You are on page 1of 87

‫هذا الكتاب‬

‫يحاول هذا الكتاب أن يكشف بعض المؤامرات التي حيكت لالنحراف‬


‫بالصورة المقدسة الجميلة لرسول هللا ‪ ‬والتي أمرنا بأن نقتدي بها‬
‫ونجعلها مثلنا األعلى‪.‬‬
‫ذلك أنه تسلل إلى تراثنا‪ ،‬وخاصة كتب الحديث ما يجعل من رسول هللا‬
‫‪ ‬شخصا مختلفا تماما عن الشخص الذي صوره القرآن الكريم‪،‬‬
‫وصورته السنة النبوية الصحيحة‪.‬‬
‫وقد قام بهذه الوظيفة التشويهية الخطيرة أصحاب القلوب المريضة‪،‬‬
‫الذين ذكر القرآن الكريم وجودهم في عهد رسول هللا ‪ ،‬وبين مواقفهم‬
‫المختلفة من الحقائق والمعجزات الباهرات التي كانوا يرونها رأي‬
‫العين‪ ..‬لكنهم لسقمهم ال يبصرونها‪ ،‬ألن عيونهم الممتلئة بالعمش‪،‬‬
‫وأنوفهم المزكومة تحول بينهم وبين إدراك الحقائق كما هي‪.‬‬
‫والمشكلة التي حصلت بعد ذلك هي تص\\ورنا أن ه\\ذا الص\\نف من الن\\اس‬
‫ق\د زال بمج\رد وف\اة رس\ول هللا ‪ ..‬ومن ه\ذه الثغ\رة األمني\ة الخط\يرة‬
‫تسلل هؤالء ليشوهوا المع\\اني الس\\امية لل\\دين‪ ،‬فيحول\\وا س\\ماحته عنف\\ا‪،‬‬
‫وسالمه حربا‪ ،‬وصفاءه كدورة‪ ،‬وسعيه لتحقيق كل القيم النبيلة إلى سعي‬
‫لحربها والتنفير منها‪ ،‬وق\\د أع\\انهم على ذل\\ك انقط\\اع ال\\وحي ال\\ذي ك\\ان‬
‫يكشف خططهم‪ ،‬ويحذر من مؤامراتهم‪.‬‬
‫الدين‪ ..‬والدجل‬

‫(‪)6‬‬

‫رسول الله والقلوب المريضة‬


‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬

‫الطبعة الثانية‬

‫‪2016 – 1437‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬


‫المحتويات‬
‫‪6‬‬ ‫دعاء‬
‫‪7‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪16‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والعصمة‬
‫‪27‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والوسيلة‬
‫‪57‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والحياء‬
‫‪67‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والقوة‬
‫‪76‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والعلم‬
‫‪87‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والحكمة‬
‫‪100‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والشياطين‬
‫‪110‬‬ ‫رسول هللا ‪ ..‬والسحرة‬

‫‪5‬‬
‫دعاء‬
‫إلي))ك ي))ا س))يدي ي))ا رس))ول هللا ‪ ..‬ي))ا منب))ع األن))وار القدس))ية‪،‬‬
‫والحقائق العلوية ‪ ..‬يا مشرق الحكمة العلمي))ة والعملي))ة ‪ ..‬ي))ا رحم))ة‬
‫هللا للعالمين‪ ..‬نمد أيدينا خاضعين متذللين‪ ،‬نس))ألك ونتوس))ل ب))ك إلى‬
‫هللا ‪ ..‬يا من جعلك هللا بابا من أبواب لطفه‪ ،‬وعينا من عيون رحمت))ه‬
‫‪ ..‬أن تأخذ بأيدينا لتخرجنا من أوهام الس))نة المذهبي))ة‪ ،‬ل))تزج بن))ا في‬
‫بح))ار أن))وار الس))نة النبوي))ة‪ ،‬فنعرف))ك ح))ق معرفت))ك‪ ،‬ونق))درك ح))ق‬
‫قدرك‪ ،‬ونلتزم بسنتك التي ت))دعونا إلى المحب))ة والس))الم والتس))امح‪،‬‬
‫ونبتعد عن السنة التي نس))بت إلي))ك زورا وبهتان))ا‪ ،‬وال))تي ت))دعو إلى‬
‫البغض والعنف واإلرهاب‪ ..‬حتى نلق))اك ي))ا رس))ول هللا وأنت راض‬
‫عنا‪ ،‬لتسقينا بيدك الشريفة المقدسة شربة من كوثر الحق))ائق األزلي))ة‬
‫ال نظمأ بعدها أبدا‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫مقدمة‬
‫من أخطر أنواع القلوب التي حدثنا القرآن الكريم عنه))ا (القلب الم))ريض)‪ ،‬وه))و‬
‫قلب يستقبل الحقائق كسائر القلوب‪ ،‬لكن)ه ال يس)تقبلها كم)ا هي في الواق)ع‪ ،‬ب)ل يمزجه)ا‬
‫بأهوائه وأمراضه ونفسه‪ ،‬فلذلك يع))بر عنه))ا إذا م))ا أتيح ل))ه ذل))ك بلغ))ة مريض))ة س))قيمة‬
‫ممتلئة بالكدورة‪.‬‬
‫وقد ذكر القرآن الكريم وجود هذا الص))نف من القل))وب في عه))د رس))ول هللا ‪،‬‬
‫وبين م))واقفهم المختلف))ة من الحق))ائق والمعج))زات الب))اهرات ال))تي ك))انوا يرونه))ا رأي‬
‫العين‪ ..‬لكنهم لسقمهم ال يبصرونها‪ ،‬ألن عيونهم الممتلئة ب))العمش‪ ،‬وأن))وفهم المزكوم))ة‬
‫تحول بينهم وبين إدراك الحقائق كما هي‪ ،‬كما قال المتنبي‪:‬‬
‫الزالال‬ ‫يَج ْد ُم ّراً ب ِه ال َما َء ُّ‬ ‫ك ذا فَ ٍم ُم ٍّر َم ِر ٍ‬
‫يض‬ ‫و َم ْن يَ ُ‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ذكره القرآن الكريم من موقف أصحاب هذه القلوب من‬
‫)زلَ ْ‬ ‫ُ‬
‫ت ُس)و َرةٌ‬ ‫تنزل السور القرآنية الممتلئ))ة بالمع))اني الس))امية‪ ،‬ق))ال تع))الى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َم))ا أ ْن) ِ‬
‫فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زَ ا َد ْتهُ هَ ِذ ِه إِي َمانًا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُوا فَ))زَا َد ْتهُ ْم إِي َمانً))ا َوهُ ْم يَ ْستَب ِْش)رُونَ (‬
‫‪َ )124‬وأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم َم َرضٌ فَزَا َد ْتهُ ْم ِرجْ سًا إِلَى ِرجْ ِس ِه ْم َو َم))اتُوا َوهُ ْم َك))افِرُونَ (‬
‫‪[ ﴾)125‬التوبة‪]125 ،124 :‬‬
‫فالسورة المنزلة واحدة‪ ..‬ولكنها تختل))ف في اس))تقبالها بحس))ب جه))از االس))تقبال‪،‬‬
‫فأما المؤمنون الطاهرون أصحاب القلوب السامية النقي))ة فتزي))دهم تل)ك الس))ورة إيمان))ا‪،‬‬
‫وتع))رج بهم في آف))اق ال))روح‪ ،‬ليص))حبوا المأل األعلى‪ ..‬بينم))ا ت))نزل بأص))حاب القل))وب‬
‫المريضة إلى الدركات السفلى‪ ،‬وتزيدهم رجسا إلى رجسهم‪.‬‬
‫وهي في ذلك مثل المطر النازل من السماء‪ ،‬فإن))ه إذا ن))زل على الزه))ور الطيب))ة‬
‫زادها طيبا‪ ،‬ومأل األجواء من حولها بعبقها الجميل‪ ،‬لكنه إذا ما ن))زل على المس))تنقعات‬
‫مأل األجواء من حولها برائحتها الكريهة‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما أخبر ب))ه الق))رآن الك))ريم عن المواق))ف المختلف))ة من ع))دد المالئك))ة‬
‫الم))وكلين بجهنم‪ ،‬وال))ذي وج))د قب))وال وطمأنين))ة من المؤم))نين‪ ،‬ووج))د ش))كا وريب))ة من‬
‫ار إِاَّل‬
‫اب النَّ ِ‬ ‫ص) َح َ‬ ‫﴿و َم))ا َج َع ْلنَ))ا أَ ْ‬
‫الكافرين ومن أصحاب القل)وب المريض)ة‪ ،‬ق)ال تع)الى‪َ :‬‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫)اب َويَ))زدَا َد ال ِذينَ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َماَل ئِ َكةً َو َما َج َع ْلنَا ِع َّدتَهُ ْم إِاَّل فِ ْتنَةً لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا لِيَ ْستَ ْيقِنَ الَّ ِذينَ أوتوا ال ِكت) َ‬
‫َاب َو ْال ُم ْؤ ِمنُونَ َولِيَقُ))و َل الَّ ِذينَ فِي قُلُ))وبِ ِه ْم َم) َرضٌ‬ ‫َاب الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِكت َ‬ ‫آ َمنُوا إِي َمانًا َواَل يَرْ ت َ‬
‫ُضلُّ هَّللا ُ َم ْن يَ َش)ا ُء َويَ ْه) ِدي َم ْن يَ َش)ا ُء َو َم))ا يَ ْعلَ ُم‬ ‫كي ِ‬ ‫َو ْال َكافِرُونَ َما َذا أَ َرا َد هَّللا ُ بِهَ َذا َمثَاًل َك َذلِ َ‬
‫ك إِاَّل ه َُو َو َما ِه َي إِاَّل ِذ ْك َرى لِ ْلبَ َش ِر﴾ [المدثر‪]31 :‬‬ ‫ُجنُو َد َربِّ َ‬
‫والقرآن الكريم يرسم لنا صورا كثيرة عن معاناة رسول هللا ‪ ‬مع هذه األنواع‬
‫من القلوب‪ ،‬ومن ذلك مواقفهم في صد الهجومات التي كان يتعرض لها المسلمون ك))ل‬
‫ار ُعونَ فِي ِه ْم‬ ‫)رى الَّ ِذينَ فِي قُلُ))وبِ ِه ْم َم) َرضٌ ي َُس) ِ‬ ‫حين من طرف أعدائهم‪ ،‬قال تع))الى‪ ﴿ :‬فَتَ) َ‬
‫)ر ِم ْن ِع ْن) ِد ِه فَي ْ‬ ‫ح أَوْ أَ ْم) ٍ‬ ‫صيبَنَا دَائِ َرةٌ فَ َع َس)ى هَّللا ُ أَ ْن يَ))أْتِ َي بِ) ْ‬ ‫يَقُولُونَ ن َْخ َشى أَ ْن تُ ِ‬
‫ُص)بِحُوا‬ ‫)الفَ ْت ِ‬
‫َعلَى َما أَ َسرُّ وا فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم نَا ِد ِمينَ ﴾ [المائدة‪]52 :‬‬
‫قد يكون ما ذكرناه هنا من المتفق علي))ه بين المس))لمين جميع))ا‪ ،‬لكن المش))كلة هي‬

‫‪7‬‬
‫تصورنا أن هذا الص))نف من الن))اس ق))د زال بمج))رد وف))اة رس))ول هللا ‪ ..‬فبع))د وفات))ه‬
‫مباشرة ـ كما ينص أصحاب السنة المذهبية ـ تحول الناس بجميع أصنافهم إلى مؤم))نين‬
‫طيبين ممتلئين بالعدالة‪ ..‬ولذلك يمكنن))ا أن نأخ))ذ ال))دين والق))رآن واله))دي اإللهي من أي‬
‫كان من دون أن نعرضه على الحقائق السامية الناصعة ال))تي ج))اء ال))دين لل))دعوة إليه))ا‬
‫عمال واعتقادا‪.‬‬
‫ومن ه))ذه الثغ))رة األمني))ة الخط))يرة تس))لل أص))حاب القل))وب المريض))ة ليش))وهوا‬
‫المعاني السامية للدين‪ ،‬فيحولوا سماحته عنفا‪ ،‬وسالمه حربا‪ ،‬وصفاءه ك))دورة‪ ،‬وس))عيه‬
‫لتحقيق كل القيم النبيلة إلى سعي لحربها والتنفير منه))ا‪ ،‬وق))د أع))انهم على ذل))ك انقط))اع‬
‫الوحي الذي كان يكشف خططهم‪ ،‬ويحذر من مؤامراتهم‪.‬‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إلى الدور الذي يقوم به أمثال ه))ؤالء في تحري))ف ال))دين‬
‫انطالقا من مصادره المقدسة‪ ،‬فق))ال‪َ ﴿ :‬و َم))ا أَرْ َس) ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِ))كَ ِم ْن َر ُس)و ٍل َواَل نَبِ ٍّي إِاَّل إِ َذا‬
‫الش ) ْيطَانُ ثُ َّم يُحْ ِك ُم هَّللا ُ آيَاتِ ) ِه َوهَّللا ُ َعلِي ٌم‬ ‫تَ َمنَّى أَ ْلقَى ال َّش ْيطَانُ فِي أُ ْمنِيَّتِ ِه فَيَ ْن َس ) ُخ هَّللا ُ َم))ا ي ُْلقِي َّ‬
‫اس)يَ ِة قُلُ))وبُهُ ْم َوإِ َّن‬ ‫)رضٌ َو ْالقَ ِ‬ ‫َح ِكي ٌم (‪ )52‬لِيَجْ َع َل َما ي ُْلقِي ال َّش ْيطَانُ فِ ْتنَةً لِلَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم َم) َ‬
‫ك فَي ُْؤ ِمنُ))وا بِ) ِه‬ ‫ق ِم ْن َربِّ َ‬ ‫ق بَ ِعي) ٍد (‪َ )53‬ولِيَ ْعلَ َم الَّ ِذينَ أُوتُ))وا ْال ِع ْل َم أَنَّهُ ْال َح) ُّ‬ ‫الظَّالِ ِمينَ لَفِي ِشقَا ٍ‬
‫اط ُم ْس)تَقِ ٍيم (‪َ )54‬واَل يَ))زَ ا ُل الَّ ِذينَ‬ ‫ص) َر ٍ‬ ‫فَتُ ْخبِتَ لَ)هُ قُلُ))وبُهُ ْم َوإِ َّن هَّللا َ لَهَ))ا ِد الَّ ِذينَ آ َمنُ))وا إِلَى ِ‬
‫َكفَرُوا فِي ِمرْ يَ ٍة ِم ْنهُ َحتَّى تَأْتِيَهُ ُم السَّا َعةُ بَ ْغتَةً أَوْ يَ))أْتِيَهُ ْم َع) َذابُ يَ))وْ ٍم َعقِ ٍيم (‪[ ﴾)55‬الحج‪:‬‬
‫‪]55 - 52‬‬
‫فه))ذه اآلي)ات الكريم)ة ـ وال))تي ط))ال معناه)ا التحري))ف هي األخ))رى ـ ت))بين أن‬
‫الشياطين يستعينون بأصحاب القل))وب المريض))ة لتحري))ف ال))وحي اإللهي عن مقاص))ده‬
‫السامية‪ ،‬لكن الذين أوتوا العلم يقفون بالمرصاد في وجه هذه القلوب‪ ،‬والتحريفات التي‬
‫جاءت بها‪.‬‬
‫انطالقا من ه))ذه المع))اني نح))اول ـ ببعض الج))رأة ـ في ه))ذا الكت))اب أن نكش))ف‬
‫بعض الم))ؤامرات ال))تي حيكت لالنح))راف بالص))ورة المقدس))ة الجميل))ة لرس))ول هللا ‪‬‬
‫والتي أمرنا بأن نقتدي بها ونجعلها مثلنا األعلى‪.‬‬
‫فقد تسلل إلى تراثنا وخاصة كتب الحديث م))ا يجع))ل من رس))ول هللا ‪ ‬شخص))ا‬
‫مختلف))ا تمام))ا عن الش))خص ال))ذي ص))وره الق))رآن الك))ريم‪ ،‬وص))ورته الس))نة النبوي))ة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫ولذلك نحن ال ننكر بعض ما ورد في السنة كما يدعي المرجف))ون‪ ،‬وإنم))ا نق))ارن‬
‫ما ورد في السنة بما ورد في القرآن الكريم‪ ..‬فإن وافقته‪ ،‬فبها‪ ،‬وإال ضربنا بها ع))رض‬
‫الجدار‪.‬‬
‫ب)ل إنن))ا ال نكتفي بعرض))ها على الق)رآن الك))ريم فق))ط‪ ،‬ب)ل نعرض))ها على الس))نن‬
‫النبوية األخرى‪ ..‬والتي هي أكثر صحة‪ ،‬ومحل اتفاق من األمة جميعا‪.‬‬
‫وما نفعله في هذه المجال ه))و نفس م))ا يفعل))ه الفقه))اء عن))د تع))ارض النص))وص‪،‬‬
‫فيرجحون ما دلت عليه األدلة القطعية على ما دلت عليه األدل))ة الظني))ة‪ ،‬ح))تى ل))و ك))ان‬
‫الدليل الذي يردونه حديثا في البخاري أو في مسلم أو في غيرهما من مصادر السنة‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وقد ضرب جمال الدين القاسمي ـ في تبريره النتقاده الشديد لحديث س))حر الن))بي‬
‫‪ ‬ـ األمثلة على ذلك من فعل السلف الذين يعتمدهم أصحاب السنة المذهبية‪ ،‬فنقل عن‬
‫اإلم))ام الغ))زالي قول))ه في (المستص))فى)‪( :‬م))ا من أح))د من الص))حابة إال وق))د ر ّد خ))بر‬
‫الواحد‪ .‬كر ّد عل ّي خبر أبي سنان األشجعي في قصة (بروع بنت واشق) وقد ظهر من))ه‬
‫أنه كان يحلف على الحديث‪ .‬وكر ّد عائشة خبر ابن عمر في تع))ذيب الميت ببك))اء أهل))ه‬
‫(‪)1‬‬
‫عليه‪ .‬وظهر من عمر نهيه ألبي موسى وأبي هريرة عن الحديث)‬
‫ونقل عن ابن تيمية في (المس )وّدة) قول))ه‪( :‬الص))واب أن من ر ّد الخ))بر الص))حيح‬
‫كما كانت الصحابة ترده‪ ،‬العتقاده غلط الناقل أو كذبه‪ ،‬العتقاد ال))را ّد أن ال))دليل ق))د دل‬
‫على أن الرسول ال يقول هذا‪ ،‬فإن هذا ال يكفر وال يفسق‪ ،‬وإن لم يكن اعتق))اده مطابق))ا‪،‬‬
‫فقد ر ّد غير واح)د من الص)حابة غ)ير واح)د من األخب)ار ال)تي هي ص)حيحة عن)د أه)ل‬
‫(‪)2‬‬
‫الحديث)‬
‫ونقل عن العالمة الفناري في (فصول البدائع) قوله‪( :‬وال يضلل جاحد اآلحاد)‬
‫ثم قال تعقيبا على ذلك كله‪( :‬والمسألة معروفة في األص))ول‪ ،‬وإنم))ا توس))عت في‬
‫نقوله))ا ألني رأيت من متعص))بة أه))ل ال))رأي من أك))بر رد خ))بر رواه مث))ل البخ))اري‪،‬‬
‫وضلل منكره‪ ،‬فعلمت أن هذا من الجهل بفن األصول‪ ،‬ال بل بأصول مذهبه‪ .‬كما رأيت‬
‫عن الفناري‪ .‬ثم قلت‪ :‬العهد بأهل الرأي أن ال يقيموا للبخ))اري وزن))ا‪ .‬وق))د ردوا الم))ئين‬
‫(‪)3‬‬
‫من مروياته بالتأويل والنسخ‪ ،‬فمتى صادقوه حتى يضللوا من ر ّد خبرا فيه؟)‬
‫ومن األمثل))ة الواض))حة على ذل))ك موق))ف اإلم))ام مال))ك من الح))ديث ال))ذي رواه‬
‫البخ))اري ومس))لم عن حكيم بن ح))زام أن رس))ول هللا ‪ ‬ق))ال‪( :‬البيع))ان بالخي))ار م))ا لم‬
‫يتفرقا‪ ،‬فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما‪ ،‬وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)‬
‫والذي يدل بصيغة قطعية على أن لكل من المتبايعين حق إمضاء العقد أو إلغائ))ه‬
‫ماداما لم يتفرقا باألبدان‪.‬‬
‫وقد ورد ما يؤكد هذا من السنن األخرى‪ ،‬فقد روى البيهقي عن عبد هللا بن عمر‬
‫قال‪( :‬بعت من أمير المؤمنين عثمان ماالً بالوادي بمال له بخي))بر‪ ،‬فلم))ا تبايعن))ا رجعت‬
‫على عقبي حتى خرجت من بيته خش))ية أن ي))ردني ال))بيع‪ ،‬وك))انت الس))نة أن المتب))ايعين‬
‫بالخيار حتى يتفرقا)‬
‫وقد ذهب إلى ه))ذا جم))اهير العلم))اء من الص))حابة والت))ابعين‪ ..‬لكن اإلم))ام مال))ك‬
‫خالف ذلك‪ ،‬ورد الحديث ح))تى نق))ل عن ابن أبي ذئب –وهو من كب))ار علم))اء المدينة ‪-‬‬
‫(‪)4‬‬
‫أنه لما ذكر له أن مالكا لم يعمل به‪ ،‬قال‪( :‬يستتاب‪ ،‬فإن تاب‪ ،‬وإال ضربت عنقه)‬
‫بل أك))د موقف))ه ه))ذا اإلم))ام أحم))د نفس))ه حيث ق))ال عن ابن أبي ذئب‪( :‬ه))و أورع‬
‫‪1‬‬
‫() محاسن التأويل‪.578 /9 :‬‬
‫‪2‬‬
‫() محاسن التأويل ‪.578 /9 :‬‬
‫‪3‬‬
‫() محاسن التأويل‪.578 /9 :‬‬
‫‪4‬‬
‫() سير أعالم النبالء‪.49 /1 :‬‬

‫‪9‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وأقول بالحق من مالك)‬
‫لكن مع ذلك نجد العلماء جميعا يعت))ذرون لمال))ك‪ ،‬ويقف))ون من))ه موقف))ا طيب))ا‪ ،‬ب))ل‬
‫يبررون قوله‪.‬‬
‫والمالكي))ة إلى اآلن ال زال))وا يأخ))ذون بقول))ه في المس))ألة‪ ،‬وال يأخ))ذون بالح))ديث‬
‫الوارد في صحيحي البخاري ومسلم‪.‬‬
‫بل إن ال))ذهبي ـ م))ع تش))دده م))ع أي ناق))د أوص))له ال))دليل إلى خالف م))ا في كتب‬
‫الح))ديث ـ يعت))ذر لمال))ك‪ ،‬وي))رد على الناق))دين ل))ه‪ ،‬ويق))ول في رده على اإلم))ام أحم))د‪،‬‬
‫وموقفه من ابن أبي ذئب‪( :‬لو كان ورعا كما ينبغي‪ ،‬لما قال هذا الكالم الق))بيح في ح))ق‬
‫إمام عظيم‪ ،‬فمالك إنم)ا لم يعم)ل بظ))اهر الح)ديث‪ ،‬ألن)ه رآه منس)وخا‪ ،‬وقي)ل‪:‬عم)ل ب)ه‪،‬‬
‫وحمل قوله‪ :‬حتى يتفرقا‪ ،‬على التلفظ باإليجاب والقبول‪ ،‬فمال))ك في ه))ذا الح))ديث‪ ،‬وفي‬
‫كل حديث له أجر والب))د‪ ،‬ف))إن أص))اب ازداد أج))را آخ))ر‪ ،‬وإنم))ا ي))رى الس))يف على من‬
‫أخطأ في اجتهاده الحرورية‪ ،‬وبكل حال فكالم األقران بعضهم في بعض ال يع))ول على‬
‫كثير منه‪ ،‬فال نقصت جاللة مال)ك بق)ول ابن أبي ذئب في)ه‪ ،‬والض)عف العلم)اء ابن أبي‬
‫(‪)2‬‬
‫ذئب بمقالته هذه‪ ،‬بل هما عالما المدينة في زمانهما)‬
‫وهذا الذي قاله الذهبي طيب ج))دا‪ ،‬ودلي))ل على روح التس))امح م))ع الخالف‪ ،‬لكن‬
‫ليته عمم هذا مع كل منكر لحديث ال يرى انسجامه مع ال))دين‪ ،‬أو م))ع القيم النبيل))ة ال))تي‬
‫جاء بها‪.‬‬
‫ولذلك ندعو الحريصين على السنة المطه))رة أال يتش))نجوا عن))دما ن))رد ح))ديثا في‬
‫البخاري أو في مسلم أو في غيرهما‪ ،‬ألن أصحابها ـ أوال ـ لم ينزلوها منزل)ة كت)اب هللا‬
‫من حيث العصمة والقبول المطلق‪ ،‬وـ ثانيا ـ نحن ال نرفض بعض ما فيها لذاته‪ ،‬وإنم))ا‬
‫نرفضه لعدم انسجامه وتوافقه مع نصوص أكثر صحة‪ ،‬وأعلى مرتب))ة‪ ،‬وأوله))ا الق))رآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫ونحن نستغرب من الذي يعتذر لمالك ويجتهد في نصرته حتى لو كان ذلك على‬
‫حساب ما اتفق عليه البخاري ومسلم‪ ،‬وفي قض)ية فرعي)ة ج))دا‪ ،‬وم)ع ذل)ك يتش))نج‪ ،‬ب))ل‬
‫يرمي بالكفرة والزندقة من يرد بعض األحاديث التي تشوه صورة رس))ول ‪ ،‬وتنس))خ‬
‫تل))ك الص))ورة الجميل))ة ال))تي ص))وره به))ا الق))رآن الك))ريم‪ ،‬وص))ورته به))ا الكث))ير من‬
‫األحاديث النبوية المتفق على صحتها‪.‬‬
‫ونحب في ه))ذا المح))ل أيض))ا أن ننك))ر نك))يرا ش))ديدا على من يتج))رأ على كتب‬
‫الحديث بمدارسها المختلف))ة ‪ ..‬كص))حيحي البخ))اري ومس))لم وس))نن الترم))ذي والنس))ائي‬
‫وابن ماجة وغيرها من كتب الحديث في المدرسة السنية‪ ..‬أو كتاب الكافي في األصول‬
‫والفروع للكليني‪ ،‬أو تهذيب األحك))ام واالستبص))ار للطوس))ي‪ ،‬أو من ال يحض))ره الفقي))ه‬
‫للشيخ الصدوق‪ ..‬وغيرها من كتب الحديث في المدرسة الشيعية‪ ..‬أو مس))ند الربي))ع بن‬
‫‪1‬‬
‫() سير أعالم النبالء‪.49 /1:‬‬
‫‪2‬‬
‫() سير أعالم النبالء‪.49 /1 :‬‬

‫‪10‬‬
‫حبيب في المدرسة اإلباضية‪.‬‬
‫فكتب الح)))ديث هي المح)))ال ال)))تي جم)))ع فيه)))ا الح)))ديث بص)))حيحه وض)))عيفه‬
‫وموضوعه‪ ،‬ول))ذلك من الخط))أ الكب))ير أن نس))ب مص))درا ك))امال للح))ديث بس))بب بعض‬
‫األحاديث الم)ردودة في)ه‪ ..‬ب)ل ل)و لم يص)ح من كت)اب كام)ل إال ح)ديث واح)د لك)ان من‬
‫األدب مع رسول هللا ‪ ‬أن نحترم ذلك الكتاب‪.‬‬
‫لهذا فإني ـ مع ردي بعض األحاديث الواردة في المصادر الحديثية المختلفة ـ ال‬
‫أرد األحاديث مع اعتقادي أن رسول هللا ‪ ‬قالها أو فعله))ا ‪ ..‬ف))ذلك عين الض))الل‪ ،‬ب))ل‬
‫عين الكفر‪ ،‬فمن يتجرأ على تكذيب رسول هللا ‪ ‬ال يبقى له من اإلسالم شيء‪.‬‬
‫ومثل ذلك فإني ال أتهم الصحابي الذي روى الحديث‪ ،‬ألن الحديث لم نس)معه من‬
‫الصحابة مباش))رة‪ ،‬وإنم))ا ورد إلين))ا عن طري))ق طوي))ل ق))د يختل))ط في))ه الحاب))ل بالناب))ل‪،‬‬
‫والمحق من المبطل‪.‬‬
‫ومثل ذلك ال أتهم صاحب الكت))اب ال))ذي ورد في))ه الح))ديث‪ ،‬ألن أك))ثر المح))دثين‬
‫ك))انوا يجمع))ون األح))اديث‪ ،‬وي))تركون المواق))ف منه))ا ومن فهمه))ا للفقه))اء والمفس))رين‬
‫وغيرهم‪ ،‬كما قال ‪ ( :‬نضر هللا امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه‪ ،‬ف))رب حام))ل‬
‫(‪)1‬‬
‫فقه إلى من هو أفقه منه‪ ،‬ورب حامل فقه ليس بفقيه)‬
‫ومثل ذلك ال أتهم أي راو من الرواة بأنه هو من وضع الحديث ألن ذلك غيب ‪..‬‬
‫وهللا أعلم به‪.‬‬
‫كل الذي أفعله هو أني أقارن الح))ديث بالص))ورة ال))تي وردت في الق))رآن الك))ريم‬
‫ح)ول رس))ول هللا ‪ ،‬وورد مثله)ا في األح)اديث الكث)يرة‪ ،‬وف))وق ذل)ك تؤي)دها الفط))رة‬
‫الصافية والعقل السليم‪ .‬فإن وجدت الحديث موافقا لها‪ ،‬قلت به‪ ،‬وصدقته ح))تى ل))و ك))ان‬
‫راويه متهما بالضعف‪ ..‬وكل حديث مخالف لذلك أنكرته ونقدته حتى لو كان الراوي قد‬
‫وثق من الجميع‪..‬‬
‫ألني أعتقد أنه من الصعوبة‪ ،‬بل من المحال التوثيق المطلق والتضعيف المطل))ق‬
‫﴿و ِم َّم ْن َحوْ لَ ُك ْم ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ‬
‫ب‬ ‫ألي راو‪ ،‬فقد قال تعالى لرسول هللا ‪ ‬في شأن المنافقين‪َ :‬‬
‫)اق اَل تَ ْعلَ ُمهُ ْم نَحْ نُ ن ْعل ُمهُ ْم﴾ [التوب))ة‪،]101 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُمنَافِقُونَ َو ِم ْن أَ ْه ِل ْال َم ِدينَ) ِة َم) َ‬
‫)ردُوا َعلَى النِّفَ) ِ‬
‫فإن كان رسول هللا ‪ ‬يخفى عليه ـ بحسب اآلية الكريمة ـ بعض المن))افقين‪ ،‬فكي))ف ال‬
‫يخفى على ابن معين أو ابن أبي ح))اتم أو البخ))اري بعض أص))حاب القل))وب المريض))ة‬
‫الذين تسللوا لكتب الحديث ليجعلوها وسيلة لتشويه رسول هللا ‪ ،‬وتحريف الدين‪.‬‬
‫بعد هذا قد يقول قائل‪ :‬لم االص))طياد في المي))اه العك))رة؟ ولم الح))ديث في األم))ور‬
‫المتشابهة؟ ولم التصدي لما يثير الفتنة؟‬
‫والجواب لكل من يقدر رسول هللا ‪ ‬حق قدره بسيط‪ ،‬ذلك أن قط))رة واح))دة من‬
‫الس))م يمكنه))ا أن تح))ول من الطع))ام اللذي))ذ س))ما ق))اتال‪ ..‬والس))كوت على من وض))ع تل))ك‬
‫القطرة بحجة صغر حجمها سكوت على من يسمم الناس ويقتلهم‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫وهكذا األم))ر بالنس))بة للس))نة المطه))رة‪ ..‬فق))د دس))ت بعض األح))اديث في ج))وانب‬
‫مختلفة لتشوه صورة رسول هللا ‪ ..‬وحديث واحد منها يمكنه أن يحطم تل))ك الص))ورة‬
‫الجميلة ليحولها إلى الجهة المعاكسة تماما‪.‬‬
‫ونحن في حياتنا‪ ،‬وفي عالقاتنا المختلفة نمارس هذا‪ ،‬فنحن قد نصطدم مع بعض‬
‫الناس‪ ،‬بل نهجرهم هجرا تاما لشيء فعلوه‪ ،‬أو موقف وقفوه حتى لو كان مح))دودا ج))دا‬
‫وبسيطا جدا‪ ،‬لكننا نلغي به كل حسنات من فعل ذلك الفعل‪ ،‬أو وقف ذلك الموقف‪.‬‬
‫وهكذا فعل المتسللون من أصحاب القل))وب المريض))ة عن))دما أرادوا أن يش))وهوا‬
‫صورته ‪ ،‬فقد وضعوا بعض األحاديث في كل مجال من المجاالت لينسخوا بها ك))ل‬
‫الكماالت والجماالت تماما مثلما فعلوا مع القرآن الك))ريم حين نس))خوا بآي))ة الس))يف ك))ل‬
‫آيات الرحمة والسماحة والسالم‪..‬‬
‫ومثلما رددنا على أولئك في كتابنا (القرآن ‪ ..‬واأليدي اآلثمة)‪ ،‬ن))رد على ه))ؤالء‬
‫في كتابن))ا ه))ذا (رس))ول هللا ‪ ..‬والقل))وب المريض))ة)‪ ،‬ون))رد عليهم في كتابن))ا اآلخ))ر‬
‫(المدارس السلفية ‪ ..‬والوثنية المقدسة)‬

‫‪12‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والعصمة‬

‫من أهم ما يم)يز ال)ذين يص))طفيهم هللا للوس)اطة بين)ه وبين خلق)ه عن غ)يرهم من‬
‫الناس (العصمة)‪ ،‬ألنها تعني الصفاء التام للمعدن ال))ذي يتلقى عن هللا‪ ،‬ويك))ون واس))طة‬
‫بينه وبين خلقه‪ ..‬ولذلك ورد في النصوص المقدسة الدعوة المطلق))ة لالهت))داء به))ديهم‪..‬‬
‫وفي ك))ل أح))والهم‪ ،‬كم))ا ق))ال تع))الى بع))د ذك))ره لبعض أس))ماء الرس))ل عليهم الص))الة‬
‫والسالم‪﴿ :‬أُولَئِكَ الَّ ِذينَ هَدَى هَّللا ُ فَبِهُدَاهُ ُم ا ْقتَ ِد ْه ﴾ [األنعام‪]90 :‬‬
‫وهكذا أمرنا هللا تع))الى ب))أن نل))تزم ك))ل ش))يء من رس))ول هللا ‪ ‬التزام))ا مطلق))ا‪،‬‬
‫فقال‪﴿ :‬لَقَ ْد َكانَ لَ ُك ْم فِي َرسُو ِل هَّللا ِ أُ ْس َوةٌ َح َسنَةٌ لِ َم ْن َك)انَ يَرْ ُج))و هَّللا َ َو ْاليَ))وْ َم اآْل ِخ) َر َو َذ َك) َر‬
‫هَّللا َ َكثِيرًا ﴾ [األحزاب‪]21 :‬‬
‫وورد في الس))نة النبوي))ة المطه))رة توض))يح له))ذه الحقيق))ة العظيم))ة‪ ،‬إلى الدرج))ة‬
‫التعبير بأن رسول هللا ‪ ‬هو نفسه القرآن الكريم‪ ..‬وليس هناك من ف))رق بينهم))ا إال أن‬
‫أحدهما صامت واآلخر ناطق‪.‬‬
‫وكما أن القرآن الكريم محفوظ من التحريف‪ ،‬ومحف))وظ من أن يأيت))ه الباط))ل من‬
‫بين يديه وال من خلف))ه‪ ،‬فك))ذلك رس))ول هللا ‪ ‬محف))وظ ومعص))وم عص))مة مطلق))ة‪ ،‬فال‬
‫يصدر عنه إال الكمال المحض‪..‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ،‬ومثله سائر األنبي))اء‪ ،‬والمص))طفين يحلق))ون في ع))والم من‬
‫الكمال ال يمكن تقدير ق)درها‪ ..‬ول)ذلك نحن ال ن)رى منهم إال ظالال باهت)ة حق)يرة بجنب‬
‫حقيقتهم العظيمة‪..‬‬
‫ويكفي تصور وظيفتهم لتندك عروش عقولنا‪ ..‬فهؤالء ليسوا س))فراء أمريك))ا وال‬
‫روسيا ‪ ..‬بل هم سفراء هللا الذين خلق كل شيء‪ ..‬والذين اخت)ارهم من بين خلق)ه جميع)ا‬
‫ليعرفوا الخلق به‪ ،‬وبمواضع رضاه‪.‬‬
‫ولذلك من االحتقار هلل أن نتهمه في اختياره‪ ..‬وأن نعت))بر اختي))اره اعتباط))ا‪ ،‬وأن‬
‫نعتبر أنفسنا أكثر حكمة وصوابية حين نختار‪.‬‬
‫وهذا لألسف ما وقعت فيه السنة المذهبية ـ شعرت أو لم تش))عر ـ حين احتق))رت‬
‫العصمة‪ ،‬وقزمتها‪ ،‬واختصرتها في مواضع قليلة محددة‪ ،‬تغليب))ا لبش))رية الرس))ول على‬
‫نبوته‪ ..‬مع أن نبوة الرسول أي رسول هي المتغلبة على بشريته‪..‬‬
‫ولذلك كان ‪ ‬ال يحن للطعام والشراب كحنينا‪ ،‬فقد كان يواصل‪ ،‬ويقول‪( :‬أبيت‬
‫(‪)1‬‬
‫عند ربي يطعمني ويسقيني)‬
‫وكان ال تعتريه الغفلة أبدا عن ذكر هللا‪ ..‬بل كان ـ كما ورد في الروايات الكثيرة‬
‫ـ تنام عيناه وال ين))ام قلب))ه‪ ،‬فق))د روي أن جماع))ة من اليه))ود ل ّم))ا ق))دم الن))بي ‪ ‬المدين))ة‬
‫سألوه‪ ،‬فقالوا‪ :‬ي))ا محم))د كي))ف نوم))ك‪ ،‬فق)د أُخبرن))ا عن ن)وم الن))بي ال))ذي ي))أتي في آخ))ر‬

‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الزمان؟ فقال ‪( :‬تنام عيني‪ ،‬وقلبي يقظان)(‪ .. )1‬ولذلك من الخط))أ الكب))ير أن نتهم من‬
‫هذا حاله بالسهو أو النسيان أو الغفلة‪.‬‬

‫أما طاعته هلل‪ ،‬فهي سكن قلبه‪ ،‬وروح روحه‪ ،‬وسعادته المطلق))ة‪ ..‬فق))د ك))ان ‪ ‬ـ‬
‫كما ورد في السنة النبوية ـ يقول لبالل‪( :‬أرحنا بها يا بالل)(‪ ،)2‬وكان يعتبر الصالة قرة‬
‫عينه(‪.. )3‬‬
‫وكان فوق ذلك أقرب الخلق إلى هللا‪ ،‬وأعلم الخل))ق باهلل‪ ،‬وب))أمر هللا‪ ،‬وبك))ون هللا‪،‬‬
‫فلذلك من الخطأ الكبير أن نتهمه بالجهل أو الغفلة أو الخطأ أو أي لون من هذا القبيل‪.‬‬
‫وهك))ذا‪ ،‬ف))إن العق))ل والنق))ل ي))دالن على الطه))ارة المطلق))ة للمص))طفى من هللا‬
‫للوساطة بينه وبين خلقه‪ ،‬ألنه لو لم يكن كذلك لكان ذل))ك ح))ائال بين))ه وبين الق))درة على‬
‫التلقي من المأل األعلى‪ ،‬فتلك القدرة تحتاج إلى مرآة صافية ممتلئة بالطه))ارة والقدس))ية‬
‫حتى ال تختلط الحقائق المقدسة بأهواء النفوس ودنسها‪ ،‬كم))ا ق))ال تع))الى‪َ ﴿ :‬كاَّل بَ))لْ َرانَ‬
‫َعلَى قُلُوبِ ِه ْم َما َكانُوا يَ ْك ِسبُونَ ﴾ [المطففين‪]14 :‬‬
‫وقد فسر ‪ ‬اآلية بقوله‪( :‬إن العبد إذا أذنب ذنبا ً كانت نكتة سوداء في قلبه‪ ،‬ف))إن‬
‫(‪)4‬‬
‫تاب منها صقل قلبه‪ ،‬وإن زاد زادت)‬
‫انطالقا من هذه الحقائق نحب أن نرى هنا باختصار الصورة ال))تي يحمله))ا أه))ل‬
‫القلوب المريضة عن النبوة‪ ،‬وكيف نزلوا بها إلى الدركات السفلى‪ ،‬ح))تى تص))وروا أن‬
‫النبي ليس سوى ساعي بريد لم يكن له من دور إال تبليغ رسالة ربه‪.‬‬
‫وسنقتصر على علم من أعالم السنة المذهبي))ة ل))نرى موقف))ه من النب))وة‪ ،‬ثم كي))ف‬
‫سرى ذلك إلى الموقف من النبي نفسه‪.‬‬
‫وهذا العلم هو شيخ اإلسالم البشري‪ ،‬وحافظ السنة المذهبية (ابن تيمية)‪ ،‬وال))ذي‬
‫يعتبره التيار السلفي والحركي موجها وإماما ومرجعا عند الخالف‪.‬‬
‫ومن أول ما يدل على هذا الموقف الس))لبي من النب))وة ه))و ثن))اؤه على ك))ل الكتب‬
‫التي تمتلئ بالقصص واألساطير التي تش))وه األنبي))اء عليهم الص))الة والس))الم وت))رميهم‬
‫بالعظائم‪ ،‬بل هو فوق ذل)ك يعتبره)ا من كتب الس)نة‪ ،‬وأنه)ا في ه)ذا الموض)وع بال)ذات‬
‫أعرف باألنبياء من كتب المنزهة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() أما تلك الزيادة الواردة‪( :‬حبب إلي من دنياكم النس))اء)‪ ،‬ف))أرى أنه))ا موض))وعة‪ ،‬فرس))ول هللا ‪‬‬
‫هو سيد الزاهدين‪ ،‬وأعظم الزهد الزهد في هذا الجانب‪ ،‬وق))د طبق))ه رس))ول هللا ‪ ‬في أحس))ن ص))وره‬
‫كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتاب [النبي المعصوم]‬
‫‪4‬‬
‫() رواه الترمذي والنسائي‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ومن أقواله في هذا‪ ..( :‬من أئمة أهل التفسير‪ ،‬الذين ينقلونها باألسانيد المعروفة‪،‬‬
‫كتفسير ابن جريج‪ ،‬وس))عيد بن أبي عروب))ة‪ ،‬وعب))د ال))رزاق‪ ،‬وعب))د بن حمي))د‪ ،‬وأحم))د‪،‬‬
‫وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد وابن جري))ر الط)بري‪ ،‬ومحم)د بن أس)لم الطوس)ي‪ ،‬وابن‬
‫أبي حاتم‪ ،‬وأبي بك))ر بن المن)ذر‪ ،‬وغ)يرهم من العلم)اء األك)ابر‪ ،‬ال)ذين لهم في اإلس)الم‬
‫(‪)1‬‬
‫لسان صدق‪ ،‬وتفاسيرهم متضمنة للمنقوالت التي يعتمد عليها في التفسير)‬
‫وقال ـ دفاعا عن اإلس))رائيليات الكث))يرة ال))واردة في تل))ك الكتب‪ ،‬وال))تي ش))وهت‬
‫األنبياء عليهم الصالة والسالم أيما تشويه ـ‪( :‬ولهذا كان السلف من الصحابة والت))ابعين‬
‫لهم بإحسان وغ))يرهم من أئم))ة المس))لمين متفقين على م))ا دل علي))ه الكت))اب والس))نة من‬
‫أحوال األنبي))اء‪ ،‬ال يع))رف عن أح))د منهم الق))ول بم))ا أحدثت))ه المعتزل))ة والرافض))ة ومن‬
‫تبعهم في هذا الباب‪ ،‬بل كتب التفسير والحديث واآلثار والزهد وأخبار السلف مشحونة‬
‫عن الص))حابة والت))ابعين بمث))ل م))ا دل علي))ه الق))رآن‪ ،‬وليس فيهم من ح))رف اآلي))ات‬
‫كتحريف هؤالء‪ ،‬وال من كذب بما في األحاديث كتكذيب هؤالء‪ ،‬وال من قال ه)ذا يمن)ع‬
‫الوثوق‪ ،‬أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤالء‪ ،‬بل أقوال هؤالء الذين غلوا بجه))ل‬
‫(‪)2‬‬
‫من األقوال المبتدعة في اإلسالم)‬
‫فه))و في ه))ذا النص يعت))بر الرواي))ات المش))وهة لجم))ال وعص))مة األنبي))اء س))نة‪،‬‬
‫ويعت))بر تنزي))ه األنبي))اء والق))ول بطه))ارتهم تحريف))ا‪ ..‬ول))ه الح))ق في ذل))ك‪ ،‬فالس))نة ال))تي‬
‫يقصدها هي السنة المذهبية‪ ،‬ال السنة النبوية‪.‬‬
‫بل إن ابن تيمية ـ نتيجة سوء فهم))ه للنب))وة ـ ال ي))رى المعص))ية قادح))ا في كم))ال‬
‫األنبياء‪ ،‬وفي استحقاقهم للوظائف الخطيرة التي كلفوا بها‪ ،‬يق))ول في ذل))ك – أثن))اء رده‬
‫على المنزهة ‪( :-‬ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وق))وع ذل))ك من األنبي))اء واألئم))ة نقص))ا‪ ،‬وأن‬
‫ذلك يجب تنزيههم عنه‪ ،‬وهم مخطئون إما في هذه المقدمة‪ ،‬وإما في هذه المقدم))ة‪ ..‬أم))ا‬
‫المقدمة األولى فليس من تاب إلى هللا تع)الى وأن)اب إلي)ه بحيث ص)ار بع)د التوب)ة أعلى‬
‫درجة مما كان قبلها منقوصا وال مغضوضا منه‪ ،‬بل ه))ذا مفض))ل عظيم مك))رم‪ ،‬وبه))ذا‬
‫ينحل جميع ما يوردونه من الشبه‪ ،‬وإذا عرف أن أولياء هللا يكون الرجل منهم ق))د أس))لم‬
‫بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته‪ ،‬كما كان أفضل أولياء هللا من ه))ذه األم))ة‬
‫(‪)3‬‬
‫‪ -‬وهم السابقون األولون ‪ -‬يبين صحة هذا األصل)‬
‫ومن خالل هذا النص يتبين لنا الدافع الذي جعل ابن تيمية يحطم كل تلك المكان))ة‬
‫الرفيعة ال))تي ناله))ا األنبي))اء عليهم الص))الة والس))الم في قل))وب الن))اس بس))بب طه))ارتهم‬
‫وعصمتهم‪ ،‬وهو مبالغت))ه في ش))أن الص))حابة‪ ..‬فه))و ال يري))د أن يتهمهم الن))اس ب))النقص‬
‫لكونهم أسلموا بعد كفر‪ ،‬وأطاعوا بعد معصية‪ ،‬فلم يجد إال أن يلحق األنبياء بهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬منهاج السنة النبوية (‪)179 /7‬‬


‫‪2‬‬
‫() منهاج السنة النبوية (‪)434 /2‬‬
‫‪ )(3‬منهاج السنة النبوية (‪)430 /2‬‬

‫‪15‬‬
‫بل إن األمر بلغ به إلى المم))اراة في القطعي))ات‪ ،‬فيح))اول بك))ل الوس))ائل أن يقن))ع‬
‫أتباعه بدور المعصية في تحقيق الكمال‪.‬‬
‫يقول في ذلك‪( :‬واإلنسان ينتقل من نقص إلى كمال‪ ،‬فال ينظر إلى نقص البداي))ة‪،‬‬
‫ولكن ينظر إلى كمال النهاية‪ ،‬فال يعاب اإلنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار‬
‫مضغة‪ ،‬إذا كان هللا بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم‪ ..‬فمن يجعل الت))ائب ال))ذي اجتب))اه هللا‬
‫وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه‪ ،‬وقد صار بعد التوب))ة خ))يرا مم))ا ك))ان‬
‫قبل التوبة‪ ،‬فهو جاه))ل ب))دين هللا تع))الى وم))ا بعث هللا ب))ه رس))وله‪ ،‬وإذا لم يكن في ذل))ك‬
‫نقص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبني على أن ذلك نقص‪ ،‬وهو نقص إذا‬
‫لم يتب منه‪ ،‬أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بع))د التوب))ة مثل))ه‪ ،‬فأم))ا إذا ت))اب توب))ة‬
‫محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فال نقص فيه بالنسبة إلى حاله‪ ،‬وإذا صار بعد‬
‫(‪)1‬‬
‫التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه)‬
‫بل إنه ف))وق ذل))ك كل))ه يعت))بر تنزي))ه األنبي))اء عن المعاص))ي غض))ا من م))رتبتهم‪،‬‬
‫وسلبا للدرجة التي أعطاهم هللا‪ ،‬يق))ول في ذل))ك‪( :‬وج))وب ك))ون الن))بي ال يت))وب إلى هللا‬
‫فينال محبة هللا وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحب))ه هللا من))ه‬
‫خيرا مما ك)ان قبله))ا فه)ذا م)ع م)ا في)ه من التك)ذيب للكت)اب والس))نة غض من مناص))ب‬
‫(‪)2‬‬
‫األنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان هللا إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة)‬
‫وهو يعود ليستدل بالصحابة الذين من أجلهم ش))وه األنبي))اء‪ ،‬ب))ل ش))وه رس))ول هللا‬
‫‪ ‬نفسه ليحفظ مكانتهم التي يتصورها لهم‪ ،‬يقول في ذل))ك‪( :‬ومن اعتق))د أن ك))ل من لم‬
‫يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وت))اب بع))د ذنب))ه‪ ،‬فه))و مخ))الف م))ا علم‬
‫باإلضطرار من دين اإلسالم! فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برس))ول هللا ‪‬‬
‫بعد كفرهم وهداهم هللا به بعد ض)اللهم‪ ،‬وت)ابوا إلى هللا بع))د ذن)وبهم أفض)ل من أوالدهم‬
‫ال))ذين ول))دوا على اإلس))الم‪ ،‬وه))ل يش))به ب))ني األنص))ار باألنص))ار‪ ،‬أو ب))ني المه))اجرين‬
‫(‪)3‬‬
‫بالمهاجرين إال من ال علم له)‬
‫وقد بلغ من احتقار ابن تيمية للنبوة أنه جوز الكفر على األنبي))اء‪ ،‬وق))د ق))دم ل))ذلك‬
‫بمقدمة عقدية تصور أنها كافية‪ ،‬وهي أن هللا يفعل ما يش))اء‪ ،‬وبالت))الي يمكن))ه أن يخت))ار‬
‫أي كافر‪ ،‬بل أي مجرم ليتولى هذا المنصب الخطير‪ ،‬يقول في ذلك‪ ( :‬ومما يبين الكالم‬
‫في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمه))ا وش))روطها‪ ،‬ف)إن الن)اس تكلم))وا في ذل)ك‬
‫بحسب أصولهم في أفعال هللا تعالى إذا ك))ان جع))ل الش))خص نبي)ا ً رس))والً من أفع))ال هللا‬
‫تعالى فمن نفى ال ِح َكم واألسباب في أفعاله وجعلها معلقةً بمحض المشيئة‪ ،‬وج) َّوز علي))ه‬
‫فعل كل ممكن‪ ،‬ولم ينزهه عن فعل من األفعال‪ ،‬كما هو قول الجهم بن ص))فوان وكث))ير‬
‫من الن))اس كاألش))عري ومن وافق))ه من أه))ل الكالم من أتب))اع مال))ك والش))افعي وأحم))د‬
‫‪1‬‬
‫() منهاج السنة النبوية (‪)434 /2‬‬
‫‪ )(2‬منهاج السنة النبوية (‪)397 /2‬‬
‫‪ )(3‬منهاج السنة النبوية (‪)398 /2‬‬

‫‪16‬‬
‫وغيرهم من مثبت))ة الق))در‪ ،‬فه))ؤالء يج))وزون بعث))ة ك))ل مكل))ف! والنب))وة عن))دهم مج))رد‬
‫إعالمه بما أوحاه إليه ! والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه ! والنبوة عندهم صفة‬
‫ثبوتية والمستلزمة لصفة يختص بها‪ ،‬بل هي من الصفات اإلضافية كما يقول))ون‪ ،‬مث))ل‬
‫(‪)1‬‬
‫ذلك في األحكام الشرعية)‬
‫وكمثال عملي على ذلك م))ا ورد في (مجم))وع الفت))اوى) من قول))ه بكف))ر ن))بي هللا‬
‫شعيب عليه السالم وغيره من األنبياء قبل نب))وتهم‪ ،‬وق))د ق))دم ل))ذلك بقول))ه‪( :‬ه))ذا تفس))ير‬
‫آيات أشكلت حتى ال يوجد في طائفة من كتب التفسير إال ما هو خطأ فيها‪ ،‬ومنها قوله‪:‬‬
‫ك ِم ْن قَرْ يَتِنَا أَوْ لَتَعُود َُّن فِي ِملَّتِنَا﴾ [األع))راف‪]88 :‬‬ ‫ك يَا ُش َعيْبُ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َع َ‬‫﴿لَنُ ْخ ِر َجنَّ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫اآلية وما في معناها)‬
‫ثم راح يبرز قدراته االستنباطية في هذا الجانب‪ ،‬فقال‪( :‬التحقيق‪ :‬أن هللا س))بحانه‬
‫إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حتى في النسب كم))ا في ح))ديث هرق))ل‪ .‬ومن‬
‫نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروف))ا‬
‫﴿و َم))ا‬
‫بالصدق واألمانة وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرف))ون قبح))ه‪ ،‬ق))ال تع))الى‪َ :‬‬
‫ث َر ُس)واًل ﴾ [اإلس))راء‪ ،]15 :‬فلم يكن ه))ؤالء مس))توجبين الع))ذاب‪،‬‬ ‫ُكنَّا ُم َع) ِّذبِينَ َحتَّى نَ ْب َع َ‬
‫وليس في هذا ما ينفر عن القبول منهم؛ ولهذا لم يذكره أح)د من المش))ركين قادح))ا‪ .‬وق))د‬
‫اتفقوا على جواز بعثة رسول ال يعرف ما جاءت به الرسل قبل))ه من النب))وة والش))رائع‪،‬‬
‫وأن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر‪ ،‬والرسل قبل الوحي ال تعلمه فض))ال عن أن‬
‫ق﴾‬‫وح ِم ْن أَ ْم ِر ِه َعلَى َم ْن يَ َش)ا ُء ِم ْن ِعبَ))ا ِد ِه لِيُ ْن) ِذ َر يَ))وْ َم التَّاَل ِ‬
‫تقر به‪ ..‬قال تعالى‪﴿ :‬ي ُْلقِي الرُّ َ‬
‫(‪)3‬‬
‫[غافر‪)]15 :‬‬
‫ومثلم))ا داف))ع عن المعص))ية‪ ،‬وكونه))ا كم))اال في ح))ق األنبي))اء‪ ،‬راح ي))دافع عن‬
‫كفرهم‪ ،‬مبينا أن ذلك أيضا كمال في حقهم‪ ،‬فقال‪( :‬والرسول الذي ينشأ بين أه))ل الكف))ر‬
‫الذين ال نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جه))ة تأيي))د هللا ل))ه ب))العلم واله))دى وبالنص))ر‬
‫(‪)4‬‬
‫والقهر كما كان نوح وإبراهيم)‬
‫وهذا الموقف من ابن تيمية هو نفسه موقف تالميذه من أهل السنة المذهبية‪ ،‬فق))د‬
‫قال مشهور صالح آل الشيخ في شرحه للطحاوي))ة المس))مى بـ (إتح))اف الس))ائل بم))ا في‬
‫الطحاوية من مسائل)‪( :‬القس))م الث))اني‪ ،‬من جه))ة ال))ذنوب‪ :‬ال))ذنوب أقس))ام‪ :‬فمنه))ا الكف))ر‬
‫أن يكون))وا على غ))ير التوحي))د قب))ل الرس))الة والنب))وة‪..‬‬ ‫وجائز في حق األنبي))اء والرس))ل ْ‬
‫والثاني من جهة الذنوب‪ ،‬فالذنوب قس))مان كب))ائر وص))غائر‪ :‬والكب))ائر ج))ائزة فيم))ا قب))ل‬
‫النبوة‪ ،‬ممنوعة فيما بعد النبوة والرسالة؛ فليس في الرسل من اقترف كبيرة بع))د النب))وة‬

‫‪ )(1‬منهاج السنة‪.2/413:‬‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪)30 /15‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى (‪)30 /15‬‬
‫‪4‬‬
‫() مجموع الفتاوى (‪)31 /15‬‬

‫‪17‬‬
‫(‪)1‬‬
‫والرسالة أو تَقَ َّح َمها عليهم الصالة والسالم بخالف من أجاز ذلك من أهل البدع)‬
‫ي قول))ك‪ :‬الن))بي ق))د يك))ون على غ))ير التوحي))د قب))ل‬ ‫وسئل هذا السؤال‪( :‬أش))كل عل َّ‬
‫الرسالة؟)‪ ،‬فأجاب بقوله‪( :‬نعم النبي قد يكون على غير ذلك‪ ،‬فيصطفيه هللا ‪ -‬عز وج))ل‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ -‬وينبهه؛ يعني ما فيه مشكل في ذلك‪ ،‬قد يكون غافال)‬
‫بل إن ابن تيمي))ة ومدرس))ته ينقل))ون من النص))وص م))ا ال يس))تثني رس))ول هللا ‪‬‬
‫نفسه‪ ..‬خاصة وأنهم مهدوا لذلك بكون الكمال في الكفر والمعصية السابقين‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك حديث يردده ابن تيمية كث))يرا ي))دل بظ))اهره على أن زي))دا‬
‫بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب كان أكثر ورعا عن الشرك وأسبابه من رسول‬
‫هللا ‪ ،‬فقد روى في (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أص))حاب الجحيم) وغ))يره من‬
‫كتبه أن رسول هللا ‪ ‬لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح‪ ،‬وذلك قبل أن ينزل على‬
‫رسول هللا ‪ ‬الوحي‪ ،‬فقدم إليه رس))ول هللا ‪ ‬س))فرة في لحم‪ .‬ف))أبى أن يأك))ل منه))ا‪ ،‬ثم‬
‫(‪)3‬‬
‫قال زيد‪( :‬إني ال آكل مما تذبحون على أنصابكم وال آكل إال مما ذكر اسم هللا عليه)‬
‫بل يضيف إليها كل الروايات التي ورد بها الحديث ليؤكد المعنى‪ ،‬فيق))ول‪( :‬وفي‬
‫رواية له‪ :‬وإن زيد بن عمرو بن نفي)ل ك)ان يعيب على ق)ريش ذب)ائحهم‪ ،‬ويق)ول‪ :‬الش)اة‬
‫خلقها هللا‪ ،‬وأنزل لها من السماء الم))اء‪ ،‬وأنبت له))ا من األرض الكأل‪ ،‬ثم أنتم ت))ذبحونها‬
‫(‪)4‬‬
‫على غير اسم هللا؟!) إنكارا لذلك وإعظاما له)‬
‫وبذلك أصبح زيد بن عم))رو بن نفي))ل عم عم))ر بن الخط))اب أك))ثر عقال وحكم))ة‬
‫وإيمانا من رسول هللا ‪ .. ‬وذلك ليس بمستغرب ألن أساس السنة المذهبية ه))و تعظيم‬
‫الصحابة‪ ،‬ولو على حساب رسول هللا ‪.‬‬
‫ولو أننا تأملنا ما يطل))ق علي))ه موافق))ات عم))ر بن الخط))اب‪ ،‬ومبالغ))ة أه))ل الس))نة‬
‫المذهبية فيها(‪ ،)5‬لرأينا كيف يهان رسول هللا ‪ ،‬بل كيف يه))ان الق))رآن الك))ريم نفس))ه‪،‬‬
‫والذي يتوقف نزوله ـ حسب تلك الروايات ـ على الشدة التي يب))ديها عم))ر في المطالب))ة‬
‫بنزول األحكام كما يطلبها هو‪ ..‬فتأتي كما يطلبها ه))و‪ ..‬ب))ل أحيان))ا ت))أتي بنفس الص))يغة‬

‫‪ )(1‬شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ‪ ،‬ص‪.84 :‬‬


‫‪ )(2‬شرح الطحاوية لصالح آل الشيخ ‪ ،‬ص‪.86 :‬‬
‫‪ )(3‬اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (‪)63 /2‬‬
‫‪ )(4‬اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (‪)63 /2‬‬
‫‪5‬‬
‫() فقد ألفت فيها المؤلف)ات الكث))يرة‪ ،‬ومنه))ا‪ :‬نف)ائس ال)درر في موافق)ات عم)ر‪ ،‬ألبي بك)ر ابن زي)د‬
‫الدمشقي‪ ،‬وقطف الثمر في موافقات عمر‪ :‬لجالل ال))دين الس))يوطي‪ ،‬ونظم ال))درر في موافق))ات عم))ر‪:‬‬
‫لمحمد بن إب)راهيم البلبيس)ي‪ ،‬والموافق)ات العمري)ة للق)رآن الش)ريف‪ :‬لمحم)د بن جم)ال ال)دين‪ ،‬وال)در‬
‫المستطاب لموافقات عمر بن الخطاب‪ :‬لحامد بن على العمادي الدمش))قي‪ ،‬وض))م ال))درر في موافق))ات‬
‫عمر‪ :‬لبدر الدين محم))د بن محم))د الغ))زي‪ ،‬واقتط))اف الثم))ر في موافق))ات عم))ر‪ :‬البن الب))در الخطيب‬
‫البعلي الدمش))قي‪ ،‬والموافق))ات ال))تي وقعت في الق))رآن لعم))ر بن الخط))اب‪ :‬أحم))د بن علي بن محم))د‬
‫المقدسي‪ ،‬وغيرها‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫التي نطق بها‪ ..‬وذلك ما يثير من الشبه التي يتعلق بها المنكرون للنبوة ما ال يعلم به إال‬
‫هللا‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما ورد في الرواية أنه قال لرسول هللا ‪( :‬يارس))ول هللا‬
‫لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى)‪ ،‬فنزلت اآلية بنفس الصيغة (‪.)1‬‬
‫ومنها أنه لما اجتمع على رسول هللا ‪ ‬نساؤه مطالبين بالنفق))ة‪ ،‬ق))ال لهن عم))ر‪:‬‬
‫(عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن)‪ ،‬فنزلت كذلك(‪.)2‬‬
‫واألخطر من ذلك كله تلك الرواية ال))تي ت))بين أن رس))ول هللا ‪ ‬أخ))بر أن))ه ك))ان‬
‫معرضا للعذاب بسببه اجتهاده الخاطئ في األسرى‪ ..‬وأنه لم يكن لينجو إال عم))ر ال))ذي‬
‫نزل القرآن ـ بزعمهم ـ بموافقته(‪.)3‬‬
‫وهكذا يصبح رسول هللا ‪ ‬ـ بحسب السنة المذهبية ـ تلميذا ألصحابه‪ ،‬ال أس)تاذا‬
‫لهم‪ ..‬بل يصبح القرآن الكريم نفسه رهينا لآلراء والتوجه))ات ال))تي تملى علي))ه‪ ..‬تع))الى‬
‫رسول هللا ‪ ‬والقرآن الكريم عن ذلك علوا عظيما‪.‬‬
‫ولذلك ال عجب أن ينتفض أهل السنة المذهبية إذا ما انتقد أي موقف من مواق))ف‬
‫الص))حابة‪ ،‬ويعت))برون المنتق))د مبت))دعا‪ ،‬بينم))ا ال ح))رج على أي ش))خص‪ ،‬ب))ل على أي‬
‫صعلوك أن ينتقد رسول هللا ‪ ‬ويبين خطأ اجتهاده‪ ،‬ألن الرسول في أذهان ه))ؤالء هم‬
‫الصحابة وليس رسول هللا ‪ ..‬بل إن الرسول الحقيقي عندهم هو ابن تيمية نفسه‪.‬‬
‫وقد حدث الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عبدهللا السدحان في كتابه (اإلم))ام ابن‬
‫باز دروس وعبر) تحت عنوان (سرعة استحضاره لألدل))ة)‪ ،‬فق))ال ـ ي))ذكر مجلس))ا من‬
‫مجالس ابن باز ـ‪( :‬نقل أحدهم مقولة عن بعض أهل العلم مفادُه))ا‪( :‬ل))و لم نُخ) َ‬
‫)بر بخت))ام‬
‫ُرض))ت العب))ارة على بعض أه))ل العلم فب))الغ في‬ ‫النب))وة لقُلن))ا‪ :‬إن ابن تيمي))ة ن))بي)‪ ،‬فع ِ‬
‫أنكارها‪ .‬وعرضتُها بنفسي على سماحته ‪ -‬رحمه هللا تعالى ‪ -‬فتبسم ض))اح ًكا‪ ،‬وق))ال م))ا‬ ‫ِ‬
‫(‪)4‬‬
‫ذكر حديث (لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)‬ ‫َ‬ ‫ثم‬ ‫‪..‬‬ ‫أصل‬ ‫لذلك‬ ‫نعم‪،‬‬ ‫معناه‪:‬‬
‫وهك))ذا يتص))رف ه))ؤالء في النب))وة كم))ا يحل))و لهم‪ ..‬وك))أن النب))وة لعب))ة من لعب‬
‫الصبيان ‪ ..‬ال مرتبة من المراتب ال))تي ال يص))ل العق))ل إلى كنهه))ا وحقيقته))ا‪ ..‬ووظيف))ة‬
‫تنوء السموات واألرض دون حملها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه أحمد‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه أحمد‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() اإلمام ابن باز دروس وعبر‪ ،‬ص ‪.33‬‬

‫‪19‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والوسيلة‬

‫من الوظائف الكبرى التي جعلها هللا لرسوله ‪ ،‬والتي هون من شأنها أصحاب‬
‫القلوب المريضة من أهل السنة المذهبية وظيفة [الوسيلة]‬
‫وهي تعني ـ باختصار ـ أن رسول هللا ‪ ‬لم يأتنا فق))ط ب))دليل النج))اة ال))ذي تمث))ل‬
‫في الشريعة السمحة‪ ،‬بل هو فوق ذلك حبل النجاة وسفيتنتها ال)تي من لم يركبه)ا لم ين)ل‬
‫شيئا‪ ،‬ولم يصل إلى شيء‪.‬‬
‫أو هو ـ بعبارة أخرى ـ ليس مجرد طبيب يصف األدوية ألمته فقط‪ ،‬بل هو نفسه‬
‫‪ ‬الدواء الذي من لم يستعمله لم يشف أبدا‪.‬‬
‫وهذه الحقيقة التي ت))دعمها ك))ل األدل))ة العقلي))ة والنقلي))ة ح))اولت الس))نة المذهبي))ة‪،‬‬
‫وخاص))ة ممثلوه))ا الكب))ار من أص))حاب الم))دارس الس))لفية أن ي))نزعوا ص))الحياتها من‬
‫رسول هللا ‪ ‬لتقتصر عالقته باألمة على الدور التبليغي والتشريعي دون ما س))واه من‬
‫األدوار‪.‬‬
‫ولم يكتفوا ب))ذلك التهميش والته))وين من ه))ذا ال))دور العظيم ال))ذي ت))دل علي))ه ك))ل‬
‫األدلة‪ ،‬بل راحوا يتهمون من يقول بهذه الوظيفة بالشرك والبدعة والضالل‪.‬‬
‫وهذه التهمة الجاهزة ناتجة من سوء فهمهم للتوحيد‪ ..‬فهم يتصورون هللا ـ نتيج))ة‬
‫للوثة الوثنية التي تسربت إلى السنة المذهبية ـ كما يتصورون الملوك والحكام ال))ذين ال‬
‫يحبون أن تنشغل الرعية عنهم بغيرهم‪ ،‬ولذلك يعتبرون كل تعظيم لغير الملك ش))ركا ‪..‬‬
‫وينسون أن رسل هللا وجميع الذين اصطفاهم هللا ليسوا سوى مظهر من مظاهر العناي))ة‬
‫اإللهية‪ ،‬ومنبع من منابع الرحمة الربانية‪.‬‬
‫وينسون أن الرحم))ة الكامل))ة‪ ،‬والعناي))ة التام))ة ال تتمث))ل فق))ط في تبلي))غ الش))رائع‪،‬‬
‫وبيان األحكام‪ ،‬وإنما تتمثل فوق ذلك في أن يكون الرسول المص))طفى من ل))دن هللا ه))و‬
‫نفسه طوق النجاة‪ ،‬وسفينتها‪.‬‬
‫وفرق كبير بين أن تمد يدك لشخص يغرق‪ ،‬وتمسك بها‪ ،‬وتنقذه‪ ،‬وبين أن تكتفي‬
‫ببعض المواعظ واإلرشادات التي تبين له ما عليه أن يفعل‪.‬‬
‫ولهذا من العجب أن يؤمن ه))ؤالء ب))أن هللا جع))ل من الم))اء ك))ل ش))يء حي))ا‪ ..‬وال‬
‫يعتبرون القول بهذا شركا ‪ ..‬بينما لو ذكرت لهم بأن هللا جعل الحياة الحقيقية في التعل))ق‬
‫برسول هللا ‪ ‬تعلقا تاما‪ ،‬ال بشرعه فقط‪ ،‬بل بذاته أيضا‪ ،‬يعتبرون ذل))ك ش))ركا وبدع))ة‬
‫وضاللة‪ ..‬وكأن الماء أشرف من رسول هللا ‪ ،‬وأعظم منزلة منه‪.‬‬
‫وبناء على هذا المعنى أولوا كل النصوص الدالة على هذه الوظيف))ة ال))تي جعله))ا‬
‫هللا لرسول هللا ‪ ،‬وظيفة الوسيلة‪ ،‬حتى تنحصر وظيفته ‪ ‬في البالغ والتبيين فقط‪.‬‬
‫وللدالله على هذا‪ ،‬سنذكر هنا ـ باختص))ار ـ أربع)ة نم)اذج من مواق)ف أص)حاب‬
‫السنة المذهبية تدل على موقفهم من هذه الوظيفة‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫اختصار المعية في الصحابة‪:‬‬
‫وهو من أخطر المواقف التي تعدم وظيفة [الوسيلة]‪ ،‬وتزيلها من الوجود تمام))ا‪،‬‬
‫ذلك أن االعتقاد بأنه لم يظفر بص))حبة رس))ول هللا ‪ ‬غ))ير ص))حابته المع))دودين ال))ذين‬
‫عاصروه‪ ،‬وأن األمة لم تظفر بعدهم إال بسنته وشريعته يقطع الصلة بين األمة ونبيه))ا‪،‬‬
‫ألن عالقته))ا ب))ه تص))بح قاص))رة على عالق))ة االتب))اع والطاع))ة‪ ،‬وهي عالق))ة مرتبط))ة‬
‫بالشريعة‪ ،‬ال بشخصة ‪.‬‬
‫وبذلك فإن أفراد األمة بعد رسول هللا ‪ ‬وبه)ذا المنط))ق ال يس)تطيعون ـ بس)بب‬
‫ال))زمن ال))ذي ح))ال بينهم وبين معاص))رة رس))ول هللا ‪ ‬ـ أن يتنعم))وا بتل))ك الص))حبة‬
‫الشريفة‪ ،‬وأن يظفروا بتلك المكانة الرفيعة‪ ،‬وأن تمتد إليهم يد رسول هللا ‪.‬‬
‫وله))ذا نج))د أص))حاب الس))نة المذهبي))ة يب)الغون في مكان)ة الص))حابة على حس))اب‬
‫مكانة األمة ‪ ..‬ويتصورون أن الصحابة حتى لو ص))در منهم م))ا ص))در أش))رف وأك))رم‬
‫وأعظم من األمة جميع))ا‪ ،‬ح))تى أنهم ي))ذكرون أن أولئ))ك العش))اق ال))ذين امتألت قل))وبهم‬
‫شوقا لرسول هللا ‪ ،‬بل مات الكثير منهم شوقا‪ ،‬وهو في طريق زيارة ق))بره الش))ريف‬
‫ال يساوون شسع نعل حتى أولئ))ك ال))ذين لم يكون))وا يب))الون برس))ول هللا ‪ ،‬وهم مع))ه‪،‬‬
‫ص) ِع ُدونَ َواَل‬ ‫حتى يضطر رسول هللا ‪ ‬أن ين))اديهم من خلفهم‪ ،‬كم))ا ق))ال تع))الى‪ ﴿ :‬إِ ْذ تُ ْ‬
‫ت َْلوُونَ َعلَى أَ َح ٍد َوال َّرسُو ُل يَ ْدعُو ُك ْم فِي أُ ْخ) َرا ُك ْم فَأَثَ))ابَ ُك ْم َغ ًّم))ا بِ َغ ٍّم لِ َك ْياَل تَحْ زَ نُ))وا َعلَى َم))ا‬
‫صابَ ُك ْم َوهَّللا ُ َخبِي ٌر بِ َما تَ ْع َملُونَ ﴾ [آل عمران‪]153 :‬‬ ‫فَاتَ ُك ْم َواَل َما أَ َ‬
‫بل منهم من ترك رسول هللا ‪ ‬يخطب يوم الجمعة‪ ،‬وذهب ليالقي القافل))ة‪ ،‬كم))ا‬
‫صور ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َرأَوْ ا تِ َجا َرةً أَوْ لَ ْه ًوا ا ْنفَضُّ وا إِلَ ْيهَ))ا َوت ََر ُك))وكَ قَائِ ًم))ا قُ))لْ َم))ا‬
‫َّازقِينَ ﴾ [الجمعة‪]11 :‬‬ ‫ِع ْن َد هَّللا ِ َخ ْي ٌر ِمنَ اللَّه ِْو َو ِمنَ التِّ َجا َر ِة َوهَّللا ُ خَ ْي ُر الر ِ‬
‫ونحن ال نذكر هذا تحقيرا لمن فعل ذل))ك‪ ،‬ولكن))ا نتعجب أن يحتق))ر أولي))اء األم))ة‬
‫العظام الذين أفنوا حياتهم في حب رس)ول هللا ‪ ،‬واعتب))ارهم جميع)ا ال يس)اوون ش)يئا‬
‫أمام أدنى الصحابة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على مواقف أصحاب السنة المذهبية في هذا ما جاء في (الصواعق‬
‫المحرقة) البن حج)ر الهيتمي من قول)ه‪( :‬وأم)ا م)ا اختص ب)ه الص)حابة ـ رض)وان هللا‬
‫عليهم ـ وفازوا ب)ه من مش)اهدة طلعت)ه ورؤي))ة ذات)ه المش))رفة المكرم))ة ف)أمر من وراء‬
‫العقل‪ ،‬إذ ال يسع أح)دا أن ي)أتي من األعم)ال وإن جلت بم)ا يق)ارب ذل)ك فض)ال عن أن‬
‫يماثله‪ ،‬ومن ثم سئل عب))د هللا ابن المب)ارك ـ وناهي))ك ب)ه جالل))ة وعلم)ا ـ أيهم))ا أفض)ل‬
‫معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال الغبار الذي دخل أنف ف))رس معاوي))ة م))ع رس))ول‬
‫هللا خير من عمر بن عبد العزي))ز ك))ذا وك))ذا م))رة‪ ،‬أش))ار ب))ذلك إلى أن فض))يلة ص))حبته‬
‫ورؤيته ال يعدلها شيء)‬
‫ولست أدري ما دليله على هذا‪ ،‬ذلك أن األحاديث الشريفة الكثيرة‪ ،‬والتي يؤيدها‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ويؤيدها قبل ذلك العق))ل الس))ليم تعت))بر المعي))ة الحقيق))ة هي معي))ة المحب))ة‬
‫والتعل))ق والش))وق‪ ،‬ال معي))ة الزم))ان والمك))ان واألجس))اد‪ ،‬فق))د ق))ال تع))الى ي))بين المعي))ة‬

‫‪21‬‬
‫)ور ُك ْم قِي) َل‬ ‫)ات لِلَّ ِذينَ آ َمنُ))وا ا ْنظُرُونَ))ا نَ ْقتَبِسْ ِم ْن نُ) ِ‬ ‫الكاذبة‪﴿ :‬يَوْ َم يَقُ))و ُل ْال ُمنَ))افِقُونَ َو ْال ُمنَافِقَ) ُ‬
‫ُور لَهُ بَابٌ بَا ِطنُهُ فِي ِه الرَّحْ َم) ةُ َوظَ))ا ِه ُرهُ‬ ‫ب بَ ْينَهُ ْم بِس ٍ‬ ‫ُر َ‬‫ارْ ِجعُوا َو َرا َء ُك ْم فَ ْالتَ ِمسُوا نُورًا فَض ِ‬
‫َّص)تُ ْم‬ ‫ِم ْن قِبَلِ ِه ْال َع َذابُ (‪ )13‬يُنَ))ادُونَهُ ْم أَلَ ْم نَ ُك ْن َم َع ُك ْم قَ))الُوا بَلَى َولَ ِكنَّ ُك ْم فَتَ ْنتُ ْم أَ ْنفُ َس) ُك ْم َوتَ َرب ْ‬
‫َوارْ تَ ْبتُ ْم َو َغ َّر ْت ُك ُم اأْل َ َمانِ ُّي َحتَّى َجا َء أَ ْم) ُر هَّللا ِ َو َغ) َّر ُك ْم بِاهَّلل ِ ْال َغ) رُو ُر (‪[ ﴾)14‬الحدي))د‪،13 :‬‬
‫‪]14‬‬
‫ولهذا فإن من القصور والغبن لألمة جميعا قصر المعية الواردة في قوله تع))الى‪:‬‬
‫﴿ ُم َح َّم ٌد َرسُو ُل هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ َم َعهُ﴾ [الفتح‪ ]29 :‬على ص))حابة رس))ول هللا ‪ ..‬ب))ل ك))ل من‬
‫اتصف بتلك الصفات التي وردت في اآلية تشمله المعية‪.‬‬
‫وقد ورد في األحاديث الكثيرة ما ي))دل على ه))ذا المع))نى‪ ..‬ولكن الس))نة المذهبي))ة‬
‫تعظم ما تشاء من النصوص‪ ،‬وتلغي ما تشاء منها‪.‬‬
‫ومن تل))ك األح))اديث م))ا رواه المح))دثون من أن رجال ج))اء رج))ل إلى الن))بي ‪‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ :‬إنك ألحبُّ إلي من نفسي‪ ،‬وإنك ألحب إلي من ولدي‪ ،‬وإني ألك))ون‬
‫ُ‬
‫وعرفت‬ ‫ذكرت موتي وموتك‬ ‫ُ‬ ‫في البيت فأذكرك‪ ،‬فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك‪ ،‬وإذا‬
‫دخلت الجن))ة خش))يت أن ال أراك‪ ،‬فلم‬ ‫ُ‬ ‫أنك إذا دخلتَ الجنة ُرفعتَ مع النبي))ئين‪ ،‬وإني إذا‬
‫ُ‬
‫ول فَأولَئِ))كَ َم) َع الَّ ِذينَ‬ ‫َّس) َ‬ ‫﴿و َم ْن ي ُِط) ِع هَّللا َ َوالر ُ‬ ‫ير َّد النبي ‪ ‬حتى نزل جبريل بهذه اآلية‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫الص))الِ ِحينَ َو َح ُس))نَ أولَئِ))كَ َرفِيقً))ا﴾‬ ‫الش))هَدَا ِء َو َّ‬‫الص))دِّيقِينَ َو ُّ‬ ‫أَ ْن َع َم هَّللا ُ َعلَ ْي ِه ْم ِمنَ النَّبِيِّينَ َو ِّ‬
‫(‪)1‬‬
‫[النساء‪]69 :‬‬
‫وعن أنس قال‪( :‬بينا أنا ورسول هللا ‪ ‬خارج))ان من المس))جد فلقين))ا رج))ل عن))د‬
‫سدة المسجد فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬متى الساعة؟ قال رسول هللا ‪ ( :‬م))ا أع))ددت له))ا ؟)‬
‫(‪)2‬‬
‫قال‪( :‬وال صدقة‪ ،‬ولكني أحب هللا ورسوله)‪ ،‬قال‪(:‬فأنت مع من أحببت)‬
‫فهذا الحديث الشريف يربط المعية برسول هللا ‪ ‬بمحبته‪ ..‬فك))ل من أحب))ه‪ ،‬فه))و‬
‫معه‪ ،‬كان في زمانه ‪ ،‬أو لم يكن في زمانه‪.‬‬
‫ومن تل))ك األح))اديث الح))ديث العظيم المش))هور ال))ذي يظه))ر ي))د رس))ول هللا ‪‬‬
‫الشريفة‪ ،‬وهي تمتد إلى قلوب أمته من بعده‪ ..‬ففي الحديث الذي تهتز له قلوب األولي))اء‬
‫أن رس))ول هللا ‪ ‬ق))ال‪( :‬وددت أني لقيت إخ))واني)‪ ،‬فق))ال ل))ه أص))حابه‪ :‬أوليس نحن‬
‫(‪)3‬‬
‫إخوانك؟ قال‪( :‬أنتم أصحابي‪ ،‬ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)‬
‫وفي رواية‪( :‬ومتى ألقى إخواني؟)‪ ،‬ق))الوا‪ :‬ي))ا رس))ول هللا‪ ،‬ألس))نا إخوان))ك؟ ق))ال‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫(بل أنتم أصحابي‪ ،‬وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)‬

‫‪ )(1‬ح))ديث حس))ن أخرج))ه الهيثمي في مجم))ع الزوائ))د وق))ال رواه الط))براني في األوس))ط والص))غير‬
‫وحسنه ورجاله رجال الصحيح غير عبد هللا بن عمران العابدي وهو ثقة‪ .‬انظر أسباب النزول لإلم))ام‬
‫السيوطي ص ‪..128‬‬
‫‪ )(2‬رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(3‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (‪.)66 /10‬‬
‫‪4‬‬
‫() وهي ألحمد‪ ،‬وأبي يعلى‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫بل ورد في أحاديث أخرى كثيرة ما ي))دل على المكان))ة الرفيع))ة ال))تي يحظى به))ا‬
‫من لم يتش))رف برؤيت))ه ‪ ‬في ال))دنيا‪ ،‬وأنه))ا ال تق))ل عن مكان))ة ص))حابته‪ ،‬فق))د ورد في‬
‫الحديث الشريف عن النبي ‪ ‬قال‪( :‬من أشد أم))تي لي حب))ا ن))اس يكون))ون بع))دي‪ ،‬ي))و ُّد‬
‫(‪)1‬‬
‫أحدهم لو رآني بأهله وماله)‬
‫وفي ح))ديث آخ))ر أن الن))بي ‪ ‬ق))ال‪( :‬إن أش)) َّد أم))تي لي حب))ا ق))وم يكون))ون أو‬
‫(‪)2‬‬
‫يجيئون‪ ،‬وفي رواية ‪ -‬يخرجون بعدي‪ -‬يود ّأحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآني)‬
‫وفي حديث آخر أن النبي ‪ ‬ق))ال‪( :‬لي))أتين على أح))دكم زم))ان ألن ي))راني أحبُّ‬
‫(‪)3‬‬
‫إليه من مثل أهله وماله)‬
‫بل ذكر ‪ ‬المنهج الذي يمكن أن يصل به المؤمن إلى تل))ك المكان))ة الرفيع))ة من‬
‫رسول هللا ‪ ،‬فقال‪( :‬إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صالة في‬
‫الدنيا‪ ،‬من صلى علي مائة مرة في يوم الجمعة وليلة الجمعة قض))ى هللا ل))ه مائ))ة حاج))ة‬
‫سبعين من حوائج اآلخرة وثالثين من حوائج الدنيا‪ ،‬ثم يوك))ل هللا ب))ذلك ملك))ا يدخل))ه في‬
‫قبري كما يدخل عليكم الهدايا يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه إلى عش))يرته فأثبت))ه‬
‫(‪)4‬‬
‫عندي في صحيفة بيضاء)‬
‫فهذا الحديث يرسم خطة واضحة للمعية ال عالقة لها بالزمان‪ ،‬وال بالمك))ان‪ ،‬ب))ل‬
‫عالقتها فقط بم)دى التواص)ل م)ع رس))ول هللا ‪ ،‬وال))ذي تمث)ل الص)الة علي)ه أح)د أهم‬
‫مقوماته‪.‬‬
‫وورد في حديث آخر مقوم آخر‪ ،‬ال يرتب))ط ال بالمك))ان‪ ،‬وال بالزم))ان‪ ،‬فق))ال‪( :‬إن‬
‫من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيام))ة أحاس))نكم أخالق))ا‪ ،‬وإن من أبغض))كم إلي‬
‫(‪)5‬‬
‫وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)‬
‫فهذا الحديث يحدد حسن الخلق مقياسا لمكانة الم))ؤمن من رس))ول هللا ‪ ،‬وه))و‬
‫مما ال عالقة له ال بالمكان‪ ،‬وال بالزمان‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫ومثل))ه قول))ه ‪( :‬خي))اركم أحاس))نكم أخالق))ا) فق))د رب))ط ‪ ‬الخيري))ة في ه))ذه‬
‫األمة‪ ،‬وفي غيرها من األمم باألخالق الحسنة‪.‬‬
‫وهذه األحاديث وغيرها تتناسب مع ما يقتضيه العقل السليم‪ ،‬ألنه من الغريب أن‬
‫تصنف األمة في قربها من هللا تعالى وقربها من رس))ول هللا ‪ ‬على أس))اس زم))اني أو‬
‫مكاني‪ ،‬ألن أي شخص قد يحتج على هللا‪ ،‬فيقول له‪ :‬يا رب لو أن))ك جعلت))ني في ال))زمن‬
‫الذي كان فيه ‪ ‬لرأيت ما أصنع‪.‬‬

‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه أحمد‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫‪4‬‬
‫حياة األنبياء في قبورهم للبيهقي (ص‪.)93 :‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫() سنن الترمذي‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫() رواه الترمذي‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ولكن عندما يقرن األمر بالطاع))ة والمحب))ة وال))والء حينه))ا ال يبقى ع))ذر ألح))د‪..‬‬
‫ألن كل أحد يمكنه أن يحقق هذه المعاني من غير حاجة لزمان وال لمكان‪.‬‬
‫وقد حصل هذا بالفعل‪ ..‬وقد حظي الصوفية عموما(‪ )1‬بهذا الشرف من دون كثير‬
‫من الناس‪ ،‬وبذلك يكونون أقرب الناس إلى التمثل بالسنة النبوية في هذا المجال‪.‬‬
‫ولهذا نراهم يستعملون كل الوس))ائل للتواص))ل ال))روحي م))ع رس))ول هللا ‪ ،‬ب))ل‬
‫يرون الرجوع إليه ‪ ‬في كل محل‪ ،‬وقد نق))ل النبه))اني عن كت))اب (العه))ود المحمدي))ة)‬
‫للشعراني قوله نصيحة لمن رغب في المجاورة في أحد الح))رمين‪( :‬ف))إن ك)ان من أه)ل‬
‫الصفاء فليشاوره ‪ ‬في كل مسألة فيها رأي أو قياس ويفعل ما أشار به ‪ ‬بش))رط أن‬
‫(‪)2‬‬
‫يسمع لفظه ‪ ‬صريحا يقظة)‬
‫ولهذا نراهم يعظمون رؤية رسول هللا ‪ ‬يقظة أو مناما‪ ،‬ويلتمسون كل الوسائل‬
‫لتحصيلها‪ ،‬ومن أهمها كثرة الصالة والسالم عليه‪ ،‬والتي تؤدي بالقلب إلى االشتغال به‬
‫اشتغاال كليا يطغى على الروح والجسد‪ ،‬وحينها تحصل الرؤية بكل اللطائف‪..‬‬
‫وقد بين الش))يخ علي جمع))ة حقيق))ة الرؤي))ة‪ ،‬وع))دم اس))تحالتها عقال ونقال‪ ،‬فق))ال‪:‬‬
‫(ورؤيته ‪ ‬ال تعدو إال أن تكون انكشافًا للولي عن حاله الذي هو في ق))بره ‪ ‬يقظ))ة‪،‬‬
‫وهذا ال ينكره العقل‪ ،‬ويؤيده النقل ‪ ..‬وقد تكون الرؤية رؤية صورة الن))بي ‪ ‬الحقيقي))ة‬
‫بمعنى أن النبي ‪ ‬في مكانه في روض))ته الش))ريف‪ ،‬وال))رائي رأى ص))ورته الش))ريفة‪،‬‬
‫وتس))مى ص))ورة من ع))الم المث))ال‪ ،‬وذل))ك ينتج من ك))ثرة المحب))ة والتفك))ير في شخص))ه‬
‫(‪)3‬‬
‫الشريف ‪ ،‬فاإلنسان قد تتعدد صورته بتعدد األسطح العاكسة كالمرايا وغيرها)‬
‫بل إن السيوطي يذهب إلى أبعد من ذلك‪ ،‬فيقول ـ بعد إي)راده للنص))وص ال)واردة‬
‫في هذا المجال ـ‪( :‬فحصل من مجموع هذه النقول واألحاديث أن النبي ‪ ‬حي بجس))ده‬
‫وروحه‪ ،‬وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار األرض وفي الملكوت‪ ،‬وهو بهيئته‬
‫التي كان عليه))ا قب))ل وفات))ه لم يتب))دل من))ه ش))يء‪ ،‬وأن))ه مغيب عن األبص))ار كم))ا غيبت‬
‫المالئكة مع كونهم أحياء بأجسادهم‪ ،‬فإذا أراد هللا رف))ع الحج))اب عمن أراد كرامت))ه رآه‬
‫(‪)4‬‬
‫على هيئته التي هو عليها ال مانع من ذلك وال داعي إلى التخصيص برؤية المثال)‬
‫ومن األحاديث التي يمكن االستدالل بها على هذا قوله ‪( :‬من رآني في المن))ام‬
‫(‪)5‬‬
‫فسيراني في اليقظة وال يتمثل الشيطان بي)‬
‫فقوله ‪( :‬فسيراني في اليقظة) تدل على إمكان رؤيت))ه في حيات))ه‪ ،‬وتخص))يص‬
‫اليقظة بيوم القيامة بعيد‪ ،‬ألمرين‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫() ال أقصد كل الص)وفية‪ ،‬ألن منهم من ب)الغ في الت)أثر بمنتج)ات الس)نة المذهبي)ة حرص)ا على أال‬
‫يصنف خارجها‪.‬‬
‫‪ )(2‬النبهاني‪ ،‬سعادة الدارين‪ ،‬صـ ‪.440‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر كتابه‪ :‬البيان القويم لتصحيح بعض المفاهيم‪ ،‬دار السندس للتراث اإلسالمي‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫() رواه البخاري‪ ،‬وأبو داود‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫األول‪ :‬أن أمته ‪ ‬ستراه يوم القيامة من رآه في المنام ومن لم يره‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن الحديث لم يقيد اليقظة بيوم القيامة‪ ،‬وهذا التخصيص بغ))ير مخص))ص‬
‫تحكم ومعاندة‪.‬‬
‫بناء على ه))ذا‪ ،‬فق))د اهتم الص))وفية به))ذه المس))ألة‪ ،‬وألف))وا في تقريره))ا والبرهن))ة‬
‫عليه))ا كتب))ا منه))ا كت))اب الس))يوطي المعن))ون بـ (تن))وير الحل))ك في إمك))ان رؤي))ة الن))بي‬
‫والملك)‪ ،‬والذي قال في مقدمته‪( :‬فقد كثر السؤال عن رؤية أرب))اب األح))وال للن))بي ‪‬‬
‫في اليقظة‪ ،‬وأن طائفة من أهل العصر ممن ال ق))دم لهم في العلم ب))الغوا في إنك))ار ذل))ك‬
‫والتعجب منه‪ ،‬وادعوا أنه مستحيل‪ ،‬فألفت هذه الكراسة في ذلك وسميتها (تنوير الحلك‬
‫في إمكان رؤية النبي والملك)‬
‫وقد ساق النفراوي المالكي أسماء من قال بهذا من العلماء‪ ،‬وأدلتهم عليها‪ ،‬فق))ال‪:‬‬
‫( يجوز رؤيته ‪ ‬في اليقظة والمنام باتفاق الحفاظ‪ ،‬وإنما اختلفوا هل يرى الرائي ذاته‬
‫الش))ريفة حقيق))ة أو ي))رى مث))اال يحكيه))ا‪ ،‬ف))ذهب إلى األول جماع))ة وذهب إلى الث))اني‪:‬‬
‫الغزالي‪ ،‬والق)رافي‪ ،‬والي)افعي‪ ،‬وآخ)رون‪ ،‬واحتج األول)ون بأن)ه س)راج الهداي)ة‪ ،‬ون))ور‬
‫الهدى‪ ،‬وشمس المعارف كما يرى الن))ور والس))راج والش))مس من بع))د‪ ،‬والم))رئي ج))رم‬
‫الشمس بأعراضه فكذلك البدن الشريف‪ ،‬فال تفارق ذاته القبر الش))ريف‪ ،‬ب))ل يخ))رق هللا‬
‫الحجب للرائي ويزيل الموانع حتى يراه كل راء ولو من المشرق والمغ))رب‪ ،‬أو تجع))ل‬
‫الحجب شفافة ال تحجب م))ا وراءه))ا‪ ،‬وال))ذي ج))زم ب))ه الق))رافي أن رؤي))اه منا ًم))ا إدراك‬
‫بجزء لم تحله آفة النوم من القلب فهو بعين البصيرة ال بعين البصر بدليل أن))ه ق))د ي))راه‬
‫األعمى‪ .‬وق))د حكى ابن أبي جم))رة وجماع))ة أنهم رأوا الن))بي ‪ ‬يقظ))ة‪ .‬وروي‪( :‬من‬
‫رآني مناما فسيراني يقظة)‪ ،‬ومنكر ذل))ك مح))روم؛ ألن))ه إن ك))ان ممن يك))ذب بكرام))ات‬
‫األولياء‪ ،‬فالبحث معه ساقط لتكذيبه ما أثبتته السنة أشار إلى جمي)ع ذل)ك ش)يخ مش)ايخنا‬
‫(‪)1‬‬
‫اللقاني في شرح جوهرة التوحيد)‬
‫وقال الساحلي في (بغية السالك) بعدما ذك))ر طبق)ات الن)اس في انطب)اع ص)ورته‬
‫الشريفة ‪ ‬في نفوسهم‪( :‬ووراء هذا ما هو أعلى درجة منه‪ ،‬وهو أن يراه بعين رأس))ه‬
‫عيانا في عالم الحس وال تنكر هذا‪ ،‬فق))د يك))رم هللا من يش))اء من عب))اده بإقام))ة ص))ورته‬
‫(‪)2‬‬
‫الكريمة له حتى يشاهدها‪ ،‬وهذا من جائز الكرامات التي يتحف هللا بها أولياءه)‬
‫وقال مبينا دور الصالة على رسول هللا ‪ ‬في حص))ول ذل))ك التواص))ل المق))دس‬
‫مع رسول هللا ‪( : ‬حدثني أبي قال‪:‬حدثني ش))يخي أب))و القاس))م المري))د ق))ال‪( :‬ك))ان من‬
‫جملة أصحابي ال))ذين أخ))ذوا ع))ني رج))ل يق))ال ل))ه أب))و عب))د هللا بن الخطيب بل))غ بك))ثرة‬
‫الص))الة على الن))بي‪ ‬درج))ة الق))رب من))ه واتص))ال مواص))لته‪ ،‬ح))تى أن الفقيهين‬
‫المحدثين كانا إذا اختلفا في الحديث من أحاديث النبي ‪ ،‬فقال أحدهما‪ :‬هو صحيح‪،‬‬
‫وقال اآلخر ‪ :‬هو ضعيف‪ ،‬أتيا ( إلى أبي ) عبد هللا بن الخطيب‪ ،‬فيرغبان منه أن يس))أل‬
‫‪1‬‬
‫() الفواكه الدواني‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() بغية السالك للساحلي‪.1/248 :‬‬

‫‪25‬‬
‫النبي ‪ ‬عن الحديث المختلف فيه‪ ،‬ثم إنه إذا نام رأى النبي‪ ،‬فيسأله عن ذلك الح))ديث‪،‬‬
‫فيقول له‪ :‬إما نعم أنا قلته‪ ،‬وإما لم أقله ‪ ..‬فيعرفهما بذلك‪ ،‬فيفيدهما ذلك قوة ظن لم))ا علم‬
‫من ص))دق أبي عب))د هللا بن الخطيب‪ ،‬واش))تهر من حال))ه في العدال))ة‪ ..‬وه))ذا وإن لم يف))د‬
‫قطعا‪ ،‬فال يقصر عن تغليب الظن‪ ،‬وكان بحيث ال يتصرف في أمر إال عن إذن الن))بي‬
‫(‪)1‬‬
‫‪)‬‬
‫بل ذكر ـ فوق ذلك ـ ما كنا قد أشرنا إليه من أن ه))ذا الن))وع من العالق))ة برس))ول‬
‫هللا ‪ ‬أعظم من أن ينحصر في صحابته‪ ،‬فق))ال‪( :‬وح))دثني أبي عن ش))يخه أبي القاس))م‬
‫عن ش))يخه أبي عم))ران أن))ه ق))ال في حكاي))ة طويل))ة‪( :‬أيظن أص))حاب محم))د ‪ ‬أنهم‬
‫اختصوا به من دوننا؟ وهللا ألزاحمنهم فيه حتى يعلموا أنهم قد خلفوا بعدهم رجاال)‬
‫ثم علق على ذلك بقوله‪( :‬وهذا إشارة لتمكن وصلته به‪ ،‬بكثرة ذك))ره‪ ،‬والعك))وف‬
‫على حبه)‬
‫وما ذكره الساحلي عن أبي عمران هو نفس ما ذكره الغزالي في اإلحياء منسوبا‬
‫إلى أبي مسلم الخوالني حيث يق))ول‪( :‬وك))ان أب))و مس))لم الخ))والني ق))د عل))ق س))وطا في‬
‫مسجد بيته يخوف به نفسه‪ ،‬وكان يقول لنفسه‪( :‬قومي‪ ،‬فوهللا ألزحفن ب))ك زحف))ا‪ ،‬ح))تى‬
‫يكون الكلل منك ال مني)‪ ،‬فإذا دخلت الفترة تن))اول س))وطه وض))رب ب))ه س))اقه‪ .‬ويق))ول‪:‬‬
‫أنت أولى بالضرب من دابتي‪ ،‬وكان يقول‪ :‬أيظن أصحاب محم))د ‪ ‬أن يس))تأثروا ب))ه‬
‫(‪)2‬‬
‫دوننا‪ ،‬كال‪ ،‬وهللا لنزاحمنهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجاال)‬
‫في مقابل هذا االنفتاح العظيم على التواصل مع رسول هللا ‪ ،‬والذي تدل علي))ه‬
‫األدلة العقلية والنقلية نجد جمودا خطيرا من أصحاب السنة المذهبية‪ ،‬والذين يتع))املون‬
‫بنظرة مادية مع هذه المسألة متجاهلين أن مبنى اإليم))ان على الغيبي))ة والق))درة المطلق))ة‬
‫هلل‪ ..‬ولذلك ال يسأل المؤمن عن الكيفية ما دام قد تقرر في العقل اإلمكان‪.‬‬
‫ومن األمثلة على جمود أصحاب السنة المذهبية في هذه المس))ألة م))ا قال))ه الش))يخ‬
‫عبدالعزيز بن باز عند حديثه عن (حكم االحتف))ال بالمول))د النب))وي الش))ريف)‪( :‬بعض))هم‬
‫يظن أن رسول هللا ‪ ‬يحضر المولد ؛ ولهذا يقوم))ون ل))ه ُم َحيِّين ومر ّح))بين‪ ،‬وه))ذا من‬
‫أعظم الباطل وأقبح الجهل‪ ،‬فإن الرس))ول ‪ ‬ال يخ))رج من ق)بره قب)ل ي)وم القيام)ة‪ ،‬وال‬
‫يتصل بأحد من الناس‪ ،‬وال يحضر اجتماعاتهم‪ ،‬بل هو مقيم في ق))بره إلى ي))وم القيام))ة‪،‬‬
‫وروح))ه في أعلى عل))يين عن))د رب))ه في دار الكرام))ة‪ ،‬كم))ا ق))ال هللا تع))الى في س))ورة‬
‫ك لَ َميِّتُونَ ث َّم إِنَّ ُك ْم يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة تُ ْب َعثُونَ ﴾ (المؤمن))ون‪،)16 )-15:‬‬
‫المؤمنون‪ ﴿:‬ثُ َّم إِنَّ ُك ْم بَ ْع َد َذلِ َ‬
‫وقال النبي ‪( :‬أنا سيد ول))د آدم ي))وم القيام))ة‪ ،‬وأول من ينش))ق عن))ه الق))بر‪.‬وأول ش))افع‬
‫وأول مشفع)(‪ )3‬عليه من ربه أفض))ل الص))الة والس))الم‪ .‬فه))ذه اآلي))ة الكريم))ة والح))ديث‬
‫الش))ريف وم))ا ج))اء في معناهم))ا من اآلي))ات واألح))اديث‪ ،‬كله))ا ت))دل على أن الن))بي ‪‬‬
‫‪1‬‬
‫() بغية السالك للساحلي‪.1/249 :‬‬
‫‪2‬‬
‫() إحياء علوم الدين‪.4/436:‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وغيره من األموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة)‬
‫وما ذكره ابن باز من األدلة عجيب‪ ،‬فال أحد يجادل في وفاة رس))ول هللا ‪ ،‬وال‬
‫في كونه أول من ينشق عنه القبر‪ ..‬ولكن ذلك ال يعني عدم تواصله ‪ ‬م))ع أمت))ه‪ ،‬وق))د‬
‫أخبر ‪ ‬أنه رأى األنبياء‪ ،‬وصلى بهم‪ ،‬وأخبر عن حياتهم‪ ،‬وهم في قبورهم‪.‬‬
‫ولست أدري ما الذي يضر ابن باز أن يستشعر المؤمنون في مجالس))هم حض))ور‬
‫رسول هللا ‪ ،‬ويتنعمون بذلك الحضور‪ ،‬وتمتلئ قلوبهم لهفة وشوقا له ‪.‬‬
‫لكن أهل هذه السنة ال يفقهون هذه المعاني الجليلة‪ ،‬وال يستشعرونها‪ ،‬ألن الت))دين‬
‫ال))ذي يؤمن))ون ب))ه ت))دين ال يتج))اوز الظ))واهر والس))طحيات‪ ،‬ول))ذلك يقص))رون عالقتهم‬
‫برسول هللا ‪ ‬على تلك الظواهر والسطحيات‪.‬‬
‫وليت األمر اقتصر على هؤالء المعاصرين‪ ،‬بل نجد ـ لألسف ـ من المتق))دمين‪،‬‬
‫ومن ال))ذين تمتلئ بكتبهم رف))وف مكتباتن))ا ـ من ي))ردد أمث))ال ه))ذه الكلم))ات‪ ،‬فق))د ق))ال‬
‫القرطبي‪( :‬وهذا القول يدرك فساده بأوائل العق))ول‪ ،‬ويل))زم علي))ه أال ي))راه أح))د إال على‬
‫صورته التي مات عليها‪ ،‬وأن ال يراه رائي))ان في آن واح))د في مك))انين وأن يحي))ا اآلن‪،‬‬
‫ويخرج من قبره ويمشى في األسواق ويخ))اطب الن))اس ويخ))اطبوه‪ ،‬ويل))زم من ذل))ك أن‬
‫يخلو قبره من جسده فال يبقى في قبره منه شيء فيزار مجرد القبر ويس))لم على غ))ائب‪،‬‬
‫ألنه جائز أن يرى في الليل والنه)ار م)ع اتص)ال األوق))ات على حقيقت)ه في غ)ير ق))بره‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وهذه جهاالت ال يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل)‬
‫وكل هذه اإللزامات ال مبرر لها‪ ،‬بل لو أنن))ا طبقن))ا م))ا قال))ه على الع))والم الغيبي))ة‬
‫النتفى اإليمان بها‪ ،‬ألن أحكام عالم الغيب ليست كأحكام عالم الش))هادة‪ ،‬ب))ل إن الفيزي))اء‬
‫الحديثة تنفى الكثير من التصورات التي نتوهمها عن عالم الشهادة نفسه‪.‬‬
‫فكون الشيء في مك))انين في وقت واح))د لم يع))د مس))تحيال كم))ا ك))ان يتص))ور في‬
‫الفيزياء القديمة‪ ،‬والتي اعتمد عليها القرطبي في تلك الدعاوى التي ادعاها‪.‬‬
‫وبهذا يمكن تفسير ما ورد في النصوص المقدسة من أن ملك الموت يقوم بقبض‬
‫أرواح خلق كثيرين وفي أماكن متعددة في نفس الوقت‪ ..‬فذلك ليس مستغربا عقال‪ ،‬وق))د‬
‫دل عليه النقل‪.‬‬
‫ومث)ل القرط)بي نج)د ابن تيمي)ة ال)ذي لم يكت)ف ب)دعوى االس)تحالة ال)تي ذكره)ا‬
‫القرط))بي‪ ،‬ب))ل ح))اول أن يج))د له))ا تفس))يرا كعادت))ه‪ ،‬والتفس))ير ه))و أن ال))ذي تمث))ل ه))و‬
‫الشيطان‪ ،‬مع أن الحديث الصحيح يذكر استحالة تمثل الشيطان برسول هللا ‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪( :‬والضالل من أهل القبلة يرون من يعظمونه‪ :‬إما النبي ‪ ‬وإما‬
‫غيره من األنبياء يقظة‪ ،‬ويخ)اطبهم ويخاطبون)ه‪ ،‬وق)د يس)تفتونه ويس)ألونه عن أح)اديث‬
‫فيجيبهم‪ ،‬ومنهم من يخي))ل إلي))ه أن الحج))رة ق))د انش))قت وخ))رج منه))ا الن))بي ‪ ‬وعانق))ه‬
‫وصاحباه‪ ،‬ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالس))الم ح))تى وص))ل مس))يرة أي))ام وإلى‬
‫مكان بعيد ‪ ..‬وهذا موجود عند خلق كثير‪ ،‬كما هو موجود عند النص))ارى والمش))ركين‪،‬‬

‫‪ )(1‬نقال عن فتح الباري ( ‪. ) 384 / 12‬‬

‫‪27‬‬
‫لكن كثير من الناس يكذب بهذا‪ ،‬وكثير منهم إذا صدق به يظنه أنه من اآلي))ات اإللهي))ة‪،‬‬
‫وأن الذي رأى ذلك رآه لصالحه ودينه‪ ،‬ولم يعلم أنه من الشيطان‪ ،‬وأنه بحسب قلة علم‬
‫الرجل يضله الشيطان‪ ،‬ومن كان أقل علما قال له م))ا يعلم أن))ه مخ))الف للش))ريعة خالف))ا‬
‫ظاهرا‪ ،‬ومن عنده علم منها ال يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة وال مفي))دا فائ))دة في‬
‫دينه‪ ،‬بل يضله عن بعض ما كان يعرفه‪ ،‬فإن هذا فعل الش))ياطين‪ ،‬وه))و إن ظن أن))ه ق))د‬
‫استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر‪ ،‬ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة ‪ :‬إن الخضر‬
‫أتاه‪ ،‬وال موسى وال عيسى‪ ،‬وال أنه سمع رد النبي ‪ ‬وابن عمر كان يسلم إذا ق))دم من‬
‫سفر ولم يقل قط أنه يسمع الرد‪ ،‬وكذلك التابعون وتابعوهم‪ ،‬وإنما ح))دث ه))ذا من بعض‬
‫المتأخرين ممن قل علمه بالتوحيد والس))نة‪ ،‬فأض))له الش))يطان كم))ا أض))ل النص))ارى في‬
‫(‪)1‬‬
‫أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من األنبياء عليهم السالم)‬
‫ولم يكتف أصحاب الس))نة المذهبي))ة بقط))ع التواص))ل م))ع رس))ول هللا ‪ ‬من ه))ذا‬
‫الباب‪ ،‬بل نراهم يقطعون كل باب حتى باب الرؤية المنامية‪ ،‬فيقصرونها على ص))حابة‬
‫رسول هللا ‪ ‬دون غيرهم من أفراد األمة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما قاله الشيخ ابن ج))برين عن))دما س))ئل‪( :‬ه))ل يمكن رؤي))ة‬
‫الرسول ‪ ‬في المنام؟ وما عالمة صحة ذلك؟)‬
‫فأجاب بقوله‪( :‬وردت أحاديث كثيرة كما في صحيح البخاري في كت))اب التعب))ير‬
‫باب‪( :‬من رأى النبي ‪ ‬في المنام) ‪ ..‬وظاهره اختصاص الرؤي)ا الص)حيحة بمن ك)ان‬
‫يع))رف ص))ورته وهم الص))حابة ال))ذين رأوه في حيات))ه‪ ،‬أم))ا الت))ابعون ومن بع))دهم ف))إن‬
‫رؤيتهم له ال ت))دل على الرؤي))ة الص))حيحة‪ ،‬حيث أنهم م))ا رأوه في اليقظ))ة‪ ،‬وال عرف))وا‬
‫صورته مقابلة‪ ،‬فيمكن أن يكون المرئي شبيها ً به على غير صورته الحقيقية‪ ،‬وال م))انع‬
‫(‪)2‬‬
‫من تشبه الشيطان بغيره وزعمه أنه محمد ‪)‬‬
‫بعد هذا‪ ،‬فإننا ال ننكر أنه ق))د يق))ع بعض االس))تغالل الخ))اطئ لرؤي))ة رس))ول هللا‬
‫‪ ،‬وأنه قد يوجد بعض المدعين ال))ذين يش))وهون ه))ذا المع))نى‪ ..‬لكن ذل))ك ال يع))ني أن‬
‫نسد هذا الباب من الفضل اإللهي عن أمة رس))ول هللا ‪ ‬لنقط))ع ص))لتها ب))ه‪ ،‬أو لنجع))ل‬
‫صلتها به محصورة في دوائر محدودة ضيقة هي أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة‪.‬‬
‫اعتبار التوسل برسول اهلل ‪ ‬شركا‪:‬‬
‫مع أن التوسل في حقيقته ليس سوى استشعار بأن لرسول هللا ‪ ‬مكانة عن))د هللا‬
‫تجعله يستطيع أن يمد بالعون من مد يده إليه‪ ..‬ويغيث من اس))تغاثه‪ ..‬ويش))فع فيمن طلب‬
‫منه أن يشفع له‪..‬‬
‫وم))ع أن ه))ذا من الحق))ائق المق))ررة في الق))رآن الك))ريم إال أن أص))حاب الس))نة‬
‫المذهبية ش)اغبوا فيه))ا إلى درج)ة اعتب))ار الق))ائلين به)ذا مش))ركين ش))ركا جلي)ا تح)ل ب)ه‬
‫‪1‬‬
‫() مجموع الفتاوى‪.393 – 391 / 27 :‬‬
‫‪2‬‬
‫() فتاوى في الرؤى‪ ،‬البن جبرين‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫دماؤهم وأموالهم وأعراضهم‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ تعليق))ا على‬
‫بعض األبي))ات في ال))بردة‪ ،‬واعتباره))ا ش))ركا‪( :‬بلغن))ا من نح))و س))نتين اش))تغالكم ب))بردة‬
‫البوصيري‪ ،‬وفيها من الشرك األكبر ما ال يخفى‪ ،‬من ذلك قوله‪( :‬يا أكرم الخل))ق م))ا لي‬
‫من ألوذ به سواك) إلى آخر األبيات‪ ،‬التي فيها طلب ثواب ال))دار اآلخ))رة من الن))بي ‪‬‬
‫وحده‪ ،‬وكون))ه ‪ ‬أفض))ل األنبي))اء ال يل))زم أن يختص دونهم ب))أمر نهى هللا عن))ه عب))اده‬
‫عموماً‪ ،‬وخصوصاً‪ ،‬بل هو مأمور أن ينهى عنه‪ ،‬ويتبرأ منه‪ ،‬كما تبرأ منه المس))يح بن‬
‫مريم في اآليات في آخر سورة المائدة‪ ،‬وكما تبرأت من))ه المالئك))ة في اآلي))ات ال))تي في‬
‫سورة سبأ‪ ..‬وأما اللياذ‪ :‬فهو كالعياذ‪ ،‬س))واء‪ ،‬فالعي))اذ ل))دفع الش))ر‪ ،‬واللي))اذ لجلب الخ))ير‪،‬‬
‫وحكى اإلم))ام أحم))د وغ))يره اإلجم))اع على أن))ه ال يج))وز العي))اذ إال باهلل‪ ،‬وأس))مائه‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وصفاته‪ ،‬وأما العياذ بغيره‪ :‬فشرك‪ ،‬وال فرق)‬
‫ولست أدري كيف ينكرون هذا‪ ،‬وهم يقرؤون في الق))رآن الك))ريم األدل))ة الكث))يرة‬
‫المثبتة للشفاعة والمثبتة قبل ذلك للوسائط‪ ،‬كقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َما نَقَ ُم))وا إِاَّل أَ ْن أَ ْغنَ))اهُ ُم هَّللا ُ‬
‫َو َرسُولُهُ ِم ْن فَضْ لِ ِه ﴾ [التوبة‪ ،]74 :‬وقال عن سليمان عليه السالم‪ ﴿ :‬هَ َذا َعطَا ُؤنَا فَا ْمنُ ْن‬
‫ب﴾ [ص‪]39 :‬‬ ‫أَوْ أَ ْم ِس ْك بِ َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫بل ورد في كتب السنة ال))تي يعتم))دونها م))ا ي))دل على أن رس))ول هللا ‪ ‬س))يكون‬
‫مالذا يوم القيامة للخالئق جميعا يطلبون منه أن يشفع لهم عند هللا‪ ،‬ففي الحديث ال))وارد‬
‫في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة‪ ( :‬فيأتون‪ ،‬فيقولون‪ :‬ي))ا محم))د‪ ،‬أنت‬
‫رسول هللا‪ ،‬وخاتم األنبياء‪ ،‬غفر هللا لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‪ ،‬فاشفع لنا إلى ربك‪،‬‬
‫أال ترى ما نحن فيه ؟ أال ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش‪ ،‬فأقع ساجداً لربي‬
‫عز وجل‪ ،‬ثم يفتح هللا عل ّي‪ ،‬ويلهمني من محامده‪ ،‬وحس))ن الثن))اء لي))ه م))ا لم يفتح))ه على‬
‫أحد قبلي‪ ،‬فيقال‪ :‬يا محمد ارفع رأسك‪ ،‬سل تعط))ه‪ ،‬اش))فع تش))فع‪ ،‬ف))أقول‪ :‬ي))ا رب أم))تي‬
‫أمتي‪ ،‬فيقال ك أدخل من أمتك من ال حساب علي))ه من الب))اب األيمن من أب))واب الجن))ة‪،‬‬
‫وهم شركاء الناس فيما سواه من األبواب)‬
‫ولست أدري كيف يعتبرون االستغاثة برسول هللا ‪ ‬يوم القيامة‪ ،‬واللج))وء إلي))ه‬
‫إيمانا وتسليما‪ ،‬في نفس الوقت الذي يعتبرون اللجوء إليه في الدنيا شركا وكفرا‪.‬‬
‫وهل أن رسول هللا ‪ ‬له وجود يوم القيامة‪ ،‬وليس له وجود اآلن؟‬
‫أو أن مكانته عند هللا‪ ،‬والتي تؤهله للشفاعة‪ ،‬مؤجلة إلى يوم القيامة‪ ،‬أما في ه))ذه‬
‫الدنيا‪ ،‬فال مكانة له؟‬
‫واألخطر من ذلك كله هو كيفي))ة اس))تحالة القض))ية الواح))دة إلى إيم))ان من جه))ة‪،‬‬
‫وإلى شرك من جه))ة أخ))رى‪ ..‬وه))ذا من أعجب العجب ال))ذي يق))ع في))ه أص))حاب الس))نة‬
‫المذهبية‪.‬‬
‫إذ أنهم يعتبرون لجوء الخل))ق إلى رس))ول هللا ‪ ،‬وم))د أي))ديهم إلي))ه في اآلخ))رة‬

‫‪1‬‬
‫() رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب‪.1/82 :‬‬

‫‪29‬‬
‫إيمانا وتسليما‪ ،‬في نفس الوقت الذي يعتبرون مد أيديهم إليه في الدنيا شركا‪ ..‬مع أنه لو‬
‫ك))ان ذل))ك ش))ركا‪ ،‬لك))ان في اآلخ))رة أك))بر ألن الخل))ق في ذل))ك الموق))ف ع))اينوا أه))وال‬
‫القيامة‪ ،‬وانكشفت الحقائق أمامهم رأي العين‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فقد ورد في األحاديث الكث))يرة م))ا ي))دل على لج))وء الص))حابة‬
‫إلى رسول هللا ‪ ‬ليس ألجل أمر دينهم فقط‪ ،‬بل ألمور دنياهم أيضا‪ ،‬فك))ان رس))ول هللا‬
‫‪ ‬يجيب دعواتهم‪ ..‬بل يحضهم على التوسل به لتحقيقها‪.‬‬
‫بل ورد في القرآن الك))ريم األوام))ر اإللهي))ة ت))دعو إلى اس))تثمار ه))ذه الناحي))ة من‬
‫ك‬‫﴿ولَ))وْ أَنَّهُ ْم إِ ْذ ظَلَ ُم))وا أَ ْنفُ َس))هُ ْم َج)) ا ُءو َ‬
‫رس))ول هللا ‪ ‬واالس))تفادة منه))ا‪ ،‬ق))ال تع))الى‪َ :‬‬
‫فَا ْستَ ْغفَرُوا هَّللا َ َوا ْستَ ْغفَ َر لَهُ ُم ال َّرسُو ُل لَ َو َجدُوا هَّللا َ تَ َّوابًا َر ِحي ًما ﴾ [النساء‪]64 :‬‬
‫وبناء على هذا كان التوسل برسول هللا ‪ ‬نوع))ا من الحض))ور مع))ه‪ ،‬والش))عور‬
‫بمعيته‪ ،‬وله تأثير كبير في ربط القلب بمحبته‪ ،‬وهو السبيل الصحيح لسلوك سنته‪.‬‬
‫لكن أصحاب السنة المذهبية حرموا األمة من االستفادة من هذه المع))اني الجليل))ة‬
‫حين اعتبروا كل ذلك شركا وضاللة‪ ،‬وأول))وا ك))ل م))ا ورد في ذل))ك من النص))وص‪ ،‬أو‬
‫كذبوها مع ورود األدلة الكثيرة على صحتها‪.‬‬
‫ومن أمثلة تلك المواقف موقف ابن تيمية الذي راح في ه))ذا المح))ل ـ كغ))يره من‬
‫المحال التي ال تتناسب مع منهجه ـ يطلق أيقونته المعهودة في تك))ذيب النص))وص ال))تي‬
‫ال تتناسب مع هواه األموي‪ ،‬فقال في كتابه الذي خصصه له))ذا الغ))رض (قاع))دة جليل))ة‬
‫في التوسل والوسيلة)‪( :‬السؤال به‪ ،‬فهذا يجوّزه طائف))ة من الن))اس‪ ،‬ونق))ل في ذل))ك آث))ار‬
‫لكن م))ا روي عن الن))بي ‪‬‬ ‫عن بعض السلف‪ ،‬وهو موجود في دعاء كثير من الن)اس‪َّ ،‬‬
‫ضعيف بل موضوع‪ ،‬وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حج))ة‪ ،‬إال‬ ‫ٌ‬ ‫في ذلك كله‬
‫حديث األعمى الذي علَّمه أن يقول‪( :‬أسألك وأتوجه إلي))ك بنبي))ك محم))د ن))بي الرحم))ة)‪،‬‬
‫وح))ديث األعمى ال حج))ة لهم في))ه‪ ،‬فإن))ه ص))ريح في أن))ه إنم))ا توس))ل ب))دعاء الن))بي ‪‬‬
‫وشفاعته‪ ،‬وهو طلب من النبي ‪ ‬الدعاء‪ ،‬وقد أم))ره الن))بي ‪ ‬أن يق))ول‪( :‬اللهم َش)فِّعْه‬
‫ي) ولهذا رد هللا عليه بصره لما دعا له النبي ‪ ،‬وكان ذلك مما يع))د من آي))ات الن))بي‬ ‫ف َّ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫‪ ‬ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم الن))بي ‪ ‬بالس))ؤال ب))ه لم تكن ح))الهم‬
‫(‪)1‬‬
‫كحاله)‬
‫وبما أننا رددنا على ه))ذا بتفص))يل في كتابن))ا [ش))يخ اإلس))الم في قفص االته))ام]‪،‬‬
‫وذكرنا الكثير من األدلة على تهافت ما ذكره ابن تيمية من عدم صحة ما ورد في ه))ذه‬
‫المسألة من نصوص‪ ،‬فسنكتفي هنا بالرد على ما ذكره من ارتباط التوس))ل بحيات))ه ‪،‬‬
‫وقصر ذلك على صحابته دون غيرهم من أفراد األمة‪ ،‬وهو قول يفضي إلى قطع صلة‬
‫األمة بنبيها كما ذكرنا ذلك سابقا‪.‬‬
‫والرد على هذا ـ أوال ـ ب))أن م))وت رس))ول هللا ‪ ‬ال يغ))اير حيات))ه إال في ناحي))ة‬
‫واحدة‪ ،‬وهي انقطاع الوحي‪ ،‬أما ما عداه فإن حياته ‪ ‬الشك فيها‪ ،‬بل ت))دل عليه))ا ك))ل‬

‫‪ )(1‬قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ‪)122 /1‬‬

‫‪30‬‬
‫األدلة‪ ..‬فإن كان الشهداء‪ ،‬وهم أدنى ب))آالف آالف ال))درجات من رس))ول هللا ‪ ‬ق))د نفى‬
‫يل هَّللا ِ‬‫هللا موتهم‪ ،‬ونهى عن اعتقاد ذل))ك‪ ،‬فق))ال تع))الى‪َ ﴿:‬وال تَحْ َس)بَ َّن الَّ ِذينَ قُتِلُ))وا فِي َس)بِ ِ‬
‫أَ ْم َواتا ً بَلْ أَحْ يَا ٌء ِع ْن) َد َربِّ ِه ْم يُرْ زَ قُ))ونَ ﴾ (آل عم))ران‪ ،)169:‬فكي))ف برس))ول هللا ‪ ‬وه))و‬
‫سيد الشهداء والعارفين والنبيين؟‬
‫ثم إن رسول هللا ‪ ‬أخبر بأن أعمال أمته تع)رض علي)ه‪ ،‬وأن))ه ي)دعو لهم‪ ،‬فق)ال‬
‫‪ (:‬حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم‪ ،‬فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم‪ ،‬تع))رض‬
‫(‪)1‬‬
‫علي أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت هللا تعالى وإن رأيت شرا استغفرت لكم)‬
‫هَّللا‬
‫)ل ا ْع َملُ))وا فَ َس )يَ َرى ُ َع َملَ ُك ْم‬ ‫ف))إن ش))ك في ه))ذا الح))ديث‪ ،‬فق))د ق))ال تع))الى‪َ ﴿:‬وقُ) ِ‬
‫الش )هَا َد ِة فَيُنَبِّئُ ُك ْم بِ َم))ا ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ))ونَ ﴾‬
‫ب َو َّ‬ ‫َو َر ُس )ولُهُ َو ْال ُم ْؤ ِمنُ))ونَ َو َس )تُ َر ُّدونَ إِلَى َع))الِ ِم ْال َغ ْي ِ‬
‫(التوبة‪)105:‬‬
‫فإن قيل‪ :‬بأن هذه رؤية وليست دعاء أو شفاعة‪ ،‬فنقول‪ :‬إن كان هللا تع))الى أخ))بر‬
‫ش َو َم ْن‬ ‫بدعوة المالئكة ـ عليهم السالم ـ للمؤمنين‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿:‬الَّ ِذينَ يَحْ ِملُونَ ْال َع))رْ َ‬
‫َحوْ لَهُ يُ َسبِّحُونَ بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوي ُْؤ ِمنُونَ بِ ِه َويَ ْستَ ْغفِرُونَ لِلَّ ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا َو ِس)عْتَ ُك) َّل َش) ْي ٍء‬
‫اب ْال َج ِح ِيم﴾ (غافر‪ ،)7:‬فإن كان‬ ‫َرحْ َمةً َو ِع ْلما ً فَا ْغفِرْ لِلَّ ِذينَ تَابُوا َواتَّبَعُوا َسبِيلَكَ َوقِ ِه ْم َع َذ َ‬
‫هذا مع حملة العرش‪ ،‬فكيف برسول هللا ‪ ،‬ومع أمته ال))تي كل))ف به))ا‪ ،‬وه))و أح))رص‬
‫الخلق عليها؟‬
‫وقد أخبر ‪ ‬أن أعمال األحياء تعرض على األموات من األقرباء والعشائر في‬
‫البرزخ‪ ،‬فقال ‪ (:‬إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من األموات‪ ،‬فإن كان‬
‫(‪)2‬‬
‫خيراً استبشروا به‪ ،‬وإن كان غير ذلك قالوا‪ :‬اللهم ال تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا)‬
‫فإن جاز هذا للعشائر واألقارب‪ ،‬وهم أفراد من األم))ة‪ ،‬فكي))ف ال يج))وز لرس))ول‬
‫هللا ‪ ،‬وه)))و أحن على أمت))ه من آب)))ائهم‪ ،‬وأمه))اتهم‪ ،‬وق))د ق)))ال تع)))الى‪ ﴿:‬النَّبِ ُّي أَوْ لَى‬
‫بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ِم ْن أَ ْنفُ ِس ِه ْم َوأَ ْز َوا ُجهُ أُ َّمهَاتُهُ ْم﴾ (األحزاب‪)6 :‬‬
‫هذا أوال ‪ ..‬وباإلضافة إليه فإن الشرك الحقيقي هو اعتقاد التأثير لرس))ول هللا ‪‬‬
‫في حال حياته‪ ،‬وعدم التأثير بعد موته‪ ..‬ألن المؤمن يدرك أن هللا ه))و الفاع))ل والم))ؤثر‬
‫مطلقا ‪ ..‬وأن دور رسول هللا ‪ ‬هو الوساطة‪ ..‬أي أن))ه وس))يلة للفض))ل اإللهي‪ ..‬ول))ذلك‬
‫فإن هذه اللفظة وحدها [الوسيلة] تدل كل عاق))ل على التوحي))د الحقيقي ال))ذي ت))دل علي))ه‬
‫السنة النبوية‪ ..‬ال التوحيد الذي يدعو إليه أصحاب السنة المذهبية‪.‬‬
‫الحكم ببدعية جميع مظاهر االرتباط الشعوري برسول اهلل ‪:‬‬
‫مع أن النص))وص الكث))يرة ت))دل على أن العالق))ة برس))ول هللا ‪ ‬ال تقتص))ر فق))ط‬
‫على الجانب التشريعي‪ ،‬بل تتعداه إلى تلك المشاعر العاطفية العميق))ة‪ ،‬وال))تي ق))د تف))رز‬
‫من السلوكات ما ال يمكن الحكم عليه بالضاللة أو البدعة باعتباره إف))رازا طبيعي))ا لتل))ك‬
‫المحبة واألشواق العظيمة إال أننا نجد أصحاب السنة المذهبية يغضون الطرف عن كل‬
‫‪ )(1‬رواه ابن سعد عن بكر بن عبد هللا مرسال‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد والطيالسي‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫تلك النصوص‪ ،‬ويهملونها‪ ،‬وال يهتمون بها‪ ،‬بل يعتبرون الس))نة في الجف))اء لرس))ول هللا‬
‫‪ ،‬والبدعة في كل السلوكات التي ترشح عن المحبة‪ ،‬وتنبع من الشوق‪.‬‬
‫ولهذا نجد علما كبيرا من أعالم السنة المذهبية‪ ،‬كابن تيمية‪ ،‬يقف مواق))ف س))لبية‬
‫من زيارة قبر رسول هللا ‪ ..‬بل يحاول بكل ما أوتي من أسلحة التب))ديع والتض))ليل أن‬
‫يحول من زيارته ‪ ‬والتي تحن لها القلوب‪ ،‬إلى معصية من المعاصي‪ ،‬ب))ل بدع))ة من‬
‫البدع‪ ،‬مع أن ذلك مما تعارفت عليه األمة اإلسالمية سلفها وخلفها‪ ،‬بل ما تعارفت عليه‬
‫األمم من قبلها حتى ال تنقطع صلتها بمن ترجع إليهم في شؤون دينه))ا ودنياه))ا‪ ،‬وح))تى‬
‫ال تزول آثارهم التي تدل عليهم‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن تيمية ه))ذه المس))ألة في مواض))ع كث))يرة من كتب))ه‪ ،‬ومنه))ا فت))واه لمن‬
‫سأله عن قوله ‪َ ( :‬من زار قبري وجبت ل)ه ش)فاعتي)‪ ،‬و(من زار ال)بيت ولم ي)زرني‬
‫فقد جفاني)‪ ،‬وهل زيارة النبي ‪ ‬على وجه االستحباب أو ال؟‬
‫فأج))اب‪( :‬أ ّم))ا قول))ه‪َ ( :‬من زار ق))بري وجبت ل))ه ش))فاعتي) فه))ذا الح))ديث رواه‬
‫الدارقطني ـ فيما قيل ـ بإسناد ضعيف‪ ،‬ولهذا ذك))ره غ))ير واح))د من الموض))وعات‪ ،‬ولم‬
‫يروه أح))د من أه))ل الكتب المعتم))د عليه))ا من كتب الص))حاح والس))نن والمس))انيد‪ ،‬وأ ّم))ا‬
‫الحديث اآلخر قوله‪َ ( :‬من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)‪ ،‬فهذا لم يروه أحد من أه))ل‬
‫فإن جفاء‬ ‫العلم بالحديث‪ ،‬بل هو موضوع على رسول هللا ‪ ‬ومعناه مخالف لإلجماع‪ّ ،‬‬
‫الرسول ‪ ‬من الكبائر‪ ..‬وأ ّما زيارته فليست واجبة باتّفاق المسلمين‪ ،‬بل ليس فيها أمر‬
‫في الكت))اب وال في الس )نّة‪ ،‬وإنّم))ا األم))ر الموج))ود في الكت))اب والس )نّة بالص))الة علي))ه‬
‫والتسليم‪ .‬وأكثر ما اعتمده العلماء في الزيارة قوله في الحديث الذي رواه أبو داود‪( :‬ما‬
‫(‪)1‬‬
‫من مسلم يسلّم عل ّي‪ ،‬إالّ ر ّد هللا عل ّي روحي حتى أر ّد عليه السالم)‬
‫بل إن األمر وصل به إلى هذا الجفاء ال))ذي ع))بر عن))ه بقول))ه‪ ( :‬أن إتي))ان مس))جد‬
‫رسول هللا ‪ ‬وقصد ذلك والسفر لذلك أولى من إتيان قبره ل))و ك))انت الحج))رة مفتوح))ة‬
‫والسفر إليه بإجماع المسلمين‪ .‬فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليل))ة خمس‬
‫مرات والحجرة إلى جانب المسجد لم ي))دخلها أح))د منهم ألنهم ق))د علم))وا أن))ه نه))اهم أن‬
‫يتخذوا القبور مساجد وأن يتخ))ذوا ق))بره عي))دا أو وثن))ا‪ ..‬وك))ذلك ق))د علم))وا أن ص))التهم‬
‫وسالمهم عليه في المسجد أولى من عند قبره‪ .‬وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون‬
‫إلى المس))جد س))واء قص))د ذل))ك أو لم يقص))ده والس))فر إلى المس))جد مس))تحب ب))النص‬
‫(‪)2‬‬
‫واإلجماع)‬
‫وقال‪( :‬لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس ب))ذلك‬
‫كما أن أهل كل مدينة أحق بزي))ارة من عن)دهم من الص)الحين فلم)ا اتف)ق الس)لف وأئم)ة‬
‫الدين على أن أهل مدينته ال يزورون قبره بل وال يقفون عنده للسالم إذا دخلوا المسجد‬
‫وخرجوا وإن لم يسمى هذا زيارة‪ ،‬بل يكره لهم ذلك عند غ))ير الس))فر!! كم))ا ذك))ر ذل))ك‬
‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى‪.27/25 :‬‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪.)309 /27‬‬

‫‪32‬‬
‫مالك وبين أن ذلك من الب))دع ال))تي لم يكن ص))در ه))ذه األم))ة يفعلون))ه علم أن من جع))ل‬
‫(‪)1‬‬
‫زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين)‬
‫وقال في (الرد على األخنائي)‪( :‬ولهذا كان الصحابة في عهد الخلف))اء الراش))دين‬
‫إذا دخلوا المسجد‪ ..‬لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك وال يقفون خارج‬
‫الحجرة كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره ‪ ..‬وال ك))انوا أيض))ا ي))أتون من‬
‫بيوتهم لمجرد زيارة قبره ‪ ‬بل هذا من البدع التي أنكره))ا األئم))ة والعلم))اء وإن ك))ان‬
‫(‪)2‬‬
‫الزائر ليس مقصوده إال الصالة والسالم عليه وبينوا أن السلف لم يفعلوها)‬
‫وقال في نفس الكتاب‪( :‬ومعل))وم أن أه))ل المدين))ة ال يك))ره لهم زي))ارة قب))ور أه))ل‬
‫البقيع وشهداء أحد وغيرهم ‪ ...‬ولكن قبر النبي ‪ ‬خص بالمنع شرعا وحس))ا كم))ا دفن‬
‫في الحجرة ومن)ع الن)اس من زي))ارة ق)بره من الحج))رة كم)ا ت)زار س)ائر القب)ور فيص)ل‬
‫الزائر إلى عند القبر‪ ،‬وقبر النبي ‪ ‬ليس كذلك فال تس))تحب ه))ذه الزي))ارة في حق))ه وال‬
‫(‪)3‬‬
‫تمكن)‬
‫بل إنه لم يكتف بهذا‪ ،‬بل راح يحرم السفر لزيارة رسول هللا ‪ ،‬ويعتبره بدعة‪،‬‬
‫ويحرم قصر الصالة لمن فعل هذا‪ ،‬وكأن الذي يريد أن ي))زور رس))ول هللا ‪ ‬يري))د أن‬
‫يفعل معصية‪.‬‬
‫وقد أفتى الفتاوى الكثيرة في ذلك‪ ،‬منها قوله‪( :‬وأما إذا كان قصده بالسفر زي))ارة‬
‫قبر النبي دون الصالة في مسجده‪ ،‬فهذه المسألة فيها خالف‪ ،‬فالذي عليه األئم))ة وأك))ثر‬
‫العلماء أن هذا غير مش))روع وال م))أمور ب))ه‪ ،‬لقول))ه ‪ :‬ال تش))د الرح))ال إال إلى ثالث))ة‬
‫(‪)4‬‬
‫مساجد‪ :‬المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد األقصى)‬
‫ومنها قوله في (مجموع الفتاوى)‪( :‬السفر إلى زيارة قب))ور األنبي))اء والص))الحين‬
‫بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة وال التابعين وال أمر بها رسول هللا‪ ،‬وال اس))تحب ذل))ك‬
‫أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة وإلجماع األئمة)‬
‫(‪)5‬‬

‫ومنها قوله في تبديع أش))واق المس))لمين لزي))ارة رس))ول هللا ‪ ‬عن))د الهم ب))الحج‪:‬‬
‫(حتى أن أحدهم إذا أراد الحج لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه هللا عليه وهو حج‬
‫بيت هللا الحرام‪ ،‬وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إم))ام أه))ل دين هللا ب))ل يقص))د المدين))ة‪.‬‬
‫وال يقصد ما رغب فيه النبي ‪ ‬من الصالة في مسجده ‪ ..‬بل يقصد من زيارة ق))بره أو‬
‫قبر غيره ما لم يأمر هللا به ورسوله وال فعله أصحابه وال استحسنه أئمة ال))دين‪ .‬وربم))ا‬

‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى ‪.243 /27‬‬


‫‪ )(2‬الرد على األخنائي ص ‪.385‬‬
‫‪ )(3‬الرد على األخنائي ص ‪.386‬‬
‫‪ )(4‬الفتاوى الكبرى ‪.146 /5‬‬
‫‪ )(5‬مجموع الفتاوى ‪.220 /27‬‬

‫‪33‬‬
‫كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج وربما سوى بين القصدين‬
‫وكل هذا ضالل عن الدين باتفاق المسلمين بل نفس السفر لزيارة قبر من القب)ور ‪ -‬ق))بر‬
‫نبي أو غيره ‪ -‬منهي عنه عند جمهور العلماء حتى أنهم ال يجوزون قص)د الص)الة في)ه‬
‫بن))اء على أن))ه س))فر معص))ية‪ ..‬وك))ل ح))ديث ي))روى في زي))ارة الق))بر فه))و ض))عيف ب))ل‬
‫(‪)1‬‬
‫موضوع)‬
‫وقد حصل بسبب فتاواه في ذلك فتن)ة عظيم)ة في األم))ة ال ن)زال نعيش))ها آثاره)ا‬
‫إلى اآلن‪ ،‬ق))ال الحاف))ظ ابن حج))ر يش))ير إلى ذل))ك‪( :‬والحاص))ل أنهم ألزم))وا ابن تيمي))ة‬
‫بتح))ريم ش ) ِّد الرح))ل إلى زي))ارة ق))بر س))يدنا رس))ول هللا ‪ ..‬وهي من أبش))ع المس))ائل‬
‫(‪)2‬‬
‫المنقولة عن ابن تيمية)‬
‫وقال الحافظ أبو زرعة العراقي في بعض أجوبته المس))ماة ( األجوب))ة المرض))ية‬
‫عن األس))ئلة المكي))ة) عن)د الكالم على المس))ائل ال))تي انف))رد ابن تيمي))ة به)ا‪( :‬وم)ا أبش)ع‬
‫مس))ألتي ابن تيمي))ة في الطالق والزي))ارة‪ ،‬وق))د رد علي))ه فيهم))ا مع )ا ً الش))يخ تقي ال))دين‬
‫(‪)3‬‬
‫السبكي‪ ،‬وأفرد ذلك بالتصنيف فأجاد وأحسن)‬
‫وقال في (طرح التثريب)‪( :‬وللش))يخ تقي ال))دين ابن تيمي)ة هن))ا كالم بش))ع عجيب‬
‫يتضمن منع شد الرحل للزيارة‪ ،‬وأنه ليس من القرب‪ ،‬بل بضد ذلك‪ ،‬ورد علي))ه الش))يخ‬
‫(‪)4‬‬
‫تقي الدين السبكي في شفاء السِّقام فشفى صدور قوم مؤمنين)‬
‫وذكر الحافظ العالئي المس))ائل ال))تي انف))رد به))ا ابن تيمي))ة‪ ،‬ومنه))ا ه))ذه المس))ألة‪،‬‬
‫أن إنشاء السفر لزيارة نبينا ‪ ‬معصية ال تقصر فيها الص))الة‪ ،‬وب))الغ في‬ ‫فقال‪( :‬ومنها َّ‬
‫ذلك ولم يقل به أحد من المسلمين قبله)‬
‫هذا نموذج من النماذج وإال ف))إن ابن تيمي))ة ومدرس))ته وأعالم الس))نة المذهبي))ة لم‬
‫يتركوا حبال يربط األم)ة بنبيه))ا إال قطع)وه‪ ،‬وليتهم اكتف)وا بقطع)ه‪ ،‬ب)ل راح)وا يتهم)ون‬
‫الذين يمدون أيديهم كل حين لرسول هللا ‪ ‬بالبدع))ة والض))اللة والش))رك‪ ،‬وغيره))ا من‬
‫التهم الجاهزة‪.‬‬
‫قطع صلة األمة بأهل بيت نبيها ‪‬‬
‫من الحبال الممدودة من رسول هللا ‪ ‬ألمته من بعده‪ ،‬والتي تواترت النصوص‬
‫بالداللة عليها حبل أهل بيته عليهم السالم‪ ،‬والذين وردت الوصية بهم بأساليب مختلفة‪.‬‬
‫لع))ل أبلغه))ا م))ا ورد في الق))رآن الك))ريم عن))د حديث))ه عن األنبي))اء عليهم الص))الة‬
‫والسالم‪ ..‬فاهلل تعالى يعطي أهمية خاصة لذرية األنبياء عليهم الصالة والس))الم‪ ،‬وي))بين‬

‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى (‪)519 /4‬‬


‫‪ )(2‬فتح الباري‪.)5/66( :‬‬
‫‪ )(3‬األجوبة المرضية عن األسئلة المكية ص‪.98–96‬‬
‫‪ )(4‬طرح التثريب ( ‪) 43 / 6‬‬

‫‪34‬‬
‫أن لهم مكان))ة كب))يرة‪ ،‬ال من الج))انب الع))اطفي فق))ط‪ ،‬وإنم))ا من ج))انب العملي أيض))ا‪،‬‬
‫باعتبار أن لهم اصطفاء خاصا‪ ،‬ودورا مهما في الرسالة وحفظها والوفاء بمقتضياتها‪.‬‬
‫اص)طَفَى آ َد َم َونُو ًح))ا‬ ‫وقد ذكر هللا سبحانه وتعالى س))نته في ذل))ك‪ ،‬فق))ال‪ ﴿ :‬إِ َّن هَّللا َ ْ‬
‫ْض َوهَّللا ُ َس)) ِمي ٌع َعلِي ٌم﴾‬ ‫ضهَا ِم ْن بَع ٍ‬ ‫آل ِع ْم َرانَ َعلَى ْال َعالَ ِمينَ (‪ُ )33‬ذرِّ يَّةً بَ ْع ُ‬ ‫َوآ َل إِ ْب َرا ِهي َم َو َ‬
‫[آل عمران‪]34 ،33 :‬‬
‫ومن العجيب أن يطالب عش))اق آل بيت النب))وة بال))دليل بع))د ه))ذه اآلي))ة الكريم))ة‪،‬‬
‫وهي أوضح الواضحات‪ ..‬ف))إن ك))ان هللا تع))الى ق))د اص))طفى آل إب))راهيم وآل عم))ران‪..‬‬
‫وهما أدنى من رسول هللا ‪ ‬بكثير‪ ..‬فكيف ال يصطفى آل بيت رسول هللا ‪‬؟‬
‫ومثل تلك اآلية الكريمة قوله تعالى عند تس))ميته لألنبي)اء عليهم الص)الة والس)الم‬
‫ت َم ْن‬ ‫﴿وتِ ْلكَ ُح َّجتُنَا آتَ ْينَاهَا إِب َْرا ِهي َم َعلَى قَوْ ِم ِه نَرْ فَ ُع د ََر َجا ٍ‬ ‫المذكورين في القرآن الكريم‪َ :‬‬
‫)وب ُك هَ) َد ْينَا َونُو ًح))ا هَ) َد ْينَا ِم ْن‬ ‫اًّل‬ ‫ق َويَ ْعقُ) َ‬ ‫ْحا َ‬‫ك َح ِكي ٌم َعلِي ٌم (‪َ )83‬و َوهَ ْبنَا لَهُ إِس َ‬ ‫نَ َشا ُء إِ َّن َربَّ َ‬
‫ك نَجْ ) ِزي‬ ‫وس )ى َوهَ))ارُونَ َو َك) َذلِ َ‬ ‫ُوس )فَ َو ُم َ‬ ‫ُّوب َوي ُ‬‫قَ ْب ) ُل َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِ ) ِه دَا ُوو َد َو ُس )لَ ْي َمانَ َوأَي َ‬
‫الص)الِ ِحينَ (‪َ )85‬وإِ ْس) َما ِعي َل‬ ‫َّ‬ ‫)اس ُك))لٌّ ِمنَ‬‫ْال ُمحْ ِسنِينَ (‪َ )84‬و َز َك ِريَّا َويَحْ يَى َو ِعي َسى َوإِ ْليَ) َ‬
‫س َولُوطًا َو ُكاًّل فَض َّْلنَا َعلَى ْال َعالَ ِمينَ (‪َ )86‬و ِم ْن آبَائِ ِه ْم َو ُذرِّ يَّاتِ ِه ْم َوإِ ْخ)) َوانِ ِه ْم‬ ‫َو ْاليَ َس َع َويُونُ َ‬
‫ص َرا ٍط ُم ْستَقِ ٍيم (‪[ ﴾)87‬األنعام‪]87 - 83 :‬‬ ‫َواجْ تَبَ ْينَاهُ ْم َوهَ َد ْينَاهُ ْم إِلَى ِ‬
‫فه))ذه اآلي))ات الكريم))ة توض))ح الص))الت النبس))ية بين األنبي))اء جميع))ا‪ ،‬وت))بين أن‬
‫االجتباء اإللهي شملهم بهذا الشكل‪ ،‬وال راد الجتباء هللا‪.‬‬
‫ولم يكتف القرآن الكريم بهذا التعميم‪ ،‬بل ذك))ر تفاص))يل كث))يرة ت))دل علي))ه‪ ،‬ح))تى‬
‫يترسخ في األذهان أن اصطفاء األنبياء فضل إلهي باعتب))اره اس))تمرارا للنهج الرس))الي‬
‫وتوحيدا لمسيرته حتى ال تنحرف به الطرق والمناهج‪.‬‬
‫ومن تلك التفاصيل ما ذك))ره هللا تع))الى من اص))طفائه آلل إب))راهيم عليهم الس))الم‬
‫)وب‬‫ق َويَ ْعقُ) َ‬ ‫في آيات متعددة‪ ،‬كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السالم‪َ ﴿ :‬و َوهَ ْبنَ))ا لَ)هُ إِ ْس) َحا َ‬
‫َ)))اب َوآتَ ْينَ)))اهُ أَجْ))) َرهُ فِي ال))) ُّد ْنيَا َوإِنَّهُ فِي اآْل ِخ َ‬
‫)))ر ِة لَ ِمنَ‬ ‫َو َج َع ْلنَ)))ا فِي ُذ ِّريَّتِ))) ِه النُّبُ))) َّوةَ َو ْال ِكت َ‬
‫الصَّالِ ِحينَ ﴾ [العنكبوت‪]27 :‬‬
‫بل إن القرآن الكريم يذكر أن إبراهيم عليه السالم نفسه دع))ا هللا أن يك))ون الخ))ط‬
‫ك‬ ‫اعلُ َ‬ ‫ال إِنِّي َج ِ‬ ‫ت فَأَتَ َّمه َُّن قَ َ‬ ‫الرسالي ممتدا في ذريته‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬وإِ ِذ ا ْبتَلَى إِب َْرا ِهي َم َربُّهُ بِ َكلِ َما ٍ‬
‫اس إِ َما ًما قَا َل َو ِم ْن ُذ ِّريَّتِي قَا َل اَل يَنَا ُل َع ْه ِدي الظَّالِ ِمينَ ﴾ [البقرة‪]124 :‬‬ ‫لِلنَّ ِ‬
‫وقد ص))رح الق))رآن الك))ريم بانقس))ام ذريت))ه إلى محس))ن وظ))الم في قول))ه تع))الى‪:‬‬
‫ق َو ِم ْن ُذرِّ يَّتِ ِه َم))ا‬ ‫ْحا َ‬ ‫ار ْكنَا َعلَ ْي ِه َو َعلَى إِس َ‬ ‫ق نَبِيًّا ِمنَ الصَّالِ ِحينَ (‪َ )112‬وبَ َ‬ ‫﴿ َوبَ َّشرْ نَاهُ بِإِ ْس َحا َ‬
‫ين﴾ [الصافات‪]113 ،112 :‬‬ ‫ُمحْ ِس ٌن َوظَالِ ٌم لِنَ ْف ِس ِه ُمبِ ٌ‬
‫بل إن هللا تعالى صرح بأن األمر باق في عقبه‪ ،‬فق)ال‪َ ﴿ :‬و َج َعلَهَ))ا َكلِ َم) ةً بَاقِيَ)ةً فِي‬
‫َعقِبِ ِه لَ َعلَّهُ ْم يَرْ ِجعُونَ ﴾ [الزخرف‪]28 :‬‬
‫بل إن هللا تعالى ذكر أن إبراهيم عليه الس))الم – كم))ا س))أل رب))ه أن يجع))ل ذريت))ه‬
‫أئمة للن))اس ‪ -‬س)أله أيض))ا أن يوف))ق الن))اس لم))ودتهم واالقت))داء بهم‪ ،‬فق))ال – على لس))ان‬

‫‪35‬‬
‫ك‬ ‫ع ِع ْن) َد بَ ْيتِ) َ‬ ‫)ر ِذي زَرْ ٍ‬ ‫ت ِم ْن ُذرِّ يَّتِي بِ) َ‬
‫)وا ٍد َغ ْي) ِ‬ ‫إب))راهيم علي))ه الس))الم ‪َ ﴿ :-‬ربَّنَ))ا إِنِّي أَ ْس) َك ْن ُ‬
‫ت‬‫)را ِ‬ ‫)وي إِلَ ْي ِه ْم َوارْ ُز ْقهُ ْم ِمنَ الثَّ َم) َ‬ ‫صاَل ةَ فَاجْ َع))لْ أَ ْفئِ) َدةً ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس تَ ْه) ِ‬ ‫ْال ُم َحر َِّم َربَّنَا لِيُقِي ُموا ال َّ‬
‫لَ َعلَّهُ ْم يَ ْش ُكرُونَ ﴾ [إبراهيم‪]37 :‬‬
‫ومن تل))ك التفاص))يل م))ا ذك))ره هللا تع)الى من اص))طفائه آلل موس))ى وآل ه))ارون‬
‫عليهم السالم‪ ،‬كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في قصة طالوت‪َ ﴿ :‬وقَا َل لَهُ ْم نَبِيُّهُ ْم إِ َّن آيَ )ةَ‬
‫وس )ى َوآ ُل هَ))ارُونَ‬ ‫)ركَ آ ُل ُم َ‬ ‫ُوت فِي ) ِه َس ) ِكينَةٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم َوبَقِيَّةٌ ِم َّما تَ) َ‬ ‫ُم ْل ِك ) ِه أَ ْن يَ))أْتِيَ ُك ُم التَّاب ُ‬
‫ك آَل يَةً لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [البقرة‪]248 :‬‬ ‫تَحْ ِملُهُ ْال َماَل ئِ َكةُ إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫بل إننا نجد أن هللا تعالى اختار هارون أخا موسى عليه الس))الم ليك))ون معين))ا ل))ه‬
‫)اب َو َج َع ْلنَ))ا َم َع) هُ أَخَ) اهُ‬ ‫وس)ى ْال ِكتَ) َ‬ ‫ووزيرا بن))اء على طلب موس))ى‪ ،‬فق))ال‪َ ﴿:‬ولَقَ) ْد آتَ ْينَ))ا ُم َ‬
‫هَارُونَ َو ِزيرًا ﴾ [الفرقان‪]35 :‬‬
‫ومن تلك التفاصيل ما ذكره هللا تع))الى من اص))طفائه آلل يعق))وب عليهم الس))الم‪،‬‬
‫وهم وإن ك))انوا ج))زءا من آل إب))راهيم‪ ،‬لكن الق))رآن خص))هم بال))ذكر عن))د الح))ديث عن‬
‫ك ِم ْن‬ ‫ك َويُ َعلِّ ُم) َ‬ ‫يوسف بن يعق))وب عليهم))ا الس))الم في قول)ه تع))الى‪َ ﴿ :‬و َك) َذلِكَ يَجْ تَبِي))كَ َربُّ َ‬
‫ك ِم ْن قَ ْب) ُل‬ ‫)وب َك َم))ا أَتَ َّمهَ))ا َعلَى أَبَ َو ْي) َ‬ ‫آل يَ ْعقُ) َ‬ ‫ك َو َعلَى ِ‬ ‫تَأْ ِوي) ِل اأْل َ َح))ا ِدي ِ‬
‫ث َويُتِ ُّم نِ ْع َمتَ)هُ َعلَ ْي) َ‬
‫ق إِ َّن َربَّكَ َعلِي ٌم َح ِكي ٌم﴾ [يوسف‪]6 :‬‬ ‫إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْس َحا َ‬
‫وذكرهم عند الحديث عن زكري)ا علي))ه الس)الم حينم))ا دع))ا هللا ع)ز وج))ل وطلب‬
‫)وب‬ ‫آل يَ ْعقُ) َ‬ ‫ث ِم ْن ِ‬ ‫)رثُنِي َويَ) ِ‬
‫)ر ُ‬ ‫الذري))ة الص))الحة‪ ،‬فق))ال‪﴿ :‬فَهَبْ لِي ِم ْن لَ ) ُد ْنكَ َولِيًّ))ا (‪ )5‬يَ) ِ‬
‫ضيًّا ﴾ [مريم‪]6 ،5 :‬‬ ‫َواجْ َع ْلهُ َربِّ َر ِ‬
‫ومن تلك التفاص))يل م))ا ذك))ره هللا تع))الى من اص))طفائه آلل داود عليهم الس))الم‪،‬‬
‫ي‬ ‫آل دَا ُوو َد ُش)) ْكرًا َوقَلِي)) ٌل ِم ْن ِعبَ))ا ِد َ‬ ‫وال))ذين ورد ذك))رهم في قول))ه تع))الى‪ ﴿ :‬ا ْع َملُ))وا َ‬
‫ث‬ ‫﴿و َو ِر َ‬‫ال َّش ُكو ُر ﴾ [س))بأ‪ ،]13 :‬وق))د بين الق))رآن الك))ريم أن س))ليمان ورث داود‪ ،‬فق))ال‪َ :‬‬
‫ُسلَ ْي َمانُ دَا ُوودَ﴾ [النمل‪]16 :‬‬
‫وهكذا نجد حديث هللا عن اصطفائه آلل بيت أنبيائ))ه‪ ،‬وإعط))ائهم مكان))ة خاص))ة‪،‬‬
‫وهي سنته فيهم‪ ،‬ورسول هللا ‪ ‬أولى بذلك منهم‪ ،‬إن لم يكن نظ))يرا لهم في))ه‪ ،‬وق))د ق))ال‬
‫ت بِ ْدعًا ِمنَ الرُّ س ُِل َو َما أَ ْد ِري َما يُ ْف َع) ُل بِي َواَل بِ ُك ْم إِ ْن أَتَّبِ) ُع إِاَّل َم))ا‬ ‫تعالى عنه‪﴿ :‬قُلْ َما ُك ْن ُ‬
‫ين﴾ [األحقاف‪]9 :‬‬ ‫ي َو َما أَنَا إِاَّل نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ُوحى إِلَ َّ‬
‫ي َ‬
‫لكن الس))نة المذهبي))ة تع))رض عن ك))ل ه))ذه النص))وص الواض))حة في داللته))ا‪،‬‬
‫والقطعية في ثبوتها لتعتبر أن تقديم آل الرسول على غيرهم أث))ر من آث))ار الجاهلي))ة في‬
‫تقديم أهل بيت الرؤساء‪ ،‬كما نص على ذلك ابن تيمية بقوله في (منه))اج الس))نة) – على‬
‫طريقته الخاصة في التحايل ‪( :-‬وإنما ق))ال من في))ه أث))ر جاهلي))ة عربي))ة أو فارس))ية‪ :‬إن‬
‫بيت الرسول أحق بالوالية‪ .‬لكون العرب ك)انت في جاهليته)ا تق)دم أه)ل بيت الرؤس)اء‪،‬‬
‫وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك‪ ،‬فنقل عمن نقل عنه كالم يشير به إلى ه))ذا‪ ،‬كم))ا‬
‫نقل عن أبي سفيان‪ ،‬وصاحب هذا الرأي لم يكن له غ))رض في علي‪ ،‬ب))ل ك))ان العب))اس‬
‫عن))ده بحكم رأي))ه أولى من علي‪ ،‬وإن ق))در أن))ه رجح علي))ا‪ ،‬فلعلم))ه ب))أن اإلس))الم يق))دم‬

‫‪36‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اإليمان والتقوى على النسب‪ ،‬فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية واإلسالم)‬
‫وابن تيمية بهذا القول وغيره من األقوال الشنيعة يرمي كما كبير من النص))وص‬
‫التي يوصي فيها رسول هللا ‪ ‬بآل بيته‪ ،‬ويعتبرهم مراجع األمة من بعده‪ ،‬بل يعتبرهم‬
‫صمام أمنها‪ ،‬وسفينة نجاتها كما قال ‪( :‬مثل أه))ل بي))تي مث))ل س))فينة ن))وح‪ ،‬من ركب‬
‫(‪)2‬‬
‫فيها نجا‪ ،‬ومن تخلف عنها غرق)‬
‫ففي الحديث المتواتر في كتب السنة‪ ،‬ق))ال ‪( : ‬إني ت))ركت فيكم م))ا إن تمس))كتم‬
‫بهم))ا لن تض))لوا بع))دي‪ ،‬الثقلين وأح))دهما أك))بر من اآلخ))ر‪ :‬كت))اب هللا حب))ل مم))دود من‬
‫السماء إلى األرض‪ ،‬وعترتي أهل بيتي‪ .‬أال وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الح))وض)‬
‫(‪)3‬‬

‫وفي رواية‪( :‬أيها الناس‪ .‬إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رس))ول من ربي ف))أجيب‪.‬‬
‫وإني ت)))ارك فيكم الثقلين‪ .‬أولهم)))ا كت)))اب هللا في)))ه اله)))دى والن)))ور فخ)))ذوا بكت)))اب هللا‬
‫واستمسكوا به‪ .‬فحث على كت))اب هللا ورغب في))ه‪ .‬ثم ق))ال‪ :‬وأه))ل بي))تي‪ .‬أذك))ركم هللا في‬
‫(‪)4‬‬
‫أهل بيتي‪ .‬أذكركم هللا في أهل بيتي‪ .‬أذكركم هللا في أهل بيتي)‬
‫ولألس))ف ف))إن ه))ذا الح))ديث م))ع وروده بلف))ظ (كت))اب هللا وع))ترتي) وم))ع ك))ثرة‬
‫الروايات الواردة في)ه به)ذا المع)نى اس)تبدل بح))ديث آخ)ر‪ ،‬وص)ار ه)و المع))روف عن)د‬
‫الناس‪ ،‬وهو استبدال (عترتي) بلفظ (سنتي) مع أنه لم يرد في أي من الص))حاح الس))ت‪،‬‬
‫وقد أخرج الحديث بهذا اللفظ مالك بن أنس في موطئه ونقله مرسال غ))ير مس))ند‪ ،‬وأخ))ذ‬
‫عنه بعد ذلك البعض كالطبري وابن هشام ونقلوه مرسال كما ورد عن مالك‪.‬‬
‫مع العلم أنه في قانون المحدثين ال يروى الحديث إال بأصح صيغه‪ ،‬هذا في حال‬
‫كون الصيغة المروية عن مالك صحيحة باعتبار المحدثين ألنها مرسلة‪ ،‬ولكنه لألسف‬
‫صار الحديث المرسل هو األصل‪ ،‬وصار الحديث المتواتر في حكم المكتوم‪ ،‬بل ل)و أن‬
‫شخصا حدث به التهم في دينه‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فقد وردت األدلة الكثيرة التي تدل على وج))وب الرج))وع إلى‬
‫آل ال)))بيت لتلقي ال)))دين‪ ،‬وهي ال تع)))د وال تحص)))ى‪ ،‬فق)))د ورد في الح)))ديث الص)))حيح‬
‫(‪)5‬‬
‫المعروف‪( :‬علي مني وأنا منه‪ .‬وال يؤدي عني إال أنا أو علي)‬
‫ّ‬
‫وقال ‪( :‬ومن أحبّ أن يحيا حياتي‪ ،‬ويموت ميتتي‪ ،‬ويدخل الجنة التي وع))دني‬
‫به))ا ربّي‪ ،‬وهي جنّ))ة الخل))د‪ ،‬فليت)و َّل عليّ)ا ً وذرّيت))ه من بع))دي؛ ف))إنّهم لن يخرج))وكم من‬

‫‪ )(1‬منهاج السنة النبوية (‪)455 /6‬‬


‫‪2‬‬
‫() رواه البزار‪ ،‬والطبراني‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه أحمد‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫(‪)1‬‬
‫هدى‪ ،‬ولن يدخلوكم باب ضاللة)‬
‫وقال ‪( : ‬إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله‪ .‬فقال أبو‬
‫بكر‪ :‬أنا هو يا رسول هللا؟ ق))ال‪ :‬ال‪ .‬ق))ال عم))ر‪ :‬أن))ا ه))و ي))ا رس))ول هللا؟ ق))ال‪ :‬ال‪ .‬ولكن))ه‬
‫(‪)2‬‬
‫خاصف النعل وكان علي يخصف نعل رسول هللا في الحجرة عند فاطمة)‬
‫وفي رواي))ة أخ))رى‪ :‬ق))ال رس))ول هللا ‪( :‬لتنتهن معش))ر ق))ريش‪ ،‬أو ليبعثن هللا‬
‫عليكم رجال مني امتحن هللا قلبه لإليمان‪ ،‬يضرب أعناقكم على الدين‪ .‬قيل يا رسول هللا‬
‫(‪)3‬‬
‫أبو بكر؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قيل‪ :‬عمر‪ .‬قال‪ :‬ال‪ .‬ولكن خاصف النعل في الحجرة)‬
‫لكن السنة المذهبية ـ لألسف ـ أعرضت عنهم‪ ،‬بل قدمت عليهم الطلقاء واليهود‪،‬‬
‫حتى أن مرويات كعب األحبار في تفسير القرآن الك))ريم وفي كتب العقي)دة أك)بر بكث)ير‬
‫من المرويات التي رووها عن أهل البيت عليهم السالم‪.‬‬
‫بل إننا نجد أهل هذه السنة يعظمون السنة التي حصل فيها المأس))اة الك))برى حين‬
‫حصل الص)لح بين الحس)ن بن علي م)ع معاوي)ة‪ ،‬ويس)مون تل)ك الس)نة س)نة الجماع)ة‪..‬‬
‫ويعتبرون معاوي))ة بموجبه))ا خليف))ة للمس))لمين م))ع تل))ك النص))وص الكث))يرة ال))تي تعت))بر‬
‫الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة ‪ ..‬وأن له مكانة عظيمة في الدين‪..‬‬
‫ولكن مع ذلك يعتبرون ذلك الموقف إقرارا منه بحقانية معاوية‪ ،‬وهم ينسون أن‬
‫يقرؤوا قوله تعالى في وصف وضع قريب من الوضع الذي كان في))ه الحس))ن بن علي‪:‬‬
‫)ري (‪ )93‬قَ) َ‬
‫)ال‬ ‫ص)يْتَ أَ ْم) ِ‬
‫ض)لُّوا (‪ )92‬أَاَّل تَتَّبِ َع ِن أَفَ َع َ‬
‫ك إِ ْذ َرأَ ْيتَهُ ْم َ‬
‫﴿قَ)ا َل يَاهَ)ا ُرونُ َم)ا َمنَ َع) َ‬
‫يت أَ ْن تَقُ) َ‬
‫)ول فَ ) َّر ْقتَ بَ ْينَ بَنِي إِ ْس ) َرائِ َ‬
‫يل َولَ ْم‬ ‫خَش ) ُ‬ ‫ْ‬
‫)ذ بِلِحْ يَتِي َواَل بِ َرأ ِس )ي إِنِّي ِ‬ ‫يَ ْبنَ ) ُؤ َّم اَل تَأْ ُخ) ْ‬
‫تَرْ قُبْ قَوْ لِي ﴾ [طه‪]94 - 92 :‬‬
‫فه))ذه اآلي))ات توض))ح س))نة من س))نن الغواي))ة ال))تي يتالعب به))ا الش))يطان بأتب))اع‬
‫األنبياء حين يسول لهم أن يأخذوا دينهم من السامري‪ ،‬ويتركوا النبي وآل بيت النبي‪.‬‬
‫ومثلم))ا حص))ل للحس))ن بن علي حص))ل ألخي))ه الحس))ين بن علي ال))ذي ورد في‬
‫األحاديث الكثيرة بيان فضله ومرتبته من ال))دين‪ ،‬وأن))ه نفس رس))ول هللا ‪ ،‬وم))ع ذل))ك‬
‫نجد أصحاب السنة المذهبية حين يذكرون تلك التضحية العظيمة التي ق))ام به))ا الحس))ين‬
‫للحف))اظ على ال))دين في وج))ه من يري))د تحريف))ه‪ ،‬يحتق))رون م))ا فعل))ه‪ ،‬ب))ل يعتبرون))ه من‬
‫األخط))اء الك))برى ال))تي ال منفع))ة فيه))ا‪ ..‬ويق))دمون علي))ه مواق))ف ابن عم))ر وغ))يره من‬
‫الصحابة‪..‬‬
‫يقول ابن تيمية‪( :‬ولم يكن في الخروج ال مصلحة دين وال مصلحة دنيا بل تمكن‬
‫أولئــك الظلم))ة الطغ))اة من س))بط رس))ول هللا ‪ ‬ح))تى قتل))وه مظلوم)ا ً ش))هيداً وك))ان في‬
‫خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بل))ده‪ .‬ف))إن م))ا قص))ده من تحص))يل‬

‫‪ )(1‬رواه الحاكم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي وأحمد‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي وأحمد‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء‪ ،‬بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير ب))ذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫وصار ذلك سببا ً لشر عظيم)‬
‫وهكذا أصبح ابن تيمية وغيره من أعالم السنة المذهبية أساتذة وأئمة وناص))حين‬
‫لذلك ال))ذي ق))ال في))ه رس))ول هللا ‪( :‬حس))ين م))ني وأن))ا من حس))ين‪ ،‬أحب هللا من أحب‬
‫(‪)2‬‬
‫حسيناً‪ ،‬حسين ِسبْطٌ من األسباط)‬
‫بل أعلن ‪ ،‬وهو في حياته الشريفة أنه سلم لمن سالم وحرب لمن حارب ‪ ،‬ففي‬
‫الحديث أن رسول هللا ‪ ‬نظ))ر إلى ابنت))ه فاطم))ة وإلى علي ومعهم))ا الحس))ن والحس))ين‬
‫وس) ْل ٌم لمن س))المكم) (‪ ، )3‬وق))ال‪( :‬من أحب الحس))ن‬
‫وقال لهم‪( :‬أن))ا ح))رب لمن ح))اربكم‪ِ ،‬‬
‫والحس))ين أحببت))ه‪ ،‬ومن أحببت))ه أحب))ه هللا‪ ،‬ومن أحب))ه هللا أدخل))ه جن))ات النعيم‪ ،‬ومن‬
‫أبغض))هما أو بغى عليهم))ا أبغض))ته ومن أبغض))ته أبغض))ه هللا‪ ،‬ومن أبغض))ه هللا أدخل))ه‬
‫(‪)4‬‬
‫جهنم وله عذاب مقيم)‬
‫ولكن مع ذلك فإن أصحاب السنة المذهبية اعت))بروا ك))ل من س))الم آل بيت النب))وة‬
‫ووقف معهم ضاال ومبتدعا‪ ،‬واعتبروا كل من حاربهم وناصبهم العداء سنيا ومهتديا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() منهاج السنة ج‪ 4‬ص‪.531-530‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه أحمد وابن ماجة‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه أحمد‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والحياء‬

‫ورد في النص)))وص المقدس)))ة الكث)))يرة اعتب)))ار الحي)))اء من أمه)))ات األخالق‪،‬‬


‫وأركانها‪ ،‬وأنه يستحيل أن يكون اإلنسان متخلقا‪ ،‬وهو خال من الحياء‪..‬‬
‫بل أخبر رسول هللا ‪ ‬أن الحياء هو الخلق الممث))ل لإلنس))ان المس))لم‪ ،‬فق))ال‪( :‬إن‬
‫(‪)1‬‬
‫لك ّل دين خلقا‪ ،‬وخلق اإلسالم الحياء)‬
‫بل أخبر أنه أثر من آثار اإليمان وعالم)ة من عالمات))ه‪ ،‬فق)ال مخاطب))ا رجال رآه‬
‫(‪)2‬‬
‫يعاتب أخاه في الحياء‪( :‬دعه فإن الحياء من اإليمان)‬
‫بل ذكر ‪ ‬أن الحياء منبع لكل خير‪ ،‬ولكل خلق طيب‪ ،‬فقال‪( :‬الحياء ال يأتي إال‬
‫(‪)3‬‬
‫بخير)‬
‫وقد وضح رسول هللا ‪ ‬سر ك))ون الحي))اء أص))ال من األص))ول ال))تي تنب))ع منه))ا‬
‫جميع األخالق الطيبة‪ ،‬فقال ـ موضحا لمن قصر الحياء على مناح معينة ـ‪( :‬ليس ذاك‪،‬‬
‫ولكن االستحياء من هللا ح))ق الحي))اء أن تحف))ظ ال))رأس وم))ا وعى‪ ،‬والبطن وم))ا ح))وى‪،‬‬
‫ولتذكر الموت والبلى‪ ،‬ومن أراد اآلخرة ترك زينة الدنيا‪ ،‬فمن فعل ذلك فقد استحيا من‬
‫(‪)4‬‬
‫هللا حق الحياء)‬
‫ووض))ح في ح))ديث آخ))ر أس))رار ت))أثير فق))دان الحي))اء في اعتالل الشخص))ية‬
‫وانحرافها‪ ،‬فقال‪( :‬إن هللا عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا ن))زع من))ه الحي))اء‪ ،‬ف))إذا ن))زع‬
‫منه الحياء لم تلقه إال مقيتا ممقتا‪ ،‬فإذا لم تلقه إال مقيت)ا ممقت)ا ن))زعت من)ه األمان)ة‪ ،‬ف)إذا‬
‫نزعت منه األمانة لم تلق)ه إال خائن))ا مخون))ا‪ ،‬ف))إذا لم تلق))ه إال خائن))ا مخون))ا ن))زعت من))ه‬
‫الرحمة‪ ،‬فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إال رجيما ملعنا‪ ،‬ف))إذا لم تلق))ه إال رجيم))ا ملعن))ا‬
‫(‪)5‬‬
‫نزعت منه ربقة اإلسالم)‬
‫وهكذا نرى من خالل هذه األح))اديث وغيره))ا قيم))ة الحي))اء في ال))دين‪ ،‬وعالقت))ه‬
‫باإليمان‪ ،‬وعالقته بكمال الشخصية‪..‬‬
‫لكنا عندما نعود للقلوب المريض))ة ال))تي أتيح له))ا أن تس))رب بعض س))مومها إلى‬
‫تراثنا الحديثي نجدها ترسم صورة مختلف)ة تمام)ا عن رس))ول هللا ‪ ‬تتن)اقض م)ع ه)ذا‬
‫الخلق العظيم‪ ..‬فهي تصوره بصورة الفاحش المتفحش الذي يمارس من الس))لوكات م))ا‬
‫يستحيي منه أبسط الناس وأحقرهم وأبعدهم عن ذلك الكمال الذي آتاه هللا نبيه ‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك الحديث المروي في مناقب عثمان بن عف)ان‪ ..‬وال))ذي أراد‬
‫‪1‬‬
‫() رواه ابن ماجه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه الترمذي وصححه الحاكم‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫() ابن ماجة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫واضعه من خالله أن يحبب الناس في عثمان باعتباره من الشخصيات التي وقع حولها‬
‫التنازع بين مذاهب األمة وطوائفه))ا‪ ،‬لكن))ه نس))ي أن ال))ذي سيض))حي ب))ه ليثبت ب))ه تل))ك‬
‫المنقبة هو رسول هللا ‪ ‬الذي هو أستاذ األساتذة ومربي األمة جميعا‪ ،‬ب))ل ه))و رس))ول‬
‫الرسل‪ ،‬وأقرب المقربين إلى هللا‪.‬‬
‫ونص الحديث هو ما رواه مسلم وغيره عن عائش))ة‪ ،‬ق))الت‪ :‬ك))ان رس))ول هللا ‪‬‬
‫مضطجعا في بيتي‪ ،‬كاشفا عن فخذيه‪ ،‬أو ساقيه‪ ،‬فاستأذن أبو بكر ف))أذن ل))ه‪ ،‬وه))و على‬
‫تلك الحال‪ ،‬فتحدث‪ ،‬ثم استأذن عمر‪ ،‬فأذن له‪ ،‬وهو كذلك‪ ،‬فتحدث‪ ،‬ثم اس))تأذن عثم))ان‪،‬‬
‫فجلس رسول هللا ‪ ،‬وسوى ثيابه ‪ -‬قال محمد‪ :‬وال أقول ذل))ك في ي))وم واح))د ‪ -‬ف))دخل‬
‫فتحدث‪ ،‬فلما خرج قالت عائشة‪ :‬دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله‪ ،‬ثم دخل عم))ر فلم‬
‫تهتش له ولم تباله‪ ،‬ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فق))ال‪( :‬أال أس))تحي من رج))ل‬
‫(‪)1‬‬
‫تستحي منه المالئكة)‬
‫وقد تلقف أصحاب السنة المذهبية هذا الحديث كما يتلقفون القرآن الكريم‪ ،‬ي))أبون‬
‫ك لَ َعلَى ُخلُ) ٍ‬
‫ق‬ ‫﴿وإِنَّ َ‬
‫من يتكلم فيه‪ ،‬ويبررون كل ذلك بأشياء ال قيمة لها أمام قول))ه تع))الى‪َ :‬‬
‫َع ِظ ٍيم﴾ [القلم‪]4 :‬‬
‫ذلك أنهم إن قالوا‪ :‬إن ما فعله رسول هللا ‪ ‬من كشفه لفخذه لم يكن مما يستدعي‬
‫الحياء‪ ،‬فذلك يجعلهم يتناقضون م))ع م))ا ورد في الس))نن الكث))يرة من إثب))ات ك))ون الفخ))ذ‬
‫عورة(‪ ..)2‬وبذلك يكون كش))فها حرام))ا‪ ..‬وب))ذلك يك))ون رس))ول هللا ‪ ‬في تص))ورهم ق))د‬
‫ارتكب حراما‪.‬‬
‫فإن جادلوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬ومع تل))ك األح))اديث ‪ ..‬ف))األرجح أن الفخ))ذ ليس ع))ورة‪ ..‬رد‬
‫عليهم بأن رسول هللا ‪ ‬ذكر في الحديث بأن كش))فها ليس من الحي))اء‪ ..‬ألن المس))تحيي‬
‫ال يتورع عن الحرام فقط‪ ،‬ب))ل يت))ورع عن الش))بهات‪ ،‬ب))ل ح))تى عن المباح))ات ال))تي ال‬
‫تنسجم مع ما يقتضيه الخلق الطيب‪.‬‬
‫فإن جادولوا ـ وهذه عادتهم ـ بأن رسول هللا ‪ ‬خص ب))ذلك عثم))ان ‪ ..‬رد عليهم‬
‫بأن الخلق واحد مع الجميع‪ ،‬فال يمكن لشخص أن يعتبر صادقا‪ ،‬وه))و يص)دق م))ع ق))وم‬
‫دون قوم‪ ..‬أو في قضية دون قضية‪..‬‬
‫فإن ج))ادلوا‪ ،‬وق))الوا‪ :‬ولكن الح))ديث في ص))حيح مس))لم‪ ..‬قلن))ا لهم‪ :‬ص))حيح مس))لم‬
‫وصحيح البخاري وكل كتب الدنيا فداء لشعرة من ش))عر رس))ول هللا ‪ ..‬فأيهم))ا أعظم‬
‫لكم أن يرد ح))ديث ق))د يت))وهم راوي))ه أو يخطئ كاتب))ه‪ ،‬أو تمس كرام))ة رس))ول هللا ‪،‬‬
‫ويمس أعظم ميزة فيه ‪ ‬وهو أخالقه العالية التي ال يضاهيها أي كان صحابيا كان أو‬
‫نبيا أو حتى مالكا مقربا‪ ..‬فكي)ف تتص)ورون ب))ربكم أن ص)حابيا ـ ال ت)رون عص)مته ـ‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() ومنه))ا م))ا روي عن محم))د بن عب))د هللا بن جحش أن الن))بي ‪ ‬م))ر على معم))ر بفن))اء المس))جد‬
‫محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي ‪( :‬خمر فخذك يا معمر فإن الفخ)ذ ع)ورة)‪ ،‬رواه أحم))د‬
‫ورواه الطبراني في الكبير‪ ،‬ورجال أحمد ثقات‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫يكون أعظم خلقا من رسول هللا ‪‬؟‬
‫هذا مثال على ذلك‪ ..‬وليت األمر توقف على ه))ذا‪ ..‬ب))ل ربم))ا يك))ون واض))ع ه))ذا‬
‫الحديث وأمثاله يؤسسون نظريا لما هو أخط))ر وأعظم ‪ ..‬ألنهم إن أودع))وا في النف))وس‬
‫بأن رسول هللا ‪ ‬ال يتوفر له الحياء ال))ذي يت))وفر لعثم))ان‪ ..‬ف))إنهم بع))د ذل))ك يمكنهم أن‬
‫يضعوا من األحاديث العملية المثبتة ل)ذلك م)ا يس)هل قبول)ه‪ ،‬خاص)ة من ال)ذين يق)دمون‬
‫السلف والسنة المذهبية التي جاءوا بها على رسول هللا ‪ ‬نفسه‪.‬‬
‫ومن األمثلة العملية التي نزعوا بها ثوب الحياء عن رسول هللا ‪ ‬ذلك الح))ديث‬
‫الخطير الذي يكفي تصور مشهده ليرتعش كل الجسم منه‪.‬‬
‫ففيه نرى السنة المذهبية‪ ،‬وهي بكامل أمراضها تضع رس))ول هللا ‪ ‬في موق))ف‬
‫حرج جدا مناف لكل قيام الحياء والعفاف والنبل‪ ،‬وكل ذلك لتظهر الصحابة في مظه))ر‬
‫أكرم وأشرف وأنبل من رسول هللا ‪ ..‬وكأن رسول هللا ‪ ‬هو الذي كان يتتلم))ذ على‬
‫أيديهم‪ ،‬ال هم الذين يتتلمذون على يديه‪.‬‬
‫ونص الح))ديث كم))ا رواه الترم))ذي وص))ححه األلب))اني عن عائش))ة‪ ،‬ق))الت‪ :‬ك))ان‬
‫رسول هللا ‪ ‬جالسا فسمعنا لغط))ا وص))وت ص))بيان‪ ،‬فق))ام رس))ول هللا ‪ ‬ف))إذا حبش))ية‬
‫تزفن والصبيان حولها‪ ،‬فقال‪( :‬يا عائشة تعالي ف))انظري)‪ ،‬فجئت فوض))عت لح))يي على‬
‫منكب رس))ول هللا ‪ ،‬فجعلت أنظ))ر إليه))ا م))ا بين المنكب إلى رأس))ه‪ ،‬فق))ال لي‪( :‬أم))ا‬
‫شبعت‪ ،‬أما شبعت؟)‪ .‬قالت‪ :‬فجعلت أقول ال ألنظر منزلتي عن))ده إذ طل))ع عم))ر‪ ،‬ق))الت‪:‬‬
‫فارفض الناس عنها‪ :‬قالت‪ :‬فقال رسول هللا ‪( :‬إني ألنظر إلى شياطين اإلنس والجن‬
‫قد فروا من عمر)‪ ،‬قالت‪ :‬فرجعت(‪:.)1‬‬
‫ومع أن تصور هذا الحديث وح))ده ك))اف للدالل))ة على م))ا نق))ول‪ ..‬ولكن م))ع ذل))ك‬
‫نحتاج إلى بعض التوضيحات التي ترسم المشهد‪ ،‬وتقربه من القارئ المعاصر‪.‬‬
‫والصورة هي أنه كانت هناك جارية ‪ ..‬والظاهر أنها عاقل))ة بالغ))ة ‪ ..‬ب))دا له))ا أن‬
‫ترقص كما يرقص الحبشة في الشارع‪ ..‬وأمام الن))اس‪ ..‬وك))ان الص))بية يلتف))ون حوله))ا‪،‬‬
‫وهي بتلك الحالة‪ ..‬فلمحها رسول هللا ‪ ‬ـ ونستغفر هللا من ه))ذا ـ فأس))رع إلى عائش))ة‪،‬‬
‫وطلب منها أن تحضر مجلس ال))رقص‪ ..‬وعن))دما حض))رت وض))عت عائش))ة ـ بحس))ب‬
‫الحديث ـ ذقنها على منكب رسول هللا ‪ .. ‬وأمام الناس‪.‬‬
‫وبعد مدة طلع عمر فانفض الناس عن الجارية خوفا منه‪ ..‬مع أنه كان رسول هللا‬
‫‪ ‬معهم‪ ..‬ومع ذلك لم يشعروا بشيء‪..‬‬
‫وليت األم))ر توق))ف عن))د ه))ذا‪ ،‬إذن ألمكن أن نحت))ال ببعض الم))بررات‪ ..‬لكن‬
‫المشكلة أن هؤالء ذكروا أن رس))ول هللا ‪ ‬عن))دما رأى الن))اس يف))رون لحض))ور عم))ر‬
‫قال‪( :‬إني ألنظر إلى شياطين االنس والجن قد فروا من عمر)‬
‫وهذا عجب عجاب‪ ..‬وتصور المشهد وحده كاف لضرب كل القيم التي ج)اء به)ا‬
‫القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه الترمذي‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫ولن أج))ادل ه))ؤالء كث))يرا‪ ..‬ب))ل أكتفي ب))أن أطلب منهم فق))ط أن يحي))وا الس))نة‬
‫المرتبطة بهذا المشهد‪ ..‬بأن يحضروا زوجاتهم‪ ..‬ثم يطلبون منهم أن يشاهدوا ع))روض‬
‫الرقص التي يقوم بها الحبشة أو غيرهم‪.‬‬
‫فإن عز عليهم ذل))ك‪ ،‬وخ))افوا على وق))ارهم‪ ،‬فليكتف))وا ب))أن يحض))روا زوج))اتهم ـ‬
‫وأمام المأل من الناس ـ ويحيوا سنة وضع الزوجة ذقنها على منكب زوجه))ا كم))ا رووا‬
‫في الحديث‪..‬‬
‫أم أنهم ي))رون ذل))ك خادش))ا لحي))ائهم ووق))ارهم وم))روءتهم‪ ..‬ف))إن ك))ان ك))ذلك فلم‬
‫جوزوا لرسول هللا ‪ ‬ما نزهوا عنه نفوسهم‪.‬‬
‫وقد قرأت في فتاواهم الكثيرة ما ي))دل على حرم))ة م))ا ه))و أق))ل درج))ة من الفع))ل‬
‫ال))ذي وص))فوا ب))ه رس))ول هللا ‪ ،‬فق))د وج))ه للش))يخ محم))د الص))الح المنج))د في موقع))ه‬
‫[اإلسالم سؤال وجواب] هذا السؤال‪( :‬هل يجوز للزوجين أن يقبض ك))ل منهم على ي))د‬
‫األخر وهم يمشون في الشارع؟)‬
‫ومع أن هذا أدنى بكثير من المش))هد ال))ذي رس))موه لرس))ول هللا ‪ ‬لكن م))ع ذل))ك‬
‫ك))ان ج))واب الش))يخ‪( :‬يجب على الرج))ل وامرأت))ه إذا س))ارا مع))ا في الش))ارع أن يتحلي))ا‬
‫بالحشمة ويتصفا بالوقار‪ ،‬وخاصة إذا كانا ملتزمين بأحكام ال))دين وآداب اإلس))الم‪ ،‬ف))إن‬
‫الناس في العادة يتخذونهما قدوة‪ ،‬وينظ))رون إليهم))ا نظ))رة تبجي))ل واح))ترام‪ ،‬فال ب))د من‬
‫مراعاة ذلك‪) ..‬‬
‫هذه صورة من الصور التي تستعلي بها السنة المذهبية على رسول هللا ‪ ‬نفسه‬
‫حين تجوز عليه من خوارم المروءة ما تنزه نفسها وسدنتها عنه‪.‬‬
‫وبمناسبة ذكر السدنة لو أنك قبل أن ت))ورد الح)ديث ذك))رت له))ؤالء أن)ه ق))د نش))ر‬
‫على النت صورة البن باز أو العثيمين أو غيرهما من المشايخ‪ ،‬وهو على الحال))ة ال))تي‬
‫صور بها رسول هللا ‪ ‬الشتد غض)به‪ ،‬وذك)ر ل)ك أن ذل)ك ك)ذب‪ ،‬وأن ابن ب)از أو ابن‬
‫العثيمين أكبر وأتقى من أن يفعال هذا‪.‬‬
‫وبهذه المناسبة أذكر أني في بعض المجالس‪ ،‬حيث كنا نتحدث عن سورة عبس‪،‬‬
‫فذكرت للجالس))ين‪ ،‬وأك))ثرهم من أه))ل الس))نة المذهبي))ة‪ ،‬أن هن))اك رواي))ة تنص على أن‬
‫الذي عبس هو عثمان بن عفان‪ ،‬وليس رسول هللا ‪ ،‬فقامت قيام))ة أح))دهم‪ ،‬وق))ال لي‪:‬‬
‫أنت بقولك ه))ذا تطعن في الص))حابة‪ ..‬ونس))ي أن))ه بقول))ه أنه))ا ن))زلت في رس))ول هللا ‪‬‬
‫يطعن في رسول هللا ‪ ..‬لكن السنة المذهبية تج))وز الطعن في رس))ول هللا‪ ،‬وال تج))وز‬
‫انتقاد بعض مواقف أصحابه‪ ،‬مهما كان ذلك االنتقاد لطيفا ومؤدبا‪.‬‬
‫وليت السنة المذهبية اكتفت بأمثال هذه المشاهد‪ ..‬بل إنها توغ))ل في رف))ع الحي))اء‬
‫عن رسول هللا ‪ ‬حين تصوره بتلك الصورة ال))تي نهى عنه))ا نهي))ا ش))ديدا‪ ،‬ب))ل اعت))بر‬
‫فاعلها ش))يطانا‪ ،‬وه))و م))ا نص علي))ه الح))ديث ال))ذي ذك))ر في))ه أن رس))ول هللا ‪ ‬دخ))ل‬
‫المسجد‪ ،‬وفيه نسوة من األنصار‪ ،‬فوعظهن‪ ،‬وذكرهن‪ ،‬وأمرهن أن يتص))دقن‪ ،‬ول))و من‬
‫حليهن‪ ،‬ثم قال‪( :‬أال عست امرأة أن تخبر القوم بم))ا يك))ون من زوجه))ا إذا خال به))ا‪ ،‬أال‬
‫هل عس)ى رج)ل أن يخ)بر الق)وم بم)ا يك)ون من)ه إذا خال بأهل)ه)‪ ،‬فق)امت ام)رأة س)فعاء‬

‫‪43‬‬
‫الخدين‪ ،‬فقالت‪ :‬وهللا إنهم ليفعلون‪ ،‬وإنهن ليفعلن‪ .‬فقال ‪( :‬فال تفعلوا ذلك‪ ،‬أفال أن))بئكم‬
‫(‪)1‬‬
‫ما مثل ذلك؟ مثل شيطان لقي شيطانة بالطريق‪ ،‬فوقع بها‪ ،‬والناس ينظرون)‬
‫فمع أن أصحاب السنة المذهبية يروون هذا الحديث‪ ،‬ويطبقونه في حياتهم أحسن‬
‫تط))بيق‪ ،‬فال ن))رى أح))دهم ي))ذكر عالقت))ه بأهل))ه‪ ..‬لكنهم م))ع رس))ول هللا ‪ ‬يتج))رؤون‬
‫فيذكرون ما يستحيا من ذكره‪..‬‬
‫ومن الرواي))ات ال))ورادة في ه))ذا المج))ال ـ وال))تي يرتج))ف الف))ؤاد من ذكره))ا‬
‫وسماعها ـ ما رواه مسلم تحت عنوان (باب‪ :‬ندب من رأى امرأة ف))وقعت في نفس))ه إلى‬
‫أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها)‬
‫ثم أورد رواية عن جابر أن رسول هللا ‪ ‬رأى امرأة‪ ،‬فأتى امرأته زينب‪ ،‬وهي‬
‫تمعس منيئ))ة له))ا‪ ،‬فقض))ى حاجت))ه ثم خ))رج إلى أص))حابه‪ ،‬فق))ال‪( :‬إن الم))رأة تقب))ل في‬
‫صورة شيطان‪ ،‬وتدبر في صورة شيطان‪ ،‬فإذا أبصر أحدكم ام))رأة‪ ،‬فلي))أت أهل))ه‪ ،‬ف))إن‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك يرد ما في نفسه)‬
‫وفي رواية أخرى‪ ،‬أو حادثة أخرى ـ كم))ا ي))ذكر أص))حاب الس))نة المذهبي))ة عن))د‬
‫تعدد الروايات ـ عن عبد هللا بن مسعود قال‪ :‬رأى رسول هللا ‪ ‬امرأة فأعجبت))ه‪ ،‬ف))أتى‬
‫سودة وهي تصنع طيبا وعندها نسوة‪ ،‬فأخلينه‪ ،‬فقضى حاجته‪ ،‬ثم قال‪( :‬أيما رجل رأى‬
‫(‪)3‬‬
‫امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها)‬
‫ولست أدري ما أقول تعليقا على هذه الروايات‪ ،‬وهل هي تتعل))ق برس)ول هللا ‪‬‬
‫الذي نعرفه ‪ ..‬والممتلئ بالطهارة والعفة ‪ ..‬ذلك الذي وصف هللا تهجده وزهده وعبادته‬
‫وتقواه ‪ ..‬ذلك الذي أتته الدنيا راغمة‪ ،‬فقال‪ :‬إليك عني‪ ..‬ذل))ك ال))ذي آث))ر في ش))بابته إلى‬
‫كهولته أن يتزوج امرأة تكبره س))نا‪ ،‬وك))ان م))ع ذل))ك في أك))ثر أوقات))ه متوجه))ا إلى رب))ه‬
‫مستغرقا في تلك العوالم الجميلة‪ ..‬أم أنه شخص آخر مختلف تماما‪.‬‬
‫وه))ذا الش))خص ال))ذي ألص))قوه برس))ول هللا ‪ ‬غ))ريب ج))دا‪ ،‬فه))و ال يكتفي ب))أن‬
‫يستأذن أصحابه من أجل أن يعاشر زوجته ‪ ..‬بل يستأذن النساء أيض))ا ب))أن يتركن))ه م))ع‬
‫زوجت))ه لقض))اء حاجت))ه‪ ..‬ثم يع))ود إليهم‪ ،‬وتع))ود هي إليهن‪ ..‬وكأن))ه لم يحص))ل ش))يء‪..‬‬
‫وكأن))ه لم يفع))ل ش))يئا يجته))د أص))حاب الطب))ع الس))ليم في س))تره‪ ،‬ويس))تحيون من مج))رد‬
‫اإلشارة إليه‪.‬‬
‫وف))وق ذل))ك يرم))ون رس))ول هللا ‪ ‬بأن))ه رمى بص))ره للم)رأة الغريب)ة األجنبي)ة‪،‬‬
‫فأعجبته ‪ ..‬وهم يريدون بذلك‪ :‬أثارت شهوته ‪ ..‬ألن اإلعجاب المج))رد ال ي))دعو إلى م))ا‬
‫ذكروه‪..‬‬
‫ومن األمثلة على هذا ما روي أن رجال س))أل رس))ول هللا ‪ ‬عن الرج))ل يج))امع‬
‫أهله ثم يكسل‪ ،‬هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة‪ ،‬فقال ‪( :‬إني ألفعل ذلك أنا وهذه‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫() مساوئ األخالق للخرائطي (ص‪.)199 :‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه الدارامي (‪ )2/196‬و البيهقي في الشعب (‪)4/367‬‬

‫‪44‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ثم نغتسل)‬
‫فهل يمكن لمن روى هذا‪ ،‬أو نقله‪ ،‬أو ألي مفت في الدنيا أن يذكر لمستفتيه كيف‬
‫يعاشر أهله؟ وهل هناك ضرورة تدعو إلى ذلك؟‬
‫ولكن هؤالء يجوزون على رسول هللا ‪ ‬كل ما يتن))افى م))ع الم))روءة والش))هامة‬
‫والنبل في نفس الوقت الذي ينزهون أنفسهم عنه‪.‬‬
‫ومن األمثلة الخطيرة على ذلك ما كرره ابن تيمية مرارا عند تحذيره من صحبة‬
‫األحداث والمردان من قوله‪( :‬وقد روى الشعبي عن النبي ‪ :‬أن وف))د عب))د القيس لم))ا‬
‫قدموا على النبي ‪ ‬وكان فيهم غالم ظاهر الوضاءة أجلسه خلف ظه))ره؛ وق))ال‪ :‬إنم))ا‬
‫(‪)2‬‬
‫كانت خطيئة داود ‪ -‬عليه السالم – النظر)‬
‫ثم علق عليه بقوله‪( :‬هذا وهو رسول هللا ‪ ‬وهو مزوج بتسع نسوة؛ والوفد قوم‬
‫(‪)3‬‬
‫صالحون‪ ،‬ولم تكن الفاحشة معروفة في العرب؟)‬
‫وقد رواه ـ مع تشدده مع األحاديث ـ وكأنه حديث ص))حيح ال مج))ال لرفض))ه م))ع‬
‫أن الحديث مكذوب موضوع ‪..‬‬
‫وهو دليل على تلك الصورة البشعة التي يحملها دعاة السنة المذهبية عن رس))ول‬
‫هللا ‪ .. ‬فهل يمكن لرسول هللا ‪ ‬ذلك الط))اهر المط))اهر الممتلئ بالقداس))ة أن يخط))ر‬
‫على باله مثل ذلك الشذوذ أصال‪..‬‬
‫واألمثل))ة على ذل))ك غ))ير م))ا ذك))رت كث))يرة‪ ،‬وهي مم))ا يف))رح ب))ه المبش))رون‬
‫والمستشرقون والمستغربون‪ ،‬وهي كلها مما يورده أص))حاب الس))نة المذهبي))ة من ب))اب‬
‫تبيين أحكام الشريعة‪ ..‬فهل أحك))ام الش))ريعة ت))بين بتش))ويه رس))ول هللا ‪ ،‬وب))نزع تل))ك‬
‫الصورة القدسية عنه لتحل بدلها صورة المراهق الش))هواني ال))ذي ال عالق))ة ل))ه بال))دين‬
‫وال برب العالمين؟‬
‫عندما نترك كل هذا الغثاء والدخن الذي ج))اءت ب))ه الس))نة المذهبي))ة ون))ذهب إلى‬
‫السنة النبوية نجد األمر عكس ذلك تماما‪ ،‬فالقرآن الكريم الذي هو المصدر األول للسنة‬
‫النبوية وللتعريف برسول هللا ‪ ‬وسنته وسيرته يصف رسول هللا ‪ ‬بالحي))اء الش))ديد‪،‬‬
‫وفي موقف كان يمكن أن يكون حازما فيه‪ ،‬قال تع))الى‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ))ا الَّ ِذينَ آ َمنُ))وا اَل تَ ) ْد ُخلُوا‬
‫)اظ ِرينَ إِنَ))اهُ َولَ ِك ْن إِ َذا د ُِعيتُ ْم فَ))ا ْد ُخلُوا فَ)إِ َذا‬‫)ر نَ) ِ‬ ‫بُيُوتَ النَّبِ ِّي إِاَّل أَ ْن ي ُْؤ َذنَ لَ ُك ْم إِلَى طَ َع ٍام َغ ْي) َ‬
‫ي فَيَ ْس)تَحْ يِي ِم ْن ُك ْم َوهَّللا ُ اَل‬
‫ث إِ َّن َذلِ ُك ْم َكانَ يُ) ْ)ؤ ِذي النَّبِ َّ‬‫طَ ِع ْمتُ ْم فَا ْنتَ ِشرُوا َواَل ُم ْستَأْنِ ِسينَ لِ َح ِدي ٍ‬
‫ق ﴾ [األحزاب‪]53 :‬‬ ‫يَ ْستَحْ يِي ِمنَ ْال َح ِّ‬
‫تصوروا هذا المش))هد ال))ذي يت))ولى في))ه هللا س))بحانه وتع))الى إخب))ار الص))حابة أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬يستحيي من إخراجهم بيته بعد سمرهم الطويل عن))ده‪ ..‬وك))ان في إمكان))ه‬
‫‪ ‬أن يخرجهم بأي طريقة‪ ..‬ولكنه كان حريصا على قلوبهم ومشاعرهم أن تتأذى ولو‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى البن تيمية (‪)203 /3‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى البن تيمية (‪)203 /3‬‬

‫‪45‬‬
‫بما ال يتأذى منه‪.‬‬
‫ولذلك وصفت السنة النبوية رسول هللا ‪ ‬بأن))ه ك))ان أش))د حي))اء من الع))ذراء في‬
‫خدرها(‪ .. )1‬وأنه ‪ ‬لحيائه الشديد‪ ،‬لم يكن يرد سائال‪ ،‬فعن أنس بن مالك قال‪ ( :‬وك))ان‬
‫النبي ‪ ‬ال يُسْأل شيئا إال أعطاه )(‪. )2‬‬
‫ومما وصف به هند بن أبي هالة رسول هللا ‪ ‬قول))ه‪( :‬من س))أله حاج))ة لم ي))رده‬
‫إال بها أو بميسور من القول‪ ،‬قد وسع الناس بسطه وخلقه‪ ،‬فصار لهم أبا وصاروا عنده‬
‫(‪)3‬‬
‫في الحق سواء‪ ،‬مجلسه مجلس حلم وحياء)‬
‫أن ام))رأة ج))اءت‬ ‫وكلنا يعرف قصته ‪ ‬مع البردة‪ ،‬والتي رواها س))هل بن س))عد َّ‬
‫الش) ْملةُ؟ ق))ال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫بُبِرْ َد ٍة منسوجة‪ ،‬فيها حاشيتُها‪ ،‬قال سهل‪ :‬أتدرون ما البُ))ردةُ؟ ق))الوا‪َّ :‬‬
‫فجئت أل ْكسُو َكها‪ ،‬فأخذها رسو ُل هللا ‪ ‬محتاجا ً إليها‪ ،‬فخرج إلين))ا‬ ‫ُ‬ ‫قالت‪ :‬نَ َسجتُها بيدي‪،‬‬
‫رسول هللا‪ ،‬م))ا أحس)نَها! فق))ال الق))وم‪ :‬م))ا‬‫َ‬ ‫وإنها إلزاره‪ ،‬فحسَّنها رجل‪ ،‬فقال‪ :‬اك ُسنِيها يا‬
‫النبي ‪ ‬محتاجا ً إليها‪ ،‬ثم سألتَها‪ ،‬وعلمتَ أنه ال ي))ر ُّد س))ائالً‪ ،‬ق))ال‪ :‬إني‬ ‫ُّ‬ ‫أحسنتَ ‪ ،‬لَبِسها‬
‫(‪)4‬‬
‫أللبَسها‪ ،‬إنما سأَلته لِتكون َكفني‪ ،‬قال سهل‪ :‬فكانت َكفَنَهُ)‬‫وهللا ما سألته ْ‬
‫وغيرها من األحاديث الكثيرة التي تص))ف رس))ول هللا ‪ ‬الحقيقي ‪ ..‬رس))ول هللا‬
‫الذي حاولت السنة المذهبية أن تصوره لنا بصورة أولئك األجالف الغالظ المتوحش))ين‬
‫ليتحول المتدين إلى جلف غليظ كمن نراهم من أصحاب السنة المذهبية الذين لم يكتف))وا‬
‫بتشويه أنفسهم‪ ،‬بل شوهوا دين هللا‪ ،‬وشوهوا معه رسول هللا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري و مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه الترمذي في الشمائل‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والقوة‬

‫يمكن اعتب))ار الق))وة ص))فة من ص))فات رس))ول هللا ‪ ‬الك))برى ال))تي يتف))ق العق))ل‬
‫والنقل في إثباتها له‪..‬‬
‫فالعقل الفطري الذي لم يتدنس بدنس الحقد واألهواء يقر بأنه لم يوج))د في ال))دنيا‬
‫جميعا رجل استطاع ـ مع انعدام كل الوسائل المادية ـ أن ينش))ر من الهداي))ة والن))ور م))ا‬
‫نشره رسول هللا ‪ ،‬وكأن الع))الم قب))ل وج))وده يختل))ف تمام))ا عن الع))الم بع))د وج))وده‪..‬‬
‫وكأن البشرية تحولت بعد بزوغ نوره بمرحلة متقدمة ج))دا في ط))ور اإلنس))انية مقارن))ة‬
‫بالمرحلة التي سبقت ظهوره‪.‬‬
‫وذلك كله ال يستطيع القيام به ـ من الناحية العقلي))ة والمنطقي))ة ـ إال من أوتي من‬
‫القوة بجميع أنواعها وحبالها‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذه البديهية العقلية‪ ،‬فإن التأم))ل في حي))اة رس))ول هللا ‪ ،‬والنظ))ر‬
‫إلى صورته في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة يثبت هذا‪ ،‬ويؤكده‪ ،‬بل يضيف إليه‬
‫أبعادا ال يستطيع العقل المجرد أن يكتشفها‪.‬‬
‫فأول قوة لرسول هللا ‪ ‬هو تلك الطاق))ة العجيب))ة ال))تي جعلت))ه يتحم))ل وحي هللا‪،‬‬
‫ويصبح واسطة بين هللا وعباده‪ ..‬وهذه طاقة ال يستطيع العق))ل المج))رد تص))ورها‪ ،‬وق))د‬
‫أشار هللا تعالى إلى ثقلها وعظمها وشدتها‪ ،‬فقال‪﴿ :‬إِنَّا َسنُ ْلقِي َعلَ ْي َ‬
‫ك قَوْ اًل ثَقِياًل ﴾ [المزمل‪:‬‬
‫‪ ،]5‬والقول الثقيل هنا ليس فقط بمعناه‪ ،‬وإنما باستقباله أيضا‪.‬‬
‫ولهذا ورد في السنة المطهرة م))ا ي))دل على تل))ك المعان))اة الش))ديدة ال))تي يتحمله))ا‬
‫رسول هللا ‪ ‬عند تلقيه للوحي‪ ،‬فقد ورد في الحديث عن زيد بن ثابت قال‪ :‬أن))زل على‬
‫رسول هللا ‪ ‬وفخذه على فخذي‪ ،‬فكادت ترض فخذي(‪.)1‬‬
‫وحدث عبد هللا بن عمرو قال‪ :‬س))ألت الن))بي ‪ ‬فقلت‪ :‬ي))ا رس))ول هللا‪ ،‬ه))ل تحس‬
‫بالوحي؟ فق))ال رس))ول هللا ‪( :‬أس))مع صالص))يل‪ ،‬ثم أس))كت عن))د ذل))ك‪ ،‬فم))ا من م))رة‬
‫(‪)2‬‬
‫يوحى إلي إال ظننت أن نفسي تفيض)‬
‫وحدثت عائشة قالت‪ :‬ولقد رأيته ينزل عليه ال))وحي ‪ ‬في الي))وم الش))ديد ال))برد‪،‬‬
‫فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا هذا لفظه(‪.)3‬‬
‫وحدث غيرها أن النبي ‪ ‬كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته‪ ،‬وضعت جرانها‪،‬‬
‫فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه(‪.)4‬‬
‫وهكذا تواترت الروايات والشهادات عن قوة تحمله ‪ ‬أثناء تلقيه الوحي‪..‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه أحمد‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه أحمد‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫وال يق))ف األم))ر عن))د ذل))ك‪ ..‬ف))الوحي يتطلب تنفي))ذا ‪ ..‬كم))ا يتطلب تبليغ))ا ‪ ..‬كم))ا‬
‫يتطلب مواجهة‪ ..‬وفي كل ذل))ك ك))ان رس))ول هللا ‪ ‬مث))ال الق))وة في التنفي))ذ‪ ،‬والق))وة في‬
‫التبليغ‪ ،‬والقوة في المواجهة‪.‬‬
‫وكمثال على قوته في التنفيذ ذلك األم))ر اإللهي الش))ديد ال))ذي ن))زل علي))ه في أول‬
‫نبوته‪ ،‬والتزمه ‪ ‬إلى أخر لحظة من حياته ‪ ..‬قي))ام اللي))ل‪ ..‬فق))د ك))ان من أول م))ا ن))زل‬
‫ص)فَهُ أَ ِو ا ْنقُصْ ِم ْن)هُ قَلِياًل (‬
‫عليه قوله تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا ْال ُم َّز ِّم ُل (‪ )1‬قُ ِم اللَّي َْل إِاَّل قَلِياًل (‪ )2‬نِ ْ‬
‫‪ )3‬أَوْ ِز ْد َعلَ ْي ِه َو َرتِّ ِل ْالقُرْ آنَ تَرْ تِياًل (‪[ ﴾)4‬المزمل‪]4 - 1 :‬‬
‫وقد كان ‪ ‬حريصا على تط)بيق ه)ذا األم)ر اإللهي م)ع ش)دته‪ ،‬وم)ع الظ)روف‬
‫الخطيرة التي مر بها‪ ،‬والتي كانت تستدعي منه أن يأخذ حظه من الن))وم باللي))ل‪ ،‬ولكن))ه‬
‫كان يأبى ذلك‪ ..‬ويجعل أكثر ليله قياما هلل‪ ،‬بعد نهار ممتلئ بالمشاق والمتاعب‪..‬‬
‫وقد نقل حذيفة مشهدا من مشاهد قوة رسول هللا ‪ ‬في العبادة‪ ،‬فقال‪ :‬صليّت مع‬
‫النبي ‪ ‬ذات ليلة‪ ،‬فافتتح البقرة فقلت‪ :‬يركع عند المائة‪ .‬ق))ال‪ :‬ثُ ّم مض))ى فقلت‪ :‬يص))لي‬
‫به))ا في ركع))ة فمض))ى‪ ،‬فقلت‪ :‬يرك))ع به))ا ثم افتتح النس))اء فقرأه))ا‪ ،‬ثم افتتح آل عم))ران‬
‫فقرأها‪ ،‬يقرأ مترسالً إذا م ّر بآية فيها تسبيح سبّح‪ ،‬وإذا م ّر بسؤال سأل‪ ،‬وإذا مر بتع))وّذ‬
‫تع َّوذ‪ ،‬ثم ركع فجعل يقول‪ :‬سبحان ربي العظيم‪ ،‬فكان ركوعه نحواً من قيام))ه‪ ،‬ثم ق))ال‪:‬‬
‫سمع هللا لمن حمده‪ ،‬ثم قام طويالً قريبا ً مما ركع‪ ،‬ثم س))جد فق))ال‪ :‬س))بحان ربي األعلى‪،‬‬
‫فكان سجوده قريبا ً من قيامه(‪.)1‬‬
‫وعن عبد هللا بن مسعود‪ ،‬قال‪ :‬صليّت مع النبي ‪ ‬ذات ليلة فلم يزل قائما ً ح))تى‬
‫هممت بأمر سو ٍء‪ .‬قلنا‪ :‬ما هممت؟ قال‪ :‬هممت أن أجلس وأدعه(‪.)2‬‬
‫وعن عائشة قالت‪ :‬كان رسول هللا ‪ ‬إذا صلى ق))ام ح))تى تتفطّ)ر رجاله‪ ،‬ق)الت‬
‫عائشة‪ :‬يا رسول هللا أتصنع هذا وقد غفر هللا لك ما تقدم من ذنبك وم))ا ت))أخر؟ ق))ال‪ :‬ي))ا‬
‫عائشة‪ ،‬أفال أكون عبداً شكوراً(‪)3‬؟‬
‫وهكذا كان ‪ ‬في جميع الشعائر التعبدية‪ ،‬فقد كان ـ وفي تلك الص))حراء ش))ديدة‬
‫الحر‪ ،‬ومع كل تلك الجهود العظيمة التي تنوء بها الجبال ـ يقضي معظم أيامه ص))ائما‪،‬‬
‫وفوق ذل))ك‪ ،‬وبع))د أن يفط))ر الن))اس ال يس))ارع إلى اإلفط))ار إذا ح))ل وقت))ه كم))ا يس))ارع‬
‫الناس‪ ،‬بل كان يواص)ل‪ ..‬أي يص)ل في ص))ومه ليل)ه بنه))اره‪ ..‬فعن أنس عن الن)بي ‪‬‬
‫قال‪(:‬ال تواصلوا)‪ ،‬قالوا‪ :‬إنك تواص))ل‪ ،‬ق))ال‪(:‬لس))ت كأح))د منكم‪ ،‬إني أطعم وأس))قى‪ ،‬أو‬
‫(‪)4‬‬
‫إني أبيت أطعم وأسقى)‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه أحمد والبخاري‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وهكذا كان ‪ ‬في تبليغ))ه رس))الة رب))ه ‪ ..‬فق))د ك))ان ال يرت))اح لحظ))ة واح))دة دون‬
‫تبليغها حتى أنه سافر إلى الطائف التي تبعد عن مكةَ المكرَّم ِة أكثر من خمسة وثم))انين‬
‫كيلو مترًا ‪ ..‬وسار إليها على قد َم ْي))ه الش))ريفتين‪ ..‬وبمج))رد أن وص))ل إليه))ا‪ ،‬ردوا علي))ه‬
‫)زق)‬ ‫ر ّ)ًًّدا من َكرًا‪ ،‬و َس ِخروا منه واستهزؤوا به؛ ب))ل ق))ال ل))ه أح))دهم‪ :‬ه))و يَ ْم) رُط (أي‪ :‬أُ َم) ِّ‬
‫إن كان هللا أرسلَك‪ .‬وقال اآل َخ))ر‪ :‬أ َم))ا و َج) َد هللا أح)دًا يرس)له غ))يرك؟ وق)ال‬ ‫ثياب الكعبة ْ‬ ‫َ‬
‫الثَّالث‪ :‬وهللا ال أكلمك أبدًا‪ ،‬لئن كنتَ رس))والً من هللا كم))ا تق))ول‪ ،‬ألنتَ أعظ ُم خط)رًا من‬ ‫ِّ‬
‫أن أر َّد عليك الكالم‪ ،‬ولئن كنتَ تكذب على هللا ما ينبغي لي أن أكلِّمك!‪.‬‬
‫والس)فهاء‪ ،‬ووقف))وا ص)فَّيْن‪ ،‬وأخ))ذوا‬ ‫ُّ‬ ‫الص)بيان والعبي))د‬ ‫وفوق ذلك كله أغروا ب))ه ِّ‬
‫يرمونه بالحجارة‪ ،‬ويسخرون منه‪ ،‬ويسبُّونه بأقبح الس))باب والش))تائم‪ ،‬حتَّى إنَّه ‪ ‬ك))ان‬
‫ال يرفع ق َد ًما‪ ،‬وال يضعها إالَّ على الحجارة‪ ،‬وسالت الدِّماء من قدَميْه الشريفتين‪.‬‬
‫ولكنه ‪ ‬بعد ذلك كله‪ ،‬لم يتأثر‪ ،‬ولم ينفعل‪ ،‬ولم يدعو عليهم‪ ،‬بل دع))ا لهم‪ ،‬وق))د‬
‫ورد في الحديث أن عائشة سألته ‪ :‬هل أتى عليك يو ٌم ك))ان أش) َّد من ي))وم أ ُح) ٍد؟ ق))ال‪:‬‬
‫ت نفس))ي على ابن‬ ‫ض) ُ‬‫عر ْ‬ ‫لقيت منهم ي))وم العقب))ة‪ْ ،‬إذ َ‬ ‫ُ‬ ‫لقيت من قو ِمك‪ ،‬وكان أش َّد ما‬ ‫ُ‬ ‫(لقَد‬
‫فانطلقت وأنا مهمو ٌم على وجهي‪ ،‬فلم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أردت‪،‬‬ ‫عبد يالي َل بن عبد كال ٍل‪ ،‬فلم يُ ِجبْني إلى ما‬
‫)رت ف))إذا‬ ‫فرفعت رأسي‪ ،‬وإذا أنا بسحاب ٍة قد أظلَّ ْت))ني‪ ،‬فنظ) ُ‬ ‫ُ‬ ‫أستفق إالَّ وأنا بقرن الثَّعالب‪،‬‬
‫إن هللا تعالى قد سمع قول قومك ل))ك‪ ،‬وم))ا ر ُّدوا‬ ‫فيها جبريل عليه السَّالم فناداني‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫ك الجب)ال‪ ،‬فس)لَّم‬ ‫عليك‪ ،‬وقد بعث إليك ملَ)ك الجب)ال لت)أمره بم)ا ش)ئت فيهم‪ .‬فن)اداني مل) ُ‬
‫ك الجب))ال‪ ،‬وق))د بعث))ني‬ ‫إن هللا قد سمع قول قوم))ك ل))ك‪ ،‬وأن))ا ملَ) ُ‬ ‫ي‪ ،‬ث َّم قال‪ :‬يا مح َّمد‪َّ ،‬‬ ‫عل َّ‬
‫أطبقت عليهم األخشبَيْن‪ ،‬فقال النبِ ُّي ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ربِّي إليك لتأمرني بأمرك‪ ،‬فما شئت؛ إن شئتَ‬
‫(‪)1‬‬
‫(بل أرجو أن ي ُْخ ِرج هللا من أصالبهم َمن يعبد هللا وحده ال يُشرك به شيئًا)‬
‫ولم يتوقف األم))ر عن))د الط))ائف‪ ،‬فق))د ك))ان ‪ ‬ألج))ل أداء رس))الة رب))ه مض))طرا‬
‫لمخالطة كل أص)ناف الن)اس بطب)اعهم المختلف)ة‪ ،‬وخاص)ة المستض)عفين منهم‪ ،‬وال)ذين‬
‫أمره هللا تعالى بالصبر على مخالطتهم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬واصْ بِرْ نَ ْف َس)كَ َم) َع الَّ ِذينَ يَ) ْد ُعونَ‬
‫ك َع ْنهُ ْم تُ ِري) ُد ِزينَ)ةَ ْال َحيَ))ا ِة ال) ُّد ْنيَا َوال‬‫َربَّهُ ْم بِ ْال َغدَا ِة َو ْال َع ِش ِّي ي ُِري ُدونَ َوجْ هَهُ َوال تَ ْع) ُد َع ْينَ)ا َ‬
‫تُ ِط ْع َم ْن أَ ْغفَ ْلنَا قَ ْلبَهُ ع َْن ِذ ْك ِرنَا َواتَّبَ َع ه ََواهُ َو َكانَ أَ ْم ُرهُ فُرُطا ً﴾ (الكهف‪)28:‬‬
‫وقد قام رسول هللا ‪ ‬بم))ا اقتض))ته ه))ذه األوام))ر من واجب))ات خ))ير قي))ام‪ ،‬فك))ان‬
‫ينهض لكل مسكين‪ ،‬ويقوم لك))ل محت))اج‪ ..‬ونحن نعلم ك))ثرة المس))اكين في ذل))ك ال))وقت‪،‬‬
‫وكثرة الحاجات‪ ،‬وقد قال العباس لرسول هللا ‪ ‬بعد أن رأى الجهد الذي يصيبه جراء‬
‫ذلك‪ :‬يا رسول هللا إني أراهم قد آذوك‪ ،‬وآذاك غبارهم‪ ،‬فلو اتخذت عريش))ا تكلمهم في))ه‪،‬‬
‫فقال رسول هللا ‪(:‬ال أزال بين أظهرهم يطئ))ون عق))بى وين))ازعوني ث))وبي‪ ،‬ويؤذي))ني‬
‫(‪)2‬‬
‫غبارهم‪ ،‬حتى يكون هللا هو الذي يرحمني منهم)‬
‫وكان فوق ذل))ك يتحم))ل ض))نك الحي))اة‪ ،‬والب))ؤس الش))ديد ح))تى أن))ه ك))ان يعص))ب‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫الحجر على بطنه من الجوع‪ ،‬وكان تمر األشهر وال يوق))د في بيت))ه ن))ار‪ ..‬وم))ع ذل))ك ال‬
‫نسمع منه إال حمد هللا‪ ،‬وال نرى منه إال ما يرضي هللا‪.‬‬
‫هذه قطرة من بحر قوة رسول هللا ‪ ‬كما ي))دل عليه))ا العق))ل‪ ..‬وكم))ا ي))دل عليه))ا‬
‫القرآن الك))ريم والس))نة النبوي))ة‪ ..‬لكن الس))نة المذهبي))ة تنفخ س))مومها على ه))ذه الخص))لة‬
‫العظيمة لتنحرف بها انحرافا خطيرا يشوه رسول هللا ‪ ‬أعظم تشويه‪.‬‬
‫وسأنقل هنا نماذج عن ذلك التشويه الخطير‪ ،‬والذي ينطلق من تفسير مع))نى ق))وة‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والذي وردت به روايات متعددة منها ما روي عن أنس بن مال))ك ق))ال‪:‬‬
‫(كان النبي ‪ ‬يدور على نسائه في الس))اعة الواح))دة من اللي))ل أو النه))ار‪ ،‬وهن إح))دى‬
‫(‪)1‬‬
‫عشرة‪ .‬قال‪ :‬قلت ألنس‪ :‬أو كان يطيقه؟! قال‪ :‬كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثالثين)‬
‫ومنها ما رواه عن محمد بن المنتشر قال‪( :‬ذكرته لعائشة‪ ،‬فق))الت‪ :‬ي))رحم هللا أب))ا‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬كنت أطيب رسول هللا ‪ ‬فيطوف على نسائه‪ ،‬ثم يصبح محرم))ا ينض))خ‬
‫(‪)2‬‬
‫طيبا)‬
‫ومنه))ا م))ا رواه قت))ادة عن أنس‪( :‬أن رس))ول هللا ‪ ‬ك))ان ي))دور على نس))ائه في‬
‫الساعة من الليل والنهار‪ ،‬وهن إح)دى عش))رة‪ :‬ق))ال ‪ -‬أي قت)ادة ‪ :-‬قلت ألنس بن مال))ك‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فهل كان يطيق ذلك؟ قال‪ :‬كنا نتحدث أنه أعطي قوة أربعين)‬
‫وقد لقيت هذه األحاديث الممتلئة بالغرابة‪ ،‬والمتعارضة تماما مع العق))ل والنق))ل‪،‬‬
‫قبوال حسنا من أصحاب القلوب المريضة‪ ..‬فراحت تستخدمها وسيلة لتشويه رسول هللا‬
‫‪ ‬قصدت ذلك أم لم تقصد‪.‬‬
‫أما غرابة تلك األحاديث من حيث العقل‪ ،‬فال شك فيها‪ ..‬فالرجل الذي يصيبه هذا‬
‫الشغف وهذه الهستريا بحيث يقوم بجولة سريعة على إح))دى عش))رة ام))رأة وفي س))اعة‬
‫واحدة ليس إنسانا طبيعيا‪ ،‬فكيف يكون نبيا؟‬
‫باإلضافة إلى أن هذا من الناحية النفسية ال يحمل أي مع))نى من مع))اني الرجول))ة‬
‫والش))هامة والنب))ل‪ ،‬فالرج))ل ال))ذي ي))أتي زوجت))ه كالبه))ائم من دون مق))دمات ليس رجال‬
‫أصال‪ ،‬بل ورد في األحاديث النهي عن المعاجلة في ذل))ك‪ ،‬وه))ذا الح))ديث يتن))اقض م))ع‬
‫ذلك الهدي النبوي الذي حذر النبي ‪ ‬أمته من مخالفته‪..‬‬
‫أما مخالفتها للنقل‪ ،‬فأدلته أكثر من أن تحصر‪ ..‬ويكفي فيها تلك النص))وص ال))تي‬
‫حذر فيها رسول هللا ‪ ‬عن حكاي))ة الحي))اة الشخص))ية الخاص))ة بين الرج))ل وزوجت))ه‪..‬‬
‫فكيف يتجرأ شخص على حكاية الحياة الشخصية لن))بي ك))ريم؟ وم))ا عه))دنا ذل))ك إال في‬
‫حكايات الفضائح التي يقوم بها الساسة بعضهم مع بعض‪.‬‬
‫لكن مع كل ذلك نج))د اهتمام))ا كب))يرا من ل))دن من يس))مون أنفس))هم أوص))ياء على‬
‫السنة بهذه األحاديث‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه أبو يعلى في مسنده‪ ،‬وصححه حسين سليم أسد في تعليقه على مسند أبي يعلى‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫يقول ابن حجر بعد إيراده لبعض تلك األحاديث‪( :‬وفي هذا الحديث من الفوائد‪...‬‬
‫م))ا أعطي الن))بي ‪ ‬من الق))وة على الجم))اع‪ ،‬وه))و دلي))ل على كم))ال البني))ة وص))حة‬
‫(‪)1‬‬
‫الذكورية)‬
‫بل قام ابن حجر بحساب قوة النبي ‪ ‬بطريقة بديعة‪ ،‬فق))ال تعليق))ا على م))ا رواه‬
‫زي))د بن أرقم‪( :‬إن الرج))ل من أه))ل الجن))ة يعطى ق))وة مائ))ة رج))ل في األك))ل والش))رب‬
‫(‪)3‬‬
‫والشهوة والجماع‪( :)2()...‬فعلى هذا يكون حساب قوة نبينا أربعة آالف)‬
‫وق))ال الص))نعاني‪( :‬وفي الح))ديث دالل))ة على أن))ه ‪ ‬ك))ان أكم))ل الرج))ال في‬
‫(‪)4‬‬
‫الرجولية؛ حيث كان له هذه القوة)‬
‫ومثلهما المناوي الذي راح يس))تنبط المعج))زات من تل))ك األح))اديث‪ ،‬فق))ال‪( :‬ف))إن‬
‫قلت‪ :‬هل للتمدح بكثرة الجماع للنبي ‪ ‬من فائدة دينية أو عقلي)ة ال يش)اركه فيه))ا غ))ير‬
‫األنبياء من البرية؟ قلت‪ :‬نعم ‪ -‬بل هي معجزة من معجزاته السنية‪ ،‬إذ قد ت))واتر ت))واترا‬
‫معنويا‪ ،‬أنه كان قلي))ل األك)ل‪ ،‬وك)ان إذا تعش))ى لم يتغ))د‪ ،‬وعكس))ه‪ ،‬وربم))ا ط))وى أيام))ا‪،‬‬
‫والعقل يقضي بأن كثرة الجماع إنما تنشأ عن كثرة األكل‪ ،‬إذ الرحم يجذب قوة الرج))ل‪،‬‬
‫وال يجبر ذلك النقص إال كثرة الغذاء‪ ،‬فكثرة الجماع ال تجتمع م))ع قل))ة الغ))ذاء عقال وال‬
‫طبا وال عرفا‪ ،‬إال أن يقع على وجه خرق العادة‪ ،‬فك))ان من قبي))ل الجم))ع بين الض))دين‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وذلك من أعظم المعجزات فتدبر)‬
‫وحتى يؤكد أصحاب السنة المذهبية أمثال ه)ذه التش))ويهات ال)تي اس)تنبطوا منه)ا‬
‫أصال‪ ،‬وهو أن من خصائص النبي قوته الشهوانية‪ ،‬فقد رووا عن سليمان عليه الس))الم‬
‫ما ينقضي دونه العجب‪ ..‬ففي الحديث الذي رواه البخ))اري ومس))لم عن أبي هري))رة عن‬
‫النبي ‪ ‬قال‪( :‬قال سليمان بن داود‪ :‬ألطوفن الليلة على سبعين امرأة‪ ،‬تحمل كل امرأة‬
‫فارسا يجاهد في سبيل هللا‪ ،‬فقال ل)ه ص)احبه‪ :‬إن ش)اء هللا‪ .‬فلم يق)ل‪ ،‬ولم تحم)ل ش)يئا إال‬
‫(‪)6‬‬
‫واحدا ساقطا أحد شقيه‪ .‬فقال النبي ‪ :‬لو قالها لجاهدوا في سبيل هللا)‬
‫وم))ع أن الح))ديث مض))طرب اض))طرابا ش))ديدا‪ ،‬وق))د اختلفت الرواي))ات في ع))دد‬
‫النساء‪ ،‬لكن ما أسهل أن يلتمس الحل لذلك‪ ،‬فقد قال ابن حجر في الجمع بين الرواي))ات‪:‬‬
‫(فمحصل الروايات‪ :‬ستون‪ ،‬وسبعون‪ ،‬وتسعون‪ ،‬وتسع وتسعون‪ ،‬ومائة‪ .‬والجمع بينه))ا‬
‫أن الستين كن حرائر‪ ،‬وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس‪ ،‬وأما السبعون فللمبالغة‪،‬‬
‫وأما التسعون والمائة فكن دون المائة وف))وق التس))عين‪ ،‬فمن ق))ال تس))عون ألغى الكس))ر‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫() فتح الباري‪.451 /1 :‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه أحمد‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() فتح الباري ‪.450 /1:‬‬
‫‪4‬‬
‫() سبل السالم‪ ،‬الصنعاني‪.128 /6 ،‬‬
‫‪5‬‬
‫() فيض القدير‪ ،‬المناوي‪.130 /1 ،‬‬
‫‪6‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ومن قال مائة جبره‪ -‬أي أكمل الكسر‪ .. -‬وق)د حكى وهب بن منب)ه في المبت)دأ أن)ه ك)ان‬
‫(‪)1‬‬
‫لسليمان ألف امرأة ثالثمائة مهيرة‪ ،‬وسبعمائة سرية)‬
‫بعد هذه التبريرات الالمنطقي))ة راح المح))دثون يس))تنطون مع))اني الق))وة في حي))اة‬
‫األنبياء عليهم الصالة والس)الم ال)ذين هم خالص))ة البش)ر وص))فوتهم‪ ،‬فق))د ق))ال الن))ووي‬
‫تعليق))ا على ه))ذا الح))ديث‪( :‬وفي ه))ذا بي))ان م))ا خص ب))ه األنبي))اء ‪ -‬ص))لوات هللا تع))الى‬
‫وسالمه عليهم ‪ -‬من القوة على إطاقة هذا في ليلة واح)دة‪ ،‬وك))ان نبين))ا ‪ ‬يط))وف على‬
‫إحدى عشرة امرأة له في الساعة الواحدة‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين‪ ،‬وهذا كله من زيادة‬
‫(‪)2‬‬
‫القوة)‬
‫ويقول ابن حجر‪( :‬وفيه ما خص ب))ه األنبي))اء من الق))وة على الجم))اع ال))دال ذل))ك‬
‫على صحة البنية‪ ،‬وقوة الفحولية‪ ،‬وكمال الرجولية‪ ،‬مع ما هم فيه من االشتغال بالعبادة‬
‫(‪)3‬‬
‫والعلوم)‬
‫ويقول المناوي‪( :‬إن سليمان ‪ -‬علي))ه الس))الم ‪ -‬تم))نى أن يك))ون ل))ه ملك))ا ال ينبغي‬
‫ألح))د من بع))ده‪ ،‬ف))أعطي المل))ك‪ ،‬وأعطي الق))وة في الجم))اع؛ ليتم ل)ه المل))ك على خ))رق‬
‫العادة من كل الجهات؛ ألن الملوك يتخذون من الحرائر والس))راري بق))در م))ا أح))ل لهم‬
‫ويستطيعونه‪ ،‬فأعطي سليمان ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬تلك الخصوصية ليتميز بها عنهم‪ ،‬فك))ان‬
‫(‪)4‬‬
‫نساؤه من جنس ملكه الذي ال ينبغي ألحد من بعده)‬
‫وهكذا استطاعت أمثال ه)ذه النص)وص أن تنح)رف ب)النبوة عن معناه)ا الس)امي‬
‫الذي قصده القرآن الكريم إلى معان باهتة محتقرة تتفق تماما مع المنهج الذي كان يفكر‬
‫به فرعون وهامان ومعاوية ويزيد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() فتح الباري البن حجر (‪)460 /6‬‬
‫‪2‬‬
‫() شرح صحيح مسلم‪ ،‬النووي‪.2570 /6 :‬‬
‫‪3‬‬
‫() فتح الباري بشرح صحيح البخاري‪..)533 /6( ،‬‬
‫‪4‬‬
‫() فيض القدير‪ ،‬المناوي‪)659 /4( ،‬‬

‫‪52‬‬
‫رسول اهلل ‪ ..‬والعلم‬

‫من أهم خصائص النبوة ال))تي وردت به))ا األدل))ة العقلي))ة والنقلي))ة خاص))ية [العلم‬
‫الشامل]‪ ،‬أو [العلم الراسخ]‪ ،‬وهي خاص))ية ح))اولت الس))نة المذهبي))ة بط))رق مختلف))ة أن‬
‫تتجاهلها‪ ..‬بل حاولت في أحي))ان كث))يرة أن تلغيه))ا‪ ..‬ب))ل ص))ورت الق))ائلين به))ا بص))ورة‬
‫الضالين والمشركين والمغالين‪.‬‬
‫وهي تتجاهل بذلك كل ما ورد في الق))رآن الك))ريم والس))نة المطه))رة من تعليم هللا‬
‫لنبيه ‪ ‬من عجائب العلوم وغرائبها مما ال يطيقه عقل اإلنسان‪.‬‬
‫وأول ما يشير إلى هذه الناحي))ة المهم))ة في الرس))ول ‪ ‬قول))ه تع))الى‪َ ﴿ :‬وعَلَّ َم آ َد َم‬
‫ص )ا ِدقِينَ (‬ ‫ال أَ ْنبِئُونِي بِأ َ ْس َما ِء هَ )ؤُاَل ِء إِ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬‫ضهُ ْم َعلَى ْال َماَل ئِ َك ِة فَقَ َ‬ ‫اأْل َ ْس َما َء ُكلَّهَا ثُ َّم ع ََر َ‬
‫ك اَل ِع ْل َم لَنَا إِاَّل َما عَلَّ ْمتَنَا إِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َعلِي ُم ْال َح ِكي ُم (‪ )32‬قَا َل يَ))اآ َد ُم أَ ْنبِ ْئهُ ْم‬ ‫‪ )31‬قَالُوا ُس ْب َحانَ َ‬
‫ض َوأَ ْعلَ ُم‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال أَلَ ْم أَقُلْ لَ ُك ْم إِنِّي أَ ْعلَ ُم َغي َ‬
‫ْب ال َّس َم َ‬ ‫بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم فَلَ َّما أَ ْنبَأَهُ ْم بِأ َ ْس َمائِ ِه ْم قَ َ‬
‫َما تُ ْب ُدونَ َو َما ُك ْنتُ ْم تَ ْكتُ ُمونَ ﴾ [البقرة‪]33 - 31 :‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تشير إلى العلوم التي تقتضيها الخالف))ة عن هللا‪ ،‬وهي عل))وم‬
‫كثيرة جدا إلى الدرج))ة ال))تي س))ماها هللا تع))الى [اأْل َ ْس) َما َء ُكلَّهَ))ا]‪ ،‬ب))ل إلى الدرج))ة ال))تي‬
‫عجزت المالئكة عليهم الس)الم أن يعرفوه)ا‪ ..‬وهم من هم‪ ..‬ف)إذا ك))ان ه)ذا عظم))ة العلم‬
‫الذي لقن آلدم عليه السالم‪ ،‬فكيف بالعلم الذي لقن لرسول هللا ‪‬؟‬
‫َ‬
‫ب أنَا آتِيكَ بِ ِه قب َْل‬ ‫َ‬ ‫ال الَّ ِذي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ال ِكتَا ِ‬
‫ْ‬ ‫ويشير إلى هذا أيضا قوله تعالى‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ك طَرْ فُكَ ﴾ [النمل‪ ]40 :‬فإذا كان هذا علم صاحب من أصحاب سليمان علي))ه‬ ‫أَ ْن يَرْ تَ َّد إِلَ ْي َ‬
‫الس))الم‪ ،‬وه))و علم مرتب))ط ببعض الكت))اب‪ ،‬فكي))ف بعلم رس))ول هللا ‪ ،‬وه))و علم بك))ل‬
‫الكتاب؟‬
‫ويشير إلى هذا العلم الذي أوتيه رسول هللا ‪ ‬من لدن هللا تعالى ـ أيض))ا ـ قول))ه‬
‫ك‬ ‫ض ) ُل هَّللا ِ َعلَ ْي ) َ‬ ‫َاب َو ْال ِح ْك َمةَ َو َعلَّ َمكَ َما لَ ْم تَ ُك ْن تَ ْعلَ ُم َو َكانَ فَ ْ‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬وأَ ْن َز َل هَّللا ُ َعلَ ْيكَ ْال ِكت َ‬
‫َع ِظي ًما﴾ [النساء‪]113 :‬‬
‫)رون‪ ،‬وأس))مع م))ا ال‬ ‫ويشير إليه قوله ‪ ‬ـ مخبرا عن نفس))ه ـ (إنِّي أرى م))ا ال ت) َ‬
‫ق لها أن تئط‪ ،‬م))ا فيه))ا موض))ع أرب))ع أص))ابع إال ومل))ك‬ ‫إن السماء أطت‪ ،‬وح َّ‬ ‫تسمعون‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫واضع جبهت))ه س))اجدًا هلل‪ ،‬وهللا ل))و تعلم))ون م))ا أعلم لض))حكتم قليال ولبكيتم كث))يرًا‪ ،‬وم))ا‬
‫(‪)1‬‬
‫تل َّذذتم بالنساء على الفرش‪ ،‬ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى هللا)‬
‫)ري‬ ‫وهذا الحديث يذكرنا بقوله تعالى في حق إب))راهيم علي))ه الس))الم‪َ ﴿ :‬و َك) َذلِكَ نُ) ِ‬
‫ض َولِيَ ُكونَ ِمنَ ْال ُموقِنِينَ ﴾ [األنعام‪]75 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫إِب َْرا ِهي َم َملَ ُكوتَ ال َّس َما َوا ِ‬
‫فعلوم األنبياء عليهم الصالة والسالم علوم رؤية ومشاهدة‪ ،‬وليست عل))وم تلقين‪..‬‬
‫لذلك ال يعتريها الخطأ‪ ،‬وال يصيبها الوهم‪ ،‬وال يدركها القصور‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه الترمذي وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫وقد أخبر أبو ذر عن بعض العلوم التي كان رسول هللا ‪ ‬يحدثهم عنه))ا‪ ،‬فق))ال‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫(ولقد تَ َر َكنا رسول هللا ‪ ‬وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إال ذكرنا منه ِعل ًما)‬
‫وعن أبي زيد األنصاري قال‪( :‬صلى بنا رسول هللا ‪ ‬صالة الصبح‪ ،‬ثم ص))عد‬
‫المنبر‪ ،‬فخطبنا حتى حضرت الظهر‪ ،‬ثم نزل فصلى العصر‪ ،‬ثم صعد المن))بر‪ ،‬فخطبن))ا‬
‫(‪)2‬‬
‫حتى غابت الشمس‪ ،‬فحدثنا بما كان وما هو كائن‪ ،‬فأعلمنا أحفظنا)‬
‫وعن حذيفة قال‪( :‬قام فينا رسول هللا ‪ ‬قائما‪ ،‬فم))ا ت))رك ش))يئا يك))ون في مقام))ه‬
‫ذلك إلى قيام الساعة إال حدث))ه حفظ))ه من حفظ)ه ونس))يه من نس))يه‪ ،‬ق))د علم))ه أص))حابي‬
‫هؤالء وإنه ليكون الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عن))ه ثم إذا رآه‬
‫(‪)3‬‬
‫عرفه)‬
‫وهك)))ذا وردت الرواي)))ات عن رس)))ول هللا ‪ ‬تخ)))بر عن الحق)))ائق العلمي)))ة في‬
‫المجاالت المختلفة النفسية واالجتماعية ‪ ..‬بل والطبية والفلكية والجيولوجية وغيره)ا ‪..‬‬
‫وما غاب عنا أكثر بكثير‪.‬‬
‫ذلك أن علوم اإلنسان الكامل علوم ال تحدها التخصصات‪ ،‬وال تقيدها‪ ..‬ألنه))ا إن‬
‫كانت كذلك كانت عالمة جهل كبير‪ ..‬فالمتخصص مقيد في سجن اختصاصه‪ ،‬ولذلك ال‬
‫يفسر األشياء إال على ضوئها‪.‬‬
‫فالمسجون في سجن علم االجتماع ـ مثال ـ أو في سجن مدرسة من مدارسه يبني‬
‫مواقفه على أساسها ‪ ..‬وهك))ذا المس))جون في س))جون علم النفس‪ ..‬وهك))ذا المس))جون في‬
‫سجون التخصصات المختلفة‪ ..‬حتى التخصصات الدقيقة منها‪..‬‬
‫ولهذا اختلفت علوم محمد ‪ ‬عن كل أصحاب تلك العلوم اختالفا تاما‪ ..‬فعلوم))ه‬
‫تستقي من محيط صبت فيه جميع بحار العلوم والمعارف‪ ،‬أو كانت هي مص))در جمي))ع‬
‫العلوم والمعارف‪.‬‬
‫ذلك أن علوم رسول هللا ‪ ‬علوم ربانية تنبع من بحار علم هللا الواسع‪ ،‬كما ق))ال‬
‫ك‬ ‫هللا تعالى مخبرا أن القرآن الكريم نزل من مشكاة علم هللا‪ ﴿:‬لَ ِك ِن هَّللا ُ يَ ْشهَ ُد بِ َما أَ ْنزَ َل إِلَ ْي َ‬
‫أَ ْنزَ لَهُ بِ ِع ْل ِم ِه َو ْال َمالئِ َكةُ يَ ْشهَ ُدونَ َو َكفَى بِاهَّلل ِ َش ِهيداً﴾ (النساء‪)166:‬‬
‫لهذا‪ ،‬فإننا نجد في القرآن الكريم‪ ،‬وفي تفسير النبي ‪ ‬له ك))ل حق))ائق العل))وم م))ا‬
‫تعلق منها بالوجود‪ ،‬أو بالحياة‪ ،‬أو بتنظيم الحياة‪ ..‬كل ذلك نجده واضحا جليا في القرآن‬
‫الكريم وفي السنة المطهرة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫َاب تِ ْبيَان )ا لِك))لِّ ش ) ْي ٍء‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله تعالى‪َ ﴿:‬ونَزلنَا َعل ْيكَ ال ِكت َ‬
‫ى َو َرحْ َمةً َوبُ ْش َرى لِ ْل ُم ْسلِ ِمينَ ﴾ (النحل‪)89 :‬‬ ‫َوهُد ً‬
‫فكل الحاجات التي ترتبط باإلنسان توج))د خالص))تها في ه))ذا الكت))اب ال))ذي ن))زل‬
‫على محمد ‪ ..‬والذي قام محمد ‪ ‬في حياته جميعا بتفسيره‪..‬‬
‫وقد يقول البعض هنا‪ :‬ولكن العلوم كثيرة‪ ..‬وقد وضعت في آالف‪ ..‬ب))ل عش))رات‬
‫‪ )(1‬تفسير عبد الرزاق ‪ )1/200‬وتفسير الطبري (‪)11/348‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن سعد‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫اآلالف من المراجع الضخمة؟‬
‫والجواب على ذلك بسيط‪ ،‬وهو أن عش))رات اآلالف من الكتب ق))د يمكن تلخيص‬
‫ما يفيد منها في كلمات معدودات‪ ..‬بل قد يمكن تلخيص جهود بشرية طويلة في معادل))ة‬
‫واحدة‪..‬‬
‫فالمعادلة التي تنص على العالقة بين كتلة جسيم وطاقت))ه‪ ،‬وال))تي تق))ول (ط = ك‬
‫ث‪ ..)²‬أي‪ :‬الطاق))ة = الكتل))ة مض))روبة في مرب))ع س))رعة الض))وء‪ ..‬ق))د كتب من أج))ل‬
‫الوصول إليها آالف األوراق‪ ،‬وبذل من الجهود ـ طيلة تاريخ البشرية ـ ما بذل من أجل‬
‫التحقق منها‪ ..‬ولم يكن ذلك في علم واحد‪ ..‬بل في علوم كثيرة‪.‬‬
‫وقد جاء محمد ‪ ‬بآالف المعادالت التي ال تقل عن هذه المعادلة‪..‬‬
‫فاعتبار الصلوات خمسا‪ ،‬وفي أوق))ات مح))ددة معادل))ة تحت))اج البش))رية إلى آالف‬
‫السنين للتحقق من صدقها‪..‬‬
‫وهكذا اعتباره البنت ترث عن))د انفراده))ا النص))ف‪ ،‬وعن))د التع))دد الثل))ثين‪ ..‬واألم‬
‫السدس عن)د تع)دد الف)رع ال)وارث أو تع)دد اإلخ)وة‪ ،‬والثلث ع)دا ذل)ك‪ ..‬وهك)ذا في ك)ل‬
‫المسائل التي وردت في علوم الفرائض‪ ..‬بل هكذا في كل العل))وم ال))تي ج))اء به))ا محم))د‬
‫‪..‬‬
‫فالتناسق بينها جميعا في منتهى كماله‪ ..‬مع أنه لتش))ريع ق))انون بس))يط نحت))اج إلى‬
‫تخصصات كثيرة مختلفة‪.‬‬
‫فالتش))ريعات ال))تي ج))اء به))ا محم))د ‪ ‬تخ))دم الف))رد والمجتم))ع‪ ..‬وتخ))دم الجس))د‬
‫والنفس والعقل والقلب‪ ..‬وتخدم الدنيا واآلخرة‪ ..‬وال تضر فوق ذلك بش))يء من األش))ياء‬
‫دق أو جل‪.‬‬
‫بعد هذا التقرير المختصر عن هذه البديهية ال))تي دل عليه))ا العق))ل والنق))ل‪ ،‬ن))رى‬
‫السنة المذهبية تقف موقفا سلبيا ساخرا من هذه الناحية من ن))واحي العظم))ة في ش)خص‬
‫رسول هللا ‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك تلك االنتقادات الشديدة التي ووج))ه به))ا البوص))يري على قول))ه‬
‫في البردة‪:‬‬
‫فإن من جودك الدنيا وضرتها ‪ ...‬ومن علومك علم اللوح والقلم‬
‫فقد قال بعضهم ردا عليه‪ ( :‬مث))ل ه))ذ ِه األوص))اف ال تص))ح إال هلل – عز وجل –‬
‫وأنا أعجب لمن يتكلم به))ذا الكالم إن ك))ان يعقل معن)))اهُ كيف يس)))وّغ لنفس))) ِه أن يق)))ول‬
‫ُمخاطبا ً النبي ‪( :‬فإن من جودك الدنيا وضرتها)‪( ،‬ومن) للتبعيض‪ ،‬والدنيا هي ال))دنيا‬
‫وضرتُها هي اآلخرة‪ ،‬فإذا كانت الدنيا واآلخرة من جود الرسول عليه الصالة والس))الم‬
‫– وليس كل جود ِه فما الذي بقي هلل عز وجل ؟ ما بقي لهُ شيء من الممكن ال في ال))دنيا‬
‫وال في اآلخرة وك))ذلك قول)هُ‪ :‬ومن علومك علم الل))وح والقلم‪( .‬ومن) ه))ذه للتبعيض وال‬
‫أدري م))اذا يبقى هلل تع))الى من العلم إذا خاطبنا الرس))ول عليه الص))الة والس))الم به))ذا‬

‫‪55‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الخطاب؟)‬
‫وهذا النص يرينا مدى محدودية القدرة اإللهية والعلم اإللهي لدى هؤالء‪ ..‬وكيف‬
‫ال يكونون كذلك‪ ،‬وهم يعتقدون محدودية الذات اإللهي))ة‪ ،‬وال))تي ال تس))اوي في عقائ))دهم‬
‫التي يسمونها [عقائد السنة] بعض األجرام السماوية التي يمتلئ بها الفضاء الفسيح‪.‬‬
‫ومن مظاهر تهوين السنة المذهبية لهذه الخاص))ية العظيم))ة من خ))واص النب))وة ـ‬
‫زيادة على هذا الموقف العام ـ قصر أص)حاب الس)نة المذهبي)ة علم رس)ول هللا ‪ ‬على‬
‫األمور الدينية‪ ،‬ويستندون في ذلك إلى ذل))ك الح))ديث الخط))ير ال))ذي جعل))وا من))ه مع))وال‬
‫هدموا به كل ما ورد في النصوص المقدسة من شمولية علم رسول هللا ‪.‬‬
‫والحديث هو ما روي أن رسول هللا ‪ ‬قدم المدين))ة وهم يلقح))ون النخ))ل‪ ،‬فق))ال‪:‬‬
‫( ما تصنعون ؟ ) قالوا‪ :‬كنا نصنعه‪ ،‬ق))ال‪ ( :‬لعلكم ل))و لم تفعل))وا ك))ان خ))يرا)‪ ،‬ف))تركوه‪،‬‬
‫فنفضت أو فنقصت‪ ،‬قال‪ :‬فذكروا ذلك له فقال‪ ( :‬إنم))ا أن))ا بش))ر‪ ،‬إذا أم))رتكم بش))يء من‬
‫(‪)2‬‬
‫دينكم فخذوا به‪ ،‬وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)‬
‫وفي رواية أن رسول هللا ‪ ‬قال لهم‪( :‬أنتم أعلم بأمر دنياكم)‬
‫وفي رواية‪( :‬إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به‪ ،‬فإذا كان من أم))ر دينكم‬
‫فإلي)‬
‫(‪)3‬‬
‫بل في رواية أخرى أن النبي ‪ ‬قال لهم‪( :‬لو لم تفعلوا لصلح)‬
‫ولكثرة الروايات الواردة في هذا الحديث ذكر بعضهم أن الحادثة متعددة‪ ،‬أي أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬م))ر على ن))اس متع))ددين‪ ،‬وأخ))برهم ب))أن الت)أبير ال منفع))ة في)ه‪ ..‬ثم ت)بين‬
‫للجميع أن أخذهم بنصيحة رسول هللا ‪ ‬أضرت بهم‪ ..‬وحينذاك بين لهم رسول هللا ‪‬‬
‫أن غرض)ه من ذل))ك أن ي)ذكر لهم أنهم أعلم ب))أمور دني))اهم‪ ..‬وأنهم ال ينبغي أن يأخ)ذوا‬
‫منه كل شيء‪.‬‬
‫والعجيب بعد ذلك كله أن يكون ذلك في أول مقدمه ‪ ‬للمدين))ة المن))ورة‪ ،‬وب))ذلك‬
‫تكون أول نصيحة قدمها رسول هللا ‪ ‬للفالحين فيها نصيحة أضرت بهم‪ ،‬وبمنت))وجهم‬
‫الذي يعتمدون عليه في حياتهم‪.‬‬
‫ولست أدري كيف لم تمرر هذه الرواية على عقول المحدثين الذين زجوا بها في‬
‫كتبهم‪ ،‬وكأنها حقيقة مقررة‪..‬‬
‫)وى (‪ )3‬إِنْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫﴿و َم))ا يَن ِط) ق ع َِن الهَ) َ‬
‫ولست أدري لم لم يعرضوها على قوله تع))الى‪َ :‬‬
‫ُوحى﴾ [النجم‪]4 ،3 :‬؟‬
‫يي َ‬ ‫هُ َو إِاَّل َوحْ ٌ‬
‫ولس)ت أدري لم لم يعرض)وها على م)ا ورد في الح)ديث عن عب)د هللا بن عم)رو‬
‫قال‪ :‬كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول هللا ‪ ‬أريد حفظه فنهتني ق))ريش وق))الوا‪:‬‬
‫أتكتب ك))ل ش))يء ؟ ورس))ول هللا ‪ ‬بش))ر يتكلم في الغض))ب والرض))ا‪ ،‬فأمس))كت عن‬
‫‪1‬‬
‫() الكالم البن العثيمين في بعض دروسه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم‪..‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه مسلم ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫الكتاب‪ ،‬فذكرت ذلك لرسول هللا ‪ ،‬فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال‪( :‬اكتب فوالذي نفس))ي‬
‫(‪)1‬‬
‫بيده ما يخرج منه إال حق)‬
‫ثم بعد هذا‪ :‬هل يمكن ألي عاقل أن يتالعب بأرزاق الذين يثقون فيه من أجل أن‬
‫يقول لهم‪( :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم) مع أنه كان يمكن أن يقوله))ا لهم من غ))ير أن يكلفهم‬
‫شيئا؟‬
‫ولم تق)ف ه)ذه الرواي)ة عن)د المح)دثين‪ ،‬ب)ل انتقلت إلى كث)ير من الب)احثين ال)ذين‬
‫صارت لهم جرأة بسببها على جميع أقوال رسول هللا ‪ ..‬حتى صار أي صعلوك يقرأ‬
‫حرفا من العلم يذهب إلى كتب الحديث‪ ،‬ثم يقرر بك))ل بس))اطة أن رس))ول هللا ‪ ‬أخط))أ‬
‫في وصفه لتلك الوصفة‪ ،‬أو في ذكره لتلك القضية‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك الموقف من األحاديث التي وردت في بعض المس))ائل الطبي))ة‪،‬‬
‫وهو موقف كان يمكن قبوله لو بني على التشكيك في صحة الحديث من حيث الثبوت‪..‬‬
‫لكن المش))كلة أن ه))ؤالء المش))ككين لم يتج))رؤوا على ذل))ك مخاف))ة أن ي))رميهم الن))اس‬
‫بالبدع))ة‪ ..‬فراح))وا يش))ككون في ص))حة م))ا ذك))ره رس))ول هللا ‪ ‬نفس))ه‪ ..‬وك))أن وثاق))ة‬
‫المحدثين والرواة عندهم أعظم من وثاقة رسول هللا ‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك هذا النص الذي كتبه بعض المعاصرين‪ ،‬وتلقاه الكثير من‬
‫أبناء السنة المذهبية بترحيب كبير‪ ،‬يقول فيه‪( :‬ال يجب أن يك))ون اعتق)اده ‪ ‬في أم)ور‬
‫الدنيا مطابقا للواقع‪ ،‬بل قد يقع الخطأ في ذل))ك االعتق))اد قليال أو كث))يرا‪ ،‬ب))ل ق))د يص))يب‬
‫غيره حيث يخطئ هو ‪ ..‬وليس في ذلك حطّ من منصبه العظيم الذي أكرم))ه هللا ب))ه؛‬
‫ألن منص))ب النب))وة ُمنص))ب على العلم ب))األمور الديني))ة‪ :‬من االعتق))اد في هللا ومالئكت))ه‬
‫وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬ومن األمور الشرعية‪ .‬أما إن اعتقد دواء معين))ا يش))في من‬
‫مرض معين‪ ،‬فإذا هو ال يشفي منه‪ ،‬أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاري))ا أو ص))ناعيا ي))ؤدي‬
‫إلى هدف معين‪ ،‬فإذا هو ال يؤدي إليه‪ ،‬أو يؤدي إلى عكس))ه‪ ،‬أو أن ت))دبيرا عس))كريا أو‬
‫إداريا سينتج مصلحة معينة‪ ،‬أو يدفع ضررا معينا‪ ،‬فإذا هو ال يفعل‪ ،‬فإن ذل))ك االعتق))اد‬
‫ال دخل له بالنبوة‪ ،‬بل هو يعتقده من حيث هو إنسان‪ ،‬ل))ه تجارب))ه الشخص))ية‪ ،‬وتأثرات))ه‬
‫بما سبق من الحوادث‪ ،‬وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة‪ .‬فكل ذلك‬
‫يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البش))ر‪ ،‬ثم ق))د ينكش))ف الغط))اء ف))إذا األم))ر على‬
‫(‪)2‬‬
‫خالف ما ظن أو اعتقد)‬
‫وليت األمر اقتصر على هؤالء المعاصرين‪ ،‬بل تعداه إلى بعض السابقين ال))ذين‬
‫خيل لهم أن رسول هللا ‪ ‬قد يقول ما ال حقيقة واقعية له‪.‬‬
‫ومن أمثلة هؤالء ابن خلدون الذي تجرأ فقال‪( :‬الطب المنقول في الشرعيات من‬
‫هذا القبيل‪ ،‬وليس من الوحي في شيء‪ ،‬وإنما هو أمر كان عاديا ً للعرب‪ ،‬ووقع في ذكر‬
‫‪1‬‬
‫() رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر ملفا بعنوان [الطب النب)وي ‪ ..‬رؤى نقدي)ة أح)اديث “الطب النب)وي”‪ ..‬ه)ل يُحتج به)ا] على‬
‫إسالم أن الين وغيره من المواقع‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫أح))وال الن))بي ‪ ‬من ن))وع ذك))ر أحوال))ه ال))تي هي ع))ادة وجبل))ة‪ ،‬ال من جه))ة أن ذل))ك‬
‫مش))روع على ذل))ك النح))و من العم))ل‪ ،‬فإن))ه ‪ ‬إنم))ا بعث ليعلمن))ا الش))رائع‪ ،‬ولم يُبعث‬
‫لتعريف الطب وال غيره من العاديات‪ .‬وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وق))ع‪ ،‬فق))ال‪:‬‬
‫(أنتم أعلم ب)))أمور دني)))اكم‪)...‬؛ فال ينبغي أن يُحم)))ل ش)))يء من الطب ال)))ذي وق)))ع في‬
‫األحاديث المنقولة على أنه مشروع‪ ،‬فليس هناك م))ا ي))دل علي))ه‪ ،‬اللهم إذا اس))تعمل على‬
‫جهة التبرك وصدق القصد اإليماني‪ ،‬فيكون له أث))ر عظيم النف))ع‪ ،‬وليس ذل))ك في الطب‬
‫(‪)1‬‬
‫المزاجي)‬
‫ومثله قال القاضي عياض‪( :‬أما أحواله ‪ ‬في أم))ور ال))دنيا؛ فنحن نس))برها على‬
‫أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل؛ أما العقد منها‪ ،‬فقد يعتق))د في أم))ور ال))دنيا الش))يء‬
‫على وجه ويظهر خالفه‪ ،‬أو يكون منه على شك أو ظن بخالف أمور الشرع ‪ -‬ثم ذكر‬
‫حديث تأبير النخل ‪ -‬ثم قال‪ :‬وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا‬
‫وظنه من أحوالها ال ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها‪ ..‬فمث))ل‬
‫هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي ال م)دخل فيه)ا لعلم ديان)ة‪ ،‬وال اعتقاده)ا وال تعليمه)ا‪،‬‬
‫يجوز عليه فيها م)ا ذكرن)اه‪ ،‬إذ ليس في ه)ذا كل)ه نقيص)ة وال محط)ة‪ ،‬وإنم)ا هي أم)ور‬
‫اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها هم))ه وش))غل نفس))ه به))ا‪ ،‬والن))بي ‪ ‬مش))حون القلب‬
‫بمعرف))ة الربوبي))ة‪ ،‬مآلن الج))وانح بعل))وم الش))ريعة‪ ،‬مقي))د الب))ال بمص))الح األم))ة الديني))ة‬
‫(‪)2‬‬
‫والدنيوية)‬
‫ومن األمثل))ة على تل))ك الج))رأة على رس))ول هللا ‪ ‬م))ا كتب))ه بعض))هم ح))ول‬
‫النصوص الكثيرة التي يحث فيها رس))ول هللا ‪ ‬على اس)تعمال الس))واك‪ ،‬فق))د ق))ال بع))د‬
‫إيراده له))ا‪ ،‬واعتراف))ه بص))حتها‪( :‬إن ظ))اهر الح))ديث ه))و األم))ر بالس))واك‪ ،‬أم))ا مقص))د‬
‫الح))ديث فه))و نظاف))ة الفم‪ ،‬ولم))ا ك))ان الس))واك ه))و الوس))يلة المس))تخدمة في نظاف))ة الفم‬
‫واألسنان في ذلك الزم)ان ف))إن الرس))ول ‪ ‬أم)ر باس))تخدامه‪ ،‬ولكن الس))ؤال المط)روح‬
‫اآلن هو‪ :‬إذا ما توفرت وسيلة عصرية لنظاف)ة الفم واألس))نان أفض)ل من الس)واك أليس‬
‫من األفضل االستغناء بهذه الوسيلة عن الس))واك؟‪ .‬ولق))د ح))اول كث))ير من أدعي))اء الطب‬
‫النبوي إثبات أن السواك أفضل من معاجين األسنان والفرشاة‪ ،‬ولكن دون ج))دوى حيث‬
‫انصرف أغلب الناس إلى المعجون والفرشاة‪ ،‬ولما يئس أدعياء الطب النبوي من إقناع‬
‫الناس باألخذ بظاهر الحديث استحدثوا معاجين أسنان من خالصة السواك‪ .‬وحتى ه))ذه‬
‫أيض)ا‪ ،‬وبقيت الفرش))اة والمع))اجين التقليدي))ة أك))ثر فاعلي))ة‬
‫المعاجين لم يكتب لها النجاح ً‬
‫وأك))ثر انتش))ارًا في نظاف))ة الفم واألس))نان‪ ،‬باإلض))افة إلى أن الفرش))اة س))هلة التنظي))ف‬
‫والحفظ‪ ،‬كما أن المعاجين المطروحة لالستخدام تُصنع بطريقة علمية وصحية س))ليمة‪،‬‬
‫وتضاف إليها مواد لمقاومة التسوس ونخر األسنان‪ .‬ولقد ثبت أن االعتماد على السواك‬
‫دون الفرشاة والمعجون هو واحد من األسباب الرئيسية لتفشي ظاهرة تس))وس األس))نان‬
‫‪1‬‬
‫() المقدمة‪ :‬ص‪. 493‬‬
‫‪2‬‬
‫() الشفا بتعريف حقوق المصطفى‪.185 -183/ 2 :‬‬

‫‪58‬‬
‫في بعض المجتمعات اإلسالمية‪ ،‬كما أنه قد يكون وسيلة لنقل العدوى واألمراض حيث‬
‫يصعب تنظيفه وحفظه‪ .‬وإذا استحدثت مستقبالً طريقة لنظافة الفم واألس))نان أفض)ل من‬
‫(‪)1‬‬
‫الفرشاة والمعجون فال مانع من ترك الفرشاة والمعجون إلى هذه الطريقة)‬
‫وهذا كالم خطير‪ ،‬وناتج عن جهل ودع)وى أيض)ا‪ ..‬ألن رس)ول هللا ‪ ‬ك)ان في‬
‫إمكانه أن يأمر بتنظيف الفم من دون ذكر الوسيلة المرتبطة بذلك‪ ..‬وذكره للوسيلة‪ ،‬ب))ل‬
‫ربطها ببعض الشعائر التعبدية يدل على أن الوسيلة في ذاتها مطلوبة‪ ،‬وأن لها تأثيره))ا‬
‫الذي الشك فيه‪.‬‬
‫ونحن نوقن أن األمة لو التزمت بهذه السنة في ك))ل مح))ل‪ ،‬وبع))د ك))ل أك))ل‪ ،‬كم))ا‬
‫كان يفعل رسول هللا ‪ ‬لما احت))اجت إلى طب أس))نان‪ ..‬ول))ذلك ف))إن تل))ك ال))دعوى ب))أن‬
‫الذين التزموا بس))نة رس))ول هللا ‪ ‬في الس))واك لم تنفعهم تل))ك الس))نة ج))رأة كب))يرة على‬
‫رسول هللا ‪.‬‬
‫ومن األمثل))ة الخط))يرة على ه))ذه الظ))اهرة أيض))ا ـ ظ))اهرة الج))رأة على تك))ذيب‬
‫رسول هللا ‪ ‬ـ ذلك الحديث الذي يرويه أصحاب السنة المذهبية كثيرا‪ ،‬ويوردون))ه في‬
‫محال مخصوصة لالنتصار لبعض الصحابة أو الطلقاء على حس)اب مص))داقية رس))ول‬
‫هللا ‪.‬‬
‫وذلك الحديث هو ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من غ))ير وج))ه عن جماع))ة‬
‫من الصحابة‪.‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬اللهم إنما أن))ا بش))ر فأيم))ا عب))د س))ببته أو جلدت))ه أو‬
‫دعوت عليه وليس لذلك أهال فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)‬
‫وهذا الحديث الخطير يشوه رسول هللا ‪ ‬تشويها عظيما‪ ،‬فه))و يرس))مه بص))ورة‬
‫الظالم ال))ذي يس))ارع إلى س))ب الن))اس وجل))دهم وال))دعاء عليهم من غ))ير اس))تحقاق منهم‬
‫لذلك‪ ،‬ثم يعتذر ل))ذلك ب))أن ي))دعو لمن فع))ل بهم ذل))ك أن يتح))ول م))ا فعل))ه بهم من أن))واع‬
‫اإلهانات كفارة ورحمة‪.‬‬
‫وهذا يتنافى تماما مع تلك الصورة الجميلة التي صور القرآن الكريم بها رسول‬
‫هللا ‪ ،‬وصورته بها األحاديث الكثيرة‪.‬‬
‫والغ)رض من ك)ل ه)ذا التش)ويه ه)و تحوي)ل تل)ك ال)دعوات ال)تي دعي به)ا على‬
‫معاوية ومن هو من صنوه إلى رحمة وكفارة وقربة‪.‬‬
‫يقول ابن كثير في (البداية والنهاية) عند ترجمت))ه لمعاوي))ة بن أبي س))فيان‪( :‬وق))د‬
‫انتفع معاوية بهذه ال))دعوة في دني))اه وأخ))راه‪ ..‬أم))ا في دني))اه‪ :‬فإن))ه لم))ا ص))ار إلى الش))ام‬
‫أميرا‪ ،‬كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير‪ ،‬وبصل فيأك))ل منه))ا‪،‬‬
‫ويأكل في اليوم سبع أكالت بلحم‪ ،‬ومن الحلوى والفاكهة شيئا كث))يرا‪ ،‬ويق))ول ‪ :‬وهللا م))ا‬
‫أشبع وإنما أعيا‪ ،‬وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك‪ ..‬وأما في اآلخرة‪ :‬فق))د أتب))ع‬
‫مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماع))ة من‬

‫‪1‬‬
‫() انظ))ر مق))اال بعن))وان [الطب النب))وي ‪ ..‬رؤى نقدي))ة] على موق))ع إس))الم أون الين‪ ،‬م))ع العلم أن‬
‫الموقع تتبناه تيارات اإلسالم السياسي‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الصحابة‪.‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت‬
‫(‪)1‬‬
‫عليه وليس لذلك أهال فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة)‬
‫وقد أيده في قوله هذا النووي فقال‪( :‬وقد فهم مسلم رحمه هللا من هذا الح))ديث أن‬
‫معاوية لم يكن مستحقا للدعاء عليه‪ ،‬فلهذا أدخله في هذا الباب‪ ،‬وجعله غيره من مناقب‬
‫(‪)2‬‬
‫معاوية ألنه في الحقيقة يصير دعاء له)‬

‫‪1‬‬
‫() البداية والنهاية‪.128 /8 :‬‬
‫‪ )(2‬المنهاج‪.16/156 :‬‬

‫‪60‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والحكمة‬

‫من أبرز خصائص الرسل عليهم الصالة والسالم‪ ،‬وكل من يتولى الوس))اطة بين‬
‫هللا وعباده [الحكمة]‪ ،‬وهي تعني وضع األم))ور في مواض))عها الص))حيحة‪ :‬إم))ا بإرش))اد‬
‫مباشر من هللا تعالى ويسمى ذلك إلهاما ووحيا‪ ،‬وإما لذلك الصفاء والقدس))ية ال))تي تتس))م‬
‫بها روح المصطفى وقلبه ونفسه وكل لطائفه‪.‬‬
‫فلذلك تكون قدرات الرسول اإلدراكية أكبر بكثير من قدرات غ))يره من ال))ذين لم‬
‫يؤتوا مثلما أوتي من الصفاء والقدسية‪.‬‬
‫ذلك أن الذكاء والذاكرة وحدة الذهن ودقة المالحظة واستبص))ار الع))واقب وغ))ير‬
‫ذل))ك مم))ا تحت))اج إلي))ه الحكم))ة ال يك))ون الم))رئ إال بس))بب م))ا في قابليت))ه من الص))فاء‬
‫والطهارة والهمة‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا فإن كل م)ا ين)اقض ه))ذه الص))فات مس))تحيل على الرس)ل عليهم‬
‫الصالة والسالم‪ ..‬فيستحيل على الرسول أن يك))ون أبل)ه أو غبي))ا أو مغفال أو غ)ير ذل)ك‬
‫من النقائص التي يتبين من خاللها نقص جوهره‪ ،‬وضعف إدراكه‪.‬‬
‫واالس))تدالل العقلي على ه))ذا بس))يط ج))دا ‪ ..‬ذل))ك أن ال))ذي اس))تطاع أن يع))اين‬
‫الملك))وت لن يعج))ز عن معاين))ة المل))ك‪ ،‬ومن اس))تطاع أن يتواص))ل م))ع ع))الم الغيب لن‬
‫يعجز عن التواصل مع عالم شهاده‪.‬‬
‫أو بعبارة أخرى من استطاع أن تمتد عيناه لألفالك العليا‪ ،‬فيرى من أسرارها ما‬
‫ال يراه غيره لن يعجز أن يبصر ما هو أمامه‪.‬‬
‫أو بتقريب آخر للمعاصرين‪ :‬من اس))تطاع أن يح))ل أعق))د المس))ائل الرياض))ية لن‬
‫يعجز عن حل مسألة جمع أو طرح أو ضرب‪.‬‬
‫وما دل عليه العقل في حق هؤالء الكمل‪ ،‬دل عليه النقل كذلك‪.‬‬
‫فقد أخبر هللا تعالى عن الذكاء الذي آتاه لرسله عليهم الصالة والسالم‪:‬‬
‫ومن األمثل))ة على ذل))ك م))ا قص))ه علين))ا من قص))ة داود وس))ليمان وحكمهم))ا في‬
‫ث إِ ْذ نَفَ َش) ْ‬
‫ت فِي) ِه َغنَ ُم‬ ‫)ان فِي ْال َح))رْ ِ‬ ‫الحرث‪ ،‬كما ق))ال تع)الى‪َ ﴿ :‬ودَا ُوو َد َو ُس)لَ ْي َمانَ إِ ْذ يَحْ ُك َم ِ‬
‫ْالقَوْ ِم َو ُكنَّا لِ ُح ْك ِم ِه ْم َشا ِه ِدينَ (‪ )78‬فَفَهَّ ْمنَاهَا ُس)لَ ْي َمانَ َو ُكاًّل آتَ ْينَ)ا ُح ْك ًم)ا َو ِع ْل ًم)ا﴾ [األنبي)اء‪:‬‬
‫‪]79 ،78‬‬
‫وهكذا أخبر هللا تعالى عن جميع األنبياء عليهم الصالة والسالم أنهم أوت))وا علم))ا‬
‫وحكمة‪ ..‬ألنه ال يمكن للرسول أن يؤدي وظيفته الخطيرة وهو خال من العلم والحكمة‪.‬‬
‫بل أخ))بر هللا تع))الى أن الحكم))ة ليس))ت خاص))ة بالرس))ل عليهم الص))الة والس))الم‪،‬‬
‫حيث ذكر عن لقمان عليه السالم أنه كان حكيما‪ ،‬وأنه بسبب حكمته عرف كيف يوج))ه‬
‫ولده‪ ،‬وكيف يربيه‪ ،‬وكيف يعمق فيه المعاني اإليمانية‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهك)ذا أخ)بر أن)ه ﴿ ي ُْ)ؤتِي ْال ِح ْك َم) ةَ َم ْن يَ َش)ا ُء َو َم ْن يُ) ْ)ؤتَ ال ِح ْك َم) ةَ فَقَ) ْد أوتِ َي َخ ْي)رًا‬
‫ْ‬
‫َكثِيرًا﴾ [البقرة‪]269 :‬‬

‫‪61‬‬
‫ويس))تحيل أن ي))ؤتي هللا الحكم)ة ألف))راد خلق)ه ممن لم يكلف))وا بمث)ل تل))ك الوظيف)ة‬
‫العظيمة التي كلف بها رسول هللا ‪ ،‬ثم يحرم رسول هللا ‪ ‬منها‪.‬‬
‫ذلك أن سيادة رسول هللا ‪ ‬على بني آدم ـ كما ورد في الحديث ـ تقتضي تقدم))ه‬
‫عليهم في كل الفضائل‪ ..‬وأهم تلك الفضائل العلم والحكمة‪.‬‬
‫َ‬
‫ك ِم َّما أوْ َحى‬‫وقد أشار إلى الحكمة ال))تي أوتيه))ا رس))ول هللا ‪ ‬قول))ه تع))الى‪َ ﴿ :‬ذلِ) َ‬
‫ك ِمنَ ْال ِح ْك َم ِة ﴾ [اإلسراء‪]39 :‬‬ ‫إِلَ ْيكَ َربُّ َ‬
‫وهذا يدل على أن حكمة رسول هللا ‪ ‬ليست ذكاء مج))ردا‪ ،‬وال عبقري))ة بش))رية‬
‫محدودة‪ ،‬بل هي حكمة مسددة من المأل األعلى متواصلة تواصال دائما معها‪.‬‬
‫ولذلك يستحيل على من هذا حاله أن يحتاج إلى غيره في مشورة قبل العمل‪ ،‬وال‬
‫في تعقيب عليه وتصحيح له بعد العمل‪.‬‬
‫إن هللا ورس))وله لغني))ان عنه))ا‪،‬‬ ‫وقد أش))ار إلى ه))ذا قول))ه ‪ ‬عن الش))ورى‪( :‬أم))ا َّ‬
‫ولكن جعلها هللا تعالى رحمة ألم)تي‪ ،‬فمن استش))ار منهم لم يع)دم رش)داً‪ ،‬ومن تركه)ا لم‬
‫ً (‪)1‬‬
‫يعدم غيّا)‬
‫وهذا يصدق ما ورد في القرآن الكريم عندما أمر هللا تعالى رسوله ‪ ‬باستشارة‬
‫أصحابه‪ ،‬فقد جعلها من مقتضيات رحمته بهم‪ ،‬وتأليفه لقلوبهم‪ ،‬كم))ا ق))ال تع))الى‪﴿ :‬فَبِ َم))ا‬
‫ك فَ))اعْفُ َع ْنهُ ْم‬ ‫َرحْ َم) ٍة ِمنَ هَّللا ِ لِ ْنتَ لَهُ ْم َولَ))وْ ُك ْنتَ فَظًّ))ا َغلِي )ظَ ْالقَ ْل ِ‬
‫ب اَل ْنفَ ُّ‬
‫ض )وا ِم ْن َحوْ لِ ) َ‬
‫اورْ هُ ْم فِي اأْل َ ْم ِر﴾ [آل عمران‪]159 :‬‬ ‫َوا ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َو َش ِ‬
‫ومثل ذلك مثل األستاذ الذي يتيح لطلبته أن يدلوا بآراهم في مسألة من المس))ائل‪،‬‬
‫ثم يظه))ر عجب)ه من عبق)ريتهم وذك)ائهم‪ ،‬وإن ك))ان ه)و نفس)ه يعلم ب)ذلك مس)بقا‪ ..‬ولكن‬
‫رحمته بهم تجعله ينهج ذلك المنهج‪.‬‬
‫وقد ورد مثل هذا في شمائل رسول هللا ‪ ‬فقد وص))فه هن))د بن أبي هال))ة بقول))ه‪:‬‬
‫(يضحك مما يضحكون منه‪ ،‬ويعجب مما يعجبون من))ه‪ ،‬ويص))بر للغ))ريب على الجف))وة‬
‫(‪)2‬‬
‫في المنطق)‬
‫وقريب منه ما وصف به أنس رسول هللا ‪ ،‬فق))د ق))ال‪ ( :‬ك))ان إذا لقي))ه أح))د من‬
‫أصحابه فتناول أذنه‪ ،‬ناوله إياها‪ ،‬ثم لم ينزعه))ا ح))تى يك))ون الرج))ل ه))و ال))ذي ينزعه))ا‬
‫(‪)3‬‬
‫عنه)‬
‫وقريب من ذلك أيضا ما ورد النصوص في القرآن الك))ريم من عت))اب هللا تع))الى‬
‫لنبيه ‪ ،‬وهو عتاب المحب لمحبه‪ ،‬فعن))دما التأم))ل في موارده))ا نج))دها جميع))ا تنبعث‬
‫من رحمة رسول هللا ‪ ‬بمن يرى أنه أمر بأن يؤلف قلوبهم‪.‬‬
‫ولذلك فإن عتاب هللا لنبيه في تلك المواضع ليس عتابا حقيقيا‪ ،‬وإنما هو من باب‬
‫[إياك أعني واسمعي يا جارة]‬
‫‪1‬‬
‫() رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() شمائل الترمذي‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه ابن سعد‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫وكمثال تقريبي له أن يقول الولد لمعلم ابنه‪ :‬لم لم تعاقب))ه عن))دما أخط))أ‪ ..‬ولم لنت‬
‫له مع أنه كان في إمكانك أن تعاقب))ه؟ وه))و ال يقص))د ب))ذلك عت))اب المعلم‪ ،‬وإنم))ا يقص))د‬
‫توجيه اللوم البنه وتربيته من خالل ذلك‪.‬‬
‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وعلى مثل هذا يفسر قول))ه تع))الى‪﴿ :‬يَاأيُّهَ))ا النَّبِ ُّي لِ َم تُ َح))رِّ ُم َم))ا أ َح) َّل ُ لَ))كَ تَ ْبت َِغي‬
‫ضاتَ أَ ْز َوا ِجكَ َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم﴾ [التحريم‪ ،]1 :‬فقد كان ‪ ‬يشعر أن))ه م))أمور ب))أن‬ ‫َمرْ َ‬
‫يحسن لزوجاته‪ ،‬وأن يعطي المثل للمؤمنين في الرفق بهن مهما أسأن التص))رف مع))ه‪،‬‬
‫ولذلك كان يسعى في مرضاتهن‪ ،‬ال ألجلهن‪ ،‬وإنما ألجل تحقيق عبودية هللا في التعامل‬
‫معهن‪ ،‬ولهذا نبهه هللا‪ ،‬أو نبههن بطريق غير مباشر إلى أن يراعين حس))ن العش))رة م)ع‬
‫رسول هللا ‪ ..‬ولهذا جاء بعد تلك اآليات ذلك التهديد الشديد لنساء الن)بي ‪ ‬إن أس)أن‬
‫َت قُلُوبُ ُك َما َوإِ ْن تَظَاه ََرا َعلَ ْي ِه فَ )إِ َّن هَّللا َ‬ ‫صغ ْ‬ ‫العشرة معه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِ ْن تَتُوبَا إِلَى هَّللا ِ فَقَ ْد َ‬
‫َس)ى َربُّهُ إِ ْن‬ ‫)ؤ ِمنِينَ َو ْال َماَل ئِ َك) ةُ بَ ْع) َد َذلِ))كَ ظَ ِه))ي ٌر (‪ )4‬ع َ‬ ‫ص)الِ ُح ْال ُم) ْ‬ ‫هُ) َو َم))وْ اَل هُ َو ِجب ِْري) ُل َو َ‬
‫ت‬‫ت َس)ائِ َحا ٍ‬ ‫ت عَابِ)دَا ٍ‬ ‫ت قَانِتَ))ا ٍ‬
‫ت تَائِبَ))ا ٍ‬ ‫ت ُم ْؤ ِمنَا ٍ‬ ‫طَلَّقَ ُك َّن أَ ْن يُ ْب ِدلَهُ أَ ْز َواجًا َخ ْيرًا ِم ْن ُك َّن ُم ْسلِ َما ٍ‬
‫ت َوأَ ْب َكارًا (‪[ ﴾)5‬التحريم‪]5 ،4 :‬‬ ‫ثَيِّبَا ٍ‬
‫ك لِ َم أَ ِذ ْنتَ لَهُ ْم َحتَّى يَتَبَيَّنَ لَ) َ‬
‫ك‬ ‫ومث))ل ذل))ك م))ا ورد في قول))ه تع))الى‪َ ﴿ :‬عفَ))ا هَّللا ُ َع ْن) َ‬
‫ص َدقُوا َوتَ ْعلَ َم ْال َكا ِذبِينَ ﴾ [التوبة‪ ،]43 :‬فقد كان النبي ‪ ‬لصفاء روحه‪ ،‬ورحمته‬ ‫الَّ ِذينَ َ‬
‫ورأفته يقبل كل من اعتذر له حتى لو كان يعلم كذبه حرصا عليه ورحمة به‪ ،‬فنبه))ه هللا‬
‫أو نبههم إلى أن إذن رسول هللا ‪ ‬ال ينفع إال الصادقين‪.‬‬
‫ومثل هذا أيضا تلك الرحمة التي كان يبديها رسول هللا ‪ ‬مع المن))افقين‪ ،‬وال))تي‬
‫تصور البعض أنه كان مخطئا فيها حتى جاء من جاء ليصحح له خطأه‪.‬‬
‫ونفس األمر يقال في كل كل ما ورد في الروايات من استش))ارته ‪ ‬ألص))حابه‪،‬‬
‫فلم تكن عن نقص حكمة‪ ،‬وال عن حاجته لهم‪ ،‬وإنما كان تأليفا لقلوبهم وتربية لهم‪.‬‬
‫هذا ما يدل عليه العقل والنقل‪ ..‬لكن السنة المذهبية نظرت إلى ذلك نظرة أخ))رى‬
‫جردت فيها رسول هللا ‪ ‬من كل معاني الحكمة وال))ذكاء والبص))يرة‪ ،‬وجعلت))ه ع))اجزا‬
‫ينتظر ما يقرره أصحابه‪ ..‬بل أوقفته في بعض األحيان مواقف ضعف شديد لت))برز من‬
‫خالل تلك المواقف قدرة الصحابة وذكاءهم وحكمتهم وأن هللا اص))طفاهم لرس))وله وأن))ه‬
‫لوالهم لنزل به العذب‪ ،‬وألخرج من ديوان النبوة‪.‬‬
‫واألمثلة على ذلك أكثر من أن نحصيها في هذا المحل‪ ..‬لكن))ا س))نتكفي ببعض))ها‪،‬‬
‫ونحن نستغفر من تلك الجرأة على رسول هللا ‪.‬‬
‫وأولها ما سبق أن ذكرناه مما يس))مونه موافق))ات عم)ر‪ ،‬وال))تي ألفت فيه)ا الكتب‬
‫التي حاول أصحابها ـ من أجل إعطاء المزيد من القدسية للصحابة ـ أن يعت))بروا عم))ر‬
‫هو صاحب الفضل في تلك األحكام اإللهية‪ ..‬وهو ما يعطي بعد ذلك ذريعة لكل مش))كك‬
‫في أن يعتبر عمر ممن أسسوا هذا الدين‪ ،‬وممن وضعوا بعض األحكام المرتبطة به‪..‬‬
‫فمن تلك الموافقات‪ :‬الصالة عند مقام إب))راهيم‪ ،‬وال))تي ورد بش))أنها قول))ه تع))الى‪:‬‬
‫صًل)ًّّى ﴾( البقرة‪) 125 :‬‬ ‫وا ِمن َّمقَ ِام إِب َْرا ِهي َم ُم َ‬ ‫﴿ َواتَّ ِخ ُذ ْ‬
‫ومنها دعوته للحجاب‪ ،‬والذي نزل في شأنه قوله تعالى‪َ ﴿:‬وإِ َذا َس )أ َ ْلتُ ُموه َُّن َمتَاع )ا ً‬

‫‪63‬‬
‫ب ﴾ ( األحزاب‪) 53 :‬‬ ‫فَاسْأَلُوه َُّن ِمن َو َراء ِح َجا ٍ‬
‫ومنها قوله ألمهات المؤمنين‪َ ﴿ :‬ع َسى َربُّهُ إِن طَلَّقَ ُك َّن أَن يُ ْب ِدلَهُ أَ ْز َواجا ً َخيْراً ِّمن ُك َّن‬
‫ت ‪ ( ﴾....‬التحريم‪ ،) 5 :‬فنزلت كما قال‪.‬‬ ‫ُم ْسلِ َما ٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ومنها ما ورد في تحريم الخمر في عدة آيات‪ ،‬كقوله تعالى ﴿يَسْألونَكَ َع ِن ال َخ ْم) ِ‬
‫)ر‬
‫اس ﴾ ( اليق))رة‪ ،) 219 :‬وقول))ه تع))الى‪﴿ :‬يَ))ا أَيُّهَ))ا‬ ‫َو ْال َم ْي ِس ِر قُلْ فِي ِه َما إِ ْث ٌم َكبِ))ي ٌر َو َمنَ))افِ ُع لِلنَّ ِ‬
‫)وا َم))ا تَقُولُ))ونَ ﴾ ( النس))اء‪،) 43 :‬‬ ‫صالَةَ َوأَنتُ ْم ُس َكا َرى َحتَّ َى تَ ْعلَ ُم) ْ‬ ‫ُوا ال َّ‬ ‫وا الَ تَ ْق َرب ْ‬‫الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫نص)ابُ َواألَ ْزالَ ُم ِرجْ سٌ ِّم ْن‬ ‫وا إِنَّ َم))ا ْالخَ ْم) ُر َو ْال َمي ِْس) ُر َواألَ َ‬‫وقوله تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ان فَاجْ تَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْفلِحُونَ ﴾( المائدة‪) 90 :‬‬ ‫َع َم ِل ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ك ُ أحْ َس))نُ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫ومنه))ا م))ا ورد في س))ورة المؤمن))ون من قول))ه تع))الى‪ ﴿ :‬فَتَبَ َ‬
‫))ار َ‬
‫ْالخَالِقِينَ ﴾( المؤمنون‪) 14 :‬‬
‫ومنها الص))الة على المن))افقين عن))د م))وتهم في واقع))ة م)وت عب)د هللا ابن أبي ابن‬
‫)ر ِه﴾‬ ‫ص)لِّ َعلَى أَ َح) ٍد ِّم ْنهُم َّماتَ أَبَ))داً َوالَ تَقُ ْم َعلَ َى قَ ْب) ِ‬ ‫سلول ونزول قول هللا تع))الى‪َ ﴿ :‬والَ تُ َ‬
‫( التوبة‪) 84 :‬‬
‫ومنها اإلستغفار للمنافقين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬س َواء َعلَ ْي ِه ْم أَ ْس)تَ ْغفَرْ تَ لَهُ ْم أَ ْم لَ ْم ت َْس)تَ ْغفِرْ‬
‫لَهُ ْم لَن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَهُ ْم إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ ﴾( المنافقون‪) 6 :‬‬
‫﴿ولَوْ اَل إِ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ قُ ْلتُم َّما يَ ُك))ونُ لَنَ))ا أَن نَّتَ َكلَّ َم‬ ‫ومنها واقعة اإلفك في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫َان َع ِظي ٌم ﴾( النور‪) 16 :‬‬ ‫بِهَ َذا ُس ْب َحانَكَ هَ َذا بُ ْهت ٌ‬
‫الص)يَ ِام‬ ‫ُ‬
‫ومنها مسألة معاشرة الصائم لزوجته‪ ،‬وق))ول هللا تع))الى‪﴿ :‬أ ِح) َّل لَ ُك ْم لَ ْيلَ)ةَ ِّ‬
‫ث إِلَى نِ َسآئِ ُك ْم ‪ ( ﴾ ....‬البقرة‪) 187 :‬‬ ‫ال َّرفَ ُ‬
‫)ل‬‫ومنها واقعة اليهود وعداوة جبريل وقول هللا تعالى‪﴿ :‬قُلْ َمن َك))انَ َع) ُد ّواً لِّ ِجب ِْري) َ‬
‫)ؤ ِمنِينَ ﴾( البق))رة‪:‬‬ ‫صدِّقا ً لِّ َما بَ ْينَ يَ َد ْي) ِه َوهُ)دًى َوب ُْش) َرى لِ ْل ُم) ْ‬‫ك بِإِ ْذ ِن هّللا ِ ُم َ‬ ‫فَإِنَّهُ نَ َّزلَهُ َعلَى قَ ْلبِ َ‬
‫‪) 97‬‬
‫ك الَ‬ ‫ومنها واقعة قتل عمر لمن رفض حكم رسول هللا حيث قال تعالى‪﴿ :‬فَالَ َو َربِّ َ‬
‫ض )يْتَ‬ ‫ُوا فِي أَنفُ ِس ) ِه ْم َح َرج )ا ً ِّم َّما قَ َ‬ ‫ي ُْؤ ِمنُ))ونَ َحتَّ َى ي َُح ِّك ُم))وكَ فِي َم))ا َش ) َج َر بَ ْينَهُ ْم ثُ َّم الَ يَ ِج) د ْ‬
‫وا تَ ْسلِيما ً ﴾( النساء‪) 65 :‬‬ ‫َويُ َسلِّ ُم ْ‬
‫ومنها واقعة اإلستئذان في الدخول وقول هللا تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل تَ ْد ُخلُوا‬
‫)ر بُيُ))وتِ ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْنِ ُس)وا َوتُ َس)لِّ ُموا َعلَى أَ ْهلِهَ))ا َذلِ ُك ْم خَ ْي) ٌر لَّ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ) َذ َّكرُونَ ﴾‬ ‫بُيُوتا ً َغ ْي) َ‬
‫( النور‪،) 27 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ومنها حكمه في أسارى بدر‪ ،‬فنزلت كما ذكر‪َ ﴿:‬ما كانَ لِنَبِ ٍّي أن يَك))ونَ ل )هُ أ ْس ) َرى‬
‫ض ‪ ( ﴾ ...‬األنفال‪) 67 :‬‬ ‫َحتَّى ي ُْث ِخنَ فِي األَرْ ِ‬
‫وفي هذا المقام يذكر الخطب))اء والوع))اظ كث))يرا‪ ،‬وببعض التب))اهي أن رس))ول هللا‬
‫ض﴾‬ ‫حتَّ‪)1‬ى ي ُْث ِخنَ فِي األَرْ ِ‬ ‫(‬
‫‪ ‬حين نزلت هذه اآلي))ة ‪َ ﴿:‬م))ا َك))انَ لِنَبِ ٍّي أَن يَ ُك))ونَ لَ)هُ أَ ْس) َرى َ‬
‫( األنفال‪ )67 :‬قال‪( :‬لو نزلت نار من السماء ألحرقتنا إال عمر)‬

‫‪1‬‬
‫() ذكر القصة الطبري وابن كثير والقرطبي وابن العربي والماوردي وغيرهم‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫وكع))ادة الخطب))اء ف))إنهم يمطط))ون ه))ذه القص))ة‪ ،‬ويض))يفون إليه))ا بعض التواب))ل‬
‫ليخرج الناس منبهرين بعبقرية عمر وذكائه وحكمته‪ ،‬وينس))وا أنهم خرج))وا أيض))ا وق))د‬
‫بن))وا ك))ل ذل))ك البني))ان على حس))اب تق))ديرهم لرس))ول هللا ‪ ..‬ولكن أص))حاب الس))نة‬
‫المذهبية ال يهمهم رسول هللا ‪ ‬بقدر ما يهمهم عمر‪.‬‬
‫ونحن ال يهمنا أن يق))دروا عم))ر أو غ)يره من الص))حابة أو الت))ابعين أو ت))ابعيهم‪..‬‬
‫ولكن ال على حساب رسول هللا ‪ ..‬فنحن مأمورون بالتأسي برسول هللا ‪ ‬وتعظيمه‬
‫وتعزيرة وتوقيره‪ ..‬ولسنا مأمورين بفعل ذلك مع غيره‪.‬‬
‫ومن األمثل))ة على ه))ذا‪ ،‬والمرتبط))ة ك))ذلك بعم))ر م))ا وق))ع فيم))ا اص))طلح علي))ه‬
‫المح))دثون برزي))ة الخميس‪ ،‬وهي حادث))ة خط))يرة‪ ،‬جعلت ابن عب))اس ـ كم))ا ورد في‬
‫الحديث الصحيح ـ كلما ذكرها يشعر باأللم والحزن‪ ،‬ويق))ول‪( :‬ي))وم الخميس‪ ،‬وم))ا ي))وم‬
‫الخميس؟)‪ ،‬ثم يبكى حتى يبل دمعه الحصى(‪.)1‬‬
‫وسنورد الرواية هنا‪ ،‬ثم نبين مواقف أهل الس))نة المذهبي))ة منه))ا‪ ،‬والرواي))ة هي ـ‬
‫حسب ما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس ـ قال‪( :‬لم))ا حض))ر رس))ول هللا‪ ،‬وفي‬
‫ال))بيت رج))ال منهم عم))ر بن الخط))اب‪ ،‬ق))ال الن))بي ‪( :‬هلم أكتب لكم كتاب)ا ً ال تض))لوا‬
‫بعده)‪ ،‬فقال عمر‪( :‬إن النبي ‪ ‬قد غلب علي))ه الوج))ع‪ ،‬وعن))دكم الق))رآن‪ ،‬حس))بنا كت))اب‬
‫هللا)‪ ،‬فاختلف أهل البيت فاختصموا‪ ،‬منهم من يقول‪ :‬قربوا يكتب لكم النبي ‪ ‬كتابا ً لن‬
‫تضلوا بعده‪ ،‬ومنهم من يقول ما قال عم))ر‪ ،‬فلم))ا أك))ثروا اللغ))و‪ ،‬واالختالف عن))د الن))بي‬
‫‪ ،‬قال رسول هللا ‪( :‬قوموا)‪ ،‬قال عبيد هللا‪( :‬راوي الح))ديث عن ابن عب))اس‪ ،‬وه))و‬
‫ابنه)‪ :‬فكان ابن عباس يقول‪( :‬إن الرزية كل الرزية‪ ،‬م)ا ح)ال بين رس)ول هللا ‪ ‬وبين‬
‫(‪)2‬‬
‫أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختالفهم‪ ،‬ولغطهم)‬
‫بعد إيرادنا لهذ الح))ديث الخط))ير ال يعنين))ا هن))ا البحث عمن رمى رس))ول هللا ‪‬‬
‫بالهجر الذي يعني الخرف والهذيان وعدم العقل‪..‬‬
‫وال يعنينا كذلك البحث عن الوصية التي كان رسول هللا ‪ ‬يود أن يبلغها أمت))ه‪،‬‬
‫ألن ذلك في كل األح))وال يبقى غيب)ا مخزون)ا نتأس))ف علي)ه ونح)زن حزن)ا ش))ديدا‪ ،‬ألن‬
‫رسول هللا ‪ ‬أخبر أنهم لو طبقوا ما في ذلك الكتاب لم يضلوا أبدا‪..‬‬
‫وال يعنينا تلك المقولة الخطيرة (حسبنا كتاب هللا)‪ ،‬والتي تعني االكتف))اء بالكت))اب‬
‫عن السنة‪ ،‬وهو ما أشار إليه ‪ ‬في قول))ه‪ ( :‬يوش))ك الرج))ل متكئ))ا في أريكت))ه‪ ،‬يح))دث‬
‫بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب هللا‪ ،‬فما وجدنا فيه من حالل استحللناه‪ ،‬وم))ا‬
‫(‪)3‬‬
‫وجدنا فيه من حرام حرمناه‪ ،‬أال وإن ما حرم رسول هللا مثل ما حرم هللا)‬
‫وإنما الذي يعنينا هنا هو ذلك الموقف المخجل من شراح الحديث‪ ،‬والذين راحوا‬
‫من أجل تبرئة ساحة من حال بين رسول هللا ‪ ‬وبين كتابة وصيته األخ))يرة‪ ،‬يتهم))ون‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة ‪...‬‬

‫‪65‬‬
‫رسول هللا ‪ ‬بأنه لم يكن أهال في ذلك الحين إلمالء الوصية‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك ما قاله المازري عن هذه الحادثةـ فقد ق))ال‪( :‬إنم))ا ج))از للص))حابة‬
‫االختالف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك‪ ،‬ألن األوامر ق))د يقارنه))ا م))ا ينقله))ا‬
‫من الوجوب‪ ،‬فكأن))ه ظه))رت من))ه أي من كالم الرس))ول ‪ ‬قرين))ة دلت على أن األم))ر‬
‫ليس على التحتم‪ ،‬بل على االختيار‪ ،‬فاختلف اجتهادهم‪ ،‬و صمم عمر على االمتناع لم))ا‬
‫قام عنده من الق))رائن بأن)ه ‪ ‬ق))ال ذل))ك عن غ))ير قص)د ج)ازم‪ ،‬و عزم)ه ‪ ‬ك)ان إم))ا‬
‫ب))الوحي وإم))ا باالجته))اد‪ ،‬و ك))ذلك ترك))ه إن ك))ان ب))الوحي فب))الوحي وإال فباالجته))اد‬
‫(‪)1‬‬
‫أيضا ً ‪)..‬‬
‫وما قاله عجيب جدا‪ ،‬فكيف يقال ألمر رسول هللا ‪ ‬أنه لم يكن على سبيل الحتم‬
‫والل))زوم‪ ،‬وق)د ورد في الق)رآن الك)ريم التش)ديد على إجاب)ة رس))ول هللا ‪ ‬مطلق)ا‪ ،‬ق)ال‬
‫ُول إِ َذا َدعَا ُك ْم لِ َم))ا يُحْ يِي ُك ْم﴾ [األنف))ال‪،]24 :‬‬‫تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ا ْست َِجيبُوا هَّلِل ِ َولِل َّرس ِ‬
‫ص)يبَ َّن‬‫بل حذر بعدها من الفتنة التي قد تنجر من عدم إجابت))ه‪ ،‬فق))ال‪َ ﴿ :‬واتَّقُ))وا فِ ْتنَ)ةً اَل تُ ِ‬
‫ب ﴾ [األنفال‪]25 :‬‬ ‫صةً َوا ْعلَ ُموا أَ َّن هَّللا َ َش ِدي ُد ْال ِعقَا ِ‬
‫الَّ ِذينَ ظَلَ ُموا ِم ْن ُك ْم خَ ا َّ‬
‫ثم كيف يقال بأن ذلك األمر لم يكن على سبيل الحتم واللزوم‪ ،‬وقد ق))ال ‪ ‬مبين))ا‬
‫أهميته وخطره‪( :‬هلم أكتب لكم كتاب)ا ً ال تض)لوا بع)ده)‪ ،‬فه)ل هن)اك ش))يء أهم من ع)دم‬
‫الضالل‪ ..‬بل عدم الضالل األبدي‪.‬‬
‫لكن غلبة المعايير التي وضعها أهل الس))نة المذهبي))ة تعمي وتص))م‪ ،‬ألنه))ا تجع))ل‬
‫صاحبها يؤول كل شيء في سبيل تلك المعايير التي يقدسها أكثر مما يقدس رسوله‪.‬‬
‫وقريب مما ذكره المازري ما ذكره البيهقي في (دالئل النبوة) عندما ق))ال‪( :‬إنم))ا‬
‫قصد عمر التخفيف على رسول هللا ‪ ‬حين غلبه الوجع‪ ،‬ولو كان م))راده ‪ ‬أن يكتب‬
‫ُ‬
‫ك﴾‬ ‫ما ال يس)تغنون عن)ه لم يترك)ه الختالفهم وال لغ)يره لقول))ه تع)الى ﴿ بَلِّ ْغ َم)ا أ ْن ِ‬
‫)ز َل إِلَيْ) َ‬
‫[المائدة‪ ]67 :‬كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه و معاداة من عاداه‪ ،‬و كم))ا‬
‫أم))ر في ذل))ك الح))ال ب))إخراج اليه))ود من جزي))رة الع))رب و غ))ير ذل))ك مم))ا ذك))ره في‬
‫(‪)2‬‬
‫الحديث)‬
‫وما ذكره البيهقي ال يقل غرابة عما ذكره المازري‪ ،‬ألنه يتنافى م))ع م))ا ورد في‬
‫الحديث من االهتمام بالوصية‪ ،‬أما ترك رسول هللا ‪ ‬للكتابة‪ ،‬فليس تقص))يرا من))ه ‪،‬‬
‫وإنما يفسر األمر فيها كما يفسر سكوته عن تحديد ليلة القدر بعدما حصل التنازع‪.‬‬
‫ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال‪ :‬خ))رج الن))بي ‪ ‬ليخبرن))ا ليل))ة‬
‫القدر فتالحى ( أي تخاصم وتنازع ) رجالن من المس))لمين‪ ،‬فق))ال‪( :‬خ))رجت ألخ))بركم‬
‫بليلة الق))در‪ ،‬فتالحى فالن وفالن ف)رُفعت‪ ،‬وعس))ى أن يك))ون خ))يراً لكم‪ ،‬فالتمس))وها في‬
‫(‪)3‬‬
‫التاسعة والسابعة والخامسة)‬
‫‪1‬‬
‫() كما نقله الحافظ في الفتح (‪.)7/740‬‬
‫‪2‬‬
‫() نقله عنه النووي في شرح مسلم (‪.)11/132‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وهكذا كان التنازع سببا في الحرمان من تحديد ليلة القدر ‪ ..‬ألنها نعم))ة ك))برى‪..‬‬
‫فلما لم يقدروها حق ق))درها حرم)وا من ذل)ك‪ ..‬وهك)ذا ك)ان حرم)انهم من تل)ك الوص)ية‬
‫العظيمة بسبب التنازع‪ ..‬ألنه حصل له علم ‪ ‬بأن هؤالء الذين اج))ترأوا على التن))ازع‬
‫بين يديه لن يصعب عليهم أن يمزقوا وصيته أو يؤولوها أو يفعلوا بها أي شيء‪.‬‬
‫وال يقل عما ذكره المازري والبيهقي من التأوي))ل م))ا ذك))ره القرط))بي حين ق))ال‪:‬‬
‫(ائتوني أمر‪ ،‬و كان حق المأمور أن يبادر لالمتثال‪ ،‬لكن ظهر لعمر رضي هللا عنه مع‬
‫طائفة أنه ليس على الوجوب‪ ،‬و أنه من باب اإلرشاد لألص))لح‪ ،‬فكره))وا أن يكلف))وه من‬
‫ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم لقوله تع))الى ﴿ م))ا فرطن))ا في الكت))اب‬
‫من شيء ﴾ و قوله تعالى ﴿ تبيانا ً لكل شيء ﴾ و لهذا قال عمر‪ :‬حسبنا كتاب هللا‪ ،‬و ظهر‬
‫لطائفة أخرى أن األولى أن يكتب لم))ا في))ه من زي))ادة اإليض))اح‪ ،‬و دل أم))ره لهم بالقي))ام‬
‫على أن أمره األول ك))ان على االختي))ار‪ ،‬و له))ذا ع))اش ‪ ‬بع))د ذل))ك أيام)ا ً و لم يع))اود‬
‫أمرهم بذلك‪ ،‬و ل)و ك)ان واجب)ا ً لم يترك)ه الختالفهم‪ ،‬ألن))ه لم ي))ترك التبلي))غ لمخالف))ة من‬
‫خالف‪ ،‬و قد كان الصحابة يراجعونه في بعض األم))ور م))ا لم يج))زم ب))األمر ف))إذا ع))زم‬
‫(‪)1‬‬
‫امتثلوا)‬
‫أما النووي فقد نقل إجماع الشراح على أن الحكم))ة ك))انت م))ع عم))ر وغ))يره من‬
‫الصحابة الذين منعوا النبي ‪ ‬من الكتابة‪ ،‬فقال‪( :‬أما كالم عم))ر رض))ي هللا عن))ه فق))د‬
‫اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دالئل فقه عمر و فضائله و دقيق‬
‫نظره‪ ،‬ألنه خشي أن يكتب ‪ ‬أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليه))ا ألنه))ا‬
‫منصوصة ال محالة لالجتهاد فيها‪ ،‬فقال عمر‪ :‬حسبنا كتاب هللا لقوله تعالى ﴿ م))ا فرطن))ا‬
‫في الكتاب من شيء ﴾ وقوله تعالى ﴿ الي))وم أكملت لكم دينكم ﴾ فعلم أن هللا تع))الى أكم))ل‬
‫دينه فأمن الضاللة على األمة وأراد الترفي)ه على رس))ول هللا ‪ ،‬فك)ان عم))ر أفق)ه من‬
‫(‪)2‬‬
‫ابن عباس و موافقيه)‬
‫أما شيخ اإلسالم البشري‪ ،‬وإماما السنة المذهبية ابن تيمية‪ ،‬فقد اس))تطاع بذكائ))ه‬
‫الالمحدود‪ ،‬وبحكمته الالنهائية أن يكتشف ما في ذلك الكتاب ال))ذي لم يمل))ه ‪ ،‬فق))ال ـ‬
‫بك))ل ج))رأة ـ‪( :‬ال))ذي وق))ع في مرض))ه ك))ان من أه))ون األش))ياء وأبينه))ا‪ ،‬وق))د ثبت في‬
‫الصحيح أنّه قال لعائشة في مرضه‪( :‬ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب ألبي بكر كتاب))ا ً‬
‫ال يختلف عليه الناس من بعدي)‪ ،‬ثم قال‪ :‬يأبى هللا والمؤمنون إاّل أبا بكر‪ ،‬فل ّما كان يوم‬
‫الخميس ه َّم أن يكتب كتابا ً فقال عمر‪ :‬ماله أهجر؟ ف ّشك عمر هل ه))ذا الق))ول من هج))ر‬
‫الحمى؟ أو هو م ّما يقول على عادته؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى‪ ،‬فكان ه))ذا‬
‫م ّما خفى على عمر‪ ،‬كما خفى عليه موت النبي ‪ ‬ب))ل أنك))ره‪ ،‬ث ّم ق))ال بعض))هم‪ :‬ه))اتوا‬
‫أن الكت))اب في ه))ذا ال))وقت لم يب))ق‬ ‫كتاباً‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ال تأتوا بكتاب‪ ،‬فرأى النبي ‪ّ ‬‬
‫فيه فائدة ؛ ألنّهم يشكون هل أماله مع تغيره بالمرض أم مع سالمته من ذلك‪ ،‬فال يرف))ع‬
‫‪1‬‬
‫() نقله ابن حجر في الفتح ‪.)1/252‬‬
‫‪2‬‬
‫() النووي في شرح مسلم ( ‪.)11/132‬‬

‫‪67‬‬
‫النزاع‪ ،‬فتركه‪ ،‬ولم تكن كتابة الكتاب م ّم))ا أوجب))ه هللا علي))ه أن يكتب))ه أو يبلغ))ه في ذل))ك‬
‫الوقت ؛ إذ لو كان كذلك لما ترك ‪ ‬ما أمره هللا ب))ه‪ ،‬لكن ذل))ك م ّم))ا رآه مص))لحة ل))دفع‬
‫النزاع في خالفة أبي بكر‪ ،‬ورأى أن الخالف ال ب ّد أن يقع‪ ،‬وق))د س))أل ربّ))ه أل ّمت)ه ثالث)ا ً‬
‫فأعطاه اثنتين‪ ،‬ومنعه واحدة‪ ،‬سأله أن ال يهلكهم بسنة عامة‪ ،‬فأعطاه إياها‪ ،‬وسأله أن ال‬
‫يسلط عليهم عدواً من غيرهم‪ ،‬فأعط))اه إياه))ا‪ ،‬وس))أله أن ال يجع))ل بأس))هم بينهم‪ ،‬فمنع))ه‬
‫(‪)1‬‬
‫إياها‪ ،‬وهذا ثبت في الصحيح)‬
‫ثم قال معقبا على قول ابن ابن عباس‪( :‬الرزية ك ّل الرزي))ة م))ا ح))ال بين رس))ول‬
‫ق الذين ش))كوا في خالف))ة‬ ‫هللا ‪ ‬وبين أن يكتب الكتاب)‪( :‬فإنّها رزية أي مصيبة في ح ّ‬
‫أبي بكر رضي هللا عنه‪ ،‬وطعنوا فيها‪ ،‬وابن عباس قال ذلك ل ّما ظهر أه))ل األه))واء من‬
‫الخوارج والروافض ونحوهم‪ ،‬وإاّل فابن عب))اس ك))ان يف))تي بم))ا في كت))اب هللا‪ ،‬ف))إن فلم‬
‫يجد في كتاب هللا فبما في سنّة رسول هللا‪ ،‬فإن لم يجد في سنّة رسول هللا ‪ ‬فبم))ا أف))تى‬
‫إن النبي ‪ ‬ت))رك كتاب))ة الكت))اب باختي))اره‪ ،‬فلم يكن في ذل))ك ن))زاع‪،‬‬ ‫أبو بكر وعمر‪ ،‬ث ّم ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫ولو استّمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه)‬
‫هذا هو موقف أهل السنة المذهبية من كتاب))ة رس))ول هللا ‪ ‬لوص))يته في م))رض‬
‫موته‪ ،‬ولكن موقفهم يختلف تماما مع أص))حابه ال))ذين أحل))وهم من المنزل))ة م))ا لم يحل))وا‬
‫رسول هللا ‪ ..‬بل أجازوا لهم ما لم يجيزوا له‪..‬‬
‫ولهذا نرى أهل هذه السنة ي))ذكرون بإعج))اب موق))ف أبي بك))ر في م))رض موت))ه‬
‫عند وصيته لعمر‪ ،‬ويعتبرون ذلك من حرص أبي بك))ر على األم))ة من بع))ده‪ ،‬ورحمت))ه‬
‫بها‪ ،‬مع أن الحالة ال))تي أملى فيه))ا أب))و بك))ر وص))يته أخط))ر من الحال))ة ال))تي ك))ان فيه))ا‬
‫رسول هللا ‪.‬‬
‫فقد روى الط))بري في تاريخ))ه‪ ،‬وابن عس))اكر في ت))اريخ دمش))ق‪ ،‬وابن س))عد في‬
‫الطبقات‪ ،‬وابن حبّان في الثقات‪( :‬دع))ا أب))و بك))ر عثم))ان خالي)ا ً فق))ال ل))ه‪ :‬أكتب بس))م هللا‬
‫الرحمن الرحيم هذا ما عه))د أب))و بك))ر بن أبي قحاف))ة إلى المس))لمين‪ :‬أ ّم))ا بع))د‪ ..‬ق))ال‪ :‬ث ّم‬
‫أغمي علي)ه‪ ،‬ف))ذهب عن)ه‪ ،‬فكتب عثم)ان‪ :‬أ ّم))ا بع)د‪ :‬ف))إنّي ق)د اس)تخلفت عليكم عم)ر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬ولم آلكم خيراً منه‪ .‬ث ّم أفاق أبو بكر فقال‪ :‬أقرأ عل )ًًََّي‪ .‬فقرأ عليه‪ ،‬فكبّر أبو بك))ر‬
‫وقال‪ :‬أراك خفت أن يختلف الناس إن أفتتلت نفسي في غشيتي! قال‪ :‬نعم! قال‪ :‬ج))زاك‬
‫(‪)3‬‬
‫هللا خيراً عن اإلسالم وأهله‪ .‬وأقرها أبو بكر رضي هللا عنه من هذا الموضع)‬
‫وهكذا نجدهم يروون عن أم المؤمنين عائشة قولها مخاطبه عبدهللا بن عمر‪( :‬ي))ا‬
‫بني أبلغ عمر سالمي وقل له‪ :‬ال تدع أمة محمد بال راع ‪ ،‬استخلف‌ عليهم ‪ ،‬وال ت))دعهم‬

‫‪1‬‬
‫() منهاج السنة (‪.)318-6/315‬‬
‫‪2‬‬
‫() منهاج السنة (‪.)318-6/315‬‬
‫‪3‬‬
‫() تاريخ الطبري ‪ .618 ):2‬تاريخ مدينة دمشق ‪ .411 ):3‬الطبق))ات الك))برى ‪ .200 ):3‬الثق))ات ‪:2‬‬
‫‪..192‬‬

‫‪68‬‬
‫بعدك همالً ‪ ،‬فإني أخشى عليهم الفتنة)‬
‫(‪)4‬‬

‫‪4‬‬
‫() ا ِالمامة والسياسة‪..28 | 1 :‬‬

‫‪69‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والشياطين‬

‫مع أن في القرآن الكريم الكثير من اآليات التي تبين ضعف الش))يطان أم))ام عب))اد‬
‫هللا المخلصين سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء‪ ،‬مع ذكر النماذج التطبيقية على ذل))ك إال‬
‫أننا نجد في تراثنا الحديثي‪ ،‬وم))ا تبع))ه من الفهم الس))لفي ص))ورة لرس))ول هللا ‪ ،‬وه))و‬
‫يقف ضعيفا أمام الشيطان‪ ،‬حتى أنه يتسلط عليه في أخط))ر م))ا ن))دب إلي)ه‪ ،‬وه))و تبليغ))ه‬
‫للقرآن الكريم‪.‬‬
‫ب))ل نج))د الش))يطان ال))رجيم يف))ر من أص))حابه‪ ،‬ويخ))اف منهم‪ ،‬ويس))لك خالف‬
‫مسالكهم‪ ،‬بينما ال يستشعر أي خوف منه ‪ ..‬مع أن الش))يطان ال يعظم خوف))ه إال ممن‬
‫قويت صلتهم باهلل‪ ،‬وعظم قربهم منه‪ ،‬وكثر ذكرهم له‪.‬‬
‫بل إنهم يصورون أن رسول هللا ‪ ‬كان من الضعف أم))ام الش))يطان بحيث ك))ان‬
‫كل حين يحتاج إلى عملية جراحية خاصة لتخرج منه الش))ريحة ال))تي يتص))ل الش))يطان‬
‫من خاللها بقلبه‪.‬‬
‫بل إنهم يصورون أن الشيطان يتسلط على رسول هللا ‪ ‬كل حين‪ ،‬فيسب ويشتم‬
‫ويلعن من ال يس)تحق الس))ب وال الش)تم وال اللعن‪ ..‬ول))ذلك وج))د مخرج)ا أو حيل))ة ل)ذلك‬
‫بتحويل كل سبابه ولعناته وشتائمه إلى رحمة إلهية‪.‬‬
‫هذا الكالم الخطير الذي نقوله ليس دعاوى‪ ..‬وال مجرد اتهام))ات ال أس))اس له))ا‪..‬‬
‫وإنما هو ولألسف الشديد ـ مما يمتلئ به تراثنا الحديثي‪ ،‬بل أصبح إنكاره أو نقده نوع))ا‬
‫من البدعة ‪ ..‬بل يهدد منكره من الطرد من الفرقة الناجية‪ ،‬ومن السنة والجماعة‪..‬‬
‫وإلثبات ذلك نبدأ بعالقة الشيطان برس))ول هللا ‪ ‬في أوائ))ل حيات))ه قب))ل النب))وة‪..‬‬
‫والتي اتفق الجميع ـ حتى المش)ركون أنفس)هم ـ أنه)ا ك)انت ممتلئ)ة بالص)دق والطه)ارة‬
‫وحسن الخلق‪ ..‬ولكن الفرق بين تفسير قومه ‪ ‬لذلك وتفسير أهل السنة المذهبية ل))ذلك‬
‫مختلف تماما‪.‬‬
‫أما تفس))ير قوم))ه ل))ذلك‪ ،‬وه))و تفس))ير ب))ديهي عقلي منطقي‪ ،‬فه))و أن))ه ‪ ‬بطبع))ه‬
‫وجبلته كان كذلك‪ ..‬ولذلك آمن الصادقون من قومه بمجرد إخباره ‪ ‬بنبوته‪ ،‬ألن ك))ل‬
‫ما فيه يدل عليه‪..‬‬
‫والعقل يؤيد هذا‪ ،‬ألن هللا سبحانه وتعالى صاحب العدالة المطلقة ال يحابي أحدا‪،‬‬
‫وال يجامل أح))دا‪ ،‬وال يعطي أح))دا م))ا ال يس))تحق‪ ،‬كم))ا ق))ال تع))الى‪ :‬هللا ﴿ هَّللا ُ أَ ْعلَ ُم َحي ُ‬
‫ْث‬
‫يَجْ َع ُل ِر َسالَتَهُ﴾ [األنعام‪]124 :‬‬
‫لكن التفسير المذهبي لذلك يختلف تماما‪ ،‬فقد تص))وروا أن رس))ول هللا ‪ ‬لم يكن‬
‫كذلك بطبعه‪ ،‬وال بقدرته على مواجهة تلك البيئة الممتلئة باالنحراف))ات‪ ،‬وإنم))ا واجهه))ا‬
‫ألن هللا تعالى خصه من دون الناس بأن نزع حظ الشيطان منه‪ ،‬أو بتعبيرنا المعاص))ر‪:‬‬
‫نزع الشريحة التي يقوم الشيطان من خاللها بالتواصل معه‪.‬‬
‫ولسنا ندري كيف نثبت لرسول هللا ‪ ‬كل تلك الكماالت‪ ،‬ونحن نقول به))ذا‪ ،‬ألن‬

‫‪70‬‬
‫القول بهذا وحده كاف إلخراج رس))ول هللا ‪ ‬من مض))مار الس))باق ال))ذي جعل)ه هللا بين‬
‫عباده ليرى أحسنهم عمال‪ ..‬ألن رسول هللا ‪ ‬بهذا االعتبار يشبه ذل)ك الع)داء الكس)ول‬
‫المحتال الذي يتحدى غيره أن يلحقوا به وهو يستعمل المنشطات‪..‬‬
‫ثم بعد القول بهذا كيف يأمرنا هللا تعالى باتخاذه أسوة‪ ،‬ألن أي شخص من الناس‬
‫يمكنه أن يقول‪ :‬يا رب‪ ..‬كيف تأمرنا باالقتداء برجل ق)د أج))ريب ل)ه عملي)ة ن))زعت من‬
‫الشيطان القدرة على التأثير فيه‪ ،‬بينما لم تجر لنا نفس العملية‪ ..‬فكيف يمكنن))ا أن نتأس)ى‬
‫برجل أوتي ما لم نؤت؟‬
‫وقبل أن نناقش هذا نورد الروايات الواردة‪ ،‬وموقف أهل الس))نة المذهبي))ة منه))ا‪،‬‬
‫ثم نبين مدى مطابقتها للقرآن الكريم وللسنة النبوية المطهرة‪.‬‬
‫فمن الرواي)))ات ال)))واردة في ه)))ذا عن أنس أن رس)))ول هللا ‪ ‬ك)))ان يلعب م)))ع‬
‫الصبيان‪ ،‬فأتاه آت‪ ،‬فأخذه فش))ق بطن))ه‪ ،‬فاس))تخرج من))ه علق))ة‪ ،‬ف))رمى به))ا‪ ،‬وق))ال‪ :‬ه))ذه‬
‫نصيب الشيطان منك‪ ،‬ثم غس))له فى طس))ت من ذهب‪ ،‬من م))اء زم))زم‪ ،‬ثم ألم))ه‪ ،‬فأقب))ل‬
‫الصبيان إلى ظئره‪ :‬قتل محمد‪ ،‬قتل محمد‪ ،‬فاستقبلت رسول هللا ‪ ‬وقد انتقع لونه‪ .‬قال‬
‫(‪)1‬‬
‫أنس‪ :‬فلقد كنا نرى أثر المخيط في صدره)‬
‫هذا هو المحل األول للشق‪ ،‬أما المح))ل الث))اني‪ ،‬ف))رواه قت))ادة عن أنس في ح))ديث‬
‫اإلسراء والمعراج وفيه‪( :‬فأتيت بطست من ذهب مآلن حكمة وإيمانا‪ ،‬فشق من النحر‬
‫(‪)2‬‬
‫إلى مراق البطن‪ ،‬ثم غسل البطن بماء زمزم‪ ،‬ثم مليء حكمة وإيمانا ‪ ...‬الحديث )‬
‫وهناك محل ثالث رواه أبو نعيم األص))بهاني‪ ،‬وذك))ر أن))ه عن))د البعث))ة‪ ،‬وأي))ده ابن‬
‫حجر حيث قال‪( :‬بل ثالث مرات‪ ،‬فقد ثبت أيضا عن)د البعث)ة كم)ا أخرج)ه أب)و نعيم في‬
‫(‪)3‬‬
‫الدالئل‪ ،‬ولكل حكمة)‬
‫ثم بين الحكم المرتبطة بكل حادثة‪ ،‬فذكر أن األول كان في زمن الطفول))ة‪ ،‬لينش))أ‬
‫على أكمل األحوال من العصمة من الشيطان‪ ،‬ثم عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما‬
‫يوحى اليه بقلب قوي في أكمل األحوال من التطهير‪ ،‬ثم عند االسراء ليتأهب للمناجاة‪.‬‬
‫ومن الروايات الواردة في هذا‪ ،‬والتي توضح حقيقة ما ج))رى ببعض التفص))يل ـ‬
‫بحسب ما يراه أصحاب السنة المذهبية ـ ما رواه أب))و نعيم في (دالئ))ل النب))وة) عن أبي‬
‫هريرة أنه سأل رسول هللا ‪ ‬وكان حريصا أن يسأله عن الذي ال يس)أله غ))يره‪ ،‬فق))ال‪:‬‬
‫يا رسول هللا ما أول ما ابتدئت به من أم))ر النب))وة ؟ فق))ال‪ :‬إذ س))ألتني إني لفي ص))حراء‬
‫أمشي ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه‪ :‬أهو هو ؟ قال‪:‬‬
‫نعم فأخذاني فلصقاني بحالوة القفا ثم شقا بطني فكان جبريل يختل))ف بالم))اء في طس))ت‬
‫من ذهب وكان ميكائيل يغسل جوفي فقال أحدهما لصاحبه‪ :‬افل))ق ص))دره ف))إذا ص))دري‬
‫فيما أرى مفلوقا ال أجد له وجعا ثم قال‪ :‬اشقق قلبه فشق قلبي فقال‪ :‬أخرج الغل والحسد‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() فتح الباري البن حجر (‪)204 /7‬‬

‫‪71‬‬
‫منه فأخرج شبه العلقة فنبذه ثم قال‪ :‬أدخل الرأفة والرحم)ة في قلب)ه فأدخ)ل ش)يئا كهيئ)ة‬
‫الفضة‪ ،‬ثم أخرج ذرورا كان معه‪ ،‬فذر عليه‪ ،‬ثم نقر إبهامي‪ ،‬ثم قال‪ :‬اغد ف))رجعت بم))ا‬
‫لم أغد به من رحمتي على الصغير ورقتي على الكبير‪.‬‬
‫وهذا الحديث عجيب‪ ،‬ومتناقض تماما مع سنة هللا تعالى في اختبار عب))اده‪ ..‬ف))إذا‬
‫كان الغل والحسد والقسوة والغلظة مرتبطين بخاليا أو أنسجة موج))ودة في الجس))م‪ ،‬فلم‬
‫ال يريح هللا عباده منها بإتاحة مثل هذه العمليات لهم؟‬
‫فإن قيل‪ :‬إن التكليف واالبتالء يستلزمان وجود كل ذلك‪ ..‬فكيف خص رسول هللا‬
‫‪ ‬بذلك دون سائر الناس؟ وكيف اعتبره القرآن الك))ريم رس))ول هللا ‪ ‬ص))احب خل))ق‬
‫عظيم مع أن الخلق العظيم الذي حص))ل ل))ه لم يب))ذل في))ه أي جه))د‪ ،‬ولم يع))ان في س))بيل‬
‫تحصيله أي عناء‪ ،‬بل الفضل للمالئكة الذين طهروره من تلك األدواء‪ ،‬ووضعوا ب))دلها‬
‫الرأفة والرحمة كما ورد في الرواية‪.‬‬
‫وإذا كان األمر كما قالوا‪ ،‬فلم ورد في القرآن الكريم التهدي))دات الش))ديدة لرس))ول‬
‫﴿ولَ))وْ تَقَ) َّو َل َعلَ ْينَ))ا‬
‫هللا ‪ ‬إن لم يلتزم بأوامر هللا مثله مثل سائر الناس‪ ،‬كما قال تع))الى‪َ :‬‬
‫يل (‪ )44‬أَل َخ َْذنَا ِم ْنهُ بِ ْاليَ ِمي ِن (‪ )45‬ثُ َّم لَقَطَ ْعنَا ِم ْنهُ ْال َوتِينَ (‪ )46‬فَ َما ِم ْن ُك ْم ِم ْن‬ ‫ْض اأْل َقَ ِ‬
‫او ِ‬ ‫بَع َ‬
‫اج ِزينَ (‪[ ﴾)47‬الحاقة‪]47 - 44 :‬‬ ‫أَ َح ٍد َع ْنهُ َح ِ‬
‫وإذا ك))ان األم))ر كم))ا ق))الوا‪ ،‬فلم ك))ان رس))ول هللا ‪ ‬أش))د الن))اس خش))ية هلل‪ ،‬ففي‬
‫الحديث ق))ال ‪( :‬م))ا ب))ال أق))وام يت))نزهون عن الش))ئ أص))نعه؟ فوهللا إني ألعلمهم باهلل‬
‫تعالى‪ ،‬وأشدهم له خشية)(‪ .. )1‬أم أن تلك الخشية أيضا قد غرست في صدره ‪ ‬مع م))ا‬
‫غرس من الرأفة والرحمة؟‬
‫نطرح هذه األسئلة وغيرها‪ ،‬ونحن نتألم ألم))ا ش))ديدا أن يتع))رض رس))ول هللا ‪‬‬
‫لمثل هذه اإلهانات‪ ،‬وهذا التحق)ير‪ ،‬بحيث يص)بح مغلوب)ا على أم)ره‪ ،‬ل)وال أن ينق)ذه هللا‬
‫بإخراج حظ الشيطان منه‪..‬‬
‫ومع تلك العملي)ات ال)تي يص)ورها أرب)اب الس)نة المذهبي)ة لرس)ول هللا ‪ ‬بغي)ة‬
‫استنقاذه من الشيطان إال أن الشيطان كان يتسلط علي))ه ـ كم))ا ي))روون ـ ك))ل حين‪ ،‬فق))د‬
‫رووا أن النبي ‪ ‬قال‪( :‬إن جبريل أتاني‪ ،‬فقال‪ :‬إن عفريتا من الجن يكيدك‪ ،‬ف))إذا أويت‬
‫(‪)2‬‬
‫إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي)‬
‫ورووا أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬لقد أتاني شيطان فن))ازعني‪ ،‬ثم ن))ازعني‪ ،‬فأخ))ذت‬
‫بحلقه‪ ،‬فوالذي بعثني بالحق‪ ،‬ما أرسلته حتى وجدت برد لسانه على يدي‪ ،‬ول))وال دع))وة‬
‫(‪)3‬‬
‫سليمان ألصبح طريحا في المسجد)‬
‫ب فخنقته حتى‬ ‫ٌ‬
‫شيطان خلف البا ِ‬ ‫ُ‬
‫ورووا أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬دخلت البيتَ فإذا‬

‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري في األدب المفرد‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه ابن أبي الدنيا‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ألصبح مربوطًا يراه الناسُ )‬ ‫َ‬ ‫الصالح‬
‫ِ‬ ‫وجدت برد لسانه على يدي‪ ،‬فلوال دعوةُ العب ِد‬ ‫ُ‬
‫وقد نسي من رووا هذه األحاديث‪ ،‬وراحوا يشوهون بها ش))خص رس))ول هللا ‪‬‬
‫تلك اآليات الكثيرة التي يقرر فيه))ا الق))رآن الك))ريم أن))ه ال س))لطان للش))يطان على ال))ذين‬
‫آمنوا وعلى ربهم يتوكلون‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬فَإِ َذا قَ َر ْأتَ ْالقُرْ آنَ فَا ْست َِع ْذ بِاهَّلل ِ ِمنَ ال َّش ْيطَا ِن‬
‫ان َعلَى الَّ ِذينَ آ َمنُ))وا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَتَ َو َّكلُ))ونَ (‪ )99‬إِنَّ َم))ا‬ ‫ْس لَ))هُ ُس)) ْلطَ ٌ‬ ‫َّج ِيم (‪ )98‬إِنَّهُ لَي َ‬ ‫ال))ر ِ‬
‫س ُْلطَانُهُ َعلَى ال ِذينَ يَتَ َولوْ نَهُ َوال ِذينَ هُ ْم بِ ِه ُم ْش ِر ُكونَ (‪[ ﴾)100‬النحل‪]100 - 98 :‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بل يذكر القرآن الكريم على لسان الشيطان نفسه أنه ال يستطيع أن يقترب مج))رد‬
‫ض ) َي اأْل َ ْم) ُر إِ َّن‬
‫الش ) ْيطَانُ لَ َّما قُ ِ‬
‫ال َّ‬ ‫﴿وقَ َ‬
‫االقتراب من عباد هللا المخلصين‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫ق َو َو َع ْدتُ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفتُ ُك ْم َو َما َكانَ لِ َي َعلَ ْي ُك ْم ِم ْن ُس )لطَ ٍ‬
‫ان إِاَّل أ ْن َد َع))وْ تُ ُك ْم‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا َ َو َع َد ُك ْم َو ْع َد ْال َح ِّ‬
‫فَا ْستَ َج ْبتُ ْم لِي فَاَل تَلُو ُمونِي َولُو ُموا أَ ْنفُ َس ُك ْم ﴾ [إبراهيم‪]22 :‬‬
‫ف))إذا ك))ان الش))يطان ال يس))تطيع أن يفع))ل ش))يئا م))ع ه))ؤالء‪ ،‬فكي))ف يس))تطيع أن‬
‫يتصارع مع رسول هللا ‪ ،‬بل كيف يستطيع أن يقترب منه مج))رد اق))تراب م))ع أن هللا‬
‫تعالى ذكر أنه يخنس من الذين آمنوا بمجرد ذكرهم هلل‪ ..‬وهل كان رسول هللا ‪ ‬يغف))ل‬
‫عن ذكر هللا طرفة عين؟‬
‫وهل كان أولئك المخلصين من الصديقين واألنبياء والص))الحين أعظم مكان))ة من‬
‫رسول هللا ‪ ‬حيث استطاعوا االنفالت من)ه في نفس ال)وقت ال))ذي س))لط في)ه الش))يطان‬
‫عليه؟‬
‫بل إن السنة المذهبية تذهب إلى أبعد من ذل))ك حين تص))ور أن الش))يطان ال))رجيم‬
‫يخ))اف من بعض ص))حابة رس))ول هللا ‪ ،‬وال يخ))اف من رس))ول هللا ‪ ‬نفس))ه‪ ،‬ففي‬
‫الح)ديث ال)ذي رواه الترم)ذي وص)ححه األلب)اني عن أبي بري)دة عن أبي)ه‪ ،‬ق)ال‪ :‬خ)رج‬
‫رسول هللا ‪ ‬في بعض مغازيه‪ ،‬فلما انصرف جاءت جارية سوداء‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رس))ول‬
‫هللا إني كنت نذرت إن ردك هللا سالما أن أض))رب بين ي))ديك بال))دف وأتغ))نى‪ ،‬فق))ال له))ا‬
‫رسول هللا ‪( :‬إن كنت نذرت فاضربي‪ ،‬وإال فال)‪ ،‬فجعلت تض))رب‪ ،‬ف))دخل أب))و بك))ر‬
‫وهي تضرب‪ ،‬ثم دخل علي وهي تضرب‪ ،‬ثم دخل عثمان وهي تضرب‪ ،‬ثم دخل عمر‬
‫فألقت الدف تحت استها‪ ،‬ثم قعدت عليه‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬إن الشيطان ليخاف منك‬
‫يا عمر‪ ،‬إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب‪ ،‬ثم دخل علي وهي‬
‫(‪)2‬‬
‫تضرب‪ ،‬ثم دخل عثمان وهي تضرب‪ ،‬فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف)‬
‫وهنا يستبشر أصحاب السنة المذهبية‪ ،‬ويكبرون ف))رحين مبتهجين ب))أن الش))يطان‬
‫يخاف من عمر‪ ..‬وينسون أن عمر والصحابة جميعا‪ ،‬بل كل الدنيا ال تساوي شيئا أم))ام‬
‫رسول هللا ‪ ..‬فكيف يخاف الشيطان في مجلس من عم))ر‪ ،‬وال يخ))اف من رس))ول هللا‬
‫‪‬؟‬
‫وليتركوا الحديث ورواية الترمذي له وتصحيح األلب))اني‪ ،‬وليع))ودوا إلى عق))ولهم‬
‫‪1‬‬
‫() رواه الطبراني في (األوسط)‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الترمذي‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫قليال‪ ،‬وليس))ألوها عن حقيق))ة الش))يطان‪ ،‬وعن دوره في األرض‪ ،‬ثم عن أك))ثر الن))اس‬
‫ترويعا له ومضادة لمشروعه‪ ..‬أليس هو رسول هللا ‪‬؟‬
‫أليس رس))ول هللا ه)و المنت)دب من العناي)ة اإللهي)ة ليحطم المش))روع ال)ذي أقس)م‬
‫الشيطان على أن يفعله ببني آدم ليزج بهم معه في دركات جهنم؟‬
‫ولكن أصحاب السنة المذهبية ال يهتمون باإلجاب))ة على ه)ذه التس))اؤالت ألنه)ا ال‬
‫تخطر على بالهم أصال‪ ..‬وإن سألهم أحد من الناس‪ ،‬فما أسهل أن يجيبوه بما تعودوا أن‬
‫يجيبوا به مخالفوهم من التبديع والتضليل والتكفير‪.‬‬
‫والسنة المذهبي))ة ال تكتفي به))ذا التش))ويه واالحتق))ار لرس))ول هللا ‪ ‬في مواجه))ة‬
‫الشيطان‪ ،‬بل هي تصور أن رسول هللا ‪ ،‬وبعد أن ع))اين مالك ال))وحي‪ ،‬ون))زل علي))ه‬
‫من القرآن الك))ريم م))ا ن))زل بقي في ش))ك من أم))ره‪ ،‬وه))ل ك))ان من ن))زل علي))ه مالك أم‬
‫شيطان‪ ،‬ولوال أن زوجته ـ كما تذكر الرواية ـ احتالت لذلك حيل))ة‪ ،‬لبقي رس))ول هللا ‪‬‬
‫في شكه وريبته‪.‬‬
‫فقد روى أصحاب السنة المذهبية أن خديج))ة ق))الت لرس))ول هللا ‪ :‬أي ابن عم‪،‬‬
‫أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا ال))ذي نفس))ي بي))ده إذا ج))اءك؟ ق))ال‪ :‬نعم‪ .‬ق))الت‪ :‬ف))إذا‬
‫جاءك فأخبرني به‪ .‬فجاءه جبريل فقال رسول هللا ‪ :‬يا خديجة هذا جبريل ق))د ج))اءني‬
‫فقالت‪ :‬قم يا بن عمي ف))اجلس على فخ))ذي اليس))رى‪ .‬فق))ام رس))ول هَّللا ‪ ‬فجلس عليه))ا‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬هل تراه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قالت‪ :‬فتحول فاقع))د على فخ))ذي اليم))نى فتح))ول رس))ول هَّللا‬
‫‪ ‬فجلس على فخ))ذها اليم))نى فق))الت‪ :‬ه))ل ت))راه؟ ق))ال نعم‪ .‬فحس))رت ف))ألقت خماره))ا‬
‫ورسول هَّللا ‪ ‬جالس في حجره))ا ثم ق))الت‪ :‬ه))ل ت))راه؟ ق))ال‪ :‬ال‪ .‬ق))الت ي))ا بن عم اثبت‬
‫وأبشر فوهَّللا إنه لملك ما هذا شيطان(‪.)1‬‬
‫بل رووا أن رسول هللا ‪ ‬مع ما عاينه من أمر هللا في غار حراء‪ ،‬بقي في ش))ك‬
‫من أمره‪ ،‬وخشي أن يكون ما حص))ل ل))ه مس))ا من الش))يطان‪ ،‬ل))وال أن طمأن))ه ورق))ة بن‬
‫نوفل‪..‬‬
‫وهك))ذا تح))ط الس))نة المذهبي))ة من ق))در رس))ول هللا ‪ ‬لتجعل))ه فريس))ة للش))كوك‬
‫والشياطين لوال أن يخلصه منها بشر من الناس م))ا ن))الوا فض))لهم إال برؤيت))ه وص))حبته‬
‫والتعلم على يديه ونيل بركته‪.‬‬
‫ولم تكت)ف الس)نة المذهبي)ة به)ذا‪ ،‬ب)ل ذهبت إلى أبع)د من ذل)ك حين ص))ورت أن‬
‫الش))يطان اس))تطاع بقدرات))ه الخارق))ة أن يخ))ترق رس))ول هللا ‪ ،‬وه))و يق))رأ كالم رب))ه‪،‬‬
‫ليجعل رسول هللا ‪ ‬ينطق بكالم الشيطان ب))دل كالم رب))ه‪ ..‬ولس))ت أدري كي))ف أط))اق‬
‫ذلك مع أن هللا تعالى يذكر في القرآن الكريم أن سلطان الش))يطان الوحي))د على اإلنس))ان‬
‫قاصر على الوسوسة‪.‬‬
‫والرواي))ة ال))تي ت))ذكر ه))ذا هي ال))تي تس))مى قص))ة الغراني))ق‪ ،‬وهي ال))تي تلقفه))ا‬
‫المستش))رقون والمبش))رون وبن))وا عليه))ا ج))درا من األباطي))ل‪ ،‬والعيب ليس فيهم‪ ،‬ولكن‬

‫‪1‬‬
‫() رواه الطبراني في المعجم األوسط‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫العيب فيمن يدعي أن)ه ينتمي لرس))ول هللا ‪ ،‬ثم يقب)ل مث)ل تل)ك الرواي)ة أو يرويه)ا أو‬
‫يحاول كل جهده أن ينتصر لها‪.‬‬
‫ومن أعظم هؤالء الذين انتصورا لها شيخ إسالم السنة المذهبية ابن تيمي))ة ال))ذي‬
‫انتصر لها في مواضع كثيرة من كتبه‪ ،‬بطرق مختلفة‪..‬‬
‫وقب))ل أن ن))ذكر كالم ابن تيمي))ة في المس))ألة‪ ،‬وال))ذي تلقف))ه تالمي))ذه ك))القرآن‬
‫الم))وحى‪ ،‬ن))ذكر الرواي))ة‪ ،‬فعن أبي العالي))ة‪ ،‬ق))ال‪ :‬ق))الت ق))ريش لرس))ول هللا ‪ :‬إنم))ا‬
‫جلساؤك عبد بني فالن ومولى بني فالن‪ ،‬فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك‪ ،‬فإن))ه يأتي))ك‬
‫أشراف الع))رب ف))إذا رأوا جلس))اءك أش))راف قوم))ك ك))ان أرغب لهم في))ك‪ ،‬ق))ال‪ :‬ف))ألقى‬
‫الشيطان في أمنيته‪ ،‬فنزلت هذه اآلية‪( :‬أف))رأيتم الالت والع))زى ومن))اة الثالث))ة األخ))رى)‬
‫قال‪ :‬فأجرى الش))يطان على لس))انه‪ :‬تل))ك الغراني))ق العلى‪ ،‬وش))فاعتهن ت))رجى‪ ،‬مثلهن ال‬
‫ينسى؛ قال‪ :‬فسجد النبي حين قرأها‪ ،‬وسجد معه المسلمون والمشركون؛ فلما علم ال))ذي‬
‫ول َواَل نَبِ ٍّي‬ ‫﴿و َما أَرْ َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبلِكَ ِم ْن َر ُس ) ٍ‬ ‫أجرى على لسانه‪ ،‬كبر ذلك عليه‪ ،‬فأنزل هللا‪َ :‬‬
‫إِاَّل إِ َذا تَ َمنَّى أَ ْلقَى ال َّش ْيطَانُ فِي أُ ْمنِيَّتِ ِه فَيَ ْن َس ُخ هَّللا ُ َما ي ُْلقِي َّ‬
‫الش ) ْيطَانُ ثُ َّم يُحْ ِك ُم هَّللا ُ آيَاتِ ) ِه َوهَّللا ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫َعلِي ٌم َح ِكي ٌم﴾ [الحج‪]52 :‬‬
‫وكعادة ابن تيمية في مثل هذه المسائل فإنه يبدأها عادة بتهوينه))ا‪ ،‬وذك))ر الخالف‬
‫فيها‪ ،‬ثم ببيان أن السلف الذين هم المتحدث الرسمي باس))م ال))دين ي))رون رأي))ا معين))ا‪ ،‬ثم‬
‫يجته))د في االنتص))ار لهم‪ ..‬ثم يختم ذل))ك بتب))ديع وتض))ليل من خ))الفهم‪ ..‬وق))د ي))ذكر ذل))ك‬
‫التبديع والتضيل في المحل نفسه‪ ،‬وقد يؤجله لمحل آخر‪..‬‬
‫وس)نورد بعض أقوال)ه هن)ا ت)اركين للق)ارئ أن يكتش))ف المنط))ق ال)ذي يفك)ر ب)ه‬
‫أصحاب السنة المذهبية‪ ،‬والصورة التي يحملونها عن رسول هللا ‪.‬‬
‫قال ابن تيمية‪( :‬النبي هو المنبئ عن هللا‪ ،‬والرسول هو ال))ذي أرس))له هللا تع))الى‪،‬‬
‫وكل رسول نبي وليس كل نبي رسوال‪ ،‬والعصمة فيما يبلغونه عن هللا ثابت))ة فال يس))تقر‬
‫في ذل))ك خط))أ باتف))اق المس))لمين‪ ..‬ولكن ه))ل يص))در م))ا يس))تدركه هللا فينس))خ م))ا يلقي‬
‫الشيطان ويحكم هللا آياته ؟ هذا فيه قوالن‪ :‬والم))أثور عن الس))لف يواف))ق الق))رآن ب))ذلك‪..‬‬
‫والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعن))وا فيم))ا ينق))ل من الزي))ادة في س))ورة النجم بقول)ه‪:‬‬
‫(تلك الغرانيق العلى‪ ،‬وإن ش)فاعتهن ل))ترتجى)‪ ،‬وق)الوا‪ :‬إن ه)ذا لم يثبت‪ ،‬ومن علم أن)ه‬
‫ثبت‪ :‬قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول‪ ،‬ولكن السؤال وارد على‬
‫الش) ْيطَانُ فِي أُ ْمنِيَّتِ) ِه﴾ [الحج‪]52 :‬‬ ‫هذا التقدير أيضا‪ ،‬وقالوا في قوله‪﴿ :‬إِاَّل إِ َذا تَ َمنَّى أَ ْلقَى َّ‬
‫هو حديث النفس‪ ،‬وأما الذين قرروا ما نق)ل عن الس))لف فق)الوا ه)ذا منق)ول نقال ثابت))ا ال‬
‫يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه ‪ ..‬فقالوا اآلثار في تفسير هذه اآلية معروفة ثابت))ة في‬
‫كتب التفسير‪ ،‬والحديث‪ ،‬والقرآن يوافق ذلك فإن نس))خ هللا لم))ا يلقي الش))يطان وإحكام))ه‬
‫آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آيات))ه‪ ،‬وتمي))يز الح))ق من الباط))ل ح))تى ال تختل))ط آيات))ه‬
‫بغيرها‪ ،‬وجعل ما ألقى الشيطان فتن))ة لل))ذين في قل))وبهم م))رض‪ ،‬والقاس))ية قل))وبهم إنم))ا‬

‫‪1‬‬
‫() تفسير الطبري (‪)664 /18‬‬

‫‪75‬‬
‫يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الن))اس ال باطن))ا في النفس والفتن))ة ال))تي تحص))ل به))ذا‬
‫(‪)1‬‬
‫النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع اآلخر من النسخ)‬
‫وقال في (منهاج السنة النبوية)‪ ،‬أو على األصح (منهاج الس))نة المذهبي))ة)‪( :‬وم))ا‬
‫ج))رى في (س))ورة النجم)‪ .‬من قول))ه تل))ك الغراني))ق العلى وإن ش))فاعتها ل))ترتجى على‬
‫(‪)2‬‬
‫المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه هللا وأبطله)‬
‫وقد وافق))ه على ه))ذا أك))ثر س))لفية العص))ر‪ ،‬فق))د ق))ال س))ليمان آل ش))يخ في تيس))ير‬
‫العزي))ز الحمي))د عن قص))ة الغراني))ق‪( :‬وهي قص))ة مش))هورة ص))حيحة رويت عن ابن‬
‫عباس من طرق بعضها صحيح ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم‬
‫عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبدالرحمن وعكرمة والضحاك وقتادة‬
‫ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم وذكره))ا أيض))ا أه))ل الس))ير‬
‫وغ))يرهم وأص))لها في الص))حيحين والمقص))ود منه))ا قول))ه تل))ك الغراني))ق العلى وإن‬
‫(‪)3‬‬
‫شفاعتهن لترتجى فإن الغرانيق هي المالئكة على قول وعلى آخر هي األصنام)‬

‫‪1‬‬
‫() مجموع الفتاوى (‪)292 /10‬‬
‫‪2‬‬
‫() منهاج السنة النبوية (‪)409 /2‬‬
‫‪3‬‬
‫() تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد‪ :‬ص‪..219‬‬

‫‪76‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬والسحرة‬

‫لم يكتف أصحاب السنة المذهبي))ة ببي))ان ض))عف رس))ول هللا ‪ ‬أم))ام الش))ياطين‪،‬‬
‫وتسلطهم عليه‪ ،‬بل أض)افوا إلى ذل)ك أيض)ا ض))عفه أم)ام الس)حرة‪ ،‬وتس)لطهم علي)ه إلى‬
‫درجة أنه قضى مدة ستة أشهر من عمر نبوته المباركة‪ ،‬وهو ال يعي ما يفعل‪.‬‬
‫ولس))نا ن))دري كي))ف غ))اب على ه))ؤالء تل))ك اآلي))ات الكريم))ة الكث)يرة ال)تي ت)بين‬
‫عصمة هللا تعالى لنبي))ه ‪ ،‬وأن))ه ل))و ك))اده اإلنس والجن‪ ،‬فلن يس))تطيعوا أن يفعل))وا ل))ه‬
‫شيئا‪ ،‬كما قال تعالى مقررا ذلك‪﴿ :‬أَيُّهَا ال َّرسُو ُل بَلِّ ْغ َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي))كَ ِم ْن َربِّكَ َوإِ ْن لَ ْم تَ ْف َع))لْ‬
‫اس إِ َّن هَّللا َ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [المائدة‪]67 :‬‬ ‫ك ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ص ُم َ‬‫فَ َما بَلَّ ْغتَ ِر َسالَتَهُ َوهَّللا ُ يَ ْع ِ‬
‫ولهذا فإن كل ذلك األسطول من المشركين والمنافقين واليهود ومرضى القل))وب‬
‫لم يستطيعوا ـ مع كيدهم المتواصل ـ أن يفعلوا شيئا لرسول هللا ‪.‬‬
‫وليت الذين اتهموا السحرة بالقدرة على النفوذ إلى المحال المقدسة لإلدراك عن))د‬
‫رسول هللا ‪ ‬اكتفوا بالصراع مع تلك اآليات الكريمة ال))تي تع))د بحف))ظ رس))ول هللا ‪‬‬
‫من كل سوء‪ ..‬ألنهم قد يجدون بعض المنافذ والتبريرات ال))تي تجعلهم يعطل))ون معناه))ا‬
‫أو يؤولونه‪..‬‬
‫لكن المشكلة أنهم يعطلون نصوصا قرآنية صريحة تنفي أن يكون رسول هللا ‪‬‬
‫ساحرا‪ ،‬أو مسحورا‪ ،‬أو واقعا تحت تأثير أي سحر أو عين أو أي قوة غيبية غير الق))وة‬
‫اإللهية‪.‬‬
‫بل إن هللا تعالى يخبر أن ادعاء السحر‪ ،‬وربط أي أمر بالسحر من شأن الكف))رة‪،‬‬
‫ال من هذه األمة فقط‪ ،‬بل من األمم جميعا‪..‬‬
‫فاهلل تعالى يذكر عن موسى عليه السالم أنه لما جاء قومه بما جاءهم به من آيات‬
‫ْص) َرةً قَ))الُوا هَ) َذا ِس)حْ ٌر‬ ‫هللا البينات اتهموه بالسحر‪ ،‬ق))ال تع))الى‪ ﴿ :‬فَلَ َّما َج) ا َء ْتهُ ْم آيَاتُنَ))ا ُمب ِ‬
‫ين ﴾ [النمل‪]13 :‬‬ ‫ُمبِ ٌ‬
‫ومثله المسيح عليه السالم الذي جاء بالبينات لكن مرضى القلوب لم يروها آيات‬
‫يس)ى ابْنُ َم))رْ يَ َم يَ))ابَنِي‬ ‫)ال ِع َ‬ ‫﴿وإِ ْذ قَ) َ‬ ‫من هللا‪ ،‬بل رأوها خوارق من السحرة‪ ،‬ق))ال تع))الى‪َ :‬‬
‫ْ‬
‫ُول يَ))أتِي ِم ْن‬ ‫ي ِمنَ التَّوْ َرا ِة َو ُمبَ ِّشرًا بِ َرس ٍ‬ ‫ص ِّدقًا لِ َما بَ ْينَ يَ َد َّ‬ ‫إِ ْس َرائِي َل إِنِّي َرسُو ُل هَّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم ُم َ‬
‫ين﴾ [الصف‪]6 :‬‬ ‫ت قَالُوا هَ َذا ِسحْ ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫بَ ْع ِدي ا ْس ُمهُ أَحْ َم ُد فَلَ َّما َجا َءهُ ْم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫وهكذا كان األمر مع نبينا ‪ ‬ال))ذي ب))ادره قوم))ه باالته))ام بالس))حر‪ ،‬ق))ال تع))الى‪:‬‬
‫س فَلَ َمسُوهُ بِأ َ ْي) ِدي ِه ْم لَقَ))ا َل الَّ ِذينَ َكفَ)رُوا إِ ْن هَ) َذا إِاَّل ِس)حْ ٌر‬ ‫ك ِكتَابًا فِي قِرْ طَا ٍ‬ ‫﴿ َولَوْ نَ َّز ْلنَا َعلَ ْي َ‬
‫ين ﴾ [األنعام‪]7 :‬‬ ‫ُمبِ ٌ‬
‫﴿وإِ َذا‬‫وقال ـ يرسم مش))هدا من مش))اهد المواجه))ة بين دين هللا ودين الش))ياطين ـ‪َ :‬‬
‫ت قَالُوا َم))ا هَ) َذا إِاَّل َر ُج) ٌل ي ُِري) ُد أَ ْن يَ ُ‬
‫ص) َّد ُك ْم َع َّما َك))انَ يَ ْعبُ) ُد آبَ))ا ُؤ ُك ْم‬ ‫تُ ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُنَا بَيِّنَا ٍ‬
‫ين ﴾‬ ‫ق لَ َّما َجا َءهُ ْم إِ ْن هَ َذا إِاَّل ِسحْ ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ْ‬
‫ال الَّ ِذينَ َكفَرُوا لِل َح ِّ‬ ‫ك ُم ْفتَرًى َوقَ َ‬ ‫َوقَالُوا َما هَ َذا إِاَّل إِ ْف ٌ‬
‫[سبأ‪]43 :‬‬

‫‪77‬‬
‫ولم يقتصر األمر على دعوى السحر التي تجعل رس))ول هللا ‪ ‬ف))اعال وم))ؤثرا‪،‬‬
‫بل ورد في النصوص المقدسة بيان اتهام المحاربين للنبوة للنبي ‪ ‬بأن))ه ك)ان خاض)عا‬
‫لتأثير السحرة والسحرة‪ ،‬قال تعالى مخبرا عن موقف المش))ركين من دع))وة رس))ول هللا‬
‫‪ ﴿:‬نَحْ نُ أَ ْعلَ ُم بِ َما يَ ْستَ ِمعُونَ بِ ِه إِ ْذ يَ ْستَ ِمعُونَ إِلَ ْيكَ َوإِ ْذ هُ ْم نَجْ ) َوى إِ ْذ يَقُ))و ُل الظَّالِ ُمونَ إِ ْن‬
‫تَتَّبِعُونَ إِاَّل َر ُجاًل َم ْسحُورًا ﴾ [اإلسراء‪]47 :‬‬
‫وق))د أخ)بر الق)رآن الك))ريم أن ذل))ك لم يكن خاص)ا برس))ول هللا ‪ ،‬ب))ل إن س)ائر‬
‫األنبياء اتهموا أيضا بأنهم كانوا خاضعين لتأثير السحرة‪ ،‬ق))ال تع))الى عن موس))ى علي))ه‬
‫يل إِ ْذ َج) ا َءهُ ْم فَقَ) َ‬
‫)ال لَ)هُ‬ ‫اس)أَلْ بَنِي إِ ْس) َرائِ َ‬‫ت فَ ْ‬ ‫ت بَيِّنَ))ا ٍ‬
‫وس)ى تِ ْس) َع آيَ))ا ٍ‬‫السالم‪َ ﴿ :‬ولَقَ) ْد آتَ ْينَ))ا ُم َ‬
‫ك يَا ُمو َسى َم ْسحُورًا ﴾ [اإلسراء‪]101 :‬‬ ‫فِرْ عَوْ نُ إِنِّي أَل َظُنُّ َ‬
‫ولكن مع كل هذه اآليات المقدسة التي ت))برئ رس))ول هللا ‪ ‬كم))ا ت))برئ األنبي))اء‬
‫قبله من االرتباط بالسحر تأثيرا وتأثرا نجد تلك الروايات العجيبة التي تتدنس به))ا كتب‬
‫الح))ديث‪ ،‬وال))تي ت))ذكر أن رس))ول هللا ‪ ‬وق))ع في ف))ترة مهم))ة من حيات))ه تحت ت))أثير‬
‫السحرة‪ ..‬وبذلك تبرئ تلك األحاديث ـ من حيث ال يشعر أصحابها ـ المشركين واليهود‬
‫والمنافقين من تلك االدعاءات التي كانوا يرفضون القرآن والدين على أساسها‪.‬‬
‫وسنورد هنا نص الرواية‪ ،‬ونرى مبلغ إساءتها لرس))ول هللا ‪ ..‬ثم نناقش))ها بع))د‬
‫ذلك‪.‬‬
‫والرواية ـ لألسف الشديد ـ توج)د في أمه)ات كتب الح)ديث المعتم)دة كالبخ)اري‬
‫ومس))لم وأحم))د وابن ماج))ة والنس))ائي وال))بيهقي وغيره))ا‪ ،‬وه))ذا يرين))ا كي))ف اس))تطاع‬
‫مرضى القلوب أن يتسللوا إلى هذه الدواوين العظيمة‪ ،‬ليبثوا فيه))ا س))مومهم‪ ،‬ويش))وهوا‬
‫من خاللها جمال الدين‪ ،‬وجمال رسوله ‪.‬‬
‫ونص الحديث كما ـ في ص))حيح البخ))اري في كت))اب الطب عن عائش))ة ـ ق))الت‪:‬‬
‫سحر رسول هللا ‪ ‬رجل من بني ُزريق يقال له لبيد بن األعصم حتى ك)ان رس))ول هللا‬
‫‪ ‬يخي ُل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله ح))تى إذا ك))ان ذات ي))وم أو ذات ليل))ة وه))و‬
‫عندي لكنه دعا ودعا ثم قال‪( :‬يا عائشة أشعرت أن هللا قد أفتاني فيم))ا اس))تفتيته في))ه؟)‪،‬‬
‫قلت وما ذاك يا رسول هللا ؟ فقال‪( :‬أتاني رجالن فقعد أحدهما عند رأسي واآلخ))ر عن))د‬
‫رجلي فقال أحدهما لصاحبه‪ :‬ما وج ُع الرجل‪ ،‬فقال‪ :‬مطبوب (أي مسحور)‪ ،‬ق))ال‪ :‬ومن‬
‫طَّبه؟ قال‪ :‬لبيد بن األعصم اليهودي قال‪ :‬في أي شيء ؟ ق))ال‪ :‬في ُمش))ط و ُمش))اطَة [أي‬
‫ُف طلعة ذكر [أي على الغش))اء‬ ‫الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند ترجيلهما)‪ ،‬وج َّ‬
‫الذي يكون على الطلع]‪ ،‬قال‪ :‬أين ه))و؟ ق))ال‪ :‬في ب))ئر ذي أروان‪ ،‬ف))ذهب الن))بي ‪ ‬في‬
‫أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها‪ ،‬وعليها نخل‪ ،‬ثم رجع إلى عائشة‪ ،‬فق))ال‪( :‬وهللا‬
‫لك)))أن ماءه)))ا نُقاع)))ةُ الجفَّاء ولك)))أن نخله)))ا رؤوس الش)))ياطين)‪ ،‬قلت‪ :‬ي)))ا رس)))ول هللا‬
‫أفأخرجته؟ قال‪( :‬ال‪ ،‬أما أنا فقد عافاني هللا وشفاني‪ ،‬وخشيت أن أثُ َور على الن)اس من)ه‬

‫‪78‬‬
‫شراً)‪ ،‬وأُمر بها فدفنت البئر(‪.)1‬‬
‫وفي رواي))ة أخ))رى عن زي))د بن أرقم ق))ال‪ :‬س))حر الن))بي ‪ ‬رج ) ٌل من اليه))ود‪،‬‬
‫فاشتكى لذلك أياما ً فأتاه جبريل فقال‪ :‬إن رجال من اليهود سحرك‪ ،‬عقد لك عُقداً في بئر‬
‫كذا وكذا‪ ،‬فأرسل رسول هللا ‪ ‬فاستخرجها فَحلَّها‪ ،‬فقام رسول هللا ‪ ‬كأنما أُ ْن ِش))طَ من‬
‫ِعقَ ٍل‪ ،‬فما ذكر ذلك لذلك اليهودي وال رآه في وجهه قط )(‪. )2‬‬
‫بعد إيرادنا لهاتين الروايتين الغريبتين اللتين تشوهت بهم))ا كتب الس))نة‪ ،‬نحب أن‬
‫نناقش بعض ما فيها على ضوء العقل والنقل‪..‬‬
‫ونبدأ بالحالة نفسها‪ ،‬والتي صور بها الح))ديث رس))ول هللا ‪ ..‬وأن))ه ك))ان يخي))ل‬
‫إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله ‪ ..‬وهي حالة خطيرة جدا بالنس))بة إلنس))ان ع))ادي‪ ،‬فكي))ف‬
‫بنبي‪ ،‬فكيف بخاتم األنبياء وسيدهم؟‬
‫ألن ذلك الشيء الذي يخيل إليه أنه فعله وه)و لم يفعل)ه ق)د يرتب)ط بتبلي)غ ال)دين‪..‬‬
‫وليس في الحديث ما ينفي ذلك ‪ ..‬وبذلك يكون جزء مهم من الدين لم يصل إلين))ا بس))بب‬
‫أن رسول هللا ‪ ‬ـ تعالى عن ذلك علوا عظيما ـ كان قد توهم أنه بلَّغه مع أنه لم يبلغه‪..‬‬
‫وقد يجادلنا هنا مجادل‪ ،‬كما تعودوا‪ ،‬ويقول‪ :‬ال ‪ ..‬ليس األمر كم))ا تظن))ون ‪ ..‬ب))ل‬
‫األم))ر مرتب))ط بحي))اة رس))ول هللا ‪ ‬العادي))ة ‪ ..‬وهن))ا ي))أتي الج))واب الق))رآني الواض))ح‬
‫والدقيق والدال على أن حياة رسول هللا ‪ ‬كلها دعوة وبالغ عن هللا‪ ،‬ق))ال تع))الى‪َ ﴿ :‬م))ا‬
‫ي يُ)و َحى (‪﴾)4‬‬ ‫ق ع َِن ْالهَ َ‬
‫)وى (‪ )3‬إِ ْن هُ) َو إِاَّل َوحْ ٌ‬ ‫احبُ ُك ْم َو َما َغ َوى (‪َ )2‬و َما يَ ْن ِط) ُ‬
‫ص ِ‬‫ض َّل َ‬
‫َ‬
‫[النجم‪]4 - 2 :‬‬
‫فإن ج))ادلوا في اآلي))ة‪ ،‬أو أولوه))ا‪ ،‬فليق))رؤوا م)ا ورد في الح))ديث عن عم))رو بن‬
‫شعيب عن أبيه عن جده‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا اكتب كل م))ا أس))مع من))ك؟ ق))ال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬في الرضا والغضب؟ قال‪ ( :‬نعم فإني ال أقول في ذلك كله إال حقا)‬
‫فإن جادلوا‪ ،‬وذكروا بأن ه))ذا الن))وع من الس))حر انحص))ر أث))ره في عالق))ة الن))بي‬
‫ﷺ الجسدية) مع) أزواجه‪ )،‬فكان) يخيل) إليه) أنه) يأتي) نساءه) من) غير) أن‬
‫يكون ذلك حقيقة‪ ،‬كما رووا عن أم المؤم))نين عائش))ة أنه))ا ق))الت‪( :‬مكث الن))بي ‪ ‬ك))ذا‬
‫وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله‪ ،‬وال يأتي) (‪ ،)2‬فذلك ال يقل عجب))ا‪ ،‬ألن))ه يض))ع رس))ول هللا‬
‫‪ ‬في موضع تهم خطيرة يكفي تخيلها لنفور النفس منها‪ ..‬لكن هؤالء لألسف إم))ا أنهم‬
‫ال يعرفون مع))نى م))ا يقول))ون‪ ،‬أو أن ص))ورة رس))ول هللا ‪ ‬في خي))الهم ال تختل))ف عن‬

‫(‪ )1()1‬رواه البخاري رقم (‪ )5766‬في الطب‪ ،‬باب السحر‪ ،‬وباب هل يستخرج السحر‪ ،‬وباب السحر‬
‫وفي الجهاد باب هل يعفى الذمي إذا سحر‪ ،‬وفي األدب باب قول هللا تعالى‪﴿ :‬إِ َّن هّللا َ يَأْ ُم ُر بِ ْال َع ْد ِل‬
‫َوا ِإلحْ َسا ِن﴾‪ ،‬ومسلم رقم (‪ )2189‬في السالم‪ ،‬باب السحر‪ ،‬ورواه أيضا ً أحمد والنسائي وابن سعد‬
‫والحاكم وعبد بن حميد وابن مردويه‪ ،‬والبيهقي في ((دالئل النبوة)) وغيرهم‪.‬‬
‫(‪ )2()2‬رواه النسائي (‪ )7/113،112‬في تحريم الدم‪ ،‬باب سحرة أهل الكتاب‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫صورة ذلك الذي أصيب بالهلوسة‪ ،‬فصار يتخيل ما ال يكون‪ ،‬ويفعل ما ال يعقل‪.‬‬
‫ولم يكتف هؤالء بهذا‪ ،‬بل تصوروا أن رسول هللا ‪ ‬الذي آت))اه هللا من الق))درات‬
‫اإلدراكية ما ينقضي دونه العجب لم يعلم بالسحر طول تلك الم))دة‪ ،‬ح))تى ج))اءه ملك))ان‪،‬‬
‫وأخبراه بعد أن تنصت ‪ ‬لقولهما‪..‬‬
‫آْل‬
‫ولست أدري ماذا يفعلون بقوله تع))الى‪َ ﴿ :‬م))ا َو َّد َع))كَ َربُّكَ َو َم))ا قَلَى (‪َ )3‬ولَ ِخ) َرةُ‬
‫ض)ى﴾ [الض))حى‪ ،]5 )- 3 :‬وغيره))ا‬ ‫ك َربُّكَ فَتَرْ َ‬ ‫ك ِمنَ اأْل ُولَى (‪َ )4‬ولَ َسوْ فَ يُ ْع ِطي َ‬ ‫خَ ْي ٌر لَ َ‬
‫من اآليات الكريم)ة ال))تي وع))د هللا فيه))ا نبي)ه ‪ ‬ب))أال يتخلى عن)ه‪ ،‬وأن يعطي))ه ك)ل م))ا‬
‫يرضى‪ ،‬وأن يبعد عنه كل ما يؤذيه‪.‬‬
‫ولست أدري كيف غاب عنهم تلك اآليات الكريمة التي ت))ذكر م))ا آتى هللا أنبي))اءه‬
‫عليهم الصالة والسالم من معرفة المغيبات‪ ،‬كما قال تعالى عن يوسف عليه السالم‪﴿ :‬اَل‬
‫ْ))ل أَ ْن يَأْتِيَ ُك َم))ا َذلِ ُك َم))ا ِم َّما َعلَّ َمنِي َربِّي﴾‬
‫يَأْتِي ُك َم))ا طَ َع))ا ٌم تُرْ َزقَانِ)) ِه إِاَّل نَبَّأْتُ ُك َم))ا بِتَأْ ِويلِ)) ِه قَب َ‬
‫[يوسف‪]37 :‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وق))ال على لس))ان المس))يح علي)ه الس))الم‪َ ﴿ :‬وأنَبِّئُ ُك ْم بِ َم))ا تَ))أ ُكلُونَ َو َم))ا تَ) َّد ِخرُونَ فِي‬
‫بُيُوتِ ُك ْم ﴾ [آل عمران‪]49 :‬‬
‫وهكذا ورد في السنة النبوية الكثير من األحاديث التي تنبئ عن قدرات الرس))ول‬
‫‪ ‬الخارقة في هذا المجال‪ ،‬وهي دليل على كماالته الكثيرة‪ ،‬وال))تي هي نب))ع من فيض‬
‫إيمانه وتقواه‪ ،‬والتي ألجلها حصلت له تلك العصمة والحفظ اإللهي من أن يتسلط علي))ه‬
‫أي متسلط من اإلنس أو الجن‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذل))ك م))ا روي أن رجال ج))اء لرس))ول هللا ‪ ،‬فق))ال‪ :‬من أنت؟‬
‫قال‪ (:‬أنا نبي )‪ ،‬قال‪ :‬وما نبي؟ قال‪ (:‬رسول هللا )‪ ،‬قال‪ :‬متى تقوم الساعة؟ ق))ال‪ (:‬غيب‬
‫وال يعلم الغيب اال هللا )‪ ،‬قال‪ :‬أرني سيفك‪ ،‬فأعط))اه الن))بي ‪ ‬س))يفه‪ ،‬فه))زه الرج))ل‪ ،‬ثم‬
‫رده عليه‪ ،‬فق))ال رس))ول هللا ‪(:‬أم))ا ان))ك لم تكن تس))تطيع ذل))ك ال))ذي أردت)(‪ .. )1‬وفي‬
‫رواية‪ :‬ثم قال رسول هللا ‪ (:r‬إن هذا أقبل‪ ،‬فقال‪ :‬آتيه‪ ،‬فاسأله ثم آخ))ذ الس))يف‪ ،‬فاقتل))ه ثم‬
‫(‪)2‬‬
‫أغمد السيف )‬
‫ومن األمثلة على ذلك إخباره ‪ ‬بعض أصحابه بما حدث به نفسه من قتله ‪،‬‬
‫فعن شيبة بن عثمان قال‪ :‬لما فتح رسول هللا ‪ r‬مكة‪ ،‬قلت‪ :‬أسير مع قريش إلى هوازن‪،‬‬
‫بحنين فعسى أن اختلطوا أن أصيب غرة من محمد ف))أكون أن))ا ال))ذي قمت بث))أر ق))ريش‬
‫كلها‪ ،‬وأقول‪ :‬لو لم يب))ق من الع))رب والعجم أح))د إال أتب))ع محم))دا م))ا أتبع))ه أب))دا‪ ،‬فكنت‬
‫مرصدا لم)ا خ))رجت ل)ه ال ي)زداد األم))ر في نفس))ي إال ق))وة‪ ،‬فلم))ا اختل)ط الن)اس‪ ،‬اقتحم‬
‫رس))ول هللا ‪ ‬عن بغلت))ه‪ ،‬ف))دنوت من))ه‪ ،‬ورفعت س))يفي ح))تى ك))دت أس))وره‪ ،‬فرف))ع لي‬
‫شواط من نار كالبرق كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوف))ا علي))ه ف))التفت الي‬
‫رسول هللا ‪ ‬وقال‪(:‬ادن مني)‪ ،‬فدنوت فمسح صدري‪ ،‬وقال‪ (:‬اللهم اعذه من الشيطان‬

‫‪1‬‬
‫() رواه الحاكم وصححه والطبراني‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الطبراني‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫) فوهللا لهو من حينئذ أحب الي من س))معي وبص))ري ونفس))ي‪ ،‬وأذهب هللا م))ا ك))ان بي‪،‬‬
‫فقال‪(:‬يا شيبة‪ ،‬الذي أراد هللا بك خيرا مما أردت بنفسك؟) ثم ح))دثني بم))ا اض))مرت في‬
‫نفسي! فقلت‪ :‬بأبي أشهد أن ال اله اال هللا‪ ،‬وأنك رس))ول هللا‪ ،‬اس))تغفر لي ي))ا رس))ول هللا‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قال‪(:‬غفر هللا لك)‬
‫ومن األمثلة على ذلك م))ا روي في الس))يرة من ح))ديث عم))ير بن وهب لم))ا ج))اء‬
‫يريد قتل رسول هللا ‪ ،‬ففي الحديث أن رس))ول هللا ‪ ‬س))أله‪ :‬م))ا ج))اء ب))ك ي))ا عم))ير؟‬
‫فقال ‪ :‬جئت لهذا األسير الذي في أيديكم فأحس))نوا في))ه ؛ فق))ال ‪ :‬فم))ا ب))ال الس))يف في‬
‫عنقك؟ قال ‪ :‬قبحها هللا من سيوف‪ ،‬وه))ل أغنت عن))ا ش))يئا ؟ ق))ال ‪ :‬اص))دقني‪ ،‬م))ا ال))ذي‬
‫جئت له ؟ قال ‪ :‬ما جئت إال لذلك‪ ،‬فقال ل)ه ‪( :‬ب)ل قع)دت أنت وص)فوان بن أمي)ة في‬
‫الحج))ر‪ ،‬ف))ذكرتما أص))حاب القليب من ق))ريش‪ ،‬ثم قلت ‪ :‬ل))وال دين علي وعي))ال عن))دي‬
‫لخرجت حتى أقتل محمدا‪ ،‬فتح ّمل لك صفوان ب َديْنك وعيال)ك‪ ،‬على أن تقتل))ني ل)ه‪ ،‬وهللا‬
‫حائل بينك وبين ذلك) ؛ قال عمير ‪ :‬أشهد أنك رسول هللا‪ ،‬قد كن))ا ي))ا رس))ول هللا نك))ذبك‬
‫بما كنت تأتينا به من خبر السماء‪ ،‬وما ينزل عليك من الوحي‪ ،‬وهذا أمر لم يحضره إال‬
‫أن))ا وص))فوان‪ ،‬فوهللا إني ألعلم م))ا أت))اك ب))ه إال هللا‪ ،‬فالحم))د هلل ال))ذي ه))داني لإلس))الم‪،‬‬
‫وساقني هذا المساق‪ ،‬ثم شهد شهادة الحق‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬فقهوا أخاكم في دين))ه‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وأقرئوه القرآن‪ ،‬وأطلقوا له أسيره)‬
‫وهكذا حمى هللا تع))الى رس))وله ‪ ‬من ح))وادث كث))يرة ك))ان يمكن أن ت))ودي ب))ه‪،‬‬
‫ولكن هللا تعالى أنبأه عنها قبل أن تقع‪ ..‬وهذا ما يوقع أصحاب السنة المذهبية في ح))رج‬
‫عظيم‪ ..‬فكيف يخبر هللا نبيه ‪ ‬عن كل تلك الحوادث‪ ،‬ويخبره مباش))رة عم))ا يك))اد ل))ه‪،‬‬
‫من غير حاجة إلى مالك أو غيره‪ ..‬إال في حديث السحر‪ ..‬فهل ك))ان للس))حرة من الكي))د‬
‫والقدرة على التخفي ما لم يستطع رسول هللا ‪ ‬أن يطلع عليه؟‬
‫والعجيب أن أصحاب السنة المذهبية ممن يبالغون في الس))حر‪ ،‬وفي تعلم الرقي))ة‬
‫منه‪ ،‬يذكرون في كتبهم أن لهم القدرة على اكتشاف السحر من غ)ير حاج))ة إلى مالئك))ة‬
‫معصومين يخبرونهم به‪ ..‬فهل يجدون ألنفسهم من الطاقات للتواصل بعالم الغيب أك))ثر‬
‫مما كان عليه رسول هللا ‪.‬‬
‫بل إنهم يذكرون فيها أن السحرة والشياطين يمتلئون رعبا منهم‪ ،‬ومن مشايخهم‪،‬‬
‫وقصة حذاء اإلمام أحمد ورعب الشياطين منها معروفة‪ ،‬وهي مم))ا يح))رص أص))حاب‬
‫السنة المذهبية على ترديده كل حين لبيان منزلة إمامهم أحمد‪..‬‬
‫فقد جاء في كتاب (طبقات الحنابل))ة) للقاض))ي أبي الحس))ين بن أبي يعلى الف))راء‪:‬‬
‫أن اإلمام أحمد بن حنبل ك))ان يجلس في مس))جده‪ ،‬فأنف))ذ إلي))ه الخليف))ة العباس))ي المتوك))ل‬
‫صاحبا ً له يعلمه أن جارية بها صرع‪ ،‬وسأله أن يدعو هللا لها بالعافية‪ ،‬فأخرج له أحم))د‬
‫نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء فدفعه إلى صاحب له‪ ،‬وقال له‪ :‬امض إلى دار‬

‫‪ )(1‬رواه ابن سعد وابن عساكر‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫() سيرة ابن هشام‪.662 /1 :‬‬

‫‪81‬‬
‫أمير المؤمنين وتجلس عند رأس الجارية وتقول ل))ه‪ ،‬يع))ني الجن‪ :‬ق))ال ل))ك أحم))د‪ :‬أيم))ا‬
‫أحب إليك تخرج من هذه الجارية أو تصفع بهذه النعل س))بعين‪ .‬فمض))ى إلي))ه‪ ،‬وق))ال ل))ه‬
‫مثل ما قال اإلمام أحمد‪ ،‬فقال له المارد على لسان الجارية‪( :‬السمع والطاعة‪ ،‬لو أمرن))ا‬
‫أحمد أن ال نقيم بالعراق ما أقمنا به‪ ،‬إنه أط)اع هللا‪ ،‬ومن أط)اع هللا أطاع)ه ك))ل ش))يء)‪،‬‬
‫وخ))رج من الجاري))ة وه))دأت ورزقت أوالداً‪ ،‬فلم))ا م))ات أحم))د عاوده))ا الم))ارد‪ ،‬فأنف))ذ‬
‫المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المروذي وعرفه الح))ال‪ ،‬فأخ))ذ الم))روذي النع))ل ومض))ى‬
‫إلى الجارية‪ ،‬فكلمه العف))ريت على لس))انها‪ :‬ال أخ))رج من ه))ذه الجاري))ة وال أطيع))ك وال‬
‫أقبل منك‪ ،‬أحمد بن حنبل أطاع هللا‪ ،‬فأمرنا بطاعته(‪.)1‬‬
‫وإنما ذكرنا هذه القصة هنا ألن أصحاب السنة المذهبية يتفقون على العالق))ة بين‬
‫السحرة والشياطين‪ ،‬فقد نصوا على أن (السحر بجميع أنواع))ه في))ه اس))تخدام للش))ياطين‬
‫واس))تعانة به))ا‪ ،‬والش))ياطين ال تخ))دم إال من تق))رب إليه))ا بال))ذبح‪ ،‬أو باالس))تغاثة‪ ،‬أو‬
‫(‪)2‬‬
‫باالستعاذة‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬يعني أن يصرف إليها شيئا ً من أنواع العبادة)‬
‫والعجيب أنهم ينص))ون في ه))ذه القص))ة وفي غيره))ا على أن من أط))اع هللا ال‬
‫يضره شيء‪ ،‬وأنه محفوظ بحفظ هللا‪ ،‬وأن نعل اإلمام أحمد كانت له))ا ك))ل تل))ك الس))لطة‬
‫والسطوة على ع))الم العف))اريت‪ ..‬لكنهم إن ج))اءوا إلى رس))ول هللا ‪ ‬هون))وا من ش))أنه‪،‬‬
‫وسلطوا عليه كل شيء‪ ..‬وليتهم فقط اكتفوا بالتعامل معه كما تعاملوا مع اإلمام أحمد‪.‬‬
‫بعد هذا نسأل عن مدى تطبيق األحكام الواردة في الحديث‪ ،‬والذي بالغ في))ه أه))ل‬
‫السنة المذهبية أي مبالغة‪ ..‬وكان في األصل ـ بدل تلك المبالغات في تبديع منكريه ـ أن‬
‫يستفيدوا منه عمليا‪ ،‬كما هي عادتهم‪ ..‬ولكنا نج))دهم في ه))ذه الح))ديث يخالفون))ه مخالف))ة‬
‫تامة‪ ،‬بل ال يستفيدون منه إال ش))يئا واح))د يض))عونه ض))من عقائ))د أه))ل الس))نة‪ ،‬وهي أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬يمكن أن يسحر‪ ،‬وأنه سحر بالفعل‪ ،‬وبقي كذلك مدة طويلة‪.‬‬
‫وللداللة على هذا نذكر حكمين ـ يمكن استنتاجهما من الحديث ـ وقد تخلف))ا تخلف))ا‬
‫تاما في الواقع الفقهي ألصحاب السنة المذهبية‪:‬‬
‫أم)ا األول‪ :‬فه))و م)ا ورد في الح)ديث من ع)دم التع)رض للس)حرة‪ ،‬ال بقتلهم‪ ،‬وال‬
‫باستتابتهم‪ ،‬وهو أمر مخالف تماما لما يقول ب))ه أه))ل الس))نة المذهبي))ة ال))ذين ي))رون قت))ل‬
‫الساحر‪ ،‬ويتشددون في ذلك‪..‬‬
‫وسأنقل لكم هنا نص خطبة حماس))ية لرج))ل دين يفتخ))ر بتط))بيق بالده لحكم قت))ل‬
‫الساحر‪ ،‬ويستند فيها لبعض اآلثار الواردة عن الصحابة في ذلك(‪.. )3‬‬
‫يقول الخطيب ـ بحماسته التي ال أستطيع تصويرها ـ‪( :‬عب))اد هللا‪ :‬وحكم الس))احر‬
‫القتل‪ ،‬وقد جاء قتل الساحر عن ثالثة من أص)حاب الن)بي ‪ ‬وهم‪ :‬عم)ر بن الخط)اب‪،‬‬
‫وحفصة أ ُّم المؤمنين‪ ،‬وجندب األزدي رضي هللا عنهم أجمعين ‪ ..‬ففي صحيح البخاري‬
‫‪1‬‬
‫() طبقات الحنابلة‪.1/233 :‬‬
‫‪2‬‬
‫() التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ج ‪ / 1‬ص ‪)423‬‬
‫‪3‬‬
‫() الخطبة لعبد الرزاق بن عبد المحسن العباد‪ ،‬وهي موجودة على النت‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫عن بجالة بن عبدة قال‪ :‬كتب عمر بن الخطاب رض))ي هللا عن))ه‪( :‬أن اقتل))وا ك))ل س))احر‬
‫وساحرة)‪ ،‬قال‪ :‬فقتلنا ثالث سواحر‪ ..‬وروى اإلمام مالك في موطئه وعب))د ال))رزاق‪ :‬أن‬
‫حفصة زوج النبي ‪ ‬قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها‪ ،‬ف))أمرت به))ا فقتلت‪..‬‬
‫وروى البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النه))دي ق))ال‪ :‬ك))ان عن))د الولي))د رج))ل يلعب‬
‫فذبح إنسانا ً فعجبنا فأعاد رأسه‪ ،‬فج))اء جن)دب األزدي فقتل)ه‪ ،‬وفي رواي)ة أن))ه ق)ال‪( :‬إن‬
‫فليحي نفسه)‬
‫ِ‬ ‫كان صادقا ً‬
‫وهكذا راح يذكر اآلثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين وغيرهم‪ ..‬ولسنا‬
‫ندري كيف غاب ذلك الحديث الصحيح عنه؟‪ ..‬وهل كان رسول هللا ‪ ‬بتركه الس))احر‬
‫وعدم قتله له ـ في الحديث الذي يعتقد صحته ـ مقصرا؟‬
‫واستأنف الخطيب خطبته دون انتب))اه لس))ؤالي ال))ذي لم يخط))ر على بال))ه أص))ال‪،‬‬
‫فقال‪( :‬وقد اختلف أهل العلم في الس)احر ه)ل يس))تتاب أو يُقت)ل ب)دون اس)تتابة؟ وظ)اهر‬
‫عمل الصحابة في اآلثار المتقدمة أنه يُقتل من غير استتابة‪ .‬وذكر أق))وال أه))ل العلم في‬
‫المسألة وأدلة كل قول تجدها مبسوطة في كتب أه))ل العلم‪ ،‬ومن أجم))ع الكتب وأوعبه))ا‬
‫في هذه المسألة وغيره))ا من مس))ائل التوحي))د (كت))اب التوحي))د) لإلم))ام المج))دد والش))يخ‬
‫المصلح شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب رحمه هللا‪ ،‬وشروحاته كثيرة ومن أحس))نها‬
‫وأجمعها كتاب (تيسير العزيز الحميد) لحفيده وتلمي))ذه الش))يخ س))ليمان بن عب))د هللا رحم‬
‫هللا الجميع وجزاهم عن اإلسالم والمسلمين خير الجزاء)‬
‫وبعد أن برر هذا الحكم من الناحية العقدية راح يبرره من الناحية الواقعية ـ التي‬
‫إن قت))ل الس))احر وإزه))اق‬ ‫غابت ـ حسب الزم قوله ـ عن رس))ول هللا ‪ ‬ـ ‪( :‬عب))اد هللا‪َّ :‬‬
‫روحه فيه تخليصٌ للمجتمع المس))لم من أداة ش))ر وتخ))ريب وفت))ك بالمس))لمين‪ ،‬فالس))احر‬
‫شروره كثيرة وأخطاره عدي)دة وجنايت))ه على اإلس)الم والمس))لمين كب))يرة ؛ فه))و يش)تت‬
‫رابطة المجتم))ع المس))لم ويخلخ))ل كيان))ه‪ ،‬ويف))رِّ ق بين األس))ر المس))لمة‪ ،‬وينش))ر الع))داوة‬
‫والبغض))اء بين المس))لمين‪ ،‬ويزع))زع أمن المس))لمين‪ ،‬ويخ))رب دي))ارهم‪ ،‬وينقلهم إلى‬
‫الحضيض والهلكة)‬
‫بعد هذا يثني الثناء العطر على مملكته التي طبقت هذا الحكم الذي قصر رس))ول‬
‫هللا ‪ ‬ـ في تصورهم ـ عن تطبيقه‪ ،‬فقال‪( :‬ولهذا عباد هللا فإنَّا من هذا المنبر لنحمد هللا‬
‫تعالى ونثني عليه الخير كله على ما قيَّض))ه لحكوم))ة ه)ذه البالد ‪ -‬أيَّدها هللا وزاده))ا من‬
‫توفيق))ه وحرس))ها ‪ -‬من تتبُّع له))ؤالء المفس))دين وقط))ع ل))دابرهم واستئص))ال لش))أفَتهم‬
‫وشرورهم‪ .‬ومن ذلكم ما تم إعالن)ه ي)وم الجمع)ة الماض))ي من قِب)ل وزارة الداخلي)ة من‬
‫تنفيذ لحكم القتل في رجل ساحر لممارسته أعمال السحر والش))عوذة ووج))د في حيازت))ه‬
‫مجموعة من الكتب الشركية والخرافية‪ ،‬وجاء في القرار أن))ه نظ))راً لم))ا يحدث))ه الس))حر‬
‫والشعوذة من أضرار جس))يمة على الف))رد والمجتم))ع في ال))دين والنفس والم))ال والعق))ل‬
‫وأن ما فعله المدعى عليه فيه ضرر عظيم يستحق العقوبة الص))ارمة ال))تي تقط))ع ش))ره‬
‫صدِّق الحكم من هيئة التمييز ومن مجلس القض))اء‬ ‫وتردع غيره‪ ،‬فقد تقرر الحكم بقتله و ُ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫األعلى بهيئته الدائمة وصدر األمر السامي بإنفاذ ما تقرر شرعا بحقه‪ ،‬ونفذ الحكم ي))وم‬

‫‪83‬‬
‫الجمعة الماضي‪ .‬فلله الحمد أوالً وآخراً وله الشكر ظ))اهراً وباطن))ا على نعم))ه الجزيل))ة‬
‫وآله العظيمة التي ال تعد وال تحصى‪ ،‬ونسأله بمنِّه وكرمه أن يوفق والة األمر في ه))ذه‬
‫البالد لكل خير وأن يعينهم على تتبع هؤالء المجرمين وقطع دابر هؤالء المفسدين)‬
‫طبعا ليس لدينا الوسائل التي نتحقق بها من مدى عدال)ة ه)ذا الحكم ال))ذي طب))ق‪..‬‬
‫ولكنا مع ذلك نستغرب من هؤالء القوم ال))ذين يزعم))ون ألنفس))هم الس))نة‪ ..‬واحتكاره))ا‪..‬‬
‫ومع ذلك يتركون مثل ذلك الحديث الذي ال يستفيدون منه س))وى ش))يئا واح))دا‪ ،‬وه))و أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬مر في فترة من فترات حياته النبوية بهذه التجرب))ة المري))رة‪ ،‬ولم يخ))رج‬
‫منها إال بعد فترة طويلة‪.‬‬
‫واألمر الثاني الذي نستغرب ترك أه))ل الس))نة المذهبي))ة لتطبيق))ه م))ع أن الح))ديث‬
‫يدل عليه داللة صريحة ه)و ع)دم تخ))ريبهم لألم))اكن ال)تي يوج))د فيه))ا الس))حر‪ ..‬ول))ذلك‬
‫يكتفون بإزالة ما يعتبرون))ه س)حرا‪ ،‬أو يحرقون)ه‪ ،‬أو يتلفون)ه‪ ،‬دون إتالف المح))ل ال)ذي‬
‫وضع فيه‪ ،‬كما قال الشيخ ابن باز‪( :‬ينظر فيما فعله الس))احر‪ ،‬إذا ع))رف أن))ه مثال جع))ل‬
‫شيئا من ال َّشعر في مكان‪ ،‬أو جعله في أمشاط‪ ،‬أو في غير ذلك‪ ،‬إذا ع))رف أن))ه وض))عه‬
‫في المكان الفالني أزيل ه))ذا الش))يء وأح))رق وأتل))ف فيبط))ل مفعول))ه وي))زول م))ا أراده‬
‫(‪)1‬‬
‫الساحر )‬
‫مع أنه قد ورد في الح)ديث ال)وارد في الص)حيحين أن رس))ول هللا ‪ ‬أم)ر ب)دفن‬
‫البئر نفسها(‪ )2‬مع أن اآلبار في ذلك الحين كانت لها قيمته))ا‪ ..‬وم)ع أن الب))ئر ـ كم))ا ورد‬
‫في الح))ديث ـ ك))انت لرج))ل من األنص))ار‪ ..‬وم))ع ذل))ك ي))روون أن رس))ول هللا ‪ ‬أم))ر‬
‫بدفنها‪.‬‬
‫بعد هذه المناقشات نتعجب أن يرمى المنكرون لمثل هذه األحاديث بالبدع))ة‪ ،‬م))ع‬
‫أن الفقهاء وغيرهم ينكرون الكثير من األحاديث‪ ،‬وال يرون العم))ل به))ا‪ ،‬وق))د رأين))ا في‬
‫مقدمة الكتاب نموذجا عن موقف مالك وغيره من بعض األح))اديث‪ ..‬وم)ع ذل)ك لم ي)رم‬
‫مالك وال غيره بالبدعة‪ ..‬ولكن إذا تعلق األمر برسول هللا ‪ ‬وتنزيهه‪ ،‬فإن أه))ل الس))نة‬
‫المذهبية تثور فيهم الحمية‪ ،‬ويشهرون سيوف الحرمان والتبديع والتضليل في وجه من‬
‫يفعل ذلك حتى لو كانوا أعالما كبارا لهم حرمتهم وجاللتهم‪ ..‬ولكن لحومهم سرعان ما‬
‫تصبح حالال بمجرد أن يتجرؤوا فينكروا مثل تلك الروايات التي تسيء إلى رس))ول هللا‬
‫‪..‬‬
‫وال يمكننا هنا نقل التصريحات التي صرح بها أص))حاب الس))نة المذهبي))ة بتب))ديع‬
‫كل من تكلم في تلك األحاديث (‪ .. )3‬ولذلك نكتفي بذكر بعض أقوال العلماء الذين بُ ّدعوا‬

‫‪1‬‬
‫() مجموع فتاوى ومقاالت الشيخ ابن باز‪.)8/144( :‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() من ذلك قول النووى بعد إيراده لحديث السحر‪( :‬وقد أنك)ر بعض المبتدع))ة ه))ذا الح))ديث بس))بب‬
‫أنه يحط من مقام النبوة وشرفها ويشكك فيها‪ ،‬وأن تجويزه يمنع الثق))ة بالش))رع) المنه))اج ش))رح مس))لم‬
‫‪ ،7/430‬وانظر‪ :‬تأويل مختلف الحديث ص ‪.164‬‬

‫‪84‬‬
‫وحُذر منهم بسبب مواقفهم من أمثال تلك النصوص‪.‬‬
‫وأولهم المفسر الكبير الفخر الرازي الذي ق))ال في تفس))يره [مف))اتيح الغيب] عن))د‬
‫تفسير المعوذات في ذك))ر س))بب نزوله)ا وح))ديث س))حر الن)بي ‪( :‬ق))ال القاض))ي ه))ذه‬
‫رواي))ة باطل))ة ‪،‬وكي))ف يمكن الق))ول بص))حتها‪ ،‬وهللا تع))الى يق))ول ‪َ ﴿:‬وهّللا ُ يَع ِ‬
‫ْص ) ُمكَ ِمنَ‬
‫ْث أَتَى ﴾ [ ط)))ه‪ ] 69 :‬وألن‬ ‫اح ُر َحي ُ‬ ‫اس ﴾ [ المائ)))دة‪ ] 67 :‬وق)))ال‪َ ﴿ :‬واَل يُ ْفلِ ُح َّ‬
‫الس))) ِ‬ ‫النَّ ِ‬
‫تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ؛ وألنه لو ص))ح ذل))ك لك))ان من ال))واجب أن يص))لوا‬
‫إلى ضرر جميع األنبي)اء والص))الحين‪ ،‬ولق)دروا على تحص))يل المل))ك العظيم ألنفس))هم‪،‬‬
‫وكلُّ ذلك باط)لٌ‪ ،‬ولك)ان الكف)ار يعيرون)ه بأن)ه مس)حور‪ .‬فل))و وقعت ه)ذه الواقع)ة لك)ان‬
‫الكفار صادقين في تلك الدعوة‪ ،‬ولحصل فيه ‪ -‬علي))ه الس))الم ‪ -‬ذل))ك العيب‪ ،‬ومعل))وم أن‬
‫(‪)1‬‬
‫ذلك غير جائز)‬
‫ومنهم الفقي))ه والمفس))ر الحنفي الكب))ير أبو بكر الجص))اص ال))ذي ق))ال في كتاب))ه‬
‫[أحكام القرآن]‪ ( :‬زعموا أن النبي ‪ ‬سُحر‪ ،‬وأن السحر عمل فيه حتى أنه يتخي)ل أن)ه‬
‫يفعل الشيء ولم يفعله ‪ ..‬وقد قال هللا تعالى مكذبا ً للكفار فيما أدعوه من ذل))ك للن))بي ‪:‬‬
‫ال الظَّالِ ُمونَ إِ ْن تَتَّبِعُونَ إِاَّل َر ُجاًل َم ْسحُورًا﴾ [الفرقان‪ .. ]8 :‬ومثل ه))ذه األخب))ار من‬‫﴿ َوقَ َ‬
‫وض))ع الملح))دين تلعب)ا ً بالحش))وا الطغ))ام واس))تجرار لهم إلى الق))ول بإبط))ال معج))زات‬
‫(‪)2‬‬
‫األنبياء عليهم السالم‪ ،‬والقدح فيها)‬
‫ومنهم المح)دث الكب)ير جم)ال ال)دين القاس)مي ال)ذي لم يمنع)ه تخصص)ه في علم‬
‫الحديث من إنكار هذا الحديث‪ ،‬فقد قال‪( :‬وال غرابة في أن ال يقبل هذا الخبر لما برهن‬
‫عليه‪ ،‬وإن كان مخرَّجا ً في الصحاح ؛ وذلك ألنه ليس كل مخرج فيها س))الما ً من النق))د‪،‬‬
‫سنداً أو معنى‪ ،‬كما يعرفوه الراسخون‪ .‬على أن المناقش))ة في خ))بر اآلح))اد معروف))ة من‬
‫(‪)3‬‬
‫عهد الصحابة)‬
‫ومنهم األستاذ محمد عب))ده ال))ذي ق))ال في تفس))يره لس))ورة الفل))ق‪(:‬وق))د رووا هن))ا‬
‫أحاديث في أن النبي ‪ ‬سحره لبيد بن األعصم‪ ،‬وأثّر سحره فيه حتى ك))ان يخي))ل إلي))ه‬
‫أنه يفعل الشيء وهو ال يفعله أو يأتي شيئًا وهو ال يأتيه‪ ،‬وأن هللا أنب))أه ب))ذلك وأخ))رجت‬
‫مواد السحر من بئر وعوفي ‪ ‬مم))ا ك))ان ن))زل ب))ه من ذل))ك ون))زلت ه))ذه الس))ورة‪.‬وال‬
‫يخفى أن ثأثير السحر في نفسه عليه السالم حتى يصل به األمر إلى أن يظن أن))ه يفع))ل‬
‫شيئًا وهو ال يفعله‪ ،‬ليس من قبيل ت))أثير األم))راض في األب))دان‪ ،‬وال من قبي))ل ع))روض‬
‫السهو والنسيان في بعض األمور العادية‪ ،‬بل هو ماس بالعقل‪ ،‬آخذ بالروح‪ ،‬وه))و مم))ا‬
‫يص ّدق قول المشركين فيه‪﴿ :‬إن تتّبعون إالّ رجالً مسحو ًرا﴾‪ ،‬وليس المسحور عندهم إال‬
‫من خولط في عقله‪ ،‬وخيّل له أن شيئًا يقع وهو ال يقع‪ ،‬فيخيّ))ل إلي)ه أن))ه ي))وحى إلي))ه وال‬
‫يوحى إليه‪ .‬وقد كان كثير من المقلّدين الذين ال يعقلون م))ا هي النب))وة وم))ا يجب له))ا أن‬
‫‪1‬‬
‫() تفسير الرازي مفاتيح الغيب ج‪32‬ص‪.172‬‬
‫‪2‬‬
‫() أحكام القرآن‪.] 49 :1 [ :‬‬
‫‪3‬‬
‫() محاسن التأويل (‪.)577 /9‬‬

‫‪85‬‬
‫الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح‪ ،‬فيلزم االعتقاد به‪ ،‬وع))دم التص))ديق ب))ه‬
‫من بدع المبتدعين‪ ،‬ألنه ض))رب من إنك))ار الس))حر‪ ،‬وق))د ج))اء الق))رآن بص))حة الس))حر‪.‬‬
‫فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح‪ ،‬والحق الص))ريح في نظ))ر المقلّ))د بدع))ة‪ ،‬نع))وذ باهلل‪،‬‬
‫يحتج على ثبوت السحر‪ ،‬ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه ‪ ‬وع ّده من افتراء‬
‫المشركين عليه‪ ،‬وي))ؤول في ه))ذه وال ي))ؤول في تل))ك‪ ،‬م))ع أن ال))ذي قص))ده المش))ركون‬
‫ظاهر ألنّهم كانوا يقولون‪ :‬إن الشيطان يالبسه عليه السالم‪ ،‬ومالبسة الش))يطان تع))رف‬
‫بالسحر عندهم وضرب من ضروبه‪ ،‬وهو بعينه أثر السحر الذي نس))ب إلى لبي))د‪ ،‬فإن))ه‬
‫(‪)1‬‬
‫قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم)‬
‫ومن المحدثين الذين لم يستسيغوا ح))ديث الس))حر محم))د رش))يد رض))ا‪ ،‬وق))د ك))ان‬
‫موقف))ه ذل))ك س))ببا في ت))أليف الش))يخ مقب))ل ال))وادعي ـ وه))و علم كب))ير من أعالم الس))نة‬
‫المذهبي))ة ـ رس))الة في ال))دفاع عن س))حر الن))بي ‪ ،‬س))ماها (ردود أه))ل العلم على‬
‫الطاعنين في حديث السحر)‪ ،‬ومما ج))اء في مق))دمتها قول))ه‪( :‬إن من األم))ر ب))المعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬ومن الدعوة إلى هللا بل ومن الجهاد في س)بيل هللا بي)ان عقي)دة أه)ل‬
‫السنة والجماعة وال) ّ)ذب عنه)ا‪ ،‬وكش))ف ع)وار أه)ل الب)دع والملح))دين والتح))ذير منهم‪..‬‬
‫وجزى هللا أهل السنة خيرًا فهم من زمن قديم يتصدون ألهل البدع‪ ،‬حتى فضّل بعضهم‬
‫ال ّر ّد على أهل البدع على الجهاد في س))بيل هللا‪ ..‬وفي ه))ذا ال))زمن ش))اع وذاع أن جم))ال‬
‫الدين األفغاني‪ ،‬ومحمد عبده المصري‪ ،‬ومحمد رشيد رضا‪ ،‬من المجددين وأنّهم علماء‬
‫الفكر الحر‪ ،‬فقام غ))ير واح))د من المعاص))رين ببي))ان ض))اللهم وأنّهم مج) ّددون للض))الل‬
‫وترهات اإلع))تزال فعلمت حقيقتهم‪ ..‬فص))ارت معرف))ة ض))اللهم كلم))ة إجم))اع بين أه))ل‬
‫)وف حق))ه واغ))ت ّر بعض الن))اس ببعض كلمات))ه في‬ ‫الس))نة‪ ،‬لكن محم))د رش))يد رض))ا لم ي) ّ‬
‫الردود على بعض أهل البدع‪ ،‬وما يدري أن عنده من البدع والضالل ما يق))اربهم‪ ..‬ل))ذا‬
‫رأيت أن أكتب هذه الرسالة الموس))ومة بـ (ردود أه))ل العلم على الط))اعنين في ح))ديث‬
‫(‪)2‬‬
‫السحر وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية)‬

‫‪1‬‬
‫() مجلة المنار (‪)33 /33‬‬
‫‪2‬‬
‫() مقدمة الكتاب‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫هذا الكتاب‬

‫يحاول هذا الكتاب أن يكشف بعض المؤامرات التي حيكت لالنحراف بالص))ورة‬
‫المقدسة الجميلة لرسول هللا ‪ ‬والتي أمرنا بأن نقتدي بها ونجعلها مثلنا األعلى‪.‬‬
‫ذلك أنه تسلل إلى تراثنا‪ ،‬وخاصة كتب الح))ديث م))ا يجع))ل من رس))ول هللا ‪‬‬
‫شخصا مختلفا تماما عن الشخص الذي صوره القرآن الكريم‪ ،‬وصورته الس))نة النبوي))ة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫وقد قام بهذه الوظيفة التشويهية الخط))يرة أص))حاب القل))وب المريض))ة‪ ،‬ال))ذين‬
‫ذكر القرآن الكريم وجودهم في عهد رسول هللا ‪ ،‬وبين مواقفهم المختلفة من الحقائق‬
‫والمعجزات الباهرات التي كانوا يرونها رأي العين‪ ..‬لكنهم لسقمهم ال يبص))رونها‪ ،‬ألن‬
‫عيونهم الممتلئة بالعمش‪ ،‬وأنوفهم المزكومة تحول بينهم وبين إدراك الحقائق كما هي‪.‬‬
‫والمشكلة التي حصلت بعد ذلك هي تصورنا أن هذا الصنف من الناس قد زال‬
‫بمجرد وفاة رسول هللا ‪ .. ‬ومن هذه الثغرة األمني))ة الخط))يرة تس))لل ه))ؤالء ليش))وهوا‬
‫المعاني السامية للدين‪ ،‬فيحولوا سماحته عنفا‪ ،‬وسالمه حربا‪ ،‬وصفاءه ك))دورة‪ ،‬وس))عيه‬
‫لتحقيق كل القيم النبيلة إلى سعي لحربها والتنفير منه))ا‪ ،‬وق))د أع))انهم على ذل))ك انقط))اع‬
‫الوحي الذي كان يكشف خططهم‪ ،‬ويحذر من مؤامراتهم‪.‬‬

‫‪87‬‬

You might also like