You are on page 1of 120

0

‫هذا الكتاب‬
‫هذه الرسالة تدعو إلى النظر إلى الك ون نظ رة جدي دة تنطل ق من‬
‫قراءته باسم هللا‪ ،‬وتنتهي بصحبته في هللا‪.‬‬
‫وقد حاولت حصر أوصاف الكون ـ انطالقا من النصوص المقدسة‬
‫ـ في أربعة أوصاف كل واحد منها معراج من معارج السالم‪ ،‬ورقية من‬
‫رقى السعادة‪.‬‬
‫وه ذه األوص اف األربع ة هي‪ :‬الحي اة‪ ،‬والعب ادة‪ ،‬والتس خير‪،‬‬
‫والمقروئية‪.‬‬
‫فمعرفتنا بالكون الحي تشعرنا ب األنس‪ ،‬وتملؤن ا ينش وة الص داقة‬
‫الحميمة‪ ،‬فال يمكن أن نصادق جمادا‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون العابد تعرفنا بوظيفتن ا‪ ،‬وتجعلن ا نلهج بالتس بيح‬
‫في حلقة ذكر الكون الواسع‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون المسخر تجعلنا نتناول األشياء من يد هللا‪ ،‬ال من‬
‫يد الطبيعة‪ ،‬ونتناول األشياء باهلل‪ ،‬ال بأيدينا‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون المقروء تعبر بنا من الكون إلى المك ون‪ ،‬وت زج‬
‫بن ا في رح اب الحض رة المقدس ة‪ ،‬فنبص ر من خالل األش ياء مش يئ‬
‫األشياء‪ ،‬فنصادق م ع قط رات الن دى‪ ،‬وتفتح الزه ر‪ ،‬وهب وب النس يم‪،‬‬
‫رب الكون ومبدعه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫رسائل السالم‬

‫(‪)8‬‬

‫أكوان الله‬
‫القراءة العرفانية للكون برؤية قرآنية‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫الطبعة الثانية‬

‫‪2015 – 1436‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



‫فهرس المحتويات‬

‫‪5‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪9‬‬ ‫أوال ـ الكون الحي‬
‫‪12‬‬ ‫‪ 1‬ـ اإلدراك‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫‪ 2‬ـ المشاعر‪:‬‬
‫‪16‬‬ ‫الخشوع‪:‬‬
‫‪19‬‬ ‫الغضب‪:‬‬
‫‪20‬‬ ‫الشفقة‪:‬‬
‫‪22‬‬ ‫الرحمة‪:‬‬
‫‪25‬‬ ‫التعظيم‪:‬‬
‫‪28‬‬ ‫‪ 3‬ـ التعبير‬
‫‪43‬‬ ‫‪ 4‬ـ التحضر‪:‬‬
‫‪45‬‬ ‫التنظيم‪:‬‬
‫‪47‬‬ ‫العمران‪:‬‬
‫‪57‬‬ ‫األخالق‪:‬‬
‫‪68‬‬ ‫ثانيا ـ الكون العابد‬
‫‪69‬‬ ‫‪ 1‬ـ القنوت ‪:‬‬
‫‪77‬‬ ‫‪ 2‬ـ السجود‪:‬‬
‫‪84‬‬ ‫‪ 3‬ـ التسبيح‪:‬‬
‫‪112‬‬ ‫‪ 4‬ـ الدعاء‪:‬‬
‫‪116‬‬ ‫ثالثا ـ الكون المسخر‬
‫‪117‬‬ ‫‪ 1‬ـ الربانية‪:‬‬
‫‪118‬‬ ‫الملكية‪:‬‬
‫‪130‬‬ ‫التدبير‪:‬‬
‫‪142‬‬ ‫‪ 2‬ـ السالم‪:‬‬
‫‪162‬‬ ‫‪ 3‬ـ الحكمة‪:‬‬
‫‪164‬‬ ‫الجمال‪:‬‬
‫‪168‬‬ ‫التنوع‪:‬‬
‫‪170‬‬ ‫تنوع األحياء‪:‬‬
‫‪178‬‬ ‫تنوع األلوان‪:‬‬
‫‪182‬‬ ‫التوازن‪:‬‬
‫‪189‬‬ ‫االنتفاع‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪192‬‬ ‫‪ 4‬ـ الطهارة ‪:‬‬
‫‪199‬‬ ‫رابعا ـ الكون المقروء‬
‫‪201‬‬ ‫‪ 1‬ـ الفناء‪:‬‬
‫‪213‬‬ ‫‪ 2‬ـ البقاء‪:‬‬
‫‪216‬‬ ‫‪ 3‬ـ القراءة‪:‬‬
‫‪244‬‬ ‫‪ 4‬ـ اليقين‪:‬‬

‫‪2‬‬
‫المقدمة‬
‫من مظ‪4‬اهر الص‪4‬راع ال‪4‬تي أفرزته‪4‬ا غفل‪4‬ة اإلنس‪4‬ان وكبري‪4‬اؤه‪ :‬الص‪4‬راع م‪4‬ع الك‪4‬ون‪ ..‬م‪4‬ع الس‪4‬ماء‬
‫واألرض‪ ..‬والنبات والحيوان‪ ..‬والرياح واألمطار‪ ..‬وكل األشياء‪.‬‬
‫وهذا الصراع يكتسي لبوس‪4‬ا مختلف‪4‬ة‪ ،‬ويت‪4‬وزع على مظ‪4‬اهر متنوع‪4‬ة‪ ،‬ولكن األس‪4‬اس في جميعه‪4‬ا‬
‫واحد‪ ،‬وهو أننا نتعامل مع أكوان ننسبها إلى الطبيعة‪ ،‬أو ننس‪4‬بها إلى اآلله‪4‬ة الجاثم‪4‬ة على ع‪4‬روش قلوبن‪4‬ا‬
‫وعقولنا‪ ،‬أو ننسبها إلى الالشيء الذي تفرزه الغفلة‪ ،‬وننسى في هذا الخضم أن ننسبها إلى هللا‪.‬‬
‫فاألكوان أكوان هللا‪ ،‬واألشياء جميعا خلقت بيد هللا‪ ،‬وصورت باسم هللا‪ ،‬وهي تتوجه إلى هللا قب‪44‬ل أن‬
‫تتوجه إلينا‪.‬‬
‫وهذه النظرة هي مبدأ السالم مع الكون‪ ،‬ومنطلقه‪.‬‬
‫فكما أن بداية السالم م‪4‬ع المس‪4‬تعمرات‪ ،‬ه‪4‬و اع‪4‬تراف المس‪4‬تعمر له‪4‬ا بحريته‪4‬ا‪ ،‬وبحقه‪4‬ا في تقري‪4‬ر‬
‫مصيرها‪ ،‬ليتعامل معها بعد ذلك تعامل المسالم ال المحارب‪ ،‬وتعامل الند ال المتعالي‪ ،‬وتعامل الص‪4‬ديق ال‬
‫العدو‪ ،‬فكذلك يكون السالم مع الكون‪.‬‬
‫فأي سالم نحلم به مع الكون‪ ،‬ونحن ال نعترف به؟‪ ..‬أو أن اعترافنا ب‪44‬ه مج‪44‬رد مع‪44‬نى محص‪44‬ور في‬
‫زاوية خاملة من زوايا العقل‪ ،‬ال نتأثر لها‪ ،‬وال نهتم بها‪.‬‬
‫وهذا المنطلق الذي يحدد تعاملنا مع الكون هو الذي يشعرنا بالس‪44‬عادة واألم‪44‬ان‪ ،‬وي‪44‬نزع عن‪44‬ا حجب‬
‫الوحشة والضيق‪ ،‬ويزرع في قلوبنا االبتسامة‪ ،‬وينزع من صدورنا الحزن‪.‬‬
‫***‬
‫وانطالقا من هذا نحاول في هذه الرسالة أن ننظر نظرة جديدة للكون‪ ،‬تنطلق من قراءته باس‪44‬م هللا‪،‬‬
‫وتنتهي بصحبته في هللا‪.‬‬
‫ودليلنا في هذا أقدس كالم‪ ،‬وأشرف كالم‪ ،‬وأصدق كالم‪ ،‬كتاب هللا تعالى‪ ،‬فهو الكتاب ال‪4‬ذي يجعلن‪4‬ا‬
‫نشعر بصداقة حميم‪4‬ة م‪4‬ع الك‪4‬ون‪ ،‬تجعلن‪4‬ا ن‪4‬راه كتاب‪4‬ا تقلب ص‪4‬فحاته ليتجلى من خالله‪4‬ا أعظم محب‪4‬وب‪،‬‬
‫وأجمل محبوب‪ ،‬وأكمل محبوب‪ ،‬فنصادق من خالل الكون رب الكون‪ ،‬ونعبر من الكون إلى المكون‪.‬‬
‫وهذه الصحبة الشريفة للكون‪ ،‬والتي تتعامل مع‪4‬ه كم‪4‬ا تتعام‪4‬ل م‪4‬ع اإلنس‪4‬ان‪ ،‬هي ال‪4‬تي ك‪4‬ان عليه‪4‬ا‬
‫رسول هللا ‪. ‬‬
‫وقد صور لنا بعض الصحابة بعض هذه الصحبة فقال‪ (:‬أصابنا ونحن مع رسول هللا ‪ ‬مطر قال‬
‫فحسر رسول هللا ‪ ‬ثوبه حتى أصابه من المطر فقلنا‪ :‬يا رس‪4‬ول هللا لم ص‪4‬نعت ه‪4‬ذا؟ ق‪4‬ال‪ :‬ألن‪4‬ه ح‪4‬ديث‬
‫عهد بربه تعالى)(‪)1‬‬
‫وهذه الصحبة تستدعي نظرة شاملة للكون بجميع أنواعه‪ ،‬وبجميع خصائص‪44‬ه ووظائف‪44‬ه وص‪44‬فاته‪،‬‬
‫فبحسب سمو المعرفة يكون سمو التعامل‪.‬‬
‫وقد حاولنا حصر أوصاف الكون ـ انطالقا من النصوص المقدسة ـ في أربعة أوص‪44‬اف ك‪44‬ل واح‪44‬د‬
‫منها معراج من معارج السالم‪ ،‬ورقية من رقى السعادة‪.‬‬
‫وهذه األوصاف األربعة هي‪ :‬الحياة‪ ،‬والعبادة‪ ،‬والتسخير‪ ،‬والمقروئية‪.‬‬
‫رواه مسلم وأبو داود والبخاري في األدب المفرد‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫‪3‬‬
‫فمعرفتنا ب‪4‬الكون الحي تش‪4‬عرنا ب‪44‬األنس‪ ،‬وتملؤن‪44‬ا ينش‪44‬وة الص‪44‬داقة الحميم‪44‬ة‪ ،‬فال يمكن أن نص‪4‬ادق‬
‫جمادا‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون العابد تعرفنا بوظيفتنا‪ ،‬وتجعلنا نلهج بالتسبيح في حلقة ذكر الكون الواسع‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون المسخر تجعلنا نتناول األشياء من يد هللا‪ ،‬ال من يد الطبيعة‪ ،‬ونتناول األش‪44‬ياء باهلل‪،‬‬
‫ال بأيدينا‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون المقروء تعبر بنا من الكون إلى المكون‪ ،‬وتزج بنا في رحاب الحض‪44‬رة المقدس‪44‬ة‪،‬‬
‫فنبصر من خالل األشياء مشيئ األشياء‪ ،‬فنصادق مع قطرات الندى‪ ،‬وتفتح الزهر‪ ،‬وهبوب النسيم‪ ،‬رب‬
‫الكون ومبدعه‪.‬‬
‫وهذه األلقاب األربعة ألكوان هللا هي الوحيدة التي تملؤنا باألنس‪ ،‬وتشعرنا بالسالم‪.‬‬
‫السالم الشامل الذي يستغرق جميع طاقاتنا‪ ،‬ال السالم الذي يتغنى به الغافلون عن هللا‪ ،‬والذي يجع‪4‬ل‬
‫أسمى غاياته أن يحفظ تماسك هذا التراب الذي تمتطيه أرواحنا‪.‬‬
‫وننبه في هذه الرسالة ـ كما نبهنا في سائر الرسائل ـ إلى أن ما في هذه الرسالة من حقائق نوعان‪:‬‬
‫أما النوع األول‪ ،‬فهو حقائق مطلقة ال ينبغي ألحد أن يجحدها‪ ،‬ألن كل شيء ي‪44‬دل عليه‪4‬ا ابت‪44‬داء من‬
‫النصوص المقدسة‪ ..‬وهذه الحقائق ال نقبل مناقشة أحد فيها‪ ..‬ولن نجيبه إن ناقشنا‪ ،‬ألنه ال يمكن أن يجادل‬
‫أحد في البديهيات‪.‬‬
‫وأما النوع الثاني‪ ،‬فهو آراء وقع فيها الخالف‪ ..‬وقد اخترنا في الخالف ما رأيناه راجحا‪ ..‬وال حرج‬
‫علينا في ذلك‪ ..‬ونحن في هذا النوع من الحقائق نتقبل كل مخالفة‪ ،‬ونخضع لكل توجيه‪ ،‬ونتراجع عن كل‬
‫خطأ‪ ..‬وندعو هللا لكل من نبهنا لذلك‪ ،‬فال عصمة إال لمن عصمه هللا‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أوال ـ الكون الحي‬
‫هل تدب الحياة فيما حولنا من أشياء؟‬
‫وهل تعقل هذه الكائنات الكثيرة التي تحيط بنا نفسها وحقيقتها ووظائفها؟‬
‫وهل تعقل غيرها‪ ،‬وعالقتها به؟‬
‫وهل تحزن وتئن‪ ،‬وتفرح وتسر؟‬
‫وهل تبغض وتحب‪ ،‬وتحلم وتأمل؟‬
‫وهل في قدرتها التعبير عن مشاعرها وأفكارها؟‬
‫ثم ما عالقتها بنا‪ ،‬وما عالقتنا بها؟‬
‫وهل نحن وسط كون حي ينبض بالحياة‪ ،‬أم نحن في لجة كون جامد ال روح فيه وال مشاعر له؟‬
‫وما تأثير هذه المعارف على أنفسنا وأنماط حياتنا؟‬
‫هل هي مجرد قضايا فلسفية وترف عقلي قد يعني الخاصة‪ ،‬وال عالقة له بالعامة‪ ،‬أم أن له ارتباطا‬
‫بنا نحن العوام والبسطاء والدهماء؟‬
‫إن هذه التساؤالت من القضايا األساسية التي تشغل بال اإلنسان ويهتم لها‪ ،‬ويرسل في سبيل معرفة‬
‫جزء منها المركبات الفضائية‪ ،‬ليسبر أغوار الكون‪ ،‬ويبحث عن أحياء في‪44‬ه‪ ،‬ويتس‪44‬اءل بحماق‪44‬ة وغ‪44‬رور‪:‬‬
‫هل هناك حياة على غير األرض؟‬
‫ولكن الحقائق الكبرى ـ التي تبينها الوثيقة اإللهية التي تنطوي على حقائق الوجود وأسراره ـ تخ‪44‬بر‬
‫أن هذا الكون ال يحوي أحياء فقط‪ ،‬بل هو نفسه حي‪ ،‬بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني‪.‬‬
‫أما ما نتصوره نحن من حياة فهو ص‪4‬ورة فق‪4‬ط من ص‪4‬ور الحي‪4‬اة‪ ،‬وهي ص‪4‬ورة ارتباط‪4‬ات مادي‪4‬ة‬
‫حيوية بعضها ببعض‪.‬‬
‫وكما أن العلم الحديث يقر بوجود حياة في الخلية الواحدة‪ ،‬سواء كانت ضمن نسيج واح‪44‬د أو ك‪44‬انت‬
‫مستقلة منفردة‪ ،‬فكذلك تنبئنا النصوص المقدسة أن الكون كله حي جمل‪44‬ة وتفص‪44‬يال‪ ،‬وك‪44‬ل ذرة في‪44‬ه أو م‪44‬ا‬
‫دونها كائن حي له حقيقته التي استدعت وجوده‪ ،‬كما أن له صورته التي نعرفه من خاللها‪.‬‬
‫حي ومش‪4‬ع‬ ‫ف‪4‬الكون بجمي‪4‬ع عوالم‪4‬ه ّ‬ ‫ُ‬ ‫قال بديع الزمان النورسي مبينا هذه الحقيق‪4‬ة وأثره‪4‬ا النفس‪4‬ي‪(:‬‬
‫ال ألصبح كل من العوالم ‪ -‬كما تراه عين الضاللة ‪ -‬جنازة هائلة مخيفة تحت ه‪44‬ذه‬ ‫مضئ بذلك التجلي‪ِ ،‬وا ّ‬
‫الدنيا المؤقتة الظاهرة‪ ،‬وعالما ً خربا ً مظلماً)(‪)1‬‬
‫***‬
‫ولكن اإليمان بهذه الحقائق إيمانا ذوقي‪4‬ا ش‪4‬هوديا يس‪4‬تدعي م‪4‬رآة ص‪4‬افية‪ ،‬وقلب‪4‬ا مح‪4‬ررا من أوث‪4‬اق‬
‫الهوى‪.‬‬
‫هذا في الدنيا‪ ،‬أما في النشأة اآلخرة فإن اإلنسان ـ مؤمنا كان أو كافرا ـ بع‪4‬د انحس‪4‬ار حج‪4‬اب الغفل‪4‬ة‬
‫ص‪4‬رُكَ ْال َي‪44‬وْ َم َح ِدي‪ٌ 4‬د﴾‬ ‫يدرك هذه الحقائق‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬ل َق ْد ُك ْنتَ ِفي َغ ْف َل ٍة ِم ْن َه َذا َف َك َش ْفنَا َع ْن‪44‬كَ ِغ َ‬
‫ط‪44‬ا َءكَ َف َب َ‬
‫( ّق‪)22 :‬‬
‫فمن معاني الغفلة في اآلية تعطل الطاقات عن أداء وظيفتها بسبب إهمالها وعدم استعمالها‪.‬‬
‫الكلمة العاشرة ‪ -‬ص‪.120 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫‪5‬‬
‫وقد أخبر ‪ ‬عن هذا اإلدراك في أحاديث كثيرة لعل أشهرها ما أخ‪4‬بر ب‪4‬ه عن معرف‪4‬ة أه‪4‬ل الجن‪4‬ة‬
‫والنار للموت مع أنه ج‪4‬اءهم في ص‪4‬ورة حس‪4‬ية‪ ،‬ق‪4‬ال ‪ (:‬يج‪4‬اء ب‪4‬الموت ي‪4‬وم القيام‪4‬ة كأن‪4‬ه كبش أملح‪،‬‬
‫فيوقف بين الجنة والنار‪ ،‬فيقال‪ :‬يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟‪ ،‬فيشرئبون وينظرون‪ ،‬ويقول‪4‬ون‪ :‬نعم ه‪4‬ذا‬
‫الموت‪ ،‬ويقال‪ :‬يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون‪ :‬نعم هذا الم‪44‬وت‪ ،‬في‪44‬ؤمر ب‪44‬ه‬
‫فيذبح‪ ،‬ثم يقال‪ :‬يا أهل الجنة خلود فال موت‪ ،‬ويا أهل النار خل‪4‬ود فال م‪4‬وت‪ ،‬ثم ق‪4‬رأ رس‪4‬ول هللا ‪ ‬قول‪4‬ه‬
‫ض َي اأْل َ ْم‪4‬رُ َوهُ ْم ِفي َغ ْف َل‪ٍ 4‬ة َوهُ ْم ال ي ُْؤ ِمنُ‪4‬ونَ ﴾ (م‪4‬ريم‪ )39 :‬وأش‪4‬ار بي‪4‬ده إلى‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬و َأ ْن ِذرْ هُ ْم َيوْ َم ْال َحس َْر ِة ِإ ْذ قُ ِ‬
‫الدنيا)(‪)2‬‬
‫فهذا الحديث يكاد يص‪4‬رح بالق‪4‬درات الهائل‪4‬ة أله‪4‬ل النش‪4‬أة اآلخ‪4‬رة في التع‪4‬رف على ه‪4‬ذه الحق‪4‬ائق‪،‬‬
‫يستوي في ذلك مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬وأهل الجنة وأهل النار‪.‬‬
‫بل إن القرآن الكريم صرح ب‪4‬ذلك حين ذك‪4‬ر ق‪4‬درتهم على س‪4‬ماع ج‪4‬وارحهم‪ ،‬وهي تخ‪4‬اطبهم‪ ،‬ق‪4‬ال‬
‫تعالى‪َ ﴿:‬يوْ َم َت ْش َه ُد َع َل ْي ِه ْم َأ ْل ِس َنتُه ُْم َو َأ ْي ِدي ِه ْم َو َأرْ جُ لُه ُْم ِب َما َكانُوا َيعْ َملُونَ ﴾ (النور‪)24 :‬‬
‫***‬
‫انطالقا من ه‪4‬ذه المع‪4‬اني س‪4‬نتحدث في ه‪4‬ذا الفص‪4‬ل عن بعض الغيب ال‪4‬ذي كش‪4‬ف لن‪4‬ا عن بعض‬
‫دالئل الحياة ونوعها فيما نراه من كائنات سواء كانت جامدة ال حظ لها من الحياة والعقل‪ ،‬أو حية نعطيه‪44‬ا‬
‫صورة من صورة الحياة‪ ،‬وهي صورة الحركة والنمو‪ ،‬وننفي عنها أهم ما في الحياة من العق‪44‬ل وال‪44‬وعي‬
‫والشعور واالختيار‪.‬‬
‫وسنكتفي بأربعة مظاهر للحي‪4‬اة تكفي أي عاق‪4‬ل ليحكم من خالله‪4‬ا بالحي‪4‬اة لمن اتص‪4‬ف به‪4‬ا‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫اإلدراك‪ ،‬والمشاعر‪ ،‬والتعبير‪ ،‬والتحضر‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ اإلدراك‪:‬‬
‫اإلدارك هو أهم صفة من ص‪4‬فات الحي‪44‬اة‪ ،‬ب‪4‬ل ه‪4‬و ركن الحي‪4‬اة ال‪44‬ركين‪ ،‬ح‪4‬تى أن من الق‪4‬دامى من‬
‫عرف الحي بأنه المدرك النامي‪ ،‬أو عرفه بأنه المدرك فق‪44‬ط‪ ،‬فمن اكتم‪44‬ل ل‪44‬ه اإلدارك ك‪4‬ان ل‪44‬ه من الحي‪44‬اة‬
‫حظها األوفر‪ ،‬ومن كان له بعض اإلدراك كان له من الحياة ما كان له من اإلدراك‪.‬‬
‫ويراد باإلدراك توفر الواسائل المتيحة للتعرف على العالم الخارجي‪.‬‬
‫وربما يكون هذا الحد هو الحجاب الذي جعلنا‪ ،‬أو جعل أوهامنا تعتقد موت ما نراه من أشياء‪ ..‬ذلك‬
‫أننا ال نرى لها عيونا ترى بها‪ ،‬أو آذانا تسمع بها‪ ،‬أو جل‪44‬ودا تلمس به‪44‬ا‪ ..‬فنحكم من خالل غي‪44‬اب الوس‪44‬يلة‬
‫على غياب الغاية‪.‬‬
‫وهذا حكم خاطئ ابتداء‪ ..‬ومن السهولة التعرف على خطئه‪.‬‬
‫فقبل قرنين من الزمان فقط كان اللسان شرطا من شروط القدرة على الكالم‪ ..‬ولكن‪44‬ا اآلن‪ ،‬وبفض‪44‬ل‬
‫ما توفر لنا من تقنيات أزحنا هذا الشرط‪ ..‬فأصبحت الشريحة الصغيرة التي ال تكاد ت‪44‬رى تتح‪44‬دث بلس‪44‬ان‬
‫فصيح‪ ،‬بل تترنم بألحان دونها كل الحناجر مع أنه ليس لها لسان وال حنجرة وال هواء يدخل أو يخرج‪.‬‬
‫وهكذا القول في شئون كثيرة كان الوهم المتلبس بلباس العقل يحكم فيها بأحكامه على العقل‪ ..‬ولكن‬
‫الحقائق التي أتاحها العلم مكنتنا من التعرف على محل الوهم‪.‬‬
‫وهكذا ينبغي أن نتعامل مع ما لم نعلم علمه بعد‪ ..‬وإال وقعنا فيما وقع في‪44‬ه أه‪44‬ل الق‪44‬رون الس‪44‬الفة من‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬


‫‪6‬‬
‫األوهام المتلبسة بلباس العلم‪.‬‬
‫بعد هذا الخطاب البديهي للعقل‪ ،‬والذي قد ال نستفيد منه شيئا غير كون كل ذل‪44‬ك ممكن‪44‬ا‪ ،‬نرج‪44‬ع إلى‬
‫المصدر المعصوم للمعارف لنتعرف على ترجيحه ألحد وجهي اإلمكان‪.‬‬
‫والنصوص المقدسة تخبرنا عن هذا الوعي واإلدراك بأس‪4‬اليب مختلف‪4‬ة‪ ،‬ربم‪4‬ا تك‪4‬ون ه‪4‬ذه الرس‪4‬الة‬
‫جميعا‪ ،‬أدلة عليها‪.‬‬
‫ولكنا سنقتصر هنا على بعض ما ذكرت النصوص من نماذج على هذا الشرط من شروط الحياة‪.‬‬
‫فمن مظ‪4‬اهر اإلدراك مثال إدراك الم‪4‬درك للع‪4‬واقب‪ ،‬فل‪4‬ذلك يح‪4‬ترز منه‪4‬ا بص‪4‬نوف االح‪4‬ترازات‪..‬‬
‫فنعرف من خالل احترازه على مدى إدراكه‪.‬‬
‫ومما يذكر هنا من باب التنكيت أن بعض‪4‬هم زعم الص‪4‬مم‪ ،‬ليتخلص من وظيف‪4‬ة كل‪4‬ف به‪4‬ا‪ ،‬فاحت‪4‬ال‬
‫عليه المسؤول بأن صاح فجأة فيه‪ (:‬احذر‪ ..‬فإن عقربا تريد أن تلدغك)‪ ..‬فابتعد الرجل مس‪44‬رعا‪ ..‬وانطلت‬
‫الحيلة عليه‪ ..‬وعرف أن إدركه سليم بسبب احترازه‪.‬‬
‫ض َو ْال ِج َب‪ِ 4‬‬
‫‪4‬ال‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫اوا ِ‬ ‫وهذا الدليل نستطيع أن نفهم منه قوله تعالى‪ِ ﴿:‬إنَّا ع ََرضْ نَا اأْل َ َما َن‪َ 4‬ة َع َلى َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬
‫ال﴾ (األح‪4‬زاب‪ ،)72 :‬فالحي‪4‬اة العاقل‪4‬ة‬ ‫ظلُوم‪4‬اً َجهُ‪4‬و ً‬ ‫َفأَ َب ْينَ َأ ْن َيحْ ِم ْل َن َها َو َأ ْش‪َ 4‬ف ْقنَ ِم ْن َه‪4‬ا َو َح َم َل َه‪4‬ا اأْل ِ ْن َس‪ُ 4‬‬
‫ان ِإنَّهُ َك‪4‬انَ َ‬
‫المدركة للعواقب هي التي منعت هذا الكون من قبول أمانة التكليف‪.‬‬
‫ولوال ما في الكون من طاقة اإلدراك واالختيار ما عرض عليه هذا العرض الخط‪4‬ير‪ ،‬ولواله‪4‬ا م‪4‬ا‬
‫أجاب هذه اإلجابة الواعية‪.‬‬
‫ومع صراحة النصوص الدالة على هذا المعنى نجد بعض المفسرين يجنح بها إلى التأويل ال‪44‬ذي ال‬
‫يحتاج إليه‪ ،‬فقد ذهب بعضهم ـ كما يذكر القرطبي وغيره ـ إلى أن الع‪4‬رض في ه‪4‬ذه اآلي‪4‬ة ض‪4‬رب مث‪4‬ل‪،‬‬
‫(أي أن السموات واألرض على كبر أجرامها‪ ،‬لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع‪ ،‬لم‪44‬ا‬
‫فيها من الثواب والعقاب‪ ،‬أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه الس‪4‬موات واألرض والجب‪4‬ال‪ ،‬وق‪4‬د كلف‪4‬ه‬
‫اإلنسان وهو ظلوم جهول لو عقل)(‪)1‬‬
‫وقال قوم‪ :‬إن اآلية من المجاز‪ ،‬أي إنا إذا قايسنا ثقل األمانة بقوة السموات واألرض والجبال‪ ،‬رأينا‬
‫أنها ال تطيقها‪ ،‬وأنها لو تكلمت ألبت وأشفقت‪.‬‬
‫وهذا التأويل البعيد لآلية تغليب للعق‪4‬ل المح‪4‬دود على ال‪4‬وحي المطل‪4‬ق‪ ،‬وه‪4‬و نتيج‪4‬ة لص‪4‬حبة العق‪4‬ل‬
‫المسلم للفكر المادي‪ ،‬ولهذا كان السلف الذين لم يتلوثوا بمثل ه‪4‬ذه الص‪4‬حبة أش‪4‬رف فهم‪44‬ا‪ ،‬وأعظم إيمان‪44‬ا‪،‬‬
‫وقد روي في هذا عن عبدهللا بن مسعود قال‪ :‬لما خلق هللا األمانة مثلها صخرة‪ ،‬ثم وض‪44‬عها حيث ش‪44‬اء ثم‬
‫دعا لها السموات واألرض والجبال ليحملنها‪ ،‬وقال لهن‪ :‬إن هذه األمانة‪ ،‬ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا‪:‬‬
‫يا رب‪ ،‬ال طاقة لنا بها؛ وأقبل اإلنسان من قبل أن يدعي فقال للس‪44‬موات واألرض والجب‪44‬ال‪ :‬م‪44‬ا وق‪44‬وفكم؟‬
‫قالوا‪ :‬دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقنا منها ولم نطقها؛ قال‪ :‬فحركها بيده وق‪4‬ال‪ :‬وهللا ل‪4‬و ش‪4‬ئت أن أحمله‪4‬ا‬
‫لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه‪ ،‬ثم وضعها وقال‪ :‬وهللا لو شئت أن أزداد الزددت؛ قالوا‪ :‬دونك!‬
‫فحملها حتى بلغ بها حقويه‪ ،‬ثم وضعها وقال‪ :‬وهللا لو شئت أن أزداد الزددت؛ قالوا‪ :‬دونك‪ ،‬فحملها ح‪44‬تى‬
‫وضعها على عاتقه‪ ،‬فلما أهوى ليضعها‪ ،‬قالوا‪ :‬مكانك! إن هذه األمانة‪ ،‬ولها ثواب وعليها عق‪44‬اب وأمرن‪44‬ا‬
‫ربنا أن نحملها فأشفقنا منها‪ ،‬وحملتها أنت من غير أن تدعي لها‪ ،‬فهي في عنق‪4‬ك وفي أعن‪44‬اق ذريت‪4‬ك إلى‬

‫‪ )(1‬تفسير القرطبي‪.14/225:‬‬
‫‪7‬‬
‫يوم القيامة‪ ،‬إنك كنت ظلوما جهوال(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ المشاعر‪:‬‬
‫المشاعر الوجدانية هي روح الحياة‪ ..‬ومن ال مشاعر له ال حياة له‪..‬وقديما ق‪44‬ال الش‪44‬اعر يس‪44‬خر من‬
‫الذي لم يذق قلبه طعم الحب‪:‬‬
‫إذا لم تذق في هذه الدار صبوة فموتك فيها والحياة سواء‬
‫وقال اآلخر معبرا عن قصور حياة من لم يذق طعم هذه المشاعر‪:‬‬
‫إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فأنت وعير في الفالة سواء‬
‫وقال اآلخر يرميها بالجمود‪:‬‬
‫إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا‬
‫وقال اآلخر يرميها بالبهيمية‪:‬‬
‫إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فقم فاعتلف تبنا فأنت حمار‬
‫وكل هؤالء ـ ما عدا أولهم ـ عبروا حسب معارفهم‪ ،‬وحسبما دلتهم علي‪44‬ه م‪44‬داركهم المح‪44‬دودة‪ ..‬أم‪44‬ا‬
‫الحقيقة التي تنص عليها النصوص المقدسة‪ ..‬فتخالفهم في ذلك تمام المخالفة‪..‬‬
‫فالنصوص المقدسة تنطق بكل لسان على ما لهذه الموجودات ـ سواء كان منها ما ينتمي إلى الع‪44‬الم‬
‫الذي نسميه جمادا‪ ،‬أو العالم الذي نعطيه بعض أوصاف الحياة‪ ،‬وننزع منه أهمها‪.‬‬
‫وس‪44‬ننطلق من النص‪44‬وص المقدس‪44‬ة لنتع‪44‬رف على بعض أس‪44‬رار المش‪44‬اعر ال‪44‬تي تمتلئ به‪44‬ا قل‪44‬وب‬
‫الكائنات‪:‬‬
‫الخشوع‪:‬‬
‫فمنها الخشوع‪ ،‬وهو مجموعة مشاعر سامية يختلط فيها الحب بالهيبة وبالخشية وبالرجاء‪ ..‬وهو ال‬
‫يمكن أن يكون إال لمن امتأل بالحياة الحقيقية‪..‬‬
‫خَاش‪4‬عاً‬ ‫َ‬
‫‪4‬ل َل َرأ ْيتَ‪4‬هُ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قال تعالى واصفا تأثير نزول الق‪4‬رآن على الجب‪4‬ل‪َ ﴿:‬ل‪4‬وْ أ ْنزَلنَ‪4‬ا هَ‪َ 4‬ذا القُ‪4‬رْ آنَ َع َلى َج َب ٍ‬
‫اس َل َعلَّه ُْم َي َت َف َّكرُونَ ﴾ (الحشر‪)21:‬‬ ‫َصدِّعاً ِم ْن خَ ْش َي ِة هَّللا ِ َو ِت ْلكَ اأْل َ ْم َثالُ نَضْ ِربُ َها ِللنَّ ِ‬
‫ُمت َ‬
‫‪4‬ل َج َع َل‪4‬هُ َد ّك‪ 4‬اً ﴾ (ألع‪4‬راف‪:‬‬ ‫بل إنه من فرط الخش‪4‬وع للتجلي ين‪4‬دك‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ف َل َّما ت ََجلَّى َر ُّبهُ ِل ْل َج َب ِ‬
‫‪)143‬‬
‫طرْ نَ ِم ْن‪4‬هُ َو َت ْن َش‪ُّ 4‬ق اأْل َرْ ضُ َوت َِخ‪4‬رُّ‬ ‫ات َي َت َف َّ‬
‫او ُ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬‫بل ينهد لسماع شرك المشركين‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ):‬ت َك‪4‬ا ُد َّ‬
‫ْال ِج َبالُ َه ّداً َأ ْن َدعَوْ ا ِللرَّحْ َم ِن َو َلداً﴾ (مريم‪ 90 :‬ـ‪)91‬‬
‫وقد ذكر العلماء ـ انطالقا من هذه اآلية ـ األث‪4‬ر الش‪4‬ديد ال‪4‬ذي خلف‪4‬ه الش‪4‬رك في األش‪4‬ياء‪ ،‬ف‪4‬ذكر عن‬
‫بعضهم أنه قال‪ (:‬إن هللا تعالى لما خلق األرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في األرض شجرة يأتيه‪44‬ا‬
‫بنو آدم إال أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة فلم تزل األرض والشجر كذلك ح‪44‬تى تكلم فج‪44‬رة ب‪44‬ني‬
‫آدم تلك الكلمة العظيمة وهي قولهم‪ ﴿:‬اتَّخَ َذ الرَّحْ َم ُن َو َلداً﴾ (مريم‪ ،)88 :‬فلما قالوها اقشعرت األرض وشاك‬
‫الشجر)(‪)2‬‬
‫وكان ابن عباس يرجع ما في األرض من األذى بسب ه‪4‬ذا ق‪4‬ال‪ ( :‬اقش‪4‬عرت الجب‪4‬ال وم‪4‬ا فيه‪4‬ا من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬القرطبي‪.14/257:‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫األشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي األشجار الشوك)‬
‫ونحن وإن كنا ال نجزم بهذا‪ ،‬ولكنا مع ذلك ندرك أن الصور والخصائص التي نراه‪44‬ا لألش‪44‬ياء له‪44‬ا‬
‫عالق‪4‬ة كب‪4‬يرة بانفعاالته‪4‬ا ال‪4‬تي يس‪4‬ببها س‪4‬لوكنا‪ ،‬ول‪4‬ذلك ق‪4‬د نس‪4‬تلذ طعوم‪4‬ا أو من‪4‬اظر في بعض األي‪4‬ام‪ ،‬ثم‬
‫نستقبحها أياما أخرى‪ ،‬وقد نعزو ذلك إلى نفوسنا فقط ونعزل الكون من هذا األثر المتناقض لألشياء‪.‬‬
‫وقد ورد في اآلثار ما يدل على سرور األشياء‪ ،‬والذي ق‪4‬د يس‪4‬ري إلى الن‪4‬اظرين ليش‪4‬عرهم ب‪4‬األنس‬
‫والسعادة‪ ،‬فقد روي أن الجبل يفخر إن مر عليه ذاكر هلل تع‪4‬الى‪ ،‬فعن ابن مس‪4‬عود ق‪4‬ال‪ (:‬إن الجب‪4‬ل ليق‪4‬ول‬
‫للجبل‪ :‬هل مرَّ بك اليوم ذاكر هلل؟ فإن قال‪ :‬نعم‪ ،‬سُرَّ به) ثم قرأ عبد هللا قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َق‪4‬الُوا اتَّخَ‪َ 4‬ذ هَّللا ُ َو َل‪4‬داً‬
‫ض ُك‪4‬لٌّ َل‪4‬هُ َق‪4‬ا ِنتُونَ ﴾ (البق‪4‬رة‪ )116 :‬ق‪4‬ال‪ (:‬أف‪4‬تراهن يس‪4‬معن ال‪4‬زور‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ُسب َْحا َنهُ َبلْ َل‪4‬هُ َم‪4‬ا ِفي َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬
‫واليسمعن الخير)(‪)2‬‬
‫وعن أنس بن مالك قال‪ (:‬ما من صباح وال رواح إال تنادي بقاع األرض بعضها بعض‪44‬ا‪ ،‬ي‪44‬ا ج‪44‬اره‬
‫هل مر بك اليوم عبد فصلى هلل أو ذكر هللا علي‪4‬ك‪ ،‬فمن قائل‪4‬ة ال‪ ،‬ومن قائل‪4‬ة نعم‪ ،‬ف‪4‬إذا ق‪4‬الت نعم رأت له‪4‬ا‬
‫بذلك فضال عليها)(‪)3‬‬
‫وقد أخبر القرآن الكريم عن مشاعر الخشية من هللا التي تجعل الحجارة تهبط أو تتفج‪4‬ر أو تتش‪4‬قق‪..‬‬
‫ق َف َي ْخرُجُ ِم ْنهُ ْال َما ُء َو ِإ َّن ِم ْن َه‪44‬ا َل َم‪44‬ا َي ْه ِب‪4‬طُ‬
‫ار ِة َل َما َي َت َفجَّرُ ِم ْنهُ اأْل َ ْن َهارُ َو ِإ َّن ِم ْن َها َل َما َي َّشقَّ ُ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ َّن ِمنَ ْال ِح َج َ‬
‫ِم ْن خَ ْش َي ِة هَّللا (‪())4‬البقرة‪)74 :‬‬
‫وقد زعم بعضهم أن إسناد الخش‪4‬وع إلى الحج‪4‬ارة ج‪4‬اء من ب‪4‬اب المج‪4‬از‪ ،‬كم‪4‬ا أس‪4‬ندت اإلرادة إلى‬
‫الجدار في قوله تعالى‪َ ﴿:‬ف َو َجدَا ِفي َها ِجدَاراً ي ُِري ُد َأ ْن َي ْن َقضَّ َفأَ َقا َمهُ ﴾ (الكهف‪)77 :‬‬
‫وال حاجة إلى هذا كما ذكرنا‪ ،‬والنصوص الكثيرة التي أوردناها تدل على هذا‪.‬‬
‫الغضب‪:‬‬
‫ومن المشاعر التي ورد في النصوص الحديث عنها الغضب‪..‬‬
‫فقد أخبرنا القرآن الكريم أن جهنم ـ مثال ـ ليست تنورا للعذاب ال عقل له‪ ،‬وإنم‪44‬ا هي ك‪4‬ائن ككينون‪4‬ة‬
‫اإلنسان لها عقل ووعي ومشاعر‪.‬‬
‫بل إن مصدر عذابها وشدته نابع من غضبها هلل‪ ،‬فهي مغتاظة على الجاحدين‪ ،‬كما ق‪44‬ال تع‪44‬الى‪ِ ﴿:‬إ َذا‬
‫َر َأ ْته ُْم ِم ْن َم َك ٍ‬
‫ان َب ِعي ٍد َس ِمعُوا َل َها َت َغيُّظاً َوزَ ِفيراً﴾ (الفرقان‪)12 :‬‬
‫وقد صور بعض السلف شدة هذه الزف‪4‬رة النابع‪4‬ة من الغي‪4‬ظ بقول‪4‬ه‪ (:‬إن جهنم ل‪4‬تزفر زف‪4‬رة ال يبقى‬
‫ملك مقرب وال نبي مرسل إال خرَّ لوجهه‪ ،‬ترتع‪4‬د فرائض‪4‬ه‪ ،‬ح‪4‬تى إن إب‪4‬راهيم ‪ ‬ليجث‪4‬و على ركبتي‪4‬ه‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬رب ال أسألك اليوم إال نفسي)(‪)5‬‬
‫ومثل زفير استقبالها ألهلها‪ ،‬يصورها القرآن الكريم بصورة الجالد الحي الذي يتفنن في التعذيب‪،‬‬
‫‪4‬ولَّى َو َج َم‪َ 4‬ع‬ ‫لش‪َ 4‬وى َت‪ْ 4‬د ُعو َم ْن َأ ْد َب‪َ 4‬‬
‫‪4‬ر َو َت‪َ 4‬‬ ‫ظى ن ََّزا َع ًة ِّل َّ‬
‫وهو مدرك ماذا يفعل ولماذا يفعل‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬كاَّل ِإنَّ َها َل َ‬
‫َفأَوْ عَى ﴾ (المعارج‪ 15 :‬ـ ‪)18‬‬

‫القرطبي‪.11/158 :‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫ابن أببي شيبة‪.7/110 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه ابن المبارك في (دقائقه)‪ ،‬انظر‪ :‬القرطبي‪.10/267:‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫انظر‪ :‬ابن كثير‪ 1/114 :‬فقد رد على هذا الزعم بالنصوص الكثيرة‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه عبد الرزاق‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪9‬‬
‫فالقرآن الكريم عبر عما يحصل فيها من نزع للشوى(‪ ،)6‬بصيغة ( نزاعة) للداللة على أن ش‪44‬خص‬
‫جهنم الحي هو الذي يؤدي هذه المهمة‪ ،‬بل يخبر أنها تدعو من أدبر وتولى‪.‬‬
‫وهذا الغيظ الذي تبديه جهنم ألهلها ليس ناتجا من قسوة طبعية‪ ،‬بل هو كما توضح النص‪4‬وص ن‪4‬ابع‬
‫من غيرة إيمانية‪ ،‬وقد قال ابن عب‪4‬اس‪ (:‬إن الرج‪4‬ل ليج‪4‬ر إلى الن‪4‬ار فت‪4‬نزوي وتنقبض بعض‪4‬ها إلى بعض‬
‫فيقول لها الرحمن‪ :‬ما لك؟ قالت‪ :‬إنه يس‪4‬تجير م‪4‬ني‪ ،‬فيق‪4‬ول أرس‪4‬لوا عب‪4‬دي؛ وإن الرج‪4‬ل ليج‪4‬ر إلى الن‪4‬ار‬
‫فيقول‪ :‬يا رب ما كان هذا الظن بك‪ ،‬فيقول‪ :‬فما كان ظنك؟ فيق‪44‬ول‪ :‬أن تس‪44‬عني رحمت‪44‬ك‪ ،‬فيق‪44‬ول‪ :‬أرس‪44‬لوا‬
‫عبدي؛ وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير‪ ،‬وتزفر زفرة ال يبقى أح‪44‬د إال‬
‫خاف)(‪)2‬‬
‫والقرآن الكريم يخبرنا بأن جهنم ـ لشوقها ألهلها ـ تدرك بما أعطاها هللا من البص‪44‬يرة أن هن‪44‬اك من‬
‫ت َو َتقُولُ َهلْ ِم ْن َم ِزي‪ٍ 4‬د﴾ ( ّق‪:‬‬ ‫ال يزال خارجها‪ ،‬فلذلك تطالب بالمزيد‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬يوْ َم َنقُولُ ِل َج َهنَّ َم ه َِل ْامت ْ‬
‫َأل ِ‬
‫‪)30‬‬
‫والجنة في القرآن الكريم‪ ،‬وكما توضح األخبار واآلثار المفسرة له ـ مثل جهنم وك‪44‬ل مكون‪44‬ات‬
‫العالم اآلخر ـ كائن حي مدرك متكلم‪ ،‬له مشاعره الوجدانية‪ ،‬جعله هللا تعالى محال لرحمت‪44‬ه‪ ،‬ومجلى‬
‫لصفات فضله وكرمه‪.‬‬
‫وقد ورد في اآلثار ما يدل على شوق الجنة ألهلها شوقا ال يقل عن شوق أهلها إليها‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫( قالت الجنة‪ :‬يا رب قد أطردت انهاري وطابت ثماري فعجل على بأهلي)(‪)3‬‬
‫الشفقة‪:‬‬
‫ومنها شعور الشفقة هيبة من هللا وإجالال له‪ ،‬قال ‪ (:‬إن يوم الجمعة سيد األيام وأعظمها عن‪44‬د هللا‬
‫وهو أعظم عند هللا من يوم األضحى ويوم الفطر فيه خمس خالل خلق هللا فيه آدم وأهب‪44‬ط هللا في‪44‬ه آدم إلى‬
‫األرض وفيه توفى هللا آدم وفيه ساعة ال يسأل هللا فيها العبد شيئا إال أعطاه ما لم يسأل حرام‪44‬ا وفي‪44‬ه تق‪44‬وم‬
‫الساعة ما من مل‪4‬ك مق‪4‬رب وال س‪4‬ماء وال أرض وال ري‪4‬اح وال جب‪4‬ال وال بح‪4‬ر إال وهن يش‪4‬فقن من ي‪4‬وم‬
‫الجمعة)(‪)4‬‬
‫والذراع المسمومة تشفق على رسول هللا ‪ ،‬فتخبره عن سميتها(‪.)5‬‬
‫والجبل يشفق على رسول هللا ‪ ،‬كما روي أن النبي ‪ ‬قال‪ (:‬قال لي ثبير اهبط ف‪44‬إني أخ‪44‬اف أن‬
‫يقتلوك على ظهري فيعذبني هللا‪ .‬فناداه حراء‪ :‬إلي يا رسول هللا)(‪)6‬‬
‫والشجر يمشي حين يدعوه رسول هللا ‪. ‬‬
‫والجذع يحن لفقد رسول هللا ‪ ،‬فال يسكن حتى يضمه ‪ ،‬عن أبي س‪44‬عيد ق‪44‬ال‪ :‬ك‪44‬ان رس‪44‬ول هللا‬
‫‪ ‬يخطب إلى لزق جذع فأتاه رجل رومي فقال أصنع لك منبرا تخطب عليه فصنع له منبرا ه‪44‬ذا ال‪44‬ذي‬
‫ترون‪ ،‬قال فلما قام عليه النبي ‪ ‬يخطب حن الجذع حنين الناق‪44‬ة إلى ول‪44‬دها‪ ،‬ف‪44‬نزل إلي‪44‬ه رس‪44‬ول هللا ‪‬‬
‫فضمه إليه فسكن فأمر به أن يحفر له ويدفن)(‪)7‬‬

‫قال ابن عباس‪ :‬جلدة الرأس‪ ،‬انظر‪ :‬الطبري‪ ،29/76 :‬ابن كثير‪.4/422 :‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫ذكره ابن جرير في تفسيره وقال ابن كثير‪ :‬إسناده صحيح‪ ،‬انظر‪ :‬الطبري‪ ،18/187 :‬ابن كثير‪.3/312 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه الليث بن سعد‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه أحمد وابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫انظر‪ :‬شعب اإليمان‪.1/160 :‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫أورده القرطبي‪ .1/466 :‬وال نعلم درجته‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫الترمذي‪ ،2/379 :‬الدارمي‪.29 :‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪10‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫وقد كان ‪ ‬يبادل هذه األشياء مشاعرها‪ ،‬فكان يقول عن أحد‪( :‬هذا جبل يحبنا ونحبه)‬
‫الرحمة‪:‬‬
‫ومن المش‪44‬اعر ال‪44‬تي ورد في النص‪44‬وص المقدس‪44‬ة نس‪44‬بتها للكائن‪44‬ات مش‪44‬اعر الرحم‪44‬ة‪ ..‬وهي من‬
‫المشاعر العظيمة التي تستدعي منتهى الكمال والرقي‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ورد في النصوص من اإلخبار عن المشاعر الفائضة من قلوب األشياء دموعا رحم‪44‬ة‬
‫ظ ِرينَ ﴾ (الدخان‪29 :‬‬ ‫ت َع َل ْي ِه ُم ال َّس َما ُء َواأْل َرْ ضُ َو َما َكانُوا ُم ْن َ‬
‫للمؤمن‪ ،‬وهو ما يشير إليه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ف َما َب َك ْ‬
‫)‬
‫فهذا البكاء الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس من جنس ما كانت تعبر به العرب عن أحزانها‪ ،‬كم‪44‬ا‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا‬
‫وقالت األخرى‪:‬‬
‫أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف‬
‫ألن النصوص المقدسة ال يدخلها مثل هذا التأويل‪ ،‬ولو ورد في كالم الع‪44‬رب‪ ،‬فال النق‪44‬ل ينفي‪44‬ه‪ ،‬وال‬
‫العقل يحيله‪.‬‬
‫بل قد ورد في النقل ما يدل عليه‪ ،‬ومن ذلك قوله ‪ (:‬ما من مؤمن إال وله في السماء باب‪4‬ان‪ ،‬ب‪4‬اب‬
‫ت‬ ‫ينزل منه رزقه‪ ،‬وباب يدخل منه كالمه وعمله‪ ،‬فإذا مات فقداه فبكيا علي‪44‬ه‪ ،‬ثم تال قول‪44‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ف َم‪4‬ا َب َك ْ‬
‫واأْل َرْ ضُ ﴾ (الدخان‪)2()29 :‬‬ ‫َع َل ْي ِه ُم ال َّس َما ُء َ‬
‫ولهذا أخبر القرآن الكريم بعدم بكاء السموات واألرض على الكف‪44‬ار‪ ،‬ألنهم لم يعمل‪44‬وا على األرض‬
‫عمال صالحا تبكي عليهم ألجله‪ ،‬وال صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فق‪4‬ده‪ ،‬ق‪44‬ال علي‪ (:‬إن‪4‬ه يبكي‬
‫عليه مصاله من األرض ومصعد عمله من السماء)(‪)3‬‬
‫وكما تبكي األرض والسماء على المؤمن‪ ،‬تستبشر به‪ ،‬وقد قال أنس‪ (:‬لما كان اليوم الذي دخل في‪44‬ه‬
‫النبي ‪ ‬المدينة أضاء كل شيء‪ ،‬فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء‪ ،‬وإنا لفي دفنه م‪44‬ا نفض‪44‬نا‬
‫األيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا)(‪)4‬‬
‫ولهذا ال يصح اعتبار المسلم غريبا ما دام محاطا بكل هذه المشاعر الفياضة التي تتدفق من حول‪44‬ه‪،‬‬
‫قال ‪ (:‬إن اإلسالم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قي‪4‬ل‪ :‬من هم ي‪4‬ا رس‪4‬ول‬
‫هللا؟ قال ‪ -‬هم الذين إذا فسد الناس صلحوا ‪ -‬ثم قال ‪ -‬أال ال غربة على مؤمن‪ ،‬وما مات م‪44‬ؤمن في غرب‪44‬ة‬
‫غائبا عن‪4‬ه بواكي‪4‬ه إال بكت علي‪4‬ه الس‪4‬ماء واألرض) ثم ق‪4‬رأ رس‪4‬ول هللا ‪ ‬قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ف َم‪4‬ا َب َك ْ‬
‫ت َع َل ْي ِه ُم‬
‫رينَ ﴾‪ ،‬ثم قال‪ (:‬أال إنهما ال يبكيان على الكافر)(‪)5‬‬ ‫ال َّس َما ُء َواأْل َرْ ضُ َو َما َكانُوا ُم ْن َ‬
‫ظِ‬
‫وكما أن المؤمن يعيش بصحبة ه‪4‬ذه المش‪4‬اعر الفياض‪4‬ة ال‪4‬تي تفيض علي‪4‬ه من الك‪4‬ون‪ ،‬ف‪4‬إن الك‪4‬افر‬
‫البخاري‪ ،2/539 :‬مسلم‪.2/993 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه الترمذي‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫انظر هذه اآلثاروغيرها في‪ :‬القرطبي‪ ،16/140 :‬ابن كثير‪.4/143 :‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫البيهقي في الشعب‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪11‬‬
‫والغافل بعكس ذلك‪ ،‬فقد أخبر ‪ ‬أن البالد والشجر والدواب تستريح من أذى العبد الفاجر‪ ،‬فق‪44‬د روي أن‬
‫جنازة م‪4‬رت على رس‪4‬ول هللا ‪ ‬فق‪4‬ال‪ (:‬مس‪4‬تريح ومس‪4‬تراح من‪4‬ه) ق‪4‬الوا‪ (:‬ي‪4‬ا رس‪4‬ول هللا م‪4‬ا المس‪4‬تريح‬
‫والمستراح منه) قال‪ (:‬العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة هللا‪ ،‬والعبد الفاجر يستريح‬
‫منه العباد والبالد والشجر والدواب)(‪)1‬‬
‫وقد ذكر العلماء وجوها من اس‪4‬تراحة الك‪4‬ون من العب‪4‬د الف‪4‬اجر الك‪4‬افر أو العاص‪4‬ي منه‪4‬ا أن العب‪4‬اد‬
‫يستريحون من ظلمه لهم‪ ،‬وما يأتي به من المنكر‪ ،‬فإن أنكروا آذاهم‪ ،‬وإن تركوه أثموا‪.‬‬
‫والبالد تستريح مما يفعله فيها من المعاصي‪ ،‬فيحصل الجدب‪ ،‬ويهلك الحرث والنس‪44‬ل‪ ،‬أو لغص‪44‬بها‬
‫ومنعها من حقها‪.‬‬
‫والشجر يستريح منه لقلعه إياه غصبا أو غصب ثمره‪.‬‬
‫والدواب تستريح منه الستعماله لها فوق طاقتها‪ ،‬وتقصيره في علفها وسقيها(‪.)2‬‬
‫وهي وجوه ال يراد به‪44‬ا الحص‪44‬ر‪ ،‬فالت‪44‬أذي ال‪44‬ذي يحص‪44‬ل له‪44‬ا من جنس الت‪44‬أذي ال‪44‬ذي يحص‪44‬ل‬
‫للمؤمن عندما يسمع كلمة الكفر‪ ،‬وقد ذكرن‪4‬ا س‪4‬ابقا قول‪4‬ه تع‪4‬الى عن ت‪4‬أثير كلم‪4‬ة الكف‪4‬رعلى األش‪4‬ياء‪:‬‬
‫ق اأْل َرْ ضُ َوتَ ِخرُّ ْال ِجبَا ُل هَ ّداً﴾ (مريم‪)90:‬‬
‫ات يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْنهُ َوتَ ْن َش ُّ‬
‫﴿ تَ َكا ُد ال َّس َما َو ُ‬
‫بل ورد في النصوص واآلثار أن العالقة بين المؤمن والكون ليس‪4‬ت عالق‪4‬ة مش‪4‬اعر فق‪4‬ط‪ ،‬ب‪4‬ل هي‬
‫عالقة تعاون وتكافل‪ ،‬فقد أخبر ‪ ‬أنه‪ (:‬ال تقوم الساعة حتى يقات‪44‬ل المس‪44‬لمون اليه‪44‬ود فيقتلهم المس‪44‬لمون‬
‫حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجرة فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد هللا هذا يهودي خلفي‬
‫فتعال فاقتله إال الغرقد فإنه من شجر اليهود)(‪)3‬‬
‫وأخبر ابن عباس عن عابد كان يتعبد في غار فكان يأتيه غراب كل يوم برغيف حتى مات العابد‪.‬‬
‫التعظيم‪:‬‬
‫من المشاعر التي ورد في النصوص نسبتها لهذه الكائنات التعظيم‪ ..‬وهو نابع من معارف كثيرة ال‬
‫يمكن أن تكون إال لحي عاقل قد اكتمل له الحياة والعقل‪.‬‬
‫فقد ورد في النصوص ما يدل على تعظم الكائنات لرسول هللا ‪ ‬بسجود االحترام والتقدير‪.‬‬
‫فقد روي أن رسول هللا ‪ ‬كان في نف‪4‬ر من المه‪4‬اجرين واألنص‪4‬ار‪ ،‬فج‪4‬اء بع‪4‬ير فس‪44‬جد ل‪4‬ه‪ ،‬فق‪4‬ال‬
‫أص‪4‬حابه‪ (:‬ي‪4‬ا رس‪4‬ول هللا تس‪4‬جد ل‪4‬ك البه‪4‬ائم والش‪4‬جر‪ ،‬فنحن أح‪4‬ق أن نس‪4‬جد ل‪4‬ك) فق‪4‬ال‪ (:‬اعب‪4‬دوا ربكم‪،‬‬
‫وأكرموا أخاكم)(‪)4‬‬
‫وفي الحديث دليل على تكرر ذلك من البهائم المختلفة والشجر‪.‬‬
‫ومن هذا الباب طاعتها لرسول هللا ‪ ‬وشهادتها له‪ ،‬فقد روي أن أعرابي‪44‬ا دن‪44‬ا من رس‪44‬ول هللا ‪،‬‬
‫فقال له رسول هللا ‪ :‬أين تريد؟ قال‪ :‬إلى أهلي قال‪ :‬هل لك في خير‪ ،‬قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬تشهد أن ال إل‪44‬ه‬
‫إال هللا وحده ال شريك له وأن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬ق‪4‬ال‪ :‬ومن يش‪4‬هد على م‪4‬ا تق‪4‬ول‪ ،‬ق‪4‬ال‪ :‬ه‪4‬ذه الس‪4‬لمة‪،‬‬
‫فدعاها رسول هللا ‪ ‬وهي بشاطئ الوادي‪ ،‬فأقبلت تخد األرض خدا‪ ،‬ح‪44‬تى ق‪44‬امت بين يدي‪44‬ه فاستش‪44‬هدها‬
‫ثالثا‪ ،‬فشهدت ثالثا أنه كما قال‪ ،‬ثم رجعت إلى منبته‪4‬ا‪ ،‬ورج‪4‬ع األع‪44‬رابي إلى قوم‪44‬ه‪ ،‬وق‪4‬ال‪ :‬إن اتبع‪4‬وني‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫انظر‪ :‬شرح الزرقاني‪.2/125 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫أحمد‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪12‬‬
‫أتيتك بهم وإال رجعت فكنت معك(‪.)1‬‬
‫وقد تكرر ذلك مرات مختلفة‪ ،‬منها أنه جاء أعرابي إلى رسول هللا ‪ ‬فقال‪ (:‬بم أعرف أن‪44‬ك ن‪44‬بي)‬
‫قال‪ (:‬إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رس‪4‬ول هللا) ف‪4‬دعاه رس‪4‬ول هللا ‪ ‬فجع‪4‬ل ي‪4‬نزل من‬
‫النخلة حتى سقط إلى النبي ‪ ‬ثم قال‪ (:‬ارجع) فعاد فأسلم األعرابي(‪.)2‬‬
‫وق‪44‬د ك‪44‬ان اح‪44‬ترام الكائن‪44‬ات لرس‪44‬ول هللا ‪ ‬وتعظيمه‪44‬ا ل‪44‬ه ومعرفته‪44‬ا بمنزلت‪44‬ه عن‪44‬د هللا داعي‪44‬ة له‪44‬ا‬
‫لالستجارة به واللجوء إلى باب‪4‬ه كم‪4‬ا يلج‪4‬أ الص‪4‬ادقون‪ ،‬وق‪4‬د روي من ذل‪4‬ك أن ج‪4‬زارا فتح باب‪4‬ا على ش‪4‬اة‬
‫ليذبحها‪ ،‬فانفلتت منه حتى جاءت النبي ‪ ‬فتبعها وأخذ يسحبها برجله‪4‬ا‪ ،‬فق‪4‬ال له‪4‬ا الن‪4‬بي ‪( :‬اص‪4‬بري‬
‫ألمر هللا‪ ،‬وأنت يا جزار فسقها سوقا رفيقا)(‪)3‬‬
‫وروي مثل ذلك عن جمل جاء إلى رسول هللا ‪ ‬يشكو صاحبه‪ ،‬فق‪4‬د دخ‪4‬ل رس‪4‬ول هللا ‪ ‬حائط‪4‬ا‬
‫لرجل من األنصار فإذا فيه جمل‪ ،‬فلما رأى النبي ‪ ‬حن وذرفت عيناه فأتاه رسول هللا ‪ ‬فمسح ذف‪44‬راه‬
‫فسكت فقال‪ :‬من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من األنص‪4‬ار فق‪4‬ال‪ :‬لي ي‪4‬ا رس‪4‬ول هللا‪ ،‬فق‪4‬ال‬
‫‪ (:‬أفال تتقى هللا في هذه البهيمة التي ملكك هللا إياها فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتذيبه)(‪)4‬‬
‫وفي رواية أخرى أو في حادثة أخرى عن يعلى بن مرة قال‪ (:‬كنت مع الن‪4‬بي ‪ ‬جالس‪4‬ا ذات ي‪4‬وم‬
‫إذ جاء جمل يخبب حتى ضرب بجرانه بين يديه ثم ذرفت عيناه‪ ،‬فقال‪ :‬ويحك انظر لمن ه‪44‬ذا الجم‪44‬ل؟ إن‬
‫له لشأنا‪ ،‬قال فخرجت ألتمس صاحبه فوجدته لرجل من األنصار فدعوته إليه فقال‪ :‬ما ش‪4‬أن جمل‪4‬ك ه‪4‬ذا؟‬
‫فقال‪ :‬وما شأنه؟ ال أدرى وهللا ما شأنه‪ ،‬حملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية فأتمرنا البارح‪44‬ة‬
‫أن ننحره ونقسم لحمه‪ ،‬قال‪ :‬ال تفعل هبه لي أو بعنيه‪ ،‬فقال‪ :‬بل هو لك يا رسول هللا‪ ،‬ق‪4‬ال‪ :‬فوس‪4‬مه بميس‪4‬م‬
‫الصدقة ثم بعث به)(‪)5‬‬
‫وفي رواية أخرى أن رسول هللا ‪ ‬قال لصاحب البع‪4‬ير‪ (:‬م‪4‬ا لبع‪4‬يرك يش‪4‬كوك؟ زعم أن‪4‬ك س‪4‬نأته‬
‫حتى كبر تريد أن تنحره‪ ،‬قال‪ :‬صدقت‪ ،‬والذي بعثك بالحق ال أفعل)‬
‫وفي رواية أخرى أو حادثة أخرى قال رسول هللا ‪ ‬لصاحب البعير‪ (:‬بعنيه)‪ ،‬فقال‪ (:‬ال ب‪44‬ل أهب‪44‬ه‬
‫لك يا رسول هللا‪ ،‬وإنه ألهل بيت ما لهم معيشة غيره)‪ ،‬فقال‪ (:‬أما إذا ذكرت هذا من أمره فإنه ش‪44‬كا ك‪44‬ثرة‬
‫العمل وقلة العلف‪ ،‬فأحسنوا إليه)‬
‫ومثل ذلك روي عن أنس قال‪ :‬مر رس‪44‬ول هللا ‪ ‬على ق‪44‬وم ق‪4‬د ص‪44‬ادوا ظبي‪44‬ة فش‪4‬دوها إلى عم‪4‬ود‬
‫فسطاط‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول هللا إني وضعت ولدين خشفين‪ ،‬فاستأذن لي أن ارضعهما ثم أعود‪ ،‬فقال رسول‬
‫هللا ‪ :‬خلوا عنها حتى تأتى خشفيها فترضعهما وتأتى إليكما‪ ،‬قالوا‪ :‬ومن لنا بذلك يا رسول هللا؟ق‪4‬ال أن‪4‬ا‪.‬‬
‫فأطلقوها فذهبت فأرضعتهما ثم رجعت إليهما فاوثقوه‪44‬ا‪ ،‬ق‪4‬ال‪ :‬أتبيعونه‪44‬ا؟ ق‪44‬الوا‪ :‬ي‪44‬ا رس‪44‬ول هللا هي ل‪44‬ك‪،‬‬
‫فخلوا عنها‪ ،‬فأطلقوها‪ ،‬فذهبت(‪.)6‬‬
‫‪ 3‬ـ التعبير‬
‫من أهم مظاهر الحياة القدرة على التعبير‪ ..‬وهي وإن ك‪44‬انت ليس‪44‬ت ش‪44‬رطا في الحي‪44‬اة إال أن كم‪44‬ال‬

‫الدارمي‪ ،22 :‬مسند أبي يعلى‪.10/34 :‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫الترمذي‪ ،5/594 :‬األحاديث المختارة‪.9/539 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه عبد الرزاق‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه أحمد‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه الطبرانى‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪13‬‬
‫الحياة ال يتحقق إال بها‪.‬‬
‫وقد أخبر القرآن الكريم عن هذه الطاقة التي تتمتع بها األشياء‪ ،‬بل أخبر أن هذه الطاق‪44‬ة زودت به‪44‬ا‬
‫اء‬ ‫الس‪َ 4‬م ِ‬ ‫اس‪4‬ت ََوى ِإ َلى َّ‬ ‫األشياء منذ والدتها‪ ،‬فقد قال تعالى عن الك‪44‬ون المتش‪44‬كل من الس‪44‬موات واألرض‪ ﴿:‬ثُ َّم ْ‬
‫طا ِئ ِعينَ ﴾ (فصلت‪)1()11 :‬‬ ‫طوْ عاً َأوْ َكرْ هاً َقا َلتَا َأ َت ْينَا َ‬ ‫ال َل َها َو ِلأْل َرْ ِ‬
‫ض ا ْئ ِت َيا َ‬ ‫خَان َف َق َ‬
‫َو ِه َي ُد ٌ‬
‫وأخبر عن اإلنسان أنه تحدث‪ ،‬وهو ال يزال في عالم ال‪44‬ذر‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬و ِإ ْذ َأخَ‪َ 4‬ذ َربُّكَ ِم ْن َب ِني آ َد َم‬
‫ْت ِب َر ِّب ُك ْم َقالُوا َب َلى َش ِه ْدنَا َأ ْن َتقُولُوا َيوْ َم ْال ِق َيا َم‪ِ 4‬ة ِإنَّا ُكنَّا ع َْن َه ‪َ 4‬ذا‬
‫ُور ِه ْم ُذرِّ يَّ َته ُْم َو َأ ْش َه َدهُ ْم َع َلى َأ ْنفُ ِس ِه ْم َأ َلس ُ‬
‫ظه ِ‬ ‫ِم ْن ُ‬
‫غَا ِف ِلينَ ﴾ (ألعراف‪)172 :‬‬
‫بل أخبر أن الكافرين يكتشفون يوم القيامة هذه القدرة التي تتمتع بها الكائنات ال‪4‬تي ك‪4‬انوا يحس‪4‬بونها‬
‫جامدة‪ ،‬قال تعالى حكاية عن كالم الجلود بعد تعجب الكفار من كالمها‪َ ﴿ :‬و َق‪44‬الُوا ِلجُ لُ‪44‬و ِد ِه ْم ِل َم َش‪ِ 4‬ه ْدتُ ْم َع َل ْي َن‪44‬ا‬
‫ط َق ُكلَّ َش ْي ٍء ﴾ (فصلت‪)21 :‬‬ ‫ط َقنَا هَّللا ُ الَّ ِذي َأ ْن َ‬‫َقالُوا َأ ْن َ‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فقد ورد في النصوص أن الجنة تتكلم‪ ،‬وتعقل أهلها‪ ،‬قال ‪ (:‬لما خلق هللا‬
‫جنة عدن خل‪44‬ق فيه‪44‬ا م‪44‬ا ال عين رأت وال أذن س‪44‬معت وال خط‪44‬ر على قلب بش‪44‬ر ثم ق‪44‬ال له‪44‬ا تكلمي‬
‫فقالت‪ :‬قد أفلح المؤمنون)(‪)2‬‬
‫وقد أخبرنا ‪ ‬عن ح‪4‬وار ج‪4‬رى بين الجن‪4‬ة والن‪4‬ار‪ ،‬فق‪4‬ال‪ (:‬تح‪4‬اجت الجن‪4‬ة والن‪4‬ار‪ ،‬فق‪4‬الت الن‪4‬ار‪:‬‬
‫َّ‬
‫ع‪4‬ز‬ ‫أوثرت بالمتكبرين والتمجبرين؛ وقالت الجنة‪ :‬مالي ال يدخلني إال ض‪4‬عفاء الن‪4‬اس وس‪4‬قطهم؟ ق‪4‬ال هّللا‬
‫وجلَّ‪ ،‬للجنة‪ :‬أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي‪ ،‬وقال للنار‪ :‬إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء‬
‫من عبادي‪ ،‬ولكل واحدة منكما ملؤها)(‪)3‬‬
‫وهذه النصوص وغيرها تدل على حياة العالم اآلخر ووعيه وإدراكه وشعوره‪ ،‬وه‪44‬و م‪44‬ا يهب‬
‫ذوقا خاصا لمن تأمله وعاشه‪.‬‬
‫فإدراك المؤمن ـ مثال ـ بأن هذه األرض التي يعيش فيها‪ ،‬والتي لم يسمع حديثها‪ ،‬أو لم يخطر‬
‫على باله أنها تتحدث‪ ،‬ستتحدث يوما ما لتخبره بك‪44‬ل حرك‪44‬ة ق‪44‬ام به‪44‬ا على ظهره‪44‬ا‪ ،‬يجعل‪44‬ه محتاط‪44‬ا‬
‫متأدبا متواضعا‪ ،‬فهو ال يركب جمادا ال يعقل‪ ،‬بل هو يمتطي كائنا حيا له وعيه ومشاعره‪.‬‬
‫‪4‬ال‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ أَ ْثقَالَهَ‪4‬ا َوقَ َ‬ ‫ت اأْل َرْ ضُ ِز ْلزَالَهَ‪4‬ا َوأَ ْخ‪َ 4‬ر َج ِ‬ ‫‪4‬زلَ ِ‬ ‫قال تعالى مصورا ذل‪4‬ك الي‪4‬وم‪ ﴿:‬إِ َذا ُز ْل ِ‬
‫ارهَا بِأ َ َّن َربَّكَ أَوْ َحى لَهَا ﴾(الزلزلة)‬ ‫ِّث أَ ْخبَ َ‬
‫ان َما لَهَا يَوْ َمئِ ٍذ تُ َحد ُ‬ ‫اإْل ِ ن َس ُ‬
‫ِّث‬ ‫وقد فسر ‪ ‬حديث األرض في ذلك اليوم العظيم بقوله بعد أن تال قوله تع‪4‬الى‪ ﴿:‬يَوْ َمئِ ‪ٍ 4‬ذ تُ َح‪ 4‬د ُ‬
‫أَ ْخبَا َرهَا﴾ (الزلزلة‪ (:)44:‬أتدرون ما أخبارها؟ قالوا‪ :‬هّللا ورسوله أعلم‪ ،‬ق‪44‬ال‪ :‬ف‪44‬إن أخباره‪44‬ا أن تش‪44‬هد‬
‫على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها‪ ،‬أن تقول‪ :‬عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا‪ ،‬فهذه أخبارها)(‪)4‬‬
‫ولهذا ورد في الحديث األمر بمراعاة األرض والتحفظ منه‪44‬ا‪ ،‬ق‪44‬ال ‪ (:‬تحفظ‪44‬وا من األرض‬
‫فإنها أمكم‪ ،‬وإنه ليس من أحد عامل عليها خيراً أو شرا ً إال وهي مخبرة)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬استطاع العلم الحديث ـ بما زود من وسائل ـ أن يتوصل إلى ما يدل على هذا الحديث الكوني‪ ،‬وقد كان شرف هذا االكتشاف ألح‪44‬د علم‪44‬اء الفض‪44‬اء‪،‬‬
‫وهو البروفيسور (مارك ويتل) من جامعة فيرجينيا‪ ..‬فقد تحدث هذا العالم عن األمواج الصوتية التي أطلقها الكون عندما كان عمره ‪ 380‬أل‪44‬ف س‪44‬نة‪ ،‬واس‪44‬تمر‬
‫هذا الصوت الناتج عن تمدد وتوسع الكون حتى أصبح عمر الكون مليون سنة‪ ،‬عندها بدأت النجوم األولى بالتشكل‪( .‬انظر‪ :‬السماء تتكلّم! حقائق كونية حديث‪44‬ة‬
‫جداً تتجلّ ى في القرآن‪ ،‬بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل‪ ،‬من موقع‪ :‬موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة) وانظر في هذا‪ :‬رسالة (معجزات علمية)‬
‫‪ )(2‬المعجم الكبير للطبراني‪.11/184 :‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه ابن مردويه والبيهقي في شعب اإليمان‪.‬‬
‫‪ )(5‬الطبراني في المعجم الكبير‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫بل أخبر ‪ ‬أن بعض هذا الكشف سيحصل في الدنيا عندما تق‪4‬ترب رحلته‪4‬ا من ال‪4‬دار اآلخ‪4‬رة‪ ،‬أو‬
‫في البرزخ الذي بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬قال ‪ (:‬والذي نفسي بيده ال تقوم الساعة حتى تكلم السباع اإلنسان‬
‫وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده)(‪)1‬‬
‫وليس ذلك خاصا باآلخرة‪ ..‬وال بالبرزخ الذي بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬بل ورد في النصوص ما يش‪44‬مل‬
‫الدنيا واآلخ‪4‬رة‪ ،‬وق‪4‬د ق‪4‬ال رس‪4‬ول هللا ‪ (:‬إني ألع‪4‬رف حج‪4‬را بمك‪4‬ة ك‪4‬ان يس‪4‬لم علي قب‪4‬ل أن أبعث إني‬
‫ألعرفه اآلن)(‪)2‬‬
‫هذا في عالم الجماد‪ ،‬أما في عالم الحي‪44‬وان‪ ،‬فق‪44‬د ذك‪4‬ر الق‪44‬رآن الك‪4‬ريم منط‪44‬ق حي‪4‬وانين هم‪4‬ا الهده‪44‬د‬
‫والنملة‪:‬‬
‫أما الهدهد‪ ،‬فقد وردت قصته في قوله تعالى إخبارا عن بعض ما وهب سليمان ‪ ‬من المل‪44‬ك أن‪44‬ه‬
‫ال َما ِل َي ال َأ َرى ْالهُ ْدهُ َد َأ ْم َكانَ ِمنَ ْالغَا ِئ ِبينَ ﴾ (النمل‪)20 :‬‬ ‫ذات يوم‪َ ﴿:‬ت َفقَّ َد َّ‬
‫الطي َْر َف َق َ‬
‫ين ﴾‬ ‫ان ُّم ِب ٍ‬ ‫ط ٍ‬ ‫وبنبرة الحزم التي تقتضيها السلطة‪ ،‬قال‪ ﴿:‬أَل ُ َع ِّذ َبنَّهُ َع َذاباً َش‪ِ 4‬ديداً َأوْ أَل َ ْذ َب َحنَّهُ َأوْ َل َي ْ‪4‬أ ِت َي ِّني ِب ُس‪ْ 4‬ل َ‬
‫(النمل‪)21 :‬‬
‫وبعد مدة جاء الهدهد‪ ،‬ومعه الحجة التي يبرر بها غيابه‪ ،‬وهي حجة جعلته يدخل على سليمان ‪‬‬
‫ين ﴾ (النمل‪)22 :‬‬ ‫ط ِب ِه َو ِج ْئتُكَ ِمن َس َبإٍ ِب َن َبإٍ َي ِق ٍ‬ ‫طت ِب َما َل ْم تُ ِح ْ‬‫مزهوا فاخرا‪ ،‬ليقول له‪َ ﴿:‬أ َح ُ‬
‫ت ِمن ُك‪4‬لِّ َش‪ْ 4‬ي ٍء َو َل َه‪4‬ا َع‪4‬رْ شٌ‬ ‫‪4‬ر َأ ًة ت َْم ِل ُكه ُْم َوأُو ِت َي ْ‬ ‫دت ْام َ‬ ‫ثم ذكر النبأ اليقين الذي جاء به‪ ،‬فقال‪ِ ﴿:‬إ ِّني َو َج ُّ‬
‫َظي ٌم ﴾ (النمل‪)23 :‬‬ ‫ع ِ‬
‫ان َأ ْع َم‪44‬ا َله ُْم‬ ‫ط ُ‬ ‫ون هَّللا ِ َوزَ يَّنَ َلهُ ُم َّ‬
‫الش ‪ْ 4‬ي َ‬ ‫س ِمن ُد ِ‬ ‫لش ‪ْ 4‬م ِ‬ ‫وبنبرة الغاضب هلل قال‪َ ﴿:‬و َجد ُّت َها َو َقوْ َم َها َي ْس‪4‬جُ ُدونَ ِل َّ‬
‫يل َفه ُْم اَل َي ْه َت ُدونَ ﴾ (النمل‪)24 :‬‬ ‫َف َ‬
‫ص َّدهُ ْم ع َِن ال َّس ِب ِ‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫الس ‪َ 4‬م َ‬ ‫وبن‪44‬برة الع‪44‬ارف باهلل والناص‪44‬ح لخل‪44‬ق هللا ق‪44‬ال‪َ ﴿:‬أاَّل َي ْس ‪4‬جُ ُدوا هَّلِل ِ الَّ ِذي ي ُْخ‪ِ 4‬رجُ ْالخَبْ َء ِفي َّ‬
‫ش ْال َع ِظ ِيم (‪( ﴾)26‬النمل)‬ ‫ض َو َيعْ َل ُم َما تُ ْخفُونَ َو َما تُعْ ِلنُونَ (‪ )25‬هَّللا ُ اَل ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو َربُّ ْال َعرْ ِ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ت‬‫اوا ِ‬ ‫وق‪4‬د ع‪4‬بر عن معرفت‪4‬ه هلل بحس‪4‬ب حال‪4‬ه‪ ،‬ف‪4‬ذكر من ص‪4‬فات هللا أن‪4‬ه ﴿ ي ُْخ‪ِ 4‬رجُ ْالخَبْ َء ِفي َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬
‫ض َو َيعْ َل ُم َما تُ ْخفُونَ َو َما تُعْ ِلنُونَ ﴾‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ت ن َْم َل‪4‬ةٌ َي‪4‬ا َأ ُّي َه‪4‬ا النَّ ْم‪4‬لُ‬ ‫أما النملة‪ ،‬فقد وردت قصتها في قوله تعالى‪َ ﴿:‬حتَّى ِإ َذا َأ َتوْ ا َع َلى َوا ِدي النَّ ْم ِل َقا َل ْ‬
‫ان َوجُ نُو ُد ُه َوهُ ْم اَل َي ْشعُرُونَ ﴾ (النمل‪)18 :‬‬ ‫ا ْد ُخلُوا َم َسا ِك َن ُك ْم اَل َيحْ ِط َمنَّ ُك ْم ُس َل ْي َم ُ‬
‫وهي تمثل بقولها هذا عالما جليال من عوالم الرحمة والتكافل واألدب مما يقص‪4‬ر الكث‪4‬ير من البش‪4‬ر‬
‫المتطاولون عن البلوغ إليه‪.‬‬
‫فقد ك‪4‬انت في موض‪4‬ع تهدي‪4‬د ب‪4‬وطء جيش س‪4‬ليمان ‪ ‬له‪4‬ا‪ ،‬فلم تكت‪4‬ف في تل‪4‬ك اللحظ‪4‬ة الممل‪4‬وءة‬
‫بالرعب أن تفر بنفسها‪ ،‬بل التفتت إلى النمل من أصحابها أن يفروا بأنفسهم‪.‬‬
‫وهي في تل‪44‬ك اللحظ‪44‬ة لم تتخ‪44‬ل عن األدب‪ ،‬ف‪44‬ذكرت ع‪44‬ذر س‪44‬ليمان ‪ ‬وجن‪44‬وده‪ ،‬وه‪44‬و أنهم ق‪44‬د‬
‫يطؤونهم من غير شعور منهم‪ ،‬وهو خلق نبيل قل من يكون عليه من البشر‪.‬‬
‫وقد كانت هذه النملة ينبوعا من المنابع التي فاضت منها الروايات الكثيرة عن عالم النمل‪:‬‬
‫ومنها ما روي أن سليمان ‪ ‬خرج يستسقي بالناس‪ ،‬فمر بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمه‪44‬ا‬
‫إلى الس‪4‬ماء‪ ،‬وهي تق‪4‬ول‪ (:‬اللهم إن‪4‬ا خل‪4‬ق من خلق‪4‬ك ليس بن‪4‬ا غ‪4‬نى عن رزق‪4‬ك‪ ،‬فام‪4‬ا أن تس‪4‬قينا وإم‪4‬ا أن‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫تهلكنا)‪ ،‬فقال سليمان ‪ ‬للناس‪ (:‬ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم)‬
‫وقد كانت لذلك ـ أيضا ـ منبعا للرحمة والش‪4‬فقة ـ كم‪4‬ا وردت ب‪4‬ذلك النص‪4‬وص واآلث‪4‬ار‪ ،‬ومنه‪4‬ا أن‬
‫النبي ‪ ‬رأى قرية نمل قد حرقت‪ ،‬فقال‪ :‬من حرق هذه؟ قالوا‪ :‬نحن‪ ،‬قال‪ (:‬إنه ال ينبغي أن يعذب بالن‪44‬ار‬
‫إال رب النار)(‪)2‬‬
‫وورد في الحديث أن النبي ‪ (:‬نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد)(‪)3‬‬
‫ولعل أكثر الحيوانات قدرة على التعبير كما ورد في النصوص واآلثار هي الطيور‪ ،‬فهي بنغماته‪44‬ا‬
‫المختلفة الجاذبة للقلوب تعبر عن أسمى المعاني‪ ،‬وأشرف الحقائق‪.‬‬
‫ْ‪4‬ر ﴾ (النم‪4‬ل‪ )16 :‬لنس‪4‬مع بعض‬ ‫وسنهتدي بنور قول‪4‬ه تع‪4‬الى عن س‪4‬ليمان ‪ُ ﴿:‬ع ِّل ْمنَ‪4‬ا َم ْن ِط‪َ 4‬ق َّ‬
‫الطي ِ‬
‫أغاني الطيور‪ ،‬دون اهتمام بأسانيد ما نذكره أو مدى صحته‪.‬‬
‫بل إنا نحاول أن نجعل من الطيور هداة نهتدي به‪4‬ا‪ ،‬ومواع‪4‬ظ ع‪4‬برة نعت‪4‬بر به‪4‬ا‪ ،‬ونأك‪4‬ل البقل‪4‬ة من‬
‫ألسنتها دون أن نسأل عن البقال(‪:)4‬‬
‫وأول ما نتعلمه من الطيور الزهد والقناعة التي عبر عنها هذا البلب‪4‬ل الزاه‪4‬د ال‪4‬ذي م‪4‬ر ب‪4‬ه س‪4‬ليمان‬
‫‪ ‬وهو على فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه‪ ،‬فقال سليمان ‪ ‬ألصحابه‪ :‬أتدرون م‪44‬ا يق‪44‬ول ه‪44‬ذا‬
‫البلبل؟ قالوا‪ :‬ال يا نبي هللا‪ .‬قال‪ :‬إنه يقول‪ :‬أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء‪.‬‬
‫ونتعلم األدب من هذا الطائر المؤدب ال‪4‬ذي ع‪4‬رف كي‪4‬ف يخ‪4‬اطب ن‪4‬بي هللا‪ ،‬فق‪4‬د ك‪4‬ان س‪4‬ليمان ‪‬‬
‫جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف‪ ،‬فقال لجلسائه‪ :‬أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها ق‪44‬الت لي‪ :‬الس‪44‬الم‬
‫عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل! أعط‪4‬اك هللا الكرام‪4‬ة‪ ،‬وأظه‪4‬رك على ع‪4‬دوك‪ ،‬إني منطل‪4‬ق‬
‫إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية؛ وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع؛ فقال إنه يقول‪ :‬الس‪4‬الم علي‪4‬ك أيه‪4‬ا المل‪4‬ك‬
‫المسلط‪ ،‬إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما ش‪44‬ئت‪ .‬ف‪44‬أخبرهم‬
‫سليمان بما قال؛ وأذن له فانطلق‪.‬‬
‫ونتعلم اإليمان بالقضاء والقدر من الهدهد الذي مر به سليمان ‪ ،‬وهو فوق شجرة وقد نصب له‬
‫صبي فخا فقال له سليمان‪ :‬احذر يا هدهد! فقال‪ :‬يا نبي هللا! هذا صبي ال عقل له فأنا أس‪44‬خر ب‪44‬ه‪ ،‬ثم رج‪44‬ع‬
‫سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده‪ ،‬فقال‪ :‬هدهد ما هذا؟ قال‪ :‬ما رأيتها حتى وقعت فيه‪44‬ا‬
‫يا نبي هللا‪ ،‬قال‪ :‬ويحك! فأنت ترى الماء تحت األرض أما ت‪44‬رى الفخ! ق‪44‬ال‪ :‬ي‪44‬ا ن‪44‬بي هللا إذا ن‪44‬زل القض‪44‬اء‬
‫عمي البصر‪.‬‬
‫ونتعلم قصر األمل من هذا الورشان الذي صاح عند سليمان ‪ ‬فقال‪ :‬أتدرون ما يقول؟ قالوا‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬إنه يقول‪ :‬لدوا للموت وابنوا للخراب‪ .‬وصاحت فاختة‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرون ما تق‪4‬ول؟ ق‪4‬الوا‪ :‬ال‪ .‬ق‪4‬ال‪ :‬إنه‪4‬ا‬
‫تقول‪ :‬ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا‪.‬‬
‫ونتعلم وجوها من األخالق من هذه الطيور التي صاحت عنده‪ ،‬وفسرها لنا‪:‬‬
‫فقد صاح عنده طاوس‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرون ما يقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬إنه يقول‪ :‬كما تدين تدان‪.‬‬
‫وصاح عنده هدهد فقال‪ :‬أتدرون ما يقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فإنه يقول‪ :‬من ال يرحم ال يرحم‪.‬‬

‫الدر المنثور‪.6/345 :‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه أبو داود‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫انظر هذه اآلثار في‪ :‬الدر المنثور‪،6/344 :‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪16‬‬
‫وصاح صرد عنده‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرون ما يقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬إنه يقول‪ :‬استغفروا هللا يا مذنبين‪.‬‬
‫وصاحت عنده طيطوى فقال‪ :‬أتدرون ما تقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬إنها تقول‪ :‬كل حي ميت وك‪4‬ل جدي‪4‬د‬
‫بال‪.‬‬
‫وصاحت خطافة عنده‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرون ما تقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬إنها تقول‪ :‬قدموا خيرا تجدوه‪.‬‬
‫ونتعلم صنوف الذكر من هذه الطيور التي فسر لنا سليمان ‪ ‬منطقها‪:‬‬
‫فقد هدرت حمامة عنده‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرون ما تقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬إنها تقول‪ :‬سبحان ربي األعلى عدد‬
‫ما في سماواته وأرضه‪.‬‬
‫وصاح قمري عنده‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرون ما يقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال إنه يقول‪ :‬سبحان ربي العظيم المهيمن‪.‬‬
‫وصاح دراج عنده‪ ،‬فقال‪ :‬أتدرون ما يقول؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬إنه يقول‪ ﴿ :‬الرَّحْ َم ُن َع َلى ْال َعرْ ِ‬
‫ش ا ْست ََوى﴾‬
‫(طـه‪)5 :‬‬
‫وحدثهم عن الغراب أنه يقول‪ (:‬اللهم العن العشار)‬
‫وعن الحدأة أنها تقول‪ُ ﴿:‬كلُّ َش ْي ٍء هَا ِل ٌك ِإاَّل َوجْ َهه ﴾ (القصص‪)88 :‬‬
‫وعن القطاة أنها تقول‪ (:‬من سكت سلم)‬
‫وعن الببغاء أنها تقول‪ (:‬ويل لمن الدنيا همه)‬
‫وعن الضفدع أنها تقول‪ (:‬سبحان ربي القدوس)‬
‫وعن البازي أنه يقول‪ (:‬سبحان ربي وبحمده)‬
‫وعن السرطان أنه يقول‪ (:‬سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان)‬
‫وهذه النصوص التي أوردناها ـ مع القول باحتمال صحتها وعدمه ـ الغ‪4‬رض منه‪4‬ا ه‪4‬و التنبي‪4‬ه إلى‬
‫الحكم التي نطقت بها‪ ،‬والمعارف التي منحتها‪.‬‬
‫أما المبالغة في ذلك ـ مما ينتشر بين العامة ـ من التفاؤل ب‪44‬الطيور وأص‪44‬واتها أو التش‪44‬اؤم به‪4‬ا‪ ،‬فه‪44‬و‬
‫محرم شرعا‪ ،‬كتحريم التنجيم سواء بسواء‪.‬‬
‫فاألقدار بيد هللا ال بيد الطيور أو النجوم أو الكهان‪ ،‬وق‪4‬د روي أن ط‪4‬ائرا م‪4‬ر على ابن عب‪4‬اس وه‪4‬و‬
‫يصيح؛ فقال رجل من القوم‪ :‬خير‪ ،‬خير‪ .‬فقال ابن عباس‪ :‬ما عند هذا ال خير وال شر‪.‬‬
‫وقد كانت العرب تتيمن بالسانح‪ ،‬وهو الذي ي‪4‬أتي من ناحي‪4‬ة اليمين‪ ،‬وتتش‪4‬اءم بالب‪4‬ارح‪ ،‬وه‪4‬و ال‪4‬ذي‬
‫يأتي من ناحية الشمال‪ ،‬وكانوا يتطيرون بصوت الغراب؛ ويتأولونه البين(‪.)1‬‬
‫وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور‪ ،‬وبأصواتها في غير أوقاتها المعه‪44‬ودة‬
‫على مثل ذلك‪ ،‬ومثلها الظب‪4‬اء إذا مض‪4‬ت س‪4‬انحة أو بارح‪4‬ة‪ ،‬ويقول‪4‬ون إذا ب‪4‬رحت‪ (:‬من لي بالس‪4‬انح بع‪4‬د‬
‫البارح)‬
‫ولهذا سمي التشاؤم تطيرا‪ ،‬وقد جاءت الشريعة بالنهي عن التطير والتشاؤم بم‪44‬ا يس‪44‬مع من ص‪44‬وت‬
‫طائر ما كان‪ ،‬وعلى أي حال كان‪:‬‬
‫فنفى ‪ ‬نسبة المتطير عن األمة‪ ،‬قال ‪ (:‬لن يلج الدرجا ت العلى من تكهن أو استقسم أو رج‪44‬ع‬

‫‪ )(1‬وكان منهم أيضا من ال يرى التطير شيئا‪ ،‬ويمدحون من كذب به‪ ،‬كما قال المرقش‪:‬‬
‫أغدو على واق وحاتم‬ ‫ولقد غدوت وكنت‪ 4‬ال‬
‫من واأليامن كاألشائم‬ ‫فإذا األشائم كاأليا‬
‫‪17‬‬
‫من سفره تطيرا)‬ ‫(‪)1‬‬
‫بل اعتبر التطير شركا‪ ،‬فقال ‪ (:‬الطيرة شرك ‪ -‬ثالثا ‪ -‬وما منا إال ولكن هللا يذهبه بالتوكل)(‪)2‬‬
‫وعلمنا ‪ ‬كيف نوحد هللا‪ ،‬وننفي الشرك عند التطير بقول‪44‬ه ‪ (:‬من رجعت‪44‬ه الط‪44‬يرة عن حاجت‪44‬ه‬
‫فقد أشرك) قيل‪ :‬وما كفارة ذلك يا رسول هللا؟ قال‪ ( :‬أن يقول أحدهم اللهم ال طير إال طيرك وال خ‪44‬ير إال‬
‫خيرك وال إله غيرك ثم يمضي لحاجته)(‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر علمنا أن نق‪4‬ول‪ (:‬إذا وج‪4‬د ذل‪4‬ك أح‪4‬دكم فليق‪4‬ل اللهم ال ي‪4‬أتي بالحس‪4‬نات إال أنت وال‬
‫يذهب بالسيئات إال أنت ال حول وال قوة إال بك)(‪)4‬‬
‫ونهى ‪ ‬عن كل سبب يؤدي إلى التطير‪ ،‬فقال ‪ (:‬أقروا الطير على مكناتها(‪)6( ))5‬‬
‫وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وكرها فنفرها؛ فإذا أخذت ذات‬
‫اليمين مضى لحاجته‪ ،‬وهذا هو السانح عندهم‪ ،‬وإن أخذت ذات الشمال رجع‪ ،‬وه‪4‬ذا ه‪4‬و الب‪4‬ارح عن‪4‬دهم‪،‬‬
‫فنهى النبي ‪ ‬عن هذا‪.‬‬
‫ولكن الخرافة مع ذلك ال تعني سد الباب مطلقا‪ ،‬ولذلك ال نرى أن العلم بمنطق الط‪44‬ير أو غ‪44‬يره من‬
‫األشياء خاص بسليمان ‪ ،‬فالنص‪4‬وص الكث‪4‬يرة تنفي ذل‪4‬ك‪ ،‬ويكفي م‪4‬ا أخ‪4‬بر ‪ ‬عن‪4‬د ذك‪4‬ره لعالم‪4‬ات‬
‫الساعة‪ (:‬والذي نفسي بيده ال تقوم الساعة ح‪4‬تى تكلم الس‪4‬باع اإلنس‪4‬ان‪ ،‬وح‪4‬تى تكلم الرج‪4‬ل عذب‪4‬ة س‪4‬وطه‬
‫وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده)(‪)7‬‬
‫وقد نفى األلوسي أن يكون ذلك خاصا بسليمان ‪ ‬بقوله‪ (:‬وقيل كانت الطير تكلم‪44‬ه ‪ ‬معج‪44‬زة‬
‫له نحو ما وقع من الهدهد‪ ،‬وقي‪4‬ل علم ‪ u‬ماتقص‪4‬ده الط‪4‬ير في أص‪4‬واتها في س‪4‬ائر أحواله‪4‬ا فيفهم تس‪4‬بيحها‬
‫ووعظها وما تخاطبه به ‪ ‬وما يخاطب به بعضها بعض‪4‬ا‪ ،‬وبالجمل‪4‬ة علم من منطقه‪4‬ا م‪4‬ا علم االنس‪4‬ان‬
‫من منطق بني صنفه‪ ،‬واليستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغ‪44‬ات مخصوص‪4‬ة ت‪44‬ؤدي به‪44‬ا مقاص‪44‬دها‬
‫كما في نوع االنسان إال أن النفوس االنس‪4‬انية أق‪4‬وى وأكم‪44‬ل‪ ،‬واليبع‪44‬د أن تك‪4‬ون متفاوت‪4‬ة تف‪44‬اوت النف‪4‬وس‬
‫االنسانية الذي ق‪4‬ال ب‪4‬ه من ق‪4‬ال‪ ،‬ويج‪4‬وز أن يعلم هللا تع‪4‬الى منطقه‪4‬ا من ش‪4‬اء من عب‪4‬اده وال يختص ذل‪4‬ك‬
‫باألنبياء عليهم السالم ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات)(‪)8‬‬
‫وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني يتحدث عن نفسه‪ (:‬وقد وقع لي في ابتداء أمري أني كنت أسمع‬
‫كالم من في أقطار األرض من الهند والص‪4‬ين وغيرهم‪4‬ا‪ ،‬ح‪4‬تى أني كنت أس‪4‬مع كالم الس‪4‬مك في البح‪4‬ار‬
‫المحيطة‪ ،‬ثم إن هللا تعالى حجب عني وأبقى معي العلم كي ال أنكر مثل ذلك على أحد)(‪)9‬‬
‫ولذلك نرى أنه يمكن للبشر أن يفهموا لغة الحيوان‪4‬ات س‪4‬واء عن طري‪4‬ق الكرام‪4‬ة أو االس‪4‬تدراج أو‬
‫حتى بالدراسة والبحث‪ ،‬مع قصور البحث عن الوصول إلى كل ما يعبر به الحيوان عن نفسه‪ ،‬ف‪44‬العلم في‬
‫صورته الحديثة قاصر على معرفة الحاجات المادية لألشياء‪.‬‬

‫رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه أحمد والبخاري في األدب‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أحمد والطبراني في الكبير وابن السني في عمل اليوم والليلة‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه ابن السني‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫الوكنة‪ :‬اسم لكل وكر وعش‪ ،‬والوكن‪ :‬موضع الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ‪ ،‬وهو الخرق في الحيطان والشجر‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه أبو داود والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫تفسير األلوسي‪.‬‬ ‫‪)(8‬‬
‫العهود المحمدية‪.‬‬ ‫‪)(9‬‬
‫‪18‬‬
‫وفي هذا المجال أثبتت الدراسات العلمية(‪ )1‬أن لكل ن‪4‬وع من أن‪4‬واع الحيوان‪4‬ات رائح‪4‬ة خاص‪4‬ة ب‪4‬ه‪،‬‬
‫وداخل النوع الواحد هناك روائح إضافية تعمل بمثابة بطاقة شخصية أو جواز س‪4‬فر للتعري‪4‬ف بشخص‪4‬ية‬
‫كل حيوان أو العائالت المختلفة‪ ،‬أو أفراد المستعمرات المختلفة‪.‬‬
‫و الرائحة تعتبر لغة خفية أو رسالة صامتة تتكون مفرداتها من مواد كيماوية أطل‪44‬ق عليه‪44‬ا العلم‪44‬اء‬
‫اسم ( فرمونات)‪ ،‬وهي بمثابة الحروف‪.‬‬
‫وكمثال على لغات الحيوان‪ ،‬نعود إلى عالم النمل‪ ،‬فالعلم الحديث ينص على أن النمل يتميز برائحة‬
‫خاصة تدل على العش ال‪4‬ذي ينتمي إلي‪4‬ه‪ ،‬والوظيف‪4‬ة ال‪4‬تي تؤديه‪4‬ا ك‪4‬ل نمل‪4‬ة في ه‪4‬ذا العش‪ ،‬وحينم‪4‬ا تلتقي‬
‫نملتان فإنهما تستخدمان قرون االستشعار‪ ،‬وهي األعضاء الخاصة بالشم‪ ،‬لتعرف الواحدة األخرى‪.‬‬
‫وقد وجد أنه إذا دخلت نملة غريبة مستعمرة ال تنتمي إليها‪ ،‬فإن النمل في ه‪44‬ذه المس‪44‬تعمرة يتعرفه‪44‬ا‬
‫من طري‪4‬ق رائحته‪4‬ا ويع‪4‬دها ع‪4‬دواً‪ ،‬ثم يب‪4‬دأ في الهج‪4‬وم عليه‪4‬ا‪ ،‬ومن الطري‪4‬ف أن‪4‬ه في إح‪4‬دى التج‪4‬ارب‬
‫المعملية وجد أن إزالة الرائحة الخاصة ببعض النمل التابع لعشيرة معينة ثم إضافة رائحة رائحة خاص‪44‬ة‬
‫بنوع آخر عدو له‪ ،‬أدى إلى مهاجمته بأفراد من عشيرته نفسها‪.‬‬
‫وفي تجرب‪44‬ة أخ‪44‬رى تم غمس نمل‪44‬ة برائح‪44‬ة نمل‪44‬ة ميت‪44‬ة ثم أعي‪44‬دت إلى عش‪44‬ها‪ ،‬فلوح‪44‬ظ أن أقرانه‪44‬ا‬
‫يخرجونها من العش لكونها ميتة‪ ،‬وفي كل مرة تحاول فيها العودة يتم إخراجها ثانية على الرغم من أنه‪44‬ا‬
‫حية تتحرك وتقاوم‪ ،‬وحينما تمت إزالة رائحة الموت فقط تم السماح لهذه النملة بالبقاء في العش‪.‬‬
‫وحينما تعثر النملة الكشافة على مصدر للطعام فإنها تقوم على الفور بإفراز ( الفرم‪4‬ون) الالزم من‬
‫الغدد الموجودة في بطنها لتعليم المكان‪ ،‬ثم ترجع إلى العش‪ ،‬وفي طريق عودتها ال تنس‪44‬ى تعليم الطري‪44‬ق‬
‫حتى يتعقبها زمالؤها‪ ،‬وفي الوقت نفسه يصيفون مزيداً من اإلفراز لتسهيل الطريق أكثر فأكثر‪.‬‬
‫ومن العجيب أن النمل يقلل اإلفراز عندما يتضاءل مصدر الطعام ويرسل عددا أقل من األفراد إلى‬
‫مصدر الطعام‪ ،‬وحينما ينضب هذا المصدر تماماً فإن آخر نملة‪ ،‬وهي عائدة إلى العش ال تترك أثراً على‬
‫اإلطالق‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فقد أثبت العلم الحديث(‪ )2‬أن لكل نوع من أنواع الحيوانات لغة خاصة به‪ ،‬يتفاهم‬
‫بها‪ ،‬ويتعارف مع غيره على أحوال م‪4‬ا حول‪4‬ه‪ ..‬فه‪4‬ذه هي الدجاج‪4‬ة ال‪4‬تي تص‪4‬در أص‪4‬واتاً مم‪4‬يزة‪ ،‬ف‪4‬نرى‬
‫صغارها أقبلت في سرعة تلتقط معها الحب‪ ..‬وتصدر أصواتاً مخافة‪ ،‬فإذا بالصغار تهرول إلى العش في‬
‫لحظة‪.‬‬
‫يقول (ألن ديفو) ـ وهو أحد علماء الحيوان ـ أنه وق‪4‬ف يوم‪4‬اً ي‪4‬راقب ثالث‪4‬ة من ص‪4‬غار الثعلب تلعب‬
‫حول أمها‪ ،‬وإذا بصغير منها يدخل في الغابة‪ ،‬ويبتع‪4‬د عنه‪4‬ا بع‪4‬دا بحيث غ‪4‬اب عن النظ‪4‬ر‪ ،‬فاس‪4‬توت األم‬
‫قائمة ومدت أنفها إلى الناحية التي ذهب منها‪ ،‬وبقيت على حالها هذه برهة عاد بعدها الص‪44‬غير في اتج‪44‬اه‬
‫أمه ال يلتفت يمنة أو يسرة‪ ،‬كأنما كانت تجذبه بخيط ال تراه العين‪.‬‬
‫ومثل ذلك وجدوا أن النحلة إذا عثرت على حقل مزهر عادت إلى الخلي‪4‬ة‪ ،‬وم‪4‬ا إن تتوس‪4‬طها ح‪4‬تى‬
‫ترقص رقصاً خاصاً‪ ،‬فإذا بالنحل يندفع إليها‪ ،‬ويسير خلفها إلى حيث تهديه النحلة إلى الزهور‪.‬‬
‫ويتكلم نمل الشجر في المناطق االستوائية بلغ‪4‬ة عجيب‪4‬ة‪ ،‬إذ يص‪44‬عد إلى الش‪44‬جرة وي‪4‬دق دق‪4‬ات غ‪4‬ير‬
‫منتظمة‪ ،‬تقارب إشارات مورس التلغرافية‪ ،‬ويبلغ من قوتها أن تسمع من بعيد‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬رحيق العلم واإليمان‪ ،‬للدكتور أحمد فؤاد باشا‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪( :‬هللا والعلم الحديث)‪ ،‬عبد الرزاق نوفل‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫وقد لوحظ أن أسراب الفيلة‪ ،‬ال تكف لحظة عن غمغم‪4‬ة‪ ،‬طالم‪4‬ا هي تس‪4‬ير في ره‪4‬ط‪ ،‬ف‪4‬إذا تف‪4‬رقت‬
‫الجماعة‪ ،‬وسار كل فيل على حدة انقطع الصوت تماماً‪ ..‬ومن أعجب ما يؤيد لغة الفيل‪44‬ة‪ ،‬تل‪44‬ك األص‪44‬وات‬
‫المزعجة التي تالحظ عندما تجتمع الفيلة على المحكوم عليه ليعيش وحيدا ويسير منفرداً‪..‬‬
‫وأصوات الغراب مميزة تميزاً واضحاً‪ ..‬فنعيبه أكبر على الخط‪44‬ر‪ ،‬وه‪44‬و يص‪44‬دره ليح‪44‬ذر ب‪44‬ه أبن‪44‬اء‬
‫جنسه‪ ،‬بينما يصدر في مرحه ولعبه أصواتاً أخرى تقرب من القهقهة‪.‬‬
‫ويفهم الحيوان لغة اإلنسان ويستجيب لها‪ ،‬كما يدعو اإلنسان الدجاج إلى الغذاء بص‪44‬وت مع‪44‬روف‪،‬‬
‫ويدعو اإلوز والبط بصوت مغاير‪ ،‬ويدعو الدواب إلى الشراب بالصفير كما يس‪44‬تطيع األوالد في الري‪44‬ف‬
‫عند صيد السمك من جذبه قريباً منهم بأصوات خاصة‪ ،‬وكلنا نعلم أن الكلب في الم‪44‬نزل يع‪44‬رف ب‪44‬ل ينف‪44‬ذ‬
‫أوامر سيده‪ ،‬وفي أمريكا رجل اسمه (ج‪4‬اك م‪4‬اينز) تخص‪4‬ص في دراس‪4‬ة اإلوز ال‪4‬بري‪ ،‬وبل‪4‬غ من علم‪4‬ه‬
‫بلغته‪44‬ا‪ ،‬أن‪44‬ه يس‪44‬تطيع أن ي‪44‬دعو س‪44‬ربا ط‪44‬ائراً إلى ال‪44‬نزول‪ ،‬حيث يختفي وذل ب‪44‬أن يخ‪44‬اطب اإلوز بلغته‪44‬ا‬
‫ويخبرها بوجود بركة صالحة وطعام كثير‪.‬‬
‫وما ذكره العلم الحديث من هذا هو بداية فقط‪ ..‬ويمكن للعلم في المستقبل أن يتعرف على الكثير من‬
‫المعارف في هذا الجانب‪ ،‬بل يمكنه ل‪4‬و تخلى من منط‪4‬ق الص‪4‬راع ال‪4‬ذي يتعام‪4‬ل ب‪4‬ه م‪4‬ع الك‪4‬ون أن يعق‪4‬د‬
‫صداقة حميمة مع الكائنات جميعا‪ ،‬فيستفيد منها من غير أن يؤذيها ومن غير أن تؤذيه‪.‬‬
‫وهذه العالقة النافعة ال تقتصر على منافع الدنيا مما قد يك‪4‬ون كرام‪4‬ة لبعض الص‪4‬الحين‪ ،‬أو لحاج‪4‬ة‬
‫من الحاجات‪ ،‬بل هي عامة شاملة‪ ،‬يمكن حصولها إن توفرت أسبابها‪:‬‬
‫فجميع األشياء تشهد للمؤذن‪ ،‬قال ‪ (:‬ال يسمع صوت الم‪4‬ؤذن جن وال إنس وال ش‪4‬جر وال حج‪4‬ر‬
‫وال مدر وال شيء إال شهد له يوم القيامة)(‪ ،)1‬وقال ‪ (:‬يغفر للمؤذن منتهى أذانه ويستغفر له كل رطب‬
‫ويابس سمعه)(‪)2‬‬
‫وسر هذا هو ما ذكرنا سابقا من أن جميع األشياء تفرح لذكر هللا‪ ،‬وهذا الف‪44‬رح يبعثه‪44‬ا على مج‪44‬ازاة‬
‫من يسمعها هذا الذكر باالستغفار والشهادة له‪ ،‬وصوت المؤذن الذي يجتهد في رفع ص‪44‬وته ليبلغه‪44‬ا ه‪44‬ذا‪،‬‬
‫يكون جزاؤه بحسب منتهى آذانه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ التحضر‪:‬‬
‫نقصد بالتحضر في هذا المبحث مرحل‪44‬ة من مراح‪44‬ل الحي‪4‬اة‪ ،‬أو ص‪4‬فة من ص‪4‬فات األحي‪4‬اء‪ ..‬وهي‬
‫ترتبط بتعامل الحي مع العالم الخارجي‪ ..‬ومحاولته االنسجام مع‪4‬ه إم‪4‬ا بص‪4‬نوف التنظيم‪ ،‬وإم‪4‬ا ب‪4‬األخالق‬
‫واآلداب‪ ،‬وإما بالقوانين والنظم‪ ،‬وإما بالبحث في سبل تيسير الحياة‪ ،‬وتوفير المرافق التي تتطلبها‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا النوع من الحياة‪ ،‬أو من أوصاف الحي‪4‬اة قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َم‪4‬ا ِم ْن دَابَّ ٍة ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َوال‬
‫ب ِم ْن َش ْي ٍء ثُ َّم ِإ َلى َر ِّب ِه ْم يُحْ َشرُونَ ﴾ (األنعام‪)38:‬‬ ‫َاح ْي ِه ِإاَّل أُ َم ٌم َأ ْم َثالُ ُك ْم َما َف ْ‬
‫رَّطنَا ِفي ْال ِكتَا ِ‬ ‫َ‬
‫طا ِئ ٍر َي ِطيرُ ِب َجن َ‬
‫فاآلية تقرر حقيقة جليلة تهذب عالقتن‪4‬ا بغيرن‪4‬ا في ه‪4‬ذا الك‪4‬ون‪ ،‬وهي أن‪4‬ه ( م‪4‬ا من داب‪4‬ة ت‪4‬دب على‬
‫األرض ‪ -‬وهذا يشمل كل األحياء من حشرات وهوام وزواحف وفقاريات ‪ -‬وما من طائر يطير بجناحية‬
‫في الهواء ‪ -‬وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة غير ذلك من الكائنات الطائرة‪ ..‬ما من خلق حي في‬
‫هذه األرض كلها إال وهو ينتظم في أمة‪ ،‬ذات خصائص واحدة‪ ،‬وذات طريق‪4‬ة في الحي‪4‬اة واح‪4‬دة ك‪4‬ذلك‪..‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد والطبراني في الكبير والبزار‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫شأنها في هذا شأن أمة الناس)‬ ‫(‪)1‬‬
‫و ال تكون هذه المخلوقات أمما إال إذا كان لها من الوعي واإلدراك ما تقيم به الرواب‪44‬ط االجتماعي‪44‬ة‬
‫فيما بينها‪ ،‬وهذا بدوره يستدعي توفر وسائل خاصة للتفاهم فيما بينها‪ ،‬وهو م‪4‬ا كش‪4‬ف عن‪4‬ه العلم الح‪4‬ديث‬
‫في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحشرات والحيوان‪.‬‬
‫وسنحاول انطالقا من النصوص المقدس‪44‬ة‪ ،‬ومن خالل م‪44‬ا اكتش‪44‬فه العلم أن نبحث في دالئ‪44‬ل أممي‪44‬ة‬
‫الكائنات الحية‪ ،‬وما وهبته من قدرات على التحضر‪.‬‬
‫التنظيم‪:‬‬
‫ت ن َْم َلةٌ َيا َأ ُّي َها النَّ ْملُ ا ْد ُخلُ‪44‬وا‬
‫ويشير إليه من القرآن الكريم قوله تعالى‪َ ﴿:‬حتَّى ِإ َذا َأ َتوْ ا َع َلى َوا ِد النَّ ْم ِل َقا َل ْ‬
‫ان َوجُ نُو ُدهُ َوهُ ْم ال َي ْشعُرُونَ ﴾ (النمل‪)18 :‬‬
‫َم َسا ِك َن ُك ْم ال َيحْ ِط َمنَّ ُك ْم ُس َل ْي َم ُ‬
‫ففي هذه اآلية إشارة إلى أن عالم النمل عالم منظم محكوم بقوانين ال يخالفها‪ ،‬فه‪44‬ذه النمل‪44‬ة لم تكت‪44‬ف‬
‫بالهرب بنفسها‪ ،‬بل دعت سائر النمل‪ ،‬ولوال علمها بأنهن سيطعنها ما فعلت‪.‬‬
‫وال بأس أن نقتبس هنا ـ مهتدين بنور اآلية ـ بعض ما اكتشفه العلم الحديث(‪ )2‬من مجتمع‪44‬ات النم‪44‬ل‬
‫الدالة على وعي هذه الحشرة الصغيرة بما تفعله‪.‬‬
‫ذكر أحد علماء التاريخ الطبيعي‪ ،‬وهو (رويال ديكنسون) في كتابه ( شخصية الحشرات) أن‪44‬ه ظ‪44‬ل‬
‫يدرس مدينة النمل حوالي عشرين عاماً في بقاع مختلفة من العالم فوجد نظاماً ال يمكن أن ن‪44‬راه في م‪44‬دن‬
‫البشر‪ ،‬وراقبه وهو يرعى أبقاره‪ ،‬وهي عبارة عن خنافس صغيرة رباها النمل في جوف األرض زمان‪44‬اً‬
‫ال حتى فقدت في الظالم بصرها‪.‬‬ ‫طوي ً‬
‫وذكر أن أمة النمل ـ شأنها شأن أمة اإلنسان ـ قد سخرت مئ‪44‬ات األجن‪44‬اس من حيوان‪44‬ات أدنى منه‪44‬ا‬
‫جنساً في مصالحها‪ ،‬ومنها ( بق النبات)‪ ،‬وهو حشرة ص‪44‬غيرة تعيش على النب‪44‬ات ويص‪44‬عب استئص‪44‬الها‪،‬‬
‫ألن أجناسها كثيرة من النمل ترعاها‪ ،‬وألن داخل المستعمرة ال يمكن أن تعيش النباتات‪ ،‬فإن النمل يرسل‬
‫الرسل لتجمع له بيض هذا البق حيث تعنى به وترعاه ح‪4‬تى يفقس وتخ‪4‬رج ص‪4‬غاره‪ ،‬وم‪4‬تى ك‪4‬برت ت‪4‬در‬
‫ال حلوا كالعسل يقوم على حلبه جماعة من النمل ال عمل لها إال حلب هذه الحشرات بمس‪44‬ها بقرونه‪44‬ا‪،‬‬ ‫سائ ً‬
‫وتنتج هذه الحشرة ‪ 48‬قطرة من العسل كل يوم‪ ،‬وهذا ما يزيد مائ‪4‬ة ض‪4‬عف عم‪4‬ا تنتج‪4‬ه البق‪4‬رة إذا قارن‪4‬ا‬
‫حجم الحشرة بحجم البقرة‪.‬‬
‫ً‬
‫ووجد أن النمل زرع مساحة بلغت خمسة عش‪4‬ر م‪4‬ترا مربع‪4‬ا من األرض حيث ق‪4‬امت جماع‪4‬ة من‬ ‫ً‬
‫النمل بحرثها على أحسن ما يقضى به علم الزراع‪44‬ة‪ ،‬فبعض‪44‬ها زرع األرز‪ ،‬وجماع‪44‬ة أزالت األعش‪44‬اب‪،‬‬
‫وغيرها قامت لحراسة الزراعة من الديدان‪.‬‬
‫و لما بلغت عيدان األرز نموها‪ ،‬وك‪4‬ان ي‪4‬رى ص‪4‬فاً من ش‪4‬غالة النم‪4‬ل ال ينقط‪4‬ع‪ ،‬يتج‪4‬ه إلى العي‪4‬دان‬
‫فيتسلقها إلى خب األرز‪ ،‬فتنزع كل شغالة من النمل حبة‪ ،‬وت‪4‬نزل به‪4‬ا س‪4‬ريعة إلى مخ‪4‬ازن تحت األرض‬
‫الصورة‪.‬‬
‫و قد طلى العالم أفراد النمل ب‪4‬األلوان‪ ،‬فوج‪4‬د أن الفري‪4‬ق الواح‪4‬د من النم‪4‬ل ي‪4‬ذهب دائم‪4‬ا إلى الع‪4‬ود‬
‫الواحد حتى يفرغ ما عليه من األرز‪ .‬ولما فرغ الحصاد هط‪4‬ل المط‪4‬ر أيام‪4‬اً وم‪4‬ا إن انقط‪4‬ع ح‪4‬تى أس‪4‬رع‬
‫العالم إلى مزرعة النمل ليتعرف أحواله فوجد البيوت تحت األرض مزدحمة بالعمل‪ ،‬ووجد النملة تخرج‬
‫في ظالل القرآن‪.2/1080 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫اقتبسنا هذه االكتشافات من كتاب‪ :‬رحيق العلم واإليمان الدكتور أحمد فؤاد باشا‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪21‬‬
‫من عشها تحمل حبة األرز وت‪4‬ذهب إلى الع‪4‬راء في ج‪4‬انب مائ‪4‬ل من األرض مع‪4‬رض للش‪4‬مس‪ ،‬وتض‪4‬ع‬
‫حبتها لتجف من ماء المطر‪ ،‬وما إن انتصف النهار حتى كان األرز قد جف وعاد الشغالة به إلى مخازنه‬
‫تحت األرض‪.‬‬
‫العمران‪:‬‬
‫ونقصد به ما زودت به األحياء من قدرات على توفير ما تحتاجه في حياتها من مرافق‪ ،‬ويشير إلى‬
‫هذا النوع من التحضر ما ذكره هللا تعالى من وحيه للنحل بكيفية بن‪4‬اء بيوته‪4‬ا‪ ،‬فق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َأوْ َحى َربُّكَ‬
‫اس ‪4‬لُ ِكي ُس ‪4‬ب َُل َرب ِِّك‬ ‫عْر ُشونَ ثُ َّم ُك ِلي ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ت َف ْ‬ ‫ال بُيُوتاً َو ِمنَ ال َّش َج ِر َو ِم َّما َي ِ‬ ‫ِإ َلى النَّحْ ِل َأ ِن اتَّ ِخ ِذي ِمنَ ْال ِج َب ِ‬
‫ف َأ ْل َوانُهُ ِفي ِه ِش‪َ 4‬فا ٌء ِللنَّ ِ‬
‫اس ِإ َّن ِفي َذ ِل‪44‬كَ آَل َي‪ً 4‬ة ِل َق‪44‬وْ ٍم َي َت َف َّكرُونَ ﴾ (النح‪44‬ل‪ 68 :‬ـ‬ ‫طو ِن َها َش َرابٌ ُم ْخ َت ِل ٌ‬‫ال َي ْخرُجُ ِم ْن بُ ُ‬ ‫ُذلُ ً‬
‫‪)69‬‬
‫فاآليتان تشيران إلى أن للنحل نظاما في منتهى الدقة واإلحكام‪ ،‬وهو م‪44‬ا س‪44‬نراه من مكتش‪44‬فات العلم‬
‫الحديث‪ ،‬وتشير كذلك ـ وهو المهم ـ إلى أن له‪4‬ذا المخل‪4‬وق من ال‪4‬وعي م‪4‬ا يس‪4‬تطيع أن يتلقى ب‪4‬ه وحي هللا‬
‫الذي يوجه أفعاله(‪.)1‬‬
‫وقد كشف العلم الحديث عن بعض أسرار الوحي الذي تتلقاه أم‪4‬ة النح‪4‬ل‪ ،‬وال ب‪4‬أس من اس‪4‬تعراض‬
‫الناحيتين اللتين أشارت إليهما اآليتين‪ ،‬واعتبرتهما ثمرة وحي هللا تعالى‪ ،‬وهما‪ :‬بي‪4‬وت النح‪4‬ل‪ ،‬والط‪4‬رق ـ‬
‫أو سبل هللا كما يسميها القرآن الكريم ـ التي يسلكها النحل مهتديا بالوحي اإللهي(‪:)2‬‬
‫فأول ما يشير إلى اعتماد النحل على الوحي اإللهي هو بناء أقراص الشمع على هيئة خاليا سداسية‬
‫تستعمل كمستودعات الختزان العسل‪ ،‬وقد أشار كثير من علم‪4‬اء المس‪4‬لمين إلى الحكم‪4‬ة من اختي‪4‬ار ذل‪4‬ك‬
‫الشكل‪ ،‬يقول ابن العربي‪ (:‬ومن عجيب ما خلق هللا في النح‪44‬ل أن ألهمه‪44‬ا التخ‪44‬اذ بيوته‪44‬ا مسدس‪44‬ة‪ ،‬فب‪44‬ذلك‬
‫اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة‪ ،‬وذلك أن األشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منه‪44‬ا‬
‫إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج‪ ،‬إال الشكل المسدس؛ فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة‬
‫الواحدة)(‪)3‬‬
‫ويؤيد العلم الحديث هذا‪ ،‬فقد نص على أنه يكفي أن نتعرف على عظمة هذا اإلعج‪4‬از الهندس‪4‬ي من‬
‫علماء الرياضيات الذين يقولون بأن النحل يصنع خالياه بهذا الشكل ألن‪4‬ه يس‪4‬مح له‪4‬ا ب‪4‬احتواء أك‪4‬بر ع‪4‬دد‬
‫ممكن من أعضاء المملكة‪ ،‬وبأقل قدرة ممكن من الشمع الغالي الالزم لبناء جدرانها‪ ،‬وهي عملية عبقرية‬
‫تبلغ درجة من الكمال تفوق كل عبقريات البشر مجتمعين‪.‬‬
‫و ينص علماء الحشرات على أن شغاالت النحل تبذل جهداً خارقاً للحفاظ على العسل‪ ،‬فهي تنظف‬
‫الخلية بمهارة فائقة وتس ّد كل الشقوق وتلمع كل الحوائ‪4‬ط بغ‪4‬راء النح‪4‬ل‪ ،‬وهي ال تقن‪4‬ع بتهوي‪4‬ة الخلي‪4‬ة ب‪4‬ل‬
‫تحافظ على ثبات درجة الحرارة فيها عند مستوى ثابت وتقوم بعملية تكييف للهواء داخل الخلية‪.‬‬
‫ففي أيام الصيف القائ‪4‬ظ يمكن للم‪4‬رء أن ي‪4‬رى طواب‪4‬ير الش‪4‬غاالت وق‪4‬د وقفن بب‪4‬اب الخلي‪4‬ة واتجهن‬
‫جميعاً إلى ناحية واحدة ثم قمن بتحريك أجنحتهن بقوة‪ .‬وهذه الشغاالت يطلق عليه‪4‬ا اس‪4‬م (المروح‪4‬ة) ألن‬
‫عملها يؤدي إلى إدخال تيارات قوية من الهواء البارد إلى الخلية‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى توجد في داخل الخلية مجموعة أخ‪44‬رى من الش‪44‬غاالت منهمك‪44‬ة في ط‪44‬رد اله‪4‬واء‬
‫‪ )(1‬وتعبير ( الوحي) هو التعبير الدال على حقيقة ما يبديه الكون من عجائب ال يستطيع‪ 4‬عقله الصغير أن يقوم بها بمع‪44‬زل عن إله‪44‬ام وتوجي‪44‬ه هللا تع‪4‬الى‪،‬‬
‫ارهَا ِبأَنَّ َربَّكَ أَوْ َحى لَهَا ﴾( الزلزلة‪ 4:‬ـ‪)5‬‬
‫ِّث أَ ْخبَ َ‬
‫ولذلك يعبر القرآن الكريم عن ما يحصل في األرض عند القيامة بقوله تعالى‪ ﴿:‬يَوْ َمئِ ٍذ تُ َحد ُ‬
‫‪ )(2‬المعلومات الحديثة مقتبسة من كتاب ( رحيق العلم واإليمان) للدكتور أحمد فؤاد باشا‪.‬‬
‫‪ )(3‬القرطبي‪.10/134 :‬‬
‫‪22‬‬
‫الساخن إلى خارج الخلية‪ .‬أما في األجواء الباردة فإن النحل يتجمع فوق األقراص لكي تقلل م‪44‬ا يتع‪44‬رض‬
‫من سطحها للجو‪ ،‬وتزيد حركة التمثيل الغذائي ببدنها‪ ،‬وتكون النتيجة رفع درج‪4‬ة الح‪4‬رارة داخ‪4‬ل الخلي‪4‬ة‬
‫بالقدرة الالزمة لحماية العسل من الفساد‪.‬‬
‫أما الناحية الثانية التي أش‪4‬ار إليه‪4‬ا الق‪4‬رآن الك‪4‬ريم فهي الط‪4‬رق ال‪4‬تي يس‪4‬لكها النح‪4‬ل ليجم‪4‬ع رحي‪4‬ق‬
‫األزهار‪ ،‬وقد نص علماؤنا القدامى على بعض وج‪4‬وه ال‪4‬وحي ال‪4‬ذي يتلق‪4‬اه النح‪4‬ل لتحقي‪4‬ق ذل‪4‬ك‪ ،‬ق‪4‬ال ابن‬
‫كثير‪ (:‬ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثم‪44‬رات وأن تس‪44‬لك الط‪44‬رق ال‪44‬تي جعله‪44‬ا هللا‬
‫تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاس‪44‬عة واألودي‪44‬ة والجب‪44‬ال‬
‫الشاهقة ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها ال تحيد عنه يمنة وال يسرة ب‪44‬ل إلى بيته‪44‬ا وماله‪44‬ا في‪44‬ه من ف‪44‬راخ‬
‫وعسل)(‪)1‬‬
‫والعلم الحديث يؤيد هذا بالشواهد الكثيرة التي تحيل أن يفعل النحل ذلك بعقله الفطري البس‪44‬يط‪ ،‬ب‪44‬ل‬
‫يحتاج إلى الوحي اإللهي الذي نص عليه القرآن الكريم‪.‬‬
‫فالدراس‪44‬ات العلمي‪44‬ة المستفيض‪44‬ة لمملك‪44‬ة النح‪44‬ل تنص على أن إله‪44‬ام هللا تع‪44‬الى له‪44‬ا يجعله‪44‬ا تط‪44‬ير‬
‫الرتشاف رحيق األزهار‪ ،‬فتبتعد عن خليتها آالف األمتار‪ ،‬ثم ترجع إليه‪4‬ا ثاني‪4‬ة دون أن تخطئه‪4‬ا وت‪4‬دخل‬
‫خلية أخرى غيرها‪ ،‬علما بأن الخاليا في المناحل تكون متشابهة ومرصوصة بعض‪44‬ها إلى ج‪44‬وار بعض‪،‬‬
‫وذلك ألن هللا تعالى قد ذلل الطريق وسهلها لها ومنحها من قدرات التكيف الوظيفي والس‪44‬لوكي م‪44‬ا يعينه‪44‬ا‬
‫في رحالت استكشاف الغذاء وجنية ثم العودة بعد ذلك إلى البيت‪.‬‬
‫و قد نص العلم الحديث على أن العشيرة الواحدة من النحل تستطيع أن تجمع نحو ‪ 150‬كيلوجراما‬
‫من العسل في الموسم الواحد‪ .‬والكيلوجرام الواحد من العسل يكلف النحلة م‪4‬ا بين ‪ 120000‬و‪ 150‬أل‪4‬ف‬
‫حمل ٍ من الرحيق تجمعها بعد أن تطير مسافة تعادل محيط األرض عدة م‪4‬رات في المتوس‪4‬ط‪ .‬وتس‪4‬تطيع‬
‫النحلة أن تطير بسرعة ‪65‬كيلومترا في الساعة‪ ،‬وهو ما يعادل سرعة القطار‪ .‬وحتى لو كان الحمل الذي‬
‫تنوء به يعادل ثالثة أرباع وزنها فإنها يمكن أن تطير بسرعة ‪ 30‬كيلومترا في الساعة‪.‬‬
‫و في رحلة االستكشاف لجمع الغذاء الطيب تس‪4‬تعين العامل‪4‬ة بحواس‪4‬ها ال‪4‬تي منحه‪4‬ا هللا إياه‪4‬ا‪ .‬فهي‬
‫مزودة بحاسة شم قوية عن طريق قرني االستش‪44‬عار في مق‪44‬دم األخص الل‪44‬ونين األزرق واألص‪44‬فر‪ ،‬وهي‬
‫تمتاز على العين البشرية في إحساسها باألشعة فوق البنفسجية‪ ،‬لذلك فهي ترى م‪44‬ا ال ت‪44‬راه عيونن‪44‬ا‪ ،‬مث‪44‬ل‬
‫بعض المسالك والنقوش التي ترشد وتقود إلى مخ‪4‬تزن الرحي‪4‬ق وال يمكنن‪4‬ا الكش‪4‬ف عنه‪4‬ا إال بتص‪4‬ويرها‬
‫باألشعة فوق البنفسجية‪ .‬ثم إذا حطت على زهرة يانعة وبلغت ورحيقها استطاعت أن تتذوق‪44‬ه وتح‪44‬دد بكم‬
‫فطرتها مقدار حالوته‪.‬‬
‫و في رحلة العودة تهتدي النحلة إلى مسكنها بحاستي النظر والش‪4‬م مع‪4‬ا‪ .‬أم‪4‬ا حاس‪4‬ة الش‪4‬م فتتع‪4‬رف‬
‫على الرائحة الخاصة المميزة للخلية‪ .‬وأما حاسة اإلبصار فتساعد على تذكر معالم رحلة االستكش‪4‬اف‪ ،‬إذ‬
‫يالحظ أن النحل عندما تغادر البيت تستدير إليه وتقف أو تحلق أمامه فترة وكأنها تتفحصه وتتمعنه ح‪44‬تى‬
‫ينطبع في ذاكرتها‪ ،‬ثم هي بعد ذلك تطير من حوله في دوائر تأخذ في االتساع شيئاً فشيئاً‪ ،‬وعن‪4‬دما تع‪4‬ود‬
‫إلى البيت تخبر عشيرتها بتفاصيل رحلتها‪ ،‬وتدل زميالتها على مكان الغذاء فينطلقن تباعاً لجني الرحي‪44‬ق‬
‫من الزهور واإلكثار منه الدخاره ما يفيض عن الحاجة لوقت الشتاء ببرده القارص وغذائه الشحيح‪.‬‬

‫‪ )(1‬ابن كثير‪.2/576 :‬‬


‫‪23‬‬
‫وأغرب ما اكتشفه العلم الحديث في عالم الحشرات هو أن للنحل لغة خاصة يتفاهم به‪4‬ا عن طري‪4‬ق‬
‫الرقص‪ ،‬وقد شرحها بالتفصيل عالم ألماني ضمنها كتابه المسمى ( حياة النحل الراقص)‪ ،‬فق‪44‬د ت‪44‬بين له‪44‬ذا‬
‫العالم أن للنحلة الشغالة في جسمها من األجهزة ما يجعلها تستطيع قياس المسافات واألبع‪44‬اد والزواي‪44‬ا بين‬
‫قرص الشمس والخلية‪ ،‬ثم إنها تستخدم لغة سرية في التخاطب عن طريق رقصات خاص‪44‬ة مع‪44‬برة تن‪44‬بئ‬
‫بها أخواتها عن وجود الرحيق الحلو وتحدد لهن موضعه تحديدا دقيقاً من حيث زاوية االتجاه إلي‪44‬ه وبع‪44‬ده‬
‫عن بيتها‪.‬‬
‫وليس األمر في هذا قاصرا على عالم النحل‪ ..‬بل ذكر العلماء في هذا الباب الكثير من الحقائق التي‬
‫تعمق فهمن‪4‬ا لآلي‪4‬تين الكريم‪4‬تين(‪ ،)1‬فق‪4‬د ذك‪4‬روا أن للحيوان‪4‬ات أس‪4‬اليب مختلف‪4‬ة في طريق‪4‬ة إنش‪4‬اء بيوته‪4‬ا‬
‫بتفاصيل تقنية باهرة‪ ،‬بل في أحيان كثيرة تتصرف الحيوانات مثل مهندس معم‪4‬اري ب‪4‬ارع‪ ،‬وتعم‪4‬ل على‬
‫ال لكل مش‪4‬كلة ق‪4‬د تواجهه‪4‬ا أثن‪4‬اء البن‪4‬اء تمام‪4‬ا مث‪4‬ل المهن‪4‬دس‪ ،‬ومث‪4‬ل‬ ‫شاكلة ب ّناء ماهر في عمله‪ ،‬وتجد ح ّ‬
‫أخص‪4‬ائي في ال‪4‬ديكور حيث تق‪4‬وم بتوف‪4‬ير م‪4‬ا يل‪4‬زم ل‪4‬داخل العش‪ ،‬وفي أحي‪4‬ان كث‪4‬يرة أخ‪4‬رى تعم‪4‬ل ه‪4‬ذه‬
‫الحيوانات ليل نهار لإلعداد له‪44‬ذه األعش‪44‬اش‪ ،‬وإذا ك‪44‬ان له‪44‬ذه الحيوان‪44‬ات أزواج فتق‪44‬وم بتوزي‪44‬ع االدوار و‬
‫التعاون في صورة مثيرة لإلعجاب‪.‬‬
‫ومن أكثر األعشاش والمنازل التي يعتنى بها عناية خاصة من قبل البالغين هي التي تنشأ الس‪44‬تقبال‬
‫الصغار الجدد‪.‬‬
‫والتقنية التي تستخدمها هذه الكائنات ـ التي تبدو لنا غ‪4‬ير عاقل‪4‬ة ـ تث‪4‬ير اإلعج‪4‬اب والدهش‪4‬ة في آن‬
‫واحد‪ ،‬فهذه الحيوانات تخطط وتخطو مراحل متعددة قبل الشروع في بن‪44‬اء أعشاش‪44‬ها أو منازله‪44‬ا لوض‪44‬ع‬
‫بيضها أو والدة صغارها‪ ،‬كذلك تختار المكان األمثل واألكثر أمنا إلنشائها‪ ،‬فهي ال تنشئ منازلها عبث‪44‬ا و‬
‫أينما اتفق‪.‬‬
‫وطريقة بناء العش أو المسكن يتم اختيارها من قبل الحيوان أو الطير وفقا للم‪4‬واد األولي‪4‬ة المت‪4‬وفرة‬
‫وظروف البيئة الخارجية‪ ،‬فمثال تستخدم الطيور البحرية األعشاب البحرية التي تطفوا على س‪44‬طح الم‪44‬اء‬
‫وتقاوم األمواج في بناء أعشاشها‪ ،‬أ ّما الطيور التي تعيش في من‪4‬اطق األعش‪4‬اب الطويل‪4‬ة فتنش‪4‬ئ أعشاش‪4‬ا‬
‫عميقة وواسعة لتفادي السقوط عند هبوب الرياح‪ ،‬والطيور الصّحراوية تبني أعشاشها على قمم النبات‪44‬ات‬
‫ف‪4‬إن درج‪4‬ة ح‪4‬رارة‬ ‫التي تمتاز بانخفاض درجة حرارته‪4‬ا أق‪4‬ل بعش‪4‬ر درج‪4‬ات عن درج‪4‬ة المحي‪4‬ط‪ ،‬وإ ّ‬
‫ال ّ‬
‫اليابسة تربو على ‪ 45‬درجة‪ ،‬وهي تؤدي حتما إلى موت األجنة الموجودة داخل البيض‪.‬‬
‫ال أن هذه المخلوقات ال تستطيع‬ ‫ويتطلب اختيار المكان المناسب لبناء العش ذكاء ومعرفة واسعة‪ ،‬إ ّ‬
‫أن تتوقع مدى الض‪4‬رر ال‪4‬ذي س‪4‬يلحق بمنازله‪4‬ا بت‪4‬أثير األم‪4‬واج العاتي‪4‬ة أو درج‪4‬ة الح‪4‬رارة العالي‪4‬ة للبيئ‪4‬ة‬
‫الصحراوية‪.‬‬
‫وال تكتفي هذه الحيوانات ببن‪4‬اء المن‪4‬ازل‪ ،‬وإن ّم‪4‬ا تب‪4‬ني أعشاش‪4‬ا وهمي‪4‬ة لمج‪4‬رد التموي‪4‬ه به‪4‬دف لفت‬
‫االنتباه إلى هذه األعشاش الوهمية حفاظا على حياة الصغار من خطر األعداء‪.‬‬
‫ومن األساليب ال‪4‬تي تس‪4‬تخدمها الحيوان‪4‬ات للتموي‪4‬ه بن‪4‬اء األعش‪4‬اش بين أغص‪4‬ان األش‪4‬جار الكثيف‪4‬ة‬
‫األوراق أو فوق النباتات الشوكية‪ ،‬وبعض أنواع الحيوانات تنشئ لها أوكارا خاص‪44‬ة ت‪44‬بيض فيه‪44‬ا وترق‪44‬د‬
‫على بيضها وتقوم بإنشاء جدار خاص لمدخل هذا الوكر باستخدام الطين الموج‪44‬ود في البيئ‪44‬ة الخارجي‪44‬ة‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬كتاب التضحية عند الكائنات الحية‪ ،‬هارون يحي‪.‬‬


‫‪24‬‬
‫وإذا لم يوجد تقوم بإفراز سائل خاص تخلطه مع كمية من التراب إلعداد الطين الالزم إلنشاء هذا الجدار‬
‫الواقي‪.‬‬
‫وأغلب أنواع الطيور تبني أعشاشها غريبة الشكل باستخدام ألياف النباتات أو األعشاب والحشائش‬
‫البرية المتوفرة في البيئة‪ ،‬والجدير بالذكر أن الطير ّالذي سيبيض ألول مرة في حياته يب‪44‬ني عش‪44‬ه بإتق‪44‬ان‬
‫بالغ دون أن يكون له سابق معرفة أو خبرة ببناء األعشاش‪.‬‬
‫والحيوان على علم تام بكيفية بناء العش أو المس‪4‬كن‪ ،‬وبالكيفي‪4‬ة الخاص‪4‬ة بنوع‪4‬ه والمتم‪4‬يز به‪4‬ا عن‬
‫األنواع األخرى اعتبارا من أول لحظة له في هذه الحي‪4‬اة‪ ،‬وك‪44‬ل ن‪44‬وع من أن‪44‬واع الحيوان‪44‬ات يب‪44‬ني منزل‪44‬ه‬
‫بالكيفية نفسها في أية منطقة من مناطق العالم‪.‬‬
‫والالفت للنظر عند دراسة كيفية بناء الحيوانات لمنازلها ليس فقط التخطيط البارع وإنم‪4‬ا التض‪4‬حية‬
‫والتعاون ّ‬
‫اللذين يبديهما كل من الذكر واألنثى في البناء‪.‬‬
‫ولو تمعّنا في عملية إنشاء الطيور ألعشاشها ألدركنا مدى الصعوبات التي تالقيها والجه‪4‬د الض‪4‬خم‬
‫الذي تبذله والتفاني الذي تبديه في سبيل إتمام بن‪4‬اء ه‪4‬ذه األعش‪4‬اش‪ ،‬ف‪4‬الطير الواح‪4‬د يق‪4‬وم بع‪4‬دة مئ‪4‬ات من‬
‫رحالت الطيران في سبيل إنشاء عش للتمويه فقط‪ ،‬فما بالك بالجه‪44‬د الالزم لبن‪44‬اء العش الحقيقي‪ ،‬والط‪44‬ير‬
‫ال يستطيع أن يحمل في منقاره س‪4‬وى قطع‪4‬ة أو قطع‪4‬تين من الم‪4‬واد الالزم‪4‬ة لبن‪4‬اء العش من أغص‪4‬ان أو‬
‫غيرها‪ ،‬ولكن هذا األمر ال يثير في الطير الشعور بالملل‪ ،‬و إنما بالعكس من ذلك يث‪44‬ابر على العم‪44‬ل بك‪44‬ل‬
‫ص‪44‬بر‪ ،‬وإذا ش‪44‬عر بتعب أو إره‪44‬اق ال ي‪44‬ترك العم‪44‬ل وال ي‪44‬ترك م‪44‬ا في منق‪44‬اره وال يهم‪44‬ل أي تفص‪44‬يل من‬
‫التفاصيل الالزمة لبناء العش‪.‬‬
‫وال بأس أن نعود من جديد لعالم النمل ـ باعتباره نموذجا لهذه األحياء ـ لنرى مدى تحضره في هذا‬
‫الجانب‪ ،‬كما رأينا تحضره في الجانب التنظيمي‪.‬‬
‫فقد ذكر العلماء في هذا الباب أن للنمل ـ مثل اإلنسان ـ مشاريعه العمرانية الضخمة‪ ،‬وقد ذك‪4‬ر أح‪4‬د‬
‫علماء الحشرات أنه رأى مدينة هائلة للنمل في بنسلفانيا بلغت مساحتها خمسين ف‪4‬داناً‪ ،‬وك‪4‬انت مكون‪4‬ة من‬
‫ألف وستمائة عش ارتفاع معظمها قرابة ثالثة أقدام‪ ،‬ومحيطها اثنا عشر قدما عند القاعدة‪ ،‬وهذا يعني أن‬
‫حجم الهرم األكبر‪.‬‬
‫ً‬
‫والنظام المعماري في أعشاش النمل متن‪4‬وع طبق‪4‬ا لتن‪4‬وع أجس‪4‬ام وعادات‪4‬ه‪ ،‬ويحص‪4‬ى العلم‪4‬اء منه‪4‬ا‬
‫أربعة طرز أو خمسة طرز رئيسية‪ ،‬والسائد هو الط‪44‬رز األفقي‪44‬ة ذو التع‪44‬اريج الكث‪44‬يرة وال‪44‬دهاليز ال‪44‬تي ال‬
‫تنتهي والغالبية العظمى في أعشاش النمل توجد تحت األرض‪ ،‬ويحتوي العش ع‪44‬ادة على ع‪44‬دة طواب‪44‬ق‪،‬‬
‫وربما يصل إلى عشرين طابقاً في جزئه األعلى الص‪4‬ورة‪ ،‬وعلى ع‪4‬دد مماث‪4‬ل من الطواب‪4‬ق تحت س‪4‬طح‬
‫األرض‪ ،‬ولكن طابق غرضه الخاص الذي تحدده أساسا درجة الحرارة ن فالجزء األك‪44‬ثر دفئ ‪4‬اً في العش‬
‫يحتفظ به خصيصاً لتربية الصغار‪.‬‬
‫ونصت االكتشافات على أنه من مظاهر مجتمع النمل قيامه بمشروعات جماعية مثل إقامة الطرق‬
‫الطويلة في مثابرة وأناة‪ ،‬فتحرص مجموعاته المختلفة على االلتق‪44‬اء في ص‪44‬عيد واح‪44‬د من آن آلخ‪44‬ر‪ ،‬وال‬
‫ال في اللي‪4‬الي القمري‪4‬ة‪ ،‬م‪4‬ع ل‪4‬زوم مس‪4‬تعمراتها في‬ ‫تكتفي هذه المجموعات بالعم‪4‬ل نه‪4‬اراً‪ ،‬ب‪4‬ل تواص‪4‬له لي ً‬
‫الليالي المظلمة‪.‬‬
‫و ألعضاء مجتمع النمل طرق مختلفة متميزة في جمع المواد الغذائية وتخزينها والمحافظة عليه‪44‬ا‪،‬‬
‫‪25‬‬
‫فإذا لم تستطيع النملة حم‪4‬ل م‪4‬ا جمعت‪4‬ه في فمه‪4‬ا كعادته‪4‬ا لك‪4‬بر حجم‪4‬ه‪ ،‬حركت‪4‬ه بأرجله‪4‬ا الخلفي‪4‬ة ورفع‪4‬ه‬
‫بذراعيها‪.‬‬
‫ومن عاداتها الناشئة من معارفه‪4‬ا أن تقض‪4‬م الب‪4‬ذور قب‪4‬ل تخزينه‪4‬ا ح‪4‬تى ال تع‪4‬ود إلى اإلنب‪4‬ات م‪4‬رة‬
‫أخرى‪ ،‬وتجزيء البذور الكبيرة كي يس‪4‬هل عليه‪4‬ا إدخاله‪4‬ا في مس‪4‬تودعاتها‪ ،‬وإذا م‪4‬ا ابتلت بفع‪4‬ل المط‪4‬ر‬
‫أخرجتها إلى الهواء والشمس لتحف‪.‬‬
‫والنمل أنواع كثيرة(‪ )1‬كل منها قد يكون جنسا خاصا‪ ،‬مثل أجناس أمة البشر‪ ،‬ومنها نوع من النم‪44‬ل‬
‫يسمى ( أتا) إذا حفرت في مستعمرته على عمق أكثر من م‪44‬تر وج‪44‬دت في حج‪44‬رة خاص‪44‬ة كتال متبل‪44‬ورة‬
‫بنية اللون من مادة شبيهة باإلسفنج هي في حقيقتها عبارة عن أوراق متحللة لنوع معين من النبات يسمى‬
‫( الكيريزويت) إذا دققت فيها النظر وجدت خيوطاً بيضاء رائعة من فط‪44‬ر ( عش الغ‪44‬راب) ال‪44‬ذي يعت‪44‬بر‬
‫الطعام الوحيد لهذا النوع من النمل الذي يعيش غالبيته في المناطق المدارية‪.‬‬
‫و لضمان العناية الفائقة لهذا الغذاء الحيوي توجد بصفة مستمرة في حجرة الزراع‪44‬ة مجموع‪44‬ة من‬
‫الشغاالت تستقبل أوراق شجرة ( الكري‪4‬زونت) وتنظفه‪4‬ا باعتن‪4‬اء‪ ،‬ثم تمض‪4‬غها فتحيله‪4‬ا إلى عجين‪4‬ة مبلل‪4‬ة‬
‫باللع‪44‬اب وتكوره‪44‬ا على ش‪44‬كل كري‪44‬ات ص‪44‬غيرة لتض‪44‬يفها إلى الحاف‪44‬ة الخارجي‪44‬ة للمزرع‪44‬ة بحيث ت‪44‬زداد‬
‫مساحتها مع تقد الزمن‪.‬‬
‫ويذكر العالم (جوزيف وودكراتش) أن شغال آخرين يقومون في نفس الوقت باالحتف‪44‬اظ بفطري‪44‬ات‬
‫عش الغراب الناضجة‪ .‬هذا باإلضافة إلى المجهود الخارق الذي تبذل‪4‬ه فرق‪4‬ة ثالث‪4‬ة من الش‪4‬غالة في تس‪4‬لق‬
‫ال لت‪44‬نزع أوراقه‪44‬ا وتحمله‪44‬ا إلى األرض‪ ،‬ثم إلى العش حيث‬ ‫شجرة ( الكريزويت) ذات الخمسة أمتار طو ً‬
‫تسلمها إلى أفراد الفرقة األولى‪.‬‬
‫فهذا التدبير العجيب ألمة النمل يخفف من زهو اإلنسان بنفسه‪ ،‬وبمشاريعه ال‪44‬تي يتص‪44‬ور أن عقل‪44‬ه‬
‫الجبار هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بها‪.‬‬
‫األخالق‪:‬‬
‫وهي أص‪44‬ل أص‪44‬ول الحض‪44‬ارة‪ ،‬ولب لبابه‪44‬ا‪ ،‬والحض‪44‬ارة ال‪44‬تي تفتق‪44‬د األخالق حض‪44‬ارة أش‪44‬باح ال‬
‫حضارة أرواح‪ ،‬وحضارة موت ال حضارة حياة‪.‬‬
‫وق‪44‬د ورد في النص‪44‬وص م‪44‬ا يش‪44‬ير إلى تنعم الكائن‪44‬ات المختلف‪44‬ة به‪44‬ذا األص‪44‬ل العظيم من أص‪44‬ول‬
‫الحضارة‪ ..‬وقد ذكرنا ـ سابقا ـ أن الحجر كان يسلم على الن‪4‬بي ‪ ‬في ال‪44‬وقت ال‪44‬ذي ك‪44‬ان في‪4‬ه القرش‪44‬يون‬
‫يرمونه ‪ ‬بكل ما امتألت به نفوسهم من أحقاد‪.‬‬
‫وسنكتفي هنا بذكر أص‪4‬ل من أص‪4‬ول األخالق‪ ..‬ومن‪4‬ه تتف‪4‬رع أك‪4‬ثر األخالق‪ ..‬وه‪4‬و الرحم‪4‬ة‪ ،‬فهي‬
‫منبع أكثر األخالق‪.‬‬
‫وقد ورد في النصوص ما يشير إلى اشتراك األحياء جميعا بما فيهم اإلنسان في الرحمة التي خص‬
‫هللا بها هذه ال‪4‬دنيا‪ ،‬فق‪4‬د ق‪4‬ال ‪ (:‬إن هلل تع‪4‬الى مائ‪4‬ة رحم‪4‬ة أن‪4‬زل منه‪4‬ا رحم‪4‬ة واح‪4‬دة بين الجن واالنس‬
‫والبهائم والهوام‪ ،‬فبها يتعاطفون‪ ،‬وبها يتراحمون‪ ،‬وبها تعطف الوحش على ولدها‪ ،‬وأخر تس‪4‬عا وتس‪4‬عين‬
‫رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)(‪)2‬‬

‫وقد أحصى العلم منها خمسة عشرة ألف نوع‪ 4‬من أنواع النم‪44‬ل متع‪44‬ددة األل‪44‬وان واألش‪44‬كال تعيش‪ 4‬في ك‪44‬ل بق‪44‬اع األرض‪ ،‬منه‪44‬ا النم‪44‬ل األبيض ال‪4‬ذي‬ ‫‪)(1‬‬
‫تضرب جنوده برؤوسها الكبيرة جدران األنفاق إذا شعرت بهجوم على عشها أو أي خطر يتهددها فيفهم ذلك باقي أفراد النوع وتقوم بعم‪44‬ل الالزم نح‪44‬و حماي‪44‬ة‬
‫نفسها من الخطر المحدق بها‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه ابن ماجة‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫وسنسوق ـ هنا‪ ،‬وباختصار ـ بعض ما ساقه العلم الحديث من هذه الرحم‪4‬ة‪ ،‬وس‪4‬نقتبس ح‪4‬ديث ذل‪4‬ك‬
‫من عالم أحب األحياء حبا شديدا‪ ،‬وداف‪4‬ع عن انتس‪4‬ابها هلل دف‪4‬اع المس‪4‬تميت‪ ،‬وه‪4‬و الع‪4‬الم ال‪4‬تركي ه‪4‬ارون‬
‫يحي‪ ،‬الذي يعتبر بحق من أكبر من رد على نظرية التظور المادية‪.‬‬
‫فقد ذكر هذا العالم الفاضل في كتابه (التضحية عند الكائن‪4‬ات الحي‪4‬ة) الكث‪4‬ير من أدل‪4‬ة الرحم‪4‬ة ال‪4‬تي‬
‫تمتلئ بها هذه الكائنات‪ ،‬قال‪ :‬إن جميع الكائنات الحيّة خطيرة وحسّاس‪4‬ة ج‪ّ 4‬دا في حال‪4‬ة تع‪4‬رّض ص‪4‬غارها‬
‫أليّ خطر‪ ،‬ور ّد فعل هذه الكائنات الحية عند ش‪44‬عورها ب‪4‬الخطر ه‪4‬و الف‪44‬رار إلى أم‪44‬اكن آمن‪4‬ة‪ ،‬وإذا تع‪4ّ 4‬ذر‬
‫الص‪4‬غار‬ ‫عليها ال ّنأي بنفسها عن الخطر تُصبح هذه الكائنات متوحّشة وحا ّدة تجاه الخطر حفاظا على حياة ّ‬
‫فالطيور والخفافيش (الوطاويط) مثال ال تتوانـى في مهاجم‪44‬ة الب‪44‬احثين يأخ‪44‬ذون ص‪44‬غارها‬ ‫أساسي‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫بشكل‬
‫من األعش‪44‬اش لغ‪44‬رض البحث وال ّدراس‪44‬ة‪ ،‬وك‪44‬ذلك الحم‪44‬ير الوحش‪44‬ية أو الزي‪44‬برا ال‪44‬تي تعيش على ش‪44‬كل‬
‫مجاميع‪.‬‬
‫وعندما يته ّدد الخطر حيوان‪4‬ات مث‪4‬ل ابن آوى تق‪4‬وم المجموع‪4‬ة بتوزي‪4‬ع األدوار فيم‪4‬ا بينه‪4‬ا لحماي‪4‬ة‬
‫الزرافة صغيرها تحت بطنها وته‪44‬اجم الخط‪44‬ر بس‪44‬اقيها‬ ‫والذود عنهم بكل شجاعة وإقدام‪ ،‬وتحمي ّ‬ ‫الصّغار ّ‬
‫األماميّتين‪ ،‬أ ّما الوعول والظباء فتتميّز بحساسيّة مفرطة وتهرب عند إحساسها ب‪4‬الخطر‪ ،‬وإذا ك‪4‬ان هن‪4‬اك‬
‫الذود عنه‪ ،‬فال تتر ّدد في الهجوم مستخدمة أظالفها الحا ّدة‪.‬‬‫صغير ينبغي ّ‬
‫اللبائن األصغر حجما واألضعف جس ًما‪ ،‬فتقوم بإخفاء صغارها في مكان آمن‪ ،‬وعندما تحُاصر‬ ‫أ ّما ّ‬
‫تصبح متوح ّش ًة ومتوثبّة في وجه العدو الذي يجابهها‪ ،‬فاألرنب مثال مع ف‪44‬رط حساس‪4‬يّتة وض‪44‬عفه يتح ّم‪44‬ل‬
‫ع‪4‬دوه بأرجل‪4‬ه‬‫ّ‬ ‫المش ّقة والصّعاب من أجل حماية صغاره‪ ،‬فهو يسرع إلى ع ّشه أو وكره ويعم‪4‬د إلى رك‪4‬ل‬
‫الخلفيّة‪ ،‬ويكون هذا السّلوك أحيانا كافيا إلبعاد الحيوانات المفترسة‪.‬‬
‫وتتميّز الغزالن بكونها تعم‪4‬د إلى الج‪4‬ري وراء ص‪4‬غارها عن‪4‬د اق‪4‬تراب الخط‪4‬ر منه‪4‬ا‪ ،‬فالحيوان‪4‬ات‬
‫المفترسة غالبا ما تهاجم من الخل‪4‬ف ل‪4‬ذلك‪ ،‬ف‪4‬إن الغ‪4‬زال األ ّم تك‪4‬ون ب‪4‬ذلك أق‪4‬رب م‪4‬ا يك‪4‬ون من ص‪4‬غارها‬
‫وتبعدهم عن مواطن الخطر‪ ،‬وفي حالة اقتراب الخطر تجتهد في صرف نظر الحي‪4‬وان المف‪4‬ترس به‪4‬دف‬
‫حماية صغيرها‪.‬‬
‫أن صغارها تحت‪44‬اج إلى‬ ‫اللبائن تستخدم ألوان أجسامها لل ّتمويه وسيلة لدرء الخطر إ ّ‬
‫ال ّ‬ ‫وهناك بعض ّ‬
‫توجيه وتدريب على وسيلة االختفاء هذه‪ ،‬وكمثال على ذلك حيوان اليحمور حيث تقوم األن‪44‬ثى باالس‪44‬تفادة‬
‫خطة للتن ّكر بهدف اإلفالت من األعداء‪ ،‬فهي تخفي صغيرها بين شجيرات وتجعله‬ ‫من لون صغيرها في ّ‬
‫مغطى ببق‪4‬ع بيض‪4‬اء‪ ،‬وه‪4‬ذه ال ّتركيب‪4‬ة ّ‬
‫اللوني‪4‬ة م‪4‬ع أش‪4‬عّة‬ ‫ًّ‬ ‫ساكنا ال يتحرك‪ ،‬ويكون جلد الصّغير ب ّني ّ‬
‫الل‪4‬ون‬
‫ال ّشمس المنعكسة تكون خير وسيلة لالنسجام مع لون ال ّشجيرات التي تحيط به‪ ،‬وهذه الطريقة في التخ ّفي‬
‫تكون كافي ًة لخداع الحيوانات المفترس‪4‬ة ال‪4‬تي تم‪4‬رّ ب‪4‬القرب من‪4‬ه‪ ،‬أ ّم‪4‬ا األ ّم فتبقى على بع‪4‬د مس‪4‬اف ٍة قص‪4‬ير ٍة‬
‫تراقب ما يحدث دون أن تثير انتباه األعداء‪ ،‬غير أ ّنها تقترب أحيا ًنا من صغيرها لكي ترضعه‪.‬‬
‫الص‪4‬غير ع‪4‬ادة‬ ‫وقبل ذهابها إلى الص‪4‬يّد تج‪4‬بر ص‪4‬غيرها على الجل‪4‬وس بواس‪4‬طة منخره‪4‬ا‪ ،‬ويك‪4‬ون ّ‬
‫متيقظا وحذرًا‪ ،‬وعندما يسمع صوتا غير ع‪4‬اديّ س‪4‬رعان م‪4‬ا يع‪4‬ود إلى الجل‪4‬وس واالختف‪4‬اء خوف‪4‬ا من أن‬
‫خطر بال ّنسبة إليه‪ .‬ويظلّ الوليد على هذا ال ّشكل ح ّتى يصبح قادرًا على الوقوف على قدمي‪44‬ه‬ ‫ٍ‬ ‫يكون مصدر‬
‫وال ّتن ّقل مع أ ّمه‪.‬‬
‫ت به‪4‬دف تخويف‪4‬ه‬ ‫الع‪4‬دو الم‪4‬رتقب‪ ،‬ب‪4‬ل وتوجي‪4‬ه ض‪4‬ربا ٍ‬ ‫ّ‬ ‫فعل عنيف تج‪4‬اه‬‫و ث ّمة حيوانات تُظهر ر ّد ٍ‬
‫‪27‬‬
‫يتمثل في م ّد جناحيه فيبدو أكبر من‬ ‫الطيور التي تسلك سلوكا استعراضيّا ّ‬ ‫وإبعاده مثل البوم وبعض أنواع ّ‬
‫الطبيعي‪.‬‬ ‫حجمه ّ‬
‫تقلد فحيح األفاعي إلرهاب األعداء مثل طائر ذو الرأس األسود الذي يصدر أصواتا‬ ‫وهناك طيور ّ‬
‫الع‪4‬دو‬
‫ّ‬ ‫صاخبة ويرفرف بجناحيه داخل ع ّشه‪ ،‬ويبدوا األمر مخيفا داخ‪4‬ل العشّ المظلم وس‪4‬رعان م‪4‬ا يل‪4‬وذ‬
‫بالفرار أمام هذه الضّوضاء والحركة‪.‬‬
‫الطيور ال‪44‬تي تعيش على ش‪44‬كل تج ّمع‪4‬ات هي العناي‪44‬ة ال‪44‬تي يوليه‪44‬ا الكب‪44‬ار‬ ‫والظاهرة الملحوظة لدى ّ‬ ‫ّ‬
‫للصّغار وحرصهم على حمايتها وخصوص‪4‬ا من خط‪4‬ر طي‪4‬ور ال ّن‪4‬ورس إذ ينطل‪4‬ق ف‪4‬رد أو اثن‪4‬ان بالغ‪4‬ان‬
‫ويحومان حول مكان تج ّمع األسراب لترهيب ال ّنوارس وإبعادها عن الصّغار‪.‬‬
‫الطيور البالغة وك‪4‬لّ من ينهي مه ّمت‪4‬ه ي‪4‬ذهب إلى مك‪4‬ان‬ ‫ومه ّمة الحماية هذه يت ّم تنفيذها بال ّتناوب بين ّ‬
‫الطاقة للعودة مرّة أخرى‪.‬‬ ‫آخر بعيد تتو ّفر فيه المياه للصّيد وال ّتغذية وجمع ّ‬
‫الوعول بروح ال ّتضحية من أجل صغارها خصوصا عندما تشعر بخطر ي‪44‬داهم ص‪44‬غيرها‪،‬‬ ‫وتتميّز ُ‬
‫فهي تقوم بحركة غاية في الغرابة إذ تلقي بنفسها أمام ه‪44‬ذا الحي‪44‬وان المف‪44‬ترس لتلهي‪44‬ه عن اف‪44‬تراس ول‪44‬دها‬
‫الصغير‪.‬‬
‫وهذا األسلوب يمكن مالحظته في سلوك العديد من الحيوانات مثل أنثى ال ّنمر التي تجتهد في القي‪44‬ام‬
‫بما في وسعها ح ّتى تصرف انتباه األعداء المتربّصين بصغارها‪.‬‬
‫فأول ما يفعله عند إحساسه بالخطر ال ّداهم هو أن يأخذ صغاره إلى ق ّمة أق‪44‬رب ش‪44‬جرة‪،‬‬ ‫أ ّما الرّاكون ّ‬
‫ث ّم يسرع نازال إلى الحيوانات المفترسة ويكون وجها لوجه معه‪44‬ا‪ ،‬ومن ث ّم يب‪44‬دأ ب‪4‬الفرار إلى ناحي‪44‬ة بعي‪44‬دة‬
‫يطمئن إلى زوال الخط‪4‬ر وعندئ‪4‬ذ يتس‪4‬لل خلس‪ً 4‬ة عائ‪4‬داً إلى‬ ‫ّ‬ ‫الص‪4‬غار ويس‪4‬تمر في االبتع‪4‬اد ح ّتى‬‫عن مكان ّ‬
‫صغاره‪.‬‬
‫أن‬ ‫الص‪4‬غار ق‪4‬د ينج‪4‬ون من خط‪4‬ر المفترس‪4‬ين إ ّ‬
‫ال ّ‬ ‫وهذه المحاوالت ال يُكتب له‪4‬ا ال ّنج‪4‬اح دائم‪4‬اً‪ّ ،‬‬
‫ألن ّ‬
‫األبوين قد يتعرّضان للموت والهالك‪.‬‬
‫الص‪4‬غيرة‪ ،‬فعن‪44‬د‬ ‫‪4‬دو المف‪44‬ترس عن الف‪44‬راخ ّ‬ ‫وهناك طيور تقوم بتمثيل دور الجريح لصرف نظر الع‪ّ 4‬‬
‫‪4‬دو تب‪44‬دأ‬‫تتسلل بهدوء من العشّ ولماّ تصل إلى مكان وج‪44‬ود الع‪ّ 4‬‬ ‫إحساس األنثى باقتراب الحيوان المفترس ّ‬
‫أن‬ ‫في التخبّط وضرب أحد جناحيها على األرض وإصدار أصوات مليئة باالس‪44‬تغاثة وطلب ال ّنج‪44‬دة‪ ،‬بي‪44‬د ّ‬
‫أن‬ ‫تمثل هذا ال ّدور على بعد مسافة ما من الحيوان المف‪44‬ترس‪ ،‬ويت‪44‬و ّهم ّ‬ ‫الزم فهي ّ‬ ‫هذه األنثى تأخذ حذرها ال ّ‬
‫األنثى المستغيثة تعتبر غنيمة سهل ًة ولك ّن‪4‬ه بذهاب‪4‬ه في اتجاهه‪4‬ا يك‪4‬ون ق‪4‬د ابتع‪4‬د عن مك‪4‬ان وج‪4‬ود الف‪4‬راخ‬
‫الصّغار‪ ،‬ث ّم تنهي األنثى تمثيلها وتهبّ طائرة مبتعدة عن الحيوان المفترس‪.‬‬
‫وهذا المش‪4‬هد ال ّتم‪4‬ثيلي يت ّم أداؤه بمه‪4‬ارة مقنع‪4‬ة للغاي‪4‬ة‪ ،‬وكث‪4‬يرًا م‪4‬ا تنطلي ه‪4‬ذه الحيل‪4‬ة على القط‪4‬ط‬
‫والكالب واألفاعي وحتى على بعض أنواع ّ‬
‫الطيور‪.‬‬
‫الطيور التي تبني أعشاشها م‪4‬ع مس‪4‬توى س‪4‬طح األرض‪ ،‬فيُعت‪4‬برُ التمثي‪4‬ل أداة فعّال‪ً 4‬ة وناجع‪ً 4‬ة في‬ ‫أ ّما ّ‬
‫الط‪4‬يران من على الم‪4‬اء عن‪4‬د‬ ‫فالبط مثاليق‪4‬وم بتمثيليّ‪4‬ة الع‪4‬اجز عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫حماي ِة فراخها من األعداء المفترسين‪،‬‬
‫إحساسه بقدوم الحيوانات الخطرة‪ ،‬ويظلّ هكذا يضرب بجناحيه على سطح الم‪44‬اء م‪44‬ع إحتفاض‪44‬ه بمس‪44‬افة‬
‫ب‪4‬أن الحي‪4‬وان المف‪4‬ترس ق‪4‬د ابتع‪4‬د عن عشّ الف‪4‬راخ‬ ‫يطمئن ّ‬
‫ّ‬ ‫أمان بينه وبين الحيوان المتربّص به‪ ،‬وعن‪4‬دما‬
‫مثيلي ويعود إلى ع ّشه‪.‬‬
‫يقطع مشهده ال ّت ّ‬
‫‪28‬‬
‫وهذا السلوك ليس قاصرا على هذه األنواع من الحيوانات‪ ،‬بل إن الحشرات أيضا تحمي ص‪44‬غارها‬
‫من المهالك‪.‬‬
‫للص‪4‬غار في ع‪4‬الم‬ ‫أول من اكتش‪4‬ف رعاي‪4‬ة األب‪4‬وين ّ‬ ‫ويعتبر عالم األحياء السّويدي (أدول‪4‬ف م‪4‬ودر) ّ‬
‫أن األن‪4‬ثى‬ ‫الحشرات وذلك سنة ‪ 1764‬عندما كان يجري أبحاثه على حش‪4‬رة (الم‪4‬درع األوروبي) فوج‪4‬د ّ‬
‫تجلس على بيضها دون أك‪4‬ل أو ش‪4‬رب‪ ،‬وتص‪4‬بح ه‪4‬ذه األن‪4‬ثى مقاتل‪4‬ة شرس‪4‬ة عن‪4‬دما يق‪4‬ترب الخط‪4‬ر من‬
‫بيضها‪.‬‬
‫وكان العلماء والباحثون في تلك الف‪4‬ترة أو م‪4‬ا قبله‪4‬ا ال يقبل‪4‬ون فك‪4‬رة رعاي‪4‬ة الحش‪4‬رات لص‪4‬غارها‪،‬‬
‫وس‪44‬ببُ ذل‪44‬ك ي‪44‬ورده لن‪44‬ا البروفس‪44‬ور دوغالس‪.‬و‪.‬تلالني من جامع‪44‬ة ديالور وال‪44‬ذي يعم‪44‬ل أس‪44‬تاذا في علم‬
‫الحشرات ويؤمن بنظرية التطور‪ ،‬فيقول‪ (:‬تجابه الحشرات مخ‪4‬اطر عدي‪4‬دة أثن‪4‬اء دفاعه‪4‬ا عن ص‪4‬غارها‪،‬‬
‫ويتساءل العلماء في مجال الحشرات عن السرّ في عدم انقراض هذه الخصلة (خص‪4‬لة ال‪4‬دفاع والحماي‪4‬ة)‬
‫ألن وضع البيض بأعداد كبيرة أفضل استراتيجياّ من اتب‪4‬اع وس‪4‬يلة ال‪ّ 4‬دفاع المحفوف‪4‬ة‬ ‫أثناء عملية ال ّتطور‪ّ ،‬‬
‫بالمخاطر والمهالك)‬
‫ويعلق دوغالسن‪.‬و‪.‬تلالني أحد دعاة ال ّتطور على هذا ال ّتساؤل المحيّر ويرى أ ّن‪44‬ه يجب أن تنق‪44‬رض‬ ‫ّ‬
‫الطبيع‪4‬ة أ ّنه‪4‬ا ال ت‪4‬زال موج‪4‬ودة‬ ‫ولكن الموجود والمالحظ في ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذه الميزة حسب فرضيّات نظرية ال ّتطور‪،‬‬
‫وبصور عديدة سواء في عالم الحشرات أو غيرها وليس دفاعا عن الصّغار فحسب بل عن الكبار أيضا‪.‬‬
‫بعد هذا‪ ..‬قد نرى في سلوك بعض الحيوانات ما نتصوره ظلما ال ينسجم م‪44‬ع م‪44‬ا تتطلب‪44‬ه األخالق‪..‬‬
‫وذلك صحيح‪ ..‬وقد أخبرت النصوص أن مثل هذه الحيوانات تع‪4‬اقب على تص‪4‬رفاتها ه‪4‬ذه‪ ،‬فق‪4‬د ج‪4‬اء في‬
‫الح‪44‬ديث عن أبي ذر ق‪44‬ال‪ :‬بينم‪44‬ا نحن عن‪44‬د رس‪44‬ول هّللا ‪ ‬إذا انتطحت ع‪44‬نزان‪ ،‬فق‪44‬ال رس‪44‬ول هّللا ‪:‬‬
‫( أتدرون فيم انطحتا؟) قالوا‪ :‬ال ندري‪ ،‬قال‪ (:‬لكن هللا يدري وسيقضي بينهما)(‪ ،)1‬وفي حديث آخ‪44‬ر‪ ،‬ق‪44‬ال‬
‫‪ (:‬إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة)(‪)2‬‬
‫ونرى انطالقا من هذا الحديث أن الحيوانات محاس‪4‬بة على س‪4‬لوكها عموم‪4‬ا‪ ..‬وهي مث‪4‬ل الن‪4‬اس في‬
‫ت ﴾ (التك‪4‬وير‪ ،)5 :‬ب‪4‬ل ه‪4‬و م‪4‬ا ينص علي‪4‬ه قول‪4‬ه‬ ‫ذلك‪ ،‬وإلى ذلك يشير قوله تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و ِإ َذا ْال ُوحُ‪4‬وشُ ِ‬
‫حُش‪َ 4‬ر ْ‬
‫تعالى‪ ﴿:‬ثُ َّم ِإ َلى َر ِّب ِه ْم يُحْ َشرُونَ ﴾ (األنعام‪ ،)38 :‬وهي تتناس‪44‬ب م‪44‬ع قول‪44‬ه تع‪4‬الى عن اإلنس‪44‬ان‪ ﴿:‬ثُ َّم ِإ َلى َر ِّب ِه ْم‬
‫َمرْ ِج ُعهُم ﴾ (األنعام‪)108 :‬‬
‫وبما أن التكليف يقتضي المجازاة‪ ،‬فإن هذه الحيوانات ستجازى على أعمالها‪..‬‬
‫وقد ذكر العلماء هذا‪ ،‬ولكنهم أطبقوا ـ لألسف ـ على اعتبار جزاء ه‪4‬ذه الحيوان‪4‬ات ه‪4‬و ص‪4‬يرورتها‬
‫ترابا‪.‬‬
‫وقد استدلوا لذلك بأدلة ال تنهض لتقرير مثل هذا األمر الخطير‪.‬‬
‫ومما استدلوا به من ذلك ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين لقوله تعالى‪ِ ﴿:‬إنَّا َأ ْن َذرْ نَا ُك ْم َع‪َ 4‬ذاباً‬
‫ت تُ َراباً﴾ (النبأ‪ )40 :‬فاآلثار الواردة في ذلك عن‬ ‫ت َيدَاهُ َو َيقُولُ ْال َكا ِفرُ َيا َل ْي َت ِني ُك ْن ُ‬
‫ظرُ ْال َمرْ ُء َما َق َّد َم ْ‬
‫َق ِريباً َيوْ َم َي ْن ُ‬
‫أبي هُ َريرة‪ ،‬وعبد هللا بن عمرو‪ ،‬وغيرهما قد يكون مصدرها اإلسرائيليات التي كانت مشتهرة‪ ..‬وكانت ـ‬
‫لألسف ـ مرجعا للبعض في تفسير القرآن الكريم‪.‬‬
‫مع أن تفسير اآلية واضح ال يحتاج إلى مثل هذا‪ ..‬فالكافر ـ عندما بعابن جرائمه وما ي‪44‬ترتب عليه‪44‬ا‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫من جزاء ـ يود لو أنه كان ترابا‪ ..‬أو يود ل‪4‬و أن‪4‬ه بقي تراب‪4‬ا‪ ،‬ولم يص‪4‬ر إنس‪4‬انا‪ ..‬وهي في ذل‪4‬ك مث‪4‬ل قول‪4‬ه‬
‫ت َنسْياً َم ْن ِس ّياً﴾ (مريم‪)23:‬‬‫ت َقب َْل َه َذا َو ُك ْن ُ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬فأَ َجا َءهَا ْال َمخَ اضُ ِإ َلى ِج ْذ ِ‬
‫ع النَّ ْخ َل ِة َقا َل ْ‬
‫ت َيا َل ْي َت ِني ِم ُّ‬
‫ومما استدلوا به من الحديث ما يسمى بح‪4‬ديث الص‪4‬ور الطويل(‪ ،)1‬وه‪4‬و ح‪4‬ديث ممل‪4‬وء ب‪4‬الغرائب‪،‬‬
‫وهو أشبه بأحاديث القصاص منه بأحاديث النبي ‪ ،‬وقد قال فيه ابن كثير‪ (:‬هذا ح‪44‬ديث مش‪44‬هور‪ ،‬وه‪44‬و‬
‫غريب جدا‪ ،‬ولبعضه شواهد في األحاديث المتفرقة‪ ،‬وفي بعض ألفاظه نكارة‪ .‬تفرد به إسماعيل بن راف‪44‬ع‬
‫قاص أهل المدينة‪ ،‬وقد اختل‪4‬ف في‪4‬ه‪ ،‬فمنهم من وثق‪4‬ه‪ ،‬ومنهم من ض‪4‬عفه‪ ،‬ونص على نك‪4‬ارة حديث‪4‬ه غ‪4‬ير‬
‫واحد من األئمة‪ ،‬كأحمد بن حنبل‪ ،‬وأبي حاتم الرازي‪ ،‬وعمرو بن علي ال َفالس‪ ،‬ومنهم من ق‪4‬ال في‪4‬ه‪ :‬ه‪4‬و‬
‫متروك‪ .‬وقال ابن عدي‪ :‬أحاديثه كلها فيها نظر إال أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء‪.‬‬
‫وقد اختلف عليه في إسناد هذا الح‪4‬ديث على وج‪4‬وه كث‪4‬يرة‪ ،‬ق‪4‬د أفردته‪4‬ا في ج‪4‬زء على ح‪4‬دة‪ ،‬وأم‪4‬ا‬
‫سياقه‪ ،‬فغريب جدًا‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه جمعه من أحاديث كثيرة‪ ،‬وجعله س‪44‬ياقا واح‪44‬دا‪ ،‬ف‪44‬أنكر علي‪44‬ه بس‪44‬بب ذل‪44‬ك‪.‬‬
‫وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول‪ :‬إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمع فيه ك‪44‬ل الش‪44‬واهد‬
‫لبعض مفردات هذا الحديث‪ ،‬فاهلل أعلم)(‪)2‬‬
‫وبناء على هذا نرى أن الجزاء المعد لهذه الكائنات ـ كما ذكرنا تفاصيله في رسالة (أسرار األقدار)‬
‫ـ يتناسب مع الرحمة اإللهية التي وسعت كل شيء‪ ،‬والرحمة تقتضي أن يعامل كل شيء بحس‪44‬ب حاجت‪44‬ه‬
‫وهواه‪ ..‬وبما أنا ال ندري نوع الحاجات التي تمتلئ بها نفوس هذه الكائن‪4‬ات‪ ،‬ف‪4‬إن األدب يقتض‪4‬ي التوق‪4‬ف‬
‫في المسألة إال أن يرد الدليل المعصوم‪ ،‬وحينها يسلم له م‪44‬ع اعتق‪4‬اد انس‪4‬جامه م‪4‬ع م‪44‬ا ورد في النص‪44‬وص‬
‫المحكمة من رحمة هللا‪.‬‬
‫وقد نقلت لنا النصوص ما يشير إلى بعض التكاليف التي كلفت بها ه‪44‬ذه الكائن‪44‬ات‪ ،‬والطاق‪44‬ات ال‪44‬تي‬
‫منحت لها ألجل ذلك‪ ،‬ومنها قوله ‪ (:‬بينما رجل يسوق بق‪4‬رة ل‪4‬ه‪ ،‬ق‪4‬د حم‪4‬ل عليه‪4‬ا‪ ،‬التفتت إلي‪4‬ه البق‪4‬رة‪،‬‬
‫فقالت‪ (:‬إني لم أخلق لهذا‪ ،‬ولكني إنما خلقت للحرث)(‪)3‬‬
‫وهذا الحديث ال يعني فقط جانبه اإلعجازي‪ ،‬ولعله ‪ ‬لم يقصده بادئ ال‪44‬رأي‪ ،‬وإنم‪44‬ا في‪44‬ه اإلش‪44‬ارة‬
‫إلى أن لكل مخلوق الحدود الضابطة لوظيفته وتس‪4‬خيره‪ ،‬وأن ه‪4‬ذا الحي‪4‬وان ال‪4‬ذي نتص‪4‬وره أعجم ل‪4‬ه من‬
‫الوعي ما يدرك به حقيقته ووظيفته‪.‬‬
‫ولعل الثور الهائج الذي يمتطيه مدعي الفروسية‪ ،‬والن‪4‬اس من حول‪4‬ه يض‪4‬حكون ويص‪4‬فقون يص‪4‬يح‬
‫بملء فيه بما صاحت هذه البقرة‪ ،‬ولكن صياحه ال تسمعه إال آذان الروح‪.‬‬
‫وقد أخبر ‪ ‬عن بعض طاقات هذه الحيوانات ووعيها‪ ،‬ومنها أنها ترى ما ال يراه اإلنسان‪ ،‬فترى‬
‫المالئكة والشياطين‪ ،‬وتنفعل لمرآهما‪ ،‬ق‪4‬ال ‪ (:‬إذا س‪4‬معتم ص‪4‬ياح الديك‪4‬ة فاس‪4‬ألوا هللا من فض‪4‬له‪ ،‬فإنه‪4‬ا‬
‫رأت ملكا وإذا سمعتم نهيق الحمار‪ ،‬فتعوذوا باهلل من الشيطان‪ ،‬فإنه رأى شيطانا)(‪)4‬‬
‫وقد يتصور البعض أن ما ذكره ‪ ‬عن الحمار من قدرته على رؤية الش‪44‬يطان ذم ل‪44‬ه وعيب في‪44‬ه‪،‬‬
‫وهو فهم غير صحيح‪.‬‬
‫‪ )(1‬األحاديث الطوال للطبراني برقم (‪ )36‬وقد خولف فيه أحمد بن الحس‪44‬ن األيلي‪ ،‬ف‪44‬رواه أب‪44‬و الش‪44‬يخ األص‪44‬بهاني في العظم‪44‬ة ب‪44‬رقم (‪ )387‬من طري‪44‬ق‬
‫إسحاق بن راهوية‪ ،‬والبيهقي‪ 4‬في البعث والنشور برقم (‪ )669‬من طريق أبي قالبة الرقاشي كالهما إسحاق‪ -‬وأبو قالبة ‪ -‬من طريق أبي عاصم الض‪44‬حاك‪ ،‬عن‬
‫إسماعيل بن رافع‪ ،‬عن محمد بن أبي زياد‪ ،‬عن محمد بن كعب القرظي‪ ،‬عن رجل من األنصار‪ ،‬عن أبي هري‪44‬رة‪ .‬ب‪44‬ه‪ ،‬وروى من طري‪44‬ق أخ‪44‬رى م‪44‬دارها على‬
‫إسماعيل بن رافع المدني‪ ،‬وقد ضعفه األئمة وتركه الدار قطني‪ ،‬وقال ابن عدي‪( :‬أحاديثه كلها مما فيه نظر)انظر‪ :‬ابن كثير‪.3/287 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫بل إن رسول هللا ‪ ‬أخبر عن طاقة من طاقات الحمار التي ننتفع بها‪ ،‬وهي قدرته على رؤية عالم‬
‫الشر‪ ،‬ورؤية الشر ليست شرا‪ ،‬بل إن العلم بالشر هو الواقي لإلنسان من الوقوع فيه‪.‬‬
‫والحمار بهذه الطاقة‪ ،‬وما ينبه به داعية من دعاة ذكر هللا‪ ،‬وقد قال ‪ (:‬ال ينهق الحمار حتى يرى‬
‫شيطانا أو يتمثل له شيطان ‪ ،‬فإذا كان ذلك فاذكروا هللا وصلوا علي)(‪)1‬‬
‫ولعل ذلك الصوت الم‪4‬زعج للحم‪4‬ار س‪4‬ببه ه‪4‬ذه الرؤي‪4‬ة‪ ،‬وليك‪4‬ون تنبيه‪4‬ا للنف‪4‬وس ح‪4‬تى ال تس‪4‬تريح‬
‫لصوته ـ في حال كونه جميال ـ عن االستعاذة والصالة‪.‬‬
‫والحمار بذلك يمثل جنديا من جنود هللا التي يتعرف الم‪44‬ؤمن من خالله‪44‬ا على أعدائ‪44‬ه‪ ،‬أو ه‪44‬و عين‬
‫من العيون التي يتبصر بها المؤمن بعض عوالم هللا‪.‬‬
‫وهو في كال الدورين يشبه الديك‪ ،‬فالديك هو عيننا على عالم المالئك‪4‬ة‪ ،‬كم‪4‬ا أن الحم‪4‬ار عينن‪4‬ا على‬
‫عالم الشياطين‪.‬‬
‫هذا بعض ما ورد في النصوص‪ ،‬وقد ذكر أبو ذر اهتمام النبي ‪ ‬بالحديث عن هذه العوالم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫( ولقد تركنا رسول هّللا ‪ ،‬وما يقلب طائر جناحيه في السماء إال ذكر لنا منه علماً)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني مرفوعا‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه ابن جرير وأحمد وعبد الرزاق‪ ،‬واللفظ ألحمد‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫ثانيا ـ الكون العابد‬
‫الحياة ال تكفي وحدها لتعقد مواثيق الصداقة بينن‪44‬ا وبين الك‪44‬ون‪ ..‬فكم من حي ه‪44‬و أش‪44‬به بميت‪ ،‬وكم‬
‫من حي هو أعدى لنا من ميت‪..‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن هناك مقاما آخر من مقام‪4‬ات الك‪4‬ون‪ ،‬وخاص‪4‬ة من خواص‪4‬ه ترف‪4‬ع الص‪4‬داقة بينن‪4‬ا وبين‬
‫الكون لتجعلها في مرتبة األخوة في هللا‪ ..‬وتجعل المحبة بيننا وبينه محبة في هللا‪.‬‬
‫هذه الخاصة‪ ..‬وتلك الصفة الرفيعة هي العبودية هلل‪..‬‬
‫وانطالقا من النصوص المقدسة ـ التي هي مرجعنا الوحيد في هذا الباب ـ فإن الكون ليس حيا فقط‪،‬‬
‫بل هو حي عابد‪ ،‬يعرف ربه‪ ،‬ويتوجه له بأنواع التس‪4‬بيح والعب‪4‬ادة‪ ،‬تس‪4‬بيحا يفقه‪4‬ه‪ ،‬وي‪4‬درك معاني‪4‬ه‪ ،‬ق‪4‬ال‬
‫الس ‪ْ 4‬ب ُع َواأْل َرْ ضُ َو َم ْن ِفي ِه َّن َو ِإ ْن ِم ْن َش ‪ْ 4‬ي ٍء ِإاَّل ي َُس ‪4‬بِّحُ ِب َح ْم‪ِ 4‬د ِه َو َل ِك ْن ال َت ْف َقهُ‪44‬ونَ‬ ‫او ُ‬
‫ات َّ‬ ‫تع‪44‬الى‪ ﴿:‬تُ َس ‪4‬بِّحُ َل ‪4‬هُ َّ‬
‫الس ‪َ 4‬م َ‬
‫يحه ُْم ِإنَّهُ َكانَ َح ِليماً َغفُوراً﴾ (االسراء‪)44 :‬‬ ‫َت ْس ِب َ‬
‫ومثلما ذكرنا في تسرب النظرة المادية للنصوص الدالة على حياة الكون‪ ،‬والتي تنطلق من النظ‪44‬رة‬
‫الحسية أو العقلية المستعبدة للحس‪ ،‬فإن هذه النظ‪4‬رة‪ ،‬وم‪4‬ا تس‪4‬تخدمه من فن‪4‬ون التأوي‪4‬ل س‪4‬رى إلى الك‪4‬ون‬
‫العابد وذلك بقصر عبادته على عبودية الداللة دون أن يكون له في ذاته عبودية يتوجه بها بوعيه إلى هللا‪.‬‬
‫فقال هؤالء‪ (:‬إن تسبيح الجمادات أنها ت‪4‬دعو الن‪4‬اظر إليه‪4‬ا إلى أن يق‪4‬ول‪ :‬س‪4‬بحان هللا)‪ ،‬وذل‪4‬ك لع‪4‬دم‬
‫توفر اإلدراك لها كما قال الشاعر‪:‬‬
‫تُلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد‬
‫أي يقول من رآها‪ :‬سبحان خالقها‪.‬‬
‫وهذه النظرة تخالف النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة التي تفيد بأن للكون تس‪44‬بيحه وعبادات‪44‬ه‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫بل إن النصوص لم تكتف بالحديث العام‪ ،‬الذي قد يحتم‪4‬ل التأوي‪4‬ل‪ ،‬ب‪4‬ل ذك‪4‬رت أن‪4‬واع العب‪4‬ادة ال‪4‬تي‬
‫يمارسها الكون‪.‬‬
‫وسنحاول التعرف على بعض هذه الشعائر التعبدية في هذا الفصل‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ القنوت ‪:‬‬
‫أول هذه العبادات‪ ،‬وعلى رأسها‪ ،‬ويتربع ذروة سنامها‪ :‬القنوت هلل تعالى‪ ،‬كم‪4‬ا ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َق‪4‬الُوا‬
‫ض ُكلٌّ َلهُ َقا ِنتُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)116 :‬وق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َل‪4‬هُ َم ْن‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اتَّخَ َذ هَّللا ُ َو َلداً ُسب َْحا َنهُ َبلْ َلهُ َما ِفي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ض ُكلٌّ َلهُ َقا ِنتُونَ ﴾ (الروم‪)26 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ِفي ال َّس َم َ‬
‫والقنوت هو دوام الطاعة‪ ،‬ولذلك يقال للمصلي إذا طال قيامه أو ركوع‪4‬ه أو س‪4‬جوده ه‪4‬و ق‪4‬انت في‬
‫اجداً َو َقا ِئماً َيحْ َذرُ اآْل ِخ َر َة َو َيرْ جُو َرحْ َم َة َر ِّب ِه)(الزم‪44‬ر‪9 :‬‬ ‫ذلك كله‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َّم ْن هُ َو َقا ِن ٌ‬
‫ت آنَا َء اللَّي ِْل َس ِ‬
‫) فاعتبره تعالى قانتا في حال السجود والقيام‪.‬‬
‫ومثله ما ورد في الحديث حين سئل رسول هللا ‪ ‬أي الصالة أفضل فقال‪ (:‬طول القن‪44‬وت)(‪ ،)1‬ولم‬
‫يرد به طول القيام فقط‪ ،‬بل طول القيام والركوع والسجود(‪.)2‬‬
‫وعلى هذا يدل ـ كذلك ـ قوله تعالى‪ِ ﴿:‬إ َّن ِإب َْرا ِهي َم َكانَ أُ َّم ًة َقا ِنتاً هَّلِل ِ َح ِنيفاً َو َل ْم َي ُك ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ﴾ (النحل‪:‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫‪32‬‬
‫‪ )120‬فقد كان إبراهيم تعالى يمارس جميع أنواع الطاعات وفي جميع األوقات‪.‬‬
‫فالقنوت إذن هو دوام الطاعة واستمرارها وشمولها‪.‬‬
‫انطالقا من هذا‪ ،‬فإن القرآن الكريم يخبرنا أن هذا الكون لم يتخل عن قنوته هلل تعالى منذ والدته‪ ،‬بل‬
‫يخبر أن والدته تمثل أعلى درجات القنوت هلل تعالى‪ ،‬فكل ما نراه من أشياء ناتج عن الخض‪44‬وع ألم‪44‬ر هللا‬
‫الواحد ﴿ ُك ْن ﴾‪:‬‬
‫ون﴾ (البقرة‪ ،)117 :‬وق‪44‬ال‬ ‫ضى َأ ْمراً َفإِنَّ َما َيقُولُ َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬ ‫ض َو ِإ َذا َق َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬‫اوا ِ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿:‬ب ِدي ُع ال َّس َم َ‬
‫ون﴾ (النحل‪ ،)40 :‬وقال تعالى‪ِ ﴿:‬إنَّ َما َأ ْمرُ هُ ِإ َذا َأ َرا َد َشيْئاً‬ ‫تعالى‪ِ ﴿:‬إنَّ َما َقوْ لُنَا ِل َش ْي ٍء ِإ َذا َأ َر ْدنَاهُ َأ ْن َنقُ َ‬
‫ول َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬
‫ضى َأ ْمراً َفإِنَّ َم‪44‬ا َيقُ‪44‬ولُ َل ‪4‬هُ ُك ْن‬ ‫يت َفإِ َذا َق َ‬ ‫ون﴾ (يّـس‪ ،)82:‬وقال تعالى‪ ﴿:‬هُ َو الَّ ِذي يُحْ ِيي َويُ ِم ُ‬ ‫ول َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬ ‫َأ ْن َيقُ َ‬
‫ون﴾ (غافر‪)68:‬‬ ‫َف َي ُك ُ‬
‫وقد أجاب العلماء على ما قد يسأله من يستعبده عقله‪ ،‬فيقول‪ :‬في أي حال يقول ل‪44‬ه كن فيك‪44‬ون؟ أفي‬
‫حال عدمه‪ ،‬أم في حال وجوده؟ فإن كان في ح‪4‬ال عدم‪4‬ه اس‪4‬تحال أن ي‪4‬أمر إال م‪4‬أمورا‪ ،‬كم‪4‬ا يس‪4‬تحيل أن‬
‫يكون األمر إال من آمر‪ ،‬وإن كان في حال وجوده فتلك حال ال يجوز أن ي‪4‬أمر فيه‪4‬ا ب‪4‬الوجود والح‪4‬دوث‪،‬‬
‫ألنه موجود حادث؟‬
‫ومن تلك اإلجابات أنه خبر من هللا تعالى عن نف‪44‬وذ أوام‪44‬ره في خلق‪44‬ه الموج‪44‬ود‪ ،‬كم‪44‬ا أم‪44‬ر في ب‪44‬ني‬
‫إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين‪ ،‬وال يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات‪.‬‬
‫أو أن هللا عز وجل عالم بما هو كائن قبل كونه‪ ،‬فكانت األشياء ال‪4‬تي لم تكن وهي كائن‪4‬ة بعلم‪4‬ه قب‪4‬ل‬
‫كونها مشابهة للتي هي موجودة‪ ،‬فجاز أن يقول لها‪ :‬كوني‪ ،‬ويأمرها ب‪44‬الخروج من ح‪44‬ال الع‪44‬دم إلى ح‪44‬ال‬
‫الوجود‪ ،‬لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم‪.‬‬
‫أو أن ذلك خبر من هللا تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان‪ ،‬ووجد من‬
‫غير أن يكون هناك قول يقوله‪ ،‬وإنما هو قضاء يريده‪ ،‬فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قوال‪ ،‬واستدل هؤالء‬
‫على هذا التأويل بقولهم‪ (:‬قد قالت االتساع للبطن الح‪4‬ق) وال ق‪4‬ول هن‪4‬اك‪ ،‬وإنم‪4‬ا أراد أن الظه‪4‬ر ق‪4‬د لح‪4‬ق‬
‫بالبطن‪.‬‬
‫أو قول اآلخر‪:‬‬
‫فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطيارا يقال له قع‬
‫أو ما قال اآلخر‪:‬‬
‫قالت جناحاه لساقيه الحقا ونجيا لحمكما أن يمزقا‬
‫وعن هذا المعنى عبر الغزالي بقوله‪ (:‬ومن هذا القبـيل في كنايته عن االقتدار قوله تعالى‪ ﴿:‬إنَّما َقوْ لُنَا‬
‫ون﴾‪ ،‬فإن ظاهره ممتنع إذ قوله (كن) إن كان خطاباً للشيء قبل وجوده‬ ‫ول َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬ ‫أن َنقُ َ‬ ‫أر ْدنَاهُ ْ‬‫شيء إ َذا َ‬ ‫ِل ٍ‬
‫فهو محال إذ المعدوم ال يفهم الخطاب حتى يمتثل وإن كان بعد الوج‪4‬ود فه‪4‬و مس‪4‬تغن عن التك‪4‬وين‪ ،‬ولكن‬
‫لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهيم غاية االقتدار عدل إليها)(‪)1‬‬
‫ومن اإلجابات في هذا ما يسمى (باألعيان الثابتة في العدم)‪ ..‬وأن ثبوت األشياء في حال عدمها هو‬

‫‪ ،‬ففي ح‪44‬ديث‬ ‫الصالة يستلزم طول القيام‪ ،‬كالركوع‪ 4‬مثال ال يكون أطول من القيام‪ ،‬كم‪44‬ا ع‪44‬رف باالس‪44‬تقراء‪ 4‬من ص‪44‬نيعه ‪‬‬ ‫قال ابن حجر‪ (:‬طول‬ ‫‪)(2‬‬
‫الكسوف‪ :‬فركع نحوا من قيامه) فتح الباري‪.3/19:‬‬
‫‪ )(1‬اإلحياء‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫الذي جعلها أهال ألن تخاطب وتكلف بالخروج من العدم إلى الوجود(‪.)1‬‬
‫وكل ذلك يمكن أن يكون صحيحا‪ ،‬ولكن األصح هو التسليم هلل في قوله‪ ،‬واعتبار ما قاله حقيقة ق‪4‬د‬
‫ال تستوعب عقولنا صورتها‪ ..‬وليس للعقل المحدود أن يتجرأ على تصور الالمحدود‪.‬‬
‫وهذا التفسير لطريقة وجود الكون وصدوره عن خالقه يقي المؤمن من التص‪44‬ورات المختلف‪44‬ة ال‪44‬تي‬
‫حاول البشر بعقولهم الضعيفة أن يصوروا بها هذا الصدور‪ ،‬ثم يؤسسوا عالقة الكون بربه على أساسه‪.‬‬
‫يقول سيد قطب موضحا التصور اإلسالمي ح‪4‬ول ه‪4‬ذه المس‪4‬ألة الخط‪4‬يرة‪ (:‬لق‪4‬د ص‪4‬در الك‪4‬ون عن‬
‫خالقه‪ ،‬عن طريق توجه اإلرادة المطلقة القادرة‪ :‬كن‪ ،‬فيكون‪ ..‬فتوجه اإلرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده‬
‫بوجود هذا الكائن‪ ،‬على الصورة المقدرة له‪ ،‬بدون وسيط من قوة أو مادة‪ ..‬أما كي‪44‬ف تتص‪44‬ل ه‪44‬ذه اإلرادة‬
‫التي ال نعرف كنهها‪ ،‬بذلك الكائن المراد صدوره عنها‪ ،‬فذلك هو السر الذي لم يكش‪44‬ف لإلدراك البش‪44‬ري‬
‫عنه)(‪)2‬‬
‫أما سبب عدم هذا الكشف‪ ،‬فراجع إلى أن طاقات البشر من المحدودية بحيث ال تصل إلى مثل ه‪44‬ذا‬
‫اإلدراك‪.‬‬
‫فكيف تدرك الطاقات البش‪44‬رية تفس‪44‬ير الص‪44‬لة بين األم‪44‬ر اإللهي والكينون‪44‬ة‪ ،‬وهي ال ت‪44‬درك أس‪44‬رار‬
‫الصالت الموجودة في العوالم التي تعمرها‪ ،‬والتي تدعي أنها تفهمها وتبالغ في فهمها؟‬
‫وهل يمكن أن نشرح لصبي صغير نظرية النسبية ـ مثال ـ أو أن نجيبه على األقل على التس‪44‬اؤالت‬
‫الكثيرة التي يبعثها فضوله؟‬
‫أما السبب في محدودية الطاقة البشرية فهو بكل بساطة ـ كما يق‪4‬ول س‪4‬يد ـ أن ذل‪4‬ك ( ال يلزمه‪4‬ا في‬
‫وظيفتها ال‪4‬تي خلقت له‪4‬ا وهي خالف‪4‬ة األرض وعمارته‪4‬ا‪ ..‬وبق‪4‬در م‪4‬ا وهب هللا لإلنس‪4‬ان من الق‪4‬درة على‬
‫كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته‪ ،‬وسخر له االنتفاع بها‪ ،‬بق‪44‬در م‪44‬ا زوى عن‪44‬ه األس‪44‬رار األخ‪44‬رى‬
‫التي ال عالقة لها بخالفته الكبرى)(‪)3‬‬
‫أما الفلسفات التي هي عصارة الفكر البشري المعتمد على نفسه‪ ،‬والمغتر بقوته‪ ،‬فقد ض‪44‬ربت ( في‬
‫تيه ال منارة فيه‪ ،‬وهي تحاول كشف هذه األسرار ؛ وتفترض فروضا تنبع من اإلدراك البش‪44‬ري ال‪44‬ذي لم‬
‫يهيأ لهذا المجال‪ ،‬ولم يزود أصال بأدوات المعرفة فيه واالرتياد‪ ،‬فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرف‪44‬ع‬
‫مستوياتها‪ ،‬مضحكة إلى حد يحير اإلنسان‪:‬كيف يصدر هذا عن فيلسوف! وما ذلك إال ألن أص‪4‬حاب ه‪4‬ذه‬
‫الفلسفات حاولوا أن يخرجوا باإلدراك البشري عن طبيعة خلقته‪ ،‬وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له! فلم‬
‫ينتهوا إلى شيء يطم‪4‬أن إلي‪4‬ه ؛ ب‪4‬ل لم يص‪4‬لوا إلى ش‪4‬يء يمكن أن يحترم‪4‬ه من ي‪4‬رى التص‪4‬ور اإلس‪4‬المي‬
‫ويعيش في ظله)(‪)4‬‬
‫وقد عصم هللا المسلمين المهتدين بنور القرآن الكريم من الوقوع في هذه المتاهات‪ ،‬أو ( أن يحاولوا‬
‫هذه المحاول‪4‬ة الفاش‪4‬لة‪ ،‬الخاطئ‪4‬ة المنهج ابت‪4‬داء‪ ،‬فلم‪4‬ا أن أراد بعض متفلس‪4‬فتهم مت‪4‬أثرين بأص‪4‬داء الفلس‪4‬فة‬
‫اإلغريقية ‪ -‬على وجه خاص ‪ -‬أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى‪ ،‬باءوا بالتعقيد والتخليط‪ ،‬كما ب‪44‬اء أس‪44‬اتذتهم‬
‫‪ )(1‬وهذا كما هو معلوم قول ابن عربي‪ ،‬وقد ذكر مثله بعض المعتزلة‪ ،‬وليس في هذا القول ما يمكن أن يبدع أو يكفر به أحد من الناس‪ ،‬فالصفر‪ ..‬وإن‬
‫لم يكن له وجود عيني إال أن له وجودا ذهنيا اعتباريا‪ ،‬باإلضافة إلى كل ما نحلم به من أشياء ليست موجودة‪ ،‬فلوال ثبوتها مع عدمها ما أمكننا توهمها‪4.‬‬
‫هذا عن القول أما ما قد يستلزمه هذا القول من مفاهيم خاطئة‪ ..‬فذلك شيء آخر‪ ،‬والتوجه بالتخطئة حينئذ يكون لالستلزام ال للقول‪.‬‬
‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.1/106 :‬‬
‫‪ )(3‬في ظالل القرآن‪.1/106 :‬‬
‫‪ )(4‬في ظالل القرآن‪.1/106 :‬‬
‫‪34‬‬
‫اإلغريق‪ ،‬ودسوا في التفكير اإلسالمي ما ليس من طبيعته‪ ،‬وفي التصور اإلسالمي ما ليس من حقيقت‪44‬ه‪..‬‬
‫وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة العقل البشري وراء مجاله‪ ،‬وفوق طبيعة خلقته وتكوينه)(‪)1‬‬
‫فالقرآن الكريم إذن يفسر سر والدة الكون الذي تاه فيه الفالسفة وغيرهم‪ ،‬ثم خبط‪44‬وا بعق‪44‬ولهم خب‪44‬ط‬
‫عشواء‪ ،‬بهذا التفسير البسيط المعقول الذي تؤيده كل األدلة‪ ،‬وهو أن كل شيء قانت هلل‪ ..‬وال يمكن‪44‬ه إال أن‬
‫يقنت هلل‪.‬‬
‫***‬
‫وقنوت األشياء هلل‪ ،‬وخضوعها ألمره (كن) مستمر في كل األحوال‪ ،‬فالكون الذي أطاع هللا ابت‪44‬داء‪،‬‬
‫فخرج إلى الوجود بأمر (كن) ال زال يجيب هللا‪ ..‬وسيظل يجيبه‪.‬‬
‫َاص َي ِت َها)(هود‪56 :‬‬ ‫آخذ ِبن ِ‬‫ٌ‬ ‫وإلى هذه االستمرارية في القنوت اإلشارة بقوله تعالى‪َ ﴿:‬ما ِم ْن دَابَّ ٍة ِإاَّل هُ َو ِ‬
‫وت ُكلِّ َش ْي ٍء َو ِإ َل ْي ِه تُرْ َجعُونَ ﴾ (يّـس‪)83:‬‬ ‫)‪ ،‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬ف ُسب َْحانَ الَّ ِذي ِب َي ِد ِه َم َل ُك ُ‬
‫ال َل َها‬ ‫خَان َف َق َ‬
‫اء َو ِه َي ُد ٌ‬ ‫وقد أقرت الكائنات بهذه الطاعة هلل تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪ ﴿:‬ثُ َّم ا ْست ََوى ِإ َلى ال َّس َم ِ‬
‫طا ِئ ِعينَ ﴾ (فصلت‪)11 :‬‬ ‫طوْ عاً َأوْ َكرْ هاً َقا َلتَا َأ َت ْينَا َ‬ ‫ض ا ْئ ِت َيا َ‬ ‫َو ِلأْل َرْ ِ‬
‫وهذا هو الجواب اإللهي عن كل التساؤالت المحيرة التي يتيه فيها الغافل‪ ،‬وينكرها الملحد‪.‬‬
‫فعندما تعجبت مريم ـ عليها السالم ـ أن تلد من غير زواج‪ ،‬أخبرها هللا تعالى بأن أمره وح‪44‬ده ك‪44‬اف‬
‫ض‪4‬ى‬ ‫ق َم‪44‬ا َي َش‪4‬ا ُء ِإ َذا َق َ‬‫ال َك َذ ِل ِك هَّللا ُ َي ْخلُ‪ُ 4‬‬ ‫ت َربِّ َأنَّى َي ُك ُ‬
‫ون ِلي َو َل ٌد َو َل ْم َي ْم َس ْس ِني َب َشرٌ َق َ‬ ‫في ذلك‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬قا َل ْ‬
‫ون﴾ (آل عمران‪)47:‬‬ ‫َأ ْمراً َفإِنَّ َما َيقُولُ َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬
‫وعندما تعجب النصارى من صدور خارقة ميالد المسيح من غير حصول ما تعارف علي‪44‬ه الن‪44‬اس‬
‫‪4‬ل‬‫من أسباب‪ ،‬ودعاهم ذلك إلى الخطأ في تصور طبيعة المسيح تعالى‪ ،‬رد عليهم هللا تعالى بقول‪44‬ه‪ِ ﴿:‬إ َّن َم َث‪َ 4‬‬
‫ون﴾ (آل عمران‪)59 :‬‬ ‫ال َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬ ‫ب ثُ َّم َق َ‬‫ِعي َسى ِع ْن َد هَّللا ِ َك َم َث ِل آ َد َم خَ َل َقهُ ِم ْن تُ َرا ٍ‬
‫‪4‬و‬ ‫وعندما تعجب المشركون من أمر البعث أخبرهم هللا تع‪4‬الى أن ذل‪4‬ك ليس عجب‪4‬ا‪ ،‬فاهلل تع‪4‬الى ﴿ هُ َ‬
‫ور َع‪44‬ا ِل ُم‬ ‫ون َقوْ لُهُ ْال َح ُّق َو َلهُ ْال ُم ْل ُك َي‪44‬وْ َم يُ ْن َف ُخ ِفي ُّ‬
‫الص ‪ِ 4‬‬ ‫ض ِب ْال َح ِّق َو َيوْ َم َيقُولُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الَّ ِذي خَ َل َق ال َّس َم َ‬
‫ب َوال َّش َها َد ِة َوهُ َو ْال َح ِكي ُم ْالخَ ِبيرُ﴾ (األنعام‪)73 :‬‬ ‫ْال َغ ْي ِ‬
‫وهذا القنوت الذي يتصف ب‪4‬ه الك‪4‬ون‪ ،‬فيجعل‪4‬ه في منتهى الخض‪4‬وع هلل ال يس‪4‬تثنى من‪4‬ه ش‪4‬يء ح‪4‬تى‬
‫الكفار والملحدين‪ ،‬فإنهم يقنتون هلل من حيث ال يعلمون‪.‬‬
‫وقد أخبر القرآن الكريم أن من قنوت أجسادهم ما تشهد به عليهم يوم القيامة‪ ،‬كما ق‪44‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ي‪44‬وْ َم‬
‫َت ْش َه ُد َع َل ْي ِه ْم َأ ْل ِس َنتُه ُْم َو َأ ْي ِدي ِه ْم َو َأرْ جُ لُه ُْم ِب َما َكانُوا َيعْ َملُونَ ﴾ (النور‪)24 :‬‬
‫وقد صور ‪ ‬ذلك في مجلس من مجالسه مع الص‪4‬حابة نقل‪4‬ه لن‪4‬ا أنس بقول‪4‬ه‪ :‬كن‪4‬ا عن‪4‬د الن‪4‬بي ‪‬‬
‫فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال‪ :‬أتدرون م َّم أضحك؟ قلنا‪ :‬هّللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪ :‬من مجادلة العبد ربه‪،‬‬
‫علي ش‪4‬اهداً إال من نفس‪4‬ي‪ ،‬فيق‪4‬ول‪ :‬كفى‬ ‫يقول‪ :‬يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول‪ :‬بلى‪ ،‬فيق‪4‬ول‪ :‬ال أج‪4‬يز َّ‬
‫بنفسك اليوم عليك شهيداً‪ ،‬وبالكرام عليك شهوداً‪ ،‬فيختم على فيه ويقال ألركانه‪ :‬انطقي‪ ،‬فتنطق بعمل‪44‬ه‪ ،‬ثم‬
‫لكن وسحقاً‪ ،‬فعنكن كنت أناضل)(‪)2‬‬ ‫يخلى بينه وبين الكالم‪ ،‬فيقول‪ :‬بعداً َّ‬
‫وقد أحصى ابن القيم لقنوت الكفار غير ما ذكرنا من قنوت جوارحهم خمسة أن‪44‬واع كله‪44‬ا مم‪44‬ا ورد‬
‫به التنزيل‪ ،‬وهي‪ (:‬قنوتهم لخلقه وحكمه وأمره قدرا واعترافهم بربوبيته واضطراهم إلى مسألته والرغبة‬
‫في ظالل القرآن‪.1/106 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫أحمد‪ ،3/94 :‬أبو يعلى‪ ،7/55 :‬الحاكم‪.4/644 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪35‬‬
‫إليه ودخولهم فيما يأمر به وإن كانوا كارهين وجزاؤهم على أعماله ودخولهم فيما يأمر به م‪44‬ع الكراه‪44‬ة)‬
‫(‪)1‬‬
‫فالقنوت شامل للجميع‪ ،‬والف‪4‬رق الوحي‪4‬د في ذل‪4‬ك ه‪4‬و أن الم‪4‬ؤمن يقنت ل‪4‬ه طوع‪4‬ا وغ‪4‬يره يقنت ل‪4‬ه‬
‫ال﴾‬ ‫ص‪ِ 4‬‬ ‫طوْ ع‪4‬اً َو َكرْ ه‪4‬اً َو ِظاللُه ُْم ِب ْال ُغ‪ُ 4‬د ِّو َواآْل َ‬ ‫ض َ‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫اوا ِ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬‫كرها‪ ،‬كما قال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬وهَّلِل ِ َي ْس‪4‬جُ ُد َم ْن ِفي َّ‬
‫(الرعد‪)15 :‬‬
‫ين هَّللا ِ َي ْب ُغ‪44‬ونَ َو َل‪4‬هُ‬ ‫ومثل القنوت اإلسالم‪ ،‬فإنه دين الكون جميعا طوعا أو كرها‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َف َغي َْر ِد ِ‬
‫طوْ عاً َو َكرْ هاً َو ِإ َل ْي ِه يُرْ َجعُونَ ﴾ (آل عمران‪)83 :‬‬
‫ض َ‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫َأ ْس َل َم َم ْن ِفي ال َّس َم َ‬
‫فالكون جميعا يستسلم لرب واحد‪ ،‬يتلقى منه قوانينه وتوجيهاته‪ ،‬فل‪44‬ذلك حف‪44‬ظ من الفس‪44‬اد‪ ،‬ولم ي‪44‬دب‬
‫إليه ما دب للبشر العاقل الذي اختار الكفر من فس‪4‬اد‪ ،‬كم‪4‬ا ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ل‪4‬وْ َك‪4‬انَ ِفي ِه َم‪4‬ا آ ِل َه‪4‬ةٌ ِإاَّل هَّللا ُ َل َف َس‪َ 4‬دتَا‬
‫صفُونَ ﴾ (االنبياء‪)22:‬‬ ‫ش َع َّما َي ِ‬ ‫َف ُسب َْحانَ هَّللا ِ َربِّ ْال َعرْ ِ‬
‫‪ 2‬ـ السجود‪:‬‬
‫ومن عبادات الكون التي نص عليها القرآن الكريم (السجود)‪ ..‬وهي عبودية تجع‪4‬ل من الك‪4‬ون كل‪4‬ه‬
‫مسجدا يقيم شعائره‪ ،‬كل بطريقته الخاصة‪ ،‬بحسب قابليته‪ ،‬ومدى نيله لتجليات األسماء الحسنى‪.‬‬
‫الش‪ْ 4‬مسُ َو ْال َق َم‪44‬رُ َوال ُّنجُ‪44‬و ُم‬ ‫ض َو َّ‬ ‫ت َو َم ْن ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫‪4‬ر َأ َّن هَّللا َ َي ْس‪4‬جُ ُد َل‪4‬هُ َم ْن ِفي َّ‬ ‫ق‪4‬ال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬أ َل ْم َت‪َ 4‬‬
‫ق َع َل ْي ِه ْال َع َذابُ َو َم ْن يُ ِه ِن هَّللا ُ َف َما َلهُ ِم ْن ُم ْك ِر ٍم ِإ َّن هَّللا َ َي ْف َعلُ‬ ‫َو ْال ِج َبالُ َوال َّش َجرُ َوال َّد ُوابُّ َو َك ِثيرٌ ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس َو َك ِثيرٌ َح َّ‬
‫َما َي َشا ُء﴾ (الحج‪)18:‬‬
‫والسجود كما يعبر القرآن الكريم سجود شامل يشمل الشخوص والظالل‪ ،‬أو الجواهر واألعراض‪،‬‬
‫ال﴾ (الرعد‪15 :‬‬ ‫ص ِ‬ ‫طوْ عاً َو َكرْ هاً َو ِظاللُه ُْم ِب ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ‬ ‫ض َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿:‬وهَّلِل ِ َيسْجُ ُد َم ْن ِفي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫)‬
‫وقد صور القرآن الكريم شكال من أشكال السجود بقوله تعالى‪َ ﴿:‬أ َو َل ْم َي َروْ ا ِإ َلى َما خَ َل‪َ 4‬ق هَّللا ُ ِم ْن َش‪ْ 4‬ي ٍء‬
‫َاخرُونَ ﴾ (النحل‪)48:‬‬ ‫ين َوال َّش َما ِئ ِل سُجَّداً هَّلِل ِ َوهُ ْم د ِ‬ ‫َي َت َفيَّأُ ِظاللُهُ ع َِن ْال َي ِم ِ‬
‫وقد خ‪4‬اض بعض الن‪4‬اس بعق‪4‬ولهم المح‪4‬دودة في ه‪4‬ذا المج‪4‬ال‪ ،‬واس‪4‬تبعدوا أن تس‪4‬جد الظالل‪ ،‬وهي‬
‫أعراض تفتقر إلى الجوهر‪ ،‬وهو فهم مح‪4‬دود منش‪4‬ؤه تعميم المع‪4‬ارف البش‪4‬رية على الك‪4‬ون جميع‪4‬ا‪ ،‬وم‪4‬ا‬
‫دروا أن للعرض عقله وكيانه وتميزه كما للجوهر عقله وكيانه وتميزه‪.‬‬
‫وقد أخبر رسول هللا ‪ ‬أن للموت الذي هو عرض من األعراض صورة تظهر ي‪4‬وم القيام‪4‬ة على‬
‫هيئة كبش يذبح بين الجنة والنار(‪.)2‬‬
‫ولذلك فإن هذه األمور تؤخذ تعقال وتذوقا‪ ،‬ال تخيال وتصورا‪ ،‬فحس اإلنسان ال يدرك إال ما هو في‬
‫دائرته المحدودة‪ ،‬وهي من المحدودية بحيث ال يصح االعتماد عليها في تصوير ما غاب عن الحس‪.‬‬
‫ومن ذلك ما عبر به ‪ ‬عن ظاهرة الكسوف التي نكتفي بتفسيرنا المادي لها‪ ،‬فإن‪44‬ه ‪ ‬يخ‪44‬بر ب‪44‬أن‬
‫لها تفسيرا روحيا نص عليه بقوله ‪ (:‬إن الشمس والقمر خلقان من خلق هللا وإنهم‪44‬ا ال ينكس‪44‬فان لم‪44‬وت‬
‫أحد وال لحياته ولكن هللا عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬رسالة في قنوت األشياء‪.27 :‬‬


‫نص الحديث‪ (:‬إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال‪ :‬يا أهل الجنة! ه‪44‬ل تعرف‪44‬ون‬ ‫‪)(2‬‬
‫هذا؟ فيشرئبون فينظرون ويقولون‪ :‬نعم هذا الموت وكلهم قد رآه‪ ،‬فيؤمر به فيذبح‪ ،‬ويقال‪ :‬يا أهل الجنة خلود وال موت وي‪44‬ا أه‪44‬ل الن‪44‬ار! خل‪44‬ود وال م‪44‬وت) رواه‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫فمعرفتنا بالمواقيت الدقيقة المحددة للكسوف‪ ،‬ومعرفتنا باألس‪44‬باب الظ‪44‬اهرة لحص‪44‬وله ال تنفي ه‪44‬ذا‪،‬‬
‫فقد يكون للشيء الواحد األسباب الكثيرة‪ ،‬فال ينبغي أن ننكر ما نجه‪44‬ل من األس‪44‬باب‪ ،‬وال ينبغي أن نك‪44‬ون‬
‫من ضيق األفق‪ ،‬وقصور الهمة بحيث نكتفي بما لدينا من معارف(‪.)1‬‬
‫وقد يرزق هللا بعض خلقه ممن صفت مرآة قلوبهم رؤية سجود الكائنات لبارئها‪.‬‬
‫ومن ذلك ما روى ابن عباس قال‪ :‬جاء رجل‪ ،‬فقال‪ (:‬يا رسول هللا إني رأيتني الليلة وأنا ن‪44‬ائم ك‪44‬أني‬
‫أصلي خلف شجرة فسجدت‪ ،‬فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها‪ ،‬وهي تقول‪( :‬اللهم اكتب لي بها عن‪44‬دك‬
‫أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عن‪4‬دك ذخ‪4‬را وتقبله‪4‬ا م‪4‬ني كم‪4‬ا تقبلته‪4‬ا من عب‪4‬دك داود) ق‪4‬ال ابن‬
‫عباس‪ (:‬فقرأ رسول هللا ‪ ‬سجدة ثم سجد فسمعته‪ ،‬وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)(‪)2‬‬
‫وألجل هذه العبودية الخاشعة هلل نهى ‪ ‬عن إتخاذ ظهور الدواب منابر ( ف‪4‬رب مركوب‪4‬ة خ‪4‬يرا أو‬
‫أكثر ذكرا هلل تعالى من راكبها)(‪)3‬‬
‫وهذا ما يجعل المؤمن يخفف من غل‪4‬واء كبري‪4‬اه‪ ،‬وه‪4‬و يمش‪4‬ي مط‪4‬أطئ ال‪4‬راس بخطى وئي‪4‬دة على‬
‫ض َو َل ْن َت ْبلُ ‪َ 4‬غ‬ ‫ض َم َرح ‪4‬اً ِإنَّكَ َل ْن ت َْخ‪ِ 4‬ر َق اأْل َرْ َ‬ ‫ش ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫األرض الس‪44‬اجدة هلل‪ ،‬ممتثال قول‪44‬ه تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬وال ت َْم ِ‬
‫ال﴾ (االسراء‪)37 :‬‬‫طو ً‬ ‫ْال ِج َب َ‬
‫ال ُ‬
‫أما هيئة السجود‪ ،‬والتي قد تستهوي الخيال‪ ،‬وقد تحجب العق‪4‬ل عن الحق‪4‬ائق إن وق‪4‬ف عن‪4‬دها‪ ،‬ف‪4‬إن‬
‫لكل شيء سجوده الخاص الذي يعبر به عن منتهى خضوعه وذله هلل تعالى‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪ (:‬والسجود من جنس القنوت‪ ،‬فإن السجود الشامل لجميع المخلوقات‪ ،‬وه‪4‬و المتض‪4‬من‬
‫لغاية الخضوع والذل‪ ،‬وكل مخلوق فقد تواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرت‪44‬ه‪ ،‬وال يجب أن يك‪44‬ون‬
‫سجود كل شيء مثل سجود اإلنسان على سبعة أعضاء ووضع جبهة في رأس مدور على ال‪44‬تراب‪ ،‬ف‪44‬إن‬
‫هذا سجود مخصوص من اإلنسان)(‪)4‬‬
‫بل إن األديان تختل‪4‬ف ش‪4‬عائرها وطقوس‪4‬ها في س‪4‬جودها‪ ،‬فال يع‪4‬ني الس‪4‬جود بالض‪4‬رورة م‪4‬ا يفعل‪4‬ه‬
‫المسلمون‪ ،‬ق‪4‬ال ابن القيم‪ (:‬من األمم من يرك‪4‬ع وال يس‪4‬جد وذل‪4‬ك س‪4‬جودها‪ ..‬ومنهم من يس‪4‬جد على جنب‬
‫كاليهود‪ ..‬فالسجود اسم جنس‪ ،‬ولكن لما شاع سجود اآلدميين المسلمين صار كثير من الناس يظن أن هذا‬
‫هو سجود كل أحد)(‪)5‬‬
‫ومثل هذا سائر األلفاظ‪ ،‬فإنه ( لما كان المسلمون يصلون الصالة المعروفة صار يظن من يظن أن‬
‫كل من صلى فهكذا يصلي‪ ،‬حتى صار بعض أهل الكت‪44‬اب ينف‪44‬رون من قولن‪44‬ا‪ :‬إن هللا يص‪44‬لي‪ ،‬وينزهون‪44‬ه‬
‫عن ذلك‪ ،‬فإنهم لم يعرفوا من لفظ الصالة إال دعاء المصلي لغ‪4‬يره وخض‪4‬وعه ل‪4‬ه‪ ،‬وال ريب أن هللا م‪4‬نزه‬
‫عن ذلك لكن ليست هذه صالته سبحانه)(‪)6‬‬
‫ومن ه‪44‬ذا الب‪44‬اب م‪44‬ا روي في الح‪44‬ديث أن رس‪44‬ول هللا ‪ ‬ق‪44‬ال‪(:‬ص‪44‬وت ال‪44‬ديك ص‪44‬الته‪ ،‬وض‪44‬ربه‬
‫يحه ُْم ﴾‬ ‫بجناحيه سجوده وركوعه) ثم تال ه‪4‬ذه اآلي‪4‬ة‪َ ﴿:‬و ِإ ْن ِم ْن َش‪ْ 4‬ي ٍء ِإاَّل ي َُس‪4‬بِّحُ ِب َح ْم‪ِ 4‬د ِه َو َل ِك ْن ال َت ْف َقهُ‪4‬ونَ ت َْس‪ِ 4‬ب َ‬
‫(االسراء‪)7()44 :‬‬
‫انظر ما يرتبط بهذا من تفاصيل علمية‪ ،‬ومن دالئل اإلعجاز العلمي‪ :‬رسالة (معجزات علمية)‬ ‫‪)(1‬‬
‫الترمذي‪.2/472 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رسالة في قنوت األشياء‪.27 :‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رسالة في قنوت األشياء‪.27 :‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رسالة في قنوت األشياء‪ ،27 :‬وقد ذكرنا رد هذه الشبهة في رسالة (معجزات‪ 4‬حسية)‬ ‫‪)(6‬‬
‫رواه ابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الذكر‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪37‬‬
‫وعن ابن عب‪4‬اس ق‪4‬ال‪ :‬ين‪44‬ادي من‪4‬اد من الس‪44‬ماء‪ ،‬اذك‪4‬روا هللا ي‪44‬ذكركم‪ ،‬فال يس‪4‬معها أول من ال‪44‬ديك‪،‬‬
‫فيصيح فذلك تسبيحه(‪.)1‬‬
‫ومنه ما روي عن سهل بن عبدهللا أنه سئل‪ (:‬أيس‪4‬جد القلب) ق‪4‬ال‪ (:‬نعم س‪4‬جدة ال يرف‪4‬ع رأس‪4‬ه منه‪4‬ا‬
‫أبدا)‬
‫ومنه ما روي أن أهل الجنة في الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس في الدنيا(‪.)2‬‬
‫وعلى ه‪44‬ذا ينبغي أن تفس‪44‬ر اآلي‪44‬ات واألح‪44‬اديث ل‪44‬ترفع ك‪44‬ل وهم أو إش‪44‬كال أو ش‪44‬بهة ق‪44‬د يزرعه‪44‬ا‬
‫المغرضون‪.‬‬
‫ومع ذلك حاول بعض الناس أن يدخل بعقله إلى ه‪4‬ذا المي‪4‬دان‪ ،‬ف‪4‬ذكر بعض‪4‬هم هيئ‪4‬ة س‪4‬جود النب‪4‬ات‬
‫والشجر‪ ،‬فذكر أن سجودها هو تفيؤ ظاللها‪ ،‬وهو ما ال دليل عليه‪ ،‬فللنبات سجوده كما للظالل سجودها‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن هؤالء الذين تكلفوا هذا مقرين بالسجود متكلفين لهيئته خير من الذين راحوا يؤولون‬
‫السجود‪ ،‬فيحولونه إلى سجود مجازي ال حقيقة له‪.‬‬
‫ومن هؤالء من ذهب إلى أن السجود هو مجرد الخضوع الخالي من أي مظهر‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫بجيش تضل البلق في حجراته ترى األكم فيه سجدا للحوافر‬
‫ومن ذلك ما ذكره الرازي عن بعضهم‪ ،‬فق‪4‬ال‪ (:‬إن الس‪4‬جود عب‪4‬ارة عن االنقي‪4‬اد والخض‪4‬وع وع‪4‬دم‬
‫االمتناع وكل من في السموات واألرض ساجد هلل بهذا المعنى‪ ،‬ألن قدرته ومشيئته نافذة في الكل وتحقيق‬
‫القول فيه أن ما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته هو الذي تكون ماهيته قابل‪4‬ة للع‪4‬دم والوج‪4‬ود على الس‪4‬وية‬
‫وكل من كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه أو بالعكس‪ ،‬إال بتأثير موجود ومؤثر فيك‪44‬ون وج‪44‬ود‬
‫كل ما سوى الحق سبحانه بإيجاده وعدم كل ما سواه بإعدامه‪ ،‬فتأثيره نافذ في جميع الممكنات في ط‪44‬رفي‬
‫اإليجاد واإلعدام‪ ،‬وذلك هو السجود وهو التواضع والخضوع واالنقياد)(‪)3‬‬
‫ومن ذل‪4‬ك م‪4‬ا ذك‪4‬ر أن الم‪4‬راد من س‪4‬جودها ش‪4‬هادتها وداللته‪4‬ا على الخ‪4‬الق‪ ،‬كم‪4‬ا ق‪4‬ال أب‪4‬و الف‪4‬رج‪:‬‬
‫( الس‪4‬اجدون على ض‪4‬ربين‪ :‬أح‪4‬دهما من يعق‪4‬ل فس‪4‬جوده عب‪4‬ادة‪ ،‬والث‪4‬اني من ال يعق‪4‬ل فس‪4‬جوده بي‪4‬ان أث‪4‬ر‬
‫الصنعة فيه والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق)(‪)4‬‬
‫وهذه األقوال ـ وإن كانت معانيها صحيحة في ذاتها ـ إال أنه ال عالقة لها بمعنى السجود ال‪44‬ذي ورد‬
‫في النصوص‪ ..‬وأدل دليل على هذه المنافاة هو أن النصوص الكثيرة دالة على طواعية س‪44‬جود األش‪44‬ياء‪،‬‬
‫ولو كان األمر كما ذكروا لما كانت في ذلك أي طواعية‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫بل هذا يتنافى مع ما يدل على تجدد ذلك منها‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ ﴿:‬إنَّا َس َّخرْ نَا ال ِج َب َ‬
‫ال َم َعهُ يُ َسبِّحْ نَ ِبال َع ِش‪ِّ 4‬ي‬
‫صافَّا ٍ‬
‫ت ُك‪44‬لٌّ‬ ‫الطيْرُ َ‬ ‫ض َو َّ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫اق﴾ (صّ ‪ ،)18:‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬أ َل ْم ت ََر َأ َّن هَّللا َ يُ َسبِّحُ َلهُ َم ْن ِفي ال َّس َم َ‬ ‫َواأْل ِ ْش َر ِ‬
‫يحهُ َوهَّللا ُ َع ِلي ٌم ِب َما َي ْف َعلُونَ ﴾ (النور‪ ،)41 :‬فقد أخبر تعالى أنه يعلم ذلك‪ ،‬بينما داللته‪4‬ا على‬ ‫صال َتهُ َو َت ْس ِب َ‬‫َق ْد َع ِل َم َ‬
‫هللا تعالى يعلمها جميع الناس‪.‬‬
‫ومن ذلك ما أخبر هللا تعالى به من كالم الهدهد والنمل‪ ،‬وأن سليمان علم منطق الطير بما ي‪44‬دل على‬
‫اإلختصاص‪.‬‬

‫رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫التفسير الكبير‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رسالة في قنوت األشياء‪.43 :‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪38‬‬
‫ومن ذلك ( أنه قسم السجود إلى طوع وكره‪ ،‬وانفعاله‪4‬ا لمش‪4‬يئة ال‪4‬رب وقدرت‪4‬ه ال ينقس‪4‬م إلى ط‪4‬وع‬
‫وكره‪ ،‬وال يوصف ذلك بطوع منها وال كره‪ ،‬فإن دليل فعل الرب فيها ليس هو فعل منه‪44‬ا ألبت‪4‬ة‪ ،‬والق‪4‬رآن‬
‫يدل على أن السجود والتسبيح أفعال لهذه المخلوقات‪ ،‬وكون الرب خالقا لها إنما هو كونها مخلوقة لل‪44‬رب‬
‫ليس فيه نسبة أمر إليها‪ ،‬ويبين ذلك أنه خص الظل بالسجود بالغدو واآلصال والظل متى كان وحيث كان‬
‫مخلوق مربوب وهللا تعالى جعل الظلمات والنور)(‪)1‬‬
‫أما البيت الذي استشهدوا به‪ ،‬فال يعتبر دليال شرعيا له حجيته من ناحية‪ ،‬ومن ناحي‪44‬ة ثاني‪44‬ة‪ ( ،‬فه‪44‬ذا‬
‫خضوع جماد لجماد‪ ،‬وال يلزم أن يكون سائر أنواع الخضوع مثل هذا‪ ،‬وإنما يشترك في نوع الخضوع‪،‬‬
‫وليس خضوع المخلوقات للخالق مثل هذا)(‪)2‬‬
‫‪ 3‬ـ التسبيح‪:‬‬
‫ومن عبادات الكون‪ ،‬وهي أكثرها ورودا في القرآن الكريم‪ ،‬عبادة التسبيح هلل تعالى‪.‬‬
‫وقد افتتحت خمس سور من القرآن الكريم بذكر تسبيح م‪4‬ا في الس‪4‬موات وم‪4‬ا في األرض هلل‪ ،‬وهي‬
‫ي‪4‬ز ْال َح ِكي ُم﴾ (الحدي‪4‬د‪ )1 :‬ونفس اآلي‪4‬ة في س‪4‬ورة‬ ‫‪4‬و ْال َع ِز ُ‬ ‫ض َوهُ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿:‬سب ََّح هَّلِل ِ َما ِفي َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬
‫ي‪4‬ز ْال َح ِكي ُم﴾ (الص‪4‬ف‪ ،)1 :‬وقول‪44‬ه‬ ‫ض َوهُ َو ْال َع ِز ُ‬ ‫ت َو َما ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الحشر‪ ،‬وقوله تعالى‪َ ﴿:‬سب ََّح هَّلِل ِ َما ِفي ال َّس َم َ‬
‫يز ْال َح ِك ِيم﴾ (الجمعة‪ ،)1 :‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫وس ْال َع ِز ِ‬ ‫ض ْال َم ِل ِك ْالقُ ُّد ِ‬ ‫ت َو َما ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫تعالى‪ ﴿:‬يُ َسبِّحُ هَّلِل ِ َما ِفي ال َّس َم َ‬
‫ض َلهُ ْال ُم ْل ُك َو َلهُ ْال َح ْم ُد َوهُ َو َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ﴾ (التغابن‪)1 :‬‬ ‫ت َو َما ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫﴿ يُ َسبِّحُ هَّلِل ِ َما ِفي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫وتسبيح األشياء دليل على معرفتها باهلل معرفة تجعلها تنزهه عن كل ما ال يليق بجالله‪.‬‬
‫والمعرفة التنزيهية هي األصل للمعرفة اإلثباتية‪ ..‬بل إن المعرفة التنزيهية معرفة إثباتية‪ ..‬فمن ن‪44‬زه‬
‫هللا عن الجهل أثبت له علما‪ ..‬ومن نزل هللا عن الجور أثبت له عدال‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫وقد أخ‪4‬برت النص‪4‬وص أن الكائن‪4‬ات ت‪4‬نزه هللا بحس‪4‬ب أحواله‪4‬ا‪ ،‬وأنواعه‪4‬ا‪ ،‬فلك‪4‬ل مخل‪4‬وق تس‪4‬بيحه‬
‫الخاص به‪ ،‬والذي قد ال يفقهه غيره ممن لم يذق ذوقه‪ ،‬أو يمر بتجربته‪.‬‬
‫ولذلك نفى هللا تعالى عن أكثر الخلق إمكانية فقه هذه التسابيح التي يعج بها الكون‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬تُ َسبِّحُ‬
‫الس‪ْ 4‬ب ُع َواأْل َرْ ضُ َو َم ْن ِفي ِه َّن َو ِإ ْن ِم ْن َش‪ْ 4‬ي ٍء ِإاَّل ي َُس‪4‬بِّحُ ِب َح ْم‪ِ 4‬د ِه َو َل ِك ْن ال َت ْف َقهُ‪44‬ونَ ت َْس‪ِ 4‬ب َ‬
‫يحه ُْم ِإنَّهُ َك‪44‬انَ‬ ‫ات َّ‬ ‫او ُ‬ ‫َلهُ ال َّس َم َ‬
‫َح ِليماً َغفُوراً﴾ (االسراء‪)44:‬‬
‫وعدم الفقه والتصور ال يعني في المنهج العلمي السليم إنكار ما لم يتمكن من فقهه أو تصوره‪ ،‬كم‪44‬ا‬
‫ال﴾ (االس‪4‬راء‪:‬‬ ‫ص َر َو ْالفُؤَا َد ُكلُّ أُو َل ِئكَ َك‪4‬انَ َع ْن‪4‬هُ َم ْس‪ُ 4‬ؤو ً‬ ‫ْس َلكَ ِب ِه ِع ْل ٌم ِإ َّن الس َّْم َع َو ْال َب َ‬
‫ف َما َلي َ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿:‬وال َت ْق ُ‬
‫‪)36‬‬
‫فمن أنكر ما لم يقف على سره وحقيقته كان مقتفيا ما ليس له به علم‪.‬‬
‫ومن األخطاء في هذا‪ ،‬والناشئة من اقتفاء سبيل العقل المجرد عن نور الوحي‪ ،‬ال‪44‬زعم ب‪44‬أن الم‪44‬راد‬
‫بالتسبيح مجرد تسبيح الداللة‪ ،‬وقد رددنا على ذلك من قبل‪ ،‬وقد أفاض العلم‪44‬اء والرب‪44‬انيون في ال‪44‬رد على‬
‫ذلك‪ ،‬فهو يسلب الكون خاصية مهمة من خصائصه‪ ،‬ويرفع عنه جلبابا من جالبيب الجمال التي كساه هللا‬
‫به‪.‬‬
‫وحسبنا من الرد‪ ،‬ونفي الش‪4‬بهة هن‪4‬ا أن هللا أخ‪44‬بر عن التس‪44‬بيح الخ‪44‬اص لألش‪44‬ياء ب‪4‬وقت دون وقت‪،‬‬
‫اق﴾ (صّ ‪ ،)18:‬فه‪44‬ل‬ ‫‪4‬ال َم َع‪ 4‬هُ ي َُس‪4‬بِّحْ نَ ِب ْال َع ِش‪ِّ 4‬ي َواأْل ِ ْش‪َ 4‬ر ِ‬ ‫كالعشى واالشراق‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ ﴿:‬إنَّا َس َّخرْ نَا ْال ِج َب‪َ 4‬‬
‫رسالة في قنوت األشياء‪.43 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رسالة في قنوت األشياء‪.43 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪39‬‬
‫المراد بذلك أن داللتها على خالقها تخص هذين الوقتين فقط؟‬
‫وقد قال ‪ ‬مشيرا إلى توقيت تسبيح الكائنات‪ (:‬ما تستقل الشمس فيبقي من خلق هللا تعالى إال سبح‬
‫هللا بحمده إال ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم)(‪)1‬‬
‫ولعل في تحديد مواقيت العبادات ارتباطها بالعبادات التي يمارسها الك‪4‬ون‪ ،‬ح‪4‬تى يش‪4‬كل المؤمن‪4‬ون‬
‫مع الكون الواسع حلقة ذكر واحدة‪ ،‬فقد أمر المؤمنون مثال بمراعاة هذين الوقتين‪ ،‬قال تعالى لزكريا ‪‬‬
‫ار ﴾ (آل عمران‪ ،)41 :‬وقال لعموم المؤم‪4‬نين‪َ ﴿:‬ف ْ‬
‫اص‪ِ 4‬برْ ِإ َّن َو ْع‪َ 4‬د‬ ‫‪َ ﴿:‬و ْاذ ُكرْ َربَّكَ َك ِثيراً َو َسبِّحْ ِب ْال َع ِش ِّي َواإْل ِ ْب َك ِ‬
‫ار﴾ (غافر‪)55:‬‬ ‫هَّللا ِ َح ٌّق َوا ْست َْغ ِفرْ ِل َذ ْن ِبكَ َو َسبِّحْ ِب َح ْم ِد َربِّكَ ِب ْال َع ِش ِّي َواأْل ِ ْب َك ِ‬
‫وفي نفس الوقت الذي أخبر القرآن الكريم عن عبودية الكون في الغ‪4‬دو واآلص‪4‬ال أم‪4‬ر وأخ‪4‬بر عن‬
‫المؤمنين أنهم يراعون هذين الوقتين‪.‬‬
‫طوْ عاً‬ ‫ض َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫قال تعالى مخبرا عن عبودية الكون في هذين الوقتين‪َ ﴿:‬وهَّلِل ِ َيسْجُ ُد َم ْن ِفي ال َّس َم َ‬
‫ال﴾ (الرعد‪)15 :‬‬ ‫ص ِ‬ ‫َو َكرْ هاً َو ِظاللُه ُْم ِب ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ‬
‫ال‬‫ص ِ‬ ‫ت َأ ِذنَ هَّللا ُ َأ ْن تُرْ َف َع َوي ُْذ َك َر ِفي َها ا ْس ُمهُ يُ َسبِّحُ َلهُ ِفي َها ِب ْال ُغ ُد ِّو َواآْل َ‬‫وقال عن المؤمنين مخبرا‪ِ ﴿:‬في بُيُو ٍ‬
‫الز َك‪4‬ا ِة َيخَ‪ 4‬افُونَ َيوْ م‪4‬اً َت َت َقلَّبُ ِفي‪ِ 4‬ه ْالقُلُ‪4‬وبُ‬
‫َ‪4‬اء َّ‬‫الص‪4‬ال ِة َو ِإيت ِ‬ ‫‪4‬ام َّ‬ ‫‪4‬ر هَّللا ِ َو ِإ َق ِ‬
‫ارةٌ َوال َبيْ‪ٌ 4‬ع ع َْن ِذ ْك ِ‬ ‫ِر َج‪ 4‬الٌ ال تُ ْل ِهي ِه ْم ِت َج‪َ 4‬‬
‫ْصارُ﴾ (النور‪ 36 :‬ـ ‪)37‬‬ ‫َواأْل َب َ‬
‫ال َوال‬ ‫ص‪ِ 4‬‬ ‫َضرُّعاً َو ِخي َف ًة َو ُدونَ ْال َجه ِْر ِمنَ ْال َق‪4‬وْ ِل ِب ْال ُغ‪ُ 4‬د ِّو َواآْل َ‬ ‫وقال عنهم آمرا‪َ ﴿:‬و ْاذ ُكرْ َربَّكَ ِفي َن ْف ِسكَ ت َ‬
‫َت ُك ْن ِمنَ ْالغَا ِف ِلينَ ﴾ (ألعراف‪)205 :‬‬
‫ولكن مع ذلك ـ ولزوما للمنهج العلمي ـ سنسوق بعض أدلة وردود عمدة من عمد هذا المنهج وه‪44‬و‬
‫الفخر الرازي‪ ،‬فقد نص على رأيه هذا بقول‪44‬ه‪ (:‬اعلم أن الحي المكل‪44‬ف يس‪44‬بح هلل ب‪44‬وجهين‪ :‬األول‪ :‬ب‪44‬القول‬
‫كقوله باللسان سبحان هللا‪ ،‬والثاني‪ :‬بداللة أحوال‪44‬ه على توحي‪44‬د هللا تع‪44‬الى وتقديس‪44‬ه وعزت‪44‬ه‪ ،‬فأم‪44‬ا ال‪44‬ذي ال‬
‫يكون مكلفا ً مثل البهائم‪ ،‬ومن ال يكون حيا ً مثل الجمادات فهي إنما تسبح هلل تعالى بالطريق الثاني)(‪)2‬‬
‫وقد استدل لذلك باستدالل بعيد منشؤه ما ذكرناه من ت‪4‬وهم ع‪4‬دم حي‪4‬اة الك‪4‬ون أو تص‪4‬ور أن النط‪4‬ق‬
‫يحتاج إلى آلة كآلة نطق اإلنس‪4‬ان‪ ،‬وه‪4‬و تغليب للخي‪4‬ال على العق‪4‬ل‪ ،‬وانتص‪4‬ار لل‪4‬وهم على الحق‪4‬ائق‪ ،‬ق‪4‬ال‬
‫ال‪44‬رازي في بي‪44‬ان وج‪44‬ه ه‪44‬ذا االس‪44‬تدالل‪ (:‬ألن التس‪44‬بيح ب‪44‬الطريق األول ال يحص‪44‬ل إال م‪44‬ع الفهم والعلم‬
‫واإلدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال‪ ،‬فلم يبق حصول التسبيح في حقه إال بالطريق الثاني)‬
‫والعجب هو اعتباره ذلك محاال‪ ،‬فأي استحالة عقلية في ذلك‪ ،‬وهل العقل من اإلحاطة بحيث ي‪44‬درك‬
‫سر الحياة ح‪4‬تى يهي‪4‬ه لمن يش‪4‬اء ويس‪4‬لبه عمن يش‪4‬اء؟ وأي اس‪4‬تحالة نقلي‪4‬ة‪ ،‬والنص‪4‬وص تعج بأدل‪4‬ة حي‪4‬اة‬
‫الكائنات‪.‬‬
‫ب‪44‬ل ذهب ال‪44‬رازي إلى أبع‪44‬د من ذل‪44‬ك حين اس‪44‬تلزم مم‪44‬ا اعت‪44‬بره دليال أن اعتب‪44‬ار تس‪44‬بيحها يق‪44‬وض‬
‫االستدالل على اتصاف باهلل بالحياة‪ ،‬قال‪ (:‬واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يك‪4‬ون عالم‪4‬اً متكلم‪4‬اً لعجزن‪4‬ا‬
‫عن االستدالل بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كف‪44‬ر‪،‬‬
‫فإنه يقال‪ :‬إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات هللا تعالى وصفاته وتسبحه م‪44‬ع أنه‪44‬ا ليس‪44‬ت بأحي‪44‬اء‬
‫فحينئذ ال يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حي ‪4‬اً‬
‫وذلك جهل وكفر‪ ،‬ألن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً)‬
‫‪ )(1‬مسند الشاميين‪ ،2/84 :‬الفردوس بمأثور‪ 4‬الخطاب‪.4/76 :‬‬
‫‪ )(2‬تفسير الرازي‪.20/218 :‬‬
‫‪40‬‬
‫وهذا االستدالل يبين الخطأ الذي وقع فيه المنهج الكالمي في استدالالته على صفات هللا تعالى‪ ،‬فهو‬
‫هنا يبني صفة الحياة التي تدل عليها ماليين األدلة على دليل واحد‪ ،‬تنهد صفة حياة هللا بانهداده‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن الرازي يستعمل هنا أسلوب الفقه‪44‬اء في س‪44‬د ال‪44‬ذرائع‪ ،‬وه‪44‬و منهج ال يص‪44‬ح‬
‫استعماله في االستدالالت العقلية‪ ،‬فالعقل ال ينبغي أن يسد في وجهه أي باب‪ ،‬مهما كانت الذريعة المؤدي‪44‬ة‬
‫إليه‪ ،‬إال إذا كانت تؤديه إلى معارف ال يطيقها‪ ،‬أو ليست لديه أدوات تحصيلها‪.‬‬
‫وقد أجاب الرازي على م‪4‬ا أوردن‪4‬اه من أدل‪4‬ة على تس‪4‬بيح الكائن‪4‬ات بوج‪4‬وه يقتض‪4‬ي المنهج العلمي‬
‫إيرادها‪ ،‬وإن كنا نتجنب الجدل ما أمكن في هذه الرسائل‪:‬‬
‫أما الوجه األول‪ ،‬فقد عبر عنه بقوله‪ (:‬إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد ك‪44‬ثر من‬
‫األجزاء التي ال تتجزأ‪ ،‬وكل واحد من تلك األجزاء دليل تام مستقل على وجود اإلله‪ ،‬ولكل واحد من تلك‬
‫األجزاء التي ال تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة‪ ،‬واختص‪44‬اص‬
‫ذل‪44‬ك الج‪44‬وهر الف‪44‬رد بتل‪44‬ك الص‪44‬فة المعين‪44‬ة من الج‪44‬ائزات فال يحص‪44‬ل ذل‪44‬ك االختص‪44‬اص إال بتخص‪44‬يص‬
‫مخصص قادر حكيم‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وج‪44‬ود اإلل‪44‬ه وك‪44‬ل ص‪44‬فة‬
‫من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود اإلله تع‪4‬الى‪ ،‬ثم ع‪4‬دد تل‪4‬ك األج‪4‬زاء‬
‫غير معلوم‪ ،‬وأحوال تلك الصفات غير معلومة) (‪)1‬‬
‫وكل هذا كالم صحيح ال حرج فيه‪ ،‬وهو من العبودية التي يمارسها الكون‪ ،‬والتي سميناها عبودي‪44‬ة‬
‫الداللة‪ ،‬ولكن الخطأ هو اعتبار ذلك ه‪4‬و التفس‪4‬ير الوحي‪4‬د لتس‪4‬بيح الك‪4‬ون ولقول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َل ِك ْن ال َت ْف َقهُ‪4‬ونَ‬
‫يحه ُْم ﴾ (االسراء‪)44 :‬‬ ‫َت ْس ِب َ‬
‫أما الوجه الثاني‪ ،‬فهو قوله بأن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله الع‪44‬الم إال أنهم م‪44‬ا ك‪44‬انوا‬
‫ض َي ُم‪44‬رُّونَ َع َل ْي َه‪44‬ا‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫اوا ِ‬ ‫يتفكرون في أنواع الدالئل‪ ،‬ولهذا المعنى قال تعالى‪َ ﴿:‬و َكأَي ِّْن ِم ْن آ َي ٍة ِفي َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬
‫عْرضُونَ ﴾ (يوسف‪)105:‬‬ ‫َوهُ ْم َع ْن َها ُم ِ‬
‫وهو وجه صحيح‪ ،‬ولكنه ليس دليال على نفي تسبيح المقال‪ ،‬فال تناقض بين المقالة والداللة‪.‬‬
‫أما الوجه الثالث‪ ،‬وهو وجه يعتمد على السياق الذي وردت فيه اآلية‪ ،‬فهو قوله بأن القوم وإن كانوا‬
‫مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إال أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته‪ ،‬ولذلك استبعدوا كونه تعالى ق‪44‬ادراً‬
‫على الحشر والنشر فكان المراد ذلك‪ ،‬ثم إنه قال لرسول هللا ‪ ﴿:‬قُ‪4‬لْ َل‪4‬وْ َك‪4‬انَ َم َع‪ 4‬هُ آ ِل َه‪4‬ةٌ َك َم‪4‬ا َيقُولُ‪4‬ونَ ِإذاً‬
‫ال﴾ (االسراء‪ )42:‬فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل‪ ،‬فلما ذك‪44‬ر ه‪44‬ذا ال‪44‬دليل ق‪44‬ال‪:‬‬ ‫ش َس ِبي ً‬ ‫اَل ْب َت َغوْ ا ِإ َلى ِذي ْال َعرْ ِ‬
‫ات ال َّس ْب ُع َواأْل َرْ ضُ َو َم ْن ِفي ِه ّن)(االسراء‪)44 :‬‬
‫او ُ‬ ‫﴿ تُ َسبِّحُ َلهُ ال َّس َم َ‬
‫وكأن اآلية تقول ـ كما يفهمها الرازي ـ‪ (:‬فتسبيح السموات واألرض ومن فيهن يش‪44‬هد بص‪44‬حة ه‪44‬ذا‬
‫الدليل وقوته وأنتم ال تفقهون هذا الدليل وال تعرفونه)‬
‫وهذا الوجه ال يتنافى أيضا مع التسبيح المقالي للكائنات‪ ،‬ب‪44‬ل ه‪44‬و فهم من الفه‪44‬وم الص‪44‬حيحة لآلي‪44‬ة‪،‬‬
‫والفهوم ال يلغي بعضها بعضا‪ ،‬فكالم هللا يحتمل الجميع‪.‬‬
‫ولعل أقوى دليل ذكره هو ما عبر عنه بقوله‪ (:‬مما يدل على أن األمر كم‪44‬ا ذكرن‪44‬اه قول‪44‬ه‪ِ ﴿:‬إنَّهُ َك‪44‬انَ‬
‫َح ِليم‪4‬اً َغفُ‪4‬وراً ﴾ (االس‪4‬راء‪ )44 :‬ف‪4‬ذكر الحليم والغف‪4‬ور ههن‪4‬ا ي‪4‬دل على أن ك‪4‬ونهم بحيث ال يفقه‪4‬ون ذل‪4‬ك‬

‫‪ )(1‬تفسير الرازي‪.20/218 :‬‬


‫‪41‬‬
‫التسبيح جرم عظيم صدر عنهم‪ ،‬وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذل‪44‬ك التس‪44‬بيح كونه‪44‬ا دال‪44‬ة على‬
‫كمال قدرة هللا تعالى وحكمته‪ ،‬ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه داللة تلك الدالئل‪.‬‬
‫أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح هللا بأقواله‪4‬ا وألفاظه‪4‬ا لم يكن ع‪4‬دم الفق‪4‬ه لتل‪4‬ك‬
‫التسبيحات جرماً وال ذنباً‪ ،‬وإذا لم يكن ذلك جرماً وال ذنباً لم يكن قوله‪ِ ﴿:‬إنَّهُ َكانَ َح ِليماً َغفُوراً ﴾ (االس‪44‬راء‪:‬‬
‫‪ )44‬الئقاً بهذا الموضع)‬
‫وهذا االستدالل األخير مع قوته إال أن الفاصلة القرآنية ال تشمل آخر اآلية فق‪4‬ط‪ ،‬بحيث يك‪4‬ون الحلم‬
‫والمغفرة مرتبطان بعدم فقه التسبيح‪ ،‬بل هي مرتبطة بموضوع اآلية جميعا(‪ ،)1‬وهو اإلخب‪44‬ار عن تس‪44‬بيح‬
‫كل شيء في الوقت الذي يغفل فيه اإلنسان‪.‬‬
‫والعتاب على الغفلة يتناسب مع الحلم والمغفرة‪.‬‬
‫وهذا يتناسب مع ما روي في اآلثار من العتاب على الغفلة في الوقت الذي تسبح في‪44‬ه الموج‪44‬ودات‪،‬‬
‫كما ورد في األثر‪(:‬الدابة والثوب يسبح‪ ،‬وأنت غافل)‬
‫وفي أثر آخر‪ (:‬أما يستحي أحدكم أن تكون دابته أو ثوبه أكثر تسبيحا منه)‬
‫وفي أثر آخ‪4‬ر‪ (:‬م‪4‬ا ارتفعت الش‪4‬مس قي‪4‬د رمح إلى الس‪4‬ماء فبقي هلل ش‪4‬يء من خلق‪4‬ه إال س‪4‬بح هلل إال‬
‫الشيطان وأعتى بني آدم)‬
‫ومن هذا الباب ما روي في اآلثار عن داود ‪ ‬أنه قال‪ (:‬يا رب اغفر لي فمن أكثر لذكرك م‪44‬ني)‬
‫فقام على صخرة إلى جنب نهر حتى أص‪4‬بح‪ ،‬فن‪4‬اداه ض‪4‬فدع‪ (:‬ي‪4‬ا داود تمن على هللا تع‪4‬الى‪ ،‬وأن‪4‬ا ض‪4‬فدع‬
‫أسبح هللا الليل مع النهار من خشيته‪ ،‬فنظر فإذا هي قائم‪4‬ة على الم‪4‬اء‪ ،‬فق‪4‬ال‪ (:‬رب اغف‪4‬ر لي‪ ،‬ف‪4‬إن نعم‪4‬ك‬
‫علي أفضل من ذكرك)‬
‫وذهب إلى نفس ما ذهب إليه الرازي المفسر الكبير ناصر مكارم الشيرازي‪ ،‬وال بأس من إيراد ما‬
‫ذكر من أدلة هنا‪ ،‬كما ذكرنا أدلة الرازي رغبة في تجلية الحقيقة‪.‬‬
‫قال الشيرازي في األمثل‪ (:‬هُناك كالم كثير بين العلماء والمفسّرين والفالس‪44‬فة ح‪44‬ول تفس‪44‬ير حقيق‪44‬ة‬
‫هَذا الحمد والتسبيح‪ ،‬فبعضهم اعتبر الحمد والتسبيح (حاال) والبعض اآلخر (قوال))‬
‫أن هَ‪4‬ذا التس‪4‬بيح والحم‪4‬د ه‪4‬و على ش‪4‬اكلة م‪4‬ا نس‪4‬ميه بـ‬ ‫ثم انتصر للقول األول بقوله‪ (:‬الكث‪4‬ير يعتق‪4‬د َّ‬
‫ال أ ّنهُ بلسان الحال َوليس بالقول‪( .‬تأ ّمل ذلك)‪.‬‬ ‫(لسان الحال) َوهو حقيقي غير مجازي ِإ َّ‬
‫ولتوضيح ذلك تقول‪ :‬قد يحدث أن نشاهد آثار عدم اإلرتياح واأللم‪َ ،‬وعدم الن‪44‬وم في َوج‪44‬ه أو عي‪44‬ني‬
‫ال أن عينيك تقوالن بأ ّن‪44‬ك لم تنم‬ ‫شخص ما َونقول له‪ :‬بالرغم ِمن أ ّنك لم تتحدث عن شيء ِمن هَذا القبيل‪ِ ،‬إ ّ‬
‫الليلة الماضية‪َ ،‬ووجهك يؤ ّكد بأ ّنك غير مرتاح ومتألم! َوقد يكون لسان الحال ِمن الوضوح بدرج‪44‬ة بحيث‬
‫أنَّهُ يُغطي على لسان القول لو حاول التستر عليها قوال‪ ،‬وهَذا هو المعنى الذي ص‪44‬رّح ب‪44‬ه أم‪44‬ير المؤم‪44‬نين‬
‫ال ظهر في فلتات لسانُه وص‪4‬فحات َوجه‪4‬ه)‬ ‫علي بن أبي طالب (عليه السالم) بقوله‪( :‬ما أضمر أحد شيئاً ِإ َّ‬
‫(‪)2‬‬

‫اعتبر السيوطي هذه الفاصلة من الفواصل التي ال يظهر فيها ارتباطها‪ 4‬بموض‪44‬وع اآلي‪44‬ة ب‪44‬ادي ال‪44‬رأي‪ ،‬ق‪44‬ال‪ (:‬الختم ب‪44‬الحلم والمغف‪44‬رة عقب تس‪44‬ابيح‬ ‫‪)(1‬‬
‫األشياء غير ظاهر في بادى الرأي‪ ،‬وذكر في حكمته أنه لما كانت األشياء كلها تسبح وال عصيان في حقها وأنتم تعصون ختم به مراعاة للمقدر في اآلي‪44‬ة وه‪44‬و‬
‫العصيان‪ ،‬كما جاء في الحديث‪ (:‬لوال بهائم رتع وشيوخ‪ 4‬ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا ولرص رصا)‪ ،‬وقيل التقدير حليما عن تفريط‪ 4‬المسبحين‬
‫غفورا لذنوبهم‪ 4،‬وقيل حليما عن المخاطبين الذين ال يفقهون التسبيح بأهمالهم النظر في اآليات والعبر ليعرفوا حقه بالتأمل فيما أودع في مخلوقات‪44‬ه مم‪44‬ا ي‪44‬وجب‬
‫تنزيهه)‪ 4‬اإلتقان‪ ،2/276 :‬وانظر‪ :‬البرهان‪.1/92 :‬‬
‫‪ )(2‬نهج البالغة‪ ،‬الكلمات القصار‪ ،‬رقم ‪.26‬‬
‫‪42‬‬
‫بأن لوحة فنية جميلة للغاية ت‪44‬دل على ذوق َومه‪44‬ارة رس‪44‬امها‪ ،‬ال‬ ‫ِمن جانب آخر هل يمكن التصديق َّ‬
‫تمدحُه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين أش‪44‬عار أس‪44‬اطين الش‪44‬عر واالدب وتمجي‪44‬دها لق‪44‬رائحهم‬
‫واذواقهم الرفيعة؟‪ ..‬أو يمكن انكار أن بنا ًء عظيماً أو مصنعاً كبيراً أو عقوال الكتروني‪4‬ة معق‪4‬دة أو أمثاله‪4‬ا‪،‬‬
‫أ ّنها تمدح صانعها َو ُمبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟‬
‫‪4‬أن ع‪44‬الم الوج‪44‬ود العجيب ذا األس‪44‬رار المتع‪4‬دِّدة والعظم‪44‬ة الكب‪44‬يرة‪،‬‬ ‫ل‪44‬ذا يجب التص‪44‬ديق والتس‪44‬ليم ب‪َّ 4‬‬
‫ال فه‪4‬ل (التس‪4‬بيح) س‪4‬وى التنزي‪4‬ه عن‬ ‫عزوج‪4‬لّ‪ ،‬و ِإ َّ‬
‫والجزئيات العديدة ال ُمحيِّرة‪ ،‬يقوم بتسبيح َوحمد الخالق َّ‬
‫ليس فيه أي نقص أو عيب‪:‬‬ ‫بأن خالقهُ َ‬ ‫جميع العيوب؟ فنظام عالم الوجود ناطق َّ‬
‫كل‪4‬ه يتح‪4‬دث عن الص‪4‬فات‬ ‫ث ّم هل (الحمد) س‪4‬وى بي‪4‬ان الص‪4‬فات الكمالي‪4‬ة؟ فنظ‪4‬ام الخل‪4‬ق والوج‪4‬ود ّ‬
‫الكمالية للخالق وعلمه َوقدرته الالمتناهية َوحكمته الوسيعة‪.‬‬
‫وأن تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار َوخفايا هَذا العالم الواسع‪ ،‬توض‪44‬ح َه‪44‬ذا الحم‪44‬د‬ ‫خاصّة َّ‬
‫والتسبيح العام بصورة أجلى‪ .‬فاليوم مثال ّألف علماء النبات المؤلفات العديدة عن أوراق األشجار‪َ ،‬وخاليا‬
‫األم‪4‬ور‬‫َه ِذ ِه األوراق‪َ ،‬والطبقات السبع الداخلة في تكوينها‪ ،‬والجهاز التنفسي لها‪َ ،‬وطريقة التغذي‪4‬ة َوس‪4‬ائر ُ‬
‫األخرى التي تتصل َبهذا العالم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فإن كل ورقة توحد هللا ليال َونهاراً‪َ ،‬وينتشر ص‪4‬وت تس‪4‬بيحها في البس‪4‬اتين والغاب‪4‬ات‪َ ،‬وف‪4‬وق‬ ‫لذلك‪َّ ،‬‬
‫أن الجهالء ال يفقهون ذلك‪َ ،‬ويعتبرونها جامدة ال تنطق‪.‬‬ ‫الجبال َوفي الوديان‪ِ ،‬إ َّ‬
‫ال َّ‬
‫ِإ َّن هَذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه تمام‪4‬اً‪َ ،‬وليس‪44‬ت هُن‪44‬اك حاج‪44‬ة‬
‫ألنَّه ال يوجد دليل قاطع على ذل‪4‬ك‪ ،‬واآلي‪4‬ات الس‪4‬ابقة‬ ‫ألن نعتقد بوجود ِإدراك َوشعور لكل ذرات الوجود‪َ ،‬‬
‫يحتمل أن يكون مقصودها التسبيح والحمد بلسان الحال)‬
‫وقد رد على االعتراض القائل‪ِ (:‬إذا كان الغرض ِمن الحمد والتس‪44‬بيح ه‪44‬و تعب‪44‬ير نظ‪44‬ام الك‪44‬ون عن‬
‫عزوجلّ‪ ،‬وتبيان الصفات السلبية والثبوتية‪ ،‬فلماذا يقول الق‪44‬رآن‪( :‬ال تفقه‪44‬ون‬ ‫نزاهة َوعظمة َوقدرة الخالق َّ‬
‫فإن العلماء يفقهون ويعلمون؟)‬ ‫تسبيحهم) أل ّنه ِإذا كانَ البعض ال يفقه‪َّ ،‬‬
‫وقد أجاب على ذلك بجوابين‪:‬‬
‫األول‪ِ :‬إ َّن اآلية توجَّه خطابها ِإلى األكثري‪44‬ة الجاهل‪44‬ة ِمن عم‪44‬وم الن‪44‬اس‪ ،‬خصوص‪4‬اً ِإلى المش‪44‬ركين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫أن العلماء المؤمنين ِقلة َوهم مستثنون ِمن هَذا التعميم‪ُ ،‬وفقا لقاعدة ما ِمن عام ِإ َّ‬
‫ال َوفيه استثناء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حيث َّ‬
‫أن ما نعلمهُ ِمن أسرار َوخفاي‪44‬ا الع‪44‬الم في مقاب‪44‬ل م‪44‬ا ال نعل ُم‪44‬ه ك‪44‬القطرة في قب‪4‬ال البح‪44‬ر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الثاني‪ :‬هو َّ‬
‫َوكالذرة في قبال الجبل العظيم‪ .‬و ِإذا فكرنا بشكل صحيح فال نس‪44‬تطيع أن نس‪ّ 4‬مي ال‪44‬ذي نعرف‪44‬ه بأنَّه (علم)‪.‬‬
‫ِإ ّننا في الواقع ال نستطيع أن نسمع تسبيح َوحم‪44‬د َه‪ِ 4‬ذ ِه الموج‪44‬ودات الكوني‪44‬ة مهم‪44‬ا أوتين‪44‬ا ِمن العلم‪َّ ،‬‬
‫ألن م‪44‬ا‬
‫نسمعهُ هو كلمة واحدة فقط ِمن هَذا الكتاب العظيم!!‬
‫َوعَلى هذا األساس تستطيع اآلية أن تخاطب العالم بأجمعه َوتقول لهم‪ :‬إ ّنكم ال تفقهون تسبيح َو َحم‪44‬د‬
‫ما الشيء الذي تفقهوه فهو ال يساوي شيئاً بالنسبة ِإلى ما تجهلون)(‪)1‬‬ ‫الموجودات بلسان حالها‪ ،‬أ ّ‬
‫وكل ما ذكره صحيح‪ ،‬ولكنه يدخل في ن‪4‬وع من أن‪4‬واع التس‪4‬بيح‪ ،‬أو ي‪4‬دخل ب‪4‬األحرى في ص‪4‬فة من‬
‫صفات الكون‪ ،‬سميناها (المقروئية) أو الداللة‪ ..‬وهو تسبيح سلبي‪ ،‬ال إيجابي ألن الذي يقوم به من يش‪44‬اهد‬
‫الموجودات ال عين الموجودات‪ ،‬وهللا تعالى في القرآن أثبت التسبيح ألعيان الموجودات‪.‬‬

‫انظر‪ :‬األمثل‪ ،‬للشيرازي‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫‪43‬‬
‫والعجب أن يقول الشيرازي هذا مع أن الروايات الكثيرة الواردة عن أه‪44‬ل ال‪44‬بيت ـ عليهم الس‪44‬الم ـ‬
‫وسماعهم لتسبيح الموجودات تنفي هذا النوع من الفهم(‪.)1‬‬
‫ومن التفسير الذي يتنافى مع عموم النصوص ما ذهب إليه بعضهم حين قصر التسبيح على أحوال‬
‫معينة للكائنات‪.‬‬
‫ومن ذلك قصره على كل حي ونام‪ ،‬فنفوا التسبيح عن الجمادات‪ ،‬ومن هذا قول عكرم‪4‬ة‪( :‬الش‪4‬جرة‬
‫تسبح‪ ،‬واالسطوان ال يسبح)‪ ،‬وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طع‪4‬ام وق‪4‬د ق‪4‬دم الخ‪4‬وان‪ (:‬أيس‪4‬بح ه‪4‬ذا‬
‫الخوان يا أبا سعيد؟) فقال‪ (:‬قد كان يسبح مرة)‪ ،‬يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها ك‪44‬انت تس‪44‬بح‪،‬‬
‫وأما اآلن فقد صار خوانا مدهونا‪.‬‬
‫وقد ذكر النووي أن هذا مذهب الكثير من المفسرين‪ ،‬قال‪ (:‬وه‪44‬ذا م‪44‬ذهب كث‪44‬يرين أو األك‪44‬ثرين من‬
‫المفسرين في قوله تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل يُ َسبِّحُ ِب َح ْم ِد ِه ﴾ (االسراء‪ )44 :‬قالوا معناه وإن من ش‪44‬يء حي‪،‬‬
‫ثم قالوا حياة كل شيء بحسبه‪ ،‬فحياة الخشب ما لم ييبس‪ ،‬والحجر ما لم يقطع)(‪)2‬‬
‫واستدل القائلون لهذا من السنة بما ثبت عن ابن عباس أن النبي ‪ ‬م‪44‬ر على ق‪44‬برين فق‪44‬ال‪ (:‬إنهم‪44‬ا‬
‫ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما اآلخر فكان ال يستبرئ من البول) ق‪4‬ال‪:‬‬
‫فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين‪ ،‬ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال‪ ( :‬لعله يخفف عنهما ما‬
‫لم ييبسا)(‪)3‬‬
‫ففهم هؤالء من قوله ‪ (:‬ما لم ييبسا) أن ذلك إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يس‪44‬بحان‪ ،‬ف‪44‬إذا يبس‪44‬ا‬
‫صارا جمادا‪.‬‬
‫ولسنا نرى في هذا النص أي داللة‪ ،‬فالحديث لم يربط تسبيح العسيب بتخفي‪44‬ف الع‪44‬ذاب‪ ،‬ب‪44‬ل ربط‪44‬ه‬
‫برطوبته‪ ،‬فلعل لتلك الرطوبة تأثيرا خاصا أدركه رس‪4‬ول هللا ‪ ‬بمش‪4‬كاة النب‪4‬وة‪ ،‬وليس لمن لم يطل‪4‬ع من‬
‫تلك المشكاة أن يتطفل على مثل هذه األسرار(‪.)4‬‬
‫***‬
‫وقد ورد في النصوص ما يدل على أن تسبيح الخالئق مص‪4‬در من مص‪4‬ادر رزقه‪4‬ا‪ ،‬ق‪4‬ال ‪ (:‬أال‬
‫أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه‪ ،‬إن نوحا قال البنه يا بني‪ .‬آمرك أن تقول‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬فإنها صالة الخلق‪،‬‬

‫‪ )(1‬من ذلك ما روي عن بعض أصحاب اإلمام الصادق قال‪ :‬سألت اإلمام عن تفسير قوله تعالى‪ :‬وإن من شئ إال يس‪4‬بح بحم‪4‬ده فق‪4‬ال‪( :‬ك‪4‬ل ش‪4‬ئ يس‪4‬بح‬
‫بحمده وإنا لنرى أن ينقض الجدار وهو تسبيحها)‪4‬‬
‫وعن اإلمام محمد الباقر قال‪ :‬نهى رسول هللا ‪ ‬أن توسم البهائم في وجوهها‪ ،‬وأن تضرب وجوهها ألنها تسبح بحمد ربها‪.‬‬
‫وعن اإلمام الصادق‪ :‬ما من طير يصاد في بر وال بحر‪ ،‬وال شئ يصاد من الوحش إال بتضييعه التسبيح‪.‬‬
‫وروي أن اإلمام الباقر ‪ ،‬فعندما سمع يوما صوت عصفور‪ ،‬فقال ألبي حمزة الثمالي ‪ -‬وكان من خاصة أصحابه ‪ ( :-‬يسبحن ربهن عز وجل ويسألن ق‪44‬وت‬
‫يومهن)‪4‬‬
‫وفي حديث آخر عن اإلمام الصادق نقرأ قوله ( عليه السالم)‪ :‬للدابة على صاحبها ستة حقوق‪ :‬ال يحمله‪44‬ا ف‪44‬وق طاقته‪44‬ا‪ ،‬وال يتخ‪44‬ذ ظهره‪44‬ا مجلس‪44‬ا يتح‪44‬دث‬
‫عليها‪ ،‬ويبدأ بعلفها إذا نزل‪ ،‬وال يسمها‪ 4‬في وجهها‪ ،‬وال يضربها فإنها تسبح‪ ،‬ويعرض عليها الماء إذا مر بها) انظر‪ :‬نور الثقلين‪.3/168 :‬‬
‫مع كون هذا قول أكثر المفسرين إال أن المحققين على خالف‪44‬ه‪ ،‬ق‪44‬ال الن‪44‬ووي‪ (:‬وذهب المحقق‪44‬ون من المفس‪44‬رين وغ‪44‬يرهم إلى أن‪44‬ه على عموم‪44‬ه‪ ،‬ثم‬ ‫‪)(2‬‬
‫اختلف هؤالء هل يسبح حقيقة أم فيه داللة على الصانع فيكون مسبحا ً منزها ً بصورة حاله‪ ،‬والمحققون على أنه يسبح حقيقة) النووي على مسلم‪.3/201:‬‬
‫‪ )(3‬البخاري‪ ،1/88 :‬مسلم‪.1/240 :‬‬
‫ولذلك نرى أن يكتفى من فهم الحديث الذي استدلوا به بما ذكر منه من الناحية العملية‪ ،‬فال جدوى من الناحية النظرية الرتباطه‪4‬ا‪ 4‬ب‪44‬أمر غي‪44‬بي ليس‬ ‫‪)(4‬‬
‫لدينا وسائل التعرف على كنهه‪.‬‬
‫والناحية العملية في هذا الحديث هي ما ذكره العلماء من استحباب‪ 4‬قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث‪ ،‬ألنه إذا كان يرجى التخفيف بتسبيح الجري‪44‬د‪ ،‬فتالوة‬
‫القرآن أولى‪ ،‬وقد ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن الحصيب األسلمي الصحابي أوصى أن يجعل في قبره جريدتان‪ ،‬ففيه أنه تبرك بفعل مثل فعل النبي‬
‫‪.‬انظر‪ :‬النووي على مسلم‪.3/201 :‬‬ ‫‪‬‬
‫‪44‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫وتسبيح الخلق‪ ،‬وبها يرزق الخلق)‬
‫وورد ما يدل على أن ما يحصل لها من المص‪4‬ائب ه‪4‬و بس‪4‬بب تض‪4‬ييعها التس‪4‬بيح‪ ،‬وفي ذل‪4‬ك أك‪4‬بر‬
‫الداللة على وعيها التام ـ مع كونها غير مكلفة ـ فقد ورد في الح‪44‬ديث قول‪44‬ه ‪ (:‬م‪44‬ا ص‪44‬يد من ص‪44‬يد وال‬
‫وش‪4‬ج من وش‪4‬ج إال بتض‪4‬ييعه التس‪4‬بيح)(‪ ،)2‬وق‪4‬ال ‪ (:‬م‪4‬ا اص‪4‬طيد ط‪4‬ير في ب‪4‬ر وال بح‪4‬ر إال بتض‪4‬ييعه‬
‫التسبيح)(‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر قال ‪ (:‬ما صيد من طير في السماء وال سمك في الماء ح‪44‬تى ي‪44‬دع م‪44‬ا اف‪44‬ترض‬
‫هللا عليه من التسبيح)(‪ ،)4‬وهذا الحديث إن صح يدل على الوعي التام للكائنات‪ ،‬فالفرائض ال تتوجه لغ‪44‬ير‬
‫العاقل الواعي‪.‬‬
‫وقد ورد في حديث آخر بعض التفاصيل في ذلك‪ ،‬قال ‪ (:‬آج‪44‬ال البه‪44‬ائم كله‪44‬ا وخش‪44‬اش األرض‬
‫والنمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كله‪4‬ا وغ‪4‬ير ذل‪4‬ك آجاله‪4‬ا في التس‪4‬بيح‪ ،‬ف‪4‬إذا انقض‪4‬ى‬
‫تسبيحها قبض هللا أرواحها‪ ،‬وليس إلى ملك الموت منها شيء)(‪)5‬‬
‫***‬
‫واستشعار المؤمن لتسبيح الكائنات مع غفلته يشعره الحياء‪ ،‬ويدفع‪44‬ه إلى األدب معه‪44‬ا‪ ،‬ول‪44‬ذا أمرن‪44‬ا‬
‫بالتأدب معها احتراما وتعظيما لتسبيحها‪ ،‬وقد ورد في الحديث قوله ‪ (:‬ال تضربوا وجوه الدواب‪ ،‬ف‪44‬إن‬
‫كل شيء يسبح بحمده)(‪)6‬‬
‫ونهى عن اتخاذ البهائم كراسي‪ ،‬فقد م‪4‬ر ‪ ‬على ق‪4‬وم وهم وق‪4‬وف على دواب لهم ورواح‪4‬ل فق‪4‬ال‬
‫لهم‪ (:‬اركبوها س‪4‬المة‪ ،‬ودعوه‪4‬ا س‪4‬المة‪ ،‬وال تتخ‪4‬ذوها كراس‪4‬ي ألح‪4‬اديثكم في الط‪4‬رق واألس‪4‬واق‪ ،‬ف‪4‬رب‬
‫مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا هلل منه)(‪)7‬‬
‫وقد قال بعضهم مصورا هذا‪ (:‬ما أحد سب شيئا من ال‪4‬دنيا داب‪4‬ة وال غيره‪4‬ا‪ ،‬ويق‪4‬ول‪ :‬خ‪4‬زاك هللا أو‬
‫لعنك هللا إال قالت‪ :‬بل أخزى هللا تعالى أعصانا هلل تعالى)‬
‫اس‪ُ 4‬م هَّللا ِ َع َل ْي‪ِ 4‬ه َو ِإنَّهُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ولهذا نهي عن الذبح من غير ذكر السم هللا‪ ،‬قال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬وال َت‪44‬أ ُكلُوا ِم َّما َل ْم يُ‪44‬ذ َك ِر ْ‬
‫طعْ تُ ُموهُ ْم ِإنَّ ُك ْم َل ُم ْش ِر ُكونَ ﴾ (األنعام‪)121:‬‬ ‫اطينَ َليُوحُونَ ِإ َلى َأوْ ِل َيا ِئ ِه ْم ِلي َُجا ِدلُو ُك ْم َو ِإ ْن َأ َ‬
‫ق َو ِإ َّن ال َّش َي ِ‬
‫َل ِف ْس ٌ‬
‫وكأننا بذكر اسم هللا عند ذبح الحيوان نعتذر له‪ ،‬أو نخبره بأننا إنما نفعل ذلك إلذن هللا لن‪4‬ا‪ ،‬وإال فه‪4‬و‬
‫أكرم من أن نسلبه حياته لإلبقاء على حياتنا‪.‬‬
‫ولعل الحيوان‪ ،‬وهو يسمع ذكر هللا عند ذبحه يشعر بأنس عظيم‪ ،‬بل يش‪4‬عر بم‪44‬ا يش‪4‬عر ب‪4‬ه الش‪44‬هيد‪،‬‬
‫وهو يقرب روحه هلل‪.‬‬
‫ومن هذا الباب أيضا ما ورد في السنة من النهي عن قتل بعض الحيوانات‪ ،‬وتعليل ذل‪44‬ك بتس‪44‬بيحها‬
‫هلل‪ ،‬فقد نهى ‪ ‬عن قتل الضفدع‪ ،‬وعلل ذلك بقوله‪ (:‬نعيقها تسبيح)(‪)8‬‬
‫ولعل تخصيص الضفدع وبعض الحيوانات بكونها مسبحة مع ورود النصوص الكثيرة الدال‪4‬ة على‬
‫رواه أحمد والنسائي‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أبو نعيم في الحلية وابن مردويه‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه ابن عساكر‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه العقيلي في الضعفاء وأبو الشيخ والديلمي‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫رواه أحمد‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫رواه النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه‪.‬‬ ‫‪)(8‬‬
‫‪45‬‬
‫تسبيح كل شيء هو مبالغة الضفدع ونحوها وإكثارها من ذكر هللا‪.‬‬
‫وقد ورد في الداللة على ذلك بعض اآلثار منها م‪44‬ا روي عن أنس ق‪44‬ال‪ :‬ظن داود علي‪44‬ه الس‪44‬الم أن‬
‫أحدا لم يمدح خالقه أفضل مما مدحه‪ ،‬وأن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانب‪4‬ه فق‪4‬ال‪ :‬ي‪4‬ا‬
‫داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع‪ ،‬فأنصت داود عليه السالم فإذا الضفدع يمدحه بمدحة لم يمدح‪44‬ه به‪44‬ا‬
‫داود عليه السالم فقال له الملك‪ :‬كيف تراه يا داود؟ قال‪ :‬أفهمت ما قالت؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ :‬ماذا ق‪44‬الت؟ ق‪44‬ال‪:‬‬
‫قالت‪ :‬سبحانك وبحمدك منهتى علملك يا رب‪ .‬قال داود عليه السالم‪ :‬وال‪44‬ذي جعل‪44‬ني نبي‪44‬ه‪ ،‬إني لم أمدح‪44‬ه‬
‫بهذا(‪.)1‬‬
‫ومثل هذا ما حدث به شهر قال‪ :‬كان داود ‪ ‬يسمى النواح في كتاب هللا عز وج‪44‬ل‪ ،‬وأن‪44‬ه انطل‪44‬ق‬
‫حتى أتى البحر‪ ،‬فقال‪ :‬أيها البحر‪ ،‬إني هارب‪ .‬قال‪ :‬من الطالب الذي ال ينأى طلبه‪ ،‬ق‪44‬ال‪ :‬ف‪44‬اجعلني قط‪44‬رة‬
‫من مائك‪ ،‬أو دابة مما فيك‪ ،‬أو تربة من تربتك‪ ،‬أو صخرة من صخرك‪ .‬قال‪ :‬أيها العبد الهارب الف‪44‬ار من‬
‫الطالب الذي ال ينأى طلبه‪ ،‬ارجع من حيث جئت‪ ،‬فإنه ليس مني شيء إال بارز‪ ،‬ينظر هللا عز وج‪44‬ل إلي‪44‬ه‬
‫قد أحصاه وعده عدا فلست أستطيع ذلك‪.‬‬
‫ثم انطلق حتى أتى الجبل‪ ،‬فقال‪ :‬أيه‪4‬ا الجب‪4‬ل‪ ،‬اجعل‪4‬ني حج‪4‬را من حجارت‪4‬ك أو ترب‪4‬ة من تربت‪4‬ك أو‬
‫صخرة من صخرك أو شيئا مما في جوفك‪ ،‬فقال‪ :‬أيها العبد الهارب الفار من الطالب الذي ال ينأى طلبه‪،‬‬
‫إنه ليس مني شيء إال يراه هللا وينظر إليه وقد أحصاه وعده عدا‪ ،‬فلست أستطيع ذلك‪.‬‬
‫ثم انطلق حتى أتى على األرض يعني الرمل فقال‪ :‬أيها الرمل‪ ،‬اجعلني تربة من ترب‪44‬ك أو ص‪44‬خرة‬
‫من صخرك أو شيئا مما في جوفك‪ .‬فأوحى هللا إليه أجبه‪ .‬فقال‪ :‬أيها العبد الفار من الط‪4‬الب ال‪4‬ذي ال ين‪4‬أى‬
‫طلبه‪ ،‬ارجع من حيث جئت فاجعل عملك لقسمين‪ :‬لرغبة أو لرهبة‪ ،‬فعلى أيهما أخذك ربك لم تبال‪.‬‬
‫وخرج فأتى البحر في ساعة‪ ،‬فصلى فيه‪ ،‬فنادته ضفدعة فقالت‪ :‬يا داود‪ ،‬إنك حدثت نفس‪4‬ك أن‪4‬ك ق‪4‬د‬
‫سبحت في ساعة ليس يذكر هللا فيها غيرك‪ ،‬وإني في سبعين ألف ضفدعة كلها قائمة على رجل تسبح هللا‬
‫تعالى وتقدسه(‪.)2‬‬
‫ومثل هذا ما روي عن ابن عباس ق‪4‬ال‪ :‬ص‪4‬لى داود ‪ ‬ليل‪4‬ة ح‪4‬تى أص‪4‬بح‪ ،‬فلم‪4‬ا أن أص‪4‬بح نادت‪4‬ه‬
‫ضفدعة‪ :‬يا داود‪ ،‬كنت أدأب منك قد أغفيت إغفاءة (‪.)3‬‬
‫***‬
‫أما الكيفية التي تسبح بها الكائنات‪ ،‬وما تقوله في تس‪4‬بيحها‪ ،‬فهي من علم هللا ال‪4‬ذي ق‪4‬د يطل‪4‬ع بعض‬
‫خلقه على أسراره‪:‬‬
‫ومن ذلك ما ذكره ابن عباس من قول‪4‬ه‪ (:‬ال‪4‬زرع يس‪4‬بح بحم‪4‬ده‪ ،‬وأج‪4‬ره لص‪4‬احبه‪ ،‬والث‪4‬وب يس‪4‬بح‪.‬‬
‫ويقول الوسخ‪ :‬إن كنت مؤمنا فاغسلني إذا)(‪)4‬‬
‫وعن أبي صالح قال‪ (:‬ذكر لنا أن صرير الباب تسبيحه)(‪)5‬‬

‫على معنى‬ ‫رواه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في شعب اإليمان‪ ،‬وهذا النص ينبغي‪ 4‬فهمه ـ كما يفهم عتاب هللا تعالى لنبيه ‪‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫التربية والتأديب ال على أن الضفدع أو غيره أعرف باهلل وأكثر ذكرا له من أنبيائه ‪ ،‬فرتبة النبوة ال تدانيها رتبة‪.‬‬
‫ومن هذا الباب أيضا ما روى البيهقي في شعب اإليمان‪ ،‬عن صدقة بن يسار قال‪ :‬كان داود ‪ ‬في محرابه‪ ،‬فأبصر درة صغيرة ففكر في خلقها وقال‪ :‬ما‬
‫يعبأ هللا بخلق هذه؟ فأنطقها‪ 4‬هللا فقالت‪ :‬يا داود أتعجبك نفسك؟ ألنا على قدر ما آتاني هللا‪ ،‬أذكر هلل وأشكر له منك‪ ،‬على ما آتاك هللا‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه أحمد في الزهد وأبو الشيخ‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد وأبو الشيخ‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه‪.‬‬
‫‪ )(5‬ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والخطيب‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫وعن أبي غالب الشيباني‪ ،‬قال‪ (:‬صوت البحر تسبيحه‪ ،‬وأمواجه صالته)‬
‫عن أبي جعفر قال‪ (:‬تدرون ما تقول العصافير قبل طلوع الفجر تسبح ربها وتسأل قوت يومها)‬
‫وعن عبد الحميد بن يوسف قال‪ (:‬تسبيح الضفادع‪ (:‬سبحان المعبود بك‪4‬ل مك‪4‬ان‪ ،‬س‪4‬بحان المحم‪4‬ود‬
‫بكل مكان‪ ،‬سبحان المذكور بكل لسان)‬
‫***‬
‫وهذا التسبيح والعبودية التي تمارسها الكائنات بحب وشغف يكشف هللا بعض وجوهها وأس‪44‬رارها‬
‫لمن شفت سرائرهم‪ ،‬وتطهرت قلوبهم‪ ،‬لتكون أنيسا لهم في ذكرهم‪.‬‬
‫وال غرابة عقلية في هذا‪ ،‬فإن كل من توجه وجهة فتح له في تلك الوجهة‪ ،‬ك‪4‬المرآة ينعكس فيه‪4‬ا م‪4‬ا‬
‫يقابلها‪.‬‬
‫فالموجه للتجارة يفتح له فيها بحسب توجه‪4‬ه‪ ،‬والمتوج‪4‬ه للعل‪4‬وم المادي‪4‬ة يفتح ل‪4‬ه فيه‪4‬ا بحس‪4‬ب ج‪4‬ده‬
‫وانشغاله بها‪ ،‬والمتوجه لعوالم الروح بالمكابدات والتأمالت ينفتح ل‪4‬ه من نواف‪4‬ذ ه‪4‬ذا الع‪4‬والم م‪4‬ا ي‪4‬رى ب‪4‬ه‬
‫العجائب‪.‬‬
‫وال يحق لمن لم يرزق مثل هذا أن ينكر على من رزقه‪ ،‬وإال كان ظالم‪4‬ا‪ ،‬وله‪4‬ذا يجيب الص‪4‬الحون‬
‫على من ينكر عليهم قائلين‪ (:‬سر سيرنا ترى ما رأينا)‬
‫وق‪4‬د س‪4‬ئل الغ‪4‬زالي أس‪4‬ئلة أج‪4‬اب عن بعض‪4‬ها‪ ،‬وس‪4‬كت عن أخ‪4‬رى‪ ،‬ق‪4‬ائال لس‪4‬ائله‪ (:‬اعلم أن بعض‬
‫مسائلك التي سألتني عنها ال يستقيم جوابها بالكتابة والقول‪ ،‬إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي! وإال فعلمها‬
‫من المستحيالت؛ ألنها ذوقية‪ ،‬وكل م‪4‬ا يك‪4‬ون ذوقي‪4‬ا‪ ،‬ال يس‪4‬تقيم وص‪4‬فه ب‪4‬القول‪ ،‬كحالوة الحل‪4‬و‪ ،‬وم‪4‬رارة‬
‫المر‪ ،‬ال تعرف إال بالذوق)(‪)2‬‬
‫والسر الذي تنفتح به كوة التعرف على تسبيح الكائنات وعبوديته‪44‬ا ه‪44‬و الطه‪44‬ارة‪ ،‬ف‪44‬العين المكتحل‪44‬ة‬
‫بإثمد الخطيئة ال تستطيع رؤية أنوار اإليمان الساطعة‪ ،‬والقلب المغلف بأوزار المعاصي ال يبصر حقائق‬
‫نفسه‪ ،‬وال حقائق الكون‪.‬‬
‫ولهذا يشترط الربانيون الطهارة ـ بمعناها الشامل ـ للتحقق بمثل هذه المنازل‪ ،‬قال المناوي‪ (:‬وذل‪44‬ك‬
‫ألن األرواح ذات طهارة ونزاهة ولها سمع وبصر وبصرها متصل ببصر العين‪ ،‬ولها سطوع في الج‪44‬و‬
‫تجول وتحول‪ ،‬ثم تصعد إلى مقامها الذي منه بدأت فإذا تخلصت من ش‪4‬غل النفس أدركت من أم‪4‬ر هللا م‪4‬ا‬
‫يعجز عنه البشر فهماً‪ ،‬ولوال شغلها رأت العجائب‪ .‬لكنها تدنست بم‪4‬ا تلبس‪4‬ت فتوس‪4‬خت بم‪4‬ا تقمص‪4‬ت من‬
‫ثياب اللذات وتكدرت بما تشربت من كأس حب الخطيئات)‬
‫وهذا التحقق يكون بالسير إلى هللا‪ ،‬وقد قال الغزالي لتلميذه المحب‪ (:‬باهلل إن تس‪44‬ر ت‪44‬ر العج‪44‬ائب في‬
‫كل منزل)‬
‫انطالقا من هذا اتفق الربانيون من هذه األمة على أن في طاقة اإلنسان أن يس‪44‬مع تس‪44‬بيح الكائن‪44‬ات‪،‬‬
‫بل في طاقته أن يرى سجودها وقنوتها إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع‪.‬‬
‫وأخطر الموانع هي الغفلة‪ ،‬فقد قال بعضهم‪ (:‬لوال ما غمي عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت م‪44‬ا‬
‫تقاررتم)(‪)3‬‬

‫رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رسالة أيها الولد المحب‪ ،‬الغزالي‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أبو الشيخ‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫‪47‬‬
‫يقول سيد قطب عن تأثير الشفافية الروحية في هذا الن‪4‬وع من اإلدراك‪ (:‬وإن الك‪4‬ون ليب‪4‬دو في ه‪4‬ذا‬
‫المشهد الخاشع متجها كله إلى خالقه‪ ،‬مسبحا بحمده‪ ،‬قائما بصالته ؛ وإنه لكذلك في فطرت‪44‬ه‪ ،‬وفي طاعت‪44‬ه‬
‫لمشيئة خالقه الممثلة في نواميسه‪ .‬وإن اإلنسان لي‪4‬درك ‪ -‬حين يش‪4‬ف ‪ -‬ه‪4‬ذا المش‪4‬هد ممثال في حس‪4‬ه كأن‪4‬ه‬
‫يراه ؛ وإنه ليسمع دقات هذا الكون وإيقاعاته تسابيح هلل‪ .‬وإنه ليشارك ك‪4‬ل ك‪4‬ائن في ه‪4‬ذا الوج‪4‬ود ص‪4‬الته‬
‫ونجواه‪ ..‬كذلك كان محمد بن عبد هللا ‪ -‬صالة هللا وس‪44‬المه علي‪44‬ه ‪ -‬إذا مش‪44‬ى س‪44‬مع تس‪44‬بيح الحص‪44‬ى تحت‬
‫قدميه‪ .‬وكذلك كان داود ‪ ‬يرتل مزاميره فتؤوب الجبال معه والطير)(‪)1‬‬
‫وقد ورد في النصوص الكثيرة ما يؤيد هذا القول‪ ،‬وهو من أكبر األدلة والشواهد على أن الكائن‪44‬ات‬
‫تسبح هللا تسبيحا حقيقيا يليق بطبيعتها‪.‬‬
‫وأول من نستشهد به في هذا الباب ما حدث به ابن مسعود من قوله‪ (:‬كنا أص‪44‬حاب محم‪44‬د ‪ ‬نع‪44‬د‬
‫اآليات بركة‪ ،‬وأنتم تعدونها تخويفا‪ ،‬بينما نحن مع رسول هللا ‪ ‬ليس معنا ماء فقال لنا‪( :‬اطلبوا من مع‪44‬ه‬
‫فضل ماء)‪ ،‬فأتي بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده في‪4‬ه‪ ،‬فجع‪4‬ل الم‪44‬اء يخ‪4‬رج من بين أص‪44‬ابعه‪ .‬ثم ق‪44‬ال‪:‬‬
‫( حي على الطهور المبارك والبركة من هللا) فشربنا منه‪ ،‬قال عبد هللا‪ :‬كنا نسمع ص‪44‬وت الم‪44‬اء وتس‪44‬بيحه‬
‫وهو يشرب(‪.)2‬‬
‫وكانوا يسمعون تسبيح الطعام‪ ،‬عن ابن مسعود قال‪ (:‬كنا نأكل مع النبي ‪ ‬فنس‪44‬مع تس‪4‬بيح الطع‪4‬ام‬
‫وهو يؤكل)(‪)3‬‬
‫ويروي أنس قال‪ :‬أتى رسول هللا ‪ ‬بطعام ثريد‪ ،‬فقال‪ (:‬إن هذا الطع‪4‬ام يس‪4‬بح) ق‪4‬الوا‪ (:‬ي‪4‬ا رس‪4‬ول‬
‫هللا‪ ،‬وتفقه تسبيحه؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ثم قال لرجل‪ (:‬ادن هذه القصعة من هذا الرجل)‪ ،‬فأدناها من‪44‬ه فق‪44‬ال‪ :‬نعم ي‪44‬ا‬
‫رسول هللا‪ ،‬هذا الطعام يسبح! فقال‪ (:‬ادنها من آخر)‪ ،‬وأدناها منه‪ ،‬فقال‪ :‬هذا الطعام يسبح‪ .‬ثم ق‪44‬ال‪ :‬رده‪44‬ا‬
‫فقال رجل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬لو أمرت على القوم جميعا‪ ،‬فقال‪ (:‬ال إنها لو سكتت عند رجل لق‪44‬الوا من ذنب‪..‬‬
‫ردها فردها)(‪)4‬‬
‫بل كانوا يسمعون تسبيح الحصى‪ ،‬قال أبو ذر‪ (:‬تناول رسول هللا ‪ ‬سبع حصيات فسبحن في ي‪44‬ده‬
‫حتى سمعت لهن حنينا)(‪)5‬‬
‫ومن هذا الباب ما روي عن سماع آل البيت المطه‪44‬رين ـ عليهم الس‪44‬الم ـ فعن أبي حم‪44‬زة الثم‪44‬الي‬
‫قال‪ :‬قال محمد بن علي بن الحسين‪ ،‬وسمع عصافير يصحن قال‪ :‬تدري م‪44‬ا يقلن؟ قلت‪ :‬ال‪ .‬ق‪44‬ال‪ :‬يس‪44‬بحن‬
‫ربهن تعالى ويسألن قوت يومهن(‪.)6‬‬
‫ويروي عن علي بن الحسين قال‪ (:‬كنا معه فمر بنا عصافير يصحن فق‪4‬ال‪ :‬أت‪4‬درون م‪4‬ا تق‪4‬ول ه‪4‬ذه‬
‫العصافير؟ فقلنا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬أما أني ما أقول إنا نعلم الغيب‪ ،‬ولك‪4‬ني س‪4‬معت أبي يق‪4‬ول‪ :‬س‪4‬معت علي بن أبي‬
‫طالب أمير المؤمنين يقول‪ :‬إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها‪ ،‬وسألته قوت يومها‪ ،‬وإن هذه تسبح ربها‪،‬‬
‫وتسأله قوت يومها (‪.)7‬‬
‫ومثل هؤالء من سار سيرهم من الصالحين‪ ،‬ومما يروى من ذلك أنه كان بيد بعضهم س‪4‬بحة يس‪4‬بح‬
‫الظالل‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه النسائي وابن مردويه‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه أبو الشيخ‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه البـزار والطبراني في األوسط‪ ،‬وفي رواية الطبراني‪ (:‬فسمع تسبيحهن من في الحلقة)‪ ،‬وفيه‪ (:‬ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا)‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫رواه الخطيب‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪48‬‬
‫بها‪ ،‬فنام والسبحة في يده‪ ،‬فاستدارت السبحة‪ ،‬فالتفت على ذراعه‪ ،‬وجعلت تسبح فاستيقظ والسبحة ت‪44‬دور‬
‫في يده‪ ،‬وإذا هي تقول‪ (:‬سبحانك يا منبت البنان ويا دائم الشأن)‬
‫ويروى عن آخر أنه كان إذا دخل بيته فسبح سبحت معه آنية بيته (‪.)1‬‬
‫ويذكر النورسي أن أربع قط‪4‬ط ك‪4‬انت تالزم‪4‬ه‪ ،‬وك‪4‬انت تق‪4‬ول في هريره‪4‬ا‪ (:‬ي‪4‬ا رحيم ي‪4‬ا رحيم ي‪4‬ا‬
‫رحيم‪)2()..‬‬
‫ويحدث آخر عن أبيه قال‪ (:‬كان أبي إذا جاء اللي‪4‬ل دخ‪4‬ل البح‪4‬ر يس‪4‬بح‪ ،‬فتجتم‪4‬ع إلي‪4‬ه حيت‪4‬ان البح‪4‬ر‬
‫يسبحون معه)‬
‫وبمثل هذا روي عن يونس ‪ ‬أنه لما التقمه الحوت‪ ،‬فتصدى به إلى األرض سمعها تسبح فق‪44‬ال‪:‬‬
‫ت ِمنَ َّ‬
‫الظا ِل ِمينَ )(االنبياء‪)87 :‬‬ ‫( أرى ربي يسبح بكل مكان) فقال‪ ﴿:‬ال ِإ َل َه ِإاَّل َأ ْنتَ ُسب َْحا َنكَ ِإ ِّني ُك ْن ُ‬
‫***‬
‫وقد يكون سماع تسبيح الكائنات وعبوديتها طريقا لجذب‪4‬ة رباني‪4‬ة‪ ،‬أو ليقظ‪4‬ة روحي‪4‬ة ترف‪4‬ع حج‪4‬اب‬
‫الغفلة كما يحدث هذا الصالح‪ ،‬فقد قال‪ :‬بت ليلة في بعض أسواق القرى‪ ،‬فإذا فتى عليه س‪44‬يما الص‪44‬الحين‪،‬‬
‫وكان كثيرا ما ينتبه من الليل‪ ،‬فيرفع صوته فيقول‪ (:‬ال إله إال هللا) حتى أصبحنا‪ ،‬فلم‪4‬ا أص‪4‬بحنا أنس‪4‬ت ب‪4‬ه‬
‫وسألته عن فعله ذلك‪ ،‬فق‪4‬ال‪ (:‬كنت أرعى غنم‪4‬ا ألب‪4‬وي فبت ذات ليل‪4‬ة في موض‪4‬ع‪ ،‬وهي معي‪ ،‬ف‪4‬انتبهت‬
‫على أصواتها وهي رافعة رأسها إلى السماء وهي تقول‪ (:‬ال إله إال هللا) فقلت معه‪44‬ا‪ (:‬ال إل‪44‬ه إال هللا) فلم‪44‬ا‬
‫رجعت إلى القرية رددت الغنم على أصحابها‪ ،‬وأقبلت على الخير وحبب إلي)‬
‫ومثل ذلك‪ ،‬سئل بعضهم عن بدء زهده‪ ،‬فق‪4‬ال‪ :‬كنت يوم‪4‬ا م‪44‬ع إخ‪4‬واني في بس‪4‬تان لن‪44‬ا‪ ،‬وذل‪4‬ك حين‬
‫حملت الثمار من ألوان الفواكه‪ ،‬فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمن‪44‬ا‪ ،‬وكنت مولع‪44‬ا بض‪44‬رب الع‪44‬ود والطنب‪44‬ور‪،‬‬
‫فقمت في بعض الليل‪ ،‬فضربت بصوت يقال له راشين السحر‪ ،‬وأراد سنان يغ‪44‬ني‪ ،‬وط‪44‬ائر يص‪44‬يح ف‪44‬وق‬
‫رأسي على شجرة‪ ،‬والعود بيدي ال يجيبني إلى ما أريد‪ ،‬وإذا به ينطق كما ينط‪44‬ق اإلنس‪4‬ان ‪ -‬يع‪4‬ني الع‪4‬ود‬
‫‪4‬زَل ِمنَ ْال َح‪ 4‬قِّ)(الحدي‪44‬د‪ )16 :‬قلت‪:‬‬‫الذي بيده – ويقول‪َ ﴿:‬أ َل ْم َي ْأ ِن ِللَّ ِذينَ آ َمنُوا َأ ْن ت َْخ َش َع قُلُوبُه ُْم ِل ِذ ْك ِر هَّللا ِ َو َم‪44‬ا َن‪َ 4‬‬
‫بلى وهللا! وكسرت العود‪ ،‬وصرفت من كان عندي‪ ،‬فكان هذا أول زهدي وتشميري‪.‬‬
‫ولهذا كانوا الص‪4‬الحون يجمع‪4‬ون م‪4‬ع تس‪4‬بيحهم هلل تس‪4‬بيح الكائن‪4‬ات ليتقرب‪4‬وا ب‪4‬الجميع إلى هللا‪ ،‬ق‪4‬ال‬
‫أحدهم‪ (:‬تباركت ي‪4‬ا رب الع‪4‬المين‪ ،‬يس‪4‬بحك اللي‪4‬ل والنه‪4‬ار‪ ،‬ويس‪4‬بحك الثلج‪ ،‬ويس‪4‬بحك الرع‪4‬د‪ ،‬ويس‪4‬بحك‬
‫المطر‪ ،‬ويسبحك الندى‪ ،‬وتسبح ل‪4‬ك الس‪4‬ماء‪ ،‬وتس‪4‬بح ل‪4‬ك األرض‪ ،‬وتس‪4‬بحك النج‪4‬وم‪ ،‬وتس‪4‬بحك جن‪4‬ودك‬
‫كلهم‪ ،‬تباركت أسماؤك المباركة المقدسة التي لك بهن نسبح ونقدس ونهلل‪ ،‬ال إله إال أنت)‬
‫***‬
‫أما عن لغة التسبيح ـ التي قد تستهوي المجادلين ـ وق‪4‬د يس‪4‬تهزئون إن س‪4‬معوا الص‪4‬الحين ي‪4‬رددون‬
‫أبياتا عن تسبيح الكائنات‪ ،‬ويقولون‪ (:‬ما علم هؤالء بالعروض والقوافي)‬
‫فالجواب عليه بأن لغة الروح المدركة للتسبيح واحدة‪ ،‬لكن التعبير عن هذه اللغ‪4‬ة يختل‪4‬ف ب‪4‬اختالف‬
‫‪ )(1‬رواه أبو الشيخ‪.‬‬
‫‪ )(2‬وقد ذكر النورسي بعض بركات هذه القطط‪ ،‬فقال‪ (:‬كانت لي حصة من الغذاء كل يوم ـ كما يعلم أحبائي القريبون ـ قبل سنتين أو ثالث وهي نصف‬
‫رغيف‪ ،‬وكان رغيف تلك القرية صغيراً‪ ،‬وكثيراً ما كان ال يكفيني‪ ..‬ثم جاءني أربع قطط ضيوفاً‪ ،‬وق‪44‬د كف‪44‬اني ذل‪44‬ك الغ‪44‬ذاء وكف‪44‬اهم‪ .‬ب‪44‬ل غالب‪4‬ا ً ك‪44‬انت تبقى من‪44‬ه‬
‫فضلة وزيادة‪.‬‬
‫هذه الحالة قد تكررت عندي بحيث أعطتني قناعة تامة من أنني أنا الذي كنت استفيد من بركات تلك القطط! وأنا اعلن اعالنا ً قاطعا ً االن ان تلك القط‪44‬ط م‪44‬ا‬
‫علي ولم تكن تبقى تحت منتي‪ ،‬وانما انا الذي كنت ابقى تحت منّتها) انظر‪ :‬المكتوب الحادي والعشرون‪.‬‬ ‫كانت حمالً وال عبئا ً ّ‬
‫‪49‬‬
‫األلسن‪.‬‬
‫وهللا تعالى أخبر عن أقوال أنبيائه وغيرهم ـ مع عدم عربيتهم ـ بتلك البالغة المعجزة‪ ،‬بل ع‪44‬بر عن‬
‫الق‪4‬ول الواح‪4‬د بص‪4‬يغ مختلف‪4‬ة‪ ،‬وك‪4‬ان الك‪4‬ل كالمهم من حيث الحقيق‪4‬ة‪ ،‬وإن لم يكن عين كالمهم من حيث‬
‫اللفظ‪ ،‬فاللفظ مجرد مطية للمعاني‪.‬‬
‫وهكذا تسبيح الكائنات‪ ،‬أو كالمها‪ ،‬فال نتصور أن النملة أو الطير ينطق ما ننط‪44‬ق ب‪44‬ه من ح‪4‬روف‪،‬‬
‫فجهازه الصوتي مختلف عن أجهزتنا‪ ،‬ولكن الجهاز الروحي واحد‪ ،‬وهو م‪4‬ا يجعل‪4‬ه يفهمن‪4‬ا‪ ،‬وم‪4‬ا يجعلن‪4‬ا‬
‫نفهمه‪.‬‬
‫أما تحقيق هذا الكالم‪ ،‬فال يمكن إال بمعرفة س‪44‬ر ال‪4‬روح‪ ،‬أو إدراك كن‪44‬ه جه‪4‬از ال‪44‬روح‪ ،‬وال‪44‬روح ال‬
‫‪4‬رى هَّللا‬
‫يمكن إدراكها بأجهزة الحس‪ ،‬وإال كنا كبني إسرائيل الذين قالوا لموسى ‪َ ﴿:‬ل ْن نُ ْؤ ِمنَ َلكَ َحتَّى َن‪َ 4‬‬
‫َجه َْر ًة ﴾ (البقرة‪)55 :‬‬
‫ومن هذا المنطلق تتجاوب روح المؤمن مع نغمات الكون وتسبيحاته‪ ،‬فيس‪44‬معها وتس‪44‬معه‪ ،‬وينتش‪44‬ر‬
‫من سماعهما من الفرح والسرور ما يقصر عنه فرح المتنزهين في البس‪4‬اتين الن‪4‬اظرين للقش‪4‬ور الغ‪4‬افلين‬
‫عن األرواح‪.‬‬
‫وقد كان اإلمام النورسي ـ بفعل ما مر به من عزل‪4‬ة إجباري‪4‬ة ـ فقيه‪4‬ا بأس‪4‬رار تس‪4‬بيحات الكائن‪4‬ات‪،‬‬
‫وهو يدعونا إلى التجاوب معه في ذلك‪ ،‬يقول مقارنا بين النظرة اإليمانية للكون‪ ،‬ونظرة اإللحاد والغفلة‪(:‬‬
‫ارفع رأسك يا أخي‪ ،‬وألق نظ‪4‬رة في الكائن‪4‬ات‪ ،‬وحاوره‪4‬ا‪ ،‬أم‪4‬ا ك‪4‬انت موحش‪4‬ة في طريقن‪4‬ا االولى واآلن‬
‫تبتسم وتنشر البشر والسرور؟ أال ترى أن عيوننا قد أصبحت كالنحلة تطير الى كل جه‪4‬ة في بس‪44‬تان ه‪4‬ذا‬
‫الكون‪ ،‬وقد تفتحت فيه االزهار في كل مكان‪ ،‬وتمنح الرحيق الطهور‪ .‬ففي كل ناحية انس وس‪44‬لوان‪ ،‬وفي‬
‫ال على عسل)(‪)1‬‬ ‫ّ‬
‫وتقطر شهد الشهادة‪ ،‬عس ِ ً‬ ‫كل زاوية محبة ووئام‪ ..‬فهي ترتشف تلك الهدايا الطيبة‪،‬‬
‫حتى ما نراه مما قد نتوهم قبحه‪ ،‬ونخاف من أذاه ليس إال ترنيمة من ت‪44‬رانيم تس‪44‬ابيح الك‪44‬ون‪ ،‬يق‪44‬ول‬
‫النورسي‪ (:‬فال تخيفنكم نعرات الزالزل وصيحات الحوادث‪ ،‬فهي ترنمات االذكار ونغم‪44‬ات التس‪44‬بيحات‪،‬‬
‫وتهاليل التضرعات)(‪)2‬‬
‫وفي تعبير آخر جميل يص‪4‬ف النورس‪4‬ي بعض األص‪4‬وات ال‪4‬تي تتلقفه‪4‬ا أذن اإليم‪4‬ان بقول‪4‬ه‪ (:‬لن‪4‬دع‬
‫ال منه‪4‬ا‪ ،‬ولنس‪4‬تمع من ال‪4‬دنيا الى نغم‪4‬ات لذي‪4‬ذة‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ونسلم آذاننا لاليمان ب‪4‬د ً‬ ‫عيوننا لتخلد الى شئ من الراحة‪،‬‬
‫فاالصوات التي كانت تتعالى في طريقنا السابقة [طريق اإللحاد والغفل‪4‬ة ] وظنناه‪4‬ا اص‪4‬وات م‪4‬آتم عام‪4‬ة‬
‫ونعيات الموت‪ ..‬هي أصوات أذكار في هذه الطريق وتسابيح وحمد وشكر)(‪)3‬‬
‫فك‪44‬ل م‪44‬ا ن‪44‬راه من حرك‪44‬ات‪ ،‬وك‪44‬ل م‪44‬ا نس‪44‬معه من أص‪44‬وات ص‪44‬دى من أص‪44‬داء تس‪44‬بيح الك‪44‬ون هلل‬
‫( فترنم‪44‬ات الري‪44‬اح ورع‪44‬دات الرع‪44‬ود ونغم‪4‬ات االم‪4‬واج‪ ..‬تس‪4‬بيحات س‪4‬امية جليل‪44‬ة وهزج‪4‬ات االمط‪4‬ار‬
‫وسجعات االطيار‪ ..‬تهاليل رحمة وعناية)(‪)4‬‬
‫والقلب الواعي المؤمن تكون له األذن التي تتلقف مثل هذه المعاني الرقيقة‪ ،‬التي يعبر عنها اللس‪44‬ان‬
‫بمختلف لهجاته ولغاته‪.‬‬

‫الكلمة الثالثة والثالثون‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫الكلمة الثالثة والثالثون‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫الكلمة الثالثة والثالثون‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫الكلمة الثالثة والثالثون‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪50‬‬
‫يقول النورسي‪ (:‬وهكذا تنطق الكائنات كلها معاً وتقول‪ :‬أيه‪44‬ا االنس‪44‬ان الغاف‪44‬ل ال تحس‪44‬بنا جام‪44‬دات!‬
‫فالطيور تنطق‪ ،‬في تذوق نعم ٍة‪ ،‬أو نزول رحم‪ٍ 4‬ة ف‪4‬تزقزق باص‪4‬وات عذب‪4‬ة‪ ،‬ب‪4‬افواه دقيق‪4‬ة ترحاب‪4‬اً ب‪4‬نزول‬
‫الرحمة المهداة‪ .‬حقاً النعمة تنزل عليها‪ ،‬والشكر يديمها‪ ،‬وهي تقول رمزاً‪ :‬ايتها الكائنات! ي‪44‬ا اخ‪44‬وتي! م‪44‬ا‬
‫اطيب حالنا! أال نُربّى بالشفقة والرأفة‪ ..‬نحن راضون عم‪4‬ا نحن علي‪4‬ه من اح‪4‬وال‪ ..‬وهك‪4‬ذا تبث اناش‪4‬يدها‬
‫بمناقيرها الدقيقة‪ ،‬حتى تحول الكائنات كلها الى موسيقى رفيعة)‬
‫قد يقال ـ بعد هذا ـ فالتسبيح إذن ليس تسبيح مقال‪ ،‬وهو على ماذكر من تسبيح الداللة‪.‬‬
‫وقائل هذا ال يعرف الفرق بين المقال والداللة‪ ،‬فالداللة ال تحتاج إلى الوعي‪ ،‬بينما المق‪44‬ال يحتاج‪44‬ه‪،‬‬
‫بل هو ركنه األساسي‪.‬‬
‫والمقال ال يستدعي نطقا بحروف وأصوات معينة‪ ،‬وقد أخبر تع‪4‬الى عن علم‪44‬ه بم‪44‬ا تقول‪44‬ه األف‪44‬واه‪،‬‬
‫ض َو ِإ ْن تُبْ‪ُ 4‬دوا َم‪4‬ا ِفي َأ ْنفُ ِس‪ُ 4‬ك ْم َأو تُ ْخفُ‪4‬وهُ‬ ‫ت َو َم‪4‬ا ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫وما تقوله األلس‪4‬ن‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬هَّلِل ِ َم‪4‬ا ِفي َّ‬
‫اس ْب ُك ْم ِب ِه هَّللا ُ َف َي ْغ ِفرُ ِل َم ْن َي َشا ُء َويُ َع ِّذبُ َم ْن َي َشا ُء َوهَّللا ُ َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ﴾ (البقرة‪)284 :‬‬ ‫ي َُح ِ‬
‫بل عبر عن ما يجول في الخواطر بأنه قول يمكن أن يؤاخذ عليه‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َل ْم ت ََر ِإ َلى الَّ ِذينَ نُهُوا‬
‫ُول َو ِإ َذا َجاءُوكَ َحيَّوْ كَ ِب َم‪44‬ا َل ْم‬‫ت الرَّ س ِ‬ ‫عْص َي ِ‬
‫ان َو َم ِ‬ ‫َاجوْ نَ ِباأْل ِ ْث ِم َو ْال ُع ْد َو ِ‬
‫ع َِن النَّجْ َوى ثُ َّم َيعُو ُدونَ ِل َما نُهُوا َع ْنهُ َو َي َتن َ‬
‫صيرُ﴾ (المجادلة‪)8 :‬‬ ‫س ْال َم ِ‬
‫ي َُحيِّكَ ِب ِه هَّللا ُ َو َيقُولُونَ ِفي َأ ْنفُ ِس ِه ْم َلوْ ال يُ َع ِّذبُنَا هَّللا ُ ِب َما َنقُولُ َح ْسبُه ُْم َج َهنَّ ُم َيصْ َلوْ َن َها َف ِب ْئ َ‬
‫وقد يقال هنا‪ ،‬فكيف نسمع الصامت‪ ،‬وهل يمكن أن نستدل على معاني الخواطر من غير تعب‪44‬يرات‬
‫األلسن؟‬
‫والج‪44‬واب م‪44‬ا ذكرن‪44‬اه من ق‪44‬درة آذان ال‪44‬روح على استش‪44‬فاف مع‪44‬اني الص‪44‬مت الخاش‪44‬ع‪ ،‬وق‪44‬د ق‪44‬ال‬
‫النورسي‪ (:‬إن نور االيمان هو الذي يسمع أصداء االذكار وانغام التس‪44‬ابيح‪ ،‬حيث ال مص‪44‬ادفة وال اتفاقي‪44‬ة‬
‫عشواء)(‪)1‬‬
‫‪ 4‬ـ الدعاء‪:‬‬
‫من عب‪44‬ادات الك‪44‬ون ال‪44‬تي ورد النص عليه‪44‬ا في النص‪44‬وص المقدس‪44‬ة (ال‪44‬دعاء)‪ ..‬وال‪44‬دعاء ه‪44‬و مخ‬
‫العبادة‪ ..‬وال يمكن صدوره إال من ذات واعية تعي حاجتها‪ ،‬وتعرف من تتوجه إليه بطلب هذه الحاجة‪.‬‬
‫وقد ورد في النصوص ما يشير إلى أن الكائنات ق‪4‬د منحت من ال‪4‬وعي ب‪4‬الواقع وم‪4‬ا يرتب‪4‬ط ب‪4‬ه من‬
‫مرضاة هللا وسخطه حتى صارت كالمالئكة تدعو للصالحين وتلعن غيره‪.‬‬
‫ومما ورد من ذلك م‪4‬ا ورد في أح‪4‬اديث كث‪4‬يرة من اس‪4‬تغفار األش‪4‬ياء لط‪4‬الب العلم‪ ،‬فعن قبيص‪4‬ة بن‬
‫المخارق قال‪ (:‬أتيت رسول هللا ‪ ‬فقال لي‪ (:‬يا قبيصة ما ج‪44‬اء ب‪44‬ك) قلت‪ (:‬ك‪44‬برت س‪44‬ني ورق عظمي‪،‬‬
‫فأتيتك لتعلمني ما ينفعني هللا تعالى به) قال‪ (:‬يا قبيصة‪ ،‬ما مررت بحج‪4‬ر وال ش‪4‬جر وال م‪4‬در إال اس‪4‬تغفر‬
‫لك‪ ،‬يا قبيصة إذا صليت الفجر‪ ،‬فقل ثالثا‪ :‬سبحان هللا العظيم وبحمده تعافى من العمى والجذام والفالج‪ ،‬يا‬
‫قبيص‪4‬ة ق‪4‬ل‪ :‬اللهم إني أس‪4‬ألك مم‪4‬ا عن‪4‬دك وأفض علي من فض‪4‬لك وانش‪4‬ر علي رحمت‪4‬ك وأن‪4‬زل علي من‬
‫بركاتك)(‪)2‬‬
‫ومنها قوله ‪ (:‬إن هللا ومالئكته حتى النملة في جحره‪44‬ا وح‪44‬تى الح‪44‬وت في البح‪44‬ر يص‪44‬لون على‬
‫معلم الناس الخير)(‪)3‬‬

‫‪ )(1‬الكلمة الثالثة والثالثون‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫ومنها قوله ‪( :‬من قال إذا ركب دابة‪ :‬باسم هللا الذي ال يض‪4‬ر م‪4‬ع اس‪4‬مه ش‪4‬يء‪ ،‬س‪4‬بحانه ليس ل‪4‬ه‬
‫سمي‪ ،‬سبحان الذي سخر لنا هذا وما كما له مقرنين‪ ،‬وإن‪44‬ا إلى ربن‪44‬ا لمنقلب‪44‬ون‪ ،‬والحم‪44‬د هلل رب الع‪44‬المين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وصلى هللا على محمد وعليه وسلم‪ ،‬قالت الدابة‪ :‬ب‪4‬ارك هللا علي‪4‬ك من م‪4‬ؤمن خففتَ عن ظه‪4‬ري‪ ،‬وأطعتَ‬
‫ربك‪ ،‬وأحسنتَ إلى نفسك‪ ،‬بارك هللا في سفرك‪ ،‬وأنجح مقصدك﴾ (‪.)1‬‬
‫ومن هذا الباب م‪4‬ا روي أن س‪4‬ليمان ‪ ‬خ‪4‬رج يستس‪4‬قي‪ ،‬فم‪4‬ر على نمل‪4‬ة مس‪4‬تلقية على ظهره‪4‬ا‪،‬‬
‫رافعة قوائمها إلى السماء‪ ،‬وهي تقول‪ (:‬اللهم إنا خلق من خلقك‪ ،‬ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك‪ ،‬فإن لم‬
‫تسقنا وترزقنا تهلكنا) فقال سليمان‪ (:‬ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم)‬
‫ومنه ما روي أن بعضهم مر على أبي ذر وهو قائم عند فرس له‪ ،‬فسأله‪ :‬ما تعالج من فرسك ه‪44‬ذا؟‬
‫فقال‪ :‬إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته‪ ،‬قال‪ :‬وما دعاء البهيمة من البهائم قال‪ :‬وال‪44‬ذي نفس‪44‬ي‬
‫بيده ما من فرس إال وهو يدعو كل س‪4‬حر فيق‪4‬و‪ :‬اللهم أنت خولت‪4‬ني عب‪4‬دا من عب‪4‬ادك وجعلت رزقي بي‪4‬ده‬
‫فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده‪.‬‬
‫ولهذا كله ورد في الحديث عن النبي ‪ ‬أنه قال‪( :‬مهاًل عن هللا مهاًل ‪ ،‬فإنه لوال شباب ُخ َّشع‪ ،‬وبهائم‬
‫كع‪ ،‬وأطفال رضَّع‪ ،‬لصب عليكم العذاب ص ًّبا)(‪)2‬‬ ‫رُ تَّع‪ ،‬وشيوخ رُ َّ‬
‫وعلى عكس هذا ما روي من دعاء هذه الكائنات على من أساء إليه‪4‬ا‪ ،‬ومن ه‪4‬ذا الب‪4‬اب م‪4‬ا ورد في‬
‫‪4‬ر ط‪4‬ائر‪ ،‬إذا أف‪4‬رخ يأخ‪4‬ذ فرخي‪4‬ه‪ ،‬فش‪4‬كا ذل‪4‬ك‬ ‫الحديث من قوله ‪(:‬كان فيمن ك‪4‬ان قبلكم رج‪4‬ل ي‪4‬أتي و ْك َ‬
‫الطائر إلى هللا عز وجل ما يصنع ذلك الرجل به‪ ،‬فأوحى هللا عز وجل إلي‪44‬ه‪ :‬إن ه‪44‬و ع‪44‬اد فس‪44‬أهلكه‪ ،‬فلم‪44‬ا‬
‫أفرخ خرج ذلك الرجل كما كان يخرج‪ ،‬وأخذ سُل ًما‪ ،‬فلما كان في طريق القرية لقيه س‪4‬ائل فأعط‪4‬اه رغي ًف‪4‬ا‬
‫من زاده‪ ،‬ثم مضى حتى أتى ذلك الوكر‪ ،‬فوضع سلمه‪ ،‬ثم صعد فأخذ الفرخين وأبواهما ينظ‪44‬ران‪ ،‬فق‪44‬اال‪:‬‬
‫يا رب إنك وعدتنا أن تهلكه إن عاد‪ ،‬وقد عاد فأخذها فلم تهلكه‪ ،‬قال‪ :‬ف‪4‬أوحى هللا إليهم‪4‬ا‪ ،‬ولم تعلم‪4‬ا أني ال‬
‫أغلب أحدًا تص َّدق في يوم –بصدقة ذلك اليوم‪ -‬بميتة سوء)(‪)3‬‬

‫ومن هذا الباب ما روى من التأثير الدنيوي لإلساءة الحيوان‪ ،‬فق‪4‬د روي أن رجال ذبح عجال ل‪4‬ه بين‬
‫يدي أمه‪ ،‬فخبل‪ ،‬فبينما هو تحت شجرة فيها وكر فيه ف‪4‬رخ فوق‪4‬ع الف‪4‬رخ إلى األرض فرحم‪4‬ه‪ ،‬فأع‪4‬اده في‬
‫مكانه‪ ،‬فرد هللا عليه قوته‪.‬‬
‫وهذا يتفق مع ما ورد عن نهيه ‪ ‬أن توله والدة عن ولدها وهو ـ كما ذكر العلماء ـ ع‪44‬ام في ب‪44‬ني‬
‫آدم وغيرهم‪.‬‬
‫ومن هذا الباب ما رواه الدينوري في (المجالسة)‪ :‬أن قو ًم‪4‬ا ك‪4‬انوا في س‪4‬فر‪ ،‬فك‪4‬ان فيهم رج‪4‬ل يم‪4‬رُّ‬
‫الطائرُ فيقول‪ :‬تدرون ما تقول هذه؟ فيقولون‪ :‬ال‪ ،‬ق‪4‬ال‪ :‬فأتين‪4‬ا على ق‪4‬وم فيهم ظعين‪4‬ة على جم‪4‬ل له‪4‬ا وه‪4‬و‬
‫يرغو ويحنو عنقه إليها‪ ،‬قال‪ :‬أتدرون ما يقول هذا البع‪4‬ير؟ قلن‪4‬ا‪ :‬ال‪ .‬ق‪4‬ال‪ :‬فإن‪4‬ه يلعن راكبت‪4‬ه وي‪4‬زعم أنه‪4‬ا‬
‫رحلته على ِم ْخ َيط فهو مؤثر في سنامه‪ .‬قال‪ :‬فانتهينا إليهم فقلنا‪ :‬يا ه‪4‬ؤالء إن ص‪4‬احبنا ه‪4‬ذا ي‪4‬زعم أن ه‪4‬ذا‬
‫البعير يلعن راكبته‪ ،‬ويزعم أنها رحلته على مخيط وأنه في سنامه‪ ،‬قال‪ :‬فأناخوا البعير‪ ،‬فحطوا عنه‪ ،‬ف‪4‬إذا‬
‫هو كما قال)‬
‫ولهذا كان الصالحون يستشعرون خطر اإلساءة للحيوان من ه‪4‬ذا الج‪4‬انب‪ ،‬وق‪4‬د روي عن بعض‪4‬هم‬
‫‪ )(1‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البيهقي في سننه‪ ،‬وأبو يعلى في مسنده‪.‬‬
‫‪ )(3‬أخرجه ابن النجار في تاريخه‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫أنه قال لبعير له عند الموت‪( :‬يا أيها البعير ال تخاصمني عند ربك‪ ،‬فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك)‬
‫وعن عبد هللا بن جعفر ق‪4‬ال‪ :‬أردف‪4‬ني رس‪4‬ول هللا ‪ ‬لى خلف‪4‬ه ذات ي‪4‬وم‪..‬ف‪4‬دخل حائط‪4‬ا لرج‪4‬ل من‬
‫األنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي ‪ّ ‬‬
‫حن وذرفت عيناه‪ ،‬فأتاه رس‪44‬ول هللا ‪ ‬فمس‪44‬ح ذف‪44‬راه فس‪44‬كت‪،‬‬
‫فقال‪( :‬من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟) فجاء فتى من األنصار فقال‪ :‬لي ي‪4‬ا رس‪4‬ول هللا‪ ،‬فق‪4‬ال‪( :‬أفال‬
‫إلي أنك تجيعه وتدئبه)(‪)1‬‬
‫تتقي هللا في هذه البهيمة التي ملكك هللا إياها‪ ،‬فإنه شكى ّ‬

‫‪ )(1‬رواه أحمد وأبو داود‪.‬‬


‫‪53‬‬
‫ثالثا ـ الكون المسخر‬
‫الكون ـ في النصوص المقدسة‪ ،‬وكما يفهمه المؤمن ـ ك‪44‬ون مس‪44‬خر في خدم‪44‬ة اإلنس‪44‬ان‪ ،‬يس‪44‬تجيب‬
‫لجميع مطالبه‪ ،‬ليحقق له األمن بجميع أشكاله‪ ،‬ويوفر له القوت بجميع أنواعه‪ ،‬بل يض‪44‬م إلى ذل‪44‬ك رعاي‪44‬ة‬
‫جوانبه النفسية‪ ،‬فيمألها بالحيوية والجمال‪.‬‬
‫وهذه الرؤية هي الرؤية الوحيدة التي يتفق فيها المؤمن م‪44‬ع غ‪44‬يره‪ ،‬وهي رؤي‪44‬ة مش‪44‬تركة من حيث‬
‫الظاهر‪ ،‬فالكل يتمتع بخيرات الكون‪ ،‬ويس‪4‬تغلها‪ ،‬ويستس‪4‬خرها في مص‪4‬الحه‪ ،‬معت‪4‬برا مص‪4‬الحه أعلى من‬
‫مصالحها‪.‬‬
‫لكن النصوص المقدسة تميز نظرة المؤمن عن نظرات غيره تمي‪4‬يزا كلي‪4‬ا‪ ،‬فتكس‪4‬بها طابع‪4‬ا روحي‪4‬ا‬
‫مؤدبا غير موغل في البهيمية(‪ )1‬وال مفرط في األنانية‪.‬‬
‫وسنذكر هنا بعض خصائص الكون المسخر‪ ،‬كما وردت في النصوص‪ ،‬وهي من السمو والرفع‪44‬ة‬
‫ما تجعل المؤمن يتعامل مع الكون بإحساس مرهف‪ ،‬عميق المشاعر‪.‬‬
‫وهذا الحس النبيل هو الوحيد الذي نعيش فيه السالم مع الكون‪ ،‬ويعيش فيه الكون السالم معنا‪.‬‬
‫وسنكتفي بأربع خصائص كبرى تكاد كل الخصائص األخرى تؤول إليها‪:‬‬
‫أما أولها‪ ،‬فالربانية‪ ،‬وهي خاصبة أساسية‪ ،‬فهذا الكون الذي سخر لنا لم يس‪4‬خر لن‪4‬ا من ذات‪4‬ه‪ ،‬وإنم‪4‬ا‬
‫سخر لنا من هللا‪ ،‬فلذلك هو ينتسب إلى هللا قبل أن ينتسب إلينا‪ ،‬أو هو يطيع هللا في طاعته لنا‪.‬‬
‫وهذه النظرة ترف‪4‬ع عن‪4‬ا الكبري‪4‬اء ال‪4‬تي تجعلن‪4‬ا نهين الك‪4‬ون من حيث ال نش‪4‬عر‪ ،‬فنس‪4‬تكبر علي‪4‬ه‪ ،‬أو‬
‫نطالبه بما نريد وكأننا أربابه‪.‬‬
‫وأما الثانية‪ ،‬فالسالم‪ ،‬فالكون خلقه هللا مسالما لن‪4‬ا‪ ،‬ال مص‪4‬ارعا لن‪4‬ا‪ ،‬ومن الخط‪4‬أ ال‪4‬ذي يتس‪4‬رب من‬
‫غياب هذه النظرة التعامل مع الكون تعامل المحاربين ال تعامل األصدقاء‪.‬‬
‫وأما الثالثة‪ ،‬فالحكمة‪ ،‬وهي أن هذا الكون بما فيه خلق لحكم جليل‪44‬ة‪ ،‬ومن األدب م‪44‬ع هللا أن ن‪44‬راعي‬
‫ما خلق له‪ ،‬فنستعمله فيما خلق له‪.‬‬
‫وأما الرابعة‪ ،‬فالطهارة‪ ،‬فهذا الكون الذي سخر لنا خلق على الفطرة األصلية‪ ،‬وهي فط‪44‬رة ط‪44‬اهرة‬
‫سليمة‪ ..‬ومن العبث بخلق هللا واالستهانة به احتقار فطرته‪ ،‬أو تحويلها‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الربانية‪:‬‬
‫أول خاصية من خصائص الكون ربانيته‪ ،‬فالكون كون هللا ملكا‪ ،‬وكون هللا تدبيرا‪.‬‬
‫وه‪44‬ذان الجانب‪44‬ان هم‪44‬ا الل‪44‬ذان وردت النص‪44‬وص الكث‪44‬يرة للدالل‪44‬ة عليهم‪44‬ا‪ ،‬وملء القل‪44‬وب والعق‪44‬ول‬
‫بمعانيهما‪.‬‬
‫وهذان المعنيان هما اللذان ينشأ عنهما األدب الرفيع مع الكون‪ ،‬فال‪4‬ذي يش‪44‬عر ب‪44‬أن م‪4‬ا يتص‪44‬ور أن‪44‬ه‬
‫يملكه ملك هلل‪ ،‬وأنه مجرد عارية له‪ ،‬يستحيي من هللا أن يسيئ إليه في ملكه‪.‬‬
‫والذي يرى أن م‪4‬ا يح‪4‬دث في الك‪4‬ون من أح‪4‬وال ت‪4‬دبير من ت‪4‬دبير هللا يس‪4‬تحيي أن يع‪4‬ارض هللا في‬
‫تدبيره‪.‬‬
‫الملكية‪:‬‬

‫يحسب التعبير الغالب‪ ،‬ال بحسب الحقيقة كما قدمنا‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫‪54‬‬
‫ض ﴾ (النساء‪ )170 :‬هي الالزمة القرآني‪4‬ة ال‪4‬تي ت‪4‬تردد ك‪4‬ل حين‪ ،‬لت‪4‬بين‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫﴿ هَّلِل ِ َما ِفي ال َّس َم َ‬
‫ملكية هللا المطلقة لكل ما نراه وما ال نراه من األشياء‪.‬‬
‫وليس الغرض من هذا التكرير تقرير هذه الحقيقة فقط‪ ،‬والتي تدل عليها كل ال‪44‬دالئل‪ ،‬ب‪44‬ل الغ‪44‬رض‬
‫منها التنبيه في كل مناسبة تدب فيها الغفلة إلى أن هللا مالك السموات واألرض وم‪44‬ا فيهن‪ .‬ق‪44‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬هَّلِل ِ‬
‫ض َو َما ِفي ِه َّن َوهُ َو َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ﴾ (المائدة‪)120:‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ُم ْل ُك ال َّس َم َ‬
‫أو في كل مناسبة تستدعي التعرف على عظمة هللا‪ ،‬أو التصديق بوع‪4‬ده ووعي‪4‬ده‪ ،‬كم‪4‬ا ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪:‬‬
‫هَّللا َح ٌّق َو َل ِك َّن َأ ْك َث َر ُه ْم ال َيعْ َل ُمونَ ﴾ (يونس‪)55 :‬‬ ‫رْض َأال ِإ َّن َو ْع َد ِ‬
‫ت َواأْل َ ِ‬ ‫﴿ َأال ِإ َّن ِهَّلِل َما ِفي الس ََّم َاوا ِ‬
‫أوفي كل مناسبة تستدعي التعرف على مصنوعات هللا المستدرة للحمد‪ ،‬قال تع‪4‬الى‪ْ ﴿:‬ال َح ْم‪ُ 4‬د هَّلِل ِ الَّ ِذي‬
‫ور ثُ َّم الَّ ِذينَ َك َفرُوا ِب َر ِّب ِه ْم َيعْ ِدلُونَ ﴾ (األنعام‪)1:‬‬ ‫ت َوال ُّن َ‬ ‫ض َو َج َع َل ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫خَ َل َق ال َّس َم َ‬
‫أو في كل مناسبة تستدعي تبيان قدرة هللا المطلقة‪ ،‬قال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬أ ْم‪44‬رًا ِم ْن ِع ْن‪ِ 4‬دنَا ِإنَّا ُكنَّا ُمرْ ِس‪ِ 4‬لينَ ( ‪)5‬‬
‫ض َو َما َب ْي َنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُمو ِق ِنينَ ( ‪( ﴾)7‬الدخان)‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫َرحْ َم ًة ِم ْن َربِّكَ ِإنَّهُ هُ َو ال َّس ِمي ُع ْال َع ِلي ُم (‪َ )6‬ربِّ ال َّس َم َ‬
‫أو في كل مناسبة تستدعي تذكير النفس باهلل وبأوصاف هللا وبأفعال هللا‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬قُ‪44‬لْ ِل َم ْن َم‪44‬ا ِفي‬
‫خَسرُوا َأ ْنفُ َس ‪4‬ه ُْم‬ ‫ْب ِفي ِه الَّ ِذينَ ِ‬ ‫َب َع َلى َن ْف ِس ِه الرَّحْ َم َة َل َيجْ َم َعنَّ ُك ْم ِإ َلى َيوْ ِم ْال ِق َيا َم ِة ال َري َ‬ ‫ض قُلْ هَّلِل ِ َكت َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫َفه ُْم ال ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ (األنعام‪)12:‬‬
‫والقرآن الكريم يخبر في المناسبات المختلفة عن ملكية هللا لألشياء‪ ،‬ويرتب عليها ما يقتضيه اعتقاد‬
‫هذه الملكية‪:‬‬
‫ت‬‫اوا ِ‬ ‫‪4‬ك َّ‬
‫الس ‪َ 4‬م َ‬ ‫ف‪44‬يرتب عليه‪44‬ا تف‪44‬رد هللا تع‪44‬الى بالوالي‪44‬ة والنص‪44‬رة‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬أ َل ْم تَعْ َل ْم َأ َّن هَّللا َ َل‪4‬هُ ُم ْل‪ُ 4‬‬
‫ت‬‫اوا ِ‬ ‫‪4‬ك َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫ير﴾ (البقرة‪ ،)107 :‬وق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ِ ﴿:‬إ َّن هَّللا َ َل‪4‬هُ ُم ْل ُ‬ ‫َص ٍ‬ ‫ون هَّللا ِ ِم ْن َو ِل ٍّي َوال ن ِ‬‫ض َو َما َل ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ير﴾ (التوبة‪)116:‬‬ ‫َص ٍ‬ ‫ون هَّللا ِ ِم ْن َو ِل ٍّي َوال ن ِ‬ ‫يت َو َما َل ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬ ‫ض يُحْ ِيي َوي ُِم ُ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض يُ َع ِّذبُ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ويرتب عليها تفرد هللا بالثواب والعقاب‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َل ْم تَعْ َل ْم َأ َّن هَّللا َ َلهُ ُم ْل ُك ال َّس َم َ‬
‫َم ْن َي َشا ُء َو َي ْغ ِفرُ ِل َم ْن َي َشا ُء َوهَّللا ُ َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ﴾ (المائدة‪)40:‬‬
‫يك‬ ‫ويرتب عليها استحقاقه وحده للحمد‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وقُ ِل ْال َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َل ْم َيتَّ ِخ‪ْ 4‬ذ َو َل‪4‬داً َو َل ْم َي ُك ْن َل‪4‬هُ َش‪ِ 4‬ر ٌ‬
‫الذلِّ َو َكبِّرْ هُ َت ْك ِبيراً﴾ (االسراء‪)111 :‬‬ ‫ِفي ْال ُم ْل ِك َو َل ْم َي ُك ْن َلهُ َو ِل ٌّي ِمنَ ُّ‬
‫‪4‬و‬ ‫‪4‬وت ُك‪4‬لِّ َش‪ْ 4‬ي ٍء َوهُ َ‬ ‫ويرتب عليها أنه وحده الذي يجير وال يجار عليها‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬قُلْ َم ْن ِب َي ِد ِه َم َل ُك ُ‬
‫ي ُِجيرُ َوال ي َُجارُ َع َل ْي ِه ِإ ْن ُك ْنتُ ْم تَعْ َل ُمونَ ﴾ (المؤمنون‪ )88 :‬ألن اإلجارة ال تكون إال لمالك قادر‪.‬‬
‫ولهذا كان من أسماء هللا تعالى الملك والمالك‪ ،‬وهذا االسم ال يعني بأي وج‪4‬ه من الوج‪4‬وه م‪4‬ا نفهم‪44‬ه‬
‫من الملكية التي ندعي حصولها لنا في بعض األشياء‪ ،‬فهي ملكية مجازية اعتبارية يحيط بها القصور من‬
‫كل النواحي بخالف ملكية هللا تعالى‪.‬‬
‫فالملك ـ كما يقول الغزالي ـ هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن ك‪4‬ل موج‪4‬ود‪ ،‬ويحت‪4‬اج إلي‪4‬ه ك‪4‬ل‬
‫موجود‪ ،‬بل ال يستغني عنه شيء في شيء‪ ،‬ال في ذاته وال في ص‪44‬فاته وال في وج‪44‬وده وال في بقائ‪44‬ه‪ ،‬ب‪44‬ل‬
‫كل شيء فوجوده منه أو مما هو منه‪ ،‬فكل شيء سواه هو له مملوك في ذات‪4‬ه وص‪4‬فاته وه‪4‬و مس‪4‬تغن عن‬
‫كل شيء(‪.)1‬‬
‫والملك بهذا الوصف ال يكون إال هلل‪ ،‬أما العبد فال يتصور أن يكون ملكا مهما اتسعت أمالكه وقوي‬

‫المقصد األسنى‪.67 :‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫‪55‬‬
‫نفوذه‪.‬‬
‫فهو ( ال يستغني عن كل شيء‪ ،‬فإنه أبدا فقير إلى هللا تعالى‪ ،‬وإن استغنى عمن س‪44‬واه‪ ،‬وال يتص‪44‬ور‬
‫أن يحتاج إليه ك‪4‬ل ش‪4‬يء ب‪4‬ل يس‪4‬تغني عن‪4‬ه أك‪4‬ثر الموج‪4‬ودات‪ ،‬ولكن لم‪4‬ا تص‪4‬ور أن يس‪4‬تغني عن بعض‬
‫األشياء وال يستغني عنه بعض األشياء كان له شوب من الملك)(‪)1‬‬
‫وقد أشار بعض العارفين لما قال له بعض األمراء‪ (:‬سلني حاجتك)‪ ،‬فأجابه الع‪44‬ارف‪ (:‬أوتق‪44‬ول لي‬
‫هذا ولي عبدان هما سيداك) فقال‪ (:‬ومن هما؟) قال‪ (:‬الحرص واله‪4‬وى‪ ،‬فق‪4‬د غلبتهم‪4‬ا وغلب‪4‬اك وملكتهم‪4‬ا‬
‫وملكاك) إلى أن الملك الذي يزعم لنفسه ملكية الخلق ال يملك حتى نفسه‪.‬‬
‫وبذلك يكون شعور الم‪4‬ؤمن بملكي‪4‬ة هللا لك‪4‬ل األش‪4‬ياء ه‪4‬و المنطل‪4‬ق للتع‪4‬رف علي‪4‬ه من خالله‪4‬ا‪ ،‬ثم‬
‫لتسخيرها وفق إرادة هللا‪.‬‬
‫ولهذا يتفق األنبياء على تذكير أقوامهم بهذه الحقيقية‪ ،‬وقد أخبر القرآن الكريم أن فرع‪44‬ون لم‪44‬ا س‪44‬أل‬
‫موسى عن حقيقة هللا طالبا التعرف على الماهية قائال‪َ ﴿:‬و َما َربُّ ْال َعا َل ِمينَ ﴾ أجابه موسى ‪ ‬ببيان ملكية‬
‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َو َما َب ْي َنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُمو ِق ِنينَ ﴾ (الشعراء‪)24 :‬‬ ‫هللا لجميع األشياء‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬ربُّ ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫وكأن موسى ‪ ‬يرد بهذه اإلجابة على كل األس‪4‬س ال‪4‬تي يق‪4‬وم عليه‪4‬ا تص‪4‬ور فرع‪4‬ون أللوهيت‪4‬ه‪،‬‬
‫ص‪َ 4‬ر َو َه‪ِ 4‬ذ ِه اأْل َ ْن َه‪44‬ارُ تَجْ‪ِ 4‬ري ِم ْن تَحْ ِتي َأ َفال‬ ‫ْس ِلي ُم ْل‪ُ 4‬‬
‫‪4‬ك ِم ْ‬ ‫وه‪44‬و م‪44‬ا ع‪44‬بر عن‪44‬ه ذات ي‪44‬وم بقول‪44‬ه‪َ ﴿:‬ي‪44‬ا َق‪44‬وْ ِم َأ َلي َ‬
‫ْصرُونَ ﴾ (الزخرف‪)51 :‬‬ ‫تُب ِ‬
‫وبذلك يكون التع‪4‬رف على ملكي‪4‬ة هللا لألش‪4‬ياء ه‪4‬و أس‪4‬اس الش‪4‬عور بالعبودي‪4‬ة ال‪4‬تي تقتض‪4‬ي تن‪4‬اول‬
‫األشياء من يد هللا‪ ،‬وهو ما يرفع اإلنسان إلى آفاق عليا من األدب مع الكون ومع هللا‪.‬‬
‫***‬
‫وفي ذلك الحين يتحول الكون المسخر هدايا رباني‪44‬ة مقدم‪44‬ة من هللا لإلنس‪44‬ان‪ ،‬ليفيض قلب اإلنس‪44‬ان‬
‫ومشاعره بجميع أنواع الحمد‪.‬‬
‫وبسر هذا المعنى يرتبط حمد هللا ـ كما ورد في اآلثار ـ باألشياء‪ ،‬فرسول هللا ‪ ‬مثال يعلمنا عن‪44‬دما‬
‫نريد أن نلبس ثوبا أن نقول كما ورد في الحديث‪ (:‬من لبس ثوبا فقال‪ :‬الحمد هلل ال‪4‬ذي كس‪4‬اني ه‪4‬ذا الث‪4‬وب‬
‫ورزقنيه من غير حول مني وال قوة‪ ،‬غفر هللا له ما تقدم من ذنبه)(‪)2‬‬
‫فقد جاء التعبير النبوي معبرا على أن هللا هو الكاسي وهو ال‪44‬رازق‪ ،‬وأن‪44‬ه ليس للعب‪44‬د من ح‪44‬ول وال‬
‫قوة ليحقق لنفسه هذه المصلحة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ولهذا ورد اللباس في القرآن الكريم بصيغة اإللباس‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬يا َب ِني آ َد َم َق ْد أنزَلنَا َع َل ْي ُك ْم ِل َباساً‬
‫ت هّللا ِ َل َعلَّه ُْم َي َّذ َّكرُونَ ﴾ (األعراف‪)26 :‬‬
‫ى َذ ِلكَ خَ يْرٌ َذ ِلكَ ِم ْن آ َيا ِ‬ ‫اري َسوْ َءا ِت ُك ْم َو ِريشاً َو ِل َباسُ التَّ ْق َو َ‬ ‫ي َُو ِ‬
‫والقرآن الكريم يعبر عن النعم المفاضة على العبادة مهما اختلف نوعها بصيغة اإلنزال‪ ،‬ليشير إلى‬
‫أن ملكيتها الحقيقية هلل‪ ،‬وأنها وافدة على العباد ال ملكا مستقرا لهم‪.‬‬
‫قال تعالى في بيان عمومية نزول كل ما يتصور العباد ملكيته من الك‪44‬ون‪َ ﴿:‬و ِإ ْن ِم ْن َش‪ْ 4‬ي ٍء ِإاَّل ِع ْن‪َ 4‬دنَا‬
‫وم﴾ (الحجر‪)21 :‬‬ ‫خَزَا ِئنُهُ َو َما نُن َِّزلُهُ ِإاَّل ِب َقد ٍَر َمعْ لُ ٍ‬
‫ويستوي في هذا اإلنزال ما يكون حسا أو ما يكون معنى‪:‬‬
‫المقصد األسنى‪.67 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه أبو داود والرتمذي‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬

‫‪56‬‬
‫ال‬‫ق َف َج َع ْلتُ ْم ِم ْنهُ َح َرام‪44‬اً َو َحال ً‬ ‫زَل هَّللا ُ َل ُك ْم ِم ْن ِر ْز ٍ‬ ‫قال تعالى عن إنزال الكائنات الحسية‪ ﴿:‬قُلْ َأ َر َأ ْيتُ ْم َما َأ ْن َ‬
‫قُلْ آهَّلل ُ َأ ِذنَ َل ُك ْم َأ ْم َع َلى هَّللا ِ َت ْف َترُونَ ﴾ (يونس‪)59 :‬‬
‫وخص بعض الكائنات الحسية بالذكر بصفة اإلنزال ألهميتها‪ ،‬ومنها األنعام‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬خَ َل َق ُك ْم ِم ْن‬
‫خَلق‪4‬اً ِم ْن َبعْ‪ِ 4‬د‬ ‫‪4‬ون أُ َّم َه‪44‬ا ِت ُك ْم ْ‬
‫ط‪ِ 4‬‬ ‫اج َي ْخلُقُ ُك ْم ِفي بُ ُ‬ ‫زَل َل ُك ْم ِمنَ اأْل َ ْن َع ِام َث َما ِن َي َة َأ ْز َو ٍ‬
‫اح َد ٍة ثُ َّم َج َع َل ِم ْن َها زَ وْ َج َها َو َأ ْن َ‬ ‫س َو ِ‬ ‫َن ْف ٍ‬
‫ث َذ ِل ُك ُم هَّللا ُ َر ُّب ُك ْم َلهُ ْال ُم ْل ُك ال ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو َفأَنَّى تُصْ َرفُونَ ﴾ (الزمر‪)6 :‬‬ ‫ت َثال ٍ‬ ‫ظلُ َما ٍ‬ ‫ق ِفي ُ‬ ‫ْ‬
‫خَل ٍ‬
‫الس‪َ 4‬م ِاء‬ ‫‪4‬زَل ِمنَ َّ‬ ‫ومنها إنزال الماء‪ ،‬وهو أكثرها ورودا في القرآن الكريم‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ُ ﴿:‬ه َو ا َّل ِذي َأ ْن‪َ 4‬‬
‫َم ًاء َل ُك ْم ِم ْن ُه َش َرابٌ َو ِم ْن ُه َش َجرٌ ِفي ِه ُت ِس ُيمونَ ﴾ (النحل‪)10 :‬‬
‫وليس المراد باإلنزال هنا ما يتوهم من كون المط‪44‬ر ن‪44‬ازال من الس‪44‬ماء فق‪44‬ط‪ ،‬وإنم‪44‬ا الم‪44‬راد ربط‪44‬ه‬
‫بملكية هللا‪ ،‬ولهذا سبق اإلنزال ذكر الضمير المنفصل العائد على هللا تعالى‪.‬‬
‫َاب َو ْال ِميزَ انَ‬ ‫زَلنَا َم َعهُ ُم ْال ِكت َ‬ ‫ت َو َأ ْن ْ‬ ‫ومن النعم الحسية المنزلة الحديد‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬ل َق ْد َأرْ َس ْلنَا رُ ُس َلنَا ِب ْال َب ِّينَا ِ‬
‫رُس‪َ 4‬لهُ ِب ْ‬ ‫ْ‬
‫ب ِإ َّن هَّللا َ‬‫‪4‬ال َغ ْي ِ‬ ‫ص‪4‬رُ ُه َو ُ‬ ‫زَلنَا ْال َح ِدي َد ِفي ِه َب‪4‬أسٌ َش‪ِ 4‬دي ٌد َو َمنَ‪4‬ا ِف ُع ِللنَّ ِ‬
‫اس َو ِل َيعْ َل َم هَّللا ُ َم ْن َي ْن ُ‬ ‫ْط َو َأ ْن ْ‬‫ِل َيقُو َم النَّاسُ ِب ْال ِقس ِ‬
‫يز﴾ (الحديد‪)25:‬‬ ‫َق ِويٌّ ع َِز ٌ‬
‫وفي المزج بين إنزال الحديد‪ ،‬وإنزال الكتاب والميزان‪ ،‬وتقديم الكتاب والميزان على الحديد إشارة‬
‫إلى أن تسيير منافع الحديد مقيد بالضوابط التي يفرضها الكتاب والميزان‪.‬‬
‫ومثل إنزال ملكية هللا للكائنات الحسية إنزال هللا للكائنات المعنوية‪ ،‬ومنها السكينة والجن‪44‬د الرب‪44‬اني‪،‬‬
‫ب الَّ ِذينَ َك َفرُوا َو َذ ِلكَ‬ ‫زَل جُ نُوداً َل ْم ت ََروْ هَا َو َع َّذ َ‬ ‫زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َلى َرسُو ِل ِه َو َع َلى ْال ُم ْؤ ِم ِنينَ َو َأ ْن َ‬ ‫قال تعالى‪ ﴿:‬ثُ َّم َأ ْن َ‬
‫َص َرهُ هَّللا ُ ِإ ْذ َأ ْخ َر َجهُ الَّ ِذينَ َك َف‪4‬رُوا َث‪4‬ا ِن َي ْاث َني ِْن ِإ ْذ‬ ‫ال َت ْنصُرُوهُ َف َق ْد ن َ‬ ‫َجزَا ُء ْال َكا ِف ِرينَ ﴾ (التوبة‪ ،)26 :‬وقال تعالى‪ِ ﴿:‬إ ّ‬
‫‪4‬ل َك ِل َم‪َ 4‬ة‬ ‫زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َل ْي ِه َو َأيَّ َدهُ ِبجُ نُو ٍد َل ْم ت ََروْ هَا َو َج َع‪َ 4‬‬ ‫زَن ِإ َّن هَّللا َ َم َعنَا َفأَ ْن َ‬‫اح ِب ِه ال تَحْ ْ‬ ‫ص ِ‬ ‫َار ِإ ْذ َيقُولُ ِل َ‬ ‫هُ َما ِفي ْالغ ِ‬
‫‪4‬ل الَّ ِذينَ َك َف‪44‬رُوا‬ ‫يز َح ِكي ٌم﴾ (التوبة‪ ،)40 :‬وقال تعالى‪ِ ﴿:‬إ ْذ َج َع‪َ 4‬‬ ‫الَّ ِذينَ َك َفرُوا ال ُّس ْف َلى َو َك ِل َمةُ هَّللا ِ ِه َي ْالع ُْل َيا َوهَّللا ُ ع َِز ٌ‬
‫‪4‬وى َو َك‪44‬انُوا‬ ‫زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َلى َرسُو ِل ِه َو َع َلى ْال ُم ْؤ ِم ِنينَ َو َأ ْلزَ َمه ُْم َك ِل َم‪َ 4‬ة التَّ ْق‪َ 4‬‬ ‫ِفي قُلُو ِب ِه ُم ْال َح ِميَّ َة َح ِميَّ َة ْال َجا ِه ِليَّ ِة َفأَ ْن َ‬
‫ق ِب َها َو َأ ْه َل َها َو َكانَ هَّللا ُ ِب ُكلِّ َش ْي ٍء َع ِليماً﴾ (الفتح‪)26 :‬‬ ‫َأ َح َّ‬
‫‪4‬ر ِه َع َلى َم ْن‬ ‫‪4‬الرُّوح ِم ْن َأ ْم ِ‬
‫ِ‬ ‫َ‪4‬زلُ ْال َمال ِئ َك‪َ 4‬ة ِب‬ ‫ومن هذا الباب إنزال المالئكة والروح‪ ،‬كما ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬يُن ِّ‬
‫ون﴾ (النحل‪)2 :‬‬ ‫َي َشا ُء ِم ْن ِع َبا ِد ِه َأ ْن َأ ْن ِذرُوا َأنَّهُ ال ِإ َل َه ِإاَّل َأنَا َفاتَّقُ ِ‬
‫‪4‬زَل َع َل ْي ُك ْم‬ ‫ومنه إنزال الشعور باألمن الذي يمأل النفس بالراحة‪ ،‬ويتيح لها الن‪44‬وم‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪44‬الى‪ ﴿:‬ثُ َّم َأ ْن‪َ 4‬‬
‫طا ِئ َف ًة ِم ْن ُك ْم ﴾ (آل عمران‪)154 :‬‬ ‫ِم ْن َبعْ ِد ْال َغ ِّم َأ َم َن ًة نُ َعاساً َي ْغ َشى َ‬
‫وبهذا يعيش المؤمن‪ ،‬وهو يرى كل شيء من هللا حتى الطعام ال‪4‬ذي يأكل‪4‬ه‪ ،‬واللب‪4‬اس ال‪4‬ذي يكس‪4‬وه‪،‬‬
‫وقد ق‪4‬ال تع‪4‬الى في الح‪4‬ديث القدس‪4‬ي‪ (:‬ي‪4‬ا عب‪4‬ادي كلكم ج‪4‬ائع إال من أطعمت‪4‬ه‪ ،‬فاس‪4‬تطعموني أطعمكم‪ ،‬ي‪4‬ا‬
‫عبادي كلكم عار إال من كسوته فاستكسوني أكسكم)(‪)1‬‬
‫وبهذا الشعور المعطر باالعتراف بالنعمة لمس‪4‬ديها يخ‪4‬ف غ‪4‬رور اإلنس‪4‬ان‪ ،‬ب‪4‬ل يتالش‪4‬ى‪ ،‬وه‪4‬و م‪4‬ا‬
‫يجعله يتعامل مع األشياء تعامل العبودية التي تفيض باللطف والرحمة‪.‬‬
‫وقد علمنا رسول هللا ‪ ‬من صيغ الذكر ما يغرس هذه المعاني في نفوسنا‪ ،‬أو ما يحول‪44‬ه إلى واق‪44‬ع‬
‫حي يرفع أرواحنا‪ ،‬ويهذب سلوكنا‪.‬‬
‫فقد كان رسول هّللا ‪ ‬إذا أصبح قال‪ (:‬أصبحنا وأصبح الملك هلل عز وجل‪ ،‬والحم‪44‬د هلل‪ ،‬والكبري‪44‬اء‬

‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫‪57‬‬
‫والعظمة هلل‪ ،‬والخلق واألمر والليل والنهار وما سكن فيهما هلل تعالى‪ ،‬اللهم اجعل أول هذا النهار صالحا‪،‬‬
‫وأوسطه نجاحا وآخره فالحا‪ ،‬يا أرحم الراحمين)(‪)1‬‬
‫وفي كون هذا الذكر في الصباح ـ الذي يعني بداية عمر اليوم ـ وه‪4‬و الحين ال‪4‬ذي يك‪4‬ون في‪4‬ه عق‪4‬ل‬
‫اإلنسان فارغا مهيئا ألي فكرة‪ ،‬وتك‪4‬ون جوارح‪4‬ه نش‪4‬طة مهيئ‪4‬ة ألي عم‪4‬ل‪ ،‬إش‪4‬ارة إلى أن التع‪4‬رف على‬
‫ملكية هللا لألشياء هو األساس الذي يحفظ التعامل معها ويرقيه‪.‬‬
‫وفي المساء يعود التذكير بهذه المعاني متصدرا أعم‪4‬ال اإلنس‪4‬ان في الش‪4‬طر الث‪4‬اني من يوم‪4‬ه‪ ،‬فق‪4‬د‬
‫كان ‪ ‬يقول إذا أمسى‪ (:‬أمسينا وأمسى الملك هلل ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪،‬له الملك وله الحمد وهو‬
‫على كل شيء قدير‪ ،‬رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر ما في هذه الليل‪44‬ة‬
‫وشر ما بعدها رب أعوذ ب‪4‬ك من الكس‪4‬ل ومن س‪4‬وء الك‪4‬بر أو الكف‪4‬ر رب أع‪4‬وذ ب‪4‬ك من ع‪4‬ذاب في الن‪4‬ار‬
‫وعذاب في القبر)(‪)2‬‬
‫بل علمنا رسول هللا ‪ ‬أن نطرد الغفلة عن هذه المعاني حتى في اللحظات القصيرة التي ننتبه فيها‬
‫من الليل‪ ،‬قال ‪ (:‬من تعار من الليل فقال حين يستيقظ ال إل‪4‬ه إال هللا وح‪4‬ده ال ش‪4‬ريك ل‪4‬ه ل‪4‬ه المل‪4‬ك ول‪4‬ه‬
‫الحمد وهو على كل شيء قدير سبحان هللا والحمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكبر وال حول وال قوة إال باهلل ثم‬
‫دعا رب اغفر لي ـ قال الوليد أو قال دعا ـ استجيب له فإن قام فتوضأ ثم صلى قبلت صالته)(‪)3‬‬
‫وكان النبي ‪ ‬إذا قام من الليل يتهجد يبدأ بهذه المعاني لتكون أساسا لهبات هللا النازلة على الروح‪:‬‬
‫( اللهم لك الحم‪4‬د أنت قيم الس‪4‬موات واألرض ومن فيهن ول‪4‬ك الحم‪4‬د ل‪4‬ك مل‪4‬ك الس‪4‬موات واألرض ومن‬
‫فيهن ولك الحمد أنت نور السموات واألرض ومن فيهن ولك الحم‪44‬د أنت مل‪44‬ك الس‪44‬موات واألرض ول‪44‬ك‬
‫الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجن‪4‬ة ح‪4‬ق والن‪4‬ار ح‪4‬ق والن‪4‬بيون ح‪4‬ق ومحم‪4‬د‬
‫صلى هللا عليه وسلم ح‪4‬ق والس‪4‬اعة ح‪4‬ق اللهم ل‪4‬ك أس‪4‬لمت وب‪4‬ك آمنت وعلي‪4‬ك ت‪4‬وكلت وإلي‪4‬ك أنبت وب‪4‬ك‬
‫خاصمت وإلي‪4‬ك ح‪4‬اكمت ف‪4‬اغفر لي م‪4‬ا ق‪4‬دمت وم‪4‬ا أخ‪4‬رت وم‪4‬ا أس‪4‬ررت وم‪4‬ا أعلنت أنت المق‪4‬دم وأنت‬
‫المؤخر ال إله إال أنت أو ال إله غيرك)(‪)4‬‬
‫وقد أمرنا أن ننطق به‪4‬ذه الحقيق‪4‬ة ونجعله‪4‬ا ش‪4‬عارا في أك‪4‬بر تجم‪4‬ع للمس‪4‬لمين‪ ،‬وفي أك‪4‬بر تظ‪4‬اهرة‬
‫بشرية‪ ،‬فقد كانت تلبية رسول هللا ‪ (:‬لبيك اللهم لبي‪4‬ك لبي‪4‬ك ال ش‪4‬ريك ل‪4‬ك لبي‪4‬ك إن الحم‪4‬د والنعم‪4‬ة ل‪4‬ك‬
‫والملك ال شريك لك)‬
‫وفي تخصيص ذلك التجمع بهذا الذكر الجليل تعليم لألمة أن ال تق‪4‬دم أي مل‪4‬ك على مل‪4‬ك هللا‪ ،‬وله‪4‬ذا‬
‫ورد في الحديث قوله ‪ (:‬أغيظ رجل على هللا يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه رجل ك‪44‬ان يس‪44‬مى مل‪44‬ك‬
‫األمالك‪ ،‬ال ملك إال هللا تعالى)(‪)5‬‬
‫وقد علمنا رسول هللا ‪ ‬ـ باإلضافة إلى هذه األذكار الوقتي‪44‬ة ـ أن ننب‪44‬ه أنفس‪44‬نا دائم‪44‬ا إلى ملكي‪44‬ة هللا‬
‫لألشياء في كل حين‪ ،‬بل دعا إلى التنافس في ذلك‪ ،‬فقال‪ (:‬من قال ال إله إال هللا وحده ال شريك له له الملك‬
‫وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له ع‪4‬دل عش‪4‬ر رق‪4‬اب وكتبت ل‪4‬ه مائ‪4‬ة حس‪4‬نة‬
‫ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء‬
‫رواه الطبراني‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه البخاري وغيره‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪58‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫به إال أحد عمل أكثر من ذلك)‬
‫***‬
‫هذا هو أساس تعامل المؤمن مع األشياء‪ ،‬أما الجاحد فهو في تخرصاته وكبريائه وتيه‪44‬ه عن الح‪44‬ق‬
‫ال يستشعر شيئا من اللذة التي يستشعرها المؤمن وهو يتناول األشياء من يد هللا‪ ،‬قال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬أال ِإ َّن هَّلِل ِ َم ْن‬
‫ون هَّللا ِ ُش‪َ 4‬ر َكا َء ِإ ْن َيتَّ ِبعُ‪4‬ونَ ِإاَّل َّ‬
‫الظ َّن َو ِإ ْن هُ ْم ِإاَّل‬ ‫ض َو َم‪4‬ا َيتَّ ِب‪ُ 4‬ع الَّ ِذينَ َي‪ْ 4‬د ُعونَ ِم ْن ُد ِ‬ ‫ت َو َم ْن ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس‪َ 4‬م َ‬‫ِفي َّ‬
‫َي ْخرُصُونَ ﴾ (يونس‪)66 :‬‬
‫خَذتُ ْم ِم ْن ُدو ِن‪ِ 4‬ه‬ ‫ض قُ ِل هَّللا ُ قُلْ َأ َفاتَّ ْ‬
‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫وقال عن الذين اتخذوا من دونه أولياء‪ ﴿:‬قُلْ َم ْن َربُّ ال َّس َم َ‬
‫‪4‬ات َوال ُّنورُ َأ ْم‬ ‫الظلُ َم ُ‬‫ص‪4‬يرُ َأ ْم َه‪4‬لْ ت َْس‪4‬ت َِوي ُّ‬ ‫ضرّ اً قُلْ َهلْ َي ْست َِوي اأْل َ ْع َمى َو ْال َب ِ‬ ‫َأوْ ِل َيا َء ال َي ْم ِل ُكونَ أِل َ ْنفُ ِس ِه ْم َن ْفعاً َوال َ‬
‫اح ُد ْال َقهَّارُ﴾ (الرعد‪)16 :‬‬ ‫ق ُكلِّ َش ْي ٍء َوهُ َو ْال َو ِ‬ ‫ق َع َل ْي ِه ْم قُ ِل هَّللا ُ خَا ِل ُ‬ ‫خَل ِق ِه َف َت َشا َب َه ْال ْ‬
‫خَل ُ‬ ‫َج َعلُوا هَّلِل ِ ُش َر َكا َء خَ َلقُوا َك ْ‬
‫زَع ِم ِه ْم َوهَ‪َ 4‬ذا‬ ‫َصيباً َف َقالُوا َه َذا هَّلِل ِ ِب ْ‬‫ث َواأْل َ ْن َع ِام ن ِ‬ ‫وهؤالء خبطوا وخلطوا‪ ،‬فـ ﴿ َج َعلُوا هَّلِل ِ ِم َّما َذ َر َأ ِمنَ ْال َحرْ ِ‬
‫صلُ ِإ َلى ُش َر َكا ِئ ِه ْم َسا َء َما َيحْ ُك ُم‪4‬ونَ ﴾ (األنع‪4‬ام‪:‬‬ ‫صلُ ِإ َلى هَّللا ِ َو َما َكانَ هَّلِل ِ َفه َُو َي ِ‬ ‫ِل ُش َر َكا ِئنَا َف َما َكانَ ِل ُش َر َكا ِئ ِه ْم َفال َي ِ‬
‫‪)136‬‬
‫‪4‬ل ا ْد ُع‪44‬وا‬ ‫ونتيجة خلطهم وخبطهم أنهم يعبدون السراب‪ ،‬ويدعون من ال يملك ش‪44‬يئا‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬قُ‪ِ 4‬‬
‫ض َو َما َله ُْم ِفي ِه َما ِم ْن ِشرْ ٍك َو َما َل ‪4‬هُ‬ ‫ت َوال ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َذرَّ ٍة ِفي ال َّس َم َ‬ ‫ون هَّللا ِ ال َي ْم ِل ُكونَ ِم ْث َق َ‬ ‫الَّ ِذينَ زَ ع َْمتُ ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ير﴾ (سـبأ‪)22:‬‬ ‫ظ ِه ٍ‬‫ِم ْنه ُْم ِم ْن َ‬
‫‪4‬ك‬‫َصيبٌ ِمنَ ْال ُم ْل‪ِ 4‬‬ ‫بل لو كان بيد هؤالء أي ملك‪ ،‬فإن ملكهم سيبقى قاصرا عليهم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ ْم َله ُْم ن ِ‬
‫اس َن ِقيراً﴾ (النساء‪ ،)53:‬وقال تعالى‪ ﴿:‬قُلْ َل‪44‬وْ َأ ْنتُ ْم ت َْم ِل ُك‪44‬ونَ خَ‪44‬زَا ِئنَ َرحْ َم‪ِ 4‬ة َربِّي ِإذاً أَل َ ْم َس‪ْ 4‬كتُ ْم‬ ‫َفإِذاً ال ي ُْؤتُونَ النَّ َ‬
‫ان َقتُوراً﴾ (االسراء‪)100:‬‬ ‫اق َو َكانَ اأْل ِ ْن َس ُ‬ ‫خَ ْش َي َة اأْل ِ ْن َف ِ‬
‫وهؤالء الجاحدون ـ الذين غفلوا عن ملكية هللا لألشياء في الدنيا ـ س‪4‬يدركونها ي‪4‬وم القيام‪4‬ة‪ ،‬ول‪4‬ذلك‬
‫يجيئ التعبير القرآني مخبرا عن ملكية هللا لألشياء في اآلخرة‪ ،‬وهو ال يع‪44‬ني ع‪44‬دم ملكيت‪44‬ه له‪44‬ا في ال‪44‬دنيا‪،‬‬
‫ِّين﴾‬‫‪4‬ك َي‪4‬وْ ِم ال‪4‬د ِ‬ ‫وإنما هو إخبار عن تعرف الجاحدين والغافلين حينها على هذه الملكية‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬ما ِل ِ‬
‫(الفاتحة‪)4:‬‬
‫‪4‬ار ُزونَ ال َي ْخ َفى َع َلى‬ ‫وهؤالء الجاحدون ـ كما يخبر القرآن الكريم ـ يقرون بهذه الملكي‪44‬ة‪َ ﴿:‬ي‪44‬وْ َم هُ ْم َب‪ِ 4‬‬
‫َّار﴾ (غافر‪)16:‬‬ ‫اح ِد ْال َقه ِ‬ ‫هَّللا ِ ِم ْنه ُْم َش ْي ٌء ِل َم ِن ْال ُم ْل ُك ْال َيوْ َم هَّلِل ِ ْال َو ِ‬
‫وقد صور ابن مسعود ذلك المشهد بقوله‪ (:‬يحشر الن‪4‬اس على أرض بيض‪4‬اء مث‪4‬ل الفض‪4‬ة لم يعص‬
‫هللا جل وعز عليها‪ ،‬فيؤمر مناد ينادي‪ (:‬لمن المل‪4‬ك الي‪4‬وم)‪ ،‬فيق‪4‬ول العب‪4‬اد م‪4‬ؤمنهم وك‪4‬افرهم‪( :‬هلل الواح‪4‬د‬
‫القهار)‪ ،‬فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا‪ ،‬ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا‪.‬‬
‫ويصور سيد قطب هذا المش‪4‬هد ال‪4‬ذي تنكش‪4‬ف به‪4‬ا الحقيق‪4‬ة بقول‪4‬ه‪ (:‬ويومئ‪4‬ذ يتض‪4‬اءل المتك‪4‬برون‪،‬‬
‫وينزوي المتجبرون‪ ،‬ويقف الوجود كله خاشعاً‪ ،‬والعباد كلهم خضعاً‪ .‬ويتف‪4‬رد مال‪4‬ك المل‪4‬ك الواح‪4‬د القه‪4‬ار‬
‫بالسطان‪ .‬وهو سبحانه متفرد به في كل آن‪ .‬فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعي‪4‬ان‪ ،‬بع‪4‬د انكش‪4‬افه للجن‪4‬ان‪.‬‬
‫ويعلم هذا كل منكر ويستشعره كل متكبر‪ .‬وتصمت كل نأمة وتسكن ك‪44‬ل حرك‪44‬ة‪ .‬وينطل‪44‬ق ص‪44‬وت جلي‪44‬ل‬
‫رهيب يسأل ويجيب ؛ فما في الوجود كله يومئذ من سائل غيره وال مجيب‪ :‬لمن الملك اليوم؟ ‪ ..‬هلل الواحد‬
‫القهار)(‪)2‬‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫في ظالل القرآن‪.5/3073 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪59‬‬
‫وينفي الغزالي ما قد يتوهمه الغافلون من انحصار الملك هلل في اآلخرة بقول‪44‬ه‪ (:‬وال ق‪44‬ادر اال المل‪44‬ك‬
‫الجبار‪ ،‬واذا انكشفت الغطاء عن أعين الغافلين فشاهدوا االمر كذلك س‪4‬معوا عن‪4‬د ذل‪4‬ك ن‪4‬داء المن‪4‬ادي لمن‬
‫الملك اليوم هلل الواحد القهار ولقد ك‪4‬ان المل‪4‬ك هلل الواح‪4‬د القه‪4‬ار ك‪4‬ل ي‪4‬وم ال ذل‪4‬ك على الخص‪4‬وص‪ ،‬ولكن‬
‫الغافلين ال يسمعون هذا النداء اال ذلك اليوم فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف االح‪44‬وال حيث ال ينفعهم‬
‫الكشف)(‪)1‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت َواأْل رْ َ‬
‫ض ِبال َح ِّق َو َي‪44‬وْ َم‬ ‫اوا ِ‬‫ومثل الكالم في تينك اآليتين الكالم في قوله تعالى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي خَ َل َق ال َّس َم َ‬
‫ب َوال َّش َها َد ِة َوهُ َو ْال َح ِكي ُم ْالخَ ِبيرُ﴾ (األنعام‪:‬‬
‫الصُّور عَا ِل ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫ِ‬ ‫ون َقوْ لُهُ ْال َح ُّق َو َلهُ ْال ُم ْل ُك َيوْ َم يُ ْن َف ُخ ِفي‬
‫َيقُولُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬
‫‪ ،)73‬وقوله تعالى‪ْ ﴿:‬ال ُم ْل ُك َيوْ َم ِئ ٍذ ْال َح ُّق ِللرَّحْ َم ِن َو َكانَ َيوْ ماً َع َلى ْال َكا ِف ِرينَ ع َِسيراً﴾ (الفرقان‪)26:‬‬
‫فالملكية المخصوصة باليوم اآلخر‪ ،‬ال تنفي ملكية الدنيا‪ ،‬بل هي استمرار لها‪ ،‬والمراد بتخصيصها‬
‫هو اإلخبار عن اكتشاف الجاحدين والغافلين لها‪ ،‬وهو اكتشاف بعد فوات األوان‪ ،‬والت ساعة مندم‪.‬‬
‫ولهذا ال يصح ما يردده المسيحيون‪ ،‬وينسبونه للمسيح ‪ (:‬دعوا ما لقيصر لقيصر‪ ،‬وم‪44‬ا هلل هلل)‪،‬‬
‫بل الصحيح أن قيصر وما لقيصر هلل ملكا وتدبيرا‪ ،‬وحكما وتقديرا‪.‬‬
‫التدبير‪:‬‬
‫كما أن كل شيء من الكائنات ملك هلل‪ ،‬ال يحق التصرف فيه إال باسم هللا‪ ،‬ف‪4‬إن ك‪4‬ل ش‪4‬يء مم‪4‬ا ن‪4‬راه‬
‫من أنواع التدبير ملك هلل كذلك‪ ،‬فاهلل تعالى هو المتصرف في كل شيء المح‪44‬رك لك‪44‬ل ش‪44‬يء الفاع‪4‬ل لك‪44‬ل‬
‫ش يُ‪َ 4‬دبِّرُ‬‫اس‪4‬ت ََوى َع َلى ْال َع‪44‬رْ ِ‬ ‫ض ِفي ِس‪4‬تَّ ِة َأي ٍَّام ثُ َّم ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫شيء(‪ ،)2‬قال تعالى‪ِ ﴿:‬إ َّن َربَّ ُك ُم هَّللا ُ الَّ ِذي خَ َل َق ال َّس َم َ‬
‫اعبُ ُدو ُه َأ َفال َت َذ َّكرُونَ ﴾ (يونس‪)3 :‬‬ ‫يع ِإاَّل ِم ْن َبعْ ِد ِإ ْذ ِن ِه َذ ِل ُك ُم هَّللا ُ َر ُّب ُك ْم َف ْ‬ ‫اأْل َ ْم َر َما ِم ْن َش ِف ٍ‬
‫والقرآن الكريم مليء بذكر أنواع التدبير اإللهي لألشياء‪ ،‬وهو يعرضها بصيغ مختلفة ليقرأ المؤمن‬
‫‪4‬ك‬ ‫ض َأ َّم ْن َي ْم ِل‪ُ 4‬‬ ‫اء َواأْل َرْ ِ‬ ‫الس ‪َ 4‬م ِ‬‫من خالل تدبير هللا لألشياء صفات الكمال هلل‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬قُلْ َم ْن َي‪44‬رْ ُزقُ ُك ْم ِمنَ َّ‬
‫ت َوي ُْخ ِرجُ ْال َم ِّيتَ ِمنَ ْال َح ِّي َو َم ْن يُ َدبِّرُ اأْل َ ْم َر َف َس َيقُولُونَ هَّللا ُ َفقُلْ َأ َفال‬ ‫ار َو َم ْن ي ُْخ ِرجُ ْال َح َّي ِمنَ ْال َم ِّي ِ‬ ‫ْص َ‬ ‫الس َّْم َع َواأْل َب َ‬
‫َتتَّقُونَ ﴾ (يونس‪)31 :‬‬
‫وهذا التدبير يشمل جمي‪4‬ع األش‪4‬ياء‪ ،‬ح‪4‬تى م‪4‬ا نتوهم‪4‬ه مظ‪4‬اهر طبيعي‪4‬ة‪ ،‬ناتج‪4‬ة عن أس‪4‬بابها الفلكي‪4‬ة‬
‫‪4‬ر ُك‪4‬لٌّ َيجْ‪ِ 4‬ري أِل َ َج‪ٍ 4‬ل‬ ‫س َو ْال َق َم َ‬ ‫ْ‪4‬ل َو َس‪َّ 4‬خ َر َّ‬
‫الش‪ْ 4‬م َ‬ ‫ار ِفي اللَّي ِ‬ ‫ار َويُو ِلجُ النَّ َه َ‬ ‫الحسية‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬يُو ِلجُ اللَّي َْل ِفي النَّ َه ِ‬
‫ير﴾ (فاطر‪)13:‬‬ ‫ط ِم ٍ‬ ‫ُم َس ّم ًى َذ ِل ُك ُم هَّللا ُ َر ُّب ُك ْم َلهُ ْال ُم ْل ُك َوالَّ ِذينَ َت ْد ُعونَ ِم ْن ُدو ِن ِه َما َي ْم ِل ُكونَ ِم ْن ِق ْ‬
‫ْ‪4‬ل‬ ‫فاهلل تعالى هو الذي يمدنا بضوء النهار وسكينة الليل‪ ،‬ال حركات األرض‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَ‪4‬ا َّ‬
‫اللي َ‬
‫اب َو ُك‪4‬لَّ َش‪ْ 4‬ي ٍء‬ ‫الس‪ِ 4‬نينَ َو ْال ِح َس‪َ 4‬‬ ‫ال ِم ْن َر ِّب ُك ْم َو ِلتَعْ َل ُم‪4‬وا عَ‪َ 4‬د َد ِّ‬
‫ْص َر ًة ِل َت ْبت َُغوا َفضْ ً‬‫ار ُمب ِ‬ ‫ار آ َي َتي ِْن َف َم َحوْ نَا آ َي َة ال َّلي ِْل َو َج َع ْلنَا آ َي َة ال َّن َه ِ‬
‫َوال َّن َه َ‬
‫ال﴾ (االسراء‪)12 :‬‬ ‫صي ً‬ ‫َف ْ‬
‫صَّلنَا ُه َت ْف ِ‬
‫ار ِإ َّن ِفي‬ ‫وهللا هو الذي يقلب الليل والنهار‪ ،‬ال ما نتوهمه من أسباب‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬يُ َق ِّلبُ هَّللا ُ اللَّي َْل َوالنَّ َه َ‬
‫‪4‬ل‬ ‫ار﴾ (النور‪ 4،)44 :‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ُم اللَّي َْل ِل َباس‪4‬اً َوالنَّوْ َم ُس‪َ 4‬باتاً َو َج َع‪َ 4‬‬ ‫ْص ِ‬ ‫َذ ِلكَ َل ِعب َْر ًة أِل ُو ِلي اأْل َب َ‬
‫‪4‬ار ِخ ْل َف‪ً 4‬ة ِل َم ْن َأ َرا َد َأ ْن َي‪4َّ 4‬ذ َّك َر َأوْ َأ َرا َد‬ ‫‪4‬ل َوالنَّ َه‪َ 4‬‬ ‫‪4‬ل اللَّ ْي‪َ 4‬‬
‫ار نُ ُشوراً﴾ (الفرقان‪ ،)47:‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي َج َع‪َ 4‬‬ ‫النَّ َه َ‬
‫ُش ُكوراً﴾ (الفرقان‪)62:‬‬
‫وليس هن‪4‬اك من تن‪4‬اقض بين األم‪4‬رين‪ ،‬فال علمن‪4‬ا بت‪4‬دبير هللا ينفي األس‪4‬باب ال‪4‬تي وض‪4‬عها هللا‪ ،‬وال‬
‫األسباب تنفي تدبير هللا‪ ،‬فاألشياء وأسبابها جميعا خلق من خلق هللا‪.‬‬
‫اإلحياء‪.1/324:‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في رسالة (أسرار األقدار) من هذه السلسلة‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪60‬‬
‫ولهذا ورد التعب‪4‬ير الق‪4‬رآني عن تع‪4‬اقب اللي‪4‬ل والنه‪4‬ار بص‪4‬يغة التقليب‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬يُ َق ِّلبُ هَّللا ُ اللَّي َ‬
‫ْ‪4‬ل‬
‫ار﴾ (النور‪ )44 :‬وهذا التقليب ال يبص‪44‬ره إال من رف‪44‬ع الغش‪44‬اوة ال‪44‬تي‬ ‫ْص ِ‬ ‫ار ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ َل ِعب َْر ًة أِل ُو ِلي اأْل َب َ‬ ‫َوالنَّ َه َ‬
‫تقصر بصره على ما يتوهمه‪.‬‬
‫وبمثل ذلك يتحدث القرآن الكريم عن جميع المظ‪4‬اهر ال‪4‬تي ينس‪4‬بها الجاح‪4‬دون والغ‪4‬افلون للطبيع‪4‬ة‪،‬‬
‫فالرياح ال تهب‪ ،‬وإنما ترسل‪.‬‬
‫‪4‬اح ب ُْش‪4‬راً َب ْينَ َي‪َ 4‬ديْ‬ ‫‪4‬و الَّ ِذي يُرْ ِس‪4‬لُ الرِّ َي َ‬ ‫وقد كرر تعالى هذا المعنى في آيات كث‪4‬يرة‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬وهُ َ‬
‫ت َك‪َ 4‬ذ ِلكَ نُ ْخ‪ِ 4‬رجُ‬ ‫زَلنَا ِب ِه ْال َم‪4‬ا َء َفأَ ْخ َرجْ نَ‪4‬ا ِب‪ِ 4‬ه ِم ْن ُك‪4‬لِّ الثَّ َم َ‬
‫‪4‬را ِ‬ ‫ت َفأَ ْن ْ‬
‫ال ُس ْقنَاهُ ِل َب َل ٍد َم ِّي ٍ‬
‫ت َس َحاباً ِث َقا ً‬ ‫َرحْ َم ِت ِه َحتَّى ِإ َذا َأ َقلَّ ْ‬
‫ْال َموْ تَى َل َعلَّ ُك ْم َت َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪)57 :‬‬
‫فاآلية ترجع األمر هلل في كل شيء‪ ،‬فنالحظ هذه التعابير التي يتيه عنها الم‪44‬اديون‪( :‬يُرْ ِس‪4‬لُ‪ُ ،‬س‪ْ 4‬قنَا ُه‪،‬‬
‫زَلنَا‪َ ،‬فأَ ْخ َرجْ نَا‪ )..‬وكلها تشير إلى تدبير هللا للكليات والجزئيات‪.‬‬ ‫َفأَ ْن ْ‬
‫‪4‬وا ِق َح‬ ‫وبمثل ذلك جاء تعبير ( َفأَ ْس َق ْينَا ُك ُمو ُه) بدل تعبير ( فشربتم) في قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َأرْ َس‪ْ 4‬لنَا الرِّ َي َ‬
‫‪4‬اح َل َ‬
‫خَاز ِنينَ ﴾ (الحجر‪)22:‬‬ ‫اء َما ًء َفأَ ْس َق ْينَا ُك ُموهُ َو َما َأ ْنتُ ْم َلهُ ِب ِ‬ ‫زَلنَا ِمنَ ال َّس َم ِ‬ ‫َفأَ ْن ْ‬
‫‪4‬اح َفتُ ِث‪4‬يرُ َس‪َ 4‬حاباً‬ ‫وبمثل ذلك جاء تعبير ( َفأَحْ َي ْينَا) بدل ( حيت) في قوله تعالى‪َ ﴿:‬وهَّللا ُ الَّ ِذي َأرْ َس‪َ 4‬ل الرِّ َي َ‬
‫ض َبعْ َد َموْ ِت َها َك َذ ِلكَ ال ُّن ُشورُ﴾ (فاطر‪)9:‬‬ ‫ت َفأَحْ َي ْينَا ِب ِه اأْل َرْ َ‬‫َف ُس ْقنَا ُه ِإ َلى َب َل ٍد َم ِّي ٍ‬
‫وفي مراعاة التعبير عند الحديث عما يسمى بمظاهر الطبيعة جاء قوله ‪ ‬حاكي‪44‬ا عن رب‪44‬ه تع‪4‬الى‪:‬‬
‫( ق‪4‬ال هللا تع‪4‬الى م‪44‬ا أنعمت على عب‪44‬ادي من نعم‪44‬ة إال أص‪44‬بح فري‪44‬ق منهم به‪44‬ا ك‪44‬افرين يقول‪44‬ون الك‪44‬وكب‬
‫وبالكوكب)(‪)1‬‬
‫والكوكب المراد هنا هو ما كان أهل الجاهلية ينسبون به الحوادث‪ ،‬إما باعتباره م‪44‬ؤثرا أو باعتب‪44‬اره‬
‫عالمة‪ ،‬وهو نفس ما تذهب إليه الجاهلية الحديثة حين تفسر األشياء بعللها ال‪44‬تي تتوهمه‪44‬ا نافي‪44‬ة تص‪44‬ريف‬
‫هللا تعالى وتدبيره‪.‬‬
‫ولذلك اعتبر ‪ ‬هذه النسب الوهمية من الجاهلية‪ ،‬فق‪44‬ال ‪ (:‬أرب‪44‬ع من أم‪44‬ر الجاهلي‪44‬ة لن ي‪44‬دعهن‬
‫الناس التعيير في األحساب والنياحة على الميت واألنواء وأجرب بعير ف‪44‬أجرب مائ‪44‬ة من أج‪44‬رب البع‪44‬ير‬
‫األول)(‪)2‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن عدم تماسك التفسير الطبيعي المتناسي لتصريف هللا بقوله ‪ (:‬ل‪44‬و أمس‪44‬ك هللا ع‪44‬ز‬
‫وجل المطر عن عباده خمس س‪4‬نين ثم أرس‪4‬له ألص‪4‬بحت طائف‪4‬ة من الن‪4‬اس ك‪4‬افرين يقول‪4‬ون س‪4‬قينا بن‪4‬وء‬
‫المجدح)(‪)3‬‬
‫وقد بين لنا ‪ ‬الطريقة الصحيحة في التعبير عن الحوادث الكوني‪4‬ة بحادث‪4‬ة وقعت‪ ،‬فق‪4‬د ص‪4‬لى ‪‬‬
‫صالة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة‪ ،‬فلما انصرف أقبل على الناس‪ ،‬فقال‪ (:‬هل تدرون‬
‫ماذا قال ربكم؟)‪ ،‬قالوا‪ (:‬هللا ورسوله أعلم) قال‪ (:‬أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر‪ ،‬فأما من قال مطرنا‬
‫بفضل هللا ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب‪ ،‬وأما من قال بنوء ك‪4‬ذا وك‪4‬ذا ف‪4‬ذلك ك‪4‬افر بي وم‪4‬ؤمن‬
‫بالكوكب)(‪)4‬‬

‫رواه أحمد ومسلم والنسائي‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه أحمد‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أحمد والنسائي وابن حبان‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪61‬‬
‫بل إن الق‪4‬رآن الك‪4‬ريم يرش‪4‬دنا إلى نس‪4‬بة م‪4‬ا نتوهم‪4‬ه من أفعالن‪4‬ا إلى هللا‪ ،‬فاهلل تع‪4‬الى ينس‪4‬ب إلي‪4‬ه م‪4‬ا‬
‫يتصور اإلنسان تفرده بتصريفه‪ ،‬قال تعالى عن عملية الحرث والزرع التي ينسبها كل إنسان إلى نفسه‪﴿:‬‬
‫ار ُعونَ ﴾‪ ،‬ومثل‪44‬ه قول‪44‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ف َل ْم َت ْقتُلُ‪44‬وهُ ْم َو َل ِك َّن هَّللا َ َق َت َله ُْم َو َم‪44‬ا‬ ‫الز ِ‬‫َأ َف َر َأ ْيتُم َّما تَحْ رُ ثُونَ َأ َأنتُ ْم ت َْز َر ُعو َنهُ َأ ْم نَحْ ُن َّ‬
‫َر َميْتَ ِإ ْذ َر َميْتَ َو َل ِك َّن هَّللا َ َر َمى﴾ (ألنفال‪ ،)17 :‬فاهلل تعالى هو المتفرد بالتدبير والتصريف‪.‬‬
‫وهكذا مما ال يمكن حصره في القرآن الكريم‪.‬‬
‫فالقرآن الكريم ينبهنا إلى الفاعل الحقيقي حتى ال ننحجب بعالم الحكمة عن ق‪4‬درة هللا‪ ،‬فع‪4‬الم الحكم‪4‬ة‬
‫يرينا األسباب‪ ،‬وعالم القدرة يرينا رب األسباب‪ ،‬وكالهما يدل عليه العقل والذوق‪.‬‬
‫ولهذا كان أكبر القوادح في التوحيد نسبة أحداث الك‪44‬ون للك‪44‬ون‪ ،‬ب‪44‬ل نص الق‪44‬رآن الك‪44‬ريم على‬
‫صينَ لَهُ ال ِّدينَ فَلَ َّما نَجَّاهُ ْم إِلَى ْالبَ‪44‬رِّ إِ َذا هُ ْم‬ ‫ك َد َع ُوا هَّللا َ ُم ْخلِ ِ‬ ‫كونه شركا‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬فَإ ِ َذا َر ِكبُوا فِي ْالفُ ْل ِ‬
‫يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (العنكبوت‪)654:‬‬
‫قال الغزالي يبين حقيقة العلم الذي يضع األشياء موضعها‪ (:‬ومن انكشف له أمر العلم كما هو‬
‫أن الريح هو اله‪4‬واء‪ ،‬واله‪4‬واء ال يتح‪4‬رّك بنفس‪4‬ه م‪4‬ا لم يحرّك‪4‬ه مح‪4‬رّك‪ ،‬وك‪4‬ذلك محرّك‪4‬ه‪،‬‬ ‫عليه علم ّ‬
‫رك له وال هو متحرك في نفسه عز وجل)(‪)1‬‬ ‫وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك األ ّول الذي ال مح ّ‬
‫‪4‬ال ارْ َكبُ‪4‬وا ِفي َه‪4‬ا ِب ْس‪ِ 4‬م هَّللا ِ َمجْ َراهَ‪4‬ا‬ ‫وله‪4‬ذا بين لن‪4‬ا هللا تع‪4‬الى م‪4‬ا ينبغي أقوال‪4‬ه عن‪4‬د رك‪4‬وب الفل‪4‬ك‪َ ﴿:‬و َق َ‬
‫َو ُمرْ َساهَا ِإ َّن َربِّي َل َغفُورٌ َر ِحي ٌم﴾ (هود‪ )41:‬فمجرى السفينة ومرساها من هللا تعالى ‪.‬‬
‫اس ‪4‬ت ََو ْيتُ ْم َع َل ْي‪ِ 4‬ه َو َتقُولُ‪44‬وا ُس ‪4‬ب َْحانَ الَّ ِذي‬ ‫ُور ِه ثُ َّم ت َْذ ُكرُوا ِنعْ َم َة َر ِّب ُك ْم ِإ َذا ْ‬
‫ظه ِ‬ ‫وعلمنا أن نقول‪ِ ﴿:‬ل َت ْست َُووا َع َلى ُ‬
‫َس َّخ َر َلنَا َه َذا َو َما ُكنَّا َلهُ ُم ْق ِر ِنينَ ﴾ (الزخرف‪)13 :‬‬
‫فاألنعام مسخرة ـ كما تنص اآلية ـ وهي لذلك تسير بأمر هللا‪ ،‬وتتحرك بتص‪44‬ريف هللا‪ ،‬والعاق‪4‬ل ه‪44‬و‬
‫الذي يلجأ إلى اآلمر ال إلى المأمور‪.‬‬
‫***‬
‫وهذا اإلدراك ليس سلبيا كما يتصور المجادلون في هللا بغير علم‪ ،‬فيقولون‪ ،‬أو يقول الش‪44‬يطان على‬
‫ألسنتهم‪ (:‬أنتم تهربون من الواقع بنسبة التدبير إلى هللا)‪ ،‬ب‪4‬ل يض‪4‬حكون بس‪4‬خرية واس‪4‬تهزاء إن نس‪4‬ب م‪4‬ا‬
‫يتوهمونه مظاهر طبيعية للتصريف اإللهي‪.‬‬
‫وال يمكن الحديث مع هؤالء أو تبادل الج‪44‬دال معهم‪ ،‬ولكن‪44‬ا نق‪44‬ول ـ بأس‪44‬لوبهم ـ إن النت‪44‬ائج العملي‪44‬ة‬
‫النافعة من التحقق بهذا اإلدراك والشعور به ال تكاد تحصى‪:‬‬
‫ومن هذه النتائج السامية‪ :‬احترام تصريف هللا‪ ،‬والشعور باألنس حين يمتلئ القلب بنشوة النظر إلى‬
‫‪4‬و‬‫ض ُك‪4‬لَّ َي‪4‬وْ ٍم هُ َ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫هللا وهو يجيب الحاجات المختلفة للكائنات‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬يسْأَلُهُ َم ْن ِفي ال َّس َم َ‬
‫ِفي َش ْأ ٍن﴾ (الرحمن‪ ،)29 :‬ثم بعد هذا التطلع لما في يد هللا والتضرع إليه في تحقيقه‪.‬‬
‫ومنها التأدب مع الكون‪ ،‬واحترامه فقد وردت بها النصوص الكثيرة تنهى عن سب الريح أو الناق‪44‬ة‬
‫أو الدهر ألن كل ذلك من هللا‪.‬‬
‫أما سب الزمان والدهر‪ ،‬الذي يعني تقلبات الحوادث‪ ،‬فقد ورد النهي عنه في أحاديث كثيرة قال ‪‬‬
‫‪ (:‬قال هللا عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي األمر أقلب الليل والنهار) (‪ ،)2‬وقال ‪(:‬‬

‫اإلحياء‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪62‬‬
‫ال تسموا العنب الكرم وال تقولوا خيبة ال‪4‬دهر ف‪4‬إن هللا ه‪44‬و ال‪4‬دهر)(‪ ،)1‬وق‪4‬ال ‪ (:‬إن هللا ع‪44‬ز وج‪4‬ل ق‪44‬ال‬
‫استقرضت عبدي فلم يقرضني وسبني عبدي وال يدري يقول وادهراه وادهراه وأنا الدهر)(‪)2‬‬
‫ونهى ‪ ‬عن سب الريح‪ ،‬وأخ‪4‬بر بأنه‪4‬ا ال تتح‪4‬رك حس‪4‬ب رغبته‪4‬ا‪ ،‬وإنم‪4‬ا تتح‪4‬رك به‪4‬دي ال‪4‬وحي‬
‫اإللهي الذي يسير كل ش‪4‬يء‪ ،‬فق‪4‬د روي أن رجال لعن ال‪4‬ريح عن‪4‬د الن‪4‬بي ‪ ‬فق‪4‬ال‪ (:‬ال تلعن ال‪4‬ريح فإنه‪4‬ا‬
‫مأمورة‪ ،‬وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)(‪)3‬‬
‫وعلمنا ‪ ‬الطريقة الصحيحة في التعامل معه‪4‬ا‪ ،‬فق‪4‬ال ‪ (:‬ال‪4‬ريح من روح هللا‪ ،‬ف‪4‬روح هللا ت‪4‬أتي‬
‫بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فال تسبوها وسلوا هللا خيرها واستعيذوا باهلل من شرها)(‪)4‬‬
‫وقد ذكر ‪ ‬عقوبة من يسب بعض هذه الكائنات التي ال تملك من أمر نفسها شيئا‪ ،‬وهي ع‪44‬دم‬
‫جواز االنتفاع بها‪ ،‬فعن عائشة أنها ركبت جمال فلعنته‪ ،‬فقال لها النبي ‪ (:‬ال تركبيه)(‪)5‬‬
‫وفي ذلك أبلغ التحذير من التطاول على خلق هللا‪.‬‬
‫بل إنه ال ينبغي احتق‪4‬ار ح‪4‬تى البع‪4‬وض ال‪4‬ذي ق‪4‬د يؤذين‪4‬ا بلس‪4‬عه‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ِ ﴿:‬إ َّن هَّللا َ ال َي ْس‪4‬تَحْ ِيي أ ْنَ‬
‫ُوض ًة َف َما َفوْ َق َها ﴾ (البقرة‪)26 :‬‬ ‫ال َما َبع َ‬ ‫ب َم َث ً‬‫َيضْ ِر َ‬
‫بل إن القرآن الكريم ينبه الذين يحتقرون بيت العنكب‪44‬وت أن بي‪44‬وتهم أوهن‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬م َث‪44‬لُ الَّ ِذينَ‬
‫ت َل‪4‬وْ َك‪4‬انُوا َيعْ َل ُم‪4‬ونَ ﴾‬ ‫ْت ْال َع ْن َكبُ‪4‬و ِ‬ ‫ت َل َبي ُ‬‫ت َبيْت‪4‬اً َو ِإ َّن َأوْ هَنَ ْالبُيُ‪4‬و ِ‬ ‫ت اتَّخَ َذ ْ‬‫ون هَّللا ِ َأوْ ِل َيا َء َك َم َث ِل ْال َع ْن َكبُو ِ‬
‫اتَّخَ ُذوا ِم ْن ُد ِ‬
‫(العنكبوت‪)41 :‬‬
‫ب‬ ‫ض ‪ِ 4‬ر َ‬ ‫َ‬
‫وينبه الذين يحتقرون الذباب إلى ما يشير إليه من نواحي ضعفهم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬يا أ ُّي َها النَّاسُ ُ‬
‫‪4‬و اجْ َت َمعُ‪4‬وا َل‪4‬هُ َو ِإ ْن َي ْس‪4‬لُ ْبهُ ُم ال‪ُّ 4‬ذ َبابُ َش‪4‬يْئاً ال‬ ‫ون هَّللا ِ َل ْن َي ْخلُقُ‪4‬وا ُذ َباب‪4‬اً َو َل ِ‬
‫َم َثلٌ َفا ْست َِمعُوا َلهُ ِإ َّن الَّ ِذينَ َت ْد ُعونَ ِم ْن ُد ِ‬
‫طلُوبُ ﴾ (الحج‪)73 :‬‬ ‫الطا ِلبُ َو ْال َم ْ‬‫ضعُفَ َّ‬ ‫َي ْس َت ْن ِق ُذوهُ ِم ْنهُ َ‬
‫ومن نتائج هذه النظرة السامية‪ :‬الراحة من منازعة األقدار اكتفاء ببتقدير هللا‪:‬‬
‫وهي نتيجة مهمة‪ ،‬فإن العالم بتصريف هللا للكائنات ال يحزن ما يحصل ل‪44‬ه منه‪44‬ا‪ ،‬أو م‪44‬ا يفوت‪44‬ه من‬
‫منافعها‪ ،‬ألن سبب الحزن هو فوات المقدور عليه‪ ،‬أما ما يعتق‪4‬د اس‪4‬تحالته ف‪4‬إن نفس اس‪4‬تحالته تعزي‪4‬ه عن‬
‫عدم حصوله عليه‪.‬‬
‫فلذلك ال يخاف مالك على ملكه‪ ،‬ما دام هللا هو مؤتي الملك ونازعه‪ ،‬فإن أتى فبفضل هللا‪ ،‬وإن ذهب‬
‫‪4‬ك تُ ْ‪4‬ؤ ِتي ْال ُم ْل‪4‬كَ َم ْن‬ ‫‪4‬ل اللَّهُ َّم َما ِل‪4‬كَ ْال ُم ْل ِ‬ ‫فبقدرة هللا‪ ،‬ولن تستطيع قوة في العالم نزعه أو تثبيته‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬قُ ِ‬
‫‪4‬ز َم ْن ت ََش‪4‬ا ُء َوتُ‪ِ 4‬ذلُّ َم ْن ت ََش‪4‬ا ُء ِب َي‪ِ 4‬دكَ ْالخَ يْ‪4‬رُ ِإنَّكَ َع َلى ُك‪4‬لِّ َش‪ْ 4‬ي ٍء َق‪ِ 4‬ديرٌ﴾ (آل‬ ‫َت َشا ُء َو َت ْن ِز ُع ْال ُم ْل‪4‬كَ ِم َّم ْن ت ََش‪4‬ا ُء َوتُ ِع ُّ‬
‫عمران‪)26 :‬‬
‫ض َأ َّم ْن‬ ‫اء َواأْل َرْ ِ‬ ‫الس‪َ 4‬م ِ‬‫وال يخاف على رزقه ما دام هللا هو الرازق ق‪44‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬قُ‪44‬لْ َم ْن َي‪44‬رْ ُزقُ ُك ْم ِمنَ َّ‬
‫‪4‬ر َف َس‪َ 4‬يقُولُونَ هَّللا ُ‬ ‫ت َوي ُْخ‪ِ 4‬رجُ ْال َم ِّيتَ ِمنَ ْال َح ِّي َو َم ْن يُ‪َ 4‬دبِّرُ اأْل َ ْم‪َ 4‬‬ ‫ار َو َم ْن ي ُْخ ِرجُ ْال َح َّي ِمنَ ْال َم ِّي ِ‬ ‫ْص َ‬ ‫َي ْم ِل ُك الس َّْم َع َواأْل َب َ‬
‫َفقُلْ َأ َفال َتتَّقُونَ ﴾ (يونس‪)31 :‬‬
‫ضرّ اً َوال َن ْفعاً ِإاَّل َما َشا َء‬ ‫وال يخاف الضر‪ ،‬وال يرجو النفع من غيره‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬قُلْ ال َأ ْم ِل ُك ِل َن ْف ِسي َ‬
‫هَّللا ُ ِل ُكلِّ أُ َّم ٍة َأ َجلٌ ِإ َذا َجا َء َأ َجلُه ُْم َفال َي ْست َْأ ِخرُونَ َسا َع ًة َوال َي ْس َت ْق ِد ُمونَ ﴾ (يونس‪)49 :‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه ابن جرير والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أبو داود والترمذي‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه البخاري في األدب‪ ،‬وأبو داود والحاكم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه أحمد وأبو يعلى‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪63‬‬
‫وهكذا في جميع شؤون حياته‪ ..‬قال الغزالي مبينا التأثير النفسي لهذه المع‪44‬ارف‪ ..(:‬أن ينكش‪44‬ف ل‪44‬ك‬
‫أن ال فاعل إال هللا تعالى‪ ،‬وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحي‪4‬اة وم‪4‬وت وغ‪4‬نى وفق‪4‬ر إلى‬
‫غير ذلك مما ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو هللا عز وجل ال شريك له فيه‪ ،‬وإذا انكش‪44‬ف‬
‫لك هذا لم تنظر إلى غيره‪ ،‬بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وب‪4‬ه ثقت‪4‬ك وعلي‪4‬ه اتكال‪4‬ك‪ ،‬فإن‪4‬ه الفاع‪4‬ل على‬
‫االنفراد دون غيره‪ ،‬وما سواه مس‪44‬خرون ال اس‪44‬تقالل لهم بتحري‪44‬ك ذرّة من ملك‪44‬وت الس‪44‬موات واألرض‪،‬‬
‫وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة اتضح لك هذا اتضاحا ً أتم من المشاهدة بالبصر)(‪)1‬‬
‫وهذه المعارف إذا انصبغ بها كيان اإلنسان وتوحد قلبه عند النظر للكون أو التعامل معه هو الكفيل‬
‫الوحيد بتحقيق الراحة والسعادة والطمأنينة‪.‬‬
‫ألن مصدر القلق واالضطراب هو الشتات الذي يحص‪44‬ل في اإلنس‪44‬ان نتيج‪44‬ة رؤي‪44‬ة األش‪44‬ياء قائم‪44‬ة‬
‫بذاتها‪ ،‬فتتوزع في نفسه الرغبة منها أو الرهبة‪ ،‬وهي متناقضة مختلفة‪ ،‬فيحصل فيه من التناقض بحسبما‬
‫في األشياء من تناقض‪.‬‬
‫أما إذا رآها جميعا بيد هللا‪ ،‬فإن قلبه يتوحد مع هللا‪.‬‬
‫ومن نتائج هذه النظرة السامية‪ :‬اللجوء إلى هللا ال إلى الكون‪ ،‬وطلب األشياء من هللا ال من األش‪44‬ياء‪،‬‬
‫فاهلل هو المتصرف ال األشياء‪.‬‬
‫ومن الحماقة أن نترك اآلمر ونتوجه إلى المأمور‪ ،‬وقد ذكر الغزالي مثاال يبين تهافت الذين ينسبون‬
‫األشياء إلى ما يتوهمونه‪ ،‬ثم يلجؤون إليه بضراعة والرجاء بقول‪4‬ه‪ (:‬فالتف‪4‬ات العب‪4‬د في النج‪4‬اة إلى ال‪4‬ريح‬
‫يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيع‪4‬اً ب‪4‬العفو عن‪4‬ه وتخليت‪4‬ه‪ ،‬فأخ‪4‬ذ يش‪4‬تغل ب‪4‬ذكر الح‪4‬بر‬
‫والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع يقول‪ :‬لوال القلم لما تخلصت‪ ،‬فيرى نجاته من القلم ال من محرّك القلم‬
‫وهو غاية الجهل)(‪)2‬‬
‫ولهذا وردت النصوص الكثيرة تدعونا إلى طلب منافع الكون من هللا‪ ،‬ولو ك‪4‬انت ه‪4‬ذه المن‪4‬افع مم‪4‬ا‬
‫ننسبه إلى أنفسنا أو ننسبه إلى الطبيعة‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي يستسقي فيها الجاهلون باألنواء‪ ،‬أو يقولون م‪44‬ا يق‪44‬ول ق‪44‬وم ه‪44‬ود حين رأوا س‪44‬حاب‬
‫َارضاً ُم ْس َت ْق ِب َل َأوْ ِد َي ِت ِه ْم َقالُوا َه َذا ع ِ‬
‫َارضٌ ُم ْم ِطرُ نَ‪4‬ا‬ ‫العذاب‪ ،‬مما قصه علينا هللا تعالى‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬ف َل َّما َر َأوْ هُ ع ِ‬
‫َعْج ْلتُ ْم ِب ِه ِريحٌ ِفي َها َع َذابٌ َأ ِلي ٌم﴾ (االحقاف‪)24:‬‬
‫َبلْ هُ َو َما ا ْست َ‬
‫في ذلك الوقت يتوجه المؤمنون إلى هللا رب المطر ومنزله بال‪44‬دعاء والعبودي‪44‬ة‪ ،‬وق‪44‬د وردت ص‪44‬يغ‬
‫رقيقة عميقة في االستسقاء تبين الروح التي يتعامل بها المؤمن مع األشياء والحوادث‪.‬‬
‫ط المطر‪ ،‬فأمر بمنبر فوضع له في المص‪4‬لى‪،‬‬ ‫منها ما روي أن الناس شكوا إلى رسول هّللا ‪ ‬قحو َ‬
‫الناس يوماً يخرجون فيه‪ ،‬فخرج رسول هللا ‪ ‬حين بدا ح‪4‬اجب الش‪4‬مس‪ ،‬فقع‪4‬د على المن‪4‬بر فك‪4‬بر‬ ‫َ‬ ‫ووعد‬
‫وحمد هللا عزوجل‪ ،‬ثم قال‪( :‬إنكم ش‪4‬كوتم ج‪4‬دب دي‪4‬اركم‪ ،‬واس‪4‬تئخار المط‪4‬ر عن إب‪4‬ان زمان‪4‬ه عنكم‪ ،‬وق‪4‬د‬
‫أم‪44‬ركم هللا س‪44‬بحانه أن ت‪44‬دعوه‪ ،‬ووع‪44‬دكم أن يس‪44‬تجيب لكم)‪ ،‬ثم ق‪44‬ال‪( :‬الحم‪44‬د هلل رب الع‪44‬المين‪ ،‬ال‪44‬رحمن‬
‫الرحيم‪ ،‬مالك يوم الدين‪ ،‬ال إله إال هللا يفعل ما يريد‪ ،‬اللهم أنت هللا ال إل‪4‬ه أنت الغ‪4‬ني ونحن الفق‪4‬راء‪ ،‬أن‪4‬زل‬
‫علينا الغيث‪ ،‬واجعل ما أنزلت لنا قوة وبالغا إلى حين)‬
‫ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بي‪4‬اض إبطي‪44‬ه‪ ،‬ثم ح‪44‬ول إلى الن‪44‬اس ظه‪44‬ره وقلب‪ ،‬أو ح‪4‬ول‬
‫اإلحياء‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫اإلحياء‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫‪64‬‬
‫رداءه وهو رافع يديه‪ ،‬ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين‪.‬‬
‫وكانت نتيجة هذا الدعاء‪ ،‬وما اشتمل عليه من مظاهر الذلة هلل تعالى ما نصت عليه الرواية‪ (:‬فأنشأ‬
‫هللا تعالى سحابة‪ ،‬فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن هللا تعالى‪ ،‬فلم يأت مسجده ح‪44‬تى س‪44‬الت الس‪44‬يول‪ ،‬فلم‪44‬ا‬
‫رأى سرعتهم إلى الكن ضحك ‪ ‬حتى بدت نواجذه‪ ،‬فقال‪ (:‬أشهد أن هللا على كل شيء قدير‪ ،‬وأني عبد‬
‫هللا ورسوله)(‪)1‬‬
‫ومثلم‪44‬ا طلب ‪ ‬الس‪44‬قيا من هللا طلب الص‪44‬حو من هللا‪ ،‬فق‪44‬د روي أن‪44‬ه لم‪44‬ا ك‪44‬ثر المط‪44‬ر س‪44‬ألوه‬
‫اإلستصحاء فاستصحى لهم وقال‪ (:‬اللهم حوالينا وال علين‪4‬ا اللهم على اآلك‪4‬ام والجب‪4‬ال والظ‪4‬راب وبط‪4‬ون‬
‫األودية ومنابت الشجر)(‪)2‬‬
‫وكان ‪ ‬إذا رأى مطرا قال‪ (:‬اللهم صيبا نافعا)(‪ ،)3‬وك‪4‬ان يحس‪4‬ر ثوب‪4‬ه ح‪4‬تى يص‪4‬يبه من المط‪4‬ر‪،‬‬
‫فسئل عن ذلك‪ ،‬فقال‪ (:‬ألنه حديث عهد بربه) (‪)4‬‬
‫ويروى أنه كان إذا سال السيل ق‪4‬ال‪ (:‬اخرج‪4‬وا بن‪4‬ا إلى ه‪4‬ذا ال‪4‬ذي جعل‪4‬ه هللا طه‪4‬ورا فنتطه‪4‬ر من‪4‬ه‪،‬‬
‫ونحمد هللا عليه)(‪)5‬‬
‫ومثل اللجوء إلى هللا في االستسقاء وطلب المنافع التي أودعها هللا المطر‪ ،‬اللجوء إلى هللا في جمي‪44‬ع‬
‫المنافع‪ ،‬وحمد هللا عند حصول كل خير‪.‬‬
‫فقد كان رسول هللا ‪ ‬إذا طلعت الشمس قال‪ (:‬الحمد هلل الذي جللنا اليوم عافيت‪44‬ه‪ ،‬وج‪4‬اء بالش‪4‬مس‪،‬‬
‫من مطلعها‪ ،‬اللهم أصبحت أشهد لك بما شهدت به لنفسك‪ ،‬وشهدت به مالئكت‪44‬ك وحمل‪44‬ة عرش‪44‬ك وجمي‪44‬ع‬
‫خلقك إنك أنت هللا ال إله إال أنت القائم بالقس‪4‬ط‪ ،‬ال إل‪4‬ه إال أنت العزي‪4‬ز الحكيم‪ ،‬اكتب ش‪4‬هادتي بع‪4‬د ش‪4‬هادة‬
‫مالئكت‪44‬ك وأولي العلم‪ ،‬اللهم أنت الس‪4‬الم ومن‪4‬ك الس‪4‬الم وإلي‪4‬ك الس‪44‬الم‪ ،‬أس‪4‬ألك ي‪4‬ا ذا الجالل واإلك‪44‬رام أن‬
‫تستجيب لنا دعوتنا‪ ،‬وأن تعطينا رغبتنا‪ ،‬وأن تغنينا عمن أغنيته عنا من خلقك‪ ،‬اللهم أصلح لي ديني الذي‬
‫هو عصمة أمري‪ ،‬وأصلح لي دنياي التي فيها معيشتي‪ ،‬وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي)(‪)6‬‬
‫‪ 2‬ـ السالم‪:‬‬
‫تكاد كل النعم المسخرة في الكون تق‪4‬ول لإلنس‪4‬ان‪ (:‬أن‪4‬ا بين ي‪4‬ديك‪ ..‬أن‪4‬ا رهن إش‪4‬ارتك‪ ..‬أن‪4‬ا مخل‪4‬وق‬
‫لخدمتك)‬
‫أو تقول ما قاله ب‪4‬ديع الزم‪4‬ان‪ ،‬وه‪4‬و يع‪4‬بر عن خط‪4‬اب الش‪4‬مس لن‪4‬ا‪ ،‬وترحيبه‪4‬ا بن‪4‬ا‪ (:‬ي‪4‬ا إخ‪4‬وتي ال‬
‫ال‪ .‬أنتم أصحاب الم‪44‬نزل‪ ،‬وأن‪44‬ا‬ ‫ال ونزلتم سه ً‬‫ال بكم‪ .‬فقد حللتم أه ً‬
‫ال وسه ً‬‫تستوحشوا مني وال تضجروا! فأه ً‬
‫المأمور المكلف باإلضاءة لكم‪ ،‬أنا مثلكم خادم مطيع سخرّني األحد الصمد لالضاءة لكم‪ ،‬بمحض رحمت‪4‬ه‬
‫فعلي االضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصالة)(‪)7‬‬
‫ّ‬ ‫وفضله‪.‬‬
‫ال نظ‪44‬رت إلى القم‪44‬ر‪ ..‬إلى النج‪44‬وم‪ ..‬إلى البح‪44‬ار‪..‬‬ ‫وهكذا يخاطبنا كل شيء بلسان حاله‪ ( ،‬فيا هذا ه ّ‬
‫ال وسه ً‬
‫ال بكم)‬ ‫كل يرحب بلسانه الخاص ويقول‪ :‬حياكم وبياكم‪ .‬فأه ً‬
‫وهكذا تخاطبنا كل األشياء رافعة ألوية السالم‪ ،‬فتسخير هللا للكون تسخير مصحوب بالسالم‪.‬‬
‫رواه أبو داود‪ ،‬وقال‪ :‬حديث غريب‪ ،‬وإسناده جيد‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه مسلم وأبو داود والبخاري في األدب المفرد‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه الشافعي والبيهقي‪ 4‬مرسال‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه أحمد ورجاله ثقات‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫الكلمة الثالثة والثالثون‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪65‬‬
‫وال ينبغي أن يحجبنا ما قد يم‪4‬ر بن‪4‬ا من المت‪4‬اعب والمش‪4‬اق عن رؤي‪4‬ة س‪4‬الم الك‪4‬ون‪ ،‬فهي مت‪4‬اعب‬
‫يقتضيها البالء‪ ،‬وهي متاعب بسيطة بجنب الثمرات والمصالح المتحققة‪.‬‬
‫والمؤمن ينظر إلى الكون‪ ،‬وما سخر له فيه بهذه النظرة‪ ،‬فهو يتعامل م‪4‬ع ك‪4‬ون س‪4‬خر ل‪4‬ه‪ ،‬ال ك‪4‬ون‬
‫معاند يحتاج فيه إلى الصراع معه من أجل تحقيق مصالحه‪.‬‬
‫وهذه النظرة تخالف نظرة الكافر الجاحد‪ ،‬الذي يمتلئ كبرا وغرورا‪ ،‬فيتصور أنه مصارع عنيف‪،‬‬
‫فلذلك يفرض وجوده على هذه األرض بجهده وحيلته وقوته‪ ،‬ويقول ـ كما عبر القرآن الك‪44‬ريم على لس‪44‬ان‬
‫قارون ـ‪ِ ﴿:‬إنَّ َما أُو ِتيتُهُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي ﴾ (القصص‪ )78 :‬فلذلك رد علي‪44‬ه تع‪44‬الى مكمال‪َ ﴿:‬أ َو َل ْم َيعْ َل ْم َأ َّن هَّللا َ َق ‪ْ 4‬د‬
‫رُون َم ْن هُ َو َأ َش ُّد ِم ْنهُ قُ َّو ًة َو َأ ْك َثرُ َج ْمعاً َوال يُسْأَلُ ع َْن ُذنُو ِب ِه ُم ْال ُمجْ ِر ُمونَ ﴾ (القصص‪78 :‬‬ ‫َأ ْه َلكَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ِمنَ ْالقُ ِ‬
‫) فهل علمه من القصور ما جعله ال يمتد إلى معرفة مصاير القرى الهالكة‪ ،‬ليرى أسباب هالكها؟‬
‫ومثل قارون من أنعم هللا عليه بنعمة العافية بعد البالء‪ ،‬فينسى المبتلي والمعافي‪ ،‬ال يذكر إال نفس‪44‬ه‪،‬‬
‫‪4‬ال ِإنَّ َم‪4‬ا أُو ِتيتُ‪4‬هُ َع َلى ِع ْل ٍم َب‪4‬لْ ِه َي ِف ْتنَ‪4‬ةٌ َو َل ِك َّن‬‫خَو ْلنَا ُه ِنعْ َم‪ً 4‬ة ِمنَّا َق َ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿:‬فإِ َذا َمسَّ اأْل ِ ْن َسانَ ضُرٌّ َدعَانَا ثُ َّم ِإ َذا َّ‬
‫َأ ْك َث َرهُ ْم ال َيعْ َل ُمونَ ﴾ (الزمر‪)49 :‬‬
‫وهكذا اإلنسان الثامل بخمرة العلم الحديث‪ ،‬والساجد أمام وثن العقل يتصور أنه يص‪44‬ارع الطبيع‪44‬ة‪،‬‬
‫ويغلبها غلبة األبطال‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك نجد القرآن الكريم يصور النعم المستس‪4‬خرة بص‪4‬ورة اله‪4‬دايا المقدم‪4‬ة على أطب‪4‬اق‪،‬‬
‫ومعها ختم المه‪4‬دي‪ ،‬فاهلل تع‪4‬الى ص‪4‬ور ـ مثال ـ األرض بص‪4‬ورة الم‪4‬ركب ال‪4‬ذلول‪ ،‬المحتوي‪4‬ة على ك‪4‬ل‬
‫ال َف ْام ُشوا ِفي َمنَا ِك ِب َه‪44‬ا َو ُكلُ‪44‬وا ِم ْن ِر ْز ِق‪ِ 4‬ه َو ِإ َل ْي‪ِ 4‬ه ال ُّن ُش‪4‬ورُ﴾‬ ‫ض َذلُو ً‬ ‫المنافع‪ ،‬فقال تعالى‪ ﴿:‬هُ َو الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ُم اأْل َرْ َ‬
‫(الملك‪)15 :‬‬
‫فاآلية تصف األرض بكونها ذلوال‪ ،‬وهذا الوص‪44‬ف يطل‪44‬ق ع‪44‬ادة على الداب‪44‬ة‪ ،‬ليص‪44‬ور في األذه‪44‬ان‬
‫ويغرس في العقول والقلوب ( أن هذه األرض التي نراها ثابتة مس‪44‬تقرة س‪44‬اكنة‪ ،‬هي داب‪44‬ة متحرك‪44‬ة‪ ..‬ب‪44‬ل‬
‫رامحة راكضة مهطعة(‪ ،)1‬وهي في الوقت ذاته ذلول ال تلقي براكبه‪4‬ا على ظهره‪4‬ا‪ ،‬وال تتع‪4‬ثر خطاه‪4‬ا‪،‬‬
‫وال تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير الذلول‪ ،‬ثم هي دابة حلوب مثلما هي ذلول!)(‪)2‬‬
‫بينما يصورها الجاحدون في صورة الدابة الرامحة الراكضة التي تحتاج فارس‪4‬ا قوي‪4‬ا مث‪4‬ل فرس‪4‬ان‬
‫رعاة البقر ليقوم بترويض جماحها على نغمات تصفيق المعجبين‪.‬‬
‫ولهذا نجد في القرآن الكريم روعة التعبير عن الكون المسخر‪ ،‬بخالف تعبير العلوم الحديثة‪ ،‬والتي‬
‫كان تقهقرها في فلسفة ما اكتشفته من معارف مساويا لتقدمها في اكتشافاتها واختراعاتها‪.‬‬
‫‪4‬ل‬‫وقد عقد النورسي هذه المقارنة بين التعب‪4‬ير الق‪4‬رآني في وص‪4‬ف الش‪4‬مس في قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َج َع َ‬
‫الشمس سراجاً ﴾ (نوح‪ ،)16:‬وبين التعبير العلمي الحديث الجاف‪ ،‬فقال عن التعب‪44‬ير الق‪44‬رآني‪ (:‬في تعب‪44‬ير‬ ‫َ‬
‫السراج تصوير العالم بصورة قصر‪ ،‬وتصوير األش‪4‬ياء الموج‪4‬ودة في‪4‬ه في ص‪4‬ورة ل‪4‬وازم ذل‪4‬ك القص‪4‬ر‪،‬‬
‫ك‪4‬ريم‬
‫ٍ‬ ‫أحض‪4‬رتها لض‪4‬يوفه وخ ّدام‪4‬ه ي‪ُ 4‬د‬ ‫َ‬ ‫ومزيّناته‪ ،‬ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه‪ ،‬واحساسٌ أنه ق‪4‬د‬
‫منور‪ .‬ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظم‪44‬ة‬ ‫مسخر وسراج َّ‬ ‫َّ‬ ‫ال مأمور‬ ‫رحيم‪ ،‬وما الشمسُ إ ّ‬
‫فاألرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة‪ ،‬ثم تدور مع هذا ح‪44‬ول الش‪44‬مس بس‪44‬رعة ح‪44‬والي خمس‪44‬ة وس‪44‬تين أل‪44‬ف مي‪44‬ل في الس‪44‬اعة‪ .‬ثم‬ ‫‪)(1‬‬
‫تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها بمعدل عشرين ألف ميل في الساعة‪ ،‬مبتعدة نحو برج الجبار في السماء‪ ..‬ومع هذا ال‪44‬ركض كل‪44‬ه يبقى اإلنس‪44‬ان‬
‫على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنا معافى ال تتمزق أوصاله‪ ،‬وال تتناثر‪ 4‬أشالؤه‪ ،‬بل ال يرتج مخه وال يدوخ‪ ،‬وال يقع مرة عن ظهر هذه الدابة الذلول‪ ..‬انظر م‪44‬ا‬
‫يشير إلى هذه الحركات من القرآن الكريم في رسالة (معجزات‪ 4‬علمية)‬
‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ربوبيته‪ ،‬وافها ُم إحسانه في سعة رحمته‪ ،‬واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته)‬
‫أما العلم الحديث فيع‪4‬رف الش‪4‬مس بأنه‪4‬ا ( كتل‪4‬ة عظيم‪4‬ة من الم‪4‬ائع الن‪4‬اري ت‪4‬دور ح‪4‬ول نفس‪4‬ها في‬
‫مستقرها‪ ،‬تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه االجرام العظيمة المختلفة في‬
‫الجسامة‪ ..‬ضخامتها كذا‪ ..‬ماهيتها كذا‪)..‬‬
‫غ‪4‬ير الح‪4‬يرة المدهش‪4‬ة والدهش‪4‬ة‬ ‫َ‬ ‫وعقب على هذه المقارنة بقوله‪ (:‬فانظر ماذا أفادت‪4‬ك ه‪4‬ذه المس‪4‬ألة‬
‫ال علمياً وال ذوقاً روحياً وال غاية إنسانية وال فائدة دينية)‬
‫الموحشة‪ ،‬فلم تُ ِف ْدك كما ً‬
‫وعلى هذا تقاس جميع التعبيرات القرآنية المتعلق‪44‬ة ب‪44‬الكون المس‪44‬خر‪ ،‬ول‪44‬ذلك من الجه‪44‬ل العظيم م‪44‬ا‬
‫أنكره بعضهم من أن القرآن الكريم ال يتكلم عن الكائنات من الزاوية التي يسمونها علما‪ ،‬ويقصرون العلم‬
‫عليها‪ ،‬قال النورسي‪ (:‬فقس على هذا لتق ّدر قيمة المسائل الفلسفية التي ظاهرُها مزخرف‪44‬ة وباطنُه‪44‬ا جهال‪44‬ة‬
‫عرض عن بيان القرآن المعجز)‬ ‫فارغة‪ ،‬فال يغرّنك تشعشع ظاهرها وتُ ِ‬
‫***‬
‫والنظرة المسالمة للكون‪ ،‬أو شعورنا بأن الكون مسالم لنا يدعونا إلى احترام هذا السالم‪ ،‬فال نبادله‬
‫بالحرب‪ ،‬وال نتعامل معه وفق ما يمليه الصراع‪.‬‬
‫ولهذا ورد في النصوص الحث على رحمة الكائنات‪ ،‬ومحبتها في هللا‪ ،‬وأخذ ما نأخذ منها باسم هللا‪.‬‬
‫وقد ورد فيها ما يرغب في الجزاء الذي أع‪4‬د للتعام‪4‬ل المس‪4‬الم م‪4‬ع الكائن‪4‬ات‪ ،‬وم‪4‬ا ي‪4‬رهب في نفس‬
‫الوقت من التعامل معها كما يتعامل معها المصارعون‪:‬‬
‫فقد جاء رج‪4‬ل إلى رس‪4‬ول هللا ‪ ‬فق‪4‬ال‪ (:‬إني أن‪4‬زع في حوض‪4‬ي ح‪4‬تى إذا مألت‪4‬ه ألهلي ورد علي‬
‫البعير لغيري فسقيته‪ ،‬فهل لي في ذلك من أجر‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ (:‬في كل ذات كبد حرى أجر) (‪)2‬‬
‫وجاء رجل آخر‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول إن الضالة ترد على حوض‪4‬ي فه‪4‬ل لي فيه‪4‬ا من أج‪4‬ر إن س‪4‬قيتها؟‬
‫قال‪ (:‬أسقها‪ ،‬فإن في كل ذات كبد حراء أجرا ً)(‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر قال رسول هللا ‪ (:‬بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر‪ ،‬فوج‪44‬د ب‪44‬ئرا ًف‪44‬نزل‬
‫فيها فش‪4‬رب‪ ،‬ثم خ‪4‬رج‪ ،‬ف‪4‬إذا كلب يلهث يأك‪4‬ل ال‪4‬ثرى من العطش‪ ،‬فق‪4‬ال الرج‪4‬ل‪ :‬لق‪4‬د بل‪4‬غ ه‪4‬ذا الكلب من‬
‫العطش مثل الذي كان بلغ مني‪ ،‬فنزل البئر فمأل خفه ماء‪ ،‬ثم أمسكه بفيه حتى رقي‪ ،‬فسقى الكلب‪ ،‬فش‪44‬كر‬
‫هللا له‪ ،‬فغفرله‪ ،‬قالوا‪:‬يا رسول هللا إن لنا في البهائم أجرا ً؟ فقال‪ :‬في كل كبد رطبة أجر)(‪)4‬‬
‫وأخبر ‪ ‬أن هللا تعالى غفر لمومس مرت بكلب يلهث كاد يقتل‪44‬ه العطش‪ ،‬ف‪44‬نزعت خفه‪44‬ا‪ ،‬فأوثقت‪44‬ه‬
‫بخمارها‪ ،‬فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك(‪.)5‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬أن رسول هللا ‪ ‬قال‪ (:‬الخيل لثالث‪4‬ة‪ :‬لرج‪4‬ل أج‪4‬ر‪ ،‬ولرج‪4‬ل س‪4‬تر‪ ،‬وعلى رج‪4‬ل‬
‫وزر‪ .‬فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل هللا فأطال في مرج أو روضة فما أصابت في طلبه‪4‬ا ذل‪4‬ك‬
‫من المرج أو الروضة كانت له حسنات‪ ،‬ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو ش‪44‬رفين ك‪44‬انت أرواؤه‪44‬ا‬
‫وأثارها حسنات له‪ ،‬ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له‪)6()..‬‬

‫انظر‪ :‬المكتوب التاسع عشر‪ ،‬النورسي‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه أحمد‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه ابن حبان في صحيحه‪ ،‬ورواه ابن ماجة والبيهقي‪4.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه لبخاري‪ ،‬ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫‪67‬‬
‫والجزاء على اإلحس‪4‬ان للكائن‪4‬ات ال يقتص‪4‬ر على الج‪4‬زاء األخ‪4‬روي‪ ،‬ب‪4‬ل ه‪4‬و ج‪4‬زاء يش‪4‬مل ال‪4‬دنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬قال مطرف بن عبدهللا‪ (:‬إن هللا ليرحم برحمة العصفور)‬
‫وقد ذكر الشعراني واقعة حدثت له تشير إلى هذا‪ ،‬قال‪ (:‬مما وقع لي أن زوجتي فاطمة القص‪44‬بية أم‬
‫ولدي عبدالرحمن نزل عليها حادر وأش‪4‬رفت على الم‪4‬وت وغ‪4‬ابت عن إحساس‪4‬ها وص‪4‬احت أمه‪4‬ا وأه‪4‬ل‬
‫الدار عليها حين رأوا أمارات الموت فحصل عندي كرب شديد ألجلها من جهة موافقته‪44‬ا للم‪44‬زاج ودينه‪44‬ا‬
‫وخيرها فإذا بقائل يقول لي‪ (:‬ادخل مجاز الخالء تجد ذبابة في ش‪44‬ق س‪44‬حبها ض‪44‬بع ال‪44‬ذباب وهي ص‪44‬ائحة‬
‫يريد أكله‪4‬ا فخلص‪4‬ها ونحن نخلص ل‪4‬ك زوجت‪4‬ك)‪ ،‬ف‪4‬دخلت ونظ‪4‬رت إلى الش‪4‬ق‪ ،‬فس‪4‬معت ص‪4‬ياح الذباب‪4‬ة‬
‫فوجدت الشق ضيقا ال يسع األصبع فأدخلت عودا برفق واستخرجتها وخلصتها من ضبع الذباب‪ ،‬فأفاقت‬
‫أم عبدالرحمن في الحال‪ ،‬وزغردت أمها‪ ،‬هذا أمر وقع لي)(‪)1‬‬
‫وما ذكره الشعراني ليس مستغربا‪ ،‬وق‪4‬د ق‪4‬ال ‪ (:‬من ال ي‪4‬رحم من في األرض ال يرحم‪4‬ه من في‬
‫السماء)‪ ،‬وهو يشير إلى أن الرحمة بالخلق هي العين التي تتدفق منه رحمة هللا بالعبد‪ ،‬وقد روي من ذل‪4‬ك‬
‫أيضا عن بعضهم أنه رؤي في المنام فقيل له‪ :‬ما فعل هّللا بك قال‪ :‬غفر لي ورحمني‪ ،‬وس‪44‬ببه أني م‪44‬ررت‬
‫بشارع بغداد في مطر شديد فرأيت هرة ترعد من البرد فرحمتها وجعلتها بين أثوابي)‬
‫***‬
‫وبمث‪4‬ل م‪4‬ا رغبت النص‪4‬وص في ه‪4‬ذه الخ‪4‬دمات ذاك‪4‬رة أن‪4‬واع الج‪4‬زاء المرتبط‪4‬ة به‪4‬ا‪ ،‬رهبت من‬
‫عكسها ترهيبا شديدا يبين خطورة تعامل المصارعين مع هذه المخلوقات‪.‬‬
‫ففي الحديث‪ ،‬قال رسول هللا ‪ (:‬عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها‪ ،‬ولم تتركها تأكل من‬
‫خشاش األرض)(‪)2‬‬
‫وصور ‪ ‬ذلك تصويرا مخيفا‪ ،‬فقال‪ (:‬دنت مني النار ح‪4‬تى قلت‪ :‬أي رب وأن‪4‬ا معهم‪ ،‬ف‪4‬إذا ام‪4‬رأة‬
‫حسبت أنه قال‪ :‬تخدشها هرة _‪ :‬قال ما شأن هذه؟ قالوا‪ :‬حبستها حتى ماتت جوعا)(‪)3‬‬
‫وربط رسول هللا ‪ ‬لعذاب هذه المرأة بتعذيب الهرة يدل على أنه سبب تع‪4‬ذيبها‪ ،‬ال كونه‪4‬ا ك‪4‬افرة‪،‬‬
‫وهذا ما حمل النووي على قوله في شرح هذا الحديث‪ (:‬إن المرأة كانت مسلمة وإنها دخلت النار بسببها‪،‬‬
‫وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة)(‪)4‬‬
‫ونحن ال نرى في الحديث ما يدل على كونها مسلمة أو غير مسلمة‪ ،‬ولكن الحديث يشير إلى ما هو‬
‫أعمق من ذلك‪ ..‬وهو أن هذا السلوك يستوجب العقوبة بغض النظر عن كون من سلك هذا السلوك مسلما‬
‫أو غير مس‪4‬لم(‪ ،)5‬بلغت‪4‬ه الرس‪4‬الة أو لم تبلغ‪4‬ه‪ ،‬ألن الرحم‪4‬ة المرتبط‪4‬ة به‪4‬ذا مندرج‪4‬ة في البرمج‪4‬ة اإللهي‪4‬ة‬
‫للفطرة اإلنسانية‪ ،‬ولذلك يؤاخذ مخالفها سواء بلغته الرسالة أو لم تبلغه(‪.)6‬‬
‫‪ )(1‬العهود المحمدية‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(4‬شرح النووي على مسلم‪.9/89:‬‬
‫مع صراحة الحديث في كون العذاب بسبب الهرة‪ ،‬إال أن البعض حاول تأويله‪ ،‬قال القاضي‪ (:‬في هذا الحديث المؤاخذة بالصغائر‪ ،‬قال‪ :‬وليس في‪44‬ه‬ ‫‪)(5‬‬
‫أنها عذبت عليها بالنار)‪ ،‬ثم برر ما صرح ب‪4‬ه الح‪4‬ديث من كونه‪4‬ا‪ 4‬في الن‪4‬ار بقول‪44‬ه‪ (:‬ويحتم‪4‬ل‪ 4‬أنه‪4‬ا ك‪44‬انت ك‪44‬افرة فزي‪44‬د في ع‪4‬ذابها ب‪4‬ذلك)( الن‪4‬ووي على مس‪4‬لم‪:‬‬
‫‪).6/207‬‬
‫وهذا مخالف لما ورد في الحديث‪ ،‬قال النووي بعد حكاية كالمه‪ (:‬هذا كالمه وليس بصواب‪ ،‬بل الصواب المصرح به في الحديث أنها عذبت بسبب الهرة‪،‬‬
‫وهو كبيرة ألنها ربطتها‪ 4‬وأصرت على ذلك حتى ماتت‪ ،‬واإلصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة‪ 4‬كما هو مق‪44‬رر في كتب‪ 4‬الفق‪44‬ه وغيره‪44‬ا‪ ،‬وليس في الح‪44‬ديث م‪44‬ا‬
‫يقتضي كفر هذه المرأة (النووي على مسلم‪)6/207 :‬‬
‫‪ )(6‬انظر في تفاصيل أدلة هذا في رسالة (أسرار األقدار)‬
‫‪68‬‬
‫باإلضافة إلى ما أخبر به ‪ ‬من اقتصاص الحيوانات من بعضها بعضا يوم القيامة‪ ..‬فإن كان ذلك‬
‫كذلك‪ ،‬فالبشر ـ بما أعطوا من طاقات ـ أولى بأن يحاسبوا‪.‬‬
‫***‬
‫والنصوص المقدسة لم تكتف بهذه التوجيهات التي ق‪44‬د ال تج‪44‬د من غالظ القل‪44‬وب من ال يهتم له‪44‬ا‪،‬‬
‫ولذلك شرعت التشريعات المختلفة التي تحفظ حرمة هذه الكائنات‪ ،‬والتي تخول ل‪44‬ولي األم‪44‬ر من خالله‪44‬ا‬
‫أن يمارس ما يراه من عقوبات زاجرة‪.‬‬
‫وهذه ميزة هامة في اإلسالم‪ ،‬من حيث عدم اكتفائه بالتوجيهات دون التشريعات‪ ..‬ولألس‪44‬ف ال زال‬
‫يتولى مهمة الرفق بالحيوان في عصرنا هذا جمعيات خيرية ليس لها أي سلطة ردعية‪.‬‬
‫ومن التشريعات التي شرعها اإلسالم‪ ،‬والمرتبطة بع‪4‬الم الحي‪4‬وان تح‪4‬ريم تص‪4‬بير البه‪4‬ائم‪ ،‬وه‪4‬و أن‬
‫تحبس لترمى حتى تموت‪ ،‬ففي الحديث‪ :‬نهى النبي ‪ ‬عن أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل(‪.)1‬‬
‫ّ‬
‫ومث‪44‬ل ذل‪44‬ك تح‪44‬ريم المثل‪44‬ة‪ ،‬وهي قط‪44‬ع أط‪44‬راف الحي‪44‬وان‪ ،‬ففي الح‪44‬ديث‪( :‬لعن الن‪44‬بي ‪ ‬من مث‪44‬ل‬
‫بالحيوان)(‪)2‬‬
‫واللعن من أخطر صيغ التحريم‪ ،‬والتحريم يقتضي العقاب‪ ،‬والعقاب أث‪44‬ر من آث‪44‬ار الجريم‪44‬ة‪ ،‬وه‪44‬ذا‬
‫يعني‪ :‬أن اإلساءة إلى الحيوان وتعذيبه وعدم الرفق به يعتبر جريمة في نظر الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫ومثل ذلك ورد النهي عن كي الحي‪44‬وان لغ‪44‬ير غ‪44‬رض ص‪44‬حي‪ ،‬واألح‪44‬اديث في النهي عن الكي في‬
‫الوجه كثيرة‪.‬‬
‫فقد روي أن النبي ‪ ‬مرّ على حمار قد وسم في وجهه فقال‪ (:‬لعن هللا الذي وسمه)(‪ ،)3‬وفي رواية‬
‫له‪ (:‬نهى رسول هللا ‪ ‬عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه)‬
‫وفي حديث آخر ًعن جنادة بن جراد قال‪ :‬أتيت النبي ‪ ‬بإبل قد وسمتها في أنفها‪ ،‬فقال رس‪44‬ول هللا‬
‫‪ (:‬يا جنادة فما وجدت عضوا تسمه إال في الوجه أما إن أمامك القصاص) فقال‪ :‬أمرك إليها يا رس‪44‬ول‬
‫هللا(‪.)4‬‬
‫وفي حديث آخر عن جابر بن عبد هللا قال‪ :‬مرّ حمار برسول هللا ‪ ‬قد كوي وجه‪4‬ه يف‪4‬ور منخ‪4‬راه‬
‫من دم‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ (:‬لعن هللا من فعل هذا)‪ ،‬ثم نهى عن الكي في الوجه والضرب في الوجه(‪.)5‬‬
‫ومثل ذلك ورد النهي عن خص‪44‬اء البه‪44‬ائم‪ ،‬ففي الح‪44‬ديث أن رس‪44‬ول هللا ‪ ‬نهى أن يخص‪44‬ى اإلب‪44‬ل‬
‫والبقر والغنم والخيل‪..‬‬
‫ومما يلحق به‪4‬ذا الب‪4‬اب تح‪4‬ريم ك‪4‬ل له‪4‬و ال ه‪4‬دف ل‪4‬ه إال العبث به‪4‬ذه الع‪4‬والم ال‪4‬تي أمرن‪4‬ا برحمته‪4‬ا‬
‫واحترامها‪ ،‬وقد روي في الحديث‪ (:‬نهى رسول هللا ‪ ‬عن التحريش بين البهائم)(‪)6‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال ‪ (:‬من قتل عصفورا عبثا ًعجّ إلى هللا يوم القيام‪44‬ة يق‪44‬ول‪ :‬ي‪44‬ا رب إن فالن‪44‬ا‬
‫قتلني عبثا ًولم يقتلني منفعة)(‪)7‬‬
‫ويحكي في ذلك بعض الصحابة قال‪ :‬كنا مع النبي ‪ ‬في سفر‪ ،‬فانطلق لحاجته‪ ،‬فرأينا ح ّمرة معها‬
‫رواه البخاري‪ ،‬وقال العقيلي‪( :‬جاء في النهي عن صير البهيمة أحاديث جياد)‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه البخاري‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه الطبراني‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫رواه الترمذي ًوصححه‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه أبو داود والترمذي‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫رواه النسائي وابن حبان في صحيحه‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫‪69‬‬
‫فرخان‪ ،‬فأخذنا فرخيها‪ ،‬فجاءت الحمرة فجعلت تعرش‪ ،‬فلما جاء رسول هللا قال‪ (:‬من فجع ه‪44‬ذه بول‪44‬دها؟‬
‫ردوا ولدها إليها) (‪)1‬‬
‫ويدخل في هذا الباب تحريم جميع الممارسات التي تنظ‪4‬ر له‪4‬ا الحض‪4‬ارة الحديث‪4‬ة على أنه‪4‬ا تقالي‪4‬د‪،‬‬
‫وتحسب أن ذلك كاف إلعط‪4‬اء بع‪4‬د ش‪4‬رعي له‪4‬ا‪ ،‬ومنه‪4‬ا تع‪4‬ذيب الحيوان‪4‬ات ب‪4‬إغراء بعض‪4‬ها على بعض‬
‫وتهييجه‪4‬ا‪ ،‬كمص‪4‬ارعة الث‪4‬يران‪ ،‬ومص‪4‬ارعة الديك‪4‬ة‪ ،‬والكب‪4‬اش ونح‪4‬و ذل‪4‬ك‪ ،‬أو نص‪4‬بها غرض‪4‬ا ًللرماي‪4‬ة‬
‫والصيد‪ ،‬أو قتلها بدون فائدة وال منفعة‪.‬‬
‫***‬
‫ومما ورد النهي عنه إرهاق الحيوانات بالعمل الشاق‪ ،‬أو التعامل القاسي معها‪ ،‬ما ذكره رسول هللا‬
‫‪ ‬من كيفية وضع الحمل عليها‪ ،‬مم‪4‬ا يك‪4‬ون عو ًن‪4‬ا له‪4‬ا على الس‪4‬ير‪ ،‬وتخص‪4‬يص ك‪4‬ل داب‪4‬ة بم‪4‬ا تطيق‪4‬ه‪،‬‬
‫والمبادرة لحلِّ الرِّحال عن النزول عنها‪ ،‬وتقديم علفها على أكل صاحبها‪ ،‬وكذا المب‪44‬اردة إلى س‪44‬قيها‪ ،‬ك‪44‬ل‬
‫ذلك شفقة عليها وإبقاء لها(‪.)2‬‬
‫ففي الحديث قال رسول هللا ‪ (:‬أخروا األحمال‪ ،‬فإن اليد مغلقة‪ ،‬والرجل موثقة)(‪)3‬‬
‫وفي حديث آخر عن عائش‪4‬ة ق‪4‬الت‪ (:‬خ‪4‬رجت م‪4‬ع رس‪4‬ول هللا ‪ ‬في حج‪4‬ة ال‪4‬وداع‪ ،‬وخ‪4‬رج مع‪4‬ه‬
‫نساؤه‪ ،‬وكان متاعي فيه خف‪ ،‬وهو على جمل ن‪4‬اج‪ ،‬وك‪4‬ان مت‪4‬اع ص‪4‬فية في ِثق‪4‬ل‪ ،‬وه‪4‬و على جم‪4‬ل ِثف‪4‬ال‬
‫حولوا متاع عائشة على جمل صفية‪ ،‬وحول‪44‬وا مت‪44‬اع ص‪44‬فية‬ ‫َبطيء‪َ ،‬يتبطأ بالركب‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ِّ (:‬‬
‫على جمل عائشة‪ ،‬حتى يمضي الركب)(‪)4‬‬
‫وقد ب‪4‬نى الفقه‪4‬اء على ه‪4‬ذا وغ‪4‬يره حرم‪4‬ة الجم‪4‬ع بين الرك‪4‬وب وحم‪4‬ل المت‪4‬اع إال إن ك‪4‬انت الداب‪4‬ة‬
‫المركوبة محتملة للحمل عليها (‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر عن أنس قال‪ :‬كنا إذا نزلنا منزاًل ال نس‪4‬بّح ح‪44‬تى نحُ‪44‬ل الرِّح‪44‬ال(‪ ..)6‬يري‪44‬د ب‪44‬ذلك‪ :‬ال‬
‫نصلي سُبحة حتى نحط الرحال‪ ،‬ونُج َّم المطي‪.‬‬
‫وقد استنبط الفقهاء من هذا أنه يستحب لمن نزل منزاًل أن ال َيط َعم حتى يعلف الدابة‪ ،‬وال يقصِّر في‬
‫سقيها‪.‬‬
‫ومما يدخل في هذا الباب م‪4‬ا ورد من النهي عن وق‪4‬وف الداب‪4‬ة وراكبه‪4‬ا ج‪4‬الس على ظهره‪4‬ا؛ ففي‬
‫‪4‬خرها لكم‬ ‫الحديث‪ ،‬قال رسول هللا ‪ (:‬إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر‪ ،‬ف‪44‬إن هللا ع‪44‬ز وج‪44‬ل إنم‪44‬ا س‪َّ 4‬‬
‫لتُبْلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إال بش‪44‬ق األنفس‪ ،‬وجع‪44‬ل لكم األرض‪ ،‬فعليه‪44‬ا فاقض‪44‬وا ح‪44‬اجتكم)(‪ ،)7‬وفي‬
‫رواية قال رسو ل هللا ‪ (:‬اركبوا هذه الدواب سالمة‪ ،‬وابتدعوها(‪ )8‬سالمة‪ ،‬وال تتخذوها كراسي)(‪)9‬‬
‫وفي رواية أنه ‪ ‬مرَّ على دوابِّ لهم ورواح‪44‬ل‪ ،‬وهم وق‪44‬وف‪ ،‬فق‪44‬ال الن‪44‬بي ‪(:‬اركبوه‪44‬ا س‪44‬المة‪،‬‬
‫رواه أبو داود‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫انظر في هذا‪ :‬تحرير الجواب عن ضرب الدَّواب‪ ،‬للشيخ العالمة محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي (‪)902-831‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه الطبراني والبزار وغيرهما‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه أبو يعلى‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫ق‪44‬د‬ ‫قال ابن خزيمة قال‪ :‬إذا كان األغلب من الدواب المركوبة أنها إذا حُمل عليها في الس‪44‬ير عطبت‪ ،‬لم يكن لراكبه‪44‬ا الحم‪44‬ل عليه‪44‬ا‪ ،‬إذ الن‪44‬بي ‪‬‬
‫‪)(5‬‬
‫اشترط أن تُركب سالمة‪ ،‬ويُشبه أن يكون معنى قوله‪( :‬اركبوها سالمة) أي‪ :‬ركوبًا تسلم منه وال تعطب‪ .‬انظر‪ :‬تحرير الجواب عن ضرب الدَّواب‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪ )(8‬أي‪ :‬اتركوها ورفهوا عنها إذا لم تحتاجوا إلى ركوبها‪ .‬وهو (افتعل) من َودُع –بالضم‪َ -‬ودَاعة َودَعة؛ أي‪ :‬سكن وترفه‪ ،‬النهاية‪.5/166 :‬‬
‫‪ )(9‬رواه ابن خزيمة‪ ،‬والحاكم‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬في «صحاحهم» وغيرهم‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫وانزلوا عنها سالمة‪ ،‬وال تتخذوها كراسي ألحاديثكم ومجالسكم‪ ،‬فرُب مركوب‪44‬ة خ‪44‬ير من راكبه‪44‬ا‪ ،‬وأك‪44‬ثر‬
‫ذكرًا هلل عز وجل)(‪)1‬‬
‫ومما يدخل في هذا الباب ما ورد من النهي عن ركوب ثالثة في آن واحد‪ ،‬ففي الح‪44‬ديث عن ج‪44‬ابر‬
‫قال‪ (:‬نهى رسول هللا ‪ ‬أن يركب ثالثة على دابة)(‪)2‬‬
‫وفي حديث آخر‪ :‬أنه رأى ثالثة على بغل‪ ،‬فقال‪ :‬لينزل أحدكم فإن رسول هللا ‪ ‬لعن الثالث(‪.)3‬‬
‫بل ورد ما هو أخطر من ذلك‪ ،‬ففي الحديث عن علي قال‪ :‬إذا رأيتم ثالثة على دابة فارجموهم حتى‬
‫ينزل أحدهم)(‪)4‬‬
‫ومما يدخل في هذا الباب ما ورد من األمر بالنزول عنها عن‪4‬د الم‪4‬رور ب‪4‬األرض المخص‪4‬بة ب‪4‬الكأل‬
‫المباح لتَرعى فيها‪ ،‬وعد ك ِّفها عن المكان السهل‪ ،‬ففي الحديث‪ ،‬قال رسول هللا ‪ (:‬إذا أخصبت األرض‬
‫فانزلوا عن ظهركم فأعطوه حقه من الكأل‪ ،‬وإذا أجدبت األرض فامضوا عليها بنقيها)(‪)5‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال رسول هللا ‪ (:‬إذا ركبتم هذه الدواب فأعطوها حظها من المنازل)(‪)6‬‬
‫وفي حديث آخر قال رس‪44‬ول هللا ‪( :‬إذا س‪44‬افرتم في الخص‪44‬ب ألمكن‪44‬وا الرك‪44‬اب من أس‪44‬نانها‪ ،‬وال‬
‫تجاوزوا المنازل) الحديث(‪ ،)7‬وفي لفظ‪( :‬إذا كانت األرض مخصبة فأمكنوا الركاب وعليكم بالمنازل)‬
‫سنة فانجوا عليها)(‪)8‬‬ ‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال رسول هللا ‪ (:‬إذا ركبتم هذه البهائم العُجم‪ ،‬فإذا كانت َ‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬قال رسول هللا ‪ (:‬إذا كانت أرض مخصبة فتقصَّوا في السير واعطوا الركاب‬
‫حقها‪ ،‬فإن هللا رفيق يحب الرفق‪ ،‬وإذا كانت أرض مجدبة فانجوا عليها)(‪)9‬‬
‫وفي حديث آخر قال رس‪4‬ول هللا ‪ (:‬إن هللا رفي‪4‬ق يحب الرف‪4‬ق ويرض‪4‬اه ويعين علي‪4‬ه م‪4‬ا ال يعين‬
‫على العُنف‪ ،‬فإذا ركبتم الدواب العجم فنزلوها منازلها‪ ،‬فإن أجدبت األرض فانجوا عليها)(‪)10‬‬
‫وفي حديث آخر قال رس‪44‬ول هللا ‪ (:‬إذا ركب أح‪44‬دكم الداب‪44‬ة فليحمله‪44‬ا على مالذها(‪ )11‬ـ أو ق‪44‬ال‪:‬‬
‫على مالذة ـ فإن هللا تعالى يحمل على القوي والضعيف)(‪)12‬‬
‫ومما يدخل في هذا الباب ما ورد من النصوص داال على إراحتها من الرك‪44‬وب لتس‪44‬تريح(‪ ،)13‬وق‪44‬د‬
‫ورد في الحديث أنه ‪( ‬كان إذا صلى الفجر في السفر مشى)(‪)14‬‬
‫وقد روي عن بعض الصالحين(‪ )15‬أنه كان في بعض أسفاره راكبً‪4‬ا ناق‪4‬ة‪ ،‬فس‪4‬معها وهي تق‪4‬ول ل‪4‬ه‪:‬‬
‫أتعبتني يا صالح‪ ،‬فنزل عنها فمشى إلى أن سمعها وهي تقول‪ :‬اركب فقد استرحت‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه ابن خزيمة‪ ،‬وابن حبان وغيرهما‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الطبراني في األوسط‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه ابن أبي شيبة‪.‬‬
‫‪ )(4‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البزار‪.‬‬
‫‪ )(6‬رواه الدارقطني في أفراده‪.‬‬
‫‪ )(7‬رواه ابن خزيمة‪ ،‬وأبو داود‪.‬‬
‫‪ )(8‬رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪ )(9‬رواه البزار في مسنده‪ ،‬ورواه الطبراني بسند فيه من لم يسم‪ ،‬لكن موقوفًا‪.‬‬
‫‪ )(10‬رواه ابن قانع والطبراني في معجمي الصحابة‪.‬‬
‫‪ )(11‬جمع ملذ‪ ،‬وهو موضع اللذة؛ أي‪ :‬ليُجْ رها في السهولة ال في الحزونة؛ وهي المكان الغليظ الخشن‪.‬‬
‫‪ )(12‬رواه الدارقطني في أفراده‪.‬‬
‫‪ ،‬فالمشي رياضة صحية يحتاج إليها اإلنسان كل حين‪.‬‬ ‫وهذا من الهدي الصحي الذي أرشدنا له رسول هللا ‪‬‬ ‫‪)(13‬‬
‫رواه الطبراني في األوسط‪.‬‬ ‫‪)(14‬‬
‫هو الشيخ صالح الزواوي المغربي‪.‬‬ ‫‪)(15‬‬
‫‪71‬‬
‫وال استبعاد في هذا‪ ،‬وقد مر معن‪4‬ا قول‪4‬ه ‪ (:‬بينم‪4‬ا رج‪4‬ل راكب على بق‪4‬رة التفتت إلي‪4‬ه فق‪4‬الت‪ :‬لم‬
‫ت للحراثة)(‪)1‬‬ ‫أخلق لهذا‪ُ ،‬خل ْق ُ‬
‫ومما يدخل في هذا الباب ما ورد من النصوص داال على استحباب تنش‪44‬يطها بالحُ‪44‬داء(‪ )2‬وإراحته‪44‬ا‬
‫بذلك‪ ،‬وقد جرت عادة اإلبل أنها تسرع السير إذا حدي بها‪ ،‬منها قوله ‪ ‬في مسير له لعبد هللا بن رواحة‬
‫(يابن رواحة‪ ،‬انزل فحرك الركاب)‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اللهم لوال أنت ما اهتدينا وال تصدقنا وال صلينا‬
‫وثبت األقدام إن القينا (‪)3‬‬ ‫فأنزل السكينة علينا‬
‫ومما يدخل في هذا الباب ما ورد من األمر بالرفق في السير بها إبقاء عليها وعلى نفسه؛ لقول‪4‬ه ‪‬‬
‫ت ال أرضًا قطع وال ظهرًا أبقى(‪)5( ))4‬‬ ‫‪( :‬المن َب ّ‬
‫***‬
‫وعلى هذا الهدى المضمخ بعطر السالم‪ ،‬سار الصالحون متأدبين مع الكون مسالمين له‪ ،‬وقد ع‪44‬بر‬
‫الشعراني عن األساس الذي نبعت منه رحمة الصالحين على الكائنات بهذا التعبير الرمزي الجميل‪ (:‬أخذ‬
‫علين‪44‬ا العه‪44‬د الع‪44‬ام من رس‪44‬ول هللا ‪ ‬أن نش‪44‬فق على جمي‪44‬ع خل‪44‬ق هللا تع‪44‬الى من م‪44‬ؤمن وك‪44‬افر بطريق‪44‬ه‬
‫الشرعي‪ ،‬كل بما يناسبه من الرحمة‪ ،‬لكن ال نبالغ في الرحمة كل المبالغة بحيث ن‪44‬رحم الش‪44‬اة فال ن‪44‬ذبحها‬
‫مثال‪ ،‬ألن للرحمة حدا ال تتعداه‪ ،‬وقد س‪4‬مى الح‪4‬ق تع‪4‬الى نفس‪4‬ه أرحم ال‪4‬راحمين وأمرن‪4‬ا ب‪4‬ذبح الحيوان‪4‬ات‬
‫فنذبحها مع رقة القلب‪ ،‬ونضرب من شرد عن طريق االستقامة من رعية وعبد وول‪4‬د وبهيم‪4‬ة رحم‪4‬ة ب‪4‬ه‬
‫على وجه التأديب ال التشفي للنفس‪ ،‬ونكون أرحم به من نفسه)(‪)6‬‬
‫وقد ذكر الشعراني التزام الربانيين بهذا العهد الذي أخذه رسول هللا ‪ ‬على أمت‪44‬ه‪ ،‬ف‪44‬ذكر عن علي‬
‫الخواص قوله‪ (:‬من شروط من تخلق بالرحمة على العالم أن يعامل الجم‪44‬اد معامل‪44‬ة الحي‪ ،‬فيمس‪44‬ك ك‪44‬وز‬
‫الماء مثال ويضعه برفق وشفقة‪ ،‬خوفا أن يتألم من الوضع)‬
‫وقد بلغت به شفافية الروح المسالمة أن قال عن نفسه‪ (:‬وقد وض‪44‬عت الك‪44‬وز م‪44‬رة بعن‪44‬ف فق‪44‬ال‪ :‬أه‪،‬‬
‫فمن ذلك اليوم وأنا أضعه برفق)‬
‫ويتحدث عنه الشعراني أنه كان يمأل أواني الكالب ويقول‪ (:‬إنهم مساكين ال يقدرون أن يمل‪44‬ؤوا من‬
‫البئر إذا عطشوا ويمنعهم الناس من دخول دورهم‪ ،‬ومن الشرب من حيضان دوابهم خوف التنجيس)‬
‫ويروي عنه أن‪4‬ه ك‪4‬ان يرس‪4‬ل بعض تالمذت‪4‬ه إلى الم‪4‬ذبح في‪4‬أتي بش‪4‬عث اللحم وبالطح‪4‬ال ونحوهم‪4‬ا‬
‫للقطط كل يوم ويقول‪ (:‬إن غالب الناس اليوم ال يطعم قطة الدار شيئا‪ ،‬وإنما تخطف كلما ق‪4‬درت علي‪4‬ه إذا‬
‫جاعت على رغم أنفه)‬
‫ويروي عنه أنه كان يتفقد النمل الذي في ش‪4‬قوق ال‪4‬دار ويض‪4‬ع ل‪4‬ه ال‪4‬دقيق ولب‪4‬اب الخ‪4‬بز على ب‪4‬اب‬
‫جحره ويقول‪ (:‬يمنعهم من االنتشار ألجل القوت‪ ،‬فإن النملة إذا جاعت خرجت تطلب رزقه‪44‬ا ض‪44‬رورة‪،‬‬
‫وعرضت نفسها لوقوع حافر أو ق‪4‬دم عليه‪4‬ا فتم‪4‬وت أو تنكس‪4‬ر رجله‪4‬ا‪ ،‬ف‪4‬إذا وج‪4‬دت م‪4‬ا تأك‪4‬ل على ب‪4‬اب‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(2‬الح ْدو‪ :‬هو سوق اإلبل والغناء لها‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫أي أن من يعسف الركاب ويحملها من السير على ما ال تطيق‪ 4‬رجاء اإلسراع‪ ،‬ينقطع ظهره‪ ،‬فال هو قطع األرض ال‪44‬تي أراد‪ ،‬وال ه‪44‬و أبقى ظه‪44‬ره‬ ‫‪)(4‬‬
‫سال ًما ينتفع‪ 4‬به بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ )(5‬رواه البزار‪.‬‬
‫‪ )(6‬العهود المحمدية‪ ،‬الشعراني‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫جحرها استغنت عن الخروج)‬
‫ويروي عن صالح آخر‪ ،‬قال‪:‬سمعت أخي أفضل الدين مرة يق‪4‬ول‪ (:‬من األدب إذا ركب العب‪4‬د داب‪4‬ة‬
‫أن يرحمها بالنزول عنها وال يركب إال عند الضرورة)‬
‫ويروي عنه أنه رآه مرة قلب حافر الحمارة لما نزل من عليها وقبله‪ ،‬فأخذ يخاطبها قائال‪ (:‬اجعليني‬
‫في حل)‪ ،‬وصار يعتذر إليها كما يعتذر لمن اعتدى عليه من الناس‪.‬‬
‫ويروي عن اإلمام الجليل السيد أحمد بن الرفاعي أنه وجد بأم عبيدة كلبا أجرب أبرص أجذم عافته‬
‫نفوس الناس وأخرجوه من البلد‪ ،‬فمكث الش‪4‬يخ يخدم‪4‬ه في ص‪4‬حراء أم عبي‪4‬دة نح‪4‬و أربعين يوم‪4‬ا‪ ،‬وعم‪4‬ل‬
‫عليه مظلة من الحر وصار يدهن‪4‬ه ح‪4‬تى ب‪4‬رئ وغس‪4‬له بالم‪4‬اء الح‪4‬ار‪ ،‬وق‪4‬ال‪ :‬خفت أن يق‪4‬ول هللا لي ي‪4‬وم‬
‫القيامة‪ (:‬أما كانت فيك رحمة تشمل كلبا من خلقي)‬
‫ويروي عنه أنه كان يقول‪ (:‬ال ينبغي لفقير أن يجعل للنم‪4‬ل الط‪4‬ائف على رزق‪4‬ه مانع‪4‬ا يح‪4‬ول بين‪4‬ه‬
‫وبينه من قطران ونحوه إال بعد أن يخرج له نصيبا معلوما من ذلك ويضعه له على باب جحره)‬
‫ومما يروى في هذا أن عدي بن حاتم كان يفت الخبز للنمل ويقول‪ :‬إنهن جارات ولهن حق‪.‬‬
‫وكان أبو إسحاق الشيرازي يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه‪ ،‬فعرض لهما كلب فزجره‬
‫رفيق اإلمام أبي إسحاق‪ ،‬فنهاه اإلمام‪ ،‬وقال‪ :‬أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك‪.‬‬
‫وال زال الربانيون ـ في كل العهود ـ مسالمين للكون‪ ،‬وقد كان النورسي مثاال للشفقة على الكائن‪44‬ات‬
‫قل نظيره‪ ،‬يقول المصاحبون له(‪ (:)1‬كان لالس‪4‬تاذ عالق‪4‬ة متين‪4‬ة م‪4‬ع المخلوق‪4‬ات ويش‪4‬فق كث‪4‬يراً ج‪4‬داً على‬
‫ال ‪ -‬في الطري‪4‬ق يش‪4‬فق علي‪4‬ه‬ ‫األشجار والحيوانات بل حتى على األحج‪4‬ار ايض‪4‬اً‪ ،‬فعن‪4‬دما ي‪4‬رى كلب‪4‬اً ‪ -‬مث ً‬
‫ويبادرنا بالقول‪ (:‬هل لديكم كسرة خبز؟ فيأخذها ويعطيها للكلب)‬
‫ويعتذر عن سباع الحيوانات بقوله‪ (:‬هذه حيوانات وفية‪ ،‬وإن عدوها وعواءها ناش‪44‬ئان عن ص‪44‬دقها‬
‫ووفائها)‬
‫ال ‪ -‬على حوافي السواقي يقول‪ (:‬ما شاء هللا‪ ،‬بارك هللا‪،‬‬ ‫وكان عندما يرى في السهول السلحفاة ‪ -‬مث ً‬
‫ما أجملها من مخلوق‪ ،‬فالصنعة واإلتقان في خلقها ليس بأقل منكم)‬
‫أما النمل‪ ،‬فله معه قصص كثيرة ـ ذكرنا بعضها ـ ومنها ما عبر عنه هذا الص‪4‬احب بقول‪4‬ه‪ (:‬أحيان‪4‬اً‬
‫عندما كان األستاذ يرى مملكة النمل او يرانا نحرك حجراً وتحته مملكة النمل كان يعيد الحجر إلى مكانه‬
‫ويقول‪ (:‬ال تقلقوا راحة هذه الحيوانات)‬
‫وهذه قصة يذكرها بعض تالميذه كمظهر من مظاهر احترامه لهذا العالم‪ ،‬والتي يتجلى من خالله‪44‬ا‬
‫سمو السلوك اإلسالمي مع الكون‪ ،‬يقول هذا التلميذ‪ (:‬بدأ الجو يبرد ش‪44‬يئاً فش‪44‬يئاً حيث الش‪44‬تاء مقب‪44‬ل ونحن‬
‫الزلنا على جبل أرك‪ ،‬كنا نتوقع هطول أمطار غزيرة وتساقط الثلوج بكثرة وكان المكان ال‪44‬ذي نبقى في‪44‬ه‬
‫هو على شكل ربوة او مرتفع صغير‪ ،‬فأراد األستاذ ان نبني غرفة‪ .‬فبدأنا ببناء الغرفة على ه‪44‬ذا المرتف‪44‬ع‪،‬‬
‫وعندما حفرنا األساس وجدنا مملكة للنمل‪ ،‬ولما رأى األستاذ النمل أمرن‪44‬ا ب‪44‬التوقف‪ .‬فس‪44‬ألناه عن الس‪44‬بب‪.‬‬
‫قال‪ (:‬هل يجوز بناء بيت بهدم بيت آخر؟ ال تخربوا بيوت هذه الحيوانات‪ .‬احفروا في مكان آخر غيره)‬
‫قال‪ :‬فبدأنا نحفر في مكان آخر فوجدنا مملكة أخرى ايضاً للنمل‪ .‬وحفرنا ثالث‪4‬ة فوج‪4‬دنا نفس الش‪4‬ئ‪.‬‬
‫وهكذا تكررت العملية ثالث مرات‪ .‬فسألني أحد الطالب الذي كان يساعدني في هذا العمل‪ :‬هل سيس‪44‬تمر‬
‫‪ )(1‬انظر هذه النصوص في‪ :‬السيرة ذاتية‪.535 :‬‬

‫‪73‬‬
‫األمر هكذا؟ علينا ان نحفر في مكان ما فإذا ظهر النمل واريناه ال‪44‬تراب لئال ي‪44‬راه األس‪44‬تاذ ومن بع‪44‬د ذل‪44‬ك‬
‫نستمر بالحفر‪ ،‬وإال فسوف نظل إلى العشاء ولما نقم بشئ‪ ،‬فليس في هذه المنطق‪44‬ة ش‪44‬بر اال وفيه‪44‬ا مملك‪44‬ة‬
‫للنمل‪.‬‬
‫قال‪ :‬وعلى كل حال بنينا غرفة صغيرة لالستاذ هناك‪ ،‬فكان األستاذ كلما يرى النمل ويشاهد مملكته‬
‫في الغرفة يقدم له البرغل والسكر وفتات الخبز‪ ،‬فسألناه عن سبب تقديمه الس‪44‬كر للنم‪44‬ل فأجابن‪44‬ا ض‪44‬احكاً‪:‬‬
‫( فليكن السكر شايا ً لهم)(‪)1‬‬
‫وك‪4‬ان عن‪4‬دما يلتقي في تجول‪4‬ه ص‪4‬يادي األرانب والطي‪4‬ور يق‪4‬ول لهم‪ (:‬ال تروع‪4‬وا ه‪4‬ذه الحيوان‪4‬ات‬
‫ببنادقكم وال تؤذوا غيرها)‬
‫وبهذا األسلوب كان ينصح الصيادين الهواة حتى جعل الكثيرين منهم يتخلون عن الصيد‪.‬‬
‫وكان عن‪4‬دما يلتقي الرع‪4‬اة في الس‪4‬هول الخض‪4‬راء وهم يرع‪4‬ون حيوان‪4‬اتهم في م‪4‬روج بين الجب‪4‬ال‬
‫والوديان والسهول‪ ،‬يالطفهم ويقول لهم‪ (:‬إنكم إذا ما أديتم الصالة في أوقاتها الخمسة خالل الي‪44‬وم يص‪44‬ير‬
‫اليوم بكامله بمثابة عبادة لكم‪ ،‬ألنكم برعيكم هذا تقدمون خدمة كبيرة للبش‪4‬رية ف‪4‬ان انتف‪4‬اع ب‪4‬ني البش‪4‬ر من‬
‫أصوافها ولحومها وألبانها هو بحكم الصدقة لكم‪ ،‬فال تؤذوا إذن هذه الحيوانات البريئة النافعة)‬
‫‪ 3‬ـ الحكمة‪:‬‬
‫ينظر المؤمن إلى الخدمات الجليلة التي تفاض عليه من الكون المسخر‪ ،‬فيراها هدايا ربانية‪ ،‬فيتمتع‬
‫بها‪ ،‬ويتعرف على مهديها‪ ،‬بينما يراها الغافل فرصة الستغاللها أو الصراع معها والتغلب عليها‪.‬‬
‫والق‪44‬رآن الك‪44‬ريم يلفتن‪44‬ا إلى وج‪44‬وه الحكم في ه‪44‬ذا الك‪44‬ون المس‪44‬خر‪ ،‬لنرعاه‪44‬ا‪ ،‬ونتعام‪44‬ل مع‪44‬ه وف‪44‬ق‬
‫مقتضاها‪ ،‬فال نحيد بها عن مراد هللا‪ ،‬بينما يتصوره الغافلون الجاحدون كونا مستباحا‪ ،‬ال قوانين تحكم‪44‬ه‪،‬‬
‫وال ضوابط أخالقيه تقيد التعامل معه‪.‬‬
‫وأساس النظرة اإليمانية ـ كما سبق بيانه ـ هو اعتق‪4‬اد الم‪4‬ؤمن ملكي‪4‬ة هللا تع‪4‬الى له‪4‬ذا الك‪4‬ون‪ ،‬وه‪4‬ذه‬
‫الملكية هي التي تجعل له وحده حق إباحة منافعه أو حظرها‪ ،‬وكيفية االنتفاع به‪ ،‬بخالف النظ‪44‬رة المادي‪44‬ة‬
‫الجاحدة التي تتصوره مشاعا ال مالك له‪ ،‬فال يخشون حسابا وال عقابا‪.‬‬
‫وأساسها ـ أيضا ـ هو اعتقاده أن هذا الكون بني على أحسن نظام وأدقه‪ ،‬وأن أي تغيير فيه على م‪44‬ا‬
‫هو عليه انحراف كبير وفساد عظيم‪ ،‬ويشير إلى هذا القاعدة المعروفة‪ (:‬ليس في اإلمكان أبدع مما كان)‬
‫قال الغزالي ش‪4‬ارحا له‪4‬ا‪ (:‬ال ريب أن هللا ع‪4‬ز وج‪4‬ل ل‪4‬و خل‪4‬ق الخل‪4‬ق كلهم على عق‪4‬ل أعقلهم وعلم‬
‫أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما ال منتهى لوصفها‪ ،‬ثم زاد مثل‬
‫ال‪ ،‬ثم كش‪44‬ف لهم عن ع‪44‬واقب األم‪44‬ور وأطلعهم على أس‪44‬رار الملك‪44‬وت‬ ‫ع‪44‬دد جميعهم علم ‪4‬اً وحكم‪44‬ة وعق ً‬
‫وعرّفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والش‪44‬ر والنف‪44‬ع والض‪44‬ر‪ ،‬ثم أم‪44‬رهم أن‬
‫يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم‪ ،‬لما اقتضى تدبـير جميعهم م‪4‬ع التع‪4‬اون والتظ‪4‬اهر‬
‫عليه أن يزاد فيما دبر هللا سبحانه الخلق به في الدنيا واآلخ‪4‬رة جن‪4‬اح بعوض‪4‬ة‪ ،‬وال أن ينقص منه‪4‬ا جن‪4‬اح‬
‫بعوضة‪ ،‬وال أن يرفع منها ذرّة وال أن يخفض منها ذرّة‪ ،‬وال أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فق‪44‬ر أو‬
‫ضر عمن بلي به‪ ،‬وال أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم هللا به عليه‪ ،‬بل كل م‪44‬ا خلق‪44‬ه هللا‬
‫تعالى من السموات واألرض ـ إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر ـ م‪4‬ا رأوا فيه‪4‬ا من تف‪4‬اوت وال‬
‫السيرة الذاتية‪.523 :‬‬ ‫‪)(1‬‬

‫‪74‬‬
‫فطور وكل ما قسم هللا تعالى بين عب‪4‬اده من رزق وأج‪4‬ل وس‪4‬رور وح‪4‬زن وعج‪4‬ز وق‪4‬درة وإيم‪4‬ان وكف‪4‬ر‬
‫وطاعة ومعصية‪ ،‬فكله عدل محض ال جور فيه‪ ،‬وحق صرف ال ظلم فيه بل هو على ال‪44‬ترتيب ال‪44‬واجب‬
‫ال أحس‪4‬ن من‪4‬ه وال أتم وال‬‫الحق على ما ينبغي وكم‪4‬ا ينبغي وبالق‪4‬در ال‪4‬ذي ينبغي‪ ،‬وليس في اإلمك‪4‬ان أص‪ً 4‬‬
‫أكمل)(‪)1‬‬
‫ال ين‪44‬اقض الج‪44‬ود وظلم ‪4‬اً‬
‫ثم علل ذلك بقوله‪ (:‬ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخ ً‬
‫يناقض العدل)(‪)2‬‬
‫ومن هذا المنطلق وردت اآليات القرآنية الكثيرة تتحدث عن منافع هذا الكون المسخر‪ ،‬وهي من‪44‬افع‬
‫تستدر حمد العبد من جهة‪ ،‬كواجب أخالقي يقتضيه استشعاره للنعمة‪ ،‬وهي في نفس الوقت ضوابط تح‪44‬د‬
‫من التصرف العشوائي العبثي للكون بعيدا عن مراعاة الحكمة‪.‬‬
‫وإلى هذا المعنى الثاني اإلشارة بقوله ‪ (:‬بينما رجل يسوق بق‪4‬رة ل‪4‬ه ق‪4‬د حم‪4‬ل عليه‪4‬ا التفتت إلي‪4‬ه‬
‫البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للح‪44‬رث)(‪ ،)3‬وه‪44‬ذا الح‪44‬ديث إنك‪4‬ار ش‪4‬ديد على الجاح‪44‬دين‬
‫العابثين بالثيران في الساحات بوحشية وقسوة‪.‬‬
‫وإليه اإلش‪4‬ارة ك‪4‬ذلك بقول‪4‬ه ‪ (:‬إي‪4‬اكم أن تتخ‪4‬ذوا ظه‪4‬ور دوابكم من‪4‬ابر ف‪4‬إن هللا إنم‪4‬ا س‪4‬خرها لكم‬
‫لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إال بشق األنفس وجعل لكم األرض فعليها فاقضوا حاجتكم)(‪)4‬‬
‫وبما أن لكل شيء في خل‪44‬ق هللا حكم كث‪44‬يرة ال يمكن إحص‪44‬اؤها‪ ،‬أو أن إحص‪44‬اءها يس‪44‬تدعي علوم‪44‬ا‬
‫كثيرة‪ ،‬فلذلك سنكتفي بأربعة مظاهر لحكم هللا‪ ،‬هي مجامع لكثير من الحكم‪ ،‬ومن خاللها نرى م‪44‬ا يتطلب‪44‬ه‬
‫التعامل مع حكمة هللا في أكوانه‪ ،‬كما رأينا ما يتطلبه السالم معها‪.‬‬
‫الجمال‪:‬‬
‫ال يلفتنا القرآن الكريم إلى المنافع المادية الموجودة في الكون فق‪4‬ط‪ ،‬ب‪4‬ل ي‪4‬دلنا على مظ‪4‬اهر الجم‪4‬ال‬
‫المبثوثة فيه‪ ،‬وكأنه يأمرنا بالتطلع فيها والحفاظ على رونقها وبهائها‪.‬‬
‫‪4‬و الَّ ِذي َس‪َّ 4‬خ َر ْال َبحْ‪َ 4‬ر ِلت َْ‪4‬أ ُكلُوا‬‫فالقرآن الكريم يحدثنا ـ مثال ـ عن البحر بهذا األسلوب‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وهُ َ‬
‫ض ‪ِ 4‬ل ِه َو َل َعلَّ ُك ْم ت َْش‪ُ 4‬كرُونَ ﴾‬ ‫ط ِر ّياً َو َت ْست َْخ ِرجُوا ِم ْنهُ ِح ْل َي ًة ت َْل َبسُو َن َها َوت ََرى ْالفُ ْلكَ َم َو ِ‬
‫اخ َر ِفي ِه َو ِل َت ْب َت ُغ‪44‬وا ِم ْن َف ْ‬ ‫ِم ْنهُ َلحْ ماً َ‬
‫(النحل‪)14 :‬‬
‫فالبحر في التصوير القرآني ليس ذلك الطوفان الهائج الذي ينقض على السفن فيغرقه‪44‬ا‪ ،‬وإنم‪44‬ا ه‪44‬و‬
‫نعمة من نعم هللا التي جمعت بين الفضل والمنفعة والجمال‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يلفتنا إلى ه‪4‬ذه المع‪4‬اني جميع‪4‬ا‪ ،‬فـ ( نعم‪4‬ة البح‪4‬ر وأحيائ‪4‬ه تل‪4‬بي ك‪4‬ذلك ض‪4‬رورات‬
‫اإلنس‪4‬ان وأش‪4‬واقه‪ .‬فمن‪4‬ه اللحم الط‪4‬ري من الس‪4‬مك وغ‪4‬يره للطع‪4‬ام‪ .‬وإلى ج‪4‬واره الحلي‪4‬ة من اللؤل‪4‬ؤ ومن‬
‫المرجان‪ ،‬وغيرهما من األصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى اآلن‪ .‬والتعبير عن الفلك‬
‫يشي بتلبية حاسة الجمال ال بمجرد الركوب واالنتقال‪ :‬وترى الفلك مواخر فيه‪ ،‬فهي لفتة إلى متاع الرؤية‬
‫وروعتها‪:‬رؤية الفلك مواخر تشق الماء وتفرق العباب)(‪)5‬‬
‫وه‪44‬ذه اآلي‪44‬ة وغيره‪44‬ا تنط‪44‬وي على حكم تش‪44‬ريعي خفي‪ ،‬وه‪44‬و وج‪44‬وب المحافظ‪44‬ة على ه‪44‬ذه النعم‬
‫اإلحياء‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫وقد نوقش الغزالي في هذا‪ ،‬وقد ذكرنا أدلة قوله هذا في رسالة (أسرار األقدار)‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه أبو داود‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫الظالل‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪75‬‬
‫الموجودة في البحر‪ ،‬وه‪4‬و م‪4‬ا لم تأخ‪4‬ذه المدني‪4‬ة الحديث‪4‬ة في الحس‪4‬بان‪ ،‬فل‪4‬وثت البح‪4‬ر‪ ،‬كم‪4‬ا ل‪4‬وثت الج‪4‬و‪،‬‬
‫وأغرقت األرض في طوفان من التلوث‪.‬‬
‫ظ َه َر ْال َف َسا ُد ِفي‬ ‫وقد أشار القرآن الكريم إلى تأثير االنحراف في فساد األرض والبحر بقوله تعالى‪َ ﴿:‬‬
‫عْض الَّ ِذي ع َِملُوا َل َعلَّه ُْم َيرْ ِجعُونَ ﴾ (الروم‪)41 :‬‬ ‫ت َأ ْي ِدي النَّ ِ‬
‫اس ِليُ ِذي َقه ُْم َب َ‬ ‫ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ِر ِب َما َك َس َب ْ‬
‫وهكذا تقترن في الق‪4‬رآن الك‪4‬ريم مظ‪4‬اهر الجم‪4‬ال في المكون‪4‬ات بالض‪4‬رورة والحاج‪4‬ة‪ ،‬لنتملى ه‪4‬ذا‬
‫الجمال ونستمتع به‪ ،‬وال نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما ورد عند التعبير عن منافع األنعام‪ ،‬فمن منافعها‪ ،‬كما قال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬واأْل َ ْن َع‪44‬ا َم خَ َل َق َه‪44‬ا َل ُك ْم‬
‫ف ٌء َو َمنَا ِف ُع َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ َو َل ُك ْم ِفي َها َج َمالٌ ِحينَ تُ ِريحُونَ َو ِحينَ َتس َْرحُونَ ﴾ (النحل‪ 5 :‬ـ ‪)6‬‬ ‫ِفي َها ِد ْ‬
‫ففي هذه اآليات إحصاء دقيق لمنافع الحيوان‪44‬ات لتش‪44‬مل المطعم والملبس والمس‪44‬كن‪،‬وتض‪44‬يف إليه‪44‬ا‬
‫الناحية الجمالية ( ففي األنعام دفء من الجلود واألصواف واألوبار واألشعار‪ ،‬ومنافع في هذه وفي اللبن‬
‫واللحم وما إليها‪ .‬ومنها تأكلون لحما ولبنا وسمنا‪ ،‬وفي حم‪4‬ل األثق‪4‬ال إلى البل‪4‬د البعي‪4‬د ال يبلغون‪4‬ه إال بش‪4‬ق‬
‫األنفس‪ .‬وفيها كذلك جمال عند اإلراحة في المساء وعند السرح في الصباح‪ .‬جم‪44‬ال االس‪44‬تمتاع بمنظره‪44‬ا‬
‫فارهة رائعة صحيحة سمينة)‬
‫ولهذه اللفتة قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظ‪4‬رة اإلس‪4‬الم للحي‪4‬اة‪ ،‬فالجم‪4‬ال عنص‪4‬ر أص‪4‬يل في ه‪4‬ذه‬
‫النظرة‪ ،‬وليست النعمة هي مج‪4‬رد تلبي‪4‬ة الض‪4‬رورات من طع‪4‬ام وش‪4‬راب ورك‪4‬وب ؛ ب‪4‬ل تلبي‪4‬ة األش‪4‬واق‬
‫الزائدة على الضرورات‪.‬‬
‫ولهذا ينبهنا هللا تعالى إلى النظر إلى مخلوقاته‪ ،‬وإلى ما أودع فيها من الحكمة والجمال‪ ،‬في‪44‬دعو إلى‬
‫‪4‬ل َك ْي‪4‬فَ‬ ‫ظ‪4‬رُونَ ِإ َلى اأْل ِ ِب ِ‬ ‫النظر إلى ما أودع في جسم اإلبل من مظاهر الجمال والحكمة‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َفال َي ْن ُ‬
‫ت﴾ (الغاشية‪)17 :‬‬ ‫ُخ ِل َق ْ‬
‫ت﴾ (الغاشية‪)18:‬‬ ‫وينبهنا إلى النظر إلى السماء وكيفية رفعها قال تعالى‪ ﴿:‬و ِإ َلى ال َّس َماء َك ْيفَ رُ ِف َع ْ‬
‫ت﴾ (الغاشية‪)19 :‬‬ ‫ص َب ْ‬ ‫ال َك ْيفَ نُ ِ‬ ‫ويدعونا إلى النظر إلى الجبال وكيفية تثبيتها قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ َلى ْال ِج َب ِ‬
‫ت﴾‬ ‫ض َك ْي‪44‬فَ ُس‪ِ 44‬ط َح ْ‬ ‫وي‪44‬دعونا إلى النظ‪44‬ر إلى األرض وكيفي‪44‬ة تس‪44‬طيحها ق‪44‬ال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬و ِإ َلى اأْل َرْ ِ‬
‫(الغاشية‪)20 :‬‬
‫وكما يشير القرآن الكريم إلى الجمال المودع في الكون يشير إلى الجمال ال‪44‬ذي يس‪44‬اهم اإلنس‪44‬ان في‬
‫تكوينه‪ ،‬وكأنه يدعونا من خالل وصفه إلى مراعاته عند القيام بأي مشروع مرتبط بالكون‪:‬‬
‫فالقرآن الكريم يبدع في وصف مظاهر الجمال والتناسق التي قام بها السبأيون في م‪44‬زارعهم‪ ،‬ق‪44‬ال‬
‫ط ِّي َبةٌ َو َربٌّ‬‫ق َر ِّب ُك ْم َوا ْش ُكرُوا َلهُ َب ْل َدةٌ َ‬ ‫ال ُكلُوا ِم ْن ِر ْز ِ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬ل َق ْد َكانَ ِل َس َبأٍ ِفي َم ْس َك ِن ِه ْم آ َيةٌ َجنَّت ِ‬
‫َان ع َْن َي ِم ٍ‬
‫ين َو ِش َم ٍ‬
‫َغفُورٌ ﴾ (سبأ‪)15:‬‬
‫ال رَّجُ َلي ِْن َج َع ْل َن‪44‬ا أِل َ َح‪ِ 4‬د ِه َما َجنَّ َتي ِْن‬ ‫اض ‪ِ 4‬ربْ َلهُم َّم َث ً‬ ‫ويبدع في وصف جنتي الرجل الكافر‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و ْ‬
‫َظ ِل ْم ِم ْن‪4‬هُ َش‪4‬يْئاً َو َفجَّرْ نَ‪4‬ا‬ ‫ب َو َح َف ْفنَاهُ َما ِبن َْخ‪ٍ 4‬ل َو َج َع ْلنَ‪4‬ا َب ْي َنهُ َم‪4‬ا زَرْ ع‪4‬اً ( ‪ِ )32‬ك ْلتَ‪4‬ا ْال َجنَّ َتي ِْن آت َْت أُ ُك َل َه‪4‬ا َو َل ْم ت ْ‬‫ِم ْن َأ ْعنَا ٍ‬
‫ِخاَل َلهُ َما َن َهراً (‪( ﴾)33‬الكهف)‬
‫والقرآن الكريم ال يذم ذلك الترتيب الذي رتب هللا به جنته‪ ،‬وإنما ينكر عليه غروره وكفره وجحوده‬
‫لفضل هللا‪.‬‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫َ‬
‫وله‪4‬ذا يمن هللا على عب‪4‬اده بم‪4‬ا أنبت لهم من ح‪4‬دائق ذات بهج‪4‬ة‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬أ َّم ْن خَ َل‪َ 4‬ق َّ‬
‫‪76‬‬
‫اء َما ًء َفأَ ْن َب ْتنَا ِب ِه َحدَا ِئ َق َذاتَ َبه َْج ٍة َما َكانَ َل ُك ْم َأ ْن تُ ْن ِبتُوا َش َج َرهَا َأ ِإ َلهٌ َم َع هَّللا ِ َبلْ ُه ْم‬ ‫ض َو َأ ْن َ‬
‫زَل َل ُك ْم ِمنَ ال َّس َم ِ‬ ‫َواأْل َرْ َ‬
‫َقوْ ٌم َيعْ ِدلُونَ ﴾ (النمل‪)60 :‬‬
‫التنوع‪:‬‬
‫وهو مظهر من مظاهر حكمة هللا في الكون‪ ،‬ودليل من أدل‪4‬ة الوحداني‪4‬ة‪ ،‬ألن الرب‪4‬ط بين المختلف‪4‬ات‬
‫وتوجيهها وجهة واحد ال يكون إال من إله واحد‪.‬‬
‫وه‪4‬ذا التن‪4‬وع ش‪4‬امل لجمي‪4‬ع األش‪4‬ياء‪ ،‬فاألش‪4‬ياء تتن‪4‬وع في المه‪4‬ام والوظ‪4‬ائف وال‪4‬تراكيب الداخلي‪4‬ة‬
‫واألشكال الخارجية‪.‬‬
‫وعلى هذا التنوع جاءت النص‪4‬وص لت‪4‬دل أوال على أن عظم‪4‬ة هللا تع‪4‬الى ال تب‪4‬دو في مج‪4‬رد إيج‪4‬اد‬
‫األشياء من العدم‪ ،‬بل بإبداعها بهذه الصور المختلفة‪ ،‬ليكون ذلك دليال على توحيد هللا وإبداعه‪ ،‬وه‪44‬ذه هي‬
‫الفائدة المعرفية الكبرى في هذا التنوع‪ ،‬وهي التي سنتحدث عنها في كون العارفين‪.‬‬
‫أما الفائدة العملية الثاني‪4‬ة المرتبط‪4‬ة ب‪4‬الكون المس‪4‬خر‪ ،‬فهي ال‪4‬دعوة إلى المحافظ‪4‬ة على ه‪4‬ذا التن‪4‬وع‬
‫المحسوب بحساب دقيق‪.‬‬
‫ولذلك يدعونا القرآن الكريم إلى النظر إلى أصناف النباتات ما تشابه منها وما لم يتشابه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫خَض‪4‬راً نُ ْخ‪ِ 4‬رجُ ِم ْن‪4‬هُ َحبّ‪4‬اً ُمت ََرا ِكب‪4‬اً‬ ‫اء َما ًء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه َن َباتَ ُكلِّ َش ْي ٍء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِم ْن‪4‬هُ ِ‬ ‫زَل ِمنَ ال َّس َم ِ‬ ‫﴿ َوهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َ‬
‫ظ‪44‬رُوا ِإ َلى‬ ‫‪4‬ر ُمت ََش‪4‬ا ِب ٍه ا ْن ُ‬ ‫الز ْيتُ‪44‬ونَ َوالرُّ َّمانَ ُم ْش‪َ 4‬ت ِبهاً َو َغ ْي‪َ 4‬‬ ‫ب َو َّ‬ ‫ت ِم ْن َأ ْعنَا ٍ‬ ‫ان دَا ِن َيةٌ َو َجنَّا ٍ‬ ‫ط ْل ِع َها ِق ْن َو ٌ‬
‫َو ِمنَ النَّ ْخ ِل ِم ْن َ‬
‫ت ِل َقوْ ٍم ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ (األنعام‪ 4،)99:‬وك‪4‬أن ه‪4‬ذه اآلي‪4‬ة ت‪4‬دعو إلى التص‪4‬نيف‬ ‫َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َو َي ْن ِع ِه ِإ َّن ِفي َذ ِل ُك ْم آَل يا ٍ‬
‫العلمي ألجناس الكائنات‪ ،‬والذي يكون أساسا للمحافظة عليها‪.‬‬
‫بل هي تدعونا إلى تأم‪4‬ل األط‪4‬وار ال‪4‬تي تم‪4‬ر به‪4‬ا الكائن‪4‬ات‪ ،‬وهي تس‪4‬ير في طريقه‪4‬ا إلى اس‪4‬تكمال‬
‫رُوا ِإ ِلى َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َو َي ْن ِع ِه ﴾ لتكون هذه الدراسة س‪44‬بيال للتع‪44‬رف على حاجته‪44‬ا‪،‬‬ ‫ظ ْ‬ ‫وجودها‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬ان ُ‬
‫ثم رعايتها انطالقا من ذلك‪.‬‬
‫ال‪4‬زرْ َع ُم ْخ َت ِلف‪ً 4‬ا‬
‫ت َوال َّن ْخ‪َ 4‬ل َو َّ‬ ‫ت َوغَي َْر َم َ‬
‫عْرُوش‪4‬ا ٍ‬ ‫ت َمعْرُو َشا ٍ‬ ‫وهذه اآلية تجمع مع قوله تعالى‪َ ﴿:‬و ُه َو ا َّل ِذي َأ ْن َش َأ َج َّنا ٍ‬
‫سْر ِفينَ ﴾‬ ‫ب ْال ُم ِ‬ ‫سْر ُفوا ِإ َّن ُه ال ي ُِح ُّ‬
‫صا ِد ِه َوال ُت ِ‬ ‫وْم َح َ‬ ‫ُأ ُك ُل ُه َو َّ‬
‫الز ْي ُتونَ َوالرُّ َّمانَ ُم َت َشا ِبه ًا َوغَي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُك ُلوا ِم ْن َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َوآ ُتوا َح َّق ُه َي َ‬
‫(األنعام‪ )141 :‬الحكم المرادة من أصناف الكائنات‪ ،‬فهي في اآلية األولى نظر واستمتاع وعبور منه‪44‬ا إلى‬
‫المبدع‪ ،‬وهي في اآلية األخيرة استهالك واستثمار وانتفاع‪.‬‬
‫فاآلية األولى تغذي الروح وجمال الروح‪ ،‬واآلية الثانية تغذي الجسد وحاجات الجسد‪.‬‬
‫وكما نبه القرآن الكريم إلى النظر إلى تنوع أصناف النباتات نبه إلى تنوع التضاريس والمناخ الذي‬
‫ب َوزَرْ ٌع َون َِخي‪44‬لٌ‬ ‫ات ِم ْن َأ ْع َن‪44‬ا ٍ‬ ‫ات َو َجنَّ ٌ‬ ‫او َر ٌ‬‫ط ٌع ُمت ََج ِ‬ ‫ض ِق َ‬ ‫يساهم في ذلك التنوع النباتي‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ت ِل َق‪4‬وْ ٍم‬ ‫‪4‬ل ِإ َّن ِفي َذ ِل‪4‬كَ آَل ي‪4‬ا ٍ‬ ‫عْض ِفي اأْل ُ ُك ِ‬‫عْض‪َ 4‬ها َع َلى َب ٍ‬ ‫ض‪4‬لُ َب َ‬ ‫اح‪ٍ 4‬د َونُ َف ِّ‬
‫‪4‬اء َو ِ‬ ‫ان ي ُْس‪َ 4‬قى ِب َم ٍ‬ ‫ص‪ْ 4‬ن َو ٍ‬ ‫ان َو َغيْ‪4‬رُ ِ‬ ‫ص ْن َو ٌ‬
‫ِ‬
‫َيعْ ِقلُونَ ﴾ (الرعد‪)4 :‬‬
‫وسنتحدث هنا عن ناحيتين وردت النصوص بتنوع المكونات فيهما‪ ،‬وهو ما يفيد وجوب المحافظة‬
‫على هذا التنوع‪:‬‬
‫تنوع األحياء‪:‬‬
‫من مظاهر حكم‪4‬ة هللا تع‪4‬الى في األرض أن عمره‪4‬ا ب‪4‬أنواع األحي‪4‬اء من النب‪4‬ات والحي‪4‬وان‪ ،‬وذل‪4‬ك‬
‫إلعالة الحياة من ناحية‪ ،‬وتحقيق التوازن البيئي من ناحية أخرى‪ ،‬فق‪4‬د أودع هللا تع‪4‬الى فى مكون‪4‬ات البيئ‪4‬ة‬
‫الحيوية الكثير من المنافع التى سخرها بقدرته وحكمته لخدمة اإلنسان وتوفير الحاجات المختلفة لحياته‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫والباحثون يؤكدون(‪ )1‬ـ اليوم ـ أن عالم الحيوان أشبه بالم‪4‬دن الهائل‪4‬ة والش‪4‬عوب المتع‪4‬ددة األع‪4‬راف‬
‫واألعراق واللغات والعادات واألجن‪4‬اس ال‪4‬تي ال حص‪4‬ر له‪4‬ا ويعج‪4‬ز العق‪4‬ل عن تص‪4‬ور أع‪4‬دادها الهائل‪4‬ة‬
‫والضخمة وأنسب وصف لهذه الكائنات ذوات األعداد الهائلة ه‪44‬و مص‪44‬طلح (األمم) كم‪44‬ا وص‪44‬فها الق‪44‬رآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫فعدد الطيور الجاثمة وحدها أكثر من ‪ 5000‬نوع‪ ،‬وكل نوع من هذه الطيور هو أيضا أنواع عدة‪،‬‬
‫فمثال طيور الف‪4‬ران األمريكي‪4‬ة اإلس‪4‬توائية ح‪4‬والي ‪ 221‬نوع‪4‬ا ص‪4‬غيرة الحجم نوع‪4‬ا م‪4‬ا‪ ،‬وذوات ع‪4‬ادات‬
‫متنوعة جدا‪.‬‬
‫وهناك ‪ 223‬نوعا من الطيور النملي‪4‬ة وال‪4‬دج النملي والبيت‪4‬ا النملي‪4‬ة مرتبط‪4‬ة ارتب‪4‬اط وثيق‪4‬ا بطي‪4‬ور‬
‫الفران األمريكية الجنوبية والوسطى‪.‬‬
‫وأما طيور كوتنجا المزركشة فتضم تقريبا ‪ 90‬نوعا تقريبا من الطيور المزركشة والمبهرجة جدا‪.‬‬
‫كما تعد طيور الجنة ـ وسميت بذلك ألن لديها ريشا فاتنا جدا حتى اعتقدوا أنه آت من الجنة ـ فتبل‪44‬غ‬
‫أنواعه ‪42‬تقريبا‪.‬‬
‫وأما طيور النمانم ـ وهي طيور صغيرة عاملة ـ فتضم أكثر من ‪ 60‬نوعا‪ ،‬وهي طيور مدهشة جدا‬
‫لما تصدره من أصوات البقبقة المرتفعة إلى درجة التصدق وتنتشر بكثرة في أمريكا‪.‬‬
‫كما تبلغ أنواع صياد الذباب أكثر من ‪ 1200‬نوع‪.‬‬
‫وتضم آكالت الحشرات أكثر من ‪ 370‬نوعا‪.‬‬
‫وهناك أكثر من ‪ 300‬نوع من الطيور المخوضة والنوارس وطيور األوك‪.‬‬
‫وتضم طيور ز ّمار الرمل أكثر من ‪ 60‬نوعا‪.‬‬
‫وتبلغ أنواع طيور النورس أكثر من ‪ 90‬نوعا‪.‬‬
‫أما أنواع الحمام واليمام فهنالك ح‪4‬والي ‪ 290‬نوع‪4‬ا منه‪4‬ا موزع‪4‬ة في أرج‪4‬اء الع‪4‬الم‪ ،‬ويبل‪4‬غ أن‪4‬واع‬
‫الببغاوات أكثر من ‪ 500‬نوعا‪.‬‬
‫وتبلغ أنواع البوم أكثر من ‪ 123‬نوعا‪.‬‬
‫وتبلغ أنواع طيور الضوع والسبد نحو ‪ 90‬نوعا‪.‬‬
‫وتبلغ طيور الرفراف حوالي ‪ 87‬نوعا تتواجد في أنحاء العالم‪.‬‬
‫كما يبلغ طير ن ّقار الخشب أكثر من ‪ 200‬نوعا في جميع أنحاء العالم‪.‬‬
‫وفي عالم القرود تبلغ قرود العالم القديم أكثر من ‪ 60‬نوعا‪.‬‬
‫وبالنظر إلى الزواحف نجدها أعدادا هائلة جدا وأنواعا ال حصر لها‪ ،‬فالحيات العمياء تبلغ أنواعه‪44‬ا‬
‫‪ 150‬نوعا‪ ،‬وهي تعيش وتحيا تحت األرض‪.‬‬
‫كما تشتمل مجموعة السلحفيات على السالحف والحمس‪4‬ات ـ وهي س‪4‬لحفة المي‪4‬اه العذب‪4‬ة ـ وتض‪4‬م‬
‫حوالي ‪100‬نوع‪ ،‬وتبلغ أنواع السحالي العمالقة أكثر من ‪ 700‬نوع في مناطق العالم الجديد‪.‬‬
‫وتبلغ أنواع الحرباء حوالي ‪ 85‬نوعا كما تبلغ السحالي الس‪44‬امة ح‪44‬والي ‪ 3000‬نوع‪44‬ا من الس‪44‬حالي‬
‫ونوعان فقط منها يفرزان السم وهي السحالي المخرزة والهيلية‪.‬‬
‫واألفاعي أيضا أنواع شتى‪ ،‬منها السام‪ ،‬ومنها غير السام‪ ،‬وهي متع‪44‬ددة األش‪44‬كال واألل‪44‬وان‪ ،‬فن‪44‬وع‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬من آيات هللا في الحيوانات‪ ،‬األستاذ محمد محمد معافى علي‪ ،‬موقع موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫منها فقط‪ ،‬وهي أفاعي الكوبرا والممبا تبلغ أكثر من ‪ 200‬نوع تقريبا‪.‬‬
‫كما تشتمل الحيات الخبيثة على حوالي ‪ 100‬نوع‪ ،‬وتقول بعض المص‪44‬ادر العلمي‪44‬ة أن ع‪44‬دد أن‪44‬واع‬
‫الثعابين الحالية أكثر من ‪ 2700‬نوع ثلثها فقط سام‪.‬‬
‫أما الخنافس فتضم أكثر من ‪ 300‬ألف نوع‪.‬‬
‫وأما الثدييات عموما فتضم أكثر من ‪ 4200‬نوع‪.‬‬
‫وتبلغ الخفافيش حوالي ‪ 900‬نوع أو أكثر‪.‬‬
‫وتضم فصيلة الكنغر والولبات حوالي ‪ 55‬نوعا متفاوتا في الحجم‪.‬‬
‫كما تضم مجموعة السنوريات حوالي ‪ 36‬نوعا تعيش تقريب‪4‬ا في كاف‪4‬ة أنح‪44‬اء الع‪4‬الم ع‪4‬دا أس‪44‬تراليا‬
‫والقطب الجنوبي‪ ،‬ويبلغ نوع سنور الزباد والرّباح والنمس حوالي ‪ 80‬نوعا‪.‬‬
‫وهكذا يعتقد العلماء بإمكانية وجود أكثر من عشرة ماليين نوع أو جنس من الحيوان‪44‬ات في الع‪44‬الم‪،‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فقد تكون هناك أنواع أخرى أكثر بكثير بانتظار اكتشافها‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يذكر تسخير البيئة الحيوية لإلنسان‪ ،‬ويبين الوجوه الشرعية لالنتفاع به‪44‬ا‪ ،‬وه‪44‬و في‬
‫ضمن ذلك يحث على وجوب المحافظة عليها‪.‬‬
‫ط ِريّ‪4‬اً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫‪4‬و ال ِذي َس‪َّ 4‬خ َر ال َبحْ‪َ 4‬ر ِلتَ‪4‬أ ُكلوا ِم ْن‪4‬هُ َلحْ م‪4‬ا َ‬ ‫قال تعالى عن عالم البحر وما يحتويه من أحي‪4‬اء‪َ ﴿:‬وهُ َ‬
‫اخ َر ِفي ِه َو ِل َت ْب َت ُغوا ِم ْن َفضْ ِل ِه َو َل َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكرُونَ ﴾ (النحل‪)14 :‬‬ ‫َو َت ْست َْخ ِرجُوا ِم ْنهُ ِح ْل َي ًة ت َْل َبسُو َن َها َوت ََرى ْالفُ ْلكَ َم َو ِ‬
‫والشكر في هذه اآلية ال يعني فقط أن نقول‪ :‬الحمد هلل‪ ،‬بل رأس الشكر أن يتعام‪44‬ل م‪44‬ع النعم‪44‬ة وف‪44‬ق‬
‫حكمة هللا ومراده‪.‬‬
‫ض ِر نَاراً َف‪4‬إِ َذا َأ ْنتُ ْم ِم ْن‪4‬هُ تُو ِق‪ُ 4‬دونَ ﴾ (يّـس‪:‬‬‫وقال تعالى عن عالم النبات‪ ﴿:‬الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ْم ِمنَ ال َّش َج ِر اأْل َ ْخ َ‬
‫‪)80‬‬
‫ْ‬
‫ف ٌء َو َمنَا ِف ُع َو ِم ْن َها تَأ ُكلُونَ ﴾ (النحل‪)5 :‬‬ ‫وقال عن عالم الحيوان‪َ ﴿:‬واأْل َ ْن َعا َم خَ َل َق َها َل ُك ْم ِفي َها ِد ْ‬
‫وقد وردت األحاديث الكثيرة تحث على وجوب المحافظة على البيئة الحيوية‪:‬‬
‫فذكر ‪ ‬األجر العظيم المعد لمن يساهم في زراعة األرض‪ ،‬وهو أجر ال يقل عن أج‪44‬ور الص‪44‬الة‬
‫والزكاة والحج‪ ،‬قال ‪ (:‬ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرا أو إنس‪44‬ان أو بهيم‪44‬ة‬
‫إال كان له به صدقة)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر يشير ‪ ‬إلى منافع إحياء األرض زيادة على األجر المعد للمحيي بقوله ‪ (:‬م‪44‬ا‬
‫من امرئ يحيى أرضا فتشرب منها كبد حرى أو تصيب منها عافية إال كتب هللا تعالى له به أجرا)(‪)2‬‬
‫بل إنه ‪ ‬يحث على هذه العبودية بغض النظ‪4‬ر عن المن‪4‬افع المرج‪4‬وة منه‪4‬ا‪ ،‬ق‪4‬ال ‪ (:‬إذا ق‪4‬امت‬
‫الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها)(‪ ،)3‬وفي ذلك إشارة إلى أن منافع النبات ال تقتصر على الثمر‪.‬‬
‫وقد جاءت األوامر التشريعية ترغب في إحياء األرض‪ ،‬وتجازي من يساهم في اإلحياء‪ ،‬ق‪44‬ال ‪:‬‬
‫( األرض أرض هللا‪ ،‬والعباد عباد هللا‪ ،‬من أحيا مواتاً فهو له)(‪)4‬‬
‫بل إن األوامر التشريعية ـ للمحافظة على البيئة الحيوية ـ تمتد حتى في حال الحرب ـ ال‪4‬تي تتناس‪4‬ى‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه الطبراني في األوسط‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أحمد والبخاري في األدب وعبد بن حميد‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪79‬‬
‫فيها البشرية اليوم كل المقومات األخالقية ـ فقد كانت األوامر تصدر صريحة إلى قواد المس‪44‬لمين تنه‪44‬اهم‬
‫عن قطع األشجار أو تدميرها وضرورة المحافظة عليها‪.‬‬
‫والسر في هذه الدعوة الحثيثة على االستزراع وحماية البيئة الحيوية ـ زي‪44‬ادة على م‪44‬ا س‪44‬بق بيان‪44‬ه ـ‬
‫هو المنافع العظيمة التى تقدمها البيئة الحيوية لإلنسان‪ ،‬إذ تلعب النبات‪4‬ات دوراً مهم‪4‬اً فى إح‪4‬داث الت‪4‬وازن‬
‫فى تركيبة الهواء خاصة غازي األكسجين وثاني أكسيد الكربون والت‪44‬وازن فى ال‪44‬دورة المائي‪44‬ة من خالل‬
‫عملية النتج‪ ،‬وحماية التربة من الجرف لما للغطاء النباتي من قدرة كب‪44‬يرة على مقاوم‪44‬ة عوام‪44‬ل الج‪44‬رف‬
‫المائي والهوائي‪.‬‬
‫كما أن للبيئة الحيوي‪4‬ة أهمي‪4‬ة طبي‪4‬ة حيث تض‪4‬م نباتاته‪4‬ا وحيواناته‪4‬ا الكث‪4‬ير من الم‪4‬واد أو العناص‪4‬ر‬
‫الفعالة فى صناعة الدواء‪.‬‬
‫ولكن الفكر المنحرف ال يبالي ـ ال بالتوجيه‪4‬ات الرباني‪4‬ة ال‪4‬تي وردت في النص‪4‬وص‪ ،‬وال بالمن‪4‬افع‬
‫التي أثبتها العلم‪ ،‬وال بالمخاطر التي حذر منها الحكماء ـ ولذلك فإن البيئ‪44‬ة الحيوي‪44‬ة ـ الي‪44‬وم ـ فى ت‪44‬دهور‬
‫مطرد نتيجة االستغالل المفرط والجائر‪.‬‬
‫وتشير ورقة عمل أعدها برنامج األمم المتحدة للبيئة (اليونب) ومنظم‪44‬ة الف‪44‬او والبن‪44‬ك ال‪44‬دولي س‪44‬نة‬
‫‪ 1988‬أن الغابات المدارية تختفي بمعدل ‪ 11‬مليون هكتار سنويا‪ ،‬وأن نصف الغابات المدارية فى العالم‬
‫قد اختفى منذ بداية القرن الحالي‪ ،‬وأن هن‪4‬اك حاج‪4‬ة الس‪4‬تثمار نح‪4‬و ‪ 8‬ملي‪4‬ار دوالر على م‪4‬دى الس‪4‬نوات‬
‫الخمس القادمة لتنمية الغابات واحتواء األثر الضار إلزالة الغابات‪.‬‬
‫ومثل الضرر الذي حصل بع‪4‬الم النب‪4‬ات حص‪4‬ل بع‪4‬الم الحي‪4‬وان‪ ،‬فانقرض‪4‬ت كث‪4‬ير من الحيوان‪4‬ات‪،‬‬
‫وحيوانات أخرى تسير نحو االنقراض‪.‬‬
‫وهذا كله بسبب جشع اإلنسان وحرصه‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك جاءت الشريعة اإلسالمية بالتشريعات التي تحافظ على هذا العالم‪ ،‬وقد ذكر العلماء‬
‫الكثير من األسرار والحكم المرتبطة بما أبيح أو حرم من أنواع الحيوان‪ ،‬وأكثره‪4‬ا مم‪4‬ا يرتب‪4‬ط بمص‪4‬لحة‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫ونرى أن من الحكم الشرعية ـ كذلك ـ هو حماية عالم الحيوان‪:‬‬
‫فلذلك وردت النصوص بإباحة الحيوانات التي يكثر وجودها أو يسهل تنميته‪44‬ا‪ ،‬بخالف الحيوان‪44‬ات‬
‫التي يندر وجودها‪.‬‬
‫فنهى رسول هللا ‪ ‬عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير(‪ ،)1‬والس‪44‬ر في ذل‪44‬ك أن‬
‫هذه األنواع من الحيوانات هي التي تحقق التوازن البي‪44‬ئي من ناحي‪44‬ة‪ ،‬وهي ن‪4‬ادرة من ناحي‪44‬ة ثاني‪44‬ة بحيث‬
‫يؤدي صيدها إلى انقراضها‪ ..‬هذا باإلضافة إلى ما ذكره العلماء من الحكم المرتبطة بالصحة‪.‬‬
‫وورد النهي عن أكل لحم القرد‪ ،‬قال ابن عبد البر‪ (:‬أجمع المسلمون على ان‪44‬ه ال يج‪44‬وز أك‪44‬ل الق‪44‬رد‬
‫لنهى رسول هللا ‪ ‬عن أكل القرد)‬
‫وبخالف هذا نرى اإلباحة المطلقة لكثير من الحيوانات البحري‪44‬ة نظ‪44‬را لكثرته‪44‬ا وع‪44‬دم الخش‪44‬ية من‬
‫انقراضها‪ ،‬بل يسرت الشريعة األحكام المرتبطة بها‪.‬‬
‫وكأنها ـ من خالل هذا التسيير ـ ت‪4‬دعو إلى االستعاض‪4‬ة به‪4‬ا عن الحيوان‪4‬ات المحرم‪4‬ة حفاظ‪4‬ا على‬

‫رواه أحمد والترمذي‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫‪80‬‬
‫البيئة‪ ،‬بل إن القرآن الكريم يصف من محاسن الحيوانات البحرية ما ي‪4‬رغب في أكله‪4‬ا‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى ممتن‪4‬ا‬
‫َ‪4‬رى ْالفُ ْل‪4‬كَ‬ ‫على عباده‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي َس َّخ َر ْال َبحْ َر ِلت َْأ ُكلُوا ِم ْن‪4‬هُ َلحْ م‪4‬اً َ‬
‫ط ِريّ‪4‬اً َوت َْس‪4‬ت َْخ ِرجُوا ِم ْن‪4‬هُ ِح ْل َي‪ً 4‬ة ت َْل َب ُس‪4‬و َن َها َوت َ‬
‫اخ َر ِفي ِه َو ِل َت ْب َت ُغوا ِم ْن َفضْ ِل ِه َو َل َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكرُونَ ﴾ (النحل‪)14:‬‬ ‫َم َو ِ‬
‫فاآلية الك‪4‬ريم تص‪4‬ف لحم الحيوان‪4‬ات البحري‪4‬ة بكون‪4‬ه طري‪4‬ا‪ ،‬وكأنه‪4‬ا ب‪4‬ذلك تث‪4‬ير الش‪4‬هية إلى طلب‪4‬ه‬
‫والرغبة فيه‪.‬‬
‫وفي آية أخرى تخص صيد البحر باإلباحة‪ ،‬وفي ذلك إشارة أيضا إلى الترغيب في التمت‪44‬ع بنعم هللا‬
‫ص‪ْ 4‬ي ُد ْال َبحْ‪ِ 4‬ر‬‫في البحر‪ ،‬ليحصل التوازن بين البر والبحر‪ ،‬ويحفظ التنوع في كليهما‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬أُ ِح‪ 4‬لَّ َل ُك ْم َ‬
‫ص ْي ُد ْال َبرِّ َما ُد ْمتُ ْم حُرُماً َواتَّقُوا هَّللا َ الَّ ِذي ِإ َل ْي ِه تُحْ َشرُونَ ﴾ (المائ‪44‬دة‪96 :‬‬ ‫َّار ِة َوحُرِّ َم َع َل ْي ُك ْم َ‬ ‫ط َعا ُمهُ َمتَاعاً َل ُك ْم َو ِلل َّسي َ‬
‫َو َ‬
‫)‬
‫والقرآن الكريم ينبهنا إلى أن الحياة بالصورة التي نتصورها ال تقتصر على ه‪44‬ذه األرض‪ ،‬ف‪44‬الكون‬
‫مملوء بأحياء كثيرة ال يستطيع خيالنا المحدود أن يرس‪44‬م له‪44‬ا أي ص‪44‬ورة‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬وهَّلِل ِ َي ْس‪4‬جُ ُد َم‪44‬ا ِفي‬
‫ض ِم ْن دَابَّ ٍة َو ْال َمال ِئ َكةُ َوهُ ْم ال َي ْس َت ْك ِبرُونَ ﴾ (النحل‪ ،)49 :‬بل اعتبرها من آيات‪44‬ه الدال‪44‬ة‬ ‫ت َو َما ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫ال َّس َم َ‬
‫‪4‬و َع َلى‬ ‫ث ِفي ِه َم‪44‬ا ِم ْن دَابَّ ٍة َوهُ‪َ 4‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َو َم‪44‬ا َب َّ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫على عظمته وقدرته ولطفه‪ ،‬فقال‪َ ﴿:‬و ِم ْن آ َيا ِت ِه ْ‬
‫خَل ُ‬
‫َج ْم ِع ِه ْم ِإ َذا َي َشا ُء َق ِديرٌ﴾ (الشورى‪)29:‬‬
‫وبذلك تكون األرض مجرد نموذج لألحياء‪ ..‬وأنواع األحياء‪ ..‬وفي ذل‪44‬ك إش‪44‬ارة بديع‪44‬ة إلى أن ه‪44‬ذا‬
‫الكون العريض الذي ال نعرف له حدودا مملوء هو اآلخر بأصناف الحياة واألحي‪4‬اء‪ ،‬ق‪4‬ال النورس‪4‬ي‪ (:‬إن‬
‫الكرة االرضية وهي واحدة من األجرام السماوية‪ ،‬على كثافتها وضآلة حجمها‪ ،‬قد أصبحت موطناً لما ال‬
‫يحد من األحياء وذوي المشاعر‪ ،‬حتى لقد أصبحت أقذر وأخسّ األماكن فيه‪44‬ا من‪44‬ابع وم‪44‬واطن لكث‪44‬ير من‬
‫األحياء‪ ،‬ومحشراً ومعرضاً للكائنات الدقيقة‪ .‬فالضرورة والبداهة والحدس الصادق واليقين القاطع جميعاً‬
‫أن‪ :‬ه‪4‬ذا الفض‪4‬اء الواس‪4‬ع والس‪4‬موات ذات ال‪4‬بروج واألنجم والك‪4‬واكب كله‪4‬ا مليئ‪4‬ة‬ ‫ت‪4‬دل وتش‪4‬هد ب‪4‬ل تعلن ّ‬
‫باألحياء وبذوي االدراك والشعور‪ .‬ويطلق القرآن الكريم والشريعة الغرّاء على اولئك األحياء الش‪44‬اعرين‬
‫والذين ُخلقوا من النور والنار ومن الضوء والظالم والهواء ومن الصوت والرائحة ومن الكلمات واألثير‬
‫وحتى من الكهرباء وسائر السياالت اللطيفة االخرى بأنهم‪ :‬مالئكة‪ ..‬وجان‪ ..‬وروحانيات‪ ..‬ولكن كم‪44‬ا أن‬
‫االجسام أجناس مختلفة كذلك المالئكة؛ اذ ليس ال َم َلك المو ّكل على قطرة المط‪44‬ر من جنس ال َم َل‪44‬ك المو ّك‪44‬ل‬
‫على الشمس‪ .‬وكذلك الجن والروحانيات مختلف األجناس الكثيرة)(‪)1‬‬
‫تنوع األلوان‪:‬‬
‫كما نبه القرآن الكريم إلى تنوع أجناس الكائنات الحية تحدث عن اختالف ألوانه‪4‬ا‪ ،‬فق‪4‬ال تع‪4‬الى عن‬
‫‪4‬ال جُ ‪َ 4‬د ٌد ِبيضٌ َو ْ‬
‫حُم‪44‬رٌ‬ ‫ت ُم ْخ َت ِلفاً َأ ْل َوانُ َها َو ِمنَ ْال ِج َب‪ِ 4‬‬ ‫اء َما ًء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه َث َم َرا ٍ‬ ‫الجبال‪َ ﴿:‬أ َل ْم ت ََر َأ َّن هَّللا َ َأ ْن َ‬
‫زَل ِمنَ ال َّس َم ِ‬
‫ف َأ ْل َوانُ َها َوغ ََرا ِبيبُ سُو ٌد ﴾ (فاطر‪)27:‬‬ ‫ُم ْخ َت ِل ٌ‬
‫ف َأ ْل َوانُهُ َك َذ ِلكَ ِإنَّ َما َي ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن‬
‫اس َوال َّد َوابِّ َواأْل َ ْن َع ِام ُم ْخ َت ِل ٌ‬
‫وقال عن اختالف ألوان األنعام‪َ ﴿:‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫يز َغفُورٌ﴾ (فاطر‪)28:‬‬ ‫ِع َبا ِد ِه ْال ُع َل َما ُء ِإ َّن هَّللا َ ع َِز ٌ‬
‫وفي القرآن الكريم نجد لونا خاصا لقي عناية خاصة‪ ،‬هو اللون األخض‪4‬ر‪ ،‬فاهلل تع‪4‬الى يص‪4‬ف أه‪4‬ل‬
‫ف ُخضْ ٍر َو َع ْب َق ِريٍّ‬ ‫الجنة وهم على فرشهم في جو رفيع من البهجة والمتعة بقوله تعالى‪ُ ﴿:‬متَّ ِك ِئينَ َع َلى َر ْف َر ٍ‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الكلمة التاسعة والعشرون‪ ،‬وهي تخص بقاء الروح والمالئكة والحشر‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫ق َوحُ ُّلوا‬ ‫س ُخ ْ‬
‫ض‪4‬رٌ َو ِإ ْس‪َ 4‬تب َْر ٌ‬ ‫ان﴾ (الرحمن‪ ،)76 :‬ويصف ألوان ثيابهم بقول‪4‬ه تع‪4‬الى‪ ﴿:‬عَ‪4‬ا ِل َيه ُْم ِث َي‪4‬ابُ ُس‪ْ 4‬ن ُد ٍ‬ ‫ِح َس ٍ‬
‫طهُوراً﴾ (االنسان‪)21:‬‬ ‫َأ َس ِ‬
‫او َر ِم ْن ِفضَّ ٍة َو َس َقاهُ ْم َر ُّبه ُْم َش َراباً َ‬
‫وفي كل ذلك إشارة إلى وجوب المحافظة على ألوان األشياء وعدم إفسادها بم‪44‬ا يفس‪44‬دونها ب‪44‬ه اآلن‬
‫من التدخل في هندستها الوراثية‪.‬‬
‫وقد أثبت العلم الحديث(‪ )1‬أهمية اللون في التدخل في صحة اإلنسان‪ ،‬يقول أح‪4‬د علم‪4‬اء النفس وه‪4‬و‬
‫أردتشام‪ (:‬إن تأثير اللون في اإلنسان بعيد الغ‪4‬ور وق‪4‬د أج‪4‬ريت تج‪4‬ارب متع‪4‬ددة بينت أن الل‪4‬ون ي‪4‬ؤثر في‬
‫إقدامنا وإحجامنا ويشعر بالحرارة أو البرودة‪،‬و بالس‪4‬رور أو الكآب‪4‬ة‪ ،‬ب‪4‬ل ي‪4‬ؤثر في شخص‪4‬ية الرج‪4‬ل وفي‬
‫نظرته إلى الحياة‪.‬‬
‫و يسبب تأثير اللون في أعماق النفس اإلنسانية فقد أص‪4‬بحت المستش‪4‬فيات تس‪4‬تدعي االخصاص‪4‬يين‬
‫القتراح لون الجدران الذي يساعد أكثر في شفاء المرضى وكذلك المالبس ذات األلوان المناسبة‪.‬‬
‫وقد بينت التج‪4‬ارب أن الل‪4‬ون األص‪4‬فر يبعث النش‪4‬اط في الجه‪4‬از العص‪4‬بي‪ ،‬أم‪4‬ا الل‪4‬ون األرج‪4‬واني‬
‫فيدعو إلى االستقرار واللون األزرق يشعر اإلنسان بالبرودة عكس الحمر الذي يش‪4‬عره بال‪4‬دفء ووص‪4‬ل‬
‫العلماء إلى أن اللون الذي يبعث السرور والبهجة وحب الحياة ه‪44‬و الل‪44‬ون األخض‪44‬ر‪ ،‬ل‪44‬ذلك أص‪44‬بح الل‪44‬ون‬
‫المفضل في غرف العمليات الجراحية لثياب الجراحين والممرضات‪.‬‬
‫ومما يمكن ذكره هنا تلك التجربة التي تمت في لندن على جسر ( بالك فرايار) الذي يعرف بجسر‬
‫االنتحار ألن اغلب حوادث االنتحار تتم من فوقه حيث تم تغيير لون‪44‬ه األغ‪44‬بر الق‪44‬اتم إلى الل‪44‬ون األخض‪44‬ر‬
‫الجميل مما سبب انخفاض حوادث االنتحار بشكل ملحوظ‪.‬‬
‫والتفسير العلمي لذلك أن اللون األخضر يريح البصر‪ ،‬وذلك ألن الس‪4‬احة البص‪4‬رية ل‪4‬ه أص‪4‬غر من‬
‫الساحات البصرية لباقي األلوان كما أن طول موجته وس‪44‬طي فليس‪44‬ت بالطويل‪44‬ة ك‪44‬اللون األحم‪44‬ر وليس‪44‬ت‬
‫بالقصيرة كاألزرق‪.‬‬
‫بل إن ما يسمى اآلن بالطب البديل يتفق تماما مع ما ورد في القرآن الكريم من استعمال األلوان في‬
‫اظ ِرينَ )(البقرة‪69 :‬‬ ‫ص ْف َرا ُء َفا ِق ٌع َلوْ نُ َها َتسُرُّ النَّ ِ‬
‫خدمة الصحة‪ ،‬وسنذكر هنا من مشكاة قوله تعالى‪ِ ﴿:‬إنَّ َها َب َق َرةٌ َ‬
‫) بعض ما اكتشفه هذا النوع من الطب(‪ )2‬لإلشارة إلى وجوب المحافظة على جم‪4‬ال الك‪4‬ون وألوان‪4‬ه كم‪4‬ا‬
‫خلقها هللا تعالى‪.‬‬
‫ينطل‪44‬ق أص‪44‬حاب ه‪44‬ذا العلم من أن هللا تع‪44‬الى م‪44‬زج بني‪44‬ة االنس‪44‬ان بعناص‪44‬ر وتموج‪44‬ات كهربائي‪44‬ة‬
‫وإش‪44‬عاعات ذاتي‪44‬ة‪ ،‬بحيت تتج‪44‬انس كلي‪44‬ة م‪44‬ع العناص‪44‬ر الموج‪44‬ودة في الك‪44‬ون المحي‪44‬ط ب‪44‬ه من موج‪44‬ات‬
‫كهرومغناطيسية وإشعاعات كوني‪4‬ة وذب‪4‬ذبات لوني‪4‬ة‪ ،‬وكالهم‪4‬ا مك‪4‬ون من درج‪4‬ات مختلف‪4‬ة من الذب‪4‬ذبات‬
‫الموجية‪ ،‬مما يؤهل اإلنسان الى الحياة بواسطة هذه الطاقات الكهربائية واإلشعاعية‪.‬‬
‫ويذكرون أن لكل شخص إشعاعات تختلف في طول موجتها وعدد ذب‪44‬ذبتها وتردداته‪44‬ا عن غ‪44‬يره‪،‬‬
‫وبذلك يكون كل شخصا مستقل عن غيره في الصفات والطبائع‪ ،‬وبذلك يكون لك‪4‬ل ش‪4‬خص ل‪4‬ون خ‪4‬اص‬
‫يتميز به‪ ،‬أو طول موجة وذبذبة ترددية خاصة به مثلما هو األمر بالنسبة لبصمات اإلصابع‪.‬‬
‫فك‪44‬ل إنس‪44‬ان تنبعث من‪44‬ه إش‪44‬عاعات خاص‪44‬ة ب‪44‬ه‪ ،‬ويس‪44‬تقبل إش‪44‬عاعات من الك‪44‬ون من اإلش‪44‬عاعات‬
‫والذبذبات اللونية التى تحيط به في البيئ‪44‬ة ال‪44‬تي يعيش‪4‬ها‪ ،‬وك‪44‬ذلك تس‪44‬بب اإلش‪4‬عاعات الموجي‪44‬ة والذب‪44‬ذبات‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مع الطب في القرآن الكريم‪ ،‬للدكتور عبد الحميد دياب‪ ،‬والدكتور أحمد قرقوز‪ ،‬مؤسسة علوم القرآن دمشق‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ ::‬كتاب الوصفة الطبية للعالج بالتغذية‪ ،‬ود‪.‬م ‪ /‬يحيى حمزة كوشك‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫الصحة والمرض ‪-‬بإذن هللا‪ -‬والحب والكراهية وذلك لو كانت الموجات المرسلة والمس‪4‬تقبلة بين ش‪4‬خص‬
‫وآخر متقاربة نتج عن ذلك تفاهم ومحبة قوية‪ ،‬وكلما تنافرت كلما نتج عنها خالف وكراهية‪.‬‬
‫انطالقا من هذه االفتراضية التي تدل عليها األدلة الكثيرة أخذ ما يمكن تسميتهم بعلم‪44‬اء األل‪44‬وان في‬
‫إجراء الدراسات على تأثير األل‪4‬وان على حالتن‪4‬ا النفس‪4‬ية والص‪4‬حية‪ ،‬وطريق‪4‬ة تفكيرن‪4‬ا‪ ،‬فالش‪4‬خص ال‪4‬ذي‬
‫يفضل لونا معينا ـ مثال ـ على لون آخر يكون له عالقة بتأثير ذلك اللون على إحساس ذلك الشخص‪.‬‬
‫فعندما يدخل اللون ـ الذي هو عبارة عن ضوء أو طاقة مشعة مرئية ذات طول موجي معين ـ إلى‬
‫المستقبالت الضوئية في العين تنبه الغدة النخامية والصنوبرية‪ ،‬وهذا يؤدي الى إفراز هرمون‪44‬ات معين‪44‬ة‪،‬‬
‫تقوم بإحداث مجموعة من العمليات الفيسولوجية‪ ،‬وهذا التفسير يشرح سبب سيطرة األلوان على أفكارن‪44‬ا‬
‫ومزاجنا وسلوكياتنا‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك أنهم ذكروا أن اللون البرتقالي مقو للقلب ومنشط ع‪44‬ام ومض‪44‬اد لإلحس‪44‬اس ب‪44‬الهبوط‬
‫والفتور واالكتئاب والنعاس واإلضطهاد واليأس وكافة المشاعر السيئة‪ ،‬ويساعد على الشفاء من أمراض‬
‫القلب واإلضطرابات العصبية وإلتهابات العينين‪..‬‬
‫واللون البنفسجي مهدئ بوجه عام وخاصة في األمراض العصبية والنفسية‪.‬‬
‫واللون الوردي له تأثير ملطف على الجسم حيث يقوم بإرخاء العضالت‪.‬‬
‫واللون فوق البنفسجي مضر في حالة اإلصابة بأمراض القلب والرئتين ويسبب اإلنفصال الش‪44‬بكي‬
‫بالعين‪ ،‬ولكنه مطهر وقاتل لبعض الجراثيم‪.‬‬
‫وهكذا سائر األلوان‪ ،‬وقد ال يكون بعض ما اكتشفه هؤالء صحيحا‪ ،‬فهذا علم مع قدم‪4‬ه ال ي‪4‬زال من‬
‫ناحية الجزم واليقين في بداياته‪ ،‬ولكنا نعتقد أن العلم ـ مس‪44‬تقبال ـ سيكتش‪4‬ف الكث‪4‬ير من الحق‪4‬ائق القطعي‪4‬ة‬
‫حول األلوان‪ ،‬وورودها في القرآن الكريم بذلك التفصيل كاف واحده لقناعتنا بهذا االستشراف المستقبلي‪.‬‬
‫ولكن قبل ذلك‪ ..‬نحافظ على ألوان الكون قبل أن يدمرها جشع اإلنسان وحرص اإلنس‪44‬ان وص‪44‬راع‬
‫اإلنسان‪.‬‬
‫التوازن‪:‬‬
‫خلق هللا تعالى ك‪4‬ل م‪4‬ا ن‪4‬راه أو م‪4‬ا ال ن‪4‬راه من الك‪4‬ون في ت‪4‬وازن ت‪4‬ام ال يتخل‪4‬ف‪ ،‬وبمق‪4‬ادير مح‪4‬ددة‬
‫مضبوطة في منتهى الدقة واإلحكام‪ ،‬قال تعالى مبينا قانون ذلك‪َ ﴿:‬وخَ َل َق ُكلَّ َش ْي ٍء َف َق َّد َرهُ َت ْق ‪ِ 4‬ديراً)(الفرق‪44‬ان‪:‬‬
‫‪)2‬‬
‫وذكر بعض تفاصيل ذلك‪:‬‬
‫ض َم‪َ 4‬د ْدنَاهَا‬ ‫َ‬
‫فكل ما في األرض وما عليها مق‪4‬در وم‪4‬وزون بم‪4‬يزان هللا ال‪4‬دقيق‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬واأْل رْ َ‬
‫ون﴾ (الحجر‪)19 :‬‬ ‫اس َي َو َأ ْن َب ْتنَا ِفي َها ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء َموْ ُز ٍ‬ ‫َو َأ ْل َق ْينَا ِفي َها َر َو ِ‬
‫‪4‬ل‬‫اح َو َج َع‪َ 4‬‬ ‫ص‪َ 4‬ب ِ‬ ‫ق اإْل ِ ْ‬ ‫وحركات األفالك في مساراتها مقدرة تقديرا دقيقا ال تحيد عنه‪ ،‬قال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ف‪44‬ا ِل ُ‬
‫يز ْال َع ِل ِيم﴾ (األنعام‪)96:‬‬ ‫س َو ْال َق َم َر حُ ْس َباناً َذ ِلكَ َت ْق ِديرُ ْال َع ِز ِ‬
‫اللَّي َْل َس َكناً َوال َّش ْم َ‬
‫وحركات الشمس وسيرها مقدر بحساب دقيق‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وال َّش ْمسُ تَجْ ِري ِل ُم ْس‪َ 4‬ت َقرٍّ َل َه‪44‬ا َذ ِل‪44‬كَ َت ْق‪ِ 4‬ديرُ‬
‫يز ْال َع ِل ِيم﴾ (يّـس‪)38 :‬‬ ‫ْال َع ِز ِ‬
‫ض‪4‬اهُ َّن َس‪ْ 4‬ب َع‬ ‫وبهذا النظام الدقيق والموازين المض‪4‬بوطة ق‪4‬در هللا الس‪4‬موات جميع‪4‬ا‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ف َق َ‬
‫يز ْال َع ِل ِيم﴾‬
‫يح َو ِح ْفظاً َذ ِلكَ َت ْق ِديرُ ْال َع ِز ِ‬ ‫صا ِب َ‬‫اء َأ ْم َرهَا َوزَ يَّنَّا ال َّس َما َء ال ُّد ْن َيا ِب َم َ‬‫ت ِفي َيوْ َمي ِْن َو َأوْ َحى ِفي ُكلِّ َس َم ٍ‬ ‫اوا ٍ‬ ‫َس َم َ‬
‫‪83‬‬
‫(فصلت‪)12 :‬‬
‫وقد شرح العلم الحديث بعض ما أشار إليه القرآن الكريم من الموازين الضابطة للك‪4‬ون‪ ،‬وس‪4‬نقتبس‬
‫هنا بعض ما ذكره كنماذج للتوازن الدقيق للكون وفق الحكمة اإللهية(‪.)1‬‬
‫فالعلم ينص على أنه لو ك‪4‬انت قش‪4‬رة األرض أس‪4‬مك مم‪4‬ا هي بمق‪4‬دار بض‪4‬عة أق‪4‬دام‪ ،‬المتص ث‪4‬اني‬
‫أكسيد الكربون األوكسجين‪ ،‬ولما أمكن وجود حياة النبات‪.‬‬
‫ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو عليه‪ ،‬فإن بعض الشهب التي تحترق اآلن ب‪44‬الماليين في اله‪44‬واء‬
‫الخ‪4‬ارجي ك‪4‬انت تض‪4‬رب جمي‪4‬ع أج‪4‬زاء الك‪4‬رة األرض‪4‬ية‪ ،‬وهي تس‪4‬ير بس‪4‬رعة ت‪4‬ترواح بين س‪4‬تة أمي‪4‬ال‬
‫وأربعين ميال في الثانية‪ .‬وكان في إمكانها أن تش‪4‬عل ك‪4‬ل ش‪4‬يء قاب‪4‬ل لالح‪4‬تراق‪ .‬ول‪4‬و ك‪4‬انت تس‪4‬ير ببطء‬
‫رصاصة البندقية الرتطمت كلها باألرض‪ ،‬ولكانت العاقبة مروعة‪ .‬أما اإلنس‪4‬ان ف‪4‬إن اص‪4‬طدامه بش‪4‬هاب‬
‫ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره‪.‬‬
‫وينص على أن الهواء س‪4‬ميك بالق‪4‬در الالزم بالض‪4‬بط لم‪4‬رور األش‪4‬عة ذات الت‪4‬أثير الكيمي‪4‬ائي ال‪4‬تي‬
‫يحتاج إليها الزرع‪ ،‬والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات‪ ،‬دون أن تضر باإلنس‪4‬ان‪ ،‬إال إذا ع‪4‬رض نفس‪4‬ه‬
‫لها مدة أطول من الالزم‪.‬‬
‫وينص على أن األوكسجين لو كان بنس‪4‬بة ‪ 50‬في المائ‪4‬ة مثال أو أك‪4‬ثر في اله‪4‬واء ب‪4‬دال من ‪ 21‬في‬
‫المائة فإن جميع المواد القابلة لالحتراق في العالم تص‪4‬بح عرض‪4‬ة لالش‪4‬تعال‪ ،‬لدرج‪4‬ة أن أول ش‪4‬رارة من‬
‫البرق تصيب شجرة ال بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر‪.‬‬
‫ولو أن نسبة األوكسجين في الهواء قد هبطت إلى ‪ 10‬في المائة أو أق‪4‬ل‪ ،‬ف‪4‬إن الحي‪4‬اة ربم‪44‬ا ط‪4‬ابقت‬
‫نفسها عليها في خالل الدهور‪ .‬ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناص‪4‬ر المدني‪4‬ة ال‪4‬تي ألفه‪4‬ا اإلنس‪4‬ان ‪-‬‬
‫كالنار مثال ‪ -‬تتوافر له‪.‬‬
‫وال بأس أن نذكر هنا ـ من باب وجوه الحكمة في الكون ـ واقع‪4‬ة فيه‪4‬ا مث‪4‬ل ب‪4‬ارز على أهمي‪4‬ة ك‪4‬ل‬
‫كائن حتى لو كان حشرة بسيطة قد ال يعيرها اإلنسان أي اهتمام‪.‬‬
‫وهذه الواقعة حدثت منذ سنوات عدي‪4‬دة في اس‪4‬تراليا حيث زرع ن‪4‬وع من الص‪4‬بار‪ .‬كس‪4‬ياج وق‪4‬ائي‪.‬‬
‫ولكن هذا الزرع مض‪4‬ى في س‪4‬بيله ح‪4‬تى غطى مس‪4‬احة تق‪4‬رب من مس‪4‬احة انجل‪4‬ترا‪ ،‬وزاحم أه‪4‬ل الم‪4‬دن‬
‫والقرى‪ ،‬وأتلف مزارعهم‪ ،‬وحال دون الزراعة‪ .‬ولم يجد األهالي وسيلة تصده عن االنتش‪44‬ار ؛ وص‪44‬ارت‬
‫أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت‪ ،‬يتقدم في سبيله دون عائق‪.‬‬
‫وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حش‪44‬رة ال تعيش إال على ذل‪44‬ك الص‪44‬بار‪،‬‬
‫وال تتغذى بغيره‪ ،‬وهي سريعة االنتشار‪ ،‬وليس لها عدو يعوقها في استراليا‪ .‬وما لبثت هذه الحشرة ح‪44‬تى‬
‫تغلبت على الصبار‪ .‬ثم تراجعت‪ ،‬ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية‪ ،‬تكفي لصد الص‪44‬بار عن االنتش‪44‬ار‬
‫إلى األبد‪.‬‬
‫والقرآن الكريم من خالل عرضه لبعض نماذج توازن الكون يدعونا إلى تس‪44‬خير العلم لخدم‪44‬ة ه‪44‬ذا‬
‫التوازن حفاظا على وجودنا ووجود غيرنا على هذه األرض‪.‬‬
‫ولكن العلم الح‪4‬ديث وق‪4‬ع في بعض األي‪4‬دي اآلثم‪4‬ة ال‪4‬تي استس‪4‬خرته في مص‪4‬الحها‪ ،‬فاخت‪4‬ل ت‪4‬وازن‬
‫الكون في كثير من النواحي‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬كتاب العلم يدعو إلى اإليمان‪ ،‬أ‪ .‬كريسي مورسون رئيس أكاديمية العلوم في واشنطن‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫ومن األمثلة التي يصح ضربها هنا وصف القرآن الكريم الس‪4‬ماء بكونه‪4‬ا س‪4‬قفا محفوظ‪4‬ا‪ ،‬كم‪4‬ا ق‪4‬ال‬
‫تعالى‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَا ال َّس َما َء َس ْقفاً َمحْ فُوظاً َوهُ ْم ع َْن آ َيا ِت َها ُم ِ‬
‫عْرضُونَ ﴾ (االنبياء‪)32:‬‬
‫فإن في ذل‪4‬ك إش‪4‬ارة ص‪4‬ريحة إلى وج‪4‬وب المحافظ‪4‬ة على ه‪4‬ذا الس‪4‬قف المحف‪4‬وظ‪ ،‬وه‪4‬ذا الوج‪4‬وب‬
‫يستدعي التعرف على كل ما يؤذيه لتجنبه‪.‬‬
‫والعلم الحديث يخدم هذا الجانب‪ ،‬ويؤكده‪ ،‬ويخبر أن هذه البيئة التى جهزها هللا تعالى بكل مقوم‪44‬ات‬
‫الحياة لتصبح بيتاً آمناً لإلنسان وتفي بك‪4‬ل متطلبات‪4‬ه المعيش‪4‬ية ق‪4‬د حفظه‪4‬ا هللا تع‪4‬الى وحماه‪4‬ا من مخ‪4‬اطر‬
‫اإلشعاعات الكونية الفضائية والشهب والنيازك التى تندفع من القضاء الخارجي نحو األرض‪.‬‬
‫لكن الفكر الجاحد الذي يتصور أنه يستمد من العلم الحديث يلغي كل ه‪4‬ذه االعتب‪4‬ارات‪ ،‬فال يخض‪4‬ع‬
‫إال لسلطان الهوى‪ ،‬فيغلب المصالح الوقتية البسيطة على مصلحة األرض جميعا‪.‬‬
‫وهذا الفكر هو الذي استسخر التكنولوجيا لتدمير هذا الس‪4‬قف المحف‪4‬وظ‪ ،‬وسنش‪4‬رح باختص‪4‬ار م‪4‬اذا‬
‫فعل هذا الفكر المصارع لتوازن الكون‪ ،‬وما سيمكن أن يصنعه إن لم يرعوي عن هذا السلوك‪.‬‬
‫فنسبة ثاني أكسيد الكربون نسبة مق‪4‬درة تق‪4‬ديراً دقيق‪4‬اً‪ ،‬وهي تلعب دوراً مهم‪4‬اً ج‪4‬داً فى إعال‪4‬ة الحي‪4‬اة‬
‫على سطح األرض‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فالبيئة بهذه النسبة الضئيلة جدا من ثاني أكسيد الكربون المقدرة تقديرا هادف‪4‬ا اس‪44‬تطاعت أن تحتف‪44‬ظ‬
‫فى غالفه‪4‬ا الج‪4‬وي الق‪4‬ريب من س‪4‬طح األرض حيث ي‪4‬تركز معظم ث‪4‬اني أكس‪4‬يد الكرب‪4‬ون ( ‪ 80‬بالمائ‪4‬ة)‬
‫بدرجة حرارة مناسبة تسمح بوجود الحياة على سطحها‪.‬‬
‫فاهلل تعالى قد أودع في هذا الغاز خاصية امتص‪4‬اص الموج‪4‬ات الحراري‪4‬ة األرض‪4‬ية (األش‪4‬عة تحت‬
‫الحمراء) واالحتفاظ بها فى الغالف الجوي بما يعطي لهذا الغالف هذه الدرجة المناسبة من الحرارة التى‬
‫تسمح بوجود الحياة‪.‬‬
‫ومعني هذا أن االخالل بنسبة هذا الغاز زيادة أو نقصاناً تع‪4‬ني زي‪4‬ادة أو نقص‪4‬اناً فى درج‪4‬ة ح‪4‬رارة‬
‫الغالف الجوي وما يحمل هذا األمر من مخاطر كثيرة‪.‬‬
‫وق‪4‬د حص‪4‬ل ه‪4‬ذا األم‪4‬ر‪ ،‬فنس‪4‬بة ث‪4‬اني أكس‪4‬يد الكرب‪4‬ون في زي‪4‬ادة مط‪4‬ردة فى الغالف الج‪4‬وي من‪4‬ذ‬
‫الخمسينات من هذا القرن‪.‬‬
‫ومن مخاطر هذه الزيادة ازدياد حرارة األرض مما يس‪4‬بب انص‪4‬هار كمي‪4‬ات كب‪4‬يرة من الثل‪4‬وج فى‬
‫مناطق القطبين والجبال‪ ،‬وهذه المياه تتحرك لتسهم فى رفع منسوب مياه البحار والمحيطات‪.‬‬
‫وهذه الزيادة قد تتسبب في تعرض مدن ساحلية كث‪4‬يرة للغ‪4‬رق‪ ،‬وتش‪4‬ير س‪4‬جالت الم‪4‬د والج‪4‬زر فى‬
‫مناطق كثيرة من العالم أن منسوب مي‪4‬اه البح‪4‬ار ق‪4‬د ارتف‪4‬ع بمق‪4‬دار ‪ 45‬ملليم‪4‬تراً فى الف‪4‬ترة من ‪- 1890‬‬
‫‪ ،1940‬وأخذ المنسوب في االرتفاع بمعدل ‪ 3‬ملليمترات سنوياً حتي عام ‪ ،1970‬ثم ازداد المعدل ليصل‬
‫إلى ‪ 14‬ملليمتراً فى الوقت الحاضر‪.‬‬
‫وقد تبين للعلماء أن تزايد نسبة ثاني أكسيد الكربون الترجع فقط إلى تزايد استهالك مصادر الوقود‬
‫األحفوري (الفحم ـ النفط ـ الغاز الطبيعي)‪ ،‬وإنما جاءت أيضاً نتيجة التدهور الذى أصاب الغطاء النب‪44‬اتي‬
‫الذي يعد المستهلك الرئيسي لثاني أكسيد الكربون‪.‬‬
‫وخطورة هذا الوضع هي ال‪4‬تي دعت إلى عق‪44‬د م‪44‬ؤتمر دولي فى لن‪4‬دن فى ف‪4‬براير ‪ 1989‬لمناقش‪44‬ة‬
‫اإلجراءات والوس‪4‬ائل الكفيل‪4‬ة بض‪4‬بط إطالق ث‪4‬اني أكس‪4‬يد الكرب‪4‬ون فى الغالف الج‪4‬وي وتنمي‪4‬ة مص‪4‬ادر‬
‫‪85‬‬
‫استهالكه لوقف هذه الزيادة المطردة ومحاولة العودة بنسبته كما قدرها هللا تعالى‪.‬‬
‫ض َم َد ْدنَاهَا َو َأ ْل َق ْينَا ِفي َها‬
‫ومن األمثلة التي يصح ضربها هنا ـ أيضا ـ ما نص عليه قوله تعالى‪َ ﴿:‬واأْل َرْ َ‬
‫ون﴾ (الحجر‪)19 :‬‬ ‫اس َي َو َأ ْن َب ْتنَا ِفي َها ِم ْن ُكلِّ َش ْي ٍء َموْ ُز ٍ‬‫َر َو ِ‬
‫فاآلية الكريمة تشير إلى أن عناصر البيئة ‪ -‬الحية منها وغير الحية ‪ -‬تتفاع‪44‬ل وترتب‪44‬ط ببعض‪44‬ها في‬
‫تناسق دقيق‪ ،‬يتيح لها أداء دورها بشكل مت‪4‬وازن ومتكام‪4‬ل‪ ،‬بحيث تحاف‪4‬ظ على وجوده‪4‬ا دون أن تتس‪4‬بَّب‬
‫في خلخلة منظومة الحياة‪ ،‬وتهدِّد سائر األحياء‪.‬‬
‫وهي تدل على أن أيَّ خلل في هذا النظام‪ ،‬يعني الخط‪4‬ر الع‪4‬ام على األحي‪4‬اء جميع‪4‬ا‪ ،‬وللت‪4‬دليل على‬
‫ذلك نورد مثاال يتعلَّق بالنسيج الغابي‪ ،‬الذي عملت فيه يد اإلنسان قطعا واقتالعا‪ ،‬لتلبية حاجاته ونهمه إلى‬
‫الخشب في مساكنه وقصوره‪.‬‬
‫فإن تعرية البيئة الغابية‪ ،‬سيؤدي إلى اختفاء معظم األشجار التي تعتمد عليه‪4‬ا كث‪4‬ير من الحيوان‪4‬ات‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ملجأ وأوكارا‪ ،‬ومصدرا للغذاء‪ ..‬وسيؤدي بالتالي إلى تعرِّي التربة وتعرُّضها لالنجراف‪ ،‬وما يعقب ذل‪44‬ك‬
‫من عج‪44‬ز األرض عن امتص‪44‬اص الم‪44‬اء‪ ،‬وازدي‪44‬اد خط‪44‬ر التص‪44‬حُّر‪ ..‬وس‪44‬يؤدي ذل‪44‬ك إلى خلخل‪44‬ة دورة‬
‫األوكس‪44‬يجين وث‪44‬اني أوكس‪44‬يد الكرب‪44‬ون‪ ،‬باعتب‪44‬ار األش‪44‬جار مص‪44‬درا ب‪44‬ل مص‪44‬نعا متج ‪4‬دِّدا لألوكس‪44‬يجين‪،‬‬
‫التلوث الهوائي‪ ..‬وسيؤدي ذلك أخ‪44‬يرا إلى‬ ‫ومستهلكا ألوكسيد الكربون‪ ،‬ونقصان األشجار يزيد في درجة ُّ‬
‫تبخر الماء الناتج عن األشجار‪ ،‬بسبب قطعها‪ ،‬فتصاب المنطقة بالجفاف وتقل األمطار‪.‬‬ ‫تقليل ُّ‬
‫هذا نموذج بسيط‪ ،‬وهيِّن من تص ُّدع المنظومة البيئية بسبب اإلنسان‪.‬‬
‫ولو تعرَّضنا لآلثار الخطيرة الناجمة عن الصناعات الكيماوية ومر َّكباته‪4‬ا العمالق‪4‬ة‪ ،‬وآث‪4‬ار نفاياته‪4‬ا‬
‫السا َّمة على األنهار والبحار‪ ،‬والحياة المائية‪ ،‬وعلى الغالف الجويِّ‪ ،‬وتس ُّمم الهواء‪ ،‬ألفض‪44‬ى بن‪44‬ا الح‪44‬ديث‬
‫والمخاطر الحقيقية التي تعاني منها الحياة‪ ،‬وي‪44‬دفع ثمنه‪44‬ا الباه‪44‬ظ اإلنس‪44‬ان‬ ‫ِ‬ ‫إلى مجل َّدات من الحقائق المرَّة‪،‬‬
‫وتشوهات ِخلقية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫نفسُه‪ ،‬بما نجم عنها من أمراض مزمنة‬
‫االنتفاع‪:‬‬
‫لقد اقتضت حكمة هللا تعالى أن يتيح لهذه المخلوقات التي تعمر الكون انتفاع بعضها ببعض بحسب‬
‫درجاتها المختلفة‪.‬‬
‫وكان من رحمة هللا المقترنة بحكمته أن أتاح لإلنسان االنتفاع بك‪4‬ل م‪4‬ا في األرض من من‪4‬افع‪ ،‬كم‪4‬ا‬
‫‪4‬و ِب ُك‪4‬لِّ‬‫ت َوهُ َ‬ ‫اوا ٍ‬ ‫اء َف َس َّواهُ َّن َس ْب َع َس‪َ 4‬م َ‬ ‫ض َج ِميعاً ثُ َّم ا ْست ََوى ِإ َلى ال َّس َم ِ‬ ‫قال تعالى‪ ﴿:‬هُ َو الَّ ِذي خَ َل َق َل ُك ْم َما ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫َش ْي ٍء َع ِلي ٌم﴾ (البقرة‪)29 :‬‬
‫وفي عالم األنع‪4‬ام أخ‪4‬بر تع‪4‬الى أن‪4‬ه خل‪4‬ق األنع‪4‬ام لينتف‪4‬ع به‪4‬ا في الوج‪4‬وه المش‪4‬روعة‪ ،‬فق‪4‬ال تع‪4‬الى‪:‬‬
‫‪4‬ام َل ِعب َ‬
‫ْ‪4‬ر ًة‬ ‫ف ٌء َو َمنَا ِف ُع َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ ﴾ (النح‪4‬ل‪ ،)5 :‬وق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و ِإ َّن َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِ‬ ‫﴿ َواأْل َ ْن َعا َم خَ َل َق َها َل ُك ْم ِفي َها ِد ْ‬
‫‪4‬ل‬ ‫ار ِبينَ ﴾ (النحل‪ ،)66:‬وقال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬وهَّللا ُ َج َع َ‬ ‫ث َود ٍَم َل َبناً خَا ِلصاً َسا ِئغاً ِلل َّش ِ‬ ‫طو ِن ِه ِم ْن َبي ِْن َفرْ ٍ‬ ‫نُ ْس ِقي ُك ْم ِم َّما ِفي بُ ُ‬
‫ص‪َ 4‬وا ِف َها‬ ‫ظعْ ِن ُك ْم َو َي‪44‬وْ َم ِإ َق‪44‬ا َم ِت ُك ْم َو ِم ْن َأ ْ‬ ‫َل ُك ْم ِم ْن بُيُو ِت ُك ْم َس َكناً َو َج َع َل َل ُك ْم ِم ْن جُ لُ‪4‬و ِد اأْل َ ْن َع‪ِ 4‬‬
‫‪4‬ام بُيُوت‪4‬اً ت َْس‪4‬ت َِخ ُّفو َن َها َي‪44‬وْ َم َ‬
‫ين﴾ (النحل‪ ،)80:‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ َّن َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام َل ِعب َْر ًة نُ ْس ‪ِ 4‬قي ُك ْم ِم َّما‬ ‫ارهَا َأ َثاثاً َو َمتَاعاً ِإ َلى ِح ٍ‬ ‫ارهَا َو َأ ْش َع ِ‬ ‫َو َأوْ َب ِ‬
‫يرةٌ َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ ﴾ (المؤمنون‪ ،)21 :‬وق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬هَّللا ُ الَّ ِذي َج َع َ‬
‫‪4‬ل َل ُك ُم اأْل َ ْن َع‪4‬ا َم‬ ‫طو ِن َها َو َل ُك ْم ِفي َها َمنَا ِف ُع َك ِث َ‬ ‫ِفي بُ ُ‬
‫ِلتَرْ َكبُوا ِم ْن َها َو ِم ْن َها ت َْأ ُكلُونَ ﴾ (غافر‪)79:‬‬
‫ومن هذا الباب الوحيد أتيح لإلنسان أن يتصرف بما قد يبدو ضارا بهذه األحي‪44‬اء‪ ..‬وم‪44‬ع ذل‪44‬ك‪ ،‬ف‪44‬إن‬

‫‪86‬‬
‫المؤمن ينتفع بهذا النوع من االنتفاع‪ ،‬وهو ممتلئ بالرحمة‪ ،‬يستشعر منة هللا ال‪44‬ذي أت‪44‬اح ل‪44‬ه أن يتنعم به‪44‬ذا‬
‫الضرر الذي يصيب غيره‪ ،‬وقد روي أن رجال قال‪ (:‬يا رس‪44‬ول هللا إني ألرحم الش‪44‬اة أن أذبحه‪44‬ا)‪ ،‬فق‪44‬ال‪:‬‬
‫( إن رحمتها رحمك هللا)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر قال رسول هللا ‪ (:‬من رحم ذبيحة رحمه هللا يوم القيامة)‪،‬وفي رواية‪ (:‬من رحم‬
‫ولو ذبيحة عصفور رحمه هللا يوم القيامة)(‪)2‬‬
‫وقال بعضهم لرسول هللا ‪ :‬يا رسول هللا إني ألجد الع‪44‬نز ألذبحه‪44‬ا فأرحمه‪44‬ا ق‪44‬ال‪( :‬وإن رحمته‪44‬ا‬
‫رحمك هللا)(‪)3‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن النصوص المقدسة فرض‪44‬ت من اآلداب م‪44‬ا يخف‪44‬ف من ش‪44‬دة الض‪44‬رر ال‪44‬ذي يص‪44‬يب‬
‫الكائنات عند انتفاعنا بها‪:‬‬
‫فقد أرشدنا ‪ ‬إلى الكيفية المثلى لالستفادة من الحيوان مع عدم إيذائ‪44‬ه م‪44‬ا أمكن‪ ،‬فق‪44‬د رأى رس‪44‬ول‬
‫هللا ‪ ‬رجال أضجع شاة وهو يحد شفرته‪ ،‬فقال النبي ‪ (:‬أتريد أن تميتها موتات‪ ،‬هال أحددت ش‪44‬فرتك‬
‫قبل أن تضجعها)(‪)4‬‬
‫ومر رسول هللا ‪ ‬برجل وهو يجر شاة بأذنها‪ ،‬فقال رسول هللا ‪ (:‬دع أذنها وخ‪44‬ذ بس‪44‬الفتها (‪))5‬‬
‫(‪)6‬‬
‫وذكر ‪ ‬بعض وجوه اإلحسان في الذبح‪ ،‬فقال‪ ( :‬إن هللا كتب اإلحس‪4‬ان على ك‪4‬ل ش‪4‬يء ف‪4‬إذا قتلتم‬
‫فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)(‪)7‬‬
‫ومن هذا الباب ما سنه الشارع من الذبح ب‪4‬دل غ‪4‬يره مم‪4‬ا تمارس‪4‬ه الجاهلي‪4‬ات المختلف‪4‬ة‪ ،‬وق‪4‬د تفطن‬
‫القدماء إلى دور الذبح في إزالة األلم‪ ،‬فهذا ابن الجوزي يقول‪ (:‬وأما ألم الذبح فانه يستر‪ ،‬وق‪44‬د قي‪44‬ل أن‪44‬ه ال‬
‫يوجد أصال ألن الحساس لأللم أغشية ال‪44‬دماغ‪ ،‬ألن في‪44‬ه األعض‪44‬اء الحساس‪44‬ة‪ ،‬ول‪44‬ذلك إذا أص‪44‬ابها آف‪44‬ة من‬
‫صرع أو سكتة لم يحس اإلنسان بألم فإذا قطعت األوداج سريعا لم يصل ألم الجسم إلى محل الحس ولهذا‬
‫قال عليه الصالة والسالم إذا ذبح أحدكم فليحد شفرته وليرح ذبيحته)(‪)8‬‬
‫ومث‪44‬ل ذل‪44‬ك نص العلم الح‪44‬ديث على أن ال‪44‬ذبح من العن‪44‬ق ه‪44‬و أنجح وس‪44‬يلة لإلجه‪44‬از الس‪44‬ريع على‬
‫الحيوان بغير تعذيب وال تمثيل إذ أنه من الثابت علميا أن الرقبة حلقة الوص‪4‬ل بين ال‪4‬رأس وس‪4‬ائر الجس‪4‬د‬
‫فإذا قطع الجهاز العصبي شلت جميع وظائف الجسم الرئيسية‪ ،‬وإذا قطعت الشرايين واألوردة توقف الدم‬
‫عن تغذية المخ‪ ،‬وإذا قطعت الممرات الهوائية وقف التنفس وفي جميع هذه الحاالت تنتهي الحياه سريعا‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فإن الذبح يرتبط بمصلحة اإلنسان نفسه‪ ..‬فالدم هو المجرى الذي تلقى فيه م‪44‬واد‬
‫االيض أو التمثيل الغذائي كلها ففي ما هو مفيد وما هو ضار مؤذى‪ ،‬والكائنات المتطفلة في الجسم تف‪44‬رز‬
‫سمومها في الدم ناهيك عن وجودها في ال‪4‬دورة الدموي‪4‬ة في بعض مراح‪4‬ل تطوره‪4‬ا‪ ،‬وله‪4‬ذا فال‪4‬دم غ‪4‬ذاء‬
‫محرم في اإلسالم‪.‬‬
‫رواه الحاكم وقال صحيح اإلسناد‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫رواه الطبراني في الكبير‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه الطبراني في الكبير وفيه عثمان بن عبد الرحمن الجمحي قال أبو حاتم يكتب‪ 4‬حديثه وال يحتج به‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه الطبراني والحاكم وقال‪ :‬صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫السالفة مقدم العنق‪.‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫رواه ابن ماجة‪.‬‬ ‫‪)(6‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(7‬‬
‫تلبيس إبليس‪.‬‬ ‫‪)(8‬‬
‫‪87‬‬
‫وقد كان أهل الجاهلية يجبون أسنمة اإلبل ـ وهي حية ـ ويقطعون أليات الغنم وكان في ذلك تع‪44‬ذيب‬
‫لهذه الحيوانات‪ ،‬فلهذا حرم الرسول ‪ ‬االنتفاع بهذه األجزاء‪ ،‬فقال‪( :‬ما قطع من البهيمة وهي حي‪4‬ة فه‪4‬و‬
‫ميتة)(‪)9‬‬
‫ومن هذا الباب نهيه ‪ ‬عن التمثيل بالبهائم‪ ،‬فقد (نهى رسول هللا ‪ ‬أن يمثل بالبهائم)‬
‫ومنه نهيه عن صبر البهائم‪ ،‬ونهيه عن صيد الحيوان أو قتل‪44‬ه لغ‪44‬ير غ‪44‬رض‪ ،‬ق‪44‬ال ‪ (:‬ال تتخ‪44‬ذوا‬
‫شيئا فيه الروح غرضا)‬
‫ومنه نهىه ‪ ‬عن الرمية‪ ،‬فقد روي أن النبي ‪ ‬نهى عن الرمية أن ترمي الداب‪44‬ة‪ ،‬ثم تؤك‪44‬ل ولكن‬
‫تذبح ثم يرموا إن شاءوا‪ ،‬وقد مر ابن عباس على أناس قد وض‪4‬عوا حمام‪4‬ة يرمونه‪4‬ا فق‪4‬ال موجه‪4‬ا‪ (:‬نهى‬
‫رسول هللا ‪ ‬أن يتخذ الروح غرضا)‬
‫‪ 4‬ـ الطهارة ‪:‬‬
‫كل ما نراه في الكون ـ في أصل خلقته ـ طاهر لم يتدنس بأي أذى يجع‪4‬ل من منفعت‪4‬ه مض‪4‬رة‪ ،‬ومن‬
‫مصلحته مفسدة‪.‬‬
‫ولهذا األصل ينص الفقهاء على أن (األص‪44‬ل في األش‪44‬ياء الطه‪44‬ارة)‪ ،‬وهي قاع‪44‬دة ال تع‪44‬ني المع‪44‬نى‬
‫التعبدي فقط‪ ،‬بل تعني كذلك الحفاظ على الكون المسخر بالهيئة التي خلق عليها‪ ،‬ألن أي تغي‪44‬ير ق‪44‬د تنقلب‬
‫عواقبه على عكس المراد‪.‬‬
‫ولعل أخطر ما يصيبه التلوث‪ ،‬وأسهل ما قد يتعرض للتلوث ه‪44‬و الم‪44‬اء باعتب‪44‬ار س‪44‬يولته المس‪44‬تعدة‬
‫لتحلل أي شيء فيه‪.‬‬
‫ولهذا أولى القرآن الكريم أهمية كبيرة للماء‪ ،‬فقد ورد ذكره في الق‪44‬رآن الك‪44‬ريم ‪ 49‬م‪44‬رة‪ ،‬وامتن هللا‬
‫نزَل ِمنَ ال َّس َماء َماء لَّ ُكم ِّم ْنه َش َرابٌ َو ِم ْنهُ‬ ‫به على عباده ذاكرا وجوه الحكم في خلقه‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬هُ َو الَّ ِذي َأ َ‬
‫ت ِإ َّن ِفي َذ ِل‪4‬كَ آل َي‪ً 4‬ة‬ ‫َاب َو ِمن ُكل الثَّ َم َرا ِ‬ ‫يل َو َ‬
‫األ ْعن َ‬ ‫الز ْيتُونَ َوالنَّ ِخ َ‬
‫الزرْ َع َو َّ‬ ‫ت َل ُكم ِب ِه َّ‬ ‫َش َجرٌ ِفي ِه تُ ِسي ُمونَ (‪ )10‬يُن ِب ُ‬
‫ِّل َقوْ ٍم َي َت َف َّكرُونَ (‪( ﴾)11‬النحل)‬
‫ولكل هذه الخيرات النابعة من نعمة الماء يصفه القرآن الكريم بأن‪44‬ه مب‪44‬ارك أي كث‪44‬ير العط‪44‬اء‪ ،‬ق‪44‬ال‬
‫صي ِد ﴾ ( ّق‪)9:‬‬ ‫ت َو َحبَّ ْال َح ِ‬‫اركاً َفأَ ْن َب ْتنَا ِب ِه َجنَّا ٍ‬
‫اء َما ًء ُم َب َ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬ون ََّز ْلنَا ِمنَ ال َّس َم ِ‬
‫طهُوراً ِلنُحْ ِي َي ِب ِه َب ْل َد ًة‬
‫اء َما ًء َ‬ ‫ولكن كل هذه المنافع مقيدة بوصف الطهر‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َأ ْن ْ‬
‫زَلنَا ِمنَ ال َّس َم ِ‬
‫َاس َّي َك ِثيراً﴾ (الفرقان‪)49 ،48 :‬‬ ‫َميْتاً َونُ ْس ِق َيهُ ِم َّما خَ َل ْقنَا َأ ْن َعاماً َو َأن ِ‬
‫وفي ذلك إشارة إلى أن منافعه تقتضي وجود طهوريته‪ ،‬ف‪44‬إن س‪44‬لبها تح‪44‬ول من دور اإلحي‪44‬اء ال‪44‬ذي‬
‫اء ُكلَّ َش ْي ٍء َح ٍّي َأ َفال ي ُْؤ ِمنُونَ )(االنبياء‪ )30 :‬إلى دور اإلماتة‪.‬‬ ‫﴿و َج َع ْلنَا ِمنَ ْال َم ِ‬‫نص عليه قوله تعالى‪َ :‬‬
‫والعلم الحديث أيد هذه النظرة القرآنية‪ ،‬ففصل في المنافع الجم‪44‬ة ال‪44‬تي ورد الق‪44‬رآن الك‪44‬ريم ببيانه‪44‬ا‪،‬‬
‫فنص على أن الم‪44‬اء يش‪44‬كل ‪ %70‬من مس‪44‬احة اليابس‪44‬ة ويش‪44‬كل في المتوس‪44‬ط ‪ %65‬من وزن اإلنس‪44‬ان‬
‫والكائنات الحية‪.‬‬
‫وحكمة هذه النس‪4‬بة المرتفع‪4‬ة للم‪4‬اء ه‪4‬و دوره الكب‪4‬ير في س‪4‬ير التف‪4‬اعالت الكيميائي‪4‬ة داخ‪4‬ل أجس‪4‬ام‬
‫النباتات والحيوانات‪.‬‬
‫وسر ذلك ما يملكه من خواص كيميائية وفيزيائية‪ ،‬منها بناؤه الفريد الذي يجعل جزيئات‪44‬ه متماس‪44‬كة‬
‫‪ )(9‬رواه البزار‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ومرتبطة بروابط هيدروجينية‪ ،‬ويصبح كل جزيء مرتبطاً بأربعة جزيئات مجاورة‪ ،‬وكل منه‪4‬ا بأربع‪4‬ة‪،‬‬
‫وهكذا تبدوا جميع الجزيئات مرتبطة ببعض في شبكة فراغية متماسكة‪ ،‬ولوال ه‪4‬ذا لك‪4‬انت درج‪44‬ة غلي‪4‬ان‬
‫الماء (‪80-‬م) ودرج‪4‬ة تجم‪4‬ده ( ‪ 100 -‬م) والس‪4‬تحال ج‪4‬ود الم‪4‬اء على ش‪4‬كل س‪4‬ائل وص‪4‬لب على س‪4‬طح‬
‫األرض والستحالت الحياة‪.‬‬
‫وهو لهذا يمتص قدرة حرارية كبيرة لكي يتبخر حيث كل غران من الماء السائل يحت‪44‬اج إلى ‪540‬‬
‫حريرة ليتحول إلى بخار‪ ،‬وهذه الخاصية تعطي الماء دوراً فريداً في نقل القدرة من مك‪44‬ان آلخ‪44‬ر‪ ،‬فالم‪44‬اء‬
‫الذي يتبخر من المحيطات تسوقه الرياح مئات وآالف الكيلوم‪4‬ترات إلى أم‪4‬اكن ب‪4‬اردة فعن‪4‬د ت‪4‬برد البخ‪4‬ار‬
‫وتحببه وتساقطه على شكل قطرات مطر ينشر معه الطاقة التي أمتص‪44‬ها أثن‪44‬اء تبخ‪44‬ر ه فيس‪44‬اهم في رف‪44‬ع‬
‫درجة الحرارة في تلك المناطق وتلطيف حرارة الجو وك‪4‬ذلك في أثن‪4‬اء تس‪4‬اقط الثل‪4‬وج فكم ه‪4‬ذه الح‪4‬رارة‬
‫المنتشرة كبيرة إذا علمنا أنه يتبخر كل عام ‪ 520‬ألف كيلوا متر مكعب من الماء‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من الخواص‪ ،‬التي تنتج عنها المنافع الكثيرة‪.‬‬
‫والعلم الحديث بين كذلك ضوابط استعمال الماء والمخاطر التي تنجر عن سوء التعامل مع‪44‬ه‪ ،‬ومن‬
‫أخطرها ما يسمى بالمطر الحامضي‪ ،‬الذي يشير وصف القرآن الكريم للماء بالطهر على وجوب الح‪44‬ذر‬
‫منه‪.‬‬
‫لكن المدنية الحديث ال تبالي بهذا النهي الرباني المؤيد بالعلم حتى أصبح المط‪44‬ر يس‪44‬قط في من‪44‬اطق‬
‫كثيرة ـ خاصة فى البيئات الصناعية ـ مطراً حمضياً يهلك الحرث والنس‪44‬ل‪ ،‬فق‪44‬د بل‪44‬غ األس الهي‪44‬دروجيني‬
‫للمطر فى بعض المناطق الصناعية‪ ‬درجة عالية تجعل مي‪4‬اه األمط‪4‬ار عالي‪4‬ة الحموض‪4‬ة محدث‪4‬ه أض‪4‬رار‬
‫كثيرة‪ ،‬فقد فقدت مئات من البحيرات فى أمريك‪4‬ا الش‪4‬مالية وش‪4‬مال غ‪4‬رب أورب‪4‬ا ـ نتيج‪4‬ة ارتف‪4‬اع درج‪4‬ة‬
‫حموضة مياهها بسبب المط‪4‬ر الحمض‪4‬ي ـ معظم م‪4‬ا به‪4‬ا من ث‪4‬روات س‪4‬مكية وأص‪4‬بحت ‪ 90‬بح‪4‬يرة فى‬
‫منطق‪4‬ة جب‪4‬ال أدرون‪4‬داك فى والي‪4‬ة نيوي‪4‬ورك ـ مثال ـ خالي‪4‬ة تمام‪4‬اً من األس‪4‬ماك تحت ت‪4‬أثير الحموض‪4‬ة‬
‫المتزايدة لمياه البحيرات وهي حموضة قاتلة لألحياء‪.‬‬
‫وال يقتصر تأثير المطر الحمضي على األضرار بمياه األنه‪44‬ار والبح‪44‬يرات وإنم‪44‬ا يمت‪44‬د ت‪44‬أثيره إلي‬
‫مخاطر كثيرة فقد أعلن فريق من الباحثين فى جامعة نيوها مبشير بالواليات المتحدة االمريكي‪44‬ة (‪)1985‬‬
‫أن المطر الحمضي يمنع حاسة الش‪4‬م عن‪4‬د س‪4‬مك الس‪4‬المون‪ ،‬وله‪4‬ذا يفق‪4‬د قدرت‪4‬ه على إيج‪4‬اد طريق‪4‬ة نح‪4‬و‬
‫مجاري األنهار العليا من أجل وضع بيض‪4‬ة وإتم‪4‬ام عملي‪4‬ة الفقس‪ ،‬كم‪4‬ا ب‪4‬دأت تض‪4‬ر األمط‪4‬ار الحمض‪4‬ية‬
‫بالمحاصيل الزراعية تحت ت‪4‬أثير ترس‪4‬ب كمي‪4‬ات كب‪4‬يرة من الم‪4‬واد الحمض‪4‬ية فى الترب‪4‬ة مم‪4‬ا يغ‪4‬ير من‬
‫تركيبها الكيماوي فى اتجاه الحموضية المتزايدة التى تضر بل تقتل النبات‪44‬ات إذ تعم‪44‬ل الحموض‪44‬ة الزائ‪44‬دة‬
‫فى الترب‪4‬ة على إفق‪4‬ار الترب‪4‬ة نتيج‪4‬ة إزال‪4‬ة الكاثيون‪4‬ات " األيون‪4‬ات الموجب‪4‬ة " منه‪4‬ا ال‪4‬تى تعت‪4‬بر القاع‪4‬دة‬
‫األساسية لتغذية النباتات مثل الكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم‪.‬‬
‫كما يؤدي المطر الحمضي إلى تدمير الكثير من األشجار والنبات‪4‬ات حيث تص‪4‬اب بظ‪4‬اهرة الم‪4‬وت‬
‫التراجعي‪ ،‬حيث تموت األشجار واقفه كما يقول‪4‬ون إذ تتل‪4‬ف األوراق العلوي‪4‬ة المعرض‪4‬ة مباش‪4‬رة للمط‪4‬ر‬
‫الحمضي الذى يقتل المادة الخضراء فيها ثم ينتقل التأثير بعد ذلك الى األوراق التحتية فقد أوض‪44‬ح تقري‪44‬ر‬
‫من ألمانيا االتحادية ( ‪ )1980‬أن مساحة من الغابات تقدر بنحو ‪ 560‬ألف هكتار أي حوالي ‪7‬ر‪ %7‬من‬
‫مجم‪44‬وع مس‪44‬احات الغاب‪44‬ات في ألماني‪44‬ا ق‪44‬د دم‪44‬رت أو أتلفت ب‪44‬درجات متفاوت‪44‬ه نتيج‪44‬ة المط‪44‬ر الحمض‪44‬ي‬
‫‪89‬‬
‫والضباب الحمضي‪.‬‬
‫وعندما نتساءل عن سبب هذا االنحراف عن الحكمة اإللهية في الحف‪44‬اظ على طه‪44‬ارة المي‪44‬اه‪ ،‬نج‪44‬ده‬
‫الجشع والحرص على الكس‪4‬ب بغض النظ‪4‬ر عن المفاس‪4‬د الحاص‪4‬لة‪ ،‬فعن‪4‬دما نس‪4‬تخدم األس‪4‬مدة الكيماوي‪4‬ة‬
‫ال بدرجة كثافة عالية‪ ،‬خوفا من الجوائح‪ ،‬وحرصا على الكسب‪ ،‬وس‪4‬عيا إلى زي‪4‬ادة‬ ‫والمبيدات الحشرية مث ً‬
‫إنتاجية المحاصيل الزراعية نصل إلى إفساد البيئة واإلنتاج معاً‪ ،‬ألن االستخدام المكثف له‪4‬ذه الكيماوي‪4‬ات‬
‫ال عن إنتاج محاصيل ملوثة كيمائيا‪.‬‬ ‫تسرب كميات كبيرة منها إلى الهواء ومصادر المياه وإفسادهما‪ ،‬فض ً‬
‫وفي تقرير صادر عن دول مجموعة التعاون االقتصادي األوربي ( ‪ )1988‬حذر من تفاقم التل‪44‬وث‬
‫المائي الن‪4‬اجم عن تك‪4‬ثيف اس‪4‬تخدام األس‪4‬مدة الكيماوي‪4‬ة‪ ،‬ودع‪4‬ا التقري‪4‬ر إلى الح‪4‬د من االس‪4‬تخدام المكث‪4‬ف‬
‫(اإلسراف) لهذه األسمدة الكيماوية لما لها من مخاطر كبيرة على األحياء المائية‪.‬‬
‫ف‪4‬إذا قي‪4‬ل له‪4‬ؤالء‪ :‬كف‪4‬وا عن ه‪4‬ذا اإلفس‪4‬اد في األرض‪ ،‬ق‪4‬الوا كم‪4‬ا نص الق‪4‬رآن الك‪4‬ريم‪ِ ﴿ :‬إنَّ َم‪4‬ا نَحْ ُن‬
‫ُمصْ ِلحُونَ ﴾ (البقرة‪ ،)11 :‬ويعقب القرآن الكريم على قولهم هذا بقوله تع‪44‬الى‪َ ﴿ :‬أال ِإنَّه ُْم هُ ُم ْال ُم ْف ِس ‪ُ 4‬دونَ َو َل ِك ْن‬
‫ال َي ْشعُرُونَ ﴾ (البقرة‪)12 :‬‬
‫***‬
‫وكمث‪44‬ال آخ‪44‬ر على حث الش‪44‬ريعة على وج‪44‬وب الحف‪44‬اظ على طه‪44‬ارة البيئ‪44‬ة الحيوي‪44‬ة النهي عن‬
‫الجاللة(‪ ،)1‬وهي ما يأكل القاذورات من الحيوانات‪ ،‬أو هي الدابة التي تتبع النجاسات وتأكل الجلة ‪ ،‬وهي‬
‫البعرة والعذرة‪ ،‬ففي الحديث‪ ( :‬نهى رسول هللا ‪ ‬عن اإلبل الجالل‪4‬ة أن يؤك‪4‬ل لحمه‪4‬ا وال يش‪4‬رب لبنه‪4‬ا‬
‫وال يحمل عليها إال األدم ‪ ،‬وال يذكيها الناس حتى تعلف أربعين ليلة)(‪)2‬‬
‫بل ورد النهي عن ركوبه‪4‬ا‪ ،‬ففي الح‪4‬ديث‪ ( :‬نهى رس‪4‬ول هللا ‪ ‬عن الجالل‪4‬ة في اإلب‪4‬ل أن ي‪4‬ركب‬
‫عليها أو يشرب من ألبانها) (‪ ،)3‬وقد علل ذلك بأنها ربما عرقت فتلوث بعرقها‪.‬‬
‫ومن هذا الباب نهي الشرع أن تلقى في األرض النجاسات ونحوه‪44‬ا‪ ،‬وق‪44‬د روي عن بعض‪44‬هم ق‪44‬ال‪:‬‬
‫( كنا نكري أراضي رسول هللا ‪ ‬ونشترط على من يكريها أال يلقي فيها العذرة)(‪)4‬‬

‫وهي الدابة التي تأكل العذرة أو غيرها من النجاسات‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫رواه الدارقطني والبيهقي‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫رواه أبو داود‪.‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه البيهقى‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫‪90‬‬
‫رابعا ـ الكون المقروء‬
‫ينظ‪44‬ر الع‪44‬ارفون بح‪44‬زن إلى المخت‪44‬الين بس‪44‬بب رحلتهم إلى القم‪44‬ر‪ ،‬أو تج‪44‬ولهم في الفض‪44‬اء‪ ،‬أو م‪44‬ا‬
‫يحلمون به من رقي في الكواكب‪ ،‬أو ما يوهمون به أنفسهم من غزو للفضاء‪ ،‬ألنهم يعت‪44‬برونهم لم يفعل‪44‬وا‬
‫سوى أن رحلوا من كون إلى كون‪..‬‬
‫رحلوا من تراب األرض ليقعوا على تراب القمر‪ ،‬وتخلصوا من جاذبية األرض لتحتضنهم جاذبية‬
‫القمر‪.‬‬
‫أما رحلة العارفين‪ ،‬فهي من الكون إلى المكون‪ ،‬كم‪44‬ا ق‪44‬ال ابن عط‪44‬اء هللا‪ (:‬ال ترح‪44‬ل من ك‪44‬ون إلى‬
‫كون‪ ،‬فتكون كحمار الرحى يسير والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل من‪44‬ه‪ ،‬ولكن ارح‪44‬ل من األك‪44‬وان إلى‬
‫المكون‪َ ﴿:‬و َأ َّن ِإ َلى َربِّكَ ْال ُم ْن َت َهى﴾ (النجم‪)42:‬‬
‫ولذلك يعتبرون سكون اإلنسان لألشياء وعدم عبوره منها وقوفا‪ ،‬بل سقوطا‪:‬‬
‫يقول أحدهم معبرا عن ذلك‪ (:‬ل‪4‬و أن رجال دخ‪4‬ل إلى بس‪4‬تان في‪4‬ه من جمي‪4‬ع م‪4‬ا خل‪4‬ق هللا تع‪4‬الى من‬
‫األشجار‪ ،‬عليها من جميع ما خلق هللا تعالى من األطيار‪ ،‬فخاطب‪4‬ه ك‪4‬ل ط‪4‬ائر منه‪4‬ا بلغت‪4‬ه‪ ،‬وق‪4‬ال‪ :‬الس‪4‬الم‬
‫عليك يا ولي هللا‪ ،‬فسكنت نفسه إلى ذلك كان في يدها أسيرا)‬
‫ولذلك ينظرون إلى الكون المسبح قبل أن ينظروا إلى الكون المس‪44‬خر‪ ،‬فيجته‪44‬دون في تفق‪44‬ه أس‪44‬رار‬
‫تسابيحه‪ ،‬قال الغزالي‪ (:‬فإذن جميع أقطار ملكوت السموات واألرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء‬
‫من غير حاجة إلى أن يتحرّك إليها بجسمه وشخصه‪ ،‬فهو من مطالعة جمال الملك‪44‬وت في جن‪44‬ة عرض‪44‬ها‬
‫ال‪ ،‬إال أنهم‬ ‫الس‪44‬موات واألرض‪ .‬وك‪44‬ل ع‪44‬ارف فل‪44‬ه مثله‪44‬ا من غ‪44‬ير أن يض‪44‬يق بعض‪44‬هم على بعض أص ‪ً 4‬‬
‫يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظ‪4‬رهم وس‪4‬عة مع‪4‬ارفهم‪ ،‬وهم درج‪4‬ات عن‪4‬د هللا وال‬
‫الحصر تفاوت درجاتهم)(‪)1‬‬ ‫يدخل في ِ‬
‫وهذا الرحيل هو سنة رسول هللا ‪ ،‬روى ابن عباس أنه بات عند نبي هللا ‪ ‬ذات ليل‪4‬ة فق‪4‬ام ن‪4‬بي‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫‪4‬ق َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫هللا ‪ ‬من الليل‪ ،‬فخرج فنظر إلى السماء‪ ،‬ثم تال هذه اآلية ال‪44‬تي في آل عم‪44‬ران‪ِ ﴿:‬إ َّن ِفي ْ‬
‫خَل‪ِ 4‬‬
‫ب﴾ (آل عمران‪ )190 :‬إلى آخر السورة‪ .‬ثم ق‪44‬ال‪( :‬اللهم‬ ‫ت أِل ُو ِلي اأْل َ ْل َبا ِ‬ ‫الف اللَّي ِْل َوالنَّ َه ِ‬
‫ار آَل يا ٍ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َو ْ‬
‫اخ ِت ِ‬
‫صري نورا‪ ،‬وعن يمي‪4‬ني ن‪4‬ورا‪ ،‬وعن ش‪4‬مالي ن‪4‬ورا‪ ،‬ومن‬ ‫اجعل في قلبي نُورا‪ ،‬وفي َس ْمعي نورا‪ ،‬وفي َب َ‬
‫ظم لي نورا يوم القيامة)(‪)2‬‬ ‫خَلفي نورا‪ ،‬ومن َفوْ قي نورا‪ ،‬ومن تحتي نورا‪ْ ،‬‬
‫وأع ِ‬ ‫بين َي َديّ نورا‪ ،‬ومن ْ‬
‫وأخ‪44‬بر ‪ ‬عن بعض الحجب ال‪44‬تي تح‪44‬ول دون تأم‪44‬ل خل‪44‬ق هللا‪ ،‬فق‪44‬ال ‪ (:‬انتهيت إلى الس‪44‬ماء‬
‫السابعة‪ ،‬فنظرت فإذا أنا فوقي برعد وصواعق‪ ،‬ثم أتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من‬
‫خارج بطونهم‪ ،‬فقلت‪ (:‬من هؤالء؟) قال‪ (:‬هؤالء أكلة الربا) فلما نزلت وانتهيت إلى سماء ال‪44‬دنيا ف‪44‬إذا أن‪44‬ا‬
‫برهج ودخان وأصوات فقلت‪ (:‬من هؤالء؟) قال‪ (:‬الشياطين يحرف‪4‬ون على أعين ب‪4‬ني آدم أن ال يتفك‪44‬روا‬
‫في ملكوت السماوات واألرض‪ ،‬ولوال ذلك لرأت العجائب)(‪)3‬‬
‫وسنتجول في هذا الفصل مع العارفين في بعض جن‪44‬ان الملك‪44‬وت‪ ،‬لنعيش بعض أش‪44‬واقهم‪ ،‬ون‪44‬ذوق‬
‫من بعض شرابهم‪.‬‬
‫‪ )(1‬اإلحياء‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه أحمد‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫ونحن نقر في بداية هذا الفصل صعوبة الكالم في هذا الباب من ن‪4‬واح متع‪4‬ددة‪ ،‬منه‪4‬ا م‪4‬ا ل‪4‬ه عالق‪4‬ة‬
‫بالذوق‪ ،‬ومنها ما له عالقة بالتعبير‪ ،‬ومنها ما له عالقة بالعقل‪ ،‬ومنها ما له عالقة بأولئك المترصدين لكل‬
‫كلمة ليحكموا من خاللها بالكفر أو البدعة‪.‬‬
‫ولذلك سنحاول أن نبسط الكالم في الموضوع بق‪4‬در الطاق‪4‬ة‪ ،‬ونح‪4‬اول أن نلتمس من التع‪4‬ابير م‪4‬ا ال‬
‫يثير أحدا من الناس‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الفناء‪:‬‬
‫أول خطوة يبدأ بها السالكون طري‪4‬ق المعرف‪4‬ة هي إع‪4‬دام رؤي‪4‬ة الك‪4‬ون ال‪4‬ذي يتوهمون‪4‬ه‪ ،‬وال‪4‬ذي ال‬
‫حقيقة وجودية له‪.‬‬
‫فال حقيقة للكون القائم بذاته‪ ،‬أو الذي يستمد وجوده من ذاته‪ ،‬كما يستمد تدبيره من ذاته‪.‬‬
‫وهذا اإلعدام يعبرون عنه بالفناء(‪ )1‬عن رؤية األكوان‪ ،‬ويعرفونه بأنه ( اضمحالل ما دون الحق)‪،‬‬
‫فيضمحل عن القلب والشهود‪.‬‬
‫قال الغزالي عند ذكره لمراتب الس‪4‬الكين في التوحي‪4‬د‪ (:‬الرابع‪4‬ة أن ال ي‪4‬رى في الوج‪4‬ود ِإال واح‪4‬داً‪،‬‬
‫وهي مشاهدة الصديقين‪ ،‬وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد؛ ألنه من حيث ال ي‪44‬رى ِإال واح‪44‬داً‪ ،‬فال ي‪44‬رى‬
‫نفسه أيضاً‪ ،‬وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً في التوحيد‪ ،‬كان فانياً عن نفسه في توحي‪4‬ده‪ ،‬بمع‪4‬نى أن‪4‬ه ف‪4‬ني‬
‫عن رؤية نفسه والخلق)(‪)2‬‬
‫ويقول ابن القيم ش‪4‬ارحا ه‪4‬ذا الح‪4‬ال‪ ( :‬وإن لم تكن ذات‪4‬ه فاني‪44‬ة في الح‪4‬ال مض‪44‬محلة‪ ،‬فتغيب ص‪44‬ور‬
‫الموجودات في شهود العبد‪ ،‬بحيث تكون كأنها دخلت في الع‪4‬دم‪ ،‬كم‪4‬ا ك‪4‬انت قب‪4‬ل أن توج‪4‬د‪ ،‬ويبقى الح‪4‬ق‬
‫تعالى ذو الجالل واإلكرام وحده في قلب الشاهد‪ ،‬كما كان وحده قبل إيجاد العوالم)(‪)3‬‬
‫وهذا الفناء مرحل‪4‬ة من مراح‪4‬ل الس‪4‬ير‪ ،‬أو ه‪4‬و لمع‪4‬ة تلم‪4‬ع في ذهن الع‪4‬ارف ووعي‪4‬ه بع‪4‬د المكاب‪4‬دة‬
‫والتأمل‪ ،‬ليعود بعدها إلى الكون الحقيقي‪ ،‬وهو الك‪44‬ون المؤس‪44‬س بن‪44‬ور هللا‪ ،‬والموج‪44‬ود بإب‪44‬داع هللا‪ ،‬ليق‪44‬رأه‬
‫باسم هللا‪.‬‬
‫فالعارف ال يحتقر الكون بإعدامه‪ ،‬وإنما يرفعه بأن يلبسه لباس العبودية والتوجه إلى هللا‪.‬‬
‫وكما أن أي ال بس يحتاج لخلع ثوبه الق‪4‬ديم ليلبس الجدي‪4‬د‪ ،‬فك‪4‬ذلك الع‪4‬ارف يف‪4‬ني الك‪4‬ون الق‪4‬ديم‪ ،‬أو‬
‫لباس الكون القديم‪ ،‬وهو لباس ال اسم له‪ ،‬ليلبسه لباس االنتماء إلى هللا‪.‬‬
‫ولذلك ال يوجد من يحترم الكون كاحترام العارفين‪ ،‬وال يوج‪4‬د من ينس‪4‬ب الك‪4‬ون إلى مص‪4‬دره كم‪4‬ا‬
‫ينسبه العارفون‪ ،‬فهم ال يقصرون الشرك على االعتقاد بوجود الند هلل‪ ،‬بل يعتبرون من الش‪4‬رك أو أس‪4‬اس‬
‫الشرك نسبة الوجود الذاتي لألشياء‪.‬‬
‫وعلى هذا المعنى اتفق العارفون‪ ،‬وقد جم‪4‬ع ابن عط‪4‬اء هللا ك‪4‬ل أق‪4‬والهم في ذل‪4‬ك بعب‪4‬ارة مختص‪4‬رة‬
‫فقال‪ (:‬األكوان ثابتة بإثباته‪ ،‬وممحوة بأحدية ذاته)‬
‫فاألكوان ـ كما يراها العارفون‪ ،‬وكما هي في حقيقة الحال ـ عدم محض من حيث ذاتها‪ ،‬وما ثبوتها‬
‫إال بإثباته تعالى وإيجاده لها وظهوره فيها‪.‬‬
‫‪ )(1‬يقصد بالفناء في كالم العارفين أمران‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ فناء سلوكي‪ ،‬وهو تغيير معنوى للسالك بإفناء ميوله ورغباته جميعا‪ 4‬من المخالفة إلى الموافقة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ فناء بمعنى التجريد العقلى وعدم االلتفات إلى المدركات واألفكار واألفعال واألحاسيس وذلك بانحصاره فى التفكير‪ 4‬فى هللا‪ ،‬وهذا ما نريده هنا‪.‬‬
‫‪ )(2‬اإلحياء‪.)4/212( :‬‬
‫‪ )(3‬مدارج السالكين‪.3/370:‬‬
‫‪92‬‬
‫‪4‬ك ِإاَّل‬
‫وهم يستشهدون لهذا المعنى بالمعنى اإلشاري المبثوث في ثناي‪44‬ا قول‪44‬ه تع‪4‬الى‪ُ ﴿:‬ك‪44‬لُّ َش‪ْ 4‬ي ٍء هَا ِل‪ٌ 4‬‬
‫َوجْ َهه)(القصص‪ ،))88 :‬فيفهمون منها أن كل ممكن هو باعتب‪44‬ار ذات‪44‬ه هال‪44‬ك‪ ،‬أو ه‪44‬و ع‪44‬دم محض ونفي‬
‫صرف‪ ،‬وإنما له الوجود من جهة ربه‪ ،‬فهو هالك باعتبار ذاته‪ ،‬موجود بوجه ربه‪ ،‬أي أن وجوده قاص‪44‬ر‬
‫على جهة ربه‪.‬‬
‫وربما سياق اآلي‪4‬ة ق‪4‬د يفي‪4‬د ه‪4‬ذا المع‪4‬نى‪ ،‬فه‪4‬و ق‪4‬د ورد في أثن‪4‬اء ال‪4‬دعوة إلى توحي‪4‬د هللا في ال‪4‬دعاء‬
‫والعبادة‪ ،‬ليقول من جهة ال تتخذ أي ند تدعوه من دون هللا فسيأتي الي‪4‬وم ال‪4‬ذي يهل‪4‬ك في‪4‬ه‪ ،‬فال يبقى ش‪4‬يء‬
‫غير هللا‪ ،‬وقد تفيد ما يريده خالعو لباس الكون المعدوم من نفي الوجود الذاتي‪ ،‬فلذلك يكون من دع‪44‬ا غ‪44‬ير‬
‫‪4‬ك ِإاَّل َوجْ َه‪4‬هُ‬ ‫هللا‪ ،‬متوجها بالدعاء إلى الوهم‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وال َت ْد ُع َم َع هَّللا ِ ِإ َلهاً َ‬
‫آخَر ال ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو ُكلُّ َش ْي ٍء هَا ِل‪ٌ 4‬‬
‫َلهُ ْالحُ ْك ُم َو ِإ َل ْي ِه تُرْ َجعُونَ ﴾ (القصص‪)88 :‬‬
‫وال تنافي بين المعنيين‪ ،‬وال تصادم بينهما‪ ،‬وال يلغي أحدهما اآلخر‪ ،‬ب‪44‬ل إن المع‪44‬نى األول مؤس‪44‬س‬
‫على المعنى الثاني‪.‬‬
‫وهكذا يفهم العارفون من كل النصوص الواردة في إثبات وحدانية الحق أو أحديته أو أحقيته‪:‬‬
‫وقد كان النبي ‪ ‬إذا قام إلى الص‪4‬الة في ج‪4‬وف اللي‪4‬ل ق‪4‬ال من ض‪4‬من دع‪4‬اء التهج‪4‬د‪ (:‬أنت الح‪4‬ق‬
‫ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق)‬
‫(‪)1‬‬
‫ففي قوله ‪ (:‬أنت الحق) أي واجب الوجود؛ فأصله من حق الش‪4‬يء أي ثبت ووجب‪ ،‬فوج‪4‬ود هللا‬
‫هو الوجود الحقيقي إذ وجوده لنفسه‪ ،‬لم يسبقه عدم وال يلحقه عدم؛ وما ع‪4‬داه مم‪4‬ا يق‪44‬ال علي‪4‬ه ه‪44‬ذا االس‪44‬م‬
‫مسبوق بعدم‪ ،‬ويجوز عليه لحاق العدم‪ ،‬ووجوده من موجده ال من نفسه‪ ،‬فهو معدوم باعتبار ذاته في ك‪44‬ل‬
‫األحوال‪ ،‬كما قال العارف‪:‬‬
‫إن كنت مرت‪44444‬اداً بل‪44444‬وغ‬ ‫هللا ق‪444‬ل وذر الوج‪444‬ود وم‪444‬ا‬
‫كم‪44444444444444444444444444444444‬ال‬
‫ع‪4444444‬دم على التفص‪4444444‬يل‬ ‫ح‪4444444444444444444444444444444444‬وى‬
‫فالك‪444‬ل دون هللا أن حققت‪444‬ه‬
‫واإلجم‪44444444444444444444444444‬ال‬
‫ل‪444444‬واله في مح‪444444‬و وفي‬ ‫واعلم بأن‪44‬ك والع‪44‬والم كله‪44‬ا‬
‫‪4444444444444444444444444‬محالل‬
‫فوج‪44‬وده ل‪44‬واله عين مح‪44‬ال‬ ‫اض‬ ‫من ال وجود لذاته من ذات‪44‬ه‬
‫س‪444‬وى المتك‪444‬بر المتع‪444‬ال‬ ‫والعارفون بربهم لم يش‪4‬هدوا‬
‫ً‬
‫‪44444444444444444444444444444444444‬يئاالكون بقوله‪:‬‬
‫عن انشغال العارف باهلل عن‬ ‫وعبر اآلخر ش‬
‫في حب من خل‪44444‬ق اله‪44444‬واء‬ ‫شغل المحب عن الهواء بس‪44‬ره‬
‫وس‪444444444444444444444444444444444‬خره‬
‫عن كل كون ترتضيه مطهره‬ ‫والع‪444‬ارفون عق‪444‬ولهم معقول‪444‬ة‬
‫أح‪44‬والهم مجهول‪44‬ة ومس‪44‬تره‬ ‫فهم لديه مكرمون وفي ال‪44‬ورى‬

‫وباعتبار هذا المعنى كان أص‪4‬دق كلم‪4‬ة قاله‪4‬ا الش‪4‬اعر‪ ،‬كم‪4‬ا ورد في الح‪4‬ديث كلم‪4‬ة لبيد(‪ :)2‬أال ك‪4‬ل‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬


‫‪93‬‬
‫شيء ما خال هللا باطل(‪.)1‬‬
‫***‬
‫والقرآن الكريم يدلنا على التأمل ومعايشة هذه المعاني من خالل ذكره لمبدأ خلق‪44‬ه األش‪44‬ياء‪ ،‬وكأن‪44‬ه‬
‫يردنا إلى عدمها األصلي‪ ،‬ليصاحبنا معناه في تعاملنا معها‪ ،‬فال نعطيها من الوجود فوق ما تستحقه‪:‬‬
‫‪4‬ذ ُكوراً﴾‬ ‫ين ِمنَ ال ‪َّ 4‬د ْه ِر َل ْم َي ُك ْن َش ‪4‬يْئاً َم‪ْ 4‬‬ ‫وق‪44‬د ق‪44‬ال تع‪44‬الى عن مب‪44‬دأ اإلنس‪44‬ان‪َ ﴿:‬ه‪44‬لْ َأتَى َع َلى اأْل ِ ْن َس ‪ِ 4‬‬
‫ان ِح ٌ‬
‫(االنسان‪)1 :‬‬
‫ب َلنَ‪4‬ا‬ ‫ض َر َ‬ ‫وأخبر تعالى أن الغفلة عن أولية اإلنسان هي السبب في جحوده وكبريائه‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬و َ‬
‫ظا َم َو ِه َي َر ِمي ٌم﴾ (يّـس‪ ،)78 :‬ولهذا صحح له هذا الجهل بقوله تعالى‪ ﴿:‬قُلْ‬ ‫ال َم ْن يُحْ ِيي ْال ِع َ‬ ‫ال َون َِس َي ْ‬
‫خَل َقهُ َق َ‬ ‫َم َث ً‬
‫ق َع ِلي ٌم﴾ (يّـس‪)79 :‬‬ ‫يُحْ ِيي َها الَّ ِذي َأ ْن َشأَهَا َأ َّو َل َمرَّ ٍة َوهُ َو ِب ُكلِّ ْ‬
‫خَل ٍ‬
‫ومثلما جاءت اآليات الكثيرة تبين أولية اإلنسان لتدل على أنه ليس قائما بذاته‪ ،‬بل هو ق‪44‬ائم بقيومي‪44‬ة‬
‫هللا‪ ،‬جاء الحديث عن خلق األشياء جميعا‪ ،‬بل جاء الحث على الس‪4‬ير في األرض الكتش‪4‬اف مب‪4‬دأ الخل‪4‬ق‪،‬‬
‫ظرُوا َك ْي‪4‬فَ َب‪4‬د ََأ‬ ‫ض َف‪4‬ا ْن ُ‬ ‫ومن ثم اكتشاف أنها مخلوقة وليست قائمة بذاتها‪ ،‬قال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬قُ‪4‬لْ ِس‪4‬يرُوا ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫خَل َق ثُ َّم هَّللا ُ يُ ْن ِشئُ النَّ ْشأَ َة اآْل ِخ َر َة ِإ َّن هَّللا َ َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ ﴾ (العنكبوت‪)20 :‬‬
‫ْال ْ‬
‫الظا ِهرُ‬‫‪4‬و اأْل َوَّلُ َواآْل ِخ‪4‬رُ َو َّ‬ ‫ومن هذا الباب جاءت أسماء هللا تع‪4‬الى ال‪4‬تي نص عليه‪4‬ا قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪ ﴿:‬هُ َ‬
‫اط ُن َوهُ َو ِب ُكلِّ َش ْي ٍء َع ِلي ٌم﴾ (الحديد‪)3:‬‬ ‫َو ْال َب ِ‬
‫فالتأمل في المعاني العميقة التي تحملها هذه األسماء يلبس األشياء جميع‪4‬ا ث‪4‬وب الع‪4‬دم‪ ،‬ليبقى الح‪4‬ق‬
‫وحده هو المتفرد بالوجودالحقيقي‪.‬‬
‫يقول سيد قطب مبينا عمق المع‪4‬اني ال‪4‬تي ت‪4‬دل عليه‪4‬ا ه‪4‬ذه األس‪4‬ماء الحس‪4‬نى‪ (:‬وم‪4‬ا يك‪4‬اد يفي‪4‬ق من‬
‫تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تمأل الكيان البشري وتفيض‪ ،‬حتى تطالعه حقيقة أخ‪44‬رى‪ ،‬لعله‪44‬ا أض‪44‬خم‬
‫وأقوى‪ .‬حقيقة أن ال كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة‪ .‬فالكينون‪44‬ة الواح‪44‬دة الحقيقي‪44‬ة هي هلل وح‪44‬ده‬
‫‪4‬اط ُن َوهُ َ‬
‫‪4‬و‬ ‫الظا ِهرُ َو ْال َب ِ‬ ‫‪4‬و اأْل َوَّلُ َواآْل ِخ‪4‬رُ َو َّ‬
‫سبحانه ؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء‪ ،‬عليمة بك‪4‬ل ش‪4‬يء ﴿ هُ َ‬
‫ِب ُكلِّ َش ْي ٍء َع ِلي ٌم﴾ (الحديد‪)3 :‬‬
‫ويقول عن المعاني التي يستشعرها‪ ،‬وهو يعيش في ظالل ه‪4‬ذه األس‪4‬ماء‪ (:‬األول فليس قبل‪4‬ه ش‪4‬يء‪.‬‬
‫واآلخر فليس بعده شيء‪ .‬والظاهر فليس فوقه شيء‪ .‬والباطن فليس دونه شيء‪ ..‬األول واآلخر مس‪44‬تغرقا‬
‫كل حقيقة الزمان‪ ،‬والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيق‪4‬ة المك‪4‬ان‪ .‬وهم‪4‬ا مطلقت‪4‬ان‪ .‬ويتلفت القلب البش‪4‬ري‬
‫فال يجد كينونة لشيء إال هلل‪ .‬وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه‪ .‬حتى وجود ه‪4‬ذا القلب ذات‪4‬ه ال‬
‫يتحقق إال مستمدا من وج‪4‬ود هللا‪ .‬فه‪4‬ذا الوج‪4‬ود اإللهي ه‪4‬و الوج‪4‬ود الحقيقي ال‪4‬ذي يس‪4‬تمد من‪4‬ه ك‪4‬ل ش‪4‬يء‬
‫وجوده‪ .‬وهذه الحقيقة هي الحقيقة األولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته‪ .‬وليس وراءها حقيقة ذاتية وال‬
‫وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود)(‪)2‬‬
‫‪4‬و هَّللا ُ َأ َح‪ٌ 4‬د﴾‬
‫وقد عبر القرآن الكريم ـ كذلك ـ عن هذا المعنى باسم هللا ( األحد) في قوله تعالى‪ ﴿:‬قُ‪4‬لْ هُ َ‬
‫(االخالص‪ ،)1 :‬وهو اسم عظيم يحوي ـ مع التأمل ـ الكثير من الدالالت‪ ،‬ولهذا لما خشي رس‪44‬ول هللا ‪‬‬

‫‪ )(2‬وقد ورد الحديث بصيغ مختلفة منها‪ 4‬أشعر كلمة تكلمت بها العرب‪ ،‬وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر‪ ،‬وفي أخرى أصدق بيت قاله الشاعر‪ ،‬وفي‬
‫أخرى أصدق بيت قالته الشعراء‪ ،‬وفي أخرى أصدق كلمة قالتها العرب‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.‬‬
‫‪94‬‬
‫أن ال يقدر حق قدره ـ كما قد ال تقدر المعاني الواردة في السورة حق قدرها ـ ذكر أن هذه السورة ـ ال‪44‬تي‬
‫تحوي هذه الحقيقة الجليلة ـ والتي نتوهمها صغيرة تع‪4‬دل ثلث الق‪4‬رآن كم‪4‬ا روي عن أبي س‪4‬عد‪ ،‬أن رجال‬
‫سمع رجال يقرأ‪ ﴿ :‬قُلْ هُ َو هَّللا ُ َأ َح ٌد﴾ (االخالص‪ )1 :‬يرددها‪ ،‬فلما أصبح جاء إلى النبي ‪ ‬فذكر ذل‪44‬ك ل‪44‬ه ‪-‬‬
‫وكأن الرجل يتقالها ‪ -‬فقال النبي ‪ (:‬والذي نفسي بيده‪ ،‬إنها لتعدل ثلث القرآن)(‪)1‬‬
‫ولهذا كان بالل في رمضاء مكة في بداية اإلسالم يصيح بها في نش‪4‬وة عظيم‪4‬ة‪ ،‬وق‪4‬د ف‪4‬ني عن ك‪4‬ل‬
‫العذاب المحيط به‪ (:‬أحد أحد)‬
‫وال غرابة في كل هذا ـ كما يقول سيد قطب ـ ( فإن األحدية التي أمر رسول هللا ‪ ‬أن يعلنه‪4‬ا‪ :‬ق‪4‬ل‬
‫هو هللا أحد ‪ .‬هذه األحدية عقيدة للضمير‪ ،‬وتفسير للوجود‪ ،‬ومنهج للحياة)(‪)2‬‬
‫ولهذا ـ خالف ما قد نتصور ـ فإن غاية رسالة رس‪44‬ول هللا ‪ ‬لم تكن ال‪44‬دعوة والتربي‪44‬ة على مع‪44‬نى‬
‫التوحيد الذي ينفي الشريك فقط‪ ،‬وإنما الدعوة والتربية على معنى األحدية الذي ينفي الوجود الذاتي لغ‪44‬ير‬
‫هللا‪.‬‬
‫وعلى كليهما تقوم حياة المؤمن‪ ،‬ومن كليهما يستمد العارف‪.‬‬
‫وقد شرح س‪4‬يد قطب بتعب‪4‬يره الجمي‪4‬ل المع‪4‬اني ال‪4‬تي يعيش‪4‬ها الع‪4‬ارف‪ ،‬وه‪4‬و في ظالل ه‪4‬ذا االس‪4‬م‬
‫الجليل‪ ،‬فقال‪ (:‬إنها أحدية الوجود‪ ..‬فليس هناك حقيق‪4‬ة إال حقيقت‪4‬ه‪ .‬وليس هن‪4‬اك وج‪4‬ود حقيقي إال وج‪4‬وده‪.‬‬
‫وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي‪ ،‬ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية)(‪)3‬‬
‫وهذه الحقيقة هي التي تتأسس عليها كل حق‪4‬ائق المعرف‪4‬ة والس‪4‬لوك‪ ،‬وهي النهاي‪4‬ة ال‪4‬تي ينتهي إليه‪4‬ا‬
‫سلوك العارف ليبدأ به‪4‬ا اس‪4‬تمداده‪ ،‬فه‪4‬و م‪4‬ا دام ينظ‪4‬ر إلى الوج‪4‬ود نظ‪4‬رة الش‪4‬ريك ال‪4‬ذي ي‪4‬زاحم رب‪4‬ه في‬
‫وجوده‪ ،‬ال يستمد من هذا الوجود غير الجهل والتشتت‪ ،‬لكنه إن خل‪4‬ع عن‪4‬ه ه‪4‬ذا الوج‪4‬ود المش‪4‬رك‪ ،‬وحاله‬
‫بحلية األحدية‪ ،‬فإن الوجود كله يصبح عيونا تفيض بالمعارف على قلبه‪.‬‬
‫ولهذاال يفهم العارفون من قول ( ال إله إال هللا) ما يفهمه الكث‪44‬ير من قص‪44‬ر معناه‪44‬ا على ( ال معب‪44‬ود‬
‫بحق إال هللا)‪ ،‬بل يفهمون ذلك‪ ،‬ومعه يفهمون أن ( ال موجود بحق إال هللا)‬
‫***‬
‫ولم يخالف أحد من العلماء في صحة هذه المعاني التي يتحدث عنها العارفون(‪.)4‬‬
‫فهي معان شرعية تدل عليها النصوص الكثيرة‪ ،‬بل يدل عليها العقل‪ ،‬ويستطعمها الذوق‪.‬‬
‫والرمي ألجل هذا بالبدعة والضالل ال دليل عليه‪ ،‬وال مبرر له‪.‬‬
‫وبما أن بعض الناس ممن يدعون االنتساب إلى ابن القيم أو ابن تيمي‪4‬ة يخ‪4‬ول لنفس‪4‬ه الحكم بالبدع‪4‬ة‬
‫والضاللة بسبب هذه المقوالت‪ ،‬فإنا سنود رأيهما هنا‪ ،‬ال من باب الجدل الذي نهين‪4‬ا عن‪4‬ه‪ ،‬وإنم‪4‬ا من ب‪4‬اب‬
‫إلزامهم بما يلزمون به أنفسهم‪.‬‬
‫تحدث ابن القيم عن الفناء والبقاء في كتبه الكثيرة‪ ،‬ومما قال‪4‬ه في م‪4‬دارج الس‪4‬الكين عن‪4‬د حديث‪4‬ه عن‬
‫منزلة الفناء‪ (:‬الفناء ضد البقاء‪ ،‬والباقي إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقي‪44‬ه‪ ،‬ب‪44‬ل بق‪44‬اؤه من ل‪44‬وازم‬
‫نفسه وهو هللا تعالى وحده‪ ،‬وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب‪ ،‬وليس له من نفسه بقاء‪ ،‬كما أنه ليس له من نفسه‬
‫‪ )(1‬رواه ابن حبان‪ ،‬وفي حديث آخر‪ ،‬قال رسول هللا ‪ (: ‬أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليلة ثلث القرآن قالوا نحن اعجز من ذلك واضعف قال‪( :‬إن هللا‬
‫عز وجل جزا القرآن ثالثة أجزاء فجعل قل هو هللا احد جزا من أجزاء القرآن)رواه أحمد ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬في ظالل القرآن‪.‬‬
‫‪ )(3‬في ظالل القرآن‪.‬‬
‫‪ )(4‬باستنثاء بعض الحرفيين الذين لم تستطع عقولهم أن تفهم هذه المعاني العميقة‪ ،‬ولم تتح لهم أذواقهم أن تستشعرها‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫وجود‪ ،‬فإيجاده وإبقاؤه من رب‪4‬ه وخالق‪4‬ه‪ ،‬وإال فه‪4‬و ليس ل‪4‬ه من نفس‪4‬ه إال الع‪4‬دم‪ ،‬قب‪4‬ل إيج‪4‬اده والفن‪4‬اء بع‪4‬د‬
‫إيجاده)(‪)1‬‬
‫ويرفع توهم أن المراد بأن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه بقوله‪ (:‬إنما الفن‪44‬اء أن‪44‬ك إذا نظ‪44‬رت إلى‬
‫ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدوما‪ ،‬وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظ‪44‬ر عن إبق‪44‬اء‬
‫موجده له استحال بقاؤه‪ ،‬فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى قولنا إنه بنفس‪4‬ه مع‪4‬دوم‬
‫وفان فافهمه)(‪)2‬‬
‫أما ابن تيمية‪ ،‬فتحدث في رسائلة كثيرا عن هذه الحال‪ ،‬وإن كان يعيب عليه نقصه عن الكمال وهو‬
‫يتفق في ذلك مع كل من تحدث عن هذا الحال‪..‬‬
‫يقول في مجموع الفتاوى‪ (:‬الفناء الذي يوجد فى كالم الصوفية يفسر بثالثة أمور‪ :‬أحدها فناء القلب‬
‫عن إرادة ما سوى الرب والتوكل عليه وعبادته وما يتبع ذل‪44‬ك‪ ،‬فه‪44‬ذا ح‪44‬ق ص‪44‬حيح وه‪44‬و محض التوحي‪44‬د‬
‫واإلخالص‪ ،‬وهو فى الحقيقة عبادة القلب وتوكله واستعانته وتألهه وإنابته وتوجهه إلى هللا وحده الشريك‬
‫له‪ ،‬وما يتبع ذلك من المعارف واألحوال‪ ،‬وليس ألحد خروج عن هذا‪ ،‬وهذا ه‪4‬و القلب الس‪44‬ليم ال‪44‬ذي ق‪4‬ال‬
‫ب َس ِل ٍيم﴾ (الشعراء‪ ،)89 :‬وه‪44‬و س‪44‬المة القلب عن اإلعتق‪44‬ادات الفاس‪44‬دة وم‪44‬ايتبع‬ ‫هللا ِب َق ْل ٍ‬
‫هللا فيه‪ِ ﴿ :‬إاَّل َم ْن َأتَى َ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وهذا الفناء الينافيه البقاء‪ ،‬بل يجتمع ه‪4‬و والبق‪4‬اء‪ ،‬فيك‪4‬ون العب‪4‬د فاني‪4‬ا عن إرادة م‪4‬ا س‪4‬واه وإن ك‪4‬ان‬
‫شاعرا باهلل وبالسوى وترجمته قول (ال إله إال هللا)‪ ،‬وكان النبى ‪ ‬يقول‪ (:‬ال اله اال هللا وال نعب‪44‬د إال إي‪44‬اه‬
‫له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن) وهذا فى الجملة هو أول الدين وآخره‪.‬‬
‫األمر الثانى فناء القلب عن شهود ما سوى الرب‪ ،‬فذاك فناء عن اإلرادة‪ ،‬وهذا فن‪44‬اء عن الش‪44‬هاده‪،‬‬
‫ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه‪ ،‬وهذا فناء عن العلم بالغير والنظ‪44‬ر إلي‪44‬ه‪ ،‬فه‪44‬ذا الفن‪44‬اء في‪44‬ه نقص‪،‬‬
‫فإن شهود الحقائق على ما هي عليه‪ ،‬وهو شهود الرب مدبرا لعباده آمرا بشرائعه أكمل من شهود وجوده‬
‫أو صفة من صفاته أو اسم من أسمائه‪ ،‬والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك)(‪)3‬‬
‫وقال في موضع آخر‪ ..(:‬وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب‪ ،‬وه‪44‬ذا ح‪44‬ال ن‪44‬اقص‬
‫يعرض لبعض السالكين‪ ،‬ليس هو الغاية‪ ،‬وال شرطا في الغاية‪ ،‬بل الغاية الفناء عن عبادة الس‪44‬وى‪ ..‬وه‪44‬و‬
‫حال ابراهيم ومحمد الخليلين ـ صلى هللا عليهما وسلم ـ فإنه قد ثبت في الص‪44‬حاح عن الن‪44‬بي ‪ ‬من غ‪44‬ير‬
‫وجه أنه قال‪ (:‬إن هللا اتخذني خليال كما اتخذ ابراهيم خليال)(‪ ..)4‬وحقيقة ه‪44‬ذا الفن‪44‬اء ه‪44‬و تحقي‪44‬ق الحنيفي‪44‬ة‪،‬‬
‫وهو إخالص الدين هلل وهو أن يفني بعبادة هللا عن عبادة ما سواه‪ ،‬وبمحبته عن محبة ما س‪4‬واه‪ ،‬وبطاعت‪4‬ه‬
‫عن طاعة ما سواه‪ ،‬وبخشيته عن خشية ما سواه‪ ،‬وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض‬
‫فيه‪ ،‬فال يكون لمخلوق من المخلوقين ال لنفسه وال لغير نفسه على قلبه شركة مع هللا تعالى)(‪)5‬‬
‫فهذه النصوص وغيرها تدل على أن حال الفناء الذي تحدث عنه أهل هللا حال معتبر عند ابن تيمية‬
‫وابن القيم‪ ،‬وأن ما يدعيه من يدعي صحبتهما من الدعاوى ال دلي‪4‬ل علي‪4‬ه‪ ،‬وه‪4‬و محض أحق‪4‬اد تمتلئ به‪4‬ا‬
‫النفوس‪ ،‬ال علم معتبر يمكن أن يناقش‪.‬‬
‫مدارج السالكين‪.3/369 :‬‬ ‫‪)(1‬‬
‫مدارج السالكين‪.3/369 :‬‬ ‫‪)(2‬‬
‫مجموع‪ 4‬الفتاوى‪.10/337:‬‬ ‫‪)(3‬‬
‫رواه الحاكم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬
‫الرد على المنطقيين‪.517 :‬‬ ‫‪)(5‬‬
‫‪96‬‬
‫أما ما ذكراه من نقص هذه الحال‪ ،‬فهو صحيح ال شك فيه‪ ..‬والمتوقف عند هذه الحال والمس‪4‬تلذ له‪4‬ا‬
‫انقطع به الطريق‪ ..‬أولم يفهم الغاية منه‪ ..‬فالخالع للكون الف‪4‬اني لن يفهم م‪4‬راد هللا من رس‪4‬ائل الك‪4‬ون ح‪4‬تى‬
‫يعيد لبسه من جديد‪ ،‬باسم هللا ال باسمه الذي ال وجود له‪.‬‬
‫ولكن استنقاص الع‪4‬ارفين المتح‪4‬دثين عن ه‪4‬ذه الح‪4‬ال غ‪4‬ير ص‪4‬حيح‪ ..‬ومق‪4‬ارنتهم في ذل‪4‬ك بالس‪4‬لف‬
‫الصالح‪ ،‬واعتبار كالمهم بدعة بسبب ذلك أبعد عن الصواب‪.‬‬
‫ذلك أن الكالم في هذه المسألة يشبه الكالم في التفسير والفقه‪ ..‬وغيرها من علوم الشريعة‪.‬‬
‫فكالم المفسر في تفسير غريب القرآن ربم‪4‬ا يك‪4‬ون بدع‪4‬ة لم يخض فيه‪4‬ا الس‪4‬لف‪ ،‬ال لكونه‪4‬ا بدع‪4‬ة‪،‬‬
‫ولكن لكون ذلك الغريب كان مشهورا غير غريب عندهم‪.‬‬
‫والكالم في دقائق الفقه‪ ،‬وتقسيمه إلى سنن وفرائض وموانع وأس‪44‬باب ‪ ..‬وغ‪44‬ير ذل‪44‬ك بدع‪44‬ة بالنس‪44‬بة‬
‫لفقهاء السلف‪ ..‬فلم تدعهم الحاجة في وقتهم إلى مثل هذه المصطلحات‪.‬‬
‫وهكذا األمر في هذا الباب‪..‬‬
‫فأهل هللا الذين اختصوا بالبحث في هذا الجانب‪ ..‬ودرسوا األحوال التي يمر بها الس‪44‬الك في رحلت‪44‬ه‬
‫إلى هللا الحظوا هذه المرحلة الخطيرة والمهمة‪ ..‬فلذلك تحدثوا عنها بصنوف من األحاديث‪..‬‬
‫منها ما يرغب فيها‪ ،‬ويعتبرها قمة من قمم السلوك‪ ..‬وهو صحيح‪ ..‬ألن من وصل إليه‪4‬ا ب‪4‬دأ البداي‪4‬ة‬
‫الصحيحة‪ ..‬والبداية الصحيحة البد أن توصل إلى النهاية الصحيحة‪.‬‬
‫وليس ذلك نقصا‪ ..‬وليس القيام بأداء ظواهر العبودية أكمل من هذا‪..‬‬
‫ذلك أن تلك الظواهر قد يقوم بها من ال حال له‪ ،‬بل من ال إيمان له‪.‬‬
‫أما كالم العارفين فهو في أحوال الباطن‪ ،‬وهي أحوال دقيقة تستدعي تفاصيل دقيقة كتلك التفاص‪44‬يل‬
‫التي يتحدث فيها الفقهاء عن دقائق الفقه‪ ،‬ما يقع منها وما ال يقع‪ ..‬ولم يقل أحد من الن‪44‬اس أن كالم الفقه‪44‬اء‬
‫في هذا قصور عن درجة السلف‪.‬‬
‫ولكن العارفين مع هذا ينبهون السالكين إلى عدم الوق‪44‬وف م‪44‬ع أي ح‪44‬ال‪ ،‬وهم ي‪44‬رددون لهم في ك‪44‬ل‬
‫﴿و َأ َّن ِإ َلى َربِّكَ ال ُم ْن َت َهى﴾ {النَّجم‪}42:‬‬
‫حين قوله تعالى‪َ :‬‬
‫***‬
‫قد يقال بعد هذا‪ :‬فما الذي يميز العارفين؟‬
‫ولماذا ال يستوون مع سائر المؤمنين في النظر إلى الكون؟‬
‫ولماذا تمتلئ الكتب بهذه المعاني الواضحة الصحيحة؟‬
‫والجواب عن ذلك‪ :‬أن هذا العلم يتحول عند العارفين إلى معرفة‪ ،‬فالعالم ي‪44‬درك الش‪44‬يء‪ ،‬والع‪44‬ارف‬
‫يذوقه ويعايشه‪.‬‬
‫وعندما يعيش العارف أو السالك هذه المشاعر النبيلة‪ ،‬ف‪4‬إن ودي‪4‬ان البالغ‪4‬ة تفيض من لس‪4‬انه لتع‪4‬بر‬
‫عن تلك المشاعر‪..‬وهذا سر تلك الكنوز العظيمة التي خلفها أولياء هللا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ البقاء‪:‬‬
‫بع‪4‬د أن يخل‪4‬ع الع‪4‬ارف لب‪4‬اس الك‪4‬ون المع‪4‬دوم‪ ،‬وال‪4‬ذي ك‪4‬ان حجاب‪4‬ه الحائ‪4‬ل بين‪4‬ه وبين عب‪4‬ادة رب‪4‬ه‬
‫ومعرفته‪ ،‬يعود إلى الكون المنتسب إلى هللا‪ ،‬والدال على هللا‪ ،‬والمعرف باهلل‪.‬‬
‫فالعارفون جميعا متفقون على أن حالة الفناء التي يمر بها السالك ـ وال‪4‬تي تع‪4‬بر عن حقيق‪4‬ة عقدي‪4‬ة‪،‬‬

‫‪97‬‬
‫وذوق عرفاني ـ هي بداية المعرفة ال نهايتها‪ ،‬فإن الفناء هو مقدمة ما يسمونه بالبقاء‪.‬‬
‫فالباقي باهلل‪ ،‬والذي يرى األكون‪ ،‬ويصاحبها في هللا أكمل من الذي فني عن األكوان‬
‫وفي ذلك يقول ابن عطاء هللا يعبر عن الحالين‪ (:‬ص‪4‬احب الحقيق‪4‬ة غ‪4‬اب عن الخل‪4‬ق بش‪4‬هود المل‪4‬ك‬
‫الحق‪ ،‬وفني عن األسباب بشهود مسبب األسباب‪ ،‬فهو عب‪4‬د مواج‪4‬ه بالحقيق‪4‬ة‪ ،‬ظ‪4‬اهر علي‪4‬ه س‪4‬ناها س‪4‬الك‬
‫للطريقة قد استولى على مداها‪ ،‬غ‪4‬ير أن‪4‬ه غري‪4‬ق األن‪4‬وار مطم‪4‬وس اآلث‪4‬ار ق‪4‬د غلب س‪4‬كره على ص‪4‬حوه‬
‫وجمعه على فرقه وفناؤه على بقائه وغيبته على حضوره)‬
‫فهذه هي حال الفاني الذي شغله هللا عن كل شيء‪ ،‬وهي حال شريفة‪ ،‬وصاحبها من الخواص‪ ،‬لكنه‬
‫ال بالنسبة ألهل الغفلة ناقص بالنسبة لخواص الخواص الذين جمعوا بين األم‪44‬رين وهم أه‪44‬ل‬ ‫وإن كان كام ً‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫فلذا قال ابن عطاء هللا معقبا على أوصاف الف‪4‬اني‪ (:‬غ‪4‬ير أن‪4‬ه غري‪4‬ق األن‪4‬وار) ق‪4‬د غ‪4‬رق في بح‪4‬ار‬
‫التوحيد واألحدية ( مطموس اآلثار) قد طمست بصيرته عن النظر إلى اآلثار والعبيد‪ ( ،‬قد غلب س‪44‬كره)‬
‫وعدم إحساسه باآلثار على صحوه وهو إحساسه بها‪ ،‬وهو رؤية الحق وحده على فرقه‪ ،‬وهو رؤية الحق‬
‫والخلق‪ ،‬فهو في مقام الجمع ال في مقام الفرق‪.‬‬
‫أما الباقي‪ ،‬فحاله أكمل‪ ،‬قال ابن عطاء هللا بعد ذكره لحال الفاني‪ (:‬وأكم‪44‬ل من‪44‬ه عب‪44‬د ش‪44‬رب ف‪44‬ازداد‬
‫صحواً‪ ،‬وغاب فازداد حضوراً‪ ،‬فال جمعه يحجبه عن فرقه وال فرق‪44‬ه يحجب‪44‬ه عن جمع‪44‬ه‪ ،‬وال فن‪44‬اؤه عن‬
‫بقائه وال بقاؤه يصده عن فنائه‪ ،‬يعطي كل ذي قسط قسطه ويوفي كل ذي حق حقه)‬
‫فهذا العارف الباقي بربه قد جمع بين المزيتين‪ ( ،‬فباطنه مكمل بالحقيقة‪ ،‬وظاهره مجمل بالشريعة‪،‬‬
‫فيشكر الخلق والحق ال يغيب عن الحق في حال مخالطة الخلق‪ ،‬ليعطي كل ذي قسط قسطه)‬
‫وقد جمع ابن عطاء هللا حال السالكين والواصلين في قوله‪ (:‬من عرف الحق ش‪4‬هده في ك‪4‬ل ش‪4‬يء‪،‬‬
‫ومن فني به غاب عن كل شيء)‬
‫فالعارف في حال البقاء يرى الخلق والحق‪ ،‬فيرى الحق تعالى ظاهراً في ك‪44‬ل األش‪44‬ياء وقائم‪4‬اً به‪44‬ا‪،‬‬
‫مع عدم غيبته عن نفسه وحسه‪ ،‬بخالف الفاني عن نفسه وعن األكوان‪ ،‬فإنه ال ي‪44‬رى في الوج‪44‬ود ظ‪44‬اهراً‬
‫إال هللا تعالى‪ ،‬ويغيب عن كل شيء سواه حتى عن نفسه وحسه‪.‬‬
‫والع‪44‬ارفون يش‪44‬يرون بالبق‪44‬اء‪ ،‬ال‪44‬ذي ه‪44‬و الع‪44‬ودة إلى الك‪44‬ون إلى اس‪44‬تيقاظ الف‪44‬اني من ح‪44‬ال الفن‪44‬اء‬
‫واالصطالم‪ ..‬إلى ح‪4‬ال الص‪4‬حو والتحقي‪4‬ق‪ ،‬وهي م‪4‬راتب ق‪4‬د يم‪4‬ر ببعض‪4‬ها الس‪4‬الك‪ ،‬وق‪4‬د يتجاوزه‪4‬ا إلى‬
‫مقامات أرفع وأعلى من غير أن يمر عليها‪.‬‬
‫ويعبرون بها عن بقاء الكون باهلل‪ ،‬فالبقاء هو الدوام‪ ،‬واستمرار الوجود‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ القراءة‪:‬‬
‫بعد أن يمحى الكون الالموجود ـ المؤس‪4‬س على ال‪4‬وهم ـ في ذهن الع‪4‬ارف ووجدان‪4‬ه‪ ،‬ثم يع‪4‬ود من‬
‫جديد بخلعة أخرى‪ ،‬هي خلعة االنتساب هلل‪ ،‬فيعود له البق‪44‬اء باس‪44‬م هللا‪ ،‬يتح‪44‬ول إلى كت‪44‬اب يق‪44‬رؤه الع‪44‬ارف‬
‫ليرى من خالله صفات ربه وكماالته‪.‬‬
‫فالكون المقروء هو المرحلة الثالثة من عالقة العارفين بالكون‪ ،‬أو هو المرحلة األولى للعرفان‪.‬‬
‫فالعارف هو الذي لديه القدرة على حل رموز الكون‪ ،‬أو هو الخبير الذي لديه المفاتيح التي يفك بها‬
‫الشيفرة التي يختزنها الكون‪ ،‬أو هو صاحب البصيرة الذي يرى ما يخبأ بين سطور الكون‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫ولهذا كان أول ما أمر به رسول هللا ‪ ،‬بل ما أمرت به أمته ـ كما يشير الع‪4‬ارفون ـ ه‪44‬و أن تع‪44‬اد‬
‫اس‪ِ 4‬م َربِّكَ الَّ ِذي خَ َل‪4‬قَ﴾ (العل‪4‬ق‪ ،)1 :‬فاآلي‪44‬ة تحتم‪4‬ل من حيث‬ ‫‪4‬ر ْأ ِب ْ‬
‫قراءة الكون باسم هللا‪ ،‬كما ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬ا ْق‪َ 4‬‬
‫اإلشارة أن يكون اسم الموصول مفعوال به‪ ،‬ويصير المعنى حينئذ ( اقرأ باسم ربك األشياء التي خلقها)‬
‫والقرآن الكريم مليئ بهذا المعنى مما قد ال يحوجنا إلى هذا المعنى اإلشاري الذي يفهمه الع‪44‬ارفون‪،‬‬
‫بل فيه الداللة على كيفية قراءة الكون باسم هللا‪.‬‬
‫ظرْ ِإ َلى‬ ‫فاهلل تعالى يأمرنا بقراء الرحمة اإللهية من خالل حياة األرض بعد موته‪44‬ا‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ف‪44‬ا ْن ُ‬
‫ض َبعْ َد َموْ ِت َها ﴾ (الروم‪)50 :‬‬ ‫ت هَّللا ِ َك ْيفَ يُحْ ِيي اأْل َرْ َ‬ ‫ار َرحْ َم ِ‬ ‫آ َث ِ‬
‫ويأمرنا باالستبش‪4‬ار تف‪4‬اؤال بفض‪4‬ل هللا‪ ،‬وفرح‪4‬ا باهلل‪ ،‬وتنس‪4‬ما لرحم‪4‬ة هللا عن‪4‬د هب‪4‬وب الري‪4‬اح ال‪4‬تي‬
‫ال ُس‪ْ 4‬قنَا ُه ِل َب َل‪ٍ 4‬د‬‫ت َس‪َ 4‬حاباً ِث َق‪4‬ا ً‬ ‫اح بُ ْشراً َب ْينَ َي َديْ َرحْ َم ِت ِه َحتَّى ِإ َذا َأ َقلَّ ْ‬ ‫يرسلها هللا‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي يُرْ ِسلُ الرِّ َي َ‬
‫ت َك َذ ِلكَ نُ ْخ ِرجُ ْال َموْ تَى َل َعلَّ ُك ْم َت َذ َّكرُونَ ﴾ (ألعراف‪)57 :‬‬ ‫زَلنَا ِب ِه ْال َما َء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِب ِه ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬ ‫ت َفأَ ْن ْ‬‫َم ِّي ٍ‬
‫ويعلمنا أن نقرأ لطف هللا وخبرته المحيطة بكل شي من خالل حروف الماء الس‪44‬اقطة على األرض‬
‫ي‪4‬ف خَ ِب‪4‬يرٌ﴾‬ ‫ض‪4‬رَّ ًة ِإ َّن هَّللا َ َل ِط ٌ‬ ‫ص‪ِ 4‬بحُ اأْل َرْ ضُ ُم ْخ َ‬ ‫اء َم‪4‬ا ًء َفتُ ْ‬‫الس‪َ 4‬م ِ‬‫‪4‬زَل ِمنَ َّ‬ ‫المخضرة‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َل ْم ت ََر َأ َّن هَّللا َ َأ ْن َ‬
‫(الحج‪)63 :‬‬
‫هَّللا‬
‫ويعلمنا أن نقرأ علم هللا وقدرته من خالل السطور المبثوث‪4‬ة في تقلب الزم‪4‬ان بأعمارن‪4‬ا‪ ،‬ق‪4‬ال‪َ ﴿:‬و ُ‬
‫خَ َل َق ُك ْم ثُ َّم َيت ََوفَّا ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ي َُر ُّد ِإ َلى َأرْ َذ ِل ْال ُع ُم ِر ِل َك ْي ال َيعْ َل َم َبعْ َد ِع ْل ٍم َشيْئاً ِإ َّن هَّللا َ َع ِلي ٌم َق ِديرٌ﴾ (النحل‪)70 :‬‬
‫ويرينا قوة هللا القاهرة‪ ،‬وقدرته الشاملة باستعراض تفاصيل دقيق المكونات وجليلها‪:‬‬
‫فالسموات التي ننبهر لضخامتها ال تعدو أن تكون شيئا حقيرا جدا أمام عظمة هللا‪ ،‬قال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َم‪44‬ا‬
‫َّات ِب َي ِمي ِن‪ِ 4‬ه ُس‪4‬ب َْحا َنهُ َو َت َع‪4‬ا َلى َع َّما‬ ‫ط ِوي ٌ‬ ‫ات َم ْ‬ ‫او ُ‬ ‫ْض‪4‬تُهُ َي‪4‬وْ َم ْال ِق َيا َم‪ِ 4‬ة َو َّ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫ق َق‪ْ 4‬د ِر ِه َواأْل َرْ ضُ َج ِميع‪4‬اً َقب َ‬ ‫َقدَرُوا هَّللا َ َح َّ‬
‫يُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (الزمر‪)67 :‬‬
‫والقرآن الكريم يرشدنا من خالل هذه اآلية إلى أن سبب الجهل بقدر هللا هو عدم قراءة الك‪4‬ون باس‪4‬م‬
‫هللا‪ ،‬فهؤالء نظروا إلى عظم السموات واألرض غافلين عن خالقهما‪.‬‬
‫وليس من الغريب لهذا أن تحوي سيدة آي القرآن الكريم(‪ )1‬الح‪4‬ديث عن خل‪4‬ق هللا لتس‪4‬تتدل ب‪4‬ه على‬
‫ض َم ْن َذا‬ ‫ت َو َما ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫هللا‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬هَّللا ُ ال ِإ َل َه ِإاَّل هُ َو ْال َح ُّي ْال َقيُّو ُم ال ت َْأ ُخ ُذهُ ِس َنةٌ َوال َنوْ ٌم َلهُ َما ِفي ال َّس َم َ‬
‫طونَ ِب َش ْي ٍء ِم ْن ِع ْل ِم ِه ِإاَّل ِب َما َشا َء َو ِس‪َ 4‬ع ُكرْ ِس‪ُّ 4‬يهُ‬ ‫خَل َفه ُْم َوال ي ُِحي ُ‬‫الَّ ِذي َي ْش َف ُع ِع ْن َد ُه ِإاَّل ِبإِ ْذ ِن ِه َيعْ َل ُم َما َب ْينَ َأ ْي ِدي ِه ْم َو َما ْ‬
‫ظهُ َما َوهُ َو ْال َع ِل ُّي ْال َع ِظي ُم﴾ (البقرة‪)255 :‬‬ ‫ض َوال َي ُؤو ُدهُ ِح ْف ُ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫فاآلية الكريمة تدلنا على طريق العبور من السموات واألرض إلى الحي القيوم‪ ،‬ألنه ال يك‪44‬ون ه‪44‬ذا‬
‫اإلبداع العظيم في هذا الخلق العظيم إال بحياة المبدع وقيوميته‪ ،‬فالتوازن والتكامل والبق‪4‬اء في المخلوق‪4‬ات‬
‫دليل قيام خالقها بها‪.‬‬
‫ومن هذه األبواب التي يفتحها لنا القرآن الكريم للتعرف على هللا من خالل كتاب الكون ما ورد في‪44‬ه‬
‫من استدالالت على البعث‪ ،‬فهي ـ عند التأمل ـ أدلة على هللا أكثر من داللتها على البعث‪.‬‬
‫وهي تدل على هللا قبل البعث‪ ،‬ألن األساس ال‪44‬ذي أوق‪44‬ع ال‪44‬دهريين والمنك‪44‬رين للبعث ه‪44‬و اعتق‪44‬ادهم‬
‫ب َلنَ‪4‬ا َم َث ً‬
‫ال‬ ‫ض‪َ 4‬ر َ‬
‫باالستحالة العقلية لعودة العظم الرميم للحياة‪ ،‬كما ق‪4‬ال تع‪4‬الى ض‪4‬اربا المث‪4‬ل ببعض‪4‬هم‪َ ﴿:‬و َ‬
‫‪ )(1‬عن أبي بن كعب‪ 4‬قال‪ :‬قال رسول هللا ‪(:‬يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب هللا معك أعظم؟)‪ ،‬قال قلت‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬ق‪44‬ال‪( :‬ي‪44‬ا أب‪44‬ا المن‪44‬ذر‬
‫‪4‬و ْال َح ُّي ْالقَيُّو ُم ﴾ (البق‪44‬رة‪ :‬من اآلية‪ ،)255‬فض‪44‬رب في ص‪44‬دري وق‪44‬ال‪( :‬ليهن‪44‬ك العلم ي‪44‬ا أب‪44‬ا‬
‫أتدري أي آية من كتاب هللا معك أعظم؟) قال‪ :‬قلت‪ ﴿:‬هَّللا ُ ال ِإلَهَ ِإاَّل هُ‪َ 4‬‬
‫المنذر) رواه مسلم‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫ظا َم َو ِه َي َر ِمي ٌم﴾ (يّـس‪)78:‬‬ ‫ال َم ْن يُحْ ِيي ْال ِع َ‬ ‫خَل َقهُ َق َ‬ ‫َون َِس َي ْ‬
‫والقرآن الكريم ـ لينفي هذه الشبهة‪ ،‬ويرفع هذا االلتباس ـ ال يتكلف كالما عقلي‪4‬ا جاف‪4‬ا ك‪4‬الكالم ال‪4‬ذي‬
‫يتعمده الفالسفة‪ ،‬بل يكتفي بأمرنا برفع أبصارنا وحواسنا للنظر إلى األرض الخاشعة كيف تتحول بالماء‬
‫َ‪4‬ز ْت‬ ‫‪4‬اء ا ْهت َّ‬ ‫زَلنَ‪4‬ا عَ َل ْي َه‪4‬ا ْال َم َ‬
‫خَاش‪َ 4‬ع ًة َف‪ِ 4‬إ َذا َأ ْن ْ‬‫رْض ِ‬ ‫َ‪4‬رى اأْل َ َ‬ ‫الرباني إلى جنة من جنان الحياة‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِم ْن آ َيا ِت ِه َأ َّنكَ ت َ‬
‫اء‬ ‫الس ‪َ 4‬م ِ‬ ‫‪4‬ز َل ِمنَ َّ‬ ‫َو َر َب ْت ِإ َّن ا َّل ِذي َأحْ َياهَا َل ُمحْ ِيي ْال َموْ تَى ِإ َّن ُه عَ َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ ﴾ (فصلت‪ ،)39 :‬وقال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬والَّ ِذي َن‪َّ 4‬‬
‫‪4‬اح َفتُ ِث‪44‬يرُ‬ ‫َما ًء ِب َقد ٍَر َفأَ ْنشَرْ نَا ِب ِه َب ْل َد ًة َميْتاً َك َذ ِلكَ تُ ْخ َرجُونَ ﴾ (الزخرف‪ ،)11 :‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬وهَّللا ُ الَّ ِذي َأرْ َس‪َ 4‬ل الرِّ َي‪َ 4‬‬
‫ض َبعْ َد َموْ ِت َها َك َذ ِلكَ ال ُّن ُشورُ﴾ (فاطر‪)9:‬‬ ‫ت َفأَحْ َي ْينَا ِب ِه اأْل َرْ َ‬
‫َس َحاباً َف ُس ْقنَاهُ ِإ َلى َب َل ٍد َم ِّي ٍ‬
‫أو يرشدهم إلى استعادة تذكر ما سبق من النشأة األولى‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬قُلْ يُحْ ِيي َها الَّ ِذي َأ ْن َشأَهَا َأ َّو َل َم‪44‬رَّ ٍة‬
‫ق َع ِلي ٌم﴾ (يّـس‪)79 :‬‬ ‫َوهُ َو ِب ُكلِّ ْ‬
‫خَل ٍ‬
‫خَلق‪4‬اً‬ ‫ظام‪4‬اً َورُ َفات‪4‬اً َأ ِإنَّا َل َم ْبعُوثُ‪44‬ونَ ْ‬ ‫ويخاطب الذين قالوا ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـ‪َ ﴿:‬أ ِإ َذا ُكنَّا ِع َ‬
‫ار ًة‬ ‫‪4‬وا ِح َج‪َ 4‬‬ ‫َج ِديداً ﴾ (االسراء‪ ،)49 :‬بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء شاءوا مما يتعتقدون قوته‪ ﴿:‬قُل ُكونُ‪ْ 4‬‬
‫ور ُك ْم ﴾(االس‪44‬راء‪ ،)51 -50 :‬ف‪44‬إذا بقيت ح‪44‬يرتهم حينه‪44‬ا ويقول‪44‬ون‪َ ﴿:‬من‬ ‫ص‪ُ 4‬د ِ‬ ‫خَلقاً ِّم َّما َي ْكبُرُ ِفي ُ‬ ‫َأوْ َح ِديداً َأوْ ْ‬
‫‪4‬ر ُك ْم َأ َّو َل‬ ‫ط‪َ 4‬‬‫‪4‬ل الَّ ِذي َف َ‬ ‫ي ُِعي ُدنَا ﴾‪ ،‬فإن الجواب القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مب‪44‬دأ خلقهم‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪4‬الى‪ ﴿:‬قُ‪ِ 4‬‬
‫َمرَّ ٍة ﴾‬
‫وحينذاك يب‪4‬دل ه‪4‬ؤالء الغ‪4‬افلون عن كن‪4‬وز المع‪4‬ارف المخب‪4‬أة في الس‪4‬موات واألرض الموض‪4‬وع‪،‬‬
‫فيسألون عن موعد ما ال يؤمنون به‪،‬وكأن ع‪4‬دم تحدي‪4‬د الموع‪4‬د ه‪4‬و ال‪4‬دليل على م‪4‬ا ينكون‪4‬ه‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪:‬‬
‫رُؤو َسه ُْم َو َيقُولُونَ َمتَى هُ َو ُقلْ َع َسى َأن َي ُكونَ َق ِريباً﴾ (االسراء‪)51 :‬‬ ‫﴿ َف َسيُ ْن ِغضُونَ ِإ َل ْيكَ ُ‬
‫أما صعوبة تحقيق ذلك‪ ،‬فالقرآن الكريم يدل عليه ب‪4‬النظر في الس‪4‬موات واألرض‪ ،‬فيس‪4‬تدل بالق‪4‬درة‬
‫‪4‬اد ٍر عَ َلى‬ ‫ت َواأْل َ َ‬
‫رْض ِب َق‪ِ 4‬‬ ‫ْس ا َّل ِذي خَ َلقَ الس ََّم َاوا ِ‬ ‫على النشأة الثانية بقدرته تعالى على النشأة األولى‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َو َلي َ‬
‫َأ ْن َي ْخ ُلقَ ِم ْث َله ُْم َب َلى َو ُه َو ْالخَ اَّل ُق ْال َع ِل ُيم﴾ (يّـس‪)81 :‬‬
‫خَل‪4‬قَ ُث َّم‬ ‫هَّللا ْال ْ‬
‫ْف ُيب ِْدئُ ُ‬ ‫فكل شيء يسير على هللا‪ ،‬والكون كله يدل على ذلك اليسر‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َو َل ْم َي َروْا َكي َ‬
‫ق َج ِد ٍيد﴾ ( ّق‪15 :‬‬ ‫خَل ٍ‬ ‫س ِم ْن ْ‬ ‫ق اأْل َ َّو ِل َبلْ ُه ْم ِفي َل ْب ٍ‬ ‫خَل ِ‬ ‫هَّللا َي ِسيرٌ ﴾ (العنكبوت‪ ،)19 :‬وقال تعالى‪َ ﴿:‬أ َف َع ِيينَا ِب ْال ْ‬ ‫ي ُِعي ُد ُه ِإ َّن َذ ِلكَ عَ َلى ِ‬
‫)‬
‫ويرد على غالظ القلوب من بني إسرائيل الذي صورت لهم عق‪4‬ولهم الغارق‪4‬ة في أوح‪4‬ال الم‪4‬ادة أن‬
‫ت‬ ‫الس‪َ 4‬م َاوا ِ‬ ‫هَّللا ا َّل ِذي خَ َل‪4‬قَ َّ‬ ‫‪4‬روْا َأ َّن َ‬ ‫هللا ـ تعالى عما يقولون ـ يلحقه العياء‪ ،‬فرد عليهم تعالى في قوله تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬أ َو َل ْم َي َ‬
‫خَل ِق ِه َّن ِب َقا ِد ٍر عَ َلى َأ ْن يُحْ ِي َي ْال َموْ تَى َب َلى ِإ َّن ُه عَ َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َق ِديرٌ ﴾ (االحقاف‪)33 :‬‬ ‫عْي ِب ْ‬
‫رْض َو َل ْم َي َ‬‫َواأْل َ َ‬
‫وهذه النظرة العرفانية لسطور المكونات تكسبها من الجمال م‪4‬ا ال يكس‪4‬بها أي وص‪4‬ف بش‪4‬ري‪ ،‬فال‬
‫مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل‪ ،‬فيحزن ل‪4‬ذبولها بق‪4‬در م‪4‬ا س‪4‬ره تفتحه‪4‬ا‪ ،‬وبين من‬
‫يرى في ابتسام الزهرة لطف هللا ورحمته وجماله‪.‬‬
‫وقد ذكر النورسي الفرق في آثار النظرة العرفانية والن‪44‬اظرة الغافل‪44‬ة للك‪44‬ون بقول‪44‬ه‪ (:‬ثم إن اإليم‪44‬ان‬
‫أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أراني أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفل‪44‬ة‪،‬‬
‫ظن في بادئ األمر ‪ -‬بل إنه‪4‬ا ن‪4‬وع من رس‪4‬ائل رباني‪4‬ة ومك‪4‬اتيب‬ ‫ال تتدحرج هكذا في غياهب العدم ‪ -‬كما ّ‬
‫صمدانية‪ ،‬وصحائف نقوش لألسماء السبحانية قد أت ّمت مهامها‪ ،‬وأفادت معانيه‪44‬ا‪ ،‬وأخلفت عنه‪44‬ا نتائجه‪44‬ا‬

‫‪100‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫في الوجود‪ ،‬فأعلمني اإليمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين)‬
‫وشبه عبور المؤمن للكون الحسي الذي يستوي في النظر إليه العارف والغافل‪ ،‬بالنظر إلى المرآة‪،‬‬
‫فهي من حيث أنها زجاجة‪ ،‬نرى مادتها الزجاجية‪ ،‬وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا‪ ،‬بينما إن كان‬
‫القصد من النظر الى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها‪ ،‬فالصورة تتوضح أمامنا بينما يبقى زجاج المرآة‬
‫أمراً ثانوياً‪.‬‬
‫وقد وضع اصطالحين لذلك‪ ،‬ليوضح من خاللها النظرة القرآني‪44‬ة العرفاني‪44‬ة للك‪44‬ون‪ ،‬اس‪44‬تفادهما من‬
‫اصطالحات النحويين هما ( المعنى االسمي للكون‪ ،‬والمعنى الح‪4‬رفي ل‪4‬ه‪ ،‬فاالس‪4‬م م‪4‬ا دل على مع‪4‬نى في‬
‫نفسه‪ ،‬أما الحرف فهو الذي‪ :‬دلّ على معنى في غيره‪.‬‬
‫والنظرة القرآنية اإليمانية إلى الموجودات تجعلها جميعا حروفاً‪ ،‬تعبّر عن معنى في غيره‪44‬ا‪ ،‬وه‪44‬ذا‬
‫المعنى هو تجليات االسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم المتجلية على الموجودات‪.‬‬
‫وكما أن الكون من حيث صورته المادية يحتوي على عناص‪4‬ر مح‪4‬ددة تتك‪4‬ون منه‪4‬ا جمي‪4‬ع أش‪4‬كال‬
‫الموجودات‪ ،‬ويسمون الجدول الذي يحوي هذه العناصر بالجدول الدوري‪ ،‬فبمثل ذلك يتح‪44‬دث الع‪44‬ارفون‬
‫عما يمكن تسميته بالجدول األسمائي للكون‪.‬‬
‫وهذا الج‪4‬دول يس‪4‬تخلص ص‪4‬فات هللا من خالل أش‪4‬كال المكون‪4‬ات وأن‪4‬واع واختالف ت‪4‬دبيرها‪ ،‬وق‪4‬د‬
‫شرح النورسي بعض ما يرتبط بهذا الجدول بقوله‪ (:‬إن في كل شئ وجوهاً كثيرة جداً متوجهة ‪ -‬كالنوافذ‬
‫‪ -‬الى هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬بمضمون اآلية الكريمة ﴿ َو ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل يُ َسبِّحُ ِب َح ْم ِد ِه ﴾)(االس‪44‬راء‪ )44 :‬إذ أن‬
‫حقائق الموجودات وحقيقة الكائنات تستند إلى االسماء اإللهية الحسنى‪ ،‬فحقيقة كل شئ تستند الى اسم من‬
‫االسماء أو إلى كثير من االسماء‪ .‬وأن االتقان الموجود في األشياء يستند إلى اسم من األسماء) (‪)2‬‬
‫ويضرب بعض األمثلة على ذلك بالعلوم المادية ال‪44‬تي تنقلب به‪44‬ذه النظ‪44‬رة إلى عل‪44‬وم روحي‪44‬ة‪ ،‬فعلم‬
‫الحكمة الحقيقي يستند إلى اسم هللا (الحكيم)‪ ،‬وعلم الطب يستند إلى اسم هللا (الشافي)‪ ،‬وعلم الهندسة يستند‬
‫إلى اسم هللا (المق ّدر)‪ ،‬وهكذا كل العلوم تستند الى األسماء الحسنى تبدأ منها‪ ،‬وتنتهي إليها‪.‬‬
‫ولهذا اتفق العارفون على أن حقائق األشياء‪ ،‬إنما هي األسماء اإللهية الحسنى‪ ،‬أم‪44‬ا ماهي‪44‬ة األش‪44‬ياء‬
‫فهي ظالل تلك الحقائق‪..‬‬
‫ً‬
‫قال الشيخ عبد السالم بن مشيش مخاطبا مريده الشيخ أبا الحسن الشاذلي في وصية له‪ (:‬حدد بصر‬
‫اإليمان تجد هللا تعالى في كل شيء‪ ،‬وعند كل شئ‪ ،‬وقبل كل شئ‪ ،‬وبعد كل شئ‪ ،‬وفوق كل ش‪44‬ئ‪ ،‬وتحت‬
‫كل شيء‪ ،‬قريباً من كل شئ‪ ،‬ومحيطاً بكل شئ‪ ،‬بقرب هو وصفه‪ ،‬وبحيطة هي نعته‪ ،‬وعد عن الظرفي‪44‬ة‬
‫والح‪44‬دود‪ ،‬وعن األم‪44‬اكن والجه‪44‬ات‪ ،‬وعن الص‪44‬حبة والق‪44‬رب في المس‪44‬افات‪ ،‬وعن ال‪44‬دور بالمخلوق‪44‬ات‪،‬‬
‫وامحق الكل بوصفه األول واآلخر والظاهر والباطن‪ ،‬وهو هو‪ ..‬كان هللا وال ش‪44‬ئ مع‪44‬ه‪ ،‬وه‪44‬و اآلن على‬
‫ما عليه كان)‬
‫وتشبيهنا القراءة األسمائية للك‪4‬ون بالج‪4‬دول ال‪4‬دوري للعناص‪4‬ر تش‪4‬بيه من حيث األس‪4‬س ال‪4‬تي يق‪4‬وم‬
‫عليه‪44‬ا كليهم‪44‬ا‪ ،‬ف‪44‬الكون من حيث تركيب‪44‬ه ي‪44‬تركب من تل‪44‬ك العناص‪44‬ر‪ ،‬ومن حيث أسس‪44‬ه يق‪44‬وم على تل‪44‬ك‬
‫األسماء‪.‬‬
‫أما من حيث الكم والمحدودية‪ ،‬فالفرق كبير بينهما‪ ،‬فعناصر الكون المادي‪44‬ة مح‪44‬دودة‪ ،‬ولكن حق‪44‬ائق‬
‫‪ )(1‬اللمعة السادسة والعشرون (رسالة الشيوخ)‬
‫‪ )(2‬الكلمة الثانية والثالثون‪.‬‬
‫‪101‬‬
‫ض‬‫األسماء الحسنى المستندة للمكونات غير محدودة‪ ،‬وإلى هذا اإلش‪4‬ارة بقول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َل‪4‬وْ َأنَّ َم‪4‬ا ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫يز َح ِكي ٌم﴾ (لقمان‪ )27 :‬فل‪44‬و أن‬ ‫ات هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ ع َِز ٌ‬ ‫ْحُر َما َن ِفد ْ‬
‫َت َك ِل َم ُ‬ ‫ِم ْن َش َج َر ٍة َأ ْقال ٌم َو ْال َبحْ رُ َي ُم ُّدهُ ِم ْن َبعْ ِد ِه َس ْب َعةُ َأب ٍ‬
‫جميع أشجار األرض جعلت أقالماً‪ ،‬وجعل البح‪4‬ر م‪4‬داداً وأم‪4‬د بس‪4‬بعة أبح‪4‬ر مع‪4‬ه‪ ،‬فكتبت به‪4‬ا كلم‪4‬ات هّللا‬
‫الدالة على عظمته وصفاته وجالله‪ ،‬لتكسرت األقالم ونفذ ماء البحر‪ ،‬ولو جاء أمثالها مدداً‪.‬‬
‫ولم تذكر السبعة من باب الحصر‪ ،‬وكيف يحصر ما ال نهاية له‪ ،‬بل ذكرت على وجه المبالغة‪ ،‬كما‬
‫‪4‬ات َربِّي َو َل‪4‬وْ ِج ْئنَ‪4‬ا ِب ِم ْث ِل‪ِ 4‬ه َم‪ 4‬دَداً﴾‬
‫ْ‪4‬ل َأ ْن َت ْن َف‪َ 4‬د َك ِل َم ُ‬ ‫ت َربِّي َل َن ِف َد ْال َبحْ‪ 4‬رُ َقب َ‬
‫قال تعالى‪ ﴿:‬قُلْ َلوْ َكانَ ْال َبحْ رُ ِمدَاداً ِل َك ِل َما ِ‬
‫(الكهف‪)109 :‬‬
‫ولهذا يختل‪4‬ف الع‪4‬ارفون المس‪4‬تمدون من بح‪4‬ار الك‪4‬ون في ق‪4‬راءة ح‪4‬روف الك‪4‬ون بحس‪4‬ب أح‪4‬والهم‬
‫ومراتبهم‪ ،‬فما يدفع هذا إلى الرجاء قد يدفع اآلخر إلى الخوف‪ ،‬ألن كل واحد منهم يالحظ في كل حين ما‬
‫ال يالحظ اآلخر‪ ،‬بل يالحظ في األوقات المختلفة المعارف المختلفة‪.‬‬
‫وكمثال على تقريب ذل‪4‬ك ـ وهلل المث‪4‬ل األعلى ـ م‪4‬ا نق‪4‬رؤه نحن من رؤي‪4‬ة ال‪4‬دموع‪ ،‬فق‪4‬د تع‪4‬بر عن‬
‫الفرح‪ ،‬وقد تعبر عن الحزن‪ ،‬وقد تعبر عن الخشوع الذي دعا إليه الرجاء‪ ،‬وقد تع‪4‬بر عن الخش‪4‬وع ال‪4‬ذي‬
‫دعا إليه الخوف‪ ..‬وقد تعبر عن أشياء كثيرة ال يمكن حصرها‪.‬‬
‫ويشير إلى هذا المعنى ما أخ‪4‬بر ب‪4‬ه رس‪4‬ول هللا ‪ ‬من أح‪4‬وال القيام‪4‬ة وأهواله‪4‬ا‪ ،‬حيث ( يجم‪4‬ع هّللا‬
‫األولين واآلخرين في صعيد واحد‪ ،‬يسمعهم الداعي وينفذهم البصر‪ ،‬وتدنو الش‪4‬مس فيبل‪4‬غ الن‪4‬اس من الغم‬
‫والكرب ما ال يطيقون وال يحتملون)‬
‫في ذلك الموقف يقول بعض الن‪4‬اس لبعض‪ :‬أال ت‪4‬رون م‪4‬ا أنتم في‪4‬ه مم‪4‬ا ق‪4‬د بلغكم‪ ،‬أال تنظ‪4‬رون من‬
‫يشفع لكم إلى ربكم؟‬
‫هّللا‬
‫فيبدأون ب‪4‬آدم ‪ ،‬فيقول‪4‬ون‪ :‬ي‪4‬ا آدم أنت أب‪4‬و البش‪4‬ر خلق‪4‬ك بي‪4‬ده‪ ،‬ونفخ في‪4‬ك من روح‪4‬ه‪ ،‬وأم‪4‬ر‬
‫المالئكة فسجدوا لك‪ ،‬فاشفع لنا إلى ربك أال ترى ما نحن فيه‪ ،‬أال ترى م‪44‬ا ق‪44‬د بلغن‪44‬ا؟ فيق‪44‬ول آدم‪ :‬ربي ق‪44‬د‬
‫غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله‪ ،‬ولن يغضب بعده مثله‪ ،‬وإن‪44‬ه ق‪44‬د نه‪4‬اني عن الش‪4‬جرة فعص‪44‬يت‪،‬‬
‫نفسي نفسي نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى نوح‪.‬‬
‫فيذهبون إلى نوح ‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا نوح أنت أول الرس‪44‬ل إلى أه‪44‬ل األرض‪ ،‬وق‪44‬د س‪44‬ماك هّللا عب‪44‬داً‬
‫شكوراً‪ ،‬اشفع لنا إلى ربك‪ ،‬أال ترى ما نحن فيه‪ ،‬أال ترى ما ق‪44‬د بلغن‪44‬ا؟ فيق‪44‬ول ن‪44‬وح‪ :‬إن ربي ق‪44‬د غض‪44‬ب‬
‫اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله‪ ،‬ولن يغضب بعده مثله قط‪ ،‬وإنه قد كان لي دع‪44‬وة دعوته‪44‬ا على ق‪44‬ومي‪،‬‬
‫نفسي نفسي نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى إبراهيم‪.‬‬
‫وهكذا يذهبون إلى إبراهيم ‪ ،‬فيقول‪ (:‬إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله‪ ،‬ولن‬
‫يغضب بعده مثله‪ ،‬نفسي نفسي نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى موسى)‬
‫فيقول موسى ‪ (:‬إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله‪ ،‬ولن يغض‪4‬ب بع‪4‬ده مثل‪4‬ه‪،‬‬
‫نفسي نفسي نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى عيسى)‬
‫فيقول عيسى ‪ (:‬إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله‪ ،‬ولن يغض‪44‬ب بع‪44‬ده مثل‪44‬ه‪،‬‬
‫نفسي نفسي نفسي‪ ،‬اذهبوا إلى غيري‪ ،‬اذهبوا إلى محمداً ‪) ‬‬
‫فيأتون محمداً ‪ ،‬فيقولون‪ :‬يا محمد أنت رسول هّللا وخاتم األنبياء‪ ،‬وق‪4‬د غف‪4‬ر هّللا ل‪4‬ك م‪4‬ا تق‪4‬دم من‬
‫ذنبك وما تأخر‪ ،‬فاشفع لنا إلى ربك‪ ،‬أال ترى ما نحن فيه‪ ،‬أال ترى ما قد بلغنا؟‬
‫‪102‬‬
‫عز وج‪4‬لَّ‪ ،‬ثم يفتح‬ ‫قال ‪ ‬في بيان ما يفعل ذلك اليوم‪ (:‬فأقوم فآتي تحت العرش‪ ،‬فأقع ساجداً لربي َّ‬
‫هّللا علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي‪ ،‬فيقال‪ :‬يا محم‪44‬د ارف‪44‬ع رأس‪44‬ك‬
‫وسل تعطه‪ ،‬واشفه تشفع‪ ،‬فأرفع رأس‪4‬ي‪ ،‬ف‪4‬أقول‪ :‬أم‪4‬تي ي‪4‬ا رب‪ ،‬أم‪4‬تي ي‪4‬ا رب‪ ،‬أم‪4‬تي ي‪4‬ا رب؟ فيق‪4‬ال‪ :‬ي‪4‬ا‬
‫محمد‪ ،‬أدخل من أمتك من ال حساب علي‪4‬ه من الب‪4‬اب األيمن من أب‪4‬واب الجن‪4‬ة‪ ،‬وهم ش‪4‬ركاء الن‪4‬اس فيم‪4‬ا‬
‫سوى ذلك من األبواب‪ ،‬ثم قال‪ :‬والذي نفس محمد بيده‪ ،‬إن ما بين المص‪4‬راعين من مص‪4‬اريع الجن‪4‬ة كم‪4‬ا‬
‫بين مكة وهجر‪ ،‬أو كما بين مكة وبصرى)(‪)1‬‬
‫ففي هذا الحديث إشارات جليلة إلى القراءات المختلفة ألفعال هللا‪ ،‬فبينما اقتصر نظر األنبي‪44‬اء عليهم‬
‫السالم ـ مع جاللتهم ـ في ذلك الحين ومع تلك األهوال على النظر إلى غض‪44‬ب هللا ع‪44‬رف رس‪44‬ول هللا ‪‬‬
‫أن ذلك الغضب يحمل معاني الرحمة األزلية‪ ،‬فقرأ رحمة هللا من خالل مظاهر الغضب‪ ،‬كما نقرأ رحم‪4‬ة‬
‫هللا بالغيث مع دوي الرعد‪.‬‬
‫وفي قوله ‪ (:‬ثم يفتح علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي)‬ ‫هّللا‬
‫دليل على عدم انحصار المعارف اإللهية‪.‬‬
‫وقد كانت هذه المعارف هي الحادي الذي حدا بيعقوب ‪ ‬إلى الطمأنينة ألمر هللا‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪44‬الى في‬
‫حكاية ما كان يقوله لهم قبل رجوع يوسف ‪َ ﴿:‬أ َل ْم َأقُلْ َل ُك ْم ِإ ِّني َأ ْع َل ُم ِمنَ هَّللا ِ َما ال تَعْ َل ُمونَ ﴾ (يوسف‪96 :‬‬
‫)‬
‫ويروي المفسرون عن حنة امرأة عم‪4‬ران‪ ،‬أنه‪4‬ا ك‪4‬انت ام‪4‬رأة ال تحم‪4‬ل‪ ،‬ف‪4‬رأت يوم‪4‬اً ط‪4‬ائراً ي‪4‬زق‬
‫فرخه‪ ،‬فاشتهت الولد فدعت هّللا تعالى أن يهبها ولداً‪ ،‬فاستجاب هّللا دعاءها‪.‬‬
‫فكانت قراءتها لرحمة هللا التي وهبت ذلك الطائر فرخه هي السر الذي ألهمها أن تدعو هللا‪.‬‬
‫وكأن هللا تعالى يبين من خالل المكونات قدراته المختلفة ووجوه تدبيره‪ ،‬لنفتقر إليه كم‪44‬ا يفتق‪44‬ر إلي‪44‬ه‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫فالتجليات التي تحملها المكونات ال نهاية لها‪ ،‬وكل واح‪4‬د يق‪4‬رأ بحس‪4‬ب اس‪4‬تعداده ومرتبت‪4‬ه وهمت‪4‬ه‪،‬‬
‫وسنذكر هنا بعض قراءات العارفين‪ ،‬ولكن قبل ذل‪44‬ك‪ ،‬ولالستش‪44‬هاد على بعض م‪44‬ا تحمل‪44‬ه المكون‪44‬ات من‬
‫حقائق األسماء الحسنى‪ ،‬نستشهد بذلك العارف باهلل ال‪4‬ذي آوت‪4‬ه الجب‪4‬ال والغاب‪4‬ات أيام‪4‬ا طويل‪4‬ة من عم‪4‬ره‬
‫اإلمام بديع الزمان النوسي‪ ،‬الذي جعل من رسائل النور مفاتيح لقراءة حروف الكون‪.‬‬
‫فقد ذكر أنه يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من األسماء على ظ‪44‬اهر ك‪44‬ل ذي حي‪44‬اة فحس‪44‬ب‪،‬‬
‫ولتقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواس‪4‬عة‪ ،‬استش‪4‬هد بالمث‪4‬ال الت‪4‬الي‪ ،‬وال‪4‬ذي نتص‪4‬رف في‪4‬ه من ب‪4‬اب‬
‫مراعاة االختصار بعض التصرف‪.‬‬
‫فذكر أنه لو أراد فنان بارع في التصوير والنحت رسم صورة زهرة فائقة الجم‪44‬ال‪ ،‬أو نحت تمث‪44‬ال‬
‫بديع‪ ،‬فإنه يبدأ أول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لهما‪ ،‬وهذا التعيين يتم بتنظيم‪ ،‬ويعمله بتق‪44‬دير‬
‫بعلم وبحكمة‪ ،‬لذا تح ُكم معاني العلم والحكم‪44‬ة ورا َء التنظيم‬ ‫يستند فيه إلى علم الهندسة‪ ،‬فيعيّن الحدود وفقه ٍ‬
‫والتحديد‪.‬‬
‫ثم إن تلك االعضاء التي ُعيّنت وفق العلم والحكمة أخذت صيغة الص‪4‬نعة المتقن‪4‬ة والعناي‪4‬ة الدقيق‪4‬ة‪،‬‬
‫لذا تحك ُم معاني الصنع والعناية وراء العلم والحكمة‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪103‬‬
‫وقابلية الحسن والزينة في الظهور يدل على أن ال‪4‬ذي يح‪4‬رك الص‪4‬نعة والعناي‪4‬ة ه‪4‬و إرادة التجمي‪4‬ل‬
‫والتحسين وقصد التزيين‪ ،‬فهما إذن يحكمان من وراء الصنعة والعناية‪.‬‬
‫وعندما يبدأ الفنان بإضفاء حالة التبسم لتمثاله‪ ،‬وشرع بمنح أوضاع حياتية لصورة الزه‪44‬رة‪ ،‬يك‪44‬ون‬
‫قد بدأ بفع َلي التزيين والتنوير‪ ،‬ويحركهما معنيا اللطف والكرم‪.‬‬
‫وهكذا‪ ..‬يحرك معاني الكرم واللطف‪ ،‬وم‪44‬ا وراءهم‪44‬ا مع‪44‬اني الت‪44‬ودد والتع‪44‬رف‪ ،‬أي تعري‪44‬ف نفس‪44‬ه‬
‫بمهارته وفنه‪ ،‬وتحبيبها الى اآلخرين‪.‬‬
‫وهذا التعريف والتحبيب آتيان من الميل إلى الرحمة وإرادة النعمة‪.‬‬
‫ومعاني الترحم والتحنن هذه‪ ،‬ال يسوقهما الى الظهور لدى ذلك المستغنى عن الن‪44‬اس‪ ،‬غ‪44‬ير م‪44‬ا في‬
‫ذاته من جمال معنوي وكمال معنوي يريدان الظهور‪ ،‬فأجمل ما في ذلك الجمال‪ ،‬وه‪4‬و المحب‪4‬ة‪ ،‬وأل‪4‬ذ م‪4‬ا‬
‫فيه وهو الرحمة‪ ،‬كل منها يريد إراءة نفسه بمرآة الصنعة‪ ،‬ويريد رؤية نفسه بعيون المشتاقين‪.‬‬
‫فالجمال والكمال محبوب لذاته‪ ( ،‬يحب نفسه أك‪4‬ثر من أي ش‪4‬ئ آخ‪4‬ر‪ ،‬حيث أن‪4‬ه حُس‪4‬ن وعش‪4‬ق في‬
‫ت من هذه النقطة‪ ..‬ولم‪4‬ا ك‪4‬ان الجم‪4‬ال يحب نفس‪4‬ه‪ ،‬فالب‪4‬د أن‪4‬ه يري‪4‬د‬ ‫الوقت نفسه‪ ،‬فاتحاد الحسن والعشق آ ٍ‬
‫رؤية نفسه في المرايا‪ ،‬فالنعم الموضوعة على التمثال‪ ،‬والثمرات اللطيف‪4‬ة المعلق‪4‬ة على الص‪4‬ورة‪ ،‬تحم‪4‬ل‬
‫لمع ًة براقة من ذل‪4‬ك الجم‪4‬ال المعن‪4‬وي ‪ -‬ك‪4‬ل حس‪4‬ب قابليت‪4‬ه ‪ -‬فتُظه‪4‬ر تل‪4‬ك اللمع‪4‬ات الس‪4‬اطعة نفس‪4‬ها الى‬
‫صاحب الجمال‪ ،‬والى اآلخرين معاً)(‪)1‬‬
‫فعلى منوال هذا المثال الذي أورده بديع الزمان تتم قراءة العارف للكون‪ ،‬ولألس‪44‬ماء الحس‪44‬نى ال‪44‬تي‬
‫تتجلى في مرآته‪ ،‬قال النورسي‪ (:‬وعلى غرار هذا المثال الذي ينظم الصانع الحكيم ـ وهلل المث‪44‬ل االعلى ـ‬
‫الجنة والدنيا والسموات واالرض والنباتات والحيوانات والجن واالنس والملك والروحانيات‪ ،‬أي بتعب‪44‬ير‬
‫موجز ينظم سبحانه جميع األشياء كليّها وجزئيها‪ ..‬ينظمها جميعاً بتجلي‪44‬ات أس‪4‬مائه الحس‪44‬نى ويعطي لك‪4‬ل‬
‫منها مقداراً معيناً حتى يجعله يستقرىء اسم‪:‬المقدر‪ ،‬المنظم‪ ،‬المصور) (‪)2‬‬
‫ففي النظر إلى زهرة واحدة جميلة صحائف كثيرة جداً من صحائف التعرف على هللا‪:‬‬
‫فصحيفة هيئة الشئ التي تبين شكله العام ومقداره‪ ،‬تلهج باسماء‪ :‬يا مصور يا مقدر يا منظم‪.‬‬
‫وصحيفة صور االعضاء المتباينة المنكشفة ضمن تلك الهيئة البسيطة للزهرة‪ ،‬أسماء كثيرة أمثال‪:‬‬
‫العليم‪ ،‬الحكيم‪.‬‬
‫وصحيفة إضفاء الحسن والزينة على األعضاء المتباينة بأنماط متنوع‪44‬ة من الحس‪44‬ن والزين‪44‬ة تكتب‬
‫في تلك الصحيفة أسماء كثيرة من امثال‪ :‬الصانع‪ ،‬البارئ‪.‬‬
‫وصحيفة الزينة والحسن البديع الموهوبان لتلك الزهرة تقرأ اسماء كثيرة امثال‪ :‬يا لطيف‪ .‬يا كريم‪.‬‬
‫وصحيفة تعليق ثمرات لذيذة على تلك الزهرة يجعالن تلك الصحيفة‪ ،‬تستقرئ اسماء كثير ًة أمث‪44‬ال‪:‬‬
‫يا ودود يا رحيم يا منعم‪.‬‬
‫وصحيفة اإلنعام واإلحسان تقرأ أسماء أمثال‪ :‬يا رحمن يا حنان‪.‬‬
‫وصحيفة ظهور لمعات الحسن والجمال الواض‪4‬حة في تل‪4‬ك النعم تكتب وتق‪4‬رأ اس‪4‬ماء‪ :‬ي‪4‬ا جمي‪4‬ل ذا‬
‫الكمال يا كامل ذا الجمال‪.‬‬
‫فهذه زهرة واحدة تلهج بجميع هذه المعارف التي تحتوي من األعماق ما ال حدود له‪ ،‬ف‪4‬إلى أي ح‪4‬د‬
‫‪ )(1‬الكلمة الثانية والثالثون‪.‬‬
‫‪ )(2‬الكلمة الثانية والثالثون‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫من السمو والكلية تستقرىء جميع االزهار‪ ،‬وجميع ذوي الحياة والموجودات االسماء الحسنى اإللهية‪.‬‬
‫***‬
‫وهذه القراءة التي يتنعم به‪4‬ا الع‪4‬ارفون ال تك‪4‬ون من ط‪4‬رف واح‪4‬د‪ ،‬كم‪4‬ا هي الع‪4‬ادة في جمي‪4‬ع كتب‬
‫الدنيا‪ ..‬حيث يكون الكتاب مفتوحا‪ ،‬وعين القارئ هي التي تكد لترى ما تنطق به الحروف‪.‬‬
‫فكتاب هللا الذي يسمونه صامتا نطق عند العارفين‪ ..‬فصاحت كل ذرة تعرفهم بحقيقتها وانتمائها‪..‬‬
‫يقول الغزالي‪ (:‬بل أرباب القلوب والمشاهدات قد أنط‪4‬ق هللا تع‪4‬الى في حقهم ك‪4‬ل ذرة في الس‪4‬موات‬
‫واألرض بقدرته التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبـيحها هلل تع‪4‬الى وش‪44‬هادتها على نفس‪44‬ها‬
‫بالعجز بلسان ذلق تتكلم بال حرف وال صوت ال يسمعه الذين هم عن السمع معزولون)(‪)1‬‬
‫واستدرك للذين ال يفهمون من العبارات إال ظواهرها بقوله‪ (:‬ولست أعني به السمع الظ‪44‬اهر ال‪44‬ذي‬
‫فإن الحمار شريك فيه‪ ،‬وال قدر لما يشارك فيه البهائم‪ ،‬وإنما أريد به سمعاً يدرك ب‪44‬ه‬ ‫ال يجاوز األصوات‪ّ ،‬‬
‫كالم ليس بحرف وال صوت وال هو عربـي وال عجمي) (‪)2‬‬
‫وقد ذكر النورسي بعض ما يسمعه العارفون من هذه األحاديث‪ ،‬فقال‪ :‬إن كنت تريد أن تشاهد تل‪44‬ك‬
‫أرض مه‪4‬تزة ب‪4‬الزالزل‪ ،‬وأس‪4‬ألهما‪ :‬م‪4‬ا تق‪4‬والن؟‬ ‫ٍ‬ ‫بحر هائج‪ ،‬وإلى‬
‫الحقائق الرفيعة عن قرب‪ ،‬فاذهب إلى ٍ‬
‫ستسمع حتماً أنهما يناديان‪ :‬يا جليل‪ ..‬يا جليل‪ ..‬يا عزيز‪ ..‬يا جبار‪..‬‬
‫ثم اذهب إلى الفراخ والصغار من الحيوانات‪ ،‬التي تعيش في البحر أو على االرض‪ ،‬وال‪44‬تي تُ‪44‬ربى‬
‫في منتهى الشفقة والرحمة‪ ،‬وأسألها‪ :‬ما تقولين؟ البد أنها تترنم‪ :‬يا جميل‪ ..‬يا جميل‪ ..‬يا رحيم‪ ..‬يا رحيم‪.‬‬
‫ثم انصت الى السماء كيف تنادي‪ :‬يا جـليـل ذو الجمال!‬
‫وأعر سمعك إلى االرض كيف تردد‪ :‬يا جميل ذو الجالل‪.‬‬
‫وتصــ ّنت للحـيوانات كيـف تقــول‪ :‬يا رحمن يا رزاق‪.‬‬
‫مصور ي‪44‬ا‬
‫ّ‬ ‫واسأل الربيع‪ ،‬فستسمع منـه‪ :‬يا حـنان يا رحمـن يا رحـيم يا كريم يا لطيف يا عطوف يا‬
‫منور يـا محـسن يا مزيّن‪ ..‬وأمثالـها من األسماء الكثيرة‪.‬‬‫ّ‬
‫واسأل إنساناً هو حقاً إنسان وشاهد كيف يق‪4‬رأ جمي‪4‬ع االس‪4‬ماء الحس‪4‬نى‪ ،‬فهي مكتوب‪4‬ةٌ على جبهت‪4‬ه‪،‬‬
‫حتى اذا أنعمت النظر ستقرؤها أنت بنفسك‪.‬‬
‫وكأن الكون كله موسيقى متناغمة االلحان لذكر عظيم‪ .‬ف‪4‬امتزاج أص‪4‬غر نغم‪4‬ة وأوطئه‪4‬ا م‪4‬ع أعظم‬
‫نغمة وأعالها ينتج لحنا ً لطيفا ً مهيباً‪ ..‬وقس على ذلك)(‪)3‬‬
‫وانطالقا من هذه النظرة العرفانية يقب‪4‬ل الع‪4‬ارف باهلل على التع‪4‬رف على خل‪4‬ق هللا‪ ،‬فيبحث في ج‪4‬ل‬
‫العلوم والمعارف بنشوة عظيمة‪ ،‬وهو يرى ما سطر فيها من كلمات هللا‪.‬‬
‫وهكذا في الوقت ال‪4‬ذي ينحجب في‪4‬ه الغاف‪4‬ل ب‪4‬العلوم ال‪4‬تي يطلق‪4‬ون عليه‪4‬ا علوم‪4‬ا مادي‪4‬ة‪ ،‬يع‪4‬رج من‬
‫خاللها العارف إلى بحار معرفة هللا‪ ،‬لتصبح في نظره علوم الروح والقلب والسر‪.‬‬
‫قال الغزالي عند بيانه النشعاب العلوم المادية من القرآن الكريم‪ (:‬ثم هذه العلوم ما ع‪44‬ددناها وم‪44‬ا لم‬
‫نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن‪ ،‬فإن جميعها مغترفة من بحر واح‪44‬د من بح‪44‬ار معرف‪44‬ة هللا تع‪44‬الى‪،‬‬

‫‪ )(1‬اإلحياء‪.‬‬
‫‪ )(2‬اإلحياء‪.‬‬
‫‪ )(3‬الكلمة الرابعة والعشرون‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫وهو بحر األفعال)‬
‫ثم ذك‪44‬ر بعض النم‪44‬اذج عن ذل‪44‬ك بقول‪44‬ه‪ (:‬فمن أفع‪44‬ال هللا تع‪44‬الى وه‪44‬و بح‪44‬ر األفع‪44‬ال مثال الش‪44‬فاء‬
‫والمرض‪ ،‬كما قال هللا تعالى حكاية عن اب‪4‬راهيم ‪ ‬تع‪4‬الى‪ ﴿:‬واذا مرض‪4‬ت فه‪4‬و يش‪4‬فين ﴾‪ ،‬وه‪4‬ذا الفع‪4‬ل‬
‫الواح‪4‬د ال يعرف‪4‬ه اال من ع‪4‬رف الطب بكمال‪4‬ه‪ ،‬اذ ال مع‪4‬نى للطب اال معرف‪4‬ة الم‪4‬رض بكمال‪4‬ه وعالمات‪4‬ه‬
‫ومعرفة الشفاء وأسبابه) (‪)2‬‬
‫ومن النماذج تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان‪ ،‬والتي نص عليه‪4‬ا قول‪4‬ه تع‪4‬الى منبه‪4‬ا‬
‫ي‪4‬ز ْال َع ِل ِيم﴾‬
‫حُس‪َ 4‬باناً َذ ِل‪4‬كَ َت ْق‪ِ 4‬ديرُ ْال َع ِز ِ‬
‫‪4‬ر ْ‬ ‫س َو ْال َق َم َ‬ ‫ْ‪4‬ل َس‪َ 4‬كناً َو َّ‬
‫الش‪ْ 4‬م َ‬ ‫‪4‬ل اللَّي َ‬
‫اح َو َج َع َ‬ ‫ق اإْل ِ ْ‬
‫ص‪َ 4‬ب ِ‬ ‫إلى النظر فيهم‪4‬ا‪َ ﴿:‬ف‪4‬ا ِل ُ‬
‫(األنعام‪ )96 :‬وكل ما يرتبط بالفلك إال ( من عرف هيئات تركيب السموات واألرض‪ ،‬وهو علم برأسه)‬
‫ان َم‪4‬ا غَ‪4‬رَّ كَ ِب َربِّكَ‬ ‫ومثل ذلك تركيب اإلنسان ( فال يعرف كم‪4‬ال مع‪4‬نى قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬ي‪4‬ا َأ ُّي َه‪4‬ا اإْل ِ َ‬
‫نس‪ُ 4‬‬
‫ور ٍة َّما َش‪4‬اء َر َّك َب‪4‬كَ ﴾(االنفط‪4‬ار‪6 :‬ـ ‪ )8‬إال من ع‪4‬رف تش‪4‬ريح‬ ‫ص‪َ 4‬‬ ‫ْال َك ِر ِيم الَّ ِذي خَ َل َقكَ َف َس‪4‬وَّاكَ َف َع‪َ 4‬د َلكَ ِفي َأيِّ ُ‬
‫األعضاء من االنسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها) (‪)3‬‬
‫***‬
‫قد يقال ـ هنا ـ فما الميزة التي يستحقها العارف دون العامي‪ ،‬وكالهما يق‪44‬رأ الك‪44‬ون‪ ،‬وكالهم‪44‬ا يفهم‬
‫منه داللته على هللا‪.‬‬
‫وما الميزة التي يتميز بها العارف‪ ،‬والمتكلم يقرأمن صفحات الك‪4‬ون م‪4‬ا ال يق‪4‬رؤه الع‪4‬ارف‪ ،‬وع‪4‬الم‬
‫الطبيعة يعرف من معارف الكون ما ال يطلع عليه العارف‪.‬‬
‫وللجواب على ذلك نذكر ما تتميز ب‪44‬ه المعرف‪4‬ة عن العلم‪ ،‬ف‪4‬العلم اكتش‪44‬اف ق‪4‬د ي‪44‬دفع إلي‪4‬ه الفض‪4‬ول‪،‬‬
‫والمعرفة معايشة يدفع إليها الشوق واالحتراق‪.‬‬
‫ولهذا تختلف نظرة العارف عن العالم لألشياء‪ ،‬كما اختلفت نظرة يعقوب ‪ ‬وأبنائه حول قميص‬
‫يوسف‪.‬‬
‫فأبناء يعقوب ‪ ‬لم يروا في قميص يوسف سوى خيوط متجمعة ال تختلف عن أي خيوط‪ ،‬بينم‪44‬ا‬
‫رأي يعقوب ‪ ‬ـ المكتوي بنار العشق ـ في تلك الخيوط ابنه يوسف ‪ ،‬بل إنه شم رائحته من بعي‪44‬د‪،‬‬
‫يص‪4‬ي‬ ‫قال تعالى يحكي هذه المواقف المتناقضة نحو الشيء الواحد حاكيا قول يوس‪4‬ف ‪ْ ﴿:‬‬
‫{اذ َهبُ‪4‬وا ِب َق ِم ِ‬
‫‪4‬ال َأبُ‪4‬وهُ ْم ِإ ِّني أَل َ ِج‪ُ 4‬د‬
‫ت ْال ِع‪4‬يرُ َق َ‬ ‫صيرًا َو ْأتُو ِني ِبأَ ْه ِل ُك ْم َأجْ َم ِعينَ (‪َ )93‬و َل َّما َف َ‬
‫ص‪َ 4‬ل ِ‬ ‫ت َب ِ‬‫َه َذا َفأَ ْلقُو ُه َع َلى َوجْ ِه َأ ِبي َي ْأ ِ‬
‫ضاَل ِلكَ ْال َق ِد ِيم (‪( ﴾)95‬يوسف‪)95 – 93 :‬‬ ‫ون (‪َ )94‬قالُوا َتاهَّلل ِ ِإنَّكَ َل ِفي َ‬ ‫يح يُوسُفَ َلوْ اَل َأ ْن تُ َف ِّن ُد ِ‬ ‫ِر َ‬
‫وهذه اآليات الكريمة فيها إشارات جليلة ترتبط بذوق الع‪44‬ارف‪ ،‬والتفري‪44‬ق بين‪44‬ه وبين ذوق الع‪44‬امي‪،‬‬
‫فالقميص الذي يحمل رائحة يوسف ‪ ‬كالكون ال‪44‬ذي يحم‪44‬ل ختم خالق‪44‬ه ومبدع‪44‬ه‪ ،‬والعمى ال‪44‬ذي وج‪44‬ده‬
‫إخوة يوسف ‪ ‬هو عمى الع‪4‬امي عن رؤي‪4‬ة ذل‪4‬ك الختم‪ ،‬وع‪4‬ود البص‪4‬ر ليعق‪4‬وب ‪ ‬كع‪4‬ود البص‪4‬يرة‬
‫للعارف بعد اكتحاله برؤية الختم المطبوع على األشياء‪.‬‬
‫فاألشياء واحدة‪ ،‬ولكن الشأن ليس في وح‪4‬دة األش‪4‬ياء‪ ،‬وإنم‪4‬ا في النظ‪4‬ر إلى األش‪4‬ياء والمواق‪4‬ف من‬
‫األشياء‪.‬‬
‫فالفرق جليل بين من يوح‪4‬د هللا بنفي غ‪4‬ير هللا‪ ،‬وبين من يوح‪4‬ده باإلثب‪4‬ات المحض‪ ،‬فال ي‪4‬رى غ‪4‬يرا‬
‫‪ )(1‬جواهر القرآن‪.‬‬
‫‪ )(2‬جواهر القرآن‪.‬‬
‫‪ )(3‬جواهر القرآن‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫يحتاج إلى نفيه‪.‬‬
‫وفرق كبير بين من يرى الكون قائما بذاته‪ ،‬وبين من يراه ظلمة لوال ن‪4‬ور هللا‪ ،‬كم‪4‬ا ق‪4‬ال ابن عط‪4‬اء‬
‫أنارهُ ظهورُ الح ِّق فيه‪ ،‬فمن رأى الكونَ ولم يشه ُدهُ فيه أو عنده أو َق ْب َله أو َبعْ دَه‬ ‫ظ ْلمةٌ‪ ،‬وإنَّما َ‬
‫كله ُ‬ ‫الكون ُّ‬
‫ُ‬ ‫هللا‪(:‬‬
‫ب اآلثار)‬
‫المعارف بسُحُ ِ‬
‫ِ‬ ‫ت عنه شموسُ‬ ‫األنوار‪ ،‬وحُج َب ْ‬
‫ِ‬ ‫فقد َأ ْع َوزَ ُه وجو ُد‬
‫وف‪44‬رق كب‪44‬ير بين النظ‪44‬ر اإليم‪44‬اني إلى المكون‪44‬ات والنظ‪44‬ر الط‪44‬بيعي‪ ،‬ف‪44‬النظرة واح‪44‬دة ولكن القلب‬
‫المستقبل للنظرة مختلف‪ ،‬كاألرض تسقى بمطر واح‪4‬د لكن بعض‪4‬ها ينتج زه‪4‬را واآلخ‪4‬ر ش‪4‬وكا‪ ﴿:،‬ي ُْس‪َ 4‬قى‬
‫عْض ِفي اأْل ُ ُك ِل ﴾ (الرعد‪)4 :‬‬
‫عْض َها َع َلى َب ٍ‬
‫اح ٍد َونُ َفضِّلُ َب َ‬
‫اء َو ِ‬
‫ِب َم ٍ‬
‫وقد ذكر الغزالي الفرق بين الرؤيتين رؤية الموحد ورؤية الطبيعي بقوله‪ (:‬وكل ما نظرنا في‪44‬ه ف‪4‬إن‬
‫الطبـيعي ينظر فيه ويكون نظره سبب ضالله وشقاوته‪ ،‬والموفق ينظر فيه فيكون سبب هدايته وس‪4‬عادته‪.‬‬
‫وما من ذرّة في السماء واألرض إال وهللا سبحانه وتعالى يضل بها من يش‪4‬اء ويه‪4‬دي به‪4‬ا من يش‪4‬اء‪ ،‬فمن‬
‫نظر في هذه األمور من حيث إنها فعل هللا تعالى وصنعه استفاد من‪4‬ه المعرف‪4‬ة بجالل هللا تع‪4‬الى وعظمت‪4‬ه‬
‫واهتدى به‪ ،‬ومن نظر فيها قاصراً للنظر عليه‪44‬ا من حيث ت‪44‬أثير بعض‪44‬ها في بعض ال من حيث ارتباطه‪44‬ا‬
‫بمسبب األسباب فقد شقي وارتد) (‪)1‬‬
‫وقد ذكر النورسي الفرق بين الرؤيتين بتفريقه بين توحيدين‪:‬‬
‫توحيد العامي الذي يقول‪ (:‬الشريك له‪ ،‬ليست هذه الكائن‪4‬ات لغ‪4‬يره)‪ ،‬وه‪4‬ذا يك‪4‬ون عرض‪4‬ة لت‪4‬داخل‬
‫الغفالت‪ ،‬بل الضالالت في أفكار صاحبه‪.‬‬
‫وتوحيد حقيقي‪ ،‬هو توحيد العارف الذي يقول‪ (:‬هو هللا وحدَه له المل‪4‬ك‪ ،‬ول‪4‬ه الك‪4‬ون‪ ،‬ل‪4‬ه ك‪4‬ل ش‪4‬ئ)‬
‫فيرى سك ّته على كل شئ‪ ،‬ويقرأ خاتمه على كل شئ‪ ،‬فيثبته له اثباتاً حضورياً‪.‬‬
‫ومثل هذه التوحيد‪ ،‬ومثل هذه الرؤية اليمكن تداخل الضاللة واالوهام فيها أبدا(‪.)2‬‬
‫ولتقريب الصورة لألذهان نذكر هذا المثال الذي أبدع فيه بديع الزمان أيما إبداع فقد ذكر أن حاكم‪44‬ا‬
‫عظيما ذا تقوى وصالح وذا مهارة وإبداع أراد أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليل‪44‬ة‪،‬‬
‫فأراد أن يُل ِبس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله‪.‬‬
‫ال جمي‪4‬ع أن‪4‬واع الج‪4‬واهر النفيس‪4‬ة ليش‪4‬ير به‪4‬ا إلى‬ ‫فبدأ بكتابة القرآن الكريم كتابة عجيبة جداً مس‪4‬تعم ً‬
‫تنوع حقائقه العظيمة‪ ،‬فكتب بعض حروفه المجسمة بااللم‪4‬اس والزم‪4‬رد وقس‪4‬ماً منه‪4‬ا ب‪4‬اللؤلؤ والمرج‪4‬ان‬
‫ال رائع‪4‬اً وحس‪4‬ناً جالب‪4‬اً‬ ‫وطائفة منها بالجوهر والعقيق‪ ،‬ونوعاً منه‪4‬ا بال‪4‬ذهب والفض‪4‬ة‪ ،‬ح‪4‬تى أض‪4‬فى جم‪4‬ا ً‬
‫لالنظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها‪.‬‬
‫ثم عرض هذا القرآن البديع الكتابة‪ ،‬الرائع الجمال‪ ،‬على فيلسوف أجنبي ـ ونحن نش‪4‬ير ب‪4‬ه هن‪44‬ا إلى‬
‫النظر السطحي للعامي ـ وعلى عالم مسلم‪ .‬وأمرهما بأن يكتب كل منكما كتاباً حول حكمة هذا القرآن‪.‬‬
‫فكتب الفيلسوف كتاباً‪ ،‬وكتب العالم المسلم كتاباً‪.‬‬
‫أما كتاب الفيلسوف‪ ،‬فاقتصر على البحث عن نقوش الحروف وجماله‪44‬ا‪ ،‬وعالق‪44‬ة بعض‪44‬ها ببعض‪،‬‬
‫وأوضاع كل منها‪ ،‬وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها‪ ،‬ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك الق‪44‬رآن‬
‫العظيم قط‪ ،‬بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليل‪44‬ة‪ ،‬وإنم‪44‬ا حص‪44‬ر‬
‫نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق‪.‬‬
‫‪ )(1‬اإلحياء‪.‬‬
‫‪ )(2‬المثنوي العربي النوري‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫ومع هذا فهو مهندس بارع‪ ،‬ومصور فنان‪ ،‬وكيميائي حاذق‪ ،‬وصائغ ماهر‪ ،‬لذا فقد كتب كتابه ه‪44‬ذا‬
‫وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون‪.‬‬
‫أما العالم المسلم ـ ونحن نشير به هنا إلى العارف ـ فما إن نظ‪44‬ر إلى تل‪4‬ك الكتاب‪4‬ة البديع‪4‬ة ح‪4‬تى علم‬
‫أنه‪ :‬كتاب مبين وقرآن حكيم‪ ،‬فلم يصرف اهتمامه الى زينته الظاهرة‪ ،‬وال أشغل نفسه بزخ‪4‬ارف حروف‪4‬ه‬
‫البديعة‪ ،‬وانما توجه كليا ًـ وهو التواق للحق ـ الى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مم‪44‬ا‬
‫انشغل به الفيلسوف االجنبي بماليين االضعاف‪ ،‬فبحث عما تحت تلك النقوش الجميل‪4‬ة من حق‪4‬ائق س‪4‬امية‬
‫جليلة وأسرار نيرة بديعة‪ ،‬فكتب كتابه تفسيراً قيماً لهذا القرآن الحكيم‪ ،‬فأجاد وأتقن‪.‬‬
‫والنورسي يشير بالقرآن الجميل الزاهي إلى هذا الكون البديع‪ ،‬وبالحاكم المهيب إلى س‪44‬لطان االزل‬
‫واالبد تعالى‪ ،‬أما الرجالن‪ ،‬فاألول هو العامي ولو كان عالما بالعلوم القديمة والحديثة‪ ،‬وأم‪4‬ا اآلخ‪4‬ر‪ ،‬فه‪4‬و‬
‫العارف الذي تتلمذ على أنوار القرآن الكريم‪.‬‬
‫فالفرق كبير بين الرؤيتين‪ ،‬فالعارف ينظر إلى الكون ـ كم‪4‬ا يق‪4‬رأ الق‪4‬رآن الك‪4‬ريم ـ فـ ( ينظ‪4‬ر الى‬
‫الموجودات ‪ -‬التي كل منها حرف ذو مغزى ‪ -‬ب‪44‬المعنى الح‪44‬رفي‪ ،‬أي ينظ‪44‬ر اليه‪44‬ا من حيث داللته‪44‬ا على‬
‫أجمل خلقه! ما أعظم داللته على جمال المبدع الجلي‪44‬ل)‪ ،‬وه‪44‬ذا‬ ‫َ‬ ‫الصانع الجليل‪ .‬فيقول‪ :‬ما أحسنَ خلقه! ما‬
‫الجمال الحقيقي للكائنات‪.‬‬ ‫َ‬ ‫النظر هو الذي يكشف‬
‫أما العلم المجرد عن المعرفة فهو غارق في تزيينات حروف الموج‪44‬ودات‪ ،‬مبه‪44‬وت أم‪44‬ام عالق‪44‬ات‬
‫بعضها ببعض‪ ،،‬قد انصرف عن النظر عن قراءة حروف الكون الدال‪4‬ة على كاتبه‪4‬ا‪ ،‬ف‪4‬إذا رأى ش‪4‬يئا من‬
‫ال من‪ (:‬ما أجمـل خـلـق هذا)(‪)1‬‬ ‫جمال الكائنات قال‪ (:‬ما أجمل هذا) بـد ً‬
‫***‬
‫وألهمية هذا النوع من القراءة الكونية‪ ،‬ولعالقته الوثيقة باإليمان‪ ،‬بل ب‪4‬أرفع درج‪4‬ات اإليم‪4‬ان يث‪4‬ني‬
‫القرآن الكريم على المؤمنين الذين أمضوا حياتهم في قراءة رسائل هللا إليهم عبر مكوناته‪.‬‬
‫وأول هؤالء‪ ،‬وعلى رأسهم العارفون الذين يعبر عنهم القرآن الكريم ب‪4‬أولي األلب‪4‬اب(‪ ،)2‬وهم ال‪4‬ذين‬
‫خرج‪44‬وا من ظ‪44‬واهر المكون‪44‬ات إلى بواطنه‪44‬ا‪ ،‬ولم تحجبهم الص‪44‬ور المزخرف‪44‬ة للمكون‪44‬ات عن الح‪44‬روف‬
‫المسجلة فيها‪.‬‬
‫ْ‬
‫ولعل أعظم وصف قرآني لهم هو ما ورد في أواخر سورة آل عمران من قوله تعالى‪ِ ﴿:‬إ َّن ِفي خَل ِ‬
‫ق‬
‫ت أِل ُو ِلي اأْل َ ْل َب‪44‬ا ِ‬
‫ب الَّ ِذينَ َي‪4ْ 4‬ذ ُكرُونَ هَّللا َ ِق َيام‪4‬اً َوقُ ُع‪44‬وداً َو َع َلى‬ ‫الف اللَّ ْي‪ِ 4‬‬
‫‪4‬ل َوالنَّ َه‪ِ 4‬‬
‫‪4‬ار آَل ي‪44‬ا ٍ‬ ‫اخ ِت ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬
‫ض َو ْ‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس‪َ 4‬م َ‬ ‫َّ‬
‫ار﴾ (آل‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫ال ُس‪4‬ب َْحا َنكَ َف ِقنَ‪4‬ا عَ‪َ 4‬ذ َ‬ ‫‪4‬اط ً‬ ‫ض َربَّنَ‪4‬ا َم‪4‬ا خَ َل ْقتَ هَ‪َ 4‬ذا َب ِ‬ ‫َ‬
‫ت َواأْل رْ ِ‬ ‫اوا ِ‬
‫الس‪َ 4‬م َ‬‫‪4‬ق َّ‬ ‫ْ‬
‫جُ نُو ِب ِه ْم َو َي َت َف َّكرُونَ ِفي خَل ِ‬
‫عمران‪)191 :‬‬
‫وقد كان لهذه اآليات مح‪4‬ل خ‪4‬اص من قلب رس‪4‬ول هللا ‪ ‬كم‪4‬ا ت‪4‬روي كتب الس‪4‬نة‪ ،‬فق‪4‬د روي أن‬
‫رسول هّللا ‪ ‬كان يقرأ هذه اآليات وما يليها من آخر سورة آل عمران إذا قام من الليل لتهج‪44‬ده‪ ،‬ق‪44‬ال ابن‬
‫عباس‪ :‬بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول هّللا ‪ ‬مع أهلة ساعة ثم رق‪4‬د‪ ،‬فلم‪4‬ا ك‪4‬ان ثلث اللي‪4‬ل اآلخ‪4‬ر‬
‫ب﴾‬‫ت أِل ُو ِلي اأْل َ ْل َب‪4‬ا ِ‬
‫ار آَل ي‪4‬ا ٍ‬ ‫الف اللَّي ِْل َوالنَّ َه ِ‬
‫اخ ِت ِ‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬ ‫قعد فنظر إلى السماء فقال‪ِ ):‬إ َّن ِفي ْ‬
‫خَل ِ‬
‫(آل عمران‪ )190:‬اآلي‪4‬ات‪ ،‬ثم ق‪4‬ام فتوض‪4‬أ واس‪4‬تن‪ ،‬ثم ص‪4‬لى إح‪4‬دى عش‪4‬رة ركع‪4‬ة‪ ،‬ثم أذن بالل فص‪4‬لى‬

‫‪ )(1‬الكلمة الثانية عشرة‪.‬‬


‫‪ )(2‬نرى أن القرآن الكريم يعبر عن العارفين بمصطلح أولي األلباب‪.‬‬
‫‪108‬‬
‫ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح (‪.)3‬‬
‫وفي هذه اآليات برهان جلي على األثر الذي تتركه القراءة اإليماني‪4‬ة لح‪4‬روف المكون‪4‬ات‪ ،‬ف‪4‬القرآن‬
‫الكريم قدم الفكر على الذكر‪ ،‬وقدم القراءة على التس‪4‬بيح‪ ،‬ثم ذك‪4‬ر أن أول م‪4‬ا يقول‪4‬ه ه‪4‬ؤالء الع‪4‬ارفون‪ ،‬أو‬
‫أول ما يقرؤونه هو أن هذا الخلق العظيم لم يخلق عبثا‪.‬‬
‫ومن العبثية أن نقصر داللة كل المكونات على مجرد احتياجها إلى خالق‪ ،‬ثم ال نرحل من ذلك إلى‬
‫التعرف على هذا الخالق الذي دلت على وجوده هذه المكونات‪.‬‬
‫وهؤالء العارفون الذين يخبرنا القرآن الكريم عن أحوالهم بمجرد امتالء قلوبهم بالمعاني ال‪44‬تي ي‪44‬دل‬
‫عليه‪44‬ا الك‪44‬ون انفج‪44‬رت ألس‪44‬نتهم ب‪44‬دعاء هللا ومناجات‪44‬ه‪ ،‬وك‪44‬أنهم رأو الك‪44‬ون‪ ،‬وه‪44‬و يم‪44‬د يدي‪44‬ه باالفتق‪44‬ار‬
‫واالضطرار إلى هللا‪ ،‬فمدوا أيديهم معه‪.‬‬
‫وكل ما ورد من أدعيتهم يدل على قراءة متأنية عميقة لحروف المكونات‪.‬‬
‫اء َم‪44‬ا ًء َف َس‪َ 4‬ل َكهُ َي َن‪44‬ا ِبي َع‬ ‫زَل ِمنَ َّ‬
‫الس‪َ 4‬م ِ‬ ‫ومن اآليات المتحدثة عن هذا الصنف قوله تعالى‪َ ﴿:‬أ َل ْم ت ََر َأ َّن هَّللا َ َأ ْن َ‬
‫طاماً ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ َل‪ِ 44‬ذ ْك َرى أِل ُو ِلي‬ ‫ض ثُ َّم ي ُْخ ِرجُ ِب ِه زَرْ عاً ُم ْخ َت ِلفاً َأ ْل َوانُهُ ثُ َّم َي ِهيجُ َفت ََراهُ ُمصْ َفرّ اً ثُ َّم َيجْ َعلُهُ حُ َ‬ ‫ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ب﴾ (الزمر‪)21 :‬‬ ‫اأْل َ ْل َبا ِ‬
‫ونالحظ هنا ك‪4‬ذلك أن ه‪4‬ؤالء الع‪4‬ارفين ال يقتص‪4‬رون على النظ‪4‬ر إلى المكون‪4‬ات‪ ،‬ب‪4‬ل يبحث‪4‬ون في‬
‫حركاتها وسكناتها وعجيب ما يحدث لها من التحوالت‪ ،‬ليتعرفوا من خالل ذلك على هللا‪ ،‬وك‪44‬أن الحس‪44‬ين‬
‫كان ينظ‪4‬ر من مش‪4‬كاة ه‪4‬ذه اآلي‪4‬ة عن‪4‬دما ق‪4‬ال في مناجات‪4‬ه‪ (:‬إلـهي! ق‪4‬د علمت ب‪4‬اختالف اآلث‪4‬ار وتنقالت‬
‫األطوار‪ ،‬أن مرادك أن تتعرف إلي في كل شيء‪ ،‬حتى ال أجهلك في شيء)‬
‫ويلي ه‪44‬ؤالء ـ ال‪44‬ذين تعمق‪44‬وا في معرف‪44‬ة هللا نتيج‪44‬ة تعمقهم في معرف‪44‬ة الك‪44‬ون ـ أص‪44‬حاب العق‪44‬ول‬
‫الراجحة الذين يمدون أبصارهم لتأمل جميع المكونات في ال‪4‬بر والبح‪4‬ر والس‪4‬ماء واألرض‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪:‬‬
‫اس َو َم‪44‬ا‬ ‫ار َو ْالفُ ْل ِك الَّ ِتي تَجْ ِري ِفي ْال َبحْ‪ِ 4‬ر ِب َم‪44‬ا َين َف‪ُ 4‬ع النَّ َ‬ ‫ف اللَّي ِْل َوالنَّ َه ِ‬ ‫ض َو ْ‬
‫اخ ِتاَل ِ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬ ‫﴿ ِإ َّن ِفي ْ‬
‫خَل ِ‬
‫ب‬
‫الس‪َ 4‬حا ِ‬ ‫‪4‬اح َو َّ‬‫يف الرِّ َي‪ِ 4‬‬ ‫َص‪ِ 4‬ر ِ‬ ‫ث ِفي َها ِم ْن ُك‪44‬لِّ دَابَّ ٍة َوت ْ‬ ‫ض َبعْ َد َموْ ِت َها َو َب َّ‬ ‫اء َفأَحْ َيا ِب ِه اأْل َرْ َ‬
‫اء ِم ْن َم ٍ‬ ‫َأ َ‬
‫نزَل هَّللا ُ ِم ْن ال َّس َم ِ‬
‫ت ِل َقوْ ٍم َيعْ ِقلُونَ ﴾ (البقرة‪)164 :‬‬ ‫ض آَل َيا ٍ‬ ‫اء َواأْل َرْ ِ‬ ‫ْال ُم َس َّخ ِر َب ْينَ ال َّس َم ِ‬
‫ونالحظ في هذه اآلية الكريمة التفصيل في ذكر أنواع المكونات‪ ،‬ثم اإلخبار بأن هذه اآليات خاصة‬
‫بالذين يعقلون‪ ،‬وفي ذل‪4‬ك إش‪4‬ارة إلى الفري‪4‬ق الث‪4‬اني ممن يس‪4‬تفيدون من آي‪4‬ات هللا‪ ،‬وهم ال‪4‬ذين يس‪4‬تعملون‬
‫عقولهم في االستدالل على الخالق‪ ،‬وقد مثل هؤالء علماء التوحي‪44‬د والكالم‪ ،‬بخالف اآلي‪44‬ات الس‪44‬ابقة ال‪44‬تي‬
‫عبرت عن العقل باللب‪.‬‬
‫ومثل هذه اآلية ما ورد من تفاصيل قد ال يدرك أكثرها إال العلم‪44‬اء المختص‪44‬ون‪ ،‬والمع‪44‬بر عنهم في‬
‫ب َوزَرْ ٌع َون َِخي‪44‬لٌ‬ ‫ات ِم ْن َأ ْع َن‪44‬ا ٍ‬ ‫ات َو َجنَّ ٌ‬ ‫او َر ٌ‬ ‫ط ٌع ُمت ََج‪ِ 4‬‬ ‫ض ِق َ‬ ‫القرآن الكريم بالذين يعقلون‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ت ِل َق‪4‬وْ ٍم‬ ‫‪4‬ل ِإ َّن ِفي َذ ِل‪4‬كَ آَل ي‪4‬ا ٍ‬ ‫عْض ِفي اأْل ُ ُك ِ‬ ‫عْض‪َ 4‬ها َع َلى َب ٍ‬ ‫ض‪4‬لُ َب َ‬ ‫اح‪ٍ 4‬د َونُ َف ِّ‬ ‫ان ي ُْس‪َ 4‬قى ِب َم ٍ‬
‫‪4‬اء َو ِ‬ ‫ص‪ْ 4‬ن َو ٍ‬ ‫ان َو َغيْ‪4‬رُ ِ‬ ‫ص ْن َو ٌ‬ ‫ِ‬
‫َيعْ ِقلُونَ ﴾ (الرعد‪)4 :‬‬
‫ومن األصناف القارئة لكتاب الكون ص‪44‬نف المفك‪44‬رين‪ ،‬وهم ال‪4‬ذين يمزج‪44‬ون بين ال‪44‬رؤى المختلف‪4‬ة‬
‫اس‪َ 4‬ي‬ ‫‪4‬ل ِفي َه‪4‬ا َر َو ِ‬ ‫ض َو َج َع َ‬ ‫‪4‬و الَّ ِذي َم‪َّ 4‬د اأْل َرْ َ‬ ‫للكون ليستنتجوا منها المع‪4‬ارف اإللهي‪4‬ة‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى عنهم‪َ ﴿:‬وهُ َ‬
‫ت ِل َق‪4‬وْ ٍم َي َت َف َّكرُونَ ( ‪﴾ 4)3‬‬ ‫ار ِإ َّن ِفي َذ ِل‪4‬كَ آَل َي‪4‬ا ٍ‬ ‫ت َج َع َل ِفي َها زَ وْ َجي ِْن ْاث َني ِْن ي ُْغ ِشي اللَّي َْل النَّ َه َ‬ ‫َو َأ ْن َهارًا َو ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬

‫‪ )(3‬أصل الحديث رواه البخاري ومسلم‪.‬‬


‫‪109‬‬
‫(الرعد‪)3 :‬‬
‫ومن األصناف القارئة لكتاب الكون أصحاب الحواس المرهفة‪ ،‬أو الذين شفت حواسهم لت‪44‬درك م‪44‬ا‬
‫ْص‪4‬رًا ِإ َّن ِفي‬ ‫‪4‬ار ُمب ِ‬ ‫يختزن الظاهر من حقائق الباطن‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿:‬هُ َو الَّ ِذي َج َع َل َل ُك ْم اللَّي َْل ِل َت ْس ُكنُوا ِفي‪ِ 4‬ه َوالنَّ َه‪َ 4‬‬
‫ت ِل َقوْ ٍم َي ْس َمعُونَ (‪( ﴾)67‬يونس‪)67 :‬‬ ‫َذ ِلكَ آَل َيا ٍ‬
‫ض‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫الس‪َ 4‬م َ‬‫ق َّ‬ ‫خَل‪ُ 4‬‬‫ومن األص‪44‬ناف القارئ‪44‬ة لكت‪44‬اب الك‪4‬ون العلم‪44‬اء‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و ِم ْن آ َيا ِت‪ِ 4‬ه ْ‬
‫ت ِل ْل َعا ِل ِمينَ ﴾ (الروم‪)22 :‬‬ ‫الف َأ ْل ِس َن ِت ُك ْم َو َأ ْل َوا ِن ُك ْم ِإ َّن ِفي َذ ِلكَ آَل يا ٍ‬‫اخ ِت ُ‬ ‫َو ْ‬
‫اس َوال‪َّ 4‬د َوابِّ‬ ‫وقد قصر الخش‪4‬ية من هللا على ه‪4‬ؤالء‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى بع‪4‬د تع‪4‬داد آي‪4‬ات الك‪4‬ون‪َ ﴿:‬و ِمنَ النَّ ِ‬
‫يز َغفُورٌ﴾ (فاطر‪)28:‬‬ ‫ف َأ ْل َوانُهُ َك َذ ِلكَ ِإنَّ َما َي ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن ِع َبا ِد ِه ْال ُع َل َما ُء ِإ َّن هَّللا َ ع َِز ٌ‬ ‫َواأْل َ ْن َع ِام ُم ْخ َت ِل ٌ‬
‫اء َما ًء َفأَ ْخ َرجْ َن‪44‬ا‬ ‫زَل ِمنَ ال َّس َم ِ‬ ‫ومن األصناف القارئة لكتاب الكون المؤمنون‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬وهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َ‬
‫ت ِم ْن‬ ‫ان دَا ِن َي‪4‬ةٌ َو َجنَّا ٍ‬ ‫‪4‬و ٌ‬ ‫ط ْل ِع َها ِق ْن‪َ 4‬‬
‫خَضراً نُ ْخ ِرجُ ِم ْنهُ َح ّباً ُمت ََرا ِكباً َو ِمنَ النَّ ْخ ِل ِم ْن َ‬ ‫ِب ِه َن َباتَ ُكلِّ َش ْي ٍء َفأَ ْخ َرجْ نَا ِم ْنهُ ِ‬
‫ت ِل َق‪4‬وْ ٍم‬ ‫‪4‬ر َو َي ْن ِع‪ِ 4‬ه ِإ َّن ِفي َذ ِل ُك ْم آَل ي‪4‬ا ٍ‬ ‫‪4‬ر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َ‬ ‫ظ‪4‬رُوا ِإ َلى َث َم ِ‬ ‫ْ‪4‬ر ُمت ََش‪4‬ا ِب ٍه ا ْن ُ‬‫الز ْيتُونَ َوالرُّ َّمانَ ُم ْش‪َ 4‬ت ِبهاً َو َغي َ‬ ‫ب َو َّ‬ ‫َأ ْعنَا ٍ‬
‫ي ُْؤ ِمنُونَ ﴾ (األنعام‪)99:‬‬
‫ومن هذه األصناف القارئة المنيبون والمتقون‪ ،‬قال تعالى‪ُ ﴿:‬ه َو َّال ِذي ي ُِري ُك ْم آ َيا ِت ِه َو ُين َِّزلُ َل ُك ْم ِمنَ الس ََّم ِاء ِر ْزق ًا‬
‫َو َما َي َت َذ َّكرُ ِإاَّل َم ْن ُي ِنيبُ ﴾ (غافر‪)13 :‬‬
‫س‬ ‫لش‪ْ 4‬م ِ‬ ‫ومنهم العابدون الموحدون‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِم ْن آ َيا ِت ِه اللَّيْلُ َوالنَّ َهارُ َوال َّش ْمسُ َو ْال َق َم‪44‬رُ ال ت َْس‪4‬جُ ُدوا ِل َّ‬
‫َوال ِل ْل َق َم ِر َواسْجُ ُدوا هَّلِل ِ الَّ ِذي خَ َل َقه َُّن ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإيَّا ُه تَعْ بُ ُدونَ ﴾ (فصلت‪)37 :‬‬
‫ض‪ِ 4‬ل ِه‬ ‫‪4‬ار ِلت َْس‪ُ 4‬ك ُنوا ِفي‪ِ 4‬ه َو ِل َت ْبت َُغ‪4‬وا ِم ْن َف ْ‬ ‫حْم ِت ِه َج َع َل َل ُك ُم ال َّلي َْل َوال َّن َه َ‬
‫ومنهم الشاكرون الحامدون‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِم ْن َر َ‬
‫َو َل َع َّل ُك ْم ت َْش ُكرُونَ ﴾ (القصص‪)73 :‬‬
‫وق‪4‬د يجم‪4‬ع الق‪4‬رآن الك‪4‬ريم بين ه‪4‬ذه األص‪4‬ناف في نس‪4‬ق واح‪4‬د‪ ،‬كم‪4‬ا ورد في قول‪4‬ه تع‪4‬الى‪ِ ﴿:‬إ َّن ِفي‬
‫‪4‬ل‬ ‫ف اللَّ ْي‪ِ 4‬‬ ‫اخ ِتاَل ِ‬ ‫ات ِل َقوْ ٍم يُو ِقنُ‪44‬ونَ (‪َ )4‬و ْ‬ ‫خَل ِق ُك ْم َو َما َيب ُُّث ِم ْن دَابَّ ٍة آ َي ٌ‬ ‫ت ِل ْل ُم ْؤ ِم ِنينَ ( ‪َ )3‬و ِفي ْ‬ ‫ض آَل َيا ٍ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫ات ِل َقوْ ٍم َيعْ ِقلُ‪44‬ونَ ( ‪5‬‬ ‫اح آ َي ٌ‬ ‫ض َبعْ َد َموْ ِت َها َوتَصْ ِر ِ‬ ‫َ‬
‫ق َفأحْ َيا ِب ِه اأْل رْ َ‬ ‫َ‬ ‫اء ِم ْن ِر ْز ٍ‬ ‫نزَل هَّللا ُ ِم ْن ال َّس َم ِ‬ ‫َ‬ ‫َوالنَّ َه ِ‬
‫يف الرِّ َي ِ‬ ‫ار َو َما أ َ‬
‫) ﴾ (الجاثـية)‬
‫ونرى أن التأمل والتعمق في فواصل هذه اآليات يكشف عن معارف جليلة ترتبط بهذه األص‪44‬ناف‪،‬‬
‫ونوع المكونات التي تتأملها‪ ،‬وطريقة تأملها‪ ،‬وهو تصنيف أساسي له عالقة كبيرة بالسلوك‪ ،‬وقد نتح‪44‬دث‬
‫عنه في المناسبات المرتبطة به‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫اق َو ِفي أ ْنفُ ِس ِه ْم َحتَّى َي َت َبيَّنَ َله ُْم أنَّهُ ال َح ُّق‬‫َ‬ ‫ولهذه األصناف جميعا ورد قوله تعالى‪َ ﴿:‬سنُ ِري ِه ْم آ َيا ِتنَا ِفي اآْل َف ِ‬
‫ف ِب َربِّكَ َأنَّهُ َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء َش ِهي ٌد﴾ (فصلت‪ ،)53:‬فهذه اآليات موجهة لهؤالء‪ ،‬أو هي بعبارة أخ‪44‬رى‬ ‫َأ َو َل ْم َي ْك ِ‬
‫موجهة لجميع الناس‪ ،‬ولكن ال يستفيد منها غير هؤالء‪.‬‬
‫أما غيرهم من المعرضين عن آيات هللا الذين يقصرون نظرهم على شهواتهم‪ ،‬فال يرون في الكون‬
‫غير سوق لتغذية هذه الش‪4‬هوات‪ ،‬ف‪4‬القرآن الك‪4‬ريم يض‪4‬عهم في ص‪4‬نف المعرض‪4‬ين‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َج َع ْلنَ‪4‬ا‬
‫ت‬ ‫اوا ِ‬ ‫الس‪َ 4‬م َ‬‫عْرضُونَ ﴾ (االنبياء‪ ،)32 :‬وقال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و َك‪4‬أَي ِّْن ِم ْن آ َي‪ٍ 4‬ة ِفي َّ‬ ‫ال َّس َما َء َس ْقفاً َمحْ فُوظاً َوهُ ْم ع َْن آ َيا ِت َها ُم ِ‬
‫عْرضُونَ ﴾ (يوسف‪)105:‬‬ ‫ض َي ُمرُّونَ َع َل ْي َها َوهُ ْم َع ْن َها ُم ِ‬ ‫َواأْل َرْ ِ‬
‫وهؤالء هم األميون في عالم الحقائق‪ ،‬وإن قرأو جميع حروف العالم‪ ،‬وحللوا جميع لغاته‪ ،‬ف‪44‬العجب‬
‫كل العجب ـ كما يقول الغزالي ـ ممن يرى خط‪4‬اً حس‪4‬ناً أو نقش‪4‬اً حس‪4‬ناً على حائ‪4‬ط فيستحس‪4‬نه‪ ،‬فيص‪4‬رف‬
‫‪110‬‬
‫جميع همه إلى التفكر في النقاش والخطاط وأنه كيف نقشه وخطه وكيف اقتدر عليه وال ي‪44‬زال يس‪44‬تعظمه‬
‫في نفسه ويقول‪ :‬ما أحذقه وما أكمل صنعته وأحسن قدرته ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره‬
‫ومصوره فال تدهشه عظمته وال يحيره جالله وحكمته؟)(‪)1‬‬
‫ّ‬ ‫ثم يغفل عن صانعه‬
‫‪ 4‬ـ اليقين‪:‬‬
‫بعد القراءات المتواصلة للحروف التي تبرزها المكونات‪ ،‬والمعاني التي ترس‪44‬مها رس‪44‬ائلها اإللهي‪44‬ة‬
‫يطل العارف على واحة اليقين‪ ،‬كما يطل الظمآن على مورد الماء العذب الذي يسد له ك‪44‬ل ظم‪44‬أ‪ ،‬ويطفئ‬
‫له كل حرقة‪ ..‬فاليقين هو الغاية التي يصل إليها العارف بعد قراءته المتواصلة لسطور الكون‪.‬‬
‫ولهذا اعتبر القرآن الكريم تفصيل اآليات وتعدي‪4‬دها عل‪4‬ة لليقين وطريق‪4‬ا إلي‪4‬ه‪ ،‬فق‪4‬ال‪ ﴿:‬هَّللا ُ الَّ ِذي َر َف‪َ 4‬ع‬
‫‪4‬ر ُك‪4‬لٌّ َيجْ‪ِ 4‬ري أِل َ َج‪ٍ 4‬ل ُم َس‪ّ 4‬م ًى يُ‪َ 4‬دبِّرُ‬ ‫س َو ْال َق َم َ‬ ‫ش َو َس‪َّ 4‬خ َر َّ‬
‫الش‪ْ 4‬م َ‬ ‫ت ِب َغي ِْر َع َم ٍد ت ََروْ َن َها ثُ َّم ا ْست ََوى َع َلى ْال َعرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫اء َر ِّب ُك ْم تُو ِقنُونَ ﴾ (الرعد‪)2 :‬‬ ‫َّ‬
‫ت َل َعل ُك ْم ِب ِل َق ِ‬‫اأْل َ ْم َر يُ َفصِّلُ ا يا ِ‬
‫آْل‬
‫وألجل هذه القيمة التي يحتلها اليقين في س‪44‬لم الس‪44‬ير إلى هللا اعت‪44‬بره الق‪44‬رآن الك‪44‬ريم غاي‪44‬ة الغاي‪44‬ات‪،‬‬
‫ين﴾ (الحجر‪)99:‬‬ ‫اعبُ ْد َربَّكَ َحتَّى َي ْأ ِت َيكَ ْال َي ِق ُ‬ ‫فقال‪َ ﴿:‬و ْ‬
‫واعت‪4‬بر الغاي‪4‬ة ال‪4‬تي قص‪4‬دت من إش‪4‬هاد إب‪4‬راهيم ‪ u‬لملك‪4‬وت الس‪4‬موات واألرض هي وص‪4‬وله إلى‬
‫ض َو ِل َي ُكونَ ِمنَ ْال ُمو ِق ِنينَ ﴾ (األنع‪44‬ام‪:‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫درجة اليقين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و َك َذ ِلكَ نُ ِري ِإب َْرا ِهي َم َم َل ُكوتَ ال َّس َم َ‬
‫‪)75‬‬
‫فطريق اليقين الذي تحق‪4‬ق ب‪4‬ه إب‪4‬راهيم ‪ ‬ه‪4‬و م‪4‬ا رآه من ملك‪4‬وت الس‪4‬موات واألرض‪ ،‬والق‪4‬رآن‬
‫الكريم يعبر عن رؤيته بـ ﴿ نُ ِري ﴾‪ ،‬وفي ذلك إشارة إلى أن رؤية إبراهيم ‪ ‬كانت رؤية باهلل‪ ،‬ال بنفسه‪،‬‬
‫أي أنه صار باقيا باهلل بعد أن فنى عن نفسه‪.‬‬
‫ويحكي القرآن الكريم بعض ما أريه إبراهيم ‪ ‬وما قرأه‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿:‬ف َل َّما َج َّن عَ َل ْي ِه ال َّليْلُ َرأى َكوْ َكب ‪ً 4‬ا‬
‫‪44‬ال َل ِئ ْن َل ْم‬‫قال َه َذا َربِّي َف َل َّما َأ َف َل َق َ‬ ‫ال ال ُأ ِحبُّ اآْل ِف ِلينَ ﴾ (األنعام‪ ،)76 :‬ثم رأى القمر بازعا‪َ ﴿ ،‬‬ ‫ال َه َذا َربِّي َف َل َّما َأ َف َل َق َ‬ ‫َق َ‬
‫ال َه َذا َربِّي َه َذا َأ ْك َبرُ َف َل َّما‬ ‫َي ْه ِد ِني َربِّي أَل َ ُكون ََّن ِمنَ ْال َقوْ ِم الضَّا ِّلينَ ﴾ (األنعام‪ ،))77 :‬ثم رأى الشمس بازغة ﴿ َق َ‬
‫ال َيا َقوْ ِم ِإ ِّني َب ِري ٌء ِم َّما تُ ْش ِر ُكونَ ﴾ (األنعام‪)78 :‬‬ ‫ت َق َ‬ ‫َأ َف َل ْ‬
‫والكثير قد يتصور أن ما ذكره إبراهيم ‪ ‬هو من باب التمثيل واالحتيال إلرشاد قوم‪44‬ه‪ ،‬ونحن ال‬
‫ننكر هذا‪ ،‬وال ننكر كذلك أن هللا تعالى يصف لنا الطري‪4‬ق ال‪4‬ذي س‪4‬لكه إب‪4‬راهيم ‪ ‬للوص‪4‬ول إلى هللا‪ ،‬ال‬
‫إلى اعتقاد وجوده أو تفرده باأللوهية فحسب‪ ،‬وإنما إلى معان أخرى أعمق وأجل‪.‬‬
‫وال يرد على ذلك ما ذكره من ربوبية األشياء‪ ،‬فالربوبية غير األلوهية‪ ،‬وق‪4‬د ق‪4‬ال تع‪4‬الى حاكي‪4‬ا عن‬
‫الس‪4‬جْ ِن‬ ‫ث ِفي ِّ‬ ‫ان ِذ ْك َ‬
‫‪4‬ر َر ِّب ِه َف َل ِب َ‬ ‫ط ُ‬ ‫َاج ِم ْنهُ َم‪4‬ا ْاذ ُك‪4‬رْ ِني ِع ْن‪َ 4‬د َربِّكَ َفأَ ْن َس‪4‬ا ُه َّ‬
‫الش‪ْ 4‬ي َ‬ ‫ظ َّن َأنَّهُ ن ٍ‬ ‫ال ِللَّ ِذي َ‬ ‫يوسف ‪َ ﴿:‬و َق َ‬
‫ِبضْ َع ِس ِنينَ ﴾ (يوسف‪ ،)42 :‬ولهذا لم يقل إبراهيم ‪ (:‬هذا إلهي)‪ ،‬بل قال‪َ ﴿:‬ه َذا َربِّي ﴾‪ ،‬فلعل م‪4‬راده هن‪4‬ا‬
‫هو ما اعتقده من منافع األشياء‪ ،‬فلما أفلت تبين له عجزها‪ ،‬وأن هللا تعالى هو المتفرد بالنفع والضر(‪.)2‬‬
‫وألجل هذا المحل الرفيع لليقين في سلم الطريق إلى هللا أخبر هللا أن أئمة الهدى العارفين باهلل ال‪44‬ذين‬
‫جعلهم هللا نجوما لهداية الخلق هم الذين زاوجوا بين الص‪4‬بر واليقين‪ ،‬أو المجاه‪4‬دة والمعرف‪4‬ة ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪:‬‬
‫‪ )(1‬اإلحياء‪.‬‬
‫‪ )(2‬وقد أول بعضهم ذلك‪ ،‬فذكر أن المراد منه درجات ما كان يظهر إلبراهيم الخليل ‪ ‬في ترقيه‪ ،‬ففسر الك‪44‬وكب بأن‪44‬ه وص‪44‬ل إلى حج‪44‬اب من حجب‬
‫النور فعبر عنه بالكوكب‪ 4،‬ولم يرد هذه األجسام المضيئة‪ ،‬فإن آحاد العوام ال يخفى عليهم أن الربوبية ال تليق باألجسام بل يدركون ذل‪44‬ك بأوائ‪44‬ل نظ‪44‬رهم فم‪44‬ا ال‬
‫يضلل العوام ال يضلل الخليل ‪ ،‬انظر‪ :‬اإلحياء‪ ،1/337:‬وهو تأويل بعيد حكاه الغزالي عن بعضهم‪ ،‬فال يصح أن نع‪44‬دل بألف‪44‬اظ الق‪44‬رآن الك‪44‬ريم عن دالالته‪44‬ا‬
‫الظاهرة‪ ،‬إال أن يكون ذلك من باب اإلشارة‪ ،‬فال حرج فيه بشرط اإلقرار بظاهر المعنى‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫ص َبرُوا َو َكانُوا ِبآيا ِتنَا يُو ِقنُونَ ﴾ (السجدة‪)24:‬‬ ‫﴿ َو َج َع ْلنَا ِم ْنه ُْم َأ ِئ َّم ًة َي ْه ُدونَ ِبأَ ْم ِرنَا َل َّما َ‬
‫وآيات هللا بأنواعها المختلفة ال يفهمه‪4‬ا وال يص‪44‬دقها وال يق‪44‬درها ح‪4‬ق ق‪4‬درها س‪44‬وى الموق‪44‬نين‪ ،‬ق‪4‬ال‬
‫ت قُلُ‪44‬وبُه ُْم‬ ‫ال الَّ ِذينَ ال َيعْ َل ُمونَ َلوْ ال يُ َك ِّل ُمنَا هَّللا ُ َأوْ ت َْأ ِتينَا آ َيةٌ َك َذ ِلكَ َق َ‬
‫ال الَّ ِذينَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ْم ِم ْث َل َقوْ ِل ِه ْم ت ََش ‪4‬ا َب َه ْ‬ ‫تعالى‪َ ﴿:‬و َق َ‬
‫ت ِل َقوْ ٍم يُو ِقنُونَ ﴾ (البقرة‪)118 :‬‬ ‫َق ْد َبيَّنَّا اآْل يا ِ‬
‫‪4‬ات ِل ْل ُم‪4‬و ِق ِنينَ ﴾‬
‫ض آ َي ٌ‬ ‫ومن هذه اآليات آيات هللا الكونية المتجلي‪4‬ة في األرض‪ ،‬ق‪4‬ال تع‪4‬الى‪َ ﴿:‬و ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫خَل ِق ُك ْم َو َم‪44‬ا َيب ُُّث ِم ْن دَابَّ ٍة آ َي‪ٌ 4‬‬
‫‪4‬ات‬ ‫(الذريات‪ ،)20 :‬أو المتجلي في اإلنسان والكائنات الحية‪ ،‬قال تع‪44‬الى‪َ ﴿:‬و ِفي ْ‬
‫ِل َقوْ ٍم يُو ِقنُونَ ﴾ (الجاثـية‪ ،)4 :‬فكل هذه اآليات ال يدركها سوى الموقنين‪.‬‬
‫ومث‪4‬ل ذل‪4‬ك آي‪4‬ات هللا المس‪4‬تقبلية المرتبط‪4‬ة بمص‪4‬ير اإلنس‪4‬ان أومص‪4‬ير األرض ال ي‪4‬ؤمن به‪4‬ا غ‪4‬ير‬
‫اس َك‪44‬انُوا ِبآيا ِت َن‪44‬ا ال‬ ‫ض تُ َك ِّل ُمه ُْم َأ َّن النَّ َ‬ ‫الموقنين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ َذا َو َق‪َ 4‬ع ْال َق‪44‬وْ لُ َع َل ْي ِه ْم َأ ْخ َرجْ َن‪44‬ا َله ُْم دَابَّ ًة ِمنَ اأْل َرْ ِ‬
‫يُو ِقنُونَ ﴾ (النمل‪)82:‬‬
‫وحقائق القرآن التي هي بصائر البصائر ال يراها وال يعرفها وال يهتدي بها ويرحم غير الموق‪44‬نين‪،‬‬
‫اس َوهُدىً َو َرحْ َمةٌ ِل َقوْ ٍم يُو ِقنُونَ ﴾ (الجاثـية‪)20:‬‬ ‫صا ِئرُ ِللنَّ ِ‬‫قال تعالى‪َ ﴿:‬ه َذا َب َ‬
‫والمعارف المرتبطة باهلل ال يفهمها‪ ،‬أو يذعن لها‪ ،‬أو يستشعر سموها سوى الموق‪44‬نين‪ ،‬ق‪44‬ال تع‪44‬الى‪:‬‬
‫ض َو َما َب ْي َنهُ َما ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُمو ِق ِنينَ ﴾ (الدخان‪)7:‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫﴿ َربِّ ال َّس َم َ‬
‫وأحكام هللا ال ي‪4‬درك حكمه‪4‬ا‪ ،‬ويس‪4‬تكنه أس‪4‬رارها‪ ،‬ويع‪4‬رف وج‪4‬وه المن‪4‬افع والمص‪4‬الح فيه‪4‬ا س‪4‬وى‬
‫الموقنين‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿:‬أ َفحُ ْك َم ْال َجا ِه ِليَّ ِة َي ْب ُغونَ َو َم ْن َأحْ َس ُن ِمنَ هَّللا ِ حُ ْكماً ِل َق‪4‬وْ ٍم يُو ِقنُ‪4‬ونَ ﴾ (المائ‪4‬دة‪ ،)50 :‬واآلي‪4‬ة‬
‫تشير إلى أن إدراك الحسن المتغلغل في ثنايا األحكام ال يقلب صفحاته سوى الموقنين‪ ،‬ولعله ألجل هذا لم‬
‫يتصد للبحث في أسرار الشريعة ومقاصدها سوى من جمعوا بين العلم والتقوى‪ ،‬أو بين اليقين واإلرادة‪.‬‬
‫ولهذا كان ‪ ‬يرغبنا في أن نسأل هللا اليقين معتبرا إياه خ‪4‬يرا من العافي‪4‬ة‪ ،‬وكي‪4‬ف ال يك‪4‬ون ك‪4‬ذلك‪،‬‬
‫وهو عافية القلب‪ ،‬قال ‪ (:‬عليكم بالصدق‪ ،‬فإن‪4‬ه م‪4‬ع ال‪4‬بر‪ ،‬وهم‪4‬ا في الجن‪4‬ة‪ ،‬وإي‪4‬اكم والك‪4‬ذب فإن‪4‬ه م‪4‬ع‬
‫الفجور‪ ،‬وهما في النار‪ ،‬وسلوا هللا اليقين والمعاف‪4‬اة فإن‪4‬ه لم ي‪4‬ؤت أح‪4‬د بع‪4‬د اليقين خ‪4‬يرا من المعاف‪4‬اة‪ ،‬وال‬
‫تحاسدوا وال تباغضوا‪ ،‬وال تقاطعوا وال تدابروا‪ ،‬وكونوا عباد هللا إخوانا كما أمركم هللا) (‪)1‬‬
‫وفي ه‪4‬ذا الح‪4‬ديث إش‪44‬ارة ص‪44‬ريحة ب‪4‬أن اليقين من الم‪44‬واهب الرباني‪4‬ة ال‪4‬تي تت‪4‬نزل على من تحق‪44‬ق‬
‫بأسبابها‪ ،‬فأسباب اليقين كسبية وحقيقته وهبية‪.‬‬
‫وقد كان ‪ ‬يعلمنا أن ندعو هللا بأن يرزقنا اليقين‪ ،‬كهذا الدعاء الش‪4‬امل الج‪4‬امع الخاش‪4‬ع‪ (:‬اللهم إني‬
‫أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي‪ ،‬وتجمع بها أمري‪ ،‬وتلم بها شعثي‪ ،‬وتصلح بها غائبي‪ ،‬وترفع بها‬
‫شاهدي‪ ،‬وتذكي بها عملي‪ ،‬وتلهمني بها رش‪4‬دي‪ ،‬وت‪4‬رد به‪4‬ا ألف‪4‬تي‪ ،‬وتعص‪4‬مني به‪4‬ا من ك‪4‬ل س‪4‬وء‪ ،‬اللهم‬
‫أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر‪ ،‬ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا واآلخ‪44‬رة اللهم اقس‪44‬م لن‪44‬ا من‬
‫خشيتك م‪4‬ا يح‪4‬ول بينن‪4‬ا وبين معاص‪4‬يك‪ ،‬ومن طاعت‪4‬ك م‪4‬ا تبلغن‪4‬ا ب‪4‬ه جنت‪4‬ك‪ ،‬ومن اليقين م‪4‬ا يه‪4‬ون علين‪4‬ا‬
‫مصائب الدنيا‪ ،‬ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا‪ ،‬واجعله الوارث منا؛ واجع‪44‬ل ثأرن‪44‬ا على من‬
‫ظلمنا‪ ،‬وانصرنا على من عادانا‪ ،‬وال تجعل مصيبتنا في ديننا‪ ،‬وال تجعل الدنيا أكبر همنا وال مبلغ علمنا‪،‬‬
‫وال تسلط علينا من ال يرحمنا)(‪)2‬‬
‫فالرسول ‪ ‬يشير في ه‪4‬ذا ال‪4‬دعاء الج‪4‬امع إلى أن اليقين ه‪4‬و قات‪4‬ل الكف‪4‬ر‪ ،‬فيس‪4‬تحيل على من بل‪4‬غ‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد والبخاري في األدب وابن ماجة‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫درجة اليقين أن يتحول إلى الكفر‪ ،‬وأن اليقين كذلك قاتل األحزان‪ ،‬فهو الذي يهون مصائب ال‪44‬دنيا ويرف‪44‬ع‬
‫آالمها‪ ،‬كما قال ‪ (:‬ال ترضين أحدا بسخط هللا وال تحمدن أحدا على فضل هللا وال تذمن أحدا على ما لم‬
‫يؤتك هللا فإن ما رزق هللا ال يس‪4‬وقه إلي‪4‬ك ح‪4‬رص ح‪4‬ريص وال ي‪4‬رده عن‪4‬ك كراهي‪4‬ة ك‪4‬اره وإن هللا بعدل‪4‬ه‬
‫وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)(‪)1‬‬
‫وقد أخبر ‪ ‬أن األجور المع‪4‬دة لألعم‪4‬ال متوقف‪4‬ة على اليقين ق‪4‬ال ‪ (:‬إن هللا تع‪4‬الى ق‪4‬د اف‪4‬ترض‬
‫عليكم صوم رمضان‪ ،‬وسننت لكم قيامه‪ ،‬فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا ويقينا كان كفارة لم‪44‬ا مض‪44‬ى)‬
‫(‪)2‬‬
‫وفي نبوءاته ‪ ‬الغيبية الصادرة من حرصه ‪ ‬على ه‪44‬ذه األم‪4‬ة يخ‪4‬بر ‪ ‬عن الخط‪4‬ر المح‪44‬دق‬
‫بأمته الناتج عن ضعف اليقين‪ ،‬قال ‪ (:‬ما أخاف على أمتي إال ضعف اليقين)(‪)3‬‬
‫***‬
‫ومن هذه المنطلقات القرآنية والنبوية أجمع العارفون باهلل على أن اليقين هو البذرة التي تنبت منه‪44‬ا‬
‫جميع المحاسن التي ينضح بها العرفان‪.‬‬
‫وقد أجمع‪4‬وا على اعتب‪4‬اره الم‪4‬ركب ال‪4‬ذي يحم‪4‬ل الس‪4‬الكين إلى هللا‪ ،‬وبق‪4‬در س‪4‬المة الم‪4‬ركب يك‪4‬ون‬
‫الوصول‪ ،‬ولهذا ورد في وصية لقمان البنه‪ (:‬يا ب‪4‬ني ال يس‪4‬تطاع العم‪4‬ل إال ب‪4‬اليقين‪ ،‬وال يعم‪4‬ل الم‪4‬رء إال‬
‫بقدر يقينه‪ ،‬وال يقصر عامل حتى ينقص يقينه)‬
‫وقد قال أبو سعيد الخراز معبرا عن هذا الدور‪ (:‬العلم ما استعملك واليقين ما حمل‪44‬ك)‪ ،‬فل‪44‬وال اليقين‬
‫ما سار ركب إلى هللا وال ثبت ألحد قدم في السلوك إال به‪.‬‬
‫وقد أجمعوا كذلك على أن اليقين ال يساكن قلبا يسكن لغ‪4‬ير هللا‪ ،‬وق‪4‬د وق‪4‬ال ذو الن‪4‬ون‪( :‬اليقين ي‪4‬دعو‬
‫إلى قصر األمل وقصر األمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة وهي ت‪4‬ورث النظ‪4‬ر في الع‪4‬واقب)‪،‬‬
‫وقال‪ (:‬ثالثة من أعالم اليقين‪ :‬قلة مخالط‪4‬ة الن‪4‬اس في العش‪4‬رة وت‪4‬رك الم‪4‬دح لهم في العطي‪4‬ة والت‪4‬نزه عن‬
‫ذمهم عند المنع وثالثة من أعالمه أيضا النظر إلى هللا في كل شيء والرجوع إليه في كل أمر واالستعانة‬
‫به في كل حال)‪ ،‬وقال السري‪ (:‬اليقين سكونك عند جوالن الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيه‪4‬ا ال‬
‫تنفعك وال ترد عنك مقضيا)‪ ،‬وكل هذه التعاريف تدور حول التجرد المحض هلل‪.‬‬
‫وأجمعوا على أن الطريق لليقين هو التقوى‪ ،‬قال ابن عطاء‪( :‬على ق‪4‬در ق‪4‬ربهم من التق‪4‬وى أدرك‪4‬وا‬
‫من اليقين‪ ،‬وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباين‪44‬ة النفس فعلى ق‪44‬در مف‪44‬ارقتهم النفس وص‪44‬لوا إلى اليقين)‬
‫وهذا التعريف كالذي سبقه يدور حول توحيد الهمة المتوجهة هلل‪ ،‬فال يجتمع في قلب الم‪44‬وقن التوحي‪44‬د م‪44‬ع‬
‫الشرك‪.‬‬
‫ويشير الجنيد إلى أن اليقين ال يعني ما يتصوره البعض ـ ممن يش‪44‬حنون حي‪44‬اة الع‪44‬ارفين واألولي‪44‬اء‬
‫بالكرامات مع ما قد يالبسها من خرافات وأساطير ـ فالموقن ال يحتاج ألن يمشي على الماء ليثبت صحة‬
‫يقينه‪ (:‬قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا)‬
‫***‬
‫نتساءل بعد هذا عن سر كون اليقين هو الدرجة العليا ال‪4‬تي تص‪4‬ب فيه‪4‬ا ك‪4‬ل ال‪4‬درجات م‪4‬ع أن‪4‬ه من‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في الكبير وفيه خالد بن يزيد العمرى واتهم بالوضع‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه النسائي والبيهقي‪.‬‬
‫‪ )(3‬رواه الطبراني في األوسط والبيهقي‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫المعاني التي يفهمها الجميع‪ ،‬ويعيها الجميع‪ ،‬بل يدعيها الجميع‪ ..‬فأي فضل للعارفين بعد هذا؟‬
‫والجواب عن ذلك من خالل النصوص المقدسة هو أن اليقين درج‪4‬ات بعض‪4‬ها ف‪4‬وق بعض‪ ،‬وليس‬
‫مرادنا منها هنا إال أعالها‪ ،‬وهي درجة المقربين‪ ..‬وهم ـ أيضا ـ درجات بعضهم فوق بعض‪.‬‬
‫وأولى درجات اليقين التي يتحدث عنها العارفون هي الدرجة ال‪44‬تي تب‪44‬دأ من اإلدراك الت‪44‬ام لألش‪44‬ياء‬
‫‪4‬رى ِإ ِذ ْال ُمجْ ِر ُم‪44‬ونَ نَا ِك ُس‪4‬و‬
‫إدراكا مشابها إلدراك السمع والبصر‪ ،‬كما ق‪44‬ال تع‪44‬الى عن المج‪44‬رمين‪َ ﴿:‬و َل‪44‬وْ َت‪َ 4‬‬
‫ص‪4‬ا ِلحاً ِإنَّا ُمو ِقنُ‪4‬ونَ ﴾ (الس‪4‬جدة‪ ،)12:‬فق‪4‬د اعت‪4‬بروا‬ ‫وس ِه ْم ِع ْن َد َر ِّب ِه ْم َربَّنَا َأب َ‬
‫ْصرْ نَا َو َس ِمعْ نَا َفارْ ِجعْ نَ‪4‬ا نَعْ َم‪4‬لْ َ‬ ‫ُ‬
‫رُؤ ِ‬
‫إدراكهم للحقائق إدراك سماع وبصر يقينا‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن أولى عالمات العارف أن يكون قلبه مرآة تتجلى فيه‪4‬ا الحق‪4‬ائق بوض‪4‬وح ت‪4‬ام‪ ،‬كم‪4‬ا ق‪4‬ال‬
‫شاعرهم‪:‬‬
‫وجنب أن يحرك‪44444‬ه النس‪44444‬يم‬ ‫إذا س‪44‬كن الغ‪44‬دير على ص‪44‬فاء‬
‫ك‪44‬ذاك الش‪44‬مس تب‪44‬دو والنج‪44‬وم‬ ‫ب‪44‬دت في‪44‬ه الس‪44‬ماء بال ام‪44‬تراء‬
‫ي‪44‬رى في ص‪44‬فوها هللا العظيم‬ ‫ك‪444‬ذاك قل‪444‬وب أرب‪444‬اب التجلي‬
‫وهذا هو الف‪4‬رق األساس‪4‬ي بين العلم والمعرف‪4‬ة‪ ،‬ف‪4‬العلم بحث واس‪4‬تدالل‪ ،‬والمعرف‪4‬ة ش‪4‬هود وعي‪4‬ان‪،‬‬
‫والعلم مكابدة وشك‪ ،‬والمعرفة راحة ويقين‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي يتيه فيه العلماء بحث‪4‬ا عن األدل‪4‬ة‪ ،‬ويتن‪4‬ازعون وف‪4‬ق م‪4‬ا تقتض‪4‬يه أنظ‪44‬ارهم‪ ،‬يجلس‬
‫الع‪44‬ارفون المتخلص‪44‬ون من كثاف‪44‬ة حج‪44‬اب العق‪44‬ل المقي‪44‬د بقي‪44‬ود الحس وال‪44‬وهم في أرائ‪44‬ك جن‪44‬ة المش‪44‬اهدة‬
‫والمكاشفة واليقين‪.‬‬
‫فالعارف يرى ما يؤمن به ويعيشه‪ ،‬أما العالم أو ط‪4‬الب العلم فيكتفي ب‪4‬أن يبحث عن أدل‪4‬ة م‪4‬ا يس‪4‬مع‬
‫عنه‪ ،‬وقد يحجب باألدلة عن المدلول‪ ،‬وبالطريق عن الغاية‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي يقلب في‪4‬ه الع‪4‬الم ص‪4‬فحات الك‪4‬ون ليس‪4‬تدل ب‪4‬ه على رب‪4‬ه‪ ،‬ينطل‪4‬ق الع‪4‬ارف من ب‪4‬ه‬
‫ليستدل به على الكون‪ ،‬قال ابن عطاء هللا‪ (:‬الكون كل‪4‬ه ظلم‪4‬ة‪ ،‬وإنم‪4‬ا أن‪4‬اره ظه‪4‬ور الح‪4‬ق في‪4‬ه‪ ،‬فمن رأى‬
‫الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده فقد أعوزه وجود األن‪44‬وار‪ ،‬وحجبت عن‪44‬ه ش‪44‬موس المع‪44‬ارف‬
‫بسحب اآلثار)‬
‫فالكون في نظر العارفين ـ بالنظر إلى ذاته ـ ال يزال خامال في ظلمة العدم المحض‪ ،‬فال وج‪44‬ود ل‪44‬ه‬
‫لوال نور الموجد‪ ،‬فلوال ظهور الحق فيه‪ ،‬ظهور إيجاد وتعريف ال ظهور حلول وتكييف لم‪44‬ا ك‪44‬ان ل‪44‬ه أي‬
‫وجود‪.‬‬
‫وهذا هو الفرق العظيم بين العارف والعالم‪ ،‬فالعارف في محل الرؤية ق‪4‬د تج‪4‬اوز في‪4‬افي االس‪4‬تدالل‬
‫وصحراء النظر ومتاهات البحث‪ ،‬أما العالم فال يزال تنقطع به السبل دون حصول ذلك اليقين ال‪44‬ذي ينعم‬
‫به العارف‪ ،‬قال ابن عطاء هللا‪( :‬شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه‪ ،‬المستدل به عرف الح‪44‬ق ألهل‪44‬ه‪،‬‬
‫وأثبت األمر من وجود أصله‪ ،‬واالستدالل علي‪4‬ه من ع‪4‬دم الوص‪4‬ول إلي‪4‬ه‪ .‬وإال فم‪4‬تى غ‪4‬اب ح‪4‬تى يس‪4‬تدل‬
‫عليه؟ ومتى بعد حتى تكون اآلثار هي التي توصل إليه؟)‬
‫ولهذا ينطلق العارفون من هللا إلى الكون‪ ،‬ويأخذون األشياء من هللا قبل أخذها من الك‪44‬ون‪ ،‬وله‪44‬ذا لم‬
‫ينحجبوا بالكون عن المكون‪ ،‬بل انحجبوا بالمكون عن الكون‪ ،‬الك‪4‬ون باعتب‪4‬اره أص‪4‬ال ال باعتب‪4‬اره فرع‪4‬ا‬
‫‪114‬‬
‫وتابعا‪.‬‬
‫وقد سمى الغزالي ه‪4‬ذا اليقين (علم المكاش‪4‬فة) وعرف‪4‬ه بأن‪4‬ه عب‪4‬ارة عن ن‪4‬ور يظه‪4‬ر في القلب عن‪4‬د‬
‫تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة‪.‬‬
‫وهذا النور المتجلي على القلب تنكشف به الحقائق الكثيرة التي كان ـ في مرحل‪44‬ة العلم ـ يس‪44‬مع من‬
‫قبل أسماءها‪ ،‬ويتوهم لها معاني مجملة غير متض‪4‬حة‪ ،‬وق‪4‬د ينتش‪4‬ر ل‪4‬ه من بعض تل‪4‬ك المع‪4‬اني م‪4‬ا ي‪4‬وهم‬
‫التن‪44‬اقض أو ي‪44‬دعو إلى الش‪44‬ك‪ ،‬ولكن في مرحل‪44‬ة اليقين ال‪44‬ذي يرف‪44‬ع الحجب يبص‪44‬ر الحق‪44‬ائق كم‪44‬ا هي‪،‬‬
‫( فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات هللا س‪4‬بحانه‪ ،‬وبص‪4‬فاته الباقي‪4‬ات التام‪4‬ات‪ ،‬وبأفعال‪4‬ه‪،‬‬
‫والنبـي‪ ،‬ومعنى‬ ‫ّ‬ ‫النبوة‬
‫وبحكمه في خلق الدنيا واآلخرة‪ ،‬ووجه ترتيبه لآلخرة على الدنيا‪ ،‬والمعرفة بمعنى ّ‬
‫الوحي‪ ،‬ومعنى الشيطان‪ ،‬ومعنى لفظ المالئك‪44‬ة والش‪44‬ياطين‪ ،‬وكيفي‪44‬ة مع‪44‬اداة الش‪44‬ياطين لإلنس‪44‬ان‪ ،‬وكيفي‪44‬ة‬
‫ظهور الملك لألنبـياء‪ ،‬وكيفي‪4‬ة وص‪4‬ول ال‪44‬وحي إليهم‪ ،‬والمعرف‪4‬ة بملك‪4‬وت الس‪44‬موات واألرض‪ ،‬ومعرف‪4‬ة‬
‫القلب وكيفية تصادم جن‪4‬ود المالئك‪4‬ة والش‪4‬ياطين في‪4‬ه‪ ،‬ومعرف‪4‬ة الف‪4‬رق بـين لم‪4‬ة المل‪4‬ك ولم‪4‬ة الش‪4‬يطان‪،‬‬
‫‪4‬ر ْأ‬
‫ومعرفة اآلخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب‪ ،‬ومع‪4‬نى قول‪4‬ه تع‪44‬الى‪{ ﴿:‬ا ْق‪َ 4‬‬
‫ان‬ ‫‪4‬و ُ‬‫ار اآْل ِخ َر َة َل ِه َي ْال َح َي‪َ 4‬‬
‫ِكتَا َبكَ َك َفى ِب َن ْف ِسكَ ْال َيوْ َم َع َل ْيكَ َح ِسيبًا﴾ (االسراء‪ ،)14:‬ومعنى قوله تعالى‪َ ﴿:‬و ِإ َّن ال َّد َ‬
‫َلوْ َكانُوا َيعْ َل ُمونَ ﴾ (العنكبوت‪ ،)64 :‬ومعنى لقاء هللا عز وجل والنظر إلى وجهه الك‪44‬ريم‪ ،‬ومع‪44‬نى الق‪44‬رب‬
‫منه وال‪4‬نزول في ج‪4‬واره‪ ،‬ومع‪4‬نى حص‪4‬ول الس‪4‬عادة بمرافق‪4‬ة المأل األعلى ومقارن‪4‬ة المالئك‪4‬ة والنبـيـين‪،‬‬
‫ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدرّي في جوف الس‪44‬ماء‬
‫إلى غير ذلك مما يطول تفصيله)(‪)1‬‬
‫وقد تاه الخلق الذين لم يجاوزا مرحلة العلم في هذه المعارف جميعا‪ ،‬وك‪44‬ثر الخالف بينهم‪ ،‬ألن ك‪44‬ل‬
‫واحد منهم ينظر إلى هذه المسائل‪ ،‬وهو متلبس بحجاب العقل‪ ،‬بخالف من جاوزه وترقى إلى المشاهدة‪.‬‬

‫‪ )(1‬اإلحياء‪.‬‬
‫‪115‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫هذه الرسالة من سلسلة [حقائق ورقائق] تدعو إلى النظر إلى الك‪44‬ون نظ‪44‬رة جدي‪44‬دة تنطل‪44‬ق من‬
‫قراءته باسم هللا‪ ،‬وتنتهي بصحبته في هللا‪.‬‬
‫وقد حاولت حصر أوصاف الكون ـ انطالقا من النصوص المقدسة ـ في أربع‪44‬ة أوص‪44‬اف ك‪44‬ل‬
‫واحد منها معراج من معارج السالم‪ ،‬ورقية من رقى السعادة‪.‬‬
‫وهذه األوصاف األربعة هي‪ :‬الحياة‪ ،‬والعبادة‪ ،‬والتسخير‪ ،‬والمقروئية‪.‬‬
‫فمعرفتنا بالكون الحي تشعرنا باألنس‪ ،‬وتملؤنا ينشوة الصداقة الحميمة‪ ،‬فال يمكن أن نص‪44‬ادق‬
‫جمادا‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون العابد تعرفنا بوظيفتنا‪ ،‬وتجعلنا نلهج بالتسبيح في حلقة ذكر الكون الواسع‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون المسخر تجعلنا نتناول األشياء من يد هللا‪ ،‬ال من يد الطبيعة‪ ،‬ونتناول األشياء‬
‫باهلل‪ ،‬ال بأيدينا‪.‬‬
‫ومعرفتنا بالكون المق‪44‬روء تع‪4‬بر بن‪4‬ا من الك‪44‬ون إلى المك‪44‬ون‪ ،‬وت‪44‬زج بن‪44‬ا في رح‪4‬اب الحض‪44‬رة‬
‫المقدسة‪ ،‬فنبص‪44‬ر من خالل األش‪44‬ياء مش‪44‬يئ األش‪44‬ياء‪ ،‬فنص‪44‬ادق م‪44‬ع قط‪44‬رات الن‪44‬دى‪ ،‬وتفتح الزه‪44‬ر‪،‬‬
‫وهبوب النسيم‪ ،‬رب الكون ومبدعه‪.‬‬

‫‪116‬‬

You might also like