You are on page 1of 197

0

‫هذا الكتاب‬
‫أحداث هذه الرواية تدور حول رحلة يأخذ معلم السالم فيها تلميذه‬
‫إلى بالد الس‪%%‬الم‪ ،‬وإلى مح‪%%‬ل يش‪%%‬به المس‪%%‬جد األقص‪%%‬ى المب‪%%‬ارك‪ ،‬وهن‪%%‬اك‬
‫يلتقي معلم البرك‪%%‬ة‪ ،‬وبالمتوس‪%%‬مين ال‪%‬ذين يدلون‪%%‬ه على كيفي‪%%‬ة االس‪%%‬تفادة‬
‫من البركات‪ ،‬وكيفية التعامل معه‪%%‬ا‪ ..‬وه‪%%‬و يم‪%%‬ر في رحلت‪%%‬ه تل‪%%‬ك بأربع‪%%‬ة‬
‫أقسام‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬مرص‪%%‬د البرك‪%%‬ة‪ ..‬وه‪%%‬و المح‪%%‬ل ال‪%%‬ذي يبحث في‪%%‬ه على‬
‫مصادر البركة ووسائطها ومحالها ومواقيتها‪.‬‬
‫القس‪%%‬م الث‪%‬اني‪ :‬من‪%%‬ازل البرك‪%%‬ة‪ ..‬وهي اللط‪%%‬ائف ال‪%%‬تي يتك‪%%‬ون منه‪%%‬ا‬
‫بنيان اإلنسان‪ ،‬وفيها يعرف حقيقته وعالق‪%%‬ة البرك‪%%‬ات به‪%%‬ا‪ ،‬ألن برك‪%%‬ات‬
‫هللا تحتاج إلى محال تنزل فيها‪ ،‬ومنازل تحل بها‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬مخزن البركة‪ ..‬وهو المحل الذي يعاين فيه م‪%%‬ا ورد‬
‫في النصوص المقدسة من أغذية ورد التنصيص على ما أودع فيها من‬
‫بركات‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬مشافي البركة‪ ..‬وهو المحل الذي يعاين فيه ما ورد‬
‫في النصوص المقدسة من أدوية ورد التنصيص على ما أودع فيها من‬
‫بركات‪.‬‬
‫وقد حاور تلميذ السالم في هذه الرواية ك‪%%‬ل م‪%%‬ا م‪%%‬ر ب‪%%‬ه من أغذي‪%%‬ة‬
‫وأدوية وغيرها‪ ،‬وتبين له من خالل الحوار أن أسباب بركته‪%%‬ا ه‪%%‬و تل‪%%‬ك‬
‫األحوال الروحانية العالية التي تعيشها تلك الموج‪%%‬ودات ال‪%%‬تي ب‪%%‬ارك هللا‬
‫فيها‪ ..‬فقيمتها ليس في مكوناتها المادية‪ ،‬وإنما في أحوالها الروحية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫رسائل السالم‬
‫(‪)6‬‬

‫أدوية من السماء‬
‫رواية‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫الطبعة الثانية‬

‫‪2015 – 1436‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬

‫‪0‬‬
‫‪0‬‬

0
0
‫فهرس المحتويات‬
‫‪7‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪9‬‬ ‫البداية‬
‫‪18‬‬ ‫أوال ـ مرصد البركة‬
‫‪42‬‬ ‫مصدر البركة‬
‫‪51‬‬ ‫وسائط البركة‬
‫‪54‬‬ ‫بركات األولياء‪:‬‬
‫‪57‬‬ ‫بركات البسطاء‪:‬‬
‫‪63‬‬ ‫بركات المالئكة‬
‫‪66‬‬ ‫محال البركة‬
‫‪79‬‬ ‫مواقيت البركة‬
‫‪81‬‬ ‫أيام البركة‬
‫‪85‬‬ ‫شهور البركة‬
‫‪88‬‬ ‫ساعات البركة‬
‫‪90‬‬ ‫لحظات البركة‬
‫‪92‬‬ ‫ثانيا ـ منازل البركة‬
‫‪95‬‬ ‫الجسد‬
‫‪104‬‬ ‫النفس‬
‫‪107‬‬ ‫الطمأنينة‪:‬‬
‫‪109‬‬ ‫االعتدال‪:‬‬
‫‪112‬‬ ‫التوازن‪:‬‬
‫‪116‬‬ ‫السالم‪:‬‬
‫‪118‬‬ ‫العقل‬
‫‪122‬‬ ‫الروح‬
‫‪127‬‬ ‫ثالثا ـ مخزن البركة‬
‫‪134‬‬ ‫الماء‬
‫‪135‬‬ ‫الماء والسماء‪:‬‬
‫‪137‬‬ ‫الماء واألرض‪:‬‬
‫‪139‬‬ ‫الماء واإلنسان‪:‬‬
‫‪141‬‬ ‫شراب العسل‪:‬‬
‫‪143‬‬ ‫الماء العذب‪:‬‬
‫‪145‬‬ ‫هيئة الشرب‪:‬‬
‫‪147‬‬ ‫الماء والذكر‪:‬‬
‫‪150‬‬ ‫المغتسل المبارك‬
‫‪157‬‬ ‫الشراب المبارك‬
‫‪164‬‬ ‫الهواء‬
‫‪166‬‬ ‫شرح الصدر‪:‬‬
‫‪174‬‬ ‫تكوين الغذاء‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪176‬‬ ‫تلطيف الهواء والتربة‪:‬‬
‫‪178‬‬ ‫تزيين السماء‪:‬‬
‫‪178‬‬ ‫الرياح والتلقيح‪:‬‬
‫‪182‬‬ ‫حفظ السماء‪:‬‬
‫‪183‬‬ ‫الحبوب‬
‫‪186‬‬ ‫القمح‪:‬‬
‫‪187‬‬ ‫الشعير‪:‬‬
‫‪195‬‬ ‫اللبن‬
‫‪196‬‬ ‫لبن األم‪:‬‬
‫‪203‬‬ ‫أسرار البركة‪:‬‬
‫‪210‬‬ ‫بركات الزبادي‪:‬‬
‫‪213‬‬ ‫التمر‬
‫‪218‬‬ ‫بركات الغذاء‪:‬‬
‫‪223‬‬ ‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫‪231‬‬ ‫الزيتون‬
‫‪239‬‬ ‫الخضر‬
‫‪239‬‬ ‫اليقطين‪:‬‬
‫‪242‬‬ ‫الثوم‪:‬‬
‫‪251‬‬ ‫البصل‪:‬‬
‫‪254‬‬ ‫الكراث‪:‬‬
‫‪259‬‬ ‫الفواكه‬
‫‪261‬‬ ‫التين‪:‬‬
‫‪264‬‬ ‫العنب‪:‬‬
‫‪268‬‬ ‫الرمان‪:‬‬
‫‪272‬‬ ‫الموز‬
‫‪274‬‬ ‫األترج‪:‬‬
‫‪276‬‬ ‫البقول‬
‫‪278‬‬ ‫اللحوم‬
‫‪279‬‬ ‫التسمية‪:‬‬
‫‪287‬‬ ‫الذبح‪:‬‬
‫‪291‬‬ ‫األدب‪:‬‬
‫‪293‬‬ ‫االعتدال‪:‬‬
‫‪297‬‬ ‫رابعا ـ مشافي البركة‬
‫‪300‬‬ ‫العسل‬
‫‪302‬‬ ‫بركات التكوين‪:‬‬
‫‪305‬‬ ‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫‪322‬‬ ‫بركات األلوان‪:‬‬
‫‪325‬‬ ‫بركات األنواع‪:‬‬
‫‪332‬‬ ‫الحجامة‬

‫‪2‬‬
‫‪359‬‬ ‫الحبة السوداء‬
‫‪362‬‬ ‫بركات التكوين‪:‬‬
‫‪367‬‬ ‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫‪372‬‬ ‫األمران‬
‫‪372‬‬ ‫الثفاء‪:‬‬
‫‪376‬‬ ‫الصبر‪:‬‬
‫‪380‬‬ ‫السنا والسنوت‬
‫‪380‬‬ ‫السنا‪:‬‬
‫‪384‬‬ ‫السنوت‪:‬‬
‫‪386‬‬ ‫القسط البحري‬
‫‪391‬‬ ‫الحناء‬
‫‪398‬‬ ‫الحلبة‬
‫‪400‬‬ ‫بركات التكوين‪:‬‬
‫‪400‬‬ ‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫‪404‬‬ ‫أدوية خاصة‬
‫‪404‬‬ ‫الكمأة‪:‬‬
‫‪407‬‬ ‫اإلثمـد‪:‬‬
‫‪410‬‬ ‫المردقوش‪:‬‬
‫‪411‬‬ ‫النار الشافية‪:‬‬
‫‪415‬‬ ‫نباتات من الجنة‬
‫‪416‬‬ ‫الزنجبيل‪:‬‬
‫‪417‬‬ ‫الكافور‪:‬‬
‫‪419‬‬ ‫الزعفران‪:‬‬
‫‪423‬‬ ‫الخاتمة‬

‫‪3‬‬
‫المقدمة‬
‫كتبت هذه الرواية في فترة كانت جميع وسائل اإلعالم منشغلة بالطب البديل‪ ،‬ونظام الماكروبيوتيك وغ يره‬
‫من األنظمة الغذائية والعالجية الوافدة من الصين أو اليابان أو الهند أو غيرها من البالد‪.‬‬
‫وقد انتشر بين عامة الناس في ذلك الحين االهتمام بالعناصر المكون ة لك ل غ ذاء فهم يس ألون عن مكونات ه‬
‫من الفيتامينات والمعادن والبروتينات ونحوها‪..‬‬
‫وقد صادف أن أهدي إلي حينها ماء زمزم جاء ب ه بعض الحج اج‪ ..‬وق د كنت فرح ا ب ه‪ ،‬وبالبرك ات ال تي‬
‫يحملها‪ ..‬لكن بعض المتدينين المتأثرين بالموجة الجديدة راح يس خر م ني‪ ،‬ويق ول‪ :‬إن المكون ات الكيميائي ة لم اء‬
‫زمزم ال تختلف عن مكونات سائر المياه‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنه يحوي فوق ذلك عنصرا خطيرا‪ ،‬وهو البركة‪ ،‬فهو م اء وردت النص وص في فض له وبركت ه‪،‬‬
‫وأنه لما شرب له‪..‬‬
‫ضحك صاحبي‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أال تزال تؤمن بالبركة ‪ ..‬إنها هي التي نشرت الش رك في األم ة ‪ ..‬وهي ال تي‬
‫جعلتنا في ذيل قافلة األمم‪ ..‬وهي التي ‪..‬؟‬
‫كان هذا موقف فرد رأيته ‪ ..‬لكني رأيت بعد ذلك الكثير من أمثاله‪ ..‬بل رأيت علم اء كب ار يزعم ون أن م ا‬
‫ذكره رسول هللا ‪ ‬من بركات األغذية واألدوية هو مجرد اجتهاد‪ ،‬وقد يكون مخطئا فيه‪..‬‬
‫بل إن بعضهم تجرأ على ما ورد في القرآن الكريم نفسه من اعتبار العسل شفاء‪ ،‬ف راح يعت بر ذل ك مج رد‬
‫موافقة لما عرفه العرب من أنواع التداوي‪.‬‬
‫كل هذه الحوادث كانت السبب األكبر لتأليفي لهذه الرواية‪ ،‬والتي من خالله ا ح اولت أن أبين قيم ة البرك ة‬
‫وأهميتها وأن أي مؤمن بالقرآن الكريم والسنة المطهرة‪ ..‬بل أي مؤمن بأي دين من األديان يقول بها‪ ،‬ويذعن لها‪.‬‬
‫وقد تعجبت من الذين يؤمنون بتأثير الين واليانغ‪ ..‬وتأثير الفيتامينات والمعادن وغيرها ‪ ..‬كي ف ال يؤمن ون‬
‫بتأثير البركة‪ ..‬وهي فضل هللا الواسع الذي يضعه حيث يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء‪.‬‬
‫ولذلك حاولت في ه ذه الرواي ة أن أس تنبط م ا أمكن من ق وانين ت أثير البرك ة‪ ،‬بحيث تص بح عالج ا يمكن‬
‫استعماله واالستفادة منه‪ ،‬وقد سميت النظام المقيد بهذه القوانين من باب المشاكلة [المباركبيوتيك]‬
‫فالمباركبيوتيك هو نظام الحياة المستند إلى البحث عن بركات هللا المودعة في الكون‪ ،‬لينهل منه ا الم ؤمن‪،‬‬
‫وينال ما فيها من خير وفضل ونعمة ال باعتبار مكوناتها المادية‪ ،‬وإنما باعتبار صلتها بصاحب ك ل فض ل وج ود‬
‫في هذا الكون‪.‬‬
‫وأحداث الرواية تدور حول رحلة يأخذ معلم السالم فيها تلميذه إلى بالد الس الم‪ ،‬وإلى مح ل يش به المس جد‬
‫األقصى المبارك‪ ،‬وهناك يلتقي معلم البركة‪ ،‬وبالمتوسمين الذين يدلونه على كيفية االستفادة من البركات‪ ،‬وكيفي ة‬
‫التعامل معها‪.‬‬
‫وهو يمر في رحلته تلك بأربعة أقسام‪:‬‬
‫القس‪%%‬م األول‪ :‬مرص د البرك ة‪ ..‬وه و المح ل ال ذي يبحث في ه على مص ادر البرك ة ووس ائطها ومحاله ا‬
‫ومواقيتها‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬منازل البركة‪ ..‬وهي اللطائف التي يتكون منها بنيان اإلنسان‪ ،‬وفيه ا يع رف حقيقت ه وعالق ة‬
‫البركات بها‪ ،‬ألن بركات هللا تحتاج إلى محال تنزل فيها‪ ،‬ومنازل تحل بها‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬مخزن البركة ‪ ..‬وهو المحل الذي يعاين فيه م ا ورد في النص وص المقدس ة من أغذي ة ورد‬
‫التنصيص على ما أودع فيها من بركات‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬مشافي البركة ‪ ..‬وهو المحل الذي يعاين فيه م ا ورد في النص وص المقدس ة من أدوي ة ورد‬
‫التنصيص على ما أودع فيها من بركات‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وقد حاور تلميذ السالم في هذه الرواية كل ما مر به من أغذية وأدوية وغيرها‪ ،‬وتبين له من خالل الح وار‬
‫أن أسباب بركتها هو تلك األحوال الروحانية العالية التي تعيش ها تل ك الموج ودات ال تي ب ارك هللا فيه ا‪ ..‬فقيمته ا‬
‫ليس في مكوناتها المادية‪ ،‬وإنما في أحوالها الروحية‪.‬‬
‫ول ذلك ف إن ه ذه الرواي ة ال تتعل ق فق ط ب النواحي الص حية‪ ،‬وإنم ا تتعل ق قب ل ذل ك ب النواحي الروحي ة‬
‫والعرفانية‪ ..‬حتى نتناول األشياء من هللا لننال ما فيها من فضل وبركة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫البداية‬
‫عند عودتي من [حصون العافية] شعرت برحمة هللا سبحانه وتع الى‪ ،‬وهي تش مل أجس اد عب اده وأرواحهم‪ ..‬ب ل‬
‫رأيتها وهي تمد يدها إليهم ترعاهم وتحوطهم بكنفه ا‪ ..‬وق د تعجبت من ذل ك الكم الكب ير من النص وص المقدس ة ال تي ال‬
‫تخدم الروح فقط‪ ،‬بل تخدم الجسد أيضا‪ ،‬وتخدم معه كل حاجاته ومتطلبات ه ال تي يتص ور الغ ارقون في أوح ال ال دنيا أن‬
‫الدين ينفر منها‪ ،‬وأن االتصال باهلل يحجب عنها‪.‬‬
‫وفي غمرة تلك السعادة والسالم الذي استشعرته خطرت على ب الي خ اطرة‪ ،‬وهي أن تل ك الرعاي ة اإللهي ة ال تي‬
‫وضعت قوانين حفظ الطين‪ ،‬أال يمكن أن تكون قد وضعت كذلك قوانين عالجه إذا ما طرأ عليه أي طارئ‪ ،‬أو حصل ل ه‬
‫أي مكروه‪.‬‬
‫وبمجرد أن خطرت هذه الخاطرة على بالي رحت أسأل نفسي‪ :‬هل يمكن أن يكون في الطبيبعة التي خلقها ا هلل لنا‬
‫ما يغنينا عن كثير من تلك األدوية المسمومة التي ال تداوي داء إال بعد أن تضع بدله أدواء؟‬
‫وهل يمكن أن تأتي اإلشارة إلى هذا الن وع من األدوي ة في النص وص المقدس ة‪ ،‬مثلم ا وردت اإلش ارة إلى الطب‬
‫الوقائي؟‬
‫وهل يمكن أن تستفيد البشرية ـ إن تخلصت من كبريائه ا من تل ك النص وص ـ فتفعله ا في حياته ا‪ ،‬وتب ني عليه ا‬
‫منهجا جديدا في التداوي ينطلق من السماء قبل أن ينطلق من األرض؟‬
‫بمجرد أن خطر على بالي هذه األسئلة وغيرها‪ ،‬رأيت معلم السالم يأخذ بي دي‪ ،‬وه و يق ول‪ :‬هي ا بن ا إلى األرض‬
‫المباركة‪ ،‬حيث تتنزل أدوية السماء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬األرض المباركة‪ ..‬أدوية السماء‪ ..‬ما تعني؟‬
‫قال‪ :‬سر‪ ..‬فباهلل إن تسر ترى العجائب‪.‬‬
‫سرت معه فترة من الزمن في عوالم مجهولة إلى أن بدت لنا قبة تشبه قبة المسجد األقص ى في جماله ا وس كينتها‬
‫ت ﴾ (م ريم‪:‬‬ ‫اركاً َأ ْينَ َما ُك ْن ُ‬
‫وروحانيتها‪ ،‬وقد كتب فوقها بحروف من نور قوله تعالى على لسان المسيح ‪َ ﴿:‬و َج َع َل ِني ُم َب َ‬
‫‪)31‬‬
‫قلت للمعلم‪ :‬أترانا اآلن سائران نحو المسيح ‪ ..‬إني أرى المسجد األقصى‪ ..‬وأرى كالمه مجتمعان هنا‪ ..‬أن زل‬
‫المسيح ‪‬؟‪ ..‬كيف؟‪ ..‬ولم يخرج الدجال بعد؟‬
‫قال‪ :‬ومن قال بأن الدجال لم يخرج‪ ..‬إن آالف الدجاجلة الصغار يظهرون كل يوم‪ ..‬ألم تس مع قول ه ‪ (:‬ال تق وم‬
‫الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة‪ ،‬وال تقوم الساعة ح تى يبعث دج الون ك ذابون قريب ا من ثالثين‪ ،‬كلهم‬
‫يزعم أنه رسول هللا)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬الدجالون كثيرون‪ ..‬ولكن المسيح واحد‪.‬‬
‫قال‪ :‬المسيح ‪ ‬واحد‪ ..‬ولكن أنصاره ال ذين يكون ون مع ه أو يس بقونه كث يرون‪ ،‬ألم تس مع قول ه ‪ (:‬ال ت زال‬
‫طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناواهم حتى يقاتل آخرهم الدجال)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن هل سنزور أحد هؤالء األنصار المباركين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لن نزور أشخاصا‪ ،‬بل سنزور أدوية مباركة‪ ..‬بورك فيها كما بورك في المسيح‪ ..‬وهي األدوي ة ال تي إذا‬
‫رأتها الدجاجلة ذابت واندثرت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي دجاجلة؟‬
‫قال‪ :‬األدوية الكثيرة التي تفوح بالدجل‪ ..‬والتي ال يقصد منها غير مأل الجيوب‪ ،‬وتدمير الصحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أدوية قومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬أدوية الصراع‪ ..‬وهي أدوية قومك وغير قومك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولم كانت دجال؟‬

‫‪ )(1‬أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي‪.‬‬


‫‪ )(2‬أحمد وأبو داود والحاكم‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫قال‪ :‬ألنها تقوم على الصراع‪ ..‬فتصارع الجسم‪ ،‬وتصارع الصحة‪ ،‬فال تبني حتى تهدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأدوية البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي اإلكسير الذي ال يعرف إال العافية‪ ..‬والنعمة التي ال تعرف وجه النقمة‪ ..‬والمنحة التي ال تشم منه ا روائح‬
‫المحنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم كانت مباركة؟‬
‫قال‪ :‬هللا تعالى برحمته بارك فيها‪ ..‬أال تعلم سر البركة؟‬
‫قلت‪ :‬العجائز ـ عندنا في العادة ـ هم الذين يتعلقون بالبركة‪..‬‬
‫قال‪ :‬ولكنهم يخطئون سبيلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما البركة؟‬
‫قال‪ :‬ما فضل الصالة في الحرم على فضلها في سائر المساجد؟‬
‫قلت‪ :‬ورد في النصوص أن الصالة فيه تعدل مائة ألف فيما سواه‪ ،‬فق د ق ال ‪ ( :‬ص الة الرج ل في بيت ه بص الة‬
‫وصالته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صالة‪ ،‬وصالته في المسجد الذي يجمع(‪)1‬فيه بخمس مائ ة ص الة‪ ،‬وص الته‬
‫في المسجد األقصى بخمسين ألف صالة‪ ،‬وصالته في مسجدي هذا بخمسين أل ف ص الة‪ ،‬وص الته في المس جد الح رام‬
‫بمائة ألف صالة)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬فهذا من البركة‪ ..‬فصالة واحدة تعدل مائة ألف صالة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تطبق هذا على اإلكسير المبارك الذي يستعمله أهل هذه الديار؟‬
‫قال‪ :‬إن ما يستعمله أهل هذه الديار من األدوية ال يمكن مقارنة ما فيه من البركات بأي دواء آخر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تقول هذا ـ يا معلم ـ ونحن في عصر الدواء؟‬
‫قال‪ :‬أنتم في عصر الداء والدواء‪ ..‬وال يلد الداء مثل الدواء الممحوق البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفنستغني عن الدواء بالبركة؟‬
‫قال‪ :‬البركة هي أم األدوية‪ ،‬كما أن مكة هي أم القرى‪ ،‬فكيف تقارنها بالدواء؟‬
‫قلت‪ :‬أنا ال أعرف البركة بعد‪ ..‬فإني ال أزال على دين قومي‪ ..‬ولكني أتعجب من هذه المبالغة في شأن البركة‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬بل أنا مقصر في التعبير عنها‪ ،‬أتعلم ما أمر هللا تعالى نوح ا ‪ ‬أن يقول ه عن دما ن زل إلى األرض بع د‬
‫الطوفان؟‬
‫ارك اً َو َأ ْنتَ خَ ْي رُ ْال ُم ْن ِز ِلينَ ﴾‬ ‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قص القرآن الكريم علينا ذل ك‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿:‬وق ل َربِّ َأ ْن ِز ْل ِني ُم ْن زَ ً‬
‫ال ُم َب َ‬
‫(المؤمنون‪)29:‬‬
‫قال‪ :‬لو ترك األمر لعقلك وعقول قومك‪ :‬ما هي صفة األرض التي كنت ستطلب النزول فيها؟‬
‫قلت‪ :‬سأضع وصفة طويلة بمطالبي‪.‬‬
‫قال‪ :‬مثل ماذا؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك يط ول‪ ..‬ولك ني س أطلب أرض ا جي دة المن اخ‪ ،‬طيب ة الثم ار‪ ،‬حس نة التض اريس‪ ،‬ليس فيه ا الوح وش‬
‫الكاسرة‪ ،‬وال األفاعي السامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ول و ظللت ط ول الي وم تع د مواص فات األرض ال تي تحب أن ت نزل فيه ا‪ ،‬فلن يع دل ك ل م ا ت ذكره كلم ة‪:‬‬
‫( مباركا)التي ورد ذكرها في طلب نوح ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ألنها تحوي كل ما ذكرت‪ ،‬وغير ما ذكرت‪ ..‬ألن البركة من هللا‪ ..‬وهللا يعلم ما ال نعلمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني لم أقصر فيما ذكرت‪ ،‬بل قد يكفيني ما ذكرت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن هناك أراض كثيرة بالوصف الذي ذكرته‪ ..‬ولكنها أرض موبوءة بالزالزل أو البراكين أو الح روب أو‬
‫‪ )(1‬أي يصلون صالة الجمعة‪ .‬النهاية [‪]1/297‬‬
‫‪ )(2‬ابن ماجه‪ ،‬وقال في الزوائد‪ :‬إسناده ضعيف‪ ...‬وقد ورد في أحاديث أخرى ما يؤيد هذا‪ ،‬كما في قوله ‪ «:‬صالة في مس جدي ه ذا أفض ل من أل ف‬
‫صالة فيما سواه من المساجد إال المسجد الحرام‪ ،‬وصالة في المسجد الحرام أفضل من صالة في مسجدي هذا بمائة صالة » رواه أحمد وابن حبان‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫قلة الرزق‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪..‬‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال على البركة في األرض‪ ..‬أرأيت لو سرت إلى مك ة المكرم ة قب ل أن ت نزل فيه ا ه اجر ـ‬
‫عليها السالم ـ أتراك تطلب القرار بها؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬فقد كانت أرضا خاوية خالية‪ ..‬هي أقرب للموت منها إلى الحياة‪ ..‬ألم يقل هللا تع الى فيه ا على لس ان خليل ه‬
‫زَرْع﴾ (ابراهيم‪)37 ::‬‬ ‫ٍ‬ ‫ت ِم ْن ُذرِّ يَّ ِتي ِب َوا ٍد َغي ِْر ِذي‬ ‫‪َ ﴿:‬ربَّنَا ِإ ِّني َأسْ َك ْن ُ‬
‫قال‪ :‬ولكن البركة لما نزلت عليها تحولت منبعا من منابع الرزق‪ ،‬ومسكنا من مس اكن القل وب‪ ..‬ولم يص ب أهله ا‬
‫زَرْع ِع ْن َد َب ْي ِت كَ ْال ُم َح ِ‬
‫رَّم‬ ‫ٍ‬ ‫ت ِم ْن ُذرِّ يَّ ِتي ِب َوا ٍد َغ ْي ِر ِذي‬‫أي جوع أو ظمأ منذ تنزلت البركات‪ ،‬قال الخليل ‪َ ﴿:‬ربَّنَا ِإ ِّني َأسْ َك ْن ُ‬
‫ت َل َعلَّه ُْم َي ْش ُكرُونَ ﴾(ابراهيم‪)37 :‬‬ ‫ارْز ْقه ُْم ِمنَ الثَّ َم َرا ِ‬
‫اس َته ِْوي ِإ َل ْي ِه ْم َو ُ‬ ‫َربَّنَا ِليُ ِقي ُموا الصَّال َة َفاجْ َعلْ َأ ْف ِئ َد ًة ِمنَ النَّ ِ‬
‫قلت‪ :‬ولكن هناك فرق ـ ي ا معلم ـ بين ال دواء واألرض‪ ..‬األرض للجمي ع‪ ..‬أم ا ال دواء فلألف راد‪ ..‬فل ذلك ال يمكن‬
‫القياس في هذا الباب‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا ال أقيس‪ ..‬فأنت تعلم بغضي للقياس‪ ..‬ولكني أستبصر‪ ..‬وأطبق سنن هللا‪ ..‬ولست مبتدعا في ذلك‪ ،‬فق د ك ان‬
‫من هدي الصالحين البحث في مواطن البركات واستثمارها في الشفاء وغيره‪ ،‬ألم تعرف وصفة اإلمام علي ؟‬
‫قلت‪ :‬ال أعرفها‪ ..‬فهل روي عنه شيء من الطب؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬كما روي عن غيره من األئمة‪ ..‬وقد رويت عنه وصفة ق د تك ون أنج ع من كث ير من الص ناديق ال تي‬
‫تملؤونها بالسموم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قال؟‬
‫قال‪ :‬روي عنه أنه قال‪ (:‬إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب هّللا في صحفة‪ ،‬وليغسلها بماء السماء‪ ،‬وليأخ ذ‬
‫ال فليشربه كذلك فإنه شفاء‪ ،‬من وجوه)‬ ‫من امرأته درهماً عن طيب نفس منها‪ ،‬فليشتر به عس ً‬
‫قلت‪ :‬أي وجوه يقصدها؟‬
‫آن َم ا هُ َو ِش َفا ٌء َو َرحْ َم ةٌ‬ ‫قال‪ :‬يقصد اآلي ات ال تي ذك ر فيه ا الش فاء والبرك ة‪ ،‬وهي قول ه تع الى‪َ ﴿:‬ونُ َن ِّزلُ ِمنَ ْالقُ رْ ِ‬
‫اركاً ﴾( ّق‪ ،)9 :‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ف إِ ْن ِط ْبنَ َل ُك ْم ع َْن َش ْي ٍء ِم ْن هُ‬ ‫اء َما ًء ُم َب َ‬ ‫ِل ْل ُم ْؤ ِم ِنينَ ﴾(االسراء‪ ،)82:‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ون ََّز ْلنَا ِمنَ ال َّس َم ِ‬
‫َن ْفساً َف ُكلُو ُه َه ِنيئاً َم ِريئاً﴾ (النساء‪ ،)4:‬وقوله في العسل‪ِ ﴿:‬في ِه ِش َفا ٌء ِللنَّاس﴾(النحل‪)69:‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا اجتهاد اجتهده‪ ،‬أم تجربة جربها؟‬
‫قال‪ :‬يمكن أن يكون كل ذلك‪ ،‬ويمكن أن يكون غيره‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن قومي يسارعون إلى إنكار مثل هذا‪..‬‬
‫قال‪ :‬فلينكروا‪ ..‬فال حرج عليهم أن ينكروا‪ ..‬ولكنهم في إنكارهم مثل من غرق في بحر‪ ،‬فمد إلي ه منق ذ خب ير ي ده‪،‬‬
‫فقال في نفسه‪ :‬إن يده أضعف من أن تحملني أو تنقذني‪ ،‬فبقي كذلك إلى أن التهمه حوت البحر وأمواجه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد يكون ما تقول صحيحا‪ ..‬ولكن الغريق الذي تتحدث عنه يمد يده إلى أدوية كثيرة اخترعها قومي‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال حرج عليه في ذل ك‪ ..‬ولكن الح رج على إنك اره على غ يره إن ش فاه هللا بس بب من األس باب عج ز عقل ه‬
‫المحدود عن فهمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هل نكتفي بما يهديه إليه تدبرنا واستبصارنا؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ال بد أن نراجع الخبراء‪ ..‬فقد أمرنا هللا بالرجوع إليهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يتم العالج في هذه الديار؟‬
‫قال‪ :‬العالج في هذه الديار ينقسم إلى أربعة أقسام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما القسم األول منهما؟‬
‫قال‪ :‬مرصد البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يمكن رصد البركة حتى ينصب لها مرصدا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فهناك المتوسمون الذي علمهم هللا أسرار البركات‪ ،‬فراحوا ينشرونها بين الناس‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫قلت‪ :‬فما القسم الثاني؟‬
‫قال‪ :‬منازل البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما منازل البركة؟‬
‫قال‪ :‬هي المحال التي تنزل فيها البركة‪ ،‬فليس الشأن في وجود البركة ولكن الشأن في وجود المستقبل لها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما القسم الثالث؟‬
‫قال‪ :‬مخزن البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما مخزن البركة؟‬
‫قال‪ :‬المخزن الذي تجبى إليه الثمرات المباركة ليأكلها المرضى‪ ،‬ويستشفوا بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما القسم الرابع؟‬
‫قال‪ :‬صيدلية البركة‪ ..‬وهو قسم يشبه مخابركم إال بفارق بسيط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬ليس فيه الفئران البيضاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفيه الفئران السوداء؟‬
‫قال‪ :‬ليس فيه أي فئران‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيخافون عليها من القطط؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ولكن فئرانهم هي البشر أنفسهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم‪ ..‬فال يجوز إجراء التجارب على البشر‪ ..‬أم أن هؤالء يضحون بأنفسهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ال تخف‪ ..‬فالدواء المبارك إن لم يصبك بشفائه أصابك ببركته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل سنزور هذه األقسام؟‬
‫قال‪ :‬ال مناص لنا من زيارتها‪.‬‬
‫***‬
‫في هذا الجزء من هذه الرسالة نرحل ـ مع معلم السالم ـ إلى قسم العالج بأدوية البركة‪ ،‬لنعلم صدق قوله ‪ (:‬إن‬
‫هللا لم يُنزل دا ًء إال أنزل له شفاء‪ ،‬علمه َمن علمه وجهله َمن جهله)‬
‫وهذه األدوية التي نراها في هذا القسم ال نعرضها ليعالج بها المرض ى فق ط‪ ،‬أو لنع رف به ا موق ف أه ل الس الم‬
‫منها‪ ،‬وإنما نعرض ها ليمتلئ المرض ى باألم ل ال ذي يمأل أنينهم باالبتس امة‪ ،‬فال يقت ل الم ريض مث ل الي أس‪ ،‬وال يش رح‬
‫صدره مثل األمل‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أوال ـ مرصد البركة‬
‫سرنا إلى القسم األول من أقسام العالج المبارك‪ ،‬قال لي المعلم ونحن س ائران‪ :‬س نذهب إلى مرص د البرك ة حيث‬
‫نلتقي معلم البركة‪ ،‬فقد فتح هللا عليه من الفتوح في هذا الباب ما يمكن أن يسد كل ثغرة‪ ،‬ويمأل كل عوز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل استخلص معلم البركة من أدوية هللا دواء جامعا يكتفي به الناس عن كل دواء؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬هو ال يعرف الهندسة الوراثية‪ ،‬وال فنون التغيير والتبديل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما يعرف إذن من علوم الدواء إذا لم يعرف هذا؟‬
‫قال‪ :‬هيا بنا إليه‪ ..‬وسيخبرك بما يعلم‪.‬‬
‫ما سرنا قليال حتى رأينا مرصد البركة‪ ،‬وقد كتب على بابه قوله ‪ (:‬هلم إلى الغذاء المب ارك)(‪ ،)1‬ف رأيت جمع ا‬
‫غفيرا من الناس من األصحاء والمرضى‪ ،‬وق د عجبت لك ثرتهم م ع ع دم ت زاحمهم‪ ،‬فقلت للمعلم البرك ة‪ :‬م ا ه ذا؟ وأي‬
‫ميزانية تكفي لتغذية كل هؤالء؟‬
‫قال‪ :‬هذا مرصد البركة‪ ،‬فكيف تسأل عن الميزانية؟‬
‫قلت‪ :‬وهل يأكل أهل مركز البركة الهواء؟‪ ..‬ال بد لهم من غذاء‪ ..‬والبد للغذاء من مال‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن البركة تحول القليل كثيرا‪ ..‬والحقير عظيما‪ ..‬ألم تسمع حديث جابر؟‬
‫قلت‪ :‬حديث الخندق‪ ،‬وتكثير الطعام‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فاروه للغافلين ليعتبروا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد حدث جابر قال‪ :‬لما حفر الخندق رأيت بالنبي ‪ ‬خمصاً فانكفأت إلى ام رأتي فقلت‪ :‬ه ل عن دك ش يء؟‬
‫برسُول هَّللا ِ ‪ ‬خمصاً شديد ًا‪ ،‬فأخرجت إلي جراباً فيه صاع من ش عير‪ ،‬ولن ا بهيم ة داجن ف ذبحتها‪ ،‬وطحنت‬ ‫فإني رأيت َ‬
‫بر ُس ول هَّللا ِ ‪ ‬ومن مع ه‪،‬‬ ‫ففرغت إلى ف راغي وقطعته ا في برمته ا‪ ،‬ثم وليت إلى َر ُس ول هَّللا ِ ‪ ،‬فق الت‪ :‬ال تفض حني َ‬
‫فجئته فساررته فقلت‪ :‬يا َرسُول هَّللا ِ ذبحنا بهيمة لنا‪ ،‬وطحنت صاعاً من ش عير فتع ال أنت ونف ر مع ك‪ ،‬فص اح الن بي ‪‬‬
‫ال بكم)‪ ،‬فقال النبي ‪ (:‬ال تنزلن برمتكم وال تخ بزن عجينكم ح تى‬ ‫فقال‪ (:‬يا أهل الخندق‪ ،‬إن جابر ًا قد صنع سور ًا فحيه ً‬
‫أجيء)‪ ،‬فجئت وجاء النبي ‪ ‬يقدم الناس ح تى جئت ام رأتي‪ ،‬فق الت‪ :‬ب ك وب ك! فقلت‪ :‬ق د فعلت ال ذي قلت‪ .‬ف أخرجت‬
‫عجيننا فبسق فيه وبارك‪ ،‬ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيه وبارك ثم قال‪ (:‬ادعي خابزة فلتخ بز مع ك‪ ،‬واق دحي من ب رمتكم‬
‫وال تنزلوها)‪ ،‬وهم ألف‪ ،‬فأقسم باهلل ألكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي‪ ،‬وإن عجيننا ليخبز كما هو)‬
‫قال‪ :‬فقد أطعم رسول هللا ‪ ‬جيشا من الناس بطعام جماعة معدودة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنه رسول هللا ‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقد كثر الطعام ببركته‪ ..‬فالبركة هي سر التكثير‪ ..‬وهي عامة ال تتعلق بزمان أو بأفراد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد أن هذا يمكن تعميمه‪.‬‬
‫هَّللا‬
‫قال‪ :‬ال بصورته ولباسه‪ ..‬ولكن بحقيقته وروحه‪ ..‬ألم تسمع ما روي في الحديث أن أصحاب َرسُول ِ ‪ ‬ق الوا‪:‬‬
‫يا َرسُول هَّللا ِ إنا نأكل وال نشبع؟ قال‪ (:‬فلعلكم تفترقون)‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬فقال ‪ (:‬فاجتمعوا على طع امكم‪ ،‬واذك روا اس م هَّللا‬
‫يبارك لكم فيه)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا الحديث يدل على سبيل تحصيل البركة؟‬
‫قال‪ :‬هذا يدل على سبيل من سبلها‪.‬‬
‫***‬
‫بينما نحن نسير في القاعة إذ رأين ا رجال ق د امتأل وق ارا‪ ،‬يجم ع بين ال روح والجس د‪ ،‬والحس والمع نى‪ ،‬والن ور‬
‫والنار‪ ،‬والسكينة والثورة‪ ،‬والسالم والصراع‪ ،‬وقد جلس بين يديه رج ل ال يك اد يختل ف ع ني‪ ،‬ول وال أني تلمس ت بي دي‬
‫‪ )(1‬الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما‪ ،‬ونص الحديث‪ :‬عن العرباض بن سارية ق ال‪ :‬دع اني رس ول هللا ‪ ‬إلى‬
‫السحور في رمضان فقال‪ «:‬هلم إلى الغذاء المبارك »‬
‫‪ )(2‬أبو داود‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫أعضائي لخلتني ذلك الرجل‪ ،‬فسألت المعلم عنهما‪ ،‬فقال‪ :‬أما الذي يجمع السكينة والث ورة‪ ،‬فه و معلم البرك ة‪ ،‬وأم ا ال ذي‬
‫بجانبه‪ ،‬فتلميذ من تالميذ السالم امتأل بالغيب‪ ،‬فأرد أن يمحو به الشهادة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هو يشبهني كثيرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد يكون مظهرا من مظاهرك‪ ،‬أو صورة من صورك‪ ،‬أو تجل من تجلياتك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني بجانبك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت بجانبي‪ ،‬وهو يمثلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لن تعرف ذلك اآلن‪ ..‬فال تعجل‪.‬‬
‫اقتربنا منهما فسمعت الذي يشبهني يقول‪ :‬ال أكتمك ـ يا معلم البركة ـ أني بعد ما امتألت قناعة بتأثير أدوية الس ماء‬
‫في الشفاء‪ ،‬خطر على بالي تأسيس مستشفى روحي عظيم يبز كل المستشفيات‪ ،‬أو تغلق معه كل المستش فيات‪ ..‬لق د قلت‬
‫لنفسي‪ :‬لماذا نعالج أدواء الجسد بالجسد‪ ،‬وال نعالجها بالروح‪ ،‬ف الروح أعظم من الجس د‪ ،‬وطاق ة ال روح أعظم من طاق ة‬
‫الجسد‪ ..‬فكيف يستطيع الجسد‪ ،‬وهو ضعيف منهك أن يرمم بعضه بعضا؟ ال بد له من طاقة أكبر‪ ،‬وليس هن اك من طاق ة‬
‫إال طاقة الروح‪..‬‬
‫ال ﴾ (الرعد‪)9:‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال َّش َها َد ِة ال َك ِبيرُ ال ُم َت َع ِ‬ ‫ْ‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪ ﴿:‬عَا ِل ُم ال َغ ْي ِ‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬ماذا تقصد؟ وما الذي تريد؟‬
‫قال‪ :‬الغيب ال يغني عن الشهادة‪ ،‬والشهادة ال تغني عن الغيب‪ ،‬أال ترى اقترانهما في القرآن الكريم؟‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬أجل فالغيب قرين الشهادة‪ ،‬وهللا يعلم بهما جميعا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وربهما جميعا‪ ..‬فاعبد هللا باحترامهما جميعا‪.‬‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬وكيف؟‬
‫قال‪ :‬أن تعطي لكل منهما حقه‪ ،‬للغيب حقه وللشهادة حقها‪.‬‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬ولكن الشهادة أحقر من الغيب‪ ،‬وأين يجدي عالج األطباء مع عالج طبيب األطباء؟‬
‫قال‪ :‬ال تحقر شيئا مما خلق هللا‪ ،‬فإن هللا ما احتقره حين خلق ه‪ ،‬وق د ك ان ط بيب األطب اء يغ ترف من بح ار الغيب‬
‫والشهادة‪ ،‬ويداوي بأدوية الغيب والشهادة‪.‬‬
‫وقد قال تعالى أليوب ‪ ‬بعد أن ط رق أب واب الغيب‪ ﴿:‬ارْ ُكضْ ِب ِرجْ ِل كَ َه َذا ُم ْغت ََس لٌ َب ِ‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾ (صّ ‪،)42 :‬‬
‫فدعاه إلى اللجوء إلى صيدلية عالم الشهادة‪.‬‬
‫ين﴾ (الص افات‪ ،)146 :‬أال تعلم لم أنبت هللا تع الى على‬ ‫وقال تع الى عن ي ونس ‪َ ﴿:‬و َأ ْن َب ْت َن ا َع َل ْي ِه َش َج َر ًة ِم ْن َي ْق ِط ٍ‬
‫يونس ‪ ‬بعد خروجه من بطن الحوت شجرة اليقطين؟‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬أجل‪ ..‬ففي كل ما ذكرته أدوية كثيرة من عالم الشهادة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فها قد أقررت إذن بتأثير عالم الشهادة‪ ..‬أال تعلم أي عبودية تمارس عندما تتناول الدواء من عالم الشهادة؟‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬وهل في تناول الدواء عبودية؟‬
‫قال‪ :‬المؤمن ال يعبد إال هللا‪ ،‬وال يتحرك إال بما تتطلبه عبودية هللا‪ ،‬فهذا ال دواء ص نعة الحكيم‪ ،‬ف إن تناولت ه من ي د‬
‫هللا‪ ،‬وعرفت هللا في تناوله وشكرته على توفيره‪ ،‬كما تشكر الطبيب الذي عالجك مارست بذلك عبودية الدواء‪.‬‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬لست أدري‪ ،‬ما عالقة الشريعة بالدواء‪ ،‬فال دواء دني ا‪ ،‬والش ريعة دين‪ ،‬وق د ق ال ‪ (:‬إذا ك ان‬
‫شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به‪ ،‬وإذا كان شيء من أمر دينكم فإلي)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬الدنيا ال تكون إال بالدين‪ ،‬وال يحفظ الدنيا إال الدين‪.‬‬
‫قال الذي يشبهني‪ :‬فكيف تجمع بين الدنيا والدين‪.‬‬
‫قال‪ :‬بتطعيم الدنيا ببركات الدين‪.‬‬
‫ثم انصرف الرجل الذي يشبهني‪ ،‬وقد وعى ما قال له‪.‬‬

‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫***‬
‫اقتربت منه‪ ،‬وقلت‪ :‬إني أراك سكينة تحمل رياح ثورة‪ ،‬ونسيما يطوي إعص ارا‪ ،‬فأيهم ا أنت‪ ،‬ف إني ال أك اد أم يز‬
‫السالم فيك عن الصراع‪ ،‬والسكينة عن الثورة؟‬
‫قال‪ :‬أنا النقطة التي تحت الباء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذاك معلمي‪ ..‬معلم السالم‪ ..‬أال تعرفه؟‬
‫قال‪ :‬وهو معلمي ال ذي تخ رجت على يدي ه في مدرس ة الس الم‪ ..‬وك ل من تخ رج على يدي ه ين ال ه ذه الش هادة‪،‬‬
‫ويوصف بهذا الوصف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أكل من يتخرج من مدرسة السالم يصبح نقطة تحت باء؟‬
‫قال‪ :‬وهل هناك ما هو أشرف منها‪ ..‬أليست العبودية هلل أعلى المراتب؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فلن تتحقق بالعبودية حتى تتحقق بالسالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني أرى امتزاج الصراع فيك بالسالم‪ ،‬والسكينة بالثورة‪ ،‬فأيهما أنت؟‬
‫قال‪ :‬أنا السالم الذي يتحرك كتحرك النسيم العليل لتمتد الحياة بحركته‪ ..‬أو يتح رك كتح رك األم راج العاتي ة ليمأل‬
‫األرض بالبخار المبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬دعنا من كل هذا‪ ..‬وخبرني‪ ..‬لقد ذكر لي المعلم بأنك تصف دواء جامعا شافيا كافيا‪ ،‬فما اسم هذا الدواء؟‬
‫قال‪ :‬هو ليس دواء فقط‪ ..‬بل هو حياة يشكل الدواء أحد جوانبها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل لهذا الدوء أو الحياة عالقة بالشفاء؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬شفاء كل العلل الحسية والمعنوية‪ ..‬النفسية والجسدية‪ ..‬الفردية واالجتماعية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا الدواء يحوي كل ذلك؟‬
‫قال‪ :‬من تداوى به عوفيت نفسه‪ ،‬وعوفي جسده‪ ،‬وصار سالما على األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اسمه؟‬
‫قال‪ :‬نحن نسميه‪ (:‬نظام الحياة المباركة)‬
‫قلت‪ :‬تقصد‪ (:‬مباركوبيوتيك)؟‬
‫قال‪ :‬بعضهم يسميه بهذا االسم ليشاكل به ما تعرفونه من الماكروبيوتيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟ وما الفرق بينهما؟‬
‫قال‪ :‬فرق عظيم‪ ..‬فالماكروبيوتيك نظر إلى الغذاء‪ ..‬وإلى يانه ويانغه أما نحن فننظر إلى بركته‪ ..‬فالبرك ة هي س ر‬
‫الشفاء وسر العافية‪ ..‬بل هي سر كل خير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن البركة شيء معنوي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنه مؤثر‪ ..‬أتريد تشبيها يشرح لك ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك ما يرضي بصيرتي‪ ،‬ويقنعني بما تقول‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن مثال البركة في األشياء كمثال الروح في الجسد‪ ..‬فهل يمكن للجسد أن يفعل شيئا بدون الروح؟‬
‫قلت‪ :‬طبعا‪ ..‬الجسد بال روح كالتراب والحجارة ال يصلح له إال الدفن‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنتم كذلك تجعلون بطونكم مقابر للغذاء بما تسلبونه من بركته‪ ،‬فلذلك يدخل ميتا‪ ،‬ويخرج ميتا‪ ،‬وق د يص يبكم‬
‫ببعض سموم الموتى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل الطعام كائن حي حتى يوصف بالموت؟‬
‫قال‪ :‬هو كائن حي بالبركة‪ ..‬وهو جماد بنزع البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنفرض أنه حي‪ ..‬فالطعام طعام‪ ..‬وهو يمر على جميع األجهزة‪ ،‬ويصبح دم ا‪ ،‬وتتغ ذى من ه الخالي ا س واء‬
‫قلنا بحياته أو بموته‪ ..‬ببركته أو محق بركته‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬أرأيت ل و أن قائ دا من الق واد رأى ع دوا يري د أن يه اجم حص نه‪ ،‬فأرس ل مجموع ة من الجن ود الم وتى‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫ووضعهم رغما عنهم في مواجهة العدو‪ ،‬أيمكن أن يفعلوا شيئا؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬فهم موتى‪ ..‬فلن يردعوا عدوا‪ ،‬ولن يقروا عين صديق‪ ..‬ولكن ال أظن أن هناك من يفعل هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنتم تفعلونه‪ ..‬الغذاء المبارك هو الغذاء الذي نفخ فيه من روح البركة ما أمده بالحياة‪ ..‬فل ذلك إن دخ ل الجس م‬
‫دخل حيا‪ ..‬فإن اخترق الخاليا مألها بالبركة التي تقضي على كل داء وتنزل كل عافية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت ترى أن سر التأثير ال يعود إلى المكونات‪ ،‬بل إلى البركة التي تكون فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فلكل شيء خلقه هللا تعالى من حيث أصله في منتهى الكمال‪ ،‬ولكن محق البركة في ه يجعل ه س ليبا ميت ا‬
‫ليس له أي أثر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه دعاوى‪ ،‬فما برهنانها؟‬
‫قال‪ :‬ألم تقرأ ما ورد في قصة الخليل ‪ ‬عند زيارته البنه إسماعيل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هي قصة طويلة‪ ،‬فاذكر لي منها موضع االستشهاد‪.‬‬
‫هَّللا‬
‫قال‪ :‬لقد ورد فيها قوله ‪ (:‬فلبث عنهم إبراهيم ما شاء ثم أتاهم بع د فلم يج ده ف دخل على امرأت ه فس أل عن ه‪،‬‬
‫قالت خرج يبتغي لنا‪ ،‬قال‪ :‬كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم‪ ،‬فقالت‪ :‬نحن بخير وسعة وأثنت على هَّللا تع الى‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ما طعامكم؟ قالت اللحم‪ ،‬قال‪ :‬فما شرابكم؟ قالت الماء‪ ،‬قال‪ :‬اللهم بارك لهم في اللحم والماء‪ ،‬قال الن بي ‪ (:‬ولم يكن لهم‬
‫يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه)‪ ،‬قال‪ (:‬فهما ال يخلو عليهما أحد بغير مكة إال لم يوافقاه)‬
‫قلت‪ :‬فما موضع الشاهد من هذه القصة؟‬
‫قال‪ :‬لقد أخبر ‪ ‬عن تأثير الدعاء بالبركة في هذا الغذاء‪ ،‬ولذلك صار كافيا موافقا نافعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن لنا بالخليل ‪ ‬حتى يدعو لنا بمثل هذا؟‬
‫قال‪ :‬لقد جعل هللا تعالى للبركة أسبابا وشروطا‪ ،‬ونحن في هذا المستشفى نستعملها عالج ا لك ل األدواء‪ ..‬فنطعمهم‬
‫الغذاء والدواء مطعما بالبركة التي تملؤه بالحي اة‪ ،‬فتجعل ه يس ري في الجس م كم ا يس ري الجن دي النش يط يقت ل ك ل داء‪،‬‬
‫ويصارع كل بالء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا لم أسلم لك بعد ما تذكره من نفخ الحياة في الطعام بسبب البركة‪ ..‬فالبركة شيء معنوي‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأذكر لك ما قد يصح االستئناس به‪ ..‬لقد روى ابن مسعود قال‪ :‬كنا ـ أصحاب محمد ‪ ‬ـ نعد اآليات بركة‪،‬‬
‫وأنتم تعدونها تخويفا! بينما نحن مع رسول هللا ‪ ‬وليس معنا ماء‪ ،‬فقال لنا رسول هللا ‪ (:‬اطلبوا من معه فضل ماء)‪،‬‬
‫فأتى بماء‪ ،‬فصبه في إناء ثم وضع كفه فيه‪ ،‬فجعل الماء يخرج من بين أصابعه‪ ،‬ثم قال‪ (:‬حي على الطهور المبارك‪،‬‬
‫والبركة من هللا)‪ ،‬فشربنا‪ ،‬قال ابن مسعود‪ (:‬لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬فما موضع الشاهد من هذا النص؟‬
‫قال‪ :‬فيه مواضع من االستشهاد‪ ..‬ولكن سماع الصحابة المنتجبين تسبيح الطعام‪ ،‬وهو يؤكل فيه من الدالله ما فيه‪..‬‬
‫فالتسبيح سر الحياة وعالمتها وقوتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬التسبيح عام لكل شيء‪ ،‬فكل شيء يسبح باسم هللا‪ ..‬ولكنا ال نفقه تسبيحه‪.‬‬
‫قال‪ :‬من تسبيحه ما يكون شفاء‪ ..‬وحينذاك يكون مباركا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لن أجادلك في هذا‪ ..‬فإني لم أر بعد تأثير هذا على المرضى‪ ،‬ولكني أريد أن أسألك عن سر هذا وعالقته بم ا‬
‫نرى من أنواع استعمال الغذاء في الشفاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد رأيت األطباء في تحليلهم لتأثير الغذاء يركزون على مكوناته من حرارة ووبرودة ورطوب ة ويبوس ة‪ ،‬أو‬
‫من ين ويانغ‪ ،‬أو من بروتين وسكريات ودهون وفيتامين ومع ادن‪ ..‬ويغفل ون عن ش يء أك ثر من ه ذه العناص ر جميع ا‬
‫اسمه الحياة‪ ..‬حياة الغذاء‪ ..‬فالغذاء كائن حي‪ ..‬أو هو أشبه بالطبيب الذي ينزل الجسم ليمأله بالعافية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن قومك استطاعوا أن يخترعوا طبيبا مجهريا يسير عبر شبكة ال دماء‪ ،‬ويخ ترق الخالي ا‪ ،‬ويبحث‬
‫بحربته عن العلل ليقلتها‪ ،‬ويداوي بخيوطه الجراح ويرممها‪..‬‬

‫‪ )(1‬أبو داود‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫قلت‪ :‬لو فعلوا ذلك لقضوا على جميع األمراض‪ ،‬ومس حوا جمي ع العل ل‪ ..‬ولكن من لهم به ذا‪ ..‬وكم يحت اجون إلى‬
‫طبيب بمثل هذا النوع ففي اإلنسان ماليير الخاليا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالغذاء المبارك يقوم بهذه المهم ة‪ ..‬وه و ال يكتفي ب ذلك‪ ..‬ب ل إن ه يتح ول إلى خالي ا ودم اء ممل وءة بالحي اة‬
‫والبركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تركيزك على البركة يكاد يلغي أهم شيء في الغذاء وهو عناصره ومركباته‪ ..‬فال يمكن أن نطعم من يحت اج‬
‫سكريات طعاما مملوءا بالمعادن‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬ولكنك إن أطعمته سكريات وحدها قتلته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم قصدك‪.‬‬
‫قال‪ :‬رأيت بعض قومك يبحثون عن سر الشفاء في العسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعلم ذلك‪ ..‬وهم يفعلون ذل ك ليستخلص وه من العس ل‪ ،‬ثم يع الجون ب ه المرض ى موض وعا في كبس والت أ‬
‫وشرابا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري ما مثلهم في ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬وما مثلهم؟‬
‫قال‪ :‬إن مثلهم في ذلك كمثل قائد رأى جنديا قد اتشح بجميع أردية القوة‪ ،‬فكلف مستش اريه وخ براءه ب أن يش رحوا‬
‫جثة هذا الجندي‪ ،‬ثم يستخلصوا منه سر القوة‪ ،‬ليرموا بها أعداءهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سيقتلونه بذلك‪ ..‬ولن يجدي ما استخلصوه شيئا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكلذلك أنتم تفعلون‪ ..‬أنتم تريدون أن تقتلوا العسل كما قتلتم كل غذاء وكل دواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بنفر من قومي رأوا الـ ‪ ADN‬ورأوا سر تعلق حياة الخلية به‪ ،‬فراحوا يصنعونه‪ ،‬لكنهم فوجئ وا‬
‫بأن ما صنعوه ميت ال حراك له‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكذلك كل غذاء ودواء ال حياة فيه وال بركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنا نرى سر التأثير‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تقل سر التأثير‪ ،‬بل قل‪ :‬سراب التأثير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت قصدك من هذا‪ ،‬ولكني أريد أن أسألك سؤاال كنت سألت مثله‪..‬‬
‫قاطعني‪ ،‬وقال‪ :‬تريد معرفة التأثير‪ ..‬أو تريد معرفة األمراض التي أمكن عالجها بهذا النظام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم تعد ما في نفسي‪ ..‬فالبرهان على نجاعة الدواء حصول الشفاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬لم يدخل هذا المستشفى مريض إال وخرج معافى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي أنواع األمراض؟‬
‫قال‪ :‬كل األمراض النفسية والجسدية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هناك أمراضا كثيرة عجز قومي عن عالجها‪ ..‬فهل توصلتم إلى عالجها؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬ألم يقل ‪ (:‬تداووا فإن هللا لم ينزل داء إال أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله)‬
‫قلت‪ :‬فماذا تستعملون في العالج؟‬
‫قال‪ :‬المرضى يمرون على جميع أقسام هذا المستشفى لينالوا في كل قسم ما يحقق لهم حظهم من الشفاء‪ ..‬فالش فاء‬
‫عملية شاملة‪ ..‬ومن الخطأ العظيم تجزئتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تجزأ؟‬
‫قال‪ :‬أليس اإلنسان روحا وجسدا‪ ،‬غيبا وشهادة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وذلك مما ال يجادل فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنكم تجزئون اإلنسان فتنظرون إلى إليه ككائن حسي ال روح له‪ ..‬أو ال عالقة له ب الروح‪ ..‬أنتم في عص ر‬
‫تقدم فيه الطب‪ ،‬ولكنه مع ذلك تأخر فيه الطب‪ ..‬تأخر تأخرا عظيما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يتقدم ويتأخر‪ ،‬أليس هذا تناقضا؟‬
‫‪14‬‬
‫قال‪ :‬تقدم فيه الطب باكتشافاته الكثيرة‪ ،‬واختراعاته التي ال يوازيها إال اكتشافاته‪ ،‬فال تظهر علة في الص باح‪ ،‬وإال‬
‫ويكر عليها جند الطب بالمساء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا شيء جميل‪ ،‬وهذا تقدم محض‪ ،‬فكيف يكون التخلف في التقدم؟‬
‫قال‪ :‬إن العلة التي ظهرت في المساء سببها الدواء الذي تناوله المريض في الصباح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا شيء ال بد منه‪ ،‬فكل عالج يفيد ناحية قد يضر أخرى؟‬
‫قال‪ :‬الخطر ليس في هذا؟‬
‫قلت‪ :‬فيم إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬في التجارة بأجساد الناس؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ذهب زمان الرقيق‪ ،‬فكيف يتاجر باألجساد؟‬
‫قال‪ :‬أال ترى دعايات األدوية وإشهاراتها‪ ،‬ما الف رق بينه ا وبين إش هارات األغذي ة والمالبس؟‪ ..‬ثم كي ف يتح ول‬
‫الدواء الذي تتوقف عليه حياة اإلنسان إلى تجارة رائجة مربحة؟‪ ..‬ثم لم اذا تتن افس مراك ز البحث‪ ،‬وتتص ارع‪ ،‬من أج ل‬
‫الظفر بدواء يسد العلة‪ ،‬ويفرغ الجيوب؟‪ ..‬ثم لماذا يحقر الطب بعضه بعضا‪ ،‬وغرضه واحد؟‬
‫قلت‪ :‬فما الذي ينقص الطب ليتقدم؟‬
‫قال‪ :‬البركة‪ ..‬العالج بالبركة‪ ،‬وهي تبدأ من معالجة اإلنسان‪ ،‬ال أعضاء اإلنسان؟‬
‫قلت‪ :‬معالجة اإلنسان‪ ،‬ال أعضاء اإلنسان؟ ما هذا‪ ،‬وهل اإلنسان إال أعضاؤه؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قول نبيك ‪ (:‬المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى ل ه س ائر الجس د ب الحمى والس هر)‬
‫(‪ ،)1‬وقوله ‪ (:‬المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله‪ ،‬وإن اشتكى عينه اشتكى كله)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬وضح ما تريد‪ ،‬فما وجه اإلشارة في هذا؟‬
‫قال‪ :‬أنتم اآلن في عصر التخصصات العلمية الدقيقة‪ ،‬فلذلك تنظ رون إلى اإلنس ان كمجموع ة أعض اء وأجه زة‪،‬‬
‫فإن دخلت إلى طبيب األمراض التنفسية لم يلحظ منك إال رئتيك وهما تشهقان وتزفران‪ ،‬وكأنك رئة تتح رك‪ ،‬فال يتعام ل‬
‫معك إال على أساس ذلك‪ ،‬وال يبالي بعد أن يمس ببلسم الشفاء رئتيك أن تذهب بعدها إلى أي طبيب آخر‪.‬‬
‫وإن دخلت إلى طبيب أمراض القلب لم يس مع لم ا تق ول‪ ،‬وال لم ا تش كو ب ل يكتفي بس ماع خفق ان قلب ك‪ ،‬ورؤي ة‬
‫حركات بطينك وأذينك‪ ..‬وهكذا مع كل األطباء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما المخرج؟‬
‫قال‪ :‬أن يتعامل الطب مع اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬مع اإلنسان روحا وجسدا‪ ،‬ونفسا وعقال وقلبا‪ ،‬فيراعي طاقاته ولطائفه‪ ،‬ويستخدمها جميعا في االستشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد الجمع بين الغيب والشهادة؟‬
‫قال‪ :‬إن كان اإلنسان غيبا وشهادة‪ ،‬فذلك ما أقصد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن الطبيب الذي استطاع أن يجمع ذلك كله؟‬
‫قال‪ :‬رسول هللا ‪ ،‬فقد كان يداوي بأدوية الغيب والشهادة؟ وعلمنا أن نداوي بالغيب والشهادة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن رسول هللا ‪ ‬لم يكن طبيبا؟‬
‫قال‪ :‬فإن لم يكن طبيبا‪ ،‬فمن الطبيب(‪)3‬؟‬
‫قلت‪ :‬رسول هللا ‪ ‬هاد ومعلم ورسول‪.‬‬

‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬ذكر بعض الباحثين (د‪ .‬محمد سليمان األشقر‪ ،‬أحاديث الطب النبوي هل يُحتج بها؟‪ ،‬نشر في إسالم أون الين‪ ،‬بتاريخ‪)12/08/2004 :‬كالما ال يمكن‬
‫أن يقبل من أي مسلم يحترم رسول هللا ‪ ، ‬وقد أساء فهم النصوص إساءة عميقة‪ ،‬وقد انطلق في رأيه هذا بذكر مواقف الناس من طب النبي ‪ ،‬وال بأس من‬
‫تخليص كالمه للداللة على مبلغ الخطر الذي يحمله تصوره أو تصويره لرسول هللا ‪ ،‬فقد ذكر مذهبين‪:‬‬
‫المذهب األول‪ :‬أنه ‪ ‬معصوم من خطأ االعتقاد في أمور الدنيا‪ ،‬بل كل ما يعتقده في ذلك مطابق للواقع‪ ،‬وكذلك ما يقوله ويخبر به‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫قال‪ :‬والمعلم هو الذي علم الناس جميعا‪ ،‬واألطباء من الناس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا النظام الذي تعتمدونه ينطلق من هدي النبي ‪ ‬في العالج بالعسل واألعشاب ونحوها؟‬
‫قال‪ :‬تخطئون حين تتصورون هذا‪ ..‬رسول هللا ‪ ‬لم يكن عشابا‪ ..‬كان ربانيا‪ ،‬وق د دلن ا بك ل س لوكه على ط رق‬
‫الشفاء وطرق تناول الشفاء‪ ..‬فالشفاء يستخلص من هديه كله‪ ،‬ومن حياته كلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم هذا‪ ..‬فإني ال أرى العالج إال ما يدخل إلى الجوف ليقوم بتدمير ما يجب تدميره‪ ،‬أو ترميم ما يس تحق‬
‫الترميم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك عالج الشهادة‪ ..‬وقد يدمر ما ال يستحق التدمير‪ ،‬أو يبني ما ال يحتاج إليه من البناء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ورسول هللا ‪ ‬الذي تستندون إليه في عالجكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬كان ‪ ‬ينظر إلى اإلنس ان بع د أن نفخت في ه ال روح‪ ..‬ال قب ل أن تنفخ في ه‪ ..‬فل ذلك ك ان يص ف ك ل أن واع‬

‫قال‪ «:‬ولم نجد أحدا من قدماء األصوليين صرح بمثل هذا الم ذهب‪ ،‬ولكن ه الزم لمن جع ل جمي ع أقوال ه وأفعال ه ‪ ‬حج ة ح تى في الطبي ات والزراع ة‬
‫لمخبر عن أمر دنيوي يدل على صحة ذلك الخبر‪ ،‬كما فعل السبكي وأيده المحلي والبناني »‬
‫ٍ‬ ‫ونحوها‪ ،‬وهو الزم أيضا لمن صحح منهم أن تقريره ‪‬‬
‫المذهب الثاني ‪ :‬أنه ال يجب أن يكون اعتقاده ‪ ‬في أمور الدنيا مطابقا للواقع‪ ،‬بل قد يقع الخطأ في ذلك االعتقاد قليال أو كثيرا‪ ،‬بل قد يص يب غ يره حيث‬
‫يخطئ هو ‪.‬‬
‫قال‪ :‬وليس في ذلك حطّ من منصبه العظيم الذي أكرمه هللا به؛ ألن منصب النبوة ُمنصب على العلم ب األمور الديني ة‪ ،‬من االعتق اد في هللا ومالئكت ه وكتب ه‬
‫ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬ومن األمور الشرعية‪ .‬أما إن اعتقد أن فالنا مظلوم فإذا هو ظالم‪ ،‬أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين‪ ،‬فإذا هو ال يش في من ه‪ ،‬أو أن‬
‫تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين‪ ،‬فإذا هو ال يؤدي إليه‪ ،‬أو يؤدي إلى عكسه‪ ،‬أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة‪ ،‬أو‬
‫يدفع ضررا معينا‪ ،‬فإذا هو ال يفعل‪ ،‬فإن ذلك االعتقاد ال دخل له ب النبوة‪ ،‬ب ل ه و يعتق ده من حيث ه و إنس ان‪ ،‬ل ه تجارب ه الشخص ية‪ ،‬وتأثرات ه بم ا س بق من‬
‫الحوادث‪ ،‬وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة‪ .‬فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر‪ ،‬ثم قد ينكشف الغط اء ف إذا األم ر على‬
‫خالف ما ظن أو اعتقد‪.‬‬
‫وقد اختار د‪ .‬محمد سليمان األشقر هذا المذهب‪ ،‬واستدل لذلك باألدلة اآلتية‪:‬‬
‫ُوحى إِلَ َّي ﴾(الكهف‪ ،)110:‬وقد تكرر التأكيد على بشرية الرس ول ‪ ‬بخالف أم ور الش ريعة‪ ،‬ف إن كالم ه فيه ا ال‬ ‫‪ .1‬قوله تعالى‪  :‬قُلْ إِنَّ َما أَنَا بَ َش ٌر ِم ْثلُ ُك ْم ي َ‬
‫يستقر فيه خطأ‪ ،‬كما هو ثابت في علم أصول الفقه‪ .‬فاألصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة‪ ،‬لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل‪.‬‬
‫‪ .2‬قوله ‪ «: ‬إنما أنا بشر‪ ،‬فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه‪ ،‬وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر »‪ ،‬وفي رواية‪ «:‬أنتم أعلم بدنياكم » فه ذا الح ديث‪،‬‬
‫برواياته المختلفة‪ ،‬يؤصل النبي ‪ ‬أصال عظيما في الشريعة‪ ،‬ويبينه لنا‪ ،‬ويشعرنا بأن بعض أفراد األمة قد يكونون أحيانا أعلم منه ‪ ‬بما يتقنونه من أمور‬
‫الدنيا‪ ،‬والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة‪ ،‬وأنه ال داعي شرعا اللتفاتهم إلى م ا يص در عن ه ‪ ‬من ذل ك إال كم ا يلتفت ون إلى ق ول غ يره من الن اس‬
‫( انظروا هذه الجرأة على مقام رسول هللا ‪)‬‬
‫‪ . 3‬إن الحباب بن المنذر‪ ،‬قال في سياق غزوة بدر‪ :‬يا رسول هللا‪ :‬أرأيت هذا المنزل‪ ،‬أمنزل أنزلكه هللا‪ ،‬ليس لنا أن نتقدم ه‪ ،‬وال نت أخر عن ه‪ ،‬أم ه و ال رأي‬
‫والحرب والمكيدة؟ قال‪ :‬بل هو الرأي والحرب والمكيدة‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬فإن هذا ليس بمنزل‪ ،‬فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم‪ ،‬فننزل ه‪ ،‬ثم نغ ور م ا‬
‫وراءه من القلب‪ ،‬ثم نبني عليه حوضا ً فنملؤه ماء‪ ،‬ثم نقاتل القوم فنشرب وال يشربون‪ .‬فقال رسول هللا ‪ :‬لقد أشرت بالرأي‪.‬‬
‫‪ .4‬وقالت عائشة‪ «:‬كان رسول هللا ‪ ‬يسقم عند آخر عمره‪ ،‬أو في آخر عمره‪ .‬فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وج ه‪ ،‬فينعت ون ل ه األنع ات‪ ،‬وكنت‬
‫أعالجها له »‬
‫وهو ينقل عن ابن خلدون قوله‪ «:‬الطب المنقول في الشرعيات ليس من الوحي في شيء‪ .‬وإنما هو أمر كان عاديا للعرب‪ ..‬فإنما بُعث ليعلمنا الش رائع‪ ،‬ولم‬
‫يبعث لتعريف الطب وال غيره »‬
‫وينقل عن القاضي عياض قوله‪ «:‬فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي ال مدخل فيها لعلم ديانة وال اعتقادها وال تعليمها‪ :‬يجوز عليه ‪ ‬فيها ما ذكرن اه‬
‫[أي الخطأ]‪ ،‬إذ ليس في هذا كله نقيصة وال محطة‪ ،‬وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وشغل نفسه به ا‪ ،‬والن بي ص لى هللا علي ه وس لم مش حون القلب‬
‫بمعرفة الربوبية‪ ،‬مآلن الجوانح بعلوم الشريعة‪ ،‬مقيد البال بمصالح األمة الدينية والدنيوية‪ .‬ولكن هذا إنما يكون في بعض األمور ويجوز في النادر وفيما سبيله‬
‫التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها ال في الكثير المؤذن بالبله والغفلة »‬
‫وهو يصنف األحاديث على هذا االعتبار فينفي االستفادة من كثير من األحاديث مع أن النصوص واضحة فيها‪ ،‬ومن األمثلة التي ذكره ا ل ذلك قول ه ‪«:‬‬
‫ما مأل آدمي وعاء شرا من بطنه‪ ،‬بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه‪ ،‬فإن كان ال محالة فثلث لطعامه‪ ،‬وثلث لشرابه‪ ،‬وتلث لنفسه »‬
‫ومنها أحاديث الحجامة‪ ،‬مع كثرة األحاديث الواردة فيها‪ ..‬وغيرها من األحاديث‪.‬‬
‫قال تعقيبا على هذه األحاديث بعد ذكره لها‪ «:‬فهذه األحاديث المذكورة في هذا النوع الث اني‪ ،‬ونحوه ا من األح اديث ال تي ت دخل في ص لب األم ور الطبي ة‬
‫والعالجية‪ ،‬ال ينبغي أن تؤخذ حجة الطب والعالج‪ ،‬بل مرجع ذلك إلى أهل الطب‪ ،‬فهم أهل االختصاص في ذلك‪ .‬وقد يتبين في شيء من هذه األح اديث الخط أ‬
‫من الناحية الطبية الصرفة »‬
‫ولسنا ندري موقف هذا الدكتور الجريء على رسول هللا ‪ ‬من رجل ينشر وصفات طبية صريحة تتعلق بنواح خط يرة من ص حة الن اس‪ ،‬ثم ي زعم أن ه‬
‫ملهم‪ ،‬بل إنه موحى إليه‪ ...‬هل يسلم له أم يطالب العدالة بأن تزج به في السجن لتالعبه بالناس الواثقين فيه!؟‬
‫إنها جرأة خطيرة سببها الجهل بق در رس ول هللا ‪ ...‬أم ا آثاره ا ـ ل و انتش رت بين الن اس ـ فهي ع دم الثق ة في رس ول هللا ‪ ‬مطلق ا في أم ور الغيب‬
‫والشهادة‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫األدوية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أن في هديه ‪ ‬كل تفاصيل الطب؟‬
‫قال‪ :‬كل قوانين الطب‪ ..‬ال تفاصيله‪ ..‬وفي هذا المستشفى ينطلق األطباء والخ براء من تع اليم أس تاذهم األك بر ‪‬‬
‫ليكتشفوا دواء كل علة‪ ،‬ويرسموا البسمة على كل شفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما الفرق بين القوانين والتفاصيل؟‬
‫قال‪ :‬القوانين إلهية والتفاصيل بشرية‪ ..‬وال تفاصيل بال قوانين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الفرق بينهما؟‬
‫قال‪ :‬لقد علم قومك أن أسباب كث ير من العل ل هي الج راثيم‪ ،‬وه و ق انون من ق وانين الص حة‪ ،‬فراح وا يتعرف ون‬
‫عليها‪ ،‬ويقاومونها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬هذا صحيح‪ ..‬فقد عرفت صناعة األدوية كثيرا من المضادات الحيوية‪ ،‬وهي مواد اكتش فت أص ً‬
‫ال في‬
‫العضويات الدقيقة‪ ،‬إال أنها أصبحت اليوم تنتج تركيبياً على نطاق واسع الستخدامها في عضويات دقيقة أخ رى أو وق ف‬
‫نموها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ففيم تستعمل هذه المضادات؟‬
‫قلت‪ :‬في معالجة االلتهابات الجرثومية أو الفطرية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما أساس التعرف عليها؟‬
‫قلت‪ :‬لقد كان باستور أول من الحظ تأثير هذه المضادات‪ ،‬في حين أثبت ألكسندر فليمنغ ألول مرة في عام ‪1929‬‬
‫أن عفن ‪ Penicillium notatum‬ينتج مادة البنسلين القادرة على القضاء على بعض أنواع الجراثيم‪ ..‬وفي عام ‪1940‬‬
‫تمكن العالمان فلوري وشاين من صنع كميات كافية من البنسلين لالستعمال السريري‪ ..‬ويعتبر عزل الستربتوميس ين من‬
‫قبل واكسمان والغراميسيدين من قبل دوبوس ‪ ubos‬وعزل السيفالوس بورين‪ ،‬من أهم االكتش افات المبك رة للمض ادات‬
‫الحيوية المفيدة في معالجة االلتهاب التي تصيب اإلنسان‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما نتج عن هذه االكتشافات؟‬
‫قلت‪ :‬لقد نتج عنها الكثير من أنواع المضادات الحيوية‪ ،‬والبحث ما زال مستمرا الكتشاف المزيد منها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما اكتشفه باستور وغيره كان قانونا من قوانين الطب استتبع التفاصيل الكثيرة التي ال تزالون تبحثون فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد كرمت البشرية باستور أعظم تكريم على اكتشافه هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلتكرم البشرية محمدا ‪ ،‬فإنه حقيق بالتكريم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هي تكرمه على أدوية السماء التي جاء بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ال يكفي ذلك‪ ..‬بل ينبغي أن تكرمه على أدوية األرض‪ ،‬فإن ما ذكره ‪ ‬يفوق كل ما ذك ره أطب اء الع الم‬
‫جميعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ستكتشف ذلك عندما تدخل إلى أقسام هذا المستشفى لترى التفاصيل الكثيرة التي انبنت على القوانين الش فائية‬
‫التي جاء بها رسول هللا ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل أطباء هذا المستشفى ينطلقون من هدي رسول هللا ‪ ‬في العالج؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وهم يعالجون كل األمراض حتى ما استعصى على قومك منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يعالجونها بالمضادات الحيوية؟‬
‫قال‪ :‬يعالجونها بما تعجز كل أدويتكم عن عالجها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال على ذلك يوضح لي هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬هل يعالج قومك المرضى بالصدقة؟‬

‫أما ما استدل به من النصوص فهو مرتبط بحوادث لها عالقة بحياته‪ ،‬وهي تحمل طابع التعليم والتربي ة‪ ،‬ال ط ابع المعلوم ة ال تي يح رص رس ول هللا ‪‬‬
‫على أن تنتقل إلى أمته لتنتفع بها‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫ضحكت‪ ،‬وقلت‪ :‬لو فعلوا ذلك لرجمهم الناس بالحجارة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد كان ‪ ‬يداوي الناس بالصدقة‪ ،‬بل قال‪ (:‬داووا مرضاكم بالصدقة)‪ ،‬وفي حديث آخر‪ (:‬ما عولج مريض‬
‫بأفضل من الصدقة)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬فهل لذلك عالقة بالبركة التي تستعملونها عالجا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما محلها منه؟‬
‫قال‪ :‬تقوم البركة على استمداد الشفاء من الطبيب األول‪ ،‬والصدقة سبيل من سبل نزول الدواء منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تعالجون بهذا في هذا المستشفى؟‬
‫قال‪ :‬نعالج به وبغيره‪ ..‬نعالج بكل ما يرتبط بالبرك ة‪ ..‬فنحن نبحث عنه ا كم ا تبحث ون في مخ ابركم عن العناص ر‬
‫والمركبات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن البركة بين قومي صارت لعبة بين أيدي المشعوذين‪ ..‬فلذلك أساء الناس الظن بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬الباطل ال يمحق الحق‪ ،‬والمنكر ال يبطل المعروف‪ ،‬والحقيقة ال تضرها دعاوى الجاهلين‪.‬‬
‫***‬
‫قلت‪ :‬حدثتني عن عالجك‪ ،‬فحدثني عنك‪ ..‬فهل أنت من مدائن السالم‪ ..‬أم من مدائن الصراع؟‬
‫قال‪ :‬كل من تراه في مدائن السالم هرب من أرض الصراع‪ ..‬ولست غريبا عنهم في ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد عرفت الكثير في هذا المستشفى‪ ..‬فما اسمك في أرض الصراع‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يهمك اسمي‪ ..‬فاالسم قناع من األقنعة التي تغفلون بها عن الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتخاف على نفسك من شركات الغذاء واألدوية وهيئات الرقاة أن تنصب لك كمينا أو تدس لك سما؟‬
‫قال‪ :‬من تعلم السالم ال يعرف الخوف‪ ..‬وال يدب إلى قلبه ما يدب إلى قلوب الغافلين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم ال تذكر اسمك إذن؟‬
‫قال‪ :‬من عرفه نسي اسمه‪ ..‬ألم تسمع قول أبي يزيد‪ (:‬كنا بنا‪ ،‬ففنينا عنا‪ ،‬فصرنا بال نحن)‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد سأله رجل ال يعرفه عن أبي يزيد‪ ،‬فقال‪ :‬أنا منذ ثالثين سنة أبحث عنه‪ ،‬ولم أجده‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأعلم قومك أنهم لن يفلحوا حتى ينزعوا هذه األلقاب التي يعب دونها من دون هللا‪ ..‬فاهلل ال يب ارك إال فيمن لبس‬
‫لباس العبودية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن لم تنبئ ني باس مك‪ ،‬ف أنبئني عن ك‪ ..‬ه ل كنت في أرض الص راع طبيب ا؟‪ ..‬وه ل ك ان المرض ى يأتون ك‬
‫ويزدحمون على بابك؟‪ ..‬وبم كنت تعالجهم؟‬
‫قال‪ :‬لم أكن طبيا‪ ..‬ولم يكن الناس يعرفونني‪ ..‬ولكن قلبي كان يمتلئ ألم ا حين أرى خلق ا كث يرا من خل ق هللا لعب ة‬
‫بين أيدي األطباء والمشعوذين‪ ..‬يستغلون حاجتهم إلى الشفاء ليذيقوهم ألوان األلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أبين قومك مشعوذون؟‬
‫قال‪ :‬وهل خال شعب من الشعوب من المشعوذين؟‪ ..‬أليس أولئك الدجالون الذي يلبسون عب اءة الق رآن الك ريم من‬
‫أخطر المشعوذين؟‪..‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد الرقاة‪..‬‬
‫قال‪ :‬وهل هناك غيرهم من المحرفين لدين هللا‪ ..‬المتالعبين بالمرضى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬علمت موقفكم منهم‪ ..‬فقد تجولت في أنحاء المستشفى وأبصرت الحملة التشديدة التي يحمله ا ه ذا المستش فى‬
‫على هؤالء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليسوا وحدهم‪ ..‬بل هم مع أطباء قومك خليط واحد‪ ..‬ال يتقون هللا في المرضى‪ ..‬وال يتألمون لما يصيبهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬علمت ما أصابك من هم وألم بسبب هؤالء‪ ..‬فما الذي حولك إلى هذا السبيل‪ ..‬هل مرضت أو مرض ت أم ك‬
‫وأختك بالسل كما مرض جورج اوشاوا وأمه وأخته؟‬

‫‪ )(1‬الديلمي‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد ابتالني هللا بمرض خطير‪ ..‬ذهبت ألجله إلى األطباء‪ ،‬فلعب وا بي م ا ش اء لهم أن يلعب وا‪ ..‬ثم ذهبت‬
‫إلى الرقاة‪ ،‬فوصفوا لي من فنون الدجل ما وصفوا‪ ..‬وبعد أن عضني اليأس بنابه‪ ..‬وجلست في البرزخ ال ذي بين الم وت‬
‫والحياة‪ ..‬الح لي من سماء األمل بصيصا من نور‪ ..‬فالحظته بعين بصريتي‪ ..‬ثم وجدت يدي تمتد إليه لتشرب من كأس ه‬
‫العذبة شرابا لن أنسى مذاقه‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما فعل هذا الشراب العجيب؟‬
‫قال‪ :‬لقد سرى في أوصالي‪ ..‬وتشربته عروقي‪ ..‬ونشطت له خالياي‪ ..‬ونهضت من مرض ي بق وة لم أدر س رها‪..‬‬
‫ونشاط ال أعرف سببه‪ ..‬وبعد بحث عن العلة هداني هللا إلى البركة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف عرفت أنها البركة‪ ..‬ولم تكن آثار تلك األدوية التي استعملتها‪ ..‬وال الرقى التي قرئت عليك؟‬
‫قال‪ :‬لقد أيأسني األطباء من حالتي‪ ..‬أعلموني أن ما أتناوله ما هو إال مجرد أدوية مهدئة سرعان ما يزول أثره ا‪..‬‬
‫أماالمرض فهو قائم في مكانه‪ ..‬بل نشط غاية النشاط‪ ..‬وأنه لن يبرح حتى يجتث شجرتي من أصولها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعندما شفيت ماذا قالوا؟‬
‫قال‪ :‬تعجبوا كثيرا‪ ..‬أعادوا تحليالتهم وجميع ما يستعملونه للكشف‪ ..‬فرأوا جسمي ببراءة الطفولة وصفاء الجمال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والرقاة؟‬
‫قال‪ :‬هم أيضا مألوا قلبي يأسا بعد أن استلوا كل ما في جيبي من أموال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم لم تكتف بشفائك‪ ،‬وذهبت تبحث عن سر الشفاء الذي حصل لك؟‬
‫قال‪:‬لقد مأل هللا قلبي حنانا ورحمة‪ ..‬فكانت مدامعي تنهمر لآلالم وقلبي يتفطر لألنين‪ ..‬فل ذلك س رت بين المرض ى‬
‫أبشرهم‪ ،‬وبين المعلولين أمسح الكآبة عنهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل وجدت سر ابتسامة األنين؟‬
‫قال‪ :‬من بحث بنفسه لن يجد إال السراب؟‬
‫قلت‪ :‬فبمن بحثت إذن؟‬
‫قال‪ :‬بحثت عن الطبيب الذي يملك ك ل أل وان الش فاء‪ ..‬فمن وج د الط بيب وج د الش فاء‪ ..‬ألم تس مع ق ول الحكيم‪(:‬‬
‫سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إال من حيث الدليل عليه‪ ،‬ولم يوصل إليهم إال من أراد أن يوصله إليه)‬
‫قلت‪ :‬فمن وصل إلى الطبيب وصل إلى الشفاء؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬بل يصل إلى ما هو فوق الشفاء‪ ..‬إلى المعرفة‪ ..‬ومن عرف هللا لم يعالج جسده فقط‪ ..‬ب ل يع الج روح ه‬
‫وكيانه وواقعه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد وجدت العالج في المعرفة؟‬
‫قال‪ :‬المعرفة هي مبدأ العالج‪ ..‬ألم تسمع قول المسيح ‪ ‬للقعيد‪ (:‬إيمانك شفاك)‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك يبدأ المريض عندنا بقسم الغيبة‪ ..‬فال يحضر حتى يغيب‪ ..‬وال يعالج جسده حتى تعالج روحه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف اختاروك معلما للبركة في هذا المستشفى؟‬
‫قال‪ :‬لقد هداني هللا إلى هذا النظام‪ ..‬فاختارني أهل الحل والعقد في مدائن السالم إلى تنفيذه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يحتاج تنفيذه إلى مستشفى؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬وال إلى دجالين يقومون بابتزاز الناس بالتجارة فيه‪ ..‬فهو يقوم على اإلخالص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين يعالج المريض به؟‬
‫قال‪ :‬في بيته أو في السوق أو في المعمل أو في الشارع‪ ..‬فهذا العالج ال يحتاج إال برمجة للحياة تتوافق مع أصول‬
‫الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سمعت صاحب ( نظام الغذاء الميزان)يعتمد برنامج الست‪ ،‬فما برنامجكم؟‬
‫قال‪ :‬لقد مررت في حصون العافية على قاعة التنظيم‪ ،‬وعرفت سر األربعين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬أذكر ذلك‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫قال‪ :‬لقد عرفنا من النصوص أن لألربعين أسرار في تحويل اإلنسان جميعا ال خالياه وحدها‪ ،‬فل ذلك ك ل مت درب‬
‫يبدأ باألربعين‪ ..‬وأكثر المرضى يخرجون بالبرء التام‪ ..‬وفيهم من يحتاج إلى المزيد من الدورات العالجية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا يفعل في األربعين؟‬
‫قال‪ :‬يتعلم اإلخالص والحكمة والسالم‪ ..‬ويتعلم كيف يدخل الطعام المبارك والدواء المبارك إلى جوفه ليقوم بمهمة‬
‫الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن حياة اإلنسان طويلة‪ ..‬فكيف تقنعون باألربعين؟‬
‫قال‪ :‬التزامه بالصدق في األربعين يهيئه ألن يسير حياته جميعا وفق ما عاشه في هذه المدة‪.‬‬
‫***‬
‫قلت‪ :‬فهل للبركة سبل يمكن تحصيلها بها؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ونحن في هذا المركز نقوم بكل الوسائل للبحث عن مواطنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل اخترعتم أجهزة لذلك؟‬
‫قال‪ :‬يمكن أن تسميها أجهزة‪ ،‬ويمكن أن ال تسميها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‪..‬‬
‫ْ‬ ‫قال‪ :‬نحن نعتمد هنا على المتوسمين الذين قال هللا فيهم‪ِ ﴿:‬إ َّن ِفي َذ ِلكَ آَل يا ٍ‬
‫ت ِلل ُمت ََوس ِِّمينَ ﴾(الحجر‪)75 :‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تعتمدون عليهم؟‬
‫قال‪ :‬لقد أعطاهم هللا تعالى البصيرة التي يرون بها مواضع البركة كما يرى خبراءكم العناصر والمركبات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن قومي يملكون مجاهر تحول من الذرة جبال‪ ..‬ومن النملة فيال‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهؤالء من البصيرة ما يخترقون به جميع األسوار التي ال تحلم جميع مجاهركم برؤيتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا وجد هؤالء المتوسمون؟‬
‫قال‪ :‬لقد وجدوا أربعة عناصر تكتمل البركة باكتمالها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما بالكم معشر مدائن السالم‪ ..‬كل شيء تجعلونه أربعة؟‬
‫قال‪ :‬ألم يقل ‪ (:‬خير الصحابة أربعة‪ ،‬وخير السرايا أربعمائة‪ ،‬وخير الجيوش أربعة آالف وال ته زم اثن ا عش ر‬
‫ألفا من قلة)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما سر ذلك؟‬
‫قال‪ :‬األربعة تجمع األركان واألصول‪ ..‬فلذلك ترى أكثر الحقائق تنحصر في األربع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هذه األربع التي يبحث عنها هذا المرصد؟‬
‫قال‪ :‬المصدر‪ ،‬والوسائط‪ ،‬والمواقيت‪ ،‬واألحوال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه أسماء‪ ..‬فما مسمياتها؟ وما وجه الحصر فيها؟‬
‫قال‪ :‬ال بد للبركة من مصدر تنطلق منه كالشعاع ال بد له من شمس تمد به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬وال بد لشعاع الشمس من محل تنزل به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وتلك هي الوسائط؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وهي التي تتلقى نورها من المصدر‪ ،‬كما تتلقون النور من القمر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ،‬فما المواقيت؟‬
‫قال‪ :‬لكل بركة مواقيتها الخاصة بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالمحال؟‬
‫قال‪ :‬قد توجد جميع أنواع البركات التي ذكرنا‪ ..‬ولكن المستقبل ال يكون صالحا لتقبلها‪ ،‬فلذلك ال ينال من خيرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ،‬فأين أتعلم هذه العلوم؟‬

‫‪ )(1‬أبو داواد والترمذي والحاكم عن ابن عباس‪.‬‬


‫‪20‬‬
‫قال‪ :‬سر في هذا المركز‪ ،‬فستلقى المتوسمين الذي يعلمونك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال تسير معي؟‬
‫قال‪ :‬سأرجع إليك عندما تنتهي لنذهب إلى سائر المراكز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أطلبك؟‬
‫قال‪ :‬لن تحتاج إلى ذلك‪..‬‬
‫مصدر البركة‬
‫سرت في أرجاء القاعة المكتظة بالمتوسمين‪ ،‬فوجدت قوما يجلسون إلى رجل قد علق خلفه لوحة كتب عليها قوله‬
‫الل َواأْل ِ ْك َر ِام﴾(الرحمن‪ ،)78 :‬فقلت‪ :‬ال شك أن هذا هو متوسم المصدر‪.‬‬ ‫اركَ ا ْس ُم َربِّكَ ِذي ْال َج ِ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬ت َب َ‬
‫قال ـ من غير أن يسمعني ـ‪ :‬أجل‪ ..‬فالبركة من هللا‪ ..‬والخ ير من هللا‪ ..‬ألم تس مع قول ه تع الى‪َ ﴿:‬ي ا َب ِني آ َد َم َق ْد َأ ْن ْ‬
‫زَل َن ا‬
‫ت هَّللا ِ َل َعلَّه ُْم َي َّذ َّكرُونَ ﴾(ألعراف‪ ،)26 :‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬وه َُو‬ ‫اري َسوْ آ ِت ُك ْم َو ِريشاً َو ِل َباسُ التَّ ْق َوى َذ ِلكَ خَ يْرٌ َذ ِلكَ ِم ْن آ َيا ِ‬ ‫َع َل ْي ُك ْم ِل َباساً ي َُو ِ‬
‫ت‬ ‫زَلنَا ِب ِه ْال َما َء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه ِم ْن ُك لِّ الثَّ َم َرا ِ‬ ‫ت َفأَ ْن ْ‬ ‫ال ُس ْقنَاهُ ِل َب َل ٍد َم ِّي ٍ‬ ‫ت َس َحاباً ِث َقا ً‬ ‫اح بُ ْشر ًا َب ْينَ َي َديْ َرحْ َم ِت ِه َحتَّى ِإ َذا َأ َقلَّ ْ‬ ‫ُرْسلُ الرِّ َي َ‬ ‫الَّ ِذي ي ِ‬
‫زَل َل ُك ْم ِمنَ‬ ‫زَوْج َها َو َأ ْن َ‬
‫اح َد ٍة ثُ َّم َج َع َل ِم ْن َها َ‬ ‫س َو ِ‬ ‫َك َذ ِلكَ نُ ْخ ِرجُ ْال َموْ تَى َل َعلَّ ُك ْم َت َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪ ،)57 :‬وقال تعالى‪ ﴿:‬خَ َل َق ُك ْم ِم ْن َن ْف ٍ‬
‫ث َذ ِل ُك ُم هَّللا ُ َر ُّب ُك ْم َل هُ ْال ُم ْل كُ ال ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو َف أَنَّى‬ ‫ت َثال ٍ‬ ‫ظلُ َم ا ٍ‬ ‫ق ِفي ُ‬ ‫خَل ٍ‬‫خَلقاً ِم ْن َبعْ ِد ْ‬ ‫ون أُ َّم َها ِت ُك ْم ْ‬ ‫ط ِ‬ ‫اج َي ْخلُقُ ُك ْم ِفي بُ ُ‬ ‫اأْل َ ْن َع ِام َث َما ِن َي َة َأ ْز َو ٍ‬
‫صْرفُونَ ﴾(الزمر‪)6 :‬‬ ‫تُ َ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما في هذا من أسرار البركة؟‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬لقد أخبر تعالى أن ما ينزل من السماء ينزل مباركا‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى في الق رآن الك ريم‪َ ﴿:‬و َه ذا ِك َت ابٌ أنزَل َن ا ُه‬
‫زَلنَا ُه َأ َف َأ ْن ُت ْم َل ُه ُم ْن ِكرُونَ ﴾(االنبياء‪ ،)50 :‬وقال تعالى‪﴿:‬‬ ‫ار ٌك َأ ْن ْ‬‫ون﴾(األنعام‪ ،)155 :‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬و َه َذا ِذ ْكرٌ ُم َب َ‬ ‫رْح ُم َ‬ ‫ار ٌك َفا َّت ِبعُو ُه َوا َّت ُقوا َل َع َّل ُك ْم ُت َ‬‫ُم َب َ‬
‫ب﴾‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ار ٌك ِل َي َّدبَّرُوا آ َيا ِت ِه َو ِل َي َت ذك َر أول و ا ل َب ا ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ين﴾(المؤمنون‪ ،)29 :‬وقال تعالى‪ِ ﴿:‬كتَابٌ أنزَلنَا ُه ِإل ْيكَ ُم َب َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت خَ يْرُ ال ُمن ِز ِل َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اركا َوأن َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َو ُقلْ َربِّ أن ِزل ِني ُمنزَ ال ُم َب َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ين﴾(الدخان‪)3 :‬‬ ‫ار َك ٍة ِإ َّنا ُك َّنا ُم ْن ِذ ِر َ‬ ‫(صّ‪ ،)29 :‬وقال تعالى‪ِ ﴿:‬إ َّنا َأ ْن ْ‬
‫زَلنَا ُه ِفي َل ْي َل ٍة ُم َب َ‬
‫ص ِيد﴾( ّق‪)9 :‬‬ ‫ت َو َحبَّ ْال َح ِ‬ ‫ارك ًا َف َأ ْن َب ْتنَا ِب ِه َج َّنا ٍ‬
‫وقال تعالى يذكر سر البركة في المطر‪َ ﴿:‬ون َّ َْزلنَا ِم َن الس ََّم ِاء َم ًاء ُم َب َ‬
‫بل إنه تعالى عندما ذكر الحديد‪ ،‬وذكر منافعه ـ التي هي بركاته ـ عبر عنها باإلنزال‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬ل َق ْد َأرْ َس ْلنَا رُ ُس َلنَا‬
‫ْ‬
‫اس ﴾(الحديد‪)25 :‬‬ ‫زَلنَا ْال َح ِدي َد ِفي ِه َبأسٌ َش ِدي ٌد َو َمنَا ِف ُع ِللنَّ ِ‬ ‫ْط َو َأ ْن ْ‬‫َاب َو ْال ِميزَ انَ ِل َيقُو َم النَّاسُ ِب ْال ِقس ِ‬ ‫زَلنَا َم َعهُ ُم ْال ِكت َ‬ ‫ت َو َأ ْن ْ‬ ‫ِب ْال َب ِّينَا ِ‬
‫اري َس وْ آ ِت ُك ْم َو ِريش اً‬ ‫زَلنَا َع َل ْي ُك ْم ِل َباساً ي َُو ِ‬ ‫وعندما ذكر اللباس ومنافعه عبر عنها باإلنزال‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬يا َب ِني آ َد َم َق ْد َأ ْن ْ‬
‫ت هَّللا ِ َل َعلَّه ُْم َي َّذ َّكرُونَ ﴾(ألعراف‪)26:‬‬ ‫َو ِل َباسُ التَّ ْق َوى َذ ِلكَ خَ يْرٌ َذ ِلكَ ِم ْن آ َيا ِ‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬وهذا يعني أن البركة في كل هذه األشياء‪ ،‬ولكن إشكاال عظيما يطرح هنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬تقصد أن هذه األمور ينالها الكافر والمؤمن‪ ،‬والصديق والشقي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ولم تعدو ما في نفسي‪ ..‬وال عجب‪ ،‬فأنت من المتوسمين‪.‬‬
‫قال‪ :‬هم ينالونها كما ينالها المؤمنون‪ ..‬ولكنهم ينالونها مجردة من البركة‪ ..‬أو هي كما قال معلمن ا‪ :‬ت دخل أج وافهم‬
‫ميتة ال حراك لها‪ ..‬بل قد تدخلها حية تصارعهم وتسيمهم ألوان العذاب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال يزال فهمي كليال دون إدارك سر هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬ال تلحفوا في المسألة‪ ،‬فوهللا ال يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأن ا ل ه‬
‫كاره فيبارك له فيما أعطيته)(‪ ،)1‬فقد أخبر ‪ ‬أنه يعطيه ولكنه عطاء ممحوق البركة‪ ..‬وما كان كذلك كان ضرره أقرب‬
‫من نفعه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بما روي في الحديث أن فتى من أسلم قال‪ :‬يا َر ُس ول هَّللا ِ إني أري د الغ زو وليس معي م ا أتجه ز‬
‫به؟ فقال ‪ (:‬ائت فالناً‪ ،‬فإنه قد كان تجهز فمرض)‪ ،‬فأتاه فقال‪ (:‬إن َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬يقرئك السالم‪ ،‬ويقول‪ (:‬أعطني الذي‬
‫تجهزت به)‪ ،‬فقال الرجل مخاطبا أهله‪ (:‬يا فالنة أعطيه الذي تجهزت به‪ ،‬وال تحبسي منه شيئاً‪ ،‬فوهللا ال تحبسي منه شيئاً‬
‫فيبارك لك فيه)(‪)2‬‬
‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬مسلم‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫قال‪ :‬فقد أدرك هذا الصحابي الجليل سر البركة‪ ..‬فلذلك راح ينفر من األشياء الممحوقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا يدل على أن رسول هللا ‪ ‬علمهم من أسرار البركة ما جعلهم يلتمسون مواضعها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ويدل لذلك ما ورد في الحديث من قوله ‪(:‬إن هذا المال خضر حلو‪ ،‬فمن أخذه بس خاوة نفس ب ورك‬
‫له فيه‪ ،‬ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه‪ ،‬وكان كالذي يأكل وال يشبع؛ واليد العليا خير من اليد السفلى)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذا‪ ،‬واقتنعت به‪ ،‬وقد سمعت من معلم البركة ما جعلني أبحث عن عناصر البركة ومركباته ا‪ ..‬ف أي‬
‫بلسم رأيته أيتها المتوسم يمأل األشياء بالبركة؟‬
‫قال‪ :‬أليس هللا هو مصدر البركة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد رأينا من النصوص ما يدل على ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن قومك يبحثون عن البركة عند المشعوذين والدجالين‪ ..‬حتى انحرف مفه وم البرك ة‪ ،‬وأص بح نوع ا من‬
‫الدجل‪ ..‬أو نوعا من الصكوك كتلك الصكوك التي كان رجال الدين يبيعونها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬هذا صحيح‪..‬فلماذا تركوا مصدر البركة؟‬
‫قال‪ :‬ألمرين‪ :‬أما أحدهما‪ ،‬فهم ينزهون هللا في نفوسهم تنزيها يجعله بمنأى عن العالم أو معزوال عن الع الم‪ ،‬وذل ك‬
‫يسلمهم إلى الثاني‪ ،‬وهو تصورهم استحالة الوصول إلى ما في ي د هللا من برك ات‪ ..‬أو أن ذل ك ال يك ون إال بع د الم رور‬
‫على وسائط المشعوذين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ..‬فكيف نتقي األمر األول؟‬
‫اركَ الَّ ِذي‬ ‫اركَ الَّ ِذي ن ََّز َل ْالفُرْ َقانَ َع َلى َع ْب ِد ِه ِل َي ُكونَ ِلل َعا َل ِمينَ َن ِذير ًا﴾ (الفرق ان‪ ،)1 :‬وقوله‪َ ﴿:‬ت َب َ‬
‫ْ‬ ‫قال‪ :‬بفهم قوله تعالى‪َ ﴿:‬ت َب َ‬
‫اركَ الَّ ِذي َج َع َل‬ ‫َجْري ِم ْن تَحْ ِت َها اأْل َ ْن َهارُ َو َيجْ َعلْ َلكَ قُصُور ًا﴾ (الفرقان‪ ،)10 :‬وقوله‪َ ﴿:‬ت َب َ‬ ‫تت ِ‬ ‫ِإ ْن َشا َء َج َع َل َلكَ خَ يْر ًا ِم ْن َذ ِلكَ َجنَّا ٍ‬
‫ض َو َم ا‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫اركَ الَّ ِذي َل هُ ُم ْل كُ َّ‬
‫الس َم َ‬ ‫اء بُرُوجاً َو َج َع َل ِفي َها ِس َراجاً َو َق َمر ًا ُم ِن ير ًا﴾(الفرق ان‪ ،)61:‬وقوله‪َ ﴿:‬و َت َب َ‬ ‫ِفي ال َّس َم ِ‬
‫رْجعُونَ ﴾ (الزخرف‪)85 :‬‬ ‫َب ْي َنهُ َما َو ِع ْن َد ُه ِع ْل ُم السَّا َع ِة َو ِإ َل ْي ِه تُ َ‬
‫قلت‪ :‬هذه آيات كثيرة‪ ،‬ولكل منها تفسيره الخاص‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنها تتفق جميعا في تقرير معنى واحد‪ ..‬معنى بركة هللا‪ ..‬فلذلك من اتصل باهلل ن ال من بركات ه م ا ال ينال ه‬
‫عند جميع أولياء الدنيا وصالحيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال يبحث الناس عن األولياء والصالحين لينالوا منهم بركاتهم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فلو علموا أن موزع البركات حاض ر ال يغيب‪ ..‬وك ريم ال يبخ ل‪ ..‬وع دل ال يظلم‪ ..‬ورحيم ال يقس و‪ ..‬أك انوا‬
‫يتركونه‪ ،‬ويبحثون عن الوسائط؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬وغبي من يفعل هذا‪ ..‬كيف ي ترك الق ريب‪ ،‬ويقص د البعي د‪ ..‬وكي ف ييمم وجه ه للض عيف‪ ،‬وفي إمكان ه‬
‫ار‬‫ْص َ‬ ‫ْص ارُ َوهُ َو يُ ْد ِركُ اأْل َب َ‬ ‫االتصال بالقوي‪ ..‬ولكن الناس يرون الوسائط وال يرون هللا‪ ..‬ألم يقل هللا تعالى‪ ﴿:‬ال تُ ْد ِر ُك هُ اأْل َب َ‬
‫َوه َُو اللَّ ِطيفُ ْالخَ ِبيرُ﴾(األنعام‪)103 :‬‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ولكنه ال يشترط أن تراه ببصرك حتى تنال خيره‪ ..‬فأنت تنال خيره دون أن تراه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صحيح هذا‪ ..‬فكيف أتصل به ألنال بركات فضله؟‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ض َول ِكن ك ذبُوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اء َوا رْ ِ‬ ‫أْل‬ ‫ت ِمنَ َّ‬
‫الس َم ِ‬ ‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َلوْ َأ َّن َأ ْه َل ْالقُ َرى آ َمنُ وا َواتق وْا لفتَحْ َن ا َعل ْي ِه ْم َب َرك ا ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫خَذنَاه ُْم ِب َما َكانُوا َي ْك ِسبُونَ ﴾ (ألعراف‪)96 :‬‬ ‫َفأَ ْ‬
‫قلت‪ :‬اإليمان والتقوى‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فاإليمان يعرفك به‪ ..‬والتقوى تحجزك عن معصيته وتقربك إلى طاعته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل البركة محصورة في هؤالء؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وهذا بنص القرآن الكريم‪ ..‬فال تنال البركة إال المباركين‪.‬‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تطبق لي هذا المعنى على ما ذكره معلم البركة من حياة األشياء؟‬
‫قال‪ :‬ذلك سهل‪ ..‬فالغذاء إن حل في جوف المؤمن حل سعيدا مسرورا‪ ،‬فيمأل جوفه وخالي اه بالبرك ات‪ ،‬ولكن ه إن‬
‫حل في جوف الشقي حل تصحبه اللعنات‪ ..‬فال يبارك له فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هذا؟‪ ..‬إن ادعاء مثل هذا يحتاج إلى مصادر معصومة‪ ..‬فهل حدثت األشياء أو حدثتك؟‬
‫قال‪ :‬لقد ورد في النصوص ما يقرر ه ذه الحقيق ة تقري را يلبس ها ثوبه ا اليقين‪ ..‬ألم تش فق ال ذراع المس مومة على‬
‫رسول هللا ‪ ،‬فتخبره عن سميتها(‪..)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬ألم يحن الجذع لفقد رسول هللا ‪ ،‬فلم يسكن حتى ضمه ‪ ‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد روي أن رسول هللا ‪ ‬كان يخطب إلى لزق جذع فأتاه رجل رومي‪ ،‬فقال أصنع لك من برا تخطب‬
‫عليه‪ ،‬فصنع له منبرا‪ ،‬فلما قام عليه النبي ‪ ‬يخطب حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها‪ ،‬فنزل إليه رس ول هللا ‪ ‬فض مه‬
‫إليه‪ ،‬فسكن فأمر به أن يحفر له ويدفن (‪.)2‬‬
‫قال‪ :‬ألم يكن ‪ ‬يبادل هذه األشياء مشاعرها‪ ،‬فكان يقول عن أحد‪( :‬هذا جبل يحبنا ونحبه)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد كان يخاطبه كما يخاطب األحياء‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن قدرة الجبل على مبادل ة الن بي ‪ ‬لمش اعره يرفع ه إلى مس تويات أعلى من مس توى اإلنس ان المس تعلي‬
‫الجاهل المستكبر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت كل هذا‪ ..‬ولكني لم أفهم سر عداوة الغذاء الذي يتناوله الجاحد لمن تناوله‪.‬‬
‫طرْ نَ ِم ْنهُ َو َت ْن َش ُّق اأْل َرْ ضُ‬
‫ات َي َت َف َّ‬
‫او ُ‬‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪ ،‬وهو يبين أثر شرك المشركين‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬ت َكا ُد ال َّس َم َ‬
‫َوت َِخرُّ ْال ِج َبالُ َه ّد ًا َأ ْن َدعَوْا ِللرَّحْ َم ِن َو َلد ًا﴾(مريم‪ 90 :‬ـ‪)91‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد ذكر العلماء ـ انطالقا من هذه اآلية ـ األثر الشديد الذي خلفه الشرك في األشياء‪ ،‬فذكر عن بعضهم‬
‫أنه قال‪ (:‬إن هللا تعالى لما خلق األرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في األرض شجرة يأتيها بنو آدم إال أص ابوا منه ا‬
‫منفعة وكان لهم منها منفعة فلم تزل األرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة وهي قولهم‪ ﴿:‬اتَّخَ َذ‬
‫الرَّحْ َمنُ َو َلد ًا﴾ (مريم‪ ،)88:‬فلما قالوها اقشعرت األرض وشاك الشجر)‬
‫قال‪ :‬لقد كان ابن عباس يرجع ما في األرض من األذى بسب هذا قال‪ ( :‬اقشعرت الجب ال وم ا فيه ا من األش جار‬
‫والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي األشجار الشوك)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هذا النص قد يكون منسوبا البن عباس‪ ،‬فكيف تستدل به؟‬
‫قال‪ :‬أنا ال أجزم بهذا النص‪ ..‬ولك ني أق ول ل ك‪ :‬إن الص ور والخص ائص ال تي نراه ا لألش ياء له ا عالق ة كب يرة‬
‫بانفعاالتها التي يسببها سلوكنا‪ ،‬ولذلك قد نستلذ طعوما أو مناظر في بعض األيام‪ ،‬ثم نستقبحها أياما أخرى‪ ،‬وقد نعزو ذلك‬
‫إلى نفوسنا فقط ونعزل الكون من هذا األثر المتناقض لألشياء(‪.)5‬‬
‫قلت‪ :‬ألألشياء تأثيرها في الفرح والكآبة التي تصيبنا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد ورد في اآلثار م ا ي دل على س رور األش ياء‪ ،‬وال ذي ق د يس ري إلى الن اظرين ليش عرهم ب األنس‬
‫والسعادة‪ ،‬فقد روي أن الجبل يفخر إن مر عليه ذاكر هلل تعالى‪ ،‬ففي األثر عن ابن مسعود‪ (:‬إن الجب ل ليق ول للجب ل‪ :‬ه ل‬
‫مرَّ بك اليوم ذاكر هلل؟ فإن ق ال‪ :‬نعم‪ُ ،‬س رَّ ب ه)‪ ،‬ثم ق رأ عب د هللا قول ه تع الى‪َ ﴿:‬و َق الُوا اتَّخَ َذ هَّللا ُ َو َل د ًا ُس ب َْحا َنهُ َب لْ َل هُ َم ا ِفي‬
‫ض ُكلٌّ َلهُ َقا ِنتُونَ ﴾ (البقرة‪)116:‬قال‪ (:‬أفتراهن يسمعن الزور واليسمعن الخير)(‪)6‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫وفي أثر آخر‪ (:‬ما من صباح وال رواح إال تنادي بقاع األرض بعضها بعض ا‪ ،‬ي ا ج اره ه ل م ر ب ك الي وم عب د‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬شعب اإليمان‪.1/160 :‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(3‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬القرطبي‪.11/158 :‬‬
‫‪ )(5‬ومما قد يدل على هذا ما ذكره بعض األساتذة في علم الجزيئات المكونه لألجسام أنه عند ذكر البسمله على الكوب المملوء بالماء فإن بلورات الم اء‬
‫تتشكل في أروع وأجمل أشكالها‪ ،‬وعندما يذكر أي كالم بذيء تتشكل في مجموعات بشعة الشكل‪ ،‬فانظر الستجابة كل شيء وصالح حاله بذكر هللا عز وجل‪.‬‬
‫‪ )(6‬ابن أببي شيبة‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫فصلى هلل أو ذكر هللا عليك‪ ،‬فمن قائلة ال‪ ،‬ومن قائلة نعم‪ ،‬فإذا قالت‪ :‬نعم‪ ،‬رأت لها بذلك فضال عليها)‬
‫قلت‪ :‬أدركت هذا‪ ..‬ولكن هذا مرتبط بالحياة عموما‪ ،‬وأنا أسأل عن أشياء ملموسة لها تأثيرها في البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬اسم هللا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬اسم هللا!؟‬
‫الل‬ ‫ْ‬
‫اس ُم َربِّكَ ِذي ال َج ِ‬ ‫اركَ ْ‬ ‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فاسم هللا الذي يتلفظه القلب المؤمن هو سر البركة‪ ..‬ألم تسمع قوله تع الى‪َ ﴿ :‬ت َب َ‬
‫َواأْل ِ ْك َر ِام﴾(الرحمن‪ ،)78 :‬فقد نسب البركة لالسم‪ ..‬بل ورد في النصوص ما يصرح بهذا‪ ،‬فق د ق ال ‪ (:‬اللهم إني أس ألك‬
‫باسمك الطاهر الطيب المبارك األحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت‪ ،‬وإذا سألت به أعطيت‪ ،‬وإذا استرحمت ب ه رحمت‪،‬‬
‫وإذا استفرجت به فرجت)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا ورد في النصوص الحث على تسمية هللا في كل شيء؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد ورد في الحديث ما يقرر كل ما ذكرناه‪ ،‬فقد قال ‪ (:‬كل طعام ال يذكر اسم هللا تعالى علي ه فإنم ا‬
‫هو داء‪ ،‬وال بركة فيه‪ ،‬وكفارة ذلك إن كانت المائدة موضوعة أن تسمى وتعيد ي دك‪ ،‬وإن ك انت ق د رفعت أن تس مى هللا‬
‫وتلعق أصابعك)(‪ ،)2‬وقال ‪ (:‬أذيبوا طعامكم بذكر هللا والصالة‪ ،‬وال تناموا عليه‪ ،‬فتقسو قلوبكم)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا الحديث يربط بين ذكر هللا في الطعام‪ ،‬وبين الداء‪ ..‬أيمكن أن تحل بن ا األدواء بس بب الغفل ة عن ذك ر‬
‫هللا؟‬
‫قال‪ :‬أج ل‪ ..‬ألم يق ل ‪( :‬م ا اجتم ع ق وم في مجلس فتفرق وا ولم ي ذكروا هللا ولم يص لوا على الن بي ‪ ‬إال ك ان‬
‫مجلسهم ترة عليهم يوم القيامة)(‪ ..)4‬ألم يقل ‪ (:‬ما اجتم ع ق وم فتفرق وا عن غ ير ذك ر هللا‪ ،‬إال كأنم ا تفرق وا عن جيف ة‬
‫حمار‪ ،‬وكان ذلك المجلس عليهم حسرة)(‪)5‬؟‬
‫قال‪ :‬وهكذا‪ ..‬إذا أكلوا طعاما لم يذكروا هللا فيه كان عليهم حسرة ونقصا وظلمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد عرفت إذن من أسرار البركة سر بركة اسم هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس اسم هللا فقط‪ ..‬بل اسم هللا‪ ..‬وكالم هللا‪ ..‬فلذلك أعلم المرضى واألصحاء كيف يسمون هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أللتسمية أصول؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬لها روح وجسد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما جسدها؟‬
‫قال‪ :‬أنتم تتقنونه‪ ..‬فأنتم ال تنسوها في أكلكم وشربكم‪ ،‬بل في لهوكم وعبثكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وروحها‪.‬‬
‫ْ‬
‫قال‪ :‬استشعار حضور هللا‪ ..‬وتناول األشياء من يد هللا‪ ..‬أتدري سر قوله تعالى‪َ ﴿:‬وال تَأ ُكلُوا ِم َّما َل ْم ي ُْذ َك ِر ْ‬
‫اس ُم هَّللا ِ َع َل ْي ِه‬
‫اطينَ َليُوحُونَ ِإ َلى َأوْ ِل َيا ِئ ِه ْم ِلي َُجا ِدلُو ُك ْم َو ِإ ْن َأ َ‬
‫طعْ تُ ُموه ُْم ِإنَّ ُك ْم َل ُم ْش ِر ُكونَ ﴾ (األنعام‪)121 :‬‬ ‫ق َو ِإ َّن ال َّش َي ِ‬
‫َو ِإنَّ ُه َل ِف ْس ٌ‬
‫قلت‪ :‬هذه اآلية تنهى عن أكل ما لم يسم عليه هللا تعالى من الحيوانات‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن ذلك هو أدب الذبح‪ ..‬فمن ذبح لتصوره أنه يحق ل ه أن يتمت ع بلحمه ا ك ان ق اتال‪ ..‬فال ف رق بين أن تقت ل‬
‫إنسانا أو حيوانا‪ ..‬ولكن إن ذبحتها‪ ..‬وقلت لها‪ ،‬وأنت تذبحها‪ :‬اعذرني أيتها البهيمة‪ ..‬فلوال أن هللا تعالى أذن لي ب ذبحك م ا‬
‫ذبحتك‪ ،‬فإنما أذبحك باسم هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تقول البهيمة حينئذ؟‬
‫صي لكَ أ ْمرا﴾(الكه ف‪:‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صا ِبرا َوال أع ِ‬ ‫ً‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫قال‪ :‬تسلم وجهها هلل‪ ..‬كما سلمه إسماعيل ‪ ،‬وتقول‪َ ﴿:‬ست َِج ُد ِني ِإن شا َء ُ َ‬
‫‪ ..)69‬بل إنها ستمتلئ فرحا وسرورا‪ ،‬وتقول لك‪ :‬هلم اذبحني باسم هللا‪ ..‬فإنه شرف عظيم لهذا الجس د أن ي دفن في جس د‬
‫من يعبد هللا ويذكره‪.‬‬

‫ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫ابن عساكر‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫الطبراني في األوسط‪ ،‬وابن عدي وابن السنى وأبو نعيم في الطب‪ ،‬والبيهقي‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أحمد وابن حيان‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫أحمد‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪24‬‬
‫قلت‪ :‬فهل سمعت صوتها‪ ،‬وهي تخاطب اإلنسان هذا الخطاب؟‬
‫قال‪ :‬ألم يخبرك المعلم عن المتوسمين؟‬
‫قلت‪ :‬فما سر سماعك؟‬
‫قال‪ :‬لن تفهمه حتى تعرف سر (بنيان هللا)‪ ..‬أنسيت أنك ال تزال في مدرسة السالم االبتدائية‪.‬‬
‫وسائط البركة‬
‫لم أبتعد قليال عن المتوسم األول‪ ،‬حتى ناداني أحد المتوسمين‪ ،‬وقال‪ :‬تعال‪ ..‬فإن لي أخبارا أريد أن أسر بها إليك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهناك أسرار في مدائن السالم؟‬
‫قال‪ :‬من الحقائق ما ال يمكن للكل سماعه‪ ،‬فلذلك نحتاج إلى إسراره لمن يحتاج إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أعلم إال أن العلم ينبغي أن ينشر‪ ..‬ولم أسمع إال أن رسول هللا ‪ ‬قال‪ (:‬من كتم علما ألجمه هللا يوم القيام ة‬
‫بلجام من نار)(‪..)1‬‬
‫قال‪ :‬سمعت هذا‪ ..‬فاسمع قوله ‪ (:‬كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)(‪ ..)2‬واسمع قول علي‪ ،‬وقد أشار إلى‬
‫صدره‪ (:‬إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة)‪ ..‬واسمع قول عيس ى ‪ (:‬ال تعلق وا الج واهر في أعن اق الخن ازير‪،‬‬
‫فإن الحكمة خير من الجوهر‪ ،‬ومن كرهها فهو شر من الخنازير)‪ ..‬وقد سئل بعض العلماء عن شيء فلم يجب‪ ،‬ف ذكر ل ه‬
‫السائل الحديث الذي ذكرت لي‪ ،‬فقال له‪ (:‬اترك اللجام‪ ،‬واذهب‪ ،‬فإن جاء من يفقه وكتمته‪ ،‬فليلجمني‪ ،‬فق د ق ال هللا تع الى‪:‬‬
‫﴿ َوال تُ ْؤتُوا ال ُّس َف َها َء َأ ْم َوا َل ُك ُم الَّ ِتي َج َع َل هَّللا ُ َل ُك ْم ِق َياماً﴾ (النساء‪ )5 :‬تنبيها على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى)‬
‫ثم ولى مغضبا‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ماذا تريد مني‪:‬‬
‫وأنظ ُم منثوراً لراعية‬ ‫أأنث ُر دراً بين سارحة ِ البه َم‬
‫ضيعا ً فيه ُم غرر‬ ‫ْت ُم َ‬ ‫الغن ْم؟ فَلَس ُ‬ ‫ضيعت في شرِّ‬ ‫ُ‬ ‫لعمري لئن‬
‫الكلَ ِم‬ ‫بلدة ٍ‬
‫وصادفت أهالً للعلوم‬
‫ُ‬ ‫لَئِ ْن َسهَّل هَّللا ال َع ِزي ُز بِلطفِ ِه‬
‫وللحكم‬
‫لدي‬ ‫ٌ‬
‫فمكنون َ‬ ‫وإالّض‬ ‫ت‬ ‫ت ُمفيداً واستَفَ ْد ُ‬ ‫بَثَ ْث ُ‬
‫ومكنت ْم‬ ‫ُ‬
‫المستوجبين‬
‫ِ‬ ‫َو َم ْن َمنَ َع‬ ‫َودَا َده ْم َو َم ْن َمنَ َح الجهّا َل ِع ْلما ً‬
‫فقَ ْد ظَلَم‬ ‫ضا َعهُ‬‫أ َ‬
‫قلت‪ :‬رويدك‪ ..‬فقد أحسنت بي الظن‪ ..‬وما أنا بتاركك حتى تخبرني بم ا أردت إخب اري ب ه على أن ت ذكر لي س ر‬
‫اإلسرار‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد رأيتك اقتنعت بما قال أخي المتوسم‪ ،‬فخشيت أن يسوء فهمك‪ ،‬فتنكر الواسطة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم تعدو ما في نفسي‪ ..‬فقد أنكرت الواسطة إنكارا كليا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فال تفعل‪ ..‬فقد جات النصوص ت أمر باتخ اذ الوس ائل والوس ائط‪ ..‬فال ينبغي أن ن ؤمن ببعض الكت اب ونكف ر‬
‫ببعض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن لماذا تسر لي هذا‪ ..‬وقد رأيت أخاك المتوسم ينشر علمه على المأل؟‬
‫قال‪ :‬أما أنا فال أصطاد بعلمي إال األفراد ممن يمتلئون قناعة بما قال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم ال تنشره عزيزا‪ ..‬أم أنك من هواة الصيد؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬بل إن وظيفتي تستدعي الصيد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألني لو بثثت علمي لمن لم يتحقق بالتوحيد خشيت عليه أن يغرق في الوسائط‪ ،‬ويغفل عن رب الوسائط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لست أدري مدى صحة هذا التورع‪.‬‬
‫‪ )(1‬الحاكم والخطيب‪.‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود والحاكم‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫قال‪ :‬هذا ليس تورعا‪ ..‬بل هذه السنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تكون سنة بال دليل؟‬
‫قال‪ :‬بل لها دليلها‪ ..‬ألم تسمع حديث معاذ عندما قال‪ :‬كنت ردف النبي ‪ ‬على حمار فقال‪( :‬يا معاذ‪ ،‬هل تدري ما‬
‫حق هَّللا على عباده وما حق العباد على هَّللا ؟)‪ ،‬قلت‪ :‬هَّللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ (:‬فإن حق هَّللا على العباد أن يعبدوه وال يشركوا‬
‫به شيئاً‪ ،‬وحق العباد على هَّللا أن ال يعذب من ال يشرك به شيئاً)فقلت‪ :‬يا َر ُس ول هَّللا ِ‪ ،‬أفال أبش ر الن اس؟ ق ال‪ (:‬ال تبش رهم‬
‫فيتكلوا)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بارك هللا فيك‪ ..‬فقد فهمت هذا‪ ..‬فلنعد اآلن إلى السر الذي أردت إخباري به‪ ،‬واس رر بس رك م ا أطقت‪ ،‬ف إن‬
‫للجدران آذانا‪.‬‬
‫بركات األولياء‪:‬‬
‫إلي عبدي بشيء أفض ل‬ ‫ً‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬يقول تعالى‪ :‬من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب‪ ،‬وما تقرّب ّ‬
‫إلي بالنواف ل ح تى أحب ه‪ ،‬ف إذا أحببت ه كنت س معه ال ذي يس مع ب ه‪،‬‬ ‫من أداء ما افترضت عليه‪ ،‬وال يزال عب دي يتق رب َّ‬
‫وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ ،‬ولئن سألني ألعطينه‪ ،‬ولئن دعاني ألجبيبن ه‪ ،‬ولئن‬
‫استعاذ بي ألعيذنه‪ ،‬وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي الم ؤمن‪ ،‬يك ره الم وت وأك ره مس اءته‪،‬‬
‫وال بد منه)‬
‫هّلل‬ ‫هّلل‬
‫قلت‪ :‬هذا الحديث ينص على أن العب د إذا أخلص الطاع ة هلل ص ارت أفعال ه كله ا تع الى‪ ،‬فال يس مع إال ‪ ،‬وال‬
‫عز وجلَّ مستعيناً باهّلل في ذلك كله‪ ،‬ولهذا جاء في‬ ‫يبصر إال هّلل أي ما شرعه هّللا له‪ ،‬وال يبطش وال يمشي إال في طاعة هّللا َّ‬
‫بعض رواية الحديث‪ (:‬فبي يسمع‪ ،‬وبي يبصر‪ ،‬وبي يبطش‪ ،‬وبي يمشي)‬
‫قال‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد فهمت هذا الحديث فهما صحيحا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمته‪ ،‬ولكني لم أفهم سر ذكره هنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬هؤالء العباد الربانيون الذين يسمعون باهلل ويبصرون باهلل يصيرون في ذواتهم مباركين‪ ،‬فل ذلك يكون ون من‬
‫وسائط البركة‪ ..‬فهم األقمار التي تستقبل أن وار البرك ة اإللهي ة‪ ..‬ألم تس مع قول ه تع الى في ح ق المس يح ‪ ‬وعلى لس انه‪:‬‬
‫ار ْك َن ا َع َل ْي ِه َو َع َلى ِإ ْس َحا َق َو ِم ْن ُذرِّ يَّ ِت ِه َم ا‬
‫ت ﴾(مريم‪ ،)31 :‬وقوله في حق ذرية إبراهيم ‪َ ﴿:‬و َب َ‬ ‫اركاً َأ ْينَ َما ُك ْن ُ‬ ‫﴿ َو َج َع َل ِني ُم َب َ‬
‫ين﴾ (الصافات‪)113 :‬‬ ‫ظا ِل ٌم ِل َن ْف ِس ِه ُم ِب ٌ‬
‫حْس ٌن َو َ‬ ‫ُم ِ‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬وقد كان ‪ ‬البركة عينها‪ ..‬وقد ذكرت حليمة السعدية خبر البركة التي نزلت عليه ا وعلى قومه ا من ذ‬
‫أخذت رسول هللا ‪ ‬لترضعه‪ ،‬فقالت ضمن حديث طويل‪ (:‬فلما أخذته‪ ،‬رجعت به إلى رحلي‪ ،‬فلما وض عته في حج ري‬
‫أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن‪ ،‬فشرب حتى روي‪ ،‬وشرب معه أخوه حتى روي‪ ،‬ثم ناما‪ ،‬وما كنا ننام مع ه قب ل ذل ك‪،‬‬
‫وقام زوجي إلى شارفنا تلك‪ ،‬فإذا إنها لحافل‪ ،‬فحلب منها ما شرب‪ ،‬وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا‪ ،‬فبتنا بخير ليلة‪.‬‬
‫وقال صاحبي حين أصبحنا‪ :‬تعلمي وهللا يا حليمة‪ ،‬لقد أخذت نسمة مبارك ة ؛ ق الت‪ :‬فقلت‪ :‬وهللا إني ألرج و ذل ك‪،‬‬
‫قالت‪ :‬ثم خرجنا وركبت أنا أتاني‪ ،‬وحملته عليها معي‪ ،‬فوهللا لقطعت بالركب ما يقدر عليها ش يء من حم رهم‪ ،‬ح تى إن‬
‫صواحبي ليقلن لي‪ :‬يا ابنة أبي ذؤيب‪ ،‬ويحك! اربعي علينا‪ ،‬أليست هذه أتانك التي كنت خ رجت عليه ا؟ ف أقول لهن‪ :‬بلى‬
‫وهللا‪ ،‬إنها لهي هي ؛ فيقلن‪ :‬وهللا إن لها لشأنا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ثم قدمنا منازلنا من بالد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض هللا أجدب منها‪ ،‬فكانت غنمي ت روح علي حين‬
‫قدمنا به معنا شباعا لُبَّنَا‪ ،‬فنحلب ونشرب‪ ،‬وما يحلب إنسان قطرة لبن‪ ،‬وال يجدها في ضرع‪ ،‬ح تى ك ان الحاض رون من‬
‫قومنا يقولون لرعيانهم‪ :‬ويلكم سرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب‪ ،‬ف تروح أغن امهم جياع ا م ا تبض بقط رة لبن‪،‬‬
‫وتروح غنمي شباعا لبنا‪ ..‬فلم نزل نتعرف من هللا الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬وهك ذا المقرب ون والص الحون يغيث هللا بهم البالد والعب اد‪ ،..‬وق د روي عن بعض الص حابة ق ال‪ :‬لم ا ك ان‬
‫غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا‪ :‬يا َرسُول هَّللا ِ لو أذنت لنا فنحرن ا نواض حنا فأكلن ا وادهن ا؟ فق ال َر ُس ول هَّللا ِ ‪:‬‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬سيرة ابن هشام‪)301 /1( :‬‬
‫‪26‬‬
‫( افعلوا)‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا َرسُول هَّللا ِ إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع هَّللا لهم عليه ا بالبرك ة لع ل هَّللا أن‬
‫يجعل في ذلك البركة‪ ،‬فقال َرسُول هَّللا ِ ‪ (:‬نعم)‪ ،‬فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم‪ ،‬فجع ل الرج ل يجيء بك ف‬
‫ذرة‪ ،‬ويجيء اآلخر بكف تمر‪ ،‬ويجيء اآلخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك ش يء يس ير‪ ،‬ف دعا َر ُس ول هَّللا ِ ‪‬‬
‫بالبركة‪ ،‬ثم قال‪ (:‬خذوا في أوعيتكم)‪ ،‬فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إال ملئ وه وأكل وا ح تى ش بعوا‬
‫وفضل فضلة‪ .‬فقال َرسُول هَّللا ِ ‪ (:‬أشهد أن ال إل ه إال هَّللا وأني َر ُس ول هَّللا ِ ال يلقى هَّللا بهم ا عب د غ ير ش اك فيحجب عن‬
‫الجنة)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬لقد حل ‪ ‬مشكلة تموين الجيش بالبركة‪ ..‬فلماذا نخاف على أرزاقنا ما دام األمر بهذه البساطة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنتم تخافون على أرزاقكم ألنكم عزلتم هللا عن التصريف في الكون‪ ..‬ثم حاولتم أن تدبروا كل ش يء بعق ولكم‬
‫العاجزة‪ ،‬فسقطتم في الشباك التي نصبتها لكم أنفسكم من حيث لم تشعروا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن كالمك هذا يدل على أن الباحث عن البركة يحتاج إلى البحث عن أهلها المباركين ليصيبه من بركتهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألستم تبحثون عن األطباء المهرة‪ ،‬وترحلون ألجلهم إلى بالد هللا الواسعة‪ ،‬وتنفقون األموال العريضة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولعلنا نفعل أكثر مما ذكرت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فال تغفلوا عن فعل ما هو دون ذلك بكثير‪ ..‬وهو البحث عن أهل هللا المباركين ليصيبكم من دع ائهم وب ركتهم‬
‫ما يرفع بالءكم‪ ،‬ويمألكم بالبركات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا تعالى أمرنا بتوحيد وجهة القلوب له‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ َذا َس أ َلكَ ِع َب ا ِدي َع ِّني َف إِ ِّني َق ِريبٌ أ ِجيبُ د َْع َو َة‬
‫َان ﴾(البقرة‪ ،)186:‬وقد روي أن رجال قال له‪ (:‬إنا نستشفع بك على هللا‪ ،‬ونستشفع باهلل عليك)‪ ،‬فس بح رس ول‬ ‫اع ِإ َذا َدع ِ‬
‫ال َّد ِ‬
‫هللا ‪ ،‬حتى رؤى ذلك في وجوه أصحابه‪ ،‬وقال‪ (:‬ويحك أتدرى ما هللا‪،‬إن هللا ال يستشفع به على أحد من خلقه‪ ،‬ش أن هللا‬
‫أعظم من ذلك)(‪)2‬‬
‫حُز ِني ِإ َلى هَّللا ِ َو َأ ْع َل ُم ِمنَ هَّللا ِ َما ال تَعْ َل ُمونَ ﴾ (يوسف‪86 :‬‬
‫وقد أخبر تعالى عن قول يعقوب ‪ ‬قوله‪ِ ﴿:‬إنَّ َما َأ ْش ُكو َب ِّثي َو ْ‬
‫)‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يحض أمته على إفراد هللا بالمسألة‪ ،‬كم ا ق ال ‪ ‬البن عب اس‪ (:‬إذا س ألت فاس أل هللا وإذا اس تعنت‬
‫فاستعن باهلل)‪ ،‬وكان ‪ ‬يخطب‪ ،‬ويقول‪ (:‬أيها الناس‪ ،‬وهللا مهما يكون عندنا من خير فلن ن دخره عنكم‪ ،‬وإن ه من يس تغن‬
‫يغنه هللا‪ ،‬ومن يستعف يعفه هللا‪ ،‬ومن يتصبر يصبره هللا‪ ،‬وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬كل ما ذكرته صحيح‪ ..‬ولذلك تراني ال أص طاد إال من ق ال مث ل م ا قلت‪ ،‬أو اقتن ع بمث ل م ا اقتنعت‪..‬‬
‫ولكني أضيف إلى ذلك التماس أهل الخير لينال من بركاتهم‪ ..‬وليس في ذلك أي شرك أو انحراف‪.‬‬
‫بركات البسطاء‪:‬‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن النص وص م ع ذل ك وردت ب البحث عن التم اس أه ل البرك ات التماس ا لم ا جعل ه هللا فيهم ممن‬
‫الخير‪ ،‬ألم تسمع حديث أويس؟‬
‫قلت‪ :‬ومن أويس؟‬
‫قال‪ :‬أال تعرف أويس؟‬
‫قلت‪ :‬فعلمني من علمه ما علمك هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ه ذا رج ل ص الح‪ ،‬وه و من س ادات الت ابعين‪ ،‬وق د أخ بر عن ه ‪ ،‬ودع ا الص حابة إلى البحث عن ه طلب ا‬
‫الستغفاره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا في السنة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪..‬فقد قال ‪ (:‬يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به ب رص ف برأ‬
‫منه إال موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على هَّللا ألبره‪ ،‬فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬هذا حديث عظيم‪..‬‬
‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود وغيره‪.‬‬
‫‪ )(3‬مسلم‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫قال‪ :‬وفيه فوائد عظيمة وأصول نافعة في هذا الباب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي منها ما أنتفع به‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو يشير إلى نوعية هؤالء المباركين الذين ينتفع بهم الناس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد أن أويسا يمثل هذه النوعية‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فأويس كان إنسانا بسيطا متواضعا مخلصا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بل روي أنه لما قصده الناس فر على وجهه هاربا منهم‪ ..‬ولم ينش ر أي إعالن عن البش ارة ال تي بش ره به ا‬
‫رسول هللا ‪ ..‬ولم يتخذ ما بشره به ‪ ‬شبكة يصطاد بها أموال المسلمين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولم يفتح عيادة يبصق فيها في أفواه الناس‪ ..‬أو يطعمهم من خبزه ليبتز ما في جيوبهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكأني بك تعرض لشيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أعرض بقومك الذين اتخذوا بعض الناس وس ائط بينهم وبين هللا‪ ،‬فأجلس وهم على الع روش‪ ،‬وراح وا‬
‫يتقربون إليهم ناسين هللا وغافلين عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هم أحسنوا الظن بهم‪ ..‬ولعلهم انتفعوا بهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬الولي هو الزاهد العفيف‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬أال أخبركم بأهل الجن ة؟ ك ل ض عيف متض عف ل و أقس م‬
‫على هَّللا ألب ره‪ .‬أال أخ بركم بأه ل الن ار؟ ك ل عتل(‪ )1‬ج واظ(‪ )2‬مس تكبر)(‪ ..)3‬ألم تس مع قول ه ‪ (:‬رب أش عث م دفوع‬
‫باألبواب لو أقسم على هللا ألبره)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد ورد في روايات أخرى ما يؤكد هذا المعنى‪ ،‬فقد قال ‪ (:‬رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عن ه‬
‫أعين الناس لو أقسم على هللا ألبره)(‪)5‬‬
‫قال‪ :‬وفي حديث آخر يبين سر اإلخالص الذي تحلى به أويس‪ ،‬فقال‪ (:‬أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الح اذ‪ ،‬ذو‬
‫حظ من صالته وكان رزقه كفافا فصبر عليه حتى يلقى هللا ع ز وج ل‪ ،‬وأحس ن عب ادة رب ه‪ ،‬وك ان غامض ا في الن اس‪،‬‬
‫عجلت منيته وقل تراثه‪ ،‬وقلت بواكيه)(‪)6‬‬
‫قلت‪ :‬فهؤالء الذين تلتمس بركاتهم؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألم يخبر ‪ ‬أن هللا تعالى يبر قسمهم‪ ..‬أي يستجيب لهم إذا أقسموا عليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد صرحت بذلك النصوص‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالبركات تلتمس عند هؤالء البسطاء‪ ..‬ال عند منتفخي البطون والجيوب الذين يدعون ألنفسهم‪ ،‬ويغفل ون عن‬
‫الدعوة هلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تلتمس عند هؤالء؟‪ ..‬وأين نجدهم؟‬
‫قال‪ :‬في غمار الناس تجدونهم‪ ..‬ألم تسمع حديث أبي عبد هللا أحمد بن يحيى الجالء عندما قال‪ :‬س معت أبي يق ول‪:‬‬
‫كنت عند معروف في مجلسه فدخل عليه رجل‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا محفوظ رأيت في هذه الليل ة عجب ا‪ ،‬ق ال‪ :‬وم ا رأيت رحم ك‬
‫هللا؟ قال‪ :‬اشتهي علي أهلي سمكا فذهبت إلى السوق فاشتريت لهم سمكة وحملتها مع حمال‪ ،‬فمشي معي فلما س معنا آذان‬
‫الظهر‪ ،‬قال الحمال‪ (:‬يا عم هل لك أن نصلي)‪ ،‬فكأنه أيقظني من غفلة فقلت له‪ (:‬نعم نصلي)‬
‫فوضع الطبق والسمكة عليه على مستراح‪ ،‬ودخل المسجد‪ ،‬فقلت في نفسي‪ (:‬الغالم قد جاد بالطبق أجود أنا أيضا‬
‫بالس مكة)‪ ،‬فلم ي زل يرك ع ح تى أقيمت الص الة‪ ،‬فص لينا جماع ة ورك ع بع د الص الة وخرجن ا‪ ،‬ف إذا الطب ق على حال ه‬
‫موضوع‪ ،‬فجئت إلى البيت‪ ،‬وحدثت أهلي بهذا‪ ،‬فقالوا لي‪ :‬قل له يأكل معنا من هذا السمك‪ ،‬فقلت ل ه‪ :‬تأك ل معن ا من ه ذا‬
‫السمك‪ ،‬فقال‪ :‬أنا صائم فقلت ل ه‪ :‬ف أفطر عن دنا‪ ،‬ق ال‪ :‬نعم أروني طري ق المس جد فأريت ه‪ ،‬ف دخل المس جد وجلس إلى أن‬
‫صلينا المغرب‪.‬‬
‫الغليظ الجافي‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫هو الجموع المنوع‪ .‬وقيل‪ :‬الضخم المختال في مشيته‪ .‬وقيل‪ :‬القصير البطين‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أحمد ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫الحاكم وأبو نعيم‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫أحمد والترمذي والبيهقي‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪28‬‬
‫فجئت إليه وقلت له‪ :‬تقوم رحمك هللا‪ ،‬فقال‪ :‬أو نصلي عشاء اآلخرة فقلت في نفسي‪ :‬هذه ثانية‪ ،‬يريد أن فيه خ يرا‪،‬‬
‫فلما صلينا عدت به إلى منزلي ولنا ثالث أبيات‪ :‬بيت فيه أنا وأهلي‪ ،‬وبيت فيه صبية مقعدة ولدت كذلك لها فوق العشرين‬
‫سنة‪ ،‬وبيت كان فيه ضيفنا‪.‬‬
‫فبينا أنا مع أهلي إذ دق داق الباب في آخر الليل‪ ،‬فقلت‪ :‬من يدق الب اب فق الت‪ :‬أن ا فالن ة‪ ،‬فقلت‪ :‬فالن ة قطع ة لحم‬
‫مطروحة في البيت كيف يستوي لها أن تمشي‪ ،‬فقالت‪ :‬أنا هي‪ ،‬افتحوا لي‪ ،‬ففتحنا له ا‪ ،‬ف إذا هي‪ ،‬فقلت‪ :‬أي ش يء الخ بر‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬سمعتكم تذكرون ضيفنا هذا بخير‪ ،‬فوقع في نفسي أن أتوسل إلى هللا عز وجل ب ه‪ ،‬فقلت‪ (:‬اللهم بح ق ض يفنا ه ذا‬
‫وبجاهه عندك إال أطلقت أسري‪ ،‬فاستويت وقمت وأنا في عافية كما تروني)‬
‫فقمت إليه أطلبه في البيت‪ ،‬فإذا البيت خال ليس فيه أح د‪ ،‬فجئت إلى الب اب فوجدت ه مغلق ا بحال ه‪ ،‬فق ال مع روف‪:‬‬
‫( نعم‪ ..‬فيهم صغار وكبار)‪ ،‬يعني األولياء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن أن نعالج أنفسنا بمثل هذا السلوك؟‬
‫قال‪ :‬إن كنتم مؤمنين‪ ،‬فعالجوا أنفسكم به‪ ،‬فهو أقل تكلفة من كثير من األدوية التي تشترونها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن السنة أمرتنا بالتداوي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقد أمرتنا بهذا الدواء‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬داووا مرضاكم بالصدقة)‪ ،‬وفي حديث آخر‪ (:‬ما عولج م ريض‬
‫بأفضل من الصدقة)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر النبي ‪ ‬عالج المرضى بالصدقة‪ ..‬فما عالقة ذلك بهذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن لم يدع لك لسان الفقير دعا لك قلبه‪ ،‬فإن جحد قلبه دعت لك المالئكة‪ ،‬فإن لم يدع لك أحد‪ ،‬فاهلل شاكر حليم‪،‬‬
‫يعطيك ما عجز الكل عن إعطائه لك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تعالجون في هذا المستشفى بهذا العالج‪ ..‬فإني لم أر من يعالج به‪.‬‬
‫قال‪ :‬نحن في هذا المستشفى نعالج بكل عالج‪ ..‬فقد أخبرنا ‪ ‬بوجود الدواء‪ ،‬فنحن ال نقصر في البحث عنه‪ ..‬أم ا‬
‫ما ذكرت من عدم علمك بمن عالج به‪ ..‬فذلك لغفلتك وغفلة قومك عن هذا الترياق العجيب‪ ،‬وال يضر الدواء ع دم تن اول‬
‫المريض له‪ ..‬وال يضر الشمس عدم اهتمام الكفيف بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل عالج الصالحون بمثل هذا؟‬
‫قال‪ :‬الصالحون عالجوا بكل األدوية‪ ..‬وهذا منها ‪ ..‬وقد روي أن رجال كان به قرحة خرجت في ركبت ه من ذ س بع‬
‫سنين‪ ،‬وقد عالجها بأنواع العالج وسأل األطباء فلم ينتفع به‪ ،‬فسأل بعض الصالحين عنه ا‪ ،‬فق ال‪ (:‬اذهب ف احفر ب ئر ًا في‬
‫مكان الناس بحاجة إلى الماء فإني أرجوا أن ينبع هناك عينً ويمسك عنك الدم)‪ ،‬ففعل الرجل فبرأ‪.‬‬
‫فهكذا يفعل الصالحون والربانيون‪ ،‬فأنبئني لو أن هذا الرجل جاء لقومك من الرقاة‪ ،‬بماذا سيشيرون عليه؟‬
‫قلت‪ :‬يخبرونه ـ بعد رقية التشخيص ـ بأن الشيطان ركض ه ركض ة يحت اج معه ا إلى التج ول على الرق اة جميع ا‬
‫ليجد من يحرق له شيطانه‪ ،‬وقد يموت قبل ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسأزيدك أخرى لترى منهج الصالحين في التسليم للنصوص المقدسة‪ ،‬قال بعضهم‪ :‬مرضت مرضا خطرا‪،‬‬
‫فرآني جار لي صالح‪ ،‬فقال اس تعمل ق ول رس ول هللا ‪ (:‬داووا مرض اكم بالص دقة)‪ ،‬وك ان ال وقت ض يقا‪ ،‬فاش تريت‬
‫بطيخا كثيرا‪ ،‬واجتمع جماعة من الفقراء والصبيان‪ ،‬فأكلوا ورفعوا أيديهم إلى هللا عز وجل‪ ،‬ودعوا لي بالش فاء‪ ،‬فوهللا م ا‬
‫أصبحت إال وأنا في كل عافية من هللا تبارك وتعالى)‬
‫قلت‪ :‬تلك أزمنة الصالحين‪.‬‬
‫فقال‪ :‬كل األزمة أزمنة الصالحين‪ ،‬وال زمان للصالحين‪..‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫قلت‪ :‬فهمت كل هذا ووعيته‪ ،‬وقد أدركت سر أمره تعالى بال دعاء للمتص دقين‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪ ﴿:‬خ ذ ِمن أ ْم َوا ِل ِه ْم‬
‫صال َتكَ َس َك ٌن َله ُْم َوهَّللا ُ َس ِمي ٌع َع ِلي ٌم﴾ (التوبة‪)103:‬‬
‫صلِّ َع َل ْي ِه ْم ِإ َّن َ‬ ‫ص َد َق ًة تُ َ‬
‫طهِّرُ ه ُْم َوتُزَ ِّكي ِه ْم ِب َها َو َ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬ولهذا كان من سنة السلف الصالح الدعاء للمتصدقين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيدخل في هذا الدعاء لمن أطعم الطعام؟‬

‫‪ )(1‬الديلمي‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فإطعام الطعام من اإلحسان‪ ،‬وقد كان ‪ ‬إذا أكل عند قوم لم يخ رج ح تى ي دعو لهم‪ ،‬ف دعا فى م نزل‬
‫بعضهم‪ ،‬فقال‪ (:‬اللهم بارك لهم فيما رزقتهم‪ ،‬واغفر لهم‪ ،‬وارحمهم)(‪)1‬‬
‫وروي أنه ‪ ‬دخل منزله ليلة‪ ،‬فالتمس طعاما فلم يجده‪ ،‬فقال‪ (:‬اللهم أطعم من أطعمنى‪ ،‬واسق من سقانى)‬
‫وقد دعا لمن سقاه لبنا فقال‪ (:‬اللهم أمتعه بشبابه)‪ ،‬فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء‪.‬‬
‫وكان يدعو لمن يضيف المساكين‪ ،‬ويثنى عليهم‪ ،‬فقال مرة‪ (:‬أال رجل يضيف هذا رحمه هللا)‬
‫قلت‪ :‬ودعا فى منزل س عد بن عب ادة‪ ،‬فق ال‪ (:‬أفط ر عن دكم الص ائمون‪ ،‬وأك ل طع امكم األب رار‪ ،‬وص لت عليكم‬
‫المالئكة)‬
‫قال‪ :‬ولما دعاه بعض الناس هو وأصحابه فأكلوا‪ ،‬فلما فرغوا قال ‪ (:‬أثيبوا أخاكم)‪ ،‬ق الوا‪ :‬ي ا رس ول هللا ؛ وم ا‬
‫إثابته؟ قال‪ (:‬إن الرجل إذا دخل بيته‪ ،‬فأكل طعامه‪ ،‬وشرب شرابه‪ ،‬فدعوا له‪ ،‬فذلك إثابته)‬
‫بركات المالئكة‬
‫قلت‪ :‬عرفنا وسائط البشر‪ ،‬فهل من بركات هللا ما يمكن أن نلتمسه من غيرهم؟‬
‫قال‪ :‬أال تعرف حديث األبرص واألقرع واألعمى؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬أولئك النفر الذين قال فيهم الن بي ‪ (:‬إن ثالث ة من ب ني إس رائيل أب رص وأق رع وأعمى أراد هللا أن‬
‫يبتليهم فبعث إليهم ملكا‪ .‬فأتى األبرص فقال‪ :‬أي شيء أحب إليك؟ ق ال‪ :‬ل ون حس ن وجل د حس ن وي ذهب ع ني ال ذي ق د‬
‫قذرني الناس‪ .‬فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حس نا‪ .‬ق ال‪ :‬ف أي الم ال أحب إلي ك؟ ق ال‪ :‬اإلب ل أو ق ال‬
‫البقر‪( .‬شك الراوي)‪ ،‬فأعطي ناقة عشراء فقال‪ :‬بارك هللا لك فيها‪.‬‬
‫فأتى األقرع فقال‪ :‬أي شيء أحب إليك؟ قال‪ :‬شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس‪ .‬فمسحه ف ذهب عن ه‬
‫وأعطي شعرا حسنا‪ .‬قال‪ :‬فأي المال أحب إليك؟ قال‪ :‬البقر فأعطي بقرة حامال قال بارك هللا لك فيها‪.‬‬
‫فأتى األعمى فقال‪ :‬أي شيء أحب إليك؟ قال‪ :‬أن يرد هللا إلي بصري فأبصر الناس‪ .‬فمس حه ف رد هللا إلي ه بص ره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأي المال أحب إليك؟ قال‪ :‬الغنم‪ .‬فأعطي شاة والدا‪ .‬فأنتج ه ذان وول د ه ذا‪ ،‬فك ان له ذا واد من اإلب ل وله ذا واد من‬
‫البقر ولهذا واد من الغنم)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬هذا الحديث يدل على آثار البركات ومصدر من مصادرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد المالئكة ـ عليهم الصالة والسالم ـ؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد أخبر ‪ ‬أن هللا تعالى ابتلى هؤالء بهذا المالك‪ ..‬ولم يخبر أن هذا خاص بهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفي إمكان أي أحد منا أن يحصل له ما حصل لهؤالء؟‬
‫قال‪ :‬وأي حرج في ذلك‪ ..‬ولكن ال بنفس الصورة‪ ..‬فقد يظهر له المالك في أي صورة من الصور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن المالئكة ـ عليهم الصالة والسالم ـ يظهرون للرسل ـ عليهم الصالة والسالم ـ‬
‫قال‪ :‬ولكن الصحابة رأوهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك في عهده ‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم يقل ‪ ‬لحنظلة‪ (:‬والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي‪ ،‬وفي الذكر لصافحتكم المالئكة في‬
‫فرشكم وفي طرقكم)(‪)3‬؟‬
‫قلت‪ :‬أيمكن ـ إذن ـ أن نستفيد من دعوات المالئكة ـ عليهم الصالة والسالم ـ؟‬
‫حْمل ونَ‬‫ُ‬ ‫َّ‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألم يخبر هللا تعالى عن دعاء المالئكة ـ عليهم الصالة والسالم ـ للمؤم نين‪ ،‬فق ال تع الى‪ ﴿:‬ال ِذينَ َي ِ‬
‫َّ‬ ‫ش َو َم ْن َحوْ َلهُ يُ َسبِّحُونَ ِب َح ْم ِد َر ِّب ِه ْم َوي ُْؤ ِمنُونَ ِب ِه َو َي ْست َْغ ِفرُونَ ِللَّ ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا َو ِسعْتَ ُكلَّ َش ْي ٍء َرحْ َم ًة َو ِع ْلم اً َف ْ‬
‫اغ ِفرْ ِلل ِذينَ‬ ‫ْال َعرْ َ‬
‫اب ْال َج ِح ِيم﴾ (غافر‪)7:‬‬ ‫تَابُوا َواتَّ َبعُوا َس ِبي َلكَ َو ِق ِه ْم َع َذ َ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن كيف نرى المالئكة ـ عليهم الصالة والسالم ـ حتى نلتمس منهم هذه البركات؟‬
‫ق ال‪ :‬ال حاج ة ألن ت راهم‪ ..‬هم مع ك في ك ل حين ال بفارون ك‪ ..‬إنم ا الش أن أن تستش عر وج ودهم وتح ترمهم‪..‬‬
‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬مسلم‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫وستراهم يسعون في خيرك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن قومي ينكرون علي إن خاطبت المالئكة أو تحدثت عنهم بهذا األسلوب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا يخاطبون الجن‪ ،‬ويخترقون أسوار عالمهم؟‬
‫قلت‪ :‬ألنهم جن‪.‬‬
‫قال‪ :‬اإليمان بالجن ليس من أركان الدين‪ ،‬واإليمان بالمالئكة ـ عليهم الص الة والس الم ـ من أركان ه‪ ..‬وكون ه من‬
‫أركان الدين يستدعي صحبة خاصة لهم لعالقتهم بالسلوك والتوجه إلى هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هم يزعمون االنتساب للسلف الصالح في هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬من سلفهم في هذا‪ ..‬هل الحجاج‪ ،‬أم زياد بن أبيه؟‬
‫قلت‪ :‬الصحابة والتابعون ومن بعدهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأخبرهم أن الربيع بن خثيم كان إذا أصبح قال‪ (:‬مرحبا بمالئكة هللا‪ ،‬اكتبوا‪ :‬بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ،‬س بحان‬
‫هللا والحمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكبر)‬
‫وقد كان أبو بكر بن عياش لما كبر يأخذ إفطاره‪ ،‬ثم يغمسه في الماء في جر ك ان ل ه في بيت مظلم‪ ،‬ثم يق ول‪ (:‬ي ا‬
‫مالئكتي طالت صحبتي لكما‪ ،‬فإن كان لكما عندهللا شفاعة فاشفعا لي)‬
‫محال البركة‬
‫ما ابتعدت قليال عن المتسوم الثاني حتى ن اداني المتوس م الث الث‪ ،‬وق ال‪ :‬لق د ع رفت وس ائط البرك ة‪ ،‬فتع ال معي‬
‫لنبحث عن محالها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما محالها؟‬
‫قال‪ :‬كثيرة جدا‪ ..‬فالنبي ‪ ‬يقول مثال‪ (:‬تحول إلى الظل‪ ،‬فإنه مب ارك)(‪ ،)1‬وق ال‪ (:‬ثالث فيهن البرك ة‪ :‬ال بيع إلى‬
‫أجل‪ ،‬والمقارضة‪ ،‬وإخالط البر بالشعير للبيت ال للبيع)(‪ ،)2‬وقال‪ (:‬كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬فقد أخبر ‪ ‬عن هيئات معينة تكون فيها البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬بل أخبرنا ‪ ‬عن مواضع تنزل البركة من الطعام‪ ،‬فقد روي أنه كان للنبي ‪ ‬قصعة يقال لها الغراء‬
‫يحملها أربعة رجال‪ ،‬فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة (يعني وقد ثرد فيها)‪ ،‬فالتفوا عليها‪ ،‬فلما كثروا جث ا‬
‫َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬فقال أعرابي‪ :‬ما هذه الجلسة؟ فقال َرسُول هَّللا ِ ‪ (:‬إن هَّللا جعلني عبد ًا كريماً ولم يجعلني جبار ًا عني د ًا)‪ ،‬ثم‬
‫رسُول هَّللا ِ ‪ (:‬كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها)(‪)4‬‬ ‫قال َ‬
‫قلت‪ :‬فقد أخبر ‪ ‬أن ذورة الطعام تتنزل عليه البركة‪ ،‬فلذلك أمر باألكل من الجوانب‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد صرح ‪ ‬بذلك في حديث آخر‪ ،‬فقال‪ (:‬البركة تنزل وسط الطعام‪ ،‬فكلوا من حافتيه وال تأكلوا من‬
‫وسطه)(‪)5‬‬
‫قلت‪ :‬وقد أمر ‪ ‬بلعق األصابع والصحفة وقال‪ (:‬إنكم ال تدرون في أي طعامكم البركة)(‪)6‬‬
‫قال‪ :‬وأمر رسول هللا ‪ ‬من سقطت عنه اللقمة برفعها معلال ذلك بطلب البركة‪ ،‬فقال ‪ (:‬إذا وقعت لقمة أحدكم‬
‫فليأخذها‪ ،‬فليمط ما كان بها من أذىً وليأكلها‪ ،‬وال يدعها للشيطان‪ ،‬وال يمس ح ي ده بالمن ديل ح تى يلع ق أص ابعه؛ فإن ه ال‬
‫يدري في أي طعامه البركة)(‪)7‬‬
‫قلت‪ :‬وقد أمر ‪ ‬بسلت القصعة‪ ،‬وقال‪ (:‬إنكم ال تدرون في أي طعامكم البركة)(‪)8‬‬

‫الحاكم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫ابن ماجة وابن عساكر‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫البخاري‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أبو داود بإسناد جيد‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫أبو داود والترمذي‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(8‬‬
‫‪31‬‬
‫قال‪ :‬وعلى عكس ذلك أخبر ‪ ‬أن األكل من أشياء معينة تسلب البركة‪ ،‬فقال ‪ (:‬من ش رب في إن اء من ذهب‬
‫أو فضة‪ ،‬فإنما يجرجر في بطنه نار ًا من جهنم)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يدخل في هذا النهي عن األكل بالشمال؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد ك ان ‪ ‬ي أمر باألك ل ب اليمين‪ ،‬وينهى عن األك ل بالش مال‪ ،‬ويق ول‪ (:‬إن الش يطان يأك ل بش ماله‪،‬‬
‫ويشرب بشماله)‬
‫قلت‪ :‬أال نفهم من هذا تحريم األكل بالشمال؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬فالنص واضح‪ ..‬فاآلكل بشماله إما شيطان‪ ،‬وإما مشبه به‪ ،‬بل إنه ‪ ‬اشتد على رجل ك ان عن ده يأك ل‬
‫بشماله‪ ،‬فقال له‪ (:‬كل بيمينك)‪ ،‬فقال‪ :‬ال أستطيع‪ ،‬فقال‪ (:‬ال استطعت)‪ ،‬فما رفع يده إلى فيه بعدها‪ ،‬فلو كان ذلك جائزا‪ ،‬لما‬
‫دعا عليه بفعله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن ما قلته يدعونا لتجريب األطعمة المختلفة للبحث عن أسرار البركة فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد قال ‪ ‬يشير إلى هذا‪ (:‬إذا سقطت لقمة أحدكم‪ ،‬فليم ط عنه ا األذى وليأكله ا وال ي دعها للش يطان‪،‬‬
‫وليس لت أح دكم الص حفة‪ ،‬ف إنكم ال ت درون في أي طع امكم تك ون البرك ة)(‪ ..)2‬ولكن األطعم ة المبارك ة‪ ،‬ال األطعم ة‬
‫الممحوقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهناك أطعمة ممحوقة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬إنها األطعمة التي تتفننون في تخريبها في معاملكم لتبدلوا خلقتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬نحن ال نبدل خلقتها‪ ،‬بل نسوغ نكهتها‪ ،‬ونحسن منظرها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما أدراكم لعل سر بركتها في لونها أو طعمها‪ ،‬ألم يقل ‪ (:‬ماذا في األم رين من الش فاء‪ :‬الثف اء والص بر)‬
‫(‪ ،)3‬فقد وصفهما ‪ ‬بالمرارة‪ ،‬وهو يشير إلى ما تختزنه مرارتهما من العالج‪.‬‬
‫وقال في الكباث(‪ (:)4‬عليكم باألسود منه‪ ،‬فإنه أطيبه)(‪ ،)5‬فقد أشار ‪ ‬إلى لونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي على هذا مثاال ـ يا معلم ـ فإني ال أكاد أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال من العمران‪ ..‬فإني أعلم شغفكم به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬وسيكون مفهوما للعامة والخاصة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن خب يرا من الخ براء توص ل إلى اخ تراع م ادة توض ع على مب انيكم‪ ،‬فتس حب ك ل م ا فيه ا من‬
‫إسمنت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬لعله يرى أن هذا اإلسمنت مشوه للبنيان‪ ..‬فلذلك رأى من الكمال نزعه منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هذا الخبير الغبي ال يدري ماذا يفعل‪ ..‬إنه سيسقط كل عم ران ال دنيا على رؤوس أهله ا‪ ..‬فال يمكن أن‬
‫تقوم الخرسانة بال إسمنت‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقومك يفعلون هذا مع الغذاء المبارك‪ ..‬هم يستخصلون منه ما يش اءون من العناص ر‪ ،‬فيه دمون أركان ه‪ ،‬ثم‬
‫يطلبون منه أن يحافظ على بركته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي على ذلك مثاال من الغذاء ال من البنيان‪.‬‬
‫قال‪ :‬األمثلة كثيرة‪ ..‬وقد عرفت تشويههم للملح والسكر‪ ..‬ولكني سأض رب ل ك مث اال مرتبط ا بالبرك ة‪ ..‬م اذا ق ال‬
‫رسول هللا ‪ ‬عن اللبن؟‬
‫قلت‪ :‬لقد وردت األحاديث في فضل اللبن‪ ،‬ولهذا كان ‪ ‬يقول‪ (:‬إذا أكل أحدكم طعام ا فليق ل‪ :‬اللهم ب ارك لن ا في ه‬
‫وأبدلنا خيرا منه‪ ،‬وإذا شرب لبنا فليقل‪ :‬اللهم بارك لنا في ه وزدن ا من ه‪ ،‬فإن ه ليس ش يء يج زي من الطع ام والش راب إال‬
‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬أحمد ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود في مراسليه والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(4‬الكباث‪ ،‬هو ثمر األراك‪ ،‬وقد ذكر أطباء المسلمين أن منافع ه كمن افع األراك‪ ،‬فه و يق وي المع دة‪ ،‬ويجي د الهض م‪ ،‬ويجل و البلغم‪ ،‬وينف ع من أوج اع‬
‫الظهر‪ ،‬وكثير من األدواء‪.‬‬
‫‪ )(5‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫اللبن)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فقد اعتبر ‪ ‬اللبن غذاء يجزي عن الطعام والشراب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪..‬‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬ولكني أرى قومك يبيعون لبنا مشوها يكتبون عليه‪ (:‬منزوع الزبدة)‪ ،‬ألم يسمعوا أن النبي ‪ ‬ش رب لبن ا‪ ،‬ثم‬
‫دعا بماء فتمضمض وقال‪ (:‬إن له دسماً)(‪ ،)2‬بل أمر بذلك‪ ،‬فقال‪ (:‬مضمضوا من اللبن فإن له دسماً)(‪)3‬؟‬
‫قلت‪ :‬ليتهم ـ ي ا معلم ـ يقتص رون على ذل ك‪ ..‬إنهم ال يقدمون ه إلى األف واه إال بع د أن ي ذيقوه أل وان الع ذاب‪ ..‬فهم‬
‫يحولونه إلى غبار‪ ..‬ثم يضعونه في علب‪ ،‬ثم يقطعون به البحار والفيافي‪ ،‬ليصل بعدها إلى األفواه وقد خارت قواه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وليس ذلك فقط‪ ..‬ألم يقل ‪ (:‬عليكم بألبان البقر‪ ،‬فإنها ترم من كل الشجر)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬ولكنهم يحبسونها‪ ..‬ثم يطعمونها ـ غصبا عنها ـ بفضالت الصناعة وسمومها‪ ..‬ثم يقولون ـ إذا تضرروا ـ‪:‬إن‬
‫هللا سقانا(‪ )5‬سما ال لبنا(‪.)6‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني ـ يا معلم ـ بما يفعلونه مع الدجاج والبيض‪ ..‬فهم يحبس ون ال دجاج في أقف اص‪ ..‬ثم يأمرون ه ب أن‬
‫يوفر لهم من البيض ما يحتاجون إليه‪ ..‬وعلى المزاج الذي يرضي جيوبهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬واألخطر من ذلك كله ما تسمونه بالهندس ة الوراثي ة‪ ،‬فهي وإن اس تغلت في بعض الج وانب اإليجابي ة إال أن‬
‫شرهكم جعلكم ال تتوقفون عند حد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬بل إن البشر اليوم يتوقون إلى هندسة وراثة اإلنسان‪ ،‬ليحولوه إنسانا آخر‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل مسخا آخر‪ ..‬وقد سمعت بعض مغروريكم يقول‪ (:‬في غضون العشرين سنة المقبلة ستطرح في األس واق‬
‫مئات األصناف المتطورة من (النواقل العصبية)التي تسمح بتنشيط ال دماغ‪ ،‬وتحس ين األداء الفك ري‪ ،‬وتع ديل المش اعر‬
‫واألحاسيس‪ ،‬بالكيفية التي تريد‪ ،‬وستظهر كذلك (أجه زة الرادي وات الدماغي ة)الق ادرة على التق اط الموج ات الكهربائي ة‬
‫الصادرة عن الدماغ‪ ،‬وتعديل كيفيتها‪ ،‬بحيث يمكن تسريع عملي ة التفك ير أو إبطائه ا‪ ،‬وه ذه األجه زة س وف تعينن ا على‬
‫التفكير بوضوح‪ ،‬وعلى التواصل فيما بيننا بصورة أفضل)(‪)7‬‬
‫قلت‪ :‬أال تعلم ـ يا معلم ـ أن البشر وضعوا خريطة جينة للبشر؟‬
‫قال‪ :‬كان هللا في عونكم‪..‬‬
‫‪ )(1‬أحمد وأبو داود والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(4‬أبو السنى وأبو نعيم‪.‬‬
‫‪ )(5‬فقد ذكر هللا تعالى أنه يسقينا اللبن‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِنَّ لَ ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام لَ ِعب َْرةً نُ ْسقِي ُك ْم ِم َّما ِفي بُطُونِ ِه ِم ْن بَي ِْن فَرْ ٍ‬
‫ث َود ٍَم لَبَنا ً خَ الِصا ً َسائِغا ً لِل َّش ِ‬
‫اربِينَ ﴾(النحل‪:‬‬
‫يرةٌ َو ِم ْنهَا تَأْ ُكلُونَ ﴾(المؤمنون‪)21:‬‬ ‫‪ ،)66‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وإِنَّ لَ ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام لَ ِعب َْرةً نُ ْسقِي ُك ْم ِم َّما ِفي بُطُونِهَا َولَ ُك ْم فِيهَا َمنَافِ ُع َكثِ َ‬
‫‪ )(6‬وكمثال على ذلك ما قامت به شركة مونسانتو ‪ Monsanto Chemical Co‬التي اشتهرت في السابق بإنتاج السموم الناقعات رفيعة المستوى مثل‬
‫"دي دي تي"‪ ،‬ومبيد "الديوكسين"‪ ،‬فقد قامت بتمويل بحوث في الهندسة الوراثية بأكثر من نصف مليار دوالر الختراع حقنة إلجبار األبقار على إنت اج حليب‬
‫أكثر‪ ،‬ولسوء الحظ فقد نجح العلماء في إنتاج حقنة هرمونية تؤدي لزيادة إدرار اللبن في األبقار على مدار العام‪ ،‬وقد يصل إنتاج البق رة الواح دة إلى ‪ 27‬كيل و‬
‫جراما من اللبن يوميا‪ ،‬ويؤدي ذلك إلى زيادة هرمون "آي جي إف‪"1-‬في الحليب بكميات تزيد عن ‪ %80‬من المعدل الطبيعي‪.‬‬
‫ولقد تمكنت مافيا صناعة األلبان في الواليات المتحدة األمريكية من إخفاء تقرير مهم يؤكد على خطورة هذه الحقنة وتأثيراته ا الض ارة على ك ل حيوان ات‬
‫االختبار (تقرير ريتشارد‪ ،‬أوداجليا ودزليكس‪ ،) 1989 ،‬ولم يعرض هذا التقرير على إدارة الرئيس "كلينتون" وال على إدارة األغذية واألدوية األمريكية (إف‬
‫دي آي)التي ما زالت تصر على أن هرمون "آي جي إف‪ "1-‬يتحطم في المعدة! ولقد ثبت أن هذا االدعاء غير صحيح؛ ألنه من المعروف علميا أن معدل نمو‬
‫الرضع يكون عاليا؛ نتيجة لوجود هذا الهرمون في اللبن‪ ،‬ووصوله لجميع خاليا الجسم‪ ،‬وأنه إذا تحطم هذا الهرمون في المعدة انعدمت فوائده‪.‬‬
‫ولتأكيد هذه الفرضية أجرى العلماء دراسة على مجموعتين من البشر‪ :‬المجموعة األولى تستهلك ‪ 12‬أوقية من الحليب يوميا‪ ،‬والمجموعة األخرى تستهلك‬
‫‪ 24‬أوقية (ثالثة أكواب)من نفس الحليب المصرح بتناوله من إدارة األغذية واألدوية (إف دي آي)‪ .‬وأكدت التحليالت أن أف راد المجموع ة الثاني ة تزي د ل ديهم‬
‫نسبة هرمون "آي جي إف‪( "1-‬أكثر من ‪ %10‬في مصل دم ائهم)مقارن ة بالمجموع ة األولى!‪ ..‬من مق ال بعن وان « ش رب الحليب‪ ..‬خط ر يه دد ص حتك! »‬
‫لطارق قابيل‪ ،‬منشور بموقع‪ «:‬إسالم اون الين » بتاريخ ‪.06/07/2002‬‬
‫‪ )(7‬هو تيموتي ليري‪ ...‬ويذكر ريتشارد سيلزر بعض المجاالت التي يمكن تس ميتها إيجابي ة م ع بعض التحف ظ في م دى ص حة ذل ك‪ ،‬فيق ول‪ «:‬إن أهم‬
‫التطورات التي ستفضي إليها البحوث في العشرين سنة المقبلة‪ ،‬ستكون بال شك العقاقير المضادة للفيروسات‪ ،‬واللقاحات التي ستؤدي إلى انق راض األم راض‬
‫السارية من على وجه األرض‪ ..‬أما علم الهندسة الوراثية‪ ،‬فسوف يساعد في القضاء على العاهات الوراثية‪ ،‬التي ضربت المجتمعات منذ زمن بعيد‪ ..‬يقيني أن‬
‫التحكم بالتقنيات المختصة بمعاملة الموروثات البشرية ستخلف سالالت بشرية متفوقة‪ ،‬وأن هذه الحقيقة قد بدأت بشائرها اليوم »‬
‫‪33‬‬
‫قلت‪ :‬إنها ستقلب تاريخ الطب رأسا على عقب‪ ،‬وسيعالج اإلنسان انطالقا من مورثاته‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا أتشاءم كثيرا من اختراعاتكم واكتشافاتكم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لم ـ يا معلم ـ ألم يأمرنا هللا بالسير في األرض للبحث فيها وتيسير حياتنا؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن السير المبارك يفتح البركات‪ ،‬والسير الممحوق يفتح اللعنات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهناك سير مبارك وسير ممحوق؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬سمعت أن قومك يستغلون ما فتح هللا عليهم من الهندسة الوراثية في وضع نسخ عن اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬فنجاحهم في استنساخ الحيوان جعلهم يفكرون في استنساخ اإلنسان‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم أقل لك‪ :‬إنكم في عصر الدجاجلة‪ ..‬ولن تنجيكم منه إال الفطرة‪ ..‬الفطرة المباركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا معلم‪ ..‬فلنعد للبركة‪ ..‬لقد عرفت أن الغذاء قد يحوي عناصر مباركة فيثمر في نفس آكل ه الص حة والعافي ة‬
‫والقوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬هذا صحيح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واألصل في هذا أن هذا الطعام الذي يح وي ه ذه العناص ر المبارك ة يس تفيد من ه الجمي ع‪ ..‬ألن ه ال يس تحيل‬
‫طعاما آخر في فم آخر‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن النصوص تخبر أن هناك أشياء أخ رى له ا تأثيره ا في البرك ة‪ ،‬فق د ك ان الن بي ‪ ‬ي دعو في دعائ ه‬
‫فيقول‪ (:‬اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه)‬
‫قال‪ :‬ألن البركة من هللا‪ ،‬فهو الذي يجعل الطعام مباركا أو ممحوق البركة‪ ،‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬إذا وض ع الطع ام‬
‫فخذوا من حافته وذروا وسطه‪ ،‬فإن البركة تنزل في وسطه)(‪ ،)1‬وفي حديث آخر يقرر هذا‪ ،‬فيقول‪ (:‬إن البركة تنزل في‬
‫وسط الطعام‪ ،‬فكلوا من حافته وال تأكلوا من وسطه)(‪ ،)2‬فقد أخبر ‪ ‬أن البركة تتنزل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي أن دعاءنا قبل الطعام يجعل غذاءنا مباركا بتنزيل هللا البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس بالدعاء فقط‪ ..‬بل في حالتك النفسية أثناء تناول الطعام‪ ..‬ألنك قد تأكله‪ ،‬وقلبك يمتلئ حقدا عليه وص راعا‬
‫معه‪ ..‬فال يزيدك أكلك له إال جوعا ومرضا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يمكن أن يحقد أحد على الطعام؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬إذا أكله‪ ،‬وهو يعيبه‪ ..‬ألم يكن ‪ ‬يثني على الطعام إذا حضر؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬كان يثني عليه كل الثناء‪ ،‬وقد قال لما قدم ل ه الخ ل‪ِ (:‬نعم اإلدا ُم الخ لُّ)(‪ ،)3‬وفي ح ديث آخ ر ق ال ‪:‬‬
‫( اللهم بارك في الخلِّ فإنَّه كان إدام األنبياء قبلي)(‪ ..)4‬وعندما قدم له الضب‪ ،‬ولم يكن يشتهيه لم يعبه‪ ،‬بل ق ال‪ (:‬ال تفعال‪،‬‬
‫إنكم أهل نجد تأكلوها‪ ،‬وإنا أهل تهامة نعافها)(‪)5‬‬
‫قال‪ :‬وكل ذلك لئال يجرح شعور الطعام‪ ،‬فإن الطعام ال يرضى أن يدخل أجواف من يذمه‪.‬‬
‫ضحكت‪ ،‬وقلت‪ :‬وهل له من العقل ما يرضى به أو يسخط‪ ..‬ماذا تقول يا معلم؟‬
‫قال‪ :‬إن الطعام ال ينيلك بركته إال إذا كان راضيا‪ ،‬وهذا سر من أسرار البركة‪ ،‬ألم تس مع م ا ورد في الح ديث عن‬
‫ابن أعبد قال قال علي‪ :‬يا ابن أعبد! هل تدري ما حق الطعام؟ قلت‪ :‬وما حقه؟ قال‪ :‬تقول‪ (:‬بسم هللا‪ ،‬اللهم! ب ارك لن ا فيم ا‬
‫رزقتنا)؛ ثم قال‪ :‬أتدري ما شكره إذا فرغت؟ قلت‪ :‬وما شكره؟ قال‪ :‬تقول‪ (:‬الحمد هلل الذي أطعمنا وسقانا)(‪ ،)6‬فقد ذكر أن‬
‫للطعام حقا‪ ..‬ال يكون له هذا الحق إال إذا كان له من الوعي ما يطالب به بحقه‪.‬‬
‫ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫الترمذي والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫يعني الضب‪ ،‬رواه الطبراني في الكبير‪ ،‬وفي رواية‪ :‬كلوه ال بأس به ولكنه ليس من طعام قومي‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫ابن أبي الدنيا في الدعاء‪ ،‬وأبو نعيم في الحلية وابن حبان‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪34‬‬
‫قلت‪ :‬يا معلم‪ ..‬هذا جاء على أساليب العرب‪ ..‬وليس المراد به ما فهمته من ظاهره‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما ورد من تسبح الطعام أج اء أيض ا على أس اليب الع رب‪ ،‬فق د ورد في نص وص ص ريحة ال تحتم ل أي‬
‫لبس‪ ،‬ألم تسمع قول ابن مسعود‪ (:‬كنا أصحاب محمد ‪ ‬نعد اآليات بركة‪ ،‬وأنتم تعدونها تخويفا‪ ،‬بينم ا نحن م ع رس ول‬
‫هللا ‪ ‬ليس معنا ماء فقال لنا‪ (:‬اطلبوا من معه فضل ماء)‪ ،‬فأتي بماء فوض عه في إن اء ثم وض ع ي ده في ه‪ ،‬فجع ل الم اء‬
‫يخرج من بين أصابعه‪ .‬ثم قال‪ (:‬حي على الطهور المبارك والبركة من هللا)‪ ،‬فشربنا منه‪ ،‬قال عبد هللا‪ :‬كنا نسمع ص وت‬
‫الماء وتسبيحه‪ ،‬وهو يشرب‪.‬‬
‫وكانوا يسمعون تسبيح الطعام‪ ،‬عن ابن مسعود قال‪ (:‬كنا نأكل مع النبي ‪ ‬فنسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد ورد في الحديث أن رسول هللا ‪ ‬أتي بطعام ثري د‪ ،‬فق ال‪ (:‬إن ه ذا الطع ام يس بح)ق الوا‪ (:‬ي ا‬
‫رسول هللا‪ ،‬وتفقه تسبيحه؟ قال‪ :‬نعم ثم قال لرجل‪ :‬ادن هذه القصعة من هذا الرجل‪ ،‬فأدناها من ه فق ال‪ :‬نعم ي ا رس ول هللا‪،‬‬
‫هذا الطعام يسبح! فقال‪ :‬ادنها من آخر‪ ،‬وأدناها منه فقال‪ :‬هذا الطعام يسبح‪ .‬ثم قال‪ :‬رده ا فق ال رج ل‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬ل و‬
‫أمرت على القوم جميعا‪ ،‬فقال‪ :‬ال إنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب ردها فردها(‪.)2‬‬
‫قال‪ :‬أترى من له القدرة على التسبح جمادا ال يعقل؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل عاقال وسيد العقالء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا سر من أسرار البركة‪.‬‬
‫أمسك بيدي من ال أعرفه‪ ،‬ولكن يلوح عليه من الجهد ما يدل على كونه من الخبراء‪ ،‬فقال من غير أن أسأله‪ :‬نعم‪..‬‬
‫أنا من الخبراء‪ ..‬وقد سمعتك تسأل معلمك عن سر البركة في الدعاء‪ ..‬وأنا سأجيبك على ضوء اختصاصي‪ ،‬فأنا مختص‬
‫في الهندسة الوراثية(‪ ،)3‬فركز معي‪ ،‬فسأعلمك أسرارا مهمة في هذا العلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬علمني مما علمك هللا‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬ي تركب ك ل جين من ح والي ‪ 70‬أل ف وح دة في المتوس ط من وح دات الم ادة الوراثي ة ‪ D N A‬وهي‬
‫النيكليودات‪ ،‬وكل جين يتركب من وحدات المادة الوراثية في تتابع معين‪ ،‬وأي تغي ير في نوعي ة أو تت ابع ه ذه الوح دات‬
‫يغير في تحكم الجين‪ ،‬وبالتالي في إظهار صفات مختلفة له‪ ،‬وهذا التغيير يكون إم ا باإلض افة أو الح ذف لواح د أو أك ثر‬
‫من هذه الوحدات‪ ،‬أو بتغيير نوعية واحد أو أكثر من هذه الوحدات‪ ،‬أو بتغي ير التتابع ات الخاص ة به ذه الوح دات داخ ل‬
‫الجين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي العوامل التي تجعل الجين يتغير عما هو عليه؟‬
‫قال‪ :‬أسباب ذلك كثيرة‪ ،‬فذلك إم ا أن يك ون عن طري ق المطف رات الطبيعي ة مث ل أش عة ‪ X‬وجاما واألش عة ف وق‬
‫البنفسجية وغيرها‪ ..‬أو عن طريق المركبات الكيميائية من مبيدات وأحماض وأغذية وغيره ا‪ ..‬أو عن طري ق أي ش يء‬
‫في البيئة أو األماكن أو النباتات أو اإلنسان أو الحيوان التي يعيش فيها أو معه ا الش خص المت أثر‪ ،‬حيث يص در عن ه ذا‬
‫كله إشعاعات تؤدي إلى حدوث مثل هذه التغييرات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الدعاء مجرد كالم‪ ..‬فهل له تأثير على وضعية هذه الجينات؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬حتى الكلمة التي تصدر من أي شخص لها ذب ذبات س واء ك انت طيب ة أو خبيث ة ت ؤدي إلى مث ل ه ذه‬
‫َصدِّعاً ِم ْن خَ ْش َي ِة هَّللا ِ َو ِت ْل كَ اأْل َ ْم َث الُ ن ْ‬
‫َض ِربُ َها‬ ‫زَلنَا َه َذا ْالقُرْ آنَ َع َلى َج َب ٍل َل َر َأ ْي َتهُ ِ‬
‫خَاشعاً ُمت َ‬ ‫التغييرات‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬لوْ َأ ْن ْ‬
‫اس َل َعلَّه ُْم َي َت َف َّكرُونَ ﴾(الحشر‪)21 :‬‬
‫ِللنَّ ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما وجه اإلشارة فيها؟‬
‫قال‪ :‬هذا يدل على أن القرآن الكريم له من التأثير على األشياء ما يفوق القنبلة الذرية نفسها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬ولكني ال أزال أتساءل‪ ،‬فقد ادعيت صعبا تحتاج إلى إثباته‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك يحتاج إلى بعض التفصيل‪ ،‬فاصبر علي‪ ..‬إن نيكليوتيدات الجين تتكون من ن وعين في مجموع ات‪ ..‬أم ا‬

‫‪ )(1‬أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه‪.‬‬


‫‪ )(2‬أبو الشيخ‪.‬‬
‫‪ )(3‬هو األستاذ الدكتور عاصم محمد علي رحمه هللا‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫النوع األول‪ ،‬فهو نوع يطلق علي ه ‪ ،Extr ons‬وهو خاص بالمواد الكيميائية المنتجة‪ ،‬أي الجزء الطبيعي الدنيوي‪ ..‬وه و‬
‫ما عرفته مع معلمك في أسرار البركة في العناصر‪.‬‬
‫أما النوع الثاني‪ ،‬فيطل ق علي ه ‪ ،Intr ons‬وه و الج زء ذو التك رارات العالي ة والحس اس‪ ،‬وال ذي يق وم بتش كيل‬
‫الجزيء الطبيعي الناتج عن ‪.Extr ons‬‬
‫وهذا النوع األخير تزيد نسبته ب رقي الك ائن‪ ،‬فتص ل في أرقى الكائن ات وه و اإلنس ان إلى ‪ 70‬بالمائ ة من الم ادة‬
‫الوراثية‪.‬‬
‫والغالب أنه هو المكون للتركيبة الروحية‪ ،‬وهي تت أثر ت أثرا كب يرا باألحاس يس والعب ادات واألفع ال الص الحة أو‬
‫السيئة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال يوضح لي هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتعرف اإلنسولين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬أعرفه‪ ،‬فله دوره الخطير في التمثيل الغذائي للسكر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فجزيء اإلنسولين الناتج من الفرد التقي الصالح يختلف اختالفا كبيرا في شكل الج زيء عن إنس ولين الف رد‬
‫المنحرف‪ ،‬ولو أنهما معا يقومان بوظيفتهما في التمثيل الغذائي للسكر‪ ،‬ولكن يختلفان في الكفاءة ومدى استفادة الجسم من‬
‫كل منهما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ب ورك في ك‪ ..‬فق د فهمت أس رار كث يرة من ه ذا‪ ..‬كنت أعجب منه ا‪ ..‬لق د أدركت س ر قول ه ‪ (:‬اللهم! إن‬
‫إبراهيم كان عبدك وخليلك دعاك ألهل مكة بالبركة‪ ،‬وأنا محمد عبدك ورسولك أدع وك أله ل المدين ة أن تب ارك لهم في‬
‫مدهم وصاعهم مثلي ما باركت ألهل مكة مع البركة بركتين)(‪)1‬‬
‫وقد كنت أعجب من ح ديث ج ابر بن عب د هللا في قول ه‪ :‬بعثن ا رس ول هللا ‪ ‬وأم ر علين ا أب ا عبي دة نتلقى ع يرا‬
‫لقريش‪ ،‬وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره‪ ،‬فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة‪ .‬فقيل‪ :‬كي ف كنتم تص نعون به ا؟ ق ال‪:‬‬
‫نمصها كما يمص الصبي‪ ،‬ثم نشرب عليهم من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل‪ ،‬وكنا نضرب بعص ينا الخب ط ثم نبل ه بالم اء‬
‫فنأكله)(‪)2‬‬
‫فقد كنت أعجب من بقاء قوتهم مع هذا األكل القليل‪.‬‬
‫وقد كنت أعجب من تلك األكالت القليلة التي يقتصر عليه ا الص الحون م ع حف ظ هللا لق واهم األم د الطوي ل‪ ،‬وق د‬
‫فهمت من هذا سر قوله ‪ (:‬المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء)(‪)3‬‬
‫قال‪ :‬وافهم مع هذا سر قوله ‪ (:‬ماء زمزم لما شرب له)(‪ )4‬فقد اعتبر ‪ ‬لني ة الش ارب ت أثيرا في الفوائ د ال تي‬
‫يجنيها من شربه من ماء زمزم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأصرح من ذلك قوله ‪ (:‬ماء زم زم لم ا ش رب ل ه‪ ،‬إن ش ربته تستش في ش فاك هللا‪ ،‬وإن ش ربته لش بعك‬
‫أشبعك هللا‪ ،‬وإن شربته لقطع ظمئك قطعه هللا‪ ،‬وهي هزمة جبرائيل وسقيا هللا إسماعيل)(‪)5‬‬
‫قال‪ :‬فللنية والصدق فيها واليقين في فضل هللا تأثير عظيم في ذل ك‪ ،‬وله ذا ال يس تفيد من ه ذا الن وع من العالج إال‬
‫الصادقون أصحاب القلوب الطيبة(‪.)6‬‬
‫‪ )(1‬الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬البخاري وغيره‪ ،‬وقد ورد في سبب ورود هذا الحديث أن ثمامة لما كان في األسر جمعوا ما كان في أهل النبي ‪ ‬من طعام ولبن فلم يقع ذلك من‬
‫ثمامة موقعا فلما أسلم جاءوه بالطعام فلم يصب منه إال قليال فتعجبوا فقال النبي ‪ «:‬إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وأن المؤمن يأكل في معي واحد »‬
‫‪ )(4‬رواه ابن ماجه وغيره‪.‬‬
‫‪ )(5‬الدارقطني والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(6‬وقد رويت الحكايات الكثيرة عن تأثير شرب ماء زمزم العالجي‪ ،‬ومن ذلك ما حدثت به سيدة فاضلة اسمها – يسرية عب د ال رحمن ح راز – ك انت‬
‫تؤدي فريضة الحج ضمن وزارة األوقاف عن المعجزة التي حدثت لها ببرك ات م اء زم زم فق د ذك رت أنه ا أص يبت من ذ س نوات بقرح ة قرمزي ة في عينه ا‬
‫اليسرى نتج عنها صداع نصفي ال يفارقها ليل نهار‪ ،‬وال تهدئ منه المسكنات‪ ..‬كما أنها كادت تفقد الرؤية تماما بالعين المصابة لوجود غش اوة بيض اء عليه ا‪..‬‬
‫وذهبت إلى أحد كبار أطباء العيون فأكد أنه ال سبيل إلى وقف الصداع إال باعطائها حقنة تقضي عليه‪ ،‬وفي نفس ال وقت تقض ي على العين المص ابة فال ت رى‬
‫إلى األبد‪ ،‬وفزعت السيدة يسرية لهذا النبأ القاسي‪ ،‬ولكنها كانت واثقة برحمة هللا تعالى ومطمئنة إلى أنه سيهيئ له ا أس باب الش فاء رغم ج زم الطب واألطب اء‬
‫‪36‬‬
‫مواقيت البركة‬
‫لم أبتعد قليال عن المتوسم الثالث‪ ،‬حتى ناداني أح د المتوس مين‪ ،‬فقلت‪ :‬أتري د أن تس ر لي ش يئا أنت اآلخ ر‪ ..‬ق ل‪..‬‬
‫فكلي آذان صاغية‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬بل سأقول لك ما يمكن أن تعلنه على المأل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهو سبيل من سبل الحصول على البركة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فليس لنا من دور ـ نحن المتوسمين ـ سوى البحث عن هذا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبأيها اختصصت أنت؟‬
‫قال‪ :‬بالمواقيت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنت ساعاتي إذن؟‬
‫قال‪ :‬يمكنك أن تقول ذلك‪ ..‬فأنا دائم الترقب للساعات والدقائق‪ ..‬أنتظر بشغف كل مناسبة من مناسبات الخير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ألنال من بركاتها ما ال يمكن تحصيله في سائر األيام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أليست كل األزمان أزمان خير؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن هللا تع الى خص م واقيت مخصوص ة بمزي د من الخ ير‪ ..‬أال ت رى التج ار في أرض قوم ك ق د‬
‫يبيعون في بعض المناسبات ما ال يبيعونه في جميع أوقات السنة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ذلك صحيح‪ ..‬وأنا أراهم في تلك المناسبات يزهون جذلين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن تلك األيام هي أيام بركاتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل جعل هللا في أيام دهرنا مناسبات خاصة للبركات؟‬
‫ور َو َذ ِّكرْ ه ُْم ِبأَي َِّام هَّللا‬ ‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َل َق ْد َأرْ َس ْلنَا ُمو َسى ِبآيا ِتنَا َأ ْن َأ ْخ ِرجْ َقوْ َم كَ ِمنَ ُّ‬
‫الظلُ َم ا ِ‬
‫ت ِإ َلى ال ُّن ِ‬
‫ور﴾(ابراهيم‪)5 :‬‬ ‫َّار َش ُك ٍ‬
‫صب ٍ‬ ‫ت ِل ُكلِّ َ‬ ‫ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ آَل يا ٍ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن هذه أليام هي أيام نصره لهم‪..‬‬
‫قال‪ :‬فقد كانت أياما مباركة لهم‪ ..‬فلهذا أمره بتذكيرهم بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نحن نفعل ذلك‪ ..‬ولكن ليس كما تقصده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفعلون؟‬
‫قلت‪ :‬نحن ننشد األشعار‪ ،‬ونمأل الدنيا ضجيجا فرحا بأيام نصرنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنتم تمحقون نصركم بذلك‪ ..‬فبركة النص ر التواض ع وطأط أة ال رأس ومراجع ة النفس لتجدي د المس يرة‪ ،‬ألم‬
‫طا َي ا ُك ْم‬ ‫طةٌ ن َْغ ِف رْ َل ُك ْم خَ َ‬ ‫اب سُجَّد ًا َوقُولُوا ِح َّ‬
‫ْث ِش ْئتُ ْم َرغَد ًا َو ْاد ُخلُوا ْال َب َ‬
‫تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ ْذ قُ ْلنَا ا ْد ُخلُوا َه ِذ ِه ْال َقرْ َي َة َف ُكلُوا ِم ْن َها َحي ُ‬
‫حْس ِنينَ ﴾ (البقرة‪)58:‬‬ ‫َو َسن َِزي ُد ْال ُم ِ‬
‫قلت‪ :‬وما فيها من العلم؟‬
‫بتضاؤل األمل في ذلك‪ ..‬ففكرت في أداء عمرة‪ ،‬كي تتمكن من التماس الشفاء مباشرة من هللا عند بيته المحرم‬
‫وجاءت إلى مكة وطافت بالكعبة‪ ،‬ولم يكن عدد الطائفين كبيرا وقتئذ‪ ،‬مما أتاح لها – كما تقول – أن تقبل الحجر األسود‪ ،‬وتمس عينها المريض ة ب ه‪ ..‬ثم‬
‫اتجهت إلى ماء زمزم لتمأل كوبا منه وتغسل به عينها‪ ..‬وبعد ذلك أتمت السعي وعادت إلى الفندق الذي تنزل به‬
‫فوجئت بعد عودتها إلى الفندق أن عينها المريضة أصبحت سليمة تماما‪ ،‬وأن أعراض القرحة القرمزية توارت ولم يعد لها أثر يذكر‬
‫كيف تم استئصال قرحة بدون جراحة؟!‪ ..‬كيف تعود عين ميئوس من شفائها إلى حالتها الطبيعية بدون عالج؟! وعلم الطبيب المعالج بما ح دث‪ ،‬فلم يمل ك‬
‫إال أن يصيح من أعماقه‪ :‬هللا أكبر إن هذه المريضة التي فشل الطب في عالجها عالجها الطبيب األعظم في عيادته اإللهية‪.‬‬
‫ومثل هذه الحكاية وحكايات أخرى نسمع عنها من أصحابها أو نقرؤها‪ ،‬فيروي صاحب هذه الحكاية الدكتور فاروق عنتر فيقول‪ :‬لقد أص بت من ذ س نوات‬
‫بحصاة في الحالب‪ ،‬وقرر األطباء استحالة إخراجها إال بعملية جراحية‪ ،‬ولكنني أجلت إجراء العلمية مرتين‪ ..‬ثم عن لي أن أؤدي عم رة‪ ،‬وأس أل هللا أن يمن‬
‫علي بنعمة الشفاء وإخراج هذه الحصاة بدون جراحة؟‬
‫وبالفعل سافر الدكتور فاروق إلى مكة‪ ،‬وأدى العمرة وشرب من ماء زمزم‪ ،‬وقبل الحج ر األس ود‪ ،‬ثم ص لى ركع تين قب ل خروج ه من الح رم‪ ،‬ف أحس‬
‫بشيء يخزه في الحالب‪ ،‬فأسرع إلى دورة المياه‪ ،‬فإذا بالمعجزة تحدث‪ ،‬وتخرج الحصاة الكبيرة‪ ،‬ويشفى دون أن يدخل غرفة العمليات‪.‬‬
‫لقد كان خروج هذه الحصاة مفاجأة له ولألطباء الذين كانوا يقومون على عالجه‪ ،‬ويتابعون حالته‪.‬‬
‫انظر‪ :‬اإلعجاز العلمي في اإلسالم والسنة النبوية‪ ،‬لمحمد كامل عبد الصمد‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫قال‪ :‬هذه اآلية تبين سنن التعامل مع النصر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذا‪ ..‬ولكني أبحث عن سر اهتمامك بالمواقيت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬إن لربكم في أيام دهركم نفحات‪ ،‬فتعرضوا لها لعل ه أن يص يبكم نفح ة منه ا فال تش قون‬
‫بعدها أبدا)(‪ ،)1‬وقوله في الحديث اآلخر يعمق هذا المعنى‪ (:‬اطلب وا الخ ير ده ركم كل ه‪ ،‬وتعرض وا لنفح ات هللا‪ ،‬ف إن هلل‬
‫نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده‪ ،‬وسلوا هللا أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬قد سمعت ذلك منك‪ ،‬وبورك فيك‪..‬فهل لهذه المناسبات أيام مخصوصة في السنة ال تتعداها؟‬
‫قال‪ :‬منها األيام‪ ،‬ومنها الشهور‪ ،‬ومنها الساعات‪ ،‬ومنها اللحظات‪.‬‬
‫أيام البركة‬
‫قلت‪ :‬فما أيام البركة؟‬
‫قال‪ :‬هي أيام كثيرة منها ما يتكرر في السنة‪ ،‬ومنها ما يتكرر في األسبوع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما أعظمها؟‬
‫ار َك ٍة ِإنَّا ُكنَّا ُم ْن ِذ ِرينَ ﴾(الدخان‪)3 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬ليلة القدر‪ ..‬ألم تسمع ما قال هللا تعالى فيها‪ِ ﴿ :‬إنَّا أ ْنزَلنَاهُ ِفي َل ْي َل ٍة ُم َب َ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد أخبر هللا تعالى فيها عن ت نزالت المالئك ة ـ عليهم الص الة والس الم ـ فيه ا ومعهم ال روح‪ ،‬فق ال‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬تن ََّزلُ ْال َمال ِئ َكةُ َوالرُّوحُ ِفي َها ِبإِ ْذ ِن َر ِّب ِه ْم ِم ْن ُكلِّ َأ ْم ٍر﴾(القدر‪)4 :‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك كانت مناسبة عظيمة لرفع الحاجات إلى هللا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فأنتم تعالجون بليلة القدر؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وكيف ال نعالج بها‪ ..‬بل إن المرضى عندنا يعدون األيام والليالي ليظفروا بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفعلون فيها؟‬
‫قال‪ :‬ألم يبين لنا ‪ ‬ما نفعل‪ ،‬فقال‪ (:‬من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له م ا تق دم من ذنب ه)(‪ ،)3‬فنحن نحييه ا‬
‫بالقيام والتضرع‪ ..‬ونحن نستن بسنة رسول هللا ‪ ‬في ذلك‪ ،‬فقد كان َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬يجته د في رمض ان م ا ال يجته د في‬
‫غيره‪ ،‬وفي العشر األواخر منه ما ال يجتهد في غيره(‪.)4‬‬
‫قلت‪ :‬وما أثر ذلك في الشفاء؟‬
‫قال‪ :‬إن أكثر المرضى يشفيهم هللا تعالى ببركات هذه الليلة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل رأيت بعض ذلك؟‬
‫قال‪ :‬وهل أحتاج إلى أن أرى؟‬
‫قلت‪ :‬من باب الطمأنينة‪ ،‬ال من باب الشك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال أحتاج إلى أن أرى غيري‪ ..‬ألني ـ أنا ـ حصل لي من الخير بسبب هذه الليلة المباركة ما دعاني إلى البحث‬
‫في مواقيت البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أكنت مريضا؟‬
‫قال‪ :‬بأخطر أمراض عصركم‪ ..‬وقد أيأسني األطباء‪ ..‬وكان من رحمة هللا أني اجتمعت ب الطبيب ال ذي ق رأ نت ائج‬
‫تحليالتي في ليلة من ليالي العشر من رمضان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا فعلت؟‬
‫قال‪ :‬حزنت حزنا شديدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإلى أي شيء أسلمك حزنك؟‬
‫ق ال‪ :‬إلى هللا‪ ..‬لق د قلت لنفس ي‪ :‬أليس ه ذا الط بيب س وى ذرة تائه ة في ملك وت هللا‪ ..‬ثم بت قائم ا هلل‪ ..‬فأحسس ت‬
‫بقشعريرة تسري في أوصالي‪ ..‬وكأن مالئكة ربي وضعت مراهمها على أدوائي‪ ..‬ومنذ ذلك الحين‪ ،‬قب ل عش رين س نة‪،‬‬
‫الطبراني في الكبير‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫ابن أبي الدنيا في الفرج والحكيم والبيهقي وأبو نعيم في الحلية‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪38‬‬
‫لم أحسس بأي ألم‪ ،‬فلم يهتز لي عرق‪ ،‬ولم يتصدع لي رأس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل رجعت إلى طبيبك لتخبره عما حصل لك من بركات تلك الليلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذهبت صباحا إليه‪ ،‬فوجدت أهله يبكون‪ ،‬فسألتهم عنه‪ ،‬فأخبروني بوفاته‪ ..‬فلم أعد بعدها إلى األطباء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن انتظار ليلة القدر يطول‪ ..‬إنها سنة كاملة‪ ..‬ومع ذلك فقد يظفر بها‪ ،‬وقد ال يظفر‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنها ليلة مباركة‪ ،‬ومع ذلك‪ ..‬فإن من استعجل عندنا نرسله للحراسة في سبيل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة ذلك بليلة القدر؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬أال أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ ح ارس ح رس في أرض خ وف لعل ه أن ال يرج ع‬
‫إلى أهله)(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك غير ليلة القدر؟‬
‫قال‪ :‬الليالي العشر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الليالي العشر؟‬
‫ال َع ْش ٍر﴾(الفجر‪)2:‬‬
‫قال‪ :‬تلك التي أقسم هللا تعالى بها‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬و َل َي ٍ‬
‫قلت‪ :‬وما هي؟‬
‫هّللا‬
‫قال‪ :‬هي الليالي العشر من ذي الحجة‪ ..‬فقد قال ‪ (:‬ما من أيام العمل الصالح أحب إلى فيهن من هذه األي ام)‪،‬‬
‫ال خرج بنفس ه ومال ه‪ ،‬ثم لم‬ ‫يعني عشر ذي الحجة‪ ،‬قالوا‪ :‬وال الجهاد في سبيل هّللا ؟ قال‪ (:‬وال الجهاد في سبيل هّللا ‪ ،‬إال رجُ ً‬
‫يرجع من ذلك بشيء)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك غيرها؟‬
‫قال‪ :‬هناك ما هو أيسر من ذلك‪ ،‬وأقرب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما هو؟‬
‫قال‪ :‬يوم الجمعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك يوم يسير‪ ،‬فهو يوم يتكرر كل أسبوع‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقد أخبر ‪ ‬عن بركة هذا اليوم‪ ،‬فقال‪ (:‬إن من أفضل أيامكم يوم الجمع ة في ه خل ق آدم‪ ،‬وفي ه قبض‪ ،‬وفي ه‬
‫النفخة وفيه الصعقة‪ ،‬فأكثروا علي من الص الة في ه‪ ،‬ف إن ص التكم معروض ة علي ق الوا‪ :‬ي ا رس ول هللا وكي ف تع رض‬
‫صالتنا عليك وقد أرمت(‪)3‬؟ فقال ‪ (:‬إن هللا عز وجل حرم على األرض أجساد األنبياء)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيه من البركات؟‬
‫قال‪ :‬كثيرة هي بركاته‪ ،‬أولها أن رسول هللا ‪ ‬أخبر أن المالئكة تشهده‪ ،‬فينال العب د من بركاته ا م ا ينال ه‪ ،‬فل ذلك‬
‫دعانا ‪ ‬إلى االستعداد الصحيح لنيل بركات المالئكة في هذا اليوم‪ ،‬فقال‪ (:‬أكثروا من الصالة علي في يوم الجمع ة فإن ه‬
‫يوم مشهود تشهده المالئكة‪ ،‬وإن أحدا لن يصلي علي إال عرضت علي صالته حتى يفرغ منها)(‪ ..)5‬ب ل ورد في ح ديث‬
‫آخر ما يصرح بذلك‪ ،‬فقال ‪ (:‬إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صالة في ال دنيا‪ ،‬من ص لى علي‬
‫في يوم الجمعة وليلة الجمعة قضى هللا له مائة حاج ة س بعين من ح وائج اآلخ رة وثالثين من ح وائج ال دنيا‪ ،‬ثم يوك ل هللا‬
‫بذلك ملكا يدخله في قبري كما تدخل عليكم الهدايا يخ برني من ص لى علي باس مه ونس به إلى عش يرته فأثبت ه عن دي في‬
‫صحيفة بيضاء)(‪)6‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا هذه بركات عظيمة‪ ..‬ما أكثر غفلتنا عنها‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل هناك ما هو أعظم من ذلك كله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل هناك ما هو أعظم من ذلك؟‬
‫البخاري ومسلم عن ابن عمر‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫البخاري‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫أي بليت‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي وابن خزيمة وغيرهم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫البيهقي وابن عساكر‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪39‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد ذكر ‪ ‬يوم الجمعة فقال‪ (:‬فيها س اعة ال يوافقه ا عب د مس لم وه و ق ائم يص لي يس أل هَّللا ش يئاً إال‬
‫أعطاه إياه)‪ ،‬وأشار بيده يقللها(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذا خير عظيم‪ ،‬فأي ساعة هي؟‬
‫قال‪ :‬لم تحدد النصوص ذلك بدقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ليشتد الناس في البحث عنها‪ ..‬كما يشتدون في البحث عن ليلة القدر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنتم تعالجون بها؟‬
‫قال‪ :‬ألم يخبرك المعلم بأن مستشفى السالم يستعمل كل وسائل العالج وأسبابه؟‬
‫شهور البركة‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن شهور البركة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ض انَ ال ِذي أ ْن ِز َل ِفي ِه القُ رْ آنُ هُ دىً‬ ‫قال‪ :‬أعظمها شهر رمضان‪ ،‬فقد قال هللا تعالى يذكر فضله وبركاته‪َ ﴿ :‬شهْرُ َر َم َ‬
‫صُمهُ ﴾ (البقرة‪)185:‬‬ ‫ان َف َم ْن َش ِه َد ِم ْن ُك ُم ال َّشه َْر َف ْل َي ْ‬
‫ت ِمنَ ْالهُدَى َو ْالفُرْ َق ِ‬ ‫ِللنَّ ِ‬
‫اس َو َب ِّينَا ٍ‬
‫قلت‪ :‬لقد اكتسب شهر رمضان بركاته من القرآن الكريم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك كان أعظم مناسبة للبركات‪ ،‬فهو الشهر الذي تقترب فيه السماء من األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذه معلومة فلكية؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬هذه معلومة ربانية‪ ..‬ألم تسمع قول ه ‪ (:‬إذا ج اء رمض ان فتحت أب واب الجن ة‪ ،‬وغلقت أب واب الن ار‪،‬‬
‫وصفدت الشياطين)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فما نفعل في رمضان لننال بركاته؟‬
‫قال‪ :‬ما كان يفعله ‪ ،‬فهو أدرى بالبركات وأسرارها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما كان يفعل ‪ ‬؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قول ابن عباس‪ ،‬فقد قال‪ :‬كان َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬أجود الناس‪ ،‬وك ان أج ود م ا يك ون في رمض ان حين‬
‫فلرسُول هَّللا ِ ‪ ‬حين يلقاه جبريل أج ود ب الخير‬ ‫يلقاه جبريل‪ ،‬وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ َ‬
‫من الريح المرسلة)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت فضل رمضان‪ ..‬فهل هناك شهور أخرى يمكن تلمس البركات منها؟‬
‫ُور ِع ْن َد هَّللا ِ ْاثنَا َع َش َر َش هْر ًا ِفي ِك َت ا ِ‬
‫ب هَّللا ِ َي وْ َم خَ َل َق‬ ‫قال‪ :‬لقد ذكر هللا تعالى أربعة أشهر مباركة‪ ،‬فقال‪ِ ﴿ :‬إ َّن ِع َّد َة ال ُّشه ِ‬
‫ض ِم ْن َها َأرْ َب َعةٌ حُرُ ٌم َذ ِلكَ الدِّينُ ْال َق ِّي ُم َفال ت َْظ ِل ُموا ِفي ِه َّن َأ ْنفُ َس ُك ْم ﴾(التوبة‪)36:‬‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫قلت‪ :‬تقصد األشهر الحرم؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فهي أشهر مباركة‪ ..‬ونحن في هذا المستشفى نكثف العالج فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي هذه األشهر‪ ..‬فنحن اليوم نتعامل بأشهر تحن للشمس‪ ،‬وتتنكر للقمر‪.‬‬
‫هّللا‬
‫قال‪ :‬لقد أخبر عنها ‪ ،‬فقال في حجة الوداع‪ (:‬إن الزمان قد اس تدار كهيئت ه ي وم خل ق الس ماوات واألرض‪..‬‬
‫السنة اثنا عشر شهر ًا منها أربعة حرم‪ ،‬ثالث متواليات‪ :‬ذو القعدة وذو الحجة والمرحم‪ ،‬ورجب مضر ال ذي بين جم ادى‬
‫وشعبان)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬وسائر األشهر‪ ..‬أهي ممحوقة البركة؟‬
‫قال‪ :‬في إمكانك أن تمألها بالبركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك‪.‬‬

‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫البخاري‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪40‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع ما روي في الحديث أن النبي ‪ ‬كان إذا رأى الهالل قال‪ (:‬اللهم بارك لنا في ش هرنا ه ذا ال داخل)‬
‫(‪)5‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن أن تسري بركة هذا الدعاء إلى الشهر كله‪ ،‬فتجعله مباركا؟‬
‫قال‪ :‬أج ل‪ ..‬وق د ك ان الن بي ‪ ‬يتح رى ه ذا‪ ،‬فق د ك ان إذا رأى الهالل ق ال‪ (:‬اللهم أهل ه علين ا ب اليمن واإليم ان‬
‫والسالمة واإلسالم ربي وربك هللا)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر قال الراوي‪ :‬كان رسول هللا ‪ ‬إذا رأى الهالل قال‪ (:‬هللا أكبر‪ ،‬اللهم أهله علينا ب األمن واإليم ان‬
‫والسالمة واإلسالم والتوفيق لما تحب وترضى‪ ،‬ربنا وربك هللا)(‪)3‬‬
‫وفي ح ديث آخ ر أن ن بي هللا ‪ ‬ك ان إذا رأى الهالل ق ال‪ (:‬هالل خ ير ورش د‪ ،‬هالل خ ير ورش د‪ ،‬هالل خ ير‬
‫ورشد‪ ،‬آمنت باهلل الذي خلقك‪ ،‬ثالث مرات‪ ،‬ثم يقول‪ (:‬الحمد هلل الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا)(‪)4‬‬
‫ساعات البركة‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن ساعات البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي ساعات تتكرر يوميا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وذلك ما يجعلها أيسر مواقيت البركات وأقربها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أولها البكور‪ ،‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬اللهم بارك ألمتي في بكورها)‪ ،‬قال الراوي‪ :‬وك ان ‪ ‬إذا بعث س رية أو‬
‫جيشاً بعثهم من أول النهار‪ ،‬وكان صخر تاجر ًا‪ ،‬وكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله(‪.)5‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد أخبر ‪ ‬بحماية هللا لمن صلي الصبح‪ ،‬فقال‪ (:‬من صلى الصبح فهو في ذمة هَّللا ‪ ،‬فانظر يا ابن آدم‬
‫ال يطلبنك هَّللا من ذمته بشيء)(‪)6‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك ترانا في هذا المستشفى نتحصن بالصبح‪ ..‬فاليوم عندنا يبدأ بالفجر‪ ،‬ال بالض حى كم ا رأيت ه في أرض‬
‫الصراع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والثاني؟‬
‫قال‪ :‬السحر‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬تسحروا‪ ،‬فإن في السحور بركة)(‪)7‬‬
‫قلت‪ :‬وقد سمى ‪ ‬السحور بالغذاء المبارك‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقد عرفت في حصون الصحة األثر الصحي للسحور والفطور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فحدثني عن الثالث‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو ما عبر عنه ‪ ‬بقوله‪ (:‬إذا مضى شطر الليل‪ ،‬أو ثلثاه‪ ،‬ينزل هللا إلى السماء ال دنيا فيق ول‪ :‬ه ل من س ائل‬
‫يعطى‪ ،‬هل من داع يستجاب له‪ ،‬هل من مستغفر يغفر له‪ ،‬حتى ينفجر الصبح)(‪.)8‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال ‪ (:‬ينزل هللا تعالى إلى السماء الدنيا‪ ،‬ك ل ليل ة حين يمض ي ثلث اللي ل األول‪ ،‬فيق ول‪ :‬أن ا‬
‫الملك‪ ،‬أنا الملك‪ ،‬من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يس ألني فأعطي ه؟ من ذا ال ذي يس تغفرني ف أغفر ل ه؟ فال‬
‫يزال كذلك حتى يضيء الفجر)(‪.)9‬‬
‫قلت‪ :‬هذا حديث عظيم‪ ..‬وفيه بركات عظيمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن قومك يحرفونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعتهم يروونه كثيرا‪.‬‬

‫ابن منده وبان عساكر‪ ،‬وقد ذكر الحديث‪ ،‬وقال‪ :‬توالى على هذا الدعاء ستة من أصحاب النبي ‪ ‬سمعوه منه‪ ،‬والسابع حدير أبو فوزة السلمي‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫الدارمي‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أبو داود‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫ال َح ِد ٌ‬
‫يث َح َسنٌ ‪.‬‬ ‫أبُو دَا ُو َد التِّر ِم ِذيُّ َوقَ َ‬ ‫‪)(5‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(8‬‬
‫مسلم والترمذي‪.‬‬ ‫‪)(9‬‬
‫‪41‬‬
‫قال‪ :‬هم ال يروونه ليستفيدوا من بركاته‪ ..‬بل يروونه ليجادلوا ب ه‪ ..‬فهم ال يس معون قول ه تع الى‪ (:‬أن ا المل ك‪ ،‬أن ا‬
‫الملك‪ ،‬من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟)‬
‫قلت‪ :‬فما يسمعون؟‬
‫قال‪ :‬ال يسمعون منه إال النزول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫هّللا‬
‫قال‪ :‬ليجادلوا‪ ..‬ألم يقل ‪ (:‬ما ض ل ق وم بع د ه دى ك انوا علي ه إال أورث وا الج دل)‪ ،‬ثم تال رس ول ‪ ‬قول ه‬
‫خَص ُمونَ ﴾(الزخرف‪)1())58 :‬‬ ‫ال َبلْ ه ُْم َقوْ ٌم ِ‬ ‫ض َربُوهُ َلكَ ِإاَّل َج َد ً‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬ما َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد خرج رسول على الناس وهم يتنازعون في القرآن‪ ،‬فغضب غض با ش ديدا ح تى كأنم ا ص ب‬ ‫هّللا‬
‫على وجهه الخل‪ ،‬ثم قال‪ (:‬ال تضربوا كتاب هّللا بعضه ببعض‪ ،‬فإنه ما ضل قوم قط إال أوتوا الجدل)‪ ،‬ثم تال اآلية‪.‬‬
‫لحظات البركة‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن لحظات البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ق د يمتلئ قلب ك في أي لحظ ة من اللحظ ات خش وعا ورق ة‪ ..‬فال تف رط في تل ك اللحظ ة‪ ،‬فهي من اللحظ ات‬
‫المباركات التي قد تنقلب بها حياتك انقالبا كليا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫َاء﴾(آل‬ ‫ال َربِّ َهبْ ِلي ِم ْن َل ُد ْنكَ ُذرِّ يَّ ًة َ‬
‫ط ِّي َب ًة ِإنَّكَ َس ِمي ُع ال ُّدع ِ‬ ‫ق ال‪ :‬ألم تس مع قول ه تع الى‪﴿ :‬هُنَا ِل كَ َد َع ا زَ َك ِريَّا َربَّهُ َق َ‬
‫عمران‪)38:‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما فيها من مواقيت البركة؟‬
‫قال‪ :‬عندما دخل زكريا ‪ u‬على مريم ـ عليها السالم ـ فوجد عندها من رزق هللا المبارك ش عر بق درة هللا المطلق ة‪،‬‬
‫فامتأل كيانه بالرغبة فيما في يد هللا‪ ،‬فسأل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعالجون في هذا المستشفى بهذه اللحظات؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬نحن نمأل قلوب المرضى باإليمان إلى أن يصبحوا كاألرواح المجردة‪ ..‬وحينذاك نطلب منهم أن يدعو‬
‫من ال يرد من دعاه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن أسوتكم في ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أيوب ‪.u‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألم يستعمل هذه اللحظة من لحظات اإليمان في شفاء العلة التي دامت سنين‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬و ْاذ ُك رْ َع ْب َدنَا َأي َ‬
‫ُّوب‬
‫ب﴾(صّ ‪ ،)41:‬فم ا إن ق ال ذل ك ح تى ن ودي من س رادقات الغيب‪﴿ :‬ارْ ُكضْ‬ ‫ب َو َع َذا ٍ‬ ‫طانُ ِبنُصْ ٍ‬‫ِإ ْذ نَادَى َربَّ ُه َأ ِّني َم َّس ِن َي ال َّش ْي َ‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾(صّ ‪)42:‬‬ ‫ِب ِرجْ ِلكَ َه َذا ُم ْغ َت َسلٌ َب ِ‬
‫قلت‪ :‬فيمكن بهذا أن نحول من كل حياتنا ليلة قدر‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألم تسمع قول أبي العباس المرسي‪ (:‬أوقاتنا والحمد هلل كلها ليلة القدر)‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد سمعت قول ابن عطاء هللا‪ (:‬من بورك له في عمره أدرك في يس ير من ال زمن من منن هللا تع الى‬
‫ما ال يدخل تحت دوائر العبارة‪ ،‬وال تلحقه اإلشارة)‬
‫قال‪ :‬عرفت فالزم‪.‬‬

‫‪ )(1‬أحمد والترمذي وابن ماجة‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬


‫‪42‬‬
‫ثانيا ـ منازل البركة‬
‫سرت قليال أبحث عن متوسم يدلني على منازل البرك ة‪ ،‬وكيفي ة تحص يلها‪ ،‬فبينم ا أن ا ك ذلك إذ الح لي رج ل ق د‬
‫انتحى جانبا عن الناس‪ ،‬ووضع بساطا على األرض‪ ،‬ثم استلقى على ظه ره‪ ،‬فلم أج د نفس ي إال وأن ا بين يدي ه أق ول‪ :‬ي ا‬
‫أخي‪ ..‬ليس هذا محل نوم‪ ..‬وال محل كسل‪ ..‬هذه منازل السالم ‪ ..‬وهذه ديار البركات‪ ..‬فال تفسد علينا وعلى الناس م ا في‬
‫هذه الديار من البركات‪.‬‬
‫قال‪ :‬بورك في نصيحتك‪ ..‬ولكني لست كما ظننت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا لم أظن‪ ..‬بل أتيقن‪ ..‬كيف تقف مواقف التهم‪ ،‬ثم تريد أن نحسن بك الظن‪.‬‬
‫قال‪ :‬أخبرني عنك أوال من أنت حتى أعرف كيف أتعامل معك؟‬
‫قلت‪ :‬وما شأنك بي‪ ..‬أنا أطلب منك أن تحمل بساطك‪ ..‬فإن شئت النوم‪ ،‬فاذهب إلى بيتك‪ ،‬فهو أهنأ لك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا ال أريد أن أنام‪ ..‬ولكني بسطت بساطي‪ ،‬واستلقيت ألعبد هللا على جنب‪ ..‬أال تعرف هذا النوع من العبادة؟‬
‫قلت‪ :‬لم أسمع بهذا النوع من العبادة إال في ح ق المرض ى ال ذين ال يطيق ون القي ام وال الجل وس‪ ،‬فق د رخص لهم‬
‫الشرع بدله في الصالة على جنب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ذلك خاص بالمرضى‪ ..‬وهذا عام لجميع الناس‪ ..‬ألم تس مع قول ه تع الى‪ ﴿:‬الَّ ِذينَ َي ْذ ُكرُونَ هَّللا َ ِق َيام اً َوقُ ُع ود ًا‬
‫َو َع َلى جُ نُو ِب ِه ْم ﴾ (آل عمران‪)191:‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكني لم أسمع منها ما سمعت‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل عرفت ما سمعت حتى تحكم علي؟‬
‫قلت‪ :‬حالك يدل على ما في نفسك منها‪ ..‬أنت تريد أن تبرر بها عملك هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬قل لي‪ :‬ما ذا تفهم من اآلية؟‬
‫قلت‪ :‬فسرت هذه اآلية على أنها تبين كيفية أداء الصالة بالنسبة للمرضى‪ ،‬أي أنهم إذا اسـتطاعوا فلي ؤدوا الص الة‬
‫قياما‪ ،‬فإن لم يقدروا على ذلك فقعودا‪ ،‬أو فعلى أحد جنبيهم‪ ،‬ويدل لهذا قوله ‪ (:‬صل قائماً‪ ،‬فإن لم تستطع فقاعد ًا‪ ،‬فإن لم‬
‫تستطع فعلى جنبك)(‪)1‬‬
‫وفسرت بأنهم الذين ال يقطعون ذكر هللا في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬صدقت‪ ..‬ويمكنك أن تفسرها بما فعلته اآلن‪ ..‬وبما أنكرت علي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف أفسرها بذلك‪ ،‬وأنا ال ازال أنكر عليك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا أحد المتوسمين‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أتدعي التوسم أيضا‪ ..‬كيف تدعيه‪ ..‬وأنت لم تعرفني؟‬
‫قال‪ :‬وما عالقة التعرف عليك بالتوسم‪ ،‬أأنت شمس من شموس البركة‪ ،‬أم قمر من أقمارها؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن المتوسمين الذين القيتهم عرفوني قبل أن أعرفهم بنفسي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك مذهبهم‪ ،‬وهذا مذهبي‪ ..‬وقد سألت هللا تعالى أن يستر علي أس رار الخالئ ق ح تى ال أرى منه ا م ا ي رى‬
‫المتوسمون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم طلبت ذلك؟‪ ..‬أليس في ذلك مزيد فضل؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬خشيت أن يتسرب إلى نفسي من ذل ك م ا يحجب ني عن ه‪ ..‬فل ذلك س ألت هللا أن ال أرى من ذل ك قليال وال‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت إخوانك من المتوسمين‪ ..‬وأنا اآلن أبحث عن متوسم ي دلني على من ازل البرك ة‪ ..‬فق د ع رفت جمي ع‬
‫سبل البركة ما عدا منازلها‪.‬‬
‫قال‪ :‬إذا لم تعرف منازلها لم تعرفها‪.‬‬

‫‪ )(1‬البخاري‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن البركات فائضة في الكون‪ ..‬ولكن الشأن في استقبالها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تستقبل؟‬
‫قال‪ :‬بالمنازل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فدلني على المتوسم الذي يدلني عليها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت تجلس بين يديه‪.‬‬
‫انتفضت قائال‪ :‬معذرة‪ ..‬أأنت هو متوسم المنازل؟‪ ..‬ولكن ماذا تفعل هنا؟‬
‫قال‪ :‬لقد جلست هذا المجلس ألستقبل البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال تستقبلها إال بهذه الصورة؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬أنا أستقبلها بكل الصور‪ ،‬فقد أستقبلها قائما‪ ،‬أو قاعدا‪ ،‬أو مضطجعا‪ ،‬أو نائما‪ ..‬وقد أستقبلها في الس وق أو‬
‫في المقبرة‪ ،‬أو في الفيافي‪ ،‬أو في الشوراع‪ ،‬أو في المساجد‪ ،‬أو في المدارس‪ ..‬فكل هذه محال يمكن أن تمألني ب األحوال‬
‫المباركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم اخترت اآلن هذه الهيئة الستقبال البركات؟‬
‫قال‪ :‬أنا لم أخترها‪ ..‬ولكني وجدت نفسي وأحوالي ال تنتظم إال بهذه الضجعة‪ ،‬فاضطجعتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم لم تقهر نفسك؟‬
‫قال‪ :‬أقهرها عن الحرام‪ ..‬وال أقهرها عن عبادة هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬إذا وجدت قلبي في هذه الحالة خاشعا هلل مجتمعا به ممتلئا ذكرا وفكرا‪ ..‬فلماذا أخرج من هذه الحال‪ ..‬ف أتكلف‬
‫ما قد يضر بحالي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ففي جلوسك أو اضطجاعك هذا ماذا تفعل؟‬
‫قال‪ :‬أبرمج نفسي بالبرامج التي تهيئها لنزول البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تبرمج نفسك!؟‬
‫قال‪ :‬خاب من لم يبرمج نفسه كل يوم بالبرامج الصالحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تبرمجها؟‬
‫قال‪ :‬أنظم جسدي ونفسي وعقلي وروحي ليجتمع شتاتها وتتوحد وجهتها وتستعد الستقبال بركات هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنت تبرمج هذه األجهزة األربع؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬كما تبرمجون أجهزتكم وتنظمونها لتستفيدوا من بركاتها‪ ..‬أرأيت لو أن جهاز استقبالك الذي تتفرج ب ه‬
‫على أحوال الدنيا لم يتوجه الوجهة الصحيحة‪ ..‬أكنت ترى شيئا؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬لن أرى شيئا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل ذلك لشح األمواج التي تنقل لك أحوال العالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬هي منتشرة في كل مكان‪ ،‬ولم يضق بها الفضاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما سبب عدم استقبالك لها؟‬
‫قلت‪ :‬صحن استقبالي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك البركات يمتلئ بها الفضاء‪ ،‬ولكن الشأن ليس فيها‪ ،‬بل في عزوفكم عنها‪ ،‬وإدارة ظهوركم لها‪.‬‬
‫الجسد‬
‫قلت‪ :‬فلنبدأ بالجسد‪ ..‬كيف تبرمجه ليستقبل أمواج البركات؟‬
‫قال‪ :‬أوصل إليه من أسرار البركة ما يملؤه حيوية ونشاطا ليؤدي الرسالة التي وكلت إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬

‫‪44‬‬
‫قال‪ :‬ألم تعلم ما كان يفعل رسول هللا ‪ ‬إذا أراد أن ينام؟‬
‫قلت‪ :‬كان يجمع كفَّ ْي ِه ثم ينفُث فيهما‪ ،‬ويقرأ فيهما بسورة اإلخالص‪ ،‬والفلق‪ ،‬والناس‪ ،‬ثم يمسح بهما ما اس تطاع من‬
‫أقبل ِم ْن جسده‪ ،‬يفعل ذلك ثالث مرات‪.‬‬ ‫جسده‪ ،‬يبدأُ بهما على رأسه‪ ،‬ووجهه‪ ،‬وما َ‬
‫قال‪ :‬فهذا نوع من برمجة الجسد ليحيطه بأنواع البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تعرف أن كل خلية من خالياك كائن حي كلف بأداء وظيفة معينة في جسدك؟‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أنه كائن مستقل عني؟‬
‫قال‪ :‬هو فيك‪ ،‬ولكنه في ذاته مستقل عنك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنا لست فردا واحدا؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬بل أنت فرد واحد‪ ..‬ولكنك مكون من كم هائل من الجنود الذين يحفظون كيان ك إلى أن تتم الوظيف ة ال تي‬
‫جئت إلى األرض بسببها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تريد أن تقنعني بأن كل خلية من خالياي كائن حي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس في ذلك أي غرابة‪ ..‬أال ترى المدينة تظل مدينة واحدة‪ ،‬ولو أن ماليين البشر يسكنونها؟‬
‫قلت‪ :‬هذه دعوى عريضة لو سمعها قومي لرموك بالحجارة‪ ،‬أو لوضعوك في مارستان المجانين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ليست هذه دعوى‪ ،‬هذه حقائق تدل عليها كل األدل ة‪ ..‬وتش ير إليه ا ك ل الش واهد‪ ،‬ألم تس مع قول ه تع الى‪:‬‬
‫ْصارُ ه ُْم َوجُ لُو ُده ُْم ِب َم ا َك انُوا َيعْ َملُ ونَ‬ ‫ار َفه ُْم يُوزَ ُعونَ َحتَّى ِإ َذا َما َجا ُءوهَا َش ِه َد َع َل ْي ِه ْم َس ْم ُعه ُْم َو َأب َ‬ ‫﴿ َو َيوْ َم يُحْ َشرُ َأ ْعدَا ُء هَّللا ِ ِإ َلى النَّ ِ‬
‫رْج ُع ونَ َو َم ا ُك ْنتُ ْم ت َْس َت ِترُونَ َأ ْن‬ ‫ط َق ُكلَّ َش ْي ٍء َوه َُو خَ َل َق ُك ْم َأ َّو َل َمرَّ ٍة َو ِإ َل ْي ِه تُ َ‬ ‫ط َقنَا هَّللا ُ الَّ ِذي َأ ْن َ‬
‫َو َقالُوا ِلجُ لُو ِد ِه ْم ِل َم َش ِه ْدتُ ْم َع َل ْينَا َقالُوا َأ ْن َ‬
‫ظ َن ْنتُ ْم َأ َّن هَّللا َ ال َيعْ َل ُم َك ِثير ًا ِم َّما تَعْ َملُونَ ﴾(فصلت‪ 19 :‬ـ ‪)22‬؟‬ ‫ْصارُ ُك ْم َوال جُ لُو ُد ُك ْم َو َل ِك ْن َ‬ ‫َي ْش َه َد َع َل ْي ُك ْم َس ْم ُع ُك ْم َوال َأب َ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن هذه اآلية مثل قوله تعالى‪ْ ﴿:‬ال َيوْ َم ن َْخ ِت ُم َع َلى َأ ْف َوا ِه ِه ْم َوتُ َك ِّل ُمنَا َأ ْي ِدي ِه ْم َوت َْش َه ُد َأرْجُ لُه ُْم ِب َما َكانُوا َي ْك ِس بُونَ ﴾‬
‫(يّـس‪)65:‬تشير إلى حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا‪ ،‬ويحلف ون م ا فعل وه‪ ،‬فيختم هّللا‬
‫على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن قال بأن ذلك خاص باآلخرة؟‬
‫ضحكت‪ ،‬وقلت‪ :‬وهل رأيت رجال يتحدث مع عينه أو يسمع بصره أو يجادل جلده؟‬
‫قال‪ :‬فأنت تعتمد الحس لتؤول القرآن الكريم؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ولكن الشرع لم ينكر علينا االستدالل بالحس‪ ..‬فالحس أول الم دارك‪ ،‬وق د رأيت في حص ون العافي ة م ا‬
‫يبين فضله وقيمته‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجبني‪ ..‬وأرجو أال تجادلني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لن أجادلك‪ ..‬ولكني لن أقلدك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يجوز ألحد تقليد أحد‪ ..‬فكلنا في العبودية سواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سل ما بدا لك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما الغرض من استشهاد الشهود في اآلخرة؟‬
‫قلت‪ :‬هو إخبار الشهود بما يعلمون من حال المشهود عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال يقتضي العلم الحياة؟‪ ..‬وهل رأيت علما بال حياة؟‪ ..‬أو عالما بال حياة؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬العلم يقتضي الحياة‪ ..‬بل يقتضي الحياة المستقلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد عرفت إذن حياة أعضاء اإلنسان المستقلة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ ‬وهو يصور بعض مشاهد عدالة اآلخرة‪ ،‬واستشهاد الجوارح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد وردت في ذلك نصوص كثيرة‪ ،‬منها ما روي عن أنَس بن مالك ق ال‪ :‬كن ا عن د الن بي ‪ ‬فض حك ح تى‬
‫بدت نواجذه‪ ،‬ثم قال ‪ (:‬أتدرون مم أضحك؟) قلنا‪ (:‬هّللا ورسوله أعلم)‪ ،‬فقال ‪ (:‬من مجادلة العب د رب ه ي وم القيام ة‪،‬‬

‫‪45‬‬
‫علي إال شاهد ًا من نفسي‪ ،‬فيق ول‪ :‬كفى بنفس ك الي وم علي ك‬ ‫يقول‪ :‬رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول‪ :‬بلى‪ ،‬فيقول‪ :‬ال أجيز َّ‬
‫حسيباً‪ ،‬وبالكرام الكاتبين شهود ًا‪ ،‬فيختم على فيه‪ ،‬ويقال ألركانه‪ :‬انطقي‪ ،‬فتنطق بعمله‪ ،‬ثم يخلى بينه وبين الكالم‪ ،‬فيق ول‪:‬‬
‫بعد ًا لكن وسحقاً‪ ،‬فعنكن كنت أناضل)(‪)1‬‬
‫وقد ورد في بعض األحاديث إشارة إلى ه ذا الص نف ال ذي تس تنطق جوارح ه‪ ،‬وهم المن افقون ال ذين ح اولوا أن‬
‫يحتالوا على قلب الحقائق في الدنيا‪ ،‬وخداع الخلق بها‪ ،‬فلذلك تبقى هذه األحبولة في أيديهم يوم القيام ة‪ ،‬ويتص ورون أنهم‬
‫سيخادعون هللا كما خادعوا الخلق‪ ،،‬قال ‪ ‬في حديث القيامة الطويل‪ (:‬ثم يلقى الثالث فيقول‪ :‬ما أنت؟ فيقول‪ :‬أن ا عب دك‬
‫وصليت وتصدقت‪ ،‬ويثني بخير ما استطاع ‪ -‬قال ‪ -‬فيقال له أال نبعث عليك ش اهدنا؟ ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت‬
‫قال‪ :‬فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه‪ ،‬فيختم على فيه‪ ،‬ويقال‪ :‬لفخذه انطقي ‪ -‬قال ‪ -‬فتنطق فخ ذه ولحم ه وعظام ه بم ا‬
‫كان يعمل‪ ،‬وذلك المنافق‪ ،‬وذلك ليعذر من نفسه‪ ،‬وذلك الذي يسخط هّللا تعالى عليه)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬فقد أخبر ‪ ‬عن نطق الجوارح‪ ..‬والجوارح ال تنطق إال بما تعلم‪ ..‬وال يمكن أن يستش هد هللا في اآلخ رة من‬
‫ال يعلم‪ ..‬وإال كان االستشهاد عبثا أو شهادة زور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت تقصد بأن هذه الجوارح التي هي كياننا الخارجي جواسيس علينا قد تفضحنا يوم القيامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬هي ليست جواسيس‪ ..‬هي أنت‪ ..‬ولكن كل جزء منها كائن مستقل ممتلئ عبودي ة هلل‪ ،‬فه و يرض ى عن ك‬
‫إن عدت هللا‪ ،‬ويسخط عليك إن عصيته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجسدي يسخط علي؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ ‬في ذلك المجادل وهو يتوجه إلى جوارحه‪ ،‬فيقول‪ (:‬بعد ًا لكن وسحقاً‪ ،‬فعنكن كنت أناضل)‬
‫(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد نص على ذلك الحديث‪.‬‬
‫َص ُمونَ ﴾‬ ‫ْ‬
‫قال‪ :‬ولهذا تخاصم روحك جسدك ي وم القيام ة‪ ،‬ألم تس مع قول ه تع الى‪ ﴿:‬ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم َي وْ َم ال ِق َيا َم ِة ِع ْن َد َر ِّب ُك ْم ت َْخت ِ‬
‫(الزمر‪)31:‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن هذه اآلية في الخصومة بين المستضعفين والمستكبرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬اآلية أعم من ذلك‪ ..‬ألم تسمع األحاديث السابقة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فلمن النصرة؟‬
‫قال‪ :‬قد ورد في ذلك أثر عن ابن عباس ال ندري مدى صحته‪ ،‬يقول‪ (:‬ال تزال الخصومة يوم القيامة بين الخالئ ق‬
‫حتى تختصم الروح والجسد‪ ،‬فيقول الجسد للروح‪ :‬أنت الذي حركتني وأمرت ني وص رفتني وإال فأن ا لم أكن أتح رك وال‬
‫أفعل بدونك فتقول الروح له‪ :‬وأنت الذي أكلت وشربت وباشرت وتنعمت فأنت الذي تستحق العقوب ة فيرس ل هللا س بحانه‬
‫إليهما ملكا يحكم بينهما‪ ،‬فيقول‪ :‬مثلكما مثل مقعد بصير وأعمى يمشي دخال بستانا فقال المقعد لألعمى أنا أرى ما فيه من‬
‫الثمار ولكن ال أستطيع القيام وقال األعمى أنا أستطيع القيام ولكن ال أبصر شيئا فقال له المقعد تعال فاحملني فأنت تمش ي‬
‫وأنا أتناول فعلى من تكون العقوبة فيقول‪ :‬عليهما قال‪ :‬فكذلك أنتما)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا ووعيته‪ ،‬فكيف أحص ل البرك ة ألعض ائي‪ ..‬أو كي ف أجع ل خالي اي تحب ني‪ ،‬فال تخاص مني في‬
‫الدنيا‪ ،‬وال تشهد علي في اآلخرة؟‬
‫قال‪ :‬ذلك شيء يسير‪ ..‬أعطها ما تتمنى وما تحب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما بك‪ ..‬كيف أعطيها ما تتمنى‪ ..‬أتريد مني أن أهيم في أودية األماني؟‬
‫ون َو َلهُ َأ ْس َل َم َمنْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ين ِ َيبغ َ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬جوارحك تحب عبادة هللا والسجود مع كل األشياء هلل‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪ ﴿:‬أفغي َْر ِد ِ‬
‫ُرْجعُونَ ﴾ (آل عمران‪ ،)83:‬فقد أخبر تعالى عن إسالم كل شيء هلل‪.‬‬ ‫طوْ عاً َوكَرْ هاً َو ِإ َل ْي ِه ي َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َ‬ ‫ِفي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ض ِمن دَابَّ ٍة َوال َمال ِئك ة َوه ُْم ال‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫ت َو َم ا ِفي ا رْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫هَّلِل‬
‫وأخ بر عن س جود ك ل ش يء هلل‪ ،‬فق ال‪َ ﴿:‬و ِ َي ْس جُ د َم ا ِفي َّ‬
‫الس َم َ‬

‫ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫مسلم وأبو داود‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫ابن منده‪ ،‬انظر‪ :‬ابن كثير‪.4/54 :‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪46‬‬
‫َي ْس َت ْك ِبرُونَ ﴾(النحل‪)49:‬‬
‫بل إن في القرآن الكريم إشارة تكاد تكون صريحة لسجود جوراح الكفرة هلل‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َل ْم ت ََر َأ َّن هَّللا َ َيسْجُ ُد َل هُ‬
‫ق َع َل ْي ِه‬
‫اس َو َك ِث يرٌ َح َّ‬ ‫ض َوال َّش ْمسُ َو ْال َق َمرُ َوال ُّنجُو ُم َو ْال ِج َب الُ َو َّ‬
‫الش َجرُ َوال َّد ُوابُّ َو َك ِث يرٌ ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ت َو َم ْن ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫َم ْن ِفي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ْال َع َذابُ َو َم ْن يُ ِه ِن ُ َف َما َلهُ ِم ْن ُمك ِر ٍم ِإ َّن َ َيف َعلُ َما َي َشا ُء﴾(الحج‪)18:‬‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬ ‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫قلت‪ :‬فهي تسجد‪ ..‬فلماذا تكون بركتها في إعطائها ما تتمنى من السجود؟‬
‫قال‪ :‬هي تحب السجود االختياري‪ ،‬وتباركه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أسجد بها هذا السجود؟‬
‫قال‪ :‬بسجودك تسجد‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬ال تبسط ذراعيك وادعم على راحتيك‪ ،‬وتجاف عن ض بعيك‪ ،‬فإن ك إذا‬
‫فعلت ذلك سجد لك كل عضو منك معك)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد كان مما يدعو به رسول هللا ‪ (:‬سجد لك خيالي وسوادي وآمن بك فؤادي‪ ،‬فهذه يدي وما ج نيت‬
‫بها على نفسي يا عظيم يرجى لكل عظيم اغفر لي الذنب العظيم)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬وكان علي يقول إذا ركع‪ (:‬اللهم لك خشعت ولك ركعت ولك أسلمت وب ك آمنت وأنت ربي وعلي ك ت وكلت‪،‬‬
‫خشع لك سمعي وبصري ولحمي ودمي ومخي وعظامي وعصبي وشعري وبشري سبحان هللا س بحان هللا س بحان هللا‪،‬‬
‫فإذا قال‪ :‬سمع هللا لمن حمده قال‪ :‬اللهم ربنا لك الحمد‪ ،‬فإذا سجد ق ال‪ :‬اللهم ل ك س جدت ول ك أس لمت وب ك آمنت وعلي ك‬
‫توكلت‪ ،‬وأنت ربي سجد لك سمعي وبصري ولحمي ودمي وعظامي وعصبي وشعري وبشري س بحان هللا س بحان هللا‬
‫سبحان هللا)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬وقد كان ‪ ‬يقول في دعائه في سجود القرآن‪ (:‬سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬هذا غذاؤها‪ ،‬فما سمها؟‬
‫قال‪ :‬الحرام‪ ..‬أكل الحرام‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬أيما لحم نبت من حرام‪ ،‬فالنار أولى به)(‪)5‬؟‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فلم كان ‪ ‬يمرر كفه على جسده بعد القراءة؟‬
‫قال‪ :‬ليوصل بركة ما قرأه إلى جسمه وجوارحه‪ ،‬وكأنه يطعمها ما تشتهي من الطعام‪ ،‬ولهذا كان ‪ ‬يمس ح بهم ا‬
‫ما استطاع ِمن جسده‪ ،‬ويبدأ بهما على رأسه ووجهه ماَ أقبل من جسده‪ ،‬يفعلُ ذلك ثالث مرات‪ ،‬فإذا اشتكى كلف من يقوم‬
‫بذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬ولكني ال أزال أتعجب من مسحه ‪ ‬بيده اليمنى على المريض ثم دعائه له‪ ،‬فقد كان ‪ ‬يمسح‬
‫بيده اليمنى على المريض‪ ،‬ويق ول‪ (:‬اللهم رب الن اس‪ ،‬أذهب الب أس‪ ،‬واش فه أنت الش افي‪ ،‬ال ش فاء إال ش فاؤك‪ ،‬ش فاء ال‬
‫يغادر سقما)(‪ ،)6‬وكان يقول‪ (:‬امسح البأس رب الناس‪ ،‬بيدك الشفاء‪ ،‬ال كاشف له إال أنت)‪ ،‬وكان أحيان ا يض ع ي ده على‬
‫جبهة المريض‪ ،‬ثم يمسح صدره وبطنه ويقول‪ (:‬اللهم اشفه)وكان يمسح وجهه أيضا‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا من أسرار بركات الجسد‪ ،‬فاليد التي تمسح على الجسد مصحوبة بالدعاء تنزل ببركاتها وما يصحبها من‬
‫جنود الدعاء على األلم فترفعه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هي كالمرهم إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن صحبتها البركة‪ ،‬فهي خير من المرهم‪ ..‬وإن لم تصحبها‪ ،‬فال خير فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعالجون باليد المباركة إذن؟‬
‫قال‪ :‬إن ظفرت بيد مباركة‪ ،‬فال تفرط فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأطلب منها أن تداوي جسدي؟‬

‫الحاكم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه أبو يعلى‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫عبد الرزاق في المصنف‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الترمذي وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫أحمد‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫أحمد وأبو د اود وغيرهما‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪47‬‬
‫قال‪ :‬إن استطعت‪ ،‬فاطلب منها أن تداوي روحك(‪.)7‬‬
‫قلت‪ :‬وفي إمكانها ذلك‪..‬‬
‫الح َجبى؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع حديث شيبة بن عُثمان َ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد حدث نفسه بقتل رسول هللا ‪ ‬كان عا ُم الفتح‪ ،‬فق د ق ال يح دث نفس ه‪ :‬قلت‪ :‬أس ير م ع ق ريش إلى‬
‫هوازن بحنين‪ ،‬فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة‪ ،‬فأثار منه‪ ،‬فأكون أنا الذى قمت بثأر قريش كلها‪ ،‬وأقول‪ :‬لو‬
‫لم يبق من العرب والعجم أحد إال اتبع محمدا‪ ،‬ما تبعته أبدا‪ ،‬وكنت مرصدا لما خ رجت ل ه ال ي زداد األم ر فى نفس ى إال‬
‫قوة‪ ،‬فلما اختلط الناس‪ ،‬اقتحم رسول هللا ‪ ‬عن بغلته‪ ،‬فأصلت السيف‪ ،‬فدنوت أريد م ا أري د من ه‪ ،‬ورفعت س يفى ح تى‬
‫كدت أشعره إياه‪ ،‬فرفع لى شواظ من نار ك البرق ك اد يمحش نى‪ ،‬فوض عت ي دى على بص رى خوف ا علي ه‪ ،‬ف التفت إلى‬
‫رسول هللا ‪ ،‬فنادانى‪ (:‬يا شيب؛ ادن منى)‪ ،‬فدنوت منه‪ ،‬فمسح صدرى‪ ،‬ثم قال‪ (:‬اللهم أعذه من الشيطان)‪ ..‬ق ال‪ :‬فوهللا‬
‫لهو كان ساعتئذ أحب إلى من سمعى‪ ،‬وبصرى‪ ،‬ونفس ى‪ ،‬وأذهب هللا م ا ك ان فى نفس ى‪ ،‬ثم ق ال‪ (:‬ادن فقات ل)‪ ،‬فتق دمت‬
‫أمامه أضـرب بسيفى‪ ،‬هللا يعلم أنى أحب أن أقيه بنفس ى ك ل ش ئ‪ ،‬ول و لقيت تل ك الس اعة أبى ل و ك ان حي ا ألوقعت ب ه‬
‫السيف‪ ،‬فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسـلمون‪ ،‬فكروا كرة رجل واحد‪ ،‬وقربت بغلة رس ول هللا ‪ ،‬فاس توى‬
‫عليها‪ ،‬وخرج فى أثرهم حتى تفرقوا فى كل وجه‪ ،‬ورجع إلى معسكره‪ ،‬فدخـل خباءه‪ ،‬فدخلت عليه‪ ،‬م ا دخ ل علي ه أح د‬
‫غيرى حبا لرؤية وجهه‪ ،‬وسرورا به‪ ،‬فقال‪ (:‬ي ا ش يب؛ ال ذى أراد هللا ب ك خ ير مم ا أردت لنفس ك)‪ ،‬ثم ح دثنى بك ل م ا‬
‫أضمرت فى نفسى ما لم أكن أذكره ألحد قط‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬فإنى أشهد أن ال إل ه إال هللا‪ ،‬وأن ك رس ول هللا‪ ،‬ثم قلت‪ :‬اس تغفر‬
‫لى‪ .‬فقال‪ (:‬غفر هللا لك)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت أثر ذلك المسح المبارك؟‬
‫قلت‪ :‬أليس ذلك خاصا به ‪ ‬؟‬
‫قال‪ :‬هو خاص به ‪ ،‬وينتقل لورثته ببركة اتباعهم له‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تذكر لي مثاال يقرب لي هذا المعنى‪ ،‬فإني أجد بصيرتي تميل إليه‪ ،‬ولكني ال أجد لمصورتي ما يقنعها‪.‬‬
‫قال‪ :‬مصورتك تريد الصور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت عرف ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو وضعت قطع حديد صغير متناثرة‪ ،‬ثم وضعت فوقها مغناطيسا جذابا؟‬
‫قلت‪ :‬إن قربته منها انجذب إليها‪ ،‬فإن ضعف قربه حركها وحولها إلى االتجاه الذي أريد‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك الروح الممغنطة بنور الذكر والورع تمر على الخاليا بجاذبيته ا اإليماني ة‪ ،‬فتحوله ا ص فوفا منتظم ة‪،‬‬
‫ليس لها من دور غير خدمة صاحبها‪.‬‬
‫النفس‬
‫قلت‪ :‬فلنتحدث عن برمجة النفس‪ ..‬لق د زعمت ب أن جس دي مس تقل ع ني‪ ..‬أت راك ت زعم ب أن نفس ي مس تقلة هي‬
‫األخرى؟‬
‫وء ِإاَّل َم ا َر ِح َم َربِّي ِإ َّن‬ ‫ارةٌ ِب ُّ‬
‫الس ِ‬ ‫َ‬
‫س أَل َّم َ‬ ‫ُ‬
‫قال‪ :‬هي كذلك مستقلة عنك‪ ..‬ألم تسمع قوله تع الى‪َ ﴿:‬و َم ا أ َب رِّئُ َن ْف ِس ي ِإ َّن النَّ ْف َ‬
‫َربِّي َغفُورٌ َر ِحي ٌم﴾(يوسف‪ ،)53 :‬فقد أخبر تعالى أن النفس تأمر صاحبها بالسوء‪ ..‬وأمرها له يدل على مغايرتها له‪.‬‬
‫س اللَّ َّوا َم ِة﴾(القيامة‪ ،)2 :‬ولومها له يدل‬ ‫وقد أخبر تعالى في آية أخرى بأنها تلوم صاحبها‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬وال أُ ْق ِس ُم ِبالنَّ ْف ِ‬
‫على أنها تخالفه وتغايره‪.‬‬
‫‪ )(7‬من األحاديث الواردة في السمح باليد‪ :‬قوله ‪ «: ‬إذا اشتكى أحدكم فليضع يده حيث يجد ألمه ثم ليقل‪ :‬أعوذ بعزة هللا وقدرته من شر ما أجد وأحاذر‬
‫سبعا » مسلم‪.‬‬
‫ومنها قوله ‪ «:‬امسحه بيمينك وقل بسم هللا أعوذ بعزة هللا وقدرته من شر ما أجد سبع مرات » الترمذي‪.‬‬
‫وعن علي قال‪ :‬بعثني رسول هللا ‪ ‬إلى اليمن فقلت‪ :‬يا رسول هللا! بعثتني إلى قوم هم أسن مني وأنا ح دث ال أبص ر القض اء‪ ،‬فوض ع ي ده على ص دري‬
‫وقال‪ :‬اللهم! ثبت لسانه واهد قلبه‪ ،‬يا علي! إذا جلس إليك الخصمان فال تقض بينهما حتى تسمع من اآلخر كما سمعت من األول‪ ،‬فإنك إذا فعلت ذل ك ت بين ل ك‬
‫القضاء‪ ،‬فما أشكل علي قضاء بعد » الحاكم وابن سعد‪ ،‬وأحمد والعدني‪ ،‬وأبو داود والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن سعد‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫قلت‪ :‬فما النفس حتى أعرف مغايرتها لحقيقتي؟‬
‫قال‪ :‬سرها ستعرفه في ( بنيان هللا)‬
‫قلت‪ :‬فعرفني اآلن من أسرارها ما أفهم به مغايرتها لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬نفسك هي الجهاز الذي يخدم وجودك على هذه األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أليس الجهاز الذي يخدم وجودي على األرض هو جسدي؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬جسدك هو مركبك الذي تركبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ونفسي؟‬
‫قال‪ :‬هي جهاز تزويده بما يحتاجه لينطلق‪ ..‬فهل يمكن لسيارتك أن تسير بال وقود؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ال يمكن ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالنفس هي التي تخبرك عن حاجتك للوقود‪ ،‬وتدلك عليها‪ ..‬وهي التي تمأل فمك منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد خلق هللا لجسدك حاجات كثيرة‪ ،‬وال يتولى هذه الحاجات إال النفس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تتوالها؟‬
‫قال‪ :‬بأخالق طبعت عليها تسمونها الغرائز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد الشهوة والغضب والشح والحرص واألنانية وغيرها‪.‬‬
‫ت اأْل ْنفُسُ ال ُّشحَّ ﴾ (النساء‪)128 :‬‬ ‫َ‬ ‫حْض َر ِ‬ ‫ُ‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد أخبر تعالى أنه طبع النفس يهذه األخالق‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬وأ ِ‬
‫قلت‪ :‬فلم طبعت عليها‪ ..‬ولم لم تطهر منها؟‬
‫قال‪ :‬لن يستقيم وجود اإلنسان على هذه األرض من دونها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم نسمع األمر بقهر النفس وعدم تلبية طلباتها؟‪ ..‬ألم يقل هللا تعالى‪َ ﴿:‬و َأ َّما َم ْن خَ افَ َم َق ا َم َر ِّب ِه َو َن َهى النَّ ْف َ‬
‫س ع َِن‬
‫ْال َه َوى َفإِ َّن ْال َجنَّ َة ِه َي ْال َم ْأ َوى﴾(النازعـات‪ 40:‬ـ ‪)41‬؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن هللا تعالى نهى عن إعطاء النفس هواها‪ ،‬ولم يأمر بقهرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ب َو َأ ْك َوا ٍ‬
‫ب َو ِفي َه ا َم ا‬ ‫اف ِم ْن َذ َه ٍ‬
‫ص َح ٍ‬ ‫ط افُ َع َل ْي ِه ْم ِب ِ‬‫قال‪ :‬لو أمر بقهرها‪ ،‬وقتل شهواتها‪ ،‬ودفن غرائزها م ا ق ال‪ ﴿:‬يُ َ‬
‫َت ْش َت ِهي ِه اأْل َ ْنفُسُ َو َت َل ُّذ اأْل َ ْعيُنُ َو َأ ْنتُ ْم ِفي َها خَا ِل ُدونَ ﴾ (الزخرف‪ ،)71 :‬فقد أخبر تعالى أنه يعطي ألهل الجنة ما تشتهيه أنفسهم من‬
‫الملذات‪ ،‬وهذا يعني أنهم لم يقتلوها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما معنى النهي عن إعطاء النفس هواها؟‬
‫قال‪ :‬لقد خلق هللا تعالى في النفس الحرص على بقاء اإلنسان سليما معافي في األرض‪ ،‬ليسقيم بقاؤه‪ ،‬فهي لذلك ق د‬
‫تغفل عن غير هذه الوظيفة‪ ،‬فال ترى إال صاحبها‪ ،‬فتجتهد ـ على حسب علمه ا البس يط ـ في حفظ ه‪ ،‬ولكنه ا ق د تخطئ‪،‬‬
‫فتتيه في أودية األماني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما مثل ذلك حتى أفهمه؟‬
‫قال‪ :‬مثل أم حنون حريصة على ولدها‪ ..‬ولكنها لغفلتها وغبائها تظل تطعمه إلى أن يصاب بالتخمة خوفا عليه من‬
‫الجوع‪ ،‬وقد تمنعه من مصالحه خوفا عليه من األلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذه األم هي النفس‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فهي تبحث عن األماني متصورة أن الكمال فيها‪ ،‬فتحجب صاحبها عن بركات الكون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهي حجاب من حجب البركة؟‬
‫قال‪ :‬وهي محال من محالها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يستقيم ذلك؟‬
‫قال‪ :‬كل محل من المحالت إذا وجه لغير وجهته أو انحرف به صاحبه عن غايته يصير حجابا من الحجب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تصير النفس محال الستقبال البركات؟‬

‫‪49‬‬
‫قال‪ :‬بأربعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعلم أنها أربعة‪ ..‬فليس هناك غير أربعة‪ ..‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬الطمأنينة‪ ،‬واالعتدال‪ ،‬والتوازن‪ ،‬والسالم‪.‬‬
‫الطمأنينة‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن الطمأنينة‪.‬‬
‫ً‬
‫رْض يَّة َف ا ْد ُخ ِلي ِفي ِع َب ا ِدي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬هي ال تي ق ال هللا تع الى فيه ا‪َ ﴿:‬ي ا أيَّتُ َه ا النَّفسُ ال ُمط َم ِئنَّة ِ‬
‫ارْج ِعي ِإ َلى َرب ِِّك َر ِ‬
‫اض َية َم ِ‬
‫َوا ْد ُخ ِلي َجنَّ ِتي﴾ (الفجر‪ 27:‬ـ ‪)30‬‬
‫قلت‪ :‬فما الطمأنينة؟‬
‫قال‪ :‬هي السكون العظيم الذي يمأل أرض الجسد راحة‪ ،‬وجهاز النفس سالما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أريد لغة صريحة‪ ..‬فال أفهم مثل هذه األلغاز‪.‬‬
‫قال‪ :‬عندما يكون البحر هائجا قد تغرق السفن التي يقلها‪ ،‬وعندما تزلزل األرض تنحدر األحياء في األخادي د ال تي‬
‫تحفرها الزالزل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم تزدني إال غموضا‪.‬‬
‫قال‪ :‬األرض المطمئنة هي األرض التي يصلح فيها كل نبات‪ ،‬ويخضر فيها كل زرع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بدأت أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أليس اإلنسان ترابا كالتراب؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد نص القرآن الكريم على ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالتراب ال يكون صالح نافعا مباركا إال إذا كان هادئا مطمئنا لترقد فيه البذور‪ ،‬ثم تنبت كل أنواع الزهور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهكذا النفس؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬النفس الهادئة المطمئنة نفس مستقرة ال تزعزعها رياح الغضب‪ ،‬وال أعاصير الجش ع‪ ،‬وال عواص ف‬
‫األنا الكاذبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذه النفس مستعدة للبركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪( :‬إن هذا المال خضرة حلوة‪ ،‬فمن أخذه بس خاوة نفس وحس ن أكل ه ب ورك ل ه في ه‪،‬‬
‫ومن أخذه بإشراف نفس وسوء أكله لم يبارك له فيه‪ ،‬وكان كالذي يأكل وال يشبع‪ ،‬الي د العلي ا خ ير من الي د الس فلى واب دأ‬
‫بمن تعول)(‪)1‬؟‬
‫قلت‪ :‬لقد أخبر ‪ ‬في هذا الحديث أن لسخاوة النفس وسماحتها تأثيرا في حصول البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأخبر أن للحرص والشح تأثير في سلبها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تأثير سلبها؟‬
‫قال‪ :‬عدم انتفاع اإلنسان بما يأكله‪ ،‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬لم يبارك له فيه‪ ،‬وكان كال ذي يأك ل وال يش بع)‪ ،‬وق د ورد‬
‫في حديث آخر‪(:‬إن هذا المال خضرة حلوة‪ ،‬ومن سأل الناس أعطوه‪ ،‬والسائل منه كاآلكل وال يشبع)‬
‫قلت‪ :‬فما معنى ذلك؟‬
‫قال‪ :‬معناه عدم انتفاع اإلنسان ب ه‪ ..‬فه و يتص ور النقص في األش ياء‪ ..‬ولكن س لوكه ونفس ه هي ال تي مألت ه ذه‬
‫األشياء فسادا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنا نرى أمثال هؤالء كالفيلة ضخامة‪ ،‬وكاألحصنة قوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أوال ترى عقولهم كعقول العصافير‪ ،‬وأرواحهم كالمستنقعات والمزابل!؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فما فائدة جسم يسمن لتلتهمه النار؟‪ ..‬وما فائدة قوة تخفي أعظم ضعف؟‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فما مثال هذه النفس المملوءة حرصا؟‬

‫‪ )(1‬البخاري‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫قال‪ :‬مثال الكلب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الكلب!؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فهي في اندافعها وهيجانها ولهثه ا ال تختل ف عن الكلب‪ ..‬فل ذلك ال تج د البرك ة ـ إن أرادت ال نزول ـ‬
‫ب ِإ ْن ت ِ‬
‫َحْم لْ‬ ‫ض َواتَّ َب َع ه ََواهُ َف َم َثلُ هُ َك َم َث ِل ْال َك ْل ِ‬ ‫محال تنزل عليه‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َلوْ ِش ْئنَا َل َر َفعْ نَاهُ ِب َها َو َل ِكنَّهُ َأ ْخ َل َد ِإ َلى اأْل َرْ ِ‬
‫ص َل َعلَّه ُْم َي َت َف َّكرُونَ ﴾(ألعراف‪)176:‬‬ ‫ص َ‬ ‫صُص ْال َق َ‬ ‫ِ‬ ‫ث َذ ِلكَ َم َثلُ ْال َق ِ‬
‫وْم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا ِبآيا ِتنَا َفا ْق‬ ‫رُكهُ َي ْل َه ْ‬
‫ث َأوْ َت ْت ْ‬
‫َع َل ْي ِه َي ْل َه ْ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فهذه اآلية فيمن انسلخ من العلم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهي فيمن اتبع هواه‪ ،‬فهو يلهث وراء السراب‪ ،‬وهو ال يعلم أنه ترك ما يبحث عنه خلف ظهره‪ ..‬أت دري م ا‬
‫مثله في ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬مثل العير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول‬
‫االعتدال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما االعتدال؟‬
‫قال‪ :‬هو أن ال تأخذ من األشياء إال ما تحتاجه منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا تعالى سخر لنا كل شيء‪ ..‬فكيف تأمرني بأن ال آخذ إال ما أحتاجه؟‬
‫قال‪ :‬إن أخذت ما ال تحتاجه منعت غيرك ما يحتاجه‪ ..‬وإذا منعت غيرك ما يحتاجه أص بت ب المحق‪ ..‬فتأك ل‪ ،‬وال‬
‫تشبع‪ ..‬وتلبس‪ ،‬ولكن تظل عاريا‪ ..‬وتسكن‪ ..‬ولكن الرياح السبعة تظل تعصف على جدرانك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا خلق كل شيء بكرم عظيم‪ ..‬فنحن نحتاج إلى لقيمات‪ ،‬ولكن هللا خلق لنا مخازن من الكرم ال ح دود‬
‫لها‪ ..‬ونحن نحتاج إلى قطرات من الماء‪ ،‬ولكن هللا خلق لنا بحارا وأنهارا ومحيطات‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنه أمرنا مع ذلك باالعتدال‪ ..‬ألم تسمع ما روي في الحديث‪ :‬مر رسول هللا ‪ ‬برجل يتوضأ يغرف الم اء‬
‫في وضوئه فقال‪ :‬يا عبد هللا ال تسرف فقال‪ :‬يا نبي هللا وفي الوضوء إسراف؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ت َوالنَّ ْخ َل َوال َّزرْ َع ُم ْخ َت ِلف اً أ ُكلُ هُ‬ ‫َ‬
‫عْرُوش ا ٍ‬ ‫ت َو َغ ْي َر َم‬ ‫َ‬
‫عْرُوش ا ٍ‬ ‫ت َم‬ ‫ألم تسمع قبل ذلك قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َش أَ َجنَّا ٍ‬
‫ص ا ِد ِه َوال تُ ْس ِرفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْس ِر ِفينَ ﴾‬ ‫الز ْيتُونَ َوالرُّ َّمانَ ُم َت َشا ِبهاً َو َغي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُكلُوا ِم ْن َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َوآتُ وا َحقَّهُ َي وْ َم َح َ‬ ‫َو َّ‬
‫(األنعام‪ ،)141:‬فقد عدد هللا نعمه وفضله على خلقه‪ ،‬ثم ختم كل ذلك بالنهي عن اإلسراف‪ ،‬وأخبر عن بغضه للمسرفين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سمعت عن مضار اإلسراف كثيرا‪ ،‬ولكني أتساءل عن عالقته بالبركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬البركة ال تكون إال باالعتدال‪ ..‬فالمسرف ال ينال إال المحق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ألنه برمج نفسه على أنه مهما أكل فلن يشبع‪ ..‬فلذلك يظل يأكل‪ ،‬وال ينتفع بأكله إلى أن يموت بالتخمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن لم يحرم بركة أكله؟‬
‫قال‪ :‬ألنه أسرف إسرافا منع جسده من االنتفاع بنعم هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي على ذلك مثاال‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن عماال كلفوا من األعمال ما ال يطيقون‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬في أي نظام‪ ..‬نظم السخرة‪ ..‬أم نظم الحرية؟‬
‫قال‪ :‬في نظم الحرية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سيضرب العمال‪ ..‬وسيتعطل اإلنتاج‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذا عمال الجسد‪ ..‬سيضربون وينددون بكل صنوف التنديد إن كلفهم صاحب العمل الذي ه و النفس بم ا ال‬
‫يطيقون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فسر لي ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت من طبق قوله ‪ (:‬ما مال آدمي وعاء شرا من بطن‪ ،‬بحسب ابن آدم أكالت يقمن صلبه‪ ،‬فان ك ان ال‬
‫محالة ثلث لطعامه‪ ،‬وثلث لشرابه‪ ،‬وثلث لنفسه)(‪ ..)1‬فالتزم به‪ ..‬أتراه يتعب جهازه الهضمي!؟‬

‫‪ )(1‬أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم‪.‬‬


‫‪51‬‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬فإن معدته ستجد الجو المناسب الذي ييسر لها هضم الطعام بكل حرية‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل يمتص الجسم بركات األغذية؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬يمتصها بشغف وشوق‪ ..‬ففرق كبير بين أن تأك ل وأنت ج ائع وجس مك محت اج‪ ،‬وبين أن تأك ل وأنت‬
‫متخم ال تريد إال إرهاق جسدك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بقوله ‪ (:‬زر غبا تزدد حبا)(‪)1‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬أجل‪ ..‬ونعم ما استشهدت به‪.‬‬
‫التوازن‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما التوازن؟‬
‫قال‪ :‬هو انسجام النفس مع نفسها ومع الكون ومع هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تنسجم؟‬
‫قال‪ :‬بالتوازان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعرف االسم‪ ..‬ولكني ال أعرف المسمى‪ ،‬أو ال أعرف كيف أنال بركاته‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت التاجر الذي يطفف في الميزان‪ ،‬فيأكل حق غيره‪ ..‬هل ينال بركة تجارته؟‬
‫ط ِّف ِفينَ ﴾(المطففين‪)1:‬‬ ‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬فقد توعده هللا تعالى بالويل‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬ويْلٌ ِل ْل ُم َ‬
‫قال‪ :‬فمن المطففون؟‬
‫َ‬
‫اس َي ْس َتوْ فُونَ َو ِإ َذا َكالُوه ُْم أوْ َوزَ نُوه ُْم ي ُْخ ِسرُونَ ﴾ (المطففين‪ 2 :‬ـ ‪)3‬‬ ‫قلت‪ ﴿:‬الَّ ِذينَ ِإ َذا ْاكتَالُوا َع َلى النَّ ِ‬
‫قال‪ :‬وهل مع الويل بركة؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬فالويل فيروس يظل يالحق صاحبه إلى أن يلقيه في هاوية المحق‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد فهمت إذن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد فهمت التطفيف في الميزان‪ ..‬ولكني لم أفهم التطفيف في الحياة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما حياتك إال ميزان من الموازين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال يوزن الناس يوم القيامة في الموازين؟‬
‫ال َحبَّ ٍة ِم ْن خَرْ د ٍَل َأ َت ْي َن ا‬ ‫وْم ْال ِق َيا َم ِة َفال تُ ْ‬
‫ظ َل ُم َن ْفسٌ َشيْئاً َو ِإ ْن َكانَ ِم ْث َق َ‬ ‫ازينَ ْال ِق ْس َ‬
‫ط ِل َي ِ‬ ‫َض ُع ْال َم َو ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد قال تعالى‪َ ﴿:‬ون َ‬
‫الس ِمين‪ ،‬فال‬ ‫اس ِبينَ ﴾(االنبياء‪ ..)47:‬وقد أخبر ‪ ‬أن صاحب العمل يوزن‪ ،‬فقال‪ (:‬يُؤتَى يوم القيامة بالرجل َّ‬ ‫ِب َها َو َك َفى ِبنَا َح ِ‬
‫ُوضة)(‪ )2‬ثم قرأ‪َ ﴿:‬فال نُ ِقي ُم َله ُْم َيوْ َم ْال ِق َيا َم ِة َو ْزناً﴾(الكهف‪)105:‬‬ ‫َي ِزن عند هللا َجنَاح َبع َ‬
‫وقد ورد في مناقب عبد هللا بن مسعود أن رسول هللا ‪ ‬قال‪ (:‬أتعجبون من ِدقَّة سا َق ْي ِه‪ ،‬فوالذي نفسي بيده لهم ا في‬
‫الميزان أثقل من أُحُ ٍد)(‪)3‬‬
‫قال‪ :‬فقد أخبر ‪ ‬أن الرجل يوزن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كما أخبر في نصوص أخرى أن األعمال توزن‪ ،‬وأن الكتب توزن(‪.)4‬‬
‫قال‪ :‬فهل الحكيم هو الذي نزن نفسه قبل أن يوزن‪ ..‬أم الحكيم من يترك نفسه لهواها‪ ..‬فال يزنها بموازين الحكمة؟‬
‫قلت‪ :‬بل الحكيم من يزن نفسه قبل أن يوزن‪ ..‬ويكفي في ذلك أن يدمن على العمل الصالح‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يكفي العمل الصالح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا تقول؟ إن لم يكف العمل الصالح‪ ..‬فما يكفي؟‬
‫قال‪ :‬وزن العمل الصالح‪.‬‬
‫‪ )(1‬البزار‪ ،‬والطبراني في األوسط والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬أحمد‪.‬‬
‫‪ )(4‬كما جاء في حديث البطاقة‪ ،‬في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في ِكفَّة تسعة وتسعون سجال كل ِس ِجلّ َم ّد البصر‪ ،‬ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها‪ «:‬ال إله‬
‫إال هللا » فيقول‪ :‬يا رب‪ ،‬وما هذه البطاقة مع هذه السجالت؟ فيقول هللا تعالى‪ :‬إنك ال تُظلَم‪ .‬فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان‪ .‬قال رس ول هللا ‪" :‬فَ َ‬
‫طاش ت‬
‫ت البطاقة » رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه‪.‬‬‫السجالت‪ ،‬وثَقُلَ ِ‬
‫‪52‬‬
‫قلت‪ :‬العمل الصالح سيوزن عند هللا‪ ،‬وسيلد حسنات كثيرة‪ ،‬فما الحاجة إلى وزنه في الدنيا؟‬
‫قال‪ :‬العمل الصالح أنواع‪ ..‬فلذلك تحتاج إلى الموازين التي تضبطه‪ ..‬فيتوجه الوجهة الصحيحة المباركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال يزال ذهني كليال عن فهم هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أخبرني عن الملح‪ ..‬هل هو طيب أم خبيث؟‬
‫قلت‪ :‬بل طيب ال خبث فيه‪ ..‬بل ال يصلح الطعام إال به‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أتيت إلى قدر‪ ،‬فمألتها ملحا‪ ،‬أيمكنك أن تتناولها؟‬
‫قلت‪ :‬حينذاك ال يصلح لها إال القمامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد كانت طيبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الملح أفسدها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن الملح طيب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هو طيب بمقدار محدد‪ ،‬فإن تجاوز المقدار أفسد‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف نعرف المقادير؟‬
‫قلت‪ :‬النساء عندنا يعرفن ذلك بالفطرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن لم تكن لها فطرة نقية؟‬
‫قلت‪ :‬ننصحها بأن تتخذ ميزانا أو مكاييل تعرف بها مقادير الملح‪ ،‬وإال فلن يأكل طعامها أحد‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد فهمت ما أقصد إذن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أن يتخد كل واحد منا ميزانا يزن به أعماله؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فالنفس قد تحن لبعض األعمال الصالحة لهوى لها فيه‪ ..‬فال يبارك لها في العمل الص الح لتفريطه ا في‬
‫غيره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتعرف بشرا؟‬
‫قلت‪ :‬هو فقيه من فقهاء السلوك إلى هللا‪..‬‬
‫قال‪ :‬أتعرف قصته مع الرجل الذي أرد الحج؟‬
‫ال ج اء ي ودع بش ر بن الح ارث وق ال‪ :‬ق د ع زمت على الحج‬ ‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد روى أبو نصر التمار ق ال‪ :‬إن رج ً‬
‫فتأمرني بشيء؟ فقال له‪ :‬كم أعددت للنفقة؟ فقال‪ :‬ألفي درهم‪ .‬قال بش ر‪ :‬ف أي ش يء تبتغي بحج ك؟ تزه د ًا أو اش تياقاً إلى‬
‫البيت أو ابتغاء مرضاة هللا؟ قال‪ :‬ابتغاء مرضاة هللا‪ ،‬قال‪ :‬فإن أصبت مرضاة هللا تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم‬
‫وتكون على يقين من مرضاة هللا تعالى أتفعل ذلك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬اذهب فأعطها عشرة أنفس‪ :‬مديون يقضي دينه‪ ،‬وفقير‬
‫يرم شعثه‪ ،‬ومعيل يغني عياله‪ ،‬ومربي يتيم يفرحه‪ ،‬وإن قوي قلبك تعطيها واحد ًا فافع ل‪ ،‬ف إن إدخال ك الس رور على قلب‬
‫المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة اإلس الم‪ ،‬قم فأخرجه ا كم ا أمرن اك‬
‫وإال فقل لنا ما في قلبك؟ فقال‪ :‬يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي‪ ،‬فتبسم بشر رحمه هللا وأقبل عليه وقال له‪ :‬المال إذا جمع‬
‫من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطر ًا فأظهرت األعمال الصالحات وقد آلى هللا على نفس ه أن‬
‫ال يقبل إال عمل المتقين‪.‬‬
‫قال‪ :‬بورك فيك‪ ..‬فقد رويت القصة بألفاظها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأروي أيضا عن عب د هللا بن مس عود قول ه‪ (:‬في آخ ر الزم ان يك ثر الح اج بال س بب‪ ،‬يه ون عليهم الس فر‬
‫ويبسط لهم في الرزق ويرجعون محرومين مسلوبين‪ ،‬يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه ال‬
‫يواسيه)‬
‫قال‪ :‬وبورك فيما ذكرت من حديث ابن مسعود‪ ،‬فقد كان فقيها في دين هللا عليما بأسرار البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أروي الحديث‪ ..‬ولكني لم أفهم عالقته بالبركة‪ ..‬ثم عالقة كل ذلك بالصحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬الصحة شيء متكامل‪ ..‬فال صحة لجسد يحمل قلبا مريضا‪ ،‬ونفس تتالعب به ا األه واء‪ ،‬وعق ل تحم ل علي ه‬

‫‪53‬‬
‫جيوش الظنون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ألن البركات ال تتنزل على أمثال هؤالء‪ ..‬والبركة هي س ر ابتس امة األنين‪ ..‬ألس ت أراك تبحث عن ابتس امة‬
‫األنين؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قال‪ :‬فهذا سبيل من سبلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف نقيد أعمالنا بالموازين التي تحفظها من موبقات الهوى‪.‬‬
‫قال‪ :‬بأن تستن بسنة أعظم الخلق بركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬رسول هللا ‪.‬‬
‫قال‪ :‬من أراد العلم قصد العلماء‪ ..‬ومن أراد البركة ال يقصد إال المباركين‪.‬‬
‫السالم‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة السالم بالبركة؟‬
‫قال‪ :‬البركات ال تتنزل إال على النفوس المسالمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ألن النفوس المحاربة تستقبل البركات بالرماح واألسنة‪ ،‬فتحول بينها وبين النزول إلى أراضي النفوس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل هناك من يشبع من البركة‪ ،‬فيحول بين نفسه وبينها؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬النفوس المحاربة المصارعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن النفوس ال تحارب إال من يحاربها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬النف وس المحارب ة تلت ذ بحربه ا‪ ..‬وال ت رى الل ذة إال في انتص ارها وفي إس قاطها لخص ومها‪ ..‬فل ذلك ال‬
‫ترضى أن تستقبل البركات بالسالم‪ ..‬بل تريد أن تقتنصها بالصراع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإن لم تجد من تحاربه؟‪.‬‬
‫قال‪ :‬تصطنع عدوا تحاربه‪ ..‬الصراع عندها كالغذاء والماء‪ ..‬ال يمكنها أن تتخلى عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنها قد تنال بصراعها أشياء كثيرة‪..‬‬
‫قال‪ :‬نعم يحصل ذلك‪ ..‬ولكنه ممحوق البركة‪ ..‬ألم تسمع بخزائن قارون؟‬
‫وز َما ِإ َّن َم َفا ِت َحهُ َل َتنُو ُء ِب ْالعُصْ َب ِة أُو ِلي ْالقُ َّو ِة﴾ (القصص‪)76 :‬‬
‫﴿منَ ْال ُكنُ ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد آتاه هللا ِ‬
‫قال‪ :‬ولكنه رفض أن ينسبها هلل‪ ..‬بل تصور أنه حصلها بجهده وعلمه وصراعه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد قال تعالى في ذلك على لسانه عندما نبهه قومه‪ِ ﴿:‬إ َّن َما ُأو ِتي ُت ُه عَ َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي﴾(القصص‪)78 :‬‬
‫قال‪ :‬فقد رفض أن ينسب األمر إلى أهله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وذلك شأن المصارعين‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل بورك له في ماله؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل خسف هللابه وبداره وبماله األرض‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهكذا مصير كل مصارع‪ ..‬فلن ينال من البركات إال ما ناله قارون منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنا لم نسمع برجل خسف به غير قارون‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاذهب إلى المقابر واسألها‪..‬‬
‫العقل‬
‫قلت‪ :‬فلنتحدث عن برمجة العقل‪ ..‬لقد زعمت بأن جسدي ونفسي مستقالن عني‪ ..‬أت راك ت زعم ب أن عقلي مس تقل‬
‫هو اآلخر؟‬
‫قال‪ :‬عقلك تجل من جليات حقيقتك ومظهر من مظاهرها وطاقة من طاقاتتها‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫قلت‪ :‬فهو أنا‪ ..‬وليس غيري‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو أنت إذا لم تستعمره النفس‪ ،‬ولم تقيده األعراف‪ ،‬ولم تستعبده األهواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإن استعمر‪.‬‬
‫قال‪ :‬يصير أعدى أعدائك‪ ..‬ولن تنال منه إال المحق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬عقلك هو النافذة التي تطل بها على حقائق الوجود‪ ..‬وه و الن ور ال ذي تتع رف ب ه على واهب الن ور‪ ..‬وه و‬
‫العقال الذي ينظم نفسك لتنسجم مع الكون وتتخلق بأخالق حقيقتها‪ ..‬فإن ك ان ك ذلك ك ان لب ا‪ ..‬وك ان برك ة محض ة‪ ..‬ألم‬
‫تسمع هللا تعالى‪ ،‬وهو يثني كل الثناء على أولي األلباب؟‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ات ه َُّن أ ُّم ال ِك َت ا ِ‬
‫ب‬ ‫ات ُمحْ َك َم ٌ‬ ‫َاب ِم ْنهُ آ َي ٌ‬ ‫ْ‬
‫زَل َع َل ْيكَ ال ِكت َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد ورد فيهم قرآن كثير‪ ،‬فاهلل تعالى يقول‪ ﴿:‬ه َُو ال ِذي أ ْن َ‬
‫الرَّاس ُخونَ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ات َفأَ َّما الَّ ِذينَ ِفي قُلُو ِب ِه ْم زَ ْي ٌغ َف َيتَّ ِبعُونَ َما َت َشا َب َه ِم ْنهُ ا ْب ِتغَا َء ْال ِف ْت َن ِة َوا ْب ِتغَا َء تَأ ِوي ِل ِه َو َم ا َيعْ َل ُم تَأ ِوي َل هُ ِإاَّل ُ َو ِ‬
‫هَّللا‬ ‫َوأُخَ رُ ُم َت َشا ِب َه ٌ‬
‫ب﴾ (آل عمران‪)7:‬‬ ‫ِفي ْال ِع ْل ِم َيقُولُونَ آ َمنَّا ِب ِه ُكلٌّ ِم ْن ِع ْن ِد َر ِّبنَا َو َما َي َّذ َّكرُ ِإاَّل أُولُو اأْل َ ْل َبا ِ‬
‫قال‪ :‬هذه اآلية هي التي تدلك على بركات العقل‪ ..‬وتنبئك على أسرار المحق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهي مفتاح البركة والمحق المرتباطان بالعقل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد ذكر هللا العقول الممحوقة‪ ،‬وهي العقول ال تي ال تتغ ذى إال على المتش باهات ال تي تملؤه ا بالفتن ة‪،‬‬
‫وتبش رها بالجه ل‪ ..‬وذك ر بجانبه ا العق ول المبارك ة‪ ..‬عق ول الراس خين في العلم ال ذين ال ينحبجب ون بالمتش باهات عن‬
‫المحكمات‪ ..‬ويتعرفون بكليهما على الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبركة العقل هي التغذي بغذاء المحكمات‪.‬‬
‫قال‪ :‬من تغذى بغذاء المحكم ات رزق ه هللا الق وة على هض م المتش باهات‪ ..‬ب ل جع ل ل ه من الق وة م ا يح ول من‬
‫المتشابه محكما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن تغذى بالمتشابهات؟‬
‫قال‪ :‬جعل هللا في عقله من الغشاوة ما يجادل به المحكمات‪ ..‬فال تهضم في عقله‪ ،‬كما ال ينهضم الطع ام الطيب في‬
‫بطنه إلدمانه على الخبث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف نغذي عقولنا بالمحكمات؟‬
‫قال‪ :‬إذا أدركنا وظيفة عقولنا‪ ..‬وفهمنا سرها‪ ..‬وتعرفنا على طاقاتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذه المعارف بالبركة؟‬
‫قال‪ :‬الجسد مرآة من المرائي التي قد تتعرف بها على الحقائق‪ ..‬فلذلك سنستعير األمثلة عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك سيبسط المسألة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن شخصا جهل ما يمكن لجهازه أن يهضمه‪ ..‬فراح يطعمه السموم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سيقتل نفسه ال محالة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك جهاز العقل الذي هو أمير النفس‪ ..‬إذا غذي بغذاء المحكم هض م وق وى عقل ه ليهض م غ ذاء الش بهة‪..‬‬
‫ولكنه إن لم يغذه بالحكمة‪ ،‬سيقتله تناوله لغذاء الشبهة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فسر لي ذلك بما يعمق هذه الحقيقة في نفسي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع ما قال هللا تعالى في مثال البعوضة؟‬
‫ُوض ًة َف َما َفوْ َق َها َفأَ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َف َيعْ َل ُم ونَ َأنَّهُ ْال َح قُّ‬ ‫ً‬
‫ب َمثال َما َبع َ‬ ‫َ‬ ‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قال تعالى‪ِ ﴿:‬إ َّن هَّللا َ ال َي ْستَحْ ِيي َأ ْن َي ِ‬
‫ضْر َ‬
‫اس ِقينَ ﴾(البقرة‪26 :‬‬ ‫ُضلُّ ِب ِه ِإاَّل ْال َف ِ‬
‫ُضلُّ ِب ِه َك ِثير ًا َو َي ْه ِدي ِب ِه َك ِثير ًا َو َما ي ِ‬ ‫ال ي ِ‬ ‫ِم ْن َر ِّب ِه ْم َو َأ َّما الَّ ِذينَ َك َفرُوا َف َيقُولُونَ َما َذا َأ َرا َد هَّللا ُ ِب َه َذا َم َث ً‬
‫)‬
‫قال‪ :‬فالمؤمنون نظروا إلى هذا المثال من زاوية المحكم‪ ،‬فتعرفو ب ه على هللا‪ ،‬والك افرون نظ روا إلي ه من زاوي ة‬
‫المتشابه‪ ،‬فحجبوا به عن الحق‪ ،‬ومحقت بركة عقولهم‪ ..‬ألم تسمع ما قال هللا تعالى في تأثير التسعة عشر؟‬
‫ار ِإاَّل َمال ِئ َك ًة َو َم ا َج َع ْل َن ا ِع َّد َته ُْم ِإاَّل ِف ْت َن ًة ِللَّ ِذينَ َك َف رُوا ِل َي ْس َت ْي ِقنَ ال ِذينَ‬
‫َّ‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫صْح َ‬‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما َج َع ْلنَا َأ َ‬
‫‪55‬‬
‫ول الَّ ِذينَ ِفي قُلُ و ِب ِه ْم َم َرضٌ َو ْال َك ا ِفرُونَ‬ ‫َاب الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِكت َ‬
‫َاب َو ْال ُم ْؤ ِمنُ ونَ َو ِل َيقُ َ‬ ‫َاب َو َي ْزدَا َد الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِإي َماناً َوال َيرْ ت َ‬ ‫أُوتُوا ْال ِكت َ‬
‫ُضلُّ هَّللا ُ َم ْن َي َشا ُء َو َي ْه ِدي َم ْن َي َشا ُء َو َما َيعْ َل ُم جُ نُو َد َربِّكَ ِإاَّل ه َُو َو َما ِه َي ِإاَّل ِذ ْك َرى ِل ْل َب َش ِر﴾(الم دثر‪:‬‬
‫ال َك َذ ِلكَ ي ِ‬ ‫َما َذا َأ َرا َد هَّللا ُ ِب َه َذا َم َث ً‬
‫‪)31‬‬
‫قال‪ :‬لقد اعتبر هللا تعالى عدتهم فتنة للذين كفروا‪ ،‬ويقينا للذين أوتوا الكتاب‪ ،‬وزيادة إيمان للذين آمنوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ذلك واضح‪ ..‬فالغذاء واحد‪ ..‬ولكن التأثير مختلف‪.‬‬
‫قال‪ :‬المؤمنون غذوا إيمانهم بمحكم اإليمان باهلل‪ ،‬فن الوا برك ات العل وم‪ ..‬ولكن الغ افلين منع وا من ه ذه المع ارف‬
‫ببحثهم عن المتشابه‪ ،‬فصار الدواء في عقولهم داء‪ ،‬وصار الحق في أفواههم باطال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فبركة العقل هي المحكمات‪ ..‬فبها تتشرب المتشابهات‪.‬‬
‫قال‪ :‬وبها تتغذى من كل حقائق الوجود‪ ..‬ألم يقل هللا تعالى‪ ﴿:‬ي ُْؤ ِتي ْال ِح ْك َم َة َم ْن َي َشا ُء َو َم ْن ي ُْؤتَ ْال ِح ْك َم َة َف َق ْد أُو ِت َي خَ ْي راً‬
‫ب﴾(البقرة‪ ..)269:‬أتدري ما الحكمة؟‬ ‫َك ِثير ًا َو َما َي َّذ َّكرُ ِإاَّل أُولُو اأْل َ ْل َبا ِ‬
‫قلت‪ :‬سمعت أن الحكمة هي الفهم عن هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬بأدوات أهل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا بالصحة‪ ..‬ألسنا في مستشفى السالم؟‬
‫قال‪ :‬مستشفى السالم يعالج النفس بالعقل‪ ..‬ويعالج الجسد بالنفس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬يجعل للعقل اإلمارة على النفس‪ ،‬ويجعل للنفس اإلمارة على الجسد‪ ،‬كما يجعل للروح األمارة على كل ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يجعل اإلمارة للعقل على النفس؟‬
‫قال‪ :‬النفس قد تسترسل مع شهواتها‪ ،‬فتحتاج إلى أن تلجم بلجام العقل‪ ..‬فالعقل هو العقال الذي تضبط به النفس‪..‬‬
‫قلت‪ :‬اربط لي هذا بالصحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن يصعب عليك ربط كل ما ذكرناه بالص حة‪ ..‬فالص حة ك ل متكام ل‪ ..‬وك ل م ا ي ؤثر في عقل ك‪ ،‬ي ؤثر في‬
‫جسدك ونفسك‪ ..‬ولكني سأخاطبك بما يعي قومك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فهو أقرب لفهمي‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت المدمن الذي خرب جسده بنيران شهوات الخمر والمخدرات لمن يسترسل في ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬لنفسه األمارة بالسوء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا ال يحكم عقله‪ ..‬فيتبصر خطر ما هو فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عقله صار تحت زمام نفسه‪ ..‬فهو يبحث ويخطط ليصل إلى ما تشتهيه نفسه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن لماذا ال ينظر إلى الحقيقة؟‬
‫قلت‪ :‬شبهات طغت على عقله‪ ..‬فحالت بينه وبين فهم الحقائق المرتبطة بصحته‪.‬‬
‫قال‪ :‬مثل ماذا؟‬
‫قلت‪ :‬كثيرة هي‪ ..‬ولعل أهمها انشغاله باللحظة‪ ..‬فعقله وجودي ال يؤمن إال بلذة الساعة‪ ..‬ولسان حاله يق ول ( النق د‬
‫خير من النسيئة) أو ( درهم في الجيب خير من عشرة في الغيب)‬
‫قال‪ :‬فقد منع عقله من غذاء المحكمات بتغذيته بغذاء المتشابهات‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يفلح هذا العقل؟‬
‫قال‪ :‬بعودته إلى المحكمات‪ ..‬فبالمحكمات يبارك في المتشابهات‪ ،‬وتصد الشبهات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل نجلس كجلوسك هذا لنتغذى بالمحكمات؟‬
‫قال‪ :‬ليس الشأن أن تجلس بجسدك‪ ..‬ولكن الشأن أن يستقر عقلك في ميدان الفكرة‪ ..‬فما نفع العقل شيء مثل رعي ه‬
‫في ميادين الحكمة‪.‬‬
‫الروح‬

‫‪56‬‬
‫قلت‪ :‬فلنتحدث عن برمجة الروح‪ ..‬فما هي الروح؟‬
‫ً‬ ‫اَّل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الرُّوح قُ ِل الرُّوحُ ِم ْن َأ ْم ِر َربِّي َو َما أو ِتيت ْم ِمنَ ال ِعل ِم ِإ َق ِليال﴾ (االسراء‪)85 :‬‬ ‫قال‪َ ﴿:‬و َيسْأَلو َنكَ ع َِن‬
‫ِ‬
‫قلت‪ :‬فكيف أبرمج ما ال أعلم؟‬
‫قال‪ :‬ومن قال لك بأن هللا تعالى لم يخبرنا عن الروح‪ ..‬ألسنا سوى الروح؟ فكيف يتركنا هللا أسارى جهلنا لذواتنا؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن اآلية واضحة‪ ..‬فاهلل يخبرنا بأن الروح من أمره‪ ..‬وأنا لم نؤت من العلم إال قليال‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولم تعتقد أن هللا تعالى لم يخبرنا عن الروح؟‬
‫قلت‪ :‬ألنها من األمور الغامضة التي ال يمكن للعقول الضعيفة معرفة شأنها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل الروح أعظم شأنا من هللا؟‬
‫قلت‪ :‬ما تقول؟‪ ..‬لقد قف شعري مما قلت‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال تخف‪ ..‬فأنا لم ألحد في قولي‪ ..‬ولكني أتساءل‪ ..‬فإن كان هللا عرفنا بنفسه‪ ..‬وه و أعظم ش أنا‪ ..‬واس تطعنا أن‬
‫ندرك من معرفة هللا ما نعبده به‪ ..‬فكيف ال يعرفنا بأرواحنا‪ ،‬أو كيف تزعم أن أرواحنا أعظم من أن نعرفها؟‬
‫قلت‪ :‬ولكني لم أر في حياتي من وصف طول روحه أو عرضها أو لونها أو شكلها‪.‬‬
‫قال‪ :‬من ابتغى أن يعرف الروح بهذه األوصاف فقد غذى عقله بلبان المتشابهات‪ ..‬ومن تغذى بلبان المتشابهات لم‬
‫يدرك من الحقائق إال ما يصرفه عن الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أعرف الروح إن لم أعرفها بهذه األوصاف؟‬
‫قال‪ :‬كما تعرف هللا تعرف روحك‪ ..‬ألست تعرف هللا بأسمائه وصفاته؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فال يمكن إدراك الذات‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك معرفتك لروحك‪ ..‬تعرفها بأوصافها وطبائعها وخصائصها لتتعامل معها على أساس ذلك‪ ..‬ولن تتنزل‬
‫البركات إال على من عرف سر روحه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنبئني عن أسرراها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ستعرفه في بنيان هللا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني أطلب البركات‪ ..‬فهل أحرم من بركات روحي حتى أصل إلى ذلك المحل الرفيع؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬يمكنك أن تعرف من أمور الروح ما يفيدك في تنزل البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هو؟‬
‫قال‪ :‬أن تعرف قبلة الروح‪ ..‬فلبركات الروح قبلة واحدة‪ ،‬لن ينال البركات إال من توجه لها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي قبلة الروح؟‬
‫قال‪ :‬هي التي عبر عنها هللا تعالى بقوله‪َ ﴿:‬فأَ ْي َن َما تُ َو ُّلوا َف َث َّم َوجْ ُه هَّللا ِ﴾ (البقرة‪)115 :‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تشير بها إلى شيء ال أفقهه‪.‬‬
‫ب ِب ِقي َع ٍة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫قال‪ :‬اآلية واضحة في الداللة عليه‪ ..‬ومما يزيد في توض يحها قول ه تع الى‪َ ﴿:‬وال ِذينَ كف رُوا أع َم اله ُْم ك َس َرا ٍ‬
‫ب﴾ (النور‪)39 :‬‬ ‫الظ ْمآنُ َما ًء َحتَّى ِإ َذا َجا َءهُ َل ْم َي ِج ْدهُ َشيْئاً َو َو َج َد هَّللا َ ِع ْن َدهُ َف َوفَّاهُ ِح َسا َبهُ َوهَّللا ُ َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ‬
‫َيحْ َسبُهُ َّ‬
‫قلت‪ :‬لم تفسر الغموض بالغموض؟‬
‫قال‪ :‬لقد خلق هللا عباده لمعرفته‪.‬‬
‫ُون﴾ (الذريات‪)56 :‬‬ ‫اَّل‬
‫س ِإ ِل َيعْ بُد ِ‬ ‫ْ‬ ‫أْل‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬أفهم هذا‪ ..‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬و َما خَ لقت ال ِجن َوا ِ ن َ‬
‫قال‪ :‬فاألرواح في أصل خلقتها تتوجه إلى هللا‪ ..‬وال تجد لذتها إال في ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ولكنها تحيد عنها بتلبسها بالشهوات واألهواء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهي في تلبسها بذلك تطلب الماء في السراب‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ما تقصد بذلك؟‬
‫قال‪ :‬هي تطلب هللا‪ ..‬ولكنها تتيه عنه باللذات‪ ..‬فلذلك تتوجه كل الوجهات تبحث عن هللا‪ ..‬فتتيه عنه بأخطاء النفس‬
‫والعقل‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن أن تقع الروح أسيرة العقل والنفس؟‬
‫قال‪ :‬أرواح األولياء واألصفياء ملوك على العقول والنفوس‪ ..‬أما أرواح غيرهم فأسيرة في أيدي النفوس والعقول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تتنزل البركات على الروح؟‬
‫قال‪ :‬بتوجهها إلى هللا واستمدادها منه وتلذذها بمعرفته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة ذلك بالصحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أصحة اإلنسان‪ ،‬أم صحة أعضاء اإلنسان؟‬
‫قلت‪ :‬صحة اإلنسان‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن تستقيم صحة اإلنسان إال بصحة الروح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن تدنست روحه بأدناس األغيار‪!..‬؟‬
‫قال‪ :‬يظل مريضا‪ ،‬ولو عولج بعقاقير العالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنا نراه بعافية يحسده عليها الصالحون‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلوب الصالحين ال تعرف الحسد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا ال أريد حسدهم‪ ..‬ولكني أريد المقارنة بين صحة الغافلين وصحة العارفين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن شخصا أصابه جرح في جسده‪ ،‬وبجانب ه ش خص أص ابه ج رح في قلب ه‪ ..‬فأيهم ا أك ثر عافي ة‪،‬‬
‫وأيهما أكثر ألما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مريض القلب أكثر مرضا‪ ..‬أما جرح اليد فسرعان ما يندمل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك ذكرت لك أن قلوب الصالحين ال تعرف الحسد‪ ..‬ألنهم ال ينظرون إلى عافية األجساد‪ ،‬بل ينظرون إلى‬
‫عافية األرواح‪ ..‬ومن عافاه هللا في روحه ال يضره أن يتضرر جسده‪ ..‬بل إن من كملت روحه يداوي جسده بروحه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن ذلك؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬فمراهم الروح ال تقف بجنبها المراهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن أن نعالج األدواء الخطيرة بالروح؟‬
‫قال‪ :‬بالروح المطعمة بلبان البركة يمكنك أن تفع ل ك ل ش يء ألم تس مع قول ه ‪ (:‬ق ال هللا تع الى م ا تق رب إلى‬
‫عبدى بمثل اداء فرائضي وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت رجله التى يمشى بها ويده التى يبطش به ا‬
‫ولسانه الذى ينطق به وقلبه الذى يعقل به إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬ابن السنى في الطب عن سمويه‪.‬‬


‫‪58‬‬
‫ثالثا ـ مخزن البركة‬
‫قصدنا القسم الثالث من أقسام ( أدوية السماء)‪ ،‬فقرأت على بابه الفتة مكتوبا عليه ا قول ه ‪ (:‬اللهم ب ارك لن ا في‬
‫ثمرنا)(‪)1‬‬
‫وقد كان هذا القسم أشبه بمخزن كبير تجبى إليه ثمرات كل شيء‪ ،‬فسألت معلم البركة عنه‪ ،‬فقال‪ :‬ه ذا قس م الغ ذاء‬
‫المبارك‪ ..‬وبما أن هللا تعالى وزع البركة في رزقه‪ ،‬فإن أهل هذا القسم يلتمسون البركة في كل ما خلق هللا من أرزاق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬أال تعرف العناصر المؤثر في األغذية واألدوية؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ففي األدوية مثال هناك العناصر األساسية المقصودة باألصالة‪ ،‬وهناك المسوغات‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن الدواء لم يحتو إال على مسوغات صرفة‪ ،‬ولم يحتو على أي عناصر فاعلة‪ ..‬كيف تعتبره؟‬
‫قلت‪ :‬هذا دواء مغشوش قد يصلح للمرضى باألوهام‪ ،‬ولكنه ال يصلح عالجا لألسقام‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتلك العناصر المؤثرة في الدواء هي عناصر البركة التي يلتمسها أهل هذا القسم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف يعرفونها؟‬
‫قال‪ :‬لديهم مخابرهم التي تبحث في هذا الباب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أعرف من المخابر إال المخابر الكيميائة التي تميز أنواع المكونات المختلفة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لديهم مثل هذا النوع من المخابر‪ ..‬ولكنهم ال يكتفون بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإلى ماذا يرجعون؟‬
‫قال‪ :‬أهل هذا المستشفى يحترمون كل ما يأتيهم من العلم‪ ،‬ويتوثقون منه‪ ..‬فل ذلك تج دهم ينش رون اإلعالن ات‪ ،‬ب ل‬
‫الحوافز لكل من وجد البركة في طعام أن يدل عليها‪ ،‬ويبشر بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيملك الناس مخابر في بيوتهم؟‬
‫قال‪ :‬وقبل أن توجد المخابر كيف كان يعيش الناس؟‪ ..‬أم أن هذه المخابر التي تعبدونها هي التي حفظت البش ر من‬
‫الفناء‪ ..‬أليس البشر يموتون في كل العصور؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا تعالى أمرنا بالرجوع إلى الخبراء‪ ..‬وال يمكن أن يكون هناك خبراء بال مخابر‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن الخبير هو الذي يحترم كل من يأتيه‪ ..‬وينتفع به‪ ..‬وال يلغيه ألن عقله لم يدرك ما أتاه به‪.‬‬
‫***‬
‫قال ذلك وانصرف‪ ،‬فبقيت أسير في القاعة وحدي‪ ،‬مدهوشا بما فيه ا من الخ ير والجم ال‪ ،‬فج أة الحظت دكان ا ال‬
‫يختلف عما نعرفه من دكاكين‪ ،‬وقد وقف عليه رجل مهيب‪ ،‬ولكنه يرتدي بذلة البقالين‪ ،‬فتعجبت من ذلك‪ ،‬ولم أدر إال وأنا‬
‫أقول له بلهجة شديدة‪ :‬يا هذا‪ ..‬أتراك أخطأت أم تعمدت الخطأ؟‬
‫قال بهدوء‪ :‬أوضح‪ ،‬فمن الخطأ أن ترمي بالخطأ دون أن تحدده‪ ..‬ألم تراجع دروس السالم؟‬
‫قلت‪ :‬وهل للسالم عالقة بهذا؟‬
‫قال‪ :‬في أي مرحلة أنت؟‬
‫قلت‪ :‬في السنة أولى ابتدائي‪.‬‬
‫ضحك‪ ،‬وق ال‪ :‬أنت ال ت زال تتعلم الح روف إذن‪ ..‬فاس مع م ني‪ :‬أنت تبحث عن المتوس مين لي دلوك على وس ائل‬
‫البركة وأسبابها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم تعدو ما في نفسي‪ ،‬وال أحسبك إال واحدا منهم‪ ..‬ولكن كيف تتاجر في مستشفى السالم؟‬
‫هَّللا‬
‫ض ِل ِ َوآخَ رُونَ‬ ‫ض ِربُونَ ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َي ْب َت ُغ ونَ ِم ْن َف ْ‬ ‫قال‪ :‬وهل حرم هللا التجارة‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬وآخَ رُونَ َي ْ‬
‫يل هَّللا ِ ﴾ (المزمل‪)20:‬؟‬
‫يُ َقا ِتلُونَ ِفي َس ِب ِ‬
‫‪ )(1‬مسلم‪ ،‬والترمذي‪ ،‬ونص الحديث‪ «:‬اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا‪ ،‬اللهم! إن إبراهيم عبدك‬
‫وخليلك ونبيك‪ ،‬وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه »‬
‫‪59‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد قرن هللا تعالى في هذه اآلية بين الجهاد والضرب في األرض‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل قدم الضرب في األرض على الجهاد‪ ،‬فال يمكن للمجاهد أن يجاهد لوال وجود من يضرب في األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬ولكن ما سر البيع في هذا المستشفى؟‬
‫قال‪ :‬أنا ال أبيع‪ ..‬ولكني متوسم مختص بالبحث فيما بارك هللا فيه من األغذية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهناك أغذية مباركة باألصالة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فمن رحم ة هللا أن جع ل في بعض األغذي ة برك ة يس تفيد منه ا الجمي ع‪ ..‬ول وال ه ذه البرك ات لهلكت‬
‫األرض ومن عليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهي في األغذية؟‬
‫قال‪ :‬هي في األغذية واألشربة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تعرفها؟‪ ..‬ألديك تحاليل خاصة تتعرف بها على عناصر البركة؟‬
‫قال‪ :‬البركة ال تعرف بالتحاليل‪ ..‬بل تعرف بالتوسم من المصادر المعصومة‪ ..‬فإن كانت ل ك الق درة على س ماعها‬
‫كانت لك القدرة على اكتشافها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرأيت لو أنك وجدت البركة في غذاء من األغذية‪ ..‬ثم أثبت العلم الحديث بوسائله الحديثة ض رره أكنت تتهم‬
‫البركة‪ ،‬أم تتهم العلم؟‬
‫قال‪ :‬ال يصطدم العقل الصحيح مع النص الصريح‪ ..‬فإن رأيت افتراقهما بحثت عن أسباب االفتراق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تجد في العادة؟‬
‫قال‪ :‬أجد أغذية البركة قد حورت وبدلت‪ ..‬أو أن من نتاولها تناولها مصارعا‪ ،‬ولم يتناولها مس الما‪ ..‬أو أج د أس بابا‬
‫أخرى قد عرفتها‪ ،‬وستعرفها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تقارن بين ما اكتشفته من أغذية البركة‪ ،‬وبين ما توصل إليه العقل والعلم من ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فبرفقتي بعض الخبراء‪ ..‬وهم مالزمون لي ال يفارقوني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تتعلم على أيديهم؟‬
‫قال‪ :‬هم يزعمون أنهم يتعلمون على يدي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تطعمني من أغذية البركة؟‬
‫قال‪ :‬بل سأعلمك من علومه ا‪ ..‬فق د أرس ل إلي معلم البرك ة يطلب ذل ك‪ ..‬وال من اص لي من طاعت ه‪ ..‬ألم يق ل هللا‬
‫ُول َوأُو ِلي اأْل َ ْم ِر ِم ْن ُك ْم﴾ (النساء‪)59 :‬‬
‫تعالى‪َ ﴿:‬يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا َأ ِطيعُوا هَّللا َ َو َأ ِطيعُوا الرَّ س َ‬
‫قلت‪ :‬فما هي األغذية التي ستذكر لي بركتها؟‬
‫قال‪ :‬ما ورد في النصوص‪ ..‬فقد اعتبرنا األصل في البركة هو ما ورد في النصوص منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما ورد في النصوص؟‬
‫قال‪ :‬كثيرة‪ ،‬وقد تجتمع في عشرة‪ ،‬وكلها مما أشار إليه القرآن الكريم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬المياه‪ ،‬والهواء‪ ،‬والحبوب‪ ،‬واأللبان‪ ،‬والتمر‪ ،‬والزيتون‪ ،‬والخضر‪ ،‬والفواكه‪ ،‬والبقول‪ ،‬واللحوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تذكر الماء في األغذية‪ ..‬فهل هذا خطأ مطبعي‪ ،‬أم تراها زلة لسان؟‬
‫قال‪ :‬ال هذا‪ ..‬وال ذاك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت تقصد ما تقول‪.‬‬
‫اء‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فالماء هو سيد األغذية المباركة‪ ..‬ألم ينص القرآن الكريم على بركته‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿:‬ونَزل َن ا ِمنَ َّ‬
‫الس َم ِ‬
‫اركاً ﴾( ّق‪)9:‬؟‬ ‫َما ًء ُم َب َ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فمن أين تبدأ تعليمي أسرار بركات المياه؟‬
‫قال‪ :‬ومن قال لك بأني من يعلمك أسرار بركات المياه؟‬
‫قلت‪ :‬ما هذا ـ معشر المتوسمين ـ لقد ذكرت لي اآلن بأن معلم البركة دعاك إلى تعليمي أسرار بركات األغذية‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫قال‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬فقد طلب مني‪ ،‬وال مناص لي من تنفيذ طلبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد قررت إذن تعليمي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد قلت لك بأني لن أقوم بتعليمك أنا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬سلمت لك مع تناقضك‪ ..‬فمن يعلمني؟‬
‫قال‪ :‬ما ذكرته لك من المعلمين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أسمعك تذكر معلما عدا معلم البركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم أذكر لك أسماء األغذية المباركة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فهي التي ستقوم بتعليمك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إلى اآلن ال تزال بقية من عقلي في رأسي‪ ..‬فال ترفعها‪ ..‬فإنها توشك أن تتبخر‪.‬‬
‫قال‪ :‬العقل ال يتبخر‪ ..‬فال تخف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد ال يتخبر‪ ،‬ولكنه يتلف‪ ..‬فإن أردت أن ال يحصل له هذا‪ ،‬فوضح لي ما تريد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم يخبرك المعلم عن حياة الكائنات؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد أخ برني عن وعيه ا‪ ..‬ولكن ه أرج أ التفاص يل المرتبط ة ب ذلك إلى رحل ة وع دني بالقي ام به ا إلى‬
‫( أكوان هللا)‬
‫قال‪ :‬ألم يخبرك بأن األغذية المباركة تقوم بدور الطبيب في الجسم؟‬
‫قلت‪ :‬أخبرني ذلك‪ ..‬وقد سرني ما ذكره‪.‬‬
‫قال‪ :‬لذلك ستذهب إلى هؤالء األطباء ليبخبروك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني لست سليمان ‪‬؟‬
‫قال‪ :‬ومن قال لك بأنك سليمان ‪‬؟‬
‫ض لُ ْال ُم ِبينُ ﴾(النم ل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫الطي ِْر َوأو ِتينَا ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء ِإ َّن َه َذا َلهُ َو ْال َف ْ‬
‫قلت‪ :‬ألم يقل سليمان ‪َ ﴿:‬يا َأ ُّي َها النَّاسُ ُع ِّل ْمنَا َم ْن ِط َق َّ‬
‫‪)16‬؟‬
‫قال‪ :‬وهل ذلك خاص بسليمان ‪‬؟‪ ..‬ألم يكن الصحابة يسمعون تسبيح الطعام‪ ..‬ألم تسمع قول ابن مس عود‪ (:‬كن ا‬
‫نأكل مع النبي ‪ ‬فنسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)(‪)1‬‬
‫بل كانوا يسمعون تسبيح الحصى‪ ،‬فقد ق ال أب و ذر‪ (:‬تن اول رس ول هللا ‪ ‬س بع حص يات فس بحن في ي ده ح تى‬
‫سمعت لهن حنينا‪ ،‬ثم وض عهن في ي د أبي بك ر فس بحن‪ ،‬ثم وض عهن في ي د عم ر فس بحن‪ ،‬ثم وض عهن في ي د عثم ان‬
‫فسبحن)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ذلك كان في حضور رسول هللا ‪ ،‬وقد سرى إليهم من بركاته ما جعلهم يسمعون‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم بركات رسول هللا ‪ ‬هي سر ما وصلهم من خير‪ ..‬ولكن هذا الخير لم يكن محصورا في حض وره ‪‬‬
‫‪ ..‬ألم تسمع ما روى أبو حمزة الثمالي قال‪ :‬قال محمد بن علي بن الحسين وسمع عصافير يص حن ق ال‪ :‬ت دري م ا يقلن؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬يسبحن ربهن تعالى ويسألن قوت يومهن‪)3(.‬‬
‫ويروي عن علي بن الحسين قال‪ :‬كنا معه فمر بنا عصافير يصحن فقال‪ :‬أتدرون ما تقول ه ذه العص افير؟ فقلن ا‪:‬‬
‫ال‪ .‬قال‪ :‬أما أني ما أقول إنا نعلم الغيب‪ ،‬ولكني س معت أبي يق ول‪ :‬س معت علي بن أبي ط الب أم ير المؤم نين يق ول‪ :‬إن‬
‫الطير إذا أصبحت سبحت ربها‪ ،‬وسألته قوت يومها‪ ،‬وإن هذه تسبح ربها‪ ،‬وتسأله قوت يومها(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬أولئك آل بيت كرام‪ ..‬وأين أنا منهم؟‬
‫قال‪ :‬هل تحبهم؟‬
‫أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫البـزار والطبراني‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الخطيب‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪61‬‬
‫قلت‪ :‬بل أعشقهم‪ ..‬ولكني أرى نفسي أدنى من التراب الذي يمشون عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن رزق محبة الصالحين رزقه هللا بركاتهم وآثارهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أما إن قلت هذا‪ ..‬فإني مسلم لك‪ ..‬ولكن كيف أرحل إلى هذه األغذية المباركة حتى أسمع أصوات بركاته ا؟‪..‬‬
‫هل تجعلني قزما‪ ،‬فأدخل فيها كما أرى في أفالم الخيال؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لن تحتاج إلى ذلك‪ ..‬ولم يجعل هللا في قدرة جسد اإلنسان التمثل في األشكال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف ألج عوالمها إذن؟‬
‫قال‪ :‬بالبصيرة‪ ..‬فلها القدرة على اختراق اآلفاق‪ ،‬ومعاينة السبع الطباق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا أفعل؟‬
‫قال‪ :‬اقترب مني‪.‬‬
‫فاقتربت منه‪ ،‬فوضع يده على صدري‪ ،‬فأحسس ت ب برد أنامل ه تس ري في ع روقي‪ ..‬ثم لم أره‪ ..‬ولم أر ش يئا مم ا‬
‫كنت أراه‪.‬‬
‫الماء‬
‫فجأة الح لي منظر عجيب قد نزل من السماء‪ ..‬رأيت شبكة من الآللئ المترابط ة فيم ا بينه ا برواب ط الن ور‪ ..‬ك ل‬
‫أربعة مرتبطة بأربعة في اتحاد عجيب يصعب اختراقه(‪ ..)1‬وكلها تشكل بحروف من ن ور ص ورة جميل ة لقول ه تع الى‪:‬‬
‫﴿ َه َذا ُم ْغ َت َسلٌ َب ِ‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾ (صّ ‪)42:‬‬
‫لم أكن متعودا على خطاب األشياء‪ ..‬ولكن لكثرة ما س معته عن حي اة الكائن ات وج دت لس اني يق ول من غ ير أن‬
‫أشعر‪ :‬من أنت أيتها الآللئ المباركة‪ ..‬فوجهك وجه خير‪ ..‬ولسانك لسان خير؟‬
‫نطقت لؤلوة من الآللئ‪ ،‬وقالت‪ :‬أنا وأخواتي من الآللئ نشكل بارتباطنا قطرة من قطرات المياه المباركة ال تي مأل‬
‫هللا بها كونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنت لؤلؤة من قطرة ماء؟‬
‫قالت‪ :‬كلنا آللئ من تلك القطرة‪..‬‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾(صّ ‪)42:‬؟‬ ‫ْ‬
‫قلت‪ :‬فلماذا تكتبن قوله تعالى‪َ ﴿:‬ه َذا ُمغ َت َسلٌ َب ِ‬
‫قال‪ :‬نحن قطرات ماء بارك هللا فينا‪ ،‬فجعلنا دواء للعلل‪ ،‬ومغتسال من اآلالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هذه اآلية في أيوب ‪.‬‬
‫قالت‪ :‬نحن زرنا أقواما كثيرين‪ ،‬وقد تشرفنا بأن زرنا في ذلك اليوم الجمي ل أي وب ‪ ،‬فمس حنا آهات ه‪ ،‬وغس لنا‬
‫آالمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل زرتن غيره؟‬
‫قال‪ :‬ال نزال نزور كل يوم من خلق هللا من نطعمه ونس قيه ونع الج آالم ه‪ ..‬وف وق ذل ك نطه ره ونغس ل أدران ه‪..‬‬
‫وفوق ذلك نمأل أجواءكم سكينة ولطفا وسرورا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنتن تفعلن كل ذلك؟‬
‫اركاً ﴾( ّق‪)9:‬؟‬ ‫ْ‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬ون ََّزلنَا ِمنَ ال َّس َم ِ‬
‫اء َما ًء ُم َب َ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فقد باركنا هللا‪ ..‬فتعددت أغراض االنتفاع بنا‪ ..‬فال يقربنا أحد إال ونال من بركاتنا‪.‬‬
‫الماء والسماء‪:‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ورد في كالم هللا تعالى أنكم من السماء‪ ..‬فهل هذا مجاز أم حقيقة؟‬
‫قال‪ :‬نزه كالم ربك عن غير الحقيقة‪ ..‬نحن من السماء‪ ..‬ولدنا في السماء‪ ..‬ونزلنا إلى األرض‪ ..‬وفي كل ي وم نحن‬
‫‪ )(1‬البناء الفريد للماء يجعل جزيئاته متماسكة‪ ،‬ومرتبطة بروابط هيدروجينية‪ ،‬ويصبح كل جزيء مرتبطا ً بأربعة جزيئات مجاورة‪ ،‬وكل منها بأربع ة‪،‬‬
‫وهكذا تبدو جميع الجزيئات مرتبطة ببعض في شبكة فراغية متماسكة‪ ،‬و لوال هذا لكانت درجة غليان الماء (‪80-‬م)ودرجة تجمده ( ‪ 100-‬م)والستحال وج ود‬
‫الماء على شكل سائل وصلب على سطح األرض والستحالت الحياة‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫إلى المصدر الذي منه جئنا‪ ..‬فنحن بين ارتفاع وانخفاض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ها هي ذي أختي‪ ،‬وهي خبيرة بما توصلتم إليه من العلم‪ ،‬وستجيبك عني‪.‬‬
‫سمعت صوتا عذبا من لؤل ؤة من الآللئ تق ول‪ :‬لق د وص ل قوم ك إلى نظري ات كث يرة بش أننا‪ ..‬ولع ل أقربه ا إلى‬
‫الصواب النظرية التي تقول بأن أصلنا من الفضاء الخارجي‪ ،‬أي السماء‪.‬‬
‫ّ‬
‫فهي تذكر أن هناك تيارات من األشعة الكونية تتحرك دائم اٍ في الفض اء الك وني مكون ة من جس يمات ذات طاق ة‬
‫ضخمة جد ًا‪ ،‬تحتوي على نوى ذرات الهيدروجين‪ ،‬أي على البروتونات‪ ،‬ولدى حركة كوكب األرض أثناء دورانه حول‬
‫نفس ه وح ول الش مس تخ ترق ه ذه البروتون ات ج و األرض‪ ،‬وتحص ل على اإللكترون ات الض رورية‪ ،‬وتتش كل ذرة‬
‫الهيدروجين‪ ،‬حيث تتفاعل مباشرة م ع األوكس جين مش كلة جزيئ ات على ارتفاع ات كب يرة‪ ،‬وفي ظ ل درج ات ح رارة‬
‫منخفضة تتكاثف على جسيمات من الغبار الكوني مكونة سحباً فضية‪.‬‬
‫ويعتقد علماؤكم بأن الماء المتشكل بهذه الطريقة خالل التاريخ الطويل الذي مرت به الكرة األرضية ـ أثناء تشكلها‬
‫ـ يكفي لملء جميع المحيطات على سطح األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنت أيتها اللؤلوة المباركة تعتقدين صحة هذا؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ولي في ذلك من نصوص من القرآن الكريم أشعر بأن لها داللة كبرى على هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما هي؟‬
‫قالت‪ :‬كثيرة‪ ..‬فاهلل تعالى ذكر أنه أنزل من السماء الماء‪ ،‬وذكر مادة الماء منكرة دون تعريف لي دل على أن عم وم‬
‫جنس الماء نزل من السماء‪ ،‬وذلك في أكثر من عشرين آي ة‪ ..‬فاهلل تع الى يق ول ـ مثال ـ‪ ﴿:‬الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ُم اأْل َرْ َ‬
‫ض ِف َراش اً‬
‫اء ﴾(البقرة‪ ،)164:‬ويق ول‪َ ﴿:‬وهُ َو‬ ‫اء ِم ْن َم ٍ‬ ‫اء َما ًء ﴾(البقرة‪ ،)22:‬ويقول‪َ ﴿:‬و َما َأ ْن َ‬
‫زَل هَّللا ُ ِمنَ ال َّس َم ِ‬ ‫زَل ِمنَ ال َّس َم ِ‬‫َوال َّس َما َء ِبنَا ًء َو َأ ْن َ‬
‫اء َما ًء ﴾(الرعد‪)17:‬‬ ‫اء َما ًء ﴾(األنعام‪)99:‬ويقول‪َ ﴿:‬أ ْن َ‬
‫زَل ِمنَ ال َّس َم ِ‬ ‫زَل ِمنَ ال َّس َم ِ‬ ‫الَّ ِذي َأ ْن َ‬
‫قلت‪ :‬فهل كل صواحبك يعتقدن هذا؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬منهن من ذهب إلى خالف هذا‪ ..‬ونحن نتعايش مع اختالفنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قلن؟‬
‫الماء واألرض‪:‬‬
‫قالت‪ :‬هن يقلن بأن منشأنا من األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وبم استدللن على ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬هن يقلن بأن الصخور المكونة للطبقة الواقعة بين نواة األرض والقشرة األرض ية‪ ..‬أي طبق ة الس يما ك انت‬
‫تنصهر في بعض المواقع تحت تأثير الحرارة الناشئة عن التفكك اإلشعاعي للنظائر المشعة‪ ،‬حيث تنطل ق منه ا مكون ات‬
‫طيارة كاألوزون والكلور ومركبات الكربون المختلفة والكبريت‪ ،‬وأكثرها أبخرة الماء‪.‬‬
‫وك انت ه ذه المكون ات تق ذف إلى الطبق ات الس طحية أو على الس طح بواس طة الث ورات البركاني ة خالل ت اريخ‬
‫األرض الطويل‪ ،‬وتكفي هذه الكمية لملء جميع المحيطات على سطح الكرة األرضية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل استدللن على ذلك بشيء من القرآن الكريم؟‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ض َبعْ َد َذ ِلكَ د ََحاهَا أخ َر َج ِمن َها َما َءهَا َو َمرْ عَاهَا﴾ (النازعـات‪)31 :‬‬ ‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬واأْل َرْ َ‬
‫قلت‪ :‬فهل أثر هذا االعتقاد في احتقار صواحبك ألنفسهن؟‬
‫قالت‪ :‬حاشا هلل‪ ..‬اعرف ما تقول يا رجل‪ ..‬أتعرف من تخاطب؟‬
‫قلت‪ :‬أعرف‪ ..‬فأنت جزء من قطرة ماء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وهل هان الماء في عينك إلى هذا الحد‪ ..‬ألم يجعلنا هللا حياة لكل شيء؟‬
‫اء ُكلَّ َش ْي ٍء َح ٍّي﴾(االنبياء‪)30 :‬‬ ‫قلت‪ :‬أعلم‪ ..‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَا ِمنَ ْال َم ِ‬
‫قالت‪ :‬أكمل اآلية ما بالك تبترها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َفال ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ (االنبياء‪)30:‬‬

‫‪63‬‬
‫ص َب َح َم اؤُ ُك ْم‬ ‫قالت‪ :‬أرأيت الشرف الذي أعطانا هللا‪ ..‬إن هللا يستدل بنا عليه‪ ..‬ألم تس مع قول ه تع الى‪ ﴿:‬قُ لْ َأ َر َأ ْيتُ ْم ِإ ْن َأ ْ‬
‫زَلتُ ُم وهُ ِمنَ ْال ُم ْز ِن َأ ْم نَحْ نُ‬ ‫ين﴾(الملك‪ ..)30:‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬أ َف َر َأ ْيتُ ُم ْال َما َء الَّ ِذي ت َْش َربُونَ َأ َأ ْنتُ ْم َأ ْن ْ‬ ‫غَوْر ًا َف َم ْن َي ْأ ِتي ُك ْم ِب َم ٍ‬
‫اء َم ِع ٍ‬
‫ْال ُم ْن ِزلُونَ َلوْ َن َشا ُء َج َع ْلنَاهُ أُ َجاجاً َف َلوْ ال َت ْش ُكرُونَ ﴾(الواقعة‪ 68 :‬ـ ‪)70‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ق د س ألتك عن ص واحبك‪ ..‬كي ف ينظ رن إلى أنفس هن‪ ،‬وهن يعتق دن أن منش أهن من األرض ال من‬
‫السماء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وهل األرض غير السماء؟‪ ..‬الكون كون هللا‪ ..‬وقد بارك هللا في األرض كما بارك في السماء‪ ،‬فق ال تع الى‪:‬‬
‫اركَ ِفي َها َو َق َّد َر ِفي َها َأ ْق َوا َت َها ِفي َأرْ َب َع ِة َأي ٍَّام َس َوا ًء ِللسَّا ِئ ِلينَ ﴾(فصلت‪)10 :‬‬ ‫اس َي ِم ْن َفوْ ِق َها َو َب َ‬
‫﴿ َو َج َع َل ِفي َها َر َو ِ‬
‫قلت‪ :‬اعذريني أيتها القطرة المباركة أن أعاتبك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال حرج عليك‪ ..‬فإن كان هللا قد عاتب أنبياءه‪ ،‬فكيف أستكبر عن العتاب أنا؟‬
‫قلت‪ :‬أراك تفخرين كثيرا بنفسك‪ ،‬وبأخواتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا وأخواتي ال نفخر‪ ..‬بل نحن نفرح باهلل الذي شرفنا هذا الشرف‪ ..‬أال تعلم بأن هللا تع الى ذكرن ا في الق رآن‬
‫الكريم بصيغة التنكير ‪ 33‬مرة‪ ،‬وذكرنا بصيغة التعريف ‪ 16‬مرة؟‬
‫قلت‪ :‬فأنتن تفخرن بذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬دعك من الفخر‪ ..‬فهو يحمل رائحة من روائح إبليس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قالت‪ :‬الفخر يدل على الترفع والتكبر على خلق هللا‪ ..‬ونحن ال نحتقر شيئا مم ا خل ق هللا‪ ..‬ف إن هللا م ا احتق ره حين‬
‫خلقه‪ ..‬أال ترانا نغسل النجاسات‪ ،‬ونطهر األرض من الفضالت‪..‬ولم نتكبر ولم نستعل ولم نعترض؟‪ ..‬بل نحن نق وم بك ل‬
‫ذلك بلذة ال تضاهيها لذة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما منتهى لذتكم؟‬
‫اب ْال َجنَّ ِة َأ ْن َأ ِفيضُوا َع َل ْي َن ا‬ ‫صْح َ‬ ‫ار َأ َ‬ ‫قالت‪ :‬أن يجعلنا هللا شرابا ألهل الجنة‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬ونَادَى َأ َ‬
‫صْحابُ النَّ ِ‬
‫اء َأوْ ِم َّما َرزَ َق ُك ُم هَّللا ُ َق الُوا ِإ َّن هَّللا َ َحرَّ َمهُ َم ا َع َلى ْال َك ا ِف ِرينَ ﴾ (ألع راف‪ ،)50 :‬فق د جعلن ا هللا للمؤم نين وحرمن ا على‬ ‫ِمنَ ْال َم ِ‬
‫الكافرين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك في اآلخرة‪ ..‬ففي الدنيا‪ ..‬بم تلتذون؟‬
‫قالت‪ :‬بأن يجعلنا هللا دواء للمؤمنين‪ ،‬أو أعاصير على الجاحدين‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أأنتم جنود من جنود هللا؟‬
‫ازد ُِج َر ف دعا رب ه َأ ِّني َم ْغلُ وبٌ‬ ‫ون َو ْ‬ ‫وح َف َك َّذبُوا َع ْب َدنَا َو َقالُوا َمجْ نُ ٌ‬ ‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪ ﴿:‬كذبت قبلهم َقوْ ُم نُ ٍ‬
‫اح َو ُدس ٍُر ﴾‬ ‫ت َأ ْل َو ٍ‬
‫ض ُعيُو ًنا َف ْال َت َقى ْال َماء َع َلى َأ ْم ٍر َق ْد قُ ِد َر َو َح َم ْلنَا ُه َع َلى َذا ِ‬ ‫اب ال َّس َماء ِب َماء ُّم ْن َه ِم ٍر َو َفجَّرْ نَا اأْل َرْ َ‬ ‫َصرْ َف َفتَحْ نَا َأب َْو َ‬ ‫َفانت ِ‬
‫(القمر‪ 9:‬ـ ‪)13‬‬
‫الماء واإلنسان‪:‬‬
‫قلت‪ :‬حدثينا عن الماء واإلنسان‪ ..‬فأنا أبحث عن أسرار بركات الماء على اإلنسان‪.‬‬
‫قال‪ :‬بركات الماء على اإلنسان ال تحصى‪ ..‬فهو ضرورة من ضرورات الحياة األرضية‪ ،‬فبدونه ال يمكن إلنس ان‬
‫أن يعيش‪ ،‬فجنين اإلنسان يحتوي على‪97‬بالمائة من وزنه ماء‪ ،‬وتقل هذه النسبة إلي‪91‬بالمائة في جس د الطف ل الولي د‪ ،‬ثم‬
‫إلي‪66‬بالمائة في جسد الفرد البالغ‪.‬‬
‫وتختلف نسبة الماء في كل عضو من أعضاء جسد اإلنس ان ب اختالف وظيفت ه‪ ،‬فهي في الرئ تين ‪90‬بالمائ ة‪ ،‬وفي‬
‫الدم‪82‬بالمائة‪ ،‬وفي خاليا الدماغ ‪70‬بالمائة‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ..‬فإن اإلنسان يمكنه العيش أسابيع عديدة بدون طعام‪ ،‬ولكنه ال يستطيع العيش ب دون م اء إال لف ترة‬
‫محدودة جدا ال تتجاوز بضعة أيام‪!!....‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قالت‪ :‬ألن الماء يعين اإلنسان علي القيام بجميع العمليات الحياتية في جس مه مث ل عملي ات الهض م‪ ،‬والتخلص من‬

‫‪64‬‬
‫الفضالت‪ ،‬والتنفس‪ ،‬وتجديد الدم‪ ..‬وليس األمر قاصرا على ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا تقصدين؟‬
‫قالت‪ :‬لنا عالقة بكل ما يحيط باإلنسان من أشياء‪ ..‬فنحن نخدم ظاهره وباطنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وضحي ما تقصدين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أال تعلم أن درجة غليان الماء مرتفعة‪ ،‬وذلك لقوة رابطته التشاركية‪ ،‬لذلك فهو يمتص ق درة حراري ة كب يرة‬
‫لكي يتبخر‪ ،‬وهذه الخاصية تعطي الماء دور ًا فريد ًا في نقل الق درة من مك ان آلخ ر‪ ،‬فالم اء ال ذي يتبخ ر من المحيط ات‬
‫تسوقه الرياح مئات وآالف الكيلومترات إلى أماكن باردة‪ ،‬فعند تبرد البخار وتحبب ه وتس اقطه على ش كل قط رات مط ر‬
‫ينشر معه الطاقة التي امتصها أثناء تبخره‪ ،‬فيساهم في رفع درجة الحرارة في تلك المناطق وتلطيف حرارة الجو وكذلك‬
‫في أثناء تساقط الثلوج فكم هذه الحرارة المنتشرة كبيرة إذا علمنا أنه يتبخر كل عام ‪ 520‬ألف كيلوا متر مكعب من الماء‪.‬‬
‫اس َأ َم َن ًة ِم ْن هُ َويُ َن ِّزلُ َع َل ْي ُك ْم ِمنَ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬قد أشار القرآن الكريم إلى هذا‪ ،‬فقال تعالى في غزوة بدر‪ِ ﴿:‬إ ْذ يُ َغ ِّشي ُك ُم ال ُّن َع َ‬
‫ط َع َلى قُلُو ِب ُك ْم َويُ َث ِّبتَ ِب ِه اأْل َ ْقدَا َم﴾(ألنفال‪)11:‬‬
‫ان َو ِل َيرْ ِب َ‬‫ب َع ْن ُك ْم ِرجْزَ ال َّش ْي َ‬
‫ط ِ‬ ‫طه َِّر ُك ْم ِب ِه َوي ُْذ ِه َ‬
‫اء َما ًء ِليُ َ‬
‫ال َّس َم ِ‬
‫قالت‪ :‬لقد كان يوما مباركا ذلك اليوم‪ ..‬لقد كنا ننزل من السماء وكأننا نرقص فرحا وجذال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أكنت من بينهم؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد شرفني هللا في أن أخدم رسوله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تعرفينه؟‬
‫قالت‪ :‬وكيف ال نعرفه‪ ..‬وهل لنا لذة إال معرفة أهل هللا‪ ..‬لقد كان ‪ ‬يحترمنا احتراما عظيما‪ ..‬وق د نق ل لن ا بعض‬
‫الصحابة صورة من هذا االحترام فقال‪ (:‬أصابنا ونحن مع رسول هللا ‪ ‬مطر‪ ،‬فحسر رسول هللا ‪ ‬ثوبه ح تى أص ابه‬
‫من المطر‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول هللا لم صنعت هذا؟ قال‪ :‬ألنه حديث عهد بربه تعالى)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬أتملكين كل هذه المشاعر؟‬
‫ت َع َل ْي ِه ُم‬‫قالت‪ :‬ألم تعلم أنا نشكل الدموع التي تبكي بها السماء على فراق الصالحين‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬ف َم ا َب َك ْ‬
‫ظ ِرينَ ﴾ (الدخان‪)29:‬؟‬ ‫ال َّس َما ُء َواأْل َرْ ضُ َو َما َكانُوا ُم ْن َ‬
‫قلت‪ :‬اآلية أخبرت بأن السماء ال تبكي‪.‬‬
‫ق الت‪ :‬ال تفص ل اآلي ة عن س ياقها‪ ..‬هي أخ برت بأن ا ال نبكي على المعارض ين هلل‪ ..‬وهي تش ير إلى بكائن ا على‬
‫المسالمين المستسلمين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تشرفت برؤيته ‪ ‬؟‬
‫قالت‪ :‬بل تشرفت بشربه لي‪ ..‬لقد كانت أسعد أيام حياتي‪.‬‬
‫شراب العسل‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عنه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قالت‪ :‬لقد كان أول ما يفعله رسول هللا ‪ ‬إذا استيقظ‪ ،‬وبع د فراغ ه من الص الة يتن اول كوب ا من الم اء م ذابا في ه‬
‫ملعقة من العسل‪ ..‬وهو يذيبها إذابه جيدة‪ ..‬وقد كانوا يسمون هذا الماء شراب العس ل‪ ،‬وق د ق ال في ه ‪ (:‬عليكم بش راب‬
‫العسل)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ففي ذلك الحين بم كان ‪ ‬يتغذى وينتفع‪ ..‬هل بكن معش ر قط رات المي اه‪ ،‬أم بالعس ل ال ذي جعل ه هللا ش فاء‬
‫للناس؟‬
‫قال‪ :‬كالنا مبارك‪ ..‬وقد جعل هللا من بركتنا أننا نكتسب خواص المادة التي تذوب فينا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا تعنين؟‬
‫قالت‪ :‬نحن ـ جزيئات الماء ـ نترتب حسب جزيئات العسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا تصرن حينها؟‬

‫‪ )(1‬مسلم وغيره‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن السني وأبو نعيم في الطب‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫قالت‪ :‬تستطيع أن تسمينا عسال‪ ..‬وإن شئت شراب عسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ..‬فالعسل عسل‪ ،‬وهو غالي الثمن‪ ..‬والماء ماء‪ ،‬وهو بال ثمن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬من بركاتنا أننا إذا اختلطنا بالعسل أو بأي شئ ذاب فينا وذبنا فيه‪ ،‬ففنينا عنا به‪ ..‬وهذا لتواضعنا وعبوديتن ا‪،‬‬
‫فنحن ال نفرض خصائصنا على غيرنا‪ ،‬بل نترك غيرنا يفرض خصائصه علينا‪ ..‬ألم تسمع ما يفعله المعالجون بالماء؟‬
‫قلت‪ :‬وما يفعلون؟‬
‫قالت‪ :‬هم يأتون بالماء ويكسبونه أي شيء يريدونه من أنوع العالج‪ ..‬ويسمون هذه العملية ( العالج بالماء)‬
‫قلت‪ :‬أنا لم أسمع بهذا‪ ..‬ولكني أسمع ما يسمى ( تلويث الماء)‬
‫قالت‪ :‬ذلك فعل الفجرة الفسقة‪ ..‬وسينتقم هللا تعالى لنا منهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد عرفت ذلك في حصون العافية‪ ،‬وعرفت ما أصابنا من جراء صراعهم وحرصهم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تخف على األرض‪ ،‬وبشر أصدقاء الماء بأن أيام الدجاجلة قريبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عودي بنا إلى من تزينت األرض بنوره‪.‬‬
‫الماء العذب‪:‬‬
‫قالت‪ :‬لقد كان ‪ ‬يحب الماء العذب‪ ..‬فقد وري أن رسول هللا ‪ ‬كان يُستقى له الما ُء العذبُ من بئر السُّقيا(‪.)1‬‬
‫وروى جابر بن عبد هللا‪ ،‬أن رسول هللا ‪ ‬أتى قوماً من األنص ار يع ود مريض اً فاستس قى وج دول ق ريب من ه‪،‬‬
‫فقال‪ (:‬إن كان عندكم ماء بات في شنَ وإال كرعنا)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن بعض الزهاد من قومي يعز عليهم مثل هذا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وما يقولون؟‬
‫قلت‪ :‬هم يقولون‪ (:‬إذا أكلت الطيب وشربت الماء البارد متى تحب الموت)‬
‫قالت‪ :‬ال ينبغي أن يقولوا هذا‪ ..‬فاهلل تعالى سقاكم ماء عذبا‪ ،‬ولم يسقكم ماء مكدرا‪ ..‬ألم تس مع قول ه تع الى‪َ ﴿:‬و َج َع ْل َن ا‬
‫ت َو َأ ْس َق ْينَا ُك ْم َما ًء فُ َراتاً﴾(المرسالت‪)27 :‬؟‬
‫اس َي َشا ِمخَا ٍ‬
‫ِفي َها َر َو ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فالماء الفرات هو الماء العذب الزالل‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وقد كان رسول هللا ‪ ‬يحبه‪ ،‬وقد ورد في الحديث‪ (:‬كان أحب الشراب إليه ‪ ‬الحلو البارد)(‪)3‬‬
‫وكان يقول إذا شربه‪ (:‬الحمد هّلل الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته‪ ،‬ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬هذا طيب‪ ..‬ولكنهم يؤولون كل ذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بل يحرفون‪ ..‬ألم يسمعوا المخاطر التي يحملها شربهم من الماء المكدر؟‬
‫قلت‪ :‬تقصد ما يقول الطب الحديث‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ما بالكم‪ ..‬أليس في الدنيا إال الطب الحديث‪ ..‬وهل كان الناس قبله بال طب؟‬
‫قلت‪ :‬فما يقول الطب في هذا؟‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكر ابن الجوزي ما يفعله هؤالء منكرا‪ ،‬فق ال‪ (:‬وينبغي أن يعلم أن الم اء الك در يُولد الحص ى في الكلى‬
‫والسَّدد في الكبد‪ ،‬وأما الماء البارد فإنه إذا كانت برودته معتدلة فإنه يشد المعدة‪ ،‬ويق وي الش هوة‪ ،‬ويحس ن الل ون‪ ،‬ويمن ع‬
‫عفن الدم وصعود البخارات إلى الدماغ ويحفظ الصحة‪ ،‬وإذا كان الماء حار ًا أفسد الهضم وأح دث التره ل وأذب ل الب دن‪،‬‬
‫وأدى إلى االستسقاء والدق فإن س ُِّخن بالشمس خيف منه البرص)‬
‫قلت‪ :‬كيف غاب عن هؤالء ما ذكره ابن الجوزي؟‬
‫قالت‪ :‬ستعرف ذلك إلى إذا رحلت إلى‪ (:‬سراديب االعتراض)‬
‫قلت‪ :‬واآلن‪..‬‬
‫قالت‪ :‬لقد تصوروا أن من الكمال تعذيب الجسد ومعاقبت ه‪ ،‬فراح وا يخ ترعون أص ناف الع ذاب‪ ..‬ولم يعلم وا أنهم‬
‫أحمد وأبو داود والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫البخاري‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫الترمذي‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫ابن أبي حاتم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪66‬‬
‫يضيعوون سنة رسول هللا ‪ ‬بذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أشرب الماء العذب سنة رسول هللا ‪ ‬؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد كان هديه ‪ ‬أكمل الهدي‪ ..‬وكان يهتم بعذوبته أبلغ اهتمام‪ ،‬وقد روي أن ه دخ ل إلى حائ ط‪ ،‬فق ال‪:‬‬
‫ماء بات فى َشـنَّة؟)‪ ،‬فأتاه به‪ ،‬فشرب منه(‪.)1‬‬ ‫( َهلْ من ٍ‬
‫قلت‪ :‬ما سر حبه ‪ ‬للماء البائت؟‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكر لذلك حكم كثيرة‪ ،‬وقد ذكر األطباء أن الماء البائت أنف َع من الذى يُشرب وقتَ استقائه‪.‬‬
‫وذك روا أن الم اء الب ائت بمنزل ة العجين الخم ير‪ ،‬وال ذى ُش ِرب لوقت ه بمنزل ة الفط ير‪ ..‬وأن األج زاء الترابي ة‬
‫واألرضية تُفارقه إذا بات‪.‬‬
‫وستعرفون من حكم هذا الماء ما يزيدكم تمسكا بهديه ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أكان ‪ ‬يختار األواني التي يشرب فيها؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فلم يكن ‪ ‬يفعل ما تفعلون من شرب الماء المخزن في األواني التي تملؤه صديدا وسموما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف كان يخزنه ‪ ‬؟‬
‫َمس ما ًء بات فى َشـنَّة دون غيرها من األوانى‪.‬‬‫قالت‪ :‬لقد كان ‪ ‬يلت َ‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قالت‪ :‬قد ذكر األطباء أن ل ِقرب األدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسا ِّم المنفتح ِة التى ير َشح منها الم اء‪ ،‬وله ذا ك ان‬
‫الماء فى ال َف َّخار الذى يرشح أل ُّذ منه‪ ،‬وأبر ُد فى الذى ال ير َشح‪.‬‬
‫هيئة الشرب‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف كان ‪ ‬يشربكن معشر المياه؟‬
‫قالت‪ :‬كان هديه ‪ ‬في شربنا أعظم الهدي‪ ،‬وأعظمه عبودية‪ ،‬وأكثره بركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف كان يفعل؟‬
‫قالت‪ :‬كان رسول هللا ‪ ‬يتنفس فى الشراب ثالثا‪ ،‬ويقول‪ (:‬إنه أروى وأمرأ وأبرأ)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬أصحيح ما ت روين؟‪ ..‬كي ف تق ولين ه ذا‪ ،‬وق د ورد النهي عن النفخ في الش ارب‪ ،‬وق د ق ال ‪ (:‬إذا ش رب‬
‫أحدكم فال يتنفس فى القدح‪ ،‬ولكن ليبن اإلناء عن فيه)‪ ،‬وقد رأيت في حصون العافية اآلثار الخطيرة للتنفس في اإلناء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بورك في حرصك‪ ..‬ولكني لم أرد هذا‪ ..‬إن معنى تنفسه ‪ ‬فى الشراب ـ كما في الحديث ـ هو إبانته الق دح‬
‫عن فيه‪ ،‬وتنفسه خارجه‪ ،‬ثم يعود إلى الشراب‪ ،‬كما جاء مصرحا به فى الحديث الذي رويته‪ ..‬فال تضرب الس نة بعض ها‬
‫ببعض‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث اآلخر قوله ‪ (:‬ال تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير‪ ،‬ولكن اش ربوا مث نى وثالث‪ ،‬وس موا‬
‫إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم فرغتم)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬ما سر هذا األسلوب من الشرب؟‪ ..‬أليس فيه نوعا من استهالك الوقت؟‬
‫قالت‪ :‬بل فيه حفظ للصحة وجلب للبركة وتحقيق للعبودية‪ ،‬وق د ك ان ‪ ‬ينب ه إلى ه ذه المج امع‪ ،‬فيق ول في تل ك‬
‫الصفة من شرابه‪ (:‬إنه أروى وأمرأ وأبرأ)‬
‫قلت‪ :‬ما معنى هذا؟‬
‫قالت‪ :‬أروى‪ :‬أشد ريا‪ ،‬وأبلغه وأنفعه‪ ،‬وأبرأ‪ :‬أفع ل من ال برء‪ ،‬وه و الش فاء‪ ،‬وأم رأ‪ :‬ه و أفع ل من م رئ الطع ام‬
‫والشراب فى بدنه‪ :‬إذا دخله‪ ،‬وخالطه بسهولة ول ذة ونف ع‪ ،‬كم ا ق ال تع الى‪َ ﴿:‬ف ُكلُ وهُ َه ِنيئ اً َم ِريئ اً﴾ (النس اء‪)4 :‬أي هنيئ اً فى‬
‫عاقبته‪ ،‬مريئاً فى مذاقه‪ ،‬أو أن ه أس ر ُع انح دار ًا عن ال َم ِرىء لس هولته وخفت ه علي ه‪ ،‬بخالف الكث ير‪ ،‬فإن ه ال يس هُل على‬
‫المرىء انحدارُه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬علمت معناه‪ ،‬فما سر الصحة فيه‪ ،‬فقد ذكر ‪ ‬أنه أبرأ‪.‬‬
‫‪ )(1‬البخارى‪.‬‬
‫‪ )(2‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫قالت‪ :‬إن شرب الماء بتلك الصفة يبرىء من شدة العطش ودائه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات‪ ،‬فتسكن الدفع ة‬
‫الثانية ما عجزت األولى عن تسكينه‪ ،‬والثالثة ما عجزت الثانية عنه‪.‬‬
‫زيادة على ذلك فإنه أسلم لحرارة المعدة‪ ،‬وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة‪ ،‬ونهلة واحدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا ووعيته‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ليس ذلك فقط‪ ..‬بل كان ‪ ‬يمص الماء مصا‪ ،‬وال يعبه عبا‪ ،‬ويقول‪ (:‬إذا شرب أحدكم فليمص الماء مص ا‪،‬‬
‫وال يعب عبا‪ ،‬فإنه من الكباد)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ما الكباد؟‬
‫أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمه ا ويُض عفُ حرارتَه ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قالت‪ :‬ال ُك َباد هو وجع الكبد‪ ،‬وقد علم المجربون َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وذلك للمضادةُ التى بين حرارتها‪ ،‬وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته‪ ..‬ولو ورد بالتدريج شيئا فش يئا‪ ،‬لم يض اد‬
‫حرارتَها‪ ،‬ولم يُضع ْفها‪ ..‬أتدري ما مثال ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ما مثال ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬لو صببت الماء البارد على ال ِق ْدر تراها تفور‪ ،‬بخالف ما لو صببته قليال‪ ،‬فإنه ال يضرُّها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني لست قدرا‪.‬‬
‫ار﴾ (الرحمن‪)14:‬؟‬ ‫ْ‬
‫ال َكال َف َّخ ِ‬
‫ص ٍ‬ ‫صل َ‬‫ْ‬ ‫قالت‪ :‬أنسيت قوله تعالى‪ ﴿:‬خَ َل َق اأْل ِ ْن َسانَ ِم ْن َ‬
‫الماء والذكر‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا ووعيته‪ ،‬فحدثيني عن موقفكن معشر قطرات الماء إذا سمعتن الشارب‪ ،‬وهو يذكر هللا؟‬
‫قالت‪ :‬الذكر سر من أسرار بركتنا‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬إن هللا تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل األكلة أو يش رب‬
‫الشربة‪ ،‬فيحمد هللا عليها)(‪ ،)2‬فرضى هللا هو سر ما يحصل فينا من بركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تسمعن صوت الذاكر؟‬
‫قالت‪ :‬وكيف ال نسمعه؟‪ ..‬لقد كان ‪ ‬إذا شرب تنفس في اإلناء ثالثا يسمي عند كل نفس‪ ،‬ويشكر في آخرهن(‪.)3‬‬
‫رجاً)(‪)4‬‬ ‫الح ْم ُد هَّلِل ِ الَّذي ْ‬
‫أط َع َم َو َس َقى‪َ ،‬و َس َّو َغهُ‪َ ،‬و َج َع َل َلهُ َم ْخ َ‬ ‫ب قال‪َ (:‬‬ ‫وكان رسول هّللا ‪ ‬إذا أ َك َل أو َش ِر َ‬
‫قلت‪ :‬أفلم يكن ‪ ‬يكتفي بتسمية واحدة؟‬
‫قالت‪ :‬روي األمران‪ ..‬فقد كان ‪ ‬ييسر على أمته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا يحصل لكن حين تسمعن ذكر هللا؟‬
‫قالت‪ :‬لو رأيتنا كذلك لصعقت لجمالنا‪ ..‬فنحن في ذل ك الحين نتح ول إلى حلق ة ذك ر مبارك ة ت ردد بص داها ذك ر‬
‫الذاكرين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تدخلن الجوف بتلك الصفة؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ونصير حينها من الدواء المبارك الذي يمأل الجسم عافية‪ ،‬والنفس سكينة‪ ،‬والصدر انشراحا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والجسد‪ ..‬كيف يستقبلكن؟‬
‫قالت‪ :‬كما استقبل األنصار المهاجرين‪ ..‬يحتضننا‪ ،‬فنتفرق في أجزائه لنمتلئ به‪ ،‬ويمتلئ بنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك أيتها الآللئ العذب ة‪ ..‬فه ل ت أذنين لي ب الرجوع إلى نفس ي‪ ..‬فق د ع رفت في ك ك ل النب ل والبرك ة‬
‫والخير؟‬
‫قالت‪ :‬لن تنصرف قبل أن تعرف أسرار بعض ما نكتبه بروابطنا‪.‬‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾(صّ ‪)42:‬؟‬ ‫قلت‪ :‬تقصدين قوله تعالى‪َ ﴿:‬ه َذا ُم ْغ َت َسلٌ َب ِ‬
‫قالت‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل ستفسرين لي هذه اآلية‪ ..‬وتذكرين لي قصة أيوب ‪‬؟‬
‫عبد هللا بن المبارك‪ ،‬والبَ ْيهَ ُّ‬
‫قى‪ ،‬وغيرُهما‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫ابن السني‪ ،‬والطبراني في الكبير‪ ،‬وروى ابن السني أنه ‪ ‬كان يشرب بثالثة أنفاس يسمي هللا في أوله‪ ،‬ويحمد هللا في آخره‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أبو داود والنسائي‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪68‬‬
‫قالت‪ :‬ما أولعكم بالقصص‪ ..‬هذه حقيقة‪ ،‬وليس قصة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألم يكن األمر خاصا بأيوب ‪‬؟‬
‫قالت‪ :‬لو كان األمر خاصا به لما ذكر في القرآن الكريم‪ ..‬بل هو هدي لتنفتعوا به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل وصلنا ـ نحن البشر ـ إلى أسرار هذه اآلية؟‬
‫قالت‪ :‬أنتم أضعف من أن تصلوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تزعمين أنك ستعلميني أسرارها؟‬
‫قالت‪ :‬لم أعدك بتعليمك أسرارها‪ ..‬ولكن من أسرارها‪ ..‬أال تعرف أن من تفيد البعضية؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وأرى لك اهتماما باللغة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هل رأيت ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فما سره؟‬
‫قالت‪ :‬لقد من هللا علي‪ ..‬فشربني أبو األسود والخليل بن أحمد وغيرهما‪ ،‬فسرى لي من بركاتهم ا م ا ت راه من علم‬
‫اللغة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل ستحدثيني أنت عن أسرار العالج في االغتسال والشراب‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬لست مختصة في هذا‪ ..‬ألم يقل ‪ (:‬أنزلوا الناس منازلهم)(‪)1‬؟‬
‫قلت‪ :‬فمن سيحدثني؟‬
‫ق الت‪ :‬لي ص احبتان‪ ..‬أم ا إح داهما‪ ،‬فتح دثك عن عن المغتس ل المب ارك‪ ،‬وأم ا األخ رى فتح دثك عن الش راب‬
‫المبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن تبدأ؟‬
‫قالت‪ :‬نبدأ بما بدأ هللا به(‪.)2‬‬
‫المغتسل المبارك‬
‫سمعت صوتا عذبا يسلم علي‪ ،‬فقلت‪ :‬أأنت اللؤلؤة المختصة بالمغتسل المبارك؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد دعاني حبي لكالم ربي أن أبحث عن سر البركات في االغتسال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا وجدت؟‬
‫قالت‪ :‬علوما كثيرة‪ ..‬منها ما تطيقه‪ ..‬ومنها ما ال تطيقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فخبريني بما أطيقه‪ ..‬ويسري لي ما ال أطيقه‪.‬‬
‫ق الت‪ :‬أول م ا يمكن أن تنتف ع ب ه من برك ات االغتس ال بي الطه ارة‪ ..‬فالطه ارة هي ال تي تعي دك إلى فطرت ك‬
‫األصلية‪ ..‬وتعيد لجسمك قوته ونضارته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت ذلك في حصون العافية‪ ،‬ولهذا قرن هللا الطهارة بالعبادات‪ ،‬وحض عليها‪..‬‬
‫قالت‪ :‬بل اعتبرها عبادة مقصودة لذاتها‪ ..‬أليس الوضوء سالح المؤمن؟‪ ..‬فهو يتوضأ للصالة‪ ،‬ولغير الصالة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فما الفائدة الصحية لذلك؟‬
‫قالت‪ :‬تخليص جسمك من السموم التي تتراكم عليه‪ ..‬وإعطاؤه القوة التي يحتاجها ليؤدي ما كلفه هللا من وظائف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذا في حصون العافية‪ ..‬فحدثيني عن جديد ينفعني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أتسمع بالحمامات المائية؟‬
‫قلت‪ :‬معاذ هللا‪ ..‬ماذا تقولين؟‪ ..‬أتذكرين الحم ام؟‪ ..‬إن ه م أوى الش ياطين‪ ..‬وعش الم ردة‪ ..‬وخصوص ا لهن معش ر‬
‫النساء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬من قال ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬لقد وردت النصوص بالنهي عن دخول الحمامات العامة‪.‬‬

‫‪ )(1‬مسلم وأبو داود‪.‬‬


‫‪ )(2‬إشارة إلى قوله ‪ «:‬أبدأ بما بدأ هللا به » والحديث رواه مسلم‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫قالت‪ :‬لم؟‬
‫قلت‪ :‬لقد عللت ذلك بحفظ العورات وسترها‪ ،‬ألم تسمعي قوله ‪ (:‬تفتح لكم أرض األعاجم‪ ،‬وستجدون فيها بيوتا‬
‫يقال لها الحمامات فال يدخلها الرجال إال بإزار‪ ،‬وامنعوا النساء أن يدخلنها إال مريضة أو نفساء)(‪)1‬‬
‫قالت‪ :‬فقد أقر ‪ ‬بالفوائد العالجية التي يحملها الحمام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬ألم يأذن بدخول الحمام للمريضة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فلو لم يكن فيه فائدة صحية ما أذن لها ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن النهي قد ورد مطلقا في بعض األحاديث‪ ،‬فقد جاء في الح ديث قول ه ‪ (:‬من ك ان ي ؤمن باهلل والي وم‬
‫اآلخر فال يدخل الحمام بغير إزار‪ ،‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فال يدخل حليلته الحمام‪ ،‬ومن كان يؤمن باهلل والي وم‬
‫اآلخر فال يجلس على مائدة يدار عليها الخمر)(‪)2‬‬
‫قالت‪ :‬ومن قال لك‪ :‬إن هذه األحاديث تنهى عن دخول الحمام؟‬
‫قلت‪ :‬ألفاظها تدل على ذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ألفاظها تدل على األمر باالستتار‪ ،‬ال على النهي على دخول الحمام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬أرأيت لو قلت لك‪ :‬ال تسر إال وأنت تلبس حذاءك‪ ..‬هل أكون بذلك قد نهيتك عن السير؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل عن السير حافيا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فهذا سر نهيه ‪ ‬عن دخول الحمام‪ ..‬وهو نهي يتضمن أمرا‪ ..‬أال تعرف األصول؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكن ماذا تريدين أن تقولي؟‬
‫قالت‪ :‬إن إخباره ‪ ‬عن وجود الحمامات في بالد العجم‪ ،‬ثم إخباره عن صفة الداخلين فيها‪ ،‬ثم نهي ه عن ال دخول‬
‫إال بعد االستتار يتضمن البديل الشرعي لتلك الحمامات األعجمية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت ذلك‪ ..‬ولكن ألم تسمعي قوله ‪ (:‬شر البيت الحمام‪ ،‬تعلو فيه األصوات وتكشف في ه الع ورات‪ ،‬فمن‬
‫دخله فال يدخل إال مستترا)(‪ )3‬؟‬
‫قالت‪ :‬فهذا حديث ينهى عن رفع األصوات‪ ،‬وكشف العورات‪ ،‬ال عن دخول الحمامات‪.‬‬
‫قلت‪!....:‬؟‬
‫قال‪ :‬ال عليك‪ ..‬فالحمامات التي أقصدها ال عالقة لها بهذا‪ ..‬وهي يمكن أن تج رى في ال بيوت‪ ..‬وال تحت اج الم رأة‬
‫وال الرجل إلى الخروج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهي حمامات مباركة إذن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كل الحمامات مباركة‪ ..‬ولكنكم أنتم الذين تمحقون البركة بما تسلكونه من سلوك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن هذه الحمامات البيتية ومنافعها‪.‬‬
‫قال‪ :‬هناك حمامات مائية تعتمد على الخواص التي جعلها هللا في الماء‪ ،‬والتي هي سر بركته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬خواص الماء كثيرة‪ ..‬فماذا تقصدين؟‬
‫قالت‪ :‬خاصية التسخير والذوبان والتشكل‪ ..‬ألم تعرف من صواحبي أن الماء يتشكل بحسب ما يوضع فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وهو ما يعتمد عليه المعالجون بالماء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬والحمامات المائية نوع من هذا العالج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما األغراض الصحية التي يقصدونها من هذه الحمامات؟‬
‫قالت‪ :‬أغراض كثيرة‪ ،‬فبحسب ما تضع في الماء من العناصر والمركبات يعطيك‪ ..‬فقد يعطيك صحة أو جماال أو‬
‫‪ )(1‬ابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(2‬الحاكم‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫‪ )(3‬الطبراني في الكبير عن ابن عباس‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫انتعاشا باإلضافة إلى ما يعطيك من الطهارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يستخدم الماء حارا أو باردا؟‬
‫قال‪ :‬بحسب الحاجة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا تعالى قال أليوب ‪ ﴿:‬ارْ كضْ ِب ِرجْ ِلكَ َه َذا ُمغ َت َسلٌ َب ِ‬
‫ار ٌد َو َش َرابٌ ﴾(صّ ‪)42:‬‬
‫ب من‬‫بع ِق َر ٍ‬ ‫قال‪ :‬لقد احتاجت علة أيوب ‪ ‬لهذا الحمام البارد‪ ،‬كما احتاج ‪ ‬فى مرضه أن ي َ‬
‫ُصبَّ علي ه من س ِ‬
‫هذا الماء البارد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فما حرارة الماء المستخدم في هذه الحمامات؟‬
‫قالت‪ :‬يستخدم في حمامات األعشاب الماء الساخن‪ ،‬أو الدافىء‪ ،‬أو الب ارد‪ ،‬أوالمثلج‪ ،‬لكن ه يفض ل أن تعتم د أغلب‬
‫الحمامات على درجة حرارة مرتفعة للماء لزيادة االنتفاع بفوائدها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي بعض هذه المستحضرات ألنتفع به‪ ،‬وألعلم مدى صدقك في دعواك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلنبدأ بحمام الشاي‪ ،‬فإني أعلم مدى حبك له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن أن أغتسل بالشاي؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وله فوائد صحية عظيمة‪ ،‬فهو يقوم بتليين وتجمي ل أنس جة الجل د‪ ،‬وتنش يط ال دورة الدموي ة‪ ،‬وزي ادة‬
‫حيوي ة الجس م‪ ،‬وتلطيف ه وإزال ة ت وتر العض الت‪ ،‬وتس كين اآلالم‪ ،‬وتقوي ة العظ ام‪ ،‬وتل يين المفاص ل‪ ،‬وتخفي ف اآلالم‬
‫طه ر للجس م‪ ،‬فينظ ف الجل د ويزي ل‬ ‫الروماتيزمية‪ ،‬وتخفيض حرارة الجسم المرتفعة‪ ،‬وتهدئة األعصاب‪ ،‬وهو يعم ل كم ِّ‬
‫الرواسب عنه‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى هذا كله يساعد على الشفاء من بعض األمراض‪ ،‬ويقوي الجسم بصورة عامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك‪ ..‬فهل هناك حمام غيره؟‬
‫قالت‪ :‬هل تعرف المريمية؟‬
‫قلت‪ :‬كيف ال أعرفها‪ ..‬إنها من األعشاب المباركة‪ ،‬وقد قرأت من فوائدها أنها تقوي الذاكرة الضعيفة وتعي دها في‬
‫وقت قصير‪ ،‬باإلضافة إلى فوائد أخرى كثيرة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سر ذلك يرجع إلى ما وهبها هللا من قوة وقف العفونة في الجسم‪ ،‬والتي هي سبب الكثير من العلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإذا ما ختلطت بكن‪ ،‬واستخدمت حماما‪ ،‬ما هو تأثيرها؟‬
‫قالت‪ :‬هي نافعة ـ بإذن هللا ـ ظاهرا وباطنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا تفعل بالضبط؟‬
‫قالت‪ :‬االستحمام بها يكون على مرحلتين‪ ،‬أما الحمام األول‪ ،‬فيعم ل على تخليص الجس م من الس موم والرواس ب‬
‫الضارة‪.‬‬
‫أما الحمام الثاني‪ ،‬فيقوم بتنشيط الجسم‪ ،‬وإعادة الحيوية إليه بعد تنظيف مسامه وخروج الرواسب منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذه فوائد عظيمة‪ ..‬وبورك فيك‪ ..‬كما بورك في المريمية‪ ..‬فصفي لي وصفة أخرى‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هل تعرف البابونج؟‬
‫قلت‪ :‬كيف ال أعرفه‪ ،‬وهو من األعشاب المباركة المملوءة عافية وصحة‪ ..‬فهو يعم ل على ش فاء االلتهاب ات‪ ..‬ب ل‬
‫يعمل نفس عمل المضادات الحيوية في شفاء االلتهابات‪ ،‬فإذا ما غلي شيء من ه واستنش قه الش خص‪ ،‬اس تطاع أن يزي ل‬
‫االلتهاب من تجاويفه األنفية والجبهية بسرعة‪ ،‬وأن يقضي على جميع الجراثيم الموجودة خالل مدة قصيرة‪.‬‬
‫وهو يساعد على رفع التشنجات الحاصلة في المعدة‪ ،‬وسائر أقسام الجه از الهض مي‪ ،‬ويزي ل المغص من المع دة‬
‫واألمعاء والمرارة أحيانا‪ ،‬وه و يس اعد على ش فاء الج راح غ ير الملتئم ة بس رعة‪ ،‬وعلى األخص في تل ك األم اكن من‬
‫الجسم التي تعسر معالجة الجراح فيها‪ ،‬كالقسم األسفل من الس اق‪ ،‬فيمكن معالج ة الج راح بكم ادات الب ابونج أو الم راهم‬
‫المركبة منه‪ ،‬فتندمل بعد وقت قصير‪ ..‬كما أنه يعمل على شفاء التقرحات المعدية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وزيادة على ذلك فإن أبخرة البابونج تستخدم في معالجة النزالت الصدرية والرشوحات الرئوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تكون هذه األبخرة؟‬

‫‪71‬‬
‫قالت‪ :‬بسيطة جدا‪ ..‬ليس عليك سوى أن تسخن الماء في قدر‪ ،‬ثم تلقى فيه ش يئا من الب ابونج‪ ،‬ثم تغطى رأس ك م ع‬
‫القدر بقطعة كبيرة من القماش‪ ،‬وتبدأ في استنشاق بخار الب ابونج م دة رب ع س اعة على األق ل‪ ،‬فيق وم الب ابونج بقت ل ه ذه‬
‫الجراثيم ورفع االلتهابات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬لقد وصفت لي وصفة نافعة مباركة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد اتحدت مع البابونج للقيام بهذا العالج المبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن حمام البابونج‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هذا الحمام من الحمامات المقويّة للغاية وال ُمكسبة للنشاط والحيوية‪ ،‬كما أن له فائدة خاص ة في القض اء على‬
‫نزالت البرد في بدايتها‪.‬‬
‫كما أنه يليّن ويُج ِّمل الجلد‪ ،‬ويهدىء األعصاب‪ ،‬ويزيل التقلصات‪ ،‬ويبعث على االسترخاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك‪ ..‬فهل هناك حمامات أخرى؟‬
‫قالت‪ :‬كثيرة هي هذه الحمامات‪ ،‬فمنه ا حم ام األعش اب البحري ة‪ ،‬فهي تحم ل فوائ د عظيم ة للجس م‪ ،‬فعالوة على‬
‫ال‪ ،‬كم ا أنه ا تحت وي على م واد‬ ‫تأثيرها الجمالي من خالل إضافتها لماء الحمام‪ ،‬فهي تغذي الجل د وتكس به نعوم ة وجم ا ً‬
‫مضادة للروماتيزم على وجه الخصوص‪.‬‬
‫ولهذا نجد أن اإلصابة بـالروماتيزم تك اد تنع دم بين أف راد الش عب الياب اني‪ ،‬نظ ر ًا إلقب الهم على تن اول األعش اب‬
‫والمأكوالت البحرية ضمن غذائهم اليومي‪.‬‬
‫ومنها حمام خل التفاح‪ ،‬فإذا أضيف لماء الحمام حوالي ملعقتين كبيرتين من ه يبعث النش اط في الجس م‪ ،‬ويزي د من‬
‫مناعته للمرض‪ ،‬ويخلص الجلد من الرواسب والسموم‪ ،‬ويُج ّمله بوجه عام‪.‬‬
‫ومنها حمامات أخرى كثيرة مألها هللا بالبركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أستفيد من بركاتها؟‬
‫قالت‪ :‬ال تنس أن تذكر هللا‪ ..‬فال بركة بال ذكر‪ ..‬وال صحة بال إيمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعودي بي إلى الحديث عن المغتسل البارد الذي وصفه هللا تعالى أليوب ‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وقد وصفه رسول هللا ‪ ‬للحمى في أحاديث كثيرة‪ ،‬فقد ق ال ‪ ( :‬الحمى من فيح جهنم فأطفئوه ا بالم اء)‬
‫(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬فما في هذه الحديث من الفوائد الصحية؟‬
‫ق الت‪ :‬الحمى هي ك ل ارتف اع لح رارة الجس م‪ ،‬فمن المع روف أن في الجس م مرك ز ًا لتنظيم الح رارة في منطق ة‬
‫ال زادت في إفراز الع رق من الجل د ليتم خ روج‬ ‫بالدماغ تعرف بتحت المهاد‪ ،‬وهي تستشعر حرارة الدم‪ ،‬فإذا ارتفعت قلي ً‬
‫الحرارة من الجسم إلى الجو المحيط‪ ..‬ولكن إذا كانت حرارة الجو فوق األربعين فال يمكن لحرارة الجس م أن تخ رج إلى‬
‫الهواء المحيط‪ ،‬وال بد من استخدام الماء البارد والمثلج‪.‬‬
‫ورغم أن للحمى أسباباً كثيرة إال أنها في النهاية تكون بسبب مواد رافع ة للح رارة ت ؤثر على منطق ة تحت المه اد‬
‫وتحدث الرعشة وتقلص العضالت فتزيد من ارتفاع الحرارة‪ ..‬ومن أشهر أسبابها ض ربة الش مس وال برداء أو المالري ا‬
‫واألنفلونزا ونوالت البرد والحمى التيفية والمالطية وغيرها‪.‬‬
‫والمعالجة بالكم ادات الب اردة والم اء المثلج ن وع ه ام من العالج لألع راض ذاته ا‪ ،‬وإذا ك انت األدوي ة النوعي ة‬
‫المضادة للحميات االنتانية لم تكتشف إال في القرن التاسع عشر‪ ،‬وكذلك مخفضات الحرارة كاألسبرين والكينين فق د ك ان‬
‫استعمال الماء البارد هو الواسطة العالجية األولى‪ ،‬وإذا كان النبي ‪ ‬قد نبه إلى هذه الواسطة العالجية الهامة فاإلعج از‬
‫في دعوته تلك‪ ،‬أن تبريد الحمى بالماء ما يزال العالج العرضي األمثل‪ ،‬والذي يشرك حالياً مع األدوية النوعية‪.‬‬
‫الشراب المبارك‬
‫سمعت صوتا عذبا من لؤلؤة أخرى تقول‪ :‬أما أنا‪ ،‬فإني اللؤلؤة المختصة بالشراب المبارك؟‬
‫قلت‪ :‬لقد عرفت بركاتك في تغذية الجسم‪ ..‬فهل تعلميني من بركاتك في العالج؟‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ولكنكم تقصرون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فيم؟‬
‫قالت‪ :‬أنتم تبالغون في العالج بالسموم التي تصنعونها‪ ،‬وتغفلون عني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‪ ..‬فأنت أرخص ثمنا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬زهدتم في لرخص ثمني‪ ،‬فرحتم تبيعونني بالسموم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يعرف البشر قيمتك؟‬
‫قالت‪ :‬لو حبست عنهم‪ ..‬ثم وضعت في قارورات‪ ،‬واشتروني بوزني ذهبا‪ ..‬حينذاك سيتحدثون عن منافعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قالت‪ :‬ألن المستضعفين المساكين تبع ألرباب األموال‪ ..‬وهم ال يصفون إال ما يمأل جيوبهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنك شراب‪ ..‬ويكفيك ذلك‪ ..‬فكيف تطلبين أن تصيري دواء‪..‬‬
‫قالت‪ :‬ألني دواء‪ ..‬ولو بحثتم في أسراري وكيفية استعمالي عالجا لوجدتم الكثير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك من بحث في ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬كثيرون هم‪ ..‬وهم لما يروا بعد الكثير من فوائدي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا وجدوا؟‬
‫قالت‪ :‬وجدوا أشياء كثيرة‪ ،‬وسأقتصر على وصفة منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكريها ألنتفع بها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد قام االتحاد الياباني لألمراض بتجربة للعالج بالماء‪ ،‬وقد بلغت نتائج نجاحه ا ‪100‬بالمائ ة بالنس بة لعالج‬
‫كثير من األمراض القديمة والعصرية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي الوصفة؟‬
‫قالت‪ :‬استيقظ مبكر ًا صباح كل يوم وتناول ‪4‬كؤوس ماء سعة ك ل واح د منهم ا ‪160‬م ل على مع دة فارغ ة‪ ،‬وال‬
‫تتناول أي نوع من الطعام أو السوائل قبل مضى ‪ 45‬دقيقة على شرب ماء‪.‬‬
‫ثم تناول فطورا عاديا بعد مضي ‪ 45‬دقيقة‪.‬‬
‫ثم ال تتناول أي طعام أو شراب خالل الساعتين التاليتين لكل من وجبة الفطور والغذاء والعشاء‪.‬‬
‫وبعد العشاء ال تتناول شيئاً ال سيما عند حلول وقت النوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل أستمر على ذلك طول حياتي؟‪ ..‬إن ذلك لشاق‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬تحتاج ككل عالج إلى مدة قصيرة تختل ف ب اختالف الم رض‪ ،‬فارتف اع ض غط ال دم يحت اج ‪ 30‬يوم اً‪،‬‬
‫ومثله داء السكري‪ ،‬والسرطان ‪ 6‬أشهر‪ ،‬ومشاكل المعدة ‪10‬أيام‪ ،‬واإلمساك ‪10‬أيام‪ ،‬والسل ‪ 3‬أشهر‪.‬‬
‫أما الذين يش كون من الته اب المفاص ل‪ ،‬فعليهم أن يك رروا ه ذه التجرب ة ‪ 3‬م رات يومي اً في األس بوع األول‪ ،‬ثم‬
‫يخفضونها إلى مرة واحدة في الصباح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما األمراض التي يمكن عالجها بهذه الوصفة؟‬
‫قالت‪ :‬منها الصداع‪ ،‬وضغط الدم‪ ،‬وفقر الدم‪ ،‬وداء المفاصل‪ ،‬والشلل وسرعة خفقان القلب‪ ،‬والص رع‪ ،‬والس منة‪،‬‬
‫والسعال‪ ،‬والتهاب القصبة الهوائية والربو‪ ،‬والسل‪ ،‬والتهاب السحابا‪ ،‬وأي مرض آخر يتص ل بالمس الك البولي ة والكب د‪،‬‬
‫وفرط الحموضة‪ ،‬والتهاب غشاء المعدة واإلمساك والبواس ير وداء الس كري‪ ،‬وأي م رض آخ ر يتص ل ب العين واألن ف‬
‫والحنجرة‪ ..‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبم تفسرين هذا الدور الذي يقوم به الماء في حفظ الصحة؟‬
‫قالت‪ :‬أنا ال أفسر‪ ،‬فإن فسرت أرجعت ذلك إلى ما أودع هللا فينا معشر المياه من البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أقصد تفسير قومي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد نصوا على أن الماء أساسي في عملية األيض أو االستقالب أو التمثل الغ ذائي‪ ..‬وله ذا ففي حال ة جف اف‬
‫الجسم بسبب نقص الماء يتم سحب الماء من أجزاء مختلفة من الجسم ليتم سوقه إلى األماكن األشد طلباً للسوائل ح تى أن‬

‫‪73‬‬
‫األمر يصل إلى حد سحبه من الفراغات الواقعة بين الخاليا واألنسجة الحية داخل الجسم حتى من الدم وس حب الم اء من‬
‫ضخه وبالتبعية والتعاقب يصير االنسان أك ثر اس تعداد ًا وتعرض اً لخط ر‬ ‫الدم يجعله أكثر سماكة وثخانة ‪ -‬فيصبح صعباً ّ‬
‫حدوث بعض أنواع ضغط الدم وكذا أمراض القلب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما السبب في هذا النقص الذي ينتج هذا الخطر؟‬
‫قالت‪ :‬إن السبب األكثر شيوعاً لنقص المياه بالجسم هو عدم استيفاء القدر الكافي والمتحصل من الماء‪ ،‬وذلك بعدم‬
‫شرب الكفاية أو نسيان شربه أو العزوف عن شربه حتى يحدث الظماً بالفعل‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا فإن ثمة أسباب أخرى منها وج ود بعض العل ل واألم راض األخ رى مث ل ذات الرئ ة ون زالت‬
‫البرد واالنفلونزا ومرض البول السكري وهو يتسبب في نقص كبير في ماء الجسم‪ ..‬وعلى المرضى إب داء الح ذر الب الغ‬
‫وتحري تحصيل المقادير الكافية من الماء في الجسم‪ ..‬زيادة على أن تناول مقادير كبيرة من البروتين وبش كل ش اذ غ ير‬
‫عادي يمكن أن يتسبب في طرح المزيد من الم اء خ ارج الجس م بواس طة الكلى ح تى أن مع دالت الب ول تك ون في ه ذه‬
‫الحالة كبيرة وبكميات أكبر من المعتاد مما يفاقم الحالة‪.‬‬
‫ومن األسباب الشائعة التعرق أو إفراز العرق وهذا بالذات ملحوظ مع أولئك الذين يبذلون أو يؤ ّدون أنش طة بدني ة‬
‫خاصة في الطقس الحار والرطب‪ ،‬لذا فإن القاعدة العامة والمثلى تقول للجميع‪ (:‬اشربوا الماء‪ ،‬ولو لم تكونوا عطاشى)‬
‫قلت‪ :‬ولكن هناك سوائل أخرى يمكن تعويضها للماء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬تقصد المياه الغازية والشاي والقهوة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هذه السوائل لن تحدث فاعلية ـ خاصة مع المشروبات المدرة للبول ـ فال يح ل مح ل الم اء إال الم اء‪ ..‬وإن‬
‫كنت ال تستسيغ طعم الماء العادي فيمكنك إضافة قطرات من عصير الليمون أو وضع شريحة برتق ال في ك وب الم اء‪..‬‬
‫إن فوائد شرب الماء أكثر من أن تكون مجرّد الخالص من إحساس الظمأ‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هناك من يحتفظ جسمه بالسوائل‪ ،‬فيحتاج إلى إدامة العطش لئال يغرق جسمه في الطوفان‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ذلك بحسب منطقكم‪ ..‬ال بحسب منطق البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما منطق البركات؟‬
‫قالت‪ :‬إن هذا المنطق ينص كما ينص علماءكم على أن التخلص من ارتجاع الس وائل واالستس قاء يحت اج لش رب‬
‫ماء أكثر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬سر ذلك أن ارتجاع السوائل هذا قد حدث في األصل بسبب جفاف وندرة الماء‪ -‬تراكمياً‪ -‬في الجسم مما دفع‬
‫الجسم لمحاولة استبقاء ما يمكنه من الماء‪ ،‬والذي في حالة الحصول على القدر الكافي من المياه بالشرب س يحدو بالجس م‬
‫وقتئذ إلى التخلص من هذا المرتجع الضار من السوائل (والذي يأخذ شكل األوديما أو االستسقاء)‬
‫فالهدف في األصل هو الحفاظ على أكبر قدر من السوائل تتدفق وتطوف خالل الجسم‪ ،‬وهذا يمكن تحقيق ه بزي ادة‬
‫القدر المتناول من الماء‪ ،‬وفي نفس الوقت مالحظة ما يحصل عليه الجس م من ص وديوم (ملح)من األغذي ة‪ ،‬فك ثرة الملح‬
‫تؤدي لالحتفاظ بالماء‪ ،‬فكلما زادت معدالت الصوديوم حاول الجسم ارتجاع الماء بشكل متزايد‪ ..‬والسبب محاولة تخفيف‬
‫درجة كثافة الملح داخل الجسم مما يؤدي إلى االستسقاء وظهور عالماته من انتفاخ األنسجة مثال عند الكاحل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد أن نقص الماء يدعو الجسم إلى الظن بأنه ثمة ندرة شديدة وقحط قد حلّ به مم ا يجعل ه يلج أ الرتج اع‬
‫السوائل‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ولهذا يتعين على الذي يعاني من ذلك إلى إنقاص المتن اول من الملح‪ -‬في الطع ام‪ -‬أو زي ادة المتن اول‬
‫من المياه بالشرب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد نبهتني إلى خطر الجفاف التراكمي الذي يحل بالبدن نتيجة الظمأ الشديد‪ ،‬فاذكري لي مظاهره‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫قالت‪ :‬لقد كان الدكتور فيريدون باتم ان جلي دج من أك ثر األطب اء اهتمام ا به ذا(‪ ..)1‬فق د كش ف النق اب عن أزم ة‬
‫ومعاناة الجسم بسبب الجفاف التراكمي‪.‬‬
‫ومم ا ذك ره من المخ اطر المنج رة عن ه ذا الرب و والس كري وض غط ال دم المرتف ع وم رض التص لب المتع ّدد‬
‫ومتالزمة اإلعياء المزمن والتهاب المفاصل والكثير الكثير!‬
‫قلت‪ :‬ال أريد كالما عاما‪ ..‬أريد تفاصيل تملؤني قناعة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أتعرف حرقان القلب؟‬
‫قلت‪ :‬أعلم أنه إحساس األلم والحرقة خلف عظم القص‪ ،‬وهو يرتفع ويعلو من الجوف وتج اه الحل ق م ع إحس اس‬
‫بحمض أو سائل مر في الفم‪ ،‬وهو عادة ما يتسبب عن ارتجاع بعض سوائل المعدة صوب وناحية المرىء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن هذه الحالة إشارة أو الفتة تحذير رئيسية للجسم تدل على نقص الماء في الجزء العلوي من القناة المعدي ة‬
‫المعوية‪ ..‬ولسوء الحظ فإن استعمال مضادات الحموضة واألقراص الحتواء األلم هو وقتي ولن يصحح حالة ندرة الم اء‬
‫أو نقصه وبالتالي سيظل الشخص يعاني منها!‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ومثله التهاب المفاصل وخاص ة الش كل الروماتوي دي‪ ،‬فه و إش ارة على نقص الم اء الم زمن في المفص ل‬
‫المتألم وهذه الحالة يمكن أن تصيب صغار السن باإلضافة للكبار وتن اول مس كنات األلم لن يش فى منه ا ب ل إن ه يع رض‬
‫الشخص لمزيد من الضرر بسبب األعراض الجانبية لهذه األدوي ة‪ ..‬إن تن اول الم اء بالق در الك افي ب ل والزائ د‪ ،‬وأيض اً‬
‫تحصيل مقادير صغيرة من الملح البحري من الممكن أن يساعد في شفاء من هذه العلة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ومثل ذلك آالم أسفل الظهر وكذا تصلب‪ -‬و‪ -‬أو التصاق المفصل أو المفاصل في العمود الفقري)‪ ،‬وهو أحد‬
‫أشكال التهاب المفاصل المقعدة‪ ..‬فكلها عالمات على نقص الماء المزمن في الفقرات والعمود الفقري فالم اء ‪ -‬عن د ذاك‪-‬‬
‫بمثابة بطانة أو وسادة تدعم وزن الجسم وتخفف أو تهمد الصدمات‪ ،‬ول ذا فالعم ل على الحص ول على الق در الزائ د من ه‬
‫بانتظام للجسم من الممكن أن يكون هو العالج الناجع وليس االعتماد على األدوية المسكنة التجارية!‬
‫ومثل ذلك الخناق الصدري‪ ..‬فهذه الحالة‪ -‬وخاص ة إذا اق ترنت بحرق ة الف ؤاد هي عالم ة على ن درة م اء الجس م‬
‫خاصة في محور القلب‪ -‬الرئة وعالجها بزيادة القدر المتناول من الماء حتى يشعر المريض بزوال األلم وب الخالص من‬
‫تناول األدوية الخاصة بالحالة‪ -‬وطبعا هو أمر يتسم بالحكمة والتبصر أن يتم ذلك تحت إشراف الطبيب المختص‪.‬‬
‫ومثل ذلك الصداع النصفي فهو الفته تحذير بأن ثمة احتياج‪ -‬من قب ل المخ والعي نين للم اء‪ -‬ويمكن الخالص من ه‬
‫بالوقاية من الجفاف من أن يحل تراكمياً بالجسم‪ ..‬وللعلم فإن هذه الحال ة من الجف اف ربم ا س بّبت التهاب ا بالمنطق ة خل ف‬
‫العيون‪ ،‬بل واحتمالية نقص أو خسارة البصر‪.‬‬
‫ومثل ذلك الربو الذي يحصد الماليين‪ ..‬فالمرض من مضاعفات جفاف الجس م وع دم تميه ه بالش كل الك افي مم ا‬
‫يحدو بالجسم إلى اللجوء لميكانيزم خاص به حالة الجفاف أو القحط ه ذه ف الممرات الهوائي ة في الرئ ة تنقبض لكي تمن ع‬
‫الماء من مغادرة الجسم على شكل بخار‪ ..‬وهكذا فإن تناول المزيد من الماء يقي ويعالج هجمات الربو هذه‪.‬‬
‫ويمكن تشبيه ذلك نس بيا بالم ادة الطيني ة اللزج ة ال تي تص ب في فج وات أو فراغ ات األغش ية المخاطي ة لبعض‬
‫الخاليا لكي تحميها وتقيها من خس ارة مخزونه ا من مائه ا الحي وي أثن اء عملي ة التناض ح‪ -‬تب ادل الس وائل‪ -‬بين الخالي ا‬
‫والخاليا المجاورة‪ -‬فالكوليسترول إضافة لدوره في تصنيع الهرمونات واألغشية المخاطي ة في الخالي ا العص بية يوظف ه‬
‫الجسم أيضاً بمثابة درع ضد العبء اإلضافي‪ -‬الضريبي‪ -‬والذي تفرضه الخاليا الحيوي ة األخ رى وال ذي يتعف ق بتب ادل‬
‫الماء من خالل أغشيتها المخاطية‪.‬‬
‫الهواء‬
‫سلمت على آللئ الماء مودعا‪ ،‬فصاحت في لؤلؤة منهن‪ :‬إلى أين؟‬
‫‪ )(1‬يعتبر كتاب د‪ .‬باثمان‪ -‬المسمى « صيحات جسمك الكث يرة والمتزاي دة طلب ا ً للم اء » ه و مرج ع كام ل وعالجي بالم اء يش مل التص ورات العلمي ة‬
‫والمعطيات‪ -‬خطوة بخطوة‪ -‬في فائدة شرب الماء صحيا ً وعالجيا ً من علل كثيرة جدا حتى علل األطفال وإصابات المالعب "الرياضية"‬
‫‪75‬‬
‫قلت‪ :‬إلى متوسم الغذاء‪..‬‬
‫قالت‪ :‬أفال تزور الهواء؟‬
‫قلت‪ :‬ومن الهواء؟‬
‫قالت‪ :‬ذلك اإلكسير المبارك الذي هو أبونا‪ ،‬ونحن أبناؤه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أبحث عن أسرار البركات‪ ،‬وال أبحث عن اآلباء واألمهات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن كان للبركة أب أو أم‪ ..‬فالهواء أبوها أو أمها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟ أنا ال أشعر بأن له هذا الدور الذي تتحدثين عنه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد أمر هللا بالصيام‪ ،‬فهل يمكن أن تصوم على الهواء؟‬
‫قلت‪ :‬لو صمت عن الهواء الختنقت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فكيف تنكر إذن سر بركاته؟‬
‫قلت‪ :‬أنا ال أنكر‪ ..‬ولكني أنظر إليه كشيء عادي ال عالقة له بالغذاء وال ال دواء‪ ..‬وم ا لم تكن ل ه عالق ة به ذين ال‬
‫عالقة له بالبركة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلذلك لن ترجع للمتوسم حتى تنال من العلم ما يمحو عنك هذا الجهل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أتعلم؟‬
‫قالت‪ :‬كل شيء يتعلم عند أهله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعلم الهواء؟‬
‫قالت‪ :‬عند الهواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قالت‪ :‬تلطف كتلطف النسيم‪ ،‬فستراه‪.‬‬
‫تلطفت كتلطف النسيم‪ ،‬فأبصرت آللئ مختلفة األشكال واأللوان تتوزع في الفضاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من أنتن‪ ..‬فإني أرى الآللئ التي يتصارع قومي من أجلها تحسدكن‪.‬‬
‫قالت إحداهن‪ :‬نحن أهوية مختلفة‪ ،‬أم ا أن ا‪ ،‬فيطل ق علي األوكس جين‪ ،‬وأم ا أخ واتي‪ ،‬فتل ك تس مونها الن تروجين‪،‬‬
‫واألخرى تسمونها األرجون‪ ،‬واألخرى تسمونها النيون‪ ،‬واألخرى تسمونها الكنس يون‪ ،‬واألخ رى تس مونها الكريبت ون‪،‬‬
‫واألخرى تسمونها ثاني أوكسيد الكربون‪ ،‬وهي متشكلة من تزاوجي مع الكربون‪.‬‬
‫اء َم ا ي ُْم ِس ُكه َُّن ِإاَّل هَّللا ُ‬ ‫ت ِفي َج ِّو َّ‬
‫الس َم ِ‬ ‫وكلنا تشرفنا بذكر القرآن الكريم لنا‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َل ْم َي َروْا ِإ َلى َّ‬
‫الطي ِْر ُم َس َّخ َرا ٍ‬
‫وْم ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾(النحل‪ ..)79:‬فنحن جو السماء‪.‬‬ ‫ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ آَل يا ٍ‬
‫ت ِل َق ٍ‬
‫شرح الصدر‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن نفسك‪ ،‬وعن سر بركتك؟‬
‫ص د َرهُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫لْ‬ ‫جْ‬ ‫َّ‬
‫ُض لهُ َي َع‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ْالم َو َمن يُ ِرد أن ي ِ‬‫صد َرهُ ِل ِإلس ِ‬ ‫ْ‬ ‫حْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬
‫قالت‪ :‬أنا التي أشار إليها قوله تعالى‪َ ﴿:‬ف َم ْن ي ُِر ِد ُ أن َيه ِد َيهُ َيش َر َ‬
‫ضيِّقاً َح َرجاً َكأَنَّ َما َيصَّ َّع ُد ِفي ال َّس َم ِ‬
‫اء ﴾ (األنعام‪)125 :‬‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك!؟‪ ..‬فال أرى اسم األكسجين في اآلية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ومن قال لك بأن هذا اسمي؟‬
‫قلت‪ :‬أسمع قومي يسمونك بهذا االسم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لكل قوم الحرية في أن يختاروا ما شاءوا من األسماء‪ ،‬ألم تعلم بأن يوم الجمعة تسميه المالئكة يوم المزيد؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما اسمك بين قومك؟‬
‫قالت‪ :‬اسمي بين قومي (انشراح)‪ ..‬فقد جعلني هللا نسيما عليال تنشرح له الصدور‪ ،‬ألم تسمع ما تدل عليه اآلي ة من‬
‫فضلي؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد نص العلماء المرابطون على ثغر اإلعجاز على ما في تلك اآلية من إعجاز‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وما قالوا؟‬

‫‪76‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكروا أن االرتفاع في الجو لمسافة عالية يسبب ضيقاً في التنفس‪ ،‬وش عور ًا باالختن اق‪ ،‬وه و يزي د كلم ا‬
‫زاد االرتفاع‪ ،‬كما تنص على ذلك كلمة ﴿ يصّعد ﴾‪ ،‬حتى يصل الضيق إلى درج ٍة حرج ٍة وصعبة جد ًا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وما الذي ذكروا من سب هذا الضيق؟‬
‫قلت‪ :‬تعلمت هذا مجردا عن تفاصيله‪.‬‬
‫ً‬
‫قالت‪ :‬فاعلم بأن سر ذلك يعود إلى انخفاض نسبة وجودي في االرتفاعات العالية‪ ،‬فأنا أعادل ‪21‬بالمائة تقريب ا من‬
‫ال‪ ،‬ويبلغ توتري في االسناخ الرئوية عن د س طح البح ر ‪100‬‬ ‫الهواء فوق سطح األرض‪ ،‬بينما أنعدم نهائياَ في علو ‪67‬مي ً‬
‫مم‪ ،‬وال يزيد عن ‪ 25‬مم في ارتفاع ‪ 8000‬متر حيث يفقد اإلنسان وعيه بعد دقيقتين أو ثالث‪ ،‬ثم يموت(‪.)1‬‬
‫وقد أدى الجهل بهذه الحقيق ة إلى س قوط ض حايا كث يرين خالل تج ارب الص عود إلى الج و‪ ،‬س واء بالبالون ات أو‬
‫الطائرات البدائية‪ ،‬أما الطائرات الحديثة فأصبحت تجهز بأجهزة لضبط الضغط الجوي واألوكسجين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت غذاء ضروري إذن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال غنى عني‪ ..‬فأنا نسمة الحياة لكل الحيوانات التي فوق األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني أرى من زمالئك من يفوقك عددا‪ ،‬فكيف هنت لهذه الدرجة‪ ..‬أم أن لغيرك من المنافع ما ليس لك؟‬
‫وم﴾ (الحجر‪)21:‬؟‬ ‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل ِع ْن َدنَا خَزَا ِئنُهُ َو َما نُن َِّزلُهُ ِإاَّل ِب َقد ٍَر َمعْ لُ ٍ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد قال تعالى مثلها‪ِ ﴿:‬إنَّا ُكلَّ َش ْي ٍء خَ َل ْقنَا ُه ِب َقد ٍَر﴾ (القمر‪)49 :‬‬
‫قالت‪ :‬فأنا مع زمالئي منزلون بقدر معلوم‪ ..‬فأنا أشكل نسبة الخمس تقريبا من اله واء الج وي‪ ،‬أو بتعب ير أدق ‪21‬‬
‫بالمائة من الهواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلو زدت‪ ..‬ماذا سيحصل؟‬
‫ال أو أكثر فإن جميع المواد القابلة لالحتراق في العالم تصبح عرضة لالشتعال‬ ‫قالت‪ :‬لو زدت بنسبة ‪ 50‬بالمائة مث ً‬
‫لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة البد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلو نقصت نسبتك؟‬
‫قالت‪ :‬لو أن نسبتي في اله واء ق د هبطت إلى ‪10‬بالمائ ة أو أق ل‪ ،‬ف إن الحي اة تك ون ق د انمحت على األرض من ذ‬
‫دهور‪.‬‬
‫ولذلك كان من رحمة هللا تعالى أن عنصرنا قد أفلت من االتح اد م ع غ يره وت رك في الج و بنفس النس بة تقريب اً‪،‬‬
‫وهي النسب الالزمة لجميع الكائنات الحية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تذكرين االحتراق‪ ..‬فما عالقتك باالحتراق‪ ..‬فهل أنت احتراق أم انشراح؟‬
‫قالت‪ :‬أنا ال أشرح الصدور فقط‪ ،‬بل إني ركن أساسي في التغذية‪ ،‬وال أكون انش راحا إال بك وني احتراق ا‪ ،‬أال تعلم‬
‫أن السالم قد يكون كامنا في الثورة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬سمعت هذا كثيرا‪ ..‬ولكن كيف تحققين االنشراح باالحتراق؟‬
‫قالت‪ :‬كما تحقق الشمعة النور باالحتراق والذوبان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكني أرى الشمعة وال أراك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن الغرض األساسي من دخولي إلى الجسم هو التغلغل عبر الدم إلى الخالي ا لح رق الطع ام‪ ،‬وتحويل ه إلى‬
‫طاقة يستفيد منها الجسم في حركته وبقائه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنفرض أنك لم تفعلي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كيف تقول هذا؟‪ ..‬أو تفرض هذا‪ ..‬أنا مسخرة سخرني هللا لهذه المهمة‪ ..‬وال أتصور أن أعصيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنفرض فقط‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لتعلم ذلك حق اليقين دعني أطلب من صواحبي أن ال يزرن رئتيك لترى ما سيحصل‪.‬‬
‫‪ )(1‬والسبب الثاني لذلك هو انخفاض الضغط الجوي‪ ،‬حيث ينخفض هذا الضغط كلما ارتفعنا عن سطح األرض مما يؤدي لنقص معدل م رور غ ازات‬
‫المعدة واألمعاء‪ ،‬التي تدفع الحجاب الحاجز لألعلى فيضغط على الرئتين ويعيق تمددها‪ ،‬وكل ذلك يؤدي لصعوبة في التنفس‪ ،‬وضيق يزداد حرجا ً كلم ا ص عد‬
‫اإلنسان عالياً‪ ،‬حتى أنه يحصل نزيف من األنف أو الفم يؤدي أيضا ً للوفاة‪ ،‬انظر‪ :‬م ع الطب في الق رآن الك ريم‪ ،‬ال دكتور عب د الحمي د دي اب‪ ،‬وال دكتور أحم د‬
‫قرقوز‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وعيت وفهمت‪ ..‬فال تفعلي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد نسيت ما جئت من أجله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما جئت من أجله؟‬
‫قالت‪ :‬أن أبين لك سر الحصول على بركتي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أحصل عل بركتك؟‬
‫قالت‪ :‬بأمرين كالهما يمتلئان بركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هما؟‬
‫قالت‪ :‬أما األول‪ ،‬فيشير إليه قوله ‪ (:‬بورك ألمتي في بكورها)‪ ..‬فمن طبق هذا الهدي النب وي يك ون ق د حص ل‬
‫على سر مهم من أسرار بركاتي‪ ،‬فإن أعلى نسبة لغاز األوزون‪ ،‬وهو شكل من أشكالي في الجو تكون عند الفجر‪ ،‬وتق ل‬
‫تدريجياً حتى تضمحل عند طلوع الشمس‪.‬‬
‫وهذا الغاز له تأثير مفيد للجهاز العصبي‪ ،‬وهو منشط للعمل الفكري والعضلي‪ ،‬بحيث يجعل ذروة نش اط اإلنس ان‬
‫الفكرية والعضلية تكون في الصباح الباكر‪ ،‬ويستشعر اإلنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل المس مى ب ريح الص با‪،‬‬
‫لذة ونشوة ال شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه األولى‪ ..‬فما الثانية؟‬
‫قالت‪ :‬أما الثانية‪ ..‬فتنفس بجميع رئتيك‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تريني أستعمل بعض رئتي؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فاإلنسان في حاالت التنفس العادي يتنفس من ربع إلى ثلث رئتي ه‪ ،‬أم ا التنفس العمي ق فيض طره إلى‬
‫استعمال رئتيه كاملة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الفائدة من ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬هذا يدرب كل أجزاء الرئة على االستعمال‪ ،‬باإلضافة إلى أن ه يق وي عض الت الجه از التنفس ي‪ ،‬ويجعله ا‬
‫أقدر على القيام بوظائفها في الجسم‪.‬‬
‫أال تعلم أن اإلنسان في الحاالت الطبيعية يتنفس من ‪14‬إلى ‪ 18‬مرة في الدقيقة‪ ،‬ويدخل الرئتين في كل م دة يتنفس‬
‫فيها عن طريق الشهيق ما يوازي نصف لتر من الهواء‪ ،‬ويخرج من رئتيه عن طريق الزفير ما ي وازي نص ف ل تر من‬
‫الهواء‪ ،‬ويض طر الجس م إلى إخ راج الكمي ات الزائ دة من ه في ال دم عن طري ق التنفس وإال أدى تراكم ه في الجس م إلى‬
‫الخمول والكسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفي التنفس العميق كم يدخل‪ ..‬وكم يخرج؟‬
‫قالت‪ :‬في التنفس العميق تزيد كمية الهواء الذي يدخل ويخرج من الرئ تين من نص ف ل تر إلى م ا يق رب من ل تر‬
‫ونصف لتر‪ ،‬وهذا يعني أن التنفس العميق يدخل إلى الجسم كمية أكبر من األوكسجين‪ ،‬ويخرج منه كمية أك بر من ث اني‬
‫أوكسيد الكربون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تأثير ذلك على الصحة؟‬
‫قالت‪ :‬يساعد هذا التنفس العميق عدة مرات في اليوم على إطالة التنفس وجعل اإلنسان أقدر على ممارسة األش ياء‬
‫التي تتطلب منه بذل مجهود أكثر من المجهود العادي‪ ،‬كالمشي مسافات طويلة بدون إجهاد‪ ،‬وه ذا ه و الس بب ال ذي من‬
‫أجله يقوم الرياضيون بعمل تمرينات للتنفس بصفة مستمرة‪.‬‬
‫ولذلك ينصح األطباء الكثير من المرضى بعمل تمرينات تنفس عميق قب ل وبع د إج راء العملي ات الجراحي ة لهم‪،‬‬
‫وذلك لزيادة لياقتهم الصحية وإرجاعهم إلى الحالة الطبيعية بعد العملية‪ ،‬ولعدم تعرض أي جزء من الرئ ة إلى اإلنكم اش‬
‫بسبب الرقاد فترة طويلة من ال وقت في الف راش‪ ،‬وبس بب ع دم التنفس أثن اء الم رض بالس رعة والعم ق الالزمين لبق اء‬
‫الرئتين كما هما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرأيت لو أن شخصا لم يمارس هذا التنفس العميق الذي تذكرينه؟‬
‫قالت‪ :‬إذا لم يفعل ذلك‪ ،‬ولم يقم بأي مجهود رياضي‪ ،‬فإنه سيصيب جه ازه التنفس ي م ع م رور ال وقت بش يء من‬
‫‪78‬‬
‫الكسل‪ ،‬وينتج عن ذلك إحساس بالتعب واإلرهاق عند بذل أي مجهود ال يستدعي من الشخص العادي اإلجهاد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪....‬‬
‫قاطعتني وقالت‪ :‬ماذا تشعر عندما تتنهد؟‬
‫قلت‪ :‬أشعر ببعض الراحة‪ ..‬فأنا أتنهد عندما أكون في حاالت الضيق والقلق واالضطرابات النفسية والعصبية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فما التنهد إال نوع من التنفس العميق‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر الراحة فيه؟‬
‫قالت‪ :‬عندما تتنفس تنفسا عميقا تزداد عملية احتراق الطعام في الجسم وينتج عن ذلك زيادة في نسبة ثاني أوكس يد‬
‫الكرب ون الموج ود في ال دم‪ ،‬والتنفس العمي ق يس اعد على إخ راج ه ذه الكمي ة الزائ دة من ث اني أوكس يد الكرب ون‪،‬‬
‫فتشعربالراحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذا يدعوني إلى مالزمة التنفس العميق في كل حين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬ألم يقل هللا تعالى‪َ ﴿:‬و ُكلُوا َوا ْش َربُوا َوال تُ ِ‬
‫سْرفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ال ُم ِ‬
‫سْر ِفينَ ﴾ (ألعراف‪)31:‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكنه لم يذكر التنفس‪.‬‬
‫قالت‪ :‬التنفس نوع من األكل‪ ..‬أو هو نوع من الشرب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما مخاطر اإلسراف فيه؟‬
‫قالت‪ :‬إن ثاني أوكسيد الكربون يجب أن يكون موجودا في الدم بنسبة معينة‪ ،‬فإذا نقصت هذه النس بة بس بب ك ثرة‬
‫التنفس العميق نتج عن ذلك إحس اس بالدوخ ة‪ ،‬وتزاي د في ض ربات القلب‪ ،‬وإحس اس الش خص باإلجه اد‪ ..‬ول ذلك ك ان‬
‫االعتدال يجمع بين الحسنيين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يحتاج التنفس العميق إلى تدريب؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد أحسنت بهذا السؤال‪ ،‬فإن هناك من يعتقد بأن التنفس عملية آلي ة نق وم به ا جميع ا وال تحت اج إلى‬
‫التوجيه والت دريب‪ ،‬لكن الحقيق ة هي أن التنفس الجي د أم ر ق د يغف ل عن ه الكث ير وأن النج اح في ه يرتب ط بارتف اع األداء‬
‫الصحي‪ ،‬والتخفيض من مستويات االكتئاب والقلق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أتنفس هذا التنفس العميق؟‬
‫قالت‪ :‬ذلك شيء يسير‪ ..‬لكي تتأكد أنك تتنفس بعمق ض ع كتاب ا على بطن ك‪ ،‬ثم خ ذ نفس ا عميق ا‪ ،‬ف إن الحظت أن‬
‫بطنك يرتفع بالكتاب عند الشهيق‪ ،‬وينخفض عند الزفير‪ ،‬فأنت تتنفس تنفسا عميقا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا شيء يسير‪ ..‬فإن لم أجد الكتاب هل يمكنني أن أضع شيئا آخر؟‬
‫ضحكت‪ ،‬وقالت‪ :‬لم أكن أحسبك بهذا الذكاء‪ ..‬إن لم تجد الكت اب ال ذي تض عه على بطن ك‪ ،‬فلن تق در على التنفس‬
‫العميق ما حيت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اسم الكتاب الذي أضعه؟‬
‫قالت‪ :‬دعك من هذا المزاح‪ ..‬واسمع نصيحة أخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هي؟‬
‫قالت‪ :‬لتحقيق المزيد من التنفس الجيد حاول أن يستغرق الزفير ف ترة أط ول من الش هيق‪ ،‬ف الزفير بش كل خ اص‬
‫يساعد على التخلص من السموم الموجودة بالجسم‪ ،‬والتي إذا لم نتخلص منها‪ ،‬فسوف تختزن في الدهون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا يسير كذلك‪ ..‬ولن يحتاج مني إلى كتاب أو غيره‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ويتطلب التدريب على التنفس الجيد تدريب الرئتين‪ ،‬ويك ون ذل ك ب أن تأخ ذ نفس ا عميق ا وكب يرا ع ددا من‬
‫المرات يوميا‪ ،‬وان تحتفظ بها لفترة في الرئتين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قالت‪ :‬لتدريب رئتيك‪ ..‬فهما كالعضالت‪ ..‬إن لم تقم بتدريبهما فانهما تفقدان مرونتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت بركتين من بركاتك يا انشراح‪ ..‬فهل من بركات أخرى؟‬
‫قالت‪ :‬سأترك المجال لرفيقاتي‪ ،‬فهن ينتظرن دورهن‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫قلت‪ :‬فمن تتركين؟‬
‫قالت‪ :‬سأترك أقرب رفيقاتي إلى نفسي‪ ..‬من أتعاقب معها على مصلحتك ومصلحة غذائك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من تعنين؟‬
‫قالت‪ :‬من تسمونها ثاني أكسيد الكربون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تتعاقبين معها على مصلحتنا؟‬
‫قالت‪ :‬عندما تتنفسون األكسجين‪ ،‬ويحترق في أجوافكم تخرج نتيجة احتراقه رفيقتي ثاني أكسيد الكربون مع هواء‬
‫الزفير‪ ،‬وهي ليست سوى مركب من الكربون واألكسجين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا هو التعاقب؟‬
‫قالت‪ :‬ليس هذا فقط‪ ..‬بل تمتص النباتات رفيقتي ثاني أكسيد الكربون الذي يتحد مع الم اء مكو ًن ا غ ذاء‪ ،‬ثم تُخ رج‬
‫النباتات األكسجين الزائد إلى الهواء(‪ ..)1‬وهكذا نتعاقب لمصلحتك ومصلحة الحياة على األرض‪.‬‬
‫تكوين الغذاء‪:‬‬
‫تقدمت ثاني أكسيد الكربون‪ ،‬وقالت‪ :‬دعيني أشرح دوري يا انشراح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هي انشراح‪ ..‬فمن أنت؟‬
‫قالت‪ :‬أنا التي تسمونني ثاني أكسيد الكربون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما يسميك قومك؟‬
‫قالت‪ :‬يسمونني مخضار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مخضار!؟‪ ..‬ما مخضار؟‬
‫اء َما ًء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه َن َباتَ ُك لِّ َش ْي ٍء َفأَ ْخ َرجْ َن ا‬ ‫قالت‪ :‬أال تعلم أن هللا تعالى أشار إلي في قوله‪َ ﴿:‬وه َُو الَّ ِذي َأ ْن َ‬
‫زَل ِمنَ ال َّس َم ِ‬
‫خَضر ًا نُ ْخ ِرجُ ِم ْنهُ َح ّباً ُمت ََرا ِكباً ﴾ (األنعام‪)99:‬‬
‫ِم ْنهُ ِ‬
‫قلت‪ :‬أهذه اآلية تشير إليك؟‬
‫قالت‪ :‬هي تشير إلى ما تسمونه المصانع الخضراء في النباتات‪ ،‬أو ما تسمونه اليخضور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هو يخضور ألن لونه أخضر‪ ..‬فما أنت؟‬
‫قالت‪ :‬وأنا مخضار ألنه لوالي لما احتاج إلى هذا اللون األخضر‪ ،‬بل لوالي لم يكن بهذه الصفة أصال‪ ..‬فقد جعلني‬
‫هللا سببا من أسباب وجوده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬هذه المصانع الخضراء يخرجها النبات بأمر ربه تعالى عند بداية نموه وهي تحتوي على الكلوروفيل ال ذي‬
‫عبّر عنه القرآن الكريم بالخضر‪ ،‬حيث يقوم باالستفادة من الطاقة الضوئية‪ ،‬ويحولها إلى طاقة كيمائية ينتج عنه ا تك وين‬
‫الحبوب والثمار المختلفة وسائر أجزاء النبات التي نراها في الحدائق والبساتين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقتها بك‪ ..‬فإني لم أر لك أي عالقة؟‬
‫قالت‪ :‬اصبر علي‪ ..‬فال قدرة للعجول على التعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا صابر‪ ..‬فتكلمي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد عرفت أن مصانع الغذاء في النبات تتركز في األوراق واألجزاء الخضراء منه‪.‬‬

‫‪ )(1‬لقد اكتشف قي عام ‪ 1779‬م أن النبات يتنفس فيأخذ األكسجين و يطرد ثاني أكسيد الكربون‪ ،‬مثله في ذلك مثل اإلنسان و الحي وان‪ ،‬و يص حب تنفس‬
‫النبات ارتفاح في درجة الحرارة‪ ،‬و يتم التنفس في الليل و النه ار‪ ،‬إال أن ه في النه ار ال تظه ر نتيج ة التنفس واض حة بالنس بة لعملي ة التمثي ل الكرب وني ال تي‬
‫يجريها النبات بسرعة أكثر من عملية التنفس‪ ،‬فيخرج األكسجين و يمتص ثاني أكسيد الكربون‪ ،‬لذلك قد عرف ب أن ارتي اد الح دائق يك ون نه اراً‪ ،‬و ال يحس ن‬
‫ارتيادها ليالً حيث يتنفس النبات‪ ،‬و ال يوجد تمثيل كربوني‪ ،‬و بذلك ينطلق ثاني أكسيد الكربون و يأخذ النبات األوكسجين‪.‬‬
‫و قد دلت األبحاث‪ ،‬على أن عملية التمثيل الكربوني‪ ،‬كانت كفيلة وحدها باستهالك ثاني أكسيد الكربون الموجود في العالم‪ ،‬لو أن األمر قد اقتص ر عليه ا‪،‬‬
‫ولكن العليم الخبير قدر ذلك فيجعل الكائنات الحية األخرى تخرج ثاني أكسيد الكربون‪ .‬كما أن األجسام الميتة في تحلله ا تخ رج ث اني أكس يد الكرب ون وك ذلك‬
‫بعض التفاعالت األخرى‪.‬‬
‫وقد قضت حكمة الخالق أن تكون نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو دائماً‪ ،‬من ثالثة إلى أربعة أج زاء في ك ل عش رة آالف ج زء ه واء‪ ،‬وأن ه ذه النس بة‬
‫ينبغي أن تكون ثابتة على الدوام لعمارة العالم‪ ،‬فلم يحدث قط مهما اختلفت عمليات االستهالك وعمليات اإلنتاج أن اختلفت هذه النسبة‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قال‪ :‬فاعرف بأن هذه المصانع بحاجة إلى المواد الخام‪ ،‬كما أنها بحاجة إلى وضع تصميم وت رتيب وتنظيم يتم ب ه‬
‫وصول هذه المواد الخام إلى المصانع الخضراء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت‪ ..‬فأنت إحدى هذه المواد الخام‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فإني مع الماء واألمالح والضوء نشكل المواد األساسية لما يكونه النبات من أغذية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت دور الماء‪ ،‬فحدثيني عن دورك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أدخل إلى هذه المصانع الخضراء بواسطة ثغور صغيرة ق د أع دت بإحك ام‪ ،‬وتنتش ر في الطبق ة الس طحية‬
‫لألوراق‪ ،‬وقد خلق الخالق سبحانه خلي تين حارس تين أو أك ثر تقوم ان ب دور الب واب ال ذي يفتح ويقف ل بنظ ام‪ ،‬وبحس ب‬
‫الحاجة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فها قد دخلت‪ ..‬فماذا تصنعين؟‬
‫قالت‪ :‬بعد أن تصل المواد الخام ـ والتي أشكل ركنا من أركانها األساسية ـ إلى المصانع‪ ،‬وهي ماليين الماليين من‬
‫المصانع نقوم بأخطر إنتاج في العالم وأعظمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما هو؟‬
‫قالت‪ :‬إنتاج كل ما تحتاجونه من البروتينات‪ ،‬والدهنيات‪ ،‬والنشويات‪ ،‬والفيتامينات‪ ،‬واألمالح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل ذلك من من ماء وأمالح وثاني أكسيد كربون وضوء شمس‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كلنا نتحد من أجل كل ما تأكلونه من غ ذاء‪ ..‬ومن عجيب أمرن ا أنن ا نق وم بعملن ا دون ض جيج أو إزع اج‪..‬‬
‫فنقوم بعمليات كيماوية طويلة متالحقة‪ ،‬وفي سلسلة متتابعة في الخطوات حتى يكون الناتج هي تلك الثمار اللذي ذة الش هية‬
‫التي ليست إال مخازن‪ ،‬خزن فيها الغذاء وأحكم حفظه فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هذا فقط ما تقومين به؟‬
‫قالت‪ :‬لي أدورا أخرى كثيرة‪ ..‬ولكني لن أنفرد بالحديث‪ ..‬فمن رفاقي من ينتظر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من؟‬
‫قالت‪ :‬من تطلقون عليه النتروجين‪ ،‬ونطلق عليه‪ (:‬ملطاف)‬
‫تلطيف الهواء والتربة‪:‬‬
‫اقترب النتروجين بلطف‪ ،‬وقال‪ :‬نعم أنا الملطاف‪ ..‬وليسموني نتروجينا كما يريدون‪ ..‬ولكني لن أرضى باسم غ ير‬
‫الملطاف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم هذا اإلصرار على هذا االسم؟‬
‫قال‪ :‬ألني ألطف الهواء والتراب‪ ..‬فأنا عبد اللطيف‪ ..‬فال أحب إال ما يذكرني بهذه العبودية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفتني باسمك‪ ،‬فعرفني بنفسك ودورك‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد جعلني هللا ذا أهمية بالغة على األرض‪ ،‬فأنا أقوم بدور مخفف لألوكسجين‪ ،‬فأخفضه إلى النسبة التي تالئم‬
‫اإلنسان والحيوان‪ ..‬أال تعلم بأني أشكل ‪78‬بالمائة من كل نسيم يهبّ ‪ ،‬فأنا جزء من الهواء ال واقي‪ ،‬وب دوني ك ان يمكن أن‬
‫تحدث عدة أمور خطرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تحدثني عن احتماالت فقدك‪ ..‬فأنت بيننا موقر مكرم‪ ،‬ولكن حدثنا عن فائدة وجودك‪ ،‬ف إني ال أرى ل ك من‬
‫األهمية ما أراها ألختك انشراح‪.‬‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬لقد أخطأت في هذا‪ ..‬فأنا ال أقل عنها أهمية‪ ..‬ذلك ألن هناك سلسلة من المواد الكيموية التي أعد ج زءا منه ا‪،‬‬
‫والتي تشكل الغذاء الذي تتناولنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أنسيت أني ملطف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تلطف الهواء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس الهواء فق ط‪ ..‬ب ل ال تراب أيض ا‪ ..‬فب دون تلطيفي للترب ة وتخص يبي له ا ال يمكن أن ينم و أي نب ات من‬

‫‪81‬‬
‫النباتات الغذائية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت هواء‪ ،‬فكيف تصير في التراب؟‬
‫قال‪ :‬لذلك طريقتان‪ :‬أما األولى‪ ،‬فعن طريق نشاط جراثيم معين ة تس كن في ج ذور النبات ات البقلي ة‪ ،‬مث ل البرس يم‬
‫والحمص والبسلة والفول وكثير غيرها‪ ..‬وهذه الجراثيم تمتصني من الهواء وتحيلني إلى ملطاف م ركب‪ ..‬وحين يم وت‬
‫النبات يبقى بعض هذا الملطاف المركب في األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذه الطريقة‪ ،‬فما الطريقة الثانية؟‬
‫قال‪ :‬عن طريق عواصف الرعد‪ ،‬فكلما ومض برق خالل الهواء وح ّد بين ق در من األوكس جين‪ ،‬وبي ني فيس قطه‬
‫المطر إلى األرض كملطاف مركب(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تكفي هاتان الطريقتان في تخصيب التربة؟‬
‫قال‪ :‬عموما‪ ..‬ولكن من غير إسراف‪ ..‬فلذلك ترى الحقول التي طال زرعها تفقد ما بها من عنصري‪ ،‬ولهذا يعم د‬
‫الزراع إلى مناوبة المحصوالت التي يزرعونها‪.‬‬
‫تزيين السماء‪:‬‬
‫فج أة الحت لي مجموع ة من األل وان الب اهرة من األحم ر واألزرق واألخض ر‪ ..‬فقلت‪ :‬من أنت‪ ..‬فق د به رني‬
‫جمالكن؟‬
‫قالت إحداهن‪ :‬أما أنا‪ ،‬فيسمونني األرجون‪ ،‬وأنا أتواجد في الهواء بنس بة ‪ 10/6‬في ‪1‬بالمائ ة‪ ،‬وأن ا أعطي ك الن ور‬
‫الساطع الباهر الذي تتزينون به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت مزيان‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كيف عرفت اسمي؟‬
‫قلت‪ :‬أنا أقول بالقياس في اللغة‪ ..‬فقست اسمك على اسم زمالئك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬قل به في اللغة ما شئت‪ ..‬وإياك أن تقول به في الشرع‪ ..‬فتحكم عقلك في دين هللا‪.‬‬
‫الرياح والتلقيح‪:‬‬
‫أردت االنصراف‪ ،‬فنادتني طائفة من الهواء جمعت أشكاال مختلفة منه‪ ..‬وق د ك انت من الق وة بحيث حبس تني عن‬
‫السير‪ ،‬فقلت‪ :‬من أنت‪ ..‬فإن لك قوة وشدة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا الريح والرياح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمم تتشكلين؟‬
‫قالت‪ :‬كل من رأيته جزء مني وخدم لي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقتك بالنسيم‪ ..‬أهو ابن عمك؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬هو أنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عجبا‪ ..‬فهل أنت نسيم لطيف‪ ..‬أم ريح جبارة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كالهما أنا‪ ..‬أنا عبد هلل‪ ..‬إن أمرني بأن أكون نسيما كنت‪ ،‬وإن أمرني أ أكون شديدة كنت‪ ..‬ألم تسمع م ا ورد‬
‫في عبوديتي هلل‪ ..‬ألم تسمع قوله تع الى‪ ﴿:‬هُ َو الَّ ِذي ي َُس يِّرُ ُك ْم ِفي ْال َب رِّ َو ْال َبحْ ِر َحتَّى ِإ َذا ُك ْنتُ ْم ِفي ْالفُ ْل ِك َو َج َر ْينَ ِب ِه ْم ِب ِر ٍ‬
‫يح َ‬
‫ط ِّي َب ٍة‬
‫صينَ َلهُ ال ِّدينَ َل ِئ ْن َأ ْن َج ْي َتنَا ِم ْن‬ ‫ظ ُّنوا َأنَّه ُْم أُ ِحي َ‬
‫ط ِب ِه ْم َدعَوْا هَّللا َ ُم ْخ ِل ِ‬ ‫ف َو َجا َءه ُْم ْال َموْ جُ ِم ْن ُكلِّ َم َك ٍ‬
‫ان َو َ‬ ‫َو َف ِرحُوا ِب َها َجا َء ْت َها ِريحٌ ع ِ‬
‫َاص ٌ‬
‫َه ِذ ِه َل َن ُكون ََّن ِم ْن ال َّشا ِك ِرينَ ﴾(يونس‪)22 :‬‬
‫قلت‪ :‬فما في ذلك من فضلك ودالئل عبوديتك؟‬
‫قالت‪ :‬أال تبصر؟‪ ..‬لقد ميز هللا بواس طتي بين المخلص والمن افق‪ ،‬ومن يثبت في عب ادة هللا وبين من يعب د هللا على‬
‫حرف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أبحث عن البركات‪ ..‬وال أبحث عن فضل المخلوقات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلي بركات عظيمة نص عليها القرآن الكريم‪ ،‬ألم تعلم بأن هللا تعالى جعل ني واس طة للم اء المب ارك والثم ر‬

‫‪ )(1‬عواصف البرق تؤدي إلى اتحاد األكسجين والنيتروجين في الجو لتكوين أكسيد النتروز الذي ينزل مع األمطار‪ ،‬فيكون سماداً للتربة‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫المبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ..‬وأين هذا؟‬
‫اء َم ا ًء‬‫الس َم ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اح ل َوا ِق َح َفأنزَل َن ا ِم ْن َّ‬ ‫رْس لنَا الرِّ َي َ‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫قالت‪ :‬لقد نص على هذا آيات من القرآن الكريم‪ ،‬فاهلل تعالى يق ول‪َ ﴿:‬وأ َ‬
‫خَاز ِنينَ ﴾(الحجر‪)22:‬‬ ‫َفأَسْ َق ْينَا ُك ُموهُ َو َما َأ ْنتُ ْم َلهُ ِب ِ‬
‫اح ب ُْش ر ًا َب ْينَ َي َديْ َرحْ َم ِت ِه َحتَّى ِإ َذا‬
‫ُرْس لُ الرِّ َي َ‬ ‫ولذلك كنا بشارة من بشائر الخير‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي ي ِ‬
‫ت َك َذ ِلكَ نُ ْخ ِرجُ ْال َموْ تَى َل َعلَّ ُك ْم َت َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪57 :‬‬ ‫زَلنَا ِب ِه ْال َما َء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ت َفأَ ْن ْ‬
‫ال ُس ْقنَاهُ ِل َب َل ٍد َم ِّي ٍ‬
‫ت َس َحاباً ِث َقا ً‬ ‫َأ َقلَّ ْ‬
‫طهُورًا﴾(الفرقان‪)48:‬‬ ‫اء َما ًء َ‬ ‫اح بُ ْشرًا َب ْينَ َي َديْ َرحْ َم ِت ِه َو َأ ْ‬
‫نزَلنَا ِم ْن ال َّس َم ِ‬ ‫)‪ ،‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬وه َُو الَّ ِذي َأرْ َس َل الرِّ َي َ‬
‫قلت‪ :‬كل هذه اآليات تطفح بالبشر والفرح والرحمة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لتخبر أنها المقصد الحقيقي من إرسال الري اح‪ ،‬فهي ال تي يحي ا به ا م وات األرض‪ ،‬ويثم ر ال زرع وتمتلئ‬
‫خزائن السحاب‪ ،‬ويرتوي الخلق بمائها الطهور‪.‬‬
‫فق د جع ل هللا لن ا تلقيح األزه ار في النبات ات فتثم ر‪ ،‬ومعظم التلقيح في النب ات تق وم ب ه الري اح‪ ،‬ول وال ذل ك‬
‫لتعذرالحصول على الطعام أو الحب والثمار‪.‬‬
‫كما أننا نلقح السحب‪ ،‬فتنزل الماء المبارك‪ ،‬وكل ذلك بتقدير الخالق الرازق الذي نعمر ألسنتنا بالتسبيح له وذكره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى القرآن الكريم يذكر الرياح مرة باإلفراد ومرة بالجمع‪ ،‬فما السر؟‬
‫قالت‪ :‬هذا من أسرار القرآن الكريم في اختيار األلفاظ‪ ..‬فعامة المواضع التي ذكر هللا تعالى فيها إرسال الريح بلفظ‬
‫الواحد عبارة عن العذاب‪ ،‬وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة‪ ،‬ليخبر أن رياح الرحمة كثيرة‪ ،‬وأن ريح‬
‫العذاب واحدة رحمة من هللا‪ ،‬ألن رحمته سبقت غضبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬هذا توجيه جيد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بل إن الرياح القواصف واألعاصير والريح العقيم والريح الصرصر العاتية م اهي ك ذلك إال ري اح رحم ة‬
‫بما تلقيه في صدور المؤمنين من خوف من هللا ينزع حجاب الغفلة والعادة‪ ،‬ويعيد هلل في أذهانهم قدرته وتصرفه المطل ق‬
‫في الكون‪ ،‬ولوال الريح العقيم ما عرف فضل هللا بالرياح اللواقح‪.‬‬
‫ُرْس َل‬ ‫ُ‬
‫ار ًة أ ْخ َرى َفي ِ‬ ‫ولهذا يأتي التحذير من مكر هللا بالتهديد بأمثال تلك الري اح‪ ،‬ق ال ‪َ ﴿:‬أ ْم َأ ِمنتُ ْم َأ ْن ي ُِعي َد ُك ْم ِفي ِه َت َ‬
‫الرِّيح َفي ُْغ ِر َق ُك ْم ِب َما َك َفرْ تُ ْم ثُ َّم اَل ت َِجدُوا َل ُك ْم َع َل ْينَا ِب ِه َت ِبيعًا﴾(اإلسراء‪)69:‬‬ ‫ِ‬ ‫اص ًفا ِم ْن‬
‫َع َل ْي ُك ْم َق ِ‬
‫قلت‪ :‬فكيف أنال أسرار بركاتك؟‬
‫قالت‪ :‬بالتأسي بسنة رسول هللا ‪ ‬في التعامل معي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف كان ‪ ‬يتعامل معك؟‬
‫قالت‪ :‬ما رأيت رسول هللا ‪ ‬ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم‪ ،‬وكان إذا رأى غيم ا أو ريح ا ع رف‬
‫في وجهه‪ ،‬وقد قيل له‪ :‬يا رسول هللا إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيت ه ع رف في‬
‫ارضٌ‬ ‫وجهك الكراهية فقال‪ :‬ما يؤم ني أن يك ون في ه ع ذاب ع ذب ق وم ب الريح‪ ،‬وق د رأى ق وم الع ذاب فق الوا‪َ ﴿:‬ه َذا َع ِ‬
‫ُم ْم ِطرُ نَا﴾(االحقاف‪)24 :‬‬
‫وكان ‪ ‬ينهى عن سبها أو التوجه إليها بالذم‪ ،‬بل يتوجه إلى هللا‪ ،‬فيسأله من خيرها‪ ،‬ويستعاذ به من شرها‪ ،‬وك ان‬
‫يوص ي أمت ه بقول ه‪ (:‬ال ريح من روح هللا ت أتي بالرحم ة وت أتي بالع ذاب‪ ،‬ف إذا رأيتموه ا فال تس بوها وس لوا هللا خيره ا‬
‫واستعيذوا به من شرها)‬
‫وكان من سنته أن يقول إذا عصفت الريح‪ (:‬اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأع وذ ب ك‬
‫من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)‬
‫قلت‪ :‬بهذا التوحيد علمنا النبي ‪ ‬كيف نوحد هللا في كل األشياء‪ ،‬وكي ف ال ن أمن مك ره م ع ك ل ش يء‪ ،‬ألن ك ل‬
‫شيء مجند هلل خاضع ألوامره حتى الريح التي نراها طيبة قد تحمل في طياتها جرثوم الموت القاتل إذا أراد هللا ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا عرفت ذلك‪ ،‬ونظرت إلي بهذه العين نلت بركتي‪ ،‬وقد تنال من نصرتي ما أنلت أهل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل نصرت أولياء هللا؟‬

‫‪83‬‬
‫قالت‪ :‬كثيرون هم‪ ..‬لقد كنت جندا من جن د هللا ي وم تح زبت األح زاب تبغي استئص ال ش أفة المس لمين‪ ،‬ق ال ‪:‬‬
‫ص يرًا﴾‬ ‫﴿ َي َاأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ْاذ ُكرُوا ِنعْ َم َة هَّللا ِ َع َل ْي ُك ْم ِإ ْذ َجا َء ْت ُك ْم جُ نُو ٌد َفأَرْ َس ْلنَا َع َل ْي ِه ْم ِريحًا َوجُ نُودًا َل ْم ت ََروْ هَا َو َكانَ هَّللا ُ ِب َما تَعْ َملُ ونَ َب ِ‬
‫(األحزاب‪ ،)9:‬فالريح من الجنود المرئية‪ ،‬وغيرها من الجنود غير المرئية‪.‬‬
‫وكنت جندا من جند هللا التي نصر هللا بها هودا ‪ ‬على قومه‪ ،‬حين أرسل عليهم ريحا باردة كبرودة قلوبهم‪ ،‬في‬
‫رْس ْلنَا َع َل ْي ِه ْم ِريحً ا‬
‫أيام مشؤومات كشؤم نفوس هم مقابل ة لهم على تش اؤمهم من ن بيهم ‪ ،‬وتحقي ا لطلبهم‪ ،‬ق ال ‪َ ﴿:‬فأَ َ‬
‫صرُونَ ﴾(فصلت‪)16 :‬‬ ‫اب ْال ِخ ْز ِي ِفي ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو َل َع َذابُ اآْل ِخ َر ِة َأ ْخزَى َوه ُْم اَل يُ ْن َ‬ ‫ت ِلنُ ِذي َقه ُْم َع َذ َ‬ ‫رْصرًا ِفي َأي ٍَّام ن َِح َسا ٍ‬
‫ص َ‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬إن تاريخك مملوء بالجهاد في سبيل هللا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وال زالت لي أدوار لن أرتاح حتى أؤديها‪ ..‬فدعني‪ ،‬فإن رسالة وصلتني من السماء‪ ..‬وال بد أن أذهب‪.‬‬
‫حفظ السماء‪:‬‬
‫ذهبت الريح‪ ..‬فرأيت كل ما رأيته من أهوية يتجمع بشكل عجيب ليشكل جدارا صلبا ال يمكن اختراقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من أنت؟‬
‫الس َما َء َس ْقفاً‬ ‫ْ‬
‫قال‪ :‬أنا الجدر الحافظ الذي يحفظ أرض كم من ك ل س وء‪ ..‬أن ا ال ذي أش ار إلي قول ه تع الى‪َ ﴿:‬و َج َعل َن ا َّ‬
‫عْرضُونَ ﴾ (االنبياء‪)32:‬‬ ‫َمحْ فُوظاً َوه ُْم ع َْن آ َيا ِت َها ُم ِ‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫بإحكام ش ديد وم يزان دقي ق؛ ليتم إح راق‬ ‫ٍ‬ ‫قالت‪ :‬لقد جعل هللا سمك الغالف الجوي ثمانية عشر ألف ميل‪ ،‬وصممه‬
‫ماليين الشهب والنيازك قبل وصولها إلى األرض‪.‬‬
‫وليس ذلك فقط‪ ..‬بل من بركاتنا أننا نمتص األشعة القاتلة والدقائق الذرية المميتة قب ل وص ولها إلى األرض‪ ..‬إنن ا‬
‫نمثل درعاً واقياً لسكان األرض من هذه المخاطر كلها‪ ..‬إننا نشبه المشيمة التي تحيط بالجنين‪ ،‬فنمن ع الم واد الض ارة من‬
‫العبور وال نسمح إال للمواد النافعة‪.‬‬
‫الحبوب‬
‫أردت االنصراف من عالم الهواء المبارك‪ ،‬فقالت لي جزيئة من جزيئات الهواء‪ :‬إلى أين تذهب يا تلميذ السالم؟‬
‫قلت‪ :‬إلى مستشفى السالم‪ ..‬أللقى المتوسمين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فكيف ال تزور أحب بناتنا إلى نفوسنا‪ ،‬وأعظمهن بركة؟‬
‫قلت‪ :‬من تقصدين؟‬
‫قالت‪ :‬تلك السنابل التي تفيض بالبركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أراها‪..‬‬
‫قالت‪ :‬لقد قدمت لك بواحدة منهن‪ ..‬وهي ستحدثك بلسانها عن أسرارها وأسرار بركاتها‪.‬‬
‫فجأة ال حت لي سنبلة بألوان الذهب‪ ،‬وقالت‪ :‬ال أظن أنك تجهلني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف أجهلك؟‪ ..‬وأنا آكلك صباح مساء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فاعرف قدري لتأكلني‪ ،‬وأنت تحمد هللا‪ ..‬فال بركة فيمن لم يحمد هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أحمد هللا كما يحمده أكثر قومي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال يستقيم لك الحمد حتى تعرف فضل ما تحمد هللا عليه‪ ،‬ووجه النعمة فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد أضر بنا اإللف‪ ،‬فنسينا كثيرا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن نسيت‪ ،‬فاعلم أن هللا تع الى ش به مض اعفة الص دقات بمض اعفة حب ات القمح‪ ،‬فق ال‪َ ﴿:‬م َث لُ الَّ ِذينَ يُ ْن ِفقُ ونَ‬
‫اس ٌع َع ِلي ٌم﴾ (البقرة‪261 :‬‬ ‫اعفُ ِل َم ْن َي َشا ُء َوهَّللا ُ َو ِ‬ ‫يل هَّللا ِ َك َم َث ِل َحبَّ ٍة َأ ْن َبت َْت َس ْب َع َسنَا ِب َل ِفي ُكلِّ ُس ْنبُ َل ٍة ِما َئةُ َحبَّ ٍة َوهَّللا ُ ي َ‬
‫ُض ِ‬ ‫َأ ْم َوا َله ُْم ِفي َس ِب ِ‬
‫)‬
‫قلت‪ :‬أقرأ هذا‪ ..‬فهل فيه من أسرار البركة شيء؟‬
‫قالت‪ :‬ما بك‪ ..‬ألست ترى‪ ..‬أم تراك ال تسمع؟‬

‫‪84‬‬
‫قلت‪ :‬بل إني بحمد هللا أسمع وأرى‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال ترى أن هللا تعالى قرننا بالصدقات وشبهنا بها‪ ..‬أال تعلم قيمة الصدقات؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قال ‪ (:‬إن هللا ليربي ألحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل أحد)‬
‫(‪ ،)1‬وفي حديث آخر قال‪ (:‬ما تصدق أحد بصدقة من طيب وال يقبل هللا إال الطيب إال أخذها ال رحمن بيمين ه‪ ،‬وإن ك انت‬
‫تمرة‪ ،‬فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله)(‪)2‬‬
‫قالت‪ :‬فعلمك بهذا يدلك على أسرار البركات التي نختزنها‪ ..‬أال تعلم أن اآلية التي قرنتنا بالص دقات تح وي حل وال‬
‫اقتصادية مهمة تنتفع بها أي أمة إذا ما فكرت في استقاللها الكامل؟‬
‫قلت‪ :‬ماذا تعني؟‬
‫قالت‪ :‬هي دعوة لالهتمام بمضاعفة السنابل وحبات البركة التي تختزنها السنابل‪ ،‬ففيها ما يغني ويكفي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما تغني السنابل؟‪ ..‬وقد عرفت من حاجات اإلنسان الغذائية ما ذكرت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن هللا تعالى برحمته جعل في حبة القمح وأخواتها من القيمة الغذئية ما يغني عن أكثر األطعم ة‪ ،‬ب ل إن في‬
‫النصوص ما يشير إلى كونها غذاء كامال‪ ..‬وهو سر آخر من سر البركة التي أودعها هلل فينا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قرأت القرآن الكريم من أوله إلى آخره‪ ،‬فلم أجد هذا‪ ..‬فما هذه الدعوى العريضة؟‬
‫اف َو َس ْب َع‬ ‫ْ‬
‫ان َي أ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬ ‫ت ِس َم ٍ‬ ‫ال ْال َم ِلكُ ِإ ِّني َأ َرى َس ْب َع َب َق َرا ٍ‬ ‫قالت‪ :‬ألم تقرأ قوله تعالى في قصة يوسف ‪َ ﴿:‬و َق َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ضغ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫لرُّؤ َي ا تَعْ بُ رُونَ َق الُوا أ ْ‬ ‫اي ِإن ُكنتُ ْم ِل ْ‬ ‫أل َأ ْفتُ و ِني ِفي ْ‬ ‫ت َيا َأ ُّي َها ْال َم ُ‬ ‫ضْر َوأُ َ‬
‫ال ٍم َو َم ا نَحْ نُ ِبتَأ ِوي ِل‬ ‫َاث أحْ َ‬ ‫رُؤ َي َ‬ ‫خَر َيا ِب َسا ٍ‬ ‫ت ُخ ٍ‬ ‫ال ٍ‬‫سُنبُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ال الَّ ِذي ن ََجا ِم ْنهُ َما َوا َّد َك َر َبعْ َد أ َّم ٍة أنَا أ َن ِّبئُ ُكم ِبتَأ ِوي ِل ِه َفأ ِ‬ ‫َ‬
‫ان‬‫ت ِس َم ٍ‬ ‫ق أ ْف ِتنَا ِفي َسب ِْع َب َق َرا ٍ‬ ‫ون يُو ُسفُ أ ُّي َها الصِّ دِّي ُ‬ ‫رْسلُ ِ‬ ‫ال ِم ِب َعا ِل ِمينَ َو َق َ‬
‫األحْ َ‬
‫ال ت َْز َر ُعونَ َس ْب َع ِس ِنينَ د ََأ ًب ا َف َم ا‬ ‫اس َل َعلَّه ُْم َيعْ َل ُمونَ َق َ‬‫رْج ُع ِإ َلى النَّ ِ‬ ‫ت لَّ َع ِّلي َأ ِ‬ ‫خَر َيا ِب َسا ٍ‬‫ضْر َوأُ َ‬ ‫ت ُخ ٍ‬ ‫ال ٍ‬ ‫اف َو َسب ِْع سُنبُ َ‬ ‫َي ْأ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬
‫حْص نُونَ ثُ َّم َي ْأ ِتي‬ ‫ال ِّم َّما ت َْأ ُكلُونَ ثُ َّم َي ْأ ِتي ِمن َبعْ ِد َذ ِلكَ َس ْب ٌع ِشدَا ٌد َي ْأ ُك ْلنَ َما َق َّد ْمتُ ْم َله َُّن ِإ َّ‬
‫ال َق ِلي ً‬
‫ال ِّم َّما تُ ِ‬ ‫صد ُّت ْم َف َذرُو ُه ِفي سُنبُ ِل ِه ِإ َّ‬
‫ال َق ِلي ً‬ ‫َح َ‬
‫عْصرُونَ ﴾ (يوسف‪ 43 :‬ـ ‪)49‬‬ ‫َاث النَّاسُ َو ِفي ِه َي ِ‬ ‫ِمن َبعْ ِد َذ ِلكَ عَا ٌم ِفي ِه يُغ ُ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬كثيرا‪ ..‬ففي هذه اآلية قصة رؤيا الملك‪ ،‬وكيف مكن هللا ليوسف ‪ ‬في األرض‪ ،‬وهو تمهيد لحضور‬
‫إخوة يوسف ‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ما أقل ما تفقهون من القرآن الكريم‪ ..‬أال تسمعون من القرآن الكريم غير القصص؟‬
‫قلت‪ :‬فما تسمعين؟‬
‫قالت‪ :‬في هذه اآليات الكريمة أخبر تعالى أن المصريين‪ ،‬ومن جاورهم من الشعوب اكتفوا في تلك الفترة الطويل ة‬
‫بما تدره عليهم السنابل المخزنة من رزق‪ ،‬وهو دليل على أنها غذاء كامل‪ ،‬وإال لكان في اكتف ائهم به ا م ا ي ؤدي بهم إلى‬
‫سوء التغذية(‪.)3‬‬
‫قلت‪ :‬فهل أثبت العلم الحديث ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ال حاجة ألن يثبت ذلك‪ ..‬فقد عاشت البش رية س نين طويل ة من أعماره ا تعتم دنا غ ذاءنا‪ ،‬فلم تش ك فاق ة وال‬
‫جوعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪!....‬؟‬
‫القمح‪:‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬سأرضي بعض غروركم‪ ..‬لقد أثبتت الدراس ات ال تي أج ريت على ال تركيب التحليلي للقمح‪ ،‬وعش بة‬
‫القمح أنهم ا يحتوي ان على العناص رالوفيرة مث ل الكالس يوم والفس فور والك بريت البوتاس يوم والكل ور والص وديوم‬
‫والمغنيسيوم‪ ،‬وغيرها‪ ..‬وليس هذا فقط‪ ،‬بل إنهما يحتويان على نسب مقاربة جدا لما هي موجودة عليه في جسم اإلنسان‪.‬‬
‫وزيادة على ذلك فإن حبة القمح تحتوي على كل العناصر النادرة في التربة‪ ،‬بكميات نادرة أيضا‪ ،‬وبنسب مقارب ة‬

‫‪ )(1‬أحمد وابن حبان‪.‬‬


‫‪ )(2‬الترمذي والنسائي وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(3‬ذكر هذه اإلشارة الدكتور جميل القدسي الدويك‪ ،‬قال‪ «:‬وبالفعل عاش ت مص ر بأكمله ا‪ ،‬وم ا حوله ا من الحض ارات س بع س نين كامل ة على غ ذاء‬
‫واف شامل‪ ،‬دون أن يأكلوا أي طعام آخر ألن كل األطعم ة ق د انتهت بع د جف اف س بع س نين‪ ،‬ف أكلوا ب ذلك الغ ذاء الص حي المتكام ل أال وه و القمح‬
‫ٍ‬ ‫متكامل‪،‬‬
‫الكامل»‬
‫‪85‬‬
‫جدا لما هي موجودة عليه في جسم اإلنسان‪ ،‬ومن أمثلتها الحديد والفلور والزنك‪ ،‬والنحاس‪ ،‬واليود والك روم والكوب الت‪،‬‬
‫والسيليكون‪ ،‬والفاناديوم والسيلينيوم والمنجنيز والنيكل والموليبدنيوم وغيرها‪.‬‬
‫وإضافة إلى ذلك كله‪ ،‬فحبوب القمح تحتوي على الكربوهيدرات التي تعتبر المصدر األول للطاقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ما ذكرته ال يشكل الغذاء الكامل؟‬
‫قالت‪ :‬تقصد البروتينات‪ ..‬القمح يحتوي على ك ل األحم اض األميني ة العش رين األساس ية وغ ير األساس ية‪ ،‬وهي‬
‫وحدات بناء كل أنواع البروتينات الموجودة في الجسم‪ ..‬كلها كلها بدون استثناء‪ ..‬وكيف ال وهو يحت وي على الحمض ين‬
‫الدهنيين األساسيين اللذين يقدمان للجسم وظائف خارقة عظيمة معجزة تعجز آالف بل ماليين المركبات عن القيام بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والفيتامينات!؟‬
‫قالت‪ :‬القمح يحتوي على مجموعة هائلة ومتنوعة من الفيتامينات‪ ،‬والتي ين در وجوده ا ح تى في أعظم ص يدلية‪،‬‬
‫وبكميات رائعة مفيدة مدهشة(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬والهرمونات واإلنزيمات!؟‬
‫قالت‪ :‬حبة القمح تحتوي على مركبات هرمونية عظيمة مسيطرة مهيمنة هي البروستاغالندينات‪ ،‬وعلى أك ثر من‬
‫ثمانين إنزيماً عظيماً مسيطر ًا مهيمناً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد كان يوسف ‪ ‬خبيرا غذائيا إذن؟‬
‫ْ‬
‫ط َع ا ٌم تُرْزَ َقا ِن ِه ِإاَّل َنبَّأتُ ُك َم ا‬ ‫ْ‬
‫قال‪ :‬كيف ال‪ ،‬وقد شهد له القرآن الكريم بذلك‪ ،‬ألم يق ل هللا تع الى على لس انه‪ ﴿:‬ال َيأ ِتي ُك َم ا َ‬
‫ِبت َْأ ِوي ِل ِه َقب َْل َأ ْن َي ْأ ِت َي ُك َما﴾ (يوسف‪ ،)37:‬فهو يعلم بالغذاء قبل حضوره‪ ،‬ويعلم تأويله بعد أكله‪.‬‬
‫الشعير‪:‬‬
‫قلت‪ :‬لقد حدثتني أيتها السنبلة المباركة عن القمح‪ ،‬فحدثيني عن الشعير‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ها هي ذي أختي سنبلة الشعير تحدثك عن نفسها‪ ..‬فال أبلغ من حديث اإلنسان عن نفسه‪.‬‬
‫تقدمت سنبلة الشعير بجمالها‪ ،‬وق الت‪ :‬لق د ورد في من البرك ات م ا ورد في القمح‪ ،‬فق د تن اولني الن بي ‪ ‬خ ً‬
‫بزا‬
‫وحساء وشرابًا‪ ،‬ونصح بي ووصفني لم داواة المرض ى وتخفي ف الح زن والغم ال ذي يع تري النفس اإلنس انية بين حين‬
‫وآخر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي ما تطمئن به نفسي‪ ،‬وينشرح ل صدري‪.‬‬
‫قالت‪ :‬من ذلك ما قاله ابن عباس يصف حياة النبي ‪ (:‬كان ‪ ‬يبيت اللي الي المتتابع ة طاوي ا وأهل ه ال يج دون‬
‫عشاء‪ ،‬وكان أكثر خبزهم خ بز الش عير)(‪ ،)2‬وعن أبي أمام ة ق ال‪ (:‬م ا ك ان يفض ل عن أه ل بيت رس ول هللا ‪ ‬خ بز‬
‫الشعير)(‪)3‬‬
‫ال منذ بعثه هللا إلى أن قبض)(‪)4‬‬ ‫(خبزا منخو ً‬‫ً‬ ‫وقد كانوا يأكلون الشعير بنخالته‪ ،‬وقد روي أنه ‪ ‬لم يأكل‬
‫قلت‪ :‬أكان يأكل الشعير بنخالته؟‬
‫هَّللا‬ ‫هَّللا‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ألم تسمع حديث سهل بن سعد‪ ،‬فقد قال‪ :‬ما رأى َرسُول ِ ‪ ‬النقي(‪ )5‬من حين ابتعثه تعالى حتى‬
‫ال من حين ابتعث ه هَّللا تع الى ح تى‬ ‫قبضه هَّللا ‪ ،‬فقيل له‪ :‬هل كان لكم في عهد َرسُول هَّللا ِ مناخل؟ قال‪ :‬ما رأى َرسُول هَّللا ِ منخ ً‬
‫قبضه هَّللا تعالى‪ ،‬فقيل له‪ :‬كيف كنتم تأكلون الش عير غ ير منخ ول؟ ق ال‪ (:‬كن ا نطحن ه وننفخ ه فيط ير م ا ط ار وم ا بقي‬
‫َثرَّ ْينَاه(‪)7())6‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن المناخل وجدت بعد ذلك‪ ..‬وال حرج في أكل النقي‪ ..‬فاهلل تعالى لم يحرم الطيبات‪.‬‬
‫‪ )(1‬من الفيتامينات التي تم اكتشافها في حبة القمح الكاملة حتى اآلن فهي‪ ،‬فيتامين ج‪ ،‬فيتامين هاء (السكسينات)‪ ،‬البيتا كاروتين (فيتامين أ)‪ ،‬وال بيوتين‪،‬‬
‫والكولين‪ ،‬وحمض الفوليك‪ ،‬الثيامين (فيتامين ب‪ ،)1‬الريبوفالفين فيتامين ب‪ ،)2‬النياسين (فيتامين ب‪ ،)3‬البانتوثنيك أسيد (فيتامين ب‪ ،)5‬وفيتامين ك‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ )(3‬الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(4‬أحمد‪.‬‬
‫‪ )(5‬هو الخبز الحواري‪ ،‬وهو الدرمك‪.‬‬
‫‪ )(6‬أي‪ :‬بللناه وعجناه‪.‬‬
‫‪ )(7‬البخاري‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫قالت‪ :‬الطيبات في النقي والنخالة‪ ..‬أال تعلم أن بعض بني قومك كانوا يأكلون األرز بقشوره‪ ،‬ف تركوه فأص ابهم م ا‬
‫أصاب المستكبرين؟‬
‫قلت‪ :‬فما خسروا غير القشور؟‬
‫قالت‪ :‬إن تلك القشور التي خسروها كانت تحمل‪40‬بالمائة من الكالسيوم‪ ،‬و ‪ 55‬بالمائة من الفوسفور‪ ،‬و ‪55‬بالمائ ة‬
‫من الحديد‪ ،‬و‪ 56‬بالمائ ة من البوتاس يوم‪ ،‬و‪78‬بالمائ ة من فيت امين ب‪ ،1‬و ‪50‬بالمائ ة من فيت امين ب‪ ،2‬و ‪69‬بالمائ ة من‬
‫فيتامين ب‪ ،‬و‪70‬بالمائة من األلياف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أكل هذه الفوائد تختزنها القشور؟‬
‫قالت‪ :‬وغيرها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن سر بركتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬قد حدثتك عنها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنت أعلم بما في نفسي من آثار ما تركه قومي‪ ،‬فخاطبيني بحسب عقلي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس‪ ..‬سأخاطبك ما دمت تلميذا‪ ..‬ولو كنت أعلى درجة من ذلك ما زدت على ما ورد في النصوص‪ :‬لقد‬
‫وردت األدلة العلمية الكثيرة تثبت الفوائد التي يحتوي عليها الشعير غذاء وشرابا‪.‬‬
‫ومن ذلك أن معهد البحوث الزراعية بجامعة ألبرتا بكندا قام ببحث حول ( أهمية المنتجات المحتوية على منتجات‬
‫الشعير على صحة مرضى السكر ـ النوع الثاني ـ)‪ ،‬وتحديد أهمية استخدام منتجات الش عير وتأثيره ا على نس بة الس كر‬
‫والدهون في الدم‪ ،‬وكانت النتيجة النهائية لهذا البحث توض يح أهمي ة غ ذاء الش عير وخ بز الش عير كوس يلة لزي ادة كمي ة‬
‫األلياف المطلوبة للجسم القابلة للذوبان وغير القابلة للذوبان‪ ،‬لخفض نسبة السكر والدهون في الدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل للشعير القدرة على تنظيم امتصاص السكر في الدم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فهو يجد من ارتفاع السكر المفاجئ الحتواء أليافه المنحلة القابلة للذوبان على بكتينات تكون مع الماء‬
‫هال ًما لزجًا يبطئ من هضم وامتصاص النش ويات والس كريات‪ ،‬كم ا أن ه قلي ل الس عرات غ ني األلي اف المنحل ة وغ ير‬
‫المنحلة‪ ،‬مما يقلل من الرغبة في تناول األطعمة السكرية وغيرها‪ ،‬وهذا يساعد على تنظيم نسبة السكر في الدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذكرت أن لك عالقة بالدهون‪ ،‬فهل تساهمين في التقليل من الكوليسترول؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد أثبتت الدراسات العلمية فاعلية حبوب الشعير الفائقة في تقليل مستوى الكوليس ترول في ال دم من‬
‫خالل عدة عمليات حيوية‪ ،‬منها أن حبوب الشعير تحتوي على مركبات مشابهة لفيتامين هـ الذي يعد من أشهر مضادات‬
‫األكسدة التي لها القدرة على تثبيط إنزيمات التخليق الحيوي للكوليسترول‪.‬‬
‫ومنها أن ألياف الشعير المنحلة تحتوي على مادة هامة جدًا وهي البيتا جلوكان‪ ،‬وهي التي تتحد م ع الكوليس ترول‬
‫الزائد في األطعمة واألحماض الصفراوية مما يقلل وصوله إلى تيار الدم‪.‬‬
‫وتشير نتائج البح وث إلى انخف اض نس بة الكوليس ترول الع ام بنس بة ‪10‬بالمائ ة‪ ،‬وانخف اض نس ب الكوليس ترول‬
‫منخفض الكثافة ‪ ldl‬إلى ‪8‬بالمائة وارتفاع نسبة الكوليسترول عالي الكثافة ‪ hdl‬إلى ‪16‬بالمائة‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإنه ينتج عن تخمر األلياف المنحلة في القولون أحماض تمتص من القولون وتتدخل مع استقالب‬
‫الكوليسترول فتعيق ارتفاع نسبة في الدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلك عالقة إذن بضغط الدم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فلي دور في كبح جماح ضغط الدم‪ ،‬وذلك الحتوائي على كمية واف رة من عنص ر البوتاس يوم‪ ،‬حيث‬
‫يخلق هذا العنصر التوازن الالزم بين الملح والماء داخل الخلية‪ ..‬وهو يدر البول مما يقلل من ضغط لدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت في بدء حديثك أن لك عالقة بعالج األح زان‪ ..‬فص في لي وص فة ل ذلك‪ ..‬فاالكتئ اب من أم راض‬
‫عصرنا؟‬
‫قالت‪ :‬لست أنا الذي يصف هذه الوصفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن يصفها إن لم تصفيها؟‬
‫قالت‪ :‬رسول هللا ‪ ‬هو الذي وصفها‪ ..‬وحسبنا بذلك شرفا‪ ..‬وحسب هذه الوصفة بذلك بركة‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي الوصفة؟‬
‫قالت‪ :‬لقد كان ‪ ‬يصف التلبينة‪ ،‬وهي حساء الشعير لعالج المحزونين‪ ،‬ويق ول‪ (:‬التلبين ة مجم ة لف ؤاد الم ريض‬
‫تذهب ببعض الحزن)(‪ ،)1‬وكان ‪ ‬إذا أخذ أحدًا من أهله الوعك أمر بالحساء من شعير فصنع‪ ،‬ثم أمرهم فحسوا منه‪ ،‬ثم‬
‫يقول‪ (:‬إنه يرتو فؤاد الحزين‪ ،‬ويسرو فؤاد السقيم‪ ،‬كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬آمنت بما قال رسول هللا ‪ ..‬فهال ذكرت لي ما كشفه العلم الحديث من تأويل ذلك ليطمئن قلبي؟‬
‫قالت‪ :‬أفال يطمئن قلبك إال لما قالت المخابر؟‬
‫قلت‪ :‬هي جند من جند هللا‪ ..‬فلذلك نفرح بما تأتينا به من أخبار انتصار الحقيقة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد أشارت هذه األحاديث إلى استعمال حبوب الشعير غذاء ودواء فقد استعمله الن بي ‪ ‬أله ل بيت ه خ ً‬
‫بزا‪،‬‬
‫وأمر به للمريض الذي ال يطعم الطعام‪ ،‬وأمر به للحزين‪ ،‬وإصالح فؤاد المريض‪ ،‬وأمر به للمبطون‪ ،‬فإن حساء الش عير‬
‫يغسل بطن المريض‪ .‬ويرتو فؤاد الحزين‪ ،‬ويسرو فؤاد السقيم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفسير تأثير الشعير في إزالة الحزن‪ ،‬كما وصف ‪ ‬التلبينة بأنها ( تذهب ببعض الحزن)؟‬
‫قالت‪ :‬لقد أثبت الباحثون أن من أسباب الحزن واالكتئاب حدوث خلل كيميائي‪ ،‬كما أثبتوا أن هن اك م واد له ا ت أثر‬
‫في تخفيف االكتئاب والحزن‪ ،‬مثل‪ :‬عنصر البوتاس يوم والمغنيس يوم ومض ادات األكس دة والميالت ونين وبعض عناص ر‬
‫فيتامين ب المركب والسيراتونين‪.‬‬
‫والشعير يحتوي على كل ذلك‪ ،‬فه و يحت وي على عنص ري البوتاس يوم والمغنيس يوم الل ذين ي ؤدي نقص هما إلى‬
‫سرعة الغضب واالنفعال والشعور باالكتئ اب والح زن‪ ،‬وض بط عنص ر البوتاس يوم والمغنيس يوم ل ه ت أثير في تخفي ف‬
‫االكتئاب عن طريق تأثير هذين العنصرين على بعض الموصالت العصبية‪.‬‬
‫واإلنسان يشعر بالميل إلى االكتئاب عند تأخر العمليات الفسيولوجية للموص الت العص بية‪ ،‬ومن أهم أس باب ه ذا‬
‫الخلل نقص فيتامين ب المركب‪ ،‬والشعير يحتوي على كمي ة طبيعي ة من بعض فيت امين ب الم ركب‪ ،‬وه ذا مم ا يس اعد‬
‫على التخلص والتخفيف من االكتئاب‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فإن عالج نقص مضادات األكسدة مثل فيتامين هـ ل ه ت أثير فع ال في عالج ح االت االكتئ اب‬
‫والشيخوخة وخاصة لدى المسنين‪ ،‬وأيضًا على فيتامين أ المضاد لألكسدة‪.‬‬
‫ويحتوي الشعير على حمض األميني تريبتوفان الذي يسهم في تخليق أهم الن اقالت العص بية وه و الس يروتونين‪،‬‬
‫والتي تؤثر بشكل واضح في الحالة النفسية والعصبية للمريض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سمعت قوله ‪ (:‬التلبينة تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكن وجهها من الوسخ بالماء)فما تفسيره؟‬
‫قالت‪ :‬التلبينة ملينة لألمعاء‪ ،‬مهدئة للقولون‪ ،‬مضادة لسرطان األمعاء‪ ،‬وهي توصف للمرضى كغذاء لطيف س هل‬
‫الهضم‪ ..‬والشعير غني باأللياف المنحلة وغير المنحلة‪ ،‬وهذه األخ يرة تمتص كمي ات كب يرة من الم اء وتحبس ه داخله ا‪،‬‬
‫فتزيد من كتلة الفضالت مع الحفاظ على ليونتها مما يسهل ويس رع ه ذه الكتل ة ع بر القول ون‪ ،‬وينش ط الحرك ة الدودي ة‬
‫لألمعاء مما يدعم عملية التخلص من الفضالت‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ،‬فإن هناك أبحاثا على أهمية الشعير في التقليل من اإلصابة بسرطان القولون‪ ،‬حيث اس تقر ال رأي‬
‫على أن الشعير يقلل من بقاء الفضالت في األمعاء؛ مما يقلل من بقاء المواد المسرطنة في األمعاء؛ مما يقلل من اإلصابة‬
‫بالسرطان‪ ،‬كما أن الشعير يحوي من عناصر مضادات األكسدة والفيتامينات ما يقاوم الشوارد الح رة ال تي ت دمر غش اء‬
‫الخلية والحمض النووي‪ ،‬وقد تكون المتهم الرئيس ي حدوث أنواع معينة من السرطان‪.‬‬
‫ولهذا يستخرج من الشعير مادة تستعمل حق ًنا تحت الجلد أو شرابًا في حاالت اإلسهال والتيفوئيد والتهابات األمعاء‬
‫تسمى الهوردنين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى أن العلم الحديث يقف في صفك‪ ..‬ويوشك أن تباع في الصيدليات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال يهمنا أن تق ف عل ومكم معن ا‪ ..‬ب ل يهمن ا م ا ش رفتنا ب ه النص وص ال تي ربطت بن ا الكث ير من األحك ام‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن ماجه والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأي أحكام ربطت بكن؟‬
‫قالت‪ :‬أال ترى أن النبي ‪ ‬ال يقصر الربا على الذهب والفضة ونحوه ا مم ا ل ه عالق ة ب النقود‪ ،‬ب ل ي ذكر القمح‬
‫والشعير وما هو مثلهما من األغذية األساسية لئال يتالعب المرابون بها‪ ،‬فقد قال ‪ (:‬التمر ب التمر‪ ،‬والحنط ة بالحنط ة‪،‬‬
‫والشعير بالشعير‪ ،‬والملح بالملح‪ ،‬مثال بمثل يدا بيد‪ ،‬فمن زاد واستزاد فقد أربى‪ ،‬إال ما اختلف ألوانه)(‪)1‬‬
‫وأك ثر م ا وردت من ص دقات اإلطع ام في الكف ارات يجع ل من القمح والش عير مادت ه األساس ية‪ ،‬وق د ق ال ‪:‬‬
‫( ليتصدق ذو الدنانير من دنانيره‪ ،‬وذو الدرهم من درهم ه‪ ،‬وذو ال بر من ب ره‪ ،‬وذو الش عير من ش عيره‪ ،‬وذو التم ر من‬
‫تمره من قبل أن يأتي عليه يوم فينظر أمامه فال يرى إال النار وينظر عن يمينه فال ينظر إال الن ار وينظ ر عن ش ماله فال‬
‫يرى إال النار وينظر من قدامه فال يرى إال النار)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فما ترين من سر النهي عن الربا في صنفكن‪ ،‬والحث على الصدقة منكن؟‬
‫قالت‪ :‬ذلك واضح‪ ..‬فالربا يقمع الجشع‪ ..‬والصدقة تنشر الرحمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة ذلك بالبركة؟‬
‫قالت‪ :‬هذا هو سر البركة‪ ..‬فالجشع والح رص ال ذي مأل بط ون قوم ك جعلهم يتالعب ون بجيناتن ا ليهندس وها كم ا‬
‫يشاءون‪ ..‬أو ليوقعونا في الجنون الذي أوقعوا فيه البقر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والرحمة؟‬
‫قالت‪ :‬ال بركة بال رحمة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أرى لك اهتماما بما يقول العلم‪ ..‬فهل لك اهتمام مثله بالتفسير؟‬
‫قالت‪ :‬كيف ال يكون لي اهتمام بكالم ربي؟‬
‫قلت‪ :‬فما ترين في الفوم الذي ورد في قوله تعالى‪َ ﴿:‬وفُ ِ‬
‫وم َها ﴾‪ ،‬فقد اختلفت فيها أقوال المفسرين؟‬
‫قالت‪ :‬ال شك أن هذه اآلية تقصدنا معشر الحبوب‪ ..‬بل هذا ما ذهبت إليه أك ثر أق وال المفس رين(‪ ..)3‬ف إن ق در هللا‬
‫وزرت الثوم‪ ..‬فال تسمع لما يقول‪ ،‬فهو يدعي أن هذه اآلية تقصده‪ ..‬وال دليل له على ذلك‪.‬‬
‫اللبن‬
‫قالت لي سنبلة الشعير ـ وقد رأت عزمي على االنصراف ـ‪ :‬أتراك سلوتنا؟‬
‫قلت‪ :‬كيف أسلوكن‪ ..‬وأنتن نعمة من نعم هللا‪ ،‬وبركة من بركاته؟‬
‫قالت‪ :‬فإلى أين المنصرف‪ ..‬فلم نكمل ذكر بركاتنا؟‬
‫قلت‪ :‬ال طاقة لي باستكمال تعلم جميع بركاتك‪ ..‬فهل يحاط ببركات هللا علما؟‬
‫قالت‪ :‬أما إن قلت هذا‪ ،‬واعترفت بما أوالن ا هللا من فض ل‪ ،‬فإن ا سنرس لك لنه ر من أنه ار البرك ات‪ ،‬امتأل بجمي ع‬
‫الخيرات‪ ،‬حتى فاض أعذب من نهر الفرات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تسجعين‪ ..‬أو تلغزين‪ ..‬فمن تقصدين؟‬
‫قالت‪ :‬الرزق الذي أفاضه هللا عليكم من بين الفرث والدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذاك اللبن‪ ،‬وقد كان أول طعام رأيته في حياتي‪ ،‬فكيف أراه‪ ،‬وأنى لي أن أحادثه؟‬
‫قالت‪ :‬أنا أوصلك إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألديك براق يطير بي إليه؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬انظر عن يمينك لتراه‪.‬‬
‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬الطبراني في األوسط‪.‬‬
‫‪ )(3‬روي أن ابن عباس سئل عن قول هّللا تعالى‪َ  :‬وفُو ِمهَا ﴾ ما فومها؟ قال‪ :‬الحنطة‪ .‬قال ابن عباس‪ :‬أما سمعت قول أحيحة بن الجالح وهو يقول‪:‬‬
‫قد كنت أغنى الناس شخصا ً واحداً ورد المدينة عن زراعة فوم‬
‫وقال ابن جرير‪ ،‬عن ابن عباس في قول هّللا تعالى‪َ  :‬وفُو ِمهَا ﴾ قال‪ :‬الفوم الحنطة بلسان ب ني هاش م‪ ،‬وق ال الج وهري‪ :‬الف وم الحنط ة‪ ،‬وحكى القرط بي عن‬
‫عطاء وقتادة‪ :‬أن الفوم كل حب يختبز‪ ،‬قال‪ :‬وقال بعضهم‪ :‬هو الحمص لغة شامية‪ ،‬قال البخاري‪ :‬وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫فنظرت فإذا نهر من لبن امتأل بياضا وجماال‪ ،‬فصحت أأنت النهر ال ذي وص فه هللا تع الى بقول ه‪َ ﴿:‬م َث لُ ْال َجنَّ ِة الَّ ِتي‬
‫ص ّف ًى‬ ‫ار ِبينَ َو َأ ْن َهارٌ ِم ْن َع َس ٍل ُم َ‬ ‫خَم ٍر َل َّذ ٍة ِلل َّش ِ‬‫طعْ ُمهُ َو َأ ْن َهارٌ ِم ْن ْ‬ ‫آس ٍن َو َأ ْن َهارٌ ِم ْن َل َب ٍن َل ْم َي َت َغيَّرْ َ‬
‫اء َغي ِْر ِ‬‫ُو ِع َد ْال ُمتَّقُونَ ِفي َها َأ ْن َهارٌ ِم ْن َم ٍ‬
‫ط َع َأ ْم َعا َءه ُْم﴾(محمد‪)15:‬؟‬ ‫ار َو ُسقُوا َما ًء َح ِميماً َف َق َّ‬ ‫َو َله ُْم ِفي َها ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ت َو َم ْغ ِف َرةٌ ِم ْن َر ِّب ِه ْم َك َم ْن ه َُو خَا ِل ٌد ِفي النَّ ِ‬
‫ث َود ٍَم َل َبناً‬ ‫طو ِن ِه ِم ْن َبي ِْن َفرْ ٍ‬ ‫قال‪ :‬ال‪ ..‬أنا النهر الذي وصفه هللا تعالى بقوله‪َ ﴿:‬و ِإ َّن َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام َل ِعب َْر ًة نُسْ ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي بُ ُ‬
‫يرةٌ َو ِم ْن َه ا‬‫طو ِن َها َو َل ُك ْم ِفي َه ا َم َن ا ِف ُع َك ِث َ‬ ‫ار ِبينَ ﴾(النحل‪ ،)66:‬وقوله‪َ ﴿:‬و ِإ َّن َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام َل ِعب َْر ًة نُسْ ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي بُ ُ‬ ‫خَا ِلصاً َسا ِئغاً ِلل َّش ِ‬
‫ت َْأ ُكلُونَ ﴾(المؤمنون‪)21 :‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت نهر من أنهار الدنيا‪ ..‬ولكني ال أعرف نهرا من أنهار اللبن‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو جمعتم ما تحلبونه من لبن كل يوم لشكلتم أنهار ال نهرا واحدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أبحث عن أسرار البرك ات‪ ..‬وال علم لي بالجغرافي ة وال الت اريخ‪ ..‬وال بالمس احات وال المكايي ل‪ ..‬فل ذلك‬
‫أخبرني عنك‪ ،‬وعن سر بركتك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يجحد بركتي إال جحود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا ال أجحدها‪ ،‬ولكني أريد أن أعلمها‪.‬‬
‫لبن األم‪:‬‬
‫قال‪ :‬أول بركاتي أن هللا تعالى أوصاكم بأن تطعموا أوالدكم عامين كاملين من لبني‪.‬‬
‫الرَّض ا َع َة ﴾ (البق رة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُرْضعْ نَ َأوْال َده َُّن َح وْ َلي ِْن َك ا ِم َلي ِْن ِل َم ْن َأ َرا َد أ ْن يُ ِت َّم‬
‫َ‬ ‫َات ي ِ‬ ‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬و ْال َوا ِلد ُ‬
‫‪ ،)233‬وهي اآلية التي تشرع أحكام الرضاع‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال يكفيك ذلك للداللة على الفضل الذي مألني هللا به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى هذا فضل عظيم‪ ..‬وقد زعم قومي أنهم استغنوا عنه بالقارورات الزجاجية التي صنعوها‪.‬‬
‫قال‪ :‬واألمهات التي در هللا أثداءهن باللبن المبارك؟‬
‫قلت‪ :‬مشغوالت ببرامج يتفرجونها‪ ،‬أو ألعاب يلعبونها‪ ،‬أو شوراع يعمرونها‪ ،‬أو مكاتب يزينونها‪.‬‬
‫قال‪ :‬بئست األم التي ال تطعم ابنها بركتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت رجعي يا لبن‪ ..‬فنحن في عصر جديد‪ ،‬وقد تطورنا في كل المجاالت‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو تطور خال من البركات‪ ،‬مليء بالمنغصات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ،‬ولم تصدق‪.‬‬
‫قال‪ :‬بين؟‬
‫قلت‪ :‬أم ا كون ه عص را خالي ا من البرك ات‪ ،‬فق د يك ون ص حيحا‪ ..‬ولكن ه ليس مليئ ا بالمنغص ات‪ ،‬ب ل ه و مليء‬
‫المسرات‪.‬‬
‫قال‪ :‬المسرات عنده وبه ومنه‪ ..‬أما ما تسمونه مسرات‪ ،‬فليس سوى منغصات متسترة بالسرور الكاذب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تعرف المسرة؟‬
‫قال‪ :‬كل أكوان هللا ال تعرف إال المسرة‪ ..‬فاهلل لم يخلقنا لنحزن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد وافقتني إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬فيم؟‬
‫قلت‪ :‬في أن البركات التي فيك ال تختلف عن البركات التي يصنعها قومي‪ ،‬ويسقونها الرضع‪.‬‬
‫ُرْض عْ نَ َأوْال َدهُنَّ‬ ‫قال‪ :‬تلك السموم التي تسقونها الرضع ال بركة فيها‪ ،‬ألم تسمع هللا تعالى‪ ،‬وهو يقول‪َ ﴿:‬و ْال َوا ِل دَات ي ِ‬
‫ُ‬
‫َحوْ َلي ِْن َكا ِم َلي ِْن ﴾‪ ،‬فلم يذكر الزجاجات‪ ،‬وإنما ذكر الوال دات‪ ،‬ولم يكت ف ب ذلك‪ ،‬ب ل ح دد األوق ات ح تى ال تتالعب النس اء‬
‫والرجال بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أزال إلى اآلن أراك وما نصنعه من لبن سواء‪ ،‬فكالكما أبيض‪ ،‬وكالكما معقم‪ ،‬بل إنه يزيد عليك بعناصر‬
‫كثيرة وفيتامينات ومعادن تغري اآلباء باالستغناء عنك‪ ،‬واألمهات بإراحة أنفسهن منك‪.‬‬
‫اس ِقينَ ﴾ (الزخرف‪)54 :‬‬ ‫طاعُوهُ ِإنَّه ُْم َكانُوا َقوْماً َف ِ‬ ‫َخَف َقوْ َمهُ َفأَ َ‬
‫قال‪ :‬ال شك أنك لم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬فا ْست َّ‬

‫‪90‬‬
‫قلت‪ :‬ذاك فرعون‪ ،‬وذلك شعبه‪ ..‬وال عالقة لي به‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنتم قد استخفت بعقولكم شركات اللبن الكاذب‪ ،‬لتص رفكم عن الحقيق ة‪ ..‬فلم تبحث وا‪ ،‬ولم تنظ روا‪ ،‬ب ل رحتم‬
‫تبذلون أموالكم‪ ،‬وتضحون بأوالدكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إلى اآلن‪ ..‬كل ما أسمعه دعاوى‪.‬‬
‫قال‪ :‬أعلم ذلك‪ ..‬وأعلم ما تحتاجه‪ ..‬ولهذا أحضرت معي ما يقيم عليك الحجة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما أحضرت؟‬
‫قال‪ :‬انظر‪..‬‬
‫فنظرت فرأيت علبة لبن رضع‪ ،‬وقد آتاها هللا لسانا تعبر به‪ ،‬فقلت‪ :‬من أنت أيتها العلبة؟‬
‫قالت‪ :‬أنا مسلمة هلل تائبة من خطايا ارتكبتها‪ ،‬أو كنت سهما فيها‪ ..‬فهربت منهم لم ا خفتهم‪ ..‬وجئت إلى لبن الفط رة‬
‫ألودعه أسرار ما يفعله المجرمون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن الفرق بينك‪ ،‬وبين لبن األم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أرأيت البيت الذي بنيته وتعبت في بنائه؟‬
‫قلت‪ :‬ما حصل له‪ ..‬لقد مألتني رعبا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تخف‪ ..‬أرأيت لو أن بعض المحتالين أخذه منك في مقابل ص ورة لقص ر فخم من القص ور ال تي ت زدهي‬
‫بها األحالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما تغني عني صور القصور؟‬
‫قال‪ :‬فما تراه من ألواننا هو تلك الصور التي يريدون أن يستبدلوا بها اللبن الذي يبني بيوت أجساد أطفالكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت المثال‪ ..‬فبرهني على صدقه‪.‬‬
‫قالت(‪ :)1‬أول ما يملؤك باليقين الذي يزيل عنك ظلمات الشك هو أن تعلم أن لبن األم يتناسب مع حاج ة الرض يع‪،‬‬
‫فلذلك يتطور من يوم آلخر بما يالئم حاجته الغذائية‪ ،‬ويناسب تحمل جسمه‪ ،‬وغريزت ه وأجهزت ه ال تي تتط ور يوم اً بع د‬
‫يوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني أرى في اللبن الصناعي قاروات تتناسب مع األعمار المختلفة‪.‬‬
‫ال ـ يفرز في األي ام األولى‬ ‫قال‪ :‬هي تنتقل فجأة من تقدير إلى تقدير‪ ..‬أما لبن األم‪ ،‬فيتحول من يوم إلى يوم فهو ـ مث ً‬
‫اللبن ‪ Colostrm‬الذي يحوي أضعاف ما يحوي اللبن من البروتين والعناصر المعدنية‪ ،‬لكنه فقير بالدسم والس كر‪ ،‬كم ا‬
‫يحوي أضدادا لرفع مناعة الوليد‪ ،‬وله فعل ملين‪ ،‬ولذلك فهو الغذاء المثالي للوليد‪.‬‬
‫كما يخف إدرار اللبن من ثدي األم‪ ،‬أو يخف ترك يزه بين ف ترة وأخ رى بحس ب الحاج ة‪ ،‬وذل ك إلراح ة الجه از‬
‫الهضمي عند الوليد‪ ،‬ثم يعود بعدها بما يالئم حاجة الطفل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬وهو مما ال يمكن للصناعة تحقيقه مهما تطورت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وأزيدك أن لبن األم أسهل هض ماً‪ ،‬الحتوائ ه على خم ائر هاض مة تس اعد خم ائر المع دة عن د الطف ل على‬
‫الهضم‪ ،‬وتستطيع المعدة إفراغ محتواها منه بعد ساعة ونص ف‪ ،‬وتبقى حموض ة المع دة طبيعي ة ومناس بة للقض اء على‬
‫الجراثيم التي تصلها‪.‬‬
‫بينما يتأخر هضم خثرات الجبن في لبن البقر‪ ،‬لثالث أو أربع ساعات‪ ،‬كما تعدل األمالح الكثيرة الموجودة في لبن‬
‫البقر حموضة المعدة‪ ،‬وتنقصها مما يسمح للجراثيم‪ ،‬وخاصة الكولونية بالتكاثر مما يؤدي لإلسهال والقيء‪.‬‬
‫ويضاف إلى هذا ما يسببه لبن البقر من مضاعفات عدم تحمل وتحسس ال تشاهد في اإلرضاع الطبيعي كاإلسهال‬
‫والنزف المعوي والتغوط األسود ومظاهر التجسس الشائع‪ ،‬كما إن اإللعاب والمغص واإلكزم ا البنيوي ة أق ل تواج د ًا في‬
‫اإلرضاع الطبيعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬فاهلل خلق الجهاز الهضمي للرضيع متناسبا مع لبن أمه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ويضاف إلى هذا أن لبن األم معقم‪ ،‬بينما يندر أن يخلو اللبن في الرضاع الصناعي من التل وث الجرث ومي‪،‬‬
‫رجعنا للمعلومات العلمية في هذا المطلب إلى كتاب « مع الطب في القرآن الكريم » للدكتور عبد الحميد دياب‪ ،‬والدكتور أحمد قرقوز‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪91‬‬
‫وذلك يحدث إما عند عملية الحلب‪ ،‬أو باستخدام اآلنية المختلفة أو بتلوث زجاجة اإلرضاع‪.‬‬
‫قلت‪....:‬‬
‫ً‬
‫ق الت‪ :‬وأزي دك أن درج ة ح رارة لبن األم ثابت ة‪ ،‬ومالئم ة لح رارة الطف ل‪ ،‬وال يت وفر ذل ك دائم ا في اإلرض اع‬
‫الصناعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى األمهات‪ ،‬وهن يرهقن كثيرا في تبريد اللبن وتسخينه كل حين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ومع ذلك ال يصلن إلى درجة الحرارة التي تتناسب مع رضيعهن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه فوائد كثيرة‪ ..‬وهي تكفي إلقناعي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فأضف إليها ما يحمله لبن األم من مصادر قوة المناعة‪ ،‬فلبن األم يحوي أجساما ضدية نوعية تساعد الطف ل‬
‫على مقاومة األمراض‪ ،‬وهي تتواجد بنسبة أقل بكثير في لبن البقر‪ ،‬كما أنها غير نوعي ة‪ ،‬وله ذا فمن الث ابت أن األطف ال‬
‫الذين يرضعون من أمهاتهم أقل عرضة لإلنتان ممن يعتمدون على اإلرضاع الصناعي‪.‬‬
‫واإلرضاع من األم يدعم الزم رة الجرثومي ة الطبيعي ة في األمع اء ذات ال دور الفع ال في امتص اص الفيتامين ات‬
‫وغيرها من العناصر الغذائية‪ ،‬بينما يسبب اإلرضاع الصناعي اضطراب هذه الزمرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اقتنعت بما تقولين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬اسمع لتردع قومك‪ ..‬فإرضاع الطفل ـ الذي أمر به هللا ـ يحمي ه من اإلص ابة ب أمراض مختلف ة‪ ،‬كالتهاب ات‬
‫الطرق التنفسية‪ ،‬وتحدد الرئة المزمن الذي يرتبط بترسب ب روتين اللبن في بالس ما الطف ل‪ ،‬وح ذف لبن البق ر من غ ذاء‬
‫الطفل يؤدي لتحسنه من المرض‪ ،‬ومثل ذلك التهاب األذن الوسطى‪ ،‬ألن الطف ل في اإلرض اع الص ناعي يتن اول وجبت ه‬
‫وهو مضطجع على ظهره‪ ،‬فعند قيام الطفل بأول عملية بلع بعد الرضاعة ينفتح نفير أوستاش وي دخل اللبن واللع اب إلى‬
‫األذن الوسطى مؤدياً اللتهابها‪.‬‬
‫وتزيد حاالت التهاب اللثة واألنسجة الداعمة للسن بنسبة ثالثة أضعاف عن الذين يرضعون من الثدي‪ ،‬أم ا تش نج‬
‫الحنجرة‪ ،‬فال يشاهد عند األطفال الذين يعتمدون على رضاعة الثدي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن ما ذكرته يفسر ارتفاع نسبة الوفي ات عن د األطف ال ال ذين يعتم دون اإلرض اع الص ناعي مقارن ة بنس بة‬
‫وفيات إخوانهم الذين يرضعون من الثدي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وذلك بمقدار أربعة أضعاف رغم كل التحسينات التي أدخلت على طريقة إعداد اللبن في الطرق الصناعية‪،‬‬
‫وعلى طريقة إعطائه للرضيع‪..‬‬
‫قلت‪ :‬اقتنعت بما تقولين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وفوق ذلك‪ ،‬فإن اإلرضاع الطبيعي أقل كلفة‪ ،‬بل هو ال يكلف أي شيء من الناحية االقتصادية‪ ،‬فل ذلك ينتف ع‬
‫به الغني والفقير‪ ،‬والدول المتخلفة والدول المتطورة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أدركت ما قلت‪ ،‬وبورك فيك‪ ،‬وتقبل هللا توبتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد تقبلها بفضله‪ ،‬فآليت على نفسي أال أدع مجلسا يبين عورة ما يفعلون بكم إال ونهضت محتسبة هلل‪ ،‬ناهي ة‬
‫عن المنكر‪ ،‬آمرة بالمعروف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لق د س معت قول ه ‪ (:‬يح رم من الرض اع م ا يح رم من النس ب)(‪ ،)1‬وق د بحثت ه ذه المس ائل في ( فق ه‬
‫األسرة)‪ ،‬وقد توقفت في النسب الذي يحرم به اللبن االصطناعي‪ ..‬أال تعرفينه؟‬
‫قالت‪ :‬ذكرتني بمزاحك‪ ..‬أال تعلم أن األبحاث العلمية الحديثة(‪ )2‬أثبتت وجود أجسام في لبن األم المرض عة ي ترتب‬
‫على تعاطيها تكوين أجسام مناعية في جس م الرض يع بع د جرع ات ت تراوح من ثالث إلى خمس جرع ات‪ ...‬وهي نفس‬
‫الجرعات المطلوبة لتكوين األجسام المناعي ة في جس م اإلنس ان‪ ،‬ح تى في حيوان ات التج ارب المول ودة ح ديثا وال تي لم‬
‫يكتمل نمو الجهاز المناعي عندها‪.‬‬
‫فعندما ترضع اللبن تكتسب بعض الص فات الوراثي ة الخاص ة بالمناع ة من اللبن ال ذي ترض عه‪ ،‬وبالت الي تك ون‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬اإلعجاز العلمي في اإلسالم السنة النبوية‪ :‬محمد كامل عبد الصمد‪ ،‬والعلوم في القرآن‪:‬د‪ :‬محمد جميل الحبّال د‪ :‬مقداد مرعي الجواري‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫مشابهة ألخيها أو ألختها من الرضاع في هذه الصفات الوراثية‪.‬‬
‫وقد وجد أن تكون هذه الجسيمات المناعية يمكن أن يؤدي إلى أعراض مرضية عند اإلخوة في حالة الزواج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدق رسول هللا ‪ ،‬فقد أخبر أنه ( ال تحرم المصة وال المصتان)(‪)1‬‬
‫قالت‪ :‬و( ال تحرم اإلمالجة واإلمالجتان)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فهل اكتشفوا تأثير اللبن في الجينات؟‬
‫قالت‪ :‬هذا محتمل‪ ،‬فقرابة الرضاعة قد يكون سببها انتقال عوامل وراثي ة من لبن األم واختراقه ا لخالي ا الرض يع‬
‫واندماجها مع سلسلة الجينات عند الرضيع‪ ،‬ويساعد على هذه النظرية أن لبن األم يحتوي على أكثر من نوع من الخاليا‪،‬‬
‫ومعلوم أن المصدر الطبيعي للجينات البشرية هو نواة الخاليا ‪ DNA‬كما يحتمل أن الجهاز الوراثي عند الرضيع يتقب ل‬
‫الجينات الغريبة‪ ،‬ألنه غير ناضج‪ ،‬حاله حال عدة أجهزة في الجسم‪ ،‬ال يتم نضجها إال بعد أشهر وسنوات من الوالدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا صح ما قلت‪ ..‬فإن هذا سيفتح فتوحا في الطب‪ ،‬وخاصة في األمراض الوراثية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ولعل هللا يهدي بعض أهل السالم للبحث في هذا‪.‬‬
‫أسرار البركة‪:‬‬
‫عدت إلى نهر اللبن‪ ،‬وقلت‪ :‬علمت بركات لبن الرضيع‪ ،‬فحدثني عن بركات لبن الفطيم‪ ،‬فإني أرى نفرا من قومي‬
‫ينفرون منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬تقصد أولئك الذين تتلمذوا في مدارس الماكروبيوتيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يعادي تالميذ المباركوبيوتيك تالميذ الماكروبيوتيك؟‬
‫قال‪ :‬تالميذ السالم ال يعادون أحدا من خلق هللا‪ ..‬فأخبرني ماذا قالوا‪ ،‬فلعل ش بهة عرض ت لهم‪ ،‬فلن ا من المتكلمين‬
‫من يجيب عنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكروا أنه(‪ )3‬يتسبب بأمراض السكري لدى األطفال وانتقاص مواد الكالس يوم والفوس فور والم اغنيزيوم‬
‫ال بس رطان القول ون وارتف اع‬ ‫في أجسامهم مما يؤدي إلى ض عف العظ ام وتس وس األس نان‪ ،‬وإلى إص ابة الف رد مس تقب ً‬
‫الكوليسترول وغيرها من األمراض‪.‬‬
‫كما كشفت الدراسات أن ثمة احتماالت لإلص ابة بس رطان الث دي عن د النس اء‪ ،‬والبروس تات ل دى الرج ال ال ذين‬
‫يفرطون في تناول لبن البقر‪ ،‬وأيضاً يتسبب اإلفراط في تناول اللبن بسرطان المبيض وضمور الخصوبة لدى النسوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما الذي دعاهم إلى هذه الدعاوى الخطيرة؟‬
‫قلت‪ :‬دراسات كثيرة أجروها‪ ،‬وتوثقوا منها‪ ،‬فهم يزعمون ـ مثال ـ أن بروتين ات لبن األبق ار هي الس بب الرئيس ي‬
‫ألمراض السكري لدى األطفال‪ ،‬وأن المتهم هو البروتين المسمى البومين المصل البق ري‪ ،‬فه و يختل ف عن البروتين ات‬
‫البشرية اختاالفا يتسبب للجسم البشري بالرد لتوليد األجسام المضادة‪ ،‬وهذه األجس ام المض ادة ته اجم وتتل ف خالي ا بيت ا‬
‫المنتجة لالنسولين في البنكرياس‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا عن البروتين‪ ،‬فماذا عن غيره؟‬
‫قلت‪ :‬يقولون‪ :‬إن منتجات اللبن خفيفة ج دا‪ ،‬وين در فيه ا وج ود الحدي د حيث ال تحت وي إال على م ا نس بته عش رة‬
‫مللغرامات فقط في كل اونصة منها‪.‬‬
‫وللحص ول على الحص ة الموص ى به ا يومي ا من الحدي د وال تي هي ‪ 15‬ملليغ رام في الي وم‪ ،‬ف إن على االطف ال‬
‫البالغين أقل من عام أن يشربوا أكثر من ‪ 31‬كوارت (قياس اميركي يعادل ربع غالون)من اللبن في اليوم‪.‬‬
‫ونقص الحديد الناجم عن اللبن ليس مرده فقط نقص الحديد في اللبن‪ ،‬ولكنه يرجع أيضاً إلى نزعة ذل ك اللبن ل دفع‬
‫األطعمة الغنية بالحديد خارج غذاء الطفل‪ ،‬فاللبن يتسبب بنقص في الدم في الجهاز المعوي‪ ،‬وهو يخفض م ع ال وقت من‬
‫مخازين الجسم من الحديد‪.‬‬
‫‪ )3(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )4(2‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬مجلة الدليل إلى الطب البديل‪ ،‬مقال‪ :‬مساؤى حليب االبقار‪ ،‬الدكتور فيليب حدثي اختصاصي في التش خيص بحدق ة العين والعالج الط بيعي‪،‬‬
‫وقد ذكر فيه مساوئ وأضرار حليب األبقار من خالل بحث علمي معمق ومراجع ودراسات‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫وقد كتب باحثون من جامعة ايوا االميريكية حديثاً إلى مجلة ( جورنال اوف بيدياتريكس)التحذير التالي‪ (:‬إن نسبة‬
‫كبيرة من األطفال الذين يتناولون لبن األبقار يصابون بزيادة كبيرة في نقص الهيموغلوبين (الكري ات الحم راء)‪ ،‬وبعض‬
‫األطفال يعانون من افراط في الحساسية للبن األبقار ويمكن أن يخسروا كميات كبيرة من الدم)‬
‫قال‪ :‬فما الذي ذكروا غير هذا؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكروا أن اللبن يعطل عملية امتصاص األمعاء للمعادن‪ ،‬إذ تبين أن األطفال الذين يتناولون كميات كب يرة‬
‫من لبن األبقار يعانون من نقص في مادة الكالسيوم في أجسامهم‪ ،‬مع العلم أن المنتجات اللبني ة تح وي كمي ات كب يرة من‬
‫الكالسيوم غير أن اجسامهم خلت تقريباً من الماغنيزيوم أو الفسفور وهي ضرورية المتصاص الكالسيوم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل هذا ما ذكروا‪ ..‬أم أن هناك غيره؟‬
‫قلت‪ :‬هذا ما أعمله‪ ،‬وقد يكون هناك غيره‪ ..‬أرأيت ما يحملونه من عداوة نح وكم‪ ..‬فه ل حملت من الحق د م ا يكفي‬
‫لمصارعتهم؟‬
‫قال‪ :‬نحن ال نعرف الصراع‪ ..‬أنسيت أنك في أرض السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد وقفت موقفا حرجا يضطرك إلى الصراع‪ ..‬فماذا تقول؟‬
‫قال‪ :‬أقر بأنهم صدقوا في كل ما ذكروه‪ ..‬ومن واجب النصح على الخبير أن يذكر للخلق ما اكتش فه من المض ار‪،‬‬
‫وإال كان خائنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد رجعت عن رأيك إذن في بركة اللبن‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف أرجع عن ذلك‪ ..‬وقد قال ‪ (:‬من أطعمه هللا طعاماً فليقل‪ :‬اللهم بارك لنا فيه‪ ،‬وارزقنا خير ًا من ه‪ ،‬ومن‬
‫سقاه هللا لبناً فليقل‪ :‬اللهم بارك لنا فيه‪ ،‬وزدنا منه‪ ،‬فإني ال أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إال اللبن)(‪)1‬؟‬
‫قلت‪ :‬فقد وقعت في التناقض إذن‪ ،‬فأنت تسالمهم‪ ،‬وفي نفس الوقت تخالفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا ال أسالم‪ ،‬وال أخالف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وضح لي ما تريد‪.‬‬
‫قال‪ :‬هؤالء صادقون في ما قالوا‪ ..‬وما ذكروا ال يدعو إلى هجرن ا‪ ،‬ب ل ي دعو إلى البحث عن س ر ه ذه الت أثيرات‬
‫التي حصلت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال يبين لي منهجك في هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن سموما سرت إلى طعام تأكله‪ ،‬نبت منه لحمك‪ ،‬ونشز منه عظمك‪ ،‬أتراك تحذر من ه أم من الس م‬
‫الذي وقع فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بل أحذر من السم‪ ..‬ولو حذرنا من الطعام لما بقي في األرض طعام واحد يصلح لألكل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هؤالء‪ ..‬لو أنهم بدل أن يحكموا على اللبن بحثوا في األسباب التي جعلت اللبن بهذه الصفة لوجدوا من‬
‫ذلك الكثير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فدلني على بعض ما ينبغي أن يبحثوا فيه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أول ما ينبغي أن يبحثوا فيه هو سر بركتي الذي عبر عنه ‪ ‬بقوله‪ (:‬عليكم بألبان البقر‪ ،‬فإنها ت رم من ك ل‬
‫الشجر)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فما في هذا الحديث من األسرار؟‬
‫قال‪ :‬ابحثوا عن نوعية غذاء البقر الذي نهوا عن لبنه‪ ،‬أهو غذاء الم راعي الطبيعي ة ال ذي أخ بر عن ه ‪ ،‬أم ه و‬
‫الغذاء االصطناعي الذي ال يتناسب مع طبيعة البقر‪ ،‬وال طبيعة البشر(‪)3‬؟‬
‫قلت‪ :‬وما الحاجة إلى ذلك؟‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬لقد أخبر هللا تعالى أن لنوعية الغذاء تأثيرها في اللبن‪ ،‬ألم يقل هللا تع الى ي بين منش أ اللبن‪َ ﴿:‬و ِإ َّن لك ْم ِفي ا ن َع ِام‬
‫‪ )5(1‬أحمد وأبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ )5(2‬ابن عساكر‪.‬‬
‫‪ )(3‬ورد بمقال مهم تحت عنوان‪ :‬شرب الحليب‪ ..‬خطر يهدد ص حتك! ط ارق قابي ل‪ ،‬نش ر بإس الم أون الين بت اريخ ‪ ،06/07/2002‬أمثل ة كث يرة عن‬
‫أسباب تحول الحليب من بلسم شاف إلى سم ناقع‪.‬‬
‫‪94‬‬
‫ث َود ٍَم َل َبناً خَا ِلصاً َسا ِئغاً ِلل َّش ِ‬
‫ار ِبينَ ﴾(النحل‪)66:‬‬ ‫طو ِن ِه ِم ْن َبي ِْن َفرْ ٍ‬‫َل ِعب َْر ًة نُسْ ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي بُ ُ‬
‫قلت‪ :‬فإن وجدوا أن الغذاء الذي تتناوله هذه األبقار كان طبيبعيا‪.‬‬
‫قال‪ :‬حينذاك يبحثون في كيفية وصول هذا اللبن إلى هؤالء الناس‪ ،‬هل يص لهم من ض رع البق رة إلى أف واههم‪ ،‬أم‬
‫أنه يمر على مصانع كثيرة‪ ،‬ويزود بمواد حافظة وغيرها‪ ،‬فال يصلهم إال بعد أن يسام الخسف‪ ،‬ويذاق ألوان العذاب(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬فإن شربوه من ضرع البقرة نفسها؟‬
‫قال‪ :‬حينذاك يبحثون عن نمط الحياة التي يعيشها هؤالء الذين تضرروا بهذا اللبن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة نمط الحياة بهذا؟‬
‫قال الخبير‪ :‬لها عالقة عظيمة‪ ،‬فقد اظهرت اإلحص ائيات أن مظ اهر نم ط العيش مس ؤولة بنس بة ‪ 50‬بالمئ ة عن‬
‫العوامل المؤثرة في الصحة‪ ..‬ومن بين أهم عوامل نمط الحياة يؤدي الغ ذاء دور ًا أساس ياً في تعزي ز الص حة‪ ،‬والحيلول ة‬
‫دون المرض‪ ،‬وإطالة أمد الحياة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإن كان نمط معيشة هؤالء صالحا؟‬
‫قال‪ :‬كان ذلك خاصا بهم‪ ،‬ال عاما لكل الناس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تقول هذا؟ فالدراسات تنطلق من العينات لتعمم أحكامها على كل الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن النصوص المقدسة عودتنا أنها ال تتخلف‪ ،‬وقد ذك ر هللا تع الى اللبن باعتب اره من نعم هللا على عب اده‪ ،‬فال‬
‫ينبغي أن يتحول إلى نقمة إال إذا أفسده العباد‪ ،‬أو فسد العباد‪ ،‬ألم تقرأ ما ورد في الحديث أن رجال جاء إلى رسول هللا ‪‬‬
‫ال‪ ..‬فقال‪ :‬إني سقيته‪ ،‬فلم يزده إال استطالقاً‪ ،‬فقال ‪ (:‬اس قه‬ ‫يقول‪ :‬أخي يشتكي بطنه‪ ..‬فأمره رسول هللا ‪ ‬أن يسقه عس ً‬
‫ال)‪ ،‬فسقاه‪ ..‬فبرئ‪ .‬فقال رسول هللا ‪ (:‬صدق هللا وكذب بطن أخيك!)(‪)2‬‬ ‫عس ً‬
‫قلت‪ :‬صدق هللا‪..‬‬
‫قال‪ :‬أم ا إن قلت ه ذا‪ ،‬فق د أثبتت أبح اث عليم ة كث يرة أهمي ة اللبن الغذائي ة‪ ،‬فق د نش رت مجل ة الالنس ت الطبي ة‬
‫المشهورة عام ‪ 1985‬دراسة قام بها الدكتور غارالند من جامعة كاليفورنيا في الواليات المتحدة حيث درس الغذاء ال ذي‬
‫يتناوله ألفا رجل على مدى عشرين عاماً‪ ،‬فوجد أن أولئك الذين كانوا يشربون كأسين ونصف من اللبن يومياً أقل عرضة‬
‫بكثير لسرطان القولون من أولئك الذين ال يتناولون اللبن‪ ..‬ولهذا كانت نصيحة الدكتور غارالند أن يشرب الن اس م ا بين‬
‫كوبين إلى ثالثة أكواب من اللبن القليل الدسم للوقاية من سرطان القولون‪..‬‬
‫وهناك دراسة أخرى من اليابان تشير إلى أن تناول اللبن يقلل من اإلصابة بسرطان المعدة‪ ..‬ومن المع روف ل دى‬
‫عامة الناس أن تناول اللبن عند المصابين بقرحة المعدة يخفف ألم القرحة‪.‬‬
‫وق د اكتش ف العلم اء في جامع ة نيوي ورك في الوالي ات المتح دة أن اللبن يحت وي على م ادة تس مى‬
‫( البرس تاغالندين)وهي ال تي تقي من القرح ة‪ ..‬ومن المالح ظ ك ثرة الته اب المع دة واألمع اء عن د األطف ال إال أن ه ذا‬
‫المرض يمكن الوقاية منه إذا أعطينا أطفالنا لبناً كامل الدسم(‪.)3‬‬
‫قلت‪ :‬فهذه الدراسات تثبت أشياء مهمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا غيض من فيض‪ ..‬فإنه ال يحاط ببركات هللا‪ ،‬أال تعرف اإلمام جعفر الصادق ؟‬
‫‪ )(1‬أثبتت دراسة علمية متكاملة أجريت في الواليات المتحدة األمريكية أن جميع أنواع الحليب التي يتم تداولها في األسواق هناك والتي تخضع لرقاب ة‬
‫صارمة يتواجد بها حوالي ‪ 59‬نوعا من الهرمونات النشطة‪ ،‬وعدد كبير من المواد المسببة للحساسية‪ ،‬باإلضافة لل دهون والكولس ترول‪ .‬كم ا أك دت التحليالت‬
‫أن الحليب يحتوي على كميات ضارة من مبيدات األعشاب‪ ،‬والمبيدات الحشرية والمواد السامة (‪ 2.200‬مرة أعلى من المستوى اآلمن)‪ ،‬وح والي ‪ 52‬مض ا ًّدا‬
‫حيويًّا قويًّا‪ ،‬ودم وقيح وغائط وبكتيريا وفيروسات‪.‬‬
‫أيض ا من مرض ى‬ ‫وأكدت دراسة أخرى أجريت على ‪ 78‬ألف مريض على مدى ‪ 12‬س نة أن ال دول األك ثر اس تهالكا لمنتج ات األلب ان ل ديها نس ب أعلى ً‬
‫هشاشة العظام‪ ،‬وحذرت الدراسة من أخطار تناول منتجات األلبان الشهيرة التي يفضلها الكبار والص غار؛ فالقض مة الواح دة لقطع ة من الجبن تحم ل مخ اطر‬
‫عشرة رشفات من الحليب؛ ألنه عادة ما يستخدم عشرة جرامات من الحليب لعمل جرام واحد من الجبن‪ ،‬وقضمة اآليس ك ريم خطره ا يتج اوز خط ر الحليب‬
‫بحوالي ‪ 12‬مرة‪ ،‬أما الزبد فقد يصل خطره إلى ‪ 21‬مرة ضعف الحليب‪ .‬انظر‪ :‬المقال السابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬إن العسل لكي يحدث تأثيره الشافي يحتاج إلى مرور بعض الوقت‪ ،‬وقد يختلف مقدار هذا الوقت من مرض إلى آخر ويتضح هذا المع نى من ت ردد‬
‫أخ المريض على النبي ‪ ‬مشتكيا من أن أخاه ال يزال يعاني من مرض ه وتأكي د الرس ول الك ريم ‪ ‬باالس تمرار في س قي أخي ه العس ل ق ائالً‪ :‬ك ذب بطن‬
‫أخيك‪ -‬وصدق هللا العظيم‪ -‬فيه شفاء للناس‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬قبسات من الطب النبوي باختصار‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ال أعرف ذلك الجبل الهمام من جبال آل البيت الكرام عليهم السالم؟‬
‫قال‪ :‬لقد كان فقيها في بركات هللا‪ ..‬فقد جاءه رجل‪ ،‬فقال‪ :‬إن بي وجع ا‪ ،‬وأن ا أش رب النبي ذ‪ ،‬ووص فه لي الط بيب‪،‬‬
‫فقال له اإلمام‪ (:‬ما يمنعك من الماء الذي جعل هللا منه كل شيء حي؟)قال‪ :‬ال يوافقني‪ .‬قال‪ (:‬فما يمنع ك من العس ل ال ذي‬
‫اس﴾(النحل‪)69:‬؟) قال‪ :‬ال أجده‪ ،‬قال‪ (:‬فما يمنعك من اللبن ال ذي نبت من ه لحم ك واش تد عظم ك؟)‬ ‫قال هللا فيه‪ِ ﴿:‬ش َفا ٌء ِللنَّ ِ‬
‫قال‪ :‬ال يوافقني‪ .‬قال‪ (:‬تريد أن آمرك بشرب الخمر‪ ..‬ال وهللا ال آمرك)‬
‫عْض ﴾(آل عمران‪)34:‬‬‫قلت‪ُ ﴿:‬ذرِّ يَّ ًة َبعْضُ َها ِم ْن َب ٍ‬
‫قال‪ :‬أخبر قومك بأنهم لن ينتفعوا من بركاتي إال إذا صاروا على الفطرة‪ ،‬وترك وني على الفط رة‪ ،‬ف الحجب بي ني‬
‫وبينهم هي الفطرة‪ ،‬ألم تسمع حديث اإلسراء؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد روي أن رسول هللا ‪ ‬أتي ليلة أس ري ب ه بق دح من خم ر‪ ،‬وق دح من لبن‪ ،‬فنظ ر إليهم ا‪ ،‬ثم أخ ذ‬
‫اللبن‪ ،‬فقال جبريل ‪ (:‬الحمد هلل الذي هداك للفطرة‪ ،‬لو أخذت الخمر‪ ،‬غوت أمتك)‬
‫قال‪ :‬فقد أخبر ‪ ‬أنه يمثل الفطرة‪ ،‬وال ينتفع به إال من ترك جسمه على الفطرة‪.‬‬
‫بركات الزبادي‪:‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنك قد تتغير‪ ،‬وتخرج عن فطرتك‪ ،‬وتصير زبادي(‪ ،)1‬فهل نرميك؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬هذا التغير تغير فطرة‪ ،‬ال تغير صناعة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬إذا كبر الرضيع‪ ،‬فصار شابا‪ ،‬هل يخرج من الفطرة بذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬هي مرحلة ال بد أن يصير إليها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك الزبادي مرحلة من مراحلي‪ ..‬ولها من البركات ما للشباب من بركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن بركات الزبادي‪ ،‬فإني أجد نفسي تشتهيه بطبع فطرت عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأبشر‪ ..‬فنفسك ال تزال على فطرتها‪ ..‬ف التفت عن يس ارك‪ ،‬ف إن لي نبع ا يس ير في ه م ا تح ول من لب ني إلى‬
‫زبادي‪ ،‬فاسأله‪ ..‬فإن له من العلم بحاله ما ليس لي‪.‬‬
‫التفت‪ ،‬فرأيته بجمال اللبن‪ ،‬فقلت‪ :‬حدثني عنك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا الزبادي‪ ..‬ومن ال يعرف الزبادي‪ ..‬أنا من وضع هللا تعالى في بركة التجدد الدائم‪ ،‬والحيوية الثابتة‪ ،‬وجمال‬
‫المظهر‪ ،‬وسالمة األجهزة من األمراض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما سر ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألن هللا وضع في معظم الفيتامينات الهامة‪ ..‬زيادة على أن محتواي من المادة الدهنية سهل الهضم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أنا من يقوي المعدة‪ ،‬ويقطع االس هال‪ ،‬ويخص ب الب دن‪ ،‬ويفتح الش هية ويس كن الح رارة‪ ،‬وأن ا خ ير وص فة‬
‫لمعالجة القالع عند خلطي بالعسل‪.‬‬
‫وقد بينت الدراسات واألبحاث التي أجريت علي أهميتي العالجية حيث وجد أن هللا تعالى وضع في بركات تتل ف‬
‫جراثيم العصبات القولونية في المعدة واألمعاء‪ ..‬ووضع في ما يفيد في حاالت التهاب الكبد والكلى وضعفها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أأنت كل ذلك؟‬
‫قال‪ :‬وفوق ذلك أنا طارد للغازات‪ ،‬مدر للبول‪ ،‬مكافح للحصى في المثان ة والكلى‪ ،‬م ذيب للرم ال‪ ،‬مفي د في عم ل‬
‫أجهزة الهضم‪ ،‬وفي حاالت تصلب الشرايين والوهن‪ ،‬كما أني مهدئ لألعصاب‪ ،‬محارب لألرق‪ ،‬مجم ل للوج ه‪ ،‬مط ر‬
‫للجلد‪ ..‬فإن شئت أن تعلم صدق قولي‪ ،‬فاذهب إلى بلغاريا أوالقوقاز أواألناضول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‪ ..‬وهل تباع هناك بثمن بخس؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ولكن لي قوما هناك يحبونني ويكرمونني‪.‬‬
‫‪ )(1‬وقد عرف عند العرب منذ زمن بعيد وأصبح للبن الرائب عدة أسماء عربي ة مث ل اللبن الزب ادي أو الح اذر أو الح امض والخبي ط‪ ،‬وورد ذك ره في‬
‫أسفار العرب وفي أحاديثهم‪ ،‬واألسماء التي وردت في لغتهم له أكبر دليل على معرفتهم‪ .‬وكذلك األطباء العرب تح دثوا عن ه وعن فوائ ده العالجي ة والغذائي ة‪،‬‬
‫ومما قالوا فيه‪ :‬ان اللبن الرائب ليس فيه من الحدة التي كانت في اللبن ولذا فإنه ينفع المعدة الملتهبة ألنه أبرد بينما يضر المعدة الباردة‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫قلت‪ :‬فبماذا جازاهم هللا؟‬
‫ق ال‪ :‬بط ول أعم ارهم‪ ..‬ألم تعلم أن علم اء التغذي ة ي ذكرون أن نس بة ط ول العم ر بين س كان بلغاري ا والقوق از‬
‫واألناضول هي أعلى نسبة في العالم؟ ومن أسباب ذلك أن اللبن ال رائب ه و طع ام ه ذه الش عوب األساس ي‪ ،‬وه و ال ذي‬
‫أعطى ألجسامهم القدرة على التجدد الدائم والحيوية الثابتة وجمال المظهر وسالمة األجهزة من األمراض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ،‬فما سر كل هذه البركات التي وضعها هللا فيك؟‬
‫قال‪ :‬لقد قاموا بتحاليل محدودة‪ ،‬ومع ذلك رأوا في من الخير ما ال يمكن حصره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما رأوا؟‬
‫قال‪ :‬لقد وجدوا أني أحتوي على قيم غذائية عالية(‪ ،)1‬فأنا أحمل في تركيبي أغلب المعادن الالزمة للجسم‪ ..‬كما أن‬
‫المواد البروتينية التي تدخل في تكويني ذات القيمة الحيوية العالية‪ ..‬وأن المادة الدهنية ال تي في ه س هلة الهض م‪ ..‬كم ا أني‬
‫أضم معظم الفيتامينات المعروفة القيمة الحيوية والضرورية للجسم‪ ،‬فأنا غني بفيتامين أ ومجموعة فيتامين ب الم ركب‪..‬‬
‫ونسبة ليست كبيرة من فيتامين ج‪ ..‬كما أني ذات قيمة سعرية حرارية ال بأس بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الفرق بينك‪ ،‬وبين أبيك اللبن؟‬
‫قال‪ :‬لكل منا منافعه وبركاته‪ ..‬وال تفاضل بيننا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أقصد التفاضل‪ ..‬ولكني قصدت أنواع المنافع‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد وجدوا بمقارنتي ب اللبن أن ني أتم يز ب احتوائي على ح امض اللبن‪ ،‬وه و م ا يس اعد على قت ل م ا في من‬
‫جراثيم‪ ،‬ولذا فإنني ذو فائدة عظيمة في القضاء على الغازات السامة بالجسم‪ ..‬ألن الجراثيم الضارة ال تس تطيع البق اء في‬
‫حامض اللبن‪.‬‬
‫زيادة على ذلك‪ ،‬فأنا أساعد في تخفيف الوزن‪ ،‬وله ذا أدخ ل في أنظم ة النحاف ة‪ ..‬وس ر ذل ك احت وائي على نس بة‬
‫بسيطة من السعرات الحرارية زيادة على أن نسبة ال بروتين العالي ة ال تي وهبه ا هللا لي تحف ظ عض الت الجس م والوج ه‬
‫قوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذكرت أن لك تأثيرا في الجمال‪ ،‬فما سره؟‬
‫قال‪ :‬سره هو كون فيتامين ب من محتوياتي‪ ،‬وهو عامل الجمال والحيوية للشعر والبش رة والعي نين‪ ،‬كم ا يس اعد‬
‫على مقاومة الجوع بين الوجبات‪..‬‬
‫التمر‬
‫سرت مودعا نهر اللبن‪ ،‬فقال‪ :‬إلى أين؟‪ ..‬هل اشتقت إلى أهلك وولدك؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ولكن لي إخوانا في مدائن السالم ال بد أن أعود إليهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أفال تصل رحمك؟‬
‫قلت‪ :‬رحمي كثيرون‪ ..‬فمن تقصد منهم؟‬
‫قال‪ :‬عمتك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عماتي كثيرات‪ ،‬فمن تقصد منهن؟‬
‫قال‪ :‬عمتك النخلة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أذكر أن لي عمة بهذا االسم‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف تنسى عمتك؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت لك أني ال أعرف عمة بهذا االسم‪ ..‬فقد يكون خلط عليك‪.‬‬
‫‪ )(1‬أجريت بعض الدراسات في انجلترا على اللبن الزبادي وقد صرَّح العلماء بقولهم‪ :‬إن الزبادي يعد مصدراً رائعا ً للفيتامينات والمع ادن والبروتين ات‬
‫ولذلك فهو مفيد جداً للذين يخضعون لنظام غذائي صارم "الرجيم" كما يفي د تن اول الزب ادي بع د العالج بالمض ادات الحيوي ة‪ ،‬حيث إن المض اد الحي وي يقت ل‬
‫جميع البكتريا الموجودة بالجسم‪ ،‬سواء الضارة أو المفيدة‪ ،‬ولذا فتناول الزبادي يعوض المعدة عما تفقده من بكتريا مما يساعد في هضم األغذية عموماً‪.‬‬
‫وقد ثبت أن البكتريا المفيدة للمعدة توجد في الزبادي‪ ،‬وهي بكتريا حامض الالكتيل التي تساعد على تخلي ق بعض الفيتامين ات وتخلي ق ال بروتين للوص ول‬
‫لالحماض االميني ة مم ا يس اعد على هض م الطع ام‪ ،‬بم ا تف رزه من انزيم ات فض الً على اس تطاعة البكتري ا الموج ودة في الزب ادي من تطه ير المع دة وقت ل‬
‫الطفيالت‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫قال‪ :‬معاذ هللا‪ ..‬ال يخلط على مثلي‪ ..‬أال تراني صافيا كقلب المؤمن؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكني صادق أيضا‪ ..‬ويستحيل أن يكون كالنا صادق‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهيا نفعل ما تفعله المالئكة عند اختالفها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفعل؟‬
‫قال‪ :‬تتحاكم إلى ناصح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرانا بمحل خال‪ ،‬فأين نجد هذا الناصح الذي يحكم بيننا؟‬
‫قال‪ :‬هاهي ذي النخلة تحكم بيننا‪.‬‬
‫فجأة ظهرت نخلة بمنتهى الجمال تحوي أعذاق نخل تمتلئ بالحي اة‪ ،‬فقلت‪ :‬ال ب أس‪ ،‬أقب ل التح اكم إلى ه ذه‪ ،‬ف إني‬
‫أحب ظلها‪ ،‬وأحب بناتها‪.‬‬
‫التفتت إلي النخلة‪ ،‬وقالت‪ :‬أهال بابن أخي‪ ..‬ما هذا الجفاء؟‪ ..‬كيف تقاطع عمتك؟‬
‫قف شعري‪ ،‬وقلت‪ :‬ال أعلم أن جدي قد تزوج من بنات النخل‪ ،‬فكيف تكونين عمتي؟‬
‫قالت‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬أكرموا عمتكم النخلة‪ ،‬فإنها خلقت من فضلة طينة آدم‪ ،‬وليس من الشجر أك رم على هللا‬
‫من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران‪ ،‬فأطعموا نساءكم الولد الرطب‪ ،‬فإن لم يكن رطب فتمر)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬فاعذريني‪ ،‬ولو بلغني الحديث ما جادلت اللبن فيما ال أعلم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس عليك‪ ..‬فاللبن ال يحمل األحقاد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عنك وعن بناتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬حديثي طويل‪ ،‬فاقترب لتستظل بالسعف المبارك‪.‬‬
‫اقتربت‪ ،‬فقالت‪ :‬إن ما يملؤني بالسرور هو سماعي لتشبيه هللا لي ب المؤمن‪ ..‬فل ذلك ت راني أق دم تم وري حلوي ات‬
‫لهذه البشارة العظيمة التي مألني هللا بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فتمورك عالمة سرورك؟‬
‫قالت‪ :‬هي فيض من سروري‪ ،‬وسر من أسرار فرحتي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف عرفت تشبيه هللا لك بالمؤمن؟‬
‫قالت‪ :‬ما بالك يا ابن أخي‪ ،‬إن كان الحديث لم يبلغك‪ ،‬فالقرآن الكريم قد بلغك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هو بلغني‪ ،‬ولكنه أوسع من أن أدرك معانيه‪ ،‬أو أحيط ببركاته‪.‬‬
‫ب هَّللا ُ‬ ‫قالت‪ :‬إن قلت ذلك واعترفت بقصورك‪ ،‬فاعلم أن هللا تعالى شبهني بالمؤمن‪ ،‬فقال تع الى‪َ ﴿:‬أ َل ْم َت َر َك ْي فَ َ‬
‫ض َر َ‬
‫اس َل َعلَّه ُْم‬ ‫ض ِربُ هَّللا ُ اأْل َ ْم َث َ‬
‫ال ِللنَّ ِ‬ ‫اء تُ ْؤ ِتي أُ ُك َل َها ُكلَّ ِح ٍ‬
‫ين ِبإِ ْذ ِن َر ِّب َه ا َو َي ْ‬ ‫ت َو َفرْ ُع َها ِفي ال َّس َم ِ‬ ‫ط ِّي َب ٍة َأصْ لُ َها َثا ِب ٌ‬
‫ط ِّي َب ًة َك َش َج َر ٍة َ‬
‫ال َك ِل َم ًة َ‬
‫َم َث ً‬
‫َي َت َذ َّكرُونَ ﴾ (ابراهيم‪ 24:‬ـ ‪)25‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر هللا تعالى شجرة طيب ة‪ ،‬ولم يخص ك ي ا عم ة‪ ،‬فكي ف تخصص ين الق رآن الك ريم ب دون مخص ص‪،‬‬
‫وكيف تحملينه ما ال يحتمل؟‬
‫قالت‪ :‬ألم تسمع الحديث الوارد في ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬أي حديث تقصدين؟‬
‫قالت‪ :‬ما روي أن رسول ‪ ‬قال يوما ألصحابه‪ (:‬أخبروني عن شجرة ـ تشبه أو ـ كالرجل المسلم‪ ،‬ال يتح ات‬ ‫هّللا‬
‫ورقها صيفاً وال شتاء‪ ،‬وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)‪ ،‬فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول هّللا ‪ (:‬هي النخلة) (‪.)2‬‬
‫قلت‪ :‬هذا حديث صريح يشبهك بالمؤمن‪ ،‬فطوبى لك هذا التشبيه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بل ورد هذا في نصوص أخرى‪ ،‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬مثل الم ؤمن مث ل النخل ة م ا أخ ذت منه ا من ش يء‬
‫نفعك)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬الموصلي وابن أبي حاتم‪ ،‬والعقيلي وابن عدي وابن السنى وأبو نعيم في الطب وابن مردويه عن علي‪ ،‬قال المناوي في الفيض ( ‪)2/95‬فالحديث في‬
‫سنده ضعف وانقطاع‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫قلت‪ :‬فهذا حديث آخر‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال زال المزيد‪ ..‬فقد قال ‪ (:‬مثل المؤمن ال ذي يق رأ الق رأن كمث ل األترج ة ريحه ا طيب وطعمه ا طيب‪،‬‬
‫ومثل المؤمن الذي ال يقرأ القرآن كمثل التمر ال ريح لها وطعمها حلو‪ ،‬ومثل المن افق ال ذي يق رأ الق رآن كمث ل الريحان ة‬
‫ريحها طيب وطعمها مر‪ ،‬ومثل المنافق الذي ال يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هذا من أسرار بركاتك؟‬
‫قالت‪ :‬بلى‪ ..‬فالمؤمن مبارك‪ ..‬وال يشبه به إال مبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ففيم تشبهينه؟‬
‫قالت‪ :‬أشياء كثيرة‪ ..‬أال تنظر إلى هامتي المرتفعة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فهي مثال عزة المؤمن‪ ..‬أال تنظر إلى ظلي المديد؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فهو مثال رحمة المؤمن‪ ..‬أفال تنظر إلى ثباتي الذي ال تحركه األعاصير؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فهو مثال ثبات المؤمن‪ ..‬أفال تنظر إلى صبري؟‬
‫قلت‪ :‬أين هو‪ ..‬ال أرى فيك شيئا اسمه الصبر‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أال ترى أني أتحمل من الظروف الجوية القاسية من ارتفاع درجة الحرارة وانخفاض الرطوبة ما ال تتحمله‬
‫أي شجرة؟‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وفوق ذلك ال أطلب إال خدمات هي أقل بكثير مما يتطلبه غير من األشجار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬وقد قال ‪ (:‬مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شئ نفعك)(‪)2‬‬
‫قالت‪ :‬صدق رسول هللا ‪ ..‬فأنا أشبه المؤمن في ص بره وثبات ه وعزت ه ومنافع ه‪ ..‬وغ ير ذل ك كث ير‪ ..‬فكي ف ال‬
‫أكون عمته؟‬
‫قلت‪ :‬صدقت فيما ذكرت‪ ..‬ولكني لم آت ألبحث عن نسبك‪ ،‬وصلتك بي‪ ،‬أو صلتي بك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فعم تبحث؟‬
‫قلت‪ :‬عن بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وهذا من أعظم دالئل بركاتي‪ ..‬فكل ما اقترب الغذاء من اإلنسان‪ ،‬أو اإلنسان من الغذاء‪ ،‬كلما كان ذلك أكثر‬
‫أثرا وأعظم بركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال ترى أجسامكم ترفض هذه األغذية الصناعية‪ ،‬وتعبر عن رفضها باألمراض والعلل؟‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سر ذلك هو غرابة هذه المنتجات عن الطينة التي خلقتم منه ا‪ ..‬أم ا طين تي‪ ،‬فهي طينتكم‪ ،‬ف إن دخلت بن اتي‬
‫إلى أجسامكم لم تجد شيئا غريبا‪ ،‬ولم تجد أجسامكم إال ما يتناسق معها ويتكامل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ..‬وقد سمعت مثله‪ ،‬واقتنعت به‪ ..‬ولكني امرؤ مغرم بالتفصيل‪ ..‬فال تجدي معي حجج العق ل كم ا‬
‫تجدي ثمرات المخابر‪ ،‬فحدثيني عما تقول المخابر عنك؟‬
‫قالت‪ :‬أال تزال المخابر تستعبدك؟‬
‫قلت‪ :‬ال أزال في ابتدائية السالم‪ ..‬وال تزال أشياء كثيرة ورثتها من قومي تستعبدني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ما دمت قد قلت ذلك‪ ..‬فإني سأكلف تمرتين من تمراتي قد تكونتا في مخابركم‪ ،‬وستحدثك األولى منهم ا عن‬

‫‪ )(1‬البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫بركات الغذاء‪ ،‬وأما الثانية‪ ،‬فستحدثك عن بركات الشفاء(‪.)1‬‬
‫بركات الغذاء‪:‬‬
‫سمعت صوت تمرة جميل‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أحلى صوتك أيتها التمرة؟‬
‫قالت‪ :‬طعمي كصوتي كالنا حلو‪ ..‬فكونوا طيبين لتستحقوا الطيبات‪.‬‬
‫ت﴾(النور‪ ،)26 :‬ولكن أهن اك تم ر خ بيث‪ ،‬فق د‬ ‫الط ِّيبُونَ ِل َّ‬
‫لط ِّي َبا ِ‬ ‫لط ِّي ِبينَ َو َّ‬
‫ات ِل َّ‬ ‫قلت‪ :‬صدقت‪ ،‬فقد قال هللا تعالى‪َ ﴿:‬و َّ‬
‫الط ِّي َب ُ‬
‫ت ﴾(النور‪)26:‬؟‬ ‫ات ِل ْلخَ ِبي ِثينَ َو ْالخَ ِبيثُونَ ِل ْلخَ ِبي َثا ِ‬
‫قال تعالى‪ْ ﴿:‬الخَ ِبي َث ُ‬
‫آخ ِذي ِه ِإاَّل َأ ْن تُ ْغ ِمضُوا ِفيه﴾(البقرة‪)267:‬‬ ‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬وال َت َي َّم ُموا ْالخَ ِب َ‬
‫يث ِم ْنهُ تُ ْن ِفقُونَ َو َلسْ تُ ْم ِب ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قيل‪ :‬إنه التمر الرديء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وأخبث منه تلك الحلويات التي تصنعونها‪ ،‬فتزيدكم خبثا على خبث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن الطيبة‪ ،‬فقد سمعت من أنباء الخبث ما مألني بالغثاء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬بيت ال تمر فيه جياع أهله)‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فهذا الحديث يدل على أن التمر غذاء كامل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬وقد يدل على هذا أن رسول هللا ‪ ‬دعا إلى التسحر بالتمر‪ ،‬فقال‪ (:‬نعم سحور المؤمن التمر)(‪)2‬‬
‫قالت‪ :‬هذا صحيح‪ ..‬وقد عرف قومك أن السكر الموجود في طعام الس حور يكفي س ت س اعات‪ ،‬وهي م دة كافي ة‬
‫لشغل الصائم عن الجوع والعطش‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وبعدها؟‬
‫قالت‪ :‬وبعد ذلك يبدأ اإلمداد الغذائي ب الوقود من المخ زون الموج ود بالكب د‪ ،‬وله ذا أم ر ‪ ‬الص ائم إذا أفط ر أن‬
‫يفطر على التمر أو الرطب‪.‬‬
‫طهورٌ)(‪)3‬‬‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد قال ‪ (:‬من وجد تمر ًا فليفطر عليه‪ ،‬ومن ال يجد فليفطر على الماء فإنه َ‬
‫قالت‪ :‬أتدري ما سر ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ما سره؟‬
‫قالت‪ :‬ألنن ا أغني اء بفض ل هللا بم واد الطاق ة‪ ،‬فنحن نحت وي على ع دد من أن واع الس كاكر كس كر العنب‪ ،‬وس كر‬
‫الفاكهة‪ ،‬وسكر القصب‪ ،‬بل إن نسبتها فينا عالية تبلغ حوالي ‪70‬بالمائة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنتم وقود بالدرجة األولى؟‬
‫ق الت‪ :‬أج ل‪ ..‬وزي ادة على ذل ك ف إن الس كاكر الموج ودة فين ا س ريعة االمتص اص س هلة التمثي ل‪ ،‬إذ ال يحت اج‬
‫ال في الم واد الدهني ة والنش وية وال تي‬ ‫امتصاصها إلى عمليات هضمية وعمليات كيماوية حيوية معقدة‪ ،‬كما هو الحال مث ً‬
‫تحتاج الى مفرزات هضمية‪ ..‬فلذلك تستطيع المعدة هضم التمر وامتصاص السكاكر الموجودة فيه خالل ساعة أو بض ع‬
‫ساعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفسير ذلك؟‬
‫ً‬
‫قالت‪ :‬ألننا نحتوي على سكريات أحادية‪ ،‬وهي تصل س ريعا إلى الكب د‪ ،‬وال دم ال ذي يص ل ب دوره إلى األعض اء‬
‫وخاصة المخ‪ ،‬أما الذي يمأل معدته بالطعام والشراب‪ ،‬فإنه يحتاج لساعتين إلى ثالثة ساعات حتى تمتص أمعاؤه السكر‪..‬‬
‫ولهذا دعا النبي ‪ ‬إلى ابتداء المفطر بنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه فوائد عظيمة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬واألمر ال ينحصر في ذلك فإن فائدة السكاكر الموجودة فينا ال تنحصر في منح الح رارة والق درة والنش اط‪،‬‬
‫من المراجع‪ :‬كتاب‪ :‬التداوي بالنبات و الطب النب وي‪ ،‬ت أليف ال دكتور عب د الباس ط محم د الس يد أس تاذ م ادة الج راثيم والمكروب ات في الجامع ات‬ ‫‪)(1‬‬
‫المصرية‪.‬‬
‫ندوة للدكتور عبد الباسط السيد على قناة الجزيرة في برنامج بال حدود بتاريخ ‪ 04/12/2002‬تم إعادة صياغتها بتصرف‪.‬‬
‫موقع شركة تمور المملكة على شبكة اإلنترنت‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫بل إنها مدرة للبول‪ ،‬وتغسل الكلى‪ ،‬وتنظف الكبد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك‪ ..‬ولكن القيمة الغذائية ال تعتمد على سهولة امتصاص الجسم للسكريات فقط‪ ..‬وإال ف إن كث يرا من‬
‫األغذية سريعة االمتصاص‪ ،‬ومع ذلك ال تحمل أي منفعة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تقل هذا عني‪ ،‬فإني ابنة عمتك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلتكوني‪ ..‬ال يمنعني من الحق مانع‪ ،‬وال يصدني عنه صاد‪.‬‬
‫ً‬
‫قالت‪ :‬إن قلت ذلك‪ ..‬فقد ذكر الخبراء الذي استعبدوا عقلك أنني غنية جدا بالمواد الغذائية الضرورية لإلنسان‪ ..‬بل‬
‫إن كيلوغراما واحدا مني يعطي ثالثة آالف ك الوري‪ ،‬أي م ا يع ادل الطاق ة الحراري ة للرج ل متوس ط النش اط في الي وم‬
‫الواحد‪ ..‬أي أن الكيلوغرام الواحد مني له نفس القيمة الحرارية التي يعطيها اللحم‪ ،‬ب ل إن م ا يعطي ه الكيل و الواح د م ني‬
‫يعادل ثالثة أضعاف ما يعطيه كيلو واحد من السمك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الغذاء مع ذلك ليس حرارة فقط‪ ،‬فمن الغذاء ما ينبت منه اللحم والعظم‪ ،‬ومنه الفيتامينات‪..‬‬
‫قالت‪ :‬أتتيه علي بالفيتامينات‪ ..‬إنني أحتوي منها على أهمها‪ ..‬فإني أختزن فيتامين أ‪ ..‬أتعرفه؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فهو يساعد على زيادة وزن األطفال‪ ،‬ولذلك يطلق عليه األطباء اسم عامل النمو‪ ،‬كم ا يحف ظ رطوب ة‬
‫العين وبريقها‪ ،‬وبذلك يضاد الغشاوة الليلية‪ ..‬وهو‪..‬‬
‫قالت‪ :‬ال يمكنك عد فضائله‪ ..‬وأنا أحتوي على نسبة عالية منه تع ادل أعظم مص ادره‪ ..‬أي تع ادل نس بته في زيت‬
‫السمك والزبدة‪.‬‬
‫كما أني أحتوي على فيتامين ب ‪1‬وفيتامين ب ‪..2‬‬
‫قلت‪ :‬أعرفها‪ ،‬فلها دور في تقوية األعصاب وتل يين األوعي ة الدموي ة وت رطيب األمع اء وحفظه ا من االلتهاب ات‬
‫والضعف‪ ..‬أما فيتامين ب‪ 2‬فيوصف في آفات الكبد وتشقق الشفاة وفي تكسر األظافر وتشقق الجلد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فأنا احتوي عليه كما أحتوي على غيره من الفيتامينات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الغذاء ليس فيتامينات فقط‪ ..‬فهناك المعادن‪ ..‬وما أدراك ما المعادن؟‬
‫قالت‪ :‬أتفخر علي بها‪ ..‬فاذكر لي ما تعرفه منها ألذكر لك عالقتي به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هناك الفسفور‪ ،‬وهو يدخل في تركيب العظام واألسنان‪ ..‬ويوجد بكثرة في ضراتك من المشمش والعنب‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كيف تقول هذا؟‪ ..‬لقد ذكر الخبراء أنني أغنى من المشمش والعنب بالفسفور‪ ،‬ففي كل مائة غ رام م ني تج د‬
‫أربعين مليغراما من الفسفور بينما ال تزيد كمية الفسفور الموجودة في أي فاكهة عن عشرين مليغراماً في نفس الكمية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهناك البوتاسيوم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أال تعلم أني أستخدم لعالج نقص البوتاسيوم الحتوائي على كميات كبيرة منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهناك الحديد والكالسيوم؟‬
‫قالت‪ :‬إن بضع حبات مني تزيد في مفعولها عن فائدة زجاجة كاملة من شراب الحديد التي تتناولونها‪ ،‬وتزي د على‬
‫أخذ إبرة كالسيوم‪.‬‬
‫وفوق ذلك كله‪ ،‬فإن الحديد والكالسيوم موجودان في جسمي بشكل ط بيعي يتقبل ه الجس م‪ ،‬ويتمثل ه بس رعة‪ ،‬بينم ا‬
‫أدوية الحديد والكالسيوم تمجها المعدة‪ ،‬وتثق ل غش اءها المخ اطي‪ ،‬وق د ال تهض مها كامل ة‪ ..‬ف إن ش ئت ال دليل على ذل ك‬
‫فاذهب إلى مراحيض من يتناول هذه السموم‪ ،‬وقل لي‪ :‬ماذا ترى؟‬
‫قلت‪ :‬قولي وقولك‪ ،‬ودعيني‪ ،‬فقد مألت أنفي بالروائح الكريهة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ترى اصطباغ لون فضالت من يتعاطى األدوية الحديدية بالسواد‪ ،‬وهو دليل على عدم الهضم الجيد‪ ،‬وعلى‬
‫عدم موافقة الحديد االصطناعي للجسم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن المعادن المهمة المغنيسيوم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وأنا أحتوي منه على نسب مقبولة مؤثرة‪ ،‬ألم تالحظ ب أن ال ذين يتن اولون التم ر بك ثرة ال يعرف ون م رض‬
‫السرطان اطالقا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أالحظ ذلك‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫قالت‪ :‬فقد الحظ الخبراء ذلك‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قلت‪ :‬وهناك الب ورون‪ ،‬وه و من العناص ر الن ادرة والمهم ة لنم و بعض الكائن ات الحي ة‪ ،‬ويلعب دورا كب يرا في‬
‫الفيتامينات التي تكون ذات أهمية لعالج الروماتيزم‪ ،‬باإلضافة إلى تأثيره على الهرمونات الجنسية؟‬
‫قالت‪ :‬لقد دلت الدراس ة على أن ني أحت وي على الب ورون بنس بة تص ل الى ‪6 3‬ملج رام‪100 /‬ج رام في الج زء‬
‫اللحمي والنوى على حد سواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت منجم معادن إذن؟‬
‫قالت‪ :‬ألم تسمع الخبراء‪ ،‬وهم يقولون‪ (:‬نقب عن المعادن في مناجم التمر)‬
‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫تقدمت التمرة الثانية‪ ،‬وقالت في زهو لم تستطع إخفاءه‪ :‬أتعرفني‪ ،‬يا تلميذ السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تمرة كسائر التمر‪ ..‬فإن كنت أعرف التمر‪ ،‬فإني أعرفك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬أنا تمرة خاصة‪ ،‬ولي حكاية خاصة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال علم لي بحكاياتكم‪ ،‬فأخبارنا ال تعدو اإلنس‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلحكايتي عالقة باإلنس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بأيهم‪ ..‬فاإلنس كثيرون‪ ،‬ومنتشرون‪ ..‬وحكاياتهم ال يحصيها الحاصي‪ ،‬وال يدركها القاصي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬حكايتي مع امرأة امتألت بالطهر والعفاف‪ ،‬حتى صارت تاجا على رؤوس األشراف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أولئك أربع‪ ..‬فمع أيهن كنت؟‬
‫قالت‪ :‬مع تلك التي تسنمت ذروة الطهارة حتى جاءتها البشارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحكايتك مع أم المسيح‪ ..‬مريم البتول‪..‬‬
‫قالت‪ :‬رزقك هللا القبول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما حكايتك معها؟‬
‫ت‬‫ت َق ْب َل َه َذا َو ُك ْن ُ‬ ‫ت َي ا َل ْي َت ِني ِم ُّ‬ ‫قالت‪ :‬كنت في النخلة التي قال هللا تعالى فيها‪َ ﴿:‬فأَ َجا َءهَا ْال َمخَ اضُ ِإ َلى ِج ْذ ِ‬
‫ع النَّ ْخ َل ِة َق ا َل ْ‬
‫طباً َج ِن ّياً﴾(م ريم‪:‬‬ ‫ط َع َلي ِْك رُ َ‬ ‫َنسْياً َم ْن ِس ّياً﴾(مريم‪ ..)23 :‬وأنا من الرطب الذي قال هللا تعالى فيه‪َ ﴿:‬وه ُِّزي ِإ َلي ِْك ِب ِج ْذع النَّ ْخ َل ِة تُ َسا ِق ْ‬
‫ِ‬
‫‪)25‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر إطعام هللا لمريم ـ عليها السالم ـ من عذقك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد كشف قومك بعض ذلك‪ ..‬ألم تسمع بما اكتشفوا؟‬
‫قلت‪ :‬أسمع‪ ..‬ولكن عقلي لم يكن يهتم بمثل هذا‪ ..‬ولكني ما إن رأيتكن وسمعت حديثكن حتى صار قلبي يخفق لك ل‬
‫حديث يصرح أو يعرض بذكركن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقد وقعت في حبنا إذن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أخشى من ذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تخش‪ ..‬فال يحبنا إال الكرام‪ ،‬وال يكرمنا إال المكرمون‪ ..‬ألم يكن ‪ ‬يحبنا ويذكرنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فقد استننت بسنة من سننه‪ ،‬واهتديت بهدي من هديه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن حديثك مع مريم ـ عليها السالم ـ‬
‫قالت‪ :‬حديثي معها ذكره ربي‪ ..‬وما كان لي أن أستدرك على ما قال‪ ،‬أو أض يف إلى م ا ذك ر‪ ،‬ول و علم هللا أن في‬
‫زيادة التفاصيل علما خيرا لذكره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عما كشف قومي من أسرار اختيار هللا لك دون غيرك طعاما للطاهرة البتول‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكروا حكما كثيرة لذلك‪ ..‬يعتبرها إخوان اإلعجاز من دالئل اإلعجاز‪ ،‬وقد صدقوا‪ ..‬فال ي ذكر مث ل ه ذا‬
‫إال عالم بالتفاصيل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي ما يطيقه عقلي مما ذكروا‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫قالت‪ :‬لقد تبين في األبحاث المجراة على الرطب(‪ )1‬أي ثمرة النخيل الناضجة‪ ،‬أنه ا تح وي م ادة مقبض ة لل رحم‪،‬‬
‫تقوي عمل عضالت الرحم في األشهر األخيرة للحمل فتساعد على الوالدة من جهة‪ ،‬كما تقلل كمية النزف الحاصل بع د‬
‫الوالدة من جهة أخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه فائدة جليلة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وقد اكتشفوا أن الرطب يحوي نسبة عالية من السكاكر البس يطة الس هلة الهض م واالمتص اص‪ ،‬مث ل س كر‬
‫الغلوكوز‪ ،‬ومن المعروف أن هذه السكاكر هي مصدر الطاقة األساسية‪ ،‬وهي الغذاء المفضل للعضالت‪ ،‬وعضلة الرحم‬
‫من أضخم عضالت الجسم‪ ،‬وتقوم بعمل جبار أثناء الوالدة التي تتطلب سكاكر بسيطة بكمية جيدة ونوعية خاص ة س هلة‬
‫الهضم سريعة االمتصاص‪ ،‬كتلك التي في الرطب‪.‬‬
‫ونذكر هنا بأن علماء التوليد يقدمون للحامل‪ ،‬وهي بحالة المخاض الماء والسكر بشكل س وائل‪ ،‬وق د نص ت اآلي ة‬
‫الكريمة على إعطاء السوائل أيضاً مع السكاكر بقوله تعالى‪َ ﴿:‬ف ُك ِلي َو ْ‬
‫اش َر ِبي ﴾ (مريم‪)26 :‬‬
‫قلت‪ :‬هذا إعجاز آخر‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وهناك أنواع كثيرة في هذا ال تزال في طيات الغيب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي ما ذكروا‪ ..‬واتركيهم يبحثون فيما لم يذكروا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكروا أن من آثار الرطب أنه يخفض ضغط الدم عند الحوامل فترة ليست طويلة ثم يعود لطبيعته‪ ،‬وهذه‬
‫الخاصة مفيدة ألنه بانخفاض ضغط الدم تقل كمية الدم النازفة‪.‬‬
‫وذكروا أن الرطب من المواد الملينة التي تنظف الكولون‪ ،‬ومن المعلوم طبياً أن الملين ات النباتي ة تفي د في تس هيل‬
‫وتأمين عملية الوالدة بتنظيفها لألمعاء الغليظة خاصة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا أرى الصالحون ينصحون الحامل بأكلك؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد قال بعضهم‪ (:‬ما للنفساء عن دي خ ير من ال رطب له ذه اآلي ة‪ ،‬ول و علم هللا ش يئا ه و أفض ل من‬
‫الرطب للنفساء ألطعمه مريم؟)‬
‫قلت‪ :‬فقد استنبط هذا من القرآن الكريم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد كانوا يستنبطون كل شيء من القرآن الكريم‪ ..‬فارجعوا إليه ففيه مفاتيح كل شيء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبركات الشفاء التي جعلها هللا فيك تخص النساء فقط‪ ،‬بل الحوامل منهن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ومن قال ذلك؟‪ ..‬أنا خير محض‪ ..‬دواء للكل‪ ..‬كما أني غ ذاء للك ل‪ ..‬أال تع رف برك ات م ا أعط اني هللا من‬
‫األلياف السللوزية؟‬
‫قلت‪ :‬هي لذيذة في فمي‪ ..‬لكني ال أدري تأثيرها في بطني وأمعائي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬تلك األلياف تساعد األمعاء على حركتها االستدارية‪ ،‬وبذلك تجع ل التم ر ملين اً طبيعي اً وله ذا يس اعد التم ر‬
‫على تجنب أمراض البواسير‪.‬‬
‫بل وجد أنه للوقاية من اإلمساك يحتاج اإلنسان إلى تناول التمر وال رطب لغن اه باأللي اف‪ ،‬فق د وج د أن ك ل ‪100‬‬
‫جرام من التمر تعطي نحو ‪ 8.5‬جرامات من األلياف‪ ،‬وهي مهمة للوقاية من اإلمساك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه فائدة عظيمة‪ ..‬فهل هناك غيرها؟‬
‫قالت‪ :‬كثيرة هي فوائدي‪ ..‬وسأذكر لك منها ما يمأل صدرك انشراحا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد وجدوا أنني أساعد على العالج من األنيميا لما أحتويه من معدن الحديد‪ ..‬وأني أعالج أم راض القلب لم ا‬
‫أحتويه من هذا العنصر‪ ..‬وأن لدي فعالية ضد الحساسية الحتوائي على عنصر الزنك‪ ..‬وأني أوقف النزيف أثن اء الحم ل‬
‫الحتوائي على فيتامين ‪ K‬والتاناين الذي هو عبارة عن مادة قابضة‪ ..‬وأني أستخدم في ح االت الفش ل الكل وي الحت وائي‬
‫على فيتامين بي‪-1‬بي ‪ 2‬وبي ‪ 6‬إضافة إلى س كر الفواك ه‪ ..‬وأني أخف ف من الحموض ة والحرق ة الحت وائي على األمالح‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬أبحاث المهندس الزراعي اجود الحراكي ـ حض ارة اإلس الم ـ الس نة ‪ 18‬الع دد ‪ ،7‬واإلس الم و الطب الح ديث‪ :‬لل دكتور عب د العزي ز باش ا‬
‫إسماعيل‪ ،‬وحوار مع صديقي الملحد للدكتور مصطفى محمود‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫القلوية‪ ..‬وأني أمنع الدوخة ودوار الرأس الحتوائي على بعض العناصر مثل الكاروتين‪ ..‬وأني أس اعد على من ع الخالي ا‬
‫السرطانية من النمو واالنتشار الحتوائي على المغنيسيوم والكالسيوم‪ ..‬وأني أمثل نظام ا إلع ادة البن اء في جس م اإلنس ان‬
‫الحتوائي على الفسفور وباقي األمالح المعدنية والفيتامين ات‪ ،‬وأن دقي ق التم ر المجف ف ونوات ه المطحون ة تس اعد على‬
‫الشفاء من الربو وضيق التنفس‪..‬‬
‫قلت‪ :‬حسبك‪ ..‬فقد امتألت ببركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أفال أسمعك نصيحة لم يسمعها قومك من قبل؟‬
‫قلت‪ :‬أتريدين تقديم وصفة للشفاء؟‬
‫قالت‪ :‬ليجربوها إن شاءوا‪ ..‬فسيرون من بركاتها ما يملؤهم قناعة بالمباركوبيوتيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبم تنصحين؟‬
‫قالت‪ :‬بأن يطبقوا‪ ..‬ولو مرة في حياتهم ما ورد في الحديث من أنه كان يمر الهالل ثم الهالل ثم الهالل‪ :‬ثالثة أهل ة‬
‫في شهرين‪ ،‬وما أوقد في أبيات َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬نار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما كان غذاؤهم كل تلك الفترة؟‬
‫هَّللا‬
‫لر ُس ول ِ ‪ ‬ج يران من األنص ار وك انت لهم من ائح وك انوا‬ ‫قالت‪ :‬األس ودان‪ :‬التم ر والم اء‪ ،‬إال أن ه ق د ك ان َ‬
‫يرسلون إلى َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬من ألبانها(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذا الحديث يذكر شظف العيش الذي كانوا يعيشه ‪ ..‬والحمد هلل لقد فتح هللا علينا من بركات األرض‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬الحديث لم يفد ذلك فقط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما يفيد غير هذا؟‬
‫قالت‪ :‬إنه يصف وصفة من وصفات المباركوبيوتيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفعل هذه الوصفة؟‬
‫قالت‪ :‬تعيد برمجة أجسامكم لتستقبل البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي بركات؟‪ ..‬بركات الغذاء أم بركات الشفاء؟‬
‫قالت‪ :‬إذا حلت البركة بالجسم غذت وشفت‪ ..‬وال خير في دواء ال يغذيك‪ ..‬وال خير في غذاء ال يش فيك‪ ..‬ألم تس مع‬
‫قوله ‪ (:‬خير تمركم البرني‪ ،‬يذهب الداء‪ ،‬وال داء فيه)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فما البرني؟‬
‫قالت‪ :‬نوع من أنواعي وهو ممن تشرف بغرس رسول هللا ‪ ‬له بيده الشريفة بالمدينة المنورة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنتم معشر التمر أنواع مختلفة؟‬
‫قالت‪ :‬نحن مثلكم معشر البشر‪ ..‬أنسيت أنني ابنة عمتك؟‬
‫قلت‪ :‬اعذريني‪ ..‬فقد ورثت النسيان عن آبائي وأجدادي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فنحن أنواع كثيرة مختلفة األش كال والطع وم‪ ،‬وق د أحص ى العلم اء من تم ر المدين ة وح دها مائ ة وبض عاً‬
‫وثالثين نوعاً(‪.)3‬‬
‫قلت‪ :‬فهل بركاتك تقتصر على ما غال من التمر‪ ..‬فإن بعضا مما ذكرت ال يستطيع الفقراء شراءه؟‬
‫قالت‪ :‬فبشرهم أن بركات هللا في كل تمر‪ ..‬ففضل هللا ال يؤثر األغنياء على الفقراء‪ ..‬ألم تعلم أنه ‪ ( ‬ك ان ي ؤتى‬
‫بالتمر فيه دود فيفتشه يخرج السوس منه)(‪ ..)4‬ألم تسمع ما ورد في الح ديث عن بعض هم‪ ،‬ق ال‪( :‬ربم ا رأيت رس ول هللا‬
‫‪ ‬يتلوى ما شبع من الدقل)(‪)5‬‬
‫قلت‪ :‬وما الدقل(‪)6‬؟‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫ابن عدي والحاكم والعقيلي والبخاري في تاريخه‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫قال ابن األثير‪ :‬وأنواع تمر المدينة كثيرة استقصيناها فبلغت مائة وبضعا ً وثالثين نوعاً‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أبو داود‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫الترمذي‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫قال الزمخشري‪ :‬الدقل تمر رديء ال يتالصق فإذا نثر تفرق وانفردت كل تمرة عن أختها‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪104‬‬
‫قالت‪ :‬التمر الرديء‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هذا من الطب؟‬
‫قالت‪ :‬من فهم عن رسول هللا ‪ ‬علم أن حياته كلها خير ومصالح‪ ..‬ولكنكم ال تزالون تعبدون المخابر‪ ،‬وتسجدون‬
‫بين يدي الفئران البيضاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنستطيع أن نفهم من هذا أن رسول هللا ‪ ‬نوع أكل التمر ليتناسب مع الحاجات المختلفة؟‬
‫فإن الشيطان يقول‪ :‬بقي ابن‬ ‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد دلت األدلة الكثيرة على ذلك‪ ..‬فهو يقول عن البلح‪ُ (:‬كلوا البلح بالتمر َّ‬
‫آدم يأكل الجديد بالعتيق)(‪ ،)1‬وفي رواية‪ (:‬كلوا البلح بالتمر(‪ ،)2‬فإن الش يطان يح زن إذا رأى ابن آدم يأكل ه يق ول‪ :‬ع اش‬
‫ابن آدم حتى أكل الجديد بالخلق)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا أمر النبي ‪ ‬بأكل البلح بالتمر‪ ،‬ولم يأمر بأكل البسر مع التمر؟‬
‫قال‪ :‬لقد علل الطب التقليدي ذلك بأن البلح بارد يابس‪ ،‬والتمر حار رطب‪ ،‬ففي كل منهما إص الح لآلخ ر‪ ،‬بخالف‬
‫البسر مع التمر‪ ،‬فإن كل واحد منهما حار‪ ،‬وإن كانت حرارة التمر أكثر‪ ..‬وال ينبغي من جهة الطب الجمع بين ح ارين أو‬
‫باردين‪.‬‬
‫وقد قالوا بأن في هذا الح ديث‪ :‬التنبي ه على ص حة أص ل ص ناعة الطب‪ ،‬ومراع اة الت دبير ال ذي يص لح في دف ع‬
‫كيفيات األغذية واألدوية بعضها ببعض‪ ،‬ومراعاة القانون الطبي الذي تحفظ به الصحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأرى األحاديث أجمعت على التنوع‪ ،‬فهل ذلك سر من الصحة؟‬
‫اس ﴾ (النحل‪)69:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف أل َوانُهُ ِفي ِه ِش َفا ٌء ِللنَّ ِ‬ ‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ألم يقل هللا تعالى عن النحل‪َ ﴿:‬ي ْخرُجُ ِم ْن بُ ُ‬
‫طو ِن َها َش َرابٌ ُم ْخ َت ِل ٌ‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر هللا تعالى اختالف ألوان العسل‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لينبه بذلك إلى ما في اختالف هذه األلوان من أدوية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فكل لون دواء خاص‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كما أن كل نوع من األنواع شفاء خاص وبركة خاصة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد سمعت أنه ‪ ‬كان يخلط التمر بغيره من المآكل‪..‬‬
‫قالت‪ :‬أعلم ذلك‪ ..‬فقد روي أنه كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره فيأكل الرطب بالبطيخ وكان أحب الفاكه ة‬
‫إليه(‪ ،)4‬وأنه كان يحب الزبد والتمر(‪ ،)5‬وأنه كان يقول‪ (:‬خبز ولحم وتمر وبس ر ورطب‪ ،‬إذا أص بتم مث ل ه ذا فض ربتم‬
‫بأيديكم فقولوا‪ :‬بسم هللا وبركة هللا)(‪.)6‬‬
‫قلت‪ :‬وأنه كان يسمي التمر واللبن األطيبين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فهذه وصفة مباركة‪ ..‬أال ترى إلى ما وهبهه هللا للبدو الذين يقتصرون عليهما من صحة جسم‪ ،‬ورش اقة ق د‪،‬‬
‫وبعد عن األويئة واألمراض؟‬
‫قلت‪ :‬أأنصح بها قومي إذن؟‬
‫قال‪ :‬انصحهم على أن يعاملونا باحترام وإكرام لينالوا بركاتنا‪ ،‬فنصير أطباء في أجوافهم‪ ..‬ألم ي أمركم ‪ ‬ب إكرام‬
‫عمتكم؟‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬وقد ورد في الحديث أنه ‪ ‬كان إذا أتي بب اكورة الثم رة وض عها على عيني ه ثم ش فتيه وق ال‪:‬‬
‫( اللهم كما أريتنا أوله فأرنا آخره‪ ،‬ثم يعطيه من كان عنده من الصبيان)(‪)7‬‬
‫قالت‪ :‬فاستنوا به في إكرامه لنا لتنالوا من بركاتنا ما نال سلفكم منها‪.‬‬

‫ابن ماجة والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫الباء في الحديث بمعنى‪ :‬مع‪ ،‬أي‪ :‬كلوا هذا مع هذا‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه البزار في مسنده‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الطبراني في األوسط والحاكم وأبو نعيم في الطب‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫أبو داود وابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫الحاكم‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫ابن السني‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪105‬‬
‫الزيتون‬
‫أردت توديع التمرات المباركات‪ ،‬فقالت لي إحداهن‪ :‬إلى أين تريد؟‬
‫قلت‪ :‬إلى مدائن السالم‪ ،‬فقد طال غيابي عنها‪ ،‬وأحسب قلبي بدأ يدق شوقا إلى معلمي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أي المعلمين‪ :‬معلم السالم‪ ،‬أم معلم البركة؟‬
‫قلت‪ :‬كالهما‪ ..‬فقلبي ال يفرق بينهما‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال يمكنك أن تذهب حتى تزور أختا لنا قرنها هللا بنا في البركات‪ ،‬وفي اآليات البينات‪.‬‬
‫ال﴾ (عبس‪)29:‬‬ ‫قلت‪ :‬ال شك أنك تقصدين الزيتونة‪ ،‬وتقصدين قوله تعالى‪َ ﴿:‬وزَ ْيتُوناً َون َْخ ً‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد آتاك هللا فطنة‪ ..‬وال أحسبها إال من بركات التمر والزيتون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فقد غذيت بلبانهما‪ ،‬وربيت على حبهما‪ ،‬وعجنت خالياي بمائهما‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فهل ترغب في زيارة الزيتونة؟‬
‫قلت‪ :‬ال مناص لي من زيارتها‪ ..‬فمن الجفاء أن أزورك وأترك أختك‪ ..‬ولكن بالده ا بعي دة‪ ،‬ف أنت نخل ة تائه ة في‬
‫الصحراء‪ ..‬وهي مرابطة هناك في ثغور الجيال‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس عليك‪ ..‬فقد يسر هللا أن جاءت زيتونة مباركة تزورنا‪ ،‬وقد رغبت في الحديث إليك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هي رغبت في ذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سررت بما ذكرت‪ ..‬ولعل هللا أن يبارك في كما بارك فيها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كل من أحب البركات باركه هللا‪ ..‬فأبشر‪ ،‬وبشر‪.‬‬
‫فجأة ظهرت زيتونة ال شرقية وال غربية‪ ،‬تضيء كشعاع الشمس المشرق الذي يدفئ وال يح رق‪ ،‬فقلت مس تقبال‪:‬‬
‫أهال بالزيتونة التي رغبت في الحديث إلي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وأهال باألخ الذي أحبني قبل أن يراني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثيني عن بركاتك‪ ..‬وعن سرها‪ ..‬فإني تلميذ بركات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لن أحدثك حتى تسمع ما ورد في فضلي من اآليات‪ ..‬فأنا من أدوية السماء‪ ..‬ونحن تشرفنا بذكر هللا لن ا قب ل‬
‫أن نتشرف بما في أجسادنا من العناصر‪.‬‬
‫ون﴾(التين‪)1 :‬‬ ‫ين َو َّ‬
‫الز ْيتُ ِ‬ ‫قلت‪ :‬أعلم ما ورد في ذكرك من القرآن الكريم‪ ،‬فأنت التي أقسم هللا بك‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬وال ِّت ِ‬
‫ص َباحٌ‬ ‫ور ِه َك ِم ْش َكا ٍة ِفي َها ِم ْ‬
‫ض َم َثلُ نُ ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫قالت‪ :‬وأنا التي جعلني هللا مثاال لألنوار المقدسة‪ ،‬فقال‪ ﴿:‬هَّللا ُ نُورُ ال َّس َم َ‬
‫ُضي ُء َو َلوْ َل ْم‬ ‫ار َك ٍة زَ ْيتُو َن ٍة ال شَرْ ِقيَّ ٍة َوال غَرْ ِبيَّ ٍة َي َكا ُد زَ ْيتُ َها ي ِ‬ ‫اجةُ َكأَنَّ َها َكوْ َكبٌ دُرِّيٌّ يُو َق ُد ِم ْن َش َج َر ٍة ُم َب َ‬ ‫الز َج َ‬ ‫ْال ِمصْ َباحُ ِفي ُز َج َ‬
‫اج ٍة ُّ‬
‫اس َوهَّللا ُ ِب ُكلِّ َش ْي ٍء َع ِلي ٌم﴾(النور‪)35 :‬‬ ‫ال ِللنَّ ِ‬ ‫ضْربُ هَّللا ُ اأْل َ ْم َث َ‬ ‫ور َي ْه ِدي هَّللا ُ ِلنُ ِ‬
‫ور ِه َم ْن َي َشا ُء َو َي ِ‬ ‫ت َْم َس ْسهُ نَارٌ نُورٌ َع َلى نُ ٍ‬
‫صب ٍْغ ِلآْل ِك ِلينَ ﴾(المؤمنون‪)20 :‬‬ ‫ور َس ْينَا َء َت ْنب ُ‬
‫ُت ِبال ُّد ْه ِن َو ِ‬ ‫ط ِ‬ ‫قلت‪ :‬وأنت التي وصفك هللا بقوله‪َ ﴿:‬و َش َج َر ًة ت َْخرُجُ ِم ْن ُ‬
‫قالت‪ :‬وأنا التي أمر رسول هللا ‪ ‬بأكل زيتي‪ ،‬فقال‪ (:‬كلوا ال زيت وادهن وا ب ه فإن ه من ش جرة مبارك ة)(‪ ..)1‬ب ل‬
‫أخبر بأني عالج لالدواء‪ ،‬فقال‪ (:‬كلوا الزيت وادهنوا به فإن فيه شفاء من سبعين داء منها الجذام) (‪ ..)2‬بل وصفني لبعض‬
‫األدواء‪ ،‬فقال‪ (:‬عليكم بزيت الزيتون فكلوه وادهنوا به فإنه ينف ع من الباس ور)(‪ ،)3‬وق ال‪ (:‬عليكم به ذه الش جرة المبارك ة‬
‫زيت الزيتون فتداووا به فإنه مضحة من الباسور)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬فبركاتك في زيتك‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫قلت‪ :‬وهل أنا إال زيت‪ ..‬ألم يقل هللا تعالى في‪َ ﴿:‬تنبُت ِبال ُّد ْه ِن ﴾ أي تنب الدهن‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬و َم ْن ي ُِر ْد ِفي ِه ِبإِل َح ا ٍد﴾‬
‫(الحج‪ ،)25:‬أي من يرد فيه اإللحاد‪.‬‬

‫الترمذي وقال حديث غريب‪ .‬وأخرجه أحمد والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫أبو نعيم في الطب‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫ابن السني‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الطبراني في الكبير وأبو نعيم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪106‬‬
‫قلت‪ :‬فالباء زائدة إذن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اطلُ ِم ْن َبي ِْن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن خَل ِف ِه َتن ِزيلٌ ِم ْن َح ِك ٍيم‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫قاطعتني بقوة‪ ،‬وقالت‪ :‬كيف تقول هذا في كالم ربك الذي‪ ﴿:‬ال َيأ ِتي ِه ال َب ِ‬
‫َح ِمي ٍد﴾ (فصلت‪ ..)42:‬ليس في كالمك ربك زائد‪ ..‬إن جهلت حرفا‪ ..‬فابحث عنه‪ ..‬أو اسأل من يعرفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعرفين التفسير؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬أنا أضعف من أن أعرفه‪ ..‬ولكني علمت مما رزقني هللا من فضله أنه ال زائد في الكون‪ ..‬فالزيادة لغو‪..‬‬
‫وهللا ال يخلق اللغو‪ ..‬فكيف يتكلم اللغو؟‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فكيف عرفت ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد جعل هللا كل جزء مني فوائد محضة‪ ..‬فلذلك ال أرى ج زءا م ني إال ويمكن االنتف اع ب ه ح تى أغص اني‬
‫يمكنكم أن تجعلوا منها فرشاة ألسنانكم بدل فرشاة السموم التي تستخدمونها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‪ ..‬تلك فرشاة ناعمة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد قال ‪ (:‬نعم السواك الزيتون من ش جرة مبارك ة يطيب الفم‪ ،‬وي ذهب ب الجفر‪ ،‬وه و س واكي وس واك‬
‫األنبياء من قبلي)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنه رخيص‪ ..‬وقومي ال يمألون أعينهم إال بما يفرغ جيوبهم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فليستعملوني‪ ..‬وقد تنازلت عن حق ثمني للفقراء والمساكين‪ ..‬فليدفعوها لهم‪ ..‬لينالوا بركتي‪ ،‬وبركة التداوي‬
‫بالصدقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت فضلك‪ ..‬فحدثيني عن بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تزال قاصرا عن معرفة فضلي‪ ..‬فكالم هللا ال يحاط به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فاعذريني‪ ..‬فإني من قوم يكثر نسيانهم‪ ..‬وتعظم غفلتهم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬عذرتك‪ ..‬وسأحدثك عن بعض بركاتي لتؤمن بكالم ربي‪ ..‬وتتداوى بأدوية ربي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى في كالمك حرارة أشواق المحبين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وهل هناك في الوجود من ال يحب ربه‪ ..‬إن دهني الذي ترونه ما ه و إال دم وعي ال تي تخ ثرت ش وقا إلي ه‬
‫ومحبة له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنا ال نشعر بالمحبة إن أكلناك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ألنكم تأكلون جيفتي‪ ،‬وال تأكلون حقيقتي‪ ..‬تأكلوني وأنتم تجهلوني‪ ..‬ومن جهل شيئا حرم بركته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا ذكرك القرآن الكريم ونوه بك؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ولكنكم ال تبصرون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذا‪ ..‬فال يمكن أن تنال البركات إال باآلداب والسالم والحياة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إذا عرفت هذا‪ ..‬فسأحدثك بما تشتهيه ويشتهيه قومك من ثمرات المعام ل والمخ ابر‪ ..‬وهي قلي ل من كث ير‪،‬‬
‫وغيض من فيض‪ ..‬فلم تعلموا مني إال قطرات من بحر محيط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني‪ ..‬فكلي آذان صاغية‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأقتصر من حديثي على دور أناطه هللا بي ترجع أكثر التفاصيل إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما هو؟‬
‫قالت‪ :‬التطهير‪ ..‬فأنا الدهن المغذي المطهر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تطهرين؟‬
‫قالت‪ :‬الجسم من أدرانه‪ ،‬والعروق من أوحالها‪ ،‬والقلب من آالمه‪ ،‬والذاكرة من أوهامها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجملت ففصلي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أما تطهيري الجسم من أدرانه‪ ،‬فقد جعل هللا في ق درة على تطه ير الجس م من الحص وات‪ ،‬وق د ق ال بعض‬
‫األطباء‪ (:‬رأيت حاالت مرضية يصوم فيها المريض بحصوات المرارة‪ ،‬ثم يشرب زيت زيتون إلذابة الحصوات‪ ،‬حيث‬

‫‪ )(1‬الطبراني في األوسط‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫تنقبض المرارة وتطرد الحصوات من الجسم)‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬فكيف تطهرين العروق من أوحالها؟‬
‫قالت‪ :‬وحل العروق هو الكوليسترول‪ ..‬وق د ارتب ط اس مي بالح د من اإلص ابة بارتف اع الكولس ترول‪ ..‬ألم تعلم أن‬
‫الشعوب(‪ )1‬التي تستهلك كميات جيدة من زيتي تنخفض فيها نسبة الكولسترول الض ار‪ ،‬وبالت الي تتقي اإلص ابة بتص لب‬
‫الشرايين‪ ،‬والذي له عالقة كبيرة بأمراض القلب والجلطة؟‬
‫وسر ذلك أني أحتوي على أحماض دهنية متم يزة تع رف باس م االحم اض الدهني ة أحادي ة عديم ة التش بع‪ ،‬حيث‬
‫تعمل هذه األحماض الفريدة على الحد من ارتفاع معدل الكوليسترول في الدم‪.‬‬
‫كما أني أحتوي على فيتامينات خاصة تعرف بمضادات األكسدة وكذلك بعض المركبات مثل البولي فينول‪ ..‬وكل‬
‫هذه المركبات‪ ،‬والتي ترتفع نسبتها في تحد من االصابة بارتفاع الكوليسترول‪ ،‬أي بمعنى آخر تحد من تصلب الشرايين‪،‬‬
‫وبالت الي تح د من أم راض القلب‪ ،‬ولكن يجب أن يك ون ه ذا ال زيت مستخلص اً بطريق ة معين ة وبأس لوب يعطي زيت ا‬
‫يسمى( زيت الزيتون البكر) وهو ممتاز وناتج من العصرة األولى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬فلك عالقة بضغط الدم إذن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬بحمد هللا ومنته‪ ،‬وقد وجد أن مرض ارتفاع ضغط الدم من العوامل األساسية لحدوث أم راض القلب‬
‫والجلطات حيث أن ارتفاع الضغط سواء االنبساطي أو االنقباضي له تأثير سلبي على اإلصابة باألمراض المختلفة‪.‬‬
‫وقد لوحظ أن هناك عالقة مباشرة بين خفض ضغط الدم واستهالك كمي ات مناس بة من زيت الزيت ون‪ ،‬ودل على‬
‫ذلك أحد البحوث التي أجريت على عدد من المرضى المصابين بارتفاع ضغط الدم‪ ،‬ويتبادلون أدوية لتخفيفه‪.‬‬
‫حيث قسم المرضى إلى قسمين‪ :‬األول منهما عمل لهم برن امج غ ذائي غ ني ب زيت الزيت ون (نخب ممت از)أو م ا‬
‫يعرف بالبكر‪.‬‬
‫والنصف اآلخ ر وض ع على برن امج غ ذائي غ ني ب زيت دوار الش مس‪ ،‬وبع د ف ترة زمني ة زادت عن ‪ 4‬أش هر‬
‫أشارت النتائج إلى انخف اض في المجموع ة ال تي اس تهلكت زيت الزيت ون‪ ،‬وق د اس تطاع المرض ى في ه ذه المجموع ة‬
‫خفض جرعات األدوية الخاصة بضغط الدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬وتبارك هللا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ليس هذا فقط‪..‬بل وجدوا أن لي دورا وقائيا من السرطان‪ ..‬فقد أشارت الدراسات إلى أن هناك انخفاض اً في‬
‫معدل الوفيات الناتجة من اإلصابة بالسرطان في مناطق حوض البحر األبيض المتوسط‪ ،‬وقد لوحظ ان استهالك (ملعق ة‬
‫زيت زيتون)يومياً يمكن ان تنقص من خطر سرطان الثدي بنسبة أكثر من ‪ 40‬بالمائة‪.‬‬
‫وتوضح هذه الدراسات أن غذاء سكان هذه المناطق يشمل على نسبة جيدة من زيت الزيتون كمصدر لل دهون في‬
‫غذائهم باإلضافة إلى تأثير استهالك الخضار والفواكه‪ ،‬وخصوصاً اإلصابة بسرطان الثدي والمعدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما العناصر التي جعلت لك هذه القدرة على الوقاية من السرطان؟‬
‫قالت‪ :‬أال تعلم أن زيت الزيتون يحتوى على نسبة جيدة من فيتامين (هـ) والذي يعرف بمض اد االكس دة‪ ،‬وبالت الي‬
‫يقوم بتغليف وربط المواد المؤكسدة وتخليص الجسم منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن من قومي من يدهنون جلودهم بزيتك‪ ..‬فهل هذا لغو من الفعل؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬بل هو عين العقل‪ ..‬فقد قام أحد الباحثين بدراسة االدهان بزيت الزيتون على الجلد بع د الس باحة‪ ،‬فوج د‬
‫أن له تأثيرا مباشرا في المساعدة في الحد من اإلصابة بسرطان الجلد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدق رسول هللا ‪ ‬عندما نصحنا باالدهان به‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فأنا غذاء ودهن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت أن لك عالقة بالذاكرة‪ ..‬فكيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬يمكن لقط رات من زيت الزيت ون تتناوله ا يومي ا أن تقي ك فق دان ال ذاكرة وتبقي على أداء دماغ ك لوظائف ه‬
‫‪ )(1‬أشارت األبحاث المختلفة في مجال عالقة الغذاء المستهلك للشعوب وأمراض القلب أن غ ذاء ح وض البح ر المتوس ط ل ه عالق ة وطي دة بالح د من‬
‫ارتفاع الكولسترول ومن اإلصابة بأمراض القلب وأرجع الباحثون هذه المعلومة أو النتائج اإليجابية إلى ارتفاع استهالك زيت الزيتون في غذاء هذه البقعة من‬
‫العالم‪.‬‬
‫‪108‬‬
‫بشكل فعال عند بلوغك سن الشيخوخة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما السر في ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬ه و الح وامض الدهني ة غ ير المتش بعة ال تي يمكن العث ور عليه ا في الزيت ون وحب ة دوار الش مس وزيت‬
‫السمسم‪.‬‬
‫فهذه المواد تحافظ على سالمة بينة الدماغ‪ ،‬ألن هناك حاجة متزاي دة إلى األحم اض الدهني ة غ ير المتش بعة أثن اء‬
‫عملية الشيخوخة‪.‬‬
‫وقد توصل فريق طبي إلى هذه النتائج بعد أبحاث شملت ‪ 300‬ش خص ت راوحت أعم ارهم بين ‪ 65‬و ‪ 84‬عام ا‪،‬‬
‫حيث تبين أن الذين تناولوا كميات أكبر من هذه األحماض ض من مكون ات وجب اتهم الغذائي ة تمتع وا بق درة أفض ل على‬
‫التذكر‪ ،‬وكانوا أكثر يقظة من غيرهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى لك ألوانا مختلفة‪ ..‬فهل لها تأثير في بركاتك؟‬
‫قالت‪ :‬تختلف بركاتي باختالف أنواعي وألواني‪ ،‬فأنا كأنواع التم ر وأل وان العس ل‪ ..‬ألم يق ل ‪ (:‬تج دون الن اس‬
‫معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في اإلسالم إذا فقهوا)(‪)1‬‬

‫الخضر‬
‫كانت الزيتونة في غاية السرور‪ ،‬وهي تحدثني‪ ،‬لكنني أحسست بنوع من اإلرهاق‪ ،‬فشعرت بح الي‪ ،‬فق الت‪ :‬أرى‬
‫وجهك قد تغير‪ ..‬فما الذي حصل؟‬
‫قلت‪ :‬بعض اإلرهاق أصابني‪ ..‬ال عليك‪ ..‬أكملي حديثك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬أرى اإلرهاق باديا على وجهك‪ ،‬ولذلك سأرسل بك إلى أخت لنا من أخواتنا أنبته ا هللا لن بي من األنبي اء‬
‫لتظلله بظلها‪ ،‬وتطعمه من لحمها‪ ،‬وتصرف عنه الهوام برائحتها‪.‬‬
‫ين﴾(الصافات‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬ال شك أنها اليقطين‪ ..‬فقد أنبتها هللا على يونس ‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬وأن َبتنَا َعل ْي ِه َش َج َر ًة ِم ْن َيق ِط ٍ‬
‫‪)146‬‬
‫قالت‪ :‬أتدري سر إنباتها له؟‬
‫قلت‪ :‬أحب أن أدري‪ ..‬ولكني ال أدري‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فهلم بنا إليها‪ ..‬فهي في انتظارك‪ ..‬وال أحسب إال أنها مشتاقة إليك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬لقد أحرجتموني معشر األغذية المباركة‪ ..‬فإني لم ألق في حياتي من يقدرني كتقديركم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد مألنا هللا بالرحمة‪ ..‬فلذلك تجدنا نبذل أنفسنا في ذات هللا‪.‬‬
‫اليقطين‪:‬‬
‫لم أسر معها إال قليال حتى وج دنا ورق ة يقطين ة ممت د على األرض بال س اق وال ق دم(‪ ،)2‬فقلت له ا‪ :‬ه ذا المك ان‬
‫أحسبه صالحا لراحتي‪ ..‬فهذه هي اليقطينة‪.‬‬
‫قالت اليقطينة‪ :‬مرحبا باألخ الصالح‪ ..‬أراك تمر على إخواني وأخواتي وتنسى أن تمر علي‪..‬ل وال أني دع وت هللا‪،‬‬
‫فأصابك ببعض اإلرهاق لتأتي‪ ،‬فتزورني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك أيتها اليقطينة‪ ..‬فال أحسب أن هللا تعالى ذكرك في القرآن الكريم إال ولك شأن‪.‬‬
‫هّللا‬
‫قالت‪ :‬وهل في ذلك شك‪ ..‬فأنا الطعام المبارك الذي كان يحبه رسول هللا ‪ ،‬فقد ثبت أن رسول ‪ ‬كان يحب‬
‫الدباء‪ ،‬ويتبعه من حواشي الصحفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد ورد الحديث بذلك(‪.)3‬‬
‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬قال المبرد والزجاج‪ :‬كل شجر ال يقوم على ساق‪ ،‬وإنما يمتد على وجه األرض فهو يقطين‪ ،‬نح و ال دباء والحنظ ل والبطيخ‪ ،‬ق ال الزج اج‪ :‬أحس ب‬
‫اشتقاقها من قطن بالمكان إذا أقام به وهذا الشجر ورقة كله على وجه األرض فلذلك قيل له اليقطين‪ ،‬وروي الف راء أن ه قي ل عن د ابن عب اس ه و ورق الق رع‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ومن جعل القرع من بين الشجر يقطينا كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين‪.‬‬
‫ويدخل في اليقطين كل شجر ال يقوم على ساق‪ ،‬كالبطيخ والقثاء والخيار‪.‬‬
‫‪ )(3‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫قالت‪ :‬وكان يقول عني‪ (:‬كلوا اليقطين‪ ،‬فلو علم هللا شجرة أخف منها ألنبته ا على ي ونس‪ ،‬وإن اتخ ذ أح دكم مرق ا‬
‫فليكثر فيه من الدباء‪ ،‬فإنه يزيد في الدماغ وفي العقل)(‪ ..)1‬وكان يقول‪( :‬إذا ط َب ْختُم ِق ْدر ًا‪ ،‬فأك ِثروا فيها من ال ُّدبَّاء‪ ،‬فإنَّ َها ت َُش ُّد‬
‫زين)(‪)2‬‬‫الح ِ‬
‫ب َ‬‫َق ْل َ‬
‫قلت‪ :‬فما سر كل هذا الفضل الذي لك‪ ..‬لقد ذكر القرآن الكريم‪ ،‬وأحبك رسول هللا ‪‬؟‬
‫قالت‪ :‬من األسرار ما تفقهونها‪ ،‬ومنها ما ال تفقهون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فخبريني عن األسرار التي أفقهها‪ ..‬فما ال أفقهه ألغاز ال طاقة لعقلي بحلها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكر سلفكم لي فوائد ال يجحدها إال جاحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما ذكروا؟‬
‫قالت‪ :‬سرعة نباتي‪ ،‬وتظليل ورقي لكبره ونعومت ه‪ ،‬وج ودة غ ذائي‪ ،‬وأني أؤك ل نيئ ة ومطبوخ ة بل بي وقش ري‪،‬‬
‫وفوق ذلك ال يقربني الذباب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬إن بعض ما ذكرت يكفي لفضلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ليس ذلك فقط‪ ،‬بل إن ما ركبه هللا في من أنواع األغذية يدلك على منافعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تركيبك؟‬
‫قالت‪ :‬تبلغ نسبة الماء المبارك‪7 .‬بالمائة وأحتوي على كمية قليلة من السكر واأللياف‪ ،‬ولذلك ال تعطي المائة غ رام‬
‫مني سوى ‪ 65‬حريرة فقط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت غذاء جيد لمن أراد إنقاص وزنه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وفوق ذلك أنا فقيرة جد ًا من الصوديوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت تناسبين المرضى المصابين بارتفاع ضغط الدم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وفوق ذلك فأنا غنية بالبوتاسيوم الذي يلزم الذين يتناولون الحبوب التي ت در الب ول‪ ،‬كم ا أني أحت وي‬
‫على الكالسيوم والمغنيزيوم والفوسفور والحديد والك بريت والكل ور‪ ..‬وف وق ذل ك‪ ،‬فأن ا غني ة بالفيتامين ات وفي طليعته ا‬
‫فيتامين أ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه بركات تركيبك‪ ،‬فما بركات شفائك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكر عني أسالفكم أني أنفع المحمومين بمائي‪ ،‬وأقطع عطش العطشى‪ ،‬وأني أذهب الص داع إذا ش ربت‬
‫أو غسل بي الوجه‪ ،‬وأني ملينة للبطن كيفما استعمل‪ ..‬فلذلك أنا من ألطف األغذية وأسرعها انفعا ً‬
‫ال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قال المحدثون؟‬
‫قالت‪ :‬المح دثون مغرم ون ب البحث في الس رطان‪ ،‬ول ذلك رأوني من الحص ون الواقي ة من ه‪ ،‬وق د نش رت مجل ة‬
‫األبحاث البيوكيميائية عام ‪ 1985‬دراس ة أج ريت في المعه د الوط ني للس رطان في الوالي ات المتح دة‪ ،‬أش ارت إلى أن‬
‫ال واقياً من سرطان الرئة عند سكان نيوجرسي في الواليات المتحدة(‪.)3‬‬ ‫لليقطين فع ً‬
‫الثوم‪:‬‬
‫بينما كنت مع اليقطينة‪ ،‬إذ سمعت صوتا يناديني‪ ،‬فسألت اليقطينة عنه‪ ،‬فقالت‪ :‬هو ابن خالي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن ابن خالك؟‪ ..‬فال علم لي بأنسابكم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬الثوم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬بئس الطعام هو‪ ..‬ال تقبليه إن تقدم لخطبتك‪ ..‬فال أعلمه إال خبيث الرائحة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هو خبيث الرائحة‪ ،‬لكنه طيب السريرة‪ ،‬فال تحجببك رائحته عن طيبته‬
‫قلت‪ :‬ولكني قرأت النصوص الكثيرة الواردة في النهي عنه‪ ،‬فالنبي ‪ ‬يقول‪ (:‬من أكل ثوم ا أو بص ال فليعتزلن ا‪،‬‬
‫وليعتزل مساجدنا‪ ،‬وليقعد في بيته)(‪)4‬‬

‫الديلمي عن الحسن بن علي‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫الغيالنيات‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫كتاب األربعين العلمية‪ ،‬عبد الحميد محمود طهماز‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪110‬‬
‫قالت‪ :‬هذا النص ال ينهى عن أكله‪ ،‬وإنما ينهى آكله عن الذهاب إلى المسجد إال بعد تغيير رائحته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفليس الذي يمنعني من المسجد خبيثا؟‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أْل‬ ‫َّ‬
‫ُول الن ِب َّي ا ِّم َّي ال ِذي‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬لو كان خبيثا لحرمه هللا تعالى‪ ..‬ألم يقل تعالى في رسول هللا ‪ ﴿:‬ال ِذينَ َيت ِبعُونَ الرَّ س َ‬
‫ث‬ ‫ْ‬
‫ت َوي َُح رِّ ُم َع َل ْي ِه ُم الخَ َب ا ِئ َ‬ ‫عْرُوف َو َي ْن َهاه ُْم ع َِن ْال ُم ْن َك ِر َوي ُِح لُّ َلهُ ُم َّ‬
‫الط ِّي َب ا ِ‬ ‫ِ‬ ‫يل َي ْأ ُمرُ ه ُْم ِب ْال َم‬ ‫َي ِجدُو َنهُ َم ْكتُوباً ِع ْن َده ُْم ِفي التَّ َ‬
‫وْرا ِة َواأْل ِ ْن ِج ِ‬
‫ور الَّ ِذي أُ ْن ِز َل َم َع هُ أُو َل ِئ كَ هُ ُم‬ ‫َص رُوهُ َواتَّ َب ُع وا ال ُّن َ‬ ‫الل الَّ ِتي َكان َْت َع َل ْي ِه ْم َفالَّ ِذينَ آ َمنُوا ِب ِه َوع ََّزرُوهُ َون َ‬ ‫صْره ُْم َواأْل َ ْغ َ‬
‫ض ُع َع ْنه ُْم ِإ َ‬ ‫َو َي َ‬
‫ْال ُم ْف ِلحُونَ ﴾(األعراف‪)157 :‬‬
‫قلت‪ :‬ومع ذلك‪ ..‬يظل بمنأى عن األغذية المباركة التي نزل فضلها من السماء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تقل هذا‪ ..‬بل إن في عدم تحريمه مع كونه من األغذية التي تمن ع ال دخول إلى المس جد دلي ل على فض له‬
‫وبركته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬ألم يقل كثير من الفقهاء بوجوب صالة الجماعة في المسجد؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪...‬‬
‫قالت‪ :‬وقد ذكروا أعذارا لمن يجوز له التخلف عن الجماعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فاعتبار أكل الثوم من األعذار يدل على األهمية التي يحملها في باطنه‪ ،‬والتي قد يصرف عنها ظاهره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا‪ ..‬ولكن كالمك مجرد استنتاجات عقلية‪ ..‬والعقل ال حديث له مع الشرع‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ورد في النصوص ما يدل على هذا‪ ،‬فال تأخذ ببعض الكتاب‪ ،‬وترفض بعضه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت لك ما ورد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد سمعت بعض النصوص‪ ،‬ولم تسمع غيرها‪ ..‬والكامل هو الذي يسمع كل ش يء‪ ،‬ليتس نى ل ه الجم ع بين‬
‫المختلفات‪ ،‬والتوفيق بين المتناقضات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي ما سمعت ألصحح به بعض ما سمعت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ورد في الحديث قوله ‪ (:‬كلوه‪ ..‬ومن أكله منكم فال يقرب هذا المسجد حتى ي ذهب ريح ه من ه‪ ،‬يع ني‬
‫الثوم)(‪ ،)1‬فقد أمر ‪ ‬بأكله‪ ..‬واألمر في عرفنا يدل على الوجوب‪ ..‬ثم أض اف إلي ه حكم ا آخ ر ال ين اقض الحكم األول‪،‬‬
‫وهو النهي عن قرب المسجد لمن يأكله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذا تناقض‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪..‬نزه كالم المعصوم عن التناقض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيه من العلم؟‬
‫قالت‪ :‬هذا إرشاد صحي ال يفقهه إال المتوسمون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأخبريني‪ ..‬أيتها المتوسمة المباركة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬كأن النبي ‪ ‬في هذا الحديث يدعونا إلى اختيار أوقات معين ة‪ ،‬أو طريق ة معين ة ألك ل الث وم‪ ،‬ليك ون ذل ك‬
‫أكمل في بركته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وضحي هذا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ألستم تعالجون بعض األدوية قبل أن تستعملوها‪ ..‬ثم تختارون لها أوقاتا معينة الستعمالها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪..‬‬
‫قالت‪ :‬وهكذا الثوم‪ ..‬فهو من األغذية التي تستدعي ط رق طبخ معين ة‪ ،‬وأوقات ا معين ة‪ ،‬وله ذا ق ال ‪ ‬عن ه وعن‬
‫البصل‪ (:‬من أكلهما فليمتهما طبخاً)‬
‫وأهدي إليه طعام فيه ثوم‪ ،‬فأرسل به إلى أبي أي وب األنص اري‪ ،‬وق ال‪ :‬ي ا رس ول هللا‪ ،‬تكره ه وترس ل ب ه إلي؟‬
‫فقال‪ (:‬إني أناجي من ال تناجي)‬

‫‪ )(1‬أبو داود والبيهقي‪.‬‬


‫‪111‬‬
‫قلت‪ :‬فاخبريني عن األوقات الفاضلة ألكله‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سيخبرك الثوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم تحدثت بدله؟‬
‫قالت‪ :‬خشيت أن تذهب إليه‪ ،‬وفي نفسك ما فيها من سوء األدب مع ه‪ ،‬فتؤذي ه‪ ،‬فل ذلك ذك رت فض له لتأتي ه‪ ،‬وأنت‬
‫تدرك ذلك الفضل‪ ..‬فال تنال البركات إال لمن أحسن األدب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكني لم أرك ذكرت شيئا من الفضل إال ما استنتجته بعقلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لم تدعني أكمل لك ما ورد في النصوص‪ ..‬فقد ق ال ‪ (:‬كل وه‪ ،‬ف إني لس ت كأح دكم‪ ،‬إني أخ اف أن أوذى‬
‫صاحبي)(‪ ،)1‬وقال ‪ (:‬لوال أن الملك ينزل علي ألكلته‪ ،‬يعني الثوم)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬كل هذه النصوص أدلة إباحة‪ ،‬ال أدلة بركة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقد قال ‪ (:‬كلوا الثوم وتداووا به‪ ،‬فإن فيه شفاء من سبعين داء‪ ،‬ولوال أن الملك يأتيني ألكلته)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬حسبي ما ذكرت‪ ..‬ولم أكن مجادال‪ ..‬ولكني كنت أستفزك لتذكري لي ما ورد فيه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إذا قلت هذا‪ ..‬فاذهب إلى ابن خالي‪ ،‬وال تنس أن تبلغه سالمي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذل ك ل ك‪ ..‬ولم أر في حي اتي أطيب منكم معش ر الأغذي ة المبارك ة‪ ..‬ليت البش ر مثلكم في طيبتكم‪ ،‬وحس ن‬
‫أخالقكم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فكلونا طيبين يرزقكم هللا طيبتنا‪.‬‬
‫سرت قليال قاصدا شجرة ثوم قد بدت لي من بعيد‪ ،‬ما إن وصلت إليها‪ ،‬حتى قال الث وم‪ :‬كي ف ت ركت ابن ة عم تي‬
‫اليقطينة؟‬
‫قلت‪ :‬تركتها بخير وعافية‪ ،‬وهي تسلم عليك‪.‬‬
‫قال‪ :‬سلمها هللا من كل مكروه‪ ..‬فهل ذكرت لك شيئا؟‬
‫قلت‪ :‬هي تكن لك كل المودة‪ ..‬وقد ذكرت لي األحاديث الكثيرة التي نزعت عن عيني غشاوة سوء التعامل معك‪.‬‬
‫قال‪ :‬بورك فيها‪..‬‬
‫فعهدي بها كأخواتها الخضر كريمة طيبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تقدرك جميع الخضر؟‬
‫قال‪ :‬تقدرني جميع األغذية‪ ..‬ونحن نلتقي في القدر المباركة لنكون الغذاء المبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عنك‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرني هللا تعالى في القرآن الكريم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أين‪ ..‬فال أجد لك محال فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ ﴿:‬وفُو ِم َها ﴾(البقرة‪)61:‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكني في زيارتي لسنابل القمح والشعير أخبروني بأن الفوم هو الحبوب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك رأيهم‪ ..‬وهو ال يتناقض مع رأيي‪ ..‬أليس القرآن الكريم حمال وجوه‪ ..‬ول و أراد هللا وجه ا واح دا س ماني‬
‫باسمي الذي ال يختلف علي فيه‪ ..‬ولو أرادهم فقط لسماهم باسمهم الذي ال يختلف فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرن لي أدلة ما ذهبوا إليه‪ ،‬فبم تستدل أنت؟‬
‫قال‪ :‬لقد قرأ عبد هللا هذه اآلية‪ ﴿:‬وثومها ﴾‪ ،‬وقد اختاره الفراء‪ ،‬وعلل بأنه ذكر مع ما يش اكله‪ ،‬وه و ق ول كث ير من‬
‫الخضر التي أعرفها كالبصل‪ ،‬والفجل‪ ،‬والكراث‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬ف إن الف اء تب دل من الث اء‪ ،‬كم ا تق ول الع رب‪ :‬الج دث‪ ،‬والج دف‪ :‬للق بر‪ ،‬واألث افي واالث اثي‪،‬‬
‫للحجارة التي توضع تحت القدر‪ ،‬ومغافير‪ ،‬ومغاثير‪ :‬لضرب من الصمغ‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن بركاتك‪.‬‬
‫‪ )(1‬أحمد والترمذي وابن حبان‪.‬‬
‫‪ )(2‬الخطيب‪.‬‬
‫‪ )(3‬الديلمي‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫قالت‪ :‬كثيرة‪ ..‬ولكني سأكتفي بما يفيدك‪ ،‬ويفيد أكثر قومك‪ ..‬وهو دوري في معالجة نزالت البرد الشائعة‪ ،‬فقد تبين‬
‫للباحثين أن الذين يتناولون يوميا الثوم في غذائهم أقل عرضة لإلصابة بنزالت البرد الشائعة بنحو الضعف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألن في تركيبي مادة تعرف باسم آالسين‪ ،‬وهي المادة البيولوجية الرئيسية التي تنتجها نبتة الثوم‪ ،‬وهي الم ادة‬
‫ذات الرائحة النفاذة التي تفرز عند عصر فص الثوم‪ ،‬وما تحتويه من العناصر الكبريتية‪ ،‬وله ا الق درة ـ ب إذن هللا ـ على‬
‫خفض معدل اإلصابة بالزكام الشائع بنسبة تزيد على النصف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت أن بعض قومي يريدون تخليصك من رائحتك بإزالة هذا المادة(‪.)1‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ال ينبغي أن يبدلوا خلق هللا‪ ..‬فما خلقها هللا في إال لسر يعلمه‪ ..‬وأحسن من ذلك ما فعله ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما فعل؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬لقد أمر من أكلنا‪ ،‬وأكل البصل بأن يميتنا طبخا‪ ،‬ويذهب رائحتنا بمضغ ورق السذاب عليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فواصل حديثك عن فوائدك‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬لي دور فع ال في عالج الته اب القص بات الم زمن‪ ،‬والته اب الغش اء القص بي ال نزلي‪ ،‬والزك ام المتك رر‪،‬‬
‫واألنفلونزا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لم‪ ..‬وما سر ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ذلك نتيجة لطرح نسبة كبيرة من زيت الغارليك عن طريق جه از التنفس عن د تن اولي‪ ..‬باإلض افة إلى ه ذا‪،‬‬
‫فإني أحتوي على مواد مضادة للبكتريا‪ ،‬ولها تأثير قوي حتى في العدوى القوية مثل الدسنتاريا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما لك من أدوار غير هذا؟‬
‫قال‪ :‬أنا أفيد في حاالت السعال‪ ،‬والربو‪ ،‬والجمرة الخبيثة‪ ،‬وقرحة المعدة‪ ،‬والغازات‪ ،‬والتهاب المفاصل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت أن لك عالقة بضغط الدم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد تمت علي دراسات كثيرة إلثبات هذا‪ ،‬منها دراسة تمت في عام ‪1980‬م‪ ،‬وق د أثتبتت أن ني أخفض‬
‫ضغط الدم وكذلك دهون الدم‪.‬‬
‫بل قد ثبت أنني يمكن أن أمنع تكون الجلطات الدموية‪ ،‬وذلك بمحافظتي على إبقاء الدم في حال ة جي دة من س يولته‬
‫باالضافة إلى تخفيضي الجيد لكولسترول الدم‪ ،‬كما أني أساهم في تخفيض سكر الدم‪.‬‬
‫وليس ذلك فقط‪ ،‬بل قد وجدوا أن لي دورا عالجيا ووقائيا من األورام الخبيثة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صحيح هذا!؟‪..‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ففي دراستين منفصلتين في الصين بإحدى المحافظات التي تعاني من ارتفاع ملح وظ في نس بة الوف اة‬
‫من سرطان المعدة وجد انخفاض معدل اإلصابة بسرطان المعدة إلى عشرة أض عاف في ال ذين يتن اولون الث وم بص ورة‬
‫اعتيادية عن الذين ال يتناولونه‪.‬‬
‫وفي دراسة أخرى بالواليات المتحدة األمريكية وجد أن زيادة تناول الثوم تقلل من خطورة سرطان القولون‪.‬‬
‫وهذه الدراسات اإلحصائية أدت إلى دراسات معملية على حيوانات التجارب حيث أظه رت أن تن اول الجرع ات‬
‫العالية من مركبات الثوم انخفاض اً ملحوظ اً في ح دوث س رطان الث دي والقول ون والم ريء وس رطانات أخ رى نتيج ة‬
‫تعرض حيوانات التجارب لمواد كيميائية مسرطنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر هذا التأثير؟‬
‫قال‪ :‬لقد وجدوا أن ه في حال ة طح ني أنتج م ادة تع رف باس م (ديالي ل)‪ ،‬وهي ال تي ت ؤدي إلى تقلي ل حجم األورام‬
‫السرطانية إلى النصف إذا ما حقن المرضى بها‪ ..‬باإلضافة إلى م واد أخ رى ت ؤدي إلى توق ف التص اق الم واد المس ببة‬
‫للسرطان بخاليا الثدي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وسمعت أن لك عالقة بتخفيض الكوليسترول‪.‬‬

‫‪ )(1‬جرت أبحاث عديدة في مصر علي الثوم انتهت بقيام إحدي الشركات بإنتاج أقراص مأخوذة من الثوم‪ ،‬وهي مخففة للكوليستيرول في الدم ومنش طة‬
‫للدورة الدموية‪ ،‬ولها أيضا تأثير عالجي مضاد للبكتريا في الجهاز البولي‪ ،‬هي بديل عصري لتناول الثوم دون التأفف من رائحته‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫قال‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬فقد أظهرت بعض الدراسات أن تناول الثوم يخفض من نسبة الكوليسترول منخفض الكثافة أو‬
‫الكوليسترول السيء‪ ،‬والكوليسترول الكلي في الدم‪.‬‬
‫والمعروف أن معظم أمراض القلب واألوعية الدموية تشمل تصلب الشريان‪ ،‬حيث يفقد الشريان مرونته الطبيعية‬
‫نتيجة تجمع الكوليسترول والدهون على الجدار الداخلي للشريان‪.‬‬
‫وعندما تتزايد الكميات المتراكمة من هذه المواد على الجدار الداخلي للشريان‪ ،‬فإنها تؤدي إلى حرمان ج زئي من‬
‫تدفق الدم مما يؤدي إلى حرمان العضو أو الجزء الذي يغذيه هذا الشريان من الحصول على كفايته من ال دم الالزم لنق ل‬
‫المواد الغذائية واألكسجين‪.‬‬
‫وقد أكدت الدراسات أن استخدام الثوم لمدة ‪12‬أسبوعا ي ؤدي لخفض نس بة الكولس ترول في ال دم إلى ‪ 12‬بالمائ ة‬
‫والدهون الثالثية إلى ‪ 17‬بالمائة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلك عالقة بجلطة الدم إذن؟‬
‫قال‪ :‬ال شك في ذلك‪ ..‬وقد تم استخالص مادة مني يطلق عليها أجون لها تأثير مضاد لتجلط الصفائح الدموية‪ ،‬مم ا‬
‫قد يقي من حدوث جلطات بالدم‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قال‪ :‬وأنا من األغذية المضادة لألكسدة‪ ..‬وذلك لغناي بالسلينيوم وه و مع روف بت أثيره المض اد لألكس دة‪ ..‬وب ذلك‬
‫أساهم في بعض التفاعالت الحيوية التي تحمي الخاليا من بعض األمراض‪ ،‬كما يساعد السلينيوم في نمو الخاليا‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قال‪ :‬وأنا مضاد للميكروبات‪ ..‬فخالصتي لها فعل مضاد لنشاط البكتريا والفطري ات‪ ..‬وق د ع رفت به ذا من ذ زمن‬
‫بعيد‪ ..‬ولهذا استعملت قديماً قبل اكتشاف المضادات الحيوية في عالج التهابات الشعب والقصبة الهوائية‪ ،‬وك ان يس تعمل‬
‫عصير الثوم المخفف في تطهير وتنظيف الجروح‪ ..‬وهو يستعمل اآلن كمطهر لألمع اء‪ ،‬حيث أن تناول ه يح د من نش اط‬
‫البكتريا في حاالت اإلسهال واالنتفاخ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد عرفت بركاتك قديما‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬من رحم ة هللا بخلق ه أن دلهم على م ا يص لح لهم‪ ..‬وله ذا ع رف الخل ق برك اتي من ذ وج ودهم األول على‬
‫األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك ما يثبت ذلك؟‬
‫ق ال‪ :‬لق د وج د ذك ر الخص ائص الطبي ة للث وم علي أوراق ب ردي مص رية عمرها ‪ 3500‬ع ام‪ ..‬وق د اس تخدمه‬
‫اليونانيون القدماء‪ ،‬والمعالجون من الهنود كعالج‪ ..‬وقد استعمل سقراط أبخرة الث وم لعالج بعض األم راض الس رطانية‪،‬‬
‫ومنها سرطان عنق الرحم‪ ،‬وقد استعمل الثوم أثناء الحرب العالمي ة الثاني ة لم داواة إص ابات الجن ود‪ ،‬حيث ك ان يوض ع‬
‫على الجروح لتطهيرها‪.‬‬
‫وفي عام ‪1858‬م اكتشف العالم باستير أهمي ة الث وم في القض اء على ميك روب الس ل‪ ،‬كم ا وج د أن الث وم فع ال‬
‫كالبنسلين بل ان قوته الفعالة تضاهي قوة الكثير من المضادات الحيوية‪.‬‬
‫وقد وجد بعض العلماء أن الثوم عالج للكوليرا والتيفوس‪ ،‬بل اكتشف أن أكثر أنواع البكتيريا ال تي يس تطيع الث وم‬
‫القضاء عليها هي عصيات الجمرة التي تؤدي إلى مرض الجمرة الخبيثة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت صيدلية أدوية إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولكن ال تبالغوا في استعمالي‪ ..‬فإن الدواء إذا استعمل فوق حده انقلب إلى ضده‪ ..‬ألم تسمع قوله تعالى‪﴿:‬‬
‫سْرفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُمس ِْر ِفينَ ﴾(ألعراف‪)31:‬؟‬ ‫َو ُكلُوا َو ْ‬
‫اش َربُوا َوال تُ ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما أضرار اإلفراط في استعمالك؟‬
‫قال‪ :‬الجرعة الكبيرة جدا من عصير الثوم سببت الموت بالتسمم لبعض الحيوانات التي أج ريت عليه ا التج ارب‪،‬‬
‫وقد حصل لها تلف بالكبد والمعدة والغدة الكظرية‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن الجرعة الكبيرة من الثوم قد تسبب آالما بالمعدة أو غازات أو إس هاال أو بعض األع راض‬

‫‪114‬‬
‫األخرى في الجهاز الهضمي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الذي يقي من أخطارك؟‬
‫قال‪ :‬ما قاله ‪ ..‬ألم يقل عني وعن البصل‪ (:‬من أكلهما فليمتهما طبخا)ً‬
‫قلت‪ :‬فما في هذا الحديث من العلم؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬لقد وجد أن استهالك الثوم طازجا يؤدي إلى ايذاء الجهاز الهضمي‪ ،‬ولذلك يعتبر الث وم المطهي أو المحض ر‬
‫في زيوت الطعام من أفضل الطرق للحصول على فوائده‪.‬‬
‫البصل‪:‬‬
‫نادتني حبة بصل في الجوار‪ :‬تعال إلي‪ ..‬فلي من البركات ما ال يقل على بركات الثوم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أبحث عن البركات المنصوص عليها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وأنا من المنصوص عليه‪ ..‬وإن كان قد اختلف في الفوم‪ ..‬فإنه لم يختلف في أن ني أن ا البص ل ال ذي ورد في‬
‫ص ِل َها ﴾(البقرة‪)61:‬‬
‫قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َب َ‬
‫قلت‪ :‬أجل‪..‬‬
‫قالت‪ :‬ليس ذلك فقط‪ ..‬بل روي في الحديث‪ (:‬أن آخر طعام أكله رسول هللا ‪ ‬كان فيه بصل)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنه قد ورد في األحاديث نهي من أكلك عن الدخول إلى المسجد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬في جمعك بين النهي عن ذلك‪ ،‬وعدم التحريم دليل على ما فينا من البركات‪ ،‬ألم تسمع ما قالته اليقطينة؟‬
‫قلت‪ :‬اعذريني‪ ،‬فقد نسيت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال حرج عليك‪ ..‬ولن أطيل عليك‪ ..‬فإني خفيفة الظل‪ ..‬وسأعدد لك من فوائدي ما ينشرح ل ه ص درك‪ ،‬وتعلم‬
‫به أننا من األغذية المباركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما أسرار البركات في تركيبك؟‬
‫قالت‪ :‬أنا مركبة من فيتامين ج المضاد للتعفن‪ ،‬والم ؤثر في النش اط‪ ،‬ومن م ادة الكلوك نين‪ ،‬وهي مث ل األنس ولين‬
‫تض بط الس كر في ال دم‪ ،‬ومن الفس فور والكالس يوم والحدي د بكمي ات كث يرة‪ ،‬ومن ك بريت‪ ،‬وحدي د‪ ،‬وفيتامين ات مقوي ة‬
‫لألعصاب‪ ،‬ومن مواد مدرة للبول والص فراء‪ ،‬وهي منش طات للقلب‪ ،‬ومن خم ائر وإنزيم ات مفي دة للمع دة‪ ،‬ومن م واد‬
‫منشطة منبهة للغدد والهرمونات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ورائحتك؟‬
‫قالت‪ :‬سببها هو سلفات اآلليل‪ ،‬وهي مادة كبريتية طيارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن ما ذكرت من مواد يدل على أهميتك‪..‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وهو بعض ما اكتشف‪ ..‬ولكني أنبه ك إلى الح ذر من اس تعمالي بع د تخزي ني مقطع اً‪ ،‬ألني أتأكس د‪،‬‬
‫وتتكون مني مادة سامة‪ ،‬فلذا يجب استعمالي طازجاً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركات الشفاء بعد أن حدثتني عن بركات التكوين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت علمياً أن عصيري يقتل الميكروبات الس بحية‪ ،‬ومثله ا ميكروب ات الس ل‪ ،‬فهي تهل ك ف ور تع رض‬
‫المريض لبخار البصل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬زيديني مما زادك هللا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت أني مضاد حيوي أقوى من البنسلين واألورمايويسين‪ ،‬والسلفات‪ ..‬ومن أجل ذلك فأنا أشفي بإذن هللا‬
‫من السل‪ ،‬والزهري‪ ،‬والسيالن‪ ،‬وأقتل كثير ًا من الجراثيم الخطيرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذه لبركات عظيمة‪ ،‬فقد أهلكت هذه المضادات الصناعية قومي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ليس ذلك فقط‪ ..‬بل لي تأثير عالجي عند اإلصابة بنزالت البرد والرشح والسعال ووج ع البطن‪ ،‬إلى ج انب‬
‫أني طاردة للديدان ومقوية ومنشطة للجسم‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬

‫‪ )(1‬أبو داود‪.‬‬
‫‪115‬‬
‫قالت‪ :‬أنا أعالج كثيرا من األمراض‪ ،‬كالسعال الديكي‪ ،‬والربو‪ ،‬والتهاب الرئة‪ ،‬والبروستاتا‪ ،‬وتعسر التبول‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬وأنا مفيدة للقوة التناسلية‪ ،‬والسرطان‪ ،‬والروماتيزم‪ ،‬ومقوية لألعصاب‪ ،‬وعالج لالكزيم ا‪ ..‬وأفي د في إزال ة‬
‫بقع ونمش الوجه عندما أسحق وينقع في الخل ثم يدعك بي الوجه‪ ..‬وأفيد في سقوط الشعر إذا ما تم ت دليك ف روة ال رأس‬
‫بعصيري‪..‬وأنصح المصابين بالبول السكري بتناول بصلة متوس طة الحجم يومي ا باعتب اري أخفض كمي ة الس كر في دم‬
‫المصاب‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فوائدك كثيرة‪ ..‬فبورك فيك‪ ..‬فأخبريني عما يؤدي إليه اإلسراف في تناولك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬اإلكثار من تناولي قد يؤدي إلى الوخم والنوم العميق واإلحساس بالعطش‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما أكثر منافعك‪ ..‬وأقل مضارك‪.‬‬
‫الكراث‪:‬‬
‫كان الكراث بجانب البصل‪ ..‬فلذلك ما إن انتهت حبة البصل من حديثها حتى ق ال الك راث‪ :‬وأن ا‪ ..‬ال تنس ني‪ ..‬فلي‬
‫من الفوائد ما ال أقل به عن إخواني من العائلة الزنبقية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والنصوص التي وردت في رائحتكم‪.‬‬
‫ق ِ ﴾(الروم‪ ..)30 :‬ورائحتنا ـ على األقل ـ أفض ل بكث ير من روائح‬ ‫هَّللا‬ ‫ْ‬ ‫قال‪ :‬ذلك شيء خلقه هللا فينا‪ ،‬و﴿ ال َت ْب ِد َ‬
‫يل ِلخَل ِ‬
‫السموم التي تتناولونها‪ ..‬بل أفضل من روائح المعاصي التي تفوح من أفواهكم المنجسة بأكل لحوم بعضكم‪ ..‬وأفضل‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تخلف الثأر‪ ..‬فهل تحمل حقدا؟‬
‫قال‪ :‬نحن ال نحقد على المؤمنين المباركين‪ ..‬ولكنا تنشق قلوبنا إن سمعنا فاسقا أو رأينا كافرا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عهدي بكم من عالم السالم‪.‬‬
‫طرْ نَ ِم ْنهُ َو َت ْن َش ُّق اأْل َرْ ضُ َوت َِخرُّ ْال ِج َب الُ َه ّد ًا َأ ْن َد َع وْ ا‬
‫ات َي َت َف َّ‬
‫او ُ‬
‫قال‪ :‬نحن من العالم الذي قال هللا تعالى فيه‪َ ﴿:‬ت َكا ُد ال َّس َم َ‬
‫ِللرَّحْ َم ِن َو َلد ًا َو َما َي ْن َب ِغي ِللرَّحْ َم ِن َأ ْن َيتَّ ِخ َذ َو َلد ًا﴾ (مريم‪ 90:‬ـ ‪)92‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت تبغض الفسقة في هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬كما أحب الطائعين في هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تنيلهم من بركاتك؟‬
‫قال‪ :‬ألم أقل لك‪ :‬إن بركاتي ال تقل عن بركات البصل والثوم؟‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عنها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أول بركاتي أن هللا جعلني فوائد بجسمي كله حتى جذوري‪ ..‬وأنا أحتوي على عدة فيتامينات من أهمها أ‪ ،‬ب‪،‬‬
‫ج‪ ،‬كم ا أحت وي على بروتين ات وس كاكر وكالس يوم وفوس فور وبوتاس يوم ومنجن يز وحدي د وك بريت وكل ورين‬
‫وسيليكون(‪..)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذه بركات تكوينك‪ ..‬فما بركات أكلك؟‬
‫قال‪ :‬لقد عرف البشر بركاتي من قديم الزمان‪ ،‬فقد ورد ذكر الك راث في ورق ة بردي ة قديم ة يرج ع تاريخه ا إلى‬
‫األسرة الخامسة‪.‬‬
‫وقد وجد الكراث في مقابر رومانية قديمة‪ ،‬وقد قيل ـ كما ذكر المؤرخ بلين ـ إن األم براطور الروم اني ن يرون‬
‫كان يخصص يوما كل شهر لتناول الكراث‪ ،‬وذلك ليحسن ص وته‪ ..‬كم ا ي روي أن الفرع ون ش وبس كاف أ أح د الس حرة‬
‫بمائة حبة من الكراث‪ ..‬كما أن الفيلسوف اليوناني أرسطو كان يرجع نفاذ صوت الحجل وقوته إلى تناوله الكراث‪.‬‬
‫ضحكت‪ ،‬وقلت‪ :‬وأبو قراط‪ ..‬ألم يسمع بك؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬كيف ال يسمع بي أبو الطب اليوناني‪ ،‬لقد عرف أني أدر البول‪ ،‬وألين المعدة وأوقف التجش ؤ‪ ،‬وأش في‬
‫من السل والعقم وأدر حليب المرضعة وأشفي من القولنج وأقطع نزيف األنف وأقضي على اختناق الرحم‪.‬‬

‫‪ )(1‬بتحليل الكراث وجد أن المائة غرام منه يحتوي على‪:‬نسبة عالية من األمالح المعدنية والفيتامينات ففيه ‪ %90‬من وزنه ماء‪ ،‬وبه ‪ 1‬غ رام ب روتين‪،‬‬
‫وحوالي ‪ 5‬غرامات سكر‪ ،‬وكثير من األمالح المفيدة للجسم‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫قلت‪ :‬وداود األنطاكي ماذا قال عنك؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬لقد ذكر أني أنفع من الربو‪ ،‬وأوجاع الصدر والسعال وخاصة إذا طبخت في الش عير ش ربا وأزي ل البواس ير‬
‫ضماد ًا بالصبر‪ ،‬وأجلو الكلف والنمش والثآليل طالء بعسل النحل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وابن سينا‪ ..‬ال أظن أنه يجهلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو جهلني ما اعتبره الناس طبيبا‪ ،‬لقد وصفني للثآليل والبثرات‪ ،‬ولفس اد اللث ة واألس نان‪ ..‬وللبواس ير مس لوقاً‬
‫ال وضماد ًا‪ ..‬وأني أوضع على الجراحات الدامية‪ ،‬فيقطع دمها‪.‬‬ ‫أك ً‬
‫باإلضافة إلى ما اتفقوا عليه جميعا من صالحيتي ألصحاب األلحان باستعمالي لتصفية أصواتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذن لم يجهلك إال قومي‪ ..‬فال أراهم يصفونك لألصحاء‪ ،‬وال للمرضى‪.‬‬
‫قال‪ :‬أكثر قومك يجهلوني‪ ..‬ولكن منهم من فتح هللا عليهم من علوم الكراث ما جعلهم ينتبهون لفوائدي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما ذكروا؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬لقد اعتبروني في تأثيري الطبي مقاربا لتأثير البص ل‪ ..‬فأن ا مهض م ومقش ع‪ ..‬أي ط ارد للبلغم‪ ..‬ومط ر‪ ..‬أي‬
‫ملين‪ ..‬ومدر للبول‪ ،‬وطارد للديدان‪.‬‬
‫وقد أثبتت األبحاث أن لي تأثيرا مض ادا للبكتري ا‪ ،‬وب األخص ض د الن وع س تافيللوكوكس أورس موجب ة وس البة‬
‫الجرام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا ما ذكروا؟‬
‫قال‪ :‬إن احتجت أن تعرف كل ما ذكروا‪ ،‬فاصبر وال تستعجل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر‪ ،‬فإني صابر‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا أقوي دفاعكم الطبيعي المهدد باالعتداءات الفصلية أو الجرثومي ة‪ ،‬وذل ك بتزوي دكم بالفيت امين(ب)‪ ،‬وه و‬
‫عنصر التوازن‪ ،‬والفيتامين (ج)المقاوم لألنتان والتعب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فزدني زادك هللا بركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن أجل خدمة أقدمها لكم هي في جهازكم الهضمي‪ ،‬فأنا صديقه الصدوق‪ ..‬فأنا سهل الهضم‪ ،‬فإذا ما ص نعت‬
‫مني حساء استطاعت أكثر المعد الحساسة تقبله وهض مه دون أن يس بب له ا أي تقبض‪ ،‬كال ذي تبدي ه حي ال غ يري من‬
‫األطعمة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فأنا أريح المعدة وأنشطها‪ ،‬واختماري يسهل عملية الهضم واالمتصاص‪ ..‬أما ما أحت وي علي ه‬
‫من كبريت‪ ،‬فإنه يقاوم التخمرات العفنة‪.‬‬
‫أما سكر الخشب الذي يكثر في والسللوز‪ ،‬فإنهما يقومان بتنظيف األمعاء تنظيف ا ش امال‪ ،‬فالعنص ر األول يج رف‬
‫أثناء مروره في األمعاء جميع ما يكون قد تخلف فيها من فضالت الطعام‪ ،‬بينما يعمل العنصر الثاني في طره ا خارج ا‪،‬‬
‫ومن هنا ظفرت بشهرتي التي ال شك فيها‪ ،‬بصفتي ملينا لطيفا وطبيعيا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت صديق صدوق للجهاز الهضمي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وصديق صدوق للدم‪ ..‬فأنا أقاوم فقر الدم بما أحتوي عليه من الحديد‪ ،‬وأنشط توالد وعمل الكري ات الحم راء‪.‬‬
‫وأقوي العظام والجلد بفضل ما أضمه من الجير والكلس‪ ،‬كما أني أنشط الجهاز العصبي بما أحمل من مغنيزيزم‪.‬‬
‫قلت‪!....:‬؟‬
‫قال‪ :‬وصديق صدوق للرشاقة فأنا أخفف البدانة‪ ..‬وصديق ص دوق للجل د فعص يري م ع الحليب يس تعمل غس والً‬
‫للوجه إلزال ة البق ع الحم راء والطفح الجل دي‪ ..‬وعص يري م ع لب القمح وس كر قلي ل يس تعمل لبخ ات على الجراح ات‬
‫والدمامل النضاجها وإخراج ما بها من صديد‪ ..‬كما أن مغلي أوراقي ينفع مطهر ًا ومعقماً للجروح‪ ..‬وإلزال ة آالم ق رص‬
‫الحشرات يفرك مكان القرصة بالكراث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت أصدقاءك‪ ،‬فمن أعداؤك الذين تقهرهم؟‬
‫قال‪ :‬أنا عدو تصلب الشرايين والروماتيزما وداء الملوك والتهابات الكلى والمثانة والسمنة‪ ..‬ألن م ا أحت وي علي ه‬
‫من خالصة الـ ‪ sulfo-azotee‬يضعني في مصاف أفضل مدرات البول التي وضعها هللا في الطبيعة‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫قلت‪ :‬أنت غني جدا وقوي جدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل ـ بحمد هللا ومنته ـ فأنا باإلضافة إلى ما ذكرت غني باألمالح القلوية إلى درجة جعلت بعض الب احثين ال‬
‫يترددون في القول بأن المعالجة بالكراث ال تقل نفعا عن المعالجة بمياه ( فيشي)المعدنية‪.‬‬
‫ولعل أهم ميزة في هي أني أقدم لكم في فصل الشتاء عنصرا ال غنى عنه على ندرته في األشهر الباردة‪ ،‬أال وه و‬
‫الكلوروفيل الذي يقوم بدور فع ال في تنش يط التب ادل الغ ذائي‪ ،‬وتس هيل عملي ة اس تخدام الم واد المبتلع ة‪ ،‬وتنش يط ق درة‬
‫العضلة القلبية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فوائدك عظيمة‪ ،‬فبم تنصحني؟‬
‫قال‪ :‬احتفظ دائما باوراقي الخضراء‪ ،‬وإذا كنت من أصحاب الحدائق‪ ،‬فتش به ب الفالحين ال ذين يكتف ون‪ ،‬ب دافع من‬
‫االقتصاد أو الحكمة‪ ،‬بقطع أوراقي لصنع الحساء‪ ،‬وال يقتلع ون الك راث كل ه إال عن دما يري دون طه و طب ق من ه‪ ،‬أو إذا‬
‫مارأوه أوشك أن يبرز‪.‬‬
‫***‬
‫بعدها دلني الكراث على بعض النباتات التي وردت فيه ا النص وص المقدس ة‪ ،‬وك ان من أهمه ا الس لق(‪ )1‬ال ذي‬
‫أخبرني بحديث أم منذر عندما قالت‪ :‬دخل علي رسول هللا ‪ ‬ومعه علي‪ ،‬ولنا دوال معلقة‪ ،‬ق الت فجع ل رس ول هللا ‪‬‬
‫يأكل وعلي معه يأكل‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ (:‬مه يا علي فإنك ناقه)‪ ،‬قالت‪ :‬فجعلت لهم سلقاً وشعير ًا‪ ،‬فق ال الن بي ‪ (:‬ي ا‬
‫علي فأصب من هذا‪ ،‬فإنه أوفق لك)(‪)2‬‬
‫ثم مررنا على الرجلة فحدثتني بما روي أن النبي ‪ ‬مر بها وفي رجله قرحة فداواها بها‪ ،‬فبرئت‪ ،‬فق ال رس ول‬
‫هللا ‪ (:‬بارك هللا فيك أنبتي حيث شئت فأنت شفاء من سبعين داء أدناه الصداع)(‪)3‬‬
‫ثم مررنا على السفرجل(‪ ،)4‬فحدثني بحديث عن أبي ذر‪ ،‬قال أتيت النبي ‪ ‬وهو في جماعة من أصحابه‪ ،‬وبي ده‬
‫سفرجلة يقلبها‪ ،‬فلما جلست إليه‪ ،‬دحا بها إلي ثم قال‪ (:‬دونكه ا أب ا ذر‪ ،‬فإنه ا تش د القلب‪ ،‬وتطيب النفس‪ ،‬وت ذهب بطخ اء‬
‫الصدر )(‪)5‬‬

‫الفواكه‬
‫قالت السفرجلة لي‪ ،‬وقد رأت إعجابي بحديقة الخضر‪ ،‬وما فيها من أصناف البركات‪ :‬أفال أدلك على حديق ة أك ثر‬
‫بهجة‪ ،‬فضلت علينا في القرآن الكريم بذكرها في نعيم الجنة‪ ،‬ولم نذكر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا لحسن خلق منك‪ ،‬فما هي؟‬
‫قالت‪ :‬حدائق الفاكهة‪ ،‬ألم تسمع هللا يذكرها في القرآن الكريم ويثني عليه ا ك ل الثن اء‪ ..‬وه و م ا يكفي للدالل ة على‬
‫البركات التي أودعت فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد ذكرها القرآن الكريم‪ ،‬ورغب فيها بأصناف من الترغيب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يرةٌ ِم ْن َه ا َت أ ُكلونَ ﴾ (الزخ رف‪،)73 :‬‬ ‫ٌ‬
‫فقد ذكر كثرتها‪ ،‬وهو ما لم يحظ به طعام آخر‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬ل ُك ْم ِفي َها َفا ِك َه ة َك ِث َ‬
‫‪ )(1‬قال فيه الطب القديم‪ :‬السلق حار يابس في األولى‪ ،‬وقيل رطب فيها‪ ،‬وقيل مركب منهما‪ ،‬وفيه برودة ملطفة‪ ،‬وتحليل‪ .‬وتفتيح‪ ،‬وفي األسود منه قبض ونفع من‬
‫داء الثعلب‪ ،‬والكلف‪ ،‬والحزاز‪ ،‬والثآليل إذا طلي بمائه‪ ،‬ويقتل القمل‪ ،‬ويطلى به القوباء مع العسل‪ ،‬ويفتح سدد الكبد والطحال‪ ،‬وأسوده يعقل البطن‪ ،‬وال سيما مع العدس‪ ،‬وهم ا‬
‫رديئان‪ .‬واألبيض يلين مع العدس‪ ،‬ويحقن بمائه لإلسهال‪ ،‬وينفع من القولنج مع المري والتوابل‪ ،‬وهو قليل الغذاء‪ ،‬رديء الكيموس‪ ،‬يحرق ال دم‪ ،‬ويص لحه الخ ل والخ ردل‪،‬‬
‫واإلكثار منه يولد القبض والنفخ‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي وأبو داود‪ ،‬قال الترمذي حديث حسن غريب‪.‬‬
‫‪ )(3‬أبو نعيم وهو مرسل ضعيف‪.‬‬
‫‪ )(4‬قال عنه الطب القديم‪ :‬والسفرجل بارد يابس‪ ،‬ويختلف في ذلك باختالف طعمه‪ ،‬وكله بارد قابض‪ ،‬جيد للمعدة‪ ،‬والحلو منه أقل برودة ويبساً‪ ،‬وأمي ل‬
‫إلى اإلعتدال‪ ،‬والحامض أشد قبضا ً ويبسا ً وبرودة‪ ،‬وكله يسكن العطس والقئ‪ ،‬ويدر الب ول‪ ،‬ويعق ل الطب ع‪ ،‬وينف ع من قرح ة األمع اء‪ ،‬ونفث ال دم‪ ،‬والهيض ة‪،‬‬
‫وينفع من الغثيان‪ ،‬ويمنع من تصاعد األبخرة إذا استعمل بعد الطعام‪ ،‬وحراقة أغصانه وورقه المغسولة كالتوتياء في فعلها‪.‬‬
‫وهو قبل الطعام يقبض‪ ،‬وبعده يلين الطبع‪ ،‬ويسرع بانحدار الثفل‪ ،‬واإلكثار منه مضر بالعصب‪ ،‬مولد للقولنج‪ ،‬ويطفئ المرة الصفراء المتولدة في المعدة‪.‬‬
‫وإن شوي كان أقل لخشونته‪ ،‬وأخف‪ ،‬وإذا قور وسطه‪ ،‬ونزع حبه‪ ،‬وجعل فيه العسل‪ ،‬وطين جرمه بالعجين‪ ،‬وأودع الرماد الحار‪ ،‬نفع نفعا ً حسناً‪.‬‬
‫وأجود ما أكل مشويا ً أو مطبوخا ً بالعسل‪ ،‬وحبه ينفع من خشونة الحلق‪ ،‬وقصبة الرئة‪ ،‬وكثير من األمراض‪ ،‬ودهنه يمنع العرق‪ ،‬ويق وي المع دة‪ ،‬والم ربى‬
‫منه يقوي المعدة والكبد‪ ،‬ويشد القلب‪ ،‬ويطيب النفس‪.‬‬
‫‪ )(5‬النسائي‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫ب﴾ (صّ ‪)51:‬‬ ‫وقال تعالى‪ُ ﴿:‬متَّ ِك ِئينَ ِفي َها َي ْد ُعونَ ِفي َها ِب َفا ِك َه ٍة َك ِث َ‬
‫ير ٍة َو َش َرا ٍ‬
‫ان﴾‬ ‫وأخبر عن تنوعها‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬ي ْد ُعونَ ِفي َها ِب ُكلِّ َفا ِك َه ٍة ِآم ِنينَ ﴾ (الدخان‪ ،)55:‬وقال تعالى‪ِ ﴿:‬في ِه َما ِم ْن ُكلِّ َفا ِك َه ٍة َ‬
‫زَوْج ِ‬
‫(الرحمن‪)52:‬‬
‫وأخبر عن تفاضلها‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬و َفا ِك َه ٍة ِم َّما َيتَخَ يَّرُونَ ﴾(الواقعة‪)20 :‬‬
‫ير ٍة ال َمقطو َع ٍة َوال َم ْمنُو َع ٍة﴾(الواقعة‪ 32 :‬ـ ‪33‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫وأخبر عن سهولة الحصول عليها‪ ،‬وعلى فوائدها‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬و َفا ِك َه ٍة َك ِث َ‬
‫طوفُ َها دَا ِن َيةٌ﴾(الحاقة‪)23 :‬‬ ‫)‪ ،‬وقال تعالى‪ ﴿:‬قُ ُ‬
‫قالت‪ :‬وفي كل ما ذكرت آثار أنزلها هللا في الدنيا لتعرفوا بها فضل اآلخرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك‪ ،‬فالدنيا دنيا‪ ،‬واآلخرة آخرة‪ ،‬وقد قال ‪ (:‬يقول هّللا تع الى أع ددت لعب ادي الص الحين م ا ال عين‬
‫رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ ،‬واقرأوا إن شئتم‪َ ﴿:‬فال تَعْ َل ُم َن ْفسٌ َما أُ ْخ ِف َي َله ُْم ِم ْن قُرَّ ِة َأ ْعي ٍُن َجزَا ًء ِب َم ا َك انُوا‬
‫َيعْ َملُونَ ﴾(السجدة‪)17:‬‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن‬ ‫ت َأ َّن َله ُْم َجنَّا ٍ‬
‫الص ا ِل َحا ِ‬‫قالت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد سمعت معها هللا تعالى وهو يقول‪َ ﴿:‬و َب ِّش ِر الَّ ِذينَ آ َمنُ وا َوع َِملُ وا َّ‬
‫رُز ْقنَا ِم ْن َقبْلُ َوأُتُوا ِب ِه ُم َت َشا ِبهاً َو َله ُْم ِفي َه ا َأ ْز َواجٌ ُم َ‬
‫طه ََّرةٌ َوه ُْم ِفي َه ا‬ ‫تَحْ ِت َها اأْل َ ْن َهارُ ُكلَّ َما ِ‬
‫رُزقُوا ِم ْن َها ِم ْن َث َم َر ٍة ِر ْزقاً َقالُوا َه َذا الَّ ِذي ِ‬
‫خَا ِل ُدونَ ﴾(البقرة‪ ،)25:‬فقد أخبر تعالى أنهم إذا رأوها تذكروا برؤيتها ما رأوه من قبل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنه تشابه شكل ال تشابه طعم‪ ..‬وقد ورد في وصف سدرة المنتهى أن ورقها كآذان الفيلة‪ ،‬ونبقها مثل قالل‬
‫هجر(‪.)1‬‬
‫إن فاكه ة‬ ‫قال‪ :‬صحيح ما ذكرت‪ ..‬فال يمكن للدنيا أن تشبه اآلخرة في تفاصيلها‪ ،‬ولكني أقصد قول ه ‪ (:‬ل و قُلت َّ‬
‫عجم ـ كلوا منه فإنه يقطع البواسير‪ ،‬وينف ع النق رس)(‪ ،)2‬فق د ذك ر ‪ ‬أن‬ ‫ألن فاكهة الجنَّة بال ٍ‬ ‫الجنَّة قلت التين‪َّ ،‬‬ ‫نزلت من َ‬
‫هللا جعل في الدنيا ما يذكر بنعيم اآلخرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت في هذا‪..‬ونحن لم نختلف‪ ..‬فاذكري لي‪ :‬أين الحديقة؟‪ ..‬وما تحوي؟‬
‫قالت‪ :‬هي حديقة غناء تحوي من ألوان الفواكه التي ورد فضلها في النصوص المقدسة‪ ،‬فبوركت بذكرها لها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي ألوان الفواكه التي تحتويها؟‬
‫قالت‪ :‬تقسم الفاكهة إلى حلوة كالموز والتين والعنب والتمر‪ ..‬وحامضة كاألترج والرمان‪ ..‬وإلى نص ف ح امض‪،‬‬
‫وهو ما تبقى من الفاكهة‪ ..‬وقد زرت التمر من قبل‪ ..‬فلذلك ستزور في هذه الحديقة ما بقي من الفواكه‪.‬‬
‫التين‪:‬‬
‫قلت‪ :‬وبمن أبدأ؟‬
‫قالت‪ :‬بالتينة التي ذكرناها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين هي؟‬
‫قالت‪ :‬هي عن يمينك تنتظر دورها في الحديث‪ ،‬فقد آتاها هللا من األدب بحيث ال تقطع حديثا‪ ،‬وال تنغص جليسا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬قد عرفت ذلك منها‪ ..‬فهي الفاكهة اللذيذة إلى نفسي أسرطها سرطا‪ ..‬فال عجم أرميه‪ ،‬وال قشر أطرحه‪.‬‬
‫قالت التينة‪ :‬بورك فيك‪ ،‬وفي السفرجلة التي أتت بك‪ ..‬وستجد ـ إن شاء هللا ـ عن دي من حل و الح ديث م ا يجعل ك‬
‫تحبني كما أحبني أهل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل أحبك أهل هللا؟‬
‫ون﴾(التين‪ ،)1 :‬وقد قال في ‪ ‬ما قال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ين َوالز ْيت ِ‬ ‫ِّ‬
‫قالت‪ :‬وكيف ال يحبوني‪ ..‬وقد أقسم هللا بي‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬والت ِ‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذا‪ ..‬فحدثيني عن أسرار بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أن ا ـ بحم د هللا ـ عالي ة القيم ة الغذائي ة‪ ،‬وذل ك الحت وائي على الس كريات األحادي ة‪ ،‬والعناص ر المعدني ة‪،‬‬
‫والفيتامينات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه بركات التكوين‪ ..‬فما بركات الشفاء؟‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن السني وابو نعيم والديلمي‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫قالت‪ :‬لقد شاع استخدامي في عالج اإلمساك‪ ،‬ومغلي أوراقي يستخدم عن د الع رب أو الب دو في عالج اض طراب‬
‫الحيض‪ ،‬كما أن المحفوظ مني يعمل على إدرار اللبن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وصفك رسول هللا ‪ ‬للنقرس والبواسير‪ ،‬فقال‪ (:‬كلوا التين فلو قلت إن فاكهة ن زلت من الجن ة قلت ه ذه‬
‫ألن فاكهة الجنة ال عجم فيها‪ ،‬فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس)(‪)1‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬صدق حبيبي ‪ ،‬أما كوني أقطع البواسير‪ ،‬فيرجع ذلك إلى كوني مسهلة وقابضة‪ ..‬وأم ا م ا يخص‬
‫عالج النقرس‪ ،‬وهو ترسُّب أمالح حمض اليورك في المفاصل‪ ،‬والذي يؤدي إلى خلل في تمثيل األحماض النووي ة‪ ،‬فق د‬
‫ثبت أن لي عالقة باإلنزيم الخاص بتحويل الزانسين إلى اليوريك أسيد‪ ،‬فاإلنزيم ـ بدل أن يسمح له يسير في اتجاه واح د ـ‬
‫يسير في اتجاهين فيكون االتزان‪ ،‬ولذلك فاألدوية التي تعطى من الخارج تثبط اإلنزيم‪ ،‬لكن تثبطه جزئياً‪ ،‬لكن التين ينظم‬
‫عمل األنزيم‪ ..‬ذلك أن النقرس هو عبارة عن خطأ في التمثيل الغذائي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا تعالجين أيضا؟‬
‫ق الت‪ :‬أن ا أوص ف لعالج االمس اك‪ ،‬فله ذا يمكن تن اول ال تين المجف ف أو الط ازج‪ ،‬من دون أي تحض ير معين‪،‬‬
‫للتخفيف من االمساك‪ ،‬ويمكن طهو ثالث أو أربع ثمرات تين طازجة مقطعة‪ ،‬وعشر حبات زبيب في مقدار كوب كب ير‬
‫من الحليب‪ ،‬ويتم تناولها صباحاً على الريق‪ ،‬كما يمكن نقع ست ثمرات تين في الم اء الف اتر ط وال اللي ل‪ ،‬ثم يتم تناوله ا‬
‫صباحاً على الريق أيضاً‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬من أدواري أنني أخفف من االضطرابات الهضمية‪ ،‬فيمكن تناول التين الط ازج بع د الوجب ات الخفيف ة‪ ،‬أو‬
‫قبل الوجبات الثقيلة للتخفيف من اضطرابات الجهاز الهضمي‪ ..‬وذلك مفيد في مكافحة القرحة والطفيليات والجراثيم‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫ق الت‪ :‬وأن ا أخف ف من اض طرابات التنفس‪ ،‬وذل ك الحت وائي على عناص ر ش افية تخف ف من تهيج ات األغش ية‬
‫المخاطية‪ ،‬وخاصة في الجهاز التنفسي‪ ،‬لذلك فإن تناول التين الط ازج يمكن أن يس اعد على التخفي ف من االض طرابات‬
‫التنفسية‪ ،‬فأنا ألعب دور ًا مشابها لدور مضادات االلتهابات‪.‬‬
‫وأنا أفيد أيضاً لعالج التهابات الحلق‪ ،‬ويكفي لذلك أن يتم غلي أربع أو خمس ثم رات تين طازج ة في ح والي ‪50‬‬
‫ملليلتر من الماء‪ ،‬ثم يصفى الماء ويترك حتى يبرد‪ ،‬ثم يشرب لعالج أوجاع الحلق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت أن لك استعماالت خارجية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ،‬فقد جعلني هللا بركة في الداخل والخارج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي بعض بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أن ا أس تعمل إلزال ة مس امير الق دمين‪ ..‬وذل ك الحت وائي على إنزيم ات تس اعد على التخلص من النت وءات‬
‫الجلدية الزائدة‪ ،‬لهذا يمكن استخدامي إلزالة المسامير التي تظهر على القدمين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬يوضع لُب ثمرتي على المسامير ويغطى برباط طوال الليل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك‪ ..‬فهل تعالجين غيرها؟‬
‫قالت‪ :‬أعالج الحبوب والتقرحات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي وصفة لذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬يتم تسخين التين في الماء أو الحليب‪ ،‬وتقطع كل حبة مني إلى نصفين‪ ،‬بحيث يوضع لب الثمر على البث ور‬
‫مباشرة‪ ،‬وهذه الطريقة فعالة جدا في العالج‪ ،‬وخصوصاً في عالج تقرحات الفم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل لك وصفات أخرى؟‬
‫قالت‪ :‬أنا أتمتع بخصائص وقائية وملطفة ومرطبة‪ ..‬ولذلك أقوم بتغذية الجلد والشعر وأقيهم ا من تغ يرات الطقس‬
‫القاسية‪ ،‬ومن التلوث‪..‬ولذلك يدخلني تجار قومك في تركيب العديد من مستحضرات العناية بالبشرة والشعر‪.‬‬

‫‪ )(1‬ابن السني وأبو نعيم والديلمي ‪ -‬عن أبي ذر‪.‬‬


‫‪120‬‬
‫العنب‪:‬‬
‫التفت ف رأيت عنق ود عنب يفيض بحب ات أجم ل من الآللئ‪ ،‬فقلت ل ه‪ :‬أأنت عنق ود الجن ة ال ذي رآه ‪ ،‬كم ا في‬
‫حديث جابر الذي قال‪ :‬بينا نحن في صالة الظهر إذ تقدم رسول هّللا ‪ ،‬فتقدمنا معه‪ ،‬ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم ت أخر‪ ،‬فلم ا‬
‫قضى الصالة‪ ،‬قال له أبي بن كعب‪ :‬يا رسول هّللا صنعت اليوم في الصالة شيئاً ما كنت تصنعه‪ ،‬قال‪ (:‬إنه عرض ت علي‬
‫الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة‪ ،‬فتناولت منها قطفاً من عنب آلتيكم به‪ ،‬فحيل بيني وبينه‪ ،‬ولو أتيتكم به ألكل من ه من‬
‫بين السماء واألرض ال ينقص منه)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ولكني ال أقل عنه شرفا‪ ..‬فقد ش رفني هللا تع الى ب ذكره في كتاب ه في مواض ع كث يرة‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿:‬و ِفي‬
‫عْض َها َع َلى‬ ‫ض لُ َب َ‬ ‫اح ٍد َونُ َف ِّ‬
‫اء َو ِ‬ ‫ان ي ُْس َقى ِب َم ٍ‬ ‫ص ْن َو ٍ‬ ‫ان َو َغ ْي رُ ِ‬ ‫ص ْن َو ٌ‬ ‫ب َوزَرْ ٌع َون َِخيلٌ ِ‬ ‫ات ِم ْن َأ ْعنَا ٍ‬ ‫ات َو َجنَّ ٌ‬ ‫او َر ٌ‬‫ط ٌع ُمت ََج ِ‬‫ض ِق َ‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫يل َواأْل َ ْعن َ‬
‫َاب َو ِم ْن ُكلِّ‬ ‫الز ْيتُونَ َوالنَّ ِخ َ‬
‫الزرْ َع َو َّ‬ ‫وْم َيعْ ِقلُونَ ﴾ (الرعد‪ ،)4:‬وقال‪ ﴿:‬يُ ْن ِب ُ‬
‫ت َل ُك ْم ِب ِه َّ‬ ‫ت ِل َق ٍ‬‫عْض ِفي اأْل ُ ُك ِل ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ آَل يا ٍ‬ ‫َب ٍ‬
‫وْم َي َت َف َّكرُونَ ﴾ (النحل‪)11:‬‬ ‫ت ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ آَل َي ًة ِل َق ٍ‬ ‫الثَّ َم َرا ِ‬
‫ب َتتَّ ِخ ُذونَ ِم ْنهُ َس َكر ًا َو ِر ْزقاً َح َسناً ِإ َّن ِفي‬ ‫يل َواأْل َ ْعنَا ِ‬
‫ت النَّ ِخ ِ‬ ‫وقد قرنني بالنخلة المباركة في مواضع‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬و ِم ْن َث َم َرا ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يرةٌ َو ِم ْن َه ا َت أ ُكلونَ ﴾‬
‫ب َل ُك ْم ِفي َها َف َوا ِكهُ َك ِث َ‬ ‫َ‬
‫يل َوأ ْعنَا ٍ‬ ‫ت ِم ْن ن َِخ ٍ‬ ‫وْم َيعْ ِقلُونَ ﴾(النحل‪ ،)67:‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬فأَ ْن َش ْأنَا َل ُك ْم ِب ِه َجنَّا ٍ‬ ‫َذ ِلكَ آَل َي ًة ِل َق ٍ‬
‫ُون﴾(يّـس‪)34:‬‬ ‫ْ‬
‫ب َو َفجَّرْ نَا ِفي َها ِمنَ ال ُعي ِ‬ ‫َ‬
‫يل َوأ ْعنَا ٍ‬ ‫ت ِم ْن ن َِخ ٍ‬ ‫ْ‬
‫(المؤمنون‪ ،)19:‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬و َج َعلنَا ِفي َها َجنَّا ٍ‬
‫قلت‪ :‬قد سمعت كل هذا‪ ..‬وألجله جئت أبحث عن أسرار هذه البركات‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال يكفيك كالم ربك؟‬
‫قلت‪ :‬نحن قوم غشي على عيوننا‪ ..‬فال نرى إال ما تقوله الدراسات‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنت عبد لها إذن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يمكنك أن تقول ذلك‪ ..‬فنحن ال نصدق بالحقائق حتى تأتينا من األلسن التي ترطن بالعجمة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس عليك‪ ..‬أما أنا فلم يجهل أسراري عرب وال عجم‪ ..‬فقد عرفت منذ القدم‪ ،‬عرفني الص ينيون والهن ود‬
‫وغيرهم‪ ،‬ورغبوا في القيمة الغذائية العالية التي حباني هللا بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذكرت القيمة الغذائية العالية!؟‬
‫قالت حبة من العنب‪ ،‬وقد اشتد غضبها‪ :‬أجل‪ ..‬أفي شك أنت من ذل ك‪ ..‬فنحن نحت وي على نس بة جي دة من الم واد‬
‫السكرية سريعة االمتصاص وسهلة الهضم حيث يتركز سكر الجلوكوز وسكر الفركتوز بشكل كبير في مكوناتنا‪.‬‬
‫ونتميز بغنانا بالفيتامينات مثل فيتامين ج‪ ،‬وفيتامين ب‪ ..‬كما نحتوي على نس بة جي دة من العناص ر المعدني ة مث ل‬
‫البوتاسيوم والكالسيوم والصوديوم‪.‬‬
‫كما نحتوي على مواد ذات مفعول عالجي‪ ..‬حيث نحتوي على مركب يع رف بريزف يراتول‪ ،‬وتتم يز ه ذه الم ادة‬
‫بتأثيرها االيجابي في الحد من تصلب الشرايين حيث أن لها تأثيرا مباشرا وملحوظا في تقليل نس بة الكولس ترول في ال دم‬
‫وخصوصا الكولسترول السيء‪ ،‬مما يقلل اإلصابة بأمراض القلب‪.‬‬
‫كما نحتوي ـ بحمد هللا ـ على بعض األحماض التي له ا دور في الوقاي ة من ت راكم الج ذور الح رة‪ ،‬ول ذلك نعت بر‬
‫مضاد ًا جيد ًا للسرطان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبركاتك عظيمة؟‬
‫قالت‪ :‬ال تزال لم تسمع شيئا‪ ..‬فقد أشارت األبحاث العلمية أن لي دورا في الوقاية من مرض هشاشة العظام‪ ،‬أو ما‬
‫يعرف بوهن العظام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هو من األمراض التي تنتشر بشكل كبير بين السيدات‪ ،‬وله عالقة بالكالسيوم‪ ..‬فكيف تكون لك عالقة به؟‬
‫قالت‪ :‬أنا أحتوي على معدن البودون‪ ،‬وهو يساهم في زيادة هرمون االستروجين ل دى االن اث عن د بل وغهن س ن‬
‫اليأس‪ ..‬وبذلك يعمل هذا الهرمون على االقالل من التعرض لهذا المرض في هذه المرحلة من السن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة هذا الهرمون بالهشاشة؟‬
‫قالت‪ :‬يعمل هذا الهرمون اله ام للس يدات على امتص اص الكالس يوم‪ ،‬وال ذي يك ون في الغ ذاء ع ادة‪ ،‬ولكن نس بة‬

‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫امتصاصه تنخفض مع تقدم العمر عند الرجال وعند النساء عموما إال أن تأثيره عند السيدات يكون أكثر‪.‬‬
‫والعمل الذي يقوم به هرمون االستروجين مهم جدا في عملية امتص اص ب ل زي ادة امتص اص الكالس يوم‪ ،‬ومثل ه‬
‫زيادة عملية ترسب وإضافة الكالسيوم الى العظام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي بركاتك على الدم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد جعل هللا فينا دورا مهما في خفض الضغط المرتف ع‪ ،‬حيث أنن ا من م درات الب ول الحتوائن ا على نس بة‬
‫عالية من البوتاسيوم‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬ولن ا دور في عالج اإلمس اك‪ ..‬حيث أنن ا نس هل البطن‪ ..‬ول ذلك نس تخدم كمس هل يتن اول عص يرنا للكب ار‬
‫وللصغار‪ ،‬وهو ناجح بشكل جيد لألطفال حيث يقوم بعملية تنظيف البطن وتسهيل حركة االمعاء‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬ونحن نخفض الحموضة‪ ،‬وخصوصا الحموضة التي تنتج من عسر الهض م حيث نحت وي على العدي د من‬
‫األحماض الطبيعية ذات التأثير القاعدي‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬ونحن نساهم ـ بفضل هللا ـ في الحد من اإلصابة بالسرطان‪ ،‬حيث تش ير األبح اث أن البالد ال تي يك ثر فيه ا‬
‫إنتاج العنب تكون فيها أمراض السرطان منخفضة‪ ،‬ب ل معدوم ة‪ ،‬ألنن ا نحت وي على العدي د من العناص ر الغذائي ة ال تي‬
‫تس اهم في اخ راج الم واد المس رطنة‪ ،‬وهي الج ذور الح رة‪ ،‬وتطرحه ا خ ارج الجس م‪ ،‬حيث نحت وي على العدي د من‬
‫الفيتامينات والمعادن مضادات لألكس دة مث ل فيتامين ات (أ‪،‬ج)وبعض العناص ر المعدني ة‪ ،‬باإلض افة إلى األلي اف الذائب ة‬
‫وغير الذائبة‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬ولنا ـ فوق ذلك ـ قيمة عالجية عالية‪ ،‬وخصوصاً لألشخاص ال ذين يع انون من اض طرابات أو ض عف في‬
‫الكلى‪ ،‬حيث نحتوي على نسبة جيدة من الماء واألمالح بكميات مناسبة‪ ..‬ولهذا نساهم بشكل جي د في عملي ة تص فية ال دم‬
‫وتنقيته من السموم‪.‬‬
‫الرمان‪:‬‬
‫رأيت رمانة جميلة تحدق إلي بعي ون تمتلئ خجال‪ ..‬وق د ت ورد خ داها‪ ،‬فقلت‪ :‬م ا بال ك أيته ا الرمان ة‪ ..‬لك أني ب ك‬
‫تريدين أن تسري إلي أمرا تستحين من ذكره‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬فنحن ال نعرف األسرار‪ ..‬وإنما أنا ممتلئة سرورا بم ا ورد في النص وص من فض لي‪ ..‬فق د ذك رني هللا‬
‫ظ رُوا ِإ َلى َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َو َي ْن ِع ِه ِإ َّن ِفي‬‫الز ْيتُونَ َوالرُّ َّمانَ ُم ْش َت ِبهاً َو َغي َْر ُمت ََش ا ِب ٍه ا ْن ُ‬
‫ب َو َّ‬ ‫ت ِم ْن َأ ْعنَا ٍ‬ ‫تعالى في كتابه‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬و َجنَّا ٍ‬
‫ت َوالنَّ ْخ َل َوال َّزرْ َع ُم ْخ َت ِلف اً‬ ‫َ‬
‫عْرُوش ا ٍ‬ ‫ت َو َغ ْي َر َم‬ ‫ت َمعْرُو َشا ٍ‬ ‫وْم ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾(األنعام‪ ،)99 :‬وقال‪َ ﴿:‬وه َُو الَّ ِذي َأ ْن َشأَ َجنَّا ٍ‬ ‫َذ ِل ُك ْم آَل يا ٍ‬
‫ت ِل َق ٍ‬
‫سْرفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْس ِر ِفينَ ﴾‬ ‫صا ِد ِه َوال تُ ِ‬ ‫أُ ُكلُهُ َو َّ‬
‫الز ْيتُونَ َوالرُّ َّمانَ ُم َت َشا ِبهاً َو َغي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُكلُوا ِم ْن َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َوآتُوا َحقَّهُ َيوْ َم َح َ‬
‫(األنعام‪)141:‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫وذكر أني من فاكهة الجنة‪ ،‬فقال‪ِ ﴿:‬في ِه َما فا ِك َهة َونَخلٌ َورُ َّمان﴾(الرحمن‪)68 :‬‬
‫قلت‪ :‬وقد ذكر رسول هللا ‪ ‬فضلك وعالقتك بالجنة‪ ،‬فقال‪ (:‬ما من رمانة إال ولقحت من رمان الجنة‪ ،‬وما رمان ة‬
‫إال فيها حبة من رمان الجنة)(‪)1‬‬
‫قالت‪ :‬دعك من هذا الحديث‪ ،‬فهو ال يصح‪ ..‬وال ينبغي أن نفخر بم ا ال يص ح‪ ..‬ويكفي م ا ورد فين ا من فض ل في‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سأحدثك عن بركة نقلها علي فقد كان فقيها في كالم هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وصف وصفات طبية صالحة‪ ..‬فهل له وصفة لها عالقة بك؟‬

‫‪ )(1‬ابن عدي وابن عساكر ‪ ،‬وقال ابن عدي‪ :‬هذا حديث باطل‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫للمعدة)(‪)1‬‬ ‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد روي أنه روى‪ (:‬كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ‬
‫قلت‪ :‬فما في هذه الوصفة من الطب؟‬
‫قالت‪ :‬القلف األبيض الذي هي الطبقة البيضاء بين الفصوص يحتوي على مادة قابضة ومضادة للحموضة‪ ،‬وثبت‬
‫أنها تقوم بشفاء قرحة المعدة وقرحة اإلثنى عشر‪ ،‬واألطباء في أوربا يأخذوا المستخلص المائي أو المعلق منها‪ ،‬ويدخلوه‬
‫بالمناظير ويحقنوا قرحة المعدة وقرحة اإلثنى عشر فتبرأ في الحال(‪.)2‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركات تكوينك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا غذاء تمد كل ‪ 100‬جرام مني قرابة ‪ 160‬سعر ًا حراريا‪ً.‬‬
‫قلت‪ :‬دعك من الحريرات‪ ..‬فلي من األغذية ما أجدها فيها‪ ..‬لقد سمعت أنك ال تحوين الكثير من الفيتامينات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬في غيري من الفيتامينات ما يكفيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيك مما يرغب فيه؟‬
‫قالت‪ :‬أنا أحوي الكثير من المعادن‪ ..‬وأن ا مص در جي د للس كريات‪ ،‬وتص ل نس بة فيت امين ج في عص ير الرم ان‬
‫البلدي إلى حوالي ‪ 10‬مليجرامات كل ‪ 100‬جرام من العصير‪ .‬ويوج د في ك ل ‪ 100‬ج رام من حب وبي الم واد الغذائي ة‬
‫التالية‪:‬كالسيوم ‪ 8‬مليجرام‪ ،‬بروتين ‪1.3‬جرام‪ ،‬فسفور ‪ 20‬مليجرام‪ ،‬دهن ‪ 0.8‬جرام‪ ،‬حديد ‪ 0.8‬مليجرام‪ ،‬كربوهي درات‬
‫‪ 41.7‬جرام‪ ،‬بوتاسيوم ‪ 658‬مليجرام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم ما ذكرت‪ ..‬ولكني أرى في قشورك الداخلية ما يشوهك‪..‬فهال سألت هللا أن ينزعها عنك؟‬
‫قالت‪ :‬لجميع قشوري الداخلية والخارجية فوائ د ش تى‪ ،‬فهي تحت وي على م واد قلوي ة وم واد قابض ة‪ ،‬وهي دواء‬
‫لطرد الديـدان من األمعاء خاصة الدودة الشريطية‪ ،‬ويس تخدم القش ر كم ادة قابض ة للبطن حيث تجف ف القش ور وتطحن‬
‫وتستخدم عند الحاجة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم ما ذكرت‪ ..‬ولكني أراك تهتمين باإلشادة بقشورك‪ ..‬فهل تراك من ذوات القشور‪ ،‬ال من أولي األلباب؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬بل أنا من أولي القشور واأللباب‪ ..‬وقد أكدت دراسة علمي ة حديث ة أن ثم ار الرم ان تع الج ‪ 11‬مرض اً‬
‫وتوفر احتياج ات الجس م األساس ية من العناص ر الغذائي ة‪ ..‬وذك رت الدراس ة أن ب ذور الرم ان ذات الغالف العص يري‬
‫البلوري والتي تستخدم في سلطة الفواكه تقضي على البكتري ا المس ببة لإلس هال‪ ،‬كم ا تق وي القلب والمع دة وت در الب ول‬
‫وتطهر الدم وتذيب حصوات الكلى وتلطف الحرارة المرتفعة بالجسم وتشفي عس ر الهض م وتقل ل آالم النق رس‪ ،‬كم ا أن‬
‫مسحوق أزهارها يستخدم شراباً أيضاً ضد اإلسهال‪.‬‬
‫وبينت أنه يمكن استخدام الرمان لمعالجة الزحار (الديزنتاريا)ومعالجة الوهن العصبي وبعض أنواع األورام التي‬
‫تصيب األغشية المخاطية‪ ،‬خاصة إذا استخدم مع العسل‪.‬‬
‫وذكرت أن تناول الرمان مع األغذية الدسمة يساعد على هضمها بشكل جيد‪.‬‬
‫ومن األخبار الهامة التي طالعتكم بها الصحف ما ذكرت من غناي بمركبات منع األكسدة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬سمعت بهذا‪ ..‬فما في ذلك من أسرار البركات؟‬
‫قالت‪ :‬في ذلك كل البركات‪ ..‬أال تعلم أنها فعالة بصورة جيدة لمنع أكسدة دهون البالزما التي يعتقد أنها من أس باب‬
‫تصلب الشرايين‪ ..‬وقد جرت دراسة على أشخاص أصحاء وعلى حيوانات التجارب‪ ،‬حيث تم إعطاء األص حاء عص ير‬
‫الرمان لمدة أسبوعين والحيوانات ‪ 14‬أسبوعاً‪ .‬وذلك بهدف معرفة تأثير عصير الرمان على أكسدة البروتينات الش حمية‬
‫وتكدسها‪ ،‬وتصلب الشرايين عند األصحاء أو حيوانات مصابة بتصلب الشرايين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا وجدوا؟‬
‫قالت‪ :‬لقد وجدوا أن عصير الرمان يعمل على التقليل من تكدس البروتين ات الش حمية الض ارة بالجس م وأكس دتها‬
‫عند المتبرعين األصحاء‪ ..‬كما أنه يؤدي إلى تقليل حجم مشكلة تصلب الشرايين في فئران التج ارب‪ ،‬وخلص ت الدراس ة‬
‫ال قوياً كمضاد لتصلب الشرايين عند األش خاص األص حاء‪ ،‬وك ذا عن د الحيوان ات‬ ‫بنتيجة مفادها أن لعصير الرمان مفعو ً‬

‫‪ )(1‬أبو الحسن علي بن الفرج الصقلي في فوائده‪ ،‬وفي سنده مجاهيل‪.‬‬


‫‪ )(2‬محاضرة للدكتور عبد الباسط محمد السيد على قناة الجزيرة في برنامج بال حدود ‪4/12/2002‬م‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫المصابة بتصلب الشرايين‪ ..‬وهذا المفعول يرجع بصورة أساسية لوجود مضادات األكسدة في الرمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم ما ذكرت‪ ..‬ولكنك مع ذلك ال تدومين إال قيال‪.‬‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ..‬ولكن مع ذلك فقد جعل هللا في من الوفاء ما يجعلني سهلة الحف ظ لع دة أش هر‪ ،‬إذ يمكن حفظي لم دة ‪6‬‬
‫أشهر‪ ،‬وذلك بتجفيف القشرة الخارجية شمسياً وحفظي بعد جفافي في الجو العادي‪.‬‬
‫ويمكن حفظي أيضاً لمدة تصل إلى ثالثة أشهر دون تجفيف القشرة‪ ،‬وذلك في الثالج ة‪ ،‬ويتم ذل ك بل ف ك ل ثم رة‬
‫بأوراق شفافة على حدة ووضع الثمار الملفوفة في كرتون في الثالجة‪.‬‬
‫وتمتاز ثماري المخزنة بارتفاع محتواها من السكر وقلة حموضتها ولين بذورها(‪.)1‬‬
‫الموز‬
‫جاءت الموزة تختال في مشيتها‪ ،‬وقالت من غير أن أسألها‪ :‬أال تعلم أني من فاكهة الجنة؟‬
‫قلت‪ :‬ال أى لك ذكرا في القرآن الكريم‪ ..‬فهل علمت وجودك في الجنة بالقياس أم باالستحس ان؟‪ ..‬أال تعلمين أن ه ال‬
‫يجوز استعمالهما في األخبار؟‬
‫قالت‪ :‬وال في اإلنشاء‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف عرفت بوجودك في الجنة؟‬
‫قالت‪ :‬بالقرآن الكريم‪ ..‬فأنا من فاكهة القرآن الكريم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أفصحي‪ ..‬فال أرى في القرآن الكريم موزا‪..‬‬
‫ط ْل ٍ‬
‫ح َم ْنضُو ٍد﴾(الواقعة‪)2()29 :‬‬ ‫قالت‪ :‬أنا الطلح المذكور في قوله تعالى‪َ ﴿:‬و َ‬
‫قلت‪ :‬والموز؟‬
‫قالت‪ :‬هي كلمة مستعربة من اللغة الهندية (موزى) وتعني ( فاكهة الحكماء)كما سميت في الهند حيث أن الفالسفة‬
‫كانوا يستظلون تحت شجرتي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم ترينا نؤثر لغة الهنود؟‬
‫قالت‪ :‬ذلك ألني أرتبط بالهند تاريخيا‪ ..‬ثم انتقلت منه إلى أنحاء العالم‪ ..‬وأذكر أن العالم الجديد عرفني عام ‪1516‬م‬
‫حيث غرست أول نبت ة لي في الك اريبي آن ذاك‪ ..‬وعرض ت ألول م رة في والي ة فيالديلفي ا في مع رض س ينتينيال ع ام‬
‫‪1876‬م‪.‬‬
‫قلت‪ :‬دعيني من تاريخك‪ ..‬وعودي بنا إلى بركاتك‪ ..‬فال أرى القرآن الك ريم ذك رك إال لم ا في ك من خ ير وفض ل‬
‫وبركة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد ذكر أسالفكم عني أني أنفع من حرقة الصدر والرئة والسعال وقروح الكليتين والمثان ة‪ ،‬وأني أدر‬
‫البول وألين البطن وأسمن كثيرا‪ ..‬ولكن اإلكث ار م ني يض ر المع دة ويثق ل ويزي د في الص فراء والبلغم وي دفع ض رري‬
‫بالسكر والعسل والزنجبيل‪.‬‬
‫وقد ذكروا أني إذا طبخت في دهن اللوز أصلحت الص در س ريعا‪ ..‬وأن طبخي م ع ب ذر البطيخ ودهن الوج ه ب ه‬
‫يجلو الكلف وينعّم البشرة ويحسن اللون وان وضعت ورقة مني على األورام حللها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قال المحدثون من بني قومي؟‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكروا أني من أفضل مص ادر الطاق ة الطبيعي ة‪ ..‬فأن ا خالي ة من الص وديوم‪ ..‬ول ذلك أقل ل من مخ اطر‬
‫ارتفاع ضغط الدم‪ ،‬وخالية من الدهن والكوليستول وأحتوي على كاربوهيدرات سهلة الهضم مقارنة بالفواكه األخرى‪.‬‬
‫وقد ساعدت األبحاث في الطب الحديث على التوعية والتعريف بأني قد أحد من الوفاة الناتج ة عن أم راض القلب‬
‫لبعض الحاالت‪.‬‬
‫‪ )(1‬نشر في مجلة (عالم الغذاء)عدد (‪)3‬بتاريخ ( سبتمبر ‪1998‬م ‪-‬جمادى األولى‪1419‬هـ)‬
‫جالس ا‬
‫ً‬ ‫‪ )(2‬وقد روي هذا عن ابن عباس‪ ،‬انظر‪ :‬تفسير الطبري (‪ ،)27/104‬وقد روي في الحديث خالف هذا القول فعن ُع ْتبة بن عبد الس لمي ال‪ :‬كنت‬
‫مع رسول هللا ‪ ،‬فجاء أعرابي فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أسمعك تذكر في الجنة شجرة ال أعلم شجرة أكثر شو ًكا منها؟ يعني‪ :‬الطلح‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪ «:‬إن هللا‬
‫يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل ُخصْ َوة التيس الملبود‪ ،‬فيها سبعون لونًا من الطع ام‪ ،‬ال يش به ل ون آخ ر » انظ ر‪ :‬البعث البن أبي داود ب رقم (‪)69‬ورواه‬
‫الطبراني في مسند الشاميين برقم (‪)492‬وعنه أبو نعيم في الحلية (‪)6/103‬عن أبي زرعة عن أبي مسهر عن يحيى بن حمزة به‪ ،‬وق ال الهيثمي في المجم ع (‬
‫‪ :)10/414‬رجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫قلت‪ :‬فما ذكروا من بركات تكوينك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد أكد أخصائيو التغذية أني غنية باأللياف والفيتامين ات ‪ A،B،C‬باإلض افة إلى األمالح المعدني ة كالحدي د‬
‫والزنك والفوسفور والمنغن يز والص وديوم‪ ،‬كم ا أحت وي على الم اء والنش ا وس كر العنب وس كر القص ب مم ا يجعل ني‬
‫مصدر ًا حيوياً للعناصر التي يحتاجها الجسم البشري‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما بركات االستشفاء بك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد أظهرت دراسة سويدية حديثة أن الموز الناضج أو المطهو يحتوي على م واد تزي د من مقاوم ة الخالي ا‬
‫التي تبطن المعدة للقرحة وقد تمنع حدوثها وتساعد على الشفاء منها في حالة اإلصابة بها‪.‬‬
‫وفي الدراسة التي نش رتها مجل ة (األفك ار الص حية)األمريكي ة‪ ،‬أك د أخص ائيو التغذي ة أن الم وز الغ ني بعنص ر‬
‫البوتاسيوم يساعد في الحفاظ على سالمة العضالت والعظام ويؤدي إلى تقليل ضغط الدم الشرياني‪ ،‬وبالتالي يخفض إلى‬
‫حد كبير من احتماالت اإلصابة بالنوبات القلبية‪.‬‬
‫وكانت دراسات أخرى قد أشارت إلى أن للموز أثر ًا إيجابيا على عملية الهضم في األمعاء خالف اً لالعتق اد الش ائع‬
‫بأن الموز يسبب اإلصابة باإلمساك أو االنتفاخات‪ ،‬وأن أثر الموز على عملية الهضم يزداد كلما كان الموز ناضجاً‪.‬‬
‫األترج‪:‬‬
‫تركت الموزة تذكر ما ورد في الدراسات من فض لها‪ ..‬ثم التفت إلى أترج ة مألت نفس ي بمنظره ا نش اطا‪ ..‬فقلت‬
‫لها‪ :‬طوبى لك أيته األترجة‪ ..‬لقد ذكرك رسول هللا ‪ ‬فقال‪ (:‬مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن كمث ل االترج ة ريحه ا طيب‬
‫وطعمها طيب ومثل المؤمن الذى اليقرأ القرآن كمثل التمر ال ريح لها وطعمها حلو ومثل المنافق الذى يقرا القرآن كمث ل‬
‫الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذى اليقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)(‪)1‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد شبهني رسول هللا ‪ ‬بالمؤمن الذي يقرأ الق رآن الك ريم‪ ..‬وحس بي ب ذلك ش رفا‪ ..‬ب ل حس بي أن ه‬
‫فضلني على التمر في هذا‪ ..‬فال تسمع لتيه التمر علي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد رأيته من أكثر الناس تواضعا‪ ..‬فال تتيهي عليه أنت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا ال أتيه عليه‪ ،‬وال على غيره‪ ..‬ولكني أتيه على عقولكم الضعيفة التي استبدلتني بأنواع السموم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن أسرار بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد أثني علي القدماء أعظم الثناء‪ ..‬وقد روي أن بعض الملوك االكاسرة سجن بعض االطباء‪ ،‬وأمر أال يقدم‬
‫لهم من األكل إال الخبز وإدام واحد‪ ،‬فاختاروا األترج وسئلوا عن ذلك فق الوا‪ (:‬ألن ه في العاج ل ريح ان ومنظ ره مف رح‪،‬‬
‫وقشره طيب الرائحة ولحمه فاكهة وحماضه إدام وحبه ترياق وفيه دهن)‬
‫لقد عرف العرب األترج منذ القدم وتغنى به شعراؤهم في مختلف العص ور منهم ابن ال رومي ال ذي ق ال في ه في‬
‫معرض الحديث عن أحد ممدوحيه‪.‬‬
‫تشابهت منكم االخالق‬ ‫كل الخالل التي فيكم‬
‫محاسنكم‬
‫والخلقحمال ونوراً وطاب‬ ‫كأنكم شجر األترج طاب‬
‫العود والورق‬ ‫معا ً‬
‫قلت‪ :‬دعينا من أقوال الشعراء‪ ..‬فقد يذمون الممدوح‪ ..‬ويحمدون المذموم‪..‬‬
‫قالت‪ :‬تريد الخبراء العلماء‪ ..‬فقد قال ع ني ابن س ينا‪ (:‬لحم ه (لب ه)ملط ف لح رارة المع دة ن افع الص حاب الم رة‬
‫الصفراء قامع للبخارات الحارة)‬
‫وقال األطباء العرب فيه الكثير حيث قس موني الى أربع ة أص ناف‪ :‬قش ر ولب وحمض وب ذر ولك ل منه ا من افع‬
‫وخواص وقالوا‪ :‬إن من منافع قشره أنه إذا جفف وسحق ثم جع ل بين المالبس أو الف راش من ع الس وس ورائحت ه تطيب‬
‫رائحة الهواء والوباء‪ ،‬ويطيب النكه ة إذا أمس كها في الفم‪ ،‬ويحل ل الري اح‪ ،‬وإذا أض يف إلى الطع ام أع ان على الهض م‪.‬‬
‫وعصارة القشرة الطازجة تنفع من نهش األفاعي شرباً‪ ،‬كما ينفع القشر ضماد ًا على الجروح وإذا أحرق قشره بعد جفافه‬
‫فإن رماده طالء جيدا للبهاق‪.‬‬
‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫أما لبه فملطف للمعدة‪ ،‬وحماضه ق ابض وكاس ر للص فراء‪ ،‬ومس كن للخفق ان الح ار‪ ،‬يفي د اليرق ان ش رباً‪ ،‬يقط ع‬
‫القيء‪ ،‬ومشه لألكل‪ ،‬يحبس البطن ينفع اإلسهال والصفراوي‪ ،‬ينفع طالوه من الكلف‪ ،‬مقو معدي ويسكن العطش‪.‬‬
‫أما بذره فينفع من السموم القاتلة إذا شرب منه وزن مثقالين مقشر ًا بماء فاتر‪ ،‬ملين للطبيعة مطيب للنكهة‪.‬‬
‫وقالت عني طائفة من الحكماء‪ (:‬جمع األترج أنواع اً من المحاس ن واإلحس ان‪ ،‬فقش ره مش موم‪ ،‬وش حمه فاكه ة‪،‬‬
‫وحماضه إدام‪ ،‬وبذره دهان)‬
‫وقال عني ابن البيطار‪ (:‬قوة األترج تلطف وتقط ع وت برد وتطفئ ح رارة الكب د وتق وي المع دة وتزي د في ش هوة‬
‫الطعام وتقمع حدة المرة الصفراء وتزيل الغم العارض منها‪ ،‬ويسكن العطش ويقطع االسهال وحماضه نافع من الخفق ان‬
‫وحب األترج ينفع من لدغ العقارب)‬
‫قلت‪ :‬فما قال المحدثون؟‬
‫قالت‪ :‬هم يستخدمونني في الطب الحديث كفاتح للشهية وطارد لألرياح ومهضم ومنبه للجه از الهض مي ومطه ر‬
‫ومض اد للفيروس ات وقات ل للبكتري ا ومخفض للحمى‪ ،‬وأس تخدم كمض اد لل برد واالنفل ونزا والحمى ولع دوى الص در‬
‫والحنجرة بالميكروبات وأقوي جهاز المناعة‪ ..‬كما أساعد في موازنة ضغط الدم‪.‬‬
‫البقول‬
‫انصرفت من حديقة الفواكه‪ ..‬وقد امتألت نشاطا وحيوية‪ ..‬وقد أزمعت في نفسي العودة إلى مدائن السالم‪..‬‬
‫التقيت في طريقي بحبة عدس‪ ..‬فسألتها عن الطريق إلى المستشفى‪ ..‬فقالت‪ :‬كيف تري د أن تع ود إلي ه‪ ..‬وأنت لم ا‬
‫تعرفني وتعرف بني جنسي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أعرفك‪ ..‬فمن بنو جنسك؟‬
‫قالت‪ :‬نحن البقول‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أعرفك‪ ..‬ولكن ال شأن لي بك‪ ..‬فأنا أبحث عن أغذية البركة‪ ..‬وقد وجدتها جميعا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ما دمت لم تلقني ولم تتعرف علي وعلى بني جنسي‪ ..‬فأنت لم تع رف أغذي ة البرك ة‪ ..‬ألم تس مع أني‬
‫وس ى لَ ْن ن ْ‬
‫َص بِ َر‬ ‫أمثل البقول‪ ..‬وأني من األغذية المنصوص عليها في القرآن الكريم‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْذ قُ ْلتُ ْم يَ ا ُم َ‬
‫ال‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ ِم ْن بَ ْقلِهَ ا َوقِثَّائِهَ ا َوفُو ِمهَ ا َو َعد َِس هَا َوبَ َ‬
‫ص لِهَا قَ َ‬ ‫ك ي ُْخ ِرجْ لَنَ ا ِم َّما تُ ْنبِ ُ‬ ‫َعلَى طَ َع ٍام َوا ِح ٍد فَ ا ْد ُ‬
‫ع لَنَ ا َربَّ َ‬
‫أَتَ ْستَ ْب ِدلُونَ الَّ ِذي هُ َو أَ ْدنَى بِال ِذي هُ َو َخ ْي ٌر ا ْهبِطوا ِمصْ را فَإِ َّن لَ ُك ْم َما َسألتُ ْم ﴾(البقرة‪)61:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا تعالى ذكرك في هذه االية في موضع ذم؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬من قال ذلك‪ ..‬ولو كان كذلك لورد النص بكراهتي أو بتحريمي‪ ،‬ولم يرد شيء من ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تقولين في اعتبار القرآن الكريم لك طعاما دانيا؟‬
‫قال‪ :‬الدنو والرفعة نسبيان‪ ،‬فلذلك ذكر هللا تعالى دنو العدس مقارنة بغيره من األطعم ة ال تي ك انت ميس رة‬
‫لهم من غير عناء‪ ،‬ففي المن ‪ -‬وهو العسل أو مادة سكرية مقوية ‪ -‬وفي لحوم السلوى م ا يف وق جمي ع م ا ذك روه‬
‫من األطعمة‪ ،‬إضافة إلى أن المن والسلوى أسهل هضما من الحبوب الم ذكورة‪ ..‬ولس هولة الهض م واالمتص اص‬
‫أهميتها الكبرى في باب التغذية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تتواضعين بذكر فضل غيرك عليك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وذلك ال يلغي فضلي‪ ..‬فأنا أحتوي على عناصر كثيرة يفتقر إليها الجسم افتقارا شديدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال يعرف عامة قومي من عناصرك إال الحديد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وهل تستهين بالحديد؟‬
‫قلت‪ :‬ال أستهين به‪ ..‬ولكني مع ذلك ال أرى أهميته مقارنة بالبروتينات وغيرها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فال تقل هذا‪ ..‬فالحديد من األمالح المهمة للجس م‪ ،‬فه و ي دخل في ت ركيب هيموجل وبين ال دم ويكس به‬
‫المقدرة على نقل األكسيجين من الرئتين إلى أنس جة الجس م المختلف ة حيث يؤكس د م ا به ا من طع ام فيول د طاق ة‬
‫حرارية ضرورية لوظائف الجسم‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫فوظائف الحديد في الجسم كثيرة فهو يدخل في تركيب ال دم‪ ،‬وه و ض روري إلنت اج الطاق ة والح رارة من‬
‫المواد الغذائية‪ ،‬وهو يعادل الحموضة والزائد من الحدي د يخ تزن في الكب د والطح ال وبعض البروتين ات المعق دة‬
‫لكي تستخدم عند الضرورة في حالة نقص موارد الجسم منه‪.‬‬
‫اللحوم‬
‫سرت قليال بعيدا عن العدس‪ ..‬فرأيت كبشا في منتهى الجم ال يح دق إلي بعي ون تمتلئ رحم ة ورق ة‪ ..‬فقلت‪ :‬أيه ا‬
‫الكبش المبارك‪ ..‬أأنت الذي فدى هللا بك إسماعيل ‪ ‬من ال ذبح‪ ..‬ف إني أرى ل ك جم اال ال أراه فيم ا أراه بين ق ومي من‬
‫كباش‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذاك ابن عمي‪ ..‬وكلنا ذلك الكبش‪ ..‬أما ما تراه في من جمال‪ ،‬فهو جمال روحي المتنورة بنور اإليثار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف ميزت بين قومك من الكباش بهذه الحلة؟‬
‫قال‪ :‬أنا لم أميز‪ ..‬كل الكباش وكل البقر‪ ..‬وك ل م ا تذبحون ه من أنع ام ال يختلف ون ع ني‪ ،‬وال أختل ف عنهم‪ ..‬نحن‬
‫جميعا خلق من خلق هللا مألنا هللا بالرحمة‪ ،‬فقدمنا أنفسنا غذاء طيبا لكم لتؤدوا الوظائف التي خلقتم من أجلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتفعلون ذلك بدافع اإليثار والمحبة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ونحن ال نختلف عن الشهداء في ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الشهداء مظلومون‪.‬‬
‫قال‪ :‬ونحن كذلك قد تظلمونا‪ ..‬فينزع هللا البركة من لحومنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفي لحومكم بركة؟‬
‫قال‪ :‬في لحومنا بركة وشفاء إذا تحققتم بما يتطلبه التوصل إلينا من أسرار البركات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬أربعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعلم أنها أربعة‪ ..‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬التسمية‪ ،‬والذبح‪ ،‬واألدب‪ ،‬واالعتدال‪.‬‬
‫التسمية‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن التسمية‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل من ذبحنا‪ ،‬ولم يذكر هللا في ذبحنا إنما يقوم بقتلنا‪ ،‬فنخرج من الدنيا بأعظم ألم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما األلم الذي تخرجون به؟‬
‫قال‪ :‬ألم عدم سماع ذكر هللا في آخر لحظات حياتنا‪ ..‬أال تلقنون موتاكم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬نلقنهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فذكركم هلل عند ذبحكم هو تلقينكم لنا‪ ،‬ألم تسمع هللا تعالى يأمركم بالتسمية عند ذبحنا؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬ف ُكلُوا ِم َّما ُذ ِك َر ا ْس ُم هَّللا ِ َع َل ْي ِه ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِبآيا ِت ِه ُم ْؤ ِم ِنينَ ﴾ (األنعام‪)118 :‬‬
‫قال‪ :‬وهو يعاتب على عدم األكل من حيوانات معينة لم ينص على تحريمها‪ ،‬ما دام ق د ذك ر اس م هللا عليه ا‪ ،‬فق ال‬
‫ُض ُّلونَ ِب أَ ْه َوا ِئ ِه ْم‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬و َما َل ُك ْم َأاَّل ت َْأ ُكلُوا ِم َّما ُذ ِك َر ا ْس ُم هَّللا ِ َع َل ْي ِه َو َق ْد َف َ‬
‫صَّل َل ُك ْم َما َحرَّ َم َع َل ْي ُك ْم ِإاَّل َما اضْ ُ‬
‫ط ِررْ تُ ْم ِإ َل ْي ِه َو ِإ َّن َك ِثير ًا َلي ِ‬
‫ِب َغي ِْر ِع ْل ٍم ِإ َّن َربَّكَ ه َُو َأ ْع َل ُم ِب ْال ُمعْ َت ِدينَ ﴾ (األنعام‪)119:‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تشعرون حينها بالسعادة؟‬
‫قال‪ :‬نشعر حينها بسعادة ال تشعرون بها وأنتم تأكلون لحومنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك وأنتم مهيئون للذبح؟‬
‫قال‪ :‬أال تعلم السعادة التي كان يشعر بها الغالم ـ الذي ذكره رسول هللا ‪ ‬في قصة أصحاب األخدود ـ وهو يتق دم‬
‫للذبح في سبيل هللا؟‬
‫قلت‪ :‬فحدثني بها ألعلم وجه العالقة بينكما‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫قال‪ :‬لقد قال ‪ ‬في حديث طويل‪ (:‬ثم جيء بالغالم فقيل له‪ :‬ارجع عن دينك‪ ،‬فأبى‪ ،‬فدفع ه إلى نف ر من أص حابه‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا ب ه الجب ل‪ ،‬ف إذا بلغتم ذروت ه‪ ،‬ف إن رج ع عن دين ه وإال فاق ذفوه‪ ،‬ف ذهبوا ب ه‬
‫فصعدوا به إلى الجبل فقال‪ :‬اللهم اكفنيهم بما شئت‪ ،‬فرجف بهم الجبل فسقطوا‪ ،‬وجاء يمشي إلى الملك فق ال ل ه‪ :‬م ا فع ل‬
‫أصحابك؟ قال كفانيهم هللا‪ ،‬فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال‪ :‬اذهبوا فاحملوه في قرقور‪ ،‬فتوسطوا به البحر‪ ،‬فإذا رجع عن‬
‫دينه وإال فاقذفوه فذهبوا به‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم اكفنيهم بما شئت‪ ،‬فانكفأت بهم السفينة فغرقوا‪ ،‬وج اء يمش ي إلى المل ك‪ ،‬فق ال ل ه‬
‫الملك‪ ،‬ما فعل أصحابك؟ قال‪ :‬كفانيهم هللا فقال للملك‪ :‬إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به‪ ،‬قال‪ :‬وم ا ه و؟ ق ال تجم ع‬
‫الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع‪ ،‬ثم خذ سهماً من كنانتي‪ ،‬ثم ضع الس هم في كب د الق وس ثم ق ل‪ :‬بس م هللا رب‬
‫الغالم ثم ارمني‪ ،‬فإنك إذا فعلت قتلتني‪ ،‬فجمع الناس في ص عيد واح د‪ ،‬وص لبه على ج ذع‪ ،‬ثم أخ ذ س هماً من كنانت ه‪ ،‬ثم‬
‫وضع السهم في كبد القوس‪ ،‬ثم قال بسم هللا رب الغالم‪ ،‬ثم رماه‪ ،‬فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صغه في موض ع‬
‫السهم فمات‪ ،‬فقال الناس آم ّنا برب الغالم‪ ،‬آم ّنا برب الغالم‪ ،‬آم ّنا برب الغالم‪ ،‬فأتي الملك فقيل ل ه‪ :‬أرأيت م ا كنت تح ذر‪،‬‬
‫قد وهللا نزل بك حذرك‪ ،‬قد آمن الناس‪ ،‬فأمر باألخدود في أفواه السكك‪ ،‬فخ دت وأض رمت الن يران‪ ،‬وق ال‪ :‬من لم يرج ع‬
‫عن دينه فأقحموه فيها‪ ،‬أو قيل له اقتحم‪ ،‬ففعلوا حتى أتوا على امرأة ومعه ا ص بي له ا فتقاعس ت أن تق ع فيه ا‪ ،‬فق ال له ا‬
‫الغالم يا أ ّمه اصبري إنك على الحق)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬لقد رويت الحديث بألفاظه‪ ،‬فبارك هللا فيك‪ ..‬ولكني لم أفهم سر المقارنة بينكما‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد استعمل الملك كل الوسائل الستحالل دم الغالم‪ ،‬فلم يطق إال بعد أن ذكر هللا‪ ،‬وحينذاك ب ارك هللا في جس د‬
‫الغالم الذي فارق روحه‪ ،‬فصار سببا إليمان قومه‪ ،‬بل صار رمزا لنا معشر الكباش‪ ،‬نحن ألن يحدث لنا ما حدث له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتحنون ألن يحصل لكم ما حصل له؟‬
‫قال‪ :‬ال تجد فردا من أفرادنا إال ويعلم هذه القصة‪ ،‬ويحن ألن يضحى به باس م هللا‪ ،‬فيب ارك هللا في جس ده‪ ،‬فيص ير‬
‫مقبرة خاليا ذاكر هلل‪ ..‬أو يصير كجسد ذلك الولي الذي قال‪:‬‬
‫وذلك في ذات هللا وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع‬
‫قلت‪ :‬أفتعرفونه؟‬
‫قال‪ :‬نعرفه‪ ،‬ونمتلئ محبة له‪ ..‬فهو قد تعلم التضحية منا‪ ،‬وعلمنا من فنون التضحية ما نحن له كل الحنين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تح دثني عن ذك ر هللا كم ا يح دثني أه ل هللا‪ ..‬ولك ني ال أرى إخوان ك إال منهمكين في رعيهم ال يب الون‬
‫بشيء‪ ،‬بل هم أكثر الخلق غفلة‪ ،‬حتى أننا نعتبر البهيمية هي اإلسراف في المتاع‪ ،‬والبعد عن ذكر هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أخطأتم الحقائق‪ ..‬نحن نأكل ونسرف في األكل ألجلكم‪ ..‬فتلك وظيفتنا‪ ..‬وظيفتنا أن نسمن لتأكلونا لحم ا طري ا‬
‫لذيذا‪ ،‬ونحن نستلذ بالتذاذكم لنا إن ذكرتم هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنتم تنحجبون إذن بعملكم عن ذكر هللا‪ ،‬كما ينحجب الغافلون عندنا بزيادة اإلنتاج‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬كيف تشبه من يسمن نفسه هلل بالغافلين؟‪ ..‬وهل تتصور أن رعينا وأكلن ا وش ربنا يبع دنا عن ربن ا؟‪ ..‬إنن ا‬
‫نذكر هللا في أنفاسنا كما يذكره أهل الجنة‪ ..‬ألم تسمع نهيه ‪ ‬عن اتخاذ البهائم كراسي معلال ذلك بكثرة ذكرنا هللا‪ ،‬فقد مر‬
‫‪ ‬على ق وم وهم وق وف على دواب لهم ورواح ل فق ال لهم‪ (:‬اركبوه ا س المة ودوعه ا س المة وال تتخ ذوها كراس ي‬
‫ألحاديثكم في الطرق واألسواق‪ ،‬فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا هلل منه)(‪ )2‬؟‬
‫وقد عرف أسرارنا ذلك الرجل الصالح الذي قال‪ (:‬ما أحد سب شيئا من الدنيا دابة وال غيره ا ويق ول‪ :‬أخ زاك هللا‬
‫أو لعنك هللا إال قالت‪ :‬بل أخزى هللا تعالى أعصانا هلل تعالى)‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا ووعيته‪ ..‬ولكني أراك تتحدث عن التسمية وكأنها هي الركن األساسي في عالقتكم بنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإالم تنظرون إذا لم تنظروا للتسمية؟‬
‫قلت‪ :‬نحن ننظر إلى لحومكم وشحومكم‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال يجوز لكم أن تستحلوها من غير إذن هللا‪ ..‬وإال كنتم كابن آدم الذي قتل أخاه‪.‬‬

‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والحاكم‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫قلت‪ :‬أتتصور أن كل هذه األمم التي تسفك دماءكم كل يوم كابن آدم األول‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل من لم يذكر هللا عند ذبحنا‪ ،‬ويستشعر الرحمة في قلبه‪ ،‬وهو ينظر إلين ا‪ ،‬ونحن نض حي بأنفس نا في س بيل‬
‫إطعامه‪ ،‬إنما يقتلنا ويسفك دماءنا‪ ..‬وهو ال يختلف عن ابن آدم األول في ذلك‪ ،‬ألم تس مع ذل ك الرج ل المب ارك ال ذي ق ال‬
‫لرسول هللا ‪ (:‬يا رسول هللا إني ألرحم الشاة أن أذبحها)‪ ،‬فقال‪ (:‬إن رحمتها رحمك هللا)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف تكون رحمتك؟‬
‫قال‪ :‬بذكر هللا عند ذبحي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن نفرا عظيما من فقهاء قومي يتساهلون في ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال ينبغي أن يتساهلوا‪ ..‬ألم يسمعوا القرآن الكريم‪ ،‬وهو يشتد في ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬ولكنهم يستدلون لذلك بحديث لرسول هللا ‪.‬‬
‫قال‪ :‬الحديث ال يعارض القرآن الكريم‪ ..‬فكالهما وحي‪ ..‬فاذكر لي ما رووا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد حدثوا أن أناسا قالوا لرسول هللا ‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إن قوما يأتوننا باللحم ال ندري اذكروا اسم هللا عليه أم‬
‫ال؟ فقال رسول هللا ‪ (:‬سموا هللا عليه‪ ،‬وكلوا)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬هذا الحديث ال يفهم منه ما ذكروا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفهمون أنتم معشر األنعام؟‬
‫قال‪ :‬هؤالء قوم امتألوا ورعا‪ ،‬فتصوروا أنهم ال يأكلون لحما إال بعد أن يس معوا ال ذابح‪ ،‬وه و ي ذكر هللا‪ ..‬فخش ي‬
‫‪ ‬عليهم الوسوسة‪ ،‬وأخبرهم أن األمر ليس كذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الذابحين قد يكونون قصروا في التسمية وغفلوا عنها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقد أرشدهم ‪ ‬بما يسد ذلك التقصير‪ ،‬فأمرهم بذكر هللا بدلهم‪ ،‬ألم تع رف هدي ه ‪ ‬فيمن نس ي التس مية في‬
‫بداية الطعام والشراب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قال ‪ ..(:‬فإذا أكل أحدكم طعاما‪ ،‬فليقل‪ :‬بسم هللا‪ ،‬فإن نسي أن يقول‪ :‬بسم هللا؛ في أوله فليقل‪ :‬بس م‬
‫هللا في أوله وآخره)(‪)3‬‬
‫قال‪ :‬فقد ذكر ‪ ‬الحل لتدارك التقصير في التسمية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد زعمت بأن ذبحكم بغير ذكر اسم هللا يمحق البركة عن لحمكم‪ ..‬فكيف تزعم اآلن بأن ذلك قد يستدرك؟‬
‫قال‪ :‬هذا ما نص عليه رسول هللا ‪ ‬في الحديث الذي قرأته‪ ،‬ثم‪ :‬ألم يخبر ‪ ‬عن تأثير التسمية في وسط الطع ام‬
‫في الشيطان الذي يحضر األكل ليمحق بركته؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد ورد في الحديث قوله ‪ (:‬وهللا ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى‪ ،‬فلم يبق في بطنه ش يء إال‬
‫قاءه)(‪.)4‬‬
‫قال‪ :‬وفي مثله ورد قوله ‪ (:‬كل طعام ال يذكر اسم هللا تعالى عليه‪ ،‬فإنما هو داء‪ ،‬وال بركة فيه‪ ،‬وكفارة ذل ك إن‬
‫كانت المائدة موضوعة أن تسمى وتعيد يدك‪ ،‬وإن كانت قد رفعت أن تسمى هللا وتلعق أصابعك)(‪)5‬‬
‫فجأة قدم رجالن من بني قومي‪ ،‬قلت للكبش‪ :‬احذر‪ ،‬فهذان يريدان اقتيادك إلى حتفك‪.‬‬
‫قال‪ ،‬وقد ظهرت على وجهه عالئم السرور‪ :‬بشرتني بشرك هللا بكل خير‪.‬‬
‫نظر إليهما‪ ،‬فقال‪ :‬ال‪ ..‬هؤالء لم يريدا ذبحي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الذي قدم بهما إلى هنا؟‬
‫قال‪ :‬هذان خبيران من خبراء قوم ك‪ ،‬فتح هللا علهيم ا‪ ،‬فأدرك ا من أس رار البرك ة في التس مية م ا يمكن أن يك ون‬
‫سبيال إلقناع الجاحدين‪.‬‬

‫الحاكم وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫الدارقطني ومالك‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫أحمد وابن ماجة وابن حبان والبيهقي‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أحمد وأبو داو والنسائي والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫ابن عساكر‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪129‬‬
‫قال أحدهما‪ :‬أنا دكتور في العل وم الص يدلية‪ ،‬وأخص ائي في الكيمي اء التحليلي ة الص يدلية‪ ،‬وفي تحالي ل الس مومية‬
‫والغذائية والصناعية(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن سر اكتشافك‪.‬‬
‫قال‪ :‬موضوع بحثي كان حول فرضية وضعتها‪ ،‬ثم أردت إثباتها‪ ،‬وهي حول تأثير التسمية في الحيوان‪.‬‬
‫وبداية ذلك كانت رغبة ثلَّةٌ من المؤمنين في القيام بكلِّ ما تم ِّكننا به وسائلنا المخبري ة في توض يح الف رق بين اللحم‬
‫تكبير ودون ذكر اسم هللا عليه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫المذبوح المصحوب بذكر اسم هللا‪ ،‬واللحم المذبوح بغير ذلك‪ ،‬أي دون‬
‫وإلثبات ذلك عمدنا إلى الزرع الجرثومي لنموذجي اللحم المأخوذين آنفاً علَّن ا نع ثر على م ا يمكن أن يك ِّون حجَّ ةً‬
‫راسخة وصحيحة ال لبس فيها‪ ،‬تؤكد فائدة ذكر اسم هللا الرحمن الرحيم على الذبائح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي نتائج هذه الدراسة المخبرية؟‬
‫ً‬
‫ذبح م ع ذك ر اس م هللا علي ه عقيم ا من الناحي ة‬ ‫قال‪ :‬كانت نتائج هذه الدراسة باهر ًة بصورة قاطعة‪ ،‬حيث كان كلُّ ٍ‬
‫الجرثومية والفطرية بدرج ٍة كبيرة على عكس لحوم الذبح التي لم يُذكر اسم هللا عليها‪ ،‬فقد بدا فيها النمو الجرث ومي كث يراً‬
‫وغزير ًا وواضحاً مما ال يدع أي مجال للشكِّ في تأثير التسمية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف فسرتم ذلك؟‬
‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫قال‪ :‬نحن مؤمنون‪ ،‬ولذلك فسرنا ذل ك على ض وء قول ه تع الى‪ ﴿:‬ال ِذينَ آ َمنُ وا َوتَط َم ِئ ُّن قُلُ وبُه ُْم ِب ِذ ْك ِر ِ أال ِب ِذ ْك ِر ِ‬
‫ت َْط َم ِئ ُّن ْالقُلُوبُ ﴾(الرعد‪ ،)28:‬فقد كانت الطمأنينة والهدوء بادية اآلثار في اللحم الذي صحبته التسمية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك‪ ،‬وما تأثير ذلك في البركة؟‬
‫قال‪ :‬إن الطمأنية التي حصلت لها أثناء الذبح جعلت من أخالطها ودورته ا الدموي ة وأحش ائها في حال ٍة ال يح دث‬
‫ث ما بين داخل أحش اء الحي وان ولحم ه وعض الته وأجهزت ه المختلف ة‪ ،‬وب ذلك حققت حال ًة من‬ ‫اختالط‪ ،‬أو تلو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫معها أي‬
‫العقامة والنظافة الصحية تجعل من هذا اللحم شهي المنظر وسائغ الطعم‪ ،‬غير مؤ ٍذ بقدرته تعالى‪.‬‬
‫قال الثاني(‪)2‬من غير أن أسأله‪ :‬لق د ثبت لي م ا ثبت ل زميلي وم ا ثبت لغيرن ا‪ ..‬فم ا إن أحض رت قطع اً من اللحم‬
‫المكبَّر عليه وقطعاً من اللحم غير المكبَّر عليه كعينات‪ ،‬وتمت معالجتها حتى أصابني الذهول وأخذتني الدهشة‪ ،‬فاتص لت‬
‫بالجزار‪ ،‬وقلت له بأني أريد أن أذهب معه شخصياً إلى المسلخ‪ ،‬وكان ذلك في شهر أيلول من ع ام (‪ ،)2000‬وش اهدت‬
‫الخرفان المكبَّر عليها والخرفان التي لم يكبَّر عليها بأم عيني‪ ،‬وأحضرنا منها قط ع اللحم‪ ..‬واتَّس عت دهش تي ألن النتيج ة‬
‫كانت ذاتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي خالصة ما رأيت‪.‬‬
‫قال‪ :‬عند عمل المقاطع التشريحية ووضْ عها على البالكات بدا لون لحم الخرف ان المكبَّر عليه ا زهري ا فاتح ا‪ ،‬أم ا‬
‫لون اللحم غير المكبَّر عليها فكان أحمر قاتما يميل إلى الزرقة‪..‬‬
‫ثم قمت بالدراسات الجرثومية لكال العينتين‪ ،‬فرأيت الجراثيم الممرضة بأع داد كب يرة في أوس اط االس تنبات ال تي‬
‫ُزرعت عليها اللحوم غير المكبَّر عليها‪ ،‬بينما خلت اللحوم المكبَّر عليها من الجراثيم الممرضة تماماً‪.‬‬
‫ومثل ذلك رأيت ه بع د الفحص النس يجي‪ ،‬فق د رأيت وج ود ع دد أك بر من الكري ات الحم ر وال بيض في األوعي ة‬
‫الدموية للحوم غير المكبَّر عليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا بالبركة؟‬
‫قال‪ :‬لقد أثبت العلم الحديث أن الدم بيئة خصبة لنمو الميكروبات والجراثيم‪ ،‬ووجود الدم في جسم الحيوان المذبوح‬
‫يساعد على نمو الميكروبات في الجسم وسرعة فس اد اللحم‪ ،‬ووج ود ال دم بك ثرة في أمع اء اإلنس ان يس اعد على تك وين‬
‫مركبات نشادرية تؤثر على المخ‪ ،‬وتحدث تغيرات مرضية قد تصل إلى حد الغيبوبة وفقدان الوعي‪ ،‬وهذا ما يحدث فع ً‬
‫ال‬
‫نتيجة ابتالع اإلنسان لكميات كبيرة من الدم بسبب نزيف من المري أو المعدة أو األمعاء‪.‬‬
‫ومن هنا كانت الحكمة البالغة في وجوب ذكاة الحيوان بعد ذبحه‪ ،‬والتخ ُّلص من الدم الذي يج ري في عروق ه قب ل‬
‫‪ )(1‬هو الدكتور محمد نبيل الشريف‪ ،‬وهو أستاذ في جامعة دمشق‪ ،‬انظر‪ :‬الطب اإلسالمي للدكتور عبد الرحمن العوضي‪ ،‬والذبح اإلسالمي علم وتعاليم‬
‫أم شعائر وطقوس؟ د‪ .‬مصطفى حلمي‪.‬‬
‫‪ )(2‬الدكتور فايز الحكيم‪ ،‬مجاز من هيئة البورد األميركية بالباثولوجيا التشريحية والسريرية‪.‬‬
‫‪130‬‬
‫أكله‪ ،‬والتسمية عليه قبل ذبحه حتى يصير أكله حال ً‬
‫ال‪.‬‬
‫قاال ذلك‪ ،‬ثم انصرفا كما جاءا‪.‬‬
‫الذبح‪:‬‬
‫التفت للكبش‪ ،‬وقلت‪ :‬عرفت سر البركة في التسمية‪ ،‬فعلمني سرا آخر من بركاتكم معشر األنعام‪.‬‬
‫قال‪ :‬أن تستحلوا دماءنا بالطريقة التي علمكم الشرع‪ ،‬فهو أعلم بمصالحنا منكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة ذلك ببركتكم؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قصة الغالم التي ذكرتها؟‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬تقصد قوله‪ (:‬تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع‪ ،‬ثم خذ سهما من كن انتي‪ ،‬ثم ض ع الس هم في‬
‫كبد القوس)‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد دله على الطريقة التي يمكن أن يذبح بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أما التسمية‪ ،‬فقد عرفت سر البركة فيها‪ ..‬ولكني ال أفقه س ر ال ذبح‪ ..‬ح تى إن من ق ومي من يش نعون علي ه‪،‬‬
‫ويعتبرونه من القسوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬يخطئون في ذلك‪ ..‬ألم يسمعوا ما قال ابن الجوزي‪ ،‬فقد أدرك من أسرار األلم واللذة ما لم يدركوه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قال؟‪ ..‬فعهدي به فطنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد قال‪ (:‬وأما ألم الذبح فانه يستر‪ ،‬وقد قيل‪ :‬أن ه ال يوج د أص ال ألن الحس اس لأللم أغش ية ال دماغ‪ ،‬ألن في ه‬
‫األعضاء الحساسة‪ ،‬ولذلك إذا أصابها آفة من صرع أو سكتة لم يحس اإلنسان بألم‪ ،‬فإذا قطعت األوداج س ريعا لم يص ل‬
‫ألم الجسم إلى محل الحس‪ ،‬ولهذا قال عليه الصالة والسالم‪ (:‬إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬إن قومي ال يعرفون ابن الجوزي‪ ..‬وال يؤمنون بم ا يق ول‪ ..‬وه و في أذه انهم أق ل من أن يق ول‪ ..‬ف اذكر لي‬
‫غيره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فسأذكر لك ما يقول علمهم الذي يعبدونه من دون هللا‪ ..‬فقد توصولوا إلى أن الذبح من العنق ه و أنجح وس يلة‬
‫لإلجهاز السريع على الحيوان بغير تعذيب وال تمثيل‪ ،‬إذ أنه من الثابت علميا أن الرقبة حلقة الوص ل بين ال رأس وس ائر‬
‫الجسد‪ ،‬فإذا قطع الجهاز العصبي شلت جميع وظائف الجس م الرئيس ية‪ ،‬وإذا قطعت الش رايين واألوردة توق ف ال دم عن‬
‫تغذية المخ‪ ،‬وإذا قطعت الممرات الهوائية وقف التنفس‪ ..‬وفي جميع هذه الحاالت تنتهي الحياة سريعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال تشعرون باأللم عند ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألم تمر في [ابتسامة األنين] على قسم الغيبة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فهل تعرفه؟‬
‫قال‪ :‬كل من ذبح منا على الطريقة التي أمر الشرع بها‪ ..‬وذكر اسم هللا عند ذبح ه يص يبه من الوج د واإليم ان م ا‬
‫يجعله يقدم نفسه هلل راضيا مسرورا سعيدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل لذلك عالقة بالصحة‪ ..‬فنحن في قسم البركة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أال ترى الحركات العنيفة التي نقوم بها بعد ذبحنا؟‬
‫قلت‪ :‬أتألم لذلك كثيرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تتألم‪ ..‬وانظ ر إلين ا بنظ ر اإليم ان‪ ..‬إن تل ك الحرك ات نه دف به ا إلى ط رد كمي ة كب يرة من ال دم خ ارج‬
‫أجسامنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ألن الدم هو المجرى الذي تلقى فيه مواد األيض أو التمثيل الغذائي كله ا‪ ،‬ففي ه م ا ه و مفي د وم ا ه و ض ار‬
‫مؤذ‪ ..‬والكائنات المتطفلة في الجس م تف رز س مومها في ال دم ناهي ك عن وجوده ا في ال دورة الدموي ة في بعض مراح ل‬
‫تطورها‪ ..‬ولهذا حرم الشرع الدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعلم ذلك‪ ..‬وقد علمت سر ذلك في حصون العافية‪ ..‬ولكني أريد أن أسألك عن أمر يفعله بعض قومي‪.‬‬

‫‪ )(1‬تلبيس إبليس‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫قال‪ :‬وما يفعلون؟‬
‫قلت‪ :‬يصعقونكم بتيار كهربائي قبل الذبح‪.‬‬
‫قال‪ :‬رأيت ذلك‪ ..‬وهم يعذبوننا بذلك عذابا عظيما‪ ..‬لم يتفننون في تعذيبنا؟‬
‫قلت‪ :‬هم يزعمون أنهم يرحمونكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬هم يعذبوننا‪ ،‬فنخرج من الدنيا من غير أن نسمع ذكر هللا‪ ..‬ثم يعذبون أنفسهم بتعذيبنا حيث تبقى دماؤنا الملوثة‬
‫في أجسامنا ليأكلوها بعد ذلك ممحوقة البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي من فوائد ذبحكم ما أقنع به قومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فوائد ذبحنا كثيرة‪ ..‬فقطع الودجين أثناء عملية الذبح يؤدي إلى نزف أكبر كمية ممكنة من الدماء في أقل وقت‬
‫ممكن؛ حيث تنزف الذبيحة ما يقرب من ثلثي كمية الدم الموجودة في جسم الحيوان‪ .‬ويعتبر التخلص من ال دم أم را ب الغ‬
‫األهمية حيث إنه يعتبر أفضل وسط لتكاثر الميكروبات والكائنات الدقيقة‪ ،‬عالوة على م ا يس ببه من تبق ع ب اللحم وإفس اد‬
‫للمظهر‪.‬‬
‫وفي قطع السباتي‪ ،‬وهو متصل مباشرة بالودجين من الناحية الداخلية‪ ،‬وقطع ه يتس بب في ع دم وص ول ال دم إلى‬
‫المخ وإلى األطراف األمامية‪ ،‬ومن ثم إلى سرعة الوفاة وإعاقة مراك ز اإلحس اس ب األلم المركزي ة في المخ بس بب ع دم‬
‫وصول الدم إليها‪.‬‬
‫ويؤدي قطع القصبة الهوائية بالذبح إلى عدم وصول الهواء إلى الرئة؛ ألن ضغط الهواء داخل الرئة يكون مساويا‬
‫للضغط الجوي الخارجي‪ ،‬في هذه األثناء يحاول الحيوان التنفس من األنف‪ ،‬ولكن األكس جين أيض ا ال يص ل إلى الجس م‬
‫فيساعد ذلك في سرعة الوفاة‪ .‬ويساعد وضع رقب ة الحي وان إلى الخل ف في إتم ام عملي ة قط ع القص بة الهوائي ة بإتق ان‪،‬‬
‫ويشتمل منع سحب الدماء بواسطة السبابتين فتحدث الوفاة سريعًا وتفقد الذبيحة الوعي خالل ثوان معدودة‪.‬‬
‫ال من ارتجاعها إلى القصبة الهوائية ع بر الم ريء‬ ‫ويؤدي قطع المريء إلى نزول إفرازات المعدة إلى الخارج بد ً‬
‫كرد فعل طبيعي أثناء الموت في حالة عدم الذبح؛ حيث أن دخولها إلى القصبة الهوائية يؤدي لدخول فضالت الطعام إلى‬
‫الرئة والتي ال يزال بها بقايا من هواء؛ وهو ما يؤدي إلى نمو البكتيريا في هذا العضو الحساس بعد الوفاة مباشرة‪.‬‬
‫أما العضالت فتستمر في العمل لعدة ثوان بعد ال ذبح‪ ،‬وربم ا دق ائق؛ وه و م ا ي ؤدي إلى اس تمرار دف ع ال دم من‬
‫العضالت إلى خارجها عن طريق االنقباضات‪ ،‬ودفعه أيضا خارج األوعية الدموية الفرعية إلى األوعية األساس ية ومن‬
‫ثم إلى الودجين المقطوعين‪ ..‬وهي ت ؤدي إلى نقص كمي ة ال دماء الموج ودة في العض الت بكمي ات كب يرة وتقلي ل ال دم؛‬
‫الوسط المساعد للنمو البكتيري في الذبيحة‪.‬‬
‫األدب‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن األدب‪.‬‬
‫قال‪ :‬أول أدب تحتاجون إلى تعلمه هو أن تتع املوا معن ا باعتبارن ا من مخلوق ات هللا‪ ،‬فتحترمون ا‪ ،‬وتق درونا ح ق‬
‫قدرنا‪ ،‬وال تتالعبوا بأرواحنا التي جعل هللا بين أيديكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬إني أقف موقف الحياء منك‪ ..‬وأنا أرى قومي يتعاملون معكم بتلك العنصرية التي تمتلئ كبرا وظلما‪.‬‬
‫قال‪ :‬إنهم لم يسمعوا ألصوات الهدى التي تحذر من عواقب ظلمنا‪ ..‬لم يسمعوا إلى الرحمة المهداة ‪ ،‬وهو يدعو‬
‫إلى الرحمة بالكائنات‪ ،‬ومحبتها في هللا‪ ،‬وأخذ ما يؤخذ منها باسم هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد كان ‪ ‬شديدا في هذا الباب‪ ..‬فقد نهى عن التمثيل بالبهائم‪ ،‬فقال‪ (:‬لعن هللا من يمثل بالبهائم)(‪)1‬‬
‫ونهى أن صيد الحيوان أو قتله لغير غرض‪ ،‬فقال ‪ (:‬ال تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬بل إنه ‪ ‬علمكم الكيفية المثلى لالستفادة من الحيوان مع عدم إيذائه ما أمكن‪ ،‬فقد رأى رس ول هللا ‪ ‬رجال‬
‫أضجع شاة وهو يحد شفرته‪ ،‬فقال النبي ‪ (:‬أتريد أن تميتها موتات‪ ،‬هال أحددت شفرتك قبل أن تضجعها)(‪)3‬‬
‫ومر رسول هللا ‪ ‬برجل وهو يجر ش اة بأذنه ا‪ ،‬فق ال رس ول هللا ‪ (:‬دع أذنه ا وخ ذ بس الفتها)والس الفة مق دم‬
‫‪ )(1‬أحمد والطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ )(2‬أحمد والترمذي والنسائي‪.‬‬
‫‪ )(3‬الطبراني والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫العنق‪.‬‬
‫ونهى ‪ ‬عن شريطة الشيطان‪ ،‬وهي التي تذبح وتقطع الجلد وال تفري األوداج‪.‬‬
‫وقد اعتبر ‪ ‬ذلك من اإلحسان‪ ،‬فق ال ‪ (:‬إن هللا كتب اإلحس ان على ك ل ش يء ف إذا قتلتم فأحس نوا القتل ة وإذا‬
‫ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)(‪)1‬‬
‫وق د ك ان أه ل الجاهلي ة يجب ون أس نمة اإلب ل‪ ،‬وهي حي ة‪ ،‬ويقطع ون ألي ات الغنم‪ ،‬وك ان في ذل ك تع ذيب له ذه‬
‫الحيوانات‪ ،‬فحال النبي ‪ ‬بينهم وبين مقصودهم‪ ،‬فحرم االنتفاع بهذه األجزاء‪ ،‬فقال‪ (:‬ما قطع من البهيمة وهي حية فه و‬
‫ميتة)‬
‫قلت‪ :‬هذا أدب ذبحكم‪ ..‬فهل هناك آداب أخرى؟‬
‫قال‪ :‬كثيرة‪ ..‬قل لقومك يدعونا لمراعي هللا‪ ..‬وال يطعموننا السموم التي يطعمونن ا به ا‪ ،‬فإنه ا س تنقلب عليهم‪ ..‬فمن‬
‫حفر حفرة ألخيه وقع فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يطعمونكم سموما؟‬
‫قال‪ :‬من كل ألوان السموم يطعموننا‪ ..‬وقد نج اني هللا فهمت على نفس ي في أرض هللا‪ ،‬ح تى وقعت بين ي دي ولي‬
‫من أولياء هللا‪ ،‬فر بدينه‪ ،‬فكان يرعاني ويطعمني طعام السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن أطعمة الصراع‪.‬‬
‫قال‪ :‬عندما تذهب إلى‪ (:‬أدوية األرض) سيأتي من يحدثك عن أطعمة الصراع‪.‬‬
‫االعتدال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن االعتدال‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد سمعت بعض إخوانكم من تالميذ الماكروبيوتيك ينفرون منا‪ ،‬ويزعمون أننا من أغذية اليانج المتطرفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت بهذا‪ ..‬ولو أني لم أفهم ما يقصدون‪.‬‬
‫قال‪ :‬ستلقاهم في أدوية األرض ليشرحوا لك مقصودهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هم مصيبون أم مخطئون؟‬
‫قال‪ :‬هم مصيبون ومخطئون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬إن أرادوا ما يفعله قومك من التعامل معنا‪ ،‬فهم مصيبون كل اإلصابة‪ ،‬وإن أرادوا م ا يفعل ه الص الحون‪ ،‬فهم‬
‫مخطئون كل الخطأ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفعل واحد يتعاقب عليه الصواب والخطأ؟‬
‫قال‪ :‬إذا أكلونا باسم هللا‪ ،‬وباعتدال ال إسراف في ه وال غل و‪ ،‬فنحن من الطع ام المب ارك‪ ..‬ألم يجعلن ا هللا من أطعم ة‬
‫ط ْي ٍر ِم َّما َي ْش َتهُونَ ﴾‬ ‫أهل الجنة اللذيذة‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬و َأ ْم َد ْدنَاه ُْم ِب َفا ِك َه ٍة َو َل ٍ‬
‫حْم ِم َّما َي ْش َتهُونَ ﴾ (الطور‪ ،)22 :‬وق ال تع الى‪َ ﴿:‬و َل ِ‬
‫حْم َ‬
‫(الواقعة‪)21:‬‬
‫وأخبر ‪ ‬بأننا سادة الطعام‪ ،‬فقال‪ (:‬سيد طع ام أه ل ال دنيا‪ ،‬وأه ل الجن ة اللحم)(‪ ،)2‬وق ال‪ (:‬خ ير اإلدام في ال دنيا‬
‫واآلخرة اللحم)(‪)3‬‬
‫وقد عرف األولياء فض لنا‪ ،‬فق ال علي بن أبي ط الب‪ (:‬كل وا اللحم فإن ة يص في الل ون ويخمص البطن‪ ،‬ويحس ن‬
‫الخلق)‪ ،‬وكان يقول‪ (:‬من تركه أربعين ليلة ساء خلقه)‬
‫قلت‪ :‬وهل يخطئ قومي في التعامل معكم؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد أطعمنا هللا قضبا(‪ )4‬وأبا‪ ،‬فأطعمنا سموما‪ ..‬فذهب ذلك بعقولنا‪ ،‬ويوشك أن يذهب بعقولكم‪.‬‬

‫‪ )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(3‬ابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(4‬القضب الوارد في قوله تعالى‪  :‬فَأ َ ْنبَ ْتنَا فِيهَا َحبّا ً َو ِعنَبا ً َوقَضْ باً﴾(عبس‪ 27:‬ـ ‪)28‬هو ـ كما قال ذلك ابن عباس ـ الفصفصة التي تأكله ا ال دواب رطب ة‪،‬‬
‫ويقال لها القت أيضاً‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫قلت‪ :‬ما األب؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬األب هو فاكهتنا‪ ..‬ألم تسمع قول ترجمان القرآن‪ :‬الفاكهة كل ما أكل رطبا‪ ،‬واألب ما أنبت األرض مما تأكل ه‬
‫الدواب وال يأكله الناس‪ ،‬وفي رواية عنه‪ :‬هو الحشيش للبهائم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل لك دليل من النص غير ما ذكرت من النقل؟‬
‫ام ُك ْم﴾(عبس‪ ..)32 :‬وإلي ك دليال آخ ر‪ ،‬ألم تس مع قول ه ‪ (:‬دواء‬ ‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬فقد قال تعالى بعدها‪َ ﴿:‬متَاعاً َل ُك ْم وَأِل َ ْن َع ِ‬
‫عرق النسا(‪ )1‬ألية شاة أعرابية تذاب‪ ،‬ثم تجزأ ثالث ة أج زاء‪ ،‬ثم يش رب على الري ق فى ك ل ي وم ج زء)‪ ..‬أال تالح ظ أن‬
‫رسول هللا ‪ ‬عين شاة أعرابية؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وأنا متعجب من سر هذا التخصيص‪.‬‬
‫ُ‬
‫دارها‪ ،‬ولط ف‬ ‫وص غر مق ِ‬ ‫يين الش ا ِة األعرابي ِة ل ِقل ة فض و ِلها‪ِ ،‬‬
‫قال‪ :‬لق د ذك ر بعض هم عل ة ذل ك‪ ،‬فق ال‪ (:‬وفى تع ِ‬
‫َّ‬
‫ات إذا تغ ذى به ا‬‫يح‪ ،‬وال َقيْصُوم‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬وهذه النبات ُ‬ ‫أعشاب ال َبرِّ الحارةَ‪ ،‬كال ِّش ِ‬ ‫َ‬ ‫جوهرها‪ ،‬وخاصيَّة مرعاها ألنها ترعى‬
‫طفَ منها‪ ،‬وال سيما األلية)‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫طبعها بعد أن يُ َلط َفها تغذي ًة بها‪ ،‬ويُكس َبها مزاجا أل َ‬ ‫الحيوانُ ‪ ،‬صار فى لحمه من ِ‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذ‪ ..‬ولكن هل يخالف قومي هذا؟‬
‫قال‪ :‬ستذهب إلى تالميذ الماكروبيتويك ليخبروك ما يطعمنا قومك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهم صادقون في هذا إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل الصدق‪ ..‬وال جناح عليكم أن تتبعوهم في هذا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنحرم ما أحل هللا؟‬
‫قال‪ :‬إذا صارت لحومنا سموما لم يبق خالف في حرمتها‪ ..‬أال تعرف الجاللة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد علمت تحريمها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفي ذلك دليل على أن الحرمة لها عالقة كبيرة بنوع غذائنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن فقهاء قومي يكتفون بذبحكم على الطريقة اإلسالمية‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال ينبغي أن يكتفوا بذلك‪ ..‬بل ينبغي أن يذهبوا إلى المراعي‪ ..‬ليرونا هل نأكل على الطريقة اإلسالمية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل في األكل طريقة إسالمية؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد خلقنا هللا نأكل حشيشا ال سموما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد سمعت بعض السلف ينهى عنك‪..‬‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬ولكنه ال يحرم ما أحل هللا‪ ..‬وإنما ينهى عن المبالغة فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬فمع أن للحم فوائده الصحية‪ ،‬باعتباره مصدرا مهما من مص ادر ال بروتين إال أن ه ينقلب نتيج ة‬
‫اإلسراف في تناوله إلى عواقب مضرة بالصحة‪ ..‬وأعرف من قومي من اعترته األدواء وفتكت به من أجل قرمه الش ديد‬
‫اللحم‪ ..‬فهو يأكله كما تأكله األسود والنمور‪.‬‬
‫قال‪ :‬أولئك هم القساة‪ ..‬فاحذر منهم‪ ..‬واحذر منهم‪ ..‬واحذر منهم‪..‬‬
‫وبقي يرددها إلى أن غاب في األفق البعيد‪.‬‬

‫خلف على الفخذ‪ ،‬وربما على الكعب‪ ،‬وكلما طالت مدتُه‪ ،‬زاد نزولُه‪ ،‬وتُه زَ ُل مع ه الرج ُل‬
‫ٍ‬ ‫الو ِرك‪ ،‬وينزل ِمن‬
‫صل َ‬‫ق النَّ َساء‪ :‬وج ٌع يبتدى ُء ِمن َم ْف ِ‬
‫ِعرْ ُ‬ ‫‪)(1‬‬
‫والفَ ِخ ُذ‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫رابعا ـ مشافي البركة‬
‫لست أدري‪ ،‬هل استفقت من حلم جميل‪ ،‬أم أنني رحلت حقيقة إلى تلك العوالم الجميلة‪ ..‬ولكني عدت ألرى متوسم‬
‫الغذاء بجانبي‪ ،‬وقد رفع يده عن صدري‪ ،‬وهو يقول‪ :‬كيف استقبلتك؟‪ ..‬وهل علمتك؟‬
‫قلت‪ :‬نعم االستقبال‪ ..‬وخير التعليم‪ ..‬فبورك فيها‪ ..‬فما أعظم أدبها‪ ..‬وما أكثر علومها‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل أكوان هللا تنعم بما رأيت من أدب‪ ،‬ألنها ال تعرف الصراع‪ ..‬وألن قلوبها ال تزال على الفطرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن سر رحلتي‪ ..‬أهي حلم جميل حلمته؟‪ ..‬أم هي‪..‬‬
‫قال‪ :‬دعك من هذه األسئلة‪ ..‬فال ينبغي أن تسأل عما ال تطيق فهمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فقد عرفت نفسي‪ ..‬ومن عرف نفسه تواضع وتذلل‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال بأس عليك‪ ..‬فستكمل رحلتك في مدرسة السالم‪ ..‬لتفقه هذا وغيره‪ ..‬فال تعجل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واآلن‪ ..‬لم يبق لي من هذا القسم إال مشافي البركة‪ ،‬فكيف أزورها؟‬
‫دخل معلم البركة‪ ،‬وهو يقول‪ :‬هيا‪ ..‬فمشافي البركة تنتظرك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل سنذهب إلى المشافي‪ ..‬فإني متلهف لزيارتها؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪..‬‬
‫خرجنا من مخزن الغذاء‪ ..‬وكانت عيني تتلفت إلى أنواع األغذية المباركة‪ ،‬فتراها تبتسم وتودع ني‪ ،‬وكنت أبادله ا‬
‫كل ذلك‪ ..‬وقد حمدت هللا على أني لم أكن في أرض الصراع‪ ،‬فلو قمت بمث ل ذل ك فيه ا ل رمي عقلي‪ ،‬ولرم اني األطف ال‬
‫بالحارة‪.‬‬
‫فجأة رأيت مبنى جميل قد كتب عليه قوله ‪ (:‬إن هللا تعالى لم ينزل داء إال أنزل له الشفاء إال الهرم)(‪)1‬‬
‫دخلنا المشفى المختص باألدوية المباركة‪ ،‬فرأيت أنواعا كثيرة من األدوية المحفوظة كم ا هي من غ ير أي تب ديل‬
‫أو تغيير فيها‪.‬‬
‫قلت لمعلم البركة‪ :‬أال تستخلصون من أدوية البركة ما ترونه من أنواع العالج؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ألم تعلم بأنا نتعامل مع الدواء كما نتعامل مع الكائن الحي‪ ..‬ولذلك نرى أن كل تغيير له قد يؤدي إلى قتل ه‬
‫ونزع البركة منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فائدة وجود الخبراء إذن‪ ..‬وما الفرق بينهم وبين العامة؟‬
‫قال‪ :‬فائدة الخبراء هو البحث عن أسرار الشفاء في األلوان واألصناف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم قصدك‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال بما يخرج من بطون النحل‪.‬‬
‫ال بُيُوت اً‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫وْحى َربُّكَ ِإلى النحْ ِل أ ِن ات ِخ ِذي ِمنَ ال ِج َب ِ‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬تقصد العسل‪ ..‬لقد أخبر هللا تعالى أنه شفاء‪ ،‬فقال تع الى‪َ ﴿:‬وأ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ال َي ْخرُجُ ِمن بُطو ِن َها َش َرابٌ ُمخ َت ِل ف أل َوان هُ ِفي ِه ِش فا ٌء‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ت َفاسْ لُ ِكي ُسب َُل َرب ِِّك ُذلُ ً‬‫عْر ُشونَ ثُ َّم ُك ِلي ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬ ‫َو ِمنَ ال َّش َج ِر َو ِم َّما َي ِ‬
‫وْم َي َت َف َّكرُونَ ﴾(النحل‪)69:‬‬ ‫اس ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ آَل َي ًة ِل َق ٍ‬
‫ِللنَّ ِ‬
‫قال‪ :‬لقد ذكر هللا تعالى في هاتين اآليتين اعتبار ما يخرج من بطون النحل شفاء مطلقا‪ ..‬وه و ي دل على أن ه ش فاء‬
‫من كل داء‪ ..‬ولكنه حدد مواصفات لذلك يكمن في البحث عنها دور الخبراء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مثل ماذا؟‬
‫قال‪ :‬فقد ذكر المواطن التي ينبغي أن تعيش فيها النحل‪ ..‬والمآكل التي ينبغي أن تأكلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا عالقة بالشفاء؟‬
‫ت﴾‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألم يقل هللا تعالى لها‪ ﴿:‬ث َّم ك ِلي ِم ْن كلِّ الث َم َرا ِ‬
‫قلت‪ :‬إن من قومي من يطعمونها السكر‪..‬‬

‫‪ )(1‬الحاكم وقال صحيح ووافقه الذهبي‪.‬‬


‫‪135‬‬
‫قال‪ :‬أيريدون أن يجنو من الشوك العنب‪ ..‬إن النحل ال يعطي إال ما يأخذ‪ ..‬فه ل تعطي ه مزيف ا‪ ،‬وتري د أن يعطي ك‬
‫خالصا؟‬
‫قلت‪ :‬فكيف يتعامل العلماء هنا مع هذا الشرط؟‬
‫قال‪ :‬لقد جعلوا في مخابر التجريب ثمرات مختلفة جلبوها من أنحاء الع الم‪ ،‬ثم جرب وا ت أثير تغذي ة النح ل به ا في‬
‫نوع العسل‪ ،‬ثم جربوه على المرضى باألمراض المختلفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل رأوا تأثير ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد حددوا لكل مرض من األمراض نوعا خاصا‪ ..‬ومدة استعمال خاصة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأصحاب الصيدليات عندكم ماذا يفعلون؟‬
‫قال‪ :‬هم يربون األنواع المختلفة ليعالجوا بها األدواء المختلفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالصيادلة عندكم مربو نحل؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ليسوا مربو نحل فقط‪ ..‬بل هناك أدوية أخرى‪ ..‬ستراها‪ ..‬وما ذكرته لك مجرد مثال‪.‬‬
‫قلت‪..:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف أل َوانُهُ ﴾‪ ،‬فلم يسم ما يخرج من بطونها عس ال‪..‬‬ ‫ُ‬
‫قال‪ :‬وهللا تعالى ذكر في اآلية أنه ﴿ َي ْخرُجُ ِم ْن بُطو ِن َها َش َرابٌ ُم ْخ َت ِل ٌ‬
‫وفي ذلك داللة على أن العالج يشمل كل ما يخرج من بطونها سواء كان عسال أو غيره‪.‬‬
‫قلت‪..:‬‬
‫قال‪ :‬ثم ذكر األلوان المختلفة‪ ،‬وهو دليل على أن لها تأثيرا في الشفاء‪ ..‬وفي انواع الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت هذا ووعيته‪ ..‬فكيف نتعرف على مشافي البركة؟‬
‫قال‪ :‬سترحل إليها كما رحلت في مخزن البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأين متوسم البركة ليضع يده على صدري‪.‬‬
‫ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬ال‪ ..‬لن تحتاج إلى ذل ك‪ ..‬تل ك ك انت البداي ة‪ ..‬وكنت تحت اج إلى م دد من البرك ات‪ ..‬أم ا آلن‪ ..‬فق د‬
‫صارت لك القدرة بحمد هللا على سماع أصوات الكائنات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا أفعل حتى أسمع أصواتها‪.‬‬
‫قال‪ :‬تعال‪ ..‬اجلس‪ ..‬واسترخ تحت ظ ل ه ذه الش جرة المبارك ة‪ ..‬وس تأتيك أن واع األدوي ة المبارك ة لتخ برك عن‬
‫بركاتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأنت‪..‬‬
‫قال‪ :‬ستجدني بجانبك‪ ..‬كلما احتجت إلي‪..‬‬
‫العسل‬
‫كان المكان جميال‪ ،‬تفوح فيه الروائح العطرة‪ ،‬وتغرد بجانبه أصوات العنادل‪ ،‬وكان البس اط ال ذي اتك أت علي ه ال‬
‫يختلف عن بساط الريح الذي سمعت حديثه في األساطير‪ ،‬فقد كان يرفرف بي‪ ،‬وكأني أسبح في النسيم العليل‪.‬‬
‫فجأة طنت بجانب أذني نحلة‪ ،‬فاهتززت لطنينها‪ ،‬وحملت يدي أري د أن أبطش به ا‪ ،‬فص احت‪ :‬م ا ال ذي تفعل ه ي ا‬
‫رجل؟‬
‫قلت‪ :‬من الذي أرسلك إلي لتكدير صفوي؟‬
‫قالت‪ :‬أنا لم يرسلني هللا ألكدر صفو أحد‪ ،‬بل أرسلني لمداواة اآلالم وغسل الجراح‪ ..‬أرس لني ألبعث االبتس امة في‬
‫الحناجر المملوءة أنينا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا أمرك أن تتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر‪ ،‬ولم يرسلك إلى جلدي وأذني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬أنا كلي عالج حتى قرصتي التي تخاف منها دواء وشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قرصك يؤلمني‪ ..‬وقبل ذلك يخيفني‪.‬‬
‫ق الت‪ :‬ولكن ه يش فيك ويعافي ك‪ ..‬ق ل لي‪ :‬أيهم ا أعظم برك ة‪ :‬تل ك الحقن ة ال تي تملؤونه ا س موما‪ ،‬ثم تحقن ون به ا‬

‫‪136‬‬
‫أجسادكم‪ ،‬أو قرصتي المباركة التي تفوح بأنوار الشفاء‪ ،‬وبركات العافية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أستطيع أن أجيبك اآلن‪ ..‬فأنا لم أجلس هذا المجلس ألتحدث‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلم جلست إذن؟‬
‫قلت‪ :‬جلست كما يجلس المتوسمون ألسمع بركات الشفاء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ومن يعلمك بركات الشفاء؟‬
‫قلت‪ :‬اسكتي‪ ..‬ألم تعلمي بأن هللا رزقني سماع أصوات الكائنات؟‪ ..‬وق د س معت في مخ زن األغذي ة المبارك ة م ا‬
‫ينقضي دونه العجب‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وماذا تريد أن تسمع هنا؟‬
‫قلت‪ :‬أريد أن أسمع أصوات األدوية المباركة‪ ،‬وقد كدت أسمعها لوال أن جئت لتكدري صفوي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا لم آت ألكدر ص فوك‪ ..‬ب ل أن ا رس ول معلم البرك ة إلي ك ألعرف ك على مص انع الش فاء ال تي كلف ني هللا‬
‫بإدراتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت لم تأتي إلي صدفة إذن‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال وجود للصدفة في الكون ألم تقرأ ( أسرار األقدار)؟‬
‫قلت‪ :‬لم أرحل إليها بعد‪ ،‬فتلك في المرحلة الجامعية‪ ،‬وأنا ال أزال تلميذا في المدرسة االبتدائية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إذن سأحاول أن أبسط في حديثي معك بقدر اإلمكان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هل تحتقرين كفاءتي لهذه الدرجة؟‬
‫قالت‪ :‬أنا ال أحتقرك‪ ،‬ولكني نهيت أن أحدث الناس على خالف ما تستطيعه عقولهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن أسرار بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سأبدأ بالشراب المبارك‪ ،‬والذي تسمونه العسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل هناك غيره؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وسنرجئ الحديث عنه إلى آخر الجلسة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن العسل‪.‬‬
‫بركات التكوين‪:‬‬
‫قالت‪ :‬يتركب العسل من مواد مختلفة كلها بركات‪ ..‬أولها م ا تس مونه الغلوك وز‪ ،‬أو س كر العنب‪ ،‬وه و يوج د في‬
‫بنسبة ‪ 75‬بالمائة‪ ..‬وأساس اختياري لهذا النوع من السكر هو أنه السكر األساسي ال ذي تس مح ج دران األمع اء بم روره‬
‫إلى الدم‪ ..‬على عكس بقية األنواع من الس كاكر‪ ،‬وخاص ة الس كر األبيض المع روف بس كر القص ب‪ ،‬وال ذي يتطلب من‬
‫جهازكم الهضمي إجراء عمليات متعددة من التفاعالت الكيماوية‪ ،‬واالس تقالبات األساس ية‪ ،‬ح تى تتم عملي ة تحويل ه إلى‬
‫سكاكر بسيطة أحادية كالغلوكوز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت تستعملين هذا كمسوغ إذن‪..‬‬
‫ق الت‪ :‬ال‪ ..‬ال أس تعمله مس وغا فق ط‪ ..‬أال تعلم أن عس لي غ ذاء وش فاء‪ ..‬فس كري ال ذي ح دثتك عن ه ليس س هل‬
‫االمتصاص فقط‪ ،‬بل هو باإلضافة إلى ذلك سهل االدخار‪ ..‬فه و يتج ه بع د االمتص اص مباش رة إلى الكب د‪ ،‬ليتح ول إلى‬
‫غلوكوجين‪ ،‬يتم ادخاره فيه لحين الحاجة‪ ..‬فإن دعت الضرورة الستخدامه يعاد إلى أصله ليسير مع ال دم‪ ،‬فيغ ذي الجس م‬
‫بما يحتاج من طاقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مهما يكن‪ ،‬فإن ما لدينا من السكر يغني عن سكرك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تقل هذا‪ ..‬فال يمكن لك أن تقارن سكري بما لديكم من السكر‪ ..‬فتمث ل س كري في الجس م س هل وس ريع‪..‬‬
‫وال يض ر س كري الكلى‪ ،‬وال يس بب تل ف أنس جتها‪ ..‬وي زود س كري ب أعظم وح دات النش اط بأق ل ص دمة للجه از‬
‫الهضمي(‪ ..)1‬وال يسبب أي اضطرابات في األغشية الرقيقة للقناة الهضمية‪.‬‬
‫ال من أي مادة حلوة ثانية ال يحدث أي ضرر للجسم‪ ،‬بل تج د أن‬ ‫وفوق ذلك‪ ،‬فإن تناول كميات كبيرة من عسلي بد ً‬

‫‪ )(1‬من المالحظ أن القيمة الحرارية للعسل مرتفعة جداً‪ ،‬الحتوائه على الغلوكوز‪ ..‬و قد ثبت أن كيلوغراما ً واحداً من العسل يعطي ‪3150‬حريرة‪.‬‬
‫‪137‬‬
‫النفع منه أكيد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذا المكون من مكونات العسل‪ ..‬فحدثيني عن سائر المكونات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬عسلي يتكون من م واد كث يرة‪ ،‬منه ا م ا ع رف‪ ،‬ومنه ا م ا ال ي زال في طي النس يان‪ ،‬فمم ا ع رف‪ :‬بعض‬
‫األحماض العضوية وكمية قليلة من البروتينيات‪ ،‬وكمية ال بأس بها من الخمائر الضرورية لتنش يط تف اعالت االس تقالل‬
‫في الجسم‪ ،‬وتمثيل الغذاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما هذه الخمائر؟‪ ..‬وما فائدتها؟‬
‫قالت‪ :‬منها خميرة األميالز‪ ،‬وهي الخميرة التي تحول النشاء الذي في الخبز ومختل ف الم واد النش وية‪ ،‬إلى س كر‬
‫عنب‪ ..‬ومنها خميرة األنفزتاز‪ :‬وهي التي تحول سكر القصب إلى س كاكر أحادي ة يمكن امتصاص ها في الجس م‪ ..‬ومنه ا‬
‫خميرتا الكاتاالز والبيروكسيداز‪ :‬وهما ضروريتان في عمليات األكسدة واإلرجاع التي في الجسم‪ ..‬ومنها خميرة الليب از‪:‬‬
‫وهي الخاصة بهضم الدسم والمواد الشحمية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬بورك في خمائرك‪ ..‬فحدثيني عن أمالحكم‪ ،‬فإني أعلم ما لها من تأثير على الصحة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أمالح عسلي المعدنية قليلة‪ ،‬فهي تشكل نسبة ‪ 0.018‬بالمائة من مكوناته‪ ،‬وعلى ال رغم من ض آلة نس بتها‪،‬‬
‫فإن لها أهمية كبرى‪ ،‬بحيث تجعل العسل غذاء ذا تفاعل قلوي‪ ..‬مقاوماً للحموضة‪ ..‬وله أهمية كبرى في معالجة أمراض‬
‫الجهاز الهضمي المترافقة بزيادة كبيرة في الحموضة والقرحة‪.‬‬
‫ومن أهم العناصر المعدنية التي في العسل‪ :‬البوتاسيوم والكبريت والكالسيوم والصوديوم والفوس فور والمنغزي وم‬
‫والحديد والمنغنيز‪ ..‬وكلها عناصر معدنية ضرورية لعملية بناء أنسجة الجسم اإلنساني وتركيبها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والفيتامنيات تلك المركبات المملوءة بأسرار الحياة؟‬
‫قالت‪ :‬في عسلي كميات قليلة من الفيتامينات التي لها وظائف حيوية مهمة‪ :‬فمنها فيت امين ب‪ ،1‬ول ه دور أساس ي‬
‫في عمليات التمثيل الغذائي داخل الجسم‪ ،‬وال سيما بالنسبة للجملة العصبية‪ ..‬ومنها فيتامين ب ‪ ،2‬وهو ي دخل في ت ركيب‬
‫الخمائر المختلفة التي تفرزها الغدد في الجسم‪ ..‬ومنها فيتامين ب‪ 3‬وهو فيتامين مضاد اللتهابات الجد‪ ..‬ومنها فيت امين ب‬
‫‪ ،5‬ومنها فيتامين بث‪ :‬المضاد النزيف‪ ..‬ومنه ا فيت امين ج‪ :‬بنس بة ‪ 50‬مل غ لك ل كيل وغرام ول ه دوره في مناع ة الجس م‬
‫ومقاومته لألمراض‪ ..‬ومنها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ومم يتكون عسلك أيضا؟‬
‫قالت‪ :‬من حبيبات غروية وزيوت طيارة‪ ،‬تعطيه رائحة وطعماً خاصاً‪ ..‬ومنها مواد ملونة تعطيه لونه الجميل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا ما تتركبين منه‪ ..‬إن كل ما ذكرت يوجد في سائر األغذية‪ ..‬وقد يوجد بكميات أوفر‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬توجد مكونات أخرى لم تعرفوها‪ ..‬ولعلك لم تستوعب ما قال لك معلم البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما قال؟‬
‫قالت‪ :‬ألم يقل لك‪ :‬إن الشأن ليس في المكونات‪ ،‬بل الشأن في البركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬أال تجد في المعارك الجندي القصير النحيف يصول ويجول‪ ،‬بينما يرتد على عقبه الرجل العمالق الضخم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صحيح هذا‪ ..‬وقد قال الشاعر فيه‪:‬‬
‫وفي أثوابِه أسد مزي ُر‬ ‫الرجل النحيفَ فتزدريه‬
‫َ‬ ‫ترى‬
‫فيخلفُ ظن َ‬
‫ك الرج ُل الطري ُر‬ ‫ويعجبُكَ الطري ُر فتبتليه‬
‫ولكن فَ ْخ ُرهُ ْم َك َر ٌم و َخ ْي ُر‬ ‫بفخر‬
‫ٍ‬ ‫فما ع ْ‬
‫ُظ ُم الرجا ِل لهم‬
‫بالعظم البعي ُر‬
‫ِ‬ ‫فلم يستغ ِن‬ ‫ب‬
‫بغير ل ٍ‬
‫ِ‬ ‫لقد عَظ َم البعي ُر‬
‫ويحب ُسهُ على الخَ س ِ‬
‫ْف الجرير‬ ‫الصبي بك ِّل وج ٍه‬
‫ُّ‬ ‫يصرِّفهُ‬

‫‪138‬‬
‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫قالت‪ :‬أما إن قلت هذا‪ ..‬فقد جعلني هللا جنديا من جندي الشفاء‪ ..‬وشرفني بما لم يشرف به أحدا من مص انع الش فاء‬
‫التي تفخرون بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وبم شرفك؟‬
‫قالت‪ :‬ألم تسمع ما ورد في من القرآن الكريم؟‬
‫ُ‬
‫عْر ُش ونَ ث َّم ُك ِلي ِم ْن‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ال بُيُوتا َو ِمنَ الش َج ِر َو ِم َّما َي ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وْحى َربُّكَ ِإ َلى النَّحْ ِل أ ِن اتَّ ِخ ِذي ِمنَ ال ِج َب ِ‬ ‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قال تعالى‪َ ﴿:‬و َأ َ‬
‫ف َأ ْل َوانُ هُ ِفي ِه ِش َفا ٌء ِللنَّ ِ‬
‫اس ِإ َّن ِفي َذ ِل كَ آَل َي ًة ِل َق ٍ‬
‫وْم َي َت َف َّكرُونَ ﴾‬ ‫طو ِن َها َش َرابٌ ُم ْخ َت ِل ٌ‬ ‫ال َي ْخرُجُ ِم ْن بُ ُ‬ ‫ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ت َفاسْ لُ ِكي ُسب َُل َرب ِِّك ُذلُ ً‬
‫(النحل‪)69:‬‬
‫قالت‪ :‬إن أول ما شرفني به هو الوحي الذي تمتلئ به جوارحي وكياني‪ ،‬فتراني أرقص جذلة‪ ،‬وأنا أستمع إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن قومي يفسرون الوحي الوارد في اآلية باإللهام والهداية واإلرشاد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أي إلهام يقصدون؟‬
‫قلت‪ :‬اإللهام الغريزي‪..‬‬
‫قالت‪ :‬أتعني أني ال أسمع شيئا‪ ..‬وال أشعر بشيء إال أني أتحرك حركات آلية كحركات مصانعكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا ما يقصدون‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بئس ما يقولون‪..‬فليسلبوني من حياتي خير لي من أن يقولوا عني هذا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تسمعين الوحي حقيقة؟‬
‫قالت‪ :‬أس معه وأعيش ه وأط رب ل ه‪ ..‬وال أحس ب أن عس لي إال ثم رة مبارك ة من ثم اره‪ ..‬إن عس لي ملقح بن ور‬
‫الوحي‪ ..‬مطعم بجمال اإلرشاد الرباني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما بالك غضبت هكذا؟‬
‫قالت‪ :‬كيف ال أغضب‪ ..‬وأنتم تسلبونني أخص خصوصياتي‪ ..‬أرأيت لو أن أحدهم رمى حرك اتكم باآللي ة‪ ،‬ورمي‬
‫جهودكم بالجبرية‪ ..‬أترضون بذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ال نرضى‪ ..‬بل تأخذنا الحمية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فكيف تريدون مني أن ال أغضب؟‬
‫قالت‪ :‬أنت مجرد نحلة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أفيك رائحة من روائح إبليس الذي تاه بناره على طينكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬معاذ هللا‪.‬‬
‫ُوض ًة َف َما َفوْ َق َها﴾(البقرة‪ ،)26 :‬وقال‬ ‫ال َما َبع َ‬ ‫ب َم َث ً‬ ‫قالت‪ :‬فلم تقول هذا إذن‪ ،‬وقد قال تعالى‪ِ ﴿:‬إ َّن هَّللا َ ال َيسْ تَحْ ِيي َأ ْن َي ِ‬
‫ضْر َ‬
‫َاح ْي ِه ِإاَّل أُ َم ٌم َأ ْم َثالُ ُك ْم ﴾(األنعام‪)38 :‬‬ ‫ض َوال َ‬
‫طا ِئ ٍر َي ِطيرُ ِب َجن َ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬و َما ِم ْن دَابَّ ٍة ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫قلت‪ :‬سلمت لكالم ربي‪ ..‬فحدثيني عن أسرار الشفاء فيك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن بركات الوحي التي تمأل كي اني تتغلغ ل في جزيئ ات العس ل‪ ،‬فتملؤه ا بإكس ير الش فاء‪ ..‬فل ذلك ال يعج ز‬
‫إكسير شفائي عن أي داء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لدينا أدواء كثيرة تمأل مستشفياتنا‪ ..‬وال نرى لها من عالج‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلم لم تجربوا العسل‪ ..‬بل لم لم تداووا بالعسل‪ ..‬فقد جعله هللا شفاء لكل داء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لعلهم داووا به‪ ..‬فلم يفلح‪.‬‬
‫هّللا‬ ‫ً‬
‫قالت‪ :‬معاذ هللا‪ ..‬كالم هللا ال يتخلف‪ ..‬ألم تسمع ما ورد في الحديث أن رجال جاء إلى رس ول ‪ ‬فق ال‪ :‬إن أخي‬
‫ال‪ ،‬فم ا زاده اس تطالقاً‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬ثم جاء فقال‪ :‬يا رسول هّللا ‪ ،‬سقيته عس ً‬ ‫ال)‪ ،‬فذهب فسقاه عس ً‬ ‫استطلق بطنه‪ ،‬فقال ‪ (:‬اسقه عس ً‬
‫ال‪ ،‬ثم ج اء فق ال‪ :‬ي ا رس ول هّللا م ا زاده إال اس تطالقاً‪ ،‬فق ال رس ول هّللا ‪:‬‬ ‫ال)‪ ،‬فذهب فسقاه عس ً‬ ‫قال‪ (:‬اذهب فاسقه عس ً‬
‫ال فبرئ(‪.)1‬‬ ‫ال)‪ ،‬فذهب فسقاه عس ً‬ ‫( صدق هّللا وكذب بطن أخيك‪ ،‬اذهب فاسقه عس ً‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت هذا الحديث كثيرا‪ ،‬وسمعه قومي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سمعتموه‪ ،‬أم قرأتموه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعناه وقرأناه‪ ..‬وتكلمنا به‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فماذا وجدتم؟‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬أما القدماء‪ ،‬فقالوا‪ :‬كان لهذا الرجل فضالت‪ ،‬فلما سقاه عسال‪ ،‬وهو حار تحللت فأسرعت في االندفاع‪ ،‬فزاده‬
‫ال‪ ،‬فاعتقد األعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة ألخيه‪ ،‬ثم سقاه فازداد التحليل والدفع‪ ،‬ثم سقاه فلما اندفعت الفضالت‬ ‫إسها ً‬
‫الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه‪ ،‬وصلح مزاجه واندفعت األسقام واآلالم ببركة إشارته ‪.‬‬
‫أما المحدثون‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فقالو‪..:‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا ما تقصدين؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬أنتم لم تسمعوا الحديث بعد‪ ،‬بل اكتفيتم بقراءته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف هذا؟‬
‫قالت‪ :‬سماعه ـ الذي هو التحقق به ـ يدلكم على المنهج الذي تستعملون به العسل شفاء لكل داء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬أرأيت لو أن طبيبا غبيا من أطبائكم أجرى هذه التجربة على من استطلق بطنه‪ ،‬فسقاه عسال‪ ..‬ف رأى بطن ه‬
‫يزيد استطالقا ماذا سيفعل؟‬
‫قلت‪ :‬سيقدم دراسة تحذر المرضى من استعمال العسل‪ ..‬أو قد يوض ع في أواني العس ل‪ :‬ال يص لح اس تعماله لمن‬
‫يستطلق بطنه‪.‬‬
‫ف َأ ْل َوانُ هُ ِفي ِه ِش َفا ٌء ِللنَّ ِ‬
‫اس ﴾‬ ‫قال‪ :‬ولكن النبي ‪ ‬الذي أدرك م ا في قول ه تع الى‪َ ﴿:‬ي ْخ رُجُ ِم ْن بُ ُ‬
‫طو ِن َه ا َش َرابٌ ُم ْخ َت ِل ٌ‬
‫(النحل‪)69:‬أدرك أن الشفاء ال بد أن يتحق ق‪ ،‬ألن كالم هللا ال يتخل ف‪ ..‬ول ذلك ك ان ‪ ‬يق ول‪ (:‬عليكم بالش فاءين العس ل‬
‫والقرآن)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الخبراء عندنا يجربون(‪.)2‬‬
‫قالت‪ :‬هم يجربون بعض التجارب‪ ..‬ال كل التجارب‪ ..‬هم يجربون على الف ئران‪ ،‬والف ئران ليس ت بش را(‪ ..)3‬وهم‬
‫يجربون بلون من ألوان العسل‪ ،‬والعسل ألوان متعددة‪ ..‬وهم يجرب ون بعس ل مس تنتج من غ ذاء معين‪ ،‬واألغذي ة كث يرة‪،‬‬
‫ووفق ذلك يجربون ذلك بكميات معينة ومدد محددة‪..‬‬
‫أجبني‪ :‬أال يتطلب وصول تأثير بعض األدوية عندكم شهورا؟‬
‫قلت‪ :‬من األدوية ما يحتاج استعماله سنوات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فكيف تطلبون من ملعقة عسل واحدة أن تقضي على جميع عللكم‪ ..‬وبين عشية وضحاها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل ما ذكرته صحيح‪ ..‬ولكنه ليس سوى استنتاجات‪ ..‬ال حقائق‪ ..‬ونحن ال نسلم إال للحق ائق ال تي دلت عليه ا‬
‫‪ )(1‬ابن ماجه‪.‬‬
‫‪ )(2‬البحوث الحديثة ال تزال تجد كل يوم جديدا في العسل‪ ...‬وكمثال على التطورات المتعلقة باستعمال العسل كمضاد حيوي أنه في س نه ‪ 1937‬أظه ر‬
‫دولد في بحثه مفعول العسل كمضاد حيوي على سبعة عشر نوعا من مختلف الميكروبات‪ ...‬وفي سنه ‪ 1944‬ناقش بالكي محتويات العسل التي ق د يك ون له ا‬
‫مفعول المضاد الحيوي‪ ...‬وفي سنه ‪ 1956‬استخلص فوجل مكونات العسل‪ ،‬بواسطة عدة مذيبات وتوصل إلى إن الم واد القاتل ة للميكروب ات في ه موج ودة في‬
‫المواد القابلة للذوبان في األثير‪ ...‬وفي سنه ‪ 1958‬وجدت الدراسات أن المضاد الحيوي في العسل ليس في الخمائر الموجودة فيه‪ ،‬وفي سنة ‪ 1958‬أيضا وجد‬
‫ورنك أن العسل المخفف له نفس المفعول كمضاد حيوي وانه قد يكون ذلك بسبب خميرة االنفرتيز بالعسل‪ ....‬وفي سنه ‪ 1960‬قال س تومغاري أن تل ك الم ادة‬
‫في العسل غ ير معروف ة ون اقش ك ل من ستنس ون س نة ‪ 1960‬وجوناش ن س نة ‪ 1963‬الم ادة القاتل ة للميكروب ات بالعس ل‪ ،‬وافترض وا أن تك ون في ح امض‬
‫الجليكونيك أو في فوق اكسيد الهيدروجين‪ ...‬وفي سنه‪ -1970‬وجد كافاناج في دراسة على مريضة عملت له ا عملي ات استئص ال ال رحم أن اس تعمال العس ل‬
‫موضعيا على الجرح يجعله خاليا من الميكروبات بين ‪ 3‬إلي ‪ 6‬أيام فقط‪ ،‬وان االلتئام يحدث بعد أسبوعين في المتوسط‪.‬‬
‫‪ )(3‬في الطب المتداول تتم تجربة الدواء على الحيوانات بحقنها بمواد تصيبها بالمرض‪ ،‬ثم تحقن بالدواء لمعرفة مدى فعاليت ه‪ .‬بع د ذل ك يط رح ال دواء‬
‫الجديد في السوق‪ .‬وهذه طريقة ناقصة إن لم تكن خطا تماماً‪ .‬فالحيوانات تختلف فزيولوجيا ً عن اإلنسان‪ ،‬كما أنها ال تستطيع الكالم لتخبرنا عم ا تحس ب ه عن د‬
‫أخذ الدواء‪ .‬وقد وجد أن الفئران‪ ،‬وهي من أهم الحيوانات وأكثرها استعماالً في هذا المجال‪ ،‬تتأثر بالمواد ال تي تحقن به ا بدرج ة تختل ف كث يراً ج داً عن ت أثر‬
‫ألن أثره العالجي على اإلنسان سيكون مختلفا ً‪ .‬هذا‬‫اإلنسان بها‪ .‬وهذا يعني أن ما يحسبه المصنعون فتحا جديداً في عالج المرض الفالني ال يعدو كونه وهما‪ّ ،‬‬
‫ناهيك عن اآلثار الجانبية التي ستكون مختلفة هي األخرى‪ .‬انظر‪ :‬الطب البديل‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫التجارب‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أما إن قلت هذا‪ ..‬فسأدلك على رجل من أهل هللا‪ ..‬استطاع أن يعالج بعس لي بعض األدواء ال تي تمأل قل وبكم‬
‫بالمخافة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من؟‬
‫قالت‪ :‬ها هو ذا أمامك‪.‬‬
‫التفت‪ ،‬فرأيت صاحب لحية طويلة‪ ،‬يظهر من هندامه أن ه بعي د ك ل البع د عن الحض ارة وم ا ت تزين ب ه‪ ،‬ق ال لي‬
‫مفاجئا‪ :‬ال تنظر إلى لحيتي وثيابي‪..‬فاإلنسان ليس لحية وال ثيابا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬زعمت هذه النحلة أنك قد توصلت إلى عالج األدواء الخطيرة بالعسل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أنا أعيش في أدغال إفريقية‪ ..‬وقد أصاب بعض إخواني هذا الداء الخطير الذي تسمونه فق دان المناع ة‬
‫المكتس بة‪ ..‬وق د ك ان عفيف ا ط اهرا‪ ..‬ولكن بعض المج رمين من ذوي البش رة البيض اء حقن وه ب ه‪ ،‬وهم يزعم ون أنهم‬
‫يعالجونه أللم أصاب ضرسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فعلت؟‬
‫قال‪ :‬لقد سمعت ما أوحى هللا تعالى به إلى النحل‪ ..‬فرحت إلى بعض األدغال‪ ،‬وأخذت أجرب األنواع المختلفة من‬
‫العسل‪ ..‬وبالمقادير المختلفة إلى أن وصلت إلى التركيبة التي ال يقوم لهذا المرض معها قائمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم لم تكتف بشراء العسل بدل إرهاق نفسك بالذهاب إلى األدغال؟‬
‫قال‪ :‬فعلت ذلك لسببين‪ ..‬أما أحدهما‪ ،‬فلعدم ثقتي فيما يباع من عسل‪ ..‬فهم يطعمونه سمومهم‪ ،‬وأما الث اني‪ ،‬فليقي ني‬
‫أن العسل ابن ما يأكله كما أن الدواء ابن العناصر التي يتكون منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أن النحل مصنع من مصانع الدواء؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬هو مصنع يقوم بتحليل ما يأكله ليصنع منه إكسير العالج‪ ..‬فلذلك تختلف أنواع العسل ب اختالف تغذي ة‬
‫النحل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فنلرجع إلى أخيك‪ ..‬فهل شفي؟‬
‫قال‪ :‬شفي شفاء تاما بحمد هللا‪ ..‬وقد أجرى له بعض المتوسمين تحاليل خاصة‪ ،‬فوجده قد ع وفي عافي ة تام ة‪ ..‬ب ل‬
‫اكتسب فوق ذلك من الصحة ما كان غائبا عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل عدت وجربيته على غيره؟‬
‫قال‪ :‬جربته على كثيرين‪ ..‬وكلهم بحمد هللا شفوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تصف لي نوع التركيبة العسلية التي استخدمتها‪ ..‬أم أنك تحتفظ بها سرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬انا ال أحتفظ بها‪ ..‬ومعاذا هللا أن أكتم ما علمني هللا‪ ..‬ولكنه لم يؤذن لي في نشرها في الوقت الحالي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬لقد جعل هللا هذا الداء من األدواء التي نزلت عقوبة على عباده بسبب إف راطهم في االنح راف‪ ..‬ولم ي أذن هللا‬
‫لهذه العقوبة أن ترفع بعد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل نسكت عن البحث عن عالجها؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ابحثوا كما تشاءون‪ ..‬وستجدون قريبا دواءه ا‪ ..‬وس تجدون للعس ل من ذل ك لح ظ األوفى‪ ..‬ولكن اعلم وا‬
‫أنكم ستبتلون بغير هذا الداء‪ ..‬ولعله أخطر منه إن ظللتم على هذا االنحراف‪ ..‬فهذه سنة هللا‪ ..‬وسنته ال تتخلف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل وجدت عالجا ألدواء أخرى؟‬
‫قال‪ :‬أنا اآلن بصدد البحث عن عالج يشفي من جميع أنواع السرطان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا مهم جدا‪ ..‬فهل توصلت إليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬توصلت إلى تركيبة عسلية تجعل من األورام الخبيثة أوراما طيبة ال تؤذي صاحبها‪ ..‬ولكني لم أكتف ب ذلك‪..‬‬
‫بل أريد أن يفتح هللا علي باستئصالها تماما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك يستدعي عمليات جراحية‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫قال‪ :‬أنا من جهة ال تؤمن بهذه العمليات‪ ..‬فلذلك نرمم ما يحتاج إلى الترميم من غير عمليات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فدلني على ذلك‪..‬‬
‫قال‪ :‬لم يأذن لي معلم البركات وال معلم السالم في تعليمك هذه العلوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‪..‬‬
‫قال‪ :‬لكل شيء أهله‪ ..‬ولست من أهل هذا الباب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم أخبرتموني؟‬
‫قال‪ :‬إدراك الحقائق يستدعي هذه المعارف‪ ..‬أما التفاصيل‪ ..‬فتعرف عند أهلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال تأذنون لي في العالج بالعسل؟‬
‫قال‪ :‬ال نأذن لك وال لغيرك ممن لم يؤته هللا الفهم في هذا الباب‪.‬‬
‫أردت أن أحدثه فإذا به يهم باالنصراف‪ ،‬قلت‪ :‬إلى أين‪ ..‬فالحديث معك متعة ال تدانيها متعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬النحل في انتظاري‪ ..‬وقد قدمت لهم اليوم طعاما خاصا ألنظر نوع العسل ال ذي يقدوم ه لي‪ ..‬ثم ن وع الش فاء‬
‫الذي يجعله هللا فيه‪.‬‬
‫وقد سمعت اليوم من بعض الصالحين حديثا‪ ،‬أريد أن أطبقة في العالج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما سمعت؟‬
‫قال‪ :‬سمعته ‪ ‬وهو يقول‪ (:‬من لعق العسل ثالث غدوات كل شهر لم يصبه عظيم من البالء)(‪)1‬‬
‫انصرف‪ ..‬فعادت النحلة‪ ،‬تقول‪ :‬هذا مثال واحد‪ ..‬وأعرف من أمثاله الكثير ممن آتاهم هللا الفهم عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن ما ذكره الشيخ دل ني على من اهج جدي دة يمكن اس تعمالها في الطب‪ ..‬فنحن مقص رون ج دا في اس تعمال‬
‫العسل وفي البحث عن أسراره‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ألن شركات األدوية هي التي تتحكم في صحتكم‪ ..‬وهي ال يهمها من صحتكم إال ما يمأل جيوبها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن العسل غال‪..‬‬
‫قالت‪ :‬هو أرخص بكثير من األدوية التي تملؤكم سموما‪ ..‬ثم إن مص در غالئ ه ه و تقص يركم في ه‪ ..‬ول و أحس نتم‬
‫تربيته ووفرتم الجو المالئم له الستغنيتكم عن السكر المملوء بالسموم واستعملتم العسل‪ ..‬ليكون لكم دواء وغذاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فعودي بي إلى أرض قومي ومعاملهم‪ ،‬وأخبريني عما اكتشفوا في عسلك من أسرار الشفاء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد اكتشفوا الكثير مما ال يمكن حصره‪ ،‬وسأكتفي بذكر ما تمس الحاجة إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكريه بورك فيك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أوال‪ ..‬من أهم خواص عسلي أنه وسط غير صالح لنمو البكتيريات الجرثومية والفطريات‪ ..‬ولذلك فهو قاتل‬
‫للجراثيم‪ ،‬مبيد لها أينما وجدت‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني سمعت شائعة في الواليات المتحدة منذ ثالثين س نة تنص على أن العس ل ينق ل الج راثيم‪ ،‬كم ا ينقله ا‬
‫الحليب بالتلوث‪.‬‬
‫قالت‪ :‬تلك شائعة أشاعها المجرم ون عن ا‪ ..‬وق د ألهم هللا ط بيب الج راثيم س اكيت‪ ،‬فق ام باختب ار أث ر العس ل على‬
‫الجراثيم بالتجربة العلمية‪ ..‬فزرع جراثيم مختلف األمراض في العسل الصافي‪ ..‬وأخذ يترقب النتائج‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا وجد؟‬
‫ً‬
‫قالت‪ :‬لشد ما كانت دهشته عظيمة عندما رأى أن أنواعا من هذه الجراثيم ق د م اتت خالل بض ع س اعات في حين‬
‫أن أشدها قوة لم تستطع البقاء حية خالل بضعة أيام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماتت الجراثيم إذن؟‬
‫قالت‪ :‬ماتت طفيليات الزحار ( الديزيتريا)بعد عشر ساعات من زرعها في العسل‪ ..‬وماتت ج راثيم حمى األمع اء‬
‫( التيفوئيد)بعد أربع وعشرين ساعة‪ ..‬أما جراثيم االلتهاب الرئوي‪ ..‬فقد ماتت في اليوم الرابع‪ ..‬وهكذا لم تجد الجراثيم في‬
‫ال ومبيد ًا لها‪.‬‬
‫العسل إال قات ً‬

‫‪ )(1‬ابن ماجة‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫قلت‪ :‬فيمكن استعمال العسل مادة عالجية بهذه الخاصية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد وجد أن الحفريات التي أجريت في منطقة الجيزة بمصر دلت على وجود إناء‪ ،‬فيه عس ل‪ ،‬داخ ل‬
‫الهرم‪ ،‬مضى عليه ما ينوف على ثالثة آالف وثالثمائة عام‪ ..‬وعلى الرغم من مرور ه ذه الم دة الطويل ة ج د ًا‪ ،‬فق د ظ ل‬
‫العسل سليما لم يتطرق اليه الفساد‪ ..‬بل إنه ظ ل محتفظ اً بخواص ه‪ ،‬لم يتط رق إلي ه الفس اد‪ ..‬ب ل إن ه ظ ل محتفظ اً ح تى‬
‫بالرائحة المميزة للعسل!!‬
‫قلت‪ :‬هذه بركات عظيمة‪ ..‬فزيديني من بركاتك؟‬
‫ق الت‪ :‬العس ل ال ذي يت ألف بص ورة رئيس ة من س كر العنب يمكن اس تعماله في ك ل االس تطبابات المبني ة على‬
‫الخواص العالجية له ذا الس كر ك أمراض ال دورة الدموي ة‪ ،‬وزي ادة الت وتر وال نزيف المع وي‪ ،‬وق روح المع دة‪ ،‬وبعض‬
‫أمراض المعي في األطفال‪ ،‬وأمراض معدية مختلفة مثل التيفوس والحمى القرمزية والحص بة وغيره ا‪ ..‬باإلض افة إلى‬
‫أنه عالج ناجح للتسمم بأنواعه‪.‬‬
‫باإلضافة إلى أن السكر المدخر في الكبد ( الغلوكوجين)ليس ذخيرة للطاق ة فحس ب‪ ..‬ب ل إن وج وده المس تمر في‬
‫خاليا الكبد وبنسبة ثابتة يشير إلى دوره في تحسين وبناء األنسجة والتمثيل الغذائي‪ ..‬زي ادة على أن ه ذا اس تعمل ح ديثاً‪،‬‬
‫وعلى نطاق واسع‪ ،‬ليزيد من معاونة الكبد لمضادة التسمم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فزيديني من أخبار بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬يحتوي العسل على عامل فعال جد ًا‪ ،‬ل ه ت أثير كب ير على الخض اب ال دموي (الهيموغل وبين)‪ ،‬وق د ج رت‬
‫دراس ات ح ول ه ذا األم ر في بعض المص حات السويس رية أك دت الت أثير الفع ال على خض اب ال دم حيث ازداد ق وام‬
‫الخضاب في الدم من ‪ 57‬بالمائة إلى ‪ 80‬بالمائة في األس بوع األول‪ ،‬أي بع د أس بوع واح د من المعالج ة بالعس ل‪ ..‬كم ا‬
‫لوحظت زيادة في وزن األطفال الذين يتناولون العسل مقارنة باألطفال الذين ال يعطون عس ًًَ‬
‫َال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬رأيت بعض قومي يستعملون عسلك في شفاء الجروح‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أحسنوا صنعا‪ ..‬وقد أثبتت معاملكم هذا‪ ..‬وقد دلت اإلحص ائيات ال تي أج ريت في ع ام ‪ 1946‬على نجاع ة‬
‫العسل في شفاء الجروح ذلك أن الدكتور ( س‪ .‬س ميرنوف)‪ ،‬وه و أس تاذ في معه د تومس ك الط بي اس تعمل العس ل في‬
‫عالج الجروح المتسببة عن اإلصابة بالرصاص في ‪ 75‬حالة‪ ،‬فتوصل إلى أن العسل ينشط نمو األنسجة ل دى الج رحى‬
‫الذين ال تلتئم جروحهم إال ببطء‪.‬‬
‫وفي ألمانيا يعالج الدكتور (كرونيتز)وغيره آالف الج روح بالعس ل وبنج اح‪ ،‬م ع ع دم االهتم ام بتطه ير مس بق‪،‬‬
‫والجروح المعالجة بهذه الطريقة تمتاز بغزارة افرازاتها إذ ينطرح منها القيح والجراثيم‪.‬‬
‫ولهذا ينصح الدكتور (بولمان)باستعمال العسل كمضاد جراحي للجروح المفتوحة‪ ..‬ويعرب عن رض اه الت ام عن‬
‫النتائج الطيبة التي توصل إليها في هذا الصدد ألنه لم تحدث التصاقات أو تمزيق أنسجة أو أي تأثير عام ضار‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فلعسلك تأثير في الجلد إذن؟‬
‫ق الت‪ :‬أج ل‪ ..‬ال ش ك في ذل ك‪ ..‬وفي بعض ال دول األوروبي ة يق وم الريفي ون برب ط أم اكن الح روق والج روح‬
‫والتسلخات بأشرطة من القماش المدهون بالعسل‪.‬‬
‫وأثبتت حادثة واقعية لطفل انسكب عليه كوب من الشاي المغلي أدى إلى التهاب جلد الصدر والبطن‪ ،‬وم ع دهان ه‬
‫سريعًا بالعسل المتج ِّمد؛ في الصباح بعد الكشف عن أماكن الحرق تبين أن السطح البط ني للجس م أبيض ع اديّ‪ ،‬ك أن لم‬
‫يصبه شيء مع ظهور فقاعة بحجم حبة العنب في أعلى الصدر ممتلئة سائ ً‬
‫ال يبدو أنها كانت قليل ة االلته اب؛ فلم تُ َر‪ ،‬ولم‬
‫تُدهَن بالعسل‪ ،‬ومع المقارنة بين السطحين تبين المفعول األكيد للعسل‪.‬‬
‫وفي الطب الروسي الشعبي كانت تُستع َمل لبخة العسل المخل وط بال دقيق لعالج الخ راريج الس ميكة ال تي تص يب‬
‫األكف واألقدام وكذلك سل الجلد‪.‬‬
‫وقد نشر الباحثون العاملون في عيادة األمراض الجلدية‪ ،‬سنة ‪ ،1945‬في المعهد الطبي الثاني‪ ،‬في موس كو مقال ة‬
‫عن النجاح في عالج سبعة وعشرين مريضاً‪ ،‬من المصابين بالدمامل والخراجات‪ ،‬ثم شفاؤهم بواس طة اس تعمال أده ان‬
‫العسل كمراهم‪ ..‬وال يخفى ما لالدهان بالعسل من أثر في تغذية الجلد‪ ،‬وإكسابه نضارة ونعومة‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫قلت‪ :‬فلعسلك عالقة لهذا بالجمال؟‬
‫قالت‪ :‬ال شك في ذلك‪ ..‬فالعسل من مصادر الجمال؛ ولهذا يُستخدَم كمحل ول للوج ه م ع اللبن؛ حيث يغ ذي العس ل‬
‫الجلد ويزيده بياضًا ونعوم ًة‪ ،‬ويقيه من الميكروبات‪ ،‬كما يعمل العسل على ش ِّد الجلد المرتخي والمتشقق‪ ،‬والش فتين وله ذا‬
‫ينصح بخلط (‪)30‬جرا ًما من العسل بمثلها من عصير الليمون بنصف مثلها من ماء الكولونيا لهذا‪.‬‬
‫بل يعتبر العسل وعصير الليمون أحسن المواد لعالج ضربة الشمس وتهيج وتبقع الجلد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والجهاز التنفسي‪ ..‬فإن أكثر المرضى يترددون على أطباء الجهاز التنفسي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فانصحهم بالتردد على عسلي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قالت‪ :‬لقد استعمل العسل لمعالجة أمراض الج زء العل وي من جه از التنفس‪ ،‬وال س يما الته اب الغش اء المخ اطي‬
‫وتقشره‪ ،‬وكذلك تقشر الحبال الصوتية‪.‬‬
‫وتتم المعالج ة باستنش اق محل ول العس ل بالم اء ال دافئ بنس بة ‪ 10‬بالمائ ة خالل ‪ 5‬دق ائق‪ ..‬وق د بين ال دكتور‬
‫( كيزلستين)أنه من بين ‪ 20‬حالة عولجت باستنشاق محلول العسل‪ ..‬فش لت حالت ان فق ط‪ ..‬في حين أن الط رق العالجي ة‬
‫األخرى فشلت فيها جميعاً‪ ..‬وهي نسبة عالية في النجاح‪.‬‬
‫ولهذا كله يستعمل العسل ممزوجاً بأغذية وعق اقير أخ رى كعالج للزك ام‪ ..‬وق د وج د أن التحس ن الس ريع يح دث‬
‫باستعمال العسل ممزوجاً بعصير الليمون بنسبة نصف ليمونه في ‪100‬غ من العسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بالمناسبة‪ ..‬لقد رأيت فيلما عن ابن سينا‪ ..‬وقد الحظت أنه عالج السل في أط واره األولى بالعس ل‪ ..‬فه ل ه ذا‬
‫صحيح‪ ..‬أو هو مجرد مبالغة فنية؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬هذا صحيح‪ ..‬ولو أنه ال ينبغي أن تأخذ علمك من األفالم‪ ..‬فبعض أهلها ال يتقون هللا فيم ا يوزعون ه من‬
‫معلومات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل ما فعله ابن سينا صحيح من وجهة النظر الحديثة؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد كان الدكتور ( ن‪ .‬يورش)‪ ،‬وهو أستاذ الطب في معهد كييف‪ ،‬يرى أن العس ل يس اعد العض وية‬
‫في كفاحها ضد اإلنتانات الرئوية كالسل وخراجات الرئة والتهابات القصبات وغيرها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬عرفنا أثر عسلك في الصدر‪ ..‬فما أثره في تلك العضلة التي تضخ الدماء في الجسم؟‬
‫قالت‪ :‬عضلة القلب التي ال تقصر في حفظ دوران الدم‪ ،‬وبالتالي تعمل على سالمة الحياة‪ ..‬ال بد لها من غذاء يقوم‬
‫بأودها‪ ..‬وقد عرفت أن العسل لوفرة ما فيه من سكر العنب يقوم به ذا ال دور‪ ..‬ومن هن ا وجب إدخ ال العس ل في الطع ام‬
‫اليومي لمرضى القلب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلننزل إلى الجهاز الهضمي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن المنطق األساسي الستعمال العسل كعالج لكافة أمراض المعدة واألمعاء المترافقة بزيادة في الحموضة‪،‬‬
‫هو كون العسل غذاء ذا تفاعل قلوي‪ ..‬يعمل على تعديل الحموضة الزائدة‪ ..‬ففي معالج ة ق روح المع دة واألمع اء ينص ح‬
‫بأخذ العسل قبل الطعام بساعتين أو بعده بثالث ساعات‪.‬‬
‫وق د ت بين أن العس ل يقض ي على آالم الق روح الش ديدة‪ ،‬وعلى حموض ة الج وف والقيء‪ ..‬ويزي د من نس بة‬
‫هيموغلوبين الدم عند المصابين بقرح المعدة واالثنى عشري‪.‬‬
‫وقد أثبتت التجربة اختفاء الحموضة بعد العالج بشراب العس ل‪ ،‬كم ا أظه ر الكش ف بالتص وير الش عاعي اختف اء‬
‫التجويف القرحي في جدار المعدة لدى عشرة مص ابين بالقرح ة من أص ل أربع ة عش ر مريض اً‪ ،‬وذل ك بع د مع الجتهم‬
‫بشراب العسل‪ ،‬لمدة أربعة أسابيع‪ ،‬وهي نسبة عالية معتبرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فنلسر قليال نحو اليمين حيث يتربع الكبد على عرشه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن كافة الحوادث االستقاللية تقع في الكبد تقريباً‪ ،‬وهو يدل على مدى األهمية التي يكتسبها ه ذا العض و من‬
‫أعضاء الجسم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أعلم ذلك‪ ..‬ولكني أبحث عن بركات الشفاء بالعسل‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت بالتجربة أن سكر العنب الذي هو المادة الرئيسية المكونة للعسل‪ ،‬يقوم بعمليتين اثنتين‪ ..‬أم ا األولى‪،‬‬
‫فإنه ينشط عملية التمثيل الغذائي في الكبد‪ ..‬وأما الثانية فإنه ينشط الكب د لتك وين التري اق المض اد للبكتري ا لزي ادة مقاوم ة‬
‫الجسم للعدوى‪.‬‬
‫كما تبين أن للعسل أهمية كبيرة في معالجة التهاب الكبد واآلالم الناتجة عن حصوات الطرق الصفراوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلننزل إلى جهاز اإلطراح الذي يخلص الجسم من الفضالت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬يرى الدكتور ( ريمي شوفان)أن سكر الفواكه ال ذي يحت وي العس ل على نس بة عالي ة من ه يس هل اإلف راز‬
‫البولي أكثر من سكر العنب‪ ،‬وأن العسل أفضل من االثنين معاً‪ ،‬لما فيه من أحماض عضوية وزيوت طي ارة وص باغات‬
‫نباتية تحمل خواص فيتامينية‪.‬‬
‫ولئن كثر الجدل حول العامل الفعال الموجود في العسل الذي يؤدي إلى توسيع األوعية الكلوية وزيادة اإلف رازات‬
‫الكلوي أو ما يسمى باإلدرار‪ ،‬إال أن تأثيره الملحوظ لم ينكره أحد منهم‪ ،‬حتى إن الدكتور ( ساك)بين أن إعطاء مئة غرام‬
‫ثم خمسين غراماً من العسل يومياً أدى إلى تحسين ملموس‪ ،‬وزوال كل من التعكر البولي والجراثيم العضوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنصعد إلى الجهاز العصبي‪ ..‬فما بركاتك عليه؟‬
‫قالت‪ :‬لقد أثبتت المشاهدات السريرية الخ واص الدوائي ة للعس ل قي معالج ة أم راض الجه از العص بي‪ ،‬فق د بين‬
‫البروفيسور ( ك‪ .‬بوغوليبوف)و( ف‪ .‬كيسيليفا) نجاح المعالجة بالعسل لمريضين مصابين بداء الرقص ـ وهو عبارة عن‬
‫تقلصات عضلية ال إرادية تؤدي إلى حركات عفوية في األطراف ـ ففي ف ترة امت دت ثالث أس ابيع أوقفت خالله ا كاف ة‬
‫المعالجات األخرى حصل كل من المريضين على نت ائج ب اهرة‪ ..‬لق د اس تعادا نومهم ا الط بيعي‪ ،‬وزال الص داع ونقص‬
‫التهيج والضعف العام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والعين‪ ..‬هل لها ترياق من لعابك؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ألم تعلم أني شفاء من كل داء‪ ،‬فكيف تقصر العي ون دون ش فائي‪ ..‬لق د اس تعمل األطب اء في الماض ي‬
‫العسل كدواء ممتاز لمعالجة التهاب العيون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك قديما‪ ..‬أما اآلن‪ ،‬فقد اكتشفت أنواع كثيرة من العقاقير والمضادات الحيوية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تعد لذكرها أمامي‪ ..‬فكيف تقارن السيف بالعصا؟‬
‫قلت‪ :‬أنا لم أقرنك‪ ..‬ولكني‪..‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس‪ ..‬مع ما ذك رت لم يفق د العس ل أهميت ه‪ ..‬فق د دلت اإلحص ائيات على دور العس ل في ش فاء الته اب‬
‫الجفون والملتحمة وتقرح القرنية‪ ،‬وأمراض عينية أخرى‪.‬‬
‫ومن أكثر المتحمسين االستطباب بمراهم العسل األساتذة الج امعيون في منطق ة ( أوديس ا)في االتح اد الس وفيتي‪،‬‬
‫وخصوصاً األستاذ الجامعي ( فيشر)والدكتور ( ميخائيلوف)‪ ..‬حتى إن تطبيب أم راض العين بم راهم العس ل انتش ر في‬
‫منطقة ( أوديسا)كلها‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد كتب الدكتور( ع‪ .‬ك‪ .‬أوساولكو)مقاال ضمنه مشاهدته وتجاربه في استعمال العسل ألمراض العين‪ ،‬فإن شئت‬
‫أن أذكر لك ما خرج به من نتائج فعلت؟‬
‫قلت‪ :‬اذكري‪ ..‬فمن يشبع من العلم؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قالت‪ :‬من النت ائج ال تي وص ل إليه ا أن العس ل يب دي ب دون ش ك ت أثيرا ممت ازا على س ير مختل ف آف ات القرني ة‬
‫االلتهابية‪ ،‬فكل الحاالت المعاندة على العالج العادية والتي طبق فيها المرهم ذا السواغ العس لي تحس نت بس رعة غريب ة‪،‬‬
‫كما أن عدد ًا من حادثات التهاب القرنية على اختالف منشئه‪ ،‬أدى تطبيق العسل صرفاً فيها إلى نتائج طبية‪.‬‬
‫وقد ختم بحثه بنصيحة يقول فيها‪ (:‬من المؤكد أن ما توصلنا إليه من نتائج يدعوا المؤسسات الصحية كافة‪ ،‬وال تي‬
‫تتعاطى طب العيون‪ ،‬أن تفتح الباب على مصراعيه لتطبيق العسل على نطاق واسع في معالجة أمراض العيون)‬
‫قلت‪ :‬فهل سمعت نصيحته؟‬

‫‪145‬‬
‫قالت‪ :‬لقد اطلعت أخيرا على بعض بني جلدتك قام ببحث في هذا(‪ ،)1‬وقد دفع إيمانه بما في القرآن الكريم من ذكر‬
‫العسل إلى تجربته عالجا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل نجح العالج؟‬
‫قالت‪ :‬يستحيل أن ال ينجح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن مرض السرطان‪ ..‬فال أحسب أن هناك ما هو أكثر فتكا منه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت لدى العلماء المتخصصين أن مرض السرطان معدوم بين مربي النح ل الم داومين على العم ل بين‬
‫النحل‪ ،‬ولكنهم حاروا في تفسير هذه الظاهرة‪..‬‬
‫فمال بعضهم إلى االعتقاد بأن هذه المناعة ضد مرض السرطان ل دى م ربي النح ل مرده ا إلى س م النح ل ال ذي‬
‫يدخل مجرى الدم باستمرار نتيجة لما يصابون به من لسع النحل أثناء عملهم‪.‬‬
‫ومال آخرون إلى االعتقاد بأن هذه المناعة هي نتيجة لما يتناوله مربو النحل من العسل المحتوي على كمي ة قليل ة‬
‫من الغذاء الملكي ذي الفعلية العجيبة‪ ،‬وكمية أخرى من حبوب اللقاح‪.‬‬
‫ومال كثير من العلماء إلى الرأي الثاني خصوصًا بعد م ا تم اكتش افه من أن نح ل العس ل‪ ،‬يف رز بعض العناص ر‬
‫الكيماوية على حبوب اللقاح تمنح انقسام خالياها‪ ،‬وذل ك تمهي د ًا الختزانه ا في العي ون السداس ية‪ ،‬فه ذه الم واد الكيماوي ة‬
‫الغريبة التي تحد من انقسام حبوب اللقاح‪ ،‬والتي يتناولها اإلنسان بكميات قليلة جد ًا مع العسل لربما كان لها أث ر كب ير في‬
‫الحد من النمو غير الطبيعي لخاليا جسم اإلنسان‪ ،‬وبالتالي منع اإلصابة بمرض السرطان‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ..‬فال زالت مخابركم أعجز إلى أن تصل إلى النتائج الحقيقية في هذا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫ق الت‪ :‬لع دم الجدي ة والص دق‪ ..‬فهم يتع املون معي باحتق ار‪ ..‬وال يس تفيد م ني إال من يكرم ني‪ ..‬ويك رم ش رابي‬
‫المبارك‪.‬‬
‫بركات األلوان‪:‬‬
‫قلت‪ :‬لقد حدثتني عن بركات تكوينك‪ ،‬وبركات شفائك‪..‬‬
‫قاطعتني وقالت‪ :‬لم أحدثك عن بركات شفائي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وعم كنت تتحدثين؟‪ ..‬اشربي عسال لتتخلصي من هذا النسيان‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا لم أحدثك إال عن بعض بركات شفائي‪ ..‬أما كل شفائي‪ ..‬فذلك شأن آخر‪ ..‬وله أس رار أخ رى‪ ..‬ال تفهمه ا‬
‫أنت وال قومك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركات ألوانك وأنواعك‪ ..‬فقد ذكر تعالى أنه يخرج من بطنك شراب مختلف ألوانه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هللا تعالى في تلك اآلية ينبهكم إلى النظر في ألوان عسلي الستعمالها في العالج ات المختلف ة‪ ،‬ألم تس مع بعلم‬
‫األلوان؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬سمعت به‪ ،‬ولكني لم أفهمه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال يهم أن تفهمه أو ال تفهمه‪ ..‬المهم أن تستفيد منه‪ ..‬فإنكم تستفيدون من كل شيء من غير أن تفهموه‪ ..‬وأق ل‬
‫شيء أنكم تستفيدون من رزق هللا‪ ،‬ثم ال تبحثون عن هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن ألوانك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬قومك يذكرون لي أربعة ألوان‪ :‬األبيض‪ ،‬والكهرماني الفاتح‪ ،‬والكهرماني‪ ،‬والكهرماني الداكن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر هذا االختالف في األلوان؟‬

‫‪ )(1‬في عام (‪ )1981‬أشار د‪ .‬محمد عمارة ‪ -‬رئيس قسم طب العيون بجامعة المنصورة ‪ -‬إلى نجاح العسل في عالج الته اب القرني ة‪ ،‬وعتم ات القرني ة‬
‫المترتبة عن اإلصابة بفيروس الهربس‪ ،‬والتهاب وجفاف الملتحمة‪ ،‬وينصح بوضع العسل في جيب الملتحمة األسفل ( ‪)3 – 2‬مرات يوميًّا مثل وضع المراهم‬
‫تما ًم ا‪ ،‬وإن كان ذلك ربما يؤدي إلى حدوث حرقان وقتي بالعين وانهمار الدموع؛ فإنه سرعان ما يتالشى وتتحسن الحالة بنسبة (‪ 85‬بالمائة)‪.‬‬
‫انظر‪ :‬دراسة إكلينيكية عن استخدام عسل النحل موضوعيا ً في عالج بعض أمراض العين الس طحية‪ ،‬األس تاذ ال دكتور‪ /‬محم د عم ارة‪ ،‬جمهوري ة مص ر‬
‫العربية‪ ،‬موقع‪ :‬إسالم ست‪ ،‬وقد نشر بحثا في هذا عن طريقة جديدة لعالج هريس القرنية منشور في صحائف المؤتمر الرم د ال دولي الث الث والعش رين ال ذي‬
‫عقد في كيوتو باليابان ‪ ،1978‬صفحة (‪ 175‬ـ ‪.)1753‬‬
‫‪146‬‬
‫اس لُ ِكي ُس ب َُل َرب ِِّك ُذلُ ً‬
‫ال‬ ‫قالت‪ :‬لقد ربط هللا تعالى بين اختالف األراضي ال تي نس لكها وبين األل وان‪ ،‬فق ال تع الى‪َ ﴿:‬ف ْ‬
‫ف َأ ْل َوانُه﴾(النحل‪ ..)69:‬وهذا يشير إلى حقيقتين علمي تين عن س بب اختالف أل وان العس ل‪،‬‬ ‫َي ْخرُجُ ِم ْن بُ ُ‬
‫طو ِن َها َش َرابٌ ُم ْخ َت ِل ٌ‬
‫أقرتها المتابعة العلمية الحديثة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أما أوالهما‪ ،‬فهي أن اختالف مرعى النحل يؤثر تأثيرا كبيرا في لون العسل‪ ..‬وذلك ألن نوعية الرحيق وقف على‬
‫نوعية األزهار التي يرعاها النحل‪.‬‬
‫وأما الثانية‪ ،‬فهي أن اختالف تركيب التربة الكيماوي بين بقاع األرض المختلفة‪ ..‬يؤدي إلى اختالف لون العس ل‪..‬‬
‫ذلك أن رحيق األزهار يعتم د اعتم اد ًا كب ير ًا على م ا يمتص ه النب ات من المع ادن ال تي في الترب ة‪ ..‬وحيث ك انت كمي ة‬
‫المعادن تختلف باختالف بقاع األرض‪ ..‬فإن من الطبيعي لذلك أن يختلف لون العسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني سمعت من المربين أن اختالف لون العسل يعتمد أيضاً على األقراص الشمعية المستعملة في الخلي ة‪،‬‬
‫ال داكناً‪.‬‬
‫ال فاتح اللون‪ ،‬وإذا كانت قديمة أعطت عس ً‬‫فإذا كانت هذه األقراص جديدة أعطت عس ً‬
‫قالت‪ :‬ولكن التمحيص في هذه الحقيقة العلمية المؤثرة في لون العسل يدلنا على عظمة الق رآن الك ريم‪ ،‬كم ا يش ير‬
‫إلى بالغته التي اقتضت أن يعطي من الحقائق العلمية ما يتطلبه الموقف وبصورة بالغة اللطف ح تى يتمكن اإلنس ان من‬
‫تفهمها وهضمها تماماً‪.‬‬
‫ذلك أن هذه الحقيقة العلمية التي ذكرتها والمؤثرة في ل ون العس ل هي ذات ت أثير ع ارض وليس بط بيعي‪ ..‬إذ أن‬
‫اختالف األقراص الشمعية بين القدم والجدة إنما مرده إلى ما يحدثه اإلنسان‪ ،‬اليوم‪ ،‬الذي يضع األقراص القديمة في خلية‬
‫النحل‪ ..‬أما عسل النحل‪ ..‬كما يصنعه النحل‪ ..‬دون أن تتدخل فيه يد اإلنسان‪ ..‬فإنه ال يتأثر مطلقاً بهذه الحقيقة التي ذكرت ا‪،‬‬
‫ألنه ال أثر لها‪ ،‬وال وجود لها‪ ،‬في األحوال الطبيعية‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك لم تشر اآلية الكريمة إلى ه ذا األم ر مطلق اً‪ ،‬ألنه ا تع الج العس ل‪ ،‬كم ا ينتج ه النح ل‪ ،‬وفق اً لل وحي‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما بركات ألوانك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكرت لك أن ألوان عسلي تختلف باختالف ألوان عذائي‪ ..‬ألم تعلم ب أني مص نع أدوي ة؟ ‪ ..‬ق دموا لي م ا‬
‫تشاءون من أصناف األغذية ألحولها لكم أصناف أدوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك‪ ..‬وهل لكم علم بالكيمياء؟‬
‫قالت‪ :‬كيمياؤنا تختلف عن كيميائكم‪ ..‬كيميائكم بدأت باإلكسير الذي يحول الحجارة ذهب ا‪ ..‬وانتهت بالمص انع ال تي‬
‫تحول السموم أدوية‪ ..‬والفضالت أطعمة‪ ..‬لتمأل الجيوب بالذهب الذي تأسست ألجله الكيمياء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما كيمياؤكم؟‬
‫قالت‪ :‬نحن نتعامل مع األشياء‪ ،‬ال مع عناصرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‪..‬‬
‫قالت‪ :‬نحن ال نعرف ما تسمونه من سكريات ودهون وبروتينات‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما تعرفون؟‬
‫قالت‪ :‬نحن نسلم على كل زهرة نشم رحيقها‪ ،‬ونسألها عن أنواع البركات المودعة فيها‪ ..‬لنأخذ منها قدر ما نحتاجه‬
‫لنصنع منه اإلكسير المبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيعرف بعضكم بعضا؟‬
‫قالت‪ :‬نحن ال نغتصب رحيق األزهار إال بعد إذنها لنا‪ ..‬أتريدنا أن نطعم أوالدنا أو أوالدكم الحرام؟‬
‫قلت‪ :‬أتعرفون الحرام؟‬
‫قالت‪ :‬أنتم الذين ال تعرفونه‪ ..‬لوال أن هللا أذن لنا من األكل من كل الثمرات ما امتدت أفواهنا إلى شيء منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تسمون هللا عند أكلكم؟‬
‫قالت‪ :‬نحن ال نحتاج إلى ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرفع عنكم القلم؟‬

‫‪147‬‬
‫قالت‪ :‬نحن ال نغفل عنه‪ ،‬فنحتاج ألن نذكره‪ ..‬إننا نذكره في كل لحظة بكل كياننا‪ ..‬ونرقض جذال‪ ..‬ونحن نذكره‪.‬‬
‫بركات األنواع‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركات ما يخرج منك(‪ )1‬من أنواع بعد ما حدثتني عن بركات األلوان‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد شاع في أوساط الناس أن عسلي وحده فيه شفاء للناس‪ ،‬بينما اآلية تدل على ما هو أعم من ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الذي هو أعم من ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬هي تدل على كل ما يخرج من أجسامنا من عسل‪ ،‬وش مع‪ ،‬وس م‪ ،‬وغ ذاء ملكي‪ ،‬فق د ثبت لك ل منه ا فوائ د‬
‫عالجية من أمراض مختلفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن الشمع‪.‬‬
‫قالت‪ :‬يُ َع ُّد شمع النحل من أغلى وأهم أنواع الشموع‪ ،‬وكانت له أهمية كبيرة في العص ور الماض ية‪ ،‬ولكن أهميت ه‬
‫قلت في عصركم نظرًا الكتشاف المواد الشمعية األخرى والشبيهة بالشمع‪ ،‬ولكن ال يزال ش مع النح ل ه و الوحي د ال ذي‬
‫يدخل في صناعة األدوية ومواد التجميل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬طلبت منك الحديث عن بركات الشفاء ال عن بركات الصناعة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت من خالل التجارب أن شمع العسل يساعد في حماية الجيوب األنفية من االنس داد؛ فق د كتب دكت ور‬
‫ال عمره (‪)8‬سنوات كان يشكو من برد في الرأس وزكام شديد‪ ،‬ولم ينفع أي عالج معه؛ حيث يوجد بأنفه‬ ‫جارفيس أن طف ً‬
‫إفرازات مائية كثيرة‪ ،‬وتتطلب عدة نفخات‪ ،‬ويعاني الطفل من تورم أنسجة األنف‪.‬‬
‫وبعد الفحص العام‪ ،‬وفحص األنف أعطي الولد قطعة من شمع العسل لمضغها لمعرفة تأثيره‪ ،‬وبعد خمس دق ائق‬
‫من مضغ الشمع فوجئ الطبيب أن أنفه قد فتح‪ ،‬وصار بإمكانه التنفس‪ ،‬وبذلك كانت المضغة الواحدة من شمع العسل له ا‬
‫تأثير في ظرف خمس دقائق‪ ،‬وتستمر لمدة أسبوعين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت أن لك شرابا يسمى الغذاء الملكي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وهو سائل أبيض اللون يُس َّمى لبن النحل‪ ،‬وهو يشبه اللبن الكثيف أو القش دة‪ ،‬تف رزه الش غاالت لتطعم‬
‫به الملكة واليرقات‪.‬‬
‫والغذاء الملكي هو الذي يحدد مستقبل اليرقات المؤنثة؛ فإذا غذيت عليه طيلة الطور اليرقي خمسة أيام؛ فستص بح‬
‫الملكة طويلة ورشيقة ومبايضها كاملة خصبة‪ ،‬وإن غذيت عليه لمدة ثالث ة أي ام فق ط‪ ،‬واس تكمل غ ذاؤها بحب وب اللق اح‬
‫المعجون بالعسل أصبحت شغالة عقيمة‪ ،‬مبايضها ضامرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثينا عن بركاتك علينا‪ ..‬ال عن بركاتك على ملكاتكم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هذا الغذاء ذو تركيب خاص يجعله يتمثل بأكمله في الجسم‪ ،‬ويمر في الدم بدون حاجة إلى عمليات الهض م‪،‬‬
‫باإلضافة إلى احتوائه على كثير من المواد السكرية والبروتينية والدهنية والعناصر المعدنية والفيتامينات‪ ،‬وم واد أخ رى‬
‫لم يُقَّدر بعضها حتى اآلن‪.‬‬
‫وقد ثبت أن هذا الغذاء يعمل على تنشيط أعضاء الجسم‪ ،‬ويزيد سرعة التحول الغذائي‪ ،‬ويش في ح االت اإلره اق‬
‫والهبوط‪ ،‬وينشط الغدد‪ ،‬ويؤدي إلى زيادة النشاط ومقاومة الضعف سواء كان بسبب السن أو بمسببات أخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما بقي مما يخرج من بطنك؟‬
‫قالت‪ :‬حبوب اللقاح‪ ..‬وصموغ النحل‪ ..‬والسم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن حبوب اللقاح؟‬
‫قالت‪ :‬حبوب لقاح األزهار هي المصدر الرئيسي ألهم المكونات الغذائية والعالجية فيم ا يخ رج من بطونن ا‪ ،‬وق د‬
‫ثبت حدي ًثا أن حبوب اللقاح نفسها تحتفظ ببعض الخواص الغذائية والعالجية‪.‬‬
‫حيث تُستخدَم حبوب اللقاح التي يجمعها النحل كغذاء مركز لإلنسان لتعويض النقص في الفيتامين ات واألحم اض‬
‫األمينية والعناصر المعدنية‪ ،‬وكذلك تحت وي حب وب اللق اح على ك ل الفيتامين ات المعروف ة فيم ا ع دا (ب‪ ،)12‬وتس اعد‬
‫حبوب اللقاح في القضاء على األنيميا لدى األطفال؛ حيث تؤدي إلى زيادة عدد كرات الدم الحمراء‪ ،‬ونسبة الهيموجلوبين‬
‫‪ )(1‬شراب النحل…اختالف في األلوان واتفاق في الشفاء‪ ،‬رضوة حسن‪9/1/2001 ،‬‬
‫‪148‬‬
‫بعد شهرين من العالج بحبوب اللقاح‪ ،‬وكذلك مستحضرات التجميل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثيني عن صموغ النحل‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هي مواد ص مغية يجمعه ا النح ل من قل ف األش جار‪ ،‬وب راعم بعض النبات ات؛ لكي يس تعملها في تض ييق‬
‫مداخل الخاليا في فصل الشتاء‪ ،‬وفي تثبيت األقراص الشمعية في سقوف الجحور التي يسكنها‪ ،‬وهذا الصمغ له لون بني‬
‫مخضر‪ ،‬وله رائحة مريحة ج ًّدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثيني عن بركات الشفاء فيه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد استعمل في الطب الشعبي منذ القرن التاسع عشر‪ ،‬ويُعت َق د أن ه عالج ن اجح لألورام الخبيث ة والج روح‪،‬‬
‫ويُستع َمل في عالج الكالو‪ ،‬وذلك بتس خين الص مغ ح تى يك ون طر ًّي ا‪ ،‬ثم يش كل على هيئ ة ق رص ص غير يوض ع على‬
‫الكالو‪ ،‬ويربط عليه فيسقط الكالو بجذوره بعد أيام قليلة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عما به بدأنا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬تقصد سمي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ولو أني أخافه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هو عافية وشفاء‪ ..‬فسمي س ائل ش فاف يج ف بس رعة ح تى في درج ه ح رارة الغرف ة‪ ،‬ورائحت ه عطري ة‬
‫الذعة‪ ،‬وطعمه ُمرٌّ‪ ،‬وبه أحماض عديدة منها‪ :‬الفورميك‪ ،‬واأليدروكلوريك‪ ،‬واألرثوفوسفوريك‪ ،‬وغيره ا؛ باإلض افة إلى‬
‫كمية كبيرة من البروتينيات والزيوت الطيارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثيني عن بركات الشفاء(‪.)1‬‬
‫قالت‪ :‬الواقع أن استعمال سمي في العالجات الطبية يعود إلى العصور القديمة‪ ،‬فقد ذكر في كتب صينية تع ود إلى‬
‫ما يزيد عن ألفي عام‪ ،‬وكتب عنه أبقراط وجالينوس واألطباء اإلغريق‪ ..‬ويقال‪ :‬إن قدامى المصريين يعالجون األمراض‬
‫بمرهم مصنوع من منتجات النحل‪.‬‬
‫وفي عام ‪ ،1888‬نشر معالج نمساوي يدعى فليب تيرك تقريرا حول أولى الدراسات السريرية المتعلق ة بلس عات‬
‫النحل تحت عنوان‪ (:‬تقرير حول ترابط غريب بين لسعات النحل والروماتيزوم)‪ ،‬ومنذ ذلك الحين شاع اس تعمال النح ل‬
‫ألغراض عالجية في الواليات المتحدة األمريكية وأوربا‪ ،‬حيث شكل نوعا من العالجات الشعبية المتداولة‪.‬‬
‫ولكن باقتراب القرن الواحد والعشرين بدأت المختبرات الطبية تبحث في هذا العالج‪ ،‬وت درس ط رق اس تعماالته‬
‫الصيدلية‪ ،‬وعلى الرغم من أن األبحاث السريرية بدأت قرابة العام ‪ ،2000‬فإن معظم المرضى يطبقونه إما بأنفسهم وإما‬
‫بمساعدة نحّالين عاديين‪ ،‬أما األطباء‪ ،‬فقد باشروا باستعمال العالج بسم النحل لكن بطريق ة أك ثر تخصص ية وعلى هيئ ة‬
‫حقن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاالستفادة من هذا العالج ال تزال قاصرة إذن؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ومع ذلك‪ ..‬فقد أثبتت جدواها في كثير من العلل‪ ..‬كأمراض الجهاز المن اعي‪ ،‬مث ل الته اب المفاص ل‬
‫والتصلب المتعدد‪ ..‬وأمراض القلب واألوعية الدموية القلبية‪ ،‬كارتفاع ضغط الدم‪ ،‬وعدم انتظام النبض القلبي‪ ،‬والتص لب‬
‫العصيدي‪ ،‬واألوردة الدوالية‪ ..‬اضطرابات الغدد الصماء كمتالزمة ما قبل الدورة الش هرية والتش نجات المرافق ة لل دورة‬
‫الشهرية وعدم انتظام الدورات الشهرية وانخفاض معدل سكر الدم‪ ..‬وااللتهابات كالكأل والثؤلول والتهاب الثدي والته اب‬
‫الحنجرة‪ ..‬واالضطرابات النفسية كالكآبة وتقلبات المزاج‪ ..‬واالضطرابات الروماتيزمية كالتهاب المفاصل الروم اتيزمي‬
‫وااللتهاب العظمي المفصلي والته اب الكيس ال زاللي وآالم وت ر المرف ق‪ ..‬والمش اكل الجلدي ة كاألكزيم ا وداء الص دفية‬
‫ومسامير اللحم والثؤلول والقرحات الموضعية‪ ..‬وأمراض الدم كفقر الدم والتهاب اللثة النزفي وفرط دهن الدم‪ ..‬أم راض‬
‫الجهاز الهضمي كااللتهاب الكبدي المزمن والته اب القول ون والقرح ة الهض مية‪ ..‬وأم راض الجه از العص بي ك الوهن‬
‫والخثار الدماغي واألرق واأللم العصبي القطني‪ ..‬وأمراض العين كإعتام عدسة العين والتهاب القزحية والجسم الهدبي‪..‬‬
‫وأمراض األنف واألذن والحنجرة‪ ..‬واألمراض المرتبطة بالتغذية وعملية التحول الغ ذائي ك داء الس كري وع دم انتظ ام‬
‫مع دل الكوليس ترول والتريغليس ريد وفق دان الش هية للطع ام وس وء التغذي ة‪ ..‬واألم راض الس رطانية‪ ،‬كس رطان الخلي ة‬

‫‪ )(1‬انظر‪:‬مجلة الدليل إلى الطب البديل‪.‬‬


‫‪149‬‬
‫القاعدية والورم اللمفاوي والورم القتامي الخبيث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر هذه البركات الشفائية التي وضعها هلل في سمك؟‪ ..‬أليس سما؟‬
‫قالت‪ :‬أنتم تسمونه سما كما تسمون سمومكم أدوية‪ ..‬ألم تعلم أن لكم خبرة بتبديل الحقائق؟‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فلنا الخبرة في ذلك‪ ..‬وقد قال الشاعر‪:‬‬
‫هُ (نمته)مكار ٌم‬ ‫إِن الفقي َر‪ ،‬وإِن نمت‬
‫وفضائي ُلُعبا بما هو قائ ُل‬ ‫ال يستعانُ به‪ ،‬وال‬
‫غ ِة‬ ‫لو كانَ سبحانَ البال‬
‫ْ‬
‫(البالغة)أنكرتهُ وائ ُل‬
‫َ‬
‫ح ِة‬ ‫أو كان قسا ً في الفصا‬
‫(الفصاحة)قي َْل هذا باق ُل‬
‫قالت‪ :‬صدق شاعركم‪ ..‬فل و أن األغني اء وأص حاب ش ركات األدوي ة اهتم وا بس مي لص ارت النحل ة من ا ب آالف‬
‫الدوالرات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثيني عن أسرار العالج في هذا الذي يسمونه سما‪.‬‬
‫ق الت‪ :‬يحت وي ه ذا التري اق ال ذي تس مونه س ما على أك ثر من ‪ 40‬م ادة فاعل ة‪ ،‬يتمت ع العدي د منه ا بت أثيرات‬
‫فيزيولوجية‪.‬‬
‫أما المركب األكثر غزارة في السم فهو العنصر المضاد لاللتهاب ميليتين‪ ،‬وهو مادة تحفز في إنت اج الكورت يزول‬
‫الذي يشكل عامال هاما في عملية الشفاء الذاتية للجسم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يتم العالج بهذا الترياق؟‬
‫قالت‪ :‬هم يستخدمون لذلك أي نحلة من خلية أو قفير بواسطة ملقط‪ ،‬ويضعونها على جزء من الجسم ح تى تلس عه‬
‫على أن تبقى في موضعها مدة تتراوح بين عشر وخمس عشرة دقيقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يحددون لذلك عددا من اللسعات؟‬
‫قالت‪ :‬يختلف عدد اللسعات في الجلسة الواحدة‪ ،‬وعدد الجلسات‪ ،‬بحس ب طبيع ة الم رض ومق درة الم ريض على‬
‫التحمل‪ ..‬فلمعالجة التهاب األوتار مثال قد يحتاج المريض إلى ما بين جلستين وخمس جلسات عالجية فقط‪ ،‬يتع رض في‬
‫كل منها إلى لسعتين أو ثالث لسعات‪.‬‬
‫بينما قد تستلزم معالجة األمراض المزمنة كالتهاب المفاصل مثال عدة لسعات في الجلسة الواحدة مرتين إلى ثالث‬
‫مرات في األسبوع لمدة ثالثة أشهر تقريبا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل كل المعالجين يستعملون النحل‪ ..‬أال يستخلصون سمه ليحقنوا به‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هم يفعلون ذلك‪ ..‬وهو خالف األصل‪ ..‬فأكثر المعالجين بسم النحل في أرض كم ال يس تخدمون النح ل الحي‪،‬‬
‫بل يحصلون منه على السم ويحقنونه تحت الجلد‪ ..‬وتعطى الحقن كمعدل وسطي مرة واحدة إلى مرتين في األسبوع‪ ..‬أما‬
‫عدد الحقن في كل جلسة‪ ،‬فيتجاوز بين حقنة واحدة إلى ثالثين حقنة بحسب الداء الذي تجري معالجته‪.‬‬
‫ولهذا كلما زاد عدد الحقن أو اللسعات استغرقت الجلسة العالجية وقتا أطول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل لهذا العالج تأثيرات جانبية؟‬
‫قالت‪ :‬ال ينبغي استخدام النحل لمعالجة المرضى ال ذين يع انون من الحساس ية الش ديدة وداء الس ل وداء الزه ري‬
‫وداء السيالن وداء السكري العابر المعتمد على األنسولين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فغير هؤالء هل تحدث لهم بعض اآلثار الجانبية؟‬
‫قالت‪ :‬من التأثيرات الجانبية الشائعة التي تتجلى لدى حقن المريض أو لسعه الشعور باأللم والحكاك والتورم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد ذقت من ذلك‪ ..‬فلذلك تجديني أرهبك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وهذه اآلثار ال ضرر فيها على الصحة‪ ..‬فقد ورد في مجلة رعاية المريض في عام ‪ 1999‬أن م دير معه د‬
‫‪ Monmouth pain‬في نيوجرسي أعطى خالل السنوات الخمس عشرة األخيرة ‪ 34‬ألف حقنة لمئة وأربع ة وس بعين‬
‫‪150‬‬
‫مريضا‪ ،‬ولكنه لم يلحظ أي تعقيدات هامة على مرضاه‪.‬‬
‫الحجامة‬
‫يعلم هللا كم امتأل قلبي بمحبة هذه النحلة المملوءة خيرا وبرك ة‪ ،‬لق د قلت له ا‪ ،‬وهي توش ك أن تغ ادرني‪ :‬إلس عيني‬
‫بلسعة من لسعاتك أتذكرك بها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬لم يؤذن لي في ذلك‪ ..‬ولو أذن لي لفعلت من غير أن تطلبني‪ ..‬ألم تعلم أني ال أفعل إال ما يطلب مني؟‬
‫قلت‪ :‬نسيت أنك تتلقين األوامر من السماء‪ ..‬فاعذريني‪ ..‬فال أزال ملطخا بتراب األرض‪ ،‬وأعراف أهل األرض‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس عليك‪ ..‬فبإمكانك أن تطير إلى األعالي إن تسلقت جبال اإلرادة بعزيمة أهل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال تنسينا من دعائك‪ ..‬فإن دعاء المسافر مجاب‪ ،‬وال أراك إال قد أزمعت سفرا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد جاءتني رسالة تطلب مني زيارة زهرة بعيدة‪ ..‬هي في انتظاري‪ ..‬ألستخدم رحيقه ا في عالج داء‬
‫أصاب مسكينا في ذروة جبل شاهق ليس له من يعالجه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذهبي‪ ..‬فقد جلست معك ما أضاع كثيرا من وقتك‪.‬‬
‫سارت النحلة‪ ،‬وبقيت مبهوتا فيما قالت‪ ،‬قلت لنفسي‪ :‬لو كان األمر إلي الستبدلت كل تلك المص انع ال تي يفخ رون‬
‫بها بخاليا كبيرة تجمع جميع نحل العالم‪ ..‬وتغذى بأغذية جمي ع نبات ات األرض‪ ..‬ألبعث به ا إلى المرض ى‪ ،‬ألريحهم من‬
‫السموم والسكاكين‪.‬‬
‫فجأة ظهر رجل بلباس عصري‪ ..‬ولكنه يحمل آثارا لعصور قديمة كثيرة‪ ،‬فقلت‪ :‬من أنت يا رج ل‪ ..‬دع ني‪ ..‬ف إني‬
‫متوسم جديد‪ ..‬وتوسمي يحتاج إلى استرخاء ألسمع أصوات الكائنات‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألست من الكائنات؟‪ ..‬بل من أشرافهم‪ ..‬أنسيت بني لحمك ودمك؟‬
‫قلت‪ :‬صدقني‪ ..‬لقد انشغلت بأكوان هللا الجميلة عن أكوانكم‪ ..‬فصرت أستحيي من بشريتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ففي البشر الرسل واألولياء والصديقون‪ ..‬وال يضرك من انحرف من البشر‪ ..‬فهم ال يضرون إال أنفسهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬ولكني ال أزال أحمل همومهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت إذن كالدم الذي يحمل الهموم‪ ..‬فيحتاج إلى مشرط الجراح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬دعنا من مشارط الجراحين‪ ،‬فقد علمت من علوم النحل ما يغنينا عن الجراحين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لقد دعانا الحبيب الذي علمنا العالج بالنحل إلى العالج بالمشرط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اعرف ما تقول يا رجل‪ ..‬فالسنة قد دخلها الموضوع والمكذوب والمنكر والشاذ‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬أنا ال أتكلم إال عن األحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من أنت أوال؟‪ ..‬ولم جئت؟‬
‫قال‪ :‬أنا رسول معلم البركة إليك ألعملك دواء من األدوية المباركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد أخبروني أن المتوسمين ال يتعلمون إال من األشياء نفسها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنا حجام‪ ..‬وال يعملك الحجامة إال حجام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا أبحث عن األدوية التي نزلت من السماء‪ ..‬ودعتنا لها النصوص الممتلئة بالقداسة‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬وأن ا أق وم به ذا الن وع من العالج‪ ..‬ألم تس مع قول ه ‪ (:‬إن في الحجم ش فاء)(‪ ،)1‬وقول ه ‪ (:‬إن جبري ل‬
‫أخبرني أن الحجامة أنفع ما تداوى به الناس)(‪ ،)2‬وقوله ‪ (:‬إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة)(‪ ،)3‬وقوله‬
‫‪ (:‬ما مررت ليلة أسري بي على مأل من المالئكة إال كلهم يقول لي‪ :‬عليك يا محمد بالحجامة)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬أكل هذه النصوص في فضل الحجامة؟‬

‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫الخطيب‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫أبو داود وابن ماجة والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الترمذي‪ ،‬وقال حسن غريب‪ ،‬وابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪151‬‬
‫قال‪ :‬وغيرها كثير‪ ..‬فالنبي ‪ ‬يعتبرها من أصول األدوية‪ ،‬فيق ول‪ (:‬إن خ ير م ا ت داويتم ب ه الل دود(‪ )1‬والس عوط‬
‫والحجامة والمش ي‪ ،‬وخ ير م ا اكتحلتم ب ه اإلثم د فإن ه يجل و البص ر وينبت الش عر)(‪ ،)2‬ويق ول‪ (:‬خ ير ال دواء الحجام ة‬
‫والفصاد)(‪ ،)3‬ويقول‪ (:‬إن أفضل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري(‪ ،)4‬فال تع ذبوا ص بيانكم ب الغمز(‪ ،)6()5‬ب ل ك ان‬
‫‪ ‬يحتجم على هامته وبين كتفيه ويقول‪ (:‬من أهراق من هذه الدماء فال يضره أن ال يتداوى بشيء لشيء)(‪)7‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني سمعت الناس يذمون مهنة الحجامة‪ ،‬فكيف ترضاها لنفسك‪.‬‬
‫قال‪ :‬كذبوا‪ ..‬وكذبوا الحبيب ‪ ..‬ألم يسمعوا قوله ‪ (:‬نعم العبد الحجام يذهب بالدم ويخ ف الص لب وتجل و عن‬
‫البصر)(‪)8‬‬
‫قلت‪ :‬لقد رغبتني في الحجامة‪ ..‬فأخبرني ما مبدأ اهتمامك بها؟‬
‫قال‪ :‬أنا عبد القادر الذي يطلق عليه عبد القادر(‪.)9‬‬
‫قلت‪ :‬كلنا عبيد القادر‪ ..‬فأيهم أنت؟‬
‫قال‪ :‬رجل من بني عمومتك من بالد الشام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مرحبا بابن البالد المباركة‪ ..‬أخبرني عن أسرار ما اكتشفتموه من العالج بالحجامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد بدأت مع مجموعة من كبار األطباء في جامعة دمشق ب البحث في ه ذا‪ ..‬وق د توص لنا إلى نت ائج عالجي ة‬
‫باهرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تحقق الشفاء بها؟‬
‫قال‪:‬أجل‪ ..‬لقد استطاعت الحجامة أن تهز عروش أمراض ظلت مستعصية ومستحيلة الشفاء‪ ،‬فكان النجاح منقطع‬
‫دواء في الع الم أن حقق ه‪ ،‬وخصوص اً عن دما يتم الح ديث عن أم راض مث ل الس رطانات‬ ‫لعالج طبي أو ٍ‬‫ٍ‬ ‫النظير لم يسبق‬
‫والشلل والناعور والقلب القاتل والشقيقة والسكري وغيرها(‪.)10‬‬
‫قلت‪ :‬أكل هذا تحقق؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬بحمد هللا ومنته‪ ..‬وقد وصل األمر إلى الدرجة التي بدأت المراكز الدولية االهتمام بهذا الكشف بعد أي ام‬
‫قليلة من إعالن نتائجه الطبية والمخبرية حتى وصل األمر إلى أطباء القصر الملكي البريطاني الذين أبدوا اهتمام اً كب ير ًا‬
‫‪ )(1‬اللدود‪ :‬هو بالفتح من األدوية‪ :‬ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي وقال حسن غريب‪ ،‬والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(3‬أبو نعيم في الطب‪.‬‬
‫‪ )(4‬القسط‪ :‬عقار معروف في األدوية طيب الريح‪ ،‬تبخر به النفساء واألطفال‪ .‬النهاية ‪ 4/60‬وسنتحدث عنه في هذا الفصل‪.‬‬
‫‪ )(5‬الغمز‪ :‬العصر والكبس باليد‪ ،‬النهاية ‪.3/385‬‬
‫‪ )(6‬مسلم‪.‬‬
‫‪ )(7‬أبو داود وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(8‬الترمذي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس‪.‬‬
‫‪ )(9‬أقصد‪ :‬المفكر والباحث عبد القادر يحيى‪ ،‬وهو المشرف العام على األبحاث العلمية للحجامة‪ ،‬من موقع الحجامة‪.‬‬
‫‪ )(10‬نحن ننقل هذا مع علمنا بكثرة المخالفين لهؤالء األطباء احتراما لوجه ة النظ ر المتفائل ة من ه ذا الن وع من العالج ال ذي دلت علي ه النص وص‪...‬‬
‫واحتراما ألهل الخبرة وتصديقا لهم فيما رأوه من نتائج‪.‬‬
‫ومن باب الموضوعية نذكر أنه حصلت قبل فترة في سورية ضجة كبيرة حول الحجام ة بس بب ه ذا‪ ،‬وق د دعت نقاب ة أطب اء س ورية إلى عق د ن دوتين في‬
‫دمشق حول الحجامة نوقشت فيهما واقع الحجامة في القطر‪ ...‬وأشار الدكتور رمضان رمضان نقيب األطب اء في س ورية في مس تهل الن دوة إلى م ا ادعي من‬
‫دراسة علمية نشرت حول الحجامة في اإلعالم وفي بعض الكتب المتفرقة‪ ،‬فهي تفتقد بالكلية لمنهجية البحث العلمي‪ ..‬وبما أن ه ال توج د مع ايير أو اس تطبابات‬
‫للحجامة بالمفهوم الطبي الحديث وبالتالي فإن انتشار الحجامة بالشكل الحالي يشكل خطراً على الصحة العامة‪ ،‬وإذا م ا ك ان هن اك بعض االس تطبابات الطبي ة‬
‫فيجب أن تحدد حسب دراسات علمية تقوم بها جهات علمية مسؤولة‪.‬‬
‫وأكد الدكتور عبد الغني عرفة أن الحجامة تطبيق للنظرية العلمية القائلة بوجود جهاز مناعي ذاتي في الجس م وأن ه ذا الجه از يص يبه الكس ل أحيان ا ً فه و‬
‫بحاجة إلى إعادة تنشيطه‪ ،‬وقد أكدت التجارب الكثيرة أن الحجامة كفيلة بذلك‪.‬‬
‫أما استطباباتها العالجية فهي تطبق في الح االت ال تي يك ون فيه ا الجه از المن اعي متراخي اً‪ ،‬وال أق ول معطالً‪ ،‬كم ا في ح االت الش قيقة واآلالم العص بية‬
‫المختلفة وفي أمراض اضطرابات التغذية كالسكري وفي ارتفاع الضغط الدموي‪.‬‬
‫وبين الدكتور عبد المالك الشاالتي أن الحجامة تفيد بدون شك في بعض األمراض وليس في كل األمراض‪ ،‬وهي شائعة في كل أنحاء العالم‪ ،‬وهي ن وع من‬
‫الطب البديل الذي له جمعياته المنتشرة هنا وهناك‪.‬‬
‫وتساءل الدكتور أحمد ديب دشاش‪ :‬لماذا الحجامة اآلن‪ ،‬وهل عجز الطب عن مداواة بعض األمراض ونريد تجرب ة الحجام ة‪ ،‬وه ل تفض ل الحجام ة مثالً‬
‫ألنها أكثر فعالية؟ ثم هل يتم تطبيقها في أماكن أو بأيد ووسائل عقيمة نظيفة تضمن سالمة المريض من انتقال العدوى بم رض خط ير كاإلي دز مثالً؟ إذن الب د‬
‫من إجراء دراسة تقيم فعالية الحجامة حسب المنهج العلمي‪ .‬انظر مقدمة كتاب‪ :‬الحجامة والقسط البحري للدكتور محمد نزار الدقر‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫بهذا البحث الطبي‪ ،‬وجرت اتصاالت بينهم وبي ني وبين الفري ق الط بي الس وري للتع رف على الطريق ة ال تي يمكن به ا‬
‫عالج مرض الناعور الوراثي (الهيموفيليا) المتفشي في األسرة المالكة البريطانية‪ ،‬نظر ًا ِل َما تحقق من نت ائج ب اهرة على‬
‫مستوى هذا المرض(‪.)1‬‬
‫ً‬
‫كما حضر وفد ياباني إلى سورية من أجل هذا الحدث الطبي العظيم‪ ..‬أما الحكومة السويدية‪ ،‬فقد طلبت رسميا من‬
‫الحكومة السورية كتاب الحجامة‪ ..‬ومثلها القصر الملكي الس عودي ال ذي أب دى ب الغ االهتم ام به ذا الفن الط بي‪ ،‬وأرس ل‬
‫القص ر الملكي الس عودي مراس ل ص حيفة الري اض الش هيرة في دمش ق لعق د مجلس ص حفي لإلطالع العلمي الط بي‬
‫الموثوق عن مضمون وفعالية هذا الدواء والتقصي واستالم التحاليل الطبية المخبرية والسريرية‪ ،‬ومقابلة مرضى الش لل‬
‫والسرطان والناعور والتليف الكبدي وغيرها من األمراض الذين تم شفاؤهم شفا ًء تاماً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الحجامة قديمة على ما أعلم‪ ..‬فكيف تعتبرون هذا كشفا حديثا؟‬
‫قال‪ :‬الحجامة قديمة العهد‪ ،‬وقد طبقها األنبياء الكرام وأوصوا بها الناس‪ ،‬وق د ج اء الرس ول ‪ ‬فأحي ا بع د م وت‬
‫ِذ ْكرها‪ ،‬وطبَّقها بأصولها‪ ،‬وله الفضل في س ِّنها للمسلمين وللعالمين أجمعين‪.‬‬
‫ال أنها ـ وبعد عصر مديد ـ نُ ِسيت قوانينها نتيجة اإلهمال والعبث‪ ،‬حتى اندثرت هذه القوانين وضاعت إ َّ‬
‫ال م ا ن در‬ ‫إ َّ‬
‫منها‪..‬‬
‫باإلضافة إلى أن هناك أي ٍد أثيمة دسَّت الكثير عليها‪ ،‬فأقلع الناس عنها ونسوها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكن كثيرين ممن أعرفهم جربوها‪ ..‬فلم يجدوا فيها أي نفع‪.‬‬
‫قال‪ :‬سبب ذلك يرجع إلى أنهم لم يقوموا بتنفيذها ضمن القوانين المشروعة لها‪ ،‬ف القوانين ان دثرت وض اعت‪ ،‬فهم‬
‫ينفذوها شتا ًء‪ ،‬صيفاً‪ ،‬أو بعد بذل مجهود وتعب جسمي‪ ،‬أو بعد الطعام وليس على الريق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل توصلتم أنتم إلى قوانينها‪ ،‬وأسرار الشفاء فيها؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد أعاد العالمة محمد أمين شيخو ه ذه الس نة بإحيائ ه لقوانينه ا الدقيق ة‪ ،‬فق د ج اء بقوانينه ا ووض عها‬
‫موضع تنفيذها الصحيح من الجسم‪ ..‬كما جاء بالسر العام آللية شفائها‪ ،‬وهو التخلص من الدم الفاسد‪.‬‬
‫لقد أعاد هذا الفن العالجي الطبي بذلك الشكل الفعال العلمي المفيد ونشرها بقوانينه ا وأص ولها في كاف ة معارف ه‪..‬‬
‫وهم نشروها طبعاً في عامة الناس وهكذا حتى صارت ولها انتشار واسع في الكثير من البالد والعباد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن أسرار الشفاء‪ ..‬وقوانينها‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن الشروط التي بينها العالمة محمد أمين شيخو والتي اعتم دها الفري ق الط بي في بحث ه العلمي تتلخص في‬
‫أربعة أمور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنتم أيضا تتحدثون عن األربعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ماذا تقصد؟‬
‫قلت‪ :‬ال بأس‪ ..‬فهذا نوع من الفضول‪ ..‬ما األول منها؟‬
‫قال‪ :‬أولها وأهمها المكان الذي تجرى فيه الحجامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثني عن آلية عمل الحجامة أوال‪ ..‬ثم حدثني عن مكانها‪.‬‬
‫قال‪ :‬تعمل الحجامة على إحداث نوع من االحتقان الدموي في منطقة الكاهل من الجسم باس تعمال ك ؤوس خاص ة‬
‫ال بقط ر أص غر من‬ ‫مصنوعة من الزجاج تع رف بإس م (كاس ات اله واء)‪ ..‬وهي ذات بطن منتفخ‪ ،‬ثم عن ق متط اول قلي ً‬
‫البطن ينتهي بفتحة مستديرة منتظمة‪.‬‬
‫وقد كانت هذه الكؤوس تتخذ قديما من القرون المجوّفة لبعض الحيوانات أو يصنعونها من عيدان النباتات الص لبة‬
‫المجوّفة مثل أغصان خشب البامبو عند أهل الصين‪ ،‬وقد تطورت فيم ا بع د إلى ك ؤوس مص نوعة من الزج اج الي دوي‬
‫لسهولة تنظيفها وتعقيمها وشفافيتها التي تسمح للحجَّام برؤية الدماء المستخرجة من المحجوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني اآلن عن مكانها‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬تطب ق الحجام ة على منطق ة الكاه ل‪ ،‬وهي أعلى مق دم الظه ر تحت ل وحي الكتفين‪ ،‬وعلى ج انبي العم ود‬
‫‪ )(1‬وهذا ما صرحت به إذاعة لندن الرسمية ‪ BBC‬في نشراتها األخبارية الرسمية‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫الفقري‪.‬‬
‫وقد ورد في النصوص ما يدل على مراعاة الرسول ‪ ‬لهذه المنطقة خاصة‪ ،‬ففي الحديث أن رسول هللا ‪ ‬كان‬
‫يحتجم في األخدعين والكاهل(‪ ،)1‬ففي الح ديث أن رس ول هللا ‪ ‬ك ان يحتجم على هامت ه وبين كتفي ه وه و يق ول‪ (:‬من‬
‫أهراق من هذه الدماء فال يضره أن ال يتداوى بشيء لشيء)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ما سر اختيار هذه المنطقة بالضبط(‪)3‬؟‬
‫قال‪ :‬ألنها أركد منطقة في الجسم‪ ،‬وخالية من المفاصل المتحركة‪ ،‬والشبكة الش عرية الدموي ة فيه ا أش د م ا تك ون‬
‫تشعباً وغزارة‪ ،‬مما يجعل سرعة تيار الدم تقل‪ ،‬وبالتالي تحط رسوبيات الدم رحالها فيها‪.‬‬
‫زيادة على ذلك‪ ،‬فقد قمنا بدراسة هذه المسألة مخبرياً فوجدنا أن الحجام ة على منطق ة الكاه ل تق ل فيه ا الكري ات‬
‫البيض‪ ،‬وعند إجراء الحجامة في مواضع الساق واألخدعين وعلى الظهر بالقرب من الحوض كان دم الحجام ة في ه ذه‬
‫المناطق يماثل الدم الوريدي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما سر التأثير الذي يحدثه االحتجام في هذه المناطق؟‬
‫قال‪ :‬إن زيادة الدم الفاسد في البدن يجعله يتراكم في أركد منطقة فيها وهي الظه ر‪ ،‬وم ع تق دم العم ر تس بب ه ذه‬
‫التراكمات عرقلة عامة لسريان الدم العمومي في الجس م‪ ،‬مم ا ي ؤدي إلى م ا يش به الش لل في عم ل كري ات ال دم الفتي ة‪،‬‬
‫وبالتالي يصبح الجسم بضعفه عرضة لمختلف األمراض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإذا احتجم ماذا يحصل؟‬
‫قال‪ :‬إذا احتجم عاد الدم إلى نصابه‪ ،‬وذهب الفاسد من ه‪ ،‬وزال الض غط عن الجس م‪ ،‬فان دفع ال دم النقي العام ل من‬
‫الكريات الحمر الفتية ليغذي الخاليا واألعضاء كلها ويخ ِّلصها من الرواسب الضارة واألذى والفضالت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن أن يكون هناك دم فاسد في الجسم؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وهو الحاوي على نسبة عظمى من الكريات الحمر الهرمة وأشباحها وأشكالها الش اذة‪ ،‬ومن الش وائب‬
‫الدموية األخرى‪ ،‬ويشتد وجوده في منطقة الحجامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أليس الدم في اإلنسان مقدرا بالمقدار الذي يحتاج إليه الجسم؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف ال تؤثر إزالة بعض الدم في عمليات الجسم؟‬
‫قال‪ :‬نحن ال ننزع بالحجامة دما كثيرا‪ ..‬وال دما نقيا‪ ..‬بل إن كمية ال دم الفاس د المس تخرج بعملي ة الحجام ة الطبي ة‬
‫للمرة األولى يكون حوالي (‪)150-100‬غ‪ ،‬بينما تصل كمية الدم المأخوذ عند التبرع بالدم إلى (‪)450‬غ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعملية الحجامة إذ ًا ال تكلف شيئا كثيرا من الدم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع بأن أنفع األدوية أرخصها ثمنا؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن الجراثيم‪ ..‬أال تخافون من وجودها في الكاسات أو المشارط؟‬
‫قال‪ :‬ألنا تقول هذا الكالم؟‪ ..‬ألسنا أطباء من أهل االختصاص؟‪ ..‬نحن نعقم الكاسات بعد االنتهاء من عملية الحجامة‬
‫ال نقوم بإتالف هذه الكؤوس بشكل نهائي في مكان خاص بالنفايات‪.‬‬ ‫بشكل جيد‪ ،‬وذلك إن أمكن‪ ،‬وإ َّ‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬أقصد غيركم‪ ..‬فقد ذكرت لك بأن الحجامة أصبحت وسيلة كسب جديدة للرقاة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا صحيح لألسف‪ ..‬وليس األم ر قاص را عليهم‪ ..‬ب ل إن الش يء العجيب والمس تنكر أن نس مع بقي ام بعض‬
‫األطباء الالمبالين باستغالل اهتمام الناس بعملية الحجامة في هذه الفترة ليحققوا من ورائها غاياتهم المادية حتى ولو كانت‬
‫على حساب صحة الناس ضاربين بالقوانين العلمية الصارمة في الدقة للحجامة عرض الحائط‪..‬‬
‫ونحن نتبرأ من تلك الممارسات لعملية الحجامة‪ ،‬والتي يشوه هؤالء حقيقتها السامية ونفعها العميم لإلنسانية نتيج ة‬
‫‪ )(1‬الترمذي وأبو داود وإسناده صحيح‪.‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود بإسناد حسن‪.‬‬
‫‪ ‬يحتجم ثالثاً‪:‬واحدة على كاهله واثنتين في األخدعين‪ ،‬أخرجه أحم د‬ ‫‪ )(3‬وقد روي احتجام رسول هللا ‪ ‬في غيرها‪ ،‬ففي الحديث‪ :‬كان رسول هللا‬
‫وأصحاب السنن وإسناده صحيح‪ ،‬وفي حديث آخر أنه ‪ ‬احتجم وهو محرم في رأسه لصداع كان به‪ ،‬رواه البخاري‪ ،‬وعن جابر بن عب د هللا أن رس ول هللا‬
‫احتجم على وركه من وثء كان به » أخرجه أبو داود والنسائي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫‪154‬‬
‫ق تؤدي إلى ضرر الناس والطعن بالطب بأرقى مستوياته‪.‬‬ ‫تجرؤهم بالقيام بمثل تلك العمليات بطر ٍ‬
‫قلت‪ :‬عرفت السر األول‪ ..‬فما السر الثاني؟‬
‫قال‪ :‬مواقيتها‪ ..‬ألم تعلم بأن لكل شيء مواقيته الخاصة به؟‬
‫قلت‪ :‬فما مواقيتها؟‬
‫قال‪ :‬أربعة‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لم أسأل عن أعدادها‪ ..‬فأنا أعلم أنها أربع‪ ..‬فهل هناك غير األربع؟‬
‫قال‪ :‬هناك الميقات السنوي‪ ،‬والفصلي‪ ،‬والشهري‪ ،‬واليومي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن الميقات السنوي‪.‬‬
‫قال‪ :‬يستحب لكل صحيح أو مريض إجراءها في السنة مرة على األقل‪ ،‬وقد أشار إلى ه ذا قول ه ‪ (:‬نعم الع ادة‬
‫القائلة(‪ ،)1‬ونعم العادة الحجامة)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬هذا المريض عرفناه‪ ..‬فلم الصحيح؟‬
‫قال‪ :‬هي للصحيح وقاية‪ ،‬وللمريض عالج‪ ..‬فالحجامة وقاية وعالج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن ميقاتها الفصلي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد أشار النبي ‪ ‬إلى هذا الميقات بقوله‪ (:‬استعينوا على شدة الحر بالحجامة‪ ،‬فإن الدم ربما يتبيغ(‪ )3‬بالرج ل‬
‫فيقتله)(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬فأنتم تجرون الحجام في الصيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن الحر يكون في فصل الصيف‪ ،‬فالحجامة حتماً تكون قبله‪ ،‬أي في فصل الربيع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتجرون الحجامة في فصل الربيع؟‬
‫قال‪ :‬نحن نجريها في كل وقت‪ ..‬ولكن هذا أفضل أوقاتها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما التفسير العلمي الختيار هذه المواقيت؟‬
‫قال‪ :‬قبل أن نبدأ في التفسير العلمي لهذا الموعد ال بد أن تعلم أوال أن من وظائف الدم تنظيم حرارة الجسم‪ ،‬فالم اء‬
‫يش ِّكل النسبة العظمى في الدم (‪90‬بالمائة)من بالزما الدم‪ ،‬ولما كانت للم اء خص ائص أساس ية تميِّزه بص فة خاص ة عن‬
‫غيره من السوائل المعروفة في الطبيعة مما يجعله خير سائل مساعد على تنظيم حرارة الجسم في الكائن الحي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذا عند زيارتي للماء‪ ..‬فهو من األغذية المباركة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وانطالقا من القدرة العالية للماء على تخزين الحرارة‪ ،‬والتي تعلو قدرة أي س ائل آخ ر أو م ادة ص لبة‪ ..‬ف إن‬
‫الماء الموجود بالدم يختزن الحرارة التي يكتسبها أثناء مروره في األنسجة النشطة األكثر دفئاً ويحملها مع ه إلى األنس جة‬
‫األخرى األقل دفئاً أثناء حركته بين أجزاء الجسم المختلفة‪.‬‬
‫فللدم قدرة عالية على توصيل الحرارة تعلو على قدرة غيره من األنسجة المختلفة في الجسم‪.‬‬
‫وعلى هذا فالدم هو المتلقي األول والمتأ ِّثر الرئيسي األول بالحرارة الخارجية من بين ك ل أنس جة الجس م الم ؤثرة‬
‫على الجسم‪ ،‬فهو يمتص الحرارة من جزيئات الجسم المحيطة به لينقلها لألقل دفئاً والعكس‪.‬‬
‫ونظر ًا لدورة الدم المستمرة في الجسم فهو يعمل على تنظيم حرارة الجسم وتدفئة األجزاء الباردة وتبريد األج زاء‬
‫الدافئة حتى تظل حرارة الجسم ثابتة باستمرار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن فصل الربيع قد يكون باردا‪ ..‬فماذا تفعلون؟‬
‫قال‪ :‬األمر يح ُّده قانون عام ال يمكن لنا تجاوزه‪ ،‬وهو فصل الربيع والذي يشمل نيسان‪ ،‬وأيار‪ ،‬وربم ا نهاي ة آذار‪،‬‬
‫وبداية حزيران‪ ،‬في اليوم السابع عشر إلى السابع والعشرين‪ ،‬من الشهر القم ري فق ط‪ ،‬بارتف اع الح رارة في آذار‪ ،‬وك ذا‬
‫بانخفاض الحرارة في أول حزيران إذا تصادفا مع نقص الشهر القمري‪ ..‬وبذا نك ون ق د اس تفدنا من ثلث الس نة إلج راء‬
‫القائلة‪ :‬المقيل والقيلولة‪ :‬االستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم‪ .‬يقال‪ :‬قال يقيل قيلولة‪ ،‬فهو قائل‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫الديلمي‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫أي غلبة الدم على اإلنسان‪ ،‬يقال‪ :‬تبيغ به الدم إذا تردد فيه‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الحاكم في تاريخه‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪155‬‬
‫عملية الحجامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن الميقات الشهري‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ورد في الحديث قوله ‪ (:‬إن خير ما تحتجمون فيه يوم س بع عش رة‪ ،‬وي وم تس ع عش رة‪ ،‬وي وم إح دى‬
‫وعشرين)(‪ ،)1‬وقد ورد أن ه ‪ ‬ك ان يحتجم في األخ دعين والكاه ل‪ ،‬وك ان يحتجم لس بع عش رة وتس ع عش رة وإح دى‬
‫وعشرين)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ما سر تخصيص هذه األيام في هذين الحديثين؟‬
‫قال‪ :‬لعلك تعلم أن للقمر تأثيره الفعلي على األرض‪.‬‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فإن القمر على الرغم من أن كتلته تبلغ جزءا من ثمانين جزءا من كتلة األرض إال أنه يبلغ من القرب‬
‫لتكون المد‪ ،‬وحتى القشرة اليابسة ال تخلو من التأثيرات‪.‬‬ ‫قربا(‪ )3‬يجعل له قوى جذبه ذات أثر عظيم‪ ..‬فالمحيطات ترتفع ِّ‬
‫فقارة أمريكا الشمالية قد ترتفع بمقدار خمسة عشر سنتمتر عندما يتوسط القمر سماءها‪ ..‬بل للقمر فعل في ص عود‬
‫النسغ في األشجار الباسقة االرتفاع‪.‬‬
‫قال‪ :‬انطالقا مما ذكرته الحظ األستاذان الفرنسيان جوبت وجاليه دي فوند أن للقم ر ت أثيرا على الحيوان ات‪ ،‬فمن ذ‬
‫مولده كهالل إلى بلوغه مرحلة البدر الكامل يكون هناك نش اط جنس ي عن د الحيوان ات وال دواجن والطي ور ح تى أنهم ا‬
‫الحظا أن الدواجن تعطي بيضاً أكثر في هذه الفترة منها في فترة الشيخوخة‪ ،‬أي عندما يبدأ القمر في االنضمار التدريجي‬
‫إلى أحدب فتربيع أخير‪ ،‬ثم إلى المحاق‪ ،‬فهناك فترة نشاط وفترة فتوة في الحيوان ات ترتب ط بأوج ه القم ر‪ ،‬وذل ك حس ب‬
‫مالحظتهما الخاصة‪.‬‬
‫وقد الحظا على الدواجن وبعض الحيوانات المستأنسة ومثلها األسماك ومحارات المحيط الهندي والبح ر األحم ر‬
‫أنها تنتج بويضات في فترات معينة ألوجه القمر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل هذا أصبح معروفا‪ ..‬ولكني أريد تأثيره على الدم‪ ..‬وبالتالي تأثيره على الحجامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬القمر يبلغ ذروة تأثيره في مرحلة البدر منه‪ ،‬فيؤ ِّثر على ضغط الدم رافعاً إياه‪ ،‬مهيجاً الدم مم ا يث ير الطبيع ة‪،‬‬
‫وهذا ما عاينته بعض الدول الغربية من ارتفاع نسبة الجرائم واالعتداءات في هذه الليالي واأليام‪.‬‬
‫ففي األيام من األول وحتى الخامس عشر من الشهر القمري يهيج الدم ويبلغ حده األعظمي‪ ،‬وبالت الي يح رك ك ل‬
‫الترسبات والشوائب الدموية المترسبة على جدران األوعية الدموية العميقة منها والسطحية وعند التفرع ات وفي أنس جة‬
‫الجسم عامة‪ ،‬تماماً كفعله في مياه البح ار‪ ،‬فيك ون بمثاب ة الملعق ة الكب يرة في تحريك ه له ا لكي ال تترس ب األمالح فيه ا‪،‬‬
‫ويصبح بإمكان الدم سحبها معه ألهدأ من اطق الجس م حيث تح ط ترحاله ا هن اك بالكاه ل وذل ك بع دما يب دأ ت أثير القم ر‬
‫باإلنحسار من (‪.)27-17‬‬
‫أما من (‪)27-17‬فيبقى للقمر تأثير مد ولكنه أضعف بكثير مما كان عليه‪ ،‬ولما كانت الحجامة تُجرى ص باحاً بع د‬
‫النوم والراحة للجسم والدورة الدموية‪ ،‬ويكون القمر أثناءها ما يزال مشرقاً حتى لدى ظهور الش مس ص باحاً‪ ،‬فيك ون ل ه‬
‫تأثير مد خفيف يبقى أثناء إجراء الحجامة وهذا يساعدنا في عملنا‪ ،‬إذ يبقى ل ه ت أثيرٌ ج اذب لل دم من ال داخل إلى الخ ارج‬
‫(الدم الداخلي للدم المحيطي والدم المحيطي للكأس)وهو ذو أثر ممتاز في إنجاز حجامة ناجح ة مجدي ة من حيث تخليص‬
‫الجسم من كل شوائب دمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنفرض أن الحجامة أجريت في أيام القمر الوسطى أي في من الثاني عشر إلى الخامس عشر؟‬
‫قال‪ :‬إن فعل القمر القوي في تهييج الدم يفقد الدم الكثير من كرياته الفتية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفي األيام األولى للقمر‪.‬‬
‫َّ‬
‫قال‪ :‬في أيامه األولى‪ ،‬أي عند كونه هالال ال يكون ق د أدى فعل ه بع د في حم ل الرواس ب والش وائب الدموي ة من‬
‫الداخل للخارج للتج ُّمع في الكاهل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وردت بعض النصوص تحدد أياما معينة للحجامة‪ ،‬كقوله ‪ ( ‬إن يوم الثالثاء يوم ال دم‪ ،‬وفي ه س اعة ال‬
‫‪ )(1‬الترمذي وقال حسن غريب‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي وقال‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫‪ )(3‬قدر وسطيا بـ (‪ 385000‬كم)‬
‫‪156‬‬
‫يرقأ(‪ ،)2()1‬وقوله‪ (:‬الحجامة على الريق أمثل وفيها شفاء وبركة‪ ،‬وتزيد في الحفظ والعق ل ف احتجموا على برك ة هللا ي وم‬
‫الخميس‪ ،‬فاجتنبوا الحجامة يوم الجمعة والسبت ويوم األحد واحتجموا يوم االثنين والثالثاء‪ ،‬فإنه اليوم الذي عاف اه هللا في ه‬
‫أيوب من البالء‪ ،‬واجتنبوا الحجامة يوم األربعاء فإنه اليوم ال ذي ابتلي في ه أي وب وم ا يب دو ج ذام وال ب رص إال في ي وم‬
‫األربعاء وفي ليلة األربعاء)(‪)3‬‬
‫قال‪ :‬لعلك تالحظ التضارب بين الحديثين‪ ..‬فاألول ينهى عن الحجامة ي وم الثالث اء بينم ا ي أمر بالحجام ة فيه ا في‬
‫اليوم الثاني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ذلك واضح‪ ..‬فبم تفسره؟‬
‫قال‪ :‬هذا التناقض إن دلَّ على شيء فهو يدل على عدم صحة هذه األحاديث(‪ ..)4‬أما الصحيح ال ذي يقبل ه المنط ق‬
‫الواضح من خالل الواقع العملي والذي تجده موافقاً لحديث رسول هللا ‪ ‬فهو الذي ال يحدد األيام‪ ،‬وإنم ا يح دد الت اريخ‬
‫الذي يلي منتصف الشهر القمري كما مر معنا‪.‬‬
‫زيادة على هذا‪ ..‬فإن قوله ‪ (:‬إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين)‬
‫(‪ )5‬يدل على عدم صحة األحاديث التي تنهى عن معظم أيام األسبوع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أرى فيه ما تقصد‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو فرضنا أن يوم سبعة عشر من الشهر القمري أتى يوم الجمعة‪ ..‬فهذا يعني أن يوم تسعة عشر سيكون حتماً‬
‫يوم أحد‪ ،‬ويوم إحدى وعشرين سيكون يوم ثالثاء‪.‬‬
‫ولنفترض أيضاً أن يوم سبعة عشر أتى يوم خميس‪ ،‬فسيكون يوم تسعة عشر ي وم س بت‪ ،‬وي وم إح دى وعش رين‬
‫يوم إثنين‪ ..‬وهكذا فإن عدم ثبات األيام بالنسبة للتواريخ للشهر القمري لكونه متبدال من شهر لشهر‪ ،‬ومن سنة لس نة يثبت‬
‫بطالن األحاديث واالدعاءات التي تنهى عن األي ام رغم دخ ول الموع د المح دد للحجام ة في الربي ع من ك ل س نة وبع د‬
‫منتصف الشهر القمري وتؤكد بطالنها بشكل واضح جلي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا تحليلك‪ ..‬وهو قد يغضب المحدثين‪ ..‬أفال أدلك على ما هو ألطف منه وأكثر أدبا؟‬
‫قال‪ :‬علمني مما علمك هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حاولوا أن تبحثوا في أسرار األيام كما بحثتم في أسرار القم ر‪ ..‬فلل ه في األي ام من البرك ات م ا ال يق ل عم ا‬
‫تعرفونه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف نعمل مع التعارض؟‬
‫قلت‪ :‬هذا سهل جدا‪ ..‬اذهبوا للمحدثين‪ ..‬فهم صيادلة الحديث وصيارفته‪ ..‬وسيميزون المقبول من المردود‪.‬‬
‫قال‪ :‬دللتني على خير‪ ..‬دلك هللا على كل خير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن الميقات اليومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لها بداية ونهاية كل يوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما بدايتها؟‬
‫قال‪ :‬تجرى الحجامة في الصباح الباكر بعد شروق الشمس لما ذكرنا من الفوائد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما ميقات انتهائها؟‬
‫قال‪ :‬حسب حرارة الجو‪ ،‬فإن كانت الحرارة بارتفاع الشمس ال تزال معتدلة نستمر حتى الظهيرة‪ ،‬فهو جائز‪ ،‬لكنه‬
‫غير مستحب‪،‬فاألفضل من ه ه و الس اعات األولى من النه ار‪ ،‬ألن الحجام ة تتم على الري ق‪ ،‬ف إن بقي اإلنس ان لس اعات‬

‫‪ )(1‬يرقأ‪ :‬يقال‪ :‬رقأ الدمع والدم والعرق يرقأ رقوءا بالضم إذا سكن وانقطع‪ .‬النهاية ‪.2/248‬‬
‫‪ )(2‬أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(3‬ابن ماجه كتاب الطب في أي األيام يحتجم رقم (‪)3487‬وابن السني وأبو نعيم ‪ -‬عن ابن عمر‪.‬‬
‫‪ )(4‬قال ابن القيم‪ :‬وكل األحاديث التي ذكرت فيه ا األي ام ض عيفة‪ ،‬وق ال الفيروزب ادي في س فر الس عادة‪ :‬وب اب الحجام ة واختياره ا في بعض األي ام و‬
‫كراهتها في بعضها ما ثبت منه شيء‪ ،‬أي في السنة‪.‬‬
‫وقال ابن حجر وورد في األوقات الالئقة بالحجامة أحاديث ليس فيها شيء ( أي من الصحة)على شرطه‪ ،‬فكأنه أشار إلى أنها تصنع عند االحتياج وال تتقيد‬
‫بوقت دون وقت‪.‬‬
‫‪ )(5‬ابن ماجة‪.‬‬
‫‪157‬‬
‫لتأخره في اإلفطار واحتجامه‪ ،‬فلكي نتف ادى‬ ‫متأخرة قبل حلول الشمس وسط السماء‪ ،‬فلربما يتداركه التعب ويشعر بدوار ُّ‬ ‫ِّ‬
‫كل هذه االحتماالت‪ ،‬ولكي نن ِّفذ حجامة صحيحة مفيدة أت َّم الفائدة نس ارع في س اعات النه ار الب اكرة ونحتجم بين الس اعة‬
‫السابعة للعاشرة‪ ،‬وفي حال الضرورة الحادية عشر فالثانية عشرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الضرر في التأخر؟‬
‫ً‬
‫متأخرة للظهيرة فإننا نتحرَّك ونعمل‪ ،‬ومن شأن هذا أن يحرِّك الدم قليال‪ ،‬ويجرف القليل‬ ‫نتأخر لساعات ِّ‬ ‫قال‪ :‬عندما َّ‬
‫مما تقاعد من شوائبه في منطقة الكاهل‪ ،‬وبالتالي تكون الفائدة من الحجامة غير تامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت السر الثاني‪ ..‬فما السر الثالث؟‬
‫قال‪ :‬سن المحتجم‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وهل هناك سن معينة لالحتجام؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وهو يختلف بين الذكور واإلناث‪ ،‬فنبدأ في الذكور من الثانية والعشرين‪ ،‬ونبدأ م ع اإلن اث بع د تخطي‬
‫سن اليأس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم تؤخرون اإلناث إلى هذا السن؟‬
‫َّ‬
‫قال‪ :‬ألن هللا تعالى جع ل لهن مص رفاً طبيعي اً تس تطيع من خالل ه أن تتخلص من ال دم العاط ل‪ ،‬فب المحيض تبقى‬
‫دورتها الدموية في قمة نشاطها‪ ،‬وعندما تبلغ المرأة سن اليأس يتوقف المحيض‪ ،‬فتصبح خاض ع ًة لنفس ظ روف الرج ل‬
‫راض‬
‫ٍ‬ ‫الذي وصل إلى سن العشرين‪ ،‬وتدخل بمرحلةٌ فيزيولوجيةٌ جديدةٌ تقود إلى تغيرات نفسية وجس دية تمهِّد لنش وء أم‬
‫عديدة كارتفاع الضغط ونقص التروي ة والس كري وغيره ا‪ ،‬وهن ا تص بح الحجام ة أم ر ًا ال ب ديل عن ه أب د ًا يعي د للم رأة‬
‫استقرارها النفسي والجسدي‪ ،‬فإن ترفعت عن إجراء عملية الحجامة البسيطة غدا الجسم مرتعاً ومعرضاً لألمراض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولم ال تجرى للرجل الحجامة في مرحلة الطفولة والبلوغ؟‬
‫قال‪ :‬ألن جسمه بتطلَّب كميات كبيرة من الحديد‪ ..‬فهو في طور النمو‪ ،‬وهذه الكميات ال يؤ ِّمنه ا الغ ذاء كامل ًة له ذا‬
‫الجسم النامي‪ ،‬إنما يجري س ُّد النقص عن طريق هضم الكريات الهرمة والتالفة في الكبد والطحال وبلعميات عامة الجسم‬
‫مش ِّكل ًة الحديد االحتياطي المخزون الموضوع لحاجة الجسم‪.‬‬
‫فالجسم عامة ونقي عظامه يستفيد من هذه الكريات بعد تحويلها التحويالت المناسبة إضافة لبن اء كريات ه الحم راء‬
‫بسلسلة من العمليات‪ ،‬أما بعد العشرين عاماً‪ ،‬فيتوقف االستهالك الكبير للكريات الحمر التالفة لتوقف عجلة النمو ويص بح‬
‫الفائض منها كبير ًا يجب ُّ‬
‫التخلص منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت السر الثالث‪ ..‬فما السر الرابع؟‬
‫قال‪ :‬هو ما يرتبط بالحجامة من غذاء وصوم وغيره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت أنك ذكرت بأن الحجامة تكون على الريق‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد أشار إلى هذا الحديث الذي ذكرته‪ ،‬فقد قال ‪ ‬فيه‪ (:‬الحجامة على الريق أمثل وفيها شفاء وبركة)‬
‫(‪ ..)1‬ولهذا يحظر على المرء المحتجم تناول أية لقم ة ص باح ي وم حجامت ه‪ ،‬ب ل يبقى ص ائماً عن الطع ام ريثم ا ينف ذها‪،‬‬
‫س من الشاي‪ ،‬ألن كمية السكر الموج ودة فيه ا تك ون قليل ة‪ ،‬فال تحت اج للعملي ات‬ ‫فنجان من القهوة أو كأ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ويجوز له تناول‬
‫الهض مية المعق دة ال تي من ش أنها أن تح رك ال دم‪ ،‬وت ؤدي إلى تنش يط ال دورة الدموي ة والت أثير على الض غط ال دموي‬
‫وضربات القلب‪ ..‬كما أن هذه الكمية القليلة من الشاي أو القه وة تحت وي على منب ه عص بي بس يط يجع ل الم رء يس تقبل‬
‫الحجامة بصحوة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما الضرر الذي يحصل بعدم صيام المحتجم قبل الحجامة؟‬
‫قال‪ :‬األكل ينشط جهاز الهضم في عمله‪ ،‬وتنشط بذلك الدورة الدموية لتتوافق متكافئة مع عمليات الهض م‪ ،‬ف تزداد‬
‫ضربات القلب‪ ،‬وينشط جريان الدم ويرتفع الضغط‪ ،‬وهذا يؤدي إلى تحريك الراكد والمتقاع د من الرواس ب الدموي ة في‬
‫األوعية الدموية السطحية واألعمق لمنطقة الكاهل المتجمعة خالل النوم‪.‬‬
‫ومثل ذلك في عمليات توزيع الغذاء الناتج عن الهضم‪ ،‬فإنه ينشط الدم لكي ينقل هذه األغذية لكافة أنس جة الجس م‪،‬‬

‫‪ )(1‬ابن ماجه والحاكم وابن السني وأبو نعيم عن ابن عمر‪.‬‬


‫‪158‬‬
‫ال عن‬ ‫ستخرج ه و دم عام ل‪ ،‬فض ً‬ ‫َ‬ ‫وهذا الوضع ال يناسب الحجامة‪ ،‬وفيما إذا أجريت الحجامة بمثل هذه الظروف فإن ال ُم‬
‫أننا فقدنا الفائدة المرجوة من الحجام ة‪ ،‬ف إن الم رء المحتجم يع اني أيض اً من دوار أو إغم اء بس يط نتيج ة تقلي ل ال وارد‬
‫الدموي للدماغ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وبعد الحجامة‪ ..‬هل يظل المحجوم صائما؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬بإمكان المحجوم أن يتناول من الطعام ما س هل هض مه وتمثل ه‪ ،‬كالخض ار والفواك ه والس كاكر‪ ..‬وله ذا‬
‫ق من سلطة الخضار الممزوجة مع قطع من الخبز المح َّمر والمتبَّلة بالزيت والخل مص حوباً‬ ‫عاد ًة ما يُق َّدم للمحجومين طب ٌ‬
‫بطبق من الزيتون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واللبن‪ ..‬ذلك الغذاء المبارك؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬يحظر تناوله‪ ،‬وتناول مشتقاته كالجبن واللبن والقشدة واألكالت المطبوخة مع أحد هذه األنواع طيلة ي وم‬
‫الحجامة‪ ،‬أي‪ :‬طوال نهاره وليله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‪ ..‬أأنت من تالميذ الماكروبيوتيك؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬أنا من تالميذ المباركوبيوتي ك‪ ..‬ولكن اللبن ومش تقاته يؤدي ان في الغ الب للغثي ان والقيء‪ ،‬ويعمالن على‬
‫اضطراب في الضغط بما يؤدي للضرر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬الحتواء اللبن على مادة الكالسيوم‪ ،‬وهي تؤدي إلى اضطرابات في ضغط الدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثتني عن أسرار البركات‪ ،‬فحدثني عن بركات الشفاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي من الكثرة بحيث ال أطيق أن أذكرها لك في هذا المجلس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الحجامة كالعسل إذن؟‬
‫قال‪ :‬هي ال تصل إلى مرتبته‪ ..‬ولكنها ببركات هللا ال تقل عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مع كل ما ذكرت فإني ال أزال محتارا‪ ..‬فدلني على ما يزيل حيرتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد قدر هللا مقادير الشفاء كما قدر أسبابها‪ ..‬فمن الخلق من يكون شفاؤه في الحجامة‪ ..‬فال يش فى إال به ا‪ ..‬فال‬
‫ينبغي أن نحرمه من ممارستها‪ ..‬ومنهم من قدر هللا ش فاءه في الحب ة الس وداء‪ ،‬أو في ن وع من أن واع العس ل‪ ..‬والط بيب‬
‫الناصح يمارس كل ذلك وغير ذلك إلى أن يظفره هللا بالدواء الشافي والترياق المبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال يصبح المريض بذلك فأرا للتجارب؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬يصبح فأرا إذا سقيتموه بسمومكم التي تنشر األدواء حيثما حلت‪ ..‬فإذا نفعت لم تنفع إال قليال ال بركة فيه‪..‬‬
‫أما األدوية المباركة فحيثما حلت نفعت‪ ،‬وحيثما وقعت شفت‪ ..‬فإن تخلف شفاؤها في أمر لسبب نجهله لم يتخلف في آخر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال تذكر لي أسبابا لتخلفها؟‬
‫قال‪ :‬أسباب ذلك كثيرة منها ما نعلمه ومنها ما ال نعلمه‪ ..‬وأهمها اإليمان‪ ..‬فاإليمان بحد ذاته شفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اإليمان بماذا؟‬
‫ق ال‪ :‬بص دق رس ول هللا ‪ ‬في اإلخب ار عن تأثيره ا‪ ..‬واإليم ان بص دق المالئك ة في نص حها‪ ..‬فق د نص حتكم‬
‫باالستشفاء بها في أعظم رحلة قررت أعظم األحكام‪ ..‬فآمنوا بظواهر النصوص تفلحوا وتصحوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك وفي نصحك‪ ..‬فحدثني عن بركات األنواع‪.‬‬
‫قال‪ :‬الحجامة نوعان‪ :‬رطبة‪ ،‬وقد عرفتها‪ ،‬وجافة‪ ..‬فأصخ سمعك لتعرف أسرارها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كلي آذان صاغية‪.‬‬
‫قال‪ :‬الحجامة الجافة هي عملية تكوين احتقان دموي في الموضع المطلوب‪ ،‬بواسطة كأس الهواء ب دون تش ريط‪،‬‬
‫ومن خالل الحجامة الجافة يتم وضع الكأس على الموضع المح ّدد طبقاً لن وع الم رض‪ ،‬بع د عقم ه ب المطهرات الطبي ة‪،‬‬
‫ويتم شفط الهواء من خالل الخرطوم حتى يتم تفريغ الهواء‪ ،‬ومن ثم يترك الكأس هكذا لم دة ت تراوح من ‪ 3‬إلى ‪ 5‬خمس‬
‫دقائق‪ ،‬ثم ينزع الكأس فنجد دائرة حمراء على سطح الجلد مكان فوهة الكأس‪.‬‬
‫والحجامة الجافة تنقل األخالط الرديئة من مواضع األلم إلى سطح الجلد‪ ،‬وبذلك يختفي جزء كبير من األلم‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫وقد يت ّم أحيا ًنا دهن الموضع بزيت الزيتون أو زيت النعناع‪ ،‬ثم الشفط البسيط وتحريك الكأس على وح ول المك ان‬
‫المطلوب‪ ،‬لجذب الدم وتجميعه في طبقة الجلد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد رأيت من العامة من يفعل هذا‪ ..‬وهم ي دعونها ك ؤوس اله واء‪ ،‬حيث تش عل ورق ة أو قطع ة قطن داخ ل‬
‫الكأس لتفريغ الهواء‪ ،‬ثم توضع مباشرة على جلد المريض‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬فالهواء يسخن داخل الكأس فيتمدد بالحرارة‪ ،‬وعند مالمسته للجل د ي برد اله واء فينكمش ويق ل‬
‫حجمه فيحدث فراغاً داخل الكأس مما يجذب الجلد إلى جهته‪ ،‬ويؤولها آخ رون أن االح تراق نفس ه يس تهلك األوكس جين‬
‫ضمن الكأس‪ ،‬ويحدث فراغاً يجذب إليه الجلد ويحدث تبيغ الدم في موضعها‪ ،‬حيث يتغير لون الجلد فيصبح بنفسجياً لعدة‬
‫ساعات نتيجة الحتقان الدم فيه وتمر عليه أيام قبل أن يعود إلى الجلد لونه الطبيعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل لهذا النوع من الحجامة أثره العالجي؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فالحجامة الجافة تفيد في تخفي ف أو إزال ة االحتق ان من المن اطق الواقع ة حوله ا‪ ،‬عالوة على ح دوث‬
‫تأثيرات انعكاسية أخرى ذات تأثير بين في تسكين األلم وتخفيف االحتقان‪.‬‬
‫ومن أهم استطباباتها آفات الرئة الحادة واحتقانات الصدر الناتجة عن اإلصابات القلبية والرئوية‪ ،‬احتقانات الكب د‪،‬‬
‫التهابات الكلية‪ ،‬التهاب التامور وفي العصابات القطنية الوربية‪.‬‬
‫ويمكن أن تقوم الحجامة الجافة مقام االس تدماء ال ذاتي ل دى األطف ال أو ل دى من يتع ذر العث ور على أوردتهم من‬
‫الكهول‪ .‬واالستدماء الذاتي يكون بنق ل ال دم من وري د الم ريض وحقن ه في عض له اإللي وي‪ ،‬وهي طريق ة عام ة إلزال ة‬
‫التحسس وتقوية الدفاع الذاتي للمريض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يدخل االجتهاد في الحجامة وأنواعها؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬بشرط أن يكون ذلك من المختصين الخبراء‪ ..‬وقد حصل من ذلك الكثير‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي ما يمكن االستفادة منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬من ذلك ما يسمى بالحجامة المدلكة‪ ،‬وقد كتبت اختصاصية العالج الفيزي ائي األمريكي ة أنيت ا ش انون ‪Anita‬‬
‫‪ Shanon‬تقول عن هذا النوع‪ (:‬الحجامة المدلكة هي تطوير حديث لعالج قديم وتعتبرإضافة فعالة لعملي ة حف ظ الص حة‬
‫ومتممة لعالج عدد من األمراض الشائعة‪ ،‬ولقد اعتمدت التطبيق ات العالجي ة للحجام ة من خالل إح داث ت بيغ في الجل د‬
‫المحجوم من أجل تصريف السوائل الفائضة والسموم‪ ..‬وح ل التص اقات وتنش يط األنس جة الض امة‪ ..‬وتنش يط ال دوران‬
‫الدموي في الجلد والعضالت القريبة‪ ..‬وتنشيط الجهاز العصبي المحيطي)‬
‫وتتابع الدكتورة شانون بحثها فتقول‪ :‬التطبيق المفضل للمح اجم ه و الس طح الواس ع للظه ر‪ ،‬ونتائجه ا ال تص دق‬
‫خاصة كمعالجة مضافة للتدليك‪ ،‬وهي مسكنة بشكل فعال للجهاز العصبي كما تساعد على دخول العض وية في حال ة من‬
‫االسترخاء‪ ،‬وليس نادر ًا أن تؤدي إلى غطيط عميق‪ ،‬وهي مفيدة جد ًا لمعالجة ارتف اع الض غط ال دموي‪ ،‬والقل ق والتعب‪،‬‬
‫والصداع المزمن‪ ،‬واآلالم العصبية‪ ،‬والتقفع العضلي‪ ،‬إذ أن العضالت المتقلصة والمحتقنة تتلين وتسترخي بس رعة بع د‬
‫دقائق من الحجامة التالية للتدليك‪.‬‬
‫وترى د‪ .‬شانون أن تخلية الهواء من الكؤوس يحاكي فعلها فعل الضغط الدائري للمس اج العمي ق دون إح داث أي‬
‫انزعاج‪ .‬وحركة الكؤوس يمكن أن تكون دائرية أو خطية وهي مناسبة لحل العقد الجاسئة أو المعندة من الجل د الم ؤوف‪.‬‬
‫واحمرار الجلد مكان التطبيق يدل على حضور جيد للدوران الدموي في سطح الجلد الذي يمكنه عند تط بيق المروخ ات‬
‫والحالالت النباتية المائية المسكنة فور ًا بعد الحجامة أن تمتص عميقاً في األنسجة وتؤدي إلى فاعلية سريعة‪.‬‬
‫وتقول د‪ .‬شانون‪ :‬إن زيادة الورود ال دموي الهائ ل إلى المنطق ة تحض ر إليه ا التغذي ة الكافي ة وت ؤدي إلى س حب‬
‫الس موم خ ارج المنطق ة عن طري ق الع ود الوري دي‪ .‬وفي الحقيق ة ش عور المرض ى ال يمكن وص فه (يك اد ال‬
‫يصدق)والمرضى كثير ًا ما يصفون شعورهم بدفء عميق ودغدغة لطيفة تستمر في المنطقة لما بعد انتهاء الحجامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيك‪ ..‬فقد عرفت أس رارا كث يرة كنت أجهله ا من األح اديث المخ برة عم ا جع ل هللا في الحجام ة من‬
‫شفاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا واجبنا ـ نحن المؤمنين ـ نحو هدي نبينا ‪ ..‬فال ينبغي أن نقصر في التعرف على هدي ه وأس راره‪ ..‬ب ل‬
‫‪160‬‬
‫يبحث كل في محله ومنزله الذي أنزله هللا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قلت‪ :‬بالمناسبة‪ ..‬لقد ورد في الحديث أن النبي ‪ ‬بعث إلى أبي بن كعب طبيبا‪ ،‬فقطع له عرقا وكواه عليه(‪.)1‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬أعرف هذا الحديث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال يتعارض هذا مع المواضع التي ذكرتها للحجامة؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬هذاالحديث ال عالقة ل ه بالحجامة(‪ ..)2‬ب ل ه و يتح دث عن عملي ة أخ رى اس مها الفصد(‪ )3‬أو الفص ادة‪،‬‬
‫وهي شق أو قطع للعرق أو الوريد الستخراج الدم‪ ،‬وهي بذلك تختلف عن الحجام ة ال تي تج ري بتش ريط الجل د‪ ،‬وليس‬
‫شق العرق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هي من العالج المبارك؟‬
‫قال‪ :‬كل ما ورد في النصوص من العالج عالج مبارك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أقصد هذا‪ ..‬بل أقصد استعمالها ومدى نجاعته‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن الفصد عالج عريق في القدم‪ ،‬وقد ورد ذكره في أوراق البردي الفرعونية‪ ،‬كما خص ص ل ه ك ل من أب و‬
‫قراط وجالينوس مقالة مفردة‪ ..‬وأول نظرية متكاملة عللت مقاصد الفصد وضعها أرسطو في الق رن الث الث قب ل الميالد‪،‬‬
‫ثم إن جالينوس ـ وإن كان قد انتقد ارسطو في تفسيره لمنافع الفصد ـ أقر بفوائده الجم ة‪ ،‬وأن ه يه دف إلى تع ديل األخالط‬
‫في الجسم أو تحريكها إذا كان يرجع أسباب المرض إلى خلل في هذه األخالط‪.‬‬
‫وقد كان الفصد الوقائي شائعاً في أوربا حتى ظهور الطباعة عام ‪.1462‬‬
‫وفي القرن السابع عشر كان الفصد واسع االنتشار في إيطاليا‪ ،‬يدلنا على ذلك تلك اآلني ة الجميل ة ال تي خصص ت‬
‫لجميع دم الفمصود‪ .‬ورغم ظهور األطباء في القرن الثامن عشر في الفصد على اختالف مذاهبهم الطبية‪.‬‬
‫وفي أمريكا‪ ،‬وفي عام ‪ 1800‬نجد أن بنيامين روش اعتمد في معالجته على إحداث ن زف غزي ر لمعالج ة الحمى‬
‫الصفراء حيث يعطي المرضى الملينات ويعالجهم بالفصادة‪.‬‬
‫وعرف الفصد أوج تطبيقه في بداية القرن التاسع عش ر حيث ك ان ‪ 75‬بالمائ ة من ن زالء المش افي يفص دون في‬
‫أوربا حتى أن مجلة الجراح الشهيرة أخذت اسمها من أداة الفصد‪ ،‬وكان الج راح الفرنس ي بروس ي من أهم ال دعاة إلي ه‬
‫وكان يعالج به مرضى االلتهاب الحبني واضعاً قواعد للفصد تعتمد على النبض والحالة العامة‪ ،‬كما دعا بروسي بتط بيق‬
‫العلق وكانت ممرضته تسأل الوافد الجديد عن مكان ألمه ثم تعلق له من ‪ 10‬ـ ‪ 30‬علقة وفق إجابته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأطباء المسلمين؟‬
‫قال‪ :‬األطباء المسلمون في عصر نهضتهم طبقوا الفصد مؤكدين أثره الوق ائي‪ ،‬وه ذا م ا يؤك ده ابن س ينا إذ ق ال‪:‬‬
‫( يجب أن تعلم أن هذه األمراض مادامت مخوفة ولم يوقع فيها‪ ،‬إباحة الفصد فيه ا أوس ع‪ ،‬ف إن وق ع فيه ا لي ترك الفص د‬
‫أص ً‬
‫ال)‬
‫ويرى أبو القاسم الزهراوي أن الفصد إما أن يستعمل لحفظ الصحة‪ ،‬وإما أن يستعمل في عالج األمراض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الحاالت العالجية التي كان يستخدم لها الفصد وأثبت جدواه(‪)4‬؟‬
‫قال‪ :‬لقد جاء في الموسوعة الطبية السوفياتية الكبرى مقاال مهما عنها كتبه البروفسور ب‪.‬كونيايف وآخرون‪ ،‬وق د‬
‫ذكروا أن للفصادة على العضوية تأثيرات كث يرة‪ ..‬وأن الط رح المقص ود لكمي ة كب يرة من ال دم في وقت قص ير تع ادل‬
‫تأثيرات النزف الدموي الحاد‪ ،‬فهي تنقص الدم الجائل وينخفض معها إلى حد م ا الض غط الش رياني‪ ،‬وخاص ة الوري دي‬
‫مما يملك تأثيرات إيجابية حالة وجود فرط توتر وريدي ن اجم عن قص ور البطين األيمن‪ ،‬وإن ع ودة الجائ ل إلى حجم ه‬
‫الطبيعي يتم بسرعة عقب الفصادة بسبب موه الدم‪ ،‬إذ تزيد نسبة الماء فيه أكثر من ‪ 15‬بالمائة من الحدود الس وية‪ ،‬وم وه‬
‫الدم هذا مرتبط بآلية عصبية ـ خلطية ناظمة لحجم الدم الجائل‪.‬‬
‫وذكروا أن الفصادة العالجية تعتبر مثيرة الرتكاس العضوية الدماغية‪ ،‬كما أن ما تستدعيه من إعادة توزيع بعض‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫انظر‪ :‬كتاب الحجامة والقسط البحري تأليف الدكتور محمد نزار الدقر‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫عرف بأنه طرح لكمية من الدم من الدورة الدموية لغاية عالجية بحتة بطريقة البزل للوريد بإبرة أو جرح الوريد أو تشطيبه وأحيانا ً ببزل الشريان‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫انظر‪ :‬الموسوعة الطبية الفقهية للدكتور أحمد محمد كنعان ـ دار النفائس‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪161‬‬
‫العناصر في العضوية كالماء والشوارد والعناصر المكونة لل دم ت ترافق م ع زي ادة نش اط آلي ة التنظيم الع ام والموض عي‬
‫لدينمية الدم يؤهب لتراجع االضطرابات في الدوران الدموي‪ ،‬وهذا ما يوض ح م ا ن راه بع د الفص ادة من تحس ن الحال ة‬
‫العامة للمرضى وزوال اآلالم في الرأس وخلف القص‪.‬‬
‫وزيادة على هذا(‪ ،)1‬فقد أكد اختصاصي القلب جيروم سوليفان في المركز الطبي في شارلستون بوالي ة كارولين ا‬
‫الجنوبية أن فقدان الدم بانتظام قد يؤدي إلى حماية اإلنسان من النوبات القلبية‪ ،‬فعندما يفقد الجسم كمية من الدم‪ ،‬فإن ه يفق د‬
‫أيضاً عنصر الحديد الذي يخزنه الجسم في صورة مركب الفريتين‪.‬‬
‫وهو يذكر أن الناس الذين يحتوي دمهم على نسبة قليلة من الحديد هم األقل عرضة لإلصابة بالنوبات القلبية‪.‬‬
‫ويرجع هذا إلى أن الحديد المختزن يعتبر عامال شديد الخطورة‪ ،‬وقد تأكد هذا بعد سلسلة من األبحاث أجراها عدد‬
‫من األطباء الفلنديين‪ ،‬الذين تابعوا مجموعة من الرجال من متوسطي العمر لمدة خمس سنوات حيث وج دوا أن الرج ال‬
‫من متوسطي العمر لمدة خمس سنوات‪ ،‬حيث وجدوا أن الرجال الذين أصيبوا بنوبات قلبية هم الذين ت زداد نس بة الحدي د‬
‫في دمائهم‪.‬‬
‫وعالج هذه الحالة هو فقدان الدم بشكل منتظم‪ ،‬وهي مشكلة محلولة عند النساء بسبب الدورة الشهرية عندهن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعند الرجال‪ ..‬فنحن ال نجد من يقوم بهذ النوع من الفصد‪.‬‬
‫قال‪ :‬يوجد ذلك على مستوى واسع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أين؟‬
‫قال‪ :‬في كل المستشفيات‪ ..‬وذلك بالتبرع بالدم بشكل منتظم‪ ،‬وبحد أدنى ثالث مرات في الس نة‪ ..‬فتجم ع ب ذلك بين‬
‫عالجين نبويين‪ :‬الفصادة والصدقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل أثبت التبرع بالدم جدواه كنوع من الفصادة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد قام البروفسور سالونين وثالثة من زمالئه من جامعة كيوبيو بفلن دا بدراس ة على ‪ 2682‬شخص اً‪،‬‬
‫ولمدة س ت س نوات عن فائ دة الفص ادة عن طري ق الت برع بال دم في أم راض القلب واألوعي ة فت بين أن ‪ 38‬بالمائ ة من‬
‫أم راض القلب واألوعي ة ق د اختفت بفض ل الت برع بال دم‪ ..‬أي أن معظم المت برعين بال دم ق د تخلص وا من آف ات القلب‬
‫واألوعية التي تصيب غيرهم من غير المتبرعين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك ما يمنع من استعمال هذا النوع من العالج؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪..‬وله ذا لم ي رد أي ح ديث في فض لها‪ ..‬ب ل ورد النص فق ط في ج واز اس تعمالها كأس لوب من أس اليب‬
‫العالج‪ ..‬ولهذا تمنع الفصادة مطلقاً عند وجود هبوط مرضي في الضغط ال دموي أو وج ود نقص في حجم ال دم‪ ،‬كم ا أن‬
‫من مضادات استطباباتها النسبية التصلب العصيدي الدماغي‪ ،‬وفقر الدم من أي منشأ خاص ة إذا تراف ق م ع مي ل لتش كل‬
‫الخثرات‪.‬‬
‫وهناك بعض االختالطات التي تنجم عن الفصادة غير المراقب ة بس بب هب وط الض غط أو نقص الخض اب وع دد‬
‫الكريات الحمر في الدم الجائل كحصول فقر دم موضعي دماغي عند المصابين بالتصلب العص يدي يع الج بإع ادة حجم‬
‫الدم بحقن المصورة أو نقل كمية من الدم‪.‬‬
‫ً‬
‫كما قد يحصل غش يان عن د األش خاص الض عفاء عن د الس حب الس ريع لل دم حيث توق ف العلمي ة ف ورا‪ ،‬وينش ق‬
‫المريض الغول النشادري‪.‬‬
‫الحبة السوداء‬
‫بعد أن أمتعني بحديثه عن الحجامة والفصد‪ ،‬وآثارهما العالجية‪ ،‬ذهب كم ا أتى من غ ير أن ي ترك لي أي فرص ة‬
‫لمزيد التعرف عليه وعلى فريق البحث المبارك الذي أجرى كل تلك األبحاث‪ ،‬وأخرج للعالم أسلوبا جدي دا من األس اليب‬
‫التي تعيد االبتسامة لألنين‪.‬‬
‫لقد ابتسمت من كل قلبي‪ ،‬وأنا أشعر بأن هللا تعالى‪ ،‬وإن قدر المرض‪ ،‬فإنه قدر من أنواع العالج ما يمكن أن يحيط‬

‫‪ )(1‬عن مجلة العربي العدد ‪ 434‬يناير ‪.1995‬‬


‫‪162‬‬
‫بكل مرض‪ ،‬ويقتل كل داء‪ ،‬وينشر العافية في كل بدن‪.‬‬
‫لقد صرت أنظر إلى المرض كما أنظر إلى الجوع‪ ..‬فإن هللا خلق للجائع من أصناف الطعام ما يسد جوعه في كل‬
‫مرة بكل جديد مغن نافع‪ ..‬وهكذا المرض أرسل له من أنواع العالج ما يمأل صاحبه باالبتسامة واألمل‪..‬‬
‫بينما أنا كذلك إذ سقطت حبة سوداء على وجهي‪ ،‬فمددت ي دي ألزيحه ا‪ ،‬فق الت بص وت رخيم‪ :‬ال‪ ..‬دع ني هن ا‪..‬‬
‫فهذا المكان أفضل لي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هو أفضل لك‪ ..‬ولكنه ال يناسبني‪ ..‬إن مكانك إما أن يكون سلة المهمالت‪ ..‬أو قدر المطعومات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أأنت أيضا تحتقرني‪ ..‬أتحمل مثل قومك فيروسات العنصرية؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬لم أقصد النظر إلى لونك‪ ..‬فال يهمني سوادك أو بياضك‪ ..‬ولك ني تع ودت أن ال أت رك ش يئا يس قط على‬
‫وجهي أو بدني إال أزحته‪.‬‬
‫قالت‪ :‬يمكنك أن تفعل ذلك مع غيري‪ ..‬أما أنا‪ ..‬فال ينبغي أن تنظر إلي إال باحترام وتقدير وإجالل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من أنت حتى تريدين مني هذه المعاملة الخاصة؟‬
‫قالت‪ :‬أنا الحبة السوداء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حبة البركة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬شكرا على هذه التسمية‪ ..‬ولو أني أفضل أال تسموني بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم‪ ..‬قومي يسمونك بهذا االسم‪ ..‬وهم يحترمونك بذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أحب االسم الذي سماني به حبيبي ‪ ،‬فقد قال‪ (:‬عليكم بهذه الحبة السوداء‪ ،‬ف إن فيه ا ش فاء من ك لّ داء إال‬
‫السَّام(‪)2()1‬‬
‫قلت‪ :‬لقد أخبر ‪ ‬عن بركاتك الشفائية العظيمة‪ ،‬فذلك أطلقوا عليك حبة البركة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا من قوم يقولون بس د ال ذرائع‪ ،‬فأخش ى أن يحص روا البرك ة في‪ ،‬كم ا حص ر بعض كم الس نة في اللحي ة‬
‫والقميص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتضحين بهذا الشرف العظيم ألجل سد الذريعة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ليس ألجل ذلك فقط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هو الشيء اآلخر الذي يجعلك تضحين بهذا االسم الجميل؟‬
‫قالت‪ :‬إن كوني حبة سوداء يذكرني بالنقطة التي تحت الباء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعرفينها؟‬
‫قالت‪ :‬وقد ذقت من حالوتها ما ترونه من بركاتي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني أرى لطعمك مرارة ال أتحملها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬تلك مرارة أشواقي‪ ..‬فإني منذ جلست ذلك المجلس الشريف تحت الباء‪ ،‬وقلبي يتفطر شوقا إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عهدي بالعاشقين تنور وجوههم‪ ،‬فكيف اسود وجهك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ليكتب فيه محبوبي بحروف النور بركات الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال يؤذيك لونك؟‬
‫قالت‪ :‬من عرفه ال يؤذيه شيء‪ ..‬ألم تسمع حديث ابن عباس؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قال له ‪ (:‬ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إال بشيء ق د كتب ه هللا علي ك‪ ،‬جفت‬
‫األقالم ورفعت الصحف)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن نفسك وعن بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أال تكفيك منزلتي؟‬

‫‪ )(1‬الموت‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عباس‪.‬‬
‫‪163‬‬
‫قالت‪ :‬أنا من قوم ال يكفيهم إال ما يمأل صدورهم بأخبار المخابر(‪.)4‬‬
‫قالت‪ :‬لقد عرفت بركاتي من قديم‪ ،‬وال يهمني أن يعرفني قومك أو غير قومك‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ألم نكلف بخطاب الناس على قدر عقولهم؟‬
‫قالت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فرحمتك بهم أن تخاطبيهم بما يفهمون‪.‬‬
‫قالت‪ :‬صدقت‪ ..‬وسأحدثك بما يفهمون‪ ،‬فسل عما بدا لك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت أن بركاتك عرفت من قديم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬ولكن الذي حفظها هو رسول هللا ‪ ،‬فلواله لكنت كغيري في غمار النسيان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن عرفك من الشعوب؟‬
‫قالت‪ :‬لقد عرفني المصريون القدماء‪ ،‬ولكن لم يعرف على وجه التحديد كيفية استخدامهم لي إال أن اكتشاف زي تي‬
‫ضمن مقتنيات أحد ملوكهم يدل بصورة قاطعة على مدى أهميتي في هذه الفترة‪.‬‬
‫ويشير العهد القديم في سفر أشعياء إلى أهميتي والطرق المتبعة حينئذ للحصول على زيتي‪ ،‬وقد عرف العبرانيون‬
‫نباتي الذي كان ينمو بصورة واسعة في مصر وسوريا‪ ،‬باسم كيتساه‪.‬‬
‫وكتب ديس كوريدس‪ ،‬وه و ط بيب يون اني ش هير ع اش في الق رن األول الميالدي‪ :‬أن ب ذور حب ة البرك ة ك انت‬
‫تستخدم في عالج الصداع واحتقان األنف وآالم األسنان‪ ،‬باإلضافة إلى استخدامها لطارد الديدان‪ ،‬كذلك استخدمت كم در‬
‫للبول واللبن‪.‬‬
‫بركات التكوين‪:‬‬
‫قلت‪ :‬حدثتني عن تاريخك‪ ،‬فحدثيني عن أسرار بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد حدثتك بأن بركتي مستمدة من عبوديتي‪ ،‬فكل من تحقق بعبودية هللا نال من بركات هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أقصد ما يفهمه قومي‪ ..‬فهم ال يؤمنون بمثل ما قلت‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس‪ ..‬سأحدثكم عن كفني الذي أتكفن به‪ ..‬لقد عكف العلماء منذ زمن على معرفة كيفي ة عملي‪ ،‬وخاص ة‬
‫دوري في عملية التئام الجروح‪ ،‬والذي اس تدعى معرف ة مكون اتي‪ ،‬وق د وج دوا أني أحت وي على العدي د من الفيتامين ات‬
‫والمعادن والبروتينيات النباتية‪ ،‬باإلضافة إلى بعض األحماض الدهنية غير المتشبعة(‪.)2‬‬
‫باإلض افة إلى احت وائي على العدي د من األحم اض الدهني ة األساس ية والمهم ة لص حة الجل د والش عر واألغش ية‬
‫المخاطية‪ ،‬وكذلك عملية ضبط مستوى الدم وإنتاج الهورمونات بالجسم وغيرها من الوظائف الحيوية المهمة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى كل هذا أحتوي على مادة النيجيللون‪ ،‬وهي مادة ّبلورية تم استخالص ها ألول م رة في ع ام ‪،1929‬‬
‫وقد استخدمت منذ ذلك الحين باعتبارها المادة الفعالة الموجودة ببذرتي‪.‬‬
‫ويعد النيجيللون أحد مضادات األكسدة الطبيعية مثل فيتامين ج وأ وك ذلك الجلوت اثيون‪ ،‬وال تي تلعب دور ًا أساس ًّيا‬
‫في حماية الجسم ضد مخاطر ما يسمي بالشوارد الحرة‪ ..‬وهناك العديد من األبحاث التي نشرت مؤخر ًا عن دور الحماية‬
‫الذي يلعبه النيجيللون في حماية الجسم من مخاطر العديد من المواد الغريبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وزيتك؟‬
‫قالت‪ :‬إن الزيت الطيار الذي وضعه هللا في يحتوي على مادة ال نيجيللون‪ ،‬وهي م ادة مض ادة للهس يتامين‪ ،‬ومنه ا‬
‫فائدة الحبة السوداء في عالج الربو بتوسيع القصبات‪ ،‬وفي عالج ارتفاع الضغط الدموي بتوسيع األوعي ة الدموي ة‪ ،‬وفي‬
‫عالج بعض األمراض الهضمية بإزالة التشنجات المعدية والمعوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى فريقا من قومي يفصلون زيتك‪ ،‬ويبيعونه بأغلى األسعار‪ ..‬ويزعمون له خواص عالجية خطيرة‪ ..‬فهل‬
‫ذلك صحيح؟‬
‫‪ )(4‬اإلعجاز الطبي في السنة النبوية‪ ،‬للدكتور كمال المويل‪.‬‬
‫‪ )(2‬إن (‪)100‬غ من الحبة السوداء تحتوي على‪)19.3( :‬غ ماء‪ ،‬و(‪)17.9‬غ بروتين‪ ،‬و(‪)12.9‬غ دهن‪ ،‬و(‪)10.80‬ملغ كالسيوم‪ ،‬و(‪)1‬مل غ كالس يوم‪( ،‬‬
‫‪)20‬ملغ فيتامين أ‪ ،‬و(‪)2.6‬ملغ نياسين‪ ،‬و(‪)6.3‬غ ألياف‪ ،‬و(‪)7.8‬غ رماد‪.‬‬
‫والقيمة الغذائية تساوي (‪)364‬سعرة حرارية‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫قالت‪ :‬أال تعرف قومك؟‬
‫قلت‪ :‬أعرفهم وأجهلهم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد أهلكهم حب الدينار والدرهم‪ ،‬فراحوا يتالعبون بأجساد الخلق ألجلهما‪ ..‬ألم تعلم كي ف حول وا الرقي ة إلى‬
‫شبكة يصطادون بها؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد سمعت من ذلك الكثير‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فكذلك هم يصطادون بزيتي‪ ،‬ويتالعبون به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الرسول ‪ ‬أخبر عن بركاتك‪..‬‬
‫قالت‪ :‬أخبر عن بركات الحب ة الس وداء‪ ..‬ال عن برك ات زيت الحب ة الس وداء‪ ..‬ف إن ك انوا مس تنين به دي النب وة‪،‬‬
‫فليأخذوا الحروف بمعانيها‪ ..‬وال يبتدعوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكنهم إن فعلوا ذلك لم يقدموا جديدا‪ ..‬فالحبة السوداء تباع عند كل عطار‪ ،‬بل عند البقالين‪..‬‬
‫قالت‪ :‬وما يضرهم أن يجعلني هللا غذاء ودواء‪.‬‬
‫قلت‪....:‬‬
‫قالت‪ :‬أنت تريد كالم المخابر‪ ..‬ال مجرد كالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم تجاوزي ما في نفسي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد أخبر المختصون الصادقون أن فوائدي تتوق ف على ع دم طح ني إال عن د االس تعمال‪ ،‬ألني إذا س حقت‬
‫وتركت ـ ولو لعدة ساعات قبل استعمالي ـ فإن المادة الفعالة تتطاير مني‪ ،‬ألنها عب ارة عن زيت طي ار‪ ..‬لكن إذا س حقت‪،‬‬
‫ثم مزجت مع عسل مزجاً جيد ًا‪ ،‬وحفظت في علبة قاتمة اللون ومحكمة الغلق‪ ،‬فإني أحتفظ بفائدتي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما أفضل طريقة لالستفادة من بركاتك؟‬
‫قالت‪ :‬بسيطة جدا كبساطتي‪ ..‬ال تكلف فيها وال تجارة‪ ..‬وهي فوق ذلك سنة المصطفى ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬شوقتني‪ ،‬فما هي؟‬
‫قالت‪ :‬لقد حدث أنس بن مالك أن النبي ‪ ‬كان إذا اشتكى تقمح(‪ )1‬كفا من شونيز وشرب ماء وعسال(‪.)2‬‬
‫قلت‪ :‬أيكتفي بسفك؟‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فإن أضفت إلي ما فعل رس ول هللا ‪ ‬تك ون ق د نلت ثالث برك ات‪ :‬برك تي‪ ،‬وبرك ة الم اء‪ ،‬وبرك ة‬
‫العسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني قد ال أطيق ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬فافعل بعض ما يفعله بعض قومك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما يفعلون؟‬
‫قالت‪ :‬يضعون ملعقة مني على صحن يحتوي على اللبن الزبادي‪ ،‬ويغم ر ب زيت الزيت ون‪ ..‬ثم يجعل ون ذل ك من‬
‫أطباق الفطور في الصباح أو العشاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه وصفة طيبة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وأطيب منها وصفة الحبيب‪ ،‬بأبي هو وأمي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما المقدار الذي أنتفع به منك؟‬
‫قالت‪ :‬إن كنت على دين قوم ك‪ ،‬فليس هن اك دلي ل علمي ك اف يش ير إلى ذل ك‪ ،‬إال أن الدراس ة ال تي أج ريت في‬
‫أمريكا وأشارت إلى فائدة الحبة السوداء في تنشيط الجهاز المناعي‪ ،‬استخدمت جراما واحدا من الحبة السوداء مرتين كل‬
‫يوم(‪.)3‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا صحيح؟‬
‫‪ )(1‬تقمح‪ :‬أي استف كفا من حبة السوداء يقال‪ :‬قمحت السويق بالكسر إذا استففته‪ .‬النهاية (‪)4/107‬‬
‫‪ )(2‬الخطيب البغدادي عن أنس‪.‬‬
‫‪ )(3‬ذكر بعضهم أن بعض األمراض الداخلية يكفي فيها جرعات صغيرة‪ ،‬أما بعضها اآلخر‪ ،‬فيحتاج لجرعة أك بر‪ ...‬وذك ر أن الجرع ة الفعال ة ح والي‬
‫ملعقة صغيرة‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫قالت‪ :‬ال زالت أبحاثكم قاصرة في هذا المجال‪ ،‬ول وال أن معلم البرك ة نه اني أن أتكلم ل ك بغ ير م ا يعرف ه قوم ك‬
‫لذكرت لك ما ينقضي دونه العجب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولم نهاك؟‬
‫قالت‪ :‬هذا من العلوم التي تحتاجون أنتم المتطاء سنن هللا للبحث فيها‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ال بأس‪ ..‬فإن قولك هذا يشجع على إجراء المزيد من البحوث بطمأنينة وثقة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا منجم من مناجم الصحة‪ ،‬لكن لمن عرف كيف يستعملني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيخطئون في استعمالك؟‬
‫قالت‪ :‬كثيرا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬اذكري لي أمثلة على ذلك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا دواء‪ ..‬وينبغي أن أستعمل بمقدرا محدد‪ ،‬وقد ذكر بعضهم أنه ال ينصح باستعمالي بشكل يومي مس تمر‪..‬‬
‫بل أستعمل لمدة ‪ 14‬يوماً‪ ،‬ثم يكرر العالج بعد أسبوعين أو أكثر‪ ،‬إلمكانية حدوث األعراض الجانبية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل ذكروا بعض المحاذير من استعمالك؟‬
‫قالت‪ :‬األصل أني من األدوية المبارك ة‪ ..‬وهي ال مح اذير فيه ا‪ ..‬ولكن س وء االس تعمال جع ل البعض يح ذر من‬
‫استعمالي لمن يعانون من انخفاض ضغط الدم‪ ،‬أو نوبة الربو الحادة‪..‬‬
‫ومثل هؤالء يحذر النساء الحوام ل من اس تخدامي خالل ف ترة الحم ل‪ ،‬ألن ال زيت الث ابت للحب ة يس قط الج نين‪..‬‬
‫ومثلهن االطفال الرضع‪ ..‬ومثل ذلك استخدامي مع أدوية كيماوية أو عشبية أخرى خشية حدوث تداخلت دوائية(‪.)1‬‬
‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫قلت‪ :‬حدثتني عن بركات التكوين‪ ،‬فحدثيني عن بركات الشفاء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد اخبر ‪ ‬عن بركات الشفاء التي أودعها هللا في‪ ،‬فقال ‪ ( :‬إن في الحبة السوداء ش فاء من ك ل داء إال‬
‫السام)(‪ ..)2‬وفي حديث آخر يأمر ‪ ‬باالستشفاء بي‪ ،‬فيقول‪ (:‬عليكم بهذه الحب ة الس وداء ف إن فيه ا ش فاء من ك ل داء إال‬
‫السأم)(‪)3‬‬
‫وقد وردت أحاديث أخرى بصيغ أخرى تؤك د ه ذا‪ ،‬فق د ق ال ‪ (:‬الش ونيز(‪ )4‬دواء من ك ل داء إال الم وت)(‪،)5‬‬
‫وقال ‪ (:‬الشونيز دواء من كل داء إال السام)(‪)6‬‬
‫قلت‪ :‬صدق رسول هللا ‪ ،‬ولكن شراح الحديث خصصوا العموم الوارد في الحديث‪ ،‬ف ذكر بعض هم أن ه ذا من‬
‫العام الذي يراد به الخاص‪ ،‬ألنه ليس في طبع شيء من النبات م ا يجم ع جمي ع األم ور ال تي تقاب ل الطب ائع في معالج ة‬
‫األدواء بمقابلها‪ ،‬وإنما المراد أنها شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة‪.‬‬
‫وذكر آخر استدالل عقليا على هذا‪ ،‬فذكر أن العسل عند األطب اء أق رب إلى أن يك ون دواء من ك ل داء من الحب ة‬
‫السوداء‪ ،‬ومع ذلك فإن من األمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى به‪ ،‬ف إن ك ان الم راد بقول ه في العس ل في ه ش فاء‬
‫للناس األكثر األغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك أولى‪.‬‬
‫وقال غيرهما‪ :‬كان النبي ‪ ‬يصف الدواء بحسب ما يش اهده من ح ال الم ريض‪ ،‬فلع ل قول ه في الحب ة الس وداء‬
‫وافق مرض من مزاجه بارد‪ ،‬فيكون معنى قوله‪ (:‬شفاء من كل داء)أي من هذا الجنس الذي وقع القول فيه(‪.)7‬‬
‫قالت‪ :‬لقد أخطأوا في التأويل‪ ..‬أيستدركون على رسول هللا ‪ ..‬كيف يقولون ه ذا‪ ،‬وق د ق ال ‪ (:‬ش فاء من ك ل‬
‫داء)‬
‫قلت‪ :‬لألسف‪ ..‬قد اتفق الشراح على هذا‪.‬‬
‫ومثل ذلك استخدام الحبة السوداء كعالج لالشخاص الذين يستخدمون االسبرين بصفة مستمرة وكذلك الورفارين مرقق الدم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫النسائي وابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫هو الحبة السوداء‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫ابن السني وأبونعيم عن بريدة‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫الترمذي‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫فتح الباري‪.10/145 :‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪166‬‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬لم يتفقوا‪ ..‬ألم تسمع ما قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة‪ ،‬فقد أتاه هللا علما وحكمة؟‬
‫قلت‪ :‬فما قال؟‬
‫قالت‪ :‬لقد قال‪ :‬تكلم الناس في هذا الحديث‪ ،‬وخصوا عمومه‪ ،‬وردوه إلى ق ول أه ل التجرب ة‪ ،‬والخف اء بغل ط قائ ل‬
‫ذلك‪ ،‬ألنا إذا صدقنا أهل الطب‪ ،‬ومدار علمهم غالبا إنما هو على التجرب ة ال تي بناؤه ا على ظن غ الب‪ ،‬فتص ديق من ال‬
‫ينطق عن الهوى أولى بالقبول من كالمهم(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬بورك فيه‪ ..‬فقد غار على حديث المصطفى ‪ ‬من أن يمسه التبديل والتغيير‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وقد أثبت علمكم ما قال‪ ..‬وسيثبت المستقبل تأويل كل ما قال‪ ..‬فكالم رسول هللا ‪ ‬ال يتخلف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركات شفائك التي عرفوها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لن أحدثك على ما قال الق دماء‪ ..‬فلن تفهم كث يرا مم ا ذك روا‪ ..‬باإلض افة إلى أن م ا ذك روه لم يق درني ح ق‬
‫قدري‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ستحدثيني عن الدراسات المعاصرة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وهي ـ مع الجهد الذي تبذله ـ ال تزال قاصرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن يجري هذه البحوث؟‬
‫قالت‪ :‬لقد تم نشره عشرات البحوث مؤخرًا في الدوريات العلمية المختلفة عن فوائد استخدامي‪ ..‬وهي تؤكد جميعا‬
‫الفوائد العديدة التي وصفتها النصوص‪.‬‬
‫ومعظم هذه األبحاث يأتي من أوروبا وتحديدًا النمسا وألمانيا‪ ،‬وال تي ت أتي في مقدم ة ال دول الداعي ة إلحي اء طب‬
‫األعشاب كطب بديل‪.‬‬
‫وانطالقا من هذا ظهرت مستحض رات طبي ة متنوع ة بين أق راص وكبس والت وأش ربة وزي وت في العدي د من‬
‫الدول األوربية‪ ،‬والواليات المتحدة‪ ،‬باإلضافة إلى بلدان العالم العربي واإلسالمي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تعتبرين هذه الدراسات كافية للتنويه بقدرك؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬لقد ذكرت لك أنها قاصرة جدا‪ ..‬فمعظم ما تم من دراسات كانت دراسات بدائي ة أج ريت على الف ئران‪،‬‬
‫وكانت نتائجها مشجعة‪ ،‬ولكن يقتضي األمر إجراء المزيد من الدراسات لتوثيق النتائج واستخالص التوصيات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي بعض هذه التجارب ألتبين المنهج الذي يتم على أساسه معرفة فوائدك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سأذكر لك أربعة أنواع من التجارب‪ ،‬أما إحداها‪ ،‬فبمسحوقي‪ ،‬وأما الثانية‪ ،‬فبخالصتي المائية‪ ،‬وأما الثالث ة‪،‬‬
‫فبخالصتي الكحولية‪ ،‬وأما الرابعة فبزيتي الطيار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن النوع األول‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد كشفت بعض البحوث أن معالجة اإلنسان أو الجرذان بمسحوقي أدت الى زيادة عدد ونشاط بعض خاليا‬
‫المناعة مثل خاليا ‪ T‬الليمفاوية القاتلة وتنشيط الخاليات المبلغمة في التقام الجراثيم‪ ،‬كم ا أوض حت البح وث ق درة ه ذه‬
‫الحبوب على زيادة افراز ادرار اللبن في األغنام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والنوع الثاني؟‬
‫قالت‪ :‬لقد كشفت الدراسات التجريبية عن قدرة الخالصات المائية لحب ة البرك ة على تنش يط اف راز بعض عوام ل‬
‫تنشيط المناع ة من الخالي ا اللمفاوي ة مث ل م ادتي ان ترليوكين ‪ ،1‬وان ترليوكين ‪ ،3‬وإلى تنش يط بلغم ه الج راثيم‪ ،‬وك ذلك‬
‫إضعاف إفراز السوائل المعدية الحمضية‪ ،‬ومنع حدوث القرح المعدية التجريبية المحدث ة بم ادة االس برين في الج رذان‪..‬‬
‫باإلضافة إلى عالج بعض أمراض الديدان المعوية في األغنام والديدان الشريطية في االطفال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والنوع الثالث؟‬
‫قالت‪ :‬لقد كشفت الدراسات التجريبية أن للخالصات الكحولية للحبة السوداء عدة تأثيرات‪ ،‬مث ل الفت ك بالعدي د من‬
‫الجراثيم مثل االشريكية القولونية والزائفة الزنجارية وبعض الفطريات مثل الرشاشية‪ ..‬بل إبادة بعض الخاليا السرطانية‬
‫وإرخاء عضالت األمعاء وكبح التقلصات واآلالم التجريبية المحدثة ببعض الكيماويات‪ ..‬وعالج بعض المصابين ببعض‬

‫‪ )(1‬فتح الباري‪.10/145 :‬‬


‫‪167‬‬
‫الديدان المعوية مث ل ال دودة الش ريطية والص فرا الخراطي ني‪ ..‬وتثبي ط االلتهاب ات واآلالم ومن ع تس وس األس نان ومن ع‬
‫انخفاض مستوى الهيموغل وبين‪ ،‬وع دد كري ات ال دم البيض اء المح دث ببعض العق اقير المض ادة للس رطان مث ل عق ار‬
‫سيسبالتين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والنوع الرابع؟‬
‫قالت‪ :‬لقد كشفت الدراسات التجريبية قدرة هذا الزيت الطيار في جرع ات ص غيرة على إح داث بعض الت أثيرات‬
‫كتخفيض ض غط ال دم الش رياني‪ ،‬وتخفيض س رعة النبض القل بي في الج رذان وال وبر بت أثيره المنش ط على بعض‬
‫المستقبالت السروتونية في المخ‪ ..‬وزي ادة س رعة التنفس وتقلص ات في رغ امي حي وان ال وبر عن طري ق اف راز م ادة‬
‫الهستامين‪ ..‬وزيادة افراز مادة الصفراء في الكالب‪ ..‬وزيادة اخراج حمض اليوريك المسبب لمرض النقرس في الب ول‪..‬‬
‫والفت ك بالعدي د من الج راثيم مث ل الس لمونيلله والتيفي ة والص نمة الهيض ية والزانف ة الزنجاري ة وبعض الفطري ات مث ل‬
‫الرشاشية السوداء وبعض الديدان المعوية‪ ..‬وإرخاء عضالت االمعاء وكبح التقلصات المحدثة ببعض الكيماويات فيه ا‪..‬‬
‫وتخفيض مستوى سكر الدم في األرانب والجرذان الصحيحة المصابة بداء السكر التجري بي بع د معالجته ا بجرع ات ‪5‬‬
‫مليجرام‪ /‬كيلوجرام حقنا في الصفاق بدون أي تأثير على مستوى االنسولين في الدم‪.‬‬
‫اما مركب الفاباينين فقد اكتشفت قدرتها على تثبيط االلتهابات التجريبية عبر افراز مادة هي دروكورتيزون وتثبي ط‬
‫نمو بعض الجراثيم خصوصا تلك المرتبط ة بالتهاب ات حب الش باب‪ ،‬كم ا أن له ا الق درة على تثبي ط نم و بعض األورام‬
‫السرطانية في أكباد الجرذان وزيادة افراز المخاط من الشعب الهوائي ة في بعض المرض ى المص ابين بالتهاب ات رئوي ة‬
‫وباألخص المزمنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثتني عن الدراسات التي أجريت عليك‪ ،‬فحدثيني عن استخداماتك التي توصلت هذه الدراسات إليها‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد دل ما ذكرت من الدراسات وغيرها على استعماالت صحية كثيرة لي‪ ..‬سأقتصر لك منها على م ا أرى‬
‫أنه ينفعك‪ ،‬ويملؤك يقينا بما وضع هللا في من بركات الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني بارك هللا فيك‪ ..‬وقد فعل‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت ح ديثاً من خالل الدراس ات واألبح اث ال تي أج ريت علي أني ألعب دور ًا هام اً في تقوي ة وتنش يط‬
‫الجهاز المناعي في جسم اإلنسان‪.‬‬
‫وبما أن قدرة الجسم على مجابهة األمراض مرتبطة بقوة جهازه المناعي‪ ،‬فإنني بتقويتي لهذا الجهاز أش كل ش فاء‬
‫ودواء لكل األدواء‪ ،‬فلذلك أفيد في معالجة كل األمراض‪ ،‬بما فيه السرطانات‪ ،‬واألدواء التنفسية التي تصيب اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر تقويتك للجهاز المناعي؟‬
‫قالت‪ :‬لقد أثبتت الدراسات أنَّني أنشط جهاز المناعة في جسم اإلنس ان بزي ادة نس بة التائي ات المناعي ة مقارن ة م ع‬
‫التائيات المثبطة‪ ،‬ومن هنا كانت فائدتي في مكافحة األمراض بشكل عام‪ ،‬واألمراض الفيروسية بشكل خاص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بعض ثمرات هذا العالج‪.‬‬
‫قالت‪ :‬في األمراض التنفسية أفيد في عالج الزكام والسعال والرَّبو‪ ..‬وفي األمراض الهضمية أفيد في عالج عس ر‬
‫الهضم‪ ،‬وغازات المعدة واألمع اء وض عف الش هية للطع ام‪ ،‬وداء المتح والت الزحاري ة‪ ،‬والدي دان الش ريطية‪ ،‬ودي دان‬
‫األسكاريس‪..‬وفي األمراض الجلدية أفيد في عالج الجرب والقوباء الجلدية‪ ،‬وااللتهابات الجلدية‪ ،‬والبثور الجلدي ة‪ ،‬وحب‬
‫الشباب‪.‬‬
‫األمران‬
‫بعد انصراف الحبة السوداء ش عرت بم رارة تق رص لس اني‪ ،‬فم ددت ي دي إلى لس اني ألرى س ر ه ذه الم رارة‪،‬‬
‫فنادتني نبتة بصوت رخيم‪ :‬ال تمسح المرارة‪ ،‬فلوالها ما عرفت الحالوة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من أنت يرحمك هللا‪ ..‬فإن صوتك قد مألني شوقا‪ ..‬واألذن تعشق قبل العين أحيانا‪.‬‬
‫الثفاء‪:‬‬

‫‪168‬‬
‫‪ (:‬عليكم بالثفاء(‪ )1‬فإن هللا جعل فيه شفاء من كل داء)(‪)2‬‬ ‫قالت‪ :‬أنا التي قال في الحبيب المصطفى‬
‫قلت‪ :‬أأنت التي ذكرت مع الصبر‪ ،‬في قوله ‪ (:‬ماذا في األمرين من الشفاء‪ :‬الثفاء والصبر)(‪)3‬؟‬
‫قالت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد جاء معي إليك لترى من بركاتنا ما تستحلي به المرارة‪ ،‬كما تستحلي الحالوة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أعرف أن المرارة تستحلى‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بل إن حالوتها ال تقل عن حالوة الحالوة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكن‪..‬‬
‫ق اطعتني وق الت‪ :‬إن مرارتن ا أحلى بكث ير من تل ك الحالوات ال تي يقتل ونكم به ا‪ ،‬ويمألون أجس ادكم وأوراحكم‬
‫سموما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سلمت لك‪ ..‬فإني أعلم عداوتك وعداوة إخوانك لسمومنا‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أتعلم سر مرارتي؟‬
‫قلت‪ :‬لعلها مرارة األحزان‪..‬‬
‫قالت‪ :‬القلب الذي يعرفه ال يعرف األحزان‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وهو ال يعرف المرارة‪ ..‬فكيف عرفتها أنت؟‬
‫قالت‪ :‬أنا ال أختار لنفسي حالوة وال مرارة‪ ..‬فعبوديتي تجعلني أختار ما يخت ار لي‪ ،‬وح بي ال ذي مأل ب ه ص دري‬
‫يجعلني ال أشعر بحرارة وال برودة‪ ،‬وال مرارة وال حالوة‪ ،‬وال شيء مما تشعرون به وتتألمون‪ ،‬أو تفرحون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد قطعت مراحل في الطريق إليه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا لم أسر حتى أقطع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف وصلت إلى هذه المرتبة؟‬
‫قالت‪ :‬من لم يوصله لم يصل‪ ..‬ومن لم يحركه لم يتحرك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقولين بالجبر؟‬
‫قالت‪ :‬جبر المحبين‪ ،‬ال جبر المتكلمين‪ ،‬ألم تسمع ما قال حاديهم‪:‬‬
‫أري ُد وصا َله ويري ُد هَجْري فأتركُ ما أري ُد لما يري ُد‬
‫قلت‪ :‬سلمت لك ما ذكرت‪ ..‬فحدثيني عن سر بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬نحن لم نتجاوز الحديث عنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أقصد ما يعرفه قومي من العناصر والمركبات‪ ..‬واآلثار الشافيات‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ما أقل فقهكم‪ ..‬ال تتبركون بالحب القدس‪ ..‬وتتبركون بالطوب والجدران‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نحن من قوم ال نعرف من الحضارة غير الجدران‪..‬ألم يصفنا ‪ ‬بأنا من المتط اولين في البني ان‪ ..‬فل ذلك ال‬
‫نرى منك غير ما فيك من العمران؟‬
‫قالت‪ :‬ال مناص لي من خطابك وخطاب قومك على قدر عقولكم‪ ..‬يذكر قومك أني من أكثر النباتات غنى ب اليود‪..‬‬
‫وهذا ما يجعلني سهلة الهضم‪ ،‬كما أني أحتوي على الحديد والكبريت والكلس والفوسفور والمنغنيز والزرنيخ‪ ،‬وأنا غني ة‬
‫بالفيتامين ج‪ ،‬وأحتوي على نسبة قليلة من الفيتامين أ وب و ‪ PP‬والكاروتين‪ ..‬وت دل دراس ات حديث ة على احت وائي على‬
‫عنصر (سكوالين)وهو مفيد؛ إذ يستخدم كقاتل للبكتيريا ويستخدم أيضاً كمضاد لألورام‪ ،‬وهو مق ٍو لمناعة الجس م أو منب ه‬
‫لمناعة الجسم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بورك في تكوينك‪ ..‬فما بركات شفائك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد اتفق األقدمون والمحدثون على أني أفيد التقوية العامة‪ ،‬وأني فاتحة للشهية‪ ،‬مدرة للبول‪ ،‬طاردة للري اح‪،‬‬
‫‪ )(1‬الثُفّاء نبات عشبي حولي قائم من الفصيلة الصليبية موطنه منطقة الشرق األوسط والحجاز ونج د‪ .‬وأزه اره بيض اء متع ددة‪ .‬و من أس ماء الثفّاء _‬
‫الرشاد _ في سورية _ البقدونس الحاد _ يؤكل من غير طبخ حيث تضاف أوراقه الغضة إلى السلطات والحساء وم ع اللح وم والس مك كم ادة مش هية‪ ،‬مس هلة‬
‫للهضم‪.‬‬
‫‪ )(2‬ابن السني وأبو نعيم في الطب‪.‬‬
‫‪ )(3‬أبو داود في مراسيله والبيهقي‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫مهدئة ومخفضة لضغط الدم‪ ،‬صالحة لعسر النفس‪ ،‬وللربو وجالء الصدر من البلغم والنيكوتين‪ ،‬فعالة في تفتيت الحص ى‬
‫والرمال ومكافحة للسرطان والروماتزم والسكري والسل‪ ..‬أفيد في أمراض الجلد‪ ،‬ولتنقيه البول وط ارد للس موم‪ ،‬وض د‬
‫النزالت الصدرية والصداع‪.‬‬
‫ويرى الدكتور جان فالينه أنني مقوية ومرممة ومشهية‪ ،‬ومفيدة لمعالجة فقر الدم‪ ،‬وضد داء الحفر‪ ،‬ومدرة للب ول‪،‬‬
‫ومقش عة ومهدئ ة‪ ،‬ومنش طة لحيوي ة بص يالت الش عر‪ ،‬حيث تطب ق عص ارته على ف روة ال رأس لمن ع تس اقط الش عر‪،‬‬
‫ولمعالجة التقرحات الجلدية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬رأيت بعض قومي يستعملونك حساء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬بورك فيما يفعلون‪ ..‬فهذا الحساء طارد للدود‪ ،‬ومكافح للتسمم‪ ..‬وينصح بتناوله المصابون بالتعب واإلعياء‪،‬‬
‫وللحوامل والمرضعات والمصابين بتحسس في الطرق التنفسية والجلدية‪ ،‬كما في األكزيما‪ ،‬وهو نافع للبواسير النازفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ورأيت بعض قومي يستعملون مغلى بذورك أو منقوعها أو مسحوقها؟‬
‫قالت‪ :‬نعم ما فعلوا‪ ..‬فهذا صالح لمعالجة الزحار واإلسهال واألمراض الجلدية وتضخم الطحال‪.‬‬
‫ويمكنهم أن يصنعوا كمادة من مسحوقي كمسكن لمعالجة آالم البطن واآلالم الرئوية وغيرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف نستعملك؟‬
‫قالت‪ :‬يكفيكم كأس من مغلي الرشاد صباحاً ومسا ًء‪ ،‬ويضاف إليه العسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتنصحيني بالمداومة على هذا؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬ينبغي أن تستعملني بجرعات متوسطة‪ ،‬ولفترة محددة‪ ..‬والمناسب هو ملعقة صغيرة في اليوم‪ ،‬ولم دة (‬
‫‪)30‬يوماً‪.‬‬
‫أما كثرة استخدامي ـ سواء بزيادة حجم الجرعة عن ملعقة صغيرة من مطحون حب الرشاد أو زيادة المدة ـ فإنني‬
‫ال أنصحك بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما أضرار اإلفراط في تناولك؟‬
‫قالت‪ :‬أال تعلم أني أحتوي على مركب ( البنزايل أيزو تايوسيانيد)؟‬
‫قلت‪ :‬وما به هذا المركب؟‬
‫قالت‪ :‬هذا المركب يعمل على تثبيط األورام السرطانية في الحيوانات عموماً‪ ،‬ومنه ا اإلنس ان‪ ..‬فه و م ادة مثبط ة‬
‫للبكتيريا والفطريات‪.‬‬
‫ولكن إذا أخذ بكميات زائدة‪ ،‬فإنه يسبب أمراض الغ دة الدرقي ة‪ ،‬ول ذلك ف إن ه ذا الم رض يك ثر عن د النس اء ب دل‬
‫الرجال‪ ،‬ألن النساء يستخدمن حب الرشاد أكثر من الرجال‪ ،‬وربما بجرعات زائدة‪.‬‬
‫الصبر‪:‬‬
‫ما إن انتهى الثفاء من حديثه حتى تقدم الصبر‪ ،‬وهو يقول‪ :‬أنا الصبر(‪ ..)1‬أخو الثفاء‪ ..‬وكالنا أخبر رس ول هللا ‪‬‬
‫عن بركاته‪ ..‬وأنا أروي حديثا عني ‪ ..‬ذكر فيه الرسول ‪ ‬أن الرجل إذا اشتكى عينيه ضمدهما بالصبر(‪.)2‬‬
‫قلت‪ :‬فقد وصفك رسول هللا ‪ ‬في هذا الحديث للعيون‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد قال ابن سينا يثبت هذا‪ (:‬إنه ينفع من قروح العين وجربها وأوجاعه ا‪ ،‬ومن حك ة الم آق‪ ،‬ويخف ف‬
‫رطوبتها)‬
‫ومثله قال أبو بكر الرازي‪ (:‬وهو أيضا نافع للعين مجفف للجسد)‬
‫وقال إسحق بن عمران‪ (:‬إنه ينفع من ابتداء الماء النازل في العين‪ ،‬وينقي الر ٍأ والمعدة وس ائر الب دن من الفض ول‬
‫المجتمعة فيها)‬
‫وقال داود األنطاكي‪ (:‬واالكتحال به يحد البصر‪ ،‬ويذهب الجرب والحرقة وغلظ األجفان)‬
‫قلت‪ :‬صدقوا جميعا‪ ..‬ونحن نحترمهم غاية االحترام‪ ..‬ولكن‪ ..‬أنت تعلم قومي‪.‬‬

‫‪ )(1‬مقالة للدكتور حسان شمسي باشا‪.‬‬


‫‪ )(2‬مسلم‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬قتلهم الغرور‪ ،‬فال يسمعون إال أنفسهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فأنت تعلم ذلك‪ ..‬وال أحسب إال أنك عانيت منهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولوال ما حباني هللا به من الصبر لفررت منهم حيث ال يروني وال ينتفعون بي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عما قاله قومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد نشرت مجلة ‪ Cuits‬األمريكي ة الش هيرة مق اال عن الص بر ع ام ‪ 1986‬تق ول في ه‪( :‬لق د ت بين من خالل‬
‫الدراسات السريرية الحديثة أن للصبر دورا في معالجة االلتهاب ات الجلدي ة الش عاعية‪ ،‬وس حجات الجل د الس طحية‪ ،‬وفي‬
‫تقرح قرنية العين‪ ،‬وفي قروح الرجلين)‬
‫قلت‪ :‬فما سر هذا؟‬
‫قال‪ :‬ما مألني هللا به من الصبر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قومي ال يفهمون هذا‪ ..‬فحدثهم عن العناصر والمركبات‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد اكتشف العلماء وجود أربع مواد كيميائية فعالة في الصبر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما أوالها؟‬
‫قال‪ :‬برادي كينياز‪ ،‬وهي مادة تزي ل األلم والحك ة واالحتق ان‪ ،‬وله ا فع ل مقبض للش رايين‪ ،‬مم ا يخف ف االنتف اخ‬
‫واالحمرار الحاصل مكان االلتهاب‪ ..‬وهذا م ا يفس ر إدخ ال ش ركات األدوي ة ومستحض رات التجمي ل م ادة الص بر في‬
‫المستحضرات التي تعالج حرق الشمس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالثانية؟‬
‫قال‪ :‬الكتات المغنيزيوم‪ ..‬وقد ثبت أنها تمنع تشكل الهيستامين‪ ،‬وهي الم ادة ال تي تس بب الحك ة في الجل د‪..‬وهك ذا‬
‫أخفف من الحكة وااللتهاب‪ ،‬وهذا ما يفسر فاعليتي في عالج لدغات الحشرات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالثالثة؟‬
‫قال‪ :‬مضاد البروستا نالندين‪ ..‬وهي تخفف األلم وااللتهاب مثلما تفعل حبوب األسبرين‪ ..‬وهكذا تعمل ه ذه الم واد‬
‫الثالثة معا على تخفيف األلم وااللتهاب‪ ،‬وتسكين الحكة والحرقان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالرابعة؟‬
‫قال‪ :‬هي مادة االنتثراكينون‪ ..‬ويعزى لها الفعل المسهل للصبر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وضع هللا تعالى فيك مزيجا من مواد مسكنة‪ ،‬وأخرى مهدئة للحكة وااللتهاب‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولهذا وصفني رسول هللا ‪ ‬ضمادا على عيني المريض الملتهبتين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سمعت حديثا عن دورك في تلطيف الجلد‪.‬‬
‫علي رسول هللا ‪ ‬حين توفي أبو سلمة‪ ،‬وقد جعلت علي صبرا‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لقد روت أم سلمة قالت‪ :‬دخل ّ‬
‫( ماذا يا أم سلمة؟)فقلت‪ :‬إنما هو صبر يا رسول هللا‪ ،‬ليس فيه طيب‪ ،‬فقال ‪ (:‬إنه يشب الوجه فال تجعليه إال بالليل)‬
‫قلت‪ :‬فقد ذكر ‪ ‬أنك تشب الوجه‪ ،‬أي تلونه وتحسنه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن للصبر تأثيرا مرطبا للجلد‪ ،‬فيلطف الجلد وينعمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر هذه الخاصية؟‬
‫قال‪ :‬يعزو العلماء ذلك إلى أنني أحبس الم اء في الجل د فيرطب ه وينعم ه‪ ..‬وله ذا تج د في أس واق قوم ك مركب ات‬
‫مختلفة من كريمات ومستحضرات دوائية‪ ،‬وقد دخل في تركيبها مادة الصبر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن بعض قومي يصفونك اللتهاب المفاصل الرثواني‪.‬‬
‫قال‪ :‬صحيح هذا‪ ..‬وهو مرض مؤلم جدا‪ ،‬وقد يؤدي إلى حدوث تشوه في المفاصل‪ ،‬وإعاق ة ش ديدة في حركته ا‪..‬‬
‫وهو يصيب المفاصل الصغيرة في اليدين والقدمين بشكل خاص‪.‬‬
‫وقد نشرت مجلة النقابة الطبية ألمراض األقدام بحثا استخدمت فيه موض عيا على مفاص ل ملتهب ة عن د الف ئران‪..‬‬
‫وقد أظهرت الدراسات الحديثة أنني فعال في عالج هذا االلتهاب‪ ..‬وهناك تجارب علمية تجرى حاليا على اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال زالت بعض بركات شفائك لم تكشف بعد؟‬
‫‪171‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ألم يقل ‪ (:‬ماذا في األمرين من الشفاء‪ :‬الثفاء والص بر)(‪ ،)1‬فه ذا الح ديث يحم ل الدالل ة الواض حة‬
‫على البركات الكثيرة التي أحملها‪.‬‬
‫السنا والسنوت‬
‫ذهب األمران‪ ،‬وجاءني اثنان كأنهما أخوان‪ ،‬فقلت‪ :‬ال شك أنكما السنا والسنوت‪.‬‬
‫قاال بصوت واحد‪ :‬أجل‪ ..‬فقد جمع رسول هللا ‪ ‬بيننا‪ ..‬فلذلك ترى األخوة بيننا متصلة‪ ،‬والمحبة بيننا منعقدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد قال رسول هللا ‪ ‬فيكما‪ (:‬عليكم بالسنا والسنوت‪ ،‬فإن فيهما شفاء من كل داء إال السام‪ ،‬وهو الموت)(‪)2‬‬
‫قاال‪ :‬أجل‪ ..‬فنحن من أدوية السماء التي أنزلها هللا على عباده‪ ،‬وبارك فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثاني عن نفسيكما‪.‬‬
‫السنا‪:‬‬
‫تقدم السنا‪ ،‬وقال‪ :‬أما أنا‪ ،‬فقد وردت في النصوص تبين م ا في من البرك ات‪ ،‬فعن أس ماء بنت عميس أن رس ول‬
‫هللا ‪ ‬سألها بماذا كنت تستمشين(‪)3‬؟‪ ،‬فقالت‪ :‬بالشبرم(‪ ،)4‬فقال ‪ (:‬حار جار)‪ ،‬ثم استمش يت بالس نا‪ ،‬فق ال الن بي ‪:‬‬
‫( لو أن شيئا كان فيه شفاء من الموت لكان في السنا)(‪)5‬‬
‫قلت‪ :‬فقد وصفك ‪ ‬كدواء ملين‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لقد اعتبرني ‪ ‬من األدوي المباركة التي ال يحد تأثيرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الحديث ورد في تسهيل البطن‪.‬‬
‫قال‪ :‬النصوص المقدسة ال تخصص بمناسباتها‪ ..‬بل تراعى فيها األلفاظ الواردة فيها‪ ..‬ألنها خرجت ممن ال ينطق‬
‫عن الهوى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لن أجادلك في هذا‪ ..‬فأنت أدرى بما وهبك هللا من بركات‪ ..‬ولكني م ع ذل ك لن أس لم ل ك ح تى تخ برني بم ا‬
‫قالوا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تسلم لما قال حتى تسمع ما قالوا؟‪ ..‬ما أضعف إيمانك؟‬
‫قلت‪ :‬اعذرني‪ ..‬فإني ال أزال رقيق الدين‪..‬‬
‫قال‪ :‬فاسأل هللا أن يعمقه‪ ،‬فال خير في دين رقيق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثني عن بركاتك التي يعرفها قومي‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬س أحدثك أوال عن برك ات تكوي ني ال تي تهتم ون به ا‪ ،‬ف أوراقي وثم اري تحت وي على جلوكوزي دات‬
‫انثراكينونية‪ ،‬وتعرف بمجموع ة س نوزايد‪ ،‬ويوج د منه ا أربع ة أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج‪ ،‬د‪ ،‬كم ا أحت وي على جلوكوزي دات نفثاليني ة‪،‬‬
‫ومواد هالمية ومواد فالفونيدية وزيت طيار‪.‬‬
‫وقد قامت شركات األدوية في عص ركم ب تركيب العدي د من األدوي ة ال تي تحت وي على مركب اتي منه ا برس نيد‪،‬‬
‫وسناكوت‪.‬‬
‫باإلض افة إلى أن هن اك أدوي ة أخ رى تحت وي على مركب اتي م ع بعض الم واد األخ رى‪ ،‬ومنه ا أجي والكس‬
‫وسينتوالكس وميوسينم وجليسينيد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثتني عن بركات تكوينك‪ ،‬فحدثني عن بركات الشفاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأبدأ بما ورد في الحديث‪ ..‬وهو اعتباري عالجا ملينا‪ ،‬فقد نص الخبراء على أني من أفضل الملينات؛ وذلك‬
‫ألن مفعولي ال يبدأ إال في القولون‪ ،‬حيث يتم تحللي بواسطة البكتيريا القولونية‪.‬‬
‫‪ )(1‬أبو داود في مراسليه والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي وابن ماجة وأحمد‪.‬‬
‫‪ )(3‬أي بأي دواء تستطلقين بطنك‪ ،‬حتى يمشي وال يصير بمنزلة الواقف‪ ،‬فيؤذي باحتباس النجو‪ ،‬ولهذا سمي الدواء المسهل مشيا على وزن فعيل‪ .‬وقيل‬
‫ألن المسهول يكثر المشي واالختالف للحاجة‪ ،‬وقال الجزري في النهاية‪ :‬أي بما تسهلين بطنك‪ ،‬ويجوز أن يكون أراد المشي الذي يع رض عن د ش رب ال دواء‬
‫إلى المخرج‪ ،‬انظر‪ :‬تحفة األحوذي‪.6/213 :‬‬
‫‪ )(4‬هو حب يشبه الحمص يطبخ ويشرب ماؤه للتداوي‪ .‬النهاية ‪2/440‬ـ وهو من األدوية التي أوصى األطباء بترك استعمالها لخطرها وفرط إسهالها‪.‬‬
‫‪ )(5‬أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم‪ ،‬قال الترمذي‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت ال تؤثر على المعدة‪ ،‬وال على األمعاء الدقيقة؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وبالتالي ال أؤثر على امتصاص الغذاء‪ ،‬كما تفعل معظم الملينات والمسهالت‪ ،‬وال أس بب إمس اكا بع د‬
‫اإلسهال‪ ..‬بل ال أسبب أي تقلصات في األمعاء‪ ،‬كما تفعل معظم المسهالت األخرى(‪ ،)1‬وقد يحدث بس ببي مغص خفي ف‬
‫سرعان ما يزول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال يؤثر على الحامل؟‬
‫قال‪ :‬أنا ال تمتصني األمعاء‪ ،‬وبالتالي ال أؤث ر على الج نين‪ ،‬كم ا ال أؤث ر على الرض يع‪ ،‬وق د نص ت الموس وعة‬
‫الصيدالنية بأن األم المرضع تستطيع استعماله ألنه ال يفرز في لبنها من خالل الثدي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت هذه البركة العالجية‪ ،‬فهل هناك غيرها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬وكثير‪ ..‬غير ما لم تكتشفوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي ما يطمئن به قلبي‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ذكر القدماء من منافعي الكثير‪ ..‬ويكفيك ما قاله الموفق عبداللطيف البغ دادي في االربعين الطبي ة‪ ،‬ونقله ا‬
‫عنه ابن القيم والسيوطي‪ ،‬قال‪ ( :‬السنا دواء شريف مأمون الغائلة‪ ،‬وقريب االعتدال‪ ،‬ألنه حار ي ابس في الدرج ة األولى‪،‬‬
‫يسهل الصفراء والسوداء‪ ،‬ويقوي جرم القلب‪ ،‬وهذه فضيلة شريفة في ه‪ ،‬وخاص يته النف ع من الوس واس وتش نج العض ل‬
‫وانتشار الشعر‪ ،‬ومن القمل والصداع العتيق (المزمن)والجرب والبثور والحكة)‬
‫وقال الرازي‪ (:‬السنا والشاهترج يسهالن االخالط المحترقة وينفعان من الجرب والحكة)‬
‫وقال ابن البيطار‪ (:‬اذا خلط بالحنا فانه يسود الشعر واجوده المكي‪ ،‬ينفع من الشقاق العارض في الب دن وينف ع من‬
‫الصداع المزمن ومن البثور والحكة)‬
‫وقال داود االنطاكي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أخبرني بما قال قومي‪ ..‬وبما يفقهونه؟‬
‫قال‪ :‬لقد قامت أبحاث كثيرة على أوراقي وثماري‪ ،‬أثبتت فائدتي كأفضل مسهل‪ ،‬باالضافة الى تنقتي للدم‪ ،‬والفت ك‬
‫بالفيروسات والفطريات‪.‬‬
‫وأعتبر أحد النباتات المهمة المسجلة في دساتير األودية األوروبية واألمريكية والهندية والصينية‪.‬‬
‫ويوجد حالياً في الهند مستحضر مكون من محلول مائي مركز من السنامكي حيث أستعمل لتنقية الدم‪.‬‬
‫ويوجد استخدام جديد يستعمل ض د الفيروس ات وتكاثره ا‪ ،‬حيث تم اس تخالص راس ب بروت وني من ن وع الس نا‬
‫المعروف باسم سنا سيام واعطى نتائج ‪ 100‬بالمائة لوقف نمو الفيروسات‪.‬‬
‫وقد تم استخالص جلوكوزيدات من نباتي فيستوال ودكورا‪ ،‬واستخدمت ضد الفطريات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل تستعمل خارجيا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬يمكن استخدم منقوع أوراقي على هيئة حقنة شرجية لالطفال كمسهل‪ ،‬وذل ك باس تعمال منق وع غ رام‬
‫واحد لكل سنة من العمر‪ ،‬أما الكبار‪ ،‬فنسبة الحقنة الشرجية من ‪ 15 -10‬غرام لكل ‪ 500‬مليليتر من الماء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك محاذير من استعمالك؟‬
‫قال‪ :‬يجب عدم استعمالي في حالة وجود سدد باألمع اء وفي االلتهاب ات المرض ية الح ادة في االمع اء‪ ،‬وفي حال ة‬
‫التهاب الزائدة الدودية‪ ،‬ويجب عدم استعمالي من قبل المرأة الحامل ومثها المرضع‪.‬‬
‫السنوت‪:‬‬
‫تقدم السنوت(‪ ،)2‬فقال‪ :‬وأنا ال أقل عن أخي السنا بركات‪ ،‬وقد ذكرنا في حديث واحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثني عن بركات تكوينك‪..‬‬
‫قال‪ :‬أنا أتك ون من زي وت طي ارة‪ ،‬أهم مركباته ا مرك بي االنيث ول والغينش ون‪ ..‬وتع ود الرائح ة المم يزة لي إلى‬
‫‪ )(1‬يقول البروفسور سبلر وهو من الخبراء العالميين فى هذا المجال‪ ،‬في مقال له‪ «:‬إن أكثر األدوية شيوعا في معالجة اإلمساك هي األدوية المستخلصة‬
‫من نبات السنا‪ ...‬وفي القولون تقوم تلك المركبات بتحريض أعصاب القولون على القيام بحركة إجمالية‪ ،‬يتبعها مرور البراز بشكل طبيعي »‬
‫‪ )(2‬وهو يعرف بالسنوت والرازيانج والشمار والبسباس والكمون والشمرة والشمر المر والشمر الحلو والحلوة والشمر الكبير وش مر الح دائق والش مر‬
‫الوحشي والشمر الزهري‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫المركب األخير‪.‬‬
‫كما أحتوي على مركب االستراجول باإلضافة إلى فيتامين ات أ‪ ،‬ب‪ ،‬ج‪ ،‬ومع ادن الفس فور والكالس يوم والك بريت‬
‫والحديد والبوتاسيوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي بركات العالج بك؟‬
‫قال‪ :‬لقد استخدمت من آالف السنين لعالج كثير من األمراض(‪ ،)1‬وقد ذك ر األطب اء من من افعي أني أفتح الس دد‪،‬‬
‫وأحد البصر‪ ،‬وخصوصاً صمغي‪ ،‬وأفرز الحليب‪ ،‬وأدر البول والطمث‪ ،‬وأفتت الحصاة وباألخص م ا ك ان م ني رطب اً‬
‫طرياً‪ ،‬وأحلل الرياح‪ ،‬وأنفع من التهيج في الوجه وورم األط راف‪ ،‬والتبخ ر بي يس كن الص داع‪ ،‬وي دفع ض رر الس موم‬
‫والهوام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أريد ما قال أطباء قومي‪ ..‬فلكل جيل أطباؤه‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬لق د درس ت دراس ة مستفيض ة‪ ،‬وق د أثبت األلم ان أني من أفض ل األعش اب لعالج تعب المع دة‪ ،‬ومش اكل‬
‫الهضم‪ ،‬ولعالج النفخة والغازات وإلزالة المغص‪.‬‬
‫وذكروا أن أفضل طريقة الستخدامي هي سحق ثماري ووضعها في كأس مملوء ب الحليب وش ربه‪ ،‬كم ا أوص وا‬
‫بأنه يمكن إعطائي لألطفال دون سن الثانية كمضاد آلالم المغص‪ ،‬وذل ك بس حق ملعق ة ص غيرة ونقعه ا في ملئ فنج ان‬
‫قهوة عربي لمدة ‪15‬دقيقة‪ ،‬ثم يس ل الم اء ويض اف إلى حليب الطف ل‪ ،‬ويمكن أن يعط وا األطف ال نفس الوص فة إليق اف‬
‫االسهال‪ ،‬كما يمكن استخدامي لتهدئة وتنويم األطفال‪.‬‬
‫وقد أثبت العلماء أن مركب االستراجول الذي أحتوي عليه له تأثير مشابه لتأثير الهرومات األنثوية‪ ،‬حيث اتض ح‬
‫أنه يزيد من افراز الحليب لدى المرضعات‪ ،‬ويساعد في إدرار الطمث‪.‬‬
‫كما أثبتت السلطات الصحية األلمانية اس تعمالي في أش كال مختلف ة مث ل األش ربة‪ ،‬مث ل ش راب العس ل بالس نوت‬
‫لعالج احتقان الجهاز التنفسي‪ ،‬حيث يذيب المخاط المفرز في قنوات الجهاز التنفسي‪ ،‬وبالتالي يعمل كطارد للبلغم‪.‬‬
‫وأصبحت في كثير من دساتير األدوية األوروبية أستخدم لهذا الغرض‪ ،‬كما أثبتت الدراسات العلمية أن لي ت أثير ًا‬
‫ال لبعض أنواع البكتيريا‪ ،‬ولهذا أستخدم اليقاف االسهال المتسبب عن البكتيريا‪.‬‬ ‫قات ً‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ..‬فإن لي وصفات عالجية كثيرة‪ ،‬أثبتت فعاليتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك محاذير من استعمالك؟‬
‫قال‪ :‬نعم هناك بعض المحاذير‪ ،‬وخاصة عند استعمال زيتي حيث إنه مركز واس تخدام جرع ة عالي ة من ه تس بب‬
‫احتقاناً وهبوطاً في القلب‪ ،‬وقد تسبب دوخة وغثيانا‪ ،‬باإلضافة إلى ظهور طفح جلدي‪ ،‬وربما سببت حدوث نوبة تش نجية‬
‫تشبه نوبة الصرع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكأنك تنصح بعدم استعماله‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فقد جع ل هللا البرك ة في أجزائن ا جميع ا ال في زيوتن ا وح دها‪ ..‬ألم تس مع بم ا حص ل للحب ة الس وداء‬
‫المسكينة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فهل هناك أضرار أخرى؟‬
‫قال‪ :‬األصل أنه ال ضرر في كل األدوية المباركة‪ ..‬ولكن الضرر في س وء اس تعمالها‪ ..‬فالحام ل ـ مثال ـ يفض ل‬
‫عدم استعمالها لي كدواء ألني أسبب تنشيط الرحم‪ ،‬أما إذا كانت تستخدمني استخداماً عادياً مع األك ل بكمي ة معقول ة‪ ،‬فال‬
‫ضرر من ذلك‪.‬‬
‫القسط البحري‬
‫بعد انصراف السنا والسنوت‪ ،‬سمعت صوتا غريبا ال يكاد يفهم قوله‪ ،‬فقلت‪ :‬من أنت يرحمك هللا‪.‬‬

‫‪ )(1‬للسنوت تاريخ قديم فقد زرعه الصينيون القدماء والهندوس والمصريون وزرعه الرومان وأكلوا عروق ه وأوراق ه العط رة الزكي ة الرائح ة‪ .‬وك ان‬
‫السنوت من أفضل المواد الطبية المستخدمة في العصور الوسطى وكانت تضاف أوراقه الطازجة إلى مأكوالت السمك والخضروات وذلك عن د األغني اء‪ ،‬أم ا‬
‫الفقراء فتوكل أوراقه كمادة مشهية في أيام الصيام‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫البحري)(‪)2‬‬ ‫قال‪ :‬أنا الذي قال في رسول هللا ‪َّ (:‬‬
‫إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط‬
‫قلت‪ :‬ال أعرفك‪..‬‬
‫قال‪ :‬وما يضرك جهلك بي بعد أن عرفني حبيبي ‪ ‬وأوصى بي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أجهلك جهال بمكانتك‪ ..‬ولكنك ال تنبت بأرض قومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف تسمع حديث رسول هللا ‪ ،‬وهو يأمر بي‪ ،‬ثم ال تحدثك نفسك بالبحث عني وعن منافعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اعذرني في تقصيري في حقك‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل اعتذر لرسول هللا ‪ ،‬وتقصيرك في حقه‪ ..‬بل اعتذر لنفسك‪ ،‬وتقصيرك في حقها‪ ،‬وفيما يصلح لها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ص دقت‪ ..‬فنحن ن درس كالم من ن رفعهم حرف ا حرف ا وكلم ة وكلم ة‪ ،‬ثم يم ر علين ا مث ل م ا ذك رت من‬
‫النصوص‪ ،‬وال نلقي له باال‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس ذلك النص فقط‪ ،‬بل إنه ‪ ‬ذكرني إجماال وتفصيال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سمعت اإلجمال‪ ،‬فهات التفصيل(‪.)2‬‬
‫قال‪ :‬لقد وصفني رسول هللا لبعض األدواء‪ ،‬فقال‪ (:‬ال تعذبوا ص بيانكم ب الغمز(‪ )3‬من الع ذرة(‪ ،)4‬وعليكم بالقس ط)‬
‫فإن فيه سبعة أشفية‪ :‬يسعط(‪ )6‬به من العذرة‪ ،‬ويل ُّد(‪ )7‬به من ذات الجنب(‪)9()8‬‬‫(‪ ،)5‬وقال‪ (:‬عليكم بهذا العود الهندي‪َّ ،‬‬
‫قلت‪ :‬صدق رسول هللا ‪ ،‬فهل وجدت من يبحث فيما قال رسول هللا ‪ ‬؟‬
‫قال‪ :‬هناك من بحث في هذه النصوص‪ ،‬ولكنه لم يوفها حقها من البحث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما وجدوا فيك من بركات؟‬
‫قال‪ :‬لقد وجدوا أني أحتوي على مادة الهلينين‪ ،‬وحمض البنزوات‪ ،‬وكالهما من الم واد المطه رة للج راثيم‪..‬وله ذا‬
‫ذكرني رسول هللا ‪ ‬لعالج اللوزات‪ ،‬والتهاب اللهاة‪ ،‬والتهاب البلعوم‪ ،‬وهو المقصود بالعذرة فيما سمعت من أحاديث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرك رسول هللا ‪ ‬لعالج ذات الجنب‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ذكر أطباؤكم أن احتوائي على هذه المواد المطهرة القاتلة للج راثيم‪ ،‬وذاك م ا يعل ل دوري في عالج ذات‬
‫الجنب الجرثومية‪ ،‬وذات الرئة الجرثومية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم جمع رسول هللا ‪ ‬في الحديث األول بينك‪ ،‬وبين الحجامة؟‬
‫قال‪ :‬هذا سر بديع يدل على مدى حرصه ‪ ‬على صحتكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيه من الصحة؟‬
‫ق ال‪ :‬إن الجم ع بين الحجام ة وبي ني ل ه مغ زى ط بي في ض وء احت وائي على حمض الب نزوات‪ ،‬والهيلي نين‬
‫المطهرتين والقاتلتين للجراثيم‪ ..‬فهو ي دل على دوري في تعقيم مش رط الحجام ة‪ ،‬إذا طلي ب ه‪ ،‬ودوره في تعقيم الج روح‬
‫المحدثة بهذا المشرط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما شاء هللا‪ ..‬ما أعظم نصحك يا رسول هللا‪ ..‬وكأن رسول هللا ‪ ‬يعلمنا سرا من األسرار المهمة للعالج‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬زيادة على أن الجمع بين القسط البح ري والحجام ة يحم ل س را لطيف ا‪ ،‬وه و‪ :‬الوقاي ة من التش وهات‬
‫والندبات‪ ،‬وقد أدرك هذا المتقدمون فقال موفق الدين البغدادي‪ (:‬وفي جمعه ‪ ‬بين الحجامة والقس ط س ر ٌّلطي ف‪ ،‬وه و‬
‫أنه إذا طلي به مشرط الحجامة لم يتخلف في الجلد أثر المخاريط)‪ ،‬ثم قال‪ (:‬وهذا من غرائب الطب)‬
‫قلت‪ :‬لقد نهى النبي ‪ ‬في الحديث عن غمز العذرة‪ ،‬فما سر ذلك؟‪ ..‬وما عالقته بك؟‬

‫البخاري‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫انظر‪ :‬اإلعجاز الطبي في السنة النبوية‪ ،‬تأليف الدكتور كمال المويل‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫الغمز‪ :‬الضغط باألصابع‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫العذرة‪ :‬بضم العين و سكون الذال هي التهاب الحلق واللوزات‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫البخاري‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫السعوط‪ :‬هو تناول الدواء عن طريق األنف بالتقطير‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫اللَّدود‪ :‬قال ابن حجر العسقالني‪ :‬اللَّدود بفتح الالم و بمهملتين‪،‬هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫ذات الجنب‪ :‬قال عنه ابن حجر العسقالني‪ «:‬هو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن لألضالع »‬ ‫‪)(8‬‬
‫البخاري‪.‬‬ ‫‪)(9‬‬
‫‪175‬‬
‫قال‪ :‬غمز العذة هو ضغط اللوزات والحلق الملتهبين باألصابع‪ ..‬وقد كان أس لوبا من أس اليب العالج‪ ..‬فنهى الن بي‬
‫‪ ‬عنه ووضع البديل الشرعي له(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬فلم نهى النبي ‪ ‬عن الضغط على اللوزتين؟‪ ..‬ألكونه ال يفيد في عالجها؟‬
‫قال‪ :‬ليس ذلك فقط‪ ..‬بل هو يسبب ألماً شديد ًا للمريض‪ ،‬وقد يسبب نزيفا دمويا‪ ..‬بل قد يسبب انتش ار االلته اب إلى‬
‫المناطق المجاورة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما معنى قوله ‪ ‬في الحديث الذي رويته‪ (:‬ويُل ُّد به ذات الجنب)؟‬
‫قال‪ :‬اللدود هو ما يسقى في أحد جانبي الفم‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى طريق ة إعط اء ال دواء للم ريض عن دما ال يتمكن‬
‫غالباً من تناوله بيده‪ ،‬أو يرفض تناوله‪ ،‬كما يحصل عند األطفال غالباً‪ ،‬فإذا رفض الطفل تناول الدواء فيجب إعطاءه إي اه‬
‫عنوة‪ ،‬وذلك بفتح فمه وسقيه الدواء في أحد جانبي فمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم لم يترك ‪ ‬أهل المريض يسقون مريضهم بالطريقة التي يشاءون؟‬
‫قال‪ :‬لقد خشي ‪ ‬أن يسقوا المريض في وس ط فم ه‪ ..‬وذل ك ق د ي ؤدي إلى الش ردقة‪ ..‬ف دل على الطريق ة المثلى‬
‫إلعطاء المريض الدواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أرحمك يا رسول هللا‪ ..‬وما أعظم حرصك علينا‪ ..‬حتى الدواء تعلمنا كيف نتناوله‪.‬‬
‫تقدم مني نبات أجهله‪ ،‬فقلت‪ :‬من أنت يرحمك هللا‪ ..‬وما الذي جعلك تقدم مع القسط؟‬
‫قال‪ :‬أنا أخ من إخوان القسط‪ ،‬يقال لي‪ :‬الورس(‪ ..)2‬وقد نعتني ‪ ‬لذات الجنب‪ ،‬كما نعت ال ورس‪ ،‬فق د روي من‬
‫حديث زيد بن أرقم عن النبي ‪ ‬أنه كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب‪ ،‬قال قتادة‪ :‬يلد به‪ ،‬ويلد من الجانب ال ذي‬
‫يشتكيه(‪.)3‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال زيد بن أرقم‪ :‬نعت رسول هللا ‪ ‬من ذات الجنب ورساً وقسطاً وزيتاً يلد به(‪.)4‬‬
‫وقد وصفني في نواح أخرى‪ ،‬فقد صح عن أم سلمة قالت‪ :‬كانت النفس اء تقع د بع د نفاس ها أربعين يوم اً‪ ،‬وك انت‬
‫إحدانا تطلي الورس على وجهها من الكلف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قال فيك األطباء؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكروا أن مصدر قوتي في الحرارة واليبوسة في أول الدرجة الثاني ة‪ ..‬وذك روا من من افعي أني أنف ع من‬
‫الكلف‪ ،‬والحكة‪ ،‬والبثور الكائنة في سطح البدن إذا طلي بي‪ ،‬وأن لي قوة قابضة صابغة‪ ،‬وأني إذا ش رب م ني نفعت من‬
‫الوضح‪ ،‬ومقدار الشربة مني وزن درهم‪.‬‬
‫وقد ذكروا أني في مزاجي ومنافعي قريب من من افع القس ط البح ري‪ ،‬وإذا لطخ بي على البه ق والحك ة والبث ور‬
‫والسفعة نفع منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أقصد ما قال أولئك‪ ..‬بل قصدت ما قال هؤالء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن أولئك‪ ..‬ومن هؤالء؟‪ ..‬ال أفهمك‪.‬‬
‫نبهني القسط البحري‪ ،‬وقال‪ :‬أخي الورس لم يخرج بعد من زمانه‪ ..‬فدعه مع من يعرفه من األطباء‪ ..‬أو ابحث ل ه‬
‫عمن يعرف به الناس من أطباء قومك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬اذكر لهم أن طبيبا أمريكيا أو أوروبيا أخ بر أن لل ورس فوائ د ص حية‪ ..‬فس ترى المخ ابر كله ا تبحث عن ه‪..‬‬
‫وتلهث في بحثها‪.‬‬

‫‪ )(1‬مع نهي النبي ‪ ‬عن غمز العذرة نجد أنَه ال زال شائعا ً في بعض المناطق‪ ،‬فيسمون العذرة بنات األذن‪ ،‬ويسمون غمزها‪ ،‬أي ضغطها باألص ابع‬
‫رفع بنات األذن‪.‬‬
‫‪ )(2‬الورس‪ :‬هو بزر أصفر يجلب من بالد اليمن‪ ،‬ويدخل في البخورات‪ ...‬قال أبو حنيفة اللغوي‪ :‬الورس يزرع زرعاً‪ ،‬وليس ببري‪ ،‬ولست أعرفه بغير‬
‫أرض العرب‪ ،‬وال من أرض العرب بغير بالد اليمن‪.‬‬
‫وقال االصمعي‪ «:‬ثالثة اشياء ال تكون اال باليمن وقد مألت االرض‪ :‬الورس واللبان والعصب (يعني برود اليمن)»‬
‫‪ )(3‬الترمذي‪.‬‬
‫‪ )(4‬ابن ماجه‪.‬‬
‫‪176‬‬
‫الحناء‬
‫بعد انصراف القسط البحري والورس بقيت متأمال ما ذكرا من تقصيرنا فيما جاء عن رسول هللا ‪ ‬من أص ناف‬
‫الهدي‪ ..‬وبينما أنا في ذلك االستغراق إذ شممت رائحة طيبة لنبتة أعرفها طالما رأيت أهلي يستعملونها‪ ،‬ن ادتني من غ ير‬
‫أن أسألها‪ :‬ال شك في معرفتك لي‪ ..‬فأنا الحناء‪ ..‬تلك النبتة الطيبة التي ورد ذكرها في األحاديث الكثيرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد استعملك ‪ ،‬ودعا الستعمالك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ولذلك‪ ..‬فأنا من أدوية السماء‪ ..‬ولكنكم بعتموني بأدوية األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فقد كانو يستشفون بك ويتجملون‪ ..‬فعوضوك باألصباغ‪ ..‬وعوضوا االسشفاء بك بالمراهم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ولكن لي أهال ال زلت أحن إليهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد سلف هذه األمة الصالح‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وأقصد خلف هذه األمة الفالح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال يؤلمك انصراف الناس عنك؟‬
‫قالت‪ :‬أما صالحوهم‪ ،‬فيؤلمني‪ ..‬وأما غيرهم‪ ..‬فال أبالي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حدثيني عن سر بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬تقصد الحقيقة أم الرسوم؟‬
‫قلت‪ :‬الحقيقة والرسوم‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أما الحقيقة‪ ..‬فيكفي لبركاتي أن تمتد عيني حبيبي ‪ ‬إلي‪ ..‬كيف وقد استعملني ودعا إلي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والرسوم؟‬
‫قالت‪ :‬ما يفهمه قومك من العناصر والمركبات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني بما يفهم قومي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنت تستعملون أوراقي وأزهاري‪ ..‬أما أوراقي‪ ،‬فتحتوي على غليكوزايدات مختلفة أهمه ا الالوزون‪ ،‬وهي‬
‫المادة المسئولة عن التأثير البيولوجي الطبي‪ ،‬وعن الص بغة والل ون األس ود‪ ،‬كم ا أحت وي على م واد راتنجي ة وتانيت ات‬
‫تعرف بـ حماتا ّنين‪.‬‬
‫أما أزهاري‪ ،‬فتحتوي على زيت طيار‪ ،‬له رائحة زكية وقوية‪ ،‬ويعتبر أهم مكوناته مادة الفوبيتا إيونون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه بركات تكوينك‪ ،‬فما بركات استعمالك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد نلت الحظوة عند الجميع‪ ،‬فقد ذكر سلفكم عني أني محلل ن افع من ح رق الن ار‪ ،‬وإذا مض غت نفعت من‬
‫قروح الفم والسالق الع ارض في ه وأني أب رئ من القالع‪ ..‬وأن الض ماد بي ينف ع من األورام الح ارة الملتهب ة‪ ..‬وأني إذا‬
‫ألزقت بي األظافر معجوناً حسنها ونفعها‪ ،‬وأني أنبت الشعر وأقوي ه وأنف ع من النفاط ات والبث ور العارض ة في الس اقين‬
‫وسائر البدن‪.‬‬
‫وقد ذكرني ابن سينا‪ ،‬فقال‪ (:‬الحناء في ه قبض وتحلي ل بال أذى‪ ،‬ويس تعمل في الطب الش عبي كق ابض وفي التئ ام‬
‫الجروح والحروق وغسول للعيون وكمروخ لمعالجة البرص والرثية)‬
‫قلت‪ :‬هذا كالم مجمل‪ ..‬فحدثيني عن التفصيل‪ ..‬وهو كالم السلف‪ ..‬فحدثيني عن كالم الخلف‪.‬‬
‫قالت‪ :‬سأذكر لك أربعة أصول من البركة التي مألني هللا بها ورد النص عليها من السلف‪ ،‬وورد التدليل عليها من‬
‫الخلف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي؟‬
‫قالت‪ :‬الجمال‪ ،‬والعالج‪ ،‬والتطهير‪ ،‬والحماية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنبدأ بسر أسرار الوجود‪.‬‬
‫قالت‪ :‬تقصد الجمال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل تحيا الحياة بال جمال؟‬
‫ق الت‪ :‬لق د ب ارك هللا في‪ ..‬فجعل ني إكس يرا من أكاس ير الجم ال‪ ..‬فله ذا ك ان حبي بي ‪ ‬يس تعملني‪ ،‬وي دعو إلى‬
‫‪177‬‬
‫استعمالي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬أكان ‪ ‬يستعملك؟‬
‫ً‬
‫قالت‪ :‬أج ل‪ ..‬ألم تس مع م ا ج اء في الح ديث من أن أم س لمة أخ رجت ش عرا من ش عر رس ول هللا ‪ ،‬ف إذا ه و‬
‫مخضوب بالحناء والكتم(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬لم أسمع هذا‪ ..‬لكني سمعت أنسا يقول‪ :‬لم يختضب النبي ‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد أجاب أحمد بن حنبل عن هذا وقال‪ :‬قد ش هد ب ه غ ير أنس على الن بي ‪ ‬أن ه خض ب‪ ،‬وليس من ش هد‬
‫بمنزلة من لم يشهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فلعل أنسا لم تيلغه أحاديث االختضاب‪ ..‬أو لم يلتفت إلى خضابه ‪ ..‬وعلى العم وم‪ ،‬تكفي ش هادة‬
‫أم سلمة‬
‫إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء‬ ‫قالت‪ :‬حتى لو قلنا بعدم خضابه ‪ ،‬فيكفي أنه دعا إليه‪ ..‬ألم تسمع قوله ‪ّ (:‬‬
‫والكتم)(‪)2‬‬
‫وحدث ابن عباس قال‪ :‬مر على النبي ‪ ‬رجل قد خض ب بالحن اء‪ ،‬فق ال ‪ (:‬م ا أحس ن ه ذا؟)‪ ،‬فم ر آخ ر ق د‬
‫خضب بالحناء والكتم‪ ،‬فقال‪ (:‬هذا أحسن من هذا)‪ ،‬فمر آخر قد خضب بالصفرة‪ ،‬فقال‪ (:‬هذا أحسن من هذا كله)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬عرفنا ما ورد عن السلف‪ ..‬فحدثينا بما ذكر الخلف‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أنا أستخدم كصبغة منذ آالف السنين‪ ،‬فكل التقاليد والعادات في أغلب مجتمعات إفريقيا وآسيا‪ ،‬ومثلها جمي ع‬
‫الدول اإلسالمية تستعملني للتزيين بوضعي كصبغة للشعر واألظافر واألقدام وراحة األيدي وظهورها‪.‬‬
‫وقد انتش ر اس تعمالي لص بغ الش عر والنقش ب ه على األي دي واألرج ل في الس نين األخ يرة في أوروب ا وأمريك ا‬
‫الشمالية مما جعل الشركات األمريكية واألوروبي ة لص ناعة مستحض رات التجمي ل تتن افس إلنت اج العدي د من مركب ات‬
‫التجميل التي يدخل في صناعتها أوراق الحناء‪.‬‬
‫بل وجدت العديد من صبغات الحناء للشعر وذات األلوان المختلفة من اللون االشقر حتى اللون االسود أو ال داكن‪،‬‬
‫ثم أغلف بعلب جذابة وأباع بأسعار أضعاف السعر الذي يباع به المنتج في الدول العربية أو اآلسيوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هم ال يتركون شيئا إال تاجروا فيه‪ ..‬فكيف تطمعين في أن يرحموك؟‬
‫قالت‪ :‬أنا لم أمنعهم من التجارة في‪ ..‬ولكني متأسفة لتالعبهم بي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬هم يضيفون إلى أوراقي المجففة والمطحونة ص بغة كيميائي ة تع رف ب ارافينلين داي امين بنس ب وكمي ات‬
‫مختلفة تعطي األلوان من األصفر الذهبي إلى اللون األحمر الداكن الى اللون االسود الغامق‪.‬‬
‫وهذه المادة خطيرة إذا وجدت بكمية عالية‪.‬‬
‫وقد يضيفون إلى وأوراقي المجففة والمطحونة أوراق نباتية تسمى انديقو وهي مادة آمن ة االس تخدام وهي تص نع‬
‫في المعامل‪ ،‬وتعطي اللون األزرق عند إضافة الماء عليها‪ ،‬وعن د خل ط أوراق الحن اء المجفف ة والمطحون ة م ع ص بغة‬
‫االنديقو تعطي صبغة نباتية سوداء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركات عالجك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد وصفني ‪ ‬بالنفع‪ ..‬وذلك يكفي لداللتك على ما وضع هللا في من بركات الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم يبلغني الحديث‪ ..‬فأسمعيني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬عجبا لكم‪ ..‬سنة رس ول هللا ‪ ‬بينكم بأيس ر س بل الحص ول عليه ا‪ ..‬ثم ت زعم أنه ا لم تبلغكم‪ ..‬إن من ك انوا‬
‫يختضبون بي كانوا يرحلون البالد‪ ،‬ويقطعون الجبال والوهاد من أجل حديث واحد‪ ..‬ثم يظلون متأسفين إن ف اتهم ح ديث‬
‫لرسول هللا ‪ ..‬ثم تزعم أنت بأن الحديث لم يبلغ ك‪ ..‬أنت ال ذي لم تبل غ الح ديث‪ ..‬أم ا ه و فموج ود في ك ل المص نفات‬
‫أمامك‪.‬‬
‫‪ )(1‬البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي وقال حديث صحيح‪.‬‬
‫‪ )(3‬سنن أبي داود‪.‬‬
‫‪178‬‬
‫قلت‪ :‬اعذريني‪ ..‬وال تغضبي‪..‬‬
‫قالت‪ :‬كيف ال أغضب‪ ..‬وأنتم تحفظون كالم بعضكم بعضا‪ ..‬وتنسون كالم المعصوم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد أبلغت في نصحي‪ ..‬ولك علي أن ال أفرط في تحصيل سنة أو بحث عن هدي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أما إذا قلت ذلك‪ ..‬فقد كان ‪ ‬إذا صُدع غلَّف رأسه بالحناء‪ ،‬ويقول‪ (:‬إنه نافع بإذن هللا)(‪ ،)1‬وكان ال تص يبه‬
‫قرحةٌ وال شوكةٌ إال وضع عليها الحناء(‪..)2‬‬
‫بل إنه ‪ ‬قرنني بالحجامة التي عرفت فضائلها‪ ،‬فقد روى أنَّه ما شكا إليه أحد وجع اً في رأس ه إال ق ال‪(:‬احتجم)‪،‬‬
‫وال شكا إليه وجعاً في رجليه إال قال له‪ (:‬اختضب بالحناء)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬فهل قال الخلف في ذلك شيئا(‪)4‬؟‬
‫ق الت‪ :‬لق د ذك روا أني أفي د في عالج الص داع‪ ..‬وفي ن وع خ اص من ه‪ ،‬وه و الص داع الن اجم عن ف رط الت وتر‬
‫الشرياني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬هم يرجعون ذلك المتالكي خاصيتين اثنتين‪ ،‬فأن ا أنظم ض ربات القلب‪ ،‬وأنبه ه من جه ة‪ ،‬وأس بب ارتخ اء‬
‫العضالت وتوسيع األوعية الدموية من جهة أخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكم ملعقة أشرب منك ألجل ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬ما تقول؟‪ ..‬هل سمعت أن النبي ‪ ‬شربني؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬لقد ورد ـ حسب ما رويت ـ أنه يغلف رأسه بالحناء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فلماذا تتجاوز هديه؟‪ ..‬لعلك تقيس الشرب على التغليف‪ ..‬ما أفلح من قاس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬رويدك‪ ..‬لقد ذكرت أنك تنفعين لوجع الرأس‪ ..‬ولم أكن ألتصور قدرتك على ذلك من غير شرب‪.‬‬
‫قالت‪ :‬الزم هديه ‪ ..‬واستعملني كما استعملني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بأن أضع عجينتك على الجبهة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬هكذا فعل‪ ..‬فال تتجاوز ما فعل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنفرض أني تجاوزت‪ ..‬أليس هذا من األمور العادية التي ال تخضع لألحكام الشرعية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد فعل بعض من يزعمون لعقولهم الذكاء من العطارين الذين يتخذون البشر فئران تجارب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا حصل؟‬
‫ق الت‪ :‬لق د ج اء إلى مخت بر قس م تحلي ل األدوي ة والس موم بمستش فى من المستش فيات عين ة من محل ول الحن اء‬
‫استخدمت من مريض وصفت له عن طريق أح د محالت العط ارة حيث س ببت ل ه العدي د من المش اكل الص حية أدخ ل‬
‫بسببها المستشفى ورقد على سريرها لعدة أسابيع‪ ،‬وخضع لعدة تحاليل طبية‪ ،‬وأنواع مختلفة من االشعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا‪ ..‬هل تناول سما؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬لقد تناول محل ول الحن اء لف ترات طويل ة عن طري ق مـدعي العالج الش عبي ال ذين ك ثرت االم راض‬
‫الجسمية والصحية بسبب وصفاتهم الشعبية‪ ..‬والتي ال تعتمد على أي أساس علمي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما مخاطر استعمالك الداخلي؟‬
‫قالت‪ :‬خطره كبير على الجهاز الهضمي والجهاز الدموي‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فعودي‪ ..‬حدثينا عن منافع العالج بك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬عجينتي اذا وضعت على الرأس تفيد في حالة ضربة الشمس والصداع‪ ،‬وخاصة إذا أضيف للعجينة ملعق ة‬
‫من خل التفاح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وصفك ‪ ‬لعالج الجروح والقرح‪ ..‬فما سر ذلك؟‬
‫ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫أحمد‪،‬و أبو داود‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫انظر‪ :‬اإلعجاز الطبي في السنة النبوية‪ ،‬للدكتور كمال المويل‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪179‬‬
‫قالت‪ :‬ذلك يرجع المتالكي خاصيتين اثنتين‪:‬‬
‫أما أوالهما‪ ،‬فاحتوائي على مضادات حيوية فعالة ضد أنواع كثيرة من الجراثيم‪.‬‬
‫وأما الثانية‪ ،‬فاحتوائي على مواد قابضة للقضاء على االلتهابات الفطرية بالقض اء على الرطوب ة‪ ،‬وإزال ة الوس ط‬
‫لنمو الفطور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تستعملين؟‬
‫قالت‪ :‬أستعمل في عالج األورام والقروح بعجني وتضميد األورام بي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عما وضع هللا فيك من بركات التطهير؟‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت علمياً أنني إذا وضعت في الرأس لمدة طويلة بعد تخمري‪ ..‬فإن المواد القابضة والمطهرة الموجودة‬
‫بمحتوياتي تعمل على تنقية فروة الرأس من الميكروبات والطفيليات‪ ،‬ومن اإلفرازات الزائدة لل دهون‪ ..‬كم ا أن ني أعم ل‬
‫على اإلقالل من إفراز العرق عند مفرطي التعرق‪.‬‬
‫وفوق ذلك أطهر الرأس من قشر الشعر والتهاب فروة الرأس‪.‬‬
‫وال أزال أستعمل كغرغرة لتطهير قروح الفم واللثة واللسان وآالم الحلق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عما وضع هللا فيك من بركات الحماية؟‬
‫قالت‪ :‬انطالقا مما عرفت سابقا‪ ..‬فإن لي أدورا عظيمة في حماية الجلد من التشققات‪ ..‬ذلك أن الفطري ات المتس ببة‬
‫في هذه العلل ترهبني‪ ،‬فال تكاد تقترب مني‪.‬‬

‫الحلبة‬
‫انصرفت الحناء وتركتني‪ ..‬فجاءت خلفها حبة حلبة تختال في مشيتها‪ ،‬فقلت‪ :‬ما ه ذا الزه و؟‪ ..‬ألم تبلغ ك أح اديث‬
‫النهي عن االختيال؟‬
‫قالت‪ :‬اختيالكم ناشئ عن كبر‪ ..‬واختيالي ناشئ عن نشاط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وتعرفين التأويل‪ ..‬والهرب من مستلزمات النصوص!؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪ ..‬ولكني استننت في مشيتي بأبي دجانة‪ ،‬عندما اختال في مرضاة هللا‪ ،‬ال في مرضاة هواه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أمنت نفسك‪ ..‬أفال يمكن أن يكون ذلك خدعة لبس بها الشيطان عليك؟‬
‫قالت‪ :‬ومن الشيطان؟‬
‫قلت‪ :‬الذي يغوي اإلنسان‪ ..‬أال تعرفينه؟‬
‫قالت‪ :‬ال أعرفه‪ ..‬وال أسمع به‪ ..‬أنا من عالم‪ ..‬وأنتم من عالم‪ ..‬فال تحكم علي بأحكام عالمك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عذرا‪ ..‬نسيت أني أتحدث مع حلبة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إن قلت هذا جهال بقدري‪ ..‬فاعلم أن النص قد ورد بذكري والثناء علي‪ ،‬فقد ورد في الحديث أن النبي ‪ ‬ع اد‬
‫بعض أصحابه بمكة‪ ،‬فقال‪ :‬ادعوا له طبيباً‪ ،‬فدعي الطبيب‪ ،‬فنظر إليه‪ ،‬فق ال‪ :‬ليس علي ه ب أس‪ ،‬فاتخ ذوا ل ه فريق ة‪ ،‬وهي‬
‫الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان‪ ،‬فيحساهما‪ ،‬ففعل ذلك‪ ،‬فبرئ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ليس في هذا الحديث شيء من فضلك‪ ..‬بل كل ما فيه إذن العالج بك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقد ورد في الحديث قوله ‪ (:‬لو تعلم أُمتي ما في الحُلب ِة الشتروا ولو بوزنها ذهباً)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذا حديث ضعيف‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فقد ورد في حديث آخر قوله ‪ (:‬استشفوا بالحلبة)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬مهما يكن من أمر‪ ..‬فحدثيني عن أسرار بركاتك‪.‬‬
‫بركات التكوين‪:‬‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني وفيه سليمان بن سلمة الخبايري وهو متروك‪ ،‬انظر‪ :‬مجمع الزوائد‪ ،5/44 :‬مسند الشاميين‪ ،232 :‬المعجم الكبير‪.20/96 :‬‬
‫‪ )(2‬ذكره ابن القيم ولم يذكر ما فيه من التصحيح والتضعيف ولم أجده‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫قالت‪ :‬سأحدثك ـ أوال ـ عن بركات تكويني التي يهتم لها قومك(‪.)3‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكروا من خالل تحليلي أني غنية بالمواد البروتينية والفسفور والمواد النشوية‪ ..‬وأني ال أختلف في ذل ك‬
‫عن زيت كبد الحوت‪ ،‬كما أحتوي على مادتي الك ولين وال تريكونيلين‪ ،‬وهم ا يقارب ان في تركيبهم ا حمض النيكوتيني ك‪،‬‬
‫وهو أحد فيتامينات ( ب)‪ ،‬كما تحتوي بذوري على مادة صمغية وزيوت ثابتة وزيت طيار يشبه زيت اليانسون‪.‬‬
‫وأحتوي على مادة الميوسيليج التي تدخل في صناعة الحب وب والكبس والت للعم ل على تماس كها وع دم تفتيته ا‪،‬‬
‫كذلك أحتوي على مادة السابونين والديوسجانين التي تعمل على تحفيز إف راز الهرمون ات الجنس ية األنثوي ة‪ ،‬وأدخ ل في‬
‫صناعة حبوب منع الحمل والكورتيزونات التي تعمل كمسكنات لألمراض الصدرية والروماتيزم‪.‬‬
‫وهكذا اعتبروني صيدلية متكاملة يمكن استخدامي خارج وداخل الجسم‪.‬‬
‫بركات الشفاء‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن بركات الشفاء التي وضعها هللا فيك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد عرفني الناس من قديم‪ ..‬واستعملوني في أغراض كثيرة‪ ..‬ولوال نجاح استعمالي ما داوموا عليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ففيم استعملوك؟‬
‫قالت‪ :‬لقد قالوا عن حبة الحلبة ـ التي هي أنا بال فخر ـ‪ :‬إنها إذا طبخت بالماء لينت الحلق والصدر والبطن‪ ..‬وأنه ا‬
‫تسكن السعال والخشونة والربو‪ ،‬وعسر النفس‪ ..‬وأنها جيدة للريح والبلغم والبواسير‪ ..‬وأنها محدرة الكيموس ات المرتبك ة‬
‫في األمعاء‪ ..‬وأنها تحلل البلغم اللزج من الصدر‪ ،‬وتنفع من الدبيالت وأمراض الرئة‪ ،‬وتستعمل لهذه األدواء في األحشاء‬
‫مع السمن والفانيذ‪.‬‬
‫وذكروا أن دقيقي إذا خلط بالنطرون والخ ل‪ ،‬وض مد ب ه‪ ،‬حل ل ورم الطح ال‪ ،‬وق د تجلس الم رأة في الم اء ال ذي‬
‫طبخت فيه‪ ،‬فتنتفع به من وجع الرحم العارض من ورم فيه‪ ،‬وأن ه إذا ض مد بي األورام الص لبة القليل ة الح رارة‪ ،‬نفعته ا‬
‫وحللتها‪ ،‬وإذا شرب مائي نفع من المغص العارض من الرياح‪ ،‬وأزلق األمعاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪....‬‬
‫قاطعتني‪ ،‬وقالت‪ :‬وأني إذا أكلت مطبوخة بالتمر‪ ،‬أو العسل‪ ،‬أو التين على الريق حللت البلغم الل زج الع ارض في‬
‫الصدر والمعدة‪ ،‬ونفعت من السعال المتطاول منه‪.‬‬
‫وأني نافعة من الحص ر‪ ،‬مطلق ة للبطن‪ ،‬واني إذا وض عت على الظف ر المتش نج أص لحته‪ ،‬وده ني ينف ع إذا خل ط‬
‫بالشمع من الشقاق العارض من البرد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لحظة فقط‪....‬‬
‫قاطعتني‪ ،‬وقالت‪ :‬وأني يمكن أن أؤكل مطبوخة للتغذية وفتح الشهية ولزيادة الوزن‪ ،‬كما يش رب مغالي حيث أن ه‬
‫ينفع في بعض اإلضطرابات المعدية والصدرية‪ ....‬كما أعطى للفتيات في زمن البلوغ لتنش يط الطمث‪ ،‬ومث ل ذل ك لفق ر‬
‫الدم ولضعاف البنية والشهية وللنحفاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لحظة فقط‪....‬‬
‫قاطعتني‪ ،‬وقالت‪ :‬كما أني أزيل الكلف من الوجه‪ ..‬ويستخدم مغلى بذوري كغرغرة لعالج التهابات اللوزتين‪ ..‬ب ل‬
‫ذكروا أن منافعي أضعاف ما ذكروا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أريد أن تذكري لي ما قال المحدثون من األطباء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬المحدثون متفرغون للسموم التي ينتجونها‪ ..‬فلذلك لم يجدوا الوقت الكافي للنظر في منافعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألم يبحثوا فيك؟‪ ..‬عهدي ببعضهم يهتمون بمنافع األعشاب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بحثوا‪ ..‬ولكنهم مقصرون جدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قالوا؟‬
‫قالت‪ :‬لقد ذكروا فائدتي لمرضى السكري‪ ..‬فقد أجريت في الهند بحوث عديدة عليها في القرن الح الي‪ ،‬وأثبتت أن‬

‫‪ )(3‬انظر‪ :‬التداوي بالنبات و الطب النبوي‪ ،‬للدكتور عبد الباسط محمد السيد‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫‪ 2‬جرام من الحلبة المطحونة تعادل وحدة أنسولين‪ ،‬لذلك تستخدمها الهند حالياً في عالج مرض الس كر من الن وع األول‪،‬‬
‫أي المعتمدين على األنسولين من الخارج‪ ..‬ومثل ذلك النوع الثاني‪ ،‬أي غير المعتمدين على االنسولين من الخارج‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬يرجع ذلك ـ كما يقولون ـ إلى احتوائي على سالسل البيتيدات المرتبطة بالزنك‪ ،‬وال تي يع زى إليه ا الت أثير‬
‫على سكر الدم‪ ،‬وهذا عالوة على زيادة ما بي من األحماض األمينية والكبريتية‪ ،‬فهي التي تساعد على تحوي ل السالس ل‬
‫البيتيدية لمصنعات البنكرياس إلى إنسولين َفعال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا بمرضى السكري؟‬
‫ً‬
‫قالت‪ :‬أال تعلم أن مرضى السكر من النوع الثاني يعانون نقصا في الرابط ة الكبريتي ة ال تي ترب ط ه ذين الخيطين‬
‫لتعطي جُزيء اإلنسولين الفعال‪ ،‬لذلك فإن إمداد الكبريت في صورته العضوية في النباتات يزيد من تحول هذه الخي وط‪،‬‬
‫التي غالباً ما تفرز في صورة طبيعية إلى األنسولين الفعال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه فائدة عظيمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهناك غيرها كثير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ففيم تستعملين أيضا؟‬
‫قالت‪ :‬تشير األبحاث إلى أن بذوري تحتوي على مادة مضادة لاللتهاب‪ ،‬لذلك أس تخدم في ح االت آالم المفاص ل‪،‬‬
‫كما أن كماداتي تستخدم في عالج الجروح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما ذكروا غير هذا؟‬
‫ق الت‪ :‬لق د ذك روا أن ب ذوري تحت وي على م ادة ديوس جنين‪ ،‬وهي م ادة له ا مفع ول ش بيه بمفع ول هرم ون‬
‫االستروجين األنثوي‪ ،‬ولذلك أستخدم في عالج متاعب المرأة في سن اليأس‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬وتشير االبحاث الى أني يمكن أن أعيد للقولون عافيته‪ ،‬وأخلصه من المخاط الزائد‪ ،‬ولهذا أوج د في محالت‬
‫العطارة على هيئة كبسوالت ومحببات تباع في الصيدليات‪ ،‬وتؤخذ عادة صباحاً ومسا ًء لهذا الغرض‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬وقد أفادت مجموعة من الدراسات الطبية بأنني من أهم األعش اب الم درة لحليب األم‪ ..‬وق د أوض ح خ براء‬
‫التغذية أن تناول المرضعات لملعقة كبيرة من الحلب ة المس حوقة أو ش ربها م ع الم اء أو الحليب يس اعد في زي ادة إدرار‬
‫حليب الثدي‪.‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قالت‪ :‬كما أن أوراقي والبذور المستنبتة مني تؤكل الحتوائها على فيتامينات لتقوية الجسم والدم‪ ،‬فأن ا احت وي على‬
‫ّ‬
‫وتحلى بالسكر أو العس ل‪ ،‬وتعطى للتدفئ ة أو‬ ‫البروتينات‪ ،‬والكربوهيدرات‪ ،‬والهرمونات‪ ،‬والسكريات‪ ،‬كما تغلى بذوري‬
‫التغذية في فصل الشتاء‪.‬‬
‫كما أنه يمكن استخدام مسحوق بذوري بعد خلطه بالسمن والسكر؛ ليعطي قيمة غذائية عالية‪ ،‬ومث ل ذل ك تس تخدم‬
‫البذور المسحوقة بعد تحويلها إلى شراب بعد الوالدة إلدرار اللبن من الثدي‪.‬‬
‫وأعطى للفتاة المراهقة لتنظيم الدورة الشهرية‪ ،‬ولفتح الشهية‪ ،‬ومعالجة فقر ال دم‪ ،‬كم ا يمكن اس تخدام ب ذوري في‬
‫عالج السعال الديكي‪ ،‬والربو‪ ،‬واألمراض الصدرية‪ ،‬والبواسير‪ ،‬واإلمساك‪ ،‬والبقع الداكنة‪ ،‬والكلف بالنسبة للبشرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واالستعمال الخارجي؟‬
‫ق الت‪ :‬يمكن أن أطحن واس تخدم كلبخ ة م ع الم اء الس اخن على مك ان الخ راج إلنض اجه‪ ،‬ولإلص بع ال داحس‪،‬‬
‫وخراريج الثدي والشرج‪.‬‬
‫أدوية خاصة‬
‫الكمأة‪:‬‬

‫‪182‬‬
‫انصرفت حبة الحلبة مختالة كما دخلت‪ ،‬فجاءت بعدها الكمأة(‪ )1‬في غاية التواضع والمذلة‪ ،‬فتعجبت منه ا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ما بالك أيتها الكمأة المباركة‪ ..‬ألم يبلغك ما ورد فيك من األحاديث ال تي تش بهك ب المن‪ ..‬فق د ق ال في ك‪ (:‬الكم أة من ّ‬
‫المن‪،‬‬
‫وماؤها شفاء من للعين)(‪)2‬؟‬
‫قالت‪ :‬بلى‪ ..‬وكي ف ال أحف ظ ق ول حبي بي ‪ ..‬ول واله لكنت في طي ات الخم ول‪ ..‬لق د ق ال ذل ك بع د أن اتهم ني‬
‫أصحاب النبي ‪ ‬فقالوا‪ (:‬الكمأة جدري األرض)فصحح ذلك‪ ،‬وقال ما قال بأبي هو وأمي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم ال تختالين كما اختالت أختك الحلبة؟‬
‫قالت‪ :‬كل منا له مقام معلوم ال يجاوزه‪ ..‬أما مقامها فدعاها لما دعاها له من الخيالء‪ ..‬أما مق امي فه و مق ام الح زن‬
‫المتدفق من بحار التوكل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الحزن‪ ..‬وهل في أرض السالم حزن؟‬
‫قالت‪ :‬حزن العارفين‪ ..‬ال حزن الغافلين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َحْم َله ُْم قُلتَ ال أ ِج ُد َم ا أ ِ‬
‫حْمل ُك ْم َع َل ْي ِه ت ََولوْ ا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫قلت‪ :‬تقصدين الحزن الوارد في قوله تعالى‪َ ﴿:‬وال َع َلى ال ِذينَ ِإ َذا َم ا أ َت وْكَ ِلت ِ‬
‫َو َأ ْعيُنُه ُْم َت ِفيضُ ِمنَ ال َّد ْم ِع َحزَناً َأاّل َي ِجدُوا َما يُ ْن ِفقُونَ ﴾ (التوبة‪)92:‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬فلذلك جعلني هللا دواء للعين‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف تزعمين التوكل؟‬
‫قالت‪ :‬أال تراني بال ساق وال أوراق‪ ..‬وال تحرث أرضي وال تزرع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن أين يأتيك رزقك رغدا؟‬
‫ب﴾(آل عمران‪)37 :‬‬ ‫ق َم ْن َي َشا ُء ِب َغي ِْر ِح َسا ٍ‬ ‫قالت‪ِ ﴿:‬م ْن ِع ْن ِد هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ َي ُ‬
‫رْز ُ‬
‫قلت‪ :‬تلك مريم ـ عليها السالم ـ‬
‫قالت‪ :‬كل من توكل على هللا عامله هللا كما يعامل مريم ـ عليها السالم ـ‪ ..‬ليس عند ربك إال العدل والفضل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحدثيني عن أسرار بركاتك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد نطق بها الحبيب‪ ..‬أال يكفيك؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬هو على العين والرأس‪ ..‬ولكنك تعرفين قومي‪ ..‬وما مألونا به من األوهام‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال بأس عليك‪ ..‬فاهلل يغير من حال إلى ح ال‪ ..‬لق د ذك روا أني غني ة ب البروتين‪ ،‬حيث أحت وي من ه على ‪13‬‬
‫بالمائة وأحتوي على الفسفور‪ ،‬والبوتاسيوم‪ ،‬والصوديوم(‪.)3‬‬
‫قلت‪ :‬فما المن الذي أخبر رسول هللا ‪ ‬أنك منه؟‬
‫رائيل َق ْد‬
‫َ‬ ‫قالت‪ :‬لقد ذكروا أنه من جنس المن الذي نزل على موسى ‪ ،‬والذي نص عليه قوله تعالى‪َ ﴿:‬يا َب ِني ِإ ْس‬
‫ور اأْل َ ْي َمنَ َون ََّز ْلنَا َع َل ْي ُك ُم ْال َم َّن َوالس َّْل َوى﴾(طـه‪)80:‬‬ ‫ب ُّ‬
‫الط ِ‬ ‫َأ ْن َج ْينَا ُك ْم ِم ْن َعد ُِّو ُك ْم َو َواع َْدنَا ُك ْم َجا ِن َ‬
‫قلت‪ :‬فلم سمي كذلك؟‬
‫قالت‪ :‬ألنه مما امتن هللا به على عباده بدون عالج‪ ،‬فأنا شبيه به‪ ..‬ولذلك فأنا أخرج بال مؤونة وال كلف ة‪ ،‬باإلض افة‬
‫إلى أني من الحالل المحض الذي ليس في اكتسابه أي شبهة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن فيك أنواعا خطيرة على الصحة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ،‬ذلك صنف من أصنافي يميل لونه إلى الحمرة يحدث االختناق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وصفك ‪ ‬لعالج العين‪ ..‬فهل ثبت ذلك؟‬
‫قالت‪ :‬أيقول رسول هللا ‪ ‬قوال‪ ..‬ثم تسأل عن ثبوته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أقصد ذلك‪ ..‬فرسول هللا ‪ ‬هو سيد األطباء‪ ..‬ولكني أسأل عن اهتمام المحدثين بك من هذه الناحية‪.‬‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ..‬لقد وفق هللا بعض الصادقين‪ ،‬فأخرج للناس جدوى العالج بي من الناحية التي يفهمونها‪.‬‬
‫‪ )(1‬الكمأة‪ :‬نبات فطري وتشبه في شكلها البطاطا مع اختالف اللون والرائحة‪ ،‬تنمو في الصحارى‪ ،‬وتحت أشجار البلوط‪.‬‬
‫‪ )(2‬البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المعتز باهلل المرزوقي‪ :‬في محاضرة له بعنوان ( الكمأة و ماؤها شفاء للعين)من مواد الم ؤتمر الع المي األول عن الطب االس المي الك ويت‬
‫‪.1980‬‬
‫‪183‬‬
‫قلت‪ :‬فأخبريني خبره‪.‬‬
‫قالت‪ :‬في المؤتمر العالمي األول عن الطب اإلس المي ألقى ال دكتور المع تز باهلل الم رزوقي محاض رة عن نت ائج‬
‫معالجته آلفات عينية مختلفة بتقطير ماء الكمأة في العين‪.‬‬
‫فقد تم استخالص العصارة المائية منها في مختبر فيالنوف بأوديسا‪ ،‬ثم تم تجفيف السائل حتى يتمكن من االحتفاظ‬
‫به لفترة طويلة‪ ،‬وعند االستعمال تم حل المسحوق في ماء مقطر لتصل إلى نفس تركيز م اء الكم أة الط بيعي‪ ،‬وه و م اء‬
‫بني اللون له رائحة نفاذة‪.‬‬
‫وقد عالج به حاالت متقدمة من الرمد الربيعي فكانت النتائج إيجابية حيث تم تشخيص ه عن د ‪ 86‬طف ً‬
‫ال‪ ،‬ثم تقس يهم‬
‫إلى مجموعتين عولجت باألدوية المعتادة‪ ،‬ومجموعة أضيف ماء الكمأة إلى تلك المعالج ات‪ ،‬حيث تم تقط ير م اء الكم أة‬
‫في العين المصابة ‪ 3‬مرات يومياً ولمدة شهر كامل‪.‬‬
‫وكان الفرق واضحاً جد ًا بين المجموعتين‪ ،‬فالحاالت التي عولجت باألدوية المعتادة ظه ر فيه ا تلي ف في ملتحم ة‬
‫الجفون‪ ،‬أما التي عولجت بماء الكمأة المقطر عادت الملتحمة إلى وضعها السوي دون تليف الملتحمة‪.‬‬
‫اإلثمـد‪:‬‬
‫تقدم اإلثمد‪ ،‬وقال‪ :‬أنا أخ للكمأة‪ ..‬كالنا جعلنا هللا بركة على العين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكنها نبات‪ ،‬وأنت جماد‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما الفرق بين النبات والجماد؟‬
‫قلت‪ :‬نحن نسمي النبات كائنا حيا‪ ،‬ونسمي الجماد كائنا‪..‬‬
‫قال‪ :‬ميتا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬لكنا نكتفي بتسميته جمادا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمعوا بأن رسول هللا ‪ ‬يحب جبل أحد‪ ..‬وجبل أحد يحب رسول هللا ‪ ‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فهل يمكن أن يحب الميت؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪..‬‬
‫قال‪ :‬فكيف تجعلوننا موتى إذن؟‬
‫قلت‪ :‬هكذا يقول قومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬قومك يرددون مقولة إبليس‪ ..‬فال تتبعهم‪ ،‬واتبعني ﴿ َأ ْه ِدكَ ِ‬
‫ص َراطاً َس ِو ّياً﴾(مريم‪)43 :‬‬
‫قلت‪ :‬أنا معك فيما تقول‪ ..‬وال أدل على ذلك من حديثك معي‪ ..‬ولم أجلس هذا المجلس إال وأنا أدرك حيات ك وحي اة‬
‫إخوانك‪ ..‬ولكني جلست هنا ألستفيد من بركاتكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال شك في بركاتي‪ ..‬فقد جرى اسمي على لسان الحبيب‪ ،‬كم ا ج رى كحلي في عيني ه الش ريفتين‪ ..‬وم ا ك ان‬
‫ليلمسه شيء فيمحق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما قال فيك الحبيب؟‬
‫قال‪ :‬لقد كان رسول هللا ‪ ‬إذا اكتحل يكتحل في اليمنى ثالثة يبتدئ بها ويختم بها‪ ،‬وفي اليسرى ثنتين(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذا ما جرى في عينيه‪ ،‬فأين ما جرى على لسانه؟‬
‫قال‪ :‬لقد قال ‪ (:‬إن خير أكحالكم اإلثمد‪ ،‬يجلو البصر‪ ،‬وينبت الشعر)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر لك رسول هللا ‪ ‬بركتين للشفاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أما أوالهما‪ ..‬فإني أؤثر على زمر جرثومية كثيرة‪ ،‬وأبيد العديد من الطفيليات كالاليشمانيا والبلهارس يا‬
‫والمثقبيات والخيطيات‪ ،‬ولهذا أستعمل في بريطانيا لمعالجة البلهارسيا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما فائدة ذلك على جالء البصر؟‬

‫‪ )(1‬الترمذي والنسائي وابن ماجة واإلمام أحمد وقال الترمذي‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫‪ )(2‬الترمذي وحسنه وابن ماجة‪ ،‬وصححه ابن حيان‪.‬‬
‫‪184‬‬
‫قال‪ :‬إن آفات العين التهابية جرثومية‪ ،‬وعندما تسلم الملتحمة من االحتقان يمكن أن يكون البصر جيد ًا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والثانية؟‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬إنباتي للشعر ثابت علميا‪ ،‬إذ أن من خصائصي الدوائي ة ت أثيري على البش رة واألدم ة‪ ،‬فينب ه ج ذر الش عرة‪،‬‬
‫ال في نموها‪ ،‬لذا يستعملون مركباته (طرطرات اإلثمد والبوتاسيوم)لمعالجة بعض الس عفات والص لع‪ ،‬تطب ق‬ ‫ويكون عام ً‬
‫على شكل مرهم بنسبة ‪ 3 _ 2‬بالمائة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا بجالء البصر؟‬
‫قال‪ :‬ألنه بتقوية بصيالت أهداب العين تحفظ الرموش‪ ،‬فتطول أكثر‪ ،‬وبذلك تزداد قدرتها في حفظ العين من أشعة‬
‫الشمس‪ ،‬وفي تصفية الغبار واألوساخ‪ ،‬فتزيد الرؤيا وضوحاً وجال ًء أكثر منها في استعمال األكحال الخالية من اإلثمد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد سمعت البعض يطعن في دعوة النبي ‪ ‬لالكتحال باإلثمد‪ ،‬ويستدل على ذلك بحص ول ح وادث انس مام‬
‫عند بعض الحوامل نتيجة االكتحال به‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك غير صحيح‪ ..‬فلعل هؤالء الحوامل اكتحلوا بأكح ال مغشوش ة تحت وي على عنص ر الرص اص الس ام‪،‬‬
‫فاالنسمام إنما يحصل من غش اإلثمد بالرصاص‪ ،‬وليس من االكتحال باإلثمد كما دعا إليه النبي ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد اختارك النبي ‪ ‬على غيرك‪ ..‬فهل هناك غيرك مما يكتحل به؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬هناك مركبات أخرى شائعة تستخدم لتكحيل العين غ ير كح ل االثم د‪ ..‬مث ل الهب اب الن اتج عن ح رق‬
‫الفحم او الزيت‪ ..‬وغيرها‪ ..‬ولكني الوحيد الذي لم تثبت التجارب أية آث ار جانبي ة لي أو ض ارة س واء على العين أو على‬
‫الجسم‪ ..‬ولهذا ال أزال أستخدم من قديم للرجال والنساء جميعا‪.‬‬
‫المردقوش‪:‬‬
‫تق دم المردق وش‪ ،‬وه و يق ول‪ :‬لق د ورد في ح ديث ال يعلم ون م دى ص حته‪ ،‬يق ول في ه رس ول هللا ‪ (:‬عليكم‬
‫بالمرزنجوش(‪ ،)1‬فإنه جيد للخشام (‪)3( ))2‬‬
‫قلت‪ :‬فما دمت ال تدري صحته‪ ،‬فما جلوسك مع أدوية السماء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع ما قال الشاعر‪:‬‬
‫أدر ذكر من أهوى ولو بمالم فإن أحاديث الحبيب مدامي‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قال‪ :‬فحسبي أن أوضع في ورقة واحدة مع رسول هللا ‪ ،‬فإن ذلك يكفي لملئي بالعزة والفخر‪ ..‬ألم تسمع م ا ق ال‬
‫عروة بن حزام؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد اكتفى من محبوبته بأقل ما يكتفي الناس‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫وإني ألهوى الحشر إذ قيل إنني وعفراء يوم الحشر ملتقيان‬
‫قال‪ :‬وقد كان من بركات ذلك أن قيض هللا من يبحث في بركاتي‪ ..‬أتعرف الدكتور عبد الباسط محمد السيد(‪)4‬؟‬
‫قلت‪ :‬وكيف ال أعرفه!؟‪ ..‬إنه على ثغر من ثغور العلم والدين‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد ذكر أنه وجد بالتجريب العلمي أن المستخلص المائي المحتفظ بالزيوت الطيارة من عش بي ل ه أث ر فع ال‬
‫في تنظيم هرمونات الرنين‪ ،‬واآللدوستيرون‪ ،‬والبروستاجالندين‪ ،‬وهي هرمونات الغدة الجاركلوية‪ ،‬وبه ذا أك ون عالج ا‬
‫جيدا لضغط الدم المرتفع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه بركة عظيمة‪ ..‬فزيديني‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد وجد أني أنظم هرمون البروالكتين‪ ،‬وأنه عند تجريبي بواقع كوبين من المس تخلص الم ائي م ني‪ ،‬ف إني‬
‫أحل محل الدواء الكيميائي‪ ،‬وبذلك أستخدم في عالج حاالت عدم انتظام الدورة الشهرية‪ ،‬وعسر الطمث‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى فإني أستخدم بنجاح في عالج حاالت تسمم الحمل‪ ،‬إذ أني آمن تماماً أثناء الحمل‪.‬‬
‫اسم من أسماء المردقوش‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫الزكام‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫قال ابن القيم‪ «:‬ورد فيه حديث ال نعلم صحته »‬ ‫‪)(3‬‬
‫انظر‪ :‬التداوي بالنبات والطب النبوي‪ ،‬للدكتور عبد الباسط محمد السيد‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪185‬‬
‫قلت‪....:‬؟‬
‫قال‪ :‬وبسبب احتوائي على مولدات الهرمونات في صورة تربينات‪ ،‬ل ذا ف إني مفس د لتنظيم الهرمون ات‪ ،‬وبعب ارة‬
‫أوضح أعيد االتزان الهرموني‪ ،‬وإذا أخذني األصحاء فإني ال ي ؤثر في ات زانهم الهرم وني‪ ،‬ب ل ي ؤدي دوره في إس راع‬
‫التمثيل الغذائي‪.‬‬
‫وقد ثبت ح ديثا أن المس تخلص الم ائي المحتف ظ ب الزيوت الطي ارة من ه يخفض س كر ال دم بنس بة تص ل إلى ‪15‬‬ ‫ً‬
‫بالمائة‪ ..‬أما عن استخدامه في الخشام‪ ،‬أي الزكام‪ ،‬فق د وج د أن لي عالق ة وثيق ة بتوس يع الش عب الهوائي ة‪ ..‬وثبت أن لي‬
‫عالقة وثيقة بإزالة الصداع النصفي‪ ..‬كما يستخدم الزيت الناتج مني في عالج المفاص ل‪ ،‬واآلالم الروماتزمي ة‪ ،‬كم ا أني‬
‫مهدىء وطارد للغازات‪ ..‬كما أستخدم كمضاد للميكروبات‪ ،‬إذ أوضع مع اللحوم المصنعة كمادة حافظة طبيعية‪.‬‬
‫النار الشافية‪:‬‬
‫بينما أنا منشغل بحديث الناقة إذ رأيت نارا تجر ذيوله ا‪ ،‬وترف ع هامته ا‪ ،‬ف اقتربت منه ا‪ ،‬وص حت فيه ا‪ :‬كفي من‬
‫كبريائك أيتها النار‪ ..‬وشمري عن ساقيك‪ ..‬واحذري الخيالء التي جرت إبليس إلى التكبر بك على أبي آدم ‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ال تفخر بطينك على ناري‪ ..‬فيحيق بك ما حاق بإبليس عندما افتخر بناره على طينكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا ال أفخر‪ ..‬ولكني أرى ذيولك وهامتك تنم عن كبرياءك‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أخطأت في هذا‪ ..‬فلست ممن يفعل ذلك خيالء‪ ..‬أنا أمة من إماء هللا أمتلئ عبودية هلل‪ ..‬ألم تس مع قول ه تع الى‬
‫وهو يخاطبني‪َ ﴿:‬يا َنارُ ُكو ِني َبرْد ًا َو َسالماً َع َلى ِإب َْرا ِهي َم﴾(االنبياء‪)69:‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فأنا نار هللا الموقدة على الجاحدين‪ ..‬وأنا فضل هللا وبركت ه على الموق نين‪ ،‬ألم يق ل هللا تع الى مبين ا فض لي‪:‬‬
‫ار الَّ ِتي تُورُونَ ﴾(الواقعة‪)71:‬؟‬ ‫﴿ َأ َف َر َأ ْيتُ ُم النَّ َ‬
‫قلت‪ :‬سلمت لك في هذا‪ ..‬ولكني ال أبحث اآلن عنه‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فعم تبحث؟‬
‫قلت‪ :‬عن أسرار الشفاء التي أنزلها هللا من السماء‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فأراك لم تخطئ المجيء إلي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيك من أسرار الشفاء المنزل من السماء؟‬
‫الكي بالن ار‪ ،‬فق د ثبتت في العالج ب ذلك جمل ة‬‫ال‪ّ :‬‬ ‫ال وفع ً‬
‫الس نَّة النبوي ة ق و ً‬
‫قالت‪ :‬من أنواع ال دواء ال تي وردت في ُ‬
‫أحاديث صحاح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي منها ما أعلم به صدق دعواك‪.‬‬
‫بي بن كعب طبيباً‪ ،‬فقطع له عرقاً‪،‬‬ ‫ُ‬
‫قالت‪ :‬لقد ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد هللا‪ ،‬أن النبي ‪ ‬بعث إلى أ ّ‬
‫وكواه عليه‪.‬‬
‫الكي‪.‬‬
‫ورمت‪ ،‬فحسمه الثانية‪ ،‬والحسم‪ :‬هو ّ‬ ‫ولما رُمي سعد بن معاذ في أكحله حسمه النبي ‪ ،‬ثم ِ‬
‫وفي طريق آخر‪ :‬أن الن بي ‪ ‬ك وى س عد بن مع اذ في أكحل ه بمش قص‪ ،‬ثم حس مه س عد بن مع اذ أو غ يره من‬
‫أصحابه‪.‬‬
‫وفي لفظ آخر أن رجال من األنصار رُ ِمي في أكحله بمشقص‪ ،‬فأمر النبي ‪ ‬به فكوى‪.‬‬ ‫ً‬
‫الكي‪ ،‬فقال‪ (:‬اكووه وارضفوه)‪ ،‬قال أبو عبيد‪ :‬الرّضف‪ :‬الحج ارة‬ ‫وقال أبو عبيد‪ :‬وقد أُ ِت َي النبي ‪ ‬برجل نُ ِعتَ له ّ‬
‫تسخن‪ ،‬ثم يكمد بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك تنتقين من النصوص ما تشائين‪ ..‬أتؤمنين ببعض الكت اب وتكف رين ببعض‪ ..‬ألم تس معي قول ه ‪ ‬في‬
‫الكي)؟‬
‫الحديث المتفق عليه‪ (:‬وما أحب أن أكتوي)‪ ،‬وفي لفظ آخر‪ (:‬وأنا أنهى أمتي عن ّ‬
‫ألم تسمعي حديث عمران بن حصين‪ ،‬أن النبي ‪ ‬نهى عن ّ‬
‫الكي‪ ،‬قال‪ :‬فابتلينا‪ ،‬فاكتوينا فم ا أفلحن ا‪ ،‬وال أنجحن ا‪،‬‬
‫وفي لفظ‪ :‬نهينا عن الكي‪ ،‬وقال‪ :‬فما أفلحنا وال أنجحنا؟‬
‫ألم تسمعي حديث السبعين ألفا ال ذين ي دخلون الجن ة بغ ير حس اب‪ :‬أنهم ال يس ترقون وال يكت وون وال يتط يرون‪،‬‬

‫‪186‬‬
‫وعلى ربهم يتوكلون؟‬
‫قالت‪ :‬صدقت وصدق حبيبي ‪ ..‬وقد خطفت هذه األحاديث من لساني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تزعمين بأنك من أدوية السماء‪ ..‬وقد ورد في النصوص النهي عنك؟‬
‫الكي أربعة أنواع‪ ،‬أحدها‪ :‬فعله‪ ،‬والثاني‪ :‬عدم‬
‫قالت‪ :‬أراك تأخذ ببعض الكتاب وتكفر ببعض‪ ،‬فقد تضمنت أحاديث ّ‬
‫محبته له‪ ،‬والثالث‪ :‬الثناء على من تركه‪ ،‬والرابع‪ :‬النهي عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تجمعين بين هذه المتعارضات؟‬
‫قالت‪ :‬ال تعارض بينها بحمد هللا تعالى‪ ،‬وقد جمع العلماء بينها بطرق من الجمع‪ ،‬فقال بعضهم وأحس ن‪ :‬ف إن فعل ه‬
‫يدل على جوازه‪ ،‬وعدم محبته له ال يدل على المنع منه‪ ،‬وأما الثناء على تاركه‪ ،‬فيدل على أن ترك ه أولى وأفض ل‪ ،‬وأم ا‬
‫النهي عنه‪ ،‬فعلى سبيل االختيار والكراهة‪ ،‬أو عن النوع الذي ال يحتاج إليه‪ ،‬بل يفعل خوفاً من حدوث الداء‪.‬‬
‫أما حديث السبعين ألفا‪ ،‬ال ذين ي دخلون الجن ة بغ ير حس اب‪ ،‬وال ذين وص فوا ب أنهم ال يس ترقون وال يكت وون وال‬
‫يتطيرون‪ ،‬وعلى ربهم يتوكلون‪ ،‬فقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة منها أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في‬ ‫َّ‬
‫أن األدوية تنفع بطبعها‪ ،‬كما كان أهل الجاهلية يعتقدون‪.‬‬
‫ومنها أنه يحتمل أن يكون المراد بهؤالء المذكورين في الحديث‪َ :‬من غفل عن أحوال الدنيا‪ ،‬وما فيها من األس باب‬
‫المعدة لدفع العوارض‪ ،‬فهم ال يعرفون االكتواء وال االسترقاء‪ ،‬وليس لهم ملجأ فيما يع تريهم إال ال دعاء واالعتص ام باهلل‪،‬‬
‫والرضا بقضائه‪ ،‬فهم غافلون عن طب األطباء ور َقى الرقاة‪ ،‬وال يحسنون من ذلك شيئاً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلماذا ال نستن بسنة هؤالء؟‬
‫قالت‪ :‬إن َه ْدي رسول هللا ‪ ‬هو خير ال ًه ْدي‪ ،‬و ُسنَّته هي المتبعة دون غيرها‪ ،‬وقد تداوى رس ول هللا ‪ ‬وت داوى‬
‫أصحابه في حياته‪ ،‬ومن بعده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن من الصحابة من لم يكتو!؟‬
‫قالت‪ :‬ألن الكي ال يص لح ل ه‪ ..‬أرأيت ل و أن شخص ا ال يحت اج إلى إج راء عملي ة جراحي ة‪ ،‬فأجراه ا ف أثرت في‬
‫صحته أال يندم على ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪..‬‬
‫قالت‪ :‬فعلى هذا تحمل أحاديث النهي(‪ ..)1‬فالعالج بالنار من األدوية الخاصة ب أحوال معين ة‪ ..‬ألم تس مع ب أن آخ ر‬
‫الدواء الكي‪ ..‬فال يصح اللجوء إلى هذا العالج إال بعد استنفاذ جميع الوسائل‪ ..‬أو استعماله في األحوال الخاص ة ب ه‪ ،‬كم ا‬
‫في مرض اللقوة(‪ ..)2‬فقد ورد في النصوص معالجة اللقوة بالكي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اللقوة؟‬
‫قالت‪ :‬هي شلل العصب الوجهي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف تشفى بالكي؟‬
‫قالت‪ :‬يغلب أن البرد هو السبب في إحداثها‪ ،‬ولهذا فإن المعالجات الحديث ة مبني ة على أس اس أن س بب اللق وة ه و‬
‫تشنج األوعية المغذي ة للعص ب‪ ،‬ل ذا فهم يعط ون األدوي ة الموس عة لألوعي ة‪ ،‬وم ا األدوي ة المحم رة س وى ض رب من‬
‫ضروب األدوية الموسعة لألوعية‪.‬‬
‫نباتات من الجنة‬
‫ذهبت النار تجر أذيالها‪ ..‬فرأيت خلفها منظرا بهيجا يش به الجن ة‪ ،‬فحثثت خط اي إلي ه‪ ..‬ف التقيت في ط ريقي ثالث ا‬
‫أعرفهن تمام المعرفة‪ :‬الزنجبيل‪ ،‬والكافور‪ ،‬والزعف ران‪ ،‬فاس توقفنني‪ ،‬ف وقفت‪ ،‬وقلت‪ :‬م ا خطبكن أأنتن ش رطيات تحلن‬
‫بين الخلق والجنة؟‬

‫‪ )(1‬ولهذا قيل‪ :‬إنما نُهي عنه عمران بن حصين خاصة‪ ،‬ألنه كان به ناصور‪ ،‬وكان موضعه خطراً‪ ،‬فنهاه عن كيه‪ ،‬فيشبه أن يك ون النهي منص رفا ً إلى‬
‫الموضع المخوف منه‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫يض إحْ دَى َع ْينَيْه‪ ،‬وفي لس ان الع رب اللَّ ْق وة‪ :‬داء يك ون في الوج ه يَ ْع َوجُّ من ه‬
‫ِ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫على‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫وال‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ه‬ ‫جْ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫َّج‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ة‬‫و‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫َّ‬ ‫الل‬ ‫اللغة‪:‬‬ ‫‪ )(2‬يقول الثعالبي في فقه‬
‫ال ِّشدق‪ ،‬وقد لُقِ َي فهو َم ْلقُوٌّ‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫قلن‪ :‬ال‪ ..‬ولكن الجنة دار القرار‪ ..‬وال يمكنك أن تدخلها اآلن‪ ..‬أنسيت الص راط والم يزان؟‪ ..‬أم حملت مع ك ص كا‬
‫بالغفران؟‪ ..‬ولو كان معك ذلك الصك أتسمح لنفسك أن تدخلها قبل مفتاح الهداية ورسول الرحمة؟‬
‫قلت‪ :‬صدقتن‪ ..‬فما أقل فقهي‪ ..‬وما أقل أدبي‪ ..‬ولكن ما بالكن جئتن من الجنة‪.‬‬
‫قلن‪ :‬نحن بركة من بركات الجنة شرفن بذكر أسمائنا من ضمن أسماء نعيم الجنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل أنتن عينه؟‬
‫قلن‪ :‬شتان بيننا وبين ذلك‪ ..‬ولكنا مع ذلك اكتسبنا شرف أن نكون من أدوية السماء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأنتن من أدوية أهل الجنة؟‬
‫قلن‪ :‬بئس ما تقول يا رجل‪ ..‬أين ذهب عقلك؟‪ ..‬وهل يمرض أهل الجنة حتى يحتاجون إلى التداوي بنا؟‬
‫قلت‪ :‬فحدثوني عنكن‪.‬‬
‫الزنجبيل‪:‬‬
‫تقدمت نبتة الزنجبيل(‪ ،)1‬وقالت‪ :‬من عرفني‪ ..‬فقد عرف ني‪ ،‬ومن لم يعرف ني‪ ،‬فأن ا الزنجبي ل‪ ،‬وق د ورد اس مي في‬
‫ال﴾ (االنس ان‪ ..)17 :‬وأن ا إن لم أكن بعي ني في‬ ‫قوله تعالى وهو يصف نعيم أهل الجنة‪َ ﴿:‬ويُسْ َقوْ نَ ِفي َها َك ْأساً َكانَ ِمزَ اجُ َها زَ ْن َج ِبي ً‬
‫الجنة إال أن هللا تعالى بارك في بأنواع الشفاء‪.‬‬
‫وقد روي عن أبي سعيد الخدري قوله‪( :‬أهدى مل ك ال روم إلى رس ول هللا ‪ ‬ج رة زنجبي ل‪ ،‬ف أطعم ك ل إنس ان‬
‫قطعة‪ ،‬وأطعمني قطعة)(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيك من بركات الشفاء؟‬
‫قالت‪ :‬يستعمل منقوعي قبل األكل كمهدئ للمعدة وعالج النقرس‪ ،‬كما أني هاض مة وط اردة للغ ازات‪ ،‬وأس تعمل‬
‫لتوسيع األوعية الدموية‪ ،‬وزيادة العرق والشعور بالدفء وتلطيف الحرارة‪ ،‬وأستخدم كتوابل في تجهيز األطعمة ومنحها‬
‫الطعم المميز‪ ،‬وأضاف إلى أنواع من المربّات والحلوى‪ ،‬وأضاف إلى المشروبات الساخنة كالسحلب والقرفة‪.‬‬
‫وقد أفادت دراسه حديثة أني قد أساعد في تخفيف آالم الصداع الناتجه عن التوتر النفسي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه بركة عظيمة‪ ،‬فما سرها؟‬
‫قالت‪ :‬لقد أوضح الباحثون أن فعاليتي تكمن في قدرتي على تقليل إنتاج مركب ات (بروس تاجالندنيز) المس ببه لأللم‬
‫ال عن كوني راخياً لألعصاب والعضالت‪ ،‬حيث أساعد على االسترخاء وتخفيف الت وتر‪ ،‬ل ذلك أس هم في‬ ‫في الجسم فض ً‬
‫تخفيف آالم الصداع الخفيفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني أريد وصفة إلزالة اآلالم الشديد‪.‬‬
‫قالت‪ :‬إذا أردت وصفة لذلك فعليك مزجي مع البابونج وزهرة الزيرفون‪ ،‬فإني بذلك أعطي مشروباً أق وى وأك ثر‬
‫فعاليه في إزالة الصداع والتشجيع على االسترخاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا ما فيك من بركات الشفاء؟‬
‫قالت‪ :‬ال‪..‬بركاتي كثيرة‪ ..‬ألم تسمع ما قال في األطباء؟‬
‫قلت‪ :‬فما قالوا؟‬
‫قالت‪ :‬لقد قالوا‪ (:‬الزنجبيل معين على الهضم‪ ،‬ملين للبطن تليينا معتدال‪ ،‬نافع من س دد الكب د العارض ة عن ال برد‪،‬‬
‫والرطوبة‪ ،‬ومن ظلم ة البص ر الحادث ة عن الرطوب ة كحال واكتح اال‪ ،‬وه و محل ل للري اح الغليظ ة الحادث ة في األمع اء‬
‫والمعدة‪ ،‬وهو بالجملة صالح للكبد والمعدة)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكري لي وصفات أنتفع بها‪ ،‬وينتفع بها قومي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لي وصفات كثيرة ال يكفي وقتك لعرضها‪ ..‬فالتمسها عند أهلها من األطباء‪ ،‬ال من العطارين‪.‬‬
‫الكافور‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫تقدمت نبتة الكافور‪ ،‬وقالت‪ :‬أما أنا فقد شرفت بذك اسمي في نعيم أهل الجنة في قوله تع الى‪ِ ﴿:‬إ َّن ا ْب َر َ‬
‫ار َيش َربُونَ‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬شفاء العليل في عجائب الزنجبيل‪ ،‬تأليف‪ :‬أبي الفداء محمد عزت محمد عارف‪.‬‬
‫‪ )(2‬أبو نعيم في الطب النبوي‪.‬‬
‫‪ )(3‬الطب النبوي‪.246:‬‬
‫‪188‬‬
‫س َكانَ ِمزَ اجُ َها َكافُور ًا﴾ (االنسان‪ ..)5:‬وليس في الدنيا من الجنة إال األسماء‪.‬‬‫ِم ْن َك ْأ ٍ‬
‫قلت‪ :‬فما بركاتك؟‬
‫قالت‪ :‬كثيرة‪ ،‬وسأذكر ما يعرفه قوم ك منه ا‪ ،‬فق د ص رحت الس لطات األلماني ة الص حية باس تخدام الك افور النقي‬
‫لعالج األمراض التالية‪ :‬الكحة والتهاب الشعب الهوائية والربو حيث يؤخذ بجرعات قليلة‪.‬‬
‫ويمكن وضع الكافور الصلب النقي في وعاء به ماء يغلي ثم يزاح من على النار ويشم البخ ار المتص اعد بمع دل‬
‫ثالث مرات في اليوم وتكون مدة شم البخار المشبع باالكافور حوالي ‪10‬دقائق‪ ..‬كما يمكن دهان الص در بم رهم يحت وي‬
‫على الكافور‪.‬‬
‫ويستخدم الكافور ضد عدم توازن الجملة العصبية للقلب ويس تخدم بنفس الطريق ة الس ابقة‪ .‬كم ا يس تخدم في ع دم‬
‫انتظام وتناسق دقات القلب‪.‬‬
‫ويستخدم على هيئة مرهم أو مستحلب للتخفيف من آالم الروماتيزم‪ ،‬وذلك عن طريق دهن الجزء المص اب ثالث‬
‫مرات يومياً‪.‬‬
‫ويستخدم ضد هبوط ضغط الدم إما عن طريق الفم أو االستنشاق‪ ..‬ويستخدم ضد آالم الظهر وخاصة آالم الفقرات‬
‫القطينة حيث تدهن المناطق المصابة بمرهم يحتوي على الكافور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرى لك منافع عظيمة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬ولكني عزيزة النفس‪ ،‬فيندر وجود األصناف النقية مني‪ ..‬ثم إني ال ينبغي أن يصفني إال األطباء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قالت‪ :‬ألن هناك مقادير من تجاوزها أصابه الضرر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما المقادير النافعة؟‬
‫قالت‪ :‬الجرعات اليومية اآلمنة من الكافور هي ما بين ‪ 4 -2‬و‪1‬جرامات موزع ة على ثالث جرع ات في الي وم‬
‫الواحد‪ ..‬أما فيما يتعلق باالستعماالت الخارجية‪ ،‬فإن الجرعة اليومية يمكن أن تكون ما بين‪19 ،-5 ،‬جرامات حيث تكون‬
‫إما في مرهم أو كريم أو هالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الجرعات الخطرة؟‬
‫قالت‪ :‬يجب أن ال تصل الجرعة إلى ‪6‬جرامات حيث أن هذه الجرعة قاتلة وذلك بالنس بة لالس تعمال ال داخلي و ‪1‬‬
‫جرام قاتلة للطفل تحت سن الثانية‪ ،‬أما في االستعمال الخارجي فيجب أن ال تزيد كمية الكافور على ‪20‬جرام اً حيث انه ا‬
‫تعتبر جرعة مميتة‪.‬‬
‫ويجب عدم استخدام زيت الكافور قطعياً داخلياً نظر ًا الحتوائ ه على م ادة الس افرول ال تي تس بب التس رطن‪ ،‬كم ا‬
‫يجب عدم استخدام الكافور النقي من قبل المرأة الحامل وكذلك الطفل الذي يقل عمره عن سنتين بأي حال من األحوال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬رأيت بعض النسوة يستنشقن الكافور‪ ،‬ويضعنه بين مالبسهن وبين الفرش‪ ،‬فهل لذلك من منافع؟‬
‫ق الت‪ :‬إذا استنش ق الك افور للتمت ع برائحت ه أو للعالج فال خ وف من ذل ك‪ ،‬ولكن يجب أن ال يب الغ في ذل ك ألن‬
‫للكافور جرعات محددة‪ ،‬فإذا زاد االستنشاق وتعدى الجرعات اآلمنة فانه قد يحدث التسمم‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق بوضع بل ورات من الك افور بين المالبس والف راش فال خ وف من ذل ك وه و م ادة مطه رة وقات ل‬
‫لبعض أنواع الحشرات وبعض أنواع البكتيريا‪.‬‬
‫الزعفران‪:‬‬
‫تقدمت زهرة زعفران‪ ،‬وقالت‪ :‬أما أنا فإني من نباتات الجنة‪..‬‬
‫قاطعتها‪ ،‬وقلت‪ :‬كيف تقولين ذلك؟‪ ..‬وأين ذكرك في القرآن الكريم؟‬
‫قالت‪ :‬أنسيت السنة؟‪ ..‬أنسيت الكالم المستخلص من عطور الهدى‪ ،‬والمضمخ بروائح الحقائق؟‬
‫قلت‪ :‬اعذريني‪ ..‬فهل ورد فيك من السنة شيء؟‬
‫قالت‪ :‬لقد قال رسول هللا ‪ (:‬الجنة بناؤها لبنة من فضة ولبنة من ذهب ومالطها(‪)1‬المس ك األذف ر‪ ،‬وحص باؤها‬

‫‪ )(1‬المالط‪ :‬الطين الذي يجعل بين سافي البناء يملط به الحائط أي يخلط‪ .‬النهاية ‪.4/357‬‬
‫‪189‬‬
‫اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران‪ ،‬من يدخلها ينعم وال ييأس‪ ،‬ويخلد ال يموت‪ ،‬ال تبلى ثيابهم وال يفنى شبابهم)(‪ ،)1‬وق ال‬
‫‪ (:‬من قاتل في سبيل هللا من رجل مسلم فواق ناقة فقد وجبت له الجنة‪ ،‬ومن سأل هللا القتل في نفسه ص ادقا ثم م ات أو‬
‫قتل فإن له أجر شهيد‪ ،‬ومن جرح جرحا في سبيل هللا أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيام ة ك أغزر م ا ك انت لونه ا ل ون‬
‫الزعفران وريحها ريح المسك‪ ،‬ومن جرح به جراح في سبيل هللا كان عليه طابع الشهداء)(‪ ،)2‬وق ال ‪ (:‬الح ور العين‬
‫خلقن من الزعفران)(‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ورد فيك نصوص كثيرة‪.‬‬
‫قالت‪ :‬أجل‪ ..‬وذلك يدل على فضلي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيك من بركات الشفاء؟‬
‫قالت‪ :‬في بركات كثيرة‪ ،‬فزيتي مضاد لأللم والتقلص ات‪ ،‬ومزي ل آلالم الطمث وآالم غش اء اللث ة‪ ،‬ومس كن ومق و‬
‫للجهاز العصبي المركزي‪.‬‬
‫وأنا أستخدم منذ القدم في عالج كثير من األمراض مثل النزالت المعوية‪ ،‬وكمه دئ الض طرابات المع دة ولعالج‬
‫السعال الديكي ونزالت البرد والتخفيف من غازات المعدة‪.‬‬
‫وأدخل في صناعة األدوية الحديثة كتل ك المس تعملة لط رد الدي دان المعوي ة واألدوي ة المهدئ ة للح االت العص بية‬
‫والنفسية واألدوية المستعملة لتنشيط اإلفراز البولي وكثير من األدوية األخرى‪.‬‬
‫وفوق ذلك أستعمل كتواب ل في تجه يز األطعم ة والم أكوالت‪ ..‬ب ل ق د أثبتت بعض البح وث الحديث ة ج دواي في‬
‫الوقاية من السرطان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اعلمي ما تقولين‪.‬‬
‫قالت‪ :‬لقد ورد في أحدث دراسة نشرتها مجلة ( الطب والبيولوجيا التجريبية)المتخصصة‪ ،‬أن باحثين في المكسيك‬
‫أثبتوا أن باإلمكان استخدام الزعفران كعامل واق من السرطان أو في البرنامج العالجي المخصص لهذا المرض‪.‬‬
‫ووجد الباحثون بعد مراجعة مجموعة كبيرة من الدراسات المخبرية واألبحاث ال تي أج ريت على الحيوان ات‪ ،‬أن‬
‫الزعفران ال يمنع فقط تشكل أورام سرطانية جديدة‪ ،‬ولكنه قد يسبب تقلص وانكماش األورام الموجودة‪ ،‬كما يزي د فعالي ة‬
‫العالج الكيماوي ويشجع آثاره المضادة للسرطان‪.‬‬
‫وأوضح الباحثون أن الفوائد الصحية للزعفران قد ترجع بص ورة جزئي ة إلى محت واه الع الي من المركب ات ال تي‬
‫تعرف بالكاروتينويد التي تشمل أيضا مادتي "اليكوبين" و"بيتاكاروتين" كعوامل وقاية وعالج من السرطان‪.‬‬
‫وأشار الخبراء إلى أن زراعة الزعفران وحصاده عملية غاية في الصعوبة لذلك ف إن مص ادره مح دودة وغالي ة‪،‬‬
‫من وهين إلى أن ه ذه الدراس ة تض يف إثبات ات جدي دة على أن بعض األطعم ة والبه ارات تحت وي على مركب ات تمل ك‬
‫خصائص واقية من السرطان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد رويت أن رسول هللا ‪ ‬أخبر بأن الحور العين خلقن من الزعفران‪ ،‬فهل لذلك من سر؟‬
‫قالت‪ :‬لقد أثبتت األبحاث بأني من األدوية المفرح ة المنش طة‪ ،‬فأن ا مض ادة للتش نج‪ ،‬أدخ ل الس رور على قلب من‬
‫يش ربني‪ ،‬منبه ة للمع دة‪ ،‬ش ديدة المفع ول لألمع اء واألعص اب‪ ،‬منش طة م درة للطمث‪ ،‬وله ذا أدخ ل في بعض األدوي ة‬
‫المستخدمة لتنشيط القلب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل الستعمالك من مخاطر؟‬
‫قالت‪ :‬من أسرف في استعمالي ال بد أن يتضرر‪ ،‬فاألبحاث تؤكد بأن كثرة استعمالي تصدع الرأس وتنوم الحواس‬
‫لذا ينصح بعدم اإلكثار مني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن يسرف فيك مع غالء ثمنك؟‬
‫قالت‪ :‬ثمني يدل على قيمتي‪ ..‬وهو نتيجة الجهد المبذول في استخراجي‪ ،‬حيث أن الحص ول على غ رام واح د من‬
‫الزعفران األصلي يتطلب مائة زهرة وللحصول على نصف كيلو من نفس الصنف يحتاج ‪ 225‬أل ف زه رة من زه ور‬
‫‪ )(1‬أحمد والترمذي عن أبي هريرة‪.‬‬
‫‪ )(2‬أحمد وابن حبان‪.‬‬
‫‪ )(3‬ابن مردويه‪ ،‬والخطيب البغدادي‪.‬‬
‫‪190‬‬
‫الزعفران لذا كان سعره باهظا‪.‬‬
‫ولهذا احذر من الزعفران المغشوش‪ ،‬فبعض الجشعين يخلطني بأعشاب مشابهة لي لزي ادة ال وزن مث ل العص فر‬
‫المشابه للوني وفي سرعة الذوبان بالماء ويباع على أني زعفران صحيح‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫الخاتمة‬
‫بينما كنت مستغرقا في الحديث إلى الزعفران‪ ،‬رأيت نفسي فجأة أسقط من السماء إلى األرض سقوطا حرا‬
‫تيقنت عنده بأن العمر الذي كتبه هللا لي قد انتهى ‪ ،‬وأن أجلي قد وافاني‪ ،‬فسلمت نفسي لربي راضيا مطمئنا بعد أن‬
‫امتألت من المعارف والبركات التي استفدتها من أدوية السماء‪.‬‬
‫لكن ما هي إال لحظات من ذلك السقوط المريع حتى وجدت نفسي في بيتي مس تلق على فراش ي‪ ،‬وبج انبي‬
‫كوب من الزنجبيل‪ ..‬تذكرت حينها أني كنت مريضا‪ ،‬وأني كنت بين الفينة والفينة أرش ف من ذل ك الزنجبي ل إلى‬
‫أن جاءني معلم السالم وأنا على تلك الحال‪.‬‬
‫وقد حمدت هللا كثيرا على أن أهلي كانوا غائبين عن البيت طيلة الفترة التي زرت فيها تلك المدائن الممتلئ ة‬
‫بالسالم والطهارة‪ ..‬وإال فإنهم سيحضرون لي من الرقاة أو من األطباء من يملؤني ألما وحزنا وصراعا‪.‬‬
‫تذكرت وأنا أنظر إلى كأس الزنجبيل تلك الدروس العظيمة التي علمنيها معلمو البركة‪ ،‬ف رحت أح اول أن‬
‫أطبقها على نفسي‪ ،‬فاستلقيت مسترخيا ألحضر جميع أعضائي لتلقي البركات‪ ..‬ثم ارتش فت جرع ة من الزنجبي ل‬
‫بعد أن س ميت هللا‪ ،‬وطلبت من ه أن يب ارك فيه ا‪ ..‬ثم م ا لبثت إلى أن ش عرت ب أن تل ك الجرع ة تعم ل عمله ا في‬
‫جسمي‪ ،‬فتنشر العافية في كل محل تنزل به‪ ..‬ثم م ا لبثت أن قمت نش يطا مع افى‪ ،‬وكأن ه لم يلم بي داء‪ ،‬ولم ي نزل‬
‫بي ألم‪.‬‬
‫حمدت هللا على هذه النعمة العظيمة ‪ ..‬نعمة البركة التي ال تدانيها أي نعمة أخرى‪ ،‬واس تغربت من غفلتن ا ـ‬
‫معشر البشر ـ عن هذا العنصر الخطير من عناصر العافية‪..‬‬

‫‪192‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫أحداث هذه الرواية تدور حول رحلة يأخذ معلم السالم فيها تلميذه إلى بالد السالم‪ ،‬وإلى محل يشبه المسجد‬
‫األقصى المبارك‪ ،‬وهناك يلتقي معلم البركة‪ ،‬وبالمتوسمين الذين يدلونه على كيفية االستفادة من البركات‪ ،‬وكيفي ة‬
‫التعامل معها‪ ..‬وهو يمر في رحلته تلك بأربعة أقسام‪:‬‬
‫القس‪%%‬م األول‪ :‬مرص د البرك ة‪ ..‬وه و المح ل ال ذي يبحث في ه على مص ادر البرك ة ووس ائطها ومحاله ا‬
‫ومواقيتها‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬منازل البركة‪ ..‬وهي اللطائف التي يتكون منها بنيان اإلنسان‪ ،‬وفيه ا يع رف حقيقت ه وعالق ة‬
‫البركات بها‪ ،‬ألن بركات هللا تحتاج إلى محال تنزل فيها‪ ،‬ومنازل تحل بها‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬مخزن البركة ‪ ..‬وهو المحل الذي يعاين فيه م ا ورد في النص وص المقدس ة من أغذي ة ورد‬
‫التنصيص على ما أودع فيها من بركات‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬مشافي البركة ‪ ..‬وهو المحل الذي يعاين فيه م ا ورد في النص وص المقدس ة من أدوي ة ورد‬
‫التنصيص على ما أودع فيها من بركات‪.‬‬
‫وقد حاور تلميذ السالم في هذه الرواية كل ما مر به من أغذية وأدوية وغيرها‪ ،‬وتبين له من خالل الح وار‬
‫أن أسباب بركتها هو تلك األحوال الروحانية العالية التي تعيش ها تل ك الموج ودات ال تي ب ارك هللا فيه ا‪ ..‬فقيمته ا‬
‫ليس في مكوناتها المادية‪ ،‬وإنما في أحوالها الروحية‪.‬‬

‫‪193‬‬

You might also like