Professional Documents
Culture Documents
هذا الكتاب
هذه الرسالة تدعو إلى النظر إلى الك ون نظ رة جدي دة تنطل ق من
قراءته باسم هللا ،وتنتهي بصحبته في هللا.
وقد حاولت حصر أوصاف الكون ـ انطالقا من النصوص المقدسة
ـ في أربعة أوصاف كل واحد منها معراج من معارج السالم ،ورقية من
رقى السعادة.
وه ذه األوص اف األربع ة هي :الحي اة ،والعب ادة ،والتس خير،
والمقروئية.
فمعرفتنا بالكون الحي تشعرنا ب األنس ،وتملؤن ا ينش وة الص داقة
الحميمة ،فال يمكن أن نصادق جمادا.
ومعرفتنا بالكون العابد تعرفنا بوظيفتن ا ،وتجعلن ا نلهج بالتس بيح
في حلقة ذكر الكون الواسع.
ومعرفتنا بالكون المسخر تجعلنا نتناول األشياء من يد هللا ،ال من
يد الطبيعة ،ونتناول األشياء باهلل ،ال بأيدينا.
ومعرفتنا بالكون المقروء تعبر بنا من الكون إلى المك ون ،وت زج
بن ا في رح اب الحض رة المقدس ة ،فنبص ر من خالل األش ياء مش يئ
األشياء ،فنصادق م ع قط رات الن دى ،وتفتح الزه ر ،وهب وب النس يم،
رب الكون ومبدعه.
1
رسائل السالم
()8
أكوان الله
القراءة العرفانية للكون برؤية قرآنية
2015 – 1436
5 المقدمة
9 أوال ـ الكون الحي
12 1ـ اإلدراك:
15 2ـ المشاعر:
16 الخشوع:
19 الغضب:
20 الشفقة:
22 الرحمة:
25 التعظيم:
28 3ـ التعبير
43 4ـ التحضر:
45 التنظيم:
47 العمران:
57 األخالق:
68 ثانيا ـ الكون العابد
69 1ـ القنوت :
77 2ـ السجود:
84 3ـ التسبيح:
112 4ـ الدعاء:
116 ثالثا ـ الكون المسخر
117 1ـ الربانية:
118 الملكية:
130 التدبير:
142 2ـ السالم:
162 3ـ الحكمة:
164 الجمال:
168 التنوع:
170 تنوع األحياء:
178 تنوع األلوان:
182 التوازن:
189 االنتفاع:
1
192 4ـ الطهارة :
199 رابعا ـ الكون المقروء
201 1ـ الفناء:
213 2ـ البقاء:
216 3ـ القراءة:
244 4ـ اليقين:
2
المقدمة
من مظ4اهر الص4راع ال4تي أفرزته4ا غفل4ة اإلنس4ان وكبري4اؤه :الص4راع م4ع الك4ون ..م4ع الس4ماء
واألرض ..والنبات والحيوان ..والرياح واألمطار ..وكل األشياء.
وهذا الصراع يكتسي لبوس4ا مختلف4ة ،ويت4وزع على مظ4اهر متنوع4ة ،ولكن األس4اس في جميعه4ا
واحد ،وهو أننا نتعامل مع أكوان ننسبها إلى الطبيعة ،أو ننس4بها إلى اآلله4ة الجاثم4ة على ع4روش قلوبن4ا
وعقولنا ،أو ننسبها إلى الالشيء الذي تفرزه الغفلة ،وننسى في هذا الخضم أن ننسبها إلى هللا.
فاألكوان أكوان هللا ،واألشياء جميعا خلقت بيد هللا ،وصورت باسم هللا ،وهي تتوجه إلى هللا قب44ل أن
تتوجه إلينا.
وهذه النظرة هي مبدأ السالم مع الكون ،ومنطلقه.
فكما أن بداية السالم م4ع المس4تعمرات ،ه4و اع4تراف المس4تعمر له4ا بحريته4ا ،وبحقه4ا في تقري4ر
مصيرها ،ليتعامل معها بعد ذلك تعامل المسالم ال المحارب ،وتعامل الند ال المتعالي ،وتعامل الص4ديق ال
العدو ،فكذلك يكون السالم مع الكون.
فأي سالم نحلم به مع الكون ،ونحن ال نعترف به؟ ..أو أن اعترافنا ب44ه مج44رد مع44نى محص44ور في
زاوية خاملة من زوايا العقل ،ال نتأثر لها ،وال نهتم بها.
وهذا المنطلق الذي يحدد تعاملنا مع الكون هو الذي يشعرنا بالس44عادة واألم44ان ،وي44نزع عن44ا حجب
الوحشة والضيق ،ويزرع في قلوبنا االبتسامة ،وينزع من صدورنا الحزن.
***
وانطالقا من هذا نحاول في هذه الرسالة أن ننظر نظرة جديدة للكون ،تنطلق من قراءته باس44م هللا،
وتنتهي بصحبته في هللا.
ودليلنا في هذا أقدس كالم ،وأشرف كالم ،وأصدق كالم ،كتاب هللا تعالى ،فهو الكتاب ال4ذي يجعلن4ا
نشعر بصداقة حميم4ة م4ع الك4ون ،تجعلن4ا ن4راه كتاب4ا تقلب ص4فحاته ليتجلى من خالله4ا أعظم محب4وب،
وأجمل محبوب ،وأكمل محبوب ،فنصادق من خالل الكون رب الكون ،ونعبر من الكون إلى المكون.
وهذه الصحبة الشريفة للكون ،والتي تتعامل مع4ه كم4ا تتعام4ل م4ع اإلنس4ان ،هي ال4تي ك4ان عليه4ا
رسول هللا .
وقد صور لنا بعض الصحابة بعض هذه الصحبة فقال (:أصابنا ونحن مع رسول هللا مطر قال
فحسر رسول هللا ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا :يا رس4ول هللا لم ص4نعت ه4ذا؟ ق4ال :ألن4ه ح4ديث
عهد بربه تعالى)()1
وهذه الصحبة تستدعي نظرة شاملة للكون بجميع أنواعه ،وبجميع خصائص44ه ووظائف44ه وص44فاته،
فبحسب سمو المعرفة يكون سمو التعامل.
وقد حاولنا حصر أوصاف الكون ـ انطالقا من النصوص المقدسة ـ في أربعة أوص44اف ك44ل واح44د
منها معراج من معارج السالم ،ورقية من رقى السعادة.
وهذه األوصاف األربعة هي :الحياة ،والعبادة ،والتسخير ،والمقروئية.
رواه مسلم وأبو داود والبخاري في األدب المفرد. )(1
3
فمعرفتنا ب4الكون الحي تش4عرنا ب44األنس ،وتملؤن44ا ينش44وة الص44داقة الحميم44ة ،فال يمكن أن نص4ادق
جمادا.
ومعرفتنا بالكون العابد تعرفنا بوظيفتنا ،وتجعلنا نلهج بالتسبيح في حلقة ذكر الكون الواسع.
ومعرفتنا بالكون المسخر تجعلنا نتناول األشياء من يد هللا ،ال من يد الطبيعة ،ونتناول األش44ياء باهلل،
ال بأيدينا.
ومعرفتنا بالكون المقروء تعبر بنا من الكون إلى المكون ،وتزج بنا في رحاب الحض44رة المقدس44ة،
فنبصر من خالل األشياء مشيئ األشياء ،فنصادق مع قطرات الندى ،وتفتح الزهر ،وهبوب النسيم ،رب
الكون ومبدعه.
وهذه األلقاب األربعة ألكوان هللا هي الوحيدة التي تملؤنا باألنس ،وتشعرنا بالسالم.
السالم الشامل الذي يستغرق جميع طاقاتنا ،ال السالم الذي يتغنى به الغافلون عن هللا ،والذي يجع4ل
أسمى غاياته أن يحفظ تماسك هذا التراب الذي تمتطيه أرواحنا.
وننبه في هذه الرسالة ـ كما نبهنا في سائر الرسائل ـ إلى أن ما في هذه الرسالة من حقائق نوعان:
أما النوع األول ،فهو حقائق مطلقة ال ينبغي ألحد أن يجحدها ،ألن كل شيء ي44دل عليه4ا ابت44داء من
النصوص المقدسة ..وهذه الحقائق ال نقبل مناقشة أحد فيها ..ولن نجيبه إن ناقشنا ،ألنه ال يمكن أن يجادل
أحد في البديهيات.
وأما النوع الثاني ،فهو آراء وقع فيها الخالف ..وقد اخترنا في الخالف ما رأيناه راجحا ..وال حرج
علينا في ذلك ..ونحن في هذا النوع من الحقائق نتقبل كل مخالفة ،ونخضع لكل توجيه ،ونتراجع عن كل
خطأ ..وندعو هللا لكل من نبهنا لذلك ،فال عصمة إال لمن عصمه هللا.
4
أوال ـ الكون الحي
هل تدب الحياة فيما حولنا من أشياء؟
وهل تعقل هذه الكائنات الكثيرة التي تحيط بنا نفسها وحقيقتها ووظائفها؟
وهل تعقل غيرها ،وعالقتها به؟
وهل تحزن وتئن ،وتفرح وتسر؟
وهل تبغض وتحب ،وتحلم وتأمل؟
وهل في قدرتها التعبير عن مشاعرها وأفكارها؟
ثم ما عالقتها بنا ،وما عالقتنا بها؟
وهل نحن وسط كون حي ينبض بالحياة ،أم نحن في لجة كون جامد ال روح فيه وال مشاعر له؟
وما تأثير هذه المعارف على أنفسنا وأنماط حياتنا؟
هل هي مجرد قضايا فلسفية وترف عقلي قد يعني الخاصة ،وال عالقة له بالعامة ،أم أن له ارتباطا
بنا نحن العوام والبسطاء والدهماء؟
إن هذه التساؤالت من القضايا األساسية التي تشغل بال اإلنسان ويهتم لها ،ويرسل في سبيل معرفة
جزء منها المركبات الفضائية ،ليسبر أغوار الكون ،ويبحث عن أحياء في44ه ،ويتس44اءل بحماق44ة وغ44رور:
هل هناك حياة على غير األرض؟
ولكن الحقائق الكبرى ـ التي تبينها الوثيقة اإللهية التي تنطوي على حقائق الوجود وأسراره ـ تخ44بر
أن هذا الكون ال يحوي أحياء فقط ،بل هو نفسه حي ،بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.
أما ما نتصوره نحن من حياة فهو ص4ورة فق4ط من ص4ور الحي4اة ،وهي ص4ورة ارتباط4ات مادي4ة
حيوية بعضها ببعض.
وكما أن العلم الحديث يقر بوجود حياة في الخلية الواحدة ،سواء كانت ضمن نسيج واح44د أو ك44انت
مستقلة منفردة ،فكذلك تنبئنا النصوص المقدسة أن الكون كله حي جمل44ة وتفص44يال ،وك44ل ذرة في44ه أو م44ا
دونها كائن حي له حقيقته التي استدعت وجوده ،كما أن له صورته التي نعرفه من خاللها.
حي ومش4ع ف4الكون بجمي4ع عوالم4ه ّ ُ قال بديع الزمان النورسي مبينا هذه الحقيق4ة وأثره4ا النفس4ي(:
ال ألصبح كل من العوالم -كما تراه عين الضاللة -جنازة هائلة مخيفة تحت ه44ذه مضئ بذلك التجليِ ،وا ّ
الدنيا المؤقتة الظاهرة ،وعالما ً خربا ً مظلماً)()1
***
ولكن اإليمان بهذه الحقائق إيمانا ذوقي4ا ش4هوديا يس4تدعي م4رآة ص4افية ،وقلب4ا مح4ررا من أوث4اق
الهوى.
هذا في الدنيا ،أما في النشأة اآلخرة فإن اإلنسان ـ مؤمنا كان أو كافرا ـ بع4د انحس4ار حج4اب الغفل4ة
ص4رُكَ ْال َي44وْ َم َح ِديٌ 4د﴾ يدرك هذه الحقائق ،كما قال تعالىَ ﴿:ل َق ْد ُك ْنتَ ِفي َغ ْف َل ٍة ِم ْن َه َذا َف َك َش ْفنَا َع ْن44كَ ِغ َ
ط44ا َءكَ َف َب َ
( ّق)22 :
فمن معاني الغفلة في اآلية تعطل الطاقات عن أداء وظيفتها بسبب إهمالها وعدم استعمالها.
الكلمة العاشرة -ص.120 : )(1
5
وقد أخبر عن هذا اإلدراك في أحاديث كثيرة لعل أشهرها ما أخ4بر ب4ه عن معرف4ة أه4ل الجن4ة
والنار للموت مع أنه ج4اءهم في ص4ورة حس4ية ،ق4ال (:يج4اء ب4الموت ي4وم القيام4ة كأن4ه كبش أملح،
فيوقف بين الجنة والنار ،فيقال :يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ ،فيشرئبون وينظرون ،ويقول4ون :نعم ه4ذا
الموت ،ويقال :يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون :نعم هذا الم44وت ،في44ؤمر ب44ه
فيذبح ،ثم يقال :يا أهل الجنة خلود فال موت ،ويا أهل النار خل4ود فال م4وت ،ثم ق4رأ رس4ول هللا قول4ه
ض َي اأْل َ ْم4رُ َوهُ ْم ِفي َغ ْف َلٍ 4ة َوهُ ْم ال ي ُْؤ ِمنُ4ونَ ﴾ (م4ريم )39 :وأش4ار بي4ده إلى تعالىَ ﴿:و َأ ْن ِذرْ هُ ْم َيوْ َم ْال َحس َْر ِة ِإ ْذ قُ ِ
الدنيا)()2
فهذا الحديث يكاد يص4رح بالق4درات الهائل4ة أله4ل النش4أة اآلخ4رة في التع4رف على ه4ذه الحق4ائق،
يستوي في ذلك مؤمنهم وكافرهم ،وأهل الجنة وأهل النار.
بل إن القرآن الكريم صرح ب4ذلك حين ذك4ر ق4درتهم على س4ماع ج4وارحهم ،وهي تخ4اطبهم ،ق4ال
تعالىَ ﴿:يوْ َم َت ْش َه ُد َع َل ْي ِه ْم َأ ْل ِس َنتُه ُْم َو َأ ْي ِدي ِه ْم َو َأرْ جُ لُه ُْم ِب َما َكانُوا َيعْ َملُونَ ﴾ (النور)24 :
***
انطالقا من ه4ذه المع4اني س4نتحدث في ه4ذا الفص4ل عن بعض الغيب ال4ذي كش4ف لن4ا عن بعض
دالئل الحياة ونوعها فيما نراه من كائنات سواء كانت جامدة ال حظ لها من الحياة والعقل ،أو حية نعطيه44ا
صورة من صورة الحياة ،وهي صورة الحركة والنمو ،وننفي عنها أهم ما في الحياة من العق44ل وال44وعي
والشعور واالختيار.
وسنكتفي بأربعة مظاهر للحي4اة تكفي أي عاق4ل ليحكم من خالله4ا بالحي4اة لمن اتص4ف به4ا ،وهي:
اإلدراك ،والمشاعر ،والتعبير ،والتحضر.
1ـ اإلدراك:
اإلدارك هو أهم صفة من ص4فات الحي44اة ،ب4ل ه4و ركن الحي4اة ال44ركين ،ح4تى أن من الق4دامى من
عرف الحي بأنه المدرك النامي ،أو عرفه بأنه المدرك فق44ط ،فمن اكتم44ل ل44ه اإلدارك ك4ان ل44ه من الحي44اة
حظها األوفر ،ومن كان له بعض اإلدراك كان له من الحياة ما كان له من اإلدراك.
ويراد باإلدراك توفر الواسائل المتيحة للتعرف على العالم الخارجي.
وربما يكون هذا الحد هو الحجاب الذي جعلنا ،أو جعل أوهامنا تعتقد موت ما نراه من أشياء ..ذلك
أننا ال نرى لها عيونا ترى بها ،أو آذانا تسمع بها ،أو جل44ودا تلمس به44ا ..فنحكم من خالل غي44اب الوس44يلة
على غياب الغاية.
وهذا حكم خاطئ ابتداء ..ومن السهولة التعرف على خطئه.
فقبل قرنين من الزمان فقط كان اللسان شرطا من شروط القدرة على الكالم ..ولكن44ا اآلن ،وبفض44ل
ما توفر لنا من تقنيات أزحنا هذا الشرط ..فأصبحت الشريحة الصغيرة التي ال تكاد ت44رى تتح44دث بلس44ان
فصيح ،بل تترنم بألحان دونها كل الحناجر مع أنه ليس لها لسان وال حنجرة وال هواء يدخل أو يخرج.
وهكذا القول في شئون كثيرة كان الوهم المتلبس بلباس العقل يحكم فيها بأحكامه على العقل ..ولكن
الحقائق التي أتاحها العلم مكنتنا من التعرف على محل الوهم.
وهكذا ينبغي أن نتعامل مع ما لم نعلم علمه بعد ..وإال وقعنا فيما وقع في44ه أه44ل الق44رون الس44الفة من
)(1تفسير القرطبي.14/225:
7
يوم القيامة ،إنك كنت ظلوما جهوال(.)1
2ـ المشاعر:
المشاعر الوجدانية هي روح الحياة ..ومن ال مشاعر له ال حياة له..وقديما ق44ال الش44اعر يس44خر من
الذي لم يذق قلبه طعم الحب:
إذا لم تذق في هذه الدار صبوة فموتك فيها والحياة سواء
وقال اآلخر معبرا عن قصور حياة من لم يذق طعم هذه المشاعر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فأنت وعير في الفالة سواء
وقال اآلخر يرميها بالجمود:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وقال اآلخر يرميها بالبهيمية:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فقم فاعتلف تبنا فأنت حمار
وكل هؤالء ـ ما عدا أولهم ـ عبروا حسب معارفهم ،وحسبما دلتهم علي44ه م44داركهم المح44دودة ..أم44ا
الحقيقة التي تنص عليها النصوص المقدسة ..فتخالفهم في ذلك تمام المخالفة..
فالنصوص المقدسة تنطق بكل لسان على ما لهذه الموجودات ـ سواء كان منها ما ينتمي إلى الع44الم
الذي نسميه جمادا ،أو العالم الذي نعطيه بعض أوصاف الحياة ،وننزع منه أهمها.
وس44ننطلق من النص44وص المقدس44ة لنتع44رف على بعض أس44رار المش44اعر ال44تي تمتلئ به44ا قل44وب
الكائنات:
الخشوع:
فمنها الخشوع ،وهو مجموعة مشاعر سامية يختلط فيها الحب بالهيبة وبالخشية وبالرجاء ..وهو ال
يمكن أن يكون إال لمن امتأل بالحياة الحقيقية..
خَاش4عاً َ
4ل َل َرأ ْيتَ4هُ ِ ْ ْ َ
قال تعالى واصفا تأثير نزول الق4رآن على الجب4لَ ﴿:ل4وْ أ ْنزَلنَ4ا هََ 4ذا القُ4رْ آنَ َع َلى َج َب ٍ
اس َل َعلَّه ُْم َي َت َف َّكرُونَ ﴾ (الحشر)21: َصدِّعاً ِم ْن خَ ْش َي ِة هَّللا ِ َو ِت ْلكَ اأْل َ ْم َثالُ نَضْ ِربُ َها ِللنَّ ِ
ُمت َ
4ل َج َع َل4هُ َد ّك 4اً ﴾ (ألع4راف: بل إنه من فرط الخش4وع للتجلي ين4دك ،ق4ال تع4الىَ ﴿:ف َل َّما ت ََجلَّى َر ُّبهُ ِل ْل َج َب ِ
)143
طرْ نَ ِم ْن4هُ َو َت ْن َشُّ 4ق اأْل َرْ ضُ َوت َِخ4رُّ ات َي َت َف َّ
او ُ
السَ 4م َبل ينهد لسماع شرك المشركين ،ق4ال تع4الىَ ):ت َك4ا ُد َّ
ْال ِج َبالُ َه ّداً َأ ْن َدعَوْ ا ِللرَّحْ َم ِن َو َلداً﴾ (مريم 90 :ـ)91
وقد ذكر العلماء ـ انطالقا من هذه اآلية ـ األث4ر الش4ديد ال4ذي خلف4ه الش4رك في األش4ياء ،ف4ذكر عن
بعضهم أنه قال (:إن هللا تعالى لما خلق األرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في األرض شجرة يأتيه44ا
بنو آدم إال أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة فلم تزل األرض والشجر كذلك ح44تى تكلم فج44رة ب44ني
آدم تلك الكلمة العظيمة وهي قولهم ﴿:اتَّخَ َذ الرَّحْ َم ُن َو َلداً﴾ (مريم ،)88 :فلما قالوها اقشعرت األرض وشاك
الشجر)()2
وكان ابن عباس يرجع ما في األرض من األذى بسب ه4ذا ق4ال ( :اقش4عرت الجب4ال وم4ا فيه4ا من
)(1انظر :القرطبي.14/257:
)(2رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
8
()1 األشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي األشجار الشوك)
ونحن وإن كنا ال نجزم بهذا ،ولكنا مع ذلك ندرك أن الصور والخصائص التي نراه44ا لألش44ياء له44ا
عالق4ة كب4يرة بانفعاالته4ا ال4تي يس4ببها س4لوكنا ،ول4ذلك ق4د نس4تلذ طعوم4ا أو من4اظر في بعض األي4ام ،ثم
نستقبحها أياما أخرى ،وقد نعزو ذلك إلى نفوسنا فقط ونعزل الكون من هذا األثر المتناقض لألشياء.
وقد ورد في اآلثار ما يدل على سرور األشياء ،والذي ق4د يس4ري إلى الن4اظرين ليش4عرهم ب4األنس
والسعادة ،فقد روي أن الجبل يفخر إن مر عليه ذاكر هلل تع4الى ،فعن ابن مس4عود ق4ال (:إن الجب4ل ليق4ول
للجبل :هل مرَّ بك اليوم ذاكر هلل؟ فإن قال :نعم ،سُرَّ به) ثم قرأ عبد هللا قول4ه تع4الىَ ﴿:و َق4الُوا اتَّخََ 4ذ هَّللا ُ َو َل4داً
ض ُك4لٌّ َل4هُ َق4ا ِنتُونَ ﴾ (البق4رة )116 :ق4ال (:أف4تراهن يس4معن ال4زور ت َواأْل َرْ ِ اوا ِ ُسب َْحا َنهُ َبلْ َل4هُ َم4ا ِفي َّ
السَ 4م َ
واليسمعن الخير)()2
وعن أنس بن مالك قال (:ما من صباح وال رواح إال تنادي بقاع األرض بعضها بعض44ا ،ي44ا ج44اره
هل مر بك اليوم عبد فصلى هلل أو ذكر هللا علي4ك ،فمن قائل4ة ال ،ومن قائل4ة نعم ،ف4إذا ق4الت نعم رأت له4ا
بذلك فضال عليها)()3
وقد أخبر القرآن الكريم عن مشاعر الخشية من هللا التي تجعل الحجارة تهبط أو تتفج4ر أو تتش4قق..
ق َف َي ْخرُجُ ِم ْنهُ ْال َما ُء َو ِإ َّن ِم ْن َه44ا َل َم44ا َي ْه ِب4طُ
ار ِة َل َما َي َت َفجَّرُ ِم ْنهُ اأْل َ ْن َهارُ َو ِإ َّن ِم ْن َها َل َما َي َّشقَّ ُ
قال تعالىَ ﴿:و ِإ َّن ِمنَ ْال ِح َج َ
ِم ْن خَ ْش َي ِة هَّللا (())4البقرة)74 :
وقد زعم بعضهم أن إسناد الخش4وع إلى الحج4ارة ج4اء من ب4اب المج4از ،كم4ا أس4ندت اإلرادة إلى
الجدار في قوله تعالىَ ﴿:ف َو َجدَا ِفي َها ِجدَاراً ي ُِري ُد َأ ْن َي ْن َقضَّ َفأَ َقا َمهُ ﴾ (الكهف)77 :
وال حاجة إلى هذا كما ذكرنا ،والنصوص الكثيرة التي أوردناها تدل على هذا.
الغضب:
ومن المشاعر التي ورد في النصوص الحديث عنها الغضب..
فقد أخبرنا القرآن الكريم أن جهنم ـ مثال ـ ليست تنورا للعذاب ال عقل له ،وإنم44ا هي ك4ائن ككينون4ة
اإلنسان لها عقل ووعي ومشاعر.
بل إن مصدر عذابها وشدته نابع من غضبها هلل ،فهي مغتاظة على الجاحدين ،كما ق44ال تع44الىِ ﴿:إ َذا
َر َأ ْته ُْم ِم ْن َم َك ٍ
ان َب ِعي ٍد َس ِمعُوا َل َها َت َغيُّظاً َوزَ ِفيراً﴾ (الفرقان)12 :
وقد صور بعض السلف شدة هذه الزف4رة النابع4ة من الغي4ظ بقول4ه (:إن جهنم ل4تزفر زف4رة ال يبقى
ملك مقرب وال نبي مرسل إال خرَّ لوجهه ،ترتع4د فرائض4ه ،ح4تى إن إب4راهيم ليجث4و على ركبتي4ه،
ويقول :رب ال أسألك اليوم إال نفسي)()5
ومثل زفير استقبالها ألهلها ،يصورها القرآن الكريم بصورة الجالد الحي الذي يتفنن في التعذيب،
4ولَّى َو َج َمَ 4ع لشَ 4وى َتْ 4د ُعو َم ْن َأ ْد َبَ 4
4ر َو َتَ 4 ظى ن ََّزا َع ًة ِّل َّ
وهو مدرك ماذا يفعل ولماذا يفعل ،قال تعالىَ ﴿:كاَّل ِإنَّ َها َل َ
َفأَوْ عَى ﴾ (المعارج 15 :ـ )18
قال ابن عباس :جلدة الرأس ،انظر :الطبري ،29/76 :ابن كثير.4/422 : )(6
ذكره ابن جرير في تفسيره وقال ابن كثير :إسناده صحيح ،انظر :الطبري ،18/187 :ابن كثير.3/312 : )(2
رواه الليث بن سعد. )(3
رواه أحمد وابن ماجة. )(4
انظر :شعب اإليمان.1/160 : )(5
أورده القرطبي .1/466 :وال نعلم درجته. )(6
الترمذي ،2/379 :الدارمي.29 : )(7
10
()1 وقد كان يبادل هذه األشياء مشاعرها ،فكان يقول عن أحد( :هذا جبل يحبنا ونحبه)
الرحمة:
ومن المش44اعر ال44تي ورد في النص44وص المقدس44ة نس44بتها للكائن44ات مش44اعر الرحم44ة ..وهي من
المشاعر العظيمة التي تستدعي منتهى الكمال والرقي.
ومن ذلك ما ورد في النصوص من اإلخبار عن المشاعر الفائضة من قلوب األشياء دموعا رحم44ة
ظ ِرينَ ﴾ (الدخان29 : ت َع َل ْي ِه ُم ال َّس َما ُء َواأْل َرْ ضُ َو َما َكانُوا ُم ْن َ
للمؤمن ،وهو ما يشير إليه قوله تعالىَ ﴿ :ف َما َب َك ْ
)
فهذا البكاء الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس من جنس ما كانت تعبر به العرب عن أحزانها ،كم44ا
قال الشاعر:
فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة
وقال آخر:
والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقالت األخرى:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
ألن النصوص المقدسة ال يدخلها مثل هذا التأويل ،ولو ورد في كالم الع44رب ،فال النق44ل ينفي44ه ،وال
العقل يحيله.
بل قد ورد في النقل ما يدل عليه ،ومن ذلك قوله (:ما من مؤمن إال وله في السماء باب4ان ،ب4اب
ت ينزل منه رزقه ،وباب يدخل منه كالمه وعمله ،فإذا مات فقداه فبكيا علي44ه ،ثم تال قول44ه تع4الىَ ﴿:ف َم4ا َب َك ْ
واأْل َرْ ضُ ﴾ (الدخان)2()29 : َع َل ْي ِه ُم ال َّس َما ُء َ
ولهذا أخبر القرآن الكريم بعدم بكاء السموات واألرض على الكف44ار ،ألنهم لم يعمل44وا على األرض
عمال صالحا تبكي عليهم ألجله ،وال صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فق4ده ،ق44ال علي (:إن4ه يبكي
عليه مصاله من األرض ومصعد عمله من السماء)()3
وكما تبكي األرض والسماء على المؤمن ،تستبشر به ،وقد قال أنس (:لما كان اليوم الذي دخل في44ه
النبي المدينة أضاء كل شيء ،فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء ،وإنا لفي دفنه م44ا نفض44نا
األيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا)()4
ولهذا ال يصح اعتبار المسلم غريبا ما دام محاطا بكل هذه المشاعر الفياضة التي تتدفق من حول44ه،
قال (:إن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قي4ل :من هم ي4ا رس4ول
هللا؟ قال -هم الذين إذا فسد الناس صلحوا -ثم قال -أال ال غربة على مؤمن ،وما مات م44ؤمن في غرب44ة
غائبا عن4ه بواكي4ه إال بكت علي4ه الس4ماء واألرض) ثم ق4رأ رس4ول هللا قول4ه تع4الىَ ﴿:ف َم4ا َب َك ْ
ت َع َل ْي ِه ُم
رينَ ﴾ ،ثم قال (:أال إنهما ال يبكيان على الكافر)()5 ال َّس َما ُء َواأْل َرْ ضُ َو َما َكانُوا ُم ْن َ
ظِ
وكما أن المؤمن يعيش بصحبة ه4ذه المش4اعر الفياض4ة ال4تي تفيض علي4ه من الك4ون ،ف4إن الك4افر
البخاري ،2/539 :مسلم.2/993 : )(1
رواه الترمذي. )(2
انظر هذه اآلثاروغيرها في :القرطبي ،16/140 :ابن كثير.4/143 : )(3
ابن ماجة. )(4
البيهقي في الشعب. )(5
11
والغافل بعكس ذلك ،فقد أخبر أن البالد والشجر والدواب تستريح من أذى العبد الفاجر ،فق44د روي أن
جنازة م4رت على رس4ول هللا فق4ال (:مس4تريح ومس4تراح من4ه) ق4الوا (:ي4ا رس4ول هللا م4ا المس4تريح
والمستراح منه) قال (:العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة هللا ،والعبد الفاجر يستريح
منه العباد والبالد والشجر والدواب)()1
وقد ذكر العلماء وجوها من اس4تراحة الك4ون من العب4د الف4اجر الك4افر أو العاص4ي منه4ا أن العب4اد
يستريحون من ظلمه لهم ،وما يأتي به من المنكر ،فإن أنكروا آذاهم ،وإن تركوه أثموا.
والبالد تستريح مما يفعله فيها من المعاصي ،فيحصل الجدب ،ويهلك الحرث والنس44ل ،أو لغص44بها
ومنعها من حقها.
والشجر يستريح منه لقلعه إياه غصبا أو غصب ثمره.
والدواب تستريح منه الستعماله لها فوق طاقتها ،وتقصيره في علفها وسقيها(.)2
وهي وجوه ال يراد به44ا الحص44ر ،فالت44أذي ال44ذي يحص44ل له44ا من جنس الت44أذي ال44ذي يحص44ل
للمؤمن عندما يسمع كلمة الكفر ،وقد ذكرن4ا س4ابقا قول4ه تع4الى عن ت4أثير كلم4ة الكف4رعلى األش4ياء:
ق اأْل َرْ ضُ َوتَ ِخرُّ ْال ِجبَا ُل هَ ّداً﴾ (مريم)90:
ات يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْنهُ َوتَ ْن َش ُّ
﴿ تَ َكا ُد ال َّس َما َو ُ
بل ورد في النصوص واآلثار أن العالقة بين المؤمن والكون ليس4ت عالق4ة مش4اعر فق4ط ،ب4ل هي
عالقة تعاون وتكافل ،فقد أخبر أنه (:ال تقوم الساعة حتى يقات44ل المس44لمون اليه44ود فيقتلهم المس44لمون
حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجرة فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد هللا هذا يهودي خلفي
فتعال فاقتله إال الغرقد فإنه من شجر اليهود)()3
وأخبر ابن عباس عن عابد كان يتعبد في غار فكان يأتيه غراب كل يوم برغيف حتى مات العابد.
التعظيم:
من المشاعر التي ورد في النصوص نسبتها لهذه الكائنات التعظيم ..وهو نابع من معارف كثيرة ال
يمكن أن تكون إال لحي عاقل قد اكتمل له الحياة والعقل.
فقد ورد في النصوص ما يدل على تعظم الكائنات لرسول هللا بسجود االحترام والتقدير.
فقد روي أن رسول هللا كان في نف4ر من المه4اجرين واألنص4ار ،فج4اء بع4ير فس44جد ل4ه ،فق4ال
أص4حابه (:ي4ا رس4ول هللا تس4جد ل4ك البه4ائم والش4جر ،فنحن أح4ق أن نس4جد ل4ك) فق4ال (:اعب4دوا ربكم،
وأكرموا أخاكم)()4
وفي الحديث دليل على تكرر ذلك من البهائم المختلفة والشجر.
ومن هذا الباب طاعتها لرسول هللا وشهادتها له ،فقد روي أن أعرابي44ا دن44ا من رس44ول هللا ،
فقال له رسول هللا :أين تريد؟ قال :إلى أهلي قال :هل لك في خير ،قال :وما هو؟ قال :تشهد أن ال إل44ه
إال هللا وحده ال شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ،ق4ال :ومن يش4هد على م4ا تق4ول ،ق4ال :ه4ذه الس4لمة،
فدعاها رسول هللا وهي بشاطئ الوادي ،فأقبلت تخد األرض خدا ،ح44تى ق44امت بين يدي44ه فاستش44هدها
ثالثا ،فشهدت ثالثا أنه كما قال ،ثم رجعت إلى منبته4ا ،ورج4ع األع44رابي إلى قوم44ه ،وق4ال :إن اتبع4وني
)(1استطاع العلم الحديث ـ بما زود من وسائل ـ أن يتوصل إلى ما يدل على هذا الحديث الكوني ،وقد كان شرف هذا االكتشاف ألح44د علم44اء الفض44اء،
وهو البروفيسور (مارك ويتل) من جامعة فيرجينيا ..فقد تحدث هذا العالم عن األمواج الصوتية التي أطلقها الكون عندما كان عمره 380أل44ف س44نة ،واس44تمر
هذا الصوت الناتج عن تمدد وتوسع الكون حتى أصبح عمر الكون مليون سنة ،عندها بدأت النجوم األولى بالتشكل( .انظر :السماء تتكلّم! حقائق كونية حديث44ة
جداً تتجلّ ى في القرآن ،بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل ،من موقع :موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة) وانظر في هذا :رسالة (معجزات علمية)
)(2المعجم الكبير للطبراني.11/184 :
)(3رواه البخاري ومسلم.
)(4رواه ابن مردويه والبيهقي في شعب اإليمان.
)(5الطبراني في المعجم الكبير.
14
بل أخبر أن بعض هذا الكشف سيحصل في الدنيا عندما تق4ترب رحلته4ا من ال4دار اآلخ4رة ،أو
في البرزخ الذي بين الدنيا واآلخرة ،قال (:والذي نفسي بيده ال تقوم الساعة حتى تكلم السباع اإلنسان
وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده)()1
وليس ذلك خاصا باآلخرة ..وال بالبرزخ الذي بين الدنيا واآلخرة ،بل ورد في النصوص ما يش44مل
الدنيا واآلخ4رة ،وق4د ق4ال رس4ول هللا (:إني ألع4رف حج4را بمك4ة ك4ان يس4لم علي قب4ل أن أبعث إني
ألعرفه اآلن)()2
هذا في عالم الجماد ،أما في عالم الحي44وان ،فق44د ذك4ر الق44رآن الك4ريم منط44ق حي4وانين هم4ا الهده44د
والنملة:
أما الهدهد ،فقد وردت قصته في قوله تعالى إخبارا عن بعض ما وهب سليمان من المل44ك أن44ه
ال َما ِل َي ال َأ َرى ْالهُ ْدهُ َد َأ ْم َكانَ ِمنَ ْالغَا ِئ ِبينَ ﴾ (النمل)20 : ذات يومَ ﴿:ت َفقَّ َد َّ
الطي َْر َف َق َ
ين ﴾ ان ُّم ِب ٍ ط ٍ وبنبرة الحزم التي تقتضيها السلطة ،قال ﴿:أَل ُ َع ِّذ َبنَّهُ َع َذاباً َشِ 4ديداً َأوْ أَل َ ْذ َب َحنَّهُ َأوْ َل َي ْ4أ ِت َي ِّني ِب ُسْ 4ل َ
(النمل)21 :
وبعد مدة جاء الهدهد ،ومعه الحجة التي يبرر بها غيابه ،وهي حجة جعلته يدخل على سليمان
ين ﴾ (النمل)22 : ط ِب ِه َو ِج ْئتُكَ ِمن َس َبإٍ ِب َن َبإٍ َي ِق ٍ طت ِب َما َل ْم تُ ِح ْمزهوا فاخرا ،ليقول لهَ ﴿:أ َح ُ
ت ِمن ُك4لِّ َشْ 4ي ٍء َو َل َه4ا َع4رْ شٌ 4ر َأ ًة ت َْم ِل ُكه ُْم َوأُو ِت َي ْ دت ْام َ ثم ذكر النبأ اليقين الذي جاء به ،فقالِ ﴿:إ ِّني َو َج ُّ
َظي ٌم ﴾ (النمل)23 : ع ِ
ان َأ ْع َم44ا َله ُْم ط ُ ون هَّللا ِ َوزَ يَّنَ َلهُ ُم َّ
الش ْ 4ي َ س ِمن ُد ِ لش ْ 4م ِ وبنبرة الغاضب هلل قالَ ﴿:و َجد ُّت َها َو َقوْ َم َها َي ْس4جُ ُدونَ ِل َّ
يل َفه ُْم اَل َي ْه َت ُدونَ ﴾ (النمل)24 : َف َ
ص َّدهُ ْم ع َِن ال َّس ِب ِ
ت
اوا ِ الس َ 4م َ وبن44برة الع44ارف باهلل والناص44ح لخل44ق هللا ق44الَ ﴿:أاَّل َي ْس 4جُ ُدوا هَّلِل ِ الَّ ِذي ي ُْخِ 4رجُ ْالخَبْ َء ِفي َّ
ش ْال َع ِظ ِيم (( ﴾)26النمل) ض َو َيعْ َل ُم َما تُ ْخفُونَ َو َما تُعْ ِلنُونَ ( )25هَّللا ُ اَل ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو َربُّ ْال َعرْ ِ َواأْل َرْ ِ
تاوا ِ وق4د ع4بر عن معرفت4ه هلل بحس4ب حال4ه ،ف4ذكر من ص4فات هللا أن4ه ﴿ ي ُْخِ 4رجُ ْالخَبْ َء ِفي َّ
السَ 4م َ
ض َو َيعْ َل ُم َما تُ ْخفُونَ َو َما تُعْ ِلنُونَ ﴾ َواأْل َرْ ِ
ت ن َْم َل4ةٌ َي4ا َأ ُّي َه4ا النَّ ْم4لُ أما النملة ،فقد وردت قصتها في قوله تعالىَ ﴿:حتَّى ِإ َذا َأ َتوْ ا َع َلى َوا ِدي النَّ ْم ِل َقا َل ْ
ان َوجُ نُو ُد ُه َوهُ ْم اَل َي ْشعُرُونَ ﴾ (النمل)18 : ا ْد ُخلُوا َم َسا ِك َن ُك ْم اَل َيحْ ِط َمنَّ ُك ْم ُس َل ْي َم ُ
وهي تمثل بقولها هذا عالما جليال من عوالم الرحمة والتكافل واألدب مما يقص4ر الكث4ير من البش4ر
المتطاولون عن البلوغ إليه.
فقد ك4انت في موض4ع تهدي4د ب4وطء جيش س4ليمان له4ا ،فلم تكت4ف في تل4ك اللحظ4ة الممل4وءة
بالرعب أن تفر بنفسها ،بل التفتت إلى النمل من أصحابها أن يفروا بأنفسهم.
وهي في تل44ك اللحظ44ة لم تتخ44ل عن األدب ،ف44ذكرت ع44ذر س44ليمان وجن44وده ،وه44و أنهم ق44د
يطؤونهم من غير شعور منهم ،وهو خلق نبيل قل من يكون عليه من البشر.
وقد كانت هذه النملة ينبوعا من المنابع التي فاضت منها الروايات الكثيرة عن عالم النمل:
ومنها ما روي أن سليمان خرج يستسقي بالناس ،فمر بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمه44ا
إلى الس4ماء ،وهي تق4ول (:اللهم إن4ا خل4ق من خلق4ك ليس بن4ا غ4نى عن رزق4ك ،فام4ا أن تس4قينا وإم4ا أن
)(1رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان.
)(2رواه مسلم.
15
()1 تهلكنا) ،فقال سليمان للناس (:ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم)
وقد كانت لذلك ـ أيضا ـ منبعا للرحمة والش4فقة ـ كم4ا وردت ب4ذلك النص4وص واآلث4ار ،ومنه4ا أن
النبي رأى قرية نمل قد حرقت ،فقال :من حرق هذه؟ قالوا :نحن ،قال (:إنه ال ينبغي أن يعذب بالن44ار
إال رب النار)()2
وورد في الحديث أن النبي (:نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد)()3
ولعل أكثر الحيوانات قدرة على التعبير كما ورد في النصوص واآلثار هي الطيور ،فهي بنغماته44ا
المختلفة الجاذبة للقلوب تعبر عن أسمى المعاني ،وأشرف الحقائق.
ْ4ر ﴾ (النم4ل )16 :لنس4مع بعض وسنهتدي بنور قول4ه تع4الى عن س4ليمان ُ ﴿:ع ِّل ْمنَ4ا َم ْن ِطَ 4ق َّ
الطي ِ
أغاني الطيور ،دون اهتمام بأسانيد ما نذكره أو مدى صحته.
بل إنا نحاول أن نجعل من الطيور هداة نهتدي به4ا ،ومواع4ظ ع4برة نعت4بر به4ا ،ونأك4ل البقل4ة من
ألسنتها دون أن نسأل عن البقال(:)4
وأول ما نتعلمه من الطيور الزهد والقناعة التي عبر عنها هذا البلب4ل الزاه4د ال4ذي م4ر ب4ه س4ليمان
وهو على فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ،فقال سليمان ألصحابه :أتدرون م44ا يق44ول ه44ذا
البلبل؟ قالوا :ال يا نبي هللا .قال :إنه يقول :أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء.
ونتعلم األدب من هذا الطائر المؤدب ال4ذي ع4رف كي4ف يخ4اطب ن4بي هللا ،فق4د ك4ان س4ليمان
جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف ،فقال لجلسائه :أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها ق44الت لي :الس44الم
عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعط4اك هللا الكرام4ة ،وأظه4رك على ع4دوك ،إني منطل4ق
إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول :الس4الم علي4ك أيه4ا المل4ك
المسلط ،إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما ش44ئت .ف44أخبرهم
سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق.
ونتعلم اإليمان بالقضاء والقدر من الهدهد الذي مر به سليمان ،وهو فوق شجرة وقد نصب له
صبي فخا فقال له سليمان :احذر يا هدهد! فقال :يا نبي هللا! هذا صبي ال عقل له فأنا أس44خر ب44ه ،ثم رج44ع
سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده ،فقال :هدهد ما هذا؟ قال :ما رأيتها حتى وقعت فيه44ا
يا نبي هللا ،قال :ويحك! فأنت ترى الماء تحت األرض أما ت44رى الفخ! ق44ال :ي44ا ن44بي هللا إذا ن44زل القض44اء
عمي البصر.
ونتعلم قصر األمل من هذا الورشان الذي صاح عند سليمان فقال :أتدرون ما يقول؟ قالوا :ال.
قال :إنه يقول :لدوا للموت وابنوا للخراب .وصاحت فاختة ،فقال :أتدرون ما تق4ول؟ ق4الوا :ال .ق4ال :إنه4ا
تقول :ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا.
ونتعلم وجوها من األخالق من هذه الطيور التي صاحت عنده ،وفسرها لنا:
فقد صاح عنده طاوس ،فقال :أتدرون ما يقول؟ قالوا :ال .قال :إنه يقول :كما تدين تدان.
وصاح عنده هدهد فقال :أتدرون ما يقول؟ قالوا :ال .قال :فإنه يقول :من ال يرحم ال يرحم.
)(1وكان منهم أيضا من ال يرى التطير شيئا ،ويمدحون من كذب به ،كما قال المرقش:
أغدو على واق وحاتم ولقد غدوت وكنت 4ال
من واأليامن كاألشائم فإذا األشائم كاأليا
17
من سفره تطيرا) ()1
بل اعتبر التطير شركا ،فقال (:الطيرة شرك -ثالثا -وما منا إال ولكن هللا يذهبه بالتوكل)()2
وعلمنا كيف نوحد هللا ،وننفي الشرك عند التطير بقول44ه (:من رجعت44ه الط44يرة عن حاجت44ه
فقد أشرك) قيل :وما كفارة ذلك يا رسول هللا؟ قال ( :أن يقول أحدهم اللهم ال طير إال طيرك وال خ44ير إال
خيرك وال إله غيرك ثم يمضي لحاجته)()3
وفي حديث آخر علمنا أن نق4ول (:إذا وج4د ذل4ك أح4دكم فليق4ل اللهم ال ي4أتي بالحس4نات إال أنت وال
يذهب بالسيئات إال أنت ال حول وال قوة إال بك)()4
ونهى عن كل سبب يؤدي إلى التطير ،فقال (:أقروا الطير على مكناتها()6( ))5
وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وكرها فنفرها؛ فإذا أخذت ذات
اليمين مضى لحاجته ،وهذا هو السانح عندهم ،وإن أخذت ذات الشمال رجع ،وه4ذا ه4و الب4ارح عن4دهم،
فنهى النبي عن هذا.
ولكن الخرافة مع ذلك ال تعني سد الباب مطلقا ،ولذلك ال نرى أن العلم بمنطق الط44ير أو غ44يره من
األشياء خاص بسليمان ،فالنص4وص الكث4يرة تنفي ذل4ك ،ويكفي م4ا أخ4بر عن4د ذك4ره لعالم4ات
الساعة (:والذي نفسي بيده ال تقوم الساعة ح4تى تكلم الس4باع اإلنس4ان ،وح4تى تكلم الرج4ل عذب4ة س4وطه
وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده)()7
وقد نفى األلوسي أن يكون ذلك خاصا بسليمان بقوله (:وقيل كانت الطير تكلم44ه معج44زة
له نحو ما وقع من الهدهد ،وقي4ل علم uماتقص4ده الط4ير في أص4واتها في س4ائر أحواله4ا فيفهم تس4بيحها
ووعظها وما تخاطبه به وما يخاطب به بعضها بعض4ا ،وبالجمل4ة علم من منطقه4ا م4ا علم االنس4ان
من منطق بني صنفه ،واليستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغ44ات مخصوص4ة ت44ؤدي به44ا مقاص44دها
كما في نوع االنسان إال أن النفوس االنس4انية أق4وى وأكم44ل ،واليبع44د أن تك4ون متفاوت4ة تف44اوت النف4وس
االنسانية الذي ق4ال ب4ه من ق4ال ،ويج4وز أن يعلم هللا تع4الى منطقه4ا من ش4اء من عب4اده وال يختص ذل4ك
باألنبياء عليهم السالم ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات)()8
وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني يتحدث عن نفسه (:وقد وقع لي في ابتداء أمري أني كنت أسمع
كالم من في أقطار األرض من الهند والص4ين وغيرهم4ا ،ح4تى أني كنت أس4مع كالم الس4مك في البح4ار
المحيطة ،ثم إن هللا تعالى حجب عني وأبقى معي العلم كي ال أنكر مثل ذلك على أحد)()9
ولذلك نرى أنه يمكن للبشر أن يفهموا لغة الحيوان4ات س4واء عن طري4ق الكرام4ة أو االس4تدراج أو
حتى بالدراسة والبحث ،مع قصور البحث عن الوصول إلى كل ما يعبر به الحيوان عن نفسه ،ف44العلم في
صورته الحديثة قاصر على معرفة الحاجات المادية لألشياء.
)(1رواه البخاري.
)(2رواه أحمد والطبراني في الكبير والبزار.
20
شأنها في هذا شأن أمة الناس) ()1
و ال تكون هذه المخلوقات أمما إال إذا كان لها من الوعي واإلدراك ما تقيم به الرواب44ط االجتماعي44ة
فيما بينها ،وهذا بدوره يستدعي توفر وسائل خاصة للتفاهم فيما بينها ،وهو م4ا كش4ف عن4ه العلم الح4ديث
في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحشرات والحيوان.
وسنحاول انطالقا من النصوص المقدس44ة ،ومن خالل م44ا اكتش44فه العلم أن نبحث في دالئ44ل أممي44ة
الكائنات الحية ،وما وهبته من قدرات على التحضر.
التنظيم:
ت ن َْم َلةٌ َيا َأ ُّي َها النَّ ْملُ ا ْد ُخلُ44وا
ويشير إليه من القرآن الكريم قوله تعالىَ ﴿:حتَّى ِإ َذا َأ َتوْ ا َع َلى َوا ِد النَّ ْم ِل َقا َل ْ
ان َوجُ نُو ُدهُ َوهُ ْم ال َي ْشعُرُونَ ﴾ (النمل)18 :
َم َسا ِك َن ُك ْم ال َيحْ ِط َمنَّ ُك ْم ُس َل ْي َم ُ
ففي هذه اآلية إشارة إلى أن عالم النمل عالم منظم محكوم بقوانين ال يخالفها ،فه44ذه النمل44ة لم تكت44ف
بالهرب بنفسها ،بل دعت سائر النمل ،ولوال علمها بأنهن سيطعنها ما فعلت.
وال بأس أن نقتبس هنا ـ مهتدين بنور اآلية ـ بعض ما اكتشفه العلم الحديث( )2من مجتمع44ات النم44ل
الدالة على وعي هذه الحشرة الصغيرة بما تفعله.
ذكر أحد علماء التاريخ الطبيعي ،وهو (رويال ديكنسون) في كتابه ( شخصية الحشرات) أن44ه ظ44ل
يدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاماً في بقاع مختلفة من العالم فوجد نظاماً ال يمكن أن ن44راه في م44دن
البشر ،وراقبه وهو يرعى أبقاره ،وهي عبارة عن خنافس صغيرة رباها النمل في جوف األرض زمان44اً
ال حتى فقدت في الظالم بصرها. طوي ً
وذكر أن أمة النمل ـ شأنها شأن أمة اإلنسان ـ قد سخرت مئ44ات األجن44اس من حيوان44ات أدنى منه44ا
جنساً في مصالحها ،ومنها ( بق النبات) ،وهو حشرة ص44غيرة تعيش على النب44ات ويص44عب استئص44الها،
ألن أجناسها كثيرة من النمل ترعاها ،وألن داخل المستعمرة ال يمكن أن تعيش النباتات ،فإن النمل يرسل
الرسل لتجمع له بيض هذا البق حيث تعنى به وترعاه ح4تى يفقس وتخ4رج ص4غاره ،وم4تى ك4برت ت4در
ال حلوا كالعسل يقوم على حلبه جماعة من النمل ال عمل لها إال حلب هذه الحشرات بمس44ها بقرونه44ا، سائ ً
وتنتج هذه الحشرة 48قطرة من العسل كل يوم ،وهذا ما يزيد مائ4ة ض4عف عم4ا تنتج4ه البق4رة إذا قارن4ا
حجم الحشرة بحجم البقرة.
ً
ووجد أن النمل زرع مساحة بلغت خمسة عش4ر م4ترا مربع4ا من األرض حيث ق4امت جماع4ة من ً
النمل بحرثها على أحسن ما يقضى به علم الزراع44ة ،فبعض44ها زرع األرز ،وجماع44ة أزالت األعش44اب،
وغيرها قامت لحراسة الزراعة من الديدان.
و لما بلغت عيدان األرز نموها ،وك4ان ي4رى ص4فاً من ش4غالة النم4ل ال ينقط4ع ،يتج4ه إلى العي4دان
فيتسلقها إلى خب األرز ،فتنزع كل شغالة من النمل حبة ،وت4نزل به4ا س4ريعة إلى مخ4ازن تحت األرض
الصورة.
و قد طلى العالم أفراد النمل ب4األلوان ،فوج4د أن الفري4ق الواح4د من النم4ل ي4ذهب دائم4ا إلى الع4ود
الواحد حتى يفرغ ما عليه من األرز .ولما فرغ الحصاد هط4ل المط4ر أيام4اً وم4ا إن انقط4ع ح4تى أس4رع
العالم إلى مزرعة النمل ليتعرف أحواله فوجد البيوت تحت األرض مزدحمة بالعمل ،ووجد النملة تخرج
في ظالل القرآن.2/1080 : )(1
اقتبسنا هذه االكتشافات من كتاب :رحيق العلم واإليمان الدكتور أحمد فؤاد باشا. )(2
21
من عشها تحمل حبة األرز وت4ذهب إلى الع4راء في ج4انب مائ4ل من األرض مع4رض للش4مس ،وتض4ع
حبتها لتجف من ماء المطر ،وما إن انتصف النهار حتى كان األرز قد جف وعاد الشغالة به إلى مخازنه
تحت األرض.
العمران:
ونقصد به ما زودت به األحياء من قدرات على توفير ما تحتاجه في حياتها من مرافق ،ويشير إلى
هذا النوع من التحضر ما ذكره هللا تعالى من وحيه للنحل بكيفية بن4اء بيوته4ا ،فق4ال تع4الىَ ﴿:و َأوْ َحى َربُّكَ
اس 4لُ ِكي ُس 4ب َُل َرب ِِّك عْر ُشونَ ثُ َّم ُك ِلي ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ
ت َف ْ ال بُيُوتاً َو ِمنَ ال َّش َج ِر َو ِم َّما َي ِ ِإ َلى النَّحْ ِل َأ ِن اتَّ ِخ ِذي ِمنَ ْال ِج َب ِ
ف َأ ْل َوانُهُ ِفي ِه ِشَ 4فا ٌء ِللنَّ ِ
اس ِإ َّن ِفي َذ ِل44كَ آَل َيً 4ة ِل َق44وْ ٍم َي َت َف َّكرُونَ ﴾ (النح44ل 68 :ـ طو ِن َها َش َرابٌ ُم ْخ َت ِل ٌال َي ْخرُجُ ِم ْن بُ ُ ُذلُ ً
)69
فاآليتان تشيران إلى أن للنحل نظاما في منتهى الدقة واإلحكام ،وهو م44ا س44نراه من مكتش44فات العلم
الحديث ،وتشير كذلك ـ وهو المهم ـ إلى أن له4ذا المخل4وق من ال4وعي م4ا يس4تطيع أن يتلقى ب4ه وحي هللا
الذي يوجه أفعاله(.)1
وقد كشف العلم الحديث عن بعض أسرار الوحي الذي تتلقاه أم4ة النح4ل ،وال ب4أس من اس4تعراض
الناحيتين اللتين أشارت إليهما اآليتين ،واعتبرتهما ثمرة وحي هللا تعالى ،وهما :بي4وت النح4ل ،والط4رق ـ
أو سبل هللا كما يسميها القرآن الكريم ـ التي يسلكها النحل مهتديا بالوحي اإللهي(:)2
فأول ما يشير إلى اعتماد النحل على الوحي اإللهي هو بناء أقراص الشمع على هيئة خاليا سداسية
تستعمل كمستودعات الختزان العسل ،وقد أشار كثير من علم4اء المس4لمين إلى الحكم4ة من اختي4ار ذل4ك
الشكل ،يقول ابن العربي (:ومن عجيب ما خلق هللا في النح44ل أن ألهمه44ا التخ44اذ بيوته44ا مسدس44ة ،فب44ذلك
اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة ،وذلك أن األشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منه44ا
إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج ،إال الشكل المسدس؛ فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة
الواحدة)()3
ويؤيد العلم الحديث هذا ،فقد نص على أنه يكفي أن نتعرف على عظمة هذا اإلعج4از الهندس4ي من
علماء الرياضيات الذين يقولون بأن النحل يصنع خالياه بهذا الشكل ألن4ه يس4مح له4ا ب4احتواء أك4بر ع4دد
ممكن من أعضاء المملكة ،وبأقل قدرة ممكن من الشمع الغالي الالزم لبناء جدرانها ،وهي عملية عبقرية
تبلغ درجة من الكمال تفوق كل عبقريات البشر مجتمعين.
و ينص علماء الحشرات على أن شغاالت النحل تبذل جهداً خارقاً للحفاظ على العسل ،فهي تنظف
الخلية بمهارة فائقة وتس ّد كل الشقوق وتلمع كل الحوائ4ط بغ4راء النح4ل ،وهي ال تقن4ع بتهوي4ة الخلي4ة ب4ل
تحافظ على ثبات درجة الحرارة فيها عند مستوى ثابت وتقوم بعملية تكييف للهواء داخل الخلية.
ففي أيام الصيف القائ4ظ يمكن للم4رء أن ي4رى طواب4ير الش4غاالت وق4د وقفن بب4اب الخلي4ة واتجهن
جميعاً إلى ناحية واحدة ثم قمن بتحريك أجنحتهن بقوة .وهذه الشغاالت يطلق عليه4ا اس4م (المروح4ة) ألن
عملها يؤدي إلى إدخال تيارات قوية من الهواء البارد إلى الخلية.
ومن ناحية أخرى توجد في داخل الخلية مجموعة أخ44رى من الش44غاالت منهمك44ة في ط44رد اله4واء
)(1وتعبير ( الوحي) هو التعبير الدال على حقيقة ما يبديه الكون من عجائب ال يستطيع 4عقله الصغير أن يقوم بها بمع44زل عن إله44ام وتوجي44ه هللا تع4الى،
ارهَا ِبأَنَّ َربَّكَ أَوْ َحى لَهَا ﴾( الزلزلة 4:ـ)5
ِّث أَ ْخبَ َ
ولذلك يعبر القرآن الكريم عن ما يحصل في األرض عند القيامة بقوله تعالى ﴿:يَوْ َمئِ ٍذ تُ َحد ُ
)(2المعلومات الحديثة مقتبسة من كتاب ( رحيق العلم واإليمان) للدكتور أحمد فؤاد باشا.
)(3القرطبي.10/134 :
22
الساخن إلى خارج الخلية .أما في األجواء الباردة فإن النحل يتجمع فوق األقراص لكي تقلل م44ا يتع44رض
من سطحها للجو ،وتزيد حركة التمثيل الغذائي ببدنها ،وتكون النتيجة رفع درج4ة الح4رارة داخ4ل الخلي4ة
بالقدرة الالزمة لحماية العسل من الفساد.
أما الناحية الثانية التي أش4ار إليه4ا الق4رآن الك4ريم فهي الط4رق ال4تي يس4لكها النح4ل ليجم4ع رحي4ق
األزهار ،وقد نص علماؤنا القدامى على بعض وج4وه ال4وحي ال4ذي يتلق4اه النح4ل لتحقي4ق ذل4ك ،ق4ال ابن
كثير (:ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثم44رات وأن تس44لك الط44رق ال44تي جعله44ا هللا
تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاس44عة واألودي44ة والجب44ال
الشاهقة ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها ال تحيد عنه يمنة وال يسرة ب44ل إلى بيته44ا وماله44ا في44ه من ف44راخ
وعسل)()1
والعلم الحديث يؤيد هذا بالشواهد الكثيرة التي تحيل أن يفعل النحل ذلك بعقله الفطري البس44يط ،ب44ل
يحتاج إلى الوحي اإللهي الذي نص عليه القرآن الكريم.
فالدراس44ات العلمي44ة المستفيض44ة لمملك44ة النح44ل تنص على أن إله44ام هللا تع44الى له44ا يجعله44ا تط44ير
الرتشاف رحيق األزهار ،فتبتعد عن خليتها آالف األمتار ،ثم ترجع إليه4ا ثاني4ة دون أن تخطئه4ا وت4دخل
خلية أخرى غيرها ،علما بأن الخاليا في المناحل تكون متشابهة ومرصوصة بعض44ها إلى ج44وار بعض،
وذلك ألن هللا تعالى قد ذلل الطريق وسهلها لها ومنحها من قدرات التكيف الوظيفي والس44لوكي م44ا يعينه44ا
في رحالت استكشاف الغذاء وجنية ثم العودة بعد ذلك إلى البيت.
و قد نص العلم الحديث على أن العشيرة الواحدة من النحل تستطيع أن تجمع نحو 150كيلوجراما
من العسل في الموسم الواحد .والكيلوجرام الواحد من العسل يكلف النحلة م4ا بين 120000و 150أل4ف
حمل ٍ من الرحيق تجمعها بعد أن تطير مسافة تعادل محيط األرض عدة م4رات في المتوس4ط .وتس4تطيع
النحلة أن تطير بسرعة 65كيلومترا في الساعة ،وهو ما يعادل سرعة القطار .وحتى لو كان الحمل الذي
تنوء به يعادل ثالثة أرباع وزنها فإنها يمكن أن تطير بسرعة 30كيلومترا في الساعة.
و في رحلة االستكشاف لجمع الغذاء الطيب تس4تعين العامل4ة بحواس4ها ال4تي منحه4ا هللا إياه4ا .فهي
مزودة بحاسة شم قوية عن طريق قرني االستش44عار في مق44دم األخص الل44ونين األزرق واألص44فر ،وهي
تمتاز على العين البشرية في إحساسها باألشعة فوق البنفسجية ،لذلك فهي ترى م44ا ال ت44راه عيونن44ا ،مث44ل
بعض المسالك والنقوش التي ترشد وتقود إلى مخ4تزن الرحي4ق وال يمكنن4ا الكش4ف عنه4ا إال بتص4ويرها
باألشعة فوق البنفسجية .ثم إذا حطت على زهرة يانعة وبلغت ورحيقها استطاعت أن تتذوق44ه وتح44دد بكم
فطرتها مقدار حالوته.
و في رحلة العودة تهتدي النحلة إلى مسكنها بحاستي النظر والش4م مع4ا .أم4ا حاس4ة الش4م فتتع4رف
على الرائحة الخاصة المميزة للخلية .وأما حاسة اإلبصار فتساعد على تذكر معالم رحلة االستكش4اف ،إذ
يالحظ أن النحل عندما تغادر البيت تستدير إليه وتقف أو تحلق أمامه فترة وكأنها تتفحصه وتتمعنه ح44تى
ينطبع في ذاكرتها ،ثم هي بعد ذلك تطير من حوله في دوائر تأخذ في االتساع شيئاً فشيئاً ،وعن4دما تع4ود
إلى البيت تخبر عشيرتها بتفاصيل رحلتها ،وتدل زميالتها على مكان الغذاء فينطلقن تباعاً لجني الرحي44ق
من الزهور واإلكثار منه الدخاره ما يفيض عن الحاجة لوقت الشتاء ببرده القارص وغذائه الشحيح.
وقد أحصى العلم منها خمسة عشرة ألف نوع 4من أنواع النم44ل متع44ددة األل44وان واألش44كال تعيش 4في ك44ل بق44اع األرض ،منه44ا النم44ل األبيض ال4ذي )(1
تضرب جنوده برؤوسها الكبيرة جدران األنفاق إذا شعرت بهجوم على عشها أو أي خطر يتهددها فيفهم ذلك باقي أفراد النوع وتقوم بعم44ل الالزم نح44و حماي44ة
نفسها من الخطر المحدق بها.
)(2رواه ابن ماجة.
26
وسنسوق ـ هنا ،وباختصار ـ بعض ما ساقه العلم الحديث من هذه الرحم4ة ،وس4نقتبس ح4ديث ذل4ك
من عالم أحب األحياء حبا شديدا ،وداف4ع عن انتس4ابها هلل دف4اع المس4تميت ،وه4و الع4الم ال4تركي ه4ارون
يحي ،الذي يعتبر بحق من أكبر من رد على نظرية التظور المادية.
فقد ذكر هذا العالم الفاضل في كتابه (التضحية عند الكائن4ات الحي4ة) الكث4ير من أدل4ة الرحم4ة ال4تي
تمتلئ بها هذه الكائنات ،قال :إن جميع الكائنات الحيّة خطيرة وحسّاس4ة جّ 4دا في حال4ة تع4رّض ص4غارها
أليّ خطر ،ور ّد فعل هذه الكائنات الحية عند ش44عورها ب4الخطر ه4و الف44رار إلى أم44اكن آمن4ة ،وإذا تع4ّ 4ذر
الص4غار عليها ال ّنأي بنفسها عن الخطر تُصبح هذه الكائنات متوحّشة وحا ّدة تجاه الخطر حفاظا على حياة ّ
فالطيور والخفافيش (الوطاويط) مثال ال تتوانـى في مهاجم44ة الب44احثين يأخ44ذون ص44غارها أساسيّ ،ّ بشكل
من األعش44اش لغ44رض البحث وال ّدراس44ة ،وك44ذلك الحم44ير الوحش44ية أو الزي44برا ال44تي تعيش على ش44كل
مجاميع.
وعندما يته ّدد الخطر حيوان4ات مث4ل ابن آوى تق4وم المجموع4ة بتوزي4ع األدوار فيم4ا بينه4ا لحماي4ة
الزرافة صغيرها تحت بطنها وته44اجم الخط44ر بس44اقيها والذود عنهم بكل شجاعة وإقدام ،وتحمي ّ الصّغار ّ
األماميّتين ،أ ّما الوعول والظباء فتتميّز بحساسيّة مفرطة وتهرب عند إحساسها ب4الخطر ،وإذا ك4ان هن4اك
الذود عنه ،فال تتر ّدد في الهجوم مستخدمة أظالفها الحا ّدة.صغير ينبغي ّ
اللبائن األصغر حجما واألضعف جس ًما ،فتقوم بإخفاء صغارها في مكان آمن ،وعندما تحُاصر أ ّما ّ
تصبح متوح ّش ًة ومتوثبّة في وجه العدو الذي يجابهها ،فاألرنب مثال مع ف44رط حساس4يّتة وض44عفه يتح ّم44ل
ع4دوه بأرجل4هّ المش ّقة والصّعاب من أجل حماية صغاره ،فهو يسرع إلى ع ّشه أو وكره ويعم4د إلى رك4ل
الخلفيّة ،ويكون هذا السّلوك أحيانا كافيا إلبعاد الحيوانات المفترسة.
وتتميّز الغزالن بكونها تعم4د إلى الج4ري وراء ص4غارها عن4د اق4تراب الخط4ر منه4ا ،فالحيوان4ات
المفترسة غالبا ما تهاجم من الخل4ف ل4ذلك ،ف4إن الغ4زال األ ّم تك4ون ب4ذلك أق4رب م4ا يك4ون من ص4غارها
وتبعدهم عن مواطن الخطر ،وفي حالة اقتراب الخطر تجتهد في صرف نظر الحي4وان المف4ترس به4دف
حماية صغيرها.
أن صغارها تحت44اج إلى اللبائن تستخدم ألوان أجسامها لل ّتمويه وسيلة لدرء الخطر إ ّ
ال ّ وهناك بعض ّ
توجيه وتدريب على وسيلة االختفاء هذه ،وكمثال على ذلك حيوان اليحمور حيث تقوم األن44ثى باالس44تفادة
خطة للتن ّكر بهدف اإلفالت من األعداء ،فهي تخفي صغيرها بين شجيرات وتجعله من لون صغيرها في ّ
مغطى ببق4ع بيض4اء ،وه4ذه ال ّتركيب4ة ّ
اللوني4ة م4ع أش4عّة ًّ ساكنا ال يتحرك ،ويكون جلد الصّغير ب ّني ّ
الل4ون
ال ّشمس المنعكسة تكون خير وسيلة لالنسجام مع لون ال ّشجيرات التي تحيط به ،وهذه الطريقة في التخ ّفي
تكون كافي ًة لخداع الحيوانات المفترس4ة ال4تي تم4رّ ب4القرب من4ه ،أ ّم4ا األ ّم فتبقى على بع4د مس4اف ٍة قص4ير ٍة
تراقب ما يحدث دون أن تثير انتباه األعداء ،غير أ ّنها تقترب أحيا ًنا من صغيرها لكي ترضعه.
الص4غير ع4ادة وقبل ذهابها إلى الص4يّد تج4بر ص4غيرها على الجل4وس بواس4طة منخره4ا ،ويك4ون ّ
متيقظا وحذرًا ،وعندما يسمع صوتا غير ع4اديّ س4رعان م4ا يع4ود إلى الجل4وس واالختف4اء خوف4ا من أن
خطر بال ّنسبة إليه .ويظلّ الوليد على هذا ال ّشكل ح ّتى يصبح قادرًا على الوقوف على قدمي44ه ٍ يكون مصدر
وال ّتن ّقل مع أ ّمه.
ت به4دف تخويف4ه الع4دو الم4رتقب ،ب4ل وتوجي4ه ض4ربا ٍ ّ فعل عنيف تج4اهو ث ّمة حيوانات تُظهر ر ّد ٍ
27
يتمثل في م ّد جناحيه فيبدو أكبر من الطيور التي تسلك سلوكا استعراضيّا ّ وإبعاده مثل البوم وبعض أنواع ّ
الطبيعي. حجمه ّ
تقلد فحيح األفاعي إلرهاب األعداء مثل طائر ذو الرأس األسود الذي يصدر أصواتا وهناك طيور ّ
الع4دو
ّ صاخبة ويرفرف بجناحيه داخل ع ّشه ،ويبدوا األمر مخيفا داخ4ل العشّ المظلم وس4رعان م4ا يل4وذ
بالفرار أمام هذه الضّوضاء والحركة.
الطيور ال44تي تعيش على ش44كل تج ّمع4ات هي العناي44ة ال44تي يوليه44ا الكب44ار والظاهرة الملحوظة لدى ّ ّ
للصّغار وحرصهم على حمايتها وخصوص4ا من خط4ر طي4ور ال ّن4ورس إذ ينطل4ق ف4رد أو اثن4ان بالغ4ان
ويحومان حول مكان تج ّمع األسراب لترهيب ال ّنوارس وإبعادها عن الصّغار.
الطيور البالغة وك4لّ من ينهي مه ّمت4ه ي4ذهب إلى مك4ان ومه ّمة الحماية هذه يت ّم تنفيذها بال ّتناوب بين ّ
الطاقة للعودة مرّة أخرى. آخر بعيد تتو ّفر فيه المياه للصّيد وال ّتغذية وجمع ّ
الوعول بروح ال ّتضحية من أجل صغارها خصوصا عندما تشعر بخطر ي44داهم ص44غيرها، وتتميّز ُ
فهي تقوم بحركة غاية في الغرابة إذ تلقي بنفسها أمام ه44ذا الحي44وان المف44ترس لتلهي44ه عن اف44تراس ول44دها
الصغير.
وهذا األسلوب يمكن مالحظته في سلوك العديد من الحيوانات مثل أنثى ال ّنمر التي تجتهد في القي44ام
بما في وسعها ح ّتى تصرف انتباه األعداء المتربّصين بصغارها.
فأول ما يفعله عند إحساسه بالخطر ال ّداهم هو أن يأخذ صغاره إلى ق ّمة أق44رب ش44جرة، أ ّما الرّاكون ّ
ث ّم يسرع نازال إلى الحيوانات المفترسة ويكون وجها لوجه معه44ا ،ومن ث ّم يب44دأ ب4الفرار إلى ناحي44ة بعي44دة
يطمئن إلى زوال الخط4ر وعندئ4ذ يتس4لل خلسً 4ة عائ4داً إلى ّ الص4غار ويس4تمر في االبتع4اد ح ّتىعن مكان ّ
صغاره.
أن الص4غار ق4د ينج4ون من خط4ر المفترس4ين إ ّ
ال ّ وهذه المحاوالت ال يُكتب له4ا ال ّنج4اح دائم4اًّ ،
ألن ّ
األبوين قد يتعرّضان للموت والهالك.
الص4غيرة ،فعن44د 4دو المف44ترس عن الف44راخ ّ وهناك طيور تقوم بتمثيل دور الجريح لصرف نظر العّ 4
4دو تب44دأتتسلل بهدوء من العشّ ولماّ تصل إلى مكان وج44ود العّ 4 إحساس األنثى باقتراب الحيوان المفترس ّ
أن في التخبّط وضرب أحد جناحيها على األرض وإصدار أصوات مليئة باالس44تغاثة وطلب ال ّنج44دة ،بي44د ّ
أن تمثل هذا ال ّدور على بعد مسافة ما من الحيوان المف44ترس ،ويت44و ّهم ّ الزم فهي ّ هذه األنثى تأخذ حذرها ال ّ
األنثى المستغيثة تعتبر غنيمة سهل ًة ولك ّن4ه بذهاب4ه في اتجاهه4ا يك4ون ق4د ابتع4د عن مك4ان وج4ود الف4راخ
الصّغار ،ث ّم تنهي األنثى تمثيلها وتهبّ طائرة مبتعدة عن الحيوان المفترس.
وهذا المش4هد ال ّتم4ثيلي يت ّم أداؤه بمه4ارة مقنع4ة للغاي4ة ،وكث4يرًا م4ا تنطلي ه4ذه الحيل4ة على القط4ط
والكالب واألفاعي وحتى على بعض أنواع ّ
الطيور.
الطيور التي تبني أعشاشها م4ع مس4توى س4طح األرض ،فيُعت4برُ التمثي4ل أداة فعّالً 4ة وناجعً 4ة في أ ّما ّ
الط4يران من على الم4اء عن4د فالبط مثاليق4وم بتمثيليّ4ة الع4اجز عن ّ ّ حماي ِة فراخها من األعداء المفترسين،
إحساسه بقدوم الحيوانات الخطرة ،ويظلّ هكذا يضرب بجناحيه على سطح الم44اء م44ع إحتفاض44ه بمس44افة
ب4أن الحي4وان المف4ترس ق4د ابتع4د عن عشّ الف4راخ يطمئن ّ
ّ أمان بينه وبين الحيوان المتربّص به ،وعن4دما
مثيلي ويعود إلى ع ّشه.
يقطع مشهده ال ّت ّ
28
وهذا السلوك ليس قاصرا على هذه األنواع من الحيوانات ،بل إن الحشرات أيضا تحمي ص44غارها
من المهالك.
للص4غار في ع4الم أول من اكتش4ف رعاي4ة األب4وين ّ ويعتبر عالم األحياء السّويدي (أدول4ف م4ودر) ّ
أن األن4ثى الحشرات وذلك سنة 1764عندما كان يجري أبحاثه على حش4رة (الم4درع األوروبي) فوج4د ّ
تجلس على بيضها دون أك4ل أو ش4رب ،وتص4بح ه4ذه األن4ثى مقاتل4ة شرس4ة عن4دما يق4ترب الخط4ر من
بيضها.
وكان العلماء والباحثون في تلك الف4ترة أو م4ا قبله4ا ال يقبل4ون فك4رة رعاي4ة الحش4رات لص4غارها،
وس44ببُ ذل44ك ي44ورده لن44ا البروفس44ور دوغالس.و.تلالني من جامع44ة ديالور وال44ذي يعم44ل أس44تاذا في علم
الحشرات ويؤمن بنظرية التطور ،فيقول (:تجابه الحشرات مخ4اطر عدي4دة أثن4اء دفاعه4ا عن ص4غارها،
ويتساءل العلماء في مجال الحشرات عن السرّ في عدم انقراض هذه الخصلة (خص4لة ال4دفاع والحماي4ة)
ألن وضع البيض بأعداد كبيرة أفضل استراتيجياّ من اتب4اع وس4يلة الّ 4دفاع المحفوف4ة أثناء عملية ال ّتطورّ ،
بالمخاطر والمهالك)
ويعلق دوغالسن.و.تلالني أحد دعاة ال ّتطور على هذا ال ّتساؤل المحيّر ويرى أ ّن44ه يجب أن تنق44رض ّ
الطبيع4ة أ ّنه4ا ال ت4زال موج4ودة ولكن الموجود والمالحظ في ّ ّ هذه الميزة حسب فرضيّات نظرية ال ّتطور،
وبصور عديدة سواء في عالم الحشرات أو غيرها وليس دفاعا عن الصّغار فحسب بل عن الكبار أيضا.
بعد هذا ..قد نرى في سلوك بعض الحيوانات ما نتصوره ظلما ال ينسجم م44ع م44ا تتطلب44ه األخالق..
وذلك صحيح ..وقد أخبرت النصوص أن مثل هذه الحيوانات تع4اقب على تص4رفاتها ه4ذه ،فق4د ج4اء في
الح44ديث عن أبي ذر ق44ال :بينم44ا نحن عن44د رس44ول هّللا إذا انتطحت ع44نزان ،فق44ال رس44ول هّللا :
( أتدرون فيم انطحتا؟) قالوا :ال ندري ،قال (:لكن هللا يدري وسيقضي بينهما)( ،)1وفي حديث آخ44ر ،ق44ال
(:إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة)()2
ونرى انطالقا من هذا الحديث أن الحيوانات محاس4بة على س4لوكها عموم4ا ..وهي مث4ل الن4اس في
ت ﴾ (التك4وير ،)5 :ب4ل ه4و م4ا ينص علي4ه قول4ه ذلك ،وإلى ذلك يشير قوله تع4الىَ ﴿:و ِإ َذا ْال ُوحُ4وشُ ِ
حُشَ 4ر ْ
تعالى ﴿:ثُ َّم ِإ َلى َر ِّب ِه ْم يُحْ َشرُونَ ﴾ (األنعام ،)38 :وهي تتناس44ب م44ع قول44ه تع4الى عن اإلنس44ان ﴿:ثُ َّم ِإ َلى َر ِّب ِه ْم
َمرْ ِج ُعهُم ﴾ (األنعام)108 :
وبما أن التكليف يقتضي المجازاة ،فإن هذه الحيوانات ستجازى على أعمالها..
وقد ذكر العلماء هذا ،ولكنهم أطبقوا ـ لألسف ـ على اعتبار جزاء ه4ذه الحيوان4ات ه4و ص4يرورتها
ترابا.
وقد استدلوا لذلك بأدلة ال تنهض لتقرير مثل هذا األمر الخطير.
ومما استدلوا به من ذلك ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين لقوله تعالىِ ﴿:إنَّا َأ ْن َذرْ نَا ُك ْم َعَ 4ذاباً
ت تُ َراباً﴾ (النبأ )40 :فاآلثار الواردة في ذلك عن ت َيدَاهُ َو َيقُولُ ْال َكا ِفرُ َيا َل ْي َت ِني ُك ْن ُ
ظرُ ْال َمرْ ُء َما َق َّد َم ْ
َق ِريباً َيوْ َم َي ْن ُ
أبي هُ َريرة ،وعبد هللا بن عمرو ،وغيرهما قد يكون مصدرها اإلسرائيليات التي كانت مشتهرة ..وكانت ـ
لألسف ـ مرجعا للبعض في تفسير القرآن الكريم.
مع أن تفسير اآلية واضح ال يحتاج إلى مثل هذا ..فالكافر ـ عندما بعابن جرائمه وما ي44ترتب عليه44ا
)(1رواه أحمد.
)(2رواه أحمد.
29
من جزاء ـ يود لو أنه كان ترابا ..أو يود ل4و أن4ه بقي تراب4ا ،ولم يص4ر إنس4انا ..وهي في ذل4ك مث4ل قول4ه
ت َنسْياً َم ْن ِس ّياً﴾ (مريم)23:ت َقب َْل َه َذا َو ُك ْن ُ تعالىَ ﴿:فأَ َجا َءهَا ْال َمخَ اضُ ِإ َلى ِج ْذ ِ
ع النَّ ْخ َل ِة َقا َل ْ
ت َيا َل ْي َت ِني ِم ُّ
ومما استدلوا به من الحديث ما يسمى بح4ديث الص4ور الطويل( ،)1وه4و ح4ديث ممل4وء ب4الغرائب،
وهو أشبه بأحاديث القصاص منه بأحاديث النبي ،وقد قال فيه ابن كثير (:هذا ح44ديث مش44هور ،وه44و
غريب جدا ،ولبعضه شواهد في األحاديث المتفرقة ،وفي بعض ألفاظه نكارة .تفرد به إسماعيل بن راف44ع
قاص أهل المدينة ،وقد اختل4ف في4ه ،فمنهم من وثق4ه ،ومنهم من ض4عفه ،ونص على نك4ارة حديث4ه غ4ير
واحد من األئمة ،كأحمد بن حنبل ،وأبي حاتم الرازي ،وعمرو بن علي ال َفالس ،ومنهم من ق4ال في4ه :ه4و
متروك .وقال ابن عدي :أحاديثه كلها فيها نظر إال أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء.
وقد اختلف عليه في إسناد هذا الح4ديث على وج4وه كث4يرة ،ق4د أفردته4ا في ج4زء على ح4دة ،وأم4ا
سياقه ،فغريب جدًا ،ويقال :إنه جمعه من أحاديث كثيرة ،وجعله س44ياقا واح44دا ،ف44أنكر علي44ه بس44بب ذل44ك.
وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول :إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمع فيه ك44ل الش44واهد
لبعض مفردات هذا الحديث ،فاهلل أعلم)()2
وبناء على هذا نرى أن الجزاء المعد لهذه الكائنات ـ كما ذكرنا تفاصيله في رسالة (أسرار األقدار)
ـ يتناسب مع الرحمة اإللهية التي وسعت كل شيء ،والرحمة تقتضي أن يعامل كل شيء بحس44ب حاجت44ه
وهواه ..وبما أنا ال ندري نوع الحاجات التي تمتلئ بها نفوس هذه الكائن4ات ،ف4إن األدب يقتض4ي التوق4ف
في المسألة إال أن يرد الدليل المعصوم ،وحينها يسلم له م44ع اعتق4اد انس4جامه م4ع م44ا ورد في النص44وص
المحكمة من رحمة هللا.
وقد نقلت لنا النصوص ما يشير إلى بعض التكاليف التي كلفت بها ه44ذه الكائن44ات ،والطاق44ات ال44تي
منحت لها ألجل ذلك ،ومنها قوله (:بينما رجل يسوق بق4رة ل4ه ،ق4د حم4ل عليه4ا ،التفتت إلي4ه البق4رة،
فقالت (:إني لم أخلق لهذا ،ولكني إنما خلقت للحرث)()3
وهذا الحديث ال يعني فقط جانبه اإلعجازي ،ولعله لم يقصده بادئ ال44رأي ،وإنم44ا في44ه اإلش44ارة
إلى أن لكل مخلوق الحدود الضابطة لوظيفته وتس4خيره ،وأن ه4ذا الحي4وان ال4ذي نتص4وره أعجم ل4ه من
الوعي ما يدرك به حقيقته ووظيفته.
ولعل الثور الهائج الذي يمتطيه مدعي الفروسية ،والن4اس من حول4ه يض4حكون ويص4فقون يص4يح
بملء فيه بما صاحت هذه البقرة ،ولكن صياحه ال تسمعه إال آذان الروح.
وقد أخبر عن بعض طاقات هذه الحيوانات ووعيها ،ومنها أنها ترى ما ال يراه اإلنسان ،فترى
المالئكة والشياطين ،وتنفعل لمرآهما ،ق4ال (:إذا س4معتم ص4ياح الديك4ة فاس4ألوا هللا من فض4له ،فإنه4ا
رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار ،فتعوذوا باهلل من الشيطان ،فإنه رأى شيطانا)()4
وقد يتصور البعض أن ما ذكره عن الحمار من قدرته على رؤية الش44يطان ذم ل44ه وعيب في44ه،
وهو فهم غير صحيح.
)(1األحاديث الطوال للطبراني برقم ( )36وقد خولف فيه أحمد بن الحس44ن األيلي ،ف44رواه أب44و الش44يخ األص44بهاني في العظم44ة ب44رقم ( )387من طري44ق
إسحاق بن راهوية ،والبيهقي 4في البعث والنشور برقم ( )669من طريق أبي قالبة الرقاشي كالهما إسحاق -وأبو قالبة -من طريق أبي عاصم الض44حاك ،عن
إسماعيل بن رافع ،عن محمد بن أبي زياد ،عن محمد بن كعب القرظي ،عن رجل من األنصار ،عن أبي هري44رة .ب44ه ،وروى من طري44ق أخ44رى م44دارها على
إسماعيل بن رافع المدني ،وقد ضعفه األئمة وتركه الدار قطني ،وقال ابن عدي( :أحاديثه كلها مما فيه نظر)انظر :ابن كثير.3/287 :
)(2رواه البخاري ومسلم.
)(3رواه مسلم.
)(4رواه البخاري ومسلم.
30
بل إن رسول هللا أخبر عن طاقة من طاقات الحمار التي ننتفع بها ،وهي قدرته على رؤية عالم
الشر ،ورؤية الشر ليست شرا ،بل إن العلم بالشر هو الواقي لإلنسان من الوقوع فيه.
والحمار بهذه الطاقة ،وما ينبه به داعية من دعاة ذكر هللا ،وقد قال (:ال ينهق الحمار حتى يرى
شيطانا أو يتمثل له شيطان ،فإذا كان ذلك فاذكروا هللا وصلوا علي)()1
ولعل ذلك الصوت الم4زعج للحم4ار س4ببه ه4ذه الرؤي4ة ،وليك4ون تنبيه4ا للنف4وس ح4تى ال تس4تريح
لصوته ـ في حال كونه جميال ـ عن االستعاذة والصالة.
والحمار بذلك يمثل جنديا من جنود هللا التي يتعرف الم44ؤمن من خالله44ا على أعدائ44ه ،أو ه44و عين
من العيون التي يتبصر بها المؤمن بعض عوالم هللا.
وهو في كال الدورين يشبه الديك ،فالديك هو عيننا على عالم المالئك4ة ،كم4ا أن الحم4ار عينن4ا على
عالم الشياطين.
هذا بعض ما ورد في النصوص ،وقد ذكر أبو ذر اهتمام النبي بالحديث عن هذه العوالم ،فقال:
( ولقد تركنا رسول هّللا ،وما يقلب طائر جناحيه في السماء إال ذكر لنا منه علماً)()2
،ففي ح44ديث الصالة يستلزم طول القيام ،كالركوع 4مثال ال يكون أطول من القيام ،كم44ا ع44رف باالس44تقراء 4من ص44نيعه قال ابن حجر (:طول )(2
الكسوف :فركع نحوا من قيامه) فتح الباري.3/19:
)(1اإلحياء.
33
الذي جعلها أهال ألن تخاطب وتكلف بالخروج من العدم إلى الوجود(.)1
وكل ذلك يمكن أن يكون صحيحا ،ولكن األصح هو التسليم هلل في قوله ،واعتبار ما قاله حقيقة ق4د
ال تستوعب عقولنا صورتها ..وليس للعقل المحدود أن يتجرأ على تصور الالمحدود.
وهذا التفسير لطريقة وجود الكون وصدوره عن خالقه يقي المؤمن من التص44ورات المختلف44ة ال44تي
حاول البشر بعقولهم الضعيفة أن يصوروا بها هذا الصدور ،ثم يؤسسوا عالقة الكون بربه على أساسه.
يقول سيد قطب موضحا التصور اإلسالمي ح4ول ه4ذه المس4ألة الخط4يرة (:لق4د ص4در الك4ون عن
خالقه ،عن طريق توجه اإلرادة المطلقة القادرة :كن ،فيكون ..فتوجه اإلرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده
بوجود هذا الكائن ،على الصورة المقدرة له ،بدون وسيط من قوة أو مادة ..أما كي44ف تتص44ل ه44ذه اإلرادة
التي ال نعرف كنهها ،بذلك الكائن المراد صدوره عنها ،فذلك هو السر الذي لم يكش44ف لإلدراك البش44ري
عنه)()2
أما سبب عدم هذا الكشف ،فراجع إلى أن طاقات البشر من المحدودية بحيث ال تصل إلى مثل ه44ذا
اإلدراك.
فكيف تدرك الطاقات البش44رية تفس44ير الص44لة بين األم44ر اإللهي والكينون44ة ،وهي ال ت44درك أس44رار
الصالت الموجودة في العوالم التي تعمرها ،والتي تدعي أنها تفهمها وتبالغ في فهمها؟
وهل يمكن أن نشرح لصبي صغير نظرية النسبية ـ مثال ـ أو أن نجيبه على األقل على التس44اؤالت
الكثيرة التي يبعثها فضوله؟
أما السبب في محدودية الطاقة البشرية فهو بكل بساطة ـ كما يق4ول س4يد ـ أن ذل4ك ( ال يلزمه4ا في
وظيفتها ال4تي خلقت له4ا وهي خالف4ة األرض وعمارته4ا ..وبق4در م4ا وهب هللا لإلنس4ان من الق4درة على
كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته ،وسخر له االنتفاع بها ،بق44در م44ا زوى عن44ه األس44رار األخ44رى
التي ال عالقة لها بخالفته الكبرى)()3
أما الفلسفات التي هي عصارة الفكر البشري المعتمد على نفسه ،والمغتر بقوته ،فقد ض44ربت ( في
تيه ال منارة فيه ،وهي تحاول كشف هذه األسرار ؛ وتفترض فروضا تنبع من اإلدراك البش44ري ال44ذي لم
يهيأ لهذا المجال ،ولم يزود أصال بأدوات المعرفة فيه واالرتياد ،فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرف44ع
مستوياتها ،مضحكة إلى حد يحير اإلنسان:كيف يصدر هذا عن فيلسوف! وما ذلك إال ألن أص4حاب ه4ذه
الفلسفات حاولوا أن يخرجوا باإلدراك البشري عن طبيعة خلقته ،وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له! فلم
ينتهوا إلى شيء يطم4أن إلي4ه ؛ ب4ل لم يص4لوا إلى ش4يء يمكن أن يحترم4ه من ي4رى التص4ور اإلس4المي
ويعيش في ظله)()4
وقد عصم هللا المسلمين المهتدين بنور القرآن الكريم من الوقوع في هذه المتاهات ،أو ( أن يحاولوا
هذه المحاول4ة الفاش4لة ،الخاطئ4ة المنهج ابت4داء ،فلم4ا أن أراد بعض متفلس4فتهم مت4أثرين بأص4داء الفلس4فة
اإلغريقية -على وجه خاص -أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى ،باءوا بالتعقيد والتخليط ،كما ب44اء أس44اتذتهم
)(1وهذا كما هو معلوم قول ابن عربي ،وقد ذكر مثله بعض المعتزلة ،وليس في هذا القول ما يمكن أن يبدع أو يكفر به أحد من الناس ،فالصفر ..وإن
لم يكن له وجود عيني إال أن له وجودا ذهنيا اعتباريا ،باإلضافة إلى كل ما نحلم به من أشياء ليست موجودة ،فلوال ثبوتها مع عدمها ما أمكننا توهمها4.
هذا عن القول أما ما قد يستلزمه هذا القول من مفاهيم خاطئة ..فذلك شيء آخر ،والتوجه بالتخطئة حينئذ يكون لالستلزام ال للقول.
)(2في ظالل القرآن.1/106 :
)(3في ظالل القرآن.1/106 :
)(4في ظالل القرآن.1/106 :
34
اإلغريق ،ودسوا في التفكير اإلسالمي ما ليس من طبيعته ،وفي التصور اإلسالمي ما ليس من حقيقت44ه..
وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء مجاله ،وفوق طبيعة خلقته وتكوينه)()1
فالقرآن الكريم إذن يفسر سر والدة الكون الذي تاه فيه الفالسفة وغيرهم ،ثم خبط44وا بعق44ولهم خب44ط
عشواء ،بهذا التفسير البسيط المعقول الذي تؤيده كل األدلة ،وهو أن كل شيء قانت هلل ..وال يمكن44ه إال أن
يقنت هلل.
***
وقنوت األشياء هلل ،وخضوعها ألمره (كن) مستمر في كل األحوال ،فالكون الذي أطاع هللا ابت44داء،
فخرج إلى الوجود بأمر (كن) ال زال يجيب هللا ..وسيظل يجيبه.
َاص َي ِت َها)(هود56 : آخذ ِبن ٌِ وإلى هذه االستمرارية في القنوت اإلشارة بقوله تعالىَ ﴿:ما ِم ْن دَابَّ ٍة ِإاَّل هُ َو ِ
وت ُكلِّ َش ْي ٍء َو ِإ َل ْي ِه تُرْ َجعُونَ ﴾ (يّـس)83: ) ،وقوله تعالىَ ﴿:ف ُسب َْحانَ الَّ ِذي ِب َي ِد ِه َم َل ُك ُ
ال َل َها خَان َف َق َ
اء َو ِه َي ُد ٌ وقد أقرت الكائنات بهذه الطاعة هلل تعالى ،كما قال تعالى ﴿:ثُ َّم ا ْست ََوى ِإ َلى ال َّس َم ِ
طا ِئ ِعينَ ﴾ (فصلت)11 : طوْ عاً َأوْ َكرْ هاً َقا َلتَا َأ َت ْينَا َ ض ا ْئ ِت َيا َ َو ِلأْل َرْ ِ
وهذا هو الجواب اإللهي عن كل التساؤالت المحيرة التي يتيه فيها الغافل ،وينكرها الملحد.
فعندما تعجبت مريم ـ عليها السالم ـ أن تلد من غير زواج ،أخبرها هللا تعالى بأن أمره وح44ده ك44اف
ض4ى ق َم44ا َي َش4ا ُء ِإ َذا َق َال َك َذ ِل ِك هَّللا ُ َي ْخلُُ 4 ت َربِّ َأنَّى َي ُك ُ
ون ِلي َو َل ٌد َو َل ْم َي ْم َس ْس ِني َب َشرٌ َق َ في ذلك ،قال تعالىَ ﴿:قا َل ْ
ون﴾ (آل عمران)47: َأ ْمراً َفإِنَّ َما َيقُولُ َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ
وعندما تعجب النصارى من صدور خارقة ميالد المسيح من غير حصول ما تعارف علي44ه الن44اس
4لمن أسباب ،ودعاهم ذلك إلى الخطأ في تصور طبيعة المسيح تعالى ،رد عليهم هللا تعالى بقول44هِ ﴿:إ َّن َم َثَ 4
ون﴾ (آل عمران)59 : ال َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ ب ثُ َّم َق َِعي َسى ِع ْن َد هَّللا ِ َك َم َث ِل آ َد َم خَ َل َقهُ ِم ْن تُ َرا ٍ
4و وعندما تعجب المشركون من أمر البعث أخبرهم هللا تع4الى أن ذل4ك ليس عجب4ا ،فاهلل تع4الى ﴿ هُ َ
ور َع44ا ِل ُم ون َقوْ لُهُ ْال َح ُّق َو َلهُ ْال ُم ْل ُك َي44وْ َم يُ ْن َف ُخ ِفي ُّ
الص ِ 4 ض ِب ْال َح ِّق َو َيوْ َم َيقُولُ ُك ْن َف َي ُك ُ ت َواأْل َرْ َ اوا ِ الَّ ِذي خَ َل َق ال َّس َم َ
ب َوال َّش َها َد ِة َوهُ َو ْال َح ِكي ُم ْالخَ ِبيرُ﴾ (األنعام)73 : ْال َغ ْي ِ
وهذا القنوت الذي يتصف ب4ه الك4ون ،فيجعل4ه في منتهى الخض4وع هلل ال يس4تثنى من4ه ش4يء ح4تى
الكفار والملحدين ،فإنهم يقنتون هلل من حيث ال يعلمون.
وقد أخبر القرآن الكريم أن من قنوت أجسادهم ما تشهد به عليهم يوم القيامة ،كما ق44ال تع4الىَ ﴿:ي44وْ َم
َت ْش َه ُد َع َل ْي ِه ْم َأ ْل ِس َنتُه ُْم َو َأ ْي ِدي ِه ْم َو َأرْ جُ لُه ُْم ِب َما َكانُوا َيعْ َملُونَ ﴾ (النور)24 :
وقد صور ذلك في مجلس من مجالسه مع الص4حابة نقل4ه لن4ا أنس بقول4ه :كن4ا عن4د الن4بي
فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال :أتدرون م َّم أضحك؟ قلنا :هّللا ورسوله أعلم ،قال :من مجادلة العبد ربه،
علي ش4اهداً إال من نفس4ي ،فيق4ول :كفى يقول :يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول :بلى ،فيق4ول :ال أج4يز َّ
بنفسك اليوم عليك شهيداً ،وبالكرام عليك شهوداً ،فيختم على فيه ويقال ألركانه :انطقي ،فتنطق بعمل44ه ،ثم
لكن وسحقاً ،فعنكن كنت أناضل)()2 يخلى بينه وبين الكالم ،فيقول :بعداً َّ
وقد أحصى ابن القيم لقنوت الكفار غير ما ذكرنا من قنوت جوارحهم خمسة أن44واع كله44ا مم44ا ورد
به التنزيل ،وهي (:قنوتهم لخلقه وحكمه وأمره قدرا واعترافهم بربوبيته واضطراهم إلى مسألته والرغبة
في ظالل القرآن.1/106 : )(1
أحمد ،3/94 :أبو يعلى ،7/55 :الحاكم.4/644 : )(2
35
إليه ودخولهم فيما يأمر به وإن كانوا كارهين وجزاؤهم على أعماله ودخولهم فيما يأمر به م44ع الكراه44ة)
()1
فالقنوت شامل للجميع ،والف4رق الوحي4د في ذل4ك ه4و أن الم4ؤمن يقنت ل4ه طوع4ا وغ4يره يقنت ل4ه
ال﴾ صِ 4 طوْ ع4اً َو َكرْ ه4اً َو ِظاللُه ُْم ِب ْال ُغُ 4د ِّو َواآْل َ ض َت َواأْل َرْ ِ
اوا ِ
السَ 4م َكرها ،كما قال تع4الىَ ﴿:وهَّلِل ِ َي ْس4جُ ُد َم ْن ِفي َّ
(الرعد)15 :
ين هَّللا ِ َي ْب ُغ44ونَ َو َل4هُ ومثل القنوت اإلسالم ،فإنه دين الكون جميعا طوعا أو كرها ،قال تعالىَ ﴿:أ َف َغي َْر ِد ِ
طوْ عاً َو َكرْ هاً َو ِإ َل ْي ِه يُرْ َجعُونَ ﴾ (آل عمران)83 :
ض َت َواأْل َرْ ِ اوا َِأ ْس َل َم َم ْن ِفي ال َّس َم َ
فالكون جميعا يستسلم لرب واحد ،يتلقى منه قوانينه وتوجيهاته ،فل44ذلك حف44ظ من الفس44اد ،ولم ي44دب
إليه ما دب للبشر العاقل الذي اختار الكفر من فس4اد ،كم4ا ق4ال تع4الىَ ﴿:ل4وْ َك4انَ ِفي ِه َم4ا آ ِل َه4ةٌ ِإاَّل هَّللا ُ َل َف َسَ 4دتَا
صفُونَ ﴾ (االنبياء)22: ش َع َّما َي ِ َف ُسب َْحانَ هَّللا ِ َربِّ ْال َعرْ ِ
2ـ السجود:
ومن عبادات الكون التي نص عليها القرآن الكريم (السجود) ..وهي عبودية تجع4ل من الك4ون كل4ه
مسجدا يقيم شعائره ،كل بطريقته الخاصة ،بحسب قابليته ،ومدى نيله لتجليات األسماء الحسنى.
الشْ 4مسُ َو ْال َق َم44رُ َوال ُّنجُ44و ُم ض َو َّ ت َو َم ْن ِفي اأْل َرْ ِ اوا ِ السَ 4م َ 4ر َأ َّن هَّللا َ َي ْس4جُ ُد َل4هُ َم ْن ِفي َّ ق4ال تع44الىَ ﴿:أ َل ْم َتَ 4
ق َع َل ْي ِه ْال َع َذابُ َو َم ْن يُ ِه ِن هَّللا ُ َف َما َلهُ ِم ْن ُم ْك ِر ٍم ِإ َّن هَّللا َ َي ْف َعلُ َو ْال ِج َبالُ َوال َّش َجرُ َوال َّد ُوابُّ َو َك ِثيرٌ ِمنَ النَّ ِ
اس َو َك ِثيرٌ َح َّ
َما َي َشا ُء﴾ (الحج)18:
والسجود كما يعبر القرآن الكريم سجود شامل يشمل الشخوص والظالل ،أو الجواهر واألعراض،
ال﴾ (الرعد15 : ص ِ طوْ عاً َو َكرْ هاً َو ِظاللُه ُْم ِب ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ ض َ ت َواأْل َرْ ِ كما قال تعالىَ ﴿:وهَّلِل ِ َيسْجُ ُد َم ْن ِفي ال َّس َم َ
اوا ِ
)
وقد صور القرآن الكريم شكال من أشكال السجود بقوله تعالىَ ﴿:أ َو َل ْم َي َروْ ا ِإ َلى َما خَ َلَ 4ق هَّللا ُ ِم ْن َشْ 4ي ٍء
َاخرُونَ ﴾ (النحل)48: ين َوال َّش َما ِئ ِل سُجَّداً هَّلِل ِ َوهُ ْم د ِ َي َت َفيَّأُ ِظاللُهُ ع َِن ْال َي ِم ِ
وقد خ4اض بعض الن4اس بعق4ولهم المح4دودة في ه4ذا المج4ال ،واس4تبعدوا أن تس4جد الظالل ،وهي
أعراض تفتقر إلى الجوهر ،وهو فهم مح4دود منش4ؤه تعميم المع4ارف البش4رية على الك4ون جميع4ا ،وم4ا
دروا أن للعرض عقله وكيانه وتميزه كما للجوهر عقله وكيانه وتميزه.
وقد أخبر رسول هللا أن للموت الذي هو عرض من األعراض صورة تظهر ي4وم القيام4ة على
هيئة كبش يذبح بين الجنة والنار(.)2
ولذلك فإن هذه األمور تؤخذ تعقال وتذوقا ،ال تخيال وتصورا ،فحس اإلنسان ال يدرك إال ما هو في
دائرته المحدودة ،وهي من المحدودية بحيث ال يصح االعتماد عليها في تصوير ما غاب عن الحس.
ومن ذلك ما عبر به عن ظاهرة الكسوف التي نكتفي بتفسيرنا المادي لها ،فإن44ه يخ44بر ب44أن
لها تفسيرا روحيا نص عليه بقوله (:إن الشمس والقمر خلقان من خلق هللا وإنهم44ا ال ينكس44فان لم44وت
أحد وال لحياته ولكن هللا عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له)()3
اعتبر السيوطي هذه الفاصلة من الفواصل التي ال يظهر فيها ارتباطها 4بموض44وع اآلي44ة ب44ادي ال44رأي ،ق44ال (:الختم ب44الحلم والمغف44رة عقب تس44ابيح )(1
األشياء غير ظاهر في بادى الرأي ،وذكر في حكمته أنه لما كانت األشياء كلها تسبح وال عصيان في حقها وأنتم تعصون ختم به مراعاة للمقدر في اآلي44ة وه44و
العصيان ،كما جاء في الحديث (:لوال بهائم رتع وشيوخ 4ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا ولرص رصا) ،وقيل التقدير حليما عن تفريط 4المسبحين
غفورا لذنوبهم 4،وقيل حليما عن المخاطبين الذين ال يفقهون التسبيح بأهمالهم النظر في اآليات والعبر ليعرفوا حقه بالتأمل فيما أودع في مخلوقات44ه مم44ا ي44وجب
تنزيهه) 4اإلتقان ،2/276 :وانظر :البرهان.1/92 :
)(2نهج البالغة ،الكلمات القصار ،رقم .26
42
بأن لوحة فنية جميلة للغاية ت44دل على ذوق َومه44ارة رس44امها ،ال ِمن جانب آخر هل يمكن التصديق َّ
تمدحُه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين أش44عار أس44اطين الش44عر واالدب وتمجي44دها لق44رائحهم
واذواقهم الرفيعة؟ ..أو يمكن انكار أن بنا ًء عظيماً أو مصنعاً كبيراً أو عقوال الكتروني4ة معق4دة أو أمثاله4ا،
أ ّنها تمدح صانعها َو ُمبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟
4أن ع44الم الوج44ود العجيب ذا األس44رار المتع4دِّدة والعظم44ة الكب44يرة، ل44ذا يجب التص44ديق والتس44ليم بَّ 4
ال فه4ل (التس4بيح) س4وى التنزي4ه عن عزوج4لّ ،و ِإ َّ
والجزئيات العديدة ال ُمحيِّرة ،يقوم بتسبيح َوحمد الخالق َّ
ليس فيه أي نقص أو عيب: بأن خالقهُ َ جميع العيوب؟ فنظام عالم الوجود ناطق َّ
كل4ه يتح4دث عن الص4فات ث ّم هل (الحمد) س4وى بي4ان الص4فات الكمالي4ة؟ فنظ4ام الخل4ق والوج4ود ّ
الكمالية للخالق وعلمه َوقدرته الالمتناهية َوحكمته الوسيعة.
وأن تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار َوخفايا هَذا العالم الواسع ،توض44ح َه44ذا الحم44د خاصّة َّ
والتسبيح العام بصورة أجلى .فاليوم مثال ّألف علماء النبات المؤلفات العديدة عن أوراق األشجارَ ،وخاليا
األم4ورَه ِذ ِه األوراقَ ،والطبقات السبع الداخلة في تكوينها ،والجهاز التنفسي لهاَ ،وطريقة التغذي4ة َوس4ائر ُ
األخرى التي تتصل َبهذا العالم. ُ
فإن كل ورقة توحد هللا ليال َونهاراًَ ،وينتشر ص4وت تس4بيحها في البس4اتين والغاب4اتَ ،وف4وق لذلكَّ ،
أن الجهالء ال يفقهون ذلكَ ،ويعتبرونها جامدة ال تنطق. الجبال َوفي الوديانِ ،إ َّ
ال َّ
ِإ َّن هَذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه تمام4اًَ ،وليس44ت هُن44اك حاج44ة
ألنَّه ال يوجد دليل قاطع على ذل4ك ،واآلي4ات الس4ابقة ألن نعتقد بوجود ِإدراك َوشعور لكل ذرات الوجودَ ،
يحتمل أن يكون مقصودها التسبيح والحمد بلسان الحال)
وقد رد على االعتراض القائلِ (:إذا كان الغرض ِمن الحمد والتس44بيح ه44و تعب44ير نظ44ام الك44ون عن
عزوجلّ ،وتبيان الصفات السلبية والثبوتية ،فلماذا يقول الق44رآن( :ال تفقه44ون نزاهة َوعظمة َوقدرة الخالق َّ
فإن العلماء يفقهون ويعلمون؟) تسبيحهم) أل ّنه ِإذا كانَ البعض ال يفقهَّ ،
وقد أجاب على ذلك بجوابين:
األولِ :إ َّن اآلية توجَّه خطابها ِإلى األكثري44ة الجاهل44ة ِمن عم44وم الن44اس ،خصوص4اً ِإلى المش44ركين، ّ
ً َّ
أن العلماء المؤمنين ِقلة َوهم مستثنون ِمن هَذا التعميمُ ،وفقا لقاعدة ما ِمن عام ِإ َّ
ال َوفيه استثناء. ُ
حيث َّ
أن ما نعلمهُ ِمن أسرار َوخفاي44ا الع44الم في مقاب44ل م44ا ال نعل ُم44ه ك44القطرة في قب4ال البح44ر، ّ
الثاني :هو َّ
َوكالذرة في قبال الجبل العظيم .و ِإذا فكرنا بشكل صحيح فال نس44تطيع أن نسّ 4مي ال44ذي نعرف44ه بأنَّه (علم).
ِإ ّننا في الواقع ال نستطيع أن نسمع تسبيح َوحم44د َهِ 4ذ ِه الموج44ودات الكوني44ة مهم44ا أوتين44ا ِمن العلمَّ ،
ألن م44ا
نسمعهُ هو كلمة واحدة فقط ِمن هَذا الكتاب العظيم!!
َوعَلى هذا األساس تستطيع اآلية أن تخاطب العالم بأجمعه َوتقول لهم :إ ّنكم ال تفقهون تسبيح َو َحم44د
ما الشيء الذي تفقهوه فهو ال يساوي شيئاً بالنسبة ِإلى ما تجهلون)()1 الموجودات بلسان حالها ،أ ّ
وكل ما ذكره صحيح ،ولكنه يدخل في ن4وع من أن4واع التس4بيح ،أو ي4دخل ب4األحرى في ص4فة من
صفات الكون ،سميناها (المقروئية) أو الداللة ..وهو تسبيح سلبي ،ال إيجابي ألن الذي يقوم به من يش44اهد
الموجودات ال عين الموجودات ،وهللا تعالى في القرآن أثبت التسبيح ألعيان الموجودات.
)(1من ذلك ما روي عن بعض أصحاب اإلمام الصادق قال :سألت اإلمام عن تفسير قوله تعالى :وإن من شئ إال يس4بح بحم4ده فق4ال( :ك4ل ش4ئ يس4بح
بحمده وإنا لنرى أن ينقض الجدار وهو تسبيحها)4
وعن اإلمام محمد الباقر قال :نهى رسول هللا أن توسم البهائم في وجوهها ،وأن تضرب وجوهها ألنها تسبح بحمد ربها.
وعن اإلمام الصادق :ما من طير يصاد في بر وال بحر ،وال شئ يصاد من الوحش إال بتضييعه التسبيح.
وروي أن اإلمام الباقر ،فعندما سمع يوما صوت عصفور ،فقال ألبي حمزة الثمالي -وكان من خاصة أصحابه ( :-يسبحن ربهن عز وجل ويسألن ق44وت
يومهن)4
وفي حديث آخر عن اإلمام الصادق نقرأ قوله ( عليه السالم) :للدابة على صاحبها ستة حقوق :ال يحمله44ا ف44وق طاقته44ا ،وال يتخ44ذ ظهره44ا مجلس44ا يتح44دث
عليها ،ويبدأ بعلفها إذا نزل ،وال يسمها 4في وجهها ،وال يضربها فإنها تسبح ،ويعرض عليها الماء إذا مر بها) انظر :نور الثقلين.3/168 :
مع كون هذا قول أكثر المفسرين إال أن المحققين على خالف44ه ،ق44ال الن44ووي (:وذهب المحقق44ون من المفس44رين وغ44يرهم إلى أن44ه على عموم44ه ،ثم )(2
اختلف هؤالء هل يسبح حقيقة أم فيه داللة على الصانع فيكون مسبحا ً منزها ً بصورة حاله ،والمحققون على أنه يسبح حقيقة) النووي على مسلم.3/201:
)(3البخاري ،1/88 :مسلم.1/240 :
ولذلك نرى أن يكتفى من فهم الحديث الذي استدلوا به بما ذكر منه من الناحية العملية ،فال جدوى من الناحية النظرية الرتباطه4ا 4ب44أمر غي44بي ليس )(4
لدينا وسائل التعرف على كنهه.
والناحية العملية في هذا الحديث هي ما ذكره العلماء من استحباب 4قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث ،ألنه إذا كان يرجى التخفيف بتسبيح الجري44د ،فتالوة
القرآن أولى ،وقد ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن الحصيب األسلمي الصحابي أوصى أن يجعل في قبره جريدتان ،ففيه أنه تبرك بفعل مثل فعل النبي
.انظر :النووي على مسلم.3/201 :
44
()1 وتسبيح الخلق ،وبها يرزق الخلق)
وورد ما يدل على أن ما يحصل لها من المص4ائب ه4و بس4بب تض4ييعها التس4بيح ،وفي ذل4ك أك4بر
الداللة على وعيها التام ـ مع كونها غير مكلفة ـ فقد ورد في الح44ديث قول44ه (:م44ا ص44يد من ص44يد وال
وش4ج من وش4ج إال بتض4ييعه التس4بيح)( ،)2وق4ال (:م4ا اص4طيد ط4ير في ب4ر وال بح4ر إال بتض4ييعه
التسبيح)()3
وفي حديث آخر قال (:ما صيد من طير في السماء وال سمك في الماء ح44تى ي44دع م44ا اف44ترض
هللا عليه من التسبيح)( ،)4وهذا الحديث إن صح يدل على الوعي التام للكائنات ،فالفرائض ال تتوجه لغ44ير
العاقل الواعي.
وقد ورد في حديث آخر بعض التفاصيل في ذلك ،قال (:آج44ال البه44ائم كله44ا وخش44اش األرض
والنمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كله4ا وغ4ير ذل4ك آجاله4ا في التس4بيح ،ف4إذا انقض4ى
تسبيحها قبض هللا أرواحها ،وليس إلى ملك الموت منها شيء)()5
***
واستشعار المؤمن لتسبيح الكائنات مع غفلته يشعره الحياء ،ويدفع44ه إلى األدب معه44ا ،ول44ذا أمرن44ا
بالتأدب معها احتراما وتعظيما لتسبيحها ،وقد ورد في الحديث قوله (:ال تضربوا وجوه الدواب ،ف44إن
كل شيء يسبح بحمده)()6
ونهى عن اتخاذ البهائم كراسي ،فقد م4ر على ق4وم وهم وق4وف على دواب لهم ورواح4ل فق4ال
لهم (:اركبوها س4المة ،ودعوه4ا س4المة ،وال تتخ4ذوها كراس4ي ألح4اديثكم في الط4رق واألس4واق ،ف4رب
مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا هلل منه)()7
وقد قال بعضهم مصورا هذا (:ما أحد سب شيئا من ال4دنيا داب4ة وال غيره4ا ،ويق4ول :خ4زاك هللا أو
لعنك هللا إال قالت :بل أخزى هللا تعالى أعصانا هلل تعالى)
اسُ 4م هَّللا ِ َع َل ْيِ 4ه َو ِإنَّهُ ْ ْ
ولهذا نهي عن الذبح من غير ذكر السم هللا ،قال تع4الىَ ﴿:وال َت44أ ُكلُوا ِم َّما َل ْم يُ44ذ َك ِر ْ
طعْ تُ ُموهُ ْم ِإنَّ ُك ْم َل ُم ْش ِر ُكونَ ﴾ (األنعام)121: اطينَ َليُوحُونَ ِإ َلى َأوْ ِل َيا ِئ ِه ْم ِلي َُجا ِدلُو ُك ْم َو ِإ ْن َأ َ
ق َو ِإ َّن ال َّش َي ِ
َل ِف ْس ٌ
وكأننا بذكر اسم هللا عند ذبح الحيوان نعتذر له ،أو نخبره بأننا إنما نفعل ذلك إلذن هللا لن4ا ،وإال فه4و
أكرم من أن نسلبه حياته لإلبقاء على حياتنا.
ولعل الحيوان ،وهو يسمع ذكر هللا عند ذبحه يشعر بأنس عظيم ،بل يش4عر بم44ا يش4عر ب4ه الش44هيد،
وهو يقرب روحه هلل.
ومن هذا الباب أيضا ما ورد في السنة من النهي عن قتل بعض الحيوانات ،وتعليل ذل44ك بتس44بيحها
هلل ،فقد نهى عن قتل الضفدع ،وعلل ذلك بقوله (:نعيقها تسبيح)()8
ولعل تخصيص الضفدع وبعض الحيوانات بكونها مسبحة مع ورود النصوص الكثيرة الدال4ة على
رواه أحمد والنسائي. )(1
رواه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه. )(2
رواه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه. )(3
رواه ابن عساكر. )(4
رواه العقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ والديلمي. )(5
رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه. )(6
رواه أحمد. )(7
رواه النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه. )(8
45
تسبيح كل شيء هو مبالغة الضفدع ونحوها وإكثارها من ذكر هللا.
وقد ورد في الداللة على ذلك بعض اآلثار منها م44ا روي عن أنس ق44ال :ظن داود علي44ه الس44الم أن
أحدا لم يمدح خالقه أفضل مما مدحه ،وأن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانب4ه فق4ال :ي4ا
داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع ،فأنصت داود عليه السالم فإذا الضفدع يمدحه بمدحة لم يمدح44ه به44ا
داود عليه السالم فقال له الملك :كيف تراه يا داود؟ قال :أفهمت ما قالت؟ قال :نعم .قال :ماذا ق44الت؟ ق44ال:
قالت :سبحانك وبحمدك منهتى علملك يا رب .قال داود عليه السالم :وال44ذي جعل44ني نبي44ه ،إني لم أمدح44ه
بهذا(.)1
ومثل هذا ما حدث به شهر قال :كان داود يسمى النواح في كتاب هللا عز وج44ل ،وأن44ه انطل44ق
حتى أتى البحر ،فقال :أيها البحر ،إني هارب .قال :من الطالب الذي ال ينأى طلبه ،ق44ال :ف44اجعلني قط44رة
من مائك ،أو دابة مما فيك ،أو تربة من تربتك ،أو صخرة من صخرك .قال :أيها العبد الهارب الف44ار من
الطالب الذي ال ينأى طلبه ،ارجع من حيث جئت ،فإنه ليس مني شيء إال بارز ،ينظر هللا عز وج44ل إلي44ه
قد أحصاه وعده عدا فلست أستطيع ذلك.
ثم انطلق حتى أتى الجبل ،فقال :أيه4ا الجب4ل ،اجعل4ني حج4را من حجارت4ك أو ترب4ة من تربت4ك أو
صخرة من صخرك أو شيئا مما في جوفك ،فقال :أيها العبد الهارب الفار من الطالب الذي ال ينأى طلبه،
إنه ليس مني شيء إال يراه هللا وينظر إليه وقد أحصاه وعده عدا ،فلست أستطيع ذلك.
ثم انطلق حتى أتى على األرض يعني الرمل فقال :أيها الرمل ،اجعلني تربة من ترب44ك أو ص44خرة
من صخرك أو شيئا مما في جوفك .فأوحى هللا إليه أجبه .فقال :أيها العبد الفار من الط4الب ال4ذي ال ين4أى
طلبه ،ارجع من حيث جئت فاجعل عملك لقسمين :لرغبة أو لرهبة ،فعلى أيهما أخذك ربك لم تبال.
وخرج فأتى البحر في ساعة ،فصلى فيه ،فنادته ضفدعة فقالت :يا داود ،إنك حدثت نفس4ك أن4ك ق4د
سبحت في ساعة ليس يذكر هللا فيها غيرك ،وإني في سبعين ألف ضفدعة كلها قائمة على رجل تسبح هللا
تعالى وتقدسه(.)2
ومثل هذا ما روي عن ابن عباس ق4ال :ص4لى داود ليل4ة ح4تى أص4بح ،فلم4ا أن أص4بح نادت4ه
ضفدعة :يا داود ،كنت أدأب منك قد أغفيت إغفاءة (.)3
***
أما الكيفية التي تسبح بها الكائنات ،وما تقوله في تس4بيحها ،فهي من علم هللا ال4ذي ق4د يطل4ع بعض
خلقه على أسراره:
ومن ذلك ما ذكره ابن عباس من قول4ه (:ال4زرع يس4بح بحم4ده ،وأج4ره لص4احبه ،والث4وب يس4بح.
ويقول الوسخ :إن كنت مؤمنا فاغسلني إذا)()4
وعن أبي صالح قال (:ذكر لنا أن صرير الباب تسبيحه)()5
على معنى رواه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب اإليمان ،وهذا النص ينبغي 4فهمه ـ كما يفهم عتاب هللا تعالى لنبيه )(1
التربية والتأديب ال على أن الضفدع أو غيره أعرف باهلل وأكثر ذكرا له من أنبيائه ،فرتبة النبوة ال تدانيها رتبة.
ومن هذا الباب أيضا ما روى البيهقي في شعب اإليمان ،عن صدقة بن يسار قال :كان داود في محرابه ،فأبصر درة صغيرة ففكر في خلقها وقال :ما
يعبأ هللا بخلق هذه؟ فأنطقها 4هللا فقالت :يا داود أتعجبك نفسك؟ ألنا على قدر ما آتاني هللا ،أذكر هلل وأشكر له منك ،على ما آتاك هللا.
)(2رواه أحمد في الزهد وأبو الشيخ.
)(3رواه أحمد وأبو الشيخ.
)(4رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه.
)(5ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والخطيب.
46
()1 وعن أبي غالب الشيباني ،قال (:صوت البحر تسبيحه ،وأمواجه صالته)
عن أبي جعفر قال (:تدرون ما تقول العصافير قبل طلوع الفجر تسبح ربها وتسأل قوت يومها)
وعن عبد الحميد بن يوسف قال (:تسبيح الضفادع (:سبحان المعبود بك4ل مك4ان ،س4بحان المحم4ود
بكل مكان ،سبحان المذكور بكل لسان)
***
وهذا التسبيح والعبودية التي تمارسها الكائنات بحب وشغف يكشف هللا بعض وجوهها وأس44رارها
لمن شفت سرائرهم ،وتطهرت قلوبهم ،لتكون أنيسا لهم في ذكرهم.
وال غرابة عقلية في هذا ،فإن كل من توجه وجهة فتح له في تلك الوجهة ،ك4المرآة ينعكس فيه4ا م4ا
يقابلها.
فالموجه للتجارة يفتح له فيها بحسب توجه4ه ،والمتوج4ه للعل4وم المادي4ة يفتح ل4ه فيه4ا بحس4ب ج4ده
وانشغاله بها ،والمتوجه لعوالم الروح بالمكابدات والتأمالت ينفتح ل4ه من نواف4ذ ه4ذا الع4والم م4ا ي4رى ب4ه
العجائب.
وال يحق لمن لم يرزق مثل هذا أن ينكر على من رزقه ،وإال كان ظالم4ا ،وله4ذا يجيب الص4الحون
على من ينكر عليهم قائلين (:سر سيرنا ترى ما رأينا)
وق4د س4ئل الغ4زالي أس4ئلة أج4اب عن بعض4ها ،وس4كت عن أخ4رى ،ق4ائال لس4ائله (:اعلم أن بعض
مسائلك التي سألتني عنها ال يستقيم جوابها بالكتابة والقول ،إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي! وإال فعلمها
من المستحيالت؛ ألنها ذوقية ،وكل م4ا يك4ون ذوقي4ا ،ال يس4تقيم وص4فه ب4القول ،كحالوة الحل4و ،وم4رارة
المر ،ال تعرف إال بالذوق)()2
والسر الذي تنفتح به كوة التعرف على تسبيح الكائنات وعبوديته44ا ه44و الطه44ارة ،ف44العين المكتحل44ة
بإثمد الخطيئة ال تستطيع رؤية أنوار اإليمان الساطعة ،والقلب المغلف بأوزار المعاصي ال يبصر حقائق
نفسه ،وال حقائق الكون.
ولهذا يشترط الربانيون الطهارة ـ بمعناها الشامل ـ للتحقق بمثل هذه المنازل ،قال المناوي (:وذل44ك
ألن األرواح ذات طهارة ونزاهة ولها سمع وبصر وبصرها متصل ببصر العين ،ولها سطوع في الج44و
تجول وتحول ،ثم تصعد إلى مقامها الذي منه بدأت فإذا تخلصت من ش4غل النفس أدركت من أم4ر هللا م4ا
يعجز عنه البشر فهماً ،ولوال شغلها رأت العجائب .لكنها تدنست بم4ا تلبس4ت فتوس4خت بم4ا تقمص4ت من
ثياب اللذات وتكدرت بما تشربت من كأس حب الخطيئات)
وهذا التحقق يكون بالسير إلى هللا ،وقد قال الغزالي لتلميذه المحب (:باهلل إن تس44ر ت44ر العج44ائب في
كل منزل)
انطالقا من هذا اتفق الربانيون من هذه األمة على أن في طاقة اإلنسان أن يس44مع تس44بيح الكائن44ات،
بل في طاقته أن يرى سجودها وقنوتها إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع.
وأخطر الموانع هي الغفلة ،فقد قال بعضهم (:لوال ما غمي عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت م44ا
تقاررتم)()3
ومن هذا الباب ما روى من التأثير الدنيوي لإلساءة الحيوان ،فق4د روي أن رجال ذبح عجال ل4ه بين
يدي أمه ،فخبل ،فبينما هو تحت شجرة فيها وكر فيه ف4رخ فوق4ع الف4رخ إلى األرض فرحم4ه ،فأع4اده في
مكانه ،فرد هللا عليه قوته.
وهذا يتفق مع ما ورد عن نهيه أن توله والدة عن ولدها وهو ـ كما ذكر العلماء ـ ع44ام في ب44ني
آدم وغيرهم.
ومن هذا الباب ما رواه الدينوري في (المجالسة) :أن قو ًم4ا ك4انوا في س4فر ،فك4ان فيهم رج4ل يم4رُّ
الطائرُ فيقول :تدرون ما تقول هذه؟ فيقولون :ال ،ق4ال :فأتين4ا على ق4وم فيهم ظعين4ة على جم4ل له4ا وه4و
يرغو ويحنو عنقه إليها ،قال :أتدرون ما يقول هذا البع4ير؟ قلن4ا :ال .ق4ال :فإن4ه يلعن راكبت4ه وي4زعم أنه4ا
رحلته على ِم ْخ َيط فهو مؤثر في سنامه .قال :فانتهينا إليهم فقلنا :يا ه4ؤالء إن ص4احبنا ه4ذا ي4زعم أن ه4ذا
البعير يلعن راكبته ،ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه ،قال :فأناخوا البعير ،فحطوا عنه ،ف4إذا
هو كما قال)
ولهذا كان الصالحون يستشعرون خطر اإلساءة للحيوان من ه4ذا الج4انب ،وق4د روي عن بعض4هم
)(1رواه الطبراني.
)(2رواه البيهقي في سننه ،وأبو يعلى في مسنده.
)(3أخرجه ابن النجار في تاريخه.
52
أنه قال لبعير له عند الموت( :يا أيها البعير ال تخاصمني عند ربك ،فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك)
وعن عبد هللا بن جعفر ق4ال :أردف4ني رس4ول هللا لى خلف4ه ذات ي4وم..ف4دخل حائط4ا لرج4ل من
األنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي ّ
حن وذرفت عيناه ،فأتاه رس44ول هللا فمس44ح ذف44راه فس44كت،
فقال( :من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟) فجاء فتى من األنصار فقال :لي ي4ا رس4ول هللا ،فق4ال( :أفال
إلي أنك تجيعه وتدئبه)()1
تتقي هللا في هذه البهيمة التي ملكك هللا إياها ،فإنه شكى ّ
56
الق َف َج َع ْلتُ ْم ِم ْنهُ َح َرام44اً َو َحال ً زَل هَّللا ُ َل ُك ْم ِم ْن ِر ْز ٍ قال تعالى عن إنزال الكائنات الحسية ﴿:قُلْ َأ َر َأ ْيتُ ْم َما َأ ْن َ
قُلْ آهَّلل ُ َأ ِذنَ َل ُك ْم َأ ْم َع َلى هَّللا ِ َت ْف َترُونَ ﴾ (يونس)59 :
وخص بعض الكائنات الحسية بالذكر بصفة اإلنزال ألهميتها ،ومنها األنعام ،قال تعالى ﴿:خَ َل َق ُك ْم ِم ْن
خَلق4اً ِم ْن َبعِْ 4د 4ون أُ َّم َه44ا ِت ُك ْم ْ
طِ 4 اج َي ْخلُقُ ُك ْم ِفي بُ ُ زَل َل ُك ْم ِمنَ اأْل َ ْن َع ِام َث َما ِن َي َة َأ ْز َو ٍ
اح َد ٍة ثُ َّم َج َع َل ِم ْن َها زَ وْ َج َها َو َأ ْن َ س َو ِ َن ْف ٍ
ث َذ ِل ُك ُم هَّللا ُ َر ُّب ُك ْم َلهُ ْال ُم ْل ُك ال ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو َفأَنَّى تُصْ َرفُونَ ﴾ (الزمر)6 : ت َثال ٍ ظلُ َما ٍ ق ِفي ُ ْ
خَل ٍ
السَ 4م ِاء 4زَل ِمنَ َّ ومنها إنزال الماء ،وهو أكثرها ورودا في القرآن الكريم ،ومنه قوله تعالىُ ﴿:ه َو ا َّل ِذي َأ ْنَ 4
َم ًاء َل ُك ْم ِم ْن ُه َش َرابٌ َو ِم ْن ُه َش َجرٌ ِفي ِه ُت ِس ُيمونَ ﴾ (النحل)10 :
وليس المراد باإلنزال هنا ما يتوهم من كون المط44ر ن44ازال من الس44ماء فق44ط ،وإنم44ا الم44راد ربط44ه
بملكية هللا ،ولهذا سبق اإلنزال ذكر الضمير المنفصل العائد على هللا تعالى.
َاب َو ْال ِميزَ انَ زَلنَا َم َعهُ ُم ْال ِكت َ ت َو َأ ْن ْ ومن النعم الحسية المنزلة الحديد ،قال تعالىَ ﴿:ل َق ْد َأرْ َس ْلنَا رُ ُس َلنَا ِب ْال َب ِّينَا ِ
رُسَ 4لهُ ِب ْ ْ
ب ِإ َّن هَّللا َ4ال َغ ْي ِ ص4رُ ُه َو ُ زَلنَا ْال َح ِدي َد ِفي ِه َب4أسٌ َشِ 4دي ٌد َو َمنَ4ا ِف ُع ِللنَّ ِ
اس َو ِل َيعْ َل َم هَّللا ُ َم ْن َي ْن ُ ْط َو َأ ْن ِْل َيقُو َم النَّاسُ ِب ْال ِقس ِ
يز﴾ (الحديد)25: َق ِويٌّ ع َِز ٌ
وفي المزج بين إنزال الحديد ،وإنزال الكتاب والميزان ،وتقديم الكتاب والميزان على الحديد إشارة
إلى أن تسيير منافع الحديد مقيد بالضوابط التي يفرضها الكتاب والميزان.
ومثل إنزال ملكية هللا للكائنات الحسية إنزال هللا للكائنات المعنوية ،ومنها السكينة والجن44د الرب44اني،
ب الَّ ِذينَ َك َفرُوا َو َذ ِلكَ زَل جُ نُوداً َل ْم ت ََروْ هَا َو َع َّذ َ زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َلى َرسُو ِل ِه َو َع َلى ْال ُم ْؤ ِم ِنينَ َو َأ ْن َ قال تعالى ﴿:ثُ َّم َأ ْن َ
َص َرهُ هَّللا ُ ِإ ْذ َأ ْخ َر َجهُ الَّ ِذينَ َك َف4رُوا َث4ا ِن َي ْاث َني ِْن ِإ ْذ ال َت ْنصُرُوهُ َف َق ْد ن َ َجزَا ُء ْال َكا ِف ِرينَ ﴾ (التوبة ،)26 :وقال تعالىِ ﴿:إ ّ
4ل َك ِل َمَ 4ة زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َل ْي ِه َو َأيَّ َدهُ ِبجُ نُو ٍد َل ْم ت ََروْ هَا َو َج َعَ 4 زَن ِإ َّن هَّللا َ َم َعنَا َفأَ ْن َاح ِب ِه ال تَحْ ْ ص ِ َار ِإ ْذ َيقُولُ ِل َ هُ َما ِفي ْالغ ِ
4ل الَّ ِذينَ َك َف44رُوا يز َح ِكي ٌم﴾ (التوبة ،)40 :وقال تعالىِ ﴿:إ ْذ َج َعَ 4 الَّ ِذينَ َك َفرُوا ال ُّس ْف َلى َو َك ِل َمةُ هَّللا ِ ِه َي ْالع ُْل َيا َوهَّللا ُ ع َِز ٌ
4وى َو َك44انُوا زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َلى َرسُو ِل ِه َو َع َلى ْال ُم ْؤ ِم ِنينَ َو َأ ْلزَ َمه ُْم َك ِل َمَ 4ة التَّ ْقَ 4 ِفي قُلُو ِب ِه ُم ْال َح ِميَّ َة َح ِميَّ َة ْال َجا ِه ِليَّ ِة َفأَ ْن َ
ق ِب َها َو َأ ْه َل َها َو َكانَ هَّللا ُ ِب ُكلِّ َش ْي ٍء َع ِليماً﴾ (الفتح)26 : َأ َح َّ
4ر ِه َع َلى َم ْن 4الرُّوح ِم ْن َأ ْم ِ
ِ َ4زلُ ْال َمال ِئ َكَ 4ة ِب ومن هذا الباب إنزال المالئكة والروح ،كما ق4ال تع4الى ﴿:يُن ِّ
ون﴾ (النحل)2 : َي َشا ُء ِم ْن ِع َبا ِد ِه َأ ْن َأ ْن ِذرُوا َأنَّهُ ال ِإ َل َه ِإاَّل َأنَا َفاتَّقُ ِ
4زَل َع َل ْي ُك ْم ومنه إنزال الشعور باألمن الذي يمأل النفس بالراحة ،ويتيح لها الن44وم ،ق44ال تع44الى ﴿:ثُ َّم َأ ْنَ 4
طا ِئ َف ًة ِم ْن ُك ْم ﴾ (آل عمران)154 : ِم ْن َبعْ ِد ْال َغ ِّم َأ َم َن ًة نُ َعاساً َي ْغ َشى َ
وبهذا يعيش المؤمن ،وهو يرى كل شيء من هللا حتى الطعام ال4ذي يأكل4ه ،واللب4اس ال4ذي يكس4وه،
وقد ق4ال تع4الى في الح4ديث القدس4ي (:ي4ا عب4ادي كلكم ج4ائع إال من أطعمت4ه ،فاس4تطعموني أطعمكم ،ي4ا
عبادي كلكم عار إال من كسوته فاستكسوني أكسكم)()1
وبهذا الشعور المعطر باالعتراف بالنعمة لمس4ديها يخ4ف غ4رور اإلنس4ان ،ب4ل يتالش4ى ،وه4و م4ا
يجعله يتعامل مع األشياء تعامل العبودية التي تفيض باللطف والرحمة.
وقد علمنا رسول هللا من صيغ الذكر ما يغرس هذه المعاني في نفوسنا ،أو ما يحول44ه إلى واق44ع
حي يرفع أرواحنا ،ويهذب سلوكنا.
فقد كان رسول هّللا إذا أصبح قال (:أصبحنا وأصبح الملك هلل عز وجل ،والحم44د هلل ،والكبري44اء
اإلحياء. )(1
رواه البخاري ومسلم. )(2
62
ال تسموا العنب الكرم وال تقولوا خيبة ال4دهر ف4إن هللا ه44و ال4دهر)( ،)1وق4ال (:إن هللا ع44ز وج4ل ق44ال
استقرضت عبدي فلم يقرضني وسبني عبدي وال يدري يقول وادهراه وادهراه وأنا الدهر)()2
ونهى عن سب الريح ،وأخ4بر بأنه4ا ال تتح4رك حس4ب رغبته4ا ،وإنم4ا تتح4رك به4دي ال4وحي
اإللهي الذي يسير كل ش4يء ،فق4د روي أن رجال لعن ال4ريح عن4د الن4بي فق4ال (:ال تلعن ال4ريح فإنه4ا
مأمورة ،وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)()3
وعلمنا الطريقة الصحيحة في التعامل معه4ا ،فق4ال (:ال4ريح من روح هللا ،ف4روح هللا ت4أتي
بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فال تسبوها وسلوا هللا خيرها واستعيذوا باهلل من شرها)()4
وقد ذكر عقوبة من يسب بعض هذه الكائنات التي ال تملك من أمر نفسها شيئا ،وهي ع44دم
جواز االنتفاع بها ،فعن عائشة أنها ركبت جمال فلعنته ،فقال لها النبي (:ال تركبيه)()5
وفي ذلك أبلغ التحذير من التطاول على خلق هللا.
بل إنه ال ينبغي احتق4ار ح4تى البع4وض ال4ذي ق4د يؤذين4ا بلس4عه ،ق4ال تع4الىِ ﴿:إ َّن هَّللا َ ال َي ْس4تَحْ ِيي أ ْنَ
ُوض ًة َف َما َفوْ َق َها ﴾ (البقرة)26 : ال َما َبع َ ب َم َث ًَيضْ ِر َ
بل إن القرآن الكريم ينبه الذين يحتقرون بيت العنكب44وت أن بي44وتهم أوهن ،ق44ال تع44الىَ ﴿:م َث44لُ الَّ ِذينَ
ت َل4وْ َك4انُوا َيعْ َل ُم4ونَ ﴾ ْت ْال َع ْن َكبُ4و ِ ت َل َبي ُت َبيْت4اً َو ِإ َّن َأوْ هَنَ ْالبُيُ4و ِ ت اتَّخَ َذ ْون هَّللا ِ َأوْ ِل َيا َء َك َم َث ِل ْال َع ْن َكبُو ِ
اتَّخَ ُذوا ِم ْن ُد ِ
(العنكبوت)41 :
ب ض ِ 4ر َ َ
وينبه الذين يحتقرون الذباب إلى ما يشير إليه من نواحي ضعفهم ،قال تعالىَ ﴿:يا أ ُّي َها النَّاسُ ُ
4و اجْ َت َمعُ4وا َل4هُ َو ِإ ْن َي ْس4لُ ْبهُ ُم الُّ 4ذ َبابُ َش4يْئاً ال ون هَّللا ِ َل ْن َي ْخلُقُ4وا ُذ َباب4اً َو َل ِ
َم َثلٌ َفا ْست َِمعُوا َلهُ ِإ َّن الَّ ِذينَ َت ْد ُعونَ ِم ْن ُد ِ
طلُوبُ ﴾ (الحج)73 : الطا ِلبُ َو ْال َم ْضعُفَ َّ َي ْس َت ْن ِق ُذوهُ ِم ْنهُ َ
ومن نتائج هذه النظرة السامية :الراحة من منازعة األقدار اكتفاء ببتقدير هللا:
وهي نتيجة مهمة ،فإن العالم بتصريف هللا للكائنات ال يحزن ما يحصل ل44ه منه44ا ،أو م44ا يفوت44ه من
منافعها ،ألن سبب الحزن هو فوات المقدور عليه ،أما ما يعتق4د اس4تحالته ف4إن نفس اس4تحالته تعزي4ه عن
عدم حصوله عليه.
فلذلك ال يخاف مالك على ملكه ،ما دام هللا هو مؤتي الملك ونازعه ،فإن أتى فبفضل هللا ،وإن ذهب
4ك تُ ْ4ؤ ِتي ْال ُم ْل4كَ َم ْن 4ل اللَّهُ َّم َما ِل4كَ ْال ُم ْل ِ فبقدرة هللا ،ولن تستطيع قوة في العالم نزعه أو تثبيته ،ق4ال تع4الى ﴿:قُ ِ
4ز َم ْن ت ََش4ا ُء َوتُِ 4ذلُّ َم ْن ت ََش4ا ُء ِب َيِ 4دكَ ْالخَ يْ4رُ ِإنَّكَ َع َلى ُك4لِّ َشْ 4ي ٍء َقِ 4ديرٌ﴾ (آل َت َشا ُء َو َت ْن ِز ُع ْال ُم ْل4كَ ِم َّم ْن ت ََش4ا ُء َوتُ ِع ُّ
عمران)26 :
ض َأ َّم ْن اء َواأْل َرْ ِ السَ 4م ِوال يخاف على رزقه ما دام هللا هو الرازق ق44ال تع4الى ﴿:قُ44لْ َم ْن َي44رْ ُزقُ ُك ْم ِمنَ َّ
4ر َف َسَ 4يقُولُونَ هَّللا ُ ت َوي ُْخِ 4رجُ ْال َم ِّيتَ ِمنَ ْال َح ِّي َو َم ْن يَُ 4دبِّرُ اأْل َ ْمَ 4 ار َو َم ْن ي ُْخ ِرجُ ْال َح َّي ِمنَ ْال َم ِّي ِ ْص َ َي ْم ِل ُك الس َّْم َع َواأْل َب َ
َفقُلْ َأ َفال َتتَّقُونَ ﴾ (يونس)31 :
ضرّ اً َوال َن ْفعاً ِإاَّل َما َشا َء وال يخاف الضر ،وال يرجو النفع من غيره ،قال تعالى ﴿:قُلْ ال َأ ْم ِل ُك ِل َن ْف ِسي َ
هَّللا ُ ِل ُكلِّ أُ َّم ٍة َأ َجلٌ ِإ َذا َجا َء َأ َجلُه ُْم َفال َي ْست َْأ ِخرُونَ َسا َع ًة َوال َي ْس َت ْق ِد ُمونَ ﴾ (يونس)49 :
رواه مسلم. )(1
رواه ابن جرير والحاكم. )(2
رواه أبو داود والترمذي. )(3
رواه البخاري في األدب ،وأبو داود والحاكم. )(4
رواه أحمد وأبو يعلى. )(5
63
وهكذا في جميع شؤون حياته ..قال الغزالي مبينا التأثير النفسي لهذه المع44ارف ..(:أن ينكش44ف ل44ك
أن ال فاعل إال هللا تعالى ،وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحي4اة وم4وت وغ4نى وفق4ر إلى
غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو هللا عز وجل ال شريك له فيه ،وإذا انكش44ف
لك هذا لم تنظر إلى غيره ،بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وب4ه ثقت4ك وعلي4ه اتكال4ك ،فإن4ه الفاع4ل على
االنفراد دون غيره ،وما سواه مس44خرون ال اس44تقالل لهم بتحري44ك ذرّة من ملك44وت الس44موات واألرض،
وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة اتضح لك هذا اتضاحا ً أتم من المشاهدة بالبصر)()1
وهذه المعارف إذا انصبغ بها كيان اإلنسان وتوحد قلبه عند النظر للكون أو التعامل معه هو الكفيل
الوحيد بتحقيق الراحة والسعادة والطمأنينة.
ألن مصدر القلق واالضطراب هو الشتات الذي يحص44ل في اإلنس44ان نتيج44ة رؤي44ة األش44ياء قائم44ة
بذاتها ،فتتوزع في نفسه الرغبة منها أو الرهبة ،وهي متناقضة مختلفة ،فيحصل فيه من التناقض بحسبما
في األشياء من تناقض.
أما إذا رآها جميعا بيد هللا ،فإن قلبه يتوحد مع هللا.
ومن نتائج هذه النظرة السامية :اللجوء إلى هللا ال إلى الكون ،وطلب األشياء من هللا ال من األش44ياء،
فاهلل هو المتصرف ال األشياء.
ومن الحماقة أن نترك اآلمر ونتوجه إلى المأمور ،وقد ذكر الغزالي مثاال يبين تهافت الذين ينسبون
األشياء إلى ما يتوهمونه ،ثم يلجؤون إليه بضراعة والرجاء بقول4ه (:فالتف4ات العب4د في النج4اة إلى ال4ريح
يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيع4اً ب4العفو عن4ه وتخليت4ه ،فأخ4ذ يش4تغل ب4ذكر الح4بر
والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع يقول :لوال القلم لما تخلصت ،فيرى نجاته من القلم ال من محرّك القلم
وهو غاية الجهل)()2
ولهذا وردت النصوص الكثيرة تدعونا إلى طلب منافع الكون من هللا ،ولو ك4انت ه4ذه المن4افع مم4ا
ننسبه إلى أنفسنا أو ننسبه إلى الطبيعة.
ففي الوقت الذي يستسقي فيها الجاهلون باألنواء ،أو يقولون م44ا يق44ول ق44وم ه44ود حين رأوا س44حاب
َارضاً ُم ْس َت ْق ِب َل َأوْ ِد َي ِت ِه ْم َقالُوا َه َذا ع ِ
َارضٌ ُم ْم ِطرُ نَ4ا العذاب ،مما قصه علينا هللا تعالى ،قال تعالىَ ﴿:ف َل َّما َر َأوْ هُ ع ِ
َعْج ْلتُ ْم ِب ِه ِريحٌ ِفي َها َع َذابٌ َأ ِلي ٌم﴾ (االحقاف)24:
َبلْ هُ َو َما ا ْست َ
في ذلك الوقت يتوجه المؤمنون إلى هللا رب المطر ومنزله بال44دعاء والعبودي44ة ،وق44د وردت ص44يغ
رقيقة عميقة في االستسقاء تبين الروح التي يتعامل بها المؤمن مع األشياء والحوادث.
ط المطر ،فأمر بمنبر فوضع له في المص4لى، منها ما روي أن الناس شكوا إلى رسول هّللا قحو َ
الناس يوماً يخرجون فيه ،فخرج رسول هللا حين بدا ح4اجب الش4مس ،فقع4د على المن4بر فك4بر َ ووعد
وحمد هللا عزوجل ،ثم قال( :إنكم ش4كوتم ج4دب دي4اركم ،واس4تئخار المط4ر عن إب4ان زمان4ه عنكم ،وق4د
أم44ركم هللا س44بحانه أن ت44دعوه ،ووع44دكم أن يس44تجيب لكم) ،ثم ق44ال( :الحم44د هلل رب الع44المين ،ال44رحمن
الرحيم ،مالك يوم الدين ،ال إله إال هللا يفعل ما يريد ،اللهم أنت هللا ال إل4ه أنت الغ4ني ونحن الفق4راء ،أن4زل
علينا الغيث ،واجعل ما أنزلت لنا قوة وبالغا إلى حين)
ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بي4اض إبطي44ه ،ثم ح44ول إلى الن44اس ظه44ره وقلب ،أو ح4ول
اإلحياء. )(1
اإلحياء. )(2
64
رداءه وهو رافع يديه ،ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين.
وكانت نتيجة هذا الدعاء ،وما اشتمل عليه من مظاهر الذلة هلل تعالى ما نصت عليه الرواية (:فأنشأ
هللا تعالى سحابة ،فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن هللا تعالى ،فلم يأت مسجده ح44تى س44الت الس44يول ،فلم44ا
رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه ،فقال (:أشهد أن هللا على كل شيء قدير ،وأني عبد
هللا ورسوله)()1
ومثلم44ا طلب الس44قيا من هللا طلب الص44حو من هللا ،فق44د روي أن44ه لم44ا ك44ثر المط44ر س44ألوه
اإلستصحاء فاستصحى لهم وقال (:اللهم حوالينا وال علين4ا اللهم على اآلك4ام والجب4ال والظ4راب وبط4ون
األودية ومنابت الشجر)()2
وكان إذا رأى مطرا قال (:اللهم صيبا نافعا)( ،)3وك4ان يحس4ر ثوب4ه ح4تى يص4يبه من المط4ر،
فسئل عن ذلك ،فقال (:ألنه حديث عهد بربه) ()4
ويروى أنه كان إذا سال السيل ق4ال (:اخرج4وا بن4ا إلى ه4ذا ال4ذي جعل4ه هللا طه4ورا فنتطه4ر من4ه،
ونحمد هللا عليه)()5
ومثل اللجوء إلى هللا في االستسقاء وطلب المنافع التي أودعها هللا المطر ،اللجوء إلى هللا في جمي44ع
المنافع ،وحمد هللا عند حصول كل خير.
فقد كان رسول هللا إذا طلعت الشمس قال (:الحمد هلل الذي جللنا اليوم عافيت44ه ،وج4اء بالش4مس،
من مطلعها ،اللهم أصبحت أشهد لك بما شهدت به لنفسك ،وشهدت به مالئكت44ك وحمل44ة عرش44ك وجمي44ع
خلقك إنك أنت هللا ال إله إال أنت القائم بالقس4ط ،ال إل4ه إال أنت العزي4ز الحكيم ،اكتب ش4هادتي بع4د ش4هادة
مالئكت44ك وأولي العلم ،اللهم أنت الس4الم ومن4ك الس4الم وإلي4ك الس44الم ،أس4ألك ي4ا ذا الجالل واإلك44رام أن
تستجيب لنا دعوتنا ،وأن تعطينا رغبتنا ،وأن تغنينا عمن أغنيته عنا من خلقك ،اللهم أصلح لي ديني الذي
هو عصمة أمري ،وأصلح لي دنياي التي فيها معيشتي ،وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي)()6
2ـ السالم:
تكاد كل النعم المسخرة في الكون تق4ول لإلنس4ان (:أن4ا بين ي4ديك ..أن4ا رهن إش4ارتك ..أن4ا مخل4وق
لخدمتك)
أو تقول ما قاله ب4ديع الزم4ان ،وه4و يع4بر عن خط4اب الش4مس لن4ا ،وترحيبه4ا بن4ا (:ي4ا إخ4وتي ال
ال .أنتم أصحاب الم44نزل ،وأن44ا ال ونزلتم سه ًال بكم .فقد حللتم أه ً
ال وسه ًتستوحشوا مني وال تضجروا! فأه ً
المأمور المكلف باإلضاءة لكم ،أنا مثلكم خادم مطيع سخرّني األحد الصمد لالضاءة لكم ،بمحض رحمت4ه
فعلي االضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصالة)()7
ّ وفضله.
ال نظ44رت إلى القم44ر ..إلى النج44وم ..إلى البح44ار.. وهكذا يخاطبنا كل شيء بلسان حاله ( ،فيا هذا ه ّ
ال وسه ً
ال بكم) كل يرحب بلسانه الخاص ويقول :حياكم وبياكم .فأه ً
وهكذا تخاطبنا كل األشياء رافعة ألوية السالم ،فتسخير هللا للكون تسخير مصحوب بالسالم.
رواه أبو داود ،وقال :حديث غريب ،وإسناده جيد. )(1
رواه ابن ماجة. )(2
رواه البخاري. )(3
رواه مسلم وأبو داود والبخاري في األدب المفرد. )(4
رواه الشافعي والبيهقي 4مرسال. )(5
رواه أحمد ورجاله ثقات. )(6
الكلمة الثالثة والثالثون. )(7
65
وال ينبغي أن يحجبنا ما قد يم4ر بن4ا من المت4اعب والمش4اق عن رؤي4ة س4الم الك4ون ،فهي مت4اعب
يقتضيها البالء ،وهي متاعب بسيطة بجنب الثمرات والمصالح المتحققة.
والمؤمن ينظر إلى الكون ،وما سخر له فيه بهذه النظرة ،فهو يتعامل م4ع ك4ون س4خر ل4ه ،ال ك4ون
معاند يحتاج فيه إلى الصراع معه من أجل تحقيق مصالحه.
وهذه النظرة تخالف نظرة الكافر الجاحد ،الذي يمتلئ كبرا وغرورا ،فيتصور أنه مصارع عنيف،
فلذلك يفرض وجوده على هذه األرض بجهده وحيلته وقوته ،ويقول ـ كما عبر القرآن الك44ريم على لس44ان
قارون ـِ ﴿:إنَّ َما أُو ِتيتُهُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي ﴾ (القصص )78 :فلذلك رد علي44ه تع44الى مكمالَ ﴿:أ َو َل ْم َيعْ َل ْم َأ َّن هَّللا َ َق ْ 4د
رُون َم ْن هُ َو َأ َش ُّد ِم ْنهُ قُ َّو ًة َو َأ ْك َثرُ َج ْمعاً َوال يُسْأَلُ ع َْن ُذنُو ِب ِه ُم ْال ُمجْ ِر ُمونَ ﴾ (القصص78 : َأ ْه َلكَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ِمنَ ْالقُ ِ
) فهل علمه من القصور ما جعله ال يمتد إلى معرفة مصاير القرى الهالكة ،ليرى أسباب هالكها؟
ومثل قارون من أنعم هللا عليه بنعمة العافية بعد البالء ،فينسى المبتلي والمعافي ،ال يذكر إال نفس44ه،
4ال ِإنَّ َم4ا أُو ِتيتُ4هُ َع َلى ِع ْل ٍم َب4لْ ِه َي ِف ْتنَ4ةٌ َو َل ِك َّنخَو ْلنَا ُه ِنعْ َمً 4ة ِمنَّا َق َ
قال تعالىَ ﴿:فإِ َذا َمسَّ اأْل ِ ْن َسانَ ضُرٌّ َدعَانَا ثُ َّم ِإ َذا َّ
َأ ْك َث َرهُ ْم ال َيعْ َل ُمونَ ﴾ (الزمر)49 :
وهكذا اإلنسان الثامل بخمرة العلم الحديث ،والساجد أمام وثن العقل يتصور أنه يص44ارع الطبيع44ة،
ويغلبها غلبة األبطال.
وفي مقابل ذلك نجد القرآن الكريم يصور النعم المستس4خرة بص4ورة اله4دايا المقدم4ة على أطب4اق،
ومعها ختم المه4دي ،فاهلل تع4الى ص4ور ـ مثال ـ األرض بص4ورة الم4ركب ال4ذلول ،المحتوي4ة على ك4ل
ال َف ْام ُشوا ِفي َمنَا ِك ِب َه44ا َو ُكلُ44وا ِم ْن ِر ْز ِقِ 4ه َو ِإ َل ْيِ 4ه ال ُّن ُش4ورُ﴾ ض َذلُو ً المنافع ،فقال تعالى ﴿:هُ َو الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ُم اأْل َرْ َ
(الملك)15 :
فاآلية تصف األرض بكونها ذلوال ،وهذا الوص44ف يطل44ق ع44ادة على الداب44ة ،ليص44ور في األذه44ان
ويغرس في العقول والقلوب ( أن هذه األرض التي نراها ثابتة مس44تقرة س44اكنة ،هي داب44ة متحرك44ة ..ب44ل
رامحة راكضة مهطعة( ،)1وهي في الوقت ذاته ذلول ال تلقي براكبه4ا على ظهره4ا ،وال تتع4ثر خطاه4ا،
وال تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير الذلول ،ثم هي دابة حلوب مثلما هي ذلول!)()2
بينما يصورها الجاحدون في صورة الدابة الرامحة الراكضة التي تحتاج فارس4ا قوي4ا مث4ل فرس4ان
رعاة البقر ليقوم بترويض جماحها على نغمات تصفيق المعجبين.
ولهذا نجد في القرآن الكريم روعة التعبير عن الكون المسخر ،بخالف تعبير العلوم الحديثة ،والتي
كان تقهقرها في فلسفة ما اكتشفته من معارف مساويا لتقدمها في اكتشافاتها واختراعاتها.
4لوقد عقد النورسي هذه المقارنة بين التعب4ير الق4رآني في وص4ف الش4مس في قول4ه تع4الىَ ﴿:و َج َع َ
الشمس سراجاً ﴾ (نوح ،)16:وبين التعبير العلمي الحديث الجاف ،فقال عن التعب44ير الق44رآني (:في تعب44ير َ
السراج تصوير العالم بصورة قصر ،وتصوير األش4ياء الموج4ودة في4ه في ص4ورة ل4وازم ذل4ك القص4ر،
ك4ريم
ٍ أحض4رتها لض4يوفه وخ ّدام4ه يُ 4د َ ومزيّناته ،ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه ،واحساسٌ أنه ق4د
منور .ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظم44ة مسخر وسراج َّ َّ ال مأمور رحيم ،وما الشمسُ إ ّ
فاألرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ،ثم تدور مع هذا ح44ول الش44مس بس44رعة ح44والي خمس44ة وس44تين أل44ف مي44ل في الس44اعة .ثم )(1
تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة ،مبتعدة نحو برج الجبار في السماء ..ومع هذا ال44ركض كل44ه يبقى اإلنس44ان
على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا معافى ال تتمزق أوصاله ،وال تتناثر 4أشالؤه ،بل ال يرتج مخه وال يدوخ ،وال يقع مرة عن ظهر هذه الدابة الذلول ..انظر م44ا
يشير إلى هذه الحركات من القرآن الكريم في رسالة (معجزات 4علمية)
)(2في ظالل القرآن.
66
()1 ربوبيته ،وافها ُم إحسانه في سعة رحمته ،واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته)
أما العلم الحديث فيع4رف الش4مس بأنه4ا ( كتل4ة عظيم4ة من الم4ائع الن4اري ت4دور ح4ول نفس4ها في
مستقرها ،تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه االجرام العظيمة المختلفة في
الجسامة ..ضخامتها كذا ..ماهيتها كذا)..
غ4ير الح4يرة المدهش4ة والدهش4ة َ وعقب على هذه المقارنة بقوله (:فانظر ماذا أفادت4ك ه4ذه المس4ألة
ال علمياً وال ذوقاً روحياً وال غاية إنسانية وال فائدة دينية)
الموحشة ،فلم تُ ِف ْدك كما ً
وعلى هذا تقاس جميع التعبيرات القرآنية المتعلق44ة ب44الكون المس44خر ،ول44ذلك من الجه44ل العظيم م44ا
أنكره بعضهم من أن القرآن الكريم ال يتكلم عن الكائنات من الزاوية التي يسمونها علما ،ويقصرون العلم
عليها ،قال النورسي (:فقس على هذا لتق ّدر قيمة المسائل الفلسفية التي ظاهرُها مزخرف44ة وباطنُه44ا جهال44ة
عرض عن بيان القرآن المعجز) فارغة ،فال يغرّنك تشعشع ظاهرها وتُ ِ
***
والنظرة المسالمة للكون ،أو شعورنا بأن الكون مسالم لنا يدعونا إلى احترام هذا السالم ،فال نبادله
بالحرب ،وال نتعامل معه وفق ما يمليه الصراع.
ولهذا ورد في النصوص الحث على رحمة الكائنات ،ومحبتها في هللا ،وأخذ ما نأخذ منها باسم هللا.
وقد ورد فيها ما يرغب في الجزاء الذي أع4د للتعام4ل المس4الم م4ع الكائن4ات ،وم4ا ي4رهب في نفس
الوقت من التعامل معها كما يتعامل معها المصارعون:
فقد جاء رج4ل إلى رس4ول هللا فق4ال (:إني أن4زع في حوض4ي ح4تى إذا مألت4ه ألهلي ورد علي
البعير لغيري فسقيته ،فهل لي في ذلك من أجر ،فقال رسول هللا (:في كل ذات كبد حرى أجر) ()2
وجاء رجل آخر ،فقال :يا رسول إن الضالة ترد على حوض4ي فه4ل لي فيه4ا من أج4ر إن س4قيتها؟
قال (:أسقها ،فإن في كل ذات كبد حراء أجرا ً)()3
وفي حديث آخر قال رسول هللا (:بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر ،فوج44د ب44ئرا ًف44نزل
فيها فش4رب ،ثم خ4رج ،ف4إذا كلب يلهث يأك4ل ال4ثرى من العطش ،فق4ال الرج4ل :لق4د بل4غ ه4ذا الكلب من
العطش مثل الذي كان بلغ مني ،فنزل البئر فمأل خفه ماء ،ثم أمسكه بفيه حتى رقي ،فسقى الكلب ،فش44كر
هللا له ،فغفرله ،قالوا:يا رسول هللا إن لنا في البهائم أجرا ً؟ فقال :في كل كبد رطبة أجر)()4
وأخبر أن هللا تعالى غفر لمومس مرت بكلب يلهث كاد يقتل44ه العطش ،ف44نزعت خفه44ا ،فأوثقت44ه
بخمارها ،فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك(.)5
وفي حديث آخر ،أن رسول هللا قال (:الخيل لثالث4ة :لرج4ل أج4ر ،ولرج4ل س4تر ،وعلى رج4ل
وزر .فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل هللا فأطال في مرج أو روضة فما أصابت في طلبه4ا ذل4ك
من المرج أو الروضة كانت له حسنات ،ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو ش44رفين ك44انت أرواؤه44ا
وأثارها حسنات له ،ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له)6()..
73
األمر هكذا؟ علينا ان نحفر في مكان ما فإذا ظهر النمل واريناه ال44تراب لئال ي44راه األس44تاذ ومن بع44د ذل44ك
نستمر بالحفر ،وإال فسوف نظل إلى العشاء ولما نقم بشئ ،فليس في هذه المنطق44ة ش44بر اال وفيه44ا مملك44ة
للنمل.
قال :وعلى كل حال بنينا غرفة صغيرة لالستاذ هناك ،فكان األستاذ كلما يرى النمل ويشاهد مملكته
في الغرفة يقدم له البرغل والسكر وفتات الخبز ،فسألناه عن سبب تقديمه الس44كر للنم44ل فأجابن44ا ض44احكاً:
( فليكن السكر شايا ً لهم)()1
وك4ان عن4دما يلتقي في تجول4ه ص4يادي األرانب والطي4ور يق4ول لهم (:ال تروع4وا ه4ذه الحيوان4ات
ببنادقكم وال تؤذوا غيرها)
وبهذا األسلوب كان ينصح الصيادين الهواة حتى جعل الكثيرين منهم يتخلون عن الصيد.
وكان عن4دما يلتقي الرع4اة في الس4هول الخض4راء وهم يرع4ون حيوان4اتهم في م4روج بين الجب4ال
والوديان والسهول ،يالطفهم ويقول لهم (:إنكم إذا ما أديتم الصالة في أوقاتها الخمسة خالل الي44وم يص44ير
اليوم بكامله بمثابة عبادة لكم ،ألنكم برعيكم هذا تقدمون خدمة كبيرة للبش4رية ف4ان انتف4اع ب4ني البش4ر من
أصوافها ولحومها وألبانها هو بحكم الصدقة لكم ،فال تؤذوا إذن هذه الحيوانات البريئة النافعة)
3ـ الحكمة:
ينظر المؤمن إلى الخدمات الجليلة التي تفاض عليه من الكون المسخر ،فيراها هدايا ربانية ،فيتمتع
بها ،ويتعرف على مهديها ،بينما يراها الغافل فرصة الستغاللها أو الصراع معها والتغلب عليها.
والق44رآن الك44ريم يلفتن44ا إلى وج44وه الحكم في ه44ذا الك44ون المس44خر ،لنرعاه44ا ،ونتعام44ل مع44ه وف44ق
مقتضاها ،فال نحيد بها عن مراد هللا ،بينما يتصوره الغافلون الجاحدون كونا مستباحا ،ال قوانين تحكم44ه،
وال ضوابط أخالقيه تقيد التعامل معه.
وأساس النظرة اإليمانية ـ كما سبق بيانه ـ هو اعتق4اد الم4ؤمن ملكي4ة هللا تع4الى له4ذا الك4ون ،وه4ذه
الملكية هي التي تجعل له وحده حق إباحة منافعه أو حظرها ،وكيفية االنتفاع به ،بخالف النظ44رة المادي44ة
الجاحدة التي تتصوره مشاعا ال مالك له ،فال يخشون حسابا وال عقابا.
وأساسها ـ أيضا ـ هو اعتقاده أن هذا الكون بني على أحسن نظام وأدقه ،وأن أي تغيير فيه على م44ا
هو عليه انحراف كبير وفساد عظيم ،ويشير إلى هذا القاعدة المعروفة (:ليس في اإلمكان أبدع مما كان)
قال الغزالي ش4ارحا له4ا (:ال ريب أن هللا ع4ز وج4ل ل4و خل4ق الخل4ق كلهم على عق4ل أعقلهم وعلم
أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما ال منتهى لوصفها ،ثم زاد مثل
ال ،ثم كش44ف لهم عن ع44واقب األم44ور وأطلعهم على أس44رار الملك44وت ع44دد جميعهم علم 4اً وحكم44ة وعق ً
وعرّفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والش44ر والنف44ع والض44ر ،ثم أم44رهم أن
يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم ،لما اقتضى تدبـير جميعهم م4ع التع4اون والتظ4اهر
عليه أن يزاد فيما دبر هللا سبحانه الخلق به في الدنيا واآلخ4رة جن4اح بعوض4ة ،وال أن ينقص منه4ا جن4اح
بعوضة ،وال أن يرفع منها ذرّة وال أن يخفض منها ذرّة ،وال أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فق44ر أو
ضر عمن بلي به ،وال أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم هللا به عليه ،بل كل م44ا خلق44ه هللا
تعالى من السموات واألرض ـ إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر ـ م4ا رأوا فيه4ا من تف4اوت وال
السيرة الذاتية.523 : )(1
74
فطور وكل ما قسم هللا تعالى بين عب4اده من رزق وأج4ل وس4رور وح4زن وعج4ز وق4درة وإيم4ان وكف4ر
وطاعة ومعصية ،فكله عدل محض ال جور فيه ،وحق صرف ال ظلم فيه بل هو على ال44ترتيب ال44واجب
ال أحس4ن من4ه وال أتم والالحق على ما ينبغي وكم4ا ينبغي وبالق4در ال4ذي ينبغي ،وليس في اإلمك4ان أصً 4
أكمل)()1
ال ين44اقض الج44ود وظلم 4اً
ثم علل ذلك بقوله (:ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخ ً
يناقض العدل)()2
ومن هذا المنطلق وردت اآليات القرآنية الكثيرة تتحدث عن منافع هذا الكون المسخر ،وهي من44افع
تستدر حمد العبد من جهة ،كواجب أخالقي يقتضيه استشعاره للنعمة ،وهي في نفس الوقت ضوابط تح44د
من التصرف العشوائي العبثي للكون بعيدا عن مراعاة الحكمة.
وإلى هذا المعنى الثاني اإلشارة بقوله (:بينما رجل يسوق بق4رة ل4ه ق4د حم4ل عليه4ا التفتت إلي4ه
البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للح44رث)( ،)3وه44ذا الح44ديث إنك4ار ش4ديد على الجاح44دين
العابثين بالثيران في الساحات بوحشية وقسوة.
وإليه اإلش4ارة ك4ذلك بقول4ه (:إي4اكم أن تتخ4ذوا ظه4ور دوابكم من4ابر ف4إن هللا إنم4ا س4خرها لكم
لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إال بشق األنفس وجعل لكم األرض فعليها فاقضوا حاجتكم)()4
وبما أن لكل شيء في خل44ق هللا حكم كث44يرة ال يمكن إحص44اؤها ،أو أن إحص44اءها يس44تدعي علوم44ا
كثيرة ،فلذلك سنكتفي بأربعة مظاهر لحكم هللا ،هي مجامع لكثير من الحكم ،ومن خاللها نرى م44ا يتطلب44ه
التعامل مع حكمة هللا في أكوانه ،كما رأينا ما يتطلبه السالم معها.
الجمال:
ال يلفتنا القرآن الكريم إلى المنافع المادية الموجودة في الكون فق4ط ،ب4ل ي4دلنا على مظ4اهر الجم4ال
المبثوثة فيه ،وكأنه يأمرنا بالتطلع فيها والحفاظ على رونقها وبهائها.
4و الَّ ِذي َسَّ 4خ َر ْال َبحَْ 4ر ِلت َْ4أ ُكلُوافالقرآن الكريم يحدثنا ـ مثال ـ عن البحر بهذا األسلوب ،قال تعالىَ ﴿:وهُ َ
ض ِ 4ل ِه َو َل َعلَّ ُك ْم ت َْشُ 4كرُونَ ﴾ ط ِر ّياً َو َت ْست َْخ ِرجُوا ِم ْنهُ ِح ْل َي ًة ت َْل َبسُو َن َها َوت ََرى ْالفُ ْلكَ َم َو ِ
اخ َر ِفي ِه َو ِل َت ْب َت ُغ44وا ِم ْن َف ْ ِم ْنهُ َلحْ ماً َ
(النحل)14 :
فالبحر في التصوير القرآني ليس ذلك الطوفان الهائج الذي ينقض على السفن فيغرقه44ا ،وإنم44ا ه44و
نعمة من نعم هللا التي جمعت بين الفضل والمنفعة والجمال.
والقرآن الكريم يلفتنا إلى ه4ذه المع4اني جميع4ا ،فـ ( نعم4ة البح4ر وأحيائ4ه تل4بي ك4ذلك ض4رورات
اإلنس4ان وأش4واقه .فمن4ه اللحم الط4ري من الس4مك وغ4يره للطع4ام .وإلى ج4واره الحلي4ة من اللؤل4ؤ ومن
المرجان ،وغيرهما من األصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى اآلن .والتعبير عن الفلك
يشي بتلبية حاسة الجمال ال بمجرد الركوب واالنتقال :وترى الفلك مواخر فيه ،فهي لفتة إلى متاع الرؤية
وروعتها:رؤية الفلك مواخر تشق الماء وتفرق العباب)()5
وه44ذه اآلي44ة وغيره44ا تنط44وي على حكم تش44ريعي خفي ،وه44و وج44وب المحافظ44ة على ه44ذه النعم
اإلحياء. )(1
وقد نوقش الغزالي في هذا ،وقد ذكرنا أدلة قوله هذا في رسالة (أسرار األقدار) )(2
رواه مسلم. )(3
رواه أبو داود. )(4
الظالل. )(5
75
الموجودة في البحر ،وه4و م4ا لم تأخ4ذه المدني4ة الحديث4ة في الحس4بان ،فل4وثت البح4ر ،كم4ا ل4وثت الج4و،
وأغرقت األرض في طوفان من التلوث.
ظ َه َر ْال َف َسا ُد ِفي وقد أشار القرآن الكريم إلى تأثير االنحراف في فساد األرض والبحر بقوله تعالىَ ﴿:
عْض الَّ ِذي ع َِملُوا َل َعلَّه ُْم َيرْ ِجعُونَ ﴾ (الروم)41 : ت َأ ْي ِدي النَّ ِ
اس ِليُ ِذي َقه ُْم َب َ ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ِر ِب َما َك َس َب ْ
وهكذا تقترن في الق4رآن الك4ريم مظ4اهر الجم4ال في المكون4ات بالض4رورة والحاج4ة ،لنتملى ه4ذا
الجمال ونستمتع به ،وال نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات.
ومثل ذلك ما ورد عند التعبير عن منافع األنعام ،فمن منافعها ،كما قال تع44الىَ ﴿:واأْل َ ْن َع44ا َم خَ َل َق َه44ا َل ُك ْم
ف ٌء َو َمنَا ِف ُع َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ َو َل ُك ْم ِفي َها َج َمالٌ ِحينَ تُ ِريحُونَ َو ِحينَ َتس َْرحُونَ ﴾ (النحل 5 :ـ )6 ِفي َها ِد ْ
ففي هذه اآليات إحصاء دقيق لمنافع الحيوان44ات لتش44مل المطعم والملبس والمس44كن،وتض44يف إليه44ا
الناحية الجمالية ( ففي األنعام دفء من الجلود واألصواف واألوبار واألشعار ،ومنافع في هذه وفي اللبن
واللحم وما إليها .ومنها تأكلون لحما ولبنا وسمنا ،وفي حم4ل األثق4ال إلى البل4د البعي4د ال يبلغون4ه إال بش4ق
األنفس .وفيها كذلك جمال عند اإلراحة في المساء وعند السرح في الصباح .جم44ال االس44تمتاع بمنظره44ا
فارهة رائعة صحيحة سمينة)
ولهذه اللفتة قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظ4رة اإلس4الم للحي4اة ،فالجم4ال عنص4ر أص4يل في ه4ذه
النظرة ،وليست النعمة هي مج4رد تلبي4ة الض4رورات من طع4ام وش4راب ورك4وب ؛ ب4ل تلبي4ة األش4واق
الزائدة على الضرورات.
ولهذا ينبهنا هللا تعالى إلى النظر إلى مخلوقاته ،وإلى ما أودع فيها من الحكمة والجمال ،في44دعو إلى
4ل َك ْي4فَ ظ4رُونَ ِإ َلى اأْل ِ ِب ِ النظر إلى ما أودع في جسم اإلبل من مظاهر الجمال والحكمة ،قال تعالىَ ﴿:أ َفال َي ْن ُ
ت﴾ (الغاشية)17 : ُخ ِل َق ْ
ت﴾ (الغاشية)18: وينبهنا إلى النظر إلى السماء وكيفية رفعها قال تعالى ﴿:و ِإ َلى ال َّس َماء َك ْيفَ رُ ِف َع ْ
ت﴾ (الغاشية)19 : ص َب ْ ال َك ْيفَ نُ ِ ويدعونا إلى النظر إلى الجبال وكيفية تثبيتها قال تعالىَ ﴿:و ِإ َلى ْال ِج َب ِ
ت﴾ ض َك ْي44فَ ُسِ 44ط َح ْ وي44دعونا إلى النظ44ر إلى األرض وكيفي44ة تس44طيحها ق44ال تع44الىَ ﴿:و ِإ َلى اأْل َرْ ِ
(الغاشية)20 :
وكما يشير القرآن الكريم إلى الجمال المودع في الكون يشير إلى الجمال ال44ذي يس44اهم اإلنس44ان في
تكوينه ،وكأنه يدعونا من خالل وصفه إلى مراعاته عند القيام بأي مشروع مرتبط بالكون:
فالقرآن الكريم يبدع في وصف مظاهر الجمال والتناسق التي قام بها السبأيون في م44زارعهم ،ق44ال
ط ِّي َبةٌ َو َربٌّق َر ِّب ُك ْم َوا ْش ُكرُوا َلهُ َب ْل َدةٌ َ ال ُكلُوا ِم ْن ِر ْز ِ تعالىَ ﴿:ل َق ْد َكانَ ِل َس َبأٍ ِفي َم ْس َك ِن ِه ْم آ َيةٌ َجنَّت ِ
َان ع َْن َي ِم ٍ
ين َو ِش َم ٍ
َغفُورٌ ﴾ (سبأ)15:
ال رَّجُ َلي ِْن َج َع ْل َن44ا أِل َ َحِ 4د ِه َما َجنَّ َتي ِْن اض ِ 4ربْ َلهُم َّم َث ً ويبدع في وصف جنتي الرجل الكافر ،قال تعالىَ ﴿:و ْ
َظ ِل ْم ِم ْن4هُ َش4يْئاً َو َفجَّرْ نَ4ا ب َو َح َف ْفنَاهُ َما ِبن َْخٍ 4ل َو َج َع ْلنَ4ا َب ْي َنهُ َم4ا زَرْ ع4اً ( ِ )32ك ْلتَ4ا ْال َجنَّ َتي ِْن آت َْت أُ ُك َل َه4ا َو َل ْم ت ِْم ْن َأ ْعنَا ٍ
ِخاَل َلهُ َما َن َهراً (( ﴾)33الكهف)
والقرآن الكريم ال يذم ذلك الترتيب الذي رتب هللا به جنته ،وإنما ينكر عليه غروره وكفره وجحوده
لفضل هللا.
ت
اوا ِ السَ 4م َ َ
وله4ذا يمن هللا على عب4اده بم4ا أنبت لهم من ح4دائق ذات بهج4ة ،ق4ال تع4الى ﴿:أ َّم ْن خَ َلَ 4ق َّ
76
اء َما ًء َفأَ ْن َب ْتنَا ِب ِه َحدَا ِئ َق َذاتَ َبه َْج ٍة َما َكانَ َل ُك ْم َأ ْن تُ ْن ِبتُوا َش َج َرهَا َأ ِإ َلهٌ َم َع هَّللا ِ َبلْ ُه ْم ض َو َأ ْن َ
زَل َل ُك ْم ِمنَ ال َّس َم ِ َواأْل َرْ َ
َقوْ ٌم َيعْ ِدلُونَ ﴾ (النمل)60 :
التنوع:
وهو مظهر من مظاهر حكمة هللا في الكون ،ودليل من أدل4ة الوحداني4ة ،ألن الرب4ط بين المختلف4ات
وتوجيهها وجهة واحد ال يكون إال من إله واحد.
وه4ذا التن4وع ش4امل لجمي4ع األش4ياء ،فاألش4ياء تتن4وع في المه4ام والوظ4ائف وال4تراكيب الداخلي4ة
واألشكال الخارجية.
وعلى هذا التنوع جاءت النص4وص لت4دل أوال على أن عظم4ة هللا تع4الى ال تب4دو في مج4رد إيج4اد
األشياء من العدم ،بل بإبداعها بهذه الصور المختلفة ،ليكون ذلك دليال على توحيد هللا وإبداعه ،وه44ذه هي
الفائدة المعرفية الكبرى في هذا التنوع ،وهي التي سنتحدث عنها في كون العارفين.
أما الفائدة العملية الثاني4ة المرتبط4ة ب4الكون المس4خر ،فهي ال4دعوة إلى المحافظ4ة على ه4ذا التن4وع
المحسوب بحساب دقيق.
ولذلك يدعونا القرآن الكريم إلى النظر إلى أصناف النباتات ما تشابه منها وما لم يتشابه ،قال تعالى:
خَض4راً نُ ْخِ 4رجُ ِم ْن4هُ َحبّ4اً ُمت ََرا ِكب4اً اء َما ًء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه َن َباتَ ُكلِّ َش ْي ٍء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِم ْن4هُ ِ زَل ِمنَ ال َّس َم ِ ﴿ َوهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َ
ظ44رُوا ِإ َلى 4ر ُمت ََش4ا ِب ٍه ا ْن ُ الز ْيتُ44ونَ َوالرُّ َّمانَ ُم ْشَ 4ت ِبهاً َو َغ ْيَ 4 ب َو َّ ت ِم ْن َأ ْعنَا ٍ ان دَا ِن َيةٌ َو َجنَّا ٍ ط ْل ِع َها ِق ْن َو ٌ
َو ِمنَ النَّ ْخ ِل ِم ْن َ
ت ِل َقوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ (األنعام 4،)99:وك4أن ه4ذه اآلي4ة ت4دعو إلى التص4نيف َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َو َي ْن ِع ِه ِإ َّن ِفي َذ ِل ُك ْم آَل يا ٍ
العلمي ألجناس الكائنات ،والذي يكون أساسا للمحافظة عليها.
بل هي تدعونا إلى تأم4ل األط4وار ال4تي تم4ر به4ا الكائن4ات ،وهي تس4ير في طريقه4ا إلى اس4تكمال
رُوا ِإ ِلى َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َو َي ْن ِع ِه ﴾ لتكون هذه الدراسة س44بيال للتع44رف على حاجته44ا، ظ ْ وجودها ،قال تعالى ﴿:ان ُ
ثم رعايتها انطالقا من ذلك.
ال4زرْ َع ُم ْخ َت ِلفً 4ا
ت َوال َّن ْخَ 4ل َو َّ ت َوغَي َْر َم َ
عْرُوش4ا ٍ ت َمعْرُو َشا ٍ وهذه اآلية تجمع مع قوله تعالىَ ﴿:و ُه َو ا َّل ِذي َأ ْن َش َأ َج َّنا ٍ
سْر ِفينَ ﴾ ب ْال ُم ِ سْر ُفوا ِإ َّن ُه ال ي ُِح ُّ
صا ِد ِه َوال ُت ِ وْم َح َ ُأ ُك ُل ُه َو َّ
الز ْي ُتونَ َوالرُّ َّمانَ ُم َت َشا ِبه ًا َوغَي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُك ُلوا ِم ْن َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َوآ ُتوا َح َّق ُه َي َ
(األنعام )141 :الحكم المرادة من أصناف الكائنات ،فهي في اآلية األولى نظر واستمتاع وعبور منه44ا إلى
المبدع ،وهي في اآلية األخيرة استهالك واستثمار وانتفاع.
فاآلية األولى تغذي الروح وجمال الروح ،واآلية الثانية تغذي الجسد وحاجات الجسد.
وكما نبه القرآن الكريم إلى النظر إلى تنوع أصناف النباتات نبه إلى تنوع التضاريس والمناخ الذي
ب َوزَرْ ٌع َون َِخي44لٌ ات ِم ْن َأ ْع َن44ا ٍ ات َو َجنَّ ٌ او َر ٌط ٌع ُمت ََج ِ ض ِق َ يساهم في ذلك التنوع النباتي ،قال تعالىَ ﴿:و ِفي اأْل َرْ ِ
ت ِل َق4وْ ٍم 4ل ِإ َّن ِفي َذ ِل4كَ آَل ي4ا ٍ عْض ِفي اأْل ُ ُك ِعْضَ 4ها َع َلى َب ٍ ض4لُ َب َ احٍ 4د َونُ َف ِّ
4اء َو ِ ان ي ُْسَ 4قى ِب َم ٍ صْ 4ن َو ٍ ان َو َغيْ4رُ ِ ص ْن َو ٌ
ِ
َيعْ ِقلُونَ ﴾ (الرعد)4 :
وسنتحدث هنا عن ناحيتين وردت النصوص بتنوع المكونات فيهما ،وهو ما يفيد وجوب المحافظة
على هذا التنوع:
تنوع األحياء:
من مظاهر حكم4ة هللا تع4الى في األرض أن عمره4ا ب4أنواع األحي4اء من النب4ات والحي4وان ،وذل4ك
إلعالة الحياة من ناحية ،وتحقيق التوازن البيئي من ناحية أخرى ،فق4د أودع هللا تع4الى فى مكون4ات البيئ4ة
الحيوية الكثير من المنافع التى سخرها بقدرته وحكمته لخدمة اإلنسان وتوفير الحاجات المختلفة لحياته.
77
والباحثون يؤكدون( )1ـ اليوم ـ أن عالم الحيوان أشبه بالم4دن الهائل4ة والش4عوب المتع4ددة األع4راف
واألعراق واللغات والعادات واألجن4اس ال4تي ال حص4ر له4ا ويعج4ز العق4ل عن تص4ور أع4دادها الهائل4ة
والضخمة وأنسب وصف لهذه الكائنات ذوات األعداد الهائلة ه44و مص44طلح (األمم) كم44ا وص44فها الق44رآن
الكريم.
فعدد الطيور الجاثمة وحدها أكثر من 5000نوع ،وكل نوع من هذه الطيور هو أيضا أنواع عدة،
فمثال طيور الف4ران األمريكي4ة اإلس4توائية ح4والي 221نوع4ا ص4غيرة الحجم نوع4ا م4ا ،وذوات ع4ادات
متنوعة جدا.
وهناك 223نوعا من الطيور النملي4ة وال4دج النملي والبيت4ا النملي4ة مرتبط4ة ارتب4اط وثيق4ا بطي4ور
الفران األمريكية الجنوبية والوسطى.
وأما طيور كوتنجا المزركشة فتضم تقريبا 90نوعا تقريبا من الطيور المزركشة والمبهرجة جدا.
كما تعد طيور الجنة ـ وسميت بذلك ألن لديها ريشا فاتنا جدا حتى اعتقدوا أنه آت من الجنة ـ فتبل44غ
أنواعه 42تقريبا.
وأما طيور النمانم ـ وهي طيور صغيرة عاملة ـ فتضم أكثر من 60نوعا ،وهي طيور مدهشة جدا
لما تصدره من أصوات البقبقة المرتفعة إلى درجة التصدق وتنتشر بكثرة في أمريكا.
كما تبلغ أنواع صياد الذباب أكثر من 1200نوع.
وتضم آكالت الحشرات أكثر من 370نوعا.
وهناك أكثر من 300نوع من الطيور المخوضة والنوارس وطيور األوك.
وتضم طيور ز ّمار الرمل أكثر من 60نوعا.
وتبلغ أنواع طيور النورس أكثر من 90نوعا.
أما أنواع الحمام واليمام فهنالك ح4والي 290نوع4ا منه4ا موزع4ة في أرج4اء الع4الم ،ويبل4غ أن4واع
الببغاوات أكثر من 500نوعا.
وتبلغ أنواع البوم أكثر من 123نوعا.
وتبلغ أنواع طيور الضوع والسبد نحو 90نوعا.
وتبلغ طيور الرفراف حوالي 87نوعا تتواجد في أنحاء العالم.
كما يبلغ طير ن ّقار الخشب أكثر من 200نوعا في جميع أنحاء العالم.
وفي عالم القرود تبلغ قرود العالم القديم أكثر من 60نوعا.
وبالنظر إلى الزواحف نجدها أعدادا هائلة جدا وأنواعا ال حصر لها ،فالحيات العمياء تبلغ أنواعه44ا
150نوعا ،وهي تعيش وتحيا تحت األرض.
كما تشتمل مجموعة السلحفيات على السالحف والحمس4ات ـ وهي س4لحفة المي4اه العذب4ة ـ وتض4م
حوالي 100نوع ،وتبلغ أنواع السحالي العمالقة أكثر من 700نوع في مناطق العالم الجديد.
وتبلغ أنواع الحرباء حوالي 85نوعا كما تبلغ السحالي الس44امة ح44والي 3000نوع44ا من الس44حالي
ونوعان فقط منها يفرزان السم وهي السحالي المخرزة والهيلية.
واألفاعي أيضا أنواع شتى ،منها السام ،ومنها غير السام ،وهي متع44ددة األش44كال واألل44وان ،فن44وع
)(1انظر :من آيات هللا في الحيوانات ،األستاذ محمد محمد معافى علي ،موقع موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة.
78
منها فقط ،وهي أفاعي الكوبرا والممبا تبلغ أكثر من 200نوع تقريبا.
كما تشتمل الحيات الخبيثة على حوالي 100نوع ،وتقول بعض المص44ادر العلمي44ة أن ع44دد أن44واع
الثعابين الحالية أكثر من 2700نوع ثلثها فقط سام.
أما الخنافس فتضم أكثر من 300ألف نوع.
وأما الثدييات عموما فتضم أكثر من 4200نوع.
وتبلغ الخفافيش حوالي 900نوع أو أكثر.
وتضم فصيلة الكنغر والولبات حوالي 55نوعا متفاوتا في الحجم.
كما تضم مجموعة السنوريات حوالي 36نوعا تعيش تقريب4ا في كاف4ة أنح44اء الع4الم ع4دا أس44تراليا
والقطب الجنوبي ،ويبلغ نوع سنور الزباد والرّباح والنمس حوالي 80نوعا.
وهكذا يعتقد العلماء بإمكانية وجود أكثر من عشرة ماليين نوع أو جنس من الحيوان44ات في الع44الم،
ومع ذلك ،فقد تكون هناك أنواع أخرى أكثر بكثير بانتظار اكتشافها.
والقرآن الكريم يذكر تسخير البيئة الحيوية لإلنسان ،ويبين الوجوه الشرعية لالنتفاع به44ا ،وه44و في
ضمن ذلك يحث على وجوب المحافظة عليها.
ط ِريّ4اً ً ُ ْ ْ َّ
4و ال ِذي َسَّ 4خ َر ال َبحَْ 4ر ِلتَ4أ ُكلوا ِم ْن4هُ َلحْ م4ا َ قال تعالى عن عالم البحر وما يحتويه من أحي4اءَ ﴿:وهُ َ
اخ َر ِفي ِه َو ِل َت ْب َت ُغوا ِم ْن َفضْ ِل ِه َو َل َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكرُونَ ﴾ (النحل)14 : َو َت ْست َْخ ِرجُوا ِم ْنهُ ِح ْل َي ًة ت َْل َبسُو َن َها َوت ََرى ْالفُ ْلكَ َم َو ِ
والشكر في هذه اآلية ال يعني فقط أن نقول :الحمد هلل ،بل رأس الشكر أن يتعام44ل م44ع النعم44ة وف44ق
حكمة هللا ومراده.
ض ِر نَاراً َف4إِ َذا َأ ْنتُ ْم ِم ْن4هُ تُو ِقُ 4دونَ ﴾ (يّـس:وقال تعالى عن عالم النبات ﴿:الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ْم ِمنَ ال َّش َج ِر اأْل َ ْخ َ
)80
ْ
ف ٌء َو َمنَا ِف ُع َو ِم ْن َها تَأ ُكلُونَ ﴾ (النحل)5 : وقال عن عالم الحيوانَ ﴿:واأْل َ ْن َعا َم خَ َل َق َها َل ُك ْم ِفي َها ِد ْ
وقد وردت األحاديث الكثيرة تحث على وجوب المحافظة على البيئة الحيوية:
فذكر األجر العظيم المعد لمن يساهم في زراعة األرض ،وهو أجر ال يقل عن أج44ور الص44الة
والزكاة والحج ،قال (:ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرا أو إنس44ان أو بهيم44ة
إال كان له به صدقة)()1
وفي حديث آخر يشير إلى منافع إحياء األرض زيادة على األجر المعد للمحيي بقوله (:م44ا
من امرئ يحيى أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إال كتب هللا تعالى له به أجرا)()2
بل إنه يحث على هذه العبودية بغض النظ4ر عن المن4افع المرج4وة منه4ا ،ق4ال (:إذا ق4امت
الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها)( ،)3وفي ذلك إشارة إلى أن منافع النبات ال تقتصر على الثمر.
وقد جاءت األوامر التشريعية ترغب في إحياء األرض ،وتجازي من يساهم في اإلحياء ،ق44ال :
( األرض أرض هللا ،والعباد عباد هللا ،من أحيا مواتاً فهو له)()4
بل إن األوامر التشريعية ـ للمحافظة على البيئة الحيوية ـ تمتد حتى في حال الحرب ـ ال4تي تتناس4ى
)(1انظر :الكلمة التاسعة والعشرون ،وهي تخص بقاء الروح والمالئكة والحشر.
81
ق َوحُ ُّلوا س ُخ ْ
ض4رٌ َو ِإ ْسَ 4تب َْر ٌ ان﴾ (الرحمن ،)76 :ويصف ألوان ثيابهم بقول4ه تع4الى ﴿:عَ4ا ِل َيه ُْم ِث َي4ابُ ُسْ 4ن ُد ٍ ِح َس ٍ
طهُوراً﴾ (االنسان)21: َأ َس ِ
او َر ِم ْن ِفضَّ ٍة َو َس َقاهُ ْم َر ُّبه ُْم َش َراباً َ
وفي كل ذلك إشارة إلى وجوب المحافظة على ألوان األشياء وعدم إفسادها بم44ا يفس44دونها ب44ه اآلن
من التدخل في هندستها الوراثية.
وقد أثبت العلم الحديث( )1أهمية اللون في التدخل في صحة اإلنسان ،يقول أح4د علم4اء النفس وه4و
أردتشام (:إن تأثير اللون في اإلنسان بعيد الغ4ور وق4د أج4ريت تج4ارب متع4ددة بينت أن الل4ون ي4ؤثر في
إقدامنا وإحجامنا ويشعر بالحرارة أو البرودة،و بالس4رور أو الكآب4ة ،ب4ل ي4ؤثر في شخص4ية الرج4ل وفي
نظرته إلى الحياة.
و يسبب تأثير اللون في أعماق النفس اإلنسانية فقد أص4بحت المستش4فيات تس4تدعي االخصاص4يين
القتراح لون الجدران الذي يساعد أكثر في شفاء المرضى وكذلك المالبس ذات األلوان المناسبة.
وقد بينت التج4ارب أن الل4ون األص4فر يبعث النش4اط في الجه4از العص4بي ،أم4ا الل4ون األرج4واني
فيدعو إلى االستقرار واللون األزرق يشعر اإلنسان بالبرودة عكس الحمر الذي يش4عره بال4دفء ووص4ل
العلماء إلى أن اللون الذي يبعث السرور والبهجة وحب الحياة ه44و الل44ون األخض44ر ،ل44ذلك أص44بح الل44ون
المفضل في غرف العمليات الجراحية لثياب الجراحين والممرضات.
ومما يمكن ذكره هنا تلك التجربة التي تمت في لندن على جسر ( بالك فرايار) الذي يعرف بجسر
االنتحار ألن اغلب حوادث االنتحار تتم من فوقه حيث تم تغيير لون44ه األغ44بر الق44اتم إلى الل44ون األخض44ر
الجميل مما سبب انخفاض حوادث االنتحار بشكل ملحوظ.
والتفسير العلمي لذلك أن اللون األخضر يريح البصر ،وذلك ألن الس4احة البص4رية ل4ه أص4غر من
الساحات البصرية لباقي األلوان كما أن طول موجته وس44طي فليس44ت بالطويل44ة ك44اللون األحم44ر وليس44ت
بالقصيرة كاألزرق.
بل إن ما يسمى اآلن بالطب البديل يتفق تماما مع ما ورد في القرآن الكريم من استعمال األلوان في
اظ ِرينَ )(البقرة69 : ص ْف َرا ُء َفا ِق ٌع َلوْ نُ َها َتسُرُّ النَّ ِ
خدمة الصحة ،وسنذكر هنا من مشكاة قوله تعالىِ ﴿:إنَّ َها َب َق َرةٌ َ
) بعض ما اكتشفه هذا النوع من الطب( )2لإلشارة إلى وجوب المحافظة على جم4ال الك4ون وألوان4ه كم4ا
خلقها هللا تعالى.
ينطل44ق أص44حاب ه44ذا العلم من أن هللا تع44الى م44زج بني44ة االنس44ان بعناص44ر وتموج44ات كهربائي44ة
وإش44عاعات ذاتي44ة ،بحيت تتج44انس كلي44ة م44ع العناص44ر الموج44ودة في الك44ون المحي44ط ب44ه من موج44ات
كهرومغناطيسية وإشعاعات كوني4ة وذب4ذبات لوني4ة ،وكالهم4ا مك4ون من درج4ات مختلف4ة من الذب4ذبات
الموجية ،مما يؤهل اإلنسان الى الحياة بواسطة هذه الطاقات الكهربائية واإلشعاعية.
ويذكرون أن لكل شخص إشعاعات تختلف في طول موجتها وعدد ذب44ذبتها وتردداته44ا عن غ44يره،
وبذلك يكون كل شخصا مستقل عن غيره في الصفات والطبائع ،وبذلك يكون لك4ل ش4خص ل4ون خ4اص
يتميز به ،أو طول موجة وذبذبة ترددية خاصة به مثلما هو األمر بالنسبة لبصمات اإلصابع.
فك44ل إنس44ان تنبعث من44ه إش44عاعات خاص44ة ب44ه ،ويس44تقبل إش44عاعات من الك44ون من اإلش44عاعات
والذبذبات اللونية التى تحيط به في البيئ44ة ال44تي يعيش4ها ،وك44ذلك تس44بب اإلش4عاعات الموجي44ة والذب44ذبات
)(1انظر :مع الطب في القرآن الكريم ،للدكتور عبد الحميد دياب ،والدكتور أحمد قرقوز ،مؤسسة علوم القرآن دمشق.
)(2انظر ::كتاب الوصفة الطبية للعالج بالتغذية ،ود.م /يحيى حمزة كوشك.
82
الصحة والمرض -بإذن هللا -والحب والكراهية وذلك لو كانت الموجات المرسلة والمس4تقبلة بين ش4خص
وآخر متقاربة نتج عن ذلك تفاهم ومحبة قوية ،وكلما تنافرت كلما نتج عنها خالف وكراهية.
انطالقا من هذه االفتراضية التي تدل عليها األدلة الكثيرة أخذ ما يمكن تسميتهم بعلم44اء األل44وان في
إجراء الدراسات على تأثير األل4وان على حالتن4ا النفس4ية والص4حية ،وطريق4ة تفكيرن4ا ،فالش4خص ال4ذي
يفضل لونا معينا ـ مثال ـ على لون آخر يكون له عالقة بتأثير ذلك اللون على إحساس ذلك الشخص.
فعندما يدخل اللون ـ الذي هو عبارة عن ضوء أو طاقة مشعة مرئية ذات طول موجي معين ـ إلى
المستقبالت الضوئية في العين تنبه الغدة النخامية والصنوبرية ،وهذا يؤدي الى إفراز هرمون44ات معين44ة،
تقوم بإحداث مجموعة من العمليات الفيسولوجية ،وهذا التفسير يشرح سبب سيطرة األلوان على أفكارن44ا
ومزاجنا وسلوكياتنا.
ومن أمثلة ذلك أنهم ذكروا أن اللون البرتقالي مقو للقلب ومنشط ع44ام ومض44اد لإلحس44اس ب44الهبوط
والفتور واالكتئاب والنعاس واإلضطهاد واليأس وكافة المشاعر السيئة ،ويساعد على الشفاء من أمراض
القلب واإلضطرابات العصبية وإلتهابات العينين..
واللون البنفسجي مهدئ بوجه عام وخاصة في األمراض العصبية والنفسية.
واللون الوردي له تأثير ملطف على الجسم حيث يقوم بإرخاء العضالت.
واللون فوق البنفسجي مضر في حالة اإلصابة بأمراض القلب والرئتين ويسبب اإلنفصال الش44بكي
بالعين ،ولكنه مطهر وقاتل لبعض الجراثيم.
وهكذا سائر األلوان ،وقد ال يكون بعض ما اكتشفه هؤالء صحيحا ،فهذا علم مع قدم4ه ال ي4زال من
ناحية الجزم واليقين في بداياته ،ولكنا نعتقد أن العلم ـ مس44تقبال ـ سيكتش4ف الكث4ير من الحق4ائق القطعي4ة
حول األلوان ،وورودها في القرآن الكريم بذلك التفصيل كاف واحده لقناعتنا بهذا االستشراف المستقبلي.
ولكن قبل ذلك ..نحافظ على ألوان الكون قبل أن يدمرها جشع اإلنسان وحرص اإلنس44ان وص44راع
اإلنسان.
التوازن:
خلق هللا تعالى ك4ل م4ا ن4راه أو م4ا ال ن4راه من الك4ون في ت4وازن ت4ام ال يتخل4ف ،وبمق4ادير مح4ددة
مضبوطة في منتهى الدقة واإلحكام ،قال تعالى مبينا قانون ذلكَ ﴿:وخَ َل َق ُكلَّ َش ْي ٍء َف َق َّد َرهُ َت ْق ِ 4ديراً)(الفرق44ان:
)2
وذكر بعض تفاصيل ذلك:
ض َمَ 4د ْدنَاهَا َ
فكل ما في األرض وما عليها مق4در وم4وزون بم4يزان هللا ال4دقيق ،ق4ال تع4الىَ ﴿:واأْل رْ َ
ون﴾ (الحجر)19 : اس َي َو َأ ْن َب ْتنَا ِفي َها ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء َموْ ُز ٍ َو َأ ْل َق ْينَا ِفي َها َر َو ِ
4لاح َو َج َعَ 4 صَ 4ب ِ ق اإْل ِ ْ وحركات األفالك في مساراتها مقدرة تقديرا دقيقا ال تحيد عنه ،قال تع4الىَ ﴿:ف44ا ِل ُ
يز ْال َع ِل ِيم﴾ (األنعام)96: س َو ْال َق َم َر حُ ْس َباناً َذ ِلكَ َت ْق ِديرُ ْال َع ِز ِ
اللَّي َْل َس َكناً َوال َّش ْم َ
وحركات الشمس وسيرها مقدر بحساب دقيق ،قال تعالىَ ﴿:وال َّش ْمسُ تَجْ ِري ِل ُم ْسَ 4ت َقرٍّ َل َه44ا َذ ِل44كَ َت ْقِ 4ديرُ
يز ْال َع ِل ِيم﴾ (يّـس)38 : ْال َع ِز ِ
ض4اهُ َّن َسْ 4ب َع وبهذا النظام الدقيق والموازين المض4بوطة ق4در هللا الس4موات جميع4ا ،ق4ال تع4الىَ ﴿:ف َق َ
يز ْال َع ِل ِيم﴾
يح َو ِح ْفظاً َذ ِلكَ َت ْق ِديرُ ْال َع ِز ِ صا ِب َاء َأ ْم َرهَا َوزَ يَّنَّا ال َّس َما َء ال ُّد ْن َيا ِب َم َت ِفي َيوْ َمي ِْن َو َأوْ َحى ِفي ُكلِّ َس َم ٍ اوا ٍ َس َم َ
83
(فصلت)12 :
وقد شرح العلم الحديث بعض ما أشار إليه القرآن الكريم من الموازين الضابطة للك4ون ،وس4نقتبس
هنا بعض ما ذكره كنماذج للتوازن الدقيق للكون وفق الحكمة اإللهية(.)1
فالعلم ينص على أنه لو ك4انت قش4رة األرض أس4مك مم4ا هي بمق4دار بض4عة أق4دام ،المتص ث4اني
أكسيد الكربون األوكسجين ،ولما أمكن وجود حياة النبات.
ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو عليه ،فإن بعض الشهب التي تحترق اآلن ب44الماليين في اله44واء
الخ4ارجي ك4انت تض4رب جمي4ع أج4زاء الك4رة األرض4ية ،وهي تس4ير بس4رعة ت4ترواح بين س4تة أمي4ال
وأربعين ميال في الثانية .وكان في إمكانها أن تش4عل ك4ل ش4يء قاب4ل لالح4تراق .ول4و ك4انت تس4ير ببطء
رصاصة البندقية الرتطمت كلها باألرض ،ولكانت العاقبة مروعة .أما اإلنس4ان ف4إن اص4طدامه بش4هاب
ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره.
وينص على أن الهواء س4ميك بالق4در الالزم بالض4بط لم4رور األش4عة ذات الت4أثير الكيمي4ائي ال4تي
يحتاج إليها الزرع ،والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ،دون أن تضر باإلنس4ان ،إال إذا ع4رض نفس4ه
لها مدة أطول من الالزم.
وينص على أن األوكسجين لو كان بنس4بة 50في المائ4ة مثال أو أك4ثر في اله4واء ب4دال من 21في
المائة فإن جميع المواد القابلة لالحتراق في العالم تص4بح عرض4ة لالش4تعال ،لدرج4ة أن أول ش4رارة من
البرق تصيب شجرة ال بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر.
ولو أن نسبة األوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10في المائة أو أق4ل ،ف4إن الحي4اة ربم44ا ط4ابقت
نفسها عليها في خالل الدهور .ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناص4ر المدني4ة ال4تي ألفه4ا اإلنس4ان -
كالنار مثال -تتوافر له.
وال بأس أن نذكر هنا ـ من باب وجوه الحكمة في الكون ـ واقع4ة فيه4ا مث4ل ب4ارز على أهمي4ة ك4ل
كائن حتى لو كان حشرة بسيطة قد ال يعيرها اإلنسان أي اهتمام.
وهذه الواقعة حدثت منذ سنوات عدي4دة في اس4تراليا حيث زرع ن4وع من الص4بار .كس4ياج وق4ائي.
ولكن هذا الزرع مض4ى في س4بيله ح4تى غطى مس4احة تق4رب من مس4احة انجل4ترا ،وزاحم أه4ل الم4دن
والقرى ،وأتلف مزارعهم ،وحال دون الزراعة .ولم يجد األهالي وسيلة تصده عن االنتش44ار ؛ وص44ارت
أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت ،يتقدم في سبيله دون عائق.
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حش44رة ال تعيش إال على ذل44ك الص44بار،
وال تتغذى بغيره ،وهي سريعة االنتشار ،وليس لها عدو يعوقها في استراليا .وما لبثت هذه الحشرة ح44تى
تغلبت على الصبار .ثم تراجعت ،ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية ،تكفي لصد الص44بار عن االنتش44ار
إلى األبد.
والقرآن الكريم من خالل عرضه لبعض نماذج توازن الكون يدعونا إلى تس44خير العلم لخدم44ة ه44ذا
التوازن حفاظا على وجودنا ووجود غيرنا على هذه األرض.
ولكن العلم الح4ديث وق4ع في بعض األي4دي اآلثم4ة ال4تي استس4خرته في مص4الحها ،فاخت4ل ت4وازن
الكون في كثير من النواحي.
)(1انظر :كتاب العلم يدعو إلى اإليمان ،أ .كريسي مورسون رئيس أكاديمية العلوم في واشنطن.
84
ومن األمثلة التي يصح ضربها هنا وصف القرآن الكريم الس4ماء بكونه4ا س4قفا محفوظ4ا ،كم4ا ق4ال
تعالىَ ﴿:و َج َع ْلنَا ال َّس َما َء َس ْقفاً َمحْ فُوظاً َوهُ ْم ع َْن آ َيا ِت َها ُم ِ
عْرضُونَ ﴾ (االنبياء)32:
فإن في ذل4ك إش4ارة ص4ريحة إلى وج4وب المحافظ4ة على ه4ذا الس4قف المحف4وظ ،وه4ذا الوج4وب
يستدعي التعرف على كل ما يؤذيه لتجنبه.
والعلم الحديث يخدم هذا الجانب ،ويؤكده ،ويخبر أن هذه البيئة التى جهزها هللا تعالى بكل مقوم44ات
الحياة لتصبح بيتاً آمناً لإلنسان وتفي بك4ل متطلبات4ه المعيش4ية ق4د حفظه4ا هللا تع4الى وحماه4ا من مخ4اطر
اإلشعاعات الكونية الفضائية والشهب والنيازك التى تندفع من القضاء الخارجي نحو األرض.
لكن الفكر الجاحد الذي يتصور أنه يستمد من العلم الحديث يلغي كل ه4ذه االعتب4ارات ،فال يخض4ع
إال لسلطان الهوى ،فيغلب المصالح الوقتية البسيطة على مصلحة األرض جميعا.
وهذا الفكر هو الذي استسخر التكنولوجيا لتدمير هذا الس4قف المحف4وظ ،وسنش4رح باختص4ار م4اذا
فعل هذا الفكر المصارع لتوازن الكون ،وما سيمكن أن يصنعه إن لم يرعوي عن هذا السلوك.
فنسبة ثاني أكسيد الكربون نسبة مق4درة تق4ديراً دقيق4اً ،وهي تلعب دوراً مهم4اً ج4داً فى إعال4ة الحي4اة
على سطح األرض.
ً ً ً
فالبيئة بهذه النسبة الضئيلة جدا من ثاني أكسيد الكربون المقدرة تقديرا هادف4ا اس44تطاعت أن تحتف44ظ
فى غالفه4ا الج4وي الق4ريب من س4طح األرض حيث ي4تركز معظم ث4اني أكس4يد الكرب4ون ( 80بالمائ4ة)
بدرجة حرارة مناسبة تسمح بوجود الحياة على سطحها.
فاهلل تعالى قد أودع في هذا الغاز خاصية امتص4اص الموج4ات الحراري4ة األرض4ية (األش4عة تحت
الحمراء) واالحتفاظ بها فى الغالف الجوي بما يعطي لهذا الغالف هذه الدرجة المناسبة من الحرارة التى
تسمح بوجود الحياة.
ومعني هذا أن االخالل بنسبة هذا الغاز زيادة أو نقصاناً تع4ني زي4ادة أو نقص4اناً فى درج4ة ح4رارة
الغالف الجوي وما يحمل هذا األمر من مخاطر كثيرة.
وق4د حص4ل ه4ذا األم4ر ،فنس4بة ث4اني أكس4يد الكرب4ون في زي4ادة مط4ردة فى الغالف الج4وي من4ذ
الخمسينات من هذا القرن.
ومن مخاطر هذه الزيادة ازدياد حرارة األرض مما يس4بب انص4هار كمي4ات كب4يرة من الثل4وج فى
مناطق القطبين والجبال ،وهذه المياه تتحرك لتسهم فى رفع منسوب مياه البحار والمحيطات.
وهذه الزيادة قد تتسبب في تعرض مدن ساحلية كث4يرة للغ4رق ،وتش4ير س4جالت الم4د والج4زر فى
مناطق كثيرة من العالم أن منسوب مي4اه البح4ار ق4د ارتف4ع بمق4دار 45ملليم4تراً فى الف4ترة من - 1890
،1940وأخذ المنسوب في االرتفاع بمعدل 3ملليمترات سنوياً حتي عام ،1970ثم ازداد المعدل ليصل
إلى 14ملليمتراً فى الوقت الحاضر.
وقد تبين للعلماء أن تزايد نسبة ثاني أكسيد الكربون الترجع فقط إلى تزايد استهالك مصادر الوقود
األحفوري (الفحم ـ النفط ـ الغاز الطبيعي) ،وإنما جاءت أيضاً نتيجة التدهور الذى أصاب الغطاء النب44اتي
الذي يعد المستهلك الرئيسي لثاني أكسيد الكربون.
وخطورة هذا الوضع هي ال4تي دعت إلى عق44د م44ؤتمر دولي فى لن4دن فى ف4براير 1989لمناقش44ة
اإلجراءات والوس4ائل الكفيل4ة بض4بط إطالق ث4اني أكس4يد الكرب4ون فى الغالف الج4وي وتنمي4ة مص4ادر
85
استهالكه لوقف هذه الزيادة المطردة ومحاولة العودة بنسبته كما قدرها هللا تعالى.
ض َم َد ْدنَاهَا َو َأ ْل َق ْينَا ِفي َها
ومن األمثلة التي يصح ضربها هنا ـ أيضا ـ ما نص عليه قوله تعالىَ ﴿:واأْل َرْ َ
ون﴾ (الحجر)19 : اس َي َو َأ ْن َب ْتنَا ِفي َها ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء َموْ ُز ٍَر َو ِ
فاآلية الكريمة تشير إلى أن عناصر البيئة -الحية منها وغير الحية -تتفاع44ل وترتب44ط ببعض44ها في
تناسق دقيق ،يتيح لها أداء دورها بشكل مت4وازن ومتكام4ل ،بحيث تحاف4ظ على وجوده4ا دون أن تتس4بَّب
في خلخلة منظومة الحياة ،وتهدِّد سائر األحياء.
وهي تدل على أن أيَّ خلل في هذا النظام ،يعني الخط4ر الع4ام على األحي4اء جميع4ا ،وللت4دليل على
ذلك نورد مثاال يتعلَّق بالنسيج الغابي ،الذي عملت فيه يد اإلنسان قطعا واقتالعا ،لتلبية حاجاته ونهمه إلى
الخشب في مساكنه وقصوره.
فإن تعرية البيئة الغابية ،سيؤدي إلى اختفاء معظم األشجار التي تعتمد عليه4ا كث4ير من الحيوان4ات، َّ
ملجأ وأوكارا ،ومصدرا للغذاء ..وسيؤدي بالتالي إلى تعرِّي التربة وتعرُّضها لالنجراف ،وما يعقب ذل44ك
من عج44ز األرض عن امتص44اص الم44اء ،وازدي44اد خط44ر التص44حُّر ..وس44يؤدي ذل44ك إلى خلخل44ة دورة
األوكس44يجين وث44اني أوكس44يد الكرب44ون ،باعتب44ار األش44جار مص44درا ب44ل مص44نعا متج 4دِّدا لألوكس44يجين،
التلوث الهوائي ..وسيؤدي ذلك أخ44يرا إلى ومستهلكا ألوكسيد الكربون ،ونقصان األشجار يزيد في درجة ُّ
تبخر الماء الناتج عن األشجار ،بسبب قطعها ،فتصاب المنطقة بالجفاف وتقل األمطار. تقليل ُّ
هذا نموذج بسيط ،وهيِّن من تص ُّدع المنظومة البيئية بسبب اإلنسان.
ولو تعرَّضنا لآلثار الخطيرة الناجمة عن الصناعات الكيماوية ومر َّكباته4ا العمالق4ة ،وآث4ار نفاياته4ا
السا َّمة على األنهار والبحار ،والحياة المائية ،وعلى الغالف الجويِّ ،وتس ُّمم الهواء ،ألفض44ى بن44ا الح44ديث
والمخاطر الحقيقية التي تعاني منها الحياة ،وي44دفع ثمنه44ا الباه44ظ اإلنس44ان ِ إلى مجل َّدات من الحقائق المرَّة،
وتشوهات ِخلقية.
ُّ نفسُه ،بما نجم عنها من أمراض مزمنة
االنتفاع:
لقد اقتضت حكمة هللا تعالى أن يتيح لهذه المخلوقات التي تعمر الكون انتفاع بعضها ببعض بحسب
درجاتها المختلفة.
وكان من رحمة هللا المقترنة بحكمته أن أتاح لإلنسان االنتفاع بك4ل م4ا في األرض من من4افع ،كم4ا
4و ِب ُك4لِّت َوهُ َ اوا ٍ اء َف َس َّواهُ َّن َس ْب َع َسَ 4م َ ض َج ِميعاً ثُ َّم ا ْست ََوى ِإ َلى ال َّس َم ِ قال تعالى ﴿:هُ َو الَّ ِذي خَ َل َق َل ُك ْم َما ِفي اأْل َرْ ِ
َش ْي ٍء َع ِلي ٌم﴾ (البقرة)29 :
وفي عالم األنع4ام أخ4بر تع4الى أن4ه خل4ق األنع4ام لينتف4ع به4ا في الوج4وه المش4روعة ،فق4ال تع4الى:
4ام َل ِعب َ
ْ4ر ًة ف ٌء َو َمنَا ِف ُع َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ ﴾ (النح4ل ،)5 :وق4ال تع4الىَ ﴿:و ِإ َّن َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِ ﴿ َواأْل َ ْن َعا َم خَ َل َق َها َل ُك ْم ِفي َها ِد ْ
4ل ار ِبينَ ﴾ (النحل ،)66:وقال تع4الىَ ﴿:وهَّللا ُ َج َع َ ث َود ٍَم َل َبناً خَا ِلصاً َسا ِئغاً ِلل َّش ِ طو ِن ِه ِم ْن َبي ِْن َفرْ ٍ نُ ْس ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي بُ ُ
صَ 4وا ِف َها ظعْ ِن ُك ْم َو َي44وْ َم ِإ َق44ا َم ِت ُك ْم َو ِم ْن َأ ْ َل ُك ْم ِم ْن بُيُو ِت ُك ْم َس َكناً َو َج َع َل َل ُك ْم ِم ْن جُ لُ4و ِد اأْل َ ْن َعِ 4
4ام بُيُوت4اً ت َْس4ت َِخ ُّفو َن َها َي44وْ َم َ
ين﴾ (النحل ،)80:وقال تعالىَ ﴿:و ِإ َّن َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام َل ِعب َْر ًة نُ ْس ِ 4قي ُك ْم ِم َّما ارهَا َأ َثاثاً َو َمتَاعاً ِإ َلى ِح ٍ ارهَا َو َأ ْش َع ِ َو َأوْ َب ِ
يرةٌ َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ ﴾ (المؤمنون ،)21 :وق4ال تع4الى ﴿:هَّللا ُ الَّ ِذي َج َع َ
4ل َل ُك ُم اأْل َ ْن َع4ا َم طو ِن َها َو َل ُك ْم ِفي َها َمنَا ِف ُع َك ِث َ ِفي بُ ُ
ِلتَرْ َكبُوا ِم ْن َها َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ ﴾ (غافر)79:
ومن هذا الباب الوحيد أتيح لإلنسان أن يتصرف بما قد يبدو ضارا بهذه األحي44اء ..وم44ع ذل44ك ،ف44إن
86
المؤمن ينتفع بهذا النوع من االنتفاع ،وهو ممتلئ بالرحمة ،يستشعر منة هللا ال44ذي أت44اح ل44ه أن يتنعم به44ذا
الضرر الذي يصيب غيره ،وقد روي أن رجال قال (:يا رس44ول هللا إني ألرحم الش44اة أن أذبحه44ا) ،فق44ال:
( إن رحمتها رحمك هللا)()1
وفي حديث آخر قال رسول هللا (:من رحم ذبيحة رحمه هللا يوم القيامة)،وفي رواية (:من رحم
ولو ذبيحة عصفور رحمه هللا يوم القيامة)()2
وقال بعضهم لرسول هللا :يا رسول هللا إني ألجد الع44نز ألذبحه44ا فأرحمه44ا ق44ال( :وإن رحمته44ا
رحمك هللا)()3
ومع ذلك ،فإن النصوص المقدسة فرض44ت من اآلداب م44ا يخف44ف من ش44دة الض44رر ال44ذي يص44يب
الكائنات عند انتفاعنا بها:
فقد أرشدنا إلى الكيفية المثلى لالستفادة من الحيوان مع عدم إيذائ44ه م44ا أمكن ،فق44د رأى رس44ول
هللا رجال أضجع شاة وهو يحد شفرته ،فقال النبي (:أتريد أن تميتها موتات ،هال أحددت ش44فرتك
قبل أن تضجعها)()4
ومر رسول هللا برجل وهو يجر شاة بأذنها ،فقال رسول هللا (:دع أذنها وخ44ذ بس44الفتها ())5
()6
وذكر بعض وجوه اإلحسان في الذبح ،فقال ( :إن هللا كتب اإلحس4ان على ك4ل ش4يء ف4إذا قتلتم
فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)()7
ومن هذا الباب ما سنه الشارع من الذبح ب4دل غ4يره مم4ا تمارس4ه الجاهلي4ات المختلف4ة ،وق4د تفطن
القدماء إلى دور الذبح في إزالة األلم ،فهذا ابن الجوزي يقول (:وأما ألم الذبح فانه يستر ،وق44د قي44ل أن44ه ال
يوجد أصال ألن الحساس لأللم أغشية ال44دماغ ،ألن في44ه األعض44اء الحساس44ة ،ول44ذلك إذا أص44ابها آف44ة من
صرع أو سكتة لم يحس اإلنسان بألم فإذا قطعت األوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إلى محل الحس ولهذا
قال عليه الصالة والسالم إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته)()8
ومث44ل ذل44ك نص العلم الح44ديث على أن ال44ذبح من العن44ق ه44و أنجح وس44يلة لإلجه44از الس44ريع على
الحيوان بغير تعذيب وال تمثيل إذ أنه من الثابت علميا أن الرقبة حلقة الوص4ل بين ال4رأس وس4ائر الجس4د
فإذا قطع الجهاز العصبي شلت جميع وظائف الجسم الرئيسية ،وإذا قطعت الشرايين واألوردة توقف الدم
عن تغذية المخ ،وإذا قطعت الممرات الهوائية وقف التنفس وفي جميع هذه الحاالت تنتهي الحياه سريعا.
باإلضافة إلى هذا ،فإن الذبح يرتبط بمصلحة اإلنسان نفسه ..فالدم هو المجرى الذي تلقى فيه م44واد
االيض أو التمثيل الغذائي كلها ففي ما هو مفيد وما هو ضار مؤذى ،والكائنات المتطفلة في الجسم تف44رز
سمومها في الدم ناهيك عن وجودها في ال4دورة الدموي4ة في بعض مراح4ل تطوره4ا ،وله4ذا فال4دم غ4ذاء
محرم في اإلسالم.
رواه الحاكم وقال صحيح اإلسناد. )(1
رواه الطبراني في الكبير. )(2
رواه الطبراني في الكبير وفيه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي قال أبو حاتم يكتب 4حديثه وال يحتج به. )(3
رواه الطبراني والحاكم وقال :صحيح على شرط الشيخين. )(4
السالفة مقدم العنق. )(5
رواه ابن ماجة. )(6
رواه مسلم. )(7
تلبيس إبليس. )(8
87
وقد كان أهل الجاهلية يجبون أسنمة اإلبل ـ وهي حية ـ ويقطعون أليات الغنم وكان في ذلك تع44ذيب
لهذه الحيوانات ،فلهذا حرم الرسول االنتفاع بهذه األجزاء ،فقال( :ما قطع من البهيمة وهي حي4ة فه4و
ميتة)()9
ومن هذا الباب نهيه عن التمثيل بالبهائم ،فقد (نهى رسول هللا أن يمثل بالبهائم)
ومنه نهيه عن صبر البهائم ،ونهيه عن صيد الحيوان أو قتل44ه لغ44ير غ44رض ،ق44ال (:ال تتخ44ذوا
شيئا فيه الروح غرضا)
ومنه نهىه عن الرمية ،فقد روي أن النبي نهى عن الرمية أن ترمي الداب44ة ،ثم تؤك44ل ولكن
تذبح ثم يرموا إن شاءوا ،وقد مر ابن عباس على أناس قد وض4عوا حمام4ة يرمونه4ا فق4ال موجه4ا (:نهى
رسول هللا أن يتخذ الروح غرضا)
4ـ الطهارة :
كل ما نراه في الكون ـ في أصل خلقته ـ طاهر لم يتدنس بأي أذى يجع4ل من منفعت4ه مض4رة ،ومن
مصلحته مفسدة.
ولهذا األصل ينص الفقهاء على أن (األص44ل في األش44ياء الطه44ارة) ،وهي قاع44دة ال تع44ني المع44نى
التعبدي فقط ،بل تعني كذلك الحفاظ على الكون المسخر بالهيئة التي خلق عليها ،ألن أي تغي44ير ق44د تنقلب
عواقبه على عكس المراد.
ولعل أخطر ما يصيبه التلوث ،وأسهل ما قد يتعرض للتلوث ه44و الم44اء باعتب44ار س44يولته المس44تعدة
لتحلل أي شيء فيه.
ولهذا أولى القرآن الكريم أهمية كبيرة للماء ،فقد ورد ذكره في الق44رآن الك44ريم 49م44رة ،وامتن هللا
نزَل ِمنَ ال َّس َماء َماء لَّ ُكم ِّم ْنه َش َرابٌ َو ِم ْنهُ به على عباده ذاكرا وجوه الحكم في خلقه ،قال تعالى ﴿ :هُ َو الَّ ِذي َأ َ
ت ِإ َّن ِفي َذ ِل4كَ آل َيً 4ة َاب َو ِمن ُكل الثَّ َم َرا ِ يل َو َ
األ ْعن َ الز ْيتُونَ َوالنَّ ِخ َ
الزرْ َع َو َّ ت َل ُكم ِب ِه َّ َش َجرٌ ِفي ِه تُ ِسي ُمونَ ( )10يُن ِب ُ
ِّل َقوْ ٍم َي َت َف َّكرُونَ (( ﴾)11النحل)
ولكل هذه الخيرات النابعة من نعمة الماء يصفه القرآن الكريم بأن44ه مب44ارك أي كث44ير العط44اء ،ق44ال
صي ِد ﴾ ( ّق)9: ت َو َحبَّ ْال َح ِاركاً َفأَ ْن َب ْتنَا ِب ِه َجنَّا ٍ
اء َما ًء ُم َب َ تعالىَ ﴿:ون ََّز ْلنَا ِمنَ ال َّس َم ِ
طهُوراً ِلنُحْ ِي َي ِب ِه َب ْل َد ًة
اء َما ًء َ ولكن كل هذه المنافع مقيدة بوصف الطهر ،قال تعالىَ ﴿:و َأ ْن ْ
زَلنَا ِمنَ ال َّس َم ِ
َاس َّي َك ِثيراً﴾ (الفرقان)49 ،48 : َميْتاً َونُ ْس ِق َيهُ ِم َّما خَ َل ْقنَا َأ ْن َعاماً َو َأن ِ
وفي ذلك إشارة إلى أن منافعه تقتضي وجود طهوريته ،ف44إن س44لبها تح44ول من دور اإلحي44اء ال44ذي
اء ُكلَّ َش ْي ٍء َح ٍّي َأ َفال ي ُْؤ ِمنُونَ )(االنبياء )30 :إلى دور اإلماتة. ﴿و َج َع ْلنَا ِمنَ ْال َم ِنص عليه قوله تعالىَ :
والعلم الحديث أيد هذه النظرة القرآنية ،ففصل في المنافع الجم44ة ال44تي ورد الق44رآن الك44ريم ببيانه44ا،
فنص على أن الم44اء يش44كل %70من مس44احة اليابس44ة ويش44كل في المتوس44ط %65من وزن اإلنس44ان
والكائنات الحية.
وحكمة هذه النس4بة المرتفع4ة للم4اء ه4و دوره الكب4ير في س4ير التف4اعالت الكيميائي4ة داخ4ل أجس4ام
النباتات والحيوانات.
وسر ذلك ما يملكه من خواص كيميائية وفيزيائية ،منها بناؤه الفريد الذي يجعل جزيئات44ه متماس44كة
)(9رواه البزار.
88
ومرتبطة بروابط هيدروجينية ،ويصبح كل جزيء مرتبطاً بأربعة جزيئات مجاورة ،وكل منه4ا بأربع4ة،
وهكذا تبدوا جميع الجزيئات مرتبطة ببعض في شبكة فراغية متماسكة ،ولوال ه4ذا لك4انت درج44ة غلي4ان
الماء (80-م) ودرج4ة تجم4ده ( 100 -م) والس4تحال ج4ود الم4اء على ش4كل س4ائل وص4لب على س4طح
األرض والستحالت الحياة.
وهو لهذا يمتص قدرة حرارية كبيرة لكي يتبخر حيث كل غران من الماء السائل يحت44اج إلى 540
حريرة ليتحول إلى بخار ،وهذه الخاصية تعطي الماء دوراً فريداً في نقل القدرة من مك44ان آلخ44ر ،فالم44اء
الذي يتبخر من المحيطات تسوقه الرياح مئات وآالف الكيلوم4ترات إلى أم4اكن ب4اردة فعن4د ت4برد البخ4ار
وتحببه وتساقطه على شكل قطرات مطر ينشر معه الطاقة التي أمتص44ها أثن44اء تبخ44ر ه فيس44اهم في رف44ع
درجة الحرارة في تلك المناطق وتلطيف حرارة الجو وك4ذلك في أثن4اء تس4اقط الثل4وج فكم ه4ذه الح4رارة
المنتشرة كبيرة إذا علمنا أنه يتبخر كل عام 520ألف كيلوا متر مكعب من الماء.
إلى غير ذلك من الخواص ،التي تنتج عنها المنافع الكثيرة.
والعلم الحديث بين كذلك ضوابط استعمال الماء والمخاطر التي تنجر عن سوء التعامل مع44ه ،ومن
أخطرها ما يسمى بالمطر الحامضي ،الذي يشير وصف القرآن الكريم للماء بالطهر على وجوب الح44ذر
منه.
لكن المدنية الحديث ال تبالي بهذا النهي الرباني المؤيد بالعلم حتى أصبح المط44ر يس44قط في من44اطق
كثيرة ـ خاصة فى البيئات الصناعية ـ مطراً حمضياً يهلك الحرث والنس44ل ،فق44د بل44غ األس الهي44دروجيني
للمطر فى بعض المناطق الصناعية درجة عالية تجعل مي4اه األمط4ار عالي4ة الحموض4ة محدث4ه أض4رار
كثيرة ،فقد فقدت مئات من البحيرات فى أمريك4ا الش4مالية وش4مال غ4رب أورب4ا ـ نتيج4ة ارتف4اع درج4ة
حموضة مياهها بسبب المط4ر الحمض4ي ـ معظم م4ا به4ا من ث4روات س4مكية وأص4بحت 90بح4يرة فى
منطق4ة جب4ال أدرون4داك فى والي4ة نيوي4ورك ـ مثال ـ خالي4ة تمام4اً من األس4ماك تحت ت4أثير الحموض4ة
المتزايدة لمياه البحيرات وهي حموضة قاتلة لألحياء.
وال يقتصر تأثير المطر الحمضي على األضرار بمياه األنه44ار والبح44يرات وإنم44ا يمت44د ت44أثيره إلي
مخاطر كثيرة فقد أعلن فريق من الباحثين فى جامعة نيوها مبشير بالواليات المتحدة االمريكي44ة ()1985
أن المطر الحمضي يمنع حاسة الش4م عن4د س4مك الس4المون ،وله4ذا يفق4د قدرت4ه على إيج4اد طريق4ة نح4و
مجاري األنهار العليا من أجل وضع بيض4ة وإتم4ام عملي4ة الفقس ،كم4ا ب4دأت تض4ر األمط4ار الحمض4ية
بالمحاصيل الزراعية تحت ت4أثير ترس4ب كمي4ات كب4يرة من الم4واد الحمض4ية فى الترب4ة مم4ا يغ4ير من
تركيبها الكيماوي فى اتجاه الحموضية المتزايدة التى تضر بل تقتل النبات44ات إذ تعم44ل الحموض44ة الزائ44دة
فى الترب4ة على إفق4ار الترب4ة نتيج4ة إزال4ة الكاثيون4ات " األيون4ات الموجب4ة " منه4ا ال4تى تعت4بر القاع4دة
األساسية لتغذية النباتات مثل الكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم.
كما يؤدي المطر الحمضي إلى تدمير الكثير من األشجار والنبات4ات حيث تص4اب بظ4اهرة الم4وت
التراجعي ،حيث تموت األشجار واقفه كما يقول4ون إذ تتل4ف األوراق العلوي4ة المعرض4ة مباش4رة للمط4ر
الحمضي الذى يقتل المادة الخضراء فيها ثم ينتقل التأثير بعد ذلك الى األوراق التحتية فقد أوض44ح تقري44ر
من ألمانيا االتحادية ( )1980أن مساحة من الغابات تقدر بنحو 560ألف هكتار أي حوالي 7ر %7من
مجم44وع مس44احات الغاب44ات في ألماني44ا ق44د دم44رت أو أتلفت ب44درجات متفاوت44ه نتيج44ة المط44ر الحمض44ي
89
والضباب الحمضي.
وعندما نتساءل عن سبب هذا االنحراف عن الحكمة اإللهية في الحف44اظ على طه44ارة المي44اه ،نج44ده
الجشع والحرص على الكس4ب بغض النظ4ر عن المفاس4د الحاص4لة ،فعن4دما نس4تخدم األس4مدة الكيماوي4ة
ال بدرجة كثافة عالية ،خوفا من الجوائح ،وحرصا على الكسب ،وس4عيا إلى زي4ادة والمبيدات الحشرية مث ً
إنتاجية المحاصيل الزراعية نصل إلى إفساد البيئة واإلنتاج معاً ،ألن االستخدام المكثف له4ذه الكيماوي4ات
ال عن إنتاج محاصيل ملوثة كيمائيا. تسرب كميات كبيرة منها إلى الهواء ومصادر المياه وإفسادهما ،فض ً
وفي تقرير صادر عن دول مجموعة التعاون االقتصادي األوربي ( )1988حذر من تفاقم التل44وث
المائي الن4اجم عن تك4ثيف اس4تخدام األس4مدة الكيماوي4ة ،ودع4ا التقري4ر إلى الح4د من االس4تخدام المكث4ف
(اإلسراف) لهذه األسمدة الكيماوية لما لها من مخاطر كبيرة على األحياء المائية.
ف4إذا قي4ل له4ؤالء :كف4وا عن ه4ذا اإلفس4اد في األرض ،ق4الوا كم4ا نص الق4رآن الك4ريمِ ﴿ :إنَّ َم4ا نَحْ ُن
ُمصْ ِلحُونَ ﴾ (البقرة ،)11 :ويعقب القرآن الكريم على قولهم هذا بقوله تع44الىَ ﴿ :أال ِإنَّه ُْم هُ ُم ْال ُم ْف ِس ُ 4دونَ َو َل ِك ْن
ال َي ْشعُرُونَ ﴾ (البقرة)12 :
***
وكمث44ال آخ44ر على حث الش44ريعة على وج44وب الحف44اظ على طه44ارة البيئ44ة الحيوي44ة النهي عن
الجاللة( ،)1وهي ما يأكل القاذورات من الحيوانات ،أو هي الدابة التي تتبع النجاسات وتأكل الجلة ،وهي
البعرة والعذرة ،ففي الحديث ( :نهى رسول هللا عن اإلبل الجالل4ة أن يؤك4ل لحمه4ا وال يش4رب لبنه4ا
وال يحمل عليها إال األدم ،وال يذكيها الناس حتى تعلف أربعين ليلة)()2
بل ورد النهي عن ركوبه4ا ،ففي الح4ديث ( :نهى رس4ول هللا عن الجالل4ة في اإلب4ل أن ي4ركب
عليها أو يشرب من ألبانها) ( ،)3وقد علل ذلك بأنها ربما عرقت فتلوث بعرقها.
ومن هذا الباب نهي الشرع أن تلقى في األرض النجاسات ونحوه44ا ،وق44د روي عن بعض44هم ق44ال:
( كنا نكري أراضي رسول هللا ونشترط على من يكريها أال يلقي فيها العذرة)()4
وباعتبار هذا المعنى كان أص4دق كلم4ة قاله4ا الش4اعر ،كم4ا ورد في الح4ديث كلم4ة لبيد( :)2أال ك4ل
)(2وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها 4أشعر كلمة تكلمت بها العرب ،وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر ،وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر ،وفي
أخرى أصدق بيت قالته الشعراء ،وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب.
)(1رواه البخاري ومسلم.
)(2في ظالل القرآن.
94
أن ال يقدر حق قدره ـ كما قد ال تقدر المعاني الواردة في السورة حق قدرها ـ ذكر أن هذه السورة ـ ال44تي
تحوي هذه الحقيقة الجليلة ـ والتي نتوهمها صغيرة تع4دل ثلث الق4رآن كم4ا روي عن أبي س4عد ،أن رجال
سمع رجال يقرأ ﴿ :قُلْ هُ َو هَّللا ُ َأ َح ٌد﴾ (االخالص )1 :يرددها ،فلما أصبح جاء إلى النبي فذكر ذل44ك ل44ه -
وكأن الرجل يتقالها -فقال النبي (:والذي نفسي بيده ،إنها لتعدل ثلث القرآن)()1
ولهذا كان بالل في رمضاء مكة في بداية اإلسالم يصيح بها في نش4وة عظيم4ة ،وق4د ف4ني عن ك4ل
العذاب المحيط به (:أحد أحد)
وال غرابة في كل هذا ـ كما يقول سيد قطب ـ ( فإن األحدية التي أمر رسول هللا أن يعلنه4ا :ق4ل
هو هللا أحد .هذه األحدية عقيدة للضمير ،وتفسير للوجود ،ومنهج للحياة)()2
ولهذا ـ خالف ما قد نتصور ـ فإن غاية رسالة رس44ول هللا لم تكن ال44دعوة والتربي44ة على مع44نى
التوحيد الذي ينفي الشريك فقط ،وإنما الدعوة والتربية على معنى األحدية الذي ينفي الوجود الذاتي لغ44ير
هللا.
وعلى كليهما تقوم حياة المؤمن ،ومن كليهما يستمد العارف.
وقد شرح س4يد قطب بتعب4يره الجمي4ل المع4اني ال4تي يعيش4ها الع4ارف ،وه4و في ظالل ه4ذا االس4م
الجليل ،فقال (:إنها أحدية الوجود ..فليس هناك حقيق4ة إال حقيقت4ه .وليس هن4اك وج4ود حقيقي إال وج4وده.
وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي ،ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية)()3
وهذه الحقيقة هي التي تتأسس عليها كل حق4ائق المعرف4ة والس4لوك ،وهي النهاي4ة ال4تي ينتهي إليه4ا
سلوك العارف ليبدأ به4ا اس4تمداده ،فه4و م4ا دام ينظ4ر إلى الوج4ود نظ4رة الش4ريك ال4ذي ي4زاحم رب4ه في
وجوده ،ال يستمد من هذا الوجود غير الجهل والتشتت ،لكنه إن خل4ع عن4ه ه4ذا الوج4ود المش4رك ،وحاله
بحلية األحدية ،فإن الوجود كله يصبح عيونا تفيض بالمعارف على قلبه.
ولهذاال يفهم العارفون من قول ( ال إله إال هللا) ما يفهمه الكث44ير من قص44ر معناه44ا على ( ال معب44ود
بحق إال هللا) ،بل يفهمون ذلك ،ومعه يفهمون أن ( ال موجود بحق إال هللا)
***
ولم يخالف أحد من العلماء في صحة هذه المعاني التي يتحدث عنها العارفون(.)4
فهي معان شرعية تدل عليها النصوص الكثيرة ،بل يدل عليها العقل ،ويستطعمها الذوق.
والرمي ألجل هذا بالبدعة والضالل ال دليل عليه ،وال مبرر له.
وبما أن بعض الناس ممن يدعون االنتساب إلى ابن القيم أو ابن تيمي4ة يخ4ول لنفس4ه الحكم بالبدع4ة
والضاللة بسبب هذه المقوالت ،فإنا سنود رأيهما هنا ،ال من باب الجدل الذي نهين4ا عن4ه ،وإنم4ا من ب4اب
إلزامهم بما يلزمون به أنفسهم.
تحدث ابن القيم عن الفناء والبقاء في كتبه الكثيرة ،ومما قال4ه في م4دارج الس4الكين عن4د حديث4ه عن
منزلة الفناء (:الفناء ضد البقاء ،والباقي إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقي44ه ،ب44ل بق44اؤه من ل44وازم
نفسه وهو هللا تعالى وحده ،وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب ،وليس له من نفسه بقاء ،كما أنه ليس له من نفسه
)(1رواه ابن حبان ،وفي حديث آخر ،قال رسول هللا (: أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليلة ثلث القرآن قالوا نحن اعجز من ذلك واضعف قال( :إن هللا
عز وجل جزا القرآن ثالثة أجزاء فجعل قل هو هللا احد جزا من أجزاء القرآن)رواه أحمد ومسلم.
)(2في ظالل القرآن.
)(3في ظالل القرآن.
)(4باستنثاء بعض الحرفيين الذين لم تستطع عقولهم أن تفهم هذه المعاني العميقة ،ولم تتح لهم أذواقهم أن تستشعرها.
95
وجود ،فإيجاده وإبقاؤه من رب4ه وخالق4ه ،وإال فه4و ليس ل4ه من نفس4ه إال الع4دم ،قب4ل إيج4اده والفن4اء بع4د
إيجاده)()1
ويرفع توهم أن المراد بأن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه بقوله (:إنما الفن44اء أن44ك إذا نظ44رت إلى
ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدوما ،وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظ44ر عن إبق44اء
موجده له استحال بقاؤه ،فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى قولنا إنه بنفس4ه مع4دوم
وفان فافهمه)()2
أما ابن تيمية ،فتحدث في رسائلة كثيرا عن هذه الحال ،وإن كان يعيب عليه نقصه عن الكمال وهو
يتفق في ذلك مع كل من تحدث عن هذا الحال..
يقول في مجموع الفتاوى (:الفناء الذي يوجد فى كالم الصوفية يفسر بثالثة أمور :أحدها فناء القلب
عن إرادة ما سوى الرب والتوكل عليه وعبادته وما يتبع ذل44ك ،فه44ذا ح44ق ص44حيح وه44و محض التوحي44د
واإلخالص ،وهو فى الحقيقة عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى هللا وحده الشريك
له ،وما يتبع ذلك من المعارف واألحوال ،وليس ألحد خروج عن هذا ،وهذا ه4و القلب الس44ليم ال44ذي ق4ال
ب َس ِل ٍيم﴾ (الشعراء ،)89 :وه44و س44المة القلب عن اإلعتق44ادات الفاس44دة وم44ايتبع هللا ِب َق ْل ٍ
هللا فيهِ ﴿ :إاَّل َم ْن َأتَى َ
ذلك.
وهذا الفناء الينافيه البقاء ،بل يجتمع ه4و والبق4اء ،فيك4ون العب4د فاني4ا عن إرادة م4ا س4واه وإن ك4ان
شاعرا باهلل وبالسوى وترجمته قول (ال إله إال هللا) ،وكان النبى يقول (:ال اله اال هللا وال نعب44د إال إي44اه
له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن) وهذا فى الجملة هو أول الدين وآخره.
األمر الثانى فناء القلب عن شهود ما سوى الرب ،فذاك فناء عن اإلرادة ،وهذا فن44اء عن الش44هاده،
ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه ،وهذا فناء عن العلم بالغير والنظ44ر إلي44ه ،فه44ذا الفن44اء في44ه نقص،
فإن شهود الحقائق على ما هي عليه ،وهو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من شهود وجوده
أو صفة من صفاته أو اسم من أسمائه ،والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك)()3
وقال في موضع آخر ..(:وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب ،وه44ذا ح44ال ن44اقص
يعرض لبعض السالكين ،ليس هو الغاية ،وال شرطا في الغاية ،بل الغاية الفناء عن عبادة الس44وى ..وه44و
حال ابراهيم ومحمد الخليلين ـ صلى هللا عليهما وسلم ـ فإنه قد ثبت في الص44حاح عن الن44بي من غ44ير
وجه أنه قال (:إن هللا اتخذني خليال كما اتخذ ابراهيم خليال)( ..)4وحقيقة ه44ذا الفن44اء ه44و تحقي44ق الحنيفي44ة،
وهو إخالص الدين هلل وهو أن يفني بعبادة هللا عن عبادة ما سواه ،وبمحبته عن محبة ما س4واه ،وبطاعت4ه
عن طاعة ما سواه ،وبخشيته عن خشية ما سواه ،وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض
فيه ،فال يكون لمخلوق من المخلوقين ال لنفسه وال لغير نفسه على قلبه شركة مع هللا تعالى)()5
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن حال الفناء الذي تحدث عنه أهل هللا حال معتبر عند ابن تيمية
وابن القيم ،وأن ما يدعيه من يدعي صحبتهما من الدعاوى ال دلي4ل علي4ه ،وه4و محض أحق4اد تمتلئ به4ا
النفوس ،ال علم معتبر يمكن أن يناقش.
مدارج السالكين.3/369 : )(1
مدارج السالكين.3/369 : )(2
مجموع 4الفتاوى.10/337: )(3
رواه الحاكم. )(4
الرد على المنطقيين.517 : )(5
96
أما ما ذكراه من نقص هذه الحال ،فهو صحيح ال شك فيه ..والمتوقف عند هذه الحال والمس4تلذ له4ا
انقطع به الطريق ..أولم يفهم الغاية منه ..فالخالع للكون الف4اني لن يفهم م4راد هللا من رس4ائل الك4ون ح4تى
يعيد لبسه من جديد ،باسم هللا ال باسمه الذي ال وجود له.
ولكن استنقاص الع4ارفين المتح4دثين عن ه4ذه الح4ال غ4ير ص4حيح ..ومق4ارنتهم في ذل4ك بالس4لف
الصالح ،واعتبار كالمهم بدعة بسبب ذلك أبعد عن الصواب.
ذلك أن الكالم في هذه المسألة يشبه الكالم في التفسير والفقه ..وغيرها من علوم الشريعة.
فكالم المفسر في تفسير غريب القرآن ربم4ا يك4ون بدع4ة لم يخض فيه4ا الس4لف ،ال لكونه4ا بدع4ة،
ولكن لكون ذلك الغريب كان مشهورا غير غريب عندهم.
والكالم في دقائق الفقه ،وتقسيمه إلى سنن وفرائض وموانع وأس44باب ..وغ44ير ذل44ك بدع44ة بالنس44بة
لفقهاء السلف ..فلم تدعهم الحاجة في وقتهم إلى مثل هذه المصطلحات.
وهكذا األمر في هذا الباب..
فأهل هللا الذين اختصوا بالبحث في هذا الجانب ..ودرسوا األحوال التي يمر بها الس44الك في رحلت44ه
إلى هللا الحظوا هذه المرحلة الخطيرة والمهمة ..فلذلك تحدثوا عنها بصنوف من األحاديث..
منها ما يرغب فيها ،ويعتبرها قمة من قمم السلوك ..وهو صحيح ..ألن من وصل إليه4ا ب4دأ البداي4ة
الصحيحة ..والبداية الصحيحة البد أن توصل إلى النهاية الصحيحة.
وليس ذلك نقصا ..وليس القيام بأداء ظواهر العبودية أكمل من هذا..
ذلك أن تلك الظواهر قد يقوم بها من ال حال له ،بل من ال إيمان له.
أما كالم العارفين فهو في أحوال الباطن ،وهي أحوال دقيقة تستدعي تفاصيل دقيقة كتلك التفاص44يل
التي يتحدث فيها الفقهاء عن دقائق الفقه ،ما يقع منها وما ال يقع ..ولم يقل أحد من الن44اس أن كالم الفقه44اء
في هذا قصور عن درجة السلف.
ولكن العارفين مع هذا ينبهون السالكين إلى عدم الوق44وف م44ع أي ح44ال ،وهم ي44رددون لهم في ك44ل
﴿و َأ َّن ِإ َلى َربِّكَ ال ُم ْن َت َهى﴾ {النَّجم}42:
حين قوله تعالىَ :
***
قد يقال بعد هذا :فما الذي يميز العارفين؟
ولماذا ال يستوون مع سائر المؤمنين في النظر إلى الكون؟
ولماذا تمتلئ الكتب بهذه المعاني الواضحة الصحيحة؟
والجواب عن ذلك :أن هذا العلم يتحول عند العارفين إلى معرفة ،فالعالم ي44درك الش44يء ،والع44ارف
يذوقه ويعايشه.
وعندما يعيش العارف أو السالك هذه المشاعر النبيلة ،ف4إن ودي4ان البالغ4ة تفيض من لس4انه لتع4بر
عن تلك المشاعر..وهذا سر تلك الكنوز العظيمة التي خلفها أولياء هللا.
2ـ البقاء:
بع4د أن يخل4ع الع4ارف لب4اس الك4ون المع4دوم ،وال4ذي ك4ان حجاب4ه الحائ4ل بين4ه وبين عب4ادة رب4ه
ومعرفته ،يعود إلى الكون المنتسب إلى هللا ،والدال على هللا ،والمعرف باهلل.
فالعارفون جميعا متفقون على أن حالة الفناء التي يمر بها السالك ـ وال4تي تع4بر عن حقيق4ة عقدي4ة،
97
وذوق عرفاني ـ هي بداية المعرفة ال نهايتها ،فإن الفناء هو مقدمة ما يسمونه بالبقاء.
فالباقي باهلل ،والذي يرى األكون ،ويصاحبها في هللا أكمل من الذي فني عن األكوان
وفي ذلك يقول ابن عطاء هللا يعبر عن الحالين (:ص4احب الحقيق4ة غ4اب عن الخل4ق بش4هود المل4ك
الحق ،وفني عن األسباب بشهود مسبب األسباب ،فهو عب4د مواج4ه بالحقيق4ة ،ظ4اهر علي4ه س4ناها س4الك
للطريقة قد استولى على مداها ،غ4ير أن4ه غري4ق األن4وار مطم4وس اآلث4ار ق4د غلب س4كره على ص4حوه
وجمعه على فرقه وفناؤه على بقائه وغيبته على حضوره)
فهذه هي حال الفاني الذي شغله هللا عن كل شيء ،وهي حال شريفة ،وصاحبها من الخواص ،لكنه
ال بالنسبة ألهل الغفلة ناقص بالنسبة لخواص الخواص الذين جمعوا بين األم44رين وهم أه44ل وإن كان كام ً
المعرفة.
فلذا قال ابن عطاء هللا معقبا على أوصاف الف4اني (:غ4ير أن4ه غري4ق األن4وار) ق4د غ4رق في بح4ار
التوحيد واألحدية ( مطموس اآلثار) قد طمست بصيرته عن النظر إلى اآلثار والعبيد ( ،قد غلب س44كره)
وعدم إحساسه باآلثار على صحوه وهو إحساسه بها ،وهو رؤية الحق وحده على فرقه ،وهو رؤية الحق
والخلق ،فهو في مقام الجمع ال في مقام الفرق.
أما الباقي ،فحاله أكمل ،قال ابن عطاء هللا بعد ذكره لحال الفاني (:وأكم44ل من44ه عب44د ش44رب ف44ازداد
صحواً ،وغاب فازداد حضوراً ،فال جمعه يحجبه عن فرقه وال فرق44ه يحجب44ه عن جمع44ه ،وال فن44اؤه عن
بقائه وال بقاؤه يصده عن فنائه ،يعطي كل ذي قسط قسطه ويوفي كل ذي حق حقه)
فهذا العارف الباقي بربه قد جمع بين المزيتين ( ،فباطنه مكمل بالحقيقة ،وظاهره مجمل بالشريعة،
فيشكر الخلق والحق ال يغيب عن الحق في حال مخالطة الخلق ،ليعطي كل ذي قسط قسطه)
وقد جمع ابن عطاء هللا حال السالكين والواصلين في قوله (:من عرف الحق ش4هده في ك4ل ش4يء،
ومن فني به غاب عن كل شيء)
فالعارف في حال البقاء يرى الخلق والحق ،فيرى الحق تعالى ظاهراً في ك44ل األش44ياء وقائم4اً به44ا،
مع عدم غيبته عن نفسه وحسه ،بخالف الفاني عن نفسه وعن األكوان ،فإنه ال ي44رى في الوج44ود ظ44اهراً
إال هللا تعالى ،ويغيب عن كل شيء سواه حتى عن نفسه وحسه.
والع44ارفون يش44يرون بالبق44اء ،ال44ذي ه44و الع44ودة إلى الك44ون إلى اس44تيقاظ الف44اني من ح44ال الفن44اء
واالصطالم ..إلى ح4ال الص4حو والتحقي4ق ،وهي م4راتب ق4د يم4ر ببعض4ها الس4الك ،وق4د يتجاوزه4ا إلى
مقامات أرفع وأعلى من غير أن يمر عليها.
ويعبرون بها عن بقاء الكون باهلل ،فالبقاء هو الدوام ،واستمرار الوجود.
3ـ القراءة:
بعد أن يمحى الكون الالموجود ـ المؤس4س على ال4وهم ـ في ذهن الع4ارف ووجدان4ه ،ثم يع4ود من
جديد بخلعة أخرى ،هي خلعة االنتساب هلل ،فيعود له البق44اء باس44م هللا ،يتح44ول إلى كت44اب يق44رؤه الع44ارف
ليرى من خالله صفات ربه وكماالته.
فالكون المقروء هو المرحلة الثالثة من عالقة العارفين بالكون ،أو هو المرحلة األولى للعرفان.
فالعارف هو الذي لديه القدرة على حل رموز الكون ،أو هو الخبير الذي لديه المفاتيح التي يفك بها
الشيفرة التي يختزنها الكون ،أو هو صاحب البصيرة الذي يرى ما يخبأ بين سطور الكون.
98
ولهذا كان أول ما أمر به رسول هللا ،بل ما أمرت به أمته ـ كما يشير الع4ارفون ـ ه44و أن تع44اد
اسِ 4م َربِّكَ الَّ ِذي خَ َل4قَ﴾ (العل4ق ،)1 :فاآلي44ة تحتم4ل من حيث 4ر ْأ ِب ْ
قراءة الكون باسم هللا ،كما ق4ال تع4الى ﴿:ا ْقَ 4
اإلشارة أن يكون اسم الموصول مفعوال به ،ويصير المعنى حينئذ ( اقرأ باسم ربك األشياء التي خلقها)
والقرآن الكريم مليئ بهذا المعنى مما قد ال يحوجنا إلى هذا المعنى اإلشاري الذي يفهمه الع44ارفون،
بل فيه الداللة على كيفية قراءة الكون باسم هللا.
ظرْ ِإ َلى فاهلل تعالى يأمرنا بقراء الرحمة اإللهية من خالل حياة األرض بعد موته44ا ،ق44ال تع4الىَ ﴿:ف44ا ْن ُ
ض َبعْ َد َموْ ِت َها ﴾ (الروم)50 : ت هَّللا ِ َك ْيفَ يُحْ ِيي اأْل َرْ َ ار َرحْ َم ِ آ َث ِ
ويأمرنا باالستبش4ار تف4اؤال بفض4ل هللا ،وفرح4ا باهلل ،وتنس4ما لرحم4ة هللا عن4د هب4وب الري4اح ال4تي
ال ُسْ 4قنَا ُه ِل َب َلٍ 4دت َسَ 4حاباً ِث َق4ا ً اح بُ ْشراً َب ْينَ َي َديْ َرحْ َم ِت ِه َحتَّى ِإ َذا َأ َقلَّ ْ يرسلها هللا ،قال تعالىَ ﴿:وهُ َو الَّ ِذي يُرْ ِسلُ الرِّ َي َ
ت َك َذ ِلكَ نُ ْخ ِرجُ ْال َموْ تَى َل َعلَّ ُك ْم َت َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف)57 : زَلنَا ِب ِه ْال َما َء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ ت َفأَ ْن َْم ِّي ٍ
ويعلمنا أن نقرأ لطف هللا وخبرته المحيطة بكل شي من خالل حروف الماء الس44اقطة على األرض
ي4ف خَ ِب4يرٌ﴾ ض4رَّ ًة ِإ َّن هَّللا َ َل ِط ٌ صِ 4بحُ اأْل َرْ ضُ ُم ْخ َ اء َم4ا ًء َفتُ ْالسَ 4م ِ4زَل ِمنَ َّ المخضرة ،قال تعالىَ ﴿:أ َل ْم ت ََر َأ َّن هَّللا َ َأ ْن َ
(الحج)63 :
هَّللا
ويعلمنا أن نقرأ علم هللا وقدرته من خالل السطور المبثوث4ة في تقلب الزم4ان بأعمارن4ا ،ق4الَ ﴿:و ُ
خَ َل َق ُك ْم ثُ َّم َيت ََوفَّا ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ي َُر ُّد ِإ َلى َأرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر ِل َك ْي ال َيعْ َل َم َبعْ َد ِع ْل ٍم َشيْئاً ِإ َّن هَّللا َ َع ِلي ٌم َق ِديرٌ﴾ (النحل)70 :
ويرينا قوة هللا القاهرة ،وقدرته الشاملة باستعراض تفاصيل دقيق المكونات وجليلها:
فالسموات التي ننبهر لضخامتها ال تعدو أن تكون شيئا حقيرا جدا أمام عظمة هللا ،قال تع4الىَ ﴿:و َم44ا
َّات ِب َي ِمي ِنِ 4ه ُس4ب َْحا َنهُ َو َت َع4ا َلى َع َّما ط ِوي ٌ ات َم ْ او ُ ْض4تُهُ َي4وْ َم ْال ِق َيا َمِ 4ة َو َّ
السَ 4م َ ق َقْ 4د ِر ِه َواأْل َرْ ضُ َج ِميع4اً َقب َ َقدَرُوا هَّللا َ َح َّ
يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (الزمر)67 :
والقرآن الكريم يرشدنا من خالل هذه اآلية إلى أن سبب الجهل بقدر هللا هو عدم قراءة الك4ون باس4م
هللا ،فهؤالء نظروا إلى عظم السموات واألرض غافلين عن خالقهما.
وليس من الغريب لهذا أن تحوي سيدة آي القرآن الكريم( )1الح4ديث عن خل4ق هللا لتس4تتدل ب4ه على
ض َم ْن َذا ت َو َما ِفي اأْل َرْ ِ اوا ِ هللا ،قال تعالى ﴿:هَّللا ُ ال ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو ْال َح ُّي ْال َقيُّو ُم ال ت َْأ ُخ ُذهُ ِس َنةٌ َوال َنوْ ٌم َلهُ َما ِفي ال َّس َم َ
طونَ ِب َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه ِإاَّل ِب َما َشا َء َو ِسَ 4ع ُكرْ ِسُّ 4يهُ خَل َفه ُْم َوال ي ُِحي ُالَّ ِذي َي ْش َف ُع ِع ْن َد ُه ِإاَّل ِبإِ ْذ ِن ِه َيعْ َل ُم َما َب ْينَ َأ ْي ِدي ِه ْم َو َما ْ
ظهُ َما َوهُ َو ْال َع ِل ُّي ْال َع ِظي ُم﴾ (البقرة)255 : ض َوال َي ُؤو ُدهُ ِح ْف ُ ت َواأْل َرْ َ اوا ِ ال َّس َم َ
فاآلية الكريمة تدلنا على طريق العبور من السموات واألرض إلى الحي القيوم ،ألنه ال يك44ون ه44ذا
اإلبداع العظيم في هذا الخلق العظيم إال بحياة المبدع وقيوميته ،فالتوازن والتكامل والبق4اء في المخلوق4ات
دليل قيام خالقها بها.
ومن هذه األبواب التي يفتحها لنا القرآن الكريم للتعرف على هللا من خالل كتاب الكون ما ورد في44ه
من استدالالت على البعث ،فهي ـ عند التأمل ـ أدلة على هللا أكثر من داللتها على البعث.
وهي تدل على هللا قبل البعث ،ألن األساس ال44ذي أوق44ع ال44دهريين والمنك44رين للبعث ه44و اعتق44ادهم
ب َلنَ4ا َم َث ً
ال ضَ 4ر َ
باالستحالة العقلية لعودة العظم الرميم للحياة ،كما ق4ال تع4الى ض4اربا المث4ل ببعض4همَ ﴿:و َ
)(1عن أبي بن كعب 4قال :قال رسول هللا (:يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب هللا معك أعظم؟) ،قال قلت :هللا ورسوله أعلم ،ق44ال( :ي44ا أب44ا المن44ذر
4و ْال َح ُّي ْالقَيُّو ُم ﴾ (البق44رة :من اآلية ،)255فض44رب في ص44دري وق44ال( :ليهن44ك العلم ي44ا أب44ا
أتدري أي آية من كتاب هللا معك أعظم؟) قال :قلت ﴿:هَّللا ُ ال ِإلَهَ ِإاَّل هَُ 4
المنذر) رواه مسلم.
99
ظا َم َو ِه َي َر ِمي ٌم﴾ (يّـس)78: ال َم ْن يُحْ ِيي ْال ِع َ خَل َقهُ َق َ َون َِس َي ْ
والقرآن الكريم ـ لينفي هذه الشبهة ،ويرفع هذا االلتباس ـ ال يتكلف كالما عقلي4ا جاف4ا ك4الكالم ال4ذي
يتعمده الفالسفة ،بل يكتفي بأمرنا برفع أبصارنا وحواسنا للنظر إلى األرض الخاشعة كيف تتحول بالماء
َ4ز ْت 4اء ا ْهت َّ زَلنَ4ا عَ َل ْي َه4ا ْال َم َ
خَاشَ 4ع ًة َفِ 4إ َذا َأ ْن ْرْض ِ َ4رى اأْل َ َ الرباني إلى جنة من جنان الحياة ،قال تعالىَ ﴿:و ِم ْن آ َيا ِت ِه َأ َّنكَ ت َ
اء الس َ 4م ِ 4ز َل ِمنَ َّ َو َر َب ْت ِإ َّن ا َّل ِذي َأحْ َياهَا َل ُمحْ ِيي ْال َموْ تَى ِإ َّن ُه عَ َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ ﴾ (فصلت ،)39 :وقال تع44الىَ ﴿:والَّ ِذي َنَّ 4
4اح َفتُ ِث44يرُ َما ًء ِب َقد ٍَر َفأَ ْنشَرْ نَا ِب ِه َب ْل َد ًة َميْتاً َك َذ ِلكَ تُ ْخ َرجُونَ ﴾ (الزخرف ،)11 :وقال تعالىَ ﴿:وهَّللا ُ الَّ ِذي َأرْ َسَ 4ل الرِّ َيَ 4
ض َبعْ َد َموْ ِت َها َك َذ ِلكَ ال ُّن ُشورُ﴾ (فاطر)9: ت َفأَحْ َي ْينَا ِب ِه اأْل َرْ َ
َس َحاباً َف ُس ْقنَاهُ ِإ َلى َب َل ٍد َم ِّي ٍ
أو يرشدهم إلى استعادة تذكر ما سبق من النشأة األولى ،قال تعالى ﴿:قُلْ يُحْ ِيي َها الَّ ِذي َأ ْن َشأَهَا َأ َّو َل َم44رَّ ٍة
ق َع ِلي ٌم﴾ (يّـس)79 : َوهُ َو ِب ُكلِّ ْ
خَل ٍ
خَلق4اً ظام4اً َورُ َفات4اً َأ ِإنَّا َل َم ْبعُوثُ44ونَ ْ ويخاطب الذين قالوا ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـَ ﴿:أ ِإ َذا ُكنَّا ِع َ
ار ًة 4وا ِح َجَ 4 َج ِديداً ﴾ (االسراء ،)49 :بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء شاءوا مما يتعتقدون قوته ﴿:قُل ُكونُْ 4
ور ُك ْم ﴾(االس44راء ،)51 -50 :ف44إذا بقيت ح44يرتهم حينه44ا ويقول44ونَ ﴿:من صُ 4د ِ خَلقاً ِّم َّما َي ْكبُرُ ِفي ُ َأوْ َح ِديداً َأوْ ْ
4ر ُك ْم َأ َّو َل طَ 44ل الَّ ِذي َف َ ي ُِعي ُدنَا ﴾ ،فإن الجواب القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مب44دأ خلقهم ،ق44ال تع4الى ﴿:قُِ 4
َمرَّ ٍة ﴾
وحينذاك يب4دل ه4ؤالء الغ4افلون عن كن4وز المع4ارف المخب4أة في الس4موات واألرض الموض4وع،
فيسألون عن موعد ما ال يؤمنون به،وكأن ع4دم تحدي4د الموع4د ه4و ال4دليل على م4ا ينكون4ه ،ق4ال تع4الى:
رُؤو َسه ُْم َو َيقُولُونَ َمتَى هُ َو ُقلْ َع َسى َأن َي ُكونَ َق ِريباً﴾ (االسراء)51 : ﴿ َف َسيُ ْن ِغضُونَ ِإ َل ْيكَ ُ
أما صعوبة تحقيق ذلك ،فالقرآن الكريم يدل عليه ب4النظر في الس4موات واألرض ،فيس4تدل بالق4درة
4اد ٍر عَ َلى ت َواأْل َ َ
رْض ِب َقِ 4 ْس ا َّل ِذي خَ َلقَ الس ََّم َاوا ِ على النشأة الثانية بقدرته تعالى على النشأة األولى ،قال تعالىَ ﴿:أ َو َلي َ
َأ ْن َي ْخ ُلقَ ِم ْث َله ُْم َب َلى َو ُه َو ْالخَ اَّل ُق ْال َع ِل ُيم﴾ (يّـس)81 :
خَل4قَ ُث َّم هَّللا ْال ْ
ْف ُيب ِْدئُ ُ فكل شيء يسير على هللا ،والكون كله يدل على ذلك اليسر ،قال تعالىَ ﴿:أ َو َل ْم َي َروْا َكي َ
ق َج ِد ٍيد﴾ ( ّق15 : خَل ٍ س ِم ْن ْ ق اأْل َ َّو ِل َبلْ ُه ْم ِفي َل ْب ٍ خَل ِ هَّللا َي ِسيرٌ ﴾ (العنكبوت ،)19 :وقال تعالىَ ﴿:أ َف َع ِيينَا ِب ْال ْ ي ُِعي ُد ُه ِإ َّن َذ ِلكَ عَ َلى ِ
)
ويرد على غالظ القلوب من بني إسرائيل الذي صورت لهم عق4ولهم الغارق4ة في أوح4ال الم4ادة أن
ت السَ 4م َاوا ِ هَّللا ا َّل ِذي خَ َل4قَ َّ 4روْا َأ َّن َ هللا ـ تعالى عما يقولون ـ يلحقه العياء ،فرد عليهم تعالى في قوله تع4الىَ ﴿:أ َو َل ْم َي َ
خَل ِق ِه َّن ِب َقا ِد ٍر عَ َلى َأ ْن يُحْ ِي َي ْال َموْ تَى َب َلى ِإ َّن ُه عَ َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ ﴾ (االحقاف)33 : عْي ِب ْ
رْض َو َل ْم َي ََواأْل َ َ
وهذه النظرة العرفانية لسطور المكونات تكسبها من الجمال م4ا ال يكس4بها أي وص4ف بش4ري ،فال
مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل ،فيحزن ل4ذبولها بق4در م4ا س4ره تفتحه4ا ،وبين من
يرى في ابتسام الزهرة لطف هللا ورحمته وجماله.
وقد ذكر النورسي الفرق في آثار النظرة العرفانية والن44اظرة الغافل44ة للك44ون بقول44ه (:ثم إن اإليم44ان
أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أراني أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفل44ة،
ظن في بادئ األمر -بل إنه4ا ن4وع من رس4ائل رباني4ة ومك4اتيب ال تتدحرج هكذا في غياهب العدم -كما ّ
صمدانية ،وصحائف نقوش لألسماء السبحانية قد أت ّمت مهامها ،وأفادت معانيه44ا ،وأخلفت عنه44ا نتائجه44ا
100
()1 في الوجود ،فأعلمني اإليمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين)
وشبه عبور المؤمن للكون الحسي الذي يستوي في النظر إليه العارف والغافل ،بالنظر إلى المرآة،
فهي من حيث أنها زجاجة ،نرى مادتها الزجاجية ،وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا ،بينما إن كان
القصد من النظر الى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها ،فالصورة تتوضح أمامنا بينما يبقى زجاج المرآة
أمراً ثانوياً.
وقد وضع اصطالحين لذلك ،ليوضح من خاللها النظرة القرآني44ة العرفاني44ة للك44ون ،اس44تفادهما من
اصطالحات النحويين هما ( المعنى االسمي للكون ،والمعنى الح4رفي ل4ه ،فاالس4م م4ا دل على مع4نى في
نفسه ،أما الحرف فهو الذي :دلّ على معنى في غيره.
والنظرة القرآنية اإليمانية إلى الموجودات تجعلها جميعا حروفاً ،تعبّر عن معنى في غيره44ا ،وه44ذا
المعنى هو تجليات االسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم المتجلية على الموجودات.
وكما أن الكون من حيث صورته المادية يحتوي على عناص4ر مح4ددة تتك4ون منه4ا جمي4ع أش4كال
الموجودات ،ويسمون الجدول الذي يحوي هذه العناصر بالجدول الدوري ،فبمثل ذلك يتح44دث الع44ارفون
عما يمكن تسميته بالجدول األسمائي للكون.
وهذا الج4دول يس4تخلص ص4فات هللا من خالل أش4كال المكون4ات وأن4واع واختالف ت4دبيرها ،وق4د
شرح النورسي بعض ما يرتبط بهذا الجدول بقوله (:إن في كل شئ وجوهاً كثيرة جداً متوجهة -كالنوافذ
-الى هللا سبحانه وتعالى ،بمضمون اآلية الكريمة ﴿ َو ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل يُ َسبِّحُ ِب َح ْم ِد ِه ﴾)(االس44راء )44 :إذ أن
حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند إلى االسماء اإللهية الحسنى ،فحقيقة كل شئ تستند الى اسم من
االسماء أو إلى كثير من االسماء .وأن االتقان الموجود في األشياء يستند إلى اسم من األسماء) ()2
ويضرب بعض األمثلة على ذلك بالعلوم المادية ال44تي تنقلب به44ذه النظ44رة إلى عل44وم روحي44ة ،فعلم
الحكمة الحقيقي يستند إلى اسم هللا (الحكيم) ،وعلم الطب يستند إلى اسم هللا (الشافي) ،وعلم الهندسة يستند
إلى اسم هللا (المق ّدر) ،وهكذا كل العلوم تستند الى األسماء الحسنى تبدأ منها ،وتنتهي إليها.
ولهذا اتفق العارفون على أن حقائق األشياء ،إنما هي األسماء اإللهية الحسنى ،أم44ا ماهي44ة األش44ياء
فهي ظالل تلك الحقائق..
ً
قال الشيخ عبد السالم بن مشيش مخاطبا مريده الشيخ أبا الحسن الشاذلي في وصية له (:حدد بصر
اإليمان تجد هللا تعالى في كل شيء ،وعند كل شئ ،وقبل كل شئ ،وبعد كل شئ ،وفوق كل ش44ئ ،وتحت
كل شيء ،قريباً من كل شئ ،ومحيطاً بكل شئ ،بقرب هو وصفه ،وبحيطة هي نعته ،وعد عن الظرفي44ة
والح44دود ،وعن األم44اكن والجه44ات ،وعن الص44حبة والق44رب في المس44افات ،وعن ال44دور بالمخلوق44ات،
وامحق الكل بوصفه األول واآلخر والظاهر والباطن ،وهو هو ..كان هللا وال ش44ئ مع44ه ،وه44و اآلن على
ما عليه كان)
وتشبيهنا القراءة األسمائية للك4ون بالج4دول ال4دوري للعناص4ر تش4بيه من حيث األس4س ال4تي يق4وم
عليه44ا كليهم44ا ،ف44الكون من حيث تركيب44ه ي44تركب من تل44ك العناص44ر ،ومن حيث أسس44ه يق44وم على تل44ك
األسماء.
أما من حيث الكم والمحدودية ،فالفرق كبير بينهما ،فعناصر الكون المادي44ة مح44دودة ،ولكن حق44ائق
)(1اللمعة السادسة والعشرون (رسالة الشيوخ)
)(2الكلمة الثانية والثالثون.
101
ضاألسماء الحسنى المستندة للمكونات غير محدودة ،وإلى هذا اإلش4ارة بقول4ه تع4الىَ ﴿:و َل4وْ َأنَّ َم4ا ِفي اأْل َرْ ِ
يز َح ِكي ٌم﴾ (لقمان )27 :فل44و أن ات هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ ع َِز ٌ ْحُر َما َن ِفد ْ
َت َك ِل َم ُ ِم ْن َش َج َر ٍة َأ ْقال ٌم َو ْال َبحْ رُ َي ُم ُّدهُ ِم ْن َبعْ ِد ِه َس ْب َعةُ َأب ٍ
جميع أشجار األرض جعلت أقالماً ،وجعل البح4ر م4داداً وأم4د بس4بعة أبح4ر مع4ه ،فكتبت به4ا كلم4ات هّللا
الدالة على عظمته وصفاته وجالله ،لتكسرت األقالم ونفذ ماء البحر ،ولو جاء أمثالها مدداً.
ولم تذكر السبعة من باب الحصر ،وكيف يحصر ما ال نهاية له ،بل ذكرت على وجه المبالغة ،كما
4ات َربِّي َو َل4وْ ِج ْئنَ4ا ِب ِم ْث ِلِ 4ه َم 4دَداً﴾
ْ4ل َأ ْن َت ْن َفَ 4د َك ِل َم ُ ت َربِّي َل َن ِف َد ْال َبحْ 4رُ َقب َ
قال تعالى ﴿:قُلْ َلوْ َكانَ ْال َبحْ رُ ِمدَاداً ِل َك ِل َما ِ
(الكهف)109 :
ولهذا يختل4ف الع4ارفون المس4تمدون من بح4ار الك4ون في ق4راءة ح4روف الك4ون بحس4ب أح4والهم
ومراتبهم ،فما يدفع هذا إلى الرجاء قد يدفع اآلخر إلى الخوف ،ألن كل واحد منهم يالحظ في كل حين ما
ال يالحظ اآلخر ،بل يالحظ في األوقات المختلفة المعارف المختلفة.
وكمثال على تقريب ذل4ك ـ وهلل المث4ل األعلى ـ م4ا نق4رؤه نحن من رؤي4ة ال4دموع ،فق4د تع4بر عن
الفرح ،وقد تعبر عن الحزن ،وقد تعبر عن الخشوع الذي دعا إليه الرجاء ،وقد تع4بر عن الخش4وع ال4ذي
دعا إليه الخوف ..وقد تعبر عن أشياء كثيرة ال يمكن حصرها.
ويشير إلى هذا المعنى ما أخ4بر ب4ه رس4ول هللا من أح4وال القيام4ة وأهواله4ا ،حيث ( يجم4ع هّللا
األولين واآلخرين في صعيد واحد ،يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ،وتدنو الش4مس فيبل4غ الن4اس من الغم
والكرب ما ال يطيقون وال يحتملون)
في ذلك الموقف يقول بعض الن4اس لبعض :أال ت4رون م4ا أنتم في4ه مم4ا ق4د بلغكم ،أال تنظ4رون من
يشفع لكم إلى ربكم؟
هّللا
فيبدأون ب4آدم ،فيقول4ون :ي4ا آدم أنت أب4و البش4ر خلق4ك بي4ده ،ونفخ في4ك من روح4ه ،وأم4ر
المالئكة فسجدوا لك ،فاشفع لنا إلى ربك أال ترى ما نحن فيه ،أال ترى م44ا ق44د بلغن44ا؟ فيق44ول آدم :ربي ق44د
غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغضب بعده مثله ،وإن44ه ق44د نه4اني عن الش4جرة فعص44يت،
نفسي نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى نوح.
فيذهبون إلى نوح ،فيقولون :يا نوح أنت أول الرس44ل إلى أه44ل األرض ،وق44د س44ماك هّللا عب44داً
شكوراً ،اشفع لنا إلى ربك ،أال ترى ما نحن فيه ،أال ترى ما ق44د بلغن44ا؟ فيق44ول ن44وح :إن ربي ق44د غض44ب
اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغضب بعده مثله قط ،وإنه قد كان لي دع44وة دعوته44ا على ق44ومي،
نفسي نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى إبراهيم.
وهكذا يذهبون إلى إبراهيم ،فيقول (:إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن
يغضب بعده مثله ،نفسي نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى موسى)
فيقول موسى (:إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغض4ب بع4ده مثل4ه،
نفسي نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى عيسى)
فيقول عيسى (:إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ،ولن يغض44ب بع44ده مثل44ه،
نفسي نفسي نفسي ،اذهبوا إلى غيري ،اذهبوا إلى محمداً )
فيأتون محمداً ،فيقولون :يا محمد أنت رسول هّللا وخاتم األنبياء ،وق4د غف4ر هّللا ل4ك م4ا تق4دم من
ذنبك وما تأخر ،فاشفع لنا إلى ربك ،أال ترى ما نحن فيه ،أال ترى ما قد بلغنا؟
102
عز وج4لَّ ،ثم يفتح قال في بيان ما يفعل ذلك اليوم (:فأقوم فآتي تحت العرش ،فأقع ساجداً لربي َّ
هّللا علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي ،فيقال :يا محم44د ارف44ع رأس44ك
وسل تعطه ،واشفه تشفع ،فأرفع رأس4ي ،ف4أقول :أم4تي ي4ا رب ،أم4تي ي4ا رب ،أم4تي ي4ا رب؟ فيق4ال :ي4ا
محمد ،أدخل من أمتك من ال حساب علي4ه من الب4اب األيمن من أب4واب الجن4ة ،وهم ش4ركاء الن4اس فيم4ا
سوى ذلك من األبواب ،ثم قال :والذي نفس محمد بيده ،إن ما بين المص4راعين من مص4اريع الجن4ة كم4ا
بين مكة وهجر ،أو كما بين مكة وبصرى)()1
ففي هذا الحديث إشارات جليلة إلى القراءات المختلفة ألفعال هللا ،فبينما اقتصر نظر األنبي44اء عليهم
السالم ـ مع جاللتهم ـ في ذلك الحين ومع تلك األهوال على النظر إلى غض44ب هللا ع44رف رس44ول هللا
أن ذلك الغضب يحمل معاني الرحمة األزلية ،فقرأ رحمة هللا من خالل مظاهر الغضب ،كما نقرأ رحم4ة
هللا بالغيث مع دوي الرعد.
وفي قوله (:ثم يفتح علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي) هّللا
دليل على عدم انحصار المعارف اإللهية.
وقد كانت هذه المعارف هي الحادي الذي حدا بيعقوب إلى الطمأنينة ألمر هللا ،ق44ال تع44الى في
حكاية ما كان يقوله لهم قبل رجوع يوسف َ ﴿:أ َل ْم َأقُلْ َل ُك ْم ِإ ِّني َأ ْع َل ُم ِمنَ هَّللا ِ َما ال تَعْ َل ُمونَ ﴾ (يوسف96 :
)
ويروي المفسرون عن حنة امرأة عم4ران ،أنه4ا ك4انت ام4رأة ال تحم4ل ،ف4رأت يوم4اً ط4ائراً ي4زق
فرخه ،فاشتهت الولد فدعت هّللا تعالى أن يهبها ولداً ،فاستجاب هّللا دعاءها.
فكانت قراءتها لرحمة هللا التي وهبت ذلك الطائر فرخه هي السر الذي ألهمها أن تدعو هللا.
وكأن هللا تعالى يبين من خالل المكونات قدراته المختلفة ووجوه تدبيره ،لنفتقر إليه كم44ا يفتق44ر إلي44ه
كل شيء.
فالتجليات التي تحملها المكونات ال نهاية لها ،وكل واح4د يق4رأ بحس4ب اس4تعداده ومرتبت4ه وهمت4ه،
وسنذكر هنا بعض قراءات العارفين ،ولكن قبل ذل44ك ،ولالستش44هاد على بعض م44ا تحمل44ه المكون44ات من
حقائق األسماء الحسنى ،نستشهد بذلك العارف باهلل ال4ذي آوت4ه الجب4ال والغاب4ات أيام4ا طويل4ة من عم4ره
اإلمام بديع الزمان النوسي ،الذي جعل من رسائل النور مفاتيح لقراءة حروف الكون.
فقد ذكر أنه يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من األسماء على ظ44اهر ك44ل ذي حي44اة فحس44ب،
ولتقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواس4عة ،استش4هد بالمث4ال الت4الي ،وال4ذي نتص4رف في4ه من ب4اب
مراعاة االختصار بعض التصرف.
فذكر أنه لو أراد فنان بارع في التصوير والنحت رسم صورة زهرة فائقة الجم44ال ،أو نحت تمث44ال
بديع ،فإنه يبدأ أول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لهما ،وهذا التعيين يتم بتنظيم ،ويعمله بتق44دير
بعلم وبحكمة ،لذا تح ُكم معاني العلم والحكم44ة ورا َء التنظيم يستند فيه إلى علم الهندسة ،فيعيّن الحدود وفقه ٍ
والتحديد.
ثم إن تلك االعضاء التي ُعيّنت وفق العلم والحكمة أخذت صيغة الص4نعة المتقن4ة والعناي4ة الدقيق4ة،
لذا تحك ُم معاني الصنع والعناية وراء العلم والحكمة.
)(1اإلحياء.
)(2اإلحياء.
)(3الكلمة الرابعة والعشرون.
105
()1 وهو بحر األفعال)
ثم ذك44ر بعض النم44اذج عن ذل44ك بقول44ه (:فمن أفع44ال هللا تع44الى وه44و بح44ر األفع44ال مثال الش44فاء
والمرض ،كما قال هللا تعالى حكاية عن اب4راهيم تع4الى ﴿:واذا مرض4ت فه4و يش4فين ﴾ ،وه4ذا الفع4ل
الواح4د ال يعرف4ه اال من ع4رف الطب بكمال4ه ،اذ ال مع4نى للطب اال معرف4ة الم4رض بكمال4ه وعالمات4ه
ومعرفة الشفاء وأسبابه) ()2
ومن النماذج تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان ،والتي نص عليه4ا قول4ه تع4الى منبه4ا
ي4ز ْال َع ِل ِيم﴾
حُسَ 4باناً َذ ِل4كَ َت ْقِ 4ديرُ ْال َع ِز ِ
4ر ْ س َو ْال َق َم َ ْ4ل َسَ 4كناً َو َّ
الشْ 4م َ 4ل اللَّي َ
اح َو َج َع َ ق اإْل ِ ْ
صَ 4ب ِ إلى النظر فيهم4اَ ﴿:ف4ا ِل ُ
(األنعام )96 :وكل ما يرتبط بالفلك إال ( من عرف هيئات تركيب السموات واألرض ،وهو علم برأسه)
ان َم4ا غَ4رَّ كَ ِب َربِّكَ ومثل ذلك تركيب اإلنسان ( فال يعرف كم4ال مع4نى قول4ه تع4الىَ ﴿:ي4ا َأ ُّي َه4ا اإْل ِ َ
نسُ 4
ور ٍة َّما َش4اء َر َّك َب4كَ ﴾(االنفط4ار6 :ـ )8إال من ع4رف تش4ريح صَ 4 ْال َك ِر ِيم الَّ ِذي خَ َل َقكَ َف َس4وَّاكَ َف َعَ 4د َلكَ ِفي َأيِّ ُ
األعضاء من االنسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها) ()3
***
قد يقال ـ هنا ـ فما الميزة التي يستحقها العارف دون العامي ،وكالهما يق44رأ الك44ون ،وكالهم44ا يفهم
منه داللته على هللا.
وما الميزة التي يتميز بها العارف ،والمتكلم يقرأمن صفحات الك4ون م4ا ال يق4رؤه الع4ارف ،وع4الم
الطبيعة يعرف من معارف الكون ما ال يطلع عليه العارف.
وللجواب على ذلك نذكر ما تتميز ب44ه المعرف4ة عن العلم ،ف4العلم اكتش44اف ق4د ي44دفع إلي4ه الفض4ول،
والمعرفة معايشة يدفع إليها الشوق واالحتراق.
ولهذا تختلف نظرة العارف عن العالم لألشياء ،كما اختلفت نظرة يعقوب وأبنائه حول قميص
يوسف.
فأبناء يعقوب لم يروا في قميص يوسف سوى خيوط متجمعة ال تختلف عن أي خيوط ،بينم44ا
رأي يعقوب ـ المكتوي بنار العشق ـ في تلك الخيوط ابنه يوسف ،بل إنه شم رائحته من بعي44د،
يص4ي قال تعالى يحكي هذه المواقف المتناقضة نحو الشيء الواحد حاكيا قول يوس4ف ْ ﴿:
{اذ َهبُ4وا ِب َق ِم ِ
4ال َأبُ4وهُ ْم ِإ ِّني أَل َ ِجُ 4د
ت ْال ِع4يرُ َق َ صيرًا َو ْأتُو ِني ِبأَ ْه ِل ُك ْم َأجْ َم ِعينَ (َ )93و َل َّما َف َ
صَ 4ل ِ ت َب َِه َذا َفأَ ْلقُو ُه َع َلى َوجْ ِه َأ ِبي َي ْأ ِ
ضاَل ِلكَ ْال َق ِد ِيم (( ﴾)95يوسف)95 – 93 : ون (َ )94قالُوا َتاهَّلل ِ ِإنَّكَ َل ِفي َ يح يُوسُفَ َلوْ اَل َأ ْن تُ َف ِّن ُد ِ ِر َ
وهذه اآليات الكريمة فيها إشارات جليلة ترتبط بذوق الع44ارف ،والتفري44ق بين44ه وبين ذوق الع44امي،
فالقميص الذي يحمل رائحة يوسف كالكون ال44ذي يحم44ل ختم خالق44ه ومبدع44ه ،والعمى ال44ذي وج44ده
إخوة يوسف هو عمى الع4امي عن رؤي4ة ذل4ك الختم ،وع4ود البص4ر ليعق4وب كع4ود البص4يرة
للعارف بعد اكتحاله برؤية الختم المطبوع على األشياء.
فاألشياء واحدة ،ولكن الشأن ليس في وح4دة األش4ياء ،وإنم4ا في النظ4ر إلى األش4ياء والمواق4ف من
األشياء.
فالفرق جليل بين من يوح4د هللا بنفي غ4ير هللا ،وبين من يوح4ده باإلثب4ات المحض ،فال ي4رى غ4يرا
)(1جواهر القرآن.
)(2جواهر القرآن.
)(3جواهر القرآن.
106
يحتاج إلى نفيه.
وفرق كبير بين من يرى الكون قائما بذاته ،وبين من يراه ظلمة لوال ن4ور هللا ،كم4ا ق4ال ابن عط4اء
أنارهُ ظهورُ الح ِّق فيه ،فمن رأى الكونَ ولم يشه ُدهُ فيه أو عنده أو َق ْب َله أو َبعْ دَه ظ ْلمةٌ ،وإنَّما َ
كله ُ الكون ُّ
ُ هللا(:
ب اآلثار)
المعارف بسُحُ ِ
ِ ت عنه شموسُ األنوار ،وحُج َب ْ
ِ فقد َأ ْع َوزَ ُه وجو ُد
وف44رق كب44ير بين النظ44ر اإليم44اني إلى المكون44ات والنظ44ر الط44بيعي ،ف44النظرة واح44دة ولكن القلب
المستقبل للنظرة مختلف ،كاألرض تسقى بمطر واح4د لكن بعض4ها ينتج زه4را واآلخ4ر ش4وكا ﴿:،ي ُْسَ 4قى
عْض ِفي اأْل ُ ُك ِل ﴾ (الرعد)4 :
عْض َها َع َلى َب ٍ
اح ٍد َونُ َفضِّلُ َب َ
اء َو ِ
ِب َم ٍ
وقد ذكر الغزالي الفرق بين الرؤيتين رؤية الموحد ورؤية الطبيعي بقوله (:وكل ما نظرنا في44ه ف4إن
الطبـيعي ينظر فيه ويكون نظره سبب ضالله وشقاوته ،والموفق ينظر فيه فيكون سبب هدايته وس4عادته.
وما من ذرّة في السماء واألرض إال وهللا سبحانه وتعالى يضل بها من يش4اء ويه4دي به4ا من يش4اء ،فمن
نظر في هذه األمور من حيث إنها فعل هللا تعالى وصنعه استفاد من4ه المعرف4ة بجالل هللا تع4الى وعظمت4ه
واهتدى به ،ومن نظر فيها قاصراً للنظر عليه44ا من حيث ت44أثير بعض44ها في بعض ال من حيث ارتباطه44ا
بمسبب األسباب فقد شقي وارتد) ()1
وقد ذكر النورسي الفرق بين الرؤيتين بتفريقه بين توحيدين:
توحيد العامي الذي يقول (:الشريك له ،ليست هذه الكائن4ات لغ4يره) ،وه4ذا يك4ون عرض4ة لت4داخل
الغفالت ،بل الضالالت في أفكار صاحبه.
وتوحيد حقيقي ،هو توحيد العارف الذي يقول (:هو هللا وحدَه له المل4ك ،ول4ه الك4ون ،ل4ه ك4ل ش4ئ)
فيرى سك ّته على كل شئ ،ويقرأ خاتمه على كل شئ ،فيثبته له اثباتاً حضورياً.
ومثل هذه التوحيد ،ومثل هذه الرؤية اليمكن تداخل الضاللة واالوهام فيها أبدا(.)2
ولتقريب الصورة لألذهان نذكر هذا المثال الذي أبدع فيه بديع الزمان أيما إبداع فقد ذكر أن حاكم44ا
عظيما ذا تقوى وصالح وذا مهارة وإبداع أراد أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليل44ة،
فأراد أن يُل ِبس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.
ال جمي4ع أن4واع الج4واهر النفيس4ة ليش4ير به4ا إلى فبدأ بكتابة القرآن الكريم كتابة عجيبة جداً مس4تعم ً
تنوع حقائقه العظيمة ،فكتب بعض حروفه المجسمة بااللم4اس والزم4رد وقس4ماً منه4ا ب4اللؤلؤ والمرج4ان
ال رائع4اً وحس4ناً جالب4اً وطائفة منها بالجوهر والعقيق ،ونوعاً منه4ا بال4ذهب والفض4ة ،ح4تى أض4فى جم4ا ً
لالنظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها.
ثم عرض هذا القرآن البديع الكتابة ،الرائع الجمال ،على فيلسوف أجنبي ـ ونحن نش4ير ب4ه هن44ا إلى
النظر السطحي للعامي ـ وعلى عالم مسلم .وأمرهما بأن يكتب كل منكما كتاباً حول حكمة هذا القرآن.
فكتب الفيلسوف كتاباً ،وكتب العالم المسلم كتاباً.
أما كتاب الفيلسوف ،فاقتصر على البحث عن نقوش الحروف وجماله44ا ،وعالق44ة بعض44ها ببعض،
وأوضاع كل منها ،وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها ،ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك الق44رآن
العظيم قط ،بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليل44ة ،وإنم44ا حص44ر
نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق.
)(1اإلحياء.
)(2المثنوي العربي النوري.
107
ومع هذا فهو مهندس بارع ،ومصور فنان ،وكيميائي حاذق ،وصائغ ماهر ،لذا فقد كتب كتابه ه44ذا
وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون.
أما العالم المسلم ـ ونحن نشير به هنا إلى العارف ـ فما إن نظ44ر إلى تل4ك الكتاب4ة البديع4ة ح4تى علم
أنه :كتاب مبين وقرآن حكيم ،فلم يصرف اهتمامه الى زينته الظاهرة ،وال أشغل نفسه بزخ4ارف حروف4ه
البديعة ،وانما توجه كليا ًـ وهو التواق للحق ـ الى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مم44ا
انشغل به الفيلسوف االجنبي بماليين االضعاف ،فبحث عما تحت تلك النقوش الجميل4ة من حق4ائق س4امية
جليلة وأسرار نيرة بديعة ،فكتب كتابه تفسيراً قيماً لهذا القرآن الحكيم ،فأجاد وأتقن.
والنورسي يشير بالقرآن الجميل الزاهي إلى هذا الكون البديع ،وبالحاكم المهيب إلى س44لطان االزل
واالبد تعالى ،أما الرجالن ،فاألول هو العامي ولو كان عالما بالعلوم القديمة والحديثة ،وأم4ا اآلخ4ر ،فه4و
العارف الذي تتلمذ على أنوار القرآن الكريم.
فالفرق كبير بين الرؤيتين ،فالعارف ينظر إلى الكون ـ كم4ا يق4رأ الق4رآن الك4ريم ـ فـ ( ينظ4ر الى
الموجودات -التي كل منها حرف ذو مغزى -ب44المعنى الح44رفي ،أي ينظ44ر اليه44ا من حيث داللته44ا على
أجمل خلقه! ما أعظم داللته على جمال المبدع الجلي44ل) ،وه44ذا َ الصانع الجليل .فيقول :ما أحسنَ خلقه! ما
الجمال الحقيقي للكائنات. َ النظر هو الذي يكشف
أما العلم المجرد عن المعرفة فهو غارق في تزيينات حروف الموج44ودات ،مبه44وت أم44ام عالق44ات
بعضها ببعض ،،قد انصرف عن النظر عن قراءة حروف الكون الدال4ة على كاتبه4ا ،ف4إذا رأى ش4يئا من
ال من (:ما أجمـل خـلـق هذا)()1 جمال الكائنات قال (:ما أجمل هذا) بـد ً
***
وألهمية هذا النوع من القراءة الكونية ،ولعالقته الوثيقة باإليمان ،بل ب4أرفع درج4ات اإليم4ان يث4ني
القرآن الكريم على المؤمنين الذين أمضوا حياتهم في قراءة رسائل هللا إليهم عبر مكوناته.
وأول هؤالء ،وعلى رأسهم العارفون الذين يعبر عنهم القرآن الكريم ب4أولي األلب4اب( ،)2وهم ال4ذين
خرج44وا من ظ44واهر المكون44ات إلى بواطنه44ا ،ولم تحجبهم الص44ور المزخرف44ة للمكون44ات عن الح44روف
المسجلة فيها.
ْ
ولعل أعظم وصف قرآني لهم هو ما ورد في أواخر سورة آل عمران من قوله تعالىِ ﴿:إ َّن ِفي خَل ِ
ق
ت أِل ُو ِلي اأْل َ ْل َب44ا ِ
ب الَّ ِذينَ َي4ْ 4ذ ُكرُونَ هَّللا َ ِق َيام4اً َوقُ ُع44وداً َو َع َلى الف اللَّ ْيِ 4
4ل َوالنَّ َهِ 4
4ار آَل ي44ا ٍ اخ ِت ِ ت َواأْل َرْ ِ
ض َو ْ اوا ِ السَ 4م َ َّ
ار﴾ (آل اب النَّ ِ ال ُس4ب َْحا َنكَ َف ِقنَ4ا عََ 4ذ َ 4اط ً ض َربَّنَ4ا َم4ا خَ َل ْقتَ هََ 4ذا َب ِ َ
ت َواأْل رْ ِ اوا ِ
السَ 4م َ4ق َّ ْ
جُ نُو ِب ِه ْم َو َي َت َف َّكرُونَ ِفي خَل ِ
عمران)191 :
وقد كان لهذه اآليات مح4ل خ4اص من قلب رس4ول هللا كم4ا ت4روي كتب الس4نة ،فق4د روي أن
رسول هّللا كان يقرأ هذه اآليات وما يليها من آخر سورة آل عمران إذا قام من الليل لتهج44ده ،ق44ال ابن
عباس :بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول هّللا مع أهلة ساعة ثم رق4د ،فلم4ا ك4ان ثلث اللي4ل اآلخ4ر
ب﴾ت أِل ُو ِلي اأْل َ ْل َب4ا ِ
ار آَل ي4ا ٍ الف اللَّي ِْل َوالنَّ َه ِ
اخ ِت ِ ض َو ْ ت َواأْل َرْ ِ اوا ِ ق ال َّس َم َ قعد فنظر إلى السماء فقالِ ):إ َّن ِفي ْ
خَل ِ
(آل عمران )190:اآلي4ات ،ثم ق4ام فتوض4أ واس4تن ،ثم ص4لى إح4دى عش4رة ركع4ة ،ثم أذن بالل فص4لى
)(1اإلحياء.
115
هذا الكتاب
هذه الرسالة من سلسلة [حقائق ورقائق] تدعو إلى النظر إلى الك44ون نظ44رة جدي44دة تنطل44ق من
قراءته باسم هللا ،وتنتهي بصحبته في هللا.
وقد حاولت حصر أوصاف الكون ـ انطالقا من النصوص المقدسة ـ في أربع44ة أوص44اف ك44ل
واحد منها معراج من معارج السالم ،ورقية من رقى السعادة.
وهذه األوصاف األربعة هي :الحياة ،والعبادة ،والتسخير ،والمقروئية.
فمعرفتنا بالكون الحي تشعرنا باألنس ،وتملؤنا ينشوة الصداقة الحميمة ،فال يمكن أن نص44ادق
جمادا.
ومعرفتنا بالكون العابد تعرفنا بوظيفتنا ،وتجعلنا نلهج بالتسبيح في حلقة ذكر الكون الواسع.
ومعرفتنا بالكون المسخر تجعلنا نتناول األشياء من يد هللا ،ال من يد الطبيعة ،ونتناول األشياء
باهلل ،ال بأيدينا.
ومعرفتنا بالكون المق44روء تع4بر بن4ا من الك44ون إلى المك44ون ،وت44زج بن44ا في رح4اب الحض44رة
المقدسة ،فنبص44ر من خالل األش44ياء مش44يئ األش44ياء ،فنص44ادق م44ع قط44رات الن44دى ،وتفتح الزه44ر،
وهبوب النسيم ،رب الكون ومبدعه.
116