You are on page 1of 253

‫مُقدَمةُ املؤلِّف‬

‫‪2‬‬
‫بِسمِ اهلل الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ‬

‫حممد‬
‫و الصالة و السالم عىل خاتم النب ّيني ّ‬
‫المصطفى‪ ،‬و وص ّيه المنتجب صاحب الوالية الكربى‬

‫األئمة الطاهرين‪ ،‬س ّيام بق ّية اهلل يف‬


‫ّ‬ ‫عيل المرتىض‪ ،‬و أبنائه‬
‫ّ‬
‫العسكري‪ ،‬أرواحنا‬
‫ّ‬ ‫احلجة بن احلسن‬
‫ّ‬ ‫األرض و السامء‬

‫لرتاب مقدمه الفداء‪.‬‬

‫حس االنجذاب نحو الدين و رغبة االندفاع نحو‬ ‫َّ‬


‫إن ّ‬
‫عوامل الغيب و كشف أرسار ماوراء الطبيعة يعترب جزء ًا من‬

‫عد هذه الغريزة ناشئة عن‬


‫الغرائز الطبيع ّية للبرش‪ ،‬و يمكن ّ‬

‫الرب الودود الذي جيذب عامل اإلمكان و‬


‫ّ‬ ‫جاذبة حرضة‬

‫باألخص اإلنسان األرشف إىل مقامه المطلق الالمتناهي‪.‬‬


‫ّ‬
‫عربون عنه‬
‫و مغناطيس الروح هو روح الروح الذي ي ّ‬

‫‪3‬‬
‫باألرواح و حقيقة احلقائق‪ ،‬و األصل القديم‪ ،‬و منبع‬

‫اجلامل‪ ،‬و مبدأ الوجود و غاية الكامل‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫هذه اجلذبة المغناطيس ّية احلقيق ّية التي تكون نتيجتها‬
‫و أثرها حتطيم قيود الطبيعة‪ ،‬و احلدود األنفس ّية‪ ،‬و ّ‬
‫االّتاه‬

‫التجرد و اإلطالق‪ ،‬و أخري ًا الفناء يف الفعل و‬


‫ّ‬ ‫نحو عامل‬

‫المقدسة لمبدأ المبادئ و غاية‬


‫ّ‬ ‫االسم و الصفة و الذات‬

‫الغايات‪ ،‬و بقاء الموجود ببقاء المعبود‪ ،‬هذه اجلذبة هي‬

‫تصوره‪.‬‬ ‫أعىل و أرقى من ّ‬


‫كل عمل يمكن ّ‬
‫‪1‬‬ ‫وازي ِع َبا َد َة ال َّث َق َل ْ ِ‬
‫ني‪.‬‬ ‫ْح ِن ُت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َج ْذ َب ٌة م ْن َج َذ َبات َّ‬
‫الر ْ َ‬

‫حتركه نحو‬
‫فاإلنسان من أعامق ذاته و فطرته يدرك ّ‬
‫بقوة الغريزة و‬
‫كعبة المقصود و قبلة المعبود‪ ،‬و يسافر ّ‬
‫الفطرة اإلهل ّية و ي ّتجه ّ‬
‫بكل وجوده نحو هذا اهلدف‪ ،‬و لذا‬

‫فعىل مجيع أعضائه و جوارحه أن تشرتك مع ًا يف هذا السفر‪.‬‬

‫فعامل اجلسم و الام ّدة الذي هو طبعه‪ ،‬و عامل الذهن و‬

‫المثال الذي هو برزخه‪ ،‬و عامل العقل و النفس الذي هو‬

‫حقيقته‪ّ ،‬‬
‫كل هذه‬

‫‪1‬‬
‫السبزواري» اإلهل ّيات‪ ،‬يف أفعاله تعايل‪ ،‬غرر يف أنحاء تقسيامت لفعل‬
‫ّ‬ ‫«منظومة‬
‫اهلل تعايل‪ ،‬ص ‪ ،۱۸3‬طبعة نارصي‪.‬‬
‫‪5‬‬
6
‫االمور‪ ،‬جيب أن تكون حارضة يف هذا السفر و‬

‫تشارك فيه‪.‬‬

‫جيب أن تكون وجهة البدن عند الصالة نحو الكعبة‬

‫يف الركوع و السجود و سائر األفعال‪ ،‬و الذهن مصون ًا من‬

‫اخلواطر و م ّتجه ًا نحو سدرة المنتهى‪ ،‬و الروح مستغرقة‬

‫اإلهلي‪ ،‬تذوب و تنصهر داخل حرم‬


‫ّ‬ ‫يف أنوار حريم احلرم‬

‫احلرضة األحد ّية اآلمنة‪.‬‬

‫اهتموا بالظاهر‪ ،‬و‬ ‫يتبني َّ‬


‫أن هؤالء الذين ّ‬ ‫و من هنا ّ‬
‫اكتفوا من العبادات و األعامل احلسنة باألفعال الشكل ّية‪،‬‬

‫بدال من ال ُّل ّ‬
‫ب و اجلوهر‪ ،‬كم هم‬ ‫و اقتنعوا بالقشور ً‬

‫بعيدون ‪ّ -‬‬
‫كل البعد ‪-‬عن كعبة المقصود و كم هم‬

‫حمرومون من مجاله و لقائه‪.‬‬

‫و كذلك الذين ارتكز جهدهم عىل المعاين تاركني‬

‫األعامل احلسنة و العبادات الرشع ّية بعيدون عن متن‬

‫الواقع‪ ،‬و قد اقتنعوا بالمجاز و الوهم ً‬


‫بدال من احلقيقة‪.‬‬

‫أ َو ليس نور اهلل ساري ًا يف متام مظاهر عوامل اإلمكان‬


‫و ٍ‬
‫جار فيها؟! فلامذا إ َذن نعفي البدن من العبادة و نع ّطل‬

‫‪7‬‬
‫اجلزئي من ّ‬
‫ّتيل األنوار اإلهل ّية‪ ،‬و نكتفي بألفاظ‬ ‫ّ‬ ‫هذا العامل‬

‫الوصول و ال ّل ّ‬
‫ب و القلب و العبادة القلب ّية؟ أليست هذه‬

‫عبادة من جانب واحد؟‬

‫األو َس ُط و اال َّم ُة َ‬


‫الو َسط‪ ،‬فهم اولئك الذين‬ ‫أ َّما الن ََّم ُط ْ‬
‫مجعوا بني الظاهر و الباطن‪ ،‬و ْحلوا مجيع درجات و‬

‫مراتب وجودهم‬

‫‪8‬‬
‫ّتهزوا‬
‫عىل العبادة و االنقياد حلرضة المحبوب‪ ،‬و ّ‬
‫يت‪.‬‬
‫هلذا السفر الملكو ّ‬
‫فجعلوا الظاهر عنوان ًا للباطن‪ ،‬و الباطن روح ًا و‬

‫حقيقة للظاهر و مزجوا كليهام مع ًا كام يمتزج احلليب و‬

‫السكّر‪ ،‬فمرادهم من الظاهر الوصول إىل الباطن و قد‬

‫عدوا الباطن بدون الظاهر هبا ًء منثور ًا‪.‬‬


‫ّ‬

‫اه ِري بِ َطا َعتِ َك‪َ ،‬و َباطِنِي بِ َم َح َّبتِ َك‪ ،‬و‬
‫اللهم َنور َظ ِ‬
‫َّ ِّ ْ‬
‫استِ ْق َال ِل‬
‫رسي بِ ْ‬ ‫ِّ‬
‫وحي بِم َشاه َدتِ َك‪ ،‬و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َق ْلبِي بِمع ِر َفتِ َك‪ ،‬و ر ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫‪1‬‬ ‫رضتِ َك‪َ ،‬يا َذ َ‬
‫ااجلال ِل َو اإل ْك َرا ِم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ا ِّت َصال َح ْ َ‬
‫و من هنا ي ّتضح َّ‬
‫أن اإلقتصار عىل العلوم اإلهل ّية و‬

‫الذهن ّية و الفكر ّية‪ ،‬كتعلم الفلسفة و تعليمها من أجل‬

‫اإلنساين لن‬
‫ّ‬ ‫طي مدارج و معارج الكامل‬
‫تكامل النفس و ّ‬

‫يكون كافي ًا ّ‬
‫بأي وجه من الوجوه‪ .‬فرتتيب القياس و‬

‫‪ 1‬من مجلة فقرات الدعاء المنسوب إىل أمريالمؤمنني عليهالسالم الذي رشحه‬
‫كراس صغري؛ و قد ذكره المح ّقق‬
‫اآلهنگي و طبعه يف ّ‬
‫ّ‬ ‫احلاج الموىل جعفر كبوتر‬
‫ّ‬
‫الكاشا ّين يف «كلامت مكنونة» ص ‪ ،6۱‬الطبعة احلجر ّية‪ ،‬هبذه العبارة‪ :‬و قد ورد‬
‫يف أدعيتهم عليهم السالم‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫المقدمات‬
‫ّ‬ ‫الربهان عىل أساس المنطق الصحيح و‬

‫السليمة ُيعطى الذهن نتيجة مقنعة‪ ،‬ولكنّه ال ُيشبع‬

‫‪10‬‬
‫الروح و القلب‪ ،‬و ال ُيروي النفس من عطش‬

‫الوصول إىل احلقائق و شهود دقائق السري‪.‬‬

‫فالفلسفة و احلكمة و إن كانت تتم ّتع باألصالة و‬

‫المتانة‪ ،‬و تقوم عىل إثبات أرشف العلوم الذهن ّية و‬

‫الفكر ّية ‪َ -‬أال و هو التوحيد‪ -‬عىل أساس الربهان‪ ،‬و ّ‬


‫تسد‬

‫الطريق أمام الشكوك و الشبهات‪ ،‬و عىل هذا األساس‬

‫كذلك أمر القرآن الكريم و الراسخون يف العلم عليهم‬

‫الصالة و السالم بالتع ّقل و التفكّر و ترتيب القياس و‬

‫المقدمات االستدالل ّية‪ ،‬ولك ّن االكتفاء‬


‫ّ‬ ‫الربهان و‬

‫الفلسفي و الربهان يف مدرسة اإلستدالل‪ ،‬دون‬


‫ّ‬ ‫بالتوحيد‬

‫انقياد القلب و وجدان الضمري و شهود الباطن هو أمر‬

‫ناقص‪.‬‬

‫فتجويع القلب و الباطن من األغذية الروح ّية و‬

‫المعنو ّية لعامل الغيب و األنوار الملكوت ّية اجلامل ّية و‬

‫اجلالل ّية‪ ،‬و االكتفاء بالسري يف بواطن الكتب و المكتبات‬

‫و الدرس و التدريس‪ ،‬و ح ّتى إذا بلغ أعىل درجاته‪ ،‬ليس‬


‫ٍ‬
‫لعضو أعىل و أرفع‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫لعضو من األعضاء و ّتويع‬ ‫ّإال إشباع‬

‫‪11‬‬
‫فالدين القويم و الرصاط المستقيم ُيراعى كال‬

‫اجلانبني‪ ،‬و ُيكمل القوي و القابل ّيات الكامنة يف اإلنسان‬

‫يف احلالني‪.‬‬

‫ب بالتع ّقل و التفكّر‪ ،‬و‬ ‫فهو ‪-‬من جانب‪ّ -‬‬


‫حيث و ُي َر ِّغ ُ‬
‫من‬

‫‪12‬‬
‫جانب آخر يأمر باإلخالص و تطهري القلب من صدأ‬

‫الرواسب الشهوان ّية‪ ،‬و هتدئة القلب و طمأنة و تسكني‬

‫ً‬
‫جليال يقول تعاىل‪:‬‬ ‫اخلاطر‪ .‬فبعد أحد عرش َق َس ًام عظي ًام و‬
‫ا‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َا‬
‫قد أفلح من زَّكها ‪ ،‬و قد خاب من دساها ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫انظر إىل هذه اآليات القرآن ّية الكريمة التي ختاطب‬

‫روح اإلنسان‪ ،‬و تتكلم مع باطنه‪ ،‬كيف تدعو المفكّرين و‬

‫المدرسني و أساتذة الفلسفة و االستدالل إىل التع ّبد و‬


‫ّ‬
‫المراقبة و حماسبة النفس لإلخالص يف العمل من أجل‬

‫رضا اهلل‪ ،‬كام جاء عىل لسان رسول اهلل ّ‬


‫صىل اهلل عليه و‬

‫يع احلك َْم ِة‬


‫اح ًا َظ َه َر ْت َينَابِ ُ‬ ‫ص هلِل ْأر َب ِع َ‬
‫ني َص َب َ‬ ‫أخ َل َ‬
‫آله‪َ :‬م ْن ْ‬

‫ِم ْن َق ْلبِ ِه َإىل لِ َسانِ ِه‪ ،2‬فينابيع المعارف‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ 9‬و ‪ ،۱۰‬من السورة ‪ :9۱‬الشمس‪.‬‬


‫‪ 2‬روى هذا احلديث بطرق عديدة عن رسول اهلل‪ ،‬بعبارات خمتلفة ذات مضمون‬
‫واحد؛ و ذكر يف «إحياء العلوم» ج ‪ ،4‬ص ‪ ،322‬و تعليقته يف ص ‪۱9۱‬؛ و يف‬
‫«عوارف المعارف» المطبوع يف حاشية «إحياء العلوم»‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪.256‬‬
‫وقد ورد يف كتب الشيعة‪ ،‬منها‪« :‬عيون أخبار الرضا» ص ‪25۸‬؛ «عدّ ة الداعي»‬
‫ص ‪۱۷۰‬؛ «اصول الكايف» ج ‪ ،2‬ص ‪ .۱6‬و الرواية الواردة يف «العيون» بإسناده‬
‫عيل الباقر‪،‬‬
‫حممد بن ّ‬
‫عن اإلمام الرضا عليهالسالم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدّ ه‪ ،‬عن اإلمام ّ‬
‫األنصاري‪ ،‬عن أمريالمؤمنني‬
‫ّ‬ ‫السجاد‪ ،‬عن جابر بن عبداهلل‬
‫ّ‬ ‫عن أبيه اإلمام‬
‫‪13‬‬
‫متفجرة‪ ،‬و عىل ألسنتهم سارية‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫اإلهل ّية من قلوهبم‬

‫قد انبعث السيل اجلارف من األفكار و اإلهلامات و‬

‫الواردات الرْحان ّية من عمق وجودهم‪ .‬و قد حصل مثل‬

‫هذا اإلنجذاب نحو العبود ّية و العبادة و تطهري الباطن و‬

‫التزكية لفخر فالسفة الرشق بل فالسفة العامل‪ ،‬صدر‬

‫الشريازي بعد قضاء عمره يف احلكمة المتعالية‬


‫ّ‬ ‫المتأهلني‬

‫إىل درجة أنه كتب بقلمه‪:‬‬

‫عت َش ْطر ًا من ُعمري‬ ‫«و ِّإين ألس َت ِ‬


‫غف ُر اهلل كثري ًا ممَّا َض َّي ُ‬
‫لني من ِ‬
‫أهل الكال ِم و‬ ‫ِ‬ ‫لس ِ‬ ‫يف َت َتب ِع ِ‬
‫آراء الم َت َف ِ‬
‫المجاد َ‬ ‫فة و‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫البحث‬ ‫القول و تفنُّنِهم يف‬
‫ِ‬ ‫تدقيقاهتِم و َت َعلم ُج ْر ُب َز ِهتِم يف‬
‫ِ‬

‫َّان َّ‬
‫أن‬ ‫اإليامن و ِ‬
‫تأييد اهلل المن ِ‬ ‫ِ‬ ‫األمر ِ‬
‫بنور‬ ‫ِ‬ ‫ني يل ِ‬
‫آخ َر‬ ‫ح َّتى َت َب َّ َ‬
‫غري مستقيم؛ فأ ْل َقينا ِزما َم ِ‬
‫أمرنا‬ ‫عقيم و رصا َط ُهم ُ‬
‫ٌ‬ ‫قياس ُهم‬
‫َ‬
‫فكل ما َب َل َغنا من ُه آ َمنَّا به و َص َّدقنا ُه‬ ‫إليه و إىل رسوله الن ِ‬
‫َّذير‪ُّ ،‬‬

‫وجه ًا عقل َّي ًا و مسلك ًا بحث َّي ًا‪ِ ،‬‬


‫بل‬ ‫أن ُن َخ ِّي َل له ْ‬
‫و مل َن ْح َت ْل ْ‬
‫ُ‬
‫ثاال لقوله تعاىل‪ :‬ما آتاك ُم‬
‫ا ْق َت َدينا ِ ُهبدا ُه و ا ْن َت َهينا بِن َْه ِي ِه ا ْمتِ ً‬

‫ص َع ْبدٌ هلِل ْأر َب ِع َ‬


‫ني‬ ‫ول اهلل َص َّىل اهلل َع َل ِيه َو آله‪َ :‬ما ْ‬
‫أخ َل َ‬ ‫عليهالسالم هي‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫يع احلك َْم ِة ِم ْن َق ْلبِ ِه َع َىل ل ِ َسانِ ِه‪.‬‬
‫اح ًا َّإال َج َر ْت َينَابِ ُ‬
‫َص َب َ‬
‫‪14‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ا ُ ُ َ ُ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ُْ َ ْ‬
‫الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا‪ ،‬ح َّتى َ‬
‫فتح اهلل‬

‫أنجح‪.1‬‬
‫َ‬ ‫بربكة متابعتِه و‬
‫ِ‬ ‫عىل قلبِنا ما َف َتح َفأ ْف َل َح‬

‫اهلمداين‬
‫ّ‬ ‫احلق الموىل حسني قيل‬
‫و جيب أن نذكر آية ّ‬

‫اين‬
‫إهلي و عارف ر ّب ّ‬
‫صمداين و حكيم ّ‬
‫ّ‬ ‫أفضل و أعىل فقيه‬

‫يف بداية القرن الاميض‪.‬‬

‫هذا الفقيه الكبري و المفكّر اجلليل و الفيلسوف البارز‬

‫حصل مجيع هذه العلوم احل ّقة يف ّ‬


‫ظل علم‬ ‫القدير الذي ّ‬
‫العرفان و هتذيب النفس‪ ،‬و أدغمها مجيع ًا يف أنوار الوجه‬

‫عني مرتبة ّ‬
‫كل علم يف مكانه و موقعه‪ ،‬و جعل‬ ‫اإلهلي‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬
‫المقصود األسمي هو الوصول إىل حرم اهلل اآلمن‪ ،‬هذا‬

‫قدمهم إىل مدرسة العرفان‪،‬‬


‫رب تالمذة‪ ،‬و ّ‬
‫العارف قد ّ‬
‫فكان ّ‬
‫كل واحد منهم نج ًام يف سامء الفضيلة و التوحيد‪،‬‬

‫فأضاؤوا عال ًام و سطعوا يف سامئه عىل ّ‬


‫مد شعاع البرص و‬

‫اين الس ّيد أْحد‬


‫البصرية‪ .‬و من مجلتهم العارف الر ّب ّ‬
‫الكربالئي‪ ،‬و تلميذه فخر الفقهاء و مجال العرفاء‬
‫ّ‬ ‫الطهراين‬
‫ّ‬
‫احلا ّج المريزا عىل القايض أعىل اهلل مقامهام الرشيف‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر‪ :‬مقدمة «األسفار األربعة» ّ‬


‫للمال صدرا‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫المفّسين و سند المح ّققني‬
‫ّ‬ ‫ثم َّ‬
‫إن استاذنا فخر‬ ‫ّ‬
‫مد اهلل ظالله‬
‫الطباطبائي ّ‬
‫ّ‬ ‫حممد حسني‬ ‫ّ‬
‫العالمة الس ّيد ّ‬
‫الوارفة‪ ،‬مع أنه قد سار يف بداية حياته بجناحي العلم و‬

‫العمل‪ ،‬و طوى الطريق يف مدرستي الفلسفة و العرفان‬

‫عند المرحوم القايض‪ ،‬و أفنى عمره يف القياس و الربهان‬

‫و اخلطابة و تقوية العلوم الفكر ّية من «اإلشارات»‬

‫‪16‬‬
‫و «األسفار» و «الشفاء» و حواشيها‪ ،‬مع االشتغال‬

‫الكامل باخللوات الباطن ّية و األرسار اإلهل ّية و المراقبات‬

‫استقرت راحلته أخري ًا عىل عتبة القرآن‬


‫ّ‬ ‫العرفان ّية‪ ،‬قد‬

‫المق ّدس‪ ،‬فانتهل من فيض اآليات القرآن ّية إىل درجة‬

‫أصبح البحث و التفكري و القراءة و التم ّعن و التفسري و‬

‫حتليل و تأويل اآليات القرآن ّية عنده أعىل من ّ‬


‫كل ذكر و‬

‫ألذ من ّ‬
‫كل قياس و برهان‪ ،‬و كأنه ال‬ ‫فكر‪ ،‬و التد ّبر فيها ّ‬

‫يملك شيئ ًا سوى التع ّبد المحض لمقام صاحب الرشيعة‬

‫المكرمني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الغراء و أوصيائه‬
‫ّ‬
‫المعزز األشفق األخ‬
‫ّ‬ ‫المكرم و س ّيدي‬
‫ّ‬ ‫و هذا صديقي‬

‫ري رضوان اهلل‬


‫المطه ّ‬
‫ّ‬ ‫المرحوم آية اهلل الشيخ مرتىض‬

‫متتد معرفتي به إىل أكثر من مخس و ثالثني سنة‬


‫عليه الذي ّ‬

‫قد اكتشف بعد سنوات من البحث و الدرس و التدريس‬

‫و الكتابة و اخلطابة و الموعظة و التحقيق و التدقيق يف‬

‫االمور الفلسف ّية بذهنه الو ّقاد و نفسه الن ّفادة َّ‬
‫أن اإلنسان‬

‫الّس دون‬
‫ال يمكنه أن ُحي ِّصل اطمئنان اخلاطر و هتدئة ّ‬
‫اال ّتصال بالباطن و االرتباط باهلل المنّان و إرواء القلب‬

‫‪17‬‬
‫من منبع الفيوضات الر ّبان ّية‪ ،‬و بدونه ال يمكنه أبد ًا أن‬

‫المطهر أو يطوف حوله و يصل إىل كعبة‬


‫ّ‬ ‫يدخل حرم اهلل‬

‫المقصود‪.‬‬

‫فتقدم إىل هذا الميدان كالشمعة المحرتقة الذائبة‪ ،‬و‬


‫ّ‬

‫الفراشة اهلائمة حول الّساج‪ ،‬كمؤمن رسا ّيل عاشق وهلان‬

‫قد ُفني يف البحر‬

‫‪18‬‬
‫الالمتناهي لذات المعبود و صفاته و أسامئه‪ ،‬فا ّتسع‬

‫وجوده بسعة وجود اهلل تعاىل‪.‬‬

‫فقيام الليايل احلالكة و البكاء و المناجاة يف خلوة‬

‫األسحار‪ ،‬و التو ّغل يف الذكر و الفكر و المامرسة يف‬

‫دراسة القرآن و االبتعاد عن أهل الدنيا و اال ّتصال بأهل‬

‫اهلل و أوليائه‪ّ ،‬‬


‫كل هذا كان مشهود ًا يف سريه و سلوكه رْحة‬

‫اهلل عليه رْح ًة واسع ًة‪.‬‬


‫اَّلل َم َع ااَّل َ‬
‫ِين اات َقواْ‬ ‫َ َْ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ون‪1‬؛ إ ان ا َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِل‬
‫م‬ ‫عا‬‫ال‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ي‬‫ل‬ ‫ف‬ ‫هذا‬ ‫ل ِ ِمث ِ‬
‫ل‬
‫َ ُ ْ ُ ْ ُ َ‪2‬‬
‫َ ا‬
‫سنون ‪.‬‬ ‫و اَّلِين هم ُم ِ‬

‫مدة من هذا احلقري أن يكتب شيئ ًا يف‬


‫و قد ُطلب قبل ّ‬

‫ذكرى شهادته‪ ،‬و أنا الفقري الذي أرى نفيس غري الئق ح ّق ًا‪،‬‬

‫لذلك اعتذرت ّأول األمر لكثرة المشاغل و تراكم‬

‫األعامل‪.‬‬

‫المتكررة أعطتني روح هذا‬


‫ّ‬ ‫و أخري ًا و بعد المراجعة‬

‫الصديق العزيز الغايل مدد ًا ُال ِّ‬


‫حرر هذا المخترص بعنوان‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،6۱‬من السورة ‪ :3۷‬الصا ّفات‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۱2۸‬من السورة ‪ :۱6‬النحل‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫مقدمة لرسالة كتبتها يف السري و السلوك‪ ،‬و أهديتها لروح‬
‫ّ‬

‫احلق و‬
‫المرحوم‪ ،‬و جعلتها يف متناول أيدي طالبي ّ‬
‫سالكي سبل السالم و طريق احلقيقة‪ .‬بِ َي ِد ِه ِأز َّم ُة اال ُم ِ‬
‫ور َو‬

‫أس َت ِع ُ‬
‫ني‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بِه ْ‬

‫‪20‬‬
‫اس و ّ‬
‫مخ ّأول دورة من‬ ‫و أصل هذه الرسالة ّ‬
‫الدروس األخالق ّية و العرفان ّية التي ألقاها استاذنا‬

‫الطباطبائي روحي فداه يف سنتي ألف و‬


‫ّ‬ ‫المع ّظم ّ‬
‫العالمة‬

‫ثالثامئة و ثامن و س ّتني‪ ،‬و تسع و س ّتني هجر ّية قمر ّية يف‬

‫فحررهتا كتقريرات‬
‫المقدسة عىل بعض الطلبة ّ‬
‫ّ‬ ‫حوزة قم‬

‫لدروسه‪ ،‬و كنت أعترب َّ‬


‫أن قراءهتا و المرور عليها يف‬

‫الشدة و الكدورة و التعب موجب لتنوير الروح و‬


‫أوقات ّ‬

‫تلطيف النفس‪.‬‬

‫فهذه دورة مررت عليها بالتنقيحات و اإلضافات‬

‫ري أعىل اهلل‬


‫المطه ّ‬
‫ّ‬ ‫أهدي ثواهبا إىل روح الفقيد السعيد‬

‫مقامه الرشيف‪.‬‬

‫اخ ُلف َع َىل‬ ‫ني‪َ ،‬و ْ‬‫رش ُه َم َع ْأولِ َي ِائ َك الم َق َّربِ َ‬
‫اح ُ ْ‬
‫اللهم ْ‬
‫َّ‬
‫اء حممد و آله ال َّط ِ‬
‫اه ِري َن‪،‬‬ ‫ع ِقبِ ِه يف ال َغابِ ِرين و اجعله ِمن ر َف َق ِ‬
‫ّ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ ْ َ‬ ‫َ‬

‫اْحِ َ‬
‫ني‪.‬‬ ‫ْحتِ َك يا أرحم الر ِ‬
‫ْح ُه و إ َّيا َنا بِ َر ْ َ َ ْ َ َ َّ‬
‫َو ْار َ ْ‬

‫‪21‬‬
22
‫الفصل األول‪ :‬املعرِفَةُ اإلجمَاليَّةُ والبَرنامجُ الكلُّيّ لِلْسُلُوكِ إلَى‬

‫اهلل‬

‫‪23‬‬
24
‫بِسمِ اهلل الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ‬

‫وَ صَلَّى اهلل عَلَى حممّد وَ آله الطَّاهِرِينَ‬

‫و لَعنَةُ اهلل عَلَى أعدَائِهِم أجمَعِيَ‬

‫ْ‬ ‫قال اهلل الع ِيل العظِيم‪َ :‬س ُ ْ‬


‫فاق‬
‫ُني ِهم آيات ِنا ِِف اْل ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ّ َ ُ‬ ‫بعد؛ َ‬
‫و ُ‬
‫َ ْ ُ ْ َ ا َ َ َ ا َ َ ُ ْ َ ا ُ ْ َ ُّ َ َ َ ْ َ ْ‬
‫س ِهم حَّت يتبَّي لهم أنه اْلق أ و لم يك ِف‬ ‫َو ِِف أنف ِ‬
‫يد ‪ ،‬أَال إ ان ُه ْم ِف م ِْر َية مِنْ‬
‫شء َشه ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َاُ َ ُ َ‬
‫ك‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫بِربِك أنه َع ِ‬
‫ُ ٌ ‪1‬‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ اُ ُ َ‬
‫ل ِقاءِ رب ِ ِهم أال إِنه بِك ِل ش ٍء ُمِيط‪.‬‬

‫يعيش اإلنسان الام ّد ّي يف صحراء الام ّد ّية المظلمة‬

‫غارق ًا يف بحر الشهوات و الكثرات الالمتناهية‪ ،‬و وسط‬

‫كل جانب و يف ّ‬
‫كل‬ ‫أمواج العالئق الام ّد ّية التي تتقاذفه من ّ‬

‫‪1‬‬
‫فصلت‪.‬‬
‫اآليتان ‪ 53‬و ‪ ،54‬من السورة ‪ّ :4۱‬‬
‫‪25‬‬
‫آن‪ ،‬فام أن يفيق من لطامت األمواج و صدماهتا ح ّتى تأيت‬

‫أمواج أعتى و قد نبعت من التع ّلق بالامل و الثروة و النساء‬


‫ٌ‬
‫و األوالد‪ ،‬فتصفعه األمواج عىل وجهه صفعات متوالية‬

‫ح ّتى يغوص يف قعرها‪ ،‬و يغرق يف ذلك ال َي ّم العميق‬

‫المهول بحيث لن تسمع بعد ذلك استغاثاته و رصخاته‬

‫للنجدة‪.‬‬

‫ال يلتفت إىل جهة ّإال و وجد احلرمان و احلّسة اللتني‬

‫مها من اآلثار و اللوازم التي ال تفارق الام ّدة القابلة للفساد‬

‫هتددانهو ترعبانه‪.‬‬
‫ّ‬
‫السري و السلوك يف اصطالح العرفاء‬

‫و يف هذا اخلضم قد يالطفه نسيم عليل باسم اجلذبة‪،‬‬

‫كأن هذا النسيم العطوف الودود يسحبه جانب ًا و‬


‫و جيد و َّ‬

‫يسوقه إىل مقصد ما‪ّ ،‬إال َّ‬


‫أن هذا النسيم ال يدوم هبوبه‪ ،‬فهو‬

‫هيب من حني إىل آخر‪.‬‬


‫ّ‬

‫‪26‬‬
‫إن لِربكُم يف أيا ِم ده ِر ُكم َن َفح ٍ‬
‫ات َأال َف َت َع َّر ُضوا هلا َو‬ ‫َو َّ َ ِّ ْ َّ َ ْ ْ َ‬
‫‪1‬‬
‫َال ُت ْع ِر ُضوا َعن َْها‪.‬‬

‫يقرر تبع ًا‬


‫هيم السالك بالسفر إىل اهلل‪ ،‬و ّ‬
‫يف هذه احلال ّ‬
‫يشد ّ‬
‫بكل‬ ‫لتأثري هذه اجلذبة اإلهل ّية أن يعرب عامل الكثرة‪ ،‬و ّ‬

‫ما يمكنه عنان السفر ليخ ّلص نفسه من هذه الغوغائ ّية‬

‫سمى هذا السفر يف‬


‫المليئة باآلالم و االضطرابات‪ ،‬و ُي ّ‬
‫اصطالح العارفني و عرفهم بالسري و السلوك‪.‬‬

‫طي الطريق‪ ،‬و السري هو مشاهدة آثار و‬


‫فالسلوك هو ّ‬
‫خصائص المنازل و المراحل أثناء ذلك الطريق‪.‬‬

‫الروحاين هو المجاهدة و الرياضة‬


‫ّ‬ ‫و زا ُد هذا السفر‬

‫جد ًا‪ّ ،‬‬


‫يتم‬ ‫النفسان ّية و َّ‬
‫ألن قطع عالئق الام ّدة صعب ّ‬

‫التخ ّلص من وشائج عامل الكثرة بالتدريج ح ّتى ّ‬


‫يتم السفر‬

‫من عامل الطبع‪.‬‬


‫مزامحة عامل اخليال و الربزخ للسالك‬

‫و ال ينفض السالك عن نفسه غبار الطريق ح ّتى‬

‫يدخل عامل الربزخ الذي هو الكثرة النفس ّية‪ ،‬فيشاهد هنا‬

‫للسيوطي‪ ،‬ص ‪.36۷‬‬


‫ّ‬ ‫‪« 1‬بحار األنوار» ج ‪ ،۷۷‬ص ‪۱6۸‬؛ و «اجلامع الصغري»‬
‫‪27‬‬
‫بوضوح كم أودعت الام ّدة و الكثرات اخلارج ّية من ذخائر‬

‫داخل بيت طبعه‪ ،‬و هي تلك الموجودات اخليال ّية‬

‫النفسان ّية التي نشأت من التعامل و االحتكاك‬

‫‪28‬‬
‫بالكثرات اخلارج ّية‪ ،‬و صارت جزء ًا من آثارها و‬

‫ثامرها و مواليدها‪.‬‬

‫و هذه اخلياالت تقف مانع ًا و عائق ًا من سفره‪ ،‬و سبب ًا‬

‫الفتقاده للهدوء و السكينة‪ ،‬فال خيتيل السالك بنفسه‬

‫مناجي ًا اهلل تعاىل ّإال و هجمت عليه فجأة كالسيل اهلادر‬

‫قاصدة إهالكه‪.‬‬

‫بدهيي َّ‬
‫أن الصدمة و العذاب الناشئني من الكثرات‬ ‫ّ‬ ‫و‬

‫النفس ّية أقوى منهام يف الكثرات اخلارج ّية‪ ،‬فكم من إنسان‬

‫استطاع بإرادته أن يبتعد عن مقابلة الكثرات اخلارج ّية‬

‫بالعزلة‪ ،‬ولكنّه هبذه الوسيلة مل يتمكن من أن يتخ ّلص من‬

‫ألّنا قرينته و جماورة له‬


‫عذاب و صدمة اخلياالت النفس ّية‪ّ ،‬‬
‫عىل الدوام‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫إن المسافر يف طريق اهلل و اخللوص و العبود ّية احل ّقة‬

‫اهلمة‬
‫يشمر ساعد ّ‬
‫ال خياف من هؤالء األعداء؛ فهو ّ‬
‫مستعين ًا بتلك النغمة القدس ّية ّ‬
‫ليتقدم نحو المقصد و خيرج‬

‫المسميبـ «الربزخ»‪ .‬و جيب أن يكون‬


‫ّ‬ ‫من عامل اخلياالت‬

‫جد ًا و متي ّقظ ًا ح ّتى ال يبقى يشء من هذه‬


‫السالك حذر ًا ّ‬

‫اخلياالت يف زوايا بيت القلب‪َّ ،‬‬


‫ألن دأب هذه الموجودات‬

‫اخليال ّية أن خت ّبئ نفسها عندما ُيراد إخراجها يف زاوية‬

‫مظلمة من زوايا القلب بحيث يظ ّن السالك المنخدع أنه‬

‫يبق فيه يشء من بقايا عامل‬ ‫قد خت ّلص من ّ‬


‫رشها‪ ،‬و مل َ‬

‫الربزخ‪ ،‬ولكن ما أن جيد المسافر طريقه إىل نبع احلياة يريد‬

‫تنصب عليه فجأة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫أن يرتوي من عيون احلكمة ح ّتى‬

‫شاهرة سيف القهر و اجلفاء فتقيض عليه‪.‬‬

‫يصب الامء يف حوض بيته‪،‬‬


‫ّ‬ ‫َم َث ُل هذا السالك َم َث ُل من‬

‫ترتسب ّ‬
‫كل األوساخ فيظهر‬ ‫مدة ال يلمسه ح ّتى ّ‬
‫و يرتكه ّ‬
‫الامء يف احلوض صافي ًا فيظ ّن َّ‬
‫أن هذا الصفاء و هذه الطهارة‬

‫بمجرد إرادته الغوص أو تطهري‬


‫ّ‬ ‫احلاصلة دائمة‪ ،‬ولكن‬

‫لتلوث هذا الامء‬


‫يشء باحلوض تعود تلك األوساخ ّ‬

‫‪30‬‬
‫الصايف و تظهر عىل سطحه بشكل قطع سوداء‪ .‬فينبغي‬

‫يستمر بالمجاهدة و الرياضة إىل أن حيصل عىل‬


‫ّ‬ ‫للسالك أن‬

‫ترتسب آثار اخليال‬


‫هدوء البال و استقرار اخلاطر ح ّتى ّ‬

‫‪31‬‬
‫جمدد ًا ّ‬
‫لتشوش‬ ‫تتحجر و ال تستطيع أن تقوم ّ‬
‫ّ‬ ‫يف ذهنه و‬

‫التوجه إىل المعبود‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ذهنه حني‬

‫و حينام يعرب السالك من عامل الطبع و الربزخ إىل عامل‬

‫نتحدث عنها إن شاء اهلل‬


‫عدة مراحل سوف ّ‬
‫الروح يطوي ّ‬

‫تعاىل بالتفصيل‪.‬‬
‫آخِر مرحلة السلوك الفناء يف الذات األحديّة‬

‫فإن السالك بعد أن يو ّفق لمشاهدة نفسه و‬ ‫و ً‬


‫إمجاال‪َّ ،‬‬

‫الصفات و األسامء اإلهل ّية شيئ ًا فشيئ ًا يصل إىل مرحلة‬

‫ثم يصل بعدها إىل مقام البقاء بالمعبود‪ ،‬و‬ ‫الفناء ّ ّ‬


‫الكيل‪ّ ،‬‬
‫عندها تثبت له احلياة األبد ّية‪.‬‬

‫و بالتأ ّمل و التد ّبر يف اآليات القرآن ّية الكريمة ُيصبح‬

‫هذا األصل أمر ًا مسل ًام‪ ،‬و حاصله َّ‬


‫أن اهلل تعاىل يقول يف‬

‫إحدى آياته الكريمة‪:‬‬


‫ا َْ ً َْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َا ا َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫يل اَّللِ أمواتا بل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ِف‬
‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ت‬‫ق‬ ‫ِين‬
‫اَّل‬ ‫َب‬ ‫س‬ ‫َت‬ ‫ال‬ ‫و‬
‫َ ْ‬
‫حياءٌ‬ ‫أ‬

‫‪32‬‬
‫َْ َ ْ ُْ َُ َ‬
‫‪1‬‬
‫عِند رب ِ ِهم يرزقون‪.‬‬

‫و يقول يف مكان آخر‪:‬‬


‫َ ْ َ ُ ‪2‬‬
‫ٌ ا‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُّ َ‬
‫ك ش ٍء هال ِك إِال وجهه‪.‬‬

‫و أيض ًا‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫باق‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َْ ا‬
‫اَّلل‬ ‫د‬ ‫ِن‬
‫ع‬ ‫ما‬ ‫ك ْم َينْ َف ُد َ‬
‫و‬
‫َْ ُ‬
‫ما عِند‬
‫ٍ‬
‫بضم هذه اآليات بعضها إىل بعض‪ ،‬ي ّتضح َّ‬
‫أن اولئك‬ ‫ّ‬
‫بنص‬
‫األحياء و المرزوقني هم عبارة عن وجه اهلل الذي ‪ّ -‬‬
‫اآلية الكريمة‪ -‬ال يعرف الفناء و الزوال‪.‬‬

‫و من جانب آخر ُيعلم من اآليات القرآن ّية االخرى‪،‬‬

‫َّ‬
‫أن المراد من وجه اهلل تعاىل و الذي ال يقبل الزوال هو‬

‫تلك األسامء اإلهل ّية‪.‬‬

‫فّس يف آية اخرى وجه اهلل الذي‬


‫و بيان ذلك‪ :‬أنه قد ّ‬
‫ال يزول و ال يفنى بأسامئه تعاىل التي ترت ّتب عليها صفات‬

‫العزة و اجلالل‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱69‬من السورة ‪ :3‬آل عمران‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۸۸‬من السورة ‪ :2۸‬القصص‪.‬‬
‫‪ 3‬اآلية ‪ ،96‬من السورة ‪ :۱6‬النحل‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫َ‬ ‫َ َْ َ ُْ َ َ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُّ َ ْ َ َ‬
‫فان ‪ ،‬و يبىق وجه ربِك ذو اْلال ِل‬
‫ك من عليها ٍ‬
‫ِ‪1‬‬
‫َ ْ ْ‬
‫اْلكرام ‪.‬‬‫و ِ‬
‫المفّسون عىل َّ‬
‫أن كلمة «ذو» صفة لـ «وجه»‬ ‫ّ‬ ‫فقد ا ّتفق‬
‫أن وجه ر ّبك الذي هو وجه اجلالل و اإلكرام ٍ‬
‫باق‪ ،‬و‬ ‫أي َّ‬

‫فإن وجه ّ‬
‫كل يشء هو ما حتصل المواجهة به‪،‬‬ ‫كام نعلم َّ‬

‫فوجه أي يشء مظهر له‪ ،‬و المظاهر هي تلك األسامء‬

‫أن ّ‬
‫كل‬ ‫اإلهل ّية التي يواجه اهلل خملوقاته هبا و النتيجة َّ‬

‫الموجودات قابلة للزوال و الفناء ّإال األسامء اجلالل ّية و‬

‫أن السالكني إىل اهلل الذين وصلوا‬‫اجلامل ّية‪ ،‬و هكذا ُيعلم َّ‬
‫َْ َ ْ ٌ َْ َ ْ ُْ َُ َ‬
‫إىل فيض سعادة بل أحياء عِند رب ِ ِهم يرزقون هم عبارة‬

‫عز‪.‬‬ ‫الرب ّ‬
‫جل و ّ‬ ‫عن األسامء اجلالل ّية حلرضة ّ‬
‫األئمة األطهار عليهم‬
‫ّ‬ ‫و ُيعلم أيض ًا بوضوح مراد‬

‫أس َام ُء اهلل‪ ،2‬و ليس المقام الذي‬


‫السالم من قوهلم‪َ :‬ن ْح ُن ْ‬
‫يصفون أنفسهم به هو مقام احلكومة الظاهر ّية االجتامع ّية‪،‬‬

‫و ّ‬
‫تويل االمور الرشع ّية و األحكام اإلهل ّية الظاهر ّية‪ .‬بل‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ 26‬و ‪ ،2۷‬من السورة ‪ :55‬الرْحن‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫«الميزان» ج ‪ ،۸‬ص ‪ ،36۷‬يف تفسري اآلية ‪ ۱۸۰‬من سورة األعراف‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫المراد ذلك الفناء يف الذات األحد ّية الذي يتالزم مع وجه‬

‫اهلل و صريورته مظهر ًا تا ّم ًا للصفات اجلامل ّية و اجلالل ّية‬

‫بأي منصب و مقام‪.‬‬


‫الذي ال يقارن ّ‬

‫و يف طريق السري تكون المرا َق َبة من ّ‬


‫أهم االمور و هي‬

‫يف حكم رضورة من رضور ّياته‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫فينبغي للسالك أن ال خييل نفسه دون مراقبتها منذ أن‬

‫يضع قدمه االوىل يف الطريق و ح ّتى آخره‪ ،‬فهي من‬

‫الرضورات المؤ ّكدة‪ .‬و ليعلم َّ‬


‫أن المراقبة درجات و‬

‫األول ّية‪ ،‬و منها ما‬


‫مراتب‪ ،‬فمنها ما يناسب المراحل ّ‬
‫يناسب المراحل التي تليها‪ .‬فكلام سار نحو الكامل و‬

‫طوى المراحل و المنازل أصبحت مراقبته ّ‬


‫أدق و أعمق‬

‫ْحلت تلك الدرجات من المراقبة عىل السالك‬


‫بحيث لو ُ ّ‬

‫المبتدئ لن يستطيع القيام هبا‪ ،‬بل يرتك السلوك فور ًا و‬

‫هيجره أو حيرتق و هيلك‪ ،‬ولكن شيئ ًا فشيئ ًا عىل أثر‬

‫األول ّية و التقوى يف السلوك يمكنه‬


‫المراقبة يف الدرجات ّ‬
‫أن يصل إىل المراتب العالية من المراقبة يف المراحل‬

‫التالية‪ ،‬و عندها َّ‬


‫فإن الكثري من المباحات التي كانت له يف‬

‫األول ّية تصبح حرام ًا و ممنوعة عليه‪.‬‬


‫المراحل ّ‬
‫آثار املراقبة يف وجود السالك‬

‫و عىل أثر المراقبة الشديدة و االهتامم هبا تسطع أنوار‬

‫حب اجلامل و‬ ‫احلب و العشق يف ضمري السالك؛ َّ‬


‫ألن ّ‬ ‫ّ‬
‫فطري عىل اإلطالق‪ ،‬و قد مخر يف‬
‫ّ‬ ‫الكامل لدى اإلنسان أمر‬

‫‪36‬‬
‫حب الام ّدة و التع ّلق بالكثرات‬ ‫جب ّلته و اودع يف ذاته‪ّ ،‬إال َّ‬
‫أن ّ‬
‫الفطري فال يدع هذا النور األز ّيل‬
‫ّ‬ ‫يصبح حجاب ًا للعشق‬

‫يظهر فيه‪.‬‬

‫و بالمراقبة تضعف هذه احلجب شيئ ًا فشيئ ًا إىل أن‬

‫الفطري‬
‫ّ‬ ‫احلب و العشق‬
‫ّ‬ ‫تزول يف النهاية‪ ،‬فيظهر ذلك‬

‫ليقود اإلنسان إىل مبدأ‬

‫‪37‬‬
‫يعرب عن هذه المراقبة يف اصطالح‬
‫اجلامل و الكامل‪ .‬و ّ‬
‫العارفينبـ «المدام» (أو اخلمر)‪.‬‬

‫عندما يواظب السالك عىل المراقبة‪ُ ،‬يظهر اهلل‬

‫سبحانه تعاىل عليه من باب العطف و الرأفة أنوار ًا بعنوان‬

‫الطالئع‪ ،‬يف بداية األمر تظهر هذه األنوار مثل الربق‬

‫ثم تقوى شيئ ًا فشيئ ًا ح ّتى تصبح مثل‬


‫لتختفي فجأة‪ّ ،‬‬
‫ثم تقوى لتصبح مثل القمر‪ ،‬و‬
‫النجمة الصغرية المتأللئة‪ّ ،‬‬
‫بعدها تظهر كالشمس الساطعة‪ ،‬و أحيان ًا مثل ضوء‬

‫‪38‬‬
‫سمى يف‬
‫مصباح أو قنديل مشتعل‪ .‬و هذه األنوار ُت ّ‬
‫العرفاين»‪ ،‬و هي من قبيل‬
‫ّ‬ ‫اصطالح العارفينبـ «النوم‬

‫الموجودات الربزخ ّية‪.‬‬


‫مشاهدة السالك نفسه يف خمتلف مراحل التجرّد‬

‫و حينام يرت ّقى السالك يف مراتب المراقبة لتكتمل‬

‫عنده مراحلها ُتصبح هذه األنوار أقوى‪ ،‬فريى السالك‬

‫ّ‬
‫كل السامء و األرض رشق ًا و غرب ًا دفعة واحدة مضيئة‬

‫مرشقة‪ ،‬هذا النور هو نور النفس الذي يسطع حني العبور‬

‫من عامل الربزخ‪ .‬لكن يف المراحل االوىل للعبور عند ابتداء‬

‫ظهور التج ّليات النفس ّية يشاهد السالك نفسه بصورة‬

‫كأّنا واقفة‬
‫ما ّد ّية‪ ،‬و بعبارة اخرى قد يالحظ نفسه و ّ‬
‫التجرد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أمامه‪ ،‬و هذه المرحلة هي مرحلة ابتداء‬

‫يقول المرحوم االستاذ ّ‬


‫العالمة القايض رضوان اهلل‬

‫عليه‪« :‬خرجت من غرفتي يوم ًا متخ ّطي ًا ّ‬


‫ممر البيت‪ ،‬فرأيت‬

‫نفيس واقفة بسكون إىل جانبي‪ ،‬فنظرت إليها بد ّقة متناهية‬

‫فرأيت يف وجهي ً‬
‫خاال مل احلظه من قبل‪ ،‬و عندما دخلت‬

‫‪39‬‬
‫إىل الغرفة و نظرت يف المرآة‪ ،‬رأيت ً‬
‫فعال أنه كان يوجد يف‬

‫وجهي خال‪ .‬و مل أكن ح ّتى ذلك الوقت ملتفت ًا إليه»‪.‬‬

‫و أحيان ًا يشعر السالك أنه قد أضاع نفسه‪ ،‬و مهام‬

‫بحث عنها ال يستطيع العثور عليها‪ ،‬و يقال َّ‬


‫إن هذه‬

‫لتجرد النفس‪ ،‬و‬


‫المشاهدات تقع يف المراحل االبتدائ ّية ّ‬
‫هذه (المراحل) مق ّيدة بالزمان‬

‫‪40‬‬
‫و المكان‪ ،‬و فيام بعد ‪-‬و بربكة التوفيقات اإلهل ّية‪-‬‬

‫بتجردها التا ّم و‬
‫ّ‬ ‫يستطيع السالك أن يرى حقيقة نفسه‬

‫الكامل‪.‬‬

‫الملكي‬
‫ّ‬ ‫احلاج المريزا جواد‬
‫ّ‬ ‫و ينقل عن المرحوم‬

‫التربيزي رضوان اهلل عليه‪ ،‬الذي كان تلميذ ًا مالزم ًا‬


‫ّ‬
‫ُالستاذ العرفان و التوحيد المرحوم الموىل حسني قيل‬

‫مدة أربع عرشة سنة‪ ،‬أنه قال‪:‬‬


‫اهلمداين رضوان اهلل عليه ّ‬
‫ّ‬

‫«ذات يوم قال يل االستاذ‪ :‬أو َك ْل ُت ّ‬


‫مهمة تربية التلميذ‬

‫مهة عالية و عزم ًا‬


‫الفالين إليك‪ ،‬و كان ذلك التلميذ يملك ّ‬
‫ّ‬
‫راسخ ًا‪ ،‬فقىض ّ‬
‫ست سنوات يف المراقبة و المجاهدة ح ّتى‬

‫ّترد النفس‪،‬‬
‫وصل إىل مقام القابل ّية المحضة لإلدراك و ّ‬
‫فأردت أن ينال هذا السالك طريق السعادة و هذا الفيض‬
‫ُ‬

‫عىل يد االستاذ و يكتيس هبذه اخللعة اإلهل ّية‪ ،‬فأحرضته إىل‬

‫بيت االستاذ‪ ،‬و بعد عرض األمر عليه قال االستاذ‪ :‬ليس‬

‫التجرد مثل هذا فقال ذلك‬


‫ّ‬ ‫ثم أشار بيده و قال‪:‬‬
‫هذا بيشء‪ّ ،‬‬
‫التلميذ‪ :‬رأيت أنني فصلت عن جسدي فور ًا‪ ،‬و شاهدت‬

‫إىل جانبي موجود ًا مثيل»‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫و ليعلم َّ‬
‫أن شهود الموجودات الربزخ ّية ليس له ذلك‬

‫القدر من الرشافة‪ ،‬بل الرشافة يف رؤية النفس يف عني‬

‫التجرد التا ّم و الكامل؛ َّ‬


‫ألن النفس يف هذه احلال تسطع‬ ‫ّ‬
‫المجردة‬
‫ّ‬ ‫بتامم حقيقتها‬

‫‪42‬‬
‫حيدها زمان و ال مكان‪ ،‬بل‬
‫ف ُتشاهد بصورة موجودة مل ّ‬

‫حتيط بمرشق العامل و مغربه‪ ،‬و هذا الشهود ‪-‬عىل خالف‬

‫شهود المراحل االوىل‪ -‬ليس جزئ ّي ًا‪ ،‬و إنام هو من قبيل‬

‫إدراك المعاين الك ّل ّية‪.‬‬

‫الكربالئي رضوان اهلل‬ ‫أْحد‬ ‫د‬‫ي‬ ‫الس‬ ‫المرحوم‬ ‫عن‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ُن ِ‬
‫ق‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اهلمداين البارزين‪ ،‬أنه‬
‫ّ‬ ‫عليه الذي كان من تالمذة المرحوم‬

‫قال‪:‬‬

‫«كنت ذات يوم أسرتيح يف مكان ما‪ ،‬فأيقظني شخص‬

‫و قال‪ :‬إذا أردت أن تشاهد نور األسفهبد ّية فقم من‬

‫مكانك‪ ،‬و عندما فتحت عيني رأيت نور ًا ليس له ّ‬


‫حد أو‬

‫اللهم ْار ُز ْقنَا‪ .‬و هذه‬


‫َّ‬ ‫حدود‪ ،‬حييط بمرشق العامل و مغربه»‪.‬‬

‫هي مرحلة ّ‬
‫ّتيل النفس التي تشاهد بتلك الصورة عىل هيئة‬

‫نور غري حمدود‪.‬‬

‫و بعد عبور هذه المرحلة يو ّفق السالك السعيد ‪-‬عىل‬

‫إثر االهتامم بالمراقبة المتناسبة مع العوامل العلو ّية و‬

‫مقتضيات تلك المنازل و المراحل‪ -‬لمشاهدة صفات‬

‫المقدسة بنحو ّ ّ‬
‫كيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الباري تعاىل‪ ،‬أو إدراك أسامء الذات‬

‫‪43‬‬
‫و كم حيدث يف هذه احلال أن ينتبه السالك فجأة إىل َّ‬
‫أن‬

‫مجيع موجودات هذا العامل هي علم واحد‪ ،‬أو أ ّنه ال يوجد‬

‫أبد ًا غري قدرة واحدة؛ هذا يف مرحلة شهود الصفات‪ ،‬أ ّما‬

‫يف مرحلة شهود األسامء و التي هي أرفع درجة منها‪،‬‬

‫أن الموجود يف ّ‬
‫كل العوامل‪ ،‬عامل واحد و‬ ‫ي ِ‬
‫الحظ السالك َّ‬ ‫ُ‬
‫قادر واحد‬

‫‪44‬‬
‫حي واحد‪.‬‬
‫و ّ‬
‫شك فيه َّ‬
‫أن هذه المرحلة هي أرشف و أكمل‬ ‫و ممّا ال ّ‬

‫من مرحلة إدراك الصفات التي توجد يف مرتبة القلب؛‬


‫ألن السالِ َك يصبِح و َال يرى َق ِ‬
‫ادر ًا َو َال َعال ًام َو َال َح َّي ًا‬ ‫ُ ْ ُ َ ََ‬ ‫« َّ َّ‬
‫ِس َوى اهلل َت َع َاىل»‪ .‬و هذا الشهود غالب ًا ما يظهر يف حال‬

‫تالوة القرآن‪ .‬فكثري ًا ما يتسنّى للقارئ أن ال يرى نفسه‬

‫إن القارئ شخص آخر‪ ،‬و قد يدرك أحيان ًا َّ‬


‫أن‬ ‫قارئ ًا‪ ،‬بل َّ‬

‫المستمع أيض ًا كان شخص ًا آخر‪.‬‬

‫أن لقراءة القرآن يف حصول هذا األمر تأثري ًا‬


‫و اعلم َّ‬

‫جد ًا‪ ،‬و حيسن أن يقرأ السالك حني االشتغال بصالة‬


‫كبري ًا ّ‬
‫الليل سور العزائم؛ َّ‬
‫ألن السجود هلل فجأة من حال القيام‬

‫ال خيلو من اللطف‪ .‬و قد ثبت بالتجربة َّ‬


‫أن قراءة السورة‬

‫المباركة «ص» يف ركعة الوتر من صالة الليل ليلة اجلمعة‬

‫جد ًا‪ ،‬و فائدة هذه السورة ُتعلم من الرواية التي‬


‫مؤ ّثر ّ‬

‫وردت بشأن ثواهبا‪.‬‬

‫اإلهلي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و حني يطوي السالك هذه المراحل بالتوفيق‬

‫و يو ّفق للمشاهدات القدس ّية‪ ،‬سوف حتيط به اجلذبات‬

‫‪45‬‬
‫احلقيقي‪ ،‬إىل أن حتيط به‬
‫ّ‬ ‫لتقربه يف ّ‬
‫كل آن إىل الفناء‬ ‫اإلهل ّية ّ‬
‫متوجه ًا إىل اجلامل و الكامل‬
‫ّ‬ ‫أخري ًا اجلذبة التي ّتعله‬

‫اخلاص و ّ‬
‫كل عامل الوجود يف‬ ‫ّ‬ ‫المطلق‪ ،‬فيشتعل وجوده‬

‫عينيه بأنوار الطلعة البه ّية للمعشوق‪،‬‬

‫‪46‬‬
‫‪1‬‬ ‫فال يرى أثر ًا لسواه‪َ ،‬ك َ‬
‫ان اهلل َو مل َي ُك ْن َم َع ُه َْ‬
‫يش ٌء‪.‬‬

‫يف هذه احلال يتخ ّطى السالك وادي اهلجران‬

‫ليستغرق يف بحر مشاهدات الذات الربوب ّية الالمتناهي‪.‬‬

‫و ال خيفى َّ‬
‫أن سري السالك و سلوكه ال يتناىف مع‬

‫وجوده يف عامل الام ّدة‪َّ ،‬‬


‫فإن بساط الكثرة اخلارج ّية يبقى عىل‬

‫حاله‪ ،‬ليحيا السالك يف الوحدة مع عني الكثرة‪ .‬قال‬

‫أحدهم‪ :‬بقيت بني الناس ثالثني عام ًا كانوا يظنّونني معهم‬

‫و مراود ًا هلم‪ ،‬و احلال أنني خالل تلك ّ‬


‫المدة مل أكن أعرف‬

‫و ال أرى منهم أحد ًا سوى اهلل‪.‬‬


‫«احلال» شهود النفس و «البقاء باملعبود» بعد الفناء الكلّيّ‬

‫جد ًا‪ ،‬و حتوز عىل أ ّ‬


‫مه ّية عظيمة‪ ،‬فمن‬ ‫مهمة ّ‬
‫هذه احلالة ّ‬
‫الممكن أن تظهر يف البداية و للحظة واحدة‪ ،‬ولكن شيئ ًا‬
‫ّ ِ ِ‬
‫تشتد ل َتص َل إىل عرش دقائق أو أكثر‪ّ ،‬‬
‫ثم ساعة أو‬ ‫فشيئ ًا‬

‫أكثر‪ ،‬لتنتقل بعدها بالعناية اإلهل ّية من احلال العابر إىل‬

‫المقام‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫العيني) ص ‪ ۱۱4‬و ‪.۱۱5‬‬
‫ّ‬ ‫العلمي و‬
‫ّ‬ ‫«توحيد علمي و عيني»(‪ /‬التوحيد‬
‫‪47‬‬
‫عرب عن هذه احلالة يف األخبار و عىل لسان‬
‫و ُي ّ‬
‫العظامءبـ البقاء بالمعبود‪ ،‬و ال يمكن الوصول إىل هذه‬

‫ّّ‬
‫الكيل لعامل‬ ‫المرتبة من الكامل ّإال بعد حصول الفناء‬

‫اإلهلي‪ ،‬و عندها لن يرى‬


‫ّ‬ ‫اإلمكان يف حقيقة الوجود‬

‫المقدسة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السالك شيئ ًا سوى الذات اإلهل ّية‬

‫‪48‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب أنه‪ُ « :‬طل َ‬
‫ب من أحد المنجذبني باجلذبة اإلهل ّية و‬ ‫ُكت َ‬
‫ُيدعى بابا فرج اهلل المجذوب أن يصف الدنيا‪ ،‬فقال‪ :‬مذ‬
‫‪1‬‬
‫فتحت عين َّي مل َأر الدنيا ح ّتى أصفها لكم»‪.‬‬
‫ُ‬

‫يقو ح ّتى‬
‫اإلبتدائي الذي مل َ‬
‫ّ‬ ‫يعرب عن هذا الشهود‬
‫و ّ‬
‫ذاك‬

‫‪ 1‬رشح حال «بابا فرج المجذوب» موجود يف كتاب «تاريخ حرشي» (=تأريخ‬
‫احلرشي) يف حاالت العرفاء المتو ّفني يف تربيز‪ ،‬و قد جاء كالم «بابا فرج» هذا‬
‫ّ‬
‫يف الكتاب منظوم ًا‪:‬كه فرج تا كه ديده بگشادستچشم او بر جهان نيفتاده است‬
‫عيني َف َرج مل تشاهد الدنيا منذ أن فتحها» ونظريه ما أنشده حافظ‪.‬‬
‫إن ْ‬ ‫و ترمجته‪َّ « :‬‬
‫(«ديوان حافظ» غزل ‪ 3۸۷‬ص ‪ ،39۰‬طبعة پژمان)‪:‬منم كه شهرة شهرم به‬
‫عشق ورزيدن***منم كه ديده نيالودهام به بد ديدنوترمجته‪:‬أنا من كنت يف‬
‫بلدي بالعشق مشهورا***أنا من مل تشاهد عيناه سواه حمبوباوعن ابن الفارض‬
‫الص ْ ِرب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أيض ًا («ديوان ابن الفارض» ص ‪:)۱۸2‬و َح َياة ْأش َواقي إ َل ْي َك َو ت ُْر َبة َّ‬
‫يلوقد نقل أنه نظم‬ ‫است َْح َسن َْت َع ْينِي ِس َو َ‬
‫اك َو َال َص َب ْو ُت َإىل َخلِ ِ‬ ‫جل ِم ِ‬
‫يل*** َما ْ‬ ‫ا َ‬
‫هذا البيت يف عامل الرؤيا‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫الوقت بـ «احلال»‪ ،‬و يكون السالك فيه غري خمتار‪،‬‬

‫شدة المراقبة و العناية اإلهل ّية ينتقل السالك‬


‫ولكن عىل إثر ّ‬

‫إىل «المقام»‪ ،‬و ُيصبح هنالك خمتار ًا‪.‬‬

‫القوي هو الذي يكون يف‬


‫ّ‬ ‫البدهيي َّ‬
‫أن السالك‬ ‫ّ‬ ‫و من‬

‫متوجه ًا إىل عامل الكثرة‪ ،‬و يدير‬


‫ّ‬ ‫عني شهود هذه األحوال‬

‫جد ًا و الوصول إليها‬


‫كال العالمني‪ ،‬و هذه المرتبة رفيعة ّ‬

‫ختتص باألنبياء و األولياء و من‬


‫يف غاية الصعوبة‪ ،‬و لعلها ّ‬
‫اختاره اهلل تعاىل‪ ،‬فهؤالء يف عني االشتغال بنعمة يل َم َع اهلل‬

‫االت َال َي َس ُع َها َم َل ٌك ُم َق َّر ٌب ‪ ، 1‬تظهر منهم جلوات و‬


‫َح ٌ‬
‫ْ ُ ُ ْ ‪2‬‬ ‫ٌ‬ ‫ََ ََ‬
‫ّت ّليات أنا بَش مِثلكم‪.‬‬

‫و إذا قيل‪َّ :‬‬


‫إن هذه المناصب اختصاص ّية‪ ،‬و الوصول‬

‫إىل هذه الذروة من المعارف اإلهل ّية منحرص باألنبياء و‬

‫األئمة المعصومني عليهم السالم‪ ،‬و َّ‬


‫إن اآلخرين ليس‬ ‫ّ‬
‫بإمكاّنم الوصول إىل هذا الطريق أبد ًا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫للهجويري‪ ،‬ج ‪،2‬‬
‫ّ‬ ‫«جامع األرسار» ص ‪ ،2۷‬و ‪2۰5‬؛ و «كشف المحجوب»‬
‫ص ‪.6۱6‬‬
‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۱۱۰‬من السورة ‪ :۱۸‬الكهف‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫الوصول ملقام التوحيد املطلق مُيَسَّر للجميع‬

‫اختصايص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النبوة و اإلمامة أمر‬ ‫نقول‪َّ :‬‬
‫إن منصب ّ‬
‫ولك َّن الوصول إىل مقام التوحيد المطلق و الفناء يف‬

‫الذات األحد ّية الذي‬

‫‪51‬‬
‫عرب عنه بالوالية ليس أمر ًا اختصاص ّي ًا أبد ًا‪ ،‬و دعوة‬
‫ُي َّ‬
‫األئمة عليهم السالم اممهم إىل هذه المرحلة من‬
‫األنبياء و ّ‬
‫الكامل‪ ،‬و دعوة رسول اهلل ّ‬
‫صىل اهلل عليه و آله و سلم ا ّمته‬

‫إىل اقتفاء آثار مسريه حيثام سار‪ ،‬خري دليل عىل إمكان‬

‫السري إىل ذلك المقصد‪ ،‬و ّإال لزم أن تكون الدعوة لغو ًا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ا ُ ْ ٌَ َ َ ٌَ َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ َ َ ُ‬
‫لقد اكن لكم ِِف رسو ِل اَّللِ أسوة حسنة ل ِمن اكن يرجوا‬
‫ً‪1‬‬ ‫اَ َ َْ ْ َ ْ َ َ َ َ َ اَ َ‬
‫خر و ذكر اَّلل كثِريا‪.‬‬‫اَّلل و اْلوم اْل ِ‬

‫روي عن طريق العا ّمة‪ ،‬عن رسول اهلل ّ‬


‫صىل اهلل عليه‬

‫و آله و سلم أنه قال‪:‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وال َتكْث ٌري يف َك َالمك ُْم‪َ ،‬و َمت ْ ِر ٌ‬
‫يج يف ُق ُلوبِك ُْم َل َرأ ْي ُت ْم َما‬ ‫َل َ‬

‫أس َم ُع‪.‬‬ ‫ا‬‫م‬ ‫م‬‫ت‬‫ُ‬ ‫ع‬ ‫أرى‪ ،‬و َلس ِ‬


‫م‬
‫ْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫يبني بوضوح سبب عدم الوصول إىل‬
‫هذا احلديث ّ‬
‫الشيطاين‬
‫ّ‬ ‫الكامالت اإلنسان ّية‪ ،‬و هذا السبب هو اخليال‬

‫الباطل‪ ،‬و األفعال العابثة الالغية‪.‬‬

‫اخلاصة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫و روي أيض ًا عن طريق‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،2۱‬من السورة ‪ :33‬األحزاب‪.‬‬


‫‪52‬‬
‫وب َبنِي آ َد َم َل َرأوا‬
‫ون َح ْو َل ُق ُل ِ‬
‫حيو ُم َ‬ ‫الش َياطِ َ‬
‫ني َُ‬ ‫َل َ‬
‫وال َّ‬
‫أن َّ‬
‫‪1‬‬ ‫األر ِ‬
‫ض‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َم َلك َ‬
‫الس َام َوات و ْ‬
‫ُوت َّ‬
‫و من مجلة آثار تلك المرتبة اإلنسان ّية العالية‪:‬‬

‫اإلحاطة الك ّل ّية ‪-‬بقدر االستعدادات اإلمكان ّية‪ -‬بالعوامل‬

‫اإلهل ّية‪ ،‬و نتيجة هذه اإلحاطة اال ّطالع عىل الاميض و‬

‫الترصف يف موا ّد الكائنات‪ ،‬إذ للمحيط غاية‬


‫ّ‬ ‫المستقبل و‬

‫التس ّلط عىل المحاط عليه‪ ،‬فهو مرافق للجميع‪ ،‬و حارض‬

‫يف ّ‬
‫كل مكان‪.‬‬

‫اجلييل يف‬
‫ّ‬ ‫يقول أحد العارفني و هو الشيخ عبدالكريم‬

‫مرة عرضت يل حالة يف‬


‫كتابه «اإلنسان الكامل»‪« :‬أذكر ّ‬
‫مرت كلمح البرص وجدت نفيس خالهلا م ّتحدة مع‬
‫فرتة ّ‬
‫مجيع الموجودات بحيث كنت أراها مجيع ًا حارضة لدى‬

‫تستمر ألكثر من حلظة»‪.‬‬


‫ّ‬ ‫عيان ًا‪ ،‬ولك َّن هذه احلال مل‬

‫و الامنع من دوام استمرار هذا احلال هو االشتغال‬

‫أن حصول ّ‬
‫كل هذه المراتب متو ّقف عىل‬ ‫بامور البدن‪ ،‬و َّ‬

‫ترك تدبري البدن‪ .‬يقول أحد عرفاء اهلند و اسمه الشيخ و ّيل‬

‫‪1‬‬
‫المحجة البيضاء» ج ‪ ،2‬ص ‪.۱25‬‬
‫ّ‬ ‫«بحار األنوار» ج ‪ ،۷۰‬ص ‪44‬؛ و «‬
‫‪53‬‬
‫الدهلوي يف كتابه «اهلمعات»‪ :‬أطلعوين عىل َّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫اهلل‬

‫التخ ّلص من آثار النشأة الام ّد ّية حيصل بعد مرور مخسامئة‬

‫المدة مطابقة‬
‫عام عىل اجتياز عامل الام ّدة و الموت‪ ،‬و هذه ّ‬
‫ا‬
‫قائل‪َ :‬و إِن‬
‫عز من ٍ‬‫لنصف يوم من األ ّيام الربوب ّية‪ ،‬لقوله ّ‬
‫ا َ ُ ُّ َ ‪1‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ً َْ َ َ ََْ‬
‫يوما عِند ربِك كأل ِف سن ٍة مِما تعدون‪.‬‬

‫و معلوم َّ‬
‫أن سائر درجات و فيوضات هذا العامل بال‬

‫ثم لام كانت األلفاظ توضع للمعاين عىل‬


‫حد و ال ّناية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬

‫أساس االحتياجات البرش ّية فت ّتسع بمقدار ا ّتساعها‪ ،‬لذا مل‬

‫المجردة لعامل‬
‫ّ‬ ‫يكن من الممكن بيان احلقائق و األنوار‬

‫الربوب ّية باأللفاظ‪ ،‬و ّ‬


‫كل ما قيل فيها ال يعدو كونه إشارة‬

‫أو كناية ليس بمقدورها إنزال تلك احلقائق إىل مستوى‬

‫األفهام‪.‬‬

‫فاإلنسان الام ّد ّي باعتبار أنه حييا يف أ ْظلم ال َع َوامل اإلهل ّية‬

‫ترصح بذلك بعض األخبار‪« :‬أنت يف أظلم العوامل» ال‬


‫كام ّ‬
‫يضع األلفاظ ّإال لام يقع عىل برصه أو تناله يده ممّا يدخل‬

‫يف إطار حاجاته اليوم ّية‪ ،‬أ ّما سائر العوامل و التع ّلقات و‬

‫‪1‬‬
‫احلج‪.‬‬
‫اآلية ‪ ،4۷‬من السورة ‪ّ :22‬‬
‫‪54‬‬
‫التشعشعات و األنوار و األرواح التي ال علم له هبا فال‬

‫يضع هلا ألفاظ ًا‪ ،‬فال يوجد ‪-‬بنا ًء عىل ذلك‪ -‬لغة يف العامل‬

‫التحدث عن هذه المعاين السامية‪ ،‬فكيف يمكن‬


‫ّ‬ ‫يتسنّي هلا‬

‫إ َذن توصيف هذه المعاين و بياّنا؟‬

‫حتدثوا عن هذه احلقائق طائفتان‪ ،‬مها‪:‬‬


‫و الذين ّ‬

‫‪55‬‬
‫االوىل‪ :‬األنبياء الكرام عليهم السالم‪ ،‬حيث و ال ّ‬
‫شك‬

‫كانت هلم رابطة مع عوامل ماوراء الام ّدة‪ ،‬ولكنّهم بحكم‬

‫َّاس‬ ‫ارش األ ْنبِي ِ‬


‫اء ِام ْر َنا ْ‬ ‫احلديث القائل‪َ :‬نحن مع ِ‬
‫أن ُنكَلم الن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ََ َ‬

‫َع َىل َق ْد ِر ُع ُق ْ‬
‫‪1‬‬
‫يعربوا عن هذه احلقائق‬
‫اضطروا أن ّ‬
‫ّ‬ ‫وهلم‬

‫غضوا النظر عن‬ ‫تعبري ًا ً‬


‫قابال إلدراك عا ّمة الناس له؛ و هلذا ّ‬

‫بيان احلقائق النوران ّية و الغاية الساطعة‪ ،‬و مل يفصحوا عن‬

‫يعربون عن حقيقة‬
‫تبيان ما ال خيطر عىل قلب برش‪ ،‬و كانوا ّ‬
‫ٍ‪2‬‬ ‫أت َو َال ا ُذ ٌن َس ِم َع ْت َو َال َخ َط َر َع َىل َق ْل ِ‬
‫ب َب َرش‬ ‫َما َال َع ْ ٌ‬
‫ني َر ْ‬

‫بتعابري مثل اجلنّة و احلور و القصور و غريها‪ ،‬و هلذا‬

‫حيدها وصف‬ ‫اعرتفوا يف النهاية َّ‬


‫بأن حقائق تلك العوامل ال ّ‬

‫و ال يسعها بيان‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬طائفة من الناس كان نصيبهم ‪-‬من خالل‬

‫الترشف بإدراك هذه احلقائق و‬


‫ّ‬ ‫متابعة طريق األنبياء‪-‬‬

‫الفيوضات بقدر اختالف استعداداهتم‪ ،‬و قد كان كالمهم‬

‫حتت ستار االستعارة و التمثيل‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫العيني) ص ‪.۱36‬‬
‫ّ‬ ‫العلمي و‬
‫ّ‬ ‫«توحيد علمي و عيني» (التوحيد‬
‫‪2‬‬
‫المحجة البيضاء» ج ‪ ،۷‬ص ‪5۷‬؛ و «بحار األنوار» ج ‪ ،۸‬ص ‪.92‬‬
‫ّ‬ ‫«‬
‫‪56‬‬
‫عامل اخللوص و اإلخالص‬

‫و ليعلم َّ‬
‫أن الوصول إىل هذه المقامات و الدرجات‬

‫ال يمكن‬

‫‪57‬‬
‫أن يتح ّقق دون اإلخالص يف سبيل ّ‬
‫احلق‪ ،‬و مادام‬

‫السالك مل يصل إىل منزلة المخ َلصني‪ ،‬فلن ّ‬


‫يتم له كشف‬

‫احلقيقة كام ينبغي‪.‬‬

‫األول‪:‬‬ ‫و اعلم َّ‬


‫أن اإلخالص و اخللوص عىل قسمني‪ّ :‬‬
‫خلوص الدين و الطاعة هلل تعاىل‪ .‬الثاين‪ :‬خلوص النفس‬
‫ُ ُ ا‬
‫األول اآلية الكريمة‪َ :‬و ما أمِروا إِال‬ ‫له تعاىل‪ّ .‬‬
‫يدل عىل ّ‬
‫َ َ‬ ‫اَ ُْ‬ ‫ْ‬
‫ِْلَع ُب ُدوا اَّلل ُمل ِ ِصَّي َل الِين ‪ .‬و عىل الثانية اآلية‬
‫َ ‪1‬‬ ‫ُ‬

‫َ ‪2‬‬ ‫َ ا ُْ ْ َ‬ ‫ا‬
‫النبوي‬
‫ّ‬ ‫الرشيفة‪ :‬إِال عِباد اَّللِ المخل ِصَّي‪ .‬و احلديث‬

‫اح ًا َظ َه َر ْت َينَابِ ُ‬
‫يع‬ ‫ص هلِل ْأر َب ِع َ‬
‫ني َص َب َ‬ ‫أخ َل َ‬
‫المشهور‪َ :‬م ْن ْ‬

‫احلك َْم ِة ِم ْن َق ْلبِ ِه َإىل لِ َسانِ ِه‪ ،‬أي َّ‬


‫أن الذي يصل إىل هذه‬

‫المرحلة هو ذاك الذي أخلص نفسه هلل تعاىل‪.‬‬

‫و توضيح هذا اإلمجال َّ‬


‫أن اهلل تعاىل كام أسند الصالح‬

‫يف القرآن الكريم و يف بعض المواضع إىل العمل‪ ،‬كقوله‬

‫تعاىل‪:‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،5‬من السورة ‪ :9۸‬الب ّينة‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،4۰‬من السورة ‪ :3۷‬الصا ّفات‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫صاْلا ً‪ 2‬او ااَّلِينَ‬
‫ِ‬
‫ً‪ً َ َ َ َ َ 1‬‬
‫ِ‬
‫صاْلا او و ع ِمل عمال‬
‫َ ْ َ َ‬
‫من ع ِمل‬
‫ا‬ ‫َُ َ َ ُ‬
‫ات ‪ ،‬و يف بعض المواضع أسند‬ ‫‪3‬‬
‫آمنوا و ع ِملوا الص ِ‬
‫اْل ِ‬

‫ذلك أيض ًا‬


‫اْل َ‬
‫َِّي‪،4‬‬ ‫إىل ذات اإلنسان‪ ،‬كقوله تعاىل‪ :‬إنا ُه م َِن ا‬
‫الص ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ‪5‬‬ ‫ُ ُْ ْ‬
‫أو صال ِح المؤ ِمنَِّي كذلك اعترب أن اإلخالص و‬
‫َّ‬

‫اخللوص يستند إىل العمل أحيان ًا و قد نسبه إليه‪ ،‬و أحيان ًا‬

‫بدهيي أ َّن َ َحت ُّق َق اإلخالص يف مرتبة‬


‫ّ‬ ‫يستند إىل الذات‪ .‬و‬

‫الذات متو ّقف عىل اإلخالص يف مرتبة العمل أي َّ‬


‫أن الذي‬

‫مل ُخي ِلص يف أعامله و أفعاله و أقواله و يف سكناته لن يصل‬


‫عز من قائل‪ :‬إ َْلْهِ يَ ْص َعدُ‬
‫ِ‬ ‫يت؛ قال ّ‬
‫إىل مرحلة اإلخالص الذا ّ‬
‫ُ َ ْ َ ُ ُ‪6‬‬ ‫ا‬ ‫َْ ُ ا ُ َ َْ َُ‬
‫الَكِم الطيِب و العمل الصال ِح يرفعه ‪ ،‬بإرجاعه الضمري‬

‫المسترت الفاعل يف «يرفع» إىل «العمل الصالح» إذ يصبح‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،9۷‬من السورة ‪ :۱6‬النحل‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۷۰‬من السورة ‪ :25‬الفرقان‪.‬‬
‫‪ 3‬اآلية ‪ ،29‬من السورة ‪ :۱3‬الرعد‪.‬‬
‫‪ 4‬اآلية ‪ ،۷5‬من السورة ‪ :2۱‬األنبياء‪.‬‬
‫‪ 5‬اآلية ‪ ،4‬من السورة ‪ :66‬التحريم‪.‬‬
‫‪ 6‬اآلية ‪ ،۱۰‬من السورة ‪ :35‬فاطر‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫ب»‪ .‬و اعلم َّ‬
‫أن‬ ‫المعنى «ال َع َم ُل َّ‬
‫الصالح َي ْر َف ُع الكَلم ال َّط ِّي َ‬
‫يت و ينال هذا الفيض‬
‫الذي يصل إىل مرحلة اخللوص الذا ّ‬
‫العظيم‪ ،‬سوف تكون له آثار و خصائص ليست من‬

‫نصيب اآلخرين‪ ،‬منها‪:‬‬


‫آثار و خصوصيّات مقام اإلخالص‬

‫نصت عليه بعض اآليات من عدم تس ّلط‬ ‫األول‪ :‬ما ّ‬


‫ّ‬
‫الشيطان عليه‪ ،‬كقوله تعاىل‪ :‬فَبع ازت َِك ََلُ ْغو َي ان ُه ْم أَ ْ َ‬
‫ْجعَّيَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ‪1‬‬ ‫َ َ ُْ ُ ُْ ْ َ‬ ‫ا‬
‫‪ ،‬إِال عِبادك مِنهم المخل ِصَّي ‪ ،‬و ممّا ال ريب فيه أن هذا‬
‫َّ‬

‫االستثناء للمخلصني‬

‫يت يف‬
‫طبيعي القتدارهم الذا ّ‬
‫ّ‬ ‫ترشيع ّي ًا‪ ،‬و إ َّنام هو أثر‬

‫مقام التوحيد؛ حيث ال يعود للشيطان قدرة عىل إغوائهم‪،‬‬

‫و بسبب ضعفه و عجزه ال يستطيع أن يصل إليهم يف هذه‬

‫المرحلة؛ و ألّنم أخلصوا أنفسهم هلل يرون اهلل يف ّ‬


‫كل ما‬

‫بأي شكل أو‬


‫تقع عليه أبصارهم‪ ،‬و إذا بدا هلم الشيطان ّ‬
‫اإلهلي ليغرتفوا‬
‫ّ‬ ‫هيئة‪ ،‬تراهم ينظرون إىل هذه اهليئة بالنظر‬

‫منها فيض ًا إهل ّي ًا‪ ،‬هلذا اعرتف الشيطان منذ البداية بالعجز‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ ۸2‬و ‪ ،۸3‬من السورة ‪ :3۸‬ص‪.‬‬


‫‪60‬‬
‫عن التأثري يف هذه الطائفة‪ ،‬و مل يكن ذلك منه ُحمابا ًة هلم أو‬

‫ترْح ًا عليهم‪ ،‬إذ ال غاية له سوى الغواية و اإلضالل‪.‬‬


‫ّ‬

‫معفوة من حساب يوم احلرش‬


‫ّ‬ ‫الثاين‪َّ :‬‬
‫أن هذه الطائفة‬

‫اآلفاقي و الوقوف يف عرصاته‪ ،‬و قد جاء يف القرآن‬


‫ّ‬
‫الكريم‪:‬‬

‫ماوات َو َم ْن ِِف‬
‫ِ‬ ‫الصور َف َصعِ َق َم ْن ِف ا‬
‫الس‬ ‫َو نُف َخ ِف ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ا‬ ‫َْ‬
‫َ ا ُ ‪1‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫اَلر ِض إِال من شاء اَّلل‪.‬‬

‫قطعي‪ -‬وجود‬
‫ّ‬ ‫فيعلم من هذه اآلية الكريمة ‪-‬بشكل‬

‫مجاعة تأمن صعقة يوم القيامة و فزعه‪ ،‬و إذا ضممنا إليها‬
‫َ ا‬ ‫ا‬ ‫َ اُ ْ َُ ْ َ ُ َ‬
‫اآلية الرشيفة‪ :‬فإِنهم لمحَضون ‪ ،‬إِال عِباد اَّللِ‬
‫َ ‪2‬‬ ‫ُْ ْ َ‬
‫المخل ِصَّي ‪ ،‬ي ّتضح أن الطائفة التي هي يف أمان من‬
‫َّ‬

‫صعقة يوم القيامة هي «عباد اهلل المخلصني»؛‬

‫ألنه ليس هلؤالء أعامل توجب حضورهم يف عرصة‬

‫يوم القيامة‪ ،‬فهم قد قتلوا يف ساحات جهاد النفس و‬

‫ترويضها بالمراقبة و العبادات الرشع ّية‪ ،‬و تع ّلقوا باحلياة‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،6۸‬من السورة ‪ :39‬الزمر‪.‬‬


‫‪ 2‬اآليتان ‪ ۱2۷‬و ‪ ،۱2۸‬من السورة ‪ :3۷‬الصا ّفات‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫تم‬
‫األبد ّية بعد ما اجتازوا القيامة األنفس ّية العظمى‪ ،‬و قد ّ‬
‫حساهبم خالل فرتة المجاهدة‪ ،‬فج ّللوا بعد نيلهم رشف‬

‫القتل يف سبيل اهلل بخلعة احلياة األبد ّية‪ ،‬لينعموا بفيض‬


‫عز من ٍ‬
‫قائل‪:‬‬ ‫اخلزائن الربوب ّية؛ قال ّ‬
‫ا َْ ً َْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َا ا َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫يل اَّللِ أمواتا بل‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ِف‬
‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ت‬‫ق‬ ‫ِين‬
‫اَّل‬ ‫َب‬ ‫س‬ ‫َت‬ ‫ال‬ ‫و‬
‫ْ ُ ْ َ ُ َ ‪1‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ٌ ْ‬
‫أحياء عِند رب ِ ِهم يرزقون‪.‬‬

‫تقدم َّ‬
‫أن اإلحضار ينشأ من عدم‬ ‫يضاف إىل ما ّ‬
‫احلضور‪ ،‬فهم قبل ظهور القيامة كانوا حارضين يف ّ‬
‫كل‬
‫ْ‬
‫كل األحوال؛ لقوله تعاىل‪ :‬عِن َد‬
‫مكان‪ ،‬و م ّطلعني عىل ّ‬
‫ُ َ‬
‫َرب ِ ِه ْم يُ ْر َزقون‪.‬‬

‫أن ّ‬
‫كل ما يعطى لإلنسان من ثواب و أجر يوم‬ ‫الثالث‪َّ :‬‬

‫القيامة سوف يكون مقابل ما عمله ّإال هذه الطائفة من‬

‫تتعدى الكرامة اإلهل ّية هلم حدود أجر العمل‬ ‫ّ‬ ‫الناس‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫ُ ُْ ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َُْ ْ َ ا‬
‫المعهود‪َ :‬و ما ُتزون إِال ما كنتم تعملون ‪ ،‬إِال عِباد‬
‫َ ‪2‬‬ ‫ا ُْ ْ َ‬
‫اَّللِ المخل ِصَّي‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱69‬من السورة ‪ :3‬آل عمران‪.‬‬


‫‪ 2‬اآليتان ‪ 39‬و ‪ ،4۰‬من السورة ‪ :3۷‬الصا ّفات‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫ّ‬
‫المعذبني جيزون‬ ‫إن مفاد هذه اآلية هو َّ‬
‫أن‬ ‫و لو قيل‪َّ :‬‬

‫بحسب‬

‫‪63‬‬
‫أعامهلم‪ ،‬أ ّما عباد اهلل المخ َلصني فلن يكون جزاؤهم‬

‫بحسب أعامهلم‪ ،‬بل اهلل المنّان سوف يعطيهم بفضله و‬

‫خيتص اخلطاب فيها‬


‫ّ‬ ‫كرمه‪ .‬نقول‪َّ :‬‬
‫إن يف اآلية إطالق‪ ،‬فال‬

‫المعذبني‪ ،‬يضاف إىل ذلك َّ‬


‫أن جمازاة العباد بالفضل و‬ ‫ّ‬ ‫بفئة‬

‫اإلهلي ال يتناىف مع اجلزاء الذي يقابل العمل‪ ،‬و إن‬


‫ّ‬ ‫الكرم‬

‫كان معنى الفضل هو َّ‬


‫أن اهلل المنّان يعطي األجر العظيم‬

‫فيعد تعاىل العمل الصغري كبري ًا‪،‬‬


‫يف قبال العمل الصغري‪ُّ ،‬‬

‫ولكن مع هذا كله يبقى اجلزاء واقع ًا يف قبال العمل‪ ،‬يف‬

‫بأن جزاء المخ َلصني غري‬


‫ترصح َّ‬ ‫حني َّ‬
‫أن اآلية الكريمة ّ‬
‫أن عباد اهلل المخ َلصني ال ينالون اجلزاء‬
‫هذا؛ و مفادها‪َّ :‬‬

‫مقابل العمل أبد ًا‪ ،‬و جاء يف آية اخرى‪:‬‬


‫ٌ ‪1‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ ْ َ ُ َ‬
‫لهم ما يشاؤن فِيها و لينا م ِزيد‪.‬‬

‫فكل ما تتع ّلق به مشيئتهم يتاح هلم و زيادة عليه‪،‬‬


‫ّ‬

‫ي ّتضح من هذا أّنم ُيعطون من الكرامات اإلهل ّية فوق ما‬

‫التصور‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫تتع ّلق به اإلرادة و المشيئة‪ ،‬و أعىل من مستوى‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،35‬من السورة ‪ :5۰‬ق‪.‬‬


‫‪64‬‬
‫أعىل مستوى من فضاء حتليق طائر اختيارهم و إرادهتم‪ .‬و‬

‫هلذه المسألة دقائق جديرة باالنتباه‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الرابع‪َّ :‬‬
‫أن هلؤالء المقام المنيع و المنصب الرفيع و‬

‫المرتبة العظيمة التي يستطيعون فيها أداء احلمد و الشكر‬

‫المقدسة‪ ،‬قال‬
‫ّ‬ ‫و الثناء للذات األحد ّية كام هو الئق بالذات‬
‫َ ا‬ ‫ا‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ا َ‬
‫عز من قائل‪ُ :‬سبْحان اَّللِ ع اما يَ ِصفون ‪ ،‬إِال عِباد اَّللِ‬
‫ّ‬
‫َ ‪1‬‬ ‫ُْ ْ َ‬
‫المخل ِصَّي ‪ .‬و هذه غاية كامل المخلوق‪ ،‬و منتهى‬

‫الدرجة الممكنة‪.‬‬
‫لزوم قطع عالقة السالك من عامل الكثرة‬

‫من جمموع البيانات السابقة نرى قدر مم ّيزات‬

‫المراحل األخرية للسلوك التي هي مقام المخ َلصني‪ ،‬و‬

‫كم هي الفيوضات التي ترت ّتب عليها؛ ولكن ينبغي أن‬

‫يعلم َّ‬
‫أن الوصول إىل هذه الكامالت و حتصيل هذه احلقائق‬

‫يتيّس ّإال لمن ُيق َتل يف ميدان اجلهاد يف سبيل اهلل‪ ،‬و ال‬
‫ال ّ‬
‫يرتوي من الفيوضات اإلهل ّية ّإال َمن انتهل من كأس‬

‫الشهادة‪ .‬و المراد من القتل‪ :‬قطع عالقة الروح بالبدن و‬

‫متع ّلقاته‪ ،‬و كام يقطع الشهيد يف معركة القتال عالقة روحه‬

‫الظاهري‪ ،‬كذلك سالك طريق اهلل‬


‫ّ‬ ‫ببدنه بواسطة السيف‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ ۱59‬و ‪ ،۱6۰‬من السورة ‪ :3۷‬الصا ّفات‪.‬‬


‫‪66‬‬
‫ينبغي أن يقطع ‪-‬بواسطة االستمداد من القوى الرْحان ّية‪-‬‬

‫الباطني يف‬
‫ّ‬ ‫عالقة روحه عن البدن و متع ّلقاته بالسيف‬

‫ميدان جهاد النفس األ ّمارة‪.‬‬

‫و عىل السالك يف بداية السلوك إىل اهلل أن يقطع و‬

‫شائج‬

‫‪67‬‬
‫التع ّلق بعامل الكثرة عن طريق الزهد و التأ ّمل و الد ّقة‬

‫و التفكّر يف ضعة الدنيا و عدم فائدة التع ّلق هبا‪ ،‬فنتيجة‬

‫الزهد انعدام الرغبة و الميل إىل األشياء‪ ،‬و يرت ّتب عدم‬

‫الفرح باالمور التي ّتلب النفع الام ّد ّي له‪ ،‬و عدم احلزن‬

‫من الوقائع التي تؤ ّدي إىل رضره الام ّد ّي‪.‬‬


‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ ََْ ْ َ‬
‫ل ِكيال تأسوا َع ما فاتكم و ال تفرحوا بِما‬
‫ُ ْ ‪1‬‬
‫آتاكم‪.‬‬

‫و هذا ال يتنايف مع احلزن و الفرح يف اهلل؛ َّ‬


‫ألن هذا‬

‫حب الامل و المصالح و االعتبارات‬


‫الفرح ليس من ّ‬
‫الكاذبة‪ ،‬بل من جهة أنه يرى نفسه غارق ًا يف بحر إحسان‬

‫اهلل و كرمه‪.‬‬

‫ب‬
‫طي هذه المرحلة يلتفت السالك إىل أنه ُحي ّ‬
‫و بعد ّ‬
‫احلب يصل إىل درجة العشق‪ ،‬و‬ ‫ذاته ح ّب ًا مفرط ًا‪ ،‬و َّ‬
‫أن هذا ّ‬
‫كل ما يؤ ّديه و ّ‬
‫كل جهاده ناشئ من فرط ح ّبه لذاته؛‬ ‫أن ّ‬
‫َّ‬

‫َّ‬
‫ألن إحدى خصائص اإلنسان ح ّبه لنفسه بالفطرة‪ ،‬و‬

‫تضحيته ّ‬
‫بكل يشء من أجلها‪ ،‬بل االستعداد إلبادة أي‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،23‬من السورة ‪ :5۷‬احلديد‪.‬‬


‫‪68‬‬
‫يشء من أجل بقائها‪ .‬و التخ ّلص من هذه الغريزة صعب‬

‫حب النفس‪ -‬و‬


‫احلس ‪-‬الذي هو ّ‬
‫ّ‬ ‫جد ًا‪ ،‬و مواجهة هذا‬
‫ّ‬

‫جماهدته من أعقد المشاكل‪ ،‬و ما دامت هذه الغريزة باقية‬

‫لن ّ‬
‫يتجىل نور اهلل يف القلب‪ ،‬و بعبارة اخرى‪ :‬إذا مل يتجاوز‬

‫‪69‬‬
‫السالك لن يصل إىل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫لزوم سري السالك يف طريق رضوان اهلل‬

‫يستمد العون من األلطاف اإلهل ّية و‬


‫ّ‬ ‫و عىل السالك أن‬

‫حب الذات ح ّتى‬


‫اإلمدادات الرْحان ّية المطلقة إلضعاف ّ‬
‫الباطني الذي‬
‫ّ‬ ‫يزيله يف النهاية؛ فعليه أن يكفر هبذا الصنم‬

‫كل المفاسد و ينساه ك ّل ّي ًا‪ ،‬بحيث تكون أعامله ‪-‬‬


‫هو رأس ّ‬

‫المقدسة‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫عند التأ ّمل و التحقيق‪ -‬كلها للذات اإلهل ّية‬

‫يتم هذا ّإال‬


‫حب اهلل تعاىل‪ ،‬و ال ّ‬
‫حب ذاته إىل ّ‬
‫يتبدل ّ‬
‫ّ‬

‫طي هذه المرحلة لن يكون للسالك‬


‫بالمجاهدة‪ ،‬و بعد ّ‬
‫أي تع ّلق بالبدن و آثاره ح ّتى روحه التي ّتاوزها‪ ،‬فيكون‬

‫سد‬ ‫كل ما يعمله خالص ًا هلل‪ّ .‬‬


‫فكل ما يعمله هلل‪ ،‬و إذا ّ‬ ‫ّ‬

‫جوعه و ه ّيأ لوازم احلياة و العيش بقدر الكفاف و‬

‫األزيل يريد حياته و ّإال ال‬


‫ّ‬ ‫الرضورة فذلك َّ‬
‫ألن المحبوب‬

‫خيطو خطوة من أجل حت ّقق حياة هذه النشأة‪.‬‬

‫و بالطبع َّ‬
‫فإن هذه اإلرادة للحياة هي يف طول اإلرادة‬

‫حيق للسالك أن‬


‫اإلهل ّية ال عرضها؛ و عىل هذا األساس ال ّ‬

‫يسعى للحصول عىل الكشف و الكرامات‪ ،‬و يعمل من‬

‫‪70‬‬
‫أجل حتقيقها‪ ،‬بواسطة األذكار و الرياضات الروح ّية من‬

‫أجل أن ُتطوى له األرض‪ ،‬أو ُخي َرب عن المغ ّيبات‪ ،‬أو ي ّطلع‬

‫الترصف يف موا ّد الكائنات‪ ،‬أو‬


‫ّ‬ ‫عىل الضامئر و األرسار‪ ،‬أو‬

‫الستكامل و بروز القوى النفسان ّية‪َّ ،‬‬


‫ألن مثل هذا‬

‫‪71‬‬
‫الشخص ال يسري يف الدرب الذي ُيريض المحبوب‪،‬‬

‫و لن يكون خملص ًا يف عبادته فهو قد جعل نفسه المعبود‪،‬‬

‫اخلاصة‪ ،‬و إن كان‬


‫ّ‬ ‫و سار لقضاء حاجاته و حتقيق رغباته‬

‫ال يعرتف هبذا المنكر فيؤ ّدي ّ‬


‫كل عباداته ‪-‬عىل الظاهر‪-‬‬

‫يف سبيل اهلل‪.‬‬


‫و مثل هذا اإلنسان ينطبق عليه قوله تعاىل‪ :‬أَ فَ َر َأيْتَ‬

‫َ َ َ ُ َ ُ‪1‬‬
‫َ ا‬
‫م ِن اَّتذ إِلهه هواه‪ .‬فعىل السالك أن جيتاز هذه المرحلة‪،‬‬

‫المتمسكة باألنان ّية‪ .‬و َس َي ِأيت الك ََال ُم فيه إن‬


‫ّ‬ ‫و هيجر نفسه‬

‫شاء اهلل تعاىل‪.‬‬

‫و عندما يصل السالك إىل هذه المرحلة سوف ينىس‬

‫ّ‬
‫فتضمحل ذاته‪ ،‬و لن‬ ‫‪-‬تدرجي ّي ًا‪ -‬نفسه التي كان حي ّبها هلل‪،‬‬

‫األبدي‪ ،‬فيغمره ذلك‬


‫ّ‬ ‫يرى بعد ذلك غري اجلامل األز ّيل و‬

‫البحر الالمتناهي‪ ،‬و عندها لن يبقى له أي أثر‪.‬‬

‫و عىل السالك أن حيذر ‪-‬يف تلك احلرب النفس ّية‪-‬‬

‫حيل الشيطان و جنوده‪ ،‬ح ّتى يتغ ّلب عليهم و يتخ ّلص‬

‫ً‬
‫كامال‪ ،‬و يقتلع جذورها من‬ ‫من اآلثار النفس ّية لذاته‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،23‬من السورة ‪ :45‬اجلاثية‪.‬‬


‫‪72‬‬
‫حب‬
‫ذرة واحدة من ّ‬
‫الزوايا اخلف ّية يف القلب‪ ،‬فمع بقاء ّ‬
‫حب النفس و الرئاسة‬
‫الامل و اجلاه و المنصب و الكرب و ّ‬
‫فيه لن يصل أبد ًا إىل الكامل؛ و هلذا ُشوهد‬

‫‪73‬‬
‫الكثريون من الذين قضوا سنوات طويلة يف‬

‫الرياضات و المجاهدات و مل يصلوا إىل الكامل‪ ،‬بل القوا‬

‫اهلزيمة يف جماهدة النفس؛ و ع ّلة ذلك َّ‬


‫أن جذور بعض‬

‫الصفات كانت باقية يف أعامق قلوهبم و هم يظنّون أّنا قد‬

‫ّ‬
‫مظان‬ ‫اإلهلي و يف‬
‫ّ‬ ‫ازيلت بالكامل‪ ،‬و يف مواقع االمتحان‬

‫هتتز هذه اجلذور و تنمو فجأة‬ ‫بروز النفس و ّ‬


‫ّتيل آثارها ّ‬

‫ف ُيقىض عىل السالك‪.‬‬

‫ثم َّ‬
‫إن النجاح يف غلبة النفس و جنودها منوط بالمدد‬ ‫ّ‬
‫طي هذه المرحلة‬ ‫اخلاصني‪َّ ،‬‬
‫ألن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغيبي و العناية اإلهل ّية‬
‫ّ‬
‫اخلاص ِ‬
‫ني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لن يكون دون توفيقه و عنايته‬

‫يقال‪َّ :‬‬
‫إن تالمذة المرحوم الس ّيد بحر العلوم رأوه‬

‫يوم ًا و هو يبتسم‪ ،‬فسألوه عن السبب‪ ،‬فأجاب‪ :‬اليوم‪ ،‬و‬

‫نظرت يف نفيس‬
‫ُ‬ ‫بعد مخس و عرشين سنة من المجاهدة‪،‬‬

‫أن أعاميل مل يعد فيها رياء‪ ،‬و أنني ُو ِّف ْق ُت لرفعه‪،‬‬


‫فرأيت َّ‬

‫َف َتأ َّمل َج ِّي َد ًا‪.‬‬

‫و عىل السالك أن يكون مالزم ًا للرشيعة الغ ّراء منذ‬

‫بداية السري و السلوك و ح ّتى آخر مراحله‪ ،‬و ال يتجاوز‬

‫‪74‬‬
‫ظاهر الرشيعة بقدر رأس اإلبرة‪ .‬فلو رأيت شخص ًا ّ‬
‫يدعي‬

‫السلوك و ال يالزم التقوى و الورع و ال يتابع مجيع‬

‫األحكام الرشع ّية اإلهل ّية و انحرف عن الرصاط المستقيم‬

‫للرشيعة احل ّقة و لو بقدر رأس اإلبرة‪ ،‬فاعلم أنه‬

‫‪75‬‬
‫منافق ّإال إذا كان له عذر أو كان خمطئ ًا أو ناسي ًا‪.‬‬
‫عبادة الكاملي تقتضي حصول كماهلم‬

‫و ما ُس ِم َع من البعض ‪-‬من القول بسقوط التكاليف‬

‫عن السالك بعد الوصول إىل المقامات العالية و‬

‫الفيوضات الر ّبان ّية‪ -‬حديث كاذب و افرتاء عظيم؛ َّ‬


‫ألن‬

‫الرسول األكرم ّ‬
‫صىل اهلل عليه و آله و سلم مع أنه أرشف‬

‫اخلالئق و الموجودات كان مالزم ًا و متابع ًا لألحكام‬

‫اإلهل ّية ح ّتى آخر أ ّيام حياته‪ ،‬فسقوط التكليف ‪-‬هبذا‬

‫المعنى‪ -‬كذب و هبتان‪ .‬نعم‪ ،‬يمكن أن نفهم منه معنى‬

‫آخر غري ما يقصده هؤالء‪ ،‬و هو‪َّ :‬‬


‫أن أداء األعامل العباد ّية‬

‫يوجب كامل النفوس البرش ّية و يوصل اإلنسان بواسطة‬

‫القوة إىل الفعل ّية‪ .‬هلذا‬


‫االلتزام بالسنن العباد ّية من مراحل ّ‬
‫َّ‬
‫فإن عبادة اولئك الذين مل يصلوا بعد إىل مرحلة الفعل ّية من‬

‫مجيع اجلهات هي ألجل االستكامل‪ ،‬أ ّما اولئك الذين‬

‫وصلوا إىل مرحلة الفعل ّية التا ّمة‪ ،‬فال معنى ألن تكون‬

‫عبادهتم للحصول عىل الكامل و حتصيل مقام القرب‪ ،‬بل‬

‫العبادة من هؤالء هلا معنى آخر يقتضيه نفس حصوهلم‬

‫‪76‬‬
‫عىل درجة الكامل؛ هلذا عندما سألت عائشة رسول اهلل‬

‫حتمله هذه اآلالم و‬ ‫ّ‬


‫صىل اهلل عليه و آله و سلم عن سبب ّ‬
‫األتعاب يف العبادة رغم َّ‬
‫أن اهلل تعاىل قال له‪:‬‬

‫‪77‬‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ َ اُ ََ ا َ ْ َْ َ‬
‫ك َو ما تَأ اخر‪َ.‬‬
‫ِْلغفِر لك اَّلل ما تقدم مِن ذنب ِ‬
‫‪1‬‬

‫صىل اهلل عليه و آله و سلم‪َ « :‬أال أ ُك ُ‬


‫ون عبد ًا‬ ‫قال ّ‬
‫‪2‬‬
‫شكور ًا؟»‪.‬‬

‫فا ّتضح بذلك َّ‬


‫أن اإلتيان باألعامل العباد ّية من البعض‬

‫مل يكن طلب ًا للكامل‪ ،‬بل حمض إظهار اإلمتنان و الشكر‬

‫اجلزيل‪.‬‬

‫عل ًام بأ َّن احلاالت التي تظهر للسالك عىل أثر المراقبة‬

‫و المجاهدة و األنوار و اآلثار التي ُتصبح مشهودة له من‬

‫فمجرد‬
‫ّ‬ ‫مقدمة حتصيل الملكة‪،‬‬ ‫حني إىل آخر‪ّ ،‬‬
‫كل هذه ّ‬

‫تغري احلال يف اإلمجال ليس كافي ًا‪ ،‬بل جيب‬


‫تر ّتب اآلثار و ّ‬
‫عىل السالك أن يسعى لرفع بقايا العامل السافل الكامن يف‬

‫ذاته‪ ،‬فإنه ما مل يسانخ صاحلي العامل العايل لن يكون‬

‫الوصول إىل مراتبهم ميسور ًا له‪ ،‬فمن شأن أي خطأ صغري‬

‫جمدد ًا إىل العامل السافل‪ .‬قال‬


‫يف السلوك و اجلهاد أن يعيده ّ‬

‫تعاىل‪:‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،2‬من السورة ‪ :4۸‬الفتح‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫«اصول الكايف» ج ‪ ،2‬ص ‪.95‬‬
‫‪78‬‬
‫ُّ ُ ُ َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُا ٌ ا َُ ٌ َْ َ َ ْ ْ َ‬
‫و ما ُممد إِال رسول قد خلت مِن قبلِهِ الرسل أ فإِن‬
‫ُ ْ ‪1‬‬ ‫َ َْ ُ َ َْ َُْ ْ َ َ ْ‬
‫مات أو قتِل انقلبتم َع أعقابِكم‪.‬‬

‫فاآلية الكريمة تشري إىل هذه احلقيقة؛ إ َذن ينبغي‬

‫للسالك‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱44‬من السورة ‪ :3‬آل عمران‪.‬‬


‫‪79‬‬
‫كامال و ّ‬
‫كل زوايا و خفايا‬ ‫طهر ظاهره و باطنه ً‬
‫أن ُي ِّ‬
‫قلبه ح ّتى يو ّفق لصحبة األرواح الط ّيبة‪ ،‬و جمالسة صاحلي‬

‫المأل األعىل‪.‬‬
‫بيان إمجايلّ للعوامل االثين عشر املقدّمة على عامل‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫َو َذ ُ‬


‫اْلث ِم و با ِطنه ‪ .‬و من هنا ينبغي‬
‫‪1‬‬
‫ِ‬ ‫ِر‬ ‫ه‬ ‫ظا‬ ‫وا‬ ‫ر‬

‫المتقدمة عىل عامل اخللوص كاملة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫للسالك خت ّطي العوامل‬

‫و إمجال هذه العوامل قد ب ّينها اهلل سبحانه و تعاىل يف اآلية‬

‫المباركة‪:‬‬
‫ا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ا‬
‫يل اَّللِ‬ ‫اَّلِين آمنوا و هاجروا و جاهدوا ِِف سب ِ ِ‬
‫ك ُهمُ‬ ‫َْ ْ َ َُْ ْ َ ْ َ ُ ََ َ ً َْ ا َ ُ َ‬
‫س ِهم أعظم درجة عِند اَّللِ و أولئ ِ‬ ‫بِأموال ِ ِهم و أنف ِ‬
‫ا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ َ ُ َ ُ ُ ْ َ ُّ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ َ ْ‬
‫ات‬‫وان و جن ٍ‬ ‫الفائِزون ‪ ،‬يب َِشهم ربهم بِرْح ٍة مِنه و رِض ٍ‬
‫اَّلل عِنْ َدهُ‬‫ِين فِيها َأبَدا ً إ ان ا َ‬
‫خال َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫لهم فِيها نعِيم مقِيم ‪ِ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ٌ ‪2‬‬ ‫َ ٌْ َ‬
‫أجر ع ِظيم‪.‬‬

‫المتقدمة عىل عامل اخللوص‬


‫ّ‬ ‫و عليه‪ ،‬تكون العوامل‬

‫األول‪ :‬اإلسالم‪ ،‬الثاين‪ :‬اإليامن‪ ،‬الثالث‪ :‬اهلجرة‪،‬‬


‫أربعة‪ّ :‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱2۰‬من السورة ‪ :6‬األنعام‪.‬‬


‫‪ 2‬اآليات ‪ 2۰‬إيل ‪ ،22‬من السورة ‪ :9‬التوبة‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫الرابع‪ :‬اجلهاد يف سبيل اهلل‪ .‬و َّ‬
‫ألن جهاد هذا المسافر هو‬

‫صىل اهلل عليه و آله و سلم‪َ :‬ر َج ْعنَا ِم َن‬


‫اجلهاد األكرب لقوله ّ‬
‫اد األص َغ ِر َإىل اجله ِ‬
‫اد األكرب‪ .1‬فرشط هذا السفر أن‬ ‫اجله ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يكون إسالم و إيامن المجاهد مها‬

‫اإلسالم و اإليامن األكربان‪ ،‬بعدها عىل السالك أن‬

‫ً‬
‫مسرتسال‪ -‬مع الرسول الباطن و‬ ‫اهلمة ‪-‬‬
‫شمر عن ساعد ّ‬
‫ُي ّ‬
‫مستعين ًا بالرسول الظاهر أو خليفته للهجرة‪ ،‬و ينزل إىل‬

‫ميدان المجاهدة ح ّتى ينال فوز القتل يف سبيل اهلل‪.‬‬

‫و عىل السالك أن يلتفت إىل َّ‬


‫أن طريقه من بدء مسريه‬

‫إىل هذه المرحلة من اجلهاد كان حمفوف ًا بالموانع الشيطان ّية‬

‫و البرش ّية‪ ،‬و أ ّنه لوال نيله درجة القتل يف سبيل اهلل ما‬

‫استطاع أن يتخ ّطى مراحل اإلسالم األكرب و اإليامن‬

‫األكرب ليصل ‪-‬بعدها‪ -‬إىل بدء مراحل اإلسالم األعظم و‬

‫يعد من موانعها‬
‫اإليامن األعظم و السفر األعظم‪ ،‬و التي ّ‬

‫الكفر األعظم و النفاق األعظم‪ .‬و يف هذا الوادي لن‬

‫‪1‬‬
‫«رسالة سري و سلوك منسوب به بحر العلوم» (رسالة السري و السلوك‬
‫المنسوبة إىل بحر العلوم) ص ‪ 5۱‬إىل ‪.53‬‬
‫‪81‬‬
‫يكون جلنود الشيطان أي قدرة للنيل منه و الغلبة عليه‪،‬‬

‫يتصدى الشيطان (رئيس األبالسة) بنفسه للوقوف دون‬


‫ف ّ‬

‫إمتام السالك سريه و سلوكه‪ .‬فال ينبغي للسالك ‪-‬إن‬

‫طوى هذه العوامل‪ -‬أن يظ ّن أنه نجى من المخاطر و وصل‬

‫إىل جوهر المقصود؛ بل عليه أن يلتفت إىل أنه ما مل يطو‬

‫العوامل العظمى السابقة لن يكون بمأمن من حبائل إبليس‬

‫يشمر‬
‫لمنعه من الوصول إىل المنزل المقصود‪ .‬فعليه أن ّ‬
‫اهلمة لمنع الشيطان من إيقاعه يف الكفر األعظم‬
‫عن ساعد ّ‬
‫و النفاق األعظم‪ ،‬ل ُيهاجر ‪-‬بعدها‪ -‬اهلجرة العظمى‪ ،‬و‬

‫يتخ ّطى‬

‫‪82‬‬
‫بالمجاهدة العظمى قيامة النفس العظمى‪ ،‬فيدخل يف‬

‫وادي المخ َلصني‪َ .‬ر َز َقنَا اهلل إن َشا َء اهلل َت َعا َىل‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬شَرحٌ تَفْصيليّ لِلْعَوامل املتَقَدِّمَة عَلَى عَامل اخللُوصِ‬

‫‪84‬‬
85
‫تقدم من َّ‬
‫أن المسافر إىل اهلل ينبغي له أن‬ ‫بناء عىل ما ّ‬

‫يطوي اثني عرش عال ًام قبل الوصول إىل عامل اخللوص‪ ،‬و‬

‫هي‪ :‬اإلسالم‪ ،‬األصغر و األكرب و األعظم‪ .‬و اإليامن‪،‬‬

‫األصغر و األكرب و األعظم‪ .‬و اهلجرة‪ ،‬الصغرى و الكربى‬

‫و العظمى‪ .‬و اجلهاد‪ ،‬األصغر و األكرب و األعظم‪ .‬عىل‬

‫السالك أن يعرف خصائص هذه العوامل و آثارها و‬

‫عالئمها و موانعها و صوارفها‪ ،‬و قد ب ّيناها هنا بنحو‬

‫اإلمجال‪ ،‬و تفصيلها موجود يف الكتاب المستطاب‬

‫المنسوب للمرحوم فخر الفقهاء و األولياء الس ّيد مهدي‬

‫المفصل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بحر العلوم رضوان اهلل عليه‪ ،‬و من أراد الرشح‬

‫فعليه أن يرجع إىل ذلك الكتاب‪ ،‬لكنّنا هنا و لتوضيح هذه‬

‫المسألة نب ّينها ببعض اإلمجال‪.‬‬


‫اإلسالم األكرب‬

‫عبارة عن التسليم و االنقياد المحض‪ ،‬أي ترك‬

‫عز و ّ‬
‫جل من مجيع الوجوه‪ ،‬و‬ ‫االعرتاض عىل اهلل ّ‬

‫االعرتاف و اإلذعان بصالح‬

‫‪86‬‬
‫ّ‬
‫كل ما هو موجود و متح ّقق‪ ،‬و عدم صالح ما مل‬

‫حيدث‪ ،‬و بشكل عا ّم رفع اليد عن االستفسار و السؤال و‬

‫عدم الشكوى من قضاء اهلل تعاىل‪ ،‬و قد أشار إىل هذه‬

‫الموحدين أمريالمؤمنني عليهالسالم يف‬


‫ّ‬ ‫المرتبة موىل‬

‫يم‪َ ،‬و‬ ‫ِ‬ ‫قي‪َّ :‬‬


‫اإلسال َم ُه َو ال َّت ْسل ُ‬
‫إن ْ‬ ‫احلديث المرفوع عن الرب ّ‬
‫يم ُه َو ال َي ِق ُ‬
‫ني‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال َّت ْسل ُ‬
‫و إضافة إىل ترك االعرتاض‪ ،‬ينبغي أن ال يكون يف‬

‫قلبه أي نوع من المؤاخذة عىل األحكام الترشيع ّية أو‬

‫التكوين ّية هلل تعاىل‪ ،‬كام ورد يف قوله تعاىل‪:‬‬


‫وك فِيما َش َ‬
‫ج َر‬ ‫ُيك ُم َ‬ ‫ون َح اَّت ُ َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫فال َو َربِك ال يؤمِن‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ت وَ‬ ‫سه ْم َح َرجا ً م اِما قَ َضيْ َ‬ ‫َُْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ا‬ ‫ََُْ ْ ُ‬
‫َيدوا ِِف أنف ِ ِ‬ ‫بينهم ثم ال ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ي ُ َسل ِ ُموا ت ْسلِيما‪.1‬‬

‫هذه المرحلة هي مرحلة اإليامن األكرب التي يّسي‬

‫فيها اإلسالم األكرب إىل الروح و يسيطر عىل القلب‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،65‬من السورة ‪ :4‬النساء‪.‬‬


‫‪87‬‬
‫اإلميان األكرب‬

‫يتنور قلب السالك بنور اإلسالم األكرب‬


‫عندما ّ‬
‫تعرض عليه من حني آلخر حالة يشاهد فيها ‪-‬عالوة عىل‬

‫عز و‬ ‫أن ّ‬
‫كل موجود يستند إىل الباري ّ‬ ‫احليس‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫اإلدراك‬

‫ّ‬
‫جل‪ ،‬و بعبارة اخرى‪ :‬جيد اهلل‬

‫‪88‬‬
‫حارض ًا يف ّ‬
‫كل األحوال؛ و هي مرحلة الشهود و‬

‫اإلسالم األكرب؛ و ما مل تصل هذه احلالة إىل الكامل بحيث‬

‫تترصف يف سائر األعضاء‬


‫تّسي إىل مجيع أركان البدن و ّ‬
‫و اجلوارح يمكن للموانع الام ّد ّية و المشاغل و الشواغل‬

‫الطبع ّية أن ترصف السالك عن هذه احلالة و تسلبه ذلك‬

‫الشهود ليعود إىل الغفلة‪ ،‬فيجب عىل السالك أن يقف‬

‫بعزم راسخ لريتفع هبذه احلال إىل مقام الملكة و يوصلها‬

‫إىل الكامل ح ّتى ال تستطيع الشواغل اخلارج ّية بعدها أن‬

‫الشهودي و تتغ ّلب عىل حاله‪ ،‬فينبغي أن‬


‫ّ‬ ‫تغري مسريه‬
‫ّ‬
‫يتبدل‬
‫يّسي هذا اإلسالم منمقام القلب إىل الروح ح ّتى ّ‬

‫ذلك اإلمجال إىل تفصيل‪ ،‬و بأمرمن الروح ُحتيط تلك‬

‫احلالة ّ‬
‫بكل القوى الظاهر ّية و الباطن ّية لتصلمن احلال إىل‬

‫الملكة‪.‬‬
‫مقام اإلحسان و آثاره‬

‫و هذا المقام هوالذي ُي َع ِّرب عنه العارفون بمقام‬


‫اإلحسان‪ ،‬كام يقول اهلل تعاىل يف كتابه الكريم‪َ :‬و ااَّلِينَ‬

‫‪89‬‬
‫ََْ َاُ ْ ُ َُ‬ ‫َ‬
‫جاه ُدوا فِينا َله ِدينهم سبلنا و ال يقف تعاىل عند ذلك‬
‫َ ‪1‬‬ ‫َ ا اَ ََ َ ُْ ْ‬
‫سنَِّي‪.‬‬
‫بل يقول‪ :‬و إِن اَّلل لمع المح ِ‬

‫فإذا مل يصل المجاهد يف سبيل اهلل إىل مرتبة اإلحسان‬

‫لن يستطيع احلصول و الوصول إىل سبل اهلداية اإلهل ّية‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،69‬من السورة ‪ :29‬العنكبوت‪.‬‬


‫‪90‬‬
‫صىل اهلل عليه و آله و سلم عن معنى‬ ‫سئل رسول اهلل ّ‬
‫َ ا َ ََ ُ َ ْ‬ ‫ْ َْ‬
‫اإلحسان؛ فأجاب‪ :‬أ ن تع ُب َد اَّلل كأنك تراه ‪ ،‬و إن لم‬
‫ك ْن تَ َراهُ فَ ُ‬
‫إنه يَ َراك‪َ.‬‬ ‫َ ُ‬
‫ت‬

‫فإىل ذلك احلني الذي ال يكون إسالم السالك األكرب‬

‫قد وصل إىل مرحلة اإليامن األكرب قد تعرتي السالك ‪-‬من‬

‫حني آلخر‪ -‬حالة اإلحسان فيؤ ّدي العبادات بشوق و‬

‫رغبة و ميل شديد‪.‬‬


‫عامل اإلميان األكرب و خصوصيّاته‬

‫أ ّما عندما يصل إىل اإليامن األكرب فإنه ينتقل فيه‬

‫اإلحسان من حال طارئ إىل ملكة المحسنني‪ ،‬و حينها‬

‫يؤ ّدي السالك جزئ ّيات األفعال و ك ّل ّياهتا بداعي الميل و‬

‫الشوق بطيب خاطر‪ ،‬و ذاك َّ‬


‫ألن اإليامن قد رسى إىل‬

‫الروح‪ ،‬و َّ‬


‫ألن الروح سلطان مجيع األعضاء و اجلوارح و‬

‫فإّنا حتمل اجلميع عىل العمل و المثابرة‪،‬‬


‫حاكمها‪ ،‬لذا َّ‬
‫فتنقاد هلا سائر األعضاء بتسليم و إنابة بال خت ّلف و ال‬

‫حق هذه الطائفة‪:‬‬


‫اعرتاض‪ .‬قال اهلل تعاىل يف ّ‬

‫‪91‬‬
‫ون ‪ ،‬ااَّل َ‬
‫ِين ُه ْم ِف َصالتِهمْ‬ ‫َ ْ ََْ َ ُْ ْ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قد أفلح المؤمِن‬
‫ا ْ ُ ْ ُ َ ‪1‬‬ ‫َ ا َ ُ ْ َ‬ ‫َ‬
‫خا ِش ُعون ‪ ،‬و اَّلِين هم ع ِن اللغوِ مع ِرضون‪.‬‬
‫إن االشتغال بالمالهي لام كان ناشئ ًا ِ‬
‫من الميل‬ ‫ثم َّ‬
‫ّ‬
‫إليها‬

‫‪ 1‬اآليات ‪ ۱‬إىل ‪ ،3‬من السورة ‪ :24‬المؤمنون‪.‬‬


‫‪92‬‬
‫و الرغبة فيها‪ ،‬و َّ‬
‫إن السالك المؤمن باإليامن األكرب‬

‫الذي وصل إىل مرتبة اإلحسان و ملكته‪ ،‬ليس له أي رغبة‬


‫ِ‬
‫شوقني يف‬ ‫ني و‬‫فيها؛ ألنه يعرف أنه ال يمكن اجتامع ُح َّب ِ‬
‫ْ َ َْْ‬ ‫قلب واحد؛ لقوله تعاىل‪ :‬ما َج َع َل ا ُ‬
‫اَّلل ل َِر ُ‬
‫َّي‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ل‬‫ٍ‬ ‫ج‬

‫اإلين ‪ 2‬عدم وجود الميل و‬ ‫ّّ‬ ‫ِِف َج ْوفِهِ ‪ 1،‬نعرف بالربهان‬

‫الرغبة اإلهل ّية يف قلب السالك فيام لو كان له رغبة يف‬

‫المالهي‪ ،‬فمثل هذا القلب يكون منافق ًا؛ ألنه من جانب‬

‫يظهر الميل و الرغبة يف االمور الراجعة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬و‬

‫من جانب آخر يميل و يرغب يف اللغو و اللهو‪ .‬و هذا هو‬

‫النفاق األكرب الذي يقابل اإليامن األكرب‪ ،‬فال يكون‬


‫ِ‬
‫ناشئني من الرغبة و االشتياق‬ ‫التسليم و اإلطاعة فيه‬

‫وليدي اخلوف و‬
‫َ‬ ‫الباطني‪ .‬و إنام مها نتاج العقل و‬

‫المصالح التي تعرتض اإلنسان‪ ،‬و إىل هذا النفاق أشار‬

‫تعاىل بقوله‪:‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،4‬من السورة ‪ :33‬األحزاب‪.‬‬


‫اإلين (اصطالح ًا)‪ :‬هو كشف الع ّلة و المؤ ِّثر عن طريق المعلوم و‬
‫ّ‬ ‫‪ 2‬الربهان‬
‫األثر‪( .‬م)‬
‫‪93‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ا‬ ‫ُ َ‬
‫‪1‬‬
‫َو إِذا قاموا إَِل الصالة ِ قاموا كساَل‪.‬‬

‫حينام يصل السالك إىل اإليامن األكرب ال يكون فيه أي‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱42‬من السورة ‪ :4‬النساء‪.‬‬


‫‪94‬‬
‫درجة من درجات هذا النفاق‪ ،‬و ال تكون أفعاله‬

‫بأي حال من األحوال‪ -‬من المدركات العقل ّية و‬


‫ناشئة ‪ّ -‬‬
‫المصالح و المنافع الذات ّية أو اخلوف‪ ،‬بل هي ناشئة من‬

‫الشوق و المح ّبة و بداعي العشق و الميل و الرغبة‪.‬‬


‫عامل اهلجرة الكربى‬

‫و َّ‬
‫ألن السالك قد وصل إىل مرتبة اإليامن األكرب فعليه‬

‫يستعد للهجرة الكربى‪ ،‬و هي اهلجرة بالبدن عن‬


‫ّ‬ ‫أن‬

‫خمالطة أهل العصيان و جمالسة أهل البغي و الطغيان و‬

‫أبناء الدهر ال َغرور‪ ،‬و اهلجرة بالقلب عن المو ّدة هلم و‬

‫الميل إليهم‪ ،‬و اهلجرة بالبدن و القلب مع ًا عن العادات و‬

‫الرسوم المتعارفة و االعتبارات التي متنع السالك عن‬

‫سلوك طريق اهلل‪ ،‬و تكون عائق ًا و مانع ًا من سفره؛ َّ‬


‫ألن‬

‫العادات و الرسوم متاع بالد الكفر‪.‬‬

‫ففي المجتمع الام ّد ّي يتق ّيد اإلنسان برسوم و عادات‬

‫ومه ّية و خيال ّية اعتاد عليها أهل الدنيا؛ فأصبح قياس النفع‬

‫و ميزان اخلسارة و المحاورات و المعارشات و الزيارات‬

‫ب إىل اجلهل ّ‬
‫كل‬ ‫نس َ‬
‫مبني عليها‪ ،‬كام جرت العادة عىل أن ُي َ‬
‫ّ‬

‫‪95‬‬
‫َمن يلتزم بالصمت يف جمالس المذاكرة و المباحثات‬

‫العلم ّية‪ ،‬أوأن ُيتهافت عىل اجللوس يف صدر المجلس‬

‫التقدم يف‬
‫باعتباره دليل الكرب و الرفعة‪ ،‬أو اعتبار ّ‬

‫‪96‬‬
‫الدخول و اخلروج من المجلس دليل عىل العظمة‪،‬‬

‫التشدق يف الكالم دليل عىل المامشاة مع‬


‫ّ‬ ‫أو َّ‬
‫أن التصنّع و‬

‫الناس و حسن اخللق‪ ،‬و خالفه دليل عىل احلقارة و الضعة‬

‫و ضعف الموقف و الشخص ّية و سوء اخللق‪.‬‬

‫اإلهلي و اإلمداد‬
‫ّ‬ ‫فيجب عىل السالك ‪-‬بالتوفيق‬

‫يغض النظر عن ّ‬
‫كل هذه االمور‪ ،‬و أن هيجر‬ ‫الرْحاين‪ -‬أن ّ‬
‫ّ‬
‫عامل اخليال و الوهم و يط ّلق هذه العجوز ثالث ًا‪ ،‬فال خياف‬

‫قوة‪ ،‬و ال هيوله مذ ّمة الناس أو معاتبة من‬


‫و ال يفزع من أ ّية ّ‬
‫يعدون أنفسهم من أهل العلم و الفضل‪ ،‬فقد جاء يف‬
‫ّ‬

‫السكوين عن الصادق‬
‫ّ‬ ‫الكليني يف رواية‬
‫ّ‬ ‫جامع‬

‫عليهالسالم‪ ،‬عن رسول اهلل ّ‬


‫صىل اهلل عليه و آله و سلم‪:‬‬

‫الس َخ ُط‪َ ،‬و‬


‫الر ْه َب ُة‪َ ،‬و َّ‬ ‫ان ال ُك ْف ِر ْأر َب َع ٌة‪َّ :‬‬
‫الر ْغ َب ُة‪َ ،‬و َّ‬ ‫ْأر َك ُ‬

‫ال َغ َض ُ‬
‫ب‪.‬‬

‫فّست الرهبة هنا بالرهبة من الناس عند خمالفة‬


‫و ّ‬
‫عاداهتم و نواميسهم الومه ّية‪ .‬و حاصل الكالم‪َّ :‬‬
‫أن عىل‬

‫السالك أن يرفع يده عن مجيع التقاليد و العادات و‬

‫تسد الطريق إىل اهلل‪ .‬و‬


‫الرسوم االجتامع ّية االعتبار ّية التي ّ‬

‫‪97‬‬
‫يعرب العارفون عن هذا األمربـ اجلنون؛ َّ‬
‫ألن المجنون ليس‬ ‫ّ‬
‫له معرفة برسوم و عادات الناس‪ ،‬فال يوليها أ ّية أمه ّية‪ ،‬و‬

‫ال يبايل بمدح الناس و ذ ّمهم‪ ،‬و ال جيد اخلوف طريق ًا إليه‬

‫يغري منهجه‪.‬‬
‫عند ترك الناس له أو ثورهتم عليه و ال ّ‬

‫‪98‬‬
‫عامل اجلهاد األكرب‬

‫و عندما ُي َو َّفق السالك ‪-‬بالعناية اإلهل ّية‪ -‬للهجرة‪ ،‬و‬

‫ينتشل نفسه من مستنقع العادات و الرسوم‪ ،‬يضع قدمه يف‬

‫ميدان اجلهاد األكرب حيث حماربة جنود الشيطان‪َّ ،‬‬


‫ألن‬

‫السالك يف هذا الموقع يكون يف عامل الطبيعة أسري الوهم‬

‫و الغضب و الشهوة‪ ،‬و عرضة لألهواء المتضا ّدة‪ ،‬حتيطه‬

‫أمواج اآلمال و األماين‪ ،‬و تستويل عليه اهلموم و الغموم‪،‬‬

‫و تؤلمه منافيات الطبع و الوجدان‪ ،‬و يرت ّقب المخاوف‬

‫العديدة‪ ،‬فتضطرم ّ‬
‫كل زاوية من زوايا صدره‪ ،‬و يشعر‬

‫هتدد كيانه‪ ،‬منها‬


‫بالفقر و احلاجة و أنواع اآلالم و االنتقام ّ‬

‫خيص أهله و عياله‪ ،‬و منها ما يرتبط بامله و خوفه من‬


‫ما ّ‬
‫تلفه و ضياعه‪ ،‬أو جاه يبتغيه فال يصل إليه؛ فتوخزه أشواك‬

‫‪99‬‬
‫احلسد و الغضب و الكرب و األمل‪ ،‬و يقع فريسة أفاعي و‬

‫فتكدر قلبه ظلامت الوهم بام ال‬


‫سباع عامل الطبيعة و الام ّدة‪ّ ،‬‬

‫يعد و ال حيىص‪ ،‬و تتعاقب عليه صفعات الدهر‪ ،‬و ُتدمي‬


‫ّ‬
‫أقدامه األشواك يف ّ‬
‫كل موضع وضعها فيه‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫ّ‬
‫فكل هذه اآلالم و األسقام قد تعرتي قلب السالك‪،‬‬

‫و بعد التأ ّمل و التد ّبر يلتفت إىل كثرهتا فعىل السالك أن‬

‫يتغ ّلب عليها بمنازلة جنود الوهم و الغضب و الشهوة‪ ،‬و‬

‫الظفر بعون اهلل و توفيقه يف هذه المجاهدة العظمى‪،‬‬

‫متخ ّلص ًا من العوائق و العالئق‪ ،‬و مو ّدع ًا عامل الطبيعة إىل‬

‫األبد‪.‬‬
‫عامل اإلسالم األعظم و آفاته‬

‫حينها يدخل عامل اإلسالم األعظم حيث يرى نفسه‬

‫جوهر ًا فرد ًا و ُد َّر ًة يتيمة‪ ،‬حميط ًا بعامل الطبيعة و مصون ًا من‬

‫الموت و الفناء‪ ،‬و خال ّي ًا من تضارب األضداد و ُيشاهد‬

‫يف نفسه صفاء و ضياء و هباء يتخ ّطى إدراك عامل الطبيعة‪،‬‬

‫فالسالك يف هذه احلال قد أدرك بموته يف عامل الطبيعة حياة‬

‫جديدة‪ ،‬و رغم أنه يف عامل الملكوت و الناسوت ظاهر ًا‪،‬‬

‫فهو يرى الموجودات الناسوت ّية بصور ملكوت ّية‪ ،‬و ّ‬


‫كل ما‬

‫يقابله من االمور الام ّد ّية بصوره الملكوت ّية‪ ،‬و ال يصل‬

‫للسالك يف هذه المرحلة أي رضر؛ ألنه قد وصل إىل قيامة‬

‫النفس الوسطى‪ ،‬و أزاح الستار عن كثري من االمور‬

‫‪101‬‬
‫اخلف ّية‪ ،‬و شاهد كثري ًا من األحوال العجيبة‪ .‬و هذه المرتبة‬

‫هي مرتبة اإليامن األعظم التي ُذ ِك َرت يف القرآن الكريم‬

‫بشكل واضح‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ ْ ً ََ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ َُ ُ ً‬
‫أ و من اكن ميتا فأحييناه و جعلنا َل نورا يم ِِش بِهِ‬

‫ِِف‬

‫‪102‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ ََُ‬
‫ت ليس ِِبارِ ٍج مِنها‬ ‫اس كمن مثله ِِف الظلما ِ‬ ‫اَلا ِ‬
‫ُ َ ْ َ ُ َ ‪1‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ ْ‬
‫كذل ِك زيِن ل ِلاكف ِِرين ما اكنوا يعملون‪.‬‬

‫و كذلك قوله تعاىل‪:‬‬


‫َ ُ‬
‫صاْلا ً م ِْن َذ َكر أ ْو أنْىث َو ُه َو ُم ْؤمِنٌ‬
‫ِ‬ ‫ل‬
‫َ ْ َ َ‬
‫من ع ِم‬
‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ََُ ْ َاُ َ ً َ ًَ َ ََ ْ َاُ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ْ‬
‫فلنحيِينه حياة طيِبة و َلج ِزينهم أجرهم بِأحس ِن ما‬
‫ُ َ ْ َ ُ َ ‪2‬‬
‫اكنوا يعملون‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ باإلمكان أن يأخذه‬ ‫و ال خيفى َّ‬
‫أن السالك‬

‫جراء ما يشاهده‪ ،‬و أن يواجهه أعظم‬


‫العجب و األنان ّية من ّ‬
‫أشدهم ً‬
‫قتاال و هو نفسه‪ ،‬كام ورد يف احلديث‪:‬‬ ‫األعداء و ّ‬

‫أ ْع َدى َع ُد ِّو َك َن ْف ُس َك التي َب ْ َ‬


‫ني َجنْ َب ْي َك‪.‬‬

‫ففي هذه احلال إن مل تتدارك السالك العناية الر ّبان ّية‬

‫سوف يبتيل بالكفر األعظم‪ ،‬و قد أشاروا إىل هذا الكفر‬


‫ِ‬
‫بقوهلم‪ :‬النَّ ْف ُس ه َي َّ‬
‫الصن َُم األكرب‪ ،‬و هذه هي عبادة‬

‫النبي إبراهيم عليهالسالم إىل اهلل و‬


‫ّ‬ ‫األصنام التي التجأ‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱22‬من السورة ‪ :6‬األنعام‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،9۷‬من السورة ‪ :۱6‬النحل‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫َ‬ ‫َ ُْْ َ َ ا َ ْ ََُْ َْ ْ‬
‫استعاذ به منها‪ :‬و اجنب ِِن و ب ِِن أن نعبد اَلصنام‪ .‬إذ من‬
‫‪1‬‬

‫يتصور تلك العبادة لألصنام المصنوعة يف‬


‫ّ‬ ‫الواضح أنه ال‬

‫حق إبراهيم عليهالسالم‪ ،‬و إ َّنام هو يستعيذ باهلل من‬


‫ّ‬

‫ذلك الرشك الذي استعاذ منه الرسول األكرم ّ‬


‫صىل‬

‫اهلل عليه و آله بقوله‪:‬‬


‫الرش ِك ِ‬
‫اخلف ّي‪.‬‬ ‫اللهم ِّإين أ ُعو ُذ بِ َك ِم َن ِّْ‬
‫َّ‬
‫كلّ اخلريات من اهلل‪ ،‬و كلّ الشرور من النفس‬

‫اإلهلي بأنه‬
‫ّ‬ ‫إذن عىل السالك أن يعي مستعين ًا بالعون‬

‫ال شئ‪ ،‬و أن يذعن بعجزه و ذله و عبود ّيته و مملوك ّيته‪ ،‬و‬

‫أن يدع األنان ّية ح ّتى ال يقع يف أحضان الكفر األعظم؛‬

‫ليو ّفق بالتايل للوصول إىل اإلسالم األعظم‪ ،‬فقد كان‬

‫بعض العارفني ال يتل ّفظ بكلمة «أنا» و «نحن» طوال‬

‫حياته‪ ،‬و إ ّنام كان قوله‪ :‬جاء العبد و ذهب العبد‪ .‬و البعض‬

‫اآلخر منهم كان يفصل بني ما هو مستند إىل احلسن و‬

‫احلق‪ ،‬و ما هو راجع إليه و‬


‫اإلهلي فينسبه إىل ذات ّ‬
‫ّ‬ ‫اجلامل‬

‫المقدسة بريئة منه فينسبه إىل نفسه‪ ،‬و ما‬


‫ّ‬ ‫الساحة اإلهل ّية‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،35‬من السورة ‪ :۱4‬إبراهيم‪.‬‬


‫‪104‬‬
‫يمكن إسناده إىل نفسه و إىل اهلل تعاىل يأيت به بصيغة اجلمع‬

‫قصة موىس و‬
‫كنحن‪ ،‬و هذه الطريقة قد استفادها من ّ‬
‫اخلرض عليهام السالم‪ ،‬إذ يقول اخلرض عليهالسالم‪:‬‬
‫َْ ْ‬ ‫َ َ َُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ا َُ َ َ‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫أما السفِينة فاكنت ل ِمساكَِّي يعملون ِِف اْلح ِر‬
‫َََ ْ ُ َ ْ َ‬
‫َ ‪1‬‬
‫عيبها‪.‬‬
‫فأردت أن أ ِ‬

‫فأىت هنا بصيغة المفرد المتكلم و نسب العيب لنفسه‪،‬‬

‫ألن العيب ال يسند إىل الذات اإلهل ّية‪.‬‬ ‫َّ‬


‫ُ‬ ‫َْ ُْ َ‬ ‫َ َا ُْ ُ َ َ ََ ُ ُ ْ َْ َ َ‬
‫شينا أن يرهِقهما‬ ‫َّي فخ ِ‬ ‫و أما الغالم فاكن أبواه مؤمِن ِ‬
‫ك ْفرا ً ‪ ،‬فَأَ َر ْدنا أَ ْن ُيبْ ِدل َ ُهما َر ُّب ُهما َخ ْريا ً مِنْهُ‬
‫ُ ْ ً َ ُ‬
‫طغيانا و‬
‫َ‬
‫َ ً َ ْ َ َ ُ ْ ً‪2‬‬
‫زَّكة و أقرب رْحا‪.‬‬

‫َّ‬
‫ألن القتل يمكن أن ينسب إىل اهلل و إىل اخلرض لذا‬

‫جاء به بصيغة اجلمع‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۷9‬من السورة ‪ :۱۸‬الكهف‪.‬‬


‫‪ 2‬اآليتان ‪ ۸۰‬و ‪ ،۸۱‬من السورة ‪ :۱۸‬الكهف‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫َْ َ َ َ‬ ‫َ َا ْ ُ َ َ ُ َْ َ َْ‬
‫َّي ِِف الم ِدينةِ و اكن‬
‫َّي يتِيم ِ‬
‫اْلدار فاكن لِغالم ِ‬
‫و أما ِ‬
‫ً َ َ َ َ ُّ َ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََْ ُ َ ٌْ َُ َ َ َ‬
‫صاْلا فأراد ربك أن يبلغا‬ ‫ِ‬ ‫َتته كْن لهما و اكن أبوهما‬
‫َ َ ُ ‪1‬‬ ‫َُ ا ُ َ َْ َ ْ‬
‫أشدهما و يستخ ِرجا كْنهما‪.‬‬

‫التوجه إىل اخلري و إرادة الكامل و النفع تستند إىل‬


‫ّ‬ ‫َّ‬
‫ألن‬

‫الذات اإلهل ّية‪ ،‬لذا نسبه إىل اهلل تعاىل‪ ،‬و هكذا يف حديث‬

‫إبراهيم عليه السالم حيث تربز هذه الطريقة يف اخلطاب‪:‬‬


‫ااَّلِي َخلَ َقِن َف ُه َو َي ْه ِدين ‪َ ،‬و ااَّلِي ُه َو ُي ْطعِ ُمِن وَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ ُ ََُ َْ‬ ‫َْ‬
‫‪2‬‬
‫َّي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫َّي ‪َ ،‬و إِذا م ِرضت فهو ي‬ ‫يسقِ ِ‬
‫فهو هنا قد نسب المرض لنفسه و الشفاء هلل تعاىل‪ .‬و‬

‫يتم الوصول إىل مقام اإلسالم األعظم‪ ،‬و رفض أنان ّية‬
‫ال ّ‬
‫حمل بروز الشيطان و ظهوره ّإال بالتوفيق‬
‫النفس التي هي ّ‬

‫اإلهلي‪.‬‬
‫ّ‬
‫النخجواين‪ ،‬استاذ المرحوم‬
‫ّ‬ ‫احلاج إمام قيل‬
‫ّ‬ ‫يقول‬

‫احلاج المريزا عىل‬


‫ّ‬ ‫القايض والد المرحوم‬
‫ّ‬ ‫الس ّيد حسني‬

‫القايض رضوان اهلل تعاىل عليهم يف المعارف‪ ،‬و الذي‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۸2‬من السورة ‪ :۱۸‬الكهف‪.‬‬


‫‪ 2‬اآليات ‪ ۷۸‬إىل ‪ ،۸۰‬من السورة ‪ :26‬الشعراء‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫درس األخالق ّيات و المعارف اإلهل ّية‪ ،‬و طوى المراتب‬

‫القزويني رضوان اهلل‬


‫ّ‬ ‫الكامل ّية عند المرحوم الس ّيد قريش‬

‫عليه‪« :‬حينام رصت ً‬


‫كهال رأيت الشيطان يف اخللسة‪ ،‬و كنّا‬
‫ِ‬
‫واقفني عىل جبل‪ ،‬فوضعت يدي عىل حليتي و قلت له‪ :‬ها‬

‫أصبحت ً‬
‫كهال و بلغني الكرب‪ ،‬فهال ترتكني و تذرين‬ ‫ُ‬ ‫قد‬

‫نظرت‬
‫ُ‬ ‫وحيد ًا‪ .‬فأشار إ ّيل بأن أنظر إىل جانبي‪ ،‬و عندما‬

‫جد ًا يبهت العقل من ّ‬


‫شدة الرعب و‬ ‫رأيت وادي ًا عميق ًا ّ‬

‫ثم قال يل‪ :‬أنا ليس يف قلبي أي‬


‫يأخذ بمجامع اإلنسان‪ّ ،‬‬
‫رْحة و مروءة و عطف‪ ،‬و أنت لو َعلِ َ‬
‫قت يف حبايل سوف‬

‫يكون مكانك يف هذا الوادي الذي تراه اآلن»‪.‬‬


‫عوامل اإلميان األعظم‪ ،‬اهلجرة العظمى و اجلهاد األعظم‬

‫اإلميان األعظم‬

‫المرحلة التي هي أعىل من اإلسالم هي مرحلة‬

‫شدة ظهور و وضوح‬


‫اإليامن األعظم‪ .‬و هي عبارة عن ّ‬

‫اإلسالم األعظم بحيث‬

‫‪107‬‬
‫يتجاوز العلم و التصديق إىل مرتبة المشاهدة و‬

‫العيان‪ ،‬و فيه يرحتل السالك من عامل الملكوت‪ ،‬فتقوم‬

‫عليه القيامة النفس ّية الكربى‪ ،‬و يدخل إىل عامل اجلربوت‬

‫ً‬
‫منتقال من المشاهدات الملكوت ّية إىل المعاينات‬

‫اجلربوت ّية‪.‬‬
‫اهلجرة العظمي‬

‫بعد هذا عىل السالك أن هياجر من وجوده‪ ،‬و يرفضه‬

‫مطلق ًا‪ ،‬و هذا هو السفر إىل عامل الوجود المطلق‪ .‬و إىل هذه‬

‫المرحلة إشارة يف حديث بعض األعاظم‪َ :‬د ْع َن ْف َس َك َو‬


‫َ ْ ُ‬
‫َت َع َال‪ .‬و يشري هلا ‪-‬أيض ًا‪ -‬قوله تعاىل‪ :‬فادخ ِِل ِِف عِبادِي‬
‫ْ ُ‬
‫‪َ ،‬و ادخ ِِل َج ان َِّت ‪ 1.‬و إن أتت « َو ا ْد ُخ ِيل َجنَّتِي» بعد‬
‫َا ُ َ اْ ُ ُْ ْ َ ا ُ‬ ‫« َفأد ُخ ِيل يف ِعب ِ‬
‫ادي»‪ .‬و خطاب يا أيتها اَلفس المطمئِنة‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫هو خطاب للنفس التي فرغت من اجلهاد األكرب‪ ،‬و‬

‫مقر االطمئنان‪.‬‬
‫دخلت إىل عامل الفتح و الظفر الذي هو ّ‬
‫ولكن ألّنا مل تفرغ بعد من المجاهدة العظمى‪ ،‬و ما زالت‬

‫ألن غاية االضمحالل متو ّقفة‬


‫آثارها الوجود ّية باقية‪ ،‬و َّ‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ 29‬و ‪ ،3۰‬من السورة ‪ :۸9‬الفجر‪.‬‬


‫‪108‬‬
‫عىل حت ّقق اجلهاد األعظم‪ ،‬فهي مل تتخ ّلص بعد من هيمنة‬

‫التس ّلط و القهر‪ ،‬و هي يف مضامر «المليك» و «المقتدر»‪،‬‬

‫و مها اسامن عظيامن هلل تعاىل‪:‬‬


‫ْ‬ ‫ِف َم ْق َع ِد ص ْدق عِنْ َد َ‬
‫‪1‬‬
‫يك ُمق َت ِد ٍر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫اجلهاد األعظم‬

‫جيب عىل السالك بعد هذه المرحلة أن يتغ ّلب يف‬

‫المجاهدة عىل اآلثار الضعيفة لوجوده‪ ،‬و يزيل بقاياها‬

‫المختفية فيه ً‬
‫كامال و من اجلذور‪ ،‬ح ّتى يقدر أن يضع قدمه‬

‫يف بساط التوحيد المطلق‪ ،‬و هذا العامل هو عامل الفتح و‬

‫الظفر‪ .‬و هبذا تكون العوامل االثنا عرش قد طويت‪ ،‬و هذا‬

‫الشخص الذي عرب اهلجرة العظمى و اجلهاد األعظم و‬

‫صار فاحت ًا و مظ ّفر ًا سوف يدخل عامل اخللوص‪ ،‬و قد دخل‬


‫ُ َ ‪2‬‬ ‫ْ‬ ‫ا ا َ ا َ‬
‫جعون ‪ ،‬و قامت بذلك‬ ‫يف مضامر إِنا َِّللِ و إِنا إِْلهِ را ِ‬
‫قيامته النفس ّية العظمى‪ ،‬و خت ّطي األجسام و األرواح و‬

‫مجيع التع ّينات‪ُ ،‬مفني ًا ذاته عنها مجيع ًا‪ ،‬واضع ًا قدمه يف عامل‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،55‬من السورة ‪ :54‬القمر‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۱56‬من السورة ‪ :2‬البقرة‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫ُ ُّ َ ْ‬
‫‪1‬‬
‫ت‪.‬‬
‫الالهوت‪ ،‬ليخرج من حتت ك نف ٍس ذائِقة المو ِ‬

‫اإلرادي‪ ،‬و هلذا قال‬


‫ّ‬ ‫فمثل هذا اإلنسان قد مات بالموت‬

‫رسول اهلل ّ‬
‫صىل اهلل عليه و آله‪:‬‬

‫ت َي ْم ِيش َف ْل َينْ ُظ ْر َإىل َع ِ ّيل ْب ِن ِأب‬


‫أن ينْ ُظر َإىل مي ٍ‬
‫َ ِّ‬ ‫َم ْن َأرا َد ْ َ َ‬
‫َطالِ ٍ‬
‫ب‪.‬‬
‫مزيّة سالكي أُمَّة اإلسالم على سالكي بقيّة االمم‬

‫بيان و توضيح‪َّ :‬‬


‫إن الكامالت التي ذكرت إىل اآلن‪،‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱۸5‬من السورة ‪ :3‬آل عمران‪.‬‬


‫‪110‬‬
‫و ُب ِّينَت آثارها و عالئمها بالتقريب‪ ،‬هي فيوضات ‪-‬‬

‫ختتص با َّمة خاتم األنبياء و‬


‫ّ‬ ‫العزة‪-‬‬
‫رب ّ‬ ‫من جانب ّ‬
‫حممد بن عبداهلل ّ‬
‫صىل اهلل عليه و آله‪ .‬فسالكي‬ ‫المرسلني ّ‬
‫االمم السالفة و الرشائع السابقة كانت كامالهتم حمدودة‪،‬‬

‫الرب‬
‫حيث كان بمقدورهم أن يشاهدوا أسامء و صفات ّ‬
‫فقط‪ ،‬و ذلك بعد حصول الفناء و الذوبان‪ ،‬و ما كان خيطر‬

‫رس ذلك َّ‬


‫أن منتهى‬ ‫يف أذهاّنم ما هو أعىل من هذا‪ .‬و ُّ‬
‫معارفهم كلمة َال إله َّإال اهلل و حاصلها شهود الذات‬

‫اجلامعة جلميع الصفات الكامل ّية و اجلامل ّية‪ ،‬ولك َّن سالكي‬

‫ا َّمة الرسول األكرم ّ‬


‫صىل اهلل عليه و آله هم يف مرحلة أعىل‬

‫من هذه بكثري‪ ،‬و قد ساروا إىل مراحل أبعد ال يمكن بياّنا‬

‫و رشحها‪ ،‬و سبب ذلك َّ‬


‫أن مجيع التعاليم اإلسالم ّية تعود‬

‫ف»‪.‬‬
‫وص َ‬ ‫إىل كلمة «اهلل أكرب ِم ْن ْ‬
‫أن ُي َ‬
‫و بناء عىل هذا َّ‬
‫فإن المراحل التي يطوهيا السالك‬

‫المسلم سوف تنتهي تلقائ ّي ًا إىل ّ‬


‫حد ال يقبل البيان و‬

‫الوصف‪ ،‬و ذلك الرتباط السلوك بالكلمة المباركة «اهلل‬

‫ف»‪ .‬هلذا َّ‬


‫فإن نفس األنبياء السالفني مل‬ ‫وص َ‬ ‫أكرب ِم ْن ْ‬
‫أن ُي َ‬

‫‪111‬‬
‫يتصورون شيئ ًا فوق مقام شهود األسامء و‬
‫ّ‬ ‫يكونوا‬

‫الصفات اإلهل ّية ل ُي َح ِّلقوا بطائر مهمهم إىل ذلك ّ‬


‫العش‪ ،‬و‬

‫يتوسلون بالوالية المعنو ّية و الروح ّية ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫لذلك كانوا‬

‫الصديقة الطاهرة و‬
‫ّ‬ ‫للرسول األكرم و أمريالمؤمنني و‬

‫األئمة األطهار‪ -‬عندما‬


‫ّ‬

‫‪112‬‬
‫كانت حتيط هبم الباليا الدنيو ّية‪ ،‬فيجدون اخلالص‪ .‬و‬

‫هذا هو مقام الوالية المعنو ّية الكربى الذي كان يدفع‬

‫اهلموم و الغموم عن األنبياء‪.‬‬

‫و هذا المقام و إن كان معلوم ًا عندهم ً‬


‫إمجاال‪ ،‬و عىل‬

‫يتوسلون بمقامات األطهار العالية‪ ،‬ولك ّن‬


‫أساسه كانوا ّ‬
‫كيف ّيته و خصائصه بقيت جمهولة لدهيم إىل أواخر حياهتم‬

‫عليهم السالم‪ .‬نعم يستفاد من القرآن الكريم حصول‬

‫للنبي إبراهيم عليهالسالم ‪-‬لكن ال عىل نحو‬


‫ّ‬ ‫حالتني‬

‫الدوام‪ -‬استطاع فيهام أن يشهد احلقائق العالية و‬

‫الفيوضات الكاملة‪ ،‬و سيتح ّقق هذا المقام يف المنزل‬

‫اآلخر‪.‬‬
‫مقام «الصالح» أرفع من مقام «اإلخالص»‬

‫قبل االستعانة بالقرآن الكريم لالستدالل عىل هذه‬

‫القض ّية‪ ،‬نذكر َّ‬


‫أن لمقام اإلخالص مراتب تشكيك ّية‪ ،‬و قد‬

‫عدة من األنبياء لمرتبة‬


‫نص القرآن عىل وصول ّ‬
‫ّ‬
‫اإلخالص‪ ،‬و مع هذا كله هناك مقام أعىل و أعظم مل‬

‫يترضعون إىل اهلل تعاىل بغية الوصول إليه‪،‬‬


‫يصلوه‪ ،‬و كانوا ّ‬

‫‪113‬‬
‫النبي يوسف‬
‫كام نجد ذلك يف القرآن الكريم حكاية عن ّ‬
‫َ‬ ‫ا‬
‫عليهالسالم الذي كان من المخ َلصني‪ :‬إِن ُه م ِْن عِبادِنا‬
‫َ ‪1‬‬ ‫ُْ ْ َ‬
‫المخل ِصَّي ‪ ،‬مع هذا فقد كان يطلب من اهلل تعاىل أن‬

‫يلحقه بالصاحلني‪:‬‬
‫ُّ ْ َ ْ َ َ َ ا ُ ْ ً َ َ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫خرة ِ توف ِِن مسلِما و أْل ِق ِِن‬
‫أنت ول ِِّي ِِف النيا و اْل ِ‬

‫النبي يوسف‬ ‫َِّي ‪ 2.‬بناء عىل هذا مل يكن‬ ‫اْل َ‬ ‫ب ا‬


‫الص ِ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫عليهالسالم قد وصل إىل مقام الصالح‪ ،‬و هلذا كان يطلب‬

‫اللحوق بالصاحلني بعد الموت‪ .‬ولكن هل استجيبت‬

‫دعوة يوسف أم ال‪ ،‬و هل سيصل إىل مقام الصالح يوم‬

‫القيامة أم ال؟ هذا ما مل ترش إليه اآليات القرآن ّية التي‬

‫النبي إبراهيم عليهالسالم كان له المقام‬


‫أن ّ‬ ‫ُذكرت‪ ،‬و مع َّ‬

‫الشامخ يف اخللوص‪ّ ،‬إال أنه كان يقول‪:‬‬


‫َ ‪3‬‬ ‫ا‬ ‫ُ ْ ً َ َ ْ ْ‬ ‫َرب َه ْ‬
‫ب َِل حكما و أْل ِق ِِن بِالص ِ‬
‫اْل َِّي‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،24‬من السورة ‪ :۱2‬يوسف‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۱۰۱‬من السورة ‪ :۱2‬يوسف‪.‬‬
‫‪ 3‬اآلية ‪ ،۸3‬من السورة ‪ :26‬الشعراء‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫النبي إبراهيم اخلليل‬
‫إذن مقام «الصالح» الذي كان ّ‬
‫عليه السالم يدعو اهلل تعاىل أن يلحقه بالواصلني إليه هو‬

‫أعىل من مقام اخللوص‪ .‬و اهلل مل جيب دعاءه يف الدنيا‪ ،‬بل‬

‫وعده أن يكون يف اآلخرة‪:‬‬


‫خ َرة ِ ل َ ِمنَ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ ْ َ ا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ ََ‬
‫و لق ِد اصطفيناه ِِف النيا و إِنه ِِف اْل ِ‬
‫‪1‬‬ ‫اْل َ‬
‫َِّي‪.‬‬ ‫ا‬
‫الص ِ‬

‫جيب أن ُيعلم َّ‬


‫أن هذه المرتبة من الصالح التي متنّاها‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱3۰‬من السورة ‪ :2‬البقرة‪.‬‬


‫‪115‬‬
‫األنبياء السابقون هي غري الصالح الذي اعطي‬

‫بنص اآلية الكريمة‪:‬‬


‫إلبراهيم و أوالده ّ‬
‫ًَ َ ُا َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َُ ْ َ َ َ ْ ُ‬
‫و وهبنا َل إِسحاق و يعقوب ناف ِلة و ّلُك جعلنا‬
‫‪1‬‬ ‫صاْل َ‬
‫َِّي‪.‬‬ ‫ِ‬

‫ً‬
‫حاصال للجميع‪ ،‬و من مجلتهم‬ ‫َّ‬
‫ألن هذا الصالح كان‬

‫النبي إبراهيم عليهالسالم الذي كان يرجو ‪-‬مع ذلك‪-‬‬


‫ّ‬
‫الوصول إليه؛ فهذا الصالح الذي كان يرجوه أعىل من‬

‫ذلك بكثري‪.‬‬

‫و أ ّما الدليل عىل َّ‬


‫أن رسول اهلل ّ‬
‫صىل اهلل عليه و آله و‬

‫عدة يف زمانه قد وصلوا إىل درجة الصالح‪ ،‬هي اآلية‬


‫ّ‬

‫الكريمة الناطقة عن لسان الرسول ّ‬


‫صىل اهلل عليه و آله‪.‬‬
‫َ َ َُ َََا‬ ‫َاَ ْ‬ ‫اُ ا‬
‫ِّي اَّلل اَّلِي نزل الكِتاب و هو يتوَّل‬‫إ ِ ان َول َ‬
‫ِ‬
‫َ ‪2‬‬ ‫ا‬
‫الص ِ‬
‫اْل َِّي‪.‬‬

‫فالرسول ّ‬
‫صىل اهلل عليه و آله قد أثبت لنفسه ‪-‬يف هذه‬

‫ثم قال َّ‬


‫إن‬ ‫اآلية‪ -‬الوالية المطلقة للحرضة اإلهل ّية ابتدا ًء‪ّ ،‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۷2‬من السورة ‪ :2۱‬األنبياء‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۱96‬من السورة ‪ :۷‬األعراف‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫ول ّيي هو الذي ّ‬
‫يتوىل امور الصاحلني‪ ،‬ف ُعلم من هذا وجود‬

‫أفراد من المخ َلصني الذين هم يف مقام الصالح يف ذلك‬

‫أن اهلل كان متول ّي ًا ُالمورهم‪ .‬بناء عىل ما ُذكر َّ‬


‫فإن‬ ‫الزمان‪ ،‬و َّ‬

‫المطهرين‬
‫ّ‬ ‫توسلهم باخلمسة‬
‫رس دعاء األنبياء السالفني و ّ‬
‫ّ‬
‫األئمة األطهار قد ا ّتضح‪ ،‬و ا ّتضح‬
‫أو ّ‬

‫‪117‬‬
‫سمو منزلة الصالح فيهم‪،‬‬ ‫‪-‬أيض ًا‪ -‬مدى ّ‬
‫علوهم‪ ،‬و ّ‬
‫النبي إبراهيم عليهالسالم من ر ّبه أن يلحقه‬
‫بحيث يطلب ّ‬
‫هبم‪.‬‬
‫إثبات مقام اإلخالص لألنبياء العظام‬

‫و لالستدالل عىل َّ‬


‫أن األنبياء العظام قد وصلوا إىل‬

‫بعدة‬
‫مقام اإلخالص‪ ،‬يمكن االستعانة باآليات الرشيفة ّ‬

‫أوجه‪:‬‬

‫رصح به القرآن‬
‫األول‪ :‬عن طريق ْحده و ثنائه‪ ،‬و كام ّ‬
‫ّ‬
‫حد و ال يدركه نعت‪ ،‬و‬
‫من أنه سبحانه و تعاىل ال حييط به ّ‬

‫ال يمكن ألحد أن يصفه و حيمده بام يليق بساحة كربيائه‬


‫عز ِمن ٍ‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ّإال عباده المخ َلصني؛ قال اهلل َّ‬
‫َ ا‬ ‫ا‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ا َ‬
‫ُسبْحان اَّللِ ع اما يَ ِصفون ‪ ،‬إِال عِباد اَّللِ‬
‫َ ‪1‬‬ ‫ُْ ْ َ‬
‫المخل ِصَّي‪.‬‬

‫و يأمر اهلل تعاىل نب ّيه باحلمد‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ ۱59‬و ‪ ،۱6۰‬من السورة ‪ :3۷‬الصا ّفات‪.‬‬


‫‪118‬‬
‫ا‬
‫آَّللُ‬ ‫َ‬ ‫ِ ا َ ْ‬ ‫ُ َْ ْ ُ ا َ َ ٌ َ‬
‫ق ِل اْلمد َِّللِ و سالم َع عِباده ِ اَّلِين اصطىف‬
‫َ‬
‫َ ٌْ ا ُ ْ ُ َ ‪1‬‬
‫َشكون‪.‬‬ ‫خري أما ي ِ‬
‫و حيكى عن ْحد إبراهيم عليهالسالم‪:‬‬
‫َ‬
‫يل وَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َْ ْ ُ ا ا‬
‫ع‬
‫َِب إِسما ِ‬
‫اْلمد َِّللِ اَّلِي وهب َِل َع الك ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ا َ َ‬
‫‪2‬‬
‫إِسحاق إِن ر ِّب لس ِميع الاعءِ‪.‬‬

‫النبي نوح ًا عىل نب ّينا و آله و عليهالسالم أن‬


‫ّ‬ ‫و يأمر‬

‫يؤ ّدي احلمد حيث يقول‪:‬‬


‫َ ‪3‬‬ ‫َ َْ ِْ ا‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ ُ ا ا‬ ‫َُ‬
‫فق ِل اْلمد َِّللِ اَّلِي َنانا مِن القوم الظال ِ ِمَّي‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬الترصحيات القرآن ّية حول مقام إخالص بعض‬

‫النبي يوسف عليهالسالم‪:‬‬ ‫األنبياء العظام‪ ،‬كام ورد يف شأن ّ‬


‫َ ُْ ْ‬
‫خلَصَّي‪َ.‬‬ ‫اُ‬
‫إِنه م ِْن عِبادِنا الم ِ‬
‫و يف شأن النبي موىس بن عمران عليهالسالم‪َ :‬و اذْ ُكرْ‬
‫ّ‬
‫َ ا ‪4‬‬
‫اُ َ َُْ ً َ َ َُ ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ِتاب موىس إِنه اكن ُملصا و اكن رسوال نبِيا‪.‬‬ ‫ِِف الك ِ‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،59‬من السورة ‪ :2۷‬النمل‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،39‬من السورة ‪ :۱4‬إبراهيم‪.‬‬
‫‪ 3‬اآلية ‪ ،2۸‬من السورة ‪ :23‬المؤمنون‪.‬‬
‫‪ 4‬اآلية ‪ ،5۱‬من السورة ‪ :۱9‬مريم‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫و يف شأن األنبياء إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم‬

‫السالم‪:‬‬
‫َ َ ْ َ َ َ ُْ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫وَّل‬
‫و اذكر عِبادنا إِبراهِيم و إِسحاق و يعقوب أ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ا َ َْ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫اَلي ِدي و اَلبصارِ ‪ ،‬إِنا أخلصناهم ِِبال ِص ٍة ذِكرى‬
‫ا ‪1‬‬
‫الارِ‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬عن طريق شكرهم هلل تعاىل‪ ،‬فمن جانب‬

‫طبق ًا لآلية الكريمة‪:‬‬


‫ِباد َك مِنْ ُهمُ‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ا َ َ ُ ْ َاُ ْ َ ْ‬
‫فبِعِزت ِك َلغوِينهم أْجعَِّي ‪ ،‬إِال ع‬
‫َ ‪2‬‬ ‫ُْ ْ َ‬
‫المخل ِصَّي‪.‬‬

‫فليس للشيطان من قدرة عىل ق ّلة من العباد‪ ،‬و هم‬

‫المخ َلصون‪.‬‬

‫و من جانب آخر طبق ًا لآلية الكريمة‪:‬‬


‫ُث ام َْلت َِي ان ُه ْم م ِْن بَ َّْي َأي ْ ِديه ْم َو م ِْن َخلْفِه ْم َو َعنْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ‪3‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ َ ُ َ ْ ََُ‬ ‫ْ َ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ُتد أكَثهم شاك ِِرين‪.‬‬ ‫أيمان ِ ِهم و عن شمائِل ِ ِهم و ال ِ‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ 45‬و ‪ ،46‬من السورة ‪ :3۸‬ص‪.‬‬


‫‪ 2‬اآليتان ‪ ۸2‬و ‪ ،۸3‬من السورة ‪ :3۸‬ص‪.‬‬
‫‪ 3‬اآلية ‪ ،۱۷‬من السورة ‪ :۷‬األعراف‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫فالعباد الذين أغواهم الشيطان ما كانوا من‬

‫الشاكرين‪.‬‬

‫و من هنا ي ّتضح َّ‬


‫أن أيدي الشيطان ال تصل إىل‬

‫الشاكرين الذين هم العباد المخ َلصون‪ .‬فإذا وجدنا يف‬

‫القرآن الكريم عباد ًا يصفهم اهلل تعاىل بصفة الشكر و‬

‫الشاكرين‪ ،‬نفهم أّنم من عباد اهلل المخ َلصني‪ ،‬و من‬

‫النبي نوح عليهالسالم‪ ،‬فقد قال تعاىل عنه‪:‬‬


‫مجلتهم ّ‬
‫ً‪1‬‬ ‫اُ َ َ ْ ً َ ُ‬ ‫ُ اَ َ ْ ََْ َ َ ُ‬
‫وح إِنه اكن عبدا شكورا‪.‬‬ ‫ذرِية من ْحلنا مع ن ٍ‬

‫للنبي لوط عليهالسالم‪:‬‬


‫و قال بالنسبة ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َاْ ُ‬ ‫ً ا َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ا ََْ ْ ََ‬
‫وط َنيناهم بِسح ٍر‬ ‫حاصبا إِال آل ل ٍ‬
‫ِ‬ ‫إِنا أرسلنا علي ِهم‬
‫َ ْ َ َ َ ‪2‬‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ًَْ ْ ْ‬
‫‪ ،‬ن ِعمة مِن عِن ِدنا كذل ِك َن ِزي من شكر‪.‬‬

‫للنبي إبراهيم عليهالسالم‪:‬‬ ‫و قال بالنسبة ّ‬


‫ً ا َ ً َ َْ َ ُ‬ ‫َ َ ُا ً‬ ‫ا‬
‫ك مِنَ‬ ‫إِن إِبْراهِيم اكن أمة قان ِتا َِّللِ حنِيفا و لم ي‬
‫ُ‬ ‫ً َْ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ْ‬
‫‪3‬‬
‫َشك َِّي ‪ ،‬شاكِرا َِلنع ِمهِ‪.‬‬‫الم ِ‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،3‬من السورة ‪ :۱۷‬اإلرساء‪.‬‬


‫‪ 2‬اآليتان ‪ 34‬و ‪ ،35‬من السورة ‪ :54‬القمر‪.‬‬
‫‪ 3‬اآليتان ‪ ۱2۰‬و ‪ ،۱2۱‬من السورة ‪ :۱6‬النحل‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫كل األنبياء الذين ُع ِرفوا بصفة‬
‫فإن ّ‬
‫عام‪َّ ،‬‬
‫و بشكل ّ‬
‫الشكر كانوا من المخ َلصني‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬عنوان اإلجتباء‪ ،‬حيث يصف اهلل تعاىل بعض‬

‫األنبياء هبذا اإلجتباء‪:‬‬


‫ّلُك َه َديْنا َو نُوحا ً َه َديناْ‬ ‫َ َ َ ْ َُ ْ َ َ َ ْ ُ َ ُا‬
‫و وهبنا َل إِسحاق و يعقوب‬
‫ُ َ َ ُ َ ْ َ َ َ ُّ َ َ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫م ِْن قبْل َو م ِْن ذرِ ايتِهِ داود و سليمان و أيوب و يوسف‬
‫َّي ‪َ ،‬و َز َكرياا‬ ‫سن ِ َ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫َ ُ َ َ َ َ َْ‬ ‫َو ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫َن‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ون‬ ‫هار‬ ‫و‬ ‫وىس‬ ‫م‬
‫َِّي ‪ ،‬وَ‬ ‫اْل َ‬ ‫ا‬ ‫َ ْ َ ُ ٌّ‬ ‫َْ‬
‫َو ُيّي َو عِيىس و إِْلاس ك مِن الص ِ‬
‫َ‬
‫َ َ َْ َ َ َ ُ َُ َ ُ ً َ ا َ ا ْ ََ‬ ‫ْ‬
‫عيل و اليسع و يونس و لوطا و ّلُك فضلنا َع‬ ‫إِسما ِ‬
‫خوانِه ْم وَ‬ ‫ْ َ ُ ا ْ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫العال ِمَّي ‪ ،‬و مِن آبائ ِ ِهم و ذرِيات ِ ِهم و إ ِ‬
‫ناه ْم إَل ِصاط ُم ْس َ‬ ‫ََْْ ُ ْ َ َ َ ْ ُ‬
‫‪1‬‬
‫يم‪.‬‬‫ٍ‬ ‫ق‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اجتبيناهم و هدي‬

‫و يمكن االستدالل هبذه اآليات الكريمة عىل مقام‬

‫إخالص مجيع األنبياء‪ ،‬بخالف طرق االستدالل السابقة‬

‫التي استنتجنا منها إخالص أفراد معدودين ممّن ورد‬

‫ذكرهم‪ .‬و استداللنا هنا يتو ّقف‬

‫‪ 1‬اآليات ‪ ۸4‬إىل ‪ ،۸۷‬من السورة ‪ :6‬األنعام‪.‬‬


‫‪122‬‬
‫عىل أمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬عنوان اإلجتباء؛ َّ‬


‫ألن هذه الكلمة تعني إختيار‬ ‫ّ‬
‫يشء من بني أشياء متشاهبة‪ ،‬فإذا اختار شخص بعض‬

‫تسمى‬ ‫الت ّفاحات من صندوق الت ّفاح‪َّ ،‬‬


‫فإن هذه العمل ّية ّ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫اجتبا ًء‪ .‬فعندما يقول تعاىل يف اآلية الكريمة َو اج َتبَيْناه ْم‪،‬‬

‫أي اخرتناهم من بني مجيع المخلوقات و البرش‪ ،‬و‬

‫خاص بنا‪ ،‬يتفاوت حكمهم ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫جعلناهم يف مكان أو مقام‬

‫بناء عىل ذلك‪ -‬عن اآلخرين؛ فهؤالء أفراد قد اختريوا‬

‫بتامم المعنى هلل‪ ،‬فهم حتت إرشافه‪ .‬و معلوم َّ‬


‫أن هذا‬

‫ألن المخ َلصني‬


‫اإلجتباء هلل ينطبق عىل عنوان اإلخالص‪َّ ،‬‬

‫هم اولئك الذين كانوا هلل‪ ،‬و ُقطعت نسبتهم ك ّل ّي ًا عن مجيع‬

‫الموجودات و تع ّلقوا باحلرضة القدس ّية‪.‬‬

‫خيتص بأفراد‬
‫ّ‬ ‫الثاين‪َّ :‬‬
‫أن هذا اإلجتباء يف اآلية ال‬

‫مع ّينني‪ ،‬و إن كان تعاىل قد قال ‪-‬بعد ذكر نوح و إبراهيم‬

‫ذر ّيتهم و‬
‫و س ّتة عرش آخرين من األنبياء و ذكر آباءهم و ّ‬
‫إن هؤالء اجتبيناهم‪ ،‬و ما هو معلوم‪َّ ،‬‬
‫أن المراد‬ ‫إخواّنم‪َّ ،-‬‬

‫من إخواّنم‪ ،‬إخواّنم الروح ّيون و األخالق ّيون الذين‬

‫‪123‬‬
‫يساووّنم بالمعارف اإلهل ّية و السلوك‪ .‬و هكذا يستفاد‬

‫من هذه اآلية اإلطالق‪ ،‬بل العموم‪ ،‬فيمكن االستدالل هبا‬

‫عىل مقام إخالص مجيع األنبياء‪.‬‬

‫‪124‬‬
125
‫بعد فهمنا لرشح عوامل السلوك اإلثني عرش‪ ،‬ينبغي‬

‫البحث يف الطريق وكيف ّية السفر والسلوك‪ .‬ويوجد بيانان‬

‫أحدمها إمجايل و آخر تفصييل‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬الشَّرحُ اإلجمايلّ لِلْطَريقِ وَ كَيفيَّةِ السُّلوُكْ إلَى‬

‫اهلل‬

‫‪126‬‬
127
‫األول‪ :‬إن ّأول ما يلزم للسالك أن يقوم به هو‬
‫البيان ّ‬
‫الفحص و البحث يف األديان و المذاهب‪ ،‬و بذل ما يمكنه‬

‫من السعي ح ّتى يصل إىل مقام توحيد اهلل المتعال و يدرك‬

‫جمرد‬
‫حقيقة هدايته‪ ،‬و إن كان ذلك برصف الظ ّن و ّ‬
‫العلمي أو الظن ّّي خيرج من الكفر‬
‫ّ‬ ‫الرتجيح‪ .‬فبعد التصديق‬

‫ليدخل يف اإلسالم و اإليامن األصغرين‪ ،‬و اإلمجاع قائم يف‬

‫كل مك ّلف‪.‬‬
‫أن االستدالل واجب عىل ّ‬
‫هذه المرحلة عىل َّ‬

‫و إذا مل حيصل للمك ّلف بعد السعي و البحث أي ترجيح‪،‬‬

‫اهلمة‪ ،‬و متابعة اإلرصار بذرف‬


‫يشمر عن ساعد ّ‬
‫فعليه أن ّ‬
‫الترضع و األنني و اإلبتهال ح ّتى يفتح له الباب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الدموع و‬

‫النبي إدريس عىل نب ّينا و آله و‬


‫كام هو مأثور عن حاالت ّ‬
‫عليهالسالم و مريديه‪.‬‬

‫الترضع هو أن يلتفت اإلنسان‬


‫ّ‬ ‫و المراد من اإلبتهال و‬

‫إىل عجزه و مسكنته‪ ،‬و يطلب اهلداية من صميم قلبه‪ .‬و‬

‫من البدهيي َّ‬


‫أن‬

‫‪128‬‬
‫للحق و‬
‫ّ‬ ‫اهلل سبحانه ال يرتك عبده المسكني الطالب‬

‫العاشق للحقيقة دون أن هيديه طريق اخلالص‪.‬‬


‫َ ْ َ ا ُ ْ ُ ُ َ ‪1‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ا‬
‫و اَّلِين جاهدوا فِينا َله ِدينهم سبلنا‪.‬‬
‫نيبّ اهلل إدريس عليهالسالم يتحدّث مع العلّامة الطباطبائيّ يف املنام‬

‫و أذ ُك ر‪ 2‬حينام كنت يف النجف األرشف أّنل من‬

‫احلاج‬
‫ّ‬ ‫الرتبية األخالق ّية و العرفان ّية عىل يد المرحوم‬

‫القايض رضوان اهلل عليه‪ ،‬كنت جالس ًا حني‬


‫ّ‬ ‫عيل‬
‫المريزا ّ‬

‫سجادة الصالة‪ ،‬فاستوىل َ ّ‬


‫عيل النعاس و‬ ‫السحر عىل ّ‬
‫النبي‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫جالسني مقابيل‪ ،‬كان أحدمها‬ ‫شاهدت َر ُج ِ‬
‫لني‬

‫احلاج الس ّيد‬


‫ّ‬ ‫إدريس عليهالسالم‪ ،‬و اآلخر أخي العزيز‬

‫الطباطبائي الذي يعيش حال ّي ًا يف تربيز‪ ،‬و يف‬


‫ّ‬ ‫حممد حسن‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫منشغال‬ ‫النبي إدريس عليهالسالم‬
‫ّ‬ ‫ذلك الموقف كان‬

‫بالتحدث معي‪ ،‬و رغم أنه كان المتكلم ّإال أ ّنني كنت‬
‫ّ‬

‫الطباطبائي‪ .‬و‬
‫ّ‬ ‫أسمع كالمه بواسطة صوت أخي الس ّيد‬

‫قال يل‪« :‬لقد وقعت يف حيايت العديد من األحداث‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،69‬من السورة ‪ :29‬العنكبوت‪.‬‬


‫‪ 2‬الكالم للسيد الطباطبائي (قدس رسه)‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫المهولة‪ ،‬و باحلسابات العا ّدية كان تفسريها ً‬
‫حماال بل‬

‫ممتنع ًا‪ ،‬ولكنّها كانت ّ‬


‫حتل أمامي فجأة‪ ،‬فا ّتضح يل َّ‬
‫أن ذلك‬

‫بواسطة يد فوق األسباب و المس ّببات العا ّدية من عامل‬

‫الغيب‪،‬‬

‫و كان هذا ّأول انتقال يل ربط عامل الطبيعة بعامل ماوراء‬

‫الطبيعة و خيط ارتباطنا يبدأ من هنا»‪.‬‬

‫ففي ذلك الوقت خطر ببايل َّ‬


‫أن المراد من ابتالءات‬

‫النبي إدريس عليهالسالم هي تلك الصدمات و المشاكل‬


‫ّ‬
‫توسل اإلنسان بصدق‬
‫يف أ ّيام الطفولة‪ ،‬و المقصود أنه إذا ّ‬
‫يف مسألة اهلداية و استعان بر ّبه‪ ،‬سوف ُيعينه و يساعده‬

‫جزم ًا‪ ،‬و يف تلك احلال يكون اإلستمداد من اآليات‬

‫القرآن ّية موافق ًا لواقع العبد و مؤ ّثر ًا فيه و نافع ًا له‪ ،‬قال اهلل‬

‫تبارك و تعاىل‪:‬‬
‫ْ ا َ ْ َ ُّ ْ‬ ‫َ‬
‫ُ ُ ُ ‪1‬‬
‫أال ب ِ ِذك ِر اَّللِ تطمئِن القلوب‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،2۸‬من السورة ‪ :۱3‬الرعد‪.‬‬


‫‪130‬‬
‫اح‪َ ،‬يا َدلِ َيل‬
‫و يكون أيض ًا لألوراد المعروفة مثل‪َ :‬يا َف َّت ُ‬
‫الم َت َح ِّ ِريي َن‪ ،‬و أمثاهلا تأثري عظيم‪ ،‬و ال حيصل هذا ّإال‬

‫التوجه الكافيني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بأدائها بالقلب الوهلان و احلضور و‬
‫قصّة الشابّ املريد قلبيّاً للهداية‬

‫مرة بزيارة‬
‫ترشف ذات ّ‬
‫نقل يل أحد أصدقائي بأنه ّ‬
‫المقدسة يف كربالء‪ ،‬و قال‪« :‬انطلقت بنا الس ّيارة‬
‫ّ‬ ‫العتبات‬

‫شاب حليق الذقن تبدو‬


‫من إيران و إىل جانبي كان جيلس ّ‬
‫عليه السمنة‪ ،‬و هلذا مل جير بيننا أي حديث‪ ،‬و أثناء الطريق‬

‫إذا بصوته يرتفع فجأة‬

‫‪131‬‬
‫بالبكاء و النحيب‪ ،‬ممّا أثار دهشتي‪ ،‬فسألته عن سبب‬

‫بكائه‪ ،‬فقال يل‪ :‬إنني إذا مل اخربك فلمن أقول‪ .‬أنا مهندس‬

‫مدين‪ ،‬و قد ُر ّبيت منذ الطفولة تربية غري دين ّية‪ ،‬فلم أكن‬
‫ّ‬
‫أن يف قلبي ً‬
‫ميال‬ ‫أعتقد بالمبدأ و المعاد‪ ،‬و إ َّنام كنت أشعر َّ‬

‫و حم ّبة للمتد ّينني فقط‪ ،‬سواء كانوا مسلمني أو مسيح ّيني‬

‫أو هيود ًا‪.‬‬

‫و يف يوم كنت يف إحدى السهرات الليل ّية التي كان‬

‫حيرضها أكثر رفقائي البهائ ّيني‪ ،‬حيث رقصنا و لعبنا‬

‫ساعات و ساعات‪ ،‬فجأة شعرت يف أعامق نفيس باخلجل‪،‬‬

‫و تضايقت من أفعايل‪ ،‬و اضطررت أن أخرج من الغرفة و‬

‫العلوي و هناك أجهشت بالبكاء‪ ،‬و‬


‫ّ‬ ‫صعدت إىل الطابق‬

‫رحت ار ّدد يف نفيس و أقول‪ :‬يا ذا الذي إن كان هناك إله‬

‫ثم نزلت إىل احلفل الذي كان منتهي ًا‪.‬‬


‫فهو أنت! أدركني‪ّ ،‬‬

‫و يف اليوم التايل كنت عازم ًا عىل السفر يف ّ‬


‫مهمة فن ّية‬

‫بصحبة رئيس القطار و بعض الشخص ّيات‪ ،‬و فجأة رأيت‬

‫س ّيد ًا نوران ّي ًا يقرتب منّي‪ ،‬فسلم َ ّ‬


‫عيل و قال‪ :‬اريد أن ألتقي‬

‫بك‪ .‬فوعدته بأن أراه غد ًا بعد الظهر‪ .‬و بعد ذهابه أخربين‬

‫‪132‬‬
‫أحد أصدقائي َّ‬
‫بأن هذا الرجل من السادة الكبار‪ ،‬فلامذا‬

‫سلمت عليه بال مباالة؟ فقلت‪ :‬لقد ظننت أنه أىت و سلم‬

‫َّ‬
‫عيل حلاجة له عندي! و بعدها أمرين رئيس القطار بالسفر‬

‫يف اليوم التايل‪ ،‬و بالتحديد يف الموعد الذي أبرمته‬

‫‪133‬‬
‫مع الس ّيد و ك ّلفني ّ‬
‫بعدة امور و أعامل‪ .‬فقلت يف‬

‫نفيس‪ :‬لن أستطيع بعد هذا أن ألتقي بالس ّيد غد ًا‪.‬‬

‫يف اليوم التايل ‪-‬عندما اقرتب موعد العمل‪-‬‬

‫أحسست بالضعف شيئ ًا فشيئ ًا‪ ،‬و اعرتتني ّ‬


‫ْحى شديدة‬ ‫ُ‬

‫ألزمتني الفراش و أحرضوا يل الطبيب‪ ،‬ممّا أ ّدى إىل إعفائي‬

‫المهمة التي ك ّلفت هبا يف ذلك اليوم‪ .‬و ما إن خرج‬


‫ّ‬ ‫من‬

‫إيل‪ ،‬و تأ ّكد من مريض‪،‬‬


‫الرجل الذي أرسله رئيس القطار َ ّ‬
‫احلمى تزول عنّي‪ ،‬و عادت حالتي إىل طبيعتها‪ ،‬و‬
‫إذا ب ّ‬
‫جمدد ًا‪ .‬حينها أدركت أنه ّ‬
‫البد من وجود‬ ‫أحسست بالراحة ّ‬

‫ثم ذهبت إىل منزل ذلك الس ّيد‪ ،‬و ما‬


‫رس يف ذلك‪ .‬فنهضت ّ‬
‫ّ‬

‫إن جلست عنده بدأ يلقي َ ّ‬


‫عيل دورة من االصول‬

‫االعتقاد ّية باألد ّلة و الرباهني‪ ،‬بحيث أصبحت مؤمن ًا‪ّ .‬‬
‫ثم‬

‫ك ّلفني ّ‬
‫بعدة امور‪ ،‬و أمرين بالمجيء إليه يف اليوم التايل‪.‬‬

‫عدة أ ّيام‪ ،‬و كنت ‪-‬كلام جئت إليه‪ -‬أسمع‬


‫ترددت عليه ّ‬
‫ُ‬

‫منه أخباري و احلوادث التي وقعت يف أ ّيامي الامضية دون‬

‫زيادة أو نقيصة‪ ،‬و مل يكن م ّطلع ًا عليها أحد غريي‪ ،‬و ح ّتى‬

‫ن ّيايت التي عزمت عليها و مل أخرب هبا أحد ًا‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫مرت األ ّيام فاضطررت ذات ليلة أن أشرتك يف‬
‫و ّ‬
‫جرتني إىل طاولة القامر‪ .‬يف اليوم التايل‪،‬‬
‫سهرة لألصدقاء‪ّ ،‬‬
‫عندما دخلت عليه‪ ،‬قال يل عىل الفور‪ :‬امل تستح و ختجل‬

‫من ارتكاب‬

‫‪135‬‬
‫هذه المعصية الكبرية‪ ،‬فبدأت دموع الندم تنهمر من‬

‫أخطأت‪ ،‬و أنا أتوب اآلن‪ .‬فقال‪:‬‬


‫ُ‬ ‫عيني‪ ،‬و قلت له‪ :‬لقد‬
‫ّ‬
‫ينبغي أن تغتسل غسل التوبة و ال تعد إىل تلك المعصية‪.‬‬

‫غري ُت سرييت و‬
‫عدة تكاليف‪ .‬و باختصار‪ّ ،‬‬
‫فحدد يل ّ‬
‫ّ‬

‫برنامج حيايت‪.‬‬

‫و َّ‬
‫ألن هذه القض ّية حدثت يف زنجان‪ ،‬فعندما أردت‬

‫االنتقال إىل طهران أمرين بزيارة بعض العلامء هناك‪ ،‬و يف‬

‫المقدسة‪ .‬و هذا السفر كان‬


‫ّ‬ ‫النهاية ِام ُ‬
‫رت أن أزور العتبات‬

‫بأمر الس ّيد اجلليل»‪.‬‬

‫قال صاحبي‪ :‬و عندما اقرتبنا من احلدود العراق ّية‪،‬‬

‫سمعت صوته قد عال بالبكاء ثانية‪ ،‬فسألته عن السبب‪.‬‬

‫فقال‪:‬‬

‫«و نحن ندخل أرض العراق ‪-‬اآلن‪ -‬رأيت أبا‬

‫عبداهلل عليه السالم يقول يل‪ :‬مرحب ًا بكم»‪.‬‬

‫و مرادي أنه إذا سار اإلنسان يف طريق الصدق و‬

‫الصفاء‪ ،‬و طلب اهلداية من ر ّبه من صميم قلبه‪ ،‬سوف‬

‫يو ّفق هلا‪ ،‬و إن كان لديه ّ‬


‫شك يف التوحيد‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫العلم يورث العمل‪ ،‬و العمل يورث العلم‬

‫عندما يو ّفق السالك يف هذه المرحلة‪ ،‬عليه أن ّ‬


‫يشمر‬

‫اهلمة لتحصيل اإلسالم األكرب و اإليامن األكرب‪.‬‬


‫عن ساعد ّ‬
‫و ّأول االمور الالزمة يف هذه المرحلة تعلم األحكام‬

‫الرشع ّية التي جيب أن يتعلمها عىل يد فقيه‪ ،‬و بعد حتصيل‬

‫العلم‪ ،‬عليه أن ينهض لمقام‬

‫‪137‬‬
‫العمل و يداوم عليه ح ّتى تزداد معرفته و يرتفع يقينه‬

‫درجة درجة؛ َّ‬


‫ألن العلم يورث العمل و العمل يورث‬

‫العلم‪ .‬فالزم االعتقاد الشديد باليشء‪ ،‬العمل به و تطبيقه‪.‬‬

‫و بالربهان اإلين نكتشف َّ‬


‫أن عدم العمل باليشء يكون‬

‫جمرد‬
‫نتيجة لعدم جزم ّية علمه و اعتقاده و إذعانه‪ ،‬فهو ّ‬
‫صور منتقشة يف قوى اخليال‪.‬‬

‫احلقيقي برازق ّية احلرضة‬


‫ّ‬ ‫الواقعي‬
‫ّ‬ ‫فالذي يعتقد بالعلم‬

‫األحد ّية المطلقة‪ ،‬ال يتهالك عىل حتصيل الامل‪ ،‬بل يقترص‬

‫عىل الكفاف الذي أمر به الرشع‪ ،‬و يسعى هبدوء البال و‬

‫سكون اخلاطر و بقدر طاقته لتحصيل ذلك المعاش له و‬

‫لعياله‪ .‬و الذي جيعل نفسه ُعرضة للقلق و اهلموم و‬

‫احلد‬
‫الغموم من أجل حتصيل المعاش‪ ،‬و يسعى فوق ّ‬

‫الطبيعي له‪ُ ،‬يعلم أن ال اعتقاد له بالرازق ّية المطلقة‪ ،‬و إ َّنام‬


‫ّ‬
‫يعتقد بالرازق ّية المق ّيدة‪ ،‬بأن يعترب اهلل رازق ًا فيام لو تو ّفر‬

‫هذا المقدار من السعي المجهد‪ ،‬أو يعتربه رازق ًا مق ّيد ًا‬

‫بامتالك الثروة أو بإعطاء الامل آخر الشهر إىل غري ذلك من‬

‫اخلارجي أو‬
‫ّ‬ ‫القيود‪ .‬بناء عىل هذا‪ ،‬يكون االضطراب‬

‫‪138‬‬
‫الداخيل حاكي ًا عن عدم العلم بالرازق ّية‪ ،‬أو بكوّنا مق ّيدة‪.‬‬
‫ّ‬
‫و هذا هو معنى وراثة العلم للعمل‪ .‬و أ ّما مثال وراثة‬

‫العمل للعلم‪َّ :‬‬


‫أن اإلنسان إذا قال بصدق‪:‬‬

‫ب األ ْع َىل َو بِ َح ْم ِد ِه‪.‬‬ ‫ُس ْب َح َ‬


‫ان َر ِّ َ‬

‫‪139‬‬
‫أن ّ‬
‫الذل ال يتح ّقق‬ ‫بدهيي َّ‬
‫ّ‬ ‫يتحسس ّ‬
‫الذل‪ ،‬و‬ ‫ّ‬ ‫سوف‬

‫العز‪ ،‬فالذليل دائ ًام يف مقابل العزيز و المقتدر؛ إذن‬


‫بدون ّ‬

‫ثم يفهم‬
‫العزة المطلقة‪ّ ،‬‬
‫التوجه إىل مقام ّ‬
‫ّ‬ ‫ال جيد مناص ًا من‬

‫العزة من علم و قدرة أيض ًا‪ ،‬و هكذا‪ .‬فمن‬


‫البد مع هذه ّ‬
‫أنه ّ‬

‫هذا العمل البسيط ‪-‬الذي هو ذكر يتىل حال السجود‪-‬‬

‫ي ّطلع عىل ّ‬
‫العزة المطلقة و العلم المطلق و القدرة المطلقة‬

‫هلل تعاىل‪ .‬و هذا هو معنى أداء العمل للعلم‪ ،‬و ينظر إىل‬
‫هذا المعنى قوله تعاىل‪َ :‬و الْ َع َم ُل ا‬
‫الصال ُِح يَ ْر َف ُعه‪ُ.‬‬

‫جيد يف‬
‫فينبغي له أن يبادر بنشاط لألعامل الواجبة‪ ،‬و ّ‬
‫المحرمات؛ َّ‬
‫ألن سلوك طريق اهلل يتناىف مع ترك‬ ‫ّ‬ ‫ترك‬

‫المحرم‪ .‬و بمراعاة هذين األمرين‬


‫ّ‬ ‫الواجب و ارتكاب‬

‫تسري جهود السالك و أتعابه يف طريق الصالح‪ ،‬و ّإال فام‬

‫تلوث البدن‪ ،‬كذلك األعامل‬


‫هي فائدة الزينة مع ّ‬
‫المستح ّبة و الرياضات الرشع ّية لن تكون مثمرة مع‬

‫فليجد السالك يف ترك‬


‫ّ‬ ‫تلوث القلب و الروح‪.‬‬
‫ّ‬
‫المكروهات‪ ،‬و أداء األعامل المستح ّبة؛ َّ‬
‫ألن حصول‬

‫مرتبة اإلسالم األكرب و اإليامن األكرب تتو ّقف عىل األعامل‪،‬‬

‫‪140‬‬
‫ختتص به تؤ ّدي إىل تكميل‬
‫ّ‬ ‫أن ّ‬
‫لكل عمل خاص ّية‬ ‫باعتبار َّ‬

‫حممد بن مسلم‪:‬‬
‫اإليامن‪ ،‬و إىل هذا المعنى اشري يف حديث ّ‬
‫ُون َّإال بال َع َم ِل‪ ،‬و ال َع َم ُل ِمن ُه‪ ،‬و ال َيث ُب ُت‬
‫اإليامن ال َيك ُ‬
‫ُ‬

‫‪141‬‬
‫اإليامن َّإال بال َع َم ِل‪.‬‬
‫ُ‬

‫مرة‬
‫مستحب ولو ّ‬
‫ّ‬ ‫هلذا عىل السالك أن يؤ ّدي ّ‬
‫كل عمل‬

‫اإليامين من ذلك العمل‪ ،‬كام جاء‬


‫ّ‬ ‫واحدة‪ ،‬ح ّتى جيد ح ّظه‬

‫يف أحاديث أمريالمؤمنني عليهالسالم َّ‬


‫إن اإليامن الكامل‬

‫ينشأ من العمل‪ ،‬إذن عىل السالك إىل اهلل أن ال يتواىن أثناء‬

‫السري إىل منزل اإليامن األكرب عن القيام باألعامل‬

‫بدهيي أنه بالمقدار الذي يتسامح و يتساهل‬


‫ّ‬ ‫المستح ّبة‪ .‬و‬

‫يف أداء األعامل المستح ّبة ينقص إيامنه بذلك المقدار؛ هلذا‬

‫إذا قام السالك بتطهري يده و لسانه و سائر أعضائه و‬

‫اإلهلي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جوارحه‪ ،‬و أ ّدهبا ‪-‬بتامم معنى الكلمة‪ -‬باألدب‬

‫ولكنّه مل جياهد نفسه يف مقام اإلنفاق و بذل األموال‪ ،‬فلن‬

‫اإليامين‪ ،‬بل يسري إىل النقص‪ ،‬و يكون ذلك‬


‫ّ‬ ‫يكتمل سلوكه‬

‫النقص مانع ًا له من االرتقاء إىل المقام األعىل‪ .‬بناء عىل‬

‫اإليامين‬
‫ّ‬ ‫هذا ينبغي أن يعطي ّ‬
‫كل عضو من أعضائه ح ّظه‬

‫ح ّتى حتصل له حالة اإليامن‪ ،‬كأن يشغل القلب الذي هو‬

‫أمري البدن بالذكر و الفكر‪ ،‬فالذكر‪ :‬عبارة عن تذكري‬

‫القلب بأسامء و صفات حرضة الباري تعاىل شأنه‪ ،‬و الفكر‬

‫‪142‬‬
‫عبارة عن توجيه القلب إىل اآليات اآلفاق ّية و النفس ّية‪ ،‬و‬

‫ينبغي التأ ّمل و التدقيق يف صنعها و سريها ح ّتى يرتوي‬

‫قلب اإلنسان من منبع اإليامن بواسطة هذين العملني‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫ُ‬ ‫ْ ا َ ْ َ ُّ ْ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫أال ب ِ ِذك ِر اَّللِ تطمئِن القلوب‪.‬‬

‫اإليامين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و بعد أن ينال ّ‬
‫كل عضومن األعضاء ح ّظه‬

‫جيب أن يبدأ بالمجاهدة‪ ،‬و هبا يكمل نقصان اإلسالم‬

‫ّ‬
‫الشك و الظ ّن‬ ‫األكرب و اإليامن األكرب‪ ،‬و يبتعد عن حالة‬

‫ليصل إىل اليقني‪.‬‬


‫َُ ْ ُ ْ ُ َ‬
‫ك ل َ ُهمُ‬ ‫ُ‬ ‫ا َ َُ َ َْ َْ‬
‫اَّلِين آمنوا و لم يلبِسوا إِيمانهم بِظل ٍم أولئ ِ‬
‫َْ‬
‫ْ ُ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ َ ‪2‬‬
‫اَلمن و هم مهتدون‪.‬‬

‫و تكون نتيجة المجاهدة ‪-‬إضافة إىل ورود الرصاط‬

‫المستقيم‪ -‬األمن و احلفظ من حبائل الشياطني‪.‬‬


‫ُ ْ َ ْ َ ُ َ ‪3‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌْ ََ‬ ‫َ ا َْ َ ا‬
‫أال إِن أو ِْلاء اَّللِ ال خوف علي ِهم و ال هم ُيزنون‪.‬‬

‫اخلوف‪ ،‬عبارة عن احلذر و تر ّقب ما مل يقع بعد‪ ،‬مع‬

‫كون المرتقب مورد إزعاج اإلنسان و قلقه‪ .‬و احلزن‪،‬‬

‫الغم من أمر غري مالئم و غري مقبول قد‬


‫اهلم و ّ‬
‫عبارة عن ّ‬
‫وقع‪ .‬هذان األمران ليس هلام طريق إىل السالك‪ ،‬ألنه قد‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،2۸‬من السورة ‪ :۱3‬الرعد‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۸2‬من السورة ‪ :6‬األنعام‪.‬‬
‫‪ 3‬اآلية ‪ ،62‬من السورة ‪ :۱۰‬يونس‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫جعل عمله كله هلل‪ ،‬و ليس له مقصود سوى اهلل‪ ،‬فهو ال‬

‫حيزن ألمر قد فات‪ ،‬و ال خياف من يشء مرت ّقب‪ ،‬فهنا‬

‫اليقني الذي وصف اهلل تعاىل ذويه‬

‫‪145‬‬
‫باألولياء‪ .‬و يشري إىل ذلك قول أمريالمؤمنني‬

‫عليهالسالم‪:‬‬

‫رص َط ِري َق ُه‪َ ،‬و َس َل َك َسبِيله‪َ ،‬و َع َر َ‬


‫ف َمن ََار ُه‪َ ،‬و َق َط َع‬ ‫أ ْب َ َ‬
‫ني َع َىل ِم ْث ِل َض ْو ِء َّ‬
‫الش ْم ِ‬
‫س‪.‬‬ ‫ِغ َام َر ُه‪َ ،‬ف ُه َو ِم َن ال َي ِق ِ‬

‫و يقول أيض ًا‪:‬‬

‫وح‬ ‫العلم َع َىل َح ِقي َق ِة ال َب ِص َري ِة‪َ ،‬و َب َُ‬


‫ارشوا ُر َ‬
‫هجم ِهبِم ِ‬
‫َ َ َ ُ‬
‫ون‪َ ،‬و أنِ ُسوا بِ َام‬ ‫المرت ُف َ‬‫َْ‬ ‫اس َت ْو َع َر ُه‬
‫َ ْ‬ ‫ا‬‫م‬ ‫وا‬‫ن‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫ال‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫اس‬‫ْ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ني‬ ‫ق‬ ‫الي ِ‬
‫َ‬
‫اح َها‬ ‫ٍ‬ ‫ون‪َ ،‬و َص ِح ُبوا ُّ‬
‫الد ْن َيا بِأ ْب َدان ْأر َو ُ‬
‫ِ‬
‫اجلاه ُل َ‬ ‫اس َت ْو َح َش ِمنْ ُه‬ ‫ْ‬

‫ُم َع َّل َق ٌة بِ َ‬
‫المح ِّل األ ْع َىل‪.‬‬

‫ففي هذه المرحلة بالذات ُتف َتح له أبواب الكشف و‬

‫الشهود‪.‬‬
‫االرتباط الداخليّ للسالك بعامل امللكوت ال يتنافى مع‬

‫طي هذا المنزل ال يتناىف مع كون‬ ‫البدهيي َّ‬


‫أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫و من‬

‫ً‬
‫منشغال باموره الرضور ّية‪ ،‬و ال عالقة‬ ‫السالك يف الدنيا‬

‫لفيوضاته القلب ّية باألوضاع اخلارج ّية من النكاح و‬

‫التكسب و التجارة و الزراعة و أمثاهلا‪ ،‬و يف الوقت الذي‬


‫ّ‬
‫ً‬
‫منشغال بامور الدنيا‪ ،‬تكون‬ ‫يكون السالك بني الناس‬

‫‪146‬‬
‫روحه سائرة تشارك الملكوت ّيني أرسارهم‪َ ،‬م َث ُل هذا‬

‫اإلنسان مثل من تنزل عليه المصيبة بفقدان عزيز‪ ،‬فهو يف‬

‫حال المصيبة بني الناس يتكلم معهم و جيالسهم و يأكل‬

‫و ينام‪ ،‬أ ّما يف أعامقه فهناك البحر اهلائج و أمواج اخلواطر‬

‫المتالطمة التي تذ ّكره بالمحبوب‪ّ ،‬‬


‫كل من ينظر إىل وجهه‬

‫يرى آثار المصيبة‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫و سالك طريق اهلل له حني االشتغال باالمور الدنيو ّية‬

‫ألوان من اإلرتباطات و اإل ّتصاالت مع ر ّبه‪ ،‬يموج يف قلبه‬

‫بحر من الشوق‪ ،‬و يف كيانه تتو ّقد نريان العشق‪ ،‬و تذيب‬

‫فؤاده حرق الفراق و اهلجران‪ ،‬و ال يعلم عن هذا الربكان‬

‫المتفجر يف أعامقه أحد سوى اهلل‪ ،‬ولكن من ينظر إىل‬


‫ّ‬
‫التوجه إىل‬
‫ّ‬ ‫احلق و‬
‫أن عشق اهلل و عبادة ّ‬ ‫وجهه يعلم ً‬
‫إمجاال َّ‬

‫المقدسة قد فعل به ما فعل‪.‬‬


‫ّ‬ ‫احلرضة‬

‫الترضع و المناجاة و اإلبتهال‬


‫ّ‬ ‫من هذا البيان ُيعلم َّ‬
‫أن‬

‫لألئمة األطهار ‪-‬كام ورد يف أدعيتهم المأثورة‪-‬‬


‫ّ‬ ‫الذي كان‬

‫مل يكن تصنّع ًا‪ ،‬أو ألجل إرشاد الناس و تعليمهم‪ ،‬فهذا‬

‫التوهم ناشئ من اجلهل و عدم إدراك احلقائق‪َّ ،‬‬


‫ألن شأّنم‬ ‫ّ‬
‫عليهم السالم ُّ‬
‫أجل و مقامهم أرشف من أن يظهروا‬

‫بيانات دون أن يكون هلا معنى أو حقيقة‪ ،‬أو يدعوا الناس‬

‫إىل اهلل باألدعية و المناجاة الكاذبة‪ ،‬فهل يمكن القول إ َّن‬

‫الترضع و اهليام لموىل الموايل‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كل هذا األنني و‬

‫السجاد عليهام السالم مل تكن يف‬


‫ّ‬ ‫أمريالمؤمنني و اإلمام‬

‫الواقع حقيق ّية بل كان فيها يشء من التصنّع أو التعليم؟‬

‫‪148‬‬
‫أئمة الدين سالم اهلل عليهم‬ ‫حاشا و ّ‬
‫كال‪ ،‬فهذه الطائفة من ّ‬
‫باعتبارها اجتازت مراتب السلوك‪ ،‬و دخلت حرم اهلل و‬

‫وصلت إىل مقام البقاء بعد الفناء الذي هو مقام البقاء‬

‫بالمعبود‪ ،‬فحاهلم جامع بني عالمي الوحدة‬

‫‪149‬‬
‫و الكثرة‪ ،‬و يراعون نور األحد ّية عىل الدوام يف‬

‫مظاهر عوامل اإلمكان و الكثرات الملك ّية و الملكوت ّية‪ ،‬و‬

‫المتالكهم عليهم السالم هذه الدرجة السامية من‬

‫فإّنم دائ ًام يراعون لوازم عامل الملك و‬


‫الكامالت‪ّ ،‬‬
‫الملكوت‪ ،‬فهم ال يتساحمون يف أصغر أو أدىن حكم من‬

‫األحكام أو أدب من اآلداب أو حال من األحوال‬

‫المتناسبة مع هذه العوامل‪ ،‬و يف نفس الوقت تراهم‬

‫اخلاص إىل العوامل العالية‪ ،‬و هلذا ُس ُّموا‬


‫ّ‬ ‫بتوجههم‬
‫حيتفظون ّ‬
‫بالموجودات النور ّية‪.‬‬
‫عامل الفتح و الظفر و االنتقال من مملكة امللكوت‬

‫أجل؛ و بعد أن و ّفق السالك و طوى هذه العوامل و‬

‫تغ ّلب عىل الشيطان‪ ،‬سوف يدخل عامل الفتح و الظفر‪ ،‬و‬

‫طي العوامل الالحقة‪ .‬فالسالك حينها‬


‫يصل إىل مرحلة ّ‬
‫يكون قد طوى عامل الام ّدة‪ ،‬و دخل يف سلك عامل األرواح‪،‬‬

‫و من هنا يبتدئ سفره األعظم‪ ،‬أي السفر من عامل النفس‬

‫و الروح‪ ،‬و اإلنتقال من دولة الملكوت إىل مملكة‬

‫اجلربوت و الالهوت‪.‬‬

‫‪150‬‬
151
152
‫كيف ّية السري يف هذا الطريق ‪-‬بعد البيعة مع الشيخ‬

‫العارف‪ ،‬و و ّيل اهلل الذي اجتاز مقام الفناء‬

‫ووصل إىل مقام البقاء باهلل‪ ،‬والم ّطلع عىل المصالح‬

‫و المفاسد و المنجيات و المهلكات‪ ،‬و المتمكّن من‬

‫ّ‬
‫تويل زمام أمور تربية السالك‪ ،‬و هدايته إىل كعبة‬

‫الذكروالترضع و اإلبتهال‬
‫ّ‬ ‫المقصود‪ -‬عبارة عن الفكرو‬

‫الطبيعي أن يكون‬
‫ّ‬ ‫إىل اهلل قايض احلاجات‪ ،‬و من‬

‫سفره يف هذه المنازل متع ّلق ًا بامور عديدة ينبغي أن‬

‫تراعى مجيعها بنحو أحسن و أكمل‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬الْشَّرحُ التَّفْصيليّ لِلْطَريقِ وَ كَيفيَّةُ السَّير إىل اللَه‬

‫‪153‬‬
154
‫األول‪ :‬ترك العادات و الرسوم و المجامالت‬
‫ّ‬
‫و اإلبتعاد عن االمور االعتبار ّية التي متنع السالك من‬

‫طي الطريق‪ .‬و المقصود أن يعيش السالك بني الناس‬


‫ّ‬
‫بنحو االعتدال‪ .‬فالمجتمع حيتوي عىل طائفة من الناس‬

‫هم هلا سوى جلب‬


‫قد غرقت يف المراسم االجتامع ّية‪ ،‬ال ّ‬
‫بأي شكل من أشكال‬ ‫األصدقاء و ّ‬
‫اخلالن‪ ،‬و ال تبخل ّ‬
‫المرضة أو التي ليست هلا فائدة‬
‫ّ‬ ‫المجاملة و الزيارات‬

‫اخلاص‪ ،‬و تتك ّلف‬


‫ّ‬ ‫حفاظ ًا عىل شخص ّيتها و مقامها‬

‫العادات و التقاليد التي حتفظ هلا ُحسن الظاهر‪ ،‬تاركة‬

‫صميم احلياة حلفظ هامشها‪ ،‬جاعلة المعيار يف التقبيح و‬

‫التحسني آراء عوا ّم الناس‪ ،‬واضعة احلياة و العمر يف‬

‫معرض التلف و اهلالك ح ّتى صارت سفينة وجودهم لعبة‬

‫تتقاذفها األمواج المتالطمة للرسوم و العادات المفتعلة‪،‬‬

‫فأينام سارت األمواج بآداب العوا ّم و أخالق ّياهتم سارت‬

‫معها‪ ،‬فاقدة لإلرادة قبال المجتمع‪ ،‬منساقة‬

‫‪155‬‬
‫انسياق العبيد‪.‬‬

‫و يف المقابل هناك طائفة اخرى اعتزلت اجلامعة‪ ،‬و‬

‫ابتعدت عن ّ‬
‫كل نوع من العادات و اآلداب االجتامع ّية‪ ،‬و‬

‫تنصلت من االجتامع ّيات‪ ،‬فال معارشة و ال مزاورة هلم مع‬


‫ّ‬
‫الناس‪ ،‬و بقي أصحاهبا كذلك ح ّتى عرفوا بالمنزوين‪.‬‬

‫ولكي يتمكّن السالك من الوصول إىل المقصد‪ ،‬عليه‬

‫أن خيتار طريق االعتدال بني هذين المسلكني‪ ،‬و يتجنّب‬

‫اإلفراط و التفريط‪ ،‬و يسري عىل رصاط مستقيم‪ ،‬و هذا‬

‫األمر ال حيصل ّإال بمراعاة المقدار الذي تقتضيه‬

‫الرضورة يف جمال المعارشة و مزاولة المجتمع‪ ،‬نعم لو‬

‫قهري بني السالك و غريه عىل أثر اختالف‬


‫ّ‬ ‫حصل امتياز‬

‫مرض ًا‪،‬‬ ‫كم ّية المعارشة أو كيف ّيتها‪َّ ،‬‬


‫فإن هذا األمر لن يكون ّ‬
‫و بالطبع َّ‬
‫فإن مثل هذا االختالف ليحصل‪ ،‬فالمعارشة‬

‫احلد الذي جيعل السالك‬


‫الزمة و رضور ّية‪ ،‬ولكن ال إىل ّ‬
‫ََْ َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫نفسه تابع ًا ألخالق ّيات الناس‪َ ،‬و ال َيافون يف اهلل لومة‬
‫ِ‬

‫‪156‬‬
‫الئ ِ ٍم ‪ 1‬هذه اآلية حتكي عن مدى ثباهتم عىل هذا النهج‬

‫المستقيم‪ ،‬و تص ُّلبهم يف رأهيم و مسلكهم‪.‬‬

‫و بشكل عا ّم‪ ،‬يمكن أن نقول َّ‬


‫إن عىل السالك أن‬

‫اجتامعي‪ ،‬و ال‬


‫ّ‬ ‫حيدد النفع و الرضر يف ّ‬
‫كل أمر‬ ‫يقيس و ّ‬

‫جيعل نفسه تابع ًا آلراء الناس و أهوائهم‪.‬‬


‫العزم الراسخ يف طريق السلوك‬

‫الثاين‪ :‬العزم‬

‫ما أن يضع السالك القدم االوىل يف ميدان المجاهدة‬

‫تنصب عليه احلوادث الشديدة و البالءات من‬


‫ّ‬ ‫ح ّتى‬

‫جانب الناس و المعارف‪ ،‬اولئك الذين ال ي ّتبعون سوى‬

‫هوى النفس و الرغبات اإلجتامع ّية‪ ،‬يعاتبونه و يو ّبخونه‬

‫بالقول و العمل لكي يبتعد عن وجهته و مقصده‪ ،‬و هذا‬

‫اإلختالف يف نمط احلياة و السلوك فيام بينه و بني الناس‬

‫حيرفوا‬ ‫ختوفهم‪ ،‬فيسعون ّ‬


‫بكل وسيلة ممكنة أن ّ‬ ‫يؤ ّدي إىل ّ‬
‫موجهني له سياط اللوم و التوبيخ‬
‫ّ‬ ‫السالك المبتدئ‪،‬‬

‫إلمالته عن الطريق و هكذا‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،54‬من السورة ‪ :5‬الامئدة‪.‬‬


‫‪157‬‬
‫فإن السالك سوف يواجه يف ّ‬
‫كل منزل من منازل‬ ‫َّ‬

‫السفر مشكلة جديدة يبدو أّنا ال يمكن دفعها ّإال بالعزم‬

‫القوة ح ّتى‬
‫و الصرب‪ ،‬لذا عليه أن يطلب من اهلل المدد و ّ‬
‫يصمد أمام ّ‬
‫كل هذه المشاكل و يزيلها بسالح الصرب و‬

‫التو ّكل‪ ،‬و باإللتفات إىل عظمة المقصد عليه أن ال يسمح‬

‫للخوف ً‬
‫جماال أمام هذه العواصف اهلوجاء التي هي‬

‫عوائق طريق اهلل و موانعه‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫َ َ َ ا َ ْ َ َ َ ا ْ ُ ْ ُ َ‪ َ َ َ 1‬ا َ ْ َ َ َ ا‬
‫َّك‬
‫َّك المؤمِنون ‪ -‬و َع اَّللِ فليتو ِ‬
‫و َع اَّللِ فليتو ِ‬
‫َ ‪2‬‬
‫ُْ ََ ُ‬
‫المتو ِكون‪.‬‬
‫الرفق و املداراة يف العمل‬

‫الثالث‪ :‬الرفق و المداراة‬

‫أهم االمور التي ينبغي أن يراعيها السالك‬


‫و هي من ّ‬
‫إىل اهلل‪َّ ،‬‬
‫ألن أدىن غفلة يف هذا األمر تكون ‪-‬إضافة إىل منعه‬

‫من السري و الرت ّقي‪ -‬سبب ًا ك ّل ّي ًا يف انقطاع السفر‪ .‬فالسالك‬

‫جيد يف نفسه يف بداية السفر ْحاس ًا و شوق ًا زائد ًا عىل ّ‬


‫احلد‬

‫المرت ّقب من أمثاله‪ ،‬بل تالزمه تلك احلال أثناء السفر و‬

‫حني ظهور التج ّليات الصور ّية اجلامل ّية حيث ّ‬


‫حيس يف‬

‫نفسه بالعشق و الشوق الكثري‪ ،‬فيعزم عىل أداء األعامل‬

‫العباد ّية الكثرية‪ ،‬فرتاه يقيض معظم أ ّيامه يف الدعاء و الندبة‬

‫ً‬
‫متناوال‬ ‫مقتفي ًا ك ّل عمل‪ ،‬و متعل ًام من ّ‬
‫كل شخص كلمة‪ ،‬و‬

‫كل غذاء روحي لقمة‪ّ .‬إال َّ‬


‫أن هذا االسلوب من العمل‬ ‫من ّ‬

‫ليس مفيد ًا فحسب‪ ،‬بل يؤ ّدي إىل اخلّسان‪ ،‬ألنه عىل أثر‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱6۰‬من السورة ‪ :3‬آل عمران‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،۱2‬من السورة ‪ :۱4‬إبراهيم‪.‬‬
‫‪159‬‬
‫ً‬
‫أعامال ثقيلة تأيت النتائج معاكسة‪ ،‬و بالتايل‬ ‫حتميل النفس‬

‫ترتاجع النفس إىل الوراء‪ ،‬و يعود السالك بعد ذلك خايل‬

‫مستحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اليدين‪ ،‬و يفقد الرغبة و الميل للقيام بأدىن عمل‬

‫‪160‬‬
‫رس هذا اإلفراط و التفريط هو َّ‬
‫أن السالك قد جعل‬ ‫و ّ‬
‫الذوق و الشوق المؤ ّقتني ميزان ًا ألداء األعامل المستح ّبة‪،‬‬

‫ثقيال‪ ،‬و لام انتهى هذا الشوق المؤ ّقت‪،‬‬


‫ْحل النفس عبئ ًا ً‬
‫و ّ‬

‫المتأجج‪ ،‬ضجرت النفس من هذه األْحال‬


‫ّ‬ ‫و مخد هليبه‬

‫الثقيلة‪ ،‬و ألقت عىص الرتحال يف البداية أو أثناء الطريق‪،‬‬

‫معداته و ّ‬
‫ممالته‪ .‬إذن‬ ‫اشمأزت من السفر و تربأت من ّ‬
‫ّ‬ ‫و‬

‫فخ الشوق المؤ ّقت‪ ،‬بل عليه‬


‫عىل السالك أن ال يسقط يف ّ‬

‫أن يقيس بد ّقة مدى استعداده و حالته الروح ّية و وضع ّية‬

‫للتحمل‪ ،‬و ينتخب العمل‬


‫ّ‬ ‫عمله و أشغاله و مقدار قابل ّيته‬

‫الذي يمكنه أن يداوم عليه عىل أن يكون ّ‬


‫أقل من مقدار و‬

‫ً‬
‫مزاوال له ح ّتى ينال ح ّظه‬ ‫مدى استعداده‪ ،‬مكتفي ًا به و‬

‫اإليامين من هذا العمل‪.‬‬


‫ّ‬
‫و بناء عىل هذا فالسالك يشتغل بالعبادة طالام وجد يف‬

‫نفسه الميل و الرغبة‪ ،‬و يقلع عنها مع بقاء الشوق هلا‬

‫حفاظ ًا عىل هذه الرغبة و هذا الميل‪ ،‬و بالتايل يرى نفسه‬

‫دائم الظمأ للعبادة‪ .‬فمثل السالك الذي يريد أن يؤ ّدي‬

‫العبادات كمثل الذي يريد تناول الغذاء‪ ،‬عليه ّأو ًال أن‬

‫‪161‬‬
‫ثم يدعه قبيل الشبع‬
‫ينتخب الغذاء الذي يالئم مزاجه‪ّ ،‬‬
‫لتبقى فيه الرغبة و الميل دائمني‪ .‬و إىل هذا األمر إشارة يف‬

‫حديث اإلمام الصادق عليهالسالم مع عبدالعزيز‬

‫القراطييس‪:‬‬
‫ّ‬
‫السلم‬ ‫ات بِمن ِْز َل ِ‬
‫ة‬ ‫إن لِإليام ِن َع ْرش درج ٍ‬
‫َيا َع ْب َد ال َع ِز ِيز! َّ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َ‬ ‫َ‬

‫‪162‬‬
‫ُي ْص َع ُد ِمنْ ُه ِم ْر َقا ًة َب ْع َد ِم ْر َق ٍاة ‪-‬إىل أن قال عليهالسالم‪-‬‬

‫أس َف ُل ِمن َْك بِ َد َر َج ٍة َف ْار َف ْع ُه إ َل ْي َك بِ ِر ْف ٍق‪،‬‬


‫َو إ َذا َرأ ْي َت َم ْن ُه َو ْ‬
‫و َال َ ْحت ِم َلن َع َلي ِه ما َال يطِ ُيق َف َتك ِ‬
‫ّْس ُه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ ْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫أن العبادة المؤ ّثرة يف السري و السلوك‬
‫يتبني َّ‬ ‫ً‬
‫إمجاال‪ّ ،‬‬
‫هي تلك العبادة التي تنشأ من الرغبة و الميل‪ ،‬و إىل هذا‬

‫المعنى أشار عليهالسالم‪:‬‬

‫الع َبا َد ِة‪.‬‬


‫و َال ُتك ِْرهوا أ ْن ُفسكُم َع َىل ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرابع‪ :‬الوفاء‬

‫و هو عبارة عن عدم العود إىل ما تاب عنه‪ ،‬و عدم‪،‬‬

‫التقصري يف أداء ما عاهد نفسه عىل القيام به‪ ،‬و أن ال يرتك‬

‫احلق ح ّتى‬
‫ما عاهد عليه شيخه و مر ّبيه العارف يف طريق ّ‬

‫آخر األمر‪.‬‬
‫الثبات و املثابرة‬

‫اخلامس‪ :‬الثبات و المثابرة‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫و توضيح هذا المعنى حيتاج إىل ذكر‬

‫بحواسنا‬
‫ّ‬ ‫فالمستفاد من األخبار و اآليات َّ‬
‫أن الذي ندركه‬

‫من الذوات اخلارج ّية‪ ،‬و الذي نؤ ّديه يف اخلارج من‬

‫‪163‬‬
‫األفعال و يكون له حت ّقق يف عامل الام ّدة‪ ،‬له حقيقة يف ماوراء‬

‫التجسامت اخلارج ّية الام ّد ّية اجلسامن ّية‪ ،‬و ماوراء هذه‬
‫ّ‬ ‫هذه‬

‫جمردة من‬
‫الظواهر و المحسوسات‪ ،‬حقائق عالية المرتبة ّ‬
‫لباس الام ّدة و الزمان والمكان و سائر عوارضها‪،‬‬

‫‪164‬‬
‫الواقعي‬
‫ّ‬ ‫تتنزل هذه احلقائق من مقامها‬
‫و عندما ّ‬

‫تتجسم و تتم ّثل هبذه الصور الام ّد ّية المدركة يف عامل‬


‫ّ‬
‫رصح بذلك اآلية القرآن ّية المباركة‪:‬‬
‫اخلارج‪ ،‬و ت ّ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ْ َ ْ ا ْ َ َ ُ ُ َ َُ ُُ ا َ‬
‫ْنَل إِال بِقد ٍر‬
‫و إِن مِن ش ٍء إِال عِندنا خزائِنه و ما ن ِ‬
‫َ ُْ‬
‫‪1‬‬
‫معلو ٍم‪.‬‬

‫أن الذي يتح ّقق يف عامل الام ّدة‬


‫جممال‪ -‬هو َّ‬
‫و تفسريها ‪ً -‬‬

‫اخلارجي حقيقة اخرى عارية‬


‫ّ‬ ‫عموم ًا قد كان له قبل حت ّققه‬

‫احلد‪ ،‬لكنّه يف حال النزول و التنزيل‬


‫عن لباس التقدير و ّ‬

‫يتحدد ‪-‬وفق ًا لعلم الباري تعاىل‪ -‬بدرجات مع ّينة‪ ،‬و ّ‬


‫يقدر‬ ‫ّ‬

‫بالتقديرات اإلهل ّية‪.‬‬


‫كمْ‬‫ُ‬ ‫َُْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما أصاب مِن م ِصيب ٍة ِِف اَلر ِض و ال ِِف أنف ِ‬
‫س‬
‫ٌ ‪2‬‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ ْ َََْ ا َ ََ ا‬ ‫ا‬
‫سري‪.‬‬
‫ِتاب مِن قب ِل أن نَبأها إِن ذل ِك َع اَّللِ ي ِ‬ ‫إِال ِِف ك ٍ‬
‫حمددة و مملوءة‬ ‫ثم َّ‬
‫إن الصور اخلارج ّية لام كانت ّ‬ ‫ّ‬
‫بالعوارض الام ّد ّية من الكون و الفساد فهي لعبة بيد الفناء‬
‫ْ ُ َْ‬
‫و الزوال و النفاد‪ :‬ما عِن َدك ْم َينف ُد‪ ،‬لك َّن تلك احلقائق‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،2۱‬من السورة ‪ :۱5‬احلجر‪.‬‬


‫‪ 2‬اآلية ‪ ،22‬من السورة ‪ :5۷‬احلديد‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫التجرد و الملكوت ّية‬
‫ّ‬ ‫المعرب عنها باخلزائن هلا وجهة‬
‫ّ‬ ‫العالية‬

‫و ال يرت ّتب عليها سوى الثبات و الدوام و الك ّل ّية‪َ :‬و ما‬
‫َْ ا‬
‫باق‪ ،‬و إىل هذا المعنى و إىل‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل‬ ‫عِند‬

‫‪166‬‬
‫هذه احلقيقة اشري يف احلديث الم ّتفق عليه بني‬

‫الفريقني‪:‬‬

‫َّاس َع َىل َق ْد ِر‬ ‫ارش األ ْنبِي ِ‬


‫اء ِام ْر َنا ْ‬ ‫َنحن مع ِ‬
‫أن ُنكَلم الن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ََ َ‬

‫ُع ُق ْ‬
‫وهلم‪.‬‬

‫و هذا احلديث راجع إىل جهة بيان كيف ّيات احلقائق‬

‫الكم ّياهتا‪ ،‬و مدلوله‪ :‬أننا معارش األنبياء ‪-‬دائ ًام‪ّ -‬‬
‫ننزل‬

‫احلقائق العالية و نب ّينها بحسب فهم و إدراك السامع‪َّ ،‬‬


‫ألن‬

‫العقول البرش ّية ‪-‬بسبب انشغاهلا بزخارف احلياة و أمانيها‬

‫تكدرت فال تستطيع أن تدرك‬


‫الفارغة و آماهلا البعيدة‪ -‬قد ّ‬

‫تلك احلقائق بنفس الدرجة من الصفاء و الواقع ّية التي‬

‫يبني‬
‫هي عليها‪ .‬هلذا فاألنبياء العظام هم كمن يريد أن ّ‬
‫يضطرون إىل التعبري عنها بام يتناسب‬
‫ّ‬ ‫لألطفال حقيقة ما‪،‬‬

‫عرب األنبياء‬
‫مع القوى اإلدراك ّية و احلس ّية للطفل‪ .‬و كم ّ‬
‫العظام بواسطة مقام الرشع و الرشيعة (و هم ْحاهتا) عن‬

‫هذه احلقائق احل ّية بتعابري قد توحي إىل َّ‬


‫أن هذه احلقائق‬

‫أن ّ‬
‫كل واحدة من هذه‬ ‫احلس و الشعور‪ ،‬و احلال َّ‬
‫ّ‬ ‫تفقد‬

‫حج و جهاد و صلة‬


‫الظواهر الرشع ّية من صالة و صوم و ّ‬

‫‪167‬‬
‫رحم و صدقة و أمر بالمعروف و ّني عن المنكر و ‪ ...‬هلا‬

‫حقائق ح ّية ذات شعور و إدراك‪.‬‬

‫و السالك هومن يريد أن يزيل ‪-‬بخطى السلوك و‬

‫المجاهدة‪ ،‬و بعون اهلل و توفيقه‪ -‬كدورة و حجاب‬

‫النفس و العقل‬

‫‪168‬‬
‫الترضع و اإلبتهال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ظل ّ‬
‫ذل العبود ّية و االنكسار و‬ ‫يف ّ‬

‫ليشاهد ‪-‬بالعقل الظاهر و النفس المضيئة النوران ّية‬

‫الصافية من األغالل و الشوائب‪ -‬تلك احلقائق العالية يف‬

‫الظلامين‪ .‬و كثري ًا ما ي ّتفق‬


‫ّ‬ ‫هذه النشأة الام ّد ّية و العامل‬

‫للسالك أن يشاهد ا‬
‫كال من الوضوء و الصالة بصورته‬

‫الواقع ّية و يرى مقدار تفاوهتا مع صورته اجلسامن ّية‬

‫اخلارج ّية بآالف المراتب من حيث الشعور و اإلدراك‪.‬‬

‫األئمة األطهار عليهم السالم‬


‫ّ‬ ‫كام وردت يف أحاديث‬

‫مطالب ق ّيمة و نفيسة حول تلك الصورة المثال ّية‬

‫للعبادات يف عامل الربزخ و القيامة‪ ،‬و تكلم اإلنسان معها‪،‬‬

‫كام وردت يف مسألة نطق اجلوارح و السمع و البرص يف‬

‫احلجري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫القرآن الكريم‪ .‬فالمسجد ليس هو ذلك البناء‬

‫بل هو واقع ّية ح ّية و مدركة و شاعرة‪ ،‬كام جاء يف األخبار‬

‫رهبام يوم القيامة‪.‬‬


‫حول شكاية القرآن و المسجد إىل ّ‬
‫أن أحد السالكني كان يوم ًا طريح الفراش‪ ،‬و‬
‫يروى َّ‬

‫أثناء تق ّلبه عىل فراشه سمع أنين ًا من األرض‪ ،‬فلام استعلم‬

‫‪169‬‬
‫عن السبب‪ ،‬أدرك أو قيل له َّ‬
‫إن هذا األنني من األرض إ ّنام‬

‫كان لفراقك‪.‬‬

‫المقدمة نقول‪َّ :‬‬


‫إن عىل السالك أن يثبت يف‬ ‫ّ‬ ‫بعد هذه‬

‫نفسه من خالل االستمرار و المداومة عىل األعامل‪ ،‬تلك‬

‫المجردة ح ّتى يرتقي من احلال إىل مقام‬


‫ّ‬ ‫الصور الملكوت ّية‬

‫الملكة‪ .‬و عليه ‪-‬بواسطة‬

‫‪170‬‬
‫اإليامين‬
‫ّ‬ ‫الروحاين و‬
‫ّ‬ ‫حيصل ح ّظه‬ ‫تكرار ّ‬
‫كل عمل‪ -‬أن ّ‬
‫من ذلك العمل‪ ،‬فام مل حيصل لديه هذا المعنى ال يرتك‬

‫العمل‪ .‬و هذه اجلهة الملكوت ّية الثابتة للعمل إ ّنام حتصل‬

‫ترتسخ‬
‫عندما يثبت السالك و يداوم عىل العمل ح ّتى ّ‬
‫اآلثار الثابتة لألعامل الفانية اخلارج ّية يف افق النفس و‬

‫تتحجر بحيث لن تكون بعد التثبيت و االستقرار قابلة‬


‫ّ‬
‫للرفع‪.‬‬

‫إذن جيب عىل السالك أن يسعى النتخاب العمل‬

‫الذي يطابق و يناسب استعداده‪ ،‬فام عرف من نفسه عدم‬

‫اإلستمرار عليه ال خيتاره‪ ،‬ألنه عند ترك العمل سوف‬

‫تقف حقيقته و واقع ّيته للمخاصمة‪ ،‬فتجمع آثارها و‬


‫ٍ‬
‫حينئذ اآلثار المضا ّدة للعمل يف النفس‪،‬‬ ‫ترحل هبا‪ ،‬فتظهر‬

‫َنعو ُذ باهلل‪.‬‬

‫ارتد‬ ‫و معنى المخاصمة َّ‬


‫أن السالك لام ترك العمل َّ‬

‫هذا العمل و ابتعد عنه ذاهب ًا بآثاره و خصائصه معه‪ ،‬و‬

‫عمال نوران ّي ًا و خري ًا‪ ،‬فعندما ختلو‬


‫ألن ذلك العمل كان ً‬
‫َّ‬

‫مفر من أن‬
‫ناحية من النفس من تلك اآلثار النوران ّية‪ ،‬ال ّ‬

‫‪171‬‬
‫ّ‬
‫حتل حملها آثاره المضا ّدة من الظلمة و الكدورة و الرشور‪،‬‬

‫ور َو‬
‫الرش ُ‬
‫اخلري‪َ .‬و أ َّما ُّ‬ ‫يوج ُد ِع َ‬
‫ند اهلل َّإال ُْ‬ ‫و احلقيقة أنه َال َ‬
‫لامت َفإ َّن َام ِه َي ِم ْن أ ْن ُف ِسنا‪.‬‬ ‫ال َق ِ‬
‫بائ ُح َو ال ُّظ ُ‬
‫فإن ّ‬
‫كل عيب أو نقص يظهر يكون من‬ ‫بناء عىل هذا َّ‬

‫قبل‬

‫‪172‬‬
‫الرش َل ْي َس إ َل ْي َك‪ ،‬و عىل هذا األساس‬
‫أفراد البرش‪َ ،‬و َّ ُّ‬
‫خاصة بفرد دون‬ ‫ي ّتضح أيض ًا ّ‬
‫أن الفيوضات اإلهل ّية ليست ّ‬
‫ب و مقام الرْحة‬‫فرد‪ ،‬بل َّإّنا ت ّتجه من الصقع الربو ّ‬
‫ٍ‬
‫متناه إىل عموم أبناء البرش من‬ ‫الالمتناهية بنحو غري‬

‫المجويس و ع َب َدة النار‬


‫ّ‬ ‫النرصاين و‬
‫ّ‬ ‫اليهودي و‬
‫ّ‬ ‫المسلم و‬

‫و األصنام‪ ،‬لك َّن اخلصوص ّيات الموجودة يف قابل ّياهتم ‪-‬‬

‫بسوء اختيارهم‪ -‬تصري سبب ًا ألن تكون هذه الرْحة‬

‫الواسعة عند البعض باب ًا للّسور و البهجة‪ ،‬و عند البعض‬

‫ع ّلة إلجياد ّ‬
‫الغم و احلزن‪.‬‬
‫املراقبة يف مجيع األحوال‬

‫السادس‪ :‬المراقبة‬

‫و هي أن يكون السالك يف مجيع األحوال مراقب ًا و‬

‫منتبه ًا ال يتجاوز تكليفه‪ ،‬و ال يتخ ّلف ّ‬


‫عام عزم عليه‪.‬‬

‫و المراقبة معنى عا ّم‪ ،‬فهي تتفاوت باختالف مقامات‬

‫و درجات السالكني و منازهلم‪ .‬ففي بداية السلوك تكون‬

‫المراقبة عبارة عن اجتناب ما ال يتامىش مع دين السالك و‬

‫عام ال يعنيه‪ ،‬و السعي ّ‬


‫لئال يصدر منه ما‬ ‫دنياه‪ ،‬و اإلبتعاد ّ‬

‫‪173‬‬
‫يسخط اهلل يف القول و الفعل‪ ،‬ولكن شيئ ًا فشيئ ًا ّ‬
‫تشتد هذه‬

‫التوجه و‬
‫ّ‬ ‫المراقبة و ترتقي درجة فدرجة‪ ،‬فقد تتم ّثل يف‬

‫اإلنتباه إىل سكوته أو إىل نفسه‪ ،‬و قد ترتقي فتكون عبارة‬

‫التوجه لمراتب حقيقة األسامء و الصفات الك ّل ّية‬


‫ّ‬ ‫عن‬

‫نبني إن شاء اهلل مراتبها‬


‫اإلهل ّية‪ .‬و سوف ّ‬

‫‪174‬‬
‫و درجاهتا‪.‬‬

‫أهم رشوط السلوك‪ ،‬و قد‬ ‫و ل ُيعلم َّ‬


‫أن المراقبة من ّ‬
‫أ ّكد عليها المشائخ العظام‪ ،‬بل قد ّ‬
‫عدها الكثري منهم من‬

‫اللوازم احلتم ّية للسري و السلوك‪ ،‬ألّنا بمنزلة احلجر‬

‫األساس‪ ،‬فالذكر و الفكر و سائر الرشوط االخرى مبن ّية‬

‫عليها‪ ،‬فإذا مل تتح ّقق المراقبة ال يكون للذكر و الفكر أي‬

‫أثر‪ .‬و المراقبة بمنزلة اجتناب المريض عن الغذاء‬

‫الالمناسب‪ ،‬و الذكر و الفكر بمنزلة الدواء‪ ،‬فام مل يبتعد‬

‫عام ال يناسبه من الطعام‪ ،‬يعود الدواء بال أثر‪ ،‬بل‬


‫المريض ّ‬
‫قد يؤ ّدي إىل نتيجة عكس ّية‪ ،‬هلذا َّ‬
‫فإن األساتذة العظام و‬

‫مشايخ الطريقة منعوا عن الذكر و الفكر دون المراقبة‪ ،‬و‬

‫هم ينتخبون الذكر و الفكر حسب درجات السالك‪.‬‬


‫املؤاخذة‪ ،‬املسارعة‪ ،‬احلبّ‬

‫السابع‪ :‬المحاسبة‬

‫و هي عبارة عن ّاختاذ وقت ّ‬


‫معني يف الليل و النهار‬

‫يقوم خالله بمحاسبة نفسه عن ّ‬


‫كل ما عمله يف ليله و‬

‫ّناره‪ .‬و إىل هذا األمر إشارة يف حديث اإلمام موىس بن‬

‫‪175‬‬
‫ب َن ْف َس ُه‬ ‫جعفر عليهالسالم يف قوله‪َ :‬ليس ِمنَّا من مل ُ ِ‬
‫حياس ْ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ْ َ‬

‫ُك َّل َي ْو ٍم َم َّر ًة‪ .‬فإذا ّ‬


‫تبني له أنه قد أخطأ‪ ،‬فعليه أن يستغفر‪ ،‬و‬

‫يف حال عدم اخلطأ جيب أن يشكر اهلل تعاىل شأنه‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫الثامن‪ :‬المؤاخذة‬

‫و هي عبارة عن تأديب النفس بعد صدور اخليانة‬

‫منها‪ ،‬و ينبغي أن يكون ذلك حسب مقتىض احلال‪.‬‬

‫التاسع‪ :‬المسارعة‬

‫بأن يسارع إىل فعل ما قد عزم عليه‪ ،‬فطريق السالك‬

‫حت ّفه اآلفات‪ ،‬و يقف يف ّ‬


‫كل مقام منه مانع‪ ،‬فينبغي أن‬

‫جد ًا‪ ،‬فيؤ ّدي تكليفه و‬


‫يكون السالك حاذق ًا و واعي ًا ّ‬

‫يلوث ساحته‪ ،‬فال‬


‫وظائفه قبل أن حيول دوّنا الامنع و ّ‬
‫يض ّيع دقيقة واحدة يف سبيل الوصول إىل المقصد‪.‬‬

‫احلب‬
‫ّ‬ ‫العارش‪:‬‬

‫باحلق‪ ،‬فينبغي أن‬


‫ّ‬ ‫حب صاحب الرشيعة و خلفائه‬
‫ّ‬
‫ُخيلص يف هذه المح ّبة بحيث ال يكون فيها أي ّ‬
‫غش‪ ،‬و‬

‫حد الكامل‪َّ ،‬‬


‫ألن للمح ّبة مدخل ّية‬ ‫يصل يف هذه المرحلة إىل ّ‬

‫عظيمة يف التأثري عىل األعامل‪ ،‬و كلام كانت المو ّدة أكثر و‬

‫أشد رسوخ ًا‪.‬‬ ‫أعظم َّ‬


‫فإن أثر األعامل سوف يكون أعظم و ّ‬
‫ألن ّ‬
‫كل الموجودات هي خملوقات اهلل‪ ،‬فعىل‬ ‫و َّ‬

‫السالك أن حي ّبها مجيع ًا‪ ،‬و حيرتم ّ‬


‫كل واحد حسب مرتبته و‬

‫‪177‬‬
‫درجته‪ .‬فالعطف و اإلشفاق عىل ّ‬
‫كل ما ينتسب إىل اهلل‬

‫سواء كان حيوان ًا أو إنسان ًا‪،‬‬

‫‪178‬‬
‫كل يف مرتبته و مقامه‪ّ ،‬‬
‫كل هذا من آثار حم ّبة اهلل‪ ،‬كام‬ ‫ٌّ‬

‫ورد يف احلديث‪َّ « :‬‬


‫إن عمدة شعب اإليامن الشفقة عىل خلق‬

‫ب َم ْن ُحيِ ُّب َك‪...‬‬


‫أسأ ُل َك ُح َّب َك َو ُح َّ‬
‫اهلل»‪ .‬إهلي ْ‬

‫حفظ األدب‬

‫احلادي عرش‪ :‬حفظ األدب‬

‫العزة و خلفائه‪ .‬و هذا‬


‫لرب ّ‬‫المقدسة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّتاه احلرضة‬

‫األمر خيتلف عن معنى المح ّبة الذي ذكر سابق ًا‪ .‬و األدب‬

‫تتعدى حدودها‪ ،‬و‬


‫عبارة عن االلتفات إىل النفس كيال ّ‬

‫حد و حريم يف قبال‬ ‫ختالف مقتىض العبود ّية‪ّ ،‬‬


‫فكل ممكن له ّ‬

‫الواجب‪ ،‬و الزم حفظ األدب رعاية مقتضيات عامل‬

‫احلب هو انجذاب النفس إىل احلرضة‬


‫ّ‬ ‫الكثرة‪ ،‬ولك َّن‬

‫اإلهل ّية‪ ،‬و الزمه االلتفات إىل الوحدة‪.‬‬

‫احلب و األدب مثل النسبة بني الواجب‬


‫إن النسبة بني ّ‬
‫المحرم من األحكام‪َّ ،‬‬
‫ألن السالك أثناء أداء الواجب‬ ‫ّ‬ ‫و‬

‫يتوجه إىل‬
‫يتوجه إىل المحبوب و يف االجتناب عن احلرام ّ‬
‫ّ‬
‫اخلاص كيال خيرج عن حدوده اإلمكان ّية و مقتىض‬
‫ّ‬ ‫حريمه‬
‫‪179‬‬
‫عبود ّيته‪ ،‬فاألدب يرجع ‪-‬يف حقيقته‪ -‬إىل جانب ّاختاذ‬

‫الطريق المعتدل بني اخلوف و الرجاء‪ ،‬و الزم عدم رعاية‬

‫األدب‪ ،‬كثرة اإلنبساط بمقدار يوجب ّتاوز‬

‫‪180‬‬
‫احلدود المرسومة للسالك‪.‬‬

‫عيل القايض رضوان اهلل‬


‫احلاج المريزا ّ‬
‫ّ‬ ‫كان المرحوم‬

‫احلب و اإلنبساط عىل جانب‬


‫ّ‬ ‫عليه يغلب لديه جانب‬

‫حممد‬
‫احلاج الشيخ ّ‬
‫ّ‬ ‫اخلوف‪ ،‬و كذلك كان المرحوم‬

‫احلاج المريزا جواد‬


‫ّ‬ ‫البهاري رْحة اهلل عليه‪ ،‬و يف المقابل‬
‫ّ‬
‫التربيزي رضوان اهلل عليه‪ ،‬حيث كان مقام‬
‫ّ‬ ‫الملكي‬
‫ّ‬
‫اخلوف غالب ًا عىل الرجاء و االنبساط‪ ،‬و هذا األمر مشهود‬

‫من خالل جوانب و زوايا أحاديثه‪ .‬و الذي يكون رجاؤه‬

‫فيسمى‬
‫ّ‬ ‫يت»‪ ،‬و أ ّما من يطغى خوفه‬
‫أكثر يقال له «اخلرابا ّ‬
‫يت»‪ .‬ولك َّن الكامل يف رعاية االعتدال‪ ،‬و هو عبارة‬
‫«المناجا ّ‬
‫عن حيازة كامل الرجاء يف عني كامل اخلوف‪ ،‬و هذا ما‬

‫األئمة األطهار عليهم السالم‪.‬‬


‫ينحرص وجوده يف شخص ّ‬
‫فمحصل الكالم َّ‬
‫أن األدب‬ ‫ِّ‬ ‫نعود إىل صلب الموضوع‬

‫هو أن ال ينىس الممكن حدوده اإلمكان ّية‪ ،‬و هلذا نرى‬

‫خير ساجد ًا هلل تعاىل واضع ًا‬


‫اإلمام الصادق عليه السالم ّ‬
‫جبينه المبارك عىل الرتاب عندما يسمع بضع كلامت يف‬

‫ح ّقه ّ‬
‫يشم منها رائحة الغلو‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫و المرتبة الكاملة من األدب هي أن يعترب السالك‬

‫نفسه دائ ًام و يف مجيع األحوال يف حمرض ّ‬


‫احلق سبحانه و‬

‫تعاىل‪ ،‬و يالحظ األدب يف حال التكلم و السكوت‪ ،‬يف‬

‫النوم و اليقظة‪ ،‬يف احلركة‬

‫‪182‬‬
‫و السكون‪ ،‬و يف متام احلركات و السكنات‪ ،‬ولو‬

‫التفت السالك دائ ًام إىل األسامء و الصفات اإلهل ّية لظهرت‬

‫عليه عالئم األدب و الصغر‪.‬‬


‫النيّة و أنواعها‬

‫الثاين عرش‪ :‬الن ّية‬

‫و ذلك أن ال يكون للسالك قصد من السلوك سوى‬

‫نفس السلوك و الفناء يف الذات األحد ّية‪ ،‬و عليه‪ ،‬ينبغي‬


‫ا‬
‫اَّللَ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫أن يكون سري السالك خالص ًا هلل تعاىل‪ :‬فادعوا‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُْ‬
‫أن للن ّية ثالث‬ ‫ُمل ِ ِصَّي َل الِين‪ .‬و قد جاء يف ّ‬
‫عدة أخبار َّ‬ ‫‪1‬‬

‫مراتب‪ ،‬منها ما قاله الصادق عليه السالم‪:‬‬


‫العباد َث َال َث ٌة‪َ :‬قوم َعب ُدوا اهلل َخوف ًا َفتِ ْل َك ِعبادة العبِ ِ‬
‫يد‪.‬‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ٌ َ‬ ‫ُ َّ ُ‬
‫االج َر ِاء‪َ .‬و َق ْو ٌم َع َب ُدوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َق ْو ٌم َع َب ُدوا اهلل َط َمع ًا َفت َل َك ع َبا َد ُة َ‬
‫األح َر ِار‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل ُح َّب ًا َفت َل َك ع َبا َد ُة ْ‬
‫ِ‬
‫االوليني‬ ‫بالتأمل و ِ‬
‫التدقيق ي ّتضح َّ‬
‫أن عبادة الطائفتني‬ ‫ّ‬
‫ليست صحيحة حقيقة‪َّ ،‬‬
‫ألن عبادهتم مل تكن هلل و إىل اهلل‪،‬‬

‫و إ َّنام تعود إىل عبادة النفس‪ ،‬فهم ‪-‬يف الواقع‪ -‬كانوا‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱4‬من السورة ‪ :4۰‬غافر‪.‬‬


‫‪183‬‬
‫يعبدون ذواهتم دون اهلل تعاىل‪َّ ،‬‬
‫ألن عبادهتم تعود يف‬

‫واقعها إىل تلك العالئق‬

‫‪184‬‬
‫و المشتهيات النفسان ّية‪ ،‬و َّ‬
‫ألن عبادة النفس ال ّتتمع‬

‫تعد هذه اجلامعة ‪-‬حسب النظرة‬


‫مع عبادة اهلل‪ ،‬لذا ّ‬

‫االوىل‪ -‬كافرة باهلل و منكرة له‪ ،‬لكن باعتبار َّ‬


‫أن القرآن‬

‫فطري يف ّ‬
‫كل البرش‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ينص عىل َّ‬
‫أن أصل عبادة اهلل‬ ‫الكريم ّ‬
‫تبدل يف خلقه‪:‬‬ ‫تغري أو ّ‬
‫و ينفي حدوث أي ّ‬
‫اَّللِ االَّت َف َطرَ‬
‫َ ً ْ َ َ ا‬ ‫ََ ْ َ ْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِين حنِيفا ف ِطرت‬ ‫فأق ِم وجهك ل ِل ِ‬
‫ِين الْ َقي ُم وَ‬ ‫َ ْ َ َِ ْ ا‬
‫اَّللِ ذل َِك ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ا َ ََ‬
‫اَلاس عليها ال تب ِديل ِلل ِق‬
‫ِ‬
‫َ ْ َ ُ َ ‪1‬‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ا َ َْ‬
‫اس ال يعلمون‪.‬‬ ‫كن أكَث اَل ِ‬ ‫ل ِ‬

‫ال يرجع انحراف البرش ‪-‬بناء عىل ذلك‪ -‬إىل أصل‬

‫عبادة اهلل‪ ،‬بل يرجع إىل مقام التوحيد‪ ،‬أي عدم اإليامن‬

‫بوحدان ّية اهلل يف الفعل و الصفة و جعل رشكاء له‪ ،‬و هلذا‬

‫يرصح بثبوت توحيد اهلل و نفي‬ ‫أن القرآن يف ّ‬


‫كل جمال ّ‬ ‫نجد َّ‬
‫ِ‬
‫الطائفتني‬ ‫الرشك عنه‪ ،‬و عىل هذا األساس َّ‬
‫فإن أهل‬
‫ِ‬
‫االوليني يرشكون باهلل بالقصد‪ .‬و يمزجون يف مقام العمل‬

‫بني عبادة اهلل و عبادة الذات‪ ،‬و يؤ ّدون األفعال و األعامل‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،3۰‬من السورة ‪ :3۰‬الروم‪.‬‬


‫‪185‬‬
‫ِ‬
‫الداعيني‪ .‬و هذا هو الرشك‪ .‬و يف احلقيقة هم‬ ‫العباد ّية بكال‬

‫بنص القرآن لن يغفر هلم‪.‬‬ ‫مرشكون باهلل و ّ‬


‫ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ا اَ َ ْ ُ َ ْ ُْ‬
‫إِن اَّلل ال يغفِر أن يَشك بِهِ و يغ ِفر ما دون ذل ِك‬

‫ل َِم ْن‬

‫‪186‬‬
‫‪1‬‬ ‫يَ ُ‬
‫شاء‪.‬‬

‫فإن عبادهتم لن تكون مثمرة أبد ًا‪ ،‬و لن‬


‫و هكذا َّ‬

‫تقرهبم إىل اهلل المتعال‪.‬‬


‫ّ‬
‫أ ّما الطائفة الثالثة التي تعبد اهلل عىل أساس المح ّبة‪ ،‬و‬

‫هي عبادة األحرار‪ ،‬و يف بعض الروايات‪ :‬تِ ْل َك ِع َبا َد ُة‬


‫ِ‬
‫الك َرا ِم‪ ،‬فها هي العبادة الصحيحة الواقع ّية التي لن يصل‬

‫المطهرون يف الساحة اإلهل ّية‪َ .‬ف َه َذا َم َقا ٌم َم ْكن ٌ‬


‫ُون‬ ‫ّ‬ ‫إليها ّإال‬
‫َ َ ُّ ُ ا ْ ُ َ ا ُ َ‬
‫ال يمسه إِال المطهرون‪.‬‬

‫فالمح ّبة عبارة عن اإلنجذاب‪ ،‬أي اإلنجذاب نحو‬

‫يشء و حقيقة‪ ،‬و الطائفة الثالثة هم الذين بنوا عبادهتم عىل‬

‫أساس المح ّبة و اإلنجذاب إىل اهلل‪ ،‬و ليس هلم أي هدف‬

‫التقرب إليه‪ ،‬و هذا‬


‫أو مقصد سوى الميل نحوه تعاىل و ّ‬
‫اإلنجذاب الذي يشعرون به ّتاه المحبوب هو الداعي و‬
‫المحرك هلم نحوه‪ ،‬و الموجب لسريهم ّ‬
‫باّتاه ذلك‬ ‫ّ‬
‫المقدس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احلريم‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،4۸‬من السورة ‪ :4‬النساء‪.‬‬


‫‪187‬‬
‫احلق تعاىل من‬
‫قد جاء يف بعض الروايات أن اعبدوا ّ‬

‫حيث إ َّنه أهل للعبادة‪ .‬و معلوم َّ‬


‫أن هذه األهل ّية ال تعود‬

‫المقدسة َج َّل َج َالله‬


‫ّ‬ ‫إىل الصفات اإلهل ّية‪ ،‬بل إىل مقام ذاته‬

‫و َع ُظ َم َشأ ُن ُه‪ ،‬فيكون مفاد ذلك أن اعبدوا اهلل ألنه اهلل‪:‬‬

‫‪188‬‬
‫إهلي َما َع َب ْد ُت َك َخ ْوف ًا ِم ْن َن ِار َك َو َال َط َمع ًا يف َجنَّتِ َك‪،‬‬

‫أه ًال لِ ْل ِع َبا َد ِة َف َع َب ْد ُت َك‪.‬‬


‫َب ْل َو َج ْد ُت َك ْ‬

‫أ ْن َت َد َل ْل َتنِي َع َل ْي َك‪َ ،‬و َد َع ْو َتنِي إ َل ْي َك‪َ ،‬و َل ْو َال أ ْن َت مل‬

‫أ ْد ِر َما أ ْن َت‪.‬‬

‫و خيطو سالك طريق اهلل يف بداية سلوكه بقدم‬

‫المح ّبة‪ ،‬ولكن بعد أن يطوي المنازل‪ ،‬و حيصل ً‬


‫إمجاال عىل‬

‫بعض الكامالت‪ ،‬سوف يدرك َّ‬


‫أن المح ّبة أمر مغاير‬

‫للمحبوب‪ ،‬فيسعى لرتك المح ّبة التي كانت ح ّتى هذا‬

‫احلني وسيلة لسلوكه و معراج ًا لرق ّيه‪ ،‬و يدرك َّ‬


‫أن هذه‬

‫الوسيلة التي كانت مؤ ّثرة أصبحت اآلن ّ‬


‫مرضة و مانعة‬

‫للطريق‪ .‬و من هنا يضع السالك فقط و فقط حمبوبه نصب‬

‫عينيه و يعبده بعنوان المحبوب ّية ال غري‪ ،‬ولكن عندما‬

‫عدة‪ ،‬يدرك َّ‬


‫أن هذا النوع من‬ ‫يتقدم أكثر و يطوي منازل ّ‬
‫ّ‬

‫العبادة مل يكن خالي ًا من شائبة رشك‪ ،‬ألنه قد ّ‬


‫عد نفسه يف‬

‫هذه العبادة عاشق ًا و حم ّب ًا‪ ،‬و اعترب اهلل معشوق ًا و حمبوب ًا‪،‬‬

‫كمحب وجود ًا يف قبال ذات المحبوب‪ ،‬لذا‬


‫ّ‬ ‫فريى لذاته‬

‫المحب مغاير و مناف‬


‫ّ‬ ‫َّ‬
‫فإن النظر إىل المحبوب بعنوان‬

‫‪189‬‬
‫قدسة هلل تعاىل‪ ،‬و من هنا يسعى لينىس‬
‫لعبادة الذات الم ّ‬

‫احلب و العشق ح ّتى يتجاوز المغايرة و الكثرة‪ ،‬و‬


‫ّ‬ ‫عنواين‬

‫يضع قدمه يف عامل الوحدة‪ ،‬و عندها ختتفي الن ّية من‬

‫السالك‬

‫‪190‬‬
‫و متحي‪ ،‬ألنه لن يكون بعد ذلك شخص ّية و ذات ّية‬

‫للسالك تصدر عنها الن ّية‪.‬‬

‫إىل ما قبل هذه المرحلة كان السالك طالب ًا للمكاشفة‬

‫و الشهود‪ ،‬ولكنّه يف هذا المقام يدع تلك األغراض كلها‬

‫عرضة للنسيان‪ ،‬فلن يكون بعد ذلك إرادة ليكون اعتبار‬

‫للمراد و المقصود‪ .‬و يف هذه احلالة ُيغمض السالك عينيه‬

‫عن الرؤية و الالرؤية‪ ،‬و الوصول و الالوصول‪ ،‬و‬

‫المعرفة و الالمعرفة‪ ،‬و الر ّد و القبول‪ .‬يقول حافظ‬

‫الشريازي‪:‬‬
‫ّ‬

‫السجاد عليهالسالم‪ ،‬يف دعاء أب ْحزة‬


‫ّ‬ ‫ورد عن اإلمام‬

‫وال َي َدلِ ِييل َع َل َ‬


‫يك‪َ ،‬و ُح ِّبي َل َك‬ ‫عر َفتِي َيا َم َ‬
‫الثام ّيل‪ ،‬قوله‪َ :‬م ِ‬

‫اك ٌن ِم ْن‬
‫دال َلتِ َك‪ ،‬و س ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫يك؛ و أ َنا واثِ ٌق ِمن دلِ ِ‬
‫ييل‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫إ‬ ‫ي‬ ‫َش ِف ِ‬
‫يع‬

‫يعي بِ َش َفا َعتِ َك‪.‬‬


‫َش ِف ِ‬

‫البسطامي أنه قال‪« :‬تركت الدنيا يف‬


‫ّ‬ ‫و نقل عن بايزيد‬

‫األول‪ ،‬و يف اليوم الثاين تركت ال ُعقبى‪ ،‬و يف اليوم‬


‫اليوم ّ‬
‫الثالث خت ّطيت‬

‫‪191‬‬
‫ما سوى اهلل‪ ،‬و يف اليوم الرابع ُس ِئ ُ‬
‫لت‪ :‬ما ُت ِر ُ‬
‫يد؟‬

‫أن َال ِار َ‬


‫يد»‪.‬‬ ‫اريد ْ‬
‫فقلت‪ُ :‬‬

‫يرصح به البعض يف‬


‫و يشري إىل نفس المطلب ما ّ‬
‫األول‪ :‬ترك الدنيا‪ .‬الثاين‪ :‬ترك‬
‫تعيني المنازل األربعة‪ّ :‬‬
‫العقبى‪ .‬الثالث‪ :‬ترك الموىل‪ .‬الرابع‪ :‬ترك الرتك‪َ ،‬ف َت َد َّب ْر‪ .‬و‬

‫المراد من نبذ الطمع عند السالكني هو هذه المرحلة‬

‫العظيمة و العقبة المشكلة‪ ،‬و عبورها يف غاية الصعوبة‪ ،‬و‬

‫باهلني‪َّ ،‬‬
‫ألن السالك يف هذه المرحلة بعد‬ ‫ليس حتصيلها ّ‬
‫التأ ّمل و التدقيق جيد أنه مل يكن خالي ًا من الن ّية يف متام‬

‫مراحل السري‪ ،‬بل كان له غاية و مقصود يف سويداء قلبه‪،‬‬

‫و إن كانت تلك الغاية هي العبور من مراحل الضعف و‬

‫النقص و الوصول إىل الكامل و الكامالت‪ .‬ولو سعى‬

‫السالك ‪-‬عن طريق ّتريد الذهن‪ ،‬و الضغط عىل نفسه‬

‫جيرد نفسه من‬


‫يعري و ّ‬
‫مرات عديدة‪ -‬ليعرب هذه العقبة‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬
‫هذه المعاين و المقاصد‪ ،‬سوف لن حيصل عىل أ ّية نتيجة‪،‬‬

‫ألن نفس هذا التجريد مستلزم لعدم التجريد‪ ،‬و ذلك َّ‬
‫ألن‬ ‫َّ‬

‫‪192‬‬
‫نفس ذلك التجريد مل يكن من السالك ّإال لدا ٍع و غاية و‬

‫هذا النظر إىل الغاية دليل و عالمة عىل عدم التجريد‪.‬‬

‫الّس عىل استاذي المرحوم‬


‫طرحت هذا ّ‬
‫ُ‬ ‫ذات يوم‬

‫احلاج المريزا عىل القايض رضوان اهلل عليه‪ ،‬و التمست‬


‫ّ‬
‫منه ّ‬
‫حل هذه‬

‫‪193‬‬
‫المعضلة‪ ،‬فقال‪« :‬يمكن حلها بواسطة اعتامد طريقة‬

‫اإلحراق‪ ،‬و ذلك بأن يدرك السالك ‪-‬حقيقة‪َّ -‬‬


‫أن اهلل‬

‫تعاىل خلقه مفطور ًا عىل هذه الصفة‪ ،‬و كلام أراد أن ينبذ‬

‫الطمع لن حيصل عىل نتيجة‪َّ ،‬‬


‫ألن فطرته جبلت عليه‪،‬‬

‫فسعيه لنبذ الطمع عن نفسه مستلزم لطمع آخر‪ ،‬ألنه ال‬

‫يسعى لذلك ّإال طمع ًا يف احلصول عىل مرتبة أعىل من التي‬

‫ّ‬
‫التخيل عن‬ ‫هو فيها‪ ،‬و هكذا إىل أن يشعر بالعجز التا ّم عن‬

‫مفر ًا سوى اللجوء إىل اهلل تعاىل‬ ‫ٍ‬


‫هذه الصفة‪ ،‬فال جيد حينئذ ّ‬
‫و توكيل األمر إليه‪ ،‬و هذا الشعور بالعجز كفيل بأن حيرق‬

‫بناره جذور الطمع يف نفسه‪ ،‬فيعود السالك بعدها نزهي ًا‬

‫طاهر ًا»‪.‬‬

‫و ليعلم َّ‬
‫أن الوصول إىل إدراك هذا المعنى ال يكون‬

‫الواقعي حيتاج‬
‫ّ‬ ‫بمجرد إعامل النظر و التفكري‪ ،‬بل َّ‬
‫إن إدراكه‬ ‫ّ‬
‫أن أحد ًا أدرك هذا‬
‫إىل الذوق و حصول احلال‪ .‬ولو َّ‬

‫أن إدراك متام ّ‬


‫لذات الدنيا و ما فيها‬ ‫المعنى بالذوق لفهم َّ‬

‫ال يساوي هذه احلقيقة‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫ثم َّ‬
‫إن سبب تسمية هذه الطريقة باإلحراق هو أّنا‬ ‫ّ‬
‫حترق أكوام الوجودات و الن ّيات و الغصص و‬

‫المشكالت دفعة واحدة‪ ،‬و ّتت ّثها من اجلذور‪ ،‬و ال تبقى‬

‫هلا من أثر يف وجود السالك‪.‬‬

‫و قد استفيد يف القرآن الكريم من هذه الطريقة يف‬

‫بعض الموارد‪ ،‬فمن يستخدم هذه الطريقة ألجل‬

‫الوصول إىل المقصود‪،‬‬

‫‪195‬‬
‫و يسري يف هذا السبيل‪َّ ،‬‬
‫فإن الطريق الذي جيب ط ّيه يف‬

‫مدة قليلة‪ .‬و أحد الموارد التي استفيد‬


‫سنوات يطويه يف ّ‬

‫فيها من هذه الطريقة يف القرآن الكريم‪ ،‬كلمة االسرتجاع‪:‬‬


‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ا ا َ ا َ‬
‫جعون‪.‬‬‫إِنا َِّللِ و إِنا إِْلهِ را ِ‬
‫فاإلنسان يستطيع حني الشدائد و المصائب و نزول‬

‫الباليا و الفتن أن يسكِّن نفسه بطرق خمتلفة‪ ،‬كأن يتذ ّكر َّ‬
‫أن‬

‫حتل عىل ّ‬
‫كل الناس‪ ،‬و هبذه‬ ‫الموت للجميع‪ ،‬و المصيبة ّ‬

‫الوسيلة هتدأ نفسه شيئ ًا فشيئ ًا‪ .‬ولك َّن اهلل ّ‬


‫يقرص الطريق‬

‫بواسطة الطريقة اإلحراق ّية و تلقني كلمة االسرتجاع‪ ،‬و‬

‫ألن اإلنسان لو تذ ّكر َّ‬


‫أن نفسه‬ ‫مرة واحدة‪َّ ،‬‬
‫يرفع المشكل ّ‬
‫كل متع ّلقاهتا و ما يملكه هو ملك مطلق هلل‪ ،‬قد اعطي‬
‫و ّ‬

‫حق ألحد يف‬


‫له ذات يوم و سوف يؤخذ يف يوم آخر‪ ،‬و ال ّ‬

‫التدخل فيه‪ ،‬عندما يدرك اإلنسان ج ّيد ًا أنه منذ البدء مل‬
‫ّ‬

‫يكن مالك ًا‪ ،‬و إ ّنام كان عنوان الملك ّية له جماز ّي ًا و قد كان‬

‫يتخ ّيل أنه الاملك‪ ،‬سوف لن يتأ ّثر يف حال فقدانه‪ ،‬فإذا بافقه‬

‫ُم َّتسع‪ ،‬و طريقه مع ّبد‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫فإدراك السالك َّ‬
‫أن اهلل تعاىل فطره عىل احلرص و‬

‫الغني خلق عبده فقري ًا حمتاج ًا قد‬


‫ّ‬ ‫الطمع كإدراكه َّ‬
‫أن اخلالق‬

‫مخرت طينته بالفاقة و العوز‪ ،‬و َّ‬


‫أن السؤال و الطلب لديه‬

‫‪-‬باعتباره الزم فقره‬

‫‪197‬‬
‫حيق لفرد‬
‫غني عن الدليل و الربهان‪ ،‬فال ّ‬
‫و حاجته‪ّ -‬‬
‫االعرتاض عىل سؤال فقري ما‪ ،‬فافرتاض الفقر فيه يوازي‬

‫افرتاض السؤال و الطلب‪ ،‬فال ينبغي للسالك ‪-‬بناء عىل‬

‫ذلك‪ -‬أن يرتاب حينام يلمس من ذاته حرص ًا أو طمع ًا‬

‫خالل سريه و حركته‪ ،‬إذ ليس بمقدوره اجتثاث عنرص‬

‫الطمع من ذاته بعد أن خلق مفطور ًا عليه‪ .‬هذا من جانب‪،‬‬

‫و من جانب آخر باعتبار َّ‬


‫أن الفناء يف الذات اإلهل ّية ‪-‬‬

‫المبتني عىل أساس عبادة األحرار‪ -‬ال يتالئم و داعي‬

‫الطمع يف النفس‪ ،‬فسوف تعرتي السالك حالة من اخلوف‬

‫و اهللع‪ ،‬و شعور باالضطراب و المسكنة‪ ،‬تلك احلالة و‬

‫ذلك الشعور يأخذان بيد السالك ليتخ ّطى ذاته المالزمة‬

‫لتلك الصفة‪ ،‬فال تبقى ‪-‬بعد اجتياز هذه المرحلة‪ -‬ذات‬

‫فافه ْم و تأ َّمل ج ِّيد ًا‪.‬‬ ‫لتكون ا‬


‫حمال للحرص و الطمع‪َ .‬‬
‫الصمت و السكوت‪ ،‬اجلوع و قلّة األكل‬

‫الثالث عرش‪ :‬الصمت‬

‫و هو عىل قسمني‪ :‬سكوت عا ّم و مضاف‪ ،‬و سكوت‬

‫خاص و مطلق‪ .‬فالسكوت العا ّم و المضاف عبارة عن‬


‫ّ‬

‫‪198‬‬
‫حفظ اللسان من التكلم بالقدر الزائد عن الرضورة مع‬

‫الناس‪ ،‬فيجب عىل السالك أن يكتفي بقدر الرضورة‪ ،‬و‬

‫ّ‬
‫بأقل ما يمكن‪ .‬و هذا الصمت الزم يف مجيع مراحل‬

‫السلوك‪ ،‬و يف ّ‬
‫كل األوقات‪ ،‬بل يمكن القول بأنه ممدوح‬

‫يف مطلق األحوال‪ .‬و يشري إىل هذا الصمت قوله عليه‬

‫‪199‬‬
‫اخلر ُس‪ ،‬و أيض ًا ما نقل عن‬ ‫َا‬ ‫ن‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫ي‬‫ش‬‫إن ِ‬
‫السالم‪َّ :‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫الصادق عليهالسالم يف «مصباح الرشيعة»‪:‬‬

‫الر ِّب‪َ ،‬و ُه َو ِم ْن‬


‫َّ‬ ‫ا‬‫ض‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ني‪ ،‬و فِ ِ‬
‫يه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫المح‬ ‫ار‬
‫ُ‬ ‫ع‬‫َ‬
‫الصم ُت ِ‬
‫ش‬ ‫َّ ْ‬
‫اء و ِشع ِار األص ِفي ِ‬
‫ِ‬
‫اء‪.‬‬ ‫ْ َ‬ ‫أخ َال ِق األ ْنبِ َي َ َ‬
‫ْ‬

‫البزنطي عن اإلمام الرضا عليهالسالم‪:‬‬


‫ّ‬ ‫و يف حديث‬

‫اب احلك َْم ِة‪َ ،‬و إ َّن ُه َدلِ ٌيل َع َىل ُك ِّل‬
‫اب ِم ْن أ ْب َو ِ‬
‫الص ْم ُت َب ٌ‬
‫َّ‬
‫َخ ْ ٍري‪.‬‬

‫اخلاص و المطلق‪ ،‬و هو‬


‫ّ‬ ‫القسم الثاين‪ .‬السكوت‬

‫عبارة عن حفظ اللسان من التكلم مع الناس حني‬

‫االشتغال باألذكار الكالم ّية احلرص ّية‪ ،‬و يف غريها غري‬

‫مستحسن‪.‬‬

‫الرابع عرش‪ :‬اجلوع و ق ّلة األكل‬

‫و هو ما ال يؤ ّدي إىل الضعف و اضطراب احلال‪ .‬قال‬

‫الصادق عليهالسالم‪:‬‬
‫وح‪َ ،‬و َط َعا ُم ال َق ْل ِ‬
‫ب‪.‬‬ ‫الر ِ‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫المؤ ِم ِن‪ ،‬و ِ‬
‫غ‬ ‫اجلوع إ َدا ُم ْ‬
‫ُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أن اجلوع موجب خل ّفة الروح و نوران ّية النفس‪،‬‬
‫ذلك َّ‬

‫و يمكن للفكر يف حال اجلوع أن حي ِّلق إىل األعىل‪ .‬أ ّما كثرة‬

‫‪200‬‬
‫األكل و الشبع فإ َّنه ُيتعب النفس و يمللها و يثقلها و‬

‫يمنعها من السري يف سامء المعرفة‪ .‬و الصوم من العبادات‬

‫اخلاصة بالمعراج التي‬


‫ّ‬ ‫جد ًا‪ ،‬و يف الروايات‬
‫الممدوحة ّ‬

‫خياطب اهلل تعاىل فيها حبيبه‬

‫‪201‬‬
‫رسول اهلل ّ‬
‫صىل اهلل عليه و آهلبـ «يا أْحد» و المذكورة‬

‫الديلمي» و اجلزء السابع عرش من «بحار‬


‫ّ‬ ‫يف «إرشاد‬

‫تبني‬
‫األنوار» يوجد تفاصيل عجيبة بشأن اجلوع‪ّ ،‬‬
‫خصائصه يف السري و السلوك بشكل مدهش‪ .‬و ينقل‬

‫المرحوم االستاذ القايض رضوان اهلل عليه رواية غريبة‬

‫بشأن اجلوع‪ ،‬و هي‪:‬‬

‫«كان يف زمان األنبياء الامضني ثالثة رجال قد‬

‫تفرق ّ‬
‫كل واحد‬ ‫تصاحبوا يف سفر‪ ،‬و عندما حان الليل ّ‬
‫منهم لالسرتاحة‪ ،‬و ا ّتفقوا عىل االلتقاء يف اليوم التايل يف‬

‫حمدد‪ ،‬فنزل أحدهم ضيف ًا عند معارفه‪ ،‬و اآلخر نزل‬


‫وقت ّ‬

‫يف أحد المضايف‪ ،‬و أ ّما الثالث فلم يكن لديه مكان‪ ،‬فقال‬

‫يف نفسه‪ :‬فألذهب إىل المسجد و أكون ضيف ًا عند اهلل‪ ،‬و‬

‫بقي هناك جائع ًا إىل الصباح‪ .‬و يف اليوم التايل التقوا يف‬

‫المحدد‪ ،‬و أخذ ّ‬


‫كل واحد منهم يروي ما حصل‬ ‫ّ‬ ‫الموعد‬

‫نبي ذلك الزمان أن قل‬


‫له يف األمس‪ ،‬فأوحى اهلل تعاىل إىل ّ‬
‫لضيفنا‪ :‬إ ّننا قبلنا ضيافته‪ ،‬و قد أردنا أن نحرض له أفضل‬

‫‪202‬‬
‫غذاء‪ ،‬لكن عندما بحثنا يف خزائن الغيب مل نجد له أفضل‬

‫من اجلوع غذا ًء»‪.‬‬


‫العزلة و أقسامها‬

‫اخلامس عرش‪ :‬العزلة‬

‫اخلاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫و هي عىل شكلني‪ :‬العزلة العا ّمة‪ ،‬و العزلة‬

‫العزلة العا ّمة‪ ،‬عبارة عن اجتناب و اعتزال غري أهل‬

‫اهلل‪،‬‬

‫‪203‬‬
‫و باخلصوص أصحاب العقول الضعيفة من عوا ّم‬

‫الناس ّإال بقدر الرضورة‪.‬‬


‫ِين ُه ْم َلعِبا ً َو ل َ ْهوا ً َو َغ ارتْ ُه ُم ْ َ‬
‫اْلياةُ‬ ‫َ َ ا َ ا‬
‫اَّتَ ُذوا د َ‬ ‫و ذرِ اَّلِين‬
‫ُّ ْ ‪1‬‬
‫النيا‪.‬‬

‫اخلاصة‪ ،‬فهي االبتعاد عن مجيع الناس‪ .‬و‬


‫ّ‬ ‫و أ ّما العزلة‬

‫هي و إن كانت غري خالية من الفضيلة يف العبادات و‬

‫األذكار‪ّ ،‬إال أّنا تعترب ‪-‬عند مشايخ الطريق‪ -‬رشط ًا يف‬

‫طائفة من األذكار الكالم ّية بل يف مجيعها‪.‬‬

‫فالعزلة و اإلبتعاد عن ّ‬
‫حمل اإلزدحام و الضوضاء و‬

‫المشوشة للحال و ح ّل ّية المكان و طهارته‬


‫ّ‬ ‫األصوات‬

‫ح ّتى السقف و اجلدران‪ ،‬و صغره بحيث ال يسع أكثر من‬

‫شخص واحد‪ ،‬و السعي أن ال يكون فيه أ ّية زخارف‬

‫احلواس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دنيو ّية‪ّ ،‬‬
‫كل هذه باعثة عىل تركيز‬

‫يروى َّ‬
‫أن أحد األشخاص طلب من سلامن ريض اهلل‬

‫عنه أن جييز له بناء بيت له‪ ،‬ألنه مل يكن قد امتلك بيت ًا ح ّتى‬

‫ذلك الزمان‪ ،‬و لام مل جيز له سلامن قال‪ :‬أنا أعرف لامذا ال‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۷۰‬من السورة ‪ :6‬األنعام‪.‬‬


‫‪204‬‬
‫تريد‪ ،‬فقال سلامن‪ :‬ما هي الع ّلة؟ فقال البنّاء‪ :‬سبب ذلك‬

‫أنك تريد بيت ًا طوله و عرضه بمقدارك‪ ،‬و هذا ليس‬

‫ميسور ًا‪ ،‬فقال سلامن‪ :‬بىل؛ قد صدقت‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫و بعدها أخذ البنّاء إجازة لبناء مثل ذلك البيت و بناه‪.‬‬
‫السهر‪ ،‬التضرّع‪ ،‬االحرتاز عن اللذائذ‪ ،‬كتمان السرّ‬

‫السادس عرش‪ :‬السهر‬

‫و هو االستيقاظ يف السحر بقدر ما حتتمله طبيعة‬

‫السالك‪ ،‬فقد ورد يف ذ ّم النوم وقت السحر و مدح القيام‬

‫فيه قوله تعاىل‪:‬‬


‫َْ َ ُ َ َ َْ‬
‫اَل ْسحار ُهمْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ً َ ا‬
‫ِ‬ ‫اكنوا قلِيال مِن اللي ِل ما يهجعون ‪ ،‬و ب ِ‬
‫َْ َْ ُ َ‬
‫‪1‬‬
‫يستغفِرون‪.‬‬

‫السابع عرش‪ :‬المداومة عىل الطهارة‬

‫و هي المحافظة عىل الوضوء و األغسال الواجبة‪ ،‬و‬

‫غسل اجلمعة و سائر األغسال المستح ّبة قدر المستطاع‪.‬‬

‫الترضع‬
‫ّ‬ ‫الثامن عرش‪ :‬المبالغة يف‬

‫و المسكنة و البكاء و التذ ّلل‪.‬‬

‫التاسع عرش‪ :‬االحرتاز عن اللذائذ‬

‫و المشتهيات قدر المستطاع‪ ،‬و اإلكتفاء بام يقوم عليه‬

‫البدن و احلياة‪.‬‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ ۱6‬و ‪ ،۱۷‬من السورة ‪ :5۱‬الذاريات‪.‬‬


‫‪206‬‬
‫الّس‬
‫العرشون‪ :‬كتامن ّ‬

‫جد ًا‪ ،‬و قد ّ‬


‫اهتم به عظامء‬ ‫المهمة ّ‬
‫ّ‬ ‫و هو من الرشوط‬

‫الطريق‬

‫‪207‬‬
‫كثري ًا‪ ،‬و أمعنوا يف توصية تالميذهم به‪ ،‬سواء كان يف‬

‫العمل و األوراد و األذكار‪ ،‬أم يف الواردات و المكاشفات‬

‫و احلاالت‪ ،‬بل و يف الموارد التي ال يمكن التزام التق ّية‬

‫الّس فيها أقرب إىل الذياع و االنكشاف‪،‬‬


‫فيها‪ ،‬و يكون ّ‬
‫الّس‬
‫رصحوا بلزوم التورية و الكتامن ح ّتى لو كان كتامن ّ‬
‫ّ‬
‫مستلزم ًا لرتك العمل جيب رفع اليد عنه‪.‬‬
‫و اس َت ِعينُوا َع َىل حو ِائ ِجكُم بِ ِ‬
‫الك ْت َام ِن‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫فبالتق ّية و الكتامن تتق ّلص المصائب و الشدائد معهام‪،‬‬

‫و ترك التق ّية يؤ ّدي إىل ازدياد الفتن و الباليا و المصائب‪،‬‬

‫لكن عىل الرغم من ذلك ينبغي للسالك ‪-‬حني بروز‬

‫المصاعب‪ -‬مواصلة السري مستعين ًا بالصرب و االحتامل‪:‬‬


‫َ ا َ َ ٌَ ا ََ‬ ‫الص َْب َو ا‬
‫ينوا ب ا‬
‫اس َتع ُ‬
‫َو ْ‬
‫الصالة ِ و إِنها لكبِرية إِال َع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ‪1‬‬
‫ْ‬
‫اِلا ِشعَِّي‪.‬‬

‫المراد من الصالة يف هذه اآلية هو نفس المعنى‬

‫ختف‬
‫الرب العظيم‪ ،‬و هكذا ّ‬
‫ّ‬ ‫اللغوي‪ ،‬أي االلتفات إىل‬
‫ّ‬
‫الشدائد و المصائب بذكر اهلل و الصرب و االحتامل‪ ،‬و‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،45‬من السورة ‪ :2‬البقرة‪.‬‬


‫‪208‬‬
‫يسري السالك نحو النرص و النجاح‪ ،‬و هلذا نجد َّ‬
‫أن نفس‬

‫اولئك الذين ينتحبون جلرح يصيب أيدهيم‬

‫‪209‬‬
‫ً‬
‫مثال‪ ،‬نجدهم يف ميدان اجلهاد و مقاتلة أعداء الدين‬

‫ال خيافون من أن تقطع أيدهيم و أرجلهم و سائر‬

‫بأي ضعف أو‬


‫أعضائهم‪ ،‬بل إّنم ال يشعرون يف أنفسهم ّ‬
‫األئمة‬
‫ّ‬ ‫خوف‪ .‬عىل أساس هذه القاعدة الك ّل ّية أوىص‬

‫األطهار عليهم السالم بكتامن األرسار يف وصايا عديدة و‬

‫عدوا ترك التق ّية من الذنوب‬


‫عجيبة إىل درجة أّنم ّ‬

‫الكبرية‪.‬‬

‫ذات يوم‪ ،‬سأل أبوبصري اإلمام الصادق عليهالسالم؛‬

‫رب ِين َع ِن اهلل َع َّز و َج َّل‪َ .‬ه ْل َي َرا ُه‬


‫أخ ِ ْ‬
‫قال‪ُ :‬ق ْل ُت له‪ْ :‬‬

‫المؤ ِمن َ‬
‫ُون َي ْو َم القيامة؟‬ ‫ْ‬
‫(إذ يعتقد األشاعرة َّ‬
‫أن الناس يرون اهلل تعاىل عىل‬

‫نحو اجلسم ّية يف يوم القيامة و يف المواقف االخرى‪ ،‬تعاىل‬

‫علو ًا كبري ًا)‪.‬‬


‫عام يقول الظالمون ّ‬
‫اهلل ّ‬
‫الق َيا َم ِة‪َ .‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬م َتى؟‬
‫َق َال‪َ :‬نعم؛ و َق ْد رأوه َقب َل يو ِم ِ‬
‫َ ُْ ْ َْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫َت‬
‫ثم َسك َ‬ ‫؛‬ ‫َ‬
‫ىل‬ ‫ب‬ ‫وا‪:‬‬‫ل‬‫ُ‬ ‫ا‬‫ق‬‫َ‬ ‫؟‬ ‫ُم‬
‫ك‬ ‫ب‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫س‬‫ل‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫‪:‬‬ ‫هلم‬ ‫َ‬
‫ال‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ني‬
‫َ‬ ‫َق َال‪ِ :‬‬
‫ح‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬‫ِّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬
‫الد ْن َيا َق ْب َل َي ْو ِم‬ ‫المؤ ِمنِ َ‬
‫ني َل َ َريو َن ُه يف ُّ‬ ‫إن ْ‬ ‫ثم َق َال‪َ :‬و َّ‬
‫َسا َع ًة‪ّ ،‬‬
‫الق َيا َم ِة‪ ،‬أ َل ْس َت َت َرا ُه يف َو ْقتِ َك َه َذا؟ َق َال أ ُبو َب ِص ٍري‪َ :‬ف ُق ْل ُت له‪:‬‬
‫ِ‬

‫‪210‬‬
‫ث ِ َهب َذا َعن َْك؟ َف َق َال‪َ :‬ال؛ َفإ َّن َك إ َذا‬ ‫اح ِّد ُ‬
‫اك َف َ‬ ‫ُج ِع ْل ُت فِ َد َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َّد ْث َت بِه َفأ ْنك ََر ُه ُمنْك ٌر َجاه ٌل بِ َم ْعنَى َما َت ُقوله ّ‬
‫ثم َق َّد َر أ َّن‬

‫الر ْؤ َي ُة‬ ‫َذلِ َك َت ْشبيه َك َفر‪ ،‬و َليس ِ‬


‫ت‬
‫ُّ‬ ‫ٌ َ َ َْ‬

‫‪211‬‬
‫الر ْؤ َي ِة بِال َع ْ ِ‬
‫ني‪َ .‬ت َع َاىل اهلل َع َّام َي ِص ُف ُه‬ ‫ب َك ُّ‬‫بِال َق ْل ِ‬

‫ون َو الم ْل ِح ُدون»‪.‬‬


‫َ ‪1‬‬ ‫المش ِّب ُه َ‬
‫َ‬
‫الشيخ و االستاذ‬

‫احلادي و العرشون‪ :‬الشيخ و االستاذ‬

‫خاص‪ .‬االستاذ‬
‫ّ‬ ‫و هو عىل قسمني‪ :‬استاذ عا ّم و استاذ‬

‫العا ّم ال يكون مأمور ًا بخصوص مسائل باهلداية‪ ،‬و‬

‫الرجوع إليه هو من باب الرجوع إىل أهل اخلربة‪ .‬فيدخل‬


‫َ ْ َ ُ َ ‪2‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ ُْ‬ ‫َ ْ َُ ََْ‬
‫يف عموم‪ :‬فسئلوا أهل اَّلِك ِر إِن كنتم ال تعلمون‪ ، .‬و‬

‫لزوم الرجوع إىل االستاذ العا ّم يكون يف بداية السري و‬

‫السلوك فقط‪ ،‬أ ّما عندما يرشف السالك عىل المشاهدات‬

‫و التجل ّيات الصفات ّية و الذات ّية‪ ،‬فال تعود الصحبة له‬

‫اخلاص باإلرشاد و اهلداية‪ ،‬فهو‬


‫ّ‬ ‫الزمة‪ .‬و أ ّما االستاذ‬

‫باحلق‪ ،‬و ال ّ‬
‫ينفك السالك يف أي حال‬ ‫رسول اهلل و خليفته ّ‬

‫من األحوال عن مالزمته‪ ،‬و إن كان و ً‬


‫اصال إىل الوطن‬

‫المقصود‪ .‬و المراد بالمرافقة هو مرافقة السالك الباطن ّية‬

‫‪1‬‬
‫«التوحيد» للشيخ الصدوق‪ ،‬ص ‪.۱۱۷‬‬
‫‪ 2‬اآلية ‪ ،43‬من السورة ‪ :۱6‬النحل‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫لإلمام‪ ،‬و ليس المراد هبا الصحبة و المالزمة يف مقام‬

‫النوراين الذي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتجىل يف مقامه‬ ‫الظاهر‪َّ ،‬‬
‫ألن حقيقة اإلمام‬

‫له السلطة عىل العامل و العالمني‪ ،‬و أ ّما بدنه الام ّد ّي‪ ،‬فهو و‬

‫إن كان يمتاز عن سائر األبدان‪ ،‬لكنّه ليس منشأ لآلثار‪،‬‬

‫مترصف ًا يف امور الكائنات‪.‬‬


‫ّ‬ ‫و ال‬

‫بأن الذي يتح ّقق يف عامل‬


‫و لتوضيح هذه المسألة نذكر َّ‬

‫اخللقة إ َّنام منشأه الصفات و األسامء اإلهل ّية‪ ،‬و حقيقة‬

‫اإلمام هي أسامء اهلل و صفاته‪ ،‬و هلذا قالوا عليهم السالم‪:‬‬

‫تتحرك‬ ‫َّ‬
‫إن دائرة عامل الوجود و األفالك و مجيع الكائنات ّ‬
‫بأيدينا‪ ،‬و ما حيدث إ ّنام حيدث بإذننا‪ :‬بِنَا ُع ِر َ‬
‫ف اهلل‪ ،،‬بِنَا ُعبِ َد‬

‫اهلل‪ .‬إذن فالسالك يف حال السري إ ّنام يسري يف المراتب‬

‫النوران ّية لإلمام‪ ،‬و كلام ارتقى درجة أو مرتبة َّ‬


‫فإن هذه‬

‫الدرجة أو المرتبة هي يف متناول يد اإلمام الذي يرافقه يف‬

‫تلك الدرجة أو المرتبة‪.‬‬

‫و كذلك بعد الوصول أيض ًا‪َّ ،‬‬


‫فإن مرافقة اإلمام‬

‫ألن لدولة الالهوت آداب ًا جيب أن يعلمها اإلمام‬


‫الزمة‪َّ ،‬‬

‫للسالك‪ .‬فمرافقة اإلمام يف مجيع احلاالت من الرشوط‬

‫‪213‬‬
‫أهم رشوط السلوك‪ ،‬و هنا مالحظات ‪-‬‬
‫المهمة‪ ،‬بل من ّ‬
‫ّ‬
‫يتيّس بياّنا‪ -‬عىل السالك أن يدرك حقائقها‬
‫مهمة لن ّ‬
‫ّ‬
‫بواسطة الذوق‪.‬‬

‫ذهب حميي الدين بن عرب يوم ًا إىل استاذه وشكا إليه‬

‫ثم ذهب‬
‫توجه إىل ر ّبك‪ّ ،‬‬
‫كثرة الظلم و العصيان‪ ،‬فقال له‪ّ « :‬‬
‫مدة إىل استاذ آخر وشكا إليه الظلم و شيوع‬
‫بعد ّ‬

‫توجه إىل نفسك‪ .‬و عندما سمع‬


‫المعايص‪ ،‬فقال االستاذ‪ّ :‬‬
‫ذلك بدأ بالبكاء ملتمس ًا من االستاذ‬

‫‪214‬‬
‫بيان سبب اختالف اإلجابات‪ ،‬فقال له‪ :‬يا ّقرة عيني؛‬

‫َّ‬
‫إن األجوبة واحدة‪ ،‬فهو قد دعاك إىل الرفيق األعىل‪ ،‬و أنا‬

‫دعوتك إىل الطريق»‪.‬‬

‫القصة هنا ح ّتى ُيعلم َّ‬


‫أن السري إىل اهلل‬ ‫لقد أوردنا هذه ّ‬
‫ال يتناىف مع السري يف مراتب األسامء و الصفات اإلهل ّية‬

‫جد ًا‪ ،‬بل مها أمر‬


‫التي هي نفس مقام اإلمام‪ ،‬فهام قريبان ّ‬
‫واحد ح ّق ًا‪ ،‬و ليس للثنائ ّية وجود يف هذه المرحلة‪ّ ،‬‬
‫فكل‬

‫عرب عن‬
‫الوجود نور واحد هو نور اهلل‪ ،‬غاية األمر أنه ُي ّ‬
‫ذلك النور بتعابري خمتلفة‪ ،‬أحيان ًا باألسامء و الصفات‬

‫اإلهل ّية‪ ،‬و أحيان ًا بحقيقة اإلمام و نوران ّيته‪.‬‬

‫عرف ّإال بالصحبة و الرفقة يف‬


‫أ ّما االستاذ العا ّم فال ُي َ‬
‫الّس و العالنية‪ ،‬ح ّتى يدرك السالك يقين ًا واقع ّيته‪ ،‬فظهور‬
‫ّ‬
‫خوارق العادات‪ ،‬و اال ّطالع عىل المغ ّيبات و أرسار‬

‫طي األرض‬
‫خواطر الناس‪ ،‬و العبور فوق الامء و النار و ّ‬
‫و اهلواء و اال ّطالع عىل الاميض و المستقبل و أمثال هذه‬

‫الغرائب و العجائب‪ ،‬ال يمكن أن تكون ً‬


‫دليال عىل وصول‬

‫‪215‬‬
‫صاحبها‪َّ ،‬‬
‫ألن هذه كلها إ َّنام حتصل يف مرتبة المكاشفة‬

‫الروح ّية‪ ،‬و منها إىل الوصول و الكامل طريق بال ّناية‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫و إىل ذلك احلني الذي مل تظهر عىل االستاذ التج ّليات‬

‫الذات ّية الر ّبان ّية فهو ليس باستاذ‪ ،‬و ال يمكن االكتفاء‬

‫بمجرد التج ّليات الصفات ّية و األسامئ ّية و اعتبارها كاشفة‬


‫ّ‬
‫عن الوصول و الكامل‪.‬‬

‫ّ‬
‫التجيل للصفات هو أن يشاهد‬ ‫و المقصود من‬

‫السالك يف نفسه صفة اهلل‪ ،‬فريى علمه أو قدرته أو حياته‬

‫حياة و علم و قدرة اهلل‪ ،‬كأن يدرك أن اليشء الذي يسمعه‬

‫قد سمعه اهلل و هو السميع‪ ،‬أو يدرك َّ‬


‫أن اليشء الذي يراه‬

‫قد رآه اهلل و هو البصري‪ ،‬أو َّ‬


‫أن العلم يف العامل منحرص باهلل‪،‬‬

‫أن علم ّ‬
‫كل موجود مستند إىل علمه‪ ،‬بل هو نفس علمه‪.‬‬ ‫و َّ‬

‫ّ‬
‫التجيل لألسامء هو أن يشاهد يف نفسه‬ ‫و المراد من‬

‫صفات اهلل المستندة إىل ذاته‪ ،‬مثل القائم العامل السميع‬

‫احلي و القدير و أمثاهلا‪ ،‬كأن يرى َّ‬


‫أن العليم يف العامل‬ ‫البصري ّ‬
‫واحد و هو اهلل تعاىل‪ ،‬و ال يرى نفسه علي ًام يف قبال اهلل‪،‬‬

‫احلي‬
‫أن ّ‬ ‫بل كونه علي ًام هو عني كون اهلل علي ًام‪ ،‬أو أن يدرك َّ‬

‫احلي هو اهلل‬ ‫واحد و هو اهلل‪ ،‬و أنه ليس ح ّي ًا ً‬


‫أصال‪ ،‬بل ّ‬

‫‪217‬‬
‫احلي َّإال‬ ‫و‬ ‫يم‬‫ل‬‫فقط‪ ،‬و أخري ًا أن يدرك أن َليس ال َق ِدير و الع ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫عاىل َو َت َق َّد َس‪.‬‬
‫ُه َو َت َ‬

‫ّ‬
‫التجيل لألسامء يف‬ ‫و بالطبع يمكن أن يتح ّقق‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫خصوص بعض األسامء اإلهل ّية‪ ،‬و ال يلزم من ّتل‬

‫أو اثنني من هذه‬

‫‪218‬‬
‫األسامء يف السالك أن ّ‬
‫تتجىل البق ّية فيه‪.‬‬
‫جيب األستاذ العامّ أن يصل إىل مقام التجلّي الذاتيّ‬

‫المقدسة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتجىل الذات‬ ‫يت فهو أن‬ ‫ّ‬
‫التجيل الذا ّ‬ ‫أ ّما‬

‫للباري تعاىل يف السالك‪ ،‬و هذا إ ّنام حيصل بعد أن يعرب‬

‫السالك من االسم و الرسم‪ ،‬و بعبارة اخرى حينام يكون‬

‫قد فقد نفسه ك ّل ّي ًا‪ ،‬فال جيد أثر ًا لذاته يف عامل الوجود‪ ،‬و‬

‫يو ّدع الذات و الذات ّية دفعة واحدة يف غياهب النسيان َو‬

‫يتصور بعد ذلك ضالل و ضياع‬


‫ّ‬ ‫َل ْي َس ُهن َ‬
‫َاك َّإال اهلل‪ ،‬فال‬

‫ذرة من الوجود يف‬


‫لمثل هذا اإلنسان‪ ،‬ألنه مادام هناك ّ‬
‫السالك‪َّ ،‬‬
‫فإن طمع الشيطان ال ينقطع عنه‪ ،‬و ما زال يأمل‬

‫يف إضالله و غوايته‪ ،‬ولكن عندما يطوي السالك ‪-‬بحول‬

‫قوته‪ -‬بساط الذات ّية و األنان ّية‪ ،‬و يدخل إىل عامل‬
‫اهلل و ّ‬
‫الالهوت و يرد إىل حرم اهلل‪ ،‬و يرتدي لباس اإلحرام‪ ،‬و‬

‫يرشف عىل التج ّليات الذات ّية الر ّبان ّية‪َّ ،‬‬
‫فإن الشيطان ييأس‬

‫من غوايته‪ ،‬و يغلق باب الطمع يف إضالله‪ ،‬و جيلس‬

‫حمسور ًا‪ ،‬فيجب أن يصل االستاذ العا ّم إىل هذه المرتبة من‬

‫الكامل‪ ،‬و ّإال فإ َّنه لن يبايع مع أي شخص و ال ينقاد له‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫إذن ال ينبغي أن يسلم اإلنسان ّ‬
‫لكل من عرض متاعه‬

‫و أظهر بضاعته و ا ّدعى الكشف و الشهود‪ ،‬نعم ينبغي أن‬

‫يتو ّكل عىل اهلل يف الموضع الذي يكون التحقيق و‬

‫متعذر ًا و صعب ًا‪ ،‬و يعرض ّ‬


‫كل ما‬ ‫الفحص يف أمر االستاذ ّ‬

‫يسمعه منه و يأمره به عىل كتاب اهلل و سنّة رسول اهلل و‬

‫األئمة األطهار صلوات اهلل و سالمه عليهم أمجعني‪،‬‬


‫سرية ّ‬
‫فإذا وافقها يعمل به‪ ،‬و ّإال فال ير ّتب عليه أثر ًا‪ ،‬و لن يكون‬

‫للشيطان أي سلطة عىل من يسري بقدم التو ّكل عىل اهلل‪:‬‬


‫آم ُنوا َو ََع َربهمْ‬ ‫ِين َ‬ ‫َع ااَّل َ‬‫ا ُ َ ْ َ َُ ُ ْ ٌ ََ‬
‫ِِ‬ ‫إِنه ليس َل سلطان‬
‫ِين َي َت َول ا ْونَ ُه َو ااَّل َ‬
‫ِين ُهمْ‬ ‫ا ُ ْ ُُ ََ‬
‫َع ااَّل َ‬ ‫َََاُ َ‬
‫يتوكون ‪ ،‬إِنما سلطانه‬
‫ُ ْ ُ َ ‪1‬‬
‫َشكون‪.‬‬
‫بِهِ م ِ‬
‫الثاين و العرشون‪ :‬الورد‬

‫و هو عبارة عن األذكار و األوراد الكالم ّية‪ ،‬و كيف ّيتها‬

‫ألن َم َثلها مثل الدواء‪،‬‬


‫كم ّيتها منوطة برأي االستاذ‪َّ ،‬‬
‫و ّ‬
‫ضار‪ ،‬و قد حيدث أن يشتغل السالك‬
‫بعضها نافع و بعضها ّ‬

‫‪ 1‬اآليتان ‪ 99‬و ‪ ،۱۰۰‬من السورة ‪ :۱6‬النحل‪.‬‬


‫‪220‬‬
‫بنوعني من الورد‪ ،‬أحدمها يوجهه إىل الكثرة و اآلخر إىل‬

‫الوحدة‪ ،‬و يف حال اجتامعهام تكون النتيجة أن يبطل ّ‬


‫كل‬

‫منهام اآلخر‪ ،‬فال يعودان عليه بفائدة‪ .‬فاالستاذ إ َذن رشط‬

‫يف الذكر الذي مل يأت بخصوصه إ ْذ ٌن عا ّم‪ ،‬و أ ّما‬

‫‪221‬‬
‫الذي جاء فيه إ ْذن عا ّم فال مانع من االشتغال به‪.‬‬

‫خفي‪ ،‬و ّ‬
‫كل منهام‬ ‫ّ‬ ‫قالبي‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫الورد عىل أربعة أقسام‪:‬‬

‫حرصي‪ .‬و أهل السلوك ال يعتنون‬


‫ّ‬ ‫إطالقي أو‬
‫ّ‬ ‫إ ّما‬

‫القالبي عبارة عن تل ّفظ اللسان دون‬


‫ّ‬ ‫بالقالبي‪َّ ،‬‬
‫ألن الورد‬ ‫ّ‬
‫االلتفات إىل المعنى‪ ،‬و يف الواقع هو لقلقة لسان‪ ،‬و َّ‬
‫ألن‬

‫السالك يبحث عن المعنى ال عن يشء آخر‪ ،‬فلن يكون‬

‫القالبي مفيد ًا له‪.‬‬


‫ّ‬ ‫الذكر‬
‫نفي اخلواطر و الذكر و الفكر‬

‫الثالث و العرشون‪ ،‬و الرابع و العرشون‪ ،‬و اخلامس‬

‫و العرشون‪ :‬نفي اخلواطر‪ ،‬و الذكر‪ ،‬و الفكر‬

‫مهامت الوصول إىل‬


‫و هذه المراحل الثالث من ّ‬
‫المقصد‪ ،‬و أكثر الذين انقطعوا يف الطريق و مل يتمكّنوا من‬

‫الوصول إىل المقصد كان تو ّقفهم عند إحدى هذه‬

‫الثالث‪ ،‬فتو ّقفوا عندها أو أصبحوا عرضة للهالك و‬

‫البوار‪ .‬و أخطار هذه المنازل عبارة عن عبادة األصنام و‬

‫األوثان و الكواكب و النار و البقر و الزندقة و الفرعون ّية‬


‫و ا ّدعاء احللول و ّ‬
‫االحتاد و نفي التكليف و اإلباحة و‬

‫‪222‬‬
‫نبني بشكل‬
‫أمثاهلا‪ ،‬و سوف ُيشار إىل مجيعها‪ ،‬ولكنّنا اآلن ّ‬
‫المهمة‬
‫ّ‬ ‫جممل احللول و اال ّحتاد اللذين مها من األخطار‬

‫التي تظهر للسالك من خالل تصفية الذهن بواسطة نفي‬

‫اخلواطر‪.‬‬

‫فالسالك ألنه مل يكن قد خرج من وادي االسم و‬

‫الرسم‪،‬‬

‫‪223‬‬
‫ّ‬
‫التجيل‬ ‫هلذا و العياذ باهلل من الممكن و عىل أثر‬

‫األسامئي يمكن أن يتخ ّيل َّ‬


‫أن اهلل م ّتحد مع‬ ‫ّ‬ ‫يت أو‬
‫الصفا ّ‬
‫شخص ّيته‪ ،‬و هذا هو معنى احللول و ّ‬
‫االحتاد و هو كفر و‬

‫أن معنى وحدة الوجود ينفي ك ّل ّي ًا معنى‬


‫رشك‪ .‬و احلال َّ‬

‫المتصور مقابل‬
‫ّ‬ ‫يعد متام الوجود‬
‫التعدد و التغاير‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬

‫المقدس للحرضة االهل ّية من الومه ّيات‪ ،‬و يعتربه‬


‫ّ‬ ‫الوجود‬

‫ا‬
‫ظال له‪ ،‬و السالك بواسطة االرتقاء إىل هذا المقام يفقد‬

‫متام وجوده‪ ،‬و ُيض ّيع ذاته‪ ،‬و يصري فاني ًا‪ ،‬و ال يدرك ذا‬

‫الد ِار‬
‫المقدسة يف عامل الوجود َو َل ْي َس يف َّ‬
‫ّ‬ ‫وجود غري الذات‬
‫َغ ْ ُري ُه َد َّي ٌار‪ ،‬فأين هذا من احللول و ّ‬
‫االحتاد؟!‬
‫نفي اخلواطر بسيف الذكر‬

‫أ ّما نفي اخلواطر‪ :‬فهو عبارة عن تسخري القلب و‬

‫السيطرة عليه ح ّتى ال يقول ً‬


‫قوال أو يعمل ً‬
‫عمال أو يرد‬

‫تصور ّإال بإذن صاحبه واختياره‪ ،‬و حتصيل‬


‫عليه خاطر أو ّ‬
‫جد ًا‪ ،‬و هلذا قالوا َّ‬
‫إن نفي اخلواطر من‬ ‫هذه احلالة صعب ّ‬
‫أعظم ُم َط ِّهرات ِّ ِ‬
‫الّس‪ .‬فالسالك عندما يسري يف مقام نفي‬

‫سيال جارف ًا من اخلواطر و‬


‫أن ً‬‫اخلواطر يلتفت فجأة إىل َّ‬

‫‪224‬‬
‫األوهام و اخلياالت قد أحاط به‪ ،‬و ح ّتى تلك اخلواطر‬

‫يتصور أن ختطر عىل باله‪ ،‬من وقائع الاميض‬


‫ّ‬ ‫التي مل يكن‬

‫فإّنا ّتد طريق ًا‬


‫المختبئ أو اخلياالت المستحيلة الوقوع‪َّ ،‬‬
‫إليه لتشغله بنفسها دائ ًام‪ .‬ينبغي للسالك يف هذا المقام أن‬

‫يبقى ثابت ًا كاجلبال الروايس‬

‫‪225‬‬
‫بوجه ّ‬
‫كل خاطرة تظهر لتزاْحه‪ ،‬فيهلكها و يق ّطعها‬

‫بسيف الذكر‪ ،‬و المراد بالذكر هنا هو األسامء اإلهل ّية التي‬

‫يتوجه السالك إىل أحدها حني بروز اخلواطر و‬


‫جيب أن ّ‬
‫التوجه إليها مراقب ًا بالعني و القلب ح ّتى تغادر تلك‬
‫ّ‬ ‫يديم‬

‫اخلواطر فناء القلب‪.‬‬

‫جد ًا‪ ،‬إذ جيب أن ُتطرد اخلواطر‬


‫و هذا الطريق صحيح ّ‬

‫التوجه إىل‬
‫ّ‬ ‫و ُتبعد بالذكر فقط‪ ،‬ذلك الذكر الذي يعني‬

‫أحد أسامء اهلل‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬


‫ْ‬ ‫َ ا‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ا ا َ اَ‬
‫طان‬
‫إِن اَّلِين اتقوا إِذا مسهم طائِف مِن الشي ِ‬
‫ُ ْ ُ ْ ُ َ ‪1‬‬ ‫ََ اُ َ‬
‫ِصون‪.‬‬ ‫تذكروا فإِذا هم مب ِ‬
‫نفي اخلواطر بالطريقة املذكورة يف رسالة حبر العلوم رمحه اهلل‬

‫ولكن جاء يف الرسالة المنسوبة إىل المرحوم بحر‬

‫العلوم عدم جواز هذه الطريقة‪ ،‬و هو يؤ ّكد فيها عىل‬

‫ثم‬
‫رضورة نفي اخلواطر دون استخدام الذكر‪ ،‬و من ّ‬
‫يدخل السالك مرحلة الذكر‪َّ ،‬‬
‫ألن نفي اخلواطر بسيف‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،2۰۱‬من السورة ‪ :۷‬األعراف‪.‬‬


‫‪226‬‬
‫ً‬
‫إمجاال ما ورد يف‬ ‫جد ًا‪ ،‬و نحن هنا نذكر‬
‫الذكر خطر ّ‬

‫عرض له بالر ّد‪ .‬قال رْحة اهلل عليه‪:‬‬


‫ثم نت ّ‬
‫الرسالة‪ّ ،‬‬
‫بطي مرحلة نفي‬
‫«كثري من المتش ّيخني ينصحون ّ‬
‫(بدهيي َّ‬
‫أن المراد من الذكر االلتفات و‬ ‫ّ‬ ‫اخلواطر بالذكر‬

‫اللساين الذي يصطلح عليه‬


‫ّ‬ ‫القلبي ال الذكر‬
‫ّ‬ ‫التوجه‬
‫ّ‬
‫جد ًا‪َ ،‬‬
‫ألن‬ ‫بالورد)‪ ،‬و هذا خطر ّ‬

‫‪227‬‬
‫حقيقة الذكر عبارة عن مالحظة المحبوب و قرص‬

‫النظر عىل مجاله من بعيد‪ ،‬و النظر إىل المحبوب جائز عند‬

‫بالمرة‪َّ ،‬‬
‫ألن المحبوب غيور و من‬ ‫ّ‬ ‫غض البرص عن غريه‬
‫ّ‬
‫غريته َّ‬
‫أن العني التي تنظر إليه ال ينبغي أن تنظر إىل غريه‪،‬‬

‫عميت العني التي ترتفع عنه لتنظر إىل الغري‪ ،‬و رؤية غريه‬

‫تتناىف مع غريته‪ ،‬و تكرار هذا األمر بمنزلة االستهزاء‪ ،‬و‬

‫المحبوب ير ّد عىل هذا االستهزاء بحيث ال يبقى للناظر‬

‫نظر‪:‬‬
‫َو َم ْن َي ْع ُش َع ْن ذ ِْكر ا‬
‫الر ْْحن ُن َقي ْض َ َُل َشيْطانا ً َف ُهوَ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪1‬‬ ‫َ َُل قَرين‪ٌ.‬‬
‫ِ‬
‫نعم‪ ،‬هناك نوع من الذكر جائز يف نفي اخلواطر‪ ،‬و هو‬

‫أن ال يكون المراد من الذكر النظر إىل المحبوب‪ ،‬بل ردع‬

‫الشيطان‪ ،‬مثل الذي يريد أن خيرج اآلخرين من المجلس‬

‫فيدعو حمبوبه‪ ،‬فالغرض هنا التخويف و هتديد الغري‪ ،‬و‬

‫هبذه الطريقة إذا هجم عليه خاطر يف حال االشتغال بنفي‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،36‬من السورة ‪ :43‬الزخرف‪.‬‬


‫‪228‬‬
‫اخلواطر بحيث يصعب دفعه‪ ،‬يشتغل بالذكر من أجل‬

‫رفعه‪.‬‬

‫أ ّما طريقة حم ّققي الطريق و العرفاء الواصلني‪ ،‬فهي‬

‫أّنم يأمرون المبتدئني ‪ّ -‬أول األمر حني تعليمهم و‬

‫إرشادهم‪ -‬بنفي‬

‫‪229‬‬
‫ثم االشتغال بالذكر‪ ،‬و هلذا يأمرون‬
‫اخلواطر و من ّ‬
‫بالتوجه إىل يشء من المحسوسات كاحلجر‬
‫ّ‬ ‫السالك ّأو ًال‬

‫مدة ال يزيل نظره عنه قدر‬


‫أو اخلشب و تركيز النظر إليه ّ‬

‫اإلمكان‪ ،‬و ي ّتجه إليه بجميع قواه الظاهر ّية و الباطن ّية‪ ،‬و‬

‫األفضل أن يداوم عىل ذلك أربعني يوم ًا‪ ،‬و أثناء هذه ّ‬
‫المدة‬

‫يستفيد من األذكار الثالثة‪« :‬االستعاذة» و «االستغفار» و‬

‫ذكر «يا َف َّعال»‪ ،‬و يشتغل هبا بعد فريضتي الصبح و العشاء‪.‬‬

‫التوجه‬
‫ّ‬ ‫الصنوبري‪ ،‬و يديم‬
‫ّ‬ ‫يتوجه إىل قلبه‬
‫المدة ّ‬
‫بعد هذه ّ‬

‫توجه ًا تا ّم ًا‪ ،‬و ال يسمح خليال آخر ‪-‬غري‬


‫مدة اخرى ّ‬
‫إليه ّ‬

‫هذا اخليال‪ -‬أن جيد طريق ًا إليه‪ ،‬و خالل هذا العمل لو‬

‫يستمد العون‬
‫ّ‬ ‫هجم عليه خاطر أو َع َرض له تشويش فإ َّنه‬

‫وجو َد َّإال اهلل» و كلمة اهلل‪.‬‬


‫من كلمة « َال َم ُ‬
‫مدة ح ّتى حيصل له الذهول‬
‫فيداوم عىل هذا العمل ّ‬

‫المدة «االستغفار»‬
‫عن النفس‪ .‬و يكون الذكر خالل هذه ّ‬
‫و ذكر «يا فعال» و تكرر اسم «يا ِ‬
‫باسط»‪ ،‬و عندما يصل‬ ‫َّ‬

‫السالك إىل هذه المرحلة ُيؤ َذن له أن ّ‬


‫يتم بق ّية المرحلة‬

‫اخليايل‪ ،‬ح ّتى يندفع اخلاطر مطلق ًا‪،‬‬


‫ّ‬ ‫النفيس و‬
‫ّ‬ ‫بواسطة الذكر‬

‫‪230‬‬
‫َّ‬
‫ألن بق ّية اخلواطر سوف تندفع بذاهتا بالدخول يف مراتب‬

‫الذكر و الفكر إن شاء اهلل»‪ -‬انتهى ّ‬


‫ملخصه‪.‬‬

‫و ل ُيعلم َّ‬
‫أن طريقة نفي اخلواطر هذه مأخوذة من‬

‫الطريقة‬

‫‪231‬‬
‫النقشبند ّية‪ ،‬و النقشبند ّية مجاعة من الصوف ّية تقطن يف‬

‫بقاع خمتلفة من تركيا و بعض المناطق االخرى‪ ،‬و كان‬

‫حممد النقشبند‪ ،‬فلذا عرفوا‬


‫ّ‬ ‫مرشدهم اخلواجة‬

‫بالنقشبند ّية‪.‬‬
‫املراقبة و مراتبها‬

‫اهلمداين رضوان‬
‫ّ‬ ‫أ ّما طريقة المرحوم ّ‬
‫المال حسني قيل‬

‫اهلل عليه فلم تكن هبذا الشكل‪ ،‬و مل يعمل هو أو تالمذته‬

‫العميل‪ ،‬فكانت نظر ّيتهم‬


‫ّ‬ ‫عىل نفي اخلواطر دون الذكر‬

‫عبارة عن االلتزام الشديد بالمراقبة‪ ،‬أي االهتامم بمراتبها‪،‬‬

‫مفصل‪.‬‬ ‫و قد ذكرنا هذا ً‬


‫قبال و هنا سوف نب ّينه بشكل ّ‬
‫أ ّول درجات المراقبة أن يتجنّب السالك‬

‫المحرمات‪ ،‬و يؤ ّدي ّ‬


‫كل الواجبات‪ ،‬و ال يتسامح يف هذا‬ ‫ّ‬
‫بأي وجه من الوجوه‪.‬‬
‫األمر ّ‬
‫يتشدد فيها‪ ،‬و يسعى أن يكون‬
‫ّ‬ ‫و الدرجة الثانية‪ ،‬أن‬

‫يسمى هلو ًا‬ ‫كل ما يعمله لرضا اهلل تعاىل‪ ،‬و يتجنّب ّ‬
‫كل ما ّ‬ ‫ّ‬

‫و لعب ًا‪ .‬و باهتاممه هبذه المرتبة حيصل له التمكّن بحيث ال‬

‫حد الملكة‪.‬‬
‫يضعف بعدها‪ ،‬ليوصل هذه التقوى إىل ّ‬

‫‪232‬‬
‫الدرجة الثالثة‪ ،‬هي أن يرى اهلل تعاىل دائم النظر إليه‪،‬‬

‫و شيئ ًا فشيئ ًا يعرتف و يذعن َّ‬


‫بأن اهلل المتعال حارض يف‬

‫كل مكان و ناظر إىل ّ‬


‫كل المخلوقات‪ ،‬و جيب أن تراعى‬ ‫ّ‬

‫هذه المراقبة يف ّ‬
‫كل‬

‫‪233‬‬
‫احلاالت و يف مجيع األوقات‪.‬‬

‫الدرجة الرابعة‪ ،‬و هي أعىل و أكمل من سابقتها‪ ،‬و‬

‫هي أن يرى بنفسه حضور اهلل تعاىل و نظره إليه‪ ،‬و بتعبري‬

‫اإلهلي‪ ،‬و يف وص ّية الرسول األكرم‬


‫ّ‬ ‫جممل يشاهد اجلامل‬

‫ذر إشارة إىل هاتني المرتبتني‬ ‫ّ‬


‫صىل اهلل عليه و آله إىل أب ّ‬
‫األخريتني من المراقبة‪:‬‬

‫ا ْع ُب ِد اهلل َكأ َّن َك َت َرا ُه‪َ ،‬ف ْ‬


‫إن مل َت ُك ْن َت َرا ُه َفإ َّن ُه َي َر َ‬
‫اك‪.‬‬

‫و عىل هذا‪َّ ،‬‬


‫فإن العبادة يف المرحلة التي يراه اهلل فيها‬

‫هي أدىن من المرتبة التي يرى هو اهلل فيها‪.‬‬

‫عند ما يصل السالك إىل هذه المرتبة ينبغي عليه طرد‬

‫ّ‬
‫كل ما سوى اهلل عن ذهنه و أن يقوم بنفي اخلواطر ضمن‬

‫المقدس أن‬
‫ّ‬ ‫أحد األعامل العباد ّية‪ ،‬و ال جيوز يف الرشع‬

‫يتوجه إىل صخرة أو خشبة‪ ،‬فامذا سيكون جوابه إذا أدركه‬


‫ّ‬
‫التوجه؟‬
‫ّ‬ ‫الموت يف هذه اللحظات من‬

‫أ ّما نفي اخلواطر عن طريق سالح الذكر فهو عبادة و‬

‫التوجه إىل النفس‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ممدوح من قبل الرشع‪ ،‬و أفضل طرقه‬

‫التوجه إىل‬
‫ّ‬ ‫فهو أرسع الطرق للوصول إىل المقصد‪َّ ،‬‬
‫ألن‬

‫‪234‬‬
‫المقدس‪ ،‬و اآلية‬
‫ّ‬ ‫النفس ممدوح و مقبول من الرشع‬

‫الكريمة‪:‬‬
‫َ ُّ َ ا َ َ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ ُّ ُ‬
‫كمْ‬ ‫يا أيها اَّلِين آمنوا عليكم أنفسكم ال يَض‬
‫َ ا َ‬
‫َم ْن ضل إِذا‬

‫‪235‬‬
‫ْ‬
‫‪1‬‬
‫اه َت َد ْي ُت ْم‪.‬‬

‫التوجه إىل النفس هي طريقة‬


‫ّ‬ ‫تشري إىل هذا‪ .‬و طريقة‬

‫المال حسني قيل‪ ،‬و قد سلك تالمذته مجيع ًا هذا‬


‫المرحوم ّ‬

‫الرب‪.‬‬
‫الطريق المستلزم لمعرفة ّ‬
‫سلسلة أساتذة املؤلّف يف املعارف االهليّة‬

‫عيل بن‬
‫إن حقيقة العرفان مأثورة عن أمريالمؤمنني ّ‬
‫أب طالب عليهالسالم‪ ،‬و الطرق التي نرشت هذه احلقيقة‬

‫بالتواتر تتجاوز الامئة‪ ،‬بينام ال تتجاوز اصول مجاعات‬

‫التصوف‪ ،‬اخلمس و عرشين جمموعة‪ ،‬و مجيع هذه‬


‫ّ‬
‫السالسل تنتهي إىل أمريالمؤمنني عليهالسالم‪ ،‬و من بني‬

‫اخلاصة و البق ّية من‬


‫ّ‬ ‫هذه اجلامعات اثنتان أو ثالث منها من‬

‫العا ّمة‪ ،‬و بعض هذه السالسل ينتهي إىل «معروف‬

‫الكرخي» و منه إىل اإلمام الرضا عليهالسالم‪ ،‬أ ّما طريقتنا‬


‫ّ‬
‫أي طريقة المرحوم ّ‬
‫المال حسني قيل فهي ال تنتهي إىل أي‬

‫واحد منها‪.‬‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ ،۱۰5‬من السورة ‪ :5‬الامئدة‪.‬‬


‫‪236‬‬
‫و إمجال المطلب هو‪ :‬قبل أكثر من مائة سنة كان‬

‫يعيش يف شوشرت‪ 1‬عامل جليل القدر‪ ،‬و كان هذا العامل‬

‫مرجع ًا للناس يف‬

‫القضاء و االمور العا ّمة‪ ،‬و يدعى الس ّيد عىل‬

‫تصدي ًا ُلالمور‬
‫الشوشرتي‪ ،‬فكان كباقي العلامء األعالم م ّ‬
‫ّ‬
‫العا ّمة من التدريس و القضاء و المرجع ّية الدين ّية‪ .‬يف أحد‬

‫األ ّيام طرق بابه شخص و هو يقول‪ :‬يل معك حاجة‪،‬‬

‫نساج ًا‪ ،‬فقال له‪ :‬ماذا تريد؟‬


‫عندما فتح الس ّيد بابه رأى ّ‬
‫فأجاب َّ‬
‫بأن احلكم الفالين ‪-‬الذي حكمت به طبق دعوى‬

‫الشهود بملك ّية فالن للملك الفالين‪ -‬غري صحيح‪ ،‬و‬

‫ّ‬
‫المحل‬ ‫ذلك الملك لطفل يتيم‪ ،‬و سنده مدفون يف‬

‫الفالين‪.‬‬

‫فام قمت به ليس صحيح ًا‪ ،‬و ليس هذا النهج ّنجك‪.‬‬

‫الشوشرتي‪َ :‬أو َق ُ‬
‫عت يف خطأ؟ فأجاب‬ ‫ّ‬ ‫فيجيبه آية اهلل‬

‫ثم انرصف‪ .‬ففكّر آية اهلل‬


‫النساج‪ :‬الكالم هو ما قلته‪ّ ،‬‬
‫ّ‬

‫‪1‬‬
‫ب من‬
‫معربة‪ :-‬مدينة عريقة واقعة يف اجلنوب الغر ّ‬
‫شوشرت ‪-‬و هي (تسرت) ّ‬
‫إيران‪ ،‬قريبة من مدينتي دزفول و األهواز‪( .‬م)‬
‫‪237‬‬
‫عمن يكون هذا‬ ‫ً‬
‫طويال‪ ،‬و تساءل ّ‬ ‫الشوشرتي‬
‫ّ‬ ‫الس ّيد‬

‫يتبني له َّ‬
‫أن سند‬ ‫ثم يقوم بالتحقيق و ّ‬
‫الرجل و ماذا قال‪ّ ،‬‬
‫ملك ّية الطفل مدفون يف ذلك المكان‪ ،‬و َّ‬
‫أن الشهود عىل‬

‫ملك ّية فالن شهود زور‪ .‬فانتابه شعور باخلوف و قال يف‬

‫نفسه‪ :‬ر ّبام كان الكثري من األحكام التي أصدرهتا من هذا‬

‫القبيل‪ ،‬فأخذه االضطراب و اخلوف‪ .‬و يف الليلة التالية و‬

‫النساج الباب من جديد و يقول له‪:‬‬


‫يف نفس الوقت يطرق ّ‬
‫تتكرر‬
‫يا س ّيد؛ ليس الطريق ما تسري إليه‪ ،‬و يف الليلة الثالثة ّ‬
‫النساج‪ :‬ال ّ‬
‫تتأخر‪،‬‬ ‫هذه الواقعة بنفس الكيف ّية‪ ،‬و يقول له ّ‬

‫امجع األثاث و بع البيت فور ًا‪ّ ،‬‬


‫ثم‬

‫‪238‬‬
‫ّاّته إىل النجف األرشف‪ ،‬و افعل ما أقوله لك‪ ،‬و بعد‬

‫س ّتة أشهر كن بانتظاري يف وادي السالم هناك‪.‬‬

‫فقام الس ّيد لوقته و عمل بالتعاليم‪ ،‬و باع البيت و مجع‬

‫ثم هت ّيأ للسفر إىل النجف‪ ،‬و يف اللحظة االوىل من‬


‫األثاث ّ‬
‫دخوله المدينة الرشيفة يرى الرجل ذاته عند طلوع‬

‫الشمس يف وادي السالم‪ ،‬و كأنه خرج من بطن األرض‬

‫ثم خيتفي‪ .‬و يدخل‬


‫ليقف أمامه و يعطيه بعض التعليامت ّ‬
‫الشوشرتي إىل النجف األرشف ً‬
‫عامال بام يمليه‬ ‫ّ‬ ‫المرحوم‬

‫النساج ليصل بعدها إىل درجة و مقام ال يمكن‬


‫عليه ذلك ّ‬
‫وصفهام رضوان اهلل تعاىل و سالمه عليه‪.‬‬

‫الشوشرتي ‪-‬مراعاة لالحرتام‪-‬‬


‫ّ‬ ‫و كان الس ّيد عىل‬

‫حيرض دروس الفقه و االصول عند الشيخ مرتىض‬

‫األنصاري الذي كان بدوره حيرض دروس الس ّيد‬


‫ّ‬
‫االسبوع ّية يف األخالق‪ ،‬و بعد وفاة الشيخ رْحة اهلل عليه‬

‫الشوشرتي رْحة اهلل عليه إلمتام األبحاث‬


‫ّ‬ ‫يتصدى الس ّيد‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫طويال‪،‬‬ ‫التي انتهى إليها الشيخ‪ ،‬ولك َّن األجل مل يمهله‬

‫المدة‬
‫فبعد س ّتة أشهر يلتحق بالرفيق األعىل‪ .‬خالل هذه ّ‬

‫‪239‬‬
‫الشوشرتي ورقة إىل أحد‬
‫ّ‬ ‫(الس ّتة أشهر) يكتب المرحوم‬

‫األنصاري البارزين‪ ،‬المدعو ّ‬


‫المال حسني‬ ‫ّ‬ ‫تالمذة الشيخ‬
‫‪1‬‬
‫الدرجزيني‬
‫ّ‬ ‫قيل‬

‫اهلمداين الذي كان له مع الس ّيد عالقة يف أ ّيام‬


‫ّ‬
‫األنصاري و كان يستفيد من دروسه يف‬
‫ّ‬ ‫المرحوم‬

‫األخالق و العرفان‪ ،‬و كان عازم ًا عىل التدريس و إمتام‬

‫حيررها بنفسه‪ ،‬و يف هذه الورقة‬


‫مباحث الشيخ التي كان ّ‬
‫ً‬
‫كامال‪ ،‬و أنه ينبغي عليكم‬ ‫يذ ّكره َّ‬
‫بأن ّنجكم هذا ليس‬

‫احلصول عىل المقامات العالية إضافة إىل ذلك‪ ،‬غرضه من‬

‫احلق و احلقيقة‪.‬‬
‫ذلك التعبري‪ ،‬إرشاده إىل طريق ّ‬

‫متر األ ّيام ليكون المرحوم ّ‬


‫المال حسني قيل ‪-‬الذي‬ ‫و ّ‬
‫األنصاري من‬
‫ّ‬ ‫كان يستفيد قبل سنوات من وفاة ّ‬
‫العالمة‬

‫حمرض المرحوم الس ّيد عىل يف المعارف اإلهل ّية‪ -‬من‬

‫أعاظم عرصه و عجائب دهره يف األخالق و جماهدة‬

‫ّب تالمذة عظام ًا‪،‬‬


‫النفس و كسب المعارف اإلهل ّية‪ .‬و قد ر ّ‬
‫أصبح ّ‬
‫كل واحد منهم آية عظيمة و واحد ًا من أساطني‬

‫‪1‬‬
‫ب من إيران‪( .‬م)‬
‫درجزين‪ :‬قرية من توابع مدينة مهدان الواقعة يف الشامل الغر ّ‬
‫‪240‬‬
‫احلاج المريزا‬
‫ّ‬ ‫المعرفة و التوحيد‪ ،‬و من أبرزهم المرحوم‬

‫التربيزي‪ ،‬و المرحوم الس ّيد أْحد‬


‫ّ‬ ‫الملكي‬
‫ّ‬ ‫جواد‬

‫حممد سعيد‬
‫الطهراين‪ ،‬و المرحوم الس ّيد ّ‬
‫ّ‬ ‫الكربالئي‬
‫ّ‬
‫البهاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حممد‬
‫احلاج الشيخ ّ‬
‫ّ‬ ‫ب‪ ،‬و المرحوم‬
‫احل ّبو ّ‬
‫بالئي االستاذ‬ ‫و من ّ‬
‫طالب مدرسة الس ّيد أْحد الكر ّ‬
‫احلاج المريزا عىل‬
‫ّ‬ ‫األعظم و العارف األمثل المرحوم‬

‫التربيزي‬
‫ّ‬ ‫القايض‬

‫‪241‬‬
‫رضوان اهلل عليه‪ .‬هذه هي سلسلة أساتذتنا التي تعود‬

‫الشوشرتي و أخري ًا إىل الرجل ّ‬


‫النساج‪ .‬فمن‬ ‫ّ‬ ‫إىل المرحوم‬

‫كان هذا اإلنسان؟ و من أين كان حيصل عىل هذه‬

‫بأي وسيلة؟ ال نعلم شيئ ًا من ذلك‪.‬‬


‫المعارف‪ ،‬و ّ‬
‫و منهج االستاذ القايض مطابق لمنهج االستاذ الكبري‬

‫ّ‬
‫المال حسني قيل‪ ،‬أي طريق معرفة النفس‪ ،‬فكانوا لنفي‬

‫بالتوجه إىل النفس‪ ،‬و‬


‫ّ‬ ‫اخلواطر يأمرون يف المرحلة االوىل‬

‫عني السالك ّ‬
‫كل ليلة مقدار نصف ساعة أو أكثر لنفي‬ ‫أن ُي ِّ َ‬

‫يتوجه إىل نفسه‪ ،‬شيئ ًا فشيئ ًا و عىل أثر‬


‫ّ‬ ‫اخلواطر‪ ،‬و فيها‬

‫القوي تزول عنه اخلواطر‪ ،‬و حتصل له معرفة‬


‫ّ‬ ‫التوجه‬
‫ّ‬
‫النفس‪ ،‬ليصل إىل الوطن المقصود إن شاء اهلل‪.‬‬

‫و أكثر الذين ُو ِّف ُقوا لنفي اخلواطر‪ ،‬و استطاعوا أن‬

‫ُي َط ِّهروا أنفسهم و يص ّفوها ح ّتى ظهر فيها سلطان‬

‫المعرفة‪ ،‬إ َّنام كان ذلك منهم يف إحدى حالتني‪ :‬االوىل‪،‬‬

‫احلقيقي‬
‫ّ‬ ‫حني تالوة القرآن المجيد‪ ،‬و االلتفات إىل القارئ‬

‫أن قارئ القرآن هو اهلل ّ‬


‫جل جالله‪.‬‬ ‫للقرآن‪ ،‬لينكشف هلم َّ‬

‫‪242‬‬
‫التوسل بمقام أب عبداهلل‬
‫ّ‬ ‫الثانية‪ ،‬عن طريق‬

‫عليهالسالم‪ّ ،‬‬
‫ألن له عليهالسالم عنايات عظيمة يف رفع‬

‫احلجب و الموانع عن طريق سالكي طريق اهلل‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫ثقال كبري ًا يف ّ‬
‫ّتيل‬ ‫مهمني ً‬ ‫و بناء عىل ما ذكر َّ‬
‫فإن لشيئني ّ‬
‫األول‪ ،‬المراقبة بجميع مراتبها‪ .‬و الثاين‪،‬‬
‫سلطان المعرفة‪ّ :‬‬
‫فبالتوجه إىل هذين األمرين سوف‬
‫ّ‬ ‫التوجه إىل النفس‪.‬‬
‫ّ‬
‫ي ّتضح للسالك تدرجي ّي ًا َّ‬
‫أن الكثرة يف هذا العامل تنبع من‬

‫عني واحدة‪ .‬و ّ‬


‫كل ما يتح ّقق فيه هو من مصدر واحد‪ ،‬و‬

‫َّ‬
‫أن أي موجود بقدر ما له من النور و اجلامل و البهاء يستقي‬
‫من تلك العني ِ‬
‫المعني‪ ،‬و َّ‬
‫أن ذلك المصدر العظيم يفيض‬

‫عىل ّ‬
‫كل موجود بقدر سعة وجوده ‪-‬التي هي قابل ّياته‬

‫الامهو ّية‪ -‬أنوار الوجود و اجلامل و العظمة‪ .‬و بعبارة‬

‫اخرى َّ‬
‫أن الفيض من جانب الف ّياض المطلق يفاض‬

‫حد‪ ،‬و ّ‬
‫كل موجود‬ ‫بشكل مطلق و بدون قيد و رشط أو ّ‬

‫يأخذ منه بقدر وسع ماه ّيته‪.‬‬


‫انكشاف عوامل التوحيد األربعة إثر املراقبة التامّة و التوجّه إىل النفس‬

‫نعم؛ و تنكشف للسالك ‪-‬نتيجة للمراقبة التا ّمة و‬

‫التوجه إىل النفس و‬


‫ّ‬ ‫االهتامم الشديد هبا و عىل إثر‬

‫بالتدريج‪ -‬عوامل أربعة هي كالتايل‪:‬‬

‫‪244‬‬
‫األول‪ :‬توحيد األفعال‪ ،‬أي إدراك السالك يف‬
‫العامل ّ‬
‫أن ّ‬
‫كل ما تراه العني و يلفظه اللسان و‬ ‫المرحلة االوىل َّ‬

‫تسمعه االذن و تقوم به اليد و الرجل و سائر األعضاء و‬

‫اجلوارح‪ّ ،‬‬
‫كل ذلك يستند إىل نفسه‪ ،‬و َّ‬
‫أن النفس هي‬

‫أن األفعال التي تتح ّقق يف‬


‫ثم يدرك َّ‬
‫الفاعلة المحضة‪ّ ،‬‬
‫اخلارج تستند إىل نفسه‪ ،‬و َّ‬
‫أن نفسه هي مصدر‬

‫‪245‬‬
‫ثم يدرك َّ‬
‫أن نفسه قائمة‬ ‫مجيع األفعال يف اخلارج‪ّ ،‬‬
‫احلق‪ ،‬و أّنا قبس من فيوضات اهلل و رْحته‪ ،‬و‬
‫بذات ّ‬

‫اخلارجي إىل ذاته‬


‫ّ‬ ‫بالتايل تعود مجيع األفعال يف العامل‬

‫المقدسة‪.‬‬
‫ّ‬

‫العامل الثاين‪ :‬توحيد الصفات‪ ،‬و يكون بعد العامل‬

‫األول‪ .‬و يف هذا العامل ال يرى السالك من نفسه سمع ًا أو‬


‫ّ‬
‫أن حقيقة سمعه و برصه من اهلل تعاىل‪ ،‬و كذا ّ‬
‫كل‬ ‫برص ًا‪ ،‬و َّ‬

‫ما ُيرى يف الموجودات اخلارج ّية ‪-‬من الصفات كالعلم و‬

‫القدرة و احلياة‪ -‬يستند إليه تعاىل‪.‬‬

‫العامل الثالث‪ :‬التوحيد يف األسامء‪ ،‬و يأيت بعد العامل‬

‫الثاين‪ .‬و هو أن يدرك السالك قيام مجيع الصفات بالذات‬

‫احلي هو اهلل المتعال‪،‬‬ ‫اإلهل ّية‪ ،‬كأن يرى َّ‬


‫أن العامل و القادر و ّ‬
‫فيدرك َّ‬
‫أن علمه و قدرته و سمعه و برصه هو علم اهلل و‬

‫احلي و القادر و العامل و‬


‫أن ّ‬ ‫قدرته و سمعه و برصه‪ ،‬و َّ‬

‫السميع و البصري ‪-‬يف ّ‬


‫كل العوامل‪ -‬هو واحد فقط‪ ،‬و هو‬

‫جل جالله‪ ،‬و ّ‬


‫كل موجود من الموجودات حيكي ‪-‬‬ ‫اهلل َّ‬

‫‪246‬‬
‫بقدر سعة وجوده‪ -‬عن ذلك العامل و القادر و السميع و‬

‫احلي‪ ،‬و ّ‬
‫يدل عليه‪.‬‬ ‫البصري و ّ‬
‫العامل الرابع‪ :‬التوحيد يف الذات‪ ،‬و هو أعىل من العامل‬

‫الثالث‪ ،‬و ينكشف للسالك بواسطة التج ّليات الذات ّية‪،‬‬

‫فيدرك فيه‬

‫‪247‬‬
‫أ َّن تلك الذات التي تستند إليها مجيع األفعال و‬

‫الصفات و األسامء هي ذات واحدة‪ ،‬و أّنا حقيقة واحدة‪،‬‬

‫توجه إىل االسم‬


‫تقوم هبا مجيع احلقائق‪ ،‬فال يعود للسالك ّ‬
‫و الصفة‪ ،‬بل يكون مشهوده هو الذات فحسب‪ ،‬و هذا‬

‫اخلاص المستعار ك ّل ّي ًا فاقد ًا‬


‫ّ‬ ‫حني يتخ ّطى السالك وجوده‬

‫ذاته يف ّ‬
‫ظل الفناء يف الذات اإلهل ّية المق ّدسة‪ ،‬حينها حيصل‬

‫المسمى لضيق التعبري أحيان ًا بمقام‬


‫ّ‬ ‫يت‪ ،‬و‬ ‫ّ‬
‫التجيل الذا ّ‬
‫ألن ّ‬
‫كل ما ُيك َتب أو‬ ‫الذات أو حقيقة الذات أو األحد ّية‪َّ ،‬‬

‫المقدسة أرفع مقام ًا‬


‫ّ‬ ‫يقال عبارة عن أسامء‪ ،‬و الذات اإلهل ّية‬

‫ألي اسم أن يطاهلا أو يدرك مقامها‪،‬‬


‫من ذلك‪ ،‬فال يمكن ّ‬
‫بل هي أعىل من هذا العجز‪َّ ،‬‬
‫ألن العجز هو يف عني السلب‬

‫احلد‪ .‬فإذا‬
‫احلق تعاىل أعىل من ّ‬
‫حد ّي‪ ،‬و ّ‬
‫و النفي إثبات ّ‬

‫دخل السالك إىل هذا المنزل فاقد ًا اسمه و ذاته عندها لن‬

‫يعرف نفسه أو أحد ًا آخر غري اهلل‪ ،‬بل يرى اهلل يف ذاته‬

‫فحسب‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫فالسالك يفقد يف ّ‬
‫كل واحد من هذه العوامل األربعة‬

‫اخلاص‪ ،‬ح ّتى يفقد متام وجوده و‬


‫ّ‬ ‫مقدار ًا من آثار وجوده‬

‫إ ّن ّيته‪.‬‬

‫األول الذي يصل فيه إىل مقام الفناء يف‬


‫ففي العامل ّ‬
‫الفعل يفهم َّ‬
‫أن الفعل ال يصدر منه‪ ،‬بل من اهلل‪ ،‬و هنا يفقد‬

‫متام آثاره الفعل ّية‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫يت يفهم‬ ‫ّ‬
‫التجيل الصفا ّ‬ ‫و يف العامل الثاين عندما يصل إىل‬

‫ختتص و تنحرص بذات‬ ‫َّ‬


‫أن العلم و القدرة و سائر الصفات ّ‬
‫احلق سبحانه و تعاىل‪ ،‬و هنا يفقد صفاته و يض ّيعها فال‬
‫ّ‬

‫جيدها بعد ذلك يف ذاته‪.‬‬

‫األسامئي يدرك‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التجيل‬ ‫و يف العامل الثالث عندما حيصل‬

‫أن العامل و القادر هو اهلل َّ‬


‫جل جالله‪ ،‬و هنا يض ّيع أسامءه‪،‬‬ ‫َّ‬

‫فال جيدها بعد ذلك فيه‪.‬‬

‫يت يض ّيع وجوده‬ ‫ّ‬


‫التجيل الذا ّ‬ ‫و يف العامل الرابع الذي هو‬

‫و يفقد ذاته فال جيدها بعد ذلك أبد ًا‪ ،‬فال ذات سوى ذات‬

‫المقدسة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اهلل‬

‫يعرب عنها‬
‫يت ّ‬ ‫ّ‬
‫التجيل الذا ّ‬ ‫هذه المرحلة من الشهود أي‬

‫العارفونبـ «العنقاء»‪َّ ،‬‬


‫ألن العنقاء موجود ال يمكن‬

‫يعرب‬
‫اصطياده‪ .‬و هذه الصفات البحتة و الوجود الرصف ّ‬

‫المخفي» و «ذات َما َال َ‬


‫اسم‬ ‫ّ‬ ‫عنهبـ «عامل العمي» و «الكنز‬

‫له و َال َر ْس َم له»‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫أشعار حافظ الشريازيّ املشرية إىل مقام ذات غيب الغيوب‬

‫الشريازي عليه الرْحة يف‬


‫ّ‬ ‫ما أمجل ما ينظمه حافظ‬

‫‪251‬‬
‫مثنو ّياته مب ّين ًا هذا األمر باستعاراته اللطيفة‪:‬‬

‫و المعروف َّ‬
‫أن المكان الذي فيه ّ‬
‫عش العنقاء ال أثر‬

‫أصال‪ ،‬فكيف يمكن صيدها؟! و ال يمكن ذلك ّإال‬


‫له ً‬

‫بلطف الرْحن اهلادي الذي يقود التائهني يف وادي المح ّبة‬

‫و عاشقي مجاله‬

‫‪252‬‬
‫اللهم‬
‫َّ‬ ‫الّسمدي إىل وادي التوحيد و الفناء‪ .‬نسألك‬
‫ّ‬
‫بحق السائرين يف وادي المح ّبة و حاميل لواء احلمد و‬
‫ّ‬

‫عيل المرتىض و األحد عرش‬


‫حممد المصطفى و ّ‬
‫المعرفة ّ‬
‫كوكبا من أبناء فاطمة البتول الزهراء عليهم سالم اهلل‬

‫ني َو إ َّيانا لِك ُِّل َما‬ ‫ِ‬


‫المح ِّب َ‬ ‫يع‬‫ِ‬
‫اللهم َمج َ‬
‫َّ‬ ‫الملك المتعال َو ِّف ِق‬

‫احلني‪.‬‬
‫الص َ‬ ‫ُي ْر ِض َ‬
‫يك َو احل ْقنَا بِ َّ‬
‫بحمد اهلل و منّه‪ ،‬متّت هذه الرسالة الرشيفة‬

‫لب اللباب يف سري و سلوك اويل‬


‫الموسومةبـ «رسالة ّ‬
‫األلباب» بقلم الفقري احلقري يف ليلة الثامن من شهر‬

‫رمضان المبارك‪ ،‬سنة تسع و س ّتني و ثالثامئة و ألف‬

‫للهجرة‪.‬‬

‫وَ له احلمدُ يف االولَى و اآلخِرَةِ‪،‬‬

‫وَ آخِرُ دَعوَانا أنِ احلمدُ لِله رَبِّ العَامليَ‪.‬‬

‫و أنا احلقري الفقري السيّد حممّد احلسي احلسيينّ الطهرانيّ يف بلدة قم‬

‫الطيّبة‪.‬‬

‫‪253‬‬

You might also like