You are on page 1of 172

‫هذا الكتاب‬

‫يتن اول ه ذا الكت اب ـ ع بر الوث ائق واألدل ة الكث يرة ـ‬


‫الصورة التي ترسمها المدارس السلفية هلل سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وهي ص ورة موغل ة في التجس يم والتش بيه‪ ،‬ومتناقض ة‬
‫تماما مع الرؤية التنزيهي ه ال تي ن زل به ا الق رآن الك ريم‪،‬‬
‫ودل عليها قبل ذلك العقل والفطرة السليمة‪.‬‬
‫وال يكتفي الكت اب بوص ف تل ك الص ورة من خالل‬
‫الرواي ات ال تي يعتم د عليه ا الس لفية أو أه ل الح ديث في‬
‫كتبهم‪ ،‬بل يض م إليه ا محاول ة البحث عن العل ل وال دوافع‬
‫ونحوها‪ ،‬والتي يتضح من خاللها منهج التفكير السلفي في‬
‫التصورات العقدية‪ ،‬والرؤية الكونية‪ ،‬والذي س رى ت أثيره‬
‫بعد ذلك في التصورات والمواقف المختلفة‪.‬‬
‫باإلض افة إلى ذل ك كل ه يح اول الكت اب أن يع رض‬
‫التأثيرات اليهودية على العقيدة السلفية‪ ،‬والتي نب ه الق رآن‬
‫الكريم إلى خطورتها‪ ،‬وح ذر األم ة من أن تق ع فيم ا وق ع‬
‫فيه سلفها من بني إسرائيل وغيرهم من التجسيم والتشبيه‪.‬‬
‫الدين والدجل‬

‫(‪)7‬‬

‫السلفية والوثنية المقدسة‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪ 1437‬هـ ‪2016-‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬


‫إهداء‬
‫هذا الكتاب هدية إلى الذين ال يزالون يفكرون بعقولهم من أبناء المدرسة‬
‫الس لفية‪ ،‬بتوجهاته ا المختلف ة‪ ،‬وه و ي دعوهم إلى إعم ال عق ولهم في ه ذه‬
‫المسائل الخطيرة التي يرتبط بها مصيرهم األبدي‪.‬‬
‫وأنا ال أقول لهم من خالله‪ :‬اتركوا عقائدكم المملوءة بالخرافة والتجس يم‬
‫والتشبيه‪..‬‬
‫وال أقول لهم‪ :‬اترك وا كتبكم وم راجعكم ال تي تتلونه ا أك ثر من تالوتكم‬
‫لكالم ربكم‪..‬‬
‫وال أقول لهم‪ :‬اتركوا أئمتكم الذين تقدسونهم أكثر مما تقدس ون رس ولكم‬
‫‪..‬‬
‫ولك ني أق ول لهم‪ :‬راجع وا جي دا م وقفكم من ربكم‪ ..‬وتص وركم ل ه ‪..‬‬
‫وتعاملكم معه‪ ..‬وانظروا إلى الحقائق العلمي ة ال تي تظه ر ك ل ي وم لتكش ف‬
‫زيف أئمتكم ودجلهم‪.‬‬
‫وهذا الكتاب لم يفعل سوى أن نقل لكم بضاعتكم كما هي في مص ادركم‬
‫التي تتعبدون بتالوتها‪ ،‬والخضوع المطل ق له ا‪ ،‬ولم يفع ل س وى أن وض ع‬
‫بجانبها ما يذكره القرآن الكريم‪ ،‬وما يقوله العقل الس ليم‪ ،‬وم ا تقول ه الفط رة‬
‫التي تعبد هللا وحده‪ ،‬وال تشرك مع ه س لفا وال خلف ا‪ ..‬لتخت اروا ألنفس كم أي‬
‫المذهبين أقوم‪ :‬مذهب التنزيه والتعظيم‪ ،‬أم مذهب التجسيم والوثنية؟‬

‫‪5‬‬
‫المحتويات‬
‫‪5‬‬ ‫إهداء‬
‫‪6‬‬ ‫المحتويات‬
‫‪8‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪31‬‬ ‫التعقل ‪ ..‬والتصور‬
‫‪40‬‬ ‫علماء الكالم‪:‬‬
‫‪45‬‬ ‫الصوفية‪:‬‬
‫‪51‬‬ ‫علماء الفلك‪:‬‬
‫‪58‬‬ ‫الجهة‪ ..‬والمكان‬
‫‪63‬‬ ‫الجهة‪:‬‬
‫‪76‬‬ ‫المكان‪:‬‬
‫‪88‬‬ ‫الحدود ‪ ..‬والمقادير‬
‫‪96‬‬ ‫المقادير الكبرى‪:‬‬
‫‪97‬‬ ‫الحجم‪:‬‬
‫‪106‬‬ ‫الكتلة‪:‬‬
‫‪111‬‬ ‫المقادير الصغرى‪:‬‬
‫‪116‬‬ ‫أعضاء ‪ ..‬ووظائف‬
‫‪126‬‬ ‫الوجه‪:‬‬
‫‪131‬‬ ‫الفم‪:‬‬
‫‪133‬‬ ‫العين‪:‬‬
‫‪136‬‬ ‫اليد‪:‬‬
‫‪144‬‬ ‫األصابع‪:‬‬
‫‪146‬‬ ‫القدم‪:‬‬
‫‪150‬‬ ‫الساق‪:‬‬
‫‪154‬‬ ‫التنقل ‪ ..‬والحركة‬
‫‪162‬‬ ‫الدنو والمماسة‪:‬‬
‫‪175‬‬ ‫اإلتيان والنزول‪:‬‬
‫‪187‬‬ ‫الصورة ‪ ..‬والرؤية‬
‫‪195‬‬ ‫الصورة‪:‬‬
‫‪207‬‬ ‫الرؤية‪:‬‬
‫‪219‬‬ ‫أقوال ‪ ..‬وأفعال‬
‫‪227‬‬ ‫الضحك والعجب‪:‬‬
‫‪232‬‬ ‫اللهو واللعب‪:‬‬
‫‪234‬‬ ‫الحاجة واالفتقار‪:‬‬
‫‪238‬‬ ‫الجور والظلم‪:‬‬

‫‪6‬‬
‫‪242‬‬ ‫المكر والخداع‪:‬‬
‫‪244‬‬ ‫السخرية واالستهزاء‪:‬‬
‫‪245‬‬ ‫الملل والسآمة‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫المقدمة‬
‫ال ش ك أن االهتم ام ب البحث عن معرف ة هللا‪ ،‬وب ذل ك ل الوس ائل والجه ود ألج ل‬
‫تحصيلها وتصحيحها‪ ،‬بل إفناء العمر في ذلك قليل جدا أمام عظمتها وأهميتها‪.‬‬
‫ذلك أننا إذا اعتبرنا الجهد المبذول في ذلك بقدر قيم ة المعرف ة‪ ..‬فليس هن اك قيم ة‬
‫في الوجود أعظم أو أهم من هللا‪ ..‬فاهلل هو مصدر كل قيمة في الوجود‪ ..‬بل هو مص در‬
‫كل حقيقة من حقائقه‪ ..‬فاهلل هو مصدر الفيزياء والكيمي اء والرياض يات‪ ..‬وه و مص در‬
‫علم النفس وعلم االجتماع والفلسفة ‪ ..‬وك ل علم من علم من عل وم ال دنيا‪ ،‬وك ل فن من‬
‫فنونه ا‪ ..‬ول ذلك من الغ ريب أن نهتم بتل ك العل وم والمع ارف‪ ،‬ونعطيه ا ك ل جهودن ا‪،‬‬
‫ونستعمل كل األدوات للتحقيق فيها‪ ،‬ثم ال نهتم بمعرفة مصدرها ومنبعها وبارئها‪.‬‬
‫وهك ذا إذا اعتبرن ا الجه د المب ذول بق در المص لحة‪ ..‬فليس هن اك مص لحة أعظم‬
‫لإلنسان من مصلحة تعرفه على رب ه‪ ،‬وارتباط ه ب ه‪ ..‬فمن ع رف هللا ع رف مواض ع‬
‫رضاه‪ ..‬ومن عرف مواضع رضاه نال مبتغاه‪ ..‬بل إن معرفة هللا نفس ها إكس ير أحم ر‬
‫يحول اإلنسان إلى جوهر نفيس من جواهر الوجود‪ ..‬وه و من دونه ا هب اء وس راب ال‬
‫قيمة له‪.‬‬
‫وقد أشار إلى هاتين الناحيتين في المعرفة اإللهية اإلمام جعفر الصادق عندما رأى‬
‫بعض الزهد في هذا النوع من المعرفة‪ ،‬فقال‪ ( :‬لو يعلم الناس ما في فضل معرف ة هللا‬
‫عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع هللا ب ه األع داء من زه رة الحي اة ال دنيا ونعيمه ا‪،‬‬
‫وكانت دنياهم أق َّل عندهم مما يطوونه بأرجلهم‪ ،‬ولن َِع ُموا بمعرفة هللا عز وج ل وتل ذذوا‬
‫(‪)1‬‬
‫بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء هللا)‬
‫ثم فص ل بعض آث ار ذل ك بقول ه‪( :‬إن معرف ة هللا ع ز وج ل أ ْنسٌ من ك ل وحش ة‪،‬‬
‫وصاحبٌ من كل وحدة‪ ،‬ونو ٌر من كل ظلمة‪ ،‬وقوةُ من كل ضعف‪ ،‬وشفا ٌء من كل سقم)‬
‫(‪)2‬‬

‫وأشار إلى ذلك أيضا اإلمام الحسين في بعض مواعظ ه‪ ،‬فق ال‪( :‬أيه ا الن اس إن هللا‬
‫جل ذكره ما خلق العباد إال ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه‪ ،‬فإذا عبدوه استغنوا بعبادت ه عن‬
‫(‪)3‬‬
‫عبادة من سواه)‬
‫وأش ار إلى ذل ك قبلهم ا اإلم ام علي‪ ،‬حين اعت بر أول ال دين وأساس ه معرف ة هللا‪،‬‬
‫فقال‪( :‬أو ُل الدين معرفته‪ ،‬وكما ُل معرفته التصديق ب ه‪ ،‬وكم ا ُل التص ديق ب ه توحي دُه‪،‬‬
‫ي الصفات عنه‪ ،‬لشهادة ك لِّ ص فة‬ ‫وكما ُل توحيده اإلخالصُ له‪ ،‬وكما ُل اإلخالص له نف ُ‬

‫‪1‬‬
‫الكافي‪.8/247:‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الكافي‪.8/247:‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫علل الشرائع‪.1/9:‬‬ ‫()‬

‫‪8‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أنها غير الموصوف‪ ،‬وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة)‬
‫وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن أولياء ه ذه األم ة ت دعو إلى االهتم ام ب البحث‬
‫الجاد عن المعرفة اإللهية من سبلها الصحيحة المعصومة‪ ،‬حتى ال يحيق بهذه األمة م ا‬
‫حاق بغيرها من األمم‪.‬‬
‫ذلك أن من عادة الشيطان ـ كما يخبر القرآن الك ريم ـ أن يب دأ بالس عي في تش ويه‬
‫هذه المعرفة‪ ،‬فإن تمكن من ذلك ال يبالي بعدها بشيء‪.‬‬
‫وقد أخبر القرآن الكريم عن نموذج من نماذج ذلك‪ ،‬وهو ما حص ل لب ني إس رائيل‬
‫بمجرد خروجهم من مصر‪ ..‬فقد كان أول ما طلبوه ـ بغواية من الشيطان ووسوته ـ أن‬
‫يجعل لهم موسى عليه السالم إلها كاآللهة التي تعبدها األمم من حولهم‪ ..‬ألنه عز عليهم‬
‫أن يعبدوا إلها ال يتمكنون من رؤيته‪.‬‬
‫وس ى لَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لَ كَ َحتَّى نَ َرى هَّللا َ َج ْه َرةً‬ ‫قال تعالى مشيرا إلى ذلك‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قُلتُ ْم يَا ُم َ‬
‫ْ‬
‫فَأَخَ َذ ْت ُك ُم الصَّا ِعقَةُ َوأَ ْنتُ ْم تَ ْنظُرُونَ ﴾ [البقرة‪]55 :‬‬
‫وهكذا ذكر القرآن الكريم حرصهم على الرؤية الجهرية الحسية هلل‪ ،‬ح تى عوقب وا‬
‫على ذلك(‪ ،)2‬ومع ذلك لم تثنهم تلك العقوب ة عن البحث عن إل ه حس ي يمكنهم أن ي روه‬
‫ويلمسوه‪.‬‬
‫ول ذلك بمج رد أن غ اب موس ى علي ه الس الم ص نعوا إله ا من ذهب ‪ ..‬وص اروا‬
‫يعبدونه غير مراعين لتلك التوجيهات التي كان هارون عليه السالم يقوم به ا م ع الثل ة‬
‫ضلَّهُ ُم‬‫ك َوأَ َ‬ ‫ال فَإِنَّا قَ ْد فَتَنَّا قَوْ َمكَ ِم ْن بَ ْع ِد َ‬
‫القليلة الذين معه‪ ،‬قال تعالى يصور ذلك بدقة‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ال يَ اقَوْ ِم أَلَ ْم يَ ِع ْد ُك ْم َربُّ ُك ْم َو ْع دًا‬
‫السَّا ِم ِريُّ (‪ )85‬فَ َر َج َع ُمو َسى إِلَى قَوْ ِم ِه غَضْ بَانَ أَ ِس فًا قَ َ‬
‫َض بٌ ِم ْن َربِّ ُك ْم فَ أ َ ْخلَ ْفتُ ْم َموْ ِع ِدي (‬ ‫ال َعلَ ْي ُك ُم ْال َع ْه ُد أَ ْم أَ َر ْدتُ ْم أَ ْن يَ ِح َّل َعلَ ْي ُك ْم غ َ‬ ‫َح َسنًا أَفَطَ َ‬
‫ك‬ ‫ك بِ َم ْل ِكنَا َولَ ِكنَّا ُح ِّم ْلنَ ا أَوْ زَارًا ِم ْن ِزينَ ِة ْالقَ وْ ِم فَقَ َذ ْفنَاهَا فَ َك َذلِ َ‬ ‫‪ )86‬قَالُوا َما أَ ْخلَ ْفنَا َموْ ِع َد َ‬
‫وس ى‬ ‫أَ ْلقَى السَّا ِم ِريُّ (‪ ﴾ )87‬فَأ َ ْخ َر َج لَهُ ْم ِعجْ اًل َج َسدًا لَهُ ُخ َوا ٌر فَقَ الُوا هَ َذا إِلَهُ ُك ْم َوإِلَ هُ ُم َ‬
‫ال‬ ‫ض ًّرا َواَل نَ ْفعًا (‪َ )89‬ولَقَ ْد قَ َ‬ ‫ك لَهُ ْم َ‬ ‫فَن َِس َي (‪ )88‬أَفَاَل يَ َروْ نَ أَاَّل يَرْ ِج ُع إِلَ ْي ِه ْم قَوْ اًل َواَل يَ ْملِ ُ‬
‫لَهُ ْم هَا ُرونُ ِم ْن قَ ْب ُل يَاقَوْ ِم إِنَّ َما فُتِ ْنتُ ْم بِ ِه َوإِ َّن َربَّ ُك ُم ال رَّحْ َمنُ فَ اتَّبِعُونِي َوأَ ِطي ُع وا أَ ْم ِري (‬
‫‪ )90‬قَالُوا لَ ْن نَب َْر َح َعلَ ْي ِه عَا ِكفِينَ َحتَّى يَرْ ِج َع إِلَ ْينَا ُمو َسى (‪[ ﴾)91‬طه‪]91 - 85 :‬‬
‫وما حصل في بني إسرائيل حصل مثله ـ لألس ف ـ في ه ذه األم ة‪ ،‬حين ض يعت‬
‫وصية نبيها في البعد عن كل ما يمكن أن يحرف هذا الدين‪ ،‬ويشوه جمال عقائ ده‪ ،‬وق د‬
‫ورد في الحديث الصحيح ـ الذي يمث ل وص ية من أعظم وص ايا رس ول هللا ‪ ‬ـ ‪ :‬أن‬
‫عم ر أتى رس ول هللا ‪ ‬بكت اب أص ابه من بعض أه ل الكت اب‪ ،‬فغض ب‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫نهج البالغة‪.1/14:‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() وقد ورد في الكتاب المقدس ما يشير إلى هذه النزعة التجسيمية‪ ،‬ففي س فر الخ روج [اإلص حاح ‪( :]1 ،32‬ولم ا‬
‫رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا ل ه قم اص نع لن ا آله ة تس ير أمامن ا)‪،‬‬
‫وفيه [‪( :].1 ،13/20‬وارتحلوا من سكوت ونزلوا في طرف البرية وك ان ال رب يس ير أم امهم نه ارا في عم ود س حاب‬
‫ليهديهم الطريق وليالً في عمود نار ليضيء لهم‪ ،)..‬وفي [سفر الخروج ‪( :]11-24/9‬صعد موس ى وه ارون‪ ..‬وس بعون‬
‫من شيوخ إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق األزرق الشفاف‪ ..‬لكنه لم يمد ي ده إلى أش راف‬
‫بني إسرائيل فرأوا هللا وأكلوا وشربوا)‪ ،‬إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫(أمتهوكون فيها يا ابن الخط اب؟! وال ذي نفس ي بي ده‪ ،‬لق د جئتكم به ا بيض اء نقي ة‪ ،‬ال‬
‫تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به‪ ،‬والذي نفس ي بي ده‬
‫لو أن موسى ‪ -  -‬كان حيا ما وسعه إال أن يتبعني)(‪)1‬‬
‫لكن األم ة لألس ف‪ ،‬وخصوص ا الس لفية منهم‪ ،‬عرف وا كي ف يحت الون على ه ذا‬
‫الحديث‪ ،‬ويضعوا بدله حديثا يقول‪( :‬ال تكتبوا عني ش يئا غ ير الق رآن‪ ،‬فمن كتب ع ني‬
‫شيئا غير القرآن فليمحه‪ ..‬وحدثوا عن بني إسرائيل وال حرج)(‪)2‬‬
‫ومن العجائب في هذا الحديث أنه ينهى عن كتابة ح ديث رس ول هللا ‪ ،‬في نفس‬
‫الوقت الذي يجيز الحديث عن بني إسرائيل‪..‬‬
‫وقد صار ـ لألسف ـ العمل بالحديث األخ ير‪ ،‬ب دل الح ديث األول على ال رغم من‬
‫غضب رسول هللا ‪ ‬الشديد من رؤية صحيفة التوراة بيد مسلم‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك راحت األمة تنهل عقائدها في هللا تعالى وفي الرس ل عليهم الص الة‬
‫والسالم وفي عوالم الغيب من أهل الكتاب بدل أن تأخ ذها من مص ادرها المعص ومة‪..‬‬
‫خاصة وأن أولئك اليهود الذين س لم لهم أم ر ال دين ك انوا من أق رب المق ربين للمل وك‬
‫واألمراء‪ ..‬فكثر أتباعهم لذلك‪ ..‬وكثرت طرق األحاديث ال تي يروونه ا‪ ،‬واختلطت م ع‬
‫أحاديث رسول هللا ‪ .. ‬وأصبحت الس نة هي الوع اء ال ذي يحم ل أمث ال تل ك العقائ د‬
‫اليهودية التي تسربت لإلسالم‪.‬‬
‫ومن هنا تس لل الش يطان له ذه األم ة ليص نع له ا إله ا يتواف ق م ع الرؤي ة المادي ة‬
‫الحسية‪..‬‬
‫وق د ت ولى من يس مون أنفس هم [الس لفيين]‪ ،‬و[أه ل الح ديث]‪ ،‬و[أه ل الس نة‬
‫والجماع ة] ال دعوة إلى ه ذه المعرف ة الحس ية التجس يمية هلل‪ ،‬ف ألفوا في ذل ك الكتب‬
‫ووضعوا األحاديث وحرفوا معاني القرآن الكريم لتنسجم انسجاما تاما م ع تل ك الرؤي ة‬
‫المادية الحسية‪.‬‬
‫وكان أول ما فعلوه هو رميهم بالبدعة والضاللة كل تل ك ال دعوات الص ادقة ال تي‬
‫ك ان ين ادي به ا أولي اء هللا من أه ل بيت النب وة‪ ،‬مح ذرين من أن تق ع ه ذه األم ة في‬
‫التجسيم الذي وقع فيه بنو إسرائيل‪..‬‬
‫وق د روي أن اإلم ام جعف ر الص ادق ذك رت ل ه بعض الرواي ات التجس يمية ال تي‬
‫كانت تنتشر في عصره انتشار النار في الهشيم‪ ،‬وخاصة بين المحدثين‪ ،‬فقال‪( :‬س بحان‬
‫ص يرُ﴾ [الش ورى‪:‬‬ ‫الس ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َوهُ َو َّ‬
‫من ال يعلم أحد كيف هو إال هو‪﴿ ،‬لَي َ‬
‫‪، ]11‬ال يحد وال يحس وال يجس وال تدركه األبص ار وال الح واس وال يحي ط ب ه ش ئ‬
‫(‪)3‬‬
‫وال جسم وال صورة وال تخطيط وال تحديد)‬
‫ش أو خ نى أعظ ُم من‬ ‫وقال في محل آخ ر‪( :‬إن هللا تع الى ال يش بهه ش يء‪ ،‬أي فح ٍ‬
‫قول من يصف خالق األشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعض اء‪ ،‬تع الى هللا‬ ‫ٍ‬
‫مسند اإلمام أحمد بن حنبل‪ 3/387 :‬ح(‪.)15195‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫البخاري (‪ 496 / 6‬رقم ‪ )3461‬والترمذي (‪ 432 - 431 / 7‬رقم ‪)2806‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪ )(3‬الكافي للكليني‪.1/104‬‬

‫‪10‬‬
‫عن ذلك علواً كبيراً)‬
‫(‪)1‬‬

‫وقال‪( :‬من زعم أن هللا في ش ىء‪ ،‬أو من ش ىء‪ ،‬أو على ش ىء فق د أش رك‪ .‬إذ ل و‬
‫كان على شىء لكان محموال‪ ،‬ولو كان في شىء لك ان محص ورا‪ ،‬ول و ك ان من ش ىء‬
‫(‪)2‬‬
‫لكان محدثا‪ -‬أي مخلوقا)‬
‫ومثله قال اإلمام الكاظم لما ذكر له بعض المجسمة ممن يزعمون ص حبته‪( :‬قاتل ه‬
‫هللا أم ا علم أن الجس م مح دود والكالم غ ير المتكلم‪ ،‬مع اذ هللا وأب رأ إلى هللا من ه ذا‬
‫القول‪ ،‬ال جسم وال ص ورة وال تحدي د وك ل ش يء س واه مخل وق‪ ،‬إنم ا تك ون األش ياء‬
‫(‪)3‬‬
‫بإرادته ومشيئته من غير كالم وال تردد في نفس وال نطق بلسان)‬
‫وهكذا قال اإلمام الرضا‪( :‬إنه ليس منا من زعم أن هللا عزوجل جس م‪ ،‬ونحن من ه‬
‫(‪)4‬‬
‫برآء في الدنيا واآلخرة‪ ،‬يا ابن أبي دلف إن الجسم محدث‪ ،‬وهللا محدثه ومجسمه)‬
‫وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن اإلمام علي في المصادر السنية والشيعية ت بين‬
‫حقيقة المعرفة اإللهية‪ ،‬وأنها معرفة تنزيهية تعظيمية‪ ،‬ال حسية تجس يمية‪ ،‬ومنه ا قول ه‬
‫(‪)5‬‬
‫المشهور‪( :‬كان هللا وال مكان‪ ،‬وهو اآلن على ما عليه كان)‬
‫لكن األمة لألسف‪ ،‬وأهل الحديث منهم خصوصا‪ ،‬وألس باب كث يرة أعرض ت عن‬
‫هؤالء‪ ،‬وعن تلك التحذيرات الخطيرة التي لم تكن تختلف عن تلك التحذيرات التي كان‬
‫يصيح بها هارون عليه السالم في بني إسرائيل‪.‬‬
‫وكان أول االنحراف هو قبولها للتفسير اليهودي للقرآن الكريم‪..‬‬
‫وك ان أول س امري تقرب ه األم ة‪ ،‬وتث ق في ه‪ ،‬وتس لمه كتابه ا ليفس ره له ا ـ بع د‬
‫إعراضها عن هارونها(‪ )6‬ـ هو كعب األحبار‪ ..‬ومن هنا بدأت ص ناعة ال وثن المق دس‪،‬‬
‫والذي ال يختلف كثيرا عن الوثن اإلسرائيلي‪.‬‬
‫فق د ك ان لكعب األحب ار ‪ ..‬ولتالمي ذه الب ارزين من الص حابة والت ابعين ‪ ..‬ت أثيره‬
‫العظيم في تأسيس صرح الوثنية في هذه األمة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك هذه الرواي ة ال تي تطفح بالتجس يم‪ ،‬وال تي يق ول فيه ا كعب‬
‫األحبار ـ متحدثا عن هللا بكل جرأة ـ‪( :‬قال هللا عز وجل‪ :‬أنا هللا ف وق عب ادي وعرش ي‬
‫فوق جمي ع خلقي‪ ،‬وأن ا على الع رش أدب ر أم ر عب ادي‪ ،‬ال يخفى علي ش يء من أم ر‬
‫عبادي في سمائي وأرضي‪ ،‬وإن حُجبوا ع ني فال يغيب عنهم علمي‪ ،‬وإلي مرج ع ك ل‬
‫خلقي فأنبئهم بم ا خفي عليهم من علمي‪ ،‬أغف ر لمن ش ئت منهم بمغف رتي‪ ،‬وأع ذب من‬

‫‪ )(1‬الكافي‪.1/105‬‬
‫‪2‬‬
‫() الرسالة القشيرية (ص‪.)6 /‬‬
‫‪ )(3‬الكافي ‪ 106 /1‬وهو في التوحيد للشيخ الصدوق ص ‪ 99‬واالحتجاج للشيخ الطبرسي ‪2/155‬‬
‫‪ )(4‬التوحيد للصدوق ‪ 104‬وانظر نور البراهين لنعمة هللا الجزائري ‪ 265‬وبحار األنوار للمجلسي ‪84/197‬‬
‫‪5‬‬
‫الفرق بين الفرق ألبي منصور البغدادي [ ص ‪.] 333 /‬‬ ‫()‬
‫‪ )(6‬أشير به إلى قوله ‪ ‬لعلي في الحديث الصحيح‪( :‬أال ترضى ْ‬
‫أن تك ون منّي بمنزل ة ه ارون من موس ى إالّ أنّ ه ال‬
‫نبي بعدي) [صحيح البخاري ‪ ،24 / 5‬صحيح مسلم ‪]1870 / 4‬‬

‫‪11‬‬
‫(‪)1‬‬
‫شئت منهم بعقابي)‬
‫ولألسف فإن هذه الرواية‪ ،‬وم ع كونه ا ح ديثا عن هللا تع الى‪ ،‬أو م ا يس مى ح ديثا‬
‫قدسيا‪ ،‬واألصل فيه أن ال يؤخذ إال عن معصوم‪ ،‬لكن أهل الحديث غضوا الط رف عن‬
‫ذلك‪ ،‬بل تلقوها‪ ،‬وكأنها قرآن منزل(‪ ...)2‬ألن كعب األحبار يهودي‪ ،‬وما دام كذلك‪ ،‬فكل‬
‫ما يقوله إنما ينقله من الكتب السماوية التي أوحاها هللا ألنبيائه‪.‬‬
‫ولهذا نرى محدثا كبيرا يعتبر من أئمة المدرسة السلفية يتلقى هذه الرواية ب احترام‬
‫عظيم‪ ،‬ويقول ـ بنبرة تجس يمية ال تختل ف عن تجس يم اليه ود ـ ‪(:‬وإنم ا يع رف فض ُل‬
‫وعظ ُم القدرة بأن هللا تعالى من فوق عرشه‪ ،‬وبع د مس افة الس موات واألرض‬ ‫الربوبية ِ‬
‫ْ‬
‫يعلم ما في األرض وما تحت الثرى وهو مع كل ذي نجوى‪ ،‬ول ذلك ق ال‪َ ﴿ :‬ع الِ ُم ال َغ ْي ِ‬
‫ب‬
‫َوال َّشهَا َد ِة ﴾ [األنعام‪ ،]73 :‬ول و ك ان في األرض كم ا ادعيتم بجنب ك ل ذي نج وى م ا‬
‫ب أن ينبئهم بما عملوا يوم القيامة فل و كن ا نحن بتل ك المنزل ة منهم لنبأن ا ك ل‬ ‫كان بعج ٍ‬
‫(‪)3‬‬
‫عامل منهم بما عمل)‬
‫بل إن كعب األحبار ـ ونتيجة لالحترام الكب ير ال ذي لقي ه من التجس يميين في ه ذه‬
‫األمة‪ ،‬وبرعاية من السلطة السياسية ـ يقول ـ جوابا لمن سأله‪ :‬أين ربنا؟ ـ ‪(:‬س ألت أين‬
‫ربنا‪ ،‬وهو على العرش العظيم متكئ‪ ،‬واضع إحدى رجليه على األخرى‪ ،‬ومسافة ه ذه‬
‫األرض ال تي أنت عليه ا خمس مائة س نة ومن األرض إلى األرض مس يرة خمس مئ ة‬
‫سنة‪ ،‬وكثافتها خمس مئة سنة‪ ،‬حتى ت ّم سبع أرضين‪ ،‬ثم من األرض إلى السماء مسيرة‬
‫خمس مئة سنة‪ ،‬وكثافتها خمس مئة سنة‪ ،‬وهللا على الع رم متكئ‪ ،‬ثم تفط ر الس موات‪..‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ات يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْن فَوْ قِ ِه َّن ﴾ [الشورى‪)]5 :‬‬ ‫او ُ‬ ‫ثم قال‪ :‬إقرؤوا إن شئتم‪﴿ :‬تَ َكا ُد ال َّس َم َ‬
‫والخطورة في هذه الرواية ـ والتي تلقاها التيار السلفي بالقبول واإلذعان التام ـ هو‬
‫تحريفها للمعاني القرآنية‪ ،‬وتغييرها عن سياقها ومدلوالتها المقدس ة لتتح ول إلى مع ان‬
‫تجسيمية وثنية‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ه ذه الرواي ة ال تي رواه ا الس يوطي في (ال در المنث ور في‬
‫التفسير بالمأثور) عن كثير من المحدثين‪ ،‬ومما ورد فيها‪ :‬فقال عم ر بن الخط اب عن د‬
‫ذل ك‪ :‬أال تس مع ي ا كعب م ا يح دثنا ب ه ابن أم عب د عن أدنى أه ل الجن ة م ا ل ه فكي ف‬
‫بأعالهم؟ قال‪( :‬ي ا أم ير المؤم نين م ا ال عين رأت وال أذن س معت‪ ،‬إن هللا ك ان ف وق‬
‫العرش والماء‪ ،‬فخلق لنفسه دارا بيده‪ ،‬فزينها بما شاء وجعل فيها ما ش اء من الثم رات‬
‫والشراب‪ ،‬ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها جبريل وال غيره من المالئك ة ثم‬
‫قرأ كعب‪﴿ :‬فَاَل تَ ْعلَ ُم نَ ْفسٌ َما أُ ْخفِ َي لَهُ ْم ِم ْن قُ َّر ِة أَ ْعي ٍُن َج َزا ًء بِ َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [الس جدة‪:‬‬
‫(‪)5‬‬
‫‪]17‬‬
‫وهكذا نجد المدرسة السلفية تتلقى كل ما يذكره كعب األحبار‪ ،‬وكأنه ق رآن م نزل‪،‬‬
‫‪ )(1‬العظمة ‪.2/626‬‬
‫‪ )(2‬العرش للذهبي ‪.2/148‬‬
‫‪ )(3‬نقض عثمان بن سعيد ‪.443‬‬
‫‪4‬‬
‫تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (‪.)501 /21‬‬ ‫()‬

‫‪12‬‬
‫وقد دافع ابن تيمية كثيرا عن أمثال هذه الروايات‪ ،‬بل إنه ذكر م ا ي دل على أن مرج ع‬
‫كعب فيها فيما يذكره من إسرائيليات هي التوراة الصحيحة‪ ،‬فقد قال في دقائق التفسير‪:‬‬
‫(وعمر بن الخطاب رضي هللا عنه لما رأى بيد كعب األحبار نسخة من التوراة ق ال ي ا‬
‫كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها هللا على موسى بن عم ران فاقرأه ا‪،‬‬
‫فعلق األمر على ما يمتنع العلم به‪ ،‬ولم يجزم عمر رضي هللا عنه بأن ألفاظ تل ك مبدل ة‬
‫لما لم يتأمل كل ما فيه ا‪ ،‬والق رآن والس نة المت واترة ي دالن على أن الت وراة واإلنجي ل‬
‫الموجودين في زمن النبي ‪ ‬فيهما م ا أنزل ه هللا ع ز وج ل‪ ،‬والج زم بتب ديل ذل ك في‬
‫جميع النسخ ال تي في الع الم متع ذر‪ ،‬وال حاج ة بن ا إلى ذك ره‪ ،‬وال علم لن ا ب ذلك‪ ،‬وال‬
‫يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نس خة في الع الم بجمي ع األلس نة من الكتب‬
‫(‪)1‬‬
‫متفقة على لفظ واحد‪ ،‬فإن هذا مما ال يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره)‬
‫ولم تكتف المدرسة السلفية بإمامة كعب األحبار‪ ،‬بل بحثت عن أي يهودي ليعرفها‬
‫بربها‪ ،‬وكأن القرآن الكريم لم يف لهم بالغرض‪ ،‬فراحوا يبحثون في األمم األخ رى من‬
‫يفسره‪.‬‬
‫ومن هؤالء الذين نجد رواياتهم الكثيرة في كتب عقائد السنة وهب بن منبه ‪ ..‬ومن‬
‫رواياته قوله‪( :‬إن السموات السبع والبحار لفي الهيكل(‪ )2‬وإن الهيكل لفي الكرسي‪ ،‬وإن‬
‫(‪)3‬‬
‫قدميه لعلى الكرسي وهو يحمل الكرسي وقد عاد الكرسي كالنعل في قدميه)‬
‫وقد علقه عليه ال ذهبي بقول ه‪( :‬ك ان وهب من أوعي ة العل وم‪ ،‬لكن ُج َّل علم ه عن‬
‫أخبار األمم السالفة‪ ،‬كان عنده كتب كثيرة إسرائيليات‪ ،‬كان ينقل منها لعله أوسع دائ رة‬
‫من كعب األخبار‪ ،‬وهذا الذي وص فه من الهيك ل وأن األرض ين الس بع يتخلله ا البح ر‬
‫ً (‪)4‬‬
‫وغير ذلك فيه نظر وهللا أعلم‪ ،‬فال نرده وال نتخذه دليال)‬
‫والعجب من ه ذه المقول ة ال تي ال تس من وال تغ ني من ج وع‪ ..‬فهم ي روون ه ذه‬
‫الرواية وغيرها في كتب التفسير والحديث والعقيدة‪ ..‬ويستخلص ون م ا فيه ا من فوائ د‬
‫عقدية‪ ..‬ثم بعد ذلك ـ ومن باب التقية ـ يقولون‪( :‬ال نرده وال نتخذه دليالً)‬
‫وهكذا نجد إماما من أئمة اليهود مثل محمد بن كعب القرظي يعقد المجالس ليفس ر‬
‫القرآن على الطريقة اليهودية‪ ،‬كقوله‪(:‬كأن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمن يوم‬
‫(‪.)5‬‬
‫القيامة فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك)‬
‫ومثله عبد هللا بن سالم الذي رووا عنه قوله‪( :‬والذي نفس ي بي ده إن أق رب الن اس‬

‫‪5‬‬
‫الدر المنثور في التفسير بالمأثور‪.)259 /8( :‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫دقائق التفسير (‪)58 /2‬‬ ‫()‬
‫‪ )(2‬الهيكل البناء المشرف‪ ،‬مختار الصحاح‪ ،‬الرزاي ‪.1/290‬‬
‫‪ )(3‬السنة ‪.2/477‬‬
‫‪ )(4‬العلو ‪.1/130‬‬
‫‪ )(5‬السنة ‪.1/148‬‬

‫‪13‬‬
‫(‪)1‬‬
‫يوم القيامة محمد ‪ ‬جالس عن يمينه على كرسي)‬
‫وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على تفريط األمة في تلك الوصايا الكثيرة ال تي‬
‫حذر فيها رسول هللا ‪ ‬من أن ترغب األمة عن كتاب هللا إلى غيره من الكتب‪.‬‬
‫ومن هذه البوابة دخلت المعرفة التجسيمية اليهودية كتب المسلمين‪ ..‬ب ل ألفت فيه ا‬
‫المؤلفات الكثيرة بأسماء خطيرة‪ ..‬كعقيدة السلف‪ ،‬وعقيدة أهل األثر‪ ،‬وعقيدة أهل السنة‬
‫والجماعة‪ ،‬مث ل‪( :‬عقي دة أه ل الس نة أص حاب الح ديث) لإلم ام إس ماعيل الص ابوني‪،‬‬
‫و(شرح أصول اعتقاد أهل السنة) لاللكائي ‪..‬‬
‫أو باسم التوحيد‪ ،‬مثل (كتاب التوحي د وإثب ات ص فات ال رب) لإلم ام ابن خزيم ة‪،‬‬
‫و(اعتقاد التوحيد) ألبي عبد هللا محمد بن خفيف‪ ،‬و(كتاب التوحيد) البن منده‪.‬‬
‫أو باسم السنة‪ ،‬وهذه ظاهرة خطيرة شملت كثيرا من المؤلفات في القرون األولى‪،‬‬
‫ككتاب (السنة) لإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬وك ذلك الس نة البن ه عب د هللا‪ ،‬و(الس نة) للخالل‪،‬‬
‫و(السنة) للعسال‪( ،‬السنة) لألثرم‪ ،‬و(السنة) لـأبي داود‪ ..‬وخطورة هذه التس مية هي م ا‬
‫توحيه بأن العقائد التجسيمية الواردة فيها عقائد سنية‪ ،‬أي ليست عقائد مبتدع ة‪ ..‬وهك ذا‬
‫تحول التنزيه بفعل تلك الكتب بدعة‪ ..‬وتحول التجسيم سنة‪.‬‬
‫ولهذا نج د ابن تيمي ة ‪ -‬م ع تحذيرات ه الكث يرة من كتب المنزه ة في العقائ د ككتب‬
‫األشاعرة والمعتزلة واإلباضية واإلمامي ة وتش نيعه عليه ا – ي دعو إلى مطالع ة الكتب‬
‫المش حونة بالتجس يم والتش بيه‪ ،‬ويعتبره ا وح دها كتب التوحي د والس نة‪ ..‬وق د ق ال في‬
‫(مجموع الفتاوى) عند حديثه عن مذهب السلف في األسماء والصفات‪( :‬وكالم الس لف‬
‫في هذا الباب موجود في كتب كثيرة ال يمكن أن ن ذكر هاهن ا إال قليالً من ه مث ل كت اب‬
‫(السنن) لاللكائي‪ ،‬و(اإلبانة) البن بطة‪ ،‬و(السنة) ألبي ذر الهروي‪ ،‬و(األص ول) ألبي‬
‫عمرو الطلمنكي‪ ،‬وكالم أبي عمر بن عب دالبر‪ ،‬و(األس ماء والص فات) لل بيهقي‪ ،‬وقب ل‬
‫ذلك (الس نة) للط براني‪ ،‬وألبي الش يخ األص بهاني وألبي عبدهللا بن من ده وألبي أحم د‬
‫العسّال األصبهانيين‪ ،‬وقبل ذلك (الس نة) للخالّل‪ ،‬و(التوحي د) البن خزيم ة‪ ،‬وكالم أبي‬
‫العباس بن سريج‪ ،‬و(ال رد على الجهمي ة) لجماع ة مث ل‪ :‬البخ اري‪ ،‬وش يخه عبدهللا بن‬
‫محمد بن عبدهللا الجعفي‪ ،‬وقبل ذلك (الس نة) لعبدهللا بن أحم د‪ ،‬و(الس نة) ألبي بك ر بن‬
‫األث رم‪ ،‬و(الس نة) لحنب ل‪ ،‬وللم روزي وألبي داود السجس تاني‪ ،‬والبن أبي ش يبة‪،‬‬
‫و(السنة) ألبي بكر بن أبي عاصم‪ ،‬وكتاب (خلق أفعال العباد) للبخاري‪ ،‬وكت اب (ال رد‬
‫(‪)2‬‬
‫على الجهمية) لعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم)‬
‫وما ذكرناه هنا عن التشابه بين العقائد السلفية والعقائد اليهودي ة ليس تهم ة نتهمهم‬
‫بها‪ ،‬بل هي الحقيقة التي تدل عليها المقارنات التي سنذكرها بتفصيل في هذا الكتاب‪.‬‬
‫بل تدل عليها تصريحات أئمتهم الذين لم يكتفوا بالنصيحة ب العودة إلى كتب الس نة‬
‫والسلف لينهل منها أتباعهم كل صنوف التجسيم والتشبيه‪ ،‬بل راحوا يرش دهم إلى كتب‬

‫‪ )(1‬السنة ‪ .1/256‬وأخرجه اآلجري في الشريعة ‪ 4/1609‬والذهبي في العلو ‪.1/720‬‬


‫‪( )(2‬مجموع الفتاوى) (‪.)24 /5‬‬

‫‪14‬‬
‫اليهود‪ ،‬ليتعرفوا أكثر على صورة إلههم‪ ،‬وأنواع تصرفاته‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك ما ذكره ابن تيمية من أن الرسول ‪ ‬أقر اليهود على ما وصفوا‬
‫به ربهم في كتبهم‪ ،‬فقال‪( :‬ومما يوضح األمر في ذلك أن النبي ‪ ‬قد ظهر وانتش ر م ا‬
‫أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم وم ا أظه ر من عي وبهم وذن وبهم وتنزيه ه هلل‬
‫عما وصفوه به من النقائص والعيوب كقوله تعالى‪﴿ :‬لَقَ ْد َس ِم َع هَّللا ُ قَوْ َل الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ‬
‫ت ْاليَهُو ُد يَ ُد هَّللا ِ َم ْغلُولَ ةٌ ﴾ [المائ دة‪:‬‬ ‫فَقِي ٌر َونَحْ نُ أَ ْغنِيَا ُء﴾ [آل عمران‪ ]181 :‬وقوله‪َ :‬‬
‫﴿وقَالَ ِ‬
‫‪ ،]64‬فلو كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم ‪ -‬فإن فيها‬
‫من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيها ً وتجسيما ً بل فيها إثبات الجهة وتكلم هللا بالصوت‬
‫وخلق آدم على صورته وأمثال هذه األمور‪ -‬فإن ك ان ه ذا مم ا كذبت ه اليه ود وبدلت ه‬
‫ك ان إنك ار الن بي ‪ ‬ل ذلك وبي ان ذل ك أولى من ذك ر م ا ه و دون ذل ك‪ ،‬فكي ف‬
‫والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة‪ ،‬فإنك تج د عام ة م ا ج اء ب ه الكت اب‬
‫واألح اديث في الص فات موافق ا ً مطابق ا ً لم ا ذك ر في الت وراة‪ ..‬والنص ارى يش بهون‬
‫المخلوق بالخالق في صفات الكمال واليهود تشبه الخالق ب المخلوق في ص فات النقص‬
‫ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك‪ .‬فلو كان ما في الت وراة‬
‫من ه ذا الب اب لك ان إنك ار ذل ك لله دى من أعظم األس باب‪ ،‬وك ان فع ل الن بي ‪‬‬
‫والصحاب ِة والت ابعين ل ذلك من أعظم الص واب‪ ،‬ولك ان الن بي ‪ ‬ينك ر ذل ك من جنس‬
‫إنكار النفاة‪ ،‬فيقول إثبات هذه الصفات يقتض ي التجس يم والتجس يد والتش بيه والتك ييف‬
‫وهللا منزه عن ذلك‪ .‬فإن عامة النفاة إنما يردون ه ذه الص فات بأنه ا تس تلزم التجس يم ‪-‬‬
‫ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد ‪ -‬فلو ك ان ه ذا تجس يما ً وتجس يداً يجب‬
‫إنكاره لكان الرسول إلى إنك ار ذل ك أس بق وه و ب ه أح ق‪ .‬وإن ك ان الطري ق إلى نفي‬
‫العيوب والنقائص ومماثلة الخ الق لخلق ه ه و م ا في ذل ك من التجس يد والتجس يم ك ان‬
‫إنكار ذلك بهذا الطريق المس تقيم كم ا فعل ه من أنك ر ذل ك به ذا الطري ق ه و الص راط‬
‫(‪)1‬‬
‫المستقيم)‬
‫ومن هنا نجد ذلك التشابه العجيب بين العقائد السلفية والعقائد اليهودية‪ ..‬فكم ا أن‬
‫اليهود يعتق دون أن هلل ص ورة حس ية جس مية‪ ،‬كم ا ورد في س فر التك وين (االص حاح‬
‫األول‪( :)28-26 :‬وق ال هللا نعم ل اإلنس ان على ص ورتنا على ش بهنا‪ ...‬فخل ق هللا‬
‫اإلنس ان على ص ورته على ص ورة هللا خلق ه ذك رًا وأن ثى خلقهم)‪ ،‬وفي س فر (التثني ة‬
‫االصحاح ‪( :)16-15 :4‬فإنكم إن لم تروا صورة ما في يوم كلَّمكم الرب في ح وريب‬
‫من وسط النار لئال تفسدوا وتعملوا ألنفسكم تمثاال منحوتا ً صورة مثال ما ش به ذك ر أو‬
‫أنثى) نجد السلفية وأهل الحديث يذكرون ذل ك‪ ،‬وبألف اظ قريب ة من النص الموج ود في‬
‫التوراة‪.‬‬
‫ففي كتاب (عقيدة أهل اإليم ان في خل ق آدم على ص ورة ال رحمن) للت ويجري‪،‬‬
‫يقول‪( :‬قال ابن قتيبة‪ :‬فرأيت في التوراة‪ :‬إن هللا لما خلق الس ماء واألرض ق ال‪ :‬نخل ق‬

‫‪ )(1‬درء التعارض ‪.90 -7/86‬‬

‫‪15‬‬
‫بشرًا بصورتنا ‪ ..‬وفي حديث ابن عباس‪ :‬إن موسى لما ض رب الحج ر لب ني إس رائيل‬
‫فتفجَّر وقال‪ :‬اشربوا يا حمير فأوحى هللا إليه‪ :‬عم دت إلى خل ق ٍ من خلقي خلقتهم على‬
‫(‪)1‬‬
‫صورتي فتشبههم بالحمير‪ ،‬فما برح حتى عوتب)‬
‫بل إنهم لم يأخذوا الصورة بشكلها العام فقط‪ ،‬بل ربط وا معه ا ك ل التفاص يل كم ا‬
‫هي موجودة في كتب اليهود‪.‬‬
‫فكما أن اليهود يعتبرون الوجه عضوا هلل تعالى كما هو وجه ابن آدم‪ ،‬كما ج اء في‬
‫سفر التكوين (اإلصحاح‪( :)30 :32‬فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل ق ائالً ألني نظ رت‬
‫هللا وجهًا لوجه)‪ ،‬نجد السلفية يقولون ـ بلسان الدارمي ـ‪( :‬كل شئ هالك إال وج ه نفس ه‬
‫الذي هو أحسن الوجوه وأجمل وأنور الوجوه وإن الوجه منه غير اليدين‪ ،‬والي دين من ه‬
‫غير الوجه)(‪،)2‬ويقول‪( :‬فصعد ‪ -‬أي جبريل ‪ -‬بهن ‪ -‬أي بكلمات الذكر ‪ -‬حتى ي َُح ِّي بهن‬
‫وجه الرحمن) (‪ ،)3‬ويقول‪( :‬والنور ال يخلو من أن يك ون ل ه إض اءة واس تناره ومنظ ر‬
‫ورواء‪ ،‬وإنه يدرك يومئ ذ بحاس ة النظ ر إذا كش ف عن ه الحج اب كم ا ي درك الش مس‬
‫(‪)4‬‬
‫والقمر في الدنيا)‬
‫ويقولون ـ بلسان عبد الرحمن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب ـ‪( :‬روى ابن‬
‫جرير عن وهب بن منبه‪ :‬فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى‬
‫(‪)5‬‬
‫ينظروا إليه ثم يقولون فأذن لنا بالسجود قدامك)‬
‫وكم ا أن اليه ود تنس ب الفم واللس ان الى هللا‪ ،‬كم ا في س فر أي وب (‪:)6-37/2‬‬
‫(اسمعوا س ماعًا رع د ص وته والرمذم ة الخارج ة من في ه تحت ك ل الس موات)‪ ،‬وهم‬
‫يريدون ب (من فيه)‪( :‬من فمه)‪،‬نجد السلفية يقولون ـ بلسان ابن تيمية في معرض الرد‬
‫على الجهمية ـ‪( :‬وحديث الزهري قال‪ :‬لما سمع موسى كالم ربه قال‪ :‬يا رب هذا الذي‬
‫سمعته هو كالمك؟ قال‪ :‬نعم يا موسى هو كالمي وإنما كلمتك بقوة عشرة آالف لس ان)‬
‫(‪)6‬‬

‫ويقولون ـ بلسان الدارمي ـ‪( :‬قال كعب األحبار‪ :‬لما كلم هللا موسى باأللسنة كلها‬
‫قبل لسانه طفق موسى يقول‪ :‬أي رب ما أفقه هذا حتى كلّمه آخ ر األلس نة بلس انه بمث ل‬
‫صوته يعني بمثل لسان موسى وبمثل صوت موس ى)‪ ،‬ثم عل ق على ه ذا بقوله‪( :‬فه ذه‬
‫األحاديث قد رويت وأكثر منها ما يشبهها كلها موافقة لكت اب هللا في اإليم ان بكالم هللا)‬
‫(‪)7‬‬

‫‪1‬‬
‫عقيدة أهل اإليمان في خلق آدم على صورة الرحمن‪ ،‬ص‪.16‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫رد الدارمي على بشر المريسي‪ :‬ص‪.159‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫رد الدارمي على بشر المريسي‪ :‬ص‪.151‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫رد الدارمي على بشر المريسي‪ :‬ص‪.190‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫قرة عيون الموحدين) ص‪.187‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫األسماء والصفات) البن تيمية (‪.)1/73‬‬ ‫()‬
‫‪7‬‬
‫الرد على الجهمية) ألبي سعيد الدارمي (ص‪.)81‬‬ ‫()‬

‫‪16‬‬
‫وكما أن اليهود ينسبون التغير والح دوث والحرك ة واالرتف اع وال نزول الحس ي‬
‫الى هللا تع الى‪ ،‬كم ا في س فر التك وين (‪( :)11/5‬فنـزل ال رب لينظ ر المدين ة وال برج‬
‫اللذين كان بنو آدم يبنوهما)‪ ،‬وفي نفس السفر (‪( :)4-46/3‬فقال أن ا هللا إل ه أبي ك‪ ...‬أن ا‬
‫أنزل مع ك إلى مص ر)‪ ،‬وفي س فر الخ روج (‪( :)19/21‬ألن ه في الي وم الث الث ينـزل‬
‫الرب أم ام عي ون جمي ع الش عب على جب ل س يناء) نج د الس لفية ـ بلس ان ابن تيمي ة ـ‬
‫يقولون‪( :‬فثبت بالسنة واإلجماع أن هللا يوصف بالسكوت‪ ،‬لكن السكوت تارة يكون عن‬
‫(‪)1‬‬
‫التكلم وتارة عن إظهار الكالم وإعالمه)‬
‫ويقولون ـ بلسان حاف ظ حكمي ـ‪( :‬إن هللا ينـزل إلى الس ماء ال دنيا ول ه في ك ل‬
‫سماء كرسي‪ ،‬فإذا نـزل إلى السماء الدنيا جلس على كرس يه ثم م د س اعديه‪ ،‬ف إذا ك ان‬
‫عند الصبح ارتفع فجلس على كرسيه)‪ ،‬ثم يقول‪( :‬يعلو ربن ا إلى الس ماء إلى كرس يه)‪،‬‬
‫وفي الصفحة التالية يقول‪( :‬قال النبي‪ :‬إن هللا يفتح أب واب الس ماء ثم يهب ط إلى الس ماء‬
‫(‪)2‬‬
‫الدنيا ثم يبسط يده)‬
‫وكما أن اليهود تنسب اليد والساعد والذراع والكف واالصابع ج وارح حقيقي ة الى‬
‫هللا‪ ،‬كما في سفر الخروج (‪( :)15/16‬بعظمة ذراع ك يص متون ك الحجر)‪ ،‬وفي س فر‬
‫المزامير (‪(:)3-44/2‬أنت بيدك استأصلت األمم وغرستهم لكن يمينك وذراعك)‪ ،‬نج د‬
‫السلفية ـ بلسان الدارمي ـ يقولون‪(:‬فأكد هللا آلدم الفضيلة التي كرّمه وش رّفه به ا وآث ره‬
‫(‪)3‬‬
‫على جميع عباده إذ كل عباده خلقهم بغير مسيس بيد وخلق آدم بمسيس)‬
‫وكما أن اليهود تنسب الرجل الجارحة والعين على معنى الجارحة الى هللا تع الى‪،‬‬
‫كما في سفر الخروج (‪( :)13/20‬وك ان ال رب يس ير أم امهم)‪ ،‬وفي س فر المزام ير (‬
‫‪( :)53/2‬هللا من السماء أشرف على بني البشر لينظر)‪ ،‬وفي سفر التكوين (‪:)10-3/8‬‬
‫(وس معا ص وت اإلل ه ماش يا في الجن ة)‪ ،‬نج د الس لفية ـ بلس ان أبي يعلى ـ يقول ون‪:‬‬
‫(والسموات واألرض يوم القيامة في كفه ويضع قدمه في النار فـتـنـزوي ويخرج قو ًما‬
‫(‪)5‬‬
‫من النار بيده)(‪،)4‬ويقول ابن عثيمين‪(:‬ونؤمن بأن هلل عينين اثنتين حقيقيتين)‬
‫وكما أن اليهود تنسب الجهة والحيز والمكان والحد الى هللا‪ ،‬كما في سفر المزامير‬
‫(‪(:)2/4‬الساكن في الس موات يض حك ال رب)‪ ،‬وفي س فر التك وين (‪(:)28/16‬حقّ ا ً إن‬
‫الرب في هذا المكان وأن ا لم أعلم)‪ ،‬وفي نفس الس فر (‪( :)18/1‬وظه ر ل ه ال رب عن د‬
‫بلوطات)‪ ،‬وفي سفر زكريا (‪(:)2/13‬اسكتوا يا كل البشر ق دام ال رب ألن ه ق د اس تيقظ‬
‫من مسكن قدسه) نجد السلفية ـ بلسان الدارمي ـ يقولون‪(:‬بل هو على عرشه فوق جميع‬

‫‪1‬‬
‫األسماء والصفات) البن تيمية (ص‪.)91‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫(معارج القبول) لحافظ حكمي (‪.)1/235‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫رد الدارمي على بشر المريسي) (ص‪.)26‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫طبقات الحنابلة) (‪.)1/32‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫عقيدة أهل السنة والجماعة) (ص ‪.)15-14‬‬ ‫()‬

‫‪17‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الخالئق في أعلى مكان وأطهر مكان)‬
‫وهكذا لو تأملنا ك ل العقائ د ال تي يس مونها عقائ د الس لف‪ ،‬أو عقائ د أه ل الح ديث‬
‫لوجدنا بسهولة مصدرها اليهودي‪.‬‬
‫وبما أن كتابنا هذا يحاول أن يرسم صورة للوثنية المقدسة كما يعتق دها [الس لفيون‬
‫وأهل الحديث]‪ ،‬وخوفا من اتهامن ا بأنن ا نق ولهم م ا لم يقول وا‪ ،‬أو ن دعي عليهم ش يئا ال‬
‫يعتقدونه‪ ،‬فإنا سنورد هنا مصادرنا الكبرى التي اعتمدنا عليها في فصول هذا الكت اب‪،‬‬
‫وكلها مما أثنى عليه شيخهم الكبير‪ ،‬وعمدتهم العظيم‪ ،‬ومرجعهم المقدس (ابن تيمية)‬
‫ومن ه ذه الكتب كت ابُ (الس نة) المنس وب لعب د هللا بن أحم د‪ ،‬وال ذي ق ال محقق ه‬
‫مشيرا إلى مدى وثاقته عند المدرسة السلفية‪(:‬إن هذا الكت اب من أوائ ل المص ادر ال تي‬
‫(‪)2‬‬
‫كتبت في عقيدة السلف‪ ،‬فإخراجه للناس في هذا العصر من األهمية بمكان)‬
‫وق ال‪(:‬ه ذا الكت اب من أمه ات مص ادر العقي دة في كتب الس لف …ل ذا فه و من‬
‫المصادر األولى إذ لم يتقدمه إال بعض الكتب الصغيرة‪..‬فهو من هذا الج انب ذو مكان ة‬
‫كبيرة حيث اعتمدت عليه كث ير من الكتب ال تي ص نفت في عقي دة الس لف …فه و بح ق‬
‫مص در رائ د ب رزت قيمت ه في من نق ل عن ه وع زا إلي ه …فه ذا الكت اب ص نو له ذه‬
‫(‪)3‬‬
‫المصنفات التي هي اليوم تحتل مكان الصدارة بعد كتاب هللا في المكتبة اإلسالمية)‬
‫ولهذا الكتاب أهمية كبرى عند ابن تيمية وتالميذه حتى أنهم بذلوا كل جه ودهم في‬
‫نسبة الكتاب إلى مؤلفه‪ ،‬وفي الرد على من ينزه اإلمام أحمد وولده عن أن يخ وض في‬
‫مثل هذه المسائل‪.‬‬
‫ومنه ا (كت اب الس نة) ألبي بك ر أحم د بن محم د بن ه ارون بن يزي د البغ دادي‬
‫الخالل‪ ،‬والذي قرر فيه قعود النبي ‪ ‬مع الباري سبحانه على الفضلة التي تفضل من‬
‫العرش‪ .‬وحشر م ع ذل ك نق والً عن بعض المح دثين في تكف ير منك ره ورمي ه بالبدع ة‬
‫والتجهم وغير ذلك ‪ ..‬وفيه أن هللا ع ز وج ل ين ادي‪ :‬ي ا داود اُدن م ني فال ي زال يدني ه‬
‫حتى يمس بعضه ويقول‪ :‬كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي‪ ،‬فيقول هللا ل ه كن خلفي خ ذ‬
‫بقدمي‪.‬‬
‫ومنها (كتاب التوحيد) ألبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابورى‪ ..‬وال ذي‬
‫روى فيه الروايات الكثيرة المثبتة بأن هلل أص ابع‪ ،‬وأن ل ه ق دما‪ ،‬وأن الكرس ي موض ع‬
‫قدميه‪ ،‬وأن العرش يئط به‪ ،‬وأنه تجلى منه مثل طرف الخنصر‪ ،‬وأن ه يهب ط ثم يرتف ع‪،‬‬
‫وأنه ينزل إلى سماء الدنيا بروحه ومالئكته فينتفض تع الى عن ذل ك عل واً كب يراً‪ ،‬وأن‬
‫جنة عدن مسكنه‪ ،‬وأن محمداً ‪ ‬رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب يحمل ه‬
‫أربعة من المالئكة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() رد الدارمي على بشر المريسي‪ ،‬ص ‪.82‬‬
‫‪ )(2‬مقدمة كتاب السنة ‪1/15‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق‪66-1/65‬‬

‫‪18‬‬
‫ومنها (كتاب العرش وماروي فيه) لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة ‪ ..‬وق د ذك ر في‬
‫ه ذا الكت اب أن أق رب الخل ق إلى هللا جبري ل وميكائي ل وإس رافيل‪ ،‬بينهم وبين ربهم‬
‫مسيرة خمسمائة عام‪ ،‬وأن الس ماء منفط رة من ثق ل هللا‪ ،‬وأن محم داً ‪ ‬رأى رب ه في‬
‫روضة خضراء وغير ذلك‪.‬‬
‫وهو من الكتب التي حظيت بعناية كبيرة من المدرسة السلفية قديمها وحديثها‪ ،‬وقد‬
‫قال محققه المعاصر في مقدمته تعظيما لشأنه‪( :‬ولقد صنف كثير من الس لف وبخاص ة‬
‫في الق رنين الث الث والراب ع الهج ريين مؤلف ات ورس ائل كث يرة في مس ائل أس ماء هللا‬
‫وصفاته‪ ،‬ف بينوا فيه ا م ا يجب على المس لم تج اه ه ذا األم ر العظيم‪ ،‬وق د اعتم دوا في‬
‫تصانيفهم تلك على نصوص القرآن والسنة‪ ،‬وقد ك ان من ض من تل ك المؤلف ات كت اب‬
‫(العرش) للحافظ محمد بن عثمان بن أبي ش يبة‪ ،‬وق د ع الج المص نف‪ -‬رحم ه هللا‪ -‬في‬
‫هذا الكتاب مسألة تعد من أهم مسائل األس ماء والص فات‪ ،‬ب ل ومن أهم مس ائل العقي دة‬
‫(‪)1‬‬
‫وأخطرها‪ ،‬أال وهي‪ :‬مسألة علو هللا عز وجل على خلقه‪ ،‬واستوائه على عرشه)‬
‫ومنه ا كت اب (األربعين في دالئ ل التوحيد) ألبي إس ماعيل عب د هللا بن محم د‬
‫الهروي‪ ..‬وفيه من أمثل ة التجس يم أن محم داً‪ ‬رأى رب ه في ص ورة ش اب أم رد في‬
‫قدميه خضرة‪ ..‬وفيه باب ذكر فيه أن هللا عز وجل وضع قدمه على الكرسي‪ ،‬وباب في‬
‫إثبات الجهات هلل عز وجل‪ ،‬وباب في إثب ات الح د‪ ،‬وب اب في إثب ات الخ ط‪ ،‬وب اب في‬
‫إثبات الصورة‪ ،‬وباب في إثبات العينين‪ ،‬وباب في إثبات الهرولة‪..‬‬
‫ومنها كتاب (اإلبانة عن شريعة الفرقة الناجية) ألبي عب د هللا بن بط ة العك بري‪،‬‬
‫وهو من أهم مراجع التجسيم لدى المدرسة السلفية‪ ،‬وقد قال محققه عنه‪( :‬كتاب اإلبان ة‬
‫البن بطة يعد أكبر موسوعة في العقيدة السلفية‪ ..‬هذا الكتاب يمثل م ذهب اإلم ام أحم د‬
‫(‪)2‬‬
‫بن حنبل‪)..‬‬
‫ومنها كتابا (الرد على الجهمية) وكت اب (نقض عثم ان بن س عيد على المريس ي‬
‫العنيد)‪ ..‬وقد قال ابن القيم يخ بر عن اهتم ام ابن تيمي ة بهم ا‪( :‬وكتاب اه من أج ل الكتب‬
‫المصنفة في السنة وأنفعها‪ ،‬وينبغي لكل طالب سنة م راده الوق وف على م ا ك ان علي ه‬
‫الصحابة والتابعون واألئمة أن يق رأ كتابي ه‪ .‬وك ان ش يخ اإلس الم ابن تيمي ة رحم ه هللا‬
‫يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جداً‪ .‬وفيهما من تقرير التوحيد واألسماء‬
‫(‪)3‬‬
‫والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما)‬
‫ويعتبر هذان الكتابان من أهم كتب التجسيم‪ ..‬فقد أورد فيهم ا الكث ير من الرواي ات‬
‫التجسيمية التي سنتحدث عنها في فصول الكتاب مثل كون العرش يئط من ثق ل الجب ار‬
‫فوقه‪ ،‬وأنه ينزل في اللي ل إلى جن ة ع دن‪ ،‬وأنه ا مس كنه ال ذي يس كن في ه م ع النب يين‬
‫والص ديقين والش هداء‪ ،‬وأن ه يهب ط من عرش ه إلى كرس يه‪ ،‬ثم يرتف ع عن كرس يه إلى‬
‫ات الح د‪ ،‬وأن ه مس آدم مسيس ا ً بي ده‪،‬‬
‫عرشه‪ ،‬وفيهما إثباتَ الحركة هلل عز وج ل‪ ،‬وإثب ُ‬
‫‪ )(1‬العرش وما ر ُِوي فيه‪ ،‬أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة العبسي‪( ،‬ص‪.)6 :‬‬
‫‪ )(2‬انظر مقدمة الكتاب بتحقيقه ‪.7-1/6‬‬
‫‪ )(3‬اجتماع الجيوش ‪.143‬‬

‫‪19‬‬
‫وأنه يقعد على العرش فما يفضل منه إال قدر أربعة أصابع‪ ،‬وأنه ق ادر على االس تقرار‬
‫على ظهر بعوضة‪ ،‬وأنه إذا غضب ثقل على حمل ة الع رش‪ ،‬وأن رأس المن ارة أق رب‬
‫إليه من أسفلها ‪..‬‬
‫ومنها كتاب (إبطال التأويالت) الذي ألفه أبو يعلى الفراء في أوائل القرن الخ امس‬
‫الهجري‪ ،‬لكن الكتاب بحكم م ا في ه من تجس يمات وتش بيهات بقي مغم ورا إلى أن ذاع‬
‫خبره سنة ( ‪429‬هـ ) حينها ضج العلماء لظهور هذا الكتاب والفتتان بعض العوام بم ا‬
‫فيه ‪ ..‬وق د حص لت بس بب ذل ك فتن ة اقتض ت ت دخل الخليف ة الق ائم ب أمر هللا العباس ي‬
‫لتسكينها بمساعدة أبي الحسن القزويني الزاهد الش افعي المقب ول من جمي ع الطوائ ف‪،‬‬
‫ووقَّ َع عليه ا العلم اء وس كنت‬
‫وقد أخرج القائم بأمر هللا عقيدة والده الخليفة القادر باهلل‪َ ،‬‬
‫الفتنة (‪. )1‬‬
‫لكن مع ذلك نج د ابن تيمي ة يرج ع إلي ه‪ ،‬وي دافع عن ص احبه(‪ ،)2‬ب ل نج د اهتم ام‬
‫المدرسة السلفية المعاصرة بتحقيقة وإخراجه وطبعه في أحسن حل ة ونش رة على النت‬
‫للتحميل مجانا وبكل الصيغ‪.‬‬
‫وقد قال محقق الكتاب في خطبته مشيدا به‪( :‬وبعد‪ ،‬فإن كت اب ( إبط ال الت أويالت‬
‫ألخب ار الص فات ) للقاض ي أبي يعلى الف راء ك ان يع د إلى زمن ق ريب من الكتب‬
‫المفقودة‪ ،‬وهو كتاب فريد في بابه‪ ،‬إذ تضمن الرد على ت أويالت األش اعرة والمعتزل ة‬
‫والجهمية ألخب ار الص فات اإللهي ة‪ ،‬ال واردة على لس ان رس وله ‪ ‬وأعلم الخل ق ب ه‪،‬‬
‫وبيان مذهب السلف فيها وهو إثباتها واإليمان بها‪ ،‬ونفي التك ييف عنه ا والتمثي ل له ا‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فهذا هو التوحيد الذي بينه هللا تعالى‪)..‬‬
‫ومن أمثلة ما ورد فيه(‪( :)4‬شاب‪ ،‬أمرد‪ ،‬أجعد‪ ،‬في حلة حمراء‪ ،‬عليه ت اج‪ ،‬ونعالن‬
‫من ذهب‪ ،‬وعلى وجهه فَ َراش من ذهب)‬
‫وقد شحنه بالروايات السلفية الكثيرة‪ ،‬وينص على أن من لم ي ؤمن به ذه الص فات‬
‫العظيمة فهو ( زنديق)‪ ( ،‬معتزلي)‪ ( ،‬جهمي)‪ ( ،‬ال تقب ل ش هادته)‪ ( ،‬ال يس لم علي ه)‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪:‬طبقات الحنابلة‪ ،2/197 :‬وقد قال ابن األثير في ( الكامل في التاريخ ) عنه‪( :‬وفي شهر رمضان منه ا ت وفي‬
‫أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي‪ .‬ومولده سنة ثمانين وثالثمائ ة‪ .‬وعن ه انتش ر م ذهب أحم د رض ي هللا عن ه‪.‬‬
‫وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخالفة‪ .‬وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بك ل عجيب ة‪ .‬وت رتيب أبواب ه ي دل على‬
‫التجسيم المحض‪ .‬تعالى هللا عن ذلك ‪ ) ..‬انظر‪ :‬دفع شبه التشبيه‪ ،‬البن الجوزي ص‪.10‬‬
‫‪2‬‬
‫() ذكر ابن تيمية الفتنة التي حصلت بسبب الكتاب‪ ،‬فقال‪( :‬وصنف القاضي أب و يعلى كتاب ه في (إبط ال التأوي ل) رد‬
‫فيه على ابن فورك شيخ القشيري وكان الخليفة وغيره مائلين إليه؛ فلما صار للقشيرية دولة بس بب الس الجقة ج رت تل ك‬
‫الفتنة وأكثر الحق فيها كان مع الفرائية مع نوع من الباطل‪ ،‬وكان مع القشيرية فيها نوع من الح ق م ع كث ير من الباط ل)‬
‫( مجموع الفتاوى (‪))54 /6‬‬
‫والباطل الذي يقصده ابن تيمية ليس التجسيم‪ ،‬وإنما اتهامه ألبي يعلى بالتفويض أي أنه لم يكن ص ريحا بالق در الك افي في‬
‫موقفه من التجسيم‪ ..‬فهو – عن ده ‪ -‬من ال ذين (س معوا األح اديث واآلث ار‪ ،‬وعظم وا م ذهب الس لف‪ ،‬وش اركوا المتكلمين‬
‫الجهمية في بعض أصولهم الباقية‪ ،‬ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث واآلثار ما ألئمة السنة والحديث‪ ،‬ال من جه ة‬
‫المعرفة والتمييز بين ص حيحها وض عيفها‪ ،‬وال من جه ة الفهم لمعانيه ا‪ ،‬وق د ظن وا ص حة بعض األص ول العقلي ة للنف اة‬
‫الجهمية‪ ،‬ورأوا ما بينهما من التعارض) (درء تعارض العقل والنقل ‪)7/34‬‬
‫‪ )(3‬إبطال التأويالت‪ ،‬ص‪.4‬‬
‫‪ )(4‬إبطال التأويالت‪.1/133 :‬‬

‫‪20‬‬
‫( ال يعاد)‪ ،‬ثم يقول‪ (:‬وليس في قوله‪ :‬شاب وأمرد وجعد وقطط وموفور إثب ات تش بيه‪،‬‬
‫ألننا نثبت ذلك تسمية كما جاء الخبر ال نعقل معناها‪ ،‬كما أثبتنا ذاتا ونفس ا‪ ،‬وألن ه ليس‬
‫في إثبات الفَ َراش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تق ريب المح دث من الق ديم‪ ،‬وه ذا‬
‫(‪)1‬‬
‫غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش‪)..‬‬
‫وهو ينطلق من قول ه ‪ (:‬إن هللا خل ق آدم على ص ورته)‪ ،‬يص ف هللا تع الى كم ا‬
‫يصف أي بشر من البشر‪.‬‬
‫ويرجع إلى أهل الكتاب في ذلك‪ ،‬فينقل عن كعب األحب ار أن ه ق ال‪ (:‬إن هللا تع الى‬
‫نظ ر إلى األرض فق ال‪ :‬إني واط على بعض ك‪ ،‬فانتس فت إلي ه الجب ال فتضعض عت‬
‫الصخرة فشكر هللا لها ذلك فوضع عليه ا قدم ه)(‪ ،)2‬ثم يعت بر ه ذا إلف ك حقيق ة عقدي ة‪،‬‬
‫بو ّج)‪ ،‬ثم يذكر قول‬ ‫يدلل لها بالرواية الواهية التالية‪ (:‬آخر وطأة وطئها رب العالمين َ‬
‫كعب األحبار‪َ (:‬و ّج مقدس‪ ،‬منه َع َر َج الرب إلى السماء يوم قضى خلق األرض)‬
‫ويعلق على هذه الترهات بقوله‪ (:‬اعلم أنه غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر‬
‫على ظاهره‪ ،‬وأن ذلك على معنى يليق بالذات دون الفعل)‬
‫وينقل عنه هذه أنه قال لمن سأله أين ربنا‪ (:‬هو على الع رش العظيم متكئ واض ع‬
‫إحدى رجليه على األخرى)‪ ،‬ثم يعلق عليها بقوله‪ (:‬اعلم أن هذا الخبر يفيد أشياء‪ :‬منه ا‬
‫جواز إطالق االستلقاء عليه‪ ،‬ال على وجه االس تراحة ب ل على ص فة ال نعق ل معناه ا‪،‬‬
‫وأن له رجلين كما له يدان‪ ،‬وأنه يضع إحداهما على األخ رى على ص فة ال نعقله ا)‪،‬‬
‫ويدلل على هذا بهذه الرواية الموضوعة‪ (:‬إن هللا لما فرغ من خلقه استوى على عرشه‬
‫واستلقى ووضع إحدى رجليه على األخرى وقال‪ :‬إنها ال تصلح لبشر)‬
‫باإلضافة إلى هذه المص ادر الك برى رجعن ا لكتب ابن تيمي ة وابن القيم وغيرهم ا‬
‫من العلماء الذين يعتبرون من كبار المنظرين للمدرسة السلفية‪.‬‬
‫وباإلضافة إليهم رجعنا للمدرسة السلفية الحديثة وال تي أحيت ك ل ال تراث الس لفي‬
‫القديم حتى ما كان مستهجنا منه مثل [إبطال التأويالت]‬
‫ونحب أن نبين هنا أننا لم نكتب هذا الكتاب لمجرد التح ذير من أمث ال ه ذه العقائ د‬
‫الخطيرة فقط‪ ،‬ولكن مرادنا أيضا هو التحذير من أصحابها الذين لم يكتفوا ب ان يحمل وا‬
‫في عقولهم تلك الصورة المشوهة عن هللا‪ ،‬ب ل راح وا يزعم ون أنهم أص حاب الحقيق ة‬
‫المطلقة‪ ،‬وأن من عداهم مبتدعة وضالين وكفار‪.‬‬
‫ولم يكتفوا بذلك‪ ،‬بل راحوا يبيحون دماءهم‪ ،‬ويستحلون أعراض هم‪ ..‬ول ذلك ك انت‬
‫هذه المدرسة هي منبع كل إرهاب وعنف وتشويه لإلسالم‪.‬‬
‫ولهذا نجد كتبهم العقدية مشحونة بالعنف واإلرهاب‪..‬‬
‫ومن أمثلة ذلك ما فعله الدارمي حين عقد باب ا ً في تكف ير الجهمي ة‪ ،‬وباب ا في قتلهم‬
‫ً‬
‫واستتابتهم من الكفر‪ ..‬والجهمي ة مص طلح تش نيع ال ي راد ب ه الفرق ة ال تي تنتس ب إلى‬
‫الجهم بن صفوان فقط ألن الجهم مات‪ ،‬وماتت معه أفكاره ‪ ..‬وإنا يقص د به ا الس لفيون‬
‫إبطال التأويالت‪.1/146 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫إبطال التأويالت‪.1/202 :‬‬ ‫‪)(2‬‬

‫‪21‬‬
‫من خ الفهم في ص فات هللا ع ز وج ل‪ ،‬في دخل في ه ذا الوص ف المعتزل ة واألش اعرة‬
‫والماتريدية واإلمامية والزيدية واإلباضية وغيرهم من فرق المسلمين‪.‬‬
‫يقول الدارمي ـ يحرض على قت المنزهة بكل صنوف القتل ـ‪( :‬ولو لم يكن عن دنا‬
‫حجة في قتلهم وإكفارهم إال قول حماد بن زي د‪ ،‬وس الم بن أبي مطي ع‪ ،‬وابن المب ارك‪،‬‬
‫ووكيع‪ ،‬ويزيد بن هارون‪ ،‬وأبي توبة‪ ،‬ويحيى بن يحيى‪ ،‬وأحمد بن حنب ل‪ ،‬ونظ رائهم‪،‬‬
‫رحمة هللا عليهم أجمعين‪ ،‬لجبنا عن قتلهم وإكفارهم بق ول ه ؤالء‪ ،‬ح تى نس تبرئ ذل ك‬
‫عمن هو أعلم منه وأقدم‪ ،‬ولكنا نكفرهم بما تأولنا فيهم من كتاب هللا عز وج ل‪ ،‬وروين ا‬
‫فيهم من السنة‪ ،‬وبما حكينا عنهم من الكفر الواضح المشهور‪ ،‬الذي يعقله أك ثر الع وام‪،‬‬
‫وبم ا ض اهوا مش ركي األمم قبلهم بق ولهم في الق رآن‪ ،‬فض ال على م ا ردوا على هللا‬
‫ورسوله من تعطيل صفاته‪ ،‬وإنكار وحدانيت ه‪ ،‬ومعرف ة مكان ه‪ ،‬واس توائه على عرش ه‬
‫بتأويل ضالل‪ ،‬به هتك هللا سترهم‪ ،‬وأبد سوءتهم‪ ،‬وعبر عن ضمائرهم‪ ،‬كلما أرادوا به‬
‫احتجاجا ازدادت مذاهبهم اعوجاجا‪ ،‬وازداد أهل السنة بمخالفتهم ابتهاجا‪ ،‬ولم ا يخف ون‬
‫(‪)1‬‬
‫من خفايا زندقتهم استخراجا)‬
‫ونفس الشيء نجده في كتاب السنة لعبد هللا بن أحم د‪ ،‬ومن أمثل ة ذل ك أن ه اش تمل‬
‫على مجموعة كبيرة من االتهامات والشتائم التي وجهها السلف ألبي حنيف ة من أمث ال‪:‬‬
‫(كافر‪ ،‬زنديق‪ ،‬مات جهمياً‪ ،‬ينقض اإلسالم عروة عروة‪ ،‬ما ولد في اإلس الم أش أم وال‬
‫أضر على األمة منه‪ ،‬وأنه أبو الخطايا‪ ،‬وأنه يكيد الدين‪ ،‬وأن الخمارين خ ير من أتب اع‬
‫أبي حنيفة‪ ،‬وأن الحنفي ة أش د على المس لمين من اللص وص‪ ،‬وأن أص حاب أبي حنيف ة‬
‫مثل الذين يكشفون عوراتهم في المساجد‪ ،‬وأن أباحنيفة سيكبه هللا في الن ار‪ ،‬وأن ه أب و‬
‫جيفة‪ ،‬وأن المسلم ي ؤجر على بغض أبي حنيف ة وأص حابه‪ ،‬وأن ه ال يس كن البل د ال ذي‬
‫يذكر فيه أبو حنيفة‪ ،‬وأن استقضاء الحنفية على بلد أشد على األمة من ظه ور ال دجال‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وأنه من المرجئة)‬
‫ومن أمثلة ذلك م ا ورد في (كت اب الس نة) ألبي بك ر الخالل‪ ،‬ال ذي ق ال في آخ ر‬
‫كتابه بعد إطنابه في التكفير والتبديع للمخالفين‪( :‬وبعد هذا أس عدكم هللا فل و ذهبن ا نكتب‬
‫حكايات الشيوخ واألسانيد والروايات لطال الكتاب غير أنا نؤم ل من هللا ع ز وج ل أن‬
‫يك ون في بعض م ا كتبن ا بلغ ةٌ لمن أراد هللا ب ه فثق وا باهلل وبالنص ر من عن ده على‬
‫(‪)3‬‬
‫مخالفيكم فإنكم بعين هللا بقربه وتحت كنفه)‬
‫أما المعاصرون ‪ ..‬فحدث عن تكفيرهم وتبديعهم وتضليلهم لمخالفيهم وال حرج‪.‬‬
‫بن اء على ه ذا كل ه فإنن ا في ه ذا الكت اب س نحاول أن نثبت ـ من خالل المص ادر‬
‫السلفية المعتمدة ـ مدى الوثنية التي تسربت لهذه العقائد‪ ،‬ونقارنه ا بم ا ورد في الق رآن‬
‫الكريم‪ ،‬وما دل عليه العقل من تنزيه هللا تعالى‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الرد على الجهمية للدارمي (ص‪.)213 :‬‬ ‫()‬
‫‪ )(2‬السنة‪ ،‬أبو عبد الرحمن عبد هللا بن أحمد من ص ‪- 180‬ص‪.120‬‬
‫‪ )(3‬السنة ‪1/265‬‬

‫‪22‬‬
‫والحم د هلل ف إن ك ل م ذاهب األم ة وطوائفه ا ـ من أش اعرة وماتريدي ة ومعتزل ة‬
‫وإمامي ة وإباض ية وزيدي ة وص وفية ـ على الق ول بتنزي ه هللا‪ ،‬والجه ة الوحي دة ال تي‬
‫رض يت لنفس ها أن تنغمس في أوح ال الوثني ة هي الس لفية‪ ..‬فهي وح دها من يق ول‬
‫بالتجسيم والجهة والمكان والحدود والمقادير واألعضاء والصورة ‪ ..‬وكل ما سنراه في‬
‫هذا الكتاب‪ ..‬وهي وحدها كذلك التي تكفر األمة جميعا بسبب ذلك‪..‬‬
‫وقد تمنيت لو أن العلماء الذين اهتموا بذكر طوائف األمة وفرقها قسموا األم ة إلى‬
‫هذين القسمين الكبيرين‪ :‬المنزهة‪ ،‬والمجسمة‪ ..‬ال التقسيم الذي اخت اروه‪ ،‬وال ذي ك انت‬
‫له آثاره السلبية‪.‬‬
‫ذلك أن التقسيم عادة ينطلق من أهم القضايا‪ ،‬وهل هن اك قض ية أك بر من القض ايا‬
‫المرتبطة بمعرفة هللا‪ ..‬ولهذا نجد التقسيم في المسيحية مؤسسا على الموقف من طبيع ة‬
‫المسيح‪ ،‬ال الموقف من أصحاب المسيح‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫التعقل ‪ ..‬والتصور‬
‫من أهم اإلشكاالت التي ح الت بين العق ل والتحق ق بالمعرف ة اإللهي ة ـ كم ا ينص‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وكما يدل عليه الواق ع ـ ه و إدخ ال الخي ال وال وهم والتص ور في ه ذا‬
‫النوع من المعرفة المقدسة‪.‬‬
‫كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في مواضع كث يرة ك ذكره لمطالب ة ب ني إس رائيل‬
‫موسى عليه السالم بالرؤية الحسية هلل حتى عوقبوا على ذلك‪ ،‬وكقول فرعون‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا‬
‫ص رْ حًا لَ َعلِّي‬
‫ين فَاجْ َعلْ لِي َ‬ ‫ْال َمأَل ُ َما َعلِ ْم ُ‬
‫ت لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغي ِْري فَأَوْ قِ ْد لِي يَاهَا َمانُ َعلَى الطِّ ِ‬
‫وس ى َوإِنِّي أَل َظُنُّهُ ِمنَ ْال َك ا ِذبِينَ ﴾ [القص ص‪ ،]38 :‬وغيره ا من‬ ‫أَطَّلِ ُع إِلَى إِلَ ِه ُم َ‬
‫النصوص‪.‬‬
‫والواقع اإللحادي يدل على ذلك أيضا‪ ،‬فهو يريد أن يقيس هللا بمث ل المق اييس ال تي‬
‫يستعملها في دراسة الظواهر الكونية المختلفة‪ ..‬وعندما ال تخضع معرف ة هللا لمقاييس ه‬
‫يذهب لإللحاد‪.‬‬
‫ولهذا فإن القرآن الكريم ينطلق في التعري ف باهلل من وض ع القواع د ال تي تؤس س‬
‫العقيدة على األسس الصحيحة المنبنية على المعرفة التنزيهية هلل‪ ،‬كما قال تعالى ‪ -‬على‬
‫ك َونُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة‪]30 :‬‬‫لسان المالئكة عليهم السالم‪َ ﴿ :-‬ونَحْ نُ نُ َسبِّ ُح بِ َح ْم ِد َ‬
‫وقد أشار الغزالي إلى ذلك عندما قال في جواهر القرآن عند بيانه لعزة ما ورد في‬
‫القرآن الكريم من الحديث عن الذات اإللهية في نفس ال وقت ال ذي أف اض في ه في ذك ر‬
‫أسماء هللا وآثارها في الوجود‪ ( :‬كما أن أنفس اليواقيت أجل وأع ز وج ودا‪ ،‬وال تظف ر‬
‫منه الملوك لعزته إال باليسير‪ ،‬وقد تظفر مما دونه بالكثير‪ ،‬فكذلك معرفة الذات أضيقها‬
‫مجاال وأعسرها مناال وأعصاها على الفكر‪ ،‬وأبعدها عن قبول الذكر؛ ولذلك ال يش تمل‬
‫الق رآن منه ا إال على تلويح ات وإش ارات‪ ،‬ويرج ع ذكره ا إلى ذك ر التق ديس المطل ق‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء ﴾ [الش ورى‪ ]11 :‬وس ورة اإلخالص‪ ،‬وإلى التعظيم‬ ‫كقول ه تع الى‪﴿ :‬لَي َ‬
‫ض﴾‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ص فُونَ بَ ِدي ُع َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫﴿س ْب َحانَهُ َوتَ َع الَى َع َّما يَ ِ‬ ‫المطل ق كقول ه تع الى‪ُ :‬‬
‫[األنعام‪ ]100 :‬وأما الصفات‪ :‬فالمجال فيها أفسح‪ ،‬ونط اق النط ق فيه ا أوس ع‪ ،‬ول ذلك‬
‫ك ثرت اآلي ات المش تملة على ذك ر العلم والق درة والحي اة‪ ،‬والكالم والحكم ة‪ ،‬والس مع‬
‫والبصر وغيرها‪ ..‬وأما األفعال‪ :‬فبحر متسعة أكنافه‪ ،‬وال تنال باالستقصاء أطرافه‪ ،‬بل‬
‫ليس في الوجود إال هللا وأفعاله‪ ،‬وكل ما سواه فعله‪ ،‬لكن القرآن يشتمل على الجلي منها‬
‫الواق ع في ع الم الش هادة‪ ،‬ك ذكر الس ماوات والك واكب‪ ،‬واألرض والجب ال‪ ،‬والش جر‬
‫والحيوان‪ ،‬والبحار والنبات‪ ،‬وإنزال الماء الفرات‪ ،‬وسائر أسباب النبات والحي اة‪ ،‬وهي‬
‫(‪)1‬‬
‫التي ظهرت للحس‪ .‬وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جاللة صانعها)‬
‫هذه هي المعرفة القرآنية التي دلت عليها اآليات الكثيرة‪ ..‬والتي ال يرى العقل فيها‬

‫‪1‬‬
‫جواهر القرآن (ص‪.)26 :‬‬ ‫()‬

‫‪24‬‬
‫أي تناقض مع ما تقتضيه الفطرة السليمة‪..‬‬
‫لكن المعرف ة الس لفية هلل تتن اقض م ع ه ذه المعرف ة تمام ا‪ ،‬حيث أنه ا تس تند في‬
‫التعرف على هللا على التصور بدل التعقل‪ ،‬ولذلك تتصور أن معرفة هللا ال يمكن أن تتم‬
‫بمعزل عن تجسيمه وتحديده وتقييده وتكييفه‪ ..‬ولهذا فإن أكبر مجال عندها في المعرف ة‬
‫اإللهية ـ خالف ما ورد في القرآن الكريم ـ مجال الذات‪ ..‬فهي تقبل فيه كل ش يء ح تى‬
‫الروايات اإلسرائيلية‪.‬‬
‫وقد قال الشيخ ابن العثيمين‪ ،‬وهو من علمائهم المعاصرين الكبار ‪ -‬مبين ا اس تحالة‬
‫معرفة هللا من دون كيفية ‪( :-‬السلف ال ينفون الكيف مطلقاً‪ ،‬ألن نفي الكيف مطلق ا ً نفي‬
‫للوجود‪ ،‬وما من موج ود إال ول ه كيفي ة لكنه ا ق د تك ون معلوم ة وق د تك ون مجهول ة‪،‬‬
‫وكيفية ذات هللا تعالى وصفاته مجهولة لنا‪ ..‬وعلى هذا فنثبت له كيفية ال نعلمه ا‪ ..‬ونفي‬
‫الكيفية عن االستواء مطلقا ً هو تعطيل محض لهذه الصفة ألنا إذا أثبتنا االس تواء حقيق ة‬
‫(‪)1‬‬
‫لزم أن يكون له كيفية وهكذا في بقية الصفات)‬
‫وما ذكره الشيخ من أن الكيفية غير معلومة لنا ن وع من االحتي ال ألن كتب الس نة‬
‫والعقائ د الكث يرة ص ورت ذل ك تص ويرا ال يحت اج الخي ال إلى غ يره ليرس م ص ورة‬
‫االستواء أو غيره مما يعتبرونه من صفات هللا تعالى‪.‬‬
‫ومثل الشيخ ابن عثيمين أبو عمر ابن عبدالبر ال ذي اعت بر األم ة كله ا – م ا ع دا‬
‫أه ل الح ديث – ن افين للمعب ود‪ ،‬فق ال‪( :‬وأ َّما أه ل الب دع والجهمي ة والمعتزل ة كلُّه ا‬
‫والخوارج‪ ،‬فكلُّهم يُنكرها‪ ،‬وال يحمل شيئا ً منها على الحقيقة‪ ،‬ويزعمون َّ‬
‫أن من أق َّر به ا‬
‫(‪)2‬‬
‫مشبِّه‪ ،‬وهم عند من أثبتها نافون للمعبود)‬
‫فإن من تأ َّول سائر الص فات وحم ل م ا‬ ‫وقد علق عليه الذهبي بقوله‪( :‬صدق وهللا! َّ‬
‫الس لب إلى تعطي ل ال ربِّ ‪ ،‬وأن يش ابه المع دوم‪،‬‬ ‫ورد منها على مجاز الكالم‪ ،‬أ َّداه ذلك َّ‬
‫كما نُقل عن حماد بن زيد أنَّه قال‪َ :‬مثل الجهمية كقوم ق الوا‪ :‬في دارن ا نخل ة‪ ،‬قي ل‪ :‬له ا‬
‫َس َعف؟ قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قيل‪ :‬فلها َك َرب؟ قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قيل‪ :‬لها ُرطَب وقِنو؟ ق الوا‪ :‬ال‪ ،‬قي ل‪ :‬فله ا‬
‫(‪)3‬‬
‫ساق؟ قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قيل‪ :‬فما في داركم نخلة!)‬
‫وهكذا أصبح هللا ـ بعظمته وقدس يته وجالل ه ـ عن د الس لفيين مث ل النخل ة ال يمكن‬
‫معرفتها إال بعد معرفة سعفها وكربها ورطبها‪ ..‬ولهذا فإن أعرف الع ارفين عن دهم من‬
‫جمع أكبر قدر من روايات التجسيم والتشبيه ليرسم صورة أكثر دق ة عن رب ه س بحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ولهذا فإن ما ينتص ر ب ه المعاص رون منهم ألنفس هم من نفي تهم ة التجس يم عنهم‬
‫نوع من االحتي ال والمص ادرة على المطل وب‪ ،‬ذل ك أنهم – من خالل النص وص ال تي‬
‫يوردونها عن سلفهم ـ ال ينفون حقيقة التجس يم ومعن اه‪ ،‬وإنم ا ينف ون فق ط إطالق اس م‬
‫‪ )(1‬مجموع فتاوى ابن عثيمين ‪ 1/194‬وانظر المحاضرات السنية البن عثيمين ‪1/232‬‬
‫‪2‬‬
‫التمهيد (‪.)7/145‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫العلو (ص‪.)1326 :‬‬ ‫()‬

‫‪25‬‬
‫الجسم على هللا‪ ،‬أو اعتبار الجسم صفة من صفات هللا‪ ،‬لكون التسمية والوصف توقيفية‬
‫‪ ..‬أما حقيقة التجسيم ال تي تع ني الح يز والح دود والمك ان والجه ة وال تركيب وال وزن‬
‫والحجم وغير ذلك‪ ..‬فهم ال ينكرون اتصاف هللا بذلك‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك ما أورد ابن تيمية في كتبه العقدية المختلفة من النصوص الدال ة‬
‫على عدم الحرج في وصف هللا بكونه جس ما من األجس ام‪ ،‬بن اء على المع نى‪ ،‬ال على‬
‫اللفظ‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فعندما راح يبين سبب عدم إطالق السلف لفظ الجسم ال نفيا وال إثبات ا هلل تع الى لم‬
‫يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن‪ ،‬وإنما ذكر ل ذلك وجهين‪( :‬أح دهما‪ :‬أن ه‬
‫ليس مأثوراً ال في كتاب وال سنة‪ ،‬وال أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‪،‬‬
‫وال غيرهم من أئمة المسلمين‪ ،‬فصار من البدع المذمومة‪ ..‬الثاني‪ :‬أن معناه ي دخل في ه‬
‫حق وباطل‪ ،‬فالذين أثبتوه أدخلوا في ه من النقص والتمثي ل م ا ه و باط ل‪ ،‬وال ذين نف وه‬
‫(‪)1‬‬
‫أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل)‬
‫وم راد ابن تيمي ة من التعطي ل والتحري ف – في ه ذا النص – ه و تنزي ه هللا عن‬
‫لوازم الجس مية ك الحيز والح دود ونحوه ا‪ ..‬أو كم ا أش ار إلى ذل ك في قوله في كتاب ه‬
‫(منهاج السنّة)‪( :‬وقد يراد بالجسم ما يشار إليه‪ ،‬أو ما ي رى‪ ،‬أو م ا تق وم ب ه الص فات‪،‬‬
‫وهللا تعالى يُرى في اآلخرة وتقوم به الصفات ويش ير إلي ه الن اس عن د ال دعاء بأي ديهم‬
‫وقلوبهم ووجوههم وأعينهم‪ ..‬فإن أراد بقول ه‪( :‬ليس بجس م) ه ذا المع نى قي ل ل ه‪ :‬ه ذا‬
‫المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنق ول وص ريح المعق ول‬
‫وأنت لم تقم دليالً على نفيه‪ ..‬وأ ّما اللفظ فبدعة نفيا ً وإثباتاً‪ ،‬فليس في الكتاب وال الس نّة‪،‬‬
‫وال قول أحد من سلف األُ ّمة وأئمتها إطالق لفظ (الجسم) في صفات هللا تع الى‪ ،‬ال نفي ا ً‬
‫ً (‪)2‬‬
‫وال إثباتا)‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فقد عرّف هللا في هذا النص بأنه يُشار إليه‪ ..‬وأنه يُ رى كم ا ت رى األجس ام‪ ..‬وأن ه‬
‫وأن ل ه مكان ا ً وجه ة‪ ،‬ب دليل رف ع الن اس أي ديهم عن د‬
‫تقوم به الصفات فيكون مر ّكب اً‪ّ ..‬‬
‫الدعاء إلى األعلى‪ ..‬فاإلله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول‪..‬‬
‫بل إن ابن تيمية يحاول بكل ما أوتي من قوة المنط ق أن ي برهن على ض رورة أن‬
‫يكون هللا جسما حتى يكون موجودا‪ ..‬فالوجود عنده يقتض ي الجس مية‪ ،‬يق ول في ذل ك‪:‬‬
‫( فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معينا ً مخصوصا ً قائما ً بنفس ه‬
‫ويكون مع ذلك ال داخل العالم وال خارج ه‪ ،‬وأن ه في اص طالحهم ال جس م وال ع رض‬
‫وال جسم وال متحيز‪ ،‬كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه ال ق ائم بنفس ه وال ق ائم بغ يره‪..‬‬
‫فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه‬
‫القائم بنفسه‪ .‬ولهذا ال يعقل أحد ما هو ق ائم بنفس ه إال م ا يقول ون ه و متح يز وجس م ‪..‬‬
‫فدعوى المدعين وجود موج ود ليس بمتح يز وال جس م وال ق ائم بمتح يز أو جس م مث ل‬

‫‪1‬‬
‫() منهاج السنة النبوية ‪.2/225‬‬
‫‪ )(2‬منهاج السنّة‪.180 / 1 :‬‬

‫‪26‬‬
‫دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه وال قائما بغ يره‪ ..‬ومن قي ل ل ه ه ل تعق ل ش يئا ً‬
‫قائما ً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم وال جوهر وال متحيز ومع هذا إنه ال‬
‫يجوز أن يكون فوق غيره وال تحته وال عن يمينه وال عن يس اره وال أمام ه وال وراءه‬
‫وأنه ال يكون مجامعا له وال مفارقا له وال قريبا منه وال بعي دا عن ه وال متص ال ب ه وال‬
‫منفصال عنه وال مماسا له وال محايثا له وأنه ال يشار إليه بأن ه هن ا أو هن اك وال يش ار‬
‫إلى شيء من ه دون ش يء وال ي رى من ه ش يء دون ش يء ونح و ذل ك من األوص اف‬
‫السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم وال متحيز لقال حاكما ً بصريح‬
‫(‪)1‬‬
‫عقله هذه صفة المعدوم ال الموجود)‬
‫وهكذا يضعنا ابن تيمية وأصحابه من أعالم المدرس ة الس لفية بين أم رين‪ :‬إم ا أن‬
‫نجسم هللا‪ ،‬أو نقول بعدمه‪ ..‬فالوجود عن دهم قاص ر على األجس ام‪ ..‬وه و نفس م ا قال ه‬
‫فرعون والمالحدة واليهود‪.‬‬
‫بل إن ابن تيمية يطبق جميع أوصاف األجسام على كل الموج ودات‪ ،‬ال يف رق في‬
‫ذل ك بين هللا س بحانه وتع الى واجب الوج وب‪ ،‬وبين الممكن ات ال تي خلقه ا‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫(الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث ال يك ون إال جس ما أو‬
‫عرض ا أو ال يك ون إال ج وهرا أو جس ما أو عرض ا أو ال يك ون إال متح يزاً أو قائم ا‬
‫بمتح يز أو ال يك ون إال موص وفا أو ال يك ون إال قائم ا بنفس ه أو بغ يره يُعلم ب ه أن‬
‫الموجود ال يكون إال ك ذلك‪ ..‬ف إن الفط رة العقلي ة ال تي حكمت ب ذلك لم تف رق في ه بين‬
‫موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتن ع في ه ه ذا أخرجت ه‬
‫من التقسيم ال ألن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخ رج ذل ك ونحن لم نتكلم فيم ا‬
‫دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقص ود‬
‫هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمح دث ه و بعين ه يعلم ب ه التقس يم في‬
‫(‪)2‬‬
‫الموجود مطلقا)‬
‫وهو ال يكتفي بهذه التصريحات فقط‪ ،‬بل إنه في كتابه (بيان تلبيس الجهمي ة) يك اد‬
‫يدافع عن لفظ (الجسم) بعينه‪ ،‬فيقول‪( :‬وليس في كتاب هللا‪ ،‬وال س نّة رس وله‪ ،‬وال ق ول‬
‫ً (‪)3‬‬
‫وأن صفاته ليست أجساما ً وأعراضا)‬ ‫أحد من سلف األُ ّمة وأئمتها أنّه ليس بجسم‪ّ ،‬‬
‫بل إن ابن تيمية وأعالم المدرسة السلفية عند حديثهم عن كمال هللا تعالى ينطلق ون‬
‫من النظرة التجس يمية الحس ية المادي ة ‪ ..‬فهم ي رون أن هللا س بحانه وتع الى م ا دام ق د‬
‫أعطى لعباده بعض الكماالت الحسية‪ ،‬فهو أولى أن يتصف بها‪ ،‬قال ابن تيمي ة يوض ح‬
‫ذلك‪( :‬كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق ب ه وأولى وأح رى ب ه من ه‬
‫ألنه أكمل منه وألنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال‪ ،‬فالخ الق أح ق ب ه وأولى وأح رى ب ه‬
‫منه‪...‬وعلى هذا فجميع األمور الوجودية المحض ة يك ون ال رب أح ق به ا ألن وج وده‬

‫‪ )(1‬بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)364 /2‬‬


‫‪ )(2‬بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)370 /2‬‬
‫‪ )(3‬بيان تلبيس الجهمية‪.1/101:‬‬

‫‪27‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أكمل وألنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها)‬
‫وإلى هن ا ف إن المع نى مقب ول عن د جمي ع المس لمين‪ ،‬فاهلل س بحانه وتع الى أولى‬
‫بصفات الكمال من عباده‪ ،‬ولكن ابن تيمية ال يقصد ذلك فق ط‪ ،‬ب ل يقص د التجس يم وم ا‬
‫يقتضيه التجس يم‪ ،‬فق د ق ال بع د ذل ك الكالم المقب ول باني ا علي ه‪( :‬وإذا ك ان ك ذلك فمن‬
‫المعلوم أن كون الموجود قائما ً بنفسه أو موصوفا ً أو أن له من الحقيقة والص فة والق در‬
‫ث غيره وأن ال يكون معدوما ً ب ل م ا أوجب أن يك ون قائم ا ً‬ ‫ما استحق به إال يكون بحي ِ‬
‫بنفسه مبايبا ً لغيره وأمثال ذلك هو من األمور الوجودي ة باعتب ار الغ ائب فيه ا بالش اهد‬
‫صار على هذا الصراط المستقيم‪ ،‬فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلم ا‬
‫(‪)2‬‬
‫كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد)‬
‫وبذلك فإن ابن تيمية يقع في التشبيه المحض‪ ،‬ألنه يتص ور أن الكم ال في احتي اج‬
‫الذات إلى حيز ومقدار وأعضاء وغير ذلك مع أن الكمال الحقيقي ال يقتضي ذلك‪..‬‬
‫وبناء على هذه النظرة السطحية المادية المحدودة هلل‪ ،‬وال تي ت دل على ع دم ق درة‬
‫العقل على التجريد والتنزيه نرى تعظيم المدرسة السلفية للعوام‪ ،‬واعتب ار وق وعهم في‬
‫التجسيم والتشبيه كماال‪ ،‬وهذا خالف ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة للرج وع إلى‬
‫الراس خين في العلم في التفري ق بين المتش ابه والمحكم إال أن ه ؤالء ي رون الع وام ‪-‬‬
‫أص حاب الفه وم الس طحية والمح دودة ‪ -‬أق در على فهم الق رآن الك ريم والعقي دة من‬
‫غ يرهم‪ ،‬وق د روى أب و داود عن يزي د بن ه ارون قول ه‪( :‬من زعم أن ال رحمن على‬
‫العرش استوى على خالف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي)(‪ ،)3‬وهو يقصد بذلك أن‬
‫يفهم من االستواء معنى القعود والجلوس‪ ..‬فكمال المعرفة عندهم هو في هذا االعتقاد‪.‬‬
‫وهكذا نجد تعظيمهم لمقولة فرعون التي سبق ذكرها‪ ،‬فقد قال أبو أحم د الك رجي‪:‬‬
‫( قوله إخبارًا عن فرعون ﴿يَا أَيُّهَا ْال َمأَل ُ َما َعلِ ْم ُ‬
‫ت لَ ُك ْم ِم ْن إِلَ ٍه َغي ِْري فَأَوْ قِ ْد لِي يَا هَا َم انُ‬
‫وس ى﴾‪ ،‬حج ة على من ي زعم أن هللا‬ ‫صرْ حًا لَ َعلِّي أَطَّلِ ُع إِلَى إِلَ ِه ُم َ‬ ‫َعلَى الطِّي ِن فَاجْ َعلْ لِي َ‬
‫بنفسه في األرض؛ ح ال في ك ل مك ان‪ ،‬وينك ر كينونت ه بنفس ه في الس ماء وعلم ه في‬
‫األرض‪ .‬إذ محال أن يقول فرعون هذا القول إال وقد دلّـه موس ى ‪-‬ص لى هللا علي ه‪ -‬أن‬
‫إله ه في الس ماء دون األرض‪ .‬ف إن ك ان فرع ون أنك ر كينونت ه في الس ماء وثبت ه في‬
‫األرض فقد وافق القوم فرعون في قوله‪ .‬وإن كان أنكره في الس ماء واألرض م ًع ا فق د‬
‫خالفوا موسى ‪-‬صلى هللا عليه ‪ -‬مع خالفهم لجميع األنبي اء والن اس‪ ،‬وأه ل المل ل كاف ة‬
‫(‪)4‬‬
‫سواهم‪ .‬وال أعلم في األرض باطال إال وهذا أوحش منه‪ ،‬نعوذ باهلل من الضاللة)‬
‫وقال سعد بن علي الزنجاني في شرح قصيدته في السنة‪( :‬وأخبر عن فرعون أن ه‬
‫ت فَ أَطَّلِ َع إِلَى إِلَ ِه‬
‫اوا ِ‬ ‫اب َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫اب أَ ْس بَ َ‬ ‫ص رْ حًا لَ َعلِّي أَ ْبلُ ُغ اأْل َ ْس بَ َ‬ ‫قال‪﴿ :‬يَ ا هَا َم انُ ا ْب ِن لِي َ‬
‫ُمو َسى َوإِنِّي أَل َظُنُّهُ َكا ِذبًا﴾ وكان فرعون قد ف ِهم عن موسى أن ه يُثبت إلهً ا ف وق الس ماء‬
‫‪ )(1‬بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)350 /2‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق ‪328-327‬‬
‫مسائل اإلمام أحمد ص‪15‬ـ واحتج به البخاري في خلق أفعال العباد‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫‪4‬‬
‫نكت القرآن ألبي أحمد الكرجي القصاب (ج‪ 3‬ص‪.)568-567‬‬ ‫()‬

‫‪28‬‬
‫حتى رام بصرحه أن يطلع إليه‪ ،‬واتهم موسى بالك ذب في ذل ك‪ ،‬و ُمخالفن ا ليس يعلم أن‬
‫(‪)1‬‬
‫هللا فوقه بوجود ذاته فهو أعجز فه ًما من فرعون)‬
‫وهذا يوضح لنا منهج االس تنباط ال ذي تعتم ده المدرس ة الس لفية في التع رف على‬
‫هللا‪ ،‬فهي تعرض عن اآليات الكثيرة التي ذكر فيها تعري ف موس ى علي ه الس الم لرب ه‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬والممتلئة بالتنزيه‪ ،‬لتأخ ذ عقي دتها من مقول ة فرع ون ال تي حكاه ا هللا‬
‫عنه ليدل على سخافة عقله‪.‬‬
‫وهك ذا نج د ابن القيم ي ذكر القص ص واألس اطير والخراف ات ال تي تؤي د التجس يم‬
‫ل يرمى به ا المنزه ة‪ ،‬وق د س مى كتاب ه ال ذي ش حن في ه ك ل ذل ك [اجتم اع الجي وش‬
‫اإلسالمية على غزو المعطلة والجهمية]‬
‫ومن تلك االستدالالت العجيبة قوله‪( :‬وفي هذا الباب قصة حمر الوحش المشهورة‬
‫التي ذكرها غير واحد‪ ،‬إنها انتهت إلى الماء لترده فوجدت الن اس حول ه فت أخرت عن ه‬
‫فلما جهدها العطش رفعت رأسها إلى السماء وج أرت إلى هللا س بحانه بص وت واح د‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫فأرسل هللا سبحانه عليها السماء بالمطر حتى شربت وانصرفت)‬
‫وهكذا نرى تعظيم أعالم المدرسة السلفية لعقي دة فرع ون عن دما طلب من هام ان‬
‫أن يب ني ل ه ص رحا ليطل ع إلى إل ه موس ى‪ ،‬حيث نج د االس تدالل به ا في أك ثر كتبهم‬
‫العقدية‪.‬‬
‫بل إننا نجد علما كبيرا كالشيخ حمود بن عبد هللا التويجري يعت بر فرع ون وغ يره‬
‫من الكف ار ال ذي واجه وا األنبي اء عليهم الص الة والس الم أفض ل ح اال من المؤم نين‬
‫الم نزهين هلل‪ ،‬وق د ق ال في كتاب ه [الص واعق الش ديدة على اتب اع الهيئ ة الجدي دة] في‬
‫تفضيل فرعون وغيره على المؤمنين من الذين يؤمنون بما يقول به علم الفلك الحديث‪:‬‬
‫(وقد اعترف فرعون بوجود السموات مع شدة كفره باهلل‪ ،‬واع ترف ب ذلك ق وم ش عيب‬
‫(‪)3‬‬
‫ومشركو قريش فهم إذاً أخف كفراً من أهل الهيئة الجديدة)‬
‫وبع د ك ل ه ذا التعظيم للع وام وغ يرهم‪ ،‬نج د ع داء الس لفية للعلم اء والفالس فة‬
‫والمتكلمين والصوفية ولكل طوائف المنزه ة‪ ،‬في نفس ال وقت ال ذي يقدس ون في ه ك ل‬
‫المشبهة والمجسمة‪.‬‬
‫وس نذكر هن ا – باختص ار – الش دة ال تي تعام ل به ا أعالم المدرس ة الس لفية م ع‬
‫المنزهة الذين يعتقدون بأن هللا تعالى أعظم وأجل من أن يتصور‪ ،‬وذلك من خالل بيان‬
‫مواقفهم من علماء الكالم والصوفية وعلماء الفلك‪:‬‬
‫علماء الكالم‪:‬‬
‫يعتبر علم الكالم من العلوم التي حاولت أن تمزج بين العقل والنقل‪ ،‬أو ح اولت أن‬

‫‪1‬‬
‫اجتماع الجيوش اإلسالمية على غزو المعطلة والجهمية البن القيم الجوزية (ص‪.)198-197‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫اجتماع الجيوش اإلسالمية ص‪.297-296‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)143 :‬‬ ‫()‬

‫‪29‬‬
‫تفهم النقل على ما تقتضيه العقول السليمة‪ ..‬وهو وإن ج رى بين أهل ه بعض االختالف‬
‫في بعض المسائل الفرعية إال أن أصحابه جميعا س واء ك انوا أش اعرة أو ماتريدي ة أو‬
‫معتزلة أو إمامي ة أو زيدي ة متفق ون على تنزي ه هللا عن التص ور‪ ،‬وعن مقتض ياته من‬
‫الحدود والجسمية ونحوها‪.‬‬
‫وقد بذلوا جهودا كبيرة في ذلك‪ ،‬وخاصة بعد انتشار م ذاهب المجس مة والمش بهة‪،‬‬
‫ومن تلك الجهود تصحيحهم للفهوم ال واردة ح ول النص وص المقدس ة‪ ،‬وتب يين الم راد‬
‫منه ا وف ق أس اليب اللغ ة العربي ة من المج از والكناي ة وغيره ا‪ ،‬أو م ا أطل ق علي ه‬
‫ات ه َُّن‬ ‫ات ُمحْ َك َم ٌ‬ ‫َاب ِم ْنهُ آيَ ٌ‬ ‫[التأويل]‪ ،‬استنادا إلى قوله تعالى‪﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي أَ ْنزَ َل َعلَ ْيكَ ْال ِكت َ‬
‫ب َوأُخَ ُر ُمتَ َشابِهَ ٌ‬
‫ات فَأ َ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُوبِ ِه ْم زَ ْي ٌغ فَيَتَّبِعُونَ َما تَ َشابَهَ ِم ْنهُ ا ْبتِغَا َء ْالفِ ْتنَ ِة‬ ‫أُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫َّاس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه ُك لٌّ ِم ْن ِع ْن ِد‬ ‫َوا ْبتِغَا َء تَأْ ِويلِ ِه َو َما يَ ْعلَ ُم تَأْ ِويلَهُ إِاَّل هَّللا ُ َوالر ِ‬
‫ب﴾ [آل عمران‪]7 :‬‬ ‫َربِّنَا َو َما يَ َّذ َّك ُر إِاَّل أُولُو اأْل َ ْلبَا ِ‬
‫وك ل ذل ك حرص ا على عقائ د األم ة وتنزيهه ا لربه ا‪ ،‬وع دم غرقه ا في أوح ال‬
‫التشبيه والتجسيم التي وقعت فيها األمم من قبلها‪.‬‬
‫لكن كل تلك الجهود جعلتهم في مرمى سهام المجسمة الذين استعملوا كل وس ائلهم‬
‫المعتادة من التكفير والتضليل لك ل م نزه‪ ،‬أو داعي ة للتنزي ه‪ ،‬ب ل وص ل بهم األم ر في‬
‫كثير من األحيان إلى تح ريض الع وام على ه ؤالء العلم اء المتكلمين‪ ،‬وق د ث ارت فتن‬
‫كثيرة في التاريخ اإلسالمي بسبب ذلك‪.‬‬
‫وقد ذكر الحافظ أبو عب د هللا محم د بن إس حاق بن من ده (‪ 395‬هـ) المعان اة ال تي‬
‫كانت تحصل للمنزهة من طرف المجسمة فقال‪( :‬ليتق هللا امرؤ وليعتبر عن تق دم ممن‬
‫كان القول باللفظ مذهبه ومقالته‪ ،‬كيف خ رج من ال دنيا مهج وراً م ذموما ً مط روداً من‬
‫المجالس والبلدان العتقاده القبيح؟! وقوله الشنيع المخ الف ل دين هللا مث ل‪ :‬الكرابيس ي‪،‬‬
‫والشواط‪ ،‬وابن كالب‪ ،‬وابن األشعري‪ ،‬وأمث الهم ممن ك ان الج دال والكالم طريق ه في‬
‫(‪)1‬‬
‫دين هللا عز وجل)‬
‫ومن تلك الحوادث ما حصل للمتكلم المع روف الفخ ر ال رازي ال ذي ك ان ل ه أث ر‬
‫كب ير في مواجه ة النزع ة التجس يمية واالنتص ار للتنزي ه‪ ..‬وه ذا م ا جع ل المجس مة‬
‫يثورون عليه‪ ،‬ويحرضون عليه العوام‪..‬‬
‫وال ب أس أن ن ورد هن ا باختص ار بعض م ا ح دث‪ ،‬لنس قطه على واق ع الس لفية‬
‫المعاصر‪ ،‬ولنعرف مدى الصلة بين المجسمة والعنف‪..‬‬
‫فق د ذك ر المؤرخ ون أن الفخ ر ال رازي دعي لمن اظرة بعض الكرامي ة المجس مة‬
‫الذين انتصر ابن تيمية لمق والتهم التجس يمية‪ ،‬وبع د المن اظرة‪ ،‬وفي الي وم الت الي‪ ،‬ق ام‬
‫أح دهم بالج امع‪ ،‬وص عد المن بر‪ ،‬وق ال‪( :‬ال إل ه إال هللا‪ ،‬ربن ا آمن ا بم ا أن زلت واتبعن ا‬
‫الرسول فاكتبنا مع الشاهدين‪ ،‬أيها الناس إنا النق ول إال م ا ص ح عن دنا عن رس ول هللا‬
‫‪ ‬وأما علم أرس طاليس وكفري ات ابن س ينا وفلس فة الف ارابي فالنعلمه ا‪ ،‬فألي ش يء‬

‫‪ )(1‬طبقات الحنابلة (‪.)4/424‬‬

‫‪30‬‬
‫يُشتم باألمس شيخ من شيوخ اإلسالم يذب عن دين هللا وعن سنة رسول نبي ه)‪ ،‬ثم بكى‬
‫وضج الناس وبكى الع وام واس تغاثوا‪ ،‬وث ار الن اس من ك ل ج انب‪ ،‬وامتأل البل د فتن ة‪،‬‬
‫وكادوا يقتتلون ويجري ما يهلك فيه خلق كثير‪ ،‬فبل غ ذل ك الح اكم‪ ،‬فأرس ل جماع ة من‬
‫عنده إلى الناس وس َّكنهم ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم وتقدم إليه بالعودة إلى هراة‬
‫فعاد إليها(‪.)1‬‬
‫وقد حصلت أحداث كثيرة في التاريخ اإلس المي ال تق ل عن ه ذه الحادث ة‪ ..‬ومنه ا‬
‫تلك الحادثة التي حصلت بين القشيري وأصحابه وبين المجسمة الذين كانوا يحرض ون‬
‫العوام‪ ،‬ويستعملونهم في مواجهة علماء األمة‪.‬‬
‫وال بأس أن نورد هنا وثيقة مهمة كتبها أبو نصر القشيري‪ ،‬ووقع عليه جماعة من‬
‫علماء األشاعرة‪ ،‬وهي تصور لنا بعض تلك المشاغبات ال تي ك ان يق وم به ا المجس مة‬
‫كل حين للتحريض على العلماء‪ ،‬وإثارة الفتن في األمة‪ ،‬ألجل حملها على التجسيم‪.‬‬
‫فمما جاء فيه ا‪( :‬يش هد من ثبت اس مه ونس به وص ح نهج ه ومذهب ه واخت بر دين ه‬
‫وأمانته من الفقهاء وأهل القرآن والمعدلين من األعيان‪ ،‬وكتبوا خط وطهم المعروف ة ‪..‬‬
‫أن جماع ة من الحش وية واألوب اش المتوس مين بالحنبلي ة أظه روا ببغ داد من الب دع‬ ‫ّ‬
‫الفظيعة والمخازي الشنيعة ما لم يتسمح به ملحد فضالً عن موحد‪ ،‬وال تجوز به‪ ،‬ق ادح‬
‫في أصل الشريعة وال معطل‪ ،‬ونسبوا كل م ا ي نزه الب اري تع الى وجـل عن النق ائص‬
‫واآلفات‪ ،‬وينفي عنه الحدوث والتشبيهات‪ ،‬ويقدسه عن الحلول والزوال ‪ ..‬وتن اهوا في‬
‫قذف األئمة الماضين‪ ،‬وثلب أهل الحق وعصابة الدين‪ ،‬ولعنهم في الجوام ع والمش اهد‬
‫والمحاف ل والمس اجد واألس واق والطرق ات والخل وة والجماع ات‪ ،‬ثم غ رهم الطم ع‬
‫واإلهمال ومدهم في طغيانهم الغي والض الل إلى الطعن فيمن يعتض د ب ه أئم ة اله دى‬
‫وهو للشريعة العروة الوثقى‪ ،‬وجعلوا أفعاله الدينية معاصي دنية‪..‬وتمادت الحشوية في‬
‫أن المعب ود ذو ق دم وأض راس‬ ‫ضاللتها واإلصرار على جهالتها وأب وا إال التص ريح ب ّ‬
‫ولهوات وأنامل‪ ،‬وأنه ي نزل بذات ه‪ ،‬وي تردد على حم ار في ص ورة ش اب أم رد بش عر‬
‫قطط‪ ،‬وعليه تاج يلمع‪ ،‬وفي رجليه نعالن من ذهب‪ ،‬وحفظ ذلك عنهم‪ ،‬وعللوه ودون وه‬
‫وأن ه ذه األخب ار ال تأوي ل له ا‪ ،‬وأنه ا تج ري على‬ ‫في كتبهم‪ ،‬وإلى الع وام ألق وه‪ّ ،‬‬
‫ظواهره ا وتعتق د كم ا ورد لفظه ا‪ ،‬وأن ه تع الى يتكلم بصـوت كالرعـد‪ ،‬وكصهيـل‬
‫(‪)2‬‬
‫الخيل)‬
‫فهذه الوثيقة تدل على المنهج التحريضي الذي كان يس تعمله المجس مة‪ ،‬وال زال وا‬
‫يستعملونه‪.‬‬
‫وقد جعلت تلك الفتن بعض العلماء يتخوفون من أن يحصل لهم ما حصل للمنزه ة‬
‫من القتل والنفي واألذى‪ ،‬فلذلك كانوا يحرصون على إظهار التجسيم واإلعالن به أم ام‬
‫الناس مخافة على أنفس هم أو س معتهم‪ ،‬يق ول الش يخ أب و الحس ن محم د بن عب د المل ك‬
‫الك رجي الش افعي‪( :‬ولم ي زل األئم ة الش افعية ي أنفون ويس تنكفون أن ينس بوا إلى‬
‫‪1‬‬
‫الكامل ‪ 10/262‬وانظر البداية والنهاية البن األثير ‪.13/19‬‬ ‫()‬
‫تبيين كذب المفتري ص ‪.. 311‬‬ ‫‪)(2‬‬

‫‪31‬‬
‫األشعري‪ ،‬ويتبرؤن مما بنى األشعري مذهبه علي ه‪ ،‬وينه ون أص حابهم وأحب ابهم عن‬
‫الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ واألئمة‪ ،‬منهم الحافظ الم ؤتمن بن أحم د‬
‫بن على الساجي يقولون‪ :‬سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا‪ :‬كان الشيخ أب و حام د‬
‫أحمد بن أبي طاهر اإلسفرائيني إمام األئمة الذي طبق األرض عل ًما وأصحابا ً إذا سعى‬
‫إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنص ور ي دخل الرب اط المع روف ب الزوزي‬
‫المحاذي للجامع‪ ،‬ويقبل على من حضر‪ ،‬ويقول‪ :‬اشهدوا عل ّي بأن القرآن كالم هللا غ ير‬
‫مخلوق‪ ،‬كما قاله اإلمام ابن حنبل‪ ،‬ال كما يقول ه الب اقالني‪ ،‬وتك رر ذل ك من ه جمع ات‪.‬‬
‫فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصالح‪ ،‬ويشيع الخبر في أه ل‬
‫البالد أني ب ريء مم ا هم علي ه ‪-‬يع ني األش عرية‪ ،-‬وب ريء من م ذهب أبي بك ر بن‬
‫الباقالني‪ ،‬فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقالني خفية ويقرؤون علي ه‬
‫فيفتنون بمذهبه‪ ،‬فإذا رجعوا إلى بالدهم أظهروا بدعتهم ال محالة فيظن ظان أنهم م نى‬
‫(‪)1‬‬
‫تعلموه قبله وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب البالقالني وعقيدته)‬
‫وك ل تل ك الفتن ال تي ك انت تحص ل بين الفين ة واألخ رى‪ ،‬وال تي س جلتها كتب‬
‫التاريخ‪ ،‬كان سببها تلك التحريضات المتش ددة ال ذي يق وم به ا أعالم المدرس ة الس لفية‬
‫تجاه مخالفيهم‪.‬‬
‫ومن أمثلته ا م ا رواه ابن عب د ال بر عن ابن خ واز من داد أن ه ق ال في كت اب‬
‫(الشهادات) في تأويل قول مالك‪( :‬ال تج وز ش هادة أه ل الب دع وأه ل األه واء)‪( :‬أه ل‬
‫األهواء عند مال ك وس ائر أص حابنا هم أه ل الكالم‪ ،‬فك ل متكلم فه و من أه ل األه واء‬
‫والبدع أشعريا ً كان أو غير أشعري‪ ،‬وال تقبل ل ه ش هادة في اإلس الم‪ ،‬ويهج ر وي ؤدب‬
‫(‪)2‬‬
‫على بدعته‪ ،‬فإن تمادى عليها استتيب منها)‬
‫ومنها ما ذكره أبو إسماعيل الهروي األنصاري‪ ،‬قال‪( :‬رأيت يحي بن عم ار م ا‬
‫ال أحص ي من م رة على من بره يكف رهم –أي األش عرية‪ -‬ويلعنهم‪ ،‬ويش هد على أبي‬
‫(‪)3‬‬
‫الحسن األشعري بالزندقة‪ ،‬وكذلك رأيت عمر بن إبراهيم ومشائخنا)‬
‫وروى عن عم ر بن إب راهيم قول ه‪( :‬ال تح ل ذب ائح األش عرية‪ ،‬ألنهم ليس وا‬
‫(‪)4‬‬
‫بمسلمين‪ ،‬وال بأهل كتاب‪ ،‬وال يثبتون في األرض كتاب هللا)‬
‫وقال‪( :‬وينبغي أن يتأمل قول الكالبي ة واألش عرية في الص فات‪ ،‬ليعلم أنهم غ ير‬
‫مثبتين إلها ً في الحقيق ة‪ ،‬وأنهم يتخ يرون من النص وص م ا أرادوه‪ ،‬وي تركون س ائرها‬
‫(‪)5‬‬
‫ويخالفونه)‬
‫وقال ابن قدام ة المقدس ي في (لمع ة االعتق اد)‪( :‬ومن الس نة‪ :‬هج ران أه ل الب دع‬
‫‪ )(1‬نقله عنه شيخ اإلسالم ابن تيمية في درء التعارض (‪.)98-2/95‬‬
‫‪ )(2‬نقله عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (‪.)2/943‬‬
‫‪ )(3‬ذم الكالم وأهله (‪.)4/411‬‬
‫‪ )(4‬ذم الكالم وأهله (‪.)4/413‬‬
‫‪ )(5‬رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص‪.)173‬‬

‫‪32‬‬
‫ومب اينتهم‪ ،‬وت رك الج دال والخص ومات في ال دين‪ ،‬وت رك النظ ر في كتب المبتدع ة‪،‬‬
‫واإلصغاء إلى كالمهم‪ ،‬وكل محدثة في الدين بدعة‪ ،‬وك ل متس م بغ ير اإلس الم والس نة‬
‫مبتدع‪ :‬كالرافضة‪ ،‬والجهمية‪ ،‬والخوارج‪ ،‬والقدرية‪ ،‬والمرجئة‪ ،‬والمعتزلة‪ ،‬والكرامية‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫والكالبية‪ ،‬ونظائرهم‪ ،‬فهذه فرق الضالل‪ ،‬وطوائف البدع‪ ،‬أعاذنا هللا منها)‬
‫ولم يكت ف ه ؤالء بالتش نيع على المتكلمين ال ذين راح وا يس تعملوا ك ل األدوات‬
‫العقلية واللغوية لصيانة عقول المسلمين من أن يتسرب إليه ا وح ل التجس يم والتش بيه‪،‬‬
‫بل ذهبوا إلى أولئك المفوضة الورعين الذين دعوا إلى الكف عن البحث في أمثال ه ذه‬
‫المسائل‪.‬‬
‫فهذا ابن تيمية يق ول عنهم‪..( :‬فت بين أن ق ول أه ل التف ويض ال ذين يزعم ون أنهم‬
‫(‪)2‬‬
‫متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع واإللحاد)‬
‫بل إنه – كعادته في التنابز باأللقاب – يغير اسمهم من [أهل التف ويض] إلى [أه ل‬
‫التجهيل]‪ ،‬فيقول‪..( :‬أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى الس نة واتب اع الس لف‬
‫يقولون إن الرسول لم يعرف معان َي ما أنزل هللا إليه من آي ات الص فات‪..‬وال الس ابقون‬
‫(‪)3‬‬
‫األولون عرفوا ذلك‪)...‬‬
‫وهذا قول عامة المدرسة السلفية من المعاصرين الذين نجدهم في كتبهم وم واقعهم‬
‫يشنعون على المتوقفين في أمثال هذه المسائل‪ ،‬وقد ق ال ابن ع ثيمين عنهم‪( :‬التف ويض‬
‫(‪)4‬‬
‫من شر أقوال أهل البدع‪ ..‬وإذا تأملته وجدته تكذيبا ً للقرآن وتجهيالً للرسول)‬
‫الصوفية‪:‬‬
‫يعتبر الصوفية من منزهة هذه األمة ال ذين لم يتقبل وا تل ك التش ويهات ال تي تلقاه ا‬
‫أهل الحديث من اليه ود وغ يرهم‪ ،‬وربم ا يع ود ذل ك لص لة مش ايخهم األوائ ل باألئم ة‬
‫الكبار من أهل البيت عليهم السالم‪ ..‬فقد كانوا تالميذ نجباء لهم‪ ..‬ولهذا نجد في ال تراث‬
‫الصوفي االستدالالت الكثيرة بكلمات اإلمام علي أو غ يره من األئم ة ‪ ..‬باإلض افة إلى‬
‫ذلك فإنه ال تكاد تخلو سلسلة من سالسل الصوفية من الرجوع في نهايتها لإلمام علي‪..‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله تلك المحبة العظيمة التي تمتلئ بها قلوب الص وفية نح و الع ترة‬
‫الطاهرة‪ ..‬ولعل ذلك ما حفظهم من الوقوع في براثن التشبيه التي وق ع فيه ا الممتلئ ون‬
‫بالنصب والعداوة آلل البيت الكرام‪ ،‬وال ذين آث روا أن يتول وا كعب األحب ار ووهب بن‬
‫المنبه وغيرهم من أئمة التجسيم‪.‬‬
‫وه ذا ال يع ني أن الص وفية معص ومون من الخط أ‪ ،‬أو أن ه لم يتس رب لهم بعض‬
‫التحريفات والتش ويهات‪ ..‬ولكن ذل ك كل ه ال يس اوي ش يئا أم ام م ا وق ع في ه المجس مة‬

‫‪ )(1‬لمعة االعتقاد (ص‪.)200‬‬


‫‪ )(2‬درء التعارض ‪1/205‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى ‪5/34‬‬
‫‪ )(4‬المحاضرات السنية ‪1/67‬‬

‫‪33‬‬
‫والمشبهة‪.‬‬
‫والمنهج ال ذي اعتم ده الص وفية ه و نفس م ا ذك ره قبلهم أئم ة أه ل ال بيت عليهم‬
‫السالم من تطهير القلب ليصبح محال للمعرفة التنزيهي ة‪ ..‬ألن س بب التجس يم والتش بيه‬
‫تلك الكدورة التي تمأل القلب بالكثاف ة‪ ،‬وذل ك ال ران ال ذي يح ول بين القلب وبين تجلي‬
‫الحق فيه‪.‬‬
‫وبن اء على ه ذا لم يهتم الص وفية كث يرا بالج دل للوص ول إلى الحق ائق كم ا فع ل‬
‫المتكلمون‪ ،‬ولم يهتموا بجمع األحاديث كما فعل أهل الحديث‪ ..‬ب ل اهتم وا بتنقي ة القلب‬
‫ليصبح أهال لمعرفة ال رب‪ ،‬العتق ادهم أن الحج اب الحائ ل بين ال روح والمعرف ة أم ر‬
‫وهم ّي عدم ّي ال حقيقة له‪ ،‬وهو مرض القلب بأوصاف البش رية‪ ،‬فل و ص حت لع رفت‪،‬‬
‫كما عبر عن ذلك ابن عطاء هللا بقوله‪( :‬اخ رج من أوص اف بش ريّتك عن ك ّل وص ف‬
‫ق مجيبا‪ ،‬ومن حضرته قريبا)‬ ‫مناقض لعبوديّتك‪ ،‬لتكون لنداء الح ّ‬
‫وق د عل ق على ه ذه الحكم ة الجليل ة ابن عجيب ة بقول ه‪( :‬أوص اف البش رية‪ :‬هي‬
‫األخالق ال تي تن اقض خل وص العبودي ة‪ ،‬ومرجعه ا إلى أم رين‪ :‬األول‪ :‬تعل ق القلب‬
‫بأخالق البهائم وهي شهوة البطن والفرج وما يتبعهما من حب الدنيا وشهواتها الفانية ‪..‬‬
‫الثاني‪ :‬تخلّقه بأخالق الشياطين كالكبر والحس د والحق د والغض ب والح دة وهي القل ق‪،‬‬
‫والبطر وهو خفة العقل‪ ،‬واألشر وهو التك بر‪ ،‬وحب الج اه والرياس ة والم دح والقس وة‬
‫والعطاء والفظاظة والغلظة‪ ،‬وتعظيم األغني اء‪ ،‬واحتق ار الفق راء‪ ،‬وكخ وف الفق ر وهم‬
‫الرزق والبخل والشح والرياء والعجب‪ ،‬وغير ذلك مما ال يحص ى ح تى ق ال بعض هم‪:‬‬
‫للنفس من النقائص ما هّلل من الكماالت‪ ..‬فإذا تخلّق العبد بهذه األخالق وتحقق به ا ذوق ا‬
‫بعد أن تخلص من أضدادها‪ ،‬ك ان عب دا خالص ا لم واله ح رّا مم ا س واه‪ ،‬وك ان لندائ ه‬
‫مجيبا‪ ،‬ومن حضرته قريبا فإذا قال له ربه‪ :‬يا عبدي قال له‪ :‬ي ا رب‪ ،‬فك ان ص ادقا في‬
‫إجابته لصدق عبوديته‪ ،‬بخالف ما إذا كان منهمكا في شهواته الظاهرة والباطن ة‪ ،‬ك ان‬
‫عبدا لنفسه وشهواته‪ ،‬فإذا قال‪ :‬يا رب كان كاذبا إذ من أحب شيئا‪ ،‬فهو عبد ل ه وه و ال‬
‫يحب أن تكون عبدا لغيره‪ ،‬وإذا تخلص من رق الشهوات والحظوظ‪ ،‬ك ان أيض ا قريب ا‬
‫من حضرة الحق‪ ،‬بل عاكفا فيه ا‪ ،‬إذ م ا أخرجن ا عن الحض رة إال حبّ ه ذه الخي االت‬
‫(‪)1‬‬
‫الوهمية فإذا تحررنا منها وتحققنا بالعبودية وجدنا أنفسنا في الحضرة)‬
‫وهذا الذي ذكره ابن عجيبة هو نفس ما يذكره القرآن الكريم عن دما يرب ط اإليم ان‬
‫باألخالق والتقوى‪ ،‬كما يربط الجحود بمرض القلب وقساوته‪.‬‬
‫وب ذلك ف إن المنهج الص وفي من ه ذه الناحي ة منهج ق رآني نب وي ال ج دال في ه ‪..‬‬
‫فبقدر صفاء القلب تزول أوهام اإللحاد والتشبيه والتجسيم ‪..‬‬
‫وبناء على هذا كان الصوفية يحذرون األمة من بضاعة المحدثين الممتلئة بالحش و‬
‫والتجسيم‪ ،‬ألن ه ال يمكن أن يع رف هللا حش وي مجس م‪ ..‬وق د ق ال جعف ر الخل دي‪( :‬ل و‬
‫تركني الصوفية لجئتكم بأسارير الدنيا وطلبت الحديث‪ ،‬لقد مضيت إلى عباس ال دوري‬

‫‪1‬‬
‫إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.114 :‬‬ ‫()‬

‫‪34‬‬
‫مجلس ا واح دًا‪ ،‬ثم خ رجت من عن ده فلقي ني بعض‬ ‫ً‬ ‫من علم اء الح ديث فكتبت عن ه‬
‫الصوفية‪ ،‬فقالوا لي‪ :‬إيش هذا معك؟ فأعطيته إياه‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك! تدع علم ال ِخ َرق وتأخذ‬
‫خرق األوراق ومنعني أن أتابع)‬
‫علم ال َو َرق؟! ثم َ‬
‫وقال أبو سعيد الكندي‪( :‬كنت أنزل رباط الصوفية وأطلب الحديث في خفي ة‪ ،‬وفي‬
‫يوم سقطت مني محبرة من كمي‪ ،‬فرآها صوفي‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك! استر عورتك)‬
‫وك ان أب و يزي د البس طامي يقول ون للمح دثين ال ذين انش غلوا بالرواي ة‪ :‬أنتم أين‬
‫ِعلمكم؟) فيقولون‪ِ :‬من فالن عن فالن عن فالن عن النبي‪ ،‬فيقول‪ :‬أين هم؟ م اتوا كلّهم‪،‬‬
‫فيق ول‪ :‬م ا ه ذا العلم ال ذي يؤخ ذ من أم وات؟! نحن علمن ا أخ ذناه من الحي ال ذي ال‬
‫يموت‪.‬‬
‫وطبعا فإن مراد الصوفية من كل هذا ليس النهي عن الح ديث المج رد‪ ،‬فق د ك انوا‬
‫من أكثر الناس رواية للحديث النبوي‪ ..‬وكتبهم مش حونة ب ه‪ ..‬ولكن تح ذيرهم ك ان عن‬
‫ذل ك الحش و ال ذي م ال إلي ه المح دثون‪ ،‬ومألوا ب ه م ا يس مونه كتب التوحي د والس نة‬
‫وأصول الدين‪.‬‬
‫ومثلما حذر الصوفية من علم الحديث ال ذي امتأل بالحش و‪ ،‬ح ذروا من علم الكالم‬
‫الذي امتأل بالجدل‪ ،‬وقد ذكر الشيخ محمود أبو دقيقة كالم ا طيب ا في الف رق بين المنهج‬
‫الكالمي والمنهج الصوفي في المعرفة‪ ،‬فقال‪( :‬مقصود الصوفية بمعرفة هللا تعالى غير‬
‫مقصود المتكلمين بمعرفته‪ ،‬والصوفية ال ينكرون معرفة المتكلمين بل يزيدون عليها‪،‬‬
‫ومعرفة الصوفية من مرتبة‪ ،‬ومعرف ة المتكلمين من مرتب ة أخ رى‪ ،‬فمعرف ة الص وفية‬
‫إحسانية‪ ،‬ومعرفة المتكلمين إيمانية‪ ،‬فاخلتفا مرتبة‪ ..‬ومعرف ة الص وفية قلبي ة‪ ،‬ومعرف ة‬
‫المتكلمين عقلي ة فاختلف ا وس يلة‪ ..‬ومعرف ة الص وفية عم ل‪ ،‬ومعرف ة المتكلمين علم‪..‬‬
‫ومعرفة الصوفية شهود‪ ،‬ومعرفة المتكلمين اعتق اد‪ ..‬ومعرف ة الص وفية تب دأ من القلب‬
‫وتنتهى إلى الجوارح الظاهرة والباطنة فأثرها عملى‪ ،‬ومعرفة المتكلمين تبدأ من العقل‬
‫وتنتهى إلى القلب فأثره ا علمى‪ ..‬ومعرف ة الص وفية هلل‪ ،‬غ ير معرف ة المتكلمين ب ل‬
‫وبعدها‪ .‬فالصوفية بعد أن يقرون بمعرفة المتكلمين ليتحقق وا بمرتب ة اإليم ان‪ ،‬يزي دون‬
‫عليها بمعرفته من جهة اإلحسان‪ ،‬فمعرفة الصوفية بعد معرف ة المتكلمين‪ ،‬والمتكلم ون‬
‫يعرفونه واجب الوجود‪ ،‬خالقا‪ ،،‬صانعا‪ ،‬واحدا‪ ،‬حيا‪ ،‬س ميعا‪ ،‬بص يرا‪ ،‬عليم ا‪ ،‬مري دا‪،‬‬
‫قادرا‪ ،‬قديما‪ ،‬باقيا‪ ،‬مخالفا للحوادث ‪ ..‬والصوفية بعد أن يعرفونه كذلك يشهدون كذلك‪،‬‬
‫فالفرق بينهما كالفرق بين معرفة هللا بالنظر فى آثاره‪ ،‬ومعرفته (كأنك ت راه)‪ ،‬وطري ق‬
‫(‪)1‬‬
‫معرفة الصوفية خاصة عند محققى أهل الحق)‬
‫بناء على هذا‪ ،‬فإن المعرفة الصوفية معرف ة تنزيهي ة متوافق ة م ع الرؤي ة الكوني ة‬
‫القرآنية‪ ،‬وليس من فرق بينها وبين تنزيه المتكلمين إال أن تنزيه المتكلمين تنزيه علمي‬
‫معرفي‪ ،‬وتنزيه الصوفية تنزيه ذوقي عرفاني‪.‬‬
‫وقد اتفق الصوفية على هذا التنزيه الذي أشار إليه الشيخ أب و الحس ن الش اذلي في‬

‫‪1‬‬
‫القول السديد فى علم التوحيد‪ ،‬الشيخ محمود أبو دقيقة‪.60 /1 :‬‬ ‫()‬

‫‪35‬‬
‫قوله‪( :‬إنا لننظر إلى هّللا ببصر اإليمان و اإليقان فأغنانا عن الدليل و البرهان‪ ،‬و إن ا ال‬
‫ن ري أح دا من الخل ق‪ ،‬فه ل في الوج ود أح د س وي المل ك الح ق؟ و إن ك ان و ال ب د‬
‫فكالهباء في الهواء إن فتشتهم لم تجدهم شيئا)‬
‫وأش ار إلي ه ابن عط اء هللا في (لط ائف المنن)‪ ،‬فق ال‪( :‬و من أعجب العجب أن‬
‫تكون الكائنات موصلة إلى هّللا ! فليت شعري‪ ،‬هل لها وجود معه حتى توص ل إلي ه؟ أو‬
‫هل له ا من الوض وح م ا ليس ل ه ح تى تك ون هي المظه رة ل ه؟ و إن ك انت الكائن ات‬
‫موصلة له فليس ذلك لها من حيث ذاتها‪ ،‬لكن هو الذي والها رتبة التوصيل‪ ،‬فوصلت‪،‬‬
‫فما وصل إليه غير إلهيته‪ ،‬و لكن الحكيم هو واضع األسباب‪ ،‬و هي لمن وقف معه ا و‬
‫ال ينفذ إلى قدرته عين الحجاب فظهور الحق أجلى من كل ما ظه ر‪ ،‬إذ ه و الس بب في‬
‫(‪)1‬‬
‫ظهور كل ما ظهر و ما اختفى إال من شدة ما ظهر‪ ،‬و من شدة الظهور الخفاء)‬
‫وأشار إليه ابن عطاء هللا‪ ،‬فقال‪( :‬كيف يتصوّر أن يحجبه شيء و ه و أق رب إلي ك‬
‫من ك ّل شيء؟)‬
‫وهم يروون في ه ذا عن اإلم ام علي قول ه‪( :‬الح ق تع الى ليس من ش يء و ال في‬
‫شيء و ال فوق شيء و ال تحت شيء‪ ،‬إذ ل و ك ان من ش يء لك ان مخلوق ا‪ ،‬و ل و ك ان‬
‫فوق شيء لكان محموال‪ ،‬و لو كان في ش يء لك ان محص ورا‪ ،‬و ل و ك ان تحت ش يء‬
‫(‪)2‬‬
‫لكان مقهورا)‬
‫ويروون أنه قيل له‪ :‬يا ابن عم رسول هّللا ‪ ‬أين كان ربنا أو هل له مكان؟ فتغير‬
‫وجهه و سكت ساعة ثم قال‪( :‬قولكم أين هّللا سؤال عن مكان‪ ،‬و كان هّللا و ال مك ان‪ ،‬ثم‬
‫خلق الزمان و المكان‪ ،‬و هو اآلن كما كان دون مكان و ال زمان)‬
‫وهكذا نجد كتب الصوفية مملوءة بتنزيه هللا وتعظيم ه إلى الدرج ة ال تي يعت برون‬
‫فيها الشعور بمثلية وجودهم لوجود هللا شركا‪ ،‬وقد قال في ذلك الشيخ أبو مدين‪:‬‬
‫ان كنت مرتادا بلوغ كمال‬ ‫هللا قل وذر الوجود وما حوى‬
‫عدم على التفصيل واالجمال‬ ‫فالكل دون هللا ان حققته‬
‫لواله في محو وفي اضمحالل‬ ‫واعلم بأنك والعوالم كلها‬
‫فوجوده لواله عين محال‬ ‫من ال وجود لذاته من ذاته‬
‫شيئا سوى المتكبر المتعال‬ ‫فالعارفون فنوا بأن لم يشهدوا‬
‫في الحال والماضي واالستقبال‬ ‫ورأوا سواه على الحقيقة هالكا‬
‫شيئا سوى فعل من االفعال‬ ‫فالمح بعقلك او بطرفك هل ترى‬

‫‪1‬‬
‫نقال عن‪ :‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.81 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫نقال عن‪ :‬إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.82 :‬‬ ‫()‬

‫‪36‬‬
‫نظرا تؤيده باالستدالل‬ ‫وانظر الى علو الوجود وسفله‬
‫بلسان حال او لسان مقال‬ ‫تجد الجميع يشير نحو جالله‬
‫سفل ومبدعها بغير مثال‬ ‫هو ممسك االشياء من علو الى‬
‫وقال‪:‬‬
‫شيئا سواه على الذوات مصورا‬ ‫فإذا نظرت بعين عقلك لم تجد‬
‫فبذيل جهلك التزال معثرا‬ ‫واذا طلبت حقيقة من غيره‬
‫بعد هذا التوضيح الذي اضطررنا إليه لبيان الدور الذي قام ب ه الص وفية في حف ظ‬
‫عقيدة التنزيه القرآنية يتبين لنا الس ر ال ذي ألب عليهم التي ار التجس يمي ال ذي لم ي ترك‬
‫سبيال لتضليلهم وتبديعهم وتكفيرهم والتحريض عليهم إال فعله‪.‬‬
‫ومع أن ذلك واضح من خالل الكتب الكثيرة المؤلفة في تكفير الص وفية والتح ذير‬
‫منهم‪ ،‬إال أنني سأذكر هنا نماذج من أقوال المح دثين ال تي ال تتعل ق فق ط بالشخص يات‬
‫المثيرة للجدل كابن عربي والجيلي وغيرهما‪ ،‬ب ل تتعل ق بشخص ية معتدل ة ال نج د في‬
‫كتبها أي لون من ألوان الشطحات‪.‬‬
‫من تلك النص وص ال تي ينش رها التي ار الس لفي أثن اء تح ذيره من الص وفية ق ول‬
‫الحافظ سعيد بن عمرو البردعى‪( :‬شهدت أبا زرعة ‪ -‬وقد سئل عن الحارث المحاسبى‬
‫وكتب ه ‪ -‬فق ال للس ائل‪ :‬إي اك وه ذه الكتب‪ ،‬ه ذه كتب ب دع وض الالت‪ ،‬علي ك ب األثر‬
‫(الحديث)‪ ،‬فإنك تجد فيه ما يغنيك‪ ،‬فقيل له‪ :‬في هذه الكتب عبرة‪ ،‬فقال‪( :‬من لم يكن ل ه‬
‫في كتاب هللا عبرة‪ ،‬فليس له في هذه الكتب ع برة‪ ،‬بلغكم أن س فيان ومالك ا واألوزاعي‬
‫صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس‪ ،‬ما أسرع الناس إلى البدع!)‬
‫وقد علق عليه ال ذهبي بقول ه‪( :‬وأين مث ل الح ارث ؟! فكي ف ل و رأى أب و زرع ة‬
‫تصانيف المت أخرين ك القوت ألبي ط الب؟ وأين مث ل الق وت؟ ‪ ..‬كي ف ل و رأى بهج ة‬
‫األسرار البن جهضم‪ ،‬وحقائق التفسير للسلمى؟ لطار لبُّه ‪ ..‬كيف لو رأى تصانيف أبي‬
‫حامد الطوس ى في ذل ك‪ ،‬على ك ثرة م ا في اإلحي اء من الموض وعات؟ كي ف ل و رأى‬
‫(‪)1‬‬
‫الغنية للشيخ عبد القادر؟)‬
‫علماء الفلك‪:‬‬
‫وهم مع عدم كونهم من علم اء التوحي د وال العقي دة‪ ،‬وال عالق ة لهم بالجهمي ة وال‬
‫األشاعرة وال الصوفية‪ ..‬ب ل ال عالق ة لهم باإلس الم وال ب أي دين من األدي ان‪ ..‬ولكنهم‬
‫مع ذلك لقوا حرب ا ش عواء من المدرس ة الس لفية‪ ،‬ألن الص ورة ال تي أعطاه ا ه ؤالء ـ‬
‫بحسب ما دلت عليها بحوثهم ـ تختل ف تمام ا عن الص ورة ال تي تق وم عليه ا المعرف ة‬
‫التجسيمية هلل التي يعتقدها السلفية‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫ميزان االعتدال‪..431 /1 :‬‬ ‫()‬

‫‪37‬‬
‫وكمثال على ذلك تلك الهجمة الشرسة التي ووجه بها من يقول ب أن األرض ت دور‬
‫حول الشمس‪ ،‬والذي وصل إلى حد التكفير‪ ،‬ذلك أن هذه المقولة ـ باإلض افة لمخالفته ا‬
‫لذلك الم وروث ال روائي ال ذي اس تلموه من المجس مة ومن أه ل الكت اب ـ تخ الف م ا‬
‫يسمونه ب أهم مس ألة عقدي ة في تص ورهم‪ ،‬وهي [عل و هللا تع الى على خلق ه]‪ ،‬وال ذي‬
‫يقتضي أن تكون األرض ثابتة‪ ،‬والسموات السبع فوقها كالقبة عليها‪ ،‬ثم يكون الع رش‪،‬‬
‫ثم يكون هللا تعالى بحسب تصورهم‪ ..‬ودروان األرض يقضي على ذلك كله‪.‬‬
‫ولألسف فإن هذه الهجمة لم تكن من لدن أناس عاديين بسطاء‪ ،‬بل ك انت من أعلى‬
‫الهيئات الدينية‪ ،‬ففي الفتوى رقم (‪ )15255‬الموجهة لهيئة العلم اء برئاس ة الش يخ ابن‬
‫باز ورده هذا السؤال‪( :‬أنا م درس لم ادة الجغرافي ا‪ ،‬وحيث إن ه ق د ورد إلي موض وع‬
‫يتعلق بدوران األرض حول نفسها وحول الشمس‪ ،‬وحيث إنه قد سبق وأن ق رأت كتابً ا‬
‫لسماحتكم بعنوان‪( :‬األدل ة النقلي ة والحس ية على إمك ان الص عود إلى الك واكب‪ ،‬وعلى‬
‫جريان الشمس والقمر وس كون األرض) حيث ك ان هنال ك تع ارض بين م ا ذكرتم وه‬
‫سماحتكم وبين الكتاب المدرسي؛ لذا أرجو من سماحتكم إفادتي عن هذا الموضوع)‬
‫فأجاب ه به ذا الج واب الخط ير‪( :‬يجب على م درس الجغرافي ا إذا ع رض على‬
‫الطالب نظرية الجغرافيين ح ول ثب وت الش مس ودوران األرض عليه ا ‪ -‬أن ي بين أن‬
‫هذه النظرية تتعارض مـع اآليـات القرآنية واألحاديث النبوية‪ ،‬وأن الواجب األخ ذ بم ا‬
‫دل عليه القرآن والسنة‪ ،‬ورفض ما خـالف ذلك‪ ،‬وال ب أس بع رض نظري ة الجغراف يين‬
‫من أجل معرفتها والرد عليها كسائر الم ذاهب المخالف ة‪ ،‬ال من أج ل تص ديقها واألخ ذ‬
‫(‪)1‬‬
‫بها)‬
‫وهكذا نجد الكتب الكثيرة التي ألفت في هذا المجال‪ ،‬ومنها كت اب (دوران األرض‬
‫حقيقة أم خراف ة) لع ادل العش ري‪ ،‬وكت اب (هداي ة الح يران في مس ألة ال دوران) لعب د‬
‫الكريم بن صالح الحميد‪ ،‬وكتاب (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئ ة الجدي دة) للش يخ‬
‫التويجري‪ ،‬وغيرها من الكتب‪.‬‬
‫واإلشكال األكبر هو وقوع هؤالء في نفس ما وقع فيه رجال الدين المسيحي حينما‬
‫تبن وا بعض النظري ات العلمي ة‪ ،‬وربطوه ا بال دين‪ ،‬ثم ح اربوا ك ل من يق ول بخالفه ا‬
‫واعتبار القول به هرطقة‪.‬‬
‫ونفس الشيء وق ع في ه ه ؤالء حين أخض عوا الحق ائق العلمي ة القطعي ة للم وازين‬
‫الروائية الممتلئة باألساطير والخرافات‪..‬‬
‫وكمثال على ذلك ما قاله التويجري في كتابه (الصواعق الشديدة على اتباع الهيئ ة‬
‫الجديدة) عند رده لما يقوله الفلكي ون من أن (األرض س ابحة في الج و معلق ة بسالس ل‬
‫الجاذبية وقائمة بها)‪ ،‬فقد قال ردا عليهم‪( :‬ونقول أما قولهم إن األرض سابحة في الج و‬
‫فهذا باطل ترده اآلي ات واألح اديث الدال ة على س كون األرض وثباته ا‪ .‬وي رده أيض ا ً‬
‫إجماع المسلمين على ثبات األرض وسكونها‪ .‬وقد تقدم ك ل ذل ك فل يراجع وأم ا ق ولهم‬

‫‪1‬‬
‫فتاوى اللجنة الدائمة‪ ،‬لجزء رقم‪ ،26 :‬الصفحة رقم‪.415 :‬‬ ‫()‬

‫‪38‬‬
‫إنها معلقة بسالسل الجاذبية فه ذا باط ل ي رده ق ول هللا تع الى (إن هللا يمس ك الس موات‬
‫واألرض أن تزوال) وقوله تعالى (ومن آياته أن تقوم السماء واألرض ب أمره) فالس ماء‬
‫قائمة بأمر هللا تعالى وإمساكه لها من غير عمد واألرض قائمة بأمر هللا تعالى وإمساكه‬
‫(‪)1‬‬
‫لها من غير سالسل)‬
‫ليس هذا فقط‪ ،‬بل إنهم ينكرون كل الحقائق العلمي ة الفلكي ة‪ ،‬وس نذكر نموذج ا هن ا‬
‫لعلم من أعالم المدرسة السلفية المعاصرة‪ ،‬وهو ين اقش بعض الحق ائق العلمي ة الفلكي ة‬
‫وفق الرؤية السلفية‪..‬‬
‫وهو العالم الذي زكاه كل رجال المدرسة السلفية الكب ار‪ ،‬وزك وا كتابت ه ه و يحي‬
‫الحجوري الذي ألف كتابا سماه [الصبح الشارق على ضالالت عبد المجيد الزندني في‬
‫كتاب ه توحي د الخ الق]‪ ،‬وه و في ال رد على كت اب في العقي دة اإلس المية يض م بعض‬
‫الحقائق العلمية كأدلة على قدرة هللا تعالى‪.‬‬
‫ومن تلك الردود رده على ما ذكره صاحب الكت اب من ص عود البش ر إلى القم ر‪،‬‬
‫وقد قال في رده باللهجة السلفية القاسية‪( :‬ه ذه كذب ة بلغت اآلف اق يس تحق ص احبها أن‬
‫يشرشر شدقه على قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه وال يزال يفعل به ذل ك كم ا في‬
‫حديث سمرة بن جندب رضي هللا عنه عند البخاري رقم ( ‪ ،)7047،1386‬وهذه الكذبة‬
‫صنعها أعداء اإلسالم الحتقار من سواهم من المسلمين حيث لم يستطيعوا صعود القمر‬
‫ولغير ذلك من المقاصد الخبيثة‪ ،‬ونشرها الببغاوات كصاحبنا وأمثاله‪ ،‬وقد أنكرها ذل ك‬
‫الس يف الص ارم على الب دع والمح دثات الش يخ حم ود الت ويجري رحم ه هللا في كتاب ه‬
‫[الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة] وعالمة اليمن شيخنا مقبل الوادعي حفظه‬
‫(‪)2‬‬
‫هللا برعايته‪ ،‬وجعله تحت بالغ لطفه وعنايته)‬
‫وق ال في ال رد على تس مية األرض كوكب ا‪( :‬وق د رد ه ذا اإلدع اء ودحض ه ذا‬
‫االف تراء الش يخ محم د بن يوس ف الك افي فق ال رادًا على بعض أش ياع محم د عب ده‬
‫المصري‪ :‬قوله‪( :‬هي كوكب) ك ذب واف تراء على هللا تع الى من س ماها كوكبً ا ألن هللا‬
‫تعالى الذي خلقها سماها أرضًا‪ ،‬والكوكب هو النجم ومحله العلو ومن صفاته اإلض اءة‬
‫واإلشراق واألفول والطلوع واألرض بخالف ذلك‪ .‬ونقله عنه الشيخ حم ود الت ويجري‬
‫رحمه هللا بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنت ه في كتاب ه (الص واعق الش ديدة على أتب اع‬
‫الهيئة الجديدة)‪ ،‬وقد نق ل الحاف ظ ابن كث ير رحم ه هللا في تفس يره (ج‪ 1‬ص‪ :)69‬ع دم‬
‫(‪)3‬‬
‫الخالف أن األرض خلقت قبل السماء بما في السماء من نجوم وغيرها)‬
‫وقال في الرد على ما يذكره الفلكيون من المجرات وكثرتها‪( :‬هذا كل ه مب ني على‬
‫الهوس والوساوس اإلبليسية والتقليد والثقة بأع داء رب البري ة من ذوي المل ل والنح ل‬
‫اليهودية والنصرانية ليزاحموا بِهذه التخرص ات عل وم الكت اب والس نة النبوي ة فش غلوا‬

‫‪1‬‬
‫الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)58 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الصبح الشارق على ضالالت عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق‪.97‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الصبح الشارق‪.192 :‬‬ ‫()‬

‫‪39‬‬
‫ب ذلك الس ذج من أبن اء المس لمين وال ذين ال يهمهم أم ر ه ذا ال دين فيبق ون على ه ذه‬
‫التراهات عاكفين وبِها معجبين ومفتخرين‪ ،‬فيقتلون فيها األوقات ويض لون بِه ا العام ة‬
‫(‪)1‬‬
‫وأشباههم من ذوي الجهاالت فيغضبون بذلك رب األرض والسموات)‬
‫وق ال في ال رد على م ا ي ذكره الفلكي ون من دوران األرض‪( :‬ومس ائل الس ماء‬
‫واألرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والميزان والص راط و‪ ...‬الكالم فيه ا يعت بر‬
‫من ب اب االعتق اد فال ذي يعتق د أن األرض ت دور وتتح رك يجب علي ه أن يلتمس له ذا‬
‫القول دليالً من القرآن والسنة وإال كان صاحب معتقد فاسد ال يعتم د على دلي ل عن هللا‬
‫(‪)2‬‬
‫ورسوله وأنى لصاحب هذا القول الدليل فدون ذلك خرط القتاد وإنما هي ال ُّشبه)‬
‫ولهذا فإن هذه المدرسة ك انت من أك بر من وق ف في وج ه الحض ارة اإلس المية‪،‬‬
‫ووجه علمائها الكبار‪ ،‬حين حجروا العلم على ما كانوا يمارسونه مما يسمونه علما‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪( :‬جماع الخير أن يستعين باهلل سبحانه في تلقي العلم الموروث عن‬
‫النبي ‪ ،‬فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علماً‪ ،‬وما سواه إما أن يكون علم ا فال يك ون‬
‫نافعاً‪ ،‬وإما أن ال يكون علما ً وإن سمي ب ه‪ ،‬ولئن ك ان علم ا ً نافع ا ً فال ب د أن يك ون في‬
‫(‪)3‬‬
‫ميراث محمد ‪ ‬ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه )‬
‫وقال ابن رجب‪ ( :‬فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والس نة‬
‫وفهم معانيه ا‪ ،‬والتقي د بالم أثور عن الص حابة والت ابعين وت ابعيهم في مع اني الق رآن‬
‫(‪)4‬‬
‫والحديث ‪ ..‬في ذلك غاية لمن عقل‪ ،‬وشغل لمن بالعلم النافع اشتغل)‬
‫وقال ابن القيم‪( :‬كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن ال وحي‪،‬‬
‫وتعوضوا عنه بكالم البشر‪ ،‬فالمغرب لما ظهرت فيهم الفلسفة والمنط ق واش تغلوا به ا‬
‫استولت النصارى على أكثر بالدهم وأصاروهم رعية لهم‪ ،‬وكذلك لما ظهر ذل ك ببالد‬
‫المشرق‪ ،‬سلط هللا عليهم التتار فأبادوا أكثر البالد الشرقية واستولوا عليه ا‪ ،‬وك ذلك في‬
‫أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلس فة وعل وم أه ل اإللح اد‬
‫سلط هللا عليهم القرامطة الباطنية‪ ،‬فكسروا عس كر الخليف ة ع دة م رات واس تولوا على‬
‫ً (‪)5‬‬
‫الحاج واستعرضوهم قتالً وأسرا)‬
‫وهكذا نجد المعاصرين من هذه المدرسة يرددون نفس تل ك الكلم ات‪ ،‬ويت برؤون‬
‫من كل األعالم الذين أنجبتهم الحضارة اإلسالمية‪ ،‬بل يكفرونهم‪..‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك رسالة تنتشر بكثرة على مواقع النت كتبها الشيخ ناص ر بن‬
‫حمد الفهد‪ ،‬وسماها [حقيقة الحضارة اإلسالمية]‪ ،‬وعرفها بقوله‪( :‬هذه الم ذكرة ج واب‬
‫ع َّمن جعل حضارة اإلسالم هي النبوغ في علوم الفالسفة والمالحدة وجعلها هي تش ييد‬
‫‪1‬‬
‫الصبح الشارق‪.196 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الصبح‪.210 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع الفتاوى (‪)664 /10‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫بيان فضل علم السلف على الخلف» (‪.)6‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫إغاثة اللهفان‪.2/602 :‬‬ ‫()‬

‫‪40‬‬
‫المباني وزخرفة المس اجد‪ ،‬وجع ل علم اء اإلس الم هم المالح دة ك ابن س ينا والف ارابي‬
‫ونحوهم)‬
‫وقد جاء في مقدمتها قوله‪( :‬إن الحضارة ا ٍإلسالمية الصحيحة هي التي وجدت في‬
‫القرون المفضلة‪ ،‬في وقت الص حابة والت ابعين‪ ،‬وأئم ة ال دين‪ ،‬فري ق اله دى‪ ،‬وأش ياع‬
‫الحق‪ ،‬وكتائب هللا في أرضه‪ ،‬الذين بلغ وا من ال دين والعلم والق وة غاي ة ليس وراءه ا‬
‫مطلع لناظر‪ ،‬وال زيادة لمستزيد‪ ،‬ففتحوا البل دان‪ ،‬وش يدوا األرك ان‪ ،‬ودانت لهم األمم‪،‬‬
‫وتداعت لهم الشعوب ‪ ..‬فَمن كان مفاخراً فليف ا ِخرْ بهم‪ ،‬ومن ك ان مك اثراً فليك اثرْ بهم‪،‬‬
‫ف دينهم ه و ال دين‪ ،‬وعلمهم ه و العلم ‪ .‬م ّكن هللا لهم في األرض ففتح وا ال دنيا وحكم وا‬
‫العالم في مد ٍة ال يبلغ فيها الرضيع أن يفطم‪ ،‬قال ال ذهبي رحم ه هللا تع الى‪ ( :‬واس تولى‬
‫المس لمون في ثالث ة أع وام على كرس ي مملك ة كس رى وعلى كرس ي مملك ة قيص ر‪،‬‬
‫وعلى أ َّمي بالدهم ا‪ ،‬وغنم المس لمون غن ائم لم يس مع بمثله ا ق ط من ال ذهب والحري ر‬
‫والرقيق فسبحان هللا العظيم الفتاح )(‪ ..)1‬لذلك فاعلم أن الدين ما انتهج ه الس لف‪ ،‬والعلم‬
‫(‪)2‬‬
‫ما طلبوه‪ ،‬وما سوى ذلك فال خير فيه)‬
‫ثم راح بعدها يعد أسماء العلماء الكبار الذين أسسوا للحضارة اإلسالمية‪ ،‬بل أمدوا‬
‫البشرية بالمعارف الكثيرة التي ساهمت في الحضارة الحديثة‪ ،‬وي رميهم جميع ا ب الكفر‬
‫والزندقة‪.‬‬
‫فينقل عن ابن تيمية عند ذكره لجابر بن حيان قوله‪( :‬وأما جابر بن حي ان ص احب‬
‫المصنفات المشهورة عن د الكيماوي ة فمجه ول ال يع رف وليس ل ه ذك ر بين أه ل العلم‬
‫والدين) (‪ ، )3‬ويعقب عليه بقوله‪( :‬ولو أثبتنا وجوده‪ ،‬فإنما نثبت ساحراً من كبار السحرة‬
‫في هذه الملة‪ ،‬اشتغل بالكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات‪ ،‬وهو أول من نق ل كتب‬
‫(‪)4‬‬
‫السحر والطلسمات)‬
‫وينق ل عن (محم د بن موس ى الخ وارزمي)‪( :‬وه و المش هور ب اختراع ( الج بر‬
‫والمقابلة )‪ ،‬وكان سبب ذلك كما قاله هو المساعدة في حل مسائل اإلرث‪ ،‬وقد ر ّد عليه‬
‫شيخ اإلسالم ذلك العلم بأنه وإن كان صحيحا ً إال أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن‬
‫غ يره(‪ ..)5‬والمقص ود هن ا‪ :‬إن الخ وارزمي ه ذا ك ان من كب ار المنجّمين في عص ر‬
‫المأمون والمعتصم الواثق‪ ،‬وكان باإلضافة إلى ذل ك من كب ار َم ْن ت رجم كتب اليون ان‬
‫(‪)6‬‬
‫وغيرهم إلى العربية)‬
‫وهكذا ال يترك عالما من العلماء إال وكفره أو بدعه وفسقه‪..‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫حقيقة الحضارة اإلسالمية ص‪.3‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع الفتاوى ‪.374 / 29‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫حقيقة الحضارة اإلسالمية ص‪.11‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫انظر ( مجموع الفتاوى ) ‪.215 – 214 / 9‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫حقيقة الحضارة اإلسالمية ص‪.11‬‬ ‫()‬

‫‪41‬‬
‫ولألس ف ف إن ه ذه الرس الة تنتش ر بق وة على النت‪ ،‬وبالص يغ المختلف ة‪ ،‬ولعله ا‬
‫ترجمت للغات أجنبية لتمحو كل ما بقي لهذه األمة من أمجاد تباهي بها سائر األمم‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫الجهة‪ ..‬والمكان‬
‫يرى أصحاب الرؤية التنزيهية هلل ـ بتوجهاتهم المختلف ة العقلي ة والذوقي ة ـ أن هللا‬
‫تعالى أعظم من أن يشار إليه‪ ،‬أو أن تكون له جهة تحصره‪ ،‬أو مكان يحده‪ ..‬فاهلل أعظم‬
‫وأجل وأقدس من ذلك كله‪.‬‬
‫ذلك أن مجرد اعتباره في جهة حد لعظمت ه‪ ،‬وتقيي د إلطالق ه‪ ،‬وحبس ل ه في ع الم‬
‫الحدود والقيود والجسمية‪.‬‬
‫ومجرد اعتباره في مكان حصر له‪ ،‬بل قول بإمكانية تعدده‪ ..‬فمن حدد فقد عدد‪.‬‬
‫والعقل السليم يقول بهذا‪ ،‬كما تقول به النصوص المقدس ة‪ ،‬وكم ا يق ول ب ه أرب اب‬
‫األرواح الطاهرة الذين تجلت على صفحات قل وبهم الص افية حق ائق العرف ان في أبهى‬
‫صورها‪.‬‬
‫وأولهم أهل بيت النبوة والطهارة الذين وردت عنهم النص وص الكث يرة في تنزي ه‬
‫(إن هّللا ج ّل وع ّز أيّن‬
‫هللا عن الجهة والمكان‪ ،‬ومنها ما روي عن اإلمام علي من قوله‪ّ :‬‬
‫(‪)2‬‬
‫األين فال أين له‪ ،‬وج ّل عن أن يحويه مكان‪ ،)1( )...‬وقال‪( :‬كان هللا وال مكان)‬
‫وروي عن اإلم ام جعف ر الص ادق قول ه‪( :‬وال يوص ف [ ع ّز وج ّل ] بكي ف وال‬
‫أين‪ ،...‬كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن األين حتّى صار أيناً‪ ،‬فعرفت األين بما أيّن ه لن ا‬
‫(‪)3‬‬
‫من األين)‬
‫ً‬
‫و سُئل‪ :‬أين كان ربّنا قبل أن يخلق سما ًء أو أرضا؟ فق ال‪( :‬أين س ؤال عن مك ان‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫وكان هللا وال مكان)‬
‫وسئل‪ :‬فهو [ ع ّز وج ّل ] في ك ّل مكان؟ أليس إذا ك ان في الس ماء كي ف يك ون في‬
‫األرض؟! وإذا ك ان في األرض كي ف يك ون في الس ماء؟! فأج اب‪( :‬إنّم ا وص فت‬
‫المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان‪ ،‬واشتغل ب ه مك ان‪ ،‬وخال من ه مك ان‪ ،‬فال ي دري في‬
‫المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه‪ .‬فأ ّم ا هللا العظيم الش أن ال َملِ ك‬
‫الديّان فال يخلو منه مكان‪ ،‬وال يش تغل ب ه مك ان‪ ،‬وال يك ون إلى مك ان أق رب من ه إلى‬
‫(‪)5‬‬
‫مكان)‬
‫ي علّ ة ع رج هللا بنبي ه ‪ ‬إلى الس ماء‪ ،‬ومنه ا إلى ِس د َرة‬ ‫وسئل اإلمام الك اظم‪ :‬أل ّ‬
‫المنتهى‪ ،‬ومنها إلى حجب النور‪ ،‬وخاطبه وناجاه هناك‪ ،‬وهللا ال يوصف بمك ان؟ فق ال‪:‬‬
‫(إن هللا تبارك وتعالى ال يوصف بمكان‪ ،‬وال يجري عليه زمان‪ ،‬ولكنّه ع ّز وج ّل أراد‬ ‫ّ‬

‫‪1‬‬
‫بحار األنوار‪ ،‬ج ‪ ،57‬باب ‪ ،1‬ح ‪ ،63‬ص ‪.83‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫اإلرشاد‪ ،‬الشيخ المفيد‪ :‬ج ‪ ،1‬ص ‪.201‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الكافي‪ ،‬ج ‪ ، ،1‬ح ‪ ،12‬ص ‪ 103‬ـ ‪ .104‬التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ :‬باب ‪ ، 8‬ح ‪ ،14‬ص ‪ 111‬ـ ‪.112‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الكافي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ح ‪ ،5‬ص ‪ 89‬ـ ‪ .90‬التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ :‬باب ‪ ،28‬ح ‪ ،4‬ص ‪.170‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ :‬باب ‪ ،36‬ح ‪ ،3‬ص‪..248‬‬ ‫()‬

‫‪43‬‬
‫أن يشرّف به مالئكته وس ّكان سماواته ويكرمهم بمشاهدته‪ ،‬ويريه من عج ائب عظمت ه‬
‫ما يخبر به بعد هبوطه‪ ،‬وليس ذلك على ما يق ول المش بّهون‪ ،‬س بحان هللا وتع الى عم ا‬
‫(‪)1‬‬
‫يشركون)‬
‫وهكذا قال كل منزهة األم ة‪ ..‬وس نقتبس هن ا للدالل ة العقلي ة على ه ذا كالم رج ل‬
‫جم ع بين عل وم الح ديث والكالم والتص وف‪ ،‬ل نرى أن اعتق اد الجه ة مطلب للخي ال‬
‫للعقل‪ ،‬وأن النصوص المقدسة تقدس هللا من أن تحده الجهات‪ ،‬أو يحل في األماكن‪.‬‬
‫وهذا العلم هو الشيخ يوسف النبهاني الذي كتب رسالة في ال رد على المجس مة في‬
‫هذا المجال سماها (رف ع االش تباه في اس تحالة الجه ة على هللا) يق ول فيه ا‪( :‬فكم ا أن ه‬
‫تعالى ليس لذاته المقدس ة جه ات ليس ه و في جه ة أح د من المخلوق ات‪ ،‬ق د ت نزه عن‬
‫جميع السفليات والعلويات من األمكنة واألزمن ة واألرض ين والس موات‪ ،‬كله ا نس بتها‬
‫إليه تعالى نس بة واح دة‪ ،‬وهي أنه ا مخلوقات ه وه و خالقه ا أوج دها بع د أن لم تكن من‬
‫العدم المحض‪ ،‬وهو تعالى كان موجوداً قديما ً وال سماء وال أرض‪ ،‬وهو عز وجل قب ل‬
‫خلقه ا وبع د خلقه ا ه و هللا الق ديم العظيم المتص ف بك ل الكم االت الم نزه عن جمي ع‬
‫أوصاف الحادثات لم تتجدد له تعالى بعد خلقها أوصاف لم تكن له من قبل خلقه ا‪ ..‬وإذا‬
‫كان األمر ك ذلك فكي ف تختص ب ه تع الى جه ة دون جه ة؟ ويق ال إن ه في جه ة العل و‬
‫(‪)2‬‬
‫والفوق‪ ،‬وهذه الجهات إنما حدثت بعد خلق المخلوقات؟)‬
‫ثم ذكر أن حصر هللا في الجهات مقولة تجسيمية لم يق ل به ا أح د من المنزه ة من‬
‫هذه األمة‪ ،‬قال‪( :‬إذا علمت ذل ك فق د ت بين وظه ر ظه وراً جلي ا ً أن ه ذه العقي دة‪ ،‬وهي‬
‫تنزي ه هللا تع الى عن أن تحص ره جه ة من الجه ات العلوي ات والس فليات هي العقي دة‬
‫اإلسالمية الصحيحة التي تليق بكمال هللا تعالى‪ ،‬وهي عقيدة معظم األم ة المحمدي ة من‬
‫أهل المذاهب الثالثة وبعض الحنابلة وس ادتنا الص وفية وهي ال تي تقتض يها الكم االت‬
‫اإللهية وتؤيدها اإلدراكات العقلية والنقلية‪ ،‬ولمن خالفهم وإن قلوا مستند وه و تمس كهم‬
‫بظواهر النصوص بدون تدقيق وال تحقيق‪ ،‬وال تفكر بما يليق بالكماالت اإللهية وم ا ال‬
‫يليق‪ ،‬فحكموا عليه تعالى بأنه في جهة العلو وفي جهة الف وق‪ ،‬ولم يب الوا ب أن الجه ات‬
‫إنم ا هي من أوص اف الحادث ات وقب ل أن يخلقه ا تع الى لم يكن هنال ك جه ات إذ ال‬
‫(‪)3‬‬
‫علويات وال سفليات وال شيء وقتئذ من المخلوقات حتى تحيط به تعالى الجهات)‬
‫ومن األدلة العقلية المنطقية التي أوردها قوله‪( :‬وأيضا ً الجهات هي أمور نسبيات‪،‬‬
‫فقد تكون جهة العلو لمخلوق هي جهة السفل لمخل وق آخ ر‪ ،‬إذ من المعل وم أن األرض‬
‫كروية وفي سائر جهاتها يوجد مخلوقات‪ ،‬فجهة العلو لقوم منهم هي جه ة الس فل لق وم‬
‫(‪)4‬‬
‫آخرين‪ ،‬وكذا أجرام السموات المحيطة باألرض)‬

‫‪1‬‬
‫التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ :‬باب ‪ ،28‬ح ‪ ،5‬ص ‪.170‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫رفع االشتباه في استحالة الجهة على هللا‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫رفع االشتباه في استحالة الجهة على هللا‪.‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫رفع االشتباه في استحالة الجهة على هللا‪.‬‬ ‫()‬

‫‪44‬‬
‫هذا مثال عن األدلة التي يعتمدها المنزهة في مواجهة المجسمة‪ ..‬وإال فإن القض ية‬
‫من البداهة بحيث ال تحتاج إلى دليل يدل عليها‪.‬‬
‫وكيف تحتاج إلى الدليل والقرآن الكريم واضح في الداللة عليها‪ ،‬فاهلل تعالى يقول‪:‬‬
‫اس ٌع َعلِي ٌم ﴾ [البقرة‪]115 :‬‬ ‫ق َو ْال َم ْغ ِربُ فَأ َ ْينَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َوجْ هُ هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ َو ِ‬‫﴿ َوهَّلِل ِ ْال َم ْش ِر ُ‬
‫فهذه اآلية الكريم ة كافي ة في الدالل ة على اس تحالة الجه ة على هللا‪ ،‬وهي تحص ن‬
‫األمة من الوقوع فيما وقعت فيه األمم قبلها من التجس يم‪ ،‬وق د نق ل الفخ ر ال رازي عن‬
‫بعضهم قوله في مناسبة نزولها لتغيير القبلة‪ ..( :‬ألن اليهود والنصارى كل واح د منهم‬
‫ق ال‪ :‬إن الجن ة ل ه ال لغ يره‪ ،‬ف رد هللا عليهم به ذه اآلي ة ألن اليه ود إنم ا اس تقبلوا بيت‬
‫المقدس ألنهم اعتق دوا أن هللا تع الى ص عد الس ماء من الص خرة‪ ،‬والنص ارى اس تقبلوا‬
‫المشرق ألن عيسى عليه السالم إنما ولد هناك على م ا حكى هللا ذل ك‪ ..‬فك ل واح د من‬
‫ه ذين الف ريقين وص ف معب وده ب الحلول في األم اكن ومن ك ان هك ذا فه و مخل وق ال‬
‫(‪)1‬‬
‫خالق‪ ،‬فكيف تخلص لهم الجنة وهم ال يفرقون بين المخلوق والخالق)‬
‫وهللا تعالى يذكر في آيات كثيرة أن له معية وحضورا مع كل شيء‪ ،‬وهو م ا يكفي‬
‫لنفي الجهة عن هللا‪ ،‬ومن أمثلتها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما يَ ُكونُ ِم ْن نَجْ َوى ثَاَل ثَ ٍة إِاَّل هُ َو َرابِ ُعهُ ْم‬
‫َواَل خَ ْم َس ٍة إِاَّل هُ َو َسا ِد ُس هُ ْم َواَل أَ ْدنَى ِم ْن َذلِ كَ َواَل أَ ْكثَ َر إِاَّل هُ َو َم َعهُ ْم أَ ْينَ َم ا َك انُوا ثُ َّم‬
‫يُنَبِّئُهُ ْم بِ َم ا َع ِملُ وا يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة إِ َّن هَّللا َ بِ ُك لِّ َش ْي ٍء َعلِي ٌم﴾ [المجادل ة‪ ،]7 :‬وقول ه تع الى‪:‬‬
‫اس َوالَ يَ ْس ت َْخفُونَ ِمنَ هّللا ِ َوهُ َو َم َعهُم﴾ [النس اء ‪ ،]108‬وقول ه تع الى‪:‬‬ ‫﴿يَ ْست َْخفُونَ ِمنَ النَّ ِ‬
‫ش يَ ْعلَ ُم َم ا يَلِ ُج فِي‬ ‫ض فِي ِستَّ ِة أَي ٍَّام ثُ َّم ا ْست ََوى َعلَى ْال َعرْ ِ‬ ‫ت َواألَرْ َ‬ ‫ق ال َّس َما َوا ِ‬ ‫﴿هُ َو الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫نز ُل ِمنَ ال َّس َماء َو َم ا يَ ْع ُر ُج فِيهَ ا َوهُ َو َم َع ُك ْم أَ ْينَ َم ا ُكنتُ ْم‬ ‫ض َو َما يَ ْخ ُر ُج ِم ْنهَا َو َما يَ ِ‬ ‫األَرْ ِ‬
‫احبِ ِه الَ تَحْ زَ ْن إِ َّن هّللا َ‬ ‫ص ِ‬ ‫صيرٌ﴾[الحديد ‪ ،]4‬وقول ه تع الى‪﴿ :‬إِ ْذ يَقُ و ُل لِ َ‬ ‫َوهَّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ‬
‫اإلن َسانَ َونَ ْعلَ ُم َما تُ َوس ِْوسُ بِ ِه نَ ْف ُس هُ َونَحْ نُ‬ ‫َم َعنَا﴾ [التوبة ‪ ،]40‬وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد خَ لَ ْقنَا ِ‬
‫الس َماء إِلَ هٌ َوفِي‬ ‫﴿وهُ َو الَّ ِذي فِي َّ‬ ‫أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن َح ْب ِل ْال َو ِري ِد﴾ [ق ‪ ،]16‬وقول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ض﴾‬ ‫ت َوفِي األَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫﴿وهُ َو هّللا ُ فِي َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫ض إِلَ هٌ﴾ [الزخ رف ‪ ،]84‬وقول ه تع الى‪َ :‬‬ ‫األَرْ ِ‬
‫[األنعام‪.]3‬‬
‫وقد كانت هذه اآليات وأمثالها من اآليات التي يستعملها المتكلمون المنزهة إليق اع‬
‫المجس مة في الح رج‪ ،‬ألنهم إم ا أن يقول وا بمقتض ياتها‪ ،‬فينف وا الجه ة عن هللا‪ ،‬وينف وا‬
‫معه ا الجس مية ومقتض ياتها‪ ،‬وإم ا أن يص رفوها عن ظاهره ا‪ ،‬وحينه ا يتخل ون عن‬
‫اعتبارهم التأويل تعطيال‪.‬‬
‫يقول إمام الحرمين الجويني‪( :‬ومم ا يجب االعتن اء ب ه معارض ة الحش وية بآي ات‬
‫يوافقون على تأويلها حتى إذا س لكوا مس لك التأوي ل عورض وا ب ذلك الس بيل فيم ا في ه‬
‫﴿وهُ َو َم َع ُك ْم أَ ْينَ َم ا ُك ْنتُ ْم ﴾ [الحدي د‪ ]4 :‬ف إن‬ ‫التنازع‪ .‬فمما يعا َرضون ب ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫راموا إجراء ذلك على الظاهر حلوا عق دة إص رارهم في حم ل االس تواء على الع رش‬
‫﴿وهُ َو َم َع ُك ْم أَ ْينَ‬
‫على الكون عليه‪ ،‬والتزموا فضائح ال يبوء بها عاقل‪ ،‬وإن حملوا قوله‪َ :‬‬

‫‪1‬‬
‫مفاتيح الغيب (‪)19 /4‬‬ ‫()‬

‫‪45‬‬
‫َما ُك ْنتُ ْم ﴾على اإلحاطة بالخفيات فقد تسوغوا التأويل)‬
‫(‪)1‬‬

‫وهك ذا نج د األح اديث الص حيحة الموافق ة للمعق ول والمنق ول‪ ،‬وال تي لم تتلطخ‬
‫بتشويهات المجسمة والمحرفة تنص على هذا‪ ،‬ففي الحديث الصحيح أن رسول هللا ‪‬‬
‫قال للص حابة لم ا رأى رفعهم ألص واتهم بال ذكر‪( :‬أيه ا الن اس! أربع وا على أنفس كم‪،‬‬
‫فإنكم ال تدعون أصم وال غائب اً‪ ،‬إنم ا ت دعون س ميعا ً بص يراً قريب اً‪ ،‬إن ال ذي تدعون ه‬
‫(‪)2‬‬
‫أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)‬
‫لكن مع كل هذا‪ ،‬فإن ألصحاب الرؤية التجسيمية موقفا مختلفا تماما‪ ،‬وه و موق ف‬
‫ينطلق من تغليب التصور على التعق ل أوال‪ ..‬ثم من ض رب بعض النص وص ببعض‪..‬‬
‫باإلضافة إلى عدم استطاعتهم رمي كل الثروة الحديثية الكبرى ال تي ج اءهم به ا كعب‬
‫األحبار وأصحابه‪ ..‬باإلضافة ألبعاد أخرى سبق ذكرها‪.‬‬
‫وسنحاول هنا‪ ،‬ومن خالل المصادر المعتمدة لدى هذا الفريق أن نبين التص ورات‬
‫العقدية لهذه المسألة الخطيرة‪ ،‬وعالقتها بالمصادر المقدسة‪ ..‬وعالقتها بعد ذلك بالعقل‪،‬‬
‫وبما يقوله العلم‪.‬‬
‫الجهة‪:‬‬
‫يعتبر السلفية تحديد [جهة هللا] من أعظم المسائل العقدية‪ ،‬ولهذا يقوم ون بامتح ان‬
‫الناس على أساسها‪ ،‬فمن أثبت الجهة اعتبروه مؤمنا وموحدا وس نيا‪ ،‬ومن خ الفهم فيه ا‬
‫اعتبروه جهميا ومعطال وكافرا‪.‬‬
‫بل قد نقلوا إجماع األمة على ذلك‪ ،‬وهو يدل على أنهم ال يعتبرون األم ة غ يرهم‪..‬‬
‫فمن ع داهم من األم ة من المتكلمين والص وفية وغ يرهم من المنزه ة ال يعت برونهم ـ‬
‫بسبب عدم قولهم بالجهة ـ من هذه األمة‪ ،‬فضال عن اعتبارهم من أهل السنة‪.‬‬
‫يقول أحد متقدميهم‪ ،‬وه و قتيب ة بن س عيد (‪ 240-150‬هـ)‪( :‬ه ذا ق ول االئم ة في‬
‫اإلسالم والسنة والجماعة‪ :‬نعرف ربنا في السماء الس ابعة على عرش ه‪ ،‬كم ا ق ال ج ل‬
‫جالله‪:‬الرحمن على العرش اس توى)‪ ،‬وق د عل ق علي ه ال ذهبي بقول ه‪( :‬فه ذا قتيب ة في‬
‫إمامته وصدقه قد نق ل اإلجم اع على المس ألة‪ ،‬وق د لقي مالك ا والليث وحم اد بن زي د‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫والكبار وعمر دهرا وازدحم الحفاظ على بابه)‬
‫وقال ابن بطة العكبري ( ‪ 387-304‬هـ ) في كتابه المشهور [اإلبان ة عن ش ريعة‬
‫الفرقة والناجية]‪( :‬باب اإليمان بأن هللا على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلق ه‪:‬‬
‫أجمع المسلمون من الصحابة والت ابعين وجمي ع أه ل العلم من المؤم نين أن هللا تب ارك‬
‫وتعالى على عرشه فوق سمواته بائن من خلق ه وعلم ه محي ط بجمي ع خلق ه‪ ،‬وال ي أبى‬
‫ذل ك وال ينك ره إال من انتح ل م ذاهب الحلولي ة وهم ق وم زاغت قل وبهم واس تهوتهم‬

‫‪ )(1‬اإلرشاد ‪.161‬‬
‫‪2‬‬
‫البخاري ‪ 13/372‬ح ‪.7386‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مختصر العلو ‪ ،187‬درء تعارض العقل والنقل ‪ ،6/260‬بيان تلبيس الجهمية ‪.2/37‬‬ ‫()‬

‫‪46‬‬
‫(‪)1‬‬
‫الشياطين فمرقوا من الدين وقالوا‪ :‬إن هللا ذاته ال يخلو منه مكان)‬
‫وقال أبو عمر الطلمنكي األندلسي (‪ 429-339‬هـ) في كتابه (الوصول إلى معرفة‬
‫األصول)‪( :‬أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قول ه‪ :‬وه و معكم أينم ا كنتم‪.‬‬
‫ونحو ذلك من القرآن‪ :‬أنه علمه‪ ،‬وأن هللا تعالى فوق السموات بذاتـه مستو على عرش ه‬
‫(‪)2‬‬
‫كيف شاء)‬
‫وقال أبو نصر السجزي (ت ‪ 444‬هـ) في كتابه اإلبان ة‪( :‬فأئمتن ا كس فيان الث وري‬
‫ومالك وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعب د هللا بن المب ارك وفض يل‬
‫بن عياض واحمد بن حنبل وإسحاق بن إب راهيم الحنظلي متفقـون على أن هللا س بحانه‬
‫بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيام ة باألبص ار ف وق الع رش‪،‬‬
‫وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بم ا ش اء فمن خ الف ش يئا من‬
‫(‪)3‬‬
‫ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء)‬
‫وقال ابن عبد البر (ت ‪ 463‬هـ) في التمهيد بعد ذكر ح ديث ال نزول‪( :‬وفي ه دلي ل‬
‫على أن هللا عز وجل في السماء على عرشه من فوق سبع سموات كما ق الت الجماع ة‬
‫وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن هللا عز وجل في كل مكان وليس‬
‫(‪)4‬‬
‫على العرش)‬
‫وق ال‪( :‬أه ل الس نة مجمع ون على اإلق رار بالص فات ال واردة كله ا في الق رآن‬
‫والسنة‪ ،‬واإليمان بها وحملها على الحقيقة ال على المجاز‪ ،‬إال انهم ال يكيف ون ش يئا من‬
‫ذل ك وال يح دون في ه ص فة محص ورة وأم ا أه ل الب دع والجهمي ة والمعتزل ة كله ا‬
‫والخوارج فكلهم ينكرها وال يحمل شيئا منها على الحقيق ة‪ ،‬ويزعم ون أن من أق ر به ا‬
‫مشبه‪ ،‬وهم عند من أثبتها نافون للمعبود‪ ،‬والحق فيما قاله القائلون بم ا نط ق ب ه كت اب‬
‫(‪)5‬‬
‫هللا وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد هلل)‬
‫وغيرها من النصوص التي يواجهون بها المنزه ة‪ ،‬ب ل يواجه ون به ا النص وص‬
‫المقدسة التي تنزه هللا عن الجهة وجميع مقتضياتها‪.‬‬
‫وهم ال يكتفون بنقل اإلجماع على المس ألة‪ ،‬وع دم اعتب ار من ورد عن ه خالفه ا‪،‬‬
‫وهم أك ثر األم ة‪ ،‬ب ل يض يفون إلى ذل ك م ا تع ودوا علي ه من تكف ير المنك ر له ا‪،‬‬
‫والتحريض عليه‪.‬‬
‫يق ول ابن خزيم ة (ت ‪ 311‬هـ)‪( :‬من لم يق ل ب أن هللا ف وق س مواته‪ ،‬وأن ه على‬
‫عرشه‪ ،‬بائن من خلق ه‪ ،‬وجب أن يس تتاب‪ ،‬ف إن ت اب وإال ض ربت عنق ه‪ ،‬ثم ألقي على‬
‫مزبلة لئال يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة وال أهل الذمة)‪ ،‬وقال‪( :‬من لم يقر ب أن هللا على‬
‫‪1‬‬
‫اإلبانة ‪.136 /3‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫درء التعارض ‪ ،6/250‬الفتاوى ‪ ،5/189‬بيان تلبيس الجهمية ‪ ،2/38‬مختصر العلو ‪.264‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫درء التعارض ‪ 6/250‬ونقل الذهبي كالمه هذا في السير ‪.656 /17‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫فتح البر بترتيب التمهيد ‪.48– 7 /2‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫فتح البر بترتيب التمهيد ‪.48– 7 /2‬‬ ‫()‬

‫‪47‬‬
‫(‪)1‬‬
‫عرشه قد استوى‪ ،‬فوق سبع سمواته فهو كافر حالل الدم‪ ،‬وكان ماله فيئا)‬
‫وقد نقل ابن تيمية اإلجماع على ما قاله ابن خزيم ة‪ ،‬حيث ق ال في (درء تع ارض‬
‫العقل والنقل)‪( :‬وجواب هذا أن يقال القول بأن هللا تعالى فوق العالم معلوم باالضطرار‬
‫من الكتاب والسنة وإجماع سلف األمة‪ ..‬ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك‪ ،‬ألنه عندهم معلوم باالضطرار من الدين)‬
‫وقال في (مجموع الفتاوى) كعادته في نقل إجماع أهل الملل والنحل‪( :‬وق د اجتم ع‬
‫أهل األديان مع المسلمين على أن هللا تعالى على العرش‪ ،‬وق الوا هم ليس على الع رش‬
‫شىء وقال محمد بن اسحاق بن خزيمة امام األئمة من لم يقل‪ :‬إن هللا فوق سمواته على‬
‫عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فان تاب واال ضربت عنق ه ثم ألقى على مزبل ة‬
‫(‪)3‬‬
‫لئال يتأذى به اهل القبلة وال أهل الذمة‪)...‬‬
‫وق ال الش يخ س ليمان بن س حمان في (كش ف الش بهتين)‪( :‬وإذا ك ان أع داء هللا‬
‫الجهمية‪ ،‬وعباد القبور قد قامت عليهم الحجة‪ ،‬وبلغتهم الدعوة‪ ،‬منذ أعص ار متطاول ة‪،‬‬
‫ال ينكر هذا إال مكابر‪ ،‬فكيف يزعم ه ؤالء الجهل ة أن ه ال يق ال ألح دهم‪ :‬ي ا ك افر‪ ،‬وي ا‬
‫مشرك‪ ،‬ويا فاسق‪ ،‬ويا متعور‪ ،‬ويا جهمي‪ ،‬ويا مبتدع وقد قام به الوص ف ال ذي ص ار‬
‫به كافراً‪ ،‬أو مشركاً‪ ،‬أو فاسقاً‪ ،‬أو مبتدعا ً وقد بلغته الحجة‪ ،‬وقامت علي ه‪ ،‬م ع أن ال ذي‬
‫صدر من القبورية الجهمية هؤالء لم يكن من المسائل الخفية التي قد يخفى دليله ا على‬
‫اإلنسان فَيُتَوقَّف في حال أحدهم‪ ،‬لكن قد علم بالض رورة من دين اإلس الم أن من جح د‬
‫علوا هللا على خلقه‪ ،‬وأنك ر ص فاته ونع وت جالل ه أن ه ك افر معط ل ال يش ك في ذل ك‬
‫مسلم‪ ،‬فكيف يظن باإلخوان أنهم يقولون للمسلم يا سني‪ :‬ي ا جهمي‪ ،‬وليس ك ذلك‪ ،‬أو ي ا‬
‫(‪)4‬‬
‫كافر أو يا مبتدع)‬
‫وقال‪( :‬وإذا أنكر هذا الصنف علو هللا على خلقه فهم كفار ألن هللا تع الى في أعلى‬
‫عل يين وأن ه ي دعى من أعلى ال من أس فل ومن زعم أن االس تواء بمع نى االس تيالء أو‬
‫القدرة على األشياء كما تقوله الجهمية فقد جحد علو هللا على خلقه ألن هللا مس تول على‬
‫األشياء كلها وقادر عليها فلو كان مستويا على العرش بمعنى االستيالء وهو عز وج ل‬
‫مستول على األشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى األرض وعلى السماء وعلى‬
‫الحشوش واألقذار ألنه قادر على األش ياء مس تول علي ه وإذا ك ان ق ادرا على األش ياء‬
‫كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقولوا إن هللا مستو على الحش وش واألخلي ة لم‬
‫يجز أن يكون االستواء على العرش االستيالء الذي ه و ع ام في األش ياء كله ا ووجب‬
‫أن يك ون مع نى االس تواء يختص الع رش دون األش ياء كله ا وق د ك ان من المعل وم‬
‫بالضرورة أن االستواء هو العلو واالرتفاع على العرش وعلى جمي ع المخلوق ات فمن‬

‫‪1‬‬
‫انظر درء التعارض ‪.264 /6‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫درء تعارض العقل والنقل (‪)7/27‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع الفتاوى (‪.)5/138‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫كشف الشبهتين (ص‪)31 :‬‬ ‫()‬

‫‪48‬‬
‫زعم أن االستواء بمعنى االستيالء أو غير ذلك من تفاسير الجهمي ة فق د جح د عل و هللا‬
‫على خلقه واس تواءه على عرش ه وال ينفع ه اإلق رار بلف ظ االس تواء على الع رش م ع‬
‫جحود معناه وصرفه عن ظاهره وم ا يلي ق ب ه إلى م ا ال يلي ق ب ه‪ ،‬ف إذا ت بين ل ك ه ذا‬
‫(‪)1‬‬
‫علمت أن هذا الصنف هم جهال المقلدين للجهمية وأنه ال خالف في تكفيرهم)‬
‫وقال‪( :‬إذا عرفت هذا فمسألة علو هللا على خلقه من المسائل الجلية الظاهرة ومم ا‬
‫علم بالضرورة فإن هللا ق د وض حها في كتاب ه وعلى لس ان رس وله وهي مم ا فط ر هللا‬
‫عليها جميع خلقه إال من اجتالته الشياطين عن فطرت ه واتب ع ه واه وأخل د إلى األرض‬
‫وكالم شيخ اإلسالم إنما يعرفه ويدريه من مارس كالمه وعرف أصوله فإنه قد ص رح‬
‫في غير موضع أن الخطأ والجهل قد يغفرا لمن لم يبلغه الشرع ولم تقم عليه الحجة في‬
‫مس ائل مخصوص ة إذ اتقى هللا م ا اس تطاع واجته د بحس ب طاقت ه وأين التق وى وأين‬
‫االجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى والغ ائبين والمعطل ون للص انع عن‬
‫عل وه على خلق ه واس تواءه على عرش ه ونفى أس ماءه وص فات كمال ه ونع وت جالل ه‬
‫والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت ونصوص السنة النبوية مجموعة مدون ة‬
‫(‪)2‬‬
‫معلومة الصحة والثبوت)‬
‫وهذه النصوص وحدها كافية في الدالل ة على تكف ير الس لفية لمخ الفيهم من جمي ع‬
‫األم ة اإلس المية من أش اعرة وماتريدي ة ومعتزل ة فض ال عن الش يعة واإلباض ية‬
‫وغيرهم‪ ..‬ألن هؤالء جميعا يقولون بنفي الجهة عن هللا تعالى‪.‬‬
‫والعجيب أننا لو طبقنا هذه األحكام على المدرسة السلفية لوجدنا أنه ا تكف ر نفس ها‬
‫بذلك‪ ،‬ألن هللا بحسب الروايات التي يتبنونها ليس دائما في ح ال عل و‪ ..‬فه و ي نزل إلى‬
‫الس ماء ال دنيا‪ ،‬ب ل ي نزل إلى األرض‪ ..‬وب ذلك تص ير الش مس والقم ر وغيره ا من‬
‫الكواكب فوقه كما سنرى في الفصل الخاص بالتنقل والحركة‪.‬‬
‫بل إنهم يروون حديثا ورد في ه‪( :‬وال ذي نفس محم د بي ده ل و أنكم دليتم بحب ل إلى‬
‫األرض السفلى لهبط على هللا)(‪ ،)3‬وقد استعمل أعالم المدرسة السلفية كل ألوان التأويل‬
‫واالحتيال لتوجيه هذا الحديث لينسجم مع العلو‪ ،‬ولعل آخرها ما ذكره الش يخ محم د بن‬
‫صالح العثيمين عند ذكره للحديث‪ ،‬فقد قال‪( :‬هذا الحديث اختلف العلماء في تص حيحه‪،‬‬
‫والذين قالوا‪ :‬إنه صحيح يقولون‪ :‬إن معنى الح ديث ل و أدليتم بحب ل لوق ع على هللا ع ز‬
‫وجل ألن هللا تعالى محيط بكل شيء‪ ،‬فكل شيء هو في قبضة هللا سبحانه وتعالى وك ل‬
‫شيء فإنه ال يغيب عن هللا تعالى‪ ،‬حتى إن السماوات السبع واألرضين الس بع في ك ف‬
‫الرحمن عز وجل كخردلة في يد أحدنا‪ ..‬وال يمكن بأي حال من األحوال أن يك ون داالً‬
‫على أن هللا س بحانه وتع الى في ك ل مك ان‪ ،‬أو على أن هللا تع الى في أس فل األرض‬
‫السابعة فإن هذا ممتنع شرعاً‪ ،‬وعقالً‪ ،‬وفطرة‪ ،‬ألن علو هللا سبحانه وتعالى قد دل علي ه‬

‫‪1‬‬
‫تمييز الحق والمين ص ‪139‬وما بعدها‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫تمييز الحق والمين ص‪.144‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫رواه الترمذي في كتاب التفسير (‪.) 3298‬‬ ‫()‬

‫‪49‬‬
‫(‪)1‬‬
‫كتاب هللا‪ ،‬وسنة رسوله ‪ ‬واإلجماع‪ ،‬والعقل‪ ،‬والفطرة)‬
‫وقبله قال ابن تيمي ة‪( :‬ح ديث اإلدالء ال ذي روي من ح ديث أبي هري رة وأبي ذر‬
‫رضي هللا عنهما قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحس ن البص ري عن أبي هري رة‬
‫وهو منقطع فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ولكن يقويه ح ديث أبي ذر المرف وع ؛‬
‫فإن كان ثابتا فمعناه موافق لهذا ؛ فإن قوله‪ ( :‬لو أدلي أحدكم بحبل لهبط على هللا) إنم ا‬
‫هو تقدير مفروض ؛ أي لو وقع اإلدالء لوقع عليه لكن ه ال يمكن أن ي دلي أح د على هللا‬
‫شيئا ؛ ألنه عال بالذات وإذا أهبط شيء إلى جهة األرض وقف في المرك ز ولم يص عد‬
‫إلى الجهة األخرى لكن بتقدير فرض اإلدالء يكون ما ذكر من الجزاء‪ .‬فهكذا م ا ذك ره‬
‫السائل‪ :‬إذا قدر أن العبد يقص ده من تل ك الجه ة ك ان ه و س بحانه يس مع كالم ه وك ان‬
‫متوجها إليه بقلبه لكن هذا مما تمنع منه الفطرة ؛ ألن قص د الش يء القص د الت ام ين افي‬
‫قصد ض ده ؛ فكم ا أن الجه ة العلي ا بال ذات تن افي الجه ة الس فلى فك ذلك قص د األعلى‬
‫بالذات ينافي قصده من أسفل وكما أن ما يهب ط إلى ج وف األرض يمتن ع ص عوده إلى‬
‫تلك الناحية ‪ -‬ألنها عالية ‪ -‬فترد الهابط بعلوها كم ا أن الجه ة العلي ا من عن دنا ت رد م ا‬
‫يصعد إليها من الثقيل فال يصعد الثقيل إال برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط‬
‫فكذلك ما يهبط من أعلى األرض إلى أسفلها ‪ -‬وه و المرك ز ‪ -‬ال يص عد من هن اك إلى‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك الوجه إال برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز)‬
‫إلى آخر كالمه‪ ،‬وهو يدل على الصورة المشوهة التي يحملونها على الك ون وعن‬
‫موقع األرض فيه‪ ،‬والتي ع بر عنه ا ابن تيمي ة بقول ه‪( :‬ومن علم أن األفالك مس تديرة‬
‫وأن المحيط الذي هو السقف هو أعلى عليين وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوف ه ـ‬
‫وهو قعر األرض ـ هو سجين واسفل س افلين علم من مقابل ة هللا بين أعلى عل يين وبين‬
‫(‪)3‬‬
‫سجين)‬
‫فاألرض وفق هذه الرؤية هي المركز‪ ..‬وفوقها السموات الس بع‪ ،‬وفوقه ا الع رش‪،‬‬
‫وفوقها هللا سبحانه وتعالى‪..‬‬
‫يقول التويجري شارحا التصور الفلكي للكون وفق الرؤية السلفية‪( :‬وق د جع ل هللا‬
‫تبارك وتعالى األرض مركزاً ومستقراً لألثقال من جميع جهاتها‪ .‬فلو س قط من الس ماء‬
‫شيء ثقيل من أي جهة كانت لم ا اس تقر إال في األرض‪ .‬وك ذلك م ا يس قط من األثق ال‬
‫مما بين السماء واألرض فمق ره األرض‪ .‬وق انون الجاذبي ة لألثق ال ينتهي إلى المرك ز‬
‫(‪)4‬‬
‫في جوف األرض وهو وسط األرض السابعة السفلى)‬
‫ثم نقل عن ابن كثير قوله ـ بعد أن س اق ع دة أح اديث في إثب ات س بع أرض ين ـ‪:‬‬
‫(فهذه األحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرض ين والم راد ب ذلك أن ك ل واح دة ف وق‬

‫‪1‬‬
‫مجموع فتاوى ورسائل محمد بن صالح العثيمين ( ‪.)89 /1‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الرسالة العرشية (ص‪)27 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع الفتاوى [ ‪196 /25‬ـ ‪.]197‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)59 :‬‬ ‫()‬

‫‪50‬‬
‫األخرى والتي تحتها في وسطها عند أه ل الهيئ ة ح تى ينتهي األم ر إلى الس ابعة وهي‬
‫صماء ال جوف لها وفي وسطها المركز وهي نقطة مقدرة متوهمة وه و مح ط األثق ال‬
‫(‪)1‬‬
‫إليه ينتهي ما يهبط من كل جانب إذا لم يعاوقه مانع)‬
‫ونقل عن ابن تيمية قوله‪( :‬إذا أهبط شيء إلى جه ة األرض وق ف في المرك ز ولم‬
‫يص عد إلى الجه ة األخ رى)(‪ ،)2‬وقول ه‪( :‬م ا يهب ط من أعلى األرض إلى أس فلها وه و‬
‫المركز ال يصعد من هناك إلى ذلك الوج ه إال براف ع يرفع ه ي دافع ب ه م ا في قوت ه من‬
‫الهبوط إلى المركز) (‪ ،)3‬وقوله‪( :‬أهل الهيئة يقولون لو أن األرض مخروق ة إلى ناحي ة‬
‫أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل ك الحجر ونح وه لك ان ينتهي إلى المرك ز ح تى ل و‬
‫ألقي من تلك الناحية حجر آخر اللتقيا جميعا ً في المركز ولو قدر أن إنس انين التقي ا في‬
‫المركز بدل الحجرين اللتقت رجالهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه بل كالهم ا ف وق‬
‫(‪)4‬‬
‫المركز)‬
‫ولهذا تجد المدرسة السلفية تشتد على من يخالف هذه الرؤية‪ ،‬بل تقول بتكفيره‪.‬‬
‫يقول التويجري بعد نقله النق ول الكث يرة عن ابن تيمي ة وغ يره‪( :‬ولم ا ظه ر أه ل‬
‫الهيئة الجدي دة في آخ ر الق رن العاش ر من الهج رة وم ا بع ده وهم كوبرني ك البول وني‬
‫وهرش ل اإلنكل يزي وأتباعهم ا من فالس فة اإلف رنج أص حاب الرص د وال زيج الجدي د‬
‫أظهروا خالف ما كان عليه المسلمون فقالوا إن الشمس ساكنة ال تتح رك أص ال وإنه ا‬
‫مركز العالم وأن األرض والنج وم ت دور عليه ا وق د قل دهم في ذل ك كث ير من ض عفاء‬
‫البصيرة من العصريين فخالفوا ما كان عليه جماعة المس لمين من ذ زمن الن بي ‪ ‬إلى‬
‫زماننا‪ ،‬وهؤالء ينبغي أن يوضح لهم الحق الذي جاء به القرآن والسنة فمن أص ر منهم‬
‫بعد ذلك على المخالفة فهو ك افر حالل ال دم والم ال ألن ه ق د عان د الح ق على بص يرة‬
‫(‪)5‬‬
‫وأصر على تكذيب هللا تعالى وتكذيب رسوله ‪)‬‬
‫بعد هذا الكم الكبير من التبديع والتكفير والتحريض على المخالفين للسلفية في هذه‬
‫المسألة نبحث عن مصادرهم النقلية التي استدعت منهم كل هذا الكم من الشدة‪.‬‬
‫وعن د البحث عنه ا نج دها ال تع دو نصوص ا يمكنهم ل و طبق وا عليه ا مقاييس هم‬
‫لفهموها الفهم الصحيح‪..‬‬
‫فلو أنهم طبقوا مع اآليات الكريمة التي يستدلون بها كث يرا‪ ،‬وهي قول ه تع الى عن‬
‫المالئكة عليهم السالم‪﴿ :‬يَخَافُونَ َربَّهُ ْم ِم ْن فَوْ قِ ِه ْم َويَ ْف َعلُونَ َما ي ُْؤ َمرُونَ ﴾ [النحل‪ ]50 :‬ما‬
‫وا َّوالَّ ِذينَ هُم ُّمحْ ِس نُونَ ﴾ [النح ل ‪ ]128‬النتفت‬ ‫طبق وه في قول ه‪﴿ :‬إِ َّن هّللا َ َم َع الَّ ِذينَ اتَّقَ ْ‬
‫(‪)6‬‬
‫المشكلة في أذهانهم‪ ،‬فقد فسروا المعية هنا بمعية النصر والتأييد ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)59 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)59 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)59 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)59 :‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫() الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص‪.)98 :‬‬
‫‪ )(6‬مجموع الفتاوى (‪ ،)11/250‬و(‪.)5/104‬‬

‫‪51‬‬
‫وقال ابن تيمية في قوله تع الى‪َ ﴿ :‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنَ ا اإْل ِ ْن َس انَ َونَ ْعلَ ُم َم ا تُ َو ْس ِوسُ بِ ِه نَ ْف ُس هُ‬
‫َونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن َح ْب ِل ْال َو ِري ِد﴾ [ق‪( :]16 :‬إن ه ذه اآلي ة ال تخل و من أن ي راد به ا‬
‫قرب ه س بحانه أو ق رب مالئكت ه كم ا ق د اختل ف الن اس في ذل ك‪ ،‬ف إن أري د به ا ق رب‬
‫﴿ونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن َح ْب ِل ْال َو ِري ِد‪ .‬إِ ْذ يَتَلَقَّى‬‫المالئك ة‪ :‬ف دليل ذل ك من اآلي ة قول ه‪َ :‬‬
‫ْال ُمتَلَقِّيَا ِن َع ِن ْاليَ ِمي ِن َو َع ِن ال ِّش َما ِل قَ ِعي ٌد﴾ ففسر ذلك القرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان‪،‬‬
‫﴿ونَ ْعلَ ُم َم ا تُ َو ْس ِوسُ‬ ‫فيكون هللا سبحانه قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس اإلنس ان‪َ ،‬‬
‫بِ ِه نَ ْف ُسهُ﴾ وأخبر بقرب المالئكة الكرام الكاتبين منه‪َ ﴿ ،‬ونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن َح ْب ِل ال َو ِري ِد﴾‬
‫ْ‬
‫وعلى هذا التفسير تكون هذه اآلي ة مث ل قول ه تع الى‪﴿ :‬أَ ْم يَحْ َس بُونَ أَنَّا ال ن َْس َم ُع ِس َّرهُ ْم‬
‫َونَجْ َواهُم بَلَى َو ُر ُسلُنَا لَ َد ْي ِه ْم يَ ْكتُبُ ونَ ﴾ [الزخ رف ‪ ،]80‬أم ا إذا ك ان الم راد ب القرب في‬
‫اآلية قربه س بحانه‪ ،‬ف إن ظ اهر الس ياق في اآلي ة دل على أن الم راد بقرب ه هن ا قرب ه‬
‫(‪)1‬‬
‫﴿ونَ ْعلَ ُم َما تُ َوس ِْوسُ بِ ِه نَ ْف ُسهُ﴾)‬
‫بعلمه‪ ،‬وذلك لورود لفظ العلم في سياق اآلية َ‬
‫وهك ذا يق ال في الفوقي ة‪ ،‬فق د ق ال من ه و أعلم منهم باللغ ة العالم ة الكب ير‬
‫[الزمخش ري) في قول ه تع الى‪﴿ :‬يَ َخ افُونَ َربَّهُ ْم ِم ْن فَ وْ قِ ِه ْم ﴾ [النح ل‪( :]50 :‬إن علقت ه‬
‫بيخافون‪ ،‬فمعناه‪ :‬يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم‪ ،‬وإن علقته بربهم حاال من ه‬
‫ق ِعب ا ِد ِه‪َ ،‬وإِنَّا فَ وْ قَهُ ْم‬ ‫فمعن اه‪ :‬يخ افون ربهم عالي ا لهم ق اهرا‪ ،‬كقول ه َوهُ َو ْالق ا ِه ُر فَ وْ َ‬
‫(‪)2‬‬
‫قا ِهرُونَ )‬
‫باإلض افة إلى ه ذا فهم يؤول ون الفوقي ة نفس ها‪ ،‬وفيم ا يعتبرون ه من ص فات هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وقد سئل الشيخ ابن العثيمين حول قوله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّ َما يُبَ ايِعُونَ‬
‫ق أَ ْي ِدي ِه ْم ﴾ [الفتح‪ ،]10 :‬فأجاب بقوله‪( :‬ينبغي أن نعلم أن التأويل عند أه ل‬ ‫هَّللا َ يَ ُد هَّللا ِ فَوْ َ‬
‫السنة ليس مذموما ً كله‪ ،‬ب ل الم ذموم من ه م ا لم ي دل علي ه دلي ل‪ ،‬وم ا دل علي ه ال دليل‬
‫يسمي تفسيراً‪ ،‬سواء كان الدليل متصالً بالنص‪ ،‬أو منفص الً عن ه‪ ،‬فص رف ال دليل عن‬
‫ظاهره ليس مذموما ً على اإلطالق‪ ..‬فإذا فهمنا ه ذا القاع دة وهي أن التأوي ل ال ذي ق ام‬
‫الدليل عليه ليس مذموما ً عرفنا الجواب عن اآلية التي ساقها السائل‪ ..‬فهل الصحابة في‬
‫صلح الحديبية كانوا يبايعون هللا؟ هم في الحقيقة كانوا يبايعون النبي ‪ ‬مباشرة‪ ،‬وذلك‬
‫في قول ه س بحانه‪﴿ :‬يبايعون ك﴾‪ ،‬لكن لم ا ك ان الرس ول مبلغ ا ً عن هللا س بحانه ص ارت‬
‫مبايعة الرسول كمبايعة هللا‪ ،‬وصار الذي يبايعه كأنما يبايع هللا‪ ،‬وقول ه تع الى‪ ﴿ :‬يَ ُد هَّللا ِ‬
‫ق أَ ْي ِدي ِه ْم ﴾ المعلوم أن يد هللا حقيق ة ليس ت ف وق أي ديهم‪ ،‬وأن ال تي ف وق أي ديهم عن د‬ ‫فَوْ َ‬
‫(‪)3‬‬
‫المبايعة هي يد الرسول ‪ ‬لكن الرسول كان مبلغا ً عن هللا)‬
‫وهكذا يقال في جميع اآلي ات‪ ..‬وال تي ض رب الس لفية بعض ها ببعض‪ ..‬ف أولوا م ا‬
‫يشتهون‪ ،‬وأثبتوا ما يشتهون‪ ،‬والعجيب أنهم يحلون ألنفسم التأويل‪ ،‬ويس مونه ‪ -‬احتي اال‬
‫‪ -‬تفسيرا‪ ،‬أما غيرهم‪ ،‬فال يحلون له ذلك‪ ،‬بل يكفرون ه إن فع ل ذل ك‪ ،‬ولس ت أدري من‬
‫الذي أعطاهم وحرم غيرهم‪ ،‬أو من الذي أحل لهم‪ ،‬وحرم على غيرهم‪.‬‬
‫‪ )(1‬الفتاوى (‪.)20-6/19‬‬
‫‪2‬‬
‫الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪)610 /2‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد األول ‪ -‬باب األسماء والصفات‪.‬‬ ‫()‬

‫‪52‬‬
‫هذا من القرآن الكريم‪ ..‬أما من السنة المطهرة‪ ..‬فباإلضافة لتلك األحاديث الكث يرة‬
‫التي تلقوها من كعب األحبار ووهبه بن المنبه وغيرهم من مسلمة أه ل الكت اب ن راهم‬
‫يستدلون بما يسمونه [حديث الجارية]‪ ..‬وهو الحديث الذي صار ـ بسبب كثرة ترديدهم‬
‫له ـ وكأن رسول هللا ‪ ‬لم يقل غيره‪ ،‬أو كأنه آية من القرآن الكريم‪.‬‬
‫وقد جعل ذلك من فريق التنزيه في هذه األمة يؤلف الكتب والرسائل في رد الش به‬
‫المرتبط ة ب ه‪ ،‬ومنه ا [رس الة تنقيح الفه وم العالي ة بم ا ثبت وم ا لم يثبت في ح ديث‬
‫الجارية] للشيخ حسن بن على السقاف‪ ،‬ومنها [رس الة القواف ل الجاري ة بش رح ح ديث‬
‫الجارية] للشيخ محمود منص ور ال داني‪ ،‬ومنه ا [رس الة دراس ة ح ديث الجاري ة س ندا‬
‫ومتنا] للدكتور صهيب السقار‪ ،‬وغيرها من الرسائل والكتب‪.‬‬
‫ونص الحديث ـ كما يستدلون به ـ هو ما رواه مسلم عن معاوي ة بن الحكم الس لمي‬
‫قال‪ ..( :‬وكانت لي جارية ترعى غنما ً لي قِبل أحد والجوانية‪ ،‬ف اطلعت ذات ي وم ف إذا‬
‫الذيب قد ذهب بشاة من غنمها‪ ،‬وأنا رجل من بنى آدم آسف كما يأسفون لكني ص ككتها‬
‫صكة فأتيت رسول هللا ‪ ‬فعظم ذلك علي‪ ،‬قلت‪ :‬يا رسول هللا أفال أعتقها؟ ق ال‪ :‬ائت ني‬
‫بها فأتيته بها فقال لها‪ :‬أين هللا؟ قالت‪ :‬في السماء‪ .‬قال‪ :‬من أنا ؟ قالت‪ :‬أنت رس ول هللا‬
‫(‪)1‬‬
‫قال أعتقها فإنها مؤمنة)‬
‫هذا هو نص الحديث كما يروون ه‪ ،‬وهم يحرص ون على أال ي رووا الح ديث بغ ير‬
‫هذه الرواية مع أنه قد ورد بروايات أخرى تتفق مع التنزيه ومع المنهج العام الذي كان‬
‫رسول هللا ‪ ‬يتعامل به لتبليغ دين هللا‪.‬‬
‫ولتوضيح ذلك سأس وق هن ا رواي تين أخ ريين للح ديث‪ ،‬لنجع ل ذل ك نموذج ا عن‬
‫المنهج االنتقائي ال ذي يس تعمله الس لفية لنص رة آرائهم مهم ا ش ذت‪ ،‬فق د ورد الح ديث‬
‫بروايتين أخريين غير الرواية التي يهتم بها السلفية‪.‬‬
‫أما الرواية األولى‪ :‬فقد وردت بلفظ ( أتشهدين ان ال إله إال هللا )‪ ،‬وقد رواها مالك‬
‫وأحمد وغيرهما‪ ،‬ونص ها‪ :‬أن رجالً من األنص ار ج اء إلى رس ول هللا ‪ ‬بجاري ة ل ه‬
‫سوداء فقال‪ :‬يا رسول هللا إن علي رقبة مؤمنة‪ ،‬فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها‪ .‬فقال له ا‬
‫رسول هللا ‪ ( :‬أتشهدين أن ال إله إال هللا ؟ قالت نعم‪ ،‬قال أتشهدين أن محم دا رس ول‬
‫هللا ؟ قالت نعم‪ ،‬قال أتوقنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت نعم‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ ‬أعتقها)‬
‫(‪)2‬‬

‫وهذا الحديث يتوافق تمام ا م ع غ يره من األح اديث ال تي ت بين أن اله دف األك بر‬
‫لألنبياء عليهم الصالة والس الم ه و ال دعوة للتوحي د‪ ،‬فلم ي رد في أي من النص وص ال‬
‫القرآن وال الحديث أن من أهداف دعوة األنبياء الدعوة إلى أن هللا في السماء‪.‬‬
‫وأما الرواية الثانية‪ ،‬فقد وردت بلفظ (من رب ك )‪ ،‬وق د رواه ا أب و داود والنس ائي‬
‫والدارمي واإلمام أحمد وابن حب ان‪ ،‬ونص ها‪ :‬قلت‪( :‬ي ا رس ول هللا إن أمي أوص ت أن‬
‫‪1‬‬
‫مسلم‪.537( 1/381 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() الموط أ‪ ] 2/777 [ :‬أحم د في مس نده [مس ند أحم د ‪ ] 3/451‬و مص نف عب د ال رزاق [ ‪ ] 9/175‬والمنتقى البن‬
‫الجارود [‪.] )931(1/234‬‬

‫‪53‬‬
‫نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء قال ادع به ا فج اءت‪ ،‬فق ال‪ ( :‬من رب ك ؟ ق الت‬
‫(‪)1‬‬
‫هللا‪ ،‬قال‪ :‬من أنا ؟ قالت‪ :‬رسول هللا‪ ،‬قال‪ :‬أعتقها فإنها مؤمنة )‬
‫وهذه الرواية كذلك تتف ق م ع غيره ا من النص وص ال تي ت بين أغ راض الرس الة‬
‫وهي التعري ف باهلل وبنب وة رس ول هللا ‪ ..‬وليس فيه ا أب دا أن من أغ راض الرس الة‬
‫التعريف بجهة هللا وال مكانه‪.‬‬
‫ومن األدلة على ذلك م ا رواه البخ اري‪ :‬أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪( :‬أم رت أن أقاتل‬
‫الن اس ح تى يش هدوا أن ال إل ه إال هللا وأن محم دا رس ول هللا ويقيم وا الص الة ويؤت وا‬
‫الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دم اءهم وأم والهم إال بح ق اإلس الم وحس ابهم على‬
‫(‪)2‬‬
‫هللا)‬
‫ومنه ا م ا رواه عن ابن عب اس‪ :‬أن الن بي ‪ ‬بعث مع اذاً إلى اليمن فق ال‪( :‬ادعهم‬
‫إلى شهادة أن ال إله إال هللا وأني رس ول هللا‪ ،‬ف إن هم أط اعوا ل ذلك ف أعلمهم أن هللا ق د‬
‫إن هم أط اعوا ل ذلك ف أعلمهم أن هللا‬ ‫خمس صلوات في كل يوم وليلة‪ ،‬ف ْ‬ ‫َ‬ ‫افترض عليهم‬
‫(‪)3‬‬
‫افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)‬
‫ومنها ما رواه في [باب كيف يعرض اإلس الم على الص بي] من ح ديث ابن عم ر‬
‫(‪)4‬‬
‫أن النبي ‪ ‬قال البن صياد‪( :‬أتشهد أني رسول هللا ؟)‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله‪ ،‬فإن إثبات أن قول الجارية ـ كما في الرواية ال تي يعتم دها‬
‫السلفية ـ (في السماء) ال يدل على اإليمان‪ ،‬ذلك ألن بعض المشركين يع ترفون بوج ود‬
‫هللا وكذا النصارى واليه ود وم ع ذل ك يش ركون مع ه في األلوهي ة غ يره كم ا ورد في‬
‫الحديث عن عمران بن حصين قال‪ :‬قال النبي ‪ ‬ألبي يا حصين‪ :‬كم تعبد اليوم إله ا ً ؟‬
‫قال أبي‪ :‬سبعة‪ ،‬ستةً في األرض وواحداً في السماء‪ .‬قال‪ :‬فأيهم تعد لرغبت ك ورهبت ك؟‬
‫(‪)5‬‬
‫قال الذي في السماء)‬
‫هذا نموذج عن االنتقائية التي يمارسها السلفية في التعامل مع النصوص المقدس ة‪،‬‬
‫فهم يستعملون كل الوسائل والحيل لتطويع النصوص لتصير وفق مقتضيات أهوائهم‪.‬‬
‫والعجيب أنهم في مثل هذه األحاديث‪ ،‬والتي ترد بها الروايات المختلفة يعتبرونه ا‬
‫مضطربة(‪ ،)6‬واضطرابها يسبب ضعف االستدالل به ا في الف روع فض الً عن أص ول‬
‫‪1‬‬
‫() ابن حبان في صحيحه‪ ،)189(1/418 :‬واإلمام أحمد في مسنده‪ 4/222 :‬و‪ 388‬و‪ ،389‬وأبو داود في س ننه‪ :‬ص‬
‫‪ ،)3283( 477‬وصححه األلباني في صحيح أبي داود‪) 3283 ( 322\2 :‬‬
‫‪2‬‬
‫صحيح البخاري‪)25(1/17‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫صحيح البخاري ‪.)1331(2/505‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫صحيح البخاري ( ‪.) 171 / 6‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫سنن الترمذي‪.)3483(5/519‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫() قال الحافظ النووي في التقريب معرفا الح ديث المض طرب‪ ( :‬المض طرب‪ :‬ه و ال ذي ي روى على أوج ه مختلف ة‬
‫متقاربة‪ ،‬فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه أو غير ذلك فالحكم للراجحة‪ ،‬وال يكون‬
‫مضطربا واالضطراب يوجب ضعف الحديث إلشعاره بعدم الضبط ويقع في االسناد تارة وفي المتن أخ رى‪ ،‬وفيهم ا من‬
‫راو أو جماعة)‬
‫وقال الحافظ ابن دقيق العيد في االقتراح‪( :‬المضطرب‪ :‬هو ما روي من وجوه مختلفة‪ .‬وهو أح د أس باب التعلي ل عن دهم‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫العقيدة‪.‬‬
‫يقول المحدث الكبير عبد هللا بن الصديق‪( :‬وقد تصرف الرواة في ألفاظ ه‪ ،‬ف روي‬
‫بهذا اللفظ كما هنا وبلف ظ (من رب ك ؟) ق الت‪ :‬هللا ربي‪ .‬وبلف ظ (أتش هدين أن ال إل ه إال‬
‫هللا ؟ ) ق الت‪ :‬نعم‪ ،‬وق د أس توعب تل ك األلف اظ بأس انيدها الحاف ظ ال بيهقي في الس نن‬
‫الكبرى بحيث يجزم الواقف عليه ا أن اللف ظ الم ذكور هن ا م روي ب المعنى حس ب فهم‬
‫الراوي‪ ..‬وبهذا ثبت ثبوتا ال شك فيه عندنا حسب قواع د المص طلح وتص ريحات أه ل‬
‫الحديث في القديم والحديث اضطراب متن حديث الجارية بحيث ال يمكن التعوي ل على‬
‫لفظ من ألفاظه‪ ،‬وأصح أسانيده كما رأيت بلف ظ (أتش هدين أن ال إل ه إال هللا)‪ ،‬ف إن ك ان‬
‫هناك مجال للترجيح بين هذه الروايات فالرواية الراجحة بال ش ك وال ريب هي رواي ة‬
‫(أتشهدين) ألنها األصح إسنادا‪ ،‬وألن المعهود من حال النبي ‪ ‬الث ابت عن ه ب التواتر‬
‫(‪)1‬‬
‫أنه كان يأمر الناس ويختبر إيمانهم بالشهادتين فتكون رواية (أين هللا ) شاذة)‬
‫هذا هو أقوى دليل يستدل به السلفيون على هذه المسألة الخطيرة‪ ،‬وق د رأين ا م دى‬
‫ضعفه‪ ،‬ومخالفته لألصول والقواعد العامة‪ ..‬ولكنهم كما ذكرنا ال يبالون بضعف الدليل‬
‫أو قوته‪ ..‬فالدليل عندهم هو ما ذكره س لفهم‪،‬ال م ا ذك ره رس ول هللا ‪ ،‬وال م ا ذك ره‬
‫القرآن الكريم‪ ..‬وال ما دل عليه قبل ذلك العقل والفطرة السليمة‪.‬‬
‫المكان‪:‬‬
‫لم يكتف السلفيون بإثبات الجهة هلل غير مراعين لما يؤديه ذلك من محاالت عقلي ة‬
‫ومخالفات نصية‪ ..‬ب ل راح وا يثبت ون هلل تع الى المك ان المح دد المض بوط‪ ..‬ثم راح وا‬
‫يعتبرون ذلك من أصول العقائد‪ ..‬ثم راحوا يكفرون كل جاحد لذلك‪.‬‬
‫وقد ألفوا في مكان هللا كما ألفوا في جهته الكثير من الكتب والرسائل‪ ،‬ومنها كت اب‬
‫[العرش وما ورد فيه] ألبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة (ت‪297‬هـ)‪ ،‬ومنه ا ـ‬
‫وهو أشهرها ـ [كت اب الع رش] لل ذهبي (‪748‬هـ)‪ ،‬باإلض افة للرس الة العرش ية البن‬
‫تيمية‪.‬‬
‫والمستند الوحيد الذي يستندون إليه في ذلك ـ باإلضافة لألحاديث ال تي تلقوه ا من‬
‫ش ْ‬
‫اس ت ََوى ﴾ [ط ه‪:‬‬ ‫كعب األحبار وغيره من المجسمة ـ قوله تعالى‪﴿ :‬لرَّحْ َمنُ َعلَى ْال َعرْ ِ‬
‫‪ ،]5‬وما هو نظير لها‪.‬‬
‫وهم لذلك يصرحون بأن العرش هو مكان هللا‪ ،‬وأنه ما خلقه إال ليجلس عليه‪ ،‬وق د‬
‫رووا في ذل ك عن أبي رزين العقيلي قول ه‪ :‬قلت‪ :‬ي ا رس ول هللا أين ك ان ربن ا قب ل أن‬
‫يخلق خلقه‪ ،‬قال‪( :‬كان في عماء‪ ،‬ما تحته هواء‪ ،‬وما فوقه ه واء‪ ،‬ثم خل ق عرش ه على‬
‫(‪)2‬‬
‫الماء)‬

‫وموجبات الضعف للحديث)‬


‫‪1‬‬
‫التمهيد‪.) 135 / 7 ( :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الترمذي في سننه‪ ،5/288( ،‬حديث ‪ ،)3109‬وابن ماجه في سننه‪ ،)64 /1( :‬واإلمام أحمد في مس نده‪/4( :‬‬
‫‪ ،)12 ،11‬وابن أبي عاصم في السنة (‪ ،)271 /1‬وابن جرير الطبري في تفسيره‪ ،)4 /12 ( :‬قال الترمذي‪ :‬حديث حسن‪،‬‬

‫‪55‬‬
‫ورووا عن سلفهم سليمان التيمي أن ه ق ال‪( :‬ل و س ألت أين هللا‪ ،‬لقلت‪ :‬في الس ماء‪،‬‬
‫فإن قال‪ :‬فأين كان عرشه قبل السماء‪ ،‬لقلت‪ :‬على الماء‪ ،‬فإن قال‪ :‬فأين كان عرشه قبل‬
‫﴿واَل ي ُِحيطُونَ بِ َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه‬
‫الماء‪ ،‬لقلت‪ :‬ال أعلم‪ ،‬قال أبو عبد هللا وذلك لقوله تعالى‪َ :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫إِاَّل بِ َما َشا َء ﴾ [البقرة‪)]255 :‬‬
‫وهم يفسرون االستواء بالقعود والجلوس والتمكن‪ ،‬كما ألف في ذل ك أح د أعالمهم‬
‫الكب ار أب و محم د محم ود بن أبي القاس م بن ب دران اآلنمي الدش تي كتاب ه المعن ون بـ‬
‫اع ٌد َو َج الِسٌ َعلَى َعرْ ِش ِه]‪ ،‬وق د أورد ـ للبرهن ة على‬ ‫ت ْال َح ِّد هللِ َع َّز َو َج َّل َوبِأَنَّهُ قَ ِ‬
‫[إِ ْثبَا ِ‬
‫ذلك ـ الروايات الكثيرة عن رسول هللا ‪ ‬والسلف‪ ،‬ومنه ا م ا رواه عن ه ‪ ‬أن ه ق ال‪:‬‬
‫(يقول هللا عز وجل للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده‪ :‬إني لم أجع ل‬
‫(‪)2‬‬
‫علمي وحكمي فيكم إال وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم وال أبالي)‬
‫ومنها ما رواه أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬يأتوني حتى أمش ي بين أي ديهم‪ ،‬ح تى ن أتي‬
‫باب الجن ة‪ ،‬فأس تفتح‪ ،‬في ؤذن لي‪ ،‬فأدخ ل على ربي فأج ده قاع داً على كرس ي الع زة‪،‬‬
‫ً (‪)3‬‬
‫فأخر له ساجدا)‬
‫وفي رواية‪( :‬إذا كان يوم القيامة حشر الناس عراة حف اة غ رال‪ ،‬ثم يجلس هللا على‬
‫(‪)4‬‬
‫كرسيه‪ ،‬ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب‪)..‬‬
‫وقد ورد من الروايات أن هللا تعالى ـ بحسب معتق د الس لف ـ ال يظ ل جالس ا فق ط‬
‫على عرشه‪ ،‬بل يستلقي أحيانا‪ ..‬وهذا ما ي دل على خص ائص للع رش ال ذي ي ؤمن ب ه‬
‫السلفية‪ ،‬وهو إمكانية تحوله إلى س رير‪ ،‬وليس مج رد كرس ي‪ ،‬كم ا ورد في الرواي ات‬
‫التي يحدثون بها تسميته سريرا‪.‬‬
‫والرواية هي ما حدثوا به عن عبدهللا بن ُحنَي ٍْن قال‪ :‬بينا أنا ج الس إذ ج اءني قت ادة‬
‫بن النعمان‪ ،‬فقال لي‪ :‬انطلق بنا يا ابن حنين إلى أبي س عيد الخ دري‪ ،‬ف إني ق د أخ برت‬
‫أنه قد اشتكى‪ .‬فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد‪ ،‬فوجدناه مستلقيا ً رافعا ً رجل ه اليم نى‬
‫ص هَا‬ ‫على اليسرى‪ ،‬فسلمنا‪ ،‬وجلسنا‪ .‬فرفع قتادة بن النعمان يده إلى ِرجْ ِل أبي سعيد فَقَ َر َ‬
‫صةً شديدةً فقال أبو سعيد‪ :‬سبحان هللا يا بن آدم! لقد أوجع ني! فق ال ل ه‪ :‬ذل ك أردت‪.‬‬ ‫قَرْ َ‬
‫فقال‪ :‬إن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬إن هللا عز وجل لم ا قض ى خلق ه اس تلقى فوض ع إح دى‬
‫رجليه على األخرى‪ ،‬وقال‪ :‬ال ينبغي ألحد من خلقي أن يفعل هذا)‪ ،‬فقال أب و س عيد‪ :‬ال‬

‫والحديث أورده الذهبي في العلو‪ ،‬وحسن إسناده‪..‬‬


‫‪1‬‬
‫خلق أفعال العباد‪ :‬ص ‪.127‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫رواه الطبراني في المعجم الكبير(‪.)2/84‬‬
‫()‬
‫‪3‬‬
‫() رواه الحافظ خشيش بن أصرم في كتاب االستقامة والرد على أهل األه واء‪ ،‬وعن ه‪ :‬الملطي في التنبي ه وال رد على‬
‫أهل األهواء والبدع (ص‪ ،)104/‬ورواه أحمد في المس ند(‪ ،)3/116‬ومحم د بن نص ر في تعظيم ق در الص الة(‪،)1/274‬‬
‫وأبو أحمد العسال في كتاب المعرفة ‪-‬كما في العلو للذهبي(ص‪ )88-87/‬ـ قال الذهبي‪ :‬إسناده قوي‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() اإلمام أحمد في مسنده(‪ ،)3/495‬والبخاري في خلق أفعال العب اد(ص‪ ،)59/‬وفي األدب المف رد(‪ ،)970‬وابن أبي‬
‫عاصم في اآلحاد والمثاني(‪ ،)4/79‬والروياني في مسنده(‪ ،)2/471‬والحاكم(‪ )4/574‬وغيرهم‪ ،‬وفيه‪-‬واللفظ للروياني‪-‬‬

‫‪56‬‬
‫جرم‪ ،‬وهللا ال أفعله أبداً (‪.)1‬‬
‫وبن اء على ه ذا‪ ،‬فق د عرف وا الع رش بكون ه س ريرا‪ ،‬ق ال ابن كث ير في تعريف ه‬
‫للعرش‪( :‬ه و س رير ذو ق وائم تحمل ه المالئك ة‪ ،‬وه و كالقب ة على الع الم‪ ،‬وه و س قف‬
‫(‪)2‬‬
‫المخلوقات)‬
‫وقال ال ذهبي‪ -‬بع د أن ذك ر س رر أه ل الجن ة‪( :-‬فم ا الظن ب العرش العظيم ال ذي‬
‫اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته‪ ،‬وقوائم ه وماهيت ه وحملت ه‪ ،‬والكروب يين‬
‫(‪)3‬‬
‫الحافين من حوله‪ ،‬وحسنه ورونقه وقيمته‪ :‬فقد ورد أنه من ياقوته حمراء)‬
‫وقال ابن قتيب ة ـ عن د انتق اده للمنزه ة ـ‪( :‬وطلب وا للع رش مع نى غ ير الس رير‪،‬‬
‫والعلم اء في اللغ ة ال يعرف ون للع رش مع نى إال الس رير‪ ،‬وم ا ع رش من الس قوف‬
‫وأشباهها قال أمية بن أبي الصلت(‪:)4‬‬
‫ربنا في السماء أمسى كبيرا‬ ‫مجدوا هللا وهو للمجد أهل‬
‫اس وسوى فوق السماء سريرا‬ ‫بالبناء األعلى الذي سبق الن‬
‫ن ترى دونه المالئك صورا‬ ‫شرجعا ال يناله بصر العي‬
‫وهم ال يكتف ون بأمث ال تل ك الرواي ات لتفس ير االس تواء ب القعود والجل وس‪ ،‬ب ل‬
‫يضيفون إليها أقوال المتأخرين من سلفهم الص الح‪ ،‬ومن ذل ك م ا رواه الخالل عن أبي‬
‫بكر الم روذي ق ال‪ :‬س معت عب دالوهاب يق ول‪﴿ :‬ال رحمن على الع رش اس توى﴾ ق ال‪:‬‬
‫(‪)5‬‬
‫(قعد)‬
‫ثم س اق النص وص ال تي ت زكي عب د الوه اب‪ ،‬وت بين أهليت ه للكالم في العقائ د‬
‫الكبرى‪ ،‬فذكر أنه قيل لإلمام أحمد بن حنبل‪ :‬من نسأل بعدك؟ فقال‪ :‬سل عبد الوه اب‪..‬‬
‫وذكر أن اإلم ام أحم د نفس ه ق ال‪ :‬عب دالوهاب أه ل يُ ْقتَ دَى ب ه‪ ،‬عاف ا هللا عب دَالوهاب‪،‬‬
‫ب إما ٌم‪ ،‬وهو موض ٌع للفتيا‪ ..‬وأنه قي ل ل ه‪ :‬كلم ا أج اب عب دُالوهاب في ش يء‬ ‫عبدُالوها ِ‬
‫تقبله؟ قال‪( :‬سبحان هللا! الناس يختلفون في الفقه‪ ،‬هو موضع)‪ ..‬وأنه قال‪( :‬عبدالوهاب‬
‫(‪)6‬‬
‫إمام‪ ،‬وهو رجل صالح‪ ،‬مثلُهُ ي َُوفَّ ُ‬
‫ق إلصابة الحق)‬
‫وهم يعتبرون كل تفسير لالس تواء بغ ير ه ذا المع نى بدع ة وتجهم ا وكف را‪ ..‬وق د‬
‫رووا عن خارجة قوله‪( :‬الجهمي ة كف ار‪ ،‬بلغ وا نس اءهم أنهن طوال ق‪ ،‬وأنهن ال يحللن‬
‫‪ )(1‬التكمل ة من المعجم الكب ير(‪ ،)19/13‬ورواه عن ه أب و نعيم في معرف ة الص حابة (رقم‪ ،)5320‬وابن أبي عاص م في‬
‫السنة(رقم‪ ،)458‬والبيهقي في األسماء والصفات(رقم‪ ،)766‬وأبو نصر الغازي في جزء من األمالي (‪)77/1‬‬
‫‪2‬‬
‫البداية والنهاية‪.1/12 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫العلو‪ ،‬ص‪.57‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫االختالف في اللفظ‪ :‬ص‪.24 .‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫() انظر‪ :‬بيان تلبيس الجهمية(‪.)1/435‬‬
‫‪6‬‬
‫() انظر‪ :‬طبقات الحنابلة(‪)1/211‬‬

‫‪57‬‬
‫ش‬‫ألزواجهن‪ ،‬ال تعودوا مرضاهم‪ ،‬وال تشهدوا جن ائزهم‪ ،‬ثم تال‪﴿ :‬ال رَّحْ َمنُ َعلَى ْال َع رْ ِ‬
‫ا ْستَ َوى ﴾ [طه‪ ،]5 :‬وهل يكون االستواء إال بجلو ٍ‬
‫(‪)1‬‬
‫س)‬
‫وم ع أن ه ورد من النص وص عن الس لف م ا ينفي م ا رووه إال أن الس لفية ال‬
‫يعتبرون السلف سلفا إال أذا أذعنوا لما يقوله سلفهم األول كعب األحبار وإخوان ه ال ذين‬
‫هم أعلم الناس بالعقائد‪ ..‬فهم ال يعرفون القرآن فقط‪ ،‬بل يضمون إلي ه مع رفتهم ب الكتب‬
‫السابقة أيضا‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية في رفض ما ورد عن السلف مما يخالف هذا المعتقد‪( :‬وهذا القول‬
‫على اإلطالق كذب صريح على السلف‪ ،‬أم ا في كث ير من الص فات فقطع ا ً مث ل أن هللا‬
‫فوق العرش فإن من تأمل كالم السلف المنق ول عنهم علم باالض طرار أن الق وم ك انوا‬
‫مصرحين بأن هللا فوق العرش حقيق ة‪ ،‬وأنهم م ا قص دوا خالف ه ذا ق ط‪ ،‬وكث ير منهم‬
‫(‪)2‬‬
‫صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك)‬
‫وقال في موضع آخر‪( :‬وقد فسر اإلمام أحم د النص وص ال تي نس ميها متش ابهات‬
‫فبين معانيها آية آية‪ ،‬وحديثا ً حديثا ً ولم يتوقف فيها ه و واألئم ة قبل ه مم ا ي دل على أن‬
‫التوقف عن بيان معاني آي ات الص فات وص رف األلف اظ عن ظواهره ا لم يكن م ذهبا ً‬
‫أله ل الس نة وهم أع رف بم ذهب الس لف‪ ،‬وإنم ا م ذهب الس لف إج راء مع اني آي ات‬
‫الص فات على ظاهره ا بإثب ات الص فات ل ه حقيق ة‪ ،‬وعن دهم ق راءة اآلي ة والح ديث‬
‫(‪)3‬‬
‫تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني ال تحرف وال يلحد فيها)‬
‫وهكذا كان موقفهم من الذين حملوا لف ظ االس تواء على معن اه اللغ وي المع روف‪،‬‬
‫والذي يدل عليه السياق‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫قد استوى بشر على العراق من غير سيف وال دم مهراق‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫هما استويا بفضلهما جميعا ً على عرش الملوك بغير زور‬
‫ق لَ ُك ْم َما فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َج ِميعًا ثُ َّم ا ْستَ َوى إِلَى َّ‬
‫الس َما ِء‬ ‫بل كما قال تعالى‪﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي خَ لَ َ‬
‫ت َوهُ َو بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم ﴾ [البق رة‪ ،]29 :‬وق ال‪﴿ :‬ثُ َّم ْ‬
‫اس تَ َوى إِلَى‬ ‫فَ َس َّواه َُّن َس ْب َع َس َما َوا ٍ‬
‫ض ا ْئتِيَا طَوْ عًا أَوْ كَرْ هًا قَالَتَا أَتَ ْينَا طَ ائِ ِعينَ ﴾ [فص لت‪:‬‬
‫ان فَقَا َل لَهَا َولِأْل َرْ ِ‬
‫ال َّس َما ِء َو ِه َي ُد َخ ٌ‬
‫‪]11‬‬
‫واالستواء هن ا ـ كم ا ي ذكر الفخ ر ال رازي ـ‪( :‬ثم اس توى إلى الس ماء من ق ولهم‬
‫اس توى إلى مك ان ك ذا إذا توج ه إلي ه توجه ا ال يلتفت مع ه إلى عم ل آخ ر‪ ،‬وه و من‬
‫االستواء الذي هو ضد االعوجاج‪ ،‬ونظيره ق ولهم اس تقام إلي ه وامت د إلي ه‪ ،‬ومن ه قول ه‬
‫تعالى‪ :‬فاستقيموا إليه [فصلت‪ ]6 :‬والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بع د‬

‫‪1‬‬
‫() رواه عبدهللا بن اإلم ام أحم د في الس نة (رقم‪ ،)10‬ومن طريق ه الخالل في الس نة (رقم‪ ،)1704‬وابن بط ة في‬
‫اإلبانة(ص‪)1224‬‬
‫‪ )(2‬الفتوى الحموية (ص‪)64‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى (‪)17/414‬‬

‫‪58‬‬
‫(‪)1‬‬
‫خلق األرض وما فيها‪ ،‬من غير صرف يصرفه ذلك)‬
‫لكن هذا التفسير ال يعجب السلفية‪ ،‬ألن اللغة عندهم هي اللغة الظاهري ة فق ط ال تي‬
‫يفهمها العامي المشبه والمجسم‪ ..‬ال اللغة التي يفهمها فصحاء العرب وبلغاؤها‪.‬‬
‫قال ابن عبد البر ـ دفاعا عن الرؤية التجسيمية السلفية ـ‪( :‬وأما ادعائهم المجاز في‬
‫االستواء وقولهم في تأويل استوى‪ :‬استولى‪ ،‬فال مع نى ل ه ألن ه غ ير ظ اهر في اللغ ة‪،‬‬
‫ومعنى االستيالء في اللغ ة المغالب ة‪ ،‬وهللا ال يغالب ه أح د وال يعل وه أح د‪ ،‬وه و الواح د‬
‫الصمد‪ ،‬ومن حق الكالم أن يحمل على حقيقته حتى تتفق األمة أنه أريد ب ه المج از‪ ،‬إذ‬
‫ال سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إال على ذلك‪ ،‬وإنما يوجه كالم هللا إلى األش هر‬
‫واألظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التس ليم‪ .‬ول و س اغ ادع اء المج از‬
‫لكل مدع م ا ثبت ش يء من العب ارات‪ ،‬وج ل هللا ع ز وج ل أن يخ اطب إال بم ا تفهم ه‬
‫العرب في معهود مخاطبته ا‪ ،‬مم ا يص ح معن اه عن د الس امعين‪ ،‬واالس تواء معل وم في‬
‫اللغة ومفه وم‪ ،‬وه و العل و واالرتف اع على الش يء واالس تقرار والتمكن في ه‪ .‬ق ال أب و‬
‫ستَ َوى﴾ قال‪ :‬وتقول العرب استويت فوق الدابة واس تويت ف وق‬ ‫عبيدة في قوله تعالى ﴿ا ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫البيت‪ ،‬وقال غيره‪ :‬استوى‪ :‬أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد" ‪.‬‬
‫بعد هذا‪ ،‬فقد اجتهد محققو السلفية في توضيح كل ما يرتبط بالمكان الذي يوجد فيه‬
‫الع رش‪ ،‬وبن اء على ذل ك وض عوا خارط ة كوني ة عجيب ة‪ ،‬يمكن إرس الها للوك االت‬
‫الفضائية العالمية لتؤسس من خاللها لعلم فلك أكثر تطورا‪.‬‬
‫وسأسوق هن ا كالم ابن تيمي ة في تفص يل ه ذه الخارط ة‪ ،‬وذل ك في رس الته ال تي‬
‫خصصها لهذا الغرض‪ ،‬والتي أجاب فيها على هذه التس اؤالت‪( :‬م ا تق ول في الع رش‬
‫هل هو كرى أم ال؟ وإذا كان كري ا ً وهللا من ورائ ه محي ط ب ه ب ائن عن ه‪ ،‬فم ا فائ دة أن‬
‫العب د يتوج ه إلى هللا تع الى حين دعائ ه وعبادت ه‪ ،‬فيقص د العل و دون غ يره‪ ،‬وال ف رق‬
‫حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو‪ ،‬وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ وم ع‬
‫ه ذا نج د في قلوبن ا قص داً يطلب العل و ال يلتفت يمن ة وال يس رة‪ ،‬فأخبرن ا عن ه ذه‬
‫(‪)3‬‬
‫الضرورة التي نجدها في قلوبنا‪ ،‬وقد فطرنا عليها)‬
‫وقد أجاب ابن تيمية جوابا مفص ال ط ويال نقتص ر من ه على ه ذا التحقي ق الب ديع‪،‬‬
‫قال‪( :‬ال يخلو إما أن يكون العرش كريا كاألفالك‪ ،‬ويكون محيط ا ً به ا‪ ،‬وإم ا أن يك ون‬
‫فوقها وليس ه و كري ا‪ ،‬ف إن ك ان األول‪ ،‬فمن المعل وم باتف اق من يعلم ه ذا أن األفالك‬
‫مستديرة كرية الشكل‪ ،‬وأن الجهة العليا هي جه ة المحي ط‪ ،‬وهي المح دب‪ ،‬وأن الجه ة‬
‫السفلى هو المركز‪ ،‬وليس لألفالك إالجهتان‪ :‬العلو والس فل فق ط‪ ،‬وأم ا الجه ات الس ت‬
‫فهي للحيوان‪ ،‬فإن له ست جوانب‪ ..‬لكن جهة العلو والسفل لألفالك ال تتغ ير‪ ،‬فالمحي ط‬
‫هو العلو والمركز هو السفل‪ ،‬مع أن وج ه األرض ال تي وض عها هللا لألن ام‪ ،‬وأرس اها‬
‫بالجبال‪ ،‬هو الذي عليه الناس والبه ائم والش جر والنب ات‪ ،‬والجب ال واألنه ار الجاري ة‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫() مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)546 /27‬‬
‫‪ )(2‬التمهيد (‪)7/131‬‬
‫‪3‬‬
‫الرسالة العرشية (ص‪)3 :‬‬ ‫()‬

‫‪59‬‬
‫فأما الناحية األخرى من األرض فالبحر محيط بها‪ ،‬وليس هناك شيء من اآلدميين وما‬
‫يتبعهم‪ ،‬ولو ق در أن هن اك أح داً لك ان على ظه ر األرض ولم يكن من في ه ذه الجه ة‬
‫تحت من في ه ذه الجه ة‪ ،‬وال من في ه ذه تحت من في ه ذه‪ ،‬كم ا أن األفالك محيط ة‬
‫بالمركز‪ ،‬وليس أحد جانبي الفلك تحت اآلخر‪ ،‬وال القطب الشمالي تحت الجن وبى‪ ،‬وال‬
‫بالعكس‪ .‬وإن كان الشمالي هو الظاهر لن ا ف وق األرض وارتفاع ه بحس ب بع د الن اس‬
‫عن خ ط االس تواء‪ ،‬فم ا ك ان بع ده عن خ ط االس تواء ثالثين درج ة مثالً ك ان ارتف اع‬
‫القطب عنده ثالثين درجة‪ ،‬وه و ال ذي يس مى ع رض البل د‪ ،‬فكم ا أن ج وانب األرض‬
‫المحيطة بها وجوانب الفلك المس تديرة ليس بعض ها ف وق بعض وال تحت ه‪ ،‬فك ذلك من‬
‫يكون على األرض من الحيوان والنبات واألثقال ال يقال‪ :‬إن ه تحت أولئ ك‪ ،‬وإنم ا ه ذا‬
‫خيال يتخيله اإلنسان‪ ،‬وهو تحت إضافي؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالس قف‬
‫فوقها‪ ،‬وإن كانت رجاله ا تحاذي ه‪ ،‬وك ذلك من عل ق منكوس ا فإن ه تحت الس ماء‪ ،‬وإن‬
‫كانت رجاله تلي السماء‪ ،‬وك ذلك يت وهم اإلنس ان إذا ك ان في أح د ج انبي األرض‪ ،‬أو‬
‫الفلك أن الجانب اآلخر تحته‪ ،‬وه ذا أم ر ال يتن ازع في ه اثن ان‪ ،‬ممن يق ول‪ :‬إن األفالك‬
‫مستديرة‪ ..‬وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فإذا قدر أن العرش مس تدير محي ط بالمخلوق ات ك ان‬
‫هو أعالها‪ ،‬وسقفها وهو فوقها مطلق ا‪ ،‬فال يتوج ه إلي ه‪ ،‬وإلى م ا فوق ه اإلنس ان إال من‬
‫العلو‪ ،‬ال من جهاته الباقية أصال‪ ،‬ومن توجه إلى الفل ك التاس ع أو الث امن أو غ يره من‬
‫األفالك من غير جهة العلو‪ ،‬كان جاهالً باتفاق العقالء‪ ،‬فكي ف بالتوج ه إلى الع رش أو‬
‫إلى ما فوقه وغاية ما يقدر أن يكون كرى الشكل‪ ،‬وهللا تعالى محي ط بالمخلوق ات كله ا‬
‫إحاطة تليق بجالله‪ ،‬فإن السموات السبع واألرض في ي ده أص غر من الحمص ة في ي د‬
‫(‪)1‬‬
‫أحدنا)‬
‫إلى آخر أمثال هذه التفاص يل ال تي يح اول فيه ا ابن تيمي ة أن يجم ع بين جه ة هللا‬
‫ومكانه‪ ،‬ولو على حساب كل ما توصلت إلي ه المع ارف البش رية في ك ل العل وم‪ ..‬ألن‬
‫عقيدة الجهة والمكان هي األصل الذي يضحى ألجله بكل شيء‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك يتفق السلفية على أن العرش ينتهي على شكل قبة‪ ،‬كما ق ال ابن‬
‫تيمية‪( :‬وأما العرش فإنه مقبب‪ ،‬لما روي في السنن ألبي داود عن جبير بن مطعم قال‪:‬‬
‫أتى رسول هللا ‪ ‬أعرابي فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬جهدت األنفس‪ ،‬وج اع العي ال‪ -،‬وذك ر‬
‫الح ديث‪ -‬إلى أن ق ال رس ول هللا ‪( :‬إن هللا على عرش ه‪ ،‬وإن عرش ه على س مواته‬
‫وأرض ه‪ ،‬كهك ذا)‪ ،‬وق ال بأص ابعه مث ل القبة(‪ ..)2‬وفي عل وه قول ه ‪( :‬إذا س ألتم هللا‬
‫فاسألوه الفردوس‪ ،‬فإنه وسط الجنة وأعالها‪ ،‬وفوقه عرش الرحمن‪ ،‬ومنه تفج ر أنه ار‬
‫(‪)4‬‬
‫الجنة)(‪ .. )3‬فقد تبين بهذه األحاديث أنه أعلى المخلوقات وسقفها‪ ،‬وأنه مقبب)‬

‫‪1‬‬
‫الرسالة العرشية (ص‪ )21 :‬بتصرف‪.‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أبوداود (‪)4726‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫البخاري (‪)4/19‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الفتاوى‪)151 /5( :‬‬ ‫()‬

‫‪60‬‬
‫ه ذا بالنس بة لوص فهم للع رش وس قفه أم ا أس فل الع رش‪ ،‬فهم يتفق ون على أن ه‬
‫موضوع فوق بحر من الماء‪ ،‬وأنه يحمله مالئكة على أشكال حيوانية عجيبة‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث التي رووها في الداللة على ذلك ما رووه عن العب اس بن عب د‬
‫المطلب ق ال‪ :‬كن ا بالبطح اء في عص ابة فيهم رس ول هللا ‪ ،‬فم رت س حابة‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫تدرون ما هذه‪ ،‬قالوا‪ :‬سحاب‪ ،‬قال‪ :‬والمزن‪ ،‬ق ا ل وا‪ :‬والم زن‪ ،‬ق ال‪ :‬والعن ان‪ ،‬ثم ق ال‪:‬‬
‫تدرون كم بعد ما بين السماء واألراضين‪ ،‬قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬إما واح دة أو اثن تين أو ثالث‬
‫وسبعين سنة‪ ،‬ثم السماء فوق ذلك‪ ،‬حتى ع د س بع س موات‪ ،‬ثم ف وق الس ابعة بح ر بين‬
‫أعاله وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء‪ ،‬ثم فوق ذلك كله ثمانية أمالك أوعال‪ ،‬ما بين‬
‫أظالفهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء‪ ،،‬ثم ف وق ظه ورهم الع رش بين أعاله‬
‫(‪)1‬‬
‫وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء‪ ،‬وهللا تعالى فوق ذلك)‬
‫وعلى الرغم من الغرابة الشديدة لهذا الحديث إال أن ابن تيمية انتصر ل ه انتص ارا‬
‫شديدا‪ ،‬ومما قاله في االنتصار له‪( :‬إن هذا الحديث قد رواه إمام األئم ة ابن خزيم ة في‬
‫كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه ال يحتج فيه إال بما نقل ه الع دل عن الع دل موص وال‬
‫إلى الن بي ‪ ،‬واإلثب ات مق دم على النفي‪ ،‬والبخ اري إنم ا نفى معرف ة س ماعه من‬
‫األحنف‪ ،‬ولم ينف معرفة الناس بهذا‪ ،‬فإذا عرف غيره كإمام األئمة ابن خزيمة م ا ثبت‬
‫(‪)2‬‬
‫به اإلسناد‪ ،‬كانت معرفته وإثباته مقدما على نفي غيره وعدم معرفته)‬
‫بل انتصر له كل المعاصرين يقول ابن جبرين‪( :‬فهذا وما أشبهه مما أجمع الس لف‬
‫(‪)3‬‬
‫على نفله وقبوله ولم يتعرضوا لرده وال تأوله وال تشبيهه وال تمثيله)‬
‫ومع هذا‪ ،‬فقد نقلوا في روايات أخرى أن حملة العرش كانو بصور أخ رى‪ ..‬وهي‬
‫(ملك في صورة رجل‪ ،‬وملك في صورة ثور‪ ،‬وملك في صورة أسد‪ ،‬وملك في صورة‬
‫نسر)(‪ ،)4‬ورووا عن ابن الكواء أنه ق ال لعلي بن أبي ط الب‪ :‬ي ا أم ير المؤم نين إن في‬
‫كتاب هللا آلية قد أفسدت علي قلبي‪ ،‬وشككتني في ديني‪ ،‬فقال له أمير المؤمنين‪( :‬ويحك‬
‫يابن الكواء‪ ،‬وما هذه اآلية ال تي أفس دت علي ك قلب ك وش ككتك في دين ك؟ فق ال ل ه ابن‬
‫ص اَل تَهُ َوت َْس بِي َحهُ َوهَّللا ُ َعلِي ٌم بِ َم ا‬ ‫﴿والطَّ ْي ُر َ‬
‫ص افَّا ٍ‬
‫ت ُك لٌّ قَ ْد َعلِ َم َ‬ ‫الكواء‪ :‬قول هللا تعالى‪َ :‬‬
‫يَ ْف َعلُونَ ﴾ [النور‪ ،]41 :‬ما هذه الصالة؟ وما هذا الصف؟ وما هذا التسبيح؟ فقال له أمير‬
‫المؤمنين‪ :‬ي ابن الك واء إن هللا تع الى خل ق المالئك ة في ص ور ش تى‪ ،‬وإن هلل ملك ا في‬
‫صورة دي ك أش هب‪ ،‬براثن ه في األرض الس فلى الس ابعة‪ ،‬وعرف ه مث نى تحت ع رش‬
‫الرحمن‪ ،‬له جناح بالمشرق من ن ار‪ ،‬وجن اح ب المغرب من ثلج‪ ،‬ف إذا حض ر وقت ك ل‬
‫صالة قام على براثنه‪ ،‬وأقام عرفه تحت العرش‪ ،‬ثم صفق بجناحيه كم ا تص فق الديك ة‬
‫في منازلكم‪ ،‬فال الذي من النار يذيب الثلج‪ ،‬وال الذي من الثلج يطفئ الذي من النار‪ ،‬ثم‬
‫‪1‬‬
‫رواه وأبو داود في سننه‪ ،‬كتاب السنة‪ ،‬باب في الجهمية‪ ،)93 /5( :‬والدارمي في ال رد على بش ر المريس ي‪ :‬ص‬ ‫()‬
‫‪..448‬‬
‫‪2‬‬
‫() الفتاوى (‪ ،)3/192‬ومثله مال تلميذه ابن القيم إلى تصحيحه‪ ،‬انظر‪ :‬تهذيب التهذيب‪.)93 ،92 /7( :‬‬
‫‪ )(3‬وهو عبد هللا الجبرين في التعليقات على متن لمعة االعتقاد ‪84‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد‪ :‬ص ‪ ،198‬واآلجري في الشريعة‪ :‬ص ‪.. 494‬‬

‫‪61‬‬
‫نادى بأعلى صوته‪ :‬ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محم دا عب ده ورس وله‪،‬‬
‫سبوح قدوس رب المالئكة والروح‪ ،‬وأشهد أن محمدا خير النب يين‪ ،‬فتس معه الديك ة في‬
‫منازلكم فتص فق بأجنحته ا فتق ول كنح و من قول ه‪ ،‬فه و ق ول هللا ع ز وج ل في كتابه‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫يحهُ َوهَّللا ُ َعلِي ٌم بِ َما يَ ْف َعلُونَ ﴾ [النور‪)]41 :‬‬ ‫ت ُك ٌّل قَ ْد َعلِ َم َ‬
‫صاَل تَهُ َوتَ ْسبِ َ‬ ‫﴿ َوالطَّ ْي ُر َ‬
‫صافَّا ٍ‬
‫ورووا عن رسول هللا قوله‪( :‬العرش على مل ك من لؤل ؤة في ص ورة دي ك رجاله‬
‫في التخوم السفلى وعنقه مثنية تحت العرش‪ ،‬وجناحاه في المشرق والمغرب فإذا س بح‬
‫(‪)2‬‬
‫هللا ذلك الملك لم يبق شيء إال سبح)‬
‫ولم تكتف المدرسة السلفية بتلك الجرأة على الحديث عن العوالم التي خلقها هللا من‬
‫خالل أمثال تل ك الرواي ات الغريب ة الممتلئ ة بالتجس يم والتش بيه والخراف ة‪ ،‬ب ل راحت‬
‫تضيف إلى العقائد اإلسالمية عقيدة خطيرة‪ ،‬ال يوجد عليها دلي ل ال من كت اب وال س نة‬
‫وال عقل‪ ..‬وهي ما يسمونه [المكان العدمي]‬
‫وهو من األلفاظ العجيبة ال تي اخترعه ا ابن تيمي ة‪ ،‬وتبع ه عليه ا أتباع ه من غ ير‬
‫وعي منهم للمحاالت العقلية التي ترتبط بها‪ ..‬فكيف يكون مكانا‪ ،‬ثم يك ون مع دوما‪ ..‬أو‬
‫كيف تكون جهة‪ ،‬ثم تكون معدومة؟‬
‫قال ابن تيمية‪( :‬وإن أريد بما يتوجه منه أو يتوجه إلي ه م ا ي راد ب الحيز ال ذي ه و‬
‫تق دير المك ان فال ريب أن ه ذا ع دم محض)(‪ ،)3‬وق ال‪( :‬ب ل يجب في س ائر ال ذوات‬
‫المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وه و ق دره ونهايت ه ال تي تحي ط ب ه‪ ،‬ويلزم ه‬
‫(‪)4‬‬
‫الحيز الذي هو تقدير المكان وهو عدمي)‬
‫وقد تبعه على هذا القول كل أتباعه من السلفية غير مدركين لمعنى المقول ة‪ ،‬يق ول‬
‫العثيمين‪( :‬كذلك أيضا‪ :‬الجهة‪ :‬هل هللا في جهة؟ نقول‪ :‬أما اللفظ فإننا نتوقف فيه ومالن ا‬
‫وله‪ ،‬ولكن المعنى نستفصل‪ :‬ماذا تريد في جهة؟ إن أردت هللا تعالى في جهة تحيط به‬
‫إحاط ة الظ رف ب المظروف فه ذا ممتن ع وباط ل‪ ،‬وإن أردت ب ذلك س فل ومخالط ة‬
‫للمخلوقات فهذا أيضا باطل ممتنع على هللا‪ ،‬فليس هللا تعالى في جه ة الس فل‪ ،‬وليس في‬
‫جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف‪ ،‬وإن أردت أنه في جهة عليا عدمية ال تحي ط‬
‫(‪)5‬‬
‫به‪ ،‬ما ثم إال هو عزو وجل فهذا حق)‬
‫ومثله قال محمد صديق خان القنوجي‪( :‬فإن قال القائل‪ :‬إن هللا في جهة قيل له‪ :‬م ا‬
‫تريد بذلك؟ أتريد أنه سبحانه في جهة موج ودة تحص ره وتحي ط ب ه مث ل أن يك ون في‬
‫جوف السموات‪ ،‬أم تريد بالجهة أمرا عدميا وه و م ا ف وق العلم فإن ه ليس ف وق الع الم‬
‫ش يء من المخلوق ات‪ ،‬ف إن أردت الجه ة الوجودي ة‪ ،‬وجعلت هللا محص ورا في‬
‫‪1‬‬
‫() العرش وما روي فيه البن أبي شبية (ص‪)448 :‬‬
‫‪ )(2‬أورده السيوطي في الحبائك‪ :‬ص ‪ ،59‬و ‪ ،68‬وعزاه إلى ابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس‪.‬‬
‫‪ )(3‬تلبس الجهمية‪.2/119 :‬‬
‫‪ )(4‬تلبس الجهمية‪.2/203 :‬‬
‫‪5‬‬
‫شرح العقيدة السفارينية‪ ،‬ص ‪.101‬‬ ‫()‬

‫‪62‬‬
‫المخلوقات‪ ،‬فهذا باطل‪ ،‬وإن أردت الجهة العدمية وأردت أن هللا وحده فوق المخلوقات‬
‫(‪)1‬‬
‫بائن عنها فهذا حق)‬
‫ويقول ابن أبي العز‪( :‬وإن أريد بالجه ة أم ر ع دمي‪ ،‬وه و م ا ف وق الع الم‪ ،‬فليس‬
‫(‪)2‬‬
‫هناك إال هللا وحده‪ ،‬فإذا قيل إنه في جهة بهذا االعتبار فهو صحيح)‬
‫هذه هي الرؤي ة العقدي ة للمدرس ة الس لفية المرتبط ة بالجه ة والمك ان‪ ..‬وق د س قنا‬
‫أشهر أدلتهم عليها‪ ،‬وهي ـ كما رأينا ـ ال تستحق منهم كل تلك األحك ام المتش ددة ح ول‬
‫المخالفين لهم فيها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫قطف الثمر في بيان عقيدة أهل األثر‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫شرح العقيدة الطحاوية‪ ،‬ص‪.221‬‬ ‫()‬

‫‪63‬‬
‫الحدود ‪ ..‬والمقادير‬
‫يرى أصحاب الرؤية التنزيهية ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرف ان‬
‫ـ أن هللا تعالى أعظم من أن تحد عظمته بأي لون من ألوان الحدود أو المقادير‪ ..‬ول ذلك‬
‫ال يجد العقل أمام المعارف اإللهية سوى االنبهار والتحير والعج ز‪ ..‬فه و دائم ا ي ردد ـ‬
‫وهو في تلك الحالة من الشده واالنبهار ـ (هللا أكبر)‬
‫فاهلل أكبر من تصوراتنا وتعقالتنا وتوهماتنا وأفكارنا وتأمالتنا‪..‬‬
‫وهللا أكبر من أن ينحصر في حيز محدود‪ ،‬أو أمد معدود‪ ،‬أو مكان أو زمان‪.‬‬
‫وهللا أكبر من أن تجري عليه الق وانين ال تي تج ري علين ا‪ ،‬أو تحكم ه الس نن ال تي‬
‫تقيدنا‪.‬‬
‫وهللا أكبر في ذاته وصفاته وكل ما يرتبط به‪.‬‬
‫وليس لنا ـ نحن العبيد المشتاقين للتعرف على م والهم ـ س وى أن نوس ع قابلياتن ا‬
‫لتنهل من كماالت هللا بقدر ما استطاعت‪ ..‬وبما أن كم االت هللا ال تنتهي ‪ ..‬فل ذلك نظ ل‬
‫في رحلة أبدية نتمتع فيها برؤية الجمال الذي يكشف لنا منه كل حين معنى جديدا‪.‬‬
‫وفي تلك الرحلة يظل المؤمن يصيح بما قال الشاعر العارف‪:‬‬
‫يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف‬ ‫ومع تفنن واصفيه بحسنه‬
‫ولهذا كان سيد العارفين رسول هللا ‪ ‬يقول في دعائه‪( :‬اللهم إني أسألك بكل اس م‬
‫هو لك‪ ،‬سميت به نفسك‪ ،‬أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك‪ ،‬أو اس تأثرت ب ه‬
‫في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور ص دري وجالء ح زني وذه اب‬
‫(‪)1‬‬
‫همي وغمي)‬
‫فأسماء هللا الحسنى فيض من فيوض ات كم ال هللا‪ ..‬وبم ا أن كم ال هللا ال ح د ل ه‪..‬‬
‫فأسماؤه ال نهاية لها‪.‬‬
‫وفي دعاء آخر يقول ‪ ‬بشوق روحي عظيم‪( :‬اللهم اع وذ برض اك من س خطك‪،‬‬
‫وبمعافاتك من عقوبتك‪ ،‬وأعوذ ب ك من ك ال أحص ي ثن اء علي ك‪ ،‬أنت كم ا أث نيت على‬
‫(‪)2‬‬
‫نفسك )‬
‫وقد حكى الغزالي من باب اإلشارة ما فهمه بعض العارفين من هذا الدعاء‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله ‪ ‬في سجوده‪( :‬أعوذ برضاك من سخطك‪،‬‬
‫وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك‪ ،‬وأعوذ بك منك‪ ،‬ال أحص ي ثن اء علي ك‪ ،‬أنت كم ا أث نيت‬
‫على نفسك)‪ ،‬أنه قيل له ‪ ‬اسجد واقترب فوجد القرب في السجود فنظر إلى الص فات‬
‫فاستعاذ ببعضها من بعض فإن الرض ا والس خط وص فان ثم زاد قرب ه فان درج الق رب‬
‫األول فيه فرقي إلى الذات‪ ،‬فقال أعوذ بك منك ثم زاد قربه بما استحيا به من االستعاذة‬

‫‪1‬‬
‫رواه أحمد (‪)4318( )1/452( ،)3712( )1/391‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫رواه أَحمد (‪ 96 /1‬و ‪ 18‬أو ‪ ،)150‬وأبو داود (‪ ،)1427‬والنسائي (‪ ،)249 - 248 /3‬وابن ماجه (‪)1179‬‬ ‫()‬

‫‪64‬‬
‫على بساط القرب فالتجأ إلى الثن اء ف أثنى بقول ه ال أحص ي ثن اء علي ك ثم علم أن ذل ك‬
‫(‪)1‬‬
‫قصور فقال أنت كما أثنيت على نفسك)‬
‫وهذه اإلشارة العرفانية تدل على الحقيقة التي ذكرها القرآن الكريم بصيغ مختلفة‪،‬‬
‫ومنه ا قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وأَ َّن إِلَى َربِّكَ ْال ُم ْنتَهَى﴾ [النجم‪ ،]42 :‬وقول ه‪﴿ :‬فَفِ رُّ وا إِلَى هَّللا ِ إِنِّي‬
‫ين ﴾ [الذاريات‪]50 :‬‬ ‫لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬
‫فالغاية من الخلق هي الرحلة إلى هللا ‪ ..‬وهي رحلة ال تنتهي ‪ ..‬والحادي لها أشواق‬
‫ال تنتهي‪ ،‬وحيرة ال تنتهي‪ ،‬كما عبر عن ذلك الشاعر العاشق‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا وارحم حشى بلظى هواك تسع ََّرا‬
‫وقد عبر العارفون على هذه الحقيقة الذوقية العظيم ة‪ ،‬واعتبروه ا النهاي ة ال تي ال‬
‫تنتهي‪ ،‬يقول أحدهم‪ ،‬وهو أبو نصر السراج الطوسي في كتابه (اللمع)‪( :‬والحيرة بديهة‬
‫ت رد على قل وب الع ارفين عن د ت أملهم‪ ،‬وحض ورهم‪ ،‬وتفك رهم‪ ،‬تحجبهم عن التأم ل‬
‫(‪)2‬‬
‫والفكرة)‬
‫وقد سئل بعضهم عن المعرفة‪ :‬ما هي؟ فأجاب‪( :‬الت ََحيَّر‪ ،‬ثم االتصال‪ ،‬ثم االفتق ار‪،‬‬
‫الحيَرةُ)‬ ‫ثم َ‬
‫وقال قائلهم‪:‬‬
‫َّرت فيك خذ بيدي يا دليالً لِ َم ْن تحيَّر فيك‬ ‫قد تحي ُ‬
‫وهذا ليس كالم العارفين فقط‪ ..‬بل ه و كالم العقالء والفالس فة والمتكلمين‪ ،‬وال ذي‬
‫ع بر الغ زالي في (المقص د األس نى) عن رؤيتهم وفلس فتهم في ه ذا‪ ،‬فق ال جواب ا على‬
‫التساؤل ح ول منهج التع رف على هللا‪( :‬لمعرف ة هللا س بحانه وتع الى س بيالن‪ :‬أح دهما‬
‫قاصر‪ ،‬واآلخر مسدود‪ ،‬أما القاصر فهو ذكر األسماء والص فات وطريق ة التش بيه بم ا‬
‫عرفناه من أنفسنا‪ ،‬فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحي اء متكلمين‪ ،‬ثم س معنا ذل ك‬
‫في أوصاف هللا عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمن اه فهم ا قاص را‪ ..‬ألن حياتن ا وق درتنا‬
‫وعلمنا أبعد من حياة هللا عز وجل وقدرته وعلمه‪ ،‬ب ل ال مناس بة بين البعي دين‪ ،‬وفائ دة‬
‫تعريف هللا عز وجل بهذه األوصاف أيضا إيهام وتشبيه ومشاركة في االسم لكن يقط ع‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء ﴾ [الشورى‪ ،]11 :‬فهو حي ال كاألحي اء‪ ،‬وق ادر ال‬ ‫التشبيه بأن يقال ﴿ لَي َ‬
‫كالقادرين‪ ..‬وكأنا إذا عرفنا أن هللا تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إال أنفسنا ولم نعرف ه‬
‫إال بأنفس نا إذ األص م ال يتص ور أن يفهم مع نى قولن ا ﴿إِ َّن هَّللا َ َس ِمي ٌع ﴾ وال األكم ه يفهم‬
‫معنى قولنا إنه بصير‪ ،‬ولذلك إذا قال القائل كيف يكون هللا ع ز وج ل عالم ا باألش ياء؟‬
‫فنقول‪ :‬كما تعلم أنت األشياء‪ ،‬فإذا قال‪ :‬فكيف يكون قادرا؟ فنق ول‪ :‬كم ا تق در أنت‪ ،‬فال‬
‫يمكنه أن يفهم شيئا إال إذا ك ان في ه م ا يناس به‪ ،‬فيعلم أوال م ا ه و متص ف ب ه‪ ،‬ثم يعلم‬
‫غ يره بالمقايس ة إلي ه‪ ،‬ف إن ك ان هلل ع ز وج ل وص ف وخاص ية ليس فين ا م ا يناس به‬
‫ويشاركه في االسم لم يتصور فهمه البتة‪ ،‬فما عرف أحد إال نفسه‪ ،‬ثم قايس بين صفات‬

‫‪1‬‬
‫إحياء علوم الدين (‪)293 /1‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫اللمع‪ ،‬ص ‪.421‬‬ ‫()‬

‫‪65‬‬
‫هللا تعالى وص فات نفس ه‪ ،‬وتتع الى ص فاته عن أن تش به ص فاتنا‪ ،‬فتك ون ه ذه معرف ة‬
‫قاص رة يغلب عليه ا اإليه ام والتش بيه‪ ،‬فينبغي أن تق ترن به ا المعرف ة بنفي المش ابهة‬
‫(‪)1‬‬
‫وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في االسم)‬
‫هذا هو السبيل األول‪ ،‬وهو السبيل الوحيد المتاح‪ ..‬والذي يرتبط بمدى قابلية العب د‬
‫لتلقي المعارف اإللهية‪ ..‬وأما (السبيل الثاني المسدود)‪ ،‬فق د ع بر عن ه الغ زالي بقول ه‪:‬‬
‫(هو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها ح تى يص ير رب ا كم ا ينتظ ر‬
‫الصبي أن يبلغ فيدرك تلك اللذة‪ ،‬وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحص ل تل ك‬
‫الحقيقة لغير هللا تعالى‪ ،‬وهذا هو سبيل المعرفة المحققة ال غ ير وه و مس دود قطع ا إال‬
‫(‪)2‬‬
‫على هللا تعالى)‬
‫وبناء على هذا الكالم المنطقي ذك ر الغ زالي اس تحالة الح د على هللا‪ ،‬فق ال‪( :‬ف إذا‬
‫يستحيل أن يعرف هللا تعالى بالحقيقة غير هللا‪ ،‬بل أقول يس تحيل أن يع رف الن بي غ ير‬
‫الن بي‪ ،‬وأم ا من ال نب وة ل ه فال يع رف من النب وة إال اس مها‪ ،‬وأنه ا خاص ية موج ودة‬
‫إلنس ان به ا يف ارق من ليس نبي ا‪ ،‬ولكن ال يع رف ماهي ة تل ك الخاص ية إال بالتش بيه‬
‫بصفات نفسه‪ ..‬بل أزيد وأقول ال يعرف أحد حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار إال بع د‬
‫الموت ودخول الجنة أو النار ألن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ول و فرض نا شخص ا لم‬
‫يدرك قط لذة لم يمكننا أصال أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها‪ ،‬والنار عب ارة عن‬
‫أسباب مؤلمة ولو فرضنا شخصا لم يق اس ق ط ألم ا لم يمكنن ا ق ط أن نفهم ه الن ار ف إذا‬
‫قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه وهو ألم النار‪ ،‬وكذلك إذا أدرك شيئا من الل ذات‬
‫فغايتن ا أن نفهم ه الجن ة بالتش بيه ب أعظم م ا نال ه من الل ذات وهي المطعم والمنكح‬
‫والمنظر ف إن ك ان في الجن ة ل ذة مخالف ة له ذه الل ذات فال س بيل إلى تفهيم ه أص ال إال‬
‫بالتشبيه بهذه اللذات ‪ ..‬ولذات الجنة أبعد من كل ل ذة أدركناه ا في ال دنيا ‪ ..‬ب ل العب ارة‬
‫الصحيحة عنها أنها ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خط ر على قلب بش ر‪ ..‬فكي ف‬
‫يتعجب المتعجبون من قولنا‪ :‬لم يحصل أهل األرض والسماء معرف ة من هللا تع الى إال‬
‫على الصفات واألسماء ونحن نقول لم يحص لوا من الجن ة إال على الص فات واألس ماء‬
‫وكذلك في كل ما سمع اإلنسان اسمه وصفته وم ا ذاق ه وم ا أدرك ه وال انتهى إلي ه وال‬
‫(‪)3‬‬
‫اتصف به)‬
‫وبناء على هذا كانت نهاية المعرفة ـ كما يذكر أهل البرهان والعرفان ـ هو العجز‬
‫عن المعرفة‪ ،‬كما قال أبو حامد ـ مستنتجا ذلك مما سبق ـ‪( :‬فإن قلت فماذا نهاية معرف ة‬
‫العارفين باهلل تعالى؟ فنقول‪ :‬نهاي ة معرف ة الع ارفين عج زهم عن المعرف ة‪ ،‬ومع رفتهم‬
‫بالحقيق ة أنهم ال يعرفون ه‪ ،‬وأن ه ال يمكنهم البت ة معرفت ه‪ ،‬وأن ه يس تحيل أن يع رف هللا‬
‫المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إال هللا عز وجل‪ ،‬فإذا انكش ف لهم ذل ك‬

‫‪1‬‬
‫المقصد األسنى (ص‪)53 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫المقصد األسنى (ص‪)53 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫المقصد األسنى (ص‪.)54 :‬‬ ‫()‬

‫‪66‬‬
‫انكشافا برهانيا كما ذكرناه فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في ح ق الخل ق من‬
‫(‪)1‬‬
‫معرفته)‬
‫فهذه النهاية التي انتهى إليها العقالء هي نفسها التي انتهى إليها العرفاء‪ ..‬كم ا ق ال‬
‫الشيخ عبد الكريم الجيلي ـ مع برا عنهم ـ‪( :‬العج ز‪ :‬ه و نهاي ة أه ل النهاي ات‪ ،‬وغاي ة‬
‫الترقي إلى الغايات‪ ،‬ليس وراءه لكامل مرمى‪ ،‬وال بعده ألكمل م رقى في ه‪ ،‬يق ول س يد‬
‫أهل هذا المقام‪ :‬ال أحصي ثناء عليك … فإن الكامل إذا تحقق بالحق ائق اإللهي ة‪ ،‬وت رقى‬
‫في مق ام االس تقراء بالحض رة العلمي ة تتجلى ل ه ال ذات األقدس ية بم ا هي علي ه من‬
‫الكم االت ال تتجلى إال في تل ك الحض رة الكنهي ة‪ ،‬وال س بيل إلى بروزه ا من تل ك‬
‫الحضرة الغيبية إلى هذا الع الم الوج ودي العي ني‪ ،‬ألن تل ك الحض رة تس مى‪ :‬بحض رة‬
‫الحضرات وبمقام أو أدنى … فال سبيل إلى درك ه ذا العج ز عن ه ذا اإلدراك إال به ذا‬
‫اإلدراك اإللهي في حضرة الحضرات‪ ،‬فألجل هذا كان إدراك العجز إدراكا ً محققاً)‬
‫وق ال ابن ع ربي‪( :‬ثم تت والى علي ه [على الف رد من طائف ة أه ل هللا] التجلي ات‬
‫باختالف أحكامها فيه ‪ ..‬فيزيد حيرة لكن فيها لذة ‪ ..‬فكانت ح يرتهم ب اختالف التجلي ات‬
‫أشد من حيرة النظار في معارضات ال دالالت‪ ،‬فقول ه‪ :‬زدني في ك تح يراً طلب لت والي‬
‫(‪)2‬‬
‫التجليات عليه‪ ،‬فمن وصل إلى الحيرة ‪ ...‬فقد وصل)‬
‫ورد على من اعت بر الح يرة ض الال‪ ،‬فق ال‪( :‬اله دى ه و أن يهت دي اإلنس ان إلى‬
‫الحيرة‪ ،‬فيعلم أن األمر حيرة‪ ،‬والح يرة قل ق وحرك ة‪ ،‬والحرك ة حي اة‪ ،‬فال س كون‪ ،‬فال‬
‫(‪)3‬‬
‫موت‪ ،‬ووجود فال عدم)‬
‫هذه خالص ة النظ رة العقالني ة والعرفاني ة للمعرف ة التنزيهي ة ‪ ..‬فل ذلك تق وم على‬
‫التعظيم والتنزي ه ‪ ..‬أو على التس بيح والثن اء ‪ ..‬فهي دائم ا في ارتق اء وس فر به ذين‬
‫الجناحين في العوالم التي ال تنتهي‪..‬‬
‫وقد أشار األئمة من أهل البيت إلى هذا المعنى في روايات كثيرة‪ ،‬ومنه ا م ا روي‬
‫عن اإلمام علي من قوله‪( :‬ليس له [ سبحانه وتعالى ] ح ّد ينتهي إلى ح ّده) (‪ ، )4‬وق ال‪:‬‬
‫أن إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود) (‪ ،)5‬وقال‪( :‬من ح ّده [ تع الى ]‬ ‫(من زعم ّ‬
‫(‪)6‬‬
‫فقد ع ّده‪ ،‬ومن ع ّده فقد أبطل أزله)‬
‫وروي أن بعض الناس طلب من اإلمام علي بن موسى الرض ا أن يح ّد هللا تع الى‬
‫له‪ ،‬فقال له اإلمام‪ :‬ال ح ّد له‪ .‬قال الرج ل‪ :‬ولم؟ ق ال اإلم ام‪ّ :‬‬
‫ألن ك ّل مح دود متن اه إلى‬
‫ح ّد ‪ .‬وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة‪ .‬وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان‪ .‬فه و غ ير‬
‫‪1‬‬
‫المقصد األسنى (ص‪.)54 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الفتوحات المكية (‪)305 /1‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الفتوحات المكية (‪)305 /1‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ :‬باب ‪ ،2‬ح ‪ ،1‬ص ‪.35‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫المصدر السابق‪ ،‬ح ‪ ،34‬ص ‪.77‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫نهج البالغة‪ ،‬الشريف الرضي‪ :‬قسم الخطب‪ ،‬خطبة ‪ ،152‬ص ‪ 278‬ـ ‪279‬‬ ‫()‬

‫‪67‬‬
‫(‪)1‬‬
‫محدود وال متزايد وال متناقص وال متج ّزء)‬
‫وهذه النظرة التي اتفق عليها جميع المنزهة بمختل ف من اهجهم‪ ،‬هي النظ رة ال تي‬
‫يؤيدها العلم في كل أزمانه ومجاالته‪ ..‬وخاصة العلم الحديث‪ ..‬فهو يعيش في كل لحظة‬
‫في حالة انبهار وحيرة من تلك العجائب التي يكتشفها كل حين ‪ ..‬والتي تبرهن ل ه على‬
‫أن صانع هذا العالم ومهندسه أكبر من أن يحد في حيز‪ ،‬أو يكون في مك ان‪ ،‬أو يج ري‬
‫عليه زمان‪ ..‬ألن من أمهات الحقائق في الفيزي اء الحديث ة أن المك ان والزم ان كالهم ا‬
‫مخلوقان ‪ ..‬ويستحيل على المخلوق أن يتحكم في الخالق‪.‬‬
‫أما النظرة التجسيمية التي تبنتها المدرسة السلفية ـ وحدها من دون األم ة جميع ا ـ‬
‫فتسير في اتج اه مختل ف تمام ا‪ ..‬ول ذلك نظ رت بعين الريب ة لجمي ع العقالء والعرف اء‬
‫والعلماء‪ ..‬واتهمت الكل بالجنون والكفر والهرطقة والزندقة‪.‬‬
‫وهذه النظرة التجسيمية تنطل ق من تحدي د هللا‪ ،‬وتنتهي بوض ع المق ادير المرتبط ة‬
‫بطوله وحجمه وكتلته‪ ..‬وكل ما يتعلق به‪ ..‬ثم تضع له خارطة كونية تخالف كل خرائط‬
‫الدنيا لتتناسب مع المقادير التي رواه ا لهم كعب األحب ار ووهب بن المنب ه ومن تتلم ذ‬
‫عليهم‪.‬‬
‫وحتى ال نكون متجنين عليهم‪ ،‬فإننا سننقل كلماتهم‪ ،‬ومن خالل مصادرهم‪ ،‬بل من‬
‫خالل مص ادر من يعت برونهم‪ ،‬ويثق ون فيهم‪ ،‬وأولهم من يعتبرون ه الش يخ الوحي د‬
‫لإلسالم‪ :‬ابن تيمية‪.‬‬
‫فقد نقل ابن تيمية الكثير من النصوص في كتابه [بيان تل بيس الجهمي ة في تأس يس‬
‫بدعهم الكالمية] التي تدل على أن إثب اب الح د هلل من العقائ د األساس ية ال تي يقتض يها‬
‫اإليمان‪ ،‬ومن تلك النقول ما نقله عن الدارمي ـ مق را ل ه ـ في كتاب ه (نقض عثم ان بن‬
‫سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيم ا اف ترى على هللا تع الى في التوحي د) ق ال في ه‪:‬‬
‫(باب الحد والعرش‪ :‬وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد وال غاي ة وال نهاي ة‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫وهذا األصل الذي بنى عليه جهم جميع ضالالته واشتق من ه أغلوطات ه‪ ،‬وهي كلم ة لم‬
‫يبلغنا أنه س بق جه ًم ا إليه ا أح ٌد من الع المين‪ ،‬فق ال ل ه قائ ل ممن يح اوره‪ :‬ق د علمت‬
‫مرادك أيها األعجمي‪ ،‬تعني أن هللا تعالى الشيء‪ ،‬ألن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء‬
‫يقع عليه اسم الشيء إال وله حد وغاية وص فة‪ ،‬وأن الش يء ليس ل ه ح د وال غاي ة وال‬
‫صفة‪ ،‬فالشيء أبدًا موصوف المحالة‪ ،‬وال شيء يوص ف بال ح د وال غاي ة‪ ،‬وقول ك ال‬
‫(‪)2‬‬
‫حد له تعني أنه ال شيء)‬
‫(‪)3‬‬
‫وهكذا نقل عن الخالل وعن أبي يعلى وغيرهم ممن يسميهم أهل الس نة النق ول‬
‫الكثيرة التي تنص على أن من ضروريات المعرف ة اإللهي ة إثب ات الح د هلل‪ ،‬ومن تل ك‬
‫الروايات م ا رواه الخالل عن محم د بن إب راهيم القيس ي‪ ،‬ق ال‪ :‬قلت ألحم د بن حنب ل‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫التوحيد‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ :‬باب ‪ ،36‬ح ‪ ،3‬ص ‪246‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)605 /2‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪.)612 /2‬‬ ‫()‬

‫‪68‬‬
‫يحكى عن ابن المبارك ‪-‬وقيل ل ه‪ :‬كي ف نع رف ربن ا؟‪ -‬ق ال‪ :‬في الس ماء الس ابعة على‬
‫عرشه بحد‪ .‬فقال أحمد‪ :‬هكذا هو عندنا(‪.)1‬‬
‫ومنها ما رروه عن حرب بن إس ماعيل ق ال‪ :‬قلت إلس حاق بن راهوي ه‪ :‬ه و على‬
‫العرش بحد؟ قال‪ :‬نعم بحد‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ومنها ما رووه عن ابن المبارك أنه قال‪( :‬هو على عرشه بائن من خلقه بحد)‬
‫وق د عل ق ابن تيمي ة على ه ذه الرواي ات بقول ه‪( :‬ولم ا ك ان الجهمي ة يقول ون م ا‬
‫مضمونه إن الخالق ال يتميز عن الخلق فيجح دون ص فاته ال تي تم يز به ا‪ ،‬ويجح دون‬
‫قَ ْد َرهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي‪ ،‬عالم‪ ،‬قدير‪ :‬ق د عرفن ا حقيقت ه وماهيت ه‪،‬‬
‫ويقولون إنه ال يباين غيره‪ .‬بل إما أن يصفوه بصفة المع دوم؛ فيقول وا‪ :‬ال داخ ل الع الم‬
‫وال خارج ه‪ ،‬وال ك ذا وال ك ذا‪ .‬أو يجعل وه ح االً في المخلوق ات أو وج وده وج ود‬
‫المخلوق ات‪ ،‬ف بين ابن المب ارك أن ال رب س بحانه وتع الى على عرش ه مب اين لخلق ه‬
‫منفصل عنه‪ ،‬وذكر الحد‪ .‬ألن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد‪ ،‬وما ال حد له ال يب اين‬
‫(‪)3‬‬
‫المخلوقات وال يكون فوق العالم ألن ذلك مستلزم للحد)‬
‫وبناء على هذا الذي ذكره ابن تيمية وغيره من الس لف‪ ،‬ف إن البن اء المع رفي عن د‬
‫السلفية في ه ذا الج انب ينطل ق من اعتق اد تحدي د هللا‪ ..‬وله ذا أول وا ه ذا األم ر أهمي ة‬
‫كبرى‪ ،‬واعتبروه من أصول العقائد التي تف رق بين الس ني والب دعي‪ ،‬ب ل بين الم ؤمن‬
‫والكافر‪ ..‬فالمؤمن عندهم والسني هو الذي يقول بمحدودية هللا ‪ ..‬والكافر والب دعي ه و‬
‫من يقول بعدم محدوديته‪.‬‬
‫ومن الكتب المؤلفة في هذا ما كتبه الحافظ محمود الدشتي بعنوان [إثب ات الح د هلل‬
‫ع ز وج ل وبأن ه قاع د وج الس على عرش ه]‪ ،‬وال ذي لقي العناي ة الكب يرة من الس لفية‬
‫الحديثة تحقيقا وطبعا ونشرا‪.‬‬
‫بعد هذا‪ ،‬فإن القول بالتحديد يقتضي البحث عن المقادير المرتبطة بالطول والحجم‬
‫والكتلة ونحو ذلك‪ ..‬ومع صعوبة هذا األمر س نحاول هن ا أن ن ذكر م ا ق الوه في أمث ال‬
‫هذه المسائل‪ ،‬وما رووه من روايات حولها‪.‬‬
‫وق د رأين ا ـ من خالل اس تقراء م ا ذك روه وم ا رووه ـ أن لجس م إلههم تق ديرين‬
‫مختلفين‪ ،‬ب ل متناقض ين تمام ا‪ :‬أح دهما كب ير ج دا‪ ..‬واآلخ ر ص غير ج دا‪ ..‬وبينهم ا‬
‫تقديرات أخرى‪..‬‬
‫وهذا مع غرابته إال أنه الواقع ‪ ..‬فالتناقض الذي تعاملوا به مع النصوص المقدس ة‬
‫أو رثهم التناقض في كل المعارف التي اعتبروها حكرا لهم‪.‬‬
‫وسيرى القارئ الكريم ـ من خالل م ا س نذكره من مق والتهم ورواي اتهم ـ أن ك ل‬
‫الحس ابات الرياض ية والهندس ية تتوق ف‪ ،‬إال إذا ق ال أص حاب ه ذه المدرس ة بج واز‬

‫القاضي أبو يعلى في إبطال التأويالت (ق‪/151‬ب)‪ ،‬وأورده ابن تيمية في نقض تأسيس الجهمية (‪)1/428‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫‪ )(2‬نقض تأسيس الجهمية (‪.)2/34‬‬
‫‪ )(3‬نقض تأسيس الجهمية (‪.)443-1/442‬‬

‫‪69‬‬
‫التشكل على هللا تعالى‪ ،‬وحينئذ سيلتزمون بالتزام ات خط يرة تتن اقض م ع ك ل ش يء‪،‬‬
‫ألنهم حينها س يقولون بتع دد اآلله ة‪ ،‬أو بتع دد األق انيم‪ ..‬أو باألش كال المختلف ة لإلل ه‪..‬‬
‫وحينها ستسقط كل تلك الص يحات ال تي يص يحون به ا في الحكم على األم ة بالش رك‪،‬‬
‫ألنهم سيكتشفون أنهم ال يختلفون عن مشركي قريش وغيرهم إال في شيء واحد‪ ،‬وهو‬
‫أن آلهة قريش كانت في األرض‪ ،‬وإلههم في السماء‪.‬‬
‫المقادير الكبرى‪:‬‬
‫ومشكلة هذا النوع من المقادير أنه يلغي كل م ا أورده أعالم المدرس ة الس لفية من‬
‫معارف تتعلق بالرؤية وبسكن هللا مع المؤمنين في الجنة‪ ،‬وبال دنو والمماس ة وغيره ا‪،‬‬
‫ألن الحسابات الرياضية تمنع كل ذلك‪.‬‬
‫وسنذكر هنا بعض مقوالتهم في هذا الجانب ونقارنها بما يقوله العلم الحديث لنرى‬
‫حقيقة عظمة هللا في تصوراتهم‪ ..‬ونرى قبل ذلك وبعده سر نفورهم من العلم‪ ،‬وخاص ة‬
‫علم الفلك الذي فضح كل منظومتهم الفكرية والعقدية‪.‬‬
‫وق د رأين ا من خالل اس تقراء م ا ذك روه من مق ادير في ه ذا الج انب أنه ا تش مل‬
‫ناحيتين‪ :‬الحجم‪ ،‬والكتلة‪.‬‬
‫الحجم‪:‬‬
‫تجتهد المدرسة السلفية عند بيانها لعظمة هللا تعالى في أن تصور عظمة هللا تع الى‬
‫الحسية‪ ،‬أو عظمة ذاته الجسمية من خالل تفسيرها الخاطئ لبعض النصوص المقدسة‪،‬‬
‫وتورد ألجل ذلك معاني تتصورها عظيمة‪ ،‬بينما هي ال تساوي شيئا وفق م ا دل علي ه‬
‫العلم الحديث‪.‬‬
‫لذلك فإن العظمة التي يطرحونها قد يصلح ذكرها لبدوي لم يعرف ما يقول ه العلم‪،‬‬
‫وليس ل ه الق درة على التأم ل العقلي ‪ ..‬أم ا أن يص لح م ع أص حاب العق ول الس ليمة‪،‬‬
‫وخاصة من غذي منها بالمعارف والعلوم فإنه يستحيل عليه أن يقبل ذلك‪ ..‬وله ذا ن رى‬
‫المدرسة السلفية تميل إلى العوام أكثر من ميله ا للعلم اء‪ ،‬وتمي ل إلى أص حاب العق ول‬
‫المنغلقة أكثر من ميلها ألصحاب العقول المنفتحة‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك هذا الحديث الذي يوردونه في كل مح ل لبي ان عظم ة هللا‪ ،‬وه و‬
‫ق قَ ْد ِر ِه َواأْل َرْ ضُ َج ِميعًا قَ ْب َ‬
‫ضتُهُ يَوْ َم‬ ‫﴿و َما قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫ما يروونه في تفسير قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه ُس ْب َحانَهُ َوتَ َعالى َع َّما يُش ِركونَ ﴾ [الزمر‪]67 :‬‬ ‫ات َم ْ‬
‫ط ِوي ٌ‬ ‫ْالقِيَا َم ِة َوال َّس َم َ‬
‫او ُ‬
‫فمع أن اآلية واضحة في أن قدر هللا ال يمكن أن يحاط بها‪ ..‬ولذلك ضرب هللا مثال‬
‫لذلك بأن كل شيء في قبضته‪ ،‬وأنه ال يعجزة ش يء في األرض وال في الس ماء‪ ،‬وه و‬
‫تعبير نستعمله في حياتنا العادية عندما نقول‪ :‬األم ور في قبض تنا‪ ،‬أو تحت س يطرتنا‪..‬‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫لكن المدرسة السلفية تفهم من النص غير ذلك تماما‪ ،‬فتورد لذلك حادث ة ق د تك ون‬

‫‪70‬‬
‫صحيحة ثابتة‪ ،‬ولكنها تسيء فهمها إساءة بليغة‪ ..‬وسنورد الحادثة‪ ،‬ثم نبين كيف فهمتها‬
‫المدرسة السلفية‪ ،‬وكيف فهمها المنزهة من المتكلمين وغيرهم‪ ..‬ثم نعرض ها بع د ذل ك‬
‫على العلم الحديث ليحكم بينهما‪.‬‬
‫والحادثة رواها عبد هللا بن مسعود قال‪ :‬جاء حبر من األحبار إلى رس ول هللا ‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا محمد‪ :‬إنا نجد أن هللا عز وجل يجعل الس موات على إص بع‪ ،‬واألرض ين على‬
‫إصبع‪ ،‬والشجر على إصبع‪ ،‬والماء والثرى على إصبع‪ ،‬وس ائر الخالئ ق على إص بع‪.‬‬
‫فيقول‪( :‬أنا الملك)‪ ،‬فضحك رسول هللا ‪ ‬حتى بدت نواجذه‪ ،‬تص ديقا لق ول الح بر‪ ،‬ثم‬
‫ْض تُهُ يَ وْ َم ْالقِيَا َم ِة‬
‫ق قَ ْد ِر ِه َواأْل َرْ ضُ َج ِمي ًع ا قَب َ‬
‫﴿و َم ا قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬ ‫ق رأ رس ول هللا ‪َ :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه ُس ْب َحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ [الزمر‪]67 :‬‬ ‫ط ِوي ٌ‬ ‫ات َم ْ‬ ‫َوال َّس َما َو ُ‬
‫والحادثة ال حرج في قبوله ا‪ ،‬ألن الكالم ال وارد فيه ا كالم يه ودي‪ ،‬وه و ممتلئ ـ‬
‫كعادة اليهود ـ بالتجسيم‪ ،‬لكن الخالف بين المنزهة والمجسمة في تفسير ضحك رس ول‬
‫هللا ‪ ،‬وتفسير قراءة رسول هللا ‪ ‬لآلية‪ ..‬فالمنزهة يرون أن ض حك رس ول هللا ‪‬‬
‫كان لخفة عقول اليهود‪ ،‬ولعدم تقديرهم هلل ح ق ق دره‪ ..‬ول ذلك ورد في أول اآلي ة قول ه‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬و َما قَ َدرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫ق قَ ْد ِر ِه﴾‬
‫يقول الفخر الرازي تعليقا على الرواية ـ نقال عن الزمخشري ص احب (الكش اف)‬
‫ـ‪( :‬وإنما ضحك أفص ح الع رب ألن ه لم يفهم من ه إال م ا يفهم ه علم اء البي ان من غ ير‬
‫تصور إمساك وال إصبع وال هز وال ش يء من ذل ك‪ ،‬ولكن فهم ه وق ع أول ك ل ش يء‬
‫وآخ ره على الزب دة والخالص ة‪ ،‬ال تي هي الدالل ة على الق درة الب اهرة‪ ،‬وأن األفع ال‬
‫(‪)2‬‬
‫العظام التي تتحير فيها األوهام وال تكتنهها األذهان هينة عليه)‬
‫لكن المدرسة السلفية لم تفهم ضحك رسول هللا ‪ ‬بهذا المعنى‪ ،‬ب ل فهمت من ه أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬أقر اليه ودي‪ ،‬وأعجب بكلمات ه‪ ،‬وربم ا يص ورون أن ه ‪ ‬اس تفاد منه ا‬
‫معرفة جديدة باهلل‪ ..‬ولذلك نراهم يرددون هذا الحديث في كل محل‪.‬‬
‫وعند عرض هذا الح ديث على العلم الح ديث يت بين لن ا م دى ض حالة م ا طرح ه‬
‫اليه ودي من مع ان تجس يمية‪ ..‬فق د ذك ر أن هللا تع الى (وض ع الس موات على إص بع‪،‬‬
‫واألرض ين على إص بع‪ ،‬والش جر على إص بع‪ ،‬والم اء وال ثرى على إص بع‪ ،‬وس ائر‬
‫الخالئ ق على إص بع)‪ ،‬انطالق ا من أن الس موات في حجمه ا ـ في تص وره ـ تس اوي‬
‫األرض‪ ،‬ولذلك وضعت السموات جميعا بنجومها ومجراته ا في أص بع‪ ،‬واألرض في‬
‫أصبع أخرى‪ ..‬وكأنها تساويها في الحجم أو الكتلة ‪..‬‬
‫وهذا خالف الحقائق العلمية التي تنص على أن األرض ال تساوي ش يئا أم ام ه ذا‬
‫الكون الواسع‪ ..‬وسننقل هنا بعض ما ذكره العلم الح ديث في ه ذا الج انب‪ ،‬ل نرى س قم‬
‫تلك التصورات التي تسربت إلى العقيدة اإلسالمية‪..‬‬

‫‪1‬‬
‫() ص حيح البخ اري ب رقم ( ‪ )7451 ،7415 ،7414‬والمس ند (‪ )1/429‬و‪2‬ص حيح مس لم ب رقم (‪ )2786‬وس نن‬
‫الترمذي برقم (‪ )3238‬والنسائي في السنن الكبرى برقم (‪.)11451‬‬
‫‪2‬‬
‫مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪.)473 /27‬‬ ‫()‬

‫‪71‬‬
‫فقد نص العلم الحديث في حقائق ه القطعية(‪ )3‬على أن ه ي دور ح ول الش مس ثماني ة‬
‫كواكب‪ ،‬بعضها م ا ه و أص غر من أرض نا وبعض ه م ا يف وق حجم أرض نا بأض عاف‬
‫مض اعفة‪ ،‬ف إذا علمن ا أن قط ر ك وكب األرض ه و ‪ 12742‬كم‪ ،‬ف إن قط ر ك وكب‬
‫المشتري أكبر كواكب المجموعة الشمسية هو ‪ 139822‬كم‪ ..‬أي أن ك وكب المش تري‬
‫يتسع إلى ‪ 1300‬أرض مثل أرض نا‪ .‬أم ا الش مس‪ ،‬ف إن قطره ا ه و ‪ 1.39‬ملي ون كم‪،‬‬
‫وهي تتسع إلى مليون و‪ 300‬ألف أرض من أرضنا‪.‬‬
‫أما شمسنا العمالقة هذه‪ ،‬فهي مقارنة بغيرها من النج وم فهي ليس ت عمالق ة‪ ،‬ب ل‬
‫هي قزم مقارنة بالعديد من النجوم األخرى‪ ،‬فنجم ة الش عرى اليماني ة مثالً‪ ،‬وهي ألم ع‬
‫نجوم السماء وقد عبدها البعض في الزمن الغابر بسبب شدة لمعانها وأقسم بها س بحانه‬
‫﴿وأَنَّهُ هُ َو َربُّ ِّ‬
‫الش ع َْرى ﴾ [النجم‪ ،]49 :‬ف إن حجمه ا‬ ‫وتعالى‪ ،‬حيث ق ال تع الى عنه ا‪َ :‬‬
‫أك بر من شمس نا بخمس م رات‪ .‬أم ا نجم قلب العق رب‪ ،‬وه و من ألم ع نج وم الس ماء‬
‫ويمكن رؤيته بالعين المجردة بسهولة فإن قطره يبلغ حوالي ‪ 1000‬ملي ون كم‪ ،‬أ ّم ا من‬
‫حيث الحجم‪ ،‬فه و أك بر من الش مس بح والي ‪ 512‬ملي ون م رّة‪ .‬ول و وض ع نجم قلب‬
‫العقرب مكان شمسنا البتلع مدار عطارد والزهرة واألرض والمريخ ولوص ل س طحه‬
‫الخارجي إلى ما بين مدار المريخ والمشتري‪.‬‬
‫وانطالقا مما سبق يتبين أن نجمنا الشمس عبارة عن نجم متواض ع مقارن ة بغ يره‬
‫من النجوم‪ ،‬وما سبب لمعان ه الش ديد ه ذا إال ألنّ ه أق رب النج وم إلى األرض‪ .‬وجمي ع‬
‫النج وم ال تي نراه ا في الس ماء ليال تق ع في مجرتن ا درب التبان ة‪ ،‬ويق در العلم اء أن‬
‫مجرتنا تحتوي ما بين ‪ 200‬و‪ 500‬مليار نجم‪ ،‬أحدها ه و الش مس‪ .‬أي أن هن اك ع دداً‬
‫هائالً من الش موس في مجرتن ا درب التبان ة‪ .‬ومجرتن ا درب التبان ة عب ارة عن ش يء‬
‫أن الضوء بسرعته‬ ‫عظيم وواسع‪ .‬حيث يبلغ قطرها حوالي ‪ 100‬ألف سنة ضوئية‪ .‬أي ّ‬
‫الهائلة التي تبلغ ‪ 300‬ألف كيلومتر في الثاني ة يحت اج إلى ‪ 100‬أل ف س نة ح تى يقط ع‬
‫مجرتنا من طرف إلى طرف مقابل‪ .‬وبلغة األرقام التي نعرفها ّ‬
‫فإن ه ذا يع ني أن قط ر‬
‫مجرتنا يساوي حوالي ‪ 950‬ألف مليوم مليون كم‪ ،‬أي قرابة مليوم مليون مليون كم‪.‬‬
‫لكن‪ ...‬مجرتنا ليست الوحيدة في هذا الكون‪ .‬فيق در العلم اء وج ود م ا بين ‪ 100‬و‬
‫‪ 200‬مليار مجرة أخ رى في الك ون‪ .‬ومم ا يث ير الدهش ة أن ع دد النج وم في مج رات‬
‫أخرى أكبر من عدد النجوم في مجرتنا‪ ،‬فمجرة الم رأة المسلس لة ال تي يمكن إعتباره ا‬
‫أقرب مجرة إلى مجرتنا تحتوي نح و ملي ون ملي ون نجم‪ .‬أي خمس ة أض عاف مجرتن ا‬
‫على أقل تقدير‪ .‬أ ّما أكبر مجرة مكتش فة ح تى اآلن فيق در ع دد نجومه ا بـ‪ 100‬ملي ون‬
‫مليون نجم‪ .‬ومعدل هذه األرقام يعني أن عدد النج وم في كونن ا الم رئي يس اوي واح داً‬
‫بجانبه ‪ 24‬صفراً‪ .‬أي ‪ 1000000000000000000000000‬نجم‪.‬‬
‫فأين هذه األعداد جميعا أمام ذلك التصور الذي نطق ب ه اليه ودي‪ ،‬وض حك علي ه‬

‫‪3‬‬
‫() الكون الواسع‪ ..‬حقائق فلكية‪ ،‬المهندس محمد شوكت عوده‪ ،‬مجلة البالغ‪ ،‬بت اريخ‪ 2012/01/13 :‬على الراب ط‪[ :‬‬
‫‪.]http://www.balagh.com/pages/tex.php?tid=274‬‬

‫‪72‬‬
‫رسول هللا ‪ ..‬وبين القرآن الكريم أنه تصور تافه وحقير‪..‬‬
‫لكن السلفيين ـ ولغ رامهم ب اليهود ـ آث روا م ا ذك ره اليه ودي‪ ،‬واعت بروه عقي دة‪،‬‬
‫وخالفوا بذلك العقل والنقل‪ ..‬وكل حقائق الوجود‪.‬‬
‫بل أضافوا إلى تلك الرواية رواي ات أخ رى رفعوه ا إلى الن بي ‪ ،‬وفس روا به ا‬
‫القرآن الكريم‪ ..‬وراحوا من خاللها يتب اهون على خص ومهم من المنزه ة‪ ،‬ب أنهم أك ثر‬
‫تعظيما هلل‪.‬‬
‫فمن الروايات التي أوردوها ما رواه أبو الشيخ في العظم ة يرفع ه إلى رس ول هللا‬
‫‪( :‬يطوي هللا عز وجل السموات السبع بم ا فيهن من الخالئ ق واألرض ين بم ا فيهن‬
‫من الخالئق يطوي كل ذلك بيمين ه فال ُي رى من عن د اإلبه ام ش يء وال ي رى من عن د‬
‫(‪)1‬‬
‫الخنصر شيء فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة)‬
‫ومنها ما ذكره ابن تيمية في (الرسالة العرشية)‪ ،‬حيث قال‪( :‬والح ديث م روي فى‬
‫الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعض ها بعض ا وفى بعض ألفاظ ه ق ال‪ :‬ق رأ‬
‫ْضتُهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة ﴾ [الزمر‪ ،]67 :‬ثم قال‪( :‬مطوي ة‬
‫﴿واأْل َرْ ضُ َج ِميعًا قَب َ‬
‫‪ ‬على المنبر‪َ :‬‬
‫فى كفه يرمى بها كما يرمى الغالم بالكرة)‪ ..‬وفى لفظ (يأخ ذ الجب ار س مواته وأرض ه‬
‫بيده فيجعلها فى كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة‪ :‬أنا هللا الواحد)‪ ،‬وقال‬
‫(‪)2‬‬
‫ابن عباس‪ :‬يقبض هللا عليهما‪ ،‬فما ترى طرفاهما بيده)‬
‫وقال‪( :‬وفي لفظ قال‪ :‬رأيت رسول هللا ‪ ‬على المنبر وه و يق ول‪( :‬يأخ ذ الجب ار‬
‫سمواته وأرضه‪ ،‬وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول‪ :‬أنا ال رحمن‪ ،‬أن ا المل ك‪،‬‬
‫أنا القدوس‪ ،‬أنا السالم‪ ،‬أنا المؤمن‪ ،‬أنا المهيمن‪ ،‬أنا العزيز‪ ،‬أنا الجبار‪ ،‬أنا المتكبر‪ ،‬أن ا‬
‫(‪)3‬‬
‫الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا‪ ،‬أنا الذي أعدتها‪ ،‬أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟)‬
‫والعجب أنهم – بما يروونه من خرافات وأساطير – صاروا يعتق دون أن األرض‬
‫تساوي السماوات في ضخامتها‪ ،‬ولهذا تجدهم يصححون الروايات ال تي تص ور أن هللا‬
‫يضع األرض في يد والسموات بما فيها من نجوم وكواكب وغيرها في يد أخ رى‪ ،‬لق د‬
‫قال ابن القيم يشرح ذلك‪ ،‬أو يصوره‪( :‬إذا كانت السموات الس بع في ي ده كالخردل ة في‬
‫يد أحدنا‪ ،‬واألرضون السبع في يده األخرى كذلك فكيف يق دره ح ق ق دره من أنك ر أن‬
‫يكون له يدان فضالً عن أن يقبض بهما شيئاً‪ ،‬فال يد عند المعطلة وال قبض في الحقيق ة‬
‫(‪)4‬‬
‫وإنما ذلك مجاز ال حقيقة له‪ ،‬وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب)‬
‫هذا مثال عن تصور السلفيين لعظمة هللا ‪ ..‬والمثال الثاني‪ ،‬وهم أيضا يك ثرون من‬
‫ذكره عند حديثهم عن العظمة الحسية الجس مية هلل‪ ،‬وهي ح ديثهم عن عظم ة الع رش‪..‬‬
‫وهو ـ وإن كان قد يكون صحيحا في بعض دالالت ه ـ لكن مش كلتهم ه و أنهم يربطون ه‬
‫باهلل‪ ،‬ال من زاوي ة قدرت ه على الخل ق واإلب داع‪ ،‬وإنم ا من زاوي ة عظم ة ذات هللا‪ ،‬أو‬
‫العظمة ‪)136(2/445‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫الرسالة العرشية (ص‪)18 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫الرسالة العرشية (ص‪)17 :‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الصواعق المرسلة ‪4/1364‬‬ ‫‪)(4‬‬

‫‪73‬‬
‫جسم هللا تعالى هللا عما يقولون علوا عظيما‪.‬‬
‫ذلك أنهم يتح دثون عن عظم ة الع رش‪ ،‬باعتب اره محال للجل وس‪ ،‬وبق در الج الس‬
‫يكون الكرسي‪ ،‬وبقدر الراكب يكون المركب‪ ..‬ولها نراهم يب الغون في وص ف عظم ة‬
‫الع رش‪ ..‬لي بينوا من خالل ه عظم ة حجم ال ذي يقع د علي ه‪ ،‬ولكنهم ال يعلم ون أن تل ك‬
‫األرقام التي يوردونها ال تساوي شيئا أمام ما اكتشفه العلم الحديث من عظمة الكون‪.‬‬
‫وسنورد هنا رواياتهم في ذلك‪ ،‬والحسابات التي ذكروه ا‪ ،‬واعتم دوها‪ ،‬ثم نقارنه ا‬
‫بما يقوله العلم الذي يبغضونه بشدة [علم الفلك الحديث]‬
‫وأول رواي ة يرفعونه ا للن بي ‪ ‬هي م ا رووه عن أبي ذر الغف اري ق ال‪ :‬دخلت‬
‫المسجد الحرام فرأيت رسول هللا ‪ ‬وحده فجلست إليه‪ ،‬فقلت‪ :‬ي ا رس ول هللا أيم ا آي ة‬
‫أنزلت عليك أفضل؟ قال‪( :‬آية الكرسي‪ ،‬ما السموات السبع في الكرسي إال كحلقة ملقاة‬
‫(‪)1‬‬
‫بأرض فالة‪ ،‬وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفالة على تلك الحلقة)‬
‫وهم يؤكدون ـ كعادتهم ـ ما يروونه عن النبي ‪ ‬بم ا يروون ه عن س لفهم إم ا من‬
‫باب التأكيد المجرد‪ ،‬أو لزياد الفائدة‪:‬‬
‫ومن باب التأكيد المجرد‪ ،‬ما رووه عن مجاهد من قول ه‪( :‬م ا الس موات واألرض‬
‫في العرش إال مثل حلقة في أرض فالة)(‪.)2‬‬
‫ومن من باب زيادة الفائدة ما رووه عن وهب بن منبه من قول ه‪( :‬الع رش مس يرة‬
‫(‪)3‬‬
‫خمسين ألف سنة)‬
‫ورووا عن ابن مس عود تحدي دا أك ثر دق ة للمس افة يمكن للفلك يين المعاص رين‬
‫االستفادة منه للوصول إلى محل العرش‪ ،‬فقد رووا عنه قوله‪( :‬بين السماء الدنيا وال تي‬
‫تليها خمسمائة ع ام‪ ،‬وبين ك ل س ماء خمس مائة ع ام‪ ،‬وبين الس ماء الس ابعة والكرس ي‬
‫خمسمائة عام‪ ،‬وبين الكرسي والماء خمس مائة ع ام‪ ،‬والع رش ف وق الم اء‪ ،‬وهللا ف وق‬
‫(‪)4‬‬
‫العرش ال يخفى عليه شيء من أعمالكم)‬
‫وقد فرحت المدرسة السلفية سلفها وخلفه ا به ذه الرواي ة‪ ،‬حيث ص ححها ابن القيم‬
‫في (اجتم اع الجي وش اإلس المية)(‪ ،)5‬ومثل ه ال ذهبي ـ م ع تش دده في التص حيح ـ في‬
‫(‪)6‬‬
‫(العلو)‬
‫أما موقف المعاصرين‪ ،‬فقد قال الشيخ ابن عثيمين‪( :‬هذا الحديث موقوف على ابن‬
‫مسعود‪ ،‬لكنه من األشياء ال تي ال مج ال لل رأي فيه ا‪ ،‬فيك ون له ا حكم الرف ع‪ ،‬ألن ابن‬

‫‪ )(1‬رواه نعيم في الحلية‪ ،)166 /1( :‬والبيهقي في األسماء والص فات‪ :‬ص ‪ ،511‬ق ال األلب اني في (الص حيحة)‪ :‬رقم‬
‫‪( :109‬وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح)‬
‫‪ )(2‬عبد هللا بن اإلمام أحمد في السنة‪ :‬ص ‪ ،71‬الدارمي في الرد على بشر المريسي‪ :‬ص ‪.74‬‬
‫‪ )(3‬أورده الذهبي في العلو‪ :‬ص ‪ ،61‬وأورده ابن كثير في البداية‪)11 /1( :‬‬
‫‪4‬‬
‫رواه ابن خزيمة في التوحيد ( ص ‪ ،) 105‬والبيهقي في األسماء والصفات ( ص ‪.) 401‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫اجتماع الجيوش اإلسالمية ( ص ‪.) 100‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫العلو ( ص ‪.) 64‬‬ ‫()‬

‫‪74‬‬
‫(‪)1‬‬
‫مسعود لم يُعرف باألخذ من اإلسرائيليات)‬
‫وقد اعتنى بها كذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب ال ذي اس تنبط منه ا فوائ د كث يرة‬
‫منها (‪ ..‬التاسعة‪ِ :‬عظَم الكرسي بالنسبة إلى الس ماء ‪ ..‬العاش رة‪ :‬عظم الع رش بالنس بة‬
‫(‪)2‬‬
‫إلى الكرسي ‪ ..‬الحادية عشرة‪ :‬أن العرش غير الكرسي والماء)‬
‫ولكن المشكلة هي أن هؤالء الذين اعتنوا برواي ة مس عود في تحدي د المس افات هم‬
‫أنفسهم الذين ص ححوا ح ديثا مرفوع ا للن بي ‪ ‬يعطي مس افات أخ رى‪ ،‬فق د رووا أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬ت درون كم بع د م ا بين الس ماء واألراض ين‪ ،‬ق الوا‪ :‬ال‪ ،‬ق ال‪ :‬إم ا‬
‫واحدة أو اثنتين أو ثالث وسبعين سنة‪ ،‬ثم السماء فوق ذلك‪ ،‬حتى عد س بع س موات‪ ،‬ثم‬
‫فوق السابعة بح ر بين أعاله وأس فله مث ل م ا بين س ماء إلى س ماء‪ ،‬ثم ف وق ذل ك كل ه‬
‫ثمانية أمالك أوعال‪ ،‬ما بين أظالفهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى س ماء‪ ،،‬ثم ف وق‬
‫ظهورهم العرش بين أعاله وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء‪ ،‬وهللا تعالى ف وق ذل ك)‬
‫(‪)3‬‬

‫وقد صحح ابن تيمية هذا الحديث‪ ،‬وقال‪( :‬إن هذا الحديث قد رواه إم ام األئم ة ابن‬
‫خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه ال يحتج فيه إال بما نقله الع دل عن الع دل‬
‫(‪)4‬‬
‫موصوال إلى النبي ‪ ،‬واإلثبات مقدم على النفي)‬
‫ومثله ابن جبرين الذي قال‪( :‬فهذا وما أشبهه مم ا أجم ع الس لف على نفل ه وقبول ه‬
‫(‪)5‬‬
‫ولم يتعرضوا لرده وال تأوله وال تشبيهه وال تمثيله)‬
‫ولكن اإلشكال الذي يع رض لن ا من ناحي ة االختالف في الحس اب بين الرواي تين‪،‬‬
‫حله ابن القيم بطريقة مبسطة تنفي اإلشكاالت والتناقضات بين الرواي ات فق ال‪..( :‬ف إن‬
‫المسافة يختلف تقديرها بحسب اختالف السير الواقع فيها‪ ،‬فسير البريد مثالً يقطع بقدر‬
‫سير ركاب اإلبل سبع مرات‪ ،‬وهذا معل وم ب الواقع فم ا تس يره اإلب ل س يراً قاص داً في‬
‫عش رين يوم ا ً يقطع ه البري د في ثالث ة فحيث ق در الن بي ‪ ‬بالس بعين أراد ب ه الس ير‬
‫السريع سير البريد وحيث ق در بالخمس مائة أراد ب ه الس ير ال ذي يعرفون ه س ير اإلب ل‬
‫(‪)6‬‬
‫والركاب‪ ،‬فكل منهما يصدق اآلخر ويشهد بصحته)‬
‫وبناء على هذا يمكن للرياضيين أن يعتمدوا المس افة األبع د‪ ،‬ليص لوا إلى التحدي د‬
‫الدقيق وفق الوحدات التي نستعملها في عصرنا الحاضر‪ ،‬وخاصة في علم الفل ك ال ذي‬
‫استغنى عن مسيرة اإلنسان ومسيرة الراحلة بمسيرة الضوء‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫القول المفيد شرح كتاب التوحيد ( ‪.) 379 / 3‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫شرح كتاب التوحيد ( ص ‪.. ) 668 ،667‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫() رواه ابن ماجه في سننه‪ ،‬المقدمة‪ ،‬باب فيما أنكرت الجهمية‪ ،)69 /1 ( :‬واإلمام أحمد في مسنده‪ ،)257 /1( :‬وأبو‬
‫داود في سننه‪ ،‬كتاب السنة‪ ،‬باب في الجهمية‪ ،)93 /5( :‬والدارمي في الرد على بشر المريسي‪ :‬ص ‪ ،448‬واآلجري في‬
‫الشريعة‪ :‬ص ‪ ،292‬والاللكائي في السنة‪)390 /3( :‬‬
‫‪4‬‬
‫() الفتاوى (‪ ،)3/192‬ومثله مال تلميذه ابن القيم إلى تصحيحه‪ ،‬انظر‪ :‬تهذيب التهذيب‪.)93 ،92 /7( :‬‬
‫‪ )(5‬وهو عبد هللا الجبرين في التعليقات على متن لمعة االعتقاد ‪84‬‬
‫‪6‬‬
‫حاشية ابن القيم‪.13/8‬‬ ‫()‬

‫‪75‬‬
‫والحسابات الفلكية الدقيقة تذكر أن المس افة بينن ا وبين جارن ا الق ريب القم ر تبع د‬
‫‪ 384‬ألف كم‪ ،‬ويحتاج الضوء إلى ثانية وثلث الثانية فق ط ليقط ع ك ل ه ذه المس افة من‬
‫القمر إلى األرض‪.‬‬
‫إن الض وء يحت اج إلى‬ ‫ً‬
‫أ ّما الشمس التي تبعد عنا حوالي ‪ 150‬مليون كم تقريب ا‪ ،‬ف ّ‬
‫‪ 8.3‬دقيقة ليصل منها إلى األرض‪.‬‬
‫أ ّما أقرب النجوم إلينا بعد الشمس وهي نجمة ألفا قنط ورس فإنّه ا تبع د عن ا ‪4.22‬‬
‫إن السنة الضوئية (المسافة التي يقطعها الضوء في س نة) تس اوي‬ ‫سنة ضوئية‪ ،‬وحيث ّ‬
‫‪ 9.46‬مليوم مليون كم‪ .‬فهذا يعني أن أقرب النجوم إلينا بعد الشمس تبع د عن ا نح و ‪40‬‬
‫مليون مليون كم‪.‬‬
‫أ ّما النجم القطبي الذي لطالما استخدمه الناس لإلهتداء عن الجهات‪ ،‬فإنّه يبع د عن ا‬
‫أن الض وء يحت اج إلى ‪ 433‬س نة ح تى يص ل إلين ا من ه‪ ،‬وه ذا‬ ‫‪ 433‬سنة ضوئية‪ ،‬أي ّ‬
‫يساوي نحو ‪ 4‬آالف مليوم مليون كم‪.‬‬
‫أ ّما أقرب مجرة إلينا وهي المرأة المسلسلة والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة من‬
‫مكان مظلم كبقعة غبشاء بحجم أي نجمة أخرى تقريبا ً فإنّها تبعد عن ا ‪ 2.5‬ملي ون س نة‬
‫ضوئية‪ ،‬أي نحو ‪ 24‬مليون مليون مليون كم‪..‬‬
‫أما أبعد جرم سماوي يمكن رؤيته بالعين المجردة ـ في الوقت الذي أكتب فيه ه ذه‬
‫الكلمات ـ فهي مجرة المثلث فإنها تبعد عنا ‪ 3‬ماليين سنة ض وئية‪ ،‬وم ا زال في كونن ا‬
‫ما هو أبعد من ذلك بكثير‪.‬‬
‫وحتى ندرك جيدا مدى ضحالة العقل السلفي وبدائيته نذكر نموذجا مص غرا ذك ره‬
‫الفلكيون لنظامنا الشمس ي وجيران ه في حديق ة م ا‪ ،‬ف إذا ك ان حجم األرض بحجم ك رة‬
‫إن القم ر س يكون بحجم ك رة التنس األرض ي تقريب اً‪ ،‬وسنض ع القم ر (ك رة‬ ‫الس لة‪ ،‬ف ّ‬
‫التنس) على بعد ‪ 7.4‬متر من األرض (كرة الس لة)‪ .‬أ ّم ا الش مس فس يكون قطره ا ‪26‬‬
‫م تراً (حجم م نزل) وس تقع على بع د ‪ 2.8‬كم من األرض (ك رة الس لة)‪ .‬أ ّم ا نجم ألف ا‬
‫قنطورس (أق رب النج وم إلين ا) فإنّ ه س يقع على بع د ‪ 177‬أل ف كم من األرض (ك رة‬
‫السلة)‪ .‬أما مجرتنا درب التبانة وهي الحديثة التي سنضع فيها نظامنا الشمسي فسيكون‬
‫طولها ‪ 17.6‬مليون مليون كم‪.‬‬
‫ولست أدري أين أضع األرقام الهزيلة التي وضعوها ‪ ..‬والتي تجعل الكون جميع ا‬
‫بعرشه وبفرشه ال يتجاوز المجموعة الشمسية في أحسن األحوال‪.‬‬
‫الكتلة‪:‬‬
‫مثلم ا أعطى الس لفيون األهمي ة الك برى لبي ان عظم حجم إلههم‪ ،‬فق د أول وا أهمي ة‬
‫كبرى لبيان ثقله العظيم‪ ..‬وق د اعتم دوا في ذل ك على مق دمتين ص حيحتين من الناحي ة‬
‫المنطقية‪:‬‬
‫األولى‪ :‬بيان عظمة حملة العرش وقدراتهم الهائلة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬هي بيان عجز وضعف هؤالء الحملة أمام العرش‪ ،‬وثقله عليهم‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫والنتيجة الضرورية لهذا هي أن هللا عظيم جدا‪..‬‬
‫ولكنا مع ذلك ‪ ..‬وبمعطيات العلم الحديث سنجد ك ل م ا ذك روه من ع رش وحمل ة‬
‫عرش بل ما فوق ذلك كله ال يساوي جرما من األج رام الس ماوية ‪ ..‬ب ل ق د ال يس اوي‬
‫ثقبا من الثقوب السوداء التي تمأل السماء‪.‬‬
‫وسنورد هنا بعض رواياتهم في ذلك‪ ،‬ومن ش اء أن ينظ ر م ا يقول ه العلم الح ديث‬
‫في ذل ك‪ ،‬فإن ه يمكن ه أن ي زور المواق ع الفلكي ة ليتأك د بنفس ه‪ ..‬ويستحس ن للم تردد أو‬
‫المتذبذب بين التنزيه والتجسيم أن يزور المواقع الفلكية اإلس المية ألن المواق ع الفلكي ة‬
‫الكافرة ال ثقة فيها ـ كما يقول السلفيون ـ‬
‫ول و ك ان ه ذا الم تردد يع رف الق رآن الك ريم‪ ،‬ويعظم ه‪ ،‬ولم يتلطخ بتحريف ات‬
‫التفاسير له‪ ،‬فيمكنه فقط أن يجلس ويتأمل في قول ه تع الى‪﴿ :‬فَاَل أُ ْق ِس ُم بِ َم َواقِ ِع النُّ ُج ِ‬
‫وم (‬
‫‪َ )75‬وإِنَّهُ لَقَ َس ٌم لَوْ تَ ْعلَ ُمونَ َع ِظي ٌم﴾ [الواقعة‪ ]76 ،75 :‬ليجد الحقيقة ناصعة واض حة ال‬
‫تحتاج ال إلى ابن خزيمة وال إلى ابن تيمية وال إلى غيرهما‪.‬‬
‫وأول الروايات وأشهرها وأكثرها تداوال في المصادر السلفية هي ما يروون ه عن‬
‫رسول هللا ‪ ‬من قوله‪( :‬أذن لي أن أحدث عن ملك من مالئك ة هللا من حمل ة الع رش‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)‬
‫ويروون عن ابن عباس قوله‪( :‬حملة العرش ما بين كعب أح دهم إلى أس فل قدمي ه‬
‫(‪)2‬‬
‫مسيرة خمسمائة عام‪ ،‬وزعموا أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب)‬
‫وقد سبق أن أشرنا إلى عظم خلق هؤالء المالئكة‪ ،‬وإلى أنواعهم وأشكالهم أيض ا ـ‬
‫كما توردها المصادر السلفية ـ وغرضنا هنا هو أن نبين أن هؤالء المالئك ة م ع ق وتهم‬
‫العظيمة ال يطيقون هذا الحمل العظيم الذي ذكره أحد أعالمهم المتقدمين‪ ،‬وهو خالد بن‬
‫(إن الرحمن ج ل وع ز س بحانه ليثق ل على حمل ة الع رش من‬ ‫معدان بكل جرأة‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫(‪)3‬‬
‫أول النهار إذا قام المشركون‪ ،‬حتى إذا قام ال ُم َسبِّحُونَ ُخفِّفَ عن حملة العرش)‬
‫وهذه الرواية قد تفي د الب احثين في معرف ة الخص ائص العجيب ة ال تي يتص ف به ا‬
‫العرش الذي ي ؤمن ب ه الس لفية‪ ،‬وه و أن ه يخ ف ويثق ل بحس ب التس بيح‪ ..‬فيخ ف عن د‬
‫التسبيح‪ ،‬ويثقل عند عدمه‪ ..‬ولعل هذا أيضا م ا يجع ل الس لفي يمن على حمل ة الع رش‬
‫عند قيامه بالتسبيح لما يؤدي ذلك من تخفيف الحمل عليهم‪.‬‬
‫وقد رويت روايات كثيرة تذكر أطيط العرش(‪ ،)4‬وتربطه بثقل هللا عليه‪ ..‬ومنها م ا‬

‫‪ )(1‬رواه أبو داود في كت اب الس نة ب اب في الجهمي ة رقم ‪3701‬الح ديث‪ :‬س كت عن ه المن ذري وق ال المن اوي‪ :‬إس ناده‬
‫صحيح كما رمز السيوطي لذلك‪ .‬راجع عون المعبود ‪ 13/36‬وفيض القدير ‪)1/458‬‬
‫‪ )(2‬البيهقي في األسماء والصفادت‪ :‬ص ‪،505‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه عبدهللا بن اإلم ام أحم د في الس نة(رقم‪ ،)1026‬وال دينوري في المجالس ة(رقم‪ )2812 ،23‬انظ ر‪ :‬اجتم اع‬
‫الجيوش اإلسالمية(ص‪.)252/‬‬
‫‪ )(4‬األطيط‪ :‬نقيض صوت المحامل والرحال إذا ثق ل عليه ا الركب ان‪ ،‬وأط الرح ل والنس ع يئ ط أط ا وأطيط ا‪ :‬ص وت‪،‬‬
‫وكذلك كل شيء أشبه صوت الرحل الجديد‪ .‬لسان العرب‪)92 /1( :‬‬

‫‪77‬‬
‫رووه عن عم ر أن ه ق ال‪( :‬إذا جلس ع ز وج ل على الكرس ي ُس ِم َع ل ه أطي ط كأطي ط‬
‫وكيع فغض ب وكي ٌع‬‫الرحل الجديد)‪ ،‬وقد ذكر في الرواية (فاقشعر رجل َس َّماهُ أبي عند (‪ٍ )1‬‬
‫وقال‪ :‬أدركنا األعمش وسفيان يُ َح ِّدثُونَ بهذه األحاديث الينكرونها)‬
‫وقد علق البغوي على هذه الرواية بقوله‪( :‬ه ذا ح ديث أورده أب و داود س ليمان بن‬
‫األشعث في الرد على الجهمية والمعتزلة‪ .‬قال أبو سليمان الخطابي‪ :‬وقول ه‪( :‬إن ه ليئ ط‬
‫به) معناه‪ :‬إنه ليعجز جالله وعظمت ه ح تى يئ ط ب ه‪ ،‬إذ ك ان معلوم ا أن أطي ط الرح ل‬
‫(‪)2‬‬
‫بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله)‬
‫وقد رووا أنه لشدة قرب أه ل الجن ة من هللا تع الى يس معون ص وت األطي ط‪ ،‬فق د‬
‫رووا عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬سلوا هللا جنة الفردوس‪ ،‬فإنها صرة الجنة‪ ،‬وإن أه ل‬
‫(‪)3‬‬
‫الفردوس ليسمعون أطيط العرش)‬
‫وق د اعت بر ابن القيم اإليم ان باألطي ط من العقائ د اإلس المية الك برى‪ ،‬فق ال في‬
‫نونيته(‪:)4‬‬
‫ذاك الصدوق الحافظ الرباني‬ ‫واذكر حديثا البن اسحاق الرضى‬
‫إلى الرسول بربه المنان‬ ‫في قصة استسقائهم يستشفعون‬
‫هللا رب العرش أعظم شان‬ ‫فاستعظم المختار ذاك وقال شأن‬
‫سبحان ذي الملكوت والسلطان‬ ‫هللا فوق العرش فوق سمائه‬
‫قد أط رحل الراكب العجالن‬ ‫ولعرشه منه أطيط مثل ما‬
‫الجهمي إذ يرميه بالعدوان‬ ‫هلل ما لقي ابن اسحاق من‬
‫يروي يوافق مذهب الطعَّان‬ ‫ويظل يمدحه إذا كان الذي‬
‫ويبدو من خالل الروايات التي يروونه ا وينتص رون لص حتها أن المالئك ة حمل ة‬
‫العرش يعانون كثيرا بسبب الثقل الكبير‪ ،‬وقد أوردوا من الروايات ما يوض ح م واقيت‬
‫ذلك بدقة‪ ،‬فقد رووا عن ابن مسعود أنه ق ال‪( :‬إن ربكم ليس عن ده لي ل وال نه ار‪ .‬ن ور‬
‫السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة‪ ،‬فتعرض‬
‫عليه أعمالكم باألمس أول النهار‪ ،‬اليوم فينظر فيها ثالث س اعات فيطل ع فيه ا على م ا‬
‫يكره‪ ،‬فيغيظه ذلك‪ ،‬فأول من يعلم بغضبه الذين يحمل ون الع رش يجدون ه يثق ل عليهم‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه عبدهللا في السنة(رقم‪ ،)587‬والخطيب في تاريخ بغداد(‪ ،)8/52‬وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة(‪.)2/67‬‬
‫‪2‬‬
‫() شَرْ ُح ال ُّسنَّ ِة(‪.)176-1/175‬‬
‫‪ )(3‬ابن بطة في اإلبانة‪ :‬ق ( ‪ /195‬ب)‪ ،‬والحاكم في المستدرك‪ ،)371 /2( :‬والطبراني في المعجم الكبير‪ :‬ص ‪.7966‬‬
‫‪ )(4‬شرح قصيدة ابن القيم ‪ 1/522‬وانظر اجتماع الجيوش ‪. 50‬‬

‫‪78‬‬
‫فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات العرش والمالئكة المقربون وسائر المالئك ة)‬
‫(‪)1‬‬

‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فهم ال يع انون فق ط ـ بحس ب رواي اتهم ـ من غض ب هللا‪ ،‬ب ل‬
‫يعانون أيضا من رضاه‪ ،‬ألن رضاه أيض ا يح دث اه تزازا في الع رش‪ ،‬فق د رووا عن‬
‫(‪)2‬‬
‫النبي ‪ ‬أنه قال‪( :‬اهتز العرش لحب لقاء هللا سعدا)‬
‫ورووا عن عن امرأة من األنصار يقال لها أسماء بنت قيس بن الس كن ق الت‪ :‬لم ا‬
‫توفي سعد بن مع اذ ص احت أم ه‪ ،‬فق ال له ا رس ول هللا ‪( :‬ال يرق أ دمع ك وي ذهب‬
‫(‪)3‬‬
‫حزنك‪ ،‬فإن ابنك أول من ضحك هللا له واهتز له عرش الرحمن)‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فهم يروون أن حملة العرش ال يستطيعون رف ع أبص ارهم من‬
‫ش دة الن ور‪ ،‬وق د ق ال بعض س لفهم في ذلك ـ‪( :‬أرجلهم في التخ وم‪ ،‬ال يس تطيعون أن‬
‫(‪)4‬‬
‫يرفعوا أبصارهم من شعاع النور)‬
‫وال يكتفي السلفيون بأمثال هذه الروايات‪ ،‬بل إنهم يؤولون الق رآن الك ريم لينس جم‬
‫مع هذه المعاني التجس يمية‪ ،‬فهم ي روون عن ابن عب اس قول ه في تفس ير قول ه تع الى‪:‬‬
‫ات يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْن فَ وْ قِ ِه ّن﴾‪( :‬ممن ف وقهن من الثق ل)‪ ،‬وفي رواي ة (يع‪## #‬ين من‬
‫﴿تَ َكا ُد ال َّس َما َو ُ‬
‫(‪)5‬‬
‫ثقل الرمحن وعظمته‪ -‬تبارك وتعاىل‪)-‬‬
‫وهكذا صارت عظمة هللا بالمفهوم السلفي تعني ثقله الشديد‪ ،‬وحجمه الكبير‪.‬‬
‫المقادير الصغرى‪:‬‬
‫ومشكلة هذا النوع من المقادير أنه مع وفائه م ع الرواي ات ال تي يحمله ا الس لفيون‬
‫على ظاهره ا‪ ،‬وال تي تتعل ق بالرؤي ة وبس كن هللا م ع المؤم نين في الجن ة‪ ،‬وبال دنو‬
‫والمماسة وغيرها‪ ،‬كما سنراه في محله إال أنها ال تتف ق م ع العظم ة ال تي ذكروه ا في‬
‫المقادير السابقة‪.‬‬
‫وهنا تحصل رجة كب يرة للعق ل الس لفي‪ ،‬فيق رر حينه ا االنتح ار‪ ..‬ألن الجم ع بين‬
‫الحجم الكب ير ج دا‪ ،‬والص غير ج دا ال يمكن إال في حال ة واح دة هي االنكم اش‪ ،‬أو‬
‫التشكل‪ ..‬وكالهما يحمالن من المستحيالت العقلية ما ال يمكن حصره‪.‬‬
‫ولهذا يفر العقلي السلفي إلى تح ريم اس تعمال العق ل‪ ..‬والعجب في ذل ك أن ه ي ذكر‬
‫‪1‬‬
‫() الطبراني في الكبير‪ ،‬حديث ‪ ،200 /9 ،8886‬ونقض اإلمام أبي س عيد عثم ان بن س عيد على المريس ي الجهمي‬
‫العنيد فيما افترى على هللا عز وجل من التوحيد (‪)476 /1‬‬
‫‪ )(2‬ابن أبي شيبة في المصنف‪ ،)12366( :‬وابن س عد في الطبق ات‪ ،)3/433( :‬والح اكم في المس تدرك‪،)206 /3( :‬‬
‫وأورده الذهبي في العلو‪ :‬ص‪.71‬‬
‫‪ )(3‬ابن خزيمة في التوحيد‪ :‬ص ‪ ،237‬واإلم ام أحم د في المس ند‪ ،)456 /6( :‬وفي فض ائل الص حابة‪ ،)1500( :‬وابن‬
‫سعد‪ ،)434 /3( :‬وابن أبي شيبة في المصنف‪ ،)12368( :‬والحاكم في المستدرك‪ ،)3/306( :‬والط براني في الكب ير‪( :‬‬
‫‪ ،)6/14‬وابن أبي عاصم في السنة‪)2/246( :‬‬
‫‪ )(4‬ابن جرير في تفسيره‪)29/59( :‬‬
‫‪ )(5‬الحاكم في مستدركه‪ ،)442 / 2( :‬وابن جرير في تفسيره‪)25/7( :‬‬

‫‪79‬‬
‫ألفاظا ليس لها إال داللة واحدة‪ ،‬ثم يقول بعدها بال كيف‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك أن ه ي ذكر األع داد كم ا رأين ا ذل ك س ابقا‪ ..‬وه ل يمكن لألع داد أن‬
‫تكون لها كيفيات‪ ..‬ومثل ذلك ـ كما سنرى ـ يذكر األلوان‪ ،‬واللون األخضر خصوصا‪..‬‬
‫ثم يقول‪ :‬بال كيف‪ ..‬وهل يمكن أن يكون األخضر غير األخضر؟‬
‫ومن أمثلة الحجم الصغير للجسم الذي يعتقدونه لإلله ما رووه عن عن عب د هللا بن‬
‫سلمة أنه قال‪ :‬أرسل ابن عمر إلى ابن عباس يسأله‪ ،‬هل رأى محمد رب ه‪ ،‬فأرس ل إلي ه‬
‫ابن عباس‪ :‬أن نعم‪ ،‬قال‪ :‬فرد عليه ابن عمر رسوله‪ :‬أن كيف رآه‪ ،‬قال‪ :‬رآه في روضة‬
‫خض راء روض ة من الف ردوس دون ه ف راش من ذهب‪ ،‬على س رير من ذهب‪ ،‬يحمل ه‬
‫أربعة من المالئكة‪ ،‬ملك في صورة رجل‪ ،‬ومل ك في ص ورة ث ور‪ ،‬ومل ك في ص ورة‬
‫أسد‪ ،‬وملك في صورة نسر(‪.)1‬‬
‫فهذا الحديث‪ ،‬وبهذه الصورة ال يمكن حمله إال على جسم صغير‪ ،‬أو هو أقل بكثير‬
‫من حجم الكواكب والنجوم والمجرات ‪ ..‬بل إن رؤيت ه في روض ة خض راء ي دل على‬
‫أن الروضة أكبر منه‪ ..‬والسرير الذي يحمله أكبر منه‪.‬‬
‫ومن الروايات القريبة من هذا ما رووه عن أنس بن مالك قال‪ :‬س معت رس ول هللا‬
‫‪ ‬يقول‪( :‬أتاني جبريل فقال‪ :‬إن الرب اتخذ في الجنة واديا من مس ك أفيح‪ ،‬ف إذا ك ان‬
‫ي وم الجمع ة في نزل عن كرس يه من عل يين‪ ،‬وح ف الكرس ي بمن ابر من ذهب مكلل ة‬
‫بالجواهر‪ ،‬ويجيء النبيون فيجلسون على تلك المنابر‪ ،‬ثم ينزل أه ل الغ رف فيجلس ون‬
‫على ذلك الكثيب‪ ،‬ويتجلى لهم ربهم‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا ال ذي ص دقتكم وع دي‪ ،‬وأتممت عليكم‬
‫نعمتي‪ ،‬وهذا محل كرام تي فاس ألوني ق ال‪ :‬فيس ألونه الرض ا‪ ،‬ق ال‪ :‬فليس وا إلى ش يء‬
‫(‪)2‬‬
‫أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا النظر إلى وجه ربهم ‪ -‬عز وجل‪)-‬‬
‫فصورة هذا الحديث كذلك تدل على أن الحجم والمقادير محدودة جدا‪ ،‬ب ل ك أن هللا‬
‫ع ز وج ل في ه ذا الح ديث ال يختل ف عن أولئ ك المل وك ال ذين يجمع ون حاش يتهم‪،‬‬
‫ويصلونهم بأنواع الصالت‪.‬‬
‫ومن الروايات الواردة في هذا عن أبي النض رة ق ال‪ :‬خطبن ا ابن عب اس بالبص رة‬
‫على هذا المنبر فقال‪ :‬قال رسول هللا ‪( :‬آتي ب اب الجن ة فآخ ذ بحلق ة الب اب‪ ،‬ف أقرع‬
‫الباب‪ ،‬فيقال لي‪ :‬من أنت؟ فأقول‪ :‬أنا محمد؟ فيفتح لي‪ ،‬فيتجلى لي ربي عز وجل فأخر‬
‫(‪)3‬‬
‫له ساجدا وهو على سريره أو على كرسيه‪ -‬شك حماد‪)-‬‬
‫وفي رواية أخرى‪( :‬حتى آتي الجنة فأخذ بحلقة الب اب‪ ،‬فأس تفتح‪ ،‬فيفتح لي‪ ،‬وأحي ا‬
‫وي رحب بي؟ ف إذا دخلت الجن ة نظ رت إلى ربي‪ -‬ع ز وج ل‪ -‬على عرش ه فخ ررت‬
‫ساجدا)‬
‫وقد ورد في الرواية في صحيح البخ اري أن الن بي ‪ ‬يس تأذن على هللا في داره‪،‬‬
‫‪ )(1‬رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد‪ :‬ص ‪ ،198‬واآلجري في الشريعة‪ :‬ص ‪ ،494‬وعبد هللا بن اإلمام أحمد في كتاب‬
‫السنة‪ :‬ص ‪ ،35‬والبيهقي في األسماء والصفات‪ :‬ص ‪.558 -557‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية‪ :‬ص ‪ ،45‬وعبد هللا بن اإلمام أحمد في كتاب السنة‪ :‬ص ‪ ،49 ،48‬وال ذهبي‬
‫في العلو‪ :‬ص ‪ .28‬قال الذهبي‪ :‬هذا حديث مشهور وافر الطرق‪.‬‬
‫‪ )(3‬الدارمي في الرد على بشر المريسي‪ :‬ص ‪ ،347‬أحمد في مسنده‪)296 -295 ،282 -281 /1( :‬‬

‫‪80‬‬
‫فق د ورد فيه ا الح ديث به ذه الص يغة‪ ،‬ق ال ابن القيم‪( :‬وفي بعض ألف اظ البخ اري في‬
‫صحيحه (فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه)‪ ،‬ق ال عب د الح ق في الجم ع بين‬
‫الصحيحين هكذا قال في داره في المواضع الثالث يريد مواضع الشفاعات ال تي يس جد‬
‫(‪)1‬‬
‫فيها ثم يرفع رأسه)‬
‫وقال الشيخ ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحي د من ص حيح البخ اري على‬
‫هذا الح ديث‪( :‬ه ذا الح ديث ليس في ه إش كال إال قول ه‪( :‬أس تأذن على ربي في داره )‪،‬‬
‫فيقال‪ :‬إن دار هللا عزوجل التي جاءت في ه ذا الح ديث ال تش به دور البش ر‪ ،‬تكن ه من‬
‫الحر ومن البرد ومن المطر‪ ،‬ومن الرياح‪ ،‬لكن هي دار هللا أعلم بها)‬
‫وه ذا أيض ا ي دل على الحجم الص غير إللههم مقارن ة بحجم داره‪ ،‬ألن ال دار في‬
‫العادة أكبر من صاحبها‪ ..‬وهذا الحديث ـ وهو في صحيح البخاري كما ذكرن ا ـ يجع ل‬
‫السلفيين في حيرة من أمرهم‪:‬فهل إلههم فوق العرش؟ أم أنه في داره في الجنة؟‪ ..‬أم أنه‬
‫في السماء الدنيا‪..‬؟‬
‫بل ورد في بعض األحاديث التي اهتم بها جميع السلفيين بمن فيهم ابن تيمي ة وابن‬
‫القيم ما يدل على أن إلههم ينزل إلى األرض‪ ..‬وهو في هذه الحالة أصغر منها بكثير‪..‬‬
‫وقد ذكر ابن تيمية في غ رائب ح ديث ال نزول ه ذه الرواي ة ال تي تطفح بالتجس يم‬
‫ع على ظهره ا من ش يء إال م ات‬ ‫والتش بيه‪( :‬ثم تبعث الص يحة فلَ َع ْم ر إله ك م ا ت د ُ‬
‫والمالئكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يط وف في األرض وخلت علي ه البالد‬
‫فأرسل ربك ع ز وج ل الس ماء‪ ..‬قلت ي ا رس ول هللا فم ا يعم ل بن ا ربن ا ج ل وع ز إذا‬
‫لقيناه ؟ قال تعرضون عليه بادية له ص فحاتكم ال تخفى علي ه منكم خافي ة فيأخ ذ رب ك‬
‫عز وجل بيده غرفة من الماء فينض ح قِبَلكم به ا فلعم ر إله ك م ا يخطىء وج ه أح دكم‬
‫(‪)2‬‬
‫منها قطرة)‬
‫فه ذه الرواي ة تص ور هللا العلي العظيم وه و يط وف في األرض‪ ،‬وتص وره وه و‬
‫يأخذ بيده غرفة من الماء فينضح به ا‪ ..‬وق د ق ال ابن القيم تلمي ذ ابن تيمي ة النجيب بع د‬
‫إيراده الرواية‪( :‬هذا حديث كب ير جلي ل تن ادي جاللت ه وفخامت ه وعظمت ه على أن ه ق د‬
‫خ رج من مش كاة النب وة ال يع رف إال من ح ديث عب د ال رحمن بن المغ يرة بن عب د‬
‫الرحمن المدني رواه عنه إب راهيم بن حم زة الزب يري‪ ،‬وهم ا من كب ار علم اء المدين ة‬
‫ثقت ان محتج بهم ا في الص حيح‪ ،‬احتج بهم ا إم ام أه ل الح ديث محم د بن إس ماعيل‬
‫البخاري‪ .‬ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتس ليم واالنقي اد ولم‬
‫يطعن أح د منهم في ه وال في أح د من روات ه‪ .‬فممن رواه اإلم ام ابن اإلم ام أب و عب د‬
‫ال رحمن عب د هللا بن أحم د بن حنب ل في مس ند أبي ه وفي كت اب الس نة‪ ..‬ومنهم الحاف ظ‬
‫الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة ل ه‪ ،‬ومنهم الحاف ظ‬
‫أب و أحم د محم د بن أحم د بن إب راهيم بن س ليمان العس ال في كت اب المعرف ة‪ ،‬ومنهم‬
‫الحافظ أبو محم د عبدهللا بن محم د بن حي ان أب و الش يخ األص بهاني في كت اب الس نة‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫() اجتماع الجيوش اإلسالمية (‪.)53‬‬
‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى (‪)184 /4‬‬

‫‪81‬‬
‫ومنهم الحاف ظ أب و عبدهللا محم د بن إس حاق بن محم د بن يح يى بن من دة حاف ظ‬
‫(‪)1‬‬
‫أصبهان‪.. ،‬وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم)‬
‫بل إنه يرتب على منكر هذا حكم ا خط يرا‪ ،‬فينق ل عن س لفه أبي عب د هللا بن من دة‬
‫(‪)2‬‬
‫مقرا له‪( :‬وال ينكر هذا الحديث إال جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة)‬
‫ثم ال يكتفي بذلك‪ ..‬بل يذهب يفسر الحديث حرف ا حرف ا يس تنبط من ه ك ل ص نوف‬
‫التجسيم والتشبيه‪ ،‬فيقول‪( :‬وقوله فيظل يضحك هو من ص فات أفعال ه س بحانه وتع الى‬
‫ال تي ال يش بهه فيه ا ش يء من مخلوقات ه كص فات ذات ه‪ ،‬وق د وردت ه ذه الص فة في‬
‫أحاديث كثيرة ال سبيل إلى ردها كما ال سبيل إلى تشبيهها وتحريفه ا‪ ..‬وك ذلك فأص بح‬
‫ربك يطوف في األرض هو من صفات فعله‪..‬والكالم في الجميع ص راط واح د مس تقيم‬
‫إثب ات بال تمثي ل بال تحري ف وال تعطي ل‪ ..‬وقول ه‪ :‬فيأخ ذ رب ك بي ده غرف ة من الم اء‬
‫فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي ه و النض ح)‬
‫(‪)3‬‬

‫وقد علم ابن تيمية اإلشكاالت التي قد تطرح من وراء هذه الرواي ة‪ ،‬وأنه ا تقض ي‬
‫على ك ل م ا ص وروه عن د ذك ر الع رش من عظم ة هللا‪ ،‬فق ال ـ ردا عليهم بغلظت ه‬
‫المعهودة ـ‪( :‬يقال لهذا البَ ْقبَاق النفاخ إن هللا أعظم من كل شيء وأكبر من كل خل ق ولم‬
‫يحمله العرش ِعظَ ًما والقوة وال حملة العرش حملوه بقوتهم وال استقلوا بعرش ه ولكنهم‬
‫ض عفوا‬‫حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه َ‬
‫وجثَوا على ُر َكبِهم حتى لُقّنوا ال حول وال قوة إال باهلل فاس تقلوا ب ه‬
‫عن حمله واستكانوا َ‬
‫بقدرة هللا وإرادته ولوال ذلك ما اس تق ّل ب ه الع رش وال الحمل ة وال الس موات واألرض‬
‫(‪)4‬‬
‫وال من فيهن ولو قد شاء الستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به)‬
‫وهكذا تنتهي حدود عظمة هللا عند السلفية إلى هذه الحكمة التيمي ة العظيم ة‪( :‬ول و‬
‫قد شاء الستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به)‬

‫زاد المعاد ‪. 682-3/677‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫زاد المعاد ‪. 682-3/677‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫زاد المعاد ‪. 682-3/677‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)242 /3‬‬ ‫‪)(4‬‬

‫‪82‬‬
‫أعضاء ‪ ..‬ووظائف‬
‫يرى أصحاب الرؤية التنزيهية ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرف ان‬
‫ـ أن من مقتضيات تقديس هللا تعالى عن الح دود والمق ادير وم ا يل زم عنهم ا‪ ،‬ويرتب ط‬
‫بهما‪ ،‬كونه تعالى مقدس ا أيض ا عن ال تركيب واألعض اء وم ا ش اكلهما‪ ،‬ألن ال تركيب‬
‫تعدد‪ ،‬والتعدد شرك‪ ..‬والمركب فقير‪ ،‬وهللا غني‪..‬‬
‫ّ‬
‫ف الجزء في ال تركيب مق ّدم على الك ل ‪ ..‬وك ّل ج زء من الم ركب مغ اير لغ يره‪..‬‬
‫وبذلك يكون المر ّكب مفتقراً إلى أجزائه‪ ..‬وغنى هللا تعالى المطلق يحيل عليه كل أنواع‬
‫االفتقار‪.‬‬
‫إن األج زاء ال تي س تركب منه ا ال‬ ‫ثم إنه لو افتقرت الذات اإللهية إلى التركيب‪ ،‬ف ّ‬
‫تخلو من أن تكون أجزاء قديمة‪ ،‬فيلزم تع ّدد القدماء‪ ،‬وه ذا باط ل‪ ..‬أو أن تك ون أج زاء‬
‫حادثة‪ ،‬فيلزم تركيب الواجب من أجزاء غير واجبة‪ ،‬وهذا باطل‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى ذلك كله‪ ،‬فإن المر ّكب بحاجة إلى من ير ّكبه‪ ،‬وهو منفي عن ال ذات‬
‫اإللهية‪ ،‬ألنها بذلك لن تبقى ذاتا إلهية‪..‬‬
‫ثم إن الكل المركب من أجزاء البد أن يكون ك ل ج زء من أجزائ ه عالم ا خ اص‪،‬‬
‫ويكون مختلفا عن سائر األجزاء اختالفا كليا ‪ ..‬وهو ب ذلك يك ون منع دما عن األج زاء‬
‫األخرى‪ ،‬ويكون بجوانبه األخرى منعدما عن هذا الجانب‪ ..‬فيلزم هذا األمر النقص في‬
‫جميع الجوانب‪ ،‬وبالتالي يستوجب هذا األمر النقص والقصور في الذات اإللهية‪ ،‬وه ذا‬
‫باطل‪.‬‬
‫ثم إنه لو كان هللا تعالى مر ّكبا ً من األجزاء لكان علمه وقدرته ثابتة لك ّل واح دة من‬
‫أجزائه المتغايرة‪ ،‬فيكون ك ّل جزء من هللا عالما ً قادراً‪ ،‬فتتع ّدد اآللهة‪ ،‬وهذا باطل(‪. )1‬‬
‫هذه بعض الوجوه العقلية البديهية التي يس تند إليه ا أص حاب الرؤي ة التنزيهي ة في‬
‫القول بالوحدة المطلقة هلل‪ :‬الوحدة المتصلة ‪ ..‬والوحدة المنفصلة‪.‬‬
‫ولهذا اعتبر جميع منزهة األمة من أشاعرة وماتريدي ة ومعتزل ة وإمامي ة وزيدي ة‬
‫وإباضية وصوفية أن من مقتضيات التوحي د نفي ال تركيب عن هللا تع الى‪ ،‬ألن ه ي دخل‬
‫ض من األرك ان الك برى للوح دة اإللهي ة‪ ،‬وال تي تش مل نفي ك ل أن واع الكمي ات (الكم‬
‫المتصل في الذات وه و تركبه ا من أج زاء‪ ..‬والكم المنفص ل فيه ا وه و تع ددها بحيث‬
‫(‪)2‬‬
‫يكون هناك إله ثان فأكثر)‬
‫ويشير إلى هذا النوع من التوحيد كل النص وص ال تي تخ بر عن تنزي ه هللا وغن اه‬
‫﴿وهَّللا ُ ْال َغنِ ُّي َوأَ ْنتُ ُم ْالفُقَ َرا ُء ﴾ [محم د‪ ،]38 :‬وقول ه‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ ا النَّاسُ‬
‫المطلق‪ ،‬كقوله تعالى‪َ :‬‬
‫أَ ْنتُ ُم ْالفُقَ َرا ُء إِلَى هَّللا ِ َوهَّللا ُ هُ َو ْال َغنِ ُّي ْال َح ِميدُ﴾ [فاطر‪]15 :‬‬
‫‪1‬‬
‫انظ ر في ال ردود على ال تركيب معظم كتب الكالم‪ ،‬ومنه ا‪ :‬كش ف الم راد‪ ،‬العالّم ة الحلّي‪ :‬ص ‪ ،405‬قواع د‬ ‫()‬
‫العقائدص ‪ ،68‬وغيرها من كتب العقائد‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫انظر تفاصيل ذلك في شرح الجوهرة ‪،152،153‬وحاشية ابن األمير ‪،140‬واالعتقاد والهداية للبيهقي ‪.52‬‬ ‫()‬

‫‪83‬‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء﴾ [الش ورى‪ ،]11 :‬وق د ق ال الفخ ر‬
‫وي دل علي ه قول ه تع الى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫الرازي في وجه داللتها على هذا النوع من التوحيد‪( :‬احتج علماء التوحيد قديما وحديثا‬
‫به ذه اآلي ة في نفي كون ه تع الى جس ما مركب ا من األعض اء واألج زاء وحاص ال في‬
‫المكان والجهة‪ ،‬وقالوا لو كان جسما لكان مثال لسائر األجسام‪ ،‬فيل زم حص ول األمث ال‬
‫واألشباه له‪ ،‬وذلك باطل بصريح قوله تعالى‪ :‬ليس كمثله شيء ويمكن إيراد هذه الحجة‬
‫على وجه آخر‪ ،‬فيقال إما أن يكون المراد ليس كمثل ه ش يء في ماهي ات ال ذات‪ ،‬أو أن‬
‫يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء‪ ،‬والثاني باطل‪ ،‬ألن العباد يوصفون بك ونهم‬
‫عالمين قادرين‪ ،‬كما أن هللا تع الى يوص ف ب ذلك‪ ،‬وك ذلك يوص فون بك ونهم معل ومين‬
‫مذكورين‪ ،‬مع أن هللا تعالى يوصف بذلك‪ ،‬فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيق ة‬
‫الذات‪ ،‬فيكون المعنى أن شيئا من الذوات ال يساوي هللا تعالى في الذاتي ة‪ ،‬فل و ك ان هللا‬
‫تعالى جسما‪ ،‬لكان كونه جسما ذات ا ال ص فة‪ ،‬ف إذا ك ان س ائر األجس ام مس اوية ل ه في‬
‫الجسمية‪ ،‬أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة‪ ،‬فحينئذ تك ون س ائر األجس ام‬
‫(‪)3‬‬
‫مماثلة لذات هللا تعالى في كونه ذاتا‪ ،‬والنص ينفي ذلك فوجب أن ال يكون جسما)‬
‫ويدل عليه داللة خاصة قوله تعالى‪﴿ :‬قُ لْ هُ َو هَّللا ُ أَ َح ٌد (‪[ ﴾ )1‬اإلخالص‪،]2 ،1 :‬‬
‫فاسم هللا األحد يشير إلى الوحدانية المطلقة هلل في جميع جوانبها‪.‬‬
‫باإلض افة إلى ه ذا‪ ،‬ف إن الرؤي ة التنزيهي ة هلل ت نزه هللا تع الى عن الحاج ة إلى‬
‫الجارحة أو أي آلة‪ ،‬فهو يس مع من غ ير حاج ة إلى أذن‪ ،‬ويبص ر من غ ير حاج ة إلى‬
‫عين‪ ،‬وهكذا يفعل كل شيء من غير حاجة ألي شيء‪ ،‬ألنه الغني بذاته عن ك ل ش يء‪،‬‬
‫فال يحتاج إلى شيء‪.‬‬
‫وه ذا أيض ا من المقتض يات العقلي ة ال تي ت نزه هللا عن األعض اء‪ ..‬فم ا حاج ة هللا‬
‫العظيم ألعضاء ال يستعملها؟‬
‫ه ذه هي الرؤي ة التنزيهي ة هلل تع الى‪ ..‬وهي ـ كم ا رأين ا ـ متوافق ة م ع الق رآن‬
‫والبرهان والعرفان‪ ..‬ويشهد لها كل شيء‪ ..‬وهي لبساطتها يسهل تقبلها والتس ليم له ا ‪..‬‬
‫وهي ال تثير من الشبهات ما يثيره اعتقاد التركيب‪..‬‬
‫أما الرؤية السلفية لهذه المسألة العقدية الخطيرة‪ ،‬فهي مختلفة تماما ‪ ..‬ولذلك تعتبر‬
‫ـ من وجهة نظر الرؤية التنزيهية ـ رؤية شركية‪ ،‬ألنه ا ال تنفي الكم المتص ل‪ ..‬وب ذلك‬
‫تقول بتعدد القدماء‪..‬‬
‫وله ذا أطل ق الفخ ر ال رازي على كت اب التوحي د البن خزيم ة وص ف (كت اب‬
‫الشرك)‪ ،‬ألنه اعتمد على ذكر ما يمكن اعتب اره أبعاض ا هلل‪ ..‬يق ول في ذل ك‪( :‬اعلم أن‬
‫محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدالل أصحابنا به ذه اآلي ة في الكت اب ال ذي س ماه‬
‫«بالتوحيد»‪ ،‬وهو في الحقيقة كتاب الشرك‪ ،‬واعترض عليها‪ ،‬وأنا أذكر حاصل كالم ه‬
‫بعد ح ذف التط ويالت‪ ،‬ألن ه ك ان رجال مض طرب الكالم‪ ،‬قلي ل الفهم‪ ،‬ن اقص العق ل‪،‬‬
‫فقال‪« :‬نحن نثبت هلل وجها ونقول‪ :‬إن لوج ه ربن ا من الن ور والض ياء والبه اء‪ ،‬م ا ل و‬

‫‪3‬‬
‫مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪)582 /27‬‬ ‫()‬

‫‪84‬‬
‫كشف حجابه ألحرقت سبحات وجهه كل شيء أدرك ه بص ره‪ ،‬ووج ه ربن ا منفي عن ه‬
‫(‪)1‬‬
‫الهالك والفناء‪ ،‬ونقول إن لبني آدم وجوها كتب هللا عليها الهالك والفناء‪)..‬‬
‫وبع د أن حكى كالم ه‪ ،‬وال ذي س نذكر أمثال ه في ه ذا الفص ل‪ ،‬رد علي ه بقول ه‪:‬‬
‫(وأقول‪ :‬هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال ه ذه الخراف ات ألن ه لم يع رف حقيق ة‬
‫المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكالم في المثلين‪ ،‬ثم فرعوا علي ه االس تدالل به ذه اآلي ة‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء﴾ [الشورى‪ ،]11 :‬فنقول المثالن هم ا الل ذان يق وم‬
‫[أي بقوله تعالى‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫كل واحد منهما مق ام اآلخ ر في حقيقت ه وماهيت ه‪ ،‬وتحقي ق الكالم في ه مس بوق بمقدم ة‬
‫أخرى فنقول‪ :‬المعتبر في كل شيء‪ ،‬إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيت ه وإم ا‬
‫أمر خارج عن ماهيته‪ ،‬ولكنه من لوازم تلك الماهية‪ ،‬وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه‬
‫ليس من ل وازم تل ك الماهي ة وه ذا التقس يم مب ني على الف رق بين ذات الش يء وبين‬
‫الصفات القائمة به وذلك معلوم بالبديهة‪ ،‬فإنا نرى الحب ة من الحص رم ك انت في غاي ة‬
‫الخض رة والحموض ة ثم ص ارت في غاي ة الس واد والحالوة‪ ،‬فال ذات باقي ة والص فات‬
‫مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة‪ ،‬وأيضا ن رى الش عر ق د ك ان في غاي ة‬
‫السواد ثم صار في غاية البياض‪ ،‬فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غ ير المتب دل‪،‬‬
‫فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات‪ .‬إذا عرفت هذا فنقول‪ :‬اختالف الصفات ال‬
‫يوجب اختالف الذوات البتة‪ ،‬ألنا نرى الجسم الواحد كان س اكنا ثم يص ير متحرك ا‪ ،‬ثم‬
‫يسكن بعد ذلك‪ ،‬فالذوات باقية في األحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد‪ ،‬والصفات‬
‫متعاقب ة متزايل ة‪ ،‬فثبت به ذا أن اختالف الص فات واألع راض ال ي وجب اختالف‬
‫الذوات‪ ،‬إذا عرفت هذا فنقول‪ :‬األجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مس اوية لألجس ام‬
‫التي تألف منها وجه اإلنسان والفرس وإنما حصل االختالف بسبب األع راض القائم ة‬
‫وهي األلوان واألشكال والخش ونة والمالس ة وحص ول الش عور في ه وع دم حص ولها‪،‬‬
‫فاالختالف إنم ا وق ع بس بب االختالف في الص فات واألع راض‪ ،‬فأم ا ذوات األجس ام‬
‫فهي متماثل ة إال أن الع وام ال يعرف ون الف رق بين ال ذوات وبين الص فات‪ ،‬فال ج رم‬
‫يقولون إن وجه اإلنسان مخالف لوجه الحمار‪ ،‬ولق د ص دقوا فإن ه حص لت تل ك بس بب‬
‫الش كل والل ون وس ائر الص فات‪ ،‬فأم ا األجس ام من حيث إنه ا أجس ام فهي متماثل ة‬
‫متساوية‪ ،‬فثبت أن الكالم ال ذي أورده إنم ا ذك ره ألج ل أن ه ك ان من الع وام وم ا ك ان‬
‫يع رف أن المعت بر في التماث ل واالختالف حق ائق األش ياء وماهياته ا ال األع راض‬
‫(‪)2‬‬
‫والصفات القائمة بها)‬
‫إلى آخر رده المفصل‪ ،‬وهو يرين ا م دى المعان اة ال تي يعانيه ا المنزه ة في إثب ات‬
‫أغراضهم للمجسمة‪ ..‬وخاصة مع بغض هم الش ديد للتحلي ل العقلي‪ ..‬فهم ال يري دون من‬
‫محاورهم إال أن يورد اآلثار والحكايات التي يتيسر على عقولهم هضمها‪.‬‬
‫ولهذا نراهم يواجهون المتكلمين أمثال الفخر الرازي وغيره بما سمعوه من س لفهم‬

‫‪1‬‬
‫مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪)582 /27‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪)583 /27‬‬ ‫()‬

‫‪85‬‬
‫من روايات تلقفوها كما يتلقفوا القرآن ‪ ..‬وألغوا بها عقولهم وفطرتهم وإنسانيتهم‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات التي يكثرون من االستدالل بها في هذا المقام خصوصا للدالل ة‬
‫ال َربِّ أَ ِرنِي‬ ‫على عدم انتف اء ال تركيب عن هللا م ا أوردوه في تفس ير قول ه تع الى‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫أَنظُرْ إِلَ ْيكَ قَا َل لَ ْن تَ َرانِي َولَ ِك ْن انظُ رْ إِلَى ْال َجبَ ِل فَ إِ ْن ْ‬
‫اس تَقَ َّر َم َكانَ هُ فَ َس وْ فَ تَ َرانِي فَلَ َّما‬
‫ص ِعقا ً ﴾[األعراف‪] 143 :‬‬ ‫تَ َجلَّى َربُّهُ لِ ْل َجبَ ِل َج َعلَهُ َد ّكا ً َو َخ َّر ُمو َسى َ‬
‫فقد رووا عن أنس عن الن بي ‪ ‬في قولـه تع الى‪ ﴿ :‬فَلَ َّما ت ََجلَّى َربُّهُ لِ ْل َجبَ ِل ﴾ ق ال‪:‬‬
‫هكذا‪ ،‬يعني أنه أخرج طرف الخنصر‪ ،‬قال أحمد أرانا معاذ قال‪ :‬فقال له حميد الطويل‪:‬‬
‫ما تريد إلى هذا يا أب ا محم د‪ ،‬ق ال‪ :‬فض رب ص دره ض ربة ش ديدة‪ ،‬وق ال من أنت ي ا‬
‫حميد؟ وما أنت يا حميد؟ يحدثني ب ه أنس بن مال ك عن الن بي ‪ ‬فتق ول أنت م ا تري د‬
‫(‪)1‬‬
‫إليه)‬
‫ْ‬
‫أن الن بي ‪ ‬ق رأ ه ذه اآلي ة ﴿ فَلَ َّما تَ َجلَّى َربُّهُ لِل َجبَ ِل‬ ‫وفي رواية أخ رى عن أنس‪َّ :‬‬
‫َج َعلَهُ َد ّكا ً﴾ قال حماد هكذا وأمسك س ليمان بط رف إبهام ه على أنمل ة إص بعه اليم نى‪،‬‬
‫ً (‪)2‬‬
‫قال‪ :‬فساخ الجبل وخَ َّر موسى صعقا)‬
‫ومن تلك الروايات ما يذكرونه عند وصف هللا بما يطلقون عليهما صفتي ْ‬
‫[الحُجْ زَ ةُ‬
‫َو ْال َح ْق ُو]‪ ،‬واللذان يعنيان في ظاهرهم ا [موض ع عق د اإلزار وش ده]‪ ،‬وي ذكرون أنهم ا‬
‫(صفتان ذاتيان خبريَّتان ثابتتان بالسنة الصحيحة)‪ ،‬ويس تدلون لهم ا بم ا رووه عن ابن‬
‫بحجزة الرحمن ؛ يصل من وصلها‪ ،‬ويقطع من قطعه ا)‬ ‫(إن الرحم شَجْ نَةٌ آخذةٌ ُ‬ ‫عباس‪َّ :‬‬
‫(‪)3‬‬

‫وبما رووه عن أبي هريرة قال‪( :‬خلق هللا الخل ق‪ ،‬فلم ا ف رغ من ه ؛ ق امت ال رحم‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫فأخذت بحقو الرحمن‪ ،‬فقال‪ :‬مه!قالت‪ :‬هذا مقام العائذ بك من القطيعة‪)..‬‬
‫وهم يس تدلون به ذا‪ ،‬ويأخ ذون بظ اهره‪ ،‬معت برين الحق و بعض ا من هللا‪ ،‬وله ذا‬
‫تمسكت به الرحم‪ ،‬كما يتمسك أحدنا بآخر عن د التوس ل إلي ه‪ ،‬وق د ق ال الش يخ عب د هللا‬
‫الغنيم ان في (ش رح كت اب التوحي د من ص حيح البخ اري) ن اقالً من (نقض التأس يس)‬
‫لشيخ اإلسالم‪ ،‬ومن (إبطال التأويالت) ألبي يعلى الفراء‪ ،‬ومعلق اً‪( :‬ق ال ش يخ اإلس الم‬
‫أن هذا الح ديث‪( :‬يع ني‪ :‬ح ديث أبي هري رة‬ ‫رحمه هللا في رده على الرازي في زعمه َّ‬
‫المتقدم) يجب تأويله‪ :‬قــال‪ :‬فيـقال له‪ :‬بل هذا من األخبار ال تي يقره ا من يق ر نظ يره‪،‬‬
‫والنِّزاع فيه كالنِّزاع في نظيره ؛ فدعواك أنه ال ب َّد فيه من التأويل بال حجة تخصه ؛ ال‬
‫تصح‪ .‬وقال‪ :‬وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات‪ ،‬التي نص األئم ة على أن ه‬
‫أن ه ذا الح ديث‬ ‫يمر كما جاء‪ ،‬وردوا على من نفى موجبه‪ ،‬وما ذكره الخطابي وغيره َّ‬
‫مما يتأول باالتفاق ؛ فهذا بحسب علمه‪ ،‬حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله‬
‫‪1‬‬
‫أحمد في المسند‪.)3/125( :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫سنن الترمذي‪)115 /5( :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫() رواه اإلمام أحمد ( ‪-2956‬شاكر)‪ .‬وابن أبي عاصم في السنة ( ‪ )538‬؛ بإسناد حسن ‪ .‬وانظر‪ :‬السلسلة الصحيحة (‬
‫‪.)1602‬‬
‫‪4‬‬
‫رواه البخاري (‪ )4830‬وغيره‪.‬‬ ‫()‬

‫‪86‬‬
‫أن‬ ‫من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت‪ .‬قال ابن حامد‪ :‬ومم ا يجب التص ديق ب ه‪َّ :‬‬
‫هلل َح ْقواً‪ .‬قال المروزي‪ :‬قرأت على أبي عبد هللا كتاباً‪ ،‬فَ َم َّر فيه ذكر ح ديث أبي هري رة‬
‫(إن هللا خلق الرحم‪ ،‬حتى إذا فرغ منها ؛ أخ ذت بحق و ال رحمن)‪ ،‬فرف ع‬ ‫عن النبي ‪َّ :‬‬
‫أن تكون كفرت‪ .‬قال أب و عب د هللا‪ :‬ه ذا جهمي‪ .‬وق ال أب و‬ ‫المحدث رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬أخاف َّ‬
‫طالب‪ :‬سمعت أبا عبد هللا يسأل عن ح ديث هش ام بن عم ار ؛ أن ه ق ريء علي ه ح ديث‬
‫أن تك ون ق د‬ ‫ال رحم‪( :‬تجيء ي وم القيام ة فتعل ق ب الرحمن تع الى‪ ،)..‬فق ال‪ :‬أخ اف َّ‬
‫كفرت‪.‬فقال‪ :‬هذا شامي ؛ ما له ولهذا ؟ قلت‪ :‬فما تقول ؟ ق ال‪ :‬يمض ي ك ل ح ديث على‬
‫ماجاء‪ .‬وقال القاضي أبو يعلى‪ :‬اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظ اهره‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫وأن الرحم آخ ذة به ا‪،‬‬ ‫(الحقو) و(الحجزة) صفة ذات‪ ،‬ال على وجه الجارحة والبعض‪َّ ،‬‬
‫ال على وجه االتصال والمماسة‪ ،‬بل نطلق ذل ك تس مية كم ا أطلقه ا الش رع‪ ،‬وق د ذك ر‬
‫شيخنا أبو عبد هللا ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬هذا الحديث في كتابه‪ ،‬وأخذ بظاهره‪ ،‬وهو ظاهر كالم‬
‫أحمد‪ .‬قلت‪ :‬قولـه‪( :‬ال على وجه الجارحة والبعض)‪ ،‬وقولـه‪( :‬ال على وج ه االتص ال‬
‫والمماسة) ؛ قول غير سديد‪ ،‬وهو من أقوال أه ل الب دع ال تي أفس دت عق و َل كث ير من‬
‫الناس ؛ فمثل هذا الكالم المجمل ال يجوز نفي ه مطلق اً‪ ،‬وال إثبات ه مطلق ا ً ؛ ألن ه يحتم ل‬
‫ألن كالم رس ول هللا‬ ‫حقا ً وباطالً‪ ،‬فال ب َّد من التفصيل في ذلك‪ ،‬واإلعراض عنه أولى ؛ َّ‬
‫أن هلل‬‫‪ ‬خال منه‪ ،‬وليس ه و بحاج ة إلي ه ؛ فه و واض ح‪ ،‬وليس ظ اهر ه ذا الح ديث َّ‬
‫إزاراً وردا ًء من جنس األزر واألردي ة ال تي يلبس ها الن اس‪ ،‬مم ا يص نع من الجل ود‬
‫والكتان والقطن وغيره‪ ،‬بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد ؛ فإن ه ل و قي ل‬
‫إن العظم ة إزاره والكبري اء رداؤه؛ لك ان إخب اره ب ذلك عن العظم ة‬ ‫عن بعض العباد‪َّ :‬‬
‫والكبرياء الل ذين ليس ا من جنس م ا يلبس من الثي اب‪ .‬ف إذا ك ان ه ذا المع نى الفاس د ال‬
‫ألن تركيب اللفظ يمنع ذلك‪ ،‬وبين المعنى الم راد ؛ فكي ف‬ ‫يظهر من وصف المخلوق ؛ َّ‬
‫فإن كل من يفهم الخطاب ويع رف‬ ‫أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق هللا تعالى‪َّ ،‬‬
‫يدعى َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫أن الرسول ‪ ‬لم يخبر عن ربه بلبس األكسية والثياب)‬ ‫اللغة ؛ يعلم َّ‬
‫هذا نموذج من طروحاتهم المتعلقة بم ا يس مونه (ص فات ذات)‪ ،‬وهي في الحقيق ة‬
‫ليست سوى أعضاء وتراكيب هلل‪ ..‬وإنما ذكرنا النص بطوله لنتبين المنطلق ات الفكري ة‬
‫التي يص درون منه ا في أمث ال ه ذه العقائ د الخط يرة ‪ ..‬فهم ال يص درون من ب راهين‬
‫عقلية وال قرآنية ‪ ..‬وإنما من كالم أس الفهم ال ذين مألوهم خوف ا من التجهم ‪ ..‬فص اروا‬
‫يفضلون التشبيه والتجسيم على أن يرموا بالتجهم والتعطيل‪.‬‬
‫ومن الروايات الصريحة التي يستندون إليها في القول بجواز التركيب على هللا م ا‬
‫رووه عن عكرمة قال‪( :‬إن هللا عز وجل إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى‬
‫(‪)2‬‬
‫األرض فعند ذلك تزلزل‪ ،‬وإذا أراد أن تدمدم على قوم تجلى لها)‬
‫وقد صرح ابن القيم بصحة هذه الرواية‪ ،‬بل اعت بر م ا ورد فيه ا من العقائ د ال تي‬
‫‪1‬‬
‫() شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (‪.)2/383‬‬
‫‪ )(2‬السنة ‪ )1069(2/470‬الفردوس بمأثور الخط اب لل ديلمي ‪ )961(1/248‬وع زاه ابن تيمي ة في الفت اوى الك برى‬
‫‪ 5/87‬إلى الطبراني في كتاب السنة‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫أثبتها في نونيته المشهورة التي ال يزال الس لفيون يحفظونه ا‪ ،‬ويحرص ون عليه ا‪ ،‬فق د‬
‫جاء فيها‪:‬‬
‫وزعمت أن هللا أبدى بعضه للطور حتى عاد كالكثبان‬
‫(‪)1‬‬
‫لما تجلى يوم تكليم الرضى موسى الكليم مكلَّم الرحمن‬
‫وقد استشهد ابن تيمي ة به ذه الرواي ة على ص حة إطالق الق ول ب أن الص فة بعض‬
‫الموصوف ـ وهو يريد في الحقيق ة ب أن العض و بعض الجس م ـ فيق ول‪( :‬وأم ا إطالق‬
‫القول بأن الصفة بعض الموصوف وأنها ليست غيره‪ ،‬فق د ق ال ذل ك طوائ ف من أئم ة‬
‫أه ل الكالم وفرس انُهم‪ .‬وإذا حُق ق األم ر في كث ير من ه ذه المنازع ات لم يج د العاق ل‬
‫السليم العقل ما يخالف ض رورة العق ل لغ ير غ رض‪ ،‬ب ل كث ير من المنازع ات يك ون‬
‫لفظيا ً أو اعتبارياً‪ ،‬فمن قال إن األعراض بعض الجسم أو أنها ليس ت غ يره‪ ،‬ومن ق ال‬
‫طالح في مس مى‬‫ٍ‬ ‫واختالف اص‬
‫ِ‬ ‫إنها غيره يعود ال نزاع بين محققيهم إلى لف ٍظ واعتب ار‬
‫(بعض) و(غير) كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية الذي وضعه أبو عب د هللا‬
‫الرازي في نفي الصفات الخبرية وبنى ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتق ار ال رب تع الى‬
‫إلى غيره وتركيبه من األبعاض وبينا ما في ذلك من األلفاظ المشتركة المجملة‪ ..‬فه ذا‬
‫إن كان أحد أطلق البعض على ال ذات وغ يره من الص فات وق ال إن ه بعض هللا وأنك ر‬
‫ذلك عليه ألن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا‪ .‬وإن كان اإلنك ار ألن ه ال يق ال في‬
‫صفات هللا لفظ البعض فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وت ابعيهم ذاك رين‬
‫(‪)2‬‬
‫وآثرين)‬
‫ثم نقل الرواية التي ذكرناها‪ ،‬ثم قال‪( :‬وقد جاء في األحاديث المرفوع ة في تجلي ه‬
‫سبحانه للجبل والتي فيها أنه ما تجلى منه إال مثل الخنصر‪ ،‬وفي قصة داود‪ :‬قال‪ :‬يدنيه‬
‫حتى يمس بعضه‪ .‬وهذا متواتر عن هؤالء‪ ..‬وال ريب أن لفظ البعض والج زء والغ ير‬
‫ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام‪ .‬فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون‬
‫شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضا ً وينفصل بعضه عن بعض‪ ،‬أو يمكنُ ذلك فيه‬
‫كما يقال ح ُّد الغيرين م ا ج از مفارق ة أح دهما لآلخ ر كص فات األجس ام المخلوق ة من‬
‫أجزائها وأعراض ها فإن ه يج وز أن تتف رق وتنفص ل وهللا س بحانه م نزه عن ذل ك كل ه‬
‫مق دس عن النق ائص واآلف ات‪ .‬وق د ي راد ب ذلك م ا يعلم من ه ش يء دون ش يء فيك ون‬
‫المعلوم ليس هو غير المعلوم وإن كان الزما له ال يفارقه والتغ اير به ذا المع نى ث ابت‬
‫لكل موجود فإن العبد قد يعلم وجود الحق ثم يعلم أن ه ق ادر ثم أن ه ع الم‪..‬فمن نفى عن ه‬
‫وعن صفاته التغاير والتبعيص بهذا المعنى فهو معطل جاحد للرب فإن ه ذا التغ اير ال‬
‫وعلم‬
‫ينتفي إال عن المعدوم‪..‬فقول السلف واألئمة ما وصف به هللا من هللا وصفاته من ه ِ‬
‫هللا من هللا ونحو ذلك مما استعملوا فيه لف ظ (من) وإن ق ال قائ ل معناه ا التبعيض فه و‬
‫(‪)3‬‬
‫تبعيض بهذا االعتبار كما يقال إنه تغاير بهذا االعتبار)‬
‫‪ )(1‬انظر شرح قصيدة ابن القيم ألحمد بن إبراهيم ‪1/230‬‬
‫‪ )(2‬الفتاوى الكبرى ‪ 92-5/85‬وانظر كالم الفراء في إبطال التأويالت ‪.2/340‬‬
‫‪ )(3‬الفتاوى الكبرى ‪. 92-5/85‬‬

‫‪88‬‬
‫﴿وإِ َّن لَ هُ‬
‫ومن الروايات التي استدلوها بها كذلك ما أوردوه عند تفسير قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ب ﴾ [ص‪ ،]25 :‬فقد رووا عن مجاهد عن عبي د بن عم ير ق ال‪:‬‬ ‫ِع ْن َدنَا لَ ُز ْلفَى َو ُح ْسنَ َمآ ٍ‬
‫(حتى يضع بعضه عليه)(‪ ،)1‬وفي رواية‪( :‬ذكر الدنو منه ح تى ذك ر أن ه يمس بعض ه)‬
‫(‪ ،)2‬وفي رواية‪(:‬ما يأمن داود عليه السالم يوم القيامة ح تى يق ال ل ه اُدن ه فيق ول ذن بي‬
‫ذنبي حتى بلغ فيقال اُدنه فيقول ذنبي ذنبي فيق ال ل ه اُدن ه فيق ول ذن بي ذن بي ح تى بل غ‬
‫مكانا ً هللا أعلم به قال سفيان كأنه يمسك شيئا)(‪ ،)3‬وفي رواي ة عن مجاه د‪( :‬ح تى يأخ ذ‬
‫بقدمه)(‪ ،)4‬وفي رواية عن مجاهد‪( :‬إذا كان يوم القيام ة ذك ر داود ذنب ه فيق ول هللا ع ز‬
‫وجل له كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول هللا له كن خلفي فيقول رب ذن بي ذن بي‬
‫(‪)6‬‬
‫فيقول هللا عز وجل خذ بقدمي)(‪ )5‬وفي رواية‪( :‬حتى يضع يده في يده)‬
‫وغيرها من الرواي ات‪ ،‬وال تي ال يس تفاد منه ا غ ير ت ركيب هللا تع الى من أج زاء‬
‫وأبعاض وأعضاء‪ ..‬ولهذا قال القاضي أبو يعلى تعليقا عليها‪(:‬اعلم أنه غير ممتنع حمل‬
‫هذا الخبر على ظاهره إذ ليس فيه م ا يحي ل ص فاته وال يخرجه ا عم ا تس تحقه ألن ا ال‬
‫نثبت قدما ً وفخذاً وجارح ة وال أبعاض ا ً ب ل نثبت ذل ك ص فة كم ا أثبتن ا ال ذات والوج ه‬
‫(‪)7‬‬
‫واليدي)‬
‫وقال ابن القيم مشيرا إلى أمثال ه ذه الرواي ات معت برا المنك ر له ا جهمي ا معطال‪:‬‬
‫(وقد قال غير واحد من السلف كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة‪ ،‬قالوا وله ذا‬
‫ب ﴾ [ص‪ ،]25 :‬فزاده على‬ ‫ك َوإِ َّن لَهُ ِع ْن َدنَا لَ ُز ْلفَى َو ُح ْسنَ َمآ ٍ‬
‫قال سبحانه‪﴿ :‬فَ َغفَرْ نَا لَهُ َذلِ َ‬
‫المغفرة أمرين الزلفى وهي درجة القرب منه وقد قال فيه ا س لف األم ة وأئمته ا م ا ال‬
‫(‪)8‬‬
‫تحتمله عقول الجهمية وفراخهم ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف)‬
‫بعد بيان قول السلفية بجواز ال تركيب على هللا تع الى‪ ،‬نح اول في ه ذا الفص ل أن‬
‫نذكر بعض األعضاء ال تي يح رص الس لفية على التعري ف باهلل من خالله ا‪ ،‬م ع ذك ر‬
‫وظائف كل عضو منها‪ ،‬وسنكتفي بذكر الروايات التي اعتمدوها‪ ،‬واس تنباطاتهم منه ا‪،‬‬
‫فخير ما يبرهن على فساد أقوالهم فيها هو حكايتها‪ ..‬وسنبدأ بالطريقة التي يرتب ون به ا‬
‫أمثال هذه الصفات من األعلى إلى األسفل‪ ..‬أو من الوجه إلى القدم‪.‬‬
‫وكن ا ن ود ل و قس منا ه ذه األعض اء كم ا نقس م جس م اإلنس ان إلى رأس وج ذع‬
‫وأطراف‪ ،‬ولكن منعنا من ذلك أنهم ال يقولون بهذه التس ميات‪ ،‬ب ل يحرم ون أن نس مي‬
‫هللا بما لم يسم به نفسه‪ ،‬مع أنهم في قرارة نفوسهم‪ ،‬بل في كتبهم يصرحون بمعاني هذه‬

‫‪ )(1‬السنة ‪ )1086(2/475‬و‪ )1180( 2/507‬الخالل في السنة ‪)319(1/262‬‬


‫‪ )(2‬السنة ‪)1165(2/503‬‬
‫‪ )(3‬السنة ‪)1161( 2/502‬‬
‫السنة ‪)1182( 2/507‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫السنة ‪ )322(1/262‬ابن أبي شيبة في المصنف‪)31888( 6/342‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫السنة ‪)1163(2/502‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫انظر حاشية المرجع السابق ‪210-1/207‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪ )(8‬طريق الهجرتين ‪1/357‬‬

‫‪89‬‬
‫األمور جميعا‪.‬‬
‫فهم يثبتون هلل شعرا ووجها وفما وأضراسا وعينين ‪ ..‬وكل شيء يرتبط بالرأس‪.‬‬
‫وهم يثبتون هللا صدرا وحقوا‪ ..‬وهذا يرتبط بالجذع‪.‬‬
‫وهم يثبتون هلل يدين وذراعين وأصابع وأنامل‪ ،‬ورجلين وقدمين‪ ..‬وكل هذه ترتب ط‬
‫باألطراف‪.‬‬
‫وبناء على هذا سنقتص ر على األعض اء الك برى ال تي ذكروه ا‪ ،‬ون دخل ض منها‬
‫التفاصيل المرتبط ة به ا‪ ،‬وه ذه األعض اء الك برى هي‪ :‬الوج ه‪ ،‬والفم‪ ،‬والعين‪ ،‬والي د‪،‬‬
‫واألصابع‪ ،‬والقدم والساق‪ ..‬وضمنها سنذكر باقي األعضاء كالفم واألضراس وال ذراع‬
‫واألنامل وغيرها‪..‬‬
‫الوجه‪:‬‬
‫وه و من الص فات ال تي أعطاه ا الس لفية مس احة كب يرة من اهتم امهم‪ ،‬وس نرى‬
‫كالمهم عليها بتفص يل عن د الح ديث عن الص ورة‪ ..‬ألن كم ال الوج ه في ص ورته ‪..‬‬
‫ولهذا يذكرون عند حديثهم عن جم ال هللا جم ال وجه ه‪ ،‬وأن المؤم نين في الجن ة عن د‬
‫النظر إليه ينسون كل أنواع اللذات األخرى‪.‬‬
‫وهم يعتبرون الوجه كغ يره من الص فات الذاتي ة ال تي يجب اإليم ان به ا‪ ،‬ومن لم‬
‫يؤمن بها على الهيئة التي يذكرونها يكون جهميا ومعطال وكافرا‪..‬ب ل أكف ر من اليه ود‬
‫والنصارى‪ ،‬ألن اليهود والنصارى يثبتون الوجه هلل‪ ،‬والمنزه ينفيه‪.‬‬
‫الوجْ ه هلل تع الى‪:‬‬ ‫يقول ابن خزيمة بعد إيراده للنصوص التي يرى أنها تثبت صفة َ‬
‫(فنحن وجمي ع علمائن ا من أه ل الحج از وتهام ة واليمن والع راق والش ام ومص ر ؛‬
‫مذهبنا‪ :‬أنا نثبت هلل ما أثبته هللا لنفس ه‪ ،‬نق ر ب ذلك بألس نتنا‪ ،‬ونص دق ذل ك بقلوبن ا ؛ من‬
‫بوجْ ه أحد من المخلوقين‪ ،‬عز ربنا أن يشبه المخلوقين‪ ،‬وج ل‬ ‫غير أن نشبه َوجْ ه خالقنا َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ربنا عن مقالة المعطلين)‬
‫ومن األدلة التي يستدلون بها على ذلك قولـه تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ا تُنفِقُ ونَ إِالَّ ا ْبتِ َغ ا َء َوجْ ِه‬
‫ص بَرُوا ا ْبتِ َغ ا َء َوجْ ِه َربِّ ِه ْم﴾ [الرع د‪ ،]22 :‬وه ذا‬ ‫هللاِ﴾ [البقرة‪ ،]272 :‬وقولـه‪َ ﴿ :‬والَّ ِذينَ َ‬
‫استدالل عجيب جدا‪ ..‬فهل عمل المؤمن ابتغاء هلل جميعا‪ ،‬أم ابتغاء لوجهه فقط؟‬
‫ك إِاَّل َوجْ هَ هُ ﴾‬‫وهذا اإلشكال يرد عليهم في خصوص قوله تع الى‪ُ ﴿ :‬ك لُّ َش ْي ٍء هَالِ ٌ‬
‫[القص ص‪ ،]88 :‬وقول ه تع الى‪َ ﴿ :‬ويَ ْبقَى َوجْ هُ َربِّكَ ُذو ْال َجاَل ِل َواإْل ِ ْك َر ِام﴾ [ال رحمن‪:‬‬
‫‪]27‬‬
‫والذي يدل داللة واضحة على أن المراد بوج ه هللا ذات ه‪ ،‬وليس عض وا من ه‪ ،‬كم ا‬
‫ك إِاَّل َوجْ هَهُ ﴾‬ ‫نص على ذلك المنزهة‪ ،‬قال الشريف الرضي‪ :‬وقوله تعالى﴿ ُكلُّ َش ْي ٍء هَالِ ٌ‬
‫[القصص‪ ]88 :‬وهذه استعارة‪ ،‬والوجه هنا عبارة عن ذات الشيء ونفس ه‪ ،‬وعلى ه ذا‬
‫قوله تعالى في السورة التي يذكر فيه ا ال رحمن س بحانه ﴿ َويَ ْبقَى َوجْ هُ َربِّكَ ُذو ْال َجاَل ِل‬
‫‪1‬‬
‫كتاب التوحيد (‪.)1/25‬‬ ‫()‬

‫‪90‬‬
‫َواإْل ِ ْك َر ِام﴾ [الرحمن‪ ]27 :‬أي‪ :‬ويبقى ذات ربك‪ ،‬ومن الدليل على ذلك‪ :‬الرفع في قوله‪:‬‬
‫﴿ ُذو ْال َجاَل ِل َواإْل ِ ْك َر ِام﴾ [الرحمن‪ ،]27:‬ألن ه ص فة للوج ه ال ذي ه و ال ذات‪ ،‬ول و ك ان‬
‫الوجه هنا بمعنى العضو المخصوص على ما ظنه الجهال‪ ،‬لكان وجه الكالم أن يكون‪:‬‬
‫ويبقى وجه ربك ذي الجالل واإلكرام‪ ،‬فيكون ( ذي ) صفة للجملة ال صفة للوجه الذي‬
‫هو التخطيط المخصوص كما يقول القائل‪ :‬رأيت وجه األمير ذي الطول واإلنع ام‪ ،‬وال‬
‫يقول‪ :‬ذا ؛ ألن الطول واإلنعام من صفات جملته ال من ص فات وجه ه‪ ،‬ويوض ح ذل ك‬
‫قوله في هذه السورة‪ ﴿ :‬تَبَا َركَ ا ْس ُم َربِّكَ ِذي ْال َجاَل ِل َواإْل ِ ْك َر ِام ﴾ [الرحمن‪ ]78 :‬لما كان‬
‫االسم غير المسمى وصف ـ سبحانه ـ المضاف إليه‪ ،‬ولما كان الوجه في اآلية المتقدمة‬
‫(‪)1‬‬
‫هو النفس والذات‪ ،‬قال تعالى‪ُ ﴿ :‬ذو ْال َجاَل ِل َواإْل ِ ْك َر ِام﴾ولم يقل‪ :‬ذي الجالل واإلكرام)‬
‫ويق ول‪( :‬ول و ك ان الكالم محم وال على ظ اهره لك ان فاس دا مس تحيال على قولن ا‬
‫وقول المخالفين ؛ ألنه ال أحد يقول من المشبهة والمجسمة الذين يثبت ون هلل ـ س بحانه ـ‬
‫أبعاضا مؤلفة وأعضاء مصرفة أن وجه هللا ـ تعالى ـ يبقى وسائره يبطل ويفنى‪ ،‬تعالى‬
‫(‪)2‬‬
‫هللا عن ذلك علوا كبيرا)‬
‫ومثله قال الفخر الرازي‪( :‬لو كان الوجه ه و العض و المخص وص‪ ،‬ل زم أن يف نى‬
‫(‪)3‬‬
‫جميع الجسد والبدن‪ ،‬وأن تفنى العين التي على الوجه‪ ،‬وأن ال يبقى إال مجرد الوجه)‬
‫لكن المجسمة يعت برون الق ول به ذا‪ ،‬وخاص ة من علم كب ير من أعالم اللغ ة مث ل‬
‫الشريف الرضي تجهما وتعطيال‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ف إن أول م ا يب ادرون ب ه من يعرض ه عليهم‬
‫مثل هذا اتهامه بالتجهم والتعطيل‪ ،‬وقد حدث يحيى بن شبل قال‪ :‬كنت جالسا م ع مقات ل‬
‫بن سليمان وعباد بن كثير‪ ،‬إذ جاء شاب فقال‪ :‬ما تقول في قوله عز وج ل‪﴿ :‬ك ل َش ْي ٍء‬
‫ك إِاًّل َوجْ هَهُ﴾‪ ،‬فقال مقاتل‪ :‬هذا جهمي ثم ق ال‪( :‬ويح ك إن جهم ا وهللا م ا حج ال بيت‬ ‫هَالِ ٌ‬
‫(‪)4‬‬
‫وال جالس العلماء‪ ،‬وإنما كان رجال أعطي لسانا)‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد حاولوا أن يتنص لوا من ه بوج وه من الحي ل تخل وا به ا عن‬
‫نفيهم المطلق للتأويل‪ ،‬ومن تلك الردود هذا ال رد العجيب ال ذي ذك ره ابن تيمي ة يحكي‬
‫فيه مجلسا من مجالس المناظرة التي جمعته مع المنزهة‪ ،‬وفيها نرى ابن تيمية‪ ،‬وكي ف‬
‫يحتال على خصومه بأنواع الحيل‪ ،‬وبما أن النص طويل‪ ،‬فقد اقتصرت منه على القدر‬
‫الذي نحتاج إليه‪ ،‬قال ابن تيمية‪( :‬لما كان إثبات هذه الصفة [صفة الوج ه] م ذهب أه ل‬
‫الحديث والمتكلمة الص فاتية ‪ ..‬وك ان نفيه ا م ذهب الجهمي ة‪ :‬من المعتزل ة وغ يرهم ‪..‬‬
‫صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد ال نزاع‪،‬‬
‫فالمثبت يجعلها من الصفات التي ال تتأول بالصرف‪ ،‬والن افي ي رى أن ه إذا ق ام ال دليل‬
‫على أنها ليست صفة فكذلك غيرها ‪ ..‬ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعق ود وكنت ق د‬

‫تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي ( ص‪. ) 204‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫تلخيص البيان في مجازات القرآن ( ص ‪ .) 275‬وانظر‪ :‬دفع شبه التشبيه ( ص‪. ) 113‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫أساس التقديس (ص‪. )155‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫‪4‬‬
‫اإلبانة (‪ )319 /91 - 13/90 /2‬والسنة للخالل (‪.)85 - 84 /5‬‬ ‫()‬

‫‪91‬‬
‫قلت‪ :‬أمهلت كل من خالفني ثالث سنين إن جاء بحرف واحد عن الس لف يخ الف ش يئا‬
‫مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت وجع ل المعارض ون يفتش ون الكتب فظف روا‬
‫بم ا ذك ره ال بيهقي في كت اب (األس ماء والص فات) في قول ه تع الى‪َ ﴿ :‬وهَّلِل ِ ْال َم ْش ِر ُ‬
‫ق‬
‫َو ْال َم ْغ ِربُ فَأ َ ْينَ َما تُ َولُّوا فَثَ َّم َوجْ هُ هَّللا ِ﴾ [البقرة‪ ]،115 :‬فإنه ذكر عن مجاه د والش افعي أن‬
‫المراد قبلة هللا فقال أحد ك برائهم ‪ -‬في المجلس الث اني ‪ -‬ق د أحض رت نقال عن الس لف‬
‫بالتأويل فوقع في قلبي م ا أع د فقلت‪ :‬لعل ك ق د ذك رت م ا روي في اآلي ة‪ ..‬ق ال‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬المراد بها قبلة هللا فقال‪ :‬قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف‪ ،‬ولم يكن هذا‬
‫السؤال ي رد علي ؛ فإن ه لم يكن ش يء مم ا ن اظروني في ه ص فة الوج ه وال أثبته ا لكن‬
‫طلبوها من حيث الجمل ة وكالمي ك ان مقي دا كم ا في األجوب ة فلم أر إحق اقهم في ه ذا‬
‫المقام بل قلت هذه اآلية ليست من آيات الصفات أصال‪ ،‬وال تندرج في عم وم ق ول من‬
‫يقول‪( :‬ال تؤول آيات الصفات)‪ ،‬قال‪ :‬أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت‪ :‬المراد به ا قبل ة‬
‫هللا ‪ .‬قال‪ :‬أليست هذه من آيات الصفات ؟ قلت‪ :‬ال ‪ .‬ليست من موارد ال نزاع ف إني إنم ا‬
‫أسلم أن الم راد بالوج ه ‪ -‬هن ا ‪ -‬القبل ة ف إن (الوج ه) ه و الجه ة في لغ ة الع رب يق ال‪:‬‬
‫قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا (الوجه) أي‪ :‬إلى ه ذه الجه ة وه ذا كث ير مش هور‬
‫فالوجه هو الجهة‪ ..‬فالمعنى‪ :‬أي موضع استقبلتموه فهنالك وج ه هللا فق د جع ل وج ه هللا‬
‫في المك ان ال ذي يس تقبله ه ذا ‪ ..‬ف أخبر أن الجه ات ل ه ف دل على أن اإلض افة إض افة‬
‫(‪)1‬‬
‫تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة هللا وقبلة هللا)‬
‫وهكذا يحتالون على النصوص بوجوه الحيل التي ال يمكن أن نسردها هنا‪..‬‬
‫ومثلم ا علق وا ك ل عض و من األعض اء ب أدوار يمارس ها‪ ،‬فق د نص وا على بعض‬
‫أدوار الوجه في الرواية التالية‪ ،‬والتي فهموها بمعناها الحرفي‪ ،‬وهي م ا رووه عن ابن‬
‫عمر قال‪( :‬إن هللا عز وجل مقبل على عبده بوجهه م ا أقب ل إلي ه‪ ،‬ف إذا التفت انص رف‬
‫(‪)2‬‬
‫عنه )‬
‫وفي رواية عن حذيفة‪( :‬ال تتف ل بين ي ديك وال عن يمين ك‪ ،‬ف إن عن يمين ك ك اتب‬
‫الحسنات‪ ،‬فإن الرجل إذا توضأ‪ ،‬فأحسن الوضوء‪ ،‬ثم ق ام فص لى‪ ،‬أقب ل هللا تع الى إلي ه‬
‫(‪)3‬‬
‫بوجهه يناجيه‪ ،‬فال يصرفه عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء)‬
‫(البَ ْشبَ َشةُ أو ْالبَ َشاش ة)‪ ،‬وق د اس تدلوا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ومن أدوار الوجهة أو أوصافه ـ كما ذكروا ـ ْ‬
‫أن النبي ‪ ‬ق ال‪( :‬م ا ت وطن‬ ‫لها بالكثير من المرويات‪ ،‬منها ما رووه عن أبي هريرة َّ‬
‫رجل مسلم المساجد للصالة والذكر ؛ إال تبشبش هللا له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم‬
‫(‪)4‬‬
‫إذا قدم عليهم)‬

‫‪1‬‬
‫() الفتاوى ‪.17-6/14‬‬
‫‪ )(2‬أخرجه البيهقي في األسماء والصفات (‪ )2/89‬رقم (‪)656‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (‪ 1/432‬ـ ‪ .)433‬وابن خزيمة في التوحيد (‪ 1/35‬ـ ‪ ) 36‬رقم ( ‪)9‬‬
‫‪4‬‬
‫رواه ابن ماج ه واللف ظ ل ه (ص حيح س نن ابن ماج ه‪ .)652/‬وأحم د في المس ند (‪ .)8332‬والطيالس ي (‪.)2334‬‬ ‫()‬
‫والحاكم (‪)1/213‬‬

‫‪92‬‬
‫وقد علق أبو يعلى على هذا الحديث وأمثاله بقوله‪ .. ( :‬وكذلك القول في البشبشة ؛‬
‫ألن معناه يقارب معنى الف رح‪ ،‬والع رب تق ول‪ :‬رأيت لفالن بشاش ة وهشاش ة وفرح اً‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬فالن هش بش ف رح‪ ،‬إذا ك ان منطلق اً‪ ،‬فيج وز إطالق ذل ك كم ا ج از إطالق‬
‫(‪)1‬‬
‫الفرح)‬
‫أن بعض أص حاب المريس ي ق ال ل ه‪ :‬كي ف تص نع به ذه‬ ‫وقال ال دارمي‪( :‬وبلغن ا َّ‬
‫األسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما ال يمكن التكذيب به ا ؛ مث ل‪:‬‬
‫س فيان عن منص ور عن الزه ري‪ ،‬والزه ري عن س الم‪ ،‬وأي وب بن ع وف عن ابن‬
‫س يرين‪ ،‬وعم رو بن دين ار عن ج ابر عن الن بي ‪ .. ‬وم ا أش بهها؟) ق ال‪(( :‬فق ال‬
‫المريسي‪ :‬ال تردوه تفتضحوا‪ ،‬ولكن ؛ غالطوهم بالتأويل ؛ فتكونوا قد رددتموها بلطف‬
‫؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف ؛ كما فعل هذا المعارض سواء‪ ..‬وسننقل بعض ما روي في‬
‫هذه األبواب من الحب والبغض والسخط والكراهية وما أشبهه ‪[ ..‬ثم ذك ر أح اديث في‬
‫ص فة الحب ثم البغض ثم الس خط ثم الك ره ثم العجب ثم الف رح‪ ،‬ثم ح ديث أبي هري رة‬
‫السابق في البشاشة‪ ،‬ثم قال] وفي هذه األبواب روايات كث يرة أك ثر مم ا ذك ر‪ ،‬لم ن أت‬
‫(‪)2‬‬
‫بها مخافة التطويل)‬
‫الفم‪:‬‬
‫وقد اعتبروه أيض ا من ص فات هللا الذاتي ة‪ ،‬ق ال أب و يعلى‪( :‬اعلم أن ه غ ير ممتن ع‬
‫إطالق الفي عليه س بحانه‪ ،‬كم ا لم يمتن ع إطالق الي د والوج ه والعين‪ ،‬وق د نص أحم د‬
‫على ذلك في رسالة أبي العباس أحمد بن جعفر الفارس ي‪ :‬فق ال‪ :‬كلم هللا موس ى تكليم ا‬
‫(‪)3‬‬
‫من فيه)‬
‫ومن الوظائف المرتبطة به الكالم والضحك‪ :‬أم ا الكالم‪ ،‬فس نتحدث عن ه بتفص يل‬
‫في الفصل األخير من هذا الكتاب‪ ،‬ألنهم يعنون ب ه الح ديث بالش فتين ‪ ..‬وق د رووا عن‬
‫بعض سلفهم في ذل ك أن ه س ئل‪( :‬كي ف كلم هللا ع ز وج ل موس ى علي ه الس الم؟ ق ال‪:‬‬
‫مشافهة) (‪ ،)4‬ورووا عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬ك أن الخل ق لم يس معوا الق رآن حين‬
‫(‪)5‬‬
‫سمعوه من فيه يوم القيامة)‬
‫وأما الضحك‪ ،‬وهو عندهم من الصفات المرتبطة ب الفم‪ ،‬فق د أوردوا في ه نصوص ا‬
‫كثيرة‪ ،‬منها ما رووه عن أبي رزين‪ ،،‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬وضحك ربنا ع ز وج ل‬
‫من قنوط عباده‪ ،‬وقرب غ يره)‪ ،‬وق ال‪ :‬قلت‪ :‬أو يض حك ال رب ع ز وج ل؟ ق ال‪ :‬نعم‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫إبطال التأويالت (‪.)1/243‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫في رده على بشر المريسي (ص ‪.)200‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫() إبطال التأويالت (ص‪.)387 :‬‬
‫‪ .)547( 1/286 )(4‬وأخرجه الطبري في التفسير ‪6/29‬‬
‫‪5‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)387 :‬‬ ‫()‬

‫‪93‬‬
‫قلت‪ :‬لن نعدم من رب يضحك خيرًا (‪.)1‬‬
‫ورووا عن أبي هريرة عن النبي ‪ ‬ق ال‪( :‬ض حك هللا ع ز وج ل من رجلين قت ل‬
‫أحدهما صاحبه ثم دخال الجنة)(‪ ،)2‬ورووا عن أبي موسى‪ ،‬عن النبي ‪ ‬قوله‪« :‬يتجلى‬
‫ً (‪)3‬‬
‫لنا ربنا ضاحكا»‬
‫ورووا عن طلحة بن البراء‪ ،‬أن رسول هللا ‪ ‬لما أخبر بم وت طلح ة رف ع رأس ه‬
‫(‪)4‬‬
‫إلى السماء‪ ،‬ثم قال‪( :‬اللهم القه وهو يضحك وأنت تضحك إليه)‬
‫بل ذكروا ـ فوق ذلك ـ أن هلل تعالى في فمه أضراسا‪ ،‬وقد رووا في ذلك عن ج ابر‬
‫أن ه س ئل عن ال ورود‪ ،‬وذك ر الح ديث‪ ،‬وق ال في ه‪( :‬فيق ول هللا‪ ،‬ع ز وج ل‪ :‬أن ا ربكم‪،‬‬
‫فيقول ون‪ :‬ح تى ننظ ر إلي ك فيتجلى لهم يض حك) ق ال‪ :‬س معت رس ول هللا ‪ ‬يق ول‪:‬‬
‫(‪)5‬‬
‫(حتى تبدو لهاته وأضراسه)‬
‫وقد علق أبو يعلى على هذه األحاديث وغيرها بقوله‪( :‬اعلم أنه غ ير ممتن ع حم ل‬
‫ه ذه األح اديث على ظاهره ا من غ ير تأوي ل‪ ،‬وق د نص أحم د على ذل ك في رواي ة‬
‫الجماعة‪ ،‬قال في رواية حنبل‪ :‬يضحك هللا‪ ،‬وال نعلم كي ف ذل ك إال بتص ديقها الرس ول‬
‫‪ ‬القرآن‪ ،‬وقال المروذي‪ :‬سألت أبا عبد هللا عن عب د هللا ال تيمي فق ال‪ :‬ص دوق‪ ،‬وق د‬
‫كتبت عنه من الرقايق‪ ،‬ولكن حكي عن ه أن ه ذك ر ح ديث الض حك فق ال‪ :‬مث ل ال زرع‬
‫الضحك‪ ،‬وهذا كالم الجهمية‪ ،‬قلت‪ :‬ما تقول في حديث ابن جريج‪ ،‬عن أبي الزبير‪ ،‬عن‬
‫جابر (فضحك حتى بدت)‪ ،‬قال‪ :‬هذا يشنع به‪ ،‬قلت‪ :‬فق د ح دثت ب ه‪ ،‬ق ال‪ :‬م ا أعلم أني‬
‫حدثت ب ه إال محم د بن داود يع ني المصيص ي‪ ،‬وذل ك أن ه طلب إلي في ه‪ ،‬قلت‪ :‬أفليس‬
‫العلماء تلقته بالقبول؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال أبو بكر الخالل‪ :‬رأيت في كتاب لهرون المس تملي‬
‫أنه قال ألبي عبد هللا‪ :‬حديث جابر بن عبد هللا (ض حك ربن ا ح تى ب دت لهوات ه أو ق ال‬
‫أضراسه) ممن سمعته؟ قال‪ :‬حدثنا روح‪ ،‬قال رسول هللا ‪(:‬يضحك حتى بدت لهواته‬
‫أو قال أضراسه)‪ ،‬فقد نص على صحة هذه األحاديث واألخ ذ بظاهره ا واإلنك ار على‬
‫من فسرها‪ ،‬وذلك أنه ليس في حمل ه على ظ اهره م ا يحي ل ص فاته وال يخرجه ا عم ا‬
‫(‪)6‬‬
‫نستحقه)‬
‫العين‪:‬‬
‫وقد اعتبروها أيضا من صفات هللا الذاتية‪ ،‬بل اعتبروه ا آل ة اإلبص ار هلل‪ ..‬ب ل ـ‬
‫‪ )(1‬رواه اإلمام أحمد في المسند ‪ 4/11‬ورواه ابن ماجه في الس نن ‪ 1/64‬رقم (‪)181‬؛ ورواه ابن أبي عاص م في الس نة‬
‫‪.1/244‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم في صحيحه ‪.1505 ،3/1504‬‬
‫‪ )(3‬رواه الدارمي في الرد على الجهمية ص‪. 288‬‬
‫‪4‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪)216 :‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪ ،)214 :‬وعزاه إلى الدارقطني في الصفات‪.‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪)217 :‬‬ ‫()‬

‫‪94‬‬
‫وللمزيد من التجسيم ـ أثبتوا هلل عينين‪ ،‬وأولوا ما ورد في القرآن الك ريم مم ا ي دل على‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬قال ابن تيمية ردا على من أود عليه هذا االعتراض‪( :‬دع واه أن ظ اهر‬
‫الق رآن أن هلل أعين ا ً كث يرة وأي ديا ً كث يرة باط ٌل وذل ك أن ه وإن ك ان ق د ق ال‪﴿ :‬تَجْ ِري‬
‫اص بِرْ‬‫﴿و ْ‬‫﴿واصْ ن َِع ْالفُ ْلكَ بِأ َ ْعيُنِنَا َو َوحْ يِنَ ا﴾[ه ود ‪ ]37‬وق ال‪َ :‬‬ ‫بِأ َ ْعيُنِنَا ﴾ [القمر ‪ ]14‬وقال‪َ :‬‬
‫ت‬ ‫ك بِأ َ ْعيُنِنَ ا ﴾ [الط ور ‪ ]48‬وق ال‪ ﴿ :‬أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَنَّا َخلَ ْقنَ ا لَهُ ْم ِم َّما َع ِملَ ْ‬ ‫لِ ُح ْك ِم َربِّ َ‬
‫ك فَإِنَّ َ‬
‫ُ‬
‫أَ ْي ِدينَا ﴾ [يس ‪ ]71‬فقد قال في قصة موسى‪َ ﴿ :‬ولِتُصْ نَ َع َعلَى َع ْينِي (‪ )39‬إِذ تَ ْم ِشي أ ْختُكَ‬
‫ْ‬
‫فَتَقُو ُل هَلْ أَ ُدلُّ ُك ْم َعلَى َم ْن يَ ْكفُلُهُ﴾ [طه ‪ ]40-39‬فقد جاء هذا بلف ظ المف رد في موض عين‬
‫فلم يكن دعواه الظهور في معنى الكثرة لكونه جاء بلفظ الجمع بأولى من دع وى غ يره‬
‫(‪)1‬‬
‫الظهور في معنى اإلفراد لكونه قد جاء بلفظ المفرد في موضعين )‬
‫وقد عقد ابن خزيمة مقارنات عجيبة بين عين هللا وعين البشر‪ ،‬وسنذكر النص مع‬
‫طوله الشديد‪ ،‬لنبين من خالله أن اعتبارهم للعين صفة دجل وخراف ة‪ ،‬ألنهم في ق رارة‬
‫نفوسهم ال يري دون به ا إال العض و ال ذي ال يختل ف عن عض و اإلنس ان إال في كيفيت ه‬
‫وشكله‪.‬‬
‫يقول ابن خزيمة في معرض دفاعه عن تنزيه المجسمة‪( :‬نحن نقول‪ :‬لربنا الخالق‬
‫عينان يبصر بهما ما تحت الثرى‪ ،‬وتحت األرض السابعة السفلى‪ ،‬وم ا في الس ماوات‬
‫العلى‪ ،‬وما بينهما من صغير وكب ير‪ ،‬ال يخفى على خالقن ا خافي ة في الس ماوات الس بع‬
‫واألرضين الس بع‪ ،‬وال مم ا بينهم وال ف وقهم‪ ،‬وال أس فل منهن ال يغيب عن بص ره من‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك شيء‪ ،‬يرى ما في جوف البحار ولججها كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه)‬
‫هذا بالنسبة لعين هللا‪ ،‬وهو كما نرى ي ذكر وظائفه ا وق دراتها‪ ،‬وي بين أن هللا ي رى‬
‫بها‪ ،‬أي أنه يفتقر إليها لتحصل له الرؤية‪..‬‬
‫ثم يذكر وجوه الفرق بين عين هللا وعين البش ر‪ ،‬فيق ول‪( :‬وبن و آدم وإن ك انت لهم‬
‫عيون يبصرون بها فإنهم إنما يرون ما قرب من أبصارهم‪ ،‬مما ال حجاب وال ستر بين‬
‫الم رئي وبين أبص ارهم‪ ،‬وم ا يبع د منهم‪ ،‬إن ك ان يق ع اس م الق رب علي ه في بعض‬
‫األحوال‪ ،‬ألن العرب التي خوطبنا بلغتها قد تقول‪ :‬قرية كذا منا قريبة‪ ،‬وبلدة كذا قريب ة‬
‫من ا‪ ،‬ومن بل دنا‪ ،‬وم نزل فالن ق ريب من ا‪ ،‬وإن ك ان بين البل دين وبين القري تين وبين‬
‫المنزلين فراسخ‪ ،‬والبص ير من ب ني آدم ال ي درك ببص ره شخص ا آخ ر‪ ،‬من ب ني آدم‪،‬‬
‫وبينهما فرسخان فأكثر‪ ،‬وكذلك ال يرى أحد من اآلدميين ما تحت األرض إذا كان فوق‬
‫المرئي من األرض والتراب قدر أنملة‪ ،‬أو أقل منها بق در م ا يغطى وي وارى الش يء‪،‬‬
‫وكذلك ال يدرك بصره إذا كان بينهما حج اب من حائ ط‪ ،‬أو ث وب ص فيق‪ ،‬أو غيرهم ا‬
‫مما يستر الشيء عن عين الناظر‪ ،‬فكيف يكون ي ا ذوي الحج ا مش بها من يص ف عين‬
‫(‪)3‬‬
‫هللا بما ذكرنا‪ ،‬وأعين بني آدم بما وصفنا)‬
‫‪1‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪.)474 /5‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫التوحيد البن خزيمة (‪)116 /1‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫التوحيد البن خزيمة (‪)116 /1‬‬ ‫()‬

‫‪95‬‬
‫ثم يذكر فروق ا أخ رى‪ ،‬فيق ول‪( :‬ونزي د ش رحا وبيان ا نق ول‪ :‬عين هللا ع ز وج ل‬
‫قديمة‪ ،‬لم تزل باقية‪ ،‬وال يزال محكوم لها بالبقاء‪ ،‬منفي عنها الهالك‪ ،‬والفن اء‪ ،‬وعي ون‬
‫بني آدم محدثة مخلوقة‪ ،‬كانت عدما غير مكونة‪ ،‬فكونها هللا‪ ،‬وخلقها بكالمه ال ذي ه و‪:‬‬
‫صفة من ص فات ذات ه‪ ،‬وق د قض ى هللا وق در أن عي ون ب نى آدم تص ير إلى بالء‪ ،‬عن‬
‫قليل‪ ،‬وهللا نسأل خ ير ذل ك المص ير‪ ،‬وق د يعمي هللا عي ون كث ير من اآلدم يين في ذهب‬
‫بأبصارها قبل نزول المنايا بهم‪ ،‬ولعل كثيرا من أبصار اآلدميين فيذهب بأبصارها قبل‬
‫نزول المنايا بهم‪ ..‬فما ال ذي يش به ‪ -‬ي ا ذوي الحج ا ‪ -‬عين هللا ال تي هي موص وفة بم ا‬
‫ذكرنا عيون بني آدم التي وصفناها بعد؟)‬
‫ثم ذكر أمرا خطيرا يدل على مبلغ التنزيه السلفي‪ ،‬فقال‪( :‬ولست أحس ب‪ :‬ل و قي ل‬
‫لبصير ال آفة ببصره‪ ،‬وال علة بعينه‪ ،‬وال نقص‪ ،‬ب ل ه و أعين‪ ،‬أكح ل‪ ،‬أس ود الح دق‪،‬‬
‫شديد بياض العينين‪ ،‬أهدب األشفار‪ :‬عينك كعين فالن ال ذي ه و ص غير العين‪ ،‬أزرق‪،‬‬
‫أحمر بياض العينين‪ ،‬قد تناثرت أشفاره‪ ،‬وسقطت‪ ،‬أو كان أخفش العين‪ ،‬أزرق‪ ،‬أحم ر‬
‫بياض العينين‪ ،‬قد تناثرت أشفاره‪ ،‬وسقطت‪ ،‬أو كان أخفش العين‪ ،‬أزرق‪ ،‬أحمر بياض‬
‫شحمها‪ ،‬يرى الموصوف األول‪ :‬الشخص من بعيد‪ ،‬وال يرى الثاني مثل ذلك الش خص‬
‫من قدر عشر ما يرى األول‪ ،‬لعلة في بص ره‪ ،‬أو نقص في عين ه‪ ،‬إال غض ب من ه ذا‬
‫وأنف منه‪ ،‬فلعله يخرج إلى القائل له ذلك إلى المكروه من الشتم واألذى ولست أحس ب‬
‫عاقال يسمع هذا المشبه عي ني أح دهما بعي ني اآلخ ر‪ ،‬إال ه و يك ذب ه ذا المش به عين‬
‫أحدهما بعين اآلخر‪ ،‬ويرميه بالعته‪ ،‬والخبل والجنون‪ ،‬ويقول له‪ :‬لو كنت عاقال يج ري‬
‫عليك القلم‪ :‬لم تشبه عيني أحدهما بعيني اآلخر‪ ،‬وإن كان ا جميع ا يس ميان بص يرين‪ ،‬إذ‬
‫ليسا بأعميين‪ ،‬ويقال‪ :‬لكل واحد منهما عينان يبصر بهما‪ ،‬فكيف لو قيل له‪ :‬عينك كعين‬
‫الخنزير‪ ،‬والقرد‪ ،‬والدب‪ ،‬والكلب‪ ،‬أو غيرها من الس باع‪ ،‬أو ه وام األرض‪ ،‬والبه ائم‪،‬‬
‫فتدبروا يا ذوي األلباب أبين عيني خالقنا األزلي الدائم الباقي‪ ،‬الذي لم ي زل وال ي زال‪،‬‬
‫وبين عيني اإلنسان من الفرقان أكثر‪ ،‬أو مما بين أعين بني آدم وبين عيون ما ذكرنا؟)‬
‫(‪)1‬‬

‫وانطالقا من ه ذا ي رد على من رم اهم بالتش بيه بقول ه‪( :‬تعلم وا وتس تيقنوا أن من‬
‫سمى علماءنا مشبهة غير عالم بلغة العرب‪ ،‬وال يفهم العلم‪ ،‬إذ لم يجز تشبيه أعين ب ني‬
‫آدم بعيون المخلوقين‪ ،‬من السباع والبهائم‪ ،‬واله وام‪ ،‬وكله ا له ا عي ون يبص رون به ا‪،‬‬
‫وعيون جميعهم محدثة مخلوقة‪ ،‬خلقها هللا بعد أن ك انت ع دما‪ ،‬وكله ا تص ير إلى فن اء‬
‫وبلى‪ ،‬وغير جائز إسقاط اسم العيون واألبصار عن شيء منها‪ ،‬فكيف يحل لمسلم ‪ -‬لو‬
‫كانت الجهمية من المسلمين ‪ -‬أن يرموا من يثبت هلل عينا بالتشبيه‪ ،‬فلو كان كل ما وق ع‬
‫عليه االسم كان مشبها لما يقع عليه ذلك االسم‪ ،‬لم يج ز ق راءة كت اب هللا‪ ،‬ووجب مح و‬
‫كل آية بين الدفتين فيها ذكر نفس هللا‪ ،‬أو عينه‪ ،‬أو يده‪ ،‬ولوجب الكفر بكل ما في كت اب‬
‫هللا عز وجل من ذكر صفات الرب‪ ،‬كما يجب الكف ر بتش بيه الخ الق ب المخلوق‪ ،‬إال أن‬

‫‪1‬‬
‫التوحيد البن خزيمة (‪)117 /1‬‬ ‫()‬

‫‪96‬‬
‫(‪)1‬‬
‫القوم جهلة‪ ،‬ال يفهمون العلم‪ ،‬وال يحسنون لغة العرب‪ ،‬فيضلون ويضلون)‬
‫اليد‪:‬‬
‫يركز السلفية كث يرا على وص ف هللا تع الى بالي د‪ ،‬باعتباره ا من الص فات الذاتي ة‬
‫الكبرى هلل تعالى‪ ،‬وهم يضعون لها الكث ير من الص فات التابع ة له ا‪ ،‬وهي في الحقيق ة‬
‫عبارة عن وظائفه ا‪ ،‬ولكنهم يع برون عن الجمي ع تعب يرا واح دا‪ ،‬وه و (الص فة)‪ ،‬لكن‬
‫يفرقون بينهما في نوع الصفة‪ ،‬فاليد واألصابع التي ترتبط به ا يس مونها (ص فة ذات)‪،‬‬
‫والوظائف التي تقوم بها اليد يسمونها (صفة فع ل)‪ ،‬وق د يق ع الخالف الش ديد بينهم في‬
‫التمييز بين صفات الذات وصفات الفعل‪.‬‬
‫وهم ينطلقون في إثباتهم لهذه الصفة من النص وص القرآني ة أو األح اديث النبوي ة‬
‫ال تي ذك رت الي د كم ا ي ذكر الع رب الي د في كالمهم‪ ،‬وق د يري دون ظ اهره‪ ،‬وق د ال‬
‫يريدونه‪ ..‬ولكن السلفية ال يفهمون من اليد إال اليد حتى لو أولوا كل م ا في النص‪ ،‬لكن‬
‫اليد تبقى دائما عندهم صفة ذاتية هلل‪ ،‬ويعتبر جهميا ومعطال من لم يعتبرها كذلك‪.‬‬
‫ت ْاليَهُ و ُد يَ ُد هللاِ‬ ‫﴿وقَ الَ ِ‬‫ومن النصوص التي يس تدلون به ا على ذل ك قولـه تع الى‪َ :‬‬
‫ق َك ْي فَ يَ َش ا ُء﴾[المائ دة‪]64 :‬‬ ‫ت أَ ْي ِدي ِه ْم َولُ ِعنُوا بِ َما قَالُوا بَلْ يَدَاهُ َم ْبسُوطَتَا ِن يُنفِ ُ‬ ‫َم ْغلُولَةٌ ُغلَّ ْ‬
‫مع أن اآلية واضحة في أن المراد منها هو نفي البخ ل عن هللا ال إثب ات الي د ل ه‪ ،‬وهي‬
‫ْس ْ‬
‫طهَا ُك َّل ْالبَ ْس ِط فَتَ ْق ُع َد َملُو ًم ا‬ ‫ك َم ْغلُولَةً إِلَى ُعنُقِكَ َواَل تَب ُ‬ ‫مثل قوله تعالى‪﴿ :‬اَل تَجْ َعلْ يَ َد َ‬
‫َمحْ سُورًا ﴾ [اإلسراء‪ ،]29 :‬فال أحد من الفقهاء ـ حتى السلفية أنفسهم ـ يحرم قبض اليد‬
‫أو بسطها‪.‬‬
‫ت بِيَ َديَّ﴾[ص‪ ]75 :‬م ع أن اآلي ة‬ ‫ك أَ ْن ت َْس ُج َد لِ َم ا خَ لَ ْق ُ‬
‫ومثلها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما َمنَ َع َ‬
‫الكريمة واضحة كذلك في الداللة عل القدرة والفعل اإللهي‪ ،‬وليس على قصد اليد‪ ،‬كم ا‬
‫ت أَ ْي ِدي ُك ْم ﴾ [آل عم ران‪ ،]182 :‬ف الجرائم ال تي يع اقب عليه ا‬ ‫ك بِ َما قَ َّد َم ْ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫الكفار ليس ما يفعلونه بأيديهم فقط‪.‬‬
‫أما األحاديث النبوية التي يستدلون به ا فهي كث يرة ج دا‪ ،‬وال يمكن مناقش تها هن ا‪،‬‬
‫وال حتى االستدالل بها ألن الكثير منها روي بالمعنى‪ ،‬وقد يتصرف ال راوي في ألف اظ‬
‫الحديث‪ ،‬ومن الص عوبة حين ذاك اس تنباط قض ية عقدي ة خط يرة كه ذه من أمث ال تل ك‬
‫الروايات‪.‬‬
‫ولكن المنهج السلفي ـ كما ذكرنا ـ يقبل كل ما روي حتى ل و ك ان من آح اد الن اس‬
‫ما دام موافقا لهم في التجسيم‪ ..‬ولهذا كثرت عندهم الرواي ات واألخب ار ال تي يس تدلون‬
‫بها على إثبات اليد هلل‪.‬‬
‫يقول ابن القيم‪( :‬ورد لفظ اليد في القرآن والسنة وكالم الصحابة والتابعين في أكثر‬
‫من مئة موضع وروداً متنوع ا ً متص رفا ً في ه مقرون ا ً بم ا ي دل على أنه ا ي د حقيق ة من‬

‫‪1‬‬
‫التوحيد البن خزيمة (‪)117 /1‬‬ ‫()‬

‫‪97‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلمساك والطي والقبض والبسط والمصافحة والحثيات‪)..‬‬
‫وقال أبو بكر اإلسماعيلي‪( :‬وخلق آدم علي ه الس الم بي ده‪ ،‬وي داه مبس وطتان ينف ق‬
‫(‪)2‬‬
‫كيف يشاء‪ ،‬بال اعتقاد كيف يداه‪ ،‬إذ لم ينطق كتاب هللا تعالى فيه بكيف)‬
‫(‪)3‬‬
‫(إن هلل تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجالله)‬ ‫وقال ابن تيمية‪َّ :‬‬
‫وقال الشيخ عبد هللا الغنيمان‪( :‬هذا ؛ وق د تن وعت النص وص من كت اب هللا تع الى‬
‫وسنة رسوله ‪ ‬على إثب ات الي دين هلل تع الى وإثب ات األص ابع لهم ا‪ ،‬وإثب ات القبض‬
‫وأن إحداهما يَ ِمين‪ ،‬وفي نصوص كثيرة‪ ،‬واألخرى شمال ؛ كما في (صحيح‬ ‫وتثنيتهما‪َّ ،‬‬
‫مسلم)‪ ،‬وأنه تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار‪ ،‬وبالنهار ليتوب مس يء اللي ل‪،‬‬
‫وأن المقس طين‬ ‫وأنه تعالى يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيَ ِمينه‪ ،‬فيربيه ا لص احبها‪َّ ،‬‬
‫على منابر من نور عن يَ ِمين الرحمن‪ ،‬وكلتا يديه يَ ِمين‪ ،‬وغير ذلك مم ا ه و ث ابت عن‬
‫ِّ‬
‫والش مال‪،‬‬ ‫هللا ورسوله ‪ ..‬وق د أتان ا ‪ ‬ب ذكر األص ابع‪ ،‬وب ذكر الك ف‪ ،‬وذك ر اليَ ِمين‪،‬‬
‫وأن األخ رى‬ ‫واليدين مرة مثناة‪ ،‬ومرة منصوص على واحدة أنه يفعل به ا ك ذا وك ذا‪َّ ،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫فيها كذا ؛ كما تقدمت النصوص بذلك)‬
‫ومما يدل على أن مرادهم من اليد هو الجارح ة‪ ،‬وليس الص فة كم ا يزعم ون ه و‬
‫تأويلهم لما ورد في القرآن من ذكر األيدي بص يغة الجم ع‪ ،‬ألنهم ي ذكرون أن هلل ي دين‬
‫فقط‪ ،‬وليس أكثر من ذلك‪ ،‬ألن صورته ـ كما سنرى ـ مثل صورة اإلنسان‪.‬‬
‫يق ول ابن تيمي ة في تأوي ل م ا ورد من األي دي بص يغة الجم ع‪( :‬فاهلل ‪ -‬س بحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬يذكر نفسه تارة بصيغة المف رد‪ ،‬مظه را أو مض مرا‪ ،‬وت ارة بص يغة الجم ع‪،‬‬
‫كقوله‪﴿ :‬إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾ وأمثال ذل ك‪ .‬وال ي ذكر نفس ه بص يغة التثني ة ق ط‪ ،‬ألن‬
‫ص يغة الجم ع تقتض ي التعظيم ال ذي يس تحقه‪ ،‬وربم ا ت دل على مع اني أس مائه‪ ،‬وأم ا‬
‫صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور‪ ،‬وهو مقدس عن ذلك‪ ،‬فلو ق ال‪ :‬م ا منع ك أن‬
‫تسجد لما خلقت يدي‪ .‬كان كقوله‪﴿ :‬مما عملت أي دينا﴾‪ ،‬وه و نظ ير قول ه‪﴿ :‬بي ده المل ك﴾‬
‫و﴿بيدك الخير﴾‪ ،‬ولو قال‪:‬خلقت بيدي‪ .‬بصيغة اإلفراد‪ ،‬لكان مفارقا ل ه‪ ،‬فكي ف إذا ق ال‪:‬‬
‫(‪)5‬‬
‫﴿خلقت بيدي﴾ بصيغة التثنية)‬
‫ويق ول ال دارمي في (النقض على المريس ي)‪( :‬وروى المع ارض أيض ا عن ابن‬
‫عباس‪« :‬الركن يمين هللا في األرض‪ ،‬يصافح به خلقه»(‪ ،)6‬ف روى عن ه ذا الثلجي من‬
‫غير سماع منه أنه قال‪:‬يمين هللا‪ :‬نعمته وبركت ه وكرامت ه‪ ،‬ال يمين األي دي‪ .‬فيق ال له ذا‬
‫الثلجي ‪-‬الذي يريد أن ينفي عن هللا بهذه الضالالت يديه اللتين خلق بهما آدم ويل ك أيه ا‬
‫‪1‬‬
‫مختصر الصواعق المرسلة (‪.)2/171‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫في اعتقاد أئمة الحديث (ص ‪.: )51‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع الفتاوى (‪.)6/263‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫انظر‪ :‬شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري (‪.)1/311‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫التدمرية‪ :‬تحقيق اإلثبات لألسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص‪.)75 :‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫عبد الرزاق (‪ ،)8919‬واألزرقي في أخبار مكة (‪)326 ،324 ،323 /1‬‬ ‫()‬

‫‪98‬‬
‫الثلجي! إن تفسيره على خالف ما ذهبت إليه‪ ،‬وقد علمن ا يقين ا أن الحج ر األس ود ليس‬
‫بيد هللا نفس ه‪ ،‬وأن يمين هللا مع ه على الع رش غ ير ب ائن من ه‪ ،‬ولكن تأويل ه عن د أه ل‬
‫العلم‪ :‬كأن الذي يصافح الحجر األسود ويستلمه كأنم ا يص افح هللا‪ ،‬كقول ه تع الى‪ ﴿ :‬إِ َّن‬
‫ق أَ ْي ِدي ِه ْم ﴾ [الفتح‪ ]10 :‬فثبت له الي د ال تي هي‬
‫الَّ ِذينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّ َما يُبَايِعُونَ هَّللا َ يَ ُد هَّللا ِ فَوْ َ‬
‫اليد عند ذكر المبايعة‪ ،‬إذ سمى اليد مع اليد‪ ،‬واليد معه على العرش‪ ،‬وكقول الن بي ‪:‬‬
‫«إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل يد السائل»‪ .‬فثبت به ذا الي د ال تي هي الي د‪ ،‬وإن لم‬
‫(‪)1‬‬
‫يضعها المتصدق في نفس يد هللا)‬
‫ولم يكتف السلفية بهذا‪ ،‬بل راحوا يختلفون في ج واز إطالق لف ظ الش مال على ي د‬
‫هللا الثانية‪ ..‬مع اتفاقهم على أن إحدى يديه شمال‪ ،‬واألخرى يمين‪..‬‬
‫وقد قال بإثب ات الش مال من أئمتهم الكب ار المعتم دين‪ :‬عثم ان بن س عيد ال دارمي‪،‬‬
‫وأبو يعلى الفراء‪ ،‬ومحمد بن عبد الوهاب‪ ،‬وصديق حسن خان‪ ،‬ومحمد خليل الهرَّاس‪،‬‬
‫وعبدهللا الغنيمان‪ ،‬وغيرهم مستدلين لذلك بأحاديث كثيرة منها ما رووه عن عب د هللا بن‬
‫وج َّل الس ماوات ي وم القيام ة‪ ،‬ثم يأخ ذهن‬ ‫عمر أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬يطوي هللا َع َّز َ‬
‫بيده اليمنى‪ ،‬ثم يق ول‪ :‬أن ا المل ك! أين الجب ارون؟أين المتك برون؟ثم يط وي األرض ين‬
‫(‪)2‬‬
‫بشماله ثم يقول‪ :‬أين الجبارون؟أين المتكبرون؟)‬
‫ومنها ما رووه عن أبي الدرداء مرفوع ا ً إلى الن بي ‪( :‬خل ق هللا آدم حين خلق ه‪،‬‬
‫فضرب كتفه اليَ ِمين فأخرج ذرية بيضاء ك أنهم ال ذر‪ ،‬وض رب كتف ه اليس رى ف أخرج‬
‫ذرية س وداء ك أنهم الحُمم‪ ،‬فق ال لل تي في يَ ِمين ه‪ :‬إلى الجن ة وال أب الي‪ ،‬وق ال لل تي في‬
‫(‪)3‬‬
‫يساره‪ :‬إلى النار وال أبالي)‬
‫ومن أدلتهم العقلية على هذا أن وصف إح دى الي دين ب اليَ ِمين ؛ كم ا في األح اديث‬
‫أن األخرى ليس ت يَ ِمين اً‪ ،‬فتك ون ش ماالً‪ ،‬وفي بعض األح اديث ت ذكر‬ ‫السابقة‪ ،‬يقتضي َّ‬
‫أن األخ رى ليس ت اليَ ِمين‪ ،‬فتك ون‬ ‫اليَ ِمين‪ ،‬ويذكر مقابلها‪( :‬بيده األخرى))‪ ،‬وهذا يع ني َّ‬
‫ال ِّشمال‪.‬‬
‫يقول أبو سعيد الدارمي‪( :‬وأعجب من هذا ق ول الثلجي الجاه ل فيم ا ادعى تأوي ل‬
‫حديث رسول هللا ‪( :‬المقسطون ي وم القيام ة على من ابر من ن ور عن يَ ِمين ال رحمن‬
‫أن الن بي ‪ ‬ت أول كلت ا يدي ه يَ ِمين ؛ أن ه خ رج من‬ ‫وكلتا يدي ه يَ ِمين))‪ ،‬ف ادعى الثلجي َّ‬
‫تأويل الغلوليين أنها يَ ِمين األيدي‪ ،‬وخرج من معنى اليدين إلى النعم ؛ يعني ب الغلوليين‪:‬‬
‫أه ل الس نة ؛ يع ني أن ه ال يك ون ألح د يَ ِمين ان‪ ،‬فال يوص ف أح د بيَ ِمي نين‪ ،‬ولكن يَ ِمين‬
‫وشمال بزعمه‪ ..‬ويلك أيها المعارض! إنما عنى رسول هللا ‪ ‬ما ق د أطل ق على ال تي‬
‫الش مال‪ ،‬ولكن تأويل ه‪( :‬وكلت ا يدي ه يَ ِمين)؛ أي‪ُ :‬منَ َّزه على النقص‬ ‫في مقابل ة اليَ ِمين ِّ‬
‫والضعف ؛ كما في أيدينا ال ِّشمال من النقص وع دم البطش‪ ،‬فق ال‪ِ ( :‬كلت ا ي دي ال رحمن‬

‫‪1‬‬
‫النقض على المريسي (ص‪.)266 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫مسلم في صحيحه (‪.)2788‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫عبد هللا ابن اإلمام أحمد في السنة (‪ .)1059‬والبزار في مسنده (‪-2144‬كشف)‪ .‬وقال‪ :‬إسناده حسن‪..‬‬ ‫()‬

‫‪99‬‬
‫بالش مال واليس ار‪،‬‬‫يَ ِمين) ؛ إجالالً هلل‪ ،‬وتعظيما ً أن يوصف بال ِّشمال‪ ،‬وقد وص فت ي داه ِّ‬
‫وكذلك لو لم يجز إطالق ال ِّشمال واليسار ؛ لم ا أطل ق رس ول هللا ‪ ،‬ول و لم يج ز أن‬
‫يُقال‪ :‬كلتا يدي الرحمن يَ ِمين ؛ لم يقله رسول هللا ‪ ،‬وهذا قد جوزه الناس في الخلق ؛‬
‫فكيف ال يج وز ابن الثلجي في ي دي هللا أنهم ا جميع ا ً يَ ِمين ان‪ ،‬وق د ُس ِّمي من الن اس ذا‬
‫ال ِّشمالين‪ ،‬فجاز نفي دعوى ابن الثلجي أيضاً‪ ،‬ويخرج ذو ال ِّشمالين من مع نى أص حاب‬
‫(‪)1‬‬
‫األيدي)‬
‫وقال صديق حسن خان‪( :‬ومن صفاته سبحانه‪ :‬اليد‪ ،‬واليَ ِمين‪ ،‬والك ف‪ ،‬واإلص بع‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫شمال‪)..‬‬‫وال ِّ‬
‫وأن كلت ا ي دي هللا يَ ِمين ال ش مال وال يس ار فيهما ابن‬ ‫وق د ذهب إلى خالف ه ذا‪َّ ،‬‬
‫خزيمة‪ ،‬واإلمام أحمد‪ ،‬والبيهقي‪ ،‬واأللباني‪ ،‬مس تدلين على ذل ك بم ا رووه عن رس ول‬
‫إن المقس طين عن د هللا على من ابر من ن ور عن يَ ِمين ال رحمن َع َّز‬ ‫هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪َّ ( :‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وجلَّ‪ ،‬وكلتا يديه يَ ِمين‪)..‬‬‫َ‬
‫وبما رووه عن أبي هريرة مرفوعا ً إلى النبي ‪( :‬لما خل ق هللا آدم‪ ،‬ونفخ في ه من‬
‫روحه ؛ قال بيده وهم ا مقبوض تان‪ :‬خ ذ أيه ا ش ئت ي ا آدم‪ ،‬فق ال‪ :‬اخ ترت يَ ِمين ربي‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫وكلتا يداه يَ ِمين مباركة‪ ،‬ثم بسطها‪)..‬‬
‫وقد قال ابن خزيمة في هذا‪( :‬باب‪ :‬ذكر س نة ثامن ة ت بين وتوض ح َّ‬
‫أن لخالقن ا ج َّل‬
‫وعال يدين‪ ،‬كلتاهما يَ ِمينان‪ ،‬ال يسار لخالقنا َع َّز و َج َّل ؛ إذ اليسار من صفة المخل وقين‪،‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ج َّل ربنا عن أن يكون له يسار)‬ ‫فَ َ‬
‫وق ال‪ ..( :‬ب ل األرض جميع ا ً قبض ةُ ربن ا َج َّل وعال‪ ،‬بإح دى يدي ه ي وم القيام ة‪،‬‬
‫والسماوات مطويات بيَ ِمينه‪ ،‬وهي اليد األخرى‪ ،‬وكلتا يدي ربنا يَ ِمين‪ ،‬ال ش مال فيهم ا‪،‬‬
‫جل ربن ا وع ز عن أن يك ون ل ه يس ار ؛ إذ ك ون إح دى الي دين يس اراً إنم ا يك ون من‬
‫(‪)6‬‬
‫عالمات المخلوقين‪ ،‬جل ربنا وعز عن شبه خلقه)‬
‫وقال اإلمام أحمد‪( :‬وكما ص ح الخ بر عن رس ول هللا ‪ ‬؛ أن ه ق ال‪( :‬وكلت ا يدي ه‬
‫أن ذلك حق كم ا ق ال رس ول هللا ‪ ‬؛‬ ‫يَ ِمين)‪ ،‬اإليمان بذلك‪ ،‬فمن لم يؤمن بذلك‪ ،‬ويعلم َّ‬
‫(‪)7‬‬
‫فهو ُم َك ِّذبٌ برسول هللا ‪)‬‬

‫‪1‬‬
‫أبو سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي‪ ،‬ص ‪.155‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫قطف الثمار (ص ‪.)66‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مسلم في (صحيحه (‪.)1827‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫َّحه‪ .‬وعن ه ال بيهقي في (األس ماء‬
‫ابن أبي عاصم في السنة (‪ .)206‬وابن حبان (‪ .)6167‬والحاكم (‪ )1/64‬وصح َ‬ ‫()‬
‫والصفات (‪ . )2/56‬والحديث حسَّنه األلباني في تخريجه لـ (السنة)‬
‫‪5‬‬
‫كتاب التوحيد (‪.)1/159‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫كتاب التوحيد (‪.)1/197‬‬ ‫()‬
‫‪7‬‬
‫طبقات الحنابلة ألبي يعلى‪.)1/313( :‬‬ ‫()‬

‫‪100‬‬
‫ومن الوظائف التي ذكره ا الس لفية للي دين (البَ ْسطُ والقَبْضُ )‪ ،‬وهم ا مص طلحان‬
‫ْس طُ َوإِلَ ْي ِه‬
‫قرآنيان‪ ،‬ورد بهما اسمي الباسط والقابض‪ ،‬كما قال تع الى‪َ ﴿ :‬وهللاُ يَ ْقبِضُ َويَب ُ‬
‫من يَ َش ا ُء َويَ ْق ِد ُر﴾[اإلس راء‪:‬‬ ‫ق لِ ْ‬ ‫ْس طُ ال ْ‬
‫رِّز َ‬ ‫تُرْ َجعُونَ ﴾ [البقرة‪ ،]245 :‬وقال‪﴿ :‬إِ َّن َربَّكَ يَب ُ‬
‫‪ ،]30‬ومع أن داللتهما في القرآن الكريم عميقة جدا إال أن السلفية يربطونهما باليد‪..‬‬
‫ومن األح اديث ال تي رووه ا للدالل ة على ه ذا م ا رووه في بعض ص يغ ح ديث‬
‫النزول وهي صيغة خطيرة جدا‪ ،‬ألنها تص ور هللا تع الى بص ورة الش حاذ المس تجدي‪،‬‬
‫فقد رووا عن أبي هريرة قول ه‪ ..( :‬ثم يبسط يدي ه تب ارك وتع الى ؛ يق ول‪ :‬من يق رض‬
‫(‪)1‬‬
‫ُوم وال ظَلُوم)‬ ‫غير َعد ٍ‬
‫قال ابن تيمية في تقرير هذه الوظيفة‪( :‬ووص ف نفس ه (يع ني‪ :‬هللا) ببس ط الي دين‪،‬‬
‫فقال﴿‪..‬بَل يَدَاهُ َم ْبسُوطَتَا ِن﴾‪ ،‬ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قولـه تعالى‪َ ﴿ :‬وال تَجْ َعل‬
‫ْط﴾‪ ،‬وليس اليد كالي د‪ ،‬وال البس ط كالبسط‪)..‬‬ ‫ُطهَا ُكل البَس ِ‬ ‫ك َم ْغلُولَةً إِلَى ُعنُقِكَ َوال تَ ْبس ْ‬
‫يَ َد َ‬
‫(‪ ،)2‬أي أن كيفية بسط هلل ليده تختلف عن الكيفية التي يبسط بها الخلق أيديهم‪.‬‬
‫(ال َح ْث ُو)‪ ،‬وق د رووا للدالل ة على ه ذه‬ ‫ومن الوظائف التي ذكرها الس لفية للي دين ْ‬
‫أن ي دخل الجن ة من أم تي س بعين ألف ا ً ال‬ ‫الوظيفة أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬وعدني ربي َّ‬
‫(‪)3‬‬ ‫ً‬
‫حساب عليهم وال عذاب‪ ،‬مع كل ألف سبعون ألفا‪ ،‬وثالث حثيات من حثيات ربي)‬
‫أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا ً بغير حساب‪ ،‬ثم‬ ‫(إن ربي وعدني َّ‬ ‫وفي رواية‪َّ :‬‬
‫(‪)4‬‬
‫يتبع كل ألف سبعين ألفاً‪ ،‬ثم يحثي بكفه ثالث حثيات‪ ،‬فكبَّر عمر‪) ..‬‬
‫وخطورة هذا الحديث ـ بحسب الرؤية السلفية ـ هو أن القول به يعني إلغاء ك ل م ا‬
‫ورد في النصوص المقدسة من عق اب‪ ..‬ذل ك أن حثية(‪ )5‬واح دة من حثي ات هللا بحس ب‬
‫الجرم الذي يصفونه هلل كافية في شمولها الخلق جميعا‪ ..‬فهم في هذا بين أمرين‪ :‬بين أن‬
‫يجعلوا يد هللا صغيرة ال تطيق حمل خلقه‪ ..‬وإما أن ينفوا العذاب نفيا نهائيا‪.‬‬
‫ومن الوظائف التي ذكره ا الس لفية للي دين (األَ ْخ ُذ بِا ْليَ ِد)‪ ،‬وقد س بق ذك ر بعض‬
‫األحاديث التي استدلوا بها عليها‪ ،‬ومنه ا م ا رفع وه إلى الن بي ‪ ‬من قول ه‪( :‬يأخ ذ هللا‬
‫وج َّل سماواته وأراض يه بيدي ه‪ ،‬فيق ول‪ :‬أن ا هللا (ويقبض أص ابعه ويبس طها ؛ أي‪:‬‬ ‫َع َّز َ‬
‫(‪)6‬‬
‫النبي ‪ ،)‬أنا الملك)‬
‫‪1‬‬
‫مسلم(‪.)758‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫التدمرية (ص ‪.)29‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫() رواه أحمد (‪ .)5/268‬وابن أبي عاصم في السنة ( ‪ .)589‬و الترمذي (صحيح سنن الترمذي ‪ .)1984‬وابن ماجه‬
‫(‪ .)4286‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫رواه عثم ان بن س عيد ال دارمي في (رده على بش ر المريس ي (ص ‪ .)37‬وابن حب ان في (ص حيحه (‪.)7247‬‬ ‫()‬
‫والفسوي في (المعرفة والتاريخ (‪ .)2/341‬والطبراني في (الكبير (‪ .)17/126‬و (األوسط (‪.)404‬‬
‫‪5‬‬
‫قال المباركفوري في (تحفة األحوذي (‪( ( :)7/129‬ثالث حثي ات) ؛ بفتح الح اء والمثلث ة‪ .‬جم ع حثي ة‪ .‬والحثي ة‬ ‫()‬
‫والحثوة يستعمل فيما يعطيه اإلنسان بكفيه دفعة واحدة من غير وزن وتقدير)‬
‫‪6‬‬
‫رواه مسلم (‪ 25-2788‬و ‪.)26‬‬ ‫()‬

‫‪101‬‬
‫ومنها ما رووه عن أبي هريرة مرفوعاً‪( :‬وما تص دق أح د بص دقة من طيِّب‪ ،‬وال‬
‫(‪)1‬‬
‫يقبل هللا إال الطَّيِّب ؛ إال أخذها الرحمن بيمينه)‬
‫ومنها ما رووه عن رسول هللا ‪ ‬في الدعاء المعروف‪ ( :‬اللهم أعوذ ب ك من ش ر‬
‫(‪)2‬‬
‫نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها)‬
‫وقد علق عليه الشيخ عبد العزيز السلمان بقوله‪( :‬مما يستفاد من الح ديث‪( :‬ص فة‬
‫(‪)3‬‬
‫األخذ)‬
‫وقال الشيخ ابن عثيمين‪( :‬من صفات هللا تعالى المجيء واإلتيان واألخذ واإلمساك‬
‫والبطش إلى غ ير ذل ك من الص فات ‪ ..‬فنص ف هللا تع الى به ذه الص فات على الوج ه‬
‫(‪)4‬‬
‫الوارد)‬
‫األصابع‪:‬‬
‫وهي من األعضاء المرتبطة باليد‪ ،‬كما ينص السلفيون‪ ،‬ويستدلون له ا بم ا رووه‬
‫عن رسول هللا ‪ ‬أنه قال‪( :‬إن قلوب بني آدم كلها بين إص بعين من أص ابع ال رحمن)‬
‫(‪)5‬‬

‫وبالحديث الذي رووه عن عبد هللا بن مسعود؛ ق ال‪ :‬ج اء رج ل إلى الن بي ‪ ‬من‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬فقال‪( :‬يا أبا القاسم!إن هللا يمسك السماوات على إص بع‪ ،‬واألرض ين على‬
‫إصبع ‪ ..‬إلى أن قال‪ :‬فرأيت النبي ‪ ‬ضحك حتى بدت نواجذه‪ ،‬ثم قرأ ﴿ َو َما قَ َدرُوا هللاَ‬
‫(‪)6‬‬
‫ق قَ ْد ِر ِه﴾)‬
‫َح َّ‬
‫وقد ذك ر ه ذه األح اديث وغيره ا أب و بك ر بن خزيم ة في كت اب (التوحي د) تحت‬
‫عنوان‪( :‬باب إثبات األصابع هلل َع َّز و َجلَّ)(‪ ،)7‬وذكرها أبو بكر اآلجري في (الش ريعة)‬
‫تحت عنوان‪( :‬ب اب اإليم ان ب أن قل وب الخالئ ق بين إص بعين من أص ابع ال رب َع َّز‬
‫وجلَّ‪ ،‬بال كيف)‬ ‫َ‬
‫(واإلص بَع الم ذكورة في الح ديث ص فةٌ‬ ‫ْ‬ ‫وقال البغوي تعليقا على الحديث الس ابق‪:‬‬
‫من صفات هللا َع َّز و َجلَّ‪ ،‬وكذلك كلُّ م ا ج اء ب ه الكت اب أو الس نَّة من ه ذا القبي ل من‬
‫ص فات هللا تع الى ؛ ك النَّفس‪ ،‬والوج ه‪ ،‬والعين‪ ،‬والي د‪ ،‬وال ِّرج ل‪ ،‬واإلتي ان‪ ،‬والمجيء‪،‬‬
‫(‪)8‬‬
‫والنُّ ُزول إلى السـماء الدنيا‪ ،‬واالستواء على العرش‪ ،‬والضحك‪ ،‬والفرح)‬
‫‪1‬‬
‫رواه مسلم (‪.)1014‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫رواه مسلم رقم (‪ )2713‬والترمذي رقم (‪ )3397‬وأبو داود رقم (‪)5051‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الكواشف الجلية (ص ‪.)487‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫القواعد المثلى في صفات هللا وأسمائه الحسنى (ص‪.)30‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫رواه مسلم (‪.)2654‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫رواه‪ :‬البخاري (‪ )7415‬ومسلم (‪.)2786‬‬ ‫()‬
‫‪7‬‬
‫التوحيد (‪.)1/187‬‬ ‫()‬
‫‪8‬‬
‫شرح السنة (‪.)1/168‬‬ ‫()‬

‫‪102‬‬
‫ومن غ رائب المج ادالت م ع المنزه ة ال تي يورده ا الس لفية في ه ذا المج ال م ا‬
‫ينقلونه عن ابن قتيبة في حل اإلشكاالت الكث يرة ال تي ينش ئها الح ديث الس ابق‪( :‬ونحن‬
‫إن ه ذا الح ديث ص حيح‪ ،‬وإن ال ذي ذهب وا إلي ه في تأوي ل اإلص بع ال يش به‬ ‫نق ول‪َّ :‬‬
‫الحديث ؛ ألنه علي ه الس الم ق ال في دعائ ه‪( :‬ي ا مقلب القل وب!ثبت قل بي على دين ك)‪،‬‬
‫(إن قلب المؤمن بين‬ ‫فقالت له إحدى أزواجه‪ :‬أ َو تخاف يا رسول هللا على نفسك؟ فقال‪َّ :‬‬
‫أصبعين من أصابع هللا َع َّز و َجلَّ)‪ ،‬فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم هللا تع الى‬
‫؛ فهو محفوظ بتين ك النعم تين ؛ فألي ش يء دع ا ب التثبيت؟ولِ َم احتج على الم رأة ال تي‬
‫قالت له‪ :‬أتخاف على نفسك؟ بما يؤكد قوله ا؟ وك ان ينبغي أن ال يخ اف إذا ك ان القلب‬
‫محروسا ً بنعمتين‪ .‬فإن قال لنا‪ :‬ما اإلصبع عندك ها هنا؟ قلنا‪ :‬هو مثل قولـه في الحديث‬
‫اآلخر‪( :‬يحمل األرض على إصبع)‪ ،‬وكذا على إصبعين‪ ،‬وال يجوز أن تك ون اإلص بع‬
‫ق قَ ْد ِر ِه َواألَرْ ضُ َج ِميع ا ً قَب َ‬
‫ْض تُهُ يَ وْ َم‬ ‫ها هنا نعمة‪ ،‬وكقولـه تعالى‪َ ﴿ :‬و َم ا قَ َدرُوا هللاَ َح َّ‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه﴾‪ ،‬ولم يجز ذلك‪ .‬وال نقول‪ :‬إصب ٌع كأصابعنا‪ ،‬وال ي ٌد‬ ‫ات َم ْ‬
‫ط ِوي ٌ‬ ‫َّماو ُ‬
‫القِيَا َم ِة َوالس َ‬
‫(‪)1‬‬
‫وج َّل ال يشبه شيئا ً منا)‬ ‫كأيدينا‪ ،‬وال قبضةٌ كقبضاتنا ؛ ألن كل شيء منه َع َّز َ‬
‫ومن الص فات ال تي يربطونه ا باألص ابع [األَنَا ِم ُل]‪ ،‬ويعتبرونه ا من الص فات‬
‫الذاتية هلل تعالى‪ ،‬ويستدلون لها بما رووه عن مع اذ بن جبل ق ال‪ .. ( :‬ف إذا أن ا ب ربي‬
‫ق ) في أحسن صورة‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد!فيم‬ ‫وج َّل (يعني‪ :‬في المنام‪ ،‬ورؤى األنبياء ح ٌ‬ ‫َع َّز َ‬
‫يختص م المأل األعلى؟ قلت‪ :‬ال أدري رب! ق ال‪ :‬ي ا محم د!فيم يختص م المأل األعلى؟‬
‫قلت‪ :‬ال أدري رب! ق ال‪ :‬ي ا محم د! فيم يختص م المأل األعلى؟ قلت‪ :‬ال أدري رب!‬
‫(‪)2‬‬
‫فرأيته وضع كفه بين كتفي‪ ،‬حتى وجدت برد أنامله في صدري‪)..‬‬
‫وق د رد ابن تيمي ة على تأوي ل الفخ ر ال رازي له ذا الح ديث‪ ،‬فق ال‪( :‬فقولـه (أي‪:‬‬
‫الرازي)‪ :‬وجدت برد أنامل ه ؛ أي‪ :‬معن اه وج دت أث ر تل ك العناي ة‪ .‬يق ال ل ه‪ :‬أث ر تل ك‬
‫العناية كان حاصالً على ظهره وفي فؤاده وصدره ؛ فتخصيص أثر العناية ال يج وز ؛‬
‫إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط‪ ،‬وإنما المع نى أن ه ص رف ال رب عنايت ه إلي ه‪،‬‬
‫أن أثر تلك العناية متعلق بم ا يعم‪ ،‬أو بأش رف األعض اء‪ ،‬وم ا بين‬ ‫فكان يجب أن يبين َّ‬
‫الثديين ك ذلك ؛ بخالف م ا إذا ق رأ الح ديث على وجه ه؛ فإن ه إذا وض عت الك ف على‬
‫ظه ره ؛ ثق ل برده ا إلى الناحي ة األخ رى‪ ،‬وه و الص در‪ ،‬ومث ل ه ذا يعلم ه الن اس‬
‫باإلحساس وأيضا ً فقول القائل‪ :‬وضع يده بين كتفي حتى وجدت ب رد أنامل ه بين ث ديي‬
‫نصٌ ال يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد االعتن اء‪[ ،‬وه ذا] أم ر يعلم‬
‫(‪)3‬‬
‫بطالنه بالضرورة من اللغة العربية‪ ،‬وهو من غث كالم القرامطة والسوفسطائية‪)..‬‬
‫ثم بين الوجه الصحيح الذي يفهمه الس لفية‪ ،‬فق ال‪( :‬الوج ه الس ادس‪ :‬أن ه ‪ ‬ذك ر‬
‫ثالثة أشياء ؛ حيث قال‪( :‬فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها)‪ ،‬وفي رواي ة‪( :‬ب رد‬
‫‪1‬‬
‫تأويل مختلف الحديث) (ص ‪.)245‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الترمذي (‪ ،)3235‬وأحمد (‪ .)22162( )243 /5‬قال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن صحيح؛ س ألت محم د بن‬
‫إسماعيل ‪ -‬البخاري ‪ -‬عن هذا الحديث فقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪..‬‬
‫‪3‬‬
‫نقض أساس التقديس (ق ‪.)526-524‬‬ ‫()‬

‫‪103‬‬
‫أنامله على صدري‪ ،‬فعلمت ما بين المش رق والمغ رب)‪ ،‬ف ذكر وض ع ي ده بين كتفي ه‪،‬‬
‫وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين ثدييه‪ ،‬وهذا معنى ثان‪ ،‬وه و وج ود ه ذا ال برد‬
‫عن شيء مخصوص في محل مخصوص‪ ،‬وعقب ذلك بقولـه‪ :‬الوضع الموجود [كذا]‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أن أحد هذه المعاني ليس هو اآلخر)‬‫وكل هذا يبين َّ‬

‫القدم‪:‬‬
‫وهي من الصفات التي يف رق به ا الس لفية بين الس ني والب دعي‪ ،‬ويس مونها ص فة‬
‫[الرجل] أيضا‪ ،‬ويقصدون بها ما نعرف ه من الق دم‪ ..‬لكن الف رق بين ق دمنا وق دم هللا ال‬
‫يمكن تصوره‪ ،‬ألن أقدامنا تحترق بالنار‪ ،‬بينما قدم هللا ال تؤثر فيها النار‪..‬‬
‫وق د أوردوا في ذل ك ح ديثا‪ ،‬يحرص ون على الفهم الظ اهري الح رفي ل ه‪ ،‬ب ل‬
‫يبدعون المخالف لذلك الفهم‪ ،‬وهو ما رووه عن أنس عن رسول هللا ‪ ‬أنه ق ال‪( :‬يلقى‬
‫(‪)3( )2‬‬
‫في النار وتقول‪ :‬هل من مزيد؟ حتى يضع رجله فيها‪ ،‬أو قدمه‪ ،‬فتقول‪ :‬قط قط )‬
‫وقد أشار علم من أعالم السلفية المعاص رين‪ ،‬وه و الش يخ أب و أحم د محم د أم ان‬
‫جامي إلى الصراع الذي حص ل بين التنزيه يين والمجس مة في تفس ير الح ديث‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫(هذه الصفة كالتي قبلها من الص فات الخبري ة والفعلي ة مح ل ص راع ح ا ّد بين الس لف‬
‫والخل ف‪ ،‬أم ا الس لف ‪ -‬فهم كع ادتهم‪ -‬ي رون أن المق ام ليس مق ام اجته اد أو قي اس أو‬
‫استحسان‪ ،‬وإنما هو مقام تسليم هلل ولرسوله‪ ،‬وأنه ال ق ول ألح د م ع ق ول هللا وق ول‬
‫رسوله المعصوم ‪ ،‬الذي أمره ربه أن يبلغ ما أنزل إليه‪ .‬فمم ا بلغ ه الرس ول عن هللا‬
‫ألمته بعضُ أوصاف الجنة والنار‪ ،‬وذلك من األمور الغيبية ال تي أطل ع هللا عليه ا نبي ه‬
‫‪ ،‬وال سبيل لإلنسان العادي أن يقول فيها قوالً اجته اداً أو استحس اناً‪ ..‬ففي مث ل ه ذا‬
‫المقام التوقيفي ال ينبغي للمرء الناصح لنفسه أن يح اول اس تخدام ق وة عقل ه أو س لطان‬
‫فلسفته أو ما ورثه من مشايخه ليقول في هذا النص النبوي قوالً يخالف قول المعصوم‪،‬‬
‫فيفسر الحديث كما يريد ويستحس ن‪ ..‬وفي ه ذه الص فة (القَ دَم) ق د ص ح عن ه الح ديث‬
‫(‪)4‬‬
‫السابق آنفا ً الذي رواه اإلمام مسلم في صحيحه‪ ،‬فما علينا إال التسليم لرسوله ‪) ‬‬
‫ثم قال‪( :‬وموقف السلف من معنى الحديث هو أن الحديث من أحاديث الص فات‪،‬‬
‫وأن القدم صفة من الصفات الخبرية التي تم ر كم ا ج اءت دون تأوي ل أو تحري ف في‬
‫النص‪ ،‬ودون تشبيه أو تمثيل لصفات هللا بص فات خلق ه‪ ،‬فال تق اس قدم ه بأق دام خلق ه‪،‬‬
‫وال رجله بأرجل مخلوقاته‪ ،‬ب ل يكتفى ب المعنى الوض عي للكلم ة دون محاول ة إلدراك‬

‫‪1‬‬
‫نقض أساس التقديس (ق ‪.)526-524‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() (قط) فيها ثالث لغات‪ :‬سكون الطاء‪ ،‬وكسر الطاء بتنوين‪ ،‬وكسرها بال تن وين‪ ،‬وق د ت رد (ق د) بال دال ب دل الط اء‬
‫ومعناها‪ :‬حسبي حسبي‪ ،‬وكفاني وامتألت‪ .‬شرح مسلم ‪..17/162‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه البخاري في التفسير رقم (‪ )4848‬وفي التوحيد رقم (‪)7384 ،6661‬؛ ومسلم في صفة الجنة والن ار رقم (‬
‫‪)2848‬‬
‫‪4‬‬
‫الصفات اإللهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء اإلثبات والتنزيه (ص‪.)320 :‬‬ ‫()‬

‫‪104‬‬
‫حقيقة قدمه‪ ،‬وقد عجزنا عن إدراك حقيقة ذاته سبحانه فآمنا وس لمنا هلل ولرس وله‪ ،‬ه ذا‬
‫موقف ال يتغير وال يتبدل بالنسبة ألتباع السلف‪ ،‬بل موقف ثابت وهو اتب اع النص وص‬
‫(‪)1‬‬
‫في جميع الصفات خبرية أو غيرها)‬
‫ثم ذكر موقف المنزهة من الحديث منتقدا ل ه‪ ،‬فق ال‪( :‬وأم ا الخل ف فق د تكلف وا في‬
‫تأوي ل ه ذا الح ديث أك ثر من تكلفهم في تأوي ل أي نص آخ ر من نص وص الص فات‪،‬‬
‫فتكلفهم هنا يشبه تكلف القرامطة في نص وص المع اد‪ ،‬ب ل لجمي ع نص وص الش ريعة‪،‬‬
‫فزعم المتكلمون الخلف هنا أن الحديث ‪-‬كغيره من نصوص الصفات ‪ -‬يؤول بما يلي ق‬
‫باهلل ‪ -‬يا سبحان هللا ‪ -‬فمتى دلت النص وص بظاهره ا على م ا ال يلي ق باهلل ل و فهمت‪..‬‬
‫فقال بعضهم‪ :‬المراد بالقدم هنا المتقدم ومعناه حتى يضع هللا تعالى فيها ما قدمه له ا من‬
‫أه ل الع ذاب‪ ..‬وأنت تالح ظ أن ه ذا التأوي ل التقلي دي لم يمكنهم من االنتب اه للض مير‬
‫(قدمه) أو (رجل ه) وأن ال ذي ال يختل ف في ه أه ل العلم أن اإلض افة تخص ص الص فة‬
‫للموصوف‪ ،‬بمعنى إذا قلنا‪ :‬علم هللا وقدرة هللا مثالً‪ ،‬فال يشترك علم المخلوق أو قدرت ه‬
‫في علم هللا المختص باإلض افة ب أي ن وع من أن واع المش اركة وك ذلك قدرت ه‪ ،‬ألن‬
‫االشتراك ال يقع إال في المطلق الكلي غير المختص ال ب المخلوق وال بالخ الق‪ .‬وك ذلك‬
‫يقال هنا ألن القدم لم ترد إال مضافة مختصة وال يش ترك معه ا ش يء من أق دام خلق ه‪،‬‬
‫وال مشابهة بينهما ‪ -‬وهذا التأويل الذي تورط فيه أتباع الفالسفة لم يفطن له ذا المع نى‪،‬‬
‫وعدم التفطن لهذا المعنى هو سر تخبطهم في جميع الص فات الخبري ة والفعلي ة‪ ..‬وأم ا‬
‫الرواية التي فيها (حتى يضع هللا فيها رجله)‪ ،‬فق د ح اولوا فيه ا أوالً تض عيف الح ديث‬
‫ليريحوا أنفسهم من ذلك التأوي ل المس تكره والمس تنكر ولكنهم لم يفلح وا‪ ،‬ألن الح ديث‬
‫ص حيح رواه مس لم في ص حيحه‪ ،‬ق ال اإلم ام الن ووي‪( :‬فق د زعم ابن ف ورك أن ه ذه‬
‫الرواية غير ثابتة عند أهل النقل‪ ،‬ولكن ق د رواه ا مس لم وغ يره في ص حيحه‪ ،‬فلج أوا‬
‫أخ يراً إلى ن وع غ ريب من التأوي ل حيث ق الوا‪ :‬يج وز أن ي راد بالرّج ل الجماع ة من‬
‫الناس‪ ،‬كما يقال‪ :‬رجل من (جراد) أي قطعة منه‪ ،‬وهو تكلف غ ني عن اإلعالن عن ه‪،‬‬
‫بل هو يعلن عن نفسه‪ ،‬واالستشهاد برجْ ل الجراد أشد غرابة كما ت رى‪ ،‬وه و استش هاد‬
‫يضحك (الحزين) ‪ ..‬وقال بعضهم‪ :‬المراد بالقدم قوم استحقوها و ُخلِقُ وا له ا‪ ،‬وق الوا‪ :‬ال‬
‫ب د من ص رف لفظ ة (القَ د َِم) عن ظاهره ا لقي ام ال دليل القطعي العقلي على اس تحالة‬
‫الجارح ة على هللا تع الى‪ ،‬فمن ذا ال ذي ق ال‪ :‬إن قَ َد َم هللا جارح ة من الج وارح ح تى‬
‫تضطروا إلى مثل هذه المناقشة واستعمال هذا األسلوب‪ ،‬بل الذي عليه سلف هذه األمة‬
‫‪ -‬وهم أعلم وأدق وأقدم‪ -‬أن قَ َد َم هللا ووجه هللا ويده وعينه وأصابعه‪ ،‬وما في معناها من‬
‫هذه الصفات الخبرية صفات هلل على ما يليق به سبحانه‪ ،‬وليست بجوارح ل ه‪ ،‬وال نعلم‬
‫عن ُكنهها ش يئاً‪ ،‬ب ل آمن ا به ا على م راد هللا وم راد رس وله من حيث الحقيق ة وال ُكن ه‪.‬‬
‫ومعنى الكلمة معلوم من الوض ع والكي ف مجه ول والبحث عن الكيفي ة بدع ة‪ ،‬أح دثها‬
‫علم اء الكالم‪ ،‬واإليم ان به ا على أنه ا ص فات ذاتي ة هلل واجب من واجب ات ال دين‬

‫‪1‬‬
‫الصفات اإللهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء اإلثبات والتنزيه (ص‪.)320 :‬‬ ‫()‬

‫‪105‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وال ينقضي عجبي عندما أقرأ ه ذه العب ارة التقليدي ة المتوارث ة‪( :‬إن ال دليل‬
‫العقلي القطعي يقتضي اس تحالة قي ام الج وارح باهلل) أو عب ارة قريب ة من ه ذه‪ ،‬فكي ف‬
‫يعتقد مسلم أن اآليات القرآني ة ال تي أنزله ا هللا العليم الحكيم‪ ،‬واألح اديث النبوي ة ال تي‬
‫أوحاها إلى رسوله ‪ ‬تدل بظواهرها على ما ال يليق باهلل أو على ما هو مستحيل على‬
‫هللا‪ ،‬ثم ال ي بين الرس ول األمين ‪ ‬م ا يلي ق باهلل وم ا ال يلي ق من كالم ه وكالم رب ه‬
‫(‪)1‬‬
‫سبحانه)‬
‫إلى آخ ر كالم ه‪ ،‬وق د ذكرن اه بطول ه ل نرى تل ك االزدواجي ة في التعام ل م ع‬
‫النص وص‪ ،‬حيث ي تيحون ألنفس هم أن يؤول وا م ا ش اءوا‪ ،‬وأن ي ردوا من الح ديث م ا‬
‫شاءوا‪ ،‬لكن إن انبرى علم من أعالم اإلسالم لتنزي ه هللا تع الى عم ا ال يقبل ه العق ل وال‬
‫يرتضيه النقل‪ ،‬تثور ثائرتهم‪.‬‬
‫والذي يدل على خالف ما ذكره من أن المقص ود بالق دم ليس الجارح ة نس وق م ا‬
‫قاله من يطلقون عليه إمام األئمة ابن خزيمة في كتابه التوحيد‪ ،‬فقد وضع فصال خاص ا‬
‫بالقدم‪ ،‬مأله باألحاديث الغريبة المجسمة‪ ،‬وقال في مقدمته‪( :‬باب ذكر إثب ات الرج ل هلل‬
‫عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية‪ ،‬الذين يكفرون بصفات خالقنا ع ز وج ل‬
‫التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله‪ ،‬وعلى لسان نبي ه المص طفى ‪ ‬ق ال هللا ع ز وج ل‬
‫يذكر ما يدعو بعض الكفار من دون هللا‪﴿ :‬أَلَهُ ْم أَرْ ُج ٌل يَ ْم ُش ونَ بِهَ ا أَ ْم لَهُ ْم أَ ْي ٍد يَب ِْط ُش ونَ‬
‫ان يَ ْس َمعُونَ بِهَا قُ ِل ا ْدعُوا ُش َر َكا َء ُك ْم ثُ َّم ِكيد ِ‬
‫ُون فَاَل‬ ‫ْصرُونَ بِهَا أَ ْم لَهُ ْم آ َذ ٌ‬
‫بِهَا أَ ْم لَهُ ْم أَ ْعي ٌُن يُب ِ‬
‫تُ ْن ِظرُو ِن﴾ [األعراف‪ ،]195 :‬فأعلمنا ربن ا ج ل وعال أن من ال رج ل ل ه‪ ،‬وال ي د‪ ،‬وال‬
‫عين‪ ،‬وال سمع فهو كاألنعام بل هو أضل‪ ،‬فالمعطلة الجهمية‪ :‬الذين هم ش ر من اليه ود‬
‫والنصارى والمجوس‪ :‬كاألنعام ب ل أض ل؛ فالمعطل ة الجهمي ة عن دهم كاألنع ام ب ل هم‬
‫(‪)2‬‬
‫أضل)‬
‫ونحن ندعو كل عاقل ليعيد قراءة ما ذكره ابن خزيمة الذي يعتبره ابن تيمية وك ل‬
‫السلفية (إمام األئمة)‪ ،‬وهل يفيد شيئا غير كون القدم والرجل هي نفسها الجارحة؟‬
‫الساق‪:‬‬
‫وهي من الصفات أو الجوارح التي يحرص عليه ا الس لفية من أولهم إلى آخ رهم‪،‬‬
‫بل يعتبرون إنكارها‪ ،‬أو تأويلها تجهما وتعطيال‪.‬‬
‫وهم يستخدمون الق رآن الك ريم لتس ويق ه ذه الجارح ة‪ ،‬واآلي ة ال تي يس تخدمونها‬
‫ق َويُ ْدعَوْ نَ إِلَى ُّ‬
‫الس جُو ِد فَاَل‬ ‫ل ذلك هي قول ه تع الى‪﴿ :‬يَ وْ َم يُ ْك َش ُ‬
‫ف ع َْن َس ا ٍ‬
‫يَ ْست َِطيعُونَ ﴾ [القلم‪]42 :‬‬
‫ومع كونها واضحة في الداللة على شدة أهوال يوم القيامة‪ ..‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫وبـَدَا من ال َّشـرِّ صُرا ُح‬ ‫َك َشفَ ْ‬
‫ت لهـ ْم عن َســاقِها‬
‫‪1‬‬
‫الصفات اإللهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء اإلثبات والتنزيه (ص‪.)320 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫التوحيد البن خزيمة (‪.)202 /1‬‬ ‫()‬

‫‪106‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ب وشد ٍة )‬ ‫ومع أن ابن عباس فسرها بذلك‪ ،‬فقال‪( :‬هو يوم كر ٍ‬
‫ومع أن أعالم العربية قالوا بذلك‪ ،‬كما قال الزمخشريّ‪( :‬يوم يكش ف عن س اق في‬
‫معنى يوم يشت ُد األمر ويتفاقم‪ ،‬وال كشف ثَ َم وال س اق‪ ،‬كم ا تق ول لألقط ع الش حيح ي ده‬
‫مغلولة وال يد وال غل وإنما هو البخل‪ ،‬وأما من ّشبه فلضيق عطنه وقلة نظ ره في علم‬
‫(‪)2‬‬
‫البيان)‬
‫فمع هذا وغيره إال أن السلفية أولهم وآخرهم يحرصون على أن يفسروا الساق في‬
‫اآلية بالجارحة‪ ،‬ويعتبرونها من الصفات أو األعضاء التي يتركب منها هللا تعالى‪.‬‬
‫وقد عبر عن هذا الفهم السلفي التجسيمي ابن القيم‪ ،‬فقال‪ ..( :‬ومن حمل اآلي ة على‬
‫ق﴾ [القلم‪]42 :‬‬ ‫ذلك ـ أي أنها صفة الرحمن ـ ق ال‪ :‬قول ه تع الى‪﴿ :‬يَ وْ َم يُ ْك َش فُ ع َْن َس ا ٍ‬
‫مطابق لقوله ‪ ‬يكشف عن ساقه ‪ ..‬وتنك يره للتعظيم والتفخيم كأن ه ق ال‪( :‬يكش ف عن‬
‫ساق عظيمة)‪ ،‬قالوا وحمل اآلي ة على الش دة ال يص ح بوج ه‪ ،‬ف إن لغ ة الق وم أن يق ال‬
‫كش فت الش دة عن الق وم‪ ،‬ال كش فت عنه ا‪ ،‬كقول ه تع الى‪﴿ :‬فَلَ َّما َك َش ْفنَا َع ْنهُ ُم ْال َع َذ َ‬
‫اب﴾‬
‫[الزخرف‪ ]50 :‬العذاب هو المكشوف‪ ،‬ال المكشوف عنه‪ ،‬وأيضا فهناك تحدث ش دة ال‬
‫(‪)3‬‬
‫تزول إال بدخول الجنة‪ ،‬وهنا ال يدعون لسجود وإنما يدعون هللا أشد ما كانت الشدة )‬
‫وهكذا ن رى ابن القيم يعلم ابن عب اس والزمخش ري اللغ ة العربي ة‪ ..‬وهك ذا أيض ا‬
‫يتنازل السلفية عن كل مق والتهم في تعظيم الص حابة‪ ..‬ألن الص حابة في تص ورهم هم‬
‫المجسمة‪ ،‬ال المنزهة‪ ..‬فكل من سار خالف منهجهم رفضوه‪ ،‬ورفض وا قول ه ح تى ل و‬
‫كان ذلك الذي يعتبرونه ترجمان القرآن‪.‬‬
‫وعلى خطى ابن القيم وغيره من السلف سار السلفية المعاصرة‪ ،‬وق د س ئل الش يخ‬
‫فس رها ب أن الم راد ي وم يجيء‬ ‫عبدالعزيز بن باز عن معنى اآلية‪ ،‬فقال‪ ( :‬الرسول ‪ّ ‬‬
‫الرب يوم القيامة‪ ،‬ويكش ف لعب اده المؤم نين عن س اقه وهي العالم ة ال تي بين ه تع الى‬
‫وبين عباده‪ ،‬فإذا كشف عن ساقه‪ ،‬عرفوه وتبعوه‪ ،‬وإن كانت الح رب يق ال له ا كش فت‬
‫عن ساق إذا اشتدت وهذا معنى معروف لغويا ً قاله أئمة اللغة‪ ،‬ولكن في اآلي ة الكريم ة‬
‫(‪)4‬‬
‫يجب أن يفسر بما جاء في الحديث وهو كشف الرب عن ساقه سبحانه وتعالى)‬
‫ولست أدري ما هي العالمة الموج ودة على الس اق‪ ..‬وه ل هن اك من الس لفية من‬
‫يخبرن ا عنه ا‪ ..‬أم أنهم يري دون إبقاءه ا ألنفس هم ح تى تك ون لهم وح دهم الق درة على‬
‫السجود يوم القيامة؟‬
‫ويقول محمد الجامي ـ بعد إيراده لحديث الساق الذي سنذكره مفصال عند الح ديث‬
‫عن الصورة ـ‪ ..( :‬فانطالقا ً من هذا الحديث الصحيح الذي يثبت هلل ساقا ً ن رى أن اآلي ة‬
‫من آيات الصفات المفسرة بالسنة‪ ،‬ألن اآلية ج اءت محتمل ة المع نى حيث ج اء الس اق‬

‫‪1‬‬
‫جامع البيان ( ‪) 38 /29‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الكشاف ( ‪.. ) 147 / 4‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (‪)253 /1‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫مجموع فتاوى و تنبيهات ـ ابن باز ـ مكتبة السنة ـ األولى ‪1409‬هـ‪.‬‬ ‫()‬

‫‪107‬‬
‫مجرداً عن اإلض افة المخصص ة‪ ،‬فج اءت الس نة مبين ة ب أن الم راد بالس اق ه و س اق‬
‫الرحمن‪ ،‬فَسلُ ْك في إثبات الساق مسلك السلف الصالح وهو إثب ات بال تمثي ل وال تش بيه‬
‫وتنزيه بال تعطيل‪ ،‬فالكالم في صفة الساق كالكالم في صفة اليد والوجه‪ ،‬وأما الخالف‬
‫والنزاع الذي جرى بـين الصحابة والتابعين فينبغي أن نعتبره منتهيا ً بعد ثب وت ح ديث‬
‫أبي سعيد الخدري ـ رضي هللا عنه ـ الذي نعده تفسيراً لآلية المجملة ثم نعده فيصالً في‬
‫(‪)1‬‬
‫هذه القضية)‬
‫ق﴾‬‫وقال الدكتور عبد هللا الغنيمان‪ ( :‬الضمير في قوله تعالى‪﴿ :‬يَوْ َم يُ ْك َش فُ ع َْن َس ا ٍ‬
‫[القلم‪ ]42 :‬يع ود إلى هللا تع الى ففي ذل ك إثب ات ص فة الس اق هلل تع الى‪ ،‬ويك ون ه ذا‬
‫ق﴾ [القلم‪ ]42 :‬وه ذا الح ديث‬ ‫الحديث ونحوه تفسير لقول ه تع الى ﴿يَ وْ َم يُ ْك َش فُ ع َْن َس ا ٍ‬
‫متفق على صحته وفيه التصريح في أن هللا تعالى يكشف عن ساقه وعند ذلك يسجد ل ه‬
‫المؤمنون ومن تأوله التأويالت المستكرهة فقد استدرك على الرس ول ‪ ،‬ومعل وم أن‬
‫ق﴾ [القلم‪ ]42 :‬ليس نصا ً في أن الساق صفة هلل تعالى ؛‬ ‫قوله تعالى ﴿يَوْ َم يُ ْكشَفُ ع َْن َسا ٍ‬
‫ألنه جاء منكرا غير معرّف فيكون قابالً كونه صفة وكون ه غ ير ص فة وتعيين ه لواح د‬
‫من ذلك يتوقف على الدليل وقد دل الدليل الصحيح على ذلك فال يجوز تأوله بعد ذل ك‪،‬‬
‫أما ما جاء عن ابن عباس رضي هللا عنهما وغيره أن ذلك الش دة والك رب ي وم القيام ة‬
‫فهذا بالنظر إلى لفظ اآلية ألنها كم ا قلن ا لم ت دل على الص فة بلفظه ا وإنم ا ال دليل ه و‬
‫(‪)2‬‬
‫الحديث المذكور)‬
‫وعلى منهجهم في االنتقائية في تصحيح األحاديث وتضعيفها‪ ،‬فقد راحوا يجمع ون‬
‫الروايات الواردة عن ابن عباس‪ ،‬ويض عفونها‪ ..‬وم ا أس هل أن تض عف الرواي ة وف ق‬
‫منهج المحدثين‪ ،‬ألنه ال يوجد راو في الدنيا إال وهناك من جرحه‪..‬‬
‫وق د ق ام به ذا العم ل الجلي ل الش يخ س ليم الهاللي ال ذي اس تحيا أن ي رد على ابن‬
‫عباس‪ ،‬فاكتفى بتكذيب قوله‪ ،‬ليك ون رده على الك ذاب ال على ابن عب اس‪ ،‬وق د وض ع‬
‫عمل ه ه ذا في رس الة س ماها (المنه ل الرق راق في تخ ريج م ا روى عن الص حابة و‬
‫(‪)3‬‬
‫التابعين في تفسير يوم يكشف عن ساق)‬
‫هذه ـ باختصار ـ الرؤي ة الس لفية هلل تع الى من ه ذه الزاوي ة‪ ..‬وهي ـ كم ا رأين ا ـ‬
‫رؤية مستغرقة في التجسيم والتشبيه والوثنية‪ ..‬ول و أوردن ا ك ل رواي اتهم في تفاص يل‬
‫هذه األعضاء ووظائفها لرأينا من ذلك العجب العجاب‪..‬‬

‫‪1‬‬
‫الصفات اإللهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء اإلثبات والتنزيه (ص‪)316 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري ـ د‪ .‬عبد هللا الغنيمان ـ مكتبة لينةـ ( ‪.. ) 121 /2‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫() المنه ل الرق راق في تخ ريج م ا روى عن الص حابة و الت ابعين في تفس ير ي وم يكش ف عن س اق‪ .‬س ليم بن عي د‬
‫الهاللي‪ ،‬دار ابن الجوزي ـ األولى ‪1412‬هـ‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫التنقل ‪ ..‬والحركة‬
‫يرى أصحاب الرؤية التنزيهية ـ سواء كانوا من أهل البرهان أو من أهل العرف ان‬
‫ـ أن هللا تعالى أعظم من أن يحتاج إلى التنقل أو الحركة‪ ..‬ألنه ال يحتاجهما إال القاص ر‬
‫الضعيف البعيد الذي ال تتحقق مطالبه إال باالنتقال والحركة‪ ..‬أما القوي القادر القريب‪،‬‬
‫فإنه يحقق مطالبه من غير حركة وال انتقال‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬ف إن الحرك ة تس تدعي المحدودي ة والح يز‪ ..‬وهللا أعظم من أن‬
‫يحد أو يتحيز‪.‬‬
‫والحرك ة واالنتق ال تقتض يان أن يحي ط ب ه المك ان والزم ان‪ ..‬وهللا أعظم من أن‬
‫يحتاج للمكان‪ ،‬أو يجري عليه الزمان‪.‬‬
‫والعقل والق رآن كالهم ا ي دالن على ه ذه الحقيق ة العظيم ة ال تي من لم يعرفه ا لم‬
‫يعرف هللا‪ ،‬وإنما عرف وهما كبيرا سماه إلها‪.‬‬
‫أما داللة العقل على ذلك‪ ،‬فقد أشار إليها ال رازي في قول ه‪( :‬اعلم أن ه ثبت بال دليل‬
‫العقلي أن الحركة على هللا تع الى مح ال‪ ،‬ألن ك ل م ا ك ان ك ذلك ك ان جس ما والجس م‬
‫(‪)1‬‬
‫يستحيل أن يكون أزليا)‬
‫وأما داللة القرآن الكريم على ذلك‪ ،‬فأعظم من أن تحصر‪ ،‬ألن ك ل الق رآن الك ريم‬
‫يدل عليها لمن تدبر ذلك‪..‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فاهلل تع الى عن دما يق ول‪﴿ :‬أفَ َرأ ْيتُ ْم َم ا تَحْ ُرث ونَ (‪ )63‬أأ ْنتُ ْم ت َْز َرعُونَ هُ أ ْم نَحْ نُ‬
‫ار ُعونَ (‪ )64‬لَوْ نَ َشا ُء لَ َج َع ْلنَاهُ ُحطَا ًم ا فَظَ ْلتُ ْم تَفَ َّكهُ ونَ (‪ )65‬إِنَّا لَ ُم ْغ َر ُم ونَ (‪ )66‬بَ لْ‬ ‫ال َّز ِ‬
‫نَحْ نُ َمحْ رُو ُمونَ (‪ )67‬أَفَ َرأَ ْيتُ ُم ْال َم ا َء الَّ ِذي ت َْش َربُونَ (‪ )68‬أَأَ ْنتُ ْم أَ ْن َز ْلتُ ُم وهُ ِمنَ ْال ُم ْز ِن أ ْمَ‬
‫ار الَّتِي‬ ‫نَحْ نُ ْال ُم ْن ِزلُ ونَ (‪ )69‬لَ وْ ن ََش ا ُء َج َع ْلنَ اهُ أُ َجا ًج ا فَلَ وْ اَل ت َْش ُكرُونَ (‪ )70‬أَفَ َرأَ ْيتُ ُم النَّ َ‬
‫تُورُونَ (‪ )71‬أَأَ ْنتُ ْم أَ ْن َشأْتُ ْم َش َج َرتَهَا أَ ْم نَحْ نُ ْال ُم ْن ِشئُونَ (‪ )72‬نَحْ نُ َج َع ْلنَاهَا تَ ْذ ِك َرةً َو َمتَا ًع ا‬
‫لِ ْل ُم ْق ِوينَ (‪[ ﴾ )73‬الواقعة‪ ]74 - 63 :‬يخبر عن حضورة المطلق مع كل شيء‪ ،‬بل عن‬
‫تصريفه لكل شيء‪ ..‬بل عن كونه هو الفاعل الوحيد لكل حركة أو سكنة في الوجود‪.‬‬
‫وهك ذا عن دما يق ول‪﴿ :‬فَلَ ْم تَ ْقتُلُ وهُ ْم َولَ ِك َّن هَّللا َ قَتَلَهُ ْم َو َم ا َر َميْتَ إِ ْذ َر َميْتَ َولَ ِك َّن هَّللا َ‬
‫َر َمى﴾ [األنفال‪ ،]17 :‬فاهلل هو ال ذي قت ل من قت ل من الكف ار‪ ..‬وه و ال ذي رم اهم بم ا‬
‫رماهم من سهام‪.‬‬
‫بل إن هللا تعالى يشير عندما يحكي قصة سليمان عليه السالم مع أصحابه إلى بيان‬
‫أن الحركة واالنتقال شأن المستضعفين‪ ،‬أما القادر فهو الذي يقضي مصالحه في طرفة‬
‫ال يَاأَيُّهَ ا ْال َمأَل ُ أَيُّ ُك ْم‬
‫عين من غير معاناة حركة وال حمل وال أي شيء‪ ،‬ق ال تع الى‪ ﴿ :‬قَ َ‬
‫يت ِمنَ ْال ِجنِّ أَنَ ا آتِي كَ بِ ِه قَ ْب َل أَ ْن‬ ‫يَأْتِينِي بِ َعرْ ِشهَا قَ ْب َل أَ ْن يَأْتُونِي ُم ْسلِ ِمينَ (‪ )38‬قَ َ‬
‫ال ِع ْف ِر ٌ‬
‫ك بِ ِه‬ ‫ب أَنَا آتِي َ‬ ‫ال الَّ ِذي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتَا ِ‬
‫ين (‪ )39‬قَ َ‬ ‫ي أَ ِم ٌ‬ ‫تَقُو َم ِم ْن َمقَا ِمكَ َوإِنِّي َعلَ ْي ِه لَقَ ِو ٌّ‬

‫‪1‬‬
‫مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪)159 /31‬‬ ‫()‬

‫‪109‬‬
‫ك طَرْ فُكَ فَلَ َّما َرآهُ ُم ْستَقِ ًّرا ِع ْن َدهُ قَا َل هَ َذا ِم ْن فَضْ ِل َربِّي لِيَ ْبلُ َونِي أَأَ ْش ُك ُر أَ ْم‬ ‫قَ ْب َل أَ ْن يَرْ تَ َّد إِلَ ْي َ‬
‫أَ ْكفُ ُر َو َم ْن َش َك َر فَإِنَّ َما يَ ْش ُك ُر لِنَ ْف ِس ِه َو َم ْن َكفَ َر فَإِ َّن َربِّي َغنِ ٌّي َك ِري ٌم (‪[ ﴾)40‬النم ل‪- 38 :‬‬
‫‪ ،]40‬فإذا كان هذا شأن العبد ‪ ..‬فكيف بشأن الرب سبحانه وتعالى؟‬
‫باإلضافة إلى ذلك فإن القرآن الكريم يقرر قرب ه المطل ق من خلق ه‪ ،‬وال ذي أش رنا‬
‫إليه عند حديثنا عن الجهة والمكان ‪ ..‬فاهلل تعالى أقرب إلى خلق ه من أنفس هم‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫﴿ولَقَ ْد خَ لَ ْقنَ ا‬
‫ْصرُونَ ﴾ [الواقعة‪ ،]85 :‬وق ال‪َ :‬‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬ونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن ُك ْم َولَ ِك ْن اَل تُب ِ‬
‫اإْل ِ ْن َسانَ َونَ ْعلَ ُم َما تُ َوس ِْوسُ بِ ِه نَ ْف ُسهُ َونَحْ نُ أَ ْق َربُ إِلَ ْي ِه ِم ْن َحب ِْل ْال َو ِري ِد ﴾ [ق‪]16 :‬‬
‫ولذلك فإن القرب في المصطلح الق رآني ال ي دل على ق رب الحس أو المك ان‪ ،‬ب ل‬
‫هو يدل على قرب السلوك والعرفان‪ ..‬كما قال تع الى في تص نيف عب اده ي وم القيام ة‪:‬‬
‫﴿ َو ُك ْنتُ ْم أَ ْز َواجًا ثَاَل ثَةً (‪ )7‬فَأَصْ َحابُ ْال َم ْي َمنَ ِة َما أَصْ َحابُ ْال َم ْي َمنَ ِة (‪َ )8‬وأَصْ َحابُ ْال َم ْش أ َ َم ِة‬
‫ك ْال ُمقَ َّربُ ونَ (‪[ ﴾)11‬الواقع ة‪:‬‬ ‫َما أَصْ َحابُ ْال َم ْشأ َ َم ِة (‪َ )9‬والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (‪ )10‬أُولَئِ َ‬
‫‪]11 - 7‬‬
‫وذكر من نعيم الجنة نعيما خاصا ب المقربين‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬ع ْينً ا يَ ْش َربُ بِهَ ا ْال ُمقَ َّربُ ونَ ﴾‬
‫[المطففين‪]28 :‬‬
‫اس ُج ْد َوا ْقتَ ِربْ ﴾‬ ‫وقد أشار القرآن الكريم إلى منهج التحقيق به ذا الق رب‪ ،‬فق ال‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫[العلق‪ ،]19 :‬فالسجود بكل الكيان هلل ه و أق رب طري ق للق رب اإللهي‪ ،‬كم ا ق ال ‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫(أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده)‬
‫ونفى القرآن الكريم ذلك القرب الوهمي ال ذي يخط ر على المس تغرقين في ال دنيا‪،‬‬
‫ص الِحًا‬ ‫فقال‪َ ﴿ :‬و َما أَ ْم َوالُ ُك ْم َواَل أَوْ اَل ُد ُك ْم بِ الَّتِي تُقَ رِّ بُ ُك ْم ِع ْن َدنَا ُز ْلفَى إِاَّل َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َل َ‬
‫ت آ ِمنُونَ ﴾ [سبأ‪]37 :‬‬ ‫ْف بِ َما َع ِملُوا َوهُ ْم فِي ْال ُغ ُرفَا ِ‬ ‫ضع ِ‬ ‫ك لَهُ ْم َجزَ ا ُء ال ِّ‬ ‫فَأُولَئِ َ‬
‫وهكذا نرى اتفاق الرؤية العقلية مع الرؤية القرآنية في إثب ات غ نى هللا تع الى عن‬
‫الحركة واالنتقال لقدرته المطلقة أوال‪ ،‬ولقربه من كل شيء ثانيا قربا ال يمكن تصوره‪،‬‬
‫وال تخيله ألن هللا أعظم من أن يحيط به الخيال أو الوهم أو التصور‪.‬‬
‫وبناء على هذه الرؤي ة القرآني ة والعقالني ة اهتم الع ارفون من ه ذه األم ة ب القرب‬
‫اإللهي‪ ،‬وجعلوه غايتهم الكبرى‪ ..‬متب نين في ذل ك الرؤي ة القرآني ة‪ ،‬ال الرؤي ة الحس ية‬
‫التجسيمية التي تبناها أهل الحديث والسلفية‪ ..‬وبذلك يتفق على هذه العقيدة التنزهية كال‬
‫المدرستين الكبيرتين من مدارس اإلسالم‪ :‬مدرسة البرهان‪ ،‬ومدرسة العرفان‪.‬‬
‫ونحب هنا من باب التأكيد‪ ،‬وباب بيان أث ر العقي دة التنزيهي ة في ال ترقي والتحق ق‬
‫العرفاني واألخالقي أن نذكر مقوالت العارفين الذين اختصوا بتحويل المع اني العقدي ة‬
‫إلى معان ذوقية تتشربها الروح‪ ،‬وينفعل لها الجسد‪.‬‬
‫ونبدأ ذلك ببيان اتفاق العرفان م ع البره ان على مع نى الق رب اإللهي‪ ..‬وق د ذك ر‬
‫ذلك كل العرفاء‪ ،‬ومنهم الشيخ عبد الغني النابلس ي ال ذي وض ح مع نى الق رب اإللهي‪،‬‬
‫فقال‪( :‬إن قرب الكائنات منه تعالى قرب أثر من م ؤثر‪ ،‬وق رب معل وم من ع الم ب ه ال‬

‫‪1‬‬
‫رواه الترمذي رقم (‪ )3574‬في الدعوات رقم (‪)129‬‬ ‫()‬

‫‪110‬‬
‫يعزب عن علمه شيء‪ ،‬وبعد الكائنات منه تعالى عدم مناس بتها ل ه وع دم مش ابهتها ل ه‬
‫(‪)1‬‬
‫وال بوجه من الوجوه)‬
‫وقال الشيخ أحمد زروق‪ ( :‬قرب المسافات والنسب والمداناة‪ :‬وهو قرب األجسام‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وسائر المحدثات‪ ،‬فال يليق بالحق سبحانه‪ ،‬وال يجوز عليه)‬
‫وقال الغزالي‪ ( :‬القرب منه ليس بالمكان‪ ،‬وإنما ه و باكتس اب الكم ال على حس ب‬
‫اإلمكان ‪ .‬وأن كمال النفس ب العلم والعم ل‪ ،‬واالطالع على حق ائق األم ور‪ ،‬م ع حس ن‬
‫األخالق )(‪. )3‬‬
‫وقد ذكر الشيخ العارف أبو العباس التجاني ناحية مهمة لو تأملها الس لفيون النتفت‬
‫عنهم كل الشبهات المرتبطة بالتجسيم وما يلزم منه‪ ،‬فقال‪( :‬معية الح ق بذات ه لك ل ذرة‬
‫من الموجودات وقربه لكل ذرة من الموجودات ص فتان نفس يتان يتوق ف تعلقهم ا على‬
‫تعقل ماهية الذات‪ ،‬وحيث كان تعقل ماهية الذات ممنوعا ال س بيل إلي ه للعق ل والفك ر‪،‬‬
‫كذلك تعقل هاتين الص فتين معي ة وقرب ا ً لك ل ش يء من الموج ودات تعقلهم ا من وراء‬
‫طور العق ل والحس‪ ،‬فال اتص ال وال انفص ال وال مس افة للق رب والبع د وال أيني ة وال‬
‫(‪)4‬‬
‫حلول وال مكان وال دخول وال خروج وال تتعدد الذات بتعددها بالمعية )‬
‫وهكذا نرى العرفاء يخبرون عن شهودهم لقرب هللا المطلق من كل ذرة من ذرات‬
‫الوجود‪ ،‬تصديقا لما ورد في القرآن الكريم من ذلك‪.‬‬
‫يق ول ابن عط اء هللا‪ ( :‬م ا احتجب الح ق عن العب اد إال بعظيم ظه وره‪ ،‬وال من ع‬
‫(‪)5‬‬
‫األبصار أن تشهده إال قهارية نوره فعظيم القرب هو الذي غيب عنك شهود القرب )‬
‫‪.‬‬
‫ويقول‪ ( :‬قربك منه أن تكون شاهداً لقربه‪ ،‬وإال فمن أين أنت ووجود قربه ؟ ) ‪.‬‬
‫(‪)6‬‬

‫وي ذكر الش يخ ع ز ال دين بن عب د الس الم كيفي ة قط ع العقب ات الحائل ة بين القلب‬
‫والقرب‪ ،‬فقال‪ ( :‬ال تصل إلى من ازل القرب ات ح تى تقط ع عن ك س ت عقب ات‪ :‬العقب ة‬
‫األولى‪ :‬فطم الج وارح عن المخالف ات الش رعية ‪ ..‬العقب ة الثاني ة‪ :‬فطم النفس عن‬
‫المألوف ات العادي ة ‪ ..‬العقب ة الثالث ة‪ :‬فطم القلب عن المرغوب ات البش رية ‪ . .‬العقب ة‬
‫الرابع ة‪ :‬فطم الس ر عن الك دورات الطبيعي ة ‪ ..‬العقب ة الخامس ة‪ :‬فطم ال روح عن‬
‫البخارات الحسية ‪ ..‬العقبة السادسة‪ :‬فطم العق ل عن الخي االت الوهمي ة ‪ ..‬فتش رف من‬

‫‪ - )(1‬الشيخان حسن البوريني والشيخ عبد الغني النابلسي – شرح ديوان ابن الفارض – ج ‪ 1‬ص ‪. 228‬‬
‫‪ - )(2‬الشيخ أحمد زروق – شرح الحكم العطائية – ص ‪0 319‬‬
‫‪ - )(3‬اإلمام الغزالي – ميزان العمل – ص ‪0 293‬‬
‫‪ - )(4‬الشيخ علي حرازم ابن العربي – جواهر المعاني وبلوغ األماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني – ج ‪ 1‬ص‬
‫‪. 235‬‬
‫‪ )(5‬الشيخ ابن عطاء هللا السكندري – لطائف المنن في مناقب أبي العب اس المرس ي وش يخه أبي الحس ن (ه امش كت اب‬
‫لطائف المنن للشعراني ) – ج ‪ 1‬ص ‪. 44‬‬
‫بولس نويا – ابن عطاء هللا ونشأة الطريقة الشاذلية – ص ‪. 169‬‬ ‫‪)(6‬‬

‫‪111‬‬
‫العقبة األولى على ين ابيع الحكم القلبي ة ‪..‬وتطل ع من العقب ة الثاني ة على أس رار العل وم‬
‫اللدنية ‪..‬وتلوح لك في العقب ة الثالث ة أعالم المناج اة الملكوتي ة ‪ ..‬وتلم ع ل ك في العقب ة‬
‫الرابعة أنوار أعالم المنازل القريبة ‪ ..‬وتطلع لك في العقبة الخامسة أقم ار المش اهدات‬
‫الحبية ‪ ..‬وتهبط من العقبة السادسة إلى رياض الحض رة القدس ية‪ ،‬فهن اك تغيب من م ا‬
‫تشاهد من اللطائف اإلنسية عن الكثائف الحسية )(‪. )1‬‬
‫ويذكر الشيخ نجم الدين الكبرى عقبات أخرى تح ول بين القلب والتحق ق ب القرب‪،‬‬
‫فيقول‪ ( :‬القلب إذا تجرد عن المعلومات‪ ،‬والسر تقدس عن المرقومات‪ ،‬وال روح تنـزه‬
‫عن الموهوم ات‪ :‬ك انوا أق رب إلى الفط رة‪ ،‬ولم يش تغلوا بقب ول النف وس الس فلية من‬
‫الحسيات والخياالت والوهميات )(‪. )2‬‬
‫وكل هذه المعاني التي اتفق عليه ا أه ل العرف ان والبره ان نص عليهم قبلهم أئم ة‬
‫أهل البيت الذين تركوا لن ا ث ورة ض خمة من الرواي ات الممتلئ ة بتنزي ه هللا وتعظيم ه‪،‬‬
‫ومن الروايات المرتبطة بهذا ما روي عن اإلمام علي أنه قال‪( :‬ال تجري عليه [ تعالى‬
‫] الحركة والسكون‪ ،‬وكيف يجرى عليه ما هو أجراه‪ ،‬أو يع ود إلي ه م ا ه و ابت دأه‪ ،‬إذاً‬
‫(‪)3‬‬
‫لتفاوتت ذاته‪ ،‬ولتج ّزأ كنهه‪ ،‬والمتنع من األزل معناه‪)...‬‬
‫إن الحرك ة‬ ‫وسئل اإلمام الصادق‪ :‬لم يزل هللا متحرّكاً؟ فق ال‪ :‬تع الى هللا عن ذل ك‪ّ ،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫صفة محدثة بالفعل)‬
‫(إن هللا تبارك وتعالى ال يوص ف بزم ان وال مك ان‪ ،‬وال حرك ة وال انتق ال‬ ‫وقال‪ّ :‬‬
‫وال سكون‪ ،‬بل هو خ الق الزم ان والمك ان والحرك ة والس كون‪ ،‬تع الى هللا ع ّم ا يق ول‬
‫ً (‪)5‬‬
‫الظالمون عل ّواً كبيرا)‬
‫ظن‬‫وقال اإلمام الكاظم‪( :‬ك ّل متحرّك محت اج إلى من يحرّك ه أو يتح رّك ب ه‪ ،‬فمن ّ‬
‫(‪)6‬‬
‫باهلل الظنون هلك)‬
‫هذا هو موقف المدرسة التنزيهية من ه ذه المس ألة الخط يرة‪ ،‬وم ا ي ترتب عليه ا‪،‬‬
‫لكن المدرسة التجسيمية التي يمثلها السلفية تخالف هذه الرؤية تمام ا‪ ،‬ألنه ا تنطل ق في‬
‫كل هذه المسائل من تغليب التصور على التعقل ‪ ..‬ولهذا تنطلق في هذه المس ألة ـ كم ا‬
‫تنطلق في غيرها ـ من إثبات الحدود والحيز والمكان ‪ ..‬وكل ذلك يقتض ي بع دا حس يا‪،‬‬
‫وحركة حسية‪.‬‬
‫بل هي تتصور أن نفي الحركة واالنتقال عن هللا حكم عليه باإلعدام‪ ،‬كم ا ق ال ابن‬
‫القيم‪( :‬وقد دل القرآن والس نة واإلجم اع على أن ه س بحانه يجيء ي وم القيام ة‪ ،‬وي نزل‬
‫‪ )(1‬الشيخ عز الدين بن عبد السالم المقدسي – مخطوطة حل الرموز ومفاتيح الكنوز – ص ‪. 34 – 32‬‬
‫‪ )(2‬الشيخ اسماعيل حقي البروسوي – تفسير روح البيان – ج ‪ 6‬ص ‪. 481‬‬
‫‪ )(3‬التوحيد‪ ،‬الصدوق‪ :‬باب ‪ ،2‬ح ‪ ،1‬ص ‪. 41‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪ ،‬الكليني‪ :‬ج ‪ ،1‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب صفات الذات‪ ،‬ح ‪ ،1‬ص ‪.107‬‬
‫‪ )(5‬بحار األنوار‪ ،‬المجلسي‪ :‬ج ‪ ،3‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب ‪ ،14‬ح ‪ ،33‬ص ‪.330‬‬
‫‪ )(6‬الكافي‪ ،‬الكليني‪ :‬باب الحركة واالنتقال‪ ،‬ح ‪ ،1‬ص ‪.125‬‬

‫‪112‬‬
‫لفصل القضاء بين عباده‪ ،‬وي أتي في ظل ل من الغم ام والمالئك ة‪ ،‬وي نزل ك ل ليل ة إلى‬
‫سماء الدنيا‪ ،‬وينزل عشية عرفة‪ ،‬وينزل إلى األرض قبل يوم القيامة‪ ،‬وي نزل إلى أه ل‬
‫الجنة‪ .‬وه ذه أفع ال يفعله ا بنفس ه في ه ذه األمكن ة فال يج وز نفيه ا عن ه بنفي الحرك ة‬
‫والنقلة المختصة بالمخلوقين‪ ،‬فإنها ليست من لوازم أفعاله المختص ة ب ه‪ ،‬فم ا ك ان من‬
‫لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه‪ ،‬وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته ل ه‪ ،‬وحرك ة‬
‫الحي من ل وازم ذات ه‪ ،‬وال ف رق بين الحي والميت إال بالحرك ة والش عور‪ ،‬فك ل حي‬
‫متحرك باإلرادة وله شعور فنفي الحركة عنه كنفي الشعور‪ ،‬وذلك يستلزم نفي الحي اة)‬
‫(‪)1‬‬

‫أو ه و على األق ل نفي للكم ال عن ه‪ ..‬ألن الكم ال في تص ورهم ه و الق درة على‬
‫الحركة والتنقل‪ ،‬كما أشار ابن تيمية إلى ذلك في قوله‪( :‬وهكذا يقال لهم فى أنواع الفعل‬
‫الق ائم ب ه كاإلتي ان والمجيء وال نزول وجنس الحرك ة‪ :‬إم ا أن يقب ل ذل ك وإم ا أن‬
‫اليقبله‪:‬فإن لم يقبله كانت األجسام التى تقبل الحرك ة و لم تتح رك أكم ل من ه‪ .‬وإن قب ل‬
‫ذلك ولم يفعله كان ما يتحرك أكمل من ه ف إن الحرك ة كم ال للمتح رك‪ .‬ومعل وم أن من‬
‫يمكن ه أن يتح رك بنفس ه أكم ل ممن ال يمكن ه التح رك وم ا يقب ل الحرك ة أكم ل ممن‬
‫(‪)2‬‬
‫اليقبلها)‬
‫وقال في شرح حديث النُّزول‪( :‬لف ظ (الحرك ة؛ ه ل يوص ف هللا به ا أم يجب نفي ه‬
‫عنه؟ اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل وغ ير أه ل المل ل من أه ل الح ديث‬
‫وأه ل الكالم وأه ل الفلس فة وغ يرهم على ثالث ة أق وال‪ ،‬وه ذه الثالث ة موج ودة في‬
‫) (‪)3‬‬
‫أصحاب اآلئمة األربعة من أصحاب اإلمام أحمد وغيرهم‬
‫ثم ذكر معنى الحركة عند المتكلمين والفالسفة وأصحاب أرسطو وأنواع الحرك ة‬
‫أن الن اس متن ازعون في جنس الحرك ة العام ة ال تي‬ ‫‪ ..‬إلى ْ‬
‫أن ق ال‪( :‬والمقص ود هن ا َّ‬
‫تتناول ما يقوم بذات الموصوف من األمور االختيارية ؛ كالغضب والرض ى والف رح‪،‬‬
‫وكالدنو والقرب واالستواء والنُّزول‪ ،‬بل واألفع ال المتعدي ة ك الخلق واإلحس ان وغ ير‬
‫ذلك على ثالثة أقوال‪ :‬أح دها‪ :‬ق ول من ينفي ذل ك مطلق ا ً وبك ل مع نى‪ ..‬وه ذا أول من‬
‫ع رف ب ه هم الجهمي ة والمعتزلة‪ ..‬والق ول الث اني‪ :‬إثب ات ذل ك‪ ،‬وه و ق ول الهش امية‬
‫والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكالم الذين صرحوا بلفظ الحركة ‪ ..‬وذكر عثمان‬
‫بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بشر المريسي‪ ،‬ونصره على‬
‫أنه قول أهل السنة والحديث‪ ،‬وذكره ح رب بن إس ماعيل الكرم اني ‪ -‬لم ا ذك ر م ذهب‬
‫أهل السنة واألثر ‪ -‬عن أه ل الس نة والح ديث قاطب ة‪ ،‬وذك ر ممن لقي منهم على ذل ك‪:‬‬
‫أحم د بن حنب ل‪ ،‬وإس حاق بن راهوي ه‪ ،‬وعب د هللا بن الزب ير الحمي دي‪ ،‬وس عيد بن‬

‫‪ )(1‬مختصر الصواعق (‪.)258-2/257‬‬


‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى ‪8/23‬‬
‫‪ )(3‬مجموع الفتاوى ‪5/565‬‬

‫‪113‬‬
‫منصور‪ ،‬وهو قول أبي عبد هللا بن حامد وغيره‪ .‬وكثي ٌر من أهل الحديث والسنة يق ول‪:‬‬
‫المعنى صحيح‪ ،‬لكن ؛ ال يطلق هذا اللفظ ؛ لعدم مجيء األث ر ب ه ؛ كم ا ذك ر ذل ك أب و‬
‫عمر بن عبد البر وغيره في كالمهم على حديث النُّزول‪ .‬والقول المش هور عن الس لف‬
‫عند أهل السنة والحديث‪ :‬هو اإلقرار بما ورد به الكتاب والسنة ؛ من أن ه ي أتي وي ْن زل‬
‫وغير ذلك من األفعال الالزمة‪ .‬قال أبو عم رو الطَّ ْل َم ْن ِك ُّي‪ :‬أجمع وا (يع ني‪ :‬أه ل الس نة‬
‫أن هللا يأتي يوم القيامة والمالئكة ص فَّا ً ص فَّا ً لحس اب األمم وعرض ها‬ ‫والجماعة) على َّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كما يشاء وكيف يشاء ؛ قال تعالى‪ ﴿ :‬هَلْ يَنظرُونَ إِال أ ْن يَأتِيَهُ ْم هللاُ فِي ظلَ ٍل ِم ْن ال َغ َم ِام‬
‫ص فَّا ً﴾‪ .‬ق ال‪:‬‬ ‫ص فَّا ً َ‬ ‫ض َي األ ْم ُر ﴾‪ ،‬وق ال تع الى‪َ ﴿ :‬و َج ا َء َربُّكَ َو ْال َملَ ُ‬
‫ك َ‬ ‫َو ْال َمالئِ َك ةُ َوقُ ِ‬
‫أن هللا يَ ْنزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به اآلثار كيف ش اء‪ ،‬ال‬ ‫وأجمعوا على َّ‬
‫يحدون في ذلك شيئا‪ .‬ثم روى بإسناده عن محم د بن وض اح ؛ ق ال‪ :‬وس ألت يح يى بن‬
‫أح ُّد فيه َح َّداً‪ ..‬والقول الث الث‪ :‬اإلمس اك عن‬ ‫معين عن النُّزول؟ فقال‪ :‬نعم ؛ أقر به‪ ،‬وال ِ‬
‫النفي واإلثبات‪ ،‬وهو اختي ار كث ي ٌر من أه ل الح ديث والفقه اء والص وفية ؛ ك ابن بط ة‬
‫وغيره‪ ،‬وهؤالء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أح د األم رين‪ ،‬ومنهم من يمي ل بقلب ه‬
‫) (‪)1‬‬
‫إلى أحدهما‪ ،‬ولكن ؛ ال يتكلم ال بنفي وال بإثبات‪.‬‬
‫وق ال الش يخ ابن ع ثيمين‪ .. ( :‬النص وص في إثب ات الفع ل والمجيء واالس تواء‬
‫والنُّ زول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة هلل ؛ فالحركة له حق ثابت بمقتضى‬
‫(‪)2‬‬
‫هذه النصوص والزمها‪ ،‬وإن كنا ال نعقل كيفية هذه الحركة)‬
‫والمش كلة الك برى أن المدرس ة الس لفية ت زعم اس تمدادها له ذه العقائ د التجس يمية‬
‫الخطيرة من الكتاب والسنة‪ ..‬مع أنها تخ الف القطعي ات الص ريحة من الكت اب والس نة‬
‫وتقدم عليها النصوص المتشابهة‪ ..‬فتحول المحكم متشابها والمتشابه محكما‪.‬‬
‫ولوصف عقائدهم في هذه الناحية‪ ،‬وأدلتهم عليها‪ ،‬سنتحدث عن مواقفهم التفصيلية‬
‫من خالل العنصرين التاليين‪:‬‬
‫الدنو والمماسة‪:‬‬
‫كما رأين ا من خالل الق رآن الك ريم والس نة المطه رة‪ ،‬ف إن الق رب والبع د عن هللا‬
‫اعتباريان‪ ،‬وليس حقيقيان‪ ،‬فاهلل ق ريب من ك ل ش يء قرب ا واح دا‪ ..‬فليس هن اك ش يء‬
‫أقرب إليه من شيء‪ ..‬ألنه ال مسافة بين هللا وعباده‪ ..‬وال حجاب بين ه وبينهم‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ق ليس بمحجوب عنك إنما المحج وب أنت عن النظ ر إلي ه‬ ‫ابن عطاء هللا في ذلك‪( :‬الح ّ‬
‫إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه و لو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر و كل حاص ر‬
‫﴿وهُ َو ْالقَا ِه ُر فَوْ َ‬
‫ق ِعبَا ِد ِه ﴾ [األنعام‪) ]18 :‬‬ ‫لشيء فهو له قاهر َ‬
‫ولذلك فإن القرب والبعد ـ كما تدل على ذلك النصوص المقدسة ـ مرتبط بالتخلق‪..‬‬
‫فبقدر التخلق بالخلق الحسن يكون القرب‪ ،‬وبق در التخل ق ب الخلق الس يء يك ون البع د‪،‬‬
‫‪ )(1‬مجموع الفتاوى (‪ ،)5/577‬وانظر‪ :‬االستقامة (‪)78-1/70‬‬
‫‪2‬‬
‫إزالة الستار عن الجواب المختار (ص ‪)32‬‬ ‫()‬

‫‪114‬‬
‫كما أشار ابن عطاء هللا إلى ذلك في قوله‪( :‬اخرج من أوصاف بشريّتك عن ك ّل وصف‬
‫ق مجيبا‪ ،‬و من حضرته قريبا)‬ ‫مناقض لعبوديّتك‪ ،‬لتكون لنداء الح ّ‬
‫وقال ابن عجيبة معلقا عليه‪( :‬إذا تخلص من رق الشهوات و الحظوظ‪ ،‬ك ان قريب ا‬
‫من حضرة الحق‪ ،‬بل عاكفا فيه ا‪ ،‬إذ م ا أخرجن ا عن الحض رة إال حبّ ه ذه الخي االت‬
‫(‪)1‬‬
‫الوهمية فإذا تحررنا منها و تحققنا بالعبودية وجدنا أنفسنا في الحضرة)‬
‫وهذا الذي ذكره العارفون إنما اس تمدوه من الق رآن الك ريم‪ ،‬ومم ا يقتض يه العق ل‬
‫السليم‪ ..‬فالعقل يصنف األشياء بحسب أنواعها ال بحسب قربه ا وبع دها عن بعض ها ‪..‬‬
‫فالذهب يبقى شقيقا للذهب حتى ل و باع دت بينهم ا المس افة‪ ..‬وهك ذا وهلل المث ل األعلى‬
‫يكون القرب من الكمال بحسب الكمال المطاق‪.‬‬
‫وبناء على ه ذه النظ رة التنزيهي ة ف إن أق رب الخل ق إلى هللا رس ول هللا ‪ ،‬ألن ه‬
‫أكملهم‪ ،‬وأك ثرهم معرف ة ب ه‪ ،‬وه و س يد المق ربين من األنبي اء والمرس لين واألولي اء‬
‫والصالحين كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة‪.‬‬
‫وهك ذا‪ ،‬وبن اء علي ه يك ون الق رب من هللا تع الى‪ ..‬ف أقرب الخل ق إلى هللا أق ربهم‬
‫رسول هللا ‪ .. ‬وقد أشار ‪ ‬إلى أن م يزان الق رب من ه ه و األخالق‪ ،‬وليس الزم ان‬
‫وال المكان‪ ،‬كما قال ‪( :‬إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا ي وم القيام ة أحاس نكم‬
‫أخالق ا‪ ،‬وإن من أبغض كم إلي وأبع دكم م ني ي وم القيام ة الثرث ارون والمتش دقون‬
‫(‪)2‬‬
‫والمتفيهقون)‬
‫فهذا الحديث يحدد حسن الخلق مقياسا لمكانة المؤمن من رسول هللا ‪ ،‬وهو مما‬
‫ال عالقة له ال بالمكان‪ ،‬وال بالزمان‪.‬‬
‫ه ذه هي النظ رة التنزيهي ة للق رب والبع د في مجاالت ه المختلف ة ‪ ..‬لكن النظ رة‬
‫التجسيمية تخالف ذلك تماما‪ ..‬ولهذا يرى السلفية الذين تبنوا هذه النظ رة أن الق رب من‬
‫هللا قرب مكاني مخالفين بذلك كل ما ورد في النصوص من القرب االعتباري‪.‬‬
‫ق ال ال دارمي موض حا ه ذه الرؤي ة بأص رح عب ارة‪..( :‬فيق ال له ذا المع ارض‬
‫المدعي ما ال علم ل ه من أنب أك أن رأس الجب ل ليس ب أقرب إلى هللا تع الى من أس فله؟‬
‫ألنه من آمن بأن هللا فوق عرشه فوق س مواته علم يقين ا ً أن رأس الجب ل أق رب إلى هللا‬
‫من أسفله‪ ،‬وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش هللا تعالى من السادسة والسادسة أقرب‬
‫(‪)3‬‬
‫إليه من الخامسة ثم كذلك إلى األرض)‬
‫وقد دعاهم إلى هذه الرؤي ة التجس يمية اعتب ارهم للح يز والح دود والمك ان وغ ير‬
‫ذلك‪ ..‬وهي جميعا تقتضي أن تكون األشياء بالنسبة هلل متفاوتة في قربها وبعدها بحسب‬
‫موضعها‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ما أوردوه من روايات تلقفوها من أه ل الكت اب أو من تالمي ذهم‪ ،‬ثم‬

‫‪1‬‬
‫إيقاظ الهمم فى شرح الحكم‪ ،‬ص‪.115 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() البيهقى فى شعب اإليمان (‪ ،4/250‬رقم ‪ )4969‬أحمد (‪ ،4/194‬رقم ‪)17778‬‬
‫‪ )(3‬نقض عثمان بن سعيد‪ .1/504‬وانظر الفواكه العذاب لحمد بن ناصر ‪ 157‬وإثبات علوهللا لحمود التويجري ‪84‬‬

‫‪115‬‬
‫صاغوها أو صاغوا بعضها على شكل روايات مرفوع ة إلى رس ول هللا ‪ ‬ليحص نوا‬
‫تجسيمهم وتشبيههم هلل بحصن السنة المقدس‪.‬‬
‫وبناء على تلك الرؤية التجسيمية فإن أقرب الخلق إلى هللا هو العرش‪ ،‬ثم المالئك ة‬
‫الحاملين للعرش‪ ..‬وهكذا‪..‬‬
‫وقد رووا في ذلك الروايات الكثيرة التي تدل على أن أوامر هللا تنزل بسلم تن ازلي‬
‫يبدأ من حملة العرش‪ ،‬ثم من بعدهم إلى أن يصل األمر إلى محله الذي أراده هللا‪.‬‬
‫ومن تلك الروايات التي استدلوا به ا على ه ذا م ا رفع وه إلى الن بي ‪ ‬من قول ه‪:‬‬
‫(ولكن ربنا‪ -‬تبارك وتع الى اس مه‪ -‬إذا قض ى أم را س بح حمل ة الع رش‪ ،‬ثم س بح أه ل‬
‫السماء الذين يلونهم‪ ،‬حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا‪ ،‬ثم قال الذين يل ون حمل ة‬
‫(‪)1‬‬
‫العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم‪ ،‬فيخبرونهم ماذا قال)‬
‫وق د اس تدلوا به ذا الح ديث على أن (حمل ة الع رش هم أول من يتلقى أم ر هللا‪ ،‬ثم‬
‫يبلغون ه لل ذين يل ونهم من أه ل الس موات‪ ،‬فك ونهم أق رب الخل ق إلى هللا دلي ل على أن‬
‫(‪)2‬‬
‫العرش أقرب منهم إليه – سبحانه ‪ -‬ألنهم إنما يحملونه)‬
‫وقد حددوا في بعض الرواي ات المس افة ال تي تفص ل هللا تع الى عن أق رب الخل ق‬
‫إليه‪ ،‬فرووا عن النبي ‪ ‬أنه قال‪( :‬إن أقرب الخلق إلى هللا تع الى جبرائي ل وإس رافيل‬
‫(‪)3‬‬
‫وميكائيل وإنهم من هللا تعالى بمسيرة خمسين ألف سنة)‬
‫ورووا عن سلفهم الكثير من الروايات ال تي تص ور ذل ك تص ويرا حس يا واض حا‬
‫حتى ال يتعب عقل السلفي في وضع االحتماالت المرتبطة بذلك‪ ،‬ومن تلك الروايات ما‬
‫ح دث ب ه وهيب بن ال ورد ق ال‪( :‬بلغ ني أن أق رب الخل ق من هللا ع ز وج ل إس رافيل‬
‫الع رش على كاهل ه‪ ..‬ف إذا ن زل ال وحي دلي ل وح من تحت الع رش‪ ،‬فيق رع جبه ة‬
‫إسرافيل‪ ،‬فينظر فيه فيدعو جبريل فيرسله‪ ،‬فإذا ك ان ي وم القيام ة أتى بإس رافيل ترع د‬
‫فرائصه‪ ،‬فيقال‪ :‬ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول‪ :‬بلغت جبري ل‪ .‬في دعى جبري ل‬
‫ترعد فرائص ه فيق ال‪ :‬م ا ص نعت فيم ا بلغ ك إس رافيل؟ فيق ول‪ :‬بلغت الرس ل‪ .‬في ؤتى‬
‫بالرسل ترعد فرائصهم فيقال‪ :‬ما صنعتم فيما أدى إليكم جبريل؟ فيقولون‪ :‬بلغنا الناس)‬
‫(‪)4‬‬

‫وبناء على هذا الحديث التجسيمي فسروا قوله تعالى‪﴿ :‬فَلَن َْس أَلَ َّن الَّ ِذينَ أُرْ ِس َل إِلَ ْي ِه ْم‬
‫َولَنَسْأَلَ َّن ْال ُمرْ َسلِينَ (‪ )6‬فَلَنَقُص ََّّن َعلَ ْي ِه ْم بِ ِع ْل ٍم َو َم ا ُكنَّا َغ ائِبِينَ (‪[ ﴾)7‬األع راف‪،]7 ،6 :‬‬
‫ورووا عن وهب بن منبه ما هو أكثر تفصيال وتجسيما‪ ،‬حيث قال‪( :‬إذا كان يوم القيامة‬
‫يقول هللا عز وجل‪ :‬يا إسرافيل‪ ،‬هات ما وكلتك به فيق ول‪ :‬نعم ي ا رب في الص ور ك ذا‬
‫وكذا ثقبة‪ ،‬وكذا وكذا روحا‪ ،‬لإلنس منها كذا وكذا‪ ،‬وللجن منها ك ذا وك ذا‪ ،‬وللش ياطين‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم رقم (‪.)2229‬‬
‫‪ )(2‬محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش ‪81‬‬
‫‪ )(3‬العلو للعلي الغفار ‪ .1/90‬أبو الشيخ في العظمة ‪)276( 2/684‬‬
‫‪4‬‬
‫العظمة ألبي الشيخ األصبهاني (‪.)846 /3‬‬ ‫()‬

‫‪116‬‬
‫منها كذا وكذا‪ ،‬وللوحوش منها كذا وكذا‪ ،‬وللطير كذا‪ ،‬ومنها كذا وكذا للحيتان‪ ،‬وللبهائم‬
‫منها كذا وكذا وللهوام منها كذا وكذا‪ .‬فيقول هللا عز وجل‪ :‬خذه من الل وح ف إذا ه و مثال‬
‫بمثل ال يزيد وال ينقص‪ ،‬ثم يقول هللا عز وجل‪ :‬هات ما وكلت ك ب ه ي ا ميكائي ل فيق ول‪:‬‬
‫نعم يا رب أنزلت من السماء كذا وكذا كيلة كذا وكذا مثقاال وزنة كذا وكذا مثقاال وزن ة‬
‫كذا وكذا قيراطا وزنة كذا وكذا خردلة وزنة كذا وكذا ذرة‪ ،‬أنزلت في س نة ك ذا وك ذا‪،‬‬
‫وفي شهر كذا وكذا كذا وكذا‪ ،‬وفي جمعة كذا وكذا‪ ،‬وفي يوم كذا وكذا للزرع كذا وك ذا‬
‫وأنزلت منه للشياطين كذا وكذا في يوم كذا وكذا‪ ،‬وأنزلت لإلنس منه كذا وكذا في ي وم‬
‫كذا وكذا كذا وكذا‪ ،‬وأنزلت للبهائم كذا وكذا وزنة كذا وكذا‪ ،‬وأنزلت للوحوش كذا وكذا‬
‫وزنة كذا‪ ،‬وكذا‪ ،‬وللطير منه كذا وكذا‪ ،‬وللباد منه ك ذا وك ذا‪ ،‬وللحيت ان من ه ك ذا وك ذا‬
‫وللهوام منه كذا وكذا فذلك كذا وكذا فيقول‪ :‬خذه من اللوح‪ ،‬فإذا ه و مثال بمث ل ال يزي د‬
‫وال ينقص‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يا جبريل هات ما وكلتك به‪ ،‬فيقول‪ :‬نعم يا رب أن زلت على نبي ك‬
‫فالن كذا وكذا آية في شهر كذا وكذا في جمع ة ك ذا وك ذا في ي وم ك ذا وك ذا‪ ،‬وأن زلت‬
‫على نبيك فالن كذا وكذا آية وعلى نبيك فالن كذا وكذا سورة فيها كذا وك ذا آي ة‪ ،‬ف ذلك‬
‫كذا وكذا أحرفا‪ ،‬وأهلكت كذا وكذا مدينة‪ ،‬وخسفت بك ذا وك ذا‪ .‬فيق ول‪ :‬خ ذه من الل وح‬
‫ف إذا ه و مثال بمث ل ال يزي د وال ينقص‪ ،‬ثم يق ول ع ز وج ل‪ :‬ه ات م ا وكلت ك ب ه ي ا‬
‫عزرائيل‪ .‬فيقول‪ :‬نعم يا رب قبضت روح كذا وكذا إنسي وكذا وكذا ج ني‪ ،‬وك ذا وك ذا‬
‫شيطان وكذا وكذا غريق‪ ،‬وكذا وكذا حريق‪ ،‬وكذا وكذا ك افر‪ ،‬وك ذا وك ذا ش هيد وك ذا‬
‫وكذا هديم وكذا وكذا لديغ وكذا وكذا في سهل‪ ،‬وكذا وكذا في جب ل‪ ،‬وك ذا وك ذا ط ير‪،‬‬
‫وكذا وكذا هوام‪ ،‬وكذا وكذا وحش ف ذلك ك ذا‪ ،‬وك ذا جملت ه ك ذا وك ذا فيق ول‪ :‬خ ذه من‬
‫الل وح ف إذا ه و مثال بمث ل ال يزي د وال ينقص فاهلل تب ارك وتع الى علم قب ل أن يكتب‬
‫(‪)1‬‬
‫وأحكم)‬
‫وقد فسروا بهذا الحديث قوله تعالى‪ ﴿ :‬هُ َو اأْل َ َّو ُل َواآْل ِخ ُر َوالظَّا ِه ُر َو ْالبَ ِ‬
‫اطنُ َوهُ َو‬
‫بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم ﴾ [الحديد‪]3 :‬‬
‫بل ذكروا أن جبريل عليه الس الم ك ان إذا احت اج إلى س ؤال هللا رح ل إلي ه‪ ،‬ودن ا‬
‫﴿وإِ َذا َس أَلَكَ ِعبَ ا ِدي َعنِّي‬
‫منه‪ ،‬ليسأله‪ ،‬وكأنه لم ينزل على رس ول هللا ‪ ‬قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫فَإِنِّي قَ ِريبٌ ﴾ [البقرة‪]186 :‬‬
‫ومن تلك الرواي ات ال تي أوردوه ا في ه ذا أن رس ول هللا ‪ ‬س أل جبري ل علي ه‬
‫السالم‪ :‬أي بقاع األرض أشر؟‪ ،‬قال‪ :‬هللا أعلم‪ ،‬قال‪ :‬أال تسأل ربك عز وج ل؟ ق ال‪ :‬م ا‬
‫أجرأكم يا ب ني آدم إن هللا ال يس ئل عم ا يفع ل‪ ،‬ثم ع اد إلى رس ول هللا ‪ ،‬فق ال‪( :‬إني‬
‫دنوت من ربي حتى كنت منه بمك ان لم أكن ق ط أق رب من ه‪ ،‬كنت بمك ان بي ني وبين ه‬
‫(‪)2‬‬
‫سبعون حجابا من نور‪ ،‬فأوحى هللا تبارك وتعالى إلي أن شر بقاع األرض السوق)‬
‫وفي رواية أخرى أن جبريل عليه السالم قال لرسول هللا ‪ ‬بعد رحلت ه الطويل ة‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫العظمة ألبي الشيخ األصبهاني (‪.)847 /3‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫العظمة ألبي الشيخ األصبهاني (‪)672 /2‬‬ ‫()‬

‫‪117‬‬
‫(يا محمد‪ ،‬لقد وقفت اليوم موقفا لم يقفه ملك قبلي وال يقفه ملك بع دي‪ ،‬ك ان بي ني وبين‬
‫الجبار تبارك وتعالى سبعون ألف حجاب من ن ور‪ ،‬الحج اب يع دل الع رش والكرس ي‬
‫والس ماوات واألرض بك ذا وك ذا أل ف ع ام‪ ،‬فق ال‪ :‬أخ بر محم دا ‪ ‬أن خ ير البق اع‬
‫المساجد‪ ،‬وخير أهلها أولهم دخوال‪ ،‬وآخرهم خروجا‪ ،‬وشر البقاع األسواق‪ ،‬وشر أهلها‬
‫(‪)1‬‬
‫أولهم دخوال‪ ،‬وآخرهم خروجا)‬
‫بل إنهم يفسرون قوله تعالى عن موسى عليه السالم‪َ ﴿ :‬وقَ َّر ْبنَاهُ ن َِجيًّ ا﴾ [م ريم‪]52 :‬‬
‫تفسيرا حسيا موغال في التجسيم‪ ،‬فيروون عن مجاهد قوله‪( :‬بين السماء السابعة‪ ،‬وبين‬
‫العرش سبعون أل ف حج اب‪ :‬حج اب ن ور‪ ،‬وحج اب ظلم ة‪ ،‬وحج اب ن ور‪ ،‬وحج اب‬
‫ظلمة‪ ،‬فما زال موسى عليه السالم يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب‪ ،‬فلم ا رأى مكان ه‬
‫(‪)2‬‬
‫وسمع صريف القلم‪ ،‬قال‪َ ﴿ :‬ربِّ أَ ِرنِي أَ ْنظُرْ إِلَ ْيكَ ﴾ [األعراف‪)]143 :‬‬
‫‪#‬آب﴾ [ص‪ ]25 :‬فق د‬ ‫وهكذا فسروا قول ه تع الى‪﴿ :‬وإِ َّن لَ ‪##‬هُ ِعْن ‪#َ #‬دنَا لَ ‪#ُ #‬زلْ َفى وحس‪# #‬ن م ‪ٍ #‬‬
‫َُ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫رووا عن مجاهد قول ه‪( :‬إن داود علي ه الس الم يجيء ي وم القيام ة خطيئت ه مكتوب ة في‬
‫كفه‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب خطيئتي مهلكتي‪ ،‬فيقول له‪ :‬كن بين يدي‪ ،‬فينظ ر إلى كف ه فيراه ا‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬يا رب خطيئتي مهلكتي‪ ،‬فيقول‪ :‬خذ بحق وي‪ ،‬ف ذلك قول ه‪ ،‬ع ز وج ل‪َ ﴿ :‬وإِ َّن لَ ‪##‬هُ‬
‫(‪)3‬‬ ‫ِعْن َدنَا لَُزلْ َفى وحسن م ٍ‬
‫آب ﴾ [ص‪)]25 :‬‬ ‫َُ َْ َ‬
‫اب قَوْ َس ي ِْن أَوْ‬
‫وهكذا فسروا قوله تعالى عن المعراج‪ ﴿ :‬ثُ َّم َدنَ ا فَتَ دَلَّى (‪ )8‬فَ َك انَ قَ َ‬
‫أَ ْدنَى (‪[ ﴾ )9‬النجم‪ ،]10 - 8 :‬فقد فسروها تفسيرا حسيا فق د رووا عن أنس بن مال ك‪:‬‬
‫(‪ ..‬ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك ك ل س ماء فيه ا أنبي اء ق د س ماهم‬
‫فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامس ة لم أحف ظ اس مه‬
‫وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كالم هللا‪ ،‬فق ال موس ى‪ :‬رب لم أظن‬
‫أن ترفع علي أحداً‪ ،‬ثم عال به فوق ذلك بما ال يعلم ه إال هللا ح تى ج اء س درة المنتهى‪،‬‬
‫ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ‪ ،‬فأوحى هللا فيما أوحى‬
‫إليه خمسين صالة على أمتك كل يوم وليلة‪ ،‬ثم هبط حتى بلغ موس ى‪ ،‬فاحتبس ه موس ى‬
‫فقال‪ :‬يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صالة كل ي وم وليل ة‪ .‬ق ال إن‬
‫أمتك ال تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم‪ .‬ف التفت الن بي إلى جبري ل كأن ه‬
‫يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعال به إلى الجبار فقال وهو مكانه‬
‫(‪)4‬‬
‫يا رب خفف عنا فإن أمتي ال تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات…)‬
‫وهكذا يفسرون الكثير من آيات القرآن الكريم تفسيرا حسيا ال يختلف عن هذا‪ ،‬ب ل‬
‫‪1‬‬
‫العظمة ألبي الشيخ األصبهاني (‪.)675 /2‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫العظمة ألبي الشيخ األصبهاني (‪ ،)690 /2‬وأخرجه الطبري في تفسيره ‪ 16/95‬والبيهقي في األسماء والص فات‬ ‫()‬
‫‪.508‬‬
‫‪3‬‬
‫() السنة لعبد هللا بن أحمد (‪.)503 /2‬‬
‫‪ )(4‬صحيح البخاري‪)7079( 6/370‬‬

‫‪118‬‬
‫إن ابن تيمية أقر قصة عجيبة ذكرها البغوي في تفسيره عن أيوب عليه السالم‪ ،‬رواها‬
‫ُّوب إِ ْذ نَ ادَى َربَّهُ أَنِّي َم َّس نِ َي‬
‫﴿و ْاذ ُك رْ َع ْب َدنَا أَي َ‬
‫عن وهب بن منبه‪ ،‬كتفسير لقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ب﴾ [ص‪ ،]41 :‬فقد ذكر أن أيوب لم يقل تلك الكلمة ال تي ذكره ا‬ ‫ال َّش ْيطَانُ بِنُصْ ٍ‬
‫ب َو َع َذا ٍ‬
‫القرآن الكريم عنه‪ ،‬وإنما قال بدلها‪( :‬لو أن ربي نزع الهيب ة ال تي في ص دري وأطل ق‬
‫لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني‬
‫عن د ذل ك مم ا بي‪ ،‬ولكن ه ألق اني وتع الى ع ني‪ ،‬فه و ي راني وال أراه‪ ،‬ويس معني وال‬
‫أس معه‪ ،‬فال نظ ر إلي فيرحم ني‪ ،‬وال دن ا م ني‪ ،‬وال أدن اني ف أدلي بع ذري‪ ،‬وأتكلم‬
‫ببراءتي‪ ،‬وأخاصم عن نفسي)‬
‫ويروي أن هللا تعالى أجابه بخالف ما ذكره الق رآن الك ريم‪﴿ :‬ارْ ُكضْ بِ ِرجْ لِ كَ هَ َذا‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾ [ص‪ ،]42 :‬وإنم ا أجاب ه بنزول ه على الغم ام وخطاب ه ل ه‪ ،‬ق ال‬ ‫ُم ْغتَ َس ٌل بَ ِ‬
‫وهبه بن منبه‪( :‬فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظل ه غم ام ح تى ظن أص حابه أن ه‬
‫عذاب أليم‪ ،‬ثم نودي يا أيوب إن هللا عز وجل يقول‪ :‬ها أنا قد دنوت منك ولم أزل من ك‬
‫قريبا ثم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك‪ ،‬وقم مق ام جب ار‬
‫يخاصم جبار إن استطعت‪ ،‬فإنه ال ينبغي أن يخاصمني إال جبار مثلي وال ش به لي لق د‬
‫منت ك نفس ك ي ا أي وب أم را م ا تبلغ ه بمث ل قوت ك أين أنت م ني ي وم خلقت األرض‬
‫فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد بأطرافها وه ل علمت ب أي مق دار ق درتها أم‬
‫على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك حمل الماء األرض أم بحكمت ك ك انت األرض‬
‫للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا محفوظافي الهواء ‪ )1()..‬إلى آخ ر م ا‬
‫ذكره‪.‬‬
‫والعجيب أن ابن تيمية استدل بهذه القصة على دنو هللا من خلقه‪ ،‬فقال‪..( :‬وقد جاء‬
‫أيضا ً من حديث وهب بن منبه وغ يره من االس رائيليات قرب ه من أي وب علي ه الس الم‬
‫وغيره من األنبياء عليهم السالم‪ .‬ولفظه الذي ساقه البغوى أنه أظل ه غم ام ثم ن ودى ي ا‬
‫أيوب أنا هللا‪ ،‬يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا‪ ،‬لكن االسرائيليات إنما تذكر على‬
‫(‪)2‬‬
‫وجه المتابعة ال على وجه االعتماد عليها وحدها)‬
‫ثم يعطي ابن تيمية القاعدة التي بنى عليه ا الس لف ه ذه المس ألة‪ ،‬فق ال‪..( :‬وال ذين‬
‫يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف واألئم ة وه و ق ول األش عرى‬
‫نفس ه وتقرُّ بُ ه من‬ ‫وغيره من الكالبية فإنهم يثبتون ق رب العب اد إلى ذات ه‪ ...‬وأم ا دن وه ُ‬
‫بعض عباده فه ذا يثبت ه من يثبت قي ام األفع ال االختياري ة بنفس ه ومجيئ ه ي وم القيام ة‬
‫ونزوله واستوائه على الع رش وه ذا م ذهب أئم ة الس لف وأئم ة االس الم المش هورين‬
‫(‪)3‬‬
‫وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر)‬
‫وبناء على هذا المفهوم للقرب ذكروا أن معنى قرب أهل الجنة من هللا ه و الق رب‬

‫‪1‬‬
‫تفسير البغوي (‪.)303 /3‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة ‪.5/464‬‬
‫‪ )(3‬كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة ‪5/466‬‬

‫‪119‬‬
‫الحسي‪ ..‬ومم ا رووه في ذل ك عن عب د هللا بن مس عود قول ه‪( :‬س ارعوا إلى الجم ع في‬
‫الدنيا فإن هللا تعالى ينزل ألهل الجنة كل جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون في‬
‫(‪)1‬‬
‫القرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمع في الدنيا)‬
‫وبناء عليه أيضا فسروا المق ام المحم ود ال ذي وع د هللا تع الى ب ه رس وله ‪ ‬في‬
‫ك أَ ْن يَ ْب َعثَكَ َمقَا ًما َمحْ ُموْ دًا﴾[اإلس راء‪ ،]٧٩:‬تفس يرا حس يا‪ ،‬ف ذكروا أن‬ ‫قوله‪َ ﴿ :‬ع َسى َربُّ َ‬
‫معناه إقعاد هللا تع الى لنبي ه ‪ ‬على الع رش‪ ،‬وق د ب الغوا في ه ذا المع نى كث يرا ح تى‬
‫اعتبروا مخالفته تعطيال وتجهما وضاللة‪.‬‬
‫بل إن بعضهم لم يكتف بحديث مجاهد‪ ،‬بل أضاف إليه روايات رفعوه ا إلى الن بي‬
‫‪ ‬منها ما رواه أبو إسحاق الشيرجي الحنبلي عن أبي هريرة قال‪ :‬سئل رسول هللا ‪‬‬
‫َس ى أَ ْن يَ ْب َعثَ كَ َربُّكَ َمقَا ًم ا َمحْ ُم ودًا ﴾ [اإلس راء‪ ]79 :‬ق ال‪ ( :‬نعم‪ ،‬إذا‬
‫عن قول هللا‪﴿ :‬ع َ‬
‫كان يوم القيامة نادى مناد‪ :‬أين حبيب هللا ؟ فأتخطى صفوف المالئك ة ح تى أص ير إلى‬
‫(‪)2‬‬
‫جانب العرش‪ ،‬ثم يمد يده فيأخذ بيدي فيقعدني على العرش)‬
‫ومثله م ا رواه أب و بك ر النج اد عن ابن عم ‪##‬ر‪ ،‬عن الن ‪##‬يب ‪ ‬يف اآلي ‪##‬ة الس ‪##‬ابقة‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫( يقعدني على العرش)‬ ‫قال‪:‬‬
‫ومثله ما رواه عمرو بن دينار‪ ( :‬أن هللا عز وج ل يغض ب ي وم القيام ة غض با لم‬
‫يغضب مثله‪ ،‬فيقوم نبينا محمد ‪ ‬فيثني على هللا بما هو أهله‪ ،‬فيقول هللا عز وجل ل ه‪:‬‬
‫ادنه‪ ،‬ثم يغضب فيقوم نبينا‪ ،‬فيثني على هللا بما هو له أه ل‪ ،‬فيق ول ل ه‪ :‬ادن ه‪ ،‬فال ي زال‬
‫يقول له‪ :‬ادنه‪ ،‬حتى يقعده على العرش‪ ،‬وجبريل علي ه الس الم ق ائم‪ ،‬فيق ول الن بي ‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫(إن هذا يعني جبريل جاءني برساالتك‪ ،‬فيقول هللا تبارك وتعالى‪ :‬صدق)‬
‫بل إنهم لم يكتفوا بهذه األحاديث المرفوعة‪ ،‬بل راحوا يضيفون االستدالل ب الرؤى‬
‫على صحة هذه الفضيلة‪ ،‬ومن تلك الرؤى م ا ح دث ب ه محم د بن علي الس راج‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫( رأيت النبي ‪ ‬وأبو بكر عن يمينه‪ ،‬وعمر عن يساره‪ ،‬رحمة هللا عليهما ورضوانه‪،‬‬
‫فتقدمت إلى النبي ‪ ‬فقمت عن يس ار عم ر‪ ،‬فقلت‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬إني أري د أن أق ول‬
‫شيئا فأقبل علي‪ ،‬فقال‪ :‬قل‪ ،‬فقلت‪ :‬إن الترم ذي يق ول‪ :‬إن هللا ع ز وج ل ال يقع دك مع ه‬
‫على العرش‪ ،‬فكيف تق ول ي ا رس ول هللا‪ ،‬فأقب ل علي ش به المغض ب وه و يش ير بي ده‬
‫اليمنى عاقدا بها أربعين‪ ،‬وهو يقول‪( :‬بلى وهللا‪ ،‬بلى وهللا‪ ،‬بلى وهللا‪ ،‬يقع دني مع ه على‬
‫العرش‪ ،‬بلى وهللا يقعدني معه على العرش‪ ،‬بلى وهللا يقع دني مع ه على الع رش )‪ ،‬ثم‬
‫(‪)5‬‬
‫انتبهت)‬
‫‪ )(1‬العلو ‪.1/60‬‬
‫‪2‬‬
‫انظر‪ :‬الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫انظر‪ :‬الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫انظر‪ :‬الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫انظر‪ :‬الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫()‬

‫‪120‬‬
‫ومما ذكره ابن القيم في نونيته عن هذا األصل من أصول العقائد قوله‪:‬‬
‫أقم الصالة وتلك في سبحان‬ ‫واذكر كالم مجاهد في قوله‬
‫ما قيل ذا بالرأي والحسبان‬ ‫في ذكر تفسير المقام ألحمد‬
‫هو شيخهم بل شيخه الفوقاني‬ ‫إن كان تجسي ًما فإن مجاهدًا‬
‫أثر رواه جعفر الرباني‬ ‫وقد أتى ذكر الجلوس به وفي‬
‫ق ذو التِّبيان‬
‫أيضًا والح ُّ‬ ‫أعني ابن عم نبينا وبغيره‬
‫في ذا الباب غير جبان‬ ‫والدارقطني اإلمام يثبت اآلثار‬
‫وفيها لست للمروي ذا نكران‬ ‫وله قصيد ضمنت هذا‬
‫من فرقة التعطيل والعدوان‬ ‫وجرت لذلك فتنة في وقته‬
‫ورسوله في سائر األزمان‬ ‫وهللا ناصر دينه وكتابه‬
‫ذا حكمة مذ كانت الفئتان‬ ‫لكن بمحنة حزبه من حربه‬
‫وقبله قال أبو الحسن الدارقطني‪:‬‬
‫إلى أحمد المصطفى مسنده‬ ‫حديث الشفاعة عن أحمد‬
‫على العرش أيضًا فال نجحده‬ ‫وجاء حديث باقعاده‬
‫وال تُدخلوا فيه ما يفسده‬ ‫أمرُّ وا الحديث على وجهه‬
‫وال تُنكروا أنه يقعده‬ ‫وال تُنكروا أَنَّه قاعد‬
‫وقد نص على ثبوت هذا النوع من القرب لرسول هللا ‪ ‬كل متقدمي السلفية الذين‬
‫يحتجون بهم في العادة على مخالفيهم(‪ )1‬ومنهم أحمد بن حنب ل‪ ،‬وه ارون بن مع روف‪،‬‬
‫وإسحاق بن راهويه‪ ،‬و أب و عبي د القاس م بن س الم وعب د الوه اب ال وراق‪ ،‬وأب و داود‬
‫السجستاني‪ ،‬وعبد هللا بن أحمد بن حنبل‪ ،‬وإبراهيم الحربي‪ ،‬و أبو بك ر الم روذي وأب و‬
‫بكر الخالل‪ ،،‬و أب و القاس م الط براني‪ ،‬و أب و بك ر اآلج ري‪ ،‬وأب و عب د هللا ابن بط ة‪،‬‬
‫وغيرهم كثير‪.‬‬
‫بل قال إب راهيم األص بهاني في الح ديث‪ ( :‬ه ذا الح ديث ص حيح ثبت‪ ،‬ح دث ب ه‬
‫العلماء منذ ستين ومائة سنة )‬

‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬الس نة ألبي بك ر بن الخالل ( ‪ ،)187 /1‬فم ا بع دها‪ ،‬وال رد بالع دة والعت اد على من أنك ر أث ر مجاه د في‬ ‫()‬
‫اإلقعاد‪ ،‬ص‪ ،10‬فما بعدها‪ ،‬فقد ذكر فيه األقوال الكثيرة ألعالم السلف في هذا‪ ،‬ومنه أخذنا هذه األقوال‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫وقال أبو بكر الم روذي‪ :‬ق ال أب و بك ر بن حم اد المق رئ‪( :‬من ذك رت عن ده ه ذه‬
‫األحاديث فسكت فهو متهم على اإلسالم ! فكيف من طعن فيها ؟! )‬
‫و قال أبو بكر بن صدقة‪ ( :‬ما حكمه عندي إال القتل)‬
‫وق ال أب و بك ر بن أبي ط الب‪ ( :‬من رده فق د رد على هللا ع ز وج ل‪ ،‬ومن ك ذب‬
‫بفضيلة النبي ‪ ‬فقد كفر باهلل العظيم ) ‪.‬‬
‫وقال محمد بن إس ماعيل الس لمي‪ ( :‬من ت وهم أن محم دا ‪ ‬لم يس توجب من هللا‬
‫عز وجل ما قال مجاهد فهو كافر باهلل العظيم)‬
‫وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب‪ ( :‬ال علمت أحدا رد حديث مجاه د يقع د محم دا‬
‫‪ ‬على العرش )‬
‫وقال أبو قالبة‪ ( :‬ال يرد هذا إال أهل البدع والجهمية )‬
‫وقال الحسن بن الفضل‪( :‬من رد هذه األحاديث فهو مبتدع ض ال م ا أدركن ا أح دا‬
‫يرده إال من في قلبه بلية‪ ،‬يهجر وال يكلم )‬
‫وقال ابن بطة‪ :‬سمعت أخي القاسم ‪ -‬نضر هللا وجهه ‪ -‬يق ول‪ ( :‬لم يكن البربه اري‬
‫يجلس مجلسا إال ويذكر فيه أن هللا عز وجل يقعد محمدا ‪ ‬معه على العرش‪. ) ‬‬
‫و ق ال محم د بن إس ماعيل الس لمي‪ ( :‬ك ل من ظن أو ت وهم أن رس ول هللا ‪ ‬لم‬
‫يستوجب من هللا عز وجل هذه المنزلة في حديث مجاه د فه و عن دنا جهمي‪ ،‬وإن ه ذه‬
‫المصيبة على أهل اإلسالم أن يذكر أحد النبي ‪ ، ‬وال يقدموا عليه بأجمعهم ! )‬
‫بل إن المتأخرين أيضا ممن ال يمارسون التقي ة ق الوا ب ذلك‪ ،‬من أمث ال الش يخ ابن‬
‫فوزان فقد قال في شرحه على النونية عن أثر مجاه د‪( :‬ه ذا ح ديث ص حيح وإن ك ان‬
‫يشوش على ضعاف اإلدراك فال ع برة بهم ألن ه ال يمكن أن يق ال ه ذا الكالم من جه ة‬
‫(‪)1‬‬
‫االجتهاد أو الرأي بل له حكم الرفع )‬
‫بل إن بعضهم ألف في ذلك رسالة سماها (ال رد بالع دة والعت اد على من أنك ر أث ر‬
‫مجاهد في اإلقعاد)(‪ ،)2‬وقد قدم لها بقول محمد بن إسماعيل السلمي‪ ( :‬ل وال أن أب ا بك ر‬
‫المروذي رحمه هللا اجته د في ه ذا –أي في ال رد على من أنكر أثر مجاهد‪ -‬لخفت أن‬
‫ينزل بنا وبمن يقصر عن هذا الضال المضل عقوب ة‪ ،‬فإنه من شر الجهمية ما يب الي ما‬
‫(‪)3‬‬
‫تكلم به)‬
‫ثم قال‪( :‬ومما أعطى هللا نبيه ‪ ‬المقام المحمود يزيده ب ذلك ش رفا وفض ال‪ ،‬جم ع‬
‫هللا الكريم له فيه كل حظ جميل من الش فاعة للخل ق والجل وس على الع رش‪ ،‬خص هللا‬
‫الكريم به نبينا ‪ ،‬وأقر له به عينه يغبطه به األول ون واآلخ رون‪ ،‬س ر هللا الك ريم ب ه‬
‫المؤمنين مم ا خص ب ه ن بيهم من الكرام ة العظيم ة والفض يلة الجميل ة تلقاه ا العلم اء‬
‫بأحس ن القب ول‪ ،‬فالحم د هلل على ذل ك‪ ،‬وق د ح دث المش ايخ المش هورون واألولي اء‬
‫‪1‬‬
‫شرحه على النونية ( ‪.) 453-2‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫ألفها إبراهيم بن رجا بن شقاحي الشمري‪ ،‬وهي في موقعه على النت‪.‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.3‬‬ ‫()‬

‫‪122‬‬
‫المقبولون باآلثار الواردة في ه ذا الب اب من ذ ق رون‪ ،‬ورأوا أن الفض يلة المنقول ة فيه ا‬
‫(‪)1‬‬
‫أعظم فضائل نبينا ‪)‬‬
‫ثم نقل قول المروذي‪ :‬سألت أبا عب د هللا بن عب د الن ور عن فض يلة الن بي ‪ ،‬في‬
‫حديث مجاهد‪ ،‬فقال‪( :‬وهللا ما للنبي ‪ ‬فضيلة مثلها‪ ،‬أدركت شيوخنا على ذلك يتلقون ه‬
‫(‪)2‬‬
‫بالقبول‪ ،‬ويسرون بها وال يردها إال رجل سوء جهمي )‬
‫ثم ذكر التقية التي صار يمارس ها المت أخرون من الس لفية منتق دا له ا‪ ،‬فق ال‪( :‬ولم‬
‫يزل األمر كذلك عن د أه ل العلم وال دين‪ ،‬في تلقى ه ذه الفض يلة ب القبول‪ ،‬وكلم ا نبغت‬
‫نابغة فتنة ترد هذه الفضيلة وتنكرها قمعوه ا‪ ،‬وبين وا ض الل أص حابها‪ ،‬ح تى اش تدت‬
‫الغرب ة في ه ذا الزم ان‪ ،‬وعظمت المحن ة‪ ،‬فص ار المثبت ون له ذه الفض يلة‪ ،‬المتبع ون‬
‫للس لف األك ارم‪ ،‬يرم ون بالش ذوذ والس فه واالبت داع‪ ،‬وذل ك حين انتس ب إلى الس نة‬
‫والسلف أقوام ليسوا منها بسبيل‪ ،‬فردوا اآلث ار المنقول ة‪ ،‬وجح دوا الفض لية الم ذكورة‪،‬‬
‫ونشروا الشبه المدحوضة‪ ،‬في دعم مقالتهم المخذولة‪ ،‬ولم يكتفوا بذلك ح تى طعن وا في‬
‫(‪)3‬‬
‫أهل الحديث النجباء‪ ،‬ولمزوا في السلف الكرماء)‬
‫اإلتيان والنزول‪:‬‬
‫من المنطلق ات المهم ة ال تي ينطل ق منه ا الس لفية في إثب ات التنق ل والحرك ة هلل‬
‫اعتبارهم أن الفرق بين الحي والجماد ه و الحرك ة ‪ ..‬وأن ك ل س اكن ميت أو مع دوم‪..‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فهم يستدلون استدالال عقليا على وجوب الحركة هلل من هذه الناحية‪.‬‬
‫وهذا ي دل على الخلفي ة التش بيهية ال تي يمتلئ به ا العق ل الس لفي‪ ،‬ذل ك أن إج راء‬
‫أحكام الخلق على الخالق‪ ،‬أو تطبيق قوانين الخلق على الخالق أكبر أنواع التشبيه‪ ،‬كم ا‬
‫أنه أكبر أسبابه‪.‬‬
‫ك‬‫﴿و ُك لٌّ فِي فَلَ ٍ‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد غفل ه ؤالء عم ا أش ار إلي ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫يَ ْسبَحُونَ ﴾ [يس‪ ،]40 :‬فمن بديهيات العلوم الحديثة أن الحركة الفلكي ة ثابت ة لك ل جس م‬
‫حتى أنهم شبهوا حركة االلكترونات حول نفسها وحول النواة بحركة كل ك وكب ح ول‬
‫نفسه وح ول الش مس‪ ،‬والش مس أيض ا ً تتح رك ح ول نفس ها وتتح رك م ع مجموعته ا‬
‫الشمسية من الكواكب حول مركز مجرة درب التبانة والمجرة في حرك ة مثله ا أيض اً‪،‬‬
‫وكل ذرة في الجسم ماهي إال صورة مصغرة من هذا الكون(‪.)4‬‬
‫بناء على هذا المعتقد‪ ،‬والذي ينطلقون منه ـ مثلما ذكرنا سابقا ـ من الفهم الح رفي‬
‫لبعض م ا ورد في الق رآن الك ريم أو الس نة المطه رة من تع ابير كاإلتي ان والمجيء‬
‫ونحوها‪ ،‬فيفسرونها بمعناها الظاهري الذي يلزم منه تشبيه الخالق بالمخلوق‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.4‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.4‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في اإلقعاد‪ ،‬ص‪.4‬‬ ‫()‬
‫شهادة الكون لعبد الودود رشيد محمد ‪ 31‬و‪43‬‬ ‫‪)(4‬‬

‫‪123‬‬
‫ولو أنهم فعلوا هذا مع جميع النصوص المقدس ة لك ان في ذل ك بعض الع ذر لهم‪..‬‬
‫ولكنهم ـ لألسف ـ ينتق ون م ا يش اءون تأويل ه‪ ،‬فيج يزون ألنفس هم ذل ك‪ ..‬وينتق ون م ا‬
‫يشاءون حمله على ظاهره‪ ،‬فيعتبرون تأويال تجهما وتعطيال‪.‬‬
‫هَّللا‬ ‫ْ‬
‫﴿و َم ا َر َميْتَ إِذ َر َميْتَ َولَ ِك َّن َ َر َمى﴾‬ ‫وكمثال على ذل ك أنهم يؤل ون قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫هَّللا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫[األنفال‪ ،]17 :‬بينما يقول ون بظ اهر قول ه تع الى‪﴿ :‬هَ لْ يَ ْنظ رُونَ إِاَّل أ ْن يَ أتِيَهُ ُم ُ فِي‬
‫ض َي اأْل َ ْم ُر َوإِلَى هَّللا ِ تُرْ َج ُع اأْل ُ ُمورُ﴾ [البقرة‪ ،]210 :‬مع أن‬ ‫ظُلَ ٍل ِمنَ ْال َغ َم ِام َو ْال َماَل ئِ َكةُ َوقُ ِ‬
‫اآلية الكريمة تحتمل من وجوه التأويل وف ق كالم الع رب م ا تحتمل ه اآلي ة ال تي أوله ا‬
‫السلفية‪ ،‬وقد ذكر المنزهة الكثير من الوجوه التي تفسر بها اآلية الكريمة (‪: )1‬‬
‫ات هللا‪ ،‬فجع ل مجيء اآلي ات مجيئ ا ً ل ه على‬ ‫ومنها‪ :‬هل ينظ رون إال أن ت أتيهم آي ُ‬
‫التفخيم لشأن اآليات‪ ،‬كما يقال‪ :‬جاء الملك إذا ج اء جيش عظيم من جهت ه‪ ،‬وال ذي ي دل‬
‫على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في اآلية المتقدمة‪﴿ :‬فَإِ ْن زَ لَ ْلتُ ْم ِم ْن بَ ْع ِد َم ا َج ا َء ْت ُك ُم‬
‫َزي ٌز َح ِكي ٌم﴾ [البق رة‪ ،]209 :‬ف ذكر ذل ك في مع رض الزج ر‬ ‫ات فَ ا ْعلَ ُموا أَ َّن هَّللا َ ع ِ‬ ‫ْالبَيِّنَ ُ‬
‫ْ‬
‫والتهديد‪ ،‬ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله‪ ﴿ :‬هَلْ يَ ْنظُ رُونَ إِاَّل أَ ْن يَ أتِيَهُ ُم هَّللا ُ﴾ [البق رة‪]210 :‬‬
‫ومعلوم أنه على تقدير أن يصح المجيء على هللا لم يكن مج رد حض وره س ببا ً للتهدي د‬
‫والزجر‪ ،‬ألنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم‪ ،‬فهو يثيب المؤم نين ويخص هم‬
‫بالتقريب‪ ،‬فثبت أن مجرد الحضور ال يكون سببا ً للتهديد والوعيد‪ ،‬فلم ا ك ان المقص ود‬
‫من اآلي ة إنم ا ه و الوعي د والتهدي د‪ ،‬وجب أن يض مر في اآلي ة مجيء الهيب ة والقه ر‬
‫والتهديد‪ ،‬ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية‪ ،‬وهذا تأويل حسن موافق لنظم اآلية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬هل ينظرون إال أن يأتيهم أمر هللا‪ ،‬ومدار الكالم في هذا الباب أنه تعالى إذا‬
‫ذكر فعالً وأضافه إلى شيء‪ ،‬فإن كان ذلك محاالً فالواجب صرفه إلى التأويل‪ ،‬كما قال‬
‫اربُونَ هَّللا َ ﴾ [المائدة‪ ،]33 :‬فقد نصوا على أن المراد‬ ‫السلفية أنفسهم في قوله‪﴿ :‬الَّ ِذينَ يُ َح ِ‬
‫اس أ َ ِل ْالقَرْ يَ ةَ﴾ [يوس ف‪ ،]82 :‬فق د‬ ‫﴿و ْ‬
‫منها (يحاربون أولياءه)‪ ،‬ومثل ذلك قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫نصوا على أن المراد منها‪( :‬واس أل أه ل القري ة)‪ ،‬فك ذا قول ه‪( :‬ي أتيهم هللا) الم راد ب ه‬
‫ك﴾ [الفج ر‪ ،]22 :‬ف المراد منه ا‪( :‬ج اء أم ر رب ك)‪،‬‬ ‫يأتيهم أمر هللا‪ ،‬وقوله‪َ ﴿ :‬و َج ا َء َربُّ َ‬
‫وليس فيه إال حذف المضاف‪ ،‬وإقامة المضاف إليه مقامه‪ ،‬وهو مج از مش هور‪ ،‬يق ال‪:‬‬
‫ضرب األمير فالناً‪ ،‬وصلبه‪ ،‬وأعطاه‪ ،‬والمراد أنه أمر بذلك‪ ،‬ال أن ه ت ولى ذل ك العم ل‬
‫بنفسه‪.‬‬
‫والذي يؤكد هذا المعنى أن قوله تعالى ههنا‪ ( :‬يأتيهم هللا ) وقول ه‪ ( :‬وج اء رب ك )‬
‫إخب ار عن ح ال القيام ة‪ ،‬ثم ذك ر ه ذه الواقع ة بعينه ا في س ورة النح ل فق ال‪﴿( :‬هَ لْ‬
‫ك﴾ [النح ل‪ ،]33 :‬فص ار ه ذا المحكم‬ ‫يَ ْنظُرُونَ إِاَّل أَ ْن تَ أْتِيَهُ ُم ْال َماَل ئِ َك ةُ أَوْ يَ أْتِ َي أَ ْم ُر َربِّ َ‬
‫مفسراً لذلك المتشابه‪ ،‬ألن كل ه ذه اآلي ات لم ا وردت في واقع ة واح دة لم يبع د حم ل‬
‫بعضها على البعض‪.‬‬
‫لكن المدرسة السلفية‪ ،‬ولحنينها للتجسيم والتشبيه‪ ،‬أو حنينها إلله جسماني متح رك‬

‫‪1‬‬
‫انظر هذه الوجوه في‪ :‬تفسير الرازي (‪)358 /5‬‬ ‫()‬

‫‪124‬‬
‫اعتبروا تلك التأويالت تعطيال‪ ،‬مع أنهم يتبن ون أمثاله ا في مواض ع كث يرة من الق رآن‬
‫الكريم والسنة المطهرة‪.‬‬
‫ولهذا فقد فسروا تلك اآلية الكريمة بهذا التفسير التشبيهي التجس يمي الخط ير‪ ،‬فق د‬
‫رووا عن رس ول هللا ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬يجم ع هللا األولين واآلخ رين لميق ات ي وم معل وم‬
‫أربعين سنة‪ ،‬شاخصة أبصارهم إلى السماء‪ ،‬ينظرون إلى فصل القضاء‪ ،‬فينزل هللا من‬
‫(‪)1‬‬
‫العرش إلى الكرسي في ظلل من الغمام)‬
‫ورووا عن أبي هريرة قوله‪( :‬يحشر الناس حفاة‪ ،‬عراة‪ ،‬مشاة‪ ،‬قياما‪ ،‬أربعين سنة‪،‬‬
‫شاخصة أبص ارهم إلى الس ماء ينظ رون فص ل القض اء‪ ،‬وق د ألجمهم الع رق من ش دة‬
‫(‪)2‬‬
‫الكرب‪ ،‬وينزل هللا في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي)‬
‫ولم يكتفوا بذلك في تفسير اآلية‪ ،‬ب ل جعل وا الغم ام مركب ا هلل تع الى ي أتي ب ه ك ل‬
‫حين‪ ،‬ومن ذلك ما رووه عن عمر بن عبد العزيز قال‪( :‬فإذا فرغ هللا ‪ -‬عز وج ل ‪ -‬من‬
‫أهل الجنة والنار؛ أقبل هللا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في ظلل من الغمام والمالئكة‪ ،‬فس لم على أه ل‬
‫﴿س اَل ٌم قَ وْ اًل‬
‫الجنة في أول درجة فيردون عليه السالم‪ ،‬قال الق رظي‪ :‬وه ذا في الق رآن َ‬
‫ِم ْن َربٍّ َر ِح ٍيم ﴾ [يس‪ ،]58 :‬فيق ول‪ :‬س لوني‪ ،‬ق ال‪ :‬ففع ل ذل ك بهم في درجهم ح تى‬
‫(‪)3‬‬
‫يستوي في مجلسه‪ ،‬ثم يأتيهم التحف من هللا تحمله المالئكة إليهم)‬
‫وهكذا ال يفوت السلفيون آية من آيات القرآن الكريم إال ربطوه ا بمش هد تجس يمي‬
‫أسطوري خرافي‪.‬‬
‫وقد ساق هذه النصوص وأمثالها الدارمي في كتاب ه [ال رد على الجهمي ة]‪ ،‬ثم ق ال‬
‫بنبرة غامضة مخاطبا المدرسة التنزيهي ة بالش دة الس لفية المعه ودة‪( :‬فه ذا الن اطق من‬
‫قول هللا ‪ -‬عز وجل ‪ ،-‬وذاك المحفوظ من قول رسول هللا ‪ ‬بأخبار ليس عليها غب ار‪،‬‬
‫ف إن كنتم من عب اد هللا المؤم نين؛ ل زمكم اإليم ان به ا كم ا آمن به ا المؤمن ون‪ ،‬وإال‬
‫فصرحوا بما تضمرون‪ ،‬ودعوا ه ذه األغلوط ات ال تي تل وون به ا ألس نتكم‪ ،‬فلئن ك ان‬
‫أهل الجهل في شك من أمركم‪ ،‬إن أهل العلم من أمركم لعلى يقين‪ ،‬فإن قال قائ ل منهم‪:‬‬
‫معنى إتيانه في ظلل من الغمام‪ ،‬ومجيئه والملك صفا صفا‪ ،‬كمعنى كذا وكذا‪ ،‬قلت‪ :‬هذا‬
‫التكذيب باآلية صراحا‪ ،‬تلك معناه ا بين لألم ة ال اختالف بينن ا وبينكم وبين المس لمين‬
‫في معناها المفهوم المعقول عند جمي ع المس لمين‪ ،‬فأم ا مجيئ ه ي وم القيام ة وإتيان ه في‬
‫ظل ل من الغم ام والمالئك ة‪ ،‬فال اختالف بين األم ة أن ه إنم ا ي أتيهم يومئ ذ ك ذلك‬
‫لمحاسبتهم‪ ،‬وليصدع بين خلقه‪ ،‬ويقررهم بأعمالهم‪ ،‬ويجزيهم به ا‪ ،‬ولينص ف المظل وم‬
‫منهم من الظالم‪ ،‬ال يت ولى ذل ك أح د غ يره‪ ،‬تب ارك اس مه وتع الى ج ده‪ ،‬فمن لم ي ؤمن‬
‫(‪)4‬‬
‫بذلك؛ لم يؤمن بيوم الحساب)‬

‫‪1‬‬
‫العرش للذهبي (‪.)116 /2‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫أورده الذهبي في العلو (ص‪ )65‬وعزاه للعسال في كتاب المعرفة‪ .‬وأورده ابن كثير في النهاية (‪)2/205‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الطبري في التفسير (‪ )540 /20‬الرد على الجهمية (ص‪.)89 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الرد على الجهمية (ص‪.)91 :‬‬ ‫()‬

‫‪125‬‬
‫وهكذا يعطي السلفية لهذا الموقف التجس يمي ه ذا الحكم الخط ير‪ ،‬وه و أن ه من لم‬
‫يؤمن بنزول هللا على الغمام‪ ،‬ال يؤمن أصال بيوم الحساب‪..‬‬
‫ولم يكتف السلفية باستخدام القرآن الكريم وسيلة لبث األفكار التجسيمية‪ ،‬بل عمدوا‬
‫إلى رواية األحاديث الكثيرة‪ ،‬وتحري ف ألفاظه ا أو معانيه ا بحيث تتناس ب م ع رؤيتهم‬
‫التجسيمية‪.‬‬
‫وكمثال على ذل ك م ا يس مونه ح ديث ال نزول‪ ،‬وال ذي أل ف ابن تيمي ة رس الة في‬
‫شرحه‪ ،‬بل جعلوه مع حديث الجارية‪ ،‬وكأن رسول هللا ‪ ‬لم يقل غيرهما‪.‬‬
‫مع أن الحديث روي بروايات أخرى‪ ،‬قال الحافظ أبو بكر بن فورك ش يخ ال بيهقي‬
‫في كتابه (مشكل الحديث وبيانه)‪( :‬وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخ بر عن الن بي‬
‫‪ ‬بما يؤيد هذا الباب وهو بضم الي اء من ينـزل وذك ر أن ه ض بطه عمـن س معه من‬
‫(‪)1‬‬
‫الثقات الضابطين وإذا كان ذلك محفوظا مضبوطا كما قال فوجهه ظاهر)‬
‫وفي رواية للنسائي‪ ( :‬إن هلل عز وجل يمه ل ح تى يمض ي ش طر اللي ل األول‪ ،‬ثم‬
‫يأمر مناديا ينادي يقول‪ :‬هل من داع يستجاب له ؟ ه ل من مس تغفر يغف ر ل ه‪ ،‬ه ل من‬
‫(‪)2‬‬
‫سائل يعطى)‬
‫ْ‬
‫ونظير هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيه ‪﴿ :‬فَإِ َذا قَ َرأنَاهُ فَاتَّبِ ْع قُرْ آنَ هُ ﴾‬
‫[القيامة‪ ،]18 :‬فإن معناه‪( :‬فإذا ق رأه جبري ل علي ك بأمرن ا)ألن ه من المعل وم أن ه ليس‬
‫المعنى أن هللا يقـرأ القرءان على رسول هللا ‪ ‬كما يقرأ المعلم على التلميذ‪.‬‬
‫لكن السلفية ـ لحنينهم للتجسيم ـ يأبون هذا التفسير‪ ،‬ويعتبرون ه تعطيال‪ ،‬وإن ك انوا‬
‫يعملون أمثاله حين يرغبون في ذلك‪.‬‬
‫وبالرغم من أن ما فهموه من الحديث يقضي على كل م ا بن وه من فهمهم الس تواء‬
‫هللا على عرشه إال أنهم يصرون على الجمع بين المتناقضات‪ ،‬يقول ابن باز في شرحه‬
‫للحديث‪( :‬قد تواترت األح اديث عن رس ول هللا ‪ ‬بإثب ات ال نزول ‪ ..‬وق د أجم ع أه ل‬
‫السنة والجماعة على إثبات صفة النزول على الوجه ال ذي يلي ق باهلل س بحانه ال يش ابه‬
‫خلقه في ش يء من ص فاته ‪ ..‬وال نزول في ك ل بالد بحس بها ألن ن زول هللا س بحانه ال‬
‫يشبه نزول خلقه وهو س بحانه يوص ف ب النزول في الثلث األخ ير من اللي ل في جمي ع‬
‫أنحاء العالم على الوجه الذي يليق بجالله سبحانه ‪ ..‬وأول الثلث وآخره يع رف في ك ل‬
‫زمان بحسبه فإذا كان الليل تسع ساعات كان أول وقت النزول أول الساعة السابعة إلى‬
‫طلوع الفجر‪ ،‬وإذا كان اللي ل اثن تي عش رة س اعة ك ان أول الثلث األخ ير أول الس اعة‬
‫(‪)3‬‬
‫التاسعة إلى طلوع الفجر وهكذا بحسب طول الليل وقصره في كل مكان)‬
‫وما ذكره ابن باز وغيره من السلفية في هذا الباب يتسلزم تناقضات كثيرة تقض ي‬

‫‪1‬‬
‫مشكل الحديث وبيانه (ص‪)205 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫النسائي في اليوم والليلة (رقم‪.)482‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع فتاوى ومقاالت متنوعة عبد العزيز بن عبد هللا بن باز‪ .‬م‪ .4/‬ص‪.420/‬‬ ‫()‬

‫‪126‬‬
‫على كل مذهبهم التجسيمي‪ ،‬فمن تلك االستلزامات التي تلزمهم(‪:)1‬‬
‫أوال ـ أن الليل والنهار وأجزاءهما كالنصف والثلث يختلف باختالف البل دان‪ ،‬ف إن‬
‫قالوا‪ :‬إن هللا ينـزل بالنسبة لبلد واحدة كمكة فقط‪ ،‬فمن أين هذا التخص يص ليس عن دهم‬
‫دليل‪ ..‬وإن قالوا‪ :‬إنه بالنسبة لكل ال دنيا فلي ل بل د نه ار بل د آخ ر ونص ف اللي ل في بل د‬
‫يكون نصف النهار في بلد آخ ر‪ ،‬فيل زم على معتق دهم أن يك ون هللا ن ازال وطالع ا ك ل‬
‫ساعة من ساعات الليل والنهار‪ ،‬وهذا ينافي قولهم إنه (مختص بالعرش)‬
‫ثانيا ـ أنه بناء على قولهم أن العرش أكبر الع والم بحيث أن الكرس ي بالنس بة إلي ه‬
‫كحلق ة ملق اة في فالة‪ ،‬وأن الس موات بالنس بة إلى الكرس ي كحلق ة ملق اة في فالة من‬
‫األرض‪ ،‬وعلى هذا تكون السماء الدنيا بالنسبة للع رش أق ل من خردل ة ملق اة في فالة‪،‬‬
‫فكيف تسع هللا الذي هو في معتقدهم بقدر العرش أو أوس ع من الع رش‪ ،‬ف إن ق الوا ه و‬
‫ينزل إلى السماء الدنيا وهي على حالها وهو على حاله فه ذا مح ال‪ ،‬وإن ق الوا‪ :‬إن هللا‬
‫يصير أقل من قدر خردلة ح تى تس عه الس ماء ال دنيا فه ذا أيض ا مح ال‪ ،‬وإن ق الوا‪:‬إن‬
‫الكرسي والس موات تك ون بق در الع رش أو أوس ع من ه‪ ،‬فمن أين ال دليل على ذل ك من‬
‫الكتاب والسنة؟‬
‫ثالثا ـ أنه بناء على الروايات الكثيرة التي يصححونها فإن السموات السبعة ممتلئة‬
‫بالمالئكة بحيث أنه ال يوجد فيها موض ع أرب ع أص ابع إال وفي ه مل ك ق ائم أو راك ع أو‬
‫ساجد‪ ،‬كما قال ‪( :‬أطت السماء‪ ،‬وحق لها أن تئط‪ ،‬ما فيها موض ع أرب ع أص ابع إال‬
‫وملك واضع جبهته هلل ساجدا)(‪ )2‬فمن أين يكون في السماء الدنيا متسع ل ذات هللا ال ذي‬
‫هو على زعمهم بقدر الع رش أو أوس ع من ه‪ ،‬فعلى ك ل تق دير يل زمهم أن يجعل وا‪ ،‬هللا‬
‫متغيرا والتغير على هللا محال‪.‬‬
‫ولم يكتف السلفية بإنزال هللا في الثلث األخير من الليل إلبالغ عباده بتلك الرسالة‪،‬‬
‫وإنما جعلوه ينزل في كل حين‪ ،‬فمن الم واطن ال تي ينص فيه ا الس لفية على ن زول هللا‬
‫تعالى نزوله ليلة النص ف من ش عبان‪ ،‬فق د رووا عن رس ول هللا ‪ ‬قول ه‪( :‬ي نزل هللا‪،‬‬
‫عز وجل‪ ،‬ليلة النصف من شعبان إلى سماء ال دنيا فيغف ر لك ل نفس إال إنس ان في قلب ه‬
‫شحناء أو مشرك باهلل جل اسمه)(‪ ،)3‬وفي رواية‪ ( :‬إن هللا جل اسمه يطلع ليل ة النص ف‬
‫(‪)4‬‬
‫من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر ألكثر من عدد شعر غنم كلب )‬
‫ومن المواطن ما رووه أن رسول هللا ‪ ‬قال‪ ( :‬ما من أيام أفضل عند هللا من ي وم‬
‫(‪)5‬‬
‫عرفة ينزل هللا إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل األرض)‬
‫‪1‬‬
‫() انظر مقاال في هذا بعنوان‪ :‬ابن باز ومعبوده المتحرك الذي يطلع وينزل‪ ،‬في موقع أهل السنة والجماعة‪ ،‬وانظ ر‪:‬‬
‫ما ساقه ابـن جماعة على هذا في كتابه (إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل)‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الترمذي‪ ،‬رقم (‪ )2313‬وابن ماجة رقم (‪ )4190‬وأحمد في المسند ‪ ،173 / 5‬وإسناده حس ن‪ ،‬وق د حس نه‬
‫الترمذي‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)255 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)255 :‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)258 :‬‬ ‫()‬

‫‪127‬‬
‫ق َّ‬
‫الس َما ُء‬ ‫﴿ويَ وْ َم ت ََش قَّ ُ‬
‫ومن المواطن ما رووه عن ابن عب اس أن ه ق رأ ه ذه اآلي ة‪َ :‬‬
‫بِ ْال َغ َم ِام َونُ ِّز َل ْال َماَل ئِ َكةُ تَ ْن ِزياًل ﴾ [الفرقان‪ ،]25 :‬ثم قال‪( :‬ي نزل أه ل الس ماء ال دنيا وهم‬
‫أكثر من أهل األرض من الجن واإلنس فيقول أه ل األرض‪ :‬أفيكم ربن ا؟ فيقول ون ال ‪-‬‬
‫وذكر الحديث ‪ -‬ثم يأتي الرب في الكروبيين وهم أكثر أهل السموات السبع واألرضين‬
‫(‪)1‬‬
‫)‬
‫وقد علق عليه الشيخ أبو يعلى على هذه الرواية بقوله‪( :‬اعلم أن هذا حديث صحيح‬
‫يجب األخذ بظاهره من غير تأويل‪ ،‬وال يجب أن يستوحش من إطالق مث ل ذل ك‪ ،‬وق د‬
‫نص أحمد عليه في رواية ابن منصور وقد سأله‪ ( :‬ينزل ربنا‪ ،‬تبارك وتعالى‪ ،‬كل ليل ة‬
‫حين يبقى ثلث الليل اآلخ ر إلى الس ماء ال دنيا ) أليس تق ول به ذا الح ديث؟ ق ال أحم د‪:‬‬
‫صحيح‪ ،‬وقال أحمد بن الحسين بن حسان‪ :‬قيل ألبي عبد هللا‪ ( :‬إن هللا‪ ،‬تبارك وتع الى‪،‬‬
‫ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة )‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قيل له‪ :‬وفي شعبان كم ا ج اء األث ر؟ ق ال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬وقال يوسف بن موسى‪ :‬قي ل ألبي عب د هللا‪ :‬إن هللا ي نزل إلى الس ماء ال دنيا كي ف‬
‫(‪)2‬‬
‫شاء من غير وصف؟ قال‪ :‬نعم)‬
‫ومن مواطن ال نزول ه ذه الرواي ة الخط يرة المرفوع ة للن بي ‪ ،‬وهي‪( :‬إن هللا‪،‬‬
‫عز وجل‪ ،‬ينزل في ثالث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة األولى‪ ،‬ال ذي‬
‫لم تره عين فيمحوا هللا ما يشاء ويثبت‪ ،‬ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة ع دن‪ ،‬وهي‬
‫داره وهي مسكنه التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر‪ ،‬وهي مس كنه ال يس كنها‬
‫معه من بني آدم إال ثالث‪ :‬النبيون والص ديقون والش هداء‪ ،‬ثم ي نزل في الس اعة الثالث ة‬
‫إلى السماء الدنيا ومالئكته‪ ،‬فتنتفض فيقول‪ :‬قومي بع زتي‪ ،‬ثم يطل ع إلى عب اده فيق ول‪:‬‬
‫هل من مس تغفر ف أغفر ل ه؟ أال من يس ألني فأعطي ه؟ أال من داع فأجيب ه؟ ح تى تك ون‬
‫صالة الفجر‪ ،‬ولذلك يقول هللا‪َ ﴿ :‬وقُرْ آنَ ْالفَجْ ِر إِ َّن قُرْ آنَ ْالفَجْ ِر َكانَ َم ْش هُودًا ﴾ [اإلس راء‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫‪)]78‬‬
‫وقد علق عليها أبو يعلى بقوله‪( :‬وهذا يسقط التأويل‪ ،‬ألنه قال‪ ( :‬ينزل في الس اعة‬
‫الثالثة إلى سماء الدنيا ومالئكته )‪ ،‬فأثبت نزول ذاته ونزول مالئكت ه ف إن قي ل‪ :‬يحتم ل‬
‫قوله‪ ( :‬ينزل ومالئكته ) معناه ينزل بمالئكته قيل‪ :‬هذا غل ط ألن حقيق ة ال واو للعط ف‬
‫والجمع‪ ،‬وألنه ق ال في الخ بر‪ ( :‬أال من يس ألني فأعطي ه؟ أال من داع فأجيب ه؟ ) وه ذا‬
‫القول ال يكون لملك الثالث‪ :‬أن ه إن ج از تأوي ل ه ذا على ن زول مالئكت ه‪ ،‬ج از تأوي ل‬
‫(‪)4‬‬
‫قوله‪ ( :‬ترون ربكم على رؤية مالئكته )‬
‫وذكر جوابا آخر لذلك‪ ،‬فقال‪( :‬وجواب آخر جيد وهو م ا رواه إب راهيم بن الجني د‬
‫الختلي في كتاب العظمة بإس ناده‪ ،‬عن أنس‪ ،‬أن الن بي ‪ ‬ق ال‪ ( :‬إن هللا ج ل اس مه إذا‬

‫‪1‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)259 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)259 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)264 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫إبطال التأويالت (ص‪.)264 :‬‬ ‫()‬

‫‪128‬‬
‫أراد أن ينزل نزل بذاته ) فإن قيل‪ :‬فقد روي بض م الي اء (ي نزل هللا ) وإذا ك ان ك ذلك‪،‬‬
‫صح التأوي ل بأن ه ي نزل من أفعال ه ال تي هي ت رغيب أله ل الخ ير واس تعطاف أله ل‬
‫العطف قيل‪ :‬هذا غلط ألنه ال يحفظ هذا عن أح د من أص حاب الح ديث أن ه روى ذل ك‬
‫بالضم فال يجوز دعوى ذلك‪ ،‬والذي يبين بطالن ذلك قول ه‪ ( :‬أال من يس ألني فأعطي ه؟‬
‫أال من داع فأجيبه؟ ) وهذه صفة تختص بها الذات دون األفع ال‪ ،‬وم ا ه ذه الزي ادة أال‬
‫تحريف المبطلين ألخبار الصفات فإن قيل‪ :‬يحمل قوله‪ ( :‬ثم يعلوا) الم راد ب ه مالئكت ه‬
‫قيل‪ :‬هذا غلط ألنه قال في الخبر‪ ( :‬ثم يعلوا على كرس يه ) وليس ه ذه ص فة للمالئك ة‬
‫ألن الكرسي مضاف إليه‪ ،‬وكذلك قوله‪ ( :‬ثم يرتفع ) ال يصح حمل ه على المالئك ة ألن‬
‫(‪)1‬‬
‫هاء الكناية ترجع إلى المذكور)‬
‫وبناء على كثرة المواطن التي ذكروا فيه ا ن زول هللا تع الى من على عرش ه‪ ،‬فق د‬
‫خشوا أن يخل و الع رش من ه خل وا مطلق ا‪ ،‬وله ذا اختلف وا اختالف ا ش ديدا في ح ل ه ذه‬
‫المشكلة‪ ،‬وكالمهم فيها يدل على التناقضات الكبيرة التي يعيشها العقل السلفي‪.‬‬
‫والذي يعنينا منها أشهر األقوال فيها‪ ،‬وهو ما تتبناه السلفية الحديثة وهو‪ :‬أنه ي نزل‬
‫وال يخلو منه العرش‪ ،‬وقد انتصر لهذا القول ابن تيمي ة‪ ،‬وذك ر أن ه ق ول جمه ور أه ل‬
‫الحديث(‪ ،)2‬ق ال‪( :‬ونق ل ذل ك عن اإلم ام أحم د بن حنب ل في رس الته إلى مس دد‪ ،‬وعن‬
‫إسحاق بن راهويه‪ ،‬وحماد بن زيد‪ ،‬وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم)(‪.)3‬‬
‫وقال القاضي أبو يعلى‪( :‬وقد ق ال أحم د في رس الته إلى مس دد‪ :‬إن هللا ع ز وج ل‬
‫ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا وال يخل و من الع رش‪ .‬فق د ص رح أحم د ب القول إن‬
‫العرش ال يخلو منه)(‪.)4‬‬
‫وسأل بشر بن السري حماد بن زيد‪ ،‬فقال‪( :‬يا أبا إس ماعيل‪ ،‬الح ديث ال ذي ج اء )‬
‫ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد بن زيد‪ ،‬ثم ق ال‪:‬‬
‫هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء)(‪.)5‬‬
‫وقال إسحاق بن راهويه‪( :‬دخلت على عبد هللا بن طاهر‪ ،‬فقال‪ :‬م ا ه ذه األح اديث‬
‫التي تروونها؟ قلت‪ :‬أي شيء أصلح هللا األمير؟ قال‪ :‬ت روون أن هللا ي نزل إلى الس ماء‬
‫الدنيا‪ .‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬رواه الثقات الذين يروون األحك ام‪ .‬ق ال‪ :‬أي نزل وي دع عرش ه؟ ق ال‪:‬‬
‫فقلت‪ :‬يقدر أن ينزل من غير أن يخلو العرش منه؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬ولم تتكلم في هذا؟)‬
‫(‪.)6‬‬
‫‪1‬‬
‫() إبطال التأويالت (ص‪.)265 :‬‬
‫‪ )(2‬شرح حديث النـزول (ص‪ ،)201‬ومنهاج السنة (‪.)2/638‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق (ص‪.)149‬‬
‫‪ )(4‬إبطال التأويالت (‪.)1/261‬‬
‫‪ )(5‬ابن بطة في اإلبانة‪ ،‬كما في المختار من اإلبانة (ص‪ ،204-203‬برقم‪)15‬‬
‫الاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (‪.)3/452‬وأورده ابن تيمية في شرح ح ديث النـزول (ص‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪ )152‬وصحح إسناده‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫وقد قال ابن تيمية تعليقا على هذا‪( :‬وهذه والتي قبلها حكايتان ص حيحتان رواتهم ا‬
‫ثقات‪ ،‬فحماد بن زيد يقول‪ :‬هو في مكانه‪ ،‬يقرب من خلقه كيف يشاء‪ ،‬ف أثبت قرب ه م ع‬
‫كونه فوق عرشه‪ ،‬وعب د هللا بن ط اهر وه و من خي ار من ولي األم ر بخراس ان ك ان‬
‫يعرف أن هللا فوق العرش‪ ،‬وأشكل عليه أنه ينزل‪ ،‬لتوهمه أن ذلك يقتضي أن يخلو منه‬
‫العرش‪ ،‬فأقره اإلمام إسحاق على أنه فوق العرش‪ ،‬وقال له‪ :‬يقدر أن ينزل من غير أن‬
‫يخلو منه العرش؟ فقال له األمير‪ :‬نعم‪ .‬فق ال ل ه إس حاق‪ :‬لم تتكلم في ه ذا؟ يق ول‪ :‬ف إذا‬
‫كان قادراً على ذلك لم يلزم من نزول ه خل و الع رش من ه‪ ،‬فال يج وز أن يع ترض على‬
‫النزول بأنه يلزم منه خلو العرش‪ ،‬وكان هذا أهون من اع تراض من يق ول‪ :‬ليس ف وق‬
‫(‪)1‬‬
‫العرش شيء‪ ،‬فينكر هذا وهذا)‬
‫والمشكلة التي تنجر عن هذا القول أخطر من المشكلة التي يريدون حلها‪ ..‬ذلك أنه‬
‫بناء على قولهم بالحيز والحدود والجسمية هلل‪ ،‬فإن ذلك يقتضي أمرين‪ :‬إما أن ينزل هللا‬
‫وهو على عرشه إلى السماء الدنيا أو غيره ا من المح ال‪ ،‬وذل ك مح ال ‪ ..‬ألن الع رش‬
‫أكبر بكثير من السماء الدنيا‪.‬‬
‫وإما أن تصعد السماء الدنيا إليه‪ ،‬وذلك أيضا محال‪ ،‬وال يتناسب مع الحديث ال ذي‬
‫يخبر بأن هللا ينزل بذاته‪..‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬فلو طبقنا أي قول من تلك األقوال‪ ،‬فإنها ستنسف كل ما أوردوه في‬
‫المس ألة من تجس يم وتش بيه‪ ..‬وال يبقى لهم من ح ل إال الخض وع للتنزي ه ال ذي ذك ره‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬والذي دل عليه البرهان والعرفان‪.‬‬
‫ولهذا نرى السلفية يخشون من طرح أمث ال ه ذه األس ئلة‪ ،‬فق د س ئل الش يخ محم د‬
‫العثيمين هذا السؤال‪( :‬النزول عند أهل السنة معناه‪ :‬أنه ينزل سبحانه بنفسه إلى السماء‬
‫الدنيا نزوالً حقيقيا يليق بجالله وال يعلم كيفيته إال هو‪ ،‬ولكن هل يستلزم ن زول هللا ع ز‬
‫وجل خلو العرش منه أو ال ؟)‬
‫تنط ٌع وإيراده غير مشكور عليه‬‫فأجاب الشيخ ابن عثيمن‪( :‬نقول أصل هذا السؤال ُّ‬
‫مورده‪ ،‬ألننا نسأل هل أنت أحرص من الصحابة على فهم ص فات هللا ؟ إن ق ال‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫فقد كذب ‪ .‬وإن قال‪ :‬ال ‪ .‬قلنا ْفليَ َس ْعكَ ما وسعهم‪ ،‬فهم ما س ألوا رس ول هللا ‪ ،‬وق الوا‪:‬‬
‫يارسول هللا إذا نزل هل يخلو منه العرش ؟ وما لك وله ذا الس ؤال‪ ،‬ق ل ي نزل واس كت‬
‫يخلو منه العرش أو ما يخلو‪ ،‬هذا ليس إليك‪ ،‬أنت مأمور بأن تصدِّق الخبر‪ ،‬ال سيما م ا‬
‫(‪)2‬‬
‫يتعلق بذات هللا وصفاته ألنه أمر فوق العقول)‬
‫ولو أن ابن عثيمين أج اب نفس ه به ذا قب ل أن يخ وض ه و وس لفه في أمث ال ه ذه‬
‫المسائل‪ ،‬لما أوقع نفسه وأوقع األمة في أمثال هذه الحيرة التي ال مبرر لها‪.‬‬

‫‪ )(1‬شرح حديث النـزول (ص‪.)153‬‬


‫‪2‬‬
‫مجموع فتاوى الشيخ محمد العثيمين ‪.205 -1/204‬‬ ‫()‬

‫‪130‬‬
‫الصورة ‪ ..‬والرؤية‬

‫ي رى أص حاب الرؤي ة التنزيهي ة هلل ـ س واء ك انوا من أه ل البره ان أو من أه ل‬


‫العرفان ـ أن هللا تعالى لعدم انحص اره في ع والم الح دود والقي ود واألل وان واألش كال‬
‫والجواهر واألعراض ال يمكن أن تكون ل ه ص ورة من الص ور‪ ..‬ألن الص ورة س جن‬
‫وقيد وحدود‪ ..‬فهي تحصر المسجون فيها وتقيده بقيود األلوان واألشكال واألجرام‪.‬‬
‫ولهذا فإن الرؤية التي يتحدث عنها أه ل هللا وأولي اؤه‪ ،‬وال تي أش ارت إليه ا بعض‬
‫النصوص المقدسة رؤية متناس بة م ع جالل هللا وكمال ه وع دم انحص اره‪ ..‬وهي ل ذلك‬
‫يستحيل أن تك ون رؤي ة حس ية‪ ،‬ألن الحس ال ي درك إال الحس‪ ،‬والعين ال ت رى إال م ا‬
‫يمكن أن تحتويه‪ ..‬وهللا أعظم من أن تحتويه حدق ة‪ ،‬أو يحي ط بح دوده بص ر‪ ،‬كم ا ق ال‬
‫ار َوه َُو اللَّ ِطيفُ ْالخَ بِي ُر ﴾ [األنعام‪،]103 :‬‬ ‫ْص َ‬ ‫ك اأْل َب َ‬‫ْصا ُر َوه َُو يُ ْد ِر ُ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬اَل تُ ْد ِر ُكهُ اأْل َب َ‬
‫فهي آية تقرر الحقيقة العظيمة‪ ،‬وهي أن هللا تعالى أعظم من أن ي درك ب أي م درك من‬
‫المدارك الحسية والمعنوية‪ ،‬ألن اإلدراك ـ كما ق ال علم اء اللغ ة ـ (ه و لح وق الش ئ‬
‫اركَ ِع ْل ُمهُ ْم فِي اآْل ِخ َر ِة﴾ [النم ل‪]66 :‬‬ ‫بالشئ ووصوله إليه)(‪،)1‬كما قال تع الى‪ ﴿ :‬بَ ِل ا َّد َ‬
‫أي أن علمهم أدركهم في اآلخرة حين لم ينفعهم‪.‬‬
‫هَّللا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ولهذا قال تعالى قبل اآلية الكريمة التي قررت استحالة إدراك هللا تع الى‪﴿ :‬ذلِك ُم ُ‬
‫ق ُك ِّل َش ْي ٍء فَا ْعبُدُوهُ َوهُ َو َعلَى ُكلِّ َش ْي ٍء َو ِكيلٌ﴾ [األنعام‪،]102 :‬‬ ‫َربُّ ُك ْم اَل إِلَهَ إِاَّل ه َُو خَالِ ُ‬
‫فكما أنه ال يمكن إدراك كل شيء‪ ..‬وهو مخلوق محصور محدود‪ ..‬فكي ف يمكن إدراك‬
‫غير المحدود والمحصور‪.‬‬
‫ولهذا أخبر هللا تعالى موس ى علي ه الس الم أن ه يس تحيل أن ي راه‪ ..‬وق د ذك ر ذل ك‬
‫بصيغة النفي المؤبد‪ ،‬وعلق إمكانية الرؤية على شيء مستحيل لم يتحقق‪ ،‬ف دل على أن‬
‫وس ى لِ ِميقَاتِنَ ا‬ ‫﴿ولَ َّما َجا َء ُم َ‬
‫رؤية هللا التي تحيط به مستحيلة استحالة مطلقة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫َو َكلَّ َمهُ َربُّهُ قَا َل َربِّ أَ ِرنِي أَ ْنظُرْ إِلَ ْيكَ قَا َل لَ ْن تَ َرانِي َولَ ِك ِن ا ْنظُ رْ إِلَى ال َجبَ ِل فَ إِ ِن ْ‬
‫اس تَقَ َّر‬ ‫ْ‬
‫ق قَ ا َل‬ ‫ص ِعقًا فَلَ َّما أَفَ ا َ‬ ‫َم َكانَهُ فَ َسوْ فَ ت ََرانِي فَلَ َّما تَ َجلَّى َربُّهُ لِ ْل َجبَ ِل َج َعلَهُ َد ًّكا َوخَ َّر ُم َ‬
‫وس ى َ‬
‫ك َوأَنَا أَ َّو ُل ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [األعراف‪]143 :‬‬ ‫ْت إِلَ ْي َ‬
‫ك تُب ُ‬‫ُس ْب َحانَ َ‬
‫واإلش ارة القرآني ة في مس ارعة موس ى علي ه الس الم إلى التس بيح والتنزي ه بع د‬
‫اإلفاقة(‪ )2‬هو علمه أن الرؤية ال تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص‪،‬ولهذا‬
‫نزه هللا سبحانه وتعالى عنها‪.‬‬
‫ب ل إن هللا تع الى ي ذكر في الق رآن الك ريم غض به الش ديد على من طلب الرؤي ة‬
‫‪1‬‬
‫ابن فارس‪ .‬مقاييس اللغة ‪.366 :2‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫بن اء على الق ول بتنزي ه األنبي اء عليهم الس الم وعص متهم المطلق ة‪ ،‬ف إني أمي ل في ه ذه المس ألة إلى م ا ذك ره‬ ‫()‬
‫الزمخشري في قوله عن موسى عليه السالم‪( :‬ما كان طلب الرؤية إال ليبكت هؤالء الذين دعاهم س فهاء وض الال‪ .‬وت برأ‬
‫من فعلهم‪ ،‬وليلقمهم الحجر‪ ،‬وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخط أ ونبههم على الح ق‪ ،‬فلج وا وتم ادوا‬
‫في لجاجهم وقالوا‪ :‬ال بدَّ‪ ،‬ولن نؤمن لك حتى نرى هللا جه رة‪ ،‬ف أراد أن يس معوا النص من عن د هللا باس تحالة ذل ك‪ ،‬وه و‬
‫قوله (لَ ْن تَرانِي) ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة)‪ ،‬تفسير الزمخشري (‪)153 /2‬‬

‫‪131‬‬
‫اعقَةُ‬
‫الص ِ‬ ‫﴿وإِ ْذ قُ ْلتُ ْم يَا ُمو َسى لَ ْن نُ ْؤ ِمنَ لَكَ َحتَّى نَ َرى هَّللا َ َج ْه َرةً فَأ َ َخ َذ ْت ُك ُم َّ‬ ‫الحسية‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫َوأَ ْنتُ ْم تَ ْنظُرُونَ ﴾ [البقرة‪]55 :‬‬
‫وهكذا نرى القرآن الكريم يعيب طلب الرؤية مطلقا‪ ،‬سواء كان ذل ك من أنبيائ ه أو‬
‫ب أَ ْن تُنَ ِّز َل َعلَ ْي ِه ْم ِكتَابً ا ِمنَ َّ‬
‫الس َما ِء فَقَ ْد‬ ‫ك أَ ْه ُل ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫من أعدائه‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬يَ ْس أَلُ َ‬
‫اعقَةُ بِظُ ْل ِم ِه ْم﴾ [النس اء‪:‬‬ ‫ك فَقَالُوا أَ ِرنَ ا هَّللا َ َج ْه َرةً فَأَخَ َذ ْتهُ ُم َّ‬
‫الص ِ‬ ‫َسأَلُوا ُمو َسى أَ ْكبَ َر ِم ْن َذلِ َ‬
‫‪ ،]153‬وقال‪َ ﴿ :‬وقَا َل الَّ ِذينَ اَل يَرْ جُونَ لِقَا َءنَا لَوْ اَل أُ ْن ِز َل َعلَ ْينَا ْال َماَل ئِ َك ةُ أَوْ نَ َرى َربَّنَ ا لَقَ ِد‬
‫ا ْستَ ْكبَرُوا فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم َو َعتَوْ ا ُعتُ ًّوا َكبِيرًا﴾ [الفرقان‪]21 :‬‬
‫وبذلك تصبح هذه اآليات محكمة يرد إليه ك ل م ا تش ابه من النص وص‪ ،‬وخاص ة‬
‫ذلك النص القرآني الذي يستدل به السلفية‪ ،‬مع أنهم يقولون بتأويله‪ ،‬وه و قول ه تع الى‪:‬‬
‫َاظ َرةٌ﴾ [القيامة‪ ،]23 ،22 :‬فالنظر هن ا ال يع ني‬ ‫ض َرةٌ (‪ )22‬إِلَى َربِّهَا ن ِ‬ ‫﴿ ُوجُوهٌ يَوْ َمئِ ٍذ نَا ِ‬
‫الرؤية الحسية‪ ،‬بدليل أنه ذكر الوجوه‪ ،‬واإلنسان يرى بعينه ال بوجهه‪ ..‬وبدليل أن اآلية‬
‫تذكر موقف االنتظار في اآلخرة قبل دخول الجن ة‪ ..‬وبأدل ة أخ رى كث يرة ذكره ا أه ل‬
‫اللغة الذين هم أعرف الناس بألفاظ القرآن الكريم‪.‬‬
‫وقد ذكر الزمخشري الوجه الصحيح لذلك وهو أن يك ون من ق ول الن اس‪ :‬أن ا إلى‬
‫فالن ن اظر م ا يص نع بى‪ ،‬يري د مع نى التوق ع والرج اء‪ .‬ك ا روي أن ام رأة س معت‬
‫مس تجدية بمك ة تق ول‪( :‬عيين تى ن ويظرة إلى هللا وإليكم)‪ ،‬والمع نى‪ :‬أنهم ال يتوقع ون‬
‫النعمة والكرامة إال من ربهم‪ ،‬كما كانوا في الدنيا ال يخشون وال يرجون إال إياه(‪. )1‬‬
‫زيادة على ما في الرؤي ة الحس ية من مس تلزمات كث يرة خط يرة ذكره ا المنزه ة‬
‫منها(‪ )2‬أن الرؤية في منطق العلم والعقل ال تتحقق إال إذا كان الشيء مقابال أو حاال في‬
‫المقابل من غير ف رق بين تفس يرها حس ب رأي الق دماء أو حس ب العلم الح ديث‪ ،‬ف إن‬
‫الق دماء ك انوا يفس رون الرؤي ة على اعتب ار خ روج الش عاع من العين وس قوطه على‬
‫األشياء‪ ،‬ثم انعكاسه عن األشياء ورجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية ‪.‬‬
‫لكن العلم الحديث كشف بطالن هذا التفسير وقال‪ :‬إنها صدور األشعة من األش ياء‬
‫ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتحقق الرؤية ‪.‬‬
‫وعلى كل تقدير فالضرورة قاضية على أن اإلبصار بالعين متوق ف على حص ول‬
‫المقابلة بين العين والمرئي أو حكم المقابلة‪،‬كما في رؤية الصور في المرآة‪ ،‬وهذا أم ر‬
‫تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة‪،‬فإذا كانت ماهية الرؤية هي م ا ذكرن اه فال‬
‫يمكن تحققها فيما إذا تنزه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل ‪.‬‬
‫وبعبارة واضحة‪ :‬أن العقل والنقل اتفقا على كونه سبحانه ليس بجسم وال جس ماني‬
‫وال في جهة‪،‬والرؤية فرع ك ون الش يء في جه ة خاص ة‪،‬وم ا ش أنه ه ذا ال يتعل ق إال‬
‫بالمحسوس ال بالمجرد‪.‬‬
‫وهكذا نرى اتفاق العقل مع القرآن الكريم في تحقيق استحالة الرؤية الحسية‪ ،‬ولهذا‬

‫‪1‬‬
‫الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (‪)662 /4‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫انظر‪ :‬رؤية هللا في ضوء الكتاب والسنة والعقل ‪ -‬الشيخ جعفر السبحاني ص ‪.34‬‬ ‫()‬

‫‪132‬‬
‫يحم ل ك ل نص ورد بالرؤي ة على الرؤي ة القلبي ة ال تي اتف ق المنزه ة من ه ذه األم ة‬
‫بمذاهبهم المختلفة على أنها الرؤية الوحيدة الممكنة‪ ،‬ألنها رؤية تتوج ه إلى المع اني ال‬
‫إلى الحس‪ ،‬وإلى اللطائف ال إلى الكثافات‪.‬‬
‫وله ذا أج اب اإلم ام علي الح بر ال ذي س أله‪ :‬ه ل رأيت رب ك حين عبدت ه؟ فق ال‪:‬‬
‫(ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره)‪ ،‬قال‪ :‬وكيف رأيته؟ فقال‪( :‬ويل ك ال تدرك ه العي ون في‬
‫(‪)1‬‬
‫مشاهدة األبصار ولكن رأته القلوب بحقائق اإليمان)‬
‫وسئل الصادق‪ :‬هل ي رى هللا في المع اد؟ فق ال‪( :‬س بحانه وتع الى عن ذل ك عل وّا ً‬
‫(‪)2‬‬
‫كبيرا ًَ‪ ،‬إن األبصار ال تدرك إاّل ما له لون وكيفيّة‪ ،‬وهللا خالق األلوان والكيفيّة)‬
‫وسئل اإلمام الرضا‪ :‬جعلت فداك‪ ،‬أخبرني ع ّما اختلف فيه الناس من الرؤية‪ ،‬فقال‬
‫(‪:‬من وصف هللا بخالف ما وصف به نفس ه فق د أعظم الفري ة على هلل‪ ،‬ق ال هللا تع الى‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫صا َر َوه َُو اللَّ ِطيفُ ْالخَ بِي ُر ﴾ [األنعام‪]103 :‬‬
‫ك اأْل َ ْب َ‬ ‫﴿اَل تُ ْد ِر ُكهُ اأْل َب َ‬
‫ْصا ُر َوه َُو يُ ْد ِر ُ‬
‫ونحب أن ن بين هن ا أن م ا اش تهر في الواق ع من أن نفي الرؤي ة الحس ية مرتب ط‬
‫بالمعتزل ة واإلمامي ة والزيدي ة واإلباض ية فق ط‪ ..‬وأن األش اعرة وغ يرهم يثبت ون ه ذا‬
‫النوع من الرؤية كالم غير دقيق‪ ،‬وال صحيح‪.‬‬
‫والص حيح في ذل ك أن ك ل من يق ول بتنزي ه هللا عن الح دود يق ول بنفي الرؤي ة‬
‫الحسية‪ ..‬وبما أن القول بالحد هلل خاص بالسلفية وحدهم دون س ائر طوائ ف المس لمين‪،‬‬
‫فإن الرؤية الحسية أيضا قولهم خاص بهم لم يشاركهم فيه أحد‪.‬‬
‫ولنؤك د ه ذا المع نى س نذكر كالم ا مفص ال لرج ل يعت بر من أعالم المتكلمين‬
‫األش اعرة باإلض افة لتص وفه وفلس فته ح تى نؤك د ه ذه الحقيق ة العقالني ة القرآني ة‬
‫العرفانية‪.‬‬
‫والرجل الذي أشرنا إليه‪ ،‬والذي هو محل قبول من كثير من الناس ه و الش يخ أب و‬
‫حامد الغزالي‪ ،‬فقد عقد فصال في اإلحياء تحت عنوان [بيان السبب في زيادة النظر في‬
‫لذة اآلخرة على المعرفة في الدنيا]‪ ،‬قال في ه‪( :‬ألن في ه [أي ي وم القيام ة] يتجلى الح ق‬
‫سبحانه وتعالى فيتجلى له تجليا يكون انكشاف تجليه باإلضافة إلى م ا علم ه كانكش اف‬
‫تجلى المرآة باإلضافة إلى ما تخيل ه‪ ،‬وه ذه المش اهدة والتجلى هى ال تى تس مى رؤي ة‪،‬‬
‫ف إذن الرؤي ة ح ق بش رط أن ال يفهم من الرؤي ة اس تكمال الخي ال في متخي ل متص ور‬
‫مخصوص بجهة ومكان‪ ،‬فإن ذلك مما يتعالى عنه رب األرب اب عل وا كب يرا‪ ،‬ب ل كم ا‬
‫عرفته في الدنيا معرفة حقيقي ة تام ة من غ ير تخي ل وتص ور وتق دير ش كل وص ورة‪،‬‬
‫فتراه في اآلخرة كذلك‪ ،‬بل أقول المعرفة الحاصلة في الدنيا بعينه ا هى ال تى تس تكمل‪،‬‬
‫فتبلغ كمال الكش ف والوض وح‪ ،‬وتنقلب مش اهدة‪ ،‬وال يك ون بين المش اهدة في اآلخ رة‬
‫والمعل وم في ال دنيا اختالف إال من حيث زي ادة الكش ف والوض وح كم ا ض ربناه من‬

‫‪1‬‬
‫أصول الكافي‪.98 ،1 ،‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫بحار األنوار‪ 31 ،4 ،‬ح ‪..5‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫بحار األنوار‪ 53 ،4 ،‬ح ‪.31‬‬ ‫()‬

‫‪133‬‬
‫المثال في اس تكمال الخي ال بالرؤي ة‪ ،‬ف إذا لم يكن في معرف ة هللا تع الى إثب ات ص ورة‬
‫وجهة فال يكون في استكمال تلك المعرفة بعينها وترقيها في الوضوح إلى غاية الكشف‬
‫أيض ا جه ة وص ورة‪ ،‬ألنه ا هى بعينه ا ال تف ترق منه ا إال في زي ادة الكش ف كم ا أن‬
‫الصورة المرئية هى المتخيلة بعينها إال في زيادة الكشف‪ ،‬وإلي ه اإلش ارة بقول ه تع الى‬
‫ت يَ ْس َعى نُو ُرهُ ْم بَ ْينَ أَ ْي ِدي ِه ْم َوبِأ َ ْي َمانِ ِه ْم بُ ْش َرا ُك ُم ْاليَ وْ َم َجنَّ ٌ‬
‫ات‬ ‫﴿يَوْ َم ت ََرى ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َو ْال ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِهَا اأْل َ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا َذلِ كَ هُ َو ْالفَ وْ ُز ْال َع ِظي ُم ﴾ [الحدي د‪ ،]12 :‬إذ تم ام‬
‫النور ال يؤثر إال في زيادة الكشف‪ ،‬ولهذا ال يفوز بدرجة النطر والرؤي ة إال الع ارفون‬
‫في ال دنيا‪ ،‬ألن المعرف ة هى الب ذر ال ذى ينقلب في اآلخ رة مش اهدة كم ا تنقلب الن واة‬
‫شجرة والحب زرع ا‪ ،‬ومن ال ن واة في أرض ه كي ف يحص ل ل ه نخ ل‪ ،‬ومن لم ي زرع‬
‫الحب فكيف يحصد ال زرع؟ فك ذلك من لم يع رف هللا تع الى في ال دنيا فكي ف ي راه في‬
‫(‪)1‬‬
‫اآلخرة)‬
‫هذا هو قول الغزالي‪ ،‬وهو قول كل منزهة األمة بمذاهبهم المختلفة‪ ،‬فال أح د منهم‬
‫إال ويق ول باس تمرار رحل ة اإلنس ان إلى هللا في اآلخ رة‪ ،‬ألن الحي اة جميع ا دنياه ا‬
‫وأخراها رحلة إلى هللا‪.‬‬
‫وحتى يزيل الغزالي تلك الشبه التي يعرضها المجسمة‪ ،‬والذين يبحث ون دائم ا عن‬
‫المحس وس والملم وس‪ ،‬فق د أش ار إلى أن تل ك الرؤي ة القلبي ة ال تي يتحق ق المؤمن ون‬
‫بمباديها في الدنيا‪ ،‬ثم تزداد في اآلخرة إلى ما ال نهاية هي اللذة الحقيقية التي ال تع دلها‬
‫لذة‪ ،‬يق ول مبرهن ا على ذل ك‪( :‬وكم ا أن ك ت رى في ال دنيا من ي ؤثر ل ذة الرياس ة على‬
‫المطعوم والمنكوح‪ ،‬وت رى من ي ؤثر ل ذة العلم وانكش اف مش كالت ملك وت الس موات‬
‫واألرض وسائر األمور اإللهي ة على الرياس ة وعلى المنك وح والمطع وم والمش روب‬
‫جميعا‪ ،‬فكذلك يكون في اآلخرة قوم ي ؤثرون ل ذة النظ ر إلى وج ه هللا تع الى على نعيم‬
‫الجنة إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح‪ ،‬وهؤالء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا‬
‫م ا وص فنا من إيث ار ل ذة العلم والمعرف ة واالطالع على أس رار الربوبي ة على ل ذة‬
‫المنكوح والمطعوم والمشروب‪ ،‬وسائر الخلق مشغولون به ول ذلك لم ا قي ل لرابع ة م ا‬
‫تقولين في الجنة فقال الجار ثم الدار فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجن ة‪ ،‬ب ل إلى‬
‫رب الجنة‪ ،‬وكل من لم يعرف هللا في الدنيا فال ي راه في اآلخ رة‪ ،‬وك ل من لم يج د ل ذة‬
‫المعرفة في الدنيا فال يجد لذة النظر في اآلخرة‪ ،‬إذ ليس يستأنف ألحد في اآلخرة م ا لم‬
‫يص حبه من ال دنيا‪ ،‬وال يحص د أح د إال م ا زرع‪ ،‬وال يحش ر الم رء إال على م ا م ات‬
‫عليه‪ ،‬وال يموت إال على ما ع اش علي ه‪ ،‬فم ا ص حبه من المعرف ة ه و ال ذى يتنعم ب ه‬
‫بعينه فقط إال أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتض اعف الل ذة ب ه كم ا تتض اعف ل ذة‬
‫العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية ص ورته ف إن ذل ك منتهى لذت ه وإنم ا‬
‫طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهى‪ ،‬فمن ال يشتهي إال لقاء هللا تع الى فال ل ذة ل ه في‬
‫غيره بل ربما يتأذى به‪ ،‬ف إذن نعيم الجن ة بق در حب هللا تع الى‪ ،‬وحب هللا تع الى بق در‬

‫‪1‬‬
‫إحياء علوم الدين (‪)313 /4‬‬ ‫()‬

‫‪134‬‬
‫(‪)2‬‬
‫معرفته‪ ،‬فأصل السعادات هى المعرفة التى عبر الشرع عنها باإليمان)‬
‫ه ذه هي مواق ف المنزه ة من الص ورة والرؤي ة‪ ،‬وهي مواق ف ممتلئ ة بالش فافية‬
‫والطهر والصفاء‪ ،‬ألن الذي يحبونه ويتعلقون به في غاية القداسة والكمال‪ ،‬ولهذا كانت‬
‫مطالبهم مشابهة لحقيقة محبوبهم‪:‬‬
‫ف‪ ،‬والهَوا‪ ،‬ونو ٌر وال نا ٌر ورو ٌح وال جس ُم‬ ‫ً‬ ‫ط ٌ‬ ‫صفا ٌء‪ ،‬وال ما ٌء‪ ،‬ولُ ْ‬
‫وقد تبنى هذا النوع من الرؤية كل المنزهين من هذه األم ة على اختالف م ذاهبهم‬
‫من أشاعرة وماتريدية ومعتزل ة وإمامي ة وزيدي ة وإباض ية وص وفية ‪ ..‬وغ يرهم‪ ،‬ب ل‬
‫ح تى الفالس فة اإلس الميون ك ابن س ينا وابن طفي ل وغيرهم ا أش اروا إلى جم ال ه ذه‬
‫الرؤية القلبية‪.‬‬
‫ولهذا فإن أشواق الع ارفين للرؤي ة أش واق تنطل ق من ه ذا المنب ع المق دس‪ ،‬وهي‬
‫تصيح كما صاح ذلك العاشق الولهان‪:‬‬
‫ك تحيُّراً وارح ْم حشى ً بلظي هواكَ تسعَّراً‬ ‫بفرط الحبِّ في َ‬ ‫ِ‬ ‫دني‬
‫ك حقيقة ً فاس َمحْ ‪ ،‬وال تجعلْ جوابي‪:‬لن ت ََرى‬ ‫أن أرا َ‬ ‫وإذا سألتكَ ْ‬
‫ق وتضجرا‬ ‫أن تضي َ‬ ‫يا قلبُ !أنتَ وعدتَني في ُحبّه ْم صبراً فحاذرْ ْ‬
‫ك أن تَموتَ ‪ ،‬وتُع َذ َرا‬ ‫فحقّ َ‬ ‫صبّا ً‬ ‫ت بِ ِه َ‬ ‫هو ال َحياة‪،‬فَ ُم ْ‬ ‫إن الغَرا َم َ‬ ‫ّ‬
‫سيم‪ ،‬إذا س َرى‬ ‫ق ِمنَ النّ ِ‬ ‫أر ّ‬ ‫ِسرٌّ َ‬ ‫ب وبيننا‬ ‫خلوت م َع الحبي ِ‬ ‫ُ‬ ‫ولق ْد‬
‫وكنت من َّكراً‬
‫ُ‬ ‫فغدوت معروفا ً‬ ‫ُ‬ ‫وأباح طرفي نظرة ً أ َّملتهـــا‬ ‫َ‬
‫الحال عني مخبراً‬ ‫ِ‬ ‫لسانُ‬ ‫وغدا‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫وجـالل‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫جمال‬ ‫بينَ‬ ‫ُ‬
‫فدهشت‬
‫ص َّورا‬ ‫م‬
‫ِ ُ َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫‪،‬‬ ‫ْن‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ع‬
‫َ َ‬ ‫مي‬ ‫ج‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬
‫َل‬ ‫ت‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ه‬ ‫جْ‬
‫َ ِ َ ِِ‬‫و‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫حا‬ ‫م‬ ‫في‬ ‫ك‬‫فأ ِدرْ لِحاظَ َ‬
‫ُورة ً‪ ،‬ورآهُ كانَ مهلَّالً ومكبَّراً‬ ‫ْن يك ُم ُل ص َ‬ ‫أن ُك ّل ال ُحس ِ‬ ‫لوْ ّ‬
‫وما قاله الشاعر هنا خير دليل على سمو المعرف ة التنزيهي ة وآثاره ا العظيم ة في‬
‫شفافية صاحبها وطهره وسمو روحه‪.‬‬
‫أما ما يذكره بعض أدعياء التنزيه من أن ه يمكن أن يخل ق هللا لإلنس ان في اآلخ رة‬
‫بصرا يتيح له أن يراه به‪ ،‬فإن مثله كمثل من يذكر أنه يمكن أن يخترع أح د من الن اس‬
‫جه ازا يس تطيع التوص ل من خالل ه إلى الع دد ال ذي ليس بع ده ع دد‪ ،‬أو أن يك ون‬
‫للسرمدية بداية ونهاية ‪ ..‬وكل ذلك مستحيل‪ ..‬واإلحاطة باهلل التي تقتضيها رؤيت ه أولى‬
‫أن تكون مستحيلة‪.‬‬
‫هذا هو تصور الرؤية التنزيهية للصورة والرؤية‪ ،‬وتنزيه هللا عنهما جميع ا ‪ ..‬أم ا‬
‫الرؤية التجسيمية‪ ،‬والتي تمثلها المدرسة السلفية‪ ،‬فلها وجهة نظر مختلفة تماما عن هذه‬
‫المع اني المقدس ة‪ ..‬فهي مس تغرقة في الحس اس تغراقا كلي ا ‪ ..‬ح تى رؤي ة هلل عن دهم ـ‬
‫والتي يبالغون في شأنها ـ إنما هي رؤية لصورة وجهه الحسي الجميل الذي ال يختلف‬
‫في شكله العام عن وجه اإلنسان إال في أن هللا أجمل من اإلنسان بكثير‪..‬‬
‫أما الحضور مع هللا‪ ،‬والشوق إليه‪ ،‬فهو عندهم جل وس حس ي مع ه في الجن ة كم ا‬

‫‪2‬‬
‫إحياء علوم الدين (‪)314 /4‬‬ ‫()‬

‫‪135‬‬
‫يجلسون في الدنيا مع الملوك واألمراء‪ ..‬ولهذا فإنه عند جلوسه معهم ـ كما يصورون ـ‬
‫يطلب منهم ما يحتاجون من الصالت‪ ،‬ويصلهم بما يشاء منها‪.‬‬
‫وعلى العموم فإن حديثهم عن هللا ورؤيته وجماله ال يك اد يختل ف عن ح ديثهم عن‬
‫الحور العين أو الولدان المخلدين ‪ ..‬أو قصور الجنة وأنهارها‪.‬‬
‫وس نذكر األدل ة على ه اتين الن احيتين من خالل الرؤي ة التجس يمية ال تي تبنته ا‬
‫المدرسة السلفية‪ ،‬ونبدأ ذلك بذكر تصورهم لصورة هللا‪ ،‬وجماله‪ ،‬ثم نتحدث بع دها عن‬
‫إمكانية رؤيته وكيفيتها‪ ،‬وم ا يرتب ط به ا‪ ،‬لنخلص في األخ ير إلى النتيج ة ال تي ي رمي‬
‫إليها كل التراث السلفي في العقيدة‪ ،‬وهي تحديد الصورة الدقيقة هلل‪.‬‬
‫الصورة‪:‬‬
‫يعتبر السلفية إثبات الص ورة هلل من العقائ د األساس ية الك برى ال تي ال يخالفه ا إال‬
‫جهمي معطل‪ ،‬أو كافر زنديق‪.‬‬
‫وقد انتصر ابن تيمية لهذا‪ ،‬وأورد الوجوه الكثيرة التي ح اول من خالله ا أن يثبت‬
‫صحته‪ ،‬ومنها ما ذكره في هذا الوجه‪ ،‬قال‪( :‬والوجه الخامس‪ :‬أن األح اديث م ع آي ات‬
‫القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف‪،‬وعند هؤالء هو كل‬
‫ت‪،‬وما في الدنيا واآلخرة‪،‬وأما أهل اإللحاد والحلول الخاص‪،‬كال ذين يقول ون باالتح اد‬ ‫آ ٍ‬
‫أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غ ير ذل ك مم ا ق د‬
‫بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأولون أيضا ً هذا الحديث كما تأوله أهل‬
‫االتح اد والحل ول المطل ق ؛ لكون ه ق ال‪ :‬في أتيهم هللا في ص ورة‪،‬لكن يق ال لهم‪ :‬لف ظ‬
‫(الصُّ ورة) في الحديث كسائر ما ورد من األسماء والص فات ال تي ق د يس مى المخل وق‬
‫به ا على وج ه التقيي د‪،‬وإذا أطلقت على هللا مختص ة ب ه؛ مث ل العليم والق دير وال رحيم‬
‫(‪)1‬‬
‫والسميع والبصـير‪،‬ومثل خلقـه بيديه واستوائـه على العرش ونحو ذلك)‬
‫وما ذكره ابن تيمية هو نفس ما ذكره من قبله من السلفية وأهل الحديث‪ ،‬يق ول ابن‬
‫الص ورة ليس ت ب أعجب من الي دين‬ ‫قتيب ة‪( :‬وال ذي عن دي – وهللا تع الى أعلم – أن ُّ‬
‫واألصابع والعين‪،‬وإنما وقع اإللف لتل ك لمجيئه ا في الق رآن‪،‬ووقعت الوحش ة من ه ذه‬
‫(‪)2‬‬
‫ألنها لم تأت في القرآن‪،‬ونحن نؤمن بالجميع‪،‬وال نقول في شيء منه بكيفية وال حدٍّ)‬
‫وقد استندوا في هذا لحديث طويل‪ ،‬يوردون ه عن د ذك رهم لرؤي ة المؤم نين ل ربهم‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فمما ورد فيه‪ :‬أنا ناسا ً قالوا لرسول هللا ‪ :‬ي ا رس ول هللا ه ل ن رى ربن ا‬
‫يوم القيامة ؟ فقال ‪( :‬هل تضارون في رؤية القمر ليلة الب در؟) ق الوا‪ :‬ال ي ا رس ول‬
‫ك تَ َروْ نَ ه‪ ،‬يجم ع هللا الن اس ي وم القيام ة‪ ،‬فيق ول‪ :‬من ك ان يعب د ش يئا ً‬
‫هللا‪ ،‬قَ ا َل‪ :‬فَ َك َذلِ َ‬
‫فليتبعه‪،‬فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس‪ ،‬ويتبع من كان يعبد القمر القم ر‪ ،‬ويتب ع من‬
‫ك ان يعب د الط واغيت الط واغيت‪ ،‬وتبقى ه ذه األم ة فيه ا منافقوه ا في أتيهم هللا تب ارك‬
‫‪1‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)131 /7‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫تأويل مختلف الحديث‪ ،‬ص ‪.261‬‬ ‫()‬

‫‪136‬‬
‫وتعالى في صورة غير صورته التي يعرف ون‪ ،‬فيق ول‪ :‬أن ا ربكم‪ ،‬فيقول ون‪ :‬نع وذ باهلل‬
‫منك‪ ،‬هذا مكاننا يأتينا ربنا‪ ،‬فإذا جاء ربنا عرفناه‪ ،‬في أتيهم هللا تع الى في ص ورته ال تي‬
‫(‪)1‬‬
‫يعرفون‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬أنت ربنا‪ ،‬فيتبعونه‪)..‬‬
‫فه ذا الح ديث العجيب ال ذي يجعلون ه أص ال في ه ذه المس ألة يح وي الكث ير من‬
‫الغرائب التجسيمية الخطيرة ‪ ..‬فهم يذكرون أن رسول هللا ‪ ‬ش به رؤيتهم هلل ب رؤيتهم‬
‫القمر‪ ..‬أي أنه كما أن القمر له حيز وحدود وجسم وهو مقابل لهم ‪ ..‬ف رؤيتهم هلل تك ون‬
‫مثل ذلك‪.‬‬
‫ومنها أن هللا ـ تعالى هللا عما رووا ـ له صورة‪ ..‬بل له صور متعددة‪ ..‬وأن له بذلك‬
‫الق درة على التش كل‪ ،‬والعجيب أنهم أوردوا أن هللا ن زل عن د رغب ة عب اده المؤم نين‪،‬‬
‫فاختار لهم الصورة التي تتناسب مع مطالبهم‪.‬‬
‫بل فوق ذلك كله نرى المؤمنين في هذا الحديث ـ وهم ال ذين لم يعط وا ه ذا اللقب‬
‫العظيم إال بعد معرفتهم هلل وتسليمهم له ـ ال يعرف ون هللا عن دما يخ اطبهم‪ ..‬ب ل يظل ون‬
‫ينتظرون إلههم الحقيقي‪.‬‬
‫وغيره ا من الغ رائب الكث يرة ال تي ل و أعم ل الس لفيون عق ولهم لرم وا الح ديث‬
‫ع رض الج دار‪ ،‬ألن ه يحطم ك ل األس س العقدي ة ال تي ي دل عليه ا الق رآن والبره ان‬
‫والعرفان‪.‬‬
‫لكنهم ال يفعل ون ذل ك ‪ ..‬فالح ديث في البخ اري ومس لم‪ ..‬وف وق ذل ك رواه أب و‬
‫هريرة‪ ..‬وهم مستعدون بأن يضحوا بالقرآن وبعقولهم وبك ل ش يء في س بيل البخ اري‬
‫ومسلم وأبي هريرة‪.‬‬
‫والسلفيون بعد ذلك التجسيم وتلك الغرائب المرتبطة به‪ ،‬ال يكتفون بإثبات الصورة‬
‫فقط‪ ،‬وإنما يضمون إليها تحديدها بدقة‪ ،‬حيث يرون أن هللا خلق اإلنسان على صورته‪،‬‬
‫وبالضبط على صورة آدم‪.‬‬
‫واليخلو كتاب من كتبهم العقدية من ذكر هذا‪ ،‬بل قد خصوا ذلك بالتأليف‪ ،‬فقد ألف‬
‫الشيخ حمود بن عبدهللا بن حمود التويجري كتابا سماه [عقيدة أهل اإليمان في خلق آدم‬
‫على صورة الرحمن]‪ ،‬وهو منتشر كثيرا‪ ،‬واعتنى به السلفية المعاصرون‪ ،‬ب ل ق دم ل ه‬
‫شيخهم الكبير عبدالعزيز بن عبدهللا بن باز‪ ،‬وقال في تقديمه له‪( :‬اطلعت على م ا كتب ه‬
‫صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدهللا التويجري وفقه هللا وبارك في أعماله فيما ورد‬
‫من األحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن ‪ ..‬فألفيته كتابا ً قيما ً كثير الفائدة قد ذك ر‬
‫فيه األحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن‪ ،‬وفيما يتعلق بمجيء‬
‫الرحمن يوم القيامة على ص ورته‪ ،‬وق د أج اد وأف اد‪ ،‬وأوض ح م ا ه و الح ق في ه ذه‬
‫المسألة‪ ،‬وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يع ود إلى هللا‬
‫ع ز وج ل‪ ،‬وه و مواف ق لم ا ج اء في ح ديث ابن عم ر أن هللا خل ق آدم على ص ورة‬
‫الرحمن‪ ،‬وقد صححه اإلمام أحمد وإس حاق بن راهوي ه واآلج ري وش يخ اإلس الم ابن‬

‫‪1‬‬
‫رواه‪ :‬البخاري (‪ .)7439‬ومسلم (‪)183‬‬ ‫()‬

‫‪137‬‬
‫تيمية وآخرون من األئمة رحمة هللا عليهم جميعاً‪ ،‬وقد بين كثير من األئمة خط أ اإلم ام‬
‫ابن خزيم ة رحم ه هللا في إنك ار ع ود الض مير إلى هللا س بحانه في ح ديث ابن عم ر‬
‫والصواب ما قاله األئمة المذكورون وغ يرهم في ع ود الض مير إلى هللا ع ز وج ل بال‬
‫كيف وال تمثيل‪ ،‬بل صورة هللا سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته وال يش ابهه فيه ا‬
‫(‪)1‬‬
‫شيء من خلقه سبحانه وتعالى)‬
‫وقد أوردت هذه الشهادة من ابن باز حتى يتبين لنا أن ما سنذكره من كالم الس لفية‬
‫والمنقول في كتبهم هو بإقرار مشايخهم الكبار المعتمدين‪ ..‬ألننا ـ ومن خالل مناقش اتنا‬
‫لهم ـ يتقنون فن الفرار‪ ،‬فكلما احتج عليهم بحجة ذك روا أنهم لم يقول وا ه ذا‪ ،‬أو أن ه ذا‬
‫قول ضعيف‪ ،‬ونح و ذل ك‪ ،‬وله ذا حاولن ا في ه ذا الكت اب كم ا في غ يره من الكتب أن‬
‫نقتصر على األقوال المعتمدة عليهم‪ ،‬وعلى الشخصيات التي يزكونها‪.‬‬
‫وقد ذكر التويجري الدوافع لتأليفه‪ ،‬وهي دوافع ال تختل ف كث يرا عن تل ك ال دوافع‬
‫التي كان ينطلق منها الدارمي وابن خزيمة وابن تيمية‪ ،‬فقال‪( :‬وال يزال الق ول بم ذهب‬
‫الجهمية مستمرا إلى زماننا‪ .‬وقد رأيت ذلك في بعض مؤلف ات المعاص رين وتعليق اتهم‬
‫الخاطئة‪ .‬وذكر لي عن بعض المنتس بين إلى العلم أن ه ألقى ذل ك على الطلب ة في بعض‬
‫المعاهد الكبار في مدينة الرياض‪ .‬ولما ذكر له بعض الطلب ة ق ول أه ل الس نة أع رض‬
‫(‪)2‬‬
‫عنه وأصر على قول الجهمية‪ .‬عافانا هللا وسائر المسلمين مما ابتاله به)‬
‫وهو يقصد بالجهمة هنا كل منزهة األمة‪ ،‬ألنهم جميعا‪ ،‬حتى مع تص حيح الح ديث‬
‫ال يقولون بمقتضاه الظاهر‪ ،‬بل يؤولونه بمختلف صنوف التأويالت‪.‬‬
‫وبذلك فإن منكر ك ون هللا ل ه ص ورة كص ورة اإلنس ان ـ عن د الس لفية ـ جهمي‪..‬‬
‫والجهمي عندهم معطل وك افر‪ ..‬ومن ش اء أن يع رف حكم الجهمي عن دهم‪ ،‬فليق رأ م ا‬
‫كتبه ابن تيمية وغيره عنه‪.‬‬
‫بعد هذا التقرير المثبت لموقفهم ح ول م ا يس مونه [ص ورة هللا تع الى] نح اول أن‬
‫نذكر ـ باختصار ـ األدلة التي يعتمدون عليها‪.‬‬
‫وهي ـ طبع ا ـ ليس ت أدل ة العقلي ة‪ ،‬فهم يكف رون بالعق ل‪ ،‬ويعزلون ه‪ ،‬ويعت برون‬
‫الرجوع إليه ضالال وبدعة وكفرا‪.‬‬
‫وهي ـ كذلك ـ ليست من القرآن الكريم ‪ ..‬ف القرآن الك ريم يخ بر أن هللا تع الى ليس‬
‫كمثله شيء‪ ،‬وأنه لم يكن له كفوا أحد‪ ..‬وأنه ال تدركه األبصار‪.‬‬
‫وهي ـ كذلك ـ ليست من الس نة النبوي ة المطه رة الص حيحة المتوافق ة م ع الق رآن‬
‫الكريم ـ فهي كلها تدل على هللا الذي يدل عليه البرهان والقرآن والعرفان‪.‬‬
‫هي ليست من نوع تلك األدلة‪ ،‬وإنما تعود جميعا إلى نص واحد من رواة متعددين‬
‫أخذوه من أساتذتهم من أهل الكتاب‪ ،‬وراحوا ينسبونه زورا وبهتانا إلى رسول هللا ‪.‬‬
‫ثم هي بعد ذلك تعود إلى عق ل واح د ممتلئ ب الغرور يتص ور أن هللا العظيم ال ذي‬

‫‪1‬‬
‫عقيدة أهل اإليمان في خلق آدم على صورة الرحمن (مقدمة‪)7 /‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫عقيدة أهل اإليمان في خلق آدم على صورة الرحمن (‪.)6 /1‬‬ ‫()‬

‫‪138‬‬
‫خلق هذا الكون جميعا‪ ،‬والذي ال يشكل ما نراه منه شيئا أمام ما ال نراه‪ ،‬اختار صورته‬
‫ليخلق عليها واحدا من خلقه‪ ..‬ثم يدلـله على حساب مخلوقات ه جميع ا‪ ،‬وه ذا العق ل ه و‬
‫العقل اليهودي‪.‬‬
‫ول ذلك فس نرى كي ف يقب ل الس لفية على النص وص اليهودي ة المتعلق ة به ذا‪،‬‬
‫ويحترمونها‪ ،‬ويستدلون بها‪.‬‬
‫وقبل أن نذكرها نذكر الحديث الذي اعتمدوا عليه‪ ،‬والذي ال يق ل عن دهم قيم ة عن‬
‫حديث الجارية وحديث الساق‪ ،‬وهو ما رووه عن هم ام بن منب ه‪،‬عن أبي هري رة بلف ظ‬
‫(خلق هللا عز وجل آدم على صورته‪،‬طوله س تون ذراع اً‪،‬فلم ا خلق ه ق ال‪ :‬اذهب فس لم‬
‫على أولئ ك النف ر – وهم نفر من المالئكة جل وس – فاس تمع ما يحيُّونك‪،‬فإنها تحيتك‬
‫(‪)1‬‬
‫وتحية من بعدك)‬
‫ومن رواي ات الح ديث م ا رووه عن أبي هري رة ( إذا ض رب أح دكم فليجتنب‬
‫(‪)2‬‬
‫الوجه‪ ،‬فإن هللا خلق آدم على صورته)‬
‫ومن روايات ه عن ابن عم ر‪ ( :‬ال تقبح وا الوج ه‪ ،‬ف إن هللا خل ق آدم على ص ورة‬
‫(‪)3‬‬
‫الرحمن)‬
‫وقد وقف المنزهة من هذا الحديث مواق ف متع ددة مح اولين أن ي ردوه إلى مع نى‬
‫صحيح متناسب مع التنزيه‪ ..‬ومن ذلك ما ذكره ابن حجر عن د م ا ق ال‪ ( :‬واختل ف في‬
‫الضمير على من يعود ؟ ف األكثر على أن ه يع ود على المض روب لم ا تق دم من األم ر‬
‫(‪)4‬‬
‫بإكرام وجهه‪،‬ولوال أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها)‬
‫وقد رد السلفية على هذا التأويل بش دة على ال رغم أن بعض متق دميهم ـ وه و ابن‬
‫خزيمة ـ ذكره‪ ،‬ومن تلك الردود‪ ،‬ما قاله ابن قتيبة في (تأوي ل مختل ف الح ديث) – في‬
‫سرد ألقوال األئمة في تأوي ل ه ذا الح ديث – ومنه ا ( أن الم راد أن هللا خل ق آدم على‬
‫صورة الوجه‪،‬قال‪ :‬وهذا ال فائدة فيه‪ ،‬والن اس يعلم ون أن هللا تب ارك وتع الى خل ق آدم‬
‫على خلق ولده‪ ،‬وجهه على وجوههم‪ ،‬وزاد قوم في الحديث أنه علي ه الص الة والس الم‬
‫مر برجل يضرب وجه رج ل آخ ر‪ ،‬فق ال ( ال تض ربه‪،‬ف إن هللا تع الى خل ق آدم علي ه‬
‫الصالة والسالم على صورته )(‪ )5‬أي صورة المضروب‪،‬وفي هذا القول من الخلل م ا‬
‫‪1‬‬
‫البخ اري ( ‪ .) 6227 .3326‬ومس لم ( ‪ .) 2841‬وابن خزيم ة في التوحي د ( ‪ ) 94 – 93 / 1‬وابن حب ان (‬ ‫()‬
‫‪ ) 6162‬وابن منده في الرد على الجهمية ص ( ‪ ) 42 – 41‬و الاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماع ة (‬
‫‪ ) 712 .711‬و البيهقي في األسماء والصفات ( ‪ ) 636 .635‬و البغوي في شرح السنة ( ‪.) 3298‬‬
‫‪2‬‬
‫مسلم ( ‪ .) 2612‬وأحمد ( ‪ .) 244 / 2‬وابنه عبدهللا في الس نة ( ‪ ) 496‬وابن حب ان ( ‪ .) 5605‬و اآلج ري في‬ ‫()‬
‫الشريعة ( ‪ .) 721‬و البيهقي في األسماء والصفات ( ‪ .) 638‬وفي السنن ( ‪.) 327 / 8‬‬
‫‪3‬‬
‫() عبدهللا بن أحمد في السنة ( ‪ .) 498‬وابن أبي عاصم في السنة ( ‪ .) 529‬وابن خزيمة في التوحيد ( ‪ .) 85 / 1‬و‬
‫اآلجري في الشريعة ( ‪ ) 725‬و الدارقطني في الصفات ( ‪ .) 48 .45‬و البيهقي في األسماء والصفات ( ‪.) 640‬‬
‫‪ ) )(4‬فتح الباري ( ‪. ) 5/183‬‬
‫‪5‬‬
‫() وقد كذب ابن تيمية هذا المورد للحديث‪ ،‬فقال في [بيان تلبيس الجهمي ة في تأس يس ب دعهم الكالمي ة (‪:])424 /6‬‬
‫(وما ذكر بعضهم من أن النبي ‪ ‬رأى رجالً يضرب رجالً ويقول قبح هللا وجهك ووجه من أشبه وجه ك فق ال خل ق هللا‬

‫‪139‬‬
‫في األول )(‪. )1‬‬
‫أما الطبراني فقد اعتبر هذا التأويل تجهما‪ ،‬فقال في كتاب السنة‪( :‬حدثنا عبدهللا بن‬
‫أحم د بن حنب ل ق ال ( ق ال رج ل ألبي‪ :‬إن رجالً ق ال‪ :‬خل ق هللا آدم على ص ورته‪،‬أي‬
‫(‪)2‬‬
‫صورة الرجل‪،‬فقال‪ :‬كذب‪،‬هذا قول الجهمية‪،‬وأي فائدة في هذا )‬
‫ولهذا‪ ،‬فقد أنكر السلفية على ابن خزيمة ـ على الرغم من موافقته لهم في كل شيء‬
‫ـ إنك ارا ش ديدا‪ ،‬ق ال ال ذهبي – معاتب ا من يش تدون على ابن خزيم ة بس بب ذل ك –‬
‫( وكتابه في التوحيد مجلد كبير‪،‬وق د ت أول في ذل ك ح ديث الص ورة‪،‬فليع ذر من ت أول‬
‫بعض الصفات‪،‬وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكف وا‪،‬وفوض وا علم ذل ك‬
‫إلى هللا ورسوله‪،‬ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – م ع ص حة إيمان ه وتوخي ه التب اع‬
‫(‪)3‬‬
‫الحق – أهدرناه‪،‬وبدعناه‪،‬لقل من يسلم من األئمة معنا‪،‬رحم هللا الجميع بمنه وكرمه )‬
‫أما ابن تيمية فكعادته في التنظر واإلطناب فيه‪ ،‬فق د ذك ر ثالث ة عش ر وجه ا ً لل رد‬
‫على هذا التأويل‪ ،‬ألن المسألة عندهم مسألة كف ر وإيم ان‪ ،‬وله ذا تحت اج منهم ك ل ه ذه‬
‫الجهود الفكرية المضنية‪.‬‬
‫ومن تل ك الوج وه(‪ )4‬ـ وال تي يس تخدم فيه ا ابن تيمي ة الحي ل اللغوي ة‪ ،‬متناس يا أن‬
‫أكثراألحاديث في حال صحتها مروية بالمعنى ـ ما ذكره من أنه في مثل هذا (ال يصلح‬
‫إفراد الضمير‪،‬فإن هللا خل ق آدم على ص ورة بني ه كلهم‪ ،‬فتخص يص واح د لم يتق دم ل ه‬
‫ذكر بأن هللا خلق آدم على صورته في غاية البعد‪،‬ال س يما وقول ه (وإذا قات ل أح دكم ‪..‬‬
‫وإذا ضرب أح دكم) ع ام في ك ل مض روب‪،‬وهللا خل ق آدم على ص ورهم جميعهم‪،‬فال‬
‫معنى إلفراد الض مير‪،‬وك ذلك قول ه (ال يق ولن أح دكم قبح هللا وجه ك ووج ه من أش به‬
‫وجهك ) عام في كل مخاطب‪،‬وهللا قد خلقهم كلهم على صورة آدم)‬
‫ومنها‪ :‬أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم‪ ،‬لم يخل ق آدم على ص ورهم‪ ،‬ف إن مث ل‬
‫هذا الخطاب إنما يقال فيه‪ :‬خلق الثاني المتأخر في الوج ود على ص ورة األول المتق دم‬
‫وجوده‪ ،‬ال يقال‪ :‬إنه خلق األول على صورة الثاني المتأخر في الوجود‪ ،‬كما يقال‪ :‬خلق‬
‫الخلق على غير مثال أو نسيج هذا على منوال هذا ‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا أريد مجرد المشابهة آلدم وذريت ه لم يحتج إلى لف ظ خل ق على ك ذا‪،‬‬
‫فإذ هذه العبارة إنما تستعمل فيما فطر على مثال غيره‪ ،‬ب ل يق ال إن وجه ه يش به وج ه‬
‫آدم‪ ،‬أو فإن صورته تشبه صورة آدم ‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه لو كانت عل ة النهي عن ش تم الوج ه وتقبيح ه أن ه يش به وج ه آدم لنهى‬

‫آدم على صورته أي على صورة هذا المضروب فهذا شيء ال أصل له وال يعرف في شيء من كتب الحديث)‬
‫‪ ) )(1‬تأويل مختلف الحديث ص ( ‪. ) 319‬‬
‫) ميزان االعتدال ( ‪. ) 1/603‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫) سير أعالم النبالء ( ‪. ) 14/374‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫‪4‬‬
‫انظر هذه الوجوه في‪ :‬بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)426 /6‬‬ ‫()‬

‫‪140‬‬
‫أيضا ً عن الشتم والتقبيح وسائر األعضاء‪ ،‬ال يقولن أحدكم قطع هللا ي دك وي د من أش به‬
‫يدك ‪ ...‬إلخ ما ذكره(‪.)1‬‬
‫ولم ييأس المنزهة من توجيه هذا الحديث بعد هذا الرفض الشديد الذي واجههم ب ه‬
‫المجسمة‪ ،‬فراحوا يقولون لهم‪ :‬ال بأس ‪ ..‬فليكن األمر كما تذكرون ‪ ..‬ولكن أال يمكن أن‬
‫يعود الضمير يعود إلى آدم‪ ،‬أي (أن هللا خلق آدم على ص ورته) أي على ص ورة آدم )‬
‫(‪)2‬‬

‫لكن الس لفية رفض وا ه ذا أيض ا رفض ا ش ديدا‪ ،‬ب ل اتهم وا القائ ل ب ذلك التجهم‬
‫والتعطيل‪ ،‬وقد رووا عن اإلمام أحمد أن ه لما ذكر له ق ول أبي ث ور في تأوي ل (أن هللا‬
‫خل ق آدم على ص ورته) أي على ص ورة آدم‪ ،‬ق ال‪ ( :‬من ق ال‪ :‬إن هللا خل ق آدم على‬
‫صورة آدم فهو جهمي‪ ،‬وأيُّ صورة كانت آلدم قبل أن يخلقه ؟ )(‪. )3‬‬
‫وقال ابن قتيبة – بعد ذكره لهذا القول – ( ولو كان المراد هذا‪ ،‬م ا ك ان في الكالم‬
‫فائدة‪ ،‬ومن يشك في أن هللا تعالى خلق اإلنسان على صورته‪ ،‬والس باع على ص ورها‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫األنعام على صورها )‬
‫أم ا ابن تيمي ة ـ فعادت ه في اإلطن اب والتنظ ر ـ ولخط ورة المس ألة وأهميته ا‪،‬‬
‫ولحرصه الشديد على حفظ عقائد المؤمنين التي وكلت إليه ـ باعتب اره ش يخ اإلس الم ـ‬
‫من أن يصيبها فيروس التجهم والتعطيل‪ ،‬فقد ساق لفساد هذا الق ول تس عة أوج ه‪ ،‬منه ا‬
‫(‪ :)5‬أنه إذا قيل‪ :‬إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن هللا خل ق آدم على ص ورة آدم‪ ،‬أو ال‬
‫تقبحوا الوجه‪ ،‬وال يقل أحدكم قبح هللا وجهك ووجه من أشبه وجه ك‪ ،‬ف إن هللا خل ق آدم‬
‫على ص ورة آدم‪ ،‬ك ان ه ذا من أفس د الكالم‪ ،‬فإن ه ال يك ون بين العل ة والحكم مناس بة‬
‫أصالً‪ ،‬فإن كون آدم مخلوقا ً على صورة آدم‪ ،‬فأي تفسير فسر به فليس في ذلك مناس بة‬
‫للنهي عن ضرب وجوه بنية‪ ،‬وال عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها‪.‬‬
‫ً‬
‫ومنها‪ :‬أن هللا خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم‪ ،‬فل و ك ان مانع ا من ض رب‬
‫الوجه أو تقبيحه لوجب أن يكون مانعا ً من ضرب سائر الوجوه وتقبيح س ائر الص ور‪،‬‬
‫وهذا معلوم الفساد في العقل وال دين‪ ،‬وتعلي ل الحكم الخ اص بالعل ة المش تركة من أقبح‬
‫الكالم‪ ،‬وإضافة ذل ك إلى الن بي ‪ ‬ال يص در إال عن جه ل عظيم أو نف اق ش ديد‪،‬إذ ال‬
‫خالف في علمه وحكمته وحسن كالمه وبيانه ‪.‬‬
‫وبناء على فساد التأويلين السابقين فقد ذهب السلفية أو أكثرهم إلى أن الض مير في‬
‫الحديث يعود على هللا عز وجل‪ ..‬وبذلك يص بح مع نى الح ديث‪( :‬إن هللا خل ق آدم على‬

‫‪1‬‬
‫() بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)426 /6‬‬
‫‪ )(2‬انظر من قال بذلك في‪ :‬طبقات الحنابلة ( ‪. ) 1/309‬‬
‫طبقات الحنابلة ( ‪. ) 1/309‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫تأويل مختلف الحديث ص ( ‪. ) 318‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪5‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪)428 /6‬‬ ‫()‬

‫‪141‬‬
‫صورته هو) أي على صورة هللا ‪ ..‬أي أن آدم يشبه هللا‪.‬‬
‫والسلفية يجتهدون في أن ينسبوا القول بهذا إلمامهم الكبير اإلمام أحمد‪ ،‬ويعتبرون‬
‫تلك النسبة كافية في البرهنة على ما ذهبوا إليه‪ ،‬وقد نقلوا عن بعضهم أنه ق ال‪ ( :‬نقلت‬
‫ي أحم د بن‬ ‫من خط أحمد الشنجي بإسناده قال‪ :‬سمعت محمد بن ع وف يق ول‪ :‬أملى عل َّ‬
‫حنب ل – ف ذكر جمل ة من المس ائل ال تي أماله ا علي ه مم ا يعتق ده أه ل الس نة‬
‫والجماعة‪،‬ومنها – وأن آدم صلى هللا عليه وسلم خل ق على ص ورة ال رحمن كم ا ج اء‬
‫(‪)1‬‬
‫الخبر عن رسول هللا ‪)‬‬
‫وقال ابن قتيبة‪ ( :‬والذي عن دي – وهللا تع الى أعلم – أن الص ورة ليس ت ب أعجب‬
‫من اليدين‪،‬واألصابع‪،‬والعين‪،‬وإنما وقع اإللف لتلك لمجيئها في القرآن‪،‬ووقعت الوحش ة‬
‫من هذه ألنها لم تأت في القرآن‪،‬ونحن نؤمن بالجميع‪،‬وال نقول في شيء منه بكيفية وال‬
‫(‪)2‬‬
‫حد )‬
‫وقد انتصر التويجري في كتابه الذي خصصه لهذا الحديث‪ ،‬والذي أق ره علي ه ابن‬
‫باز‪ ،‬بوجوه كثيرة نقتصر منها على هذا الوجه‪ ،‬حيث قال‪( :‬الوجه الث اني‪ :‬أن يق ال إن‬
‫خلق آدم على صورة الرحمن ثابت عن النبي صلى هللا عليه وسلم في أربعة أحاديث ‪..‬‬
‫أولها‪ :‬حديث أبي هريرة أن رسول هللا ‪ ‬قال‪( :‬خلق هللا آدم على صورته)‪ ،‬وقد روي‬
‫هذا الحديث من طرق كثيرة عن أبي هريرة والض مير في قول ه (على ص ورته) عائ د‬
‫إلى هللا تعالى كما هو مقرر عند أه ل الس نة والجماع ة‪ ..‬وثانيه ا‪ :‬ح ديث ابن عم ر أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬ال تقبحوا الوجه فإن هللا خلق آدم على صورة ال رحمن) وه ذا نص‬
‫صريح في أن هللا تعالى خل ق آدم على ص ورته‪ .‬وه ذا النص ال يحتم ل التأوي ل‪ ،‬ومن‬
‫تأوله فقد أبعد النجعة وتكلف غاية التكلف‪ ..‬وثالثها‪ :‬حديث أبي يونس الدوس ي عن أبي‬
‫هريرة أن رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإنما صورة اإلنسان على‬
‫صورة وجه الرحمن) وهذا نص ص ريح في أن هللا تع الى خل ق اإلنس ان على ص ورة‬
‫وجهه الذي هو صفة من صفات ذاته‪ .‬وهذا النص ال يحتمل التأويل‪ ،‬وفيه أبلغ رد على‬
‫ابن خزيمة وعلى كل من تأول الحديث بتأويالت الجهمي ة المعطل ة‪ ..‬ورابعه ا‪ :‬ح ديث‬
‫أبي رافع الصائغ عن أبي هريرة أن رسول هللا ‪ ‬قال‪(:‬إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه‬
‫فإن هللا تعالى خلق آدم على صورة وجهه) وهذا نص صريح في خلق آدم على صورة‬
‫وجه هللا تعالى‪ ،‬وهذا النص ال يحتمل التأويل‪ ،‬وفي هذه األحاديث األربعة أبلغ رد على‬
‫من تأول حديث ابن عمر على غ ير تأويل ه ونفى إض افة الص ورة إلى ال رحمن وزعم‬
‫(‪)3‬‬
‫أنها من إضافة الخلق والتصوير إلى هللا تعالى)‬
‫هذا ما ذكره التويجري وهو تلخيص لما ذكره ابن تيمية وغ يره من أعالم الس لفية‬

‫طبقات الحنابلة ( ‪. ) 1/313‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫) تأويل مخلف الحديث ص ( ‪. ) 318‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪3‬‬
‫عقيدة أهل اإليمان في خلق آدم على صورة الرحمن (‪)40 /1‬‬ ‫()‬

‫‪142‬‬
‫الذين أعطوا المس ألة م ا تس تحقه من العناي ة‪ ،‬باعتباره ا تبحث عن ص ورة هللا‪ ،‬وه ل‬
‫هناك عاقل يرغب عن البحث عن هذه الصورة؟‬
‫ويتبين لنا من خالل ما ذكره من روايات الحديث المعتمدة كون أبي هري رة يش كل‬
‫قطب رحاه‪ ،‬وهذا يكشف لنا عن مصدر الحديث‪ ،‬فمن المعلوم عن د المح دثين أنفس هم‪،‬‬
‫ب ل عن د الس لفية جميعهم أن أب ا هري رة ك ان تلمي ذا نجيب ا لكعب األحب ار وغ يره من‬
‫اليهود‪ ،‬وكانت تختلط رواياته عن كعب برواياته عن النبي ‪.‬‬
‫ولهذا كان من السهولة على المنزهة أن يرفضوا الح ديث وي ردوه بمج رد روايت ه‬
‫عن أبي هريرة‪ ،‬خاصة وأنهم يعلل ون رواي ة ابن عم ر بالعل ل الكث يرة‪ ..‬ولكن الخش ية‬
‫لألسف من اتهامهم بالطعن في الصحابة جعلهم يرض ون ب الطعن في تنزي ه هللا نفس ه‪،‬‬
‫بل جعلهم يتكلف ون من التأوي ل م ا غلبهم في ه المجس مة‪ ،‬ألن النص واض ح في الدالل ة‬
‫على التشبيه‪ ،‬وكل تأويل له تكلف‪.‬‬
‫ولهذا كان يمكنهم التعامل مع ح ديث الص ورة كم ا تع املوا م ع قول ه في الح ديث‬
‫المشهور‪( :‬أخذ رسول هللا ‪ ‬بيدي‪،‬فقال‪ :‬خلق هللا التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها‬
‫يوم األحد وخلق الشجر فيها يوم االثنين وخلق المكروه يوم الثالث اء وخل ق الن ور ي وم‬
‫األربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس‪،‬وخلق آدم بعد العصر يوم الجمع ة آخ ر الخل ق‬
‫(‪)1‬‬
‫في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل)‬
‫فمع كون الحديث مرويا في صحيح مسلم إال أن ابن كث ير تج رأ فق ال بكذب ه‪ ،‬فق د‬
‫قال في تفسيره تعليقا عليه‪( :‬فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه‪ ،‬والنسائي من غير‬
‫وجه عن حجاج وهو ابن محمد األعور عن ابن جريج به وفيه اس تيعاب األي ام الس بعة‬
‫وهللا تعالى قد قال في ستة أي ام‪ ،‬وله ذا تكلم البخ اري وغ ير واح د من الحف اظ في ه ذا‬
‫(‪)2‬‬
‫الحديث‪ ،‬وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب األحبار ليس مرفوعا)‬
‫بل إن ابن تيمية نفسه رد الحديث‪ ،‬فق ال في (مجم وع الفت اوى)‪ ..( :‬خل ق ال دواب‬
‫يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فإن هذا طعن فيه من هو أعلم من مسلم مث ل يح يى‬
‫(‪)3‬‬
‫بن معين ومثل البخارى وغيرهما وذكر البخارى أن هذا من كالم كعب األحبار)‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه ش ْي ٌء‬
‫َ‬ ‫وليتهم أعرضوا عن حديث الصورة أيضا‪ ،‬ألن هللا تعالى ق ال‪﴿ :‬لَي َ‬
‫صيرُ﴾ [الشورى‪ ،]11 :‬لكن العقل السلفي يتعام ل بانتقائي ة ف يرفض م ا‬ ‫َوه َُو ال َّس ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫يشاء‪ ،‬ويقبل ما يشاء‪.‬‬
‫فمع اعترافهم بأن أحاديث أبي هريرة مختلطة م ع أح اديث كعب األحب ار إال أنهم‬
‫ال يبالون في أخذ أكثر عقائد الدين من ه‪ ،‬وق د روى ابن كث ير عن ع روة بن الزب ير بن‬
‫العوام‪،‬قال‪ :‬قال لى أبي الزبير‪ :‬أدننى من هذا اليم انى ( يع ني أب ا هري رة ) فان ه يك ثر‬
‫الحديث عن رسول هللا ‪ ‬قال‪ :‬فأدنيته من ه فجع ل أب و هري رة يح دث‪ ،‬وجع ل الزب ير‬

‫‪1‬‬
‫صحيح مسلم (‪)2149 /4‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫تفسير ابن كثير ج‪ 2‬ص‪.294‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع فتاوى ابن تيمية ج‪18‬ص‪.18‬‬ ‫()‬

‫‪143‬‬
‫يقول صدق كذب صدق كذب‪،‬قال‪ :‬قلت يا أبة ما قولك صدق كذب‪،‬قال‪ :‬يا ب ني أم ا أن‬
‫يك ون س مع ه ذه األح اديث من رس ول هللا ‪ ‬فال أش ك‪ ،‬ولكن منه ا م ا يض عه على‬
‫(‪)1‬‬
‫مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه)‬
‫وروى ابن كثير أيضا عن مسلم صاحب الصحيح بسنده عن بكير بن األش ج‪،‬ق ال‪:‬‬
‫قال لن ا بش ر بن س عيد‪( :‬اتق وا هللا وتحفظ وا من الح ديث‪ ،‬فوهللا لق د رأيتن ا تج الس أب ا‬
‫هريرة فيحدث عن رسول هللا ‪ ،‬ويحدثنا عن كعب األحبار ثم يقوم فأس مع بعض م ا‬
‫(‪)2‬‬
‫كان معنا يجعل حديث رسول هللا ‪ ‬عن كعب وحديث كعب عن رسول هللا ‪)‬‬
‫الرؤية‪:‬‬
‫بن اء على الرؤي ة التجس يمية هلل‪ ،‬ف إن المطلب األك بر في المعرف ة الكامل ة هلل ه و‬
‫البحث عن رؤيته رؤية حسية كما يرى القمر وكما ترى الشمس‪ ،‬وكما ترى األجس ام‪،‬‬
‫لتتمتع العين برؤيته كما تتمتع برؤية األزهار الجميلة والحدائق الغناء وغيرها‪.‬‬
‫ولهذا نرى السلفية يحشرون رؤية هللا تعالى في الجنة في المواضع التي يتح دثون‬
‫فيها عن جمال صور أهل الجنة‪ ،‬وجمال قصورهم‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومن أراد أن يرى تفاصيل ذلك يمكنه الرجوع إلى كتاب [حادي األرواح إلى بالد‬
‫األفراح] البن القيم‪ ،‬فقد عقد في ه فص ال بعن وان [ذك ر زي ارة أه ل الجن ة ربهم تب ارك‬
‫وتعالى](‪ ،)3‬وذكر قبله بابا بعنوان‪[ :‬في ذكر سوق الجنة وما أعد هللا تعالى فيه ألهله ا]‬
‫(‪ )4‬وفي كليهما ذكر مشاهد للقاء الحس ي ال ذي يج ري بين المؤم نين وربهم في الجن ة‪،‬‬
‫كما يجري بين أعالم السلفية والملوك واألمراء في الدنيا‪.‬‬
‫وسنسوق هنا بعض الروايات الواردة في ذلك لنرى مبلغ تعظيم السلفية هلل تع الى‪،‬‬
‫وتنزيه لهم‪ ،‬فمن تلك الروايات ما رواه عن سعيد بن المسيب‪ ،‬أنه لقي أبا هريرة‪ ،‬فق ال‬
‫أبو هريرة‪ :‬أسأل هللا أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة‪ .‬فق ال س عيد‪ :‬أو فيه ا س وق؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬أخبرني رسول هللا ‪ :‬أن أه ل الجن ة إذا دخلوه ا نزلوه ا بفض ل أعم الهم‪،‬‬
‫فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أي ام ال دنيا‪ ،‬ف يزورون هللا في روض ة من ري اض‬
‫الجنة‪ ،‬فتوضع لهم منابر من نور‪ ،‬ومن ابر من لؤل ؤ‪ ،‬ومن ابر من زبرج د‪ ،‬ومن ابر من‬
‫ياقوت‪ ،‬ومنابر من ذهب‪ ،‬ومنابر من فضة‪ ،‬ويجلس أدناهم‪ ،‬وما فيهم دني‪ ،‬على كثب ان‬
‫المس ك والك افور‪ ،‬وم ا ي رون أن أص حاب الكراس ي بأفض ل منهم مجلس ا)‪ ،‬ق ال أب و‬
‫هريرة‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا ه ل ن رى ربن ا ي وم القيام ة؟ ق ال‪( :‬نعم‪ ،‬ه ل تم ارون في‬
‫رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟) قلنا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فكذلك ال تمارون في رؤية ربكم تب ارك‬
‫وتعالى‪ ،‬وال يبقى في ذلك المجلس أحد إال حاضره هللا محاضرة‪ ،‬ح تى يق ول‪ :‬ي ا فالن‬
‫‪1‬‬
‫البدابة والنهاية ج‪ 8‬ص‪.109‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫البداية والنهاية ج‪ 8‬ص‪.109‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫حادي األرواح إلى بالد األفراح (ص‪.)267 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫حادي األرواح إلى بالد األفراح (ص‪.)264 :‬‬ ‫()‬

‫‪144‬‬
‫بن فالن بن فالن أتذكر يوم فعلت كذا وك ذا‪ ،‬في ذكره بعض غدرات ه في ال دنيا‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫بلى‪ .‬فيقول‪ :‬يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول‪ :‬بلى‪ ،‬فبمغفرتي بلغت منزلتك هذه‪ .‬قال‪ :‬فبينما‬
‫هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم‪ ،‬فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريح ه ش يئا‬
‫قط‪ ،‬ثم يقول ربن ا تب ارك وتع الى‪ :‬قوم وا إلى م ا أع ددت لكم من الكرام ة‪ ،‬فخ ذوا م ا‬
‫اشتهيتم‪ ،‬قال‪ :‬فيأتون سوقا قد حفت بها المالئكة‪ ،‬فيه ما لم تنظر العي ون إلى مثل ه‪ ،‬ولم‬
‫تسمع اآلذان‪ ،‬ولم تخطر على القلوب‪ .‬قال‪ :‬فيحمل لنا ما اشتهيناه‪ ،‬ليس يباع في ه ش يء‬
‫وال يش ترى‪ ،‬في ذل ك الس وق يلقى أه ل الجن ة بعض هم بعض ا‪ .‬ق ال‪ :‬فيقب ل ذو ال بزة‬
‫المرتفعة‪ ،‬فيلقى من هو دونه‪ ،‬وما فيهم دني‪ ،‬فيروعه ما يرى عليه من اللباس والهيئة‪،‬‬
‫فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه‪ ،‬وذلك أنه ال ينبغي ألح د أن يح زن‬
‫فيها‪ .‬قال‪ :‬ثم ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا فيقلن‪ :‬مرحب ا وأهال بحبن ا‪ ،‬لق د جئت‬
‫وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتن ا علي ه‪ ،‬فيق ول‪( :‬إن ا جالس نا الي وم ربن ا‬
‫(‪)1‬‬
‫الجبار تبارك وتعالى‪ ،‬ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا)‬
‫ومن الروايات التي يوردونها في هذا ما يروون ه أن رس ول هللا ‪ ‬ق ال‪ ( :‬بين ا‬
‫أهل الجنة في نعيمهم ْإذ سطع له ْم نو ٌر فرفعوا رؤوس هم ‪،‬ف إذا ال ربُّ ق د أش رف عليهم‬
‫من فوقهم فقال‪ :‬السالم عليكم يا أهل الجنة‪،‬قال‪ :‬وذلك قول هللا تعالى‪َ ﴿ :‬س اَل ٌم قَ وْ اًل ِم ْن‬
‫َربٍّ َر ِح ٍيم﴾ [يس‪، ]58 :‬ق ال‪ :‬فينظ ر إليهم وينظ رون إليه‪،‬فال يلتفت ون إلى ش يء من‬
‫النعيم م ا دام وا ينظ رون إلي ه ح تى يحتجب عنهم ويبقى ن ورُه وبركت ه عليهم في‬
‫(‪)2‬‬
‫ديارهم )‬
‫هذه بعض المشاهد التي يحرص السلفية على ذكرها في كل محل‪ ،‬وهي ال تختلف‬
‫كث يرا عن المش اهد ال تي نقرؤه ا في كتب الت اريخ واألس اطير عن مج الس المل وك‬
‫واألمراء‪ ..‬حيث يقربون ن دمانهم‪ ،‬ثم يص لونهم ب أنواع الص الت‪ ..‬وهي عالق ة مادي ة‬
‫صرفة ال مجال فيها للمشاعر السامية‪ ،‬وال للعواطف الجياش ة ال تي رأيناه ا عن د أه ل‬
‫العرفان‪.‬‬
‫ومن العجب الذي ن راه في أمث ال ه ذه الروي ات ه و إس كانهم هلل س بحانه وتع الى‬
‫خالق هذا الكون جميعا في دار من دور الجنة ليج اورهم‪ ،‬ويص لهم‪ ،‬وت زداد ص ورهم‬
‫حسنا بذلك‪ ،‬وكأن هللا تعالى لم يخلق سواهم‪ ،‬وال له تدبير لغيرهم‪.‬‬
‫ومن العجب األكبر هو أحاديثهم عن جمال هللا تع الى‪ ..‬وهي أح اديث عن الجم ال‬
‫الحس ي‪ ،‬ال عن الجم ال العظيم ال ذي ال يمكن اإلحاط ة ب ه‪ ،‬ومن أمثل ة ذل ك م ا قال ه‬
‫أن يع بر عن ش يء من ه‬ ‫الهرَّاس‪ ،‬فقد قال‪( :‬أما جمال الذات ؛ فهو ما ال يمكن لمخل وق َّ‬
‫أن أه ل الجن ة م ع م ا هم في ه من النعيم المقيم وأف انين‬ ‫أو يبل غ بعض كنه ه‪ ،‬وحس بك َّ‬
‫اللذات والسرور التي ال يقدر قدرها‪ ،‬إذا رأوا ربهم‪ ،‬وتمتعوا بجماله ؛ نسوا ك ل م ا هم‬
‫فيه‪،‬واضمحل عندهم هذا النعيم‪ ،‬وودوا ل و ت دوم لهم ه ذه الح ال‪ ،‬ولم يكن ش يء أحب‬

‫‪1‬‬
‫السنة البن أبي عاصم (‪.)258 /1‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫رواه ابن ماجه برقم ( ‪) 184‬‬ ‫()‬

‫‪145‬‬
‫إليهم من االستغراق في شهود هذا الجمال‪،‬واكتس بوا من جمال ه ون وره س بحانه جم االً‬
‫إلى جمالهم‪،‬وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته‪،‬حتى إنهم يفرحون بي وم المزي د فرح ا ً تك اد‬
‫(‪)1‬‬
‫تطير له القلوب)‬
‫وه و في ه ذا الكالم ال ذي يش به كالم الع ارفين في ألفاظ ه‪ ،‬إال أن ه ال ي رقى إلى‬
‫مقاصدهم‪ ..‬فالجمال عنده هو جمال صورة هللا الحسية التي لم يتصوروا أن يع رف هللا‬
‫من دونها‪.‬‬
‫والعجيب أن السلفية في ذكرهم لهذا يتناقضون مع ما يوردون ه من رواي ات ح ول‬
‫ما يطلقون عليه صفة [السبحات]‪ ،‬والتي رووا في شأنها قوله ‪( :‬لو كش فه ألح رقت‬
‫(‪)2‬‬
‫سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)‬
‫وقد رفضوا كل التأويالت التي أوردها المنزه ة‪ ،‬مثلم ا فس رها الزمخش ري بأنه ا‬
‫( األنوار التي إذا رآها الراءون من المالئكة سبحوا وهلل وا لم ا ي روعهم من جالل هللا‬
‫(‪)3‬‬
‫وعظمته)‬
‫أو كما فسرها ابن فورك حين قال‪ ( :‬فقد تأول أهل العلم ذلك‪ ،‬منهم أبو عبيد‪ ،‬ذك ر‬
‫أن معنى لو كشفها‪ ،‬فقال‪ :‬أي لو كشف رحمته عن الن ار ألح رقت س بحات وجه ه‪ ،‬أي‬
‫ألحرقت وجه المحجوب عنه بالنار‪ ،‬والهاء عائد في س بحات وجه ه إلى المحج وب‪،‬ال‬
‫(‪)4‬‬
‫إلى هللا عز وجل)‬
‫وقد رفض السلفية كل ذلك‪ ،‬وتمسكوا بالمعنى الحسي‪ ،‬وهو أن هذه السبحات ن ور‬
‫وجهه جل جالله‪ ،‬يقول ابن القيم‪ ( :‬فإذا كانت سبحات وجهه األعلى ال يق وم له ا ش يء‬
‫من خلقه‪ ،‬ولو كشف حجاب النور عن تلك الس بحات ألح رق الع الم العل وي والس فلي‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فما الظن بجالل ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجالله وجمالـه )‬
‫ولم يكتف السلفية بكل ذلك التجسيم المستند ألمثال تلك الروايات واألس اطير ال تي‬
‫ينفسون بها عن نفوسهم الممتلئة بالضيق والكدر‪ ..‬وإنما راح وا يض يفون إليه ا جرع ة‬
‫أكبر من الجرأة حين يضعون هلل صورة تتناسب مع شذوذهم وفط رهم المدنس ة ب دنس‬
‫الحس‪.‬‬
‫وقد قدموا لتل ك الص ورة ـ لص عوبة تقبله ا ـ بمق دمات كث يرة ح تى يس هل عليهم‬
‫التملص والفرار إذا ما اتهموا بالتشبيه المطلق‪.‬‬
‫وقد انطلقوا في ذلك من ذكر ما يطلقون علي ه [رؤي ة رس ول هللا ‪ ‬لرب ه]‪ ،‬وهي‬
‫مسألة حظيت باهتمام كبير من السلفية‪ ..‬وأكثرهم يميل إلى أنها وقعت ‪ ..‬وحتى الذي ال‬
‫‪1‬‬
‫() شرح النونية‪.2/64 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم‪ ،‬وقد قدح بعض المتأخرين من المنزهة في سند ه ذا الح ديث ال ذي رواه مس لم‪ .‬وذك ر أن ه ذا الح ديث‬
‫رواية شاذة انظر تعليق حسن السقاف على شبه التشبيه (ص‪ 200‬ـ‪. ) 202‬‬
‫‪ )(3‬الفائق في غريب الحديث (‪. )2/148‬‬
‫مشكل الحديث وبيانه (ص‪. )231‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫((‪ )3‬الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة‪. 234 / 1 .‬‬

‫‪146‬‬
‫يميل إلى ذلك يذكر ب أن رس ول هللا ‪ ‬رأى رب ه في الرؤي ا‪ ..‬ثم يعقب على ذل ك ب أن‬
‫رؤيا األنبياء حق‪ ..‬وبذلك فإن ما وصف رسول هللا ‪ ‬ربه من الصفات الحسية مقبول‬
‫عندهم سواء قالوا برؤية اليقظة أم بالرؤيا المنامية‪.‬‬
‫وألن النتيجة في كليهما واح دة‪ ،‬فق د تعام ل الس لفية به دوء م ع ه ذه المس ألة على‬
‫ال رغم من وج ود آث ار كث يرة تثبت الرؤي ة‪ ،‬والمثبت عن دهم مق دم على الن افي‪ ،‬ق ال‬
‫ال ذهبي‪( :‬وال نعن ف من أثبت الرؤي ة لنبين ا في ال دنيا‪ ،‬وال من نفاه ا‪ ،‬ب ل نق ول هللا‬
‫ورسوله أعلم‪ ،‬بل نعنف ونب دع من أنك ر الرؤي ة في اآلخ رة‪ ،‬إذ رؤي ة هللا في اآلخ رة‬
‫(‪)1‬‬
‫ثبتت بنصوص متوافرة)‬
‫أما الفريق الذي يرى أنها قد وقعت‪ ،‬ويصف بالضبط صورة هللا بدقة‪ ،‬فهم أك ثر‬
‫السلفية‪ ،‬كما قال ابن تيمية‪( :‬وأكثر علماء أهل السنة يقول ون‪ :‬إن محم دًا ‪ ‬رأى رب ه‬
‫(‪)2‬‬
‫ليلة المعراج)‬
‫ويستند هذا الفريق إلى بعض اآلثار عن الصحابة والتابعين‪ ،‬والتي يجزمون فيه ا‪،‬‬
‫ويحلفون برؤية رسول هللا ‪ ‬لربه‪.‬‬
‫وأهم تلك الروايات ما رووه عن عكرمة عن ابن عباس قال‪( :‬أتعجب ون أن تك ون‬
‫(‪)3‬‬
‫الخلة إلبراهيم والكالم لموسى‪ ،‬والرؤية لمحمد ‪)‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ومنها ما رووه عن قتادة أن أنسًا قال‪( :‬رأى محم ٌد ربَّه)‬
‫ومنها ما رووه أن مروان س أل أب ا هري رة‪ :‬ه ل رأى محم ٌد ‪ ‬ربَّه ع ز وج ل؟‬
‫(‪)5‬‬
‫فقال‪( :‬نعم‪ ،‬قد رآه)‬
‫ب ْالفُ ؤَا ُد َم ا َرأَى﴾‬
‫ورووا عن التابعين أن عكرمة سئل عن قوله تع الى‪َ ﴿:‬م ا َك َذ َ‬
‫[النجم ‪ ،]11‬قال‪( :‬أتريد أن أقول لك‪ :‬قد رآه‪ .‬نعم ق د رآه‪ ،‬ثم ق د رآه‪ ،‬ثم ق د رآه‪ ،‬ح تى‬
‫(‪)6‬‬
‫ينقطع النفس)‬
‫ورووا عن المبارك بن فضالة قال‪( :‬كان الحسن يحلف ثالثة لقد رأى محم د ‪‬‬
‫(‪)7‬‬
‫ربه)‬

‫‪ )(1‬سير أعالم النبالء ‪10/114‬‬


‫‪ )(2‬مجموع الفتاوى ‪.3/386‬‬
‫‪ )(3‬ابن أبي عاصم في السنة (‪ ،)1/192‬وقال األلباني‪ :‬إسناده صحيح على شرط البخاري‪ ،‬وعبد هللا بن اإلمام أحمد في‬
‫السنة (‪ ،)1/299‬والنسائي في الكبرى (تحفة األشراف ‪ ،)5/165‬وابن خزيمة في التوحيد (‪ ،1/479‬ح‪ ،)272‬واآلج ري‬
‫في الشريعة (‪ ،3/1541‬ح‪ ،2/1048( ،)1031‬ح‪)627‬‬
‫‪ - )(4‬أخرجه ابن أبي عاصم في السنة ‪ 1/188‬رقم ‪ .432‬وابن خزيمة في كتاب التوحيد ‪ ،2/487‬رقم ‪.280‬‬
‫‪ - )(5‬أخرجه عبد هللا بن أحمد في السنة ‪ ،1/176‬رقم ‪ .218‬والاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ‪ ،3/571‬رقم‬
‫‪.908‬‬
‫‪ - )(6‬أخرجه ابن جرير في تفسيره ‪ .27/48‬وعبد هللا بن أحمد في السنة ‪ 1/178‬رقم ‪ .221‬والاللكائي في شرح أصول‬
‫االعتقاد ‪ 3/571‬رقم ‪907‬‬
‫‪ - )(7‬أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ‪ 2/488‬رقم ‪ .281‬وانظر تفسير الحسن البصري ‪ 5/85‬رقم ‪ .1572‬وتفس ير عب د‬
‫الرزاق ‪ .2/204‬والشفا للقاضي عياض ‪.1/258‬‬

‫‪147‬‬
‫وقد يكون ما ذكره هؤالء جميعا في هذا صحيحا‪ ،‬ويكون قصدهم كما ذكرنا س ابقا‬
‫(الرؤية القلبية)‪ ،‬ألن هللا تعالى لم يكن يغيب أبدا عن قلب رسول هللا ‪ ..‬بل كان ي راه‬
‫في كل أحواله‪.‬‬
‫﴿ولَقَ ْد َرآهُ‬
‫ويؤيد ه ذا م ا رووه عن عن عط اء عن ابن عب اس في قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ن َْزلَةً أُ ْخ َرى﴾ [النجم ‪  ]13‬قال‪( :‬إن النبي ‪ ‬رأى ربه بقلبه) (‪ ،)1‬ومنه ا م ا رووه عن‬
‫(‪)2‬‬
‫أبي ذر أنه قال‪( :‬رأى رسول هللا‪ ‬ربَّه بقلبه ولم يره ببصره)‬
‫لكن مشكلة السلفية أنهم ال يكتف ون بالرواي ات ال تي تحتم ل التنزي ه‪ ،‬ب ل يض يفون‬
‫إليها الروايات التي ال يفهم منها إال التجسيم‪ ..‬ومن تلك الروايات ما رووه عن عب د هللا‬
‫ث إلى عبد هللا بن عباس يسأله‪ :‬هل رأى محم ٌد ‪ ‬ربَّه؟ فبعث إليه‪( :‬أن‬ ‫بن عمر أنه بَ َع َ‬
‫نعم قد رآه)‪ ،‬فرد رسوله إليه وقال‪ :‬كيف رآه؟ فقال‪( :‬رآه على كرسي من ذهب‪ ،‬تحمله‬
‫أربعة من المالئكة‪ ،‬ملك في صورة رج ل‪ ،‬ومل ك في ص ورة أس د‪ ،‬ومل ك في ص ورة‬
‫(‪)3‬‬
‫ثور‪ ،‬وملك في صورة نسر‪ ،‬في روضة خضراء‪ ،‬دونه فراش من ذهب)‬
‫وم ع أن الس مة اليهودي ة واض حة على ه ذا الح ديث الممتلئ بال ذهب والج واهر‬
‫الكريمة إال أننا نجد الس لفية ت ردده في مص ادرها العقدي ة الك برى ال تي ت تيح قراءته ا‬
‫لعوام الناس‪ ،‬بل تحثهم عليها‪ ،‬لتمتلئ قلوبهم بدرن التجسيم المختلط بالذهب‪.‬‬
‫هذا ه و الفري ق األول ال ذي م ال إلي ه أك ثر الس لفية‪ ..‬أم ا الفري ق الث اني‪ ،‬فتمثل ه‬
‫عائشة‪ ،‬فق د ردت م ا روي عن ابن عب اس ردا ش ديدا‪ ،‬واس تدلت ب القرآن الك ريم في‬
‫ردها‪ ،‬مما أثار بعض السلفية المتقدمين عليها‪.‬‬
‫وسنذكر قول عائشة‪ ،‬ثم نذكر موق ف علم من أعالم الس لفية الكب ار منه ا نتيج ة‬
‫لرفضها الرؤية‪ ،‬والرواية هي ما حدث ب ه مس روق ق ال‪ :‬كنت متكئ ا عن د عائش ة ‪‬‬
‫فقالت‪( :‬يا أبا عائشة‪ :‬ثالث من تكلم بواحدة منهن‪ ،‬فقد أعظم على هللا الفري ة‪ ،‬من زعم‬
‫أن محمدًا رأى ربه فق د أعظم الفري ة على هللا‪ ،‬ق ال‪ :‬وكنت متكئ ا فجلس ت فقلت‪ :‬ي ا أم‬
‫ين﴾ ﴿ َولَقَ ْد‬‫ق ْال ُمبِ ِ‬ ‫﴿ولَقَ ْد َرآهُ بِ األُفُ ِ‬
‫المؤمنين‪ :‬أنظريني وال تعجليني‪ :‬ألم يقل هللا عز وجل َ‬
‫َرآهُ ن َْزلَةً أُ ْخ َرى﴾‪ ،‬فقالت‪ :‬أنا أول هذه األمة سأل رسول هللا ‪ ،‬فقال‪ :‬إنما هو جبري ل‪،‬‬
‫لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء س ادًا‬
‫عظم خلق ه م ا بين الس ماء إلى األرض‪ .‬فق الت‪ :‬ألم تس مع أن هللا يق ول‪﴿ :‬ال تُ ْد ِر ُك هُ‬
‫﴿و َم ا َك انَ‬‫ْص ار﴾ [األنع ام ‪ .]103‬أو لم تس مع أن هللا يق ول‪َ :‬‬ ‫ك األَب َ‬ ‫صا ُر َوهُ َو يُ ْد ِر ُ‬ ‫اأْل َ ْب َ‬
‫ُوح َي بِإِ ْذنِ ِه َم ا يَ َش ا ُء‬
‫ب أَوْ يُرْ ِس َل َرسُوالً فَي ِ‬
‫لِبَ َش ٍر أَ ْن يُ َكلِّ َمهُ هَّللا ُ إِالَّ َوحْ يا ً أَوْ ِم ْن َو َرا ِء ِح َجا ٍ‬
‫(‪)4‬‬
‫إِنَّهُ َعلِ ٌّي َح ِكي ٌم﴾ [الشورى ‪)]51‬‬

‫‪ - )(1‬أخرجه مسلم (‪ .)3/8‬وأحمد في المسند ‪1/223‬‬


‫‪ - )(2‬أخرجه‪  ‬النسائي في تفسيره ‪ ،2/345‬رقم ‪ ،556‬قال المحقق‪ :‬صحيح‪ ،‬تفرد به المصنف‪ ،‬وابن خزيمة في كت اب‬
‫التوحيد ‪ ،2/516‬رقم ‪.310‬‬
‫‪ - )(3‬رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش ص ‪ 391‬رقم ‪ ،38‬وابن خزيمة في التوحيد ‪ 2/483‬برقم ‪ ،275‬وعبد هللا بن‬
‫أحمد في السنة ‪ .1/175‬واآلجري في الشريعة ‪.3/1543‬‬
‫‪ - )(4‬أخرجه مسلم ‪ ،13-3/9‬والبخاري ‪.8/472‬‬

‫‪148‬‬
‫ومع أن هذا الحديث يحمل الرؤية التنزيهي ة بأجم ل ص ورها‪ ،‬ويس تند إلى الق رآن‬
‫في ذلك إال أننا نجد علما كبيرا من أعالم السلفية يلقبونه [إمام األئم ة] ه و ابن خزيم ة‬
‫يقول ردا عليها‪( :‬هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب‪،‬ولو ك انت لفظ ة‬
‫أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها كان أجمل بها‪،‬ليس يحس ن في اللف ظ أن يق ول قائ ل‬
‫أو قائلة‪ :‬ق د أعظم ابن عب اس الفري ة وأب و ذر وأنس بن مال ك وجماع ات من الن اس‬
‫الفرية على ربهم ! ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيره ا أحس ن‬
‫وأجمل منها ‪ .‬أكثر ما في هذا أن عائشة وأبا ذر وابن عباس وأنس بن مالك‪،‬قد اختلف وا‬
‫هل رأى النبي ‪ ‬ربه فقالت عائشة‪ :‬لم ير النبي ‪ ‬ربه‪،‬وقال أبو ذر وابن عباس ‪‬‬
‫ق د رأى الن بي ‪ ‬ربه‪،‬وق د أعلمت في مواض ع من كتبن ا أن النفي ال ي وجب علم ا ً‬
‫تحك عائشة عن النبي ‪ ‬أنه أخبرها أنه لم ير رب ه‬ ‫ِ‬ ‫واإلثبات هو الذي يوجب العلم‪،‬لم‬
‫ْص ار﴾ [األنع ام‬ ‫َ‬ ‫ْصا ُر َوه َُو يُ ْد ِر ُ‬
‫ك األب َ‬ ‫َ‬
‫عز وجل‪ ،‬وإنما تلت قوله عز وجل ﴿ال تُ ْد ِر ُكهُ اأْل ب َ‬
‫‪ ،]103‬وقوله‪َ ﴿ :‬و َما َكانَ لِبَ َش ٍر أَ ْن يُ َكلِّ َم هُ هَّللا ُ إِالَّ َوحْ ي ا ً ‪[ ﴾..‬الش ورى ‪ ،)]51‬ومن ت دبر‬
‫هاتين اآليتين ووفق إلدراك الص واب علم أن ه ليس في واح دة من اآلي تين م ا يس تحق‬
‫(‪)1‬‬
‫الرمي بالفرية على هللا‪،‬كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على هللا!)‬
‫وبعد أن فند ـ حسب تصوره ـ ما استدلت به من اآليتين الكريمتين قال‪( :‬نقول كم ا‬
‫قال معمر بن راشد لما ذكر اختالف عائش ة وابن عب اس في ه ذه المس ألة‪ :‬م ا عائش ة‬
‫عندنا أعلم من ابن عباس‪،‬نقول‪ :‬عائشة الصديقة بنت الص ديق حبيب ة ح بيب هللا عالم ة‬
‫فقيهة‪،‬كذلك ابن عباس ابن عم النبي ‪ ‬قد دعا الن بي ‪ ‬ل ه أن ي رزق الحكم ة والعلم‬
‫وهذا المعنى من الدعاء‪،‬وه و المس مى ترجم ان الق رآن‪،‬وق د ك ان الف اروق يس أله عن‬
‫بعض معاني القرآن فيقبل منه وإن خالفه غيره ممن ه و أك بر س نا ًّ من ه وأق دم ص حبة‬
‫للنبي ‪ ‬وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عب اس الفري ة على هللا‪،‬ألن ه ق د أثبت‬
‫شيئا ً نفته عائشة‪،‬والعلماء ال يطلقون هذه اللفظة‪،‬وإن غلط بعض العلم اء في مع نى آي ة‬
‫من كتاب هللا أو خالف سنةً أو سننا ً من سنن النبي‪ ‬لم تبل غ الم رء تل ك الس نن‪،‬فكي ف‬
‫يجوز أن يقال أعظم الفرية على هللا من أثبت شيئا ً لم يبينه كتاب وال س نة‪،‬فتفهم وا ه ذا‬
‫(‪)2‬‬
‫ال تغالطوا)‬
‫بع د ه ذا الخالف‪ ،‬وال ذي م ال في ه أك ثر الس لفية إلى ط رف التجس يم والتش بيه‪،‬‬
‫اخترع الشيطان وأتباعه للطرف المنزه اختراعا ذكيا حولهم إلى صف إخ وانهم بلباق ة‬
‫وذكاء وفطنة‪.‬‬
‫وهذا االختراع هو تحويل الرؤية من الرؤية الحسية إلى الرؤيا المنامي ة‪ ،‬باعتب ار‬
‫أن رؤيا األنبياء حق‪ ،‬كما ورد في النصوص المقدسة الكثيرة‪ ،‬وكما هو محل اتفاق من‬
‫األمة‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ ،‬نقال عن شيخه ابن تيمية‪( :‬قال شيخ اإلس الم ابن تيمي ة ‪-‬ق دس هللا‬

‫‪1‬‬
‫التوحيد البن خزيمة (‪)556 /2‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫التوحيد البن خزيمة (‪)559 /2‬‬ ‫()‬

‫‪149‬‬
‫روحه‪ :-‬وليس قول ابن عباس إنه رآه مناقضا لهذا وال قوله رآه بفؤاده وق د ص ح عن ه‬
‫أن ه ق ال‪( :‬رأيت ربي تب ارك وتع الى)‪ ،‬ولكن لم يكن ه ذا في اإلس راء‪ ،‬ولكن ك ان في‬
‫المدينة لما احتبس عنهم في صالة الصبح‪ ،‬ثم أخبرهم عن رؤية رب ه ‪-‬تب ارك وتع الى‪-‬‬
‫تلك الليلة في منامه‪ ،‬وعلى هذا بنى اإلمام أحمد ‪-‬رحمه هللا تع الى‪ -‬وق ال‪ :‬نعم رآه حق ا‬
‫فإن رؤيا األنبياء حق والبد‪ ،‬ولكن لم يقل أحمد ‪-‬رحمه هللا تعالى‪ -‬إنه رآه بعي ني رأس ه‬
‫يقظة‪ ،‬ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه‪ ،‬ولكن قال‪ :‬مرة رآه‪ ،‬وم رة ق ال‪ :‬رآه بف ؤاده‪،‬‬
‫فحكيت عنه روايتان‪ ،‬وحكيت عنه الثالث ة من تص رف بعض أص حابه أن ه رآه بعي ني‬
‫(‪)1‬‬
‫رأسه‪ ،‬وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك)‬
‫بعد تثبيت السلفية هذه المقدمات بمختلف أنواعها‪ ،‬يذكرون أهم نتيج ة تص ل إليه ا‬
‫عقائدهم التجسيمية‪ ،‬وهي تحديد صورة هللا تعالى بدقة‪ ،‬حتى إذا ظه ر لهم ي وم القيام ة‬
‫لم يخطئوا فيه‪ ،‬كما يروون الروايات الدالة على ذلك‪.‬‬
‫والحديث الذي يسوقونه لهذا هو م ا رووه عن أم الطفي ل ام رأة أبي بن كعب أنه ا‬
‫قالت‪( :‬سمعت رسول هللا ‪ ‬يذكر أن ه رأى رب ه ‪ -‬ع ز وج ل ‪ -‬في المن ام في ص ورة‬
‫شاب موفر في خضر على ف راش من ذهب‪ ،‬في رجلي ه نعالن من ذهب)‪ ،‬وفي رواي ة‬
‫ْالن من ذهب‪َ ،‬و َعلَى‬
‫ض ٍر‪ ،‬علي ه نَع ِ‬ ‫( َرأَي ُ‬
‫ْت َربِّي فِي المنام في صورة شاب ُم َوقَّ ٍر فِي خَ ِ‬
‫وجهه ف راش ِم ْن ذهب)‪ ،‬وفي رواي ة‪( :‬أن ه رأى رب ه ع ز وج ل في الن وم في ص ورة‬
‫شاب ذي وفرة‪ ،‬قدماه في الخضرة‪ ،‬عليه نعالن من ذهب‪،‬على وجهه فراش من ذهب)‬
‫(‪)2‬‬

‫وفي رواي ة عن ابن عب اس يرفعه ا لرس ول هللا ‪( :‬رأيت ربي‪ ،‬ع ز وج ل‪ ،‬في‬
‫حلة خضراء في صورة شاب عليه تاج يلمع منه البصر)‪ ،‬وفي وراية‪( :‬أن محم داً ‪‬‬
‫رأى ربه في صورة ش اب أم رد من دون ه س تر من لؤل ؤ‪ ،‬قدمي ه‪ ،‬أو ق ال‪ :‬رجلي ه في‬
‫(‪)3‬‬
‫خضرة)‪ ،‬وفي رواية (رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء)‬
‫وقد دافع ابن تيمية عن هذا الحديث والروايات الواردة فيه أيما دف اع‪ ،‬فق ال‪( :‬ق ال‬
‫الخالل أبوبكر المروذي قال قرئ على أبي عب د هللا ش اذان ح دثنا حم اد بن س لمة عن‬
‫قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه‪ ،‬فذكر الحديث‪ ،‬قلت إنهم يطعنون‬
‫في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان‪ ،‬قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حم اد‬

‫‪ - )(1‬زاد المعاد ‪.3/37‬‬


‫‪2‬‬
‫() أخرجه ابن أبي عاصم في السنة ‪ 1/205‬رقم ‪ .471‬والط براني في المعجم الكب ير ‪ 25/143‬رقم ‪ .346‬وال بيهقي‬
‫في األسماء والصفات ‪ 369-2/367‬رقم ‪ .942‬والدارقطني في الرؤية ص ‪ 190‬رقم ‪ .316‬والقاضي أبو يعلى في إبطال‬
‫الت أويالت ‪ .1/141‬والخطيب في ت اريخ بغ داد ‪ ،13/311‬وه ذا الح ديث ص ححه الحس ن بن بش ار وأب و يعلى كم ا في‬
‫(طبقات الحنابلة ألبي يعلى‪)2/59 :‬‬
‫‪3‬‬
‫() هذا الحديث من هذا الطريق صححه جم ٌع من أعالم السلفية الكبار منهم‪ :‬اإلمام أحم د (المنتخب من عل ل الخالل‪:‬‬
‫ص‪ ،282‬وإبطال التأويالت ألبي يعلى ‪ ،)1/139‬وأبو زرعة الرازي (إبطال التأويالت ألبي يعلى ‪ ،)1/144‬والط براني‬
‫(إبطال التأويالت ألبي يعلى ‪ ،)1/143‬وأبو الحسن بن بشار (إبطال الت أويالت ‪ ،)222 ،143 ،142 /1‬وأب و يعلى في‬
‫(إبطال التأويالت ‪ ،)143 ،142 ،141 /1‬وابن صدقة (إبط ال الت أويالت ‪( )1/144‬تل بيس الجهمي ة ‪ ،) 225/ 7‬وابن‬
‫تيمية في (بيان تلبيس الجهمية ‪)356 ،7/290‬‬

‫‪150‬‬
‫عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس قال قال رسول هللا ‪ :‬رأيت ربي‪ ،‬وقال الم روذي‬
‫في موضع آخر قلت ألبي عبد هللا‪ :‬فشاذان كيف هو؟ قال‪ :‬ثقة‪ ،‬وجعل يثبته‪ ،‬وق ال‪ :‬في‬
‫هذا يشنع به علينا‪ ،‬قلت‪ :‬أفليس العلماء تلقته بالقبول‪ ،‬قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة‬
‫ي كتابه في ه أح اديث‬ ‫لم يسمع من عكرمة قال هذا اليدري الذي قال وغضب وأخرج إل َّ‬
‫بما سمع قتادة من عكرمة‪ ،‬فإذا ستة أحاديث سمعت عكرم ة ح دثنا به ذا الم روذي عن‬
‫أبي عبد هللا قال أبو عبد هللا‪ :‬قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من ق ال لم يس مع‬
‫(‪)1‬‬
‫وقال سبحان هللا هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق)‬
‫وق ال في موض ع آخ ر‪( :‬ش اذان يق ول أرس لت إلى أبي عب د هللا أحم د بن حنب ل‬
‫أستأذنه في أن أح دث بح ديث قت ادة عن عكرم ة عن ابن عب اس ق ال رأيت ربي‪ ،‬ق ال‬
‫حدث به فقد حدث به العلماء‪ ،‬قال الخالل أبنا الحسن بن ناص ح ق ال ح دثنا األس ود بن‬
‫عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن الن بي ‪ ‬رأى‬
‫(‪)2‬‬
‫ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء)‬
‫ثم ي روي أح اديث الرؤي ة المنامي ة‪ ،‬وي بين انطباقه ا على األح اديث الدال ة على‬
‫الرؤية في اليقظة‪ ،‬فقد روى عن امرأة أبي بن كعب أنه ا س معت رس ول هللا ‪ ‬يق ول‬
‫رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنص اف س اقيه في رجلي ه نعالن من‬
‫(‪)3‬‬
‫ذهب)‬
‫ثم علق عليه بقوله‪( :‬وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأن ه رأى‬
‫(‪)4‬‬
‫ذلك في المنام‪ ،‬وهذه األلفاظ نظير األلفاظ التي في حديث ابن عباس)‬
‫بل إنه فوق ذلك‪ ،‬وحتى يبين إمكانية االستدالل بحديث الرؤية المنامي ة على ص فة‬
‫هللا‪ ،‬قال‪ ( :‬وإذا ك ان ك ذلك فاإلنس ان ق د ي رى رب ه في المن ام ويخاطب ه فه ذا ح ق في‬
‫الرؤيا‪ ،‬وال يجوز أن يعتقد أن هللا في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في‬
‫المنام ال يجب أن يكون مم اثال‪ ،‬ولكن ال ب د أن تك ون الص ورة ال تي رآه فيه ا مناس بة‬
‫ومشابهة العتقاده في ربه‪ ،‬فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الص ور وس مع من‬
‫الكالم م ا يناس ب ذل ك‪ ،‬وإال ك ان ب العكس ‪ ..‬وليس في رؤي ة هللا في المن ام نقص وال‬
‫عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذل ك بحس ب ح ال ال رائي وص حة إيمان ه وفس اده‬
‫(‪)5‬‬
‫واستقامة حاله وانحرافه)‬
‫وما يريده ابن تيمية من ه ذا الكالم واض ح‪ ،‬ذل ك أن ه يع رف أن المس لمين جميع ا‬
‫يعرفون أن محمدا ‪ ‬أعرف الخلق بربه‪ ،‬ولذلك رؤيت ه مقارب ة أو مطابق ة هلل نفس ه‪..‬‬
‫خاصة إذا انضم إليها ما صححه من األحاديث المتعلقة بالرؤية الحسية‪.‬‬
‫وبه ذا يختم الس لفية ح ديثهم عن الرؤي ة والص ورة ليص لوا إلى النتيج ة الك برى‪،‬‬

‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪.)194 /7‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪.)196 /7‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪.)194 /7‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكالمية (‪.)194 /7‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫(بيان تلبيس الجهمية ‪) 1/73‬‬ ‫‪)(5‬‬

‫‪151‬‬
‫وهي أن هللا عندهم في صورة بشر‪ ،‬بل في صورة ش اب أم رد جمي ل‪ ..‬وليس في ه من‬
‫العيوب سوى أن شعره جعد قطط(‪.)1‬‬

‫‪1‬‬
‫() معنى الجعد‪ :‬ضد السبط‪ ،‬ومعنى القطط‪ :‬الجع د القص ير من الش عر‪ ،‬هك ذا عرف ه ش عيب االرن اوؤط في تحقيق ه‬
‫لمسند احمد ‪.5/414‬‬

‫‪152‬‬
‫أقوال ‪ ..‬وأفعال‬
‫ي رى أص حاب الرؤي ة التنزيهي ة هلل ـ س واء ك انوا من أه ل البره ان أو من أه ل‬
‫العرفان ـ أن من مقتضيات تقديس هللا تعالى تقديس كل ما يتصف به من صفات الكمال‬
‫كالعلم والقدرة واإلرادة والرحمة واللطف‪ ،‬وكل ما ورد في النصوص المقدسة الحديث‬
‫عنه أو اإلشارة إليه من صفات الكمال اإللهي الذي ال يحد وال يعد‪.‬‬
‫وهذا ما يدل عليه الش ق الث اني مم ا ورد في الق رآن الك ريم من المعرف ة اإللهي ة‪،‬‬
‫وه و ش ق التعظيم‪ ..‬فالمعرف ة اإللهي ة تنزي ه وتعظيم‪ ..‬فال تنزي ه من دون تعظيم‪ ،‬وال‬
‫تعظيم من دون تنزيه‪ ،‬ولهذا أمر هللا تعالى بالجمع بينهما‪ ،‬فقال‪﴿ :‬فَ َسبِّحْ بِ َح ْم ِد َربِّكَ َو ُك ْن‬
‫ِمنَ السَّا ِج ِدينَ ﴾ [الحجر‪]98 :‬‬
‫وأخبر أن المالئكة عليهم السالم المعص ومين في س لوكهم ومع ارفهم يعرف ون هللا‬
‫ك َونُقَ دِّسُ لَ كَ﴾‬ ‫به اتين المعرف تين العظيم تين‪ ،‬فق ال حاكي ا عنهم‪َ ﴿ :‬ونَحْ نُ نُ َس بِّ ُح بِ َح ْم ِد َ‬
‫[البقرة‪]30 :‬‬
‫﴿وإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء إِاَّل‬
‫بل أخبر أن كل شيء يعرف هللا بهذا النوع من المعرفة‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫يحهُ ْم إِنَّهُ َكانَ َحلِي ًما َغفُورًا﴾ [اإلسراء‪]44 :‬‬ ‫يُ َسبِّ ُح بِ َح ْم ِد ِه َولَ ِك ْن اَل تَ ْفقَهُونَ تَ ْسبِ َ‬
‫وهذا يعني أن التنزيه هلل ال يشمل تنزيه ذاته فق ط‪ ،‬ب ل يش مل أيض ا تنزي ه ص فاته‬
‫وأسمائه الحسنى من أن يتسرب إليها أي لون من ألوان التجسيم أو التشبيه أو القص ور‬
‫أو الضعف أو االفتقار‪.‬‬
‫ولهذا نجد التحذيرات الكثيرة من أولي اء هللا من أن ن ترك للش يطان فرص ة ليخل ط‬
‫الكمال بالنقص‪ ،‬أو يمزج التنزيه بالتشبيه‪.‬‬
‫ومن أمثلة تلك التحذيرات التي تعتبر أصال لغيرها ما قاله اإلمام علي عن د حديث ه‬
‫(‪)1‬‬
‫عن الرحمة اإللهية‪ ،‬فقد عرف هللا الرحيم بقوله‪( :‬رحيم ال يوصف بالرقة)‬
‫ووضح ذلك اإلمام الصادق بتفصيل أكثر‪ ،‬فقال‪( :‬إن الرحمة وما يح دث لن ا منه ا‬
‫ش فقة ومنه ا ج ود‪ ،‬وإن رحم ة هللا ثواب ه لخلق ه‪ ،‬وللرحم ة من العب اد ش يئان‪ ،‬أح دهما‬
‫يح دث في القلب‪ :‬الرأف ة‪ ،‬والرق ة لم ا ي رى ب المرحوم من الض ر والحاج ة وض ورب‬
‫البالء‪ ،‬واآلخر ما يحدث منا بعد الرأفة واللطف على المرحوم والمعرفة من ا بم ا ن زل‬
‫به‪ ،‬وقد يقول القائل‪( :‬انظر إلى رحمة فالن)‪ ،‬وإنما يريد الفع ل ال ذي ح دث عن الرق ة‬
‫ال تي في قلب فالن‪ ،‬وإنم ا يض اف إلى هللا ع ز وج ل من فع ل م ا ح دث عن ا من ه ذه‬
‫األش ياء‪ ،‬وأم ا المع نى ال ذي في القلب فه و منفي عن هللا كم ا وص ف عن نفس ه‪ ،‬فه و‬
‫(‪)2‬‬
‫رحيم ال رحمة رقة)‬
‫وهذه الكلمات العظيمة‪ ،‬والتي هي قاعدة هذا الباب‪ ،‬تدلنا على المنهج الذي نتعامل‬

‫‪1‬‬
‫نور الثقلين‪.1/13 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫نور الثقلين‪.1/14 :‬‬ ‫()‬

‫‪153‬‬
‫به مع أسماء هللا الحسنى‪ ..‬فهي حسنى بكل اعتبار‪ ،‬وكمال بكل المقاييس‪.‬‬
‫ولو أننا حللنا مفهوم الرحمة لوج دنا أن كماله ا ليس في تل ك الرق ة ال تي تعترين ا‪،‬‬
‫وإنما في حصول العناية منا بمن نقوم برحمته‪ ..‬ولذلك تتفق رحمته تعالى مع ما نفهم ه‬
‫من الرحمة في بعض األمور‪ ،‬وتختلف في بعضها‪.‬‬
‫فالرحمة في منطقنا تستدعي مرحوم ا‪ ،‬وتش ترط في المرح وم أن يك ون محتاج ا‪،‬‬
‫وتش ترط في ال راحم أن يفيض عنايت ه على المرح وم بم ا يس د حاجات ه‪ ،‬قاص دا ب ذلك‬
‫العناية بالمرحوم‪ ،‬فإن قصر ـ مع القدرة ـ لم تعتبره رحيما‪ ،‬ف إن عج ز اكتفت من ه بم ا‬
‫يظهر عليه من أمارات الرق ة وعالماته ا‪ ،‬فتك ون رحم ة قاص رة ال يص يب المرح وم‬
‫منها إال امتنانه لمن رحمه‪.‬‬
‫وتتفق الرحمة اإللهي ة م ع ه ذه المع اني جميع ا إال في المع نى األخ ير‪ ،‬وال ذي ال‬
‫يعتبر شرطا في الرحمة‪ ،‬بل هو دليل العجز والنقص‪.‬‬
‫وع دم احت واء الرحم ة اإللهي ة على ه ذا المع نى مظه ر من مظ اهر كماله ا‪ ،‬ألن‬
‫الرحيم الذي يفيض عنايت ه بس بب م ا اع تراه من الرق ة‪ ،‬ه و في حقيقت ه يع الج رقت ه‪،‬‬
‫ويعتني بالضعف الذي أصابه‪ ،‬ال بالمرحوم‪ ،‬ولذلك تجده يضطر المرحوم للتوسل إلي ه‬
‫بفاقته وعجزه ليرحمه‪.‬‬
‫وقد أشار الغزالي ـ المتكلم العارف ـ إلى هذا المعنى‪ ،‬فقال‪ (:‬الرحم ة ال تخل و عن‬
‫رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاج ة المرح وم وال رب س بحانه وتع الى‬
‫منزة عنها‪ ،‬فلعلك تظن أن ذلك نقصان في مع نى الرحم ة‪ ،‬ف اعلم أن ذل ك كم ال وليس‬
‫بنقصان في معنى الرحم ة‪ ،‬أم ا أن ه ليس بنقص ان فمن حيث أن كم ال الرحم ة بكم ال‬
‫ثمرته ا ومهم ا قض يت حاج ة المحت اج بكماله ا لم يكن للمرح وم ح ظ في ت ألم ال راحم‬
‫وتفجع ه‪ ،‬وإنم ا ت ألم ال راحم لض عف نفس ه ونقص انها وال يزي د ض عفها في غ رض‬
‫المحتاج شيئا بعد أن قضيت كمال حاجت ه‪ ،‬وأم ا أن ه كم ال في مع نى الرحم ة فه و أن‬
‫الرحيم عن رقة وتألم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرق ة عن نفس ه فيك ون ق د نظ ر لنفس ه‬
‫وسعى في غرض نفسه‪ ،‬وذل ك ينقص عن كم ال مع نى الرحم ة ب ل كم ال الرحم ة أن‬
‫(‪)1‬‬
‫يكون نظره إلى المرحوم ألجل المرحوم ال ألجل االستراحة من ألم الرقة)‬
‫هذا مثال عن منهج تعامل المنزه ة م ع الكم االت اإللهي ة‪ ..‬فهم ينزهونه ا من ك ل‬
‫النقائص التي تعتريها‪ ،‬والتي تجعل منها نقصا ال كماال‪ ،‬ومن هنا قال المتكلمون‪( :‬خ ذ‬
‫الغايات‪ ،‬واترك المبادئ)‪ ،‬فالرحمة له ا مب دأ‪ ،‬وه و الوص ف االنفع الي الخ اص ال ذي‬
‫يعرض على القلب‪ ،‬ولها منتهى وهو العطاء واإلفاضة‪ ،‬فإذا أطل ق ه ذا الوص ف على‬
‫هللا سبحانه أريد به غايته‪ ،‬ال مبدؤه‪.‬‬
‫ولهذا نبه اإلمام الصادق إلى عدم صحة جريان االنفعاالت على هللا تع الى مطلق ا‪،‬‬
‫ضاربا المثل على ذل ك بالغض ب‪ ،‬فق ال‪( :‬وأم ا الغض ب فه و من ا إذا غض بنا تغ يرت‬
‫طبايعنا‪ ،‬وترتعد مفاص لنا‪ ،‬وح الت ألوانن ا‪ ،‬ثم نجيء من بع د ذل ك بالعقوب ات‪ ،‬فس مي‬

‫‪1‬‬
‫المقصد األسنى (ص‪)63 :‬‬ ‫()‬

‫‪154‬‬
‫غضباً‪ ،‬فهذا كالم الناس المعروف‪ ،‬والغض ب ش يئان أح دهما في القلب‪ ،‬وأم ا المع نى‬
‫الذي هو في القلب فهو منفي عن هللا جل جالله‪ ،‬وكذلك رضاه وس خطه ورحمت ه على‬
‫(‪)1‬‬
‫هذه الصفة)‬
‫انطالقا من هذا فسر جميع المنزهة باختالف مدارس هم أس ماء هللا الحس نى ‪ ..‬فهي‬
‫كلها حسنى‪ ،‬وكلها في منتهى الكمال‪ ،‬وكلها في منتهى الجمال‪.‬‬
‫يقول الغزالي في بيان معنى اسم هللا الودود‪( :‬الودود‪ :‬هو الذي يحب الخير لجمي ع‬
‫الخلق‪ ،‬فيحسن إليهم‪ ،‬ويثني عليهم‪ ،‬وهو قريب من معنى الرحيم‪ ،‬لكن الرحم ة إض افة‬
‫إلى مرح وم‪ ،‬والمرح وم ه و المحت اج والمض طر‪ ،‬وأفع ال ال رحيم تس تدعي مرحوم ا‬
‫ضعيفا‪ ،‬وأفعال الودود ال تستدعي ذلك‪ ،‬بل اإلنعام على سبيل االبت داء من نت ائج ال ود‪،‬‬
‫وكما أن معنى رحمته سبحانه وتعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له‪ ،‬وهو منزه عن‬
‫رقة الرحمة‪ ،‬فكذلك وده إرادته الكرامة والنعمة وإحسانه وإنعامه‪ ،‬وهو منزه عن مي ل‬
‫المودة والرحمة‪ ،‬لكن المودة والرحمة ال تراد في حق المرحوم والمودود إال لثمرتهم ا‬
‫وفائدتهما‪ ،‬ال للرقة والميل‪ ،‬فالفائ دة هي لب اب الرحم ة والم ودة وروحهم ا‪ ،‬وذل ك ه و‬
‫المتص ور في ح ق هللا س بحانه وتع الى دون م ا ه و مق ارن لهم ا وغ ير مش روط في‬
‫(‪)2‬‬
‫اإلفادة)‬
‫لكن المدرسة الس لفية خ الفت األم ة جميع ا في ذل ك‪ ،‬ألن التجس يم والتش بيه ال ذي‬
‫صورت به هللا كان له تأثيره الكبير في تجسيمهم وتش بيههم ألفع ال هللا‪ ..‬وب ذلك ص ار‬
‫هللا عندهم جسما بذاته وأفعاله‪.‬‬
‫ولهذا مألوا كتبهم العقدية الخطيرة بإثبات الصفات الدال ة على عج ز هللا وافتق اره‬
‫وحاجته‪ ،‬فهم عند حديثهم عن كالم هللا تع الى ـ مثال ـ ال ي نزهون هللا عن الحاج ة إلى‬
‫الحرف والصوت‪ ..‬ألن الحرف والصوت حادث‪ ،‬وه و ـ علمي ا ـ عب ارة عن ذب ذبات‬
‫وموجات‪ ..‬وهو فوق ذلك ضعف وقصور‪ ..‬ألن من استطاع أن يوصل إليك م ا يري ده‬
‫من غير حاجة إلى حرف وصوت يكون أكمل من الذي يحتاج إليهما‪.‬‬
‫لكن السلفية شبهوا كالم هللا بكالم خلقه‪ ،‬فذكروا من أركانه الحرف والص وت‪ ،‬ب ل‬
‫والنطق والسكوت‪ ،‬بل ذكروا الفم‪ ،‬وكل ما يقتضيه الكالم من آالت‪ ..‬وأضافوا إلى ذلك‬
‫كل ه أن كف روا ك ل من ينك ر ذل ك‪ ،‬ورم وه ب التجهم والتعطي ل‪ ،‬وأن ه أكف ر من اليه ود‬
‫والنصارى‪.‬‬
‫وق د ألف وا في ذل ك الكتب الكث يرة‪ ،‬ب ل جعل وا ه ذه القض ية [قض ية كالم هللا] من‬
‫أمهات القضايا العقدية التي يصنف المؤمنون على أساسها ح تى أن المتوق ف اعت بروه‬
‫ضاال منحرفا‪.‬‬
‫ومن خالل البحث عن مصادرهم في ذلك نجد أنها كتب اليه ود ال تي تتمل ذ س لفهم‬
‫عليها‪ ،‬فكما أن اليهود تنسب الصوت إلى هللا تعالى‪ ،‬وتشبهه في ذل ك بخلق ه‪ ،‬كم ا ج اء‬

‫‪1‬‬
‫نور الثقلين‪.1/13 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫المقصد األسنى (ص‪)122 :‬‬ ‫()‬

‫‪155‬‬
‫في سفر التثنية (‪( :)5/26‬من جميع البشر الذي سمع صوت هللا)‪ ،‬نجد السلفية ـ بلس ان‬
‫ابن تيمية ـ يقولون‪( :‬وجمهور المسلمين يقولون إن الق رآن الع ربي كالم هللا‪ ،‬وق د تكلم‬
‫به بحرف وصوت)(‪ ،)1‬ويق ول ـ مفتريً ا على موس ى علي ه الس الم ـ‪( :‬إن موس ى لم ا‬
‫ك) (طه‪ )12:‬أسرع اإلجابة وتابع التلبية وم ا ك ان ذل ك‬ ‫نودي من الشجرة‪( :‬فَ ْ‬
‫اخلَ ْع نَ ْعلَ ْي َ‬
‫(‪)2‬‬ ‫ً‬
‫منه إال استئناسًا منه بالصوت وسكونا إليه وقال‪ :‬إني أسمع صوتك وأحسّ حسّك)‬
‫ب)‬‫ويقول محمد خليل هراس المعلق على ه ذا الكت اب إن مع نى ‪ِ (:‬م ْن َو َرا ِء ِح َج ا ٍ‬
‫(الشورى‪( )51 :‬يعني تكليما بال واسطة لكن من وراء حجاب فيسمع كالم ه وال ي رى‬
‫(‪)3‬‬
‫شخصه)‬
‫ويق ول‪( :‬يس معون ص وته ع ز وج ل ب الوحي قوي ا ل ه رنين وصلص لة ولكنهم ال‬
‫(‪)4‬‬
‫يميزونه‪ ،‬فإذا سمعوه صعقوا من عظمة الصوت وشدته)‬
‫وفي كتاب (األسماء والصفات) يقول ابن تيمية ـ في معرض ر ّده على الجهمية ـ‪:‬‬
‫(وحديث الزهري قال‪ :‬فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له ص ف لن ا كالم رب ك‪ ،‬ق ال‪:‬‬
‫(‪)5‬‬
‫سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حالوة سمعتموها؟ فكأنه مثله)‬
‫ويقول محمد بن صالح العثيمين‪( :‬في هذا إثبات الق ول هلل وأن ه بح رف وص وت‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫ألن أصل القول ال بد أن يكون بصوت فإذا أطلق القول فال بد أن يكون بصوت)‬
‫ب ل إنهم ال يكتف ون بوص ف هللا بالحاج ة واالفتق ار إلى الح رف والص وت عن د‬
‫الكالم‪ ،‬بل يذكرون أنه يحتاج كذلك إلى الفم واللس ان‪ ،‬فق د ق ال ابن تيمي ة في مع رض‬
‫الرد على الجهمية‪( :‬وحديث الزهري قال‪ :‬لما سمع موسى كالم ربه ق ال‪ :‬ي ا رب ه ذا‬
‫الذي سمعته هو كالمك؟ قال‪ :‬نعم يا موسى هو كالمي‪ ،‬وإنما كلمتك بق وة عش رة آالف‬
‫(‪)7‬‬
‫لسان)‬
‫ويق ول ال دارمي في رده على بش ر المريس ي عن هللا تع الى‪( :‬إن الكالم ال يق وم‬
‫(‪)8‬‬
‫بنفسه شيئا يرى ويحس إال بلسان متكلم به)‬
‫وقال في نفس الكتاب‪( :‬وهو يعلم األلسنة كلها‪ ،‬ويتكلم بما شاء منه ا‪ ،‬إن ش اء تكلم‬
‫(‪)9‬‬
‫بالعربية وإن شاء بالعبرية وإن شاء بالسريانية)‬
‫وقال في كتابه في (ال رد على الجهمي ة)‪( :‬ق ال كعب األحب ار‪ :‬لم ا كلم هللا موس ى‬

‫‪1‬‬
‫مجموع الفتاوى‪.5/556 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫شرح حديث النـزول‪ ،‬ص‪.220‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫حاشية كتاب التوحيد‪ ،‬البن خزيمة‪ ،‬ص ‪.137‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫حاشية (كتاب التوحيد)‪ ،‬ص ‪ ،137‬ص‪.146‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫األسماء والصفات‪ ،‬ص‪.73‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫فتاوى العقيدة‪ ،‬ص‪.72‬‬ ‫()‬
‫‪7‬‬
‫األسماء والصفات‪.)1/73( ،‬‬ ‫()‬
‫‪8‬‬
‫رد الدارمي على بشر المريسي‪( ،‬ص‪.)112‬‬ ‫()‬
‫‪9‬‬
‫رد الدارمي على المريسي‪ ،‬ص‪.123‬‬ ‫()‬

‫‪156‬‬
‫باأللسنة كلها قبل لسانه طفق موسى يقول‪ :‬أي رب ما أفقه هذا حتى كلّمه آخ ر األلس نة‬
‫بلسانه بمثل صوته يعني بمثل لس ان موس ى وبمث ل ص وت موس ى)‪ ،‬ثم يق ول‪( :‬فه ذه‬
‫األحاديث قد رويت وأكثر منها ما يشبهها كلها موافقة لكت اب هللا في اإليم ان بكالم هللا)‬
‫(‪)1‬‬

‫وقال أبو يعلى‪( :‬وكلَّ َم هللا موسى تكلي ًما من فيه – يعني من فم ه – وناول ه الت وراة‬
‫(‪)2‬‬
‫من يده إلى يده)‬
‫وهكذا قال كل أئمتهم بهذا‪ ،‬وهو نفس ما نج ده في كتب اليه ود‪ ،‬فق د ورد في س فر‬
‫أيوب (‪( :)6-37/2‬اسمعوا سماعًا رعد ص وته والرمذم ة الخارج ة من في ه تحت ك ل‬
‫السموات)‬
‫وليت السلفية اكتفوا بهذا‪ ،‬بل راحوا يعتبرون كل منكر لهذا جهمي ا معطال ك افرا‪..‬‬
‫وهم يستدلون ل ذلك بم ا رواه عب د هللا بن اإلم ام أحم د عن أبي ه حيث ق ال‪ :‬س ألت أبي‬
‫رحمه هللا قلت‪ :‬ما تقول في رجل قال‪ :‬التالوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن‬
‫كالم هللا عز وجل وليس بمخلوق؟ وما ترى في مجانبت ه؟ وه ل يس مى مبت دعا؟ فق ال‪:‬‬
‫(هذا يجانب وهو قول المبتدع‪ ،‬وهذا كالم الجهمية ليس القرآن بمخلوق‪ ،‬ق الت عائش ة‪:‬‬
‫ب﴾ [آل‬‫ات ه َُّن أُ ُّم ْال ِكتَ ا ِ‬ ‫ك ْال ِكت َ‬
‫َاب ِم ْنهُ آيَ ٌ‬
‫ات ُمحْ َك َم ٌ‬ ‫تال رسول هللا ‪﴿ :‬ه َُو الَّ ِذي أَ ْن َز َل َعلَ ْي َ‬
‫(‪)3‬‬
‫عمران‪ ،]7 :‬فالقرآن ليس بمخلوق)‬
‫وقال‪( :‬ح دثني ابن ش بويه‪ ،‬س معت أبي يق ول‪( :‬من ق ال ش يء من هللا ع ز وج ل‬
‫مخلوق علمه أو كالمه فهو زنديق كافر ال يصلى عليه‪ ،‬وال يصلى خلف ه ويجع ل مال ه‬
‫كمال المرتد ويذهب في مال المرتد إلى مذهب أهل المدينة أنه في بيت الم ال)‪ ،‬س ألت‬
‫أبي رحمه هللا قلت‪ :‬إن قوما يقولون‪ :‬لفظنا بالقرآن مخلوق‪ ،‬فقال‪( :‬هم جهمية وهم أشر‬
‫(‪)4‬‬
‫ممن يقف‪ ،‬هذا قول جهم‪ ،‬وعظم األمر عنده في هذا‪ ،‬وقال‪ :‬هذا كالم جهم)‬
‫هذا نموذج عن موقفهم من المنزهة‪ ،‬والذين يعت برونهم به ذا كف ارا‪ ،‬وهم يطبق ون‬
‫هذا على كل األمة بمذاهبها المختلفة‪ ..‬وحتى أعالمه ا الكب ار لم ينج وا منهم‪ ..‬ب ل إنهم‬
‫يعتبرون مجرد السكوت أو التوقف عن التكفير كفرا‪.‬‬
‫وق د ذك ر ابن س حمان في كش ف األوه ام مواق ف أعالم الس لفية من تكف ير من لم‬
‫يكفر الكافر‪ ،‬فقال ـ ذاكرا سؤاال ط ويال وج ه لبعض مش ايخهم وج وابهم علي ه ـ‪( :‬م ا‬
‫يقول الشيخ ابن الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد ال رحمن في أن اس تن ازعوا فق ال‬
‫بعضهم الجهمية كفار والذي ما يكفرهم ك افر واس تدلوا على ذل ك بق ول بعض العلم اء‬
‫من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم فهو كافر‪ ،‬وقال اآلخرون أم ا ق ولكم الجهمي ة‬
‫كفار فهذا حق إن شاء هللا ونحن نقول بذلك وهو ق ول جمه ور العلم اء من أه ل الس نة‬
‫‪1‬‬
‫الرد على الجهمية‪( ،‬ص‪)81‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫طبقات الحنابلة) ألبي يعلى (‪)1/32‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫السنة لعبد هللا بن أحمد (‪)164 /1‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫السنة لعبد هللا بن أحمد (‪)164 /1‬‬ ‫()‬

‫‪157‬‬
‫والجماعة كما ذكر ذلك الشيخ عبد ال رحمن بن حس ن رحم ه هللا في كتاب ه فتح المجي د‬
‫شرح كتاب التوحيد في الكالم على أول باب من جحد شيئا من األسماء والصفات وكما‬
‫ذك ره الش يخ عب د ال رحمن بن حس ن أيض ا في جواب ه على ش بهة الجهمي ابن كم ال‬
‫المذكور في مجموعة التوحيد وكما ذكره ابن القيم رحم ه هللا في كتاب ه الكافي ة الش افية‬
‫بقوله‬
‫(ولقد تقلد كفرهم خمسون في ‪ ...‬عشر من العلماء في البلدان)‬
‫(‪)1‬‬
‫وأما قولكم‪ :‬والذي ما يكفرهم كافر فهذا باطل مردود)‬
‫وكان جوابه أن قال‪( :‬الجواب أن يقال‪ :‬أوال هذه دعوى كاذبة خاطئة فإن ه لم ينق ل‬
‫عن أحد من العلماء المذكورين أو غيرهم عدم تكف ير الجهمي ة البت ة‪ ،‬وال أص ل ل ه في‬
‫كالم أح د من العلم اء إال م ا يحكى عن طائف ة من أه ل الب دع أنهم لم يحكم وا بكف ر‬
‫المقلدين من جهال الكفار الذين هم أتباعهم وحم يرهم ال ذين معهم تب ع ولم يحكم وا لهم‬
‫بالن ار وجعل وهم بمنزل ة من لم تبلغ ه ال دعوة‪ ،‬وه ذا م ذهب لم يق ل ب ه أح د من أئم ة‬
‫المسلمين ال الصحابة وال التابعون وال من بعدهم‪ ،‬وقد اتفقت األمة على أن هذه الطبق ة‬
‫كفار وإن كانوا جه اال مقل دين لرؤس ائهم وأئمتهم‪ ،‬ويق ال نعم ق د ق ال اإلم ام أحم د في‬
‫عقيدته لما ذكر أن من ق ال بخل ق الق رآن فه و جهمي ك افر ق ال‪ :‬ومن لم يكف ر ه ؤالء‬
‫القوم فهو مثلهم‪ ،‬وقال أب و زرع ة‪ :‬من زعم أن الق رآن مخل وق فه و ك افر باهلل العظيم‬
‫كف را ينق ل عن المل ة ومن ش ك في كف ره ممن يفهم وال يجه ل فه و ك افر ‪ ..‬ولم ينق ل‬
‫الخالف إال في نوع من الجهال المقلدين وهم الذين تمكن وا من اله دى والعلم باألس باب‬
‫ال تي يق درون به ا على طلب ه ومعرفت ه لكن أعرض وا وأخل دوا إلى أرض الجهال ة‬
‫وأحسنوا الظن بمن قلدوه واستسهلوا التقليد وهؤالء توقف ابن القيم عن وصفهم ب الكفر‬
‫وعن وصفهم باإلسالم في الكافية الشافية وجزم في الطبقات أنه ال عذر لهم عن د هللا ثم‬
‫إن جمي ع من ص نف في الس نة من أه ل الس نة والجماع ة ي ردون فيه ا على ه ؤالء‬
‫المالحدة الزنادقة الضالل ويبينون ضاللهم وكفرهم وابتداعهم ولم نسمع أن أح دا منهم‬
‫اعت ذر عن ه ؤالء الجهمي ة وق ال إنهم مس لمون الن بعض أه ل العلم لم يكف روهم وال‬
‫(‪)2‬‬
‫اعتذر عن أحد من أهل األهواء والبدع)‬
‫وهكذا لو طبقنا هذه الفتوى الوهابية السلفية لحكمنا على األمة جميعا بالكفر‪ ،‬سواء‬
‫كانوا منزهة أو متوقفة أو معت دلين أو متط رفين‪ ..‬فيس تحيل أن يوج د س لفي م نزه‪ ،‬أو‬
‫سلفي معتدل إال إذا كان في منصب حساس يحتاج فيه إلى ممارسة التقية‪.‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬سنحاول هنا أن نذكر نماذج عن بعض صفات أفع ال هللا كم ا ينص‬
‫عليها السلفية‪ ،‬أو كما يمكن قراءته ا من كتبهم‪ ،‬م ع ذك ر مروي اتهم‪ ،‬وم دى خطورته ا‬
‫على العقيدة التنزيهية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كشف األوهام واإللتباس عن تشبيه بعض األغبياء من الناس (ص‪)24 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫كشف األوهام واإللتباس عن تشبيه بعض األغبياء من الناس (ص‪.)66 :‬‬ ‫()‬

‫‪158‬‬
‫الضحك والعجب‪:‬‬
‫ال يعتبر الس لفية االنفع االت من العجب والض حك ونحوها نقص ا‪ ،‬ب ل يعتبرونه ا‬
‫كم اال‪ ،‬ول ذلك ن راهم يتنافس ون في إثب ات مختل ف أن واع االنفع االت هلل‪ ،‬ب ل ن راهم‬
‫يصورونها تصويرا تشبيهيا تجسيميا محضا‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ورد في (الرسالة األكملية) البن تيمية‪ ،‬حيث ق ال‪( :‬وق ول القائ ل‪ :‬إن‬
‫الض حك خف ة روح‪ ،‬ليس بص حيح‪ ،‬وإن ك ان ذل ك ق د يقارن ه‪ ..‬ثم ق ول القائ ل‪( :‬خف ة‬
‫ال روح) إن أراد ب ه وص فًا م ذمو ًما فه ذا يك ون لم ا ال ينبغي أن يض حك من ه‪ ،‬وإال‬
‫يض َحك‬ ‫فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال‪ ،‬وإذا قدر حيان؛ أح دهما‪ْ :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫مما يُضْ َحك منه‪ ،‬واآلخر‪ :‬ال يضحك قط‪ ،‬كان األول أكمل من الثاني)‬
‫وبهذا المنطق ح اول ابن تيمي ة أن يثبت ض حك هللا‪ ،‬ب ل وجمي ع االنفع االت ال تي‬
‫تجري على اإلنسان‪.‬‬
‫َ‬
‫ومن الروايات التي أوردها في ذل ك‪( :‬ينظ ر إليكم ال رب قنِ ِطين‪ ،‬فيظ ل يض حك‪،‬‬
‫يعلم أن فَ َر َج ُكم قريب)‪ ،‬فقال له أبو َر ِزين ال ُعقَ ْيلِي‪ :‬يا رس ول هللا‪ ،‬أو يض حك ال رب؟ !‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬لن نعدم من رب يضحك خيرًا)‬
‫وقد علق ابن تيمية على الرواي ة بقول ه‪( :‬فجع ل األع رابي العاق ل بص حة فطرت ه‬
‫ض حكه دليالً على إحس انه وإنعام ه؛ ف دل على أن ه ذا الوص ف مق رون باإلحس ان‬
‫المحمود‪ ،‬وأنه من صفات الكمال‪ ،‬والشخص ال َعبُوس الذي ال يض حك ف ط ه و م ذموم‬
‫(‪)2‬‬
‫بذلك‪ ،‬وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه ﴿يَوْ ًما َعبُوسًا قَ ْمطَ ِريرًا﴾ [اإلنسان‪)]10 :‬‬
‫ولنتصور مبلغ ذلك التشويه لرحمة هللا تعالى التي شملت كل شيء‪ ،‬وكيف حوله ا‬
‫السلفية إلى نوع من السخرية‪ ،‬فالرواي ة ال تي أعجب به ا ابن تيمي ة‪ ،‬تص ور هللا‪ ،‬وه و‬
‫يضحك على معاناة خلقه واكتئابهم؟‪ ..‬وهي صورة تدل على تأثر من صورها بص ورة‬
‫أولئك الملوك الجبارين الظلمة الذين ركن لهم السلفية وأحبوهم‪ ،‬وب اعوا ك ل ش يء من‬
‫أجلهم‪.‬‬
‫ومم ا أورده ابن تيمي ة من األدل ة على م ا يس ميه ص فة الض حك هلل تع الى قول ه‪:‬‬
‫(واإلنسان حيوان ناطق ضاحك‪ ،‬وما يميز اإلنس ان عن البهيم ة ص فة كم ال‪ ،‬فكم ا أن‬
‫النطق صفة كم ال‪ ،‬فك ذلك الض حك ص فة كم ال‪ ،‬فمن يتكلم أكم ل ممن ال يتكلم‪ ،‬ومن‬
‫يضحك أكمل ممن ال يضحك‪ ،‬وإذا كان الض حك فين ا مس تلز ًما لش ىء من النقص فاهلل‬
‫م نزه عن ذل ك‪ ،‬وذل ك األك ثر مختص ال ع ام‪ ،‬فليس حقيق ة الض حك مطلقً ا مقرون ة‬
‫بالنقص‪ ،‬كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص‪ ،‬ووجودنا مق رون ب النقص‪ ،‬وال يل زم‬
‫(‪)3‬‬
‫أن يكون الرب موجدًا وأال تكون له ذات)‬
‫ولو طبقنا هذا المقياس الذي ذكره ابن تيمي ة على هللا‪ ،‬لس وينا هللا بعب اده‪ ،‬ولجعلن ا‬
‫‪1‬‬
‫الرسالة األكملية في ما يجب هلل من صفات الكمال (ص‪)55 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الرسالة األكملية في ما يجب هلل من صفات الكمال (ص‪)55 :‬‬ ‫()‬

‫‪159‬‬
‫كماالتنا الوهمية كماالت له‪.‬‬
‫وما ذكره ابن تيمية هو نفس م ا ذك ره المتق دمون والمت أخرون من الس لفية ال ذين‬
‫اعتبروا ضحك هللا صفة من صفاته‪ ،‬يقول ابن خزيمة‪( :‬باب‪ :‬ذكر إثب ات ض حك ربن ا‬
‫ض ِح ُكه بض حك المخل وقين‪،‬‬ ‫َع َّز وجلَّ‪ :‬بال صف ٍة تصفُ ضحكه ج َّل ثناؤه‪ ،‬ال وال يشبَّه َ‬
‫وضحكهم كذلك‪ ،‬بل نؤمن بأنه يضحك ؛ كما أعلم النبي ‪ ،‬ونسكت عن صفة ضحكه‬
‫ج َّل وعال‪ ،‬إذ هللا َع َّز وج َّل استأثر بص فة ض حكه‪ ،‬لم يطلعن ا على ذل ك ؛ فنحن ق ائلون‬
‫مص دِّقون ب ذلك‪ ،‬بقلوبن ا منص تون ع َّما لم ي بين لن ا مم ا اس تأثر هللا‬ ‫بما قال النبي ‪َ ،‬‬
‫بعلمه)(‪. ) )1‬‬
‫وقال أبو بكر اآلجري‪( :‬باب اإليمان بأن هللا َع َّز وج َّل يضحك‪ :‬اعلموا ‪ -‬وفقن ا هللا‬
‫أن أهل الحق يصفون هللا َع َّز وج َّل بم ا وص ف ب ه‬ ‫وإياكم للرشاد من القول والعمل ‪َّ -‬‬
‫نفسه َع َّز وجلَّ‪ ،‬وبما وصفه به رسوله ‪ ،‬وبما وصفه به الصحابة رض ي هللا عنهم ‪.‬‬
‫وهذا مذهب العلماء ِم َّمن اتّبع ولم يبتدع‪ ،‬وال يقال فيه‪ :‬كيف؟ بل التس ليم ل ه‪ ،‬واإليم ان‬
‫أن هللا َع َّز وج َّل يضحك‪ ،‬كذا روي عن النبي ‪ ‬وعن صحابته ؛ فال ينكر هذا إال‬ ‫به ؛ َّ‬
‫(‪)2‬‬
‫من ال يحمد حاله عند أهل الحق)‬
‫الس نَّة‬
‫وهك ذا ق الوا في الص فة ال تي نس بوها هلل [ص فة العجب]‪ ،‬فق د ق ال ق َّوام ُّ‬
‫ْجبُ ‪( :‬وق ال ق وم‪ :‬ال يوص ف هللا بأن ه‬ ‫األصبهاني‪( :‬وق ال ق وم‪ :‬ال يوص ف هللا بأن ه يَع َ‬
‫يَ ْع َجبُ ؛ ألن ال َع َجب م َّمن يعلم م ا لم يكن يعلم‪ ،‬واحتج مثبت ه ذه الص فة بالح ديث‪،‬‬
‫ْت َويَ ْس َخرُونَ ‪ ‬؛ على أنه إخب ار من هللا َع َّز وج َّل عن‬ ‫وبقراءة أهل الكوفة‪ :‬بَلْ َع ِجب ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫نفسه)‬
‫ب ربن ا من بعض م ا يص نع عب اده مم ا‬ ‫وقــال ابن أبي عـاصم‪( :‬ب اب‪ :‬في تَ َعجُّ ِ‬
‫يتق رب ب ه إلي ه‪ ..‬ألن ال َع َجب م َّمن يعلم م ا لم يكن يعلم‪ ،‬واحتج مثبت ه ذه الص فة‬
‫ْت َويَ ْس خَ رُونَ ﴾ ؛ على أن ه إخب ار من هللا َع َّز‬ ‫بالحديث‪ ،‬وبقراءة أهل الكوفة‪ ﴿ :‬بَلْ َع ِجب ُ‬
‫(‪)4‬‬
‫وج َّل عن نفسه)‬
‫وهكذا قالوا في الصفة التي سموها صفة [البشبشة]‪ ،‬فقد رووا فيه ا ح ديثا عن أبي‬
‫أن النبي ‪ ‬قال‪( :‬ما توطن رجل مسلم المساجد للصالة والذكر ؛ إال تبش بش‬ ‫هريرة؛ َّ‬
‫(‪)5‬‬
‫هللا له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)‬
‫قال أبو يعلى الفراء عند ذك ره إلثب ات ص فة الف رح هلل تع الى‪( :‬وك ذلك الق ول في‬

‫‪3‬‬
‫الرسالة األكملية في ما يجب هلل من صفات الكمال (ص‪.)56 :‬‬ ‫()‬
‫‪1‬‬
‫التوحيد‪.)2/563( ،‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الشريعة‪( ،‬ص ‪)277‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫الحجة‪.2/457 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الحجة‪.2/457 :‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫() ابن ماجه (صحيح سنن ابن ماجه‪ .)652/‬وأحمد (‪ .)8332‬والطيالسي (‪ .)2334‬والحاكم (‪ .)1/213‬ابن خزيمة (‬
‫‪ .)1503‬وابن قتيبة في (غريب الحديث) (‪)1/160‬‬

‫‪160‬‬
‫البشبشة؛ ألن معناه يقارب معنى الفرح‪ ،‬والع رب تق ول‪ :‬رأيت لفالن بشاش ة وهشاش ة‬
‫وفرحاً‪ ،‬ويقولون‪ :‬فالن هش بش فرح‪ ،‬إذا كان منطلق اً‪ ،‬فيج وز إطالق ذل ك كم ا ج از‬
‫(‪)1‬‬
‫إطالق الفرح)‬
‫أن بعض أص حاب المريس ي ق ال ل ه‪ :‬كي ف تص نع به ذه‬ ‫وقال ال دارمي‪( :‬وبلغن ا َّ‬
‫األسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في رد مذاهبنا مما ال يمكن التكذيب به ا ؛ مث ل‪:‬‬
‫س فيان عن منص ور عن الزه ري‪ ،‬والزه ري عن س الم‪ ،‬وأي وب بن ع وف عن ابن‬
‫س يرين‪ ،‬وعم رو بن دين ار عن ج ابر عن الن بي ‪ .. ‬وم ا أش بهها؟))‪ .‬ق ال‪(( :‬فق ال‬
‫المريسي‪ :‬ال تردوه تفتضحوا‪ ،‬ولكن ؛ غالطوهم بالتأويل ؛ فتكونوا قد رددتموها بلطف‬
‫؛ إذ لم يمكنكم ردها بعنف ؛ كما فعل هذا المعارض سواء‪ ..‬وسننقل بعض ما روي في‬
‫هذه األبواب من الحب والبغض والسخط والكراهية وما أشبهه ‪( ..‬ثم ذك ر أح اديث في‬
‫ص فة الحب ثم البغض ثم الس خط ثم الك ره ثم العجب ثم الف رح‪ ،‬ثم ح ديث أبي هري رة‬
‫السابق في البشاشة‪ ،‬ثم قال) وفي هذه األبواب روايات كث يرة أك ثر مم ا ذك ر‪ ،‬لم ن أت‬
‫(‪)2‬‬
‫بها مخافة التطويل)‬
‫وهكذا قالوا فيما يسمونها صفة [الفرح]‪ ،‬وال تي رووا فيه ا ح ديثا عن أبي هري رة‬
‫وغيره يرفع ه إلى رس ول هللا‪ ،‬ج اء في ه‪( :‬هلل أف رح بتوب ة عبـده)‪ ،‬وفي رواي ة‪( :‬أش د‬
‫ً (‪)3‬‬
‫فرحـا)‬
‫وقد قال ابن القيم ساخرا من الذي أولوا هذا الحديث من ب اب تنزي ه هللا تع الى عن‬
‫االنفعاالت الدالة على القصور والعجز‪( :‬وأيض ا ً فق د ثبت عن الن بى ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬هللُ‬
‫أَش ُّد فرحا ً بتوبة عبده من أحدكم ضل راحلته)‪ ،‬قالوا‪ :‬وه ذا أعظم م ا يك ون من الف رح‬
‫وأكمله‪ ،‬فإن صاحب هذه الراحلة ك ان عليه ا م ادة حيات ه من الطع ام والش راب‪ ،‬وهى‬
‫مركبه الذى يقطع به مسافة س فره‪ ،‬فل و عدم ه النقط ع فى طريق ه فكي ف إذا ع دم م ع‬
‫مركبه طعامه وشرابه‪ ..‬فأَى فرحة تعدل فرحة هذا؟ ول و ك ان فى الوج ود ف رح أعظم‬
‫من هذا لمثل به النبى ‪ ،‬ومع هذا فف رح هللا بتوب ة عب ده إذ ت اب إلي ه أعظم من ف رح‬
‫هذا براحلته‪ ،‬وتحت ه ذا س ر عظيم يختص هللا بفهم ه من يش ا ُء‪ ،‬ف إِن كنت ممن غل ظ‬
‫حجاب ه وكثفت نفس ه وطباع ه‪ ،‬فعلي ك ب وادى الخف ا‪ ،‬وه و وادى المح رّفين للكلم عن‬
‫مواضعه‪ ،‬الواض عين ل ه على غ ير الم راد من ه‪ ،‬فه و واد ق د س لكه خل ق وتفرق وا فى‬
‫شعابه وطرقه ومتاهاته ولم تستقر لهم فيه قدم وال لج ؤوا من ه إلى ركن وثي ق‪ ،‬ب ل هم‬
‫(‪)4‬‬
‫كحاطب الليل وحاطم السيل)‬
‫وهكذا أصبح م نزه هللا ـ في معي ار الس لفيين ـ محرف ا‪ ،‬وأص بح المجس م معظم ا‬
‫ومنزها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫إبطال التأويالت‪.1/243 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الرد على بشر المريسي‪ ،‬ص ‪.200‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫البخاري (‪ 6308‬و ‪ ،)6309‬ومسلم (‪.)4933 -4927‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص‪.)234 :‬‬ ‫()‬

‫‪161‬‬
‫ومثله قال الشيخ محمد خليل الهرَّاس عند شرحه للحديث الس ابق‪ ،‬فق د ق ال‪( :‬وفي‬
‫ه ذا الح ديث إثب ات ص فة الف رح هلل َع َّز وج لَّ‪ ،‬والكالم في ه ك الكالم في غ يره من‬
‫الصفات ؛ أنه ص فة حقيقي ة هلل َع َّز وج لَّ‪ ،‬على م ا يلي ق ب ه‪ ،‬وه و من ص فات الفع ل‬
‫ث‬‫التابعة لمشيئته تعالى وقدرته‪ ،‬فيحْ دُث له هذا المعنى المعبَّر عنه ب الفرح عن دما يُح ِد ُ‬
‫عب ُدهُ التوبةَ واإلنابَةَ إليه‪ ،‬وهو مستلز ٌم لرضاه عن عبده التائب‪ ،‬وقبوله توبته‪ ،‬وإذا كان‬
‫الفرح في المخلوق على أنواع ؛ فقد يكون فرح خفة وسرور وط رب وق د يك ون ف رح‬
‫وبطر ؛ فاهلل َع َّز وج َّل ُمنَ َّزه عن ذلك كله‪ ،‬ففرحهُ ال يشبه ف رح أح د من خلق ه ؛ ال‬
‫ٍ‬ ‫أشر‬
‫في ذاته‪ ،‬وال في أسبابه‪ ،‬وال في غاياته ؛ فسببه كم ال رحمت ه وإحس انه ال تي يحب من‬
‫عباده أن يتعرَّضوا لها‪ ،‬وغايته إتمام نعمته على التائبين المني بين‪ ،‬وأم ا تفس ير الف رح‬
‫ي وتعطي ٌل لفرح ه‬ ‫بالزمه‪ ،‬وهو الرضى‪ ،‬وتفسير الرضى بإرادة الثواب ؛ فكل ذل ك نف ُ‬
‫ورضاه سبحانه‪ ،‬أوجبه سو ُء ظنِّ هؤالء المعطِّلة بربهم‪ ،‬حيث توهَّموا أن هذه المع اني‬
‫(‪)1‬‬
‫تكون فيه كما هي في المخلوق‪ ،‬تعالى هللا عن تشبيههم وتعطيلهم)‬
‫اللهو واللعب‪:‬‬
‫عندما مطالعة الكثير من الروايات ال تي يحكيه ا الس لفية عن س لفهم‪ ،‬أو يرفعونه ا‬
‫إلى رسول هللا ‪ ‬نجد العبثية في أكمل ص ورها‪ ،‬فهم يص ورون هللا الب ديع ال ذي أتقن‬
‫ك ل ش يء خلق ه‪ ،‬والحكيم ال ذي ال منتهى لحكمت ه‪ ،‬بص ورة الالهي الالعب ال ذي‬
‫يتصرف تصرفات ال داللة لها‪ ،‬وال حاجة إليها‪.‬‬
‫﴿واأْل َرْ ضُ َج ِمي ًع ا قَب َ‬
‫ْض تُهُ يَ وْ َم‬ ‫ومن األمثلة على ذل ك م ا فس روا ب ه قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫ْالقِيَا َم ِة ﴾ [الزمر‪ ،]67 :‬فقد أوردوا في تفسيرها من تص رفات هللا ‪ -‬بحس بهم ‪ -‬م ا يمأل‬
‫بالعجب‪..‬‬
‫فقد تحولت اآلية الكريمة ـ بسبب تحريفاتهم ـ من آي ة ت بين عظم ة هللا وقدوس يته‪،‬‬
‫إلى مشاهد ساخرة عابثة إلله متج بر متس لط‪ ،‬وك أنهم ال يتح دثون عن إل ه‪ ،‬وإنم ا عن‬
‫ملك من ملوك زمانهم‪.‬‬
‫فمن أق وال ابن تيمي ة في تفس ير اآلي ة الكريم ة‪( :‬والح ديث م روي فى الص حيح‬
‫والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعض ها بعض ا وفى بعض ألفاظ ه ق ال‪ :‬ق رأ ‪ ‬على‬
‫ضتُهُ يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة ﴾ [الزمر‪ ،]67 :‬ثم ق ال‪( :‬مطوي ة فى كف ه‬ ‫﴿واأْل َرْ ضُ َج ِميعًا قَ ْب َ‬
‫المنبر‪َ :‬‬
‫يرمى به ا كم ا ي رمى الغالم ب الكرة)‪ ..‬وفى لف ظ (يأخ ذ الجب ار س مواته وأرض ه بي ده‬
‫فيجعلها فى كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة‪ :‬أنا هللا الواحد)‪ ،‬وقال ابن‬
‫(‪)2‬‬
‫عباس‪ :‬يقبض هللا عليهما‪ ،‬فما ترى طرفاهما بيده)‬
‫ومن األمثلة الخطيرة التي ذكرها‪ ،‬وه و ال يقص د به ا إال التش بيه المحض‪ ،‬قول ه‪:‬‬
‫(وفي لف ظ ق ال‪ :‬رأيت رس ول هللا ‪ ‬على المن بر وه و يق ول‪( :‬يأخ ذ الجب ار س مواته‬
‫‪1‬‬
‫() شرح العقيدة الواسطية (ص ‪.)166‬‬
‫‪ )(2‬الرسالة العرشية (ص‪)18 :‬‬

‫‪162‬‬
‫وأرض ه‪ ،‬وقبض بي ده وجع ل يقبض ها ويبس طها ويق ول‪ :‬أن ا ال رحمن‪ ،‬أن ا المل ك‪ ،‬أن ا‬
‫القدوس‪ ،‬أنا السالم‪ ،‬أنا المؤمن‪ ،‬أنا المهيمن‪ ،‬أنا العزي ز‪ ،‬أن ا الجب ار‪ ،‬أن ا المتك بر‪ ،‬أن ا‬
‫(‪)1‬‬
‫الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا‪ ،‬أنا الذي أعدتها‪ ،‬أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟)‬
‫وروى أبو الشيخ في العظمة هذه الرواية‪( :‬يطوي هللا ع ز وج ل الس موات الس بع‬
‫بما فيهن من الخالئق واألرضين بما فيهن من الخالئق يطوي كل ذلك بيمين ه فال ُي رى‬
‫من عند اإلبهام شيء وال يرى من عند الخنصر شيء فيكون ذل ك كل ه في كف ه بمنزل ة‬
‫(‪)2‬‬
‫خردلة)‬
‫وقد علق ابن القيم على أمثال هذه الروايات بقوله‪( :‬إذا ك انت الس موات الس بع في‬
‫يده كالخردلة في يد أحدنا‪ ،‬واألرضون السبع في يده األخرى ك ذلك فكي ف يق دره ح ق‬
‫قدره من أنكر أن يكون له يدان فضالً عن أن يقبض بهما شيئاً‪ ،‬فال يد عند المعطلة وال‬
‫قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز ال حقيقة له‪ ،‬وللجهمية والمعطل ة من ه ذا ال ذم أوف ر‬
‫(‪)3‬‬
‫نصيب)‬
‫الحاجة واالفتقار‪:‬‬
‫وهي من الص فات ال تي يخ رج به ا من ق رأ العقائ د الس لفية من مص ادرها‪ ،‬فاهلل‬
‫عندهم يفتقر إلى الوسائل واألدوات ليحقق حاجاته ومطالب ه‪ ،‬ب ل يفتق ر إلى ال دار ال تي‬
‫يسكن فيها‪ ،‬والعرش الذي يقعد عليه‪ ..‬وقد رأينا في هذا الفص ل م ا ذك روه من احتي اج‬
‫هللا إلى الفم واللسان ليتكلم‪ ..‬وذكرنا في فصل س ابق م ا ذك روه من احتي اج هللا للعي نين‬
‫ليرى‪ ،‬والدار ليسكن‪ ،‬والعرش ليقعد‪.‬‬
‫وهك ذا ن رى ذك رهم لحاجت ه إلى ال رجلين ليتنق ل‪ ،‬فمن ص فات هللا عن دهم ص فة‬
‫[المش ي والهرول ة]‪ ،‬وق د س ئلت اللجن ة الدائم ة للبح وث العلمي ة واإلفت اء ح ول ه ذه‬
‫الصفة‪ ،‬فأجابت‪( :‬نعم صفة الهرول ة على نح و م ا ج اء في الح ديث القدس ي الش ريف‬
‫على ما يليق به قال تعالى‪( :‬إذا تقرب إلي العبد شبراً تقربت إليه ذراعا ً وإذا تق رب إلي‬
‫(‪)4‬‬
‫ذراعا ً تقربت منه باعا ً وإذا أتاني ماشيا ً أتيته هرولة ) رواه‪ :‬البخاري ومسلم)‬
‫وقد أثبتها كل السلفية المعاصرين من أمثال عب دالرزاق عفيفي وابن ع ثيمين وابن‬
‫غديان وابن قعود وغيره‪.‬‬
‫فقد سئل ابن عثيمين عن عن صفة الهرولة‪ ،‬فأجاب بقوله‪( :‬صفة الهرولة ثابت ة هلل‬
‫تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم‪ ،‬ف ذكر الح ديث وفي ه‪( :‬وإن‬
‫أتاني يمش ي أتيت ه هرول ة)‪ ،‬وه ذه الهرول ة ص فة من ص فات أفعال ه ال تي يجب علين ا‬
‫اإليمان بها من غير تكييف وال تمثيل‪ ،‬ألنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه ف وجب‬
‫‪1‬‬
‫الرسالة العرشية (ص‪)17 :‬‬ ‫()‬
‫‪ )(2‬العظمة ‪)136(2/445‬‬
‫‪ )(3‬الصواعق المرسلة ‪4/1364‬‬
‫‪4‬‬
‫فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء (‪.)3/142‬‬ ‫()‬

‫‪163‬‬
‫(‪)1‬‬
‫علينا قبولها بدون تكييف)‬
‫وق ال محم د ناص ر ال دين األلب اني‪( :‬لكن الهرول ة‪ ،‬الهرول ة ك المجيء وال نزول‬
‫صفات ليس يوجد عن دنا م ا ينفيه ا إذا خصص ناها باهلل ع ز وج ل؛ ألن ه ذه الص فات‬
‫(‪)2‬‬
‫ليست صفة نقص حتى نبادر رأسا ً إلى نفيها‪)....‬‬
‫وهك ذا ن رى حاج ة هللا في مث ل ه ذه الرواي ة الغريب ة ال تي يش حنون به ا كتب‬
‫عقائدهم‪ ،‬ويعت برون المنك ر أو الم ؤول له ا جهمي ا معطال‪ ،‬فق د رووا عن أبي هري رة‬
‫قال‪( :‬لما أراد هللا أن يخلق آدم‪ ،‬بعث ملكا من المالئكة من حملة الع رش إلى األرض‪،‬‬
‫فلما أهوى ليأخذ منها‪ ،‬قالت له األرض‪ :‬أسألك بالذي أرسلك أال تأخذ م ني الي وم ش يئا‬
‫يكون للنار فيه نصيب غدا‪ ،‬قال‪ :‬فتركها‪ ،‬فلما رجع إلى ربه ق ال‪ :‬م ا منع ك أن ت أتيني‬
‫بما أمرتك به‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب سألتني بك أال آخذ منها شيئا يكون للنار غ دا من ه نص يب‪،‬‬
‫فأعظمت أن أرد شيئا سألني ب ك‪ ،‬ق ال‪ :‬ثم أرس ل آخ ر من حمل ة الع رش‪ ،‬فلم ا أه وى‬
‫ليأخذ منها قالت له األرض‪ :‬أسألت بالذي أرسلك أال تأخذ مني الي وم ش يئا يك ون للن ار‬
‫فيه نصيب‪ ،‬قال‪ :‬فتركها‪ ،‬فلما رجع إلى ربه قال‪ :‬م ا منع ك أن ت أتيني بم ا أمرت ك ب ه‪،‬‬
‫قال‪ :‬يا رب سألتني بك أال آخذ منها شيئا يكون للنار فيه نصيب غدا‪ ،‬ف أعظمت أن أرد‬
‫شيئا سألني بك‪ ،‬قال‪ :‬ثم أرسل آخر من حملة العرش فلما أه وى ليأخ ذ منه ا‪ ،‬ق الت ل ه‬
‫مثل ما قالت لألول فتركها‪ ،‬ثم رج ع إلى رب ه‪ ،‬فق ال مث ل م ا ق ال األول‪ ،‬ح تى أرس ل‬
‫حملة العرش كلهم‪ ،‬كل ذلك تقول لهم مثل ذلك‪ ،‬فيرجعون إلى ربهم فيقولون مثل ذلك‪،‬‬
‫حتى أرسل ملك الموت‪ ،‬فلما أهوى ليأخذ منها قالت له األرض أسألك بالذي أرسلك أن‬
‫ال تأخذ مني اليوم شيئا يكون للنار فيه نصيب غدا‪ ،‬فقال ملك الموت‪ :‬إن ال ذي أرس لني‬
‫(‪)3‬‬
‫إليك أحق بالطاعة منك)‬
‫وه ذه الرواي ة ال ت بين فق ط افتق ار هللا وحاجت ه إلى أن يخ بره المالك بحقيق ة م ا‬
‫حصل‪ ،‬وإنما تتناقض مع ما أخبر هللا تعالى عن ه من طاع ة المالئك ة المطلق ة هلل‪ ،‬كم ا‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬علَ ْيهَا َماَل ئِ َكةٌ ِغاَل ظٌ ِشدَا ٌد اَل يَ ْعصُونَ هَّللا َ َما أَ َم َرهُ ْم َويَ ْف َعلُ ونَ َم ا يُ ْؤ َمرُونَ ﴾‬
‫[التحريم‪]6 :‬‬
‫وهي تذكرنا بتلك الرواية المشهورة التي أقام السلفية ال دنيا ألجله ا‪ ،‬ولم يقع دوها‪،‬‬
‫وهي ما رووه عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا إلى النبي ‪ ،‬أن ه ق ال‪ ( :‬أرس ل مل ك‬
‫الموت إلى موس ى علي ه الس الم‪ ،‬فلم ا ج اءه ص َّكه ففق أ عين ه‪ ،‬فرج ع إلى رب ه فق ال‪:‬‬
‫أرسلتني إلى عبد ال يريد الموت‪ ،‬قال‪ :‬فرد هللا إلي ه عين ه وق ال‪ :‬ارج ع إلي ه‪ ،‬فق ل ل ه‪:‬‬
‫يضع يده على متن ثور‪ ،‬فله بما غطت يده بكل شعرة سنة‪ ،‬قال‪ :‬أي ربِّ ثم م ه ؟ ق ال‪:‬‬
‫ثم الم وت‪ ،‬ق ال‪ :‬ف اآلن‪ ،‬فس أل هللا أن يدني ه من األرض المقدس ة رمي ة بحج ر‪ ،‬فق ال‬
‫(‪)4‬‬
‫رسول هللا ‪ ‬فلو كنت ثَ َّم ألريتكم قبره إلى جانب الطريق‪ ،‬تحت الكثيب األحمر)‬
‫‪1‬‬
‫فتاوى ابن عثيمين ‪-‬العقيدة‪.1/380-‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫() سلسلة الهدى والنور شريط رقم (‪.)756/1‬‬
‫‪ )(3‬أورده الذهبي في العلو‪ :‬ص ‪.86‬‬
‫‪4‬‬
‫البخاري (‪ ،)1339‬ومسلم (‪ .)157( )2372‬وابن أبي عاص م في الس نة (‪ )599‬عن س لمة بن ش بيب‪ ،‬والنس ائي‬ ‫()‬

‫‪164‬‬
‫ومن الروايات التي يروونها في كتبهم العقائدية‪ ،‬وال تي ي بينون من خالله ا حاج ة‬
‫هللا وافتقاره للمالئكة ليخبروه بأخبار ما يحصل في كونه‪ ،‬ما رووه عن ابن مسعود أن ه‬
‫قال‪( :‬إن ربكم ليس عنده ليل وال نهار‪ .‬نور الس موات من ن ور وجه ه وإن مق دار ك ل‬
‫يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة‪ ،‬فتعرض عليه أعمالكم باألمس أول النهار‪ ،‬اليوم‬
‫فينظر فيها ثالث ساعات فيطلع فيها على ما يكره‪ ،‬فيغيظه ذلك‪ ،‬فأول من يعلم بغض به‬
‫الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم‪ ،‬فيس بحه ال ذين يحمل ون الع رش وس رادقات‬
‫(‪)1‬‬
‫العرش والمالئكة المقربون وسائر المالئكة)‬
‫فهذا الحديث يبين افتقار هللا إلى ثالث ساعات كاملة ليراجع فيها تصرفات عب اده‪،‬‬
‫وبعد أن يحصل له الغضب الشديد يفتقر إلى تسبيح المالئكة ليهدأ‪.‬‬
‫بربكم ـ أيها السلفيون ـ هل هذه صفات إله أم صفات ملك من ملوككم‪ ،‬أو أمير من‬
‫أمرائكم الذين تسبحون بحمدهم؟‬
‫ومن الروايات القريبة من هذا ما رووه عن خيثمة‪ ،‬قال‪( :‬كان ملك الموت ص ديقا‬
‫لسليمان بن داود‪ ،‬قال‪ :‬فأتاه ذات يوم‪ ،‬فقال‪ :‬يا ملك الموت مالك‪ ،‬تأتي أهل الدار فتأخ ذ‬
‫أهلها كلهم‪ ،‬وتدع الدار إلى جنبهم ال تأخذ منهم أحدا؟ قال‪ :‬ما أنا بأعلم بذلك منك‪ ،‬إنم ا‬
‫(‪)2‬‬
‫أكون تحت العرش فيلقى إلي صكاكا فيها أسماء)‬
‫ص ِر﴾ [القم ر‪ ]50 :‬إال أن‬‫ح بِ ْالبَ َ‬ ‫﴿و َما أَ ْم ُرنَا إِاَّل َو ِ‬
‫اح َدةٌ َكلَ ْم ٍ‬ ‫ومع أن هللا تعالى يقول‪َ :‬‬
‫السلفية يذكرون خالف ذلك‪ ،‬فقد رووا عن عبد هللا بن عب اس عن رج ال من األنص ار‬
‫أنهم ك انوا عن د رس ول هللا ‪ ‬إذ رمي بنجم فاس تنار‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪( :‬م ا كنتم‬
‫تقولون لمثل هذا في الجاهلية؟) قال‪ :‬كنا نق ول ول د الليل ة رج ل عظيم‪ ،‬أو م ات رج ل‬
‫عظيم‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬إنه ال يرمى بها لموت أحد وال لحياته‪ ،‬ولكن ربنا‪ -‬تبارك‬
‫وتعالى‪ -‬إذا قضى في الس ماء أم را‪ ،‬س بحته حمل ة الع رش‪ ،‬ثم س بحته مالئك ة الس ماء‬
‫الذين يلون حملة العرش‪ ،‬ثم سبحته أهل السماء الثانية‪ ،‬حتى ينتهي التسبيح إلى الس ماء‬
‫الدنيا‪ ،‬ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش‪ :‬ماذا ق ال ربكم‪ ،‬فيخ برونهم‪ ،‬ثم‬
‫يس تخبر أه ل الس ماء أه ل الس موات بعض هم بعض ا ح تى ينتهي الخ بر إلى الس ماء‪،‬‬
‫وتخطف الجن السمع‪ ،‬فما جاؤا به على وجهه فهو حق‪ ،‬ولكنهم يفرقون فيه ويزي دون)‬
‫(‪.)3‬‬
‫ومن الروايات القريبة من هذا ما رووه عن ابن عباس قال‪( :‬لما أهبط هللا آدم ك ان‬
‫رأسه في السماء ورجاله في األرض‪ ،‬فوضع هللا يده على رأسه فطأطأه س بعين باع ا‪،‬‬
‫قال‪ :‬يا رب ما لي ال أس مع ص وت مالئكت ك وال أوجس هم‪ ،‬فق ال هللا‪ :‬خطيئت ك ي ا آدم‪،‬‬
‫ولكن اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني حوله كم ا رأيت المالئك ة يص نعون ح ول‬

‫‪.4/118‬‬
‫‪1‬‬
‫() الطبراني في الكبير‪ ،‬حديث ‪ ،200 /9 ،8886‬ونقض اإلمام أبي سعيد على المريسي (‪)476 /1‬‬
‫‪ )(2‬أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف‪ ،)13/205( :‬وأحمد في الزهد‪ :‬ص ‪ .41‬وأبو نعيم في الحلية‪)4/119( :‬‬
‫‪ )(3‬مس لم (‪ ،)225 /14‬والترم ذي (‪ ،362 /5‬ح ديث ‪ ،)2324‬واإلم ام أحم د ( ‪ ،)1/218‬وال دارمي في ال رد على‬
‫الجهمية‪ :‬ص ‪.78‬‬

‫‪165‬‬
‫عرشي‪ ،‬قال ابن عباس فأقبل آدم يتخطى األرض‪ ،‬فموضع ك ل ق دم قري ة وم ا بينهم ا‬
‫(‪)1‬‬
‫مفازة‪ ،‬حتى وضع البيت)‬
‫ومن الرواي ات المرتبط ة به ذا‪ ،‬م ا رووه في تفس ير آي ة ال دين عن ابن عن ابن‬
‫عباس قال‪ :‬لما نزلت آية ال دين ق ال رس ول هللا ‪( :‬إن أول من جح د آدم‪ ،‬ان هللا لم ا‬
‫خلق آدم ومسح ظهره‪ ،‬فأخرج منه ما هو ذاري إلى يوم القيامة‪ ،‬فجعل يع رض ذريت ه‬
‫عليه‪ ،‬فرأى فيهم رجال يزهر‪ ،‬قال‪ :‬أي رب من هذا؟ قال‪ :‬هذا ابنك داود‪ ،‬قال‪ :‬أي رب‬
‫كم عم ره؟ ق ال‪ :‬س تون عام ا‪ ،‬ق ال‪ :‬أي رب زد في عم ره‪ ،‬ق ال‪ :‬ال إال أن أزي ده من‬
‫عمرك‪ ،‬وك ان عم ر آدم أل ف ع امن ف زاده أربعين عام ا‪ .‬فكتب هللا علي ه ب ذلك كتاب ا‪،‬‬
‫وأشهد عليه المالئكة‪ ،‬فلما احتضر آدم اتته المالئكة لقبضه قال إن ه ق د بقي من عم ري‬
‫أربع ون عام ا‪ .‬فقي ل ل ه‪ :‬إن ك ق د وهبته ا البن ك داود‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬ما فعلت‪ ،‬وأبرز هللا عليه الكتاب وشهدت عليه المالئكة)‬
‫وخطورة هذه القصة ال تقف عن هذا الش ويه الخط ير آلدم الن بي الخليف ة‪ ،‬وال ذي‬
‫تصوره القصة‪ ،‬وكأن مدة ألف سنة كاملة صحبة هللا ووحي ه لم تك ف لتربيت ه وتعليم ه‬
‫الوفاء‪.‬‬
‫وإنما خطورته ا بع د ذل ك في تل ك المح اورات بين آدم علي ه الس الم وهللا تع الى‪،‬‬
‫والتي يظهر فيها افتقار هللا إلى الكتاب واإلشهاد ليقيم الحجة على نبي من أنبيائه الكرام‬
‫الذين أسجد لهم مالئكته‪.‬‬
‫الجور والظلم‪:‬‬
‫مع ورود النصوص القطعية الكثيرة المخبرة عن عدل هللا‪ ،‬ومثلها النصوص التي‬
‫ْس بِظَاَّل ٍم لِ ْل َعبِي ِد﴾‬
‫ت أَ ْي ِدي ُك ْم َوأَ َّن هَّللا َ لَي َ‬
‫تنفي الظلم عن هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬ذلِكَ بِ َم ا قَ َّد َم ْ‬
‫(آل عمران‪ ،)182:‬وقال‪َ ﴿:‬و َما هَّللا ُ ي ُِري ُد ظُ ْلم ا ً لِ ْل ِعبَ ا ِد﴾ (غ افر‪ ،)31 :‬وق ال‪َ ﴿:‬م ْن َع ِم َل‬
‫صالِحا ً فَلِنَ ْف ِس ِه َو َم ْن أَ َسا َء فَ َعلَ ْيهَا َو َما َربُّكَ بِظَاَّل ٍم لِ ْل َعبِي ِد﴾ (فصلت‪ ،)46:‬وقال‪ ﴿:‬إِ َّن هَّللا َ ال‬ ‫َ‬
‫ظلِ ُم ونَ ﴾ (ي ونس‪ ،)44:‬وق ال‪ ﴿:‬إِ َّن هَّللا َ ال يَ ْ‬
‫ظلِ ُم‬ ‫اس أَ ْنفُ َس هُ ْم يَ ْ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫َ ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫ْئ‬
‫ي‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫اس‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫يَ ِ ُ‬
‫ل‬ ‫ظ‬
‫َظيم اً﴾ (النس اء‪ ،)40:‬وق ال‪:‬‬ ‫ت ِم ْن لَ ُد ْنهُ أَجْ راً ع ِ‬ ‫ضا ِع ْفهَا َوي ُْؤ ِ‬ ‫ك َح َسنَةً يُ َ‬ ‫ال َذ َّر ٍة َوإِ ْن تَ ُ‬ ‫ِم ْثقَ َ‬
‫َض ماً﴾ (طـه‪،)112:‬‬ ‫ت َوهُ َو ُم ْؤ ِم ٌن فَال يَخَ افُ ظُ ْلم ا ً َوال ه ْ‬ ‫الص الِ َحا ِ‬ ‫َّ‬ ‫﴿ َو َم ْن يَ ْع َم لْ ِمنَ‬
‫والهضم أن ينقص من جزاء حس ناته‪ ،‬والظلم أن يع اقب ب ذنوب غ يره‪ ،‬وكالهم ا مم ا‬
‫يتنافى مع العدل‪.‬‬
‫إال أننا نجد كتب العقيدة السلفية تتناقض مع هذه العقائ د تمام ا‪ ،‬فهم يحش ون كتبهم‬
‫بروايات كث يرة تص ور هللا بص ور ال تلي ق بمن ب نى ه ذا الك ون العظيم بمنتهى الدق ة‬
‫والعدالة والتنظيم‪.‬‬

‫أورده الذهبي في العلو‪ :‬ص ‪ .90‬والطبري في تفسيره‪ ،)546 /1( :‬ابن إسحاق في المغازي‪ :‬ص ‪.72‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫‪2‬‬
‫() الطيالس ي (‪ .)2692‬وابن س عد ‪ ،29-1/28‬وابن أبي ش يبة ‪ 13/60‬و‪ ،14/118‬وابن أبي عاص م في "الس نة" (‬
‫‪ .)204‬وأبو يعلى (‪ .)2710‬والطبراني (‪)12928‬‬

‫‪166‬‬
‫وإلثبات ذلك سنسوق بعض رواياتهم في هذا المجال‪ ،‬وال تي نج دها ع ادة في ك ل‬
‫الكتب التي يسمونها كتب سنة‪ ،‬ويعتبرون المعارض لها جهميا معطال كافرا‪ ،‬وس نترك‬
‫التعليق عليها لعقل القارئ‪ ،‬ليكتشف الحقيقة من دون تدخل من أي طرف خارجي‪.‬‬
‫ولتيسير األمر على القارئ‪ ،‬فقد اخترنا كتابا مشهورا لديهم‪ ،‬يسمى [كتاب القدر]‪،‬‬
‫ألبي بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن ال ُم ْستَفاض الفِرْ يابِي (المتوفى‪301 :‬هـ)‪ ،‬وه و‬
‫من سلفهم المتقدمين الذين ال يزالون لهم كل الوالء واالح ترام‪ ،‬وق د ق ال في ه بعض هم‪،‬‬
‫وه و أب و الفض ل الزه ري‪( :‬لم ا س معت من الفري ابي ك ان في مجلس ه من أص حاب‬
‫المحابر‪ ،‬من يكتب حدود عش رة آالف إنس ان‪ ،‬م ا بقي منهم غ يري‪ ،‬ه ذا س وى من ال‬
‫(‪)1‬‬
‫يكتب)‬
‫وطبعا ما ذكر الزهري هو جزء بسيط ممن تتملذوا عليه بعد ذلك‪ ..‬فكت اب الرج ل‬
‫محقق ومطبوع‪ ،‬ومنشور على النت‪ ،‬ويتتلمذ على يديه اآلن مئات اآلالف من أصحاب‬
‫الحواسيب والهواتف الذكية‪ ..‬باإلضافة إلى األجي ال الورقي ة الكث يرة ال تي س بقت ه ذا‬
‫الجيل اإللكتروني‪.‬‬
‫ومن تلك األحاديث التي أوردها في الكتاب بط رق متع ددة‪ ،‬ونج د أمثاله ا في ك ل‬
‫كتب السلفية‪ ،‬ما رواه عن هشام بن حكيم‪ ،‬أن رجال أتى رسول هللا ‪ ‬فقال‪ :‬يا رس ول‬
‫هللا‪ ،‬أنبتدأ األعمال أم قضي القضاء؟‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬إن هللا عز وجل أخذ ذري ة‬
‫آدم من ظه ره‪ ،‬وأش هدهم على أنفس هم‪ ،‬ثم أف اض بهم في كفي ه‪ ،‬فق ال‪ :‬ه ؤالء للجن ة‬
‫وهؤالء للنار‪ ،‬فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة‪ ،‬وأهل الن ار ميس رون لعم ل أه ل‬
‫(‪)2‬‬
‫النار)‬
‫﴿وإِ ْذ أَخَ َذ َربُّكَ ِم ْن بَنِي‬
‫ومن الروايات الواردة فيه أن أن عمر سئل عن هذه اآلي ة‪َ :‬‬
‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُوا بَلَى َش ِه ْدنَا أَ ْن تَقُولُ وا‬
‫ُور ِه ْم ُذرِّ يَّتَهُ ْم َوأَ ْشهَ َدهُ ْم َعلَى أَ ْنفُ ِس ِه ْم أَلَس ُ‬
‫آ َد َم ِم ْن ظُه ِ‬
‫يَوْ َم ْالقِيَا َم ِة إِنَّا ُكنَّا ع َْن هَ َذا َغ افِلِينَ ﴾ [األع راف‪ ،]172 :‬فق ال‪ :‬س معت رس ول هللا ‪‬‬
‫يس أل عنه ا‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪( :‬إن هللا تع الى خل ق آدم‪ ،‬فمس ح ظه ره بيمين ه‪،‬‬
‫فاستخرج ذرية‪ ،‬فقال‪ :‬خلقت هؤالء للجنة‪ ،‬وبعمل أهل الجنة يعملون‪ ،‬ثم مس ح ظه ره‪،‬‬
‫فاستخرج منه ذرية‪ ،‬فقال‪ :‬خلقت هؤالء للنار‪ ،‬وبعمل أهل النار يعملون)‪ ،‬فق ال رج ل‪:‬‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬ففيم العمل؟‪ ،‬فقال رسول هللا ‪( :‬إن هللا عز وجل إذا خل ق العب د للجن ة‬
‫استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة‪ ،‬فيدخله به الجنة‪ ،‬وإذا خل ق‬
‫العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت‪ ،‬وهو على عمل أه ل الن ار فيدخل ه في‬
‫(‪)3‬‬
‫النار)‬
‫وروى عن أبي ال درداء عن الن بي ‪ ‬أن ه ق ال‪( :‬خل ق هللا تع الى آدم حين خلق ه‪،‬‬
‫فضرب كفه اليمنى‪ ،‬ف أخرج من ه ذري ة بيض اء‪ ،‬ك أنهم ال ذر‪ ،‬وض رب كف ه اليس رى‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪.)7 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫تفسير الطبري‪ :‬جـ‪ .244/13‬والقدر للفريابي (ص‪)44 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪)47 :‬‬ ‫()‬

‫‪167‬‬
‫فأخرج ذرية سوداء‪ ،‬كأنهم الحمم‪ ،‬فقال للذين في يمين ه‪ :‬للجن ة وال أب الي‪ ،‬وق ال لل ذين‬
‫(‪)1‬‬
‫في يساره‪ :‬إلى النار وال أبالي)‬
‫وروى عن عبد هللا بن عمرو قال‪ :‬خ رج علين ا رس ول هللا ‪ ،‬وفي ي ده كتاب ان‪،‬‬
‫فقال‪( :‬أتدرون ما هذان الكتابان؟)‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال يا رس ول هللا‪ ،‬إال أن تخبرن ا‪ ،‬فق ال لل ذي‬
‫في يده اليمنى‪( :‬هذا كتاب من رب الع المين‪ ،‬في ه أس ماء أه ل الجن ة‪ ،‬وأس ماء آب ائهم‪،‬‬
‫وقبائلهم‪ ،‬ثم أجمل على آخرهم‪ ،‬فال يزاد فيهم‪ ،‬وال ينقص منهم)‪ ،‬وقال للذي في شماله‪:‬‬
‫(هذا كتاب من أهل النار بأسمائهم‪ ،‬وأسماء آبائهم‪ ،‬وقبائلهم‪ ،‬ثم أجم ل على آخ رهم فال‬
‫يزاد فيهم‪ ،‬وال ينقص منهم أبدا)‪ ،‬فقال أصحابه‪ :‬ففيم العمل يا رسول هللا إن كان أمر قد‬
‫فرغ منه؟‪ ،‬فقال‪( :‬سددوا وقاربوا‪ ،‬فإن صاحب الجن ة يختم ل ه بعم ل أه ل الجن ة‪ ،‬وإن‬
‫عمل أي عمل‪ ،‬وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار‪ ،‬وإن عمل أي عمل)‪ ،‬ثم قال‬
‫ير﴾‬ ‫ق فِي َّ‬
‫الس ِع ِ‬ ‫ق فِي ْال َجنَّ ِة َوفَ ِري ٌ‬
‫بيديه فنب ذهما‪ ،‬ثم ق ال‪( :‬ف رغ ربكم من العب اد)‪﴿ ،‬فَ ِري ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫[الشورى‪)]7 :‬‬
‫وروى عن عائشة أنها قالت‪ :‬دعي رسول هللا ‪ ‬إلى جنازة صبي‪ ،‬يص لي علي ه‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬طوبى لهذا‪ ،‬عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء‪ ،‬ولم ي در‬
‫به‪ ،‬فقال‪( :‬أو غير ذلك يا عائشة؟ إن هللا عز وجل خلق للجن ة أهال‪ ،،‬وخلقهم له ا‪ ،‬وهم‬
‫(‪)3‬‬
‫في أصالب آبائهم‪ ،‬وخلق للنار أهال‪ ،‬وخلقهم لها‪ ،‬وهم في أصالب آبائهم)‬
‫ورووا عن عن عب د هللا بن الح ارث ق ال‪ :‬خطبن ا عم ر بن الخط اب بالجابي ة‪،‬‬
‫والجاثليق(‪ )4‬ماثل بين يديه‪ ،‬والترجمان يترجم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬من يه د هللا فال مض ل ل ه‪،‬‬
‫ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬فقال الج اثليق‪ :‬إن هللا تع الى ال يض ل أح دا‪ ،‬ومن يض لل فال‬
‫هادي له‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ما تقول؟ فقال الترجمان‪ :‬ال ش يء‪ ،‬ثم ع اد في خطبت ه‪ ،‬فلم ا بل غ‬
‫من يهد هللا فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬قال الجاثليق‪ :‬إن هللا تعالى ال يض ل‬
‫أحدا‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ما تقول؟ فأخبره‪ ،‬فق ال‪ :‬ك ذبت ي ا ع دو هللا‪ ،‬ول وال ولت(‪ )5‬عه د ل ك‬
‫لضربت عنقك‪ ،‬بل هللا خلقك‪ ،‬وهللا أض لك‪ ،‬ثم يميت ك‪ ،‬ثم ي دخلك الن ار إن ش اء هللا‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬إن هللا عز وجل لما خلق آدم عليه الصالة والسالم‪ ،‬نثر ذريته‪ ،‬فكتب أه ل الجن ة‪،‬‬
‫وما هم عاملون‪ ،‬وأهل النار‪ ،‬وما هم عاملون‪ ،‬ثم قال‪ :‬هؤالء لهذه‪ ،‬وهؤالء له ذه‪ .‬وق د‬
‫(‪)6‬‬
‫كان الناس تذاكروا القدر‪ ،‬فافترق الناس‪ ،‬وما ينكره أحد)‬
‫وروى عن عبد هللا بن عمرو قال‪ :‬قال رسول هللا ‪( :‬إن هللا عز وجل خلق خلقه‬

‫‪1‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪)52 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪)57 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪)58 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫لقب عظيم عظماء النصارى‪ ،‬كما عند ابن وهب في كتاب‪ :‬القدر‪.23 :‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫ولت معناها النقصان‪ ،‬فالمعنى لوال نقصان عهد لك‪ ،‬انظر‪ :‬النهاية البن األثير‪ :‬جـ ‪.223/5‬‬ ‫()‬
‫‪6‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪)65 :‬‬ ‫()‬

‫‪168‬‬
‫(‪)1‬‬
‫في ظلمة‪ ،‬فألقى عليهم من نوره‪ ،‬فمن أصابه اهتدى‪ ،‬ومن أخطأه ضل)‬
‫وروى عن ابن عب اس ق ال‪( :‬إن هللا ع ز وج ل ض رب منكب ه األيمن ‪-‬أي آدم‪-‬‬
‫فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية‪ ،‬فقال‪ :‬هؤالء أهل الجنة‪ ،‬ثم ض رب منكب ه‬
‫األيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء‪ ،‬فقال‪ :‬هؤالء أهل النار‪ ،‬ثم أخ ذ عه دهم‬
‫على اإليمان به‪ ،‬والمعرفة له‪ ،‬وألمره‪ ،‬والتصديق به‪ ،‬وبأمره‪ ،‬بني آدم كلهم‪ ،‬وأشهدهم‬
‫(‪)2‬‬
‫على أنفسهم‪ :‬آمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا)‬
‫وقد أقر كل السلفية هذه األحاديث ومن ذلك ما قاله ابن تيمية في حديث النور‪ ،‬فق د‬
‫قال فيه‪_ :‬النص في كتاب هللا وسنة رسوله قد سمى هللا نور الس ماوات واألرض‪ ،‬وق د‬
‫أن هللا نور‪ ،‬وأخبر أيضا ً أنه يحتجب بالنور ؛ فهذه ثالث ة أن وار في النص‪،‬‬ ‫أخبر النص َّ‬
‫وقد تقدم ذكر األول‪ ،‬وأ َّما الثاني ؛ فهو في قولـه‪َ ﴿ :‬وأَ ْش َرقَ ِ‬
‫ت األرْ ضُ بِنُ ِ‬
‫ور َربِّهَا﴾ وفي‬
‫ور ِه﴾‪ ،‬وفيما رواه مس لم في ص حيحه عن عب د هللا بن عم رو ؛ ق ال‪ :‬ق ال‬ ‫قولـه‪َ ﴿ :‬مثَ ُل نُ ِ‬
‫(إن هللا خل ق خلق ه في ظلم ة‪ ،‬وألقى عليهم من ن وره‪ ،‬فمن أص ابه من‬ ‫رس ول هللا ‪َّ :‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ذلك النور ؛ اهتدى‪ ،‬ومن أخطأه ؛ ضلَّ)‬
‫المكر والخداع‪:‬‬
‫وهي من الصفات التي يعتبرها السلفية‪ ،‬وال يكاد يخلو كتاب من كتبها من ذكرها‪،‬‬
‫ويعتبرون المؤول لها جهميا معطال‪.‬‬
‫إن تس مية ذل ك‬ ‫أن ذكر آيات في صفة (الكي د) و(المك ر)‪( :‬قي ل‪َّ :‬‬ ‫قال ابن القيم بعد َّ‬
‫﴿و َج َزا ُء َس يِّئَ ٍة‬‫مكراً وكيداً واستهزا ًء وخداعا ً من باب االستعارة ومجاز المقابلة؛ نحو‪َ :‬‬
‫َسيِّئَةٌ ِم ْثلُهَا﴾ [الشورى‪ ،]40 :‬ونحو قولـه‪ ﴿ :‬فَ َم ِن ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم فَا ْعتَ دُوا َعلَ ْي ِه بِ ِم ْث ِل َم ا‬
‫ا ْعتَدَى َعلَ ْي ُك ْم﴾ [البقرة‪ ،]194 :‬وقيل ‪-‬وهو أصوب‪ :-‬بل تسميته بذلك حقيقة على بابه ؛‬
‫(‪)4‬‬
‫فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي‪ ،‬وكذلك الكيد والمخادعة ‪) ..‬‬ ‫َّ‬
‫أن األول ص واب‪،‬‬ ‫وقد علق بعضهم على قولهم (وهو أصوب)‪ ،‬فق ال‪( :‬ق د ي وهم َّ‬
‫أن القول األول باطل مخالف لطريقة السلف في الصفات‪ ،‬وانظر كالمه رحم ه‬ ‫والحق َّ‬
‫(‪)5‬‬
‫هللا في (مختصر الصواعق المرسلة)‬
‫وقال الشيخ عبد العزيز بن ب ار معقب ا ً على الحاف ظ ابن حج ر لَ َّما ت أ َّول ص فةً من‬
‫صفات هللا‪( :‬هذا خطأ ال يليق من الش ارح‪ ،‬والص واب إثب ات وص ف هللا ب ذلك حقيق ة‬
‫على الوجه الالئق به سبحانه كسائر الصفات‪ ،‬وهو سبحانه يجازي العامل بمثل عمل ه‪،‬‬
‫فمن مكر ؛ مكر هللا به‪ ،‬ومن خادع ؛ خادعه‪ ،‬وهكذا من أوعى ؛ أوعى هللا عليه‪ ،‬وه ذا‬
‫‪1‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪)68 :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫القدر للفريابي (ص‪)68 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫مجموع الفتاوى‪)6/386( :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫إعالم الموقعين‪.)3/229( :‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫() مختصر الصواعق المرسلة‪.34-2/33 :‬‬

‫‪169‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قول أهل السنة والجماعة ؛ فالزمه ؛ تفز بالنجاة والسالمة‪ ،‬وهللا الموفق)‬
‫وس ئل الش يخ الع ثيمين‪ :‬ه ل يوص ف هللا بالخيان ة والخ داع كم ا ق ال هللا تع الى‪:‬‬
‫﴿يُخَا ِد ُعونَ هللاَ َوه َُو خَا ِد ُعهُ ْم﴾ فأجاب بقولـه‪( :‬أم ا الخيان ة ؛ فال يوص ف هللا به ا أب داً ؛‬
‫ألنها ذم بكل حال ؛ إذ إنه ا مك ر في موض ع اإلئتم ان‪ ،‬وه و م ذموم ؛ ق ال هللا تع الى‪:‬‬
‫ك فَقَ ْد خَانُوا هللاَ ِم ْن قَ ْب ُل فَأ َ ْم َكنَ ِم ْنهُ ْم ﴾ [األنفال‪ ،]71 :‬ولم يقل‪ :‬فخانهم‬ ‫﴿ َوإِ ْن ي ُِريدُوا ِخيَانَتَ َ‬
‫ً‬
‫‪ .‬وأما الخداع ؛ فهو كالمكر‪ ،‬يوصف هللا تعالى ب ه حين يك ون م دحا‪ ،‬وال يوص ف ب ه‬
‫على س بيل اإلطــالق ؛ ق ال هللا تع الى‪﴿ :‬إِ َّن ْال ُمنَ افِقِينَ يُخَ ا ِد ُعونَ هللاَ َوهُ َو خَا ِد ُعهُـ ْم﴾‬
‫(‪)2‬‬
‫[النساء‪)]142 :‬‬
‫احلَ ةُ َو ا ْل ِم َح ا ُل]‪ ،‬ويس تدلون‬ ‫ومن الصفات المرتبطة بهذا ما يسمونها صفة [ا ْل ُم َم َ‬
‫ال﴾ [الرعد ‪ ،]13:‬وال تي تع ني‬ ‫لها بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وهُ ْم يُ َجا ِدلُونَ فِي هَّللا ِ َوه َُو َش ِدي ُد ْال ِم َح ِ‬
‫كما فسرها علماء اللغة‪ :‬شديد الكيد وال َم ْكر(‪.)3‬‬
‫ق ال الش يخ زي د بن في اض‪( :‬وفي ه ذه اآلي ات إثب ات وص ف هللا ب ال َم ْكر والكي د‬
‫وال ُم َماحلة‪ ،‬وهذه صفات فعلية تثبت هلل كما يليق بجالله وعظمت ه‪ ،‬قولـه‪َ ﴿ :‬وهُ َو َش ِدي ُد‬
‫(‪)4‬‬
‫ْال ِم َحا ِل﴾؛ أي‪ :‬األخذ بشدة وقوة‪ ،‬وال ِم َحال وال ُم َماحلة المماكرة والمغالبة)‬
‫السخرية واالستهزاء‪:‬‬
‫وهي من الصفات التي يعتبرها السلفية‪ ،‬وال يكاد يخلو كتاب من كتبها من ذكرها‪،‬‬
‫ويعتبرون المؤول لها جهميا معطال‪.‬‬
‫﴿وإِ َذا‬
‫ومن أقوالهم في إثباتها ما ذكره ابن جري ر الط بري في تفس ير قول ه تع الى‪َ :‬‬
‫لَقُوا الَّ ِذينَ آ َمنُوا قَالُوا آ َمنَّا َوإِ َذا خَ لَوْ ا إِلَى َشيَ ِ‬
‫اطينِ ِه ْم قَالُوا إِنَّا َم َع ُك ْم إِنَّ َما نَحْ نُ ُم ْستَه ِْزئُونَ (‬
‫ئ بِ ِه ْم َويَ ُم ُّدهُ ْم فِي طُ ْغيَانِ ِه ْم يَ ْع َمهُ ونَ ﴾ [البق رة‪ ]15 ،14 :‬بع د أن ذك ر‬ ‫‪ )14‬هَّللا ُ يَ ْستَه ِْز ُ‬
‫االختالف في كونه ا ص فة أم ال‪( :‬والص واب في ذل ك من الق ول والتأوي ل عن دنا‪َّ :‬‬
‫أن‬
‫المستهزيء للمستَهْزَ أ به من القول والفعل م ا‬ ‫ِ‬ ‫معنى االستهزاء في كالم العرب‪ :‬إظهار‬
‫يرضيه ظاهراً‪ ،‬وهو بذلك من قِيِله وفعلِه به مورثه مساءة باطناً‪ ،‬وكذلك معنى الخ داع‬
‫أن ق ول هللا تع الى ذك ره (هللاُ يَ ْس تَه ِْز ُ‬
‫ئ بِ ِه ْم)‬ ‫والسخرية والمكر ‪ ..‬وأما ال ذين زعمـوا َّ‬
‫إنما هو على وجه الجواب‪ ،‬وأنه لم يكن من هللا استهزاء وال مكر وال خديع ة ؛ فن افون‬
‫وج َّل لنفسه وأوجبه لها‪ ،‬وس وا ٌء ق ال قائ ل‪ :‬لم يكن‬ ‫عن هللا َع َّز و َج َّل ما قد أثبته هللا َع َّز َ‬
‫من هللا ج ل ذك ره اس تهزاء وال مك ر وال خديع ة وال س خرية بمن أخ بر أن ه يس تهزئ‬
‫ويسخر ويمكر به‪ ،‬أو قال‪ :‬لم يخسف هللا بمن أخبر أن ه خس ف ب ه من األمم ولم يغ رق‬
‫إن هللا ج ل ثن اؤه أخبرن ا أن ه مك ر بق وم‬ ‫من أخبر أنه أغرقه منهم‪ ،‬ويق ال لقائ ل ذل ك‪َّ :‬‬
‫‪1‬‬
‫الفتح‪.)3/300( :‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫المجموع الثمين‪.2/66 :‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫تهذيب اللغة‪..5/95 :‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية‪ ،‬ص ‪.114‬‬ ‫()‬

‫‪170‬‬
‫مضوا قبلنا لم نرهم‪ ،‬وأخبرنا عن آخ رين أن ه خس ف بهم‪ ،‬وعن آخ رين أن ه أغ رقهم‪،‬‬
‫فصدقنا هللا تعالى فيما ذك ره فيم ا أخبرن ا ب ه من ذل ك‪ ،‬ولم نف رق بين ش يء من ه؛ فم ا‬
‫برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أن ه أغرق ه‬
‫(‪)1‬‬
‫وخسف به‪ ،‬ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟!)‬
‫وقال ابن تيمية‪ :‬في رده على المنزهة الذين يؤولون هذه المع اني بحس ب أس اليب‬
‫اللغة العربية من الكناية والمج از ونحوهم ا‪( :‬وك ذلك م ا ادع وا أن ه مج از في الق رآن‬
‫كلفظ (المكر) و(االستهزاء) و (السخرية) المضاف إلى هللا‪ ،‬وزعموا أن ه مس مى باس م‬
‫ما يقابله على طريق المجاز‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬ب ل مس ميات ه ذه األس ماء إذا فعلت بمن ال‬
‫يستحق العقوبة ؛ كانت ظلما ً له‪ ،‬وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمث ل‬
‫فعله ؛ كانت عدالً ‪ ..‬ولهذا كان االستهزاء بهم فعالً يستحق هذا االس م ؛ كم ا روى عن‬
‫ابن عباس ؛ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار‪ ،‬فيسرعون إلي ه‪ ،‬فيغل ق‪ ،‬ثم يفتح‬
‫(‪)2‬‬
‫لهم باب آخر‪ ،‬فيسرعون إليه‪ ،‬فيغلق‪ ،‬فيضحك منهم المؤمنون)‬
‫الملل والسآمة‪:‬‬
‫وهم ا ص فتان يص رح أعالم الس لفية بكونهم ا من ص فات هللا تع الى‪ ،‬فاهلل عن دهم‬
‫يمل‪ ،‬ويسأم‪ ،‬لورود النص بهما‪.‬‬
‫وهم مع إقرارهم بكون الملل يعني الضجر إال أنهم ال ينفونه عن هللا‪ ،‬فقد ق الوا في‬
‫تفسير قول ه ‪( :‬عليكم بم ا تطيق ون‪ ،‬فوهللا ؛ ال يم ل هللا ح تى تمل وا)(‪ ،)3‬وفي رواي ة‬
‫لمسلم‪( :‬فوهللا ؛ ال يسأم هللا حتى تسأموا) ـ بلسان الشيخ محمد بن إب راهيم ـ‪( :‬ف َّ‬
‫إن هللا‬
‫ال يَ َملُّ ح تى تملُّوا)‪ :‬من نص وص الص فات‪ ،‬وه ذا على وج ه يلي ق بالب اري‪ ،‬ال نقص‬
‫(‪)4‬‬
‫فيه ؛ كنصوص االستهزاء والخداع فيما يتبادر)‬
‫وسئل الشيخ ابن عثيمين‪( :‬هل نستطيع أن نثبت صفة المل ل والهرول ة هلل تع الى؟‬
‫فأجاب بقوله‪( :‬جاء في الحديث عن النبي ‪ ‬قولـه‪َّ :‬‬
‫(فإن هللا ال يَ َملُّ ح تى تمل وا)‪ ،‬فمن‬
‫إن هذا دليل على إثبات الملل هلل‪ ،‬لكن ؛ ملل هللا ليس كملل المخل وق ؛‬ ‫العلماء من قال‪َّ :‬‬
‫إن ملل المخلوق نقص ؛ ألنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء‪ ،‬أما مل ل هللا ؛‬ ‫إذ َّ‬
‫فه و كم ال وليس في ه نقص‪ ،‬ويج ري ه ذا كس ائر الص فات ال تي نثبته ا هلل على وج ه‬
‫ً (‪)5‬‬
‫الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كماال)‬
‫ولست أدري كيف يكون الملل والسآمة والضجر كماال؟‬

‫‪1‬‬
‫تفسير الطبري (‪)304 /1‬‬ ‫()‬
‫‪2‬‬
‫الفتاوى (‪.)7/111‬‬ ‫()‬
‫‪3‬‬
‫رواه البخاري (‪ .)43‬ومسلم (‪.)785‬‬ ‫()‬
‫‪4‬‬
‫الفتاوى والرسائل (‪.)1/209‬‬ ‫()‬
‫‪5‬‬
‫مجموعة دروس وفتاوى الحرم (‪.)1/152‬‬ ‫()‬

‫‪171‬‬
172

You might also like