪ ،‬ألن غرض المنك رين ال يرتب ط بإنك ار حقيق ة المع اد‪ ،‬وإنم ا‬
‫يرتبط بشكله وص ورته‪ ،‬وق د ذكرن ا س ابقا أن ك ل ذل ك غيب محض‪ ،‬ألن الص ور‬
‫المتوهمة لألجساد في اآلخرة تختلف كثيرا عما نعه ده من ص ور‪ ،‬كم ا ذكرن ا ذل ك‬
‫في مقدمة هذا المبحث‪.‬‬
‫بقيت اآلن بعض اإلشكاالت في هذا الجانب يطرحها الفالس فة أو غ يرهم من‬
‫القائلين بالمعاد الروح اني‪ ،‬أو بع دم المع اد مطلق ا‪ ،‬وق د أج اب عليه ا علم اء الكالم‬
‫قديما وحديثا إجابات كثيرة‪ ،‬وهي مبنية على توهم أن هذا الجسد الذي نعيش ب ه في‬
‫الدنيا هو نفسه ال ذي س يبعث‪ ،‬وليس الم ادة األساس ية المش كلة ل ه‪ ،‬والمتض منة في‬
‫الخارط ة الجيني ة‪ ،‬وال تي يمكنه ا في ظ ل الظ روف المناس بة‪ ،‬أن تع ود للحي اة من‬
‫جديد‪.‬‬
‫وس نذكر هن ا ملخص ا مبس طا ألهم تل ك الش بهات‪ ،‬معتم دين على م ا كتب ه‬
‫بخصوص ها الش يخ مك ارم الش يرازي‪ ،‬باعتب اره ح اول طرحه ا وف ق منهج [علم‬
‫الكالم الجديد]‪ ،‬من حيث التبسيط واألمثلة ونحوها‪.‬‬
‫الشبهة األولى‪:‬‬
‫وهي الشبهة التي يطلق عليها [شبهة اآلكل والمأكول] وهي من أق دم الش به‪،‬‬
‫وخالصتها‪ ،‬أننا ل و فرض نا أن إنس انا ً حين القح ط والمجاع ة تغ ذى على لحم آخ ر‬
‫بحيث أصبح جزءا من بدن اإلنسان األول‪ ،‬أو جميعه من لحم اإلنسان الث اني‪ ،‬فه ل‬
‫ستنفص ل ه ذه األج زاء في المع اد عن اإلنس ان الث اني أم ال؟ ف إن ك ان الج واب‬
‫باإليجاب أصبح بدن اإلنس ان الث اني ناقص اً‪ ،‬وإن ك ان الج واب بالس لب ك ان ب دن‬

‫‪ )(1‬شرح العقائد العضدية‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.247‬‬


‫‪ )(2‬بحاراألنوار‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪.46‬‬

‫‪165‬‬
‫اإلنسان األول ناقصا ً (‪.)1‬‬
‫ومثلها ما يجري دائما ً في الطبيعة حيث يموت الناس‪ ،‬ويص بح ب دنهم تراب اً‪،‬‬
‫ويصبح التراب جزءاً من األرض‪ ،‬ثم يتبدل بعد امتصاصه من قِبل جذور األش جار‬
‫تدريجيا ً إلى نبات يتغذى عليه سائر الن اس‪ ،‬أو الحيوان ات‪ ،‬وعلي ه ف أجزاء األف راد‬
‫السابقين تصبح من هذا الطريق جزءاً من بدن األفراد الالحقين‪.‬‬
‫بأن هذه التفاحة التي توض ع أمامن ا ق د‬‫والينبغي لكم أن تتعجبوا إذا ما علمتم ّ‬
‫تكون أصبحت لعشر مرات جزءاً من بدن إنسان ثم ع ادت إلى ال تراب‪ ،‬وامتص ت‬
‫ثانية من قبل جذور وتحولت إلى تفاحة ثم تناولها إنسان آخ ر وأص حبت ج زءاً من‬
‫بدنه‪ ،‬وعلى ه ذا األس اس ف إن ك ان المع اد جس ماني تص ارعت عش رة أب دان ي وم‬
‫القيامة على بعض األجزاء وسيكون لكل جزء من يدعيه له‪ ،‬فكي ف س يكون المع اد‬
‫جسمانياً؟‬
‫والجواب على ه ذه الش بهة ـ كم ا ي ذكر المتكلم ون من أمث ال نص ير ال دين‬
‫الطوسي والعاّل مة الحلي وغيرهم ـ كما ينقل عنهم مك ارم الش يرازي ـ يعتم د على‬
‫التفريق بين «األجزاء األصلية» و«األجزاء غير األصلية»‪ ،‬فهم ي ذكرون أن لب دن‬
‫اإلنسان قسمين‪ :‬األجزاء األصلية‪ ،‬واألجزاء اإلضافية‪.‬‬
‫أم ا األج زاء األص لية‪ ،‬فهي األج زاء ال تي تبقى طيل ة عم ر اإلنس ان‪ ،‬فال‬
‫تتع وض وال تف نى وال تص بح ج زءاً من ب دن إنس ان آخ ر أب داً‪ ،‬ح تى وإن تناوله ا‬
‫شخص آخر فال تصبح جزءاً من بدنه‪.‬‬
‫أ ّم ا األج زاء اإلض افية فهي قابل ة للتغي ير والتع ويض وهي دائم ا ً في حال ة‬
‫تغيّر‪ ،‬ويمكن أن تكون جزءاً من بدن إنسان أو حيوان آخر‪.‬‬
‫وهكذا تح ّل المشكلة‪ ،‬يوم القيامة‪ ،‬ذلك أن األجزاء األصلية لبدن ك ل ش خص‬
‫تنمو في م ّدة قصيرة كبذور النباتات أو نطفة اإلنسان وتصنع البدن األصلي‪.‬‬
‫والسؤال الذي يعرض بعد ه ذا يتعل ق عن األج زاء األص لية‪ ،‬وكي ف يمكن‬
‫تمييزها عن سائر األجزاء؟‬
‫وق د أج اب المتكلم ون عن ه ذا بمجموع ة إجاب ات‪ ،‬من بينه ا م ا ذك ره‬
‫المتكلم ون المح دثون من أن (األج زاء األص لية هي «الجين ات» الواقع ة على‬
‫الكروموسومات في وسط نواة الخاليا‪ ،‬وعليه فه ذه الجين ات ج زء من ن واة الخلي ة‬
‫الثابتة الوضع طيلة العمر وتشكل األجزاء األصلية لبدن اإلنسان)(‪)2‬‬
‫ومنها أنها (الفقرة األخيرة في العمود الفقري‪ ،‬أي أسفل عظم في هذا العم ود‬
‫هو الجزء األص لي لب دن اإلنس ان حيث الي زول أب داً‪ ،‬واليس تقطبه ب دن حي وان أو‬
‫إنسان آخر)‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اّل‬
‫ومنها أنها (األجزاء التي ال نعرفها على وجه الدقة‪ ،‬إ أننا نعلم أنها موج ودة‬

‫‪ )(1‬المعاد و عالم اآلخرة‪ ،‬ص‪.203‬‬


‫‪ )(2‬المعاد وعالم اآلخرة‪ ،‬ص‪.205 :‬‬

‫‪166‬‬
‫في بدن اإلنسان وخاصيتها أنّها ال ت زول أب داً وال تنتق ل إلى ب دن حي وان أو إنس ان‬
‫آخر)‬
‫وكل هذه احتماالت ليس لدينا من األدلة ما يقوي أيا منها‪ ،‬ولذلك يوكل األمر‬
‫إلى القدرة اإللهية التي ال يعجزها شيء‪.‬‬
‫الشبهة الثانية‪:‬‬
‫ّ‬
‫وهي الش بهة ال تي ت ذكر [قل ة الترب ة على األرض] مقارن ة بع دد ال ذين‬
‫أن تع ود أجس اد كاف ة أف راد ب ني‬ ‫سيبعثون‪ ،‬وملخص هذه الشبهة هي أنه (لو تق رر ّ‬
‫اإلنسان يوم القيامة بهذا البدن المادي؛ فإن التراب ال ذي على األرض ال يكفي لك ل‬
‫هؤالء األفراد‪ ،‬وعليه ستكون لنا مشكلة المواد األساسية لبن اء ك ل ه ؤالء األف راد)‬
‫(‪)1‬‬
‫أن من‬‫وق د أج اب الش يخ مك ارم الش يرازي على ه ذه الش بهة بقول ه‪( :‬يب دو ّ‬
‫يطلق ه ذا الكالم ويتح ّدث عن أزم ة ال تراب الالزم لبن اء جمي ع أف راد البش ر إنّم ا‬
‫يطلق سهمه في ظالم دامس وقد خاب سهمه‪ ،‬فما أحرى من يتف وه ب ذلك أن يتن اول‬
‫ورقة وقلما ً ويحسب األمر بصورة رياضية ليعلم مدى الخطأ ال ذي يرتكب ه في ه ذا‬
‫المجال) (‪)2‬‬
‫أن‬‫‪ .‬ثم راح يقوم ببعض الحسابات البسيطة التي ترد على هذه الشبهة‪ ،‬ف ذكر ّ‬
‫الماء يشكل ‪ 70 -65‬بالمئة من جسم اإلنسان‪ ،‬وعلي ه ف ّ‬
‫إن الم واد المعدني ة واآللي ة‬
‫لبدن اإلنسان تقريبا ً ثلث وزن بدنه‪ ،‬يعني اإلنسان الذي يزن ستين كيلو غرام تقريبا ً‬
‫عشرون كيلواً أو أقل من بدنه تراب ومواد معدنية وآلية والباقي ماء‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فلو كان لدينا م تراً مكعب ا ً من ال تراب‪ ،‬فإن ه يكفي ألك ثر من‬
‫أن الكيل و م تر المكعب من‬ ‫مئ ة ش خص‪( ،‬واآلن تس تطيع التع رف بس هولة على ّ‬
‫التراب يكفي لمئ ة ملي ار إنس ان‪ ،‬وه ذا المق دار من ال تراب يكفي لخمس وعش رين‬
‫ضعفا ً من سكان الكرة األرضية‪ ،‬وهذا المقدار من التراب يشغل مس احة زهي دة من‬
‫سطح الكرة األرضية) (‪)3‬‬
‫الشبهة الثالثة‪:‬‬
‫وهي حول [الجسم الذي يشمله المع اد]‪ ،‬وخالص ة ه ذه الش بهة هي أن ه إذا‬
‫كان المعاد جسمانياً‪ ،‬فأي بدن من األبدان التي اكتسبها اإلنسان طيلة عم ره س يكون‬
‫معاده‪ ،‬ذلك أن الجسم يتغير ع ّدة م ّرات طيلة عمر اإلنسان‪ ..‬فهل يعود بمجموع هذه‬
‫األبدان بحيث يصبح مركبا عجيبا‪ ،‬أم أنه يعود ببدن واح د منه ا‪ ،‬وذل ك ت رجيح بال‬
‫مرجح‪ ،‬باإلضافة إلى أن لكل بدن صحيفة أعمال خاصة به؟‬
‫وه ذا الس ؤال منت ف تمام ا م ع م ا دل علي ه النص من أن المع اد من جس م‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪..212‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪..212‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪..212‬‬

‫‪167‬‬
‫اإلنسان هو أصله‪ ،‬أما الباقي‪ ،‬فمجرد غذاء تشكل منه الجسم‪ ،‬ويمكن تعويضه ب أي‬
‫بدائل أخرى‪ ..‬وهو في ذل ك يش به بالون ا ص غيرا يمكنن ا ب النفخ في ه أن يتح ول إلى‬
‫شكله الحقيقي الضخم‪.‬‬
‫هذا بناء على ما ذكرنا‪ ،‬لكن بناء على ما ذكره من يقول بعودة الجس م نفس ه‪،‬‬
‫فقد أجاب عليه الشيخ مكارم الشيرازي بأن كل بدن يجتذب جميع مميزات وص فات‬
‫الب دن الس ابق‪ ،‬وعلي ه ف آخر ب دن ه و مخ زن جمي ع الص حف طيل ة العم ر‪ ،‬وه و‬
‫فإن عودة وبعث آخر ب دن‬ ‫خالصة وعصارة لجميع مميزات األبدان السابقة‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫تعني عودة جميع األبدان وبعثها (‪.)1‬‬
‫‪ 4‬ـ الحشر والعرض‪:‬‬
‫وق د ورد التعب ير عن الحش ر في مواض ع كث يرة من الق رآن الك ريم‪ ،‬كقول ه‬
‫تع الى‪َ ﴿ :‬ولَئِ ْن ُمتُّ ْم أَوْ قُتِ ْلتُ ْم إَل ِ لَى هللا تُحْ َش رُونَ ﴾ [آل عم ران‪ ،]158 :‬وقول ه‪ ﴿ :‬لَ ْن‬
‫يَ ْستَ ْن ِكفَ ْال َم ِسي ُح أَ ْن يَ ُكونَ َع ْبدًا هَّلِل ِ َواَل ْال َماَل ئِ َكةُ ْال ُمقَ َّربُونَ َو َم ْن يَ ْس تَ ْن ِكفْ ع َْن ِعبَا َدتِ ِه‬
‫ت فَي َُوفِّي ِه ْم‬ ‫َويَ ْستَ ْكبِرْ فَ َسيَحْ ُش ُرهُ ْم إِلَ ْي ِه َج ِميعًا (‪ )172‬فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫أُجُو َرهُ ْم َويَ ِزي ُدهُ ْم ِم ْن فَضْ لِ ِه َوأَ َّما الَّ ِذينَ ا ْستَ ْن َكفُوا َوا ْستَ ْكبَرُوا فَيُ َع ِّذبُهُ ْم َع َذابًا أَلِيمًا َواَل‬
‫َصيرًا ﴾ [النساء‪]173 ،172 :‬‬ ‫يَ ِج ُدونَ لَهُ ْم ِم ْن دُو ِن هللا َولِيًّا َواَل ن ِ‬
‫وغيرها من اآليات الكريم ة ال تي ت بين أن غاي ة النش ر هي الحش ر‪ ،‬وغاي ة‬
‫الحشر‪ ،‬هي الحساب والمساءلة والموازين وغير ذلك‪.‬‬
‫وله ذا وص ف هللا تع الى الحش ر بكون ه مج اال لالحتجاج ات والج دل‬
‫﴿ويَ وْ َم نَحْ ُش ُرهُ ْم َج ِميعًا ثُ َّم نَقُ و ُل لِلَّ ِذينَ أَ ْش َر ُكوا أَ ْينَ‬ ‫والخص ومة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ُش َر َكا ُؤ ُك ُم الَّ ِذينَ ُك ْنتُ ْم ت َْز ُع ُم ونَ ﴾ [األنع ام‪ ،]22 :‬ثم بين م وقفهم فق ال‪﴿ :‬ثُ َّم لَ ْم تَ ُك ْن‬
‫فِ ْتنَتُهُ ْم إِاَّل أَ ْن قَ الُوا َوهللا َربِّنَ ا َم ا ُكنَّا ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [األنع ام‪ ،]23 :‬ثم رد عليهم‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ض َّل َع ْنهُ ْم َما َكانُوا يَ ْفتَرُونَ ﴾ [األنعام‪]24 :‬‬ ‫﴿ ا ْنظُرْ َك ْيفَ َك َذبُوا َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم َو َ‬
‫وه ذا ي دل على أن الكث ير من الظ روف ت وفر ألولئ ك ال ذين سيحاس بون‬
‫ويناقشون‪ ،‬حتى يتمكنوا من المحاج ة عن أنفس هم‪ ،‬أو ال دفاع عنه ا‪ ،‬أو التالقي م ع‬
‫غيرهم سواء من سادتهم أو أتباعهم أو خصومهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ويَ وْ َم يَحْ ُش ُرهُ ْم‬
‫اس تَ ْمتَ َع‬ ‫س َربَّنَ ا ْ‬ ‫ال أَوْ لِيَ ا ُؤهُ ْم ِمنَ اإْل ِ ْن ِ‬
‫س َوقَ َ‬ ‫َج ِميعًا يَا َم ْع َش َر ْال ِجنِّ قَ ِد ا ْستَ ْكثَرْ تُ ْم ِمنَ اإْل ِ ْن ِ‬
‫ال النَّا ُر َم ْث َوا ُك ْم خَالِ ِدينَ فِيهَ ا إِاَّل َم ا َش ا َء‬ ‫ْض َوبَلَ ْغنَا أَ َجلَنَا الَّ ِذي أَج َّْلتَ لَنَا قَ َ‬ ‫ضنَا بِبَع ٍ‬ ‫بَ ْع ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ك َح ِكي ٌم َعلِي ٌم ﴾ [األنع ام‪ ،]128 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬ويَ وْ َم نَحْ ش ُرهُ ْم َج ِميعًا ث َّم نَق و ُل‬ ‫َّ‬
‫هللا إِن َربَّ َ‬
‫لِلَّ ِذينَ أَ ْش َركوا َمك انَك ْم أنت ْم َوش َركا ُؤك ْم فزَ يَّلنَ ا بَ ْينَهُ ْم َوق ا َل ش َركا ُؤهُ ْم َم ا كنت ْم إِيَّانَ ا‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تَ ْعبُ ُدونَ (‪ )28‬فَ َكفَى بِاهلل َش ِهيدًا بَ ْينَنَ ا َوبَ ْينَ ُك ْم إِ ْن ُكنَّا ع َْن ِعبَ ا َدتِ ُك ْم لَ َغ افِلِينَ ﴾ [ي ونس‪:‬‬
‫ت‬ ‫س َما أَ ْس لَفَ ْ‬ ‫‪ ،]29 ،28‬ثم أخبر ما يحصل للنفوس حينها‪ ،‬فقال‪﴿ :‬هُنَالِكَ تَ ْبلُو ُكلُّ نَ ْف ٍ‬
‫ض َّل َع ْنهُ ْم َما َكانُوا يَ ْفتَرُونَ ﴾ [يونس‪]30 :‬‬ ‫ق َو َ‬ ‫َو ُر ُّدوا إِلَى هللا َموْ اَل هُ ُم ْال َح ِّ‬
‫وتدل النصوص على مبلغ الهلع الذي يصيب الظالمين والمحادين هلل في ذلك‬

‫‪ )(1‬المعاد وعالم اآلخرة‪ ،‬ص‪.215 :‬‬

‫‪168‬‬
‫الموقف الشديد الذي ينتظرون فيه المحكمة اإللهية‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَنْ ِذرْ هُ ْم يَ وْ َم‬
‫ع﴾‬ ‫يع يُطَ ا ُ‬ ‫اظ ِمينَ َم ا لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن َح ِم ٍيم َواَل َش فِ ٍ‬ ‫اآْل ِزفَ ِة إِ ِذ ْالقُلُ وبُ لَ دَى ْال َحنَ ا ِج ِر َك ِ‬
‫َخ ُرهُ ْم لِيَ وْ ٍم‬ ‫[غافر‪ ،]18 :‬وقال‪َ ﴿ :‬واَل تَحْ َسبَ َّن هللا غَافِاًل َع َّما يَ ْع َم ُل الظَّالِ ُمونَ إِنَّ َما يُ ؤ ِّ‬
‫وس ِه ْم اَل يَرْ تَ ُّد إِلَ ْي ِه ْم طَرْ فُهُ ْم َوأَ ْفئِ َدتُهُ ْم‬
‫صا ُر (‪ُ )42‬مه ِْط ِعينَ ُم ْقنِ ِعي ُر ُء ِ‬ ‫تَ ْشخَ صُ فِي ِه اأْل َ ْب َ‬
‫هَ َوا ٌء ﴾ [إبراهيم‪]43 - 42 :‬‬
‫ومظاهر العدالة في الحشر كثيرة ج دا‪ ،‬نح اول تلخيص ها ـ بحس ب م ا ت دل‬
‫عليه النصوص المقدسة ـ في العناوين الثالثة التالية‪:‬‬
‫أ ـ مواقف أهل الحشر‪:‬‬
‫تدل النصوص المقدسة الكث يرة على أن الخل ق في أرض المحش ر يص نفون‬
‫تصنيفات كثيرة‪ ،‬منها ما يرجع إلى محالتهم وجيرانهم وأقاربهم من أهل عصرهم‪،‬‬
‫حتى يستطيعوا محاجة بعضهم بعضا‪ ،‬وطلب حقوق بعضهم من بعض‪ ،‬وق د أش ار‬
‫ت الصَّا َّخةُ (‪ )33‬يَوْ َم يَفِرُّ ْال َمرْ ُء ِم ْن أَ ِخي ِه (‪َ )34‬وأُ ِّم ِه‬ ‫إلى هذا قوله تعالى‪﴿ :‬فَإِ َذا َجا َء ِ‬
‫ْ‬
‫ئ ِم ْنهُ ْم يَوْ َمئِ ٍذ َشأ ٌن يُ ْغنِي ِه﴾ [عبس‪- 33 :‬‬ ‫احبَتِ ِه َوبَنِي ِه (‪ )36‬لِ ُكلِّ ا ْم ِر ٍ‬
‫ص ِ‬ ‫َوأَبِي ِه (‪َ )35‬و َ‬
‫‪]37‬‬
‫ب يَوْ ِمئِ ٍذ بِبَنِي ِه (‬ ‫صرُونَهُ ْم يَ َو ُّد ْال ُمجْ ِر ُم لَوْ يَ ْفتَ ِدي ِم ْن َع َذا ِ‬ ‫ومثله قوله تعالى‪﴿ :‬يُبَ َّ‬
‫ض َج ِميعًا ثُ َّم‬ ‫صيلَتِ ِه الَّتِي تُ ْؤ ِوي ِه (‪َ )13‬و َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫صا ِحبَتِ ِه َوأَ ِخي ِه (‪َ )12‬وفَ ِ‬ ‫‪َ )11‬و َ‬
‫يُ ْن ِجي ِه ﴾ [المعارج‪ ،]14 - 11 :‬وهذا يدل على أنه توفرت له الفرصة لرؤيتهم‪ ،‬وإال‬
‫لما طلب ذلك‪.‬‬
‫ولهذا وصف هللا تعالى يوم المحشر بكونه ﴿ يَوْ َم اَل يَ ْنفَ ُع َما ٌل َواَل بَنُ ونَ (‪)88‬‬
‫ب َسلِ ٍيم ﴾ [الشعراء‪]89 ،88 :‬‬ ‫إِاَّل َم ْن أَتَى هللا بِقَ ْل ٍ‬
‫وقد ورد في بعض اآلثار تصوير ذلك‪ ،‬ففيه‪( :‬يلقى الرجل زوجته فيقول لها‪:‬‬
‫يا هذه‪ ،‬أي بعل كنت لك؟ فتقول‪ :‬نعم البعل كنت! وتثني بخير ما استطاعت‪ ،‬فيق ول‬
‫لها‪ :‬فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين‪ .‬فتق ول ل ه‪:‬‬
‫ما أيسر ما طلبت‪ ،‬ولكني ال أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مث ل ال ذي تخ اف‪ .‬ق ال‪:‬‬
‫وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعل ق ب ه فيق ول‪ :‬ي ا ب ني‪ ،‬أي وال د كنت ل ك؟ فيث ني بخ ير‪.‬‬
‫فيقول له‪ :‬يا بني‪ ،‬إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مم ا ت رى‪.‬‬
‫فيقول ول ده‪ :‬ي ا أبت‪ ،‬م ا أيس ر م ا طلبت‪ ،‬ولك ني أتخ وف مث ل ال ذي تتخ وف‪ ،‬فال‬
‫أستطيع أن أعطيك شيئا)(‪)1‬‬
‫ومن تلك التصنيفات ما يرجع إلى المراتب واألعم ال‪ ،‬مثلم ا نص على ذل ك‬
‫ص َحابُ ْال َم ْي َمنَ ِة َم ا‬ ‫﴿و ُك ْنتُ ْم أَ ْز َواجًا ثَاَل ثَ ةً (‪ )7‬فَأ َ ْ‬ ‫قول ه تع الى في س ورة الواقع ة‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫الس ابِقونَ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ص َحابُ ال َمش أ َم ِة (‪َ )9‬و َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ص َحابُ ال َمش أ َم ِة َم ا أ ْ‬ ‫ص َحابُ ْال َم ْي َمنَ ِة (‪َ )8‬وأَ ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫السَّابِقُونَ (‪ )10‬أُولَئِكَ ْال ُمقَ َّربُونَ (‪[ ﴾)11‬الواقعة‪ ،]11 - 7 :‬ولسنا ن دري ه ل ه ذا‬
‫التقسيم يكون بعد الحساب والمساءلة والموازين‪ ،‬أم أنه يكون قبل ذلك‪ ،‬أم أنه يكون‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير (‪.)325 /8‬‬

‫‪169‬‬
‫في الفترتين جميعا؟‬
‫ومن تلك التصنيفات وأهمها التص نيف المرتب ط ب األمم ال تي ك انوا ينتس بون‬
‫﴿وتَ َرى ُك َّل أُ َّم ٍة َجاثِيَةً ُكلُّ أُ َّم ٍة تُ ْدعَى إِلَى ِكتَابِهَ ا ْاليَ وْ َم تُجْ َزوْ نَ‬
‫إليها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫َما ُكنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [الجاثية‪]28 :‬‬
‫ولذلك تعرف األمم حينها بأنبيائها وأئمته ا وه داتها‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬يَ وْ َم‬
‫قْرءُونَ ِكتَ ابَهُ ْم َواَل ي ْ‬
‫ُظلَ ُم ونَ‬ ‫س بِإِ َما ِم ِه ْم فَ َم ْن أُوتِ َي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه فَأُولَئِكَ يَ َ‬
‫نَ ْدعُو ُك َّل أُنَا ٍ‬
‫فَتِياًل ﴾ [اإلسراء‪]71 :‬‬
‫وق د ورد في الح ديث م ا يش ير إلى ه ذا التص نيف‪ ،‬وكيفيت ه‪ ،‬فق د ق ال ‪:‬‬
‫(عرضت علي األمم‪ ،‬فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الره ط‪ ،‬والن بي ليس مع ه‬
‫أحد‪ ،‬حتى رفع لي س واد عظيم‪ ،‬فقلت‪ :‬م ا ه ذا؟ أم تي ه ذه؟ قي ل‪ :‬ب ل ه ذا موس ى‬
‫وقومه‪ ،‬قيل‪ :‬انظر إلى األفق‪ ،‬فإذا سواد عظيم قد مأل األفق‪ ،‬ثم قيل لي‪ :‬انظر هاهنا‬
‫وهاهنا في آفاق السماء‪ ،‬فإذا سواد قد مأل األفق‪ ،‬قيل‪ :‬هذه أمت ك‪ ،‬وي دخل الجن ة من‬
‫هؤالء سبعون ألفا بغير حساب)(‪)1‬‬
‫لكن ه ذا االنتم اء‪ ،‬كم ا ورد في النص وص‪ ،‬ليس مث ل االنتم اء في ال دنيا‪،‬‬
‫والذي يكفي في ه ذل ك اإليم ان ال وراثي‪ ،‬ب ل يم يز الن اس في ه على أس اس اتب اعهم‬
‫الصادق لرسلهم‪ ،‬ولهذا يخرج من أتباع الرسل الكثير من الذين حرفوا وبدلوا‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث م ا يش ير إلى ه ذا‪ ،‬ويش ير مع ه إلى أن واع من الفض ل‬
‫تتاح في ذلك الموق ف ألتب اع األنبي اء الص ادقين‪ ،‬وه و ذل ك الش راب العظيم ال ذي‬
‫يتلقونه من أيدي أنبيائهم وورثتهم جزاء لهم على إخالص هم وص دق اتب اعهم‪ ،‬ق ال‬
‫رسول هللا ‪( :‬إن لكل نبي حوضا‪ ،‬وإنهم يتب اهون أيهم أك ثر واردة‪ ،‬وإني أرج و‬
‫أن أكون أكثرهم)(‪)2‬‬
‫وقد ورد في أحاديث كثيرة وصف ح وض رس ول هللا ‪ ،‬وآنيت ه وش رابه‪،‬‬
‫وغير ذلك‪ ،‬وكلها من التقريب ات ال تي تبس ط األم ر لعقولن ا‪ ،‬ألن الحقيق ة أعظم من‬
‫ذلك‪ ،‬ومن تلك األحاديث قوله ‪( :‬حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض‬
‫من اللبن‪ ،‬وريحه أطيب من المس ك‪ ،‬وكيزان ه كنج وم الس ماء‪ ،‬من ش رب منه ا فال‬
‫يظمأ أبدا)(‪)3‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر أن ه س ئل ‪ ‬عن ش رابه ؛ فق ال‪( :‬أش د بياض ا من اللبن‪،‬‬
‫وأحلى من العسل‪ ،‬يغت (يصب) فيه ميزابان يمدانه من الجنة‪ ،‬أح دهما من ذهب‪،‬‬
‫واآلخر من ورق (فضة)(‪)4‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال ‪( :‬ن زلت علي آنف ا س ورة‪ ،‬فق رأ ﴿بس م هللا ال رحمن‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪.179 / 10‬‬


‫‪ )(2‬الترمذي (‪.)2367‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ )6093‬ومسلم (‪.)4244‬‬
‫‪ )(4‬صحيح مسلم (‪)4256‬‬

‫‪170‬‬
‫ك َوا ْن َحرْ (‪ )2‬إِ َّن َشانِئَكَ هُ َو اأْل َ ْبتَ ُر (‪﴾ )3‬‬ ‫ك ْال َكوْ ثَ َر (‪ )1‬فَ َ‬
‫صلِّ لِ َربِّ َ‬ ‫الرحيم إِنَّا أَ ْع َ‬
‫ط ْينَا َ‬
‫[الكوثر‪ ..]3 - 1 :‬أتدرون ما الكوثر؟‪ ..‬إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل‪ ،‬عليه خير‬
‫كثير‪ ،‬هو حوض ترد عليه أم تي ي وم القيام ة‪ ،‬آنيت ه ع دد نج وم الس ماء‪،‬فيختلج(‪)1‬‬
‫العبد منهم‪ ،‬فأقول‪ :‬رب‪ ،‬إنه من أمتي‪ ،‬فيقول‪ :‬ما تدري ما أحدث بعدك؟)(‪)2‬‬
‫وه ذا ي دل على أن من خ واص ه ذا الح وض أن ه ال يمكن أن يش ربه إال‬
‫الصادقون من أتباع األنبياء‪ ،‬ولذلك يُمن ع المحرف ون والمب دلون لس نن أنبي ائهم عن‬
‫االقتراب والشرب منه‪ ،‬كما ص ور ذل ك رس ول هللا ‪ ‬بقول ه‪( :‬وال ذي نفس ي بي ده‬
‫ألذودن رجاال عن حوضي كما تذاد الغريبة من اإلبل عن الحوض) (‪)3‬‬
‫وق ال ‪( :‬ل يردن علي الح وض رج ال ممن ص احبني‪ ،‬ح تى إذا رأيتهم‬
‫ورفعوا إلي‪ :‬اختلجوا دوني‪ ،‬فألقولن‪ ،‬أي رب‪ ،‬أصيحابي‪ ،‬أص يحابي‪ ،‬فليق الن لي‪،‬‬
‫إنك ال تدري ما أحدثوا بعدك)(‪)4‬‬
‫وقد ورد ما يدل على أن كل أمة تقف كالطوابير بين ي دي ح وض نبيه ا‪ ،‬فال‬
‫يمر إال من كان حقيقا ب ذلك‪ ،‬ففي الح ديث‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬بين ا أن ا ق ائم ف إذا‬
‫زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال‪ :‬هل َّم‪ ،‬فقلت‪ :‬أين؟ ق ال‪ :‬إلى‬
‫النار وهللا ! قلت‪ :‬وما شأنهم؟قال‪ :‬إنهم ارت دوا بع دك على أدب ارهم القهق رى‪ .‬ثم إذا‬
‫زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بي ني وبينهم فق ال‪ :‬هلم‪ ،‬قلت‪ :‬أين؟ ق ال‪ :‬إلى‬
‫النار وهللا ! قلت ما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدب ارهم القهق رى ! فال أراه‬
‫ل هَ َمل الن َّ َعم)(‪)5‬‬‫يخلص منهم إال ِم ْث ُ‬
‫وقد أخبر ‪ ‬أن هذا الحوض يش مل جمي ع الص ادقين من أمت ه‪ ،‬وفي جمي ع‬
‫األزمنة‪ ،‬وهو ما يؤكد أن معية رس ول هللا ‪ ‬مس تمرة في األم ة‪ ،‬وليس ت خاص ة‬
‫بزمان معين‪ ،‬ففي الحديث أن رس ول هللا ‪ ‬أتى المق برة فق ال‪( :‬الس الم عليكم دار‬
‫قوم مؤمنين وإنا إن شاء هللا بكم الحقون وددت أنا ق د رأين ا إخوانن ا) ق الوا‪ :‬أولس نا‬
‫إخوانك يا رسول هللا؟ قال‪( :‬أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)‪ ،‬فقالوا‪ :‬كيف‬
‫تعرف من لم يأت بعد من أمتك ي ا رس ول هللا؟ فق ال‪( :‬أرأيت ل و أن رجال ل ه خي ل‬
‫غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم أال يع رف خيل ه؟)‪ ،‬ق الوا‪ :‬بلى ي ا رس ول هللا‪.‬‬
‫قال‪( :‬فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء‪ ،‬وأنا فرطهم على الحوض‪ ،‬أال لي ذادن‬
‫رجال عن حوض ي كم ا ي ذاد البع ير الض ال أن اديهم‪ :‬أال هلم؛ فيق ال إنهم ق د ب دلوا‬
‫بعدك‪ ،‬فأقول‪ :‬سحقا سحقا)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬االختالج‪ :‬االستالب واالجتذاب‪.‬‬


‫‪ )(2‬مسلم (‪)7/71 13 ،/2‬‬
‫‪ )(3‬البخاري في صحيحه (‪ )2194‬ومسلم (‪)4257‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ‪ ،412 / 11‬ومسلم رقم (‪.)2304‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري(‪.)7/208‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم (‪)367‬‬

‫‪171‬‬
‫وقد كان األصل في هذه األحاديث‪ ،‬وما تحمله من التحذير عن مخالف ة ه دي‬
‫رسول هللا ‪ ،‬مدعاة للتقوى والورع والحرص على االتب اع الص حيح لرس ول هللا‬
‫‪ ،‬والحرص على وحدة األمة‪ ،‬لكنه ا لألس ف ص ارت م دعاة للتفرق ة والتب اهي‪،‬‬
‫كما عبر القرط بي عن ذل ك‪ ،‬وه و يحكي تل ك التع اليم الطائفي ة ال تي اس تفادها من‬
‫أساتذته‪( :‬قال علماؤنا رحمهم هللا أجمعين‪ :‬فكل من ارت د عن دين هللا أو أح دث في ه‬
‫ما ال يرض اه هللا‪ ،‬ولم ي أذن ب ه فه و من المط رودين عن الح وض المبع دين عن ه‪،‬‬
‫وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وف ارق س بيلهم ك الخوارج على اختالف‬
‫فرقها‪ ،‬والروافض على تب اين ض اللها‪ ،‬والمعتزل ة على أص ناف أهوائه ا‪ ،‬وك ذلك‬
‫الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقت ل أهل ه وإذاللهم والمعلن ون‬
‫بالكبائر المستخفون بالمعاصي‪ ،‬وجماعة أهل الزيغ واألهواء والبدع)(‪)7‬‬
‫ب ـ النعيم والعذاب‪:‬‬
‫مثلما عرفنا سابقا‪ ،‬فإن ذلك الموقف‪ ،‬وبناء على العدال ة والرحم ة اإللهي ة ال‬
‫يخلو من النعيم والعذاب بشقيه الحسي والمعنوي‪ ،‬وذلك على حس ب األعم ال ال تي‬
‫تتجسد في ذلك الحين‪ ،‬لتكون نعيما للصالحين‪ ،‬وشقاء للمنحرفين‪.‬‬
‫وتجسد األعمال ـ كم ا تش ير إلى ذل ك النص وص الكث يرة ـ يختل ف بحس ب‬
‫المواقف والمراحل التي يمر بها اإلنسان في النشأة األخرى‪ ،‬ومن األمثلة على ذل ك‬
‫ما ورد النص عليه من النور الجميل الذي تتجسد في ه األعم ال‪ ،‬لتقي أص حابها من‬
‫الظلم ات ال تي يعيش ها الظلم ة وغ يرهم في ذل ك الموق ف‪ ،‬وال تي تجس دت نتيج ة‬
‫ت يَ ْس َعى‬ ‫أعمالهم المملوءة بالظلمة‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬يَ وْ َم تَ َرى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ‬ ‫نُو ُرهُ ْم بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َوبِأ َ ْي َمانِ ِه ْم بُ ْش َرا ُك ُم ْاليَ وْ َم َجنَّ ٌ‬
‫ات لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا ا ْنظُرُونَا‬ ‫ك ه َُو ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم (‪ )12‬يَوْ َم يَقُو ُل ْال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ‬ ‫فِيهَا َذلِ َ‬
‫ور لَ هُ بَ ابٌ‬‫ب بَ ْينَهُ ْم بِ ُس ٍ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫ور ُك ْم قِي َل ارْ ِجعُوا َو َرا َء ُك ْم فَ ْالتَ ِمسُوا نُ ورًا فَ ُ‬ ‫نَ ْقتَبِسْ ِم ْن نُ ِ‬
‫اطنُهُ فِي ِه الرَّحْ َمةُ َوظَا ِه ُرهُ ِم ْن قِبَلِ ِه ْال َع َذابُ (‪ )13‬يُنَ ادُونَهُ ْم أَلَ ْم نَ ُك ْن َم َع ُك ْم قَ الُوا بَلَى‬ ‫بَ ِ‬
‫َولَ ِكنَّ ُك ْم فَتَ ْنتُ ْم أَ ْنفُ َس ُك ْم َوتَ َربَّصْ تُ ْم َوارْ تَ ْبتُ ْم َو َغ َّر ْت ُك ُم اأْل َ َم انِ ُّي َحتَّى َج ا َء أَمْ ُر هللا َو َغ َّرك ْمُ‬
‫بِاهلل ْال َغرُو ُر (‪ )14‬فَ ْاليَوْ َم اَل ي ُْؤ َخ ُذ ِم ْن ُك ْم فِ ْديَ ةٌ َواَل ِمنَ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا َم أْ َوا ُك ُم النَّا ُر ِه َي‬
‫صي ُر (‪[ ﴾ )15‬الحديد‪]16 - 12 :‬‬ ‫س ْال َم ِ‬ ‫َموْ اَل ُك ْم َوبِ ْئ َ‬
‫ففي ه ذا المش هد المرتب ط بالحش ر وموق ف الخل ق في اآلخ رة‪ ،‬نس مع ه ذا‬
‫الح وار الج اري بين المؤم نين وغ يرهم‪ ،‬وال ذي ي بين للمن افقين حقيق ة الخ داع‬
‫والتلبيسات التي كانوا يلبسون بها على أنفسهم في الدنيا‪.‬‬
‫واألمر ـ كما ورد في النصوص المقدسة ـ ال يقتصر على ذلك‪ ،‬بل إن أرض‬
‫المحشر تكون بمثابة الجنة للصالحين‪ ،‬بل إنهم قد يرون فيها من الفض ل والنعيم م ا‬
‫ال يجدونه في الجنة نفسها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد النص علي ه في األح اديث ال تي ت ذكر جل وس‬

‫‪ )(7‬التذكرة للقرطبي (‪.)306‬‬

‫‪172‬‬
‫بعض أهل الموقف على منابر النور‪ ،‬وهم في غاية الروح والس رور يع اينون أه ل‬
‫الموقف‪ ،‬وانتظ ارهم للحس اب‪ ،‬وق د يك ون من بينهم أولئ ك المظل ومين المحتق رين‬
‫الذين لم ينصفوا؛ فينصفهم هللا تعالى في ذلك الموقف‪ ،‬ب أن ي روا المحاكم ة العادل ة‬
‫التي تجري لمن ظلموهم‪ ،‬والتي حرموا منها في الدنيا‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪ ‬في بعض خطبه‪( :‬اعقل وا واعلم وا أن هلل عب ادا‬
‫ليسوا بأنبياء‪ ،‬وال شهداء‪ ،‬يغبطهم النبيون والشهداء لمك انهم وق ربهم من هللا)‪ ،‬فق ام‬
‫أع رابي‪ ،‬فق ال ي ا رس ول هللا‪ ،‬من هم حلهم لن ا فس ر وج ه رس ول هللا ‪ ‬لق ول‬
‫األعرابي؛ فق ال‪( :‬هم ق وم لم تص ل منهم أرح ام متقارب ة من أفن اء الن اس ون وازع‬
‫القبائل‪ ،‬تحابوا في جالل هللا عز وجل‪ ،‬وتصافوا فيه وت زاوروا في ه‪ ،‬وتب اذلوا في ه‪،‬‬
‫يضع هللا لهم منابر من نور فيجلسون عليها‪ ،‬وإن ثي ابهم لن ور‪ ،‬ووج وههم ن ور‪ ،‬ال‬
‫يخافون إذا خاف الن اس‪ ،‬وال يفزع ون إذا ف زع الن اس‪ ،‬أولئ ك أولي اء هللا ال خ وف‬
‫عليهم وال هم يحزنون)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر ذكر بعض صفاتهم‪ ،‬وهي القس ط‪ ،‬ق ال ‪( :‬إن المقس طين‬
‫عند هللا على منابر من نور‪ ..‬الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)(‪)2‬‬
‫وقد ورد ما يدل على أن هؤالء الجالسين على من ابر الن ور‪ ،‬ال يجلس ون في‬
‫انتظار الحساب‪ ،‬وإنما ليعاينوا أهل الموق ف‪ ،‬وكيفي ة حس ابهم‪ ،‬وإلى ذل ك اإلش ارة‬
‫ار يَضْ َح ُكونَ (‪َ )34‬علَى اأْل َ َرائِ ِ‬
‫ك يَ ْنظُ رُونَ‬ ‫بقوله تعالى‪﴿ :‬فَ ْاليَوْ َم الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِمنَ ْال ُكفَّ ِ‬
‫ب ْال ُكفَّا ُر َما َكانُوا يَ ْف َعلُونَ (‪[ ﴾)36‬المطففين‪]36 - 34 :‬‬ ‫(‪ )35‬هَلْ ثُ ِّو َ‬
‫وقد ورد في الحديث ما يدل عليه‪ ،‬فقد روي أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬الش هداء‬
‫ثالثة رجال‪ :‬رجل خرج بماله ونفسه محتسبا ً في سبيل هللا ال يريد أن يقتل وال يقت ل‬
‫ليكثر سواد المسلمين‪ ،‬فإن مات أو قتل غفرت ذنوب ه كله ا وأج ير من ع ذاب الق بر‬
‫وأومن من الفزع األكبر وزوج من الحور العين‪ ،‬ووض ع على رأس ه ت اج الوق ار‪،‬‬
‫ورجل جاهد بنفسه وماله يريد أن يقتل وال يقتل فإن م ات أو قت ل ك انت ركبت ه م ع‬
‫ركبة إبراهيم خليل الرحمن في مقعد صدق عند مليك مقتدر‪ ،‬والثالث‪ :‬رج ل خ رج‬
‫بنفسه وماله محتسبا ً يريد أن يقتل ويقتل؛ فإن مات أو قتل ج اء ي وم القيام ة ش اهراً‬
‫بسيفه واضعه على عنقه والناس جاثون على الركب يقول‪ :‬أال فأفسحوا لن ا فإن ا ق د‬
‫بذلنا دماءنا وأموالنا هلل عز وجل‪ ،‬والذي نفس ي بي ده ل و ق الوا ذل ك إلب راهيم خلي ل‬
‫ال رحمن‪ ،‬أو لن بي من األنبي اء لتنحى لهم عن الطري ق لم ا ي رى من واجب حقهم‪،‬‬
‫حتى يأتوا منابر من نور‪ ،‬ويجلسون ينظرون كيف يقضي بين الناس ال يج دون غم‬
‫الم وت‪ ،‬وال يغتم ون في ال برزخ‪ ،‬وال تف زعهم الص يحة‪ ،‬وال يهمهم الحس اب‪ ،‬وال‬
‫الميزان وال الصراط‪ ،‬ينظرون كيف يقضى بين الناس وال يسألون ش يئا ً إال أعط وه‬
‫وال يشفعون إال شفعوا فيه‪ ،‬ويعطى من الجنة ما أحب وينزل من الجن ة حيث أحب)‬

‫‪ )(1‬نوادر األصول في أحاديث الرسول (‪)82 /4‬‬


‫‪ )(2‬الحميدي (‪.)588‬وأحمد (‪ ،)6492( )2/160‬ومسلم (‪)6/7‬‬

‫‪173‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وربم ا يك ون له ؤالء عالق ة بأص حاب األع راف‪ ،‬كم ا س نرى في المبحث‬
‫الثاني بعد استعراض األقوال الواردة فيهم‪.‬‬
‫وهكذا ورد في النصوص المقدسة المشاهد الكثيرة ألولئك الذين لم يجدوا من‬
‫أعمالهم الصالحة م ا يك ون ن ورا وطه را وطيب ا لهم؛ فل ذلك تظ ل ص ور أعم الهم‬
‫السيئة‪ ،‬والتي ص نعوها بأنفس هم تط اردهم في ك ل مح ل‪ ،‬ح تى يتحق ق لهم الطه ر‬
‫النهائي منها إن كانوا أهال لذلك‪.‬‬
‫وق د ذكرن ا س ابقا بعض الع ذاب ال ذي يحص ل لهم نتيج ة تغ ير أش كالهم‬
‫وصورهم وأل وانهم إلى الش كل ال ذي ص مموه بأنفس هم في حي اتهم ال دنيا‪ ،‬ذل ك أن‬
‫األخالق في ذلك الموقف هي التي تحدد صورة الخلقة‪.‬‬
‫ولهذا نرى القرآن الكريم يذكر المش اهد الكث يرة لآلالم النفس ية ال تي تع تري‬
‫أولئك الذين وقف وا ذل ك الموق ف الطوي ل‪ ،‬وهم ينتظ رون المحكم ة اإللهي ة‪ ،‬وعلى‬
‫بالهم وأمامهم صور كل ما فعلوه في تلك الفرصة التي أتيحت لهم لكنهم ضيعوها‪.‬‬
‫﴿ولَوْ تَ َرى إِ ِذ ْال ُمجْ ِر ُم ونَ نَا ِك ُس و‬ ‫ومن تلك المشاهد ما نص عليه قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ص الِحًا إِنَّا ُموقِنُ ونَ ﴾‬ ‫ْص رْ نَا َو َس ِم ْعنَا فَارْ ِج ْعنَ ا نَ ْع َم لْ َ‬ ‫وس ِه ْم ِعنْ َد َربِّ ِه ْم َربَّنَ ا أَب َ‬ ‫ُر ُء ِ‬
‫[السجدة‪]12 :‬‬
‫ض َج ِميعًا‬ ‫تعالى‪﴿:‬ولَ وْ أَ َّن لِلَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ومنها ما نص عليه قوله‬
‫ب يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة َوبَ دَا لَهُ ْم ِمنَ هللا َم ا لَ ْم يَ ُكونُ وا‬ ‫َو ِم ْثلَهُ َم َعهُ اَل ْفتَ دَوْ ا بِ ِه ِم ْن ُس و ِء ْال َع َذا ِ‬
‫يَحْ تَ ِسبُونَ ﴾ [الزمر‪]47 :‬‬
‫الى‪﴿:‬ويَ وْ َم يَ َعضُّ الظَّالِ ُم َعلَى يَدَيْ ِه يَقُ و ُل يَ الَ ْيتَنِي‬ ‫َ‬ ‫ومنها ما نص عليه قوله تع‬
‫ض لَّنِي‬ ‫ُول َسبِياًل (‪ )27‬يَا َو ْيلَتَا لَ ْيتَنِي لَ ْم أَتَّ ِخ ْذ فُاَل نًا خَ لِياًل (‪ )28‬لَقَ ْد أَ َ‬ ‫ت َم َع ال َّرس ِ‬ ‫اتَّ ْ‬
‫خَذ ُ‬
‫ان خَ ُذواًل ﴾ [الفرقان‪]29 - 27 :‬‬ ‫ع َِن ال ِّذ ْك ِر بَ ْع َد إِ ْذ َجا َءنِي َو َكانَ ال َّش ْيطَانُ لِإْل ِ ْن َس ِ‬
‫ت َم ا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫س ظَلَ َم ْ‬ ‫الى‪﴿:‬ولَ وْ أَ َّن لِ ُك لِّ نَ ْف ٍ‬
‫َ‬ ‫ومنه ا م ا نص علي ه قول ه تع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اَل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ض َي بَينهُ ْم بِالقِس ِط َوه ْم يُظل ُم ونَ ﴾‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫اب َوق ِ‬ ‫َت بِ ِه َوأَ َسرُّ وا النَّدَا َمةَ لَ َّما َرأَ ُوا ْال َع ذ َ‬
‫َ‬ ‫اَل ْفتَد ْ‬
‫[يونس‪]54 :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫تعالى‪﴿:‬ول وْ ت َرى إِ ِذ الظالِ ُمونَ َموْ قوف ونَ ِعنْ َد َربِّ ِه ْم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ومنها ما نص عليه قوله‬
‫ْض ْالقَوْ َل يَقُو ُل الَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا لِلَّ ِذينَ ا ْستَ ْكبَرُوا لَ وْ اَل أَ ْنتُ ْم لَ ُكناَّ‬ ‫ضهُ ْم إِلَى بَع ٍ‬ ‫يَرْ ِج ُع بَ ْع ُ‬
‫ْ‬
‫ص َددنَاك ْم َع ِن الهُدَى بَعْ َد‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ُم ْؤ ِمنِينَ (‪﴿ )31‬قا َل ال ِذينَ ا ْستَكبَرُوا لِل ِذينَ ا ْستضْ ِعفوا أنَحْ نُ َ‬ ‫َ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا بَ لْ َمكْ ُر‬ ‫ض ِعفُوا لِلَّ ِذينَ ْ‬ ‫ال الَّ ِذينَ ا ْستُ ْ‬ ‫إِ ْذ َجا َء ُك ْم بَلْ ُك ْنتُ ْم ُمجْ ِر ِمينَ (‪َ )32‬وقَ َ‬
‫ار إِ ْذ تَأْ ُمرُونَنَ ا أَ ْن نَ ْكفُ َر بِاهلل َونَجْ َع َل لَ هُ أَنْدَادًا َوأَ َس رُّ وا النَّدَا َم ةَ لَ َّما َرأَ ُوا‬ ‫اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫َاق الَّ ِذينَ َكفَرُوا هَ لْ يُجْ زَ وْ نَ إِاَّل َم ا َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ (‬ ‫اب َو َج َع ْلنَا اأْل َ ْغاَل َل فِي أَ ْعن ِ‬ ‫ْال َع َذ َ‬
‫‪[ ﴾)33‬سبأ‪]33 -31 :‬‬
‫ولذلك كان من أسماء يوم القيامة يوم التغابن‪ ،‬كما قال تع الى‪ ﴿ :‬يَ وْ َم يَجْ َم ُعك ْمُ‬

‫‪ )(3‬الترغيب والترهيب لقوام السنة (‪.)464 /1‬‬

‫‪174‬‬
‫لِيَوْ ِم ْال َج ْم ِع َذلِكَ يَوْ ُم التَّغَابُ ِن ﴾ [التغابن‪]9 :‬‬
‫وق د ورد الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬بتفس ير س ر تل ك التس مية‪ ،‬حيث ق ال‪:‬‬
‫(يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربع ة وعش رون خزان ة ـ ع دد‬
‫ساعات الليل والنهار ـ فخزانة يجدها مملوءة ن ورا وس رورا فينال ه عن د مش اهدتها‬
‫من الفرح والسرور ما لو وزع على أهل النار الدهش هم عن اإلحس اس ب ألم الن ار‪،‬‬
‫وهي الساعة التي أطاع فيه ا رب ه‪ ،‬ثم يفتح ل ه خزان ة اخ رى فيراه ا مظلم ة منتن ة‬
‫مفزعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع م ا ل و قس م على أه ل الجن ة لنغص‬
‫عليهم نعيمها‪ ،‬وهي الساعة التي عصى فيها ربه‪ ،‬ثم يفتح له خزان ة اخ رى فيراه ا‬
‫فارغة ليس فيها ما يسره وال ما يسوؤه وهي الساعة ال تي ن ام فيه ا أو اش تغل فيه ا‬
‫بشئ من مباحات الدنيا‪ ،‬فيناله من الغبن واالسف على فواتها حيث ك ان متمكن ا من‬
‫ك يَ وْ ُم التَّ َغ ابُ ِن ﴾‬ ‫أن يماله ا حس نات م ا ال يوص ف‪ ،‬ومن ه ذا قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫[التغابن‪)1()]9 :‬‬
‫ومن أس مائه ي وم الحس رة‪ ،‬ذل ك أن اآلالم النفس ية في ه ربم ا تف وق اآلالم‬
‫ض َي اأْل َ ْم ُر َوهُ ْم فِي َغ ْفلَ ٍة َوهُ ْم اَل‬‫الحسية‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْن ِذرْ هُ ْم يَوْ َم ْال َح ْس َر ِة إِ ْذ قُ ِ‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ [مريم‪]39 :‬‬
‫وهكذا نرى فيه المشاهد الكثيرة لتحس ر الك افرين‪ ،‬ومنه ا ه ذا المش هد ال ذي‬
‫يذكر خطاب هللا تعالى ألولئك المج رمين في ذل ك الموق ف‪ ،‬وال ذين قض وا حي اتهم‬
‫ق قَالُوا بَلَى َو َربِّنَ ا‬ ‫ْس هَ َذا بِ ْال َح ِّ‬‫ال أَلَي َ‬
‫كلها يكذبون به‪َ ﴿:‬ولَوْ ت ََرى إِ ْذ ُوقِفُوا َعلَى َربِّ ِه ْم قَ َ‬
‫َس َر الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِلِقَ ا ِء هللا َحتَّى إِ َذا‬ ‫اب بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكفُ رُونَ (‪ )30‬قَ ْد خ ِ‬ ‫قَا َل فَ ُذوقُوا ْال َع َذ َ‬
‫زَارهُ ْم َعلَى‬ ‫َّطنَا فِيهَا َوهُ ْم يَحْ ِملُ ونَ أَوْ َ‬ ‫َجا َء ْتهُ ُم السَّا َعةُ بَ ْغتَةً قَالُوا يَا َح ْس َرتَنَا َعلَى َما فَر ْ‬
‫ُور ِه ْم أَاَل َسا َء َما يَ ِزرُونَ ﴾ [األنعام‪]31 ،30 :‬‬ ‫ظُه ِ‬
‫ومنه ا تل ك الص يحات ال تي يص يحها أولئ ك المح ادون هلل في ذل ك الموق ف‬
‫ُ‬
‫﴿واتَّبِعُوا أَحْ َسنَ َما أ ِ‬
‫نْز َل إِلَ ْي ُك ْم‬ ‫الشديد‪ ،‬والتي تعبر عن حسرتهم الشديدة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ِم ْن َربِّ ُك ْم ِم ْن قَبْ ِل أَ ْن يَ أْتِيَ ُك ُم ْال َع َذابُ بَ ْغتَ ةً َوأَ ْنتُ ْم اَل ت َْش ُعرُونَ (‪ )55‬أن تق و َل نفسٌ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّاخ ِرينَ (‪[ ﴾)56‬الزمر‪،55 :‬‬ ‫ت لَ ِمنَ الس ِ‬ ‫ب هللا َوإِ ْن ُك ْن ُ‬ ‫ت فِي َج ْن ِ‬ ‫يَا َحس َْرتَا َعلَى َما فَر ْ‬
‫َّط ُ‬
‫‪]56‬‬
‫وهي حس رة ال تص يب الكف ار فق ط‪ ،‬ب ل تش مل المؤم نين أيض ا‪ ،‬من ال ذين‬
‫قصروا في حق هللا‪ ،‬أو تساهلوا في التعامل مع حدوده‪.‬‬
‫ومن ال ذين وردت النص وص بتحس رهم أولئ ك ال ذين ك انوا يلهث ون وراء‬
‫المناصب من غير أن يؤدوا حق هللا فيه ا‪ ،‬كم ا ق ال ‪ ‬مع برا عن حس رتهم‪( :‬نعم‬
‫الشىء اإلم ارة لمن أخ ذها بحقه ا‪ ،‬وبئس الش ىء اإلم ارة لمن أخ ذها بغ ير حقه ا‪،‬‬
‫فتكون عليه حسرة يوم القيامة)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪.262 / 7 :‬‬


‫‪ )(2‬المعجم الكبير للطبرانى‪5/138 :‬؛ وقال الهيثمى‪ :‬رواه الطبرانى فى الكبير ورجاله رجال الصحيح‪ .‬مجم ع‬
‫الزوائد‪.3/303 :‬‬

‫‪175‬‬
‫ومنهم أولئ ك ال ذين قص روا في ذك ر هللا‪ ،‬وخاص ة بع د أن ي روا األن وار‬
‫العظيمة التي ينعم بها الذاكرون في ذل ك الموق ف الممتلئ ب األهوال‪ ،‬ق ال ‪( :‬م ا‬
‫جلس قوم مجلسا قط لم يذكروا هللا إال كان عليهم حسرة يوم القيامة)(‪ ،)1‬وقال‪( :‬م ا‬
‫من قوم جلسوا مجلسا لم ي ذكروا هللا في ه إال ك ان عليهم ت رة‪ ،‬وم ا من رج ل مش ى‬
‫طريقا فلم يذكر هللا عز وجل إال كان عليه ت رة‪ ،‬وم ا من رج ل أوى إلى فراش ه فلم‬
‫يذكر هللا عز وجل إال كان عليه ترة)(‪)2‬‬
‫ج ـ االنتظار والشفاعة‪:‬‬
‫ورد في الروايات الكثيرة ذكر االنتظار الطويل الذي يعانيه البش ر في أرض‬
‫المحش ر للمحكم ة اإللهي ة‪ ،‬والبت في قض اياهم‪ ،‬ومن تل ك الرواي ات م ا روي عن‬
‫اإلمام الصادق أنه قال‪( :‬إذا أراد أحدكم أن ال يسأل ربه شيئا ً إال أعطاه‪ ،‬فليي أس من‬
‫الناس كلهم‪ ،‬وال يكون له رجاء إال من عند هللا عز ذكره‪ .‬فإذا علم هللا عز وجل ذلك‬
‫من قلبه لم يسأله شيئا ً إال أعطاه؛ فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها‪ ،‬فإن للقيامة‬
‫خمسين موقفاً‪ ،‬كل موقف مقداره ألف س نة ثم تال‪﴿ :‬فِي يَ وْ ٍم َك انَ ِمقْدَا ُرهُ أَلْفَ َس نَ ٍة‬
‫ِم َّما تَ ُع ُّدونَ ﴾ [السجدة‪)3()]5 :‬‬
‫ومع جمال هذه الرواية‪ ،‬واألبعاد العرفانية والتربوية الكث يرة ال تي تحمله ا‪،‬‬
‫نرى لألسف الكثير من الروايات التي دس فيها ما ال يتوافق مع النصوص القطعي ة‬
‫من القرآن الكريم والحديث الشريف‪ ،‬ولذلك ال يمكن قبول ك ل م ا فيه ا‪ ،‬ب ل تن اقش‬
‫على ضوء ما يعارضها من النصوص المقدسة‪.‬‬
‫ومن أشهر تلك الروايات تلك الرواي ة الطويل ة ال تي ح دث به ا أب و هري رة‪،‬‬
‫والتي ت ردد كث يرا على المن ابر‪ ،‬ويك اد يعرفه ا الن اس جميع ا‪ ،،‬وق د ذك ر فيه ا أن‬
‫رسول هللا ‪( ‬أتي بلحم فرفع إلي ه ال ذراع‪ ،‬وك انت تعجب ه‪ ،‬فنهش منه ا نهش ة‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬أن ا س يد الن اس ي وم القيام ة‪ ،‬وه ل ت درون مم ذل ك؟ يجم ع هللا الن اس األولين‬
‫واآلخرين في صعيد واحد‪ ،‬يسمعهم الداعي وينفذهم البصر‪ ،‬وت دنو الش مس‪ ،‬فيبل غ‬
‫الناس من الغم والكرب ما ال يطيقون وال يحتملون‪ ،‬فيقول الن اس‪ :‬أال ت رون م ا ق د‬
‫بلغكم‪ ،‬أال تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض‪ :‬عليكم بآدم‪،‬‬
‫فيأتون آدم عليه السالم فيقولون له‪ :‬أنت أب و البش ر‪ ،‬خلق ك هللا بي ده‪ ،‬ونفخ في ك من‬
‫روحه‪ ،‬وأمر المالئكة فسجدوا لك‪ ،‬اشفع لنا إلى ربك‪ ،‬أال ترى إلى ما نحن في ه‪ ،‬أال‬
‫ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيق ول آدم‪ :‬إن ربي ق د غض ب الي وم غض با لم يغض ب قبل ه‬
‫مثله‪ ،‬ولن يغضب بعده مثله‪ ،‬وإنه قد نه اني عن الش جرة فعص يته‪ ،‬نفس ي‪ ،‬نفس ي‪،‬‬
‫نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى نوح‪ ،‬فيأتون نوحا فيقولون‪ :‬يا نوح‪ ،‬إن ك أنت‬
‫أول الرسل إلى أهل األرض‪ ،‬وقد سماك هللا عب دا ش كورا‪ ،‬اش فع لن ا إلى رب ك‪ ،‬أال‬
‫‪ )(1‬قال الهيثمى‪ :‬رواه الطبرانى فى األوسط‪ ،‬وفيه عم رو بن الحص ين العقيلى وه و م تروك‪ .‬مجم ع الزوائ د‪:‬‬
‫‪.10/80‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد‪ ،‬والترمذي‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)80 /10‬‬
‫‪ )(3‬الكافي (‪)8/143‬‬

‫‪176‬‬
‫ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول‪ :‬إن ربي عز وجل قد غضب الي وم غض با لم يغض ب‬
‫قبله مثله ولن يغضب بعده مثله‪ ،‬وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي‪ ،‬نفسي‪،‬‬
‫نفسي‪ ،‬نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى إبراهيم‪ ،‬في أتون إب راهيم فيقول ون‪ :‬ي ا‬
‫إبراهيم أنت نبي هللا وخليل ه من أه ل األرض‪ ،‬اش فع لن ا إلى رب ك أال ت رى إلى م ا‬
‫نحن فيه؟ فيق ول لهم‪ :‬إن ربي ق د غض ب الي وم غض با لم يغض ب قبل ه مثل ه‪ ،‬ولن‬
‫يغضب بعده مثله‪ ،‬وإني قد كنت كذبت ثالث كذبات ـ فذكرهن أبو حيان في الحديث‬
‫ـ نفس ي‪ ،‬نفس ي‪ ،‬نفس ي‪ ،‬اذهب وا إلى غ يري‪ ،‬اذهب وا إلى موس ى في أتون‪ ،‬موس ى‬
‫فيقولون‪ :‬يا موسى أنت رسول هللا‪ ،‬فضلك هللا برسالته وبكالم ه على الن اس‪ ،‬اش فع‬
‫لنا إلى ربك‪ ،‬أال ترى إلى ما نحن فيه؟ فيق ول‪ :‬إن ربي ق د غض ب الي وم غض با لم‬
‫يغضب قبله مثله‪ ،‬ولن يغضب بعده مثله‪ ،‬وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتله ا‪ ،‬نفس ي‬
‫نفس ي‪ ،‬نفس ي‪ ،‬اذهب وا إلى غ يري‪ ،‬اذهب وا إلى عيس ى ابن م ريم‪ ،‬في أتون عيس ى‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬ي ا عيس ى أنت رس ول هللا‪ ،‬وكلمت ه ألقاه ا إلى م ريم وروح من ه‪ ،‬وكلمت‬
‫الناس في المهد صبيا‪ ،‬اشفع لنا إلى ربك‪ ،‬أال ترى إلى ما نحن في ه؟ فيق ول عيس ى‪:‬‬
‫إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط‪ ،‬ولن يغضب بعده مثله‪ ،‬ولم‬
‫يذكر ذنبا‪ ،‬نفسي‪ ،‬نفسي‪ ،‬نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد‪ ،‬فيأتون محم دا‬
‫فيقولون‪ :‬يا محمد أنت رسول هللا وخاتم األنبياء‪ ،‬وقد غفر هللا لك ما تق دم من ذنب ك‬
‫وما تأخر‪ ،‬اشفع لنا إلى ربك‪ ،‬أال ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت الع رش‪،‬‬
‫فأقع ساجدا لربي عز وجل‪ ،‬ثم يفتح هللا علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا‪ ،‬لم‬
‫يفتحه على أحد قبلي‪ ،‬ثم يقال‪ :‬يا محمد ارفع رأسك سل تعطه‪ ،‬واش فع تش فع ف أرفع‬
‫رأسي‪ ،‬فأقول‪ :‬أمتي يا رب‪ ،‬أمتي يا رب‪ ،‬أمتي يا رب‪ ،‬فيقال‪ :‬ي ا محم د أدخ ل من‬
‫أمتك من ال حساب عليهم من الباب األيمن من أبواب الجنة‪ ،‬وهم شركاء الناس فيما‬
‫س وى ذل ك من األب واب‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬وال ذي نفس ي بي ده‪ ،‬إن م ا بين المص راعين من‬
‫مصاريع الجنة‪ ،‬كما بين مكة وحمير‪ ،‬أو كما بين مكة وبصرى)(‪)1‬‬
‫ونحن ال نتجرأ على إنكار كل ما في هذا الحديث من تفاصيل‪ ،‬فق د يك ون في‬
‫بعض ه بعض الص دق‪ ،‬ولكن بم ا أن ال رواة يض يفون أحيان ا بعض م ا يعتبرون ه‬
‫توضيحات للحديث‪ ،‬فلذلك مناقشتنا له محاولة لتنقية الحديث من تلك اإلضافات‪.‬‬
‫بناء على هذا؛ فإن أهم االنتقادات الموجهة لهذا الحديث تتمثل في‪:‬‬
‫أوال ـ أن أهل المحشر ـ كما ذكرت النص وص المقدس ة ـ متف اوتون ج دا في‬
‫نعيمهم وع ذابهم بحس ب أعم الهم المجس دة لهم‪ ،‬ول ذلك وض عهم جميع ا في مح ل‬
‫واحد‪ ،‬واعتبارهم جميعا يطلبون الش فاعة للتعجي ل بانعق اد المحكم ة اإللهي ة ـ كم ا‬
‫ورد في الرواية ـ غير صحيح‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد ورد في النصوص ما ي دل على أن ال زمن في اآلخ ر‬
‫يك ون مرتبط ا باألعم ال‪ ،‬ول ذلك تم ر على الم ؤمن ك ل تل ك الف ترة الطويل ة من‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪ ،)4712‬ومسلم (‪ ،)194‬والترمذي (‪)2434‬‬

‫‪177‬‬
‫االنتظار قصيرة جدا ال يكاد يشعر بها‪ ،‬وقد سبق أن ذكرنا ما ورد في الح ديث عن‬
‫رسول هللا ‪ ،‬أنه قال‪( :‬يوم كان مقداره خمسين ألف س نة)‪ ،‬فقي ل‪ :‬م ا أط ول ه ذا‬
‫اليوم‪ ،‬فقال النبي ‪( :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخ ف‬
‫عليه من صالة مكتوبة يصليها في الدنيا)(‪ ،)1‬وفي رواية‪( :‬يهون ذلك على الم ؤمن‬
‫كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب)‪ ،‬وفي رواي ة‪( :‬إن هللا ليخف ف على من يش اء‬
‫من عباده طوله كوقت صالة مفروضة)‬
‫ولذلك نرى أن الناس المذكورين في الرواي ة ليس وا جمي ع الخل ق‪ ،‬وإنم ا هم‬
‫الكفار‪ ،‬أو ربما أولئ ك ال ذين واجه وا األنبي اء ولم يعرف وا ح رمتهم‪ ،‬لكنهم أدرك وا‬
‫قيمتها في ذلك الحين‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك فإن تلك الرواية تتنافى مع هذا المشهد القرآني الذي صور‬
‫ق َم ْن‬ ‫ص ِع َ‬ ‫ور فَ َ‬ ‫الص ِ‬ ‫النفخ في الصور‪ ،‬وما يحصل بعده‪ ،‬فقد ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ونُفِ َخ فِي ُّ‬
‫ض إِاَّل َم ْن َش ا َء هللا ثُ َّم نُفِخَ فِي ِه أُخْ َرى فَ إِ َذا هُ ْم قِيَ ا ٌم‬ ‫ت َو َم ْن فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫فِي َّ‬
‫الس َم َ‬
‫ض َع ْال ِكتَ ابُ َو ِجي َء بِ النَّبِيِّينَ‬ ‫ور َربِّهَ ا َو ُو ِ‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ بِنُ ِ‬ ‫يَ ْنظُ رُونَ (‪َ )68‬وأَ ْش َرقَ ِ‬
‫ت َوهُ َو‬ ‫س َما َع ِملَ ْ‬ ‫ت ُكلُّ نَ ْف ٍ‬ ‫ُظلَ ُمونَ (‪َ )69‬و ُوفِّيَ ْ‬ ‫ق َوهُ ْم اَل ي ْ‬ ‫ض َي بَ ْينَهُ ْم بِ ْال َح ِّ‬‫َوال ُّشهَدَا ِء َوقُ ِ‬
‫أَ ْعلَ ُم بِ َما يَ ْف َعلُونَ (‪[ ﴾)70‬الزمر‪]71 - 68 :‬‬
‫وبعدها أخبر هللا تعالى مباشرة عن القرار الذي يقر في ه ك ل ش خص بحس ب‬
‫ت أَب َْوابُهَ ا‬ ‫ق الَّ ِذينَ َكفَ رُوا إِلَى َجهَنَّ َم ُز َم رًا َحتَّى إِ َذا َجا ُءوهَ ا فُتِ َح ْ‬ ‫﴿و ِس ي َ‬ ‫عمله‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫ت َربِّ ُك ْم َويُ ْن ِذرُونَ ُك ْم لِقَا َء يَوْ ِم ُك ْم‬ ‫ْ‬
‫َوقَا َل لَهُ ْم َخ َزنَتُهَا أَلَ ْم يَأتِ ُك ْم ُر ُس ٌل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلُونَ َعلَ ْي ُك ْم آيَا ِ‬
‫اب َجهَنَّ َم‬ ‫بْو َ‬ ‫يل ا ْد ُخلُوا أَ َ‬ ‫ب َعلَى ْال َكافِ ِرينَ (‪ )71‬قِ َ‬ ‫ت َكلِ َمةُ ْال َع َذا ِ‬ ‫هَ َذا قَالُوا بَلَى َولَ ِك ْن َحقَّ ْ‬
‫ق الَّ ِذينَ اتَّقَ وْ ا َربَّهُ ْم إِلَى ْال َجنَّ ِة ُز َم رًا‬ ‫ثْوى ْال ُمتَ َكب ِِّرينَ (‪َ )72‬و ِس ي َ‬ ‫س َم َ‬ ‫خَالِ ِدينَ فِيهَا فَبِ ْئ َ‬
‫ت أَب َْوابُهَ ا َوقَ ا َل لَهُ ْم خَزَ نَتُهَ ا َس اَل ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم فَا ْد ُخلُوهَ ا‬ ‫َحتَّى إِ َذا َجا ُءوهَ ا َوفُتِ َح ْ‬
‫ُ‬
‫ض نَتَبَ َّوأ ِمنَ ْال َجنَّ ِة‬ ‫ص َدقَنَا َوعْ َدهُ َوأَوْ َرثَنَ ا اأْل َرْ َ‬ ‫خَالِ ِدينَ (‪َ )73‬وقَالُوا ْال َحمْ ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َ‬
‫ْث نَ َشا ُء فَنِ ْع َم أَجْ ُر ْال َعا ِملِينَ (‪[ ﴾)74‬الزمر‪]74 - 71 :‬‬ ‫َحي ُ‬
‫ثانيا ـ أن الحديث يذكر معنى خطيرا ال يتناس ب م ع عظم ة هللا‪ ،‬وال م ع م ا‬
‫ورد في النصوص المقدس ة عن رحم ة هللا في اآلخ رة‪ ،‬ففي ه‪( :‬إن ربي ق د غض ب‬
‫اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله‪ ،‬ولن يغضب بعده مثله)‬
‫فهل يمكن أن تكون رحمة هللا التي وسعت كل شيء قد زالت في ذلك الحين‪،‬‬
‫وحل بدلها الغضب‪ ..‬أم أن رحمة هللا تع الى موج ودة في ك ل حين‪ ،‬كم ا أن غض به‬
‫موجود في كل حين‪ ..‬ولكن االختالف بحسب القابل والمحل‪ ..‬أما هللا ف أعظم من أن‬
‫تغيره األحوال‪ ،‬أو تجري عليه األحداث؟‬
‫مع أن رسول هللا ‪ ‬نفسه ذكر في الحديث أن رحمة هللا تع الى في اآلخ رة‪،‬‬
‫وبحسب القابل لها‪ ،‬تكون أعظم ظهورا من رحمته في ال دنيا‪ ،‬لض يق وع اء ال دنيا‪،‬‬
‫كما ورد في الح ديث‪( :‬إن هللا خل ق مائ ة رحم ة‪ ،‬رحم ة منه ا قس مها بين الخالئ ق‬

‫‪ )(1‬رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب‪ ،‬انظر‪ :‬المغني عن حمل األسفار (ص‪)1901 :‬‬

‫‪178‬‬
‫القيامة)(‪)1‬‬ ‫وتسعة وتسعين إلى يوم‬
‫ثالثا ـ من التفاصيل التي وردت في الرواية‪ ،‬والتي ال ن رى مناس بة له ا‪ ،‬م ا‬
‫ذكره من أن األنبياء عليهم السالم يبررون عدم تقدمهم للشفاعة باهتمامهم بأنفس هم‪،‬‬
‫وذلك غير صحيح‪ ،‬فاألنبي اء ممتلئ ون رحم ة ب الخلق‪ ،‬مثلهم مث ل رس ول هللا ‪..‬‬
‫ولذلك أن يستحيل أن يكون ذلك هو السبب‪.‬‬
‫ومث ل ذل ك ادع اؤهم أن لهم أخط اء تح ول بينهم وبين ال دعاء‪ ،‬وذل ك غ ير‬
‫صحيح أيضا‪ ،‬فال يكون الن بي نبي ا ح تى يك ون عارف ا باهلل‪ ،‬والع ارف باهلل يعلم أن‬
‫رحمة هللا أوسع من أن تضيق بخاطئ‪.‬‬
‫أما ما نراه في هذا في ح ال ص حته‪ ،‬فه و أن األنبي اء عليهم الس الم في ذل ك‬
‫المحل تبع لرسول هللا ‪ ،‬كما ورد في الحديث‪( :‬لو أن موسى كان حي ا م ا وس عه‬
‫ق‬‫﴿وإِ ْذ أَخَ َذ هللا ِميثَ ا َ‬ ‫إال أن يتبعنى)(‪ ،)2‬بل كما نص على ذلك بصراحة قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ق لِ َم ا َم َع ُك ْم لَتُ ْؤ ِمنُ َّن بِ ِه‬
‫ص ِّد ٌ‬ ‫ب َو ِح ْك َم ٍة ثُ َّم َج ا َء ُك ْم َر ُس و ٌل ُم َ‬
‫النَّبِيِّينَ لَ َما آتَ ْيتُ ُك ْم ِم ْن ِكتَا ٍ‬
‫اش هَدُوا َوأَنَ ا‬ ‫ال فَ ْ‬ ‫ص ِري قَ الُوا أَ ْق َررْ نَ ا قَ َ‬ ‫ال أَأَ ْق َررْ تُ ْم َوأَخَ ْذتُ ْم َعلَى َذلِ ُك ْم إِ ْ‬
‫ص ُرنَّهُ قَ َ‬ ‫َولَتَ ْن ُ‬
‫اس قُونَ ﴾ [آل عم ران‪:‬‬ ‫ُ‬
‫الش ا ِه ِدينَ (‪ )81‬فَ َم ْن تَ َولَّى بَعْ َد َذلِ كَ فَأولَئِ كَ هُ ُم ْالفَ ِ‬ ‫َم َع ُك ْم ِمنَ َّ‬
‫‪]82 ،81‬‬
‫ولهذا فإن األنبياء عليهم السالم في ذلك المحل الذي طلب منهم فيه دع وة هللا‬
‫تع الى أرس لوا من طلب منهم ذل ك إلى رس ول هللا ‪ ‬ال باعتب ارهم خ اطئين‪ ،‬وال‬
‫باعتبار حرص هم على أنفس هم‪ ،‬وإنم ا باعتب ار رس ول هللا ‪ ‬في ذل ك المح ل ه و‬
‫اإلمام الذي ال يصح أن يتقدم عليه أحد‪.‬‬
‫والعجب أن هذا الحديث يذكر أن نوحا علي ه الس الم أعط اه هللا تع الى دع وة‬
‫واحدة‪ ،‬وأن نصيبه من الدعاء قد انتهى‪ ،‬كما ورد في الح ديث‪( :‬وإن ه ق د ك انت لي‬
‫دعوة دعوتها على قومي)‪ ،‬فهل ن زل ك رم هللا إلى ه ذه الدرج ة بحيث يمنح لعب اده‬
‫المقربين دعوة واحدة‪.‬‬
‫ثم إنا نرى هللا تعالى يثني على نوح عليه السالم‪ ،‬ويث ني على م ا ق ام ب ه من‬
‫الدعاء على قومه‪ ،‬فكيف نض رب الق رآن به ذا الح ديث ال ذي ي وهم أن نوح ا علي ه‬
‫السالم أخطأ في الدعاء على قومه‪.‬‬
‫وهكذا نرى الحديث يرمي إب راهيم علي ه الس الم بالك ذب‪ ،‬ب ل بثالث ك ذبات‬
‫خطيرة‪ ،‬وأن تلك الكذبات حالت بينه وبين أن يدعو هللا‪..‬‬
‫بناء على هذا؛ فإن الج زء الم تيقن في ه ذا الح ديث إثب ات الش فاعة العظمى‬
‫لرس ول هللا ‪ ،‬بع د المعان اة الطويل ة ال تي يعانيه ا المنحرف ون عن ه في االنتظ ار‬
‫والبحث عمن يتكفل بذلك‪.‬‬
‫وهي نوع من الدروس المقدمة لهم في هذا المجال‪ ،‬ألن أساس اإلجرام ال ذي‬
‫‪ )(1‬رواه الط برانى (‪ ،11/374‬رقم ‪ .)12047‬ق ال الهيثمى (‪ :)10/214‬رواه الط برانى وال بزار‪ ،‬وإس ناده‬
‫حسن‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪ ،3/387‬رقم ‪ )15195‬قال الهيثمى (‪ :)1/174‬رواه أحمد‪ ،‬وأبو يعلى‪ ،‬والبزار‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫وقع فيه المنحرفون االنح راف عن األنبي اء وع دم تعزي رهم وتوق يرهم وط اعتهم‪،‬‬
‫ولذلك يكتشفون في ذلك الموقف قيمتهم‪ ،‬وأهم تيهم‪ ،‬ويعرف ون م دى نص حهم‪ ،‬كم ا‬
‫أشار إلى ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ويَوْ َم يَ َعضُّ الظَّالِ ُم َعلَى يَدَيْ ِه يَقُ و ُل يَ الَ ْيتَنِي اتَّخَ ْذ ُ‬
‫ت َم َع‬
‫ال َّرسُو ِل َسبِياًل ﴾ [الفرقان‪]27 :‬‬
‫وهكذا نرى روايات أخرى تخص ه ذا الج انب‪ ،‬وربم ا يتوج ه له ا من النق د‬
‫أكثر مما يتوجه لهذا الحديث‪ ،‬ومن أشهرها ما ورد في حديث طويل يفصل أح داث‬
‫الي وم اآلخ ر بطريق ة بعي دة ج دا عن المنهج الق رآني‪ ،‬وم ا ورد في األح اديث‬
‫القطعية(‪.)1‬‬
‫فمن المش اهد ال واردة في ه‪ ،‬وال تي تخ الف التص وير الق رآني ألح داث الي وم‬
‫اآلخر هذا المشهد‪( :‬ثم تقفون موقفا واحدا‪ ،‬مق دار س بعين عام ا ال ينظ ر إليكم‪ ،‬وال‬
‫يقضى بينكم‪ ،‬فتبكون حتى تنقطع الدموع‪ ،‬ثم تدمعون دماء وتعرقون حتى يبلغ ذلك‬
‫منكم أن يلجمكم‪ ،‬أو يبل غ األذق ان‪ ،‬فتض جون‪ ،‬وتقول ون‪ :‬من يش فع لن ا إلى ربن ا‬
‫ليقض ي بينن ا؟ فيقول ون‪ :‬من أح ق ب ذلك من أبيكم آدم خلق ه هللا بي ده ونفخ في ه من‬
‫روحه‪ ،‬وكلمه قبال‪ ،‬فيأتون آدم‪ ،‬فيطلبون إليه ذل ك‪ ،‬في أبى‪ ،‬فيق ول‪ :‬م ا أن ا ص احب‬
‫ذلك‪ ،‬ثم يسعون لألنبياء نبي ا نبي ا‪ ،‬كلم ا ج اءوا نبي ا أبى عليهم‪.‬ق ال رس ول هللا ‪:‬‬
‫حتى تأتوني‪ ،‬فأنطلق‪ ،‬حتى آتي الفحص‪ ،‬فأخر ساجدا‪ .‬ق ال أب و هري رة‪ :‬ي ا رس ول‬
‫هللا‪ :‬ما الفحص قال‪ :‬موضع قدام العرش حتى يبعث هللا إلي ملك ا‪ ،‬فيأخ ذ بعض دي‪،‬‬
‫فيرفعني‪ ،‬فيقول لي‪ :‬يا محمد‪ ،‬ف أقول‪ :‬نعم لبي ك ي ا رب‪ ،‬فيق ول م ا ش أنك؟ ‪ -‬وه و‬
‫أعلم‪ -‬ف أقول‪ :‬ي ا رب وع دتني الش فاعة‪ ،‬فش فعني في خلق ك‪ ،‬ف اقض بينهم‪ ،‬فيق ول‬
‫شفعتك‪ ،‬أنا آتيكم‪ ،‬فأقضي بينكم)(‪)2‬‬
‫فهذا المشهد التجسيمي‪ ،‬والذي يجعل الخلق جميعا مؤمنهم وكافرهم يس توون‬
‫في ذل ك الموق ف والت ألم في ه لم دة س بعين س نة يتن افى م ع م ا ورد في النص وص‬
‫المقدسة من اختالف مواقف الناس في القيامة‪.‬‬
‫ومن المشاهد التجسيمية الواردة في الحديث‪ ،‬والتي يتعل ق به ا المجس مة م ع‬
‫تنافيها التام مع ما ورد في القرآن الكريم من تنزيه هللا‪ ،‬هذا المشهد الذي يرفعه أب و‬
‫هريرة إلى رسول هللا ‪ ،‬والذي يقول فيه‪( :‬ف أرجع ف أقف م ع الن اس‪ ،‬فبينم ا نحن‬
‫وقوف‪ ،‬إذا س معنا حس ا من الس ماء ش ديدا‪ ،‬في نزل أه ل الس ماء ال دنيا مث ل من في‬
‫األرض من الجن واإلنس‪ ،‬ح تى إذا دن وا من األرض‪ ،‬أش رقت األرض بن ورهم‪،‬‬
‫وأخذوا مصافهم‪ ،‬وقلنا لهم‪ :‬أفيكم ربنا؟ قالوا‪ :‬ال وهو آت‪ ،‬ثم ينزلون على قدر ذل ك‬
‫من التض عيف ح تى ي نزل الجب ار تب ارك وتع الى في ظل ل من الغم ام والمالئك ة‪،‬‬
‫ويحمل عرشه يومئذ ثمانية‪ ،‬وهم اليوم أربعة‪ ،‬أقدامهم على تخ وم األرض الس فلى‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النهاية في الفتن والمالحم البن كثير‪ ،)270 /1( :‬وقد ذكر ابن كث ير أن ه رواه جماع ات من األئم ة‬
‫في كتبهم‪ ،‬كابن جرير في تفسيره‪ ،‬والطبراني في المطوالت‪ ،‬والحافظ البيهقي في كتاب ه‪ :‬البعث والنش ور‪ ،‬والحاف ظ‬
‫أبي موسى المديني في المطوالت أيضا من طرق متعددة عن إسماعيل ابن رافع قاص أهل المدينة‪.‬‬
‫‪ )(2‬النهاية في الفتن والمالحم البن كثير‪)270 /1( :‬‬

‫‪180‬‬
‫واألرض والسموات إلى حجرهم والع رش على من اكبهم‪ ،‬لهم زج ل من تس بيحهم‪،‬‬
‫يقولون‪ :‬سبحان ذي العزة والجبروت‪ ،‬سبحان ذي المل ك والملك وت‪ ،‬س بحان الحي‬
‫الذي ال يموت‪ ،‬سبحان الذي يميت الخالئق وال يموت‪ ،‬فيضع هللا كرسيه حيث ش اء‬
‫من أرضه‪ ،‬ثم يهتف بصوته‪ ،‬فيقول‪ :‬يا معشر الجن واإلنس‪ ،‬إني قد أنصت لكم من‬
‫يوم خلقتكم إلى يومكم هذا‪ ،‬أس مع ق ولكم‪ ،‬وأرى أعم الكم‪ ،‬فأنص توا إلي‪ ،‬فإنم ا هي‬
‫أعمالكم‪ ،‬وصحفكم‪ ،‬تقرأ عليكم‪ ،‬فمن وجد خيرا فليحمد هللا‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فال‬
‫يلومن إال نفسه) (‪)1‬‬
‫فه ذا المش هد يص ور هللا تع الى راكب ا في الغم ام‪ ،‬ثم يجلس على الكرس ي‪،‬‬
‫وعلى األرض‪ ،‬ثم يخاطب عباده بحرف وص وت‪ ..‬وهي جميع ا مش اهد يغ رم به ا‬
‫المجسمة‪ ،‬ألنهم ال يستطيعون أن يؤمنوا بإله ليس كمثله شيء‪.‬‬
‫د ـ االبتالء واالختبار‪:‬‬
‫من أهم تجليات العدالة اإللهية في أرض المحشر ما وردت اإلشارة إليه‪ ،‬ب ل‬
‫التصريح به في نصوص كثيرة حول تلك االبتالءات واالختبارات التي تجري لهم‪،‬‬
‫بغية تصنيفهم وتمحيصهم‪ ،‬وربما يدخل فيها أيضا تربيتهم وتطهيرهم‪ ،‬مثلما حصل‬
‫ذل ك في ال برزخ‪ ،‬ومثلم ا يحص ل في ك ل المواق ف بن اء على رباني ة هللا‪ ،‬وتربيت ه‬
‫لعباده إلخراجهم من الظلمات إلى النور‪.‬‬
‫ولذلك كان طول تل ك الف ترة‪ ،‬واختالف ه ب اختالف األعم ال‪ ،‬مبني ا على ه ذا‬
‫األس اس‪ ،‬أو ه و اعتب ار من االعتب ارات المقص ودة باألص الة‪ ،‬مثلم ا يحص ل في‬
‫نشأتنا هذه من مكوث بعض الطلبة أثناء االمتحان بحسب تحضيرهم لها‪ ..‬فبعض هم‬
‫يكتفي بال دقائق المع دودة‪ ،‬وبعض هم ال تكفي ه الس اعات الطويل ة م ع أن االمتح ان‬
‫واحد‪ ،‬وقد تكون إجابة الذي أنهى مبكرا أفضل من الذي تأخر في خروجه‪.‬‬
‫ولعل تلك اآليات الكريمة التي تبين أن التمييز القطعي في القض ايا المختل ف‬
‫فيها يؤجل إلى يوم القيامة يقصد به هذا المحل‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬إِنَّ َما يَ ْبلُ و ُك ُم هللا بِ ِه‬
‫َولَيُبَيِّن ََّن لَ ُك ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َما ُك ْنتُ ْم فِي ِه ت َْختَلِفُونَ ﴾ [النحل‪]92 :‬‬
‫ومثل ه م ا أخ بر ب ه عن االختالف الحاص ل بين الش رائع‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‬
‫ب َو ُمهَ ْي ِمنًا َعلَيْ ِه فَ احْ ُك ْم‬‫ص ِّدقًا لِ َم ا بَ ْينَ يَدَيْ ِه ِمنَ ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫ق ُم َ‬ ‫َاب بِ ْال َح ِّ‬ ‫ك ْال ِكت َ‬ ‫﴿ َوأَ ْنزَ ْلنَا إِلَ ْي َ‬
‫ق لِ ُك لٍّ َج َع ْلنَ ا ِم ْن ُك ْم ِش رْ َعةً‬‫هْوا َءهُ ْم َع َّما َج ا َءكَ ِمنَ ْال َح ِّ‬ ‫بَ ْينَهُ ْم بِ َما أَ ْن َز َل هللا َواَل تَتَّبِ ْع أَ َ‬
‫ت‬ ‫َيْرا ِ‬ ‫اح َدةً َولَ ِك ْن لِيَ ْبلُ َو ُك ْم فِي َما آتَا ُك ْم فَا ْستَبِقُوا ْالخ َ‬‫َو ِم ْنهَاجًا َولَوْ َشا َء هللا لَ َج َعلَ ُك ْم أُ َّمةً َو ِ‬
‫إِلَى هللا َمرْ ِج ُع ُك ْم َج ِميعًا فَيُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم فِي ِه ت َْختَلِفُونَ ﴾ [المائدة‪]48 :‬‬
‫ومثله ما أخبر به عن االختالف الحاصل بين العقائد‪ ،‬كما قال تعالى في شأن‬
‫يس ى إِنِّي‬ ‫اع َ‬‫ال هللا يَ ِ‬ ‫المسيح عليه السالم‪ ،‬والخالف العقدي ال ذي وق ع حول ه‪ ﴿ :‬إِ ْذ قَ َ‬
‫ق الَّ ِذينَ‬
‫اع ُل الَّ ِذينَ اتَّبَ ُع وكَ فَ وْ َ‬‫ك ِمنَ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا َو َج ِ‬ ‫ي َو ُمطَهِّ ُر َ‬ ‫ك إِلَ َّ‬
‫ك َو َرافِ ُع َ‬ ‫ُمتَ َوفِّي َ‬
‫ي َمرْ ِج ُع ُك ْم فَأَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم فِي َما ُك ْنتُ ْم فِي ِه ت َْختَلِفُ ونَ (‪ )55‬فَأ َ َّما‬ ‫َكفَرُوا إِلَى يَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة ثُ َّم إِلَ َّ‬

‫‪ )(1‬النهاية في الفتن والمالحم البن كثير‪)270 /1( :‬‬

‫‪181‬‬
‫الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَأ ُ َع ِّذبُهُ ْم َع َذابًا َش ِديدًا فِي ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َر ِة َو َم ا لَهُ ْم ِم ْن ن ِ‬
‫َاص ِرينَ (‪)56‬‬
‫ت فَيُ َوفِّي ِه ْم أُ ُج َ‬
‫ورهُ ْم َوهللا اَل ي ُِحبُّ الظَّالِ ِمينَ (‪﴾)57‬‬ ‫َوأَ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫[آل عمران‪]57 - 55 :‬‬
‫وغيره ا من اآلي ات الكريم ة ال تي ت دعو إلى التع ايش بين البش ر في ظ ل‬
‫المختلف فيه‪ ،‬إلى أن يكشف هللا الحقائق في يوم المحشر‪.‬‬
‫وب ذلك فإنه ا ت بين أن المع ارف الحقيقي ة الك برى ستكتس ب هن اك‪ ،‬لمن لم‬
‫يكتسبها في الدنيا‪ ،‬أو تكبر على اكتسابها فيها‪ ،‬وذلك بعد م روره ب أنواع كث يرة من‬
‫االختبار‪.‬‬
‫باإلض افة إلى ه ذا‪ ،‬فق د ورد في الرواي ات المتف ق عليه ا بين الم دارس‬
‫اإلسالمية ما يشير إلى االختب ارات الخاص ة بأولئ ك ال ذين لم يتح لهم في ال دنيا أن‬
‫ينعموا بشروط التكليف‪ ،‬وخاصة العقل‪ ،‬ذلك ال ذي ال يث اب الش خص أو يع اقب إال‬
‫على أساسه‪ ،‬كما روي عن اإلمام الباقر قوله‪( :‬لـمـا خلق هللا العقل استنطقه‪ ،‬ثم قال‬
‫له‪ :‬أقبل فأقبل‪ ،‬ثم قال له‪ ،‬أدبر فأدبر‪ ،‬ثم قال‪ :‬وعزتي وجاللي‪ ،‬م ا خلقت خلق ا ه و‬
‫أحب إلي من ك‪ ،‬وال أكملت ك إال فيمن أحب‪ ،‬أم ا إني إي اك آم ر وإي اك أنهى‪ ،‬وإي اك‬
‫أعاقب وإياك أثيب)(‪)1‬‬
‫ومثل فاقد العقل أولئك الذين عاشوا في زمن الفترة‪ ،‬ولم يكن لهم رس ول‪ ،‬أو‬
‫وصلتهم الرسالة‪ ،‬ولكنها مشوهة مغيرة مبدلة ال تقوم بها الحجة‪ ،‬ولذلك لم يحاس بوا‬
‫ث َر ُسواًل ﴾ [اإلسراء‪]15 :‬‬ ‫على أساسها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬
‫لكن هؤالء لو قلنا بدخولهم الجنة مباشرة من غير أن يمحص وا ب التكليف ق د‬
‫تثور ثائرة أولئك الذين كلفوا‪ ،‬ويصيحوا بانعدام العدل‪ ،‬ذل ك أن ه كي ف يكل ف ق وم‪،‬‬
‫ويدخلون النار آمادا طويلة‪ ،‬بينما ال يكلف آخرون‪ ،‬وي دخلون الجن ة هك ذا من دون‬
‫عمل عملوه‪.‬‬
‫وقد قلنا في كتاب [أسرار األقدار] عند الحديث عن ه ذه المس ألة في الفص ل‬
‫الخاص بأسرار العدالة‪( :‬قد عرفنا أن أم ر المكل ف بي ده‪ ،‬ف إن أحس ن فلنفس ه‪ ،‬وإن‬
‫أساء فعليها‪ ،‬وال حجة له بعد أن قامت عليه كل الحجج‪ ..‬لكن كيف يتحقق العدل مع‬
‫غير المكلف؟‪ ..‬مع ذلك الصبي الذي مات وهو يحمل بذور الخير والشر‪ ،‬وال تي لم‬
‫تس ق بع د فتنبت‪ ..‬أو م ع ذل ك الفالح ال ذي ع اش في أقاص ي األرض منهمك ا م ع‬
‫محراثه ال يعلم بإله‪ ،‬وال يعرف نبيا‪ ..‬أو مع ذلك المعتوه الذي يرمى بالحجارة‪ ،‬ولو‬
‫كان عاقال لتبين معدنه‪ ،‬وتحقق خبثه أو طيبه‪ ..‬إن قلن ا ب أنهم ي دخلون الجن ة‪ ،‬فب أي‬
‫عمل عملوه؟ وإن قلنا بأنهم يدخلون النار‪ ،‬فبأي جناية جنوها؟‪ ..‬وإن قلنا‪ :‬إن أمرهم‬
‫للمشيئة‪ ،‬أو لعلم هللا فيهم‪ ،‬فلماذا لم يكن أمر الخل ق جميع ا للمش يئة‪ ،‬فلم تقم محكم ة‬
‫القيامة‪ ،‬ولم يكن هناك حساب وال كتب وال موازين؟‪ ..‬وإن قلنا‪ :‬إن أمرهم للرحمة‪،‬‬
‫فقد يقول البالغ‪ :‬لماذا يارب لم تتوفني صبيا لتشملني رحمتك التي شملت الص بي؟‪..‬‬

‫‪ )(1‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.10‬‬

‫‪182‬‬
‫ويقول العاقل‪ :‬لم يارب لم تذهب عقلي ألبصر من الرحم ة م ا يبص ره المجن ون؟‪..‬‬
‫ويق ول الفيلس وف‪ :‬لم ي ا رب لم تجعل ني في غي اهب الجه ل ال تي حميت به ا ذل ك‬
‫الفالح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟)(‪)1‬‬
‫ثم ذكرنا األقوال المختلف ة في المس ألة‪ ،‬وبين ا أن أكثره ا ال يمكن اعتماده ا‪،‬‬
‫بناء على مجافاتها للرحمة أو العدالة اإللهية‪..‬‬
‫فمن أمثل ة األق وال المجافي ة للرحم ة تل ك ال تي تنص على أنهم في الن ار‪،‬‬
‫ولألسف فإن هؤالء يعتمدون بعض األحاديث التي يظه ر عليه ا الوض ع والت دليس‬
‫وتشويه النبوة‪ ،‬ومن أمثلته ا م ا روي أن رس ول هللا ‪ ‬س ئل عن أوالد المس لمين أين‬
‫هم؟‪ ،‬فقال‪(:‬في الجنة) وسئل عن أوالد المشركين أين هم يوم القيامة؟‪ ،‬فق ال‪(:‬في الن ار)‪،‬‬
‫فقيل له‪(:‬لم يدركوا األعمال ولم تج ر عليهم األقالم) ق ال‪(:‬رب ك أعلم بم ا ك انوا ع املين‪،‬‬
‫والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار) (‪)2‬‬
‫وهذا الحديث الذي يظهر عليه الوضع ال يصح أن يستدل ب ه على مث ل ه ذا‪،‬‬
‫زيادة على معارضته النصوص المحكمة واألحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫ومن األح اديث الموض وعة الخط يرة ال تي ت روى في ه ذا المج ال من دون‬
‫تحقيق أو تمحيص‪ ،‬ومن دون عرضها على محكم القرآن الكريم والس نة المطه رة؛‬
‫فيغتر بها‪ ،‬ما يروى عن سلمة بن يزيد الجعفي‪ :‬قال‪ :‬أتيت أنا وأخي رسول هللا ‪،‬‬
‫فقلنا‪(:‬إن أمنا ماتت في الجاهلية‪ ،‬وكانت تقري الضيف‪ ،‬وتصل الرحم‪ ،‬فه ل ينفعه ا‬
‫من عملها ذلك شيء؟)‪ ،‬قال‪(:‬ال) قلنا له‪(:‬فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ‬
‫الحنث) فقال‪(:‬الموؤودة والوائدة في النار إال أن تدرك الوائدة اإلسالم فتسلم)(‪)3‬‬
‫وهذا الحديث زيادة على تناقضه مع عدالة هللا المطلقة والتي قد تدرك بالعقل‬
‫يتن اقض م ع الق رآن الك ريم ال ذي نص على أن الم ؤودة تس أل عن أي ذنب قُتلت‬
‫ليكون ذلك تهديداً لقاتلها‪ ،‬فإنه إذا س ئل المظل وم فم ا ظن الظ الم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿:‬وإِ َذا‬
‫ت﴾ (التكوير‪ 8:‬ـ ‪)9‬‬ ‫ت بِأَيِّ َذ ْن ٍ‬
‫ب قُتِلَ ْ‬ ‫ْال َموْ ؤُو َدةُ ُسئِلَ ْ‬
‫زيادة على ذلك تصريح النصوص الص حيحة بعكس ذل ك‪ ،‬وأنه ا في الجن ة‪،‬‬
‫وقد يكون ذل ك رحم ة خاص ة به ا‪ ،‬ول ذلك ق رنت بالش هيد في قول ه ‪(:‬الن بي في‬
‫الجنة‪ ،‬والشهيد في الجنة‪ ،‬والمولود في الجنة‪ ،‬والموؤدة في الجنة)(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬أسرار األقدار‪ ،‬ص‪.280‬‬


‫‪ )(2‬الحديث أورده ابن حجر في اإلصابة (‪ )175 / 174‬قال البيهقي‪ :‬هذا منكر وقد خبط فيه يوسف بن عطية‬
‫الصفار وهو ضعيف جدا‪ .‬وهكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ( ‪ )57 / 1‬وقال رواه البزار وفيه يوسف بن عطية‬
‫ال يحتج به‪ ،‬وقال ابن الجوزي‪ :‬هذا حديث ال يصح قال احمد بن حنب ل يح يى بن المتوك ل ي روي عن بهي ة اح اديث‬
‫منكرة وهو واهي الحديث وقال يح يى ليس بش يء وق ال علي والفالس والنس ائي ه و ض عيف ق ال ابن حب ان ينف رد‬
‫باشياء ليس لها اصول وقال السعدي سألت عن بهية كي اعرفها فأعيانا‪ ،‬انظر‪ :‬العلل المتناهية في األحاديث الواهية‪،‬‬
‫لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي‪.2/924 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود ( ‪ 4717‬وأحمد ( ‪ ) 15493‬البخاري في التاريخ الكبير ( ‪ 4‬ص‪ ) 72:‬والدارقطني في العلل‬
‫( ‪) 161 / 5‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن سعد (‪ )84 /7‬وأحمد (‪ 58 /5‬و ‪ )409‬وأبو داود (‪)2521‬‬

‫‪183‬‬
‫لكن لألسف‪ ،‬ومع مخالف ة ذل ك الح ديث للق رآن الك ريم‪ ،‬ولقيم العدال ة‪ ،‬حيث‬
‫تعفى الوائدة الظالم ة من الع ذاب‪ ،‬في نفس ال وقت ال ذي تتوع د الم وءوة الص غيرة‬
‫المظلومة به‪ ،‬نجد من ي دافع عن ه‪ ،‬ال لش يء إال للح رص على أولئ ك ال رواة ال ذين‬
‫رووه‪ ،‬حتى ال يتهموا بالكذب‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قول ابن عبد البر عند كالمه عن ه ذا الح ديث‪( :‬وه و‬
‫حديث صحيح من جهة اإلسناد إال أنه محتم ل أن يك ون خ رج على ج واب الس ائل‬
‫في عين مقصودة‪ ،‬فكانت اإلش ارة إليه ا وهللا أعلم‪ ،‬وه ذا أولى م ا حم ل علي ه ه ذا‬
‫الحديث لمعارضة اآلثار له‪ ،‬وعلى هذا يصح معناه‪ ،‬وهللا المستعان)(‪)1‬‬
‫وق ال ابن القيم‪( :‬الج واب الص حيح عن ه ذا الح ديث‪ :‬أن قول ه (إن الوائ دة‬
‫والموءودة في الن ار) ج واب عن تين ك الوائ دة والم وءودة‪ ،‬الل تين س ئل عنهم ا‪ ،‬ال‬
‫إخبار عن كل وائدة وموءودة‪ ،‬فبعض هذا الجنس في النار‪ ،‬وقد يكون هذا الشخص‬
‫من الجنس الذي في النار)(‪)2‬‬
‫وقال األلباني‪( :‬إن الحديث خاص بموءودة معينة وحينئذ (ال) في (الم ؤودة)‬
‫ليست لالستغراق بل للعهد‪ .‬ويؤيده قصة ابني مليكة)(‪)3‬‬
‫وغيرها من األقوال التي قيل به ا بس بب الح رص على ال رواة‪ ،‬ال على القيم‬
‫التي جاء بها القرآن الكريم‪ ،‬ودعا إلى تفعيلها في كل شيء‪.‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬فإن كل األحاديث التي تخالف العدالة والرحمة اإللهية تخ الف‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وبذلك ال يمكن قبوله ا‪ ،‬ومنه ا م ا رووه من احتج اج الجن ة والن ار‪،‬‬
‫وأن هللا تعالى ينشئ للنار خلقا يسكنهم إياها‪ ،‬وهذا الحديث غير محفوظ به الصيغة‪،‬‬
‫ب ل لفظ ه الص حيح‪ ،‬ه و قول ه ‪(:‬تح اجت الجن ة والن ار‪ ،‬فق الت الن ار‪ :‬أوث رت‬
‫بالمتكبرين والمتجبرين؛ وقالت الجنة‪ :‬مالي ال يدخلني إال ضعفاء الن اس وس قطهم؟‬
‫قال هللا ع َّز وجلَّ‪ ،‬للجنة‪ :‬أنت رحمتي أرحم بك من أش اء من عب ادي‪ ،‬وق ال للن ار‪:‬‬
‫إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي‪ ،‬ولكل واحدة منكما ملؤها‪ .‬فأما النار‬
‫فال تمتليء حتى يضع رجله فيها فتقول‪ :‬قط قط فهنالك تمتليء وينزوي بعضها إلى‬
‫بعض‪ ،‬وال يظلم هللا ع َّز وج َّل من خلقه أحداً‪ ،‬وأما الجنة ف إن هللا ع َّز وج َّل ينش يء‬
‫لها خلقا ً آخر)(‪)4‬‬
‫ولو فرضنا صحة ما اس تدلوا ب ه‪،‬أو فرض نا أن الم راد بالرج ل في الح ديث‬
‫خلق من خلق هللا‪ ،‬فقد يكون له ذا الخل ق خاص ية التنعم بالن ار‪ ،‬فتك ون جهنم نعيم ا‬
‫لهم‪ ،‬أو أن ال يكون لها أي تأثير عليهم‪ ،‬كما أنه ليس لها أي ت أثير على خزن ة جهنم‬
‫وزبانية النار‪.‬‬

‫‪ )(1‬التمهيد ‪120 / 18‬‬


‫‪ )(2‬أحكام أهل الذمة (‪)95 /2‬‬
‫‪ )(3‬مشكاة المصابيح (‪)39 /1‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري برقم (‪ )7449‬ومسلم برقم (‪.)2846‬‬

‫‪184‬‬
‫ومم ا اس تدلوا ب ه ك ذلك قول ه تع الى‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ آ َمنُ وا َواتَّبَ َع ْتهُ ْم ُذرِّ يَّتُهُ ْم بِإِي َم ا ٍن‬
‫ين﴾‬‫ب َر ِه ٌ‬ ‫ئ بِ َم ا َك َس َ‬ ‫امْر ٍ‬
‫ِ‬ ‫أَ ْل َح ْقنَ ا بِ ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم َو َم ا أَلَ ْتنَ اهُ ْم ِم ْن َع َملِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء ُك لُّ‬
‫(الطور‪ ،)21:‬فقاسوا ذرية الك افرين بذري ة المؤم نين‪ ،‬وه و قي اس غ ير ص حيح؛‬
‫فليست هناك أي علة يمكن الرجوع إليها في هذا‪ ،‬والقياس ال يصح في الغيبيات‪.‬‬
‫ومثل ذلك تلك األقوال التي تذكر أنهم في الجنة‪ ،‬فهي وإن اتفقت مع الرحم ة‬
‫اإللهية إال أنها ال تتفق م ع العدال ة المطلق ة‪ ،‬ومن الرواي ات ال تي يروونه ا في ه ذا‬
‫المجال أن رسول هللا‪ ‬قال يحكي رؤيا رآها‪(:‬فأتين ا على روض ة معتم ة فيه ا من‬
‫كل لون الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل ال أكاد أرى رأسه ط وال وإذا‬
‫حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط) ثم قال‪(:‬وأما الولدان حوله فكل مولود مات‬
‫على الفطرة) فقال بعض المسلمين‪(:‬يا رسول هللا وأوالد المش ركين)‪ ،‬فق ال رس ول‬
‫هللا ‪(:‬وأوالد المشركين)(‪)1‬‬
‫ولهذا فإن أرجح األقوال في المسألة‪ ،‬وال ذي وردت ب ه الرواي ة في مص ادر‬
‫الف ريقين‪ ،‬ه و إعط اء الفرص ة له ؤالء الختب ار تمحص ب ه حق ائقهم‪ ،‬وتبلى ب ه‬
‫سرائرهم؛ فهذا القول ينسجم مع عدالة الج زاء‪ ،‬وق د تجم ع على أساس ه النص وص‬
‫المختلفة‪.‬‬
‫ومن أحسن تلك الروايات ما روي عن اإلمام الب اقر أن ه ق ال‪( :‬إذا ك ان ي وم‬
‫القيامة احت ّج هللا ع ّز وج ّل على سبعة‪ :‬على الطفل‪ ،‬والذي مات بين النبيّين‪ ،‬والش يخ‬
‫الكب ير ال ذي أدرك الن ب ّي ‪ ‬وه و ال يعق ل‪ ،‬واألبل ه‪ ،‬والمجن ون ال ذي ال يعق ل‪،‬‬
‫واألص م‪ ،‬واألبكم‪ ،‬ك لُّ واح ٍد منهم يحت ّج على هللا ع ّز وج ل‪ ،‬ق ال‪ :‬فيبعث هللا ع ّز‬
‫إن ربّكم يأمركم أن تَثِبوا فيه ا‪ ،‬فمن وثب‬ ‫وجل إليهم رسوالً فيؤجّج لهم ناراً ويقول‪ّ :‬‬
‫ق إلى النّار)(‪)2‬‬ ‫فيها كانت عليه برداً وسالماً‪ ،‬ومن عصى ِسي َ‬
‫أم ا الرواي ات ال واردة في المص ادر الس نية‪ ،‬فهي م ع إقراره ا باالمتح ان‬
‫واالختبار اإللهي لهم‪ ،‬إال أنها تخل ط ذل ك ب الجبر‪ ،‬وبك ونهم ي دخلون الن ار جميع ا‪،‬‬
‫ولذلك نرى أن تل ك األج زاء من تص رف ال رواة‪ ،‬ومن األمثل ة عليه ا م ا رووا أن‬
‫النبي ‪ ‬قال‪(:‬أربعة يمتحنون ي وم القيام ة‪ :‬رج ل أص م ال يس مع‪ ،‬ورج ل أحم ق‪،‬‬
‫ورجل هرم‪ ،‬ورجل مات في الفترة‪ ،‬أما األصم فيقول‪(:‬يا رب قد جاء اإلس الم وم ا‬
‫أسمع شيئا) وأما األحمق فيقول‪(:‬يا رب قد جاء اإلسالم والصبيان يرمونني بالبعر)‬
‫وأما الهرم فيقول‪(:‬يا رب قد جاء اإلسالم وما أعقل شيئا) وأما الذي مات في الف ترة‬
‫فيق ول‪(:‬م ا أت اني ل ك رس ول)‪ ،‬فيأخ ذ م واثيقهم ليطيعن ه‪ ،‬فيرس ل إليهم رس وال أن‬
‫ادخلوا النار)‪ ،‬قال ‪(:‬فوالذي نفسي بيده ل و دخلوه ا لك انت عليهم ب ردا وس الما‪،‬‬
‫ومن لم يدخلها سحب إليها)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ 385 / 12‬و ‪ 386‬و ‪ 387‬و ‪ 388‬ومسلم رقم (‪.)2275‬‬


‫‪ )(2‬الخصال‪ ،‬ص ‪..283‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد (‪.)16301‬‬

‫‪185‬‬
‫ومثله ما روي أنه ‪ ‬قال‪(:‬ي ؤتى ي وم القيام ة بالممس وخ عقال وبالهال ك في‬
‫الفترة وبالهالك صغيرا‪ ،‬فيقول الممسوخ عقال‪ :‬ي ا رب ل و آتيت ني عقال م ا ك ان م ا‬
‫آتيته عقال بأسعد بعقله مني‪ ،‬ويقول الهالك في الفترة‪ :‬لو أتاني منك عهد ما ك ان من‬
‫أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني‪ ،‬ويقول الهالك صغيرا‪ :‬يا رب لو آتيتني عم را م ا‬
‫ك ان من آتيت ه عم را بأس عد بعم ره م ني‪ ،‬فيق ول ال رب س بحانه‪ :‬إني آم ركم ب أمر‬
‫أفتطيعوني؟ فيقولون‪ :‬نعم وعزت ك فيق ول‪ :‬اذهب وا ف ادخلوا الن ار‪ ،‬ول و دخلوه ا م ا‬
‫ض رهم‪ ،‬فتخ رج عليهم ق وابس يظن ون أنه ا ق د أهلكت م ا خل ق هللا ع ز وج ل من‬
‫شيء‪ ،‬فيأمرهم فيرجعون س راعا يقول ون‪ :‬خرجن ا ي ا رب وعزت ك نري د دخوله ا‪،‬‬
‫فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق هللا عز وجل من ش يء‪ ،‬في أمرهم‬
‫الثانية‪ ،‬فيرجعون كذلك فيقولون مث ل ق ولهم فيق ول هللا ع ز وج ل س بحانه‪ :‬قب ل أن‬
‫تخلقوا علمت م ا أنتم ع املون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تص يرون ض ميهم‪،‬‬
‫فتأخذهم النار)(‪)1‬‬
‫ومثلها ما روي أنه ‪ ‬قال‪(:‬إذا كان يوم القيامة ج اء أه ل الجاهلي ة يحمل ون‬
‫أوثانهم على ظهورهم‪ ،‬فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون‪ :‬لم ترس ل إلين ا رس وال ولم‬
‫يأتنا لك أمر‪ ،‬ولو أرسلت إلين ا رس وال لكن ا أط وع عب ادك‪ ،‬فيق ول ربهم‪ :‬أرايتم إن‬
‫أمرتكم بأمر تطيعونه؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيأمرهم أن يعبروا جهنم فيدخلونها فينطلق ون‬
‫حتى إذا دن وا منه ا س معوا له ا تغيظ ا وزف يرا ف يرجعون إلى ربهم فيقول ون‪ :‬ربن ا‬
‫أخرجنا منها‪ ،‬فيقول‪ :‬ألم تزعموا أني إن أم رتكم ب أمر تطيع وني‪ ،‬فيأخ ذ على ذل ك‬
‫من مواثيقهم فيقول‪ :‬اعم دوا له ا فينطلق ون ح تى إذا رأوه ا فرق وا فرجع وا فق الوا‪:‬‬
‫ربنا! فرقنا منها وال نستطيع أن ندخلها‪ ،‬فيقول‪ :‬ادخلوها داخ رين)‪ ،‬ق ال رس ول هللا‬
‫‪(:‬فلو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسالما)(‪)2‬‬
‫وغيرها من الروايات التي يمكن أن نقبل منها االختبار اإللهي ألولئ ك ال ذين‬
‫لم يتح لهم التكليف في الدنيا‪ ،‬ولكنا ال نستطيع أن نقب ل منه ا م ا ع دا ذل ك لمخالفت ه‬
‫لقيم العدالة والرحمة اإللهية‪.‬‬
‫وقد وقف العلماء في المدرسة الس نية من تل ك األح اديث م وقفين؛ فمنهم من‬
‫أنكرها لضعفها الشديد(‪ ،)3‬ومنهم من دافع عنه ا ـ لألس ف ـ جمل ة من دون تحدي د‬
‫المقبول منها من المرفوض‪.‬‬
‫ومن أمثلة المدافعين عنها ابن كثير الذي قال فيها بع د عرض ها‪(:‬إن أح اديث‬
‫هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء‪ ،‬ومنها ما‬
‫هو حسن‪ ،‬ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن‪ ،‬وإذا كانت أحاديث الباب‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في الكبير (‪ )84 - 83 /20‬واألوس ط (‪ )7951‬ومس ند الش اميين (‪ )2205‬وأب و نعيم في‬
‫الحلية (‪ 127 /5‬و‪.)306 - 305 /9‬‬
‫‪ )(2‬رواه البزار وابن مردويه‪ ،‬جمع الجوامع ‪1/769‬‬
‫‪ )(3‬ومنهم ابن عبد البر معلال ذلك بأن اآلخرة دار جزاء ‪ ،‬وليست دار تكلي ف ‪ ،‬وليس ثم ة أوام ر ون واهي في‬
‫اآلخرة‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫فيها)(‪)1‬‬ ‫الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر‬
‫ومنهم ابن حجر الذي قال ـ عند عرضه لألقوال في المسألة ـ‪( :‬س ابعها‪ :‬أنهم‬
‫يُمتحنون في اآلخرة بأن ترفع لهم نار‪ ،‬فمن دخلها‪ :‬كانت علي ه ب رداً وس الماً‪ ،‬ومن‬
‫أَبَى‪ُ :‬ع ِّذب‪ ،‬أخرج ه ال بزار من ح ديث أنس‪ ،‬وأبي س عيد‪ ،‬وأخرج ه الط براني من‬
‫حديث معاذ بن جبل‪ ،‬وقد صحت مسألة االمتحان في ح ق المجن ون‪ ،‬ومن م ات في‬
‫الف ترة من ط رق ص حيحة‪ ،‬وحكى ال بيهقي في [كت اب االعتق اد] أن ه الم ذهب‬
‫الصحيح)(‪)2‬‬
‫وأيدها ابن القيم بجملة وجوه‪ ،‬منها(‪:)3‬‬
‫‪ .1‬أن هذه األح اديث ك ثرت بحيث يشد بعض ها بعض ا‪ ،‬وقد ص حح الحف اظ‬
‫بعضها‪.‬‬
‫‪ .2‬أن غاية ما يقدر فيه أنه موق وف على الص حابي‪ ،‬ومثل ه ذا ال يق دم عليه‬
‫الصحابي بالرأي واالجتهاد‪ ،‬بل يجزم بأن ذلك توقيف ال عن رأي‪.‬‬
‫‪ .3‬أن ه ذه األح اديث يشد بعض ها بعضا فإنها قد تع ددت طرقه ا‪ ،‬واختلفت‬
‫مخارجه ا‪ ،‬فيبعد كل البعد أن تك ون باطلة على رس ول هللا ‪ ،‬زي ادة على أنه قد‬
‫رواها أئمة اإلسالم ودونوها ولم يطعنوا فيها‪.‬‬
‫‪ .4‬أنه وإن أنكرها بعض المحدثين‪ ،‬فقد قبلها األكثرون‪ ،‬والذين قبلوها أك ثر‬
‫من ال ذين أنكروها وأعلم بالس نة والح ديث‪ ،‬وقد حكى األش عري اتف اق أهل الس نة‬
‫والحديث على القول بها‪.‬‬
‫‪ .5‬اتفاقها مع العدالة‪ ،‬وذلك حتى ال يتأسف العاق ل على أن ه لم يكن مجنون ا‪،‬‬
‫أويتأسف الب الغ على ان ه لم يمت ص بيا‪ ،‬ق ال ابن القيم‪(:‬فهي تفص يل لم ا أخ بر ب ه‬
‫القرآن أنه ال يعذب أحد إال بعد قيام الحجة عليه‪ ،‬وه ؤالء لم تقم عليهم حج ة هللا في‬
‫الدنيا‪ ،‬فال ب د أن يقيم حجت ه عليهم‪ ،‬وأح ق الم واطن أن تق ام في ه الحج ة ي وم يق وم‬
‫األشهاد وتسمع الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين ي دي ال رب وينط ق ك ل‬
‫أحد بحجته ومعذرته فال تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم)(‪)4‬‬
‫‪ .6‬اتفاقها مع الرحمة‪ ،‬فإن هللا تعالى يكلف هؤالء بعد معاينتهم ألمر اآلخرة‪،‬‬
‫ويكون التكليف حينها مع شدته هينا‪.‬‬
‫‪ .7‬اجتم اع النص وص على أساس ها‪ ،‬فألن من ه ؤالء من يطي ع هللا‪ ،‬في دخل‬
‫الجنة‪ ،‬ومنهم من يعصيه‪ ،‬فيدخل النار‪ ،‬وبذلك كله وردت النصوص‪.‬‬
‫أما االعتراض الذي قد يوجه لهذا القول‪ ،‬وه و م ا س اد اعتق اده من أن ال دار‬
‫اآلخرة دار الجزاء ال دار التكليف‪ ،‬فكيف يكلف هؤالء بالعمل‪ ،‬فقد أج اب علي ه ابن‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير‪.5/58 :‬‬


‫‪ )(2‬فتح الباري ( ‪.) 246 / 3‬‬
‫‪ )(3‬أحكام أهل الذمة‪.2/1147 :‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪.2/1149 ،‬‬

‫‪187‬‬
‫القيم بأن لهؤالء أحوالهم الخاصة التي قد ال يشاركهم فيها غيرهم‪ ،‬باإلضافة إلى أن‬
‫األدلة متظافرة على أن هذا االعتقاد السائد ليس على عمومه‪ ،‬وقد قال تع الى‪ ﴿:‬يَ وْ َم‬
‫ق َويُ ْدعَوْ نَ إِلَى ال ُّسجُو ِد فَال يَ ْستَ ِطيعُونَ ﴾ (القلم‪)42:‬‬‫يُ ْكشَفُ ع َْن َسا ٍ‬
‫زيادة على ذلك ما ثبت في النصوص الكثيرة من االمتحان ات واألس ئلة ال تي‬
‫يتعرض لها أهل القبور‪.‬‬
‫أم ا تص ور اس تحالة أن يكلفهم هللا دخ ول الن ار‪ ،‬ألن ذل ك ليس في وس عهم‪،‬‬
‫فغير صحيح ألن ذلك في وس عهم من جه ة‪ ،‬وه و م ع مش قته ال يختل ف كث يرا عن‬
‫الكثير من التكاليف التي يطلب به ا الف وز بس عادة األب د‪ ،‬ومنه ا أن هللا تع الى ي أمر‬
‫العباد يوم القيام ة ب الجواز على الص راط‪ ،‬وه و جس ر على جهنم أح د من الس يف‬
‫وأدق من الش عرة‪ ،‬ويم ر المؤمن ون علي ه بحس ب أعم الهم ك البرق‪ ،‬وك الريح‪،‬‬
‫وكأجاويد الخيل‪ ،‬والركاب‪ ،‬ومنهم الساعي ومنهم الماش ي‪ ،‬ومنهم من يحب و حب واً‪،‬‬
‫ومنهم المكدوش على وجهه في النار‪ ،‬وليس ما ورد في أولئ ك ب أعظم من ه ذا ب ل‬
‫هذا أطم وأعظم‪.‬‬
‫ومنه ا م ا ثبت في الس نّة ب أن ال دجال يك ون مع ه جن ة ون ار‪ ،‬وق د أم ر ‪‬‬
‫المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي ي رى أن ه ن ار فإن ه يك ون علي ه‬
‫برداً وسالماً‪ ،‬وهذا يشبه إلى حد كبير هذا االمتحان الذي تعرض له هؤالء‪.‬‬
‫ومنها أن الكثير من األوامر ال تي أم ر هللا تع الى به ا في ال دنيا نظ ير األم ر‬
‫بدخول النار (فإن األمر بإلقاء نفوس هم بين س يوف أع دائهم ورم احهم وتعريض هم‬
‫ألسرهم لهم وتعذيبهم واسترقاقهم لعله أعظم من األمر بدخول النار)(‪)1‬‬
‫زيادة على ذلك كله‪ ،‬فإن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم‪ ،‬وكيف يع اقبهم‬
‫على غ ير ذنب؟ (وإنم ا ه و امتح ان واختب ار لهم ه ل يطيعون ه أو يعص ونه فل و‬
‫أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسالما‪ ،‬فلم ا عص وه وامتنع وا من‬
‫دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره‪ ،‬والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو‬
‫منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر‪ ،‬هل ي وطن نفس ه علي ه أم‬
‫ال؟فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه‪ ،‬وإن امتنع وعصى ألزموه به أو‬
‫عاقبوه بما هو أشد منه)(‪)2‬‬
‫ومن هذا الباب أمر هللا تعالى الخليل ‪ ‬ب ذبح ول ده‪ ،‬ولم يكن م راده تع الى‬
‫من ذل ك س وى امتحان ه على م دى امتثال ه وتس ليمه وتقديم ه محب ة هللا على محب ة‬
‫الولد‪ ،‬فلما فعل ذلك رفع عنه األمر بالذبح‪.‬‬
‫بل إن عباد النار ـ م ع كف رهم ـ يته افتون فيه ا ويلق ون أنفس هم فيه ا طاع ة‬
‫للشيطان‪ ،‬وال يقولون‪ :‬ليس ذلك في وسعنا مع تألمهم بها غاية األلم‪( ،‬فعباد الرحمن‬
‫إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم الن ار كي ف ال يك ون في وس عهم وه و‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.2/1154 ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.2/1152،‬‬

‫‪188‬‬
‫ومنفعتهم)(‪)1‬‬ ‫إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم‬
‫فليس أمرهم بدخول النار من باب العقوبة في شيء‪ ،‬ألن (هللا تعالى اقتض ت‬
‫حكمته وحمده وغناه ورحمته أال يعذب من ال ذنب له‪ ،‬بل يتعالى ويتق دس عن ذل ك‬
‫كما يتعالى عما يناقض صفات كماله‪ ،‬فاألمر باقتحام الن ار للخالص منه ا ه و عين‬
‫الحكمة والرحمة والمصلحة‪ ،‬ح تى ل و أنهم ب ادروا إليه ا طوع ا واختي ارا ورض ي‬
‫حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صالحهم وس بب‬
‫نج اتهم‪ ،‬فلم يفعل وا ذل ك ولم يمتثل وا أم ره‪ ،‬وق د تيقن وا وعلم وا أن في ه رض اه‬
‫وصالحهم‪ ،‬بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا ل ه منه ا ه ذا الق در‬
‫الذي أمرهم به رحمة وإحسانا ال عقوبة)(‪)2‬‬
‫هذا ما ذكره ابن القيم في الدفاع عن ذلك التكليف‪ ،‬ونحب أن نعقب عليه ب أن‬
‫تلك الروايات الواردة في االختبار‪ ،‬وال تي ق د يص عب قب ول ذل ك االختب ار ال وارد‬
‫فيها‪ ..‬ال يمكن الحكم عليها انطالقا من عالمنا‪ ،‬ذلك أن أولئ ك س يختبرون في مح ل‬
‫آخر مختلف تماما عن عالمنا‪ ،‬وربما يكون لألم ر ب دخول الن ار في ذل ك الع الم م ا‬
‫يؤيده من الحكمة والعدالة والقيم الثابتة‪.‬‬
‫ذلك أن التكليف بالمس تحال كم ا ه و مح ال في ال دنيا؛ فه و مح ال أيض ا في‬
‫اآلخرة‪ ،‬وفي ك ل مح ل‪ ،‬ذل ك أن رحم ة هللا تع الى وعدالت ه وك ل أس مائه الحس نى‬
‫تتنافى مع ذلك‪.‬‬
‫وربما يكون أحسن المواقف في هذا هو القبول بكون أولئ ك ال ذين لم تتح لهم‬
‫فرص ة االختب ار في ال دنيا تت اح لهم الفرص ة هن اك في أرض المحش ر‪ ،‬من غ ير‬
‫تحديد للكيفية‪ ،‬ألن ذلك يرتبط بالمعطيات الخاصة بذلك العالم‪.‬‬
‫وقد يقال هنا‪ :‬بان هؤالء الذين عاينوا ف ترة ال برزخ‪ ،‬وم ا بع دها من أح داث‬
‫سيس هل عليهم النج اح في االختب ار بخالف ال ذين لم ي روا ك ل ذل ك‪ ،‬وب ذلك تنتفي‬
‫العدالة‪ ،‬ألن بعض الممتحنين عاينوا اإلجابة بخالف غيرهم‪.‬‬
‫والجواب على هذا وارد في النص وص المقدس ة‪ ،‬وال تي تخ بر أن هللا تع الى‬
‫هو المتحكم في كل أجهزة اإلنسان من الذاكرة وغيرها‪ ،‬ولذلك إن أراد تكليفه‪ ،‬فإن ه‬
‫ما أسهل أن يزيل من ذاكرته كل ما يحول بينه وبين ذلك التكليف‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْق َس ُموا بِاهلل َجهْ َد أَ ْي َم انِ ِه ْم لئِن َج ا َءتهُ ْم‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت اَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ ﴾‬ ‫ات ِعنْ َد هللا َو َم ا ي ُْش ِع ُر ُك ْم أَنَّهَ ا إِ َذا َج ا َء ْ‬ ‫آيَةٌ لَي ُْؤ ِمنُ َّن بِهَا قُ لْ إِنَّ َم ا اآْل يَ ُ‬
‫[األنعام‪ ]109 :‬لكن هللا تع الى رد عليهم ب أن ذل ك ليس في ط اقتهم‪ ،‬وإنم ا ه و هلل‪،‬‬
‫صا َرهُ ْم َك َم ا لَ ْم ي ُْؤ ِمنُ وا بِ ِه أَ َّو َل َم َّر ٍة َونَ َذ ُرهُ ْم فِي طُ ْغيَ انِ ِه ْم‬
‫﴿ونُقَلِّبُ أَ ْفئِ َدتَهُ ْم َوأَ ْب َ‬
‫فقال‪َ :‬‬
‫يَ ْع َمهُونَ ﴾ [األنعام‪]110 :‬‬
‫ومن أحسن األمثلة على ذلك م ا ورد في الق رآن الك ريم من أخ ذ العه د على‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.2/1155 ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.2/1156 ،‬‬

‫‪189‬‬
‫بني آدم‪ ،‬فقد أخبر هللا تعالى أن البشر جميعا سمعوا ذلك العهد وأقروا ب ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ور ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم َوأَ ْش هَ َدهُ ْم َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم‬
‫ك ِم ْن بَنِي آ َد َم ِم ْن ظُهُ ِ‬ ‫تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَخَ َذ َربُّ َ‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُوا بَلَى َش ِه ْدنَا أَ ْن تَقُولُوا يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ افِلِينَ (‪ )172‬أَوْ‬ ‫أَلَس ُ‬
‫ك آبَا ُؤنَا ِم ْن قَ ْب ُل َو ُكنَّا ُذرِّ يَّةً ِم ْن بَعْ ِد ِه ْم أَفَتُ ْهلِ ُكنَ ا بِ َم ا فَ َع َل ْال ُمب ِْطلُ ونَ ﴾‬
‫تَقُولُوا إِنَّ َما أَ ْش َر َ‬
‫[األعراف‪]173 ،172 :‬‬
‫لكنهم نس وه في مرحل ة التكلي ف‪ ،‬ح تى تبلى س رائرهم‪ ،‬وتمحص حق ائقهم‪،‬‬
‫ويظهر معها طيبهم أو خبثهم‪.‬‬
‫ثانيا ـ الحساب والموازين‪ ..‬وتجليات العدالة‪:‬‬
‫بع د تل ك الف ترة ال تي يق ف فيه ا أه ل المحش ر بحس ب أعم الهم وتوجه اتهم‬
‫وأممهم‪ ،‬والتي يختلف زمنها بحسب كل شخص منهم‪ ،‬تب دأ مرحل ة جدي دة في ذل ك‬
‫الع الم‪ ،‬هي مرحل ة التجلي األعظم للعدال ة المطلق ة‪ ،‬وال ذي وردت الكث ير من‬
‫تفاصيلها في النصوص المقدسة‪.‬‬
‫ومن خالل استقراء تلك النصوص نجد أنه يمكننا تقسيمها إلى أربعة مراح ل‬
‫على هذا الترتيب‪ ،‬والذي قد يقع الخالف في بعض تفاصيله‪:‬‬
‫األولى‪ :‬ع رض األعم ال‪ :‬وهي أن يت اح لك ل ش خص أن يس تعرض كت اب‬
‫أعماله‪ ،‬ليطل ع على م ا في ه‪ ،‬ويتأك د من ك ل ش يء فعل ه‪ ،‬وأن ه لم يض ف في ه‪ ،‬ولم‬
‫ينقص منه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬طلب الشهود‪ :‬وفي هذه الحالة يمكن ه طلب التأك د مم ا كتب‪ ،‬أو طلب‬
‫الشهود إن لم يثق بما ورد في الكتب‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬االمتحان والحساب‪ :‬وهو إتاحة الفرصة لكل شخص ليدلي بحجج ه‪،‬‬
‫ويجيب عن األسئلة التي تطرح عليه‪ ،‬وذلك أثناء مناقشة كل عم ل ق ام ب ه‪ ،‬وي دخل‬
‫في هذا الحساب تلك الذنوب المتعدية التي تتعلق بحقوق اآلخرين‪ ،‬والتي يسمح فيها‬
‫للمتخاصمين بأن يلتقي بعضهم بعضا‪ ،‬ويدلي كل واحد منهم بما لديه من حجج‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬وضع األعمال وغيرها في الم وازين‪ :‬وال تي تق وم ب وزن ك ل عم ل‬
‫صالح أو غير صالح‪ ،‬ووزن صاحبها ومقاصده وك ل ش يء يرتب ط ب ه‪ ،‬وبع د ه ذه‬
‫الموازين تظهر النتيجة التي تبين المصير ال ذي يص ير إلي ه الش خص‪ ،‬إم ا الجن ة‪،‬‬
‫وإما النار‪.‬‬
‫الرابع ة‪ :‬الش فاعة والش هادة والس راط‪ :‬فبع د أن تظه ر نت ائج عم ل ك ل‬
‫شخص‪ ،‬يتدخل الشفعاء والشهداء ويع رض الش خص على الس راط‪ ،‬ألن هن اك من‬
‫السيئات ما قد يعفى عن ه‪ ،‬ومنه ا م ا ال يمكن أن يعفى عن ه‪ ،‬ول ذلك يك ون الش هداء‬
‫والسراط ممحصات أخرى باإلضافة للموازين‪.‬‬
‫وسنستعرض هذه المراح ل األربع ة‪ ،‬وكيفيته ا‪ ،‬وتجلي ات العدال ة المرتبط ة‬
‫بها‪ ،‬في هذا المبحث‪ ،‬وقب ل ذل ك نس وق نص ا من كالم اإلم ام علي‪ ،‬ي رد في ه على‬
‫بعض اإلشكاالت التي تجعل البعض يتوهم تع ارض النص وص المقدس ة بن اء على‬
‫عدم فهم ما يجري من أحداث في ذلك العالم‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫فقد روي أن رجال أتى اإلمام علي‪ ،‬فقال‪ :‬يا أم ير المؤم نين‪ ،‬إني ق د ش ككت‬
‫في كت اب هللا الم نزل‪ ،‬فق ال ل ه اإلم ام‪ :‬ثكلت ك أم ك‪ ،‬وكي ف ش ككت في كت اب هللا‬
‫المنزل‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬ألني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا‪ ،‬فكي ف ال أش ك في ه‪،‬‬
‫فقال له اإلمام‪( :‬إن كتاب هللا ليصدق بعضه بعضا‪ ،‬وال يكذب بعضه بعض ا ولكن ك‬
‫لم ترزق عقال تنتفع به‪ ،‬فهات ما شككت فيه من كتاب هللا عز وجل !)(‪)1‬‬
‫ثم عرض له الرجل ما توهمه من تعارضات‪ ،‬ومنها قول ه‪( :‬وج دت هللا ع ز‬
‫صفًّا﴾ [الفج ر‪ ،]22 :‬ويق ول‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد ِج ْئتُ ُمونَ ا‬ ‫صفًّا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ك َو ْال َملَ ُ‬‫﴿و َجا َء َربُّ َ‬
‫وجل يقول‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫فُ َرادَى َك َما َخلَ ْقنَا ُك ْم أ َّو َل َم َّر ٍة﴾ [األنعام‪ ،]94 :‬ويق ول‪ ﴿ :‬هَ لْ يَ ْنظ رُونَ إِاَّل أ ْن يَ أتِيَهُ ُم‬‫َ‬
‫هَّللا ُ فِي ظُلَ ٍل ِمنَ ْال َغ َم ِام َو ْال َماَل ئِ َك ةُ﴾ [البق رة‪ ،]210 :‬ويق ول‪﴿ :‬هَ لْ يَ ْنظُ رُونَ إِاَّل أَ ْن‬
‫ك اَل‬
‫ت َربِّ َ‬‫ت َربِّكَ يَوْ َم يَ أْتِي بَعْضُ آيَ ا ِ‬ ‫ك أَوْ يَأْتِ َي بَعْضُ آيَا ِ‬ ‫تَأْتِيَهُ ُم ْال َماَل ئِ َكةُ أَوْ يَأْتِ َي َربُّ َ‬
‫ت فِي إِي َمانِهَا خَ ْيرًا﴾ [األنع ام‪،]158 :‬‬ ‫َت ِم ْن قَ ْب ُل أَوْ َك َسبَ ْ‬ ‫يَ ْنفَ ُع نَ ْفسًا إِي َمانُهَا لَ ْم تَ ُك ْن آ َمن ْ‬
‫فمرة يقول‪ :‬يوم يأتي ربك‪ ،‬ومرة يقول‪ :‬يوم ي أتي بعض آي ات رب ك‪ ،‬ف أنى ذل ك ي ا‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬وكيف ال أشك فيما تسمع؟! وغيرها من اإلشكاالت‪.‬‬
‫ص فّاً‬ ‫ومن إجابات اإلمام علي قوله‪( :‬وأما قوله‪ ﴿ :‬يَوْ َم يَقُو ُم الرُّ و ُح َو ْال َماَل ئِ َكةُ َ‬
‫ص َوابًا﴾ [النبأ‪ ]38 :‬وقول ه‪َ ﴿ :‬وهَّللا ِ َربِّنَ ا َم ا‬ ‫اَل يَتَ َكلَّ ُمونَ إِاَّل َم ْن أَ ِذنَ لَهُ الرَّحْ َمنُ َوقَا َل َ‬
‫ْض َويَ ْل َعنُ‬
‫ْض ُك ْم بِبَع ٍ‬ ‫ُكنَّا ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ [األنعام‪ ،]23 :‬وقول ه‪ ﴿ :‬ثُ َّم يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة يَ ْكفُ ُر بَع ُ‬
‫ار﴾ [ص‪،]64 :‬‬ ‫َاص ُم أَ ِ‬
‫هْل النَّ ِ‬ ‫ق تَخ ُ‬ ‫ض ُك ْم ﴾ [العنكبوت‪ ،]25 :‬وقوله‪﴿ :‬إِ َّن َذلِكَ لَ َح ٌّ‬ ‫بَ ْع ُ‬
‫ت إِلَ ْي ُك ْم بِ ْال َو ِعي ِد﴾ [ق‪ ،]28 :‬وقول ه‪ْ ﴿ :‬اليَ وْ َم‬ ‫ي َوقَ ْد قَ َّد ْم ُ‬ ‫ص ُموا لَ َد َّ‬ ‫ال اَل ت َْختَ ِ‬ ‫وقوله‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ن َْختِ ُم َعلَى أَ ْف َوا ِه ِه ْم َوتُ َكلِّ ُمنَا أَ ْي ِدي ِه ْم َوت َْش هَ ُد أَرْ ُجلُهُ ْم بِ َم ا َك انُوا يَ ْك ِس بُونَ ﴾ [يس‪،]65 :‬‬
‫فإن ذلك في موطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم‪ ،‬الذي كان مقداره خمسين أل ف‬
‫سنة‪ ،‬يجمع هللا عز وجل الخالئق يومئذ في مواطن‪ ،‬ويكلم بعضهم بعضا‪ ،‬ويستغفر‬
‫بعضهم لبعض‪ ،‬أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا‪ .‬ويلعن أه ل المعاص ي‬
‫الرؤساء واألتباع الذين بدت منهم البغضاء‪ ،‬وتع اونوا على الظلم والع دوان في دار‬
‫ال دنيا‪ ،‬المس تكبرين والمستض عفين‪ ،‬يكف ر بعض هم ببعض ويلعن بعض هم بعض ا‪.‬‬
‫والكفر في هذه اآلية ال براءة‪ ،‬يق ول‪ :‬ي برأ بعض هم من بعض‪ ،‬ونظيره ا في س ورة‬
‫ون ِم ْن قَبْ ُل ﴾ [إب راهيم‪ ،]22 :‬ثم‬ ‫ت بِ َم ا أَ ْش َر ْكتُ ُم ِ‬ ‫إبراهيم قول الش يطان‪ ﴿ :‬إِنِّي َكفَ رْ ُ‬
‫يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه‪ ،‬فلو أن تلك األصوات بدت ألهل الدنيا ألذهلت‬
‫جميع الخلق عن معائش هم‪ ،‬ولتص دعت قل وبهم إال م ا ش اء هللا‪ ،‬فال يزال ون يبك ون‬
‫ال دم‪ ..‬ثم يجتمع ون في م وطن آخ ر فيس تنطقون في ه فيقول ون‪ :‬وهللا ربن ا م ا كن ا‬
‫مش ركين‪ ،‬فيختم هللا تب ارك وتع الى على أف واههم‪ ،‬ويس تنطق األي دي واألرج ل‬
‫والجل ود‪ ،‬فتش هد بك ل معص ية ك انت منهم‪ ..‬ثم يرف ع عن ألس نتهم الختم فيقول ون‬
‫لجلودهم‪ :‬لم ش هدتم علين ا ق الوا أنطقن ا هللا ال ذي أنط ق ك ل ش ئ‪ ..‬ثم يجتمع ون في‬
‫موطن آخر فيستنطقون‪ ،‬فيفر بعضهم من بعض‪ ،‬ف ذلك قول ه ع ز وج ل‪﴿ :‬يَ وْ َم يَفِ رُّ‬

‫‪ )(1‬الصدوق في التوحيد‪.254/‬‬

‫‪191‬‬
‫ْال َمرْ ُء ِم ْن أَ ِخي ِه (‪َ )34‬وأُ ِّم ِه َوأَبِي ِه ﴾ [عبس‪ ،]35 ،34 :‬فيستنطقون فـ‪﴿ :‬اَل يَتَ َكلَّ ُم ونَ‬
‫ص َوابًا ﴾ [النب أ‪ ،]38 :‬فيق وم الرس ل ص لى هللا عليهم‬ ‫ال َ‬‫إِاَّل َم ْن أَ ِذنَ لَهُ ال رَّحْ َمنُ َوقَ َ‬
‫ك‬‫فيشهدون في هذا الموطن‪ ،‬فذلك قوله‪﴿ :‬فَ َك ْيفَ إِ َذا ِج ْئنَا ِم ْن ُك ِّل أُ َّم ٍة بِ َش ِهي ٍد َو ِج ْئنَ ا بِ َ‬
‫َعلَى هَؤُاَل ِء َش ِهيدًا﴾ [النس اء‪ ،]41 :‬ثم يجتمع ون في م وطن آخ ر‪ ،‬يك ون في ه مق ام‬
‫محمد ‪ ،‬وهو المقام المحمود‪ ،‬فيثني على هللا تبارك وتعالى بم ا لم يثن علي ه أح د‬
‫قبله‪ ،‬ثم يثني على المالئك ة كلهم‪ ،‬فال يبقى مل ك إال أث نى علي ه محم د ‪ ،‬ثم يث ني‬
‫على الرس ل بم ا لم يثن عليهم أح د قبل ه ثم يث ني على ك ل م ؤمن ومؤمن ة‪ ،‬يب دأ‬
‫بالصديقين والشهداء ثم بالصالحين‪ ،‬فيحمده أهل السماوات واألرض‪ ..‬ثم يجتمع ون‬
‫في م وطن آخ ر وي دال بعض هم من بعض‪ .‬وه ذا كل ه قب ل الحس اب ف إذا أخ ذ في‬
‫الحساب شغل كل إنسان بما لديه)‬
‫إلى آخر الحديث‪ ،‬وهو ي بين أن اختالف النص وص ال واردة في المحش ر‪ ،‬ال‬
‫يدل على التعارض‪ ،‬وإنما يدل على اختالف المواقف‪ ،‬كما رأين ا ذل ك في المب احث‬
‫السابقة‪ ،‬وكما سنراه في سائر المباحث‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ األعمال وكتبها‪:‬‬
‫أول تجليات العدالة اإللهي ة في أرض المحش ر‪ ،‬وقب ل الحس اب والم وازين ـ‬
‫كما تدل النصوص المقدسة ـ عرض سجالت األعمال على أصحابها لينظروا فيها‪،‬‬
‫ويتأكدوا منها‪ ،‬قبل أن يحاسبوا عليها‪.‬‬
‫وقد أخ بر الق رآن الك ريم أن ال ذي ت ولى تس جيل تل ك الكتب والس جالت هم‬
‫المالئك ة عليهم الس الم‪ ،‬والمختص ين به ذا الج انب‪ ،‬لتناس به م ع ط بيعتهم‬
‫وخصائص هم‪ ،‬وله ذا س ماهم هللا تع الى (كرام ا ً ك اتبين)‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿:‬وإِ َّن َعلَ ْي ُك ْم‬
‫لَ َحافِ ِظينَ ِك َراما ً َكاتِبِينَ يَ ْعلَ ُمونَ َما تَ ْف َعلُونَ ﴾ (االنفطار‪ 10:‬ـ‪)12‬‬
‫وقبل أن نذكر أنواع األعمال المسجلة في تلك الكتب‪ ،‬وكيفي ة قراءته ا‪ ،‬نحب‬
‫أن ن ذكر م ا ذك ره بعض المعاص رين من التص ويرات ال تي تق رب ذل ك للعق ول‪،‬‬
‫وخاصة تلك التي ال زالت على بدائيتها‪ ،‬متوهمة استحالة تسجيل األعمال‪.‬‬
‫ومن تلك التقريبات ما ذكره وحيد الدين خان في كتابه [اإلسالم يتحدى] عن د‬
‫ذكره لبراهين اآلخرة‪ ،‬ورده على المشككين فيها‪ ،‬وقد قدم ل ذلك بقول ه‪( :‬إن الحي اة‪،‬‬
‫كما نتصور‪ ،‬ليست (غدوا ورواحا)‪ ،‬كما يراها الفيلسوف األلماني (نيتش ه)‪ ،‬وال تي‬
‫تمتلىء وتخلو كالساعة‪ ،‬والهدف لها أكثر من ذلك‪ ..‬إن الحياة (اآلخرة) ذات ه دف‬
‫عظيم‪ ،‬هو المجازاة على أعمال الدنيا‪ ،‬خيرا كانت أو شرا)(‪)1‬‬
‫ثم بين مدى مساهمة العلم الحديث في تق ريب ذل ك‪ ،‬فق ال‪( :‬وه ذا الج زء من‬
‫نظرية اآلخرة يكاد يتضح جليا حين نعلم أن أعمال كل انسان تحفظ وتس جل بص فة‬
‫دائمة‪ ،‬وبغير توقف‪ ،‬فلإلنسان ثالثة أبع اد‪ ،‬يع رف من خالله ا‪ ،‬هي‪ :‬نيت ه‪ ،‬وقول ه‪،‬‬
‫وعمله‪ .‬وهذه األبعاد الثالثة تسجل بأكملها‪ .‬فكل حرف يخرج عن لساننا‪ ،‬وكل عمل‬

‫‪ )(1‬اإلسالم يتحدى‪ ،‬ص‪.87‬‬

‫‪192‬‬
‫يصدر عن عضو من أعضائنا يس جل في األث ير (الفض اء)؛ ويمكن عرضه في أي‬
‫وقت من األوقات بكل تفاصيله‪ ،‬لنعرف إذا شئنا كل ما قال ه‪ ،‬أو فعله أي انس ان في‬
‫هذه الحياة الدنيا‪ ،‬من خير أو شر) (‪)1‬‬
‫ثم بدأ يذكر ما توصل إليه العلم من كيفية تس جيل األفك ار والخ واطر‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(إن األفكار تخطر على بالنا‪ ،‬وسرعان ما ننساها‪ ،‬ويبدو لنا أنها انتهت‪ ،‬فلم يعد لها‬
‫وجود‪ ،‬ولكنا‪ ،‬بعد فترة طويل ة‪ ،‬نراه ا رؤى خالل الن وم‪ ،‬أو ن ذهب نتكلم عنه ا في‬
‫ح االت الهس تريا أو الجن ون‪ ،‬دون أن ن دري ش يئا مم ا نق ول‪ .‬وه ذه الوق ائع تثبت‬
‫قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نش عر ونحس به ا فحس ب‪ ،‬وإنم ا هن اك‬
‫أطراف أخرى من هذه الحافظة النشعر بها‪ ،‬وهي ذات وج ود مس تقل‪ ،‬وذات كي ان‬
‫قائم بنفسه‪ ،‬وقد أثبتت التجارب العلمية أن جمي ع أفكارن ا تحف ظ في ش كلها الكام ل‪،‬‬
‫ولسنا قادرين على محوها أبدا‪ ،‬وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخص ية االنس انية‬
‫التنحصر فيما نسميه (الشعور)‪ ،‬ب ل هن اك أج زاء أخ رى من الشخص ية االنس انية‬
‫تبقى وراء الش عور‪ ،‬يس ميها فروي د‪( :‬م اتحت الش عور)‪ ،‬أو (الالش عور)‪ .‬وه ذه‬
‫األجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا‪ ،‬بل هي الجانب األك بر منه ا فمثله ا لمث ل‬
‫جبل من الجلي د في أع الي البح ار أج زاؤه الثماني ة مس تكنة تحت الم اء‪ ،‬على حين‬
‫اليطفو من ه اال الج زء التاس ع‪ .‬وتل ك هي مانس ميه‪( :‬تحت الش عور)‪ ،‬ال ذي يس جل‬
‫ويحفظ كل مانفكر فيه‪ ،‬أو ننتويه) (‪)2‬‬
‫ثم نقل عن (فرويد) قوله‪( :‬إن ق وانين المنط ق‪ ،‬ب ل أص ول األض داد أيض ا‪،‬‬
‫التح ول دون عم ل (الالش عور)‪ ،‬وإن األم اني المتناقض ة موج ودة في ه جنب ا إلى‬
‫جنب‪ ،‬دون أن تقضى واحدة منه ا على األخ رى‪ ،‬والش يء في الالش عور يش به أن‬
‫يكون (رفضا) لشيء من هذه المتناقضات‪ .‬إننا نتحير لما نش اهده من أن ألالش عور‬
‫يبطل رأي فالسفتنا القائلين بأن جميع أفعالنا العقلي ة الش عورية تتم في زمن مح دد‪،‬‬
‫ولكن الشيء في الالش عور يط ابق الفك ر الزم ني‪ ،‬واليوج د في ه أي رم ز لمض ي‬
‫الوقت وسريانه‪ ،‬وهي حقيقة محيرة‪ .‬ولم يحاول الفالسفة أن يت أملوا حقيق ة‪ ،‬هي أن‬
‫مض ى ال زمن اليح دث أي تغي ير في العم ل ال ذهني؛ إن ال دوافع الحبيس ة ال تي لم‬
‫تخرج قط عن الالشعور‪ ،‬وحتى التأمالت الخيالي ة ال تي دفنت في الالش عور تك ون‬
‫أزلية في الحقيقة والواق ع‪ ،‬وتبقى محفوظ ة لعش رات الس نين‪ ،‬وكأنه ا لم تح دث اال‬
‫باألمس) (‪)3‬‬
‫وذكر أن هذه النظرية التي اعتمدها فرويد‪ ،‬ليست خاصة به‪ ،‬ب ل ك ل علم اء‬
‫النفس يقرون بها‪ ،‬يقول‪( :‬وقد سلم علماء النفس به ذه النظري ة بص فة عام ة الي وم‪،‬‬
‫ومعناها أن ك ل م ا يخط ر على ب ال االنس ان من الخ ير والش ر‪ ،‬ينقش في ص فحة‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬

‫‪193‬‬
‫الالشعور‪ ،‬فاليزول إلى األبد‪ ،‬واليؤثر فيه تغير الزم ان‪ ،‬وتقلب الح دثان‪ ،‬ويح دث‬
‫هذا على رغم اإلرادة االنسانية طوعا أو كرها) (‪)1‬‬
‫وما ذكره فرويد وغيره ـ كما يذكر وحيد ال دين خ ان ـ يوض ح تل ك الحقيق ة‬
‫القرآنية التي تنص على أن نفس اإلنسان هي أكبر سجل ألعمال ه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫قْربُ إِلَيْ ِه ِم ْن َحبْ ِل ْال َو ِري ِد ﴾‬
‫﴿ َولَقَ ْد خَ لَ ْقنَا اإْل ِ ْن َسانَ َونَ ْعلَ ُم َما تُ َوس ِْوسُ بِ ِه نَ ْف ُسهُ َونَحْ نُ أَ َ‬
‫[ق‪]16 :‬‬
‫يقول في ذلك‪( :‬لو قارنا هذا الواقع مقرون ا إلى نظري ة اآلخ رة الس تطعنا أن‬
‫نصل إلى حقيقتها بسرعة‪ ،‬إن هذا الواق ع يؤك د بك ل ص راحة إمك ان وج ود س جل‬
‫كامل ألعمال االنس ان في حيازت ه‪ ،‬عن دما يب دأ حيات ه األخ رى‪ ،‬ف إن وج ود نفس ه‬
‫سوف يشهد على األعمال والنيات التي عاشها) (‪)2‬‬
‫وهكذا راح يذكر ما دل عليه العلم الحديث من إمكانية تسجيل جميع األقوال‪،‬‬
‫يقول في ذلك‪( :‬إن نظرية اآلخرة تقول بأن االنسان مسئول عن (أقواله)‪ ،‬فجميع م ا‬
‫نلفظه من كالم‪ ،‬حسنا كان أو قبيحا‪ ،‬حم دا أو س خطا؛ وس واء اس تعملنا اللس ان في‬
‫إبالغ رسالة الحق‪ ،‬أو استعملناه في إبالغ رسالة الشيطان‪ ،‬كل ذلك يحفظ في س جل‬
‫كامل‪ ..‬وإمكان وقوع هذا الينافي العلم الحديث‪ ،‬فنحن نعرف قطع ا أن أح دا عن دما‬
‫يحرك لسانه ليتكلم‪ ،‬يحرك بالتالي موجات في الهواء‪ ،‬كالتي توجد في الماء الساكن‬
‫عندما نرمي فيه بقطع ة من الحج ر‪ ..‬إن ك ل و وض عت جرس ا كهربائي ا في زج اج‬
‫محكم اإلغالق من كل جانب‪ ،‬ثم تضغط عليه‪ ،‬فلن تسمع صوته‪ ،‬برغم أن الج رس‬
‫على مرأى منك‪ ..‬ألنه اليرسل الموجات إلى الخ ارج‪ ،‬فه و مكت وم داخ ل الزج اج‪،‬‬
‫وهذه الموجات في الظروف العادية تص طدم بطبل ة األذن‪ ،‬ال تي تق وم آلي ا بارس ال‬
‫هذه الموجات إلى العقل‪ ،‬فما نفهمه من المعنى‪ ،‬يسمى (سماعا!) (‪)3‬‬
‫ثم ذكر ما دل علي ه العلم من أن (ه ذه الموج ات تبقى كم ا هي في (األث ير)‪،‬‬
‫إلى األبد‪ ،‬بعد حدوثها للمرة األولى‪ ،‬ومن الممكن سماعها مرة أخ رى‪ .‬ولكن علمن ا‬
‫الحديث عاجز حتى اآلن عن اعادة هذه األصوات‪ ،‬أو بعبارة أصح‪ :‬عن أن يض بط‬
‫هذه الموجات مرة أخرى‪ ،‬مع أنه ا الت زال تتح رك في الفض اء من زمن بعي د‪ .‬ولم‬
‫يبدي العلماء اهتماما خاصا به ذا المج ال ح تى اآلن‪ ،‬بع د أن س لموا نظريا بإمك ان‬
‫إيجاد آلة اللتقاط أصوات ال زمن الغ ابر كما يلتقط الم ذياع األص وات ال تي ت ذيعها‬
‫محطات اإلرسال‪ .‬على أن المسألة الكبرى التي نواجهها في هذا الص دد‪ ،‬ليست هي‬
‫التقاط األصوات القديمة‪ ،‬وإنما التمييز بين األصوات الكثيرة حتى نتمكن من سماع‬
‫كل صوت على حدة‪ ..‬وهذه هي مسألة اإلذاعة التي وصلنا فيها إلى حل؛ ف إن آالف‬
‫المحط ات اإلذاعي ة في الع الم ت ذيع ب رامج كث يرة لي ل نه ار‪ ،‬وتم ر موج ات ه ذه‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.88‬‬

‫‪194‬‬
‫البرامج في الفضاء‪ ،‬بسرعة ‪ 186 ،000‬ميال في الثاني ة‪ ،‬وك ان من المعق ول ج دا‬
‫عندما نفتح المذياع أن نسمع خليطا هائال من األصوات النفهم منه ش يئا‪ ،‬ولكن ه ذا‬
‫اليحدث‪ ،‬ألن جميع محطات االذاعة ترسل برامجها على موج ات يختل ف طوله ا‪،‬‬
‫فمنها مايرسل برامجه على موجات طويلة؛ ومنها مايرس ل على موج ات قص يرة‪،‬‬
‫ومتوسطة‪ ،‬وهكذا تمر هذه البرامج في الفضاء بموجات مختلفة طوال‪ ،‬فتس تطيع أن‬
‫تسمع أية موجة من المذياع‪ ،‬بمجرد أن تدير عقربه إلى المكان المطلوب) (‪)1‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن (مناقشتنا لج وانب المس ألة التنفي وج ود مالئك ة هللا ـ أو‬
‫بلفظ آخر ـ وجود (مسجلين) غير مرئيين‪ ،‬ينقشون على صفحة الفضاء كل ما ننطق‬
‫به من كالم‪ ،‬وهو مايصدق قول هللا سبحانه‪َ ﴿:‬ما يَ ْلفِظُ ِم ْن قَوْ ٍل إِاَّل لَ َد ْي ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد﴾‬
‫[ ّ‬
‫ق‪)2( )]18:‬‬
‫وهكذا راح يذكر ما دل عليه العلم الحديث من إمكانية تسجيل جميع األفعال‪،‬‬
‫يقول في ذلك‪( :‬العلم الحديث يؤكد إيمان ه ب أن جمي ع أعمالن ا ـ س واء أباش رناها في‬
‫الضوء‪ ،‬أم في الظالم‪ ،‬فرادى‪ ،‬أم مع الناس ـ موجودة في الفضاء في حالة الص ور‪،‬‬
‫ومن الممكن في أية لحظة تجميع ه ذه الص ور‪ ،‬ح تى نع رف كل ماج اء به إنس ان‬
‫م امن أعم ال الخ ير والشر طيلة حيات ه؛ فقد أثبتت البح وث العلمي ة أن ك ل ش يء‬
‫تص در عنه (ح رارة) بص فة دائم ة‪ ،‬في كل مك ان‪ ،‬وفي كل ح ال‪ ،‬وه ذه الح رارة‬
‫تعكس األشكال وأبعادها تماما‪ ،‬كاألصوات التي تكون عكسا ك امال للموج ات ال تي‬
‫يحركها اللسان‪ ،‬وقد تم اختراع آالت دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخ رج‬
‫عن أي كائن‪ ،‬وبالت الي تعطي ه ذه اآلل ة ص ورة فوتوغرافي ة كامل ة للك ائن حينم ا‬
‫خ رجت من ه الموج ات الحراري ة‪ ،‬ومثال ه أن ني أكتب اآلن في مكتب تي‪ ،‬وس وف‬
‫أغادره ا بع د س اعة‪ ،‬ولكن الموج ات الحراري ة ال تي خ رجت من جس دي أثن اء‬
‫وجودي ههنا‪ ،‬ستبقى دائما‪ ،‬ويمكن الحصول على تسجيل كامل لجلستي في المكتبة‬
‫في أي وقت بوس اطة تل ك اآلل ة‪ ،‬غ ير أن اآلالت ال تي تم اختراعه ا إلى اآلن‪،‬‬
‫التستطيع تصوير الموجات الحرارية إال خالل ساعات قليلة من وقوع الحادث‪ .‬أما‬
‫الموجات القديمة‪ ،‬فال تستطيع هذه اآللة تصويرها‪ ،‬لضعفها)(‪)3‬‬
‫ثم ذكر بعض ما توصلت إلي ه البش رية في ال وقت ال ذي كتب في ه كتاب ه من‬
‫اختراعات في هذا الجانب‪ ،‬وقد علق عليها بقوله‪( :‬والتفاصيل العلمي ة ال تي أوردن ا‬
‫بعضها في الصفحات الماضية يتضح منها جليا أن أجهزة الكون تقوم بتسجيل كامل‬
‫لكل أعمال االنسان؛ فكل مايدور في أذهاننا يحفظ إلى األب د‪ ،‬وك ل م اننطق ب ه من‬
‫الكلمات يسجل بدقة فائقة‪ ،‬فنحن نعيش أم ام ك اميرات تش تغل دائم ا‪ ،‬والتف رق بين‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.88‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.88‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.89‬‬

‫‪195‬‬
‫الليل والنهار‪ ..‬وجميع أعمالنا‪ ،‬القلبية منها واللسانية والعض وية‪ ،‬كله ا تس جل بدق ة‬
‫تامة‪ ..‬واليسعنا؛ ونحن نشرح هذه الظاهرة العلمية الخطيرة اال أن نسلم ب أن قض ية‬
‫كل منا سوف تقدم أمام محكمة إلهية‪ ..‬وبأن هذه المحكمة هي التي قامت بإعداد هذا‬
‫النظ ام العظيم لتحض ير الش هادات ال تي اليمكن تزويرها‪ ،‬واليس تطيع أي ع الم أن‬
‫ي دلي بتفس ير أدق عن ه ذه الظ اهرة س وى م ا قلن اه‪ ..‬فل و لم تس تطع ه ذه الوق ائع‬
‫الصريحة الساخنة أن تجعل البشر يحسون بمسؤوليتهم إزاء المحكمة الجب ارة ال تي‬
‫ستقام يوم الحساب؛ فال أدري ما الواقع الذي قد يجعل هؤالء يفتحون أعينهم؟!)(‪)1‬‬
‫وهكذا راح آخر يحاول استثمار االختراعات الحديثة في تق ريب م ا ورد في‬
‫النصوص المقدسة ح ول استنس اخ األعم ال‪ ،‬فق ال تعليق ا على قول ه تع الى‪ ﴿ :‬هَ َذا‬
‫ق َعلَ ْي ُك ْم بِ ْال َح ِّ‬
‫ق إِنَّا ُكنَّا نَ ْستَ ْن ِس ُخ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ ﴾ [الجاثي ة‪( :]29 :‬لم يكن‬ ‫ِكتَابُنَا يَ ْن ِط ُ‬
‫يفهم من هذه اآليات إال أن األعمال تكتبها المالئكة في كتاب كل إنسان‪ ،‬من خير أو‬
‫شر‪ ،‬وال يترك شيء دون كتابة‪ ،‬مهما بلغ من الص غر‪ ،‬واإلنس ان يحاس ب على م ا‬
‫كتب له في سجل أعمال ه‪ ..‬ه ذا الفهم ال ذي ال يتص ور غ يره‪ ،‬ثم دار الزم ان‪ ..‬وإذا‬
‫باإلنسان يستطيع أن يرسل صوته إلى أماكن بعيدة ال يقع عليها بصره‪ ،‬ثم اس تطاع‬
‫أن يسجل ص وته‪ ،‬ويحفظ ه‪ ،‬ويعي د س ماعه‪ ..‬وبع د قدرت ه على التص وير‪ ،‬وإثب ات‬
‫ص ورته على أل واح‪ ،‬وأوراق‪ ،‬اس تطاع أن يحف ظ ص ورًا متتابع ة ل ه‪ ،‬ويعرض ها‬
‫بس رعة وكأنه ا تتح رك‪ ..‬ثم بع د ذل ك اس تطاع دمج الص وت م ع الص ورة‪ ،‬ف تراه‬
‫متحر ًكا وتسمع صوته‪ ..‬ثم بعد ذلك استطاع فعل ذل ك م ع حف ظ جمي ع األل وان في‬
‫المكان‪ ،‬فترى المكان واإلنسان واألشياء وتسمع ما جرى من أصوات فيها‪ ،‬وكأن ك‬
‫تنظر بعينيك إلى حقيق ة وواق ع وليس إلى ص ورة‪ ..‬وك ل ذل ك يحف ظ ويع رض في‬
‫حياة أصحابه وبعد موتهم‪ ،‬فاليوم ن رى أح داثًا ح دثت في الح رب العالمي ة األولى‪،‬‬
‫والثانية‪ ،‬وكثير منا لم يعايش شيئًا منها‪ ..‬بل هناك أقدم من ذلك مش اهد في النص ف‬
‫الثاني من القرن التاسع عشر‪ ..‬وتط ور األم ر أك ثر من ذي قب ل‪ ،‬إذ أص بح النس خ‬
‫داخل ملفات‪ ،‬وليس على ورق أو أشرطة من أي نوع كان‪ ،‬وال يمكن رؤية ما فيه ا‬
‫إال ب أجهزة معين ة‪ ،‬وب رامج له ا معين ة‪ ..‬فم ا ن راه ونش اهده نس ميه فِ ْلمًا‪ ،‬أو لقط ة‬
‫مصورة‪ ،‬وهو في الحقيقة استنساخ لعمل بعض الناس‪ ،‬أو الجماعات‪ ،‬في مكان ما‪،‬‬
‫وزمان ما‪ ،‬وم ا ن راه ه و نس خة من تل ك األعم ال‪ ،‬ومن ه ذه النس خة نس تطيع أن‬
‫نستنسخ ع ددًا غ ير مح دود من النس خ‪ ..‬وبه ذا الفع ل أص بحنا ن رى نس ًخا ألفع ال‬
‫أموات قد هلكوا منذ زمن ما أحدثوه في حياتهم) (‪)2‬‬
‫ثم رد على تلك التص ورات البدائي ة للكت اب والكتاب ة‪ ،‬فق ال‪( :‬والكت اب إنم ا‬
‫سمي بالكتاب ليس لنوع ما يكتب علي ه‪ ،‬وال لن وع األداة ال تي يكتب به ا‪ ،‬وال لن وع‬
‫المادة المستعملة في الكتابة‪ ،‬إنما سمي بذلك ألنه مرجع يرجع إليه‪ ،‬يمن ع االختالف‬
‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.89‬‬
‫‪ )(2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬من أسرار يوم القيامة‪ :‬استنس اخ األعم ال وحض ورها‪ ،‬أب و مس لم الع رابلي‪ ،‬الجمعي ة‬
‫الدولية للمترجمين واللغويين العرب‪.12/12/2009 ،‬‬

‫‪196‬‬
‫عندما تختلف األهواء‪ ،‬وتضعف ال ذكريات‪ ،‬فيخ رج ليك ون الحكم الحاس م ال ذي ال‬
‫ت رد ش هادته‪ ،‬فك ل م ا يق وم ب ذلك فه و كت اب‪ ،‬س واء أك ان مكتوبًا على ورق‪ ،‬أم‬
‫مصورًا في فلم‪ ،‬أم مسجالً على شريط أم محفوظًا على أسطوانة) (‪)1‬‬
‫وهكذا النسخ‪ ،‬فهو (حفظ ما يذهب بعمل شيء يماثله ليحل محله ويقوم مقامه‬
‫في غيابه؛ فعندما يكون لديك شيء غير دائم ويهمك بق اؤه عن دك؛ تعم ل ل ه نس خة‬
‫مماثلة له‪ ،‬أما إن كان ال يعنيك بقاؤه وال تريد الرجوع إلي ه‪ ..‬فال تجع ل ل ه ص ورة‬
‫منسوخة عنه)(‪)2‬‬
‫ونحب أن ننبه إلى أن ما ذكره هؤالء يتفق في كثير من جوانبه م ع م ا ذك ره‬
‫السابقون من علماء العقيدة والتفسير‪ ،‬وال ذين ذك ر الش يخ مك ارم الش يرازي بعض‬
‫أقوالهم وتقريباتهم للمسألة‪ ،‬في تفسيره عنه ا‪ ،‬حيث ق ال‪( :‬مم ا ال ش ك في ه أن كتب‬
‫األعمال ليست من جنس الكتب والورق والصحف العادية‪ ،‬لذا فإن بعض المفسرين‬
‫قالوا بأن صحيفة األعمال ليست سوى روح اإلنسان‪ ،‬وال تي تك ون جمي ع األعم ال‬
‫مثبتة فيها‪ ،‬ألن أي عمل نعمله سيكون له أث ر في روحن ا ش ئنا أم أبين ا‪ ،‬وق د تك ون‬
‫صحيفة األعمال‪ ،‬هي أعضاء جسمنا وجلودنا‪ ،‬واألعظم من ذل ك ه و أن الص حيفة‬
‫قد تكون متضمنة في األرض والهواء والفضاء الذي يحيطنا والذي نعيش في ه‪ ،‬ألن‬
‫هذه المفردات هي وعاء أعمالنا‪ ،‬فترتسم األعمال في أفق األرض اله واء والوج ود‬
‫الذي حولنا‪ ،‬هذا الوجود ال ذي تنحت في ذرات ه أعمالن ا أو آثاره ا على األق ل‪ ،‬وإذا‬
‫كانت هذه اآلثار غير محسوسة اليوم‪ ،‬وال يمكن دركها في الحياة الدنيا ه ذه‪ ،‬إال أن‬
‫ذلك ـ بدون شك ـ ال يعني عدم وجودها؛ فعندما ن رزق بص را جدي دا آخ ر في ي وم‬
‫القيامة فسوف يكون بإمكاننا أن نرى جميع هذه األمور‪ ،‬ونقرؤها)(‪)3‬‬
‫ثم رد على االعتراض الذي قد يتوجه لهذا القول‪ ،‬وهو ما ورد في النصوص‬
‫المقدسة من الدعوة للقراءة‪ ،‬وهي ال تكون إال للكتب‪ ،‬فقال‪( :‬على أن استخدام اآلي ة‬
‫الكريمة لتعبير (اقرأ) ينبغي أن ال يغير من تفكيرنا شيئا إزاء ما ذهبنا إليه آنفا‪ ،‬ألن‬
‫كلمة «اقرأ» تتضمن مفهوما واس عا‪ ،‬وت دخل الرؤي ا بمفهومه ا الواس ع ه ذا‪ ،‬فنحن‬
‫مثال وفي تعابيرنا العادية التي نستخدمها يوميا نقول‪ :‬قرأت في عيني فالن ما ال ذي‬
‫يريد أن يفعله‪ ،‬أو أننا عرفنا من نظرتنا إلى فالن‪ ،‬بقية القصة‪ ،‬وعرفن ا بقي ة العم ل‬
‫الذي يريد أن يفعله‪ .‬كما أننا في عالم اليوم أخذنا نس تخدم كلم ة «اق رأ» بخص وص‬
‫األش عة ال تي تؤخ ذ للمرض ى‪ ،‬ه ذا ب الرغم من أن األش عة‪ ،‬هي ص ورة تخض ع‬
‫للمشاهدة ال للقراءة‪ ،‬وهذا المثال واألمثلة التي سبقته تؤكد ما ذهبنا إليه أن المشاهدة‬
‫تدخل في إطار المعنى الواسع للقراءة) (‪)4‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )(3‬تفسير األمثل‪ ،‬مكارم الشيرازي (‪)425 /8‬‬
‫‪ )(4‬المرجع السابق‪)425 /8( ،‬‬

‫‪197‬‬
‫ونحن مع قبولنا لكل هذه التقريبات إال أننا ال نستطيع أن نج زم ب أن ه ذا ه و‬
‫ال ذي سيحص ل ي وم القيام ة‪ ،‬لم ا ذكرن اه س ابقا من االختالف الش ديد بين النش أتين‬
‫األولى واآلخرة‪ ،‬ولذلك ال يمكننا أن نجزم بشيء يتعلق به التصور في النشأة الثانية‬
‫لعدم وجود األشباه والنظائر التي تسمح لخيالنا بذلك التصور‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا نح اول في ه ذا المبحث أن نتع رف ـ من خالل النص وص‬
‫المقدس ة ـ على المحتوي ات ال تي تحت وي عليه ا تل ك الكتب‪ ،‬وق د رأين ا أن ه يمكن‬
‫تقسيمها إلى نوعين‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬كتب عام ة‪ ،‬تش به تل ك الكتب ال تي ت ؤرخ للبش رية جميع ا‪ ،‬أو‬
‫لدول بعينها‪ ،‬بحيث يظهر فيها أصحاب التأثير اإليجابي والسلبي‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬كتب خاصة‪ ،‬وهي تشبه تلك الكتب ال تي ي ؤرخ فيه ا لش خص‬
‫بعينه‪ ،‬ككتب السير الذاتية‪ ،‬أو المذكرات ونحوها‪.‬‬
‫وقد دلت على كال الص نفين النص وص المقدس ة‪ ،‬وم ا يؤك دها ويفس رها من‬
‫الروايات‪ ،‬كما سنرى ذلك فيما يلي‪.‬‬
‫أ ـ الكتب العامة‪:‬‬
‫وهي تلك الكتب التي ال تختص بالفرد الواحد من الن اس‪ ،‬وإنم ا تهتم بأعم ال‬
‫البشر جميعا‪ ،‬وعالقتها ببعضها‪ ،‬أو عالق ة بعض المجموع ات البش رية ببعض ها‪..‬‬
‫صفًّا لَقَ ْد ِج ْئتُ ُمونَ ا‬
‫ُرضُوا َعلَى َربِّكَ َ‬ ‫ويشير إليها من القرآن الكريم قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وع ِ‬
‫ض َع ْال ِكتَ ابُ فَتَ َرى‬ ‫َك َما خَ لَ ْقنَا ُك ْم أَ َّو َل َم َّر ٍة بَلْ َز َع ْمتُ ْم أَلَّ ْن نَجْ َع َل لَ ُك ْم َموْ ِع دًا (‪َ )48‬و ُو ِ‬
‫يرةً َواَل‬ ‫ْال ُمجْ ِر ِمينَ ُم ْشفِقِينَ ِم َّما فِي ِه َويَقُولُونَ يَا َو ْيلَتَنَا َم ا ِل هَ َذا ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب اَل يُ َغ ا ِد ُر َ‬
‫ص ِغ َ‬
‫ظلِ ُم َربُّكَ أَ َح دًا﴾ [الكه ف‪،48 :‬‬ ‫اض رًا َواَل يَ ْ‬
‫صاهَا َو َو َجدُوا َم ا َع ِملُ وا َح ِ‬ ‫يرةً إِاَّل أَحْ َ‬ ‫َكبِ َ‬
‫‪]49‬‬
‫فهاتان اآليت ان الكريمت ان ت ذكران كتاب ا واح دا وض ع في ذل ك الموق ف‪ ،‬ثم‬
‫تذكران كيف أش فق المجرم ون بس بب م ا كتب في ه‪ ،‬وكون ه ال يغ ادر ص غيرة وال‬
‫كبيرة إال أحصاها‪ ،‬وربما يشير ذلك إلى أولئك المجرمين ال ذين بقيت آث ارهم آم ادا‬
‫طويلة‪ ،‬ولذلك حوسبوا على كل جريمة ارتكبوها‪ ،‬س واء حص لت في عص رهم‪ ،‬أو‬
‫في غيره من العصور‪ ،‬وسواء تسببوا فيها بطريقة مباشرة‪ ،‬أو غير مباشرة‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا المعنى قوله تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّا نَحْ نُ نُحْ ِي ْال َم وْ تَى َونَ ْكتُبُ َم ا ق د ُموا‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ين﴾ [يس‪ ،]12 :‬فق د قي ل في تفس يرها‪:‬‬ ‫ص ْينَاهُ فِي إِ َم ٍام ُمبِ ٍ‬ ‫َوآثَ ا َرهُ ْم َو ُك َّل َش ْي ٍء أَحْ َ‬
‫(نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم‪ ،‬وآثارهم ال تي أثروه ا من بع دهم‪ ،‬فنج زيهم‬
‫على ذلك أيضا‪ ،‬إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر)(‪)1‬‬
‫ويشير إليه أيضا قوله تع الى‪﴿ :‬يُنَبَّأ ُ اإْل ِ ْن َس انُ يَوْ َمئِ ٍذ بِ َم ا ق َّد َم َوأخ َر﴾ [القيام ة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ ،]13‬وقد قال اإلمام الباقر في تفسيرها‪( :‬بما ق ّدم من خير وشر‪ ،‬وما أ ّخر م ّم ا س َّن‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير (‪ ،)565 /6‬ونقل عن سعيد بن جبير قوله‪﴿ :‬ونكتب م ا ق دموا وآث ارهم﴾ يع ني‪ :‬م ا أث روا‪.‬‬
‫يقول‪ :‬ما سنوا من سنة‪ ،‬فعمل بها قوم من بعد موتهم‪ ،‬فإن كان خيرا فله مث ل أج ورهم‪ ،‬ال ينقص من أج ر من عمل ه‬
‫شيئا‪ ،‬وإن كانت شرا فعليه مثل أوزارهم‪ ،‬وال ينقص من أوزار من عمله شيئا‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫ليستن بها من بعده‪ ،‬ف إن ك ان ش ّراً ك ان علي ه مث ل وزرهم وال ينقص من‬ ‫ّ‬ ‫من ُسنّة‬
‫وزرهم شيء‪ .‬وإن كان خيرا كان له مثل أجرهم وال ينقص من أجورهم شيء)(‪)1‬‬ ‫ً‬
‫وهكذا نجد في السنة النبوية الشريفة الكثير من األحاديث التي تدل على هذا‪،‬‬
‫ومنها قوله ‪( :‬ال تقتل نفس ظلما إال كان على ابن آدم األول كفل من دمه ا‪ ،‬ألن ه‬
‫كان أول من سن القتل)(‪)2‬‬
‫فهذا الحديث يشير إلى أن جرائم ابن آدم الذي سن القتل‪ ،‬لن يكفي فيها كتاب ه‬
‫الخاص به‪ ،‬والذي يكتفي بأعماله طيلة حياته‪ ،‬وإنم ا يض م إليه ا ه ذه الج رائم ال تي‬
‫تجاوزت حياته‪ ،‬وشخصه‪.‬‬
‫وهكذا قال ‪( :‬من سن في اإلسالم س نة حس نة‪ ،‬ك ان ل ه أجره ا وأج ر من‬
‫عمل بها من بعده‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شيئا‪ ،‬ومن سن في اإلس الم س نة‬
‫س يئة‪ ،‬ك ان علي ه وزره ا ووزر من عم ل به ا من بع ده‪ ،‬من غ ير أن ينقص من‬
‫أوزارهم شيئا)(‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر ق ال ‪( :‬إذا م ات ابن آدم‪ ،‬انقط ع عمل ه إال من ثالث‪ :‬من‬
‫علم ينتفع به‪ ،‬أو ولد صالح يدعو له‪ ،‬أو صدقة جارية من بعده)(‪)4‬‬
‫بل ورد في النصوص المقدسة ما يدل على أن جرائم اإلنسان ليست فقط تلك‬
‫التي اكتسبها في عصره‪ ،‬وإنما تلك التي رضي عنه ا ح تى ل و لم تكن في عص ره‪،‬‬
‫ويشير إليه قوله تعالى عن اليهود الذي رضوا بم ا فع ل أس الفهم من قت ل األنبي اء‪:‬‬
‫ان تَأْ ُكلُ هُ النَّا ُر قُ لْ قَ ْد‬
‫ُول َحتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْ بَ ٍ‬‫﴿ الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ َع ِه َد إِلَ ْينَا أَاَّل نُ ْؤ ِمنَ لِ َرس ٍ‬
‫ص ا ِدقِينَ ﴾ [آل‬ ‫ت َوبِالَّ ِذي قُ ْلتُ ْم فَلِ َم قَت َْلتُ ُم وهُ ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫ُس ٌل ِم ْن قَ ْبلِي بِ ْالبَيِّنَ ا ِ‬ ‫َج ا َء ُك ْم ر ُ‬
‫عمران‪ ،]183 :‬وقد قال اإلمام الصادق في تفسيرها‪( :‬وقد علم أن هؤالء لم يقتل وا‪،‬‬
‫ولكن كان هواهم مع الذين قتلوا‪ ،‬فسماّهم هللا قاتلين لمتابع ة ه واهم ورض اهم ل ذلك‬
‫الفعل)(‪)5‬‬
‫وهكذا قال اإلمام علي مبينا دور الرضى والسخط في تمييز حقيق ة اإلنس ان‪:‬‬
‫(إنما يجمع الناس الرضا والس خط‪ ،‬وإنم ا عق ر ناق ة ثم ود رج ل واح د‪ ،‬فع ّمهم هللا‬
‫ص بَحُوا نَ ا ِد ِمينَ ﴾ [الش عراء‪:‬‬ ‫بالعذاب لما عموه بالرضا‪ ،‬قال س بحانه‪ ﴿ :‬فَ َعقَرُوهَ ا فَأ َ ْ‬
‫‪ ،]157‬فما كان إال أن خ ارت أرض هم بالخس فة خ وار الس كة المحم اة في األرض‬
‫الخ ّوارة)‪ ،‬ثم قال‪( :‬أيها الناس‪ ..‬من سلك الطريق الواض ح ورد الم اء‪ ،‬ومن خ الف‬
‫وقع في التيه) (‪)6‬‬

‫‪ )(1‬تفسير القمي ‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪..397‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ )3336‬ومسلم (‪)1677‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم برقم (‪.)1017‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم برقم (‪.. )1631‬‬
‫‪ )(5‬تفسير العياشي ‪.1/208‬‬
‫‪ )(6‬نهج البالغة‪2/207 :‬‬

‫‪199‬‬
‫وقال في موضع آخ ر‪( :‬الراض ي بفع ل ق وم كال داخل في ه معهم‪ ،‬وعلى ك ل‬
‫داخل في باطل إثمان‪ :‬إثم العمل به‪ ،‬وإثم الرضا به) (‪)1‬‬
‫ً‬
‫وقال لبعض أصحابه يوم الجمل‪ ،‬عن دما ق ال ل ه‪( :‬وددت أن أخي فالن ا ك ان‬
‫شاهدنا ليرى ما نصرك هللا به على أعدائك)‪ :‬أه وى أخي ك معن ا؟‪..‬ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬فق ال‬
‫اإلم ام علي‪( :‬فق د ش هدنا‪ ،‬ولق د ش هدنا في عس كرنا ه ذا ق وم في أص الب الرج ال‬
‫وأرحام النساء‪ ،‬سيرعف بهم الزمان‪ ،‬ويقوى بهم اإليمان) (‪)2‬‬
‫وقد ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى أن ذلك الكتاب الع ام ليس كتاب ا‬
‫واحدا‪ ،‬وإنما هناك كتب أخرى‪ ،‬تسجل فيها األعمال بحسب األمم‪ ،‬ويش ير إلى ذل ك‬
‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وت ََرى ُك َّل أُ َّم ٍة َجاثِيَةً ُكلُّ أُ َّم ٍة تُ ْدعَى إِلَى ِكتَابِهَ ا ْاليَ وْ َم تُجْ َزوْ نَ َم ا ُك ْنتُ ْم‬
‫ق َعلَ ْي ُك ْم بِ ْال َح ِّ‬
‫ق إِنَّا ُكنَّا نَ ْستَ ْن ِس ُخ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ ﴾‬ ‫تَ ْع َملُ ونَ (‪ )28‬هَ َذا ِكتَابُنَ ا يَ ْن ِط ُ‬
‫[الجاثية‪]29 ،28 :‬‬
‫فهاتان اآليتان الكريمت ان تش يران إلى أن لك ل أم ة س جل خ اص به ا‪ ،‬ي بين‬
‫مسيرتها‪ ،‬والصادقين من أهلها‪ ،‬والمنحرفين منهم‪ ،‬وأسباب االنحراف وغ ير ذل ك‪،‬‬
‫مما يشير إليه قوله تعالى ـ في بيان كون يوم القيامة هو اليوم الذي توض ح في ه ك ل‬
‫ص ُل بَ ْينَهُ ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة فِي َم ا َك انُوا فِي ِه يَ ْختَلِفُ ونَ ﴾‬ ‫ك هُ َو يَ ْف ِ‬‫الحقائق المشكلة ـ‪ ﴿ :‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫[السجدة‪]25 :‬‬
‫وقد ورد في النص وص المقدس ة م ا ي بين كيفي ة ع رض أمث ال ه ذه الكتب‪،‬‬
‫وال تي ال تتعل ق ب األفراد‪ ،‬إنم ا تتعل ق بالمجموع ات البش رية‪ ،‬فق د ذك رت أن أه ل‬
‫المحشر سيتشكلون من صفوف عديدة‪ ،‬ربم ا تخض ع لمع ايير الزوجي ة ال تي أش ار‬
‫إليها القرآن الك ريم‪ ،‬وبين أن الخل ق في اآلخ رة ينقس مون بحس بها‪ ،‬كم ا نص على‬
‫ق الَّ ِذينَ َكفَ رُوا إِلَى َجهَنَّ َم ُز َم رًا ﴾‬ ‫ذل ك قول ه تع الى في ح ق أه ل الجحيم‪َ ﴿ :‬و ِس ي َ‬
‫ق الَّ ِذينَ اتَّقَ وْ ا َربَّهُ ْم إِلَى‬
‫﴿و ِس ي َ‬
‫[الزمر‪ ،]71 :‬ونص عليها قوله في حق أه ل الجن ة‪َ :‬‬
‫ْال َجنَّ ِة ُز َمرًا﴾ [الزمر‪]73 :‬‬
‫وقد ورد في الروايات ما يدل على كثرة تل ك الص فوف‪ ،‬وه و م ا يش ير إلى‬
‫التنوع الكبير في أصناف الخلق‪ ،‬ومن تلك الروايات ما روي عن اإلم ام الب اقر أن ه‬
‫قال‪( :‬والناس صفوف عشـرون ومائة ألف ص ف‪ ،‬ثم انون أل ف ص ف أم ة محم د‬
‫‪ ،‬وأربع ون أل ف ص ف من س ائر األمم)(‪ ،)3‬وق ال اإلم ام الص ادق‪( :‬هم يومئ ذ‬
‫عشرون ومائة ألف صف‪ ،‬في عرض األرض)(‪)4‬‬
‫وهذه الروايات تشير إلى االختالف الشديد بين األصناف‪ ،‬والذي قد ال يك ون‬
‫بالضرورة اختالفا عقديا‪ ،‬بل قد يكون اختالفا في المشارب واألذواق والفهوم‪ ،‬وهو‬
‫‪ )(1‬نهج البالغة ‪3/191‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪1/39 ،‬‬

‫‪ )(3‬الكافي‪2/596:‬‬
‫‪ )(4‬اإلحتجاج‪2/98:‬‬

‫‪200‬‬
‫م ا يش ير الي ه مص طلح الزوحي ة في الق رآن الك ريم‪ ،‬وال ذي يع ني المتش اكلين في‬
‫الطباع ونحوها‪.‬‬
‫ب ـ الكتب الخاصة‪:‬‬
‫وهي الكتب التي تحصي أعمال ك ل ش خص إم ا جميع ا‪ ،‬أو تل ك ال تي كل ف‬
‫بها‪ ،‬ويحاسب عليها‪ ،‬وقد ورد النص على ذلك في نصوص قرآنية كثيرة منها قول ه‬
‫تع الى‪َ ﴿ :‬و ُك َّل إِ ْن َس ا ٍن أَ ْلزَ ْمنَ اهُ طَ ائِ َرهُ فِي ُعنُقِ ِه َونُخْ ِر ُج لَ هُ يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة ِكتَابًا يَ ْلقَ اهُ‬
‫ك َكفَى بِنَ ْف ِسكَ ْاليَوْ َم َعلَ ْيكَ َح ِسيبًا ﴾ [اإلسراء‪]14 ،13 :‬‬ ‫َم ْن ُشورًا (‪ )13‬ا ْق َر ْأ ِكتَابَ َ‬
‫فهات ان اآليت ان الكريمت ان ت ردان على تل ك التص ورات الجاهلي ة المرتبط ة‬
‫بالتفاؤل والتشاؤم‪ ،‬والتي تجعلها منوطة بما هو خ ارج عن دور اإلنس ان وأعمال ه‪،‬‬
‫لتوضح أن الفأل والتشاؤم مرتبط باألعمال‪ ،‬وأن تل ك األعم ال مس جلة‪ ،‬وإن ك انت‬
‫مخفية ال يراها اإلنسان‪ ،‬لكنه في ذلك اليوم يراها‪ ،‬ويكلف بقراءتها‪ ،‬وبحاسب نفسه‬
‫عليها‪.‬‬
‫والقراءة كما تفسرها النصوص المقدسة ليست مج رد ش رح ووص ف مثلم ا‬
‫نقرأ الكتب في الدنيا؛ فليست تلك الكتب حروفا وكلمات‪ ،‬ب ل ه و نفس ه العم ل ي راه‬
‫اض رًا ﴾‬ ‫صاحبه حاضرا مثلما فعله أول مرة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َو َجدُوا َما َع ِملُوا َح ِ‬
‫[الكهف‪]49:‬‬
‫وهكذا أشارت آيات أخرى إلى هذا المعنى كقوله تعالى‪ ﴿ :‬يَوْ َم تَ ِج ُد ُك لُّ نَ ْف ٍ‬
‫س‬
‫ت ِمن ُس َو ٍء ﴾ [آل عم ران‪ ،]30:‬وقول ه‪:‬‬ ‫ض رًا َو َم ا َع ِملَ ْ‬ ‫َيْر ُّمحْ َ‬‫ت ِم ْن خ ٍ‬ ‫َّما َع ِملَ ْ‬
‫ت‬ ‫ت نَ ْفسٌ َّما قَ َّد َم ْ‬ ‫ت ﴾ [التك وير‪ ،]14:‬وقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬علِ َم ْ‬ ‫ض َر ْ‬ ‫ت نَ ْفسٌ َّما أَحْ َ‬ ‫﴿ َعلِ َم ْ‬
‫ُ‬
‫ت ﴾ [االنفطار‪ ،]5:‬وقوله تعالى‪﴿ :‬يُنَبَّأ ا ِإلن َسانُ يَوْ َمئِ ٍذ بِ َما قَ َّد َم َوأَ َّخ َر ﴾ [القيامة‪:‬‬ ‫َوأَ َّخ َر ْ‬
‫‪]13‬‬
‫وقد وصف اإلمام الصادق ذلك‪ ،‬فقال‪( :‬يذكر العبد جميع ما عم ل‪ ،‬وم ا كتب‬
‫عليه‪ ،‬حتى كأنه فعله تلك الس اعة‪ ،‬فل ذلك ق الوا ي ا ويلتن ا م ا له ذا الكت اب ال يغ ادر‬
‫صغيرة وال كبيرة إال أحصاها)(‪)1‬‬
‫وقد يكون لتل ك اآلي ات الكريم ة إش ارة إلى تنبي ه ال ذاكرة تنبيه ا قوي ا بحيث‬
‫تستعيد أحداثا بعينها‪ ،‬وبدقة عالية‪ ،‬وكأنها تراها أول مرة‪ ،‬وهو ما توص لت العل وم‬
‫الحديث ة إلى إمكانيت ه‪ ،‬وإن ك انت ال ت زال المس افة كب يرة بينه ا وبين تحقيق ه في‬
‫الواقع‪ ،‬لعدم قدرتها على التعرف على الخارطة التي تسجل فيها الذكريات‪.‬‬
‫وقد روي عن اإلمام الصادق ما يشير إلى هذا‪ ،‬فقد قال‪( :‬إذا كان يوم القيام ة‬
‫دفع لإلنسان كتاب‪ ،‬ثم قيل له‪ :‬اقرأ) قلت‪ :‬فيعرف ما فيه؟ فقال‪( :‬إنه يذكره‪ ،‬فم ا من‬
‫لحظة وال كلمة وال نقل قدم وال شيء فعله إال ذكره‪ ،‬كأنه فعله تلك الس اعة‪ ،‬ول ذلك‬
‫ص اهَا﴾ [الكه ف‪:‬‬ ‫يرةً إِاَّل أَحْ َ‬ ‫يرةً َواَل َكبِ َ‬‫ص ِغ َ‬ ‫ب اَل يُغَا ِد ُر َ‬‫قالوا‪﴿ :‬يَا َو ْيلَتَنَا َما ِل هَ َذا ْال ِكتَا ِ‬

‫‪ )(1‬نور الثقلين‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪..144‬‬

‫‪201‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫‪)]49‬‬
‫وقد ورد في النصوص المقدسة كذلك ما يدل على أن كل األعمال ستحض ر‪،‬‬
‫ص اهَا﴾‬ ‫يرةً إِاَّل أَحْ َ‬
‫يرةً َواَل َكبِ َ‬ ‫مهم ا ك ان نوعه ا‪ ،‬وأن ذل ك ﴿ ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ب اَل يُ َغ ا ِد ُر َ‬
‫ص ِغ َ‬
‫[الكهف‪]49 :‬‬
‫وقد ورد في الرواي ات واآلث ار م ا ي دل على ه ذا‪ ،‬فق د روي أن ه يكتب على‬
‫اإلنسان كل شيء حتى األنين في مرض ه‪ ،‬وق د ذك ر عن بعض هم أن ه ك ان يئن في‬
‫مرضه‪ ،‬فقيل له‪ :‬يكتب الملك كل شيء حتى األنين‪ ،‬فلم يئن حتى مات(‪.)2‬‬
‫لكن هناك من ذهب إلى أن تل ك الكتب ال تح وي إال م ا ي ؤجر ب ه‪ ،‬أو ي ؤزر‬
‫عليه‪ ،‬وروي عن ابن عباس أنه يكتب كل شيء‪ ،‬ثم يمحى ما ال عالقة له بالتكليف‪،‬‬
‫قال ابن عباس‪(:‬يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر‪ ،‬ح تى أن ه ليكتب قول ه‪ :‬أكلت‪،‬‬
‫شربت‪ ،‬ذهبت‪ ،‬جئت‪ ،‬رأيت‪ .‬حتى إذا كان يوم الخميس عرض قول ه وعمل ه‪ ،‬ف أقَّر‬
‫منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪﴿ :‬يَ ْمحُوا هَّللا ُ َما يَ َش ا ُء‬
‫ب﴾ (الرعد‪)39:‬‬ ‫ت َو ِع ْن َدهُ أُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫َوي ُْثبِ ُ‬
‫ونرى ـ وهللا أعلم ـ انطالقا من عموم النص وص أن تل ك الكتب تتض من ك ل‬
‫شيء‪ ،‬ألن س يرة اإلنس ان بمجموعه ا هي ال تي تع بر عن حقيقت ه‪ ،‬وتع بر في نفس‬
‫الوقت عن المالبسات المرتبطة بأدائه للتكاليف‪.‬‬
‫وهذه الكتب ـ كم ا تش ير النص وص ـ ال تح وي فق ط ظ واهر األعم ال‪ ،‬ب ل‬
‫تحوي كذلك باطنها‪ ،‬واألحوال الصادرة عنها‪ ،‬ويدل على ذلك قوله ‪ ‬في الح ديث‬
‫القدسي‪(:‬قال هللا عز وجل‪ :‬إذا هم عبدي بسيئة فلم يعمله ا فاكتبوه ا ل ه حس نة‪ ،‬ف إن‬
‫عملها فاكتبوها له س يئة‪ ،‬ف إن ت اب منه ا فامحوه ا عن ه‪ ،‬وإن هم عب دي بحس نة فلم‬
‫يعمله ا فاكتبوه ا ل ه حس نة‪ ،‬ف إن عمله ا فاكتبوه ا ل ه بعش رة أمثاله ا إلى س بعمائة‬
‫ضعف)(‪)3‬‬
‫ويدل عليه قبل ذلك عموم قوله تعالى‪ ﴿:‬يَ ْعلَ ُمونَ َما تَ ْف َعلُ ونَ ﴾ (االنفط ار‪،)12:‬‬
‫فالفعل يطلق على عمل الظاهر والباطن‪ ،‬بل إن التكاليف الش رعية ألص ق بالب اطن‬
‫منها بالظاهر‪ ،‬بل إن الظاهر نفسه ال يصح إال بالنية‪ ،‬وهي عمل الباطن‪ ،‬وق د رب ط‬
‫‪ ‬أجور األعمال بالنيات‪ ،‬فقال ‪(:‬إنما األعمال بالنية‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما نوى‪،‬‬
‫فمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله فهجرته إلى هللا ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى‬
‫دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(‪)4‬‬
‫أما ما روي من أن الملكين ال يسجالن إال األعمال الظاهرة استدالال بح ديث‬
‫واه جدا لفظه‪(:‬قال هللا تعالى‪ :‬اإلخالص سر من س ري اس تودعته قلب من أحب‪ ،‬ال‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪267‬‬


‫‪ )( 2‬هذا بناء على كون األنين شكوى‪ ،‬أما األنين المجرد‪ ،‬والذي ينفس به المريض عن آالمه‪ ،‬فال حرج فيه‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ‪ ، 391 / 13‬ومسلم رقم (‪ )128‬و (‪.)129‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ‪ ، 15 - 7 / 1‬ومسلم رقم (‪.)1907‬‬

‫‪202‬‬
‫يطلع عليه ملك فيكتبه‪ ،‬وال شيطان فيفسده)(‪ ،)1‬فهو ال يقوى لرد الح ديث الص حيح‬
‫الصريح‪.‬‬
‫ونحب أن نختم هذا المطلب بموعظة تربوية بليغة علمنا إياها اإلمام السجاد‪،‬‬
‫ليبين من خاللها اآلث ار الروحي ة والس لوكية للحق ائق العقدي ة‪ ،‬وأنه ا ليس ت مج رد‬
‫معلومات تخزن في الذهن‪ ،‬ثم ال يكون لها أي دور في السلوك‪.‬‬
‫وهي تنب ع من تل ك التع اليم ال واردة في النص وص المقدس ة ح ول ال دعوة‬
‫لتحري ر الرقي ق‪ ،‬وال تي قص رت األم ة لألس ف في تطبيقه ا‪ ،‬ول ذلك أعطى اإلم ام‬
‫السجاد هذا الدرس البليغ لمن يتص ورون أنفس هم س ادة‪ ،‬ويتص ورون أن لهم الح ق‬
‫بذلك في إذالل الرقيق‪.‬‬
‫فقد حدث اإلمام الصادق عن جده اإلمام السجاد‪ ،‬فقال‪( :‬كان عل ّي بن الحسين‬
‫إذا أذنب العبد واألمة يكتب عنده أذنب فالن‪ ،‬أذنبت فالنة يوم كذا وك ذا‪ ،‬ولم يعاقب ه‬
‫فيجتمع عليهم األدب‪ ،‬حتّى إذا كان آخر الليل ة من ش هر رمض ان‪ ،‬دع اهم وجمعهم‬
‫حوله‪ ،‬ث ّم أظهر الكتاب‪ ،‬ث ّم قال‪ :‬يا فالن فعلت ك ذا وك ذا‪ ،‬ولم أؤ ّدب ك‪ ،‬أت ذكر ذل ك؟‬
‫فيق ول‪ :‬بلى ي ا بن رس ول هللا‪ ،‬حتّى ي أتي على آخ رهم فيق رّرهم جميع اً‪ ،‬ث ّم يق وم‬
‫إن ربّ ك ق د‬ ‫وسطهم‪ ،‬ويقول لهم‪ :‬ارفع وا أص واتكم‪ ،‬وقول وا‪ :‬ي ا عل ّي بن الحس ين‪ّ ،‬‬
‫أحصى عليك كلّما عملت‪ ،‬كما أحصيت علينا كلّما عملنا‪ ،‬ولديه كت اب ينط ق علي ك‬
‫ق‪ ،‬ال يغادر صغيرة وال كبيرة م ّم ا أتيت إاّل أحص اها‪ ،‬وتج د كلّم ا عملت لدي ه‬ ‫بالح ّ‬
‫حاضراً‪ ،‬كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً‪ ،‬فاعف واصفح كما ترج و من الملي ك‬
‫العفو‪ ،‬وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك‪ ،‬فاعف عنّا تج ده عف ّواً‪ ،‬وب ك رحيم اً‪ ،‬ول ك‬
‫ق‪ ،‬ال يغ ادر ص غيرة‬ ‫غفوراً‪ ،‬وال يظلم ربّك أحداً‪ ،‬كما لديك كتاب ينطق علين ا ب الح ّ‬
‫وال كبيرة م ّما أتيناها إاّل أحص اها‪ ،‬ف اذكر ي ا عل ّي بن الحس ين ذ ّل مقام ك بين ي دي‬
‫ربّك‪ ،‬الحكم العدل الذي ال يظلم مثقال حبّة من خردل‪ ،‬ويأتي بها يوم القيامة‪ ،‬وكفى‬
‫باهلل حسيبا ً وشهيداً‪ ،‬فاعف واصفح يعفُ عنك المليك‪ ،‬ويصفح‪ ،‬فإنّه يقول‪َ ﴿ :‬و ْليَ ْعفُ وا‬
‫حي ٌم ﴾ [النور‪)2( )]22 :‬‬ ‫َو ْليَصْ فَحُوا أَاَل تُ ِحبُّونَ أَ ْن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِ‬
‫ثم ذكر كيف كان يلقنهم ذلك‪ ،‬ويعلمهم إياه‪ ،‬وهو (واق ف بينهم يبكي وين وح‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬ربّ إنّك أمرتنا أن نعفو ع ّمن ظلمنا‪ ،‬فقد ظلمنا أنفسنا‪ ،‬فنحن قد عفون ا ع ّمن‬
‫ظلمنا‪ ،‬كما أمرت‪ ،‬فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّ ا ومن الم أمورين‪ ،‬وأمرتن ا أن ال‬
‫نر ّد سائالً عن أبوابنا‪ ،‬وقد أتيناك س ّؤاالً ومساكين‪ ،‬وقد أنخنا بفنائ ك وبباب ك‪ ،‬نطلب‬
‫نائلك ومعروفك وعطاءك‪ ،‬فامنن بذلك علينا‪ ،‬وال تخيّبنا‪ ،‬فإنّك أولى ب ذلك منّ ا ومن‬
‫المأمورين‪ ،‬إلهي كرمت فأكرمني‪ ،‬إذ كنت من س ّؤالك‪ ،‬وجدت بالمعروف فاخلطني‬
‫بأهل نوالك يا كريم)‬

‫‪ )(1‬رواه القشيري في الرسالة (ص ‪ )104‬وقد روي مثل هذا عن حذيفة‪ ،‬س ألت الن بي ‪ ‬عن علم الب اطن م ا‬
‫هو فقال سألت جبريل عنه فقال‪ :‬سر بيني وبين أحب ائي وأولي ائي وأص فيائي أودع ه في قل وبهم ال يطل ع علي ه مل ك‬
‫مقرب وال نبي مرسل) قال ابن حجر‪ :‬هو موضوع‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن طاووس‪ :‬إقبال األعمال ص ‪560‬‬

‫‪203‬‬
‫ث ّم يقبل عليهم‪ ،‬فيقول‪( :‬قد عفوت عنكم‪ ،‬فهل عفوتم عنّي م ّما ك ان منّي إليكم‬
‫من سوء ِملكة‪ ،‬فإنّي مليك سوء‪ ،‬لئيم ظالم‪ ،‬مملوك لمليك كريم ج واد ع ادل محس ن‬
‫ضل)‪ ،‬فيقولون‪ :‬قد عفونا عنك ي ا س يّدنا‪ ،‬وم ا أس أت‪ ،‬فيق ول لهم‪ :‬قول وا‪( :‬اللَّهم‬ ‫متف ّ‬
‫اع ف عن عل ّي بن الحس ين كم ا عف ا عنّ ا‪ ،‬وأعتق ه من النّ ار كم ا أعت ق رقابن ا من‬
‫ق)‪ ،‬فيقول ون ذل ك‪ ،‬فيق ول‪( :‬اللَّهم آمين‪ ،‬ي ا ربّ الع المين)‪ ،‬اذهب وا فق د عف وت‬ ‫ال ر ّ‬
‫عنكم‪ ،‬وأعتقت رقابكم‪ ،‬رجا ًء للعفو عنّي وعتق رقبتي‪ ،‬فيعتقهم)‬
‫وهكذا روى عنه أنه (كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة‪ ،‬ي أتي بهم إلى‬
‫عرفات‪ ،‬فيس ّد بهم تلك الفرج والخالل‪ ،‬فإذا أفاض‪ ،‬أمر بعتق رق ابهم‪ ،‬وج وائز لهم‬
‫من المال) (‪)1‬‬
‫وكل هذه التعاليم كان لها آثارها التربوية ليس على أولئك الرقيق فقط‪ ،‬وإنم ا‬
‫على جميع أهله وتالميذه‪ ،‬ذلك أن تجسيد الحقائق ل ه دور كب ير في التربي ة بخالف‬
‫تركها في عالمها الذهني المجرد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الشهود وتنوعهم‪:‬‬
‫من تجليات العدالة اإللهية في أرض المحش ر‪ ،‬وقب ل الحس اب والم وازين أو‬
‫أثناءهما توفير الشهود على األعمال‪ ،‬إم ا مطلق ا‪ ،‬أو حس ب طلب العام ل ال ذي ق د‬
‫يشك في أي شيء ُكتب في كتابه‪.‬‬
‫ومن خالل اس تقراء النص وص المقدس ة نج د اختالف المحاس بين في طلب‬
‫أولئك الشهود‪ ،‬فبعضهم قد ال يطلبهم تعظيما هلل‪ ،‬واكتف اء بش هادته‪ ،‬وبعض هم يب الغ‬
‫في طلبهم‪ ،‬ويرفض كل شهيد يشهد عليه‪ ،‬مثلما نراه في الدنيا بين الخصماء‪ ،‬وله ذا‬
‫﴿ويَ وْ َم يُحْ َش ُر‬ ‫كان آخر الشهود هو نفس اإلنسان وجلده وأعضاؤه كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ْص ا ُرهُ ْم‬‫ار فَهُ ْم يُو َز ُعونَ َحتَّى إِ َذا َما َجاؤُوهَا َش ِه َد َعلَ ْي ِه ْم َس ْم ُعهُ ْم َوأَب َ‬ ‫أَ ْعدَاء هَّللا ِ إِلَى النَّ ِ‬
‫َو ُجلُو ُدهُ ْم بِ َما َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ َوقَ الُوا لِ ُجلُ و ِد ِه ْم لِ َم َش ِهدتُّ ْم َعلَ ْينَ ا قَ الُوا أَنطَقَنَ ا هَّللا ُ الَّ ِذي‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء َوهُ َو َخلَقَ ُك ْم أَ َّو َل َم َّر ٍة َوإِلَيْ ِه تُرْ َج ُع ونَ َو َم ا ُكنتُ ْم ت َْس تَتِرُونَ أَ ْن يَ ْش هَ َد‬ ‫أَنطَ َ‬
‫ْص ا ُر ُك ْم َوال ُجلُ و ُد ُك ْم َولَ ِكن ظَنَنتُ ْم أَ َّن هَّللا َ ال يَ ْعلَ ُم َكثِ يرًا ِّم َّما‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َوال أَب َ‬
‫َاس ِرينَ ﴾ [فص لت‪:‬‬ ‫ص بَحْ تُم ِّم ْن ْالخ ِ‬ ‫تَ ْع َملُونَ َو َذلِ ُك ْم ظَنُّ ُك ُم الَّ ِذي ظَنَنتُم بِ َربِّ ُك ْم أَرْ دَا ُك ْم فَأ َ ْ‬
‫‪]23 – 19‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يعطي مش اهد وص ورا ل ذلك‪ ،‬ومنه ا قول ه ‪( :‬إذا‬
‫ك ان ي وم القيام ة ع رف الك افر بعمل ه‪ ،‬فجح د وخاص م‪ ،‬فيق ال‪ :‬ه ؤالء جيران ك‪،‬‬
‫يش هدون علي ك؟ فيق ول‪ :‬ك ذبوا‪ .‬فيق ول‪ :‬أهل ك وعش يرتك؟ فيق ول‪ :‬ك ذبوا؛ فيق ول‪:‬‬
‫احلفوا فيحلفون‪ ،‬ثم يصمتهم هللا وتشهد عليهم ألسنتهم‪ ،‬ويدخلهم النار)(‪)2‬‬
‫وفي بعض اآلثار‪( :‬وي دعى الك افر والمن افق للحس اب‪ ،‬فيع رض علي ه رب ه‬
‫‪-‬عز وجل‪-‬عمله‪ ،‬فيجحد ويقول‪ :‬أي رب‪ ،‬وعزت ك لق د كتب علي ه ذا المل ك م ا لم‬

‫‪ )(1‬ابن طاووس‪ :‬إقبال األعمال ص ‪560‬‬


‫‪ )(2‬مسند أبي يعلى (‪)5262‬‬

‫‪204‬‬
‫أعم ل! فيق ول ل ه المل ك‪ :‬أم ا عملت ك ذا‪ ،‬في ي وم ك ذا‪ ،‬في مك ان ك ذا؟ فيق ول‪ :‬ال‬
‫وعزتك‪ ،‬أي رب ما عملته‪ .‬قال‪ :‬فإذا فعل ذلك ختم على فيه) (‪)1‬‬
‫وهذا وغيره كثير يدل على مدى الحرية التي تت اح في ذل ك الموق ف‪ ،‬وأم ام‬
‫المحكمة اإللهية إلى الدرجة التي ال يقبل فيها الطغاة والمجرمون ش هادة هللا نفس ها‪،‬‬
‫كما ورد في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬ضحك ذات يوم وتبسم‪ ،‬فلما سألوه عن ذلك‪،‬‬
‫قال‪( :‬عجبت من مجادلة العبد ربه ي وم القيام ة‪ ،‬يق ول‪ :‬أي ربي‪ ،‬أليس وع دتني أال‬
‫تظلمني؟ قال‪ :‬بلى فيقول‪ :‬فإني ال أقبل علي ش اهدا إال من نفس ي‪ .‬فيق ول هللا تب ارك‬
‫وتعالى‪ :‬أو ليس كفى بي شهيدا‪ ،‬وبالمالئكة الكرام الكاتبين؟! قال‪ :‬فيردد ه ذا الكالم‬
‫مرارا‪ ،‬فيختم على في ه‪ ،‬وتتكلم أركان ه بم ا ك ان يعم ل‪ ،‬فيق ول‪ :‬بع دا لكن وس حقا‪،‬‬
‫عنكن كنت أجادل) (‪)2‬‬
‫فقول المتهم في اآلخرة‪(:‬رب ألم تج رني من الظلم) ي دل على الض مانات الكث يرة‬
‫التي أخذها العباد إلقامة العدالة المطلقة في ذلك اليوم‪ ،‬وقوله‪(:‬فعنكن كنت أناض ل) دلي ل‬
‫على مدى الحرية التي أتيحت له للدفاع عن نفسه‪.‬‬
‫وهذا الحديث وغيره يبين أن كل فترة البرزخ‪ ،‬وأنواع العقوبات التي ع وقب‬
‫به ا أولئ ك الطغ اة المجرم ون‪ ،‬وم ا بع دها من ف ترة المحش ر‪ ،‬لم تفلح في إص الح‬
‫نفوسهم المملوءة بالخصومة والجدل‪ ،‬ولذلك سرعان ما يعود لها طبعها إن أتيح له ا‬
‫لو بصيص من الحرية‪.‬‬
‫بل ورد في الحديث ما يشير إلى أن هذا الص نف‪ ،‬ونتيج ة م ا يرون ه من مظ اهر‬
‫العدالة المطلق ة‪ ،‬يح اولون أن يحت الوا على قلب الحق ائق في ال دنيا‪ ،‬وخ داع الخل ق به ا‪،‬‬
‫فلذلك تبقى هذه األحبول ة في أي ديهم ي وم القيام ة‪ ،‬ويتص ورون أنهم س يخادعون هللا كم ا‬
‫خ ادعوا الخل ق‪ ،،‬ق ال ‪ ‬في ح ديث القيام ة الطوي ل‪(:‬ثم يلقى الث الث فيق ول‪ :‬م ا أنت؟‬
‫وصليت وتصدقت‪ ،‬ويث ني بخ ير م ا‬ ‫ّ‬ ‫فيقول‪ :‬أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت‬
‫استطاع ـ قال ـ فيقال له أال نبعث عليك شاهدنا؟ ـ ق ال‪ :‬فيفك ر في نفس ه من ال ذي يش هد‬
‫عليه‪ ،‬فيختم على فيه‪ ،‬ويقال‪ :‬لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظام ه بم ا ك ان‬
‫يعمل‪ ،‬وذلك المنافق‪ ،‬وذلك ليعذر من نفسه‪ ،‬وذلك الذي يسخط هّللا تعالى عليه)(‪)3‬‬
‫وحينذاك يندم الجاحد على جحوده‪ ،‬ويود لو أنه اعترف في البدء لعل ذل ك يخف ف‬
‫ول َل وْ‬
‫الرَّس َ‬
‫ُ‬ ‫َص ُوا‬ ‫عنه‪ ،‬وهذا هو وجه الجمع بين قوله تعالى‪َ ﴿:‬يوْ َم ِئ ٍذ َي َو ُّد الَّ ِذينَ َك َف رُوا َوع َ‬
‫تُ َس َّوى ِب ِه ُم اأْل َرْ ضُ َوال َي ْكتُ ُمونَ هَّللا َ َح ِديثاً﴾ (النساء‪ )42 :‬والتي تفيد بأنهم يعترفون بجميع ما‬
‫فعلوه وال يكتمون منه شيئاً‪ ،‬وبين ما رأيناه من صنوف اإلنكار‪.‬‬
‫وقد روى سعيد بن جبير قال‪ :‬جاء رجل إلى ابن عباس‪ ،‬فقال له‪(:‬س معت هّللا ع ّز‬
‫وج ل يق ول ـ يع ني أخب ار ًا عن المش ركين ي وم القيام ة ـ إنهم ق الوا‪َ ﴿:‬وهَّللا ِ َر ِّب َن ا َم ا ُكنَّا‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير (‪)171 /7‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم (‪ ،)18‬وأبو يعلى الموصلي في مسنده برقم ‪3975‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم برقم (‪ )2969‬والنسائي في السنن الكبرى برقم (‪)11653‬‬

‫‪205‬‬
‫ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (األنعام‪ ،)23 :‬وقال في اآلية األخرى‪َ ﴿:‬وال َي ْك ُت ُمونَ هَّللا َ َح ِديثاً﴾ (النس اء‪،)42 :‬‬
‫فقال ابن عباس (أما قوله‪َ ﴿:‬وهَّللا ِ َر ِّبنَا َما ُكنَّا ُم ْش ِر ِكينَ ﴾‪ ،‬فإنهم لم ا رأوا أن ه ال ي دخل الجن ة‬
‫إال أهل اإلسالم‪ ،‬قالوا‪ :‬تعالوا فلنجح د‪ ،‬فق الوا‪َ ﴿:‬وهَّللا ِ َر ِّب َن ا َم ا ُكنَّا ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ فختم هّللا على‬
‫ح ِديثاً﴾ (النساء‪)1()42 :‬‬ ‫أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم ﴿ َوال َي ْكتُ ُمونَ هَّللا َ َ‬
‫بن اء على ه ذا س نحاول في ه ذا المطلب أن ن ذكر م ا ورد في النص وص‬
‫المقدسة من الشهود‪ ،‬ومدى تنوعهم‪ ،‬مع بيان أسرار ذلك‪.‬‬
‫أ ـ شهادة هللا‪:‬‬
‫وهي أعظم الشهادات‪ ،‬ويكتفي بها المؤمنون‪ ،‬ويستحيون من أن يطلبوا معها‬
‫شهيدا آخر‪ ،‬وقد قال تعالى ـ يبين محل شهادته وعظمتها ـ‪ ﴿ :‬يَ وْ َم يَ ْب َعثُهُ ُم هَّللا ُ َج ِميعًا‬
‫ص اهُ هَّللا ُ َون َُس وهُ َوهَّللا ُ َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد ﴾ [المجادل ة‪،]6 :‬‬ ‫فَيُنَبِّئُهُ ْم بِ َما َع ِملُ وا أَحْ َ‬
‫وقال‪﴿ :‬قُلْ أَيُّ َش ْي ٍء أَ ْكبَ ُر َش هَا َدةً قُ ِل هَّللا ُ َش ِهي ٌد بَ ْينِي َوبَ ْينَ ُك ْم﴾ [األنع ام‪ ،]19 :‬وق ال‪:‬‬
‫ْض الَّ ِذي ن َِع ُدهُ ْم أَوْ نَت ََوفَّيَنَّكَ فَإِلَ ْينَ ا َم رْ ِج ُعهُ ْم ثُ َّم هَّللا ُ َش ِهي ٌد َعلَى َم ا‬ ‫ك بَع َ‬ ‫﴿ َوإِ َّما نُ ِريَنَّ َ‬
‫ت هَّللا ِ َوهَّللا ُ َش ِهي ٌد‬ ‫ب لِ َم تَ ْكفُ رُونَ بِآيَ ا ِ‬ ‫هْل ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫يَ ْف َعلُونَ ﴾ [يونس‪ ،]46 :‬وقال‪ ﴿ :‬قُلْ يَاأَ َ‬
‫﴿و َم ا نَقَ ُم وا ِم ْنهُ ْم إِاَّل أَ ْن ي ُْؤ ِمنُ وا بِاهَّلل ِ‬
‫َعلَى َم ا تَ ْع َملُ ونَ ﴾ [آل عم ران‪ ،]98 :‬وق ال‪َ :‬‬
‫ض َوهَّللا ُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد ﴾‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫الس َما َوا ِ‬ ‫ك َّ‬ ‫يز ْال َح ِمي ِد (‪ )8‬الَّ ِذي لَ هُ ُملْ ُ‬ ‫ْال َع ِز ِ‬
‫[البروج‪]9 ،8 :‬‬
‫وقد أخ بر هللا تع الى أن المؤم نين يكتف ون بش هادة هللا‪ ،‬وال يطلب ون غيره ا‪،‬‬
‫قال‪﴿:‬وإِ ْذ قَ ا َل‬
‫َ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك ما قصه علينا من قصة المسيح عليه السالم‪ ،‬إذ‬
‫ال‬‫ُون هَّللا ِ قَ َ‬ ‫اس اتَّ ِخ ُذونِي َوأُ ِّم َي إِلَهَ ْي ِن ِم ْن د ِ‬ ‫يس ى ا ْبنَ َم رْ يَ َم أَأَ ْنتَ قُ ْلتَ لِلنَّ ِ‬ ‫هَّللا ُ يَا ِع َ‬
‫ت قُ ْلتُ هُ فَقَ ْد َعلِ ْمتَ هُ تَ ْعلَ ُم َم ا فِي‬ ‫ق إِ ْن ُك ْن ُ‬‫ْس لِي بِ َح ٍّ‬ ‫ك َما يَ ُكونُ لِي أَ ْن أَقُو َل َما لَي َ‬ ‫ُسب َْحانَ َ‬
‫ت لَهُ ْم إِاَّل َم ا‬ ‫ب (‪َ )116‬م ا قُ ْل ُ‬ ‫ك إِنَّكَ أَ ْنتَ َعاَّل ُم ْال ُغيُ و ِ‬ ‫نَ ْف ِس ي َواَل أَ ْعلَ ُم َم ا فِي نَ ْف ِس َ‬
‫ت فِي ِه ْم فَلَ َّما تَ َوفَّ ْيتَنِي‬‫ت َعلَ ْي ِه ْم َش ِهيدًا َم ا ُد ْم ُ‬ ‫أَ َمرْ تَنِي بِ ِه أَ ِن ا ْعبُدُوا هَّللا َ َربِّي َو َربَّ ُك ْم َو ُك ْن ُ‬
‫يب َعلَ ْي ِه ْم َوأَ ْنتَ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد ﴾ [المائدة‪]117 ،116 :‬‬ ‫ُك ْنتَ أَ ْنتَ ال َّرقِ َ‬
‫أما كيفية ذلك‪ ،‬فهي غيب محض‪ ،‬مثلما هو حال ال وحي اإللهي الم نزل على‬
‫األنبي اء أو غ يرهم‪ ،‬وال ذي ي نزه عن التجس يم‪ ،‬وإن ك ان ال ي نزه عن كون ه حقيق ة‬
‫نجهل كيفيتها‪ ..‬فاهلل تعالى يلهم من شاء كيف شاء متى شاء‪.‬‬
‫ولذلك يشعر الشخص بيقين ليس معه شك ب أن ال ذي ألهم ه ذل ك اإلله ام‪ ،‬أو‬
‫حدثه ذلك الحديث‪ ،‬هو هللا تعالى‪ ،‬وقد يؤيد ذلك اإللهام نفيا للشك‪ ،‬بما يدل علي ه من‬
‫الخوارق والمعجزات‪.‬‬
‫وقد ورد في األحاديث ما يشير إلى هذا مع اختالط ه لألس ف بتل ك الش روح‬
‫والتفسيرات التجس يمية ال تي ي نزه هللا عنه ا؛ فل ذلك يمكنن ا أن نق رأ تل ك األح اديث‬
‫باعتبارها إما مؤولة عن ظواهرها التجسيمية‪ ،‬أو اعتبار تلك األجزاء من تصرفات‬
‫الرواة‪ ،‬وليس لها عالقة بالحديث‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير (‪)307 /2‬‬

‫‪206‬‬
‫ومن تلك الروايات م ا رووه عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬إن هللا ع ز وج ل‬
‫يدني المؤمن‪ ،‬فيضع علي ه كنف ه‪ ،‬ويس تره من الن اس‪ ،‬ويق رره بذنوب ه‪ ،‬ويق ول ل ه‪:‬‬
‫أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوب ه‪ ،‬ورأى‬
‫في نفسه أنه قد هلك‪ ،‬قال‪ :‬فإني سترتها عليك في الدنيا‪ ،‬وأن ا أغفره ا ل ك الي وم‪ ،‬ثم‬
‫يعطى كت اب حس ناته‪ ،‬وأم ا الكف ار والمن افقون فيق ول األش هاد‪َ ﴿ :‬و َم ْن أَ ْ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ِن‬
‫ك يُع َْرضُونَ َعلَى َربِّ ِه ْم َويَقُو ُل اأْل َ ْش هَا ُد هَ ؤُاَل ِء الَّ ِذينَ َك َذبُوا‬ ‫ا ْفت ََرى َعلَى هَّللا ِ َك ِذبًا أُولَئِ َ‬
‫علَى الظَّالِ ِمينَ ﴾ [هود‪)1( )]18 :‬‬ ‫َعلَى َربِّ ِه ْم أَاَل لَ ْعنَةُ هَّللا ِ َ‬
‫ومنها ما ورد في األثر‪( :‬يدني هللا العبد ي وم القيام ة‪ ،‬فيضع كنفه ليس تره من‬
‫الخالئق كلها‪ ،‬ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر‪ ،‬فيق ول‪ :‬اق رأ يا ابن آدم كتاب ك‪ ،‬فيمر‬
‫بالحسنة فيبيض لها وجهه‪ ،‬ويسر بها قلبه‪ ،‬قال‪ :‬فيقول هللا تعالى‪ :‬أتعرف يا عب دي؟‬
‫فيق ول‪ :‬ي ا رب أع رف‪ ،‬فيق ول‪ :‬إني ق د تقبلته ا من ك‪ ،‬فيخ ر س اجداً‪ ،‬فيق ول‪ :‬ارف ع‬
‫رأسك‪ ،‬وخذ في كتابك‪ ،‬فيمر بالسيئة فيسود لها وجهه‪ ،‬ويوج ل منه ا قلب ه‪ ،‬وترع د‬
‫منها فرائصه‪ ،‬ويأخذه من الحياء من ربه ما ال يعلمه غ يره‪ ،‬فيق ول هللا‪ :‬أتع رف ي ا‬
‫عبدي؟ فيقول‪ :‬نعم يارب أعرف‪ ،‬فيقول‪ :‬فإني قد غفرتها ل ك؛ فال ي زال بين حس نة‬
‫تقبل وسيئة تغفر فيسجد‪ ،‬ال يرى الخالئق منه إال ذلك السجود‪ ،‬حتى ينادي الخالئق‬
‫بعضها بعضا‪ :‬طوبى لهذا العبد الذي لم يعص هللا قط‪ ،‬وال يدرون ما لقي فيم ا بين ه‬
‫وبين هللا تعالى مما قد وقفه عليه) (‪)2‬‬
‫وهذا يدل على أن العبد الذي يسلم بشهادة هللا‪ ،‬ويكتفي بها ال يجلب الفض يحة‬
‫لنفسه‪ ،‬مثل ذلك الذي يجادل‪ ،‬حتى يفضح نفسه بين جميع الشهود‪ ،‬باإلضافة إلى أن‬
‫االكتفاء بشهادة هللا قد يؤهل العبد لمغفرته وتجاوزه‪ ،‬ألن ذلك عالمة على كون ه ق د‬
‫ترقى في مراتب الكمال التي جعلته يرضى باهلل‪.‬‬
‫ب ـ شهادة األنبياء‪:‬‬
‫وهي من الشهادات التي دلت عليها النصوص المقدسة الكث يرة‪ ،‬ومنه ا قول ه‬
‫تعالى‪﴿ :‬فَ َك ْيفَ إِ َذا ِج ْئنَا ِم ْن ُكلِّ أُ َّم ٍة بِ َش ِهي ٍد َو ِج ْئنَا بِكَ َعلَى هَؤُاَل ِء َش ِهيدًا (‪ )41‬يَوْ َمئِ ٍذ‬
‫َّس و َل لَ وْ تُ َس َّوى بِ ِه ُم اأْل َرْ ضُ َواَل يَ ْكتُ ُم ونَ هَّللا َ َح ِديثًا ﴾‬ ‫َص ُوا الر ُ‬ ‫يَ َو ُّد الَّ ِذينَ َكفَرُوا َوع َ‬
‫[النساء‪]42 ،41 :‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب إِ ليُؤ ِمنَن بِ ِه قبْ َل َموْ تِ ِه‬ ‫اَّل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وقال عن المسيح عليه السالم‪َ ﴿ :‬وإِن ِمن أه ِل ال ِكتَا ِ‬
‫َويَوْ َم ْالقِيَا َم ِة يَ ُكونُ َعلَ ْي ِه ْم َش ِهيدًا ﴾ [النساء‪]159 :‬‬
‫ت لَهُ ْم إِاَّل َم ا أَ َم رْ تَنِي بِ ِه أَ ِن ا ْعبُ دُوا هَّللا َ َربِّي َو َربَّ ُك ْم‬‫وقال حاكيا عن ه‪َ ﴿ :‬م ا قُ ْل ُ‬
‫يب َعلَ ْي ِه ْم َوأَ ْنتَ َعلَى‬ ‫ت فِي ِه ْم فَلَ َّما تَ َوفَّ ْيتَنِي ُك ْنتَ أَ ْنتَ ال َّرقِ َ‬‫ت َعلَ ْي ِه ْم َش ِهيدًا َم ا ُد ْم ُ‬ ‫َو ُك ْن ُ‬
‫ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد ﴾ [المائدة‪]117 :‬‬
‫وربما يك ون ه ذا الن وع من الش هود مرتبط ا ب الكتب العام ة‪ ،‬وخاص ة تل ك‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ ،)2441‬ومسلم (‪)2768‬‬


‫‪ )(2‬ذكره ابن كثير في (النهاية) (‪ )135 /2‬وعزاه إلى ابن أبي الدنيا‬

‫‪207‬‬
‫الكتب التي تؤرخ لألمم‪ ،‬كما نص على ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وتَ َرى ُك َّل أُ َّم ٍة َجاثِيَةً ُك لُّ‬
‫ق َعلَ ْي ُك ْم‬ ‫أُ َّم ٍة تُ ْدعَى إِلَى ِكتَابِهَا ْاليَوْ َم تُجْ َزوْ نَ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ (‪ )28‬هَ َذا ِكتَابُنَ ا يَ ْن ِط ُ‬
‫ق إِنَّا ُكنَّا نَ ْستَ ْن ِس ُخ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [الجاثية‪]29 ،28 :‬‬ ‫بِ ْال َح ِّ‬
‫ث ِم ْن ُكلِّ أُ َّم ٍة َش ِهيدًا ثُ َّم اَل ي ُْؤ َذنُ لِلَّ ِذينَ‬
‫﴿ويَوْ َم نَ ْب َع ُ‬
‫وهو ما دل عليه قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َكفَرُوا َواَل هُ ْم يُ ْستَ ْعتَبُونَ ﴾ [النح ل‪ ،]84 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬ونَ َز ْعنَ ا ِم ْن ُك ِّل أ َّم ٍة َش ِهيدًا فَقُلنَ ا‬
‫ض َّل َع ْنهُ ْم َما َكانُوا يَ ْفتَرُونَ ﴾ [القصص‪]75 :‬‬ ‫هَاتُوا بُرْ هَانَ ُك ْم فَ َعلِ ُموا أَ َّن ْال َح َّ‬
‫ق هَّلِل ِ َو َ‬
‫فهذه اآليات الكريمة تدل على أن الشهود مختلفي الدرجات‪ ،‬أو بحسب أن واع‬
‫الكتب‪ ،‬فالكتاب المرتبط باألمة يكون النبي هو الشاهد األكبر فيه‪ ،‬كما قال تع الى‪﴿ :‬‬
‫ث فِي ُك ِّل أُ َّم ٍة َش ِهيدًا َعلَ ْي ِه ْم ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم َو ِج ْئنَ ا بِ كَ َش ِهيدًا َعلَى هَ ؤُاَل ِء﴾‬ ‫َويَ وْ َم نَ ْب َع ُ‬
‫َّس و ُل َش ِهيدًا‬ ‫ْ‬
‫[النحل‪ ،]89 :‬وقال‪ ﴿ :‬ه َُو َس َّما ُك ُم ال ُم ْسلِ ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل َوفِي هَ َذا لِيَ ُكونَ الر ُ‬
‫اس﴾ [الحج‪]78 :‬‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم َوتَ ُكونُوا ُشهَدَا َء َعلَى النَّ ِ‬
‫وقد يك ون له ذا الن وع من الش هادة عالق ة باألعم ال الخاص ة ب أفراد األم ة‪،‬‬
‫وخاصة من ذوي التأثير فيه ا‪ ،‬كم ا ورد النص على ذل ك في أح اديث كث يرة تفس ر‬
‫قوله تعالى‪َ  :‬وقُ ِل ا ْع َملُوا فَ َس يَ َرى هَّللا ُ َع َملَ ُك ْم َو َر ُس ولُهُ َو ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ َو َس تُ َر ُّدونَ إِلَى‬
‫ب َوال َّشهَا َد ِة فَيُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ‪[ ‬التوب ة‪ ،]105 :‬فاآلي ة الكريم ة لم‬ ‫عَالِ ِم ْال َغ ْي ِ‬
‫تخص رؤية المؤمنين بالحياة دون الموت‪ ،‬بل هي تشملهما جميعا‪.‬‬
‫ويؤكد ذلك ما ورد من الروايات الكثيرة في بيان عالقة رس ول هللا ‪ ‬بأمت ه‬
‫بعد موته‪ ،‬ومعرفته بها‪ ،‬وتواصله معها‪ ،‬واطالع ه على أعماله ا‪ ،‬ألن ه ال يمكن أن‬
‫يكون شهيدا عليها من دون أن يتاح له ذلك االطالع‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪( :‬حياتي خير لكم تحدثون ويح دث لكم‪ ،‬ووف اتي‬
‫خير لكم تعرض علي أعمالكم‪ ،‬فما رأيت من خير حم دت هللا علي ه‪ ،‬وم ا رأيت من‬
‫شر استغفرت هللا لكم)(‪)1‬‬
‫وه ذا الح ديث واض ح في الدالل ة على عالق ة رس ول هللا ‪ ‬بأمت ه‪ ،‬وع دم‬
‫اقتصارها على حياته الدنيوية‪ ،‬وقد اتف ق أك ثر المح دثين على تص حيحه‪ ،‬فق د رواه‬
‫البزار في مسنده (‪ )2‬بإسناد رجاله رجال الصحيح‪ ،‬كما نص على ذلك الحافظ ن ور‬
‫ال دين الهيثمي(‪ ،)3‬وق ال الحاف ظ الس يوطي‪ :‬س نده ص حيح(‪ ،)4‬وق ال الحافظ ان‬
‫العراقيان – الزين وابنه ولي الدين –‪( :‬إس ناده جي د)(‪ ،)5‬وروى الح ديث ابن س عد‬

‫‪ )(1‬رواه ال بزار (كش ف األس تار ‪ )1/397‬ق ال الحاف ظ الهيثمي في مجم ع الزوائ د ( ‪ )9/24‬رجال ه رج ال‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫‪ )(2‬كشف األستار عن زوائد البزار (‪)1/397‬‬
‫‪ )(3‬مجمع الزوائد (‪)9/24‬‬
‫‪ )(4‬الخصائص الكبرى (‪)2/281‬‬
‫‪ )(5‬طرح التثريب (‪.)3/297‬‬

‫‪208‬‬
‫بإسناد حسن مرسل(‪.)1‬‬
‫وق د أك د ه ذا الح ديث بقول ه ‪( :‬إن هللا ع ز وج ل إذا أراد رحم ة أم ة من‬
‫عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها‪ ،‬وإذا أراد هلك ة أم ة ع ذبها‬
‫ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)(‪)2‬‬
‫وربم ا يش ير إلى ه ذا تل ك األح اديث ال تي ت ذكر ع رض األعم ال على هللا‬
‫تعالى‪ ،‬ذلك أن هللا ليس بحاجة ألن تع رض األعم ال علي ه‪ ،‬وكي ف تع رض علي ه‪،‬‬
‫وهو الشهيد على كل شيء‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث ما روي عن العرض اليومي والذي نص عليه قول ه ‪:‬‬
‫(إن هللا عز وجل ال ينام‪ ،‬وال ينبغي له أن ينام‪ ،‬يخفض القس ط ويرفع ه‪ ،‬يرف ع إلي ه‬
‫عمل الليل قبل عمل النهار‪ ،‬وعمل النهار قبل عمل الليل) (‪)3‬‬
‫ومنها قوله ‪( :‬يتعاقبون فيكم مالئك ة باللي ل ومالئك ة بالنه ار‪ ،‬ويجتمع ون‬
‫في صالة الفجر وصالة العصر‪ ،‬ثم يعرج الذين ب اتوا فيكم فيس ألهم وه و أعلم بهم‪:‬‬
‫كيف تركتم عبادي؟ فيقولون‪ :‬تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) (‪)4‬‬
‫ومنها ما روي عن العرض األسبوعي‪ ،‬مثل قوله ‪( :‬تعرض أعمال الناس‬
‫في كل جمعة مرتين يوم االثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عب د م ؤمن إال عب دا بين ه‬
‫وبين أخيه شحناء فيقال‪ :‬اتركوا هذين حتى يفيئا) (‪)5‬‬
‫ويؤكد هذا الفهم ما روي عن اإلمام الصادق‪ ،‬من تفسير الع رض ب ذلك‪ ،‬فق د‬
‫ق ال‪( :‬تع رض األعم ال على رس ول هللا ‪ ‬أعم ال العب اد ك ل ص باح‪ ،‬أبراره ا‬
‫وفجاره ا‪ ،‬فاح ذروها‪ ،‬وه و ق ول هللا عزوجل‪َ ‬وقُ ِل ا ْع َملُ وا فَ َس يَ َرى هَّللا ُ َع َملَ ُك ْم‬
‫َو َرسُولُهُ َو ْال ُم ْؤ ِمنُونَ َو َستُ َر ُّدونَ إِلَى عَالِ ِم ْال َغ ْي ِ‬
‫ب َوال َّشهَا َد ِة فَيُنَبِّئُ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ ‪‬‬
‫[التوبة‪)6( )]105 :‬‬
‫وفي حديث آخر عن اإلمام الباقر(علي ه الس الم)‪( :‬إن األعم ال تع رض على‬
‫نبيكم كل عشية الخميس‪ ،‬فليستح أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح) (‪)7‬‬
‫وقد ذكر مك ارم الش يرازي القيم ة العملي ة له ذا الع رض‪ ،‬ودوره ال تربوي؛‬
‫فقال‪( :‬مسألة عرض األعمال لها أثر عظيم على المعتقدين به ا‪ ،‬ف إني إذا علمت أن‬
‫هللا الموجود في كل مكان معي‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك ف إن نب يي‪ ‬وأئم تي يطلع ون‬
‫على كل أعمالي‪ ،‬الحسنة والسيئة في يوم كل يوم‪ ،‬أو في ك ل أس بوع‪ ،‬فال ش ك أني‬

‫‪ )(1‬الطبقات (‪ ،)2/194‬وانظر‪ :‬فيض القدير (‪)3/401‬‬


‫‪ )(2‬صحيح مسلم ‪ 4/1791‬ح(‪)2288‬‬
‫‪ )(3‬صحيح مسلم (‪)179‬‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ )555‬ومسلم (‪)632‬‬
‫‪ )(5‬مسلم (‪) 2565‬‬
‫‪ )(6‬أصول الكافي‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪171‬‬
‫‪ )(7‬تفسير البرهان‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪158‬‬

‫‪209‬‬
‫سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر مني من أعمال‪ ،‬وأحاول تجنب السيئة منها ما‬
‫أمكن‪ ،‬تماما كم ا ل و علم الع املون في مؤسس ة م ا ب أن تقري را يومي ا أو أس بوعيا‪،‬‬
‫تسجل فيه جزئيات أعمالهم‪ ،‬يرفع إلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم) (‪)1‬‬
‫ج ـ شهادة الهداة‪:‬‬
‫َ‬
‫وهم الذين ورد ذك رهم في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا أ ْنتَ ُمنْ ِذ ٌر َولِ ُك لِّ قَ وْ ٍم هَ ا ٍد ﴾‬
‫[الرعد‪ ،]7 :‬فهي تشير إلى أنه يوجد في كل عصر أو في ك ل ق وم من يت ولى أم ر‬
‫ه دايتهم‪ ،‬بحيث ال تخل و األرض من ق ائم هلل بحجت ه‪ ،‬وي دخل فيهم األنبي اء ألنهم‬
‫الموكلون بهداية أقوامهم في حياتهم‪ ،‬واإلشراف على ذلك‪ ،‬وي دخل في ه غ يرهم من‬
‫ورثتهم بعد موتهم‪.‬‬
‫وس ى‬ ‫﴿ولَقَ ْد آتَ ْينَ ا ُم َ‬ ‫وقد أشار إلى هؤالء أيضا قوله تعالى عن بني إس رائيل‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫يل (‪َ )23‬و َج َعلنَ ا ِم ْنهُ ْم‬ ‫َاب فَاَل تَ ُك ْن فِي ِمرْ يَ ٍة ِم ْن لِقَائِ ِه َو َج َع ْلنَ اهُ هُ دًى لِبَنِي إِ ْس َرائِ َ‬ ‫ْال ِكت َ‬
‫صبَرُوا َو َكانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة‪]24 ،23 :‬؛ فقد ذك ر‬ ‫أَئِ َّمةً يَ ْه ُدونَ بِأ َ ْم ِرنَا لَ َّما َ‬
‫هللا تعالى أنه جعل في بني إسرائل من يهدي بأمره‪ ،‬ويسير على منهاجه‪ ،‬حتى يبقى‬
‫الدين الحق منارة يهتدي بها المهتدون‪.‬‬
‫ظ ُم‬‫ومثل ذلك قول ه تع الى عن زكري ا علي ه الس الم‪ ﴿ :‬قَ ا َل َربِّ إِنِّي َوهَنَ ْال َع ْ‬
‫ت ْال َم َوالِ َي ِم ْن‬ ‫اش تَ َع َل ال ر َّْأسُ َش ْيبًا َولَ ْم أَ ُك ْن بِ ُدعَائِكَ َربِّ َش قِيًّا (‪َ )4‬وإِنِّي ِخ ْف ُ‬ ‫ِمنِّي َو ْ‬
‫ث ِم ْن آ ِل‬ ‫ت امْ َرأَتِي َع اقِرًا فَهَبْ لِي ِم ْن لَ ُد ْنكَ َولِيًّا (‪ )5‬يَ ِرثُنِي َويَ ِر ُ‬ ‫َو َرائِي َو َك انَ ِ‬
‫ضيًّا (‪[ ﴾)6‬مريم‪]6 - 4 :‬؛ فزكريا عليه الس الم خش ي على‬ ‫وب َواجْ َع ْلهُ َربِّ َر ِ‬ ‫يَ ْعقُ َ‬
‫بني إسرائيل من بعده‪ ،‬فلذلك طلب من هللا تعالى أن يهبه من الول د من يك ون وارث ا‬
‫لهديه‪ ،‬ليبلغه لبني إسرائيل سليما نقيا من كل دنس‪.‬‬
‫اب‬ ‫وهكذا ورد اإلخبار عن هذه السنة اإللهية في قوله تعالى‪ ﴿ :‬ثُ َّم أَوْ َر ْثنَا ْال ِكتَ َ‬
‫اص طَفَ ْينَا ِم ْن ِعبَا ِدنَ ا﴾ [ف اطر‪ ،]32 :‬ثم بين مواق ف األمم من ه ؤالء‬ ‫الَّ ِذينَ ْ‬
‫ت بِ إِ ْذ ِن هَّللا ِ‬
‫ق بِ ْال َخي َْرا ِ‬ ‫المصطفين‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَ ِم ْنهُ ْم ظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه َو ِم ْنهُ ْم ُم ْقت ِ‬
‫َص ٌد َو ِم ْنهُ ْم َسابِ ٌ‬
‫﴾ [فاطر‪]32 :‬‬
‫ولذلك فإن هذا النوع من الشهود يقدمون تقاريرهم يوم القيامة على العص ور‬
‫والق رى ال تي كلف وا به ا‪ ،‬مثلم ا ن راه في الواق ع من أن ك ل مؤسس ة تس ند أموره ا‬
‫لشخص معين‪ ،‬يقدم تقريره في األخير عن كيفية سير المؤسسة في عهده‪ ،‬ومن كان‬
‫صادقا ومواظبا من الموظفين‪ ،‬ومن كان غير ذلك‪.‬‬
‫وربم ا تك ون اإلش ارة األوض ح له ذا الن وع من الش هود وأهميتهم هي تل ك‬
‫اف‬‫الواردة في سورة األعراف‪ ،‬والذي ورد ذكرهم في قوله تع الى‪َ ﴿ :‬و َعلَى اأْل َعْ َر ِ‬
‫ْرفُونَ ُكاًّل بِ ِسي َماهُ ْم﴾ [األعراف‪ ،]46 :‬فه ذا الوص ف ينطل ق على الش هود‬ ‫ِر َجا ٌل يَع ِ‬
‫الذين يميزون الملتزمين بالدين الحقيقي عن غ يرهم عن طري ق تل ك الس مات ال تي‬
‫تظهر في ذلك الحين‪.‬‬
‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)208 /6( ،‬‬

‫‪210‬‬
‫ويظهر ذلك بوضوح في مخاطبة رجال األعراف ألهل الن ار‪ ،‬وت أنيبهم لهم‪،‬‬
‫ْرفُونَهُ ْم بِ ِسي َماهُ ْم قَالُوا َما أَ ْغنَى َع ْن ُك ْم‬ ‫اف ِر َجااًل يَع ِ‬ ‫﴿ونَادَى أَصْ َحابُ اأْل َ ْع َر ِ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َج ْم ُع ُك ْم َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْستَكبِرُونَ (‪ )48‬أهَؤُاَل ِء ال ِذينَ أق َس ْمتُ ْم اَل يَنَ الهُ ُم ُ بِ َرحْ َم ٍة ا ْد ُخل وا‬
‫ف َعلَ ْي ُك ْم َواَل أَ ْنتُ ْم تَحْ زَ نُونَ ﴾ [األعراف‪]49 ،48 :‬‬ ‫ْال َجنَّةَ اَل خَ وْ ٌ‬
‫فهذا يدل على أن أولئ ك الرج ال ك انوا يعرف ون األس باب ال تي انح رف به ا‬
‫المنحرفون‪ ،‬ويؤنبونهم بسببها‪ ،‬ويعاتبونهم على تلك المواق ف الس لبية ال تي وقفوه ا‬
‫مع المؤمنين‪.‬‬
‫ويزيد ذلك وضوحا المحل الذي وق ف في ه أص حاب األع راف‪ ،‬وه و ـ كم ا‬
‫ذكر المفسرون ـ جبل بين الجنة والنار‪ ،‬أو سور بين الجنة والن ار‪ ،‬وه ذا ي دل على‬
‫أنه المكان الفاصل بينهما‪ ،‬والذي يميز الواقف فيه بينهما‪ ،‬ألن التمي يز ال يك ون من‬
‫داخل المحل‪ ،‬بل من خارجه‪.‬‬
‫ات لِلَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬ ‫وربما يشير إلى هذا قوله تعالى‪﴿ :‬يوْ َم يَقُو ُل ْال ُمنَافِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ‬
‫ب بَ ْينَهُ ْم بِ ُس ٍ‬
‫ور‬ ‫ض ِر َ‬ ‫ور ُك ْم قِي َل ارْ ِجعُوا َو َرا َء ُك ْم فَ ْالتَ ِمسُوا نُورًا فَ ُ‬ ‫ا ْنظُرُونَا نَ ْقتَبِسْ ِم ْن نُ ِ‬
‫لَهُ بَابٌ بَا ِطنُ هُ فِي ِه الرَّحْ َم ةُ َوظَ ا ِه ُرهُ ِم ْن قِبَلِ ِه ْال َع َذابُ (‪ )13‬يُنَ ادُونَهُ ْم أَلَ ْم نَ ُك ْن َم َع ُك ْم‬
‫قَالُوا بَلَى َولَ ِكنَّ ُك ْم فَتَ ْنتُ ْم أَ ْنفُ َس ُك ْم َوت ََربَّصْ تُ ْم َوارْ تَ ْبتُ ْم َو َغ َّر ْت ُك ُم اأْل َ َمانِ ُّي َحتَّى َج ا َء أَمْ ُر هَّللا ِ‬
‫َو َغ َّر ُك ْم بِاهَّلل ِ ْال َغرُو ُر (‪[ ﴾)14‬الحديد‪]14 ،13 :‬‬
‫فهات ان اآليت ان الكريمت ان‪ ،‬تبين ان دور أص حاب األع راف في التمي يز بين‬
‫المؤمنين والمنافقين‪ ..‬ذلك أن أولئ ك المن افقين ق د يب دون في ظ اهرهم‪ ،‬ومن خالل‬
‫سلوكاتهم أنهم من المؤمنين بينما هم في الواقع ليسوا كذلك‪.‬‬
‫وه ذا ي دل على أن من أهم أدوار الش هود تمحيص أه ل الجن ة والن ار‪ ،‬فق د‬
‫يكون الكتاب الخاص بالشخص جيدا في ظ اهره‪ ،‬حيث يك ون ل ه في ه قي ام وص يام‬
‫وصالة كثيرة‪ ،‬وأعمال صالحة كثيرة‪ ،‬ولكنه في نفس الوقت ربما يكون قد أفتى من‬
‫الفتاوى‪ ،‬أو أصدر من البيانات‪ ،‬أو كتب من الكتب‪ ،‬أو ادعى من ال دعاوى م ا انه د‬
‫له بنيان الدين‪ ،‬وكانت آثاره خطيرة على المؤمنين‪ ..‬ول ذلك يم يز ه ذا الص نف من‬
‫خالل شهادة األنبياء وورثتهم‪.‬‬
‫وربما يكون له ؤالء الش هود أيض ا دور في الش فاعة‪ ،‬ذل ك أن من المؤم نين‬
‫الصادقين من يكون ص احب أعم ال كب يرة‪ ،‬وذات ت أثير ع ام مهم‪ ،‬ولكن ه في نفس‬
‫الوقت كان مقصرا في شؤونه الخاصة‪ ،‬حيث لم تكن ل ه ص الة كث يرة‪ ،‬وال أعم ال‬
‫صالحة كثيرة‪ ،‬ولذلك يغطى قصوره بما فعله من األفع ال الص الحة العام ة‪ ،‬أو من‬
‫خالل مواالته للقائمين على الدين الهداة إليه‪.‬‬
‫وربما يش ير إلى ه ذا المع نى قول ه تع الى في الق ائمين على تل ك األع راف‪:‬‬
‫ت‬ ‫ُرفَ ْ‬ ‫ط َمعُونَ (‪َ )46‬وإِ َذا ص ِ‬ ‫اب ْال َجنَّ ِة أَ ْن َساَل ٌم َعلَ ْي ُك ْم لَ ْم يَ ْد ُخلُوهَا َوهُ ْم يَ ْ‬ ‫﴿ َونَادَوْ ا أَصْ َح َ‬
‫ار قَالُوا َربَّنَا اَل تَجْ َع ْلنَ ا َم َع ْالقَ وْ ِم الظَّالِ ِمينَ ﴾ [األع راف‪:‬‬ ‫ب النَّ ِ‬ ‫صا ُرهُ ْم تِ ْلقَا َء أَصْ َحا ِ‬ ‫أَ ْب َ‬
‫‪]47 ،46‬‬
‫وهذا يدل على أنه يكون مع أولئك الهداة من ورثة األنبياء من يكون مقص را‬

‫‪211‬‬
‫في شؤونه الخاصة‪ ،‬وإن كان مجتهدا في الش ؤون العام ة‪ ،‬ول ذلك ي ذكر طمع ه في‬
‫الجنة‪ ،‬وخوفه من النار‪.‬‬
‫ويش ير إلى ه ذا من الح ديث م ا روي أن ه ‪ ‬ق ال عن بعض أص حاب‬
‫األعراف‪( :‬هم قوم غزوا في سبيل هللا عصاة آلب ائهم‪ ،‬فقتل وا ف اعتقهم هللا من الن ار‬
‫بقتلهم في سبيله‪ ،‬وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم‪ ،‬فهم آخر من ي دخل الجن ة)(‪،)1‬‬
‫وفي رواية‪( :‬قوم قتلوا في سبيل هللا بمعصية آب ائهم‪ ،‬فمنعهم قتلهم في س بيل هللا عن‬
‫النار‪ ،‬ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة) (‪)2‬‬
‫فهذا الحديث ـ إن صح ـ يشير إلى أن هؤالء كان لهم دور صالح بالجه اد في‬
‫س بيل هللا‪ ،‬وال ذي يخ دم مس يرة األم ة‪ ،‬لكنهم في نفس ال وقت قص روا في طاع ة‬
‫آبائهم‪ ،‬وهي من المعاصي المتعدية‪ ،‬ولكنها في نفس الوقت شخصية‪ ،‬وليس عامة‪.‬‬
‫وهذا كله يدل على أن ذلك المحل يجتمع فيه اله داة م ع غ يرهم من أتب اعهم‪،‬‬
‫وهو ما خل ط األم ر على المفس رين ال ذين اض طربت أق والهم في تفس ير أص حاب‬
‫األعراف(‪ )3‬بناء على ما يذكره أتباعهم من الطمع في الجنة‪.‬‬
‫لكن لو أنهم اعتبروا األعراف محال يجتمع فيه األئمة اله داة م ع أتب اعهم من‬
‫ال ذين ذك رهم هللا تع الى في قول ه‪﴿ :‬فَ ِم ْنهُ ْم ظَ الِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه َو ِم ْنهُ ْم ُم ْقت ِ‬
‫َص ٌد َو ِم ْنهُ ْم َس ابِ ٌ‬
‫ق‬
‫ت بِإِ ْذ ِن هَّللا ِ ﴾ [فاطر‪ ]32 :‬لحلت كل اإلشكاالت‪.‬‬ ‫بِ ْالخَ ي َْرا ِ‬
‫ت﴾ [التكوير‪ ،]7 :‬وه و‬ ‫خاصة إذا دعم ذلك بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا النُّفُوسُ ُز ِّو َج ْ‬
‫ما يشير إلى أن كل المتشاكلين يجتمعون في محل واحد‪ ،‬كم ا روي في الح ديث أن‬
‫رجال جاء إلى رسول هللا ‪‬؛ فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬كيف تق ول في رج ل أحب قوم ا‬
‫ولم يلحق بهم؟ فقال رسول هللا ‪( :‬المرء مع من أحب)(‪)4‬‬
‫وه ذا الق ول ال ذي اخترن اه‪ ،‬وال ذي تجتم ع في ه اآلي ات القرآني ة الخاص ة‬
‫بأصحاب األعراف قال به الكثير من العلماء من المدرستين السنية والشيعية‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪)192 /8‬‬


‫‪ )(2‬تفسير الطبري (‪)192 /8‬‬
‫‪ )(3‬ذكر القرطبي في تفسيره [الجامع ألحكام القرآن (‪ ])7/211‬عشرة أق وال في المس ألة‪ ،‬هي‪( :‬ق ال عب د هللا‬
‫بن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وابن جبير‪ :‬هم قوم استوت حس ناتهم وس يئاتهم‪ ..‬وق ال‬
‫مجاهد‪ :‬هم قوم صالحون فقهاء علماء‪ ،‬وقيل‪ :‬هم الشهداء‪ ..‬وق ال القش يري‪ :‬وقي ل هم فض الء المؤم نين والش هداء‪..‬‬
‫وقال شرحبيل بن س عد‪ :‬هم المستش هدون في س بيل هللا ‪ ،‬ال ذين خرج وا الى الجه اد عص اة آلب ائهم‪ ..‬وق ال الثعل بي‪:‬‬
‫األعراف موضع عال على الصـراط ‪ ،‬علي ه العب اس وحم زة وعلي بن أبي ط الب وجعف ر ذو الجن احين‪ ،‬يعرف ون‬
‫محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه‪ ..‬وقال الزجاج‪ :‬هم قوم أنبياء‪ ..‬وقيل‪ :‬هم ق وم ك انت لهم ص غائر لم‬
‫تكفر عنهم ب اآلالم والمص ائب في ال دنيا‪ ،‬وليس ت لهم كب ائر‪ ،‬فيحبس ون عن الجن ة لين الهم ب ذلك َغ ٌّم فيق ع في مقابل ة‬
‫صغائرهم‪ ..‬وقيل‪ :‬هم أوالد الزنى ‪ ،‬ذكره القشيري عن ابن عباس‪ ..‬وقيل‪ :‬هم مالئكة موكلون بهذا الس ور‪ ،‬يم يزون‬
‫الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار ‪ ،‬ذكره أبو مجلز‪ .‬فقيل له ال يقال للمالئكة رجال ! فق ال‪ :‬إنهم ذك ور‬
‫وليسوا بإناث‪ ..‬وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم‪ ،‬وهم في ك ل أم ة ‪ .‬واخت ار‬
‫هذا القول النحاس ‪ ،‬وقال‪ :‬وهو من أحسن ما قيل فيه ‪ ،‬فهم على السور بين الجنة والن ار‪ ..‬وق ال ابن عطي ة‪ :‬والالزم‬
‫من اآلية أن على األعراف رجاالً من أهل الجنة ‪ ،‬يتأخر دخولهم)‬
‫‪ )(4‬البخاري (‪ ، )6169‬ومسلم (‪)2640‬‬

‫‪212‬‬
‫فمن المدرسة السنية‪ ،‬قال الشيخ محمد رشيد رضا‪( :‬فكما ثبت أن كل رس ول‬
‫يشهد على أمته أن أمة محم د ‪ ‬ش هداء على جمل ة من األمم بع ده؛ ثبت أيض ا ً أن‬
‫في األمم شهداء غير األنبياء عليهم السالم‪ ،‬قال هللا تعالى‪﴿ :‬فَ َكيْفَ إِ َذا ِج ْئنَ ا ِم ْن ُك لِّ‬
‫أُ َّم ٍة بِ َش ِهي ٍد َو ِج ْئنَا بِكَ َعلَى هَؤُاَل ِء َش ِهيدًا ﴾ [النساء‪ ،]41 :‬وقال في خطاب هذه األمة‪:‬‬
‫َّس و ُل َعلَ ْي ُك ْم‬
‫اس َويَ ُك ونَ الر ُ‬ ‫ك َج َع ْلنَ ا ُك ْم أُ َّمةً َو َس طًا لِتَ ُكونُ وا ُش هَدَا َء َعلَى النَّ ِ‬‫﴿ َو َك َذلِ َ‬
‫ور َربِّهَ ا‬ ‫ت األرْ ضُ بِنُ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َش ِهيدًا ﴾ [البقرة‪ ،]143 :‬وقال في صفة يوم القيامة‪َ ﴿ :‬وأ ْش َرقَ ِ‬
‫ْ‬
‫ق َوهُ ْم اَل يُظلَ ُم ونَ ﴾‬ ‫الش هَدَا ِء َوقُ ِ‬
‫ض َي بَ ْينَهُ ْم بِ ال َح ِّ‬ ‫ض َع ال ِكتَ ابُ َو ِجي َء بِ النَّبِيِّينَ َو ُّ‬ ‫َو ُو ِ‬
‫[الزمر‪ ،]69 :‬وه ؤالء الش هداء هم حج ة هللا على الن اس في ك ل زم ان بفض ائلهم‬ ‫ُّ‬
‫واستقامتهم على الحق والتزامهم للخير وأعمال البر)(‪)1‬‬
‫وقد ذكر الفخر الرازي اإلشكال الوارد على هذا القول‪ ،‬وه و الوص ف ال ذي‬
‫وصف به أصحاب األعراف‪ ،‬وال يليق بأمثال هؤالء الهداة‪ ،‬وهو قول ه تع الى‪ ﴿ :‬لَ ْم‬
‫ط َمعُونَ ﴾ [األع راف‪ ،]46 :‬ثم أج اب علي ه بقول ه‪( :‬أج اب ال ذاهبون‬ ‫يَ ْد ُخلُوهَا َوهُ ْم يَ ْ‬
‫إلى ه ذه الوج ه ب أن ق الوا‪ :‬ال يبع د أن يق ال‪ :‬إن ه تع الى بين من ص فات أص حاب‬
‫األعراف أن دخولهم الجنة يتأخر؛ والس بب في ه أن ه تع الى م يزهم عن أه ل الجن ة‬
‫وأه ل الن ار‪ ،‬وأجلس هم على تل ك الش رفات العالي ة واألمكن ة المرتفع ة‪ ،‬ليش اهدوا‬
‫أح وال أه ل الجن ة وأح وال أه ل الن ار‪ ،‬فيلحقهم الس رور العظيم بمش اهدة تل ك‬
‫األحوال‪ ،‬ثم استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار‪ ،‬فحينئذ ينقلهم هللا تعالى‬
‫إلى أمكنتهم العالية في الجن ة‪ ،‬فثبت أن ك ونهم غ ير داخلين في الجن ة‪ ،‬ال يمن ع من‬
‫كم ال ش رفهم وعل و درجتهم‪ ،‬وأم ا الطم ع الم ذكور في اآلي ة‪ ،‬فه و على م ا ذك ر‬
‫هؤالء‪ ،‬يكون معناه‪ :‬اليقين‪ ،‬ال الطمع الذي ال يثق ص احبه بحص ول الم راد‪ ،‬وعلى‬
‫ِّين ﴾‬ ‫خَط يئَتِي يَ وْ َم ال د ِ‬ ‫ط َم ُع أَن يَ ْغفِ َر لِي ِ‬ ‫ه ذا قول ه تع الى عن إب راهيم‪َ ﴿ :‬والَّ ِذي أَ ْ‬
‫[الشعراء‪ ]82 :‬فهذا الطمع طمع يقين)(‪)2‬‬
‫وقال ابن عربي‪( :‬ورجال األعراف وهم رجال الح ّد‪ ..‬أه ل الش م‪ ،‬والتمي يز‪،‬‬
‫والسـراح عن األوصاف فال صفة لهم‪ ..‬كان منهم أبو يزي د البس طامي! ورج ا ٌل إذا‬
‫اس بِ ْال َح ِّج‬ ‫دعاهم الحق إليه يأتونه رجاالً لسرعة اإلجابة ال يركب ون‪َ ﴿ :‬وأَ ِّذ ْن فِي النَّ ِ‬
‫ك ِر َج ااًل ﴾ [الحج‪ ]27 :‬وهم رج ال المطل ع‪ .‬فرج ال الظ اهر هم ال ذين لهم‬ ‫يَ أْتُو َ‬
‫التصرف في عالم الملك والشهادة وهم الذين كان يش ير إليهم الش يخ محم د بن قائ د‬
‫األواني‪ .‬وهو المقام الذي تركه الشيخ العاقل أبو السعود بن الشبل البغدادي أدبا ً م ع‬
‫هللا)(‪)3‬‬
‫وقال في تفسيره‪( :‬وعلى األعراف‪ :‬أي على أع الي ذل ك الحج اب ال ذي ه و‬
‫حجاب القلب الفارق بين الفريقين‪ ،‬هؤالء عن يمينه وهؤالء عن ش ماله‪ .‬رج الٌ‪ :‬هم‬

‫‪ )(1‬تفسير المنار (‪)432 /8‬‬


‫‪ )(2‬التفسير الكبير (‪)88 /14‬‬
‫‪ )(3‬الفتوحات المكية (‪.)1/158‬‬

‫‪213‬‬
‫العرفاء أهل هللا وخاصته‪ ،‬يعرف ون كالً من الف ريقين بس يماهم‪ ،‬يس لمون على أه ل‬
‫الجنة بإمداد أسباب التزكية والتحلية واألن وار القلبي ة وإفاض ة الخ يرات والبرك ات‬
‫عليهم‪ ،‬لم يدخلوا الجنة لتجردهم عن مالبس صفات النفوس وطيباته ا وت رقيهم عن‬
‫طورهم‪ ،‬فال يشغلهم عن الشهود الذاتي ومطالعة التجلي الصفاتي نعيم)(‪)1‬‬
‫أما القائلون بهذا من المدرسة الشيعية فكث يرون ج دا(‪ )2‬بن اء على الرواي ات‬
‫ال تي ص حت عن دهم عن أئم ة أه ل ال بيت‪ ،‬وليس من ف رق بينهم وبين م ا ذك ره‬
‫القائلون بهذا إال في المصاديق الذين يصدق عليهم ذلك الوصف‪.‬‬
‫ومن أقوالهم في ذلك قول العالمة الكب ير محم د حس ين الطباطب ائي ص احب‬
‫[تفس ير الم يزان]‪( :‬وعلى األع راف رج ال ُمشـرفون على الن اس من األولين‬
‫واآلخرين‪ ،‬يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختالف مقاماتهم‬
‫ودرجاتهم ودركاتهم‪ ،‬من أعلى عليين إلى أسفل سافلين‪ ،‬ويعرفون كالً منهم بم ا ل ه‬
‫من الحال الذي يخصه‪ ،‬والعمل الذي عمله‪ ،‬لهم أن يكلموا من شاءوا منهم‪ ،‬ويؤ ِّمنوا‬
‫من شاءوا‪ ،‬ويأمروا بدخول الجنة بإذن هللا‪ .‬ويس تفاد من ذل ك أن لهم موقف ا ً خارج ا ً‬
‫من موقفي السعادة التي هي النجاة بصالح العمل‪ ،‬والشقاوة ال تي هي الهالك بط الح‬
‫العمل‪ ،‬ومقاما ً أرفع من المقامين معاً‪ ،‬ول ذلك ك ان مص دراً للحكم والس لطة عليهم ا‬
‫جميعاً)(‪)3‬‬
‫ومن أحسن أقوالهم في ذلك وأدقها وأجمعها ما ذكره الشيخ مكارم الشيرازي‬
‫في تفسيره‪ ،‬والذي حاول أن يجمع فيه بين األقوال جميعا‪ ،‬وهو يؤكد ما ذكرنا‪ ،‬فق د‬
‫قال في مقدمة بحثه حول أصحاب األعراف‪( :‬األعراف في األصل منطقة مرتفعة‪،‬‬
‫ويتضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئم ة اإلس الم‪ ،‬أن ه‬
‫مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء‪ ،‬أي الجنة والنار‪ ،‬وه و كحج اب حائ ل بين‬
‫ه ذين‪ ،‬أو ك أرض مرتفع ة فص لت بين ه ذين الموض عين بحيث يش رف من يق ف‬
‫عليه ا على الجن ة والن ار‪ ،‬ويش اهد كال الف ريقين‪ ،‬ويع رفهم بوج وههم المبيض ة أو‬
‫المسودة‪ ،‬المشرقة أو المظلمة المكفهرة) (‪)4‬‬
‫ثم ذكر األوصاف الواردة لهؤالء ـ حسبما ورد في القرآن الكريم ـ فقال‪( :‬إن‬
‫دراسة اآليات األربع تفيد أنه ذكر لهؤالء األشخاص نوعين متناقضين مختلفين من‬
‫الصفات‪ ،‬ففي اآلية األولى والثانية وصف الواقفون على األعراف بأنهم يتمنون أن‬
‫يدخلوا الجنة‪ ،‬ولكن ثمة موانع تح ول دون ذل ك‪ ،‬وعن دما ينظ رون إلى أه ل الجن ة‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن عربي (‪)1/258‬‬


‫‪ )(2‬لم يتفق الشيعة على هذا القول‪ ،‬فقد قال صدر المتألهين الشيرازي في [األسفار األربع ة (‪( :])5/316‬وأم ا‬
‫األعراف فهو سور بين الجنة والنار‪ ،‬له باب باطنه وهو ما يلي الجنة فيه الرحم ة ‪ ،‬وظ اهره وه و م ا يلي الن ار من‬
‫قبله العذاب‪ ،‬يكون عليه من تساوت كفتا ميزانه ‪ ،‬فهم ينظرون بعين إلى الجنة وبعين أخرى إلى النار)‪ .‬وذك ر نح وه‬
‫أسرار اآليات‪ ، 200/‬والشواهد الربوبية‪..312/‬‬
‫‪ )(3‬تفسير الميزان‪)8/132( :‬‬
‫‪ )(4‬تفسير األمثل (‪)58 /5‬‬

‫‪214‬‬
‫يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون ل و يكون ون معهم‪ ،‬ولكنهم ال يس تطيعون فعال أن‬
‫يكونوا معهم‪ ،‬وعندما ينظرون إلى أهل النار يستوحشون مما آلوا إليه من المصير‪،‬‬
‫ويتعوذون بأن يكونوا منهم‪ ..‬ولكن يستفاد من اآلية الثالثة والرابعة بأنهم أف راد ذوو‬
‫نفوذ وقدرة‪ ،‬يوبخون أهل النار ويعاتبونهم‪ ،‬ويساعدون الضعفاء في األعراف على‬
‫العبور إلى منزل السعادة)(‪)1‬‬
‫ثم ذكر أصناف الروايات الواردة في حقهم في المدرس تين الس نية والش يعية‪،‬‬
‫فق ال‪( :‬وق د قس مت الرواي ات ال واردة في ه ذا المج ال أه ل األع راف الى ه ذين‬
‫الفريقين المختلفين أيضا‪ ،‬ففي بعض األحاديث ال واردة عن أئم ة أه ل ال بيت نق رأ‪:‬‬
‫«نحن األعراف»‪ ،‬أو عبارة‪« :‬آل محمد هم األع راف»‪ ،‬وم ا ش ابه ه ذه التع ابير‪،‬‬
‫ونقرأ في طائفة أخرى عب ارة‪« :‬هم أك رم الخل ق على هللا تب ارك وتع الى» أو «هم‬
‫الش هداء على الن اس والن بيون ش هداؤهم»‪ ،‬ورواي ات أخ رى تحكي أنهم األنبي اء‬
‫واألئم ة والص لحاء واألولي اء‪ ..‬لكن طائف ة أخ رى مثلم ا ورد عن اإلم ام الص ادق‬
‫تقول‪« :‬هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم‪ ،‬فإن أدخلهم الن ار فب ذنوبهم‪ ،‬وإن أدخلهم‬
‫الجنة فبرحمته»‪ ،‬وثمة روايات متعددة أخرى في تفاسير أه ل الس نة ق د رويت عن‬
‫«حذيفة» و«عبدهللا بن عباس» و«سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون) (‪)2‬‬
‫وبناء على هذا راح يذكر وجهة نظره‪ ،‬وهي تتف ق م ع م ا ذكرن ا من ش مول‬
‫أصحاب األعراف للش هداء اله داة‪ ،‬وأتب اعهم من الص ادقين المقص رين في العم ل‬
‫الصالح‪ ،‬فقال‪( :‬بالرغم من أن ظاهر اآليات وظاهر ه ذه الرواي ات تب دو متناقض ة‬
‫في بدو النظر‪ ،‬ولعل ه له ذا الس بب أب دى المفس رون في ه ذا المج ال آراء مختلف ة‪،‬‬
‫ولكن مع التدقيق واإلمعان يتضح أنه ال يوجد أي تناقض ومنافاة‪ ،‬ال بين اآليات وال‬
‫بين األحاديث‪ ،‬بل جميعها تشير إلى حقيق ة واح دة‪ ،‬وتوض يح ذل ك‪ :‬إن ه يس تفاد من‬
‫مجموع اآلي ات والرواي ات أن األع راف مع بر ص عب العب ور على طري ق الجن ة‬
‫والسعادة األبدية‪ ،‬ومن الطبيعي أن األقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون‬
‫هذا المعبر الصعب بسرعة‪ ،‬أما الض عفاء ال ذي خلط وا عمال ص الحا‪ ،‬وآخ ر س يئا‬
‫فيعجزون عن العبور‪ ،‬كما أنه من الطبيعي أيض ا أن تق ف قي ادات الجم وع وس ادة‬
‫القوم عند هذه المعابر الص عبة مث ل الق ادة العس كريين ال ذين يمش ون في مث ل ه ذه‬
‫الحاالت في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع‪ .‬يقفون هناك ليساعدوا ض عفاء اإليم ان‪،‬‬
‫فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومع ونتهم ونج دتهم‪ ،‬وعلى ه ذا األس اس‪،‬‬
‫فأص حاب األع راف فريق ان‪ :‬ض عفاء اإليم ان والمتورط ون في ال ذنوب ال ذين هم‬
‫بحاجة إلى الرحمة‪ ،‬واألئمة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع األحوال) (‪)3‬‬
‫ثم ق رب ص ورة ذل ك من خالل النش أة األولى‪ ،‬فق ال‪( :‬والنقط ة الج ديرة‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪)58 /5( ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)59 /5( ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)59 /5( ،‬‬

‫‪215‬‬
‫باإللتف ات هي أن الحي اة في الع الم اآلخ ر مبتني ة على أس اس النم اذج والعين ات‬
‫الموجودة في ه ذه ال دنيا‪ ،‬فهك ذا الح ال بالنس بة إلى األع راف‪ ،‬ألن الن اس في ه ذه‬
‫الدنيا ثالث فرق‪ :‬المؤمنون الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء‬
‫اإليم ان‪ ،‬ولم ي دخروا وس عا في طري ق المجاه دة‪ ،‬والمعان دون وأع داء الح ق‬
‫المتصلبون المتمادون في لجاجهم الذين ال يهتدون بأية وس يلة‪ ،‬والفري ق الث الث هم‬
‫الذين يقفون في هذا الممر الصعب عبوره ـ في الوسط بين الف ريقين‪ ،‬وأك ثر عناي ة‬
‫الق ادة الص ادقين وأئم ة الح ق موجه ة إلى ه ؤالء‪ ،‬فهم يبق ون إلى ج انب ه ؤالء‪،‬‬
‫ويأخ ذون بأي ديهم إلنق اذهم وتخليص هم من مرحل ة األع راف ليس تقروا في ص ف‬
‫المؤمنين الحقيقيين‪ ،‬ومن هنا يتضح أن تدخل األنبياء واألئمة في انق اذ ه ذا الفري ق‬
‫في اآلخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا ال ينافي أبدا قدرة هللا وحاكميته على ك ل ش يء‪،‬‬
‫بل كل ما يفعلونه إنما هو بإذن هللا تعالى وأمره) (‪)1‬‬
‫وبذلك يكون دور هؤالء يشبه الشفعاء من ناحية ش فاعتهم للمؤم نين الث ابتين‬
‫على الح ق‪ ،‬المقص رين في القي ام بتكاليف ه‪ ،‬وفي نفس ال وقت دور المتش دد م ع‬
‫غيرهم‪ ،‬من الذين واجهوا الحق‪ ،‬وحاربوه وحرفوه‪.‬‬
‫د ـ شهادة المالئكة‪:‬‬
‫وهي من الش هادات الك برى المعت برة‪ ،‬ألن من التك اليف ال تي كل ف به ا‬
‫المالئكة الحضور الدائم في حياة البشر‪ ،‬وتسجيل أعمالهم‪ ،‬وبدقة عالية‪ ،‬وهم ليس وا‬
‫محصورين فقط في المالئك ة الكتب ة‪ ،‬ب ل هن اك مالئك ة لهم أدوار أخ رى في حي اة‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهدايته‪ ،‬ولهم دورهم أيضا في ذلك العالم بالشهادة‪.‬‬
‫وقد ذكرنا سابقا قوله ‪ ‬في إثبات شهادة المالئكة‪( :‬عجبت من مجادلة العبد‬
‫ربه يوم القيامة‪ ،‬يقول‪ :‬أي ربي‪ ،‬أليس وعدتني أال تظلمني؟ ق ال‪ :‬بلى فيق ول‪ :‬ف إني‬
‫ال أقبل علي شاهدا إال من نفسي‪ .‬فيقول هللا تبارك وتع الى‪ :‬أو ليس كفى بي ش هيدا‪،‬‬
‫وبالمالئكة الكرام الكاتبين؟! قال‪ :‬ف يردد ه ذا الكالم م رارا‪ ،‬فيختم على في ه‪ ،‬وتتكلم‬
‫أركانه بما كان يعمل‪ ،‬فيقول‪ :‬بعدا لكن وسحقا‪ ،‬عنكن كنت أجادل) (‪)2‬‬
‫﴿وإِ َّن َعلَ ْي ُك ْم لَ َح افِ ِظينَ ِك َرامًا ك اتِبِينَ‬
‫َ‬ ‫وأش ار إلى ه ذه الش هادة قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ان َع ِن الي ِمي ِن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يَ ْعلَ ُمونَ َما تَ ْف َعلُونَ ﴾ [االنفطار‪ ،]11 - 10 :‬وقول ه‪﴿ :‬إِذ يَتلقى ال ُمتلقيَ ِ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫َو َع ِن ال ِّش َما ِل قَ ِعيد َما يَ ْلفِظُ ِمن قَوْ ٍل إِاَّل لَدَيْ ِه َرقِيبٌ َعتِي ٌد ﴾ [ق‪ ،]18 - 17 :‬وقول ه‪:‬‬
‫ع‬ ‫ضرَّاء َم َّس ْتهُ ْم إِ َذا لَهُم َّمكْ ٌر فِي آيَاتِنَ ا قُ ِل هللاُ أَ ْس َر ُ‬ ‫﴿ َوإِ َذا أَ َذ ْقنَا النَّ َ‬
‫اس َرحْ َمةً ِّمن بَ ْع ِد َ‬
‫َم ْكرًا إِ َّن ُر ُسلَنَا يَ ْكتُبُونَ َما تَ ْم ُكرُونَ ﴾ [يونس‪ ،]21:‬وقوله‪﴿ :‬أَ ْم يَحْ َس بُونَ أَنَّا اَل ن َْس َم ُع‬
‫ِس َّرهُ ْم َونَجْ َواهُم بَلَى َو ُر ُسلُنَا لَ َد ْي ِه ْم يَ ْكتُبُونَ ﴾ [الزخرف‪]80:‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تثبت كتاب ة المالئك ة لك ل أعم ال اإلنس ان‪،‬‬
‫وأنها ستحضر يوم القيامة مع تلك الكتب لتكون شاهدة على ما فيها‪.‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪)60 /5( ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم (‪ ،)18‬وأبو يعلى الموصلي في مسنده برقم ‪3975‬‬

‫‪216‬‬
‫باإلضافة إلى ه ذا‪ ،‬يحض ر غ يرهم من المالئك ة من ال ذين وكل وا باالهتم ام‬
‫بشؤون أخرى غير الكتابة من أمثال االهتمام بمجالس الذكر‪ ،‬كم ا ورد في الح ديث‬
‫الشريف قوله ‪( :‬ال يقعد قوم يذكرون هللا عز وجل إال حفتهم المالئكة‪ ،‬وغش يتهم‬
‫الرحمة‪ ،‬ونزلت عليهم السكينة‪ ،‬وذكرهم هللا فيمن عنده)(‪ ،)1‬وروي أن ه بينم ا ك ان‬
‫رسول هللا ‪ ‬يصلي‪ ،‬وعند رفع رأس ه من الرك وع‪ ،‬وقول ه‪ :‬س مع هللا لمن حم ده‪،‬‬
‫قال رجل وراءه‪( :‬ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيبا ً مباركا ً فيه)‪ ،‬فلما انصرف قال‪:‬‬
‫من المتكلم؟ فقال الرجل‪ :‬أنا‪ ،‬فقال ‪( :‬رأيت بضعة وثالثين ملكا ً يبت درونها‪ ،‬أيهم‬
‫يكتبها أوالً) (‪)2‬‬
‫أو من المالئكة الموكلين بي وم الجمع ة‪ ،‬كم ا ق ال ‪( :‬إذا ك ان ي وم الجمع ة‬
‫وقفت المالئكة على ب اب المس جد يكتب ون األول ف األول‪ ،‬ف إذا خ رج اإلم ام ط ووا‬
‫صحفهم‪ ،‬وجلسوا يستمعون الذكر) (‪)3‬‬
‫أو المالئكة الموكلين بطلبة العلم‪ ،‬كما قال ‪( :‬إن المالئك ة لتض ع أجنحته ا‬
‫لطالب العلم رضا ً بما يصنع) (‪)4‬‬
‫أو المالئكة الموكلين بتبليغ السالم لرسول هللا ‪ ‬كما قال ‪( :‬إن هلل مالئكة‬
‫سياحين في األرض يبلغوني عن أمتي السالم) (‪)5‬‬
‫أو المالئكة المنتش رين في ك ل مح ل‪ ،‬كم ا ق ال ‪( :‬وال ذي نفس ي بي ده ل و‬
‫تدومون على ما تكونون عندي وفي ال ذكر‪ ،‬لص افحتكم المالئك ة على فرش كم وفي‬
‫ط رقكم)(‪ ،)6‬وفي رواي ة‪( :‬ل و أنكم تكون ون كم ا تكون ون عن دي ألظلتكم المالئك ة‬
‫بأجنحتها)(‪)7‬‬
‫وذكر ‪ ‬أن (رجالً زار أخا ً له في قرية أخرى‪ ،‬فأرصد هللا له على مدرجته‬
‫ملكاً‪ ،‬فلما أتى عليه‪ ،‬قال‪ :‬أين تريد؟ قال‪ :‬أريد أخا ً لي في هذه القرية‪ ،‬ق ال‪ :‬ه ل ل ك‬
‫عليه من نعمة تربّها؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬غير أني أحببته في هللا ع ّز وجلّ‪ ،‬ق ال‪ :‬ف إني رس ول‬
‫هللا إليك بأن هللا قد أحبك كما أحببته فيه)(‪)8‬‬
‫وغيره ا من األح اديث الكث يرة ال تي تثبت الحض ور ال دائم للمالئك ة عليهم‬
‫السالم في كل شؤون اإلنسان‪ ،‬ولذلك تتاح لهم ي وم القيام ة الفرص ة للش هادة‪ ،‬مث ل‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪..)2699‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ ،)799‬وأبو داود (‪)770‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ ،)929‬ومسلم (‪)850‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترم ذي (‪ ،)2682‬وأب و داود (‪ ،)3641‬وابن ماج ه (‪ ،)223‬وأحم د (‪ ،)21763( )196 /5‬وابن‬
‫حبان (‪)88( )289 /1‬‬
‫‪ )(5‬رواه النسائي (‪ ،)43 /3‬والدارمي (‪ ،)2774( )409 /2‬وابن حبان (‪ ،)195 /3‬والطبراني (‪،)220 /10‬‬
‫والحاكم (‪)456 /2‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم (‪)2750‬‬
‫‪ )(7‬رواه الترمذي (‪)2452‬‬
‫‪ )(8‬رواه مسلم (‪.)2567‬‬

‫‪217‬‬
‫غيرهم من الشهود‪ ،‬ألن العبرة في الشهود تكون بع دالتهم وص دقهم‪ ،‬باإلض افة إلى‬
‫حضورهم أو شهودهم لما يريدون الشهادة فيه‪.‬‬
‫هـ ـ شهود آخرون‪:‬‬
‫باإلضافة إلى أولئك الشهود الكرام‪ ،‬تذكر النصوص المقدس ة ش هودا آخ رين‬
‫كثيرين‪ ،‬تتاح لهم الشهادة لعالقتهم بالعمل أو الشخص الذي يري دون الش هادة ل ه أو‬
‫عليه‪.‬‬
‫ومن أولئك الشهود األرض التي مارس عليها العامل عمله‪ ،‬كما ق ال تع الى‪:‬‬
‫ت اأْل َرْ ضُ أَ ْثقَالَهَا (‪َ )2‬وقَا َل اإْل ِ ْن َسانُ َما لَهَا‬
‫ت اأْل َرْ ضُ ِز ْلزَ الَهَا (‪َ )1‬وأَ ْخ َر َج ِ‬
‫﴿إِ َذا ُز ْل ِزلَ ِ‬
‫ِّث أَ ْخبَا َرهَا (‪ )4‬بِأ َ َّن َربَّكَ أَوْ َحى لَهَا﴾ [الزلزلة‪]5 - 1 :‬‬ ‫(‪ )3‬يَوْ َمئِ ٍذ تُ َحد ُ‬
‫َ‬ ‫وق د روي أن رس ول هللا ‪ ‬ق رأ قول ه تع الى‪﴿ :‬يَوْ َمئِ ٍذ تُ َح د ُ‬
‫ِّث أ ْخبَا َرهَ ا﴾‬
‫[الزلزل ة‪ ،]4 :‬ثم ق ال‪ :‬أت درون م ا أخباره ا؟ ق الوا‪ :‬هللا ورس وله أعلم‪ .‬ق ال‪( :‬ف إن‬
‫أخبارها أن تشهد على كل عبد وأم ة بم ا عم ل على ظهره ا‪ ،‬أن تق ول‪ :‬عم ل ك ذا‬
‫وكذا‪ ،‬يوم كذا وكذا‪ ،‬فهذه أخبارها)(‪)1‬‬

‫وفي ح ديث آخ ر دع ا ‪ ‬إلى اعتب ار ه ذه الش هادة والح ذر منه ا‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(تحفظوا من األرض‪ ،‬فإنها أمكم‪ ،‬وإنه ليس من أحد عامل عليها خ يرا أو ش را‪ ،‬إال‬
‫وهي مخبرة) (‪)2‬‬
‫وبين ‪ ‬فض ل اآلذان لش هادة ك ل من يس معه من ش جر وحج ر‪ ،‬فق ال‪( :‬ال‬
‫جن وال إنسٌ ‪ ،‬وال شي ٌء إال شهد له يوم القيامة) (‪)3‬‬ ‫يسمع مدى صوت المؤذن ٌ‬
‫وهذا ينطلق من الرؤي ة اإلس المية لألرض‪ ،‬ب ل للك ون جميع ا‪ ،‬فليس هن اك‬
‫شيء جامد في الكون‪ ،‬بل كل شيء يحم ل نوع ا من الحي اة ال تي ت تيح ل ه التع رف‬
‫على هللا في حدود القابلية المتاحة له‪ ،‬ولذلك يسبحه ويحمده ويمج ده‪ ،‬ب ل يستش عره‬
‫من المشاعر ما يشعر به األحياء(‪ ،)4‬وق د ق ال تع الى‪ ﴿:‬لَ وْ أَ ْنزَ ْلنَ ا هَ َذا ْالقُ رْ آنَ َعلَى‬
‫اس لَ َعلَّهُ ْم‬
‫َض ِربُهَا لِلنَّ ِ‬‫خَش يَ ِة هَّللا ِ َوتِلْكَ اأْل َ ْمثَ ا ُل ن ْ‬
‫َص دِّعا ً ِم ْن ْ‬ ‫َجبَ ٍل لَ َرأَ ْيتَ هُ ِ‬
‫خَاش عا ً ُمت َ‬
‫يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ (الحشر‪)21:‬‬
‫وق د ورد في اآلث ار م ا ي دل على المش اعر ال تي تستش عرها األرض‪ ،‬وهي‬
‫ترى من يطيع هللا فوقه ا‪ ،‬ففي بعض اآلث ار‪(:‬إن الجب ل ليق ول للجب ل‪ :‬ه ل م َّر ب ك‬
‫اليوم ذاكر هلل؟ فإن قال‪ :‬نعم‪ُ ،‬س َّر به) ثم ق رأ عب د هللا قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وقَ الُوا اتَّ َخ َذ هَّللا ُ‬
‫ض ُك لٌّ لَ هُ قَ انِتُونَ ﴾ (البق رة‪ )116:‬ق ال‪:‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫َولَداً ُس ْب َحانَهُ بَلْ لَهُ َما فِي َّ‬
‫الس َما َوا ِ‬
‫(أفتراهن يسمعن الزور واليسمعن الخير)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد (‪ )2/374‬والترمذي برقم (‪ )3353‬والنسائي في الكبرى برقم (‪)11693‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبراني في المعجم الكبير (‪)5/65‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪609 :‬‬
‫‪ )(4‬ذكرنا ذلك مع أدلته بتفصيل في كتاب [أكوان هللا]‬
‫‪ )(5‬ابن أببي شيبة‪.7/110 :‬‬

‫‪218‬‬
‫وفي أث ر آخ ر‪(:‬م ا من ص باح وال رواح إال تن ادي بق اع األرض بعض ها‬
‫بعضا‪ ،‬يا جاره هل مر بك اليوم عبد فصلى هلل أو ذكر هللا عليك‪ ،‬فمن قائلة ال‪ ،‬ومن‬
‫قائلة نعم‪ ،‬فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضال عليها)(‪)1‬‬
‫وهذا ليس مستغربا عقال ذلك أن ما نتصوره نحن من حي اة ه و ص ورة فق ط‬
‫من صور الحي اة‪ ،‬وهي ص ورة ارتباط ات مادي ة حيوي ة بعض ها ببعض‪ ،‬وكم ا أن‬
‫العلم الحديث يقر بوجود حياة في الخلية الواحدة‪ ،‬سواء كانت ضمن نس يج واح د أو‬
‫كانت مس تقلة منف ردة؛ فك ذلك تنبئن ا النص وص المقدس ة أن الك ون كل ه حي جمل ة‬
‫وتفصيال‪ ،‬وكل ذرة فيه أو ما دونها كائن حي له حقيقته التي استدعت وج وده‪ ،‬كم ا‬
‫أن له صورته التي نعرفه من خالله ا‪ ،‬وق د ق ال ب ديع الزم ان النورس ي مبين ا ه ذه‬
‫الحقيقة وأثرها النفسي‪( :‬فالكونُ بجميع عوالمه ح ّي ومشع مضئ بذلك التجلي‪ِ ،‬واالّ‬
‫ألصبح كل من العوالم ـ كما تراه عين الضاللة ـ جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الدنيا‬
‫المؤقتة الظاهرة‪ ،‬وعالما ً خربا ً مظلماً)(‪)2‬‬
‫وهكذا ورد في الرواي ات واآلث ار م ا ي دل على ش هادة الزم ان ال ذي تم في ه‬
‫العمل‪ ،‬ففي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬ليس من يوم ي أتي على ابن آدم إال‬
‫ينادى فيه يا ابن آدم‪ :‬أنا خلق جديد‪ ،‬وأن ا فيم ا تعم ل علي ك غ دا ش هيد‪ ،‬فاعم ل في‬
‫خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا قال‪ :‬ويق ول اللي ل مث ل ذل ك)‬
‫(‪)3‬‬
‫وهكذا ورد ما يدل على شهادة اإلنسان على أخيه اإلنسان في حدود م ا يعلم‪،‬‬
‫سواء عاش في زمنه أم لم يعش‪ ،‬ففي الحديث أن رسول هللا ‪ ‬مر بجن ازة‪ ،‬ف أثنوا‬
‫عليها خيرا‪ ،‬فقال الن بي ‪« :‬وجبت» ثم م روا ب أخرى ف أثنوا عليه ا ش را‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫«وجبت» فقيل له‪ :‬ما وجبت؟ قال‪« :‬هذا أثنيتم عليه خيرا‪ ،‬فوجبت له الجن ة‪ ،‬وه ذا‬
‫أثنيتم عليه شرا‪ ،‬فوجبت له النار‪ ،‬أنتم شهداء هللا في األرض) (‪ ،)4‬وفي رواية ق ال‬
‫‪« :‬إن بعضكم على بعض شهداء»(‪ ،)5‬وفي رواي ة‪« :‬وجبت إنكم ش هداء هللا في‬
‫األرض»(‪)6‬‬
‫ولألسف‪ ،‬فإن هذا الحديث استخدم طائفيا اس تخداما بش عا حيث ص رنا ن رى‬
‫في الواق ع تل ك ال دعاوى ال تي يتص ور أص حابها أنهم الفرق ة الناجي ة‪ ،‬فيض منون‬
‫ألنفسهم الجنة‪ ،‬وألعدائهم أو من يكرهون النار‪ ،‬وكأن هللا تعالى قد أعط اهم مف اتيح‬
‫الجنان والنيران يدخلون فيهما من شاءوا‪ ،‬وشاءت لهم أهواؤهم‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه ابن المبارك في (دقائقه)‪ ،‬انظر‪ :‬القرطبي‪.10/267:‬‬
‫‪ )(2‬الكلمات‪ ،‬ص‪.120‬‬
‫‪ )(3‬حلية األولياء وطبقات األصفياء (‪)303 /2‬‬

‫‪ )(4‬صحيح البخاري ‪ 2/97‬ح(‪)1367‬‬


‫‪ )(5‬سنن أبي داود ‪ 3/218‬ح(‪)3233‬‬
‫‪ )(6‬مصنف ابن أبي شيبة ‪ 3/47‬ح(‪)11995‬‬

‫‪219‬‬
‫ولم يكن هذا خاصا بصغار الدعاة‪ ،‬بل إنه شمل كبارهم لألسف‪ ،‬بل شمل من‬
‫يدعون أنهم مشايخ اإلسالم واألوصياء عليه‪ ،‬ومن ذلك قول ابن تيمية‪( :‬وك ذلك من‬
‫أجمعت األم ة على الثن اء علي ه‪ ،‬فإنن ا نش هد ل ه بالجن ة‪ ،‬فمثالً‪ :‬األئم ة‪ :‬أحم د‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وس فيان الث وري‪ ،‬وس فيان بن عيين ه‪ ،‬وغ يرهم من‬
‫األئمة رحمهم هللا‪ ،‬أجمعت األمة على الثناء عليهم‪ ،‬فنشهد لهم بأنهم من أهل الجن ة)‬
‫(‪)1‬‬
‫وتبعه على ه ذا الش يخ ابن ع ثيمين ال ذي راح ه و اآلخ ر يش هد البن تيمي ة‬
‫بالجنة‪ ،‬ويشهد ألعدائ ه بالن ار‪ ،‬حيث ق ال في [ش رح ري اض الص الحين]‪( :‬وش يخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا أجمع الناس على الثناء عليه إال من شذ‪ ،‬والشاذ ش ذ في‬
‫النار‪ ،‬يشهد له بالجنة على هذا الرأي)(‪)2‬‬
‫وهذا كله يخالف ما ورد في الحديث عن أم العالء‪ ،‬وكانت بايعت رس ول هّللا‬
‫‪ ‬ق الت‪( :‬ط ار لهم في الس كنى حين اق ترعت األنص ار على س كنى المه اجرين‬
‫عثمان بن مظعون‪ ،‬فاش تكى عثم ان فمرَّض ناه ح تى إذا ت وفي أدرجن اه في أثواب ه‪،‬‬
‫فدخل علينا رسول هّللا ‪ ،‬فقلت‪( :‬رحمة هّللا عليك أبا الس ائب ش هادتي علي ك‪ ،‬لق د‬
‫أكرمك هّللا تعالى‪ ،‬فقال رسول هّللا ‪( :‬وم ا ي دريك أن هّللا تع الى أكرم ه؟)‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫(ال أدري بأبي أنت وأمي)‪ ،‬فقال رسول هّللا ‪( :‬أما ه و فق د ج اءه اليقين من رب ه‬
‫وأني ألرجو له الخ ير‪ ،‬وهّللا م ا أدري وأن ا رس ول هّللا م ا يفع ل بي)‪ ،‬ق الت‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫(وهّللا ال أزكي أحداً بعده أبداً)(‪)3‬‬
‫ولذلك فإن قوانين الشهادة في اآلخرة ممتلئة بالعدال ة‪ ،‬فال يمكن الثق ة في ك ل‬
‫الشهود‪ ،‬بل يحتاجون إلى تمحيص كبير حتى تقبل شهادتهم‪.‬‬
‫وهكذا أخبر رس ول هللا ‪ ‬أن ه يمكن للش خص أن يش هد في ح دود م ا يعلم‪،‬‬
‫ولو لم يعايش ما شهد عليه‪ ،‬بناء على ما لديه من المعطي ات‪ ،‬وق د ورد في الح ديث‬
‫أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬يدعى نوح يوم القيامة‪ ،‬فيقول لبيك وسعديك يا رب‪.‬فيق ول‪:‬‬
‫هل بلغت؟ فيقول‪ :‬نعم‪ .‬فيقال ألمته‪ :‬هل بلغكم؟فيقول ون‪ :‬م ا أتان ا من ن ذير! فيق ول‪:‬‬
‫من يشهد لك؟ فيقول‪ :‬محمد وأمته‪ ،‬فيشهدون أنه قد بلغ) (‪)4‬‬
‫وفي حديث آخ ر ق ال ‪( :‬يجيء الن بي ي وم القيام ة ومع ه الرج ل‪ ،‬والن بي‬
‫ومعه الرجالن وأكثر من ذلك؛ فيدعى قومه‪ ،‬فيق ال لهم‪ :‬ه ل بلغكم ه ذا؟ فيقول ون‪:‬‬
‫ال‪ .‬فيقال له‪ :‬هل بلغت قومك؟ فيقول‪ :‬نعم‪ .‬فيق ال ل ه‪ :‬من يش هد ل ك؟ فيق ول‪ :‬محم د‬
‫وأمته فيدعى بمحمد وأمته‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ .‬فيق ال‪ :‬وم ا‬
‫علمكم؟ فيقولون‪ :‬جاءنا نبينا ‪‬؛ فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا‪ ،‬فذلك قوله عز وج ل‪:‬‬

‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى (‪)314 /18‬‬


‫‪ )(2‬شرح رياض الصالحين ‪.573-4/570‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري برقم (‪)1243‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري(‪)5/151‬‬

‫‪220‬‬
‫اس َويَ ُكونَ ال َّرسُو ُل َعلَ ْي ُك ْم َش ِهيدًا‬ ‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أُ َّمةً َو َسطًا لِتَ ُكونُوا ُشهَدَا َء َعلَى النَّ ِ‬ ‫﴿ َو َك َذلِ َ‬
‫﴾ [البقرة‪)1()]143 :‬‬
‫ومن آخر الش هود ال ذين ورد ذك رهم في النص وص المقدس ة‪ ،‬وال ذين ال تتم‬
‫شهادتهم إال بعد عدم قبول غيرهم من الشهداء‪ ،‬شهادة أعض اء اإلنس ان نفس ه‪ ،‬كم ا‬
‫﴿اليَ وْ َم ن َْختِ ُم َعلَى أَفْ َوا ِه ِه ْم َوتُ َكلِّ ُمنَ ا أَيْ ِدي ِه ْم َوت َْش هَ ُد أَرْ ُجلُهُ ْم بِ َم ا َك انُوا‬ ‫ق ال تع الى‪ْ :‬‬
‫يَ ْك ِسبُونَ ﴾ [يس‪]65:‬‬
‫ار فَهُ ْم‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬
‫تفصيال‪﴿:‬ويَوْ َم يُحْ َش ُر أ ْعدَاء ِ إِلَى النَّ ِ‬ ‫َ‬ ‫وقال مصورا ذلك بصورة أكثر‬
‫ُ‬
‫ْص ا ُرهُ ْم َو ُجل و ُدهُ ْم بِ َم ا َك انُوا‬ ‫َ‬
‫يُو َز ُعونَ َحتَّى إِ َذا َما َجاؤُوهَ ا َش ِه َد َعلَ ْي ِه ْم َس ْم ُعهُ ْم َوأب َ‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء َوهُ َو‬ ‫يَ ْع َملُونَ َوقَالُوا لِ ُجلُو ِد ِه ْم لِ َم َش ِهدتُّ ْم َعلَ ْينَا قَالُوا أَنطَقَنَ ا هَّللا ُ ال ِذي أنطَ َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫خَ لَقَ ُك ْم أَ َّو َل َم َّر ٍة َوإِلَيْ ِه تُرْ َج ُع ونَ َو َم ا ُكنتُ ْم ت َْس تَتِرُونَ أَ ْن يَ ْش هَ َد َعلَ ْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َوال‬
‫ْص ا ُر ُك ْم َوال ُجلُ و ُد ُك ْم َولَ ِكن ظَنَنتُ ْم أَ َّن هَّللا َ ال يَ ْعلَ ُم َكثِ يرًا ِّم َّما تَ ْع َملُ ونَ َو َذلِ ُك ْم ظَنُّ ُك ُم‬ ‫أَب َ‬
‫خَاس ِرينَ ﴾ [فصلت‪]23 – 19:‬‬ ‫الَّ ِذي ظَنَنتُم بِ َربِّ ُك ْم أَرْ دَا ُك ْم فَأَصْ بَحْ تُم ِّم ْن ْال ِ‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬إِنَّكم ت دعون مف دما ً على أف واهكم‬
‫بالفدام‪ ،‬فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه) (‪)2‬‬
‫وورد في حديث القيامة الطويل‪( :‬ثم يلقى الثالث؛ فيقول له مثل ذلك؛ فيق ول‪:‬‬
‫ي ا رب آمنت ب ك وبكتاب ك وبرس لك وص ليت وص مت وتص دقت ويث ني بخ ير م ا‬
‫استطاع‪ ،‬فيقول‪ :‬ههنا إذا‪ ،‬قال‪ :‬ثم يقال له اآلن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه‪:‬‬
‫من ذا ال ذي يش هد علي؟ فيختم على في ه‪ ،‬ويق ال لفخ ذه ولحم ه وعظام ه‪ :‬انطقي‪،‬‬
‫فتنطق فخذه ولحمه وعظام ه بعمل ه‪ ،‬وذل ك ليع ذر من نفس ه‪ ،‬وذل ك المن افق وذل ك‬
‫الذي يسخط هللا عليه) (‪)3‬‬
‫وهذا الحديث يشير إلى أولئ ك المج ادلين المخ ادعين ال ذين يتص ورون أنهم‬
‫كم ا خ دعوا المؤم نين في ال دنيا يمكنهم خ داع هللا في اآلخ رة‪ ،‬وق د ق ال تع الى في‬
‫شأنهم‪﴿ :‬يَوْ َم يَ ْب َعثُهُ ُم هَّللا ُ َج ِميعًا فَيَحْ لِفُونَ لَهُ َك َما يَحْ لِفُونَ لَ ُك ْم َويَحْ َسبُونَ أَنَّهُ ْم َعلَى َش ْي ٍء‬
‫أَاَل إِنَّهُ ْم هُ ُم ْال َكا ِذبُونَ ﴾ [المجادلة‪]18 :‬‬
‫وفي بعض اآلثار عن ابن عباس أنه قال البن األزرق‪( :‬إن يوم القيام ة ي أتي‬
‫على الناس منه حين‪ ،‬ال ينطق ون‪ ،‬وال يعت ذرون‪ ،‬وال يتكلم ون ح تى ي ؤذن لهم‪ ،‬ثم‬
‫يؤذن لهم فيختصمون فيجحد الجاحد بشرك ِه باهلل تع الى‪﴿ :‬فَيَحْ لِفُ ونَ لَ هُ َك َم ا يَحْ لِفُ ونَ‬
‫لَ ُك ْم ﴾ [المجادل ة‪ ،]18 :‬فيبعث هللا تع الى عليهم حين يجح دون ش هدا َء من أنفس هم‬
‫جل ودَهم وأبص ارهم وأي ديهم وأرجلهم ويختم على أف واههم‪ ،‬ثم يفتح لهم األف واه‬
‫ق ُك َّل َش ْي ٍء َوهُ َو خَ لَقَ ُك ْم أَ َّو َل َم َّر ٍة‬ ‫فتخاصم الجوارح‪ ،‬فتق ول‪﴿:‬أَنطَقَنَ ا هَّللا ُ الَّ ِذي أَنطَ َ‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد (‪)3/58‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي حاتم في (تفسيره) (‪)3272 /10‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن المبارك في (الزهد) (‪)125 /1‬‬

‫‪221‬‬
‫الجحود)(‪)4‬‬ ‫َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ ﴾ [فصلت‪ ،]21:‬فتقر األلسنة بعد‬
‫‪ 3‬ـ الحساب والمساءلة‪:‬‬
‫من تجليات العدالة اإللهية في أرض المحشر ما وضعه هللا تعالى من ق وانين‬
‫ترتبط بحساب عباده على أعمالهم‪ ،‬ومساءلتهم عليها‪ ،‬بحسب الظروف ال تي أتيحت‬
‫لهم‪ ،‬واإلمكاني ات ال تي ك انت في ط اقتهم‪ ،‬وإتاح ة الفرص ة لهم‪ ،‬ليجيب وا على م ا‬
‫يطرح عليهم من أسئلة‪ ،‬واالعتذار بما يرونه من معاذير‪ ،‬بل يمكنهم أثن اء الحس اب‬
‫أن يستدعوا من شاءوا من الشهود‪ ،‬أو ممن يرضى بالدفاع عنهم‪.‬‬
‫وبذلك؛ فإن أق رب التش بيهات للحس اب اإللهي في اآلخ رة‪ ،‬تل ك المحاكم ات‬
‫العادلة التي تجري في الدنيا‪ ،‬والتي يعرض فيها أوال على المتهم جرائم ه‪ ،‬ثم يت اح‬
‫له بعد ذلك تبريرها بما يراه‪ ،‬أو يستدعي من يتولى ذلك عنه‪.‬‬
‫وطبعا‪ ،‬فإن العدالة المطلق ة في اآلخ رة تس تدعي دراس ة ك ل قض ية‪ ،‬وبك ل‬
‫تفاصيلها‪ ،‬والحيثيات المحيطة بها‪ ،‬وتعالج القضايا جمعيا‪ ،‬وبكل سرعة‪ ،‬وليس مثل‬
‫محاكم الدنيا التي تتسم بالبطء والضعف الشديد‪ ،‬وال ذي ق د يس تغله المخ ادعون في‬
‫ت‬ ‫س َم ا َك َس بَ ْ‬‫ي هَّللا ُ ُك َّل نَ ْف ٍ‬ ‫التفلت من أحكامها‪ ،‬وقد قال تعالى مشيرا إلى ذلك‪﴿ :‬لِيَجْ ِز َ‬
‫﴿اليَوْ َم تُجْ زَى ُك لُّ نَ ْف ٍ‬
‫س بِ َم ا َك َس بَ ْ‬
‫ت اَل‬ ‫ب﴾ [إبراهيم‪ ،]51 :‬وقال‪ْ :‬‬ ‫إِ َّن هَّللا َ َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ‬
‫ب﴾ [غافر‪]17 :‬‬ ‫ظُ ْل َم ْاليَوْ َم إِ َّن هَّللا َ َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ‬
‫ففي هاتان اآليتان الكريمتان إشارة إلى كل ذلك؛ فالحساب اإللهي يش مل ك ل‬
‫النفوس‪ ،‬وبكل ما كسبت أي ديها‪ ،‬وفي نفس ال وقت يك ون س ريعا‪ ،‬ال كمح اكم ال دنيا‬
‫القاصرة الضعيفة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك؛ فالحس اب اإللهي في ذل ك الموق ف ـ وبن اء على العدال ة‬
‫المطلقة ـ ال يستند للعلم اإللهي فقط‪ ،‬بل يستند ف وق ذل ك لك ل أولئ ك الش هود ال ذين‬
‫سبق ذكرهم‪ ،‬وال ذين ال يمكن خ داعهم أو رش وتهم‪ ،‬بخالف محاكم ات ال دنيا ال تي‬
‫يمكن أن يخ ادع فيه ا المتهم المحكم ة والقض اة‪ ،‬ب ل ق د يتمكن من إغ رائهم بم ا‬
‫يرغبون فيه من متاع الحياة الدنيا‪.‬‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إلى محاولة المج رمين فع ل ذل ك في اآلخ رة‪ ،‬مثلم ا‬
‫كانوا يفعلونه في ال دنيا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ ْاليَوْ َم ال ي ُْؤ َخ ُذ ِم ْن ُك ْم فِ ْديَ ةٌ َوال ِمنَ الَّ ِذينَ‬
‫ص يرُ﴾ (الحدي د‪ )15:‬أي ل و ج اء أح دكم‬ ‫س ْال َم ِ‬ ‫َكفَرُوا َم أْ َوا ُك ُم النَّا ُر ِه َي َم وْ ال ُك ْم َوبِ ْئ َ‬
‫اليوم بملء األرض ذهبا ً ومثله معه ليفتدي به من عذاب هّللا ما قبل منه‪.‬‬
‫ومثل ه ذك ر الق رآن الك ريم ي أس المج رم من اس تعمال ه ذه الوس يلة؛ فق ال‪:‬‬
‫احبَتِ ِه َوأَ ِخي ِه (‬
‫ص ِ‬ ‫ب يَوْ ِمئِ ٍذ بِبَنِي ِه (‪َ )11‬و َ‬ ‫صرُونَهُ ْم يَ َو ُّد ْال ُمجْ ِر ُم لَوْ يَ ْفتَ ِدي ِم ْن َع َذا ِ‬ ‫﴿يُبَ َّ‬
‫ْ‬
‫ض َج ِميعًا ث َّم يُن ِجي ِه﴾ [المعارج‪- 11 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ْ‬
‫صيلتِ ِه التِي تؤ ِوي ِه (‪َ )13‬و َمن فِي ا رْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪َ )12‬وف ِ‬
‫‪]14‬‬
‫وهكذا ذكر القرآن الكريم مسؤولية كل شخص في ذلك العالم عن نفسه‪ ،‬وأنه‬

‫‪ )(4‬رواه ابن أبي حاتم في (تفسيره) (‪)3272 /10‬‬

‫‪222‬‬
‫اخ َشوْ ا يَوْ مًا اَل يَجْ ِزي‬ ‫ال ينفعه إال عمله‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا َربَّ ُك ْم َو ْ‬
‫از ع َْن َوالِ ِد ِه َش ْيئًا ﴾ [لقمان‪]33 :‬‬ ‫َوالِ ٌد ع َْن َولَ ِد ِه َواَل َموْ لُو ٌد ه َُو َج ٍ‬
‫وهك ذا؛ ف إن من مقتض يات العدال ة اإللهي ة في ذل ك الموق ف أال يحاس ب‬
‫الشخص إال على ما عملت يده‪ ،‬أو كان له سبب فيه؛ فال يحاسب على ما هو خ ارج‬
‫ت َو َعلَ ْيهَ ا َم ا‬ ‫عن قدرته‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬اَل يُ َكلِّفُ هَّللا ُ نَ ْفسًا إِاَّل ُو ْس َعهَا لَهَ ا َم ا َك َس بَ ْ‬
‫ت﴾ [البقرة‪ ،]286 :‬وقال‪ ﴿ :‬اَل يُ َكلِّفُ هَّللا ُ نَ ْفسًا إِاَّل َما آتَاهَا﴾ [الطالق‪]7 :‬‬ ‫ا ْكتَ َسبَ ْ‬
‫وهكذا فإنه ال يحاسب على ما عمل غيره‪ ،‬إن لم يكن له عالق ة ب ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ع ُم ْثقَلَةٌ إِلَى ِح ْملِهَ ا اَل يُحْ َم لْ ِمنْهُ َش ْي ٌء‬ ‫از َرةٌ ِو ْز َر أُ ْخ َرى َوإِ ْن تَ ْد ُ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬واَل ت َِز ُر َو ِ‬
‫ض َّل‬ ‫َولَوْ َكانَ َذا قُرْ بَى﴾ [فاطر‪ ،]18 :‬وقال‪َّ ﴿ :‬م ِن ا ْهتَ دَى فَإِنَّ َم ا يَ ْهتَ دي لِنَ ْف ِس ِه َو َمن َ‬
‫ث َر ُس والً ﴾‬ ‫از َرةٌ ِو ْز َر أُ ْخ َرى َو َما ُكنَّا ُم َع ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬‫ضلُّ َعلَ ْيهَا َوالَ ت َِز ُر َو ِ‬ ‫فَإِنَّ َما يَ ِ‬
‫[اإلسراء‪]15:‬‬
‫بناء على ه ذه المع ايير يك ون الحس اب في ذل ك الموق ف‪ ،‬ول ذلك يت اح لك ل‬
‫شخص أن يبرر أعماله بما يراه مناسبا‪ ،‬وقد ال يبرر ذلك‪ ،‬ويقر بذنبه‪ ،‬ويعترف به‪،‬‬
‫وبكونه يستحق أي حكم يصدر عليه‪.‬‬
‫وب ذلك ف إن الحس اب ليس من تجلي ات العدال ة اإللهي ة فق ط‪ ،‬وإنم ا ه و من‬
‫تجليات ربانيته تعالى‪ ،‬والتي من مقتضياتها تربيته لعباده‪ ،‬والسير بهم نح و م راتب‬
‫الكمال التي هيئوا لها‪ ،‬وذلك بإخراجهم من ظلمات نفوسهم إلى نور الحق‪.‬‬
‫وق د أش ار إلى ه ذا المقص د الجلي ل من مقاص د الحس اب الش يخ جعف ر‬
‫السبحاني‪ ،‬فقال‪( :‬ال محيص عن كون الداعي إلى المحاسبة ش يئا ً آخ ر‪ ،‬وه و إراءة‬
‫عدله وجوده وحكمته عن د المحاس بة‪ ،‬فل و عف ا فلج وده وكرم ه‪ ،‬وإن ع ّذب فلعدل ه‬
‫إن اله دف من االبتالء ليس ه و‬ ‫وحكمته‪ ،‬فمحاسبته تبارك وتعالى كابتالء عب اده‪ ،‬ف ّ‬
‫الوقوف على ما يَ ْك ُمن في نفوس العب اد من الخ ير والش ر‪ ،‬ب ل الغاي ة إكم ال العب اد‬
‫وتبديل طاقات الخير إلى فعليته)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا المقصد‪ ،‬فإن هناك من ال يحتاج إلى الحس اب‪ ،‬إم ا لكون ه ق د‬
‫طهر في الدنيا أو في البرزخ طهارة كافي ة تعفي ه من ذل ك الموق ف‪ ،‬أو لكون ه ليس‬
‫لديه من المسؤوليات ما يحاسب عليه‪.‬‬
‫اعبَ ا ِد الَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّقُ وا َربَّك ْمُ‬ ‫ُ‬
‫وقد أشار إلى هذا الص نف قول ه تع الى‪ ﴿:‬ق لْ يَ ِ‬
‫َ‬
‫الص ابِرُونَ أجْ َرهُ ْم‬ ‫اس َعةٌ إِنَّ َم ا يُ َوفى َّ‬
‫َّ‬ ‫لِلَّ ِذينَ أَحْ َسنُوا فِي هَ ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َح َسنَةٌ َوأَرْ ضُ هَّللا ِ َو ِ‬
‫ب) قي د للفع ل‪ ،‬وهي تحتم ل أن‬ ‫ب﴾ [الزمر‪ ،]10 :‬فهذه الكلمة (بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬ ‫بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫يكون المراد منها‪( :‬يوفى الصابرون بغ ير حس اب)‪ ،‬كم ا تحتم ل أن يك ون معناه ا‬ ‫ّ‬
‫مرتبط بأجرهم‪ ،‬أي (يوفّى الصابرون أجراً هو بغير حساب)‬
‫وق د ورد في الح ديث م ا يؤي د المع نى األول‪ ،‬فق د ق ال رس ول هللا ‪( :‬إذا‬
‫نش رت ال دواوين ونص بت الم وازين لم ينص ب أله ل البالء م يزان ولم ينش ر لهم‬

‫‪ )(1‬مفاهيم القرآن‪.8/220 ،‬‬

‫‪223‬‬
‫ب)(‪)1‬‬ ‫ديوان‪ ،‬ث ّم تال هذه اآلية‪( :‬إِنَّ َما يُ َوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْ َرهُم بِ َغي ِْر‬
‫ِح َسا ٍ‬
‫وهكذا ورد في حديث آخر عن رسول هللا ‪ ‬ذكر أصناف آخرين من ال ذين‬
‫ال يش ملهم الحس اب في اآلخ رة‪ ،‬فق د ق ال ‪( :‬عرض ت علي األمم ف رأيت الن بي‬
‫ومعه الرهيط والنبي ومع ه الرج ل وال رجالن‪ ،‬والن بي ليس مع ه أح د‪ ،‬إذ رف ع لي‬
‫سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي‪ :‬هذا موسى وقوم ه‪ ،‬ولكن انظ ر إلى األف ق‪،‬‬
‫فنظرت فإذا سواد عظيم‪ ،‬فقيل لي انظر إلى األفق اآلخر‪ ،‬فنظرت فإذا س واد عظيم‬
‫فقيل لي‪ :‬هذه أمتك ومنهم سبعون ألفا ً ي دخلون الجن ة بغ ير حس اب وال ع ذاب)‪ ،‬ثم‬
‫فسر سبب ذل ك في آخ ر الح ديث‪ ،‬فق ال‪( :‬هم ال ذين ال يرق ون‪ ،‬وال يس ترقون‪ ،‬وال‬
‫يتطيرون‪ ،‬وعلى ربهم يتوكلون) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر ذكر ألوص اف أخ رى‪ ،‬فق د ق ال ‪( :‬إذا ك ان ي وم القيام ة‬
‫أنبت هللا لطائفة من أمتي أجنحة‪ ،‬فيطيرون من قب ورهم إلى الجن ان يس رحون فيه ا‬
‫ويتنعمون كيف شاؤوا‪ ،‬فتق ول لهم المالئك ة‪ :‬ه ل رأيتم حس ابا؟ فيقول ون‪ :‬م ا رأين ا‬
‫حسابا‪ ،‬فيقولون‪ :‬هل جزتم على الصراط؟ فيقولون‪ :‬ما رأينا صراطا‪ ،‬فيقولون لهم‪:‬‬
‫هل رأيتم جهنم؟ فيقولون‪ :‬ما رأينا شيئا‪ ،‬فتقول المالئكة‪ :‬من امة من أنتم؟ فيقول ون‪:‬‬
‫من أم ة محم د ‪‬؛ فيقول ون‪ :‬نش دناكم هللا ح دثونا م ا ك انت أعم الكم في ال دنيا؟‬
‫فيقولون‪ :‬خصلتان كانتا فينا‪ ،‬فبلغنا هللا هذه المنزل ة بفض ل رحمت ه‪ ،‬فيقول ون‪ :‬وم ا‬
‫هما؟ فيقولون‪ :‬كنا إذا خلون ا نس تحي أن نعص يه‪ ،‬ونرض ى باليس ير مم ا قس م لن ا‪،‬‬
‫فتقول المالئكة‪ :‬يحق لكم هذا) (‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬إذا كان ي وم القيام ة جم ع هللا الخالئ ق في ص عيد‬
‫واحد ونادى مناد من عند هللا يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم‪ ،‬يقول‪ :‬أين أهل الصبر؟‬
‫قال‪ :‬فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من المالئكة فيقولون لهم‪ :‬ماكان صبركم‬
‫هذا الذي صبرتم؟ فيقولون‪ :‬صبرنا أنفسنا على طاعة هللا‪ ،‬وصبرناها عن معصيته‪،‬‬
‫ق ال‪ :‬فين ادي من اد من عن د هللا‪ :‬ص دق عب ادي خلّ وا س بيلهم لي دخلوا الجن ة بغ ير‬
‫حساب ؛ قال‪ :‬ث ّم ينادي مناد آخر يس مع آخ رهم كم ا يس مع أوّلهم‪ ،‬فيق ول‪ :‬أين أه ل‬
‫الفضل؟ فيقوم عنق من الناس فتس تقبلهم المالئك ة‪ ،‬فيقول ون‪ :‬م ا فض لكم ه ذا ال ذي‬
‫ترديتم به؟ فيقولون‪ :‬كنا يجه ل علين ا في ال دنيا فنحتم ل‪ ،‬ويس اء إلين ا فنعف و‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫فينادي من اد من عن د هللا تع الى ص دق عب ادي‪ ،‬خلّ وا س بيلهم لي دخلوا الجن ة بغ ير‬
‫حساب ؛ قال‪ :‬ث ّم ينادي مناد من هللا ع ّز وج ّل يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫أين ج يران هللا ج ّل جالل ه في داره؟ فيق وم عن ق من الن اس فتس تقبلهم زم رة من‬
‫المالئكة‪ ،‬فيقول ون لهم‪ :‬م ا ك ان عملكم في دار ال دنيا فص رتم ب ه الي وم ج يران هللا‬
‫تعالى في داره؟ فيقولون‪ :‬كنّا نتحاب في هللا ع ّزوجلّ‪ ،‬ونتباذل في هللا‪ ،‬ونت وازر في‬

‫‪ )(1‬نور الثقلين‪.481 / 4 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪)6541‬‬
‫‪ )(3‬تنبيه الخواطر‪230 / 1 :‬‬

‫‪224‬‬
‫هللا‪ ،‬قال‪ :‬فينادي مناد من عند هللا تع الى‪ :‬ص دق عب ادي خلّ وا س بيلهم لينطلق وا إلى‬
‫جوار هللا في الجنة بغير حساب‪ ،‬قال‪ :‬فينطلقون إلى الجن ة بغ ير حس اب »‪ .‬ث ّم ق ال‬
‫اإلمام الب اقر‪ « :‬فه ؤالء ج يران هللا في داره يخ اف الن اس وال يخ افون‪ ،‬ويحاس ب‬
‫الناس وال يحاسبون) (‪)1‬‬
‫وه ذا ال يع ني أن ال ذين لم يحاس بوا أفض ل من المحاس بين‪ ،‬ب ل ق د يك ون‬
‫المحاسبون أفضل‪ ،‬ذلك أن أعمالهم الكثيرة‪ ،‬وخاصة تلك المتعدية هي ال تي جعلتهم‬
‫يقفون ذلك الموقف‪ ،‬كما قال هللا تعالى عن الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ﴿ :‬فَلَنَسْأَلَ َّن‬
‫ص َّن َعلَ ْي ِه ْم بِ ِع ْل ٍم َو َم ا ُكنَّا َغ ائِبِينَ ﴾‬ ‫الَّ ِذينَ أُرْ ِس َل إِلَ ْي ِه ْم َولَن َْس أَلَ َّن ْال ُمرْ َس لِينَ (‪ )6‬فَلَنَقُ َّ‬
‫بْرا ِهي َم‬ ‫وح َوإِ َ‬ ‫خَذنَا ِمنَ النَّبِيِّينَ ِميثَاقَهُ ْم َو ِم ْنكَ َو ِم ْن نُ ٍ‬ ‫[األعراف‪ ،]7 ،6 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَ ْ‬
‫الص ا ِدقِينَ ع َْن‬ ‫يس ى ا ْب ِن َم رْ يَ َم َوأَ َخ ْذنَا ِم ْنهُ ْم ِميثَاقًا َغلِيظًا (‪ )7‬لِيَ ْس أ َ َل َّ‬ ‫وس ى َو ِع َ‬ ‫َو ُم َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ص ْدقِ ِه ْم َوأ َع َّد لِل َكافِ ِرينَ َع َذابًا ألِي ًما ﴾ [األحزاب‪]8 ،7 :‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ذ‬ ‫ْ‬ ‫إ‬
‫َِ‬‫و‬ ‫﴿‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫السالم‪،‬‬ ‫عليه‬ ‫المسيح‬ ‫مع‬ ‫جرت‬ ‫التي‬ ‫المساءلة‬ ‫تلك‬ ‫عن‬ ‫وأخبر‬
‫ال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫اس اتَّ ِخ ُذونِي َوأُ ِّم َي إِلَهَ ْي ِن ِم ْن د ِ‬
‫ُون هَّللا ِ‬ ‫يس ى ا ْبنَ َم رْ يَ َم أَأَ ْنتَ قُ ْلتَ لِلنَّ ِ‬ ‫هَّللا ُ يَا ِع َ‬
‫ت قُ ْلتُ هُ فَقَ ْد َعلِ ْمتَ هُ تَ ْعلَ ُم َم ا فِي‬ ‫ق إِ ْن ُك ْن ُ‬ ‫ْس لِي بِ َح ٍّ‬ ‫ك َما يَ ُكونُ لِي أَ ْن أَقُو َل َما لَي َ‬ ‫ُسب َْحانَ َ‬
‫ت لَهُ ْم إِاَّل َم ا‬ ‫ب (‪َ )116‬م ا قُ ْل ُ‬ ‫ك إِنَّكَ أَ ْنتَ َعاَّل ُم ْال ُغيُ و ِ‬ ‫نَ ْف ِس ي َواَل أَ ْعلَ ُم َم ا فِي نَ ْف ِس َ‬
‫ت فِي ِه ْم فَلَ َّما تَ َوفَّ ْيتَنِي‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ْم َش ِهيدًا َم ا ُد ْم ُ‬ ‫أَ َمرْ تَنِي بِ ِه أَ ِن ا ْعبُدُوا هَّللا َ َربِّي َو َربَّ ُك ْم َو ُك ْن ُ‬
‫ك‬ ‫يب َعلَ ْي ِه ْم َوأَ ْنتَ َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد (‪ )117‬إِ ْن تُ َع ِّذ ْبهُ ْم فَ إِنَّهُ ْم ِعبَ ا ُد َ‬ ‫ُك ْنتَ أَ ْنتَ ال َّرقِ َ‬
‫َوإِ ْن تَ ْغفِرْ لَهُ ْم فَإِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم ﴾ [المائدة‪]118 - 116 :‬‬
‫ص ْدقُهُ ْم‬ ‫الص ا ِدقِينَ ِ‬ ‫ال هَّللا ُ هَ َذا يَوْ ُم يَ ْنفَ ُع َّ‬
‫ثم ختم هللا تعالى هذا المشهد بقوله‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ض وا عَنْهُ‬ ‫ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َر ُ‬‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا أَبَ دًا َر ِ‬ ‫لَهُ ْم َجنَّ ٌ‬
‫ك ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم﴾ [المائدة‪]119 :‬‬ ‫َذلِ َ‬
‫وبذلك فإن حساب أولئك الصادقين مما يزي د في مك انتهم ورفعتهم‪ ،‬ذل ك أن ه‬
‫تتجلى من خالل تل ك األس ئلة والمحاس بات م دى طه ارتهم وص دقهم وإخالص هم‪،‬‬
‫والذي ربما يكون قد خفي الكثير منه في الدنيا‪.‬‬
‫وذلك يشبه كثيرا ما ذكره القرآن الكريم عن يوسف عليه السالم عند مطالبته‬
‫بالتحقيق في قضيته قبل أن يخرج السجن‪ ،‬ودور ذلك في إظه ار ص ورته الممتلئ ة‬
‫بالجم ال واإلخالص‪ ،‬فق د ذك ر هللا تع الى أن مل ك مص ر عن دما علم الحقيق ة ق ال‪:‬‬
‫﴿ا ْئتُونِي بِ ِه أَ ْست َْخلِصْ هُ لِنَ ْف ِسي﴾ [يوسف‪]54 :‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن م ا ورد عن دخ ول الفق راء الجن ة قب ل األغني اء‪ ،‬ال يع ني أنهم‬
‫أفضل منهم بهذا االعتبار‪ ،‬وإنما يع ني أن حس اب األغني اء أك بر ألنهم سيحاس بون‬
‫عن أم والهم‪ ،‬من أين اكتس بوها‪ ،‬وفيم أنفقوه ا‪ ،‬ول ذلك إن نجح وا في االمتح ان ق د‬
‫يكون محلهم من الجنة أرفع‪ ،‬ألن العبرة باألعمال‪ ،‬ال بتأخر الدخول إلى الجنة‪.‬‬
‫ويدل لذلك‪ ،‬بل يصرح به قوله ‪( :‬أول زمرة تدخل الجنة من أم تي فق راء‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار ‪171 / 7 :‬‬

‫‪225‬‬
‫المهاجرين‪ ،‬يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة‪ ،‬ويستفتحون‪ ،‬فيقول لهم الخزنة‪ :‬أو قد‬
‫حوسبتم؟ فيقولون‪ :‬بأي شيء نحاسب‪ ،‬وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل هللا‬
‫حتى متنا على ذلك؟ فيفتح لهم‪ ،‬فيقيلون فيه أربعين عاما ً قبل أن يدخلها الناس) (‪)1‬‬
‫وعلى ضوء هذا الحديث تفس ر س ائر الح ديث‪ ،‬كقول ه ‪( :‬قمت على ب اب‬
‫الجنة فكان عامة من دخلها المساكين‪ ،‬وأصحاب الجد محبوسون غ ير أن أص حاب‬
‫النار قد أمر بهم إلى النار)(‪ ،)2‬وقوله‪( :‬إن فقراء المهاجرين يس بقون األغني اء ي وم‬
‫القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً)(‪ ،)3‬وقوله‪( :‬فقراء المهاجرين يدخلون الجن ة قب ل‬
‫أغنيائهم بخمسمائة سنة) (‪)4‬‬
‫واالختالف في التقديرات العددية إما أن ه مب ني على خط أ ال رواة في رواي ة‬
‫الحديث‪ ،‬أو بس بب االختالف الحاص ل بين الفق راء واألغني اء‪ ،‬كم ا ذهب إلى ذل ك‬
‫القرط بي‪ ،‬حيث ذك ر أن (الفق راء متف اوتون في ق وة إيم انهم وتق دمهم‪ ،‬واألغني اء‬
‫كذلك‪ ،‬فإذا كان الحس اب باعتب ار أول الفق راء دخ والً الجنة وآخر األغني اء دخ والً‬
‫الجنة فتكون المدة خمسمائة عام‪ ،‬أما إذا نظرت إلى آخر الفقراء دخوالً الجن ة وأول‬
‫األغني اء دخ والً الجن ة فتك ون الم دة أربعين خريف اً‪ ،‬باعتب ار أول الفق راء وآخ ر‬
‫األغنياء)(‪)5‬‬
‫وهكذا ورد في النصوص المقدسة ما يش ير إلى أن كب ار المج رمين ال تت اح‬
‫﴿واَل ي ُْس أ َ ُل‬ ‫لهم فرصة المساءلة بناء على اشتهار ذنوبهم أو كثرتها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ع َْن ُذنُوبِ ِه ُم ْال ُمجْ ِر ُمونَ ﴾ [القصص‪ ،]78 :‬وقال‪﴿ :‬فَيَوْ َمئِ ٍذ اَل يُسْأ َ ُل ع َْن َذ ْنبِ ِه إِ ْنسٌ َواَل‬
‫ان﴾ [الرحمن‪]39 :‬‬ ‫َج ٌّ‬
‫وقد حاول العلم اء الجم ع بين ه ذه اآلي ات وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬فَ َو َربِّكَ لَن َْس أَلَنَّهُ ْم‬
‫أَجْ َم ِعينَ (‪َ )92‬ع َّما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [الحجر‪ ،]93 ،92 :‬ومن أحسن ما قيل فيها م ا‬
‫قاله الشيخ مكارم الشيرازي‪ ،‬فقد قال‪( :‬يمكن اإلجابة على هذا السؤال عن طريقين‪:‬‬
‫األول‪ :‬إن المواقف في يوم القيامة متعددة‪ ،‬ففي بعضها يقع الس ؤال والج واب‪ ،‬وفي‬
‫بعض المواقف ال حاجة للسؤال‪ ،‬ألن الحجب مكشوفة‪ ،‬وك ل ش يء واض ح هن اك‪..‬‬
‫الثاني‪ :‬إن السؤال عادة نوعان‪ ،‬سؤال تحقيق‪ ،‬وسؤال توبيخ‪ ،‬فليس في ي وم القيام ة‬
‫سؤال للتحقيق‪ ،‬ألن كل شيء هناك مكشوف عيانا وواض ح دون لبس‪ ،‬ولكن يوج د‬
‫هناك سؤال توبيخ وه و بنفس ه ن وع من الع ذاب النفس ي للمج رمين‪ ..‬وينطب ق ه ذا‬
‫تماما في ما لو سأل األب ابنه غير المؤدب‪ :‬ألم أقدم لك ك ل ه ذه الخ دمات؟‪ ..‬أه ذا‬
‫جزاء ما قدمت؟! في حين أن كال من األب واالبن يعرفان الحقيقة‪ ،‬وأن قص د األب‬
‫‪ )(1‬رواه الحاكم (‪ .)80 /2‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪)5196‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (‪)2979‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترم ذي (‪ )2354‬بلف ظ‪( :‬المس لمين) ب دال من (المه اجرين)‪ ،‬وأحم د (‪ )7933( )296 /2‬بلف ظ‪:‬‬
‫ً‬
‫(المؤمنين) بدالً من (المهاجرين)‬
‫‪ )(5‬التذكرة بأحوال الموتى وأمور اآلخرة (ص‪ ،)976 :‬بتصرف‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫غير!)(‪)1‬‬ ‫من سؤاله إلبنه هو التوبيخ ال‬
‫وبناء على هذا كله‪ ،‬ورد في النص وص المقدس ة ذك ر ن وعين من الحس اب‪:‬‬
‫العس ير واليس ير‪ ،‬أم ا اليس ير‪ ،‬فه و الع رض المج رد عن العت اب والت وبيخ‪ ،‬وأم ا‬
‫العسير‪ ،‬فهو ذلك العرض الذي يكون معه التوبيخ الشديد‪.‬‬
‫ولهذا ذك ر هللا تع الى أن أص حاب الحس اب اليس ير هم المؤمن ون الطيب ون‪،‬‬
‫بخالف أصحاب الحساب العسير‪ ،‬كما قال تع الى‪﴿ :‬فَأ َ َّما َم ْن أُوتِ َي ِكتَابَ هُ بِيَ ِمينِ ِه (‪)7‬‬
‫فَ َسوْ فَ يُ َحا َسبُ ِح َسابًا يَ ِسيرًا (‪َ )8‬ويَ ْنقَلِبُ إِلَى أَ ْهلِ ِه َم ْسرُورًا ﴾ [االنش قاق‪،]9 - 7 :‬‬
‫﴿وأَ َّما َم ْن أُوتِ َي ِكتَابَهُ َو َرا َء ظَه ِْر ِه (‬
‫وفي مقابله ذكر صاحب الحساب العسير‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫َ‬
‫ص لَى َس ِعيرًا (‪ )12‬إِنَّهُ َك انَ فِي أ ْهلِ ِه َم ْس رُورًا (‬ ‫‪ )10‬فَ َسوْ فَ يَ ْدعُو ثُبُورًا (‪َ )11‬ويَ ْ‬
‫صيرًا﴾ [االنشقاق‪،]15 - 10 :‬‬ ‫ُور (‪ )14‬بَلَى إِ َّن َربَّهُ َكانَ بِ ِه بَ ِ‬‫‪ )13‬إِنَّهُ ظَ َّن أَ ْن لَ ْن يَح َ‬
‫ق لِل رَّحْ َم ِن َو َك انَ يَوْ مًا َعلَى ْال َك افِ ِرينَ ع َِس يرًا ﴾ [الفرق ان‪:‬‬ ‫ك يَوْ َمئِ ٍذ ْال َح ُّ‬
‫﴿ال ُم ْل ُ‬
‫وقال‪ْ :‬‬
‫‪]26‬‬
‫وقد ورد في الحديث تفسير ذلك‪ ،‬فقد قال ‪( :‬ليس أحد يحاسب ي وم القيام ة‬
‫اس بُ ِح َس ابًا يَ ِس يرًا ﴾ [االنش قاق‪:‬‬ ‫إال معذبا)‪ ،‬فقيل له‪ :‬أليس هللا يق ول‪ ﴿ :‬فَ َس وْ فَ ي َُح َ‬
‫‪]8‬؟ فقال‪( :‬ذاك العرض‪ ،‬إنه من نوقش الحساب عذب) (‪)2‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر أن رس ول هللا ‪ُ ‬س مع في بعض ص الته يق ول‪( :‬اللهم‬
‫حاسبني حسابا يسيرا)‪ ،‬فلما انصرف‪ ،‬قيل له‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬م ا الحس اب اليس ير؟‬
‫قال‪( :‬أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه‪ ،‬إنه من نوقش الحساب يومئذ هلك) (‪)3‬‬
‫ونحب أن ننبه إلى أن طول الحساب وشدته‪ ،‬ال يعني كونه عسيرا؛ فقد يكون‬
‫ذلك لكثرة المسؤوليات التي ارتبطت بالمس ؤول بخالف غ يره‪ ،‬كم ا وض ح اإلم ام‬
‫الصادق ذلك بقوله‪( :‬إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان‪ ،‬للحس اب كالهم ا من‬
‫أهل الجنة‪ ،‬فقير في الدنيا‪ ،‬وغني في الدنيا‪ ،‬فيق ول الفق ير‪ :‬ي ا ربّ على م ا أوق ف؟‬
‫فوعزت ك إنّ ك لتعلم أنّ ك لم تولّ ني والي ة فأع دل فيه ا أو أج ور‪ ،‬ولم ترزق ني م االً‬
‫فأُؤ ّدي منه حقا ً أو أمنع‪ ،‬وال كان رزقي يأتيني منها إالّ كفافا ً على ما علمت وق ّدرت‬
‫لي‪ ،‬فيقول هللا ج ّل جالله‪ :‬صدق عبدي خلّ وا عن ه ي دخل الجنّ ة‪ .‬ويبقى اآلخ ر حتّى‬
‫يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بع يراً لكفاه ا‪ ،‬ث ّم ي دخل الجن ة‪ ،‬فيق ول ل ه‬
‫الفقير‪ ،‬ماحبسك؟ فيقول‪ :‬طول الحساب‪ ،‬مازال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي‪،‬‬
‫ث ّم اسأل عن شيء آخر حتى تغ ّم دني هللا ع ّزوج ّل من ه برحم ة وألحق ني بالت ائبين‪،‬‬
‫فمن أنت؟ فيقول‪ :‬أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً‪ ،‬فيقول‪ :‬لقد غيّرك النعيم بعدي)(‪)4‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬أن الحساب قد ييسر ويخف ف على الش خص بن اء‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)294 /12( ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري برقم (‪ )4939‬و مسلم برقم (‪)2876‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد (‪)6/48‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار ‪.259 / 7 :‬‬

‫‪227‬‬
‫على طبيعته السمحة ولينه‪ ،‬ففي الحديث قال ‪( :‬حوسب رجل ممن ك ان قبلكم فلم‬
‫يوجد له من الخير شيء إال أنه كان يخالط الناس وكان موسراً‪ ،‬فك ان ي أمر غلمان ه‬
‫أن يتجاوزوا عن المعسر‪ .‬قال‪ :‬قال هللا ع ز وج ل‪ :‬نحن أح ق ب ذلك من ه‪ ،‬تج اوزوا‬
‫عنه) (‪)1‬‬
‫وقبل أن نذكر المجاالت التي يكون فيها الحساب ـ حسبما ورد في النصوص‬
‫المقدسة ـ نحب أن نذكر هنا مسألة مهمة تتعلق بنوع الحساب وكيفيته‪ ،‬وله ا عالق ة‬
‫كذلك بالموازين ـ كما سنرى ـ وهي ما يطلق عليه [الحساب التكويني والتدويني]‬
‫ذلك أن النصوص المقدسة عندما تتح دث عن الحس اب ت ذكر كال الن وعين‪..‬‬
‫ُس بَا ٍن﴾ [ال رحمن‪ ]5 :‬يش ير إلى الحس اب‬ ‫﴿الش ْمسُ َو ْالقَ َم ُر بِح ْ‬ ‫فقوله تعالى ـ مثال ـ‪َّ :‬‬
‫التكويني‪ ،‬والذي يش مل ك ل ش يء‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬إِنَّا ُك َّل َش ْي ٍء َخلَ ْقنَ اهُ بِقَ د ٍ‬
‫َر ﴾‬
‫وم ﴾‬‫َر َم ْعلُ ٍ‬‫[القمر‪ ،]49 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء إِاَّل ِع ْن َدنَا خَزَ ائِنُهُ َو َم ا نُن َِّزلُ هُ إِاَّل بِقَ د ٍ‬
‫ض َوإِنَّا َعلَى‬ ‫َر فَأ َ ْس َكنَّاهُ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫الس َما ِء َم ا ًء بِقَ د ٍ‬‫[الحجر‪ ،]21 :‬وقال‪َ ﴿ :‬وأَ ْنزَ ْلنَا ِمنَ َّ‬
‫ب بِ ِه لَقَا ِدرُونَ ﴾ [المؤمنون‪]18 :‬‬ ‫َذهَا ٍ‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي تبين أن هللا تعالى مع كرمه العظيم‪ ،‬وج وده‬
‫الواس ع إال أن ه برحمت ه وعدالت ه وتربيت ه لعب اده‪ ،‬يص ب عليهم من فض له بحس ب‬
‫﴿ولَ وْ بَ َس طَ هَّللا ُ ال ِّر ْز َ‬
‫ق لِ ِعبَ ا ِد ِه لَبَ َغ وْ ا فِي‬ ‫حاجتهم‪ ،‬حتى ال يطغ وا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫صيرٌ﴾ [الشورى‪]27 :‬‬ ‫َر َما يَ َشا ُء إِنَّهُ بِ ِعبَا ِد ِه َخبِي ٌر بَ ِ‬‫ض َولَ ِك ْن يُن َِّز ُل بِقَد ٍ‬‫اأْل َرْ ِ‬
‫وهذا يدعونا إلى التساؤل عن ن وع الحس اب في اآلخ رة‪ ،‬وه ل ه و من ه ذا‬
‫الن وع‪ ،‬أم أن ه حس اب ت دويني‪ ،‬أي ت دون في ه األعم ال وغيره ا‪ ،‬بعي دا عن البع د‬
‫التكويني؟‬
‫وقد أجاب على هذا التساؤل العالمة جعفر السبحاني بقول ه‪( :‬ك ّل م ا يص در‬
‫من اإلنسان من األعمال الحسنة والسيئة فهو ذو تأثير على مصير الف رد والمجتم ع‬
‫يس وقهما إلى الس عادة والتكام ل أو إلى الش قاء واالنحط اط‪ ،‬أو إلى غ ير ذل ك من‬
‫اآلثار‪ ،‬بل ت ؤثر في الحي اة األُخروي ة ومص ير اإلنس ان فيه ا‪ ،‬ول ذلك ق الوا‪ :‬ال دنيا‬
‫مزرعة اآلخرة‪ ،‬فما يزرعه فيها يحصده في ال دار اآلخ رة‪ ،‬وعلى ض وء ذل ك فل و‬
‫كان المراد من الحساب المحاسبة التكوينية‪ ،‬فاألعمال كلّها تُحاسب بمعنى أنّها تؤثر‬
‫في مصير اإلنسان وحياته األُخروية حسنها وسيّئها وال يغادر فعل في ذل ك المق ام‪،‬‬
‫وألجل ذل ك يف ترق اإلنس ان إلى أص حاب اليمين وأص حاب الش مال‪ .‬ألج ل ج زاء‬
‫إن التك وين ال يقب ل‬ ‫أعمال ه وال يتط رق التخص يص إلى المحاس بة الكوني ة‪ ،‬ف ّ‬
‫التخصيص)(‪)2‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فإن الحساب يشمل الجميع‪ ،‬ذلك أن كل عمل من األعمال ل ه‬
‫تأثيره الخاص في اإلنسان‪ ،‬سيئا كان أو حسنا‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)1561‬‬


‫‪ )(2‬مفاهيم القرآن‪.8/228 ،‬‬

‫‪228‬‬
‫لكن ـ لو اعتبرنا الحساب تدوينيا ـ فهن ا يمكن أن يرف ع الحس اب‪ ،‬أو يخف ف‪،‬‬
‫أو ييس ر‪ ،‬ذل ك أن ه يرج ع للموازن ات بين الحس نات والس يئات‪ ،‬ذل ك أن ه (تجم ع‬
‫الحسنات في قائمة والسيّئات في قائمة أُخرى ث ّم ي وازن بينه ا ف إن رجحت حس ناته‬
‫على سيئاته‪ ،‬فيعطى كتاب ه بيمين ه‪ ،‬وإن رجحت س يئاته على حس ناته فيعطى كتاب ه‬
‫بشماله) (‪)1‬‬
‫وبن اء على ه ذا؛ ف إن (االختالف في ش مولية الحس اب وع دمها راج ع إلى‬
‫ألن مرج ع‬ ‫الحساب التدويني‪ ،‬وأ ّما الحساب التكويني فشموليته أم ر ال خالف في ه‪ّ ،‬‬
‫الحساب التكوي ني يع ود إلى اآلث ار الواقعي ة للعم ل ال تي ال تنف ك عن ه‪ ،‬ول ذلك يعم‬
‫الجميع من دون فرق بين صالح وصالح أو طالح وطالح) (‪)2‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬نحاول في هذا المطلب التعرف على أهم القضايا التي يحاسب‬
‫عليها اإلنسان في ذلك الموقف‪ ،‬وال تي يمكن تص نيفها إلى ص نفين‪ :‬أعم ال خاص ة‬
‫وشخصية‪ ،‬وأخرى متعدية‪.‬‬
‫أ ـ الشؤون الشخصية‪:‬‬
‫وهي الشؤون الخاصة بذات اإلنسان‪ ،‬إما بينه وبين ربه‪ ،‬أو بينه وبين نفس ه‪،‬‬
‫وليس لها آثار متعدية‪ ،‬وق د ورد في النص وص المقدس ة الكث ير من أن واع األس ئلة‬
‫التي يُس أل عنه ا اإلنس ان في ذل ك الموق ف‪ ،‬والمرتبط ة به ذا الن وع‪ ،‬ولكن أهمه ا‬
‫واألساس الذي تقوم عليه‪ ،‬هو الموقف من الرسل والهداة الذين كلفوا بهداية البشر‪.‬‬
‫ذلك أن الهداية مرتبطة بالموقف منهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ويَ وْ َم يُنَ ا ِدي ِه ْم فَيَقُ و ُل‬
‫َما َذا أَ َج ْبتُ ُم ْال ُمرْ َس لِينَ ﴾ [القص ص‪ ،]65 :‬ثم ذك ر تم يز المواق ف بع د ذل ك الس ؤال‪،‬‬
‫َاب َوآ َمنَ َو َع ِم َل‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ُم اأْل َ ْنبَا ُء يَوْ َمئِ ٍذ فَهُ ْم اَل يَتَ َسا َءلُونَ (‪ )66‬فَأ َ َّما َم ْن ت َ‬
‫فقال‪ ﴿ :‬فَ َع ِميَ ْ‬
‫صالِحًا فَ َع َسى أَ ْن يَ ُكونَ ِمنَ ْال ُم ْفلِ ِحينَ ﴾ [القصص‪]67 ،66 :‬‬ ‫َ‬
‫ولهذا قال النبي ‪ ‬في خطبته في حجة الوداع‪( :‬وأنتم تسألون عني‪ ،‬فما أنتم‬
‫ق ائلون؟)‪ ،‬ق الوا‪ :‬نش هد أن ك ق د بلغت وأديت ونص حت‪ ،‬فق ال ـ بإص بعه الس بابة‪،‬‬
‫يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ـ‪( :‬اللهم‪ ،‬اشهد‪ ،‬اللهم‪ ،‬اشهد) ثالث مرات(‪.)3‬‬
‫وبذلك فإن كل األس ئلة التالي ة س تكون بحس ب الموق ف من الرس ل واله داة‪،‬‬
‫وه ل اتبع وهم‪ ،‬أو ح اربوهم‪ ،‬وفي ح ال اتب اعهم لهم ه ل ال تزموا بعه ودهم معهم‪،‬‬
‫فحافظوا على دينهم من التحريف‪ ،‬أم خالفوا‪ ،‬فأنشأوا ألنفسهم دينا جديدا؟‬
‫﴿وأَوْ ف وا بِال َعهْ ِد‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ولهذا كان من أهم األسئلة السؤال عن العهد‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫إِ َّن ْال َع ْه َد َكانَ َم ْسئُواًل ﴾ [اإلسراء‪]34 :‬‬
‫والمراد بالعهد تل ك المواثي ق ال تي أخ ذها هللا تع الى على أتب اع الرس ل ب أال‬
‫ينحرف وا عنهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى عن ب ني إس رائيل‪ ،‬والميث اق ال ذي أخ ذه عليهم‪:‬‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪.8/229 ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.8/230 ،‬‬
‫‪ )(3‬صحيح مسلم ‪ 2/886‬ح(‪)1218‬‬

‫‪229‬‬
‫ض هَ َذا اأْل َ ْدنَى َويَقُولُ ونَ َس يُ ْغفَ ُر‬ ‫َاب يَأْ ُخ ُذونَ ع ََر َ‬ ‫ف َو ِرثُوا ْال ِكت َ‬ ‫﴿ فَ َخلَفَ ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم َخ ْل ٌ‬
‫ب أَ ْن اَل يَقُولُوا َعلَى هَّللا ِ‬ ‫ق ْال ِكتَا ِ‬ ‫خَذ َعلَ ْي ِه ْم ِميثَا ُ‬‫لَنَا َوإِ ْن يَأْتِ ِه ْم َع َرضٌ ِم ْثلُهُ يَأْ ُخ ُذوهُ أَلَ ْم ي ُْؤ ْ‬
‫ق َو َد َرسُوا َما فِي ِه َوال َّدا ُر اآْل ِخ َرةُ خَيْ ٌر لِلَّ ِذينَ يَتَّقُ ونَ أَفَاَل تَ ْعقِلُ ونَ ﴾ [األع راف‪:‬‬ ‫إِاَّل ْال َح َّ‬
‫‪]169‬‬
‫َّ‬
‫وذك ر م ا يق ابلهم من المتمس كين بال دين األص يل‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬وال ِذينَ يُ َم ِّس ُكونَ‬
‫ضي ُع أَجْ َر ْال ُمصْ لِ ِحينَ ﴾ [األعراف‪]170 :‬‬ ‫صاَل ةَ إِنَّا اَل نُ ِ‬ ‫ب َوأَقَا ُموا ال َّ‬ ‫بِ ْال ِكتَا ِ‬
‫وهذا س ار في جمي ع األمم‪ ،‬ول ذلك ك انت أول األس ئلة هي األس ئلة المتعلق ة‬
‫بالحف اظ على أص الة ال دين وع دم تحريف ه‪ ،‬وتحري ف القيم ال تي ج اء به ا‪ ،‬وتنفي ذ‬
‫الوصايا التي أوصى بها األنبياء ـ عليهم السالم ـ والتي تتعلق بذلك‪.‬‬
‫وبما أن أهم الن واحي في ال دين هي العقائ د‪ ،‬فق د ذك ر الق رآن الك ريم س ؤال‬
‫المفترين على هللا بشأنها‪ ،‬فقال ـ مخبرا عن بعض افتراءاتهم في ذلك وسؤالهم عنها‬
‫َص يبًا ِم َّما َرزَ ْقنَ اهُ ْم تَاهَّلل ِ لَتُ ْس أَلُ َّن َع َّما ُك ْنتُ ْم تَ ْفتَ رُونَ ﴾‬‫ـ‪َ ﴿ :‬ويَجْ َعلُ ونَ لِ َم ا اَل يَ ْعلَ ُم ونَ ن ِ‬
‫[النحل‪ ،]56 :‬وقال‪َ ﴿ :‬و َج َعلُوا ْال َماَل ئِ َكةَ الَّ ِذينَ هُ ْم ِعبَا ُد ال رَّحْ َم ِن إِنَاثًا أَ َش ِهدُوا خَ ْلقَهُ ْم‬
‫َستُ ْكتَبُ َشهَا َدتُهُ ْم َويُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف‪.]19 :‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد ذكر القرآن الكريم سؤال اإلنسان على كل م ا آت اه هللا‬
‫ْس لَ كَ بِ ِه‬ ‫﴿واَل تَ ْقفُ َم ا لَي َ‬ ‫من طاقات‪ ،‬وأين وجهها‪ ،‬وما عمل فيها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُولَئِكَ َكانَ َع ْنهُ َم ْسئُواًل ﴾ [اإلسراء‪]36 :‬‬ ‫ِع ْل ٌم إِ َّن ال َّس ْم َع َو ْالبَ َ‬
‫وأخبر ‪ ‬عن أن األسئلة في ذلك الموق ف تتن اول ك ل ش يء‪ ،‬بن اء على م ا‬
‫أتيح لإلنسان من ظروف االختبار‪ ،‬فقال‪( :‬ال تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عن د‬
‫ربه حتى يسأل عن خمس‪ :‬عن عمره فيم أفناه‪ ،‬وعن شبابه فيم أباله‪ ،‬ومال ه من أين‬
‫اكتسبه وفيم أنفقه‪ ،‬وماذا عمل فيما علم)(‪)1‬‬
‫وهكذا ورد النص على كون الصالة من األشياء المهمة ال تي يحاس ب عليه ا‬
‫اإلنسان في ذلك الموقف‪ ،‬فقد قال ‪( :‬إن أول ما يحاسب به العب د ي وم القيام ة من‬
‫عمل ه ص الته‪ ،‬ف إن ص لحت فق د أفلح وأنجح‪ ،‬وإن فس دت فق د خ اب وخس ر‪ ،‬ف إن‬
‫انتقص من فريضته ش يء ق ال ال رب ع ز وج ل‪ :‬انظ روا ه ل لعب دي من تط وع‪،‬‬
‫فيكمل به ما انتقص من الفريضة‪ ،‬ثم يكون سائر عمله على ذلك) (‪)2‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر ق ال ‪( :‬إن أول م ا يحاس ب الن اس ب ه ي وم القيام ة من‬
‫أعمالهم الصالة‪ ،‬قال‪ :‬يقول ربنا عز وجل لمالئكته‪ :‬انظروا في صالة عبدي‪ ،‬أتمها‬
‫أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة‪ ،‬وإن كان انتقص منها شيئاً‪ ،‬قال‪ :‬انظ روا‪،‬‬
‫هل لعبدي من تطوع‪ ،‬فإن كان له تطوع‪ ،‬قال‪ :‬أتموا لعبدي فريضته من تطوعه‪ ،‬ثم‬
‫تؤخذ األعمال بعد ذلك)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪)2416‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود (‪ ،)864‬والترمذي (‪ ،)413‬والنسائي (‪ ،)232 /1‬وابن ماجه (‪ ،)1425‬وأحمد (‪( )425 /2‬‬
‫‪.)9490‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود (‪.)864‬‬

‫‪230‬‬
‫ونحب أن ن بين هن ا أن الس ؤال عن الص الة ليس ـ كم ا ي ذكر المتطرف ون‬
‫والط ائفيون ـ من ارتباط ه بش كلها وهيئته ا‪ ،‬ذل ك أن األدي ان تختل ف في ذل ك‪،‬‬
‫والمدارس اإلس المية تختل ف أيض ا‪ ،‬وك ل يم ارس الص الة بحس ب م ا وص له من‬
‫العلم‪ ،‬ولذلك فإن السؤال عنها يكون بحسب ما ورد الحديث عنها في القرآن الك ريم‬
‫من المداومة عليها‪ ،‬والحرص على الخشوع فيها‪ ،‬وإقامتها لذكر هللا‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وطبع ا ه ذا ال يعفي المس ؤول عن االهتم ام بأدائه ا وف ق الش ريعة‪ ،‬ولكن‬
‫بحسب ما وصله اجتهاده‪ ،‬ال بحسب حقيقة الحال‪ ،‬إال إذا أدخل اله وى في اجته اده؛‬
‫فحينها يحاسب على ذلك الهوى الذي أدخله‪.‬‬
‫وال تقتصر األسئلة في ذلك الموقف على ما يرتبط باألعمال الظاهرة‪ ،‬وإنم ا‬
‫تش مل األعم ال القلبي ة‪ ،‬وخصوص ا اإلخالص‪ ،‬ففي الح ديث ق ال رس ول هللا ‪:‬‬
‫(يؤتى ي وم القيام ة بص حف مختم ة‪ ،‬فتنص ب بين ي دي هللا تب ارك وتع الى‪ ،‬فيق ول‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬ألقوا هذه واقبلوا هذه‪ ،‬فتقول المالئكة‪ ،‬وعزت ك م ا رأين ا إال خ يراً‪،‬‬
‫فيقول هللا عز وجل إن ه ذا ك ان لغ ير وجهي‪ ،‬وإني ال أقب ل الي وم إال م ا ابتغي ب ه‬
‫وجهي) وفي رواية‪( :‬فتقول المالئكة‪ :‬وعزتك ما كتبنا إال ما عمل‪ ،‬قال‪ :‬ص دقتم إن‬
‫عمله كان لغير وجهي) (‪ ،)1‬وقال رسول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬ق ال هللا تب ارك وتع الى‪ :‬أنا‬
‫أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬من عمل عمالً أشرك فيه معي غ يري تركت ه وش ركه)‬
‫(‪)2‬‬
‫وهك ذا ورد النص على األس ئلة الكث يرة المرتبط ة بال ذنوب‪ ،‬وق د ض رب‬
‫رس ول هللا ‪ ‬ل ذلك مثال تقريبي ا‪ ،‬فعن د رجوع ه من غ زوة ح نين‪ ،‬ن زل قف راً من‬
‫األرض ليس فيه شيء‪ ،‬فقال‪( :‬من وجد عوداً فلي أت ب ه‪ ،‬ومن وج د حطب ا ً أو ش يئا ً‬
‫فليأت به)‪ ،‬وبعد أن جمعوا ركاما من الحطب‪ ،‬قال ‪( :‬أترون هذا؟ فك ذلك تجم ع‬
‫الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم ه ذا‪ ،‬فليت ق هللا رج ل‪ ،‬وال ي ذنب ص غيرة وال‬
‫كبيرة‪ ،‬فإنها محصاة عليه) (‪)3‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ولهذا قال ‪( :‬طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا) (‪)4‬‬
‫وهكذا ورد النص على األسئلة المرتبطة بنعم هللا‪ ،‬وم ا عم ل فيه ا اإلنس ان‪،‬‬
‫وهل شكرها أم ال‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬ثُ َّم لَتُسْأَلُ َّن يَوْ َمئِ ٍذ ع َِن النَّ ِع ِيم﴾ [التكاثر‪]8 :‬‬
‫وقد قال ‪ ‬في تفسيرها‪( :‬والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه ي وم‬
‫القيامة‪ :‬ظل بارد ورطب طيب وماء بارد) (‪)5‬‬
‫وذكر كيفية الحساب المرتب ط به ا‪ ،‬فق ال‪( :‬إن أول م ا يس أل عن ه العب د ي وم‬
‫‪ )(1‬رواه الطبراني في (المعجم األوسط) (‪)2603( )97 /3‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم (‪)2985‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني (‪)5485( )52 /6‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن ماج ه (‪ ،)3093‬وال بزار (‪ ،)3508( )433 /8‬والنس ائى في (الس نن الك برى) (‪( )118 /6‬‬
‫‪ ،)10289‬والبيهقي فى (شعب اإليمان) (‪،)647( )440 /1‬‬
‫‪ )(5‬رواه الترمذي (‪)2369‬‬

‫‪231‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫القيامة من النعيم أن يقال له‪ :‬ألم نصح لك جسمك‪ ،‬ونرويك من الماء البارد؟)‬
‫وقد ورد ما يفسر الن وع المس ؤول عن ه‪ ،‬وأن ه ليس ك ل أن واع النعم‪ ،‬ب ل م ا‬
‫ارتبط بالترف منها‪ ،‬ففي الح ديث أن رس ول هللا ‪ ‬س ئل عن النعم‪ ،‬وه ل يحاس ب‬
‫عليها‪ ،‬فقال؟ قال‪( :‬نعم إال من ثالث‪ :‬خرقة كف بها الرج ل عورت ه‪ ،‬أو كس رة س د‬
‫بها جوعته‪ ،‬أو حجر يتدخل فيه من الحر والقر) (‪)2‬‬
‫وعن اإلمام علي أنه قال‪ « :‬ما أصف من دار أوّلها عناء‪ ،‬وآخرها فن اء‪ ،‬في‬
‫حاللها حساب‪ ،‬وفي حرامها عقاب »(‪ ،)3‬وقال‪ « :‬اتّقوا هللا في عباده وبالده‪ ،‬فإنّكم‬
‫مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم‪ ،‬أطيعوا هللا وال تعصوه‪ ،‬وإذا رأيتم الخير فخذوا‬
‫به‪ ،‬وإذا رأيتم الش ّر فأعرضوا عنه»(‪ ،)4‬وقال‪ « :‬ك ّل نعيم مسؤول عنه يوم القيام ة‬
‫إالّ ما كان في سبيل هللا »(‪)5‬‬
‫وقد ورد في الروايات ما يدل على إجابة العب اد لألس ئلة ال تي تط رح عليهم‪،‬‬
‫أو تهربهم منها‪ ،‬وأنواع االحتجاجات التي يحتج هللا بها على خلقه‪ ،‬وخاص ة أولئ ك‬
‫الذين يبررون ذنوبهم‪ ،‬فعن اإلمام الصادق أنه سئل عن قوله تعالى‪﴿ :‬قُلْ فَلِلَّ ِه ْال ُح َّجةُ‬
‫ْالبَالِ َغةُ ﴾ [األنعام‪ ،]149 :‬فقال‪ :‬إن هللا تعالى يقول للعبد ي وم القيام ة‪ :‬عب دي! أكنت‬
‫عالما؟ فإن قال‪ :‬نعم قال له‪ :‬أفال عملت بم ا علمت؟ وإن ق ال‪ :‬كنت ج اهال ق ال ل ه‪:‬‬
‫أفال تعلمت حتى تعمل؟ فيخصم فتلك الحجة هلل عزوجل على خلقه)(‪)6‬‬
‫وعن ه ق ال‪( :‬إن الرج ل منكم ليك ون في المحل ة فيحتج هللا ي وم القيام ة على‬
‫جيران ه فيق ال لهم‪ :‬ألم يكن فالن بينكم؟ ألم تس معوا كالم ه؟ ألم تس معوا بك اءه في‬
‫الليل؟ فيكون حجة هللا عليهم)(‪)7‬‬
‫وعنه ق ال‪( :‬ي ؤتى ب المرأة الحس ناء ي وم القيام ة ال تي ق د افتتنت في حس نها‬
‫فتقول‪ :‬يا رب حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت‪ ،‬فيجاء بمريم عليه ا الس الم‪ ،‬فيق ال‪:‬‬
‫أنت أحسن أو هذه؟ قد حسناها فلم تفتتن‪ ،‬ويجاء بالرج ل الحس ن ال ذي ق د افتتن في‬
‫حسنه فيقول‪ :‬يا رب حس نت خلقي ح تى لقيت من النس اء م ا لقيت‪ ،‬فيج اء بيوس ف‬
‫عليه السالم‪ ،‬فيقال‪ :‬أنت أحسن أو هذا؟ قد حس ناه فلم يفتتن‪ ،‬ويج اء بص احب البالء‬
‫ال ذي ق د أص ابته الفتن ة في بالئ ه فيق ول‪ :‬ي ا رب ش ددت علي البالء ح تى افتتنت‪،‬‬
‫فيجاء بأيوب عليه السالم فيقال‪ :‬أبليتك أشد أو بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن) (‪)8‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪)3358‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪)20244‬‬
‫‪ )(3‬نهج البالغة ‪ :‬الخطبة ‪.82‬‬
‫‪ )(4‬نهج البالغة ‪ :‬الخطبة ‪.167‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪261 / 7 :‬‬
‫‪ )(6‬بحار األنوار (‪)284 /7‬‬
‫‪ )(7‬بحار األنوار (‪)285 /7‬‬
‫‪ )(8‬بحار األنوار (‪)285 /7‬‬

‫‪232‬‬
‫هذا بعض ما ورد من النصوص المقدسة واألحاديث والروايات ح ول كيفي ة‬
‫الحساب‪ ،‬وأنواع المسائل التي يسأل عنها اإلنسان‪ ،‬وطبعا‪ ،‬فإن المراد من ذلك ليس‬
‫الحصر‪ ،‬وإنما ذكر األمثلة والتوجي ه من خالله ا‪ ،‬ح تى يحاس ب اإلنس ان نفس ه في‬
‫الدنيا‪ ،‬قبل أن يحاسب هناك‪ ..‬فأيسر الناس حس ابا في اآلخ رة من حاس ب نفس ه في‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫ونحب أن نبين هنا أن هللا تعالى يتعامل مع عباده في ه ذه األس ئلة وغيره ا ـ‬
‫بحسب تعاملهم مع عباده ـ فإن كانوا من الذين يس ترون خل ق هللا‪ ،‬يس تر هللا عليهم‪،‬‬
‫وإن كانوا من المسارعين إلى إشاعة الفواحش‪ ،‬ف إنهم في ذل ك الموق ف يتعرض ون‬
‫لكل أنواع اإلحراج تأديبا لهم على سلوكهم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫وقد أشار إلى ه ذا قوله تع الى‪﴿ :‬إِ َّن ال ِذينَ ي ُِحبُّونَ أ ْن ت َِش ي َع الفَا ِح َش ةُ فِي ال ِذينَ‬
‫آ َمنُوا لَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم فِي ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َر ِة َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َوأَ ْنتُ ْم اَل تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [النور‪]19 :‬‬
‫والذي فسرته أح اديث كث يرة منه ا قول ه ‪( :‬ي ا معش ر من آمن بلس انه ولم‬
‫يدخل اإليمان قلبه ال تغتابوا المسلمين‪ ،‬وال تتّبعوا عوراتهم؛ فإنّه من اتّبع عوراتهم‪،‬‬
‫يتّبع هللا عورته‪ ،‬ومن يتّبع هللا عورته يفضحه في بيته) (‪)1‬‬
‫وقال ‪( :‬من أذ ّل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذلّه هللا‬
‫ل على رؤوس الخالئق يوم القيامة) (‪)2‬‬ ‫ع ّز وج ّ‬
‫فإن هللا يطعم ه مثله ا في جهنّم‪ ،‬ومن كس ي‬ ‫وقال‪( :‬من أكل برجل مسلم أكلة ّ‬
‫فإن هللا يكسوه مثله من جهنّم‪ ،‬ومن قام برجل مق ام س معة وري اء‪،‬‬ ‫ثوبا برجل مسلم ّ‬
‫فإن هللا يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة)(‪)3‬‬ ‫ّ‬
‫وقال‪( :‬المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يسلمه‪ ،‬ومن كان في حاجة أخيه كان‬
‫هللا في حاجت ه‪ ،‬ومن ف رّج عن مس لم كرب ة ف رّج هللا عن ه كرب ة من كرب ات ي وم‬
‫القيامة‪ ،‬ومن ستر مسلما ستره هللا يوم القيامة) (‪)4‬‬
‫وهذه األحاديث كلها تدل على أن هللا تعالى يتعامل مع عباده بحسب الق وانين‬
‫التي ارتضوها ألنفسهم‪ ،‬تأديبا لهم‪ ،‬حتى يعرفوا مدى الجرائم التي وقعوا فيها‪.‬‬
‫ب ـ الشؤون المتعدية‪:‬‬
‫وهي الشؤون الخاصة بعالقة اإلنسان بغيره من الخلق س واء ك انوا بش را أو‬
‫غيرهم‪ ،‬وقد ورد في النصوص المقدسة الكثير من أنواع األس ئلة ال تي يُس أل عنه ا‬
‫اإلنسان في ذلك الموقف‪ ،‬والمرتبطة بهذا النوع‪ ،‬وهي جميعا تتفق على خطورته ا‪،‬‬
‫وأنه ال يمكن أن يعفى عنها‪ ،‬ما لم يتجاوز أصحابها‪ ،‬أو يعطوا بدلها م ا يكافئه ا من‬
‫الحسنات‪ ،‬أو يتحمل عنهم صاحبها ما يكافئها من السيئات‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود (‪)4880‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪)487 /3‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود (‪ )4881‬وأحمد (‪)229 /4‬‬
‫‪ )(4‬البخاري‪ -‬الفتح ‪ )2442( 5‬واللفظ له‪ ،‬مسلم (‪)2580‬‬

‫‪233‬‬
‫وق د أش ار إليه ا قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وقَ ا َل الَّ ِذينَ َكفَ رُوا لِلَّ ِذينَ آ َمنُ وا اتَّبِ ُع وا َس بِيلَنَا‬
‫َو ْلنَحْ ِم لْ خَ طَايَ ا ُك ْم َو َم ا هُ ْم بِ َح ا ِملِينَ ِم ْن خَ طَايَ اهُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء إِنَّهُ ْم لَ َك ا ِذبُونَ (‪)12‬‬
‫َولَيَحْ ِملُ َّن أَ ْثقَ الَهُ ْم َوأَ ْثقَ ااًل َم َع أَ ْثقَ الِ ِه ْم َولَي ُْس أَلُ َّن يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة َع َّما َك انُوا يَ ْفتَ رُونَ ﴾‬
‫[العنكبوت‪]13 ،12 :‬‬
‫فهاتان اآليتان الكريمتان تشيران إلى أن اإلنس ان يتحم ل أوزاره وأوزار من‬
‫أضلهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا‪.‬‬
‫بل ورد في الحديث ما يدل على أن األمر أكبر من أن يختصر في التض ليل‪،‬‬
‫(إن هللا لَيَس أ َ ُل العب َد‬‫بل مجرد السكوت عن المنكر يحاسب عليه اإلنسان‪ ،‬ق ال ‪َّ :‬‬
‫يو َم القيامة حتى يَقُول‪ :‬ما منعك إذ رأيتَ المنكر أن تُن ِكره؟ فإذا لقَّن هللا عب دًا حجَّت ه‬
‫قال‪ :‬يا رب‪ ،‬رجوتك وفرقت من الناس)(‪)1‬‬
‫وقد أخبر ‪ ‬عن خطورة هذا النوع من الحس اب‪ ،‬فق ال‪( :‬ال دواوين عن د هللا‬
‫عز وجل ثالثة‪ :‬ديوان ال يعبأ هللا به شيئاً‪ ،‬وديوان ال يترك هللا منه شيئاً‪ ،‬ودي وان ال‬
‫يغفره هللا‪ ،‬فأما الديوان الذي ال يغفره هللا‪ :‬فالشرك باهلل‪ ،‬قال هللا ع ز وج ل‪﴿ :‬إِنَّهُ َم ْن‬
‫يُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ فَقَ ْد َح َّر َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْال َجنَّةَ﴾ [المائدة‪ ،]72 :‬وأما الديوان الذي ال يعبأ هللا ب ه‬
‫شيئاً‪ ،‬فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه‪ ،‬من صوم يوم تركه أو صالة تركها‪ ،‬فإن‬
‫هللا عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء‪ ،‬وأما الديوان الذي ال ي ترك هللا من ه ش يئاً‪:‬‬
‫فظلم العباد بعضهم بعضاً‪ ،‬القصاص ال محالة) (‪)2‬‬
‫وعن اإلم ام علي أن ه ق ال في بعض خطب ه‪( :‬أيه ا الن اس إن ال ذنوب ثالث ة‪:‬‬
‫فذنب مغفور‪ ،‬وذنب غير مغفور‪ ،‬وذنب نرجو ونخ اف علي ه‪ ..‬أم ا ال ذنب المغف ور‬
‫فعبد عاقبه هللا تعالى على ذنبه في الدنيا؛ فاهلل أحكم وأكرم أن يع اقب عب ده م رتين‪،‬‬
‫وأما الذي اليغفر فظلم العباد بعضهم لبعض‪ ،‬إن هللا تبارك وتعالى أقس م قس ما على‬
‫نفسه فقال‪ :‬وعزتي وجاللي ال يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف‪ ،‬ولو مسحة بك ف‪،‬‬
‫ونطحة ما بين الشاة القرناء إلى الشاة الجماء؛ فيقتص هللا للعب اد بعض هم من بعض‬
‫حتى ال يبقى الحد عند أحد مظلمة‪ ،‬ثم يبعثهم هللا إلى الحس اب‪ ،‬وأم ا ال ذنب الث الث‬
‫فذنب ستره هللا على عبده ورزقه التوبة فأصبح خاشعا من ذنب ه راجي ا لرب ه‪ ،‬فنحن‬
‫له كما هو لنفسه‪ ،‬نرجو له الرحمة‪ ،‬ونخاف عليه العقاب)(‪)3‬‬
‫وبين ‪ ‬كيفية الخالص من الحساب المرتبط بهذا النوع من ال ذنوب‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(من كانت عنده مظلمة ألخيه فليتحلله منها‪ ،‬فإنه ليس ث َّم دينار وال درهم من قبل أن‬
‫يؤخذ ألخيه من حسناته‪ ،‬فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)‬
‫(‪)4‬‬

‫‪ )(1‬الحميدي (‪ )739‬وأحمد ‪.)11232( 3/27‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد (‪ ،)26073( )240 /6‬والحاكم (‪ .)619 /4‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد ولم يخرجاه‪.‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪.29 / 6 : :‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري (‪)6534‬‬

‫‪234‬‬
‫وقد اعتبر رسول هللا ‪ ‬الواقع في أمثال هذه الذنوب مفلسا‪ ،‬وإن جاء بجبال‬
‫من الحسنات‪ ،‬ألنه ا س رعان م ا ت وزع على ال ذين ظلمهم‪ ،‬ق ال ‪( :‬أت درون من‬
‫المفلس؟) قالوا‪ :‬المفلس فينا من ال درهم ل ه وال مت اع‪ ،‬فق ال‪( :‬إن المفلس من أم تي‬
‫من يأتي يوم القيامة بصالة وصيام وزكاة‪ ،‬ويأتي وقد شتم ه ذا‪ ،‬وق ذف ه ذا‪ ،‬وأك ل‬
‫مال هذا‪ ،‬وسفك دم هذا‪ ،‬وضرب هذا‪ ،‬فيعطى هذا من حس ناته‪ ،‬وه ذا من حس ناته‪،‬‬
‫فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه‪ ،‬أخذ من خطاياهم فطرحت عليه‪ ،‬ثم طرح‬
‫في النار)(‪)1‬‬
‫(إن الش يطان ق د يئس أن تعب د األص نام‬ ‫وفي حديث آخر قال رسول هللا ‪ّ :‬‬
‫بأرض العرب ولكن سيرضى منكم بما ه و دون ذل ك ب المحقّرات وهي الموبق ات‪،‬‬
‫فإن العب د ليجيء ي وم القيام ة بأمث ال الجب ال من الطاع ات‬ ‫فاتّقوا الظلم ما استطعتم ّ‬
‫إن فالن ا ظلم ني بمظلم ة‬ ‫فيرى أنّها ستنجينّه‪ ،‬فما ي زال عب د يجيء فيق ول‪ :‬ي ا ربّ ّ‬
‫فيقال‪ :‬امح من حسناته‪ ،‬فما يزال كذلك حتى ما يبقى له من حسناته شيء‪ّ ،‬‬
‫وإن مث ل‬
‫ذلك مثل سفر نزل وا بفالة من األرض ليس معهم حطب فتف رّق الق وم ف احتطبوا فلم‬
‫الذنوب)(‪)2‬‬ ‫يلبثوا أن أوقدوا نارهم وصنعوا ما أرادوا وكذلك ّ‬
‫وأخبر ‪ ‬عن المحل الذي يتم فيه هذا النوع من الحساب‪ ،‬والذي تجري في ه‬
‫الخصومات الكثيرة بين الخلق‪ ،‬فقال‪( :‬يخلص المؤمن ون من الن ار‪ ،‬فيحبس ون على‬
‫قنطرة بين الجن ة والن ار‪ ،‬فيقص لبعض هم من بعض مظ الم ك انت بينهم في ال دنيا‪،‬‬
‫حتى إذا ه ذبوا ونق وا أذن لهم في دخ ول الجن ة‪ ،‬فوال ذي نفس محم د بي ده ألح دهم‬
‫أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا) (‪)3‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن أخطر ما يحاسب عليه العبد في ذلك الموقف‪ ،‬فق ال‪( :‬أول م ا‬
‫يقضى بين الناس بالدماء) (‪)4‬‬
‫ونحب أن ننقل هنا تص ويرا بليغ ا ألبي حام د الغ زالي يص ور في ه خط ورة‬
‫الحساب المرتبط بهذا النوع‪ ،‬فقد قال في [إحياء علوم الدين]‪( :‬اعلم أنّه ال ينجو عن‬
‫خطر الميزان والحساب إاّل من حاسب في ال ّدنيا نفسه‪ ،‬ووزن فيه ا بم يزان الش رع‬
‫أعمال ه وأقوال ه وخطرات ه ولحظات ه كم ا ورد (حاس بوا أنفس كم قب ل أن تحاس بوا‪،‬‬
‫وزنوها قبل أن توزنوا)‪ ،‬وإنّما حسابه لنفسه أن يتوب عن ك ّل معص ية قب ل الم وت‬
‫توبة نصوحا‪ ،‬ويتدارك ما فرط من تقصيره في فرائض هّللا ‪ ،‬وير ّد المظالم حبّة بع د‬
‫حبّة‪ ،‬ويستح ّل ك ّل من تعرّض له بلسانه ويده وسوء ظنّه بقلب ه ويطيب قل وبهم حتّى‬
‫يموت ولم يبق عليه مظلمة وال فريضة‪ ،‬فهذا يدخل الجنّ ة بغ ير حس اب‪ ،‬وإن م ات‬
‫قبل ر ّد المظالم أحاطت به خص ماؤه؛ فه ذا يأخ ذ بي ده‪ ،‬وه ذا يقبض على ناص يته‪،‬‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم رقم (‪ ،)2581‬والترمذي رقم (‪.)2420‬‬
‫‪ )(2‬قال العراقي في [تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (‪ :])2690 /6‬رواه أحمد بإسناد حسن‪ ،‬ورواه أبو يعلى‬
‫والخرائطي في مساوئ األخالق والطبراني في الكبير والحاكم والضياء‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪)6535‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري (‪ ،)6533‬ومسلم (‪)1678‬‬

‫‪235‬‬
‫وهذا يتعلّق بتلبيبه‪ ،‬هذا يقول ظلمتني‪ ،‬وهذا يقول شتمتني‪ ،‬وهذا يقول‪ :‬قد استهزأت‬
‫بي‪ ،‬وهذا يق ول‪ :‬ذكرت ني في الغيب ة بم ا يس وؤني‪ ،‬وه ذا يق ول‪ :‬ج اورتني فأس أت‬
‫جواري‪ ،‬وهذا يقول عاملتني فغششتني‪ ،‬وهذا يقول‪ :‬ب ايعتني فغبنت ني وأخفيت عنّي‬
‫عيب سلعتك‪ ،‬وهذا يقول‪ :‬كذبت في سعر متاعك‪ ،‬وهذا يقول رأيتني محتاج ا وكنت‬
‫غنيّا فما أطعمتني‪ ،‬وهذا يقول‪ :‬وج دتني مظلوم ا وكنت ق ادرا على دف ع الظلم عنّي‬
‫فداهنت الظالم وما راعيت ني‪ ،‬فبين ا أنت ك ذلك وق د أنش ب الخص ماء في ك مخ البهم‬
‫فأحكموا في تالبيبك أيديهم وأنت مبهوت متحيّر من كثرتهم حتّى لم يبق في عم رك‬
‫ق علي ك مظلم ة بغيب ة أو‬ ‫أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إاّل وقد استح ّ‬
‫خيانة أو نظر بعين استحقار‪ ،‬وقد ضعفت عن مقاومتهم‪ ،‬ومددت عن ق الرّج اء إلى‬
‫﴿اليَوْ َم تُجْ زَى ُك لُّ‬ ‫سيّدك وموالك لعلّه يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبّار ْ‬
‫ب﴾ [غ افر‪]17 :‬؛ فعن د ذل ك ينخل ع‬ ‫ت اَل ظُ ْل َم ْاليَوْ َم إِ َّن هَّللا َ َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ‬ ‫نَ ْف ٍ‬
‫س بِ َما َك َسبَ ْ‬
‫قلبك من الهيبة‪ ،‬وتوقن نفسك بالبوار‪ ،‬وتت ذ ّكر م ا أن ذرك هّللا تع الى ب ه على لس ان‬
‫﴿واَل تَحْ َس بَ َّن هَّللا َ َغ افِاًل َع َّما يَ ْع َم ُل الظَّالِ ُمونَ إِنَّ َم ا يُ ؤ ِّ‬
‫َخ ُرهُ ْم لِيَ وْ ٍم‬ ‫رسوله حيث ق ال‪َ :‬‬
‫وس ِه ْم اَل يَرْ تَ ُّد إِلَ ْي ِه ْم طَ رْ فُهُ ْم َوأَ ْفئِ َدتُهُ ْم‬
‫ْص ا ُر ُمه ِْط ِعينَ ُم ْقنِ ِعي ُر ُء ِ‬ ‫ت َْش َخصُ فِي ِه اأْل َب َ‬
‫هَ َوا ٌء ﴾ [إب راهيم‪ 42:‬ـ ‪ ،]43‬فم ا أش ّد فرح ك الي وم بتمضمض ك ب أعراض النّ اس‬
‫وتناولك أموالهم‪ ،‬وما أش ّد حسرتك في ذلك إذا وقف بك على بساط العدل وش وفهت‬
‫بخطاب السياسة وأنت مفلس فقير عاجز مهين ال تقدر على أن ت ر ّد حقّ ا أو تظ اهر‬
‫عذرا فعند ذلك يؤخذ حسناتك الّتي تعبت فيها عم رك وتنق ل إلى خص مائك عوض ا‬
‫عن حقوقهم)(‪)1‬‬
‫ثم ذكر حديث المفلس‪ ،‬وعلق عليه بقوله‪( :‬‬
‫فانظر إلى مص يبتك في مث ل ه ذا‬
‫اليوم إذ ليس تسلم لك حسنة من آف ات الرّي اء ومكاي د الش يطان؛ ف إن س لمت حس نة‬
‫واحدة في ك ّل م ّدة طويلة ابتدرك خصماؤك وأخذوها ولو أنّك حاس بت نفس ك وأنت‬
‫مواظب على صيام النهار وقيام اللّيل لعلمت أنّ ه ال ينقض ي عن ك ي وم إاّل ويج ري‬
‫على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفى جميع حسناتك؛ فكيف ببقي ة الس يّئات من‬
‫أكل الحرام والشبهات والتقصير في الطاعات فكيف ترجو الخالص من المظالم في‬
‫يوم يقتصّ فيه للج ّماء من القرن اء‪ ..‬فكي ف أنت ي ا مس كين في ق وم ت رى ص حيفتك‬
‫خالي ة من حس نات ط ال فيه ا تعب ك فتق ول‪ :‬أين حس ناتي؟ فيق ال ل ك ق د نقلت إلى‬
‫صحيفة خصمائك وترى صحيفتك مشحونة بسيّئات ط ال في الص بر عنه ا نص بك‬
‫الكف عنها عناؤك فتقول‪ :‬يا ربّ هذه سيّئات ما قارفتها قطّ فيق ال ه ذه‬ ‫ّ‬ ‫واشت ّد بسبب‬
‫بالس وء وظلمتهم في المبايع ة‬ ‫س يّئات الق وم الّ ذين اغتبتهم وش تمتهم وقص دتهم ّ‬
‫والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة والمدارس ة وس ائر أص ناف المعامل ة)‬
‫(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)521 /4‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)522 /4( ،‬‬

‫‪236‬‬
‫‪ 4‬ـ الموازين ومعاييرها‪:‬‬
‫من تجلي ات العدال ة اإللهي ة في أرض المحش ر تل ك الم وازين الكث يرة ال تي‬
‫توزن بها األعم ال وأص حابها‪ ،‬بع د تل ك المراح ل الكث يرة الطويل ة ال تي يم ر به ا‬
‫اإلنسان‪ ،‬سواء في حياته الدنيا‪ ،‬أو في حياة البرزخ‪ ،‬أو بع د تل ك المواق ف الطويل ة‬
‫في أرض المحشر‪.‬‬
‫والغرض من تلك الموازين ـ كم ا ت دل على ذل ك النص وص المقدس ة ـ ه و‬
‫نفس غرض تلك الدرجات التي تعطى للطلبة في ال دنيا بع د م رورهم باالمتحان ات‬
‫المختلف ة‪ ،‬وال تي من خالله ا يح دد مص يرهم‪ ،‬إم ا النج اح‪ ،‬واالنتق ال إلى الوظيف ة‬
‫المناسبة لذلك النجاح‪ ،‬أو الرسوب‪ ،‬والعودة من جديد للتكوين‪.‬‬
‫وبذلك فإن التمييز ليس مرتبطا بالنجاح والرسوب فقط‪ ،‬ب ل بدرج ة النج اح‪،‬‬
‫ودرجة الرسوب أيضا‪ ..‬ذل ك أن ه على ض وئها تك ون حي اة الن اجح أو الراس ب في‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫وهكذا األمر في موازين اآلخرة‪ ،‬فهي التي تحدد ـ عبر النم اذج الموض وعة‬
‫في الميزان ـ أهل الجنة‪ ،‬كما تحدد أهل الن ار‪ ..‬وهي أيض ا من يح دد الدرج ة ال تي‬
‫يستحقها من نجح في الدخول إلى الجنة‪ ،‬كما تحدد المحل الذي يدخل إليه من رسب‬
‫في االمتح ان‪ ،‬واحت اج إلى المزي د من التربي ة‪ ،‬وال تي جعله ا هللا تع الى في جهنم‪،‬‬
‫وال تي تح وي الوس ائل المختلف ة للتطه ير‪ ،‬وتتجلى فيه ا العدال ة اإللهي ة بأكم ل‬
‫صورها‪ ،‬كما سنرى عند الحديث عن الجزاء اإللهي‪.‬‬
‫وربما يك ون ه ذا المث ال ال ذي ذكرن اه قاص را‪ ،‬ول ذلك ف إن المث ال األق رب‬
‫واأليسر على الفهم هو تل ك التحليالت ال تي يق وم به ا الط بيب الكتش اف العناص ر‬
‫المختلفة في الجسم‪ ،‬وزيادتها ونقص ها‪ ..‬ومن خالل ع رض النت ائج على الم وازين‬
‫الصحية الطبيعية يكتشف العلة‪ ،‬ويضع العالج من خاللها‪.‬‬
‫وقد يكون في ذلك العالج حمية‪ ،‬تستدعي من المريض التوقف عن كث ير من‬
‫اللذائذ التي كان يتناولها‪ ،‬أو تتطلب اس تعمال دواء م ر‪ ،‬أو مره ق‪ ،‬لم دة طويل ة أو‬
‫قصيرة‪ ،‬حتى يستعيد العافية‪.‬‬
‫وهكذا األمر‪ ،‬أو قريب منه في موازين اآلخرة‪ ،‬والتي ال ت زن تل ك المق ادير‬
‫المرتبطة بالجس م‪ ،‬وإنم ا ت زن تل ك المق ادير ال تي اكتس بها اإلنس ان في نفس ه‪ ،‬من‬
‫أخالق وطباع‪ ،‬لترى انسجامها مع حقيقة اإلنسان‪ ،‬فإن ك انت منس جمة م ع الفط رة‬
‫السليمة‪ ،‬نجا صاحبها‪ ،‬وإن لم تكن منسجمة احت اج إلى أن يوض ع في المح ل ال ذي‬
‫يتناسب مع طبيعته‪.‬‬
‫أما من يجادل في ه ذا الن وع من الم يزان‪ ،‬ويستص عب حص وله‪ ،‬أو يحيل ه‪،‬‬
‫فيمكن ه أن يس أل المختص ين عن جمي ع غ دد جس مه‪ ،‬وإفرازاته ا الموزون ة بدق ة‪،‬‬
‫لتحفظ عليه صحته‪ ..‬أو يرجع إلى الموازين الدقيقة الموج ودة في الغالف الغ ازي‪،‬‬
‫أو في الك ون جميع ا‪ ،‬ذل ك أن مب دع ك ل الم وازين واح د‪ ،‬وه و هللا تع الى القائ ل‪:‬‬
‫ض َع ْال ِميزَ انَ ﴾ [الرحمن‪]7 :‬‬
‫﴿ َوال َّس َما َء َرفَ َعهَا َو َو َ‬

‫‪237‬‬
‫وإن ذك ر أن ه ذا ممكن في المادي ات‪ ،‬ال في المعنوي ات‪ ،‬فليس أل عن ذل ك‬
‫الجهاز الذي يسمى جهاز كشف الكذب(‪ ،)1‬وهو اختراع بس يط من عق ول قاص رة‪،‬‬
‫ومع ذلك يؤدي الكثير من النتائج الملموسة؛ فهل يستحيل على هللا أن يخل ق جه ازا‬
‫يكشف به كل السيئات الموجودة في اإلنسان‪ ،‬ومق دارها في ه على حس ب الم وازين‬
‫الموجودة في الفطرة األصلية‪.‬‬
‫وه ذا ال ذي ذكرن اه ليس مج رد تش بيه‪ ،‬وإنم ا ه و الحقيق ة ـ كم ا تص ورها‬
‫المصادر المقدسة ـ فهي تعرض موازين اآلخرة بهذا االعتبار‪ ،‬ال بتلك االعتب ارات‬
‫البسيطة‪ ،‬والتي يغذيها الخيال أكثر مما يغذيها القرآن الكريم‪.‬‬
‫فقد ورد الحديث عن الموازين في الق رآن الك ريم في مواض ع مختلف ة‪ ،‬وبين‬
‫أهميتها‪ ،‬وكونها محل التمييز‪ ،‬ولكنه لم يفصل في كيفيته ا‪ ،‬وال حقيقته ا‪ ..‬وه ذا م ا‬
‫جع ل الخي ال يت دخل‪ ،‬ويس تعمل أحيان ا بعض األح اديث المدسوس ة‪ ،‬أو تل ك ال تي‬
‫رويت بالمعنى‪ ،‬ليجعل موازين اآلخرة شبيهة بموازين البق الين في ال دنيا‪ ،‬وه و م ا‬
‫جعلها موضع تهكم من أطراف كثيرة‪.‬‬
‫ولذلك نحاول في هذا المبحث بيان حقيقة هذه الموازين ـ كما تدل النص وص‬
‫المقدس ة القطعي ة ـ وكم ا فهمه ا العلم اء المحقق ون‪ ،‬ال ال ذين يهتم ون باأللف اظ‪،‬‬
‫ويتصورون أن لها الطاقة بتصوير المعاني بدقة‪ ،‬حتى تلك المعاني التي ال نجد له ا‬
‫نظائر في هذه النشأة‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر ذلك ننبه إال أننا ال نقول هذا من باب استغراب أن يكون هن اك‬
‫ميزان له كفتان في اآلخ رة‪ ،‬وتك ون ل ه الق درة على م ا وص فه الق رآن الك ريم من‬
‫ال وزن‪ ،‬بمختل ف أش كاله‪ ،‬ذل ك أن ق درة هللا تع الى لن تعج ز عن خل ق مث ل ه ذا‬
‫الميزان‪ ،‬ولكن نقوله من الباب الذي تعرض ه النص وص المقدس ة نفس ها‪ ،‬وال تي لم‬
‫تضع هذه الصورة للميزان‪ ،‬وإنما اكتسبت تلك الصورة من بعض األحاديث‪ ،‬والتي‬
‫ـ إن صحت ـ يكون المقص ود منه ا تق ريب الص ورة‪ ،‬أو يك ون ال راوي ق د رواه ا‬
‫بالمعنى‪.‬‬
‫ازينَ ْال ِق ْس طَ‬ ‫ْ‬
‫َض ُع ال َم َو ِ‬
‫فمن اآليات الكريمة التي ذكرت الميزان قوله تعالى‪َ ﴿:‬ون َ‬
‫ال َحبَّ ٍة ِم ْن خَ رْ د ٍَل َأ َت ْي َن ا ِب َه ا َوكفى ِبن ا َح ِ‬
‫اس ِبينَ ﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِل َيوْ ِم ْال ِق َيا َم ِة َفال تُ ْ‬
‫ظ َل ُم َن ْفسٌ َشيْئاً َو ِإ ْن َكانَ ِم ْث َق َ‬
‫(االنبياء‪)47:‬‬
‫فهذه اآلية الكريمة لم تصف الميزان إال بالدقة العالية‪ ،‬وكون ه ال يبخس أح دا‬
‫حقا من حقوقه‪ ،‬كما أنها ذكرت أنه ال يوجد ميزان واح د‪ ،‬ب ل م وازين متع ددة‪ ،‬أي‬
‫أن لك ل ش يء ميزان ه الخ اص ب ه‪ ..‬فللص بر ميزان ه‪ ..‬وللك رم ميزان ه‪ ..‬ولإليم ان‬
‫‪ )(1‬جهاز كشف الكذب‪ :‬هو جهاز قام جون أوجست الرسون باختراعه عام ‪1921‬م‪ ،‬وهو أداة تسجل الظواهر‬
‫الفيسولوجية التي يكشف عنها جسم المتهم الخاضع لالستجواب‪ .‬كالتنفس وضغط ال دم وس رعة النبض‪ .‬يس تعان به ا‬
‫لتقرير ما إذا كان المستجوب(المتهم) كاذبا في ما يقول أم صادقا‪ .‬استحدث عام ‪ 1924‬واستخدمه المحقق ون ورج ال‬
‫الش رطة والقض اة من ذ ذل ك الحين‪ ،‬ولكن مص داقيته ال ت زال إلى الي وم موض ع خالف عن د علم اء النفس ومح ل‬
‫اعتراض عند الفقهاء والقضاة‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫ميزانه‪ ..‬وغير ذلك‪ ،‬مثلما نجد في الدنيا الم وازين المختلف ة لك ل المق ادير المش كلة‬
‫للبناء الكوني أو الجسدي أو غيرهما‪.‬‬
‫وهكذا ورد في القرآن الكريم وصف الميزان بكون ه يخض ع لمع ايير الح ق‪،‬‬
‫ت‬ ‫ق فَ َم ْن ثَقُلَ ْ‬‫وأنه على أساسها يكون التمييز‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿:‬والْ َو ْزنُ يَوْ َمئِ ٍذ ْال َح ُّ‬
‫ازينُ هُ فَأُولَئِ كَ هُ ُم‬ ‫ت َم َو ِ‬ ‫ك هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ (ألعراف‪ ،)8:‬وقال‪ ﴿:‬فَ َم ْن ثَقُلَ ْ‬ ‫ازينُهُ فَأُولَئِ َ‬‫َم َو ِ‬
‫ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ (المؤمنون‪)102:‬‬
‫ازينُ هُ فَأُولَئِ كَ الَّ ِذينَ‬‫ت َم َو ِ‬ ‫وبخالف ه من خفت موازين ه‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿:‬و َم ْن خَ فَّ ْ‬
‫ازينُ هُ‬ ‫ت َم َو ِ‬ ‫ظلِ ُمونَ ﴾ (ألعراف‪ ،)9:‬وقال‪َ ﴿:‬و َم ْن َخفَّ ْ‬ ‫خَ ِسرُوا أَ ْنفُ َسهُ ْم بِ َما َكانُوا بِآياتِنَا يَ ْ‬
‫َسرُوا أَ ْنفُ َسهُ ْم فِي َجهَنَّ َم خَالِ ُدونَ ﴾ (المؤمنون‪)103:‬‬ ‫فَأُولَئِكَ الَّ ِذينَ خ ِ‬
‫وبذلك فإن الوص ف ال ذي وص ف هللا تع الى ب ه الم يزان ال عالق ة ل ه بتل ك‬
‫التصورات واألخيلة ال تي اعتبره ا بعض هم أص ال من أص ول العقائ د‪ ،‬فوض ع في‬
‫صفات الميزان كونه ذا كفتين‪ ..‬وكل كفة لها حجم معين(‪.)1‬‬
‫ذل ك أن مص طلح الم يزان في الق رآن الك ريم ال ي راد من ه م ا نتخيل ه من‬

‫‪ )(1‬من األمثلة على هذه األقوال‪ ،‬والتي راحت تعتبر الكفتين وغيرهما شرطا في اإليمان بالميزان‪ ،‬م ا أج ابت‬
‫به لجنة الفتوى في موقع إسالم ويب حول سؤال يقول‪( :‬هل ورد أثر أوحديث أن للميزان الذي توزن به األعمال يوم‬
‫القيامة لسانا وكفتين كأطباق السماء؟)‬
‫فأجابت بقولها‪( :‬ثبت في السنة أن للميزان كفتين‪ ،‬أما اللسان أو وصف سعة الكفتين بأنهما يس توعبان الس موات‬
‫واألرض فلم يأت فيه حديث مرفوع فيما نعلم ولكن وردت آثار)‬
‫ومن اآلثار التي ساقوها‪ :‬ما روى الاللكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) بإسناده عن سلمان قال‪ :‬يوض ع‬
‫في الميزان‪ ،‬وله كفتان لو وضع في إحداهما السموات واألرض ومن فيهن لوسعه‪ ،‬وأسند عن الحسن قال‪ :‬ل ه لس ان‬
‫وكفتان‪ ،‬وعن ابن عباس قال‪ :‬الميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات‬
‫وروى الاللكائي أيضا في (اعتقاد أهل السنة) عن ابن أبي ح اتم ق ال‪ :‬س ألت أبي وأب ا زرع ة عن م ذاهب أه ل‬
‫السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع األمصار وما يعتقدان من ذلك فقاال‪ :‬أدركنا العلماء في جميع‬
‫األمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم‪ :‬اإليمان قول وعمل يزيد وينقص ‪ ..‬والميزان حق له كفتان‪.‬‬
‫وقال أبو القاسم األصبهاني في (الحجة في بيان المحجة)‪ :‬وأن الميزان حق له لسان وكفتان‪.‬‬
‫وقال أبو الحسن األشعري في (مقاالت اإلسالميين)‪ :‬واختلفوا في الميزان‪ ،‬فقال أهل الحق‪ :‬له لسان وكفتان ‪..‬‬
‫وقال البربهاري في (شرح السنة)‪ :‬واإليمان بالميزان يوم القيامة يوزن فيه الخير والشر له كفتان وله لسان‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة في (لمعة االعتقاد)‪ :‬والميزان له كفتان ولسان‪.‬‬
‫وقال ابن أبي العز الحنفي في (شرح الطحاوية)‪ :‬ثبت أن الم يزان ل ه كفت ان وهللا تع الى أعلم بم ا وراء ذل ك من‬
‫الكيفيات‪.‬‬
‫وقال ابن جزي في (التسهيل لعلوم التنزيل)‪ :‬مذهب أهل السنة أن الميزان يوم القيام ة حقيق ة‪ ،‬ل ه كفت ان ولس ان‬
‫وعمود توزن فيه األعمال‬
‫وقال ابن حجر في (فتح الباري)‪ :‬قال أبو إسحاق الزجاج‪ :‬أجمع أهل الس نة على اإليم ان ب الميزان‪ ،‬وأن أعم ال‬
‫العباد توزن يوم القيامة‪ ،‬وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل باألعمال‪.‬‬
‫وقال السفاريني في (لوامع األنوار البهية)‪ :‬نؤمن بأن الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات حق‪ ،‬قالوا‪ :‬وله‬
‫لسان وكفتان‪.‬‬
‫وقال صديق حسن خان في (قطف الثمر)‪ :‬والميزان له كفتان ولسان‪.‬‬
‫وقال ابن عيسى في (شرح النونية)‪ :‬فتوزن األعمال بميزان له كفتان ولسان‪.‬‬
‫ثم علقوا على هذه المقوالت بقولهم‪( :‬فظهر بذلك أن ذكر اللسان مع الكفتين للميزان م أثور عن بعض الص حابة‬
‫والتابعين‪ ،‬ومشهور عند أهل العلم سلفا وخلفا‪ ،‬حتى قد نقل علي ه اإلجم اع أه ل الس نة‪ .‬وأم ا وص ف كف تي الم يزان‬
‫بأنهما كأطباق السماء‪ ،‬فيشهد له ما سبق ذكره عن سلمان‪ :‬له كفتان ل و وض ع في إح داهما الس موات واألرض ومن‬
‫فيهن لوسعه) [انظر الفتوى في موقع إسالم ويب‪ ،‬بعنوان‪ :‬الميزان الذي توزن به األعمال هل له لسان وكفتان]‬

‫‪239‬‬
‫الموازين البسيطة‪ ،‬وإنما يراد به ما ه و أعم ق بكث ير‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬هَّللا ُ الَّ ِذي‬
‫ق َو ْال ِميزَ انَ ﴾ [الشورى‪ ،]17 :‬فقد اعت بر الق رآن الك ريم الم يزان‬ ‫َاب بِ ْال َح ِّ‬ ‫أَ ْن َز َل ْال ِكت َ‬
‫مقصدا من مقاصد التنزل القرآني‪ ،‬ويعني بذلك أنه يضع المع ايير والقيم ال تي تنظم‬
‫حياة البشر‪.‬‬
‫وهكذا بين أن كل الرس ل ج اءوا بالكت اب والم وازين‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿:‬لَقَ ْد‬
‫ْط ﴾ [الحدي د‪:‬‬ ‫َاب َو ْال ِميزَ انَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِس ِ‬
‫ت َوأَ ْنزَ ْلنَا َم َعهُ ُم ْال ِكت َ‬
‫أَرْ َس ْلنَا ُر ُسلَنَا بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫‪ ،]25‬ويعني بذلك أنهم ج اءوا ب التعريف بحق ائق الوج ود‪ ،‬والقيم ال تي يق وم عليه ا‬
‫السلوك اإلنساني‪ ،‬لينضبط مع مقتضيات تلك الحقائق‪.‬‬
‫بل إن القرآن الكريم يذكر أن الميزان موجود وسار في ك ل ش يء‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ان (‪َ )8‬وأَقِي ُم وا‬ ‫َط َغ وْ ا فِي ْال ِم ي َز ِ‬ ‫ض َع ْال ِم يزَ انَ (‪ )7‬أَاَّل ت ْ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وال َّس َما َء َرفَ َعهَا َو َو َ‬
‫ْال َو ْزنَ بِ ْالقِ ْس ِط َواَل تُ ْخ ِسرُوا ْال ِمي َزانَ ﴾ [الرحمن‪]9 - 7 :‬‬
‫وب ذلك ف إن الم وازين بحس ب اللغ ة القرآني ة ال تفي د أص حاب تل ك النظ رة‬
‫البسيطة التي اختصرت في الموازين الحسية التي اخترعها اإلنسان البدائي‪ ،‬وال تي‬
‫تخلى عنها البشر بعد ذلك‪ ،‬حيث أصبحت الموازين ذات أشكال كث يرة مختلف ة‪ ،‬وال‬
‫تحتاج إلى الكفة الثانية‪ ،‬ألنها مزودة بمعايير الوزن الدقيقة‪.‬‬
‫وق د ذك ر الش يخ جعف ر الس بحاني م ا ذهب إلي ه أه ل الح ديث ومعهم بعض‬
‫المتكلّمين من أنّ ه ينص ب ي وم القيام ة م يزان كم وازين ال دنيا‪ ،‬وتوض ع األعم ال‬
‫الصالحة في كفة والطالحة في كفة أُخرى‪ ،‬فيوزن‪ ،‬ثم علق عليه بقول ه‪( :‬األولى أن‬
‫فان للكالم‬ ‫إن هذا النوع من التفسير أخذ بحرفية النص دون التدبّر في مغزاه‪ّ ،‬‬ ‫يقال‪ّ :‬‬
‫ظهورين‪ :‬ظه ور تص وّري ب دوي‪ ،‬وظه ور تص ديقي‪ ..‬والم راد من األوّل ه و م ا‬
‫يفهمه اإلنسان عند سماع اللفظ دون تدبّر في القرائن الحافة به‪ ،‬والم راد من الث اني‬
‫هو ما يذعن به اإلنسان بعد اإلحاطة بالقرائن الحافة بالكالم‪ .‬فربم ا يك ون المتب ادر‬
‫عندئذ من الكالم غير ما هو المتبادر من الظهور االبتدائي) (‪)1‬‬
‫ثم ضرب مثاال يقرب به منهج التعام ل م ع أمث ال ه ذه النص وص المقدس ة‪،‬‬
‫فقال‪( :‬اشتهرت الكناية عن السخاء والجود بقولهم فالن باسط الي د‪ ،‬وال يغل ق باب ه‪،‬‬
‫فالظهور البدوي منه عبارة ع ّما يتبادر من ظاهر اللف ظ وه و ك ون ي ده المحسوس ة‬
‫وان باب ه ال يغل ق‪ ،‬ولكنّ ه ليس بم راد قطع اً‪ ،‬وإنّم ا الم راد ه و‬ ‫مبسوطة ال تجم ع‪ّ ،‬‬
‫الظهور التصديقي‪ ،‬وهو التأ ّمل في مفهوم هذه الجمل واالنتقال إلى ما ص يغ ألجل ه‬
‫الكالم‪ ،‬وهو أنّه سخي‪ ،‬وبابه مفتوح لك ّل من يح ّل ضيفا ً عليه وآفة أهل الحديث انّهم‬
‫يفسرون اآلي ات الراجع ة إلى المع ارف بحرفيته ا وال يت أملون في الق رآئن الحاف ة‬
‫بالكالم حتى يقفوا على ما أُريد من اآليات) (‪)2‬‬
‫وانطالقا من هذا المعنى راح ينكر أيض ا على من ينك ر الم يزان‪ ،‬ويتص ور‬

‫‪ )(1‬مفاهيم القرآن‪.8/252 :‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.8/253 ،‬‬

‫‪240‬‬
‫أنه ليس سوى (العدل الثابت في ك ّل شيء)(‪ )1‬وأنه سبحانه يتعامل مع عباده بالعدل‬
‫والقسط ويقضي به‪ ،‬وأن هذا هو المراد من نصب الموازين‪.‬‬
‫ذل ك أن ه ذه الرؤي ة (تتع رض إلى نتيج ة الم يزان من دون أن تش ير إلى‬
‫واقعه‪ ،‬وأنّه بعدما تم التوزين يتعامل سبحانه في قضائه بالعدل والقس ط‪ ،‬فالب ّد قب ل‬
‫القضاء والتعامل من أداة تبيّن حال العباد من حيث الطاعة والعصيان‪ ،‬ح تى تص ل‬
‫النوبة إلى قضائه سبحانه‪ ،‬فما هي تلك األداة التي تكون معي اراً لك ثرة الطاع ات أو‬
‫قلتها؟)(‪)2‬‬
‫وانطالقا من ه ذا راح ي ذكر الحق ائق المرتبط ة ب الميزان من خالل م ا ورد‬
‫عنه في القرآن الكريم‪ ،‬فقال‪( :‬األلف اظ ال واردة في الق رآن الك ريم ال تي تص ف مش اهد‬
‫القيامة لها حقائق غيبية غير معلومة لنا‪ ،‬ومن هذه األلفاظ لفظ [الميزان] ال ذي نحتم ل أن‬
‫يكون له واقعية غير ما نشاهد من الموازين العرفية‪ ،‬ويتضح ذلك من خالل [الواقع الذي‬
‫نشاهده]‪ ..‬ذلك أن الميزان كان يطلق قبل فترة طويلة على ما يوزن ب ه المت اع بش يء ل ه‬
‫كفتان ولس ان وس اقان‪ ،‬وظ لّ البش ر يس تعمل الم يزان في ذل ك المص داق ولكن الث ورة‬
‫الصناعية التي اجتاحت الغرب كش فت عن م وازين لم تكن موج ودة من ذي قب ل‪ ،‬فأخ ذ‬
‫يوزن استهالك الماء والكهرباء والغ از واله اتف وغيره ا‪ ،‬ب ل أح دث ميزان اً ي وزن ب ه‬
‫حرارة الهواء وضغط الجو والدم الذي يجري في ع روق اإلنس ان وقلب ه‪ ،‬كم ا أ ّن ه نجح‬
‫ال ج ذرياً في حيات ه‪ ،‬ح تى ع رف ه ذا‬ ‫نجاحاً باهر ًا في ص ناعة الكم بيوتر فأح دث تح و ً‬
‫العصر بعصر الكمبيوتر‪ ،‬فأصبح كمعيار لتصحيح األغالط التي يقع اإلنسان فيه ا‪ ..‬ك لّ‬
‫أن لكلّ شيء ميزاناً خاصاً يناسب وجود الشيء وليس الميزان منحص ر ًا‬ ‫ذلك يعرب عن ّ‬
‫إن الم يزان المنص وب ي وم القيام ة‬ ‫بماله كفتان ولسان وساقان‪ ،‬وعندئذ يص حّ أن نق ول‪ّ :‬‬
‫شيء أعظم م ّما وصل إليه الفكر البشري‪ .‬وخالصة القول فيه‪ :‬إ ّنه ش يء يعلم ب ه ص الح‬
‫األعمال عن طالحها‪ّ ،‬قلتها عن كثرتها‪ ،‬والعقائد الص حيحة والباطل ة‪ ،‬وإن لم يعلم لن ا م ا‬
‫هي خصوصيات ذلك الميزان) (‪)3‬‬
‫وقد تعرض الشيخ السبحاني إلى المعيار الذي تتح اكم إلي ه تل ك الم وازين‪ ،‬وذل ك‬
‫الْو ْزنُ َيوْ َم ِئ ٍذ ْال َح ُّق ﴾ [األع راف‪ ،]8 :‬وال تي اختلفت فيه ا‬
‫﴿و َ‬ ‫عند تفسيره لقوله تع الى‪َ :‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كلمة المفسرين إلى ثالثة احتماالت‪ :‬أولها‪ :‬أن وزن األعمال ومحاسبتها أمر حق ال‬
‫أن م ا‬ ‫أن الوزن بمعنى الميزان أي ما يوزن به‪ ،‬ويكون المراد ّ‬ ‫سترة فيه‪ ..‬وثانيها‪ّ :‬‬
‫ق هو الذي يعرف به حقائق األعمال عند قياسها إلي ه‪ .‬فك ّل‬ ‫ق‪ ،‬فالح ّ‬
‫يوزن به هو الح ّ‬
‫ق ثقل الميزان عندئ ٍذ في مقاب ل عم ل ال يتمت ع بقس ط‬ ‫عمل تمتع بقسط وافر من الح ّ‬
‫ق بمنزل ة الثق ل في‬ ‫أن الح ّ‬
‫ق أو يتمتع بشيء قليل فيخفف ميزان ه‪ ..‬وثالثها‪ّ :‬‬ ‫من الح ّ‬
‫واقعي ي وم القيام ة‪ ،‬فبمطابقت ه وع دمها يع رف‬ ‫ٌّ‬ ‫الموازين العرفية‪ ،‬ويكون له تجسّم‬

‫‪ )(1‬نقله عن ‪ :‬شرح المقاصد‪.223 / 2 :‬‬


‫‪ )(2‬مفاهيم القرآن السبحاني (‪)253 /8‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ )255 /8( ،‬بتصرف‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫صالح األعمال عن غيرها‪.‬‬
‫وبذلك فإن المعيار حسب هذه االحتماالت يحتمل وجهين‪:‬‬
‫األول‪ :‬هو أن يكون داخالً في جوهر األعمال؛ فبمقدار ما يوصف ب ه العم ل‬
‫ق يكون ثقله أو خفته‪.‬‬ ‫من الح ّ‬
‫ق بالذات هو الموجود المجسَّم يوم القيامة‪ ،‬وال يعلم صالح‬ ‫الثاني‪ :‬هو أن الح ّ‬
‫َّ‬
‫المجس م فبمق دار م ا يش بهه ويناس به‬ ‫األعمال عن ض دها‪ ،‬إالّ بعرض ها على الح ّ‬
‫ق‬
‫ق‪ ،‬دون مالم يكن كذلك فيوصف بالباطل‪.‬‬ ‫يكون موصوفا ً بالح ّ‬
‫وربما يشير إلى هذا المقياس تلك الرواية ال تي ذكرناه ا س ابقا‪ ،‬وال تي يق ول‬
‫فيها اإلمام الصادق‪( :‬يؤتى بالمرأة الحسناء ي وم القيام ة ال تي ق د افتتنت في حس نها‬
‫فتقول‪ :‬يا رب حسنت خلقي حتى لقيت ما لقيت‪ ،‬فيجاء بمريم عليه ا الس الم‪ ،‬فيق ال‪:‬‬
‫أنت أحسن أو هذه؟ قد حسناها فلم تفتتن‪ ،‬ويجاء بالرج ل الحس ن ال ذي ق د افتتن في‬
‫حسنه فيقول‪ :‬يا رب حس نت خلقي ح تى لقيت من النس اء م ا لقيت‪ ،‬فيج اء بيوس ف‬
‫عليه السالم‪ ،‬فيقال‪ :‬أنت أحسن أو هذا؟ قد حس ناه فلم يفتتن‪ ،‬ويج اء بص احب البالء‬
‫ال ذي ق د أص ابته الفتن ة في بالئ ه فيق ول‪ :‬ي ا رب ش ددت علي البالء ح تى افتتنت‪،‬‬
‫فيجاء بأيوب عليه السالم فيقال‪ :‬أبليتك أشد أو بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن) (‪)1‬‬
‫فقد اعتبر اإلمام الصادق هؤالء جميعا‪ ،‬مريم ويوس ف وأي وب عليهم الس الم‬
‫معايير وموازين للقيم المختلفة‪ ،‬لكونهم بشرا أوال‪ ،‬ولتعرضهم لنفس ما تع رض ل ه‬
‫المحاسبون من أنواع البالء‪.‬‬
‫وله ذا ك ان من تفس يرات اإلم ام الص ادق للم وازين ك ونهم (األنبي اء‬
‫واألوصياء)‪ ،‬لكونهم النماذج الممثلة للقيم الرفيعة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبناء على هذا قال السبحاني‪( :‬ولع ّل أعم ال ك ّل أ ّم ة تع رض على أنبي ائهم‬
‫فبالمطابقة مع أعمالهم ومخالفتها معهم يعلم كونه سعيداً أو شقياً) (‪)2‬‬
‫واستدل لهذا بما ورد في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬م ا من ش يء‬
‫يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق‪ ،‬وإن صاحب حسن الخلق ليبل غ ب ه درج ة‬
‫صاحب الصوم‪ ،‬والصالة)(‪)3‬‬
‫ّ‬
‫ثم علق عليه بقوله‪( :‬وبما أن حسن الخلق من أبرز صفات األنبياء فمن تمت ع‬
‫به فهو أشبه باألنبياء من غيرهم فيكون عمله عمالً قيما ً له أثره الخاص) (‪)4‬‬
‫واستدل له كذلك بما يذكر في بعض الزيارات الخاص ة باإلم ام علي‪ ،‬وال تي‬
‫يقول فيها الزائر‪( :‬السالم على يعسوب اإليمان وميزان األعمال) (‪ ،)5‬وعل ق علي ه‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار (‪)285 /7‬‬


‫‪ )(2‬مفاهيم القرآن السبحاني (‪)257 /8‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي رقم (‪ )2003‬و (‪ ،)2004‬وأبو داود رقم (‪)4799‬‬
‫‪ )(4‬مفاهيم القرآن السبحاني (‪)257 /8‬‬
‫‪ )(5‬المزار‪ ،‬ص‪.47‬‬

‫‪242‬‬
‫ق مجسّم فمن شابهه فه و ممن ثقلت موازين ه‪،‬‬ ‫(وكأن اإلمام أمير المؤمنين ح ّ‬ ‫ّ‬ ‫بقوله‪:‬‬
‫ُ‬
‫إن اإلنس ان المث الي أس وة‬ ‫ومن لم يشابهه فهو ممن خفت موازينه‪ ..‬وإن شئت قلت‪ّ :‬‬
‫ق عن الباطل‪ ،‬بل الطيب عن الخبيث‪ ،‬وهذا أمر جار‬ ‫في الدنيا واآلخرة يميّز به الح ّ‬
‫في الدنيا واآلخرة) (‪)1‬‬
‫انطالقا من هذا نحاول في هذا المبحث التع رف على بعض أن واع الم وازين‬
‫الواردة في النصوص المقدسة‪ ،‬والتي يمكن تصنيفها إلى صنفين‪ :‬موازين األعم ال‬
‫ودرجاتها‪ ،‬وموازين االستقامة وآثارها‪.‬‬
‫وأساس ه ذا التقس يم ق ائم على اآلث ار الناتج ة عن األعم ال‪ ،‬ذل ك أن أح دها‬
‫يمكن اعتب اره أث را اعتباري ا‪ ،‬وه و تس جيل األعم ال في الكتب‪ ،‬ووض ع درج ات‬
‫خاصة بها‪ ،‬والثاني‪ ،‬يمكن اعتباره أثرا تكوينيا لكونه يدخل في طبيعة اإلنسان‪.‬‬
‫فللنميمة مثال‪ ،‬آثار عملية‪ ،‬ينال صاحبها الكث ير من الس يئات بس ببها‪ ،‬ول ذلك‬
‫يمكن اعتبار تلك السيئات أثرا اعتباريا‪ ..‬ولكن األخطر منها هو وجود ملكة النميمة‬
‫في القائم بذلك السلوك‪ ،‬وهو ما يدفعه إلى العمل به ا حالم ا تت اح ل ه فرص ة ذل ك‪..‬‬
‫ول ذلك احت اج األم ر إلى كال الم يزانين‪ ،‬والل ذين سنوض حهما من خالل العن وانين‬
‫التاليين‪.‬‬
‫أ ـ موازين األعمال ودرجاتها‪:‬‬
‫وهي أول الم وازين‪ ،‬والمقص ودة باألص الة عن د اإلطالق‪ ،‬ذل ك أن الن وع‬
‫الثاني منها يطلق عليه في االصطالح الشرعي لقب [السراط]‪ ،‬وإنم ا اعتبرن اه من‬
‫الموازين باعتباره يقوم بنفس دورها‪ ،‬أو يكمل دورها‪.‬‬
‫فدور الموازين هي حساب األعمال وقيمتها ودرجته ا وآثاره ا ونح و ذل ك‪..‬‬
‫وأما دور الس راط‪ ،‬فه و حس اب م دى تغلغ ل تل ك الص فات ال تي نتجت عنه ا تل ك‬
‫األعمال في طبيعة اإلنسان‪ ،‬وهل هي موافقة لفطرته أم ال‪..‬‬
‫فإن كانت موافقة‪ ،‬فإن صاحبها‪ ،‬سيدخل الجنة إن أهلته نتائج موازين أعمال ه‬
‫لذلك‪ ،‬أما إن لم تكن موافقة فإن التربية اإللهية لعباده تقتضي أن يوجه صاحب تل ك‬
‫الخص لة للبيئ ة المناس بة لتربيت ه وإص الحه إلى أن يتخلص منه ا‪ ،‬وبع دها يع ود‬
‫للسراط من جديد لتفقد صفات أخرى‪ ،‬وهكذا ح تى يتطه ر تمام ا‪ ،‬ويص بح ص الحا‬
‫﴿ط ْبتُ ْم فَا ْد ُخلُوهَ ا خَالِ ِدينَ ﴾ [الزم ر‪:‬‬
‫لدخول الجنة‪ ،‬كما يش ير إلى ذل ك قول ه تع الى‪ِ :‬‬
‫‪ ،]73‬أي بسبب كونكم طي بين‪ ،‬وليس فيكم أي ذرة من الخبث‪ ،‬ص رتم أهال ل دخول‬
‫الجنة‪.‬‬
‫ويشير إليه ـ وبلغة أدق وأكثر صراحة ـ قوله تعالى على لسان إبراهيم علي ه‬
‫السالم‪َ ﴿ :‬واَل تُ ْخ ِزنِي يَوْ َم يُ ْب َعثُونَ (‪ )87‬يَوْ َم اَل يَ ْنفَ ُع َم ا ٌل َواَل بَنُ ونَ (‪ )88‬إِاَّل َم ْن أَتَى‬
‫ب َسلِ ٍيم﴾ [الشعراء‪ ،]89 - 87 :‬فاآليات الكريمة واضحة في الداللة على هذا‬ ‫هَّللا َ بِقَ ْل ٍ‬
‫القانون اإللهي المرتبط بالقلوب‪ ،‬والذي ال يسمح ألحد بالدخول للجن ة قب ل حص وله‬

‫‪ )(1‬مفاهيم القرآن السبحاني (‪)257 /8‬‬

‫‪243‬‬
‫على التصفية التامة‪ ،‬فالجنة ال يسكنها الخبث‪ ،‬وال الخبثاء‪.‬‬
‫ويشير إلى ذلك ما ورد في الحديث من قوله ‪(:‬يخلص المؤمنون من الن ار‬
‫فيحبسون على قنط رة بين الجن ة والن ار‪ ،‬فيقتص لبعض هم من بعض مظ الم ك انت‬
‫بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) (‪)1‬‬
‫وفي بعض اآلثار‪(:‬ال يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع هّللا ما في صدره من غل‬
‫حتى ينزع منه مثل السبع الضاري)(‪)2‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإنا نرى أن الشفاعة مرتبطة بالموازين‪ ،‬ال بالسراط‪ ،‬ذلك أن صاحب‬
‫بعض األعمال المنحرفة‪ ،‬والتي نتجت عنها بعض السيئات التي سجلت عليه‪ ،‬قد ال‬
‫يكون لها أثر في نفسه‪ ،‬أو أن أثرها زال بعد تلك المراحل التربوية الكثيرة التي م ر‬
‫بها‪ ،‬ولذلك يمكن للشفاعة أن تتدخل ليعفى عنه‪ ،‬أما إن بقيت آث ار تل ك الس يئات في‬
‫نفسه‪ ،‬وتحولت إلى جزء من حقيقته؛ فإنه ال يمكن أن ي دخل الجن ة بتل ك الص فات‪،‬‬
‫وله ذا ك ان الس راط ض روريا للتطه ير‪ ،‬ويش ير إلي ه قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن ِم ْن ُك ْم إِاَّل‬
‫ضيًّا﴾ [مريم‪]71 :‬‬ ‫ك َح ْت ًما َم ْق ِ‬
‫ار ُدهَا َكانَ َعلَى َربِّ َ‬
‫َو ِ‬
‫فهذه اآلية الكريمة دالة على أن كل الخلق يعرضون على الن ار‪ ،‬ولكن مكثهم‬
‫فيها يكون بحسب أعمالهم‪ ،‬وهذا ما نصت عليه األحاديث واآلثار‪ ،‬ومنه ا م ا روي‬
‫ص َّمتَا إن لم أكن سمعت رسول هّللا ‪ ‬يقول‪(:‬ال يبقى ب ر‬ ‫عن جابر بن عبد هّللا قال‪ُ :‬‬
‫وال فاجر إال دخلها‪ ،‬فتكون على المؤمن برداً وسالما ً كما كانت على إبراهيم‪ ،‬ح تى‬
‫إن للنار ضجيجا ً من بردهم‪ ،‬ثم ينجي هّللا الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً) (‪)3‬‬
‫وهذا يدل على أن هذا الورود يختلف باختالف األشخاص‪ ،‬ذل ك أن منهم من‬
‫يمر عليها في لحظات قص يرة ال تك اد ت ذكر‪ ،‬ومنهم من يط ول مكث ه فيه ا بحس ب‬
‫عمله‪ ،‬وهكذا يكون نوع العقاب فيه ا‪ ،‬فمنهم من يراه ا ب ردا وس الما‪ ،‬ومنهم من ال‬
‫يراها كذلك‪.‬‬
‫ولهذا اشتد خوف الصالحين من هذا الورود‪ ،‬والذي يدل على اس تحالة كم ال‬
‫االستقامة‪ ،‬فعن قيس ابن أبي حازم قال‪ :‬كان عب د هّللا بن رواح ة واض عا ً رأس ه في‬
‫حجر امرأته فبكى‪ ،‬فبكت امرأته‪ ،‬قال‪ :‬م ا يبكي ك؟ ق الت‪ :‬رأيت ك تبكي فبكيت‪ ،‬ق ال‬
‫ار ُدهَ ا ﴾‪ ،‬فال أدري أنج و منه ا أم ال؟‬ ‫إني ذك رت ق ول هّللا تع الى‪َ ﴿:‬وإِ ْن ِم ْن ُك ْم إِاَّل َو ِ‬
‫وكان مريضاً) (‪)4‬‬
‫ويروى عن بعضهم أنه كان إذا أوى إلى فراش ه ق ال‪ :‬ي ا ليت أمي لم تل دني‪،‬‬
‫ثم يبكي‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فق ال‪ :‬أخبرن ا أن ا واردوه ا ولم نخ بر أن ا‬

‫‪ )(1‬صحيح البخاري ‪ 8/111‬ح(‪)6535‬‬


‫‪ )(2‬تفسير ابن كثير (‪)461 /4‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد (‪ )3/328‬وقال المنذري في الترغيب (‪ : )2/306‬رجاله ثقات‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه عبد الرزاق في تفسيره (‪)2/11‬‬

‫‪244‬‬
‫صادرون عنها(‪.)1‬‬
‫وروي عن آخر أنه قال‪ :‬قال رجل ألخي ه‪ :‬ه ل أت اك أن ك وارد الن ار؟ ق ال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬قال‪ :‬فهل أتاك أنك صادر عنه ا؟ ق ال‪ :‬ال‪ ،‬ق ال‪ :‬ففيم الض حك‪ ،‬ق ال‪ :‬فم ا رئي‬
‫ضاحكا ً حتى لحق باهّلل (‪.)2‬‬
‫بن اء على ه ذا ك ان أم ر الم وازين المرتبط ة باألعم ال واألج ور أيس ر من‬
‫الس راط‪ ،‬ذل ك أن هللا تع الى برحمت ه وض ع الكث ير من الفض ل والرحم ة في تل ك‬
‫الموازين‪ ،‬ما لم تتعلق بحقوق الغير‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذل ك م ا ورد في الح ديث من قول ه ‪( :‬إن هللا يس تخلص‬
‫رجال من أمتي على رؤوس الخالئق يوم القيامة‪ ،‬فينشر عليه تسعة وتسعين س جالً‪،‬‬
‫كل سجل مثل مد البصر‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أتنكر من ه ذا ش يئاً‪ ،‬أظلم ك كتب تي الح افظون؟‬
‫فيقول‪ :‬ال يا رب‪ ،‬فيقول‪ :‬أفلك عذر؟ فقال‪ :‬ال يا رب فيقول‪ :‬بل إن لك عن دنا حس نة‬
‫فإنه ال ظلم عليك اليوم‪ ،‬فيخ رج ل ه بطاق ة فيه ا أش هد أن ال إل ه إال هللا وأن محم داً‬
‫عب ده ورس وله‪ ،‬فيق ول‪ :‬أحض ر وزن ك فيق ول‪ :‬ي ا رب م ا ه ذه البطاق ة م ع ه ذه‬
‫السجالت؟ فيقال‪ :‬إنك ال تظلم‪ ..‬قال‪ :‬فتوضع الس جالت في كف ة والبطاق ة في كف ة‪،‬‬
‫فطاشت السجالت‪ ،‬وثقلت البطاقة‪ ،‬فال يثقل مع اسم هللا شيء) (‪)3‬‬
‫ففي ه ذا الح ديث إخب ار من رس ول هللا ‪ ‬عن س عة فض ل هللا في ه ذه‬
‫الموازين‪ ،‬وأن الحسنات التي اكتسبها اإلنسان في الدنيا‪ ،‬يمكنها أن ترفع الكث ير من‬
‫السيئات ما لم تكن متعدية‪ ،‬أو لها جذور في النفس‪ ..‬كما أشار إلى ذلك قوله تع الى‪:‬‬
‫ص لَحُوا إِ َّن َربَّكَ ِم ْن‬ ‫ك لِلَّ ِذينَ َع ِملُوا السُّو َء بِ َجهَالَ ٍة ثُ َّم تَابُوا ِم ْن بَعْ ِد َذلِ كَ َوأَ ْ‬ ‫﴿ثُ َّم إِ َّن َربَّ َ‬
‫بَعْ ِدهَا لَ َغفُ و ٌر َر ِحي ٌم﴾ [النح ل‪ ،]119 :‬وقول ه‪﴿ :‬إِنَّ َم ا التَّوْ بَ ةُ َعلَى هَّللا ِ لِلَّ ِذينَ يَ ْع َملُ ونَ‬
‫ب فَأُولَئِكَ يَتُوبُ هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم َو َكانَ هَّللا ُ َعلِيمًا َح ِكيمًا (‬ ‫السُّو َء بِ َجهَالَ ٍة ثُ َّم يَتُوبُونَ ِم ْن قَ ِري ٍ‬
‫ت قَ ا َل إِنِّي‬ ‫ض َر أَ َح َدهُ ُم ْال َم وْ ُ‬ ‫ت َحتَّى إِ َذا َح َ‬ ‫ت التَّوْ بَةُ لِلَّ ِذينَ يَ ْع َملُ ونَ َّ‬
‫الس يِّئَا ِ‬ ‫‪َ )17‬ولَ ْي َس ِ‬
‫ْت اآْل نَ َواَل الَّ ِذينَ يَ ُموتُونَ َوهُ ْم ُكفَّا ٌر أُولَئِكَ أَ ْعتَ ْدنَا لَهُ ْم َع َذابًا أَلِيمًا﴾ [النس اء‪،17 :‬‬ ‫تُب ُ‬
‫‪]18‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تبين أن السيئات التي عملها اإلنسان بجهال ة‪ ،‬ومن غ ير‬
‫أن يكون لها آثار كبيرة في نفسه‪ ،‬يمكنها أن ترفع عنه إما بالتوبة في ال دنيا‪ ،‬أو بم ا‬
‫صاَل ةَ طَ َرفَ ِي‬ ‫يرفعها من الحسنات التي تزيل آثارها السيئة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَقِ ِم ال َّ‬
‫كْرى لِل َّذا ِك ِرينَ ﴾ [ه ود‪:‬‬ ‫ك ِذ َ‬ ‫ت َذلِ َ‬ ‫ت يُ ْذ ِه ْبنَ َّ‬
‫الس يِّئَا ِ‬ ‫ار َو ُزلَفًا ِمنَ اللَّ ْي ِل إِ َّن ْال َح َس نَا ِ‬‫النَّهَ ِ‬
‫‪]114‬‬
‫وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى عند حديثه عن كيفي ة التوب ة‪ ،‬فق ال‪( :‬وأم ا‬
‫المعاص ي‪ ،‬فيجب أن يفتش من أول بلوغ ه عن س معه‪ ،‬وبص ره ولس انه‪ ،‬وبطن ه‪،‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري (‪)16/82‬‬


‫‪ )(2‬تفسير ابن كثير (‪)252 /5‬‬
‫‪ )(3‬رواه احمد (‪ )6699‬والترمذي (‪)2639‬‬

‫‪245‬‬
‫ويده‪ ،‬ورجله‪ ،‬وفرجه‪ ،‬وسائر جوارحه ثم ينظر في جميع أيامه وس اعاته‪ ،‬ويفص ل‬
‫عند نفسه ديوان معاصيه‪ ،‬حتى يطل ع على جميعه ا ص غائرها وكبائره ا‪ ،‬ثم ينظ ر‬
‫فيها‪ .‬فما كان من ذلك بينه وبين هّللا تعالى من حيث ال يتعلق بمظلم ة العب اد‪ ،‬كنظ ر‬
‫إلى غير محرم‪ ،‬وقعود في مسجد مع الجنابة‪ ،‬ومس مصحف بغير وضوء‪ ،‬واعتقاد‬
‫بدعة‪ ،‬وشرب خمر وسماع ماله‪ ،‬وغير ذل ك مم ا ال يتعل ق بمظ الم العب اد‪ ،‬فالتوب ة‬
‫عنها بالندم والتحسر عليها‪ ،‬وبأن يحسب مقدارها من حيث الك بر ومن حيث الم دة‪،‬‬
‫ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها‪ .‬فيأتي من الحس نات بمق دار تل ك الس يئات‪،‬‬
‫الس يّئة الحس نة تمحه ا)‪ ،‬ب ل من قول ه‬ ‫أخذا من قوله ‪( ‬اتّ ق هّللا حيث كنت وأتب ع ّ‬
‫كْرى لِل َّذا ِك ِرينَ ﴾ [ه ود‪ ،]114 :‬فيكف ر‬ ‫ت ي ُْذ ِه ْبنَ ال َّسيِّئَا ِ‬
‫ت َذلِ كَ ِذ َ‬ ‫تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن ْال َح َسنَا ِ‬
‫س ماع المالهي بس ماع الق رآن وبمج الس ال ذكر‪ ،‬ويكف ر القع ود في المس جد جنب ا‬
‫باالعتكاف فيه مع االشتغال بالعبادة‪ ،‬ويكفر مس المصحف محدثا بإكرام المصحف‬
‫وكثرة قراءة القرآن منه‪ ،‬وكثرة تقبيل ه‪ ،‬وب أن يكتب مص حفا ويجعل ه وقف ا‪ ،‬ويكف ر‬
‫ش رب الخم ر بالتص دق بش راب حالل‪ ،‬وه و أطيب من ه وأحب إلي ه وع د جمي ع‬
‫المعاصي غير ممكن وإنما المقصود سلوك الطريق المض ادة؛ ف إن الم رض يع الج‬
‫بض ده‪ .‬فك ل ظلم ة ارتفعت إلى القلب بمعص ية‪ ،‬فال يمحوه ا إال ن ور يرتف ع إليه ا‬
‫بحس نة تض ادها‪ ،‬والمتض ادات هي المتناس بات‪ ،‬فل ذلك ينبغي أن تمحى ك ل س يئة‬
‫بحسنة من جنسها لكن تضادها ف إن البي اض ي زال بالس واد ال ب الحرارة وال برودة‪.‬‬
‫وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو‪ ،‬فالرجاء فيه أصدق‪ ،‬والثقة به‬
‫أكثر من أن يواظب على نوع واح د من العب ادات‪ ،‬وإن ك ان ذل ك أيض ا م ؤثرا في‬
‫المحو فهذا حكم ما بينه وبين هّللا تعالى)(‪)1‬‬
‫وبهذا تنتفي تلك المفاهيم اإلرجائية المناقضة للقيم القرآنية‪ ،‬والتي تتصور أن‬
‫الرحمة اإللهية يوم القيامة ستزيح كل قيم العدالة‪ ..‬وه ذا غ ير ص حيح‪ ،‬ب ل الق رآن‬
‫الكريم يرفضه‪ ،‬فعدالة هللا لها مجالها‪ ،‬ورحمته لها مجالها‪ ،‬وهما ال يتعارضان أبدا‪.‬‬
‫وبناء على هذا يمكننا فهم كل تلك األحاديث التي تذكر األج ور العظيم ة لم ا‬
‫ن راه من األعم ال الص غيرة‪ ،‬ذل ك أن لتل ك األعم ال آثاره ا الكب يرة في النفس‬
‫وتطهيرها‪ ،‬ولها ـ ربما ـ آثاره ا في المجتم ع‪ ،‬بتحويل ه إلى مجتم ع رب اني م ؤمن‪،‬‬
‫ولذلك يكون لتلك الكلمات أوزانا وقيما ال نستطيع تقديرها‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ه ذا كقول ه ‪( :‬إن الرج ل ليتكلم بالكلم ة‬
‫من رضوان هللا تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت‪ ،‬يكتب هللا له به ا رض وانه إلى ي وم‬
‫يلقاه‪ ،‬وإن الرجل ليتكلم بالكلم ة من س خط هللا م ا يظن أن تبل غ م ا بلغت‪ ،‬يكتب هللا‬
‫عليه بها‪ ،‬سخطه إلى يوم يلقاه)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)35 /4‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪ ، 266 / 11‬ومسلم رقم (‪ ،)2988‬والترمذي رقم (‪)2315‬‬

‫‪246‬‬
‫ومن األحاديث التي رويت فيم ا ي وزن في ه ذا الم يزان ويثقل ه قول ه ‪ ‬في‬
‫فضل الصبر‪( :‬تنصب الموازين يوم القيامة‪ ،‬فيؤتى بأهل الص الة فيوف ون أج ورهم‬
‫بالموازين‪ ،‬ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم ب الموازين‪ ،‬وي ؤتى بأه ل الص دقة‬
‫فيوفون أجورهم بالموازين‪ ،‬ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم ب الموازين‪ ،‬وي ؤتى‬
‫بأهل البالء فال ينصب لهم ميزان وال ينتشر لهم ديوان ويص ب عليهم األج ر ص با ً‬
‫بغير حساب)(‪)1‬‬
‫فهذا الحديث يبشر الصابرين الذي ثبتوا في وجه البالء وكل ما يصرفهم عن‬
‫هللا ـ والذين جعلهم هللا حجة على غيرهم ـ ين الون من األج ور م ا ال يمكن تص وره‬
‫وال حسابه‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿:‬قُلْ يَا ِعبَا ِد الَّ ِذينَ آ َمنُوا اتَّقُوا َربَّ ُك ْم لِلَّ ِذينَ أَحْ َسنُوا فِي هَ ِذ ِه‬
‫ب﴾ (الزم ر‪:‬‬ ‫اس َعةٌ إِنَّ َما ي َُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْ َرهُ ْم بِ َغي ِْر ِح َس ا ٍ‬ ‫ال ُّد ْنيَا َح َسنَةٌ َوأَرْ ضُ هَّللا ِ َو ِ‬
‫‪)10‬‬
‫وهك ذا روي أن ه يمكن للم ؤمن ع بر كلم ات قليل ة يقوله ا أن ين ال األج ور‬
‫العظيمة‪ ،‬ألن لتلك الكلمات تأثيرها في نفس ه وفي حيات ه جميع ا‪ ،‬ومن األمثل ة على‬
‫ذل ك قول ه ‪( :‬كلمت ان خفيفت ان على اللس ان ثقيلت ان في الم يزان حبيبت ان إلى‬
‫الرحمن‪ :‬سبحان هللا وبحمده سبحان هللا العظيم) (‪)2‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬قال لجويري ة‪( :‬لق د قلت بع دك أرب ع كلم ات ثالث م رات ل و‬
‫وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن‪ :‬سبحان هللا وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزن ة‬
‫عرشه ومداد كلماته)(‪)3‬‬
‫ومنها قوله ‪( :‬خصلتان أو خلت ان ال يحاف ظ عليهم ا عب د مس لم‪ ،‬إال دخ ل‬
‫الجنة‪ ،‬هما يسير‪ ،‬ومن يعم ل بهم ا قلي ل‪ ،‬يس بح في دبرك ل ص الة عش را‪ ،‬ويحم د‬
‫عشرا‪ ،‬ويكبرعشرا‪ ،‬فذلك خمسون ومائة باللس ان‪ ،‬وأل ف وخمس مائة في الم يزان‪،‬‬
‫يكبر أربعا وثالثين إذا أخذ مضجعه‪ ،‬ويحم د ثالث ا وثالثين‪ ،‬ويس بح ثالث ا وثالثين‪،‬‬
‫فتلك مائة باللسان‪ ،‬وألف في الميزان)‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬كي ف هم ا يس ير‪ ،‬ومن‬
‫يعمل بهما قليل؟ قال‪( :‬يأتي أحدكم الشيطان في منامه‪ ،‬فينومه قبل أن يقوله‪ ،‬ويأتي ه‬
‫في صالته فيذكره حاجه قبل أن يقولها)(‪)4‬‬
‫ومنها قوله ‪( :‬بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬وس بحان‬
‫هللا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وهللا أكبر‪ ،‬والولد الصالح للمرء المسلم فيحتسبه) (‪)5‬‬
‫ومنها قوله ‪( :‬من قال‪ :‬س بحان هللا وبحم ده في ي وم مئ ة م رة حطت عن ه‬

‫‪ )(1‬الترغيب والترهيب لقوام السنة (‪)334 /1‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري(‪ )6406‬ومسلم (‪)2694‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (‪)2726‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد (‪ )6616‬وأبو داود(‪ )5065‬والترمذي(‪ )3410‬والنسائي(‪ )1331‬وابن ماجة(‪)926‬‬
‫‪ )(5‬رواه أحمد(‪)15107‬‬

‫‪247‬‬
‫البحر)(‪)1‬‬ ‫خطاياه وإن كانت مثل زبد‬
‫ومنها قوله ‪( :‬من قال حين يصبح وحين يمسي‪ :‬سبحان هللا وبحم ده‪ ،‬مئ ة‬
‫ت أح ٌد يوم القيامة بأفضل مما جاء به‪ ،‬إال رج ٌل ق ال مث ل م ا ق ال‪ ،‬أو زاد‬ ‫مرة لم يأ ِ‬
‫عليه) (‪)2‬‬
‫ومنها قول ه ‪( :‬من س بح هللا في دب ر ك ل ص الة ثالثًا وثالثين‪ ،‬و َح ِم َد هللا‬
‫ثالثًا وثالثين‪ ،‬و َكبَّر هللا ثالثًا وثالثين‪ ،‬فتلك تسعة وتسعون‪ ،‬وقال تمام المئ ة‪ :‬ال إل ه‬
‫إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬له الملك ول ه الحم د وه و على ك ل ش يء ق دير‪ُ ،‬غفِ َرت‬
‫خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)(‪)3‬‬
‫ومنها قول ه ‪( :‬من ق ال‪ :‬ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬ل ه المل ك ول ه‬
‫الحمد وهو على كل شيء قدير‪( ،‬في ي وم) مئ ة م رة ك انت ل ه ع دل عش ر رق اب‪،‬‬
‫و ُكتبت له مئة حسنة‪ ،‬و ُمحيت عنه مئة سيئة‪ ،‬وك انت ل ه ح ر ًزا من الش يطان يوم ه‬
‫ل عمل أكثر منه) (‪)4‬‬ ‫ذلك حتى يمسي‪ ،‬ولم يأت أح ٌد بأفضل مما جاء به إال رج ٌ‬
‫ومنه ا قول ه ‪( :‬من ق ال ال إل ه إال هللا وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬ل ه المل ك ول ه‬
‫الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬عشر مرار‪ ،‬كان كمن أعتق أربع ة أنفس من ول د‬
‫إسماعيل) (‪)5‬‬
‫ي واحدةً‪ ،‬صلى هللا عليه عشرًا) (‪)6‬‬ ‫ومنها قوله ‪( :‬من صلى عل َّ‬
‫ومنها قوله ‪(( :‬إن هللا ليرضى عن العبد أن يأكل األكلة فيحمده عليه ا‪ ،‬أو‬
‫يشرب الشربة فيحمده عليها) (‪)7‬‬
‫وهك ذا ك ان رس ول هللا ‪ ‬ي رغب المؤم نين في ك ثرة ذك ر هللا‪ ،‬ب ذكر تل ك‬
‫األجور العظيمة التي أعدها هللا لمن يذكره‪ ،‬بناء على تأثيراته ا الكب يرة في إص الح‬
‫النفس وتربيتها‪ ،‬ومن تلك األحاديث ما روي أن ه ‪ ‬ق ال ألص حابه يوم ا‪( :‬أيعج ز‬
‫لث القرآن؟)‪ ،‬قالوا‪ :‬وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ ق ال‪( :‬ق ل ه و‬ ‫أحدكم أن يقرأ في ليلة ثُ َ‬
‫ل ثلث القرآن)(‪)8‬‬ ‫هللا أحد‪ ،‬تع ِد ُ‬
‫َّ‬
‫وقال لهم ـ كم ا في ح ديث آخ ر ـ‪( :‬أيعج ز أح دكم أن يكس ب ك ل ي وم أل ف‬
‫حسنة؟)‪ ،‬فسأله سائل من جلسائه‪ :‬كيف يكسب أحدنا ألف حس نة؟ ق ال‪( :‬يس بح مئ ة‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪ ،6405 :‬ومسلم‪6842 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪6843 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪1352 :‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪ ،6403 :‬ومسلم ‪.6842‬‬
‫‪ )(5‬رواه مسلم‪.6845 :‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪912 :‬‬
‫‪ )(7‬رواه مسلم‪6932 :‬‬
‫‪ )(8‬رواه مسلم‪1886 :‬‬

‫‪248‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫تسبيح ٍة فيكتب له ألف حسنة‪ ،‬أو يحط عنه ألف خطيئة)‬
‫وقال لبعض أصحابه‪( :‬أال أدُلك على كلم ٍة من كنز الجنة؟‪ ..‬ال حول وال ق وة‬
‫إال باهلل)(‪)2‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن القيمة العظمى ال تي يحتله ا حس ن الخل ق في‬
‫تلك الموازين‪ ،‬فقد قال‪( :‬ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق) (‪ ،)3‬وق ال‪:‬‬
‫(يقول ما من شيء يوض ع في الم يزان أثق ل من حس ن الخل ق وإن ص احب حس ن‬
‫الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصالة) (‪)4‬‬
‫وروي أن رس ول هللا ‪ ‬لقي أب ا ذر فق ال‪(:‬أال أدل ك على خص لتين هم ا‬
‫خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهم ا؟ ق ال‪ :‬بلى ي ا رس ول هللا‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫(عليك بحسن الخلق‪ ،‬وطول الصمت‪ ،‬فوالذي نفسي بيده ما عمل الخالئ ق بمثلهم ا)‬
‫(‪)5‬‬
‫وهك ذا أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن األج ور العظيم ة المهي أة للق ائمين على‬
‫الخدمات االجتماعية والدعوية‪ ،‬ومنها قوله ‪ ‬في فضل ال دعوة إلى هللا‪( :‬من دع ا‬
‫إلى هدى‪ ،‬كان له من األجر مثل أجور من تبعه‪ ،‬ال ينقص ذل ك من أج ورهم ش يئا)‬
‫(‪)6‬‬
‫ومنه ا قول ه ‪ ‬في فض ل س ن الس نن الحس نة‪ ،‬أو ال دعوة العملي ة بإعط اء‬
‫النماذج الصالحة‪( :‬من سن في اإلسالم سُنةً حسنةً‪ ،‬فله أجرها‪ ،‬وأجر من عم ل به ا‬
‫بعده‪ ،‬من غير أن ينقص من أجورهم شي ٌء‪ ،‬ومن سن في اإلسالم س نةً س يئةً‪ ،‬ك ان‬
‫عليه وزرها ووزر من عمل بها من بع ده‪ ،‬من غ ير أن ينقص من أوزارهم ش ي ٌء)‬
‫(‪)7‬‬
‫معروف صدقةٌ) (‪)8‬‬
‫ٍ‬ ‫ومنها قوله ‪ ‬في فضل بذل المعروف‪( :‬كل‬
‫ومنها قوله ‪ ‬في فضل تنفيس الكَرْ ب‪( :‬من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب‬
‫الدنيا‪ ،‬نَفَّس هللا عنه كربة من ك رب ي وم القيام ة‪ ،‬ومن يَ َّس َر على ُم ِ‬
‫عس ر‪ ،‬يس ر هللا‬
‫عليه في الدنيا واآلخرة)(‪ ،)9‬وقوله‪( :‬من َس َره أن يُ ْن ِجيَ هُ هللا من ُك َرب ي وم القيام ة‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪6852 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪ ،6409:‬ومسلم ‪.6868‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود(‪)4799‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي(‪)2003‬‬
‫‪ )(5‬كشف األستار عن زوائد البزار (‪)220 /4‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪6804:‬‬
‫‪ )(7‬رواه مسلم‪2351 :‬‬
‫‪ )(8‬رواه البخاري‪ ،6021:‬ومسلم‪2328 :‬‬
‫‪ )(9‬رواه مسلم‪6853 :‬‬

‫‪249‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫معسر‪ ،‬أو يضع عنه)‬‫ٍ‬ ‫فليُنَفِّس عن‬
‫ومنها قوله ‪ ‬في فضل كفالة اليتيم‪( :‬أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)‪ ..‬وقال‬
‫بإصبعيه السبابة والوسطى(‪.)2‬‬
‫ومنه ا قول ه ‪ ‬في فض ل الس عي على األرمل ة والمس كين‪( :‬الس اعي على‬
‫األرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل هللا‪ ،‬أو القائم الليل الصائم النهار) (‪)3‬‬
‫ومنها قوله ‪ ‬في فضل الصدقة‪( :‬من تص دق بِ ِع دل تم رة من كس ب طيب‪،‬‬
‫وال يصعد إلى هللا إال الطيبُ ‪ ،‬فإن هللا يتقبلها بيمين ه‪ ،‬ثم يربِّيه ا لص احبه كم ا ي ربِّي‬
‫مثل الجبل) (‪)4‬‬‫أحدكم فُلُ َّوه حتى تكون َ‬
‫ومنها قوله ‪ ‬في فضل الحتس اب في النفق ة على األه ل‪( :‬إذا أنف ق المس لم‬
‫نفقةً على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة) (‪)5‬‬
‫ومنها قوله ‪ ‬في فضل تربية البنات‪( :‬من عال ج اريتين ح تى تبلغ ا‪ ،‬ج اء‬
‫يوم القيامة أنا وهو)‪ .‬وضم أصابعه(‪.)6‬‬
‫ومنها قوله ‪ ‬في فضل اتباع الجن ازة ح تى يف رغ من دفنه ا ق ال‪( :‬من تب ع‬
‫جنازة حتى يصلى عليها ويفرغ منها فله قيراطان ومن تبعها حتى يصلى عليها فل ه‬
‫قيراط والذي نفس محمد بيده لهو أثقل في ميزانه من أحد) (‪)7‬‬
‫وهكذا أخبرنا رس ول هللا ‪ ‬عن أن ال وزن ال يرتب ط فق ط باألعم ال‪ ،‬وإنم ا‬
‫يرتبط أيضا بالجوارح التي قامت بالعمل‪ ،‬كم ا روي في الح ديث أن ه عن دما تعجب‬
‫الصحابة من دقة ساقي عبد هللا بن مسعود قال لهم رسول هللا ‪(:‬أتعجبون من دقة‬
‫ساقيه والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد)(‪)8‬‬
‫فرسول هللا ‪ ‬يش ير في ه ذا الح ديث إال أن تين ك الس اقتين ال دقيقتين قامت ا‬
‫بأعمال كثيرة‪ ،‬هي أثقل من جبل أحد‪.‬‬
‫وهك ذا أخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن وزن م داد العلم اء ودم اء الش هداء‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(يوزن ي وم القيام ة م داد العلم اء ودم اء الش هداء ف يرجح م داد العلم اء على دم اء‬
‫الشهداء)(‪)9‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪7512 :‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪6005 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪ ،5353 :‬ومسلم ‪7468‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري‪ ،7430 :‬ومسلم ‪2342‬‬
‫‪ )(5‬رواه البخاري‪ ،5351 :‬ومسلم ‪2322‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم‪6695 :‬‬
‫‪ )(7‬رواه أحمد (‪)20256‬‬
‫‪ )(8‬رواه أحمد (‪)1/420‬‬
‫‪ )(9‬عزاه المناوى (‪ )6/466‬للشيرازى فى كتاب األلقاب‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫وهذا يعني أن هناك وزنا خاصا لكل جارحة‪ ،‬واألعمال التي ق امت به ا‪ ،‬ب ل‬
‫ورد ما يدل على وزن اإلنس ان جميع ا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿:‬فَال نُقِي ُم لَهُ ْم يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة‬
‫َو ْزناً﴾ (الكهف‪)105 :‬‬
‫وقد فسرها رسول هللا ‪ ‬فقال‪(: :‬ي ؤتى ي وم القيام ة بالرج ل الس مين فال‬
‫يزن عند هّللا جناح بعوضة)(‪ ،)1‬ثم قرأ قوله تعالى‪ ﴿:‬فَال نُقِي ُم لَهُ ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َو ْزن اً﴾‬
‫(الكهف‪)105 :‬‬
‫والقرآن الكريم يخبرن ا عن االرتب اط الوثي ق بين الع دل والرحم ة في جمي ع‬
‫أن واع الج زاء‪ ،‬فل ذلك تض اعف الحس نات من ب اب الرحم ة اإللهي ة‪ ،‬وال تج ازى‬
‫السيئات إال بمثلها من باب العدل اإللهي‪ ،‬قال تعالى عن جزاء الحس نات‪ ﴿:‬إِ َّن هَّللا َ ال‬
‫ت ِم ْن لَ ُد ْنهُ أَجْ راً َع ِظيماً﴾ (النساء‪،)40:‬‬ ‫اع ْفهَا َوي ُْؤ ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ك َح َسنَةً يُ َ‬ ‫ال َذ َّر ٍة َوإِ ْن تَ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ظلِ ُم ِم ْثقَ َ‬
‫ت َجزَ ا ُء َسيِّئَ ٍة بِ ِم ْثلِهَا َوتَرْ هَقُهُ ْم ِذلَّةٌ َما‬
‫وقال عن جزاء السيئات‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ َك َسبُوا ال َّسيِّئَا ِ‬
‫ص َحابُ‬ ‫ك أَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ت ُوجُوهُهُ ْم قِطَعا ً ِمنَ اللَّي ِْل ُمظلِما ً أولَئِ َ‬ ‫َاص ٍم َكأَنَّ َما أُ ْغ ِشيَ ْ‬
‫لَهُ ْم ِمنَ هَّللا ِ ِم ْن ع ِ‬
‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ (يونس‪)27:‬‬ ‫النَّ ِ‬
‫وقال جامعا بينهما‪َ ﴿:‬م ْن َجا َء بِ ْال َح َسنَ ِة فَلَهُ َع ْش ُر أَ ْمثَالِهَا َو َم ْن َج ا َء بِ َّ‬
‫الس يِّئَ ِة فَال‬
‫ُظلَ ُمونَ ﴾ (األنعام‪)160:‬‬ ‫يُجْ زَى إِاَّل ِم ْثلَهَا َوهُ ْم ال ي ْ‬
‫وقد قال رس ول هللا ‪ ‬في بي ان معناه ا‪( :‬ق ال هللا ع ز وج ل‪ :‬إذا هم عب دي‬
‫بسيئة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة‪ ،‬ف إن عمله ا فاكتبوه ا ل ه س يئة‪ ،‬ف إن ت اب منه ا‬
‫فامحوه ا عن ه‪ ،‬وإن هم عب دي بحس نة فلم يعمله ا فاكتبوه ا ل ه حس نة‪ ،‬ف إن عمله ا‬
‫فاكتبوها له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف)(‪)2‬‬
‫ب ـ موازين االستقامة وآثارها‪:‬‬
‫بعد أن ينتهي وزن األعمال ودرجاتها‪ ،‬يم يز الواقف ون في ذل ك الموق ف إلى‬
‫قسمين‪ :‬ناجحين بسبب صفاء صحفهم من الذنوب والتبعات‪ ،‬وخاسرين بس بب ع دم‬
‫صفاء صحفهم منها‪ ،‬ولذلك يحملون مباشرة إلى المحل المخصص لهم لقضاء ف ترة‬
‫العقوب ة ال تي اس توجبوها بس بب ج رائمهم‪ ،‬إال إذا انطبقت عليهم ق وانين اإلذن‬
‫بالشفاعة بسبب نوع ذن وبهم‪ ،‬أو بس بب بعض أعم الهم الص الحة‪ ،‬وفي ه ذه الحال ة‬
‫يمكنهم البحث عن الشفعاء للتوسط لهم‪ ،‬كما سنرى ذلك في المبحث التالي‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وقد أشار إلى هذا قوله تعالى في بي ان نتيج ة الن اجحين‪ ،‬وف رحهم به ا‪﴿ :‬فأ َّما‬
‫ق ِح َس ابِيَ ْه‬ ‫ت أَنِّي ُماَل ٍ‬ ‫َم ْن أُوتِ َي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه فَيَقُو ُل هَا ُؤ ُم ا ْق َر ُءوا ِكتَابِيَ ْه (‪ )19‬إِنِّي ظَنَ ْن ُ‬
‫(‪[ ﴾ )20‬الحاقة‪]21 - 19 :‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫﴿وأ َّما َمن أوتِ َي ِكتَابَ هُ بِ ِش َمالِ ِه‬ ‫َ‬ ‫وق ال في بي ان نتيج ة الراس بين وألمهم منه ا‪َ :‬‬
‫َ‬
‫اض يَة (‬ ‫َ‬
‫ت الق ِ‬ ‫ْ‬ ‫فَيَقُو ُل يَالَ ْيتَنِي لَ ْم أُوتَ ِكتَابِيَ ْه (‪َ )25‬ولَ ْم أَ ْد ِر َما ِح َسابِيَ ْه (‪ )26‬يَال ْيتَهَا َكانَ ِ‬
‫َ‬
‫‪َ )27‬ما أَ ْغنَى َعنِّي َمالِيَ ْه (‪ )28‬هَلَكَ َعنِّي س ُْلطَانِيَ ْه (‪[ ﴾ )29‬الحاقة‪]30 - 25 :‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري برقم (‪)4729‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري برقم (‪ )5269‬ورواه مسلم برقم (‪)127‬‬

‫‪251‬‬
‫ثم بين كي ف يس اقون مباش رة إلى جهنم بس بب ذل ك‪ُ ﴿ :‬خ ُذوهُ فَ ُغلُّوهُ (‪ )30‬ثُ َّم‬
‫اس لُ ُكوهُ (‪ )32‬إِنَّهُ َك انَ اَل‬ ‫صلُّوهُ (‪ )31‬ثُ َّم فِي ِس ْل ِسلَ ٍة َذرْ ُعهَا َس ْبعُونَ ِذ َراعًا فَ ْ‬ ‫ْال َج ِحي َم َ‬
‫ْس لَ هُ ْاليَ وْ َم هَاهُنَ ا‬ ‫ين (‪ )34‬فَلَي َ‬ ‫ي ُْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ ْال َع ِظ ِيم (‪َ )33‬واَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِك ِ‬
‫َح ِمي ٌم (‪[ ﴾ )35‬الحاقة‪]35 - 30 :‬‬
‫أما الن اجون؛ ف إن نج اتهم في ذل ك الموق ف ال تع ني النج اة المطلق ة‪ ،‬وإنم ا‬
‫يحتاجون إلى المرور على السراط‪ ،‬وهو المحل ال ذي يفتش ون في ه مثلم ا يفتش من‬
‫يريد الركوب في الطائرة حتى ال يحمل معه أي ممنوعات قد تضر سالمة الركاب‪.‬‬
‫وب ذلك يك ون الس راط نوع ا من الم وازين المرتبط ة باإلنس ان نفس ه‪ ،‬وليس‬
‫بأعماله‪ ،‬ذلك أن أعمال ه ق د وزنت وفتش ت في المح ال الخاص ة به ا‪ ،‬مثلم ا ت وزن‬
‫وتفتش بضائع المسافرين في الدنيا في المحال الخاصة بها‪.‬‬
‫واألوص اف ال تي وص ف به ا الس راط كله ا ت دل على ه ذا المع نى‪ ،‬فمعن اه‬
‫اللغوي ـ كم ا ي ذكر ال راغب األص فهاني ـ يش ير إلى ه ذا‪ ،‬حيث يق ول‪( :‬الس راط‪:‬‬
‫الطريق المستسهل‪ ،‬أصله من‪ :‬سرطت الطعام وزردته‪ :‬ابتلعته)(‪)1‬‬
‫أي أن هذا الطريق سيبتلع كل من يمر علي ه إن ك ان في ه من الخص ائص م ا‬
‫يستحق ذلك البل ع‪ ..‬وه و ـ للتق ريب ـ مث ل تل ك األص وات ال تي تص درها أجه زة‬
‫التفتيش في المطارات لتطلب من المار أن يخرج كل ما لديه أوال‪.‬‬
‫وهكذا فإن لهذه المف ردة داللته ا القرآني ة على االس تقامة والطه ارة والثب ات‬
‫الص َراطَ ال ُمس تَقِي َم ﴾ [الفاتح ة‪]6 :‬‬ ‫عليهما‪ ،‬كما قال تعالى في وصف الدين‪ ﴿ :‬اه ِدنَا ِّ‬
‫اطي ُم ْس تَقِي ًما ﴾ [األنع ام‪ :]153 :‬يع ني‬ ‫ص َر ِ‬ ‫يعني الدين المستقيم‪ ،‬وقال‪َ ﴿ :‬وأَ َّن هَ َذا ِ‬
‫دينا ً مستقيماً‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذا المعنى ووسائل الحصول عليه اإلمام الصادق بقوله ـ لمن‬
‫سأله عن السراط ـ‪( :‬هو الطريق إلى معرفة هللا عز وجل‪ .‬وهما صراطان‪ :‬ص راط‬
‫في الدنيا وصراط في اآلخرة‪ ،‬وأما الصراط الذي في ال دنيا فه و اإلم ام المف ترض‬
‫الطاعة‪ ،‬من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه َم َّر على الص راط ال ذي ه و جس ر جهنم‬
‫في اآلخرة‪ ،‬ومن لم يعرفه في ال دنيا زلت قدم ه عن الصـراط في اآلخ رة‪ ،‬ف تر َّدى‬
‫في نار جهنم)(‪)2‬‬
‫وهو يشير بهذا إلى أهمي ة التع رف على اله داة إلى هللا‪ ،‬واالس تنان بس ننهم‪،‬‬
‫لتحقيق السلوك الموافق للشريعة والبعيد عن األهواء‪ ،‬ولهذا ربط هللا تعالى الس راط‬
‫الص َراطَ ْال ُم ْس تَقِي َم﴾ [الفاتح ة‪ ،]6 :‬ثم فس ره‬ ‫المس تقيم بأولئ ك اله داة‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬اهْ ِدنَا ِّ‬
‫الض الينَ ﴾ [الفاتح ة‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫اَل‬ ‫َ‬
‫ب َعل ْي ِه ْم َو‬ ‫ضو ِ‬ ‫َيْر ْال َمغ ُ‬
‫ْ‬ ‫ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْي ِه ْم غ ِ‬
‫بقوله‪ِ ﴿ :‬‬
‫‪]7‬‬
‫وهذا يبين أن أساس التدين ه و التع رف على اله داة الص ادقين إلى هللا ح تى‬

‫‪ )(1‬المفردات في غريب القرآن‪( ،‬ص‪)337‬‬


‫‪ )(2‬معاني األخبار‪.32/‬‬

‫‪252‬‬
‫يتجنب المتدين الدعاة الذين يوصلونه إلى غضب هللا‪ ،‬أو الضالل عنه‪.‬‬
‫وبذلك‪ ،‬فإن أي انحراف عن الدين‪ ،‬والقيم النبيلة التي ج اء به ا س تكون س ببا‬
‫في منع المار على السراط من االستمرار في سيره‪ ،‬الذي يرحل به إلى الجنة‪ ،‬ذل ك‬
‫أن الجنة ال يكفي لدخولها مجرد حصول الشخص على حسنات كثيرة‪ ،‬ب ل تقتض ي‬
‫كذلك الطهارة والطيبة‪.‬‬
‫ولهذا ورد في النصوص المقدسة اإلخب ار ب أن الجن ة ال ي دخلها‪ ،‬ب ل ال يش م‬
‫ريحها من لم تتوفر فيه الطيب ة الكافي ة‪ ،‬والفط رة األص يلة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ِ ﴿:‬ط ْبتُ ْم‬
‫فَا ْد ُخلُوهَا خَالِ ِدينَ ﴾ (الزمر‪)73 :‬‬
‫ولهذا ذكر رسول هللا ‪ ‬ع دم إمكاني ة دخ ول الجن ة لمن ت وفرت في ه بعض‬
‫الصفات‪ ،‬التي تحول بينه وبينها‪ ،‬ومن أمثلتها البخل‪ ،‬كما قال ‪(:‬قال إن هللا تعالى‬
‫غرس جنة عدن بيده وزخرفه ا‪ ،‬وأم ر المالئك ة فش قت فيه ا األنه ار‪ ،‬فت دلت فيه ا‬
‫الثمار‪ ،‬فلم ا نظ ر إلى زهرته ا وحس نها‪ ،‬ق ال‪ :‬وع زتي وجاللي ال يج اورني في ك‬
‫بخيل) (‪)1‬‬
‫وسر ذلك هو أن الجنة هي دار الكرم اإللهي‪ ،‬وهي تتنافى تماما مع البخالء‪،‬‬
‫ولهذا لن يدخل أحد الجنة حتى يطهر تماما من هذه الصفة‪.‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أنه ال ي دخل الجن ة م دمن خم ر وال دي وث‪ ،‬ق ال ‪ ‬في الح ديث‬
‫القدس ي‪( :‬وع زتي ال يس كنها م دمن خم ر وال دي وث)‪ ،‬ق الوا‪(:‬ي ا رس ول هللا وم ا‬
‫الديوث؟)‪ ،‬قال‪(:‬من يقر السوء في أهله) (‪)2‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أنه ال يجد ريح الجنة من قتل معاهدا‪ ،‬قال ‪(:‬من قتل معاه دا لم‬
‫يرح رائحة الجنة‪ ،‬وأن ريحها ليوج د من مس يرة أربعين عام ا) (‪ ،)3‬وق ال ‪(:‬أال‬
‫من قتل نفسا معاهدة له وذمة رسوله فقد أخفر بذمة هللا فال يرح رائح ة الجن ة‪ ،‬وإن‬
‫الجنة ليوجد ريحها من مسيرة سبعين خريفا) (‪)4‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أنه ال يجد ريح الجنة أي وال بات غاشا لرعيته‪ ،‬ق ال ‪(:‬م ا من‬
‫إمام وال وال بات ليلة سوداء غاشا لرعيته إال ح رم هللا علي ه الجن ة وعرفه ا يوج د‬
‫يوم القيامة من مسيرة سبعين س نة) (‪ ،)5‬وق ال ‪(:‬من اس ترعى رعي ة فلم يحطهم‬
‫بنصيحة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائ ة ع ام‪ .‬من انتس ب إلى‬
‫غير أبيه لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام) (‪)6‬‬
‫وأخ بر ‪ ‬أن ه (ال ي دخل الجن ة ش يخ زان‪ ،‬وال مس كين مس تكبر‪ ،‬وال من ان‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في األوسط والكبير‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)397 /10‬‬
‫‪ )(2‬رواه الخرائطي في مساوئ االخالق‪ ،‬كنز العمال (‪)131 /6‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ‪ 193 / 6‬و ‪.194‬‬
‫‪ )(4‬رواه الترمذي رقم (‪ ،)1403‬وابن ماجة رقم (‪.)2687‬‬
‫‪ )(5‬رواه الطبراني في الكبير كما فى مجمع الزوائد (‪.)5/213‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري ‪ ، 112 / 13‬ومسلم رقم (‪.)142‬‬

‫‪253‬‬
‫بعمله على هللا)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬ثالثة ال ينظر هللا إليهم يوم القيامة‪ ،‬وال يزكيهم‪ ،‬ولهم‬
‫عذاب أليم‪ :‬شيخ زان‪ ،‬وملك كذاب‪ ،‬وعائل مستكبر) (‪)1‬‬
‫وقال ‪(:‬إياكم وعقوق الوالدين! فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام‬
‫وال يج د ريحه ا ع اق وال ق اطع رحم وال ش يخ زان وال ج ار إزاره خيالء‪ ،‬إنم ا‬
‫الكبرياء هلل عز وجل) (‪)2‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن هذين الصنفين من أهل النار‪ ،‬فقال ‪(:‬صنفان من أهل النار‬
‫لم أرهما بعد‪ :‬قوم معهم سياط كأذناب البقر يض ربون به ا الن اس‪ ،‬ونس اء كاس يات‬
‫عاريات مميالت مائالت رؤسهن كأسنمة البخت المائلة‪ ،‬ال يدخلن الجن ة وال يج دن‬
‫ريحها‪ ،‬وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا) (‪)3‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أن المرأة التي تسأل زوجها الطالق من غير سبب ال تج د رائح ة‬
‫الجنة‪ ،‬فقال ‪(:‬ال تسأل المرأة زوجها الطالق في غير كنهه فتجد ريح الجنة! وإن‬
‫ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاما) (‪)4‬‬
‫ونرى في كثير من هذه األحاديث ذكر مسافات مختلف ة لبع د رائح ة الجن ة‪،‬‬
‫وهي تعني بعد صاحبها أو قربه من الجنة‪ ،‬بحسب ن وع جرم ه‪ ،‬وق در الحاج ة إلى‬
‫تطهيره‪.‬‬
‫ولذلك كان المرور على الس راط مختلف ا بحس ب طه ارة ص احبه‪ ،‬ف إن ك ان‬
‫طاهرا مر عليه من غير أن يش عر‪ ،‬وإن لم يكن ك ذلك احت اج ك ل م رة إلى تطه ير‬
‫جديد إلى أن يصبح صالحا للركوب في المراكب التي تحمله إلى الجنة‪.‬‬
‫وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى‪ ،‬وعالقته بس راط ال دنيا‪ ،‬فق ال‪(:‬ولم ا ك ان‬
‫الصراط المستقيم الذي ال يكمل التوحي د إال باالس تقامة علي ه أدق من الش عر وأح ّد‬
‫من الس يف مث ل الص راط الموص وف في اآلخ رة‪ ،‬فال ينف ك بش ر عن مي ل عن‬
‫االستقامة ولو في أمر يسير‪ ،‬إذ ال يخلو عن اتباع الهوى ول و في فع ل قلي ل‪ ،‬وذل ك‬
‫قادح في كمال التوحيد بق در ميل ه عن الص راط المس تقيم‪ ،‬ف ذلك يقتض ي ال محال ة‬
‫نقصانا ً في درجات القرب‪ ،‬ومع كل نقصان ناران‪ :‬نار الفراق لذلك الكم ال الف ائت‬
‫بالنقصان‪ ،‬ونار جهنم كما وصفها القرآن؛ فيك ون ك ل مائ ل عن الص راط المس تقيم‬
‫معذبا ً مرتين من وجهين)(‪)5‬‬
‫وق ال الش يخ عب د الوه اب الش عراني‪( :‬ثم ي ؤمر ب الخالئق إلى الصـراط‪،‬‬
‫ق من الش عرة وأح ُّد‬‫فينتهون إلى الصراط وقد ضربت عليه الجسور على جهنم‪ ،‬أد ُّ‬
‫من السيف‪ ..‬فيسأل العبد عن اإليمان الخالص باهلل تع الى‪ ،‬ف إن ج اء ب ه مخلص ا ً ال‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪ ،107‬أحمد (‪)2/480‬‬


‫‪ )(2‬رواه الديلمي‪ ،‬كنز العمال (‪)77 /16‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم (‪ 6/168‬و ‪)8/155‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو داود رقم (‪ ، )2226‬والترمذي رقم (‪)1187‬‬
‫‪ )(5‬إحياء علوم الدين (‪)26 /4‬‬

‫‪254‬‬
‫شك فيه وال زيغ جاز إلى الجسر الثاني‪ ،‬فيسأل عن الصالة‪ ،‬فإن جاء بها تامة ج از‬
‫إلى الجسـر الثالث‪ ،‬فيسأل عن الزكاة‪ ،‬فإن جاء به ا تام ة ج از إلى الجس ر الراب ع‪،‬‬
‫فيسأل عن الصيام‪ ،‬فإن ج اء ب ه تام ا ً ج از إلى الجس ر الخ امس‪ ،‬فيس أل عن حج ة‬
‫اإلسالم فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر السادس‪ ،‬فيس أل عن الطه ر من الح دث‪،‬‬
‫فإن جاء به تاما ً جاز إلى الجسر السابع فيس أل عن المظ الم ف إن ك ان لم يظلم أح داً‬
‫جاز إلى الجنة‪ .‬وإن كان قصر في واحدة منهن حبس على كل جسر منها ألف سنة‪،‬‬
‫حتى يقضـي هللا فيه بما يش اء‪ ..‬ففتش ي ا أخي نفس ك‪ ،‬ف إن كنت وقعت في ش ئ من‬
‫هذه الذنوب التي ذكرت في المواقف المذكورة‪ ،‬فقد سمعت ما تجازى ب ه‪ ،‬وإن تكن‬
‫تقاس شيئا ً من تل ك األه وال‬ ‫ِ‬ ‫وقعت في شئ منها أو وقعت وقبل هللا تعالى توبتك‪ ،‬لم‬
‫حتى تدخل الجنة برحمة هللا تع الى‪ ،‬ولكن من أين ل ك أن تع رف أن هللا تع الى قب ل‬
‫توبتك‪ ،‬فوهللا لقد خلقنا ألمر عظيم تذهل فيه عقول العقالء) (‪)1‬‬
‫وقال الشيخ الصدوق‪( :‬باب اإلعتقاد في العقبات ال تي على طري ق المحش ر‪:‬‬
‫اعتقادنا في ذلك أن هذه العقبات اسم كل عقبة منها على ح دة اس م ف رض‪ ،‬أو أم ر‪،‬‬
‫أو نهي‪ .‬فم تى انتهى اإلنس ان إلى عقب ة اس مها ف رض‪ ،‬وك ان ق د قص ر في ذل ك‬
‫الفرض حبس عندها وطولب بحق هللا فيه ا‪ ،‬ف إن خ رج من ه بعم ل ص الح قدم ه أو‬
‫برحم ة تدارك ه‪ ،‬نج ا منه ا إلى عقب ة أخ رى‪ ،‬فال ي زال ي دفع من عقب ة إلى عقب ة‪،‬‬
‫ويحبس عند كل عقبة‪ ،‬فيسأل عما قصر فيه من معنى اسمها‪ .‬ف إن س لم من جميعه ا‬
‫انتهى إلى دار البقاء‪ ،‬فحيِ َي حياة ال موت فيها أبداً‪ ،‬و َس ِع َد سعادة ال شقاوة معها أبداً‪،‬‬
‫وسكن جوار هللا مع أنبيائ ه وحجج ه والص ديقين والش هداء والص الحين من عب اده‪.‬‬
‫وإن حبس على عقب ة فط ولب بح ق قص ر في ه‪ ،‬فلم ينج ه عم ل ص الح قدم ه‪ ،‬وال‬
‫أدركته من هللا عز وج ل رحم ة‪ ،‬زلت قدم ه عن العقب ة فه وى في جهنم نع وذ باهلل‬
‫منها) (‪)2‬‬
‫ت يَ ْس َعى‬ ‫وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى‪﴿ :‬يَوْ َم ت ََرى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬
‫ات تَجْ ِري ِمن تَحْ تِهَ ا األَ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ‬ ‫نُو ُرهُم بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َوبِأ َ ْي َمانِ ِهم بُ ْش َرا ُك ُم ْاليَ وْ َم َجنَّ ٌ‬
‫ات لِلَّ ِذينَ آ َمنُ وا انظُرُونَ ا‬ ‫ك هُ َو ْالفَ وْ ُز ْال َع ِظي ُم يَ وْ َم يَقُ و ُل ْال ُمنَ افِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ ُ‬ ‫فِيهَا َذلِ َ‬
‫ور لَّهُ بَ ابٌ‬ ‫ب بَ ْينَهُم بِ ُس ٍ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫ور ُك ْم قِي َل ارْ ِجعُوا َو َراء ُك ْم فَ ْالتَ ِم ُس وا نُ ورًا فَ ُ‬ ‫نَ ْقتَبِسْ ِمن نُّ ِ‬
‫بَا ِطنُهُ فِي ِه الرَّحْ َمةُ َوظَا ِه ُرهُ ِمن قِبَلِ ِه ْال َع َذابُ يُنَ ادُونَهُ ْم أَلَ ْم نَ ُكن َّم َع ُك ْم قَ الُوا بَلَى َولَ ِكنَّ ُك ْم‬
‫َّص تُ ْم َوارْ تَ ْبتُ ْم َو َغ َّر ْت ُك ُم األَ َم انِ ُّي َحتَّى َج اء أَمْ ُر هَّللا ِ َو َغ َّر ُكم بِاهَّلل ِ‬ ‫فَتَنتُ ْم أَنفُ َس ُك ْم َوت ََرب ْ‬
‫ْال َغ رُو ُر فَ ْاليَوْ َم ال ي ُْؤ َخ ُذ ِمن ُك ْم فِ ْديَ ةٌ َوال ِمنَ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا َم أْ َوا ُك ُم النَّا ُر ِه َي َم وْ ال ُك ْم‬
‫صي ُر ﴾ [الحديد‪]15 - 12 :‬‬ ‫س ْال َم ِ‬ ‫َوبِ ْئ َ‬
‫فهذه اآليات الكريمة تصور األنوار التي يسعد بها المؤمن ون بس بب الص فاء‬
‫والطه ارة ال تي اكتس بوها في ال دنيا‪ ،‬بينم ا تخم د تل ك األن وار المزيف ة للمن افقين‬

‫‪ )(1‬العهود المحمدية‪627/‬‬
‫‪ )(2‬اإلعتقادات‪71/‬‬

‫‪255‬‬
‫والمحتالين ومرض ى القل وب‪ ،‬وال ذين يكتش فون حينه ا أنهم ال يملك ون أي ملك ات‬
‫تؤهلهم لدخول الجنة‪ ،‬ولذلك ال يسمح لهم بالرحلة إليها‪.‬‬
‫وق د ورد في األح اديث واآلث ار م ا يش ير إلى ه ذا‪ ،‬فعن ابن مس عود‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫(يجمع هللا الناس يوم القيامة‪ ..‬فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه‪ ،‬ومنهم من‬
‫يعطى نوره فوق ذلك‪ ،‬ومنهم من يعطى نوره مثل النخل ة بيمين ه‪ ،‬ومنهم من يعطى‬
‫دون ذلك بيمين ه‪ ،‬ح تى يك ون آخ ر من يعطى ن وره في إبه ام قدم ه‪ ،‬يض يء م رة‬
‫ويطفأ أخرى‪ ،‬إذا أضاء قدم قدمه‪ ،‬وإذا أطفأ قام‪ ،‬قال‪ :‬فيمر ويمرون على الصراط‪،‬‬
‫والصراط كحد السيف دحض مزلة‪ ،‬ويقال لهم‪ :‬امضوا على قدر نوركم‪ ،‬فمنهم من‬
‫يمر كانقضاض الكوكب‪ ،‬ومنهم من يمر كالريح‪ ،‬ومنهم من يم ر ك الطرف‪ ،‬ومنهم‬
‫من يمر كشد الرجل‪ ،‬يرمل رمالً على قدر أعمالهم‪ ،‬حتى يمر الذي نوره على إبهام‬
‫قدم ه‪ ،‬تخ ر ي د‪ ،‬وتعل ق ي د‪ ،‬وتخ ر رج ل وتعل ق رج ل‪ ،‬وتص يب جوانب ه الن ار‪،‬‬
‫فيخلصون فإذا خلصوا‪ ،‬قالوا‪ :‬الحمد هلل الذي نجانا منك‪ ،‬بعد أن أراناك‪ ،‬لقد أعطان ا‬
‫ما لم يعط أحد) (‪)1‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يشير إلى أن للملكات الطيبة التي امتلكها اإلنسان في‬
‫الدنيا أثرها في تخفيف العقوبات عنه‪ ،‬أو في نجات ه منه ا‪ ،‬ففي الح ديث عن رس ول‬
‫هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬رأيت رجالً من أمتي على الصراط‪ ،‬يرتعد كما ترتع د الس عفة في‬
‫يوم ريح عاصف‪ ،‬فج اءه حس ن ظن ه باهلل‪ ،‬فس َّكن رعدت ه ومض ى على الص راط‪،‬‬
‫ورأيت رجالً من أمتي على الصراط‪ ،‬يزحف أحياناً‪ ،‬ويحبو أحياناً‪ ،‬ويتعلق أحيان اً‪،‬‬
‫فجاءته صالته علي فأقامته على قدميه‪ ،‬ومضى على الصراط)(‪)2‬‬
‫وله ذا ك ان الس راط من أخط ر المواق ف ال تي يم ر به ا اإلنس ان في أرض‬
‫المحشر‪ ،‬ففي الحديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال في تفس ير قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬كاَّل إِ َذا‬
‫ص فًّا (‪َ )22‬و ِجي َء يَوْ َمئِ ٍذ‬ ‫ص فًّا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ َد ّكًا َد ّكًا (‪َ )21‬و َج ا َء َربُّكَ َو ْال َملَ ُ‬
‫ُد َّك ِ‬
‫بِ َجهَنَّ َم يَوْ َمئِ ٍذ يَتَ َذ َّك ُر اإْل ِ ْن َسانُ َوأَنَّى لَهُ ال ِّذ ْك َرى (‪[ ﴾ )23‬الفج ر‪( ]23- 21 :‬إذا أب رز‬
‫هللا الخالئق وجمع األولين واآلخرين‪ ،‬أُتِ َي بجهنم تُقاد بألف زمام‪ ،‬مع كل زمام مائة‬
‫ألف ملك من الغالظ الش داد‪ ،‬له ا ه دةٌ وغض بٌ وزف ي ٌر وش هيق‪ ..‬ثم يوض ع عليه ا‬
‫الصراط أدق من حد السيف‪ ،‬عليها ثالث قناطر‪ ،‬فأما واحدة فعليها األمانة والرحم‪،‬‬
‫والثانية فعليها الصالة‪ ،‬وأما الثالثة فعليها عدل رب العالمين ال إل ه غ يره‪ ،‬فيكلف ون‬
‫بالممر عليها فيحبسهم الرحم واألمانة‪ ،‬فإن نجوا منهما حبستهم الص الة‪ ،‬ف إن نج وا‬
‫ص ا ِد﴾ [الفج ر‪:‬‬ ‫ك لَبِ ْال ِمرْ َ‬
‫منه ا ك ان المنتهى إلى رب الع المين‪ ،‬وه و قول ه‪ ﴿ :‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫‪ ،]14‬والناس على الصراط‪ ،‬فمتعل ق بي د وت زل قدم ه ومستمس ك بق دم‪ .‬والمالئك ة‬
‫حولها ينادون‪ :‬يا حليم أعف واصفح و ُع ْد بفضلك و َسلِّ ْم و ّسلِّ ْم‪ ،‬والناس يته افتون في‬

‫‪ )(1‬رواه ال بيهقي في (البعث والنش ور) (‪ .)419‬والح ديث رواه الط براني (‪ ،)357 /9‬والح اكم (‪.)408 /2‬‬
‫وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ‪.‬‬
‫‪ )(2‬أمالي الصدوق‪301/‬‬

‫‪256‬‬
‫النار كالفراش فيه ا‪ ،‬ف إذا نج ا ن اج برحم ة هللا م ر به ا فق ال الحم د هلل وبنعمت ه تتم‬
‫الصالحات وتزكو الحسنات‪ ،‬والحمد هلل الذي نجاني منك بع د الي أس بمن ه وفض له‪،‬‬
‫إن ربنا لغفور شكور)‬
‫وقد روي عن اإلمام الس جاد أن ه ق ال‪( :‬أش د س اعات ابن آدم ثالث س اعات‪:‬‬
‫الساعة التي يعاين فيها ملك الموت‪ ،‬والساعة التي يقوم فيها من قبره‪ ،‬والساعة التي‬
‫يق ف فيه ا بين ي دي هللا تب ارك وتع الى‪ ،‬فإم ا إلى جن ة وإم ا إلى ن ار)‪ ،‬ثم ق ال‪ :‬إن‬
‫نج وت ي ا ابن آدم عن د الم وت ف أنت أنت وإال هلكت‪ ،‬وإن نج وت ي ا ابن آدم حين‬
‫توضع في قبرك فأنت أنت وإال هلكت‪ ،‬وإن نجوت حين يُحمل الناس على الصراط‬
‫فأنت أنت وإال هلكت‪ ،‬وإن نجوت حين يق وم الن اس ل رب الع المين ف أنت أنت وإال‬
‫هلكت)(‪)1‬‬
‫وله ذا ف إن ك ل أوص اف الس راط ال تي وردت في األح اديث تش ير إلى ه ذه‬
‫المعاني التي ذكرناها‪ ،‬وإن كنا ال نستطيع أن نستخلص منها أي صورة حقيقي ة ل ه‪،‬‬
‫بناء على اختالف النشأتين‪.‬‬
‫فق د ورد في الح ديث أن الص راط زل ق‪ ،‬أي أن ك ل من يم ر علي ه يمكن أن‬
‫يزلق ليسقط في جهنم بناء على األوصاف الموجودة فيه‪ ،‬فق د س ئل رس ول هللا ‪:‬‬
‫ما الجسر يا رسول هللا ق ال‪( :‬مدخض ة مزل ة‪ ,‬علي ه خط اطيف‪ ,‬وكالليب‪ ,‬وحس كة‬
‫مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان) (‪)2‬‬
‫ووصف في الحديث بكونه له جنبتان أو حافتان‪ ،‬وكل حافة أو ج انب يمكنه ا‬
‫أن تس ترط من يم ر عليه ا‪ ،‬ق ال ‪( :‬يحم ل الن اس على الص راط ي وم القيام ة‬
‫فتتقادع(‪ )3‬بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار) (‪)4‬‬
‫وهكذا وصف بأن لكل حاف ة من حافتي ه كالليب(‪ ،)5‬ففي الح ديث عن الن بي‬
‫‪ ‬أنه قال‪( :‬وفي حافتي الصراط كالليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به) (‪)6‬‬
‫ووصف رسول هللا ‪ ‬تلك الكالليب‪ ،‬فقال‪( :‬وبه كالليب مثل شوك السعدان‬
‫أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا‪ :‬بلى ي ا رس ول هللا ق ال‪ :‬فإنه ا مث ل ش وك الس عدان‪،‬‬
‫غير أن ال يعلم قدر عظمها إال هللا)(‪)7‬‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪..159‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ )7439‬واللفظ له‪ ،‬ومسلم (‪)183‬‬
‫‪ )(3‬قال ابن األثير في (النهاية) (‪( :)24 /4‬قوله‪( ﴿ :‬فتتق ادع بهم جنبت ا الص راط تق ادع الف راش في الن ار) أي‬
‫تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض‪ .‬وتقادع القوم‪ :‬إذا مات بعضهم إثر بعض)‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد (‪ ،)20457( )43 /5‬والطبراني في (المعجم الصغير) (‪ ،)929( )142 /2‬وابن أبي عاص م‬
‫في (السنة) (‪)837‬‬
‫‪ )(5‬قال العيني في (عمدة القاري) (‪( :)316 /20‬كالليب جمع كلوب بفتح الكاف وهو حدي دة معطوف ة ال رأس‬
‫يعلق عليها اللحم‪ .‬وقيل‪ :‬الكلوب الذي يتناول به الحداد الحديد من النار‪ .‬كذا في كتاب ابن بطال)‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم (‪)195‬‬
‫‪ )(7‬رواه البخاري (‪ ،)7437‬ومسلم (‪)182‬‬

‫‪257‬‬
‫وهكذا وصف بكونه مثل حد الموس ى أو ح د الس يف‪ ،‬أي أن ه دقي ق ج دا في‬
‫تع يين الملك ات المنحرف ة‪ ،‬فعن الن بي ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ويوض ع الص راط مث ل ح د‬
‫الموسى‪ ،‬فتقول المالئكة‪ :‬من يجيز على هذا؟ فيقول‪ :‬من شئت من خلقي‪ :‬فيقول ون‪:‬‬
‫م ا عب دناك ح ق عبادت ك)(‪ ،)1‬وفي ح ديث ابن مس عود الطوي ل يق ول الن بي ‪:‬‬
‫(والصراط كحد السيف‪ ،‬دحض مزلة)(‪)2‬‬
‫وكل هذه األوصاف تبين خطورته‪ ،‬وأنه ال يمكن أن ينج و من ه إال من ه ذب‬
‫نفسه‪ ،‬وخلصها من كل األمراض ال تي تح ول بينه ا وبين التحق ق بفطرت ه الس لمية‬
‫النقية‪.‬‬
‫وب ذلك ف إن الس راط يش به كث يرا مراك ز التحلي ل واألش عة ال تي توض ع في‬
‫المستشفيات وعلى أساس نتائجها يتم التعامل مع الم ريض‪ ،‬إم ا باألدوي ة البس يطة‪،‬‬
‫أو بالجراحة المستعصية الصعبة الممتلئة بكل ألوان اآلالم والمخاوف‪.‬‬
‫وهذا يدل على أن السراط منسجم تماما مع العدال ة اإللهي ة‪ ،‬باعتب ار أن تل ك‬
‫األمراض التي يكتشفها أمراض مكتسبة‪ ،‬ولم تكن في الفطرة األصلية‪ ..‬هو منس جم‬
‫كذلك مع الرحمة اإللهية ألنه الوسيلة التي يطه ر به ا اإلنس ان من األم راض ال تي‬
‫تحول بينه وبين أن يعيش حقيقته الجميلة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ الشفاعة وشروطها‪:‬‬
‫من تجليات العدالة والرحمة اإللهية بعد تلك المواقف الش ديدة ال تي يم ر به ا‬
‫الخل ق في أرض المحش ر اإلذن بالش فاعة لمن يس تحقون ذل ك؛ فالش فاعة تج ل من‬
‫تجليات العدالة اإللهية‪ ،‬كما أنها تجل من تجليات رحمته‪.‬‬
‫أما كونها من تجليات عدالته؛ فذلك ألنها منض بطة بق وانين عام ة يمكن ألي‬
‫شخص أن يستفيد منها‪ ،‬بخالف المحسوبيات والوسائط في ال دنيا‪ ،‬وال تي ال ض ابط‬
‫لها إال األهواء المجردة‪.‬‬
‫وأما كونها من تجليات رحمته‪ ،‬فذلك ألنها من أنواع الجزاء التي يج ازي هللا‬
‫بها عباده الشافعين‪ ،‬لبيان مكانتهم وفضلهم ومراتبهم‪.‬‬
‫كما أنها من أنواع الجزاء التي يج ازي به ا الط البين للش فاعة لك ونهم ق اموا‬
‫بأنواع من األعمال الصالحة تستحق ذلك النوع من الجزاء‪.‬‬
‫وبذلك؛ فإن الش فاعة في حقيقته ا ن وع من أن واع الج زاء اإللهي‪ ،‬مثل ه مث ل‬
‫س ائر أن واع الج زاء الموج ودة في ال دنيا‪ ،‬أو في اآلخ رة‪ ،‬فق د أخ بر هللا تع الى أن‬
‫الصالة يمكنها أن تزيل الكثير من السيئات‪ ،‬وتمحو آثاره ا‪ ،‬وب ذلك يمكن اعتباره ا‬
‫شفيعا لصاحبها المؤدي لها الصادق معها‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وأَقِ ِم َّ‬
‫الص اَل ةَ طَ َرفَ ِي‬
‫كْرى لِل َّذا ِك ِرينَ ﴾ [ه ود‪:‬‬‫ك ِذ َ‬‫ت َذلِ َ‬ ‫ت يُ ْذ ِه ْبنَ َّ‬
‫الس يِّئَا ِ‬ ‫ار َو ُزلَفًا ِمنَ اللَّ ْي ِل إِ َّن ْال َح َس نَا ِ‬
‫النَّهَ ِ‬

‫‪ )(1‬رواه الحاكم (‪ .)629 /4‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه‪ ،‬ووافقه الذهبي‬
‫‪ )(2‬رواه الحاكم (‪ .)408 /2‬وقال‪ :‬هذا ح ديث ص حيح على ش رط الش يخين ولم يخرج اه به ذا اللف ظ‪ ،‬ووافق ه‬
‫الذهبي‬

‫‪258‬‬
‫‪]114‬‬
‫ومثل ذلك أخ بر هللا تع الى عن اإليم ان والعم ل الص الح‪ ،‬فهم ا من الش فعاء‬
‫ال ذين تكف ر بهم ال ذنوب‪ ،‬ويرف ع بهم ا العقوب ات المرتبط ة به ا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ت لَنُ َكفِّ َر َّن َع ْنهُ ْم َسيِّئَاتِ ِه ْم َولَنَجْ ِزيَنَّهُ ْم أَحْ َسنَ الَّ ِذي َكانُوا‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ت َوآ َمنُوا بِ َما نُ ِّز َل‬ ‫يَ ْع َملُونَ ﴾ [العنكبوت‪ ،]7 :‬وقال‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ص لَ َح بَ الَهُ ْم ﴾ [محم د‪،]2 :‬‬ ‫ق ِم ْن َربِّ ِه ْم َكفَّ َر َع ْنهُ ْم َس يِّئَاتِ ِه ْم َوأَ ْ‬ ‫َعلَى ُم َح َّم ٍد َوهُ َو ْال َح ُّ‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن‬ ‫ص الِحًا يُ َكفِّرْ عَنْهُ َس يِّئَاتِ ِه َويُ ْد ِخلْهُ َجنَّا ٍ‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬و َم ْن ي ُْؤ ِم ْن بِاهَّلل ِ َويَ ْع َملْ َ‬
‫تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا أَبَدًا َذلِكَ ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم﴾ [التغابن‪]9 :‬‬
‫وهكذا؛ فإن للتق وى وال ورع دوره ا في الش فاعة وتكف ير ال ذنوب‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫﴿ولَ وْ‬ ‫ْظ ْم لَ هُ أَجْ رًا﴾ [الطالق‪ ،]5 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫ق هَّللا َ يُ َكفِّرْ َع ْنهُ َسيِّئَاتِ ِه َويُع ِ‬ ‫﴿و َم ْن يَتَّ ِ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫ت النَّ ِع ِيم﴾ [المائ دة‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب آ َمنُوا َواتَّقَوْ ا لَ َكفَّرْ نَا َع ْنهُ ْم َسيِّئَاتِ ِه ْم َوأَل ْد َخلنَاهُ ْم َجنَّا ِ‬ ‫أَ َّن أَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ق هَّللا َ يُ َكفِّرْ َع ْنهُ َسيِّئَاتِ ِه َويُ ْع ِظ ْم لَهُ أَجْ رًا ﴾ [الطالق‪ ،]5 :‬وق ال‪:‬‬ ‫﴿و َم ْن يَتَّ ِ‬
‫‪ ،]65‬وقال‪َ :‬‬
‫﴿يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا إِ ْن تَتَّقُوا هَّللا َ يَجْ َعلْ لَ ُك ْم فُرْ قَانًا َويُ َكفِّرْ َع ْن ُك ْم َسيِّئَاتِ ُك ْم َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم َوهَّللا ُ‬
‫ُذو ْالفَضْ ِل ْال َع ِظ ِيم ﴾ [األنفال‪]29 :‬‬
‫وهكذا؛ فإن الجتناب الكبائر ظاهرها وباطنه ا دوره في تكف ير ال ذنوب‪ ،‬كم ا‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إِ ْن تَجْ تَنِبُوا َكبَ ائِ َر َم ا تُ ْنهَ وْ نَ عَنْهُ نُ َكفِّرْ َع ْن ُك ْم َس يِّئَاتِ ُك ْم َونُ ْد ِخ ْل ُك ْم ُم ْد َخاًل‬
‫َك ِري ًما﴾ [النساء‪]31 :‬‬
‫وهكذا فإن لكل األعمال الصالحة محال خاصا تشفع فيه‪ ،‬وتكفر في ه عقوب ات‬
‫ت فَنِ ِع َّما ِه َي َوإِ ْن تُ ْخفُوهَ ا‬ ‫الص َدقَا ِ‬ ‫الذنوب‪ ،‬كما قال تعالى عن الصدقات‪ ﴿ :‬إِ ْن تُ ْبدُوا َّ‬
‫َوتُ ْؤتُوهَ ا ْالفُقَ َرا َء فَهُ َو خَيْ ٌر لَ ُك ْم َويُ َكفِّ ُر َع ْن ُك ْم ِم ْن َس يِّئَاتِ ُك ْم َوهَّللا ُ بِ َم ا تَ ْع َملُ ونَ خَ بِ ي ٌر ﴾‬
‫[البقرة‪]271 :‬‬
‫وأخ بر رس ول هللا ‪ ‬عن أن واع كث يرة من األعم ال ال تي ترف ع الس يئات‪،‬‬
‫وتزيل آثارها‪ ،‬والعواقب المرتبطة به ا‪ ،‬وب ذلك يمكن اعتباره ا ش فيعا ألص حابها‪،‬‬
‫كما ق ال ‪ ‬عن ذك ر هللا ودوره في التطه ير من ال ذنوب‪( :‬من ق ال‪ :‬ال إل ه إال هللا‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير في يوم مائة م رة‪،‬‬
‫كانت له عدل عشر رقاب‪ ،‬وكتبت له مائة حسنة‪ ،‬ومحيت عنه مائ ة س يئة‪ ،‬وك انت‬
‫له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي‪ ،‬ولم يأت أحد بأفض ل مم ا ج اء ب ه إال‬
‫أحد عمل أكثر من ذلك)(‪)1‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن دور االستغفار والتوبة في تكفير الذنوب‪ ،‬فقال حاكيا عن ربه‬
‫س بحانه وتع الى‪( :‬ق ال هللا تب ارك وتع الى‪ :‬ي ا ابن آدم إن ك م ا دعوت ني ورجوت ني‬
‫غفرت لك على ما كان فيك وال أبالي‪ ،‬ي ا ابن آدم ل و بلغت ذنوب ك عن ان الس ماء ثم‬
‫استغفرتني غفرت لك‪ ،‬وال أبالي)(‪.)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري برقم ‪ ،3293‬ومسلم برقم ‪.2691‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي‪ ، ،‬برقم ‪ ،3540‬وقال‪« :‬حسن غريب»‬

‫‪259‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن دور األعمال الصالحة في تكفير الذنوب‪ ،‬فقال‪( :‬إن مثل الذي‬
‫يعمل السيئات‪ ،‬ثم يعمل الحسنات‪ ،‬كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة ق د خنقت ه‪ ،‬ثم‬
‫عمل حسنة‪ ،‬فانفكت حلقة‪ ،‬ثم عمل حسنة أخرى‪ ،‬فانفكت حلقة أخرى‪ ،‬حتى يخ رج‬
‫إلى األرض)(‪)3‬‬
‫ونحب أن ننبه إلى م ا نبهن ا ل ه في مواض ع كث يرة إلى أن ه ذه األح اديث ال‬
‫تعني الذنوب المتعدية‪ ،‬فهي من حق المعتدى عليهم‪ ،‬إال إذا برأ ذمت ه منهم‪ ..‬وهك ذا‬
‫فإنها ال تع ني أنواع ا كث يرة من ال ذنوب ق د ت ؤثر في طبيع ة اإلنس ان‪ ،‬وبالت الي ال‬
‫يستطيع أن يدخل بها الجنة إال بعد أن يتطهر منها‪ ،‬كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫وهك ذا األم ر م ع الش فاعة‪ ،‬فهي ج زاء إلهي على أعم ال ص الحة مرتبط ة‬
‫بأولئك الذين يشفعون له‪ ،‬كما سنرى ذلك في هذا المطلب‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬س نتحدث هن ا عن ثالث ة أم ور ورد في النص وص اإلخب ار‬
‫بكونه ا ش روطا لقب ول الش فاعة‪ ،‬وهي‪ :‬اإلذن اإللهي‪ ،‬وقابلي ة الش افع‪ ،‬والش فاعة‬
‫بالحق‪.‬‬
‫أ ـ اإلذن اإللهي‪:‬‬
‫وهو الشرط األول واألساسي في الشفاعة‪ ،‬وقد نص عليه الق رآن الك ريم في‬
‫مواضع كثيرة‪ ،‬بل ال تكاد تذكر الشفاعة إال وتش فع وتقي د ب اإلذن اإللهي‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫﴿واَل تَ ْنفَ ُع ال َّشفَا َعةُ ِع ْن َدهُ إِاَّل لِ َم ْن أَ ِذنَ لَهُ ﴾ [سبأ‪]23 :‬‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ولذلك يرد على أولئ ك المش ركين ال ذين توهم وا أن م ا يعبدون ه من أص نام‬
‫سيشفع لهم عند هللا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬أَ ِم اتَّخَ ُذوا ِم ْن دُو ِن هَّللا ِ ُش فَ َعا َء قُ لْ أَ َولَ وْ َك انُوا اَل‬
‫ض ثُ َّم‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫الس َم َ‬‫ك َّ‬ ‫يَ ْملِ ُكونَ َش ْيئًا َواَل يَ ْعقِلُونَ (‪ )43‬قُلْ هَّلِل ِ ال َّشفَا َعةُ َج ِميعًا لَهُ ُم ْل ُ‬
‫إِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ ﴾ [الزمر‪]44 ،43 :‬‬
‫وهكذا يحذرهم من أن الشفاعة ال تقبل في ذلك الي وم إال ب اإلذن اإللهي‪ ،‬ق ال‬
‫س َش ْيئًا َواَل يُ ْقبَ ُل ِم ْنهَ ا َش فَا َعةٌ َواَل ي ُْؤخَ ُذ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬واتَّقُوا يَوْ ًما اَل تَجْ ِزي نَ ْفسٌ ع َْن نَ ْف ٍ‬
‫﴿واتَّقُوا يَوْ مًا اَل تَجْ ِزي نَ ْفسٌ ع َْن‬ ‫صرُونَ ﴾ [البقرة‪ ،]48 :‬وقال‪َ :‬‬ ‫ِم ْنهَا َع ْد ٌل َواَل هُ ْم يُ ْن َ‬
‫ص رُونَ ﴾ [البق رة‪،]123 :‬‬ ‫س َش ْيئًا َواَل يُ ْقبَ ُل ِم ْنهَا َع ْد ٌل َواَل تَ ْنفَ ُعهَا َش فَا َعةٌ َواَل هُ ْم يُ ْن َ‬ ‫نَ ْف ٍ‬
‫وقال‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ ْنفِقُوا ِم َّما َرزَ ْقنَا ُك ْم ِم ْن قَب ِْل أَ ْن يَأْتِ َي يَوْ ٌم اَل بَ ْي ٌع فِي ِه َواَل ُخلَّةٌ‬
‫َواَل َشفَا َعةٌ َو ْال َكافِرُونَ هُ ُم الظَّالِ ُمونَ ﴾ [البقرة‪]254 :‬‬
‫فكل هذه اآليات الكريمة ال تنفي الشفاعة‪ ،‬كما يتوهم منكروها‪ ،‬وإنما تنفي أن‬
‫تكون الشفاعة من دون اإلذن اإللهي‪ ،‬ذلك أنه ا مرتبط ة بالتوحي د‪ ،‬وال تتن افى مع ه‬
‫كما يزعم المشركون‪.‬‬
‫ولهذا نرى القرآن الكريم يذكر هذا القيد في الكثير من المواضع‪ ،‬حتى يزي ل‬
‫تلك المفاهيم الجاهلية للشفاعة‪ ،‬ويبين أنها ال تعني التفويض‪ ،‬وال الوساطة المطلقة‪،‬‬
‫كما كان أهل الجاهلية يتصورون حين عبدوا األصنام من دون هللا‪ ،‬وتصوروا أنه ا‬

‫‪ )(3‬رواه أحمد ‪ ،543 /28 ،‬والطبراني في الكبير‪.284 /17 ،‬‬

‫‪260‬‬
‫تشفع لهم بذاتها من دون إذن إلهي‪ ،‬كما قال تعالى مخبرا عنهم‪َ ﴿ :‬ويَ ْعبُ ُدونَ ِم ْن د ِ‬
‫ُون‬
‫هَّللا ِ َما اَل يَضُرُّ هُ ْم َواَل يَ ْنفَ ُعهُ ْم َويَقُولُونَ هَؤُاَل ِء ُشفَ َعا ُؤنَا ِعنْ َد هَّللا ِ ﴾ [ي ونس‪ ،]18 :‬وق د‬
‫ض ُس ب َْحانَهُ‬ ‫ت َواَل فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬‫رد عليهم بقوله‪﴿ :‬قُلْ أَتُنَبِّئُونَ هَّللا َ بِ َم ا اَل يَ ْعلَ ُم فِي َّ‬
‫َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [يونس‪]18 :‬‬
‫وهذا ليس خاص ا بالش فاعة؛ فاهلل تع الى ينب ه ك ل حين إلى أن الرس ل عليهم‬
‫الس الم‪ ،‬وإن وكل وا ب الكثير من المه ام المرتبط ة بالهداي ة إال أنهم ليس وا وس ائط‬
‫بالمعنى الذي فهمه المشركون‪ ،‬فاهلل تعالى يذكر في مواضع كثيرة عدم تم يزهم عن‬
‫البشر العاديين في البشرية‪ ،‬وأنه ليس لهم أي سلطة إال ما خولوا ب ه من هللا تع الى‪،‬‬
‫ت لَهُ ْم ُر ُسلُهُ ْم إِ ْن نَحْ نُ إِاَّل بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم َولَ ِك َّن هَّللا َ يَ ُم ُّن َعلَى َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن‬ ‫قال تعالى‪ ﴿:‬قَالَ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا‬ ‫هَّللا‬
‫ان إِاَّل بِ إِذ ِن ِ َو َعلَى ِ فَليَت ََو َّك ِل ال ُم ْؤ ِمنُ ونَ ﴾‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِعبَ ا ِد ِه َو َم ا َك انَ لَنَ ا أ ْن نَ أتِيَ ُك ْم بِ ُس لطَ ٍ‬
‫ي أنَّ َم ا إِلَهُ ُك ْم إِلَ هٌ َوا ِح ٌد فَ َم ْن‬‫َ‬ ‫(ابراهيم‪ ،)11:‬وقال‪ ﴿:‬قُلْ إِنَّ َما أَنَ ا بَ َش ٌر ِمثلُ ُك ْم يُ و َحى إِلَ َّ‬
‫ْ‬
‫ص الِحا ً َوال ي ُْش ِر ْك بِ ِعبَ ا َد ِة َربِّ ِه أَ َح داً﴾ (الكه ف‪:‬‬ ‫َكانَ يَرْ جُوا لِقَ ا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َم لْ َع َمالً َ‬
‫اس تَقِي ُموا إِلَيْ ِه‬ ‫اح ٌد فَ ْ‬‫ي أَنَّ َما إِلَهُ ُك ْم إِلَهٌ َو ِ‬ ‫‪ ،)110‬وقال‪ ﴿:‬قُلْ إِنَّ َما أَنَا بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم ي َ‬
‫ُوحى إِلَ َّ‬
‫َوا ْستَ ْغفِرُوهُ َو َو ْي ٌل لِ ْل ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (فصلت‪)6:‬‬
‫وأخبر هللا تعالى أن كل تصرفات الرسل عليهم السالم سواء ك انت عادي ة أو‬
‫ُس الً‬ ‫من تلك الخوارق والمعجزات‪ ،‬لم تكن إال بإذن هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬ولَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ر ُ‬
‫ول أَ ْن يَ أْتِ َي بِآيَ ٍة إِاَّل بِ إِ ْذ ِن هَّللا ِ﴾‬‫ك َو َج َع ْلنَ ا لَهُ ْم أَ ْز َواج ا ً َو ُذ ِّريَّةً َو َم ا َك انَ لِ َر ُس ٍ‬ ‫ِم ْن قَ ْبلِ َ‬
‫(الرعد‪)38 :‬‬
‫ولهذا نفى هللا تعالى القدرة على هداية من لم يهتد عن أحب خلقه إليه‪ ،‬فقال‪﴿:‬‬
‫إِنَّكَ ال تَ ْه ِدي َم ْن أَحْ بَبْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ يَ ْه ِدي َم ْن يَ َشا ُء َوهُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ (القص ص‪:‬‬
‫اس َحتَّى يَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ (ي ونس‪ )99 :‬أي أتل زمهم‬ ‫‪ ،)56‬وقال له‪ ﴿:‬أَفَأ َ ْنتَ تُ ْك ِرهُ النَّ َ‬
‫وتلجئهم حتى يكونوا مؤمنين‪.‬‬
‫وأخبر تعالى أنه ليس من الوظيفة التي كلف بها الرسول ‪ ‬الهداي ة بمعناه ا‬
‫ْس َعلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم َولَ ِك َّن هَّللا َ يَ ْه ِدي َم ْن يَ َشا ُء ﴾ (البقرة‪)272 :‬‬ ‫التوفيقي‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬لَي َ‬
‫وأخ بر أن وظيفت ه ‪ ‬مقتص رة على البالغ‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿:‬فَ إِ ْن أَ ْس لَ ُموا فَقَ ِد‬
‫ص ي ٌر بِ ْال ِعبَ ا ِد﴾ (آل عم ران‪ ،)20 :‬وق ال‪:‬‬ ‫غ َوهَّللا ُ بَ ِ‬ ‫ك ْالبَال ُ‬‫ا ْهتَدَوْ ا َوإِ ْن تَ َولَّوْ ا فَإِنَّ َما َعلَ ْي َ‬
‫ص ْي ِط ٍر﴾ (الغاشية‪)22:‬‬ ‫﴿ لَسْتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ ُم َ‬
‫اس تَ ْغفِرْ لَهُ ْم أَوْ ال‬ ‫ونفى عنه الشفاعة التي لم يأذن فيها هللا تعالى‪ ،‬قال تعالى‪ْ ﴿:‬‬
‫ت َْس تَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِ ْن ت َْس تَ ْغفِرْ لَهُ ْم َس ب ِْعينَ َم َّرةً فَلَ ْن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَهُ ْم َذلِ كَ بِ أَنهُ ْم كف رُوا بِا ِ‬
‫هَّلل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫اسقِينَ ﴾ (التوبة‪ ،)80:‬وقال‪َ ﴿:‬س َوا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أَ ْس تَ ْغفَرْ تَ‬ ‫َو َرسُولِ ِه َوهَّللا ُ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَ ِ‬
‫لَهُ ْم أَ ْم لَ ْم تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم لَ ْن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَهُ ْم إِ َّن هَّللا َ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ ﴾ (المنافقون‪)6:‬‬
‫ْس لَ كَ‬ ‫ونفى عنه أي سلطة في التوبة أو المغف رة أو الع ذاب‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿:‬لَي َ‬
‫وب َعلَ ْي ِه ْم أَوْ يُ َع ِّذبَهُ ْم فَ إِنَّهُ ْم ظَ الِ ُمونَ ﴾ (آل عم ران‪ ،)128:‬أي‬ ‫ِمنَ اأْل َ ْم ِر َش ْي ٌء أَوْ يَتُ َ‬
‫ليس لك من الحكم شيء في عبادي إال ما أمرتك به فيهم‪.‬‬
‫وكل هذه اآليات القرآنية وغيرها تنفي مفهوم الوساطة الذي يع ني أي س لطة‬

‫‪261‬‬
‫إلهية تخول للرسول ما يكون خاص ا باأللوهي ة‪ ،‬وله ذا‪ ،‬لم ا ق ال هللا تع الى للمس يح‬
‫ُون هَّللا ِ﴾ (المائ دة‪)116 :‬‬ ‫اس اتَّ ِخ ُذونِي َوأُ ِّم َي إِلَهَي ِْن ِم ْن د ِ‬ ‫عليه الس الم‪ ﴿:‬أَأَ ْنتَ قُ ْلتَ لِلنَّ ِ‬
‫ق إِ ْن‬ ‫ْس لِي بِ َح ٍّ‬ ‫ول َم ا لَي َ‬‫ك َما يَ ُك ونُ لِي أَ ْن أَقُ َ‬ ‫رد المسيح عليه السالم بقوله‪ُ ﴿:‬س ْب َحانَ َ‬
‫ت قُ ْلتُهُ فَقَ ْد َعلِ ْمتَهُ تَ ْعلَ ُم َما فِي نَ ْف ِسي َوال أ ْعلَ ُم َم ا فِي نَف ِس كَ إِنَّكَ أ ْنتَ َعاَّل ُم ال ُغيُ و ِ‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُك ْن ُ‬
‫ت‬ ‫ً‬
‫ت َعلَ ْي ِه ْم َش ِهيدا َم ا ُد ْم ُ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت لَهُ ْم إِاَّل َما أ َمرْ تَنِي بِ ِه أ ِن ا ْعبُدُوا َ َربِّي َو َربَّ ُك ْم َو ُك ْن ُ‬ ‫ْ‬
‫َما قُل ُ‬
‫يب َعلَ ْي ِه ْم َوأ ْنتَ َعلَى ُك لِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ (المائ دة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫فِي ِه ْم فَلَ َّما تَ َوف ْيتَنِي ُك ْنتَ أ ْنتَ ال َّرقِ َ‬
‫‪)117‬‬
‫ونحب أن ننب ه هن ا إلى أن اإلذن اإللهي ليس كم ا يت وهم البعض أن ه غ ير‬
‫معقول المعنى‪ ،‬ولهذا يذكرون أن هللا يأذن في الشفاعة فيمن لم يعمل خيرا ق ط‪ ،‬ب ل‬
‫إن اإلذن اإللهي ـ كما تدل النصوص المقدس ة ـ ق ائم على العدال ة المطلق ة‪ ،‬ول ذلك‬
‫يرتبط بكال الجهتين‪ :‬الشافعين‪ ،‬وطالبي الشفاعة‪.‬‬
‫أم ا ارتباط ه بالش افعين؛ في دل علي ه‪ ،‬اعتب ار الش فاعة مقام ا من المقام ات‬
‫الكريمة التي ال يشرف بها إال خاصة الناس من المؤمنين تكريما لهم عن د هللا‪ ،‬بن اء‬
‫الش فَا َعةَ إِاَّل َم ِن‬ ‫على أعمال عملوها‪ ،‬وجهود بذلوها‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬اَل يَ ْملِ ُك ونَ َّ‬
‫الش فَا َعةُ إِاَّل َم ْن أَ ِذنَ‬‫اتَّخَ َذ ِع ْن َد الرَّحْ َم ِن َع ْهدًا ﴾ [مريم‪ ،]87 :‬وقال‪ ﴿ :‬يَوْ َمئِ ٍذ اَل تَ ْنفَ ُع َّ‬
‫ض َي لَهُ قَوْ اًل ﴾ [طه‪]109 :‬‬ ‫لَهُ الرَّحْ َمنُ َو َر ِ‬
‫ولذلك كانت ه ذه المرتب ة‪ ،‬نوع ا من الج زاء المرتب ط بالعم ل‪ ،‬وال ذي يمكن‬
‫ألي شخص أن يحصل عليه إن وفر من األعمال ما يتيح له ذلك‪.‬‬
‫وهذا الجزاء معقول المعنى‪ ،‬ذل ك أن أولئ ك الش افعين حص ل لهم الكث ير من‬
‫األذى في الدنيا‪ ،‬فاتهموا بالجنون والس حر‪ ،‬والكث ير منهم قتل وا وش وهت س معتهم‪،‬‬
‫ول ذلك ك ان ذل ك الج اه العظيم ال ذي يحص لون علي ه بفض ل الش فاعة نوع ا من‬
‫ان إِاَّل‬‫التعويض لهم‪ ،‬فالجزاء من جنس العمل‪ ،‬كما ق ال تع الى‪﴿ :‬هَ لْ َج زَ ا ُء اإْل ِ حْ َس ِ‬
‫اإْل ِ حْ َسانُ ﴾ [الرحمن‪]60 :‬‬
‫وأما ارتباطه بطالبي الشفاعة؛ فذلك ألن اإلذن اإللهي ال يكون لكل الطالبين‪،‬‬
‫بل هو خاص بالذين كانت لهم عالقة طيب ة بالش افعين‪ ،‬أم ا أولئ ك ال ذين خ الفوهم‪،‬‬
‫وآذوهم؛ فيحرمون من ذلك‪ ،‬بسبب مواقفهم‪ ،‬وهو نوع من التربية لهم‪ ،‬حتى يعرفوا‬
‫الش افِ ِعينَ ﴾‬ ‫قيمة أولئك الذين آذوهم واحتقروهم‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فَ َم ا تَ ْنفَ ُعهُ ْم َش فَا َعةُ َّ‬
‫[المدثر‪]48 :‬‬
‫ب ـ قابلية الشافع‪:‬‬
‫ذل ك أن الش فاعة مث ل المحام اة مرتب ة من الم راتب ال تي ال يناله ا إال‬
‫المستحقون لها‪ ،‬ولذلك هي ن وع من أن واع الج زاء المرتبط ة بهم‪ ،‬والمتناس ب م ع‬
‫أعمالهم‪.‬‬
‫ومن خالل النصوص المقدس ة يمكنن ا أن نكتش ف الكث ير من الص فات ال تي‬
‫ترتبط بهؤالء‪ ،‬والتي أهلتهم لهذه المرتبة الرفيعة‪ ،‬والجاه الحقيقي العريض‪ ،‬وأوله ا‬
‫الرحمة‪ ،‬ذلك أن الشفاعة تنبع من رحمة الشافع بالمشفوع ل ه‪ ،‬ول ذلك يت دخل طالب ا‬

‫‪262‬‬
‫اإلذن اإللهي في أن يشفع فيه‪.‬‬
‫وله ذا أخ بر رس ول هللا ‪ ‬أن أبع د الن اس عن الش فاعة اللع انين ال ذين‬
‫يس ارعون إلى لعن إخ وانهم من غ ير س بب‪ ،‬فأمث ال ه ؤالء ال يمكن أن يك ون في‬
‫قلوبهم من الرحمة ما يؤهلهم لهذه المرتبة الرفيعة‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬إن اللعانين‬
‫ال يكونون شهداء وال شفعاء يوم القيامة)(‪)1‬‬
‫وهكذا كان أول الشفعاء وأعظمهم هو رسول هللا ‪ ‬بما آت اه هللا من رحم ة‪،‬‬
‫ك إِاَّل َرحْ َمةً لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ [األنبياء‪]107 :‬‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما أَرْ َس ْلنَا َ‬
‫بل إن هللا تعالى سماه باسمين من أسماء رحمت ه‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬لَقَ ْد َج ا َء ُك ْم َر ُس و ٌل‬
‫وف َر ِحي ٌم ﴾ [التوب ة‪:‬‬ ‫َزي ٌز َعلَ ْي ِه َم ا َعنِتُّ ْم َح ِريصٌ َعلَ ْي ُك ْم بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َر ُء ٌ‬ ‫ِم ْن أَ ْنفُ ِس ُك ْم ع ِ‬
‫‪ ،]128‬ففي هذه اآلية تصريح بما كانت عليه طبيعة رس ول هللا ‪ ‬من حب للخ ير‬
‫والرحمة على كل الخالئق‪ ،‬ولهذا قال ‪( :‬إن هّللا لم يحرم حرم ة إال وق د علم أن ه‬
‫سيطلعها منكم مطلع‪ ،‬أال وإني آخذ بحج زكم أن ته افتوا في الن ار كته افت الف راش‬
‫والذباب)(‪)2‬‬
‫ولهذا نال رسول هللا ‪ ‬ذلك المقام الرفي ع ال ذي لم ينل ه غ يره‪ ،‬حيث أعطي‬
‫الشفاعة في الموقف‪ ،‬كما شرحنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫وهكذا يشفع سائر األنبياء واألئمة ال دعاة إلى الح ق‪ ،‬لم ا أودع هللا تع الى في‬
‫قلوبهم من الرحمة بأممهم‪ ،‬وحرصهم على إيمانهم‪ ،‬وحرصهم على ال ذين اتبع وهم‬
‫بإحسان‪.‬‬
‫وهكذا ورد في القرآن الكريم اإلخبار عن شفاعة المالئك ة‪ ،‬لعالقتهم بالبش ر‪،‬‬
‫ولعدم اختالفهم عن الرسل في الرحمة المودع ة فيهم بمن يس تحق ذل ك‪ ،‬كم ا أخ بر‬
‫ش َو َم ْن‬ ‫هللا تعالى عن دعائهم للمؤمنين في الدنيا‪ ،‬قال تع الى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ يَحْ ِملُ ونَ ْال َع رْ َ‬
‫َحوْ لَهُ يُ َسبِّحُونَ بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوي ُْؤ ِمنُ ونَ بِ ِه َويَ ْس تَ ْغفِرُونَ لِلَّ ِذينَ آ َمنُ وا َربَّنَ ا َو ِس عْتَ ُك َّل‬
‫اب ْال َج ِح ِيم (‪َ )7‬ربَّنَ ا‬ ‫َش ْي ٍء َرحْ َمةً َو ِع ْل ًما فَا ْغفِرْ لِلَّ ِذينَ تَابُوا َواتَّبَ ُع وا َس بِيلَكَ َوقِ ِه ْم َع َذ َ‬
‫ك‬ ‫ص لَ َح ِم ْن آبَ ائِ ِه ْم َوأَ ْز َوا ِج ِه ْم َو ُذ ِّريَّاتِ ِه ْم إِنَّ َ‬‫ت َع ْد ٍن الَّتِي َو َع ْدتَهُ ْم َو َم ْن َ‬ ‫َوأَ ْد ِخ ْلهُ ْم َجنَّا ِ‬
‫ت يَوْ َمئِ ٍذ فَقَ ْد َر ِح ْمتَهُ َو َذلِ كَ هُ َو‬ ‫أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم (‪َ )8‬وقِ ِه ُم ال َّسيِّئَا ِ‬
‫ت َو َم ْن ت ِ‬
‫َق ال َّسيِّئَا ِ‬
‫ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾[غافر‪ ،]9 - 7 :‬فقد أخبر هللا تعالى في هذه اآلية الكريمة عن دعائهم‬
‫واستشفاعهم للمؤمنين وألوالد المؤمنين وزوجاتهم أن يدخلهم هللا جنات عدن‪.‬‬
‫ومن صفات الش فعاء ب ذل نفوس هم في هللا‪ ،‬وتض حيتهم في س بيل هللا‪ ،‬وله ذا‬
‫ينالون التكريم الخاص بهم في ذلك الموقف جزاء على تلك التضحيات‪ ،‬ولهذا أخبر‬
‫رس ول هللا ‪ ‬أن الش هداء من الش فعاء ي وم القيام ة‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬يش فع‬
‫الشهيد في سبعين من أهل بيته)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)2598‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد‪ ،‬وأبو يعلى‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)210 /7‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود (‪ ،)2522‬وابن حبان (‪ ،)4660( )517 /10‬والبيهقي (‪)18308( )164 /9‬‬

‫‪263‬‬
‫وفي حديث آخر قال رسول هللا ‪( :‬للشهيد عند هللا س ت خص ال‪ :‬يغف ر ل ه‬
‫في أول دفعة‪ ،‬ويرى مقعده من الجن ة‪ ،‬ويج ار من ع ذاب الق بر‪ ،‬وي أمن من الف زع‬
‫األكبر‪ ،‬ويوضع على رأس ه ت اج الوق ار‪ ،‬الياقوت ة منه ا خ ير من ال دنيا وم ا فيه ا‪،‬‬
‫ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين‪ ،‬ويشفع في سبعين من أقاربه)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬يش فع ي وم القيام ة ثالث ة‪ :‬األنبي اء‪ ،‬ثم العلم اء‪ ،‬ثم‬
‫الشهداء)(‪)2‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن شفاعة العلم اء الص ادقين المبلغين عن ه‪ ،‬ففي‬
‫الحديث قال ‪( :‬ما من مسلم يحفظ على أمتي أربعين حديثا ً يعلمهم به ا أم ر دينهم‬
‫إال جيء به يوم القيامة فقيل له‪ :‬اشفع لمن شئت)(‪)3‬‬
‫وهكذا ورد في األح اديث أن ه بإمك ان ك ل مس لم أن يش فع إلخوان ه وأقارب ه‬
‫بحسب مدى قابليته لذلك‪ ،‬وقد روي في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬يق ول‬
‫الرجل من أهل الجن ة ي وم القيام ة‪ :‬أي ربّي عب دك فالن س قاني ش ربة من م اء في‬
‫الدنيا‪ ،‬فشفّعني فيه فيقول‪ :‬اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجس س في الن ار ح تى‬
‫يخرجه منها)(‪)4‬‬
‫وعن اإلمام الباقر أنه ق ال‪( :‬يش فع الرج ل في القبيل ة‪ ،‬ويش فع الرج ل أله ل‬
‫البيت‪ ،‬ويشفع الرجل للرجلين على قدر عمله‪ .‬فذلك المقام المحمود) (‪)5‬‬
‫وبناء على تجسم األعمال؛ فقد ورد في األح اديث ش فاعة األعم ال الص الحة‬
‫ألصحابها الحريصين عليها‪ ،‬ومن أعظم أنواع تلك الشفاعة شفاعة الق رآن عموم اً؛‬
‫ففي الحديث قال رسول هللا ‪( :‬اعملوا بالقرآن‪ ،‬وأحلوا حالله‪ ،‬وحرم وا حرام ه‪،‬‬
‫واقتدوا به‪ ،‬وال تكفروا بشيء منه‪ ،‬وما تش ابه عليكم من ه ف ردوه إلى هللا وإلى أولي‬
‫العلم من بعدي‪ ،‬كيما يخبرونكم‪ ،‬وآمن وا ب التوراة‪ ،‬واإلنجي ل‪ ،‬والزب ور‪ ،‬وم ا أوتي‬
‫النبيون من ربهم‪ ،‬وليسعكم القرآن وم ا في ه من البي ان‪ ،‬فإن ه ش افع مش فع‪ ،‬وماح ل‬
‫مصدق‪ ،‬أال ولكل آية منه ن ور ي وم القيام ة‪ ،‬وإني أعطيت س ورة البق رة من ال ذكر‬
‫األول‪ ،‬وأعطيت طه وطواسين وحواميم من ألواح موسى‪ ،‬وأعطيت فاتح ة الكت اب‬
‫من تحت العرش) (‪)6‬‬
‫وفي حديث آخر قال رسول هللا ‪( :‬القرآن ش افع مش فع‪ ،‬وماح ل مص دق‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪ ،)1663‬وابن ماجه (‪ ،)2274‬وأحمد (‪ ،)17221( )131 /4‬والبيهقى فى (شعب اإليمان)‬
‫(‪)25 /4‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن ماجه (‪ ،)4992‬والبيهقي في (شعب اإليمان) (‪)265 /2‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن عدي في (الكامل في الضعفاء) (‪ ،)56 /5‬والخطيب في (شرف أص حاب الح ديث) (ص‪،)20 :‬‬
‫وابن عبدالبر في (جامع بيان العلم وفضله) (‪)95 /1‬‬
‫‪ )(4‬مجمع البيان‪..1/104 :‬‬
‫‪ )(5‬مناقب آل أبي طالب (‪)2/15‬‬
‫‪ )(6‬رواه الط براني (‪ )525( )225 /20‬وأخرج ه الح اكم (‪ ،)757 /1‬وال بيهقي (‪ .)19490( )9 /10‬ق ال‬
‫الحاكم‪ :‬هذا حديث صحيح اإلسناد ولم يخرجاه‬

‫‪264‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫من جعله أمامه قاده إلى الجنة‪ ،‬ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)‬
‫وفي حديث آخر قال رسول هللا ‪( :‬يجيء القرآن يوم القيامة فيقول‪ :‬يا رب‬
‫حله‪ ،‬فيلبس تاج الكرامة‪ ،‬ثم يق ول‪ :‬ي ا رب زده‪ ،‬فيلبس حل ة الكرام ة‪ ،‬ثم يق ول‪ :‬ي ا‬
‫رب أرض عنه‪ ،‬فيرضى عنه‪ ،‬فيقال له‪ :‬اقرأ وارق وتزاد بكل آية حسنة) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر جمع ‪ ‬بين القرآن والصيام‪ ،‬ثم بين س ر ش فاعتهما‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(الصيام والقرآن يشفعان للعبد ي وم القيام ة‪ ،‬يق ول الص يام‪ :‬أي رب‪ ،‬منعت ه الطع ام‬
‫والشهوات بالنهار‪ ،‬فشفعني فيه‪ ،‬ويق ول الق رآن‪ :‬منعت ه الن وم باللي ل فش فعني في ه‪،‬‬
‫فيشفعان) (‪)3‬‬
‫وهذا ي دل على م ا ذكرن اه س ابقا من أن الش فاعة ج زاء خ اص على أعم ال‬
‫خاصة‪ ،‬ول ذلك ك ان لعالق ة الم ؤمن ب القرآن الك ريم‪ ،‬أو بالص يام‪ ،‬أو بغيرهم ا من‬
‫الطاعات أثر في اإلذن بالشفاعة له في ذلك المجال‪.‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬أنه يمن ع من الش فاعة فيمن حرف وا دين ه وب دلوه‪،‬‬
‫وأحدثوا فيه ما ليس منه‪ ،‬النتفاء صلتهم برسول هللا ‪ ،‬كما ورد في الح ديث عن ه‬
‫‪ ‬أنه قال‪( :‬أال ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أن اديهم‪ :‬أال هلم؛‬
‫فيقال إنهم قد بدلوا بعدك‪ ،‬فأقول‪ :‬سحقا سحقا)(‪)4‬‬
‫ج ـ الشفاعة بالحق‪:‬‬
‫وهو الشرط الثالث من شروط الشفاعة‪ ،‬وقد نص عليه قوله تعالى‪ ﴿:‬يَوْ َمئِ ٍذ ال‬
‫ض َي لَ هُ قَ وْ الً﴾ (ط ه‪ ،)109:‬وقول ه‪َ ﴿:‬وال‬ ‫تَ ْنفَ ُع ال َّشفَا َعةُ إِاَّل َم ْن أَ ِذنَ لَ هُ ال رَّحْ َمنُ َو َر ِ‬
‫ق َوهُ ْم يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ (الزخ رف‪:‬‬ ‫ك الَّ ِذينَ يَ ْد ُعونَ ِم ْن دُونِ ِه ال َّشفَا َعةَ إِاَّل َم ْن َش ِه َد بِ ْال َح ِّ‬
‫يَ ْملِ ُ‬
‫‪)86‬‬
‫وهكذا أخبر هللا تعالى أنه ال يحق ألحد أن يشفع في الظالمين المعت دين‪ ،‬كم ا‬
‫اظ ِمينَ َم ا لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن‬
‫اج ِر َك ِ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْن ِذرْ هُ ْم يَوْ َم اآْل ِزفَ ِة إِ ِذ ْالقُلُوبُ لَ دَى ْال َحنَ ِ‬
‫يع يُطَاعُ﴾ [غافر‪ ،]18 :‬وه ذا ي دل على أن ال ذنوب المتعدي ة ال مج ال‬ ‫َح ِم ٍيم َواَل َشفِ ٍ‬
‫للشفاعة فيها‪.‬‬
‫س بِ َم ا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومثله أخبر عن ذنوب كثيرة ال يمكن الشفاعة فيها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬كلُّ نف ٍ‬
‫ت يَت ََس ا َءلُونَ (‪ )40‬ع َِن‬ ‫ين (‪ )39‬فِي َجنَّا ٍ‬ ‫اب ْاليَ ِم ِ‬
‫ص َح َ‬ ‫ت َر ِهينَ ةٌ (‪ )38‬إِاَّل أَ ْ‬ ‫َك َس بَ ْ‬
‫ك‬‫ص لِّينَ (‪َ )43‬ولَ ْم نَ ُ‬ ‫ك ِمنَ ْال ُم َ‬ ‫ْال ُمجْ ِر ِمينَ (‪َ )41‬ما َسلَ َك ُك ْم فِي َس قَ َر (‪ )42‬قَ الُوا لَ ْم نَ ُ‬
‫ضينَ (‪َ )45‬و ُكنَّا نُ َك ِّذبُ بِيَوْ ِم الدِّي ِن (‪)46‬‬ ‫ط ِع ُم ْال ِم ْس ِكينَ (‪َ )44‬و ُكنَّا نَ ُخوضُ َم َع ْالخَائِ ِ‬ ‫نُ ْ‬
‫َحتَّى أَتَانَا ْاليَقِينُ (‪ )47‬فَ َما تَ ْنفَ ُعهُ ْم َشفَا َعةُ ال َّشافِ ِعينَ (‪[ ﴾)48‬المدثر‪]48 - 38 :‬‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني (‪ ،)8655( )132 /9‬وأبو نعيم في (حلية األولياء) (‪ ،)108 /4‬وابن أبي شيبة (‪)131 /6‬‬
‫(‪)30054‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي (‪ ،)2915‬والحاكم (‪ ،)738 /1‬والبيهقي في (شعب اإليمان) (‪)347 /2‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد (‪ ،)6626( )174 /2‬والطبراني كما في (مجمع الزوائد) (‪ ،)184 /3‬والحاكم (‪ ،)740 /1‬وأبو‬
‫نعيم في (حلية األولياء) (‪)161 /8‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم (‪)367‬‬

‫‪265‬‬
‫فاآليات الكريمة أخ برت أن ال ذين ال يص لون‪ ..‬أي ليس لهم تواص ل روحي‬
‫باهلل‪ ..‬وال ذين ال يطعم ون المس كين‪ ..‬أي ليس لهم أي تواص ل ورحم ة ب المجتمع‪..‬‬
‫هؤالء وغيرهم ال تنفعهم شفاعة الشافعين حتى لو تقدموا للشفاعة لهم‪.‬‬
‫وهذا الشرط ال يعني فقط م ا ذكرن اه س ابقا من [اإلذن اإللهي]‪ ،‬وإنم ا يع ني‬
‫أيضا أن تكون الشفاعة نفسها في مجال الحق المأذون فيه‪ ،‬ذلك أن اإلذن اإللهي ل ه‬
‫جانبان‪ :‬جانب الشافع‪ ،‬وجانب القضية المشفوع فيها‪.‬‬
‫ومن أهم ش روط القض ية المش فوع فيه ا أن تك ون موافق ة للعدال ة والس نن‬
‫اإللهية؛ فلذلك ذكرنا سابقا أن الشفاعة ال تك ون في المظ الم والج رائم‪ ،‬ذل ك أن له ا‬
‫أصحابا هم الذين يطالبون بها‪ ،‬ويستوفون حقهم من صاحبها‪.‬‬
‫وهكذا ذكرنا أنه ال تكون الشفاعة عند الس راط باعتب اره المح ل ال ذي يبحث‬
‫فيه عن الصفات التي ال تتناسب مع الجنة حتى يطهر صاحبها منها‪.‬‬
‫وهذا الش رط م ع أهميت ه‪ ،‬ودالل ة النص وص المقدس ة علي ه إال أن ه لألس ف‬
‫أسيء إلي ه‪ ،‬نتيج ة س وء فهم الش فاعة‪ ،‬حيث تص ور البعض أو الكث ير أنه ا مج رد‬
‫تسامح ال مبرر له إال الرحمة الواسعة‪ ،‬ح تى ل و ك انت تل ك الرحم ة متناقض ة م ع‬
‫العدل‪ ،‬ومع جميع القيم‪.‬‬
‫ونحسب أن الذين أنكروا الشفاعة‪ ،‬لم ينكروها جملة وتفصيال‪ ،‬وإنما أنكروها‬
‫بسبب تلك األوهام التي تسربت من خالل نص وص كث يرة‪ ،‬تنش ر اإلرج اء‪ ،‬وه در‬
‫كل القيم في سبيل إثبات عظمة الشافع‪ ،‬حتى أن ه يمكن اعتب ار العقي دة الخاطئ ة في‬
‫الشفاعة أكبر معول لهدم القيم التي جاء بها رسول هللا ‪ ،‬مثلما كانت عقيدة الف داء‬
‫التي جاء بها بولس أكبر معول لهدم القيم التي جاء بها المسيح عليه السالم(‪.)1‬‬
‫ولع ل أك بر من ش رع ه ذا الن وع من الفهم ه و ذل ك ال تراث الح ديثي ال ذي‬
‫استقبله المسلمون لألس ف بك ل أريحي ة‪ ،‬وراح وا ينش رونه تحت مس ميات كث يرة‪..‬‬
‫منها بيان رحمة هللا وسعة لطفه بعباده‪ ..‬ومنه ا بي ان رحم ة رس ول هللا ‪ ‬ال تي ال‬
‫تح د‪ ..‬ونحن في ذل ك ال نختل ف عن المس يحيين ال ذين ي ذكرون ب أن هللا ـ لرحمت ه‬
‫بعباده ـ أرسل ابنه الوحيد ليصلب‪ ،‬ويكفر بصلبه كل خطايا بني آدم‪.‬‬
‫نعم نختل ف معهم في ص ورة المش هد‪ ،‬ولكن ا ال نختل ف معهم في النتيج ة؛‬
‫فالشيطان في كال الدينين راح يشرع الخطيئة‪ ،‬وييسر أمرها‪ ،‬ب ل ي دعو إليه ا‪ ..‬إم ا‬
‫بعقيدة الفداء‪ ،‬أو بعقيدة الشفاعة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما رواه عبد ال رحمن بن ميم ون‪ ،‬أن كعب ا دخ ل يوم ا‬
‫على عمر بن الخطاب‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬ح دثني إلى م ا تنتهي ش فاعة محم د ‪ ‬ي وم‬
‫القيامة؟ فقال كعب‪ :‬ق د أخ برك هللا في الق رآن‪ ،‬إن هللا يق ول‪َ ﴿ :‬م ا َس لَ َك ُك ْم فِي َس قَر﴾‬
‫[المدثر‪ ،]42:‬فيشفع يومئ ذ‪ ،‬ح تى يبل غ من لم يص ل ص الة ق ط‪ ،‬ولم يطعم مس كينا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ ،‬أوهام وحقائق (ص‪ ،)20 :‬فقد كتبن ا في ه مق اال مط وال في الموض وع بعن وان [الش فاعة بين ال وهم‬
‫والحقيقة]‪ ،‬وما ذكرناه هنا تلخيص لبعض ما ورد في المقال‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫خير)(‪)1‬‬ ‫قط‪ ،‬ومن لم يؤمن ببعث قط‪ ،‬فإذا بلغت هؤالء لم يبق أحد فيه‬
‫فهذا الحديث الذي حدث به كعب األحبار اليهودي‪ ،‬يفس ر ب ه الق رآن‪ ،‬ولس نا‬
‫ندري من أين تلقاه‪ ،‬وال من أين سمعه‪ ،‬يقضي على كل ما قص دته اآلي ات الكريم ة‬
‫من التحذير من ترك الصالة‪ ،‬وترك إطع ام المس اكين‪ ،‬والخ وض م ع الخائض ين‪..‬‬
‫وكل القيم المرتبطة بها‪.‬‬
‫ومثله ما رواه عبد هللا بن عمر عن كعب من ذكره‪( :‬أن أمة محم د ‪ ‬ثالث ة‬
‫أثالث‪ ،‬فثلث يدخلون الجنة بغير حساب‪ ،‬وثلث يحاس بون حس ابا يس يرا ثم ي دخلون‬
‫الجنة‪ ،‬وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد)(‪)2‬‬
‫وهذا يتفق تماما مع ما ورد في القرآن الكريم من اإلخبار عن غ رور اليه ود‬
‫وأمانيهم وأكاذيبهم التي حرفوا بها القيم التي جاء بها موسى علي ه الس الم واألنبي اء‬
‫وا لَن تَ َم َّس نَا النَّا ُر إِالَّ أَيَّام ا ً َّمعْ دُو َدةً قُ لْ أَتَّخَ ْذتُ ْم ِعن َد هّللا ِ‬
‫﴿وقَ الُ ْ‬
‫من بعده‪ ،‬قال تع الى‪َ :‬‬
‫َع ْهدًا فَلَن ي ُْخلِفَ هّللا ُ عَهْ َدهُ أَ ْم تَقُولُ ونَ َعلَى هّللا ِ َم ا الَ تَ ْعلَ ُم ون﴾ [البق رة‪ ،]80:‬وق ال‪:‬‬
‫ت َو َغ َّرهُ ْم فِي ِدينِ ِهم َّما َك انُ ْ‬
‫وا‬ ‫﴿ َذلِ كَ بِ أَنَّهُ ْم قَ الُواْ لَن تَ َم َّس نَا النَّا ُر إِالَّ أَيَّامًا َّمعْ دُودَا ٍ‬
‫يَ ْفتَرُون﴾ [آل عمران‪.]24:‬‬
‫واآلي ة الكريم ة تش ير إلى م ا نس ميه [دين البش ر]‪ ،‬وال ذي ع برت عن ه بـ‬
‫وا يَ ْفتَرُون﴾‪ ،‬فدين البش ر يعتم د على تل ك األك اذيب ال تي‬ ‫﴿ َو َغ َّرهُ ْم فِي ِدينِ ِهم َّما َكانُ ْ‬
‫يكذبون به ا على أنفس هم‪ ،‬ثم يفرض ونها على ربهم‪ ،‬ويتص ورون أن الجن ة والن ار‬
‫صارت بيدهم‪ ،‬ال بيد ربهم‪.‬‬
‫وما ذكره القرآن الكريم عن اليهود‪ ،‬هو نفسه ما وقع فيه النصارى‪ ،‬فق د ق ال‬
‫كعب أحبارهم‪( :‬يا أوالدي أكتب إليكم هذا لكي التخطئوا وإن أخطأ أح ٌد فلن ا ش فيع‬
‫عند األب‪ ،‬يسوع المسيح البار‪ ،‬وهو كفارة لخطايانا‪ .‬ليس لخطايانا فقط ب ل لخطاي ا‬
‫كل العالم أيضاً) [رسالة يوحنا الرسول األولى ‪])1 :2‬‬
‫ولألسف فإننا عندما نبحث في التراث النصراني ال نجد إال نصوصا محدودة‬
‫جدا من أمثال النص الس ابق‪ ،‬لكن ا عن دما نبحث في تراثن ا الح ديثي نج د نصوص ا‬
‫كثيرة جدا‪ ،‬ترفع إلى رسول هللا ‪ ،‬لتناقض ك ل القيم القرآني ة‪ ،‬ب ل ك ل القيم ال تي‬
‫جاءت النبوة لغرسها‪ ،‬والدعوة إليها‪.‬‬
‫فكيف يستقيم أن يقول النبي ‪ ‬في بيان المقصد األك بر من مقاص د دعوت ه‪:‬‬
‫(إنما بعثت ألتمم مكارم األخالق)(‪ ،)3‬ثم تأتي تلك النصوص لتهدم هذا المقصد من‬
‫أساسه‪.‬‬
‫ذلك أنه من المعلوم أن األخالق تحتاج في فرضها والدعوة إليها إلى حوافز‪،‬‬
‫ت دفع إلى العم ل به ا‪ ،‬وعقوب ات تنف ر من الوق وع في أض دادها‪ ..‬ف إذا م ا رفعت‬

‫‪ )(1‬رواه ابن مردويه‪ ،‬انظر‪ :‬الدرالمنثور في التفسير للسيوطي ص‪ ،6‬ص‪.286‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (‪.)20/465‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد (‪ ،2/381‬رقم ‪ ، )8939‬وابن سعد (‪ )1/192‬البيهقى (‪ ،10/191‬رقم ‪)20571‬‬

‫‪267‬‬
‫العقوبات‪ ..‬ولم تبق إال الحوافز التي يستوي فيها العاملون والمقص رون‪ ..‬حينه ا لن‬
‫تبقى أي قيمة‪ ..‬بل لن يبقى أي دين‪.‬‬
‫فهل يمكن ـ على سبيل المثال ـ أن يستقيم أم ر دول ة تض ع الق وانين المش ددة‬
‫للج رائم‪ ..‬ثم تض ع بع دها قانون ا واح دا يق ول‪ :‬ك ل العقوب ات الس ابقة ليس له ا من‬
‫مقص د إال التهدي د والوعي د‪ ..‬لكنه ا في الواق ع ال أث ر له ا‪ ..‬فيمكن لمن اس تحق‬
‫العقوب ات أن ي أتي بمن ش اء ليش فع ل ه‪ ..‬ف إن لم يج د فالح اكم رحيم وص احب قلب‬
‫طيب‪ ..‬وسيتولى هو نفسه الشفاعة ل ه‪ ،‬إن واق ع ه ذه المدين ة‪ ،‬وانهي ار قيمه ا يش به‬
‫تماما ما فعلته أمثال تلك النصوص‪.‬‬
‫وبن اء على ه ذا؛ ف إن ك ل م ا ي روى من أح اديث الش فاعة مناقض ا للقيم‬
‫األخالقي ة والش رعية مرف وض بن اء على ه ذا الش رط‪ ،‬ومن األمثل ة على ذل ك م ا‬
‫يروونه عن رسول هللا ‪ ‬وأنه قال‪ ..( :‬في أتونني‪ ،‬فأس تأذن على ربي‪ ،‬في ؤذن لي‪،‬‬
‫فإذا أنا رأيته وقعت ساجدا‪ ،‬فيدعني ما شاء هللا‪ ،‬فيقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬ارف ع‪ ،‬ق ل يس مع‪،‬‬
‫سل تعطه‪ ،‬اشفع تشفع‪ ،‬فأرفع رأس ي‪ ،‬فأحم د ربي بتحمي د يعلمني ه ربي‪ ،‬ثم أش فع‪،‬‬
‫فيحد لي حدا‪ ،‬فأخرجهم من النار‪ ،‬وأدخلهم الجنة‪ ،‬ثم أعود فأقع ساجدا‪ ،‬في دعني م ا‬
‫شاء هللا أن يدعني‪ ،‬ثم يقال لي‪ :‬ارفع يا محمد‪ ،‬قل يسمع‪ ،‬س ل تعط ه‪ ،‬اش فع تش فع‪،‬‬
‫فأرفع رأسي‪ ،‬فأحمد ربي بتحمي د يعلمني ه‪ ،‬ثم أش فع‪ ،‬فيح د لي ح دا‪ ،‬ف أخرجهم من‬
‫النار‪ ،‬وأدخلهم الجنة ـ قال‪ :‬فال أدري في الثالثة أو في الرابعة ـ فأقول‪ :‬ي ا رب‪ ،‬م ا‬
‫بقي في النار إال من حبسه القرآن‪ ،‬أي وجب عليه الخلود)(‪)1‬‬
‫ومثله ما يروون عنه ‪ ‬أنه قال‪( :‬أمر بقوم من أمتي قد أم ر بهم إلى الن ار‪،‬‬
‫قال‪ :‬فيقولون‪ :‬ي ا محم د ننش دك الش فاعة‪ ،‬ق ال‪ :‬ف آمر المالئك ة أن يقف وا بهم‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫فأنطلق واستأذن على الرب عز وجل فيأذن لي فأسجد وأقول‪ :‬يا رب قوم من أم تي‬
‫قد أمر بهم إلى النار‪ ،‬قال‪ :‬فيقول لي‪ :‬انطلق فأخرج منهم قال‪ :‬فانطلق وأخرج منهم‬
‫من شاء هللا أن أخرج‪)2()..‬‬
‫ومثله ما يروون عنه ‪ ‬أنه قال‪( :‬فيقول هللا تعالى‪ :‬شفعت المالئك ة‪ ،‬وش فع‬
‫النبيون‪ ،‬وش فع المؤمن ون‪ ،‬ولم يب ق إال أرحم ال راحمين‪ ،‬فيقبض قبض ة من الن ار‪،‬‬
‫فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط) (‪)3‬‬
‫ومثله ما يروون عنه ‪ ‬أنه قال في حديث الش فاعة الطوي ل‪(:‬يق ول هّللا ع زَّ‬
‫وج َّل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيم ان ف أخرجوه من الن ار)‬
‫(‪ )4‬؛ وفي لف ظ آخ ر‪(:‬أدنى أدنى أدنى مثق ال ذرة من إيم ان ف أخرجوه من الن ار‪،‬‬
‫فيخرجون خلقا ً كثيرا)‪،‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ ، 397 - 395 / 13‬ومسلم رقم (‪)193‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي الدنيا في كتاب األهوال‪.‬‬
‫‪ )(3‬قطعة من حديث مطول أخرجه مسلم ورقمه (‪. )183‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫ومثله ما يروون عنه ‪ ‬أنه قال‪( :‬أتانى جبريل‪ ،‬فخيرنى بين الش فاعة وبين‬
‫أن يغفر لنصف أمتى‪ ،‬فاخترت الشفاعة‪ ،‬فقي ل‪ :‬اش فع لن ا فق ال‪ :‬ش فاعتى لكم‪ ،‬فلم ا‬
‫أكثروا عليه قال‪( :‬من لقى هللا يشهد أن ال إله إال هللا دخل الجنة)(‪)1‬‬
‫وكأن جبريل عليه السالم الذي ج اء به ذا الح ديث يختل ف عن جبري ل ال ذي‬
‫جاء بالقرآن الكريم‪ ،‬والممل وء ب الترهيب من مخالف ة القيم‪ ..‬وال ذي نس مع في ه ه ذا‬
‫ب َمن يَ ْع َم لْ ُس و ًءا يُجْ َز بِ ِه َوالَ‬ ‫هْل ْال ِكتَ ا ِ‬
‫ْس بِأ َ َمانِيِّ ُك ْم َوال أَ َمانِ ِّي أَ ِ‬
‫الوعيد الشديد‪﴿ :‬لَّي َ‬
‫صيرًا﴾ [النساء‪]123:‬‬ ‫ُون هّللا ِ َولِيًّا َوالَ نَ ِ‬ ‫يَ ِج ْد لَهُ ِمن د ِ‬
‫فكل هذه األحاديث تتنافى مع القرآن الكريم‪ ،‬والترهيبات الشديدة الواردة فيه‪،‬‬
‫وهي فوق ذلك تتنافى مع أحاديث أخرى كثيرة‪ ،‬ال تقل عنها صحة‪ ،‬ومنها قول ه ‪‬‬
‫في خطبته في حجة الوداع‪( :‬أتدرون أى يوم هذا‪ ،‬وأى شهر ه ذا‪ ،‬وأى بل د ه ذا؟)‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬هذا بلد حرام وشهر حرام ويوم حرام‪ ،‬قال‪( :‬أال وإن أم والكم ودم اءكم عليكم‬
‫حرام كحرمة ي ومكم ه ذا فى بل دكم ه ذا‪ ،‬أال وإنى ف رطكم على الح وض أنتظ ركم‬
‫وأكاثر بكم األمم؛ فال تسودوا وجهى‪ ،‬أال وق د رأيتم ونى وس معتم م نى وستس ألون‬
‫عنى؛ فمن كذب على فليتبوأ مقعده من النار‪ ،‬أال وإنى مس تنقذ أناس ا ومس تنقذ م نى‬
‫أناس فأقول يا رب أصحابى فيقول إنك ال تدرى ما أحدثوا)(‪)2‬‬
‫فهذا الحديث وه و م روي في جمي ع الص حاح والمس انيد والس نن يخ بر في ه‬
‫رسول هللا ‪ ‬أنه حرم من الشفاعة في أصحابه ال ذي ع رفهم‪ ،‬وق د ك انوا يص لون‬
‫ويصومون ويتوضأون ويحجون ويمرضون‪..‬ومع ذلك لم يخرجوا من ذنوبهم كيوم‬
‫ولدتهم أمهاتهم‪.‬‬
‫وهكذا نرى القرآن الكريم يح ذرنا من ذل ك الي وم الخط ير ال ذي ال تنف ع في ه‬
‫وا يَوْ م ا ً الَّ‬ ‫﴿واتَّقُ ْ‬
‫أمثال تلك الشفاعات التي تذكرها تلك الرواي ات‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫س َشيْئا ً َوالَ يُ ْقبَ ُل ِم ْنهَا َشفَا َعةٌ َوالَ ي ُْؤخَ ُذ ِم ْنهَا َع ْد ٌل﴾ (البقرة‪،)48 :‬‬ ‫تَجْ ِزي نَ ْفسٌ عَن نَّ ْف ٍ‬
‫ع﴾ (غافر‪)18 :‬‬ ‫وقال‪َ ﴿ :‬ما لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن َح ِم ٍيم َواَل َشفِ ٍ‬
‫يع يُطَا ُ‬
‫وهكذا نج د الق رآن الك ريم يص رح بغض ب هللا ولعنت ه وعقاب ه الش ديد على‬
‫ذنوب كثيرة نراها هينة سهلة عند أولئك الذين ضربوا الق رآن بالح ديث‪ ..‬وض ربوا‬
‫الدين وقيمه بما شرعوه ألنفسهم من شرائع الهوى‪.‬‬
‫زَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫﴿و ْي ٌل لِكلِّ ه َمز ٍة ل َم ٍة (‪)1‬‬‫ُ‬ ‫فاهلل تعالى أخبر عن الهمز واللمز وعقوبته‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫الَّ ِذي َج َم َع َمااًل َو َع َّد َدهُ (‪ )2‬يَحْ َس بُ أَ َّن َمالَ هُ أَ ْخلَ َدهُ (‪َ )3‬كاَّل ليُنبَ ذن فِي ال ُحط َم ِة (‪)4‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك َم ا ْال ُحطَ َم ةُ (‪ )5‬نَ ا ُر هللا ْال ُموقَ َدةُ (‪ )6‬الَّتِي تَطَّلِ ُع َعلَى اأْل َ ْفئِ َد ِة (‪ )7‬إِنَّهَ ا‬ ‫َو َم ا أَ ْد َرا َ‬
‫ص َدةٌ (‪ )8‬فِي َع َم ٍد ُم َم َّد َد ٍة (‪[ ﴾)9‬الهمزة‪]9 - 1 :‬‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم ُم ْؤ َ‬
‫﴿و َم ْن يَ ْقتُ لْ‬ ‫وأخ بر عن عقوب ة القت ل العم د‪ ،‬وأنه ا الخل ود في جهنم‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد (‪ 4/404‬رقم ‪ )19634‬والط برانى فى الص غير ( ‪ 2/62‬رقم ‪ )784‬ق ال الهيثمى (‪: )10/369‬‬
‫رواه أحمد والطبرانى‪ ،‬وأحد أسانيد الطبرانى رجاله ثقات‪.‬‬
‫(‪ ،5/393‬رقم ‪ ، )23385‬والبخ ارى (‪ ،5/2404‬رقم ‪،)6205‬‬ ‫‪ )(2‬رواه أحم د (‪ ،5/412‬رقم ‪)23544‬‬
‫والنسائى فى الكبرى (‪ ،2/444‬رقم ‪.)4099‬‬

‫‪269‬‬
‫ب هللا َعلَ ْي ِه َولَ َعنَهُ َوأَ َع َّد لَهُ َع َذابًا ع ِ‬
‫َظي ًما‬ ‫َض َ‬‫ُم ْؤ ِمنًا ُمتَ َع ِّمدًا فَ َجزَا ُؤهُ َجهَنَّ ُم خَالِدًا فِيهَا َوغ ِ‬
‫(‪[ ﴾)93‬النساء‪]93 :‬‬
‫وهك ذا ل و تأملن ا الق رآن جميع ا‪ ..‬ب ل مع ه الكث ير من الس نة‪ ،‬لوج دنا فيهم ا‬
‫نصوصا كثيرة تملؤنا بالمهابة ومن خشية هللا ومن الخوف من تعدي حدود هللا‪ ،‬كما‬
‫اس لَ َعلَّهُ ْم يَتَّقُ ونَ ﴾‬
‫ك ُح دُو ُد هللا فَاَل تَ ْق َربُوهَ ا َك َذلِكَ يُبَيِّنُ هللا آيَاتِ ِه لِلنَّ ِ‬
‫ق ال تع الى‪﴿ :‬تِلْ َ‬
‫[البقرة‪]187 :‬‬
‫وكما ورد في الحديث عن عائشة قالت‪ :‬قلت للنبى ‪ :‬حسبك من صفية كذا‬
‫وكذا‪ .‬ـ قال بعض الرواة‪ :‬تعنى قصيرة ـ فقال‪( :‬لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر‬
‫لمزجته)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا فإن الشفاعة هي جزاء خ اص بأعم ال خاص ة‪ ..‬وهي الق رب‬
‫من الشفيع‪ ،‬وتعظيمه ومحبته‪ ..‬وبذلك يستقيم األمر مع العدالة اإللهية؛ فالذي ع اش‬
‫حياته كلها محبا لرسول هللا ‪ ‬ذاب ا عن دين ه‪ ،‬حريص ا على قيم ه‪ ..‬لكن ه ـ كبش ر‬
‫يخطئ ويصيب ـ يقع في بعض الخطاي ا والهف وات‪ ..‬ال تي يحت اج أن يطه ر منه ا‪..‬‬
‫والتي يستحق العقوبة بسببها‪ ..‬وهنا تكون الشفاعة‪ ..‬ال الشفاعة المطلقة‪.‬‬
‫وهي تشبه في ذل ك ذل ك التلمي ذ ال ذي ال يح ول بين ه وبين النج اح إال بعض‬
‫النقاط القليلة‪ ،‬وحينها قد يتدخل بعض األساتذة إلنقاذه‪ ،‬فيشفع له‪ ،‬ويزكيه‪ ..‬ألخالق ه‬
‫أوال‪ ..‬ولكون تقصيره محدودا ثانيا‪.‬‬
‫وهذا المعنى هو الذي أشار إليه رسول هللا ‪ ‬في الحديث ال ذي رواه ربيع ة‬
‫بن كعب األسلمي قال‪ :‬كنت أبيت مع رسول هللا‪ ،‬فآتيه بوضوئه وبحاجته‪ ،‬فقال لي‪:‬‬
‫اسألني‪ ،‬فقلت‪ :‬إني أس ألك مرافقت ك في الجن ة‪ ،‬ق ال‪ :‬أو غ ير ذل ك‪ ،‬قلت‪ :‬ه و ذاك‪،‬‬
‫قال‪( :‬فأعني على نفسك بكثرة السجود)(‪)2‬‬
‫فالنبي ‪ ‬طلب أن يعينه على نفسه لتتحقق ش فاعته ل ه بمرافقت ه في الجن ة‪..‬‬
‫فالشفاعة تقتضي الجانبين جميعا الشافع والمشفوع‪ ..‬باإلضافة إلى أن هذا الرجل لم‬
‫يطلب شفاعة رسول هللا ‪ ‬بمرافقته في الجن ة إال لحب ه الش ديد ل ه‪ ..‬فه و لم يطلب‬
‫الجنة بذاتها‪ ،‬وإنما طلب مرافقة رسول هللا ‪ ‬فيها‪.‬‬
‫وهكذا ورد في الحديث (يا معشر قريش اش تروا أنفس كم‪ ،‬ال أغ ني عنكم من‬
‫هللا شيئا‪ ،‬يا بني عبد مناف‪ ،‬ال أغني عنكم من هللا شيئا‪ .‬ي ا عب اس بن عب د المطلب‪،‬‬
‫ال أغني عنك من هللا ش يئا‪ .‬وي ا ص فية عم ة رس ول هللا ‪ ،‬ال أغ ني عن ك من هللا‬
‫شيئا‪ .‬ويا فاطمة بنت محمد‪ ،‬سليني ما شئت من مالي‪ ،‬ال أغ ني عن ك من هللا ش يئا)‬
‫(‪)3‬‬
‫ولست أدري كيف يجتمع في العقول هذه األحاديث المتوافقة مع الق رآن‪ ،‬م ع‬

‫‪ )(1‬أبو داود (‪ ،4/269‬رقم ‪ ، )4875‬والترمذى (‪ ،4/660‬رقم ‪)2502‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم (‪ ،)489( )2/52‬وأبو داود رقم (‪ ، )1320‬و النسائي ‪.227 / 2‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ‪ ، 386 / 8‬ومسلم رقم (‪)206‬‬

‫‪270‬‬
‫تلك األحاديث المتوافقة مع التراث اليهودي والمسيحي‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الجزاء اإللهي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‬
‫من أهم القوانين التي ينبني عليها الكون‪ ،‬وال يمكن ألحد أن يجادل فيه ا‪ ،‬ألن‬
‫الجميع عاشها في نفسه‪ ،‬وشاهدها في غيره‪ ،‬وربما تألم لها م دة طويل ة من ال زمن‪،‬‬
‫وربما فرح لها كذلك‪ ،‬ما يمكن أن نطلق عليه [قانون الجزاء]‬
‫وهو قانون عام شامل يقر به كل العلماء‪ ،‬سواء اختصوا بعلوم المادة والكون‬
‫أو بما يطلق عليه العلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫فعلماء الفيزياء كلهم يتفقون على القانون الثالث من ق وانين الحرك ة ل نيوتن‪،‬‬
‫والذي ينص على العالقة بين الفعل ورد الفعل‪ ،‬أو ما يمكن أن نطلق عليه ـ بحس ب‬
‫المصطلح الذي اخترناه ـ [الفعل والجزاء]‬
‫أن لك ل ق وة فع ل ق وة رد فع ل مس اوية له ا في‬ ‫حيث ينص الق انون على ّ‬
‫فإن قوة ر ّد الفعل الناتجة من دفع‬
‫المقدار‪ ،‬ومعاكسة لها في االتجاه‪ ،‬وبناء على ذلك ّ‬
‫عربة لألمام مساوية لقوة الفعل الدافعة‪ ،‬ولكنها تكون باتجاه معاكس لتلك القوة‪.‬‬
‫وهكذا يذكر علماء النفس اآلثار الناتج ة عن المواق ف والس لوكات المختلف ة‪،‬‬
‫وخاصة تلك التي يم ر به ا اإلنس ان في ف ترة طفولت ه‪ ،‬وال تي ق د ت ؤثر على جمي ع‬
‫حياته‪ ..‬وهي بذلك نوع من الجزاء على تلك المواقف والسلوكات‪.‬‬
‫وهكذا يذكر علماء االجتم اع األع راف االجتماعي ة‪ ،‬وآثاره ا على المواق ف‬
‫المختلفة لكل مجتمع‪ ..‬وهم بذلك يعبرون عن الجزاء المتعلق بتلك االختيارات ال تي‬
‫اختارها المجتمع لنفسه‪.‬‬
‫وهكذا نجد اإلعالميين يذكرون عند حديثهم عن أركان العملية االتص الية م ا‬
‫يعبرون عنه بـ [رجع الص دى]‪ ،‬ويقص دون ب ه تقمص المس تقبل ل دور المرس ل أو‬
‫المصدر‪ ،‬نتيجة لآلثار التي أحدثتها فيه رسالة المرسل‪ ..‬والمرسل يستدل بذلك على‬
‫أن الرسالة التي قام بإرسالها لتحقيق هدف معين‪ ،‬قد وص لت إلى الغاي ة المنش ودة‪،‬‬
‫ويعرف من خالله مدى قبولها ورفضها‪.‬‬
‫وهكذا نجد الجزاء في كل عمل نق وم ب ه‪ ،‬ف إن وض ع أح دنا ي ده على التي ار‬
‫الكهربائي‪ ،‬أحس بأثره عليه‪ ،‬وربما يصعق لذلك‪ ،‬بحس ب ق وة ذل ك التي ار‪ ،‬وربم ا‬
‫يحدث فيه إعاقة طويلة أو دائمة‪ ،‬مع كون ذل ك المس لم يس تغرق من ه س وى ث وان‬
‫معدودة‪.‬‬
‫وبناء على هذا كله فإن العقل يقر بمعقولية الجزاء‪ ،‬وأنه شيء طبيعي‪ ،‬ولهذا‬
‫يحكم بالغفلة والبله ال على تلك الق وانين ال تي تس ير به ا الطبيع ة والمجتم ع‪ ،‬وإنم ا‬
‫على الش خص ال ذي يري د أن ين ال ج زاء أعم ال لم يقم به ا‪ ،‬أو يتف ادى عقوب ات‬
‫ألعمال قام بها‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫ولهذا نسمع جميعا تلك العبارة التي تق ول [الق انون ال يحمي المغفلين]‪ ،‬وه و‬
‫يعني بذلك أن قوانين العقوبات التي وض عها البش ر لم ا رأوه فيه ا من المص لحة ال‬
‫تحمي الجاهلين بها‪ ،‬ما دامت ق د نش رت على ال رأي الع ام‪ ،‬وس معها الجمي ع؛ ف إن‬
‫تذرع أحد بالجهل بها‪ ،‬لم يعذر بجهله‪.‬‬
‫وبناء على ه ذا اتفقت األدي ان جميع ا على وج ود [الج زاء اإللهي] الخ اص‬
‫بأعمال الدنيا‪ ،‬وخاصة تلك التي لم ينل أص حابها أي ج زاء‪ ،‬تطبيق ا ل ذلك الق انون‪،‬‬
‫وتعميما له‪.‬‬
‫بل إن كل من بحث في المعاد من الفالسفة وغيرهم اعتبر قانون الج زاء من‬
‫أكبر القوانين الدالة على المعاد‪ ،‬وخاصة ألولئك الذين يؤمنون باهلل‪ ،‬وق د ق ال ب ديع‬
‫الزمان النورسي في بعض إشاراته لذلك‪( :‬أمن الممكن لربّ هذا العالم ومالكه الذي‬
‫أظهر بآثاره كرما بال نهاية‪ ،‬ورحمة بال نهاية‪ ،‬وعزة بال نهاي ة‪ ،‬وغ يرة بال نهاي ة‪،‬‬
‫أن ال يق ّدر مثوبةً تليق بكرمه ورحمت ه للمحس نين‪ ،‬وال يق رر عقوب ةً تناس ب عزت ه‬
‫وغيرته للمسيئين)(‪)1‬‬
‫ويق ول في إش ارة أخ رى‪( :‬أمن الممكن لخ الق ذي جـالل أظه ر ســـلطان‬
‫ربــوبـيـتـه بتـدبيـر قـانــون الوجــود ابـتــداء من الذرات وانتهاء بالمجرات‪ ،‬بغاي ة‬
‫الحكمة والنـظام وبمنتهى العدالـة والم يزان‪ ..‬أن ال يعا ِم ل باإلحســان من احتـموا‬
‫بتـلك الربوبيـة‪ ،‬وانق ادوا لتل ك الحكم ة والعدال ة‪ ،‬وأن ال يج ازي أولئـك الذيــن‬
‫عصـوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمةَ والعدالــة‪ ..‬بينما اإلنسان ال يَلقى م ا يس تحقه‬ ‫َ‬
‫من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة‬
‫إالّ نادرا‪ ،‬بل يؤ َّخر‪ ،‬إذ يرح ل أغلبُ أه ل الض اللة دون أن يلق وا عق ابهم‪ ،‬وي ذهب‬
‫أكث ُر أه ل الهداي ة دون أن ين الوا ث وابهم‪ ..‬فالب د أن تُن اط القض يةُ بمحكم ة عادل ة‪،‬‬
‫وبلقا ٍء آيل إلى سعادة عظمى) (‪)2‬‬
‫ولذلك فإن الفطرة السليمة التي ترى الجزاء أمامها في كل شيء‪ ..‬بل ال ترى‬
‫حياتها إال ثمرة للتصرفات التي تقوم بها‪ ،‬ال تستبعد وجود دار خاصة للج زاء‪ ،‬ألن‬
‫الذي أبدع الدنيا هو نفسه الذي أبدع األخرى‪ ،‬والقوانين في الجميع ثابتة‪.‬‬
‫بل إن الفطرة السليمة يمكنه ا أن تكتش ف أن واع الج زاء المع دة في اآلخ رة‪،‬‬
‫وكونها متناسبة تماما مع أعمال الدنيا‪..‬ولذلك يمكنها أن تعرف أن هناك جنة أو دار‬
‫جزاء للمحسنين‪ ،‬كما أن هناك نارا‪ ،‬أو دار جزاء للمسيئين‪.‬‬
‫ويمكنها أن تكتشف أن كال الدارين مختلف تين في الم راتب‪ ،‬وأن واع الج زاء‪،‬‬
‫وذلك بحسب األعمال التي قام بها من جوزي بتلك األنواع من األجزية‪.‬‬
‫وهذا كله ما ت ذكره المص ادر المقدس ة لألدي ان جميع ا‪ ،‬وال تي تتف ق على أن‬
‫عدالة هللا ورحمته وتربيته لخلقه تقتضي وجود محل خاص للجزاء‪ ،‬أو زمن خاص‬

‫‪ )(1‬الكلمات ‪ ،‬ص ‪..67‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪..70‬‬

‫‪273‬‬
‫به‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الكت اب المق دس‪ ،‬س واء ذل ك ال ذي يعتم ده‬
‫المسيحيون فقط‪ ،‬أو يعتمده معهم اليهود‪ ،‬فقد ورد في (جامعة ‪( :)9 :11‬اِ ْف َرحْ أَيُّهَ ا‬
‫ق قَ ْلبِ كَ َوبِ َم رْ أَى‬ ‫ك فِي أَي َِّام َشبَابِكَ َوٱ ْس لُ ْك فِي طَ ِري ِ‬ ‫ك قَ ْلبُ َ‬ ‫ك‪َ ،‬و ْليَ ُس َّر َ‬ ‫ٱل َّشابُّ في َحدَاثَتِ َ‬
‫ك ٱهّٰلل ُ إِلَى ٱل َّد ْينُونَ ِة)‬ ‫ور ُكلِّهَا يَأْتِي بِ َ‬ ‫ُ‬
‫ك‪َ ،‬وٱ ْعلَ ْم أَنَّهُ َعلَى ٰه ِذ ِه ٱأل ُم ِ‬ ‫َع ْينَ ْي َ‬
‫هّٰلل‬
‫ض ُر ُك َّل َع َم ٍل إِلَى ٱل َّد ْينُونَ ِة‪َ ،‬علَى ُك ِّل‬ ‫وفي (جامعة ‪( :)14 :12‬ألَ َّن ٱ َ يُحْ ِ‬
‫خَ فِ ٍّي‪ ،‬إِ ْن َكانَ َخيْراً أَوْ َش ّراً)‬
‫ض يَ ْستَ ْيقِظُونَ ‪،‬‬ ‫ب ٱألَرْ ِ‬ ‫(و َكثِيرُونَ ِمنَ ٱلرَّاقِ ِدينَ فِي تُ َرا ِ‬ ‫وفي (دانيال ‪َ :)2 :12‬‬
‫ي)‬ ‫ار لِل ِٱ ْز ِد َرا ِء ٱألَبَ ِد ِّ‬
‫هَ ُؤالَ ِء إِلَى ٱ ْل َحيَا ِة ٱألَبَ ِديَّ ِة َوهَ ُؤالَ ِء إِلَى ٱ ْل َع ِ‬
‫َان‬‫ك يَ د ِ‬ ‫وفي (مرقس ‪َ ( :)43 :9‬خ ْي ٌر لَكَ أَ ْن تَ ْد ُخ َل ٱ ْل َحيَاةَ أَ ْقطَ َع ِم ْن أَ ْن تَ ُكونَ لَ َ‬
‫طفَأُ)‬‫ار ٱلَّتِي الَ تُ ْ‬ ‫ض َي إِلَى َجهَنَّ َم‪ ،‬إِلَى ٱلنَّ ِ‬ ‫َوتَ ْم ِ‬
‫وفي (متّى ‪( :)8 :18‬فَإِ ْن أَ ْعثَ َر ْتكَ يَ ُدكَ أَوْ ِرجْ لُكَ فَا ْقطَ ْعهَا َوأَ ْلقِهَا عَنْكَ ‪ .‬خَيْ ٌر‬
‫َان أَوْ‬
‫ار ٱألَبَ ِديَّ ِة َولَ كَ يَ د ِ‬ ‫ك أَ ْن تَ ْد ُخ َل ٱ ْل َحيَ اةَ أَعْ َر َج أَوْ أَ ْقطَ َع ِم ْن أَ ْن تُ ْلقَى فِي ٱلنَّ ِ‬ ‫لَ َ‬
‫ِرجْ الَ ِن)‬
‫ال‪:‬‬ ‫ب ٱ ْل َمجْ َم ِع‪َ ،‬و َم ْن قَ َ‬ ‫ال ألَ ِخي ِه‪َ :‬رقَا يَ ُكونُ ُم ْستَوْ ِج َ‬ ‫وفي (متّى ‪َ ( :)22 :5‬م ْن قَ َ‬
‫َار َجهَنَّ َم)‬ ‫بن ِ‬ ‫ق يَ ُكونُ ُم ْستَوْ ِج َ‬ ‫يَا أَحْ َم ُ‬
‫اس ٌع ٱ ْلبَ ابُ َو َرحْ بٌ‬ ‫ِّق‪ ،‬ألَنَّهُ َو ِ‬ ‫لض ي ِ‬‫ب ٱ َّ‬ ‫وفي (متّى ‪( :)13 :7‬اُ ْد ُخلُ وا ِمنَ ٱ ْلبَ ا ِ‬
‫ك‪َ ،‬و َكثِيرُونَ هُ ُم ٱلَّ ِذينَ يَ ْد ُخلُونَ ِم ْنهُ!)‬ ‫ق ٱلَّ ِذي يُ َؤدِّي إِلَى ٱ ْلهَالَ ِ‬ ‫ٱلطَّ ِري ُ‬
‫(و ٰل ِك ْن أَقُ و ُل لَ ُك ْم‪ :‬إِ َّن ُك َّل َكلِ َم ٍة بَطَّالَ ٍة يَتَ َكلَّ ُم بِهَ ا‬ ‫وفي (متّى ‪ 36 :12‬و‪َ :)37‬‬
‫ِّين‪ .‬ألَنَّكَ بِ َكالَ ِمكَ تَتَبَ َّر ُر َوبِ َكالَ ِمكَ تُ َدانُ )‬ ‫ٱلنَّاسُ َسوْ فَ يُ ْعطُونَ َع ْنهَا ِح َسابا ً يَوْ َم ٱلد ِ‬
‫ت أَ ْس فَارٌ‪َ .‬وٱ ْنفَت ََح ِس ْف ٌر آ َخ ُر هُ َو ِس ْف ُر‬ ‫(وٱ ْنفَت ََح ْ‬ ‫وفي (رؤي ا ‪ 12 :20‬و‪َ :)13‬‬
‫ب أَ ْع َم الِ ِه ْم‪َ ..‬و ِدينُ وا ُك لُّ‬ ‫ار بِ َح َس ِ‬ ‫ات ِم َّما هُ َو َم ْكتُ وبٌ فِي ٱألَ ْس فَ ِ‬ ‫ٱ ْل َحيَا ِة‪َ ،‬و ِدينَ ٱألَ ْم َو ُ‬
‫ب أَ ْع َمالِ ِه)‬
‫َوا ِح ٍد بِ َح َس ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ارنَ ا بَعْ َد َما أ َخ ذنَا‬ ‫وفي (عبران يين ‪ 26 :10‬و‪( :)27‬فَإِنَّهُ إِ ْن أ ْخطَأنَ ا بِٱ ْختِيَ ِ‬
‫ف‪َ ،‬وغَيْ َرةُ نَ ٍ‬
‫ار‬ ‫ْرفَةَ ٱ ْل َحقِّ‪ ،‬الَ تَ ْبقَى بَ ْع ُد َذبِي َحةٌ َع ِن ٱ ْلخَ طَايَا‪ ،‬بَلْ قُبُو ُل َد ْينُونَ ٍة ُم ِخي ٌ‬ ‫َمع ِ‬
‫ضا ِّدينَ )‪.‬‬ ‫َعتِي َد ٍة أَ ْن تَأْ ُك َل ٱ ْل ُم َ‬
‫ص نَ َع‬ ‫ِّيس ي ِه لِيَ ْ‬
‫ت قِد ِ‬ ‫وفي (يه وذا ‪ 14‬و‪( :)15‬هُ َو َذا قَ ْد َج ا َء ٱل رَّبُّ فِي َربَ َوا ِ‬
‫ُور ِه ُم ٱلَّتِي فَ َج رُوا‬ ‫ال فُج ِ‬ ‫يع أَ ْع َم ِ‬ ‫َّار ِه ْم َعلَى َج ِم ِ‬ ‫ب َج ِمي َع فُج ِ‬ ‫يع‪َ ،‬ويُ َعاقِ َ‬ ‫َد ْينُونَةً َعلَى ٱ ْل َج ِم ِ‬
‫ص ْعبَ ِة ٱلَّتِي تَ َكلَّ َم بِهَا َعلَ ْي ِه ُخطَاةٌ فُجَّارٌ)‬ ‫ت ٱل َّ‬ ‫يع ٱ ْل َكلِ َما ِ‬ ‫بِهَا‪َ ،‬و َعلَى َج ِم ِ‬
‫وهكذا نجد نفس المعاني في الق رآن الك ريم‪ ،‬ولكن بلغ ة أك ثر دق ة وتفص يال‬

‫‪274‬‬
‫ووض وحا‪ ،‬ومن أمثلته ا قول ه تع الى في الجم ع بين ج زاء المحس نين والمس يئين‪،‬‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر‬ ‫وبيان أسباب استحقاقهم له‪ ﴿ :‬فَأَثَابَهُ ُم هَّللا ُ بِ َم ا قَ الُوا َجنَّا ٍ‬
‫ك‬ ‫خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َو َذلِ كَ َج زَ ا ُء ْال ُمحْ ِس نِينَ (‪َ )85‬والَّ ِذينَ َكفَ رُوا َو َك َّذبُوا بِآيَاتِنَ ا أُولَئِ َ‬
‫أَصْ َحابُ ْال َج ِح ِيم﴾ [المائدة‪]86 ،85 :‬‬
‫أو قوله في بيان جزاء المسيئين وأسبابه‪َ ﴿:‬وقَالُوا اَل تَ ْنفِرُوا فِي ْال َح ِّر قُ لْ نَ ا ُر‬
‫َجهَنَّ َم أَ َش ُّد َح ًّرا لَوْ َكانُوا يَ ْفقَهُونَ (‪ )81‬فَ ْليَضْ َح ُكوا قَلِياًل َو ْليَ ْب ُكوا َكثِيرًا َجزَ ا ًء بِ َما َكانُوا‬
‫يَ ْك ِس بُونَ ﴾ [التوب ة‪ ،]82 ،81 :‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬س يَحْ لِفُونَ بِاهَّلل ِ لَ ُك ْم إِ َذا ا ْنقَلَ ْبتُ ْم إِلَ ْي ِه ْم‬
‫ض وا َع ْنهُ ْم إِنَّهُ ْم ِرجْ سٌ َو َم أْ َواهُ ْم َجهَنَّ ُم َج زَ ا ًء بِ َم ا َك انُوا‬ ‫ض وا َع ْنهُ ْم فَأ َ ْع ِر ُ‬ ‫ْر ُ‬ ‫لِتُع ِ‬
‫ْ‬
‫ت َج َزا ُء َسيِّئَ ٍة بِ ِمثلِهَا َوتَ رْ هَقُهُ ْم‬ ‫َّ‬
‫﴿وال ِذينَ َك َسبُوا ال َّسيِّئَا ِ‬ ‫يَ ْك ِسبُونَ ﴾ [التوبة‪ ،]95 :‬وقال‪َ :‬‬
‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ت ُو ُج وهُهُ ْم قِطَعًا ِمنَ الليْ ِل ُمظلِمًا أولَئِ َ‬ ‫ُ‬
‫ص ٍم َكأَنَّ َما أ ْغ ِش يَ ْ‬ ‫ِذلَّةٌ َما لَهُ ْم ِمنَ هَّللا ِ ِم ْن عَا ِ‬
‫ص ادًا (‬ ‫َت ِمرْ َ‬ ‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [يونس‪ ،]27 :‬وقول ه‪ ﴿ :‬إِ َّن َجهَنَّ َم َك ان ْ‬ ‫أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫اغينَ َمآبًا (‪ )22‬اَل بِثِينَ فِيهَا أَحْ قَابًا (‪ )23‬اَل يَ ُذوقُونَ فِيهَ ا بَ رْ دًا َواَل َش َرابًا (‬ ‫‪ )21‬لِلطَّ ِ‬
‫‪ )24‬إِاَّل َح ِمي ًما َو َغسَّاقًا (‪َ )25‬جزَ ا ًء ِوفَاقًا (‪ )26‬إِنَّهُ ْم َك انُوا اَل يَرْ ُج ونَ ِح َس ابًا (‪)27‬‬
‫َو َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا ِك َّذابًا ﴾ [النبأ‪ ،]28 - 21 :‬وقال‪ ﴿ :‬فَلَنُ ِذيقَ َّن الَّ ِذينَ َكفَ رُوا َع َذابًا َش ِديدًا‬
‫َولَنَجْ ِزيَنَّهُ ْم أَ ْس َوأَ الَّ ِذي َكانُوا يَ ْع َملُ ونَ (‪َ )27‬ذلِ كَ َج زَ ا ُء أَعْ دَا ِء هَّللا ِ النَّا ُر لَهُ ْم فِيهَ ا دَا ُر‬
‫ْال ُخ ْل ِد َج َزا ًء بِ َما َكانُوا بِآيَاتِنَا يَجْ َح ُدونَ ﴾ [فصلت‪]28 ،27 :‬‬
‫ان إِاَّل اإْل ِ حْ َسانُ ﴾‬ ‫أو قوله في بيان جزاء المحسنين وأسبابه‪ ﴿:‬هَلْ َج َزا ُء اإْل ِ حْ َس ِ‬
‫[الرحمن‪ ،]60 :‬وهو القانون اإللهي الذي يسري على كل شيء في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫وهو يتضمن عكسه أيضا‪ ،‬فال ج زاء لإلس اءة إال اإلس اءة‪َ ﴿ ،‬ج زَ ا ًء ِوفَاقًا ﴾ [النب أ‪:‬‬
‫‪]26‬‬
‫وقال يصف بعض ذلك الجزاء‪ ،‬وتوافقه مع أن واع العم ل الص الح‪﴿:‬إِ َّن الَّ ِذينَ‬
‫ص َحابُ‬ ‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ زَ نُ ونَ (‪ )13‬أُولَئِ كَ أَ ْ‬ ‫اس تَقَا ُموا فَاَل َخ وْ ٌ‬ ‫قَالُوا َربُّنَا هَّللا ُ ثُ َّم ْ‬
‫ك‬ ‫ْال َجنَّ ِة خَالِ ِدينَ فِيهَا َج َزا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [األحقاف‪ ،]14 ،13 :‬وقال‪﴿ :‬قُ لْ أَ َذلِ َ‬
‫ص يرًا (‪ )15‬لَهُ ْم فِيهَ ا َم ا‬ ‫َت لَهُ ْم َج َزا ًء َو َم ِ‬ ‫خَ ْي ٌر أَ ْم َجنَّةُ ْال ُخ ْل ِد الَّتِي ُو ِع َد ْال ُمتَّقُ ونَ َك ان ْ‬
‫ك َوعْ دًا َم ْس ئُواًل ﴾ [الفرق ان‪ ،]16 ،15 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬و َم ا‬ ‫يَ َشاءُونَ خَالِ ِدينَ َكانَ َعلَى َربِّ َ‬
‫ص الِحًا فَأُولَئِ كَ لَهُ ْم‬ ‫أَ ْم َوالُ ُك ْم َواَل أَوْ اَل ُد ُك ْم بِالَّتِي تُقَ ِّربُ ُك ْم ِع ْن َدنَا ُز ْلفَى إِاَّل َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ‬
‫﴿والَّ ِذي َج ا َء‬ ‫ت آ ِمنُونَ ﴾ [س بأ‪ ،]37 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫ْف بِ َما َع ِملُوا َوهُ ْم فِي ْال ُغ ُرفَا ِ‬ ‫ضع ِ‬ ‫َجزَ ا ُء ال ِّ‬
‫ك َج زَ ا ُء‬ ‫ك هُ ُم ْال ُمتَّقُونَ (‪ )33‬لَهُ ْم َم ا يَ َش اءُونَ ِعنْ َد َربِّ ِه ْم َذلِ َ‬ ‫ق بِ ِه أُولَئِ َ‬ ‫ص َّد َ‬‫ق َو َ‬ ‫ص ْد ِ‬
‫بِال ِّ‬
‫ْال ُمحْ ِس نِينَ (‪ )34‬لِيُكف َر ُ َعنهُ ْم أ ْس َوأ ال ِذي َع ِمل وا َويَجْ ِزيَهُ ْم أجْ َرهُ ْم بِأحْ َس ِن ال ِذي‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [الزمر‪ ،]35 - 33 :‬وقال‪ ﴿ :‬إِ َّن هَ َذا َك انَ لَ ُك ْم َج زَ ا ًء َو َك انَ َس ْعيُ ُك ْم‬
‫َم ْش ُكورًا﴾ [اإلنسان‪]22 :‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي نرى فيها التفاصيل الكثيرة المرتبطة بأنواع‬
‫الجزاء‪ ،‬وأنواع األعمال المسببة لها‪ ،‬مما ال نجد مثله في أي مص در من المص ادر‬
‫المقدسة‪.‬‬
‫وبناء على ما تصوره النصوص المقدسة لك ل األدي ان يمكن اعتب ار مرحل ة‬

‫‪275‬‬
‫الجزاء هي المرحلة األخيرة التي نعلمها(‪ )1‬من المراحل التي يمر به ا اإلنس ان‪ ،‬أو‬
‫يمكن اعتبارها نشأة جديدة‪ ،‬ألن جسد اإلنسان وقدراته في تلك النشأة تختلف ج ذريا‬
‫عن هذه النشأة‪ ،‬أو حتى على النشآت التي يمر بها في ال برزخ والموق ف وغيره ا‪،‬‬
‫والتي قد ينال فيه ا بعض أل وان الج زاء‪ ،‬ولكنه ا ليس ت مث ل تل ك ال تي يناله ا ي وم‬
‫الجزاء‪ ،‬وفي دار الجزاء‪.‬‬
‫ولذلك سمى هللا تعالى ذلك الجزاء بكونه الجزاء األوفى‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬أ ْمَ‬
‫از َرةٌ ِو ْز َر‬ ‫بْرا ِهي َم الَّ ِذي َوفَّى (‪ )37‬أَاَّل تَ ِز ُر َو ِ‬ ‫ُف ُمو َسى (‪َ )36‬وإِ َ‬ ‫صح ِ‬ ‫لَ ْم يُنَبَّأْ بِ َما فِي ُ‬
‫ان إِاَّل َما َس َعى (‪َ )39‬وأَ َّن َس ْعيَهُ َس وْ فَ يُ َرى (‪ )40‬ثُ َّم‬ ‫أُ ْخ َرى (‪َ )38‬وأَ ْن لَي َ‬
‫ْس لِإْل ِ ْن َس ِ‬
‫يُجْ َزاهُ ْال َج َزا َء اأْل َوْ فَى (‪[ ﴾ )41‬النجم‪]42 - 36 :‬‬
‫وهذه اآليات الكريمة تشير إلى أن ه ذا الق انون ك ان مبثوث ا في جمي ع الكتب‬
‫المقدسة‪ ،‬وكان األنبياء جميعا يبشرون به‪ ،‬حتى تقوم الحجة بذلك على الخلق‪.‬‬
‫وقد أخبر هللا تعالى عن إبراهيم عليه السالم أنه قال في خطابه ألبيه‪ ﴿ :‬يَاأَبَ ِ‬
‫ت‬
‫ان َولِيًّا ﴾ [مريم‪]45 :‬‬ ‫ك َع َذابٌ ِمنَ الرَّحْ َم ِن فَتَ ُكونَ لِل َّش ْيطَ ِ‬ ‫إِنِّي أَخَافُ أَ ْن يَ َم َّس َ‬
‫وأخبر عن مقالة مؤمن آل فرع ون لقوم ه في خطاب ه ال ذي وجه ه لعق ولهم‪،‬‬
‫َّش ا ِد (‪ )38‬يَ اقَوْ ِم إِنَّ َم ا‬ ‫ُون أَ ْه ِد ُك ْم َسبِ َ‬
‫يل الر َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقَا َل الَّ ِذي آ َمنَ يَاقَوْ ِم اتَّبِع ِ‬
‫ار (‪َ )39‬م ْن َع ِم َل َس يِّئَةً فَاَل يُجْ زَى‬ ‫ع َوإِ َّن اآْل ِخ َرةَ ِه َي دَا ُر ْالقَ َر ِ‬ ‫هَ ِذ ِه ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا َمتَا ٌ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ص الِحًا ِم ْن َذ َك ٍر أَوْ أ ْنثَى َوهُ َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأولَئِ كَ يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ‬ ‫إِاَّل ِم ْثلَهَ ا َو َم ْن َع ِم َل َ‬
‫ب﴾ [غافر‪]40 - 38 :‬‬ ‫يُرْ َزقُونَ فِيهَا بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫ُ‬
‫ب ل أخ بر أن االبن الص الح ق ال ألخي ه عن دما هم بقتل ه‪﴿ :‬إِنِّي أ ِري ُد أَ ْن تَبُ و َء‬
‫ار َو َذلِكَ َجزَ ا ُء الظَّالِ ِمينَ ﴾ [المائدة‪]29 :‬‬ ‫ب النَّ ِ‬ ‫ك فَتَ ُكونَ ِم ْن أَصْ َحا ِ‬ ‫بِإِ ْث ِمي َوإِ ْث ِم َ‬
‫وهكذا نجد الحديث عن الجزاء اإللهي ركنا أساسيا في دعوات الرس ل عليهم‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬ولذلك سموا مبشرين ومنذرين‪ ..‬ذل ك أن التبش ير ب الجزاء اإللهي‬
‫للمحسنين‪ ،‬واإلنذار اإللهي للمسيئين‪ ،‬من الضرورات التي تقتضيها العدال ة إلقام ة‬
‫الحجة‪ ،‬ورفع كل ذرائع الجهل بالقوانين اإللهية‪.‬‬
‫وقد سبق أن ذكرنا بأن أولئك الذين لم تتح لهم ه ذه الفرص ة في ه ذه النش أة‪،‬‬
‫إما لقصورهم ونقصهم ومرضهم‪ ،‬أو لعدم سماعهم ب المبلغين عن هللا‪ ،‬أو لس ماعهم‬
‫ذلك التبليغ بطريقة غير صحيحة‪ ،‬ستتاح لهم فرص ة أخ رى لالمتح ان ح تى ين الوا‬
‫جزاءهم الخاص ب ه‪ ..‬ذل ك أن الج زاء ال يك ون إال على االختي ارات ال تي تبرزه ا‬
‫األعمال‪.‬‬
‫بناء على هذا كله سنتحدث في هذا الفصل عم ا ورد في النص وص المقدس ة‬
‫من أن واع الج زاء‪ ،‬وعالقته ا بالرحم ة والعدال ة اإللهي ة‪ ،‬وغيره ا من الص فات‬
‫واألسماء‪.‬‬
‫وقد رأينا أنه يمكن تصنيفها إلى صنفين‪:‬‬
‫‪ )(1‬فحسب قوله تعالى‪ ﴿ :‬ثُ َّم يُجْ زَ اهُ ْال َجزَ ا َء اأْل َوْ فَى (‪َ )41‬وأَنَّ إِلَى َربِّكَ ْال ُم ْنتَهَى﴾ [النجم‪ ،]42 ،41 :‬يوجد نشآت‬
‫أخرى تلي نشأة الجزاء‪ ..‬ألن السير التكاملي التصاعدي للتعرف على هللا والتواصل معه ال نهاية لها‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫‪ 1‬ـ الجزاء المعنوي أو الروحي‪ ،‬ونري د ب ه م ا ورد في النص وص المقدس ة‬
‫من ذكر الرضى والفرح والسعادة والتواصل مع هللا‪ ،‬والتي تتاح أله ل الجن ة‪ ،‬وم ا‬
‫ورد فيها من عكس ذلك من العقوبات التي يعاقب بها أهل النار‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الج زاء الحس ي‪ :‬ونري د ب ه أص ناف النعيم والع ذاب المع د في اآلخ رة‬
‫للمحسنين أو المسيئين بحسب مراتبهم‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر ذلك نخاطب العقول التي تشكك في ذلك‪ ،‬أو تش كك خصوص ا‬
‫في العقاب اإللهي بأن تنظر إلى الواق ع بعين واقعي ة ال مثالي ة ل ترى كال الج زائين‬
‫موجودين في هذه الدار‪ ،‬ولذلك ال يستغرب أن يوجد في تلك الدار ما يوجد في ه ذه‬
‫الدار‪.‬‬
‫أما التفكير الرغبوي‪ ،‬والذي يملي فيه العبد على ربه ما يش اء من أه واء‪ ،‬أو‬
‫يقترح عليه ما يشاء من جزاء‪ ،‬فإن هذا النوع من التفك ير‪ ،‬وإن أعجب أه ل ال دنيا‪،‬‬
‫وصفقوا لصاحبه‪ ،‬فإنه ال يبدل شيئا من الحقيقة‪ ،‬وهو في أحس ن أحوال ه يش به تل ك‬
‫األم اني ال تي يم ني به ا المجرم ون أنفس هم من تخفي ف العقوب ة أو رفعه ا‪ ،‬ح تى‬
‫يستطيعوا أن يمارسوا جرائمهم براحة بال‪.‬‬
‫ط َم ُع ُك لُّ‬ ‫ولهذا يرد هللا تعالى على أصحاب هذا النوع من التفك ير بقول ه‪﴿ :‬أَيَ ْ‬
‫ئ ِم ْنهُ ْم أَ ْن يُدْخَ َل َجنَّةَ نَ ِع ٍيم (‪َ )38‬كاَّل إِنَّا خَ لَ ْقنَاهُ ْم ِم َّما يَ ْعلَ ُم ونَ ﴾ [المع ارج‪،38 :‬‬ ‫ا ْم ِر ٍ‬
‫‪]39‬‬
‫ْس‬ ‫ويذكر لهم القانون المتعلق بذلك‪ ،‬والذي يسري على كل األمم‪ ،‬فيقول‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫ُون هَّللا ِ َولِيًّا‬ ‫بِأ َ َمانِيِّ ُك ْم َواَل أَ َمانِ ِّي أَ ْه ِل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب َم ْن يَ ْع َملْ سُو ًءا يُجْ َز بِ ِه َواَل يَ ِج ْد لَ هُ ِم ْن د ِ‬
‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت ِم ْن َذ َك ٍر أَوْ أ ْنثَى َوهُ َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأولَئِ َ‬ ‫َصيرًا (‪َ )123‬و َم ْن يَ ْع َملْ ِمنَ الصَّالِ َحا ِ‬ ‫َواَل ن ِ‬
‫ُظلَ ُمونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء‪]124 ،123 :‬‬ ‫يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َواَل ي ْ‬
‫ُ‬
‫ال أَل وتَيَ َّن َمااًل َو َولَ دًا‬ ‫ويذكر نموذجا لهم‪ ،‬فيقول‪﴿ :‬أَفَ َرأَيْتَ الَّ ِذي َكفَ َر بِآيَاتِنَا َوقَ َ‬
‫ْب أَ ِم اتَّخَ َذ ِع ْن َد الرَّحْ َم ِن َع ْهدًا (‪َ )78‬كاَّل َسنَ ْكتُبُ َما يَقُو ُل َونَ ُم ُّد لَهُ ِمنَ‬ ‫(‪ )77‬أَطَّلَ َع ْال َغي َ‬
‫ْ‬
‫ب َم ًّدا (‪َ )79‬ون َِرثُهُ َما يَقُو ُل َويَأتِينَا فَرْ دًا ﴾ [مريم‪]80 - 77 :‬‬ ‫ْال َع َذا ِ‬
‫وقد ورد في الحديث ذكر ه ذا النم وذج‪ ،‬والطريق ة ال تي يفك ر به ا‪ ،‬وهي ال‬
‫تختلف كثيرا عن أصحاب التفكير الرغبوي الذي أشرنا إلي ه‪ ،‬وال ذين ينتش رون في‬
‫كل األزمنة‪ ،‬ويلبسون لكل زمان لباسه الخاص به‪ ،‬فعن خباب بن األرت قال‪ :‬كنت‬
‫رجال قين ا‪ ،‬وك ان لي على الع اص بن وائ ل دين‪ ،‬فأتيت ه أتقاض اه‪ .‬فق ال‪ :‬ال وهللا ال‬
‫أقض يك ح تى تكف ر بمحم د ‪ ‬فقلت‪ :‬ال وهللا ال أكف ر بمحم د ‪ ‬ح تى تم وت ثم‬
‫تبعث‪ .‬قال‪ :‬فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد‪ ،‬فأعطيتك(‪.)1‬‬
‫أوال ـ الجزاء المعنوي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪:‬‬
‫يت وهم الكث ير ممن يس مع الخطب اء والوع اظ وح ديثهم عن أن واع الج زاء‬
‫اإللهي المعد للمحسنين والمسيئين في دار الجزاء‪ ،‬أنه مجرد جزاء حسي قد ينس جم‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري رقم (‪ )4735 ،4734( ، )2091‬ورواه مسلم برقم (‪)2795‬‬

‫‪277‬‬
‫مع الرغبات الحسية لعوام الناس وبسطائهم‪ ،‬لكنه ال ينسجم مع الفالسفة والمفك رين‬
‫والعلماء والصوفية وغيرهم من أصحاب المشارب العقلية أو العلمية أو الروحية‪.‬‬
‫وهذا غير صحيح‪ ،‬ذل ك أن ال ذي وف ر ه ذه المع اني في ال دنيا‪ ،‬ووف ر معه ا‬
‫الرغبات الداعية إليها‪ ،‬هو نفسه ال ذي خل ق اآلخ رة‪ ،‬واعتبره ا دار الج زاء اإللهي‬
‫الذي ينسجم مع الفطر والطبائع المختلفة‪.‬‬
‫ولذلك نرى القرآن الكريم يذكر هذه الناحية من الجزاء‪ ،‬بل يقدمها في أحي ان‬
‫كثيرة على الجزاء الحسي‪ ،‬باعتب ار أن الس عادة أو الش قاء المرتب ط بهم ا أعظم من‬
‫السعادة أو الشقاء المرتبط بالجزاء الحسي‪.‬‬
‫ولهذا عندما ذكر هللا المقربين العارفين ب ربهم الس اجدين بك ل كي انهم ل ه‪ ،‬لم‬
‫يذكر التفاص يل الكث يرة المرتبط ة ب الجزاء الخ اص بهم‪ ،‬وإنم ا ق ال‪ ﴿ :‬إِنَّ َم ا يُ ْؤ ِمنُ‬
‫بِآيَاتِنَا الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِّكرُوا بِهَا خَرُّ وا ُس َّجدًا َو َسبَّحُوا بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوهُ ْم اَل يَ ْس تَ ْكبِرُونَ (‪)15‬‬
‫اج ِع يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم خَ وْ فًا َوطَ َمعًا َو ِم َّما َر َز ْقنَ اهُ ْم يُ ْنفِقُ ونَ ﴾‬ ‫ض ِ‬ ‫تَت ََجافَى ُجنُوبُهُ ْم ع َِن ْال َم َ‬
‫[الس جدة‪ ،]16 ،15 :‬وه ذا ي دل على ت وجههم ال روحي العظيم هلل‪ ،‬وله ذا ك ان‬
‫جزاؤهم متناسبا مع ذلك التوجه‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َم ا أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن‬
‫قُ َّر ِة أَ ْعيُ ٍن َج َزا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [السجدة‪]17 :‬‬
‫وهذا يعني أنه يتاح لهؤالء في الجن ة التج ول في ع والم الملك وت المختلف ة‪،‬‬
‫والتعرف على أسرار خلق هللا البديع‪ ،‬للمزيد من اإليمان والطمأنينة والمعرفة باهلل‪،‬‬
‫ذلك أن الذي أتاح هذا ألنبيائه في الدنيا‪ ،‬يمكنه أن يتيحها لهم في ال دار اآلخ رة‪ ،‬ب ل‬
‫هو من أعظم جزائهم‪.‬‬
‫ك‬‫وقد ذكر هللا تعالى أنه أتاح هذا الجزاء إلبراهيم عليه السالم‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َك َذلِ َ‬
‫ض َولِيَ ُك ونَ ِمنَ ْال ُم وقِنِينَ ﴾ [األنع ام‪،]75 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫نُ ِري إِبْ َرا ِهي َم َملَ ُك وتَ َّ‬
‫الس َم َ‬
‫وذكر كيف أراه كيفية إحياء الموتى‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ ا َل إِبْ َرا ِهي ُم َربِّ أَ ِرنِي َكيْفَ تُحْ ِي‬
‫ط َمئِ َّن قَ ْلبِي قَ ا َل فَ ُخ ْذ أَرْ بَ َع ةً ِمنَ الطَّ ِ‬
‫يْر‬ ‫ال بَلَى َولَ ِك ْن لِيَ ْ‬‫ْال َم وْ تَى قَ ا َل أَ َولَ ْم تُ ْؤ ِم ْن قَ َ‬
‫ْ‬
‫فَصُرْ ه َُّن إِلَ ْيكَ ثُ َّم اجْ َعلْ َعلَى ُكلِّ َجبَ ٍل ِم ْنه َُّن ُج ْز ًءا ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن يَأتِينَ كَ َس ْعيًا َوا ْعلَ ْم أَ َّن‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾ [البقرة‪]260 :‬‬ ‫هَّللا َ ع ِ‬
‫وهكذا كانت رحلة اإلسراء والمع راج لرس ول هللا ‪ ‬من ه ذا الن وع‪ ،‬حيث‬
‫كشف هللا تعالى فيها لرسوله ‪ ‬حقائق من عوالم الغيب‪ ،‬لم يكن ليعرفها ل وال تل ك‬
‫ت َربِّ ِه ْال ُك ْب َرى﴾ [النجم‪]18 :‬‬ ‫الرحلة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬لَقَ ْد َرأَى ِم ْن آيَا ِ‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن أولئ ك العلم اء أو الفالس فة ال ذين لم يحجب وا بنفوس هم في ال دنيا‪،‬‬
‫سيس تمر بحثهم وعط اؤهم في اآلخ رة‪ ،‬بأفض ل مم ا ك ان علي ه‪ ،‬وس يتاح لهم من‬
‫المخابر ومراكز األبحاث ما لم يتمكنوا من الحصول عليه في الدينا‪ ..‬ب ل يمكنهم أن‬
‫يمتطوا ما شاءوا من المراكب الفضائية للرحلة ألي مح ل يريدون ه‪ ،‬ح تى ل و ك ان‬
‫إلى جهنم نفسها للتعرف على أحوال أهلها‪.‬‬
‫وسنذكر هن ا مش هدا قرآني ا يص ف المق ربين من عب اد هللا‪ ،‬وم ا أتيح لهم من‬
‫الجزاء‪ ،‬لنرى كيف يمزج القرآن الكريم بين النعيمين الحسي والمعنوي‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫وقد بدأ هذا المشهد بذكر النعيم الحسي‪ ،‬الذي يوفر الفرص ة للنعيم المعن وي؛‬
‫فالمفكر أو الباحث أو الفيلسوف كلما أتيحت له اإلمكانات المادية كان عطاؤه أك بر‪،‬‬
‫ص ينَ (‪)40‬‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما تُجْ زَ وْ نَ إِاَّل َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ (‪ )39‬إِاَّل ِعبَ ا َد هَّللا ِ ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫ت النَّ ِع ِيم (‪َ )43‬علَى‬ ‫ق َم ْعلُو ٌم (‪ )41‬فَ َوا ِكهُ َوهُ ْم ُم ْك َر ُمونَ (‪ )42‬فِي َجنَّا ِ‬ ‫ك لَهُ ْم ِر ْز ٌ‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫اربِينَ (‪)46‬‬ ‫لش ِ‬ ‫ْضا َء لَ َّذ ٍة لِ َّ‬‫ين (‪ )45‬بَي َ‬ ‫ُر ُمتَقَابِلِينَ (‪ )44‬يُطَافُ َعلَ ْي ِه ْم بِ َكأْ ٍ‬
‫س ِم ْن َم ِع ٍ‬ ‫ُسر ٍ‬
‫ين (‪)48‬‬ ‫ف ِع ٌ‬ ‫َّ‬
‫ات الطرْ ِ‬ ‫اص َر ُ‬ ‫اَل فِيهَ ا َغ وْ ٌل َواَل هُ ْم َع ْنهَ ا يُ ْن َزفُ ونَ (‪َ )47‬و ِعنْ َدهُ ْم قَ ِ‬
‫ون (‪[ ﴾)49‬الصافات‪]49 - 39 :‬‬ ‫َكأَنَّه َُّن بَيْضٌ َم ْكنُ ٌ‬
‫وبع د أن رس م الق رآن الك ريم ص ورة لتل ك البيئ ة ال تي يعيش ها ه ؤالء‬
‫المخلصين‪ ،‬ذكر النعيم المعنوي الذي يهتمون له أكثر من اهتم امهم للنعيم الحس ي‪،‬‬
‫ْض يَتَ َسا َءلُونَ ﴾ [الصافات‪ ،]50 :‬وهذا يع ني أو يش ير‬ ‫ضهُ ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫فقال‪﴿ :‬فَأ َ ْقبَ َل بَ ْع ُ‬
‫إلى أن هناك مجالس علمية وبحثية كث يرة تعق د هن اك‪ ،‬يس أل بعض هم بعض ا فيه ا‪،‬‬
‫ويستفيد بعضهم من بعض‪.‬‬
‫ثم ذكر كلمة ألقيت في بعض تلك المجالس أو المؤتمرات‪ ،‬ذكر فيها صاحبها‬
‫ك‬ ‫ين (‪﴿ )51‬يَقُ و ُل أَإِنَّ َ‬ ‫شبهات المنكرين للمعاد‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬قَا َل قَائِ ٌل ِم ْنهُ ْم إِنِّي َكانَ لِي قَ ِر ٌ‬
‫ص ِّدقِينَ (‪ )52‬أَإِ َذا ِم ْتنَ ا َو ُكنَّا تُ َرابًا َو ِعظَامًا أَإِنَّا لَ َم ِدينُونَ ﴾ [الص افات‪-51 :‬‬ ‫لَ ِمنَ ْال ُم َ‬
‫‪]53‬‬
‫ثم ذك ر كي ف أتيح لهم في ذل ك المجلس القي ام برحل ة خاص ة لرؤي ة ذل ك‬
‫ال هَلْ أَ ْنتُ ْم ُمطَّلِ ُع ونَ (‪ )54‬فَ اطَّلَ َع‬ ‫القرين‪ ،‬والنتيجة التي وصل إليها‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫ت‬ ‫ين (‪َ )56‬ولَ وْ اَل نِ ْع َم ةُ َربِّي لَ ُك ْن ُ‬ ‫فَ َرآهُ فِي َس َوا ِء ْال َج ِح ِيم (‪ )55‬قَا َل تَاهَّلل ِ إِ ْن ِكدْتَ لَتُرْ ِد ِ‬
‫ض ِرينَ (‪[ ﴾ )57‬الصافات‪]58 - 54 :‬‬ ‫ِمنَ ْال ُمحْ َ‬
‫فظ اهر اآلي ات الكريم ة يش ير إلى ك ل تل ك المع اني‪ ،‬ولكن الق رآن الك ريم‬
‫مراعاة للبيئات المختلفة ورد بصيغة بحيث يفهمها كل عصر‪ ،‬أو كل بيئة بحسب ما‬
‫تعيشه‪.‬‬
‫وقد يكون ما ذكرناه اآلن بدائيا أو بسيطا جدا أمام الحقيقة‪ ،‬وهو ك ذلك‪ ..‬ذل ك‬
‫أن نعيم هؤالء ال يمكن وص فه‪ ،‬كم ا ورد في الح ديث القدس ي قول ه ‪ ‬في تفس ير‬
‫قول ه تع الى‪﴿ :‬فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َم ا أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن قُ َّر ِة أَ ْعي ٍُن َج زَ ا ًء بِ َم ا َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ ﴾‬
‫[السجدة‪( :]17 :‬قال هّللا تعالى أعددت لعبادي الص الحين م ا ال عين رأت‪ ،‬وال أذن‬
‫سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر) (‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪(:‬من ي دخل الجن ة ينعم ال يب أس‪ ،‬ال تبلى ثياب ه‪ ،‬وال‬
‫يفنى شبابه‪ ،‬في الجنة ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر) (‪)2‬‬
‫وله ذا؛ ف إن ك ل تل ك الم راتب ال تي نراه ا في ال دنيا من العلم اء والحكم اء‬
‫والعامة وغيرهم‪ ،‬ستكون هناك في اآلخرة‪ ،‬ولكن بصورة أكثر عدالة وجم اال‪ ،‬ألن‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري رقم (‪.)4780‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم رقم (‪)2836‬‬

‫‪279‬‬
‫المراتب هناك مراتب حقيقية‪ ،‬وليس مثل ال دنيا‪ ،‬ي دعيها من ق د ال يك ون أهال له ا‪،‬‬
‫ْض َولَآْل ِخ َرةُ أَ ْكبَ ُر د ََر َج ا ٍ‬
‫ت‬ ‫ض ْلنَا بَع َ‬
‫ْض هُ ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫كما ق ال تع الى‪ ﴿ :‬ا ْنظُ رْ َكيْفَ فَ َّ‬
‫ضياًل ﴾ [اإلسراء‪]21 :‬‬ ‫َوأَ ْكبَ ُر تَ ْف ِ‬
‫وفي الح ديث ق ال رس ول هللا ‪( :‬إن أه ل الجن ة لي تراءون في الجن ة أه ل‬
‫الغرف‪ ،‬كما تراءون الك وكب ال دري الغ ارب في األف ق الط الع‪ ،‬في تفاض ل أه ل‬
‫الدرجات"‪ .‬فقالوا‪ :‬يا رس ول هللا‪ ،‬أولئ ك الن بيون؟ فق ال‪( :‬بلى‪ ،‬وال ذي نفس ي بي ده‪،‬‬
‫وأقوام آمنوا باهلل وصدقوا الرسل) (‪)1‬‬
‫وبذلك؛ فإن كل ما نراه في الدنيا من مج الس العلم والبحث وغيره ا‪ ،‬يمكنه ا‬
‫أن تكون هناك في اآلخرة‪ ،‬كجزاء خاص ب الراغبين في ذل ك؛ وربم ا يص ير أك ثر‬
‫أهل الجنة من الراغبين في ذلك بعد أن تتاح لهم كل أصناف النعيم الحسي التي كان‬
‫الشوق إليها يحول بينهم وبين الفكر والبحث‪.‬‬
‫وبهذا يتبين لنا مدى الزور الذي تحمل ه تل ك األفك ار ال تي نش رها بعض من‬
‫يدعون التنوير من أمثال [أحمد القب انجي]‪ ،‬ذل ك ال ذي يرت دي ك ذبا وزورا عمام ة‬
‫علم اء الش يعة‪ ،‬م ع كون ه ال ينتس ب ال للش يعة‪ ،‬وال للس نة‪ ،‬ب ل ه و مع ول لح رب‬
‫كليهما‪ ،‬بل حرب اإلسالم نفسه‪.‬‬
‫فه و ـ نتيج ة الجه ل الم ركب بحق ائق الع الم اآلخ ر ال واردة في النص وص‬
‫المقدسة ـ راح يعبر عن احتقاره للجنة بقوله‪( :‬أم ا الجن ة‪ ،‬فليس فيه ا س وى إش باع‬
‫للغرائز الحيوانية من أكل وشرب ونكاح‪ ،‬وليس فيه ا أي إش باع للغرائ ز االنس انية‬
‫كاإلبداع واإليث ار والك رم والش جاعة ونص رة المظل وم وتعليم العلم وحب الرئاس ة‬
‫ووو‪)2()..‬‬
‫ولست أدري كيف عرف ذلك‪ ،‬وهل زار الجنة حتى يحكم عليها‪ ،‬وهل أحاط‬
‫بالنصوص المقدسة التي تتحدث عن الجنة‪ ،‬وكونها دار الضيافة اإللهية التي تتحقق‬
‫فيها كل الرغبات المشروعة‪ ،‬ويتحقق معها كل أن واع الس مو ال روحي واألخالقي‪،‬‬
‫حيث يعيش أهل الجنة الحضارة الراقية وال ذوق الرفي ع واألدب الجم‪ ،‬حيث ال لغ و‬
‫هناك وال تأثيم‪.‬‬
‫لكنه ـ بسبب العشى الذي أحاط ببصيرته ـ لم يعرف الجنة إال من خالل ذل ك‬
‫الوعظ البارد الذي يس تعمله بعض ع وام الوع اظ وال دعاة بعي دا عن الحق ائق ال تي‬
‫وردت في النص وص المقدس ة‪ ،‬ول ذلك ت وهم أن الجن ة مج رد دار للمت ع الجس دية‬
‫وحدها‪.‬‬
‫وهكذا بالنسبة للعقاب الذي يتعرض له المسيئون‪ ،‬فهو ـ مع كونه عقاب ا إلهي ا‬
‫عادال ـ إال أنه ال يخلو من أمثال تلك المجالس التي يراجع فيها أولئك الذين استحقوا‬
‫العقاب ما فعلوه‪ ،‬ليكون ـ للمستعدين للصالح منهم ـ دروس ا مفي دة ق د تخف ف عنهم‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد (‪ ،)2/339‬والترمذي برقم (‪.)2556‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الجنة والنار‪ ،‬أحمد القبانجي‪ ،‬الحوار المتمدن‪-‬العدد‪..12:19 - 12 / 2 /2014 - 4363 :‬‬

‫‪280‬‬
‫العذاب‪ ،‬أو قد تخرجهم منه‪.‬‬
‫فالنار ـ كما ورد في النصوص المقدسة ـ وكما سنرى الحقا‪ ،‬هي دار إلع ادة‬
‫التربية واإلصالح‪ ،‬وليست للتشفي واالنتقام‪ ،‬فاهلل تعالى برحمته الواس عة‪ ،‬وبكمال ه‬
‫المطلق يتعالى عن التشفي واالنتقام‪.‬‬
‫ولهذا ك انت العقوب ات المعنوي ة ال تي س نذكر بعض م ا ورد منه ا نوع ا من‬
‫الدروس التي تحاول أن تخرج م ا في قل وب أولئ ك الجهل ة من ض الل وانح راف‪،‬‬
‫ليبقى مصيرهم مرهونا بذلك‪.‬‬
‫بناء على هذه المقدمات‪ ،‬نحاول في هذا المبحث ذك ر م ا ورد في النص وص‬
‫المقدسة من أنواع الجزاء المعنوي المرتبط بالمحسنين والمسيئين‪ ،‬وق د رأين ا ـ من‬
‫خالل االستقراء ـ إمكانية تقسيمه إلى أربعة أنواع‪ ،‬سنشرحها في العناوين التالية‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الفرح والحزن‪:‬‬
‫من أهم أنواع الجزاء المعنوي ال تي يج ازي هللا تع الى به ا عب اده المحس نين‬
‫والمسيئين مشاعر الفرح والح زن‪ ،‬ال تي ق د تك ون بأس باب ظ اهرة معروف ة‪ ،‬وق د‬
‫تك ون من دون أس باب‪ ..‬ذل ك أن هللا تع الى كم ا خل ق النعم الحس ية‪ ،‬خل ق النعم‬
‫المعنوية‪ ،‬وجعل لها استقالال بذاتها‪.‬‬
‫ولهذا قد يحزن الشخص ويتألم مع كونه يعيش أرغد عيش‪ ،‬ولهذا نس مع عن‬
‫حاالت االكتئاب الشديد‪ ،‬بل االنتحار المصاحب له‪ ،‬من ناس ممتلئين بالرف اه‪ ،‬وك ل‬
‫ألوان النعيم‪ ،‬في نفس الوقت ال ذي ن رى في ه البس طاء يم رون باألزم ات الص عبة‪،‬‬
‫ومع ذلك نراهم يتحملون‪ ،‬ب ل نج دهم أحيان ا كث يرة يض حكون منش غلين عنه ا بم ا‬
‫أودع هللا في قلوبهم من الفرح الذي ال سبب له‪.‬‬
‫ض َحكَ‬ ‫وقد أشار القرآن الكريم إلى ه ذا المع نى في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأَنَّهُ هُ َو أَ ْ‬
‫َوأَ ْب َكى﴾ [النجم‪ ،]43 :‬أي أن هللا تع الى ه و مس بب ه ذين االنفع الين وخالقهم ا‪،‬‬
‫ومرسلهما لمن شاء من خلقه‪.‬‬
‫ض ْنكاً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ض عَن ِذك ِري فإِن لهُ َم ِعيشة َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وأشار إليه كذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َمن أع َر َ‬
‫﴾ [طه‪ ،]124 :‬فضنك العيش ال يعني ضيقه الحسي‪ ،‬وإنما يعني الض يق المعن وي‪،‬‬
‫واآلالم النفسية المصاحبة له‪.‬‬
‫وبناء على هذا؛ فإن هللا تعالى صاحب خزائن الفرح والح زن‪ ،‬ي نزل في دار‬
‫الجزاء على عباده من الفرح والحزن بما يتناسب مع أعمالهم ومواقفهم التي وقفوها‬
‫في الدنيا‪..‬‬
‫أما الفرح؛ فينزله على أولئك الذين لم يستفزهم الفرح في ال دنيا‪ ،‬وي رمي بهم‬
‫إلى البطر والكبر والغرور؛ فلم يستعلوا به على عباد هللا‪ ،‬ولم يقع وا فيم ا وق ع في ه‬
‫ُس لُهُ ْم‬
‫المسيئون من الفرح الباط ل‪ ،‬كم ا وص فهم هللا تع الى بقول ه‪ ﴿ :‬فَلَ َّما َج ا َء ْتهُ ْم ر ُ‬
‫ق بِ ِه ْم َم ا َك انُوا بِ ِه يَ ْس تَه ِْزئُونَ ﴾ [غ افر‪:‬‬ ‫ت فَ ِرحُوا بِ َم ا ِعنْ َدهُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم َو َح ا َ‬
‫بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫اب ُك لِّ َش ْي ٍء َحتَّى إِ َذا فَ ِر ُح وا‬ ‫‪ ،]83‬وقال‪﴿ :‬فَلَ َّما نَسُوا َما ُذ ِّكرُوا بِ ِه فَتَحْ نَ ا َعلَ ْي ِه ْم أَبْ َو َ‬
‫بِ َما أُوتُوا أَخ َْذنَاهُ ْم بَ ْغتَةً فَإِ َذا هُ ْم ُم ْبلِسُونَ ﴾ [األنعام‪ ،]44 :‬وقال‪ ﴿ :‬إِ َّن قَارُونَ َك انَ ِم ْن‬

‫‪281‬‬
‫وز َما إِ َّن َمفَاتِ َحهُ لَتَنُو ُء بِ ْالعُصْ بَ ِة أُولِي ْالقُ َّو ِة إِ ْذ‬ ‫قَوْ ِم ُمو َسى فَبَغَى َعلَ ْي ِه ْم َوآتَ ْينَاهُ ِمنَ ْال ُكنُ ِ‬
‫قَا َل لَهُ قَوْ ُمهُ اَل تَ ْف َرحْ إِ َّن هَّللا َ اَل ي ُِحبُّ ْالفَ ِر ِحينَ (‪َ )76‬وا ْبت َِغ فِي َما آتَاكَ هَّللا ُ ال َّدا َر اآْل ِخ َرةَ‬
‫ض إِ َّن‬ ‫ك ِمنَ ال ُّد ْنيَا َوأَحْ ِس ْن َك َما أَحْ َسنَ هَّللا ُ إِلَ ْيكَ َواَل تَب ِْغ ْالفَ َسا َد فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫َصيبَ َ‬‫سن ِ‬ ‫َواَل تَ ْن َ‬
‫هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ ال ُمف ِس ِدينَ ﴾ [القصص‪]77 ،76 :‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وإنما كان ف رحهم باهلل وبفض ل هللا‪ ،‬ومص حوبا بالتواض ع لعب اد هللا‪ ،‬والت ألم‬
‫ض ِل هَّللا ِ َوبِ َرحْ َمتِ ِه فَبِ َذلِكَ فَ ْليَ ْف َر ُح وا هُ َو خَيْ ٌر ِم َّما‬ ‫آلالمهم‪ ،‬كما ق ال تع الى‪﴿ :‬قُ لْ بِفَ ْ‬
‫يَجْ َمعُونَ ﴾ [يونس‪]58 :‬‬
‫فهؤالء المتواضعون الممتلئون باألدب‪ ،‬والذين قاسوا ألوان اآلالم في ال دنيا‪،‬‬
‫يجازيهم هللا تعالى بأن يمأل قلوبهم بكل أنواع الفرح ال ذي ال ينغص وال يك در ب أي‬
‫كدر‪ ،‬والذي ينسيهم ك ل هم ومهم وآالمهم ال تي عانوه ا في ال دنيا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‬
‫َب َعنَّا ْال َحزَ نَ إِ َّن َربَّنَ ا لَ َغفُ و ٌر َش ُكو ٌر (‪)34‬‬ ‫حاكيا عنهم‪َ ﴿ :‬وقَالُوا ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي أَ ْذه َ‬
‫َصبٌ َواَل يَ َم ُّسنَا فِيهَا لُ ُغوبٌ ﴾ [فاطر‪:‬‬ ‫الَّ ِذي أَ َحلَّنَا دَا َر ْال ُمقَا َم ِة ِم ْن فَضْ لِ ِه اَل يَ َم ُّسنَا فِيهَا ن َ‬
‫‪]35 ،34‬‬
‫ك ْاليَ وْ ِم َولَقَّاهُ ْم‬ ‫ووص ف النعيم ال ذي خص هم ب ه‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬فَ َوقَ اهُ ُم هَّللا ُ َش َّر َذلِ َ‬
‫نَضْ َرةً َو ُسرُورًا ﴾ [اإلنسان‪]11 :‬‬
‫وقد ورد في الحديث اإلشارة إلى هذا المعنى في قوله ‪( :‬يؤتى ب أنعم أه ل‬
‫الدنيا من أهل النار يوم القيام ة‪ ،‬فيُص بغ في الن ار ص بغة‪ ،‬ثم يُق ال‪ :‬ي ا ابن آدم ه ل‬
‫رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعي ٌم قط؟ فيق ول‪ :‬ال‪ ،‬وهللا ي ا ربّ ‪ ،‬ويُ ؤتى بأش د الن اس‬
‫بؤسا ً في الدنيا‪ ،‬من أهل الجنة‪ ،‬فيُصبغ ص بغة في الجن ة‪ ،‬فيُق ال ل ه‪ :‬ي ا ابن آدم ه ل‬
‫رأيت بؤسا ً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول‪ :‬ال‪ ،‬وهللا يا ربّ ‪ ،‬ما م ر بي ب ؤس ق ط‪،‬‬
‫وال رأيت شدةً قط)(‪)1‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم أن الفرح الذي يجازي هللا به المؤمنين الصادقين يب دأ‬
‫بع د الم وت مباش رة‪ ،‬ويظ ل مص احبا لهم في ك ل المواق ف كم ا ق ال تع الى عن‬
‫يل هَّللا ِ أَ ْم َواتًا بَلْ أَحْ يَا ٌء ِع ْن َد َربِّ ِه ْم يُرْ زَ قُونَ (‬‫الشهداء‪َ ﴿ :‬واَل تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ قُتِلُوا فِي َسبِ ِ‬
‫ض لِ ِه َويَ ْستَب ِْش رُونَ بِالَّ ِذينَ لَ ْم يَ ْل َحقُ وا بِ ِه ْم ِم ْن خَ ْلفِ ِه ْم‬ ‫‪ )169‬فَ ِر ِحينَ بِ َما آتَ اهُ ُم هَّللا ُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم يَحْ َزنُونَ (‪ )170‬يَ ْستَ ْب ِشرُونَ بِنِ ْع َم ٍة ِمنَ هَّللا ِ َوفَضْ ٍل َوأَ َّن هَّللا َ اَل‬ ‫أَاَّل َخوْ ٌ‬
‫ُضي ُع أَجْ َر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [آل عمران‪]171 - 169 :‬‬ ‫ي ِ‬
‫وه ذا ج زاء متواف ق م ع اس م هللا تع الى [الش كور]‪ ،‬وه و يع ني ش كر هللا‬
‫للمحسنين من عباده‪ ،‬فالشهداء الذين ذاقت أجسادهم ألوان اآلالم‪ ،‬وض حوا بأنفس هم‬
‫في سبيل هللا‪ ،‬يجازيهم هللا تعالى بذلك الفرح ليعوض عن جميع أحزانهم وآالمهم‪.‬‬
‫وهكذا أخبر هللا تعالى عن ذلك الرجل الصالح الذي وقف منتصرا لرسل هللا‪،‬‬
‫ال‬‫فقد قال هللا تعالى عنه بعد أن نفذ في ه المجرم ون أحك امهم‪ ﴿ :‬قِي َل ا ْد ُخ ِل ْال َجنَّةَ قَ َ‬
‫كْر ِمينَ ﴾ [يس‪،26 :‬‬ ‫يَالَيْتَ قَ وْ ِمي يَ ْعلَ ُم ونَ (‪ )26‬بِ َم ا َغفَ َر لِي َربِّي َو َج َعلَنِي ِمنَ ْال ُم َ‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)8/135‬‬

‫‪282‬‬
‫‪]27‬‬
‫وهكذا أخبر عن ذلك المؤمن الذي ين ال ص حيفته بيمين ه‪ ،‬فيص يح من فرح ه‬
‫ت أَنِّي ُماَل ٍ‬
‫ق ِح َس ابِيَ ْه ﴾‬ ‫الشديد في أهل الموقف‪﴿ :‬هَا ُؤ ُم ا ْق َر ُءوا ِكتَابِيَ ْه (‪ )19‬إِنِّي ظَنَ ْن ُ‬
‫[الحاقة‪]20 ،19 :‬‬
‫أما المس يئون والمجرم ون؛ ف إنهم ي ذوقون في ك ل لحظ ة من اآلالم النفس ية‬
‫والغصص والكدر واالكتئاب ما يتناسب مع ذلك العتو والبطر والكبرياء التي ك انوا‬
‫﴿وأَ َّما َم ْن‬
‫يعيشونها في الدنيا‪ ،‬كما قال تعالى عن ذلك ال ذي ين ال ص حيفته بش ماله‪َ :‬‬
‫أُوتِ َي ِكتَابَ هُ بِ ِش َمالِ ِه فَيَقُ و ُل يَ الَ ْيتَنِي لَ ْم أُوتَ ِكتَابِيَ ْه (‪َ )25‬ولَ ْم أَ ْد ِر َم ا ِح َس ابِيَ ْه (‪)26‬‬
‫ك َعنِّي ُس ْلطَانِيَ ْه (‪﴾ )29‬‬ ‫اضيَةَ (‪َ )27‬ما أَ ْغنَى َعنِّي َمالِيَ ْه (‪ )28‬هَلَ َ‬ ‫ت ْالقَ ِ‬ ‫يَالَ ْيتَهَا َكانَ ِ‬
‫[الحاقة‪]30 - 25 :‬‬
‫وتك ون م راتبهم في ذل ك بحس ب ج رائمهم؛ أم ا أولئ ك ال ذين أذاق وا‬
‫المستضعفين كل ألوان اآلالم‪ ،‬فتسببوا في قتلهم وتش ريدهم وإي ذائهم‪ ،‬ف إن ك ل تل ك‬
‫الغصص التي أصابوهم بها تتحول إليهم أضعافا مضاعفة‪.‬‬
‫وكم ا أن الف رح والح زن في ال دنيا يتج دد بأس باب مختلف ة‪ ،‬فق د ورد في‬
‫النصوص ما يشير إلى ذلك التجدد في دار الج زاء‪ ،‬حيث يح دث هللا تع الى في كال‬
‫الدارين ما يتسبب في الفرح أو الحزن‪ ،‬ومن األمثلة على ذل ك م ا ورد في الح ديث‬
‫من قوله ‪( :‬إذا دخل أهل الجنة الجنة‪ ،‬وأهل النار النار‪ ،‬يجاء بالموت كأن ه كبش‬
‫أملح‪ ،‬فيوقف بين الجنة والنار‪ ،‬فيقال‪ :‬يا أهل الجنة‪ ،‬هل تعرفون هذا؟‪ ..‬فيشرئبون‪،‬‬
‫فينظرون‪ ،‬ويقولون‪ :‬نعم ه ذا الم وت‪ ..‬فيق ال‪ :‬ي ا أه ل الن ار‪ ،‬ه ل تعرف ون ه ذا؟‪..‬‬
‫فيشرئبون فينظرون ويقولون‪ :‬نعم‪ ،‬هذا الموت‪ ..‬فيؤمر به‪ ،‬في ذبح‪ ،‬ويق ال‪ :‬ي ا أه ل‬
‫الجن ة‪ ،‬خل ود وال م وت‪ ،‬وي ا أه ل الن ار خل ود وال م وت‪ ،‬ثم ق رأ رس ول هللا ‪:‬‬
‫ض َي اأْل َ ْم ُر َوهُ ْم فِي َغ ْفلَ ٍة َوهُ ْم اَل ي ُْؤ ِمنُ ونَ ﴾ [م ريم‪،]39 :‬‬ ‫﴿ َوأَ ْن ِذرْ هُ ْم يَوْ َم ْال َح ْس َر ِة إِ ْذ قُ ِ‬
‫ثم أشار ‪ ‬بيده‪ ،‬وقال‪( :‬أهل الدنيا في غفلة الدنيا)(‪)1‬‬
‫وفي رواية أخرى وصف رسول هللا ‪ ‬فرح أهل الجنة‪ ،‬وحزن أه ل الن ار‪،‬‬
‫فقال‪( :‬ثم ينادى‪ :‬يا أهل الجنة‪ ،‬هو الخلود أبد اآلبدين‪ ،‬ويا أهل النار‪ ،‬هو الخلود أب د‬
‫اآلبدين‪ ،‬فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتا من فرح ماتوا‪ ،‬ويشهق أه ل الن ار‬
‫شهقة لو كان أحد ميتا من شهقة ماتوا)(‪)2‬‬
‫وفي رواي ة‪( :‬إذا ص ار أه ل الجن ة إلى الجن ة وأه ل الن ار إلى الن ار جيء‬
‫بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد يا أهل الجنة ال موت ويا‬
‫أهل النار ال موت‪ ،‬فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أه ل الن ار حزن ا إلى‬
‫حزنهم)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ( ‪ ) 4453‬ومسلم ( ‪.) 2849‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي حاتم في تفسيره‪ ،‬تفسير ابن كثير (‪)234 /5‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ( ‪ ) 6182‬ومسلم ( ‪.) 2850‬‬

‫‪283‬‬
‫وه ذه الرواي ة ت دل على أن القص د من ه ذا المش هد ه و توف ير المزي د من‬
‫السرور للمحسنين‪ ،‬والمزيد من الحزن للمتألمين‪ ،‬وهو ما حصل بالفعل‪ ..‬ول ذلك ال‬
‫معنى لكل تلك المناقشات ال تي وقعت في كتب المتكلمين وغ يرهم من الح ديث عن‬
‫الموت‪ ،‬وهل يمكن أن يصير كبشا ونحو ذلك؟‬
‫وقد قال الغزالي معبرا عن الغرض من هذا المش هد من مش اهد اآلخ رة رادا‬
‫على المعترضين عليه‪ ،‬وخصوصا أولئك الذين يتهمون النب وة بس ببه‪( :‬ق د ي رد في‬
‫أم ر اآلخ رة ض رب أمثل ة يك ذب به ا الملح د‪ ،‬بجم ود نظ ره على ظ اهر المث ال‬
‫وتناقضه عنده كقوله ‪( :‬يؤتى بالموت يوم القيامة في ص ورة كبش أملح في ذبح)‪،‬‬
‫فيثور الملحد األحمق ويكذب‪ ،‬ويستدل به على كذب األنبياء ويقول‪ :‬ي ا س بحان هّللا ‪،‬‬
‫الموت عرض‪ ،‬والكبش جس م‪ ،‬فكي ف ينقلب الع رض جس ما وه ل ه ذا إال مح ال!‬
‫ولكن هّللا تعالى عزل ه ؤالء الحمقى عن معرف ة أس راره‪ ..‬وال ي درى المس كين أن‬
‫من قال‪ :‬رأيت في من امي أن ه جي ء بكبش‪ ،‬وقي ل ه ذا ه و الوب اء ال ذي في البل د‪،‬‬
‫وذبح‪ ،‬فقال المعبر‪ :‬صدقت‪ ،‬واألمر كما رأيت‪ ،‬وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع‬
‫وال يعود قط‪ ،‬ألن المذبوح وقع اليأس منه‪ ،‬فإذن المعبر ص ادق في تص ديقه‪ ،‬وه و‬
‫ص ادق في رؤيت ه‪ .‬وترج ع حقيق ة ذل ك إلى أن الموك ل بالرؤي ا‪ ،‬وه و ال ذي يطل ع‬
‫األرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ‪ ،‬عرفه بما في اللوح المحف وظ بمث ال‬
‫ضربه له ألن النائم إنما يحتمل المثال‪ ،‬فك ان مثال ه ص ادقا‪ ،‬وك ان معن اه ص حيحا؛‬
‫فالرس ل أيض ا إنم ا يكلم ون الن اس في ال دنيا‪ ،‬وهي باإلض افة إلى اآلخ رة ن وم‪،‬‬
‫فيوص لون المع اني إلى أفه امهم باألمثل ة‪ ،‬حكم ة من هّللا ‪ ،‬ولطف ا بعب اده‪ ،‬وتيس يرا‬
‫إلدراك م ا يعج زون عن إدراك ه دون ض رب المث ل‪ ،‬فقول ه‪( :‬ي ؤتى ب الموت في‬
‫صورة كبش أملح)‪ ،‬مثال ضربه ليوصل إلى األفهام حصول اليأس من الموت‪ ،‬وقد‬
‫جبلت القلوب على التأثر باألمثلة‪ ،‬وثبوت المعاني فيها بواسطتها)(‪)1‬‬
‫وما ذكره الغزالي صحيح‪ ،‬ولكنا ال نرى أن ه مج رد مث ل‪ ،‬ب ل ن رى إمكاني ة‬
‫وقوع هذا المشهد في اآلخ رة‪ ،‬ليك ون تم ثيال رمزي ا يمأل المحس نين س عادة‪ ،‬ويمأل‬
‫المسيئين حزنا‪ ،‬مثلما نشاهد في الدنيا عند إقامة المناس بة المختلف ة من إقام ة بعض‬
‫الطقوس التي تعبر عن المناسبات بصيغ مختلفة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الرضى والسخط‪:‬‬
‫من أنواع الجزاء المعنوي التي يجازي هللا تعالى بها عب اده في دار الج زاء‪،‬‬
‫سواء كانوا من المحس نين أو المس يئين مش اعر الرض ى وم ا يتبعه ا من الطمأنين ه‬
‫والسالم‪ ،‬ومشاعر السخط‪ ،‬وم ا يتبعه ا من الحس رة واألس ف واالض طراب‪ ،‬وك ل‬
‫أنواع الصراع النفسي‪.‬‬
‫وهذا الجزاء متوافق تمام ا م ع أن واع األعم ال والملك ات ال تي ترس خت في‬
‫نفوس كال الصنفين‪ ،‬ولذلك كان جزاؤهما متوافقا تماما مع تلك الملكات واألعم ال‪،‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)23 /4‬‬

‫‪284‬‬
‫وقد ورد في الح ديث م ا يش ير إلى ه ذا‪ ،‬فق د ق ال ‪( :‬إن عظم الج زاء م ع عظم‬
‫البالء‪ ،‬وإن هللا تعالى إذا أحب قوما ابتالهم‪ ،‬فمن رضي فله الرضا‪ ،‬ومن سخط فله‬
‫السخط)(‪)1‬‬
‫ولذلك فإن كل ما نراه من ألوان البالء‪ ،‬مما يت وهم البعض أن ه ش ر‪ ،‬ه و في‬
‫الحقيق ة بالء إلهي القص د من ه تمحيص الص ادقين من غ يرهم‪ ،‬كم ا ض رب بعض‬
‫المشايخ المثل على ذلك لمريديه‪ ،‬عندما زاروه في مرضه‪ ،‬وكان قد جم ع بين يدي ه‬
‫حجارة‪ ،‬فقال‪ :‬من أنتم؟ فقالوا‪ :‬محبوك‪ ،‬فأقب ل عليهم ي رميهم بالحج ارة؛ فته اربوا‪،‬‬
‫فقال‪( :‬ما بالكم ادعيتم محبتي‪ ،‬إن صدقتم؛ فاصبروا على بالئي)‬
‫ب النَّاسُ أَ ْن يُ ْت َر ُكوا أ ْن يَقُولُوا‬
‫َ‬ ‫وهذا المعنى هو ما يدل عليه قوله تعالى‪﴿ :‬أَ َح ِس َ‬
‫آ َمنَّا َوهُ ْم ال يُ ْفتَنُونَ ﴾ (العنكبوت‪ ،)2:‬فقد أخبر تعالى أن من مقتضيات ادعاء اإليمان‬
‫االبتالء حتى يعلم الصادق من الكاذب‪ ،‬ومن يؤثر هللا‪ ،‬ومن يؤثر هواه‪.‬‬
‫وله ذا يق ترن الج زاء اإللهي بالرض ى‪ ،‬باعتب اره أك بر دلي ل على ص دق‬
‫الس اَل ِم َويُخْ ِر ُجهُ ْم ِمنَ‬ ‫ض َوانَهُ ُس ب َُل َّ‬ ‫اإليمان‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬يَهْ ِدي بِ ِه هَّللا ُ َم ِن اتَّبَ َع ِر ْ‬
‫ال‬ ‫ص َرا ٍط ُم ْستَقِ ٍيم﴾ [المائ دة‪ ،]16 :‬وق ال‪ ﴿ :‬قَ َ‬ ‫ور بِإِ ْذنِ ِه َويَ ْه ِدي ِه ْم إِلَى ِ‬‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا‬ ‫هَّللا ُ هَ َذا يَوْ ُم يَ ْنفَ ُع الصَّا ِدقِينَ ِ‬
‫ص ْدقُهُ ْم لَهُ ْم َجنَّ ٌ‬
‫ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرضُوا َع ْنهُ َذلِكَ ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾ [المائدة‪]119 :‬‬ ‫أَبَدًا َر ِ‬
‫ض َوانَ هَّللا ِ‬ ‫ويبين سر الفرق بين أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬فيق ول‪﴿ :‬أَفَ َم ِن اتَّبَ َع ِر ْ‬
‫صي ُر ﴾ [آل عمران‪]162 :‬‬ ‫س ْال َم ِ‬ ‫َك َم ْن بَا َء بِ َس َخ ٍط ِمنَ هَّللا ِ َو َمأْ َواهُ َجهَنَّ ُم َوبِ ْئ َ‬
‫ولهذا ورد الثناء العظيم في الق رآن الك ريم على أه ل الرض ى‪ ،‬أولئ ك ال ذين‬
‫تحملوا كل التك اليف الش رعية من غ ير أن يص رفهم ثقله ا أو مش اقها عن ربهم أو‬
‫ض ٍل لَ ْم يَ ْم َس ْس هُ ْم ُس و ٌء‬ ‫عبوديتهم ومحبتهم له‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَا ْنقَلَبُوا بِنِ ْع َم ٍة ِمنَ هَّللا ِ َوفَ ْ‬
‫الس ابِقُونَ‬ ‫َظ ٍيم ﴾ [آل عمران‪ ،]174 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬و َّ‬ ‫َواتَّبَعُوا ِرضْ َوانَ هَّللا ِ َوهَّللا ُ ُذو فَضْ ٍل ع ِ‬
‫ض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرضُوا‬ ‫ان َر ِ‬ ‫ار َوالَّ ِذينَ اتَّبَعُوهُ ْم بِإِحْ َس ٍ‬ ‫ص ِ‬ ‫اأْل َ َّولُونَ ِمنَ ْال ُمهَا ِج ِرينَ َواأْل َ ْن َ‬
‫ك ْالفَ وْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾‬ ‫ت تَجْ ِري تَحْ تَهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا أَبَ دًا َذلِ َ‬ ‫َع ْنهُ َوأَ َع َّد لَهُ ْم َجنَّا ٍ‬
‫ار ِه ْم َوأَ َ‬ ‫ُ‬ ‫﴿لفُقَ َرا ِء ْال ُمهَ ِ‬ ‫[التوب ة‪ ،]100 :‬وق ال‪ْ :‬‬
‫مْوالِ ِه ْم‬ ‫اج ِرينَ الَّ ِذينَ أ ْخ ِر ُج وا ِم ْن ِديَ ِ‬
‫الص ا ِدقُونَ ﴾‬ ‫ص رُونَ هَّللا َ َو َر ُس ولَهُ أُولَئِ كَ هُ ُم َّ‬ ‫ض َوانًا َويَ ْن ُ‬ ‫ض اًل ِمنَ هَّللا ِ َو ِر ْ‬ ‫يَ ْبتَ ُغ ونَ فَ ْ‬
‫ك هُ ْم خَيْ ُر ْالبَ ِريَّ ِة (‪)7‬‬ ‫ت أُولَئِ َ‬ ‫[الحشر‪ ،]8 :‬وقال‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ض َي هَّللا ُ‬ ‫ات َع ْد ٍن تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا أَبَ دًا َر ِ‬ ‫َجزَا ُؤهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َجنَّ ُ‬
‫َش َي َربَّهُ ﴾ [البينة‪]8 ،7 :‬‬ ‫ك لِ َم ْن خ ِ‬ ‫َع ْنهُ ْم َو َرضُوا َع ْنهُ َذلِ َ‬
‫وفي مقابل هؤالء ذكر هللا تع الى الس اخطين على هللا ال ذين ص رفوا حي اتهم‬
‫﴿و ِم ْنهُ ْم َم ْن‬ ‫كلها يناوئونه‪ ،‬ويق ترحون علي ه م ا تملي ه عليهم أه واؤهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ت فَإِ ْن أُ ْعطُوا ِم ْنهَا َرضُوا َوإِ ْن لَ ْم يُ ْعطَوْ ا ِم ْنهَ ا إِ َذا هُ ْم يَ ْس خَ طونَ (‬
‫ُ‬ ‫ص َدقَا ِ‬ ‫ك فِي ال َّ‬ ‫يَ ْل ِم ُز َ‬
‫ض لِ ِه‬ ‫‪َ )58‬ولَوْ أَنَّهُ ْم َرضُوا َما آتَاهُ ُم هَّللا ُ َو َرسُولُهُ َوقَ الُوا َح ْس بُنَا هَّللا ُ َس ي ُْؤتِينَا هَّللا ُ ِم ْن فَ ْ‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي رقم ‪ 3998‬وقال حديث حسن غريب‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫َو َرسُولُهُ إِنَّا إِلَى هَّللا ِ َرا ِغبُونَ ﴾ [التوبة‪]59 ،58 :‬‬
‫وعلل أنواع الجزاء التي تنزل بهم بكونها تجس يدا ل ذلك الس خط ال ذي ك انوا‬
‫ض َوانَهُ فَأَحْ بَ طَ‬ ‫ك بِ أَنَّهُ ُم اتَّبَ ُع وا َم ا أَ ْس َخطَ هَّللا َ َو َك ِرهُ وا ِر ْ‬ ‫يبدونه هلل‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫أَ ْع َمالَهُ ْم ﴾ [محمد‪]28 :‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الجزاء الوفاق لكال الطرفين هو أن يعطى بحسب أعماله ومواقفه‬
‫ونفسه التي شكلها في الدنيا‪ ..‬فإن كان من الراضين‪ ،‬أعطى الرض ى‪ ،‬وإن ك ان من‬
‫يل هَّللا ِ ثُ َّم قُتِلُ وا أَوْ‬ ‫اجرُوا فِي َس بِ ِ‬ ‫﴿والَّ ِذينَ هَ َ‬ ‫الساخطين لم يلق إال السخط‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫َّازقِينَ (‪ )58‬لَيُ ْد ِخلَنَّهُ ْم ُم دْخَ اًل‬ ‫َماتُوا لَيَرْ ُزقَنَّهُ ُم هَّللا ُ ِر ْزقًا َح َس نًا َوإِ َّن هَّللا َ لَهُ َو خَيْ ُر ال ر ِ‬
‫ض وْ نَهُ َوإِ َّن هَّللا َ لَ َعلِي ٌم َحلِي ٌم﴾ [الحج‪ ،]59 ،58 :‬وق ال‪ُ ﴿ :‬و ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ نَا ِع َم ةٌ (‪)8‬‬ ‫يَرْ َ‬
‫ضيَةٌ (‪ )9‬فِي َجنَّ ٍة عَالِيَ ٍة (‪ )10‬اَل تَ ْس َم ُع فِيهَا اَل ِغيَةً ﴾ [الغاشية‪]11 - 8 :‬‬ ‫لِ َس ْعيِهَا َرا ِ‬
‫ولهذا قرن هللا تعالى كل ما يرتبط بالمحسنين بالرضى‪ ،‬باعتباره نتيجة ل ذلك‬
‫الرضى الذي مارسوه في حياتهم الدنيا م ع هللا‪ ،‬أو م ع رس له‪ ،‬أو م ع التع اليم ال تي‬
‫طولبوا بتنفيذها‪.‬‬
‫بناء على هذا نذكر هنا بعض مظاهر الرضوان والسخط ال تي تتجلى في دار‬
‫الجزاء‪ ،‬وذلك من خالل العنوانين التاليين‪:‬‬
‫أ ـ الرضوان ومظاهره‪:‬‬
‫يبدأ هذا النوع من الجزاء اإللهي في اللحظة ال تي تحص ل فيه ا الوف اة‪ ،‬حيث‬
‫ك‬ ‫ط َمئِنَّةُ (‪ )27‬ارْ ِج ِعي إِلَى َربِّ ِ‬ ‫يقول المالئكة مخاطبين المحسنين‪ ﴿ :‬يَاأَيَّتُهَا النَّ ْفسُ ْال ُم ْ‬
‫ضيَّةً (‪ )28‬فَا ْد ُخلِي فِي ِعبَا ِدي (‪َ )29‬وا ْد ُخلِي َجنَّتِي﴾ [الفجر‪]30 - 27 :‬‬ ‫ضيَةً َمرْ ِ‬ ‫َرا ِ‬
‫ثم تتوالى عليهم البشائر بعد ذلك‪ ،‬تبشرهم بأنهم لن يجدوا في رحلتهم ما بع د‬
‫ت‬ ‫ض َوا ٍن َو َجنَّا ٍ‬ ‫الموت سوى الرضوان‪ ،‬قال تع الى‪﴿:‬يُبَ ِّش ُرهُ ْم َربُّهُ ْم بِ َرحْ َم ٍة ِمنْهُ َو ِر ْ‬
‫َظي ٌم (﴾ [التوب ة‪،21 :‬‬ ‫لَهُ ْم فِيهَا نَ ِعي ٌم ُمقِي ٌم (‪ )21‬خَالِ ِدينَ فِيهَ ا أَبَ دًا إِ َّن هَّللا َ ِعنْ َدهُ أَجْ ٌر ع ِ‬
‫‪]22‬‬
‫ولهذا نرى القرآن الكريم يصف تلك العيشة الجدي دة ال تي يعيش ها الراض ون‬
‫ازينُ هُ (‪ )6‬فَهُ َو فِي‬ ‫ت َم َو ِ‬ ‫عن هللا بكونه ا عيش ة راض ية‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬فَأ َ َّما َم ْن ثَقُلَ ْ‬
‫ضيَ ٍة ﴾ [القارعة‪ ،]7 ،6 :‬وقال‪ ﴿ :‬فَأ َ َّما َم ْن أُوتِ َي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه فَيَقُ و ُل هَ ا ُؤ ُم‬ ‫ِعي َش ٍة َرا ِ‬
‫اض يَ ٍة ﴾‬ ‫يش ٍة َر ِ‬ ‫ق ِح َس ابِيَ ْه (‪ )20‬فَهُ َو فِي ِع َ‬ ‫ت أَنِّي ُماَل ٍ‬
‫اقْر ُءوا ِكتَابِيَ ْه (‪ )19‬إِنِّي ظَنَ ْن ُ‬ ‫َ‬
‫[الحاقة‪]21 - 19 :‬‬
‫وفوق تل ك العيش ة ينعم أولئ ك الراض ون عن هللا برض وان هللا‪ ،‬وه و أعظم‬
‫َيْر ِم ْن َذلِ ُك ْم‬ ‫أنواع الجزاء‪ ،‬بل هو أعظم من الجنة نفسها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قُلْ أَ ُؤنَبِّئُ ُك ْم بِخ ٍ‬
‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َوأَ ْز َوا ٌج ُمطَهَّ َرةٌ‬ ‫لِلَّ ِذينَ اتَّقَوْ ا ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َجنَّ ٌ‬
‫صي ٌر بِ ْال ِعبَا ِد ﴾ [آل عمران‪]15 :‬‬ ‫ان ِمنَ هَّللا ِ َوهَّللا ُ بَ ِ‬
‫َو ِرضْ َو ٌ‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن‬ ‫ت َجنا ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫وأشار إلى ذلك أيضا‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َع َد ُ ال ُم ْؤ ِمنِينَ َوال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ان ِمنَ ِ أكبَ ُر ذلِ َ‬‫هَّللا‬ ‫ت َع ْد ٍن َو ِرضْ َو ٌ‬ ‫تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا َو َم َسا ِكنَ طَيِّبَةً فِي َجنَّا ِ‬
‫هُ َو ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾ [التوبة‪]72 :‬‬

‫‪286‬‬
‫وقد أخبر ‪ ‬عن مشهد من مشاهد اآلخرة يذكر هللا تعالى فيه لعباده من أهل‬
‫الجنة رض اه عنهم‪ ،‬فيق ول‪( :‬إن هللا ع ز وج ل يق ول أله ل الجن ة‪ :‬ي ا أه ل الجن ة‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬لبيك ربنا وسعديك‪ ،‬والخير في يديك‪ ،‬فيقول‪ :‬هل رض يتم؟ فيقول ون‪ :‬وم ا‬
‫لنا ال نرضى يا ربنا‪ ،‬وقد أعطيتن ا م ا لم تع ط أح دا من خلق ك؟ فيق ول‪ :‬أال أعطيكم‬
‫أفض ل من ذل ك؟ فيقول ون‪ :‬وأي ش يء أفض ل؟ فيق ول‪ :‬أح ل عليكم رض واني‪ ،‬فال‬
‫أسخط عليكم بعده أبدا)(‪)1‬‬
‫وهذا الرضوان اإللهي ال يمكن تصوره‪ ،‬وال تص ور مقتض ياته‪ ،‬ذل ك أن ه ال‬
‫يتعلق فقط ب النعيم‪ ،‬وإنم ا يتعل ق بالعالق ة باهلل‪ ،‬ومن وث ق ص لته باهلل‪ ،‬لم يحتج إلى‬
‫شيء‪ ،‬فاهلل عنده كل شيء‪ ،‬أو كما ورد في الدعاء المع روف‪( :‬إلهي م اذا وج د من‬
‫فقدك‪ ..‬وماذا فقد من وجدك)‬
‫وبمناسبة الحديث عن الرض وان‪ ،‬يط رح بعض المش اغبين ال ذين ـ ب دل أن‬
‫ينشغلوا بالعمل الص الح الموص ل للجن ة ـ راح وا يش نعون على م ا فيه ا من نعيم‪،‬‬
‫ويذكرون أن الملل سيصيب أصحاب الجن ة ال محال ة‪ ،‬وهم يقول ون ذل ك بن اء على‬
‫ذلك التثاقل الشديد الذي يربطهم بالدنيا‪ ،‬حتى صاروا يرون أنها الجنة‪ ،‬وي رون أن ه‬
‫ال يمكن هلل تعالى أن يخلق دارا أجمل‪ ،‬وال أكمل منها‪.‬‬
‫وربم ا يك ون مص در ه ذه الش بهة ه و ذل ك التعل ق والهي ام ب االنحراف أو‬
‫المنح رفين‪ ،‬ول ذلك يتوهم ون أنهم في الجن ة لن يج دوا الفرص ة للقي ام بك ل تل ك‬
‫االنحرافات التي كانوا يعجبون بها في الدنيا‪..‬‬
‫أو ربما يكون مصدر هذه الشبهة ذل ك الحب للص راع وم ا يرتب ط ب ه‪ ..‬وق د‬
‫ذك ر هللا تع الى أن الجن ة ليس فيه ا ش يء من الص راع‪ ،‬ألن ك ل من فيه ا طيب ون‬
‫ومتشاكلون ومتجانسون؛ فهم ﴿ اَل يَ ْس َمعُونَ فِيهَا لَ ْغ ًوا َواَل تَأْثِي ًما (‪ )25‬إِاَّل قِياًل َساَل ًما‬
‫َساَل ًما ﴾ [الواقعة‪]26 ،25 :‬‬
‫ومهما كان مصدر هذه الشبهة‪ ،‬فهو مرتب ط به ذه النش أة‪ ،‬وبتل ك النفس ال تي‬
‫أملت تلك الشبهة‪ ،‬أما في النشأة األخرى‪ ،‬وبع د التطه يرات الكث يرة ال تي تم ر به ا‬
‫النفس ابتداء من عالم البرزخ؛ فإنها ستؤهل لتل ك الحي اة الجدي دة‪ ،‬ال تي ال تحب إال‬
‫السالم‪ ،‬وتكره كل أصناف اللغو‪.‬‬
‫ولذلك نرى في الدنيا الشاب في مرحلة المراهقة يحن لكل أصناف الصخب‪،‬‬
‫لكن العم ر إن امت د ب ه‪ ،‬وم ر بالتج ارب الكث يرة‪ ،‬تج ده أك ثر ميالن ا إلى اله دوء‬
‫والسالم‪ ،‬وربما يختار بيتا ريفيا يقضي فيه باقي عمره حرصا على الحياة الهادئة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فإن أوهامنا عن الجنة ناشئة من تلك التصورات البس يطة‬
‫التي نتصورها بها‪ ،‬وهي أن يك ون لس اكنها قص ر أو مجموع ة قص ور‪ ،‬يعيش في‬
‫وسطها‪ ،‬دون أن يتحرك أي حركة‪ ،‬أو تكون له أي عالق ة‪ ،‬أو يس مع ب أي أح داث‪،‬‬
‫واألمر مختلف تماما‪ ..‬فالجنة فيها كل ذلك‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ 363 / 11‬و ‪ ، 364‬ومسلم رقم (‪.)2829‬‬

‫‪287‬‬
‫ولهذا يصف هللا تعالى الجنة بكونه ا دار الرض وان ال تي يعش قها أهله ا‪ ،‬وال‬
‫ت َك ان ْ‬
‫َت لَهُ ْم‬ ‫يبغون عنها أي ب ديل‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬
‫س نُزُاًل (‪ )107‬خَالِ ِدينَ فِيهَ ا اَل يَ ْب ُغ ونَ َع ْنهَ ا ِح َواًل ﴾ [الكه ف‪،107 :‬‬ ‫ات ْالفِرْ دَوْ ِ‬‫َجنَّ ُ‬
‫‪]108‬‬
‫ونحسب ـ وهللا أعلم ـ أن تلك الحركة التي كانت في الدنيا‪ ،‬والتي يترقى فيه ا‬
‫اإلنسان من مرتبة إلى مرتبة‪ ،‬ستظل هناك أيض ا‪ ،‬ألنه ا من مقتض يات ربوبي ة هللا‬
‫لعباده‪ ،‬ولذلك قد يترقى أهل الجن ة بحس ب م واقفهم وس لوكاتهم واالختب ارات ال تي‬
‫يتعرضون لها‪ ،‬فينزلون مراتب أعلى من المراتب التي كانوا فيه ا‪ ،‬وك ل ذل ك مم ا‬
‫ينفي السأم والملل‪.‬‬
‫وق د أش ار رس ول هللا ‪ ‬إلى بعض ه ذه المع اني في قول ه‪( :‬إن في الجن ة‬
‫لسوقا ما فيها شراء وال بي ع إال الص ور من الرج ال والنس اء‪ ،‬ف إذا اش تهى الرج ل‬
‫صورة دخل فيها)(‪)1‬‬
‫وفي رواية‪( :‬إن ألهل الجنة سوقا‪ ،‬يأتونها كل جمعة‪ ،‬فيها كثبان المسك‪ ،‬فإذا‬
‫خرجوا إليها هبت الريح؛ فتمأل وجوههم وثي ابهم وبي وتهم مس كا‪ ،‬ف يزدادون حس نا‬
‫وجماال‪ ،‬قال‪ :‬فيأتون أهليهم فيقولون‪ :‬لقد ازددتم بعدنا حسنا وجماال‪ ،‬ويقول ون لهن‪:‬‬
‫وأنتم قد ازددتم بعدنا حسنا وجماال)(‪)2‬‬
‫ولذلك فإن نعيم الجنة متج دد‪ ،‬وال نهاي ة لتج دده‪ ،‬ذل ك أن ق درة هللا المطلق ة‪،‬‬
‫وإبداعه العظيم ال نهاية له‪ ،‬ولذلك يعيش أه ل الجن ة في ك ل لحظ ة س عادة جدي دة‪،‬‬
‫وكيف ال يشعرون بذلك‪ ،‬وهم دائمو التواصل مع هللا‪.‬‬
‫ت أَ َّن‬ ‫﴿وبَ ِّش ِر الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬ ‫ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر ُكلَّ َما ر ِ‬
‫ُزقُوا ِم ْنهَا ِم ْن ثَ َم َر ٍة ِر ْزقًا قَ الُوا هَ َذا الَّ ِذي‬ ‫لَهُ ْم َجنَّا ٍ‬
‫ُ‬
‫ُز ْقنَا ِم ْن قَ ْب ُل َوأتُوا بِ ِه ُمتَ َشابِهًا َولَهُ ْم فِيهَا أَ ْز َوا ٌج ُمطَه ََّرةٌ َوهُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [البق رة‪:‬‬‫ر ِ‬
‫‪]25‬‬
‫وقد ذكر مكارم الشيرازي مجموعة أق وال في تفس يرها‪ ،‬ومنه ا أن ه (عن دما‬
‫يؤتى بالثمار إلى أهل الجنة ثانية يقول ون‪ :‬ه ذا ال ذي تناولن اه من قب ل‪ ،‬ولكنهم حين‬
‫يأكلون هذه الثمار يجدون فيه ا طعم ا جدي دا ول ذة اخ رى‪ ،‬ف العنب أو التف اح ال ذي‬
‫نتناوله في هذه الحياة الدنيا مثال له في كل مرة نأكل ه نفس طعم الم رة الس ابقة‪ ،‬أم ا‬
‫ثمار الجنة فلها في ك ل م رة طعم وإن تش ابهت أش كالها‪ ،‬وه ذه من إمتي ازات ذل ك‬
‫العالم الذي يبدو أنه خال من كل تكرار)(‪)3‬‬
‫ومنها أن (المقصود من ذلك أنهم حين يرون ثمار الجنة يلقونها شبيهة بثم ار‬
‫هذه الدنيا‪ ،‬فيأنسون بها وال تكون غريبة عليهم‪ ،‬ولكنهم حين يتناولونها يجدون فيه ا‬

‫‪ )(1‬الترمذي رقم (‪)2553‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم ‪.)7248( 8/145‬‬
‫‪ )(3‬تفسير األمثل‪)130 /1( ،‬‬

‫‪288‬‬
‫طعما جديدا لذيذا)‬
‫ُ‬
‫أما قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وأتُوا بِ ِه ُمتَ َشابِهًا﴾ [البقرة‪ ،]25 :‬فال يعني التش ابه في الطعم‬
‫أو الشكل‪ ،‬وإنما يعني (متشابها في الج ودة والجم ال؛ فه ذه الثم ار بأجمعه ا ف اخرة‬
‫بحيث ال يمكن ترجيح إحداها على األخ رى‪ ،‬خالف ا لثم ار ه ذا الع الم المختلف ة في‬
‫درجة النضج والرائحة واللون والطعم)‬
‫ونحب أن نختم هذا الن وع من أن واع النعيم بم ا ذك ره بعض هم في ال رد على‬
‫شبهة الملل في الجنة‪ ،‬حيث أورد نصا لبعض المالحدة يقول فيه‪( :‬قد أش عر بالمل ل‬
‫في الجنة الن لكل رحلة نهاية ولكل قصة خاتمة ولكل تجربة منتهى)(‪)1‬‬
‫ثم فكك هذا الس ؤال‪ ،‬وأع اد ص ياغته‪ ،‬فق ال‪( :‬مح ور الس ؤال ه و موض وع‬
‫الملل كشعور إنساني قد يشعر به الشخص بعد اإلشباع من مل ذات ورؤى جن ة رب‬
‫العالمين‪ ..‬هل من الممكن أن يصيبني الملل؟ ماذا بعد الجن ة؟‪ ..‬ألن يص ل الش خص‬
‫لحالة الفراغ؟)‬
‫ثم أج اب على ه ذه التس ؤالت بتحدي د مفه وم المل ل‪ ،‬والتفري ق بين المفه وم‬
‫العامي الساذج‪ ،‬والمفهوم العلمي‪ ..‬أما المفهوم الساذج للملل؛ فهو الحالة الناتجة عن‬
‫توقف المثيرات التي تشعر الشخص باإلثارة والسعادة‪.‬‬
‫بينما التعريف العلمي يذكر أن (الملل هو هرمون يف رزه الجس م لكي يتوق ف‬
‫عن االس تجابة للمث ير بع د االكتف اء بكمي ة معين ة‪ ..‬وب ذلك فإن ه ليس حال ة توق ف‬
‫االستثارة والمتعة‪ ،‬ولكنه هو هرمون يفرز في المخ ليوقف اإلنسان عند حده ويقول‬
‫له (كفى)‬
‫وال دليل على ذل ك أن ه (عن دما يك ون أح د األش خاص جائع ا‪ ،‬ويت وق ألك ل‬
‫األطعمة الحلوة مثل الكع ك أو البس كويت أو غ يره‪ ..‬بع د ان يب دأ الش خص بوض ع‬
‫الطعام في فمه ويتذوق قطعة أولى يشعر باستثارة بالغ ة ومتع ة فائق ة‪ ،‬وم ع ت والي‬
‫القطع األخرى يشعر ببعض المتعة لكنها تقل تدريجيا)‬
‫والسبب في ذلك أن (جسم االنسان مخلوق ومصمم لكي يحافظ على توازن ه؛‬
‫فعن دما ترتف ع الح رارة يتع رق الجس م لالبق اء على درج ة ال برودة‪ ،‬وعن دما يق وم‬
‫الشخص بحمية غذائية النقاص الوزن يقوم الجسم باستخدام ال دهون الزائ دة لتولي د‬
‫الطاقة وابقاء الجسم على قيد الحياة‪ ،‬كذلك عندما يدخل فايروس يبدأ بتك وين خالي ا‬
‫مضادة وهكذا‪ ..‬وما يحدث في حالة األكل هو أنه بعد كمي ة معني ة من أك ل الطع ام‬
‫يقوم المخ بإفراز مادة مضادة للمادة التي تسبب االستثارة لكي تعادل أو تحايد المادة‬
‫المسببة لها؛ فيشعر الشخص باالكتفاء والمل ل من الطعم ويتوق ف عن ذل ك‪ ،‬ويب دو‬
‫ه ذا واض حا اذا ق ارنت االطمع ة الحل وة والمالح ة؛ فتج د أن المنفع ة الحدي ة فى‬
‫األطعمة الحلوة أسرع من المالح ة ألن االكث ار منه ا يض ر الجس م‪ ،‬ونفس المنط ق‬
‫ينطبق على الماء؛ فالشخص العطشان عندما يشرب الماء يشعر باستمتاع كب ير في‬

‫‪ )( 1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬قد أشعر بالملل في الحياة االخرة‪ ،‬محمد أحمد السالمي‪ ،‬منتدى التوحيد‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫أول ميليجرامات من الماء‪ ،‬وتستمر االستثارة باالنخفاض كلم ا اس تمر في الش رب‬
‫إلى أن يصل لمرحلة اليقبل معها مزيدا من الماء بتاتا‪ ،‬ب ل يص بح طعم الم اء كأن ه‬
‫سم افعى)‬
‫ونتيجة له ذا‪ ،‬فإن ه (إذا ك ان الخ الق ق ادرا على ك ل ش يء‪ ،‬ويق در أن يغ ير‬
‫كيميائات المخ؛ فعندها لن يشعر أي شخص بالمملل من أصغر حال ة امتاعي ة‪ ،‬وق د‬
‫تستمر معه لساعات أو أي ام أو س نين‪ ..‬وال ننس ى أن المش اعر الس لبية جميعه ا ق د‬
‫ربطها العلماء بهرمونات معينة تعكر صفو حي اة االنس ان‪ ،‬ول و اعتق دنا أن الخ الق‬
‫قادر على خلق مخ اليفرز المواد الكيميائية الضارة المسببة للمشاعر الس لبية‪ ،‬ومن‬
‫ضمنها الملل‪ ،‬فسيكون لديك شخص سعيد إلى األبد)‬
‫ب ـ السخط ومظاهره‪:‬‬
‫يذكر الق رآن الك ريم الكث ير من مظ اهر الس خط واأللم النفس ي ال تي يعانيه ا‬
‫المسيئون في دار الجزاء نتيجة اختياراتهم التي اختاروه ا في ال دنيا‪ ،‬ومن أهم تل ك‬
‫المظاهر تلك الحسرات التي ال تنتهي‪ ،‬وال تي نج د الق رآن الك ريم يح ذر منه ا أه ل‬
‫الدنيا كثيرا حتى ال يقعوا فيها‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬واتَّبِعُوا أَحْ َسنَ َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن‬
‫ول نَ ْفسٌ يَا َح ْس َرتَا‬ ‫َربِّ ُك ْم ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَأْتِيَ ُك ُم ْال َع َذابُ بَ ْغتَةً َوأَ ْنتُ ْم اَل تَ ْش ُعرُونَ (‪ )55‬أَ ْن تَقُ َ‬
‫ول لَ وْ أَ َّن هَّللا َ‬ ‫اخ ِرينَ (‪ )56‬أَوْ تَقُ َ‬ ‫ت لَ ِمنَ َّ‬
‫الس ِ‬ ‫ب هَّللا ِ َوإِ ْن ُك ْن ُ‬‫ت فِي َج ْن ِ‬ ‫َعلَى َم ا فَ ر ْ‬
‫َّط ُ‬
‫اب لَوْ أَ َّن لِي َك َّرةً فَ أ َ ُكونَ ِمنَ‬ ‫ول ِحينَ ت ََرى ْال َع َذ َ‬ ‫ت ِمنَ ْال ُمتَّقِينَ (‪ )57‬أَوْ تَقُ َ‬ ‫هَدَانِي لَ ُك ْن ُ‬
‫ْال ُمحْ ِسنِينَ (‪[ ﴾ )58‬الزمر‪]59 - 55 :‬‬
‫ومن تلك الحسرات ذل ك األلم ال ذي يع تريهم بس بب الخس ارة العظيم ة ال تي‬
‫خَاس ِرينَ الَّ ِذينَ‬ ‫خس روها‪ ،‬وال تي ال يمكن أن تع وض أب دا‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬قُ لْ إِ َّن ْال ِ‬
‫ك ه َُو ْال ُخس َْرانُ ْال ُمبِينُ ﴾ [الزمر‪.]15 :‬‬ ‫خَ ِسرُوا أَ ْنفُ َسهُ ْم َوأَ ْهلِي ِه ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة أَاَل َذلِ َ‬
‫وهكذا يذكر القرآن الكريم مش اهد كث يرة عن تل ك الحس رات ومش اعر الن دم‬
‫ال تي يع بر به ا المس يئون عن س وء المص ير ال ذي اخت اروه ألنفس هم‪ ،‬وذل ك عن د‬
‫﴿ويَ وْ َم يَ َعضُّ الظَّالِ ُم َعلَى يَدَيْ ِه‬ ‫تذكرهم لكل موقف من مواق ف الس وء‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫اًل‬ ‫خَ‬ ‫اَل‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫او ْيلَتَا لَ ْيتَنِي ل ْم أت ِخذ ف نًا لِي (‪)28‬‬ ‫َ‬ ‫ت َم َع ال َّرسُو ِل َسبِياًل (‪ )27‬يَ َ‬ ‫يَقُو ُل يَالَ ْيتَنِي اتَّخ َْذ ُ‬
‫ضلَّنِي َع ِن ال ِّذ ْك ِر بَ ْع َد إِ ْذ َجا َءنِي َو َكانَ ال َّش ْيطَانُ لِإْل ِ ْن َسا ِن خَ ُذواًل ﴾ [الفرق ان‪27 :‬‬ ‫لَقَ ْد أَ َ‬
‫‪]29 -‬‬
‫وهكذا ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى تمكين هللا تعالى المسيئين من‬
‫رؤية النعيم الذي كان مع دا لهم ل و عمل وا ص الحا‪ ،‬فيك ون ذل ك أعظم حس رة لهم‪،‬‬
‫حينها يوقنون أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم‪.‬‬
‫وليس ذلك خاصا بدار الجزاء‪ ،‬بل إنه يبدأ من البرزخ‪ ،‬كما ورد في الح ديث‬
‫أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬إن هذه األم ة تبتلى في قبوره ا‪ ،‬ف إذا أدخ ل الم ؤمن ق بره‪،‬‬
‫وتولى عنه أصحابه‪ ،‬ج اء مل ك ش ديد االنته ار‪ ،‬فيق ول ل ه‪ :‬م ا كنت تق ول في ه ذا‬
‫الرجل؟ فيقول المؤمن‪ :‬أق ول‪ :‬إن ه رس ول هللا وعب ده‪ ،‬فيق ول ل ه المل ك‪ :‬انظ ر إلى‬
‫مقعدك الذي كان في النار‪ ،‬قد أنجاك هللا منه‪ ،‬وأبدلك بمقع دك ال ذي ت رى من الن ار‬

‫‪290‬‬
‫مقعدك الذي ترى من الجنة‪ ،‬فيراهما كالهما‪ ،‬فيق ول الم ؤمن‪ :‬دع وني أبش ر أهلي‪،‬‬
‫فيقال له‪ :‬اسكن‪ ،‬وأما المنافق‪ ،‬فيقعد إذا تولى عنه أهله‪ ،‬فيقال له‪ :‬م ا كنت تق ول في‬
‫هذا الرجل؟ فيقول‪ :‬ال أدري‪ ،‬أقول ما يقول الناس‪ ،‬فيقال له‪ :‬ال دريت‪ ،‬ه ذا مقع دك‬
‫الذي كان لك من الجنة‪ ،‬قد أبدلت مكانه مقعدك من النار)(‪)1‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬أن هذا العرض يظل طيلة ال برزخ‪ ،‬ففي الح ديث‬
‫قال رسول هللا ‪( :‬إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي‪ ،‬إن ك ان‬
‫من أهل الجنة فمن أهل الجنة‪ ،‬وإن كان من أهل الن ار فمن أه ل الن ار‪ ،‬فيق ال‪ :‬ه ذا‬
‫مقعدك حتى يبعثك هللا يوم القيامة)(‪)2‬‬
‫ض ونَ‬ ‫ب (‪ )45‬النَّا ُر يُع َْر ُ‬ ‫ْ‬
‫آل فِرْ َع وْ نَ ُس و ُء ال َع َذا ِ‬ ‫ق بِ ِ‬ ‫ويؤيده قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َحا َ‬
‫ب ﴾ [غ افر‪،45 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫آل فِرْ عَوْ نَ أ َش َّد ال َع َذا ِ‬ ‫َ‬
‫َعلَ ْيهَا ُغ ُد ًّوا َو َع ِشيًّا َويَوْ َم تَقُو ُم السَّا َعةُ أ ْد ِخلُوا َ‬
‫‪]46‬‬
‫وسنرى الكثير من المشاهد المرتبطة بهذا عن د ح ديثنا عن التك ريم واإلهان ة‬
‫التي يتعرض لها المسيئون‪ ،‬والتي تسبب لهم المزيد من الحسرات واآلالم كل حين‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التكريم واإلهانة‪:‬‬
‫من أن واع الج زاء المعن وي ال تي ورد االهتم ام به ا كث يرا في النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬تكريم هللا تعالى للمؤمنين‪ ،‬وإهانته لغيرهم‪ ،‬وفي جميع المحال‪ ،‬ابت داء من‬
‫لحظات الموت‪ ،‬وانتهاء بدار الجزاء‪.‬‬
‫وهو جزاء وفاق مرتبط باألعمال‪ ،‬واالختيارات التي اختاره ا المحس نون أو‬
‫المسيئون ألنفسهم‪ ..‬ذلك أن المحسنين تواضعوا هلل‪ ،‬ولعباد هللا‪ ،‬وفي أرض هللا‪ ،‬ولم‬
‫يتجبروا‪ ،‬أو يتك بروا‪ ،‬أو يتس ببوا في أي إهان ة أو أذى لغ يرهم؛ فل ذلك ج ازاهم هللا‬
‫على هذه المعامالت الطيبة بكل أنواع التكريم التي لم تخطر على بالهم‪.‬‬
‫وعلى عكسهم أولئك المنحرفون المتجبرون الذين استعلوا على هللا‪ ،‬وتمردوا‬
‫على أحكامه‪ ،‬والقيم التي أمر بمراعاتها‪ ،‬فلذلك القاهم كل شيء بع د م وتهم ب أنواع‬
‫اإلهانة‪.‬‬
‫ول ذلك ك ان من أوص اف الع ذاب في الق رآن الك ريم كون ه مهين ا‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫﴿واَل يَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا أَنَّ َما نُ ْملِي لَهُ ْم َخ ْي ٌر أِل َ ْنفُ ِس ِه ْم إِنَّ َم ا نُ ْملِي لَهُ ْم لِيَ ْزدَادُوا‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫إِ ْث ًما َولَهُ ْم َعذابٌ ُم ِهين ﴾ [آل عمران‪]178 :‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫وقد وصف القرآن الكريم المستحقين لهذا النوع من الع ذاب‪ ،‬وكله ا متناس بة‬
‫مع اإلهانات التي يتعرضون لها‪ ،‬ومنها التمرد على هللا ورسوله ومجاوزة الح دود‪،‬‬
‫ْص هَّللا َ َو َرسُولَهُ َويَتَ َع َّد ُحدُو َدهُ يُ ْد ِخ ْلهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا َولَ هُ َع َذابٌ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَع ِ‬
‫ين﴾ [النساء‪]14 :‬‬ ‫ُم ِه ٌ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ومنها البخ ل وكتم ان فض ل هللا‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬ال ِذينَ يَبْخَ ل ونَ َويَ أ ُمرُونَ‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪)14779( 3/346‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪ 193 / 3‬في الجنائز‪ ،‬باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي‪ ،‬وفي بدء الخلق‪ ،‬باب‬
‫ما جاء في صفة الجنة‪ ،‬وفي الرقاق‪ ،‬باب سكرات الموت‪ ،‬ومسلم رقم (‪.)2866‬‬

‫‪291‬‬
‫ض لِ ِه َوأَ ْعتَ ْدنَا لِ ْل َك افِ ِرينَ َع َذابًا ُم ِهينًا﴾‬ ‫اس بِ ْالبُخْ ِل َويَ ْكتُ ُم ونَ َم ا آتَ اهُ ُم هَّللا ُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫النَّ َ‬
‫[النساء‪]37 :‬‬
‫هَّلل‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ومنها الكفر بمختلف أنواع ه ومظ اهره‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن ال ِذينَ يَكف رُونَ بِا ِ‬
‫ْض َونَ ْكفُ ُر بِبَع ٍ‬
‫ْض‬ ‫ُس لِ ِه َويَقُولُ ونَ نُ ْؤ ِمنُ بِبَع ٍ‬ ‫ُس لِ ِه َوي ُِري ُدونَ أَ ْن يُفَرِّ قُ وا بَ ْينَ هَّللا ِ َور ُ‬ ‫َور ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ك َس بِياًل (‪ )150‬أولَئِ كَ هُ ُم ال َك افِرُونَ َحقًا َوأ ْعتَ ْدنَا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َوي ُِري ُدونَ أ ْن يَتَّ ِخ ذوا بَ ْينَ َذلِ َ‬
‫لِ ْل َكافِ ِرينَ َع َذابًا ُم ِهينًا ﴾ [النساء‪]151 ،150 :‬‬
‫﴿والَّ ِذينَ َكفَرُوا َو َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُ ْم‬ ‫ومنها التكذيب بآيات هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ين﴾ [الحج‪]57 :‬‬ ‫َع َذابٌ ُم ِه ٌ‬
‫اس َم ْن‬ ‫﴿و ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ومنه ا اس تعمال الوس ائل المختلف ة للتض ليل‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ك لَهُ ْم َع َذابٌ‬ ‫يل هَّللا ِ بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َويَتَّ ِخ َذهَا هُ ُز ًوا أُولَئِ َ‬ ‫ض َّل ع َْن َسبِ ِ‬ ‫ث لِيُ ِ‬ ‫يَ ْشت َِري لَ ْه َو ْال َح ِدي ِ‬
‫ين ﴾ [لقمان‪]6 :‬‬ ‫ُم ِه ٌ‬
‫ومنها إذية هللا ورسوله‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ يُ ْؤ ُذونَ هَّللا َ َو َر ُس ولَهُ لَ َعنَهُ ُم هَّللا ُ‬
‫فِي ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َر ِة َوأَ َع َّد لَهُ ْم َع َذابًا ُم ِهينًا ﴾ [األحزاب‪]57 :‬‬
‫ومنها التزوير والكذب على هللا مع اإلص رار على ذل ك‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ويْ ٌل‬
‫ُصرُّ ُم ْستَ ْكبِرًا َكأ َ ْن لَ ْم يَ ْس َم ْعهَا فَبَ ِّشرْ هُ‬ ‫ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ثُ َّم ي ِ‬ ‫ك أَثِ ٍيم (‪ )7‬يَ ْس َم ُع آيَا ِ‬ ‫لِ ُك ِّل أَفَّا ٍ‬
‫ين﴾‬ ‫ُ‬
‫ب أَلِ ٍيم (‪َ )8‬وإِ َذا َعلِ َم ِم ْن آيَاتِنَ ا َش ْيئًا اتَّخَ َذهَا هُ ُز ًوا أولَئِ كَ لَهُ ْم َع َذابٌ ُم ِه ٌ‬ ‫بِ َع َذا ٍ‬
‫[الجاثية‪]9 - 7 :‬‬
‫ومنها محادة هللا ورسوله‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ ي َُح ا ُّدونَ هَّللا َ َو َر ُس ولَهُ ُكبِتُ وا‬
‫ين ﴾ [المجادل ة‪:‬‬ ‫ت َولِ ْل َكافِ ِرينَ َع َذابٌ ُم ِه ٌ‬ ‫ت بَيِّنَا ٍ‬ ‫َك َما ُكبِتَ الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ِه ْم َوقَ ْد أَ ْن َز ْلنَا آيَا ٍ‬
‫‪]5‬‬
‫ويذكر القرآن الكريم أن هذا النوع من الج زاء يب دأ من لحظ ات االحتض ار؛‬
‫حينها تخاطب المالئكة أولئ ك المتج برين الطغ اة المتم ردين على أحك ام هللا‪ ،‬ب ذلك‬
‫الضرب والتعنيف واإلهانة‪ ،‬كما صور هللا تعالى ذلك بقوله‪َ ﴿ :‬ولَ وْ تَ َرى إِ ْذ يَتَ َوفَّى‬
‫يق (‪َ )50‬ذلِكَ‬ ‫اب ْال َح ِر ِ‬ ‫ارهُ ْم َو ُذوقُوا َع َذ َ‬‫الَّ ِذينَ َكفَرُوا ْال َماَل ئِ َكةُ يَضْ ِربُونَ ُوجُوهَهُ ْم َوأَ ْدبَ َ‬
‫ْس بِظَاَّل ٍم لِ ْل َعبِي ِد﴾ [األنفال‪]51 ،50 :‬‬ ‫ت أَ ْي ِدي ُك ْم َوأَ َّن هَّللا َ لَي َ‬ ‫بِ َما قَ َّد َم ْ‬
‫ك بِأَنَّهُ ْم قَالُوا لِلَّ ِذينَ َك ِرهُوا َما نَ َّز َل هَّللا ُ َس نُ ِطي ُع ُك ْم فِي‬ ‫وقال في مشهد آخر‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫ارهُ ْم (‪ )26‬فَ َك ْيفَ إِ َذا تَ َوفَّ ْتهُ ُم ْال َماَل ئِ َكةُ يَضْ ِربُونَ ُو ُج وهَهُ ْم‬ ‫ْض اأْل َ ْم ِر َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم إِ ْس َر َ‬ ‫بَع ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض َوانَهُ فأحْ بَ ط أع َم الهُ ْم ﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َوأَ ْدبَا َرهُ ْم (‪ )27‬ذلِكَ بِأنهُ ُم اتبَعُوا َما أسْخَ ط َ َوك ِرهُ وا ِر ْ‬
‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫[محمد‪]28 - 26 :‬‬
‫ت َو ْال َماَل ئِ َك ةُ‬ ‫ت ال َم وْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫وقال في مشهد آخر‪َ ﴿ :‬ولوْ تَ َرى إِ ِذ الظالِ ُمونَ فِي َغ َم َرا ِ‬
‫هَّللا‬
‫ون بِ َم ا ُكنت ْم تَقول ونَ َعلى ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫اب ْالهُ ِ‬
‫بَا ِسطُو أَ ْي ِدي ِه ْم أَ ْخ ِرجُوا أَ ْنفُ َس ُك ُم ْاليَوْ َم تُجْ َزوْ نَ َع َذ َ‬
‫ق َو ُك ْنتُ ْم ع َْن آيَاتِ ِه تَ ْستَ ْكبِرُونَ ﴾ [األنعام‪]93 :‬‬ ‫َغ ْي َر ْال َح ِّ‬
‫وهكذا يقرن هللا تعالى مشاهد اإلهانة باألسباب الداعية لها‪ ،‬ح تى ي بين م دى‬
‫العدل اإللهي الذي يتعامل مع كل جهة بما اختارته لنفسها‪.‬‬
‫وفي مقابل هؤالء يصف هللا تعالى أول لقاء يجري بين المحسنين والمالئك ة‪،‬‬

‫‪292‬‬
‫حيث يبدؤونهم بالسالم‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ تَت ََوفَّاهُ ُم ْال َماَل ئِ َك ةُ طَيِّبِينَ يَقُولُ ونَ َس اَل ٌم‬
‫َعلَ ْي ُك ُم ا ْد ُخلُوا ْال َجنَّةَ بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ ﴾ [النحل‪]32 :‬‬
‫وهكذا يذكر القرآن الك ريم أن واع التك ريم والتبجي ل ال تي يلقاه ا الم ؤمن في‬
‫المواقف المختلفة من طرف المالئكة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ قَ الُوا َربُّنَ ا هَّللا ُ ثُ َّم‬
‫اس تَقَا ُموا تَتَنَ َّز ُل َعلَ ْي ِه ُم ْال َماَل ئِ َك ةُ أَاَّل تَخَ افُوا َواَل تَحْ َزنُ وا َوأَب ِْش رُوا بِ ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُك ْنتُ ْم‬ ‫ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫تُو َع ُدونَ (‪ )30‬نَحْ نُ أوْ لِيَ ا ُؤ ُك ْم فِي ال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا َوفِي اآْل ِخ َر ِة َولَ ُك ْم فِيهَ ا َم ا ت َْش تَ ِهي‬
‫ور َر ِح ٍيم﴾ [فصلت‪]32 - 30 :‬‬ ‫أَ ْنفُ ُس ُك ْم َولَ ُك ْم فِيهَا َما تَ َّد ُعونَ (‪ )31‬نُزُاًل ِم ْن َغفُ ٍ‬
‫وي ذكر الق رآن الك ريم تل ك التحي ات الطيب ات الط اهرات ال تي تس تقبل به ا‬
‫ق الَّ ِذينَ اتَّقَ وْ ا َربَّهُ ْم إِلَى ْال َجنَّ ِة ُز َم رًا َحتَّى إِ َذا‬ ‫المالئكة المحسنين‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ِس ي َ‬
‫ال لَهُ ْم خَزَ نَتُهَ ا َس اَل ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم فَا ْد ُخلُوهَ ا خَالِ ِدينَ ﴾‬ ‫ت أَ ْب َوابُهَ ا َوقَ َ‬ ‫َجا ُءوهَ ا َوفُتِ َح ْ‬
‫[الزمر‪]73 :‬‬
‫وليس ذلك خاصا باستقبالهم‪ ،‬بل تظل تلك التحي ات دائم ة بينهم‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫صاَل ةَ َوأَ ْنفَقُوا ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم ِس ًّرا َو َعاَل نِيَةً‬ ‫صبَرُوا ا ْبتِغَا َء َوجْ ِه َربِّ ِه ْم َوأَقَا ُموا ال َّ‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ َ‬
‫ات َع ْد ٍن يَ ْد ُخلُونَهَا َو َم ْن‬ ‫ُ‬ ‫َويَ ْد َرءُونَ بِ ْال َح َسنَ ِة َّ‬
‫ار (‪َ )22‬جنَّ ُ‬ ‫الس يِّئَةَ أولَئِ كَ لَهُ ْم ُع ْقبَى ال َّد ِ‬
‫ب (‪)23‬‬ ‫صلَ َح ِم ْن آبَ ائِ ِه ْم َوأَ ْز َوا ِج ِه ْم َو ُذرِّ يَّاتِ ِه ْم َو ْال َماَل ئِ َك ةُ يَ ْد ُخلُونَ َعلَ ْي ِه ْم ِم ْن ُك لِّ بَ ا ٍ‬ ‫َ‬
‫ار﴾ [الرعد‪]24 - 22 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫د‬ ‫ال‬ ‫ى‬ ‫ب‬‫ق‬‫ْ‬ ‫ع‬‫ُ‬ ‫م‬
‫ْ َِ ََ ْ ِ َ َ‬‫ْ‬
‫ع‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫رْ‬ ‫ب‬‫ص‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ْ‬
‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫اَل‬
‫َس ٌ‬
‫وفي مق ابلهم ذك ر هللا تع الى تل ك اللعن ات ال تي يس معها المس يئون من ك ل‬
‫ق الَّ ِذينَ َكفَ رُوا إِلَى َجهَنَّ َم‬ ‫الجهات‪ ،‬ابت داء من دخ ولهم إلى جهنم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ِس ي َ‬
‫ُس ٌل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلُ ونَ‬ ‫ْ‬
‫ت أَ ْب َوابُهَا َوقَ ا َل لَهُ ْم خَزَ نَتُهَ ا أَلَ ْم يَ أتِ ُك ْم ر ُ‬ ‫ُز َمرًا َحتَّى إِ َذا َجا ُءوهَا فُتِ َح ْ‬
‫ب َعلَى‬ ‫ت َكلِ َمةُ ْال َع َذا ِ‬ ‫ت َربِّ ُك ْم َويُ ْن ِذرُونَ ُك ْم لِقَا َء يَوْ ِم ُك ْم هَ َذا قَالُوا بَلَى َولَ ِك ْن َحقَّ ْ‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم آيَا ِ‬
‫س َمثْ َوى ْال ُمتَ َكب ِِّرينَ ﴾‬ ‫اب َجهَنَّ َم خَالِ ِدينَ فِيهَ ا فَبِ ْئ َ‬ ‫ْال َك افِ ِرينَ (‪ )71‬قِي َل ا ْد ُخلُ وا أَبْ َو َ‬
‫[الزمر‪]72 ،71 :‬‬
‫ض ونَ عَهْ َد هَّللا ِ‬ ‫وهكذا تصب عليهم اللعنات كل حين‪ ،‬قال تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ يَ ْنقُ ُ‬
‫ك لَهُ ُم‬ ‫ض أُولَئِ َ‬ ‫ُوص َل َويُ ْف ِس ُدونَ فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد ِميثَاقِ ِه َويَ ْقطَعُونَ َما أَ َم َر هَّللا ُ بِ ِه أَ ْن ي َ‬
‫ار﴾ [الرعد‪]25 :‬‬ ‫اللَّ ْعنَةُ َولَهُ ْم سُو ُء ال َّد ِ‬
‫وهكذا يذكر الق رآن الك ريم إهان ة أه ل جهنم لبعض هم بعض ا‪ ،‬وذل ك عن دما‬
‫تحص ل المناوش ات بينهم فيمن ه و الس بب فيم ا يحص ل لهم من أن واع اآلالم‪ ،‬ق ال‬
‫اب أَ َّن ْالقُ َّوةَ هَّلِل ِ‬ ‫﴿ولَوْ يَ َرى الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا إِ ْذ يَ َروْ نَ ْال َع َذ َ‬ ‫تعالى يذكر بعض تلك المشاهد‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ب (‪ )165‬إِذ تَبَ رَّأ ال ِذينَ اتبِ ُع وا ِمنَ ال ِذينَ اتبَ ُع وا َو َرأ ُوا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َج ِميعًا َوأَ َّن هَّللا َ َش ِدي ُد ْال َع َذا ِ‬
‫ت بِ ِه ُم اأْل َ ْسبَابُ (‪َ )166‬وقَا َل الَّ ِذينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَ َّن لَنَ ا َك َّرةً فَنَتَبَ رَّأَ ِم ْنهُ ْم‬ ‫اب َوتَقَطَّ َع ْ‬ ‫ْال َع َذ َ‬
‫ار (‬ ‫َار ِجينَ ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ْم َو َما هُ ْم بِخ ِ‬ ‫ك ي ُِري ِه ُم هَّللا ُ أَ ْع َمالَهُ ْم َح َس َرا ٍ‬ ‫َك َما تَبَ َّر ُءوا ِمنَّا َك َذلِ َ‬
‫‪[ ﴾ )167‬البقرة‪]168 - 165 :‬‬
‫ت َعل ْي ِه ْم﴾ [البق رة‪]167 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬
‫وفي قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ك َذلِكَ يُ ِري ِه ُم ُ أ ْع َم الهُ ْم َح َس َرا ٍ‬
‫َ‬
‫إش ارة إلى أن تل ك الحس رة وس ببها من ص نع أي ديهم‪ ،‬كم ا ع بر عن ذل ك اإلم ام‬
‫الصادق في تفسيره لآلية الكريمة ببعض مصاديقها‪ ،‬فقال‪(:‬هو الرجل يدع الم ال ال‬

‫‪293‬‬
‫ينفق ه في طاع ة هللا بخال‪ ،‬ثم يم وت فيدع ه لمن يعم ل ب ه في طاع ة هللا أو في‬
‫معصيته‪ ..‬فإن عمل به في طاعة هللا رآه في ميزان فزاده حسرة‪ ،‬وقد كان المال ل ه‬
‫أو عمل به في معصية هللا فهو قواه بذلك المال حتى عمل به في معاصي هللا)(‪)1‬‬
‫وهكذا يذكر القرآن الكريم تلك الصيحات الكثيرة الممتلئة باأللم‪ ،‬عندما يكف ر‬
‫الظ المون بعض هم ببعض‪ ،‬ويلعن بعض هم بعض ا محتجين ومت برئين‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ت أُ َّمةٌ‬
‫ار ُكلَّ َم ا َدخَ لَ ْ‬
‫س فِي النَّ ِ‬‫ت ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم ِمنَ ْال ِجنِّ َواإْل ِ ْن ِ‬‫﴿قَ ا َل ا ْد ُخلُ وا فِي أُ َم ٍم قَ ْد خَ لَ ْ‬
‫ض لُّونَا‬ ‫ت أُ ْخ َراهُ ْم أِل ُواَل هُ ْم َربَّنَ ا هَ ؤُاَل ِء أَ َ‬
‫ار ُكوا فِيهَا َج ِميعًا قَالَ ْ‬ ‫َت أُ ْختَهَا َحتَّى إِ َذا ا َّد َ‬
‫لَ َعن ْ‬
‫ُ‬
‫ت أواَل هُ ْم‬ ‫ْف َولَ ِك ْن اَل تَ ْعلَ ُم ونَ (‪َ )38‬وقَ الَ ْ‬ ‫ضع ٌ‬ ‫ال لِ ُك ٍّل ِ‬ ‫ار قَ َ‬ ‫ض ْعفًا ِمنَ النَّ ِ‬ ‫فَآتِ ِه ْم َع َذابًا ِ‬
‫اب بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْك ِس بُونَ (‪﴾ )39‬‬ ‫ْ‬
‫ض ٍل فَ ُذوقُوا ال َع َذ َ‬ ‫أِل ُخْ َراهُ ْم فَ َم ا َك انَ لَ ُك ْم َعلَ ْينَ ا ِم ْن فَ ْ‬
‫[األعراف‪]40 - 38 :‬‬
‫وهذا كله يشير إلى أن كل من باع هللا ودينه إلرض اء أي جه ة من الجه ات؛‬
‫سوف ترتد عليه تلك الجهة نفسها التي باع هللا من أجلها‪ ،‬كم ا ورد في الح ديث عن‬
‫رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬من التمس رض ى هللا بس خط الن اس‪ ،‬رض ي هللا عن ه‪،‬‬
‫وأرضى الناس عنه‪ ،‬ومن التمس رضا الناس بسخط هللا‪ ،‬س خط هللا علي ه‪ ،‬وأس خط‬
‫عليه الن اس)(‪ ،)2‬وفي رواي ة‪( :‬من التمس رض اء هللا بس خط الن اس كف اه هللا مؤن ة‬
‫الناس‪ ،‬ومن التمس رضاء الناس بسخط هللا وكله هللا إلى الناس)‬
‫‪ 4‬ـ التواصل والقطيعة‪:‬‬
‫من أهم أنواع الجزاء المعنوي ال تي يج ازي هللا تع الى به ا عب اده المحس نين‬
‫والمسيئين وأشرفها وأخطرها ما يمكن أن نطلق علي ه [التواص ل والقطيع ة]‪ ،‬ذل ك‬
‫أن القرآن الكريم يعرض حياة المحسنين والمسيئين في دار الجزاء باعتباره ا حي اة‬
‫اجتماعية ترتبط بجهات كثيرة ابتداء من أسرهم وأصدقائهم‪ ،‬والمالئكة ال تي تحي ط‬
‫بهم من كل جانب‪ ،‬وغيرهم من المخلوقات‪ ،‬والتي تنتهي جميعا بالعالقة والتواص ل‬
‫مع هللا تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُم ْنتَهَى﴾ [النجم‪]42 :‬‬
‫وهذا ما يعطي ذلك الج زاء بش قيه أبع ادا تربوي ة كب يرة‪ ،‬ذل ك أن المحس نين‬
‫والمس يئين بس بب تل ك العالق ات الكث يرة ال تي يج دونها‪ ،‬والمع اني الكث يرة ال تي‬
‫يسمعونها يسيرون في سيرهم التكاملي‪ ،‬إم ا لل ترقي في درج ات الجن ة‪ ،‬أو ال ترقي‬
‫في دركات جهنم إلى أن يخرجوا منها إن كانت لديهم قابلة ذلك الترقي‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬
‫وربما يكون أحسن قانون للتعبير عن العالقات التي تربط أه ل دار الج زاء‪،‬‬
‫وم ا قبله ا في أرض المحش ر تل ك القاع دة المعروف ة ال تي تق ول‪( :‬م ا ك ان هلل دام‬
‫واتصل‪ ،‬وما كان لغير هللا انقطع وانفص ل)؛ وكأنه ا تنب ه وت ربي أه ل تل ك ال ديار‬
‫على ضرورة إقامة العالقة مع هللا‪ ،‬واعتبارها األصل الذي تقوم عليه كل العالقات‪.‬‬
‫وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى عن د إخب اره عن الق وانين ال تي تحكم‬

‫‪ )(1‬بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،73‬ص‪.142‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي (‪)2414‬‬

‫‪294‬‬
‫ْض َع د ٌُّو إِاَّل ْال ُمتَّقِينَ ﴾ [الزخ رف‪:‬‬ ‫ْض هُ ْم لِبَع ٍ‬ ‫النشأة األخرى‪ ،‬فقال‪﴿ :‬اأْل َ ِخاَّل ُء يَوْ َمئِ ٍذ بَع ُ‬
‫‪ ،]67‬وقد علق علي ه الزمخش ري بقول ه‪( :‬أى‪ :‬تنقط ع في ذل ك الي وم ك ل خل ة بين‬
‫المتخالين في غير ذات هللا‪ ،‬وتنقلب عداوة ومقتا‪ ،‬إال خلة المتصادقين في هللا‪ ،‬فإنه ا‬
‫الخلة الباقية المزدادة ق ّوة إذا رأوا ثواب التحاب في هللا تعالى والتباغض في هللا)(‪)1‬‬
‫بناء على هذا نذكر هنا بعض مظاهر التواصل والقطيعة ال تي تتجلى في دار‬
‫الجزاء‪ ،‬وذلك من خالل العنوانين التاليين‪:‬‬
‫أ ـ التواصل ومظاهره‪:‬‬
‫يذكر القرآن الكريم الكثير من المظاهر التي تبين مدى التواصل الذي يح دث‬
‫بين المؤمنين في الجنة بعضهم ببعض‪ ،‬أو م ع المالئك ة أو م ع هللا تع الى‪ ،‬أو ح تى‬
‫مع المخلوقات األخرى التي ال نعرف عنها اآلن شيئا‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك م ا ورد تعقيب ا على اآلي ة الس ابقة‪ ،‬وال تي تض منت‬
‫اإلخبار عن ق وانين االتص ال ال تي تحكم النش أة األخ رى‪﴿ :‬اأْل َ ِخاَّل ُء يَوْ َمئِ ٍذ بَع ُ‬
‫ْض هُ ْم‬
‫ْض َع ُد ٌّو إِاَّل ْال ُمتَّقِينَ ﴾ [الزخ رف‪ ،]67 :‬فق د ق ال تع الى بع دها ي بين بعض‬ ‫لِبَع ٍ‬
‫ف َعلَ ْي ُك ُم ْاليَوْ َم َواَل أَ ْنتُ ْم تَحْ َزنُونَ (‪ )68‬الَّ ِذينَ آ َمنُوا بِآيَاتِنَ ا‬‫مقتضياتها‪ ﴿ :‬يَا ِعبَا ِد اَل َخوْ ٌ‬
‫َو َكانُوا ُم ْسلِ ِمينَ (‪ )69‬ا ْد ُخلُوا ْال َجنَّةَ أَ ْنتُ ْم َوأَ ْز َوا ُج ُك ْم تُحْ بَرُونَ ﴾ [الزخرف‪]70 - 68 :‬‬
‫فهاتان اآليتان الكريمتان‪ ،‬تشيران إلى ثالثة أنواع من التواصل‪:‬‬
‫أولها‪ :‬التواصل مع هللا تعالى حيث يكلمهم‪ ،‬ويكلمونه‪ ،‬ويس معون من ه أمث ال‬
‫هذه البشارة العظيمة‪ ،‬وغيرها كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬س اَل ٌم قَ وْ اًل ِم ْن َربٍّ َر ِح ٍيم﴾ [يس‪:‬‬
‫‪]58‬‬
‫ويدل على ه ذا التواص ل م ا ورد في األح اديث من ك ثرة ذك ر المؤم نين هلل‬
‫تعالى‪ ،‬كما قال ‪( :‬يُلهَمون التسبيح والتحميد كما ي ُلهَمون النَّفَس)(‪)2‬‬
‫وه ذا ي رد على تل ك التص ورات البدائي ة للجن ة‪ ،‬وبكونه ا محال لأله واء‬
‫والغرائز فقط‪ ،‬بينما هي في الحقيقة مدرسة تربوية أخرى يترقى فيها المؤمنون في‬
‫مراتب السلوك إلى هللا تعالى بعد أن توفر لهم البيئة المناسبة لذلك‪.‬‬
‫ولذلك كان أعظم نعمة وسعادة للمؤمنين ذلك التواصل مع هللا‪ ،‬وال ذي يتجلى‬
‫في نفس تلك المظاهر التي كانت في الدنيا‪ ،‬ولكن بصورة أك ثر وض وحا وجم اال‪..‬‬
‫فمعرفة هللا أو الرؤي ة القلبي ة هلل هي أك بر النعم ال تي يحن له ا المؤمن ون‪ ،‬وخاص ة‬
‫المقربين منهم‪.‬‬
‫ونحب أن نرد هنا باختصار على ما س بق أن أش رنا إلي ه بتفص يل في كت اب‬
‫[السلفية والوثنية المقدسة] من آثار تلك الرؤي ة التجس يمية ال تي تس ربت للمس لمين‬
‫عن طريق اليهود وغيرهم‪ ،‬والذين صوروا التواصل مع هللا تعالى بصورة ال تلي ق‬
‫بجالله وجماله‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير الزمخشري‪)263 /4( ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم‪ ،‬رقم ‪.2835‬‬

‫‪295‬‬
‫وبناء على رؤيتهم التجسيمية هلل‪ ،‬فقد صوروا التواصل مع ه بكون ه ال يتم إال‬
‫من خالل رؤيت ه رؤي ة حس ية كم ا ي رى القم ر وكم ا ت رى الش مس‪ ،‬وكم ا ت رى‬
‫األجسام‪ ،‬لتتمتع العين برؤيته كما تتمت ع برؤي ة األزه ار الجميل ة والح دائق الغن اء‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫ولهذا نراهم يحشرون رؤية هللا تعالى في الجنة في المواض ع ال تي يتح دثون‬
‫فيها عن جمال صور أهل الجنة‪ ،‬وجمال قصورهم‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومن أراد أن يرى تفاص يل ذل ك يمكن ه الرج وع إلى كت اب [ح ادي األرواح‬
‫إلى بالد األفراح] البن القيم‪ ،‬فقد عقد فيه فصال بعنوان [ذكر زيارة أهل الجنة ربهم‬
‫تبارك وتعالى](‪ ،)1‬وذكر قبله بابا بعنوان‪[ :‬في ذكر سوق الجنة وما أع د هللا تع الى‬
‫فيه ألهله ا](‪ )2‬وفي كليهم ا ذك ر مش اهد للق اء الحس ي ال ذي يج ري بين المؤم نين‬
‫وربهم في الجنة‪ ،‬كما يجري بين البشر والملوك واألمراء في الدنيا‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات التي يستدلون بها في ه ذا المج ال م ا رواه عن س عيد بن‬
‫المسيب‪ ،‬أنه لقي أبا هريرة‪ ،‬فق ال أب و هري رة‪ :‬أس أل هللا أن يجم ع بي ني وبين ك في‬
‫سوق الجنة‪ .‬فقال سعيد‪ :‬أو فيها س وق؟ ق ال‪ :‬نعم‪ .‬أخ برني رس ول هللا ‪ :‬أن أه ل‬
‫الجنة إذا دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم‪ ،‬فيؤذن لهم في مقدار ي وم الجمع ة من أي ام‬
‫ال دنيا‪ ،‬ف يزورون هللا في روض ة من ري اض الجن ة‪ ،‬فتوض ع لهم من ابر من ن ور‪،‬‬
‫ومنابر من لؤلؤ‪ ،‬ومنابر من زبرجد‪ ،‬ومنابر من ياقوت‪ ،‬ومن ابر من ذهب‪ ،‬ومن ابر‬
‫من فضة‪ ،‬ويجلس أدناهم‪ ،‬وما فيهم دني‪ ،‬على كثبان المس ك والك افور‪ ،‬وم ا ي رون‬
‫أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا)‪ ،‬قال أبو هريرة‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا هل‬
‫نرى ربنا يوم القيامة؟ قال‪( :‬نعم‪ ،‬هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة الب در؟)‬
‫قلنا‪ :‬ال‪ .‬ق ال‪ :‬فك ذلك ال تم ارون في رؤي ة ربكم تب ارك وتع الى‪ ،‬وال يبقى في ذل ك‬
‫المجلس أحد إال حاضره هللا محاضرة‪ ،‬حتى يقول‪ :‬ي ا فالن بن فالن بن فالن أت ذكر‬
‫يوم فعلت كذا وكذا‪ ،‬فيذكره بعض غدراته في الدنيا‪ ،‬فيقول‪ :‬بلى‪ .‬فيقول‪ :‬يا رب أفلم‬
‫تغف ر لي؟ فيق ول‪ :‬بلى‪ ،‬فبمغف رتي بلغت منزلت ك ه ذه‪ .‬ق ال‪ :‬فبينم ا هم على ذل ك‬
‫غشيتهم سحابة من فوقهم‪ ،‬فأمطرت عليهم طيبا لم يج دوا مث ل ريح ه ش يئا ق ط‪ ،‬ثم‬
‫يقول ربنا تبارك وتعالى‪ :‬قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة‪ ،‬فخذوا ما اش تهيتم‪،‬‬
‫قال‪ :‬فيأتون سوقا قد حفت بها المالئكة‪ ،‬فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله‪ ،‬ولم تس مع‬
‫اآلذان‪ ،‬ولم تخطر على القلوب‪ .‬قال‪ :‬فيحمل لنا ما اشتهيناه‪ ،‬ليس يباع فيه شيء وال‬
‫يش ترى‪ ،‬في ذل ك الس وق يلقى أه ل الجن ة بعض هم بعض ا‪ .‬ق ال‪ :‬فيقب ل ذو ال بزة‬
‫المرتفعة‪ ،‬فيلقى من ه و دون ه‪ ،‬وم ا فيهم دني‪ ،‬فيروع ه م ا ي رى علي ه من اللب اس‬
‫والهيئة‪ ،‬فما ينقضي آخر حديثه ح تى يتمث ل علي ه أحس ن من ه‪ ،‬وذل ك أن ه ال ينبغي‬
‫ألحد أن يح زن فيه ا‪ .‬ق ال‪ :‬ثم ننص رف إلى منازلن ا فيلقان ا أزواجن ا فيقلن‪ :‬مرحب ا‬

‫حادي األرواح إلى بالد األفراح (ص‪.)267 :‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫المرجع السابق‪( ،‬ص‪.)264 :‬‬ ‫‪)(2‬‬

‫‪296‬‬
‫وأهال بحبنا‪ ،‬لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا علي ه‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫(إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى‪ ،‬ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا)(‪)1‬‬
‫ومن الروايات التي يوردونها في هذا ما يروونه أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬بين ا‬
‫أهل الجنة في نعيمهم ْإذ سطع له ْم نو ٌر فرفعوا رؤوسهم‪،‬فإذا الربُّ قد أش رف عليهم‬
‫من فوقهم فقال‪ :‬السالم عليكم يا أهل الجنة‪،‬قال‪ :‬وذلك قول هللا تع الى‪َ ﴿ :‬س اَل ٌم قَ وْ اًل‬
‫ِم ْن َربٍّ َر ِح ٍيم﴾ [يس‪،]58 :‬قال‪ :‬فينظر إليهم وينظ رون إلي ه‪،‬فال يلتفت ون إلى ش يء‬
‫من النعيم ما داموا ينظرون إليه ح تى يحتجب عنهم ويبقى ن ورُه وبركت ه عليهم في‬
‫ديارهم) (‪)2‬‬
‫هذه بعض المشاهد التي يحرص المجسمة على ذكرها في كل محل‪ ،‬وهي ال‬
‫تختلف كثيرا عن المش اهد ال تي نقرؤه ا في كتب الت اريخ واألس اطير عن مج الس‬
‫المل وك واألم راء‪ ..‬حيث يقرب ون ن دمانهم‪ ،‬ثم يص لونهم ب أنواع الص الت‪ ..‬وهي‬
‫عالقة مادية صرفة ال مج ال فيه ا للمش اعر الس امية‪ ،‬وال للعواط ف الجياش ة ال تي‬
‫رأيناها عند أهل العرفان‪.‬‬
‫ومن العجب ال ذي ن راه في أمث ال ه ذه الرواي ات ه و إس كانهم هلل س بحانه‬
‫وتعالى خالق هذا الكون جميعا في دار من دور الجنة ليجاورهم‪ ،‬ويص لهم‪ ،‬وت زداد‬
‫صورهم حسنا بذلك‪ ،‬وكأن هللا تعالى لم يخلق سواهم‪ ،‬وال له تدبير لغيرهم‪.‬‬
‫ومن العجب األك بر ه و أح اديثهم عن جم ال هللا تع الى‪ ..‬وهي أح اديث عن‬
‫الجمال الحسي‪ ،‬ال عن الجمال العظيم الذي ال يمكن اإلحاطة به‪ ،‬ومن أمثلة ذلك م ا‬
‫أن يع بر عن‬ ‫قاله الهرَّاس‪ ،‬فقد قال‪( :‬أم ا جم ال ال ذات ؛ فه و م ا ال يمكن لمخل وق َّ‬
‫أن أهل الجنة مع ما هم في ه من النعيم المقيم‬ ‫شيء منه أو يبلغ بعض كنهه‪ ،‬وحسبك َّ‬
‫وأفانين اللذات والسرور التي ال يقدر قدرها‪ ،‬إذا رأوا ربهم‪ ،‬وتمتعوا بجماله ؛ نسوا‬
‫كل ما هم فيه‪،‬واضمحل عندهم هذا النعيم‪ ،‬وودوا لو تدوم لهم ه ذه الح ال‪ ،‬ولم يكن‬
‫شيء أحب إليهم من االستغراق في شهود هذا الجم ال‪،‬واكتس بوا من جمال ه ون وره‬
‫سبحانه جماالً إلى جمالهم‪،‬وبقوا في شوق دائم إلى رؤيت ه‪،‬ح تى إنهم يفرح ون بي وم‬
‫المزيد فرحا ً تكاد تطير له القلوب)(‪)3‬‬
‫وهو في هذا الكالم الذي يشبه كالم العارفين في ألفاظه‪ ،‬إال أن ه ال ي رقى إلى‬
‫مقاصدهم‪ ..‬فالجمال عنده هو جمال صورة هللا الحسية التي لم يتصوروا أن يع رف‬
‫هللا من دونها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬التواصل م ع األس ر‪ ،‬وي دل علي ه باإلض افة لتل ك اآلي ة الكريم ة قول ه‬
‫تعالى‪﴿ :‬فَأ َ َّما َم ْن أُوتِ َي ِكتَابَهُ بِيَ ِمينِ ِه (‪ )7‬فَ َس وْ فَ يُ َح َ‬
‫اس بُ ِح َس ابًا يَ ِس يرًا (‪َ )8‬ويَ ْنقَلِبُ‬
‫إِلَى أَ ْهلِ ِه َم ْسرُورًا ﴾ [االنشقاق‪ ،]9 - 7 :‬وهذا يدل على أن ألهل الجنة أسرا مثلم ا‬

‫السنة البن أبي عاصم (‪.)258 /1‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه ابن ماجه برقم ( ‪) 184‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫شرح النونية‪.2/64 :‬‬ ‫‪)(3‬‬

‫‪297‬‬
‫كان لهم في الدنيا‪.‬‬
‫َّ‬
‫﴿وال ِذينَ‬ ‫وقد أخبر القرآن الكريم أن الذرية الصالحة تتبع آباءها‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫آ َمنُوا َواتَّبَ َع ْتهُ ْم ُذ ِّريَّتُهُ ْم بِإِي َما ٍن أَ ْل َح ْقنَا بِ ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُ ْم َو َما أَلَ ْتنَاهُ ْم ِم ْن َع َملِ ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء ُك لُّ‬
‫ين﴾ [الطور‪]21 :‬‬ ‫ب َر ِه ٌ‬ ‫ئ بِ َما َك َس َ‬ ‫ا ْم ِر ٍ‬
‫ُ‬
‫ات َع ْد ٍن يَ ْد ُخلونَهَا َو َم ْن‬ ‫﴿جنَّ ُ‬ ‫وأخبر أن كل العائلة الصالحة تجتمع‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫اج ِه ْم َو ُذ ِّريَّاتِ ِه ْم﴾ [الرعد‪]23 :‬‬ ‫صلَ َح ِم ْن آبَائِ ِه ْم َوأَ ْز َو ِ‬ ‫َ‬
‫ولهذا لم يكتف عباد ال رحمن بال دعاء ألنفس هم ب دخول الجن ة‪ ،‬وإنم ا راح وا‬
‫﴿والَّ ِذينَ يَقُولُونَ َربَّنَا هَبْ لَنَا‬ ‫يطلبون أن يجتمعوا مع أسرهم جميعا فيها‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫اجنَا َو ُذ ِّريَّاتِنَا قُ َّرةَ أَ ْعيُ ٍن َواجْ َع ْلنَ ا لِ ْل ُمتَّقِينَ إِ َمامًا﴾ [الفرق ان‪ ،]74 :‬وأخ بر عن‬ ‫ِم ْن أَ ْز َو ِ‬
‫ت َع ْد ٍن الَّتِي َو َع ْدتَهُ ْم‬ ‫﴿ربَّنَا َوأَ ْد ِخ ْلهُ ْم َجنَّا ِ‬
‫دعاء المالئكة عليهم السالم لهم بهذا‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫صلَ َح ِم ْن آبَائِ ِه ْم َوأَ ْز َوا ِج ِه ْم َو ُذ ِّريَّاتِ ِه ْم إِنَّكَ أ ْنتَ ال َع ِزي ُز ال َح ِكي ُم ﴾ [غافر‪]8 :‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َو َم ْن َ‬
‫ثالثها‪ :‬التواص ل م ع اإلخ وان واألص دقاء‪ ،‬المتس اوون في الدرج ة‬
‫والمتشاكلون في الطباع‪ ،‬وهو ما عبرت عنه آيات كثيرة‪ ،‬تذكر أن القرناء يكون ون‬
‫في درجة واحدة‪ ،‬بناء على اتفاق طباعهم ومواقفهم وأنواع جزائهم‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫اجهُ ْم﴾‬ ‫ت﴾ (التك وير‪ ،)7:‬وق ال‪﴿ :‬احْ ُش رُوا الَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا َوأَ ْز َو َ‬ ‫﴿ َوإِ َذا النُّفُ وسُ ُز ِّو َج ْ‬
‫ض يِّقا ً ُمقَ َّرنِينَ َد َع وْ ا هُنَالِ كَ ثُبُ وراً﴾‬ ‫ُ‬
‫﴿وإِ َذا أ ْلقُوا ِم ْنهَ ا َم َكان ا ً َ‬ ‫(الصافات‪ ،)22 :‬وقال‪َ :‬‬
‫(الفرقان‪)13:‬‬
‫ولهذا يذكر القرآن الكريم أن العالقات االجتماعية التي تقام بين أهل الجنة أو‬
‫أهل النار تقام على أساس التشاكل بينهم‪ ،‬ذلك أن كل مرتبة في الجنة أو النار تض م‬
‫ض ْلنَا‬ ‫أصنافا معي نين‪ ،‬بحس ب أعم الهم وم راتبهم‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬ا ْنظُ رْ َكيْفَ فَ َّ‬
‫ضياًل ﴾ [اإلسراء‪]21 :‬‬ ‫ت َوأَ ْكبَ ُر تَ ْف ِ‬ ‫ْض َولَآْل ِخ َرةُ أَ ْكبَ ُر د ََر َجا ٍ‬
‫ْضهُ ْم َعلَى بَع ٍ‬ ‫بَع َ‬
‫ولكن مع ذلك يمكن أن يرتقي الشخص إلى مرتبة أخرى‪ ،‬إن ك ان ل ه عالق ة‬
‫َّس و َل فَأُولَئِ كَ َم َع الَّ ِذينَ أَ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ‬ ‫بها‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ْن ي ُِط ِع هَّللا َ َوالر ُ‬
‫صدِّيقِينَ َوال ُّشهَدَا ِء َوالصَّالِ ِحينَ َو َحسُنَ أُولَئِكَ َرفِيقًا﴾ [النساء‪]69 :‬‬ ‫النَّبِيِّينَ َوال ِّ‬
‫وورد في الحديث أن رجال جاء إلى رسول هللا ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رس ول هللا م تى‬
‫قيام الساعة؟ فقام النبي ‪ ‬إلى الصالة‪ ،‬فلما قضى صالته قال‪ :‬أين السائل عن قيام‬
‫الساعة؟‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬أنا يا رسول هللا قال‪ :‬ما أعددت له ا؟ ق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا م ا‬
‫أعددت لها كب ير ص الة وال ص وم إال أني أحب هللا ورس وله‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪‬‬
‫(المرء مع من أحب‪ ،‬وأنت مع من أحببت)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا كله يرغب هللا تعالى عباده في الجنة بذكر تلك المجالس ال تي‬
‫ت َو ُعيُ و ٍن (‬ ‫تجمع أهل الجنة بعض هم ببعض‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُمتَّقِينَ فِي َجنَّا ٍ‬
‫ُور ِه ْم ِم ْن ِغلٍّ إِ ْخ َوانًا َعلَى ُسر ٍ‬
‫ُر‬ ‫صد ِ‬ ‫‪ )45‬ا ْد ُخلُوهَا بِ َساَل ٍم آ ِمنِينَ (‪َ )46‬ونَ َز ْعنَا َما فِي ُ‬
‫ُمتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر‪]47 - 45 :‬‬

‫‪ )(1‬البخاري (‪ ، )3688‬ومسلم (‪.)2639‬‬

‫‪298‬‬
‫وقد علق عليها الشيخ مكارم الشيرازي بقوله‪( :‬إن جلساتهم اإلجتماعية خالية‬
‫من القيود المتعب ة ال تي يع اني منه ا عالمن ا ال دنيوي‪ ،‬فال طبقي ة وال ت رجيح ب دون‬
‫مرجح‪ ،‬والكل إخوان‪ ،‬يجلسون متقابلين في صف واحد ومس توى واح د‪ ،‬وبطبيع ة‬
‫الحال‪ ،‬فهذا ال ينافي تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة اإليمان والتقوى‬
‫في الحياة الدنيا‪ ،‬ولكن ذلك التساوي إنما يرتبط بجلساتهم االجتماعية)(‪)1‬‬
‫وفي مقابل هذه العالقات الطيبة التي تجمع بين المؤمنين‪ ،‬وتوحد بين قلوبهم‪،‬‬
‫ي ذكر هللا تع الى تل ك القطيع ة ال تي يص ادفها من اتخ ذوا من اإلخ وان والخالن من‬
‫تعالى‪﴿:‬ويَ وْ َم يَ َعضُّ الظَّالِ ُم َعلَى يَدَيْ ِه يَقُ و ُل‬
‫َ‬ ‫صرفهم عن هللا‪ ،‬وأبعدهم عنه‪ ،‬كما قال‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫او ْيلَتَ ا لَ ْيتَنِي لَ ْم أتَّ ِخ ذ فُاَل نًا َخلِياًل (‪ )28‬لَقَ ْد‬
‫ت َم َع ال َّرسُو ِل َسبِياًل (‪ )27‬يَ َ‬ ‫يَالَ ْيتَنِي اتَّخَ ْذ ُ‬
‫ان َخ ُذواًل ﴾ [الفرق ان‪- 27 :‬‬ ‫الش ْيطَانُ لِإْل ِ ْن َس ِ‬ ‫ضلَّنِي َع ِن ال ِّذ ْك ِر بَ ْع َد إِ ْذ َجا َءنِي َو َك انَ َّ‬ ‫أَ َ‬
‫‪]29‬‬
‫وقد ورد في حديث عن اإلمام علي‪ ،‬يفسر بعض مصاديق هذا المعنى‪ ،‬حيث‬
‫قال‪( :‬خليالن مؤمنان‪ ،‬وخليالن كافران‪ ،‬فتوفي أح د المؤم نين وبش ر بالجن ة ف ذكر‬
‫خليله‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم‪ ،‬إن فالنا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رس ولك‪ ،‬وي أمرني‬
‫بالخير وينهاني عن الشر‪ ،‬وينبئ ني أني مالقي ك‪ ،‬اللهم فال تض له بع دي ح تى تري ه‬
‫مثل ما أريتني‪ ،‬وترضى عنه كم ا رض يت ع ني‪ .‬فيق ال ل ه‪ :‬اذهب فل و تعلم م ا ل ه‬
‫عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليال‪ .‬قال‪ :‬ثم يموت اآلخر‪ ،‬فتجتمع أرواحهما‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫ليثن أح دكما على ص احبه‪ ،‬فيق ول ك ل واح د منهم ا لص احبه‪ :‬نعم األخ‪ ،‬ونعم‬
‫الصاحب‪ ،‬ونعم الخليل‪ .‬وإذا مات أحد الك افرين‪ ،‬وبش ر بالن ار ذك ر خليل ه فيق ول‪:‬‬
‫اللهم إن خليلي فالن ا ك ان ي أمرني بمعص يتك ومعص ية رس ولك‪ ،‬وي أمرني بالش ر‬
‫وينهاني عن الخير‪ ،‬ويخبرني أني غير مالقيك‪ ،‬اللهم فال تهده بعدي حتى تريه مثل‬
‫ما أريتني‪ ،‬وتسخط عليه كما سخطت علي‪ .‬قال‪ :‬فيموت الك افر اآلخ ر‪ ،‬فيجم ع بين‬
‫أرواحهما فيقال‪ :‬ليثن كل واحد منكما على صاحبه‪ .‬فيقول كل واحد منهما لصاحبه‪:‬‬
‫بئس األخ‪ ،‬وبئس الصاحب‪ ،‬وبئس الخليل)(‪)2‬‬
‫وقد روي في الحديث عن رسول هللا ‪ ‬ما يبين قيمة المحبة في هللا‪ ،‬وكونها‬
‫تجم ع بين المؤم نين مهم ا اختلفت دي ارهم وأزمنتهم‪ ،‬ق ال رس ول هللا ‪( :‬ل و أن‬
‫رجلين تحاب ا في هللا‪ ،‬أح دهما بالمش رق واآلخ ر ب المغرب‪ ،‬لجم ع هللا بينهم ا ي وم‬
‫القيامة‪ ،‬يقول‪ :‬هذا الذي أحببته في)(‪)3‬‬
‫وهذا الحديث ال يفهم منه فقط ما نعرفه من البعد المكاني‪ ،‬بل يدخل فيه أيضا‬
‫البع د الزم اني‪ ،‬حيث يلتقي المؤمن ون بك ل من يحب ونهم من أنبي اء هللا ورس له‬
‫واألولياء والصالحين‪ ،‬وكل من هفت قلوبهم محبة لهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل ‪)81 /8( -‬‬


‫‪ )(2‬تفسير عبد الرزاق (‪.)2/164‬‬
‫‪ )(3‬مختصر تاريخ دمشق البن منظور (‪.)27/79‬‬

‫‪299‬‬
‫ولذلك فإن مجتمع أه ل الجن ة ممل وء بأه ل العلم والتق وى والحكم ة‪ ،‬ال كم ا‬
‫يش يع المنحرف ون‪ ،‬من أن الجن ة مح ل للش هوات الحس ية‪ ،‬ال للمع اني العقلي ة‬
‫والروحي ة‪ ،‬وكي ف تك ون ك ذلك‪ ،‬وفيه ا األنبي اء واألولي اء والص الحين والعلم اء‪..‬‬
‫وكلهم يبقى بنفس اهتماماته ورغباته التي رحل بها من الدنيا‪.‬‬
‫وفي نفس الوقت نرى أنه يمكن أن يكون في الجنة كل وسائل التواصل ال تي‬
‫عرفناه ا في ال دنيا‪ ،‬ولكن بص ورة أك ثر تط ورا‪ ،‬ول ذلك ف إن المغ رمين بش بكات‬
‫التواصل االجتماعي‪ ،‬لن يفقدوها في الجنة‪ ،‬بل سيجدون أجياال أكثر تطورا‪ ،‬بشرط‬
‫أال تحجبهم هذه الشبكات في الدنيا عن ربهم‪ ،‬حتى ال تتحقق فيهم تل ك القاع دة ال تي‬
‫ذكرناها‪.‬‬
‫وهكذا يمكن أن تقام في الجنة الحفالت والمع ارض والم ؤتمرات‪ ،‬ويمكن أن‬
‫يظه ر فيه ا المب دعون والكت اب والش عراء‪ ،‬ويمكن أن تحص ل فيه ا المس ابقات‬
‫المختلفة‪ ،‬والتي توطد العالقات االجتماعي ة أله ل الجن ة بم ا يتناس ب م ع طب اعهم‬
‫وأمزجتهم‪.‬‬
‫﴿وفِيهَ ا َم ا ت َْش تَ ِهي ِه اأْل َ ْنفُسُ ﴾‬
‫ودليلنا على كل ذلك ما نص علي ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ك هُ ُم ْال ُمتَّقُ ونَ (‪)33‬‬ ‫ُ‬
‫ق بِ ِه أولَئِ َ‬ ‫[الزخرف‪ ،]71 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬والَّ ِذي َجا َء بِال ِّ‬
‫ص َّد َ‬‫ق َو َ‬ ‫ص ْد ِ‬
‫لَهُ ْم َم ا يَ َش اءُونَ ِعنْ َد َربِّ ِه ْم َذلِ كَ َج زَ ا ُء ْال ُمحْ ِس نِينَ ﴾ [الزم ر‪ ،]34 ،33 :‬وقول ه‪:‬‬
‫ت لَهُ ْم َم ا يَ َش اءُونَ ِعنْ َد َربِّ ِه ْم‬‫ت ْال َجنَّا ِ‬
‫ضا ِ‬ ‫ت فِي َروْ َ‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُ وا َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬
‫ك ه َُو ْالفَضْ ُل ْال َكبِي ُر ﴾ [الشورى‪ ،]22 :‬فهذه اآلي ات الكريم ة تنص على القواع د‬ ‫َذلِ َ‬
‫ال تي تحكم ه ذا المج ال‪ ،‬ول ذلك ال يص ح أن نص ور الجن ة بتل ك الص ورة البدائي ة‬
‫البسيطة‪ ،‬التي قد تجعل بعض النفوس تنفر منها‪.‬‬
‫وله ذا عن دما ج اء بعض األع راب إلى رس ول هللا ‪ ،‬وك ان ممن يحب ون‬
‫الزرع‪ ،‬وصف له رسول هللا ‪ ‬الجن ة بم ا يتناس ب م ع طباع ه وم ا يش تهي‪ ،‬فق د‬
‫روي أنه ‪( ‬كان يو ًما يحدث وعن ده رج ٌل من أه ل البادي ة‪ ،‬فق ال ‪( :‬إن رجاًل‬
‫من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع‪ ،‬فقال له‪ :‬ألس ت فيم ا ش ئت؟ ق ال‪ :‬بلى‪ ،‬لك ني‬
‫أحب أن أزرع‪ ،‬قال‪ :‬فبذر‪ ،‬فبادر الطَرْ فَ نباتُه واستواؤُه واستحصاده‪ ،‬فك ان أمث ال‬
‫الجبال‪ ،‬فيقول هللا‪ :‬دونك يا بن آدم‪ ،‬فإنه ال يشبعك شيء)(‪)1‬‬
‫وهذا الح ديث ي دل على أن هللا تع الى ي وفر لك ل نفس في الجن ة البيئ ة ال تي‬
‫تشتهيها‪ ،‬بل يضيف إليها من كرمه ما يزيد في جمالها ولذتها‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿ :‬لَهُ ْم‬
‫ُس نَى َو ِزيَ ا َدةٌ ﴾‬ ‫َما يَ َشاءُونَ فِيهَ ا َولَ َد ْينَا َم ِزي ٌد﴾ [ق‪ ،]35 :‬وق ال‪﴿ :‬لِلَّ ِذينَ أَحْ َس نُوا ْالح ْ‬
‫[يونس‪]26 :‬‬
‫وطبعا هذا ال يعني تل ك النف وس الممل وءة بال دنس‪ ،‬وال تي ق د تش تهي م ا ال‬
‫ترتض يه الفط رة الس ليمة؛ ذل ك أن أص حاب تل ك الش هوات‪ ،‬وبع د الم رور على‬
‫السراط يهذبون منه ا قب ل دخ ولهم الجن ة‪ ،‬فالجن ة ال ي دخلها إال الطيب ون أص حاب‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪)2221( 826 /2 ،‬‬

‫‪300‬‬
‫النفوس الطيبة‪ ،‬والرغبات الطيبة‪.‬‬
‫ب ـ القطيعة ومظاهرها‪:‬‬
‫في مقاب ل ذل ك الج زاء المعن وي الممتلئ بالجم ال‪ ،‬وال ذي يتواص ل في ه‬
‫المحسنون مع كل ش يء‪ ،‬ابت داء من هللا تع الى‪ ،‬وانته اء ب أي مخل وق يرغب ون في‬
‫التواصل معه‪ ،‬نرى أنواع القطيعة التي يعاني منها المسيئون الذين آث روا في ال دنيا‬
‫مقاطعة ربهم‪ ،‬ورسلهم‪ ،‬وهداتهم‪ ،‬وجميع القيم التي جاءوا بها؛ فلذلك كان ج زاؤهم‬
‫من جنس عملهم‪.‬‬
‫وقد عبر عن أخطر أنواع هذه القطيعة قوله تعالى‪َ ﴿ :‬كاَّل إِنَّهُ ْم ع َْن َربِّ ِه ْم يَوْ َمئِ ٍذ‬
‫لَ َمحْ جُوبُونَ ﴾ [المطففين‪ ،]15 :‬وقد سبقت بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬كاَّل بَلْ َرانَ َعلَى قُلُوبِ ِه ْم َم ا‬
‫َكانُوا يَ ْك ِس بُونَ ﴾ [المطففين‪ ،]14 :‬لت بين أن الس بب في ذل ك الحج اب ليس من هللا‪،‬‬
‫وإنما من عن د أنفس هم‪ ،‬بع د أن مألوا قل وبهم ب أنواع الش به ال تي تح ول بينهم وبين‬
‫ربهم‪.‬‬
‫﴿و ْي ٌل يَوْ َمئِ ٍذ لِ ْل ُم َك ِّذبِينَ (‪ )10‬الَّ ِذينَ يُ َك ِّذبُونَ بِيَ وْ ِم‬ ‫وقد سبق ذلك كله قوله تعالى‪َ :‬‬
‫اطي ُر‬ ‫ال أَ َس ِ‬ ‫الدِّي ِن (‪َ )11‬و َما يُ َك ِّذبُ بِ ِه إِاَّل ُك لُّ ُم ْعتَ ٍد أَثِ ٍيم (‪ )12‬إِ َذا تُ ْتلَى َعلَيْ ِه آيَاتُنَ ا قَ َ‬
‫اأْل َ َّولِينَ ﴾ [المطففين‪ ،]13 - 10 :‬وهي تبين أن ذلك الحجاب كان قد صنع في الدنيا‬
‫بسبب التكذيب والتلفيق والتزوير ال ذي مارس ه المس يئون م ع الحق ائق والقيم ال تي‬
‫جاءتهم بها الرسل عليهم السالم‪.‬‬
‫وهكذا يذكر القرآن الكريم مشهدا من مشاهد القطيعة يبدأ ب دعاء المس يئين هلل‬
‫ت َعلَ ْينَا ِش ْق َوتُنَا‬ ‫تعالى أن يخرجهم مما هم فيه‪ ،‬وهم يرددون بكل خشوع‪َ ﴿ :‬ربَّنَا َغلَبَ ْ‬
‫ض الِّينَ (‪َ )106‬ربَّنَ ا أَ ْخ ِرجْ نَ ا ِم ْنهَ ا فَ إِ ْن ُع ْدنَا فَإِنَّا ظَ الِ ُمونَ (‪﴾ )107‬‬ ‫َو ُكنَّا قَوْ مًا َ‬
‫[المؤمنون‪]108 - 106 :‬‬
‫ق‬ ‫ون (‪ )108‬إِنَّهُ َك انَ فَ ِري ٌ‬ ‫﴿اخ َسئُوا فِيهَا َواَل تُ َكلِّ ُم ِ‬ ‫لكن هللا تعالى يجيبهم بقوله‪ْ :‬‬
‫َّاح ِمينَ (‪)109‬‬ ‫ِم ْن ِعبَ ا ِدي يَقُولُ ونَ َربَّنَ ا آ َمنَّا فَ ا ْغفِرْ لَنَ ا َوارْ َح ْمنَ ا َوأَ ْنتَ خَيْ ُر ال ر ِ‬
‫َض َح ُكونَ (‪ )110‬إِنِّي َج َز ْيتُهُ ُم‬ ‫فَاتَّخ َْذتُ ُموهُ ْم ِس ْخ ِريًّا َحتَّى أَ ْن َسوْ ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنتُ ْم ِم ْنهُ ْم ت ْ‬
‫صبَرُوا أَنَّهُ ْم هُ ُم ْالفَائِ ُزونَ ﴾ [المؤمنون‪]111 - 108 :‬‬ ‫ْاليَوْ َم بِ َما َ‬
‫وهذا يدل على أن ذلك الجزاء اإللهي الذي حصل لهم لم يكن سوى تنفيذا لما‬
‫تقتض يه العدال ة اإللهي ة المطلق ة‪ ،‬ذل ك أن تل ك الج رائم ال تي مارس وها في ح ق‬
‫المستضعفين‪ ،‬وسخريتهم منهم‪ ،‬أصبحت حجابا عظيما يح ول بينهم وبين التواص ل‬
‫مع الحق‪.‬‬
‫وهكذا يخبر هللا تعالى عن خطاب المالئكة لهم‪ ،‬والمملوء بك ل أن واع الش دة‪،‬‬
‫ار لِخَ َزنَ ِة َجهَنَّ َم‬ ‫ال الَّ ِذينَ فِي النَّ ِ‬ ‫ج زاء لهم على ش دتهم وقس وتهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬
‫ُس لُ ُك ْم بِ ْالبَيِّنَ ا ِ‬
‫ت‬ ‫ك تَ أْتِي ُك ْم ر ُ‬ ‫ب (‪ )49‬قَالُوا أَ َولَ ْم تَ ُ‬ ‫ف َعنَّا يَوْ ًما ِمنَ ْال َع َذا ِ‬ ‫ا ْدعُوا َربَّ ُك ْم يُ َخفِّ ْ‬
‫ضاَل ٍل﴾ [غافر‪]50 ،49 :‬‬ ‫قَالُوا بَلَى قَالُوا فَا ْدعُوا َو َما ُدعَا ُء ْال َكافِ ِرينَ إِاَّل فِي َ‬
‫ويخ بر الق رآن الك ريم عن تل ك اآلالم الش ديدة ال تي يع اني منه ا المس يئون‪،‬‬
‫وال تي تجعلهم يطلب ون من المالئك ة أن يطلب وا من هللا تع الى القض اء عليهم‪ ،‬ق ال‬

‫‪301‬‬
‫ب َجهَنَّ َم خَالِ ُدونَ (‪ )74‬اَل يُفَتَّ ُر َع ْنهُ ْم َوهُ ْم فِي ِه ُم ْبلِ ُس ونَ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُمجْ ِر ِمينَ فِي َع َذا ِ‬
‫ض َعلَ ْينَ ا َربُّكَ‬ ‫ك لِيَ ْق ِ‬ ‫(‪َ )75‬و َما ظَلَ ْمنَاهُ ْم َولَ ِك ْن َكانُوا هُ ُم الظَّالِ ِمينَ (‪َ )76‬ونَ ادَوْ ا يَا َمالِ ُ‬
‫ارهُونَ ﴾ [الزخ رف‪:‬‬ ‫ق َك ِ‬ ‫ق َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر ُك ْم لِ ْل َح ِّ‬ ‫قَا َل إِنَّ ُك ْم َما ِكثُونَ (‪ )77‬لَقَ ْد ِج ْئنَا ُك ْم بِ ْال َح ِّ‬
‫‪]78 - 74‬‬
‫وهكذا يذكر القرآن الكريم تلك الحوارات الكثيرة التي تج ري بين المس يئين‪،‬‬
‫والتي يستعيدون فيها جرائمهم التي مارسوها في ال دنيا‪ ،‬ويلقي بعض هم على بعض‬
‫اللوم بسببها‪.‬‬
‫ار فَيَقُ و ُل‬ ‫﴿وإِذ يَتَ َح اجُّ ونَ فِي النَّ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ومن تلك المشاهد ما ع بر عن ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ار (‪)47‬‬ ‫َص يبًا ِمنَ النَّ ِ‬ ‫الضُّ َعفَا ُء لِلَّ ِذينَ ا ْستَ ْكبَرُوا إِنَّا ُكنَّا لَ ُك ْم تَبَعًا فَهَلْ أَ ْنتُ ْم ُم ْغنُ ونَ َعنَّا ن ِ‬
‫قَا َل الَّ ِذينَ ا ْستَ ْكبَرُوا إِنَّا ُك ٌّل فِيهَا إِ َّن هَّللا َ قَ ْد َح َك َم بَ ْينَ ْال ِعبَا ِد (‪[ ﴾)48‬غافر‪]48 ،47 :‬‬
‫﴿ولَ وْ تَ َرى إِ ِذ الظَّالِ ُمونَ َموْ قُوفُ ونَ ِعنْ َد َربِّ ِه ْم‬ ‫ومنها ما عبر عنه قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ْض ْالقَوْ َل يَقُو ُل الَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا لِلَّ ِذينَ ا ْستَ ْكبَرُوا لَ وْ اَل أَ ْنتُ ْم لَ ُكنَّا‬ ‫ضهُ ْم إِلَى بَع ٍ‬ ‫يَرْ ِج ُع بَ ْع ُ‬
‫ص َد ْدنَا ُك ْم َع ِن ْالهُ دَى بَعْ َد‬ ‫ُم ْؤ ِمنِينَ (‪ )31‬قَا َل الَّ ِذينَ ا ْستَ ْكبَرُوا لِلَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا أَنَحْ نُ َ‬
‫اس تَ ْكبَرُوا بَ لْ َمكْ ُر‬ ‫ض ِعفُوا لِلَّ ِذينَ ْ‬ ‫ال الَّ ِذينَ ا ْستُ ْ‬ ‫إِ ْذ َجا َء ُك ْم بَلْ ُك ْنتُ ْم ُمجْ ِر ِمينَ (‪َ )32‬وقَ َ‬
‫ار إِ ْذ تَأْ ُمرُونَنَ ا أَ ْن نَ ْكفُ َر بِاهَّلل ِ َونَجْ َع َل لَ هُ أَنْدَادًا َوأَ َس رُّ وا النَّدَا َم ةَ لَ َّما َرأَ ُوا‬ ‫اللَّي ِْل َوالنَّهَ ِ‬
‫َاق الَّ ِذينَ َكفَرُوا هَ لْ يُجْ زَ وْ نَ إِاَّل َم ا َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ ﴾‬ ‫اب َو َج َع ْلنَا اأْل َ ْغاَل َل فِي أَ ْعن ِ‬ ‫ْال َع َذ َ‬
‫[سبأ‪﴾]33 - 31 :‬‬
‫الض َعفَا ُء لِلَّ ِذينَ‬
‫ال ُّ‬ ‫الى‪﴿:‬وبَ َر ُزوا هَّلِل ِ َج ِميعًا فَقَ َ‬ ‫َ‬ ‫ومنه ا م ا ع بر عن ه قول ه تع‬
‫ب هَّللا ِ ِم ْن َش ْي ٍء قَالُوا لَوْ هَ دَانَا‬ ‫ا ْستَ ْكبَرُوا إِنَّا ُكنَّا لَ ُك ْم تَبَعًا فَهَلْ أَ ْنتُ ْم ُم ْغنُونَ َعنَّا ِم ْن َع َذا ِ‬
‫يص ﴾ [إبراهيم‪]21 :‬‬ ‫صبَرْ نَا َما لَنَا ِم ْن َم ِح ٍ‬ ‫هَّللا ُ لَهَ َد ْينَا ُك ْم َس َوا ٌء َعلَ ْينَا أَ َج ِز ْعنَا أَ ْم َ‬
‫وهكذا يخبر هللا تع الى عن خطب ة من خطب الش يطان يلقيه ا في أه ل جهنم‪،‬‬
‫ض َي اأْل َمْ ُر إِ َّن هَّللا َ َو َع َد ُك ْم َوعْ َد‬ ‫الش ْيطَانُ لَ َّما قُ ِ‬ ‫﴿وقَ ا َل َّ‬ ‫يتبرأ فيها منهم‪ ،‬قال تع الى‪َ :‬‬
‫اس تَ َج ْبتُ ْم لِي‬ ‫ان إِاَّل أَ ْن َد َع وْ تُ ُك ْم فَ ْ‬ ‫ق َو َو َع ْدتُ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفتُ ُك ْم َو َما َكانَ لِ َي َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن س ُْلطَ ٍ‬ ‫ْال َح ِّ‬
‫ت بِ َم ا‬ ‫ي إِنِّي َكفَ رْ ُ‬ ‫ص ِر ِخ َّ‬ ‫ص ِر ِخ ُك ْم َو َم ا أَ ْنتُ ْم بِ ُم ْ‬ ‫فَاَل تَلُو ُمونِي َولُو ُموا أَ ْنفُ َس ُك ْم َما أَنَ ا بِ ُم ْ‬
‫أَ ْش َر ْكتُ ُمو ِن ِم ْن قَ ْب ُل إِ َّن الظَّالِ ِمينَ لَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم ﴾ [إبراهيم‪]22 :‬‬
‫بل إن القرآن الكريم يذكر إمكاني ة تواص ل المس يئين م ع المحس نين‪ ،‬لكن ال‬
‫لينعموا بذلك التواصل‪ ،‬وإنما ليتعذبوا ويتأدبوا به‪ ،‬قال تعالى ي ذكر مش هدا من تل ك‬
‫يض وا َعلَ ْينَ ا ِمنَ ْال َم ا ِء أَوْ ِم َّما‬ ‫اب ْال َجنَّ ِة أَ ْن أَفِ ُ‬ ‫ص َح َ‬ ‫ار أَ ْ‬ ‫المشاهد‪َ ﴿ :‬ونَادَى أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫َرزَ قَ ُك ُم هَّللا ُ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ َح َّر َمهُ َما َعلَى ْال َكافِ ِرينَ (‪ )50‬الَّ ِذينَ اتَّخَ ُذوا ِدينَهُ ْم لَهْ ًوا َولَ ِعبًا‬
‫َو َغ َّر ْتهُ ُم ْال َحيَاةُ ال ُّد ْنيَا﴾ [األعراف‪]51 ،50 :‬‬
‫﴿ونَ ادَى‬ ‫ومث ل ذل ك ذك ر هللا تع الى المس يئين م ع المحس نين‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ار أَ ْن قَ ْد َو َج ْدنَا َما َو َع َدنَا َربُّنَا َحقًّا فَهَ لْ َو َج ْدتُ ْم َم ا َو َع َد‬ ‫اب النَّ ِ‬‫أَصْ َحابُ ْال َجنَّ ِة أَصْ َح َ‬
‫َربُّ ُك ْم َحقًّا قَالُوا نَ َع ْم فَأ َ َّذنَ ُمؤَ ِّذ ٌن بَ ْينَهُ ْم أَ ْن لَ ْعنَةُ هَّللا ِ َعلَى الظَّالِ ِمينَ ﴾ [األعراف‪]44 :‬‬
‫هذه بعض مشاهد األلم التي يعاني منها أولئك الذين آثروا أن يق اطعوا ربهم‪،‬‬
‫والهداة الذين أرسلهم‪ ،‬والهداية التي أرسلها معهم‪ ،‬ولذلك كان كل ما حص ل لهم من‬

‫‪302‬‬
‫قطيعة جزاء متوافقا تماما مع اختياراتهم ورغباتهم التي شكلوا منها نفوسهم‪.‬‬
‫وهي في نفس الوقت نوع من أنواع التربية لهم‪ ،‬ليدركوا قيم ة اإليم ان ال ذي‬
‫فرط وا في ه‪ ،‬وب اعوه بثمن بخس‪ ،‬وله ذا ورد في التعقيب على بعض تل ك المش اهد‬
‫ض َع َد َد ِس نِينَ (‪ )112‬قَ الُوا لَبِ ْثنَ ا‬ ‫ال َك ْم لَبِ ْثتُ ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫التي ذكرناها قوله تع الى‪﴿ :‬قَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْض يَوْ ٍم فَاسْأ َ ِل ْال َعا ِّدينَ (‪ )113‬قَ َ‬
‫ال إِ ْن لَبِثتُ ْم إِاَّل قَلِياًل لَ وْ أنَّ ُك ْم ُك ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُم ونَ‬ ‫يَوْ ًما أَوْ بَع َ‬
‫(‪ )114‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َم ا َخلَ ْقنَ ا ُك ْم َعبَثًا َوأَنَّ ُك ْم إِلَ ْينَ ا اَل تُرْ َج ُع ونَ ﴾ [المؤمن ون‪- 112 :‬‬
‫‪ ،]115‬وهذا درس لهم‪ ،‬ليتخلصوا من كل ذلك ال ران ال ذي طب ع قل وبهم في ال دنيا‬
‫عن الهداية‪ ،‬وال تزال آثاره معهم في الجحيم‪ ،‬ولذلك احت اجوا إلى البق اء فيه ا ح تى‬
‫يزال عنهم ذلك الران‪ ،‬أو يبقوا فيها أبد اآلبدين‪.‬‬

‫ثانيا ـ الجزاء الحسي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪:‬‬


‫من مظاهر العدالة والرحمة اإللهي ة في دار الج زاء م ا أع د لعب اده فيه ا من‬
‫الجزاء الحسي المتوافق م ع أعم الهم‪ ،‬ل يروا ب أعينهم الحس ية حص اد م ا زرع وه؛‬
‫فيكون ذلك سلما لمسيرتهم نحو الكمال المستعدين له بحسب طاقاتهم المختلفة‪.‬‬
‫وهذا الجزاء متوافق مع العدالة والرحمة اإللهية‪ ،‬كما أن ه متواف ق م ع تربي ة‬
‫هللا تعالى لعباده‪ ،‬إلخراجهم من الظلمات إلى النور‪.‬‬
‫أما توافقه مع العدالة؛ فذلك ألن كل إنس ان في دار الج زاء ال ي رى إال ثم رة‬
‫أعماله‪ ،‬ولذلك تختلف مراتب المحسنين والمسيئين اختالفا شديدا‪ ،‬بناء على النت ائج‬
‫التي ظهرت في الموازين الدقيقة‪ ،‬وسلمت نتائجها في الموقف‪.‬‬
‫وأم ا توافق ه م ع الرحم ة اإللهي ة؛ ف ذلك ألن هللا تع الى ض اعف ج زاءه‬
‫للمحسنين‪ ،‬بحيث وفر لهم أضعاف أض عاف م ا عمل وه‪ ،‬بن اء على اس مه الش كور‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت لم يجاز المسيئين إال بما غرسوه من أعمال‪ ،‬م ع إمكاني ة أن يرف ع‬
‫عنهم البالء في حال تحسنهم‪ ،‬وارتفاع آثار األوزار من نفوسهم‪.‬‬
‫وبما أن اإلنسان عمل أعماله في الدنيا سواء كانت حس نة أو س يئة بجوارح ه‬
‫الحسية‪ ،‬وه و في نفس ال وقت يتنعم تنعم ا حس يا‪ ،‬ويت ألم ألم ا حس يا؛ فق د ك ان من‬
‫مقتضيات العدالة والرحمة اإللهية أن يجازى في دار الجزاء بهذا النوع من الج زاء‬
‫المتوافق مع أعماله‪.‬‬
‫ولذلك ال معنى لتلك المقوالت ال تي يس خر به ا البعض من الج زاء الحس ي‪،‬‬
‫ويتصور أن له من العقل والحكمة والروحانية ما يجعل ه ي ترفع عن االهتم ام ب ذلك‬
‫النوع من الجزاء؛ فكل ذلك كذب على النفس‪.‬‬
‫ذلك أننا إن تأملنا في حياة أي فيلس وف أو مفك ر أو ع ارف نج د ل ه اهتمام ا‬
‫بشؤونه الحياتية‪ ،‬بل يحب أن يوفر له في حياته الحد األدنى الذي يغني ه عن التطل ع‬
‫لغيره‪.‬‬
‫بل إننا نجد الكث ير من ال ذين يطرح ون أمث ال ه ذه الش به ش ديدي اإلعج اب‬
‫بالتطور الحضاري الم ادي للش عوب المختلف ة‪ ،‬ولس ت أدري كي ف يعجب ون ب ذلك‬

‫‪303‬‬
‫التطور‪ ،‬وفي نفس الوقت يستغربون أو ينكرون ذلك التطور وتل ك الحض ارة ال تي‬
‫يصف هللا تعالى بها دار الجزاء المعدة لعباده الصالحين‪.‬‬
‫وهكذا األمر بالنسبة لدار الجزاء المع دة للمس يئين؛ ف إن ه ؤالء إن قي ل لهم‪:‬‬
‫إنكم في دار الج زاء س تحجبون عن هللا‪ ،‬ولن تت ذوقوا تل ك المع اني النبيل ة الس امية‬
‫التي يستشعرها المؤمنون؛ فال شك أنهم سيسخرون من ذلك‪ ،‬ألنهم أصال ال يجدون‬
‫في نفوسهم أي اهتمام أو رغبة في ذلك‪.‬‬
‫ولذلك كان هذا النوع من الجزاء اإللهي متوافقا مع كل النف وس‪ ،‬وم ع جمي ع‬
‫األعمال‪ ،‬باعتبار أنه ليس سوى تجسد لتلك األعمال التي قام بها صاحبها في الدنيا‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فإن الحس دليل المعنى‪ ،‬وبالحس قد ي ترقى اإلنس ان ليفهم‬
‫المعنى‪ ،‬ولذلك لن يكون ذلك النعيم الذي أعده هللا لعب اده الص الحين حجاب ا لهم‪ ،‬ب ل‬
‫سيكون مرقاة لهم يتعرفون من خاللها على ربهم‪..‬‬
‫ذلك أن كل شيء ص نعة هلل‪ ،‬وح روف تكتبه ا ي د الق درة‪ ،‬ليتع رف العب د من‬
‫خاللها على هللا‪ ،‬كما عبر عن ذلك قوله تعالى ـ وهو يأمرن ا بق راء الرحم ة اإللهي ة‬
‫ت هَّللا ِ َكيْفَ يُحْ يِي‬ ‫ار َرحْ َم ِ‬ ‫من خالل حي اة األرض بع د موته ا ـ‪﴿ :‬فَ ا ْنظُرْ إِلَى آثَ ِ‬
‫ض بَ ْع َد َموْ تِهَا﴾ (الروم‪)50 :‬‬ ‫اأْل َرْ َ‬
‫ويأمرنا باالستبشار تف اؤال بفض ل هللا‪ ،‬وفرح ا باهلل‪ ،‬وتنس ما لرحم ة هللا عن د‬
‫هبوب الرياح التي يرسلها‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وهُ َو الَّ ِذي يُرْ ِس ُل الرِّ يَ ا َح ب ُْش راً بَ ْينَ يَ َديْ‬
‫ت فَأ َ ْن َز ْلنَا بِ ِه ْال َما َء فَأ َ ْخ َرجْ نَا بِ ِه ِم ْن ُك ِّل‬
‫ت َس َحابا ً ثِقَاالً ُس ْقنَاهُ لِبَلَ ٍد َميِّ ٍ‬ ‫َرحْ َمتِ ِه َحتَّى إِ َذا أَقَلَّ ْ‬
‫ك نُ ْخ ِر ُج ْال َموْ تَى لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪)57:‬‬ ‫الثَّ َم َرا ِ‬
‫ت َك َذلِ َ‬
‫ويعلمنا أن نقرأ لطف هللا وخبرته المحيطة بكل شي من خالل ح روف الم اء‬
‫الس َما ِء َم ا ًء‬ ‫الساقطة على األرض المخضرة‪ ،‬قال تع الى‪﴿ :‬أَلَ ْم تَ َر أَ َّن هَّللا َ أَنْزَ َل ِمنَ َّ‬
‫يف خَ بِيرٌ﴾ (الحج‪)63:‬‬ ‫فَتُصْ بِ ُح اأْل َرْ ضُ ُم ْخ َ‬
‫ض َّرةً إِ َّن هَّللا َ لَ ِط ٌ‬
‫ويعلمنا أن نقرأ علم هللا وقدرته من خالل السطور المبثوث ة في تقلب الزم ان‬
‫بأعمارنا‪ ،‬ق ال‪َ ﴿ :‬وهَّللا ُ َخلَقَ ُك ْم ثُ َّم يَتَ َوفَّا ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد إِلَى أَرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر لِ َك ْي ال يَ ْعلَ َم‬
‫بَ ْع َد ِع ْل ٍم َشيْئا ً إِ َّن هَّللا َ َعلِي ٌم قَ ِديرٌ﴾ (النحل‪)70:‬‬
‫ويرينا قوة هللا القاهرة‪ ،‬وقدرته الشاملة باستعراض تفاص يل دقي ق المكون ات‬
‫وجليلها؛ فالسموات التي ننبهر لضخامتها ال تع دو أن تك ون ش يئا حق يرا ج دا أم ام‬
‫ْضتُهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة‬‫ق قَ ْد ِر ِه َواأْل َرْ ضُ َج ِميعا ً قَب َ‬ ‫عظمة هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َما قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (الزمر‪)67:‬‬ ‫ط ِوي ٌ‬ ‫ات َم ْ‬ ‫او ُ‬‫َوال َّس َم َ‬
‫وبذلك فإن الحس لن يكون حجابا عن المعنى‪ ،‬بل س يكون دليال علي ه‪ ،‬وله ذا‬
‫كان كل شيء نراه في الكون مرقاة نرقى بها إلى هللا‪ ،‬وحروف ا نتع رف من خالله ا‬
‫عليه‪.‬‬
‫واألمر في دار الجزاء مثله في دار الفن اء‪ ..‬ففي الجن ة يع اين المحس نون من‬
‫مظاهر الكرم اإللهي ما يملؤهم حب ا وتعظيم ا ل ه‪ ..‬وفي الن ار يع اين المس يئون من‬
‫مظاهر قدرة هللا ما يجعلهم يجلونه ويعظمونه‪ ،‬ذلك أنهم كانوا يحتقرونه ويحتق رون‬

‫‪304‬‬
‫رسله والقيم التي دعا إليها‪ ،‬ول ذلك ك ان ذل ك العق اب إص الحا لهم ح تى يتج اوزوا‬
‫نفوسهم األمارة بالسوء‪.‬‬
‫وقب ل أن ن ذكر بعض أص ناف النعيم الحس ي ال تي وردت به ا النص وص‬
‫المقدسة‪ ،‬نحب أن نذكر لبعض إخواننا من المسيحيين نصوصا من الكت اب المق دس‬
‫تنص على هذا النوع من الجزاء‪ ،‬ألنا نراهم في أحيان كثيرة يوهمون عام ة الن اس‬
‫عن ترفع المسيحية عن ه ذا الن وع من الج زاء‪ ،‬ولس ت أدري مص درهم في ذل ك‪،‬‬
‫وهل هناك أسفار مخفية من الكتاب المقدس ينهلون منها تلك األحكام‪ ،‬أم أنها مجرد‬
‫دعاوى؟‬
‫ذلك أننا نجد في الكتاب المق دس نفس م ا نج ده في الق رآن الك ريم من أن واع‬
‫النعيم والجزاء‪ ،‬وإن كان بصورة مختصرة‪ ،‬ذلك ألن الكتاب المقدس لم يول أص ال‬
‫مباحث المعاد‪ ،‬أهميته الكبرى‪ ،‬بخالف القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في العهد الجديد من الح ديث عن دار الج زاء‪،‬‬
‫وخصوصا تلك التي يعاقب فيها المسيئون‪ ،‬فقد ورد في (متى ‪( )42 - 40 :13‬فكما‬
‫يجمع الزوان ويحرق بالنار هكذا يكون في انقضاء هذا الع الم‪ :‬يرس ل ابن اإلنس ان‬
‫مالئكته فيجمعون من ملكوته جمي ع المع اثر وف اعلي اإلثم‪ ،‬ويطرح ونهم في أت ون‬
‫النار‪ ،‬هناك يكون البكاء وصرير األسنان)‬
‫وفي (متى ‪( :)13 :22‬حينئذ قال الملك للخدام‪ :‬اربطوا رجليه ويديه‪ ،‬وخذوه‬
‫واطرحوه في الظلمة الخارجية‪ .‬هناك يكون البكاء وصرير األسنان)‬
‫وفي (متى ‪( :)46 :25‬فيمضي هؤالء إلى ع ذاب أب دي واألب رار إلى حي اة‬
‫أبدية)‬
‫وفي (م تى ‪ 11 :8‬و‪( :)12‬وأق ول لكم‪ :‬إن كث يرين س يأتون من المش ارق‬
‫والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت الس ماوات‪ ،‬وأم ا بن و‬
‫الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية‪ .‬هناك يكون البكاء وصرير األسنان)‬
‫وفي (لوقا ‪ 23 :16‬و‪( :)24‬فرفع عينيه في الهاوية وهو في الع ذاب‪ ،‬ورأى‬
‫إب راهيم من بعي د‪ ..‬فن ادى‪ :‬ي ا أبي إب راهيم ارحم ني‪ ،‬وأرس ل لع ازر ليب ل ط رف‬
‫إصبعه بماء ويبرد لساني‪ ،‬ألني معذب في هذا اللهيب)‬
‫وفي (‪ 2‬تسالونيكي ‪ 8 :1‬و‪( :)9‬معطيا نقمة لل ذين ال يعرف ون هللا وال ذين ال‬
‫يطيعون إنجيل ربنا يس وع المس يح‪ ،‬ال ذين س يعاقبون بهالك أب دي من وج ه ال رب‬
‫ومن مجد قوته)‬
‫وفي (‪ 1‬تسالونيكي ‪( :)7 - 3 :4‬ألن هذه هي إرادة هللا‪ :‬قداستكم‪ .‬أن تمتنعوا‬
‫عن الزنا‪ ،‬أن يعرف ك ل واح د منكم أن يقت ني إن اءه بقداس ة وكرام ة‪ ،‬ال في ه وى‬
‫شهوة ك األمم ال ذين ال يعرف ون هللا‪ .‬أن ال يتط اول أح د ويطم ع على أخي ه في ه ذا‬
‫األمر‪ ،‬ألن الرب منتقم لهذه كلها كما قلنا لكم قبال وشهدنا‪ .‬ألن هللا لم يدعنا للنجاس ة‬
‫بل في القداسة)‬
‫وفي (متى ‪ )24 :26‬قال المسيح‪( :‬إن ابن اإلنس ان م اض كم ا ه و مكت وب‬

‫‪305‬‬
‫عنه‪ ،‬ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن اإلنسان‪ .‬كان خيرا لذلك الرجل لو لم‬
‫يولد)‬
‫وفي (متى ‪ ..( :)13 :23‬ويل لكم أيها الكتبة والفريس يون الم راؤون‪ ،‬ألنكم‬
‫تغلق ون ملك وت الس ماوات ق دام الن اس فال ت دخلون أنتم وال ت دعون ال داخلين‬
‫يدخلون!)‬
‫وفي (رؤيا ‪( :)11 - 9 :14‬ثم تبعهما مالك ث الث ق ائال بص وت عظيم‪ :‬إن‬
‫كان أحد يسجد للوحش ولصورته‪ ،‬ويقبل سمته على جبهته أو على يده‪ ،‬فه و أيض ا‬
‫سيش رب من خم ر غض ب هللا المص بوب ص رفا في ك أس غض به‪ ،‬ويع ذب بن ار‬
‫وكبريت أمام المالئكة القديسين وأمام الحمل‪ .‬ويصعد دخان عذابهم إلى أبد اآلبدين)‬
‫وفي (رؤي ا ‪( :)20 :19‬فقبض على ال وحش والن بي الك ذاب مع ه‪ ،‬الص انع‬
‫قدامه اآليات ال تي به ا أض ل ال ذين قبل وا س مة ال وحش وال ذين س جدوا لص ورته‪.‬‬
‫وطرح الاثنان حيين إلى بحيرة النار المتقدة بالكبريت)‬
‫وفي (رؤيا ‪( :)15 :20‬وكل من لم يوجد مكتوب ا في س فر الحي اة ط رح في‬
‫بحيرة النار)‬
‫وهكذا نجد في العهد القديم‪ ،‬وهو ال ذي يش ترك في ه المس يحيون م ع اليه ود‪،‬‬
‫الكثير من النصوص الدالة على الجزاء الحسي‪ ،‬ومن األمثلة على ذل ك م ا ورد في‬
‫(إشعياء ‪( :)21 :57‬ليس سالم قال إلهي لألشرار)‪ ،‬وفي (دانيال ‪( )2 :12‬األشرار‬
‫يستيقظون من تراب األرض‪ ..‬إلى العار لالزدراء األبدي)‬
‫وه ذا م ا يقول ه المحقق ون من المس يحيين‪ ،‬وق د رد أح دهم على إخوان ه من‬
‫رجال الدين الذين يوهمون الناس بأن الكتاب المق دس ال يح وي أي ن وع من أن واع‬
‫العقوبة الحسية‪ ،‬بقوله‪( :‬يقول بعض الناس‪ :‬كيف يمكن أن إله الحب والرحم ة يس ر‬
‫في أن يعذب إلى األبد المخلوقات‪ ،‬حتى ولو كانت متمردة؟)(‪)1‬‬
‫ثم أجاب على هذا اإلشكال‪ ،‬فقال‪( :‬لم يذكر الكتاب إطالقا بأن هللا يريد عذاب‬
‫األشرار‪ ،‬كما أن ال دخ ل ل ه في إلق ائهم في جهنم الع ذاب‪ ،‬لكن األش رار هم ال ذين‬
‫انفصلوا باختيارهم عن هللا وعن نعمت ه المخلص ة‪ .‬لق د رفض وه وتبع ا ل ذلك جلب وا‬
‫الشقاء على أنفسهم‪ ،‬وعذابهم يتضمن في حرم انهم من الس عادة والف رح ب الغفران‪،‬‬
‫وبالسالم الذي يستطيع هللا وحده أن يهبه)‬
‫وهذا الكالم هو نفسه الذي يقول ه المس لمون من أن ذل ك العق اب اإللهي ليس‬
‫سوى حصاد لما كسب المسيئون‪ ،‬أما اعتباره أن العقوبة قاصرة على الحرم ان من‬
‫الس عادة والف رح ب الغفران‪ ،‬فهي مغالط ة تنفيه ا النص وص الواض حة في الكت اب‬
‫المقدس‪ ،‬والذي ال يقصر العقوبة على ذل ك الحرم ان‪ ،‬وإنم ا يض يف إلي ه عقوب ات‬
‫حسية واضحة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في قول إشعياء عن وقائ د أبدي ة (إش عياء ‪:33‬‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬جهنّم في كتب المسيحية واإلسالم‪ ،‬اسكندر جديد‪ ،‬موقع الكلمة المسيحي‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫‪ ،)14‬وعن نار ال تطفأ (إش عياء ‪ ..)24 :66‬وق ول داني ال عن الع ار في االزدراء‬
‫األبدي (دانيال ‪ ..)2 :12‬وقول يوحنا والمس يح عن الن ار ال تي ال تطف أ أب دا (م تى‬
‫‪ ،12 :13‬مرقس ‪ ..)43 :9‬وقول المسيح‪( :‬يمضي هؤالء إلى عذاب أبدي واألبرار‬
‫إلى حياة أبدية) (متى ‪ ،)46 :25‬وفي سفر الرؤيا‪( :‬ويصعد دخ ان ع ذابهم إلى أب د‬
‫اآلبدين‪ ..‬وسيعذبون نهارا وليال إلى أب د اآلب دين) (رؤي ا ‪:20 ،3 :19 ،11 :14‬‬
‫‪ ..)10‬وغيرها من النصوص الكثيرة‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا س نحاول هن ا أن ن ذكر م ا ورد في النص وص المقدس ة من‬
‫أصناف الجزاء الحسي‪ ،‬وقد رأينا أنه يمكن اجتماعها في األنواع األربعة التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ األجسام والصور‪ :‬ذلك أن النشأة األخرى تتشكل فيها األجس ام والص ور‬
‫بحسب قوانينها‪ ،‬واألعمال المرتبطة بها‪ ،‬وال يمكن فهم الج زاء الحس ي في اآلخ رة‬
‫دون فهم ذلك‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ المأوى والمسكن‪ :‬ذلك أن هللا تعالى وفر في دار الجزاء مساكن تتناس ب‬
‫تماما مع الطبائع المختلفة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ األكل والشرب‪ :‬فقد وصفت النصوص المقدس ة الكث ير مم ا يرتب ط به ذا‬
‫الجانب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ األزواج والولدان‪ :‬وقد ورد ذك ر كليهم ا في النص وص المقدس ة‪ ،‬وكان ا‬
‫من أكبر المسائل التي وقعت فيها بعض اإلشكاالت‪ ،‬والتي نحاول اإلجابة عليها‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ األجسام والصور‪:‬‬
‫من خالل تأم ل النص وص المقدس ة ال واردة عن أه ل الجن ة وأه ل الن ار‪،‬‬
‫نستطيع اكتشاف الكثير من الحق ائق المرتبط ة باألجس ام والص ور في ذل ك الع الم‪،‬‬
‫بناء على القوانين التي تحكمه‪ ،‬والتي تخالف في الكثير منها ما نراه في هذا العالم‪.‬‬
‫وهذا ال يتنافى مع العقل أو العلم‪ ،‬ذلك أن العق ل يق ر بإمكاني ة وج ود ق وانين‬
‫تحكم عوالم أخرى؛ فليس بالضرورة ما نراه في هذا العالم ه و المعي ار ال ذي يحكم‬
‫العوالم جميعا‪.‬‬
‫وما يراه العقل بالتأمل هو ما أثبت ه العلم؛ وخاص ة على ض وء تل ك الق وانين‬
‫الكثيرة الغريبة التي اكتشفها عند تعامله مع الكائنات تحت الذرية‪.‬‬
‫بناء على هذا سنذكر أهم خصائص األجس ام والص ور في ذل ك الع الم‪ ،‬على‬
‫حسب ما نفهمه من النصوص المقدسة‪.‬‬
‫أ ـ تبعية األجسام والصور لألعمال‪:‬‬
‫كما ذكرنا سابقا‪ ،‬فإن األجسام والصور يوم القيامة ابت داء من البعث‪ ،‬تتش كل‬
‫بحسب األعمال؛ فلذلك قد ال ن رى البش ر بهيئ ة واح دة مثلم ا ن راهم في ال دنيا‪ ،‬ب ل‬
‫منهم من يكون صغيرا حقيرا مثل النمل‪ ،‬كما ورد في األح اديث ال تي تص ف هيئ ة‬
‫المستكبرين‪ ..‬وقد يكون منهم من يكون بهيئة الوحوش نتيجة غلبي ة س بعيته‪ ،‬ومنهم‬
‫من قد يكون بهيئة البهائم نتيجة غلبة شهوته‪ ..‬وهكذا تكون األجسام بحسب الهيئ ات‬
‫النفسية التي أدمن عليها أصحابها‪ ،‬واختاروها ألنفسهم‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫وقد أشار إلى هذا قوله ‪( :‬إنه ليأتي الرج ل العظيم الس مين ي وم القيام ة ال‬
‫يزن عند هللا جناح بعوضة‪ ،‬وقال‪ :‬اقرؤوا ﴿فَاَل نُقِي ُم لَهُ ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة َو ْزن اً﴾ [الكه ف‪:‬‬
‫‪)1()]105‬‬
‫وهكذا األلوان؛ فقد أشار القرآن الكريم إلى أن م ا ن راه في ال دنيا من أل وان‪،‬‬
‫هي لالمتحان واالختبار فقط‪ ،‬وهي ب ذلك مج رد أقنع ة وطالء‪ ،‬أم ا أل وان اآلخ رة‪،‬‬
‫َاظ َرةٌ‬
‫َاض َرةٌ (‪ )22‬إِلَى َربِّهَا ن ِ‬ ‫فهي األلوان الحقيقية الثابتة‪ ،‬قال تعالى‪ُ ﴿ :‬وجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ ن ِ‬
‫اس َرةٌ (‪ )24‬تَظُ ُّن أَ ْن يُ ْف َع َل بِهَ ا فَ اقِ َرةٌ ﴾ [القيام ة‪،]25 - 22 :‬‬ ‫(‪َ )23‬و ُوجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ بَ ِ‬
‫اح َكةٌ ُم ْستَب ِْش َرةٌ (‪َ )39‬و ُو ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ َعلَ ْيهَ ا‬‫ض ِ‬‫وقال‪ُ ﴿ :‬و ُج وهٌ يَوْ َمئِ ٍذ ُم ْس فِ َرةٌ (‪َ )38‬‬
‫ْ‬
‫ك هُ ُم ال َكفَ َرةُ الفَ َج َرةُ (‪[ ﴾ )42‬عبس‪]40 - 38 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َغبَ َرةٌ (‪ )40‬تَرْ هَقُهَا قَت ََرةٌ (‪ )41‬أُولَئِ َ‬
‫وفي الحديث قال رسول هللا ‪( :‬إن أول زمرة ي دخلون الجن ة على ص ورة‬
‫ي في السماء إضاءة)(‪)2‬‬ ‫القمر ليلة البدر‪ ،‬والذين يلونهم على أشد كوكب ُدرِّ ّ‬
‫وهكذا يعاين المسيئون ما فعل وه على أش كال وهيئ ات مختلف ة‪ ،‬وق د ورد في‬
‫بعض اآلثار‪( :‬إن لجهنم لجبابا في كل جب ساحال كساحل البحر في ه ه وام وحي ات‬
‫كالبخاتي وعقارب كالبغال الذل؛ فإذا سأل أه ل الن ار التخفي ف‪ ،‬قي ل‪ :‬اخرج وا إلى‬
‫الس احل فتأخ ذهم تل ك اله وام بش فاههم وجن وبهم وم ا ش اء هللا من ذل ك فتكش طها‬
‫فيرجعون فيبادرون إلى معظم النيران ويسلط عليهم الجرب ح تى إن أح دهم ليح ك‬
‫جلده حتى يبدو العظم‪ ،‬فيقال‪ :‬يا فالن هل يؤذيك هذا؟ فيقول‪ :‬نعم فيقال له‪ :‬ذلك بم ا‬
‫كنت تؤذي المؤمنين)(‪)3‬‬
‫وهذا يدل على أن ك ل تل ك المش اهد واآلالم ال تي يع اني منه ا ه ؤالء ليس ت‬
‫سوى تجسد لذلك األذى الذي كانوا يمارسونه في الدنيا‪.‬‬
‫وهك ذا يك ون األلم في المح ل الواح د بحس ب العم ل‪ ،‬ال بحس ب البيئ ة ال تي‬
‫يكون فيها الشخص‪ ،‬ففي الحديث في وص ف ع ذاب جهنم ق ال رس ول هللا ‪( :‬إن‬
‫منهم من تأخذه النار إلى كعبيه‪ ،‬ومنهم من تأخذه إلى ركبتي ه‪ ،‬ومنهم من تأخ ذه إلى‬
‫حجزته‪ ،‬ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)(‪)4‬‬
‫ب ـ انسجام األجسام مع الجزاء‪:‬‬
‫ونريد به أن األجسام في ذلك العالم تكون منسجمة جميعا مع الجزاء المرتبط‬
‫بها‪ ،‬ول ذلك ف إن م ا ندرس ه في ال دنيا من علم وظ ائف األعض اء قاص ر على ه ذه‬
‫األجساد‪ ،‬وال عالقة له بأجساد اآلخرة‪ ،‬ذلك أن القوانين هناك مختلفة تماما‪.‬‬
‫وكمث ال على ذل ك‪ ،‬ف إن جمي ع الجه از الهض مي ال ذي ن راه في ال دنيا‪ ،‬ال‬
‫ضرورة له في اآلخرة‪ ،‬ألن الغذاء هناك مختلف‪ ،‬وال حاجة له ذا الجه از الختالف‬

‫‪ )(1‬البخاري ‪.324 / 8‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪ ،‬برقم ‪ ،3327 ،3254 ،3246‬ومسلم‪ ،‬واللفظ له‪ ،‬برقم ‪.2834‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن أبي الدنيا‪ ،‬الترغيب والترهيب للمنذري (‪.)258 /4‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم رقم (‪.)2845‬‬

‫‪308‬‬
‫الغذاء‪ ،‬مثلما نرى الجهاز الهضمي للبقرة مختلفا عن الجهاز الهضمي لإلنسان بناء‬
‫على اختالف نوع الغذاء‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هذا المع نى قول ه ‪( :‬يأك ل أه ل الجن ة فيه ا ويش ربون‪ ،‬وال‬
‫يتغوّطون‪ ،‬وال يمت ّخطون‪ ،‬وال يبول ون‪ ،‬ولكن طع امهم ذاك جش اء كرش ح المس ك‪،‬‬
‫يُلهَم ون التس بيح والتحمي د كم ا يُلهَم ون النَّفَس)(‪ )1‬في رواي ة‪( :‬ال يبول ون‪ ،‬وال‬
‫خطون)(‪)2‬‬ ‫يتغوّطون‪ ،‬وال يتفلون‪ ،‬وال يمت ّ‬
‫وهذا الحديث يشير إلى أن جهاز اإلطراح مختلف تماما‪ ،‬وأنه مرتبط بجمي ع‬
‫الجسم‪ ،‬وأن ما يخرج منه هو الرائحة الطيبة‪ ..‬وهذا قد يشير إلى أن التل ذذ بالطع ام‬
‫ليس خاص ا باللس ان‪ ،‬ب ل ق د يك ون في جمي ع األج زاء ال تي يم ر به ا‪ ،‬أي الجس م‬
‫جميعا‪ ..‬وهو قد يشير أيضا إلى أن الهدف من الغذاء هن اك ه و التل ذذ المج رد‪ ،‬أي‬
‫أن األجسام هناك ثابتة مكتفية ال تحتاج لشيء يضاف إليها‪ ،‬أو تبنى به‪.‬‬
‫والحديث يشير أيضا إلى أن الجه از التنفس ي في ذل ك الحين مختل ف تمام ا‪،‬‬
‫ألن الشهيق والزفير فيه هو تلك التسبيحات التي يسبح بها اإلنسان ربه‪.‬‬
‫وهكذا يمكننا تخيل الكثير من األشياء المرتبطة به ذا الج انب‪ ،‬وال تي تتن افى‬
‫مع ما ن راه في ه ذا الع الم من تص رفات أجس ادنا‪ ،‬وال تي له ا عالق ة بن وع الحي اة‬
‫البسيطة التي نعيشها‪.‬‬
‫ولذلك ذكرنا عند مناقشتنا لبعض التنويريين في كتاب [التنويريون والصراع‬
‫مع المقدسات] أن العالقة الزوجية في اآلخرة مع الزوج ات أو م ع الح ور العين ال‬
‫عالقة لها بما نراه في الدنيا‪ ،‬بل هي عالقة سامية‪ ،‬متناسبة م ع ذل ك الع الم الممتلئ‬
‫بالطهر والسمو والقداسة(‪.)3‬‬
‫وهكذا؛ فإن الكثير من اإلشكاالت تحل عن د التع رف على ه ذه الخاص ية من‬
‫خصائص أجسام اآلخ رة‪ ..‬ذل ك أن الكث ير من اإلش كاالت مبني ة على القي اس على‬
‫أجسام الدنيا وهيئاتها‪.‬‬
‫وهكذا األمر بالنسبة ألجسام المسيئين؛ فهي متناسبة مع نوع الجزاء المرتبط‬
‫بهم‪ ،‬وقد ذك ر هللا تع الى بعض ص فات الجل ود في اآلخ رة‪ ،‬وفي جهنم خصوص ا‪،‬‬
‫ت ُجلُ و ُدهُ ْم بَ َّد ْلنَاهُ ْم‬ ‫ص لِي ِه ْم نَ ارًا ُكلَّ َم ا ن ِ‬
‫َض َج ْ‬ ‫فقال‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَ رُوا بِآيَاتِنَ ا َس وْ فَ نُ ْ‬
‫َزي ًزا َح ِكي ًما﴾ [النساء‪]56 :‬‬ ‫ُجلُودًا َغ ْي َرهَا لِيَ ُذوقُوا ْال َع َذ َ‬
‫اب إِ َّن هَّللا َ َكانَ ع ِ‬
‫وأخبر عن الطاقات التي تحملها تلك األجساد‪ ،‬ومدى تحمله ا للع ذاب‪ ،‬فق ال‪:‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم‪ ،‬برقم ‪. 2835‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪ ،3327 ،3254 ،3246 ،3245 ،‬ومسلم‪ ،‬برقم ‪.2834‬‬
‫‪ )(3‬ومم ا ذكرن اه في الكت اب‪( :‬وك ان في إمك ان التن ويريين أن يس لموا هلل فيم ا ذك ر‪ ،‬فه و أدرى بعب اده‪،‬‬
‫وبرغباتهم‪ ،‬ولذلك خاطبهم بما يتناسب معهم‪ ..‬لكنهم لقسوة قل وبهم‪ ،‬ولتم ردهم على هللا‪ ،‬وتق ديمهم أله وائهم علي ه لم‬
‫يفعلوا‪ ..‬بل راحوا يصورون ذلك باعتباره هوسا جنسيا‪ ،‬والعياذ باهلل‪ ،‬مع أن القرآن الكريم لم ي ذكر أي ش يء يرتب ط‬
‫ب ذلك‪ ،‬ب ل اكتفى باعتب اره من نعيم الجن ة مثل ه مث ل الول دان المخل دون والقص ور ال تي تج ري تحته ا األنه ار‪)..‬‬
‫[التنويريون والصراع مع المقدسات‪ ،‬ص‪]55‬‬

‫‪309‬‬
‫وس ِه ُم ْال َح ِمي ُم (‪)19‬‬ ‫ق ُر ُء ِ‬‫ُص بُّ ِم ْن فَ وْ ِ‬ ‫ار ي َ‬ ‫ت لَهُ ْم ثِيَ ابٌ ِم ْن نَ ٍ‬ ‫﴿فَالَّ ِذينَ َكفَ رُوا قُطِّ َع ْ‬
‫يُصْ هَ ُر بِ ِه َما فِي بُطُونِ ِه ْم َو ْال ُجلُو ُد (‪َ )20‬ولَهُ ْم َمقَا ِم ُع ِم ْن َح ِدي ٍد (‪ُ )21‬كلَّ َم ا أَ َرادُوا أَ ْن‬
‫يق (‪[ ﴾)22‬الحج‪]22 - 19 :‬‬ ‫اب ْال َح ِر ِ‬‫يَ ْخ ُرجُوا ِم ْنهَا ِم ْن َغ ٍّم أُ ِعيدُوا فِيهَا َو ُذوقُوا َع َذ َ‬
‫﴿حتَّى إِ َذا َم ا َجا ُءوهَ ا َش ِه َد‬ ‫وأخبر عن ح ديث الجس د في تل ك النش أة‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫صا ُرهُ ْم َو ُجلُو ُدهُ ْم بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [فصلت‪]20 :‬‬ ‫َعلَ ْي ِه ْم َس ْم ُعهُ ْم َوأَ ْب َ‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن بعض صفات أجسام من يدخلون جهنم‪ ،‬وبين‬
‫أنها تتنافى م ع م ا نعرف ه من ص فات األجس اد وطاقاته ا في ال دنيا‪ ،‬فق ال‪( :‬م ا بين‬
‫منكبي الكافر في النار مسيرة ثالثة أيام للراكب المسرع) (‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬ضرس الكافر‪ ،‬أو ناب الك افر‪ ،‬مث ل أح د‪ ،‬وغل ظ‬
‫جلده مسيرة ثالث) (‪)2‬‬
‫وقال ‪( :‬إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً‪ ،‬وإن ضرسه مثل أحد‪،‬‬
‫وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) (‪)3‬‬
‫وق ال ‪( :‬ض رس الك افر ي وم القيام ة مث ل أح د‪ ،‬وع رض جل ده س بعون‬
‫ذراعاً‪ ،‬وعضده مثل البيضاء‪ ،‬وفخذه مثل ورقان‪ ،‬ومقع ده من الن ار م ا بي ني وبين‬
‫الربذة) (‪)4‬‬
‫وكل هذه صور تقريبية‪ ،‬تحاول أن تصور الحقيقة ال تي ال يمكن معرفته ا إال‬
‫بعد معاينتها‪ ،‬ولذلك كان الخوض فيها خوضا فيما ال يعني‪..‬‬
‫وبناء على هذا نرى أن ما يذكر في الكث ير من الرواي ات عن ط ول اإلنس ان‬
‫ونح وه ه و من آث ار اإلس رائيليات ال تي دخلت لألح اديث النبوي ة‪ ،‬ذل ك أن األم ر‬
‫مختلف في اآلخرة تماما عن الدنيا‪.‬‬
‫ومثل ذلك تلك األحاديث التي تصف بعض ما يحصل في الجنة‪ ،‬وخاصة في‬
‫العالق ة م ع الزوج ات والح ور العين‪ ،‬فكله ا أح اديث تقريبي ة‪ ،‬أو رواه ا ال رواة‬
‫بالمعنى‪ ،‬أو من المدسوسات‪ ،‬كما سنرى ذلك عند الحديث عن األزواج والولدان‪.‬‬
‫ج ـ روحانية األجسام‪:‬‬
‫قد يكون هذا العنوان غريبا‪ ،‬لكن ربما يكون حال للخالف ال دائر بين الق ائلين‬
‫بالمعاد الجسماني والمعاد الروحاني‪ ،‬ذلك أن األجسام في اآلخرة‪ ،‬وفي دار الج زاء‬
‫خصوصا‪ ،‬وخاصة في الديار المعدة للمحسنين‪ ،‬يكون لها من الخصائص ما يجعلها‬
‫أك ثر ش فافية وروحاني ة ومثالي ة من أجس اد ال دنيا‪ ،‬حيث تنتفي عن دها الكث ير من‬
‫الحواجز التي نراها في الدنيا بسبب القوانين الفيزيائية التي تحكمها‪.‬‬
‫ول ذلك يمكن أله ل الجن ة التنق ل حيث ش اءوا‪ ،‬وفي طرق ة عين‪ ،‬ومن غ ير‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ ،)6551‬ومسلم (‪)2852‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم (‪)2851‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي (‪ .)2577‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح غريب‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد (‪ ،)8327( )328 /2‬والحاكم (‪)637 /4‬‬

‫‪310‬‬
‫حاجة الستعمال أقدام‪ ،‬أو أي وسيلة نقل‪ ،‬وقد ورد في الح ديث قول ه ‪( :‬إذا دخ ل‬
‫أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى اإلخوان‪ ،‬فيجيء سرير هذا ح تى يح اذي س رير ه ذا‪،‬‬
‫فيتح دثان‪ ،‬فيتكئ ه ذا ويتكئ ه ذا‪ ،‬فيتح دثان بم ا ك ان في ال دنيا‪ ،‬فيق ول أح دهما‬
‫لصاحبه‪ :‬يا فالن‪ ،‬تدري أي يوم غفر هللا لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وك ذا‪ ،‬ف دعونا‬
‫هللا عز وجل‪ ،‬فغفر لنا)(‪)1‬‬
‫وهكذا يمكنهم بمجرد الهمة أن يحص لوا على م ا يري دون‪ ،‬ففي الح ديث ق ال‬
‫رسول هللا ‪( :‬إنك لتنظر إلى الطير في الجنة‪ ،‬فتشتهيه‪ ،‬فيخ ر بين ي ديك مش وياً)‬
‫(‪)2‬‬
‫وهك ذا ورد في الح ديث اإلخب ار عن بعض ال ذين يش تهون الول د‪ ،‬فيحص ل‬
‫عليه في لحظات معدودة‪ ،‬قال ‪( :‬المؤمن إذا اش تهى الول د في الجن ة ك ان حمل ه‬
‫ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي)(‪)3‬‬
‫وهكذا أخبر ‪ ‬عن قوة أجساد أهل الجنة‪ ،‬وم دى اختالفه ا عن أجس اد أه ل‬
‫الدينا‪ ،‬قال ‪( :‬ينادي مناد إن لكم أن تص حوا فال تس قموا أب داً‪ ،‬وإن لكم أن تحي وا‬
‫فال تموتوا أبداً‪ ،‬وإن لكم أن تش بوا فال تهرم وا أب داً‪ ،‬وإن لكم أن تنعم وا فال تبأس وا‬
‫ور ْثتُ ُموهَ ا بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ ﴾‬‫ُ‬
‫أب داً‪ ،‬ف ذلك قول ه ع ز وج ل‪َ ﴿ :‬ونُ ودُوا أَ ْن تِ ْل ُك ُم ْال َجنَّةُ أ ِ‬
‫[األعراف‪)4()]43 :‬‬
‫واألمر ـ كم ا ورد في الرواي ات ـ ليس قاص را على البش ر‪ ،‬ب ل ح تى على‬
‫األشياء التي تكون في الجنة‪ ،‬ففي الحديث قال رس ول هللا ‪( :‬إن الرج ل إذا ن زع‬
‫ثمرة في الجنة‪ ،‬عادت مكانها أخرى)(‪)5‬‬
‫وبناء على هذا ذكر الكثير من المحققين م ا ذكرن اه من ت روحن أجس اد أه ل‬
‫الجنة‪ ،‬فقد قال العالمة المتكلم مق داد عب د هللا الفاض ل الس يوري الحلي‪( :‬د ّل العق ل‬
‫أن س عادة األب دان في‬ ‫أن سعادة النفوس في معرف ة هللا تع الى ومحبت ه‪ ،‬وعلى ّ‬ ‫على ّ‬
‫أن الجمع بين هاتين الس عادتين في الحي اة‬ ‫إدراك المحسوسات‪ ،‬ود ّل االستقراء على ّ‬
‫ان اإلنس ان ح ال اس تغراقه في تجلّي أن وار ع الم الغيب ال‬ ‫الدنيا غير ممكن‪ ،‬وذلك ّ‬
‫يمكنه االلتفات إلى اللّ ذات الحس ية‪ ،‬وإن أمكن ك ان على ض عف ج داً بحيث ال يع د‬
‫التذاذاً‪ ،‬وبالعكس‪ ،‬لكن تعذر ذلك‪ ،‬سببه‪ ،‬ضعف النفوس البشرية هنا‪ ،‬فمع مفارقته ا‬
‫واستمدادها الفيض من عالم القدس تقوى وتشرق‪ ،‬فمع إعادتها إلى أبدانها غير بعيد‬
‫أن تص ير هن اك قوي ة على الجم ع بين الس عادتين على الوج ه الت ام وه و الغاي ة‬
‫القصوى في مراتب السعادة‪ .‬قالوا‪ :‬وهذا لم يقم على امتناع ه بره ان‪ ،‬فل ذلك أثبت وا‬
‫‪ )(1‬مسند البزار برقم (‪ )3553‬وقال الهيثمي في المجمع (‪ : )10/421‬رجال ه رج ال الص حيح غ ير س عيد بن‬
‫دينار والربيع بن صبيح وهما ضعيفان وقد وثقا‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البيهقي في (البعث والنشور) (‪ ،)307‬وابن أبي الدنيا في (صفة الجنة) (‪.)100‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي ‪.2487‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم (‪.)2837‬‬
‫‪ )(5‬رواه الطبراني في المعجم الكبير (‪.)2/102‬‬

‫‪311‬‬
‫المعادين)(‪)1‬‬
‫وقريب منه ما ذكره شهاب الدين القرافي‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬النعيم الجس ماني ال ذي‬
‫يثبته المسلمون ليس مفس رًا على م ا ذكرتم وه من التش نيع‪ ،‬ب ل على وف ق الكرام ة‬
‫الربانية والسعادة األبدية‪ ،‬وتقريره‪ :‬أننا نجد في هذه ال دار المالذ الجس مانية ت ترتب‬
‫على أسباب عادية‪ ،‬فالمالذ إما علوم خاصة حسية كإدراك الحالوة وأن واع الطع وم‬
‫المالئم ة‪ ،‬وإدراك األرايج المناس بة لج واهر النفس البش رية‪ ،‬وإدراك المالمس ة‬
‫لألجس ام الموافق ة لج واهر الطب اع‪ ،‬وإدراك المبص رات من األل وان واألض واء‬
‫وتفاص يل أن واع الحس والجم ال وغيره ا من المبص رات الس ارة للنفس‪ ،‬وك ذلك‬
‫الق ول في بقي ة الح واس‪ ،‬وأم ا إدراك األح وال النفس ية كاستش عار النفس حص ول‬
‫الش راب والغ ذاء عن د حاجته ا لالغت ذاء واإلرواء‪ ،‬ونح و ذل ك‪ ،‬فه ذه هي المالذ‬
‫الجسمانية ولذلك حد الفضالء اللذة بقولهم‪[ :‬هي إدراك المالئم]‪ ،‬فجمعوا الجميع في‬
‫هذا الح د الش امل‪ ،‬وأم ا أس بابها العادي ة فهي المباش رة ألن واع المآك ل والمش ارب‬
‫والمناكح ونحو ذلك‪ ،‬ثم هذه المباش رة تق ترن به ا في الع ادات حاج ات للمتن اوالت‬
‫وقاذورات تقترن بالمباشرات‪ ،‬فالمسلمون ي دعون من ه ذه األقس ام الثالث ة األولين‬
‫فقط دون الثالث‪ ،‬فيثبتون اللذات وأسبابها مجردة عن القاذورات وأن واع الحاج ات‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬األكل والشرب والنكاح في الجنة من غير ألم جوع وال عطش وال بص اق‬
‫والمخ اط‪ ،‬وال دم ع والب ول وال غائ ط‪ ،‬وال ريح منتن وال حيض وال م ني وال‬
‫رطوبات مستقذرة‪ ،‬وال إبداء عورة منقضة‪ ،‬وال زوال أبهة معتبرة‪ ،‬وال ش يء مم ا‬
‫يعاب بنوع نقيصه‪ ،‬بل يج د الم ؤمن غاي ة م ا يك ون من ل ذة األك ل بمباش رة أنفس‬
‫المآكل من غ ير بص اق وال تل ويث‪ ،‬وال ألم ج وع س ابق وال ش يء الح ق‪ ،‬وك ذلك‬
‫يحصل أعظم ما يكون من لذة الشرب عن د مباش رة أش رف المش روبات‪ ،‬من غ ير‬
‫عطش وال حاجة سابقة وال تلويث الحق وال شيء يعاب‪ ..‬وإذا ك ان ه ذا ه و ال ذي‬
‫يعتقده المسلمون من الجمع بين النعيم الروحاني المتعلق باألرواح من إدراك مع نى‬
‫جالل هللا تعالى وجماله وتفاص يل ص فاته وآالئ ه المتج ددة على مم ر األب د والنعيم‬
‫الجسماني الذي تقدم تحقيقه ؛ كان هو الالئق بالكرم اإللهي واإلحسان الرباني‪ ،‬ف إن‬
‫االقتصار على النعيم الروحاني تقص ير من قائل ه في س عة النعم ة وتم ام الكرام ة‪،‬‬
‫وأن ما يقوله المسلمون يجزم العق ل الش ريف ب أن مثل ه ال تع رى عن ه دار أري دت‬
‫لغاية اإلكرام‪ ،‬وأن يكون على غاية التم ام‪ ،‬ب ل ل و ف رض ع دم ه ذه المالذ البديع ة‬
‫منها لقال العقل ال وافر ل و ك ان فيه ا ه ذه المالذ لك انت أتم وأكم ل‪ ..‬فظه ر إص ابة‬
‫المسلمين للصواب ببيان الحق واندفع السؤال)(‪)2‬‬
‫أما الذين ينكرون ه ذا الق ول‪ ،‬ويزعم ون أن ه ذا الجس د ال ذي نعيش ب ه في‬
‫الدنيا هو نفسه الذي نعيش به في اآلخرة؛ فهو مبني على تصورات بدائية لإلنس ان‪،‬‬

‫‪ )(1‬اللوامع اإللهية‪.378 :‬‬


‫‪ )(2‬األجوبة الفاخرة عن األسئلة الفاجرة‪ ،‬ص‪..103‬‬

‫‪312‬‬
‫تجعل منه مختصرا في هذا القالب الطيني‪ ،‬بينما حقيقة اإلنسان أكبر من أن تحصر‬
‫في أي قالب‪.‬‬
‫وقد أجاب الشيخ الفيلسوف صدر المتألهين على هذا اإلش كال ب ذكره أن ه ذا‬
‫البدن الذي نعيش به في الدنيا‪ ،‬له حقيقة في ذاته‪ ،‬وليس مرتبط ا ارتباط ا ض روريا‬
‫بالنفس‪ ،‬ولذلك يعود بعد انتهاء استعمال النفس له إلى وض عه الط بيعي‪ ،‬تراب ا مث ل‬
‫سائر التراب‪.‬‬
‫وق د ق ال عن د حديث ه عن ماهي ة ب دن اإلنس ان في ح ال الطفول ة‪ ،‬وفي ح ال‬
‫الشباب‪ ،‬وفي حال الشيخوخة‪ ،‬وهل هي باقي ة بعينه ا‪ ،‬أم أنّه ا ق د تغ يرت وتب دلت‪:‬‬
‫(الجواب‪ :‬بال‪ ،‬وبنعم‪ ،‬کالهما صحيح ؛ إذ کلٌّ من الس لب واإليج اب ص ادق بوج ه‬
‫دون وجه‪ ،‬فهو من حيث هو بدن زيد شخصي ذو نفس شخصية‪ ،‬صح أنه هو بعينه‬
‫ذلک البدن بال تبدل إال في عوارض هذا المع نى‪ ،‬بم ا ه و المع نى‪ ،‬ومن حيث إنّ ه‬
‫جسم له طبيعة جسمية ـ مع قطع النظر عن ارتباطه بأمر آخ ر ـ فه و في ک ل س نة‬
‫غير الذي کان في السنة األخ رى‪ ،‬ب ل في ک ل س اعة ولحظ ة ه و غ ير ال ذي ک ان‬
‫وسيکون ؛ لکونه دائما ً في التحلل والذوبان‪ ..‬فإذا أحکمت هذا‪ ،‬فاعلم أنه إذا ف رض‬
‫تبدل هذا البدن بالبدن اآلخر مع بقاء النفس فيهما صح قولک‪ ،‬بأن أحدهما بعينه هو‬
‫اآلخر‪ ،‬وصح اعتقادک بأن ما يرى في المنام بعينه هو هذا البدن المتعين وال ع برة‬
‫بتبدل المواد والخصوصيات‪ ،‬فک ل من ي رى ببص ره القل بي نفس الرس ول األعظم‬
‫‪ ‬مع أي تمثل کان‪ ،‬فقد رأي صورة ذاته بعينه ؛ إن العبرة بتعين الشيء هو نفسه‬
‫وصورته م ع أي م ادة ک انت‪ ،‬والب دن بمنزل ة اآلل ة المطلق ة للنفس‪ ،‬فق د روى عن‬
‫النبي األکرم ‪( :‬من رآني في المنام‪ ،‬فقد رآني فان الشيطان ال يتمثل بي)(‪)2())1‬‬
‫ثم علل ذلك بقوله‪( :‬اآللة من حيث هي آلة إنما تتعين بذي اآللة‪ ،‬وک ذا الم ادة‬
‫في وجودها في غاية اإلبهام‪ ،‬وإنما تتعين بالص ورة وتس تهلک فيه ا‪ ،‬وله ذا تک ون‬
‫شخصية زيد تعيّنه باقيا ً مستمراً من أول صباه إلى آخر شيخوخته‪ ،‬م ع أن جس ميته‬
‫مما تبدلت وتجددت بحسب االستحاالت واألم راض‪ ،‬وک ذا جس مية ک ل عض و من‬
‫أعضائه‪ ،‬کم ا أن زي داً الشخص ي ـ بمجم وع م ا ي دخل في ق وام هويت ه من النفس‬
‫والب دن ـ بقى ومس تمر‪ ،‬وک ذا جس ميته وبدن ه أيض ا ً ـ من حيث کون ه ب دنا ً لزي د‬
‫ومرتبطا ً به ارتباطا ً طبيعيا ً موجود شخصي واحد مستمر من أول العمر إلى آخره‪،‬‬
‫وإن تبدلت ذاته بذاته من حيث جسميته ال من حيث بدنيته لما علمت من الف رق بين‬
‫االعتبارين) (‪)3‬‬
‫والنتيجة التي خلص إليها هي أن (جوهرية العبد في ال دنيا واآلخ رة وروح ه‬
‫باقية مع تبدل الصور عليه من غير تناسخ‪ ،‬وکل ما ينشأ من العمل الذي کان يعمل ه‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪..9/42 ،‬‬


‫‪ )(2‬تفسير القرآن الکريم ‪ ،‬صدرالمتألهين‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪.347‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪.347‬‬

‫‪313‬‬
‫اآلخرة) (‪)1‬‬ ‫بالدنيا يعطي لقالبه جزاء ذلک في‬
‫ثم بين م دى تواف ق ه ذا م ع م ا تقتض يه الحكم ة المتعالي ة من التواف ق بين‬
‫(إن هذا هو االعتقاد الصحيح المط ابق للش ريعة‬ ‫الشريعة والفلسفة والعرفان‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫والملة الموافق للبرهان والحکمة‪ ،‬فمن آمن بهذا فقد آمن بيوم القيامة والجزاء‪ ،‬وق د‬
‫أصبح مؤمنا ً حقاً‪ ،‬والنقصان عن ه ذا خ ذالن وقص ور عن درج ة العرف ان‪ ،‬وق ول‬
‫بتعطيل أکثر القوى والطبائع عن البلوغ إلى غايتها والوصول إلى کماالته ا ونت ائج‬
‫أش واقها وحرکاته ا‪ ،‬ويل زم أن يک ون م ا أودع ه هللا في غزائ ر الطب ائع الکوني ة‬
‫وجبالّتها من طلب الکمال والتوجه إلى ما فوقها هبا ًء‪ ،‬وعبثاً‪ ،‬وباطالً‪ ،‬وهدراً)(‪)2‬‬
‫‪ 2‬ـ المناخ والتضاريس‪:‬‬
‫من األم ور المرتبط ة ب الجزاء‪ ،‬وال تي ورد ذكره ا كث يرا في المص ادر‬
‫المقدسة‪ ،‬والروايات التي تشرحها‪ ،‬ما يمكن أن نطل ق علي ه [المن اخ والتض اريس]‬
‫المرتبطة ببيئة دار الجزاء بأنواعها المختلفة‪.‬‬
‫وهي بيئة مرتبطة بالنشأة الثانية‪ ،‬وقد وق ع الخالف الش ديد في محله ا‪ ،‬وه ل‬
‫هي موجودة في عين ه ذا الك ون ال ذي نعيش في ه‪ ،‬أم ا أنه ا في ك ون آخ ر مس تقل‬
‫تماما‪ ،‬أم أن الجنة في كون مستقل خاص بها‪ ،‬بينما النار تابع ة له ذا الك ون‪ ..‬وه ذا‬
‫القول األخير هو الذي اخترن اه بن اء على أدل ة كث يرة نع رض لبعض ها في المبحث‬
‫الثالث من هذا الفصل‪.‬‬
‫بناء على هذا؛ فإن المناخ والتضاريس في دار الج زاء مرتبط ان باألعم ال‪،‬‬
‫وبمراتب العاملين‪ ،‬ذلك أن لكل فرد في ذلك العالم بيئته الخاصة به‪ ،‬على عكس م ا‬
‫نراه في الدنيا‪ ،‬والذي تفرض فيه البيئ ة على ص احبها فرض ا‪ ،‬حيث ن رى بعض هم‬
‫يعيش في أجواء صحراوية جافة حارة ممل وءة ب الزوابع الرملي ة‪ ،‬وبعض هم يعيش‬
‫عكس ذلك في أجواء باردة رطبة ممتلئة بالعواصف الثلجي ة‪ ،‬وبعض هم على عكس‬
‫الطرفين يعيش في أجواء معتدلة إما في السهول‪ ،‬أو في الجبال‪ ،‬أو على الشواطئ‪..‬‬
‫وغير ذلك مما نراه في الدنيا‪ ،‬وعلى خالفه عالم اآلخرة‪.‬‬
‫ومن أهم أهداف هذا التنوع الذي نعيشه في الدنيا‪ ،‬أن ن رى ق درة هللا تع الى‪،‬‬
‫وأن نعرف أنها يمكن أن توفر لنا ما نشاء من األجواء والبيئ ات‪ ..‬وأنه ا لم تف رض‬
‫علينا هذه البيئات التي نعيش ها في ال دنيا لعج ز منه ا‪ ،‬وإنم ا فعلت ذل ك الختبارن ا‪،‬‬
‫ولتعريفنا بقدرة هللا المطلقة‪.‬‬
‫بناء على هذا س نحاول هن ا التع رف على م ا ورد في النص وص ح ول ه ذا‬
‫الجانب المهم من جوانب الجزاء اإللهي‪ ،‬وعالقته بالعدالة والرحمة‪.‬‬
‫أ ـ مناخ وتضاريس الجنة‪:‬‬
‫القاعدة التي تحكم دار النعيم اإللهي في ه ذا الج انب هي م ا نص علي ه قول ه‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪.348‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪.348‬‬

‫‪314‬‬
‫الص ْد ِ‬
‫ق‬ ‫﴿والَّ ِذي َج ا َء بِ ِّ‬‫﴿وفِيهَا َم ا ت َْش تَ ِهي ِه اأْل َ ْنفُسُ ﴾ [الزخ رف‪ ،]71 :‬وقول ه‪َ :‬‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ق بِ ِه أولَئِكَ هُ ُم ال ُمتَّقونَ (‪ )33‬لَهُ ْم َما يَ َشاءُونَ ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َذلِكَ َج َزا ُء ال ُمحْ ِسنِينَ ﴾‬ ‫ُ‬ ‫ص َّد َ‬
‫َو َ‬
‫[الزمر‪]34 ،33 :‬‬
‫وبناء عليها‪ ،‬فإنه إن اشتهى أحد من أهل الجنة سكنى الش واطئ‪ ،‬أو الجب ال‪،‬‬
‫أو غيرها من البيئات ح تى البيئ ات الجليدي ة‪ ..‬فك ل ذل ك يمكن ه أن يتحق ق ل ه بك ل‬
‫سهولة‪ ،‬وال يحتاج لذلك سوى أن يهم ويشتهي أن يعيش في مثل تلك البيئة؛ ف إذا ب ه‬
‫يعيش فيها‪.‬‬
‫وقد ذكرنا هذا بناء على أن البعض راح يعترض على ما ورد في النصوص‬
‫المقدسة من أوصاف الجنة‪ ،‬وكونها مملوءة بالشجر الكثير الملت ف‪ ،‬وأن ه ذا ربم ا‬
‫يناسب هوى سكان البيئات الصحراوية الجافة الذين يفتقدون إلى مثل ه ذه المن اظر‬
‫في الدنيا‪ ..‬وأن النصوص المقدسة بذلك ت راعي تل ك البيئ ات‪ ،‬ومن يعيش فيه ا من‬
‫الناس دون غيرهم‪.‬‬
‫وه ذا وهم ن اتج عن ع دم فهم لغ ة الق رآن الك ريم أو األح اديث الص حيحة‬
‫المرتبطة بهذا الجانب‪ ،‬فهي ال تذكر الحقيقة بجميع صورها ومظاهره ا‪ ،‬الس تحالة‬
‫ذلك‪ ،‬وإنما تصور بعض مشاهدها‪ ،‬لتحري ك النف وس للش وق إليه ا‪ ،‬واالس تفادة من‬
‫توجيه ذلك الشوق للعمل الصالح‪.‬‬
‫ولذلك إن شاء شخص ما أن يعيش في بيئة أخرى‪ ،‬فله ذلك‪ ،‬وال يحتاج سوى‬
‫ألن يوفر من العمل الصالح ما يعطيه الق وة على توف ير ك ل م ا يش تهيه‪ ،‬ألن النعيم‬
‫هناك مرتبط بما حصله صاحبه من قوى وملكات في الدنيا‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك‪ ،‬ولو ع دنا ألك ثر نف وس البش ر؛ فإن ا نج د أن تل ك األوص اف‬
‫الواردة في القرآن الكريم عن مناخ الجنة وتضاريسها مما يرغب فيه أك ثر الخل ق‪،‬‬
‫وال يبغون عنه أي بدل‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم يذكر أن الجنة هي مجموعة من البس اتين المتنوع ة الممل وءة‬
‫﴿وبَ ِّش ِر الَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫باألشجار‪ ،‬وال تي تج ري من تحته ا األنه ار‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر ﴾ [البق رة‪ ،]25 :‬وق ال‪:‬‬ ‫ت أَ َّن لَهُ ْم َجنَّا ٍ‬ ‫َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا َونِ ْع َم‬
‫ك َجزَا ُؤهُ ْم َم ْغفِ َرةٌ ِم ْن َربِّ ِه ْم َو َجنَّ ٌ‬ ‫﴿ أُولَئِ َ‬
‫أَجْ ُر ْال َعا ِملِينَ ﴾ [آل عمران‪،]136 :‬‬
‫وهو وصف يرغب فيه البشر جميعا‪ ،‬خاصة إذا ك انت تل ك األش جار مثم رة‬
‫ومتنوعة أو تحمل أزهارا‪ ،‬أو لها أوراق وأغصان مميزة‪ ،‬وف وق ذل ك يس يل الم اء‬
‫الصافي بجانبيها وأمامها‪.‬‬
‫وقد ذكر الشيخ مك ارم الش يرازي بعض الن واحي الجمالي ة المرتبط ة ب ذلك‪،‬‬
‫وهي(‪:)1‬‬
‫‪ .1‬أن الماء والش جر يش كالن م ع بعض هما البعض منظ را جميال في منتهى‬

‫‪ )(1‬نفحات القرآن‪ ،‬مكارم الشيرازي‪ ،‬ج‪ ، 6‬ص‪..160‬‬

‫‪315‬‬
‫الروعة والجمال‪ ،‬وكان كل واحد منها ناقصا‪ ،‬ويحتاج إلى إكمال من اآلخر‪.‬‬
‫‪ .2‬أن األنهار تؤمن طراوة دائمية لألش جار‪ ،‬ف التي تج ري من تحته ا المي اه‬
‫تكون خضرا زاهي ة‪ ،‬ام ا األش جار ال تي ال تت وفر له ا مي اه دائم ة أو ي ؤتى ب ه من‬
‫الخارج‪ ،‬فإنها ال تتمت ع بمث ل ه ذه الط راوة واالخض رار‪ ،‬فالم اء ه و أس اس حي اة‬
‫النباتات‪ ،‬وال بد من توفر هذا العنصر األس اس للحي اة بجانبه ا دائم ا‪ ،‬وق د ورد في‬
‫بعض الرواي ات‪(:‬إن انهارالجن ة ليس ت في أخادي د‪ ،‬إنم ا تج ري على س طح الجن ة‬
‫منضبطة)‬
‫واألعجب من هذا أنه ليست األشجار فقط تج ري من تحته ا األنه ار‪ ،‬ب ل إن‬
‫﴿والَّ ِذينَ آ َمنُ وا‬
‫األنه ار تج ري من تحت مس اكن أه ل الجن ة‪ ،‬كم ا في قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ت لَنُبَ ِّوئَنَّهُ ْم ِمنَ ْال َجنَّ ِة ُغ َرفًا تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا‬
‫َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫نِ ْع َم أَجْ ُر ْال َعا ِملِينَ ﴾ [العنكبوت‪]58 :‬‬
‫ونحب أن ننبه إلى أن األنهار في الجنة ليست فقط أنهار الماء‪ ،‬بل فيها أنهار‬
‫أخرى مختلف ألوانه ا‪ ،‬كم ا في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬مثَ ُل ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُو ِع َد ْال ُمتَّقُ ونَ فِيهَ ا‬
‫آس ٍن َوأَ ْنهَ ا ٌر ِم ْن لَبَ ٍن لَ ْم يَتَ َغيَّرْ طَ ْع ُم هُ َوأَ ْنهَ ا ٌر ِم ْن خ ٍ‬
‫َمْر لَ َّذ ٍة‬ ‫َيْر ِ‬ ‫أَ ْنهَ ا ٌر ِم ْن َم ا ٍء غ ِ‬
‫ص فّى﴾ [محم د‪ ،]15 :‬واآلي ة الكريم ة لم تحص ر‬ ‫ً‬ ‫َس ٍل ُم َ‬ ‫اربِينَ َوأَ ْنهَ ا ٌر ِم ْن ع َ‬ ‫لِ َّ‬
‫لش ِ‬
‫األنهار‪ ،‬وإنما ذكرت بعضها بناء على المعارف البسيطة للبشر‪.‬‬
‫والمالحظة التي يمكن اكتشافها بسهولة من اآلية الكريمة هي أن أنهار الجن ة‬
‫يستحيل عليها التغير والتبدل‪ ،‬وهي السمة التي تحكم جميع نعيم أهل الجنة‪.‬‬
‫فالماء في الجنة [غير آسن]‪ ،‬أي أن ه (الم اء ال ذي ال يتغ ير طعم ه ورائحت ه‬
‫لط ول بقائ ه‪ ،‬وه ذا أول نه ر من أنه ار الجن ة‪ ،‬وفي ه م اء زالل ج ار طيب الطعم‬
‫والرائحة)(‪)1‬‬
‫وهكذا أنهار اللبن الذي لم يتغ ير طعم ه‪ ،‬وذل ك (ألن الجن ة مك ان ال يعتري ه‬
‫الفساد‪ ،‬وال تتغير أطعمة الجنة بمرور الزمن‪ ،‬وإنما تتغير األطعم ة في ه ذه الحي اة‬
‫الدنيا‪ ،‬لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة)‬
‫وهكذا أنهار الخمر‪ ،‬والتي وصفت في آيات أخرى بكونها ﴿اَل فِيهَا َغ وْ ٌل َواَل‬
‫هُ ْم َع ْنهَا يُ ْنزَ فُونَ ﴾ [الصافات‪]47 :‬‬
‫وهكذا العسل الذي وصف بأنه عسل مصفى‪.‬‬
‫وه ذا كل ه ي دل على نق اوة ج و الجن ة وص فائه‪ ،‬وخل وه من ك ل المك درات‬
‫الموجودة في الدنيا‪ ،‬ذلك أن الدنيا مبنية على االختالط بين الطيب والخ بيث بخالف‬
‫الجنة التي ال يوجد فيها إال الطيبات‪ ،‬ألنه ال يسكنها إال الطيبون‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وهكذا وصف جو الجنة بكون ه ج وا معت دال‪ ،‬ق ال تع الى‪ُ ﴿ :‬مت ِكئِينَ فِيهَ ا َعلى‬
‫ك اَل يَ َروْ نَ فِيهَا َش ْمسًا َواَل زَ ْمهَ ِريرًا﴾ [اإلنسان‪ ،]13 :‬أي أنهم ال يرون شمس ا‬ ‫اأْل َ َرائِ ِ‬
‫يتأذون بحرها‪ ،‬وال زمهريرا يتأذون ببرده‪.‬‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)357 /16( ،‬‬

‫‪316‬‬
‫وهكذا ذكرت ظالل الجن ة‪ ،‬وال تي ال تع ني وج ود ح رارة في الجن ة‪ ،‬وإنم ا‬
‫﴿ونُ ْد ِخلُهُ ْم ِظاًّل ظَلِياًل ﴾ [النس اء‪ ،]57 :‬وق ال‪:‬‬ ‫تعني البعد الجمالي له ا‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫﴿ َمثَ ُل ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُو ِع َد ْال ُمتَّقُونَ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا ا ْنهَ ا ُر أ ُكلهَ ا دَائِ ٌم َو ِظلهَ ا﴾ [الرع د‪:‬‬
‫َ‬ ‫أْل‬
‫‪]35‬‬
‫وقد ورد في األحاديث الشريفة وصف تقري بي لترب ة الجن ة ورائحته ا‪ ،‬وق د‬
‫ذكرنا كونه تقريبيا‪ ،‬لكون الجنة ذات بيئات مختلفة بحس ب درج ات أص حابها‪ ،‬ففي‬
‫الحديث قال رسول هللا ‪ ‬جوابا لمن سأله عن الجنة وما بناؤها‪( :‬لبنة ذهب‪ ،‬ولبن ة‬
‫فض ة‪ ،‬ومالطه ا المس ك‪ ،‬وحص باؤها اللؤل ؤ والي اقوت‪ ،‬وترابه ا الزعف ران‪ ،‬من‬
‫يدخلها! ينعم ال يبأس‪ ،‬ويخلد ال يموت)(‪)1‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر‪ ،‬ق ال ‪( :‬من ي دخل الجن ة يحي ا وال يم وت‪ ،‬وينعم وال‬
‫يبأس‪ ،‬وال تبلى ثيابه‪ ،‬وال يفنى شبابه)‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول هللا كيف بناؤه ا؟ ق ال‪( :‬لبن ة‬
‫من ذهب ولبن ة من فض ة‪ ،‬ومالطه ا مس ك أذف ر‪ ،‬وحص باؤها اللؤل ؤ والي اقوت‪،‬‬
‫وترابها الزعفران)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخ ر‪ ،‬ق ال ‪( :‬الجن ة لبن ة من ذهب ولبن ة من فض ة‪ ،‬وترابه ا‬
‫الزعفران‪ ،‬وطينها المسك)(‪)3‬‬
‫ب ـ مناخ وتضاريس جهنم‪:‬‬
‫على عكس أوص اف البيئ ة المع دة للمحس نين‪ ،‬ورد في النص وص المقدس ة‬
‫واألحاديث المفسرة لها وصف البيئة الخاصة بالجزاء المع د للمس يئين‪ ،‬والمتناس ب‬
‫تماما مع سلوكاتهم وأعمالهم ونفوسهم‪.‬‬
‫وقد ذك ر الق رآن الك ريم س ر ذل ك الج زاء عن د حديث ه عن اآلالم ال تي ك ان‬
‫يعانيها المحسنون في الحر الشديد للدفاع عن قيم الحق‪ ،‬في مقاب ل أولئ ك المس يئين‬
‫الذين ركنوا إلى الراح ة‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬فَ ِر َح ْال ُمخَ لَّفُ ونَ بِ َم ْق َع ِد ِه ْم ِخاَل فَ َر ُس و ِل هَّللا ِ‬
‫َو َك ِرهُوا أَ ْن ي َُجا ِهدُوا بِأ َ ْم َوالِ ِه ْم َوأَ ْنفُ ِس ِه ْم فِي َس بِي ِل هَّللا ِ َوقَ الُوا اَل تَ ْنفِ رُوا فِي ْال َح ِّر قُ لْ‬
‫نَا ُر َجهَنَّ َم أَ َش ُّد َح ًّرا لَوْ َكانُوا يَ ْفقَهُونَ ﴾ [التوبة‪ ،]81 :‬ثم رد عليهم ببيان م دى ته افت‬
‫الخيار الذي اختاروه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَ ْليَضْ َح ُكوا قَلِياًل َو ْليَ ْب ُكوا َكثِيرًا َجزَ ا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْك ِسبُونَ‬
‫﴾ [التوبة‪]82 :‬‬
‫وبذلك فإن هذه البيئة التي فروا منها في الدنيا‪ ،‬ستالقيهم في اآلخ رة بص ورة‬
‫أشد‪ ،‬ولهذا نرى القرآن الكريم يفصل في ذكر تلك البيئة لتك ون رادع ا للنف وس عن‬
‫السكون إلى الراحة‪ ،‬وترك ما كلفت به من تكاليف‪.‬‬
‫ص َحابُ‬ ‫َ‬
‫ومن اآلي ات الكريم ة الدال ة على ذل ك م ا ورد في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأ ْ‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد ‪.)8030( 2/304‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني وابن مردوي ه‪ ،‬تخ ريج أح اديث إحي اء عل وم‬
‫الدين (‪)2759 /6‬‬
‫‪ )(3‬رواه البزار‪ ،‬والطبراني في األوسط‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)397 /10‬‬

‫‪317‬‬
‫ار ٍد َوال َك ِر ٍيم ﴾‬‫وم الَّ بَ ِ‬
‫وم َو َح ِم ٍيم َو ِظ لٍّ ِّمن يَحْ ُم ٍ‬
‫ال فِي َس ُم ٍ‬ ‫ال ِّش َما ِل َما أَصْ َحابُ ال ِّش َم ِ‬
‫[الواقعة‪]44 - 41:‬؛ فهذه اآلية الكريمة تصف المناخ الذي يطغى على جهنم مبينة‬
‫أنه ال مجال فيه ألي تلطيف أو تكييف‪ ،‬ذلك أن ملطفات الجو في الدنيا ثالثة‪ ،‬الماء‪،‬‬
‫والهواء‪ ،‬والظل‪ ..‬وكلها في جهنم تلفح حرا‪.‬‬
‫فهواء جهنم الس موم‪ ،‬وه و ال ريح الح ارة الش ديدة الح ر‪ ،‬وهي م أخوذة عن‬
‫كلمة (السم)‪ ،‬وتعني الهواء الالسع من شدة حرارته‪ ،‬والذي ي دخل المس ام‪ ،‬وجمي ع‬
‫دقائق وثغرات الجسم‪.‬‬
‫﴿و ُس قُوا َم ا ًء َح ِميمًا‬ ‫أما ماؤها‪ ،‬فهو الحميم الذي اشتد حره‪ ،‬كما ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫فَقَطَّ َع أَ ْم َعا َءهُ ْم﴾ [محمد‪]15 :‬‬
‫وأما ظلها فاليحموم‪ ،‬وه و الح ر الش ديد‪ ،‬وال ذي وص فه هللا تع الى في آي ات‬
‫ب (‪ )30‬اَل ظَلِي ٍل َواَل يُ ْغنِي ِمنَ اللَّهَ ِ‬
‫ب‬ ‫ث ُش َع ٍ‬ ‫أخرى‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ا ْنطَلِقُوا إِلَى ِظلٍّ ِذي ثَاَل ِ‬
‫ص ْف ٌر ﴾ [المرس الت‪- 30 :‬‬ ‫ت ُ‬ ‫ص ِر (‪َ )32‬كأَنَّهُ ِج َم الَ ٌ‬ ‫(‪ )31‬إِنَّهَ ا تَ رْ ِمي بِ َش َر ٍر َك ْالقَ ْ‬
‫‪ ،]33‬أي‪(:‬توجه وا نح و ظ ل من دخ ان خ انق ل ه ثالث ش عب‪ :‬ش عبة من االعلى‪،‬‬
‫وشعبة من الجهة اليمنى‪ ،‬وشعبة من الجهة اليسرى‪ ،‬وعلى هذا األساس ف إن دخ ان‬
‫النار المميت هذا يحيط بهم من كل جانب ويحاصرهم)(‪)1‬‬
‫ب﴾ [المرس الت‪:‬‬ ‫وهذا الظل كما يصفه هللا تعالى ﴿اَل ظَلِي ٍل َواَل يُ ْغنِي ِمنَ اللَّهَ ِ‬
‫‪]31‬؛ فليس في هذا الظل راحة‪ ،‬وال يمنع من اإلحتراق بالنار ألن ه ن ابع من الن ار‪،‬‬
‫(وربما كان التعبير بـ (ظل) سببا لتصور وجود الظل الذي يخفف من حرارة النار‪،‬‬
‫ولكن هذه اآلية تنفي هذا التصور وتقول‪ :‬ليس هذا الظل كم ا تتص ورون‪ ،‬إن ه ظ ل‬
‫محرق وخانق‪ ،‬ون اتج من دخ ان الن ار الغلي ظ ال ذي يعكس ح رارة اللهب بص ورة‬
‫كاملة) (‪)2‬‬
‫وقد ذكر المفسرون سر هذه االنقسامات التي ينقسم لها هذا الظل‪ ،‬فذكروا أن‬
‫(ه ذه الش عب الثالث هي انعك اس للتك ذيبات الثالث ة ألس اس ال دين‪ ،‬وهي التوحي د‬
‫والنبوة والمعاد‪ ،‬ألن تكذيب المعاد ال ينفصل عن التكذيب بالنبوة والتوحي د‪ ،‬وقي ل‪،‬‬
‫إنها إشارة إلى مبادىء الذنوب الثالثة‪ :‬القوة الغضبية والشهوية والوهمي ة‪ ،‬نعم‪ ،‬إن‬
‫ذلك الدخان المظلم تجسيد لظلمات الشهوات) (‪)3‬‬
‫ص ِر﴾‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ويص ف هللا تع الى تل ك الن ار المحرق ة بكونه ا ﴿ت رْ ِمي بِش َر ٍر كالق ْ‬
‫[المرسالت‪ ،]32 :‬وقد كان العرب يطلقون كلم ة القص ر على ك ل بيت من حج ر‪،‬‬
‫وليس من الضروري أن يكون في ض خامة م ا نعه د اآلن من قص ور‪ ،‬والمقص ود‬
‫منه أنه ليس كشرر نار هذه الدنيا التي ال تكون أحيانا إال بمقدار ضئيل جدا‪.‬‬
‫وقد ذكر هللا تعالى أسباب هذه البيئة الممتلئة بالقسوة‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬إِنَّهُ ْم َك انوا ق َ‬
‫بْل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)301 /19( ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)301 /19( ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)301 /19( ،‬‬

‫‪318‬‬
‫ث ْال َع ِظ ِيم (‪َ )46‬و َك انُوا يَقُولُ ونَ أَئِ َذا‬ ‫ُص رُّ ونَ َعلَى ْال ِح ْن ِ‬
‫ك ُمتْ َرفِينَ (‪َ )45‬و َك انُوا ي ِ‬ ‫َذلِ َ‬
‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِم ْتنَا َو ُكنَّا تُ َرابًا َو ِعظَا ًما أإِنَّا لَ َم ْبعُوثونَ (‪ )47‬أ َوآبَا ُؤنَ ا ا َّول ونَ (‪ )48‬ق لْ إِ َّن ا َّولِينَ‬
‫وم﴾ [الواقعة‪]50 - 45 :‬‬ ‫ت يَوْ ٍم َم ْعلُ ٍ‬
‫َواآْل ِخ ِرينَ (‪ )49‬لَ َمجْ ُمو ُعونَ إِلَى ِميقَا ِ‬
‫وبذلك؛ فإن ذلك الترف الذي جرهم إلى الكس ل ه و الس بب في تل ك المعان اة‬
‫الشديدة التي عانوها في دار الجزاء‪ ،‬والترف ال يعني بالض رورة ك ثرة الم ال‪ ،‬فق د‬
‫يكون الشخص فقيرا‪ ،‬ولكنه يمل ك نفس غ ني متك بر متع ال‪ ،‬ول ذلك يعام ل معامل ة‬
‫المترف‪ ،‬وقد ورد في الحديث قوله ‪( :‬إنما الدنيا ألربعة نفر‪ :‬عبد رزقه هللا م اال‬
‫وعلم ا فه و يتقي في ه رب ه‪ ،‬ويص ل في ه رحم ه‪ ،‬ويعلم هلل في ه حق ا‪ ،‬فه ذا بأفض ل‬
‫المنازل‪ ،‬وعبد رزقه هللا علما ولم يرزقه ماال فهو صادق النية يقول‪ :‬لو أن لي م اال‬
‫لعملت بعمل فالن فهو بنيته فأجرهما سواء‪ ،‬وعبد رزقه هللا م اال ولم يرزق ه علم ا‪،‬‬
‫فهو يخبط في ماله بغير علم ال يتقي فيه ربه‪ ،‬وال يصل فيه رحم ه‪ ،‬وال يعلم هلل في ه‬
‫حقا‪ ،‬فهذا بأخبث المنازل‪ ،‬وعبد لم يرزق ه هللا م اال وال علم ا فه و يق ول‪ :‬ل و أن لي‬
‫ماال لعملت فيه بعمل فالن فهو بنيته فوزرهما سواء)(‪)1‬‬
‫وهكذا أخبر ‪ ‬أن الرجل قد يحاسب يوم القيام ة حس اب المس تبدين الظلم ة‬
‫مع كونه لم يكن له إال أهل بيته‪ ،‬أو لم تكن له إال مس ؤوليات بس يطة‪ ،‬ق ال ‪( :‬إن‬
‫الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم‪ ،‬وإنه ليكتب جبارا‪ ،‬وإنه ما يمل ك إال أه ل‬
‫بيته)(‪)2‬‬
‫باإلضافة إلى ما ورد في الق رآن الك ريم من ذك ر لبيئ ة جهنم‪ ،‬الممتلئ ة بك ل‬
‫ألوان اآلالم‪ ،‬فقد ورد في األحاديث بعض ما فيها مع التنبيه الذي أش رنا إلي ه كث يرا‬
‫من أن بعض األحاديث ربما تكون قد رويت بالمعنى‪ ،‬أو قصد منها التقريب‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث ما ورد في بيان عالقة حر ال دنيا بح ر جهنم‪ ،‬فهي تع ني‬
‫تقريب ذلك‪ ،‬حتى يكون له دوره التربوي‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬ناركم هذه م ا يوق د‬
‫ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم) قالوا‪ :‬وهللا إن كانت لكافية ق ال‪:‬‬
‫(إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) (‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر أن جبريل عليه الس الم ق ال لرس ول هللا ‪( :‬وال ذي بعث ك‬
‫ب الحق ل و أن ق در ثقب إب رة فتح من جهنم لم ات من في األرض كلهم جميع ا ً من‬
‫حره) (‪)4‬‬
‫وكما وصفت الن ار ب الحر الش ديد‪ ،‬فق د وص فت ك ذلك ب البرد الش ديد‪ ،‬وه و‬
‫الزمهرير‪ ،‬وقد روي عن ابن عباس أنه قال‪( :‬يستغيث أهل النار من الحر؛ فيغاثون‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي (‪ ، )2325‬وأحمد (‪)18031‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو نعيم في الحلية ( ‪) 289 / 8‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ ،)3265‬ومسلم (‪)2843‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني في (المعجم األوسط) (‪)2583( )89 /3‬‬

‫‪319‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫بريح باردة يصدع العظام بردها‪ ،‬فيسألون الحر)‬
‫وقد ورد في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬اش تكت الن ار إلى ربه ا فق الت‪:‬‬
‫رب أكل بعض ي بعض ا‪ ،‬ف أذن له ا بنفس ين‪ :‬نفس في الش تاء‪ ،‬ونفس في الص يف ؛‬
‫فأشد ما تجدون من الحر‪ ،‬وأشد ما تجدون من الزمهرير)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬إذا كان يوم حار‪ ،‬فق ال الرج ل‪ :‬ال إل ه إال هللا‪ ،‬م ا‬
‫أشد حر هذا اليوم‪ ،‬اللهم أجرني من حر جهنم‪ ،‬قال هللا عز وجل لجهنم‪ :‬إن عبدا من‬
‫عبادي استجار بي من حرك‪ ،‬فاشهدي أني أجرته‪ ،‬وإن كان ي وم ش ديد ال برد‪ ،‬ف إذا‬
‫قال العبد‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬ما أشد برد هذا اليوم‪ ،‬اللهم أجرني من زمهرير جهنم‪ ،‬ق ال‬
‫هللا عز وجل لجهنم‪ :‬إن عبدا من عبادي قد استجارني من زمهريرك‪ ،‬وإني أش هدك‬
‫أني قد أجرته قالوا‪ :‬ما زمهرير جهنم؟‪ ،‬قال‪( :‬بيت يلقى فيه الكافر‪ ،‬فيتميز من ش دة‬
‫بردها بعضه من بعض)(‪)3‬‬
‫وقد ذكر ابن حجر وقوع االستشكال من ورود النص وص الدال ة على وج ود‬
‫البرد الشديد في جهنم‪ ،‬فقال‪( :‬المراد بالزمهرير ش دة ال برد‪ ،‬واستش كل وج وده في‬
‫النار‪ ،‬وال إشكال؛ ألن المراد بالنار‪ :‬محلها‪ ،‬وفيها طبقة زمهريرية)(‪)4‬‬
‫ومث ل ذل ك رأى بعض المعاص رين ع دم وج ود ال برد في جهنم بن اء على‬
‫اسمها‪ ،‬فقال‪( :‬ليس في القرآن أي ذكر صريح للعذاب بالبرد في جهنم‪ ،‬وقد ح اولت‬
‫أن أخرج آية واحدة فيها ما قال فلم أجد‪ ..‬وال يعني هذا أنا ننفي وجود عذاب ب البرد‬
‫الشديد في جهنم‪ ،‬لكنا نقول أنه لم تأت آية واحدة صريحة في هذا الباب كم ا أعتق د‪،‬‬
‫أما ما ذكره بعض المفسرون فهو من باب الترجيحات أو التخمينات‪ ،‬مثلما ورد في‬
‫تفسيرهم لقوله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ فَتَنُوا ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫ت ثُ َّم لَ ْم يَتُوبُ وا فَلَهُ ْم َع َذابُ‬
‫يق ﴾ [البروج‪ ،]10 :‬حيث ذكروا أن عذاب جهنم هو ع ذاب‬ ‫َجهَنَّ َم َولَهُ ْم َع َذابُ ْال َح ِر ِ‬
‫الزمهرير‪ ،‬وعذاب الحريق هو عذاب النار‪ ،‬ولكن هذا ال دلي ل علي ه‪ ،‬فع ذاب جهنم‬
‫هو الحرارة الش ديدة كم ا يق ول هللا تع الى‪﴿ :‬فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن آ َمنَ بِ ِه َو ِم ْنهُ ْم َم ْن َ‬
‫ص َّد عَنْهُ‬
‫َو َكفَى بِ َجهَنَّ َم َس ِعيرًا ﴾ [النساء‪ ،]55 :‬ويكفيك أن التوصيف القرآني [نار جهنم] ورد‬
‫تسع مرات في القرآن‪ ,‬لذا فنحن ال نقبل مثل هذه األقوال)‬
‫وهكذا راح آخر يحاول أن يبرهن علمي ا على إمكاني ة اجتم اع الح ر وال برد‬
‫في مكان واحد‪ ،‬فقال‪( :‬رغم غرابة اجتماع النار والزمهرير في مك ان واح د إال أن‬
‫الظاهرة ال تعد مستحيلة من الناحية الفيزيائية‪ ..‬فالش مس ال تي نراه ا مثال ـ وال تي‬
‫تعد نموذجا لجهنم الدنيا ـ تعتمد على حرق الهي دروجين إلطالق الح رارة والض وء‬
‫في عملية تعرف باسم االندماج النووي‪ ،‬وه ذا االن دماج أمكن تحقيق ه على االرض‬

‫‪ )(1‬رواه ابن أبي الدنيا في (صفة النار) (‪)152‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ ،)3260‬ومسلم (‪.)617‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (‪.)306‬‬
‫‪ )(4‬فتح الباري‪.)19 /2( ،‬‬

‫‪320‬‬
‫من خالل ما يعرف بالقنابل الهيدروجينية‪ ..‬وحين أجريت التجارب على هذا الن وع‬
‫من القنابل الحظ العلماء أن مركز االنفجار ذاته يص بح ب اردا الى ح د كب ير‪ ،‬فحين‬
‫تنفجر القنبلة الهيدروجينية تنطلق العواصف النارية من الداخل الى الخارج محدث ة‬
‫تفريغا هوائيا في المركز يسبب برودة شديدة وغير متوقعة)‬
‫وهذه االستش كاالت كله ا ناتج ة من تحكيم ق وانين النش أة األولى على النش أة‬
‫األخرى‪ ،‬وقد ذكرنا سابقا أن لكل شخص في تلك النشأة عالم ه الخ اص ب ه‪ ،‬فيمكن‬
‫أن يكون الشخص في نار جهنم‪ ،‬وفي نفس الوقت يشعر بالبرد الشديد؛ فق درة هللا ال‬
‫يحدها شيء‪ ،‬وقد ذكر هللا تعالى كي ف ح ول الن ار إلى ب رد وس الم إلب راهيم علي ه‬
‫السالم‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬قُ ْلنَا يَانَا ُر ُكونِي بَرْ دًا َو َساَل ًما َعلَى إِ ْب َرا ِهي َم﴾ [األنبياء‪]69 :‬‬
‫ار ُدهَ ا َك انَ َعلَى َربِّكَ َح ْتمًا‬ ‫وهذا م ا فس ر ب ه قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْن ِم ْن ُك ْم إِاَّل َو ِ‬
‫ضيًّا ﴾ [مريم‪ ،]71 :‬فقد ورد في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬ال يبقى ب ر وال‬ ‫َم ْق ِ‬
‫فاجر إال يدخلها‪ ،‬فتكون على المؤمنين بردا وسالما كما ك انت على إب راهيم‪ ،‬ح تى‬
‫أن للنار ضجيجا من بردها‪ ،‬ثم ينجي هللا الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬تقول النار للمؤمن يوم القيامة‪ :‬ج ز ي امؤمن‪ ،‬فق د‬
‫أطفأ نورك لهبي)(‪)2‬‬
‫وبذلك‪ ،‬فإن المحل قد يكون واحدا‪ ،‬ومع ذلك يختلف حال أص حابه بن اء على‬
‫نفوسهم وأعمالهم‪ ،‬لتبعية األبدان للنفوس في تلك النشأة‪ ،‬كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ المساكن والفرش‪:‬‬
‫من أن واع الج زاء ال تي ورد ذكره ا في النص وص المقدس ة م ع بعض‬
‫التفاصيل المرتبطة بها المساكن التي يسكنها المحسنون والمسيئون‪ ،‬وم ا وض ع في‬
‫تلك المساكن من أنواع الفرش‪.‬‬
‫ذلك أن لهذا النوع من الجزاء ج ذورا في الحي اة ال دنيا‪ ،‬ك ان له ا آثاره ا في‬
‫الشخصية؛ فمن الناس من يقعد ب ه حب ه لمس كنه وم ا وف ر في ه من راح ة عن ب ذل‬
‫الجهد لتحقيق القيم الصالحة في نفسه أو دعوة الناس إليها‪ ،‬ومنهم من يض حي بك ل‬
‫شيء في سبيل امتالك تلك القيم النبيلة أو السعي لتحقيقها في األرض‪.‬‬
‫ولهذا كان الجزاء الوفاق لكال الطرفين أن يكون له من المساكن والف رش في‬
‫اآلخرة ما يتناسب مع ما ارتضاه لنفسه في الدنيا‪.‬‬
‫ولهذا نرى في القرآن الكريم التحذيرات الشديدة من الرك ون إلى الراح ة في‬
‫تلك المساكن الدنيوية‪ ،‬من دون بذل الجهد للعمل الصالح الذي ألجله خلق اإلنس ان‪،‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬قُلْ إِ ْن َك انَ آبَ ا ُؤ ُك ْم َوأَ ْبنَ ا ُؤ ُك ْم َوإِخْ َوانُ ُك ْم َوأَ ْز َوا ُج ُك ْم َوع َِش ي َرتُ ُك ْم َوأَمْ َوا ٌل‬
‫ض وْ نَهَا أَ َحبَّ إِلَ ْي ُك ْم ِمنَ هَّللا ِ َو َر ُس ولِ ِه‬
‫ا ْقتَ َر ْفتُ ُموهَا َوتِ َجا َرةٌ ت َْخ َشوْ نَ َك َسا َدهَا َو َم َسا ِكنُ تَرْ َ‬
‫اس قِينَ ﴾‬‫َّص وا َحتَّى يَ أْتِ َي هَّللا ُ بِ أ َ ْم ِر ِه َوهَّللا ُ اَل يَهْ ِدي ْالقَ وْ َم ْالفَ ِ‬ ‫َو ِجهَ ا ٍد فِي َس بِيلِ ِه فَتَ َرب ُ‬

‫‪ )(1‬نور الثقلين‪ ،‬الجزء ‪ ،3‬ص ‪..353‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫[التوبة‪]24 :‬‬
‫وهكذا يعاتب هللا تعالى الراك نين للحي اة ال دنيا‪ ،‬فيق ول‪َ ﴿:‬و َس َك ْنتُ ْم فِي َم َس ا ِك ِن‬
‫ال﴾ [إبراهيم‪]45 :‬‬ ‫ض َر ْبنَا لَ ُك ُم اأْل َ ْمثَ َ‬
‫الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا أَ ْنفُ َسهُ ْم َوتَبَيَّنَ لَ ُك ْم َك ْيفَ فَ َع ْلنَا بِ ِه ْم َو َ‬
‫ويذكر لهم الهالك الذي حصل لغيرهم ممن باعوا أنفسهم مقابل تلك المساكن‬
‫ال تي س كنوها‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬أَفَلَ ْم يَهْ ِد لَهُ ْم َك ْم أَ ْهلَ ْكنَ ا قَ ْبلَهُ ْم ِمنَ ْالقُ رُو ِن يَ ْم ُش ونَ فِي‬
‫ت أِل ُولِي النُّهَى﴾ [طه‪ ،]128 :‬وقال‪َ ﴿ :‬و َك ْم أَ ْهلَ ْكنَا ِم ْن قَرْ يَ ٍة‬ ‫َم َسا ِكنِ ِه ْم إِ َّن فِي َذلِكَ آَل يَا ٍ‬
‫ارثِينَ ﴾‬ ‫ك َم َس ا ِكنُهُ ْم لَ ْم تُ ْس َك ْن ِم ْن بَعْ ِد ِه ْم إِاَّل قَلِياًل َو ُكنَّا نَحْ نُ الْ َو ِ‬ ‫يش تَهَا فَتِلْ َ‬ ‫ت َم ِع َ‬ ‫بَ ِط َر ْ‬
‫[القصص‪]58 :‬‬
‫ويذكر لهم ال بيوت ال تي عوض وا به ا في اآلخ رة‪ ،‬نتيج ة إهم الهم ألنفس هم‪،‬‬
‫وللقيم الصالحة التي أمروا بمراعاتها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬اَل تَحْ َسبَ َّن الَّ ِذينَ َكفَرُوا ُم ْع ِج ِزينَ‬
‫اب‬ ‫ص يرُ﴾ [الن ور‪ ،]57 :‬وق ال‪﴿ :‬فَ ا ْد ُخلُوا أَبْ َو َ‬ ‫س ْال َم ِ‬ ‫ض َو َم أْ َواهُ ُم النَّا ُر َولَبِ ْئ َ‬ ‫فِي اأْل َرْ ِ‬
‫س َم ْث َوى ْال ُمتَ َكب ِِّرينَ ﴾ [النحل‪ ،]29 :‬وقال‪﴿ :‬هَ َذا َوإِ َّن لِلطَّ ِ‬
‫اغينَ‬ ‫َجهَنَّ َم خَالِ ِدينَ فِيهَا فَلَبِ ْئ َ‬
‫س ْال ِمهَا ُد ﴾ [ص‪]56 ،55 :‬‬ ‫ب (‪َ )55‬جهَنَّ َم يَصْ لَوْ نَهَا فَبِ ْئ َ‬ ‫لَ َش َّر َمآ ٍ‬
‫وهكذا ذكر نفورهم منها‪ ،‬وهربهم من السكن فيه ا‪ ،‬م ع أنه ا هي نفس ها ال تي‬
‫﴿وأَ َّما الَّ ِذينَ فَ َس قُوا‬ ‫بنوها في الدنيا‪ ،‬لكنهم انشغلوا بظاهرها عن باطنها‪ ،‬قال تع الى‪َ :‬‬
‫اب النَّ ِ‬
‫ار‬ ‫يل لَهُ ْم ُذوقُ وا َع َذ َ‬ ‫فَ َمأْ َواهُ ُم النَّا ُر ُكلَّ َما أَ َرادُوا أَ ْن يَ ْخ ُرجُوا ِم ْنهَا أُ ِعيدُوا فِيهَا َوقِ َ‬
‫الَّ ِذي ُك ْنتُ ْم بِ ِه تُ َك ِّذبُونَ ﴾ [السجدة‪]20 :‬‬
‫وفي مقابل هؤالء يذكر هللا تعالى ما أعده للمؤمنين من مساكن طيبة تع وض‬
‫عليهم كل ما خسروه في الدنيا‪ ،‬ألن همتهم لم تكن في بن اء ال بيوت‪ ،‬وإنم ا في بن اء‬
‫ت‬‫ت َجنَّا ٍ‬ ‫﴿و َع َد هَّللا ُ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَ ا ِ‬ ‫القيم التي تشكلت منها نفوس هم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ان ِمنَ‬‫ض َو ٌ‬ ‫ت َع ْد ٍن َو ِر ْ‬ ‫تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا َو َم َسا ِكنَ طَيِّبَ ةً فِي َجنَّا ِ‬
‫ك هُ َو ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾ [التوبة‪]72 :‬‬ ‫هَّللا ِ أَ ْكبَ ُر َذلِ َ‬
‫وقد ورد في القرآن الكريم بعض األوصاف لتلك ال بيوت المع دة للمحس نين‪،‬‬
‫والتي ترغبهم في االستعداد للسفر لها‪ ،‬وعدم تضييع أوق اتهم في االنش غال ب الترف‬
‫ف ِم ْن فَوْ قِهَ ا‬ ‫المرتب ط بمس اكن ال دنيا‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬لَ ِك ِن الَّ ِذينَ اتَّقَ وْ ا َربَّهُ ْم لَهُ ْم ُغ َر ٌ‬
‫ف َم ْبنِيَّةٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر َو ْع َد هَّللا ِ اَل ي ُْخلِفُ هَّللا ُ ْال ِمي َعا َد ﴾ [الزمر‪]20 :‬‬ ‫ُغ َر ٌ‬
‫وه ذه اآلي ة الكريم ة تحم ل أجم ل األوص اف ألجم ل ال بيوت‪ ،‬فهي بي وت‬
‫بعضها فوق بعض مث ل القص ور العالي ة‪ ..‬وف وق ذل ك تج ري من تحته ا األنه ار‪،‬‬
‫وتلتف من حولها األشجار‪ ،‬يقول مكارم الشيرازي تعليقا على اآلية الكريم ة‪( :‬ف إن‬
‫ك ان أه ل جهنم مس تقرين في ظل ل من الن ار‪ ،‬كم ا ورد في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬لَهُ ْم ِم ْن‬
‫ار َو ِم ْن تَحْ تِ ِه ْم ظُلَ ٌل ﴾ [الزم ر‪ ]16 :‬ف إن أله ل الجن ة غرف ا من‬ ‫فَوْ قِ ِه ْم ظُلَ ٌل ِمنَ النَّ ِ‬
‫فوقه ا غ رف أخ رى‪ ،‬وقص ور فوقه ا قص ور أخ رى‪ ،‬ألن منظ ر ال ورود والم اء‬
‫واألنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)51 /15( ،‬‬

‫‪322‬‬
‫وقد ورد في السنة المطهرة وصف تقريبي لبعض م ا ب نيت ب ه تل ك ال بيوت‬
‫الجميلة‪ ،‬فقد سئل رسول هللا ‪ ‬عن بن اء الجن ة؟ فق ال‪( :‬لَبِن ةٌ من فض ة‪ ،‬ولَبِن ةٌ من‬
‫اقوت‪ ،‬وتُربَتُه ا الزعف ران‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ذهب‪ ،‬و ِمالطها المسك األذفرُ‪ ،‬وحص باؤها اللؤل ُؤ والي‬
‫من يدخلها‪ :‬ينعم وال يبأس‪ ،‬ويخل ُد وال يموت‪ ،‬ال تبلى ثيابهم‪ ،‬وال يفنى شبابهم)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر مزج ‪ ‬بين الوص ف الجمي ل لل بيوت‪ ،‬والثمن ال ذي تب نى‬
‫به‪ ،‬فقال‪( :‬خلق هللا تبارك وتع الى الجن ة لبن ة من ذهب ولبن ة من فض ة‪ ،‬ومالطه ا‬
‫المس ك‪ ،‬وق ال له ا‪ :‬تكلمي فق الت‪﴿ :‬قَ ْد أَ ْفلَ َح ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ ﴾ [المؤمن ون‪،]1 :‬فق الت‬
‫المالئكة‪ :‬طوبى لك منزل الملوك)(‪)2‬‬
‫ووصف ‪ ‬هيئة بناء تلك البيوت‪ ،‬فقال‪( :‬أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ‬
‫وإذا ترابها المسك) (‪ ،)3‬والجنابذ‪ :‬القباب‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يشير إلى أن تلك الغرفة ليس ت بهيئ ة واح دة‪ ،‬وإنم ا‬
‫لها أشكال كثيرة‪ ،‬مثلما نرى في الدنيا من تنوع أن واع وأش كال الهندس ة المعماري ة‬
‫ال تي ب ني به ا الك ون‪ ،‬ق ال ‪( :‬إن في الجن ة لغرف ا ي رى بطونه ا من ظهوره ا‪،‬‬
‫وظهوره ا من بطونه ا)‪ ،‬فقي ل‪ :‬لمن هي ي ا رس ول هللا؟ ق ال‪( :‬لمن أط اب الكالم‪،‬‬
‫وأطعم الطعام‪ ،‬وصلى هلل بالليل والناس نيام)(‪)4‬‬
‫وفي رواي ة‪( :‬إن في الجن ة لغرف ة ي رى ظاهره ا من باطنه ا‪ ،‬وباطنه ا من‬
‫ظاهرها‪ ،‬أعدها هللا لمن أطعم الطعام‪ ،‬وأالن الكالم‪ ،‬وتابع الصيام‪ ،‬وصلى والن اس‬
‫نيام) (‪)5‬‬
‫وهكذا أخبر ‪ ‬عن الغرف المرفوع ة في الس ماء‪ ،‬فق ال‪ :‬أن رس ول هللا ‪‬‬
‫قال‪( :‬إن أهل الجنة ليتراءون (أهل الغرف) من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري‬
‫الغائر من األفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم‪ .‬قالوا‪ :‬ي ا رس ول هللا تل ك‬
‫من ازل األنبي اء ال يبلغه ا غ يرهم؟ ق ال‪ :‬بلى وال ذي نفس ي بي ده‪ ،‬رج ال آمن وا باهلل‬
‫وصدقوا المرسلين) (‪)6‬‬
‫وهك ذا ي ذكر الق رآن الك ريم الف رش المع دة للمحس نين في دار النعيم‪ ،‬ومن‬
‫ص فُوفَ ٍة﴾ [الط ور‪:‬‬ ‫اآليات التي وردت في ذل ك قول ه تع الى‪ُ ﴿ :‬متَّ ِكئِينَ َعلَى ُس ر ٍ‬
‫ُر َم ْ‬
‫اريَ ةٌ (‪ )12‬فِيهَ ا ُس ُر ٌر َمرْ فُو َع ةٌ (‪َ )13‬وأَكْ َوابٌ‬
‫‪ ،]20‬وق ال تع الى‪ ﴿:‬فِيهَ ا َعي ٌْن َج ِ‬
‫زَرابِ ُّي َم ْبثُوثَ ةٌ (‪[ ﴾)16‬الغاش ية‪- 12 :‬‬ ‫ص فُوفَةٌ (‪َ )15‬و َ‬ ‫َموْ ضُو َعةٌ (‪َ )14‬ونَ َم ِ‬
‫ار ُ‬
‫ق َم ْ‬
‫‪]16‬‬

‫‪ )(1‬أحمد‪ ،2/305 ،‬الترمذي‪ ،‬برقم ‪.2526‬‬


‫‪ )(2‬رواه البزار كما في (مجمع الزوائد) للهيثمي (‪)732 /10‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ ،)3342‬ومسلم (‪)163‬‬
‫‪ )(4‬سنن الترمذي برقم (‪)1984‬‬
‫‪ )(5‬وصحيح البخاري برقم (‪ )6555‬وصحيح مسلم برقم (‪)2830‬‬
‫‪ )(6‬رواه مسلم (‪.)2831‬‬

‫‪323‬‬
‫وهي تشير إلى بعض الفرش التي وضعت في تلك البيوت‪ ،‬أو الخيام‪ ،‬ومنه ا‬
‫[النمارق المصفوفة]‪ ،‬وهي الوسائد الصغيرة التي يتكأ عليها‪ ،‬وق د وص فت بكونه ا‬
‫[مص فوفة] إش ارة إلى إع دادها بطريق ة خاص ة‪ ،‬لتك ون محال لجلس ات األنس‬
‫الجماعية التي يقيمها المؤمنون بعضهم لبعض‪.‬‬
‫وهكذا وصفت األرض التي يسيرون عليها بكونه ا مألى ب الزرابي المبثوث ة‬
‫في كل مكان‪ ،‬مما يدل على الترف العظيم الذي يعيشه أهل الجنة‪ ،‬والذي كان جزاء‬
‫على زهدهم وورعهم في الدنيا‪.‬‬
‫وقد جمع الشيخ مكارم الشيرازي بعض األوصاف الواردة لبيوت أهل الجن ة‬
‫من خالل اآليات الكريمة‪ ،‬ثم ذكر النتائج التي وصل إليها‪ ،‬فقال‪( :‬الخالصة هي أن‬
‫منزل الجنة ال مثيل له من كل الجهات‪ ،‬فه و الخ الي من أي ألم أو ع ذاب أو ح رب‬
‫أو جدال‪ ..‬وتجد فيه كل ألوان الثمار واألنعام والعيون الجاري ة واألش ربة الط اهرة‬
‫والول دان المخل دين والح ور العين واألس رة المرص عة والف رش الف اخرة واألق داح‬
‫الجميلة‪ ،‬وكلها في متناول اليد‪ ،‬ومعها جلساء أص فياء‪ ،‬إلى غ ير ذل ك مم ا ال يمكن‬
‫عده بلسان أو وصفه بقلم وال حتى تخيله إذا ما سرحت المخيلة في عالمها الرحب‪..‬‬
‫وكل ما ذكر وغيره سيكون في انتظار من آمن وعم ل ص الحا‪ ،‬بع د حص وله على‬
‫إذن الدخول إلى تلك الدار العالي ة‪ ..‬وف وق ه ذا وذاك فثم ة لق اء هللا‪ ،‬ال ذي ليس من‬
‫فوز يوازيه)(‪)1‬‬
‫وكم ا أن الم واد ال تي ب نيت به ا بي وت الجن ة هي أغلى الم واد‪ ،‬وال يختل ف‬
‫ظاهرها عن باطنها؛ فكذلك الفرش التي ه يئت في الجن ة ظاهره ا كباطنه ا ممل تئ‬
‫ق ﴾ [الرحمن‪]54 :‬‬ ‫بالجمال‪ ،‬قال تعالى‪ُ ﴿ :‬متَّ ِكئِينَ َعلَى فُ ُر ٍ‬
‫ش بَطَائِنُهَا ِم ْن إِ ْستَ ْب َر ٍ‬
‫وق د عل ق عليه ا مك ارم الش يرازي بقول ه‪( :‬البط ائن هي القم اش ال داخلي‬
‫للف رش‪ ،‬واإلس تبرق ه و الحري ر الس ميك‪ ..‬والش يء الظري ف هن ا أن أثمن قم اش‬
‫يتصور في ه ذه ال دنيا يك ون بطان ة لتل ك الف رش‪ ،‬إش ارة إلى أن القس م الظ اهر ال‬
‫يمكننا وص فه من حيث الجم ال والجاذبي ة‪ .‬حيث أن البطان ة غالب ا م ا تس تعمل من‬
‫القماش الرديء قياس ا للوج ه الظ اهري‪ ،‬وعلى ه ذا فإنن ا نالح ظ أن أردأ ن وع من‬
‫القماش في ذلك العالم يعتبر من أثمن وأرقى أنواع القماش في ال دنيا‪ ،‬فكي ف الح ال‬
‫بالثمين من متاع الجنة؟)(‪)2‬‬
‫‪ 4‬ـ الطعام والشراب‪:‬‬
‫من أن واع الج زاء ال تي ورد ذكره ا في النص وص المقدس ة م ع بعض‬
‫التفاصيل المرتبطة بها أنواع الطع ام والش راب ال تي ه يئت للمحس نين والمس يئين‪،‬‬
‫والمتجانسة مع أعمالهم‪ ،‬أو تلك التي شكلت منها أعمالهم‪.‬‬
‫ذلك أن التكاليف الشرعية مرتبطة بهذا الشأن من الشؤون التي ت وهم البعض‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)155 /20( ،‬‬


‫‪ )(2‬تفسير األمثل‪)422 /17( ،‬‬

‫‪324‬‬
‫أنها شخصية‪ ،‬فراح يسرف فيها كما يشاء من غير حدود وال قيود‪ ،‬وربما جره ذلك‬
‫اإلس راف إلى إهالك نفس ه‪ ،‬وإتالف جس ده في ال دنيا قب ل اآلخ رة‪ ..‬وربم ا جع ل‬
‫بعضهم كل همته في الدنيا أن يستزيد من الشهوات من غير اهتمام بجوع الجائعين‪،‬‬
‫وظمأ الظامئين‪ ..‬وربما راح بعضهم يمأل معدت ه‪ ،‬ومع دة أهل ه بطع ام المح رومين‬
‫الذي استولى عليه ليستزيد من شبعه وتخمته‪.‬‬
‫ولذلك كان جزاء كل ه ؤالء وغ يرهم ي وم القيام ة أن ي ذوقوا أل وان الع ذاب‬
‫المرتبطة بذلك الطعام والشراب الذي ضيعوا حياتهم ودينهم في سبيله‪.‬‬
‫وفي مقابلهم ينعم أولئك الجائعون المحرومون الطيبون بكل ما منعوا منه في‬
‫ال دنيا‪ ،‬ال بس بب ش ح األرض بخيراته ا‪ ،‬ولكن بس بب جش ع المس تبدين الظلم ة‬
‫وكبريائهم‪.‬‬
‫وس نحاول هن ا أن ن ذكر بعض األن واع واألوص اف ال تي ورد ذكره ا في‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬والروايات المفسرة لها‪ ،‬لكال الصنفين من الجزاء‪.‬‬
‫أ ـ الطعام وأنواعه‪:‬‬
‫نظرا ألهمية الطعام في الحياة‪ ،‬ودور ال ترغيب أو ال ترهيب المرتب ط ب ه في‬
‫إثارة النفس‪ ،‬ودعوتها إلى القيم الرفيعة‪ ،‬نرى القرآن الكريم يوليه أهمية كبرى عن د‬
‫ذك ر أن واع الج زاء اإللهي المع د للمحس نين والمس يئين‪ ،‬وه و يق رن ذل ك دائم ا‬
‫باألعمال‪ ،‬وكونها السبب في حصول ذل ك الج زاء بش قيه المناس ب للنفس‪ ،‬أو غ ير‬
‫المناسب لها‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الك ريم بالنس بة لج زاء المس يئين ثالث ة أن واع من األطعم ة‪،‬‬
‫كنماذج ألن واع الطع ام ال ذي يتناول ه أه ل الن ار‪ ،‬وق د اكتفى به ا بن اء على معرف ة‬
‫أس مائها ومعانيه ا ل دى المخ اطبين‪ ،‬ولكونه ا أيض ا وافي ة بتحقي ق الغ رض من‬
‫الترهيب‪ ،‬ولذلك ال معنى لذكر غيرها‪.‬‬
‫ْس لَهُ ْم طَ َع ا ٌم إِاَّل ِم ْن‬
‫أما أولها‪ ،‬فهو الضريع‪ ،‬كما قال تعالى في وص فه‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫وع ﴾ [الغاش ية‪ ،]7 ،6 :‬وق د قي ل في‬ ‫يع (‪ )6‬اَل ي ُْس ِمنُ َواَل يُ ْغنِي ِم ْن ُج ٍ‬ ‫ض ِر ٍ‬ ‫َ‬
‫تفسيره(‪ :)1‬إنه شجر من نار‪ ،‬وقي ل‪ :‬ه و الزق وم‪ .‬وقي ل‪ :‬إنه ا الحج ارة‪ ،‬وقي ل إن ه‬
‫شجرة ذات شوك الطئة باألرض‪ ،‬وكل هذه األوصاف يمكن أن تقرب من حقيقت ه‪،‬‬
‫ألن الغرض منه كما ذكرنا ليس وصفه بدقة‪ ،‬فذلك مستحيل‪ ،‬وإنم ا تقريب ه لتحقي ق‬
‫التنفير‪.‬‬
‫وقد وصف هللا تعالى هذا الطعام الشديد القاس ي‪ ،‬بكون ه ﴿ال يس من وال يغ ني‬
‫من جوع﴾‪ ،‬أي أنه تعذيب مجرد ال يحصل به مقصود‪ ،‬وال يندفع به محذور‪.‬‬
‫ُّ‬
‫أما الطعام الثاني؛ فهو الغسلين‪ ،‬وقد ورد ذكره في قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬خ ُذوهُ فغلوهُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اس لُ ُكوهُ (‪ )32‬إِنَّهُ‬ ‫صلُّوهُ (‪ )31‬ثُ َّم فِي ِس ْل ِسلَ ٍة َذرْ ُعهَا َس ْبعُونَ ِذ َراعًا فَ ْ‬
‫(‪ )30‬ثُ َّم ْال َج ِحي َم َ‬
‫ْس لَهُ ْاليَ وْ َم‬
‫َكانَ اَل ي ُْؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ ْال َع ِظ ِيم (‪َ )33‬واَل يَحُضُّ َعلَى طَ َع ِام ْال ِم ْس ِكي ِن (‪ )34‬فَلَي َ‬

‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير (‪)385 /8‬‬

‫‪325‬‬
‫ين (‪ )36‬اَل يَأْ ُكلُ هُ إِاَّل ْالخَ ا ِطئُونَ ﴾ [الحاق ة‪:‬‬ ‫هَاهُنَا َح ِمي ٌم (‪َ )35‬واَل طَ َعا ٌم إِاَّل ِم ْن ِغ ْسلِ ٍ‬
‫‪]37 - 30‬‬
‫وهذه اآليات الكريمة تبين سر هذه العقوب ات المتش ددة‪ ،‬وس ر الطع ام المع د‬
‫ألهلها‪ ،‬ومنه ا ع دم الحض على إطع ام المس كين‪ ،‬أي ترك ه محروم ا جائع ا‪ ،‬دون‬
‫المسارعة إلغاثته‪ ،‬ولو بدعوة الناس لذلك‪ ،‬فكي ف بمن يتس بب في ذل ك الج وع‪ ،‬أو‬
‫يكون غنيا‪ ،‬ثم يمنع الفقراء من طعامه؟‬
‫وهو دليل على م دى التج انس بين العقوب ة وال ذنب‪ ،‬ذل ك أن العقوب ة ليس ت‬
‫سوى تجسيد للذنب حتى ينفر منه ص احبه‪ ،‬ويع رف م دى قبح الجريم ة ال تي وق ع‬
‫فيها‪.‬‬
‫ويظهر من اسم هذا الطعام أنه مشتق من (الغس ل)‪ ،‬ول ذلك ك ان من األق وال‬
‫الواردة في تفسيره أنه الغسالة الناتجة من غسل أبدان أهل جهنم‪ ،‬ويذكر آخرون أنه‬
‫دم يشبه الماء يخرج من أبدان أصحاب النار‪ ..‬وغيرها من األق وال ال تي تش ير إلى‬
‫مدى بشاعة ذلك الطعام الذي ال يقصد منه إال العقوبة‪ ،‬ذلك أن ه ال يس من وال يغ ني‬
‫من جوع‪.‬‬
‫وأما الطعام الثالث؛ فه و الزق وم‪ ،‬وق د ورد في مواض ع من الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫ووصف بأوصاف كثيرة تنفر منه‪ ،‬منها ما ورد في قوله تعالى‪ ﴿ :‬أَ َذلِكَ خَ ْي ٌر نُزُاًل أَ ْم‬
‫ص ِل‬ ‫وم (‪ )62‬إِنَّا َج َع ْلنَاهَ ا فِ ْتنَ ةً لِلظَّالِ ِمينَ (‪ )63‬إِنَّهَ ا َش َج َرةٌ تَخْ ُر ُج فِي أَ ْ‬ ‫َش َج َرةُ ال َّزقُّ ِ‬
‫ين (‪ )65‬فَإِنَّهُ ْم آَل ِكلُ ونَ ِم ْنهَ ا فَ َم الِئُونَ ِم ْنهَ ا‬ ‫ْال َج ِح ِيم (‪ )64‬طَ ْل ُعهَا َكأَنَّهُ ُر ُءوسُ ال َّشيَا ِط ِ‬
‫ْالبُطُونَ (‪ )66‬ثُ َّم إِ َّن لَهُ ْم َعلَ ْيهَا لَ َش وْ بًا ِم ْن َح ِم ٍيم (‪ )67‬ثُ َّم إِ َّن َم رْ ِج َعهُ ْم إَل ِ لَى ْال َج ِح ِيم ﴾‬
‫[الصافات‪ ،]68 - 62 :‬ثم بين سر العقوبة المرتبطة بهذا الطعام‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬إِنَّهُ ْم أَ ْلفَوْ ا‬
‫ار ِه ْم يُه َْر ُعونَ ﴾ [الصافات‪]70 ،69 :‬‬ ‫ضالِّينَ (‪ )69‬فَهُ ْم َعلَى آثَ ِ‬ ‫آبَا َءهُ ْم َ‬
‫وم (‪ )43‬طَ َع ا ُم‬ ‫وهكذا وصف في آيات أخرى‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن َش َج َرتَ ال َّزقُّ ِ‬
‫ون (‪َ )45‬كغ َْل ِي ْال َح ِم ِيم (‪ُ )46‬خ ُذوهُ فَ ا ْعتِلُوهُ إِلَى‬ ‫اأْل َثِ ِيم (‪َ )44‬ك ْال ُمهْ ِل يَ ْغلِي فِي ْالبُطُ ِ‬
‫ب ْال َح ِم ِيم (‪ُ )48‬ذ ْق إِنَّكَ أَ ْنتَ‬ ‫ق َرأ ِس ِه ِم ْن َع َذا ِ‬‫ْ‬ ‫ص بُّوا فَ وْ َ‬ ‫َس َوا ِء ْال َج ِح ِيم (‪ )47‬ثُ َّم ُ‬
‫ْال َع ِزي ُز ْال َك ِري ُم﴾ [الدخان‪]49 - 43 :‬‬
‫وقد ورد في تفسيره الكثير من األقوال‪ ،‬ومنها‪ :‬إنه اس م نب ات م ر وذي طعم‬
‫ورائحة كريهة‪ ،‬أو إنه اسم نبات يحمل أوراقا ص غيرة م رة وكريه ة الرائح ة وه و‬
‫موجود في أرض تهامة‪ ،‬وكان يعرفه المشركون‪ ،‬أو أن ه ك ل غ ذاء يث ير اش مئزاز‬
‫أهل جهنم‪.‬‬
‫وقد كان هذا الطعام خصوصا محل سخرية من المشركين‪ ،‬ذلك أنهم تعجب وا‬
‫كيف تنبت شجرته في جهنم‪ ،‬وهي عبارة عن نيران حارق ة‪ ،‬وه ذا ي دل على م دى‬
‫التعنت الذي وصلت إليه عقولهم؛ فب دل أن يحق ق ه ذا ال ترهيب أث ره في نفوس هم‪،‬‬
‫راحوا يسخرون منه‪ ،‬ويستهزئون به‪ ،‬وقد ق ال تع الى في ال رد عليهم‪َ ﴿ :‬و َم ا َج َع ْلنَ ا‬
‫خَوفُهُ ْم فَ َما يَ ِزي ُدهُ ْم‬
‫آن َونُ ِّ‬ ‫اس َوال َّش َج َرةَ ْال َم ْلعُونَةَ فِي ْالقُرْ ِ‬
‫الرُّ ْؤيَا الَّتِي أَ َر ْينَاكَ إِاَّل فِ ْتنَةً لِلنَّ ِ‬
‫إِاَّل طُ ْغيَانًا َكبِيرًا ﴾ [اإلسراء‪]60 :‬‬

‫‪326‬‬
‫وقد قال مكارم الشيرازي تعليقا عليها‪( :‬شجرة الزقوم ـ بدون شك ـ ال تش به‬
‫أشجار الدنيا أبدا‪ ،‬وله ذا الس بب فإنه ا تنم و في الن ار‪ ،‬وط بيعي أنن ا ال ن درك ه ذه‬
‫األمور المتعلقة بالعالم اآلخر إال على شكل أشباح وتصورات ذهني ة‪ ..‬وق د اس تهزأ‬
‫المشركون بهذه التعابير واألوصاف القرآنية بسبب جهلهم وعدم معرفتهم وعنادهم‪،‬‬
‫فأبوجهل ـ مثال ـ كان يقول‪ :‬إن محمدا يهددكم بن ار تح رق األحج ار‪ ،‬ثم يق ول بع د‬
‫ذلك بأن في النار أشجارا تنمو‪ ،‬وينقل عن أبي جهل ـ أيضا ـ أنه كان يه يىء التم ر‬
‫والسمن ويأكل منه ثم يقول ألصحابه‪ :‬كلوا من هذا فإن ه الزق وم‪ ..‬له ذا الس بب ف إن‬
‫القرآن يعتبر الشجرة الملعونة في اآليات التي نبحثها‪ ،‬وسيلة إلختبار الناس‪ ،‬إذ كان‬
‫المشركون يستهزئون بها‪ ،‬بينما استيقنها المؤمنون الحقيقي ون ال ذين ك انوا يؤمن ون‬
‫بها)(‪)1‬‬
‫وهذا يدل على أن من االختبارات اإللهية لعباده في هذه الدار طرح مثل ه ذه‬
‫المسائل‪ ،‬والتي تختلف العقول في التعامل معها‪ ،‬أما الصادقون‪ ،‬فينظرون إلى قدرة‬
‫هللا تعالى المطلقة‪ ،‬فيسلمون لها‪ ،‬ويؤمنون به ا‪ ،‬وتح دث آثاره ا في نفوس هم‪ ،‬بينم ا‬
‫تكون في نفوس غيرهم حجابا يحول بينهم وبين التع رف على الح ق‪ ،‬بس بب عنتهم‬
‫وكبريائهم‪.‬‬
‫هذا بعض ما ورد في النصوص المقدسة حول طعام المسيئين في جهنم‪ ،‬أم ا‬
‫طعام المحسنين‪ ،‬فقد ورد ذكره في مواض ع كث يرة من الق رآن الك ريم‪ ،‬وي رد ع ادة‬
‫مقرونا بطع ام المس يئين ح تى ي دعو العق ول لالختي ار بين كال الطع امين‪ ،‬والعم ل‬
‫المرتبط بهما‪.‬‬
‫ولعل أهم األطعمة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم‪ ،‬وبشيء من التفاص يل‬
‫[الفواكه]‪ ،‬ولهذا وصفت أشجار الجنة بكون ثمارها متدلية لمن شاء أن يأك ل منه ا‪،‬‬
‫كما ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َجنَى ْال َجنَّتَ ْي ِن دَا ٍن ﴾ [ال رحمن‪ ،]54 :‬وق د ورد في الح ديث أنه ا‬
‫تستبدل مباشرة حال نزعها‪ ،‬قال ‪( :‬إن الرج ل إذا ن زع ثم رة في الجن ة‪ ،‬ع ادت‬
‫مكانها أخرى)(‪)2‬‬
‫ول ذلك ف إن الفاكه ة م وفرة في الجن ة ك ل حين‪ ،‬وليس مث ل ال دنيا‪ ،‬تختل ف‬
‫ير ٍة (‪ )32‬اَل َم ْقطُو َع ٍة َواَل َم ْمنُو َع ٍة‬ ‫الفواكه باختالف الفصول‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وفَا ِكهَ ٍة َكثِ َ‬
‫﴾ [الواقعة‪]33 ،32 :‬‬
‫َّ‬
‫وق د أش ار الق رآن الك ريم إلى ك ثرة الفواك ه في الجن ة‪ ،‬فق ال‪ُ ﴿ :‬مت ِكئِينَ فِيهَ ا‬
‫ور ْثتُ ُموهَ ا‬ ‫ُ‬
‫﴿وتِ ْلكَ ْال َجنَّةُ الَّتِي أ ِ‬
‫ب﴾ [ص‪ ،]51 :‬وقال‪َ :‬‬ ‫يَ ْد ُعونَ فِيهَا بِفَا ِكهَ ٍة َكثِي َر ٍة َو َش َرا ٍ‬
‫يرةٌ ِم ْنهَا تَأْ ُكلُونَ ﴾ [الزخرف‪]73 ،72 :‬‬ ‫بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُونَ (‪ )72‬لَ ُك ْم فِيهَا فَا ِكهَةٌ َكثِ َ‬
‫وأشار إلى تنوعها‪ ،‬لتتناسب مع جمي ع األمزج ة‪ ،‬فق ال‪ ﴿ :‬يَ ْد ُعونَ فِيهَ ا بِ ُك ِّل‬
‫ان﴾ [ال رحمن‪،]52 :‬‬ ‫فَا ِكهَ ٍة آ ِمنِينَ ﴾ [الدخان‪ ،]55 :‬وقال‪﴿ :‬فِي ِه َما ِم ْن ُكلِّ فَا ِكهَ ٍة زَ وْ َج ِ‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪)42 /9( ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبراني في المعجم الكبير (‪.)2/102‬‬

‫‪327‬‬
‫وق ال‪ ﴿ :‬إِ َّن ْال ُمتَّقِينَ فِي ِظاَل ٍل َو ُعيُ و ٍن (‪َ )41‬وفَ َوا ِك هَ ِم َّما يَ ْش تَهُونَ ﴾ [المرس الت‪:‬‬
‫‪]42 ،41‬‬
‫وضرب األمثلة على بعض ما في الجنة من الفواكه مم ا ق د يك ون ل ه بعض‬
‫الشبه في الدنيا‪ ،‬وكأنه يشير إلى أن البديع الذي أبدع هذه الفواكه في الدنيا لن يعجز‬
‫أن يبدع مثلها أو ما هو خير منها في الدار اآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬فِي ِه َما فَا ِكهَةٌ َونَخْ ٌل‬
‫ان﴾ [الرحمن‪]68 :‬‬ ‫َو ُر َّم ٌ‬
‫وقد ذكر الفخر الرازي سر ذكر هاتين الفاكهتين‪ ،‬فقال‪( :‬وذك ر منه ا ن وعين‬
‫وهما الرمان والرطب ألنهما متق ابالن؛ فأح دهما حل و واآلخ ر غ ير حل و‪ ،‬وك ذلك‬
‫أحدهما حار واآلخ ر ب ارد وأح دهما فاكه ة وغ ذاء‪ ،‬واآلخ ر فاكه ة‪ ،‬وأح دهما من‬
‫فواكه البالد الح ارة واآلخ ر من فواك ه البالد الب اردة‪ ،‬وأح دهما أش جاره في غاي ة‬
‫الطول واآلخر أش جاره بالض د وأح دهما م ا يؤك ل من ه ب ارز وم اال يؤك ل ك امن‪،‬‬
‫واآلخ ر ب العكس فهم ا كالض دين واإلش ارة إلى الط رفين تتن اول اإلش ارة إلى م ا‬
‫ن﴾ [الرحمن‪)1()]17 :‬‬ ‫بينهما‪ ،‬كما قال‪َ ﴿ :‬ربُّ ْال َم ْش ِرقَ ْي ِن َو َربُّ ْال َم ْغ ِربَ ْي ِ‬
‫ونحب أن ننب ه هن ا إلى أن ه ذه الفاكه ة ال تي ورد النظ ير له ا في ال دنيا‪ ،‬لم‬
‫توصف في طعام المقربين والسابقين‪ ،‬وإنم ا وص فت في طع ام الن اجين‪ ،‬أص حاب‬
‫المراتب الدنيا في الجنة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى قبله ا‪َ ﴿ :‬و ِم ْن دُونِ ِه َم ا َجنَّتَ ا ِن﴾ [ال رحمن‪:‬‬
‫‪ ،]62‬وهو يشير إلى ما سنذكره من أن المراتب الدنيا في الجنة سيرون فيه ا أش ياء‬
‫شبيهة بالدنيا‪ ،‬وإن كانت أجمل وأفضل منها بكث ير‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وبَ ِّش ِر الَّ ِذينَ‬
‫ُزقُ وا ِم ْنهَ ا‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَ ا اأْل َ ْنهَ ا ُر ُكلَّ َم ا ر ِ‬ ‫ت أَ َّن لَهُ ْم َجنَّا ٍ‬ ‫آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ُ‬
‫ُز ْقنَ ا ِم ْن قَبْ ُل َوأتُ وا بِ ِه ُمت ََش ابِهًا َولَهُ ْم فِيهَ ا أَ ْز َوا ٌج‬ ‫ِم ْن ثَ َم َر ٍة ِر ْزقًا قَ الُوا هَ َذا الَّ ِذي ر ِ‬
‫ُمطَهَّ َرةٌ َوهُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [البقرة‪]25 :‬‬
‫وقد علل الفخر الرازي س بب االهتم ام ب ذكر الفاكه ة‪ ،‬ب دل س ائر األطعم ة‪،‬‬
‫فقال‪( :‬الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا؛ فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها‪،‬‬
‫وهذا الوجه أصح ألن من الفواكه ما ال يؤكل إال بعد الطعام)(‪)2‬‬
‫ومن الفواكه التي ورد ذكرها في الجنة مما له نظ ير في ال دنيا م ا ع بر عن ه‬
‫ين َما أَصْ َحابُ ْاليَ ِمي ِن (‬ ‫﴿وأَصْ َحابُ ْاليَ ِم ِ‬ ‫قوله تعالى في وصف نعيم أصحاب اليمين‪َ :‬‬
‫ح َم ْنضُو ٍد﴾ [الواقعة‪]29 - 27 :‬‬ ‫‪ )27‬فِي ِس ْد ٍر َم ْخضُو ٍد (‪َ )28‬وطَ ْل ٍ‬
‫وهذا يدل على أن هذا النعيم متناسب مع ما ك انوا يش تهونه في ال دنيا‪ ،‬وله ذا‬
‫طلبوا أن ي وفر لهم في اآلخ رة‪ ،‬واس تجاب هللا طلبهم‪ ،‬ح تى ل و ك ان ذل ك أدنى من‬
‫النعيم المعد للمقربين‪ ،‬كما أشار إلى ذلك قوله تعالى عن بني إسرائيل ال ذين رزقهم‬
‫وس ى‬ ‫هللا تعالى طعاما كبيرا‪ ،‬لكنهم رغبوا فيما هو دون ه‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قُ ْلتُ ْم يَا ُم َ‬
‫ت اأْل َرْ ضُ ِم ْن بَ ْقلِهَ ا‬ ‫ع لَنَ ا َربَّكَ يُخْ ِرجْ لَنَ ا ِم َّما تُ ْنبِ ُ‬ ‫اح ٍد فَ ا ْد ُ‬‫َص بِ َر َعلَى طَ َع ٍام َو ِ‬ ‫لَ ْن ن ْ‬

‫‪ )(1‬تفسير الرازي‪)380 /29( ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)396 /29( ،‬‬

‫‪328‬‬
‫ال أَت َْس تَ ْب ِدلُونَ الَّ ِذي هُ َو أَ ْدنَى بِالَّ ِذي هُ َو خَيْ ٌر‬ ‫َوقِثَّائِهَ ا َوفُو ِمهَ ا َو َعد َِس هَا َوبَ َ‬
‫ص لِهَا قَ َ‬
‫ا ْهبِطُوا ِمصْ رًا فَإِ َّن لَ ُك ْم َما َسأ َ ْلتُ ْم ﴾ [البقرة‪]61 :‬‬
‫وه ذا يش ير إلى ف رق من الف روق المهم ة بين أص حاب اليمين والمق ربين‪،‬‬
‫فالمقربون أصحاب التسليم المطلق هلل‪ ،‬ول ذلك يعط ون بحس ب م ا يرض ى هللا لهم‪،‬‬
‫وأما من دونهم‪ ،‬فيعط ون بحس ب رغب اتهم واختي اراتهم‪ ،‬ول ذلك ك انت جنتهم دون‬
‫جنة المقربين بكثير‪.‬‬
‫وق د وص ف الس در بكون ه مخض ودا‪ ،‬تمي يزا ل ه عن س در ال دنيا‪ ،‬ذل ك أن‬
‫(السلبية الموجودة في هذا الشجر أنه ذو شوك إال أن وصفه بـ (مخض ود) من م ادة‬
‫(خضد) ـ على وزن (مجد) ـ بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في ش جر‬
‫سدر الجنة)(‪)1‬‬
‫وقد ورد في الحديث أن أعرابيا قال لرسول هللا ‪ :‬يارسول هللا لقد ذك ر هللا‬
‫في القرآن شجرة مؤذية وم ا كنت أرى أن في الجن ة ش جرة ت ؤذي ص احبها؟ فق ال‬
‫رسول هللا ‪« :‬وما هي» قال‪ :‬السدر‪ ،‬فإن لها شوكا‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪« :‬أليس‬
‫يقول هللا‪ :‬في سدر مخضود‪ ،‬يخضده هللا من شوكه فيجعل مك ان ك ل ش وكة ثم رة‪،‬‬
‫إنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن إثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يش به‬
‫اآلخر)(‪)2‬‬
‫وهذا يشير إلى أن أطعمة الجنة خالية من الزوائ د واألذى والقش ور وغيره ا‬
‫من الذي يوجد مثله في الدنيا‪ ..‬ولذلك ال مح ل هن اك للقمام ة‪ ..‬ذل ك أن ك ل الطع ام‬
‫يؤكل‪ ،‬وليس هناك شيء ي رمى‪ ..‬وك ل ش يء هن اك محض ر ج اهز ال يحت اج ألي‬
‫طبخ‪ ،‬باإلضافة إلى أن ذلك الطعام يخرج على هيئة مسك‪ ،‬ومن كل الجسم‪ ،‬ول ذلك‬
‫ال حاجة لدورات المياه التي نراها في الدنيا‪ ،‬ذلك أن الدنيا دار لالختبار‪ ،‬لذلك ك ان‬
‫النعيم فيها ممزوجا‪ ،‬بخالف نعيم اآلخرة الخالص‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا كله قوله ‪( :‬كلوا التين فلو قلت‪ :‬إن فاكهة ن زلت من الجن ة‬
‫بال عجم لقلت هي التين)(‪)3‬‬
‫ومن أطعمة الجن ة الم ذكورة في النص وص المقدس ة اللحم‪ ،‬وخصوص ا لحم‬
‫﴿ولَحْ ِم طَي ٍْر ِم َّما يَ ْشتَهُونَ ﴾ [الواقعة‪ ،]21 :‬وهو يشير طبع ا‬ ‫الطير‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫إلى غيره من أنواع األطعمة‪ ،‬ألن العبرة فيها بما يشتهيه أهل الجنة‪.‬‬
‫وكما ذكرنا في الفاكه ة‪ ،‬فك ذلك األم ر في اللحم‪ ،‬فاش تهاء ذل ك الط ير ك اف‬
‫لجعله أمام صاحبه ليأكل منه‪ ،‬من دون أن يرمي شيئا‪ ..‬وفي نفس الوقت يعود ذل ك‬
‫الطير إلى طيرانه مثلما تعود الفاكهة إلى محلها‪.‬‬
‫وقد ورد في بعض اآلثار‪( :‬إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪.)460 /17( ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه الحاكم وصححه والبهيقي‪ ،‬انظر‪ :‬الدر المنثور في التفسير بالمأثور (‪)12 /8‬‬
‫‪ )( 3‬رواه ابن السنى وأبو نعيم‪ ،‬المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي (‪.)85 /5‬‬

‫‪329‬‬
‫مشويًا)(‪)1‬‬ ‫يديك‬
‫وق د ورد في بعض األح اديث ال تي لس نا ن دري م دى ص حتها‪ ،‬لعالقته ا‬
‫باليهود‪ ،‬أن أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت‪ ،‬فقد روي أن يهودي ا س أل‬
‫الن بي ‪ ‬عن أول طع ام يأكل ه أه ل الجن ة‪ ،‬فق ال‪( :‬زي ادةُ َكبِ د الن ون)‪ ،‬ق ال‪ :‬فم ا‬
‫إثرها؟ قال‪( :‬ي ُنحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها)(‪)2‬‬ ‫ِغذاؤهم على ِ‬
‫ب ـ الشراب وأنواعه‪:‬‬
‫كما أن الشراب بأنواعه المختلفة يش كل ج زءا مهم ا من النعيم الحس ي ال ذي‬
‫نراه في الدنيا‪ ،‬فهو كذلك جزء من الجزاء الحسي الذي يراه المحس نون والمس يئون‬
‫في اآلخرة‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم نماذج عن كال الجزائين ليرغب في التقوى التي توفر‬
‫ألصحابها كل ألوان الشراب اللذيذ الذي رأوا مثله في الدنيا‪ ،‬أو ال ذي لم ي روا مثل ه‬
‫أبدا‪ ..‬وفي نفس الوقت تنفر من كل ألوان الشراب الق بيح والم ؤلم‪ ،‬وال ذي أع د لمن‬
‫تجاوز حدوده‪ ،‬وحدود القيم التي أمر هللا بمراعاتها‪.‬‬
‫ومن أنواع الشراب المع دة للمس يئين ج راء أعم الهم م ا ذك ره هللا تع الى في‬
‫قوله‪ ﴿ :‬إِنَّا أَ ْعتَ ْدنَا لِلظَّالِ ِمينَ نَارًا أَ َحاطَ بِ ِه ْم س َُرا ِدقُهَا َوإِ ْن يَ ْست َِغيثُوا يُغَاثُوا بِ َما ٍء َك ْال ُم ْه ِل‬
‫ت ُمرْ تَفَقًا﴾ [الكهف‪]29 :‬‬ ‫س ال َّش َرابُ َو َسا َء ْ‬ ‫يَ ْش ِوي ْال ُوجُوهَ بِ ْئ َ‬
‫وقد ذكر المفسرون أن هذا المه ل ه و المق دار المترس ب من ال دهن‪ ،‬وال ذي‬
‫يكون عادة ملوثا بأشياء وسخة ورديئة الطعم‪ ،‬أو أنه المعادن المذابة‪ ،‬وهذا ما يشير‬
‫إليه قوله تعالى‪﴿ :‬يَ ْش ِوي ْال ُوجُوهَ﴾ [الكهف‪]29 :‬‬
‫وهو ما يشير إليه قوله تعالى أيضا في اآلية التي تقارن بين شراب المحسنين‬
‫والمسيئين‪َ ﴿ :‬و ُسقُوا َم ا ًء َح ِميمًا فَقَطَّ َع أَ ْم َع ا َءهُ ْم ﴾ [محم د‪ ،]15 :‬وه ذا ي دل على أن‬
‫الشراب ال تتوقف آالمه عند حدود شربه‪ ،‬بل يستمر أثره بعد ذلك في سائر الجس م‪،‬‬
‫وهو جزاء متواف ق تمام ا م ع تل ك المش روبات ال تي ك ان المس يئون يش ربونها في‬
‫الدنيا‪ ،‬وتدمر عليهم صحتهم‪ ،‬من غير مباالة منهم لتحريمها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اَل‬
‫وهكذا وصف شراب المسيئين في آيات أخرى منها قوله تع الى‪ ﴿ :‬يَ ذوقونَ‬
‫فِيهَا بَرْ دًا َواَل َش َرابًا (‪ )24‬إِاَّل َح ِمي ًما َو َغسَّاقًا (‪َ )25‬ج زَ ا ًء ِوفَاقًا (‪ )26‬إِنَّهُ ْم َك انُوا اَل‬
‫يَرْ جُونَ ِح َسابًا (‪َ )27‬و َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا ِك َّذابًا (‪[ ﴾)28‬النب أ‪ ،]28 - 24 :‬وه ذه اآلي ات‬
‫الكريمة تذكر أن هذا النوع من العذاب متوافق مع أعمالهم‪ ،‬ولو أنهم كانوا يراعون‬
‫مصيرهم‪ ،‬والمرتبط بتصديق الرسل عليهم السالم ما وقعوا فيما وقعوا فيه‪.‬‬
‫ويذكر القرآن الكريم اضطرار المسيئين لذلك الشراب مع كونه بتلك الصفة‪،‬‬
‫َّار َعنِي ٍد (‪)15‬‬ ‫اب ُك لُّ َجب ٍ‬ ‫﴿وا ْستَ ْفتَحُوا َوخَ َ‬ ‫لما ركبه هللا فيهم من العطش‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ص ِدي ٍد (‪ )16‬يَت ََج َّر ُعهُ َواَل يَ َكا ُد ي ُِسي ُغهُ َويَأْتِي ِه ْال َم وْ تُ‬ ‫ِم ْن َو َرائِ ِه َجهَنَّ ُم َويُ ْسقَى ِم ْن َما ٍء َ‬

‫‪ )(1‬البزار في البحر الزخار‪ ،5/401 :‬رقم‪2032 :‬‬


‫‪ )(2‬مسلم (‪.)1/173‬‬

‫‪330‬‬
‫ت َو ِم ْن َو َرائِ ِه َع َذابٌ َغلِيظٌ ﴾ [إبراهيم‪]17 - 15 :‬‬ ‫ِم ْن ُك ِّل َم َكا ٍن َو َما ه َُو بِ َميِّ ٍ‬
‫وق د ورد في الح ديث ذك ر بعض أص ناف الش راب وأهله ا‪ ،‬ومنه ا طين ة‬
‫الخبال‪ ،‬وقد فسرها رسول هللا ‪ ‬بأنها (صديد أهل النار)‪ ،‬أو (عصارة أهل الن ار)‬
‫(‪)1‬‬
‫ومن أهله ا ال ذين يش ربونها في دار الج زاء من ع بر عنهم رس ول هللا ‪‬‬
‫لمن يش ربُ ال ُم ْس ِك َر‪ :‬أن يَس قِيَه من‬ ‫بقول ه‪( :‬ك ل ُم ْس ِكر ح رام‪ ،‬وإن على هللا عه داً ْ‬
‫خبَال)(‪)2‬‬ ‫ِطينَة ال َ‬
‫وورد في الحديث وصف كيفية شرب المسيئين لذلك الشراب المؤذي‪ ،‬وذل ك‬
‫ص ِدي ٍد (‪ )16‬يَت ََج َّر ُع هُ َواَل يَ َك ا ُد ي ُِس ي ُغهُ﴾‬ ‫﴿وي ُْس قَى ِم ْن َم ا ٍء َ‬
‫في تفس ير قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫[إبراهيم‪ ،]17 ،16 :‬فقد قال ‪( :‬يقرب إليه فيتكرهه‪ ،‬فإذا أدني منه شوى وجهه‪،‬‬
‫ووقعت فروة رأسه‪ ،‬فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج)(‪)3‬‬
‫وفي مقابل هذا الج زاء المتناس ب م ع أعم ال المس يئين ونفوس هم‪ ،‬ي ذكر هللا‬
‫تعالى أصناف شراب المحسنين‪ ،‬والتي تختلف باختالف أعمالهم‪ ،‬وال تي ال تقتص ر‬
‫آثارها على تلك اللذة التي يج دونها في ش ربها‪ ،‬وإنم ا فيم ا تح دثهم ب ه نفوس هم من‬
‫أنواع اللذة والنشوة‪.‬‬
‫ومن اآليات ال تي تص ور تل ك المج الس ال تي يجتم ع فيه ا المؤمن ون ال ذين‬
‫تورعوا عن الشرب الحرام في ال دنيا‪ ،‬م ا نص علي ه قول ه تع الى‪َ ﴿:‬ويُطَ افُ َعلَ ْي ِه ْم‬
‫ض ٍة قَ َّدرُوهَا تَقْ ِديرًا (‪)16‬‬ ‫ير ِم ْن فِ َّ‬ ‫يرا (‪ )15‬قَ َو ِ‬
‫ار َ‬ ‫ار َ‬ ‫ب َكان ْ‬
‫َت قَ َو ِ‬ ‫ض ٍة َوأَ ْك َوا ٍ‬
‫بِآنِيَ ٍة ِم ْن فِ َّ‬
‫ْ‬
‫َويُ ْسقَوْ نَ فِيهَ ا َكأ ًس ا َك انَ ِمزَا ُجهَ ا َز ْن َجبِياًل (‪َ )17‬عيْنًا فِيهَ ا تُ َس َّمى َس ْل َس بِياًل (‪﴾)18‬‬
‫[اإلنسان‪]18 - 15 :‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم باهتمام شديد منابع ذلك الشراب‪ ،‬مبينا قيمته‪ ،‬فقد ق ال‬
‫ان ﴾ [الرحمن‪،]50 :‬‬ ‫عند ذكره لجزاء أصحاب المراتب العالية‪﴿ :‬فِي ِه َما َع ْينَا ِن تَجْ ِريَ ِ‬
‫َان﴾ [الرحمن‪]66 :‬‬ ‫وقال عند ذكره ألصحاب المراتب الدنيا‪﴿ :‬فِي ِه َما َع ْينَا ِن نَضَّاخَ ت ِ‬
‫وورد في آيات أخ رى تس مية تل ك العي ون‪ ،‬ومنه ا قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬عيْنًا فِيهَ ا‬
‫﴿و ِمزَا ُجهُ ِم ْن تَ ْسنِ ٍيم (‪َ )27‬ع ْينًا يَ ْش َربُ بِهَ ا‬ ‫تُ َس َّمى َس ْل َسبِياًل ﴾ [اإلنسان‪ ،]18 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫س َك انَ‬ ‫ار يَ ْش َربُونَ ِم ْن َك أْ ٍ‬ ‫ْال ُمقَ َّربُ ونَ ﴾ [المطففين‪ ،]28 ،27 :‬وقول ه‪﴿ :‬إِ َّن اأْل َ َ‬
‫بْر َ‬
‫ِمزَا ُجهَا َكافُورًا [‪َ ]5‬ع ْينًا يَ ْش َربُ بِهَا ِعبَا ُد هَّللا ِ يُفَجِّ رُونَهَ ا تَ ْف ِج يرًا [‪[ ﴾]6‬اإلنس ان‪-5 :‬‬
‫‪.]6‬‬
‫وهذا كله يدل على أهمية تلك العيون‪ ،‬وأنواع الشراب الذي يخرج منها‪ ،‬وإن‬
‫كان الق رآن الك ريم ذك ر بعض م ا يع رف من ذل ك الش راب لتق ريب الص ورة إلى‬
‫األذهان‪ ،‬وإال فإن األمر أعظم بكثير‪ ،‬كما ق ال مك ارم الش يرازي‪( :‬يتح دث الق رآن‬

‫‪ )(1‬أحمد في المسند (‪.)5/171‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم رقم (‪)2002‬‬
‫‪ )(3‬المسند (‪ ،)5/265‬رواه الترمذي في السنن برقم (‪.)2583‬‬

‫‪331‬‬
‫عن الشراب الطهور الممزوج بالزنجبيل‪ ،‬ومن البديهي أن الفرق بين ه ذا الش راب‬
‫وذلك الشراب كالفرق بين السماء واألرض وباألحرى بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬والجدير‬
‫بالذكر أن العرب كانوا يستخدمون نوعين من الشراب‪ :‬أح دهما يبعث على النش اط‬
‫والحرك ة‪ ،‬واآلخ ر مف تر ومه دىء واألول يم زج م ع الزنجبي ل‪ ،‬أم ا الث اني فم ع‬
‫الكافور‪ ،‬وبما أن حقائق ع الم اآلخ رة ال يمكن أن يع بر عنه ا في إط ار ألف اظ ه ذا‬
‫العالم‪ ،‬فال سبيل إال استخدام هذه األلفاظ للداللة على معان أوس ع وأعلى تحكي عن‬
‫تلك الحقائق العظيمة‪ .‬ولفظ «الزنجبيل» غالبا ما يطلق على الجذر المعطر للتواب ل‬
‫الخاصة لألغذية واألشربة‪ ،‬وإن كانت األقوال مختلفة في معناه)(‪)1‬‬
‫ويذكر القرآن الكريم أن من الرفاه الموجود في الجنة تنوع األنهار‪ ،‬وال تي ال‬
‫تكون مملوءة بالمياه مثل أنهار الدنيا‪ ،‬وإنما تمأل بكل أصناف الشراب اللذيذ‪ ،‬ومنها‬
‫آس ٍن‬‫ما عبر عنه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬مثَ ُل ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُو ِع َد ْال ُمتَّقُونَ فِيهَا أَ ْنهَا ٌر ِم ْن َما ٍء َغي ِْر ِ‬
‫اربِينَ َوأَ ْنهَ ا ٌر ِم ْن ع َ‬
‫َس ٍل‬ ‫لش ِ‬‫خَمْر لَ َّذ ٍة لِ َّ‬
‫ٍ‬ ‫َوأَ ْنهَ ا ٌر ِم ْن لَبَ ٍن لَ ْم يَتَ َغيَّرْ طَ ْع ُم هُ َوأَ ْنهَ ا ٌر ِم ْن‬
‫ار َو ُس قُوا‬ ‫ت َو َم ْغفِ َرةٌ ِم ْن َربِّ ِه ْم َك َم ْن هُ َو خَالِ ٌد فِي النَّ ِ‬ ‫صفًّى َولَهُ ْم فِيهَا ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬ ‫ُم َ‬
‫َما ًء َح ِمي ًما فَقَطَّ َع أَ ْم َعا َءهُ ْم [‪[ ﴾]15‬محمد‪]15 :‬‬
‫ويذكر القرآن الكريم أصالة ذلك الشراب‪ ،‬وعدم وجود أي غش أو أذى في ه‪،‬‬
‫ار لَفِي نَ ِع ٍيم [‪َ ]22‬علَى‬ ‫مثلما ه و الح ال في ش راب ال دنيا‪ ،‬يق ول تع الى‪﴿ :‬إِ َّن اأْل َ َ‬
‫بْر َ‬
‫َض َرةَ النَّ ِع ِيم [‪ ]24‬ي ُْس قَوْ نَ ِم ْن َر ِحي ٍ‬
‫ق‬ ‫ْرفُ فِي ُو ُج و ِه ِه ْم ن ْ‬ ‫ك يَ ْنظُرُونَ [‪ ]23‬تَع ِ‬ ‫اأْل َ َرائِ ِ‬
‫س ْال ُمتَنَافِسُونَ [‪َ ]26‬و ِمزَا ُجهُ ِم ْن ت َْس نِ ٍيم [‬ ‫ك َوفِي َذلِكَ فَ ْليَتَنَافَ ِ‬ ‫وم [‪ِ ]25‬ختَا ُمهُ ِم ْس ٌ‬ ‫َم ْختُ ٍ‬
‫‪َ ]27‬ع ْينًا يَ ْش َربُ بِهَا ْال ُمقَ َّربُونَ [‪[ ﴾]28‬المطفِّفين‪]28 -22 :‬‬
‫وقد قال مكارم الش يرازي في بي ان معناه ا ن اقال أق وال المفس رين في ذل ك‪:‬‬
‫(الرحيق ـ كما اعتبره المفسرين ـ هو الشراب الخ الص ال ذي ال يش وبه أي غش أو‬
‫تلوث‪ ،‬ومختوم‪ :‬إش ارة إلى أن ه أص لي ويحم ل ك ل ص فاته المم يزة عن غ يره من‬
‫األشربة وال يجاريه شراب قط‪ ،‬وه ذا بح د ذات ه تأكي د آخ ر على خل وص الش راب‬
‫وطهارته‪ ..‬والختم بالصورة المذكورة يظهر م دى اإلح ترام الخ اص أله ل الجن ة‪،‬‬
‫حيث أن ذلك اإلحكام وتلك األختام مختصة لهم‪ ،‬وال يفتحه ا أح د س واهم‪ ..‬وختام ه‬
‫ليس كختوم أهل الدنيا التي تلوث األيدي‪ ،‬وأقل ما فيه ا أنه ا في ح ال فتحه ا ت رمى‬
‫في سلة األوساخ‪ ،‬بل ه و ش راب ط اهر مخت وم‪ ،‬وإذا م ا فتح ختم ه فتف وح رائح ة‬
‫المس ك من ه‪ ،‬وقي ل‪« :‬ختام ه» يع ني (نهايت ه)‪ ،‬فعن دما ينتهي من ش رب الرحي ق‪،‬‬
‫ستفوح من فمه رائحة المسك‪ ،‬على خالف أشربة أهل الدنيا‪ ،‬ال تي ال ت ترك في الفم‬
‫إال المرارة والرائحة الكريهة)(‪)2‬‬
‫وهكذا األمر م ع الخم ر ال تي تب اح في دار الج زاء بع د أن ي زال عنه ا ك ل‬
‫أصناف األذى التي كانت مرتبط ة به ا في ال دنيا‪ ،‬وه ذا ي دل على أن هللا تع الى م ا‬

‫‪ )(1‬تفسير األمثل‪.)267 /19( ،‬‬


‫‪ )(2‬تفسير األمثل‪)36 /20( ،‬‬

‫‪332‬‬
‫حرمها في الدنيا إال ألجل ذلك األذى رحمة بعباده‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يُطَافُ َعلَ ْي ِه ْم بِ َكأْ ٍ‬
‫س‬
‫اربِينَ [‪ ]46‬اَل فِيهَا َغوْ ٌل َواَل هُ ْم َع ْنهَا يُ ْنزَ فُونَ [‪﴾]47‬‬ ‫ْضا َء لَ َّذ ٍة لِل َّش ِ‬
‫ين [‪ ]45‬بَي َ‬ ‫ِم ْن َم ِع ٍ‬
‫ق‬‫اري َ‬ ‫َ‬
‫ب َوأبَ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َان ُمخَ ل ُدونَ [‪ ]17‬بِأك َوا ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫[الصافات‪ ،]47 -45 :‬وقال‪﴿ :‬يَطوفُ َعلَ ْي ِه ْم ِولد ٌ‬
‫ص َّد ُعونَ َع ْنهَا َواَل يُ ْن ِزفُونَ [‪[ ﴾]19‬الواقعة‪.]19 -17 :‬‬ ‫س ِم ْن َم ِعي ٍن [‪ ]18‬اَل يُ َ‬ ‫َو َكأْ ٍ‬
‫فمن األوصاف التي وردت بشأنها‪ ،‬والتي تخالف خمر الدنيا أنها بيضاء نقية‬
‫لذة للشاربين‪ ،‬بخالف خمر الدنيا‪ ،‬فإنها كريهة عند الشرب‪( ..‬ال فيها غول) وهو ما‬
‫يص يب ش اربها في ال دنيا‪ ،‬من ص داع‪ ،‬أو ألم في بطن ه‪ ،‬أو ذه اب للعق ل‪َ ( ،‬واَل هُ ْم‬
‫َع ْنهَا يُن َزفُونَ ) بخالف خمر الدنيا التي تذهب عقولهم‪.‬‬
‫ول ذلك ف إن ك ل الطع ام والش راب الموج ود في دار المحس نين ليس في ه إال‬
‫المتعة المحضة‪ ،‬وال تعقبه أي آثار مثل تلك التي تحدث في أطعمة ال دنيا وش رابها‪،‬‬
‫ت َون َِع ٍيم (‪ )17‬فَا ِك ِهينَ بِ َما آتَاهُ ْم َربُّهُ ْم َو َوقَ اهُ ْم َربُّهُ ْم‬ ‫قال تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن ْال ُمتَّقِينَ فِي َجنَّا ٍ‬
‫اش َربُوا هَنِيئًا بِ َم ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ ونَ ﴾ [الط ور‪،]19 - 17 :‬‬ ‫اب ْال َج ِح ِيم (‪ُ )18‬كلُوا َو ْ‬ ‫َع َذ َ‬
‫ضيَ ٍة (‪ )21‬فِي َجنَّ ٍة عَالِيَ ٍة (‪ )22‬قُطُوفُهَا دَانِيَ ةٌ (‪ُ )23‬كلُ وا‬ ‫وقال‪ ﴿ :‬فَه َُو فِي ِعي َش ٍة َرا ِ‬
‫َوا ْش َربُوا هَنِيئًا بِ َما أَ ْسلَ ْفتُ ْم فِي اأْل َي َِّام ْالخَالِيَ ِة ﴾ [الحاقة‪]24 - 21 :‬‬
‫بل إن هناك إش ارات قرآني ة إلى اآلث ار الروحي ة ال تي يح دثها ذل ك الطع ام‬
‫والشراب في نفوس أص حابه‪ ،‬كم ا ع بر عن ذل ك العالم ة الطباطب ائي في تفس يره‬
‫لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َس قَاهُ ْم َربُّهُ ْم َش َرابًا طَهُ ورًا ﴾ [اإلنس ان‪ ،]21 :‬فق ال‪( :‬أي بالغ ا في‬
‫التطه ير‪ ،‬ال ت دع ق ذارة إال أزاله ا‪ ،‬ومن الق ذارة ق ذارة الغفل ة عن هللا س بحانه‬
‫واالحتجاب عن التوجه إليه‪ ،‬فهم غير محجوبين عن ربهم‪ ،‬ولذا كان لهم أن يحمدوا‬
‫ربهم كما قال‪َ ﴿ :‬وآ ِخ ُر دَعْ َواهُ ْم أَ ِن ْال َحمْ ُد هَّلِل ِ َربِّ ْال َع الَ ِمينَ ﴾ [ي ونس‪ ]10 :‬والحم د‬
‫وصف ال يصلح له إال المخلصون من عباد هللا تعالى‪ ..‬وقد أس قط تع الى في قول ه‪:‬‬
‫﴿ َو َسقَاهُ ْم َربُّهُ ْم ﴾ [اإلنسان‪]21 :‬الوسائط كلها‪ ،‬ونسب سقيهم إلى نفسه‪ ،‬وهذا أفض ل‬
‫ما ذكره هللا تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنة‪ ،‬ولعله من المزي د الم ذكور في‬
‫زي ٌد ﴾ [ق‪)1()]35 :‬‬ ‫قوله‪﴿ :‬لَهُ ْم َما يَ َشاءُونَ فِيهَا َولَ َد ْينَا َم ِ‬
‫وقد روي عن االمام الصادق أن ه ذك ر م ا يش ير إلى ه ذا‪ ،‬فق ال‪( :‬اذا ش رب‬
‫المؤمن الشراب الطهور نسي ما سوى هّللا وانقطع اليه بالكامل)(‪)2‬‬
‫ولهذا قرن الشراب بالقرب في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ِمزَا ُج هُ ِم ْن ت َْس نِ ٍيم (‪َ )27‬عيْنًا‬
‫يَ ْش َربُ بِهَ ا ْال ُمقَ َّربُ ونَ ﴾ [المطففين‪ ،]28 ،27 :‬وذل ك الس تحقاقهم له ذا الن وع من‬
‫الجزاء‪ ،‬ولقابليتهم له‪ ،‬ذلك أن الحقائق العظمى تستدعي قابلية خاصة‪.‬‬
‫ولهذا ورد في الروايات أن أفض ل ش راب أه ل الجن ة‪ ،‬ه و التس نيم‪ ،‬ول ذلك‬
‫يشربونه خالصا‪ ،‬بينما يشربه غيرهم ممزوجا‪ ،‬واسم ه ذا الش راب مش تق من م ادة‬
‫(سنم)‪ ،‬بمعنى (العلو واالرتفاع) ومنه (سنام البع ير)‪ ،‬ل ذا ك ان لعين التس نيم أثره ا‬

‫‪ )(1‬تفسير الميزان ‪.)72 /20( -‬‬


‫‪ )(2‬منهج الصادقين‪ ،‬ج ‪ ،10‬ص ‪.110‬‬

‫‪333‬‬
‫في السير التكاملي‪.‬‬
‫يقول مكارم الشيرازي عند ذكره ألقوال المفسرين في تفسير التسنيم‪( :‬وقيل‪:‬‬
‫تسنيم‪ :‬عين تقع في الطبقات العليا في الجنة ينصب شرابها عليهم من علو انص بابا‪،‬‬
‫وقي ل ه و نه ر يج ري في اله واء‪ ،‬فيص ب في أواني أه ل الجن ة‪ ،‬وهوخ الص‬
‫للمقربين‪ ،‬ويمزج بمقدار من الرحيق المختوم لألبرار‪ ،‬وه و ن وع آخ ر من ش راب‬
‫الجن ة‪ ،‬ويظه ر من خالل الجم ع بين ه ذه المع اني أن ه ذه العين له ا مكان ة عالي ة‬
‫رفيعة من ناحي ة المك ان‪ ،‬وك ذلك من حيث الت أثير المعن وي؛ فهي توص ل ال روح‪،‬‬
‫وتجذبها إلى مقام القرب اإللهي)(‪)1‬‬
‫وبهذا‪ ،‬فإن النعيم الحسي في الجنة ليس غليظا كما يت وهم المنك رون ل ه‪ ،‬ب ل‬
‫هو مليء بالروحانية والمعاني السامية‪ ،‬ولذلك فإن كل تلذذ ألهل الجنة مرتبط بحمد‬
‫هللا والتواصل معه‪ ،‬ولذلك ال معنى لتك اليف العب ادات هن اك‪ ،‬ذل ك أن الحي اة هن اك‬
‫كلها عبادة‪ ،‬والجنة كلها مسجد‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ الحلي والحلل‪:‬‬
‫من أن واع الج زاء ال تي ورد ذكره ا في النص وص المقدس ة أن واع الحلي‬
‫والحلل ال تي ه يئت للمحس نين والمس يئين‪ ،‬والمتجانس ة م ع أعم الهم‪ ،‬أو تل ك ال تي‬
‫شكلت منها أعمالهم‪.‬‬
‫ذلك أن من أهم التكاليف الشرعية‪ ،‬والتي اتفقت عليها جمي ع المل ل والنح ل‪،‬‬
‫بل وردت مع أول بش ر على األرض‪ ،‬تل ك التك اليف المرتبط ة باللب اس‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫اري‬ ‫تعالى بعد ذكره لقصة آدم علي ه الس الم‪﴿ :‬يَ ا بَنِي آ َد َم قَ ْد أَ ْنزَ ْلنَ ا َعلَ ْي ُك ْم لِبَاس ا ً يُ َو ِ‬
‫ت هَّللا ِ لَ َعلَّهُ ْم يَ َّذ َّكرُونَ ﴾‬
‫قْوى َذلِ كَ خَيْ ٌر َذلِ كَ ِم ْن آيَ ا ِ‬ ‫َس وْ آتِ ُك ْم َو ِريش ا ً َولِبَ اسُ التَّ َ‬
‫(األعراف‪)26:‬‬
‫فقد ذكر هللا تع الى في ه ذه اآلي ة الكريم ة ثالث من افع للب اس‪ ،‬وهي الس تر‪،‬‬
‫والجمال والزينة التي عبر عنها بالريش‪ ،‬والوقاية ال تي ع بر عنه ا بلب اس التق وى‪،‬‬
‫ق ِظالالً َو َج َع َل لَ ُك ْم ِمنَ‬ ‫﴿وهَّللا ُ َج َع َل لَ ُك ْم ِم َّما خَ لَ َ‬ ‫والتي جاء ذكره ا في قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫َ‬
‫ك يُتِ ُّم نِ ْع َمت هُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يل تقِيك ْم بَأ َس ك ْم ك ذلِ َ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يل تَقِي ُك ُم ال َح َّر َو َس َرابِ َ‬ ‫ال أَ ْكنَانا ً َو َج َع َل لَ ُك ْم َس َرابِ َ‬
‫ْال ِجبَ ِ‬
‫َعلَ ْي ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْسلِ ُمونَ ﴾ (النحل‪)81:‬‬
‫ولهذا؛ فإن من خرج باللباس عن ه ذه المقاص د الش رعية‪ ،‬يك ون ق د تج اوز‬
‫حدود هللا‪ ،‬ولذلك يستحق من العقاب المناسب لذلك ما يؤدبه ويهذبه‪.‬‬
‫وق د أش ار إلى بعض مظ اهر ذل ك التج اوز قول ه تع الى عن د الح ديث عن‬
‫الوس ائل ال تي يس تعملها الش يطان في إخ راج البش ر عن إنس انيتهم‪﴿ :‬يَ ابَنِي آ َد َم اَل‬
‫اس هُ َما لِي ُِريَهُ َم ا َس وْ آتِ ِه َما‬ ‫ع َع ْنهُ َما لِبَ َ‬ ‫يَ ْفتِنَنَّ ُك ُم ال َّش ْيطَانُ َك َما أَ ْخ َر َج أَبَ َو ْي ُك ْم ِمنَ ْال َجنَّ ِة يَ ْن ِز ُ‬
‫اطينَ أَوْ لِيَا َء لِلَّ ِذينَ اَل ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾‬ ‫ْث اَل ت ََروْ نَهُ ْم إِنَّا َج َع ْلنَا ال َّشيَ ِ‬ ‫إِنَّهُ يَ َرا ُك ْم هُ َو َوقَبِيلُهُ ِم ْن َحي ُ‬
‫[األعراف‪]27 :‬‬

‫‪ )(1‬نفحات القرآن (مكارم الشيرازي‪ ،‬الشيخ ناصر) ‪ ،‬الجزء ‪ ، 6 :‬ص ‪.175‬‬

‫‪334‬‬
‫وأشار إليها ذلك االس تكبار ب الحلي والحل ل‪ ،‬وال ذي انح رف ب ه ق ارون عن‬
‫ال‬‫الزينة الشرعية إلى الزينة الشيطانية‪ ،‬قال تعالى‪﴿:‬فَخَ َر َج َعلَى قَوْ ِم ِه فِي ِزينَتِ ِه قَ َ‬
‫َظ ٍيم َوقَ ا َل‬ ‫ظع ِ‬ ‫ثْل َم ا أُوتِ َي قَ ا ُرونُ إِنَّهُ لَ ُذو َح ٍّ‬ ‫الَّ ِذينَ ي ُِري ُدونَ ْال َحيَاةَ ال ُّدنيَا يَالَيْتَ لَنَا ِم َ‬
‫ص الِحًا َواَل يُلَقَّاهَ ا إِاَّل‬ ‫الَّ ِذينَ أُوتُ وا ْال ِع ْل َم َو ْيلَ ُك ْم ثَ َوابُ هَّللا ِ خَيْ ٌر لِ َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ‬
‫الصَّابِرُونَ ﴾ (القصص‪)80:‬‬
‫ولهذا بين هللا تعالى جزاء كال الفريقين في اآلخرة‪ ،‬أولئك الذين آث روا الحي اة‬
‫ال دنيا‪ ،‬وانش غلوا به ا وبزينته ا‪ ،‬وأولئ ك ال ذين س لموا أم ورهم هلل‪ ،‬ولم يتج اوزوا‬
‫ت لَهُ ْم ثِيَابٌ ِم ْن‬ ‫َص ُموا فِي َربِّ ِه ْم فَالَّ ِذينَ َكفَرُوا قُطِّ َع ْ‬ ‫اخت َ‬ ‫حدوده‪ ،‬فقال‪﴿ :‬هَ َذا ِن خَصْ َما ِن ْ‬
‫ق ُر ُءو ِس ِه ُم ْال َح ِمي ُم (‪ )19‬يُصْ هَ ُر بِ ِه َما فِي بُط ونِ ِه ْم َوال ُجلُ و ُد (‪)20‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُصبُّ ِم ْن فَوْ ِ‬ ‫َار ي َ‬‫ن ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫َولَهُ ْم َمقَا ِم ُع ِم ْن َح ِدي ٍد (‪ُ )21‬كل َما أ َرادُوا أ ْن يَ ْخ ُرجُوا ِم ْنهَا ِم ْن َغ ٍّم أ ِعيدُوا فِيهَا َو ُذوقُوا‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن‬ ‫ت َجنَّا ٍ‬ ‫يق (‪ )22‬إِ َّن هَّللا َ يُ ْد ِخ ُل الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬ ‫اب ْال َح ِر ِ‬‫َع َذ َ‬
‫اس هُ ْم فِيهَ ا َح ِري ٌر (‪﴾ )23‬‬ ‫ب َولُ ْؤلُؤًا َولِبَ ُ‬ ‫تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر يُ َحلَّوْ نَ فِيهَا ِم ْن أَ َس ِ‬
‫او َر ِم ْن َذهَ ٍ‬
‫[الحج‪]23 - 19 :‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تذكر الحلي والحلل التي يرتديها المحس نون والمس يئون‬
‫في دار الجزاء‪ ،‬والتي تتوافق تماما مع اختياراتهم التي اختاروها في الدنيا‪.‬‬
‫أما المسيئون؛ فتذكر اآلية الكريمة أن ثيابهم نسجت من الن ار‪ ،‬أي أنه ا قط ع‬
‫حقيقية من الن ار‪ ،‬ق د فص لت لهم وخيطت على هيئ ة ثي اب‪ ..‬وه ذا ليس بمس تغرب‬
‫على قدرة هللا‪ ،‬فالبش ر وك ل م ا على األرض من حي اة من طين‪ ،‬وم ع ذل ك يش كل‬
‫بأشكال مختلفة‪.‬‬
‫ك‬ ‫﴿قال َم ا َمنَ َع َ‬ ‫وكذلك الشيطان‪ ،‬أخبر هللا تعالى أنه خلق من نار‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ين﴾ [األع راف‪:‬‬ ‫ار َوخَ لَ ْقتَ هُ ِم ْن ِط ٍ‬‫أَاَّل تَ ْس ُج َد إِ ْذ أَ َمرْ تُكَ قَا َل أَنَا خَيْ ٌر ِمنْهُ خَ لَ ْقتَنِي ِم ْن نَ ٍ‬
‫‪ ،]12‬ومع ذلك يتاح له الكثير من اإلمكانات والقدرات التي تتناسب مع طبيعته‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك أخبر هللا تعالى عن لباس المؤمنين‪ ،‬وكونه من الحرير‪ ،‬وهو‬
‫ال يعني ما نراه من حرير‪ ،‬وإنما هو من باب التقريب‪ ،‬كم ا ذكرن ا‪ ،‬أو ربم ا يقص د‬
‫به النعيم الخاص بأص حاب اليمين‪ ،‬وال ذي يك ون ل ه بعض الش به بنعيم ال دنيا‪ ،‬أم ا‬
‫المقربون‪ ،‬فلهم نعيمهم الخاص الذي ال يشبهه شيء‪.‬‬
‫وهكذا أخبر هللا تعالى في اآليات الكريم ة عن أن المؤم نين يب اح لهم في دار‬
‫الجزاء التحلي بحلية الذهب واللؤلؤ‪ ،‬ألن تحريم التحلي في الدنيا بأمثال تلك الزينة‪،‬‬
‫كان اختبارا إلهي ا‪ ،‬لرعاي ة حق وق المستض عفين‪ ،‬وح تى ال يك ون ال ترف س ببا في‬
‫الكسل عن مجاهدة النفس‪ ،‬والسير بها إلى هللا‪.‬‬
‫وهكذا يذكر هللا تعالى في مش هد آخ ر تل ك الحل ل ال تي يرت ديها المس يئيون‪،‬‬
‫ص فَا ِد (‪َ )49‬س َرابِيلُهُ ْم ِم ْن قَ ِط َرا ٍن‬ ‫فيقول‪َ ﴿ :‬وتَ َرى ْال ُمجْ ِر ِمينَ يَوْ َمئِ ٍذ ُمقَ َّرنِينَ فِي اأْل َ ْ‬
‫َوتَ ْغ َشى ُوجُوهَهُ ُم النَّا ُر ﴾ [إبراهيم‪ ،]50 ،49 :‬والسرابيل هي القمص ان‪ ،‬أو غيره ا‬
‫من الثياب‪ ،‬أو تلك التي تغطي القسم األعلى من البدن‪ ،‬وبخالفه ا (الس روال) ال ذي‬
‫يغطي الجزء األسفل منه‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫وق د أخ بر هللا تع الى أنه ا منس وجة من (القط ران)‪ ،‬وهي الم ادة الس وداء‬
‫المعروفة‪ ،‬والقابلة لالحتراق‪ ،‬والتي تبعث عند احتراقها رائحة كريهة‪.‬‬
‫وفي مقابل هذا يذكر هللا تعالى الكثير من مشاهد الحلي والحلل أله ل الجن ة‪،‬‬
‫ص بَرُوا‬ ‫مذكرا باألعمال التي تتطلبها‪ ،‬ومنها ما ورد في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َجزَ اهُ ْم بِ َما َ‬
‫َجنَّةً َو َح ِريرًا ﴾ [اإلنسان‪ ،]12 :‬حيث ربط ذلك الجزاء العظيم بالصبر‪.‬‬
‫َ‬
‫ض ي ُع أجْ َر َم ْن‬ ‫ت إِنَّا اَل نُ ِ‬‫ومثله قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ات َع ْد ٍن تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ ِه ُم اأْل َ ْنهَ ا ُر ي َُحلَّوْ نَ فِيهَ ا ِم ْن‬ ‫أَحْ َسنَ َع َماًل (‪ )30‬أُولَئِ َ‬
‫ك لَهُ ْم َجنَّ ُ‬
‫ق ُمتَّ ِكئِينَ فِيهَ ا َعلَى‬ ‫س َوإِ ْس تَب َْر ٍ‬ ‫ض رًا ِم ْن ُس ْن ُد ٍ‬ ‫ب َويَ ْلبَ ُس ونَ ثِيَابًا ُخ ْ‬ ‫او َر ِم ْن َذهَ ٍ‬ ‫أَ َس ِ‬
‫َت ُمرْ تَفَقًا﴾ [الكهف‪ ،]31 ،30 :‬فق د رب ط هللا تع الى ه ذا‬ ‫اأْل َ َرائِ ِ‬
‫ك نِ ْع َم الثَّ َوابُ َو َح ُسن ْ‬
‫الجزاء بالعمل الحسن‪ ،‬وقد سيق بعد هذه اآلية قصة ص احب الجن تين‪ ،‬وكي ف ك ان‬
‫يفخر على المؤمن المتواضع‪.‬‬
‫او َر ِم ْن َذهَ ٍ‬
‫ب‬ ‫ات َع ْد ٍن يَ ْد ُخلُونَهَا ي َُحلَّوْ نَ فِيهَ ا ِم ْن أَ َس ِ‬ ‫ومثله قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬جنَّ ُ‬
‫َب َعنَّا ْال َح زَ نَ إِ َّن َربَّنَ ا‬ ‫َولُ ْؤلُؤًا َولِبَا ُسهُ ْم فِيهَا َح ِري ٌر (‪َ )33‬وقَ الُوا ْال َحمْ ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي أَ ْذه َ‬
‫لَ َغفُو ٌر َش ُكورٌ﴾ [فاطر‪ ،]34 ،33 :‬والتي يشير دعاء المؤمنين فيها إلى المعاناة التي‬
‫عانوها في الدنيا‪.‬‬
‫وهذا كله يدعونا إلى االهتمام بمنهج القرآن الك ريم في ع رض قض ايا الي وم‬
‫اآلخ ر‪ ،‬وع دم االقتص ار على ذك ر الج زاء دون ذك ر األثم ان ال تي يتطلبه ا‪ ،‬ألن‬
‫البعض لألسف يذكر الجنة‪ ،‬ويفصل كل ما فيها من النعيم‪ ،‬ثم يذكر بعدها أن ه يمكن‬
‫بالشفاعة وحدها‪ ،‬أو بأعمال قليلة أن تنال كل تلك الجنان الواسعة‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث م ا يفص ل بعض م ا ورد في الق رآن الك ريم من أن واع‬
‫الحلي والحلل‪ ،‬م ع التنبي ه ال ذي أش رنا إلي ه‪ ،‬وه و أن الكث ير من األح اديث رويت‬
‫بالمعنى‪ ،‬وتدخل الرواة في ألفاظها‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪ ،‬بعد أن أتي بثوب من حري ر‪ ،‬فجعل وا يعجب ون‬
‫من حسنه ولينه‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬لمنادي ل س عد بن مع اذ في الجن ة أفض ل من‬
‫هذا) (‪)1‬‬
‫وه ذا الح ديث يش ير إلى بع د ترب وي مهم‪ ،‬وه و اعتب ار نعيم ال دنيا قنط رة‬
‫وجسرا ومعبرا لتذكر نعيم اآلخرة‪ ،‬حتى يصبح داعية للعمل الصالح‪ ،‬وكأن رس ول‬
‫هللا ‪ ‬يق ول من خالل ه ذا الح ديث‪ :‬إن أعجبتكم منادي ل س عد‪ ،‬فيمكنكم الحص ول‬
‫على ما هو خ ير منه ا في س وق اس مها الجن ة‪ ،‬وليس عليكم س وى العم ل الص الح‬
‫لتحصيل هذه السلعة الغالية‪.‬‬
‫وهكذا أخبر رسول هللا ‪ ‬عن توفر الذهب والحجارة الكريمة في ك ل مح ل‬
‫في الجنة‪ ،‬حتى الطوب الذي تبنى به ال بيوت‪ ،‬ففي الح ديث ق ال رس ول هللا ‪ ‬في‬
‫ص فة ال ذين ي دخلون الجن ة‪( :‬آنيتهم ال ذهب والفض ة‪ ،‬وأمش اطهم ال ذهب‪ ،‬ووق ود‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪ ،‬فتح الباري‪)6/319( :‬‬

‫‪336‬‬
‫المسك)(‪)1‬‬ ‫مجامرهم األلوّة ـ عود الطيب ـ ورشحهم‬
‫وأخ بر أنهم يتوج ون بالتيج ان ال تي يت وج به ا المل وك‪ ،‬ق ال ‪ ‬عن د ذك ر‬
‫الخصال التي يُعطاها الشهيد‪( :‬ويوضع على رأسه ت اج الوق ار‪ ،‬الياقوت ة من ه خ ير‬
‫من الدنيا وما فيها)(‪)2‬‬
‫بل إن القرآن الكريم يخ بر عن ذل ك‪ ،‬في ذكر أن األواني في الجن ة مص نوعة‬
‫ب‬ ‫ب َوأَ َ‬
‫كْوا ٍ‬ ‫اف ِم ْن َذهَ ٍ‬ ‫من الذهب والفض ة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬يُطَ افُ َعلَ ْي ِه ْم بِ ِ‬
‫ص َح ٍ‬
‫َوفِيهَا َما تَ ْشتَ ِهي ِه اأْل َ ْنفُسُ َوتَلَ ُّذ اأْل َ ْعيُنُ َوأَ ْنتُ ْم فِيهَ ا خَالِ ُدونَ ﴾ [الزخ رف‪ ،]71 :‬وق ال‪:‬‬
‫ير ِم ْن فِ َّ‬
‫ض ٍة‬ ‫يرا (‪ )15‬قَ َو ِ‬
‫ار َ‬ ‫َت قَ َو ِ‬
‫ار َ‬ ‫ب َك ان ْ‬ ‫ض ٍة َوأَ َ‬
‫كْوا ٍ‬ ‫﴿ َويُطَ افُ َعلَ ْي ِه ْم بِآنِيَ ٍة ِم ْن فِ َّ‬
‫قَ َّدرُوهَا تَ ْق ِديرًا ﴾ [اإلنسان‪]16 ،15 :‬‬
‫ويبدو أن هذا النعيم المرتب ط بال ذهب والفض ة خ اص بال درجات ال دنيا كم ا‬
‫ذكرنا‪ ،‬ألنه نعيم يجمع بين نعيم الدنيا واآلخرة‪ ،‬وقد ورد في الح ديث م ا يش ير إلى‬
‫هذا‪ ،‬فقد قال رس ول هللا ‪( :‬إن أدنى أه ل الجن ة منزل ة وأس فلهم درج ة لرج ل ال‬
‫يدخل الجنة بعده أحد‪ ،‬يفسح ل ه في بص ره مس يرة مائ ة ع ام في قص ور من ذهب‪،‬‬
‫وخيام من لؤلؤ‪ ،‬ليس فيها موضع شبر إال معمور يغدى علي ه وي راح بس بعين أل ف‬
‫صحفة من ذهب‪ ،‬ليس فيها صحفة إال فيها لون ليس في األخ رى‪ ،‬مثل ه ش هوته في‬
‫آخرها كشهوته في أولها‪ ،‬لو نزل به جميع أهل األرض لوسع عليهم مما أعطي‪ ،‬ال‬
‫ينقص ذلك مما أوتي شيئا)(‪)3‬‬
‫‪ 6‬ـ األزواج والولدان‪:‬‬
‫من أنواع الجزاء التي ورد ذكرها في النص وص المقدس ة‪ ،‬وال تي خص به ا‬
‫المحسنون دون المسيئين ذلك الجزاء المرتبط بتشكيل أسر في الجنة تضاهي األسر‬
‫التي شكلوها في الدنيا‪ ،‬ولكن بصورة أجمل وأكم ل‪ ،‬ذل ك أن ك ل المنغص ات ال تي‬
‫كانت تتعلق بهذا الج انب في ال دنيا ت زال عن ه ذا الج زاء‪ ،‬ليص بح نعيم ا محض ا‪،‬‬
‫خاليا من أي تكليف أو اختبار‪.‬‬
‫ولألسف‪ ،‬فمع أهمية هذا النوع من الجزاء‪ ،‬وآث اره النفس ية في ال ترغيب في‬
‫العمل الصالح‪ ،‬إال أن الكثير راح يسيء إليه‪ ،‬وذلك بتحويله إلى ما تش تهيه النف وس‬
‫الممتلئة باإلثم والدنس وكل أن واع الش ذوذ‪ ،‬لتح ول من الجن ة مرتع ا لك ل األه واء‬
‫المنحرف ة‪ ،‬م ع أنه ا دار س مو وقداس ة‪ ،‬وفيه ا ي ترقى اإلنس ان إلى م راتب الكم ال‬
‫المتاحة له‪.‬‬
‫وقد س اعد على ه ذا الكث ير من الرواي ات الدخيل ة ال تي لم تع بر عن مع اني‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬وإنما تع بر عن األه واء والغرائ ز‪ ،‬ال تي ال تختل ف كث يرا عن‬
‫تلك الغرائز التي صاغت كتب األدب المكشوف وغيرها‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري برقم (‪ ، )3327‬ومسلم برقم (‪.)2834‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي برقم (‪ )1663‬وابن ماجه برقم (‪.)2799‬‬
‫‪ )(3‬تفسير عبد الرزاق (‪.)2/165‬‬

‫‪337‬‬
‫ولهذا كان هذا الجانب مث ار ش بهات كث يرة‪ ،‬نح اول ال رد عليه ا هن ا‪ ،‬ال من‬
‫خالل ذكرها وتشويه الحقائق بها‪ ،‬وإنما من خالل ما دلت عليه النص وص المقدس ة‬
‫نفسها‪ ،‬فعرض ما ورد فيها كاف وحده للدالل ة على بطالن ك ل تل ك الش بهات‪ ،‬ألن‬
‫مصدرها ليس النصوص المقدس ة‪ ،‬وإنم ا تل ك الرواي ات الدخيل ة‪ ،‬أو تل ك األه واء‬
‫المفسرة للنصوص‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر ذلك ننبه إلى أن ما ورد في الق رآن الك ريم من أص ناف النعيم‬
‫ليس المقصود منه الحصر‪ ،‬وإنما المقصود منه إعطاء النم اذج واألمثل ة‪ ،‬وخاص ة‬
‫تلك التي يكون لها دورها التربوي والسلوكي‪.‬‬
‫ولهذا ن رى الق رآن الك ريم ي راعي األع راف االجتماعي ة الموج ودة في ك ل‬
‫المجتمعات المحافظة‪ ،‬والتي تستحيي من ذكر بعض الجوانب المرتبطة بالنس اء في‬
‫هذا الجانب‪ ،‬ولهذا ال معنى لذلك اإلشكال الذي ذكره بعضهم من أن الق رآن الك ريم‬
‫يفرق بين الرجال والنساء في الجنة‪ ،‬وأنه لذلك وف ر للرج ل من النعيم م ا لم ي وفره‬
‫للمرأة‪ ،‬وضرب المثل على ذلك بـ [الح ور العين]‪ ،‬متس ائال عن س ر وج ود ح ور‬
‫عين للرج ال‪ ،‬وع دم وج ود ح ور عين للنس اء‪ ،‬ورأى أن ذل ك تفريق ا بين ال ذكر‬
‫واألنثى‪ ،‬وأن النعيم في الجنة خاص بالذكور ال باإلناث‪.‬‬
‫وق د راح بعض هم يع الج ه ذا اإلش كال باالحتي ال على النص وص الش رعية‬
‫وتحويلها عن معانيها‪ ،‬رغبة في رد الشبهة‪ ،‬ولو باالحتيال‪ ،‬ومن األمثل ة على ذل ك‬
‫م ا ذك ره بعض هم من أن الح ور العين ليس وا نس اء‪ ،‬وإنم ا هن فاكه ة‪ ،‬ثم راح‬
‫يس تعرض ك ل اآلي ات القرآني ة المرتبط ة بهن‪ ،‬وبنعيم الجن ة‪ ،‬ليح ول منهن فاكه ة‬
‫رغم كل شيء(‪.)1‬‬
‫وقد ذكر في مقدمة مقاله المواضع التي وردت فيها لفظ ة الح ور بمش تقاتها‪،‬‬
‫ثم راح يتصرف فيها‪ ،‬ويتالعب بها بطرق مختلف ة من ذل ك قول ه‪( :‬يجب أن نتأم ل‬
‫آية مهمة من الق رآن تعطين ا مع نى جي د وحقيقي وهي قول ه تع الى‪﴿ :‬إِنَّهُ ظَ َّن أَ ْن لَ ْن‬
‫ُور﴾ [االنشقاق‪ ،]14 :‬فالمعنى هنا يقول إن المجرم الذي استلم كتابه خلف ظهره‬ ‫يَح َ‬
‫ً‬
‫ظن أن العذاب لن يعود عليه ويرجع‪ ،‬اذا فتطبيق هذا المع نى على ح ور عين ي دلنا‬
‫على أن ه ذه النعم من فاكه ة س تعود دوم ا‪ ،‬من ح ور يع ود بش كل عين التنض ب‪،‬‬
‫ويتفق هذا المعنى بالتالي باآلية التالية‪ ،‬وهى أن أه ل الجن ة كلم ا قطف وا من فاكه ة‬
‫ُزقُوا ِم ْنهَا‬ ‫الجنة أعيدت لهم على الفور إنشاءها بشكل متماثل رزقا الينقطع‪ُ ﴿ ،‬كلَّ َما ر ِ‬
‫ُز ْقنَا ِم ْن قَ ْب ُل َوأُتُوا بِ ِه ُمتَ َشابِهًا ﴾ [البق رة‪ ،]25 :‬فه ذه‬
‫ِم ْن ثَ َم َر ٍة ِر ْزقًا قَالُوا هَ َذا الَّ ِذي ر ِ‬
‫الثمرات كما في معنى ستحور‪ ،‬وتعود وترجع كلم ا أخ ذها أه ل الجن ة‪ ،‬واذا تابعن ا‬
‫بهذا المعنى نرى اتص ال ب اقي اآلي ات به ذا الس ياق من كونه ا أي النعم من فاكه ة‬
‫ونعم وخيرات مختلفة‪ ،‬الخيرات الحس ان وه ذه لهم التنقط ع عن دما ي دخل المتق ون‬
‫الجنة من الجنسين (الذكر واالنثى) يزوجون بــها بمع نى االق تران والتالزم‪ ،‬ل ذلك‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬الحور العين‪ ،‬محمد البارودى‪ ،‬موقع أهل القرآن‪ 30 ،‬اكتوبر ‪.2009‬‬

‫‪338‬‬
‫فهي للذكور واالناث معا بال تفرقة)‬
‫وبمثل هذه الطريقة راح يستعرض ما ورد في شأنهن في سورة ال رحمن‪ ،‬ثم‬
‫ف﴾‬ ‫ات الطَّرْ ِ‬ ‫اص َر ُ‬ ‫يعقب على ذلك بقوله‪( :‬فاذا نظرنا الى كلمة فِي ِه َّن في آي ة ﴿فِي ِه َّن قَ ِ‬
‫نجد أن هذا جمع مؤنث في حرف النون يدل ضمن شيء من أشياء التأنيث‪ ،‬جنتان‪،‬‬
‫عينان‪ ،‬مدهامتان‪ ،‬فيهما‪ ..‬وهذا بالتالي اليع ود على الت أنيث‪ ،‬ب ل يع ود على فاكه ة‬
‫الجن ة من رم ان وخالف ه‪ ،‬أي أن في كلت ا الجن تين على ح دة كث ير من الفاكه ة‬
‫القاصرات الطرف التي يسهل الوصول اليها‪ ..‬وفي السياق نفسه باالتصال م ع آي ة‬
‫اخرى‪ ،‬فه ذه الح ور مقص ورة داخ ل خيمته ا ال تي تحفظه ا كم ا تحف ظ ك ل فاكه ة‬
‫قشرتها وتبدو أيضا هذه الثمار (حسب آية اخرى) من أكمامها كاللؤلؤ المكنون)‬
‫وهك ذا راح يح ول من ك ل أوص اف الح ور العين في الق رآن الك ريم إلى‬
‫أوصاف للفاكهة‪ ،‬ويس تعمل في ذل ك ك ل أل وان الحي ل والخ دع ال تي مارس ها أه ل‬
‫الكتاب من قبلنا ليحرفوا الكلم عن مواضعه‪.‬‬
‫وهكذا راح آخر يستعمل حيال أخرى‪ ،‬ليح ول من الح ور العين إلى م ا ع بر‬
‫عنه بقوله‪( :‬وحار تعنى رجع أو عاد إلى ربه فى اآلخ رة‪ ..‬وعلى ذل ك ف الحور هن‬
‫المؤمنات العائدات‪ ..‬وهؤالء المؤمنات قد تح َّورت أشكالهن أيض ا‪ ،‬فع دن فى ش كل‬
‫وع ٌ‬
‫ين‬ ‫شابات جميالت كواعب ذوات عيون س احرة فق د أع اد هللا إنش ائهن إنش ا ًء‪ِ ..‬‬
‫تعني‪ :‬نُجْ ُل ال ُعيُو ِن ِح َسانُهَا‪ ،‬والمفرد للرجل‪ :‬أ ْعيَنُ ‪ ،‬وللمرأة‪َ :‬ع ْينَا ُء‪ ..‬فسوف ي تزوج‬
‫المؤمن ون فى الجن ة به ؤالء المؤمن ات الراجع ات أو العائ دات إلى هللا‪ ،‬وب الطبع‬
‫سيعود الرجال إلى شبابهم مثل النساء‪ ،‬ألن لهم ما اشتهت أنفسهم‪ ،‬وه ل لن يش تهي‬
‫أحد أن يعود إلى شبابه وعُنفوانه؟‪ ..‬وهذا ه و نص يب النس اء فس يتمتعن ب أزواجهن‬
‫كما سيتمتع بهن أزواجهن)(‪)1‬‬
‫وهكذا نجد كل يوم من يجته د‪ ،‬ليبحث عن مع نى جدي د للح ور العين مم ا لم‬
‫يفطن له أحد من المفسرين وال اللغويين القدامى والمحدثين‪.‬‬
‫وبناء على هذا نذكر بعض م ا فهمن اه من النص وص المقدس ة بعي دا عن كال‬
‫المتطرفين‪ ،‬أولئك الذين زعموا ألنفسهم التن وير‪ ،‬أو أولئ ك ال ذين اس تلهموا الكث ير‬
‫من التصورات من التفسيرات المتأثرة ب األهواء والغرائ ز أك ثر من اس تلهامهم له ا‬
‫من خالل النصوص المقدسة‪.‬‬
‫أ ـ المرأة في الجنة وإلزامها بزوجها‪:‬‬
‫من المسائل المرتبطة بهذا الجانب‪ ،‬والتي نرى أن العقل راح يتدخل فيها بما‬
‫هو خارج مجاله‪ ،‬المسألة المعروف ة ب زواج الم رأة المؤمن ة في الجن ة‪ ،‬وال تي راح‬
‫البعض يفتي فيها‪ ،‬وكأن هناك مح اكم لألح وال الشخص ية في الجن ة مثلم ا هي في‬
‫الدنيا‪ ،‬مع أن القاعدة فيها هي ما عبر عنه قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وفِيهَ ا َم ا ت َْش تَ ِهي ِه اأْل َ ْنفُسُ‬
‫َوتَلَ ُّذ اأْل َ ْعيُنُ ﴾ [الزخرف‪ ،]71 :‬وهي قاعدة تحكم كال الجنسين‪.‬‬

‫‪ )(1‬الحور العين‪ ،‬عز الدين نجيب‪ ،‬موقع أهل القرآن‪ 11 ،‬نوفمبر ‪.2011‬‬

‫‪339‬‬
‫ولهذا فإن كل األح اديث ال واردة في ه ذا المج ال‪ ،‬إم ا م ردودة بم ا ورد في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬أو أنها تعبر عن حاالت معينة‪ ،‬وليس ك ل األح وال‪ ،‬ذل ك أن الم رأة‬
‫قد تكون في مرتبة أعلى بكثير من زوجها‪ ،‬أو ال تكون لها أي رغبة في ه‪ ،‬أو تك ون‬
‫له ا رغب ة في غ يره‪ ،‬إم ا من ال ذين عاص روا زمانه ا‪ ،‬أو من ال ذين لم يعاص روا‬
‫زمانها‪ ،‬وقد ال تكون راغبة في ال زواج أص ال‪ ..‬وله ذا من الح رج تكليفه ا في تل ك‬
‫الدار بما ال تطيق أو ال ترغب‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث التي نرى مناقضتها للق رآن الك ريم وللحق ائق المرتبط ة‬
‫بالمعاد ما يروى أنه ‪ ‬قال‪( :‬أيما امرأة تُوفي عنها زوجه ا‪ ،‬ف تزوجت بع ده‪ ،‬فهي‬
‫آلخر أزواجها)(‪)1‬‬
‫ويؤكدون هذه الرواية بما يروونه عن معاوية أنه خطب أم الدرداء بع د وف اة‬
‫أبي الدرداء فقالت‪ :‬سمعت أبا الدرداء يقول سمعت رسول هللا ‪ ‬يقول‪( :‬أيما امرأة‬
‫توفي عنها زوجها فتزوجت بعده فهي آلخر أزواجه ا وم ا كنت ألخت ارك على أبي‬
‫الدرداء)(‪)2‬‬
‫ومثلها ما يروونه عن حذيفة أنه قال المرأت ه‪( :‬إن ش ئت أن تك وني زوج تي‬
‫في الجنة فال تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة آلخر أزواجها في الدنيا فلذلك حرم‬
‫ي ‪ ‬أن ينكحن بعده ألنهن أزواجه في الجنة)(‪)3‬‬ ‫هللا على أزواج النَّب ِّ‬
‫وكل هذه األحاديث تتناقض مع الموازين التي وردت بها النصوص المقدس ة‬
‫ح ول تعل ق النعيم باألعم ال‪ ،‬وال درجات‪ ،‬والرغب ات‪ ..‬ذل ك أن الم رأة ق د تتعل ق‬
‫بزوجها األول‪ ،‬وقد ال تتعلق بجميع أزواجها‪ ،‬فلم اذا يف رض عليه ا في اآلخ رة م ا‬
‫فرض عليها في الدنيا؟‬
‫ومن النكت التي ت روى في ه ذا الب اب أن ام رأة ارت دت في م رض موته ا‪،‬‬
‫وعندما سئلت عن سبب ذلك‪ ،‬أخبرت أن ذلك ليس عن قناعة بارتدادها‪ ،‬وإنما ألنها‬
‫ال تريد أن تعيش مع زوجها ال ذي آذاه ا في ال دنيا‪ ،‬العتقاده ا أن ه س يفرض عليه ا‬
‫العيش معه في اآلخرة‪ ،‬كما ذكر ذلك الفقهاء‪.‬‬
‫وله ذا‪ ،‬ف إن النص وص المقدس ة ت ذكر أن للم رأة في الجن ة اس تقاللية تام ة‬
‫بالنعيم‪ ،‬مثلها مثل الرجل تماما‪ ،‬ذلك أن النعيم في اآلخرة مرتبط باألعمال‪ ،‬ب ل ه و‬
‫تجسد لألعمال‪..‬‬
‫ولذلك إن آثرت أن تعيش مع زوجها‪ ،‬وأسرتها القديم ة‪ ،‬فله ا ذل ك‪ ،‬وخاص ة‬
‫إن كان زوجها صالحا‪ ،‬وربما يشير إلى هذا ما ورد في الح ديث أن أم حبيب ة زوج‬
‫الن بي ‪ ‬ق الت‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬الم رأة يك ون له ا الزوج ان في ال دنيا‪ ،‬ثم يموت ون‬
‫ويجتمعون في الجنة‪ ،‬أليهم ا تك ون؟ لألول أو لآلخ ر؟ فق ال ‪( :‬ألحس نهما خلق ا‬
‫‪ )(1‬ذكره الهيثمى وقال‪ :‬رواه الطبرانى فى الكب ير واألوس ط وفي ه أب و بك ر بن أبى م ريم وق د اختل ط‪ .‬مجم ع‬
‫الزوائد‪.4/270 :‬‬
‫‪ )(2‬المعجم األوسط ( ‪) 275 / 3‬‬
‫‪ )(3‬رواه البيهقي في السنن ( ‪.) 69 / 7‬‬

‫‪340‬‬
‫واآلخرة)(‪)4‬‬ ‫كان معها يا أم حبيبة‪ ،‬ذهب حسن الخلق بخير الدنيا‬
‫وه ذا مرتب ط برغبته ا كم ا ذكرن ا‪ ،‬ذل ك أن ه ال يف رض ش يء من النعيم في‬
‫الجنة‪ ،‬بل كل ش يء مب ني على الرغب ة والمحب ة‪ ،‬ول ذلك ف إن ق وانين الزوجي ة في‬
‫اآلخرة مختلف ة تمام ا عن ق وانين الزوجي ة في ال دنيا‪ ،‬ومث ل ذل ك تل ك العالق ة بين‬
‫األزواج‪ ،‬ألنها لم تكن في الدنيا سوى لغرض اإلنجاب‪ ،‬وهو قد زال في اآلخرة‪.‬‬
‫وهكذا األمر بالنسبة للباس المرأة وحجابها في اآلخ رة‪ ،‬ف األمر في ه مختل ف‬
‫تماما عما هو في الدنيا‪ ،‬ذلك أن م ا ن راه من ش هوات في ال دنيا ليس الغ رض منه ا‬
‫سوى االختبار واالبتالء‪.‬‬
‫ب ـ العالقة الزوجية في الجنة وسموها‪:‬‬
‫مثلما عرفنا سابقا من أن ك ل نعيم الجن ة متس م بالطه ارة والس مو والقداس ة‪،‬‬
‫وكون ه جميع ا مرتبط ا بالعبودي ة ومعرف ة هللا تع الى‪ ،‬فك ذلك النعيم المرتب ط به ذا‬
‫الجانب ل ه عالق ة بتل ك العبودي ة والمعرف ة هلل تع الى‪ ،‬ول ذا فق د وص ف هللا تع الى‬
‫الى‪﴿:‬ولَهُ ْم فِيهَ ا أَ ْز َوا ٌج ُمطَه ََّرةٌ ﴾ [البق رة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫األزواج في الجنة بالطه ارة‪ ،‬كم ا ق ال تع‬
‫‪]25‬‬
‫وذلك ال يعني فقط م ا ذك ره المفس رون من تل ك المف اهيم البس يطة الخاص ة‬
‫بالطهارة‪ ،‬بل هو يشمل كل شيء‪ ،‬حتى العالقة الزوجية نفسها‪ ،‬والتي تتسم بالسمو‪،‬‬
‫وال تك ون مش ابهة لتل ك العالق ات في ال دنيا‪ ،‬وال تي اس تدعاها االبتالء اإللهي‪،‬‬
‫وضرورة بقاء النوع‪.‬‬
‫ب ل إن الكث ير من اإلش ارات في النص وص المقدس ة ي دل على أن ال ذكورة‬
‫واألنوث ة حادث ة‪ ،‬ومرتبط ة ب التكليف الش رعي في ال دنيا‪ ،‬ولغ رض التناس ل‪ ،‬أم ا‬
‫الحقيقة اإلنسانية‪ ،‬والروح التي تمثلها؛ فإنه ا في ذاته ا مث ل المالئك ة ال عالق ة له ا‬
‫بذلك كله‪.‬‬
‫وله ذا يخ بر هللا تع الى في الق رآن الك ريم أن آدم وح واء عليهم ا الس الم‪ ،‬لم‬
‫يكون ا يم يزان ال ذكورة واألنوث ة‪ ،‬إال بع د أن أكال من الش جرة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ان َعلَ ْي ِه َم ا ِم ْن‬‫ص فَ ِ‬ ‫َت لَهُ َم ا َس وْ آتُهُ َما َوطَفِقَ ا يَ ْخ ِ‬ ‫﴿فَ َداَّل هُ َما بِ ُغر ٍ‬
‫ُور فَلَ َّما َذاقَا ال َّش َج َرةَ بَ د ْ‬
‫ق ْال َجنَّ ِة ﴾ [األعراف‪]22 :‬‬ ‫َو َر ِ‬
‫﴿وقُ ْلنَا يَاآ َد ُم ا ْس ُكنْ‬
‫أما الزوجية المشار إليها في قصة آدم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ك ْال َجنَّةَ﴾ [البق رة‪ ،]35 :‬أو المش ار إليه ا في أن واع النعيم المع د‬ ‫أَ ْنتَ َوزَ وْ ُج َ‬
‫للمحسنين‪ ،‬كم ا في قول ه تع الى‪﴿ :‬قُ لْ أَ ُؤنَبِّئُ ُك ْم بِ ٍ‬
‫خَيْر ِم ْن َذلِ ُك ْم لِلَّ ِذينَ اتَّقَ وْ ا ِعنْ َد َربِّ ِه ْم‬
‫ان ِمنَ هَّللا ِ َوهَّللا ُ‬
‫ض َو ٌ‬ ‫ات تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َوأَ ْز َوا ٌج ُمطَهَّ َرةٌ َو ِر ْ‬ ‫َجنَّ ٌ‬
‫اب ْال َجنَّ ِة ْاليَ وْ َم فِي ُش ُغ ٍل‬ ‫ص َح َ‬ ‫ص ي ٌر بِ ْال ِعبَ ا ِد ﴾ [آل عم ران‪ ،]15 :‬أو قول ه‪﴿ :‬إِ َّن أَ ْ‬ ‫بَ ِ‬
‫ك ُمت ِكئ ونَ ﴾ [يس‪،]56 ،55 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فَ ا ِكهُونَ (‪ )55‬هُ ْم َوأز َوا ُجهُ ْم فِي ِظاَل ٍل َعلى ا َرائِ ِ‬
‫فهي ال تعني م ا نفهم ه من الزوجي ة في ال دنيا‪ ،‬ب ل تع ني القرن اء واألش كال ال ذين‬

‫‪ )(4‬رواه ّ‬
‫البزار (‪ ،)49 /2‬والعقيلي في الضعفاء (‪)171 /2‬‬

‫‪341‬‬
‫ت﴾ [التكوير‪]7 :‬‬ ‫وصفهم هللا تعالى بقوله‪َ ﴿ :‬وإِ َذا ال ُّنفُوسُ ُز ِّو َج ْ‬
‫وي دل ل ذلك أن هللا تع الى خ اطب المس يئين بقول ه‪﴿ :‬احْ ُش رُوا الَّ ِذينَ ظَلَ ُم وا‬
‫اط ْال َج ِح ِيم﴾‬ ‫ص َر ِ‬ ‫ُون هَّللا ِ فَاهْدُوهُ ْم إِلَى ِ‬ ‫َوأَ ْز َوا َجهُ ْم َو َم ا َك انُوا يَ ْعبُ ُدونَ (‪ِ )22‬م ْن د ِ‬
‫[الصافات‪ ،]23 ،22 :‬مع أنه من المعلوم أن المسيئين لن يكون لهم تمتع بالزوجات‬
‫في اآلخرة‪ ،‬ولكن المراد هم القرناء‪ ،‬كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫وله ذا عن دما ذك ر هللا تع الى تنعم األزواج في الجن ة لم ي ذكر أي ش يء ل ه‬
‫عالقة بذلك‪ ،‬م ع أن ه عن د ذك ره للطع ام‪ ،‬ذك ر األك ل‪ ،‬وعن د ذك ره لألش ربة ذك ر‬
‫الشرب‪ ،‬بينما عن دما ذك ر األزواج اكتفى ب ذكر جلوس هم على األرائ ك‪ ،‬وأص ناف‬
‫اب ْال َجنَّ ِة ْاليَ وْ َم فِي ُش ُغ ٍل فَ ا ِكهُونَ (‬ ‫ص َح َ‬ ‫النعيم التي يعاينونها‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن أَ ْ‬
‫ك ُمتَّ ِكئُ ونَ (‪ )56‬لَهُ ْم فِيهَ ا فَا ِكهَ ةٌ َولَهُ ْم َم ا‬ ‫‪ )55‬هُ ْم َوأَ ْز َوا ُجهُ ْم فِي ِظاَل ٍل َعلَى اأْل َ َرائِ ِ‬
‫يَ َّد ُعونَ (‪َ )57‬ساَل ٌم قَوْ اًل ِم ْن َربٍّ َر ِح ٍيم﴾ [يس‪]58 - 55 :‬‬
‫ولذلك؛ فإن ما تذكره بعض الروايات في ه ذا الج انب من التص وير الحس ي‬
‫لتل ك العالق ات‪ ،‬وتش بيهها بعالق ات ال دنيا‪ ،‬ونح و ذل ك تس يء إلى م ا ورد في‬
‫النصوص المقدسة من ذلك الجانب‪.‬‬
‫ط ِم ْثه َُّن إِ ْنسٌ‬ ‫ف لَ ْم يَ ْ‬
‫ات الطَّرْ ِ‬ ‫اص َر ُ‬ ‫وبناء على هذا يفس ر قول ه تع الى‪﴿ :‬فِي ِه َّن قَ ِ‬
‫ان﴾ [ال رحمن‪ ،]56 :‬وال يفس ر بتل ك الص ور ال تي ي ذكرها من جعل وا‬ ‫قَ ْبلَهُ ْم َواَل َج ٌّ‬
‫الشغل الشاغل ألهل الجنة االهتمام بهذه الجوانب‪.‬‬
‫أم ا كيفي ة التمت ع؛ ف ذلك غيب‪ ،‬ومن الس هل تص ور الكث ير من االحتم االت‬
‫المرتبطة به‪ ،‬والتي ال عالقة لها بما يحدث في ال دنيا‪ ..‬ذل ك أن ه يكفي أن يخل ق هللا‬
‫تع الى في أه ل الجن ة ك ل أن واع الل ذة الط اهرة عن د نظ رهم لزوج اتهم أو للح ور‬
‫العين‪..‬‬
‫ولهذا نرى القرآن الكريم يذكر األوص اف الكث يرة لهن‪ ،‬ويش بههن بم ا ي راه‬
‫الناس في الدنيا من أنواع الجمال‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك تشبيههن باللؤلؤ المكن ون‪،‬‬
‫ون ﴾ [الواقع ة‪،22 :‬‬ ‫ال اللُّ ْؤلُ ِؤ ْال َم ْكنُ ِ‬
‫ين (‪َ )22‬كأ َ ْمثَ ِ‬ ‫كم ا في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬و ُح و ٌر ِع ٌ‬
‫‪ ،]23‬أي كأنهن اللؤلؤ األبيض الرطب الصافي البهي‪ ،‬المستور عن األعين والريح‬
‫والشمس‪ ،‬الذي يكون لونه من أحسن األلوان‪ ،‬والذي ال عيب فيه بوجه من الوجوه؛‬
‫فك ذلك الح ور العين‪ ،‬ال عيب فيهن بوج ه‪ ،‬ب ل هن ك امالت األوص اف‪ ،‬جميالت‬
‫النعوت‪ ،‬فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إال ما يسر الخاطر ويروق الناظر‪.‬‬
‫وت َوال َمرْ َج انُ ﴾‬‫ْ‬ ‫ويشبههن بالياقوت والمرجان‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬كأَنَّه َُّن ْاليَ اقُ ُ‬
‫[الرحمن‪ ،]58 :‬أي (كأنهن الي اقوت في الص فاء‪ ،‬والمرج ان في البي اض‪ ،‬الص فاء‬
‫صفاء الياقوتة‪ ،‬والبياض بياض اللؤلؤ)(‪)1‬‬
‫وهكذا وصفن بأنهن قاصرات الطرف عن غ ير أزواجهن‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬
‫ون ﴾ [الص افات‪،48 :‬‬ ‫ين (‪َ )48‬ك أَنَّه َُّن بَيْضٌ َم ْكنُ ٌ‬ ‫ف ِع ٌ‬ ‫ات الطَّرْ ِ‬
‫اص َر ُ‬ ‫﴿ َو ِعنْ َدهُ ْم قَ ِ‬

‫‪ )(1‬تفسير الطبري‪.) 152 / 27 ( ،‬‬

‫‪342‬‬
‫ص رْ ن على‬ ‫‪ ،]49‬أي أنهن (ممنوعات من التبرج والتبذل لغ ير أزواجهن‪ ،‬ب ل ق د قُ ِ‬
‫ص رْ نَ عليهم فال ي ردن س واهم‪ ،‬ووص فهن‬ ‫أزواجهن‪ ،‬ال يخ رجن من من ازلهم‪ ،‬وقَ َ‬
‫سبحانه بأنهن (قاصرات الطرف) وهذه الصفة أكم ل من األولى‪ ،‬ف المرأة منهن ق د‬
‫قصرت طرفها على زوجها من محبتها له ورضاها به فال يتجاوز طرفه ا عن ه إلى‬
‫غيره)(‪)1‬‬
‫وغيره ا من األوص اف‪ ،‬وق د ورد في الح ديث الش ريف قول ه ‪( :‬ل و أن‬
‫ام رأة من نس اء أه ل الجن ة اطلعت إلى األرض ألض اءت م ا بينهم ا ‪ ,‬ولمألت م ا‬
‫بينهما ريحا ‪ ,‬ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)(‪)2‬‬
‫ج ـ الولدان المخلدون بمثابة األبناء‪:‬‬
‫من خالل ما سبق ذكره من أنواع النعيم الحسي والمعنوي في الجنة‪ ،‬الحظنا‬
‫أن ذلك النعيم يغطي كل حاجات اإلنسان ورغباته المشروعة‪ ،‬وال تي له ا نظ ير في‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫وبناء على هذا نرى أن ما ذكر في القرآن الكريم ح ول الول دان المخل دين ال‬
‫يعني ما ذكره أكثر العلماء من كونهم خدم أهل الجنة؛ فأهل الجن ة ال يحت اجون إلى‬
‫خ دم‪ ،‬ذل ك أن ه يكفي أن يهم أح دهم بالش يء‪ ،‬ح تى يحض ر أمام ه من غ ير حاج ة‬
‫لتكلف إحضار أو طبخ مثلما هو حاصل في الدنيا‪.‬‬
‫ولذلك فإن النعيم المرتبط بهم هو ذلك الشعور الذي يبثه هللا تع الى في قل وب‬
‫أهل الجنة‪ ،‬والذي يماثل ذلك الش عور ال ذي ك ان في ال دنيا ح ول األبن اء‪ ،‬وخاص ة‬
‫عندما يكونون في حال الصبا‪ ،‬حيث يش عرون نح وهم بعاطف ة خاص ة‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫تعوضها أي عاطفة أخرى‪.‬‬
‫أما ما ورد في القرآن الكريم من طوافهم عليهم باألكواب واألباريق‪ ،‬كما قال‬
‫س ِم ْن َم ِعي ٍن﴾‬‫ق َو َك أْ ٍ‬ ‫اري َ‬ ‫ب َوأَبَ ِ‬ ‫َان ُم َخلَّ ُدونَ (‪ )17‬بِ أ َ ْك َوا ٍ‬ ‫تع الى‪﴿ :‬يَطُ وفُ َعلَ ْي ِه ْم ِولْد ٌ‬
‫[الواقعة‪]18 ،17 :‬؛ فهو ال يعني أنهم خ دم‪ ،‬وإنم ا ذك ر من ب اب مماثل ة ذل ك لم ا‬
‫يحصل في الدنيا عندما يحضر األبناء آلبائهم‪ ،‬وخاصة عن د حض ور الض يوف م ا‬
‫يلزم من خدمة‪.‬‬
‫ولهذا ذكر هؤالء الولدان المخلدون في مواضع أخرى من غير ذكر الخدمة‪،‬‬
‫َان ُمخَ لَّ ُدونَ إِ َذا َرأَ ْيتَهُ ْم َح ِس ْبتَهُ ْم لُ ْؤلُ ؤًا َم ْنثُ ورًا﴾‬
‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ويَطُ وفُ َعلَ ْي ِه ْم ِولْد ٌ‬
‫ون﴾ [الط ور‪:‬‬ ‫ان لَهُ ْم َك أَنَّهُ ْم لُ ْؤلُ ٌؤ َم ْكنُ ٌ‬ ‫[اإلنسان‪ ،]19 :‬ويقول‪َ ﴿ :‬ويَطُوفُ َعلَ ْي ِه ْم ِغ ْل َم ٌ‬
‫‪]24‬‬
‫وقد وصف هؤالء الولدان بهذه األوصاف الدال ة على جم الهم‪ ،‬بن اء على أن‬
‫كل شيء في الجنة جميل‪ ،‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬ولهذا كان في جم الهم مزي د متع ة أله ل‬
‫الجنة‪.‬‬

‫‪ )(1‬روضة المحبين‪ ( ،‬ص ‪) 244‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري ( ‪.) 2643‬‬

‫‪343‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله؛ فإن النصوص المقدس ة ت راعي المتع ارف علي ه من‬
‫النعيم‪ ،‬وال نعرف أن أحدا من الناس يفخر أن لديه خادم جمي ل‪ ،‬ب ل إن وج ود مث ل‬
‫هذا الخادم في بيته قد يكون فيه ما في ه من التهم المرتبط ة بعرض ه وغيرت ه ونح و‬
‫ذلك‪.‬‬
‫بإضافة إلى ذلك؛ فإن هذا المصطلح [الولدان] في القرآن الكريم يتناس ب م ع‬
‫﴿و َم ا لَ ُك ْم اَل‬‫ما ذكرنا‪ ،‬فلم يذكر الولدان إال بناء على هذا المع نى‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫َان الَّ ِذينَ يَقُولونَ َربَّنَ ا‬
‫ُ‬ ‫ال َوالنِّ َسا ِء َو ْال ِو ْلد ِ‬
‫الرِّج ِ‬
‫َ‬ ‫يل هَّللا ِ َو ْال ُم ْستَضْ َعفِينَ ِمنَ‬
‫تُقَاتِلُونَ فِي َسبِ ِ‬
‫أَ ْخ ِرجْ نَا ِم ْن هَ ِذ ِه ْالقَرْ يَ ِة الظَّالِ ِم أَ ْهلُهَا َواجْ َعلْ لَنَ ا ِم ْن لَ ُد ْنكَ َولِيًّا َواجْ َع لْ لَنَ ا ِم ْن لَ ُد ْن َ‬
‫ك‬
‫ال َوالنِّ َس ا ِء َو ْال ِولْدَا ِن اَل‬
‫َض َعفِينَ ِمنَ الرِّ َج ِ‬ ‫َصيرًا﴾ [النساء‪ ،]75 :‬وق ال‪ ﴿ :‬إِاَّل ْال ُم ْست ْ‬ ‫ن ِ‬
‫يَ ْست َِطيعُونَ ِحيلَةً َواَل يَ ْهتَ ُدونَ َسبِياًل ﴾ [النساء‪ ،]98 :‬وغيرها من المواضع‪.‬‬
‫أما أصل هؤالء الولدان‪ ،‬وهل هم خلقوا في الجنة‪ ،‬وألهل الجنة‪ ،‬أم أن ه ك ان‬
‫لهم وجود في الدنيا‪ ،‬وأنهم ماتوا صغارا؛ فهذا مما ال دليل عليه‪ ،‬ولذلك يحسن عنده‬
‫التوقف‪ ،‬إال أنا كما ذكرنا سابقا أن كل إنسان لم يتح له التكليف في الدنيا‪ ،‬سيتاح ل ه‬
‫التكليف في اآلخرة‪ ،‬وبناء عليه يكون مصيره‪.‬‬
‫وله ذا نس تبعد أن يك ون أولئ ك الول دان هم األوالد ال ذين م اتوا ص غارا في‬
‫الدنيا‪ ،‬أما ما عدا ذلك؛ فيبقى األمر غيبا‪ ،‬فقد يكون ون خلق وا في الجن ة أص ال‪ ،‬وق د‬
‫يكونون من ثمار بعض األعمال الصالحة الخاصة التي قام بها اإلنسان في الدنيا‪.‬‬
‫وهذا ما نميل إليه‪ ،‬فقد يكون أولئك الول دان الطي بين الط اهرين تجس دا لتل ك‬
‫الجهود التي قام بها أولئك اآلباء الذين ضحوا بك ل ش يء في س بيل تربي ة أوالدهم‪،‬‬
‫وقد يكون تعويضا ألولئك ال ذين لم يتح أن يك ون لهم أوالد في ال دنيا‪ ،‬أو ق د يك ون‬
‫تعويضا لمن لم يتزوج أصال في الدنيا‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫وهذا ال يعني انقطاع صلة اآلب اء بأبن ائهم ال ذين ك انوا في ال دنيا‪ ،‬ولكن لك ل‬
‫منهما نعيمه الخاص‪ ،‬فال يمكن للولد الكبير‪ ،‬أن يعوض نعمة الولد الصغير‪.‬‬
‫ثالثا ـ مراتب الجزاء‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪:‬‬
‫ال يمكننا فهم حقيقة أي موقف أو سلوك نراه من دون فهم الدوافع التي دفعت‬
‫إليه‪ ،‬والغايات التي أنشئت من أجله‪ ..‬ذلك أننا عندما نفهم تلك الدوافع تزاح عنا ك ل‬
‫الشبه‪ ،‬وتدفع كل اإلشكاالت‪ ،‬ويزال كل غموض‪ ،‬ونضع جمي ع األم ور في محله ا‬
‫الالئق بها‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬ف إن تل ك اإلش كاالت ال تي توهمه ا البعض ح ول اس تغراب‬
‫اجتماع الرحمة اإللهي ة الواس عة م ع وج ود جهنم وأن واع العق اب الموج ودة فيه ا‪،‬‬
‫وغيرها من اإلشكاالت يزول بس هولة‪ ،‬عن دما يفهم س ر وج ود جهنم‪ ،‬وس ر وج ود‬
‫الجنة‪ ،‬وسر المراتب المختلفة الموجودة في كليهما‪ ..‬ألنه حينذاك ي درك أنه ا تس ير‬
‫جميعا نحو تحقيق هدف واحد‪ ،‬ولكن بطرق متعددة‪.‬‬
‫ولع ل أهم س ورة قرآني ة تجلي المع اني المرتبط ة به ذا‪ ،‬وتوض حها أيس ر‬
‫توض يح وأوج زه‪ ،‬هي س ورة الفاتح ة‪ ،‬فهي ابت داء من بس ملتها توض ح الحق ائق‬

‫‪344‬‬
‫الكبرى المرتبطة بالمعاد‪ ،‬والدوافع التي دفعت ألن يكون األمر بهذا الشكل‪.‬‬
‫و تبدأ هذه السورة ببيان أن كل هذا الكون بما فيه من مخلوقات بدئ باسم من‬
‫أسماء هللا الحسنى‪ ،‬وهو اسم [الرحمن]‪ ،‬وهو يعني أن كل ما في الك ون من البداي ة‬
‫إلى النهاية منطلق ومنطبق مع هذا االسم‪.‬‬
‫ش ا ْست ََوى﴾ (طـه‪ ،)5:‬ففي ه إش ارة‬ ‫ْ‬
‫ويدل لهذا قوله تعالى‪﴿ :‬الرَّحْ َمنُ َعلَى ال َعرْ ِ‬
‫واض حة إلى أن مملك ة ه ذا الك ون الواس عة مبني ة على أس اس الرحم ة اإللهي ة‪،‬‬
‫ومنتهية إليها‪ ،‬ولذلك اختار هللا تعالى ذلك االسم الجلي ل ال ذي يجم ع بين الدالل ة على‬
‫منتهى الرحمة وكمالها‪ ،‬والعلمية على الذات‪ ،‬ليدل على ه ذا المع نى‪ ،‬فإن ه إذا قي ل‪(:‬حكم‬
‫الملك الشجاع) دل ذلك على ان أك بر منج زات ه ذا المل ك مؤسس ة على ش جاعته‪ ،‬وإن‬
‫قيل‪(:‬حكم الملك العادل) دل ذلك على أن أبرز ما يظهر في مملكته هو عدله‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وهذا ما نفهمه من اآلية الكريمة‪ ،‬فهي لم تقرر معنى االستواء بقدر ما قررت‬
‫معنى الرحمة التي على أساسها يحكم الكون‪ ،‬ولكن التحريف اهتم باالستواء وأوغل‬
‫فيه مع دقة مسلكه‪ ،‬وكاد يع رض عن مع نى الرحم ة ال تي هي المقص ود األول من‬
‫البيان في هذه اآلية‪.‬‬
‫وبناء على هذا ن رى الق رآن الك ريم يق رن المع اد باس مه ال رحمن‪ ،‬كم ا في قول ه‬
‫تعالى‪ْ ﴿:‬ال ُم ْلكُ َيوْ َم ِئ ٍذ ْال َح ُّق ِللرَّحْ َم ِن َو َكانَ َيوْماً َع َلى ْال َكا ِف ِرينَ ع َِسير ًا﴾ (الفرق ان‪ ،)26 :‬وه ذا‬
‫يع ني أن الح اكم في ك ل ق وانين ذل ك الي وم ه و الرحم ة اإللهي ة المندرج ة ض من اس م‬
‫ت ُكلَّ َش ْي ٍء ﴾ (األع راف‪:‬من‪:‬‬ ‫[الرحمن]‪ ،‬كما يشير إلى ذلك قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َرحْ َم ِتي َو ِس َع ْ‬
‫وْم‬ ‫ْ‬
‫اس َع ٍة َوال يُ َر ُّد َبأ ُس هُ ع َِن ْال َق ِ‬
‫‪ ،)156‬وق ال تع الى‪َ ﴿:‬ف إِ ْن َك َّذبُوكَ َفقُ لْ َر ُّب ُك ْم ُذو َرحْ َم ٍة َو ِ‬
‫جْر ِمينَ ﴾ (األنعام‪)147 :‬‬‫ْال ُم ِ‬
‫ولكن اإلشكال ال ذي يث ار هن ا ه و عن كيفي ة الجم ع بين األلم والعقوب ة وم ا‬
‫نراه‪ ،‬والرحمة اإللهية‪ ،‬وهذا ما يفسره اسم [الرحيم] والذي تتشكل منه البسملة التي‬
‫تفسر كل شيء في الكون‪.‬‬
‫فالرحيم هو أول تجل من تجليات الرحمن‪ ،‬أو هو التنفي ذ العملي لم ا تقتض يه‬
‫الرحمة اإللهية‪ ،‬والذي قد يظهر بمظاهر مختلف ة‪ ،‬ق د يك ون من بينه ا القس وة ال تي‬
‫تستدعيها الضرورة‪.‬‬
‫وكمثال تقريبي لذلك أن ي أتي مفتش لمدرس ة من الم دارس؛ ف يرى تالمي ذها‬
‫منشغلين عن دراستهم‪ ،‬منح رفين عنه ا‪ ،‬ال يب الون به ا‪ ..‬وعن دها تتدارك ه الرحم ة‬
‫إلنقاذ مستقبلهم المهدد‪ ،‬فيقرر إرسال معلمين ممتلئين بالحزم والش دة ليعي دوهم إلى‬
‫جادة الصواب‪ ،‬وباستعمال كل الطرق الممكنة‪.‬‬
‫وقد يذهب إلى مدرسة أخرى‪ ،‬فيج دها ممتلئ ة نظام ا وأدب ا‪ ،‬ويج د تالمي ذها‬
‫مس توعبين لدروس هم أحس ن اس تيعاب‪ ،‬حينه ا يكتفي بالثن اء على التالمي ذ وعلى‬
‫األساتذة‪ ،‬وقد يقرر أن يكافئهم بما يستحقونه من الدرجات والجوائز‪.‬‬
‫فهذا المفتش‪ ،‬لم يفعل ذلك إال بن اء على ص فة راس خة في ه هي الرحم ة بهم‪،‬‬
‫والتي اختلف تنفيذها في الواقع بحسب المحل الذي تعامل معه‪ ..‬فالمحس نون أحس ن‬

‫‪345‬‬
‫إليهم‪ ،‬والمسيئون أرسل إليهم من يقوم بتهذيبهم وإعادتهم إلى جادة الصواب‪.‬‬
‫لكن الذي ال يفهم دوافع ذلك المفتش ق د يتهم ه ب الجور والقس وة؛ ف يزعم أن ه‬
‫اشتد على المدرسة األولى بناء على قسوته وظلمه وجبروته‪ ،‬وأنه أحس ن للمدرس ة‬
‫الثانية بناء على فقدانه للعدل‪ ،‬ولو أنه كان عادال لتعامل مع الجميع بصفة واحدة‪.‬‬
‫وهكذا ي ردد مث يرو الش به‪ ،‬وال ذين يح اول البعض ال رد عليهم‪ ،‬ال بتوض يح‬
‫حقيق ة الرحم ة‪ ،‬وتع دد مظاهره ا‪ ،‬وإنم ا بمحاول ة االنقالب على القيم ال واردة في‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬لتنسجم مع ما يطلبه أصحاب األهواء من الرحمة‪.‬‬
‫وهك ذا بع د أن توض ح الس ورة الكريم ة ال دوافع ال تي دفعت لنش أة الك ون‪،‬‬
‫توضح الغاية التي يسير إليها‪ ،‬وال تي تق وم الرحم ة اإللهي ة بتس يير الخل ق نحوه ا‪،‬‬
‫﴿ال َح ْم ُد هَّلِل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ ﴾ [الفاتحة‪]2 :‬‬‫وهي ما عبر عنه قوله تعالى‪ْ :‬‬
‫وه ذه اآلي ة الكريم ة توض ح أص ال مهم ا ج دا‪ ،‬ال يمكن فهم حق ائق المب دأ‬
‫والمعاد من دونه‪ ،‬فأول اآلية يدل على الغاية‪ ،‬وآخر اآلية يدل على المنهج‪..‬‬
‫أما أول اآلية‪ ،‬فهو [الحم د هلل]‪ ،‬وه و غاي ة الك ون‪ ..‬أي التعري ف بكم ال هللا‬
‫تعالى الذي ال نهاية له‪ ..‬وقد اختار هللا من أسمائه للداللة على هذا اسمه [هللا]‪ ،‬وهو‬
‫الجامع لجميع األسماء الحسنى‪ ..‬وبذلك فإن الغرض من الكون هو التعريف بأسماء‬
‫هللا الحسنى التي ال نهاية لها‪ ،‬والتواصل مع هللا عبرها‪.‬‬
‫وأم ا الطري ق إلى ذل ك‪ ،‬أو المنهج الم ؤدي إلي ه‪ ،‬فق د تكف ل ب ه اس م [رب‬
‫العالمين]‪ ،‬وهو اس م من أس ماء هللا الحس نى الدال ة على األفع ال‪ ،‬وه و تج ل الس م‬
‫الرحمن الدال على الذات‪ ..‬وهذا االسم مشتق من التربية‪ ،‬وهي تعني ترقي ة الش يء‬
‫من حال دنيا إلى حال عليا‪ ،‬كما ورد في الح ديث عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬من‬
‫تصدق ب َعدل تمرة من كسب طيب‪ ،‬وال يقبل هللا إال الطيب؛ فإن هللا يقبلها بيمينه‪ ،‬ثم‬
‫يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَل ُ َّوه حتى تكون مثل الجبل)(‪)1‬‬
‫ت إِلَى‬ ‫وهو ما يشير إليه قوله تعالى‪﴿ :‬هَّللا ُ َولِ ُّي الَّ ِذينَ آ َمنُوا ي ُْخ ِر ُجهُ ْم ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫ت أُولَئِ كَ‬ ‫ور إِلَى ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬ ‫وت ي ُْخ ِر ُج ونَهُ ْم ِمنَ النُّ ِ‬ ‫ور َوالَّ ِذينَ َكفَ رُوا أَوْ لِيَ ا ُؤهُ ُم الطَّا ُغ ُ‬
‫النُّ ِ‬
‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [البقرة‪]257 :‬‬ ‫أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫والظلمات تشمل كل شيء ابتداء من الجهل وانتهاء بكل السلوكات المنحرف ة‬
‫التي ال تنسجم مع الموازين والنظام الذي يسير به الكون‪.‬‬
‫ولذلك فإن اسم [رب العالمين]‪ ،‬هو االسم المتكفل بهداية العب اد‪ ،‬ورفعهم من‬
‫حالتهم البسيطة إلى حالة أرقى‪ ،‬وذل ك م ا يس تدعي وض ع برن امج خ اص يم ر ب ه‬
‫اإلنسان على مجموعة كبيرة من االختبارات‪ ،‬وعلى أساسها يكون الترقي‪.‬‬
‫وكمثال تقريبي لهذا ما تقوم به وزارات التربية‪ ،‬والتي تستلم األوالد الصغار‬
‫في مرحلة مبكرة من عمرهم‪ ،‬ثم تبدأ في تنفيذ برامجه ا‪ ،‬وتعقي دها ك ل حين‪ ،‬ح تى‬
‫يتخرج منها أكبر قدر من الن اجحين‪ ،‬وهي عن دما تع اقب بعض هم ب الطرد ال تفع ل‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري رقم‪.1410 :‬‬

‫‪346‬‬
‫ذل ك إال بن اء على ع دم اهتم امهم‪ ،‬أو تم ردهم على النظ ام ال ذي تس ير علي ه تل ك‬
‫المؤسسات‪ ،‬أو خشية على المؤسسات التربوية من أن تصبح مؤسس ات للمش اغبين‬
‫بدل أن تكون مؤسسات لطلبة العلم‪.‬‬
‫ولهذا ذكر هللا تعالى في اآلية السابقة أن المؤمنين المسلمين والمستس لمين هلل‬
‫وقوانينه‪ ،‬سوف يخرجون من الظلمات إلى النور‪ ،‬بينما غ يرهم‪ ،‬وهم ال ذين س لموا‬
‫أنفسهم للمش اغبين والط واغيت‪ ،‬ف إنهم سيس يرون س يرا عكس يا‪ ،‬بحيث ال يكتف ون‬
‫بالخروج عن فطرتهم النقية‪ ،‬وإنما قد يقع ون في االنتكاس ة العظمى ال تي تخ رجهم‬
‫من إنسانيتهم‪ ،‬وتوقعهم في المهالك‪.‬‬
‫ولكن هللا تعالى برحمته التي وسعت كل شيء يعطي الفرص الكثيرة ال تي ال‬
‫تنتهي ألولئك الذين آثروا الظلم ات على الن ور‪ ..‬لعلهم يخرج ون منه ا؛ ف إن آث روا‬
‫البقاء فيها كان ذلك بسببهم‪ ،‬وليس قصورا من الرحمة اإللهية‪ ..‬ولذلك؛ فإن المشكلة‬
‫ليست في سعة الرحمة اإللهية‪ ،‬وإنما في توفر القابلية لها‪..‬‬
‫وكمثال تقريبي على ذلك‪ ،‬أننا ال نرمي شخصا بالبخل إال إذا شحت ي ده عم ا‬
‫يتطلبه الكرم من اإلحسان‪ ،‬لكنه إن فعل ذلك‪ ،‬ووفر الكثير من الخدمات للمحت اجين‬
‫بكل سهولة ويسر‪ ..‬لكن بعض المحتاجين لم يتقدم لالستفادة من تلك الخدمات‪ ..‬ف إن‬
‫المشكلة هنا ال تكمن في المعطي‪ ،‬وإنما في مدلى قابلية المتلقي‪.‬‬
‫وهكذا الرحمة اإللهية‪ ..‬بل كل المعاني النبيلة في األسماء الحس نى‪ ،‬كالهداي ة‬
‫واللطف والرزق وغيرها‪ ..‬فاهلل تعالى وفرها‪ ،‬وبك ثرة‪ ..‬لكن المش كلة أن البعض ال‬
‫يتعرض لها‪ ،‬ولذلك يحق له أن يتهم نفسه في ع دم توف ير القابلي ة‪ ،‬وال يح ق ل ه أن‬
‫يتهم هللا تعالى‪ ..‬أو بعبارة أخرى‪ :‬يحق له أن يتهم أو يلوم أو يحاسب نفسه في ع دم‬
‫سعيه إليها‪ ،‬وال يحق له أن يتهم هللا تعالى في حرمانه منها‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا وض ع هللا تع الى الم راتب المختلف ة في دار الج زاء‪ ،‬ليتنق ل‬
‫أصحابها من طور إلى طور بحسب استعدادهم وقابلياتهم واختياراتهم‪.‬‬
‫وقد وضحت سورة الفاتح ة الم راتب الك برى للخل ق في ه ذا المج ال‪ ،‬حيث‬
‫ذكرت أربعة أصناف‪:‬‬
‫الص نف األول‪ :‬المنعم عليهم‪ ،‬الممثل ون للس راط المس تقيم‪ ،‬وال ذين ط ولب‬
‫الخلق باالهتداء بهم واعتبارهم النموذج المثالي لإلنس ان‪ ،‬كم ا يري ده هللا‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْي ِه ْم﴾ [الفاتحة‪]7 ،6 :‬‬
‫ص َراطَ ْال ُم ْستَقِي َم (‪ِ )6‬‬
‫تعالى‪﴿ :‬ا ْه ِدنَا ال ِّ‬
‫وهم يمثلون بحسب المثال السابق‪ ،‬النخبة من التالميذ الناجحين‪ ،‬والذي يت اح‬
‫لهم في الدول العادلة كل المناصب الرفيعة‪ ،‬بما فيها الحكم نفسه‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬السائرون على منهاج المنعم عليهم مع التقصير في الوصول‬
‫إلى مراتبهم‪ ،‬ويمثلهم في س ورة الفاتح ة ال داعون أنفس هم‪ ،‬وال ذين يطلب ون من هللا‬
‫تعالى أن يرقيهم إلى المراتب التي وصل إليها الفائزون‪ ..‬وبذلك هم يطلب ون من هللا‬
‫تع الى المزي د من التربي ة واإلص الح والهداي ة‪ ..‬أو المزي د من ال ترقي في م راتب‬
‫الكمال‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬المغضوب عليهم‪ ،‬وهم أولئك المش اغبون المجرم ون ال ذين‬
‫لم يكتفوا باالنحراف‪ ،‬وإنما راحوا يدعون الخل ق إلي ه‪ ،‬بك ل كبري اء وطغي ان‪ ،‬وهم‬
‫الذين يعبر عنهم القرآن الكريم بأنهم أئمة الكفر‪.‬‬
‫الصنف الرابع‪ :‬وهم الذين ض لوا‪ ،‬ف تركوا االهت داء ب المنعم عليهم‪ ،‬وراح وا‬
‫يتبعون المغضوب عليهم‪..‬‬
‫بناء على هذا التص نيف انقس مت األحك ام في دار الج زاء اإللهي إلى أربع ة‬
‫مراتب هي‪:‬‬
‫مرتب ة الف ائزين‪ :‬وهم الذين ورد في النص وص المقدس ة اعتب ارهم النخب ة‪،‬‬
‫والهدف من الخلق‪ ،‬وأنهم يسكنون الدرجات العليا في الجنة‪ ،‬وق د يص يرون أس اتذة‬
‫على من دونهم من أهل الجنة‪ ،‬ليقوموا بترقيتهم وت ربيتهم وه دايتهم‪ ..‬لتحقي ق ذل ك‬
‫الدعاء الذي يدعو فيه المؤمنون بأن يهتدوا بهدي المنعم عليهم‪.‬‬
‫مرتبة المهتدين‪ :‬وهم الذين حصلوا الح د األدنى من الهداي ة‪ ،‬وال ذي يمكنهم‬
‫من الدخول إلى الجنة‪ ،‬ولكن في مراتبها الدنيا‪ ،‬ويمكنهم أن يترقوا في درجاتهم فيها‬
‫بحسب قابلياتهم المختلفة‪.‬‬
‫مرتبة الضالين‪ :‬وهم الذين ترك وا الهداي ة اإللهي ة في ال دنيا‪ ،‬أو قص روا في‬
‫التعامل معها؛ فهؤالء يطه رون في ك ل المح ال ابت داء من ال برزخ‪ ،‬وانته اء ب دار‬
‫الجزاء‪ ..‬ومن تطهر منهم تطهرا تاما‪ ،‬تمكن من دخول الجنة‪ ،‬لتستمر تربيته فيها‪.‬‬
‫مرتبة المغضوب عليهم‪ :‬وهم الذين لم يمتنعوا من قبول الهداية بس بب الش به‬
‫التي وقعوا فيها‪ ،‬وإنما بسبب الكبرياء الذي طغا على قلوبهم‪ ،‬ولذلك راح وا ي ؤدون‬
‫دورا معارضا للهداي ة اإللهي ة‪ ،‬وربم ا يكون ون ق د ج روا معهم الكث ير من األتب اع‬
‫والض الين‪ ..‬وله ذا ف إن عقوب ة ه ؤالء أش د‪ ،‬وق د ت ؤول ـ مثلم ا يحكم على كب ار‬
‫المجرمين في الدنيا ـ إلى الحكم المؤبد‪..‬‬
‫وه ذه األقس ام جميع ا تتعام ل معه ا الربوبي ة بحس ب م ا تس تحقه‪ ..‬فالعق اب‬
‫اإللهي في اآلخرة ليس القصد منه التشفي‪ ،‬وإنما القصد منه التربية والترقية وتنقي ة‬
‫القل وب من ال دنس‪ ..‬ول ذلك من الخل ق من يس تجيب بس هولة‪ ..‬ومنهم من ق د ال‬
‫يستجيب أبدا‪ ..‬ولذلك كان البقاء في جهنم بحسب تلك القابلية‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا‪ ،‬نح اول في ه ذا المبحث إثب ات ه ذه المع اني من خالل‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬وما دل عليها من الروايات والعقل‪ ،‬وقد قسمنا مراتب الجزاء ـ‬
‫بحسب ما ذكرنا سابقا ـ إلى ثالث م راتب‪ ..‬يمكن ألي ش خص فيه ا أن ي ترقى من‬
‫المرتبة التي هو فيها إلى ما بعدها‪ ،‬بشرط أن تتوفر فيه م ا تتطلب ه المرتب ة الجدي دة‬
‫من الشروط‪ ،‬وهذه المراتب هي‪ :‬مراتب المنحرفين‪ ،‬وم راتب المهت دين‪ ،‬وم راتب‬
‫الفائزين‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ مراتب المنحرفين‪:‬‬
‫بحس ب م ا تنص علي ه س ورة الفاتح ة؛ ف إن المنح رفين المس تحقين للت أديب‬
‫اإللهي‪ ،‬يمكن تصنيفهم إلى صنفين‪:‬‬

‫‪348‬‬
‫أولهما‪ :‬الض الون‪ ،‬وهم ال ذين يقع ون في التي ه ال ذي يحجبهم عن ربهم‪ ،‬أو‬
‫اله داة إلي ه‪ ..‬وب ذلك ينحجب ون عن ك ل حق ائق الوج ود‪ ،‬والم وازين ال تي تحكم ه‪،‬‬
‫ويضعون ب دائل جدي دة من عن د أنفس هم‪ ،‬مبني ة على اله وى‪ ،‬تتش كل من ه نفوس هم‬
‫وسلوكاتهم‪ ،‬وبذلك ينحرفون عن الصبغة األصلية التي صبغ هللا بها اإلنسان‪ ،‬وذلك‬
‫ما يجعلهم يتألمون ألما شديدا عن د مع اينتهم للحق ائق ال تي ك انوا ت ائهين أو غ افلين‬
‫عنها‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬المغضوب عليهم‪ ،‬وهم الذين أضافوا لذلك التيه ك ل أن واع اإلج رام‬
‫والك بر؛ حيث أنهم اس تحلوا الض اللة‪ ،‬ب ل راح وا يمارس ون دورا عكس يا للهداي ة‬
‫اإللهية‪ ،‬وذلك بتحويل أنفسهم إلى طواغيت وجبابرة يخرجون الن اس من الن ور إلى‬
‫الظلمات‪.‬‬
‫وبذلك؛ فإن جريمة المغضوب عليهم أكبر بكثير من جريم ة الض الين‪ ..‬ذل ك‬
‫أنهم ال يكتفون بتحمل أوزارهم‪ ،‬وإنما يضيفون إليها جمي ع أوزار ال ذين أض لوهم‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا قِي َل لَهُ ْم َما َذا أَنْزَ َل َربُّ ُك ْم قَ الُوا أَ َس ا ِطي ُر اأْل َ َّولِينَ (‪ )24‬لِيَحْ ِملُ وا‬
‫َيْر ِع ْل ٍم أَاَل َس ا َء َم ا‬
‫ُض لُّونَهُ ْم بِغ ِ‬ ‫َار الَّ ِذينَ ي ِ‬ ‫زَارهُ ْم َكا ِملَ ةً يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة َو ِم ْن أَوْ ز ِ‬
‫أَوْ َ‬
‫يَ ِزرُونَ ﴾ [النحل‪]25 ،24 :‬‬
‫وبذلك؛ ف إن عق وبتهم ال تتوق ف فق ط على تل ك الملك ات ال تي تش كلت منه ا‬
‫نفوسهم‪ ،‬وإنما يضاف إليها تحقيق العدالة المرتبطة بك ل ال ذين أض لوهم‪ ،‬ول ذلك ال‬
‫يمكن أن يخرج من العقاب القائم بالدعوة للضالل في نفس الوقت الذي يبقى فيه من‬
‫كان ضحية لتضليله‪.‬‬
‫وسر الخالف الذي وقع في ه الكث ير في تحدي د المغض وب عليهم والض الين‪،‬‬
‫هو توهمهم أن لكال الصنفين خصائص ه المم يزة ل ه‪ ،‬م ع أن المغض وب عليهم في‬
‫الحقيقة ال يكونون كذلك إال بعد أن يتحقق وا بالض الل‪ ،‬ثم يض يفون إلي ه الكث ير من‬
‫االنحراف ات ال تي ت وجب الغض ب اإللهي‪ ،‬وب ذلك يك ون ك ل المغض وب عليهم‬
‫ضالين‪ ،‬وليس كل الضالين مغضوبا عليهم‪.‬‬
‫باإلضافة إلى أن الضالل والغضب قد يراد منه الض الل والغض ب المح دود‬
‫والمؤقت‪ ..‬ذلك أن كل منحرف عن الدين األقوم ضال في ذلك الجزء الذي انح رف‬
‫فيه‪ ،‬وبذلك يكون قد نال حظا من الغضب بسبب ذلك الضالل‪ ،‬كم ا يش ير إلى ذل ك‬
‫قوله ‪( :‬ال يزني الزاني حين يزني وهو م ؤمن‪ ،‬وال يش رب الخم ر حين يش رب‬
‫وهو مؤمن‪ ،‬وال يسرق حين يسرق وهو مؤمن‪ ،‬وال ينتهب نهبة‪ ،‬يرف ع الن اس إلي ه‬
‫فيها أبص ارهم حين ينتهبه ا وه و م ؤمن)(‪ ،)1‬وقول ه‪( :‬إذا زنى الرج ل خ رج من ه‬
‫اإليمان‪ ،‬كان عليه كالظلة‪ ،‬فإذا أقلع رجع إليه اإليمان)(‪)2‬‬
‫فقد أخبر ‪ ‬أن اإليمان يرفع مؤقتا عن هؤالء المنحرفين‪ ،‬ثم قد يع ود‪ ،‬وق د‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ ، )2475‬ومسلم (‪.)57‬‬


‫‪ )(2‬رواه أبو داود (‪.)4690‬‬

‫‪349‬‬
‫ال يعود‪ ،‬وذلك بحسب القدرة على التراجع‪ ،‬وتصحيح األخطاء‪ ،‬كما أش ار إلى ذل ك‬
‫ب‬‫قوله تعالى‪﴿ :‬إنَّ َما التَّوْ بَةُ َعلَى هَّللا ِ لِلَّ ِذينَ يَ ْع َملُونَ السُّو َء بِ َجهَالَ ٍة ثُ َّم يَتُوبُ ونَ ِم ْن قَ ِري ٍ‬
‫ت التَّوْ بَ ةُ لِلَّ ِذينَ يَ ْع َملُ ونَ‬ ‫فَأُولَئِ َ‬
‫ك يَتُوبُ هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم َو َك انَ هَّللا ُ َعلِيمًا َح ِكيمًا (‪َ )17‬ولَي َْس ِ‬
‫ْت اآْل نَ َواَل الَّ ِذينَ يَ ُموتُ ونَ َوهُ ْم‬ ‫ال إِنِّي تُب ُ‬
‫ت قَ َ‬ ‫ض َر أَ َح َدهُ ُم ْال َم وْ ُ‬
‫ت َحتَّى إِ َذا َح َ‬ ‫َّ‬
‫الس يِّئَا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ُكفَّا ٌر أولَئِكَ أ ْعتَ ْدنَا لَهُ ْم َع َذابًا ألِي ًما﴾ [النساء‪]18 ،17 :‬‬
‫وبذلك فإن كل ضال معرض للغضب‪ ،‬وال ذي ق د يك ون مؤقت ا‪ ،‬وق د يتح ول‬
‫إلى دائم‪ ،‬ولهذا يقال (المعاصي بريد الكفر)‪ ،‬وهو ما يشير إليه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬كاَّل بَلْ‬
‫َرانَ َعلَى قُلُوبِ ِه ْم َما َكانُوا يَ ْك ِس بُونَ ﴾ (المطففين‪ ،)14:‬أي أن كس ب اإلنس ان وعمل ه‬
‫وحركة قلمه هي التي مألت فطرت ه بقع ا منحرف ة ح الت بينه ا وبين التع رف على‬
‫الحق أو سلوكه‪.‬‬
‫ويش ير إلي ه قول ه ‪( :‬تع رض الفتن على القل وب ع رض الحص ير ع ودا‬
‫ع ودا‪ ،‬ف أي قلب أش ربها نكت في ه نكت ة س وداء‪ ،‬وأي قلب أنكره ا نكت في ه نكت ة‬
‫بيض اء ح تى يص ير القلب أبيض مث ل الص فا ال تض ره فتن ة م ا دامت الس موات‬
‫واألرض‪ ،‬واآلخر أسود مربدا كالكوز مجخيا‪ ،‬ال يع رف معروف ا وال ينك ر منك را‬
‫إال ما أشرب من هواه)(‪)1‬‬
‫وبذلك فإن المغضوب عليه هو ذلك الذي طبع على قلبه؛ فصار ال يف رق بين‬
‫المعروف والمنكر‪ ،‬أو صير المعروف منكرا‪ ،‬والمنكر معروف ا‪ ،‬ولم يكت ف ب ذلك‪،‬‬
‫بل راح ينشر تلك االنتكاسة التي وقع فيها على غيره‪ ،‬ويقوم بالدور المعاكس ل دور‬
‫الهداة إلى هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬و ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْستَ ِم ُع إِلَيْكَ َو َج َع ْلنَ ا َعلَى قُلُ وبِ ِه ْم أَ ِكنَّةً أَ ْن‬
‫يَ ْفقَهُوهُ َوفِي آ َذانِ ِه ْم َو ْقرًا َوإِ ْن يَ َروْ ا ُك َّل آيَ ٍة اَل ي ُْؤ ِمنُوا بِهَ ا َحتَّى إِ َذا َج اءُوكَ يُ َجا ِدلُونَ كَ‬
‫يَقُو ُل الَّ ِذينَ َكفَرُوا إِ ْن هَ َذا إِاَّل أَ َس ا ِطي ُر اأْل َ َّولِينَ (‪َ )25‬وهُ ْم يَ ْنهَ وْ نَ عَنْهُ َويَنْأَوْ نَ عَنْهُ‬
‫َوإِ ْن يُ ْهلِ ُكونَ إِاَّل أَ ْنفُ َسهُ ْم َو َما يَ ْش ُعرُونَ ﴾ [األنعام‪]26 ،25 :‬‬
‫فهاتان اآليت ان الكريمت ان ت ذكران ذل ك الت درج ال ذي ينتق ل في ه الض ال من‬
‫مرحلة الضالل إلى مرحلة الغضب اإللهي‪ ،‬ويبدأ الضالل ب اإلعراض عن الس ماع‬
‫للرسل‪ ،‬ثم يتدرج إلى أن يصل إلى محاربتهم‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا‪ ،‬ن ذكر هن ا الج زاء المرتب ط بالمغض وب عليهم والض الين‪،‬‬
‫وعالقته باألعمال والملكات التي تشكلت منها نفوسهم في دار االختبار واالبتالء‪.‬‬
‫أ ـ مرتبة المغضوب عليهم‪:‬‬
‫وهي المرتبة التي يمثلها أولئك الذين أتيحت لهم كل وسائل الهداية‪ ،‬ومع ذلك‬
‫أعرضوا عنها‪ ،‬وربما لم يكتفوا بذلك‪ ،‬وإنما أضافوا إليه ذلك التمرد على الهداة إلى‬
‫هللا‪ ،‬وتشويه الهداية التي جاءوا بها‪ ،‬وبذلك وضعوا الحجب بين الخلق وبين األنوار‬
‫اإللهية‪ ،‬ولذلك كانت العقوبة المتناسبة مع ج ريمتهم هي تحم ل جمي ع أوزار ال ذين‬
‫أضلوهم بغير علم‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)1/89‬‬

‫‪350‬‬
‫ويمكنن ا اكتش اف ه ذا بس هولة عن د البحث في المغض وب عليهم في الق رآن‬
‫الك ريم؛ فمنهم وأولهم أولئ ك ال ذين عب دوا العج ل في عه د موس ى علي ه الس الم‪،‬‬
‫وبحضور أخيه نبي هللا هارون عليه السالم‪ ،‬ومع ذلك تمردوا علي ه‪ ،‬وعلى الهداي ة‬
‫التي ج اء به ا‪ ،‬على ال رغم من مع اينتهم للمعج زات‪ ،‬وم ع ذل ك لم ت ؤثر فيهم‪ ،‬ب ل‬
‫راحوا يحطمون كل الحقائق الوجودية‪ ،‬ويختصرون هللا في عجل يعبدونه‪ ،‬كما قال‬
‫َض بٌ ِم ْن َربِّ ِه ْم َو ِذلَّةٌ فِي ْال َحيَ ا ِة ال ُّد ْنيَا‬ ‫تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ اتَّ َخ ُذوا ْال ِعجْ َل َس يَنَالُهُ ْم غ َ‬
‫ك نَجْ ِزي ْال ُم ْفت َِرينَ ﴾ [األعراف‪]152 :‬‬ ‫َو َك َذلِ َ‬
‫ومنهم أولئك الذين كانوا يعلمون علم اليقين ب أن محم دا ‪ ‬رس ول هللا‪ ،‬وق د‬
‫دلت عليه كتبهم التي يوقنون بها‪ ،‬لكن ه عن دما ظه ر لم يكتف وا بع دم اتباع ه‪ ،‬وإنم ا‬
‫﴿ولَ َّما َج ا َءهُ ْم ِكتَ ابٌ ِم ْن‬ ‫راحوا يضللون الناس عنه‪ ،‬بغيا وحسدا وكبرا‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ق لِ َما َم َعهُ ْم َو َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َم ا‬ ‫ص ِّد ٌ‬‫ِع ْن ِد هَّللا ِ ُم َ‬
‫ع ََرفُوا َكفَرُوا بِ ِه فَلَ ْعنَةُ هَّللا ِ َعلَى ْال َكافِ ِرينَ (‪ )89‬بِ ْئ َس َما ا ْشت ََروْ ا بِ ِه أَ ْنفُ َس هُ ْم أَ ْن يَ ْكفُ رُوا‬
‫ب‬
‫َض ٍ‬ ‫ض لِ ِه َعلَى َم ْن يَ َش ا ُء ِم ْن ِعبَ ا ِد ِه فَبَ ا ُءوا بِغ َ‬ ‫بِ َما أَ ْن َز َل هَّللا ُ بَ ْغيًا أَ ْن يُنَ ِّز َل هَّللا ُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ين (‪َ )90‬وإِ َذا قِي َل لَهُ ْم آ ِمنُ وا بِ َم ا أَنْزَ َل هَّللا ُ قَ الُوا‬ ‫ب َولِ ْل َك افِ ِرينَ َع َذابٌ ُم ِه ٌ‬ ‫َض ٍ‬ ‫َعلَى غ َ‬
‫ص ِّدقًا لِ َما َم َعهُ ْم قُلْ فَلِ َم تَ ْقتُلُ ونَ‬
‫ق ُم َ‬ ‫ُ‬
‫نُ ْؤ ِمنُ بِ َما أ ْن ِز َل َعلَ ْينَا َويَ ْكفُرُونَ بِ َما َو َرا َءهُ َوه َُو ْال َح ُّ‬
‫أَ ْنبِيَا َء هَّللا ِ ِم ْن قَ ْب ُل إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [البقرة‪]91 - 89 :‬‬
‫ومنهم أولئك الذين استراحوا للضاللة‪ ،‬وأعجبوا بها‪ ،‬ولم يبغ وا ب ديال عنه ا‪،‬‬
‫ولذلك عندما تعرض لهم اله داة ل دعوتهم ومح اجتهم أعرض وا عنهم‪ ،‬لم ا أش ربت‬
‫ُ‬
‫قلوبهم من حب الضاللة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬م ْن َكفَ َر بِاهَّلل ِ ِم ْن بَ ْع ِد إِي َمانِ ِه إِاَّل َم ْن أ ِ‬
‫كْرهَ‬
‫َض بٌ ِمنَ هَّللا ِ َولَهُ ْم‬ ‫ص ْدرًا فَ َعلَ ْي ِه ْم غ َ‬ ‫ان َولَ ِك ْن َم ْن َش َر َح بِ ْال ُك ْف ِر َ‬ ‫ط َمئِ ٌّن بِاإْل ِ ي َم ِ‬‫َوقَ ْلبُ هُ ُم ْ‬
‫َع َذابٌ َع ِظي ٌم ﴾ [النحل‪]106 :‬‬
‫وهذه اآلية الكريمة تفرق بين الكفر‪ ،‬وانشراح الصدر ل ه‪ ..‬ف الكفر ق د يك ون‬
‫ناتج ا عن ض الل‪ ،‬بس بب ع دم التع رض للهداي ة‪ ،‬أو ع دم ت وفر الحجج الكافي ة‬
‫لالقتناع‪ ،‬لكن انشراح الصدر للضالل‪ ،‬يعني اإلع راض الت ام عن الهداي ة م ع قي ام‬
‫كل الدالئل التي تدل عليها‪.‬‬
‫ومنهم أولئك الذين راحوا يج ادلون اله داة بغ ير علم‪ ،‬وإنم ا بمج رد اله وى‪،‬‬
‫وللكبر الذي امتألت به نفوسهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ ي َُحاجُّ ونَ فِي هَّللا ِ ِم ْن بَ ْع ِد َم ا‬
‫َضبٌ َولَهُ ْم َع َذابٌ َش ِدي ٌد﴾ [الش ورى‪:‬‬ ‫ضةٌ ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َو َعلَ ْي ِه ْم غ َ‬ ‫يب لَهُ ُح َّجتُهُ ْم د ِ‬
‫َاح َ‬ ‫ا ْستُ ِج َ‬
‫‪]16‬‬
‫وه ؤالء جميع ا ت دل النص وص المقدس ة على أنهم يتعرض ون ألش د أن واع‬
‫العقوب ات‪ ،‬وهي الخل ود في جهنم‪ ..‬وهي المس ألة ال تي أث يرت حوله ا الكث ير من‬
‫الشبهات‪ ،‬وفسرت بالكثير من التفاسير‪ ،‬وقد عرضنا لألقوال الواردة فيه ا بتفص يل‬
‫في كتاب [أسرار األقدار](‪)1‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬أسرار األقدار‪ ،‬ص ‪ ،518‬فما بعدها‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫ون رى ـ احترام ا للنص وص المقدس ة ـ أن ه ال يمكن أن نح رف الكلم عن‬
‫مواض عه؛ فالوعي د اإللهي ب الخلود‪ ،‬أو بع دم الخ روج من الن ار واض ح في ح ق‬
‫هؤالء‪ ..‬كما سنرى فيما سنعرض ه من اآلي ات الدال ة على ذل ك‪ ..‬لكن كي ف ينس جم‬
‫ذلك مع الرحمة والعدالة وتربية هللا لعباده؟‬
‫والجواب على هذا أيضا بسيط‪ ،‬ومن خالل النصوص المقدس ة نفس ها‪ ..‬فهي‬
‫تشير إلى أن الجرائم المتعدية له ؤالء تقتض ي تحملهم ك ل أوزار ال ذين أض لوهم‪..‬‬
‫وبذلك سيعاقبون مدة طويلة على ذلك‪..‬‬
‫ويضاف إليها ذلك الك بر ال ذي أش رب في قل وبهم‪ ،‬وال ذي ق د ال يس تطيعون‬
‫االنفكاك عنه أبدا‪ ،‬وبذلك يستحيل عليهم الخروج من الع ذاب م ا دام ذل ك الك بر في‬
‫اس تَ ْكبَرُوا َع ْنهَ ا اَل تُفَتَّ ُح لَهُ ْم أَبْ َوابُ‬
‫قلوبهم‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَ ا َو ْ‬
‫اط َو َك َذلِكَ نَجْ ِزي ْال ُمجْ ِر ِمينَ ﴾‬ ‫ال َّس َما ِء َواَل يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َحتَّى يَلِ َج ْال َج َم ُل فِي َس ِّم ْال ِخيَ ِ‬
‫[األعراف‪]40 :‬‬
‫وبهذا؛ فإن للخل ود س ببين‪ :‬الس بب األول ه و تحم ل األوزار المتعدي ة لل ذين‬
‫أضلوهم‪ ،‬أو أجرموا في حقهم‪ ..‬والثاني هو تلك الملكات ال تي عجنت به ا نفوس هم‪،‬‬
‫والتي قد ال يطيقون االنفكاك عنها مع ط ول الع ذاب‪ ..‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ولَ وْ ُر ُّدوا‬
‫لَ َعادُوا لِ َما نُهُوا َع ْنهُ َوإِنَّهُ ْم لَ َكا ِذبُونَ ﴾ [األنعام‪ ،)،]28 :‬فاآلية الكريمة تدل على غاية‬
‫عتوهم وإصرارهم وعدم قبول الخير فيهم‪ ،‬فال تصلح نفوس هم الش ريرة الخبيث ة إال‬
‫للع ذاب‪ ،‬ول و ص لحت لص لحت على ط ول الع ذاب‪ ،‬فحيث لم ي ؤثر ع ذابهم تل ك‬
‫األحقاب الطويلة في نفوسهم ولم يطيبها علم أنه ال قابلية فيهم للخير أصال‪.‬‬
‫وبذلك فإن الرحمة والعدالة اإللهي ة متناس بة م ع ج رائمهم‪ ،‬ألن ه ال يمكن أن‬
‫يخرج الجاني مع بق اء المج ني علي ه في الع ذاب‪ ..‬وك ذلك ال يمكن أن يخ رج وفي‬
‫نفسه تلك الملكات الظالمة التي لم يس تطع االنفك اك عنه ا‪ ..‬ذل ك إن الخل ود مرتب ط‬
‫باألعمال والملكات‪..‬‬
‫ولو أنا فرضنا أن شخص ا م ا من ال ذين كتب عليهم الخل ود‪ ،‬تخلص من ك ل‬
‫تبعات أعماله‪ ،‬وتخلص معها من كل تلك الملكات التي كانت سببا في عقابه؛ فإنه ال‬
‫يستمر عليه الحكم المؤبد‪..‬‬
‫وهذا ما قد يجمع األق وال في المس ألة؛ لت ؤول بع دها إلى أص حاب األعم ال‬
‫أنفسهم‪ ،‬ومدى نجاعة التأديب اإللهي في حقهم‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا تلك األحاديث الكثيرة التي تذكر عدم دخول نف ر كث يرين إلى‬
‫الجنة‪ ،‬مع اتف اق العلم اء على أن ذل ك ال دخول ليس أب ديا‪ ،‬وإنم ا ه و م ؤقت‪ ،‬وق د‬
‫ذكرنا أن توقيته متوقف على التطهر من تلك الرذائل التي دخلوا بها إلى جهنم‪.‬‬
‫ومن األمثل ة على ذل ك قول ه ‪( :‬ثالث ة ال ي دخلون الجن ة أب دا‪ :‬ال ديوث‪،‬‬
‫والرجل ة من النس اء‪ ،‬وم دمن الخم ر ق الوا‪ :‬ي ا رس ول هللا ! أم ا م دمن الخم ر فق د‬
‫عرفناه‪ ،‬فما الديوث؟ فقال‪ :‬الذي ال يبالي من دخ ل على أهل ه قلن ا‪ :‬فم ا الرجل ة من‬

‫‪352‬‬
‫بالرجال)(‪)1‬‬ ‫النساء‪ .‬قال‪ :‬التي تشبه‬
‫وفي ح ديث آخ ر ق ال ‪( :‬ال ي دخل الجن ة قت ات)‪ ،‬وفي رواي ة‪( :‬ال ي دخل‬
‫الجنة نمام)(‪)2‬‬
‫ْ‬
‫﴿و َم ْن يَقتُلْ ُم ْؤ ِمنًا ُمتَ َع ِّمدًا فَ َج َزا ُؤهُ َجهَنَّ ُم خَالِ دًا‬
‫وهكذا في تأويلهم لقوله تعالى‪َ :‬‬
‫َظي ًما ﴾ [النس اء‪ ،]93 :‬واعتب اره غ ير‬ ‫ب هَّللا ُ َعلَ ْي ِه َولَ َعنَهُ َوأَ َع َّد لَهُ َع َذابًا ع ِ‬ ‫فِيهَا َو َغ ِ‬
‫ض َ‬
‫مطلق‪ ،‬ذلك أنهم يذكرون خروج الموحدين من النار‪ ،‬وبذلك يض منون ل ه الخ روج‬
‫مع أن هللا تعالى لم يخبر عن خلوده في جهنم فقط‪ ،‬وإنما أخبر عن غضبه عليه‪.‬‬
‫بل إنهم يجعلون التوحيد وحده كاف لرفع العقوب ة عن ك ل الج رائم ح تى ل و‬
‫ظلت ملكاتها موجودة في النفس‪ ،‬مثلم ا أن رجال ج اء إلى الن بي ‪ ،‬فق ال‪ :‬أرأيت‬
‫رجال عمل الذنوب كلها‪ ،‬فلم يترك منها شيئا‪ ،‬وهو في ذلك لم يترك حاجة وال داجة‬
‫إال أتاها‪ ،‬فهل له من توبة؟ قال‪ :‬فهل أسلمت؟ قال‪ :‬أم ا أن ا فأش هد أن ال إل ه إال هللا‪،‬‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬وأنك رسول هللا‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،،‬تفع ل الخ يرات‪ ،‬وت ترك الس يئات‪،‬‬
‫فيجعلهن هللا لك خيرات كلهن‪ ،‬قال‪ :‬وغدراتي وفج راتي؟ ق ال‪ :‬نعم ق ال‪ :‬هللا أك بر‪،‬‬
‫فما زال يكبر حتى توارى(‪.)3‬‬
‫وبناء على هذا؛ فإنا نرى أن كل النصوص الدالة على الخلود في جهنم باقي ة‬
‫على معناها في حق الموح دين أو غ يرهم‪ ،‬ولكن على المع نى ال ذي ذكرن اه‪ ،‬وه و‬
‫ارتباط الخلود بالتطهر الت ام من ع واقب األعم ال‪ ،‬واآلث ار المش كلة له ا في الهيئ ة‬
‫النفسانية‪.‬‬
‫ذلك أن الجنة ال ي دخلها إال الط اهرون الطيب ون‪ ..‬ول ذلك إن أدخ ل إليه ا من‬
‫بقي في نفسه آثار النميمة‪ ،‬فسيسعى بالنميم ة بين أه ل الجن ة‪ ..‬وإن أدخ ل إليه ا من‬
‫أشرب حب الدياثة‪ ،‬فستكون شهوته هناك بناء المواخير ونشر الرذيل ة‪ ..‬وإن أدخ ل‬
‫إليها من أدمن القتل والعدوان‪ ،‬فسيجعل الجنة دار حرب‪.‬‬
‫ول ذلك ق د يك ون لإلس الم دور في نجات ه من الش رك‪ ،‬وتعرف ه على حق ائق‬
‫الوج ود‪ ،‬ولكن ه ق د ال يك ون كافي ا في تطه يره من اآلث ار ال تي كس بتها نفس ه من‬
‫جرائمه‪ ،‬ولذلك يحتاج إلى التطهر منها في ال دنيا‪ ،‬ف إن لم تكف ه ال دنيا‪ ،‬وال ال برزخ‬
‫بقيت تبعاتها عليه إلى أن يتخلص منها‪ ،‬بغض النظر عن المدة المرتبطة بذلك‪.‬‬
‫وبذلك تنسجم الرحمة مع العدالة مع تربي ة هللا لعب اده‪ ،‬ذل ك أنن ا في ال دنيا ال‬
‫يمكن أن نحكم بنجاح طالب من الطلب ة م ا لم يس توف الح د األدنى من النق اط ال تي‬
‫توجب نجاحه‪ ،‬حتى لو بقي يكرر السنة طول عمره‪.‬‬
‫وق د أش ار إلى ه ذا المع نى العالم ة الطباطب ائي في تفس يره(‪ ،)4‬وذل ك عن د‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)327 /4‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ ، )6056‬ومسلم (‪.)105‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في المعجم الكبير (‪.)7/314‬‬
‫‪ )(4‬تفسير الميزان‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ 413‬ـ ‪..416‬‬

‫‪353‬‬
‫عرضه لبعض اإلشكاالت المترتبة على القول بالخلود في العذاب‪ ،‬والمطروحة من‬
‫قبل القائلين بعدم الخلود‪ ،‬وخصوصا صدرالدين الشيرازي وابن عربي والقيص ري‬
‫وغيرهم‪ ،‬وهي نفسها التي ذكرها ابن تيمية وابن القيم وغيرهما‪.‬‬
‫ومن تلك اإلجابات رده على اإلشكال المتعلق بكيفية الجم ع بين ك ون رحم ة‬
‫هللا واسعة غير متناهية‪ ،‬وبين أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد اليقوم له شيء؟‬
‫فقد أجاب على هذا اإلشكال بأن معنى الرحمة اإللهية هو اإلفاضة لما يناسب‬
‫االستعداد التام الحاصل في القابل‪ ،‬والرحمة رحمتان‪ :‬رحمة عامة‪ ،‬وهي إعطاء ما‬
‫يستعد له الشيء ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة‪ ،‬ورحمة خاصة‪ ،‬هي إعط اء‬
‫ما يستعد الشيء في صراط الهداية إلى التوحي د وس عادة الق رب‪ ..‬وإعط اء ص ورة‬
‫الشقاء الالزم‪ ،‬الذي أثره الع ذاب ال دائم لالنس ان المس تعد ل ه باس تعداده الش ديد‪ ،‬ال‬
‫ينافي الرحمة العامة بل هو منها‪ ،‬وأما الرحمة الخاصة فال معنى لش مولها لمن ه و‬
‫خارج عن صراطها‪ ،‬فال منافاة بين الع ذاب ال دائم والرحم ة س واء العام ة منه ا أو‬
‫الخاصة كما تبين‪ ،‬على أن اإلشكال ل و تم لج رى في الع ذاب المنقط ع أيض ا ً ح تى‬
‫أنواع العذاب الدنيوي‪.‬‬
‫ومن اإلشكاالت التي أجاب عنها‪ ،‬م ا ذك ره المخ الفون من (أن الع ذاب إنم ا‬
‫يكون عذابا ً إذا لم يالئم الطبع فيكون قس راً‪ ،‬وال مع نى للقس ر ال دائم‪ ،‬فكي ف يص ح‬
‫وجود عذاب دائم؟)(‪)1‬‬
‫فقد أجاب عن ذلك بقوله‪( :‬يجب أن يعين معنى عدم مالئمة الطبع‪ ،‬فانه ت ارة‬
‫بمعنى عدم السنخية بين الموضوع واألثر الموجود عنده‪ ،‬وهو الفعل القسري ال ذي‬
‫يصدر عن قسر القاسر‪ ،‬ويقابله األثر المالئم الذي يصدر عن طبع الشيء إذا اقترن‬
‫به آفات سم رس خت في ه‪ ،‬فص ارت ص ورة في الش يء‪ ،‬وع اد الش يء يطلب ه به ذا‬
‫الوجود‪ ،‬وهو في عين الحال ال يحبه‪ ،‬كما مثّلن ا في ه من مث ال الماليخولي ائي‪ ،‬فه ذه‬
‫اآلثار مالئمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخ بيث‪ ،‬واآلث ار الص ادرة‬
‫عن الطباع مالئمة‪ ،‬وهي بعينها عذاب لصدق ح د الع ذاب عليه ا‪ ،‬لك ون الش يء ال‬
‫يرتضيها‪ ،‬فهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في كونها مرضية من حيث‬
‫الصدور)(‪)2‬‬
‫ً‬ ‫اّل‬
‫ومن اإلش كاالت (أن العب د لم ي ذنب إ ذنب ا منقط ع اآلخ ر‪ ،‬فكي ف يج ازى‬
‫بعذاب دائم؟)(‪)3‬‬
‫وقد أجاب عنه بأن العذاب ت رتب أث ر غ ير مرض ي على موض وعه الث ابت‬
‫حقيقة‪ ،‬وهو صورة الشقاء‪ ،‬فهذا األث ر معل ول الص ورة الحاص لة بع د تحق ق عل ل‬
‫معدة‪ ،‬وهي المخالفات المحدودة‪ ،‬وليس معل والً لتل ك العل ل المع دة المح دودة ح تى‬

‫‪ )(1‬تفسير الميزان (‪)239 /1‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)239 /1( ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)239 /1( ،‬‬

‫‪354‬‬
‫يلزم تأثير المتناهي أث راً غ ير متن اه‪ ،‬وه و مح ال‪ ،‬نظ ير تص ور الم ادة بالص ورة‬
‫االنسانية بتوسط علل معدة‪ ،‬وال معنى أن يسأل ويقال‪ :‬إن اآلثار اإلنسانية الص ادرة‬
‫عن االنسان بعد الم وت ص دور دائمي س رمدي لحص ول مع دات مقطوع ة األم ر‬
‫للمادة‪ ،‬فكيف صار مجموع منقطع اآلخر من العلل س ببا ً لص دور اآلث ار الم ذكورة‬
‫وبقائها مع االنسان دائماً‪ ،‬ألن علتها الفاعل ة ـ وهي الص ورة االنس انية ـ موج ودة‬
‫معها دائما ً على الفرض‪ ،‬فكما ال معنى لهذا السؤال ال معنى لذلك أيضاً‪.‬‬
‫ومن اإلشكاالت (أن أهل الشقاء ال يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خ دمات‬
‫أهل السعادة‪ ،‬ولوالهم لم تتحقق سعادة لسعيد‪ ،‬فما هو الموجب لوق وعهم في ع ذاب‬
‫مخلد؟)(‪)1‬‬
‫وقد أجاب عنه بقوله‪( :‬إن الخدمة والعبودية أيضا ً مثل الرحم ة على قس مين‪:‬‬
‫عبودي ة عام ة‪ ،‬وه و الخض وع واالنفع ال الوج ودي عن مب دأ الوج ود‪ ،‬وعبودي ة‬
‫خاصة وهو الخضوع واالنقياد في صراط الهداية إلى التوحي د‪ ،‬ولك ل من القس مين‬
‫جزاء يناسبه وأث ر ي ترتب علي ه ويخص ه من الرحم ة‪ ،‬فالعبودي ة العام ة في نظ ام‬
‫التكوين جزاؤه الرحمة العامة‪ ،‬والنعمة الدائمة والع ذاب ال دائم كالهم ا من الرحم ة‬
‫العامة‪ ،‬والعبودية الخاصة جزاؤه الرحم ة الخاص ة‪ ،‬وهي النعم ة والجن ة‪ ،‬على أن‬
‫هذا اإلشكال لو تم لورد في مورد عذاب المنقطع‪ ،‬بل الدنيوي أيضاً‪.‬‬
‫ومن اإلش كاالت (أن الع ذاب للعاص ي انتق ام‪ ،‬وال يج وز االنتق ام على هللا‬
‫تعالى‪ ،‬ألنه ال يكون إاّل لجبر النقص‪ ،‬وهللا تعالى هو الغ ني المطل ق‪ ،‬فكي ف يج وز‬
‫منه العذاب المخلد؟)(‪)2‬‬
‫وقد أجاب عنه بقوله‪( :‬إن العذاب ال دائم مس تند إلى ص ورة الش قاء ال ذي في‬
‫االنسان‪ ،‬وإلى هللا سبحانه بالمعنى الذي يقال في كل موجود إنه مستند اليه تع الى ال‬
‫بمعنى االنتقام وتشفي الص در المس تحيل علي ه تع الى‪ ،‬نعم االنتق ام بمع نى الج زاء‬
‫الشاق واألثر السيء ال ذي يج زي ب ه الم ولى عب ده لتم رده علي ه مم ا يص دق في ه‬
‫تعالى‪ ،‬ولكن ال يستلزم كون العذاب انتقاما ً بهذا المع نى إش كاالً البت ة‪ .‬على أن ه ذا‬
‫اإلشكال لو تم لورد في م ورد الع ذاب الم ؤقت المنقط ع في اآلخ رة‪ ،‬ب ل في ال دنيا‬
‫أيضاً) (‪)3‬‬
‫هذه أهم اإلجابات التي أجاب بها العالمة الطباطبائي‪ ،‬وال تي ن رى أن ه يمكن‬
‫اختصارها جميعا فيما يدل عليه قوله تعالى‪َ ﴿:‬ولَوْ ُر ُّدوا لَ َعادُوا لِ َم ا نُهُ وا عَنْهُ َوإِنَّهُ ْم‬
‫لَ َكا ِذبُونَ ﴾ (األنعام‪)28 :‬‬
‫وقريب منه ما أجاب به بديع الزمان النورسي في تعليل سر كون الكف ر عل ة‬
‫للخل ود في الع ذاب‪ ،‬وه و نفس ه م ا ينطب ق على غ يره من العل ل ال تي وردت به ا‬

‫‪ )(1‬المرجع السابق‪)239 /1( ،‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪)239 /1( ،‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪)239 /1( ،‬‬

‫‪355‬‬
‫النص وص المقدس ة‪ ،‬وق د ق ال النورس ي في ذل ك‪(:‬أيه ا اإلنس ان! إن في ك جه تين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬جهةُ اإليجاد والوجو ِد والخير واإليجابية والفعل‪ ..‬واألخرى‪ :‬جهةُ التخريب‬
‫والعدم والشر والسلبية واالنفعال‪ ..‬فعلى اعتبار الجهة األولى (جه ة اإليج اد) فإن ك‬
‫أقلُّ شأنا من النحل ِة والعص فور وأض عفُ من الذباب ة والعنكب وت‪ .‬أم ا على اعتب ار‬
‫األرض والجبا َل والسماوات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الجهة الثانية (جهة التخريب) فباستطاعتك أن تتجاوز‬
‫ب دائ رةً أوس َع ومج اال أفس َح؛‬ ‫وبوسعكَ أن تحمل على عاتقك ما أشفقنَ من ه فتكس َ‬ ‫ِ‬
‫ألنك عندما تقوم بالخير واإليجاد فإنك تعمل على سع ِة طاقتك وبق ْدر جهدك وبم دى‬
‫قوت ك‪ ،‬أم ا إذا قمتَ باإلس اء ِة والتخ ريب‪ ،‬ف إن إس اءتكَ تتج اوز وتستش ري‪ ،‬وإن‬
‫تخريبَك يع ّم وينتشر)(‪)1‬‬
‫ت في ي وم‬ ‫ويضرب المثل على ذلك من الواقع ب أن االنس ان يس تطيع ه د َم بي ٍ‬
‫واحد االّ أنه ال يستطيع أن يشيّده في مائة يوم‪ ،‬ومثل ذلك الكفر‪ ،‬فه و س يئة واح دة‪،‬‬
‫ولكنها (تُفضي إلى تحقير جميع الكائن ات وازدرائه ا واس تهجانها‪ ،‬وتتض من أيض ا‬
‫تزييف جميع األسماء اإللهية الحسنى وإنكارها‪ .‬وتتم ّخض كذلك عن إهانة اإلنسانية‬
‫وترذيلها؛ ذلك ألن لهذه الموجودات مقاما عاليا رفيعا‪ ،‬ووظيف ةً ذات مغ زى‪ ،‬حيث‬
‫إنها مكاتيب ربانية‪ ،‬ومرايا سبحانية‪ ،‬وموظفات مأمورات إلهية‪ .‬فالكف ُر فضـال عن‬
‫إسقاط ِه تلك الموجودات من مرتبة التوظيف ومنـزلة التسخير ومهمة العبودية‪ ،‬فإنه‬
‫كذلك يُرديها إلى درك ال َعبَث والمصادفة وال يرى لها قيمةً ووزن ا بم ا يعتريه ا من‬
‫زوال وفراق يب ّدالن ويفسّخان بتخريبهما وأض رارهما الموج ودات إلى م واد فاني ة‬ ‫ٍ‬
‫تافهة عقيمة ال أهمية لها وال جدوى منها)(‪)2‬‬
‫ول ذلك ك ان ه ذا التخ ريب العظيم لك ل حق ائق الك ون مقتض يا للخل ود في‬
‫الع ذاب‪ ،‬يق ول النورس ي‪(:‬فال ذين ال يعرف ون ه ذا ال رحمن ال رحيم وال يَ ْس عون‬
‫بالعبودية لحبِّه‪ ،‬بل يَضلون إلى اإلنكار فيُضمرون نوعا من العداء تجاه ه‪ ..‬ه ؤالء‬
‫ص غر‪.‬‬ ‫ليس وا إاّل ش ياطين في ص ور أناس ي‪ ،‬وفي حكم نم اردة ص غار وفراعن ة ُ‬
‫والشك أنهم يستحقون عذابا خالدا ال نهاية له)(‪)3‬‬
‫بناء على هذا سنستعرض هنا ما ورد في النص وص المقدس ة من األص ناف‬
‫التي يحكم عليها بالمؤبد‪ ،‬أو بالخلود في النار‪ ،‬لنرى الص فات الجامع ة بينه ا‪ ،‬ذل ك‬
‫أن القراءة الصحيحة لهذه النصوص هو التأمل في أسرارها‪ ،‬حتى نفطن للعلل التي‬
‫يمكنن ا من خالله ا أن نتج اوز بالمث ال قفص حروف ه إلى فض اء معاني ه‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫اس َو َما يَ ْعقِلُهَا إِاَّل ْال َعالِ ُمونَ ﴾ [العنكبوت‪]43 :‬‬
‫﴿وتِ ْلكَ اأْل َ ْمثَا ُل نَضْ ِربُهَا لِلنَّ ِ‬
‫تعالى‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ومن تلك النصوص قوله تعالى‪َ ﴿:‬وال ِذينَ َكفرُوا َو َكذبُوا بِآياتِنَا أولئِكَ أصْ َحابُ‬
‫ص يرُ﴾ (التغ ابن‪ ،)10:‬وقول ه‪َ ﴿:‬والَّ ِذينَ َكفَ رُوا َو َك َّذبُوا‬ ‫س ْال َم ِ‬‫ار خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َوبِ ْئ َ‬ ‫النَّ ِ‬

‫‪ )(1‬الكلمات‪ ،‬ص‪.361‬‬
‫‪ )(2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.362‬‬
‫‪ )(3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.606‬‬

‫‪356‬‬
‫ار هُ ْم فِيهَ ا خَالِ ُدونَ ﴾ (البق رة‪ ،)39:‬فه ذه اآلي ات الكريم ة‬ ‫ك أَصْ َحابُ النَّ ِ‬ ‫بِآيَاتِنَا أُولَئِ َ‬
‫ترب ط الخل ود ب الكفر والتك ذيب بآي ات هللا‪ ،‬وبحق ائق الوج ود على ال رغم من قي ام‬
‫الحجج التي تدل عليها‪..‬‬
‫وه ذا يمث ل في الق وانين الخيان ة العظمى‪ ،‬ذل ك أن ع دم االع تراف باهلل‪ ،‬أو‬
‫اعتقاد الشركاء له‪ ،‬يخالف أصل الغاية من الوجود‪ ،‬وهي التعرف على هللا‪ ،‬والسير‬
‫إليه‪ ،‬ألنه ال كمال لإلنسان من دونه‪.‬‬
‫ومثل ذلك في المثال الذي أشرنا إليه سابقا‪ ،‬أولئك الطلبة المشاغبين ال ذين لم‬
‫يكتف وا بكس لهم‪ ،‬وال بش غبهم‪ ،‬وإنم ا راح وا يتم ردون على اإلدارة والق وانين ال تي‬
‫تحكمهم؛ فهم ب ذلك ال يمكنهم أن يس تفيدوا أب دا من مدرس ة ال يق رون به ا‪ ،‬وال‬
‫ببرامجها‪ ،‬وال بإدارتها‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن كل القوانين وفي كل العصور‪ ،‬ال تكتفي بالحكم على ه ؤالء‬
‫المج رمين بالس جن المؤب د‪ ،‬وإنم ا باإلع دام‪ ،‬خصوص ا إن أدى ه ؤالء دورهم في‬
‫إثارة الفتنة والشغب‪.‬‬
‫وبن اء على ه ذا‪ ،‬ف إن الق ائلين بقص ر الخل ود على أمث ال ه ؤالء ق د يك ون‬
‫المقص ود من ه ع دم ق ابليتهم لإلص الح‪ ،‬بخالف غ يرهم من المؤم نين‪ ،‬ذل ك أن‬
‫االع تراف هلل باأللوهي ة‪ ،‬ولله داة بالهداي ة‪ ،‬ل ه ت أثير كب ير في تس ريع اإلص الح‪،‬‬
‫وبالتالي الخروج من استحقاق العذاب‪.‬‬
‫ومن تلك النصوص التي ت ذكر أص ناف الخال دين في الع ذاب‪ ،‬قول ه تع الى‪:‬‬
‫ك‬ ‫ت أُولَئِ َ‬ ‫ور إِلَى ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬ ‫وت ي ُْخ ِر ُج ونَهُ ْم ِمنَ النُّ ِ‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ َكفَ رُوا أَوْ لِيَ ا ُؤهُ ُم الطَّا ُغ ُ‬
‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ (البقرة‪ ،)257 :‬وهي تشير إلى عدم التبعي ة لله داة‪،‬‬ ‫أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫واستبدالهم بالطواغيت‪ ،‬ولذلك بدل أن يسيروا سيرا تصاعديا نحو الكمال‪ ،‬يسيرون‬
‫سيرا نزوليا نحو االنتكاسة‪ ،‬وهو ما يؤهلهم الستحقاق الخلود في العذاب‪.‬‬
‫س‬ ‫ومثلها ما ورد في قوله تعالى‪ ﴿ :‬تَ َرى َكثِ يراً ِم ْنهُ ْم يَت ََولَّوْ نَ الَّ ِذينَ َكفَ رُوا لَبِ ْئ َ‬
‫ب هُ ْم خَالِ ُدونَ ﴾ (المائ دة‪،)80:‬‬ ‫ت لَهُ ْم أَ ْنفُ ُس هُ ْم أَ ْن َس ِخطَ هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم َوفِي ْال َع َذا ِ‬ ‫َما قَ َّد َم ْ‬
‫ونالحظ هنا‪ ،‬وفي كثير من اآليات الكريمة رب ط الغض ب والس خط اإللهي ب الخلود‬
‫في النار‪ ،‬وهذه اآلية تذكر من األسباب ذلك التولي للكفرة والطواغيت‪ ،‬وه و يع ني‬
‫بالضرورة اإلعراض عن الهداة‪.‬‬
‫ومن تلك النصوص التي ت ذكر أص ناف الخال دين في الع ذاب‪ ،‬قول ه تع الى‪:‬‬
‫ار هُ ْم فِيهَ ا خَالِ ُدونَ ﴾‬ ‫ص َحابُ النَّ ِ‬ ‫اس تَ ْكبَرُوا َع ْنهَ ا أُولَئِ كَ أَ ْ‬ ‫﴿ َوالَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآياتِنَ ا َو ْ‬
‫(ألعراف‪ ،)36:‬وهي تذكر صفة الكبر‪ ،‬والمرتبط بتكذيب آيات هللا‪ ،‬ذل ك أن الك بر‬
‫يتنافى تماما مع العبودية‪ ،‬ويستحيل على المستكبر أن يتحقق ل ه الس ير التص اعدي‬
‫المعرفي والسلوكي‪ ،‬ذلك أن كليهم ا يتطلب نفس ا لين ة هين ة س هلة يمكن ترويض ها‬
‫وإصالحها‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫كالسيل حرب للمكان العالي‬ ‫العلم حرب للفتى المتعالي‬
‫الس ْم َع‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وقبله ق ال هللا تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن فِي َذلِ كَ ل ِذك َرى لِ َم ْن َك انَ ل هُ قَلبٌ أوْ ألقَى َّ‬
‫َ‬

‫‪357‬‬
‫َوه َُو َش ِهي ٌد ﴾ [ق‪ ،]37 :‬فمن لم يستطع إلقاء السمع بتواضع‪ ،‬لن يتعلم أبدا‪.‬‬
‫وله ذا يص ف هللا تع الى المتقبلين آليات ه بك ل ص فات الخض وع والخش وع‬
‫والتواض ع‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬إِنَّ َم ا يُ ْؤ ِمنُ بِآيَاتِنَ ا الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِّكرُوا بِهَ ا خَ رُّ وا ُس َّجدًا‬
‫َو َسبَّحُوا بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوهُ ْم اَل يَ ْستَ ْكبِرُونَ ﴾ [السجدة‪ ،]15 :‬وقال‪﴿ :‬أُولَئِكَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع َم هَّللا ُ‬
‫َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ النَّبِيِّينَ ِم ْن ُذ ِّريَّ ِة آ َد َم َو ِم َّم ْن َح َم ْلنَ ا َم َع نُ ٍ‬
‫وح َو ِم ْن ُذرِّ يَّ ِة إِبْ َرا ِهي َم َوإِ ْس َرائِي َل‬
‫ات الرَّحْ َم ِن خَرُّ وا ُس َّجدًا َوبُ ِكيًّا ﴾ [مريم‪]58 :‬‬ ‫َو ِم َّم ْن هَ َد ْينَا َواجْ تَبَ ْينَا إِ َذا تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَ ُ‬
‫ولهذا يخبر هللا تعالى عن استحالة فتح أبواب سماء الحق ائق للمتك برين‪ ،‬ق ال‬
‫الس َما ِء َواَل‬ ‫اس تَ ْكبَرُوا َع ْنهَ ا اَل تُفَتَّ ُح لَهُ ْم أَبْ َوابُ َّ‬ ‫تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَاتِنَ ا َو ْ‬
‫اط َو َك َذلِكَ نَجْ ِزي ْال ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ [األع راف‪:‬‬ ‫يَ ْد ُخلُونَ ْال َجنَّةَ َحتَّى يَلِ َج ْال َج َم ُل فِي َس ِّم ْال ِخيَ ِ‬
‫‪]40‬‬
‫ومن تلك النصوص التي ت ذكر أص ناف الخال دين في الع ذاب‪ ،‬قول ه تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوقَالُوا لَ ْن تَ َم َّسنَا النَّا ُر إِاَّل أَيَّا ًما َم ْعدُو َدةً قُلْ أَتَّ ْ‬
‫خَذتُ ْم ِع ْن َد هَّللا ِ َع ْهدًا فَلَ ْن ي ُْخلِفَ هَّللا ُ عَهْ َدهُ‬
‫َطيئَتُ هُ‬ ‫ت بِ ِه خ ِ‬ ‫ب َس يِّئَةً َوأَ َح اطَ ْ‬‫أَ ْم تَقُولُونَ َعلَى هَّللا ِ َم ا اَل تَ ْعلَ ُم ونَ (‪ )80‬بَلَى َم ْن َك َس َ‬
‫ُ‬
‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ [البقرة‪ ،]81 ،80 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ َك َسبُوا‬ ‫فَأولَئِكَ أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫ت‬‫َاص ٍم َكأَنَّ َم ا أُ ْغ ِش يَ ْ‬ ‫ت َج َزا ُء َس يِّئَ ٍة بِ ِم ْثلِهَ ا َوتَ رْ هَقُهُ ْم ِذلَّةٌ َم ا لَهُ ْم ِمنَ هَّللا ِ ِم ْن ع ِ‬ ‫ال َّسيِّئَا ِ‬
‫ُ‬ ‫ُوجُوهُهُ ْم قِطَعا ً ِمنَ اللَّ ْي ِل ُم ْ‬
‫ار هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ ﴾ (يونس‪)27:‬‬ ‫ظلِما ً أولَئِكَ أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫وهي تش ير إلى تج وهر المك ثرين من ال ذنوب والم دمنين عليه ا بجوهره ا‪،‬‬
‫حيث تستحيل صورهم النفسية إلى تلك الجرائم‪ ..‬ذلك أن اإلنسان يعجن بس لوكه في‬
‫الدنيا الصبغة التي يرتضيها لنفسه‪ ،‬وله ذا ع بر هللا تع الى عن ذل ك اإلدم ان بكون ه‬
‫محيطا باإلنسان‪ ،‬ومستغرقا فيه‪ ،‬بحيث ال يستطيع االنفكاك عنه‪.‬‬
‫وهذا أخطر ما في الجرائم والذنوب‪ ،‬ذلك أن عقوبتها ال تحصر فقط في تل ك‬
‫السيئات التي ينالها من ارتكبها‪ ،‬وإنما في تأثيرها في النفس‪ ،‬وغلبته ا عليه ا‪ ،‬ح تى‬
‫ينتكس صاحبها انتكاسة خطيرة‪ ،‬يتحول بعدها إلى صورة ممثلة لتلك الذنوب‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا قوله ‪( :‬عليكم بالصدق فإن الص دق يه دي إلى ال بر وال بر‬
‫يهدي إلى الجنة‪ ،‬وم ا ي زال الرج ل يص دق ويتح رى الص دق ح تى يكتب عن د هللا‬
‫صديقا‪ ،‬وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفج ور يه دي إلى الن ار‪،‬‬
‫وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند هللا كذابا)(‪)1‬‬
‫فقد ذكر ‪ ‬في هذا الح ديث كيفي ة تج وهر اإلنس ان بم ا يعم ل من األعم ال‬
‫الصالحة أو السيئة‪ ،‬حتى تصبح صورته ممثلة لها‪ ،‬ولهذا كان الهداة إلى هللا ممثلين‬
‫للقيم النبيلة لتجوهرهم فيها‪ ،‬بس بب تمثلهم له ا‪ ،‬كم ا روي في الح ديث‪( :‬ك ان خلق ه‬
‫القرآن)(‪ )2‬أي أن رسول هللا ‪ ‬صار ممثال للحقائق والقيم القرآني ة لتجوهره ا في‬
‫ذاته‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم ‪.4721‬‬


‫‪ )(2‬رواه مسلم (‪)746‬‬

‫‪358‬‬
‫وهذا ما تحقق أيضا لورثته‪ ،‬وهو معنى الوراثة‪ ،‬فهي ال تعني مج رد الحف ظ‬
‫الذهني‪ ،‬وإنم ا تع ني التج وهر بالحق ائق والقيم‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬ثُ َّم أَوْ َر ْثنَا ْال ِكتَ َ‬
‫اب‬
‫الَّ ِذينَ اصْ طَفَ ْينَا ِم ْن ِعبَا ِدنَا﴾ [فاطر‪]32 :‬‬
‫ومن تلك النصوص التي ت ذكر أص ناف الخال دين في الع ذاب‪ ،‬قول ه تع الى‪:‬‬
‫ب َجهَنَّ َم خَالِ ُدونَ ﴾ (الزخرف‪ ،)74:‬وقوله‪َ ﴿ :‬و َم ْن يَ ْقتُلْ ُم ْؤ ِمنًا‬ ‫﴿ إِ َّن ْال ُمجْ ِر ِمينَ فِي َع َذا ِ‬
‫َظيمًا ﴾‬ ‫ب هَّللا ُ َعلَيْ ِه َولَ َعنَ هُ َوأَ َع َّد لَ هُ َع َذابًا ع ِ‬ ‫ُمتَ َع ِّمدًا فَ َجزَا ُؤهُ َجهَنَّ ُم خَالِدًا فِيهَا َوغ ِ‬
‫َض َ‬
‫[النس اء‪ ،]93 :‬وق د ورد في الح ديث الش ريف قول ه ‪( :‬ك ل ذنب عس ى هللا أن‬
‫يغفره إال الرجل يموت كافرا‪ ،‬أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا)(‪)1‬‬
‫بل قد ورد في الحديث ما يدل على الخلود المرتبط به ذه الجريم ة‪ ،‬ح تى ل و‬
‫فعله ا الش خص بنفس ه؛ ففي الح ديث ق ال رس ول هللا ‪( :‬من قت ل نفس ه بحدي دة‪،‬‬
‫فحديدته في يده‪ ،‬يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً‪ ،‬ومن ش رب‬
‫س ّما ً فقتل نفسه‪ ،‬فهو في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أب داً‪ ،‬ومن ت ردى‬
‫من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)(‪ ،)2‬وفي رواي ة‪:‬‬
‫(الذي يخنق نفسه يخنقها في النار‪ ،‬والذي يطعنها يطعنها في النار)(‪)3‬‬
‫وهذه النصوص المقدسة مطلقة تشمل المؤمنين وغيرهم‪ ،‬ولذلك؛ فإن إخراج‬
‫المؤمنين من هذه العقوبة بسبب إيمانهم نوع من التع دي والتأوي ل للنص‪ ،‬وه ذا م ا‬
‫جعل الكثير يتساهل في القتل‪ ،‬ويعتبره من الذنوب الهينة‪.‬‬
‫ومن األدلة العقلية على هذا‪ ،‬أن ذلك المجرم الذي قتل إنسانا‪ ،‬هو لم يقم بقتله‬
‫فقط‪ ،‬وإنما حال بينه وبين سيره التصاعدي للكمال‪ ،‬فقد يكون ذل ك المقت ول ك افرا‪،‬‬
‫وكان في إمكانه أن يؤمن‪ ،‬وب ذلك يك ون قتل ه ح ائال دون تحقي ق ذل ك‪ ،‬وله ذا يلقى‬
‫العقوبة الشديدة على ذلك‪ ،‬ال على قتل جسده فقط‪ ،‬وإنما على تلك الحيلول ة‪ ،‬وب ذلك‬
‫يتحمل وزر موته كافرا‪..‬‬
‫وقد رددنا في كتاب [أسرار األقدار] بتفصيل على تلك الش بهة ال تي يورده ا‬
‫بعض المبررين لتل ك الج رائم‪ ،‬وب دل أن يلص قوها ب المجرمين‪ ،‬يلص قونها بالق در‬
‫اإللهي‪ ،‬مع أن القدر اإللهي يتعامل مع الجميع وفق العدالة والرحمة اإللهية‪.‬‬
‫هذه نماذج عن أهم النصوص التي ورد فيه ا ذك ر الخل ود في الع ذاب‪ ،‬وهي‬
‫ترتبط في أكثر األحيان بالغضب اإللهي‪ ،‬وسنرى عند حديثنا عن الض الين‪ ،‬المزي د‬
‫من النصوص التي تفرق بين المغضوب عليهم والض الين‪ ،‬أو بين ال ذين كتب على‬
‫أعمالهم وجرائمهم الخلود في العذاب‪ ،‬وبين الذين قد يخف ف عنهم الع ذاب في مدت ه‬
‫أو في نوعه‪.‬‬
‫وبن اء على م ا ورد في النص وص المقدس ة‪ ،‬ف إن ه ؤالء ال ذين ق در عليهم‬

‫‪ )(1‬رواه النسائي (‪ )7/84‬وأبو نعيم في الحلية (‪ )4/147‬والطبراني في المعجم الكبير (‪.)10/119‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ ،)5778‬ومسلم (‪)109‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪)1365‬‬

‫‪359‬‬
‫الخلود في العذاب بسبب جرائمهم‪ ،‬ينزلون في الدركات بحسب ض خامة الج رم‪ ،‬ثم‬
‫قد يترقون‪ ،‬إن كانت لديهم القابلية لذلك‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم أن النفاق هو الجريمة الكبرى التي يس تحق أص حابها‬
‫ار َولَ ْن ت َِج َد‬ ‫ك اأْل َ ْس فَ ِل ِمنَ النَّ ِ‬
‫الدرك األسفل‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿:‬إِ َّن ْال ُمنَ افِقِينَ فِي ال َّدرْ ِ‬
‫َص يرا﴾ (النس اء‪ ،)145:‬وس ر ذل ك يرج ع إلى أن نفوس هم المطاط ة المرن ة‬ ‫لَهُ ْم ن ِ‬
‫المتحولة يصعب عليه ا أن تنتق ل من حال ة االنح راف إلى حال ة االس تقامة إال بع د‬
‫تطهير طويل عميق‪ ،‬وقد ال تستطيع فعل ذلك أبدا‪.‬‬
‫ب ـ مرتبة الضالين‪:‬‬
‫وهي دون مرتب ة المغض وب عليهم بكث ير‪ ،‬وإن ك ان كالهم ا يش تركان في‬
‫أصل الضالل‪ ،‬لكن المغضوب علي ه‪ ،‬يض يف إلى ض الله الك بر والظلم والجريم ة‬
‫ومواجهة الهداة‪ ،‬ولذلك تك ون جرائم ه أعظم‪ ،‬بخالف الض ال ال ذي ق د يهت دي إلى‬
‫الحق‪ ،‬ويذعن له بسهولة‪ ،‬إذا ما أقيمت عليه الحجة‪ ،‬أو توضح له البرهان‪.‬‬
‫وله ذا ن رى في الق رآن الك ريم نوع ا من التس اهل م ع الض الين بخالف‬
‫المغضوب عليهم‪ ،‬فإبراهيم عليه السالم في استغفاره لقريبه ت ذرع ل ذلك بكون ه من‬
‫الض الِّينَ ﴾‬ ‫َّ‬ ‫الض الين‪ ،‬كم ا ق ال هللا تع الى على لس انه‪َ ﴿ :‬وا ْغفِ رْ أِل َبِي إِنَّهُ َك انَ ِمنَ‬
‫[الشعراء‪]86 :‬‬
‫وهكذا ت ذرع موس ى علي ه الس الم بقتل ه للقبطي بقول ه‪ ﴿ :‬فَ َع ْلتُهَ ا إِ ًذا َوأَنَ ا ِمنَ‬
‫الضَّالِّينَ ﴾ [الشعراء‪]20 :‬‬
‫وهكذا أخبر هللا تعالى عن س رعة توب ة أص حاب الجن ة‪ ،‬وت بريرهم لخطئهم‬
‫﴿و َغدَوْ ا َعلَى َحرْ ٍد قَ ا ِد ِرينَ (‪ )25‬فَلَ َّما َرأَوْ هَ ا‬ ‫بكونهم كانوا من الضالين‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ضالُّونَ (‪ )26‬بَلْ نَحْ نُ َمحْ رُو ُمونَ (‪[ ﴾ )27‬القلم‪]28 - 25 :‬‬ ‫قَالُوا إِنَّا لَ َ‬
‫ولهذا ورد في الح ديث قول ه ‪ ‬في بي ان بعض مص اديق المغض وب عليهم‬
‫والضالين‪( :‬المغضوب عليهم اليهود‪ ،‬وإن الضالين النصارى)(‪)1‬‬
‫وهو حديث توجه له البعض بالتشكيك متوهم ا خالف ه للق رآن الك ريم‪ ،‬وذل ك‬
‫َاوةً لِلَّ ِذينَ آ َمنُ وا ْاليَهُ و َد‬ ‫اس َعد َ‬‫ليس صحيحا‪ ،‬فهو يوافق قوله تعالى‪ ﴿ :‬لَت َِجد ََّن أَ َش َّد النَّ ِ‬
‫َص ا َرى﴾ [المائ دة‪:‬‬ ‫َوالَّ ِذينَ أَ ْش َر ُكوا َولَت َِجد ََّن أَ ْق َربَهُ ْم َم َو َّدةً لِلَّ ِذينَ آ َمنُ وا الَّ ِذينَ قَ الُوا إِنَّا ن َ‬
‫‪ ،]82‬ثم علل سر كون النصارى أق رب م ودة لل ذين آمن وا بقول ه‪َ ﴿ :‬ذلِ كَ بِ أ َ َّن ِم ْنهُ ْم‬
‫ُ‬
‫ول تَ َرى‬ ‫َّس ِ‬ ‫نْز َل إِلَى الر ُ‬ ‫ِّيسينَ َو ُر ْهبَانًا َوأَنَّهُ ْم اَل يَ ْستَ ْكبِرُونَ (‪َ )82‬وإِ َذا َس ِمعُوا َما أ ِ‬ ‫قِس ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ق يَقولونَ َربَّنَا آ َمنا فاكت ْبنَا َم َع الش ا ِه ِدينَ ﴾‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أَ ْعيُنَهُ ْم تَفِيضُ ِمنَ الد ْم ِع ِم َّما ع ََرفوا ِمنَ ال َح ِّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫[المائدة‪]83 ،82 :‬‬
‫وهذا يشير إلى أن التواضع وسرعة االهتداء يك ون رديف ا للض الل‪ ،‬بخالف‬
‫المغضوب عليه‪ ،‬والذي قد تقام عليه كل أنواع الحجج‪ ،‬ومع ذلك يظ ل مص را على‬
‫عناده‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد (‪ ،)4/378‬والترمذي برقم (‪)2954 ،2953‬‬

‫‪360‬‬
‫وله ذا لم يكن الض الل في ح د ذات ه جريم ة‪ ،‬ب ل الجريم ة المرتبط ة ب ه هي‬
‫اإلصرار بعد بيان الحق‪ ،‬والذي قد يصل إلى حد الغض ب اإللهي‪ ،‬وله ذا ذكرن ا أن‬
‫كل المغضوب عليهم ضالين‪ ،‬ولكن ليس كل الضالين مغضوبا عليهم‪.‬‬
‫ذلك أن المغضوب عليهم‪ ،‬يضمون إلى الضالل المرتبط بهم تضليل غيرهم‪،‬‬
‫وهي جريمة ال يمكن تصور مدى فداعتها‪ ،‬ذلك أن ص احبها ال يتحم ل وزره فق ط‪،‬‬
‫وإنما يتحمل جميع أوزار من أضلهم‪.‬‬
‫ص ُّدوا ع َْن‬ ‫َّ‬
‫ويظه ر ه ذا المع نى بجالء في قول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن ال ِذينَ َكفَ رُوا َو َ‬
‫ضاَل اًل بَ ِعيدًا﴾ [النس اء‪ ،]167 :‬ثم ق ال بع دها‪ ﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ َكفَ رُوا‬ ‫ضلُّوا َ‬ ‫َسبِي ِل هَّللا ِ قَ ْد َ‬
‫ق َجهَنَّ َم خَالِ ِدينَ فِيهَا‬ ‫َوظَلَ ُموا لَ ْم يَ ُك ِن هَّللا ُ لِيَ ْغفِ َر لَهُ ْم َواَل لِيَ ْه ِديَهُ ْم طَ ِريقًا (‪ )168‬إِاَّل طَ ِري َ‬
‫ك َعلَى هَّللا ِ يَ ِسيرًا﴾ [النساء‪]169 ،168 :‬؛ فقد قرن هللا تعالى الخلود في‬ ‫أَبَدًا َو َكانَ َذلِ َ‬
‫جهنم بـ [الضالل البعيد]‪ ،‬وهو المرتبط بالصد عن س بيل هللا‪ ،‬وقرن ه ب الظلم‪ ،‬وه و‬
‫ي دل على أن الض الل وح ده ليس موجب ا للخل ود في جهنم إال إذا اق ترن ب ه الظلم‬
‫والصد عن سبيل هللا‪.‬‬
‫وبه ذا؛ ف إن المغض وب عليهم في الع ادة يكون ون من أئم ة الكف ر بخالف‬
‫الضالين الذين قد يكونون من األتباع البسطاء‪ ،‬الذين اشتبهت عليهم األم ور‪ ،‬وله ذا‬
‫يس هل عليهم الرج وع للح ق ح ال تبين ه‪ ،‬كم ا ذك ر هللا تع الى ذل ك عن ع وام ب ني‬
‫إس رائيل ال ذين وقع وا في عب ادة العج ل‪ ،‬فق د ذك ر س رعة ت وبتهم على خالف‬
‫ضلُّوا قَالُوا لَئِ ْن لَ ْم يَرْ َح ْمنَا‬‫السامري‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َّما ُسقِطَ فِي أَ ْي ِدي ِه ْم َو َرأَوْ ا أَنَّهُ ْم قَ ْد َ‬
‫َربُّنَا َويَ ْغفِرْ لَنَا لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ ﴾ [األعراف‪]149 :‬‬
‫ال‬‫بخالف السامري الذي عوقب‪ ،‬ولم يذكر شيئا عن توبت ه‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫ْض ةً ِم ْن أَثَ ِر‬ ‫ت قَب َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ْص رُوا بِ ِه فَقَبَ ْ‬ ‫ت بِ َما لَ ْم يَب ُ‬ ‫ك يَا َسا ِم ِريُّ (‪ )95‬قَا َل بَصُرْ ُ‬ ‫فَ َما ْ‬
‫خَطبُ َ‬
‫ال فَ ْاذهَبْ فَ إِ َّن لَ كَ فِي ْال َحيَ ا ِة أَ ْن‬ ‫ت لِي نَ ْف ِس ي (‪ )96‬قَ َ‬ ‫ك َس َّولَ ْ‬ ‫ال َّرسُو ِل فَنَبَ ْذتُهَا َو َك َذلِ َ‬
‫اس َوإِ َّن لَكَ َموْ ِع دًا لَ ْن تُ ْخلَفَ هُ َوا ْنظُ رْ إِلَى إِلَ ِه كَ الَّ ِذي ظَ ْلتَ َعلَيْ ِه عَا ِكفًا‬ ‫ول اَل ِم َس َ‬ ‫تَقُ َ‬
‫لَنُ َح ِّرقَنَّهُ ثُ َّم لَنَ ْن ِسفَنَّهُ فِي ْاليَ ِّم نَ ْسفًا﴾ [طه‪]97 - 95 :‬‬
‫وهك ذا أخ بر هللا تع الى عن الض الل المرتب ط بالمش ركين في قت ل أوالدهم‪،‬‬
‫حيث قال عنهم‪﴿:‬قَ ْد خَ ِس َر الَّ ِذينَ قَتَلُوا أَوْ اَل َدهُ ْم َسفَهًا بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم َو َح َّر ُموا َم ا َرزَ قَهُ ُم هَّللا ُ‬
‫ضلُّوا َو َما َكانُوا ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [األنعام‪]140 :‬‬ ‫ا ْفتِ َرا ًء َعلَى هَّللا ِ قَ ْد َ‬
‫وبن اء على ه ذا كل ه؛ ف إن الض الين يختل ف ج زاؤهم اختالف ا ش ديدا عن‬
‫المغضوب عليهم‪ ،‬أو الضالين ضالال بعيدا‪ ..‬ومراتبهم في العقاب تختلف ب اختالف‬
‫قربهم من الحق أو بعدهم عنه‪.‬‬
‫وقد ورد في الح ديث م ا يش ير إلى ه ذا‪ ،‬حيث أخ بر ‪ ‬عن بعض درك ات‬
‫جهنم‪ ،‬وأن العذاب فيها قاصر في كيفيته بكون المعذب في ضحضاح من ن ار يغلي‬
‫منه دماغه(‪.)1‬‬
‫‪ )(1‬ونحن نقبل هذا الحديث‪ ،‬ولكنا نرفض تطبيق ه على أبي ط الب‪ ،‬ذل ك أن ه من المق ربين الس ابقين بم ا قدم ه‬
‫لإلسالم من خدمات‪ ،‬كما ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب [رسائل إلى القرابة المظلومة]‬

‫‪361‬‬
‫وهذا يدل على أن ف ترة عذاب ه ق د ال تط ول‪ ،‬ألن ه في رحلت ه التربوي ة قط ع‬
‫ش وطا كب يرا‪ ،‬ولم يب ق بين ه وبين الس عادة إال بعض التبع ات‪ ،‬أو بعض الملك ات‬
‫النفسية التي يحتاج إلى قطعها‪ ،‬ليدخل بعدها مدرسة الجنة االبتدائية‪.‬‬
‫وق د ورد في الح ديث م ا يش ير إلى أن أه ل الن ار في حرك ة دائم ة بحس ب‬
‫اس تعداداتهم للتخلص من العقوب ة‪ ،‬وال دخول بع دها إلى الجن ة‪ ،‬مثلم ا يت اح لبعض‬
‫المس اجين في ال دنيا الكث ير من الف رص للخ روج من س جونهم‪ ،‬بش رط إثب ات‬
‫صالحهم‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث قوله ‪ ‬في آخر من يدخل الجنة‪(:‬آخر رجل يدخل الجنة‬
‫رجل يتقلب على الصراط ظهرا لبطن كالغالم يض ربه أب وه وه و يف ر من ه‪ ،‬يعج ز‬
‫عنه عمله أن يسعى فيقول‪ :‬يا رب بلغ بي الجنة ونجني من الن ار! في وحي هللا إلي ه‪:‬‬
‫عبدي أنجيتك من النار وأدخلتك الجنة تعترف لي بذنوبك وخطاياك؟ فيق ول‪ :‬العب د‪:‬‬
‫نعم يا رب وعزتك وجاللك لئن نجيتني من النار ألع ترفن ل ك ب ذنوبي وخطاي اي!‬
‫فيجوز الجسر ويقول فيما بينه وبين نفسه‪ :‬لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني‬
‫إلى النار! فيوحي هللا إليه‪ :‬عبدي اعترف لي بذنوبك وخطاياك أغفرها ل ك وأدخل ك‬
‫الجنة فيق ول العب د‪ :‬وعزت ك وجالل ك م ا أذنبت ذنب ا ق ط وال أخط أت خطيئ ة ق ط!‬
‫فيوحي هللا إليه‪ :‬عبدي إن لي عليك بين ة فيلتفت العب د يمين ا وش ماال فال ي رى أح دا‬
‫ممن ك ان يش هده في ال دنيا فيق ول‪ :‬ي ا رب أرني بينت ك! فيس تنطق هللا تع الى جل ده‬
‫ب المحقرات ف إذا رأى ذل ك العب د يق ول‪ :‬ي ا رب عن دي ‪ -‬وعزت ك ‪ -‬العظ ائم‬
‫المضمرات! فيوحي هللا إليه‪ :‬عبدي! أنا أعرف بها منك‪ ،‬اعترف لي بها أغفرها لك‬
‫وأدخلك الجنة‪ ،‬فيعترف العبد بذنوبه فيدخل الجنة‪ ،‬هذا أدنى أهل الجنة منزلة فكيف‬
‫بالذي فوقه)(‪)1‬‬
‫وهذا يدل على ما ذكرناه سابقا من أن المغض وب عليهم‪ ،‬وال ذين كتب عليهم‬
‫الخلود في النار‪ ،‬لم يفع ل ذل ك بهم إال لك ونهم ال يس تطيعون أن يس لموا هلل‪ ،‬وال أن‬
‫يس لكوا القيم ال تي أراده ا؛ فهم بمج رد أن تت اح لهم فرص ة التم رد‪ ،‬يتم ردون من‬
‫جديد‪ ،‬ولذلك كانوا هم السبب فيما يحصل لهم‪.‬‬
‫ولهذا نرى أنه قد تق ام أله ل الن ار ك ل حين أص ناف االختب ارات‪ ،‬فمن نجح‬
‫منهم فيها‪ ،‬خفف عليه العذاب‪ ،‬أو رفع عنه بحسب درج ة نجاح ه‪ ،‬ويش ير إلى ذل ك‬
‫الحديث الذي ذكرناه سابقا‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن العذاب اإللهي نابع من الرحمة اإللهي ة‪ ،‬ذل ك أن القص د من ه ه و‬
‫التطهير والتربية والترقي‪ ،‬وليس الع ذاب المج رد ال ذي ال يقص د من ه إال التش في‪،‬‬
‫فاهلل أعظم من أن يتشفى بأحد من خلقه‪.‬‬
‫وبذلك ف إن م ا ورد في الش رع من اص طالح (العقوب ات) ليس إال نوع ا من‬
‫المجاز(‪ ،)2‬فكم ا أن ه ال يق ال للج راح ال ذي يح اول جه ده أن يخلص الم ريض من‬
‫األذى الخطير الذي لحق بدنه معاقبا‪ ،‬فكذلك ال يقال للعمليات التي ت ترتب على ه ذا‬
‫‪ )(1‬رواه الطبراني في الكبير‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)402 /10‬‬

‫‪362‬‬
‫النوع من الخطايا بأنها عقوبات إال بنوع من المجاز‪ ،‬فالرحيم اللطيف يستحيل عليه‬
‫أن يعاقب لغير علة أو لغير ما تقتضيه الحكمة‪.‬‬
‫بناء على هذا؛ فإن الضالل نوعان‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬ضالل مرتبط بالحق ائق العقدية‪ :‬وه و أخط ر أن واع الض الل‪،‬‬
‫ذل ك أن العقائ د تش كل األس اس الفك ري ال ذي تب نى علي ه حي اة اإلنس ان‪ ،‬وبق در‬
‫التوهم ات‪ ،‬واالنحراف ات في ه ذا الج انب‪ ،‬بق در م ا يك ون االنح راف في القيم‬
‫السلوكية‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن من مقاصد الخلق التعريف باهلل‪ ،‬ولذلك ك ان الوق وع‬
‫في هذا النوع من الضالل مصادمة للغاية الكبرى من الخلق‪.‬‬
‫وبناء على هذا يختلف العقاب المرتبط بهذا الن وع ب اختالف درج ة الض الل‬
‫ونوعه‪ ،‬ودرجة اإلصرار عليه‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬ضالل مرتبط بالقيم السلوكية‪ :‬وه و الض الل الن اتج من غلب ة‬
‫النفس والهوى على اإلنسان‪ ،‬وهو أيضا تختل ف درجت ه بحس ب آث اره على النفس؛‬
‫ف إن طغ ا عليه ا‪ ،‬وتج وهرت بج وهره‪ ،‬ك ان الض الل بعي دا‪ ،‬وربم ا ي ؤدي إلى‬
‫االستمرار فترة طويلة في العذاب‪ ،‬بل قد ال يطيق من حص ل ل ه ذل ك الخ روج من‬
‫النار مطلقا‪ ،‬بسبب ترسخ تلك الصفات في نفس ه‪ ،‬كم ا أش ار إلى ذل ك قول ه تع الى‪:‬‬
‫ت بِ ِه َخ ِطيئَتُهُ فَأُولَئِ كَ أَ ْ‬
‫ص َحابُ النَّ ِ‬
‫ار هُ ْم فِيهَ ا خَالِ ُدونَ ﴾‬ ‫ب َسيِّئَةً َوأَ َحاطَ ْ‬
‫﴿ بَلَى َم ْن َك َس َ‬
‫[البقرة‪]81 :‬‬
‫أم ا إن ك ان دون ذل ك؛ فس يكون عقاب ه دون ذل ك‪ ،‬وق د يقتص ر على ف ترة‬
‫البرزخ‪ ،‬أو الموقف‪ ،‬أو غيرها من الدور التي هيأها هللا تعالى لتربية عباده‪.‬‬
‫وبناء على ذلك؛ ف إن من لم يتم تطه يره في ال دنيا‪ ،‬إم ا بالتوب ة النص وح‪ ،‬أو‬
‫ب المكفرات المختلف ة ال تي تستأص ل م ا في نفس ه من اله وى‪ ،‬س يتعرض ال محال ة‬
‫للتطهير بمختلف درجاته وأس اليبه في ال دار األخ رى‪ ،‬ذل ك أن ه يس تحيل أن ي دخل‬
‫الجن ة من لم تكتم ل طهارت ه؛ فحكم ة هللا تع الى اقتض ت تطه ير من يس كن الجن ة‬
‫تطهيرا متناسبا مع الجرائم التي عملها‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ مراتب المهتدين‪:‬‬
‫ونقصد بهم أولئك الذين وض عوا أق دامهم في الطري ق الص حيح للهداي ة‪ ،‬ولم‬
‫يب ق لهم س وى الس ير علي ه الس تكمال ت ربيتهم وتكميلهم بحس ب م ا يملك ون من‬
‫االستعدادات النفسية والعقلية‪.‬‬
‫وه ؤالء هم ال ذين يطل ق عليهم الق رآن الك ريم أه ل اليمين‪ ،‬وهم عم وم‬
‫المؤمنين‪ ،‬ذلك أن المقربين ليسوا سوى نخبة قليلة جدا من البشر‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪:‬‬

‫‪ )(2‬كم ا ورد في الح ديث‪ (:‬تع الوا ب ايعوني على أن ال تش ركوا باهلل ش يئا‪ ،‬وال تس رقوا وال تزن وا وال تقتل وا‬
‫أوالدكم‪ ،‬وال تأتوا ببهت ان تفترون ه بين أي ديكم وأرجلكم وال تعص وني في مع روف‪ ،‬فمن وفى منكم ف أجره على هللا‪،‬‬
‫ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة‪ ،‬ومن أص اب من ذل ك ش يئا فس تره هللا ف أمره إلى هللا إن‬
‫شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)‪ ،‬رواه البخارى (‪ ،3/1413‬رقم ‪)3679‬‬

‫‪363‬‬
‫ي ال َّش ُكورُ﴾ [سبأ‪]13 :‬‬ ‫﴿ َوقَلِي ٌل ِم ْن ِعبَا ِد َ‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن عدد المهتدين ابتداء‪ ،‬والذين لم يمروا على كير العقوبات اإللهي ة‬
‫قليل جدا مقارنة بالذين مروا على ذلك الكير‪ ،‬كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في عدة‬
‫أصحاب اليمين‪﴿ :‬ثُلَّةٌ ِمنَ اأْل َ َّولِينَ (‪َ )39‬وثُلَّةٌ ِمنَ اآْل ِخ ِرينَ ﴾ [الواقعة‪]40 ،39 :‬‬
‫ويشير إلى ذلك تلك اآليات الكريمة التي تدل على قلة المهتدين مقارنة بالذين‬
‫يغويهم الشيطان بسبب إعراضهم عن الهداة‪ ،‬واتباعهم ألهوائهم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َم ا‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْم‬ ‫ص َّد َ‬‫ص تَ بِ ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [يوس ف‪ ،]103 :‬وق ال‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد َ‬ ‫اس َولَ وْ َح َر ْ‬ ‫أَ ْكثَ ُر النَّ ِ‬
‫إِ ْبلِيسُ ظَنَّهُ فَ اتَّبَعُوهُ إِالَّ فَ ِريقًا ِّمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [س بأ‪ ،]20 :‬وق ال مخاطب ا إبليس‪:‬‬
‫﴿ألَ ْمألَ َّن َجهَنَّ َم ِمنكَ َو ِم َّمن تَبِ َعكَ ِم ْنهُ ْم أَجْ َم ِعينَ ﴾ [ص‪]85 :‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يبين مدى قل ة المهت دين مقارن ة ب المنحرفين‪ ،‬ومنه ا‬
‫قوله ‪( :‬عرضت عل ّي األمم فرأيت الن بي ومع ه الرهي ط‪ ،‬والن بي ومع ه الرج ل‬
‫والرجالن‪ ،‬والنبي وليس معه أحد)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪( :‬يقول هللا‪ :‬يا آدم‪ ،‬فيق ول‪ :‬لبي ك وس عديك‪ ،‬والخ ير‬
‫في ي ديك‪ ،‬ثم يق ول‪ :‬أخ رج بعث الن ار‪ ،‬ق ال‪ :‬وم ا بعث الن ار؟ ق ال‪ :‬من ك ل أل ف‬
‫تسعمائة وتسعة وتسعين‪ ،‬فذاك حين يشيب الصغير‪ ،‬وتضع ك ل ذات حم ل حمله ا‪،‬‬
‫وترى الناس سكارى وما هم بسكارى‪ ،‬ولكن عذاب هللا شديد) (‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪ ‬في تفسير قوله تع الى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ اتَّقُ وا َربَّ ُك ْم إِ َّن‬
‫َض ُع‬ ‫ت َوت َ‬ ‫ض َع ْ‬‫ض َع ٍة َع َّما أَرْ َ‬
‫َظي ٌم (‪ )1‬يَوْ َم ت ََروْ نَهَا ت َْذهَ ُل ُكلُّ ُمرْ ِ‬
‫َز ْل َزلَةَ السَّا َع ِة َش ْي ٌء ع ِ‬
‫اب هَّللا ِ َش ِدي ٌد ﴾‬ ‫ارى َولَ ِك َّن َع َذ َ‬ ‫ارى َو َما هُ ْم بِ ُس َك َ‬‫اس ُس َك َ‬ ‫ت َح ْم ٍل َح ْملَهَا َوتَ َرى النَّ َ‬‫ُكلُّ َذا ِ‬
‫[الحج‪( :]2 ،1 :‬ذاك يوم يُنادى آدم عليه السالم‪ ،‬فيناديه ربه عز وج ل‪ ،‬فيق ول‪ :‬ي ا‬
‫آدم ابعث بعث ا ً إلى الن ار‪ .‬فيق ول‪ :‬ي ا رب‪ ،‬وم ا بعث الن ار؟ فيق ول‪ :‬من ك ل أل ف‬
‫تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد في الجنة) (‪)3‬‬
‫أما انسجام قلة المهتدين م ع العدال ة والرحم ة اإللهي ة‪ ،‬فواض ح‪ ،‬ذل ك أن هللا‬
‫تعالى وفر لعب اده ك ل وس ائل الهداي ة‪ ،‬وت رك لهم ك ل الحري ة في االختي ار‪ ،‬لكنهم‬
‫بمشيئتهم اختاروا السبل المختلفة‪ ،‬وما كان هللا ليرغمهم على الهداية‪ ،‬ألنه ا اختي ار‬
‫ِّين قَ ْد تَبَيَّنَ الرُّ ْش ُد ِمنَ‬‫كْراهَ فِي ال د ِ‬ ‫شخصي‪ ،‬ال محل فيه لإلكراه‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬اَل إِ َ‬
‫ْال َغ ِّي ﴾ [البقرة‪]256 :‬‬
‫باإلضافة إلى ذل ك‪ ،‬ف إن الواق ع ي دل على ه ذا‪ ،‬حيث ن رى أتب اع المط ربين‬
‫والممثلين والمهرجين والمصفقين لكل الطغاة‪ ،‬أك بر بكث ير من ع دد أتب اع األنبي اء‬
‫والصالحين والهداة‪.‬‬
‫وذلك ال يعود فقط لوساوس الشيطان الذي توعد أن يغوي البش ر‪ ،‬وإنم ا لم ا‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪)220‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري (‪ ،)6530‬ومسلم (‪)222‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي (‪ ،)3169‬والنس ائي في (الس نن الك برى) (‪ ،)410 /6‬وأحم د (‪ .)19915( )435 /4‬ق ال‬
‫الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‬

‫‪364‬‬
‫في النفوس من ميل إلى الهوى والكسل‪ ،‬والذي يقعد به ا عن المجاه دة في ذات هللا‪،‬‬
‫م ع أن الهداي ة ال يمكن أن تتحق ق من دون المجاه دة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ‬
‫َجاهَدُوا فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت‪]69 :‬‬
‫ويشير إلى هذا قوله ‪( :‬حجبت النار بالشهوات‪ ،‬وحجبت الجن ة بالمك اره)‬
‫(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخ ر ق ال ‪( :‬لم ا خل ق هللا الن ار‪ ،‬ق ال لجبري ل‪ :‬اذهب ف انظر‬
‫إليها‪ ،‬فذهب فنظر إليها ثم ج اء‪ ،‬فق ال‪ :‬وعزت ك ال يس مع به ا أح د في دخلها‪ ،‬فحفه ا‬
‫بالشهوات‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب فانظر إليها‪ ،‬فذهب فنظر إليها‪ ،‬فلما رجع‪ ،‬قال‪ :‬وعزتك لقد‬
‫خشيت أن ال يبقى أحد إال دخلها)(‪)2‬‬
‫والواقع يدل على أن الطلبة النجباء المهتمين بدروسهم أقل بكثير من غيرهم‪،‬‬
‫وخاصة إن لم يكن في المدارس أي حزم يدفع للدراسة‪ ،‬ويتشدد مع المتكاسلين‪.‬‬
‫ولكن ه ذا ال يع ني بق اء األم ر دائم ا به ذه الص فة‪ ،‬وإنم ا تبقى الجن ة محال‬
‫الس تقبال التالمي ذ الج دد ك ل حين‪ ،‬وخاص ة من أولئ ك ال ذين لم تكن لهم س يئات‬
‫كثيرة‪ ،‬أو كانوا من البسطاء العوام البله الذين لم يكن فيهم من الكبر ما يح ول بينهم‬
‫وبين االهتداء للحق إذا عرفوه‪ ،‬فهم بمجرد أن تنتهي فترة تطهيرهم يدخلون الجن ة‪،‬‬
‫كتالميذ جدد‪ ،‬يستفيدون من الذين سبقوهم إليها‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا تلك األحاديث التي تذكر أوصاف أك ثر أه ل الجن ة‪ ،‬فق د ق ال‬
‫‪( :‬يدخل الجنةَ أقوام أفئدتهم مث ُل أفئدة الط ير)(‪ ،)3‬وفي تتم ة الح ديث في رواي ة‬
‫أخرى‪( :‬وأكثر أهل الجنة الب ُْله ُ)(‪)4‬‬
‫وهؤالء هم البسطاء الذين لم يرتكبوا من الذنوب المتعدية‪ ،‬م ا يقع د بهم م ددا‬
‫طويل ة في الع ذاب‪ ،‬باإلض افة إلى أن تواض عهم وخم ولهم وبس اطتهم تيس ر عليهم‬
‫ال دخول للجن ة‪ ،‬وفي درجاته ا ال دنيا‪ ،‬لل ترقي بع دها في س لم الكم ال بحس ب‬
‫استعداداتهم‪.‬‬
‫وقد فسر اإلمام الصادق البله‪ ،‬فق ال‪( :‬العاق ل في الخ ير‪ ،‬المتغاف ل عن الش ر‬
‫شهر ثالثة أيام)(‪)5‬‬ ‫ٍ‬ ‫الذي يصوم في ك ّل‬
‫وهو يعني بذلك أن هؤالء يقتصرون على الحد األدنى من ال دين‪ ،‬كم ا يش ير‬
‫إلى ذلك ما ورد في الحديث أن (رجال جاء إلى رسول هللا ‪ ،‬من أهل نج د‪ ،‬ث ائر‬
‫الرأس‪ ،‬حتى دنا من رسول هللا ‪ ،‬ف إذا ه و يس أل عن اإلس الم؟ فق ال رس ول هللا‬
‫‪« :‬خمس صلوات في اليوم والليلة»‪ .‬فقال‪ :‬ه ل علي غ يرهن؟ ق ال‪« :‬ال‪ ،‬إال أن‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ ،)6487‬ومسلم (‪)2822‬‬
‫‪ )(2‬رواه أبو داود (‪ ،)4744‬والترمذي (‪ ،)2560‬والنسائي ( ‪ ،)3 /7‬وأحمد (‪ ،)8379( )332 /2‬والحاكم (‪/1‬‬
‫‪)79‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد (‪. )2/331‬ومسلم (‪.)9/149‬‬
‫‪ )(4‬رواه البزار‪ ،‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪)79 /8‬‬
‫‪ )(5‬معاني األخبار‪ ،‬ص ‪..204‬‬

‫‪365‬‬
‫تطوع»‪ .‬فقال رسول هللا ‪« :‬وصيام رمضان»‪ .‬فقال‪ :‬هل علي غيره؟ ق ال‪« :‬ال‪،‬‬
‫إال أن تطوع»‪ .‬قال‪ :‬وذكر له رسول هللا ‪ ‬الزك اة‪ ،‬فق ال‪ :‬ه ل علي غيره ا؟ ق ال‪:‬‬
‫«ال‪ ،‬إال أن تط وع»‪ .‬ق ال‪ :‬ف أدبر الرج ل‪ ،‬وه و يق ول‪ :‬وهللا ال أزي د على ه ذا وال‬
‫أنقص منه‪ .‬فقال رسول هللا ‪« :‬أفلح إن صدق‪ ،‬أو دخل الجنة إن صدق»(‪)1‬‬
‫ويدخل أيضا في هؤالء أولئك ال ذين أص ابهم أن واع البالء في ال دنيا‪ ،‬وال تي‬
‫ساهمت في تطهير نفوسهم من الكبر والظلم وغيرها‪ ،‬كما يشير إلى ذل ك قول ه ‪:‬‬
‫(يود أهل العافية ي وم القيام ة حين يعطى أه ل البالء الث واب ل و أن جل ودهم ك انت‬
‫قرضت في الدنيا بالمقاريض)(‪)2‬‬
‫وي دخل أيض ا في ه ؤالء أولئ ك المستض عفين المظل ومين‪ ،‬ال ذين يتحم ل‬
‫ظالموهم أكثر أوزارهم‪ ،‬وربما يتحملوه ا جميع ا‪ ،‬في دخلون الجن ة من غ ير معان اة‬
‫عذاب‪ ،‬أو قد يمرون على بعض العذاب ال ذي يطه ر نفوس هم من الملك ات ال تي ال‬
‫تتناسب مع الجنة‪.‬‬
‫ويش ير إلى ذل ك قول ه ‪( :‬تح اجت الجن ة والن ار‪ ،‬فق الت الن ار‪ :‬أوث رت‬
‫بالمتكبرين والمتجبرين‪ ،‬وقالت الجنة‪ :‬فمالي ال يدخلني إال ضعفاء الناس وسقطهم؟‬
‫فقال هللا عز وجل للجنة‪ :‬أنت رحمتي أرحم ب ك من أش اء من عب ادي‪ ،‬وق ال للن ار‪:‬‬
‫إنما أنت عذابي‪ ،‬أعذب بك من أشاء من عبادي) (‪)3‬‬
‫ويدخل أيضا في هؤالء النساء‪ ،‬باعتب ارهم من المستض عفين المظل ومين في‬
‫أكثر فترات التاريخ‪ ،‬وقد روي عن اإلمام الصادق أن ه ق ال‪( :‬أك ثر أه ل الجنّ ة من‬
‫المستضعفين النساء‪ ،‬علم هللا ضعفهن فرحمهن)(‪)4‬‬
‫وهكذا روي عن اإلمام الباقر‪ ،‬فق د ح دث زرارة ق ال‪ :‬قلت ألبي جعف ر‪ :‬إنّي‬
‫أخشى أن ال يح ّل لي أن أتزوج من لم تكن على أمري‪ ،‬فقال‪« :‬م ا يمنع ك من البل ه‬
‫«هن المستض عفات من اللّ واتي ال ينص بن وال‬ ‫ّ‬ ‫من النس اء؟» قلت وم ا البل ه؟ ق ال‪:‬‬
‫يعرفن ما أنتم عليه)(‪)5‬‬
‫وبناء على هذا ال نرى صحة تلك األحاديث المشتهرة‪ ،‬والتي تذكر أن النساء‬
‫أكثر أهل النار‪ ،‬ذلك أن ال ذي دس ها في اإلس الم هم أولئ ك ال ذين أرادوا أن يعي دوا‬
‫الموقف الجاهلي من المرأة‪ ،‬ويدخلوه إلى اإلسالم ليشوهوا القيم التي جاء بها‪.‬‬
‫ومن تل ك األح اديث م ا ي روون أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬اطلعت في الجن ة‬
‫فرأيت أكثر أهلها الفقراء‪ ،‬واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري (‪ ، )3/235 ،1/18‬ومسلم (‪)1/31‬‬


‫‪ )(2‬الترمذي كتاب الزهد رقم (‪.)2403‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري (‪ ،)4850‬ومسلم (‪)2846‬‬
‫‪ )(4‬من ال يحضره الفقيه‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪..468‬‬
‫‪ )(5‬الكافي‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪..349‬‬
‫‪ )(6‬رواه البخاري ‪ 3241‬ومسلم ‪2737‬‬

‫‪366‬‬
‫ثم ي روون ح ديثا آخ ر يعلل ون ب ه ذل ك‪ ،‬وه و تعلي ل متناس ب م ع تل ك القيم‬
‫الجاهلية التي تريد من المرأة أن تكون عبدا لزوجها‪ ،‬ال ش ريكا ل ه‪ ،‬فق د نس بوا إلى‬
‫رسول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬أريت الن ار فلم أر منظ را ك اليوم ق ط أفظ ع ورأيت أك ثر‬
‫أهلها النساء) قالوا‪ :‬بم يا رسول هللا؟ قال‪( :‬بكفرهن) قيل‪ :‬يكفرن باهلل‪ ،‬قال‪( :‬يكفرن‬
‫العشير‪ ،‬ويكفرن اإلحس ان ل و أحس نت إلى إح داهن ال دهر كل ه ثم رأت من ك ش يئا‬
‫قالت‪ :‬ما رأيت منك خيرا قط) (‪)7‬‬
‫بناء على هذا كله‪ ،‬فإن أس س الهداي ة ال تي ذكره ا الق رآن الك ريم في س ورة‬
‫الفاتحة‪ ،‬والتي تتيح لهؤالء الدخول إلى الجنة‪ ،‬تتض من معن يين‪ ،‬نص عليهم ا قول ه‬
‫ص َراطَ الَّ ِذينَ‬ ‫الص َراطَ ْال ُم ْس تَقِي َم (‪ِ )6‬‬ ‫ك ن َْس ت َِعينُ (‪ )5‬اهْ ِدنَا ِّ‬‫ك نَ ْعبُ ُد َوإِيَّا َ‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬إِيَّا َ‬
‫أَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْي ِه ْم﴾ [الفاتحة‪]7 - 5 :‬‬
‫ففي قوله تعالى‪ ﴿ :‬إِيَّاكَ نَ ْعبُ ُد َوإِيَّاكَ نَ ْستَ ِعينُ ﴾ [الفاتحة‪ ]5 :‬بيان الس تعداد ه ذا‬
‫الص نف للس ير وف ق م ا تتطلب ه الغاي ة الك برى للخل ق‪ ،‬وهي التع رف على هللا‬
‫والتواصل معه‪ ،‬واالستعانة به لتحقيق ذلك‪.‬‬
‫ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْي ِه ْم﴾‬ ‫الص َراطَ ْال ُم ْس تَقِي َم (‪ِ )6‬‬ ‫وفي قول ه‪﴿ :‬اهْ ِدنَا ِّ‬
‫[الفاتحة‪ ]7 ،6 :‬بيان الستعداد هذا الصنف للتلقي والطاع ة واألدب م ع من جعلهم‬
‫هللا تعالى هداة إليه‪.‬‬
‫ذل ك أن االختب ار اإللهي ليس خاص ا بالعبودي ة هلل فق ط‪ ،‬وإنم ا ق د يتض من‬
‫التعام ل م ع من ي دعونا إلى ط اعتهم وتعظيمهم‪ ،‬وله ذا فش ل إبليس في االختب ار‬
‫الثاني‪ ،‬بعد أن أمره هللا تعالى بالسجود آلدم عليه السالم‪.‬‬
‫ولتبس يط ه ذا المع نى بلغتن ا المعاص رة‪ ،‬فإن ه يش ترط في أي ط الب يري د‬
‫االلتح اق ب أي مؤسس ة تربوي ة أن يع ترف بنظامه ا ومقرراته ا‪ ،‬وفي نفس ال وقت‬
‫يعترف بأساتذتها‪ ،‬ويتعهد بالتزام تعليماتهم وتوجيهاتهم‪.‬‬
‫وهكذا األمر م ع التربي ة اإللهي ة لعب اده‪ ،‬فال يمكن أن تتم بمع زل عن طاع ة‬
‫الرسل واتباعهم‪ ،‬كم ا ق ال هللا تع الى‪﴿ :‬قُ لْ إِ ْن ُك ْنتُ ْم تُ ِحبُّونَ هَّللا َ فَ اتَّبِعُونِي يُحْ بِ ْب ُك ُم هَّللا ُ‬
‫َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم (‪ )31‬قُلْ أَ ِطيعُوا هَّللا َ َوال َّرس َ‬
‫ُول فَإِ ْن تَ َولَّوْ ا فَإِ َّن هَّللا َ‬
‫اَل ي ُِحبُّ ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [آل عمران‪]32 ،31 :‬‬
‫ول ذلك ن رى اس تمرارية الرس ل عليهم الس الم في أداء وظ ائفهم في الجن ة‪،‬‬
‫مثلم ا مارس وها في ال دنيا‪ ..‬فص لتهم ب أممهم وأتب اعهم وأه ل الجن ة عموم ا تبقى‬
‫متواصلة‪ ،‬ألن الجنة ليست دار نعيم فقط‪ ،‬وإنما هي أيضا دار هداية وترق وس لوك‬
‫إلى هللا لتحقيق الغاية الكبرى من الخلق‪ ،‬وهي المعرفة باهلل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ مراتب المقربين‪:‬‬
‫المقرب ون هم الخالص ة النوراني ة لك ل ال واقعين في دائ رة التكلي ف اإللهي‪،‬‬
‫ولذلك هم المحققون لغايات الك ون والحي اة‪ ،‬وهم ل ذلك أيض ا الف ائزون ال ذين ك ان‬

‫‪ )(7‬رواه البخاري ‪1052‬‬

‫‪367‬‬
‫لنفوسهم من الصفاء والطهارة ما جعلهم يتشربون الهداية اإللهية بكل كيانهم‪ ،‬ولذلك‬
‫انصبغت حقائقهم بالصبغة اإللهية‪ ،‬ولم تتمكن لمة الشيطان من التأثير فيهم‪ ،‬وك انوا‬
‫من المخلَصين‪.‬‬
‫ويذكر القرآن الك ريم أن الش يطان ك ان يعلم بوج ود ه ذا الص نف‪ ،‬ويعلم أن‬
‫صراعه األكبر سيكون معهم‪ ،‬حيث يتولى هو زعامة فريق الض اللة‪ ،‬بينم ا ي تزعم‬
‫غْو ْيتَنِي أَل ُ َزيِّن ََّن‬
‫ال َربِّ بِ َم ا أَ َ‬ ‫هؤالء المقربون قيادة فريق الهداية‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬قَ َ‬
‫صينَ (‪ )40‬قَا َل هَ َذا‬ ‫ض َوأَل ُ ْغ ِويَنَّهُ ْم أَجْ َم ِعينَ (‪ )39‬إِاَّل ِعبَادَكَ ِم ْنهُ ُم ال ُم ْخلَ ِ‬
‫ْ‬ ‫لَهُ ْم فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ك ِمنَ‬ ‫ان إِاَّل َم ِن اتَّبَ َع َ‬ ‫ْس لَ كَ َعلَ ْي ِه ْم ُس ْلطَ ٌ‬
‫ي ُم ْس تَقِي ٌم (‪ )41‬إِ َّن ِعبَ ا ِدي لَي َ‬ ‫ص َراطٌ َعلَ َّ‬ ‫ِ‬
‫َاوينَ ﴾ [الحجر‪]42 - 39 :‬‬ ‫ْالغ ِ‬
‫وهذه الهبة اإللهية التي تحققت لهذا الصنف‪ ،‬لم تكن هبة مجردة‪ ،‬وإال لخالف‬
‫ذلك العدالة اإللهية‪ ،‬وإنما ك انت لم ا فيهم من االس تعدادات والقابلي ات المبني ة على‬
‫المجاهدات‪ ،‬وله ذا فهم مث ل غ يرهم من البش ر يتعرض ون للفتن‪ ،‬لكن الف رق بينهم‬
‫وبين غيرهم هو في مراقبتهم هلل‪ ،‬ومجاهدتهم ألنفس هم كم ا ق ال تع الى عن يوس ف‬
‫َص ِرفَ عَنْهُ‬ ‫ك لِن ْ‬ ‫ت بِ ِه َوهَ َّم بِهَا لَوْ اَل أَ ْن َرأَى بُرْ هَانَ َربِّ ِه َك َذلِ َ‬ ‫عليه السالم‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد هَ َّم ْ‬
‫صينَ ﴾ [يوسف‪]24 :‬‬ ‫السُّو َء َو ْالفَحْ َشا َء إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَا ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫فيوسف عليه السالم ـ كما تنص اآلية الكريمة ـ كان مث ل س ائر البش ر يمل ك‬
‫نفس الهمة الدافعة إلى الشر‪ ،‬ولكن الفرق بينه وبينهم هو في مجاهدته لنفسه‪ ،‬بسبب‬
‫برهان ربه الذي يمأل قلبه‪ ،‬ويجعله ال يتحرك أي حركة إال وفق القيم ال تي أم ر هللا‬
‫بمراعاتها‪.‬‬
‫وهذا هو معنى العصمة‪ ،‬والخالص‪ ،‬والذي في إمكان أي شخص أن يحصل‬
‫عليه إذا أدمن الرياضات والمجاهدات الروحي ة‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ َجاهَ دُوا‬
‫فِينَا لَنَ ْه ِديَنَّهُ ْم ُسبُلَنَا َوإِ َّن هَّللا َ لَ َم َع ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ [العنكبوت‪]69 :‬‬
‫ولهذا‪ ،‬ف إن المق ربين هم ال ذين انش غلوا في ال دنيا بتحقي ق الغاي ة من خلقهم‪،‬‬
‫وهي البحث عن سبل الهداية‪ ،‬والسير على ض وئها‪ ،‬والتح ول بع د ذل ك إلى من ارة‬
‫ُش َدهُ ِم ْن‬ ‫﴿ولَقَ ْد آتَ ْينَا إِبْ َرا ِهي َم ر ْ‬ ‫من مناراتها‪ ،‬كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السالم‪َ :‬‬
‫بْرا ِهي َم َملَ ُك وتَ‬ ‫﴿و َك َذلِكَ ن ِري إِ َ‬
‫ُ‬ ‫قَبْ ُل َو ُكنَّا بِ ِه َع الِ ِمينَ ﴾ [األنبي اء‪ ،]51 :‬وق ال‪َ :‬‬
‫ض َولِيَ ُكونَ ِمنَ ْال ُموقِنِينَ ﴾ [األنعام‪]75 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ال َّس َما َوا ِ‬
‫وقد أشار إليهم القرآن الكريم في سورة الفاتحة‪ ،‬ودعا إلى االلتزام بس راطهم‬
‫ص َراطَ الَّ ِذينَ أَ ْن َع ْمتَ َعلَ ْي ِه ْم﴾‬ ‫الص َراطَ ْال ُم ْس تَقِي َم (‪ِ )6‬‬ ‫المستقيم‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬اهْ ِدنَا ِّ‬
‫[الفاتحة‪]7 ،6 :‬‬
‫َّس و َل‬ ‫هَّللا‬ ‫ْ‬
‫وقد ع رف ه ؤالء‪ ،‬والمج امع الك برى لهم‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬و َمن يُ ِط ِع َ َوالر ُ‬
‫صدِّيقِينَ َوال ُّشهَدَا ِء َوالصَّالِ ِحينَ َو َح ُس نَ‬ ‫فَأُولَئِكَ َم َع الَّ ِذينَ أَ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ النَّبِيِّينَ َوال ِّ‬
‫ص َراطًا‬ ‫الى‪﴿:‬ولَهَ َد ْينَاهُ ْم ِ‬‫َ‬ ‫ك َرفِيقًا ﴾ [النس اء‪ ،]69 :‬وق د وردت بع د قول ه تع‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫ُم ْستَقِي ًما﴾ [النساء‪]68 :‬‬
‫وهذا يدل على أن السراط المستقيم ـ كما ذكرنا سابقا ـ ليس مجرد قيم نظرية‬

‫‪368‬‬
‫جامدة‪ ،‬وإنما ه و قيم واقعي ة حي ة يمثله ا ه ؤالء المقرب ون ال ذين جعلهم هللا تع الى‬
‫حججا على عباده‪ ،‬ومنارات يهتدون بها‪.‬‬
‫ولذلك ك انوا بمثاب ة األس اتذة في ه ذه المدرس ة الدنيوي ة‪ ،‬ومن ع رف كي ف‬
‫يص ل إليهم‪ ،‬ويهت دي به ديهم‪ ،‬ويل تزم بتع اليمهم؛ فإن ه ال محال ة من الن اجين‬
‫والناجحين‪.‬‬
‫ولهذا أخبر ‪ ‬أن دخول الجنة متوق ف على طاعت ه‪ ،‬ففي الح ديث ق ال ‪:‬‬
‫(كل أم تي ي دخلون الجن ة إال من أبى)‪ ،‬فق الوا‪ :‬ي ا رس ول هللا من ي أبى؟ ق ال‪( :‬من‬
‫أطاعني دخل الجنة‪ ،‬ومن عصاني فقد أبى)(‪)1‬‬
‫لكن الشيطان بعد يأسه من الرس ل عليهم الس الم‪ ،‬لم يكن يي أس من أتب اعهم‪،‬‬
‫ول ذلك ك ان يس تعمل ك ل الوس ائل الس تبدال الممثلين الحقيق يين للس راط المس تقيم‬
‫بغيرهم ممن يخدمون مشروعه‪.‬‬
‫وكانت هذه هي طريقته في التعامل مع األديان جميعا‪ ،‬مس تغال الحس د ال ذي‬
‫في النفوس التي تأبى الخضوع للغير‪ ،‬مثلما فعل هو عن دما أبى الس جود آلدم علي ه‬
‫ث هَّللا ُ النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّش ِرينَ َو ُمنْ ِذ ِرينَ‬ ‫الس الم‪ ،‬ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬ك انَ النَّاسُ أُ َّمةً َو ِ‬
‫اح َدةً فَبَ َع َ‬
‫اختَلَ فَ فِي ِه إِاَّل‬‫اختَلَفُ وا فِي ِه َو َم ا ْ‬ ‫اس فِي َم ا ْ‬ ‫ق لِيَحْ ُك َم بَ ْينَ النَّ ِ‬ ‫اب بِ ْال َح ِّ‬ ‫َوأَ ْنزَ َل َم َعهُ ُم ْال ِكتَ َ‬
‫اختَلَفُ وا‬ ‫َات بَ ْغيًا بَ ْينَهُ ْم فَهَ دَى هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا لِ َم ا ْ‬ ‫الَّ ِذينَ أُوتُوهُ ِم ْن بَ ْع ِد َما َجا َء ْتهُ ُم ْالبَيِّن ُ‬
‫اط ُم ْستَقِ ٍيم ﴾ [البقرة‪]213 :‬‬ ‫ص َر ٍ‬ ‫ق بِإِ ْذنِ ِه َوهَّللا ُ يَ ْه ِدي َم ْن يَ َشا ُء إِلَى ِ‬ ‫فِي ِه ِمنَ ْال َح ِّ‬
‫ثم عقب هللا تعالى على هذه اآلية الكريمة ب أن س نته في ه ذه األم ة هي نفس‬
‫سنته في سائر األمم‪ ،‬وأن الش يطان ال ذي أض ل س ائر األمم بإبعاده ا عن س راطها‬
‫المستقيم‪ ،‬وممثلي ه الش رعيين‪ ،‬س يفعل ذل ك م ع ه ذه األم ة أيض ا‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬أَ ْم‬
‫ضرَّا ُء‬ ‫َح ِس ْبتُ ْم أَ ْن تَ ْد ُخلُوا ْال َجنَّةَ َولَ َّما يَأْتِ ُك ْم َمثَ ُل الَّ ِذينَ خَ لَوْ ا ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َم َّس ْتهُ ُم ْالبَأْ َسا ُء َوال َّ‬
‫ول ال َّرسُو ُل َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َعهُ َمتَى نَصْ ُر هَّللا ِ أَاَل إِ َّن نَصْ َر هَّللا ِ قَ ِريبٌ ﴾‬ ‫َو ُز ْل ِزلُوا َحتَّى يَقُ َ‬
‫[البقرة‪]214 :‬‬
‫بناء على هذا؛ فإن الدور األكبر للمقربين في الدنيا واآلخرة هو كونهم ميزانا‬
‫للحقائق والقيم‪ ،‬وكونهم كذلك أساتذة له ا‪ ..‬وله ذا ف إن م راتب الجن ة تتح دد بحس ب‬
‫العالقة بهم وبالقيم التي جاءوا به ا‪ ،‬ودرك ات جهنم تتح دد بحس ب الع داوة المبطن ة‬
‫لهم‪ ،‬أو للقيم التي جاءوا بها‪ ..‬ولذلك كانوا قسماء للجنة والنار‪ ..‬فالجن ة لمن واالهم‪،‬‬
‫والنار لمن عاداهم‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪« :‬إن من أحبكم إلي‪ ،‬وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة‪ :‬أحاسنكم‬
‫أخالقا‪ ،‬وإن أبغضكم إلي‪ ،‬وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة‪ :‬الثرث ارون والمتش دقون‬
‫والمتفيهقون‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬قد علمنا الثرثارون والمتشدقون‪ ،‬فما المتفيهقون؟‬
‫قال‪ :‬المتكبرون»(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.214 / 13 ،‬‬


‫‪ )(2‬رواه الترمذي (‪)2018‬‬

‫‪369‬‬
‫وهذا الجوار ال يعني ما نفهم ه من البرك ة أو النعيم المرتبط ة بتل ك الدرج ة‬
‫ال تي نزل وا فيه ا فق ط‪ ،‬وإنم ا يع ني أن ه ؤالء ال ذين ت وفرت فيهم ه ذه الص فات‪،‬‬
‫سيكونون تالميذ مباشرين للرسل عليهم السالم في اآلخرة‪ ،‬مثلم ا ك انوا تالمي ذ لهم‬
‫في الدنيا‪.‬‬
‫هذا عن حقيقة هؤالء المقربين‪ ،‬والدور المناط بهم في اآلخرة‪ ،‬أم ا ص فاتهم؛‬
‫فقد ذكر القرآن الكريم الكثير منها‪ ،‬لتكون معيارا للقيم التي أراد هللا تعالى من عباده‬
‫التحقق بها‪.‬‬
‫ومن تلك اآليات ما ورد في وصف أولي األلباب‪ ،‬أي أصحاب العقول النقي ة‬
‫ت‬‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬ ‫لْق َّ‬ ‫الط اهرة‪ ،‬المس تعدة لتقب ل الهداي ة اإللهي ة‪ ،‬ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن فِي خَ ِ‬
‫هَّللا‬ ‫ْ‬
‫ب (‪ )190‬الَّ ِذينَ يَ ذ ُكرُونَ َ‬ ‫ت أِل ُولِي اأْل َ ْلبَ ا ِ‬ ‫ار آَل يَ ا ٍ‬‫ف اللَّيْ ِل َوالنَّهَ ِ‬ ‫اختِاَل ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َربَّنَ ا َم ا َخلَ ْقتَ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس َم َ‬‫ق َّ‬ ‫قِيَا ًما َوقُعُودًا َو َعلَى ُجنُوبِ ِه ْم َويَتَفَ َّكرُونَ فِي خَ ْل ِ‬
‫ار ﴾ [آل عمران‪]191 ،190 :‬‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫ك فَقِنَا َع َذ َ‬ ‫اطاًل ُس ْب َحانَ َ‬ ‫هَ َذا بَ ِ‬
‫ك ْال َح ُّ‬ ‫ُ‬
‫ق َك َم ْن‬ ‫نْز َل إِلَيْكَ ِم ْن َربِّ َ‬ ‫وقال في آية أخرى تصفهم‪﴿ :‬أَفَ َم ْن يَ ْعلَ ُم أَنَّ َم ا أ ِ‬
‫ق‬ ‫ب (‪ )19‬الَّ ِذينَ يُوفُونَ بِ َع ْه ِد هَّللا ِ َواَل يَ ْنقُضُونَ ْال ِميثَ ا َ‬ ‫هُ َو أَ ْع َمى إِنَّ َما يَتَ َذ َّك ُر أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ُوص َل َويَ ْخ َش وْ نَ َربَّهُ ْم َويَ َخ افُونَ ُس و َء‬ ‫ص لُونَ َم ا أَ َم َر هَّللا ُ بِ ِه أَ ْن ي َ‬ ‫(‪َ )20‬والَّ ِذينَ يَ ِ‬
‫الص اَل ةَ َوأَ ْنفَقُ وا ِم َّما‬ ‫ص بَرُوا ا ْبتِ َغ ا َء َوجْ ِه َربِّ ِه ْم َوأَقَ ا ُموا َّ‬ ‫ب (‪َ )21‬والَّ ِذينَ َ‬ ‫ْال ِح َس ا ِ‬
‫ُ‬ ‫َر َز ْقنَاهُ ْم ِس ًّرا َو َعاَل نِيَةً َويَ ْد َرءُونَ بِ ْال َح َس نَ ِة َّ‬
‫ار﴾ [الرع د‪:‬‬ ‫ك لَهُ ْم ُع ْقبَى ال َّد ِ‬ ‫الس يِّئَةَ أولَئِ َ‬
‫‪]22 - 19‬‬
‫وق د أخ بر الق رآن الك ريم أن ك ل أن واع الهداي ة ال يمكن أن يفهمه ا‪ ،‬وال أن‬
‫يستوعبها إال ه ذا الص نف‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿ :‬يُ ْؤتِي ْال ِح ْك َم ةَ َم ْن يَ َش ا ُء َو َم ْن يُ ْؤتَ‬
‫ب﴾ [البق رة‪ ،]269 :‬وق ال‪:‬‬ ‫ْال ِح ْك َمةَ فَقَ ْد أُوتِ َي خَيْرًا َكثِ يرًا َو َم ا يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُولُ و اأْل َ ْلبَ ا ِ‬
‫ات‬ ‫ب َوأُ َخ ُر ُمت ََش ابِهَ ٌ‬ ‫ات ه َُّن أُ ُّم ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫ات ُمحْ َك َم ٌ‬ ‫َاب ِمنْهُ آيَ ٌ‬ ‫ك ْال ِكت َ‬ ‫﴿ هُ َو الَّ ِذي أَ ْنزَ َل َعلَ ْي َ‬
‫ْ‬
‫فَأ َ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَتَّبِعُونَ َما تَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ْالفِ ْتنَ ِة َوا ْبتِغَا َء تَأ ِويلِ ِه َو َم ا يَ ْعلَ ُم‬
‫تَأْ ِويلَهُ إِاَّل هَّللا ُ َوالرَّا ِس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك لٌّ ِم ْن ِعنْ ِد َربِّنَ ا َو َم ا يَ َّذ َّك ُر إِاَّل‬
‫ب﴾ [آل عمران‪ ،]7 :‬وغيرها من اآليات الكريمة‪.‬‬ ‫أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫ومن تلك اآليات ما ورد في وصف المتقين‪ ،‬كما ق ال تع الى‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُمتَّقِينَ فِي‬
‫ت َو ُعيُو ٍن (‪ )15‬آ ِخ ِذينَ َما آتَاهُ ْم َربُّهُ ْم إِنَّهُ ْم َكانُوا قَب َْل َذلِ كَ ُمحْ ِس نِينَ (‪َ )16‬ك انُوا‬ ‫َجنَّا ٍ‬
‫ق‬ ‫ار هُ ْم يَ ْستَ ْغفِرُونَ (‪َ )18‬وفِي أَمْ َوالِ ِه ْم َح ٌّ‬ ‫قَلِياًل ِمنَ اللَّ ْي ِل َما يَ ْه َجعُونَ (‪َ )17‬وبِاأْل َ ْس َح ِ‬
‫ُوم ﴾ [الذاريات‪]19 - 15 :‬‬ ‫لِلسَّائِ ِل َو ْال َمحْ ر ِ‬
‫ومن تل ك اآلي ات م ا ورد في وص ف المخب تين‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬وبَ ِّش ِر‬
‫ص ابَهُ ْم‬ ‫الص ابِ ِرينَ َعلَى َم ا أَ َ‬ ‫ت قُلُ وبُهُ ْم َو َّ‬ ‫ْال ُم ْخبِتِينَ (‪ )34‬الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِك َر هَّللا ُ َو ِجلَ ْ‬
‫صاَل ِة َو ِم َّما َر َز ْقنَاهُ ْم يُ ْنفِقُونَ ﴾ [الحج‪]35 ،34 :‬‬ ‫َو ْال ُمقِي ِمي ال َّ‬
‫ومن تلك اآليات ما ورد في وصف عباد ال رحمن‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و ِعبَ ا ُد‬
‫ض هَوْ نًا َوإِ َذا خَاطَبَهُ ُم ْال َجا ِهلُونَ قَ الُوا َس اَل ًما (‪)63‬‬ ‫الرَّحْ َم ِن الَّ ِذينَ يَ ْم ُشونَ َعلَى اأْل َرْ ِ‬
‫اب‬ ‫اص ِرفْ َعنَّا َع َذ َ‬ ‫َوالَّ ِذينَ يَبِيتُونَ لِ َربِّ ِه ْم ُس َّجدًا َوقِيَامًا (‪َ )64‬والَّ ِذينَ يَقُولُ ونَ َربَّنَ ا ْ‬

‫‪370‬‬
‫ت ُم ْستَقَ ًّرا َو ُمقَا ًما (‪َ )66‬والَّ ِذينَ إِ َذا أَ ْنفَقُ وا‬ ‫َجهَنَّ َم إِ َّن َع َذابَهَا َكانَ َغ َرا ًما (‪ )65‬إِنَّهَا َسا َء ْ‬
‫ْرفُوا َولَ ْم يَ ْقتُرُوا َو َكانَ بَ ْينَ َذلِكَ قَ َوا ًما (‪[ ﴾)67‬الفرقان‪]67 - 63 :‬‬ ‫لَ ْم يُس ِ‬
‫ومن تلك اآليات ما ورد في وصف عباد هللا الذين جمعوا كل مقامات الخير‪،‬‬
‫اج ُدونَ‬
‫الس ِ‬ ‫الس ائِحُونَ الرَّا ِك ُع ونَ َّ‬ ‫كم ا ق ال تع الى‪﴿ :‬التَّائِبُونَ ْال َعابِ ُدونَ ْال َحا ِم ُدونَ َّ‬
‫ُوف َوالنَّاهُونَ ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َو ْال َح افِظُونَ لِ ُح دُو ِد هَّللا ِ َوبَ ِّش ِر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾‬ ‫اآْل ِمرُونَ بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫[التوبة‪]112 :‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة ال تي تص ف الص الحين‪ ،‬إم ا ب ذكر أعم الهم‪ ،‬أو‬
‫مواقفهم‪ ،‬أو بذكر بعض األحداث المرتبطة بهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ قَا َل لَهُ ُم‬
‫اخ َش وْ هُ ْم فَ زَا َدهُ ْم إِي َمانًا َوقَ الُوا َح ْس بُنَا هَّللا ُ َونِ ْع َم‬ ‫اس قَ ْد َج َم ُع وا لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫النَّاسُ إِ َّن النَّ َ‬
‫ْال َو ِكيلُ﴾ [آل عمران‪]173 :‬‬
‫ولهذا نرى في القرآن الكريم اهتماما كب يرا بتص نيف الن اس وف ق القيم ال تي‬
‫يؤمنون بها‪ ،‬ذلك أن منازل اآلخرة مرتبطة بتلك التصنيفات‪.‬‬
‫أما الجزاء المرتبط بهؤالء‪ ،‬فال يمكن تص وره‪ ،‬وق د ورد في س ورة الواقع ة‬
‫اإلشارة إلى بعض مجامعه‪ ،‬والتفريق بين ه وبين نعيم أص حاب اليمين‪ ،‬ق ال تع الى‪:‬‬
‫ت النَّ ِع ِيم (‪ )12‬ثُلَّةٌ ِمنَ‬ ‫ك ْال ُمقَ َّربُ ونَ (‪ )11‬فِي َجنَّا ِ‬ ‫الس ابِقُونَ (‪ )10‬أُولَئِ َ‬ ‫الس ابِقُونَ َّ‬ ‫﴿ َو َّ‬
‫ض ونَ ٍة (‪ُ )15‬متَّ ِكئِينَ َعلَ ْيهَ ا‬ ‫ُر َموْ ُ‬ ‫اأْل َ َّولِينَ (‪َ )13‬وقَلِي ٌل ِمنَ اآْل ِخ ِرينَ (‪َ )14‬علَى ُس ر ٍ‬
‫ْ‬
‫س ِم ْن‬ ‫ق َو َك أ ٍ‬ ‫ب َوأَبَ ِ‬
‫اري َ‬ ‫َان ُمخَ لَّ ُدونَ (‪ )17‬بِ أ َ ْك َوا ٍ‬ ‫ُمتَقَ ابِلِينَ (‪ )16‬يَطُ وفُ َعلَ ْي ِه ْم ِولْد ٌ‬
‫ُص َّد ُعونَ َع ْنهَا َواَل يُ ْن ِزفُ ونَ (‪َ )19‬وفَا ِكهَ ٍة ِم َّما يَتَ َخيَّرُونَ (‪َ )20‬ولَحْ ِم‬ ‫َم ِعي ٍن (‪ )18‬اَل ي َ‬
‫ون (‪َ )23‬ج زَ ا ًء بِ َم ا‬ ‫ال اللُّ ْؤلُ ِؤ ْال َم ْكنُ ِ‬ ‫ين (‪َ )22‬كأ َ ْمثَ ِ‬ ‫طَي ٍْر ِم َّما يَ ْشتَهُونَ (‪َ )21‬وحُو ٌر ِع ٌ‬
‫ْ‬
‫َكانُوا يَ ْع َملُونَ (‪ )24‬اَل يَ ْس َمعُونَ فِيهَ ا لَغْ ًوا َواَل تَأثِيمًا (‪ )25‬إِاَّل قِياًل َس اَل ًما َس اَل ًما (‬
‫‪[ ﴾)26‬الواقعة‪]26 - 10 :‬‬
‫ان (‬ ‫﴿ولِ َم ْن َخ افَ َمقَ ا َم َربِّ ِه َجنَّتَ ِ‬ ‫وهكذا ورد في سورة الرحمن‪ ،‬ق ال تع الى‪َ :‬‬
‫ان (‪)49‬‬ ‫َان (‪ )48‬فَبِأَيِّ آاَل ِء َربِّ ُك َما تُ َك ِّذبَ ِ‬ ‫ان (‪َ )47‬ذ َواتَا أَ ْفن ٍ‬ ‫ي آاَل ِء َربِّ ُك َما تُ َك ِّذبَ ِ‬ ‫‪ )46‬فَبِأ َ ِّ‬
‫ان (‪ )51‬فِي ِه َم ا ِم ْن ُك ِّل فَا ِكهَ ٍة‬ ‫ي آاَل ِء َربِّ ُك َم ا تُ َك ِّذبَ ِ‬ ‫فِي ِه َم ا َع ْينَ ا ِن تَجْ ِريَ ا ِن (‪ )50‬فَبِ أ َ ِّ‬
‫ق‬ ‫ش بَطَائِنُهَا ِم ْن إِ ْستَب َْر ٍ‬ ‫ان (‪ُ )53‬متَّ ِكئِينَ َعلَى فُ ُر ٍ‬ ‫ي آاَل ِء َربِّ ُك َما تُ َك ِّذبَ ِ‬ ‫ان (‪ )52‬فَبِأ َ ِّ‬ ‫َزوْ َج ِ‬
‫ف لَ ْم‬ ‫ات الطَّرْ ِ‬ ‫اص َر ُ‬ ‫ان (‪ )55‬فِي ِه َّن قَ ِ‬ ‫ي آاَل ِء َربِّ ُك َم ا تُ َك ِّذبَ ِ‬ ‫َو َجنَى ْال َجنَّتَ ْي ِن دَا ٍن (‪ )54‬فَبِأ َ ِّ‬
‫وت‬ ‫ان (‪ )56‬فَبِ أَيِّ آاَل ِء َربِّ ُك َم ا تُ َك ِّذبَا ِن (‪َ )57‬ك أَنَّه َُّن ْاليَ اقُ ُ‬ ‫ط ِم ْثه َُّن إِ ْنسٌ قَ ْبلَهُ ْم َواَل َج ٌّ‬ ‫يَ ْ‬
‫ان إِاَّل اإْل ِ حْ َس انُ (‬ ‫ان (‪ )59‬هَ لْ َج َزا ُء اإْل ِ حْ َس ِ‬ ‫َو ْال َمرْ َجانُ (‪ )58‬فَبِأَيِّ آاَل ِء َربِّ ُك َما تُ َك ِّذبَ ِ‬
‫ان﴾ [الرحمن‪ ،]61 - 46 :‬ويدل على ه ذا أن هللا تع الى‬ ‫ي آاَل ِء َربِّ ُك َما تُ َك ِّذبَ ِ‬ ‫‪ )60‬فَبِأ َ ِّ‬
‫ان﴾ [ال رحمن‪ ،]62 :‬أي تحتهم ا في‬ ‫ق ال بع د ذك ره له ذا النعيم‪َ ﴿ :‬و ِم ْن دُونِ ِه َم ا َجنَّتَ ِ‬
‫الفضل‪ ،‬وهذا يدل على أن الجنة األولى هي جنة المقربين‪.‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي نجد عند التدبر فيها الكث ير من الف روق بين‬
‫أنواع النعيم الحسي المرتبطة بأصحاب اليمين‪ ،‬وه ؤالء المق ربين‪ ..‬وهي ف روق ال‬
‫ترتبط فقط باللذات الحسية‪ ،‬وإنما بما تختزن من لذات معنوية أشرف وأعظم‪ ..‬وق د‬
‫ذكرنا سابقا امتزاج النعيم الحسي في الجنة ب النعيم المعن وي‪ ..‬فكالهم ا يه دفان إلى‬

‫‪371‬‬
‫التعريف باهلل‪ ،‬والتواصل معه‪.‬‬
‫وهكذا األمر في الدنيا عند هؤالء المقربين؛ فهم في تناولهم للذات الحسية‪ ،‬ال‬
‫يغفل ون عن هللا‪ ،‬ب ل يجعل ون من تل ك الل ذات مع ارج روحي ة توص لهم باهلل‪ ،‬وال‬
‫تحجبهم عنه‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬قُلْ بِفَضْ ِل هَّللا ِ َوبِ َرحْ َمتِ ِه فَبِ َذلِكَ فَ ْليَ ْف َرحُوا هُ َو خَيْ ٌر ِم َّما‬
‫يَجْ َمعُونَ ﴾ [يونس‪]58 :‬‬
‫وم ا أش ار إلي ه الق رآن الك ريم من أن واع النعيم الحس ي المرتب ط بهم مج رد‬
‫نم اذج‪ ،‬ألن النعيم الحقيقي المهي أ لهم ال يمكن وص فه‪ ،‬وق د ورد في الح ديث أن‬
‫موسى عليه السالم سأل ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة أجابه‪ ،‬لكن عندما س أله عن‬
‫أعالهم منزلة قال‪(:‬أولئك الذين أردت غرس ت ك رامتهم بي دي‪ ،‬وختمت عليه ا‪ ،‬فلم‬
‫تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)(‪)1‬‬
‫وفي الحديث القدسي الجليل قال ‪(:‬قال هّللا تعالى أعددت لعبادي الصالحين‬
‫ما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر) (‪)2‬‬
‫ولهذا عندما ذكر هللا هؤالء المقربين العارفين ب ربهم الس اجدين بك ل كي انهم‬
‫له‪ ،‬فقال ﴿إِنَّ َما ي ُْؤ ِمنُ بِآيَاتِنَا الَّ ِذينَ إِ َذا ُذ ِّكرُوا بِهَا خَرُّ وا ُس َّجدًا َو َسبَّحُوا بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوهُ ْم‬
‫ضا ِج ِع يَ ْد ُعونَ َربَّهُ ْم خَ وْ فًا َوطَ َمعًا َو ِم َّما‬ ‫اَل يَ ْستَ ْكبِرُونَ (‪ )15‬تَتَ َجافَى ُجنُوبُهُ ْم ع َِن ْال َم َ‬
‫َرزَ ْقنَاهُ ْم يُ ْنفِقُونَ ﴾ [السجدة‪ ]16 ،15 :‬ذكر بعدها ما أع د لهم من النعيم‪ ،‬فق ال‪﴿ :‬فَاَل‬
‫تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َما أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن قُ َّر ِة أَ ْعي ٍُن َجزَ ا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [السجدة‪]17 :‬‬

‫‪ )(1‬رواه مسلم (‪1/120‬و ‪)121‬‬


‫‪ )(2‬رواه البخاري‪ ،1/32 ،‬ومسلم‪.3/1 ،‬‬

‫‪372‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫يبحث هذا الكت اب في أهم المس ائل المرتبط ة بالمص ير اإلنس اني‪،‬‬
‫وسعادته وشقائه‪ ،‬والحقائق المرتبط ة ب ذلك‪ ،‬من خالل المص ادر الديني ة‬
‫والعقلية والعلمية‪ ،‬وذلك في أربعة فصول هي‪:‬‬
‫‪ .1‬الم وت والنش آت اإلنس انية‪ ،‬ويتض من األدل ة الديني ة والعقلي ة‬
‫والعلمية الدالة على أن الم وت ليس س وى مرحل ة من مراح ل اإلنس ان‪،‬‬
‫وليس عدما‪ ،‬وال فناء‪.‬‬
‫‪ .2‬البرزخ وتجليات الحقائق‪ ،‬ويتناول الحقائق واألحداث المرتبطة‬
‫بمرحلة البرزخ التي يكتش ف فيه ا اإلنس ان الكث ير من الحق ائق الغيبي ة‪،‬‬
‫ويتعذب بذلك‪ ،‬أو يتنعم به‪.‬‬
‫‪ .3‬المعاد ‪ ..‬وتجليات العدالة‪ ،‬ويتناول األحداث المرتبط ة بالحش ر‬
‫والنش ر والحس اب والم وازين والس راط وغيره ا من ال تي ورد في‬
‫النصوص المقدسة ذكر تفاصيلها‪ ،‬مع بيان عالقتها بص فات هللا ال تي دل‬
‫عليها العقل والنقل‪ ،‬وخاصة العدالة التي تتجلى في ذل ك الموق ف بأكم ل‬
‫صورها‪.‬‬
‫‪ .4‬الجزاء اإللهي‪ ..‬وتجليات العدالة والرحمة‪ ،‬وذكرنا فيه م ا ورد‬
‫في النص وص المقدس ة من أن واع الفض ل اإللهي أله ل الجن ة‪ ،‬وأن واع‬
‫العقوبات اإللهية ألهل النار‪ ،‬وعالقة ذلك كله بالعمل والسلوك‪.‬‬

‫‪373‬‬

You might also like