You are on page 1of 284

‫المقدمـــة‬

‫‪.‬‬‫الحمد ل رب العالمين وصلى ال على محمد وآله الطاهرين‬


‫اليمان وما يرادفه من كلمات في سائر اللغات أحلى نعت يوصف‬
‫ن لهم الناس احتراما ويثنون عليهم بأسمى ثناء ‪.‬‬
‫به البعض فيك ّ‬
‫من منا ليحب ان ينعت بهذه الصـفة ‪ ،‬ومن منا من ليدعيها صـادقا‬
‫ام غير صادق ؟‬
‫ولكنـا حين نقّيم الخرين تقييما موضوعيا فاننا لن نجود بهذه الصفة‬
‫ال على البعض وهم لريب القلـــون ‪.‬‬

‫ف نعــت يحصــلون عليــه منــا هــو ان اكــثر‬‫اما سائر الناس فان أخ ّ‬


‫اهتماماتهم شخصية ‪ ،‬واثقل نعت انهم ذاتيون أنانيون ‪..‬‬

‫فياترى هل تبحث عن برنامج يجعلك في مصاف المؤمنين حقا ‪ ..‬؟‬


‫انها قمة سامقة ليبلغها النســان بـالتمني والدعــاء ‪ ،‬ولكــن بالجــد‬
‫والجتهاد ‪ .‬فهل تتطلـع الــى بلوغهـا ‪ ،‬وهــل انـت مســتعد لبــذل الثمــن‬
‫الغالي في سبيل تحقيــــق هذا‬
‫التطلع ؟‬
‫اذن تعال نستعرض في صفحات هذا الكتاب كلمــات مضــيئة عــن‬
‫اليمـان ‪ ،‬وهــي فـي الصــل أحــاديث روحيــة القاهــا ســماحة آيــة الـ‬
‫المدرسي في مناسبات شتى ‪ .‬والحديث حين يكـون عــن اليمــان فمــن‬
‫الفضـل ان يأتي عفويا لتكلف فيه ول تعسف ‪.‬‬

‫تعال نعيش لحظات سعيدة في رحــاب اليمـان حيــث الســكينة فـي‬


‫القلب ‪ ،‬والبصيرة في الحياة ‪ ،‬والفلح في العيــش ‪ ،‬والعاقبــة الحســنى‬
‫‪..‬‬
‫واذا ألقـينا ســمعنا شـــاهدين ومســتريحين الــى احاديـــث اليمـان ‪،‬‬
‫داعين ال ان يتم نورنا ؛ فان الرجاء ان نحصل على افضل نعمة فــي‬
‫نهاية المطاف ‪ ،‬هي نعمة زيادة اليمان ‪.‬‬

‫وفي الختام ؛ الكتاب مجرد ذكــرى ‪ ،‬وانمــا قلبــك المنفتــح هــو الشــرط‬
‫الهم للستفادة منه ‪ ،‬وال المستعان وعليه التكلن ‪.‬‬

‫مكتب آية ال المدرسي‬


‫‪ / 1‬ربيع الول ‪ 1417 /‬هـ‬

‫اليمان ينبوع القيم اللهية‬


‫اليمان هو ينبوع ســائر القيــم اللهيــة ‪ ،‬وجـــذر شــجرة ســائر القيــم‬
‫والحكام والشرائع ‪ ،‬والسؤال المهم المطروح في هــذا المجــال هــو ‪:‬‬
‫كيف يستطيع النسان ان ينّمي ويزيد من ايمانه بال ‪ -‬عــــز وجــــل ‪-‬‬
‫وكيف تتوهج حقيقة اليمان فــي القلــب حــتى تتجســد فــي صــورة قيــم‬
‫مثلــى ‪ ،‬وأخــلق ساميــة تقــود حيــاة النسان الى حيــث يريــد الـ ‪،‬‬
‫والــى حيث يتطـلـع النسان بفطـرتـــه مــن الهــدى والفــلح ؟‬
‫قبـــل ان اجيب على هذا السؤال لبد ان امهد للجابة بتمهيد هو ان‬
‫اليمان لم يذكر في القرآن الكريم إل مقرونا بعلماته وآيــاته وبالتــالي‬
‫بالفعال التي تنبع منه ‪ .‬فليس ايمانا ذلك اليمان الذي ليفيض بالقيم ‪،‬‬
‫فهو اقرار في القلب ‪ ،‬وشهادة باللسان ‪ ،‬وحركة بالعضاء والجوارح‬
‫‪ .‬فــاذا كــان هنــا اقــرار فــي القلــب ‪ ،‬فلبــد ان يظهــر هــذا القــرار ‪،‬‬
‫ولمناص من ان تظهر حقيقته على جوارح النسان ‪.‬‬
‫بالفضائل ‪:‬‬ ‫اليمان مقترن‬
‫ولذلك فان القرآن الكريم ليحدثنا عن اليمان ال ويقرنه بمجموعة‬
‫من الفضائل ‪ ،‬تقف الصلة على رأسها كقــوله ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬قـْد َأْفَلـ َ‬
‫ح‬
‫ن { ) المؤمنون ‪ . ( 2-1 /‬ثــم يأتي‬ ‫شُعو َ‬
‫خا ِ‬‫لِتِهْم َ‬
‫ص َ‬‫ن ُهْم ِفي َ‬ ‫ن * اّلِذي َ‬‫اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫بعد ذلك النفاق في سبيل ال ؛ فكلما زاد النســان اهتمامــا بالصــلة ‪،‬‬
‫زاد انفاقا في سبيل ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في جميع البعاد ‪ ،‬وارتفــع ايمانــا‬
‫وازداد يقينا ‪ .‬ومن هنــا فــان الــذي يــدعي انــه مــؤمن ثــم ليخشــع فــي‬
‫صلته ‪ ،‬ولينفق مما رزقه ال فان ادعاءه هــذا كــاذب ‪ ،‬وهــو مجــرد‬
‫تمن ‪ ،‬والجنة ليمكن ان تنال بالماني ابدا ‪.‬‬
‫وعندما يحدثنا القرآن الكريم عن الجنة والنار ‪ ،‬وعن يــوم القيامــة‬
‫فانه يحــدثنا عــن ميــزان عــدل يأخــذ بنظــر العتبــار مثقــال الـــــذرة ‪:‬‬
‫رُه { )‬ ‫شّرا َي َ‬‫ل َذّرٍة َ‬
‫ل ِمْثَقا َ‬
‫خْيرًا َيَرُه * َوَمن َيْعَم ْ‬
‫ل َذّرٍة َ‬
‫ل ِمْثَقا َ‬
‫} َفَمن َيْعَم ْ‬
‫الزلزال ‪ ، ( 8-7 /‬فالحديث هنا هو حديث عن العدل ‪ ،‬والقســــط ‪ ،‬وعمــل‬
‫يقاس بالمثقال ‪ ،‬فليست القضية عبثا ‪ ،‬ول هي امــان ‪ ،‬واليمــان ليــس‬
‫ادعاء ‪ ،‬فلكل حق حقيقة واليمان لبد ان تكون له حقيقة تدل عليــــه ‪،‬‬
‫ولبد ان يتجلى في العمــل ‪.‬‬
‫واعود هنا الى السؤال الذي طرحته مــن قبــل وهــو ‪ :‬كيــف ينمــي‬
‫النسان جوهرة اليمان في نفسه ؟ ‪ ،‬لقد عّبرت الحاديث عن اليمان‬
‫بأنه ) الروح ( لن الروح هي التي تزود النسان بالحركة والنشــاط ‪،‬‬
‫ولكـي ينمـو اليمـان يجـب ان تنمـو سـائر الفضـائل ؛ اي ان النسـان‬
‫يجب ان ليختار بيــن الفضــائل ‪ ،‬فالــــذي يريــــد ان يجســد فــي نفســه‬
‫اليمان عليه ان يكون بحيث يسلم نفسه لكل شيء يقدمه فـي سبيل ال‬
‫‪ -‬تعالــى ‪. -‬‬
‫اليمان ‪:‬‬ ‫من تجليات‬
‫‪ -1‬الطاعـــة ‪ :‬وعـلى سبيل المثال فان )الطاعة( هي ابرز معاني‬
‫وتجليات اليمان ؛ اي الطاعة ل وللرســول وأولــي المــر ‪ .‬والطاعــة‬
‫تمتلك ابعادا ؛ فقد يطيع النسان فيمــا يشتهيه ‪ ،‬ويخالف الوامــر فيمــا‬
‫ليرغب فيه ول يريده ‪ ،‬كما كان حــال بـــني اســرائيل ‪ .‬فقــد كــانوا اذا‬
‫جاءهم رسول بما تهــواه انفســهم اطــاعوه ‪ ،‬واذا جــاءهم الرســول بمــا‬
‫لترغب فيه انفســهم اســتكبروا وعصــوا ‪ ،‬وهــذه الطاعــة ليســت هــي‬
‫المطلوبة ‪.‬‬
‫وقد يطيــع النســان امــر مــوله بمـا يخــالف هــواه )اي هــوى هــذا‬
‫النسان( ولكن في بعض المور كالنفاق في سبيل ال ‪ -‬مثل ‪ ، -‬امــا‬
‫اذا أمره بالجهاد بنفسه ودمـه فـتراه غيـر مسـتعد ‪ ،‬وهـذه طاعـة غيـر‬
‫مقبولة هي الخرى ‪.‬‬
‫ان الطاعة المفروضة تتمثل في ان يكــون النســان مســتعدا لتنفيــذ‬
‫الوامر في اي وقت حتى وان عاش الى آخر حياته دون ان يؤمر من‬
‫قبــل قيــادته بالجهــاد لن انتظــار الفــرج يعتــبر مــن اهــم العمــال فــي‬
‫الشــريعة المقدســـــة بالنســبة الــى المــة المرحومــة ‪ ،‬فالــذي ينتظــر‬
‫الفرج ‪ ،‬وينتظر ان ترتفع الراية بيد صـاحبها الحقيقــي فـانه يكـون قـد‬
‫حّدث نفســه بالجهــاد والشــهادة ؛ اي ان هــذا النســان مســتعد فــي ايــة‬
‫لحظة لن يحمل سلحه ‪ ،‬ويدخل ساحة الجهاد ‪ ،‬ويستشــهد بيــن يــدي‬
‫امام زمانه ‪ ،‬وهذا هو معنى النتظار الذي هو اكثر العمال ثوابا عند‬
‫الـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ ، -‬لن النســان المســتعد يكــون فــي اعلــى درجــات‬
‫الرحمة اللهية ‪.‬‬
‫‪ -2‬ذكر اللـه ‪ :‬ومن تجليات اليمان الخرى ذكر ال ؛ اي ان‬
‫يكون النسان حاسا وشـاعرا بهيمنـة الـ عليـه ‪ ،‬واحـاطته بـه ‪ ،‬وانـه‬
‫ليس بعيدا عن مقام ربه ‪ ،‬ولذلك فان ذكر ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬ليــس ان يلهــج‬
‫لسان النسان بالكلمات ‪ ،‬وانما هو التوجه واللتفات بعد النسيان ‪ .‬امــا‬
‫ان يكون قلب النسان لهيا وغافل عندما يتحــرك لســانه بالــذكر فــانه‬
‫سوف يعبر عن لشيء ‪ .‬ولذلك جاء في الحاديث ضــرورة ذكــر الـ‬
‫عند المعصية ‪ ،‬فاذا كنــت علــى ســبيل المثــال جالســا فــي مجلــس مــن‬
‫مجالس البطالين صدفة ‪ ،‬وسمعت رجل يذكر آخر بسوء فـــان عليــك‬
‫فــي هــذه الحالــة ان تــذكر ال ـ ‪ -‬ســبحانه ‪ ، -‬لن الكلم الســوء الــذي‬
‫سمعتـه هــو معصية ‪ ،‬وعليك ان تذكر ال عند المعصــية ‪ ،‬فلبــد امــا‬
‫ان تدافع عــن ذلك الرجــل‪ ،‬وامــا ان تقــوم مــن مجلســك ‪ ،‬وتعــترض‬
‫على هذه الجلسة التــي يعصى ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فيها ‪.‬‬
‫وبالضافة الى ذلك فان علينــا ان نــذكر الـ عنــد الطاعــة ايضــا ‪،‬‬
‫فعنــدما يأتيــك رجــل ويــدعوك الــى المــر بــالمعروف والنهــي عــن‬
‫المنكر ‪ ،‬او المســاهمة في عمل خيري ‪ ،‬فقد ذكر ال ‪ -‬تعــالى ‪ -‬لــك ‪،‬‬
‫فاذا خفق قلبك ‪ ،‬ووجلت نفسك ‪ ،‬وجرى الدم في عروقك فانت مــؤمن‬
‫لـ‬‫ن ِإَذا ُذِكـَر ا ّ‬
‫ن اّلـِذي َ‬‫حقا كما يقول ‪ -‬عز من قـائل ‪ِ } : -‬إّنَمـا اْلُمْؤِمُنـو َ‬
‫علــى َرّبِه ـْم‬
‫عَلْيِه ـْم َءاَيــاُتُه َزاَدْتُه ـْم ِإيَمان ـًا َو َ‬
‫ت َ‬
‫ت ُقُلــوُبُهْم َوِإَذا ُتِلَي ـ ْ‬
‫جَل ـ ْ‬
‫َو ِ‬
‫ن { ) النفال ‪ ، ( 2 /‬اما اذا شعرت بالخمول ‪ ،‬والتقاعس ‪ ،‬والتكاسل‬ ‫َيَتَوّكُلو َ‬
‫فهذا يعني انك لتعتبر رضوان ال وحبه غنيمة ‪ ،‬بل تعتبرهما خسارة‬
‫‪ .‬فالغنيمة عندك ان تذكر عند الناس ‪ ،‬ل ان تذكر عند ال ‪ .‬وهكــذا ان‬
‫اليمان الحقيقي لم يتجسد في نفسك بعد ‪.‬‬
‫وقد يتجسد ذكر ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عند المصيبة ‪ ،‬فالمصــائب‬
‫تهون عند ذكر ال ‪ ،‬وعلى ســبيل المثــال فــان المــام الحســين ) عليــه‬
‫الســلم ( وفــي اصــعب لحظــات مصــيبته ؛ اي عنــدما اصــيب بــابنه‬
‫الرضيع ‪ ،‬كان يأخذ الدم من نحر ابنه المذبـــوح ويرميـه الـى السـماء‬
‫قائل ‪ " :‬هون علي ما نزل بي انه بعين ال " ‪ ،‬فمادام‬
‫النســــان يذكر ال ‪ -‬جلت قدرته ‪ -‬فـان مصــائبه ســتهون كلهــا ‪ ،‬لن‬
‫ال شاهد‬
‫وناظر ‪ ،‬وعالم بما يجري ‪ ،‬وهو الذي سيأخذ بثأره من الظالمين ‪.‬‬
‫وهناك ذكر ال عند التفكير والذي يعتبر من اعظم الذكر ؛ فعنـدما‬
‫يفكر النسان ‪ ،‬ويقدر عليه ان يذكر ال ‪ ،‬وليفكر بــاهوائه ‪ ،‬وليــدع‬
‫وســاوس شــيطانه تســتحوذ عليــه ‪ ،‬بــل عليــه ان يفكــر فــي الطريــق‬
‫المستقيم ل ان يكون تقديره قائما على اســاس الهــوى ‪ .‬ولــــذلك فــــان‬
‫عَبــاِد *‬ ‫ش ـْر ِ‬‫القـرآن الكريم عندما يحدثنا عــن الصــالحين يقــول ‪َ } :‬فَب ّ‬
‫ك‬
‫ل ـ َوُأْوَلِئ َ‬‫ن َه ـَداُهُم ا ُّ‬‫ك اّل ـِذي َ‬
‫سَنُه ُأْوَلِئ َ‬
‫حَ‬‫ن َأ ْ‬‫ل َفَيّتِبُعو َ‬
‫ن اْلَقْو َ‬
‫سَتِمُعو َ‬ ‫ن َي ْ‬
‫اّلِذي َ‬
‫ب { ) الزمر ‪. ( 18-17 /‬‬ ‫لْلَبا ِ‬
‫ُهْم ُأوُلوْا ا َ‬
‫ولـذلـك فـان هـذا الـذكـر يـنـمـي في النـسـان روح اليمــان ‪ ،‬وال‬
‫‪ -‬عز وجل ‪ -‬يأمرنا في آيات عديدة بذكره ‪ ،‬فهو يقــول عــن المــؤمنين‬
‫ل اّل ـِذي َ‬
‫ن‬ ‫الــذين يبتعــدون عــن الظنــون ‪ ،‬والوســاوس الشــيطانية ‪ِ }:‬إ ّ‬
‫ل ـ َكِثيــرًا { ) الشـــعراء ‪، ( 227 /‬‬ ‫ت َوَذَكــُروا ا َّ‬ ‫حا ِ‬ ‫صــاِل َ‬‫عِمُلــوا ال ّ‬ ‫َءاَمُنــوا َو َ‬
‫فهــؤلء مستثنون من حكم ال على الشــعراء ‪ ،‬فـال ‪ -‬تعـالى ‪ -‬عنــدما‬
‫ن * َأَلـْم َتـــَر َأّنُهـْم‬‫شَعــــَرآُء َيّتِبُعُهـُم اْلَغــاُوو َ‬ ‫يحدثنا عنهــم يقــول ‪َ } :‬وال ّ‬
‫ن{‬ ‫ل َيْفَعُلـــــو َ‬ ‫ن َمــا َ‬ ‫ن * َوَأّنُهـــ ـْم َيُقوُلــــو َ‬ ‫ل َواٍد َيِهيُمـــــو َ‬ ‫ِفــــــي ُكـــــ ـ ّ‬
‫ن َءاَمُنــوا ‪، { ...‬‬ ‫ل اّلـِذي َ‬
‫) الشــعراء ‪ ، ( 226-224 /‬ال انه يستدرك قــائل ‪ِ }:‬إ ّ‬
‫فصفات المؤمنين من الشعراء انهم آمنوا وعملوا الصــالحات ؛ اي ان‬
‫ايمانهم لم يكن بالتمني ‪،‬‬
‫بل كان ايمانا حقيقيا ‪.‬‬
‫ل َكِثيرا { ؛ اي انهم لم ينجرفوا‬ ‫ثم يقول ‪ -‬تعالـــى ‪َ } : -‬وَذَكُروا ا َّ‬
‫في تيار‬
‫الوهام ‪ ،‬والتخيلت بل قالوا الحق ‪ .‬وفي موضع آخر يصف ‪ -‬تعالى‬
‫جُنــوِبِهْم {‬ ‫عَلى ُ‬ ‫ل ِقَيامًا َوُقُعودًا َو َ‬ ‫ن ا َّ‬
‫ن َيْذُكُرو َ‬‫‪ -‬المؤمنين قائل ‪ } :‬اّلِذي َ‬
‫) آل عمران ‪ ، (191 /‬وقــد اّولت هذه الية بالصلة ‪ ،‬امــا تفسيرهــــا فهــــو‬
‫ان النسان المؤمن يــذكر الـ دائمــا فــي جميـــــع الحــوال ؛ فهــو فــي‬
‫الحركة يعمل ‪ ،‬وفي الجلوس ينمي علقاته مــــع الخريــــن ‪ ،‬وفـــــي‬
‫النوم يفكــر ‪ ،‬فهو يذكر ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في كل هـذه الحـالت ‪.‬‬
‫ان الصلة ذكر ‪ ،‬هذا ليعنـي ان علـى النسـان ان ل ينشـغل بعـد‬
‫الفراغ من صلته عن ذكر ال كما يشير الى ذلك ‪ -‬تعالى ‪ -‬فــي قــوله‬
‫لــ َوِإَقــاِم‬‫عــن ِذْكــِر ا ِّ‬ ‫ل َبْيــٌع َ‬
‫جــاَرٌة َو َ‬ ‫ل ُتْلِهيِهــْم ِت َ‬
‫ل ّ‬‫جــا ٌ‬
‫الكريــم ‪ِ } :‬ر َ‬
‫لَة‬‫ص َ‬‫لِة { ) النور ‪ ، ( 37 /‬فالصلة انما شرعت لذكر ال ‪َ } :‬وَأِقِم ال ّ‬ ‫ص َ‬‫ال ّ‬
‫ِلِذْكِري { ) طه ‪ ، ( 14 /‬وبعد الصلة على النسان ان يذكر ال ايضــا ‪:‬‬
‫كْم { ‪.‬‬ ‫جُنــوِب ُ‬
‫عَلــى ُ‬‫لـ ِقَيامـًا َوُقُعــودًا َو َ‬
‫لَة َفــاْذُكُروا ا َّ‬ ‫صـ َ‬
‫ضْيُتُم ال ّ‬
‫} فِإَذا َق َ‬
‫) النساء ‪( 103 /‬‬
‫وعنـــد مـواجهـــة العـداء يجب على النســان المــؤمن ان يــذكر‬
‫ربه ‪ ،‬فبذكر ال تطمئن القلوب ‪ ،‬وبذكره يتحقـــق مفهـــوم التوكـــــل ‪.‬‬
‫ن َءاَمُنـوا ِإَذا َلِقيُتـْم ِفَئًة َفـاْثُبُتوا َواْذُكـُروا‬
‫يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬يآ َأّيَها اّلـِذي َ‬
‫كِثيرًا { ) النفال ‪. ( 45 /‬‬
‫ل َ‬‫ا ّ‬
‫طاء ‪ ،‬والذي يدعي انه منزه عن الخطأ ‪،‬‬ ‫ومن المعلوم ان النسان خ ّ‬
‫فان ادعاءه هذا هو بحد ذاته اكبر خطأ لنه يجعله في حالة من التكــبر‬
‫والتجبر والطغيـــان ‪ .‬واذا ما اخطـأ النسان فان عليـــه ان يــذكر ال ـ‬
‫لكي يمنحه اول القوة والقدرة على مقاومـة الشيطـــان الذي يدعــــــوه‬
‫الـى ان يذنب المرة بعــد الخــرى ‪ ،‬ولكــي ‪ -‬ثانيــا ‪ -‬ليصــاب باليــأس‬
‫والقنـــوط ‪ ،‬لن اليــأس بحد ذاتــه جريمــة ‪ ،‬وخطيئة كــبرى ‪ ،‬ولــذلك‬
‫ظَلُمــوا‬
‫ش ـًة َأْو َ‬‫حَ‬
‫ن ِإَذا َفَعُلــوا َفا ِ‬ ‫يقول ‪ -‬سبحانه ‪ -‬عن المؤمنين ‪َ }:‬واّلِذي َ‬
‫لـ َوَلـْم‬
‫ل ا ُّ‬
‫ب ِإ ّ‬
‫سَتْغَفُروا ِلـُذُنوِبِهْم َوَمــن َيْغِفـُر الـّذُنو َ‬ ‫ل َفا ْ‬
‫سُهْم َذَكُروا ا َّ‬
‫َأْنُف َ‬
‫ن { ) آل عمران ‪. ( 135 /‬‬ ‫عَلى َما َفَعُلوا َوُهْم َيْعَلُمو َ‬‫صّروا َ‬ ‫ُي ِ‬
‫وحتــى عندما نرتكب الذنوب الصغيرة فان علينا ان نستغفر ال ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬لن‬
‫النسان اذا احدث ذنبا ثم لم يستغفر خالقه فان هذا الذنب سيتحول الى‬
‫نقطــة ســوداء فــي قلبــه ‪ ،‬واذا بالذنــــوب تتــراكــــم عليــه ‪ ،‬واذا بقلبــه‬
‫يموت ويصــبح قاســيا ‪ .‬وفــي آيــة اخــرى يقــول ‪ -‬عــز وجــل ‪ِ } : -‬إ ّ‬
‫ن‬
‫ن َتَذّكُروَا { ) العراف ‪ ( 201 /‬؛ اي‬
‫طا ِ‬
‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ف ِم َ‬
‫طآِئ ٌ‬
‫سُهْم َ‬
‫ن اّتَقْوا ِإَذا َم ّ‬
‫اّلِذي َ‬
‫رون { ‪ ) .‬العراف ‪( 201 /‬‬‫صُ‬‫ذكروا ال ‪ ،‬وذكروا انفسهم ‪ }:‬فِإَذا ُهم ُمْب ِ‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫أساس‬


‫ومن هنا فان ذكر ال ‪ -‬تعــالى شــأنه ‪ -‬هــو احــد اعمــدة العــودة الــى‬
‫اليمان ‪ ،‬والصلة هي مــن ابعــاد ذكــر الـ ‪ ،‬والصــلة بحقيقتهــا هــي‬
‫عمود الدين ‪ -‬كما جاء في الحديث ‪ -‬اي انها اســاس اليمــان ‪ ،‬وركــن‬
‫علقة النسان بال ورمزها ‪ ،‬وهي معراجه الى ال ‪ ،‬ولغة التخــاطب‬
‫بين العبد وربه ‪ .‬فهي ‪ -‬في الواقع ‪ -‬محور لسائر القيــم لنــك ان كنــت‬
‫خاشعا في اللحظة التي تصلي فيها فانــك تعــود الــى فطرتــك وطهــرك‬
‫ونقائك ‪.‬‬
‫وعندما يقول الرسول ) صلى ال عليه وآله ( ‪ ... " :‬يا علــي إنمـا‬
‫منزلة الصلوات الخمس لمتي كنهر جار على باب أحدكم ‪ ،‬فمــا ظــن‬
‫أحدكم لو كان في جســده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمــس مــرات‬
‫في اليوم أكان يبقى في جســده‬
‫(‬
‫درن ؟ فكذلك وال الصلوات الخمس لمتي " ‪. ( 1‬‬
‫فــــان المقصود ان الصلة الحقيقية هي الــتي يرجــع فيهــا النســان‬
‫الى نقاء فطرته ‪.‬‬
‫وطهــرهــــــا ‪ ،‬والقـــــرآن الكريـــم عنــدما يحدثنــــا عــن الصــــلة‬
‫يضيــف اليها كلمة‬
‫لَة { أو } َوَأِقيُمـوا‬
‫صـ َ‬
‫) القامـة ( كقـــوله ‪ -‬تعالــى ‪َ } : -‬وَأَقـاُموا ال ّ‬
‫لَة { والقامــة تعنــي ان يــؤدي النســان الصــلة بكــل ابعادهــا ‪،‬‬ ‫الصّ ـ َ‬
‫وآدابهــــــا ‪ ،‬وشــروطها ‪ ،‬ومحتويــاتهــــا ‪ ،‬وهــذه الصــلة هــي الــتي‬
‫تؤدي الى زيادة اليمان عند النسان ‪ .‬ولذلك فــان النبــي ) صلى الـ‬
‫عليه وآله ( يعتبــر هــذه الصــلة اهم تحفــة يجــب علــى النســان ان‬
‫يعتــز بهــا ‪ ،‬كمـا يشعــــر بــذلك قــــوله ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( ‪" :‬‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫بحار النوار ج ‪ 79‬ص ‪ 220‬رواية ‪41‬‬
‫وقــرة عيـني الصــلة "‪ ،‬فالصــلة كانت احــب شــيء عنــده ) صــلى‬
‫ال عليه وآلــه ( ‪.‬‬
‫ونحن اذا وصلنا الى مرحلة بحيث احببنا الصلة ‪ ،‬وارتاحت انفسنا‬
‫اليهـا ‪ ،‬وشعرنـــــا بأنهـا خفيفــــة علينـا وليســت ثقيلــة ‪ ،‬واذا راينـا ان‬
‫قلوبنا تندفع الى ان تتهيأ للصلة بمجرد ان يتناهى الــى اســماعنا نــداء‬
‫)حي على الصــلة( ‪ ،‬فلنعــرف ان الـ ‪ -‬جــل وعل ‪ -‬قــد مــن علينــا ‪،‬‬
‫ولــم يجعل بيننا وبينه حجابا ‪ ،‬وانه يحبنا ‪ ،‬لنه عندما يحب احدا فانه‬
‫يجذبـــه اليه ‪ ،‬ويدعـوه ‪ ،‬ويستضيفـــه ‪ ،‬اما اذا لم يضمر ال ‪ -‬تعــالى‬
‫‪ -‬لك الحب فانــه ســـوف ليردك ‪ .‬إل إذا ألححت عليه في ان يرفــع‬
‫الحجاب بينك وبينه لن " مــن اكثــر طــرق البــاب أوشــك ان يســمع‬
‫الجــواب " ‪.‬‬
‫وإذا لم نكن في مثل تلك الحالــة مـن حــب الصــلة والرتيــاح لهــا ‪،‬‬
‫فــان علينــا ان‬
‫لنيأس ‪ ،‬وان نحاول معرفة السلبيات الروحية والسلوكية الــتي نعــاني‬
‫منها ‪ ،‬والتي لتجعل صلتنا تصـبح صــلة حقيقيـة ‪ .‬وعلــى هــذا فـان‬
‫الصـــلة معـــراج المـــؤمن ‪ ،‬وخيـــر موضـــــوع ‪ ،‬وعمـــود الـــدين ‪،‬‬
‫وخصوصا عندما يؤدي النسان الصــلة بشروطهـــا‬
‫الجتماعيــة ‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫الصلة أول هدف‬


‫وعندما يبين لنا القرآن الكريم مواصفات المجتمع اليماني ‪ ،‬فانه‬
‫ن ِإن‬‫يذكر ان اقامــة الصــلة يجــب ان تكــون اول هــدف لهــم ‪ } :‬اّلـِذي َ‬
‫لَة وَءاَتُوا الّزَكــاَة { )‪ 1‬الحج ‪ ، ( 41 /‬وفي‬ ‫ص َ‬‫ض َأَقاُموا ال ّ‬ ‫لْر ِ‬ ‫َمّكّناُهْم ِفي ا َ‬
‫جَعْلَناُهـــْم َأِئّمـًة َيْهـُدو َ‬
‫ن‬ ‫موضع آخر يقــول عنهــم ‪ -‬عــز وجــل ‪َ } : -‬و َ‬
‫لِة { ) النبيــاء ‪، ( 73 /‬‬ ‫صـ َ‬ ‫ت َوِإَقــاَم ال ّ‬
‫خْيـَرا ِ‬
‫ل اْل َ‬
‫حْيَنــآ ِإَلْيِهـْم ِفْعـ َ‬
‫ِبَأْمِرَنا َوَأْو َ‬
‫فالهدف الول للئمة الذين يهدون بأمر ال يتمثل في اقامة الصلة ‪.‬‬
‫وفي ايام الجمعة ‪ ،‬والعياد يتواصل المؤمنون ‪ ،‬ويتلقون ‪ ،‬وتكون‬
‫الصلة هي محور التفاهم بينهم كما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬يـآ َأّيَهـا اّلـِذي َ‬
‫ن‬
‫لـ َوَذُروا‬
‫سـَعْوا ِإَلــى ِذْكـِر ا ِّ‬
‫جُمَعِة َفا ْ‬‫لِة ِمن َيْوِم اْل ُ‬ ‫ص َ‬
‫ي ِلل ّ‬ ‫َءاَمُنوا ِإَذا ُنوِد َ‬
‫ن { ) الجمعة ‪ ، ( 9 /‬وعلى هذا فان لقــاء‬ ‫خْيٌر ّلُكْم ِإن ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬
‫اْلَبْيَع َذِلُكْم َ‬
‫المؤمنين يكون حول مائدة الصلة ‪ ،‬فهي التي تجمعهم ‪.‬‬
‫ان هذه الصلة تجعل النسان في حالة عروج دائم ‪ ،‬فاذا اردنا ان‬
‫نتحــدث مــع ال ـ ‪ -‬جــل وعل ‪ -‬فــان علينــا ان نقيــم الصــلة ‪ ،‬ونقــرأ‬
‫القـــرآن ‪ ،‬وهنـــاك البعـــض مـــن المـــؤمنين يجمعـــون بيـــن المريـــن‬
‫وخصوصا في صلة النوافل ‪ ،‬وهذه فكرة لطيفة وخصوصا في ليالي‬
‫شهر رمضان المبارك ‪ ،‬فاذا كانت لديك فكــرة ان تصــلي الــف ركعــة‬
‫طيلة شهر رمضان فبأمكانك ان تقسمها بين الليل والنهار ‪ ،‬واثناء كــل‬
‫صلة بأمكانك ان تمسك القرآن بيدك لتقرأ آيات منه ‪.‬‬
‫ن { ) المزمل ‪، ( 20 /‬‬ ‫ن اْلُقرَءا ِ‬‫سَر ِم َ‬‫وقد فسرت الية ‪َ }:‬فاْقَرُءوا َما َتَي ّ‬
‫تقرأ القرآن اثناء الصلة ‪ ،‬وفــي هــذه الحالــة وفــي نفــس الــوقت الــذي‬
‫تؤدي فيه الصلة سيكـــون باستطاعتك ان تختم القرآن في صــلتك ؛‬
‫اي ان تتبــادل الحديث مع ال ‪ -‬سبحــانه وتعــالى ‪. -‬‬

‫اليمان مفتاح فهم الحقائق الكبرى‬

‫القرآن الكريم بما يضم من سور وآيات بينات يقــدم الجــواب الصــريح‬
‫والواضــح علــى حقيقــة يتجاهلهــا النســان ‪ ،‬ويحتجــب عنهــا وعــن‬
‫معرفتهــا والتفاعــل معهــا رغــم وضــوحها ‪ ،‬ال وهــي حقيقــة اليمــان‬
‫وتجلياته ‪ ،‬والتي يقف على النقيض منها الكفر وابعاده ‪.‬‬

‫خير ‪:‬‬ ‫أصل كل‬


‫ان اليمان هو اصل كل خير ‪ ،‬وقاعدة كل قيمة سامية ‪ ،‬وينبوع كل‬
‫فضيلة مثلى ‪ ،‬ولعل الغاية السمى لليمان هي ان يخرج النسان مــن‬
‫اطار الذات ‪ ،‬وحدود النا الضيقة ‪ ،‬الى التفكير والحساس بــالخرين‬
‫‪ ،‬وبتعـبير آخــر ؛ فـان اليمـان يتجســد ويخـــــرج الـى الواقـع عنـدما‬
‫يشعر النســان بــأخيه النســان ‪ ،‬فعنــدما يخــرج مــن الطــار الضيـــق‬
‫للنفس الى عالم الحساسبالخرين ‪ ،‬وحينمــا يعيــش الحقــائق الخــرى‬
‫الخارجة عن الذات ‪ ،‬ويستوعبها ‪ ،‬ويهتدي اليها فحينئذ يصح ان يقال‬
‫عنه انه مؤمـــن ‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫اللـه ينبوع الحقائق‬


‫والحــق ‪ -‬تعالى ‪ -‬هو ينبوع الحقائق الخرى ‪ ،‬ومصدرها ‪ ،‬وهو‬
‫حقيقة الحقائق ‪ ،‬فكــــل حق وحقيقة ‪ ،‬بل وكـل واقـع ووجــود انمــــــا‬
‫هـو من عنــــده ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬وبخلقــه وتــدبيره وهيمنتــه ‪ ،‬ولــذلك كــان‬
‫رأس اليمـان اليمـان بـال ووحـدانيته ومطلقيتـه ‪ ،‬ومـن هـذه البـؤرة‬
‫اليمانية تشع سائر أشعة اليمان الخرى ‪ ،‬وتمتد ابعادها ‪.‬‬

‫ولعل ابرز هذه البعاد اليمانية اليمان باسمائه الحسنى ‪ ،‬فمعرفته‬


‫‪ -‬تعالى ‪ -‬تتمثل في ان نعرفه بأسمائه بعد ان استحالت معرفة كنهــه ‪،‬‬
‫ذلك لن عقل النسان ومهما تسامى وارتفع بــالعلم والمعرفــة ليمكــن‬
‫ان يسمو الى معرفة ذات الرب التي هـي غيـب الغيـوب ‪ ،‬فهـو ‪ -‬عـز‬
‫وجل ‪ -‬لتبلغه الدراكات مهما ســمت وان كــانت ادراكــات النبيــاء ‪،‬‬
‫والصــديقين ‪ ،‬والملئكــة ‪ ،‬فليــس هنــاك مــن موجــود منــح العقــل ‪،‬‬
‫والدراك ‪ ،‬والبصيرة بمستطيع ان يبلغ معرفة الذات اللهية ‪ ،‬وكــــل‬
‫محـاولة في هذا المـجال تهبط بصاحبها الى حضيض الزندقة ؛ " مــن‬
‫تفكر في ذات ال تزندق " ‪.‬‬

‫ان قصارى ما يســتطيعه العقــل ان يعــرف الخــالق ‪ -‬عــز وجــل ‪-‬‬


‫باسمائه الحسنى ‪ ،‬وصفاته وآلئه العليا ‪ ،‬وبما صنعت يده مــن وجــود‬
‫وخلئق ‪ ،‬فهو ‪ -‬تعالى ‪ -‬تمكـن معرفتـه ‪ -‬مثل ‪ -‬بالرحمــة ‪ ،‬والعــزة ‪،‬‬
‫والقوة ‪ ،‬والحكمة ‪ ،‬والعظمة ‪ ،‬وبكونه ســميعا بصــيرا ‪ ،‬خــبيرا قــادرا‬
‫على كل شيء وهكذا الحال بالنسبة الى جميع اسمائه وصفاته ‪.‬‬
‫‪:‬‬ ‫مبدأ السنن اللهية‬
‫ومـــن هنا لم تكن دعوة ال ال من خلل اســمائه الحســنى ‪ ،‬فبعــد‬
‫معرفـة هــــذه‬
‫السماء تتسنى لنا معرفة السنن الــتي اقــام بهــا الـ الكــون والوجــود ‪،‬‬
‫وهذه الســنن هـي حقائــــق تتعلــــق بتلــــك الســماء الحســنى ‪ ،‬واللء‬
‫العليــا ‪ ،‬فعنــدما نعلــم ان ال ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬رحيــم فلبــد ان نــدرك ان‬
‫من سننه )الرحمة( ‪ ،‬فل يدع ظالمـا في هذه الحيــاة يســتمر فــي ظلمــه‬
‫للناس مادام ال ارحم الراحمين ‪ ،‬ولنــه ‪ -‬تعــالى ‪ -‬كــــذلك فليــس مــن‬
‫المعقــــول ان يتغاضـــى عــن دعــــوة مظلــوم ‪ ،‬او اجابــــة الــداعي اذا‬
‫دعــاه ‪.‬‬
‫وهكذا فان السماء التي يدعى بها ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬هي مبـدأ الســنن‬
‫اللهية ‪ ،‬ومن بين هذه السنن سنة استجابة الدعاء ‪ ،‬فكما ان ال ـ كتــب‬
‫على نفسه الرحمة ‪ ،‬فقـــد اخذ علــى نفســه ايضــا عهــدا بــأن يســتجيب‬
‫عَبــاِدي‬‫ك ِ‬ ‫س ـَاَل َ‬
‫دعوة الداعي اذا دعاه كما يقول ‪ -‬عــز وجــل ‪َ }: -‬وِإَذا َ‬
‫ي َوْلُيْؤِمُنــوا‬‫جيُبوا لِ ـ ْ‬ ‫سَت ِ‬
‫ن َفْلَي ْ‬
‫عا ِ‬
‫ع ِإَذا َد َ‬
‫عَوَة الّدا ِ‬
‫ب َد ْ‬
‫جي ُ‬ ‫ب ُا ِ‬
‫عّني َفِاّني َقِري ٌ‬ ‫َ‬
‫ن { ) البقرة ‪. ( 186 /‬‬‫شُدو َ‬
‫ِبي لََعّلُهْم َيْر ُ‬
‫ومن ســنة الرحمــة ننتقــل الــى الحــديث عــن ســنة اخــرى هــي ســنة‬
‫الحكمة النابعة من كــون الـ ‪ -‬تعــالت قــدرته ‪ -‬حكيمــا ‪ ،‬فلــو ان احــدا‬
‫طلب من ال ان يحول ما على الرض من جبال الى نيران ‪ ،‬فاستقبل‬
‫القبلة ‪ ،‬وجثا امامها ‪ ،‬وراح يدعو ويدعو بصــوت شــجي ليــام وليــال‬
‫لما اســتجاب ‪ -‬تعــالى ‪ -‬لــدعائه رغــم انــه ارحــم الراحميــن ‪ ،‬ويجيــب‬
‫دعوة الــداعين ‪ ،‬لنـه ‪ -‬فـي نفـس الـوقت ‪ -‬حكيـم عليــم ‪ ،‬فمشـيئة الـ‬
‫القائمة على حكمته وعلمه هي فوق مشيئة العباد‪ ،‬فليس مــن العــدل ان‬
‫تتحول جبال هذه الرض الى نيران بناء على رغبة عبد من العباد ‪.‬‬
‫‪:‬‬ ‫بيان اليمان وتجلياته‬
‫ويبــــدو ان سورة )يونس( اختصت في بيان اليمان وتجلياتــــه ‪،‬‬
‫مقابل الكفــــر‬
‫ومفرداته ‪ ..‬ففي بداية هذه الســورة الكريمــة يقــول ‪ -‬تعــالى ‪ } : -‬الــر‬
‫حِكيِم { ) يــونس ‪ ، ( 1 /‬فالحكمة هـي رأس اليمـان ‪،‬‬ ‫ب اْل َ‬
‫ت اْلِكَتا ِ‬
‫ك َءاَيا ُ‬
‫ِتْل َ‬
‫ورأس اليمان هو مخافة ال ‪ -‬ســبحانه ‪ ، -‬فمــن خلل معرفــة ان الـ‬
‫حكيم ‪ ،‬نعرف سنة من سننه وهي الحكمة ‪ ،‬وانطلقــا مــن هــذه الســنة‬
‫ندرك ان ليس كل دعاء قابل للستجابة من قبل ال ‪ -‬تعــالى ‪ -‬فهــو ل‬
‫يستجيب لكل دعاء وان كان قادرا على ذلك بســبب مقتضــى حكمتــه ‪.‬‬
‫وحتى في موضوع هلك طاغية ما فاننا قد لنلمس استجابة الــدعاء ‪،‬‬
‫فقد يؤخر ‪ -‬عز وجل ‪ -‬هلكه الى اجل مسمــى ليعلمــه ال هــو ‪ ،‬فل‬
‫يهلكه لمجرد ان نسجد له ‪ -‬تعالى ‪ -‬داخرين ‪ ،‬وندعو من اجــل هلكــه‬
‫متضرعين ‪ ،‬لحكمة اقتضاها الخالق ‪ ،‬وقد حجبت عنا ‪ ،‬فلو انه ‪ -‬عز‬
‫وجل ‪ -‬استجاب كل دعــوة دون الحكمــة ولمجــرد ان يــدعو العبــد لمــا‬
‫استقر هذا الكون والوجود ‪ ،‬ولما جرت بقية السنن اللهية في مجراها‬
‫الذي وضعه ال لها ‪.‬‬

‫وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬كثيرا ما تغيب حكمته عن كثير من عباده في امور‬


‫الحياة في حين انه اعلم بمصلحة النسان سواء كان فردا ام جماعــة ‪،‬‬
‫ولذلك كان لزاما علينا ان نبحث عن الحكمة اللهية فــي المــور الــتي‬
‫ندعو الـ فيهـا فل يســتجيب لنــا ‪ ،‬فهــو ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬وضــع كــثيرا مـن‬
‫المور والحقائق في موازينها ‪ ،‬وضمن معـادلت هـي جـوهر الكـثير‬
‫من السنن اللهية ‪ .‬وفي كتابه المجيد نجد الشارة الــى هــذه المــوازين‬
‫خْيــرًا َيـَرُه * َوَمــن‬
‫ل َذّرٍة َ‬‫ل ِمْثَقــا َ‬
‫والمعادلت منها قــوله ‪َ } :‬فَمــن َيْعَم ـ ْ‬
‫ســا ِ‬
‫ن‬ ‫لن َ‬‫س ِل ِ‬
‫شّرا َيَرُه { ) الزلزال ‪ ( 8-7 /‬وقوله ‪َ } :‬وَأن لّْي َ‬ ‫ل َذّرٍة َ‬
‫َيْعَملْ ِمْثَقا َ‬
‫ف ُي ـَرى { )النجــم ‪ ( 40-39 /‬وقــوله ‪ِ }:‬إ ْ‬
‫ن‬ ‫س ـْو َ‬ ‫س ـْعَيُه َ‬‫ن َ‬ ‫س ـَعى* َوَأ ّ‬ ‫ل َمــا َ‬ ‫ِإ ّ‬
‫ها { ‪ ) .‬السراء ‪( 7 /‬‬ ‫سْأُتْم َفَل َ‬
‫ن َأ َ‬
‫سُكْم َوِإ ْ‬‫لنُف ِ‬
‫سنُتْم َ‬
‫حَ‬‫سنُتْم َأ ْ‬
‫حَ‬ ‫َأ ْ‬

‫الخرين ‪:‬‬ ‫تقاسم الحقوق مع‬


‫وعلى هذا فلننا نؤمن بـال فاننــا نــؤمن ايضــا باسـمائه الحســنى ‪،‬‬
‫ولننا نؤمن بهــذه الســماء فاننــا نــؤمن بالســنن الــتي تفيــض مــن هــذه‬
‫السـماء وتنبعـث عنهـا ‪ ،‬ومــن ثــم فـان هـذا اليمـان بـال يــؤدي الـى‬
‫اليمان بالخلق والوعي والحساس بهــم ‪ ،‬ذلـك لن الخلــق لـم يتوقــف‬
‫علينــا نحــن بالــذات ‪ ،‬فكمــا اننــا مخلوقــون ل ـ فــان الخريــن ايضــا‬
‫مخلوقون من قبله ‪ ،‬ولذلك ينبغــي بنــاء العلقــة الجتماعيــة علــى هــذا‬
‫الساس داخل المجتمع والمة ‪ ،‬فكما يحب احدنا ان ينــال حقــوقه مــن‬
‫الخرين ‪ ،‬فان هؤلء الخرين ينتظرون ان نــؤدي لهــم مــا علينــا مــن‬
‫حقوق ‪ ،‬فعندما نعترف بالخرين ‪ ،‬ونعي حقوقهم فان هذا يعني اننا قد‬
‫آمنا بهم ‪ ،‬فلبد ان نتقاسم معهم الحقوق ‪ ،‬والجهود والتعاب فــي هــذه‬
‫الحياة ‪.‬‬

‫وهذه الخصيصة ‪ -‬خصيصة اليمان بالخرين ‪ -‬هي التي اعطت‬


‫الحضارة السلمية وجهها المشرق في صدر السلم ‪ ،‬حيث ســادت‬
‫ثلث ارجاء المعمــورة ‪ .‬فــالثروة لــم تتكــدس ‪ ،‬والحقــوق كــانت تــوزع‬
‫بشــكل عــادل ‪ ،‬فطبيعــة النظــام الســلمي تــأبى ان تتكــدس الــثروة ‪،‬‬
‫ويكتنز الذهب والفضة ‪ ،‬كما ان المجاميع التي كانت تدخل في رحاب‬
‫الســلم ‪ ،‬كــانت تتحــول مباشــرة الــى جــزء ليتجــزأ مــن الحضــارة‬
‫السلمية ‪ .‬فاذا ما اعتنقت قرية من القرى النائية فـي اطــراف الدولــة‬
‫السلمية الدين السلمي ‪ .‬بادر ابناؤها الى كفالــة بعضــهم البعــض ‪،‬‬
‫فيتقاسمون العيش سوية ‪ ،‬ويتعاونون في اطار مـن الخـوة والمحبـة ‪،‬‬
‫وفي ظل القرآن ‪ ،‬والرسالة المحمدية الــتي آمنــوا بهــا ‪ ،‬وبــذلك ينعــدم‬
‫الفقر بينهم تدريجيا ‪ ،‬وتذوب الثروات المكدسة لدى القلة من المجتمع‬
‫‪.‬‬
‫ان اليمان بــال ‪ -‬تعــالى ‪ -‬يجعــل النســان المــؤمن يتعــدى حــدود‬
‫معرفتــه لحــق الغيــر فــي الحيــاة الــى معرفــة حــق ســائر الحيــاء مــن‬
‫حيوانات ونباتات في نيل نصـيبها ورزقهـا مـن الحيـاة‪ ،‬ولعلنـا سـمعنا‬
‫الحديث الشريف الذي يقول ‪ " :‬رأيت في النار صاحب الهرة تنهشــها‬
‫مقبلة ومدبرة ‪ ،‬كانت أوثقتها ولم تكــن تطعمهــا ول ترســلها تأكــل مــن‬
‫خشاشة الرض " ‪ ، ((1‬وفــي روايــة اخــرى تظهــر بوضــوح الســلوك‬
‫العملي الرحيم للسلم ان رسول ال ) صلى ال عليه وآلــه ( اســتيقظ‬
‫يوما من نومه فوجد قطة قد نامت على طــرف ردائه ‪ ،‬فــأبى ان يفســد‬
‫عليها لذة نومها ‪ ،‬فقطــع ذلــك الجــزء مــن ردائه ‪ ،‬ونهــض مــن مكــانه‬
‫تاركا القطة تستغرق في نومها دون ان يزعجها ‪.‬‬

‫شيء ‪:‬‬ ‫المـؤمـن يحترم كل‬


‫ان حقوق النسان بل وحقوق كل كائن حي يدب على هذه الرض‬
‫هــي ذات جــذور واصــالة فــي الرؤيــة الســلمية ‪ ،‬فأيمــان النســان‬
‫بالخرين ‪ ،‬نابع من ايمانه بأنهم خلــق ال ـ ‪ -‬تعــالى ‪ . -‬وكــذلك الحــال‬
‫بالنسبة الى كل ما يدب على هذه البسيطة فان له حقا في الحيــاة مــادام‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫بحار النوار ج ‪ 61‬ص ‪ 268‬رواية ‪30‬‬
‫مخلوقا ل ‪ ،‬ولــذلك فـان المــؤمن يعيــش وهــو يحــترم كــل شــيء ؛ فل‬
‫يعبث ‪ ،‬وليفسد ‪ ،‬وليبذر ‪ ،‬ويحترم ويقدر كل نعمة انعم ال بها عليه‬
‫‪.‬‬
‫فـاليمان بال الذي يتعدى الى اليمان الشمولي بكل مــاهو خــارج‬
‫الــذات النســانية ‪ ،‬هــذا اليمــان يصــوغ شخصــية النســان المــؤمن ‪،‬‬
‫وســلوكيته ‪ ،‬وتعــامله مــع الحـيـــاة والمجتمــع ‪ .‬وفــي القــرآن الكريــم‬
‫اشارات الى مثل هذا السلوك من ذلــك قوله‬
‫‪ -‬عز وجل ‪ -‬في اليات التالية ‪:‬‬

‫لْرضَ َوَلــن َتْبُلـَغ‬ ‫قاَ‬ ‫خـِر َ‬ ‫ك َلــن َت ْ‬


‫ض َمَرحًا ِإّن َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ش ِفـي ا َ‬ ‫ل َتْم ِ‬ ‫} َو َ‬
‫ل { ) السراء ‪( 37 /‬‬ ‫طـــو ً‬‫ل ُ‬ ‫جَبا َ‬
‫اْل ِ‬
‫ل { ) الروم ‪( 38 /‬‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬‫ن َواْب َ‬ ‫سِكي َ‬
‫حّقُه َواْلِم ْ‬
‫ت َذا اْلُقْرَبى َ‬ ‫} َفَا ِ‬
‫سُ‬
‫ن‬ ‫حَ‬ ‫خْيٌر َوَأ ْ‬
‫ك َ‬ ‫سَتِقيِم َذِل َ‬
‫س اْلُم ْ‬
‫طا ِ‬ ‫سَ‬ ‫ل ِإَذا ِكْلُتْم َوِزُنوا ِباْلِق ْ‬
‫} َوَأْوُفوا اْلَكْي َ‬
‫ويلً { ) السراء ‪( 35 /‬‬ ‫َتْأ ِ‬
‫هذا في حين نجد النسان الكافر يعيش في حيز النا وحب الذات ‪،‬‬
‫وهو مستعد لتدمير كل شيء من اجل ان يضــمن مصــلحته الخاصــة ‪.‬‬
‫ونحــن اليــوم نلمــس ‪ ،‬ونســمع عــن التــدهور الــبيئي بســبب الحضــارة‬
‫النانيــة الكــافرة ‪ ،‬فحــتى الطبيعــة لــم تســلم مــن يــد هــؤلء العــابثين‬
‫بالضــافة الــى البشــر والحيــاء ‪ ،‬فهــم ينهشــون لحــوم المســلمين ‪،‬‬
‫والمستضعفين في مختلف بقاع الرض كذئاب مفترسة ‪.‬‬
‫لقد بات انسان اليوم يتأوه ألما ‪ ،‬ويتحسر على تلك العصور السابقة‬
‫التي سادت فيها حضارة اليمان التي نشرت السعادة والمن والســلم‬
‫في ارجاء المعمورة ‪ ،‬وراح يلعــن هذه الحضــارة رغــم مــا فيهــا مــن‬
‫التطور والتقدم التكنولوجي الذي لم ينتفع بـه‬
‫بقدر ما ذاق من وباله ‪ ،‬وويلته ‪.‬‬

‫صحيـح انهـا حضــارة قامت على التطــــور التكنولوجــــي الــذي‬


‫اختصر الزمان والمكان ‪ ،‬ولكنها حضــارة ساقطة فــي حقيقتهــا لنهــا‬
‫تفتقر الــى اليمان بال‬
‫‪ -‬تعــالى ‪ ، -‬فهــي حضــارة النانيــة ‪ ،‬والتغطــرس ‪ ،‬وعبــادة المــادة‬
‫والشهوات ‪.‬‬

‫وهكـذا فان اليمان بال يعني اليمان بأسمائه وسننه وبما خلق وبرأ‬
‫فــي هــذا الكــون والطبيعــــة ‪ ،‬وعنــدما ننمــي فــي انفســنا هــذا اليمــان‬
‫الشمولي فانه سيخرجنا من زنزانـة‬
‫الذات ‪ ،‬واطار النانية الضيق الى الرحاب الواسعة للحقيقة ‪.‬‬

‫ومن البواب التي يخرج النسان من خللها من اطار ذاته الى عالم‬
‫اليمان والحساس بالخرين ‪ ،‬باب النفاق ‪ ،‬والعفو ‪ ،‬وكظم الغيــظ ‪،‬‬
‫وبــاب الشــجاعة ‪ ،‬والبــذل ‪ ،‬والتضــحية ‪ ،‬والتوكــل ‪ ...‬وغيرهــا مــن‬
‫البواب التي تصوغ حياة النســان الجتماعيــة فـي اطـار ايمـاني مـن‬
‫المحبة والسلم والوئام والخوة ‪.‬‬
‫الكافر ‪:‬‬ ‫صفات النسان‬
‫والنسان الذي يأبى على نفسه التحرر من ضيق الــذات ‪ ،‬وســجن‬
‫النانية ‪ ،‬لضعف ايمانه بال ‪ -‬تعالى ‪ -‬لبد ان يتحول شــيئا فشــيئا الــى‬
‫شخص جبان ‪ ،‬لئيم ‪ ،‬عدواني الطباع ‪ ،‬مغرور متكبر ‪ ،‬يمله العجــب‬
‫بنفسه ‪ ،‬وهذه هي صفات النسان الكافر بال ‪ -‬سبحانه ‪ ، -‬ومثل هــذه‬
‫الصــفات اشــــارت اليهــا ســورة )يــونس( كعنــاوين ‪ ،‬ودللت علــى‬
‫الكافرين ‪ ،‬فيقول ‪ -‬عز من قائل ‪ -‬في هذه السـورة ‪:‬‬
‫ل ِلَتْعَلُموا‬ ‫ضَيآًء َواْلَقَمَر ُنورًا َوَقّدَرُه مََناِز َ‬ ‫س ِ‬ ‫شْم َ‬‫ل ال ّ‬ ‫جَع َ‬ ‫} ُهَو اّلِذي َ‬
‫ت ِلَقْوٍم‬ ‫لَيا ِ‬‫صلُ ا َ‬‫ق ُيَف ّ‬ ‫حّ‬‫ل ِباْل َ‬‫ك ِإ ّ‬‫ل َذِل َ‬
‫قا ّ‬ ‫خَل َ‬
‫ب َما َ‬ ‫سا َ‬ ‫حَ‬ ‫ن َواْل ِ‬ ‫سِنيــ َ‬ ‫عَدَد ال ّ‬
‫َ‬
‫ن*‬ ‫َيْعَلُمو َ‬
‫لْر ِ‬
‫ض‬ ‫ت َوا َ‬ ‫سـَماَوا ِ‬ ‫لـ ِفــي ال ّ‬ ‫قا ّ‬ ‫خَلـ َ‬‫ل َوالّنَهاِر َوَمــا َ‬ ‫ف اّلْي ِ‬
‫ل ِ‬ ‫خِت َ‬‫ن ِفــي ا ْ‬ ‫ِإ ّ‬
‫ت ِلَقْوٍم‬
‫لَيا ٍ‬
‫َ‬
‫ن { ) يونس ‪. ( 6-5 /‬‬ ‫َيّتُقو َ‬
‫ن َ‬
‫ل‬ ‫ن اّلـِذي َ‬ ‫ثم ينتقل السياق الكريم ليعــرض ســلوك الكــافرين ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫ن ِلَقآَءَنا‬‫جو َ‬ ‫َيْر ُ‬
‫ن َءاَياِتَنــا‬‫عــ ْ‬‫ن ُهـــ ـْم َ‬ ‫طَمَاّنـــــوا ِبَهــــا َواّل ـِذي َ‬
‫حَيــاِة الـّدْنَيا َوا ْ‬‫ضــوا ِباْل َ‬ ‫َوَر ُ‬
‫ن { ) يــونس ‪-7 /‬‬ ‫سُبـــــو َ‬
‫ك َمْأَواُهــُم الّنـــــاُر ِبَمــا َكــاُنوا َيْك ِ‬ ‫ن * ُاْوَلِئــ َ‬ ‫غاِفُلــو َ‬
‫َ‬
‫‪ ( 8‬؛ فالنســان الكافــــر الــذي يعيـــــش اسيـــــر الــذات ‪ ،‬والدنيــــا ‪،‬‬
‫وشهواتها ويعبدهــا ‪ ،‬ويطمئــن اليهــا انمــا هــو غافــــل عـــن آيــــات‬
‫ال ‪ ،‬وغفلتـــه هــــذه تــــؤدي الــى ان يتسـافل ‪ ،‬ويســقط فــي حضــيض‬
‫الموبقــات والجرائم ‪ ،‬والفساد والفساد فــي الرض ‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫خصائص المؤمنين‬


‫بعد ذلك يعرض لنا السياق القرآني الصورة اليمانية قائل ‪ِ } :‬إنّ‬
‫جـِري ِمــن‬ ‫ت َيْهـِديِهْم َرّبُهــم ِبِإيَمــاِنِهْم َت ْ‬
‫حا ِ‬ ‫صــاِل َ‬
‫عِمُلــوا ال ّ‬‫ن َءاَمُنــوا َو َ‬‫اّلِذي َ‬
‫حّيُتُه ـْم‬
‫ك اللُّه ـّم َوَت ِ‬
‫حاَن َ‬ ‫س ـْب َ‬
‫عَواُهْم ِفيَها ُ‬ ‫ت الّنِعيِم * َد ْ‬ ‫جّنا ِ‬
‫لْنَهاُر ِفي َ‬ ‫حِتِهُم ا َ‬
‫َت ْ‬
‫ن { ) يــونس ‪، ( 10-9 /‬‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬‫ل َر ّ‬ ‫حْمُد ِّ‬ ‫ن اْل َ‬‫عَواُهْم َأ ِ‬
‫خُر َد ْ‬‫لٌم وَءا ِ‬ ‫سَ‬ ‫ِفيَها َ‬
‫فاليمــان هــو بمثابــة المصــباح يهــدي الــى كـــل خيــــر وفضيلـــــة ‪،‬‬
‫والمــؤمن بــال ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬يمثــل كيــان ســلم ‪ ،‬وامــن ‪ ،‬ومحبــة ‪،‬‬
‫ووحدة ‪ ،‬وايثــار ‪ ،‬ليظلم وليخــون وليــؤثر نفســه علــى الخريــن ‪،‬‬
‫ول يســتبد برأيــه ‪ ،‬وليعتــدي علــى حقــوق الخريــن ‪ ،‬وليفســد فــي‬
‫الرض ‪ ،‬وهو مسالم حتــى مع الطبيعة التــي حــوله ‪ ،‬وليقــدم علــى‬
‫عمل دون ان يأخذ بنظر العتبار هدفــا نبيـــل ساميـــا يرتجــــي منـه‬
‫نفعــه ونفــع العبــاد ‪ ،‬ويجــد ويعمــل ويبنــي ويســاهم فــي تشــييد صــرح‬
‫الحضـــارة اللهيــــة اليمانيــة ‪ ،‬وهــذه هــي صــفات النســان المــؤمن‬
‫بأسماء ال وسننــه ‪ ،‬فكــل هّمـه اشاعة الصلح في المجتمع ‪ ،‬ونشــر‬
‫المحبة والطمأنينــة والســلم ‪.‬‬
‫ل‪:‬‬ ‫كل المخلوقات تسبح‬
‫ان الرض والسماء بأجرامها وكواكبها تتحدث مــع رب العــالمين‬
‫خـا ٌ‬
‫ن‬ ‫ي ُد َ‬
‫سـَمآِء َوِهـ َ‬‫سَتَوى ِإَلى ال ّ‬ ‫كما تصرح بذلك الية الكريمة ‪ُ } :‬ثّم ا ْ‬
‫ن { )فصلت ‪، ( 11 /‬‬ ‫طآِئِعي َ‬‫طْوعًا َأْو َكْرهًا َقاَلَتآ َأَتْيَنا َ‬
‫ض اْئِتَيا َ‬
‫لْر ِ‬‫ل َلَها َوِل َ‬
‫َفَقا َ‬
‫وقــد ورد فــي الروايــات كيــف ان كــل بقعــة يعبــد ال ـ عليهــا ستشــهد‬
‫للنسان المؤمن ‪ ،‬بل ان الكثر مــن ذلــك ان الرض الــتي يــدفن فيهــا‬
‫تارك الصلة تصرخ ‪ ،‬وتئن من وجوده ‪ ،‬وفي احدى اليات القرآنيــة‬
‫يخاطب الرب الجليل جبال الرض ‪ ،‬ويطلب منها ان تؤوب مــع داود‬
‫ل َأّوِبي َمَعُهَ{ ) ســبأ ‪ ، ( 10 /‬فعندما كان هــذا النــبي يســبح لـ‬ ‫جَبا ُ‬
‫‪َ }ً :‬يا ِ‬
‫كانت الجبال تســبح معــه والطيــر ‪ ،‬والحــق ان كــل مخلــوق يســبح لـ‬
‫حمْـِدِه َوَلِكـــن ّ‬
‫ل‬ ‫ح ِب َ‬
‫سّب ُ‬
‫ل ُي َ‬
‫يٍء ِإ ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫ولكننا ل نفقه هذا التسبيح ‪َ } :‬وِإن ِمن َ‬
‫هْم { ) السراء ‪. ( 44 /‬‬
‫حُ‬‫سِبي َ‬
‫ن َت ْ‬
‫َتْفَقُهو َ‬

‫الطبيعة ‪:‬‬ ‫نظرة المؤمن الى‬


‫وبناء على كل ما مضى فان نظرة النسان المؤمن الى الطبيعة هي‬
‫نظــرة ســلم وحـــــب وصــلح وخيــر وتعــاون مــع اخــوته مــن بنــي‬
‫جنسه ‪ ،‬ومع الطبيعة وموجوداتها ‪ ،‬في حين يقف النسان الكافر على‬
‫النقيــض فــي نظرتــه للحيــاة والوجــود حــوله ‪ ،‬فهــي نظــرة انانيــة ‪،‬‬
‫عدوانيــة‪ ،‬تســتعر فيهــا نيــران الشــر والفســاد ‪ .‬ومــن خلل هـــاتين‬
‫النظرتيــن المتناقضــتين يتضــح التنــافي الحــاد بيــن الحضــارتين ؛‬
‫السلمية اليمانية ‪،‬‬
‫‪.‬‬ ‫والجاهلية الكافرة‬
‫ومــــن المناسب هنا ان نذكر قول لمام المتقين ‪ ،‬وامير المؤمنين )‬
‫عليه السلم (‬
‫يا حبذا لـو كتب بأحرف من ذهب على مداخل المحـاكم وعملــت بـه ‪،‬‬
‫وهو قولـه ) عليه السلم ( ‪:‬‬
‫" لو اعطيت القاليم السبعة وافلكها على ان اعصي ال في نملــة‬
‫اسلبها جلب شعيرة ما فعلت ذلك " ‪.‬‬
‫والمـــام ) عليه السلم ( عندما نطق بهذه الدرر فأنما كانت تنبعث‬
‫من ضمـير مؤمــن حي مسلم ل رب العالمين ‪ ،‬وعارف حق المعرفة‬
‫بحقوق الخرين عليـــه ‪،‬‬
‫وواجبـاته ازاءهــم ‪ ،‬وعلينـا نحـن ايضــا ان نتشـبه قــدر المكـان بهـذا‬
‫النموذج السمى في العدل والقسط ‪.‬‬

‫وبكلمة واحدة فان اليمان مـن شـأنه ان يخــرج النسـان مـن ذاتـه‬
‫الضيقة الى عالم اليمان بالحقائق الخرى ‪ ،‬والتسليم لها ‪ ،‬واحترامها‬
‫‪ ،‬وبالتالي فانه رأس كل فضيلة وينبوع كل خير ‪ ،‬ومصــدر كــل قيمــة‬
‫مثلى ‪ ،‬ومبدأ سام في الحياة ‪.‬‬

‫اليمان جوهر الرسالة وحقيقة الدين‬


‫لشك ان اثقل ما في ميزان العبد يوم القيامة هو اليمان ‪ ،‬فهو قيمــة‬
‫القيم ‪ ،‬واصل الفرائض ‪ ،‬والهدف السمى للنسان الكامل في الحياة ‪.‬‬

‫ترى ما هو اليمان ‪ ،‬وهل يمكن للنسان ان يتعرف عليه ؟ الجواب‬


‫باليجاب ‪ ،‬ولكن لكل حقيقة منهاجــا معينــا ‪ ،‬فليــس كــل شــيء يعــرف‬
‫بطريقة واحدة وانما السبيل الى معرفة كل شيء يتحدد عبر طــبيعته ‪،‬‬
‫واليمان ‪ -‬بما انه روح وعزم وارادة ‪ -‬فان معرفته ل يمكن ان تكون‬
‫بالسبل المعروفة التي نتعرف بها على الحقائق المشهودة عينا ‪.‬‬

‫والطريــق الــى معرفــة اليمــان انمــا هــو بمعرفــة اســمائه وصــفاته‬


‫وعلماته ‪ ،‬وبتعبير اخر فان السبيل الــى معرفــة اليمــان ل يكــون ال‬
‫عبر معرفة حقائقه وتجلياته والواقع الذي يصنعه هذا اليمان ‪ ،‬ولذلك‬
‫فاننا عندما نتدبر في آيات الذكر الحكيم التي تنطلق عادة من اليمان ‪،‬‬
‫وتنتهي اليه ‪ ،‬ونتساءل عن حقيقة اليمان ‪ ،‬فان القرآن يجيبنا عن ذلك‬
‫من خلل بيان علمات النســان المــؤمن وصــفاته فيقـــول ‪ -‬عــز مــن‬
‫ن*‬ ‫شـُعو َ‬
‫خا ِ‬‫لِتِهْم َ‬
‫صـ َ‬‫ن ُهـْم ِفــي َ‬ ‫ن * اّلـِذي َ‬‫ح اْلُمْؤِمُنــو َ‬‫قائل ‪َ } : -‬قــْد َأْفَلـ َ‬
‫عــــ ِ‬
‫ن‬ ‫ن ُهــْم َ‬‫َواّلِذي َ‬
‫ن { ) المؤمنون ‪. ( 4-1 /‬‬
‫عُلو َ‬
‫ن ُهْم ِللّزَكاِة َفا ِ‬‫ن * َواّلِذي َ‬ ‫ضو َ‬ ‫الّلْغِو ُمْعِر ُ‬
‫وهكذا فان الحديث عن اليمان هو حديث عن تجليـاته ‪ ،‬وعــن تلــك‬
‫الصــفات المثلــى الــتي تتجلــى فــي حيــاة النســان المــؤمن ‪ ،‬ويتســم‬
‫المؤمنون بها ‪ ،‬ومن هنا فان مـن الممكـن ايضـا التعـرف علـى حقيقــة‬
‫اليمان بالسلوب المعين لمعرفة الحقائق المجردة مثل حقيقــة العلــم ‪،‬‬
‫والروح ‪ ،‬والرادة ‪ ،‬والعقل وسائر النوار اللهية التي منحهــا الــ ‪-‬‬
‫عز وجل ‪ -‬للنسان ‪.‬‬
‫كما واننا لن نستطيــع سبــيل الــى معــــرفة رب هــــذه النــــوار ‪،‬‬
‫وخالقهــا ال ـ ذي العــرش ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪ -‬ال عــبر معرفــة آيــاته‬
‫واسمائه ‪ ،‬فل يمكــن معرفــة الـ بمعرفــة ذاتــه لننــا ســنبقى عــاجزين‬
‫طويل وطويل عن معرفة اسم من اسماء ال ‪ ،‬ثم ل نستطيع التعــرف‬
‫على ابعاده ‪ ،‬فكيف بمعرفة رب العباد بذاته والذي ل تدركه البصــار‬
‫‪ ،‬وهو يدرك البصار ‪.‬‬

‫تجليات اليمان في الحياة ‪:‬‬


‫وهكــذا فــان لليمــان تجليــات كــثيرة وهــي ليســت بعيــدة عــن حيــاة‬
‫وسلوك المؤمنين لن اليمان هو حركــة للنســان ‪ ،‬وقبــل ان نتعــرف‬
‫علــى تجليــات اليمــان لبــد ان نختصــر الحــديث حــول جــــوهره‬
‫وروحــه ‪ ،‬والملحــظ ان التعــبير الــدقيق عــن اليمــان فــي الحــاديث‬
‫الشريفة هو ) الروح ( ‪ ،‬كما ان التعبير الــدقيق ايضــا عــن كــل نصــر‬
‫وتأييــد الهي للبشر في مجال العصمة ‪ ،‬وفي مجــال توفيــق العبــد هــو‬
‫) روح القدس ( ؛‬
‫اي التأييد بروح القدس ‪.‬‬
‫ان كلمة الروح تعني ذلك الفــق الــذي هــو اعلــى واســمى مــن افــق‬
‫المادة ‪ ،‬والقــرآن الكريم يطلق كلمة ) الروح ( على حقيقــة اليمــان ‪،‬‬
‫وعزم الرادة ‪ ،‬وبهـذا العـزم ؛ اي بـالقرار الــذي يتخــذه النسـان فـي‬
‫داخله لكـي يكـون مؤمنـا ‪ ،‬والــذي يكــون فــي اقـل مـن ثانيـة واحــدة ‪،‬‬
‫تتجسد حقيقة اليمان من جانب البشر ‪ ،‬او حركة النسان وسعيه نحو‬
‫اليمان ‪.‬‬

‫امــــا ذلــــك العــــزم فــانــــه ل يتــــم ول يكتمــــل ول يثمــــر إل‬


‫بتــوفيــق اللـــه ‪ -‬عز وجــــل ‪ ، -‬فبعــد ان يتحــــرك النســان ويســعى‬
‫نحو اليمان بعــزم الرادة ؛ اي بلحظة مــن الرادة واتخــاذ القــرار‬
‫ن ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫شآُؤو َ‬
‫‪ ،‬يأتيـه حينئذ التوفيق اللهــي كمــا قال ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬وَما َت َ‬
‫ل { ) النسان ‪ ( 30 /‬؛ فالنسان ل يكون مؤمنا ال بتوفيـق الـ ‪،‬‬ ‫شآَء ا ُّ‬
‫َأن َي َ‬
‫لن اليمــان روح منــه ‪ -‬تعــالى ‪ -‬تعطــى للنســان ‪ ،‬واذا مــا وصــل‬
‫النســان الــى مســتوى الــروح ) روح اليمــان ( فــان تحــول عظيمــا‬
‫سيحــدث فــي نفسه ‪ ،‬هذا التحــول الــــذي يعتــبر حســب مــا يبــدو لــي‬
‫اعظم تحول في الخليقــة ‪.‬‬

‫وعلى سبيل المثال فلننظر الى الشمس ‪ ،‬سنرى ان جوهرها لم يتغير‬


‫منذ ان خلقها الـ والــى الن ‪ ،‬ربمــا تغيــر مظهرهــا ‪ ،‬وربمــا تغيــرت‬
‫كتلتها وحرارتها ‪ ،‬ولكن جوهرها لم يتغير ابدا وســوف لــن يتغيــر ‪...‬‬
‫وهكذا الحال بالنسبة الــى ســائر المخلوقـات فـان جوهرهـا هـو هـو ل‬
‫يتغير ‪ ،‬ولكــن شــيئا وحيــدا هــو الــذي يتغيــر جوهـــره مـن دون ســائر‬
‫المخلوقات ال وهو روح النسان التي هي الحقيقة الوحـيدة‬
‫التي من الممكن ان يتغير جوهرها ‪.‬‬
‫القيم ‪:‬‬ ‫اليمان اساس‬
‫ان جوهر النســـان يتمثل في انه بشر مخلوق ضعيف محدود يتغير‬
‫ويتحول حتى يكون ‪ -‬كما قال عنه ال ‪ -‬سبحانه وتعــالى ‪ -‬فــي حــديث‬
‫قدسي ‪ } : -‬عبدي اطعني تكن ِمثلي او َمَثلــي اقــول للشــيء كــن فيكــون ‪،‬‬
‫وتقول للشيء كن فيكون { ‪ ،‬وهذا الجوهر انما يتغير باليمــان ‪ ،‬ولــذلك‬
‫فاننا عندما نقرا آيات القرآن الكريم نجد انه قبل ان يبين ايـة قيمــة مـن‬
‫القيم يبدأ بالحديث عن اليمان ‪ ،‬وعلى سبيل المثال فاننا اذا تدبرنا في‬
‫ســورة هـود الـتي تحــدثنا عـن رســالة النبيـاء ) عليهــم الســلم ( الــى‬
‫المم ‪ ،‬نجد انهــا تنقســم وتتشــعب ضــمن مجــاميع مــن اليــات ‪ ،‬وكــل‬
‫مجموعة هي خلصة عن رسالـــة نبي من النبياء ابتداء مــن رســالة‬
‫ال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬الى نبينا العظم محمد ) صلى ال عليه وآله ( خــاتم‬
‫النبيين وسيد المرسلين حيث تفتتح هذه السورة الكريمة بهــا فــي اليــة‬
‫الثانية ‪ ،‬ومن ثم سائر النبياء ) عليهم السلم ( ‪.‬‬
‫وعندمــا نقـرأ هـذه الـمجاميع من اليات نجد في بدايــــة كــل منهــا‬
‫تذكرة بال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ ، -‬ثم بيانا لسائر القيم التي امر ال البشر‬
‫باللتزام بها ‪ ،‬ومثل هذه التــذكرة نجــدها فــي كــل ســورة تتحــدث عــن‬
‫رسالت النبياء من مثل سورة الشــعراء ‪ ،‬هــذه الســورة الــتي جــاءت‬
‫هي الخرى ضمن مجــاميع مــن اليــات كــل مجموعــة تحدثنـــــا عــن‬
‫رسالة نبي من النبياء كالنبي نـوح ‪ ،‬وصـالــــح ‪ ،‬وشــعيــــب ) عليــه‬
‫السلم ( وسـائــر النــبيــاء ‪ ،‬وكــل مجمــوعة تحدثـنـا عـن رســــالة‬
‫ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬الى نـبي من النبيــاء ‪ ،‬وهــذه الرســــالة تتغـــير حســــب‬
‫ظـروف تلك المة‬
‫الــتي بعــث النــبي اليهــا ‪ ،‬وحاجتهــا الــى مجموعــة معينــة مــن القيــم‬
‫والنظمة ‪.‬‬

‫وفــي فاتحـة هـذه المجموعــة مـن اليـات يـكـون الـحـديـث حـول‬


‫ال ‪ -‬جـل‬
‫وعـل ‪ -‬ورســالـتـه ‪ ،‬فـفـي ســورة هـود ‪ -‬مـثـل ‪ -‬نجد هذه اليـة ‪:‬‬
‫شيٌر { ) هــود ‪ ( 2 /‬وهذه الية‬ ‫ل ِإّنِني َلُكم ِمْنُه َنِذيٌر َوَب ِ‬ ‫ل ا َّ‬‫ل َتْعُبُدوا ِإ ّ‬
‫} َأ ّ‬
‫حِكَم ـ ْ‬
‫ت‬ ‫ب ُا ْ‬
‫هي ثانية آيات هذه السورة ‪ ،‬فهي تبتدء هكــذا ‪ } :‬الــر ِكَتــا ٌ‬
‫ل َتْعُبُدوا { ) هــود ‪ ( 2- 1 /‬وهكــذا‬ ‫خِبيٍر * َأ ّ‬
‫حِكيٍم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ت ِمن َلُد ْ‬ ‫صَل ْ‬‫َءاَياُتُه ُثّم ُف ّ‬
‫فان هذه الية تمثل محتـوى هـذا الكتـاب ‪ ،‬ومحتـوى رسـالة الـ الـتي‬
‫ارسلت الى النبي ) صلى ال عليه وآله( عبر القرآن الكريم ‪.‬‬

‫ثــم تتــوالى بعــد ذلــك اليــات الكريمــة فيقــول ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬وَأ ِ‬


‫ن‬
‫سـّمى‬ ‫ل ُم َ‬‫جـ ٍ‬ ‫ســنًا ِإَلــى َأ َ‬
‫حَ‬‫سَتْغِفُروا َرّبُكْم ُثّم ُتوُبــوا ِإَلْيـِه ُيَمّتْعُكــم َمَتاعـًا َ‬ ‫اْ‬
‫ب َيـْوٍم‬
‫عـَذا َ‬ ‫عَلْيُكـْم َ‬‫ف َ‬ ‫خــا ُ‬‫ضَلُه َوِإن َتَوّلْوا َفـِإّني َأ َ‬‫ل َف ْ‬ ‫ضٍ‬‫ل ِذي َف ْ‬ ‫َوُيْؤتِ ُك ّ‬
‫ر { ) هود ‪. ( 4-3 /‬‬ ‫يٍء َقِدي ٌ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عَلى ُك ّ‬‫جُعُكْم َوُهَو َ‬ ‫ل َمْر ِ‬‫َكِبيٍر * ِإَلى ا ِّ‬
‫وفــي اليـة السادسة والعشرين تطالعنا حقيقــة مشــابهة ‪ ،‬ففــي هــذه‬
‫ى َقْوِمِه‬‫سْلَنا ُنوحًا ِإل َ‬ ‫الية نقرأ حــول نـوح ) عليه السلم ( ‪َ } :‬وَلَقْد َأْر َ‬
‫ب َيْوٍم َأِليـٍم‬ ‫عَذا َ‬‫عَلْيُكْم َ‬‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ل ِإّني َأ َ‬
‫ل ا َّ‬‫ل َتْعُبُدوا ِإ ّ‬
‫ن * َأ ّ‬‫ِإّني َلُكْم َنِذيٌر ُمِبي ٌ‬
‫{ ) هــود ‪ ( 26-25 /‬وهنا نــــلحظ تكــرار نفــس الحقيقــة رغـــم ان التعــبير‬
‫خــا ُ‬
‫ف‬ ‫عنهـــا اختلف بعض الشيء ‪ ،‬فهناك " َنِذيٌر ُمِبين " وهنا " ِإّنــي َأ َ‬
‫ب َيْوٍم َأِليٍم " ‪ ،‬فالحقيقة واحدة ‪ ،‬والنذير ايضــا ينــذر بعــذاب‬ ‫عَذا َ‬‫عَلْيُكْم َ‬‫َ‬
‫اليم ‪.‬‬
‫وهذا ايضا هو محتوى رسالة شيخ المرسلين نوح ) عليــه الســلم (‬
‫حيث تتسلسل بعد هذه الية ايضا مجموعة من القيم في قــوله تعــالى ‪:‬‬
‫شرًا ِمْثَلَنـا َوَمــا‬ ‫ل َب َ‬‫ك ِإ ّ‬
‫ن َكَفـــُروا ِمن َقْوِمـــِه َمـا َنَرا َ‬ ‫ل اّلِذيــ َ‬‫ل اْلَم ُ‬
‫} َفَقا َ‬
‫ن ُهْم َأَراِذُلَنــا ‪ ) { ..‬هود ‪ ( 27 /‬الى اخر اليات الــتي‬ ‫ل اّلِذي َ‬‫ك ِإ ّ‬
‫ك اّتَبَع َ‬‫َنَرا َ‬
‫تحدثنا عن بقية مبادىء وبصائر ال‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬الى النبي نوح ) عليه السلم ( ‪.‬‬
‫وفي الية الخمسين من سورة هود نجد هذه الية الكريمة ‪ } :‬وِإَلى‬
‫ن َأنُت ـْم ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫غْي ـُرُه ِإ ْ‬
‫ن ِإَل ـٍه َ‬‫ل َما َلُكم ِم ْ‬ ‫عُبُدوا ا َّ‬
‫ل َياَقْوِم ا ْ‬‫خاُهْم ُهودًا َقا َ‬ ‫عاٍد َأ َ‬
‫َ‬
‫ن { وهنا نلحظ ان نفس الفكرة قد تكررت ‪ ،‬وفــي اليــة )‪(61‬‬ ‫ُمْفَتُرو َ‬
‫من هذه السورة ايضا يأتي الحديث حــول قــوم ثمــود ‪ ،‬والنــبي صــالح‬
‫) عليه الســلم ( الــذي ارســله الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬اليهــم فيقــول ‪ -‬عــز مــن‬
‫ل ـ َمــا َلُكــم ِم ـ ْ‬
‫ن‬ ‫عُبُدوا ا َّ‬ ‫ل َيا َقْوِم ا ْ‬
‫صاِلحًا َقا َ‬‫خاُهْم َ‬ ‫قائل ‪ } :‬وِإَلى َثُموَد َأ َ‬
‫رُه { ‪.‬‬
‫غْي ُ‬
‫ِإَلٍه َ‬
‫وفي الية الرابعة والثمانين من نفس الســورة يــدور الحــديث حــول‬
‫مدين ‪ ،‬والرســول الذي بعث الــــى مــدين كــان شــعيبا حيــث يقــول ‪-‬‬
‫ل َما‬ ‫عُبُدوا ا َّ‬ ‫ل َيا َقْوِم ا ْ‬
‫شَعْيبًا َقا َ‬
‫خاُهْم ُ‬ ‫ن َأ َ‬‫عز وجل ‪ -‬عنه ‪ } :‬وِإَلى َمْدَي َ‬
‫ن { ) هــود ‪ ( 84 /‬فالحــديث‬ ‫ل َواْلِميَزا َ‬‫صوا اْلِمْكَيا َ‬ ‫غْيُرُه َول َتْنُق ُ‬ ‫ن ِإَلٍه َ‬‫َلُكم ِم ْ‬
‫يدور اول حول اليمان والتوحيد ‪ ،‬وعن خلوص العبادة ل ‪ -‬ســبحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬ثم عن سائر الحقائق ‪.‬‬

‫وفي سورة السراء يذكرنا ‪ -‬تعالى ‪ -‬بمجموعــة متكاملــة مــن القيــم‬


‫الحياتية ‪ ،‬وقد خصصــت هـذه الســورة تقريبـا للحـديث عـن مسـؤولية‬
‫النســان فــي الحيــاة ‪ ،‬وتبتــدئ هــذه اليــات وتختتــم بفكــرة التوحيــد ‪،‬‬
‫فالحديث يتركز حول المر ببر الوالــدين ‪ ،‬وايتــاء ذي القربــي حقــه ‪،‬‬
‫وعدم التبذير ‪ ،‬والنهي عن قتل الولد ‪ ،‬والنهــي عــن الزنــا ومــا الــى‬
‫ل َم ـَع‬ ‫جَع ـ ْ‬
‫ل َت ْ‬‫ذلك من حقائق ‪ ،‬ولكن هذه اليات تبدأ بهــذه الكلمــة ‪َ } :‬‬
‫ل ِإّيــاُه‬‫ل َتعُْبـُدوا ِإ ّ‬
‫ك َا ّ‬
‫ضى َرّبـ َ‬ ‫ل * َوَق َ‬ ‫خُذو ً‬ ‫خَر َفَتْقُعَد َمْذُمومًا ّم ْ‬‫ل إَِلهًا َءا َ‬‫ا ِّ‬
‫سانًا { ) الســراء ‪ ( 23-22 /‬ثم تأتي اليــات الخــرى لتحــدثنا‬ ‫حَ‬ ‫ن ِإ ْ‬
‫َوِباْلَواِلَدْي ِ‬
‫عن بقية القيم ‪ ،‬الى ان تنتهي بنفس الفكــرة التوحيديــة فيقــول ‪ -‬تعــالى‬
‫خَر‬‫ل ِإَلهًا َءا َ‬ ‫ل َمَع ا ِّ‬‫جَع ْ‬
‫ل َت ْ‬‫حْكَمِة َو َ‬‫ن اْل ِ‬
‫ك ِم َ‬ ‫ك َرّب َ‬‫حى ِإَلْي َ‬
‫ك ِمّما َأْو َ‬ ‫‪َ }: -‬ذِل َ‬
‫حورًا { ) السراء ‪. ( 39 /‬‬ ‫جَهّنَم َمُلومًا ّمْد ُ‬
‫َفُتْلَقى ِفي َ‬
‫ومن هنا فقد جرت على لسان بعض المفسرين كلمة جميلة تقول اننا‬
‫اذا اختصرنا كل القرآن فالمختصر المركز لــه هــو كلمــة التوحيــد )ل‬
‫الــه ال الــ( ‪ ،‬واذا مــا اردنــا ان نبســط هــذه الكلمــة ونشــرحها فانهــا‬
‫ستصبح القرآن كله ‪ ،‬فاختصار القرآن هــو كلمــة التوحيــد ‪ ،‬وتفصــيل‬
‫كلمة التوحيد هــو القــرآن الكريــم ‪ ،‬ومــن هنــا نــدرك اننــا اذا اردنــا ان‬
‫نصل الى مفتــاح فهــم الــدين والفلح والهــدى فلبــد ان نفهــم ونعــرف‬
‫حقيقة اليمان ‪ ،‬ونسعى من اجل ايجادها فــي انفســنا‪ ،‬فاليمــان عنــدما‬
‫ينعكس على قلب النسان ‪ ،‬وعندما يعمر قلــب النســان بنــوره فحينئذ‬
‫ستكون نتيجة وخلصة ما يحدث في هذا القلب ‪.‬‬

‫المؤمن ‪:‬‬ ‫الهدى والفلح غاية‬


‫ك عََلى ُهًدى ِمنْ‬‫وعن هذا النسان يقول ال ‪ -‬تعالى شأنه ‪ُ } : -‬أْولِئ َ‬
‫ن { ) البقــرة ‪ ( 5 /‬اي ان خلصــة مــا يحصــل‬ ‫حــو َ‬
‫ك ُه ـُم الُمْفِل ُ‬
‫َرّبِه ـْم َوُأْولِئ َ‬
‫النسان عليه من خلل اليمان يمكن ان يوجز في كلمتين هما )الهدى‬
‫والفلح( ‪ ،‬فالهدى يعني معرفة الحقائق ‪ ،‬وما يتصــل بــروح النســان‬
‫وعقله ووعيه ‪ ،‬واما الفلح فيتصل بجسد النسان وحياته ومعيشــته ‪،‬‬
‫والمــؤمن علــى هــدى مــن الناحيــة العقليــة ‪ ،‬ويمتلــك وضــوح رؤيــة‬
‫وبصيرة ومعرفة بالحقائق ‪ ،‬ومن الناحية الحياتيــة يمتلــك الفلح ؛ اي‬
‫انه يتمتع بـأعلى درجــات السـعادة ال وهــي الفلح ‪ ،‬لن الفلح يمثـل‬
‫ذروة الســعادة ‪ ،‬فالنســان قــد يكــون ســعيدا ‪ ،‬فقــد جــاء فــي الحــديث‬
‫الشريف ‪ " :‬من سعادة المـرء المسـلم الزوجــة الصـالحة ‪ ،‬والمسـكن‬
‫الواســع ‪ ،‬والمركــب البهــي ‪ ،‬والولــد الصــالح " ‪ ((1‬وهــذا مــن ســعادة‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫بحار النوار ج ‪ 73‬ص ‪ 155‬رواية ‪35‬‬
‫النسان ‪ ،‬ولكن هل يكتفي المؤمن بهذه الربعة فقط ؟ طبعــا ل ‪ ،‬فهــو‬
‫يحاول ان يصل الى اعلى درجات السعادة ‪ ،‬وحب ال ‪ -‬تعــالى ‪ -‬مــن‬
‫الدرجات العلى للسعادة واليمان في نفس الوقت ‪.‬‬

‫اننــا نقــرأ ‪ -‬علــى ســبيل المثــال ‪ -‬فــي ســورة المــائدة هــذه اليـــات‬
‫ف َيـْأِتي‬
‫س ـْو َ‬‫عن ِديِنـِه َف َ‬ ‫ن َيْرَتّد ِمْنُكْم َ‬
‫ن َءاَمُنوا َم ْ‬ ‫الكريمة ‪َ } :‬يآ َأّيَها اّلِذي َ‬
‫عَلـى اْلَكـاِفري َ‬
‫ن‬ ‫عـّزٍة َ‬ ‫ن َأ ِ‬
‫عَلـى اْلُمـْؤِمِني َ‬‫حّبـوَنُه َأِذّلـٍة َ‬‫حّبُهـْم َوُي ِ‬‫لـ ِبَقـْوٍم ُي ِ‬
‫ا ّ‬
‫ل ُيـْؤِتيِه َمـن‬‫لا ّ‬ ‫ضُ‬ ‫ك َف ْ‬ ‫ن َلْوَمَة لِئٍم ذِل َ‬‫خاُفو َ‬
‫ل َي َ‬ ‫ل َو َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬‫ن ِفي َ‬ ‫جاِهُدو َ‬ ‫ُي َ‬
‫عِليٌم { ) المــائدة ‪ ( 54 /‬والن لنحاول ان نتــدبر فــي هــذه‬ ‫سٌع َ‬ ‫ل َوا ِ‬‫شآُء َوا ّ‬ ‫َي َ‬
‫الية الكريمة ‪ ،‬انها تقول انه قد تحدث ظروف ارتداد فــي المــة فيمــا‬
‫يتعلق بالمسلمين الضعاف اليمان ‪ ،‬على ان الخطاب هنا ليس موجهــا‬
‫لعامــة النــاس ‪ ،‬ول المســلمين وانمــا للمــؤمنين الــذين يمثلــون اعلــى‬
‫درجات المسلمين ؛ اي ان هناك ظروفا صعبة تجعل النسان المــؤمن‬
‫يرتد عن دينه ارتدادا كامل ‪.‬‬

‫وفــي ظـــروف الرتــداد والتراجـع والهـزيمــة هذه تجد رجال‬


‫وصــلوا الــى القمــة ‪ ،‬وال ـ ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬يــأتي بهــم لمعالجــة ظــروف‬
‫الرتداد ‪ ،‬ومن صفاتهم الساسية ان ال يحبهــم ‪ ،‬ويحبــونه ؛ اي انهــم‬
‫وصلوا الى مرحلة العلقــة المتبادلــة بينهــم وبيــن الـ ‪ -‬جل وعل ‪، -‬‬
‫فتجاوزت علقة المصالح المشتركة ‪ ،‬وعلقـــة الجنــة والنــار ‪ ،‬حــتى‬
‫وصلت الى القمة ؛ اي علقة الحــب المتبــادل ‪ ،‬ومثــل هــؤلء تجــدهم‬
‫على طراز مختلف تماما عن الخرين ‪ ،‬فالنسان نجده عــادة يخضــع‬
‫للقــوة ‪ ،‬ولكـن هـؤلء يقاومونهـا ‪ ،‬ونحـن نجـد المـام اميـر المـؤمنين‬
‫) عليه السلم ( يعبر عن هذه الفكــرة بوضــوح فــي قــوله ‪ " :‬القــــوي‬
‫العزيـز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحــق منــه ‪ ،‬والضــعيف الــذليل‬
‫عندى قوي عزيز حتى آخذ الحق له " ؛ اي ان العلقة لتكون علقــة‬
‫القوة والضعف ‪ ،‬بل هي علقة الحق ‪ ،‬لن النســان الكـافر ذليــل فــي‬
‫رؤية المؤمن مهما كان قويا ‪.‬‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫قمم شامخة في رحاب‬


‫وبالطبع فان هؤلء هم القمم الشامخة في رحاب اليمـان ‪ ،‬والـ ‪-‬‬
‫علَــى اْلَكــاِفري َ‬
‫ن‬ ‫عـــ ـّزٍة َ‬
‫ن َأ ِ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِنــــي َ‬
‫تعالى ‪ -‬يصفهم قائل‪َ }ُ :‬أِذّلٍة َ‬
‫ل ُيـْؤِتيِه َمـن‬
‫لا ّ‬ ‫ضُ‬‫ك َف ْ‬ ‫ن َلْوَمَة لِئٍم ذِل َ‬ ‫خاُفو َ‬
‫ل َي َ‬
‫ل َو َ‬‫لا ّ‬‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫جاِهُدو َ‬‫ُي َ‬
‫عِليـٌم { ) المــائدة ‪ ( 54 /‬وهــذه الــذروة هــي الفلح لن‬ ‫س ـٌع َ‬
‫لـ َوا ِ‬
‫شــآُء َوا ّ‬
‫َي َ‬
‫النسان ليقتنع ‪ ،‬وليكتفي بأن يحصل علــى حيــاة هــانئة ‪ ،‬بــل يطلــب‬
‫من ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬دائمــا ان يكــون مــوته قتل فــي ســبيله ‪ ،‬فهــو ليريــد‬
‫الموت الطبيعي ‪ ،‬بل يريد الشهادة ‪ ،‬ومثل هذا النسان يمتلك طموحــا‬
‫وتطلعا اعلى ‪ ،‬فهو يريد مجاورة النبي ) صلى ال عليه وآلــه ( واهــل‬
‫بيته ) عليهم السلم ( في الجنة ‪.‬‬

‫وعلى هذا فان الفـــلح قمة من قمــم اليمــان ‪ ،‬او ذروة مــن ذرى‬
‫السعادة البشرية ‪ ،‬والمؤمنون حقا هم المفـلحون لن ال ‪ -‬عـز وجـــل‬
‫حــو َ‬
‫ن‬ ‫ك ُهـُم الُمْفِل ُ‬
‫ن َرّبِهْم َوُأْولِئ َ‬
‫عَلى ُهًدى ِم ْ‬
‫ك َ‬
‫‪ -‬يقول بشــأنهم ‪ُ } :‬أْولِئ َ‬
‫{ ) البقرة ‪. ( 5 /‬‬

‫اليمان منطلق تحمل المسؤولية التغييرية‬

‫كمــا ان الشمس هي مصـدر انبعـاث كـل نـور ‪ ،‬واصــل كـل طاقـة‬


‫كامنة كانت ام ظاهرة ‪ ،‬فكذلك الحال بالنسبة الــى اليمــان بــال ‪ -‬جــل‬
‫وعل ‪ ، -‬الذي يقتضي اليمان بالقدرة والهيمنة والتدبير اللهي ‪ ،‬فهو‬
‫‪ -‬اي اليمان ‪ -‬مصــدر ســيادة كــل قيمــة خيــرة ‪ ،‬واصــل وينبــوع كــل‬
‫فضيلة في حياة النسان ‪.‬‬
‫وباليمان بال ‪ -‬تعالى ‪ -‬تنطلق المسيرة الفكرية في الجادة السوية ‪،‬‬
‫وينتظم النشاط الــذهني ‪ ،‬ويضــاء العقــل فيغــدوا محمل للنــور اللهــي‬
‫الذي به تشرق سبـل الحياة ‪ ،‬وتتفتح امامهــا الفــاق الحضــارية ‪ .‬ذلــك‬
‫لن ال ‪ -‬جلت قدرته ‪ -‬هــو مصــدر كــل نــور ‪ ،‬فهــو نــور الســماوات‬
‫جـٍة‬
‫جا َ‬‫ح ِفــي ُز َ‬‫صـَبا ُ‬ ‫ح اْلِم ْ‬
‫صـَبا ٌ‬‫شـَكاٍة ِفيَهــا ِم ْ‬
‫ل ُنــوِرِه َكِم ْ‬
‫والرض } َمَثـ ُ‬
‫ش ـْرِقّيٍة‬
‫ل َ‬‫جَرٍة ُمَباَرَكٍة َزْيُتوَن ـٍة ّ‬
‫شَ‬‫ي ُيوَقُد ِمن َ‬ ‫ب ُدّر ّ‬ ‫جُة َكَاّنَها َكْوَك ٌ‬ ‫جا َ‬
‫الّز َ‬
‫ة { ) النور ‪( 35 /‬‬ ‫غْرِبّي ٍ‬‫ل َ‬‫َو َ‬
‫وعندما يؤمن النسان بال ‪ -‬سبحانــــه ‪ -‬ويضــــاء عقلــه ‪ ،‬ويشــرق‬
‫فكره بالنور‬
‫اللهي ‪ ،‬فان سائر معارفه عــن الحيــاة ســوف تتمحــور حـــول منهــاج‬
‫صائب سليم ‪ .‬فمعرفة الخالق هي نور القلب ‪ ،‬والمؤمن انما ينظر الى‬
‫الحياة ‪ ،‬ويلج ابوابها ‪ ،‬و يتحـــرك فــي رحابهـا بهــدى مـن ذلــك النــور‬
‫اللهــي ‪ .‬فبــه يكتشــف مجاهــل واســرار الحقــائق ‪ ،‬ويتوصــل اليهــا ‪،‬‬
‫ويعرف كنهها بمقدار ما تسمح له طاقته العقلية ‪ ،‬وبدرجــة قــوة النــور‬
‫اللهي الذي يعمر قلبه وذهنه ‪.‬‬

‫الحدود الواسعة للمعرفة ‪:‬‬


‫وهذه المعرفة ل تتوقف عنــد مظــاهر الشــياء ‪ ،‬لن هــذه الظــواهر‬
‫هي وسيلة العقل المؤمن لكشف الحجب ‪ ،‬ومعرفة ما قدر ال ‪ -‬تعــالى‬
‫‪ -‬لوليائه من الغيوب ‪ .‬فكما انه ‪ -‬تعالى شأنه ‪ -‬علم الغيوب ‪ ،‬وعالم‬
‫الغيب والشهادة ‪ ،‬فكذلك المؤمن فبما تفضــل عليــه ربــه مــن نــور مــن‬
‫عنده ‪ -‬تعالى ‪ -‬فانه يعّلمه ‪ ،‬ويوحي اليه ‪ ،‬ويطلعــه علــى بعــض انبــاء‬
‫غيبه كما يقول القرآن الكريم ‪:‬‬
‫ك { ) آل عمران ‪( 44 /‬‬
‫حيِه ِإَلْي َ‬
‫ب ُنو ِ‬
‫ن َأْنَبآِء اْلَغْي ِ‬
‫ك ِم ْ‬
‫} َذِل َ‬
‫وعلم الغيب يعني علم ما وراء الظــاهر ‪ ،‬وعلــى ســبيل المثــال فــان‬
‫النار تحرق وهذا هــو الظــاهر منهــا الــذي تــدركه الحــواس مباشــرة ‪،‬‬
‫ولكــن لمــاذا تحــرق ؟ ان هــذا هــو الغيــب الــذي يكمــن وراء حقيقــة‬
‫الحراق الظاهرة ‪.‬‬
‫ولعل من ابرز الحقائق المغيبة التي استطاع العقل بالنور اللهي ان‬
‫يكشــف الحجــاب عنهــا هــو التســاؤل الفلســفي العــام الــذي اجتهــــــد‬
‫الفلسفة والحكماء واهل الكلم في سبيل الجابة عنه ‪ ،‬وهــو ‪ :‬مــاهي‬
‫الحكمة ‪ ،‬وماهي الفلسفة من هذه الحياة التي نحياها ؟ وما الهــدف مــن‬
‫ورائها ؟‬
‫ان الحقائق تكشف للنسان المــؤمن عــن مـا وراءهــا مــن المغيبـات‬
‫مادام ينظر اليها بنور العقل اللهي المنبعث مـن بــؤرة اليمـان بــال ‪-‬‬
‫تعــالى ‪ -‬امــا النســان العــادي البســيط فــانه ينظــر الــى الحــداث ‪،‬‬
‫والظواهر المحيطة به نظرة سطحية عـابرة ‪ .‬فل يكلــــف نفســه عنـاء‬
‫الكشف عن القوانين ‪ ،‬والحقائق الخفية الكامنة وراءهــا ؛ فهــو ‪ -‬علــى‬
‫سبيل المثال ‪ -‬عنــدما يســتقل واســطة نقــل مــا ‪ ،‬كــأن تكــون دابــة ‪ ،‬او‬
‫سيارة ‪ ،‬او طائرة لتنقله من مكان الـى آخــر ‪ ،‬فـانه ينظـر اليهـا نظـرة‬
‫عادية بسيطة كبساطته ‪ ،‬فل تعدو عنده سوى وســيلة تنقلــه مــن مكــان‬
‫لخر فحسب ‪ .‬في حين ان النسان المؤمن ينظر اليهــا علــى انهــا اداة‬
‫مسخرة له باذن ال ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬ولذلك نجده يردد قــوله ‪ -‬تعــالى‬
‫‪ -‬وهو ينظر اليها ‪:‬‬
‫ن * َوإِّنــآ ِإَلــى َرّبَنــا‬
‫خَر َلَنا َهَذا َوَما ُكّنا َلُه ُمْقِرِنيـ َ‬
‫سّ‬‫ن اّلِذي َ‬
‫حا َ‬‫سْب َ‬
‫} ُ‬
‫ن { ) الزخرف ‪( 14 - 13 /‬‬‫َلُمنَقلُِبـو َ‬
‫وهكذا فان نظــرة المؤمن ل تقف عند ظــاهر الشــياء ‪ ،‬او مرحلــة‬
‫من مراحلها ‪ ،‬بل هـي نظـرة الــى سلسلــــة ممتـدة ‪ ،‬وجـواهر باطنـة‬
‫تقوده الى ربه ‪ ،‬وتقربــه اليــه ‪ -‬تعالى ‪ . -‬وبتعبير موجز فان النظــرة‬
‫اليمانية هي نظرة جوهرية تستمد عمقها ‪ ،‬وتستلهم حكمتها مــن نــور‬
‫ال ـ العظيــم ‪ ،‬وهــذه النظــرة المنطلقــة مــن اليمــان هــي الــتي جعلــت‬
‫المؤمن يعيش الشعور العميق بالمسؤولية تجاه كل شيء في الوجود ‪،‬‬
‫والمســؤولية هـذه هـي احــدى أهـم الحقـائق الـتي ينبغـي البحــث عنهـا‬
‫وتحملها ‪.‬‬

‫العلم المغيب ‪:‬‬


‫وهذا ما نلمسه فــي القــرآن الكريــم ‪ ،‬حيــث وضــع حقيقــة مســؤولية‬
‫النسان عن حياته ضمن منظومة من آيات ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬فــي الطبيعــة‬
‫ل ُانَثـى َوَمـا َتِغيـ ُ‬
‫ض‬ ‫ل ُكـ ّ‬
‫حِمـ ُ‬
‫لـ َيْعَلـُم َمـا َت ْ‬
‫إذ يقول ‪ -‬جـل وعــل ‪ } :‬ا ُّ‬
‫حاُم { ) الرعــد ‪ . ( 8 /‬فهذه حقيقة عجز العلم الــذي بلــغ مــا بلغــه مــن‬ ‫لْر َ‬
‫اَ‬
‫عظيم التطور والتقدم والرقي في معلوماته وامكانياته وتكنلوجيته عــن‬
‫التوصل اليها ‪ .‬فالمسألة ل تتوقف على كــون الجنيــن ذكــرا أو انــثى ‪،‬‬
‫بل ان حديث العلم اللهي الذي يعكسه القرآن في هذه اليــة يمتــد الــى‬
‫اكثر من ذلك ؛ فمما يريد تبيانه من علم مغيب على النســـان في هــذا‬
‫الصدد هو ‪ :‬هل ان هذا الــــذي سيولد في المستقبل ســيكون ســعيدا أم‬
‫شــقيا ‪ ،‬مؤمنــا أم كــافرا ‪ ،‬بطل ام جبانــا ‪ ،‬ومــاذا ســيكون فــي طبعــه‬
‫ونفســيته ‪ ...‬ومــا الــى ذلــك مــن الموروثــات ‪ ،‬حــتى أحصــيت عــدد‬
‫الحتمالت التي سيخرج بواحد منهــا بثلثمــائة ألــف مليــار احتمــال ‪،‬‬
‫فانظر كم هو هـائل هــذا الرقــم ‪ ،‬فـأّنى للعلــم مهمــا تقــدم ‪ ،‬وتطــور ان‬
‫يحدد هذا الحتمال الواحد بين ذلك العدد الكبير ؟‬
‫ان هذا هو الذي تعنيه اليــة الكريمــة ‪ ،‬فعلــم كهــذا يبقــى مغيبـا عــن‬
‫النسان ‪ ،‬ويبقى علمه عند ال ‪ -‬جلت قدرته ‪ -‬وحســب ‪ ،‬ولــذلك فمــن‬
‫المستحيل ان يولد اثنان متشابهان في كل الصفات والطباع ‪ .‬والمــراد‬
‫حــاُم { ‪ ،‬هــو حالــة عــدم انعقــاد‬
‫لْر َ‬
‫ضا َ‬ ‫بقوله ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬وَمــا َتِغيـ ُ‬
‫النطفة ؛ اي عدم تخصيب بيضــة المــرأة ‪ ،‬وهــــو مـا نسـميه اليـوم بــ‬
‫) العقم ( الذي قد يكون بسبب احـــد الزوجين ؛ فاما ان تحدث الحالــة‬
‫الطبيعية ‪ ،‬وهي كون الوليد واحدا ‪ ،‬او الحالت الشاذة وهي حــــالت‬
‫العقم او " غيض الرحم " ‪ ،‬او حالت تعــدد الجنــة ‪ ،‬وهــو مــا يشــير‬
‫زَداُد { ‪.‬‬
‫اليه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬وَما َت ْ‬
‫ثـــم يعقب ‪ -‬جــل وعــل ‪ -‬ذكــر هــذا العلــم المغيب عن النسان‬
‫بـذكــر التقديـر اللهـي للشيــاء فيقـول ‪ -‬عـز مــن قائـــل ‪َ } : -‬وُك ـ ّ‬
‫ل‬
‫عنــَدُه ِبِمْقــَداٍر { ) الرعـــد ‪ ( 8 /‬؛ اي ان الــ حــدد لكــل نــوع مــن‬ ‫شــيٍْء ِ‬ ‫َ‬
‫الموجودات مجال معينا فــي الحجــم ‪ ،‬والكيفيــة ‪ ،‬والــوزن ‪ ،‬واللــون ‪،‬‬
‫والقـوة ومــا الى ذلك من الصفات ‪ ،‬وهذا هو التقدير اللهي للشياء ‪.‬‬
‫ولذلك كان هذا العلم المغيب ‪ ،‬والتقدير المقــدر مــن اختصــاص بـارئ‬
‫الوجــــــود وحســـب ‪ ،‬ل يـــوازيه ول يبلـــغ حـــده كـــائن فـــي هاتيــــن‬
‫عــاِلُم‬
‫الخصيصتـيــــن ) العلــم و التقديــــــر ( ‪ ،‬ولــذلك فــانه وحــده } َ‬
‫ل { ) الرعد ‪. ( 9 /‬‬ ‫شَهاَدِة اْلَكِبيُر اْلُمَتَعا ِ‬
‫ب َوال ّ‬
‫اْلَغْي ِ‬

‫‪:‬‬ ‫أشعة اليمان‬


‫والمــؤمن ل يعــرف نفســه ‪ ،‬ول يــدرك ويبصــر حقــائق الطبيعــة‬
‫والكــون وعمــوم الوجــود ال اذا انعكســت فـــي قلبــه اشــعة اليمــان ‪،‬‬
‫وعرف شيئا من صفات ال واسمائه ‪ ،‬واقتبس قبسا من نــوره ‪ ،‬والــى‬
‫هذا المعنى يشير القرآن الكريم في قوله ‪:‬‬
‫ف ِباّلْيـ ِ‬
‫ل‬ ‫خ ِ‬‫سـَت ْ‬
‫ن ُهـَو ُم ْ‬ ‫جَهَر ِبِه َوَم ْ‬ ‫ل َوَمن َ‬ ‫سّر اْلَقْو َ‬
‫ن َأ َ‬‫سَوآٌء ِمْنُكْم َم ْ‬‫} َ‬
‫هار { ) الرعد ‪. ( 10 /‬‬ ‫ب ِبالّن َ‬
‫ساِر ُ‬
‫َو َ‬
‫فقد يجتمع اثنان ثم يدخل الشيطان بينهما فيكون ثالثهمــا ‪ ،‬فيتحــدثان‬
‫بما تملي عليهما اهواؤهما من الغيبة والبهتان والفتراء على البريــاء‬
‫بما ليس فيهم ‪ ،‬وينسيان او يغفلن عن ان ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يسمع ويرى‬
‫ما يدور بينهما ‪ ،‬وما يوسوس لهما الشيطان ‪.‬‬
‫وفي هذا المجال يــروى ان امــرأة العزيــز عنــدما راودت يوســف ‪-‬‬
‫عليه السلم ‪ -‬عن نفســه وطلبــت منــه مــا طلبــت ‪ ،‬فتشــت عــن اســتار‬
‫غطت بها صنما كان في غرفتها ‪ ،‬فلما سألها يوسف عن ذلك قالت له‬
‫‪ :‬من العيب ان ارتكب الثم امام هذا الصنم ‪ ،‬فاستنكر يوسف ‪ -‬عليــه‬
‫السلم ‪ -‬قولها وقال لها ‪ :‬ترين فعلتك عيبــا امــام صنــــم ل يشــعر ول‬
‫يبصر ول يعقل ول تجدينها عيبا امام ال ‪ -‬سبحانه وتعالــى ‪ -‬؟!‬
‫وللسف هناك من أضحت نفوسهم ترتاح لسماع حديث الغيبة ومــا‬
‫فيها من بهتان وافتراء غــافلين عــن ان الـ ‪ -‬جــل وعل ‪ -‬معهــم اينمــا‬
‫كـانوا يســمع ويـرى بالضـافة الــى علمــه بمـا تخفيــه الصــدور ‪ ،‬ومـا‬
‫ترتكبه العين من خيانة ‪ .‬فهذا الذي يتخذ الليــل ســتارا ‪ ،‬ويتســلل مــن‬
‫مكان الى آخر أليس ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬بعارف الى اين‬
‫يذهب ‪ ،‬وماذا في نيته ان يفعل ‪ ،‬وكيف يفكر ‪ ،‬وماهو هدف تخطيطه‬
‫وعمله ؟ فهل غفــل هــذا النســان عــن ان الـ معــه فــي كــل ســكناته ‪،‬‬
‫وحركاته ‪ ،‬وانــه انمــا يتحــرك ‪ ،‬ويمشــي ‪ ،‬ويأكــل ‪ ،‬ويشــرب ‪ ،‬وينــام‬
‫خـــــر لــه مــــــن‬ ‫بحــوله وقــوته ‪ -‬تعــالى ‪ ، -‬وحــتى فــي مشــيه فــانه س ّ‬
‫الملئكة من يحفظونه مما كتب من القدار المقدرة كما يقــول ‪ -‬تعــالى‬
‫‪:-‬‬
‫ل { ) الرعــد ‪/‬‬‫ن َأْمِر ا ِّ‬
‫ظوَنُه ِم ْ‬‫حَف ُ‬‫خْلِفِه َي ْ‬
‫ن َ‬
‫ن َيَدْيِه َوِم ْ‬
‫ت ِمن َبْي ِ‬‫} َلُه ُمَعّقَبا ٌ‬
‫‪( 11‬‬
‫وعلى هذا فان هناك مجموعة من الحقائق تذكرنا بها اليات السابقة‬
‫في السياق وهي ؛ الحاطة اللهية ‪ ،‬والعلم الغيبي بنا منذ كنا نطفا في‬
‫الرحــام ‪ ،‬ثم تطورنا حتى صرنا اجنة وقدر لنا نوعنــا الجنســي ‪ ،‬ثــم‬
‫احاطته ‪ -‬تعالى ‪ -‬بنا في الحياة منذ طفولتنا وصبانا حــتى نغــدو شــبابا‬
‫فرجال او نساءا ‪ .‬وعلى طول هذه الرحلة الزمنية كنا محفــوفين بمــن‬
‫يحفظنا من القدار التي ل تنفك تواجهنا بين الفينــة والخــرى ‪ ،‬ثــم ان‬
‫ال ‪ -‬جلت قدرته ‪ -‬محيط بسرائرنا ‪ ،‬وخفايـا انفســنا ‪ ،‬ويعلـم مـا تكنـه‬
‫صدورنا كما يشير الى هذه الحقيقة في قوله ‪:‬‬
‫ر { ) غافر ‪( 19 /‬‬
‫صُدو ُ‬
‫خِفي ال ّ‬
‫ن َوَما ُت ْ‬
‫عُي ِ‬
‫لْ‬‫خآِئَنَة ا َ‬
‫} َيْعَلُم َ‬
‫ترى ما الهدف من ذلــك ‪ ،‬ومــن الــذي يتــولى مســؤولية ادراك هــذه‬
‫الحقائق ومعرفتها ؟‬

‫الكبرى ‪:‬‬ ‫مسؤولية التغيير‬


‫القرآن الكريـــم نفســـه يجيبنـــا على هذا التساؤل فــي قــوله ‪ِ } :‬إنّ‬
‫سِهْم { ) الرعــد ‪ . ( 11 /‬وهنــا يــدق‬ ‫حّتى ُيَغّيُروا َما ِبَانُف ِ‬ ‫ل ل ُيَغّيُر َما ِبَقْوٍم َ‬ ‫ا َّ‬
‫القرآن على وتر المسؤولية الحساس ‪ ،‬ويقلــد النسـان الوسـام العلـى‬
‫بتحميلــه مســؤولية التغييــر الكــبرى الــتي بهــا يتبــدل وجــه التاريــخ‬
‫الحضاري ‪ .‬فال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬كرم النسان بأن اعطاه ‪ ،‬وسخر لــه كــل‬
‫ما في الكون والطبيعــة ‪ ،‬وأوكــل بــه مــن يحفظــه مــن مخــاطر الحيــاة‬
‫واقدارها ‪ ،‬وعوارض الوجــود ‪ ،‬وكــل ذلــك ان يتحمــل هــذا المخلــوق‬
‫المكرم المحفوظ المسؤولية ‪ ،‬ويأخذها على عاتقه ‪ ،‬وهذه هي المانة‬
‫اللهية المعنية في القرآن الكريم بقوله ‪:‬‬
‫ن َأن‬‫ل َفـَأَبْي َ‬
‫جَبــا ِ‬
‫ض َواْل ِ‬‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫عَلى ال ّ‬ ‫لَماَنَة َ‬‫ضَنا ا َ‬‫عَر ْ‬ ‫} ِاّنا َ‬
‫ن { ) الحزاب ‪( 72 /‬‬ ‫سا ُ‬ ‫لن َ‬‫حَمَلَها ا ِ‬
‫ن ِمْنَها َو َ‬‫شَفْق َ‬
‫حِمْلَنَها َوَأ ْ‬‫َي ْ‬
‫فهو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬اعطى النسان ‪ ،‬وسخر له كل شــيء ‪ ،‬لكنــه جعــل‬
‫مهمة التغيير مــن مســؤولية النســان فــي الطــار الحضــاري ‪ ،‬ســواء‬
‫كانت مسؤولية فردية أم جماعية ‪ .‬فاذا ما ارتكب خطأ ما ‪ ،‬او اقترف‬
‫ذنبا ما ففسد بذلك واقعه ثم اراد ان يغير هذا الواقع ويصلحه بالتوبة ‪،‬‬
‫والعمل الصلحي فــان بامكــانه ذلــك ‪ ،‬ول مفــر لــــــه مـــن الحســاب‬
‫والعقاب في هذه الدنيا او غدا في الخرة ان هو أبى تغيير واقعه‬
‫الفاســــد ‪.‬‬
‫وهكذا فل مفر للذي يرتكب اثما او جرما ما من نيل العقاب ان هــو‬
‫لم يتب ويصلح ما فسد من امره ‪ ،‬ويكفر عن جرمــه وجريرتــه ‪ ،‬وال‬
‫فأين من الممكن ان يهرب ؟ انه ان هرب من محكمــة العبــاد فــي هــذه‬
‫الدنيا فمن اين له ان يهرب من محكمة ال ـ ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬الــذي لبــد ان‬
‫يجازيه في هذه الدنيا أو في الخرة ؟‬

‫عواقب التملص من المسؤولية ‪:‬‬


‫وبعد ان يوضح الخالق ‪ -‬جلــت قــدرته ‪ -‬مســؤولية التغييــر ‪ ،‬يحــذر‬
‫من مغبة وعواقب التنصل ان لم يعمــل المجتمــع بمســؤولياته ‪َ } :‬وِإَذآ‬
‫ل { ) الرعد ‪( 11 /‬‬‫سوءًا َفل َمَرّد َلُه َوَما َلُهم ِمن ُدوِنِه ِمن َوا ٍ‬ ‫ل ِبَقْوٍم ُ‬ ‫َأَراَد ا ُّ‬
‫ان الواقع المرير الــذي عاشــه ويعيشــه المســلمون فــي هــذه الوهلــة‬
‫الزمنية ‪ ،‬وكـل هـذه اللم والمعانـاة والمآسـي الـتي نراهـا فـي العـالم‬
‫السلمي والمستفحلة في بعض بقاعه ‪ ..‬كل ذلــك يعــود الــى التهــرب‬
‫والتنصل عما القي على عواتقنا من مسؤوليات ‪ ،‬ســواء كــانت فرديــة‬
‫ام جماعية ‪ .‬فلقد صــار ديــدننا ‪ -‬وللســف الشــديد ‪ -‬هــو هــذا التهــرب‬
‫والتملص من حمل اعباء المسؤولية التغييرية الكبرى التي القاها ال ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬على عاتقنا ‪.‬‬
‫وللسف فان كل واحــد منـا يلقــي بمســؤولية التقصــير فـي العمــل ‪،‬‬
‫واداء الواجب على صاحبه او جماعة غير جمــاعته ‪ ،‬او ربمــا يلقيهــا‬
‫على اشياء وامور غريبة نبرر بها عجزنا وتقاعسنا الــذي هــو الســبب‬
‫الرئيس في تخلفنا وتردينا الحضاري ‪ .‬فغدا أمرنا كــأمر البشــرية فــي‬
‫الجاهلية الولى عندما كانوا يعزون اسباب انهيــارهم الحضــاري الــى‬
‫الطبيعة ‪ ،‬فراحوا يتشاءمــون من كائنات وظواهر الطبيعة ‪ ،‬وهذا مــا‬
‫طــآِئُرُكم َمَعُك ـْم‬
‫عبر عنه القرآن الكريم بـ )الطائر ( في قوله ‪َ } :‬قاُلوا َ‬
‫ن { ) يــس ‪ ، ( 19 /‬ولذلك فقــد نــزل عليهــم‬ ‫سِرُفو َ‬
‫ل َأنُتْم َقْوٌم ّم ْ‬
‫ن ُذّكْرُتم َب ْ‬‫َأِئ ْ‬
‫القرآن الكريم ‪ ،‬ودعاهم الى تغيير واقعهــم الفاســد مــذكرا ايــاهم بســنة‬
‫التغيير التي ل تقبل التبدل والتحويل والمتمثلة في قوله ‪:‬‬
‫هْم { ‪.‬‬
‫سِ‬‫حّتى ُيَغّيُروا َما ِبَانُف ِ‬
‫ل ل ُيَغّيُر َما ِبَقْوٍم َ‬ ‫ن ا َّ‬‫} إِ ّ‬
‫الجماعية ‪:‬‬ ‫اهمية المسؤولية‬
‫والتركيز القرآني هنا هو حول المسؤولية الجماعية سواء كانت في‬
‫اطــار جماعــة او شــعب او امــة ‪ .‬صــحيح ان المســؤولية الفرديــة لهــا‬
‫وقعها المـؤثر فـي حركـة التغييـر ‪ ،‬ال ان المسـؤولية الجماعيـة اكـثر‬
‫تأثيرا على حركة التغيير الحضاري ‪ ،‬لذلك جاءت دعــوة القــرآن الـى‬
‫التغيير على صعيد الجماعة والمة ‪ ،‬وهو ما عبر عنه بـ ) القوم ( ‪.‬‬
‫ولعـــل حركـــة التغييـــر الحضـــاري ل تســـتمد إل مـــن النهـــوض‬
‫الجماعي ‪ ،‬وتحمــل الجمــع ) القــوم ( لمســؤوليتهم التاريخيــة فــي هــذه‬
‫الحركــة ؛ اي ان كــل فــرد لبــد ان يتحمــل قســطه مــن عــبئ هــذه‬
‫المسؤولية الكبرى ‪ .‬فهذا العبئ ل يقع على شــخص مـا دون الخريــن‬
‫او حتى على جماعـة مـا دون الجماعـات الخــرى فـي اطــار المــة ؛‬
‫فالسفينة عندما تخرق فان جميع راكبيها سوف يتعرضون للغرق دون‬
‫استثناء ‪ ،‬ولذلك فان كل شخص فيها مسؤول عــن منــع هــذا الخــرق ‪،‬‬
‫واصــلحه فــي حــال وقــوعه ‪ ،‬واذا مــا قــام الجميــع بمســؤولياتهم فــي‬
‫ردمــه ‪ ،‬نجت السفينة ‪ ،‬ونجوا هم ايضا ‪ ،‬لن كلنا راع وكلنا مسؤول‬
‫عن رعيته ‪.‬‬
‫وهكذا فاذا وقعت حوادث وكان بامكــان فــرد واحــد ان يحــول دون‬
‫وقوع حادث ما فليعمل بمسؤوليته بمجرد احساسه به وبما يصدر مــن‬
‫خطــر فــي حــال الهمــال ‪ .‬ومــع ذلــك فــان هــذا ل يعنــي الهمــال‬
‫والتغاضي من قبــل الخريــن ‪ ،‬بــل لبــد للجميــع ان يكونــوا مســتعدين‬
‫للتصدي لمثل هذه المسؤولية ‪ ،‬وان كانت حاجة التصدي حاجة كفائية‬
‫من الممكن ان يسدها فرد او مجموعة افراد ‪.‬‬
‫ان ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عندما أمرنا في كتابه بطاعته ‪ ،‬والــدعوة‬
‫اليه ‪ ،‬وان نعمل بالمر بالمعروف ‪ ،‬والنهي عــن المنكــر ‪ ،‬فانمــا اراد‬
‫لنا جميعا ان نتحمل مسؤولياتنا فــي الحيــاة الجتماعيــة ‪ ،‬ومــردودات‬
‫هذا التوجه المسؤول تعود بالنفع علـى الجميـع ‪ ،‬وتحـول دون انتشـار‬
‫مختلــف الــوان الفســاد والنحــراف الجتمــاعي الــذي اذا مــا غــض‬
‫الطرف عنه فـإنــه سيستشري و يستفحل أمره ‪ ،‬ويصبح من الصــعب‬
‫‪ -‬ان لم نقل من المستحيل ‪ -‬ازالتــه ‪ ،‬والقضــاء عليــه لننــا لــم نتحمــل‬
‫المسؤولية الجماعية في التغيير ‪.‬‬

‫اليمان مصدر المل والتفاؤل‬

‫يعتبر اليأس من جنود الشيطان واحابيله ‪ ،‬ولكن المؤمنين يطــردون‬


‫اليأس بالمـل ‪ ،‬ويــدفعون مـا يقــذفه الشـيطان فـي قلــوبهم بنظــرة الــى‬
‫رحمة ال الواسعة ‪.‬‬

‫لقد كنا ذرات تائهة ثم اودعنا في اصــلب آبائنـا ‪ ،‬وكنــا فــي بعــض‬
‫المراحل مضغا ثم اصبحنا اطفال صــغارا ‪ ،‬وكنــا ضــعفاء فقوانــا الـ‬
‫وحفظنا من المكاره ‪ ،‬فلمــاذا ل نــذكر رحمــة الـ ؟ ومــتى غّيــر عــادة‬
‫الحسان حتى نبحث عن غيره ؟ انه يأتينــا فــي كــل لحظــة ‪ ،‬ويــدعونا‬
‫الى نفسه ‪ ،‬وهو الذي خلق دارا لضيافته هيــأ فيهــا كــل اســباب الرفــاه‬
‫والسعادة ‪ ،‬فلنفكر في هذه السعادة ‪.‬‬

‫ثم ان ال ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬لــم يكتــف بــذلك بــل بعــث الــدعاة اليــه تلــو‬
‫الدعاة ‪ ،‬والرســائل بعــد الرســائل ‪ ،‬فهــل علمنــا ان القــرآن هــو بطاقــة‬
‫دعوة لنا الى الجنة ‪ ،‬يقول ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬فيها لكــل واحــد منــا ‪ :‬عبــدي‬
‫اني احبــك ‪ ،‬وقــد خلقتــك للبقــاء ل للفنـــــاء ‪ ،‬ولرحمــك ل لعــذبك ‪،‬‬
‫ولدخلك جنتي ‪ ،‬وفيها سأعطيك ملكا كبيرا ‪،‬‬
‫ونعمة واسعة ‪ ،‬وحياة خالدة فماذا تريد اكثر من ذلك ؟‬
‫ان اقل اصحاب الجنة شأنا بأمكانه ان يضيف اهل الدنيا كلهم علــى‬
‫مائدة واحدة في بيته ‪ ،‬وقد خلق ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬هــذه الجنــة للنســان‬
‫عُلّوا ِفي‬
‫ن ُ‬
‫ل ُيِريُدو َ‬
‫ن َ‬
‫جَعُلَها ِلّلِذي َ‬
‫خَرُة َن ْ‬‫لِ‬
‫ك الّداُر ا َ‬ ‫المؤمن المتقي ‪ِ } :‬تْل َ‬
‫ن { ) القصص ‪ ( 83 /‬فالذي يريد الخــرة‬ ‫سادًا َواْلَعاِقَبُة ِلْلُمّتِقي َ‬
‫ل َف َ‬
‫ض َو َ‬
‫لْر ِ‬
‫اَ‬
‫لبد ان ل يستعلــي ‪ ،‬ول يطلب الفساد في الـدنيا ‪ ،‬فالـذي خلـق الجنـة‬
‫رحيم بنا ‪ ،‬ويضمر الحب لنــا ‪.‬‬

‫باللـه ‪:‬‬ ‫أحسنوا الظن‬


‫فل يخدعنــا الشيطان ويسلب منا المل ‪ ،‬وفي هذا المجال يروى "‬
‫عن أنس انه قال ‪ :‬قال رسول ال ) صلى ال عليه وآله( ‪ " :‬ليمــوتن‬
‫أحـدكم حتى يحسن ظنه بال عز وجل فان حسن الظن بال عز وجـــل‬
‫ثمن الجنة " ‪ ، ((1‬كما روي عن العالم عليه السلم انــه قــال ‪ >>:‬والـ‬
‫ما اعطــي مــؤمن قــط خيــر الــدنيا والخــرة ال بحســن ظنــه بــال عــز‬
‫وجل ‪ ،‬ورجائه منه ‪ ،‬وحسن خلقه ‪ ،‬والكف عــن اغتيــاب المــؤمنين ‪،‬‬
‫وأيم ال ليعذب ال مؤمنا بعد التوبــة والســتغفار ال ان يســوء الظــن‬
‫بال ‪ ،‬وتقصيره من رجائه ل ‪ ،‬وسوء خلقه ‪ ،‬ومن اغتيابه للمؤمنين ‪،‬‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 67‬ص ‪385‬‬
‫وال ليحسن ظن عبد مؤمن بال ال كان الـ عنــد ظنــه بــه ‪ ،‬لن الـ‬
‫عـز وجــل كريــم يسـتحي ان يخلــف ظــن عبـده ورجـائه ‪ .‬فــــأحسنوا‬
‫الظـــن باللـــه وارغبــوا اليه وقد قال ال عز وجــل ‪ " :‬الظــانين بــال‬
‫ظن الســوء عليهــم دائرة الســوء " ‪ . ((2‬وحــتى لــو ارتكــب احــدنا كــل‬
‫الفواحش ‪ ،‬وترك كل الحدود فان عليه مع ذلك ان ل ييأس من رحمــة‬
‫ال لن يأسه سيكون اشد من ذنوبه ‪.‬‬

‫فلنزدد أمل بال ‪ ،‬وخشوعا له ‪ ،‬وتضرعا اليــه ‪ ،‬ولنكــثر مــن تلوة‬


‫طــآِئ ٌ‬
‫ف‬ ‫سـُهْم َ‬
‫ن اّتَقْوا ِإَذا َم ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫القرآن الكريم الذي يخاطبنا قائل ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫ن { ) العــراف ‪ ، ( 201 /‬فالشــيطان‬ ‫صـُرو َ‬ ‫ن َتَذّكُروا فِإَذا ُهــم ُمْب ِ‬
‫طا ِ‬
‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ِم َ‬
‫يدور حول قلــب النسـان ‪ ،‬ويحـاول ان يجـد منفـذا ‪ ،‬ولكـن المـؤمنين‬
‫يتــذكرون‪ ،‬وتتصــل قلــوبهم بــال ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪ ، -‬فيطــردون‬
‫الشيطان ‪ ،‬ويحددون مواقع الضعف في نفوسهم ‪.‬‬

‫هذا فـــي حيـــن ان غير المتقين علـــى العكـــس مـن ذلــك تمامــا ‪،‬‬
‫ي { ) العراف ‪202 /‬‬ ‫خَواُنُهْم َيُمّدوَنُهْم ِفي اْلَغ ّ‬‫فهم يستمرون في الغي ‪ } :‬وِإ ْ‬
‫( ‪ ،‬فالشيطان يمني النسان دائما ‪ ،‬فيقول له ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬انــك‬
‫لم تتزوج بعد وعندما تتزوج ستصبح انسانا كامل ‪ ،‬او انك لــم تــذهب‬
‫الى الحج بعد وعندما تحج ستتحول الى انسان ممتاز ‪ ...‬وهكــذا يظــل‬
‫النسان يبحث دومــا عــن فرصــة جديــدة للهدايــة فــي حيــن ان فــرص‬
‫الهداية موجودة في ارجاء الحياة ‪.‬‬

‫)‪2‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 68‬ص ‪145‬‬
‫بصائر تسقط الحجب ‪:‬‬
‫والقرآن الكريم هو بصيرة بل بصائر تفتح اعيننا ‪ ،‬فتسقط الحجب‬
‫عن عقولنا ‪ ،‬وتنفتح منافذ قـلـوبـنـا على الحقيقة كما يقول ‪ -‬عز وجــل‬
‫صآِئُر ِمـن َرّبُكـْم َوُهـًدى‬ ‫ي ِمن َرّبي َهَذا َب َ‬ ‫حى ِإَل ّ‬ ‫ل ِإّنَمآ َاّتِبُع َماُيو َ‬‫‪ُ } : -‬ق ْ‬
‫صُتوا َلَعّلُكْم‬ ‫سَتِمُعوا َلُه َوَأْن ِ‬‫ن َفا ْ‬
‫ئ اْلُقْرَءا ُ‬
‫ن * َوِإَذا ُقِر َ‬ ‫حَمٌة ِلَقْوٍم ُيْؤِمُنو َ‬ ‫َوَر ْ‬
‫ن { ) العــراف ‪ ( 204-203 /‬؛ أي تـدبروا في آيــاته ‪ ،‬وتحسســوا مــا‬ ‫حُمو َ‬ ‫ُتْر َ‬
‫فيه من تجليات هذا الكلم اللهي الذي لو وضع‬
‫على الجبال لتصدعت على عظمتها لنها ل تستطيع تحمل تجلي ال ‪.‬‬

‫خيَف ـًة‬‫ضّرعًا َو ِ‬ ‫ك َت َ‬ ‫س َ‬ ‫ك ِفي َنْف ِ‬‫ثم يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬واْذُكر َرّب َ‬
‫ل ‪ ) { ..‬العــراف ‪ ( 205 /‬اي اذكــر ربــك فــي كــل‬ ‫ن اْلَقــْو ِ‬
‫جْهِر ِمـ َ‬ ‫ن اْل َ‬‫َوُدو َ‬
‫الوضاع والحوال ‪ ،‬وصل قلبـك بمصــدر الخيــر ؛ بـالنيس الحـبيب‬
‫القريب ‪.‬‬

‫يروى ان رجل جاء الى رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( وقال‬


‫له ‪ :‬يا رسول ال هل ربنا بعيد فنناديه ام قريب فنناجيه ؟‬
‫وهنا ياتي الوحي الى قلب رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( مجيبا‬
‫عا ِ‬
‫ن‬ ‫ع ِإَذا َد َ‬
‫عَوَة الّدا ِ‬‫ب َد ْ‬ ‫جي ُ‬
‫ب ُا ِ‬‫عّني َفِاّني َقِري ٌ‬ ‫عَباِدي َ‬ ‫ك ِ‬ ‫سَاَل َ‬
‫اياه ‪َ }:‬وِإَذا َ‬
‫ن { ) البقرة ‪ . ( 186 /‬فال ‪ -‬جلت‬ ‫شُدو َ‬‫ي َوْلُيْؤِمُنوا ِبي َلَعّلُهْم َيْر ُ‬ ‫جيُبوا ِل ْ‬ ‫سَت ِ‬
‫َفْلَي ْ‬
‫قدرته ‪ -‬قريب منا بـل هـو اقــرب الـيــنا مـن حبـل الوريـد كمـا يقـول‬
‫المـام علـي ) عليــه السلم ( ‪ " :‬وان الراحل اليك قريب المسافة " ‪.‬‬
‫ولنحاول ان نتصل بال في جميع الوقات " بالغدو والصال " وان‬
‫ل نكون من الغافلين ‪ ،‬فالغفلة سبب لسقوط النسان ‪ ،‬فهو كمن يمشــي‬
‫على حافة جبــل شاهق ‪ ،‬ومجرد غفلــة بســيطة تكفــي لن يهــوي مــن‬
‫هذا الشاهق ‪.‬‬

‫ان الشيطان يسعى فـي كــل لحظـة لن يســقط النســان ‪ ،‬فلبــد مـن‬
‫غــاِفِلين { ) العـــراف ‪/‬‬
‫ن اْل َ‬
‫الحذر والنتباه على طول الخط ‪َ } :‬ول َتُكن ِم َ‬
‫‪. ( 205‬‬

‫العبادة ‪:‬‬ ‫الدعاء مخ‬


‫عَباَدِتهِ‬
‫ن ِ‬
‫عْ‬ ‫ن َ‬ ‫سَتْكِبُرو َ‬
‫لَي ْ‬
‫ك َ‬‫عنَد َرّب َ‬‫ن ِ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ثم يقول ‪ -‬عز وجل ‪ِ } : -‬إ ّ‬
‫ن { ) العراف ‪ ، ( 206 /‬وربما تعني هذه الية انهم‬ ‫جُدو َ‬
‫سُ‬‫حوَنُه َوَلُه َي ْ‬
‫سّب ُ‬
‫َوُي َ‬
‫ل يستكبرون عــن دعــائه ‪ ،‬لن الــدعاء هــو مــخ العبــادة ‪ ،‬وهــو رمــز‬
‫التضرع ‪ ،‬وعلينا ان نطلب من ال ‪ ،‬فهو غني رحيم ‪ ،‬ولتكــن ادعيتنــا‬
‫واسعة فليس من المســتبعد ان يسـتجيب لنـا الـ مهمـا كـانت طلباتنـا ‪،‬‬
‫ب اغِْفْر ِلي َوَه ْ‬
‫ب‬ ‫ل َر ّ‬ ‫فنبي ال سليمان ) عليه السلم ( دعا ربه ‪َ } :‬قا َ‬
‫ن َبْعِدي { ) ص ‪ ، ( 35 /‬وزكريا ) عليه السلم (‬ ‫حٍد ِم ْ‬
‫لَ‬‫ل َيْنَبِغي َ‬ ‫ِلي ُمْلكًا َ‬
‫ن { ) النبيــاء ‪( 89 /‬‬
‫خْيـُر اْلَواِرِثيــــــ َ‬
‫ت َ‬
‫ل َتـَذْرِني َفـْردًا َوَأنـ َ‬‫ب َ‬ ‫قال ‪َ } :‬ر ّ‬
‫فوهب ال له ولدا رغــم انــه كــان طاعنــا فــي الســن ‪ ،‬وكــانت زوجتــه‬
‫عاقرا ‪.‬‬
‫ان هذه اشياء غير محالة على ال ‪ -‬جل وعل ‪ ، -‬فعلينا عندما نطلب‬
‫منه ان ل نطلب قليل ‪ ،‬بــل علينــا ان نطلــب منــه طلبــات عظيمــة مــن‬
‫شأنها ان تسهم في نمونا الروحــي وتكاملنــا‪ ،‬وقبــل كــل ذلــك يجــب ان‬
‫نطهر انفسنا من رواسب الذنوب التي ما تزال متراكمة علــى قلوبنــا ‪،‬‬
‫فاذا بنا ل نستفيد الستفادة المثلى من صلتنا ‪ ،‬هذه الصلة التي يقول‬
‫عنها رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( ‪ " :‬قرة عيني الصلة "‪.‬‬

‫كما وعلينا ان نكثف من الممارسات العبادية المستحبة لكي نكــون‬


‫مؤهلين للدخول الى الجنة ‪ ،‬والفوز بدرجاتها العليا ‪ ،‬من مثل اللتزام‬
‫بــأداء صــلة الليــل ‪ ،‬وتلوة القــرآن الكريــم ‪ ،‬صــحيح ان الجنــة هــي‬
‫رحمة ال الواسعة ‪ ،‬ولكن هناك حسابات معينة فيها ‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫الخضوع ل تعالى‬


‫فلندع ال ‪ -‬سبحانه ‪ ، -‬وليكن املنا به عظيما ‪ ،‬ولتكن همتنا عالية ‪،‬‬
‫وعلينا ان نعلـم ان المؤمنين يسجدون ل ول يســجدون لغيــره ‪ ،‬وعنــد‬
‫التسبيح ينزهون ال‬
‫ويقدسونه ول يقدسون احدا غيره كما يقول ‪ -‬تعالى ‪: -‬‬
‫ن { ) العــراف ‪ ، ( 206 /‬انهـم ل يـذهبون الـى‬
‫جُدو َ‬
‫سـ ُ‬
‫حوَنُه َوَلـُه َي ْ‬
‫سـّب ُ‬
‫} َوُي َ‬
‫الحكام والملوك لكي يقدسوهم ‪ ،‬ول يخضعون لهــذا وذاك ‪ ،‬رغــم انــه‬
‫ليس من السهولة بمكان ان ل يخضــع النســان لصــاحب ســلطان ‪ ،‬او‬
‫ثروة ‪ ،‬فمن الطبيعي ان النسان يكــون ضــعيفا امــام اغــراء الــثروة ‪،‬‬
‫وكذلك الحال بالنسبة الى الســلطان ‪ ،‬ولكــن المــؤمن الحقيقــي ل يتــأثر‬
‫بذلك ابدا ‪.‬‬

‫وفي هذا المجال يروي لنا التأريخ ان الحاكم الموي سليمان بن عبد‬
‫الملك بعث رسول الــى احد العلمــاء والفقهــاء فــي المدينــة المنـــــورة‬
‫ليخطب ابنتـــه لبنـــه الوليد ‪ ،‬وعندما قابـــل الرسول ذلك العالم قــال‬
‫له " لقد اصــابك شــرف عظيــــم ‪ ،‬ونعمــة كــبيرة ‪ ،‬فقــال العــالم ‪ :‬ومــا‬
‫هو ؟ ‪ ،‬فقال ‪ :‬لقد اتيت من قبــل الخليفــة الــذي يمتلــك ثلثيــن بلــدا فــي‬
‫العالم السلمي لكي اخطب ابنتك لبنه‪ ،‬واما المهر فاننا سنجعلها فــي‬
‫كفة ونجعل في الكفة الخرى الذهب والفضة والحجار الكريمة بقدر‬
‫وزنها ‪ ،‬ونعطيــه مهــرا لـهــا ‪ ،‬فما كان من ذلك العالم التقــي الـورع‬
‫ال ان قال ‪ :‬حدثنا رســـول الـ ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( ان الــدنيا ل‬
‫تعدل عنــد ال جناح بعوضة ‪ ،‬وماذا يملك ســليمان بــن عبــــد الملــــك‬
‫مــن هذا الجناح ‪ ،‬اذهب فان ال ‪ -‬سبحــانه وتعــالى ‪ -‬يقــول ‪َ } :‬وِإَذا‬
‫ت { ) التكـــوير ‪ ، ( 9-8 /‬فتعجب الرسول‬ ‫ب ُقِتَل ْ‬
‫ي َذن ٍ‬
‫ت * ِبَأ ّ‬
‫سِئَل ْ‬
‫اْلَمْوُءوَدُة ُ‬
‫وقال ‪ :‬وما شأن هذه الية بأبنتك ؟ فقال العالم ‪ :‬وهل تريد وادا اخطر‬
‫من هذا الوأد ‪ ،‬لقد كان الجاهليون يئدون بنــاتهم تحــت الــتراب ‪ ،‬فهــل‬
‫تريد منــي ان ائد ابنــتي واجعلهــا فــي الفســاد والــرذائل ‪ ،‬وادفعهــا فــي‬
‫قصور الملوك ؟‬
‫وهكذا فان هذا هو اليمان الحقيقي ؛ اليمان الذي يدفع صاحبه الى‬
‫ان يتحدى الطغاة والجبابرة ‪ ،‬ول يتنـازل عــن عقــائده ومبـادئه خشــية‬
‫وخوفــا منهــم ‪ ،‬وهــذا اليمــان هــو الــذي يبعــث المــل فــي النفــس‬
‫النسانية ‪ ،‬ويجعلها تتغلب على العقبــات ‪ ،‬والصــعاب الــتي تقــف فــي‬
‫مقدمتها تلك التي يضعها الشيطان الرجيم في طريق النسان المؤمن ‪.‬‬

‫اليمان زادنا في الصعاب‬

‫بين النسان والحقائق حجاب من الكفر ‪ ،‬فالكفر يعني لغــة الســتر ‪،‬‬
‫لح )كافرا( لنه يستر الحبة تحت الــتراب ‪ ،‬وهكــذا‬ ‫ومن هنا سمي الف ّ‬
‫الحــال بالنســبة الــى النســان الكــافر فهــو يحجــب عــن نفســه الحقــائق‬
‫بالوهــام والتمنيــات ‪ ،‬وهــذه هــي اعقــد مشــكلة يواجههــا النســان ‪،‬‬
‫واخطر عقبــة لبــد ان يجتازهــا البشــر لكــي يتصــلوا بالحقــائق بشــكل‬
‫مباشر ‪.‬‬

‫الحقائق ‪:‬‬ ‫الكافر ل يستوعب‬


‫ان قلــب النســان الكــافر ل يســتوعب الحقــائق ‪ ،‬فصــدره ضــيق‬
‫محــدود ‪ ،‬ونظراتــه محــدودة ‪ ،‬ولــذلك فــانه يتعجــب اذا جــاءه منــذر ‪:‬‬
‫يٌء‬
‫شـ ْ‬‫ن َهـَذا َ‬ ‫ل اْلَكــاِفُرو َ‬
‫جــآَءُهم ُمنـِذٌر ِمْنُهـْم َفَقـــــــا َ‬ ‫جُبــوا َأن َ‬ ‫عِ‬
‫ل َ‬
‫} َبـ ْ‬
‫عيٌد { )ق‪. (3-2/‬‬ ‫جٌع َب ِ‬ ‫ك َر ْ‬ ‫ب * َءِإَذا ِمْتَنا َوُكّنا ُتَرابًا َذِل َ‬
‫جي ٌ‬ ‫عِ‬ ‫َ‬
‫افل يرى هذا الكافر انه كان ترابا فخلقــه الـ انســانا ســويا ‪ ،‬فكيــف‬
‫يكــون رجعــه بعيــدا ؟ ان الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬يقــرر ان الشــيء الهــم هــو‬
‫احاطته علما بكيان النسان ‪ ،‬وبمن يموت ‪ ،‬ويحيــا ‪ ،‬وبكــل خليــة فــي‬
‫بدن النسان تنمو او تنقص ‪:‬‬

‫ل َكـّذُبوا‬
‫ظ * َبـ ْ‬‫حِفيـ ٌ‬
‫ب َ‬ ‫عنـَدَنا ِكَتـا ٌ‬ ‫ض ِمْنُهْم َو ِ‬ ‫لْر ُ‬ ‫صاَ‬ ‫عِلْمَنا َما َتنُق ُ‬‫} َقْد َ‬
‫ج { ) ق ‪. ( 5-4 /‬‬ ‫جآَءُهْم َفُهْم ِفي َأْمٍر َمِري ٍ‬ ‫ق َلّما َ‬
‫حّ‬ ‫ِباْل َ‬
‫فالنسان عندما يكذب بالحق ليجد ال الباطــل ‪ ،‬والباطــل ل يعطـي‬
‫النسان سكينة ول اطمئنانا ‪ ،‬ول ثقة ‪ ،‬فالذي لــم يبلــغ الحــق تــراه ابــد‬
‫الدهر في تردد وقلق وحرج ل يعرف ماذا يصنع ‪ ،‬فــالمور مختلطــة‬
‫ومتشابهة ومظلمة بالنسبة اليه ‪.‬‬

‫اما ذلك النسان الــذي خــرق حجــاب الكفــر ‪ ،‬وعــاش مــع الحقــائق‬
‫مباشرة بحيث ينظر من خللها الى كل شيء فــي هــذا الوجــود ‪ ،‬فهــو‬
‫ينظر الى وجه ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ويشاهد تلك الحقائق التي عجز‬
‫الفلسفة والمفكرون عن الوصول اليها ‪.‬‬

‫ولننــظر الى الفرق الشاسع بين نظرة النسان العادي الى السماء ‪،‬‬
‫ونظرة النسان المؤمن ‪ ،‬فــالول لعلــه يلهــي نفســه بتعــداد طائفــة مــن‬
‫النجوم ‪ ،‬في حين ان النسان المؤمن عندما ينظر في السماء ‪ ،‬ويــرى‬
‫النجوم التي تزينت بها ‪ ،‬فيعلم ان كل نجمة منهـا تقـع ضـمن منظومـة‬
‫شمسية ‪ ،‬وان بعض هذه النجوم البعيدة عنا التي من الصعب علينا ان‬
‫نراها بأعيننا هي شموس اكبر من شمسنا مئـات بل الوف المــرات ‪...‬‬
‫عندما يرى النسان المؤمن كل هــذه اليــات المعجــزة البــاهرة يســجد‬
‫لربه قائل ‪:‬‬

‫ر { ) آل عمران ‪. ( 191 /‬‬


‫ب الّنا ِ‬
‫عَذا َ‬
‫ك َفِقَنا َ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ل ُ‬
‫طً‬‫ت هَذا َبا ِ‬
‫خَلْق َ‬
‫} َرّبَنا َما َ‬
‫وهكـذا فانه من خلل نظرة واحدة الى هذه النجوم ‪ ،‬والى ما وراءها‬
‫‪ ،‬والى قوة‬
‫ومتانة خلقها ‪ ،‬يتصل قلبه بكل الحقائق ‪ ،‬وبالهدف الــذي خلــق الخلــق‬
‫من اجله وبالحكمة التي وراء هذا الخلق ‪.‬‬

‫وحينئذ يتفتح قلب هذا النسان ‪ ،‬وينشرح صدره باليمان ‪ ،‬فل يعبأ‬
‫بالمصــائب والمآســي والكــوارث ‪ ،‬لنــه يعلــم ان الـ ‪ -‬عــز وجــــل ‪-‬‬
‫يحيط علما بكل ذلك وقدرة ‪ ،‬فهو القادر على ان يفرجها عنه ‪.‬‬

‫وهناك من الناس من يمتلك الصبر ‪ ،‬ولكن صبره هذا محدود ‪ ،‬فهــو‬


‫يصبر على مصــيبة دون الخــرى ‪ ،‬امــا النســان المــؤمن فــانه يملــك‬
‫معدن الصبر ‪ ،‬فكلما استخرج منه بقي هـذا المعـدن ثابتـا ولـذلك نقـرأ‬
‫في الدعاء المأثور ‪ " :‬اللهــم صـلي علـى محمـد وآل محمـد وهـب لـي‬
‫ثبات اليقين ‪ ،‬ومحض الخلص ‪ ،‬وشرف التوحيد ‪ ،‬ودوام الستقامة‬
‫‪ ،‬ومعدن الصبر ‪ ،‬والرضا بالقضاء والقدر " ‪.‬‬

‫الصبر ‪:‬‬ ‫اليمان معدن‬


‫فما هو معدن الصبر يا ترى ؟ انه اليمان بالتأكيد ‪ ،‬فأسقط ما بينــك‬
‫وبين الحقائق من حجب الكفر والجحود ‪ ،‬ودع قلبك ينطلق في رحاب‬
‫الحقيقة ‪ ،‬ثم انظر الى هذه الحقيقــة نظــرة مباشــرة لكــي تحصــل علــى‬
‫معدن الصبر ‪.‬‬
‫عن حفص بن غياث انه قال ‪ :‬قال ابو عبــد الـ عليــه الســلم ‪ :‬يـا‬
‫حفص ان من صبر صبر قليل ‪ ،‬وان من جـزع جـزع قليل ثــم قــال ‪:‬‬
‫عليك بالصبر في جميع أمورك ‪ ،‬فان ال عز وجل بعث محمدا صــلى‬
‫عَلى َمــا‬ ‫صِبْر َ‬ ‫ال عليه واله وسلم فأمره بالصبر والرفق ‪ ،‬فقال ‪َ } :‬وا ْ‬
‫مـِة {‬ ‫ن ُأْوِلــي الّنْع َ‬ ‫ل * َوَذْرِنــي َواْلُمَكـّذِبي َ‬ ‫جِمي ً‬‫جــرًا َ‬ ‫جْرُهـْم َه ْ‬ ‫ن َواْه ُ‬ ‫َيُقوُلــو َ‬
‫ن َفِإَذا اّلِذي‬ ‫سُ‬‫حَ‬ ‫ي َأ ْ‬‫) المزمل ‪ ( 11- 10 /‬وقال تبارك وتعالى ‪ } :‬اْدَفْع ِباّلِتي ِه َ‬
‫ص ـَبُروا َوَمــا‬ ‫ن َ‬ ‫ل اّل ـِذي َ‬
‫حِميٌم * َوَما ُيَلّقاَهآ ِإ ّ‬ ‫ي َ‬ ‫عَداَوٌة َكَأّنُه َوِل ّ‬ ‫ك َوَبْيَنُه َ‬‫َبْيَن َ‬
‫ظيٍم { ) فصلت ‪. ( 35-34 /‬‬ ‫عِ‬ ‫ظ َ‬ ‫حّ‬ ‫ل ُذو َ‬ ‫ُيَلّقاَهآ ِإ ّ‬
‫فصبر ) صلى ال عليه وآله ( حتى نالوه بالعظائم ‪ ،‬ورمـوه بهـا ‪،‬‬
‫ضــي ُ‬
‫ق‬ ‫ك َي ِ‬ ‫فضاق صــدره فــأنزل الـ عــز وجــل عليــه } َوَلَقـْد َنْعَلـُم َأّنـ َ‬
‫ن { ) الحجــر ‪/‬‬ ‫جِدي َ‬‫ســا ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫ك َوُكــن ّمـ َ‬ ‫حْمِد َرّب َ‬‫ح ِب َ‬
‫سّب ْ‬ ‫ن * َف َ‬ ‫ك ِبَما َيُقوُلو َ‬ ‫صْدُر َ‬ ‫َ‬
‫‪ ( 98-97‬ثم كذبوه ورموه فحزن لذلك فأنزل ال عز وجل ‪َ } :‬قـْد َنْعَلـُم‬
‫لـ‬ ‫تا ّ‬ ‫ن ِبَاَيــا ِ‬
‫ظــاِلِمي َ‬‫ن ال ّ‬ ‫ك َولِكـ ّ‬ ‫لُيَكـّذُبوَن َ‬ ‫ن َفِإّنُهْم َ‬‫ك اّلِذي َيُقوُلو َ‬ ‫حُزُن َ‬ ‫ِإّنُه َلَي ْ‬
‫عَلــى َماُكـّذُبوا َوُاوُذوا‬ ‫ص ـَبُروا َ‬ ‫ك َف َ‬ ‫ل ِمن َقْبِل َ‬ ‫سٌ‬ ‫ت ُر ُ‬ ‫ن * َوَلَقْد ُكّذَب ْ‬ ‫حُدو َ‬ ‫جَ‬ ‫َي ْ‬
‫رَنا { ) النعام ‪. ( 34-33 /‬‬ ‫صُ‬ ‫حّتى َأَتاُهْم َن ْ‬ ‫َ‬
‫فألزم النبي عليه الصلة والسلم نفسه الصبر ‪ ،‬فتعدوا فذكروا ال‬
‫تبارك وتعالى وكذبوه فقال ‪ :‬قد صبرت فــي نفســي وأهلــي وعرضــي‬
‫خَلْقَنـا‬
‫ول صبر لـي علــى ذكــر الهـي فـأنزل الـ عــز وجــل ‪َ } :‬وَلَقـْد َ‬
‫ب*‬ ‫سـَنا مِــن ُلُغــو ٍ‬ ‫سـّتِة َأّيــاٍم َوَمــا َم ّ‬‫ض َوَما َبْيَنُهَما ِفي ِ‬ ‫لْر َ‬ ‫ت َوا َ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ن { ) ق ‪ ( 39 -38 /‬فصبر في جميع احواله ثم بشر‬ ‫عَلى َما َيُقوُلو َ‬ ‫صِبْر َ‬ ‫َفا ْ‬
‫جَعْلَنا ِمْنُهــْم‬‫في عترته بالئمة ‪ ،‬ووصفوا بالصبر فقال جل ثناؤه ‪َ } :‬و َ‬
‫ن { ) السجدة ‪. ( 24 /‬‬ ‫صَبُروا َوَكاُنوا ِبَاَياِتَنا ُيوِقُنو َ‬ ‫ن ِبَأْمِرَنا َلّما َ‬ ‫َأِئّمًة َيْهُدو َ‬
‫فعند ذلك قال صلى ال عليه وآله ‪ " :‬الصبر من اليمـان كـالرأس‬
‫من الجسد " ‪ ،‬فشكر ال عز وجل ذلك له ‪ ،‬فأنزل ال ـ عــز وجــل ‪} :‬‬
‫صـَبُروا َوَدّمْرَنــا‬
‫ل ِبَمــا َ‬
‫ســرآِئي َ‬‫عَلــى َبِنــي ِإ ْ‬
‫سـَنى َ‬ ‫حْ‬ ‫ك اْل ُ‬
‫ت َرّبـ َ‬ ‫َوَتّمتْ َكِلَم ُ‬
‫ن { ) العـــراف ‪ ( 137 /‬فقال‬ ‫شو َ‬ ‫ن َوَقْوُمُه َوَما َكاُنوا َيْعِر ُ‬‫عْو ُ‬‫صَنُع ِفْر َ‬‫ن َي ْ‬ ‫َماَكا َ‬
‫صلى ال عليه واله ‪ :‬انه بشرى وانتقام ‪ ،‬فأباح ال عز وجــل لـه قتـال‬
‫جــدّتُموُهْم‬ ‫ث َو َ‬
‫حْيــ ُ‬
‫ن َ‬
‫شِرِكيـــــ َ‬‫المشــركين فأنــــزل الــ } َفـاْقُتُلـــوا اْلُم ْ‬
‫ص ـٍد { ) التوبــة ‪، ( 5 /‬ـ }‬‫ل َمْر َ‬ ‫ص ـُروُهْم َواْقُعـُدوا َلُهـــْم ُكـ ّ‬‫ح ُ‬ ‫خ ـُذوُهْم َوا ْ‬‫َو ُ‬
‫ث َثِقْفُتُموُهم { ) البقرة ‪ ( 191 /‬فقتلهم ال على أيدي رسول ال‬ ‫حْي ُ‬‫َواْقُتُلوُهْم َ‬
‫عليه الصلة والسلم وأحبائه ‪ ،‬وجعل له ثواب صبره مع ما ادخر له‬
‫في الخرة ‪ ،‬فمن صبر واحتسب لــم يخــرج مــن الــدنيا حــتى يقــر الـ‬
‫عينه في اعدائه مع ما يدخر له في الخرة ‪.‬‬

‫بصائر ‪:‬‬ ‫القرآن‬


‫والقرآن الكريم هو بصائر ؛ بمعنى انــه يفتــح اعيننــا علــى الحقــائق‬
‫بصورة مباشرة ‪ ،‬ولذلك قيــل ان الــدين هــو تجربــة شخصــية ؛ اي ان‬
‫تبحث عنه وتصل اليه بجهودك الشخصية ‪ ،‬والقرآن الكريــم يقــرر ان‬
‫ب {)ق‪.(8/‬‬ ‫عْبٍد ُمِني ٍ‬
‫ل َ‬
‫صَرًة َوِذْكَرى ِلُك ّ‬ ‫الدين تبصرة ‪َ } :‬تْب ِ‬
‫سَمآِء َمآًء ُمَباَركًا َفَأنَبْتَنا ِبِه‬
‫ن ال ّ‬‫ويستأنف ‪ -‬تعالى ‪ -‬قائل ‪َ }: -‬وَنّزْلَنا ِم َ‬
‫د { ) ق ‪( 10-9 /‬‬ ‫ضــي ٌ‬
‫طْل ـٌع َن ِ‬
‫ت َلَهــا َ‬
‫س ـَقا ٍ‬‫ل َبا ِ‬
‫خَ‬‫صيِد * َوالّن ْ‬
‫ح ِ‬ ‫ب اْل َ‬
‫ح ّ‬
‫ت َو َ‬
‫جّنا ٍ‬
‫َ‬
‫فلننظر الى النخل ؛ كيف ترتفع الى السماء الى ما يقرب مــن عشــرين‬
‫مترا ‪ ،‬وتسحب المــاء مــن بــاطن الرض ‪ ،‬ولنتأمــل العناقيــد المتدليــة‬
‫منها ‪ ،‬وكيف نضجت ثمارها مع بعضها البعض بهذا الشكل الهندســي‬
‫اللطيف ‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فاننا بحاجة الى زاد اليمان في كل الحــوال ســواء‬
‫عشنا المشاكل ام لم نعشها ‪ ،‬وسواء دخلنا الصراعات ام لــم نــدخلها ‪،‬‬
‫فنحن نحتاج اليه في الدنيا ‪ ،‬وفي مسيرتنا الطويلة بعد الموت ‪.‬‬
‫وهكذا فان الطريق الممتد امامنا طويل ‪ ،‬ونحن بحاجة الى زاد يتمثل‬
‫في اعمالنا الــتي قــد ل نثــق بهــا ‪ ،‬ومعرفتنــا بــال ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪-‬‬
‫واملنا به ‪ ،‬وفي هذا المجال يروى عن المام الصادق ) عليه السلم (‬
‫أنه قال ‪ ":‬أن ال ل يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ‪ ،‬فاذا دعوت فأقبل‬
‫بقلبك ثم استيقن الجابة " ‪ . ((1‬فللنسان لسان ينطق بذكر ال ـ ‪ ،‬ولكــن‬
‫قلبه شـارد هنـا وهنـاك ‪ ،‬فـاذا قلــت ‪ :‬يـا الـ ‪ ،‬ودعــــوته ‪ ،‬واسـقطت‬
‫الشركاء بينك وبين ربك ‪ ،‬فحينئذ يقول ‪ -‬تعالى ‪ -‬للعبــد ‪ :‬لبيــك عبــدي‬
‫لبيك ‪..‬‬
‫ونحــن نحتــاج الــى زاد اليمــان فــي الظــروف العاديــة فمــا بالــك‬
‫بالظروف الصعبة ‪ ،‬فنحن اليوم نعيــش التحــديات ‪ ،‬ونعيــش الصــراع‬
‫الحاسم ‪ ،‬ونمر بعصــر اســتثنائي ‪ ،‬ففــي كــل يــوم تستشــهد طائفــة مــن‬
‫رفاق جهادنــا ‪ ،‬فحياتنا مليئة بالمشاكل والصعاب ‪ ،‬ونحن فــي احــوج‬
‫ما نكون الى المعنويات ‪ ،‬واليمان بال ‪ -‬تعالى ‪ -‬يقف في طليعة هــذه‬
‫المعنويات ‪.‬‬

‫الظروف ‪:‬‬ ‫ثوار القيم وثوار‬


‫وفي هذا المجال ‪ :‬اي مجــال الجهــاد ‪ ،‬نوعــان مــن النــاس كلهمــا‬
‫يقومون بالثورة ‪ ،‬ويتحدون ‪ ،‬ويخوضون الصراع ‪ ،‬ولكنهم يختلفــون‬
‫عن بعضهم في صفة واحدة ؛ فهناك ثوار القيــم ‪ ،‬وهنــاك ايضــا ثــوار‬
‫الظروف ‪ ،‬فقد يــرى البعــض ان شــعلة الثــورة قائمــة ‪ ،‬فيحشــر نفســه‬
‫فيــها ‪ ،‬وهؤلء يسمونهم ) ثوار الظروف ( ‪ ،‬وهنــاك البعــض الخــر‬
‫الــذين هــم ثــوار القيــم ‪ ،‬فنراهــم منــذ البــدء يؤمنــون بــال ويكفــرون‬
‫بالطاغوت ‪ ،‬ذلك لن الكفر بالطـاغوت جــزء مـن اليمـان بــال الــذي‬
‫يعني رفض الطاغوت ‪ ،‬والجبت ‪ ،‬والشــركاء ‪ ،‬والنــداد ‪ ،‬ومــن هــذا‬
‫المنطلق يبدأ النسان المؤمن تحركه ‪.‬‬
‫ولنفتـــرض ان كل الناس قد خضعوا للطاغوت فان هذا ل يعني ان‬
‫يلوذ النسان‬
‫بالسكوت بل يجب عليه ان يحاربه بمفرده ‪ ،‬لن هذا هو منطلق ايمانه‬
‫فالمؤمنون كــافرون بالطــاغوت فــي كــل الحــوال ســواء انتصــروا ام‬
‫فشلوا ‪.‬‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 90‬ص ‪305‬‬
‫ومع كل ذلك فان كل الظروف الصعبة التي نمر بهـا مـن شــأنها ان‬
‫تقربنا من النصر وتقرب اعداءنا من الهزيمة ‪ ،‬ولبد ان تبقــى حربنــا‬
‫المقدسة مع طواغيت الرض مشتعلة حتى ييأس الكفار من ان ينــالوا‬
‫من دينـنـا وقيـمنا ‪ ،‬وارادتنا ‪ ،‬وحينئذ ســينهزمون نفسـيـــا ‪ ،‬ويـولـــون‬
‫الدبار ‪ ،‬لنـنا نمتلك ) زاد اليمــان ( الــذي يمثــل قوتنــا العظمــى فــي‬
‫مواجهة تكالب اعداء الـ علينــا ‪ ،‬هــذه القــوة الــتي ينبغــي علينــا ان ل‬
‫نستهين بها مطلقــا لنهــا تمثــل الخلفيــة المنيعــة والقويــة للقــوة الماديــة‬
‫المتمثلة في العدة والسلح ‪.‬‬

‫اليمان طريق الستقامة‬

‫ان اعظم وسام يشرف ال ‪ -‬تعــالى ‪ -‬بــه النســان هــو ذلــك الوســام‬
‫الذي وعد بمنحه للمستقيمين على الطريقة ؛ فالــذين اســتقاموا يعطيهــم‬
‫ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬درجة هي من اختصاص النبياء ) عليهم السلم ( ‪،‬‬
‫لن ميزتهم هي انهم يؤيدون بالوحي ‪ ،‬ويهتدون بعلم ال ‪ ،‬وينظــرون‬
‫بنوره ‪ ،‬ويمنحون درجة المــن فــي حيــاتهم الــدنيا كمــا يمنحونهــا فــي‬
‫ل ُهـْم‬
‫عَلْيِهـْم َو َ‬
‫ف َ‬
‫خْو ٌ‬
‫ل َ‬
‫الخرة ‪ ،‬والى ذلك يشير قوله ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬ف َ‬
‫ن { ) البقرة ‪ ، ( 38 /‬وهذه الميزة يتفضل ال ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬بهــا علــى‬
‫حَزُنو َ‬
‫َي ْ‬
‫المستقيمين على الطريقة بعد النبياء ‪ ،‬ذلك لنه ‪ -‬تعالى ‪ -‬يقول‪:‬‬
‫خاُفوا‬ ‫ل َت َ‬‫لِئَكُة َأ ّ‬
‫عَلْيِهُم اْلَم َ‬
‫ل َ‬ ‫سَتَقاُموا َتَتَنّز ُ‬‫ل ُثّم ا ْ‬
‫ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫} ِإ ّ‬
‫ن { ) فصلت ‪. ( 30 /‬‬ ‫عُدو َ‬‫جّنِة اّلِتي ُكنُتْم ُتو َ‬ ‫شُروا ِباْل َ‬‫حَزُنوا َوَأْب ِ‬ ‫ل َت ْ‬
‫َو َ‬
‫والستقامة هي الدرجة الرفيعة العليا التي ل يصــل اليهــا ال القليــل‬
‫من الناس ‪ ،‬ويؤيد ذلك الحديث المروي عن الـــنبي ) صــلى الـ عليــه‬
‫وآله ( والـذي يـقول فيه ‪ " :‬الناس هــالكون ال العــالمون ‪ ،‬والعــالمون‬
‫هــــالكون ال العــــاملون ‪ ،‬والعــــاملون هــــالكون ال المخلصــــون ‪،‬‬
‫والمخلصون على خطر عظيم" ‪.‬‬
‫فحتى الذي يخلص ل عمله ‪ ،‬ويبلغ درجة الخلص الرفيعة يكــون‬
‫على خطر عظيم لنه ل يعلم كيف ســتنتهي عاقبــة امــره ‪ ،‬ول يــدري‬
‫هل سيموت مؤمنا ام ينحرف قبل وفاته ‪.‬‬

‫ومن الناس من انحرف قبيل وفاته فمات بعيدا عن الـ ‪ ،‬بعيــدا عـن‬
‫الجنة والرحمة ‪ ،‬ولذلك كانت وصية النبياء ) عليهم السلم ( لبنائهم‬
‫ن { ) البقــرة ‪/‬‬‫سـِلُمو َ‬‫ل َوَأْنُتــم ُم ْ‬‫ن ِإ ّ‬
‫ل َتُمــوُت ّ‬ ‫متمثلة في قوله ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬ف َ‬
‫‪ ، ( 132‬وهذا هدف عظيم يجب ان يتبناه النسان في حياته ؛ وهــو ان‬
‫يحرص على ان ل يموت ال وهو مسلم ‪ ،‬لن الحصول علــى الجنــة‬
‫هو اعظم الهداف ‪ ،‬وهذا الهدف ل يمكن ان يتحقـق ال بعـد ان تختـم‬
‫حياة النسان بالحسنى ‪.‬‬

‫ولكن كيف نحقــق هــذا الهــدف الــذي يــأتي بعــد اليمــان مــن ناحيــة‬
‫الهمية ‪ ،‬ال وهو هدف الستقامة الذي اشار اليه ‪ -‬تعالى ‪ -‬في سورة‬
‫موا { ) فصلت ‪. ( 30 /‬‬ ‫سَتَقا ُ‬
‫ل ُثّم ا ْ‬ ‫ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّ‬‫ن اّلِذي َ‬
‫فصلت قائل ‪ِ }:‬إ ّ‬
‫بالتوكل ‪:‬‬ ‫مواجهة التحديات‬
‫وسورة هود التي تبين تحديات المم الماضية للرسل ‪ ،‬وكيف انهــم‬
‫واجهوا تلــك التحــديات الكــبيرة بالتوكــل علــى الـ ‪ -‬ســبحانه ‪ ، -‬هــذه‬
‫السورة تتضمن في خواتيمهــــا حكمــة تعـبر عن محتواهــا ومغزاهــا‬
‫ك{‬ ‫ب َمَع ـ َ‬
‫ت َوَمن َتا َ‬
‫سَتِقْم َكَمآ ُاِمْر َ‬
‫متمثلة في قوله ‪ -‬عز من قائل ‪َ } :‬فا ْ‬
‫) هود ‪ ، ( 112 /‬وفي هذا المجال يروى عن النبي ) صلى ال عليه وآله (‬
‫ان احد اصــحابه تعجــب عنــدما رأى كــثرة الشــيب فــي رأســه الكريــم‬
‫رغـــم ان سنـــه كان بيـــن الربعيـن والخمســين ‪ ،‬فقـال ) صـلى الـ‬
‫عليه وآله ( له ‪ " :‬شيبتني سورة هود " ‪.‬‬
‫وهكـذا فـان رسول ال ) صلى الـ عليــه وآلــه ( المؤيــد بــالوحي ‪،‬‬
‫والذي كان نبيا وآدم ما بين الطين والتراب ‪ ،‬والذي اخذ ال ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫ميثاق اليمان برسالته من كــل النــبيين ‪ ،‬هــذا النــبي كــان يهــتز عنــدما‬
‫ت {‪.‬‬ ‫سَتِقْم َكَمآ ُاِمْر َ‬
‫يسمع قوله ‪ -‬عز وجل ‪َ } : -‬فا ْ‬
‫ومن هنا نستنتج ان الطريق طويل ‪ ،‬والعقبات كثيرة ‪ ،‬والمتحانات‬
‫والفتن عظيمة ‪ ،‬واننـا يجــب ان ل نغـتر بأنفســنا ‪ ،‬بـل علينـا ان نثبـت‬
‫على هذه الطريقة الى نهايــــة اعمارنا ‪ ،‬ولقد كنا نسمع الخطباء وهــم‬
‫يرددون من فوق المنابر قول النبي ) صلى ال عليــه وآلــه ( ‪ " :‬يــأتي‬
‫زمان على امتي القابض فيـه علــى دينـه ‪ ،‬كالقــابض علـى جمــرة مـن‬
‫نار" ‪.‬‬
‫ولكننا لم نكن ندرك مغزى هذا القول حتى وقعت حــوادث فــي هــذا‬
‫الزمان ‪ ،‬ورأينا كيف ان الكفار اســتولوا علــى البلد ‪ ،‬وحرمــوا علــى‬
‫الناس اقامة الشعائر الدينية ‪ ،‬ثم اكتشفنا حينئذ ان المستقيم على دينــه ‪،‬‬
‫والمحافظ عليه هو اصعب حال من القابض على جمرة من نار ‪.‬‬

‫وبناء على ذلك ؛ كيــف أغــتر بنفســي ‪ ،‬وامنيهــا بــان تكــون نهــايتي‬
‫سعيدة من دون التوكل على ال ‪ ،‬والثقة به ‪ ،‬والعتماد عليــه ‪ ،‬ولتكــن‬
‫لنا في هذا المجال اسوة حسنة في ائمتنا ) عليهم الســلم ( ‪ ،‬فعــن ابــن‬
‫ابي يعفور قال ‪ :‬سمعت أبا عبــد الـ الصــادق ) عليــه الســلم ( يقــول‬
‫وهو رافع يده الى السماء ‪ :‬رب ل تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا ل‬
‫أقل من ذلك ول أكثر قال ‪ :‬فما كان بأسرع من أن تحــدر الــدموع مــن‬
‫جوانب لحيته ثم أقبل علي فقال ‪ :‬يا أبن أبي يعفور ان يونس بــن مــتى‬
‫وكله ال عز وجل الى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلــك الــذنب ‪،‬‬
‫قلت ‪ :‬فبلغ به كـفـرا اصـلـحـك ال قال ‪ :‬ل ولـكـــن المــوت علــى تلــك‬
‫‪((1‬‬
‫الحال هلك ‪.‬‬

‫الستقامة ‪:‬‬ ‫وسام‬


‫وهكذا فان اعظم وسام هو وسام الســتقامة الــذي منحــه الـ ‪ -‬جــل‬
‫شأنه ‪ -‬للذين يستقيمون على الطريقة ‪ ،‬فهــؤلء تتنزل عليهم الملئكــة‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫الكافي ج ‪ 2‬ص ‪581‬‬
‫لــ ُثـــــّم‬
‫ن َقــاُلوا َرّبَنـــــا ا ُّ‬
‫ن اّلــِذي َ‬
‫تــترى ‪ ،‬كمــا يقــول ‪ -‬تعــالى ‪ِ }: -‬إ ّ‬
‫كُة { ) فصلت ‪. ( 30 /‬‬ ‫لِئ َ‬
‫عَلْيِهُم اْلَم َ‬
‫ل َ‬
‫سَتَقاُمــــوا َتَتَنّز ُ‬
‫اْ‬
‫والسؤال المهم الـمطروح في هـذا المجال هو ‪ :‬كيــف نســتقيم علــى‬
‫الدرب ؟‬
‫وقـبـل ان اجـيـب عـلـى هـذا الســؤال لبــد ان اقدم لـــــه بـتـــفسير‬
‫مـعنـــــى ) اليمان ( ؛ هذه الكلمة التي شاعت وتكــررت فــي القــرآن‬
‫الكريــم ‪ ،‬والحــاديث الشــريفة ‪ ،‬فمــا هــو اليمــان ‪ ،‬ومــا هــي اركــانه‬
‫وشروطه ‪ ،‬وكيف نحقق اليمان الحق في انفسنا ؟‬
‫ان اليمان يتجلـى عنــدما يخيــر النســان بيـن هــوى النفــس والحــق‬
‫فيختار الحق ويــذعن لـه وخصوصــا عنـدما يكـون هــذا الحــق مخالفـا‬
‫لهواه ‪ ،‬وعلى هذا فاننا نقف ازاء ظاهرة مهمة هــي ظــاهرة اليمــان ‪،‬‬
‫واختيار الحـق على الهوى ‪ ،‬وعادة ما تبدأ خيارات النسان بين الحق‬
‫وهــوى النفــس بســيطة ليتقــدم فــي اليمــان تــدريجيا حــتى يصــل الــى‬
‫مستوى الستقامة ‪ ،‬وعلى العكس من ذلك فان الذين يختارون الهــوى‬
‫فــانهم يتنزلــون درجــة بعــد اخــرى حــتى يصــلوا الــى درجــة اســفل‬
‫السافلين ‪.‬‬

‫والمتحان في مدرسة ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬ليكون حسب اختيــار النســان‬


‫وهذه المتحانات تتدرج في الصعوبة حتى يصبح النســان قريبــا مــن‬
‫درجة النبياء ‪ ،‬اي درجة الذين يستقيمون على الطريقــة ‪ ،‬امــا عنــدما‬
‫يسقط هذا النسان في المتحان اللهي فانه ينزل درجة الى السفل ‪.‬‬
‫وبالطبع فان بامكان النسان ان ل يسقط ‪ ،‬وان يهديه ال ‪ -‬تعــالى ‪-‬‬
‫في لحظة من اللحظات كما حدث للحر بن يزيد الريــاحي الــذي ســقط‬
‫في المتحان الول عندما لم ينضم الى جبهة الحــق فــي عهــد مســلم ‪،‬‬
‫ولم يترك الكوفة ‪ -‬مثل ‪ -‬لكي ل يضــطر الــى الشــتراك فــي الحــرب‬
‫ضد المام الحسين ) عليه السلم ( لنه كان ضابطا كبيرا يرغب فــي‬
‫ان يحصل على مفخرة في هذه الحرب ‪ ،‬وهكذا اشترك في البــدء فــي‬
‫الحرب ضد ابي عبد ال ) عليه السلم ( وجعجع بأهل بيت الرسالة ‪،‬‬
‫ولكنه في لحظة من اللحظات صعد بشكل مفاجىء وسريع فانتقل مــن‬
‫اسفل السافلين ‪ ،‬الى اعلى عليين بفضل ال سبحانه وتعالى ‪.‬‬

‫ومن الثابت ان النسان كلما سقط درجــة فـانه يبتلــى بامتحـان اخــر‬
‫فيسقط درجة اخــرى حــتى يصــل الــى ادنــى المســتويات كمــا يقــول ‪-‬‬
‫لـ‬
‫ت ا ِّ‬
‫ســوَأى َأن َكـّذُبوا ِبَاَيـا ِ‬
‫سـآُءوا ال ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫عاِقَبَة اّلـِذي َ‬
‫ن َ‬‫تعالى ‪ُ } : -‬ثّم َكا َ‬
‫ن { ) الــروم ‪ ( 10 /‬اي ان النســــان الــذي يرتكــب‬ ‫س ـَتْهِزُئو َ‬
‫َوَكــاُنوا ِبَهــا َي ْ‬
‫المعاصــي ‪ ،‬ويســقط فــي دركــات العصــيان دركــة فدركــة ‪ ،‬فــان هــذا‬
‫النسان ينتهي به المر الى الكفر بكل شيء ‪.‬‬

‫وعلـى هذا فان علينا ان نكون حذريــن ‪ ،‬فــاذا اذنبنــا الــذنب الول‬
‫فان علينــا‬
‫العتراف به ‪ ،‬وان ل نبرره لننا لو بررناه فان حالنا سيزداد ســوء ‪،‬‬
‫وعلى سبيل المثال فان النسان المســلم الــذي يـترك الصــلة ‪ ،‬ويــبرر‬
‫تركه لها بان ال لم يوفقه بعد لهذا الطريق رغــم انــه يعلــم ان الصــلة‬
‫تنهى عن الفحشاء والمنكر ‪ ،‬فان مثل هذا الشخـــص احسن حال مــن‬
‫ذلك الذي يبرر تركه للصــلة بانهـا ليسـت واجبـة اساسـا ‪ ،‬فمثـل هـذا‬
‫التبرير هو أسوء من تــرك الصــلة ‪ ،‬ذلــك لن النســان عنــدما يــترك‬
‫الصلة وهو مقتنع بوجوبها فان من الممكن ان يهديه ال ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬
‫بعيد ‪.‬‬ ‫فــي يوم من اليام ‪ ،‬اما الذي ينكر الصلة فان المل بهدايته‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫اول مراحل‬


‫ولذلك فان النسان يجــب ان ليعتبر نفســه معصــوما مــن الخطــأ ‪،‬‬
‫فكل انسان يخطأ ‪ ،‬والعتراف بالخطأ هو بمثابة ارتقاء اولى درجات‬
‫التوبـة ال وهـي النـدم ‪ ،‬فالنـدم يـأتي بعـد العـتراف بالـذنب داخليـا ‪،‬‬
‫ولذلك فان من المفروض بالنسان ان يستشعر الندم اول ثم يتوب الى‬
‫ال ‪ ،‬ويصلح عملــه ‪ ،‬فــاذا تــرك الصــلة فليقضــها ‪ ،‬واذا اخــذ امــوال‬
‫الناس فليرجعها اليهم‪ ،‬وبهذا السلوب يمحي النسان آثار الذنوب مــن‬
‫نفسه ‪ ،‬ويضمن النجاح في المتحانات اللهية ‪ ،‬امــا النســان الــذي ل‬
‫يتوب الى ال ‪ ،‬فان الذنب ســيتكرس فــي قلبــه ‪ ،‬ويكــون مــن الصــعب‬
‫عليه ان يزيل هذا الذنب لن نفسه سيحيط بها المرض ‪.‬‬

‫وهنا توجد فكرة استوحيتها من آيــات ســورة الحديــد الــتي هــي مــن‬
‫غرر ســور القــرآن الكريــم شــريطة ان تكــون لنـا آذان واعيــة ؛ هــذه‬
‫الفكرة تتمثل في ضرورة ان يستشــعر النســان المــؤمن الخشــوع فــي‬
‫شـَع ُقُلــوُبُهْم‬
‫خَ‬‫ن َءاَمُنــوا َأن َت ْ‬
‫ن ِلّلـِذي َ‬
‫قلبه كما يقول ‪ -‬تعـالى ‪َ } : -‬أَلـْم َيـْأ ِ‬
‫ب ِمــن َقْبـ ُ‬
‫ل‬ ‫ن ُاوُتــوا اْلِكَتــا َ‬‫ل َيُكوُنوا َكاّلِذي َ‬ ‫ق َو َ‬ ‫حّ‬ ‫ن اْل َ‬‫ل ِم َ‬ ‫ل َوَما َنَز َ‬ ‫ِلِذْكِر ا ِّ‬
‫هْم { ) الحديد ‪. ( 16 /‬‬ ‫ت ُقُلوُب ُ‬
‫س ْ‬ ‫لَمُد َفَق َ‬‫عَلْيِهُم ا َ‬‫ل َ‬
‫طا َ‬‫َف َ‬
‫والمهم في سورة الحديد المباركة ان القرآن الكريم يصــرح ان كــل‬
‫ما في الوجود يسبح ل وينزهــه ‪ ،‬فهــو ‪ -‬تعــالى ‪ -‬ل يشــبه شــيئا ‪ ،‬ول‬
‫يمكن ان تتصوره الوهام ‪ ،‬فهو نور ولكن ل كالنور الذي نعرفه ‪.‬‬

‫ض { ) الحديد ‪، ( 5 /‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ك ال ّ‬‫وهو المقتدر المهيمن ‪َ } :‬لُه ُمْل ُ‬
‫ومــن آيــات ملكــه انــه يخلــق الشــجرة مــن الحبــة الصــغيرة ‪ ،‬ويجعــل‬
‫النسان السوي من نطفة تافهة ‪ ،‬واذا شاء سـلب منـه روحــه فـاذا هـو‬
‫يٍء َقـِديٌر { ) الحديــد ‪، ( 2 /‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫عَلى ُك ّ‬ ‫ت َوُهَو َ‬ ‫حِيي َوُيِمي ُ‬ ‫جثة هامدة ‪ُ } :‬ي ْ‬
‫وبناء على ذلك فان ال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬على كل شيء قـدير ‪ ،‬فقــد خلــق‬
‫الفيــل والحــوت بعظمتهمــا ‪ ،‬وخلــق ايضــا الذبابــة والبعوضــة علــى‬
‫صغرهما في حين ان هذين الحيوانين الصغيرين مثل ذينك الحيــوانين‬
‫الضخمين في اجهزتهما ‪ ،‬فسبحان ال الذي يخلـق ما ل يمكن للنسان‬
‫ان يتصوره ‪.‬‬

‫خـُر { ) الحديــد ‪ ( 3 /‬ففــي‬ ‫لِ‬ ‫ل َوا َ‬ ‫لّو ُ‬


‫ثم يستأنف ‪ -‬تعالى ‪ -‬قائل ‪ُ }:‬هَو ا َ‬
‫المرحلة الولى من يوم القيامة يكون الموت عامــا وشــامل مــن خلل‬
‫اسرافيل الذي يميت بنفخة صوره كــل شــيء حــي‪ ،‬وهنــا يبقــى شــيء‬
‫واحــد حــي غيــر الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬ال وهــو اســرافيل نفســه ‪ ،‬وفــي هــذه‬
‫اللحظات يأتي الخطاب من الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لســرافيل ‪ :‬مــن هــو‬
‫باق ؟ فيجيب ‪ :‬عبدك الذليــل اسرافيــــــل ‪ ،‬وحينئذ يقــول لــه تعــالى ‪:‬‬
‫مت ‪ ،‬فيموت وينتهي ‪ ،‬وحينئذ ينطلـق النــداء مـن الواحــد القهـار لمــن‬
‫الملك اليـــــوم ؟ فيــــدوي هــذا النــداء فــــي الرض والسمــــاء ‪ ،‬وفــي‬
‫الوجود والعدم ول من‬
‫مجيب ‪ ،‬حتى يجيب ‪ -‬تعالى ‪ -‬نفسه قائل ‪ :‬ل الواحد القهار ‪.‬‬

‫ظاِهُر‬ ‫خُر َوال ّ‬ ‫لِ‬ ‫ل َوا َ‬‫لّو ُ‬‫ويستمر السياق القرآني الكريم قائل ‪ُ } :‬هَو ا َ‬
‫لْر َ‬
‫ض‬ ‫ت َوا َ‬ ‫سـَماَوا ِ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خَلـ َ‬‫عِليـٌم * ُهـَو اّلـِذي َ‬ ‫يٍء َ‬‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ن َوُهَو ِبُك ّ‬ ‫طُ‬ ‫َواْلَبا ِ‬
‫ض َوَمــا‬‫لْر ِ‬ ‫ج ِفــي ا َ‬‫ش َيْعَلـُم َمــا َيِلـ ُ‬
‫عَلــى اْلَعـْر ِ‬
‫سـَتَوى َ‬ ‫سّتِة َأّياٍم ُثـّم ا ْ‬
‫ِفي ِ‬
‫ن َمــا‬‫ج ِفيَهــا َوُهـَو مََعُكـْم َأْيـ َ‬ ‫سَمآِء َوَما َيْعـُر ُ‬
‫ن ال ّ‬‫ل ِم َ‬‫ج ِمْنَها َوَما َينِز ُ‬ ‫خُر ُ‬‫َي ْ‬
‫كنُتْم { ) الحديد ‪. ( 4-3 /‬‬ ‫ُ‬
‫فاذا نزلت قطرة من السـماء الى الرض فان الـ ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬يعلــم‬
‫بـــها ‪ ،‬وكــذلك يحيــط علمــا حــتى بالنبتــة الصــغيرة الــتي تخــرج مــن‬
‫الرض ‪.‬‬

‫الستخلف ‪:‬‬ ‫مفهوم‬


‫ويقـــول ‪ -‬عـــز وجــــل ‪ -‬بعـــد ذلـــــك مشــيــــر الــــــى مفهـــــوم‬
‫ن َءاَمُنــوا‬
‫ن ِفيـِه َفاّلـِذي َ‬
‫خَلِفي َ‬
‫سَت ْ‬
‫جَعَلُكم ُم ْ‬
‫) الستخــلف ( ‪َ } :‬وَأنِفُقوا ِمّما َ‬
‫جــٌر َكِبيــٌر { ) الحديـــد ‪ ، ( 7 /‬تــرى مــاذا يعنــي "‬ ‫ِمْنُكـــْم َوَأنَفُقــوا َلُهــْم َأ ْ‬
‫الستخلف " ؟ للجواب على هذا السؤال نقول ان هناك نظريــة تــرى‬
‫ان النسان له الحق في ان يمتلك وهي نظرية ) هيجل ( فــي الرادة ‪،‬‬
‫هذه النظرية التي يتبناهــا النظــام الرأســمالي والــتي تقــول ان النســان‬
‫مادام مريدا ‪ ،‬فان هذه الرادة تعطيه الحق في ان يمتلــك ‪ ،‬وهــذه هــي‬
‫نظرية الحق المستنبط من الرادة ‪ ،‬وقد انبثقت منها في علم القتصاد‬
‫نظرية ) آدم سـميث ( الخاصــة بالقتصـاد الحــر ‪ ،‬وفـي علـم القـانون‬
‫ترى هذه النظرية ان ) العقد ( هو شريعة المتعاقــدين ‪ ،‬وفــي السياســة‬
‫هناك نظرية ) جان جاك روسو ( التي يقول فيها ان النظــام السياســي‬
‫قائم على العقد الجتماعي ‪.‬‬

‫وهذه النظريات كلها تــدور حـول محور واحد هو ) ارادة النسان (‬


‫‪ ،‬وهنا من‬
‫حقنــــا ان نتســاءل ‪ :‬تــرى هــــل جئنـــــا نحــن بهــذه الرادة الــتي‬
‫نمتلكهــــا ‪ ،‬ام ان الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬هــو الــذي اعطانــا اياهــا ؟ ‪ ،‬فــي هــذا‬
‫ل{‬ ‫شآَء ا ّ‬
‫ل َأن َي َ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫شآُؤو َ‬
‫المجال يصرح القرآن الكريـم قائل ‪َ } :‬وَما َت َ‬
‫) النسان ‪ ، ( 30 /‬وبناء على ذلك فانني لست المالك الحقيقــي ‪ ،‬فروحــي‬
‫بيده ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فان قبضها واصبحت تحت الــتراب ‪ ،‬فهــل يمكننــي‬
‫بعد ذلك ان ادعي الملك ؟ فهل يملك شيئا من هو تحت التراب ؟‬
‫واستنادا الى ذلك فان النسان ل يملك شيئا ‪ ،‬ومادام كذلك فان ال ‪-‬‬
‫جلت قدرته ‪ -‬هو المالك المقتدر ‪ ،‬كما ان علقتنــا بالمــال هــي مجــرد‬
‫علقة الستخلف الذي يعني اننا مفوضون في المال الــذي رزقنــا بـه‬
‫حسب القانون الموجود ‪ ،‬تماما كما نرى ذلك في العلقة بيــن الموكــل‬
‫والوكيل ‪.‬‬
‫عام ‪:‬‬ ‫النفاق مفهوم‬
‫) الحديــد ‪( 7 /‬‬‫ن ِفيـهِ‬
‫{‬ ‫خَلِفي َ‬
‫سـَت ْ‬
‫جَعَلُكــم ُم ْ‬
‫وفي هذه الية ‪َ }:‬وَأنِفُقــوا ِمّمــا َ‬
‫ليست هنا اشارة صريحة الى ان النفـــاق يجب ان يكـــون من المـال‬
‫حتما ‪ ،‬فالنسان ربما ل يملــك المــال ‪ ،‬بــل قــد يمتلــك ‪ -‬مثل ‪ -‬اللســان‬
‫الطيب ‪ ،‬وعلى هذا السـاس فـان اللسـان مـن الممكـن ان يكـون رأس‬
‫مال استطيع ان استثمره في سبيل ال من خلل استخدامه فــي طريــق‬
‫الخير ‪ ،‬واستعماله في الصلح بين الناس كما يقول الحديث الشريف‬
‫‪ " :‬اصلح ذات البين افضل من عامة الصلة والصيام " ‪.‬‬
‫وهكــذا الحــال بالنسبة الى ) الجــاه ( ‪ -‬مثل ‪ -‬فــان باستطاعتــــي ان‬
‫اوظفــه ‪ ،‬و ) انفقه ( فـــي سبيل الخير العام ‪ :‬كأن استغله فـي جمــــع‬
‫التبرعات للفقراء ‪ ،‬وبناء‬
‫المساجد ‪ ،‬والصلح بين الناس ‪.‬‬

‫وبالضافة الى ذلك فان النسان قد يمتلك العلــم ‪ ،‬ومــن المعلــوم ان‬
‫زكاة العلم هو نشــره بيــن الخريــن ‪ ،‬واخــراج هــذا النــور مــن قلوبنــا‬
‫ليستضيء به الناس ‪ ،‬وربما يتذرع الواحــد منـا فـي هـذا المجـال بـأنه‬
‫ليس عالم دين ‪ ،‬وانه لم يضع لحد الن عمامة على رأسه ‪ ،‬وفــي هــذه‬
‫الحالة فان الناس سوف يستهزؤون به اذا ما قدم العلم والنصـح لهــم ‪،‬‬
‫في حين ان المر علــى العكس من ذلك تماما ‪ ،‬فالنســان الــذي ينفــق‬
‫من علمه سوف يــزداد علمــا ‪ ،‬فكلمــا اعطــى هــــذا النســان شــيئا فــي‬
‫سبيل ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬كلما رفع من شان صاحبه ‪ ،‬ونمى ما يعطيه ‪.‬‬
‫وتأسيسا على كل ما سبق فان القضية كلها تتلخص في كلمة واحــدة‬
‫هي ان النسان يجب ان يعرف ان كل ما فــي يــده مــن مــال ‪ ،‬وجــاه ‪،‬‬
‫وعلم ‪ ،‬ورئاسة ‪ ..‬انما هو مستخلف فيه ‪ ،‬وان عليــه ان يتخــذه طريقــا‬
‫لمرضاة ال ‪ -‬جل شأنه ‪. -‬‬
‫واذا ما ترسخ هذا السلوب لدى النسان فستحصل عنده الســتقامة‬
‫التي توجب عليه ان يجعل كل قدراته ‪ ،‬وممتلكاته وسيلة للتقــرب الــى‬
‫ال ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬وحينئذ ستنتهي حياة هذا النسان بالحسنى الــتي يشــير‬
‫اليها قوله ‪ -‬عز من قائل ‪:‬‬

‫ن { ) البقرة ‪. ( 132 /‬‬


‫سِلُمو َ‬
‫ل َوَأْنُتم ُم ْ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫} َفلَ َتُموُت ّ‬
‫وال فان النســان الــذي يــرى ان كــل شــيء هــو ملك له وحــده‬
‫دون الخذ بنظر العتبار كــون المـــلك الحقيقـــي للــــه ‪ -‬عــز وجــــل‬
‫‪ ، -‬مثـل هذا النسان يسقط في المتحانـات اللهية الـواحد تلو الخــر‬
‫ن{‬ ‫ســاِفِلي َ‬
‫ل َ‬
‫سـَف َ‬
‫حتى يكــون مصــداقا لقــوله ‪ -‬تعــالى ‪ُ } : -‬ثـّم َرَدْدَنــاُه َأ ْ‬
‫) التين ‪. ( 5 /‬‬

‫شمولية الرؤية لدى النسان المؤمن‬


‫من صفات النسان المؤمن شمولية الرؤية ومواجهة غرور الجهــل‬
‫بينما الفاقد لليمان تكون نظرة تجزيئية لنه يزعم انه عليم بكل شــيء‬
‫بسبب غروره الداخلي ‪ .‬فاعتراف النسان بجهله هي الخطوة الولــى‬
‫نحو المعرفة ‪.‬‬

‫ان شمولية الرؤية لدى النسان المؤمن تــؤثر علــى مختلــف ابعــاد‬
‫حياته ‪ ،‬وتؤدي دورا أساسيا في تطويرها حيث انها تلغــي التناقضــات‬
‫الموهومــة بينهــا ‪ .‬بينمــا نجــد البعــض يزعــم ان حيــاته هــي كتلــة مــن‬
‫التناقضات بسبب رؤيته المحدودة ‪ ،‬فاذا انشغل بعمــل اجتمــاعي تــراه‬
‫يفقــد القــدرة فــي ادارة أســرته ‪ ،‬واذا اهتــم بأســرته اهمــل المســؤولية‬
‫الجتماعية ‪ ،‬واذا اهتم بالدنيا ترك الخرة وبالعكس ‪.‬‬

‫ونحن كمؤمنين نحمل رسالة الى الناس علينا ان ل ننشغل بالعمــل‬


‫الجتمـــاعي عـــن تزكيـــة النفـــس ‪ ،‬ول بتزكيـــة النفـــس عـــن العمـــل‬
‫الجتماعي ‪ ،‬بل لنحاول ان نقر التوازن في حياتنا بين جميع الجوانب‬
‫‪ ،‬ونعطي لكل جانب حقه ‪.‬‬

‫وفي هذا المجال لبــد ان نقــول ان العمـــل الجتمـاعي ليمكــن ان‬


‫ينفصل عن العمل السياســي ‪ ،‬فهــذان العملن يتكــاملن مــع بعضــهما‬
‫ليكونا الحياة الفاضلة ‪ ،‬لن النسان المؤمن ليرى بين هذين الجانبين‬
‫اي تناقض مطلقا ‪ ،‬ولنا في هذا الصدد أســوة حســنة ‪ ،‬وقــدوة صــالحة‬
‫بعلمائنــا العلم فقــد كــانوا فــي نفــس الــوقت الــذي يدرســون فيــه‬
‫الموضــوعات الفقهيــة ‪ ،‬يتحــدثون عــن القضــايا السياســية العالميــة ‪،‬‬
‫ويبعثـون بالرسائل والخطابات الى المؤتمرات والرؤســـــاء ‪ ،‬وفـــــي‬
‫ذات الــوقت كــانوا ينشــغلون بالتعبــد والتهجــد ليل ليســتمدوا الــروح‬
‫والحيوية مـن خـالقهم ‪ .‬فالنســان مــن دون التصـال بـال ‪ -‬تعـالى ‪-‬‬
‫ومن غير نوره يتحول الى موجــود تــافه ‪ ،‬فنــــراه يفقــد الثقــــة بنفســه‬
‫وينهــار مـــن الـداخــــل ويـكـــون مـصـــداقا لقــوله ‪ -‬عــز وجــل ‪} : -‬‬
‫سُهْم { ) الحشــر ‪ ( 19 /‬فالنسان الذي ينسـى ربـه انمـا‬ ‫ساُهْم َأنُف َ‬
‫ل َفَان َ‬
‫سوا ا َّ‬
‫َن ُ‬
‫يحكــم علــى نفســه بالنتحــار المعنــوي ‪ ،‬فــي حيــن ان التصــال بــال‬
‫والتوكل عليه والثقة به كل ذلك يجعل للحياة معنى ومضمونا ‪.‬‬

‫هرمية ‪:‬‬ ‫نظرة‬


‫وهكذا فان المؤمن يستقبل برحابة صدر وبقدر كبير من الحيوية كل‬
‫حادثة تقع في حيــاته فــتراه ايجابيــا علــى طــول الخــط ‪ ،‬لن التنــاقض‬
‫سينعدم من حياته ‪ ،‬ولنه يرى الحياة كلهـا فــي حالــة هرميــة متدرجــة‬
‫تقع معرفة ال ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬في قمتها ‪.‬‬

‫ان هذه النظرة الهرمية التي يقع اليمان بال والتسليم له في قمتها ‪،‬‬
‫ثم تنحدر لتشمل العالم كله سوف تؤدي الى ان يمتلك النسان المــؤمن‬
‫رؤية تكاملية ‪ ،‬ولذلك فـانه ليعاني من مشــكلة التنــاقض بيــن الوســيلة‬
‫والهدف ؛ فالوسيلة تبقى عنده جسرا‬
‫الى الهدف ‪ ،‬وليمكن ان تتحول في اي حال من الحــوال الــى هــدف‬
‫بحد ذاته ‪.‬‬
‫واذا ما تحولت الوسائل عند النسان الى اهداف فحينئذ تظهر لديه‬
‫حالة من الشرك تغزو قلبه ‪ ،‬ولبد ان يحذر منها ؛ وعلى سبيل المثال‬
‫فانه اذا انتمى الـى تنظيـم مـا فـان عليـه ان يحــذر اشـد الحـذر مـن ان‬
‫يحــول هــذا التنظيــم ‪ -‬الــذي هــو وســيلة ‪ -‬الــى هــدف ‪ .‬وهكــذا الحــال‬
‫بالنسبة الى العتبارات المادية الخرى فانها كلهــا تبقــى محترمــة فــي‬
‫حدود كونها وسيلة ‪ ،‬فاذا تحولت الى هدف فانها ســتكون صــنما يعبــد‬
‫مــن دون ال ‪ -‬تعــالــى ‪ ، -‬وهذه الصنمية هـي الــتي تــدفع المــؤمنين‬
‫الى ان يضرب بعضهـــــم بعضــا فتنشـــأ لديهـــم الحــــالة الــتي يشيــــر‬
‫ن * ِمـ َ‬
‫ن‬ ‫ش ـِرِكي َ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫ل َتُكوُنــوا ِم ـ َ‬
‫اليها القرآن الكريم فـــي قـولـه ‪َ } :‬و َ‬
‫شَيعًا { ) الروم ‪. (32-31 /‬‬
‫ن َفّرُقوا ِديَنُهْم َوَكاُنوا ِ‬
‫اّلِذي َ‬

‫‪:‬‬ ‫الختلف شرك‬


‫وبناء على ذلك فان هذه اختلفات ان دلت على شيء فانما تدل على‬
‫النظريات الشركية والصنمية التي تتحجر علــى الوســائل ول تنطلــق‬
‫نحو الهدف الكبر ‪ ،‬وهذه الختلفـات هـي الـتي تسـبب تمـزق المـة‬
‫وبعث اسباب الشقاق فيهــا ‪ ،‬وقــد لعــن القــرآن الكريــم بصــريح القــول‬
‫الشخاص الذين يـثيرون هــذه الختلفــات ‪ ،‬وأمــر نبيــــه )صــلى الـ‬
‫ن َفّرُقــوا ِديَنُه ـْم‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫عليه وآله وسلم( ان يتبـرأ منهـم فــي قـوله ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫ء { ) النعام ‪. ( 159 /‬‬
‫يٍ‬‫ش ْ‬
‫ت ِمْنُهْم ِفي َ‬
‫س َ‬
‫شَيعًا َل ْ‬
‫َوَكاُنوا ِ‬
‫وفي مجال بعث روح التفاؤل واليجابية لدى النسان لكي ليبتلى‬
‫بالنظرات السلبية في الحياة التي تسبب حدوث الختلفــات بيــن ابنــاء‬
‫هــا {‬ ‫شُر َأْمَثاِل َ‬
‫سَنِة َفَلُه عَ ْ‬
‫حَ‬ ‫جآَء ِباْل َ‬
‫المة ‪ ،‬يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬من َ‬
‫) النعام ‪ ، ( 160 /‬فمن خلل هذه الية يريد القرآن الكريم ان يـذكرنا بـان‬
‫على النسان ان ليبحث عن الكمـال المطلق لن هذا الكمــال مقتصر‬
‫على الخالق ‪ -‬جل وعل ‪ ، -‬ولننـا بشــر فــان الســلبيات قـــــد تطغــــى‬
‫على حياتنــا ‪ ،‬ولذلــك فقـد شرع اللـــه ‪ -‬تعــالى ‪ -‬قــانون الثابــة علــى‬
‫الحسنة بعشــرة امثالهـــــا ‪ ،‬والمجــازاة علـــى الســيئة بواحــــدة مثلهــا ‪:‬‬
‫ن { ) النعام ‪. ( 160 /‬‬ ‫ظَلُمو َ‬‫ل ِمْثَلَها َوُهْم لُي ْ‬‫جَزى ِإ ّ‬‫سّيَئِة َفل ُي ْ‬‫جآَء ِبال ّ‬‫} َوَمن َ‬
‫ثم يستأنف السياق القرآني الكريم مبينا الهدف النهائي الذي يســعى‬
‫حَيــا َ‬
‫ي‬ ‫س ـِكي َوَم ْ‬ ‫لِتي َوُن ُ‬ ‫صـ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫النسان المؤمن من أجل تحقيقه ‪ُ } :‬ق ْ‬
‫ت َوَأَنــْا َأّو ُ‬
‫ل‬ ‫ك ُاِمــْر ُ‬
‫ك َلــُه َوِبــَذِل َ‬
‫شــِري َ‬
‫ل َ‬‫ن* َ‬ ‫ب اْلَعــاَلِمي َ‬
‫لــ َر ّ‬ ‫َوَمَمــاِتي ِّ‬
‫ن { )النعام ‪.(163-162 /‬‬ ‫سِلِمي َ‬
‫اْلُم ْ‬
‫ان هذه الرؤية التي تزودنا بها هذه الية الكريمة هـي الــتي تعلمنـا‬
‫كيف نتعامل مع المجال الجتماعي والسياسي والحركــي ‪ ...‬فالنســان‬
‫المــؤمن بامكــانه ان يقتبــس مــن هــذه الرؤيــة وهــو يعمــل فــي مجــال‬
‫الجتماع او السياسة دون ان يشغله هذا العمل عن اهــدافه الرئيســية ‪،‬‬
‫وتنفيذ مخططه الستراتيجي الذي وضعه لنفسه ‪.‬‬

‫فلنربط ‪ -‬اذن ‪ -‬الفروع بالصول ‪ ،‬وفي هذه الحالة سنكون قريبين‬


‫من الهدف دائما ؛ اي اننا سنخطو خطوات سريعة نحو الهدف الكبر‬
‫ال وهــو تحريــر عقولنــا مــن التبعيــة والثقافــات التبريريــة والفكــار‬
‫اللمسؤولة كما ســيكون بامكاننــا دفــع الجمــاهير المســلمة الــى المــام‬
‫وانشاء جيل يتصدى للجهل والتخلف والتبعية ‪.‬‬
‫المفهوم الحقيقي لليمان‬

‫ســنتحدث عــن شخصــية ابراهيــم ) عليــه الســلم ( الب الروحــي‬


‫لرحلة الحج اللهية ‪ ،‬وامام الموحدين ‪ ،‬ومحطــم اصــنام المشــركين ‪،‬‬
‫هذا الرجل الذي بدأ مسيرة التوحيــد لبــد ان نتحــدث عنــه ‪ ،‬ونتعــرف‬
‫علــى قصــته ‪ ،‬ونوجــد علقــة روحيــة حميمــة بيننــا وبيــن شخصــيته‬
‫الكريمة ‪.‬‬
‫ان ابراهيم ) عليه السلم ( ليس بعيدا عنا ‪ ،‬فهو ذلك الرجل الذي له‬
‫الحق علينا بعد النبي محمد ) صلى ال عليــه وآلــه ( ‪ ،‬فــاذا كنــا اليــوم‬
‫نتجــه الــى الكعبــة ‪ ،‬ونكّبــر ‪ ،‬ونســعى مــن اجــل تحطيــم الوثـــان ‪،‬‬
‫والصنام في نفوسنا ومجتمعاتنا فالفضل فـي ذلـك يعـود الـى ابراهيـم‬
‫) عليه السلم ( الذي كان اول شخص بادر الى ذلك ‪.‬‬
‫والســؤال المطــــروح هنا ‪ :‬ما الذي ينبغي ان نفهمــه مــن شــخص‬
‫ابراهيم الخليل ) عليه السلم ( ‪ ،‬وكيف يتجلى هذا الشخص في آيــات‬
‫الذكر الحكيم ؟ وكيف يجب ان نجعله قدوة لنا ؟‬
‫سلبيات النظرة التجزيئية ‪:‬‬
‫قبل كل شيء ارى مــن الضـــروري ان ابيــن حقيقــة ان نظرتنــا الــى‬
‫الشياء هي نظرة تجزيئية ‪ ،‬فعندما تدخل على سبيل المثال فــي قاعــة‬
‫فانك توجه نظرك الى المقاعــد والــى ســائر الشــياء الموجــودة فيهــا ‪،‬‬
‫وبعبارة اخرى الى جزئيات هذه القاعة ‪ ،‬ولكنك بحاجــة الــى ان تلقــي‬
‫نظرة كلية عامة الى ما في الـقـاعة ‪ ،‬وهذه النظــرة هــي الــتي تمنحــك‬
‫القدرة على التفكير والتـخطيط ‪.‬‬
‫وهكذا ل يكفي ان ننظر الى الجزئيات ‪ ،‬وحتى اذا بقينا ننظـر اليهـا‬
‫لمــدة طويلــة فاننــا لــن نحصــل علــى معرفــة الحقيقــة ‪ ،‬لن الجزئيــات‬
‫مرتبطة في النهاية باطار كلي واحد ‪.‬‬
‫وهكذا الحال بالنسبة الى نظرتنا الى اليمان ‪ ،‬فنحن نعلم ان النسان‬
‫المــؤمن يقــوم بالواجبــــات الدينيــــة ‪ ،‬ويجتنــب المحرمــات والنــواهي‬
‫ليشكل بمجموعه صــفات ايجابيــــة نعرفهـــا عــن النســان المؤمــــن ‪،‬‬
‫ولكن مشكلتنا اننا نجمد على هــذه الجزئيــات ؛ فنقــول ان الصــدق هــو‬
‫علمة اليمان وكذلك الحال بالنسبة الى الصلة والصــوم ‪.‬‬
‫اننا نعرف كل ذلك لننا تعودنــا علــى ان ننظــر الــى المــور نظــرة‬
‫جزئيــة ‪ ،‬مقتصــرة علــى المفــردات والجــوانب ‪ ،‬والبعــاد المختلفــة ‪،‬‬
‫ولكننا لم نستطع ان نستلهم من مجمــوع الجزئيــات تصــورا كليــا عــن‬
‫الحقيقة لننا لم نفهم حقيقة اليمان ‪.‬‬
‫ان اليمان روح ‪ ،‬وهو صفة كامنة في القلب ‪ ،‬ويتجلى عبر الصلة‬
‫والصيام والزكاة والحج وما الى ذلك مــن فــرائض دينيــة ‪ ،‬وعلينــا ان‬
‫نعرف هذه الــروح ‪ ،‬ونعــبر مــن خلل تلــك المفــردات الــى العمــــق ‪.‬‬
‫وعلـــى ســبيل المثــال فــاذا رأينــا فــي حديقــة جــزء مــن شــجرة كــبيرة‬
‫وارفة ‪ ،‬ورأينا مرة ساقها ‪ ،‬ومرة جــذورها ‪ ،‬ومــرة اخــــرى ثمارهــا‬
‫فــان علينــا ان نك ـّون فــي انفســنا تصــورا عامــا ومشــتركا عــن هــذه‬
‫الشجرة ؛ فالثمار المتدلية من الغصان بيــن الوراق وعلــى الســاق ‪،‬‬
‫وتحتها تلك الجذور لبد ان تكون في الذهن تصورا عاما ‪.‬‬
‫وهكذا الحال بالنسبة الى اليمان ‪ ،‬فــالقرآن الكريــم فــي آيــات شــتى‬
‫يطلب منا ان نفهم حقيقة اليمان لكي نبحث عنه في انـفسنا ‪ ،‬فالصلة‬
‫‪ -‬مثل ‪ -‬ليست هي اليمان بل هي تعبير عنه ‪ ،‬فهو شيء آخر يجعلــك‬
‫تصلي ‪ ،‬وعلى ضوء هذه الحقيقة فـانني اذا صــليت ولكنـي لــم اجاهــد‬
‫في سبيل ال ‪ ،‬او صليت وجاهدت في سبيل ال ‪ -‬تعالــــى ‪ -‬ولكــن لــم‬
‫اطــع القيــادة الــتي امــر الـ باطاعتهــا ‪ ،‬فــاني فــي هــذه الحالــة ل اعــد‬
‫مؤمنا ‪ ،‬لن اليمان ل يتجزأ بل هو شيء واحد وكتلة واحدة ل يمكــن‬
‫ان تتجــزأ ‪.‬‬
‫فقد اصلي لنني متعود على الصلة ‪ ،‬وقد اذهب الــى القتــال ولكــن‬
‫بحثا عن الشهرة ‪ ،‬وقد ادعــو النــاس الــى الصــلح فأسجــــن واعتقـــل‬
‫ولكن ليس انطلقا من اليمان وانما بدوافع اخرى ‪ ،‬فــاذا كنــت مؤمنــا‬
‫في الصلة ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والزكاة وفي كل جــوانب حيــاتي فــان كــل هــذه‬
‫الممارسات انما هي تعبير عن تلك الروح الموجودة في داخل قلبي ‪.‬‬

‫المثال الحقيقي لليمان ‪:‬‬


‫واذا ما راجعنا اليات القرآنية المتعلقة بأبراهيم ) عليه السلم ( نــرى‬
‫ان القرآن الكريم بعد ان يبين لنا عمل ابراهيم وابنه اســماعيل ) عليــه‬
‫السلم ( يقـــرر ان ابــراهيم كـان من عباده المؤمنين ‪ ،‬وكأنه ‪ -‬تعالى‬
‫‪ -‬يريد ان يفهمنا من خلل هذه الواقعة حقيقة اليمــان مــن خلل بيــان‬
‫مثله وانموذجه‪.‬‬
‫ان هذا النموذج يتمثل في شـخص واحـــد تحــدى مجتمعــا فاســـــدا‬
‫بــأجمعه ‪ ،‬فمــن الصــعب عليــك ان تخــالف انســـانا واحــدا فــي فكــرة‬
‫وخصوصا اذا كـــان بينــك وبينــه احــترام متبــادل كــأن يكــون المربــي‬
‫والكافل لك وكنت تعيش في بـيـتـه ومـن نعـــمته وفضــله ‪ ،‬كـــما كـــان‬
‫الحال بالنســبة الى ابـراهـيم ) عليــه الســـــلم ( مـع ابيـــــه ) آزر (‬
‫الذي كان في الحقيقة عمه بالنسب ‪ ،‬واباه بالتبني ‪.‬‬
‫لـقد خالـف ابراهـيم ) عليه السلم ( المجـتـــمع كلــه ‪ ،‬وبـــحث عــن‬
‫طــريـقـة لصـــرفهم عــن نفـســــه ‪ ،‬والـتـحـايـــل عــليهم مـــن خــلل‬
‫الـعمل الســري كـما يـروي لـنا ذلـك الــقـــرآن الـكـــريم فــي قـولـــه ‪-‬‬
‫م { ) الصــافات ‪/‬‬
‫س ـِقي ٌ‬
‫ل ِإّنــي َ‬
‫جــوِم * َفَقــا َ‬
‫ظَرًة ِفي الّن ُ‬
‫ظَر َن ْ‬
‫تـعـالــى ‪َ } : -‬فَن َ‬
‫‪ ( 89-88‬وذلـك من خلل تظاهره بالمرض ‪ ،‬وربما اراد ابراهيم ) عليه‬
‫السلم ( ان يقول لهم انه مريض حســب ترهــاتهم ‪ ،‬ومــا يــدعونه مــن‬
‫العلم بالنجوم ‪ ،‬فالمقصود من السقم هنا هو الجهــل ‪ ،‬فحســب نظرتهــم‬
‫فان ابراهيم لم يكن ســقيما فــي ذلــك الــوقت ‪ ،‬ولكنــه سيصــبح كــذلك ‪،‬‬
‫ولذلك فقد اذعنوا لكلمه ‪.‬‬
‫ومع كل ذلك فقد خرج ابراهيم في يوم العيد متوكل على ال ‪ -‬تعالى‬
‫‪ ، -‬ثم اخذ بيده المعول وكسر الصنام ‪ ،‬ثم اســتهزأ منهــم بــان وضــع‬
‫المعول على رأس كــبير الصــنام وســؤاله ايــاهم ‪ :‬اســألوهم ان كــانوا‬
‫ينطقون ‪ ،‬فتحداهم بالستهزاء ‪ ،‬ومقاومة كــل جــبروتهم ‪ ،‬وكــأنه كــان‬
‫يعمل مسندا بجيش جبار في حين انه كان فتى لم يتجاوز سن الحلم ال‬
‫بقليل ‪.‬‬
‫ايمان التحدي ‪:‬‬
‫ترى ما الذي يريد ان يقوله لنا القرآن الكريم من خلل هذه القصة ؟‬
‫‪ ،‬انه يريد ان يمنحك ايها الفتى ‪ ،‬وايتها الفتاة المســلمة الثقــة بــالنفس ‪،‬‬
‫وحقيقة اليمان الذي يدفع صــاحبه الــى التحــــدي ‪ ،‬ومقارعــة الطغــاة‬
‫دون ان يخشى فــي الـ لومــة لئم ‪ ،‬فنحــن نجــد مـن حولنــا المفاســد ‪،‬‬
‫والنحرافات والواجب علينا ان نقف ضدها وضد من يشيعها‪.‬‬
‫ومن اجــل القضــاء علــى النحــراف فــي مجتمعاتنــا فاننــا بحاجــة الــى‬
‫انسان مستعد لن يضحي بنفســه في سبيل ايقاف هذا النحراف ‪ ،‬فقد‬
‫نجد اللف المؤلفة من الناس يغمرهم النحــراف ‪ ،‬وهنــا تجــد نفســك‬
‫بحاجــة الــى ان تقــف وحــدك لتقــاوم هــذا النحــراف وان كلفــك ذلــك‬
‫التضــحية بنفســك ال انــك بالتــالي ســتوقف هــذا النحــراف او تــؤخر‬
‫وتعرقل على القل مسيرة الفساد والنحراف في المجتمع ‪.‬‬
‫وفي الحقيقة فان هذه هـي روح اليمـان ‪ ،‬والـ ‪ -‬تعـالى ‪ -‬يريـد ان‬
‫يبين لنا ان ابراهيم ) عليه الســلم ( كـــان مــن عـبـــاده المــؤمنين لنــه‬
‫كان يتمتع بهــذه الــروح الكـــبيرة ‪ ،‬والـثـــقة العظيمــة ‪ ،‬وذلـــك التوكــل‬
‫المطلق على ال ‪ -‬عز وجل‪. -‬‬
‫ولننظر ايضـا الى الموقف الذي بدر مــن اسماعيـــل ) عليــه الســلم (‬
‫حــكَ {‬
‫ي ِإّنــي َأَرى ِفــي اْلَمَنــاِم َأّنــي َأْذَب ُ‬
‫عنـدما قـــال لــه ابــوه ‪َ } :‬يــا ُبَنـ ّ‬
‫) الصــافات ‪ ( 102 /‬ففــي بعــض الحيــان يكــون المنــام هــو وســيلة الــوحي‬
‫للنبياء ) عليهم السلم ( لنهم معصومون ‪ ،‬ولكي يمتحن ال ‪ -‬تعالى‬
‫‪ -‬ايمان البن الشاب ‪ ،‬كما امتحن من قبل اباه عندما قاوم الشرك وهو‬
‫ما يزال في ريعان الشــباب ‪ ،‬فمــا كــان مــن البــن ال ان قــال دون اي‬
‫ل َما ُتْؤَمُر ‪ ) { ..‬الصــافات ‪ ، ( 102 /‬فلم يقــل لبيــه ان‬ ‫ت اْفَع ْ‬
‫تردد ‪َ } :‬يآ َأَب ِ‬
‫مارآه هو مجرد اضغاث احلم ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬انــي مســتعد للقتــل والذبــح‬
‫شـريطة ان تسأل عن تعبير رؤياك بل قال له علــى الفــور ‪َ }:‬يــآ َأَب ـ ِ‬
‫ت‬
‫ن { ) الصافات ‪( 102 /‬‬
‫صاِبِري َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل ِم َ‬
‫شآَء ا ُّ‬
‫جُدِني ِإن َ‬
‫سَت ِ‬
‫اْفَعلْ َما ُتْؤَمُر َ‬
‫وهذا هو اليمان الحقيقي ‪ ،‬ففي يـــوم يتجلى هذا اليمان في مقاومة‬
‫المجتمع الفاسد ‪ ،‬وفي يوم اخر يتجسد في الخضــوع للقيــادة الرســالية‬
‫والمتثال لوامرها ‪ ،‬فأسماعيل ) عليه الســلم ( كــان يعــرف ان ابــاه‬
‫نبي فكان يمتثل لوامره من هذا المنطلق ل لنه والده ‪.‬‬
‫ان اليمان هو التحدي ‪ ،‬والتسليم والرضا ‪ ،‬ويضرب القرآن الكريم‬
‫مثلين لليمان من خلل تحدي ابراهيم ‪ ،‬وتسليم اســماعيل ‪ ،‬فل يوجــد‬
‫هناك اي فرق بين هذين اليمانين ‪.‬‬

‫لليمان ‪:‬‬ ‫الروح الحقيقية‬


‫ونحن في ايام الحج من كل سنة نعيش ايام ابراهيــم الخليــل ) عليــه‬
‫السلم ( ‪ ،‬وبعبارة اخرى ؛ ايام التمثل بشخصية هــذا النــبي العظيــم ‪،‬‬
‫فلبد ان نبحث عن تلك الحقيقة في انفسنا ‪ ،‬وان ل نكتفــي بالجزئيــات‬
‫والمظــاهر ‪ ،‬فمــن الممكــن ‪ -‬علــى ســبيل المثــال ‪ -‬ان تكــون الصــلة‬
‫بالنسبة اليك عادة خيرة ‪ ،‬ولكن هذه الصلة ليست كل اليمان ‪ ،‬بل ان‬
‫اليمان يتجلى عندما تخالف عاداتك ‪.‬‬
‫ومن الممكـن ايضا ان تكون قد عشت في بيــت مــؤمن ‪ ،‬ولكنــك لــم‬
‫تتعرض لمتحانات صعبة ‪ ،‬فمثل هذه الحياة ل تدل على اليمان ‪ ،‬بل‬
‫انه يتجسد عندما تتعرض للمتحانات ‪ ،‬وعندما تخالف شهواتك ‪.‬‬
‫وعلى هذا يجب علينا ان نبحث عن الروح الحقيقة لليمان ‪ ،‬لننميها‬
‫في انفسنا ‪ ،‬لكــي نقـاوم ضــغوط الشــيطان ‪ ،‬وســلبيات النفــس المــارة‬
‫بالسوء وذلك من خلل التعمق في قصة ابراهيم واســماعيل ) عليهمــا‬
‫السلم ( بل وقصة كل الشخصــيات الرســالية الــتي قــاومت الضــغوط‬
‫وتحدتها ‪.‬‬
‫ان اليمان يتجلى في يوم صمودك وتحــديك للغــراء ‪ ،‬لن تحــدي‬
‫الغراء اصعب بكـثير مـن تلقــي العــذاب فــي قعــر الســجون ‪ ،‬فهنــاك‬
‫الكثير من الناس كانوا يعانون العــذاب فــي الســجون ولكنهــم اصــبحوا‬
‫فيما بعد وزراء واعوانا للحكام الظالمين ‪ ،‬فتحملــوا الســجن ‪ ،‬ولكنهــم‬
‫لم يتحدوا الغراء ‪.‬‬
‫ان هــذه الــدروس والعــبر هــي الــتي يجــب ان نســتلهمها مــن قصــة‬
‫ابراهيم واسماعيــل ) عليهما السلم ( ‪ ،‬ومن حياة نبينا محمد ) صلى‬
‫ال عليه وآله ( والئمة ) عليهم السلم ( ‪ ،‬فعلينــا ان نعرف مــا وراء‬
‫سلوكهـم وسيرتهم ‪ ،‬ونستغل معرفتنا هذه فــي طريـــق قيامنــا بمهامنــا‬
‫الرسالية ثم نبحث على ضوء ذلك عن حقيقة اليمـان فــي نفوسنــا ‪.‬‬

‫اليمان حقيقته وشروطه‬

‫عندما يفسد قلب النسان ‪ ،‬وتتزعزع روح اليمان الحق في نفسه ‪،‬‬
‫فان فراغا هائل سوف يحس به يتمثل في الشــعور العميــق بــالخوف ‪،‬‬
‫والقلق ‪ ،‬والضيق ‪ ،‬فاذا بهذا النسان يخــاف مــن المســتقبل ‪ ،‬ويخشــى‬
‫المــوت ‪ ،‬ويتهيــب المجهــول ‪ ،‬فــان حصــل علــى شــيء فــانه يقلــق‬
‫ويضطرب لكي ل يفقده ‪ ،‬وان لم يحصــل عليــه بحــث عنــه عســى ان‬
‫تكون فيه النجاة ‪ ،‬والسعادة ‪ ،‬والفلح ‪.‬‬

‫عندما يغيب اليمان ‪:‬‬


‫ان هذا الفراغ الكبير الذي يشعر به قلب النسان الفاقد لليمان يدفعه‬
‫الــى البحــث عــن إلــه ‪ ،‬ويــدفعه كــذلك نحــو الحــرص ‪ ،‬وقــد ورد فــي‬
‫الروايـــات ان ابــــن آدم يشــيب وتشــيب معــه خصــلتان ؛ الحــرص ‪،‬‬
‫وطول المل ؛ فحتى قبيــل وفــاته تــراه يبحــث عــن دينــار اكــثر ‪ ،‬لن‬
‫المال الذي يحصل عليه يتحول بالنسبة اليه الى وبال ‪ ،‬فهو يبحث عن‬
‫طريقة يحافظ بها على هذا المال فيزداد خوفا بدل من ان يعطيه الغنى‬
‫المــن ‪ ،‬ويجــري وراء الســلطة عســى ان تمنحــه شــيئا مــن الراحــة‬
‫والطمئنان ‪.‬‬

‫ان هذا هو حال القلب الذي يفقد اليمان ‪ ،‬ولذلك نرى فرعون عندما‬
‫صـَر‬‫ك ِم ْ‬
‫س ِلي ُمْلـ ُ‬
‫اراد ان يحاج موسى ) عليه السلم ( قال له ‪َ } :‬أَلْي َ‬
‫حِتي { ‪ ) .‬الزخرف ‪( 51 /‬‬
‫جِري ِمن َت ْ‬
‫لْنَهاُر َت ْ‬
‫َوَهِذِه ا َ‬
‫فقد اتكأ على امواله وملكه ليــدعي انــه الــه ‪ ،‬وهــذا مــا يكشــف عــن‬
‫طبيعته المفرغة من اليمان بال ‪ ،‬والعتماد على النفـس ‪ ،‬وهــذه هـي‬
‫حالة الكفر الصريحة ‪.‬‬
‫ومع ذلك فان هناك حالة اخرى هي حالة الكفــر المبطــن ‪ ،‬واليـات‬
‫التالية من سورة )التوبة( ربما تعالج هذه الحالة فــي النفــس البشــرية ؛‬
‫اي حالة النفاق والشــرك الخفـي ‪ ،‬وفـي المقابـل فاننـا اذا شـعرنا بقـوة‬
‫اليمان في نفوسنا واحسســنا بالطمئنــان والســكينة ‪ ،‬فاننــا ســوف لــن‬
‫نبحث عن السلطة لن اليمان اشد قــوة منهــا ‪ ،‬وهكــذا الحــال بالنســبة‬
‫الى سائر المظاهر الدنيوية الخــرى ‪ ،‬وحنيئذ نكـون قـد بلغنـا مرحلـة‬
‫من مراحل اليمان الحق الــذي هــو اليمــان المســتقر ‪ ،‬وال فــان هــذا‬
‫اليمان سيكون مستودعا لننا اوتيناه لفترة معينة ثم يســتعاد بعــد ذلــك‬
‫منا قبيل الموت ‪.‬‬

‫وقد يكون ) العلم ( هو الشيء الخــر الــذي يبحــث عنــه النســان ‪،‬‬
‫ل اّلـِذي َ‬
‫ن‬ ‫ونقصد به العلــم الــذي يقــول ‪ -‬تعــالى ‪ -‬عــن اصــحابه ‪َ } :‬مَثـ ُ‬
‫سَفارًا { ) الجمعة ‪، ( 5 /‬‬
‫ل َأ ْ‬
‫حِم ُ‬
‫حَماِر َي ْ‬
‫ل اْل ِ‬
‫حِمُلوَها َكَمَث ِ‬
‫حّمُلوا الّتْوَراَة ُثّم َلْم َي ْ‬
‫ُ‬
‫فهذا العلم يتحول الى هدف بعد ان كــان وســيلة ‪ ،‬وهــو ذريعــة يتــذرع‬
‫بها النسان للتهرب من مسؤوليات اليمان ‪ ،‬والجهاد فـي سـبيل الـ ‪،‬‬
‫فهنــاك مــن يبحــث عــن كتــاب يطــالعه لكــي يهــرب مـــن الــدخول فــي‬
‫ساحات الجهاد ‪ ،‬ويجلس في زاوية ولسان حاله يقول ‪ :‬ما أحسن‬
‫الزوايــا والخبايــا عنــدما يهــرب اليهــا النســان مــن مواجهــة مشــاكل‬
‫المجتمع ‪.‬‬

‫اليمان يعني التسليم ‪:‬‬


‫ان مطالعة الكتاب ل يمكن ان يتحول الى ايمــان ‪ ،‬فاليمــان يعنــي‬
‫التسليم المطلق ل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ ، -‬وهــذا اليمــان قــد يتجســد فــي‬
‫يوم من اليام بطلب العلم ‪ ،‬وفي احيان اخرى فــي طلــب الــرزق ‪ ،‬او‬
‫حمل السـلح ضد العداء ‪.‬‬

‫ان اليات القرآنية تصور النســان الفاقــد لليمــان برجــل ألقــي مــن‬
‫السماء الى الرض فأما ان يتخطفه الطيــر ‪ ،‬او تهــوي بــه الريــح فــي‬
‫مكان سحيق ‪ .‬وفي مواضع اخرى يشبه القرآن الكريم النســان الــذي‬
‫يفقد اليمان بالذي يجعل ال قلبه ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ‪.‬‬

‫واذا ما كان احدنا فــي صــحراء واســعة ‪ ،‬وكــان الظلم يســود هــذه‬
‫الصحراء بحيث ل يرى شــيئا ‪ ،‬فــانه ســيعيش الظلم المطلــق ‪ ،‬وفــي‬
‫نفس الوقت الضيق المطلق ‪ ،‬اما اذا اشرقت الرض وأضيئت فحينئذ‬
‫سيعيش في رحاب الحقائق ‪.‬‬

‫وهكذا الحال بالنســبة الــى اليمـان عنــدما يسـلب مـن النسـان فـانه‬
‫سيعيش حالة البحث عن عمل ســهل يعــوض بــه عــن العمــل الحقيقــي‬
‫الذي هو اليمان كمن يبني مسجدا ليغطي به على اكلــه للمــال الحــرام‬
‫وانتمــاءاته وولءاتــه الغيــر مشــروعة ‪ .‬فبــدل مــن ان يحصــل علــى‬
‫الثواب ‪ ،‬يتحول بناء المسجد بالنسبة اليه وسيلة للفرار من اليمــان ل‬
‫لجــوء اليــه ‪ .‬وفــي هــذا المجــال يقــول القــرآن الكريــم ‪َ } :‬مــا َكــا َ‬
‫ن‬
‫ل { ) التوبة ‪ ( 17 /‬؛ فالمشرك الذي يـرى‬ ‫جَد ا ّ‬
‫سا ِ‬‫ن َأن َيْعُمــُروا َم َ‬
‫ِلْلُمشِْرِكي َ‬
‫ان هناك الها غير ال يعبـــد فـــــي الرض او السماء ل ينبغي لــه ان‬
‫يعمر المسجد لنه سيشهد على نفسه بالكفر ‪ ،‬وهذا ما يشير اليه ‪ -‬عز‬
‫سِهم ِبــاْلُكْفِر‬‫عَلى َأْنُف ِ‬ ‫ن َ‬ ‫شاِهِدي َ‬‫وجل ‪ -‬في قوله بعد الية السابقة ‪َ ... } :‬‬
‫لـ‬‫جَد ا ّ‬ ‫ســا ِ‬
‫ن * ِإّنَما َيْعُمُر َم َ‬ ‫خاِلُدو َ‬
‫عَماُلُهْم َوِفي الّناِر ُهْم َ‬ ‫ت َأ ْ‬
‫ط ْ‬‫حِب َ‬
‫ك َ‬‫ُاْوَلِئ َ‬
‫ش ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫خـ َ‬ ‫لَة وَءاَتى الّزَكاَة َوَل ـْم َي ْ‬ ‫ص َ‬‫خِر َوَأَقاَم ال ّ‬‫لِ‬‫ل َواْلَيْوِم ا َ‬‫ن ِبا ّ‬
‫ن َءاَم َ‬
‫َم ْ‬
‫ل { ) التوبة ‪. ( 18-17 /‬‬ ‫ا ّ‬
‫اننا في كثير من الوقات نمني انفسنا باليمان ‪ ،‬في حيــن انــه ليــس‬
‫بالتمني بل يحتاج الى سكينة ووقار ‪ ،‬وان ل يخاف النسان لومــة لئم‬
‫‪ ،‬ول بطشا من سلطة ‪.‬‬

‫وهكذا فاننا ‪ -‬للسف ‪ -‬نلجأ الى بعض العمال القشرية فــرارا مــن‬
‫العمل الحقيقي ‪ ،‬وكل واحد منا معرض لهذه المشكلة ‪ ،‬فالنسان الذي‬
‫يضخم الشيء الصغيـر ‪ ،‬ويبحث عـن القشور انما يعوض بــذلك عــن‬
‫حالة انعدام المسؤولية في نفسه ‪ ،‬وهذا ما يشير اليه القرآن الكريم في‬
‫ل { ) التوبة ‪. ( 18 /‬‬ ‫لا ّ‬ ‫ش ِإ ّ‬
‫خ َ‬‫قوله عن المؤمن الحقيقي ‪َ }:‬وَلْم َي ْ‬
‫دينَ { ) التوبة ‪( 18 /‬‬ ‫ن اْلُمْهَت ِ‬
‫ك َأن َيُكوُنوا ِم َ‬ ‫سى ُاْوَلِئ َ‬
‫ثم يقول تعالى ‪َ } :‬فَع َ‬
‫‪ ،‬وفي نهاية اليات التي اشــرنا اليهـا فـي ســورة التوبـة جـاءت ايضـا‬
‫كلمة ) الهداية ( ‪ ،‬فلنحاول ان نربط بينها وبين تلك ‪.‬‬

‫لليمان ‪:‬‬ ‫المقياس الحقيقي‬


‫بعد ذلك يقدم لنا السياق الكريم المقياس الحقيقي لـليـمـان في قوله ‪:‬‬
‫ل َواْلَي ـْوِم‬
‫ن َءاَمنَ ِبــا ّ‬
‫حَراِم َكَم ْ‬
‫جِد اْل َ‬
‫سِ‬‫عَماَرَة اْلَم ْ‬
‫ج َو ِ‬‫حآ ّ‬‫سَقاَيَة اْل َ‬
‫جَعْلُتْم ِ‬
‫} َأ َ‬
‫ل { ) التوبة ‪ ، ( 19 /‬والملحظ هنا ان ال ‪ -‬عــز‬ ‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫جاَهَد ِفي َ‬ ‫خِر َو َ‬ ‫لِ‬ ‫اَ‬
‫وجل ‪ -‬جعل فـــي اليات السابقة ) الخشية من ال فقــط ( هــو مقيــاس‬
‫اليمان ‪ ،‬وهنا يجعل هذا المقياس ) الجهــاد فــي ســبيله ( ؛ فقــد يــدعي‬
‫النسان انه مؤمن ‪ ،‬مقيم للصلة ‪ ،‬ومعمر للمساجد ‪ ،‬ولكنــه ل يجاهــد‬
‫في سبيل ال ‪ ،‬ومثل هذا المنطق يرفضه القــرآن الكريم ‪ ،‬فالجهاد في‬
‫سبيل ال شيء ‪ ،‬والعمل شيء اخر ‪ ،‬فالخير قد يــدل علــى اليمــان ‪،‬‬
‫وقد ليدل عليــه ‪ ،‬اما الجهاد فانه دليل وعلمة اليمــان الــتي ل تقبــل‬
‫الشك لن النسـان غير المــؤمن ل يمكــن ان يجاهــــد كمــا يشــير الــى‬
‫ف ٍ‪╟µ‬طـــط‪ُ °‬‬
‫ف‬ ‫╧ ╟طـــط‪ِ °‬‬ ‫┌غ ٍ‬ ‫غ ِ‬ ‫╩‪ٍ µُµ‬‬ ‫╟ٍو╙· ٍ‬ ‫ذلـــك قـــوله ‪ -‬تعـــالى ‪ } : -‬ط ٍ‬
‫▐‪ٍ·µ‬ع ╟ط┘ٍ‪ِ╟°‬طِعـــوٍغ { ) التوبـــة ‪ ،( 19 /‬ومــن الملحــظ ان‬ ‫╧و ╟ط· ٍ‬
‫ط╟ٍوف· ِ‬
‫ن اْلُمْهَتِدي َ‬
‫ن‬ ‫ك َأن َيُكوُنوا ِم َ‬ ‫سى ُاْوَلِئ َ‬
‫القرآن يقول في الية السابقة ‪َ } :‬فَع َ‬
‫▐‪ٍ·µ‬ع ╟ط┘ٍ‪ِ╟°‬طِعوٍغ { وبناء على ذلــك‬ ‫{ وهنا يقول ‪ } :‬ط╟ٍوف· ِ‬
‫╧و ╟ط· ٍ‬
‫فان الذي ل يعمل بالجهاد الحق ليس بمؤمن ‪ ،‬وليس بمهتد ‪.‬‬

‫والنفاق في السلم ل يشمــل المــوال فحسب بــل يجب ان يتعداه‬


‫جُروا‬ ‫ن َءاَمُنــوا َوَهــا َ‬‫الــى النفــس كمــا يقــول ‪ -‬عــز وجــل ‪ } : -‬اّلــِذي َ‬
‫سـِهْم { ) التوبــة ‪ ، ( 20 /‬فهنــاك مــن‬ ‫لـ ِبـَاْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ‬
‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫جاَهَدوا ِفي َ‬
‫َو َ‬
‫الناس من يبذل امواله ولكنه ليس مستعدا ابدا للتضحية بنفسه في حين‬
‫ان القرآن الكريــم يصــرح بــأن الــذي يجمــع بيــن هذيــــن النفاقيــــن ؛‬
‫انفــــاق المــال ‪ ،‬وانفاق النفس هــــو الــذي ســيفوز بالــدرجات العلـــى‬
‫ن {)‬‫ك ُهُم اْلَفآِئُزو َ‬
‫ل َوُاْوَلِئ َ‬
‫عنـــَد ا ّ‬
‫جًة ِ‬ ‫ظــــُم َدَر َ‬ ‫عَ‬ ‫عند ال تعالى ‪َ ... } :‬أ ْ‬
‫التوبة ‪. ( 20 /‬‬
‫فالفائـز ليس من يطعم الحجيج او يسقيهم ‪ ،‬ول من يعمر المساجد ‪،‬‬
‫بل هو الذي يجاهــــد بماله ونفسه ‪ ،‬وهذا النسان يبشره ال بالرحمــة‬
‫ض ـَوا ٍ‬
‫ن‬ ‫حَمـٍة ِمْنـُه َوِر ْ‬
‫شُرُهــ ـْم َرّبُهـْم ِبَر ْ‬
‫والرضـــوان ‪ ،‬والجنات ‪ُ } :‬يَب ّ‬
‫مِقيـــٌم { ) التوبة ‪. ( 21 /‬‬
‫ت َلُهْم ِفيَها َنِعيٌم ُ‬
‫جّنا ٍ‬
‫َو َ‬
‫صحيح ان عملية الجهاد تعتبر مــن العمليــات الصــعبة علــى النفــس‬
‫النســانية ولكــن جزاءهــا فــي المقابــل سيكــــون عظيمــا جــدا ‪ ،‬وهــذا‬
‫الجزاء مؤلف من الرحمة ‪ ،‬والــرضــوان ‪ ،‬والخلــود في الجنان ‪} :‬‬
‫ظيٌم { ) التوبة ‪. ( 22 /‬‬
‫عِ‬‫جٌر َ‬
‫عنَدُه َأ ْ‬
‫ل ِ‬
‫نا ّ‬
‫ن ِفيَها َأَبدًا ِإ ّ‬
‫خاِلِدي َ‬
‫َ‬

‫ل مجاملة في اليمان ‪:‬‬


‫اما المقياس الثالث والخير فهو القدرة على جعل النفس بمنجاة من‬
‫تأثير العلقات الجتماعية في لحظة الصفاء الروحي وهــذا مــا يشــير‬
‫خـُذوا َءاَبــآَءُكْم‬ ‫ن َءاَمُنــوا لَتّت ِ‬ ‫اليه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬يآ َأّيَها اّلـِذي َ‬
‫ن َوَمـن َيَتـَوّلُهم ِمنُكـْم‬ ‫ليَمـا ِ‬
‫عَلـى ا ِ‬ ‫حّبوا اْلُكْفـَر َ‬ ‫سـَت َ‬
‫نا ْ‬ ‫خَواَنُكْم َأْوِلَيـآَء ِإ ِ‬
‫َوِإ ْ‬
‫ن { ) التوبة ‪ ، ( 23 /‬وهنا يؤكد ‪ -‬تعالى ‪ -‬على ان الباء‬ ‫ظاِلُمو َ‬‫ك ُهُم ال ّ‬ ‫َفُاْوَلِئ َ‬
‫‪ ،‬والخوان وكل مــن نرتبــط بــه بعلقــة قرابــة كالزوجــة ‪ ،‬والبنــاء ‪،‬‬
‫والعشيرة انما هم جزء من العلقات الجتماعية الــتي مــن الممكــن ان‬
‫تتحول الى حجاب بين النسان‪ ،‬وبين اليمان الحق ‪.‬‬
‫وهنا بالضافة الى ذلــك المــوال التــــي قــد تقـــف هــــي الخـــرى‬
‫ش ـْو َ‬
‫ن‬ ‫خَ‬ ‫جــاَرٌة َت ْ‬‫ل اْقَتَرْفُتُموَهــا َوِت َ‬
‫حائـل بيـن النســان وربــه ‪َ } :‬وَأْم ـَوا ٌ‬
‫ب ِإَلْيُكم { ) التوبــة ‪ ، ( 24 /‬فالنسان الكــافر‬ ‫ح ّ‬ ‫ضْوَنَها َأ َ‬‫ن َتْر َ‬ ‫ساِك ُ‬ ‫ساَدَها َوَم َ‬ ‫َك َ‬
‫يحب المال ‪ ،‬ول يضمر الحــب لـ ‪ -‬جــل شــأنه ‪ -‬امــا المنــافق فانـــــه‬
‫يخلط في قلبه بين حب ال ‪ ،‬وحب المادة ‪ ،‬مفضل الحب الخير على‬
‫الول وهذه هي المشكلة ‪ ،‬والنسان معرض للفتنة والمتحـــــــان فـي‬
‫هـــذا المجـال فان خّير بين الجهاد في سبيل ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬وبين البقــاء‬
‫مع امواله ثم اختار البقاء فان هذا يعني ان امواله احب اليه مــن ال ـ ‪،‬‬
‫وفــي هــذه الحالــة يحــذر الخــالق ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬مثــل هــذا المجتمــع‬
‫لـ‬ ‫يا ّ‬ ‫حّتــى َي ـْأِت َ‬
‫صــوا َ‬ ‫المتقاعس ‪ ،‬الملتصــق بالماديات قــائل ‪َ } :‬فَتَرّب ُ‬
‫ن { ) التوبة ‪. ( 24 /‬‬‫سِقيــ َ‬ ‫ل ل َيْهِدي اْلَقـــْوَم اْلَفا ِ‬ ‫ِبَأْمِرِه َوا ّ‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫الجهاد منبع‬


‫وهكذا فان اليمان الحق ل يمكن ان نحصــل عليــه مــن الكتــب ‪ ،‬او‬
‫الموال ‪ ،‬او الســلطة ‪ ،‬بــل ان منبعــه الول والخيــر هــو الجهــاد فــي‬
‫سبيل ال ‪ -‬جلت قدرته ‪ -‬وعــدم خشــية احــد ســواه ‪ ،‬وجعـل العلقــات‬
‫كلها ؛ العلقة بالمال ‪ ،‬والولد ‪ ،‬والعشيرة ‪ ،‬وبكل شيء تحت مظلــة‬
‫العلقة بال ‪.‬‬
‫ان كل واحد منا يمني نفسه بأن يكون مؤمنا خالصا طــاهرا زكيــا ‪،‬‬
‫ولكن الذين يحصلون على الهداية هم القلة ‪ ،‬فلنحاول ان نكون منهــم ‪:‬‬
‫شـــُكور { ) ســــبأ ‪ ( 13 /‬؛ اي مـــن المـــؤمنين‬
‫ي ال ّ‬
‫عَبـــاِد َ‬
‫ن ِ‬‫ل ِمـــ ْ‬
‫} َوَقِليـــ ٌ‬
‫المجاهــدين ‪ ،‬الشــاكرين ل ـ نعمــه وآلئه ‪ ،‬والمســتعدين لن يضــحوا‬
‫بأموالهم وانفسهم في سبيل ال ‪ ،‬فهذه هي الدرجــة العليــا مــن اليمــان‬
‫الذي نصبو اليه ‪.‬‬

‫شروط اليمان‬

‫من الحجب التي تحجب النســان عــن وعــي القــرآن ‪ ،‬واســتيعاب‬


‫حقائقه ‪ ،‬والرتفاع الى مستوى بصائره ‪ ،‬حجاب )التبعيض( ‪ .‬فهنــاك‬
‫قسم من الناس اذا جاءهم مــا يوافــق اهــواءهم وشــهواتهم اخــذوا بــه ‪،‬‬
‫واذا عرض عليهم ما يخالف هذه الهواء والشهوات تركوه ‪ ،‬وهؤلء‬
‫ليؤمنون بالحق ‪ ،‬وليدورون معه اينمــا دار ‪ ،‬بــل يؤمنــون بــأهوائهم‬
‫فانى دارت وسارت داروا معهــا وســاروا اليهــا ‪ ،‬وهــؤلء ليمكــن ان‬
‫نطلــق عليهــم صــفة اليمــان لن النســان المــؤمن ليفــرق بيــن حــق‬
‫وآخر ‪ ،‬ولنـه يؤمن بالحق فانه يبحث عنه ‪ ،‬ولنه يبحث عنه فان ال‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬يهديه اليه ‪ ،‬كما يشير الى ذلك القرآن الكريــم فــي قــوله ‪} :‬‬
‫سُبَلَنا { ) العنكبوت ‪( 69 /‬‬
‫جاَهُدوا ِفيَنا َلَنْهِدَيّنُهْم ُ‬ ‫ن َ‬‫َواّلِذي َ‬
‫فليـس كـل انسـان يهتـدي بـل يهتـدي مـن اراد وسـعى وكـان اهل‬
‫للهداية ‪ ،‬واما من اراد ان يهتدي لمجرد اللعب ‪ ،‬او ان يشبع طمــوحه‬
‫العلمي فــان مثــل هــذا النســان لــن يصــل الــى الهدايــة ‪ ،‬بــل ان الـ ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬سيضله عن الطريق ‪ ،‬ويمنع عنه سبل الهدايــة ‪ ،‬ويمــده فــي‬
‫ن ِفي هِذِه‬ ‫غيه الى يوم القيامة ‪ ،‬كما يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬وَمن َكا َ‬
‫ل { ) الســراء ‪ ( 72 /‬وهـؤلء‬ ‫سـِبي ً‬
‫ل َ‬ ‫ضـ ّ‬
‫عَمـى َوَأ َ‬ ‫خـَرِة َأ ْ‬ ‫لِ‬ ‫عَمى َفُهـَو ِفـي ا َ‬ ‫َأ ْ‬
‫صيرًا { ) طـــه ‪/‬‬ ‫ت َب ِ‬ ‫عَمى َوَقْد ُكن ُ‬ ‫شْرَتِني َأ ْ‬
‫حَ‬ ‫ب ِلَم َ‬‫يقولون يوم القيامة ‪َ }:‬ر ّ‬
‫ك َءاَياُتَنــا‬
‫ك َأَتْتـ َ‬
‫‪ ( 125‬فيأتيهم الجواب من البارئ ‪ -‬عز وجل ‪َ } : -‬كـَذِل َ‬
‫سى { ) طه ‪( 126 /‬‬ ‫ك اْلَيْوَم ُتن َ‬ ‫سيَتَها َوَكَذِل َ‬
‫َفَن ِ‬

‫نعمة ‪:‬‬ ‫الهداية أعظم‬


‫والهداية هي افضل واعظم نعمة اذا اراد النسان ان يطبق الحقيقة‬
‫التي يهتــدي اليهــا ‪ .‬فالــذي يصــلي دون ان يأخــذ بنظــر العتبــار هــذه‬
‫النعمة ‪ ،‬ليمكنه ان يعرف احكام الصلة وهــو ان عــرف عنهــا شيئـــا‬
‫فهو شيء ظاهر ‪ ،‬ولكنه غافل عن حقيقتها ‪ ،‬ومن هنا يجــب علينــا ان‬
‫نتلقــى القــرآن الكريــم علــى اســاس اليمــان بــه كلــه ل علــى اســاس‬
‫التبعيــض ؛ فآيــة تعجبنــا وتنســجم مــع مصــالحنا واهوائنــا ‪ ،‬واخــرى‬
‫لنؤيدها لنها تخالف هــذه المصــالح والهــواء ‪ ،‬فعنــدما يكــون هــوى‬
‫النسان في اتجاه معين فانه سوف ليرى ال هذا التجاه ‪ ،‬اما النسان‬
‫عنـِد َرّبَنــا { ) آل عمــران ‪ ( 7 /‬فهــو‬
‫ن ِ‬
‫ل ِمـ ْ‬
‫المؤمن حقا فيقول ‪َ }:‬ءاَمّنا ِبِه ُك ّ‬
‫يتلقى القرآن بصدر رحب ‪ ،‬وقلب متفتح ‪ ،‬ونفس مطمئنــة ‪ ،‬فل يأخــذ‬
‫بجزء منه دون الخر ‪.‬‬
‫ان ما مضى كــان مقدمــة وتمهيــدا لبيــان حقيقــة ان الســلم ليــس‬
‫مجرد صلة وزكــاة ‪ .‬ففيــه احكــام وفــروع اخــرى ‪ ،‬وهنــا نعــود الــى‬
‫القرآن ؛ هذا الحبل الموصل بين الســماء والرض لنجــد الجــواب فـي‬
‫ســورة المــائدة حيــث خلصــة التعــاليم الــتي تحتــاج اليهــا المجتمعــات‬
‫البشرية ‪ ،‬علمـا ان كلمـة ) المائدة ( تعني الحضارة ‪ ،‬والمدنيــة ‪ ،‬لن‬
‫التقدم والرفاه والسعادة والفلح كل ذلــك يــدور حــول مــائدة الســماء ‪.‬‬
‫فالمائدة لتعني مجرد الطعام بل الجتماع حول الخير والبركة ‪ ،‬فهــي‬
‫ســورة الحضـارة النسانية ‪ ،‬والحضـارة اللهية التي ترعاها الســماء‬
‫باحكامها ‪ ،‬وقيمها ‪ ،‬وتعاليمها ‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يحدثنا في هذه السورة حــول واجبــات المــؤمنين ‪،‬‬
‫وال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يقول في بداية هذه اليات المباركة ‪َ }:‬يآ َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫ل { ) المائدة ‪ . ( 8 /‬وهـــذا يعني ان ما يأتي بعد هذا‬‫ن ِّ‬
‫َءاَمُنوا ُكوُنوا َقّواِمي َ‬
‫الخطـاب هـو مـن شـروط اليمـان ‪ ،‬وان النسـان الـذي ليطبـق هـذا‬
‫الشــرط ليــدخل ضــمن دائرة اليمــان ‪ ،‬وكلمــة )القــوام( هــي صــيغة‬
‫مبالغة لـ )القيام( ‪ ،‬ولذلك فاننا نطلق هــذه الصــفة علــى العبــاد الزهــاد‬
‫الذين يقضون الليل بالصلة ‪ ،‬ويصومون النهار ؛ اي ان هــذه الصــفة‬
‫يجب ان تكون صفة دائمة وملزمة لكم ايها المخاطبون ‪.‬‬

‫معنى القيام ل ‪:‬‬


‫والقيام ل يعني ان نعمل له ‪ -‬سبحانه وتعالـى ‪ -‬لن النسان يقــوم‬
‫عنـدما يتحـرك ‪ ،‬فالقيـام يعنـي ان ينشـط النسـان ويتحــرك ‪ ،‬وعنـدما‬
‫نقول " اقامة الصلة " فهذا يستلزم ان نجعل الصلة قائمة وكاملة ‪.‬‬
‫والمؤمنون قوامون ل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ ، -‬فهم ليعرفون الجلوس‬
‫والكسل في حياتهم بــل هــم ممتلئون حركــة ونشــاطا وهمــة فــي ســبيل‬
‫ال ‪ ،‬ومصطلح )القيام ل( يصدق على كل انسان يقوم بعمل في سبيل‬
‫ال ‪ ،‬ولكن القيام له درجات ‪ ،‬والدرجة العليا منه اقامــة القســط بحيــث‬
‫ان المام العادل الذي يعدل في الرعية ‪ ،‬فل يدع الناس بظلــم بعضــهم‬
‫بعضا ‪ ،‬وليدع في المجتمع منكرا ال وهدمه ‪ ،‬ول معروفا ال اقامه ‪،‬‬
‫هذا المام العادل اذا نام ليلة واحدة فان نــومه افضــل مــن عبــادة ســنة‬
‫كما يصرح بذلك الحديث الشريف ‪.‬‬
‫بالقسط ‪:‬‬ ‫الشهادة‬
‫ط { ) المــائدة ‪ ( 8 /‬وهــذه صــفة‬ ‫سـ ِ‬ ‫شـَهَدآَء ِباْلِق ْ‬ ‫ثــم يقــول ‪ -‬تعــالى ‪ُ }: -‬‬
‫اخرى ؛ وهي اقامة العدل في المجتمع ‪ ،‬اي ان يكــون النســان عــدوا‬
‫للظالم فيقف ضده ‪ ،‬ومدافعا عن المظلوم اينما وجــده كمــا يقــول اميــر‬
‫المــؤمنين ) عليــه الســلم ( مخاطبــا الحســنين عليهمــا الســلم ومــن‬
‫ورائهمــا كــل المــؤمنين الــى يــوم القيامــة ‪ " :‬كونــا للظــالم خصــما‬
‫وللمظلوم عونا " وهــذه هــي وصــيته ) عليــه الســلم ( فــي اللحظــات‬
‫الخيرة من حياته ‪.‬‬
‫شَنا ُ‬
‫ن‬ ‫جِرَمّنُكْم َ‬ ‫ل َي ْ‬‫اما الصفة الثالثة فتتمثل في قوله ‪ -‬سبحانه ‪َ} : -‬و َ‬
‫ب ِللّتْقـَوى{ ) المــائدة ‪ ، ( 8 /‬فـاذا مـا‬ ‫عـِدُلوا ُهـَو َأْقـَر ُ‬ ‫ل َتْعـِدُلوا ا ْ‬‫عَلى َا ّ‬
‫َقْوٍم َ‬
‫وصلنا الى مراكز حساسة فلنحاول ان نقيم العدالة ‪ ،‬وان نشهد بالقسط‬
‫ولو على انفسنا ‪ ،‬ونحن اذا درسنا هذه التعاليم فاننــا ســندرك ان الـ ‪-‬‬
‫شـْم ِ‬
‫س‬ ‫ك ال ّ‬ ‫لَة ِلـُدُلو ِ‬ ‫صـ َ‬ ‫عز وجل ‪ -‬الذي يأمرنا بالصلة قائل ‪َ } :‬أِقِم ال ّ‬
‫هودًا {‬ ‫شـ ُ‬‫ن َم ْ‬ ‫ج ـِر َكــا َ‬ ‫ن اْلَف ْ‬
‫ن ُق ـْرَءا َ‬ ‫ج ـِر ِإ ّ‬ ‫ن اْلَف ْ‬
‫ل َوُق ـْرَءا َ‬
‫ق الّلْي ـ ِ‬
‫سـ ِ‬‫غَ‬
‫ِإَلــى َ‬
‫) السراء ‪ ( 78 /‬يأمرنا باقامة العدل في المجتمــع قــائل ‪َ } :‬يــآ َأّيَهــا اّل ـِذي َ‬
‫ن‬
‫ط { ) المائدة ‪( 8 /‬‬ ‫سِ‬ ‫شَهَدآَء ِباْلِق ْ‬
‫ل ُ‬ ‫ن ِّ‬ ‫َءاَمُنوا ُكوُنوا َقّواِمي َ‬
‫واذا ما اخذ المجتمع المسلم القرآن بكل تفاصيله فل يختار آيــة دون‬
‫اخرى ‪ ،‬بل يلتزم بجميعها ‪ ،‬ويجعلها برنامج فـي حيـاته ‪ ،‬فـان الكــثير‬
‫من المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا الن سوف تحل ‪.‬‬
‫وهكذا فان الخطوة الولى نحو الصلح تبدأ من المجتمع ‪ ،‬لن كل‬
‫فرد فيه يقوم بدور ‪ ،‬وفي كــثير مــن الحيــان تبــدأ المشــاريع الخيريــة‬
‫علــى شــكل اعمــال محــدودة ومتواضــعة ‪ ،‬ولكــن ال ـ ‪ -‬عــز وجــل ‪-‬‬
‫ســرعان مــا يبــارك فيهــا ‪ ،‬واذا بعشــرات اللف مــن البشــر ينعمــون‬
‫بفضل هذه المشاريع ‪ ،‬فما كان ل ينمو ‪.‬‬
‫هذا في الجانب الجتماعي ‪ ،‬اما في جانب العدالة واقامتهــا ‪ ،‬فــان‬
‫ط { ) المــائدة ‪( 8 /‬‬ ‫سـ ِ‬‫شـَهَدآَء ِباْلِق ْ‬‫المجتمع الذي يطبق هذه الكلمة اللهيــة} ُ‬
‫ليمكن ان ينتشر فيــه الظلــم ‪ ،‬فالنســان الظــالم ليصبــــح جبــارا فــي‬
‫الرض بشكل مباشر ‪ ،‬فهو ‪ -‬في البداية ‪ -‬يبدأ بظلم عائلته ‪ ،‬وجيرانــه‬
‫‪ ،‬وشريكه واذا ما بادر المجتمع الــى الخــذ علــى يــده فــان دائرة هــذا‬
‫الظلم سوف لتتسع ‪ ،‬ولتصل الى الخرين ‪.‬‬
‫ونحن يجب ان نربي مجتمعنا على اساس الشهادة بالقسط ‪ ،‬واقامة‬
‫العدل ‪ ،‬وبالطبع فان النسان يعتقــد ان محــاولته لقامــة العــدل ســوف‬
‫تؤدي الى تعرضه للمضايقة ‪ ،‬ومخالفة المجتمع له ‪ ،‬في حين ان هــذا‬
‫التصور مغلوط كما يصرح بذلك قول المام علي ) عليه السلم ( ‪" :‬‬
‫ال وان المــر بــالمعروف والنهــي عــن المنكــر ليقربــان اجل ول‬
‫يقطعان رزقا " ‪.‬‬
‫فليدافع كل واحد منا عن قيمه واصالته فنحن لم نأت الى هذه الدنيا‬
‫لننغمس في ملذها بل لنحقق رسالة فيها ‪ ،‬فمن القبيح ان نرى شخصا‬
‫مظلوما ثم نسكت ‪ ،‬فالنسان يجب ان يكون شــاهدا بالقســط ‪ ،‬وعنــدما‬
‫تنمو هذه الصــفة فــي المجتمــع ‪ ،‬صــفة القســط والعدالــة والــدفاع عــن‬
‫المظلوم ‪ ،‬فان العدالة سوف تسود هذا المجتمع في كل جوانبه ‪.‬‬
‫وللسف فان السلم الحقيقي قد انحسر عن المجتمــع ‪ ،‬والســلم‬
‫الموجود هو اسـلم مـوجز قـد اقتطعنـا مجموعــة مـن احكـامه حســب‬
‫اهوائنا ‪ ،‬وبحيث ليضر بمصالحنا ‪ .‬اما السلم الذي يتضمنه القرآن‬
‫فهو ل وجود له بيننا وان كان له وجود فهو اسلم مختار على معيــار‬
‫الهوى في حين انه كل ليتجزأ ‪.‬‬

‫تطبيق القرآن ضمانة النهوض ‪:‬‬


‫ونحن اذا اردنــا ان نعيد للسلم مجده فلبد ان نطبق القرآن كله‪،‬‬
‫ل ان نغيــره ‪ ،‬ونبدلــــه حســب اهوائنـــــا ‪ ،‬فخطــاب } َيــآ َأّيَهــا اّل ـِذي َ‬
‫ن‬
‫لـ { ) المــائدة ‪ ( 8 /‬مــوجه الينــا نحــن الــذين نــدعي‬
‫ن ِّ‬‫َءاَمُنوا ُكوُنوا َقـّواِمي َ‬
‫اليمــان ‪ ،‬وان علينــا ان نفكــر فــي كيفيــة تطــبيقه وال فلنســأل الفقيــه‬
‫الشرعي ‪ ،‬ومن هنــا اؤكــد ان مــن واجــب كــل انســان مــؤمن يريــد ان‬
‫تكون عاقبته على خير ان يراجع فقيها يســأله عــن كيفيــة تطــبيق هــذه‬
‫اليات الكريمة على نفسه ‪ ،‬ثم يبادر بعد ذلك الى النتمــاء الــى هيئة ‪،‬‬
‫او تجمع ‪ ،‬او مؤسسة خيرية ‪ ،‬فل يــــجوز لنــا ان ندعـــي اليمــان ثــم‬
‫لنجسده بعمـل فـي ســبيل الـ تعـالى تطبيقـا لقولـــه ‪َ } :‬يـآ َأّيَهـا اّلـِذي َ‬
‫ن‬
‫ل { ) المائدة ‪( 8 /‬‬
‫ن ِّ‬
‫َءاَمُنوا ُكوُنوا َقّواِميـ َ‬
‫والمهم في كل ذلك ان ننضم الى اي مشــروع خيــري ‪ ،‬وان لنــثير‬
‫الشــكاليات حــول هــذا التجمــع او ذاك فالشــيطان يحــاول ان يــزرع‬
‫الوساوس في قلوبنا ليصدنا عن عمل الخير ‪.‬‬

‫عناصر اليمان الرئيسية‬

‫ت ُقُلــوُبُهْم‬
‫جَل ْ‬
‫ل وَ ِ‬‫ن ِإَذا ُذِكَر ا ّ‬‫ن اّلِذي َ‬
‫قال ال ‪ -‬تعالى ‪ِ }: -‬إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن { ) النفــال ‪/‬‬
‫علــى َرّبِهـْم َيَتَوّكُلــو َ‬
‫عَلْيِهْم َءاَياُتُه َزاَدْتُهْم ِإيَمانـًا َو َ‬
‫ت َ‬
‫َوِإَذا ُتِلَي ْ‬
‫‪.(2‬‬
‫يحدثنا القــرآن الكريم فــي هذه اليــة عن ثلثة عناصــر رئيســية‬
‫لليمــان ومعطييــن مــن معطياتــــه فأمــا العناصــر الرئيســية فهــي ‪:‬‬
‫الوجل ‪ ،‬وزيادة اليمان من خلل تلوة اليات القرآنيـة ‪ ،‬والتوكـــل ‪،‬‬
‫واما المـعـطيات فهما الصلة ‪ ،‬والنفـاق من الـرزق ‪.‬‬

‫والوجل يمثل ‪ -‬كما نفهم من اليات القرآنية ‪ -‬حالة نفسية تضطــرب‬


‫النفس فيها ‪ ،‬وتدعو النسان الى ان يمضــي بعملــه الصــالح قــدما الــى‬
‫المام ‪ ،‬وقد عبر المام علي ) عليه الســلم ( عــن هــذه الحقيقــــة فــي‬
‫قولــه ‪ " :‬قلب المؤمن بيـن اصـبعين مـن اصـابع الرحمـن " ‪ ،‬وقــوله‬
‫) عليه السلم ( ايضا ‪ " :‬المؤمن من اذا وزن يأسه ورجاؤه ل يرجح‬
‫احدهما على الخر" ‪.‬‬
‫حقيقة الوجل ‪:‬‬
‫ومع ذلك فان هذا التبسيط ل يكفينا لمعرفة حقيقة مفهوم ) الوجل ( ‪،‬‬
‫ومن اجل معرفة ذلك علينا ان نعلــم ان النســان المــؤمن يختلــف عــن‬
‫المنافق او الكافر اختلفا جذريا في نوعية تلقيــه للحــداث ‪ ،‬ذلــك لن‬
‫كل انسان في الحياة لبد ان يبدي ردود افعال امام الحداث الــتي تقــع‬
‫حوله والتي يستقبلها النسان بقلبـه ‪ ،‬او مـن خلل جـوارحه ‪ ،‬فيظهـر‬
‫ردود فعل معينة امامها ‪.‬‬

‫والبعـــض مـــن النـــاس تكـــون ردود افعـــالهم متســـمة بالســـلبية ‪،‬‬


‫والنطواء ‪ ،‬والبعض باليجابية المطلقة والشجاعة ‪ ،‬والبعض الخــر‬
‫بــالتهور وعــدم التخطيــط ‪ ،‬والفوضــى ‪ ،‬وهــذه القســام الثلثــة ربمــا‬
‫تضاف اليها اقسام اخرى من ردود فعل النسان تجاه الحداث ‪.‬‬

‫امتحانات ‪:‬‬ ‫مجرد‬


‫والمؤمن ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬يختلف عن غيره في نوعية ردود الفعــل الــتي‬
‫يبديها ازاء الحداث ‪ ،‬وهذا هو الفارق الساسي بين النسان المــؤمن‬
‫وغيره ‪ ،‬وعلى سبيل المثال فان المــؤمن يعتــبر الحــداث الســلبية فــي‬
‫حياته مجرد امتحانات تدفع به الى الصمود والصبر ‪ ،‬ويرى الحداث‬
‫اليجابية في حياته على انها امتحانات ايضــا مصــاغة بشــكل نعــم ان‬
‫هــذه النوعيــة مـن تلقــي الحــداث تــدفع بالنســان المــؤمن الــى العمــل‬
‫والحركة في جميع الحوال سواء كانت الحداث التي يواجهها ســلبية‬
‫ام ايجابية ؛ فهو عامل عندما يصــاب بمصــيبة ‪ ،‬وعامــل ايضــا حينمــا‬
‫تســبغ عليــه نعمــة ‪ ،‬فالعمــل هــو العمــل ‪ ،‬والصــمود هــو الصــمود‪،‬‬
‫والشخصــية هــي الشخصــية مهمــا اختلفــــت الحــداث ‪ .‬فــي حيــن ان‬
‫النسان المنافق يرى فــي الحــدث الســلبي يأســا ونهايــة ‪ ،‬ويصــف لنــا‬
‫ش ـّر َكــا َ‬
‫ن‬ ‫سـُه ال ّ‬ ‫القرآن الكريم هذه الحالة في قوله ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬وِإَذا َم ّ‬
‫َيُئوسًا { ) السراء ‪. ( 83 /‬‬

‫صــاَبْتُهْم‬
‫ويصف القرآن الكريم النسان المؤمن قائل ‪ } :‬اّلـِذينَ ِإَذآ َأ َ‬
‫ن { ) البقــرة ‪ ، ( 156 /‬فــالمؤمن الــذي‬ ‫جُعــو َ‬
‫ل وِإّنآ ِإَلْيِه َرا ِ‬ ‫صيَبٌة َقاُلوا ِإّنا ِّ‬
‫ُم ِ‬
‫يصاب بمصيبة ما ل ينظر الى هذه المصيبة من خلل اطــار ضــيق ‪،‬‬
‫ن{‪،‬‬ ‫جُعــو َ‬‫ل ـ وِإّنــآ ِإَلْي ـِه َرا ِ‬
‫بل ينظر اليها بمنظار كوني فيقول ‪ِ } :‬إّنا ِّ‬
‫اي ان هذه المصيبة طفيفة وصغيرة بالنسبة الــى حيــاتي ‪ ،‬ثــم ان هــذا‬
‫الحدث وغيره أعتبره بســيطا بالنسـبة الـى مبتـدئي ومنتهـاي ‪ ،‬فحــدث‬
‫الموت اكبر من هذا الحدث ‪ ،‬وحــدث البتــداء ونعمــة الوجــود اعظــم‬
‫منه ‪ ،‬فوجود النسان هو نعمة مســبوغة علــى النســان ل تعادلهـا ايـة‬
‫نعمة اخرى ‪ ،‬فل مبرر ‪ -‬اذن ‪ -‬لليأس والقنوط ‪.‬‬

‫والقرآن الكريم يــبين لنــا ان شخصــية النســان المــؤمن تختلــف عــن‬


‫شخصــية النســان المنــافق‪ ،‬والكــافر ‪ ،‬ويعــبر ‪ -‬تعــالى ‪ -‬عــن هــذه‬
‫ت ُقُلــوُبُهْم {‬ ‫جلَ ْ‬‫ل َو ِ‬ ‫ن ِإَذا ُذِكَر ا ّ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫الحـقـيـقـة قـائل ‪ِ } :‬إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫والوجل هــو حالــة نفســية للنســان المــؤمن تجعلــه يعيــش دائمــا حالــة‬
‫التعادل بين الخوف والرجاء سواء كانت الحداث سلبية ام ايجابية ‪.‬‬

‫النموذج المثل ‪:‬‬


‫وقد تجسدت هذه الحالة كأحسن ما يكون فــي شخصــية نبينــا محمــد‬
‫) صلى ال عليه وآله ( الذي كان رجاؤه وأمله ان يظهر ال ـ ‪ -‬تعــالى‬
‫‪ -‬دينه على العالم كله ‪ ،‬فكان امله ورجـاءه فــي مكـة المكرمـة بمقــدار‬
‫أمله ورجائه في المدينــة المنــورة ‪ ،‬كمــا كـان فــي نفــس الــوقت يحــذر‬
‫ويخشى من ان ل يظهر الدين سواء في مكة ام في المدينة ‪.‬‬

‫ترى لماذا يعيش النسان المؤمن هــذه الحالــة ؟ الجــواب ‪ :‬لنــه ل‬


‫يستمد عناصر الخوف والرجاء في حياته من الواقع المادي بل يستمد‬
‫عناصرهما من الواقع الغيبي ‪ ،‬فيدرك ان كل مــا فــي الــدنيا مــن خيــر‬
‫زائل كله لنه نعمة من ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬والنعمــة كمــا تعطــى تؤخــذ ‪،‬‬
‫واذا ما وجد الشر فانه يعرف ان هنــاك قــوة غيبيــة فــوق هـــــذا الشــر‬
‫تمكنه من ان يقضي على هـذا الشــر فـي خلل لحظـات ‪ ،‬ولــذلك فـان‬
‫النعــم ل تغره ‪ ،‬كما ان النقم ل تيئسه ‪ ،‬لنه استمد عناصر رجائه من‬
‫قدرة ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ ، -‬واستمد عناصــر خــوفه مـن نقمــة الـ ‪،‬‬
‫وغضبه ‪ ،‬وقدرته على ان يسلب النعم خلل لحظة واحدة ‪.‬‬

‫وهكذا فان المعادلت تتغير جميعا خلل لحظة ‪ .‬وقد اشار الى ذلك‬
‫ل ـ ُبْنَيــاَنُهم‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬في قوله عن مباغتة الكافرين بالعذاب ‪َ } :‬فـَاَتى ا ُّ‬
‫ث َ‬
‫ل‬ ‫حي ـ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ب ِمـ ْ‬‫ف ِمن َفْوِقِهْم َوَأَتاُهُم اْلَعَذا ُ‬
‫سْق ُ‬‫عَلْيِهُم ال ّ‬
‫خّر َ‬‫عِد َف َ‬‫ن اْلَقَوا ِ‬
‫ِم َ‬
‫ن { ) النحل ‪. ( 26 /‬‬‫شُعُرو َ‬ ‫َي ْ‬
‫وهكذا الحال بالنسبة الى النصر والفرج فانهما يأتيــان الــى المــؤمنين‬
‫خَرجـًا *‬‫جَعــل لَـُه َم ْ‬
‫لـ َي ْ‬‫ق ا َّ‬ ‫من حيث ل يشعـــرون ايضــا ‪َ } :‬وَمــن َيّتـ ِ‬
‫ب { ) الطلق ‪. ( 3-2 /‬‬
‫س ُ‬ ‫حَت ِ‬
‫ل َي ْ‬ ‫ث َ‬
‫حْي ُ‬‫ن َ‬ ‫َوَيْرُزْقُه ِم ْ‬

‫الحالت ‪:‬‬ ‫صامد في كل‬


‫ولذلك فان رد فعل النسان المؤمن ازاء الحداث ل يخضع للحدث‬
‫الســـلبي كمـــا ول تغـــره الحـــداث اليجابيـــة ‪ ،‬فل تخـــدعه اي مـــن‬
‫الحالتين ‪ ،‬فحالة الخداع والغــرور هــي حالــة الفتقــار الــى الشخصــية‬
‫والرؤيــة ‪ ،‬امــا الحالــة المعاكســة لهــا فهــي حالــة ضــعف الرادة امــام‬
‫الحداث السلبية ‪ ،‬فالنسان المؤمن هو النسان الوحيد الــذي يســتطيع‬
‫المحافظة على ذاته ‪ ،‬وعدم النهيار امام الحــداث الــتي تقــع امــامه ‪،‬‬
‫فهو يحافظ على توازنه سواء سلب منه شيء ام اوتي شيئا ‪.‬‬

‫عَلـى‬‫سْوا َ‬
‫ل َتْأ َ‬
‫والى هذه الصفة يشيــر القرآن الكريم في قوله ‪ِ }:‬لَكْي َ‬
‫حوا ِبَمآ َءاَتاُكْم { ) الحديــد ‪ ، ( 23 /‬وفي تفســير هــذه اليــة‬
‫ل َتْفَر ُ‬
‫َما َفاَتُكْم َو َ‬
‫يقول المام الصادق ) عليه السلم ( ‪ " :‬ل يكتمــل ايمــان امــرء حــتى‬
‫يكون مثل لهذه الية " ‪ ،‬وفي نفس المعنى يقول ايضا ) عليه السلم (‬
‫‪ " :‬المؤمن اشد مــن الجبــل وقلبــه اقــوى مــن زبــر الحديــد ‪ ،‬فقيــل لــه‬
‫) عليه السلم ( ‪ :‬وكيف يابن رسول ال ؟ قــال ‪ :‬ينــال مــن الجبــل ول‬
‫ينال منه " ‪.‬‬
‫فالمعول قد يكسر احجار الجبل ‪ ،‬ولكن هذا المعول نفسه ل يمكــن‬
‫ان ينال مــن شخصــية النســان المــؤمن والمثـال علــى ذلــك مــؤمن آل‬
‫فرعون ‪ ،‬هذا المؤمن الذي كان يكتم ايمــانه ‪ ،‬فلمــا احــس بــه فرعــون‬
‫امــر ان يعــرض الــى عــذاب ل يســتطيع النســان العــادي احتمــاله ‪،‬‬
‫فهرأوا جلده عن طريق القصب المفتت الذي شدوه بجســده العــاري ‪،‬‬
‫واخذوا يسحبونه قصبة قصبة بحيث كان جلده يتقطع مــع القصــب ثــم‬
‫قطعوا يديه ورجليه ‪ ،‬وثبتوه في اربعة مسامير على الرض ثم قتلــوه‬
‫واحرقوه ‪ ،‬وذروا برماده في الهواء ‪ ،‬ومع ذلك فقد كان هــذا النســان‬
‫ت َق ـْوِمي‬
‫المؤمن الصابر يقول وهو يعــاني مــرارة التعــذيب ‪َ } :‬يــا َلْيـ َ‬
‫ن { )يس ‪. ( 27-26 /‬‬ ‫ن اْلُمْكَرِمي َ‬
‫جَعَلِني ِم َ‬
‫غَفَر ِلي َرّبي َو َ‬
‫ن * ِبَما َ‬
‫َيْعَلُمو َ‬
‫ولذلك فـان هذا النسان المؤمن لم ينهار امام التعذيب ‪ ،‬لنــه اقــوى‬
‫مــن الجبــل ‪ ،‬واقــــوى مــن الحديــــد ‪ ،‬وهــذا هــو معنــى الوجــل ‪،‬‬
‫والضطراب القلبي الذي يجعــــل‬
‫النسان يعيش مترددا بين الخوف والرجاء ‪.‬‬

‫والسؤال المطروح هنا هو ‪ :‬هل حالة التردد هــذه هــي حالــة ســلبية‬
‫لــدى النســان المــؤمن ؟ وجوابــا علــى ذلــك نقــول ‪ :‬كل ‪ ،‬فالنســان‬
‫المؤمن يدرك ان ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬حكيم ‪ ،‬ولنه يمتلك هذه الصفة فــانه ل‬
‫يمكن ان ينتقم من احد عبثا ‪ ،‬ول يمكن ان يفضــل شخصــا علــى اخــر‬
‫بدون مقياس ‪ ،‬فالمؤمن يعرف ان المصاعب هي طريقــه الــى تحقيــق‬
‫النعمة ‪ ،‬وان السهولة والراحة هما الطريق الى النقمــة ‪ ،‬وهــو يعــرف‬
‫ايضا ان الدنيا دار ابتلء وامتحان ‪ ،‬وعندما ل يجد النسان نفســه فــي‬
‫الدنيا مبتلى بامتحان ‪ ،‬ول يجد نفسه تحت وطأة نقمة او نعمة لبــد لــه‬
‫ان يعرف انه اخذ يفشل في المتحان ‪.‬‬

‫ففي اليوم الذي يجد فيــه النسـان المــؤمن نفسـه امـام صــعوبة فـانه‬
‫يــؤنس نفســه ‪ ،‬وكــذلك الحــال اذا مــا واجــه نعمــة ‪ ،‬فهــو يعيــش حالــة‬
‫التأنيب الدائم والمستمر لنفسه ‪ ،‬اما اذا وجد نفسه يوما غير خائف ول‬
‫وجل من ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬فانه ينصب بالتأنيب على نفسه ايضا معتقدا ان‬
‫ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬قد وكله الى نفسه ‪ ،‬واخذ يستدرجه لكي ينسى الخرة ‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فــان النســان المؤمــن يوقــن ان حكمــة ال ـ تأبــــى‬


‫ان ينتقم مــن احــد ‪ ،‬او ينعــم على احــد بــدون عمــل ؛ فــــان كــــان‬
‫المؤمــن خائفــا فــان خوفــه هــذا سيدفعــــه الــى العمــــل الصالــــح ‪،‬‬
‫واذا كان راجيــا فــان رجـاءه سيدفــع به ايضــا الـى العمــل ‪ ،‬فهــــو‬
‫اساسـا خــائـف وراج فــي نفــس الــوقت ‪.‬‬

‫فعــن المام الصــادق ) عليه السلم ( أنه قال ‪ " :‬ارج ال رجاء ل‬
‫يجرئك على‬
‫معاصيه وخف ال خوفا ل يؤيسك من رحمته " ‪. ((1‬‬

‫وعنه ) عليه السلم ( ‪ " :‬ل يكون المؤمن مؤمنا حتى يكــون خائفــا‬
‫راجيا وليكون خائفا راجيا حتى يكون عامل لما يخاف ويرجو " ‪. ((2‬‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 67‬ص ‪384‬‬
‫)‪2‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 67‬ص ‪365‬‬
‫وبعــد فان هــذه الروح هــي الـتي تحــث النـــسان المـــؤمن علــى‬
‫القيام بالعمل في سبيل ال ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬وهذا هو معنى الوجل الذي هــو‬
‫احد العناصر الرئيسية الداخلة في تركيب الشخصية اليمانية ‪.‬‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫زيادة‬


‫اما العنصر الثاني فيتمثل في ) زيادة اليمان ( ‪ ،‬فالنسان الذي يرى‬
‫آيات ال ونعمه فـي السـماوات والرض ثــــم ل يــــزداد ايمــــانه فـانه‬
‫انسان غيــر مؤمـن ‪ ،‬كــما اشـار الـى ذلــــك ‪ -‬تعــالى ‪ -‬فــي قــوله ‪} :‬‬
‫مانًا { ‪.‬‬
‫عَلْيِهْم َءاَياُتُه َزاَدْتُهْم ِإي َ‬
‫ت َ‬
‫َوِإَذا ُتِلَي ْ‬
‫وليس من الضروري ان تكون اليات هنا هـي اليات القرآنيـــــة ‪،‬‬
‫فقد تتجسد آيات اللـــه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في كل ما في الكــون مــن مظــاهر‬
‫القدرة ‪ ،‬والجمال ‪ ،‬والروعة ‪ ،‬والمؤمن اذا تليت عليه آيات ال زادت‬
‫مــن ايمــانه ‪ ،‬امــا النســان الــذي ل يــزداد ايمانــا فهــو غيــر مــؤمن ‪،‬‬
‫وليحاول ان يفتش لنفسه عن اسم اخر كـ ) الكافر ( او ) المنــافق ( او‬
‫) المشرك ( ‪ ،‬المهم انه انسان غير مؤمن !‬

‫ال ‪:‬‬ ‫التوكل على‬


‫اما العنصر الثــالث والخيــر فهــو التوكــل علــى الـ ‪ -‬تعــالى ‪} : -‬‬
‫ن { وقد جاءت الشــارة الــى هــذه الصــفة فــي آيــة‬ ‫على َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ‬
‫َو َ‬
‫سـَتَقاُموا ‪ ) { ..‬فصــلت ‪ ( 30 /‬وانــا‬
‫لـ ُثـّم ا ْ‬
‫ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّ‬
‫اخرى هي ‪ }:‬اّلِذي َ‬
‫ارى ان صفتي الستقامة والتوكل يمثلن صفة واحــدة ؛ فالتوكــل هــو‬
‫مبعث الستقامة ‪ ،‬والستقامة بدورها هي نتيجة التوكل ‪.‬‬

‫العلم واليمان جناحا التقدم‬

‫لقــد زود ال ـ ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪ -‬النســــان بجنــاحين يمكنــه بهمــا‬


‫التحليق أنى شــاء ‪ ،‬أل وهمـا العلــم واليمــان ‪ .‬فعنــدما يكتمـل نموهمــا‬
‫يكون النسان ‪ -‬حينئذ ‪ -‬أهل للتكامل ‪ ،‬والسمو ‪ ،‬والتقــدم ســواء علــى‬
‫الصــعيد الفــردي ام الجتمــاعي ‪ ،‬ذلــك لن تكامــل النســان مرهــون‬
‫بتكامل ايمانه وعلمه ‪.‬‬

‫حقيقة اليمان ‪:‬‬


‫يا ترى فما هو اليمان ‪ ،‬وكيف يتكامل النسان بالعلم والمعرفة ؟‬
‫ربما يمكننا ان نعرف اليمان بأنــه الخروج مــن زنزانــــــة النفــس‬
‫المــارة بالســوء ‪ ،‬والتحــرر مــن اغلل الهــوى ‪ ،‬وقيــود الشــهوات ‪،‬‬
‫وانعتاقه من شح النفس وبخلها ‪ ،‬وانطلقه ‪ -‬اي النسان ‪ -‬في رحــاب‬
‫الحق ‪.‬‬
‫واليمان هو تحول نــوعي فــي صــميم النفــس البشــرية يعمــل علــى‬
‫اخراجها من اطارها الضــيق المحــدود نحــو آفــاق الخريــن ‪ ،‬لتعيــش‬
‫تطلعــاتهم وهمــومهم ‪ ،‬بالضــافة الــى تطلعــات النفــس وهمومهــا ‪.‬‬
‫فالنسان الذي يحيى اجواء اليمان نجده يعيش هموم اخوته ‪ ،‬ويكافــح‬
‫من أجل احقاق حقــوقهم ‪ ،‬ول يــؤطر تطلعــاته فيجعلهــا انانيــة متوقفــة‬
‫على حقوقه ‪ ،‬ومصالحه ‪.‬‬
‫واصل اليمان هو اعتراف النسان ‪ ،‬وتسليمه بــاكبر الحقــائق ‪ ،‬أل‬
‫وهي حقيقـــة اللوهية المطلقة ‪ ،‬ومنه يتفرع التســليم بحقــائق الوجــود‬
‫الخــرى ‪ .‬ولــذلك فــان الكــافر بــال ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬ل يــؤمن بحقيقـــــة‬
‫اخرى ‪ ،‬و ل يعتقد بشيء آخر ‪ ،‬ذلك لن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬اكــبر شــهادة‬
‫من كل شيء ؛ فعندما يكفر النسان بالشــمس الســاطعة ونورهــا ‪ ،‬ول‬
‫يؤمن بوجودها ‪ ،‬فكيف نتوقع منه ان يؤمن بوجود شمعة صــغيرة اذا‬
‫ما اوقدتها له ليبصر بنورها ؟ فالذي ل يرى النــور الســاطع ل يمكنــه‬
‫رؤية البصيص منه ‪.‬‬
‫ولذلك كان اول اليمان معرفته ‪ -‬جل شــأنه ‪ . -‬فـان تعــرف ربــك ‪،‬‬
‫وتسلم له وتعتقد به ‪ ،‬فانك تكون قد بلغت قمة اليمان ‪.‬‬

‫الخروج من أسر الذات ‪:‬‬


‫ولكي تنفتح امام النسان آفاق اليمان فــان عليــه ان يخـــــرج نفســه‬
‫من أسر انانيتها ‪ ،‬وال فان البقاء في ســجن النفــس يــدفع النســان الــى‬
‫التجبر ‪ ،‬والتكبر ‪ ،‬وحــب الــذات ‪ .‬ولــذلك فــان عليــه ان يستشــعر فــي‬
‫اعماق نفسه انه ل يعيش لوحده ‪ ،‬وانــه ليس هو اله هــذا الكــون ‪ ،‬بــل‬
‫ان هناك الها عظيما ‪ ،‬وربـا قـادرا عليمــا هــو‬
‫المهيمن والمسيطر ‪ ،‬وهو الذي ل اله إل هو ‪ ،‬وهو الجبار المتكبر ‪..‬‬
‫وفي القرآن الكريم كــثيرا مــا تطالعنــا المقارنــة بيــن اليمــان بــال ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬وبين ان ينطوي النسان في حياته على هوى الذات ‪ ،‬وفــي‬
‫عِ‬
‫ن‬ ‫س َ‬
‫ف َمَقـاَم َرّبِه َوَنَهــــى الّنْف َ‬
‫خا َ‬
‫ن َ‬
‫ذلك يقول ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬وَأّما َم ْ‬
‫ي اْلَمـْأَوى { ) النازعات ‪ . ( 41 - 40 /‬فخشية ال ‪ -‬عز‬ ‫جّنَة ِه َ‬
‫ن اْل َ‬
‫اْلَهَوى * َفِإ ّ‬
‫وجل ‪ -‬وهوى النفــس يقفــان علــى طرفــي نقيــض ‪ ،‬ول يمكــن الجمــع‬
‫بينهما ؛ فالقلب المعمور باليمان ل يمكنه ان يتعلــق بهــوى النفــس ال‬
‫إذا تزلــزل اليمــان فيــه لســبب مــن الســباب ‪ .‬فــالهوى هــو حجــاب‬
‫اليمـان ‪ ،‬وهو ‪ -‬في الحقيقة ‪ -‬اكبر عــثرة ‪ ،‬واعظــم حــائل دون ســير‬
‫النسان نحو ربه ‪ ،‬ودون تكامله من خلل التقرب اليــه ‪ -‬ســبحانه ‪، -‬‬
‫ولذلك فـان الــذي يختـار طريــق اليمـان والتقــوى ‪ ،‬عليــه ‪ -‬اول ‪ -‬ان‬
‫يزيل من قلبه حب النا ‪ ،‬ويتخلص من هوى النفس ‪.‬‬

‫اليمان نور الدارين ‪:‬‬


‫واليمان هو نور الداريــن ؛ فهو نور في الدنيا ‪ ،‬وبه يميز المــؤمن‬
‫بين الحق والباطل ‪ ،‬وبين الظلم والعدل ‪ ،‬وبين الخطأ والصواب ‪ .‬في‬
‫حين ان ذلك الذي يتبع هوى نفسه ‪ ،‬وشهواته فان جميع المور سوف‬
‫تختلط عليه ‪ ،‬ولذلك جاء في الدعاء الشريف ‪:‬‬
‫} اللهــم أرنــي الحــق حقــا فــأتبعه ‪ ،‬والباطـــل بــاطل فــأجتنبه ‪ ،‬ول‬
‫ي متشابها فاتبع هواي بغير هدى منك { ‪.‬‬ ‫تجعله عل ّ‬
‫وفــي الحقيقـة فان الذين ل يؤمنون حق اليمان ‪ ،‬ويتبعــون الهــوى‬
‫والشهوات هم‬
‫عمي في قلوبهم ‪ .‬ومن المعلوم ان عمــى القلــب هــو اشــد واســوء مــن‬
‫عمى العين ‪ ،‬لنه يورث العمى في الخرة ايضا كما يشير الى ذلــك ‪-‬‬
‫عَمــى‬‫خ ـَرِة َأ ْ‬
‫لِ‬‫عَمى َفُه ـَو ِفــي ا َ‬ ‫ن ِفي هِذِه َأ ْ‬‫تعالى ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬وَمن َكا َ‬
‫ل { ) الســراء ‪ . ( 72 /‬فالذي ل يبصر الحقائق فــي هــذه الــدنيا‬ ‫سِبي ً‬
‫ل َ‬‫َوَأضَ ّ‬
‫رغم ما أوتي من اسباب الرؤية والبصــار ليمكنــه ان يبصــرها غــدا‬
‫في الخرة ‪ ،‬بل انه سيزداد عمى ‪ ،‬وفقــدانا لهــذه البصــيرة ‪ ،‬اللهــم ال‬
‫عندما تتكشف له الحقائق وعندها ل ينفعه اليمــان كمــا يصــرح بــذلك‬
‫العلي القدير في قوله ‪:‬‬
‫ت ِمن‬ ‫ن َءاَمَن ْ‬‫ل َيْنَفُع َنْفسًا ِإيَماُنَها َلْم َتكُ ْ‬
‫ك َ‬
‫ت َرّب َ‬‫ض َءاَيا ِ‬
‫} َيْوَم َيْأِتي َبْع ُ‬
‫خْيرًا { ) النعام ‪. ( 158/‬‬ ‫ت ِفي ِإيَماِنَها َ‬
‫سَب ْ‬
‫ل َأْو َك َ‬
‫َقْب ُ‬
‫اما النســان المــؤمن فــان لــه يــوم القيامــة نــورا ســاطعا فــي وجهــه‬
‫يضيء له طريقه ‪ ،‬فيبصر به الصراط المستقيم مــن بعيــد ‪ ،‬ولــه نــور‬
‫يشع من جوانبه ‪ ،‬في حين ان الملئكـة والنـبيين والمــؤمنين يحيــونه ‪،‬‬
‫ويسلمون عليه كما يؤكد على ذلك القرآن الكريم في قوله ‪:‬‬
‫ن َأْيِديِهْم َوِبَاْيَماِنِهم‬
‫سَعى ُنوُرُهم َبْي َ‬ ‫ت َي ْ‬ ‫ن َواْلُمْؤِمَنا ِ‬‫} َيْوَم َتَرى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ك ُهـَو‬ ‫ن ِفيَهــا َذِلـ َ‬ ‫خاِلـِدي َ‬‫لْنَهــاُر َ‬
‫حِتَهــا ا َ‬
‫جِري ِمن َت ْ‬ ‫ت َت ْ‬
‫جّنا ٌ‬ ‫شـَراُكُم اْلَيْوَم َ‬
‫ُب ْ‬
‫ظيُم { ) الحديد ‪. ( 12 /‬‬ ‫اْلَفْوُز اْلَع ِ‬

‫اليمان أماننا في الخرة ‪:‬‬


‫وبهذا المن والطمئنـان يقتحــم المؤمنــون ســاحة المحشــر الرهيبــة‬
‫المخيفة ذات الهول والفزع الكبر ‪ ،‬آخذين طريقهم الى ما بشــروا بــه‬
‫من النعيم البدي ‪ ،‬حيث النهار باختلف مشاربها ‪ ،‬وحيث الطعمــة‬
‫الفاخرة التي ل تنعدم لذتها ‪ ،‬وحيث الفاكهة التي ما رأتها عين ‪ ..‬ومــا‬
‫الى ذلك مما تشتهيه النفس ‪ ،‬وتلــذ بــه العيــن ‪ ،‬وتطيــب لــه النفــوس‬
‫والقلوب ‪.‬‬
‫وبشــرى هــذا النعيــم يتلقاهــا النســان المــؤمن حيــث تتوافــد عليــه‬
‫الملئكة من كل جانب ‪ ،‬كل منهم يحمل له بشارة مـن بشـارات النعيـم‬
‫الخالد البدي الذي ليس له حد ول نهاية ‪ .‬وهذا هــو اعظــم مــا يعيشــه‬
‫النسان من تطلع في قلبه ‪ ،‬ال وهو النزوع الى الخلــود ‪ .‬فكــل انســان‬
‫ينزع الى الخلد ويبحث عنه ‪ ،‬ولعل جل مـا يبــذله النســان ويكــدح لــه‬
‫هو الستمرار في الحياة لكي يتنعم بهــا مــا أمكنــه ‪ .‬فحــب الخلــود هــو‬
‫الذي يدفع النسان نحو التحــرك والنشــاط ‪ ،‬وبهــذه الحركــة والنشــاط‬
‫يفر من الموت وسكراته ‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فمن طبيعة النسان انه يروم الخلــود فــي الرض ‪،‬‬
‫ويفر من الموت واسبابه ‪ ،‬ولكن ليس كل ما يرومــه النســان هــو فــي‬
‫مصلحته ‪ ،‬وإن كان المر يتعلق بالحياة والخلود فيها ‪.‬‬
‫ومع ذلك فان طول العمر هو مبعث للنسان علــى الملــل والضــجر‬
‫من الحياة ‪ ،‬فنحـن كـثيرا مـا نجــد الــذين يعمـرون يجزعــون مـن هـذه‬
‫الحياة ‪ .‬فما الذي يجده النسان في حياته غير المشــاكل ‪ ،‬والمتــاعب ‪،‬‬
‫والمصـاعب ؟ فالســعادة فيهـا ل تسـتغرق ســوى ســويعات قلئل تمـر‬
‫كالحلم ‪.‬‬
‫الموت بين المؤمنين والكفار ‪:‬‬
‫ومـن الحقائق الثابتة في هذا المجال ان ال ‪ -‬تبــارك اســمه ‪ -‬يســهل‬
‫امر الموت على‬
‫المـؤمن فل يقبـض روحــه حـتى يرضـيه ؛ اي ان الـ يبعـث للمـؤمن‬
‫عندما تحل ساعة اجله ملئكة تزين له الموت ‪ ،‬فيرضــى بــه ‪ ،‬ويســلم‬
‫المانة مطمئنا رغم صعوبة انتزاع الروح من بدن النسان ‪.‬‬
‫اما الكافرون والمنافقون فان موتهم هــو بدايــة عــذاب الحســرة الــى‬
‫يوم القيامة كما يصرح بذلك ‪ -‬تعالى ‪ -‬في قوله ‪:‬‬
‫س ِمـن‬ ‫ظُروَنا َنْقَتِب ْ‬‫ن َءاَمُنوا ان ُ‬
‫ت ِلّلِذي َ‬‫ن َواْلُمَناِفَقا ُ‬ ‫ل اْلُمَناِفُقو َ‬
‫} َيْوَم َيُقو ُ‬
‫ســوٍر َلـُه‬
‫ب َبْيَنُهـم ِب ُ‬
‫ضـِر َ‬‫سوا ُنـورًا َف ُ‬ ‫جُعوا َوَرآَءُكْم َفاْلَتــِم ُ‬ ‫ل اْر ِ‬‫ُنوِرُكْم ِقي َ‬
‫ب { ) الحديد ‪. ( 13 /‬‬‫ظاِهُرُه ِمن ِقَبِلِه اْلَعَذا ُ‬ ‫حَمُة َو َ‬ ‫طُنُه ِفيِه الّر ْ‬‫ب َبا ِ‬
‫َبا ٌ‬
‫فمــن ايــن للمنــافق العــودة الــى هــذه الــدنيا ؟ ولعــل المقصــود هنــا‬
‫بالباب الشفاعة ‪ -‬وال اعلم ‪ ، -‬فهناك مــن تكــون درجــة نفــاقه ضــئيلة‬
‫فتشمله الشفاعة حينئذ ‪ ،‬وهناك الذين طبعــوا علــى النفــاق ‪ ،‬واســودت‬
‫قلوبهم به ‪ ،‬فل تنفعهم شفاعة الشافعين ‪.‬‬

‫التبرير خداع الذات ‪:‬‬


‫ثم يقول ‪ -‬تعالى ‪ -‬واصفا حال المنافقين فــي يــوم القيامــة مــن خلل‬
‫الحــــوار الذي يدور بينهم وبين المؤمنين ‪ُ } :‬يَناُدوَنُهْم َأَلْم َنُكن َمَعُكْم‬
‫حّتى‬ ‫ي َ‬ ‫لَماِن ّ‬‫غّرْتُكُم ا َ‬
‫صُتْم َواْرَتْبُتْم َو َ‬
‫سُكْم َوَتَرّب ْ‬
‫َقاُلوا َبَلى َوَلِكّنُكْم َفَتْنُتْم َأنُف َ‬
‫ل اْلَغـُروُر { ) الحديــد ‪ . ( 14 /‬فالنسـان كـثيرا مـا‬ ‫غّرُكم ِبـا ِّ‬ ‫ل َو َ‬ ‫جآَء َأْمُر ا ِّ‬‫َ‬
‫يخدع نفسه ‪ ،‬ويحدثها بأمور واهية باطلة ‪ ،‬ويحاول اقناعها بمــا ليــس‬
‫فيــه مــن الحــق والصــواب بمختلــف التــبريرات الــتي يختلقهــا فــــي‬
‫عو َ‬
‫ن‬ ‫خاِد ُ‬
‫مخيلته ‪ ،‬واوهامه ‪ ،‬ولذلك يقول ‪ -‬عز من قائل ‪ُ } : -‬ي َ‬
‫ن { ) البقرة ‪( 9 /‬‬‫شُعُرو َ‬ ‫سُهْم َوَما َي ْ‬‫ل َأْنُف َ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬
‫خَد ُ‬‫ن ءاَمُنوا َوَما َي ْ‬ ‫ل َواّلِذي َ‬
‫ا ّ‬
‫وهذه هــي فتنــة النفــس وبعــدها يــأتي الــتربص اي ؛ تــرك العمــل ‪،‬‬
‫وتــأجيله ‪ ،‬واتخــاذ التســويف ســلوكا تجــاه المســؤولية ‪ ،‬والتكليــف‬
‫الشــرعي ‪ .‬علمــا ان التســويف هــو احــد اســلحة الشــيطان الخفيــة ‪،‬‬
‫وللتخلص من هذا الداء على المؤمن ان يكون مثابرا ‪ ،‬ومســارعا فــي‬
‫الخيرات ‪ ،‬واداء ما عليه من الفــرائض ‪ ،‬والواجبـات ‪ ،‬والمسـؤوليات‬
‫الشرعية تجاه اسرته ومجتمعه وامته ‪.‬‬
‫ويلي التربص ‪ -‬كما نرى في الية السابقة ‪ -‬الريبة والشك ‪ ،‬فاذا ما‬
‫ترك التربص أثره في نفس النسان فانه سيصبح عرضة لــداء الريبــة‬
‫والشك حتى فــي المــور الواضــحة البينــة ‪ .‬علمـا ان هـاتين الصــفتين‬
‫الذميمتين هما من حبــائل الشــيطان والــذي يســعى مــن أجــل ان يلقيهــا‬
‫على قلب النسان ليوقعه في فخ النفاق الى درجة انه يبــدأ يشــك حــتى‬
‫في وجوب الفرائض الدينية كالصلة والصوم والحج وما الى ذلك ‪.‬‬
‫وبعــد التســويف والوقــوع فــي حبــائل الريبـــــة ‪ ،‬يــزداد النســـــان‬
‫انزلقا في مهاوي النفاق بـأن يعلـل نفسـه بالمـال الخادعـة ‪ ،‬ويمنيهـا‬
‫ي { ومن امثلــة‬ ‫لَماِن ّ‬‫غّرْتُكُم ا َ‬‫بالماني الكاذبة كما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬و َ‬
‫ذلك ان يؤمل العاصي نفسه بالمغفرة ‪ ،‬وما وسع مــن الرحمــة اللهيــة‬
‫فل تجده يسارع الى التوبة ‪ ،‬ويعجل بها ‪ ،‬فيتساهل في المبــادرة اليهــا‬
‫حتى يفاجئه الجـــل وقــد خســر كــل فــــرصة فــــــي حيــاته ‪ ،‬والــى‬
‫هذا المعني يشير ‪ -‬تعالى ‪ -‬في قوله ‪:‬‬
‫ر{‬ ‫ل اْلَغُرو ُ‬‫غّرُكم ِبا ِّ‬‫ل َو َ‬
‫جآَء َأْمُر ا ِّ‬
‫حّتى َ‬
‫ي َ‬‫لَماِن ّ‬
‫غّرْتُكُم ا َ‬
‫} َو َ‬
‫والغــرور هـو مجموعــة من العوامــل الشيطانيـــة التـــــي تعمــــل‬
‫علــى تأخيــر‬
‫النسان ‪ ،‬وابعاده عن مسيرة اليمان التكاملية التي توصله الــى رضــا‬
‫ال ورحمته ومغفرتــه ‪.‬‬

‫اليمان والعلم اساس كل حضارة ‪:‬‬


‫وهنا نعود لنؤكد على ان جناحي التكامــل ‪ ،‬والســمو النســاني نحــو‬
‫العلى والتقدم والفوز بالرضــا اللهــي همـــا اليمـان والعلــم ؛ فمـا مـن‬
‫حضارة بنيت بناء رصينا ‪ ،‬وازدهرت ‪ ،‬وسمت في آفــاق التاريــخ إل‬
‫على اساس ذينـك الجناحين ؛ العلــم واليمــان ‪ .‬وفــي مقابــل ذلــك فــان‬
‫التدهور ‪ ،‬والخراب ‪ ،‬والدمار كل ذلك سوف يحل بالحضارة عندمــــا‬
‫ينحــرف ابناؤهـا عـن تلـك المسـيرة ‪ ،‬ويتـداعى عنـدهم ركنـا اليمـان‬
‫والعلم ‪ ،‬فتتهاوى هذه المة الى الرض ‪ ،‬وتصبح ضحيــــة للوحــوش‬
‫المفترســة الجائعــة ‪ .‬وهــذا هــو مصــير كــل امــة يفقــد ابناؤهــا ذينــك‬
‫الجناحين ‪ ،‬فان مصيرها ســوف ل يكــون ســوى التــدهور ‪ ،‬والتخلــف‬
‫والسقوط فتغدو لقمة ســائغة فــي افــواه جبــابرة الرض المســتكبرين ‪،‬‬
‫والطامعين ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك هو حال امتنا السلمية في القرون الخيرة ؛ فقد‬
‫ضعف ايمان ابنائها ‪ ،‬وتركوا علمهم ‪ ،‬فتخلفوا عن الركب الحضاري‬
‫ولــم يعــودوا قــادرين علــى مواجهــة هــذا الهجــوم الشــرس للنــاهبين‬
‫والطامعين ‪ ،‬وصاروا ضحية وفريسة لكل من هب ودب مــن الشــرق‬
‫والغرب ‪ .‬فابناء المة عندما انحرفوا عن الطريــق الرســالي ؛ طريــق‬
‫العلم واليمان ‪ ،‬فان المة تخلفت حضاريا ورســاليا ‪ ،‬وخــارت قواهــا‬
‫بعد ان انعدمت اسباب القوة الحقيقية فيها ‪ .‬وقد صــدق النــبي ) صــلى‬
‫ال عليه وآله ( عندما قال ‪ " :‬من ل معاد له ل معاش له " ‪ ،‬وعندمــا‬
‫قال ايضا ‪ " :‬من لم يهتم بأمور المســلمين فليــس بمســلم " ‪ ،‬فالنســان‬
‫المسلم الذي ل يهتم بأمور اخوانه ‪ ،‬وابناء امته يمحى اسمه من قائمــة‬
‫المسلمين ‪ ،‬فعندما ينقضي نهارك وتبيت ليلتــك وانــت غيــر مبــال بمــا‬
‫يجري على اخوانك المسلمين ســواء القريــبين منهــم اليــك او البعيــدين‬
‫ول يتحرق قلبك عليهم فاعلم ان الملئكــة ســوف ل تــدون اســمك فــي‬
‫قائمة المسلمين في ذلك اليوم ‪.‬‬
‫وهنا تبرز اهمية الفكــرة الــتي بحثناهـا وهــي الخــذ بسـلحي العلــم‬
‫واليمان لكي نخــرج ممـا نحـن فيـه مـن حـال متـدهورة متخلفــة تكـاد‬
‫تمسخ هويتنا ‪ ،‬ووجودنا ‪ ،‬ورسالتنا في الحياة ‪ .‬ونحن لو أخذنا بهــذين‬
‫العنصرين لكانا لنا الجناحين اللذين نسمو بهما نحو الرفعة والزدهار‬
‫والتقدم ‪ ،‬لنبرز مرة اخرى بين امم الرض ‪ ،‬ول نعود بحاجة الى ان‬
‫نمد يد الستجداء الى هــذه الدولــة او تلــك فضــل عــن ان نتحــول الــى‬
‫القصعة التي تتداعى المم عليها ‪.‬‬
‫وهكذا فلبد لنا من ان نتوكل على ال ‪ -‬تبــارك وتعــالى ‪ ، -‬ونعمــل‬
‫بعلمنا وايماننا لكي نبلغ اهدافنا السامية المنشودة التي تضمن لنا العزة‬
‫والكرامة في الحياة الدنيا ‪ ،‬والرضوان ‪ ،‬والنعيم ‪ ،‬والخلــود ‪ ،‬والتمتــع‬
‫بالنعم التي ل حصر لها ول زوال في الدار الخرة ‪.‬‬

‫خصائص الفئة المؤمنة‬

‫عندما تقاتل فئة فئة اخرى فانهما قد تكونان كلهما ضالتين تدخلن‬
‫النار ‪ ،‬وقد تكون احداهما مؤمنة والخرى كافرة ‪.‬‬

‫وفي هذه الحالت من القتال والصراع فان كل فريق يدعي بأنه هو‬
‫الفئة الناجية التي تدخل الجنة دون الفئات الخــرى ‪ ،‬ولبــد ان يــدعي‬
‫كل فريق انه هو الذي يمثل الرادة اللهية فوق الرض ‪ .‬حــتى هتلــر‬
‫الذي أحرق العالم بأسلحته ‪ ،‬كان يدعي انه يدافع عــن الصــليب ‪ ،‬وان‬
‫ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬قد بعثه منقذا للبشرية ‪ ،‬وهكذا الحال بالنســبة الــى طغــاة‬
‫العالم الخرين ‪.‬‬

‫وهكذا فان كل فئة كـانت تبحث عن تبرير لعمالها ‪ ،‬والتبرير جاهز‬


‫عند النسان ‪ ،‬فهو يغلف اعماله بغطاء جذاب من التوجيه الــذاتي ‪ ،‬او‬
‫الخداع الذاتي الذي يخدع به نفسه ‪ ،‬ويحاول ان يخدع به الخرين ‪.‬‬
‫ومــع ذلك فــان هــذه الدعاءات ليــست هي المقياس ‪ ،‬بل المقياس‬
‫الحقيقي ان‬
‫تثبت اخلصك ‪ ،‬وقدسية رسالتك عبر البرامج اللهيــة الموجــودة فــي‬
‫القرآن الكريم ‪ ،‬فاذا استطعت ان تثبت انــك مــع الحــق ل مــع نفســك ‪،‬‬
‫فسيكون بمقدورك ان تثبت كونك من ضمن الفئة المختارة المؤمنة ‪.‬‬

‫وفي سورة آل عمران التي خصصت فيمــا يبــدو لــي لبيــان الوحــدة‬
‫المبدئيــة بيــن ابنــاء الرســالت اللهيــة ‪ ،‬وخصوصــا بيــن ابنــاء المــة‬
‫السلمية ‪ ،‬وضرورة العتصام بحبل ال ‪ ،‬وعدم التفــرق ‪ ،‬فــي هــذه‬
‫السورة المباركة يشير ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الى ان هنــاك صــراعا بيــن‬
‫فئتين ؛ فئة مؤمنة ‪ ،‬وفئة كــافرة ‪ ،‬ولكــن الفئة المؤمنــة ســوف تنتصــر‬
‫بأذن ال ‪.‬‬

‫الصراع ‪:‬‬ ‫فلسفة‬


‫ولكن سرعان ما يبين القرآن الكريم فلسفة الصراع وخلفياته واسبابه‬
‫‪ ،‬والبرامج الساسية التي لبد ان يثبت اي طرف من طرفي الصراع‬
‫صحة مقولته واسلوبه عبرها لعبر الدعاء والزعم ‪ ،‬فلنتأمل السياق‬
‫القرآني التالي ‪:‬‬

‫خَرى‬ ‫ل َوُا ْ‬‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬


‫ل ِفي َ‬ ‫ن اْلَتَقَتا ِفَئٌة ُتَقاِت ُ‬
‫ن َلُكْم َءاَيٌة ِفي ِفَئَتْي ِ‬ ‫} َقْد َكا َ‬
‫ن ِفــي‬‫شــآُء ِإ ّ‬‫صـِرِه َمــن َي َ‬
‫لـ ُيَؤّيـُد ِبَن ْ‬ ‫ن َوا ّ‬ ‫ي اْلَعْي ِ‬
‫َكاِفَرٌة َيَرْوَنُهم ِمْثَلْيِهْم َرْأ َ‬
‫ســآِء‬
‫ن الّن َ‬‫ت ِمـ َ‬ ‫شـَهَوا ِ‬‫ب ال ّ‬‫حـ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ن ِللّنــا ِ‬ ‫صاِر * ُزّيـ َ‬ ‫لْب َ‬ ‫لْوِلي ا َ‬ ‫ك َلِعْبَرًة ُ‬
‫َذِل َ‬
‫سـّوَمةِ‬ ‫ل اْلُم َ‬
‫خْيـ ِ‬‫ض ـِة َواْل َ‬ ‫ب َواْلِف ّ‬ ‫ن الـّذَه ِ‬ ‫ط ـَرِة ِمـ َ‬‫طيِر اْلُمَقْن َ‬ ‫ن َواْلَقَنــا ِ‬ ‫َواْلَبِني َ‬
‫ب * ُقـ ْ‬
‫ل‬ ‫ن اْلَمـَا ِ‬‫سُ‬ ‫حْ‬ ‫عْنَدُه ُ‬‫ل ِ‬ ‫حَياِة الّدْنَيا َوا ّ‬ ‫ع اْل َ‬‫ك َمَتا ُ‬ ‫ث َذِل َ‬ ‫حْر ِ‬‫لْنَعاِم َواْل َ‬ ‫َوا َ‬
‫حِتَهــا‬ ‫ج ـِري ِمــن َت ْ‬ ‫ت َت ْ‬
‫جّنــا ٌ‬‫عنَد َرّبِهْم َ‬ ‫ن اّتَقْوْا ِ‬‫خْيٍر ِمن َذِلُكْم ِلّلِذي َ‬ ‫َاُؤَنّبُئُكْم ِب َ‬
‫صــيٌر‬ ‫لـ َب ِ‬ ‫لـ َوا ّ‬ ‫نا ّ‬ ‫ن ِمـ َ‬ ‫ضـَوا ٌ‬ ‫طّهـَرٌة َوِر ْ‬ ‫ج ُم َ‬ ‫ن ِفيَها َوَأْزَوا ٌ‬ ‫خاِلِدي َ‬ ‫لْنَهاُر َ‬ ‫اَ‬
‫ع ـَذا َ‬
‫ب‬ ‫غِفْر َلَنا ُذُنوَبَنــا َوِقَنــا َ‬
‫ن َرّبَنآ ِإّنَنآ َءاَمّنا َفا ْ‬ ‫ن َيُقوُلو َ‬ ‫ِبالِعَباِد * اّلِذيـــ َ‬
‫س ـَتْغِفِري َ‬
‫ن‬ ‫ن َواْلُم ْ‬‫ن َواْلُمنِفِقيـ َ‬ ‫ن َواْلَقــاِنِتي َ‬
‫صـــــاِدِقي َ‬‫ن َوال ّ‬ ‫صـــاِبِري َ‬ ‫الّناِر * ال ّ‬
‫ر { ) آل عمران ‪. ( 17-13 /‬‬ ‫حا ِ‬ ‫لسْ َ‬ ‫ِبا َ‬
‫فهذا السياق يصور لنا فئتين التقتا على ارض المعركة لينشب بينهما‬
‫صراع دموي هـو قمــة الصــراع الجتمـاعي ‪ ،‬وبتعـبير اخــر ؛ نهايـة‬
‫المطاف للصراعات الجتماعية ‪ .‬وبعد ذلك يحدثنا القرآن الكريم عــن‬
‫حب الشهوات لنه لبد ان يكون طرفا فــي الصــراع بيــن فئتيــن ‪ ،‬فل‬
‫يمكن ان تلتقي فئتان على ارض المعركة في سبيل ال ‪ ،‬ول يمكــن ان‬
‫تتحارب طائفتــان مســلمتان ‪ ،‬وتســتمران علــى اســلمهما ثــم تــدخلن‬
‫كلهمــا الجنـة ‪ ،‬فلبد ان يحدو باحدى الطائفتين الى ارض المعركــة‬
‫حب الشهوات ‪ ،‬ولبــد ان تكــون الــذات محــورا لحــدى الطــائفتين او‬
‫لكلتيهما ‪.‬‬

‫ن َلُكْم َءاَيٌة‬ ‫والقرآن الكريم يحدثنا عن هذا الصراع فيقول ‪َ } :‬قْد َكا َ‬
‫ت{‬ ‫ش ـَهَوا ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬ ‫ن اْلَتَقَتا { ثم ل يلبث ان يقول ‪ُ } :‬زّي َ‬ ‫ِفي ِفَئَتْي ِ‬
‫ليبين ان هذا الحب الذي زينه الشيطان للناس هو اساس الصراع ‪.‬‬

‫المؤمنة ‪:‬‬ ‫مواصفات الفئة‬


‫وبعد ذلــك يــذكر القــرآن صــفات الفئة المؤمنــة الــتي تــدعي وتثبــت‬
‫ادعاءهــا عــبر برامــج عمليــة وذلــك فــي قــوله ‪ -‬تعــالى ‪ } : -‬اّلِذيــــ َ‬
‫ن‬
‫ب الّنــاِر *‬
‫عــَذا َ‬‫غِفْر َلَنــا ُذُنوَبَنــا َوِقَنــا َ‬
‫ن َرّبَنــآ ِإّنَنــآ َءاَمّنــا َفــا ْ‬‫َيُقوُلــو َ‬
‫حاِر‬‫سـ َ‬
‫لْ‬ ‫ن ِبا َ‬
‫سَتْغِفِري َ‬
‫ن َواْلُم ْ‬
‫ن َواْلُمنِفِقي َ‬‫ن َواْلَقاِنِتي َ‬
‫صـــاِدِقي َ‬
‫ن َوال ّ‬ ‫صـــاِبِري َ‬
‫ال ّ‬
‫{ فاذا كنا من هذه الطائفـة فحينئذ سـيكون بامكاننـا ان نـدعي اننـا فئة‬
‫مؤمنة ‪ ،‬وان صراعنا هو صراع بيــن الحــق والباطــل ‪ ،‬وان لــم نكــن‬
‫فلبد ان يكـون حب الذات قد داخلنــا ‪ ،‬وامتزج مع اهدافنــا ‪ ،‬وعبــدنا‬
‫الهـوى ‪،‬‬
‫واتخذنــاه الها من دون ال ‪.‬‬

‫وهنــا يبــرز لنـا محـوران ؛ محور الهوى ‪ ،‬ومحور الهدى ‪ .‬محور‬


‫الذات ‪ ،‬ومحــور الـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ ، -‬فعنــدما نقــف امــام ربنــا خمــس‬
‫مرات في كل يوم هاتفين ‪ :‬ال اكبر ‪ ،‬فان هذا يعني اننــــا نســقط بهــذه‬
‫الكلمة اصنام ذاتنا ‪ ،‬فال هو اكبر من ذواتنا ‪ ،‬ولبد ان نتمحور حــول‬
‫قيم الخالق وليس حول الشهوات الذاتية ‪ ،‬وهكــذا الحــال عنــدما ننطــق‬
‫بشهادة التوحيد فان هذه الشهادة تستوجب منا ان نحطم اصــنام انفســنا‬
‫قبل كل شيء ‪ ،‬وهذا يعني ان ندرك اننا لسنا آلهــة ‪ ،‬ولســنا مقدســين ‪،‬‬
‫ولسنا مصداقا لكل حقيقة ‪ ،‬واننــا ل نســتطيع ان نقــول ان الحــق معنــا‬
‫يــدور حيثمــا درنــا ‪ ،‬فالرجــال يعرفــون بــالحق ‪ ،‬ول يعــرف الحــق‬
‫بالرجال ‪.‬‬

‫ان من الخطأ الفظيع ان يصبح النسان قديســا فـــي نفســه ‪ ،‬فعنــدما‬


‫تركع وتسجد وتقــول ) سبحـان ربــي العظيــم وبحمــده ( او ) ســبحان‬
‫ربي العلى وبحمده ( ‪ ،‬فان هذا يعنـي انـك لســت مقدسـا بـل الـ هـو‬
‫القدوس ‪ ،‬وعندما نعتبر ال وحده هو الرب القـدوس المنـزه ‪ ،‬وحينمـا‬
‫نســبحه كمــا تســبح لــه الســماوات والرض فحينئذ ســنبدأ فــي مســيرة‬
‫تكاملية نحو اهدافنا المقدسة ‪.‬‬

‫السلم ‪:‬‬ ‫سلسلة المعرفة في‬


‫اننــا بمعرفــة الـ ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪ -‬نعــرف الرســول ‪ ،‬وبمعرفــة‬
‫الرسول نعرف المام كما يصرح بذلك الدعاء الشريف التالي ‪:‬‬
‫" اللهم عرفني نفسك فانك ان لم تعرفني نفسك لــم اعــرف نبيــك ‪،‬‬
‫اللهم عرفني رسولك فانك ان لم تعرفني رسولك لــم اعــرف حجتــك ‪،‬‬
‫اللهم عرفني حجتك فانك ان لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني " ‪.‬‬
‫وهنــا تكمــن نقطــة البــدء ‪ ،‬وال ـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬يصــرح ان هنــاك فــي‬
‫الصراع فئتين ؛ فئة تقدس ذاتها ‪ ،‬وتحب شهواتها ‪ ،‬وتبــدأ مــن النــا ‪،‬‬
‫وفئة اخرى على العكس من ذلك تماما ‪ .‬ومن ابرز صفات هذه الفئــة‬
‫ن َرّبَنـــآ‬‫ن َيُقوُلــو َ‬
‫المؤمنة ما يشير اليه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في قوله ‪ } :‬اّلِذيـــ َ‬
‫ِإّنَنآ َءاَمّنا { اي ؛ اننا آمنا بك ‪ ،‬ولم نؤمن بأنفسنا ‪ ،‬او بأي صــنم مهمــا‬
‫كان اسمه او لونه ‪ ،‬فالسماء تتعــدد ولكــن المحتــوى واحــد ‪ ،‬فالصــنم‬
‫يتشكل بأشكال مختلفة ‪ ،‬ولكن جميع الصنام منشأها الذات ‪.‬‬

‫ثــــم ان هؤلء المؤمنين ل يقدسون ذواتهم ‪ ،‬بل يدعون ربهم قائلين‬


‫غِفْر َلَنا { ‪ ،‬فيعترفون بذنوبهم ‪ ،‬فالذين يعتقــدون انهــم خيــر مــن‬ ‫‪َ } :‬فا ْ‬
‫الخريــن ل يمكـن ان يفلحــوا ‪ ،‬وفــي هــذا المجـال يــروى عـن المـام‬
‫الصادق ) عليــه الســلم ( انــه قــال ‪ " :‬ل يكــون المــؤمن مؤمنــا حــتى‬
‫يكــون كامــل العقــل ‪ ،‬ول يكــون كامــل العقــل حــتى يكــون فيــه عشــر‬
‫خصال ‪ ،‬الخير منه مأمول ‪ ،‬والشر منه مأمون ‪ ،‬يســتقل كــثير الخيــر‬
‫من نفسه ‪ ،‬ويستكثر قليل الخير من غيــره ‪ ،‬ويســتكثر قليــل الشــر مــن‬
‫نفسه ‪ ،‬ويستقل كثير الشر من غيره ‪.‬‬

‫ل يتبرم بطلب الحوائج قبله ‪ ،‬ول يسأم من طلب العلم عمره ‪ ،‬الذل‬
‫أحب اليه من العز ‪ ،‬والفقر أحب اليه من الغنا ‪ ،‬حسبه من الدنيا قــوت‬
‫‪ ،‬ل يلقى أحدا ال قال ‪ :‬هو خير مني وأتقى ‪.‬‬

‫انما الناس ‪ :‬رجل خير منه واتقى ‪ ،‬وأخر شر منه وادنى ‪ ،‬فاذا لقي‬
‫الذي هو خير منه )واتقى ( تواضع له ليلحق به ‪ ،‬واذا لقــي الــذي هــو‬
‫شر منه وأدنى قال ‪ :‬لعل شر هذا ظاهر وخيره باطن ‪ ،‬فاذا فعل ذلــك‬
‫عل وساد أهل زمانه " ‪. ((1‬‬

‫ومثل هذا الحديث يستدعي تساؤل هو ‪ :‬نحن ل نرى انفسنا افضــل‬


‫من الخيار الطيبين ‪ ،‬بــل اننــا نشــك فــي كوننــا مــن النــاس الطيــبين ‪،‬‬
‫ولكننا نرى انفسنا احسن من الشرار ‪ ،‬فكيف ؟ في هـذه الحالـة علينـا‬
‫ان نقول ان عاقبتهم ربما بخير فيما تسوء عاقبتنا ‪.‬‬

‫ترى هل من السهل ان يكون النسان صابرا في البأســاء والضــراء‬


‫وحين البأس ‪ ،‬وعند طغيان الشــهوات ‪ ،‬وهــل مــن الســهل ان يصــدق‬
‫النسان في عمله وقوله ؟ لنجرب الصدق يومــا واحــدا ‪ ،‬ولنحــاول ان‬
‫ل نكذب ‪ ،‬وسنرى كم مــن الصــعب علــى النســان الغــارق فــي هــواه‬
‫وشهواته ان يستقيم على الصدق ‪.‬‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 64‬ص ‪296‬‬
‫ن{‬ ‫ن َواْلَقاِنِتي َ‬‫صـــاِدِقي َ‬
‫ن َوال ّ‬‫صـــاِبِري َ‬ ‫ثم يستأنف ‪ -‬تعالى ‪ -‬قائل ‪ } :‬ال ّ‬
‫‪ ،‬فقلوب هؤلء المؤمنين المجاهدين خاضعة وخاشــعة ‪ ،‬فلنرجــع الــى‬
‫انفسنا ‪ ،‬ولنقيمها بمدى خضوع قلوبنا ‪ ،‬فهناك شيطان مارد يخــدعنا ‪،‬‬
‫ويثير فينا دائما النانيات ‪ ،‬والكبرياء الذاتية ‪ ،‬فلنقهر هذا الشيطان من‬
‫خلل الـبرنـامـج الـروحي الـتـالي الـذي يشـير اليــه القــرآن الـكـريـــم‬
‫ر {‪.‬‬ ‫حا ِ‬‫سَ‬‫لْ‬
‫ن ِبا َ‬‫سَتْغِفِري َ‬‫ن َواْلُم ْ‬‫قـائـل ‪َ } :‬واْلَقاِنِتين َواْلُمنِفِقي َ‬
‫فحينما تنام العيون ‪ ،‬وتسـكت الصــوات ‪ ،‬وتهـدأ الحركـة ‪ ،‬ينبعـث‬
‫النسان المؤمن بأيمانه الصادق من فراشه ‪ ،‬ويقف امام ال ‪ -‬تعــالى ‪-‬‬
‫ودموعــه تجري وقلبه يرتجف ‪ ،‬وفرائصه ترتعد ‪ ،‬قائل ‪ " :‬من انا ؟‬
‫وكيف اواجــه ربــي بهــذه الــذنوب الــتي احملهــا علــى ظهــري ؟ ومــن‬
‫ينقذني من نار جهنم حيث ل عشيرة ‪ ،‬ول قبيلة ‪ ،‬ول شعـــارات ‪ ،‬ول‬
‫اسماء ‪ ،‬ولعناوين ‪ ،‬ول تجمعات ؟ وحينئذ يغسل هذا النسان ذنــوبه ‪،‬‬
‫ويرسم استراتيجيته ‪ ،‬ويقهر نفسه المارة بالسوء ‪.‬‬

‫واذا وجــدت هذه الفــئة المؤلفــة من هكذا مؤمنين فلنعلـم انهـا هـي‬
‫الفئة التي بشرها ال ‪ -‬جـل وعل ‪ -‬فـي كتـابه العزيــز بالنصـر عنـدما‬
‫ء{‪.‬‬ ‫شآ ُ‬
‫صِرِه َمن َي َ‬‫ل ُيَؤّيُد ِبَن ْ‬
‫ن َوا ّ‬ ‫ي اْلَعْي ِ‬
‫قال ‪َ } :‬يَرْوَنُهم ِمْثَلْيِهْم َرْأ َ‬

‫انفسنا ‪:‬‬ ‫لنراجع‬


‫فلنحمل عبء الرسالة السلمية التي هـي رســالة الوحــدة بالدرجــة‬
‫الولــى ‪ ،‬وعلــى كــل واحــد منــــا ان يراجـــع نفســه قبــل ان يراجــع‬
‫الخرين ‪ ،‬ويحاسبها قبل ان يحاسبهم ‪ ،‬وان ل يستكثر مــا قــدمه ‪ ،‬ول‬
‫يصيبه الغرور والكبرياء ‪ ،‬ول يضخم في المقابل اخطاء الخرين من‬
‫خلل اتباع المنهج التربوي الروحي الذي اوضحه الخالق ‪ -‬عز وجل‬
‫‪ -‬في اليــات الســابقة حــول الكيفــــية الــتي مــن خللهــا نصــبح الفئــــة‬
‫المؤمنــــة المخلصــــــة الــتي تقـــــاتل فــــي سبيـــــل ال ـ ‪ -‬تعــالى ‪، -‬‬
‫وتخوض الصراع من اجل وجهه الكريــم دون الفئات الخــرى الــتي‬
‫تدفعها الهواء والشهوات لخوض الصراع ‪ ،‬هذه الهواء والشــهوات‬
‫التي يقف في مقدمتها حب الذات والنا والدوافع الذاتية الضيقة ‪.‬‬

‫عقبات في طريق اليمان‬

‫ما هي الحجــب والموانــع الــتي تمنــع النســان مــن الــتزود الــذاتي‬


‫باليمان ‪ ،‬وما هــي العقبــات النفســية الــتي تعـترض طريــق اليمـان ‪،‬‬
‫ولماذا نرى البعض من الناس يتبعون منهج اليمان ‪ ،‬والبعض الخــر‬
‫يضلون حتى يصل بهم المر الى الكفر بال ؟‬
‫اننا اذا عرفنا انفسنا ‪ ،‬وعرفنا العقبات النفسية التي تعترض طريــق‬
‫تقدمنا فاننا سوف نستطيع اصلح انفسنا ‪ ،‬فمن عرف نفسه فقد عرف‬
‫ربه ‪.‬‬

‫درجات ‪:‬‬ ‫اليمان‬


‫وقبل ان نجيب على تلك التساؤلت لبد مــن كلمــة نمهــد بهــا للجــواب‬
‫وهي ؛ ان اليمان ليـس قيمة مطلقة بل هو متــدرج ‪ ،‬فمــن الممكــن ان‬
‫يكون للنسان ايمان بسيـط ل يضيء ال بوصة واحدة من قلبــه ‪ ،‬كمــا‬
‫ويمكــن ان يكــون هــذا اليـــمان كايمــان الرســول ) صــلى ال ـ عليــه‬
‫وآلـه ( ‪ ،‬او أميـر المـؤمنين ) عليـه السـلم ( ؛ هـذا اليمـان الـذي لـم‬
‫يضيء كل مساحة قلبي هاتين الشخصيتين العظيمتين فحسب ‪ ،‬وانمــا‬
‫اضاء العالم على مر الجيال ‪ ،‬وسيظل مضيئا ‪.‬‬

‫وعلى هذا فان اليمان ليس درجة واحدة ‪ ،‬فكل واحد منا من الممكن‬
‫ان يكون مؤمنا ‪ .‬وقد صرحت الروايات في هــذا المجــال ان درجــات‬
‫اليمان تتفاوت من انســان لخــر ‪ ،‬وان هــذا التفــاوت يظهــر بصــورة‬
‫جلية في يوم القيامة بسبب اختلف الناس فيما بينهم في مدى طــاعتهم‬
‫ل ‪ -‬سبحانه وتعــالى ‪ -‬ومــدى مقــاومتهم ‪ ،‬وصــبرهم علــى المصــائب‬
‫والمحن التي تمر بهم في ذات ال ‪.‬‬

‫وهكذا فان اليمـان مؤلــف مـن مراتــب ودرجــات ‪ ،‬والموانـع الــتي‬


‫تحــول النســان دون ان يصــبح مؤمنــا هــي تلــك الموانــع الــتي تمنــع‬
‫النسان من ان يرتفع من درجة ايمانية الى درجة ايمانية اعلى واكــثر‬
‫ارتفاعا ‪.‬‬

‫النفسية ‪:‬‬ ‫عقبات اليمان‬


‫وعلى سبيل المثــــال ؛ لماذا لم يصبح ) ابو لهب ( مؤمنا ‪ ،‬ولماذا‬
‫لم يتبع الرسول ) صلى ال عليه وآله ( ؟ انها العقبــات النفســية ‪ ،‬هــذه‬
‫العقبات هي التي تعترض طريقنا وتمنعنا مــن ان نصــبح مثــل ســلمان‬
‫الفارسي او ابي ذر الغفاري ‪ ،‬او عمــار ‪ ،‬وغيرهــم ممــن ســبقونا فــي‬
‫الجهاد ‪ ،‬والتضحية ‪.‬‬

‫ان الموانع والعقبات النفسية هي التي تمنع الكفــار مــن ان يصــبحوا‬


‫مؤمنين ‪ ،‬وهي التي تمنعنــا نحــن مــن ان نرتفــع فــي درجــات اليمــان‬
‫عاليا ‪ ،‬في حين ان اعمارنا تعتبر فرصة ثمينة يجب علينــا ان نســارع‬
‫خللهــا الــى الحصــول علــى درجــات اليمــان ؛ فنرتقــي مــن درجــة‬
‫الشــاكرين الــى درجــة الصــابرين ‪ ،‬ومــن هــذه الدرجــة الــى درجــة‬
‫المجاهدين ‪ ،‬ومن درجة المجاهدين الى مرتبة الشهداء ‪.‬‬

‫وهذه الدرجات يجب علينـا ان نطويهـا فـي حياتنـا ‪ ،‬ونربـي انفسـنا‬


‫عليها حـتى نصـل الـى قمــة القمــم ‪ ،‬فمـا هـي الموانــع والعقبــات الـتي‬
‫تعترض طريقنا ؟ ‪ ،‬فــي رأيــي ان العقبــة الكــأداء الوحيــدة الــتي تقــف‬
‫حجر عثرة في طريقنا ‪ ،‬هي الوهام الباطلة ل غير ‪ .‬فالخداع الــذاتي‬
‫الباطــل هــو الــذي يقــف وراء كفــر الكـافرين ‪ ،‬واذا اســتطاع النســان‬
‫التغلب على اوهامه وغروره وخداعه الذاتي ‪ ،‬فانه سيســتطيع التغلــب‬
‫على كل عقبات اليمان ‪ ،‬وبالتالي فانه سيصل الى قمة قمم اليمان ‪.‬‬

‫وتفسير ذلك يمكننا ان نجده فيما يلي ‪:‬‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫الخير كله في‬


‫اذا اردنا نحن وكل العقلء في العالم ان نتعمــق فــي اليمــان بشــكل‬
‫صحيح فاننا سنصل الى هذه الحقيقيــة ‪ ،‬فاليمــان فيــه الخيــر كلــه فــي‬
‫الدنيا والخرة ‪ ،‬وهذه الحقيقية ل تحتاج الى دليل لثباتها ‪ ،‬ومــع ذلــك‬
‫فانــي ساستدل عليها متسائل ‪ :‬لماذا ل يؤمن النســان اذا عــرف انــه‬
‫سيحصل على الخير كله في الدنيا والخرة من خلل اليمـــان ؟‬
‫ان البعــض يقولون جوابا على هذا التســاؤل ان الكفــار ل يؤمنــون‬
‫بسبب شهواتهم ‪ ،‬في حين انني ل أأيد هذا التفسير ‪ ،‬فالنسان المــؤمن‬
‫من الممكن ان يتمتع بلذائذ الدنيا ‪ ،‬ويتنعم فيها اكثر من النسان الكافر‬
‫والمنافق ‪.‬‬

‫وهنــاك طائفــة اخرى تقول فــي تفسير عــدم ايمـان النسان الكافر‬
‫انه اذا آمن‬
‫فسيصبح ذليل ‪ ،‬في حين ان عكس ذلك هــــو الصحيح ‪ ،‬فاليمان هو‬
‫لـ اْلِعـّزُة‬
‫الــذي يعطـــي النســان العــــــزة كمـا يقـول ‪ -‬تعـالى ‪َ } : -‬و ِّ‬
‫ن { ) المنافقون ‪. ( 8 /‬‬
‫سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫َوِلَر ُ‬
‫فلماذا ل يؤمن النسان مادام الخير كله ‪ ،‬والحرية ‪ ،‬والعزة ‪ ،‬ونعــم‬
‫الحياة الدنيا والخــرة فيـــــه ؟ ان هنــاك شــيئا هــو الــوهم ‪ ،‬فمــن الــذي‬
‫يــزرع الــوهم فــي قلــب النســـــان ؟ انــــه الشيطــــان الــــذي يأتــــي‬
‫ويــــزرع الوهــــام الباطلــــة الــمــــرة بعــــد الخــــرى ‪ ،‬فللشــيطان‬
‫مليــين الشتائــل مــن الــوهــم ‪ ،‬وعلــى النسان ان يزود نفسـه بـــ )‬

‫جــرافــة ( روحيــة يـجـرف بـهـا هـذه الوهــــام البــــاطلة ‪ ،‬ويطهــر‬


‫قلبه منها ‪ ،‬لكي يفيض نور اليمــان عليـــه ‪ ،‬ويضـــيء كــــل ابعــــاد‬
‫حياتـــه ‪.‬‬

‫ومن اجل ان نصور كيف يزرع الشيطان الوهام الباطلة فــي قلــب‬
‫النسان ‪ ،‬نضرب المثال التالي ‪ :‬افترض انك اردت ان تصلي صــلة‬
‫الليل بعــد ان ســمعت عمــا تقــدمه للنســان مــن فــوائد جمــة فــي الــدنيا‬
‫والخرة ‪ ،‬فتوقت الساعة ‪ ،‬ومن ثم تنام وانــت مصــمم علــى اداءهــا ‪،‬‬
‫وعندما يرن جرس الساعة تنهض من نومــك ‪ ،‬واذا بالشــيطان يــزرع‬
‫الوهام في قلبك ‪ ،‬فيوســوس لــك مثل بــان لــديك اعمــال فــي الصــباح‬
‫سوف ل تستطيع ان تؤديها اذا مــا اديــت صــلة الليــل لنـك ســوف ل‬
‫تستطيع النهوض مبكرا من النوم ‪ ...‬وهكذا يخدعك الشيطان بالوهام‬
‫التي يزينها لـك ‪ ،‬ويقـدمها فـي لبـاس معقـول ‪ ،‬فـاذا بـك تستسـلم لهـذا‬
‫الشيطان ‪ ،‬فتنام ثانية ‪ ،‬ولكنك مع كل ذلك قد تنهض متأخرا ‪ ،‬فتفوتــك‬
‫صلة الفجر ايضا ‪ ،‬لتنصب باللوم والتقريع على نفسك ‪.‬‬
‫الحياة ‪:‬‬ ‫ارادة الحياة تهب‬
‫واذا ما تغلبت على هذه الوهام ‪ ،‬واستيقظت ‪ ،‬وردعت الشيطان من‬
‫خلل المبادرة الـى الوضـوء ‪،‬واداء صـلة الليـل ‪ ،‬فـان هـذه الصـلة‬
‫ستمنحك ارادة قوية في الحياة ‪ ،‬بالضافة الى استطاعتك الذهاب الــى‬
‫عملك فــي وقــت مبكــر ‪ ،‬واداء جميــع اعمالــك ‪ ،‬كمــا يشــير الــى ذلــك‬
‫الحديث الشريف ‪:‬‬

‫" ما ضعف بدن عما قويت عليه النية " ‪.‬‬

‫فقوة العزيمة هي التي تعطي النسان القوة في الجسم ‪ ،‬وارادة الحياة‬


‫هي التي تنفخ في النسان روح الحياة ‪ ،‬وهذه الكلمات انما اقولها لكي‬
‫نعــرف ان الــوهم وحــده هــو الــذي يمنعنــا مــن الرتفــاع فــي درجــات‬
‫اليمان ‪ ،‬في حين ان ارادة الحياة هي التي تهب الحياة ‪ ،‬وارادة القــوة‬
‫هي التي تمنح القوة ‪ ...‬وهكذا ‪.‬‬

‫ونحن نلحظ ‪ -‬كدليل على ما قلناه ‪ -‬ان الرؤســاء والملــوك والقــادة‬


‫الكبار ومن اشبههم انهم عندما يعزلون من مناصبهم فانهم يستســلمون‬
‫الــى المــوت بســرعة ‪ ،‬فــي حيــن انهــم يعمــرون عنــدما يكونــون فــي‬
‫مناصبهم ‪ ،‬وقــد كشــفت الدراسـات العلميـة فـي هــذا المجــال ان هــؤلء‬
‫عندما يكونـون فــي مناصــبهم فــان اردة الحيــاة تكـون قويــة فــي نفوســهم ‪،‬‬
‫وعندما يعزلون تضعف هذه الرادة فيهم ‪ ،‬فيستســلمون للمــرض وبالتــالي‬
‫للموت ‪.‬‬

‫وفي مجال اخر اثبتت الدراسات بعد بحث دقيق ان الذين ينتحـرون‬
‫بتناول المواد السامة ‪ ،‬فان ارادة الموت تسهم في القضاء عليهم اكــثر‬
‫من تلك المواد نفسها ‪ ،‬فالكمية التي كانت موجــودة فــي اجســامهم مــن‬
‫المواد السامة لم تكن كافية للقضاء عليهم بسرعة ‪ ،‬فماتوا لنهم فقــدوا‬
‫الحساس بالحياة ‪.‬‬

‫كمـا واثبتت التجارب ان النســان المصاب بمرض سرطان ‪ -‬مثل‬


‫‪ -‬من الممكن‬
‫ان يكون لـه امـل فـي الحيـاة اذا مـا كـانت فيـه ارادة الحيـاة ‪ ،‬واذا مـا‬
‫غمره الحساس بانه قادر على ان يعيش في هذه الحياة لوجــود المــل‬
‫في نفسه ‪.‬‬

‫وهكذا فان ارادة الحياة تساعد النســان علــى ان ينتصــر ‪ ،‬ويتغلــب‬


‫على الكثير من المشاكل فــي حيــاته ‪ ،‬فــارادة الحيــاة هــي الــتي تعطــي‬
‫الحياة للنسان ل مظاهر الحياة نفسها ‪ ،‬وعلى سبيل المثــال فعنــدما ل‬
‫يؤدي احدنا صلة الليل تراه في صباح اليوم التالي اكثر كسل ‪ ،‬واقل‬
‫نشاطا وانتاجا من ذلك الذي يؤدي هذه الصلة ‪.‬‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫ل غنى عن‬


‫وللسف فان البعض يقول ان علينا ان نؤدي خدمة اجتماعية بدل من‬
‫ان نصلي ‪ ،‬في حين ان هذا التصــور مغلــوط فلــو لــم يــتزود النســان‬
‫باليمان فانه سوف ل يستطيع ان يقدم اية خدمة اجتماعية ‪.‬‬

‫البعض يوجب دراسة العلم ‪ ،‬ومطالعة الكتب لن تفكر ساعة خيــر‬


‫من عبادة سبعين سنة ‪ ،‬فدراسة العلم هي الــتي تجعــل النســان ناجحــا‬
‫فــي الحيــاة ‪ ،‬والملئكــة تبســط اجنحتهــا لطــالب العلــم ‪ ،‬والمخلوقــات‬
‫تستغفر له حتى الحيتان في البحر ‪.‬‬

‫ان هذا صحيح كله ‪ ،‬ولكن كيف يســتطيع النســان متابعــة مســيرته‬
‫العلميــة ؟ فتحصــيل العلــم هــو مــن اصــعب المــور ‪ ،‬فكيــف يســتطيع‬
‫النسان ان يطلب العلــم الــى اخــر مســتوياته ؟ انــه يســتطيع ذلــك مــن‬
‫خلل اليمــان ‪ ،‬وهــذا اليمــان يمكننــا الحصــول عليــه بواســطة اداء‬
‫العبادات واجبة كانت ام مستحبة ‪.‬‬

‫وعلـى هـذا فـان درجـات اليـمــان كثيـــرة ‪ ،‬وعلينا ان نصـل الــى‬


‫الدرجات والمـراتب الرفيعة منه ‪ ،‬والســـبب الوحيــد الــذي ل يـدعـنـــا‬
‫نـصل الى هذه الدرجات‬
‫هو الوهم والمخــاوف الباطلــة ‪ ،‬والـــغرور المزيــف ‪ ،‬فكيــف نســتطيع‬
‫التغلب على هذه العقبات ؟ انـنـا نـسـتـطــيــع ذلك من خلل تنميـــة )‬
‫الـظـن الحسن ( في نفوسنـــا ‪ ،‬مــن هــذا المجــال يـقـــول ‪ -‬تعــالى ‪}: -‬‬
‫ن { ) البقرة ‪. ( 46 /‬‬
‫جُعو َ‬
‫لُقوا َرّبِهْم َوَاّنُهْم ِإَلْيِه َرا ِ‬
‫ن َأّنُهم ُم َ‬
‫ظّنو َ‬
‫ن َي ُ‬
‫اّلِذي َ‬
‫والظن هو الوهم والخيال ‪ ،‬فاذا جاءنا الشيطان ‪ ،‬وضخم لنا صعوبة‬
‫من صعوبـــات الحياة كــأن يوســوس لنــا بعــدم المشــاركة فــي الجهــاد‬
‫بحجة اننا سنفقد حياتنا ‪ ،‬ونقع في السر ‪ ...‬فــان هــذا وهــم فــي مقابــل‬
‫الوهـــم الذي في نفوسنا ‪ ،‬ولكي نقضي على هذا الــوهم فــان علينــا ان‬
‫نتصور الجنة ‪ ،‬والثواب الجزيل الذي اعده ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬لمــن يجاهــد‬
‫في سبيله ‪.‬‬
‫الجنة ‪:‬‬ ‫الجهاد طريقنا الى‬
‫ان الجهاد جسر يوصلنا الى الجنة ‪ ،‬فلماذا ل نعبر هذا الجسر ؟ ان‬
‫الشيطان اذا جاءنا والقى في روعنا ان ل نصلي صــلة الليــل بذريعــة‬
‫اننا سنتعب ‪ ،‬ونتأخر عن اعمالنا ‪ ،‬ول ننشغل بتجارتنا ومــا الــى ذلــك‬
‫من تبريرات واهية فان علينــا مــن اجــل ان نــدفع هــذه الوسوســة عــن‬
‫قلوبنا ان نتصور انفسنا ممددين في قبــور مظلمــة ‪ ،‬ممتلئة بالديــدان ‪،‬‬
‫وعنــدما نعيــش مثــل هــذا التصــور فاننــا ســنقتلع الــوهم الــذي زرعــه‬
‫الشــيطان فـي نفوســنا ‪ ،‬وبالتـالي فاننـا سنسـتطيع ازالــة العقبـات الـتي‬
‫تعترض طريقنا للوصول الى الدرجات العليا من اليمان ‪.‬‬

‫التكذيب بالحق بداية النحراف‬

‫من ضمن التساؤلت الساسية التي يطرحها القرآن الكريم التساؤل‬


‫عن كيفية هلك المم السابقة ‪ ،‬وهو يقــدم لنــا الجابــات الشــافية علــى‬
‫هذا التساؤل المرة بعد الخرى ‪ ،‬ففطرة ال ‪ -‬جل جلله ‪ -‬قائمة علــى‬
‫اساس نجاة النسان ‪ ،‬وعلى اساس انه خلق ليكون اكرم مخلوق علــى‬
‫وجه البسيطة ‪ ،‬فقد سخرت له الشمس والقمــر والطبيعــة مــن حــوله ‪،‬‬
‫وخلق في احسن تقويم ‪.‬‬

‫الفطرة ‪:‬‬ ‫النجاة في‬


‫وعلى هذا فان نجاة النسان هي الحالة الفطريـة التي تقتضيها سنن‬
‫الـ ‪ ،‬فلمـاذا ‪ -‬اذن ‪ -‬انحــرف المنحرفـون ‪ ،‬ومـا هـو دور الشـيطان ‪،‬‬
‫والنفس المــارة ومـا هـي الغــرائز والشــهوات الــتي تضــل النســان ‪،‬‬
‫وتحرفه عن الصراط المسقيم ؟‬
‫من الملفت للنظر عند التــدبر فــي القــرآن الكريــم انــه يحــدثنا عــن‬
‫المراض والعوامل التي تؤدي الى النحــراف لكــي نتقيهــا ‪ ،‬ونحمــي‬
‫انفسنا من شرورها ‪ ،‬وعلى سبيل المثــال فـان بحــث معرفــة الشــيطان‬
‫هو بحث عميق وواسع ومتنوع في القرآن الكريــم ‪ ،‬وممــا يؤســف لــه‬
‫هو اننا لم نتطرق الى هذا الموضوع الهام كثيرا رغم ان الشيطان هو‬
‫عدونا المبين ‪ ،‬وهو الذي اقسم ان يغوي النسان بكل طريقة ممكنــة ‪،‬‬
‫ومع ان هذا العدو يجري منا مجرى الدم في عروقنا ‪ ،‬ويأتينا من كــل‬
‫جانب ؛ من بين ايدينا ‪ ،‬ومن خلفنا ‪ ،‬وعن اليمين والشمال ‪ ،‬وبأساليب‬
‫مختلفة ال ان هذه القضية الهامة ل تشكل موضوعا هاما في احاديثنــا‬
‫وبحوثنا ‪ ،‬فنحــن لنلتفــت الــى هــذا العــدو الخطيــر الــذي اضــل اناســا‬
‫كثيرين جدا ‪.‬‬
‫ان علينا ان نبحث عــن المصائب والويلت التي ســببها الشــيطان‬
‫على هذه الرض ؛ فلماذا هلكت عــاد ‪ ،‬ولمــاذا أبيــدت ثمــود ‪ ،‬ولمــاذا‬
‫طغى فرعون وأغرق ‪ ،‬ولماذا خسف ال بقارون وداره الرض ؟ ‪...‬‬
‫ان هذه البحوث القرآنية وغيرها هي الهم ‪ ،‬لن النسان عنــدما يبعــد‬
‫نفسه عن اسباب وعوامل المرض والخطر فانه سيستطيع الســتمرار‬
‫في الحياة ‪ ،‬وفطرة الحيــاة تــدعو النســان الــى الســتقامة ‪ .‬فلنبحــث ‪-‬‬
‫علـى سـبيل المثـال ‪ -‬فـي الضــللة وجـذورها ؛ فلمـاذا نـرى النسـان‬
‫وعلى الرغم من ان ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬خلقه في أحســن تقــويم ‪ ،‬واودع فـي‬
‫ضميره الفطرة النقيــة ‪ ،‬ووهــب لــه نــور العقــل ‪ ،‬وارســل اليــه رســله‬
‫تترى ‪ ،‬وآياته متتابعات ‪ ،‬وجعل العبر الــتي لتحصــى تحيــط بــــه ‪...‬‬
‫لماذا نراه يتخذ سبيل الغواية ‪ ،‬وينحرف عن الطريق ؟‬
‫في اكثـر من موضــع ومقام يحــدثنا القــرآن الكريــم عــن الضــللة‬
‫الولى ‪ ،‬ونحن اذا‬
‫استطعنا ان نعي هــذه الضــللة ‪ ،‬ونكتشــف العامــل الخطــر لهـا فاننــا‬
‫سنحصل على المفتاح الرئيسي للسعادة ‪.‬‬

‫ان الضللة الولى تأتي من كون الناس على نوعين ‪ :‬نوع يستقبل‬
‫الحق ويسلم له ‪ ،‬ويستوعبه ‪ ،‬ونوع يكفر ويكــذب بــه ‪ ،‬والنــوع الول‬
‫هو الذي يستقبل الحق بمجــرد ان يقتنــع ان مــن الفضــل لــه ان يتقبــل‬
‫الحق ويؤمن به ‪ ،‬وهذا هو اليمان ؛ اي ان تكون عنــد النســان حالــة‬
‫القناعــة ‪ ،‬والخضــوع للحــق والســلم لــه بمجــرد التوصــل اليـــــه ‪،‬‬
‫وحينئذ وبمجرد ان يصل النسان الى هذه الدرجة تتضح امامه جميــع‬
‫الحقائق ‪ ،‬لن الحجاب سيسقط ‪ ،‬والعقــل سيغمره النور لن النســان‬
‫المؤمن ينظر بنور ال ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬

‫ولكن هــذا النســان بمجــرد ان يكــذب بــالحق فــان كــل تلــك اليــات‬
‫والعلمات والمعالم الموضوعة على طريق الحــق ســتختفي عنــه كمــا‬
‫هْم {‬
‫جآَء ُ‬
‫ق َلّما َ‬ ‫حّ‬‫ل َكّذُبوا ِباْل َ‬
‫اشار الى ذلك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬ب ْ‬
‫) ق ‪ ، ( 5 /‬فالنسان يبقى في حالة عمى ‪ ،‬وضللــــة فل هـو مهتـد ول‬
‫حّتــى‬
‫ن َ‬‫هو منحرف حتى يأتيه الحق عبر الرسـول ‪َ } :‬وَما ُكّنا مَُع ـّذِبي َ‬
‫ل { ) السراء ‪. ( 15 /‬‬
‫سو ً‬
‫ث َر ُ‬
‫َنْبَع َ‬

‫التكذيب بالحق يخلط الحقائق ‪:‬‬


‫والرسول يأتي بكل وضوح ومعه الدلة البينة ‪ ،‬فيقدم رسالته الــى‬
‫هذا النسان ‪ ،‬وحينئذ يختلف الناس ؛ ففريق منهم يصدق بــه ‪ ،‬ويــرى‬
‫انه هو الصادق المين ‪ ،‬وهذا الفريــق يهــديه الـ ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪-‬‬
‫كما يشير الى ذلك في قوله ‪ِ } :‬إّنهْم ِفْتَيٌة َءاَمُنوا ِبَرّبِهْم َوِزْدَنــاُهْم ُهـًدى‬
‫{ ) الكهف ‪ ، ( 13 /‬فيهتدي هذا النسان دون ان‬
‫يواجه اية مشكلة ‪.‬‬

‫اما الفريق الخر فيبدأ السير المعاكس ‪ ،‬فيكذب بالحق ‪ ،‬وبمجرد ان‬
‫يكــذب بــه تختلــط عليــه الحقــائق كلهــا ‪ ،‬فيســتنتج سلســلة مــن الفكــار‬
‫الباطلة ‪ ،‬والتبريرات والعذار الواهية ‪ ،‬وبالتالي يصنع وينسج حــول‬
‫نفسه شرنقة يعيش في داخلها ‪ ،‬وفي هذا المجال يقول ‪ -‬عز مــن قــائل‬
‫ج { ) ق ‪ ، ( 5 /‬اي‬ ‫جــآَءُهْم َفُهـْم ِفــي َأْمـٍر َمِريـ ٍ‬
‫ق َلّمــا َ‬
‫حّ‬‫ل َكّذُبوا ِبـاْل َ‬‫‪َ } :-‬ب ْ‬
‫مختلط ‪.‬‬

‫واذا كان الرسول ليس حقا فمـا هـو ‪ -‬اذن ‪ -‬؟ ‪ ،‬لقــد قـالوا عنـه انـه‬
‫شاعر ‪ ،‬ومجنون ‪ ،‬وكاهن ‪ ،‬فاختلط عليهم المــر ‪ ،‬وتبعــثرت عنــدهم‬
‫المقاييس فلم يعرفوا ماذا يقولون ‪ ،‬فما هو القرآن ‪ -‬اذن ‪ -‬؟ هناك مــن‬
‫المستشرقين الذين يحاولون تفسير الوحي مـن ل يمتلـك رأيـا واضــحا‬
‫ومحددا يفسر به ذلك التحول الذي حدث في الجزيرة الـعـــربية خلل‬
‫فترة قصيرة ‪.‬‬
‫ان كــل واحــد منهــم يقــدم تفســيرا مختلفــا ‪ ،‬وتفاســيرهم وتحليلتهــم‬
‫متناقضة بمجموعها ‪ ،‬فقد تــرى المــؤرخ الواحــد يكتــب في كتــابين‬
‫تفسيرين مختلفين لنهم ‪ -‬كما يقول القرآن الكريم ‪ِ } : -‬في َأْمٍر َمِري ٍ‬
‫ج‬
‫{ ‪ ،‬فهم ل يريدون ان يعترفوا بالحـق ‪ .‬والباطل ‪ -‬كما هو معلــوم ‪ -‬ل‬
‫يمكــن ان يثبــت ‪ ،‬فمــوازين العقــل ‪ ،‬والطبيعــة ‪ ،‬والتأريــخ ترفــض‬
‫الباطل ‪ ،‬لذلك نراهم يتنقلون من باطل الى اخر ‪.‬‬

‫الطبيعة تدل على ال‪:‬‬


‫ولو ان هؤلء لم يكونوا قد كذبوا بالحق لكانت الطبيعــة المحيطــة بهــم‬
‫ظُروا‬‫كافية لقناعهم بالمعاد والبعث كما يقول ‪ -‬عز وجل ‪َ } : -‬أَفَلْم َين ُ‬
‫ج {)ق‪( 6/‬‬ ‫ف َبَنْيَناَها َوَزّيّناَها َوَمــا َلَهــا ِمــن ُفـُرو ٍ‬
‫سَمآِء َفْوَقُهْم َكْي َ‬
‫ِإَلى ال ّ‬
‫فهــذه الســماء الــتي هــي كالســقف المرفــوع الــذي يحفــظ الرض مــن‬
‫النيازك ‪ ،‬ومن الشـعة الضـارة ‪ ،‬مـن الــذي بناهـا ‪ ،‬ورفعهـا ‪ ،‬واتقـن‬
‫صنعها ؟‬
‫ان هذه اليات واضحة ليس فيها اي لبــس ‪ ،‬والـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬يــوجه‬
‫ظـُروا ِإَلــى‬
‫انظار الناس اليهــا دائمــا وذلــك فــي مثــل قــوله ‪َ } :‬أَفَلـْم َين ُ‬
‫ف َبَنْيَناَهــا { ‪ ،‬وهــو ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬لــم يبنهــا باتقــان‬ ‫سَمآِء َفْوَقُهْم َكْيـ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ورصانة فحسب بل زينها ايضا بالكواكب فــاذا هــي زينــة فــي الليــل ‪،‬‬
‫وحلية في النهار ‪ ،‬فالشمس تبعث شعاعها البــاهر ‪ ،‬والقمــر يبــث ذلــك‬
‫الشعاع الفضي الجميل‪ ،‬والنجوم انتشــرت فــي الفضــاء لتشــكل لوحــة‬
‫سماوية بديعة بحيث ل تتعب النسان عندما ينظر اليها ‪.‬‬

‫ثم انك ل ترى في هذه الســماء أيــة ثغــرات ومنافــذ ‪َ } :‬مـا َلَهـا ِمـن‬
‫ُفُروجٍ { وان ثقبــا واحــدا حــدث فــي طبقــة الوزون بـالغلف الجــوي‬
‫اليــوم جعــل العــالم يعيــش فــي حيــرة ‪ ،‬فــاذا الثلــوج تــذوب ‪ ،‬ودرجــة‬
‫الحرارة تزداد ‪ ،‬واذا بالشعة الكونية الضارة تتسرب ‪ ،‬وفــي الحقيقــة‬
‫فان النسان هو السبب في حدوث هذا الثقب ‪.‬‬

‫ســ َ‬
‫ي‬ ‫ض َمَدْدَناَها َوَأْلَقْيَنا ِفيَها َرَوا ِ‬
‫لْر َ‬
‫ويستأنف ‪ -‬تعالى ‪ -‬قائل ‪َ } :‬وا َ‬
‫ج { ) ق ‪ ، ( 7 /‬ومــع ذلــك فــان كــل هــذه‬ ‫ج َبِهيـ ٍ‬
‫ل َزْو ٍ‬‫َوَأْنَبْتَنا ِفيَها ِمــن ُكـ ّ‬
‫الحقائق تخفــى علــى المكــذبين ‪ ،‬فتعمــى بصــائرهم ‪ ،‬ويفقــدون القــدرة‬
‫علــى الفهــم والتقــدير فــي حيــن ان هــذه الحقــائق كــانت ومــا زالــت }‬
‫ب { ) ق ‪ ، ( 8 /‬فالعبــد المنيــب القلــب ‪،‬‬ ‫عْبـٍد ُمِنيـ ٍ‬
‫ل َ‬ ‫َتْبصِـَرًة َوِذْكـَرى ِلُكـ ّ‬
‫المستعد لتقبل الحقائق ل ينظر الى شـيء ال ويهتـدي مـن خللـه الـى‬
‫الحقائق الكبرى ‪ ،‬واسماء ال وسننه في الكون ‪ ،‬والحياة الخرة الــتي‬
‫في انتظارنا ‪ ،‬فيتضح كل شيء لهذا النسان المؤمن ‪.‬‬

‫وعلى هذا فان من اهم العمال التي يجب ان نقوم بها ان ننمي فــي‬
‫انفسنا روح التقبل ‪ ،‬وننــتزع منهــا حالــة الكــبر ‪ ،‬خصوصــا وان هــذه‬
‫الحالة مغروسة في داخلنا ‪ ،‬وهي تعادل الجهل‪ ،‬وظلم النســان لنفســه‬
‫ل { ) الحــزاب ‪، ( 72 /‬‬ ‫جُهــو ً‬‫ظُلومـًا َ‬ ‫ن َ‬‫كما يقول ‪ -‬عز وجل ‪ِ } : -‬إّنُه َكــا َ‬
‫وهي تلتصق بأعماق طبيعة النسان ‪ ،‬وانا ل اسميها ) فطــرة ( ‪ ،‬لن‬
‫طبيعــة النســان ظلمانيــة‪ ،‬وعــاجزة ‪ ،‬ومحــدودة ‪ ،‬وجاهلــة وظالمــة ‪،‬‬
‫وهــذه الطبيعــة يجــب ان تتبــدل ‪ ،‬وقــد كلــف الـ ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬النســان‬
‫بتغييرها ؛ فمن الناس من يحقق هذه المسؤولية في نفسه ‪ ،‬ومنهــم مــن‬
‫يرفضها ‪.‬‬

‫ان طريق قبول الحق يمر بالكفر ‪ ،‬وطريق التصديق هو التكذيب ؛‬


‫فلو لم تكفر بالطاغوت لما كان بامكانك ان تؤمن بال ‪ ،‬ولو لــم تكــذب‬
‫بالضللة لما كان بمقدورك ان تصدق بالهدايـة ‪ ،‬كـمــا يـقــول ‪ -‬عــز‬
‫ك ِبــاْلُعْرَوِة‬
‫سَ‬
‫سَتْم َ‬
‫ل َفَقِد ا ْ‬
‫ت َوُيْؤِمن ِبا ّ‬
‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬
‫مـن قـال ‪َ } : -‬فَمن َيْكُفْر ِبال ّ‬
‫وْثَقى { ) البقرة ‪. ( 256 /‬‬
‫اْل ُ‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫الكفر بالنداد ثمن‬


‫ومن الحقائق التي يجب علينا ان نعرفهــا هــي ان النســان ل يكــون‬
‫مؤمنا ال بعد ان يكون مستعدا لدفع ثمن اليمان ‪ ،‬فاليمان يمثل اغلى‬
‫قيمة ‪ ،‬وارفع درجة ‪ ،‬واثقل حســنة فــي ميــزان النســان ‪ ،‬فهــو شــرط‬
‫سـَعى‬‫خـَرَة َو َ‬
‫لِ‬ ‫ن َأَراَد ا َ‬ ‫قبول العمل الصالح كما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬وَم ْ‬
‫ن ‪ ) { ..‬الســراء ‪ ( 19 /‬فــاذا كنــت تريــد الخــرة فــان‬ ‫سْعَيَها َوُهَو ُمـْؤِم ٌ‬
‫َلَها َ‬
‫ب{‬‫ل اْلِكَتـا ِ‬
‫ي َأْهـ ِ‬
‫س ِبَاَمـاِنّيُكْم َول َأَمـاِن ّ‬
‫مجرد التمنـي ل يكفـي ‪َ } :‬لْيــــ َ‬
‫) النساء ‪. ( 123 /‬‬
‫وبالضافـة الى ذلك فان مجرد السعي هو الخر ل يكفي بــل يجــب‬
‫ان تكون هناك‬
‫ارادة وسعي وايمان ‪ ،‬وعلى هذا فان اليمان هو شرط قبــول العمــل ‪،‬‬
‫ولبد ان ندفع ثمنه ‪ ،‬وثمنه هو الكفر بالنــداد ؛ اي ان ل نجعــل لـ ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬ندا ‪ ،‬فعندما نقول ) ال ( فان هذه الكلمة تعني انه هو الكبر‬
‫‪ ،‬والسـمى ‪ ،‬والعلى ‪ ،‬له الحمد ‪ ،‬فل نقرن هذه الكلمة بشيء اخر ‪،‬‬
‫فعلى النسان ان ل يجعل لربه ندا ‪ ،‬وان ل يســاوي الشــركاء بــه فــان‬
‫اكثر الناس انما يدخلون النار لنهم اتخذوا شركاء له ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬
‫والقرآن الكريــم يـبين لنـا هــذه الحقيقــة فـي قــوله ‪ -‬تعـالى ‪َ } : -‬ف َ‬
‫ل‬
‫ن { ) البقــرة ‪ ، ( 22 /‬لن الـ ل نــد لــه ‪،‬‬ ‫لـ َأْنــــَدادًا َوَأْنُتـْم َتْعَلُمــو َ‬
‫جَعُلوا ِّ‬
‫َت ْ‬
‫ت { ) البقــرة ‪ ، ( 258 /‬ولكـــــن‬ ‫حِيــي َوُاِميـ ُ‬
‫وقــديما قـال نمــرود ‪َ }َ :‬أنـَـــا ُا ْ‬
‫س ِم ـ َ‬
‫ن‬ ‫شْمـــــ ِ‬
‫ل َيْأِتــي ِبال ّ‬
‫نا ّ‬
‫ابراهيــم ) عليه السلم ( قال له ‪َ } :‬فـــِإ ّ‬
‫ب { ) البقرة ‪ ( 258 /‬فكانت النتيجة ‪َ } :‬فُبِه َ‬
‫ت‬ ‫ن اْلَمْغِر ِ‬ ‫ت ِبَها ِم َ‬‫ق َفْأ ِ‬‫شـــِر ِ‬
‫اْلَم ْ‬
‫اّلِذي َكَفـَر { ) البقــرة ‪ ، ( 258 /‬لقــد كــان نمــرود ســلطانا ذا قــدرة ‪ ،‬ولكنــه‬
‫اكتسب القدرة من الـ ‪ ،‬لن قــدرته ليســت ذاتيــة لكــــــي يحــق لــه ان‬
‫يجعل نفسه مع ال ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬كما يشير الى ذلــك فـي قـوله ‪ } :‬اّلـِذي‬
‫خَر َ‬
‫ج‬ ‫س ـَمآِء َمــاًء َف ـَا ْ‬ ‫ن اْل ّ‬ ‫ل ِم َ‬‫سَمآَء ِبَنآًء َوَأْنَز َ‬ ‫ض ِفَراشًا َواْل ّ‬ ‫لْر َ‬ ‫جَعلَ َلُكُم ا َ‬‫َ‬
‫ن { ) البقــرة ‪/‬‬ ‫ل َأْنَدادًا َوَأْنُت ـْم َتْعَلُمــو َ‬
‫جَعُلوا ِّ‬ ‫ل َت ْ‬ ‫ت ِرْزقًا َلُكْم َف َ‬ ‫ن الّثـَمَرا ِ‬ ‫ِبِه ِم َ‬
‫‪ ( 22‬؛ أي هل الــذي انــت تعتقــد بـه مـن دون الـ قــادر علــى ان يبنــي‬
‫السماء ‪ ،‬ويفرش الرض ‪ ،‬وينزل مـن الســماء مـاء ‪ ،‬ويســتخرج مـن‬
‫الرض رزقا ؟‬
‫عـن‬ ‫ضّلوا َ‬ ‫ل َأنَداداً ّلُي ِ‬ ‫جَعُلوا ِّ‬ ‫وفي آية اخرى يقول ‪ -‬عز وجل ‪َ }: -‬و َ‬
‫سِبيلِِه { ) ابراهيم ‪ ( 30 /‬فهم انما ضلوا عن سبيل ال لنهم جعلوا له اندادا‬ ‫َ‬
‫‪ ،‬ومن هذه الية نفهم ان معنى ) الند ( هو الــذي يتبع مــن دون ال ـ ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ ، -‬لن القرآن الكريم يبـين هـذه الـحـقـيـقـة في قوله ‪:‬‬
‫سَتْكَبُروا ِإّنا ُكّنا َلُكْم َتَبعًا َفَه ْ‬
‫ل‬ ‫نا ْ‬ ‫ضَعَفآُء ِلّلِذي َ‬‫ل ال ّ‬ ‫جِميعًا َفَقا َ‬‫ل َ‬ ‫} َوَبَرُزوا ِّ‬
‫شــيٍء { ) ابراهيــم ‪ ، ( 21 /‬فهــم ‪ -‬اي‬ ‫لـ ِمــن َ‬ ‫ب ا ِّ‬ ‫عـَذا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫عّنا ِم ْ‬
‫ن َ‬ ‫َأنُتم ّمْغُنو َ‬
‫الضعفاء ‪ -‬اتبعوا النداد في الدنيا ‪ ،‬وعندما يحل يــوم القيامــة يقولــون‬
‫للذين اتبعوهم ‪ :‬اين جزاء اتباعنــا لكــم ‪ ،‬وهــل تســتطيعون ان تحملــوا‬
‫م { ) ابراهيــم ‪/‬‬ ‫لـ َلَهـَدْيَناُك ْ‬
‫عنا اوزارنا ؟ فيقــول المتبعــون ‪َ } :‬لــو َهـَداَنا ا ُّ‬
‫‪ ، ( 21‬فهم ايضا سيردون نار جهنم‪ ،‬وكيف يمكن ان ينقذ من في النار‬
‫ص { ) ابراهيــم ‪/‬‬ ‫حي ٍ‬ ‫صَبْرَنا َما َلَنا ِمن َم ِ‬ ‫عَنآ َأْم َ‬ ‫جِز ْ‬ ‫عَلْيَنآ َأ َ‬
‫سَوآٌء َ‬‫غيره ؟ ‪َ } :‬‬
‫‪. ( 21‬‬
‫ض ـّلوا‬
‫ل ـ َأن ـَدادًا ّلُي ِ‬
‫جَعُلـــوا ِّ‬
‫وبعد هذه الية يقول ‪ -‬جل شأنه ‪َ } : -‬و َ‬
‫سِبيِلِه { ) ابراهيــم ‪ ، ( 30 /‬وقد وردت هذه الية فــي ســورة ابراهيــم ‪،‬‬ ‫عن َ‬‫َ‬
‫خذُ‬
‫س َمن َيّت ِ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫اما في سورة البقرة فقد جاءت بالشكل التالي ‪َ } :‬وِم َ‬
‫ل ـ َوَل ـْو‬‫حّب ـًا ِّ‬
‫ش ـّد ُ‬ ‫ن َءاَمُنوا َأ َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫با ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫حّبوَنُهْم َك ُ‬
‫ل َأْنَدادًا ُي ِ‬
‫نا ّ‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫ِم ْ‬
‫شـِديُد‬ ‫لـ َ‬ ‫نا ّ‬ ‫جِميعـًا وََا ّ‬ ‫لـ َ‬‫ن اْلُقـّوَة ِّ‬
‫ب َا ّ‬
‫ن اْلَعَذا َ‬‫ظَلُموا ِإْذ َيَرْو َ‬ ‫ن َ‬ ‫َيَرى اّلِذي َ‬
‫طَع ْ‬
‫ت‬ ‫ب َوَتَق ّ‬‫ن اّتَبُعْوا َوَرَأُوا اْلَعَذا َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن اّتِبُعوا ِم َ‬‫ب * ِإْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ‬ ‫اْلَعَذا ِ‬
‫ب { ) البقرة ‪. ( 166-165 /‬‬ ‫سَبا ُ‬‫لْ‬ ‫ِبِهُم ا َ‬

‫المؤمن ‪:‬‬ ‫محور حركة‬


‫ان الحــديث يــدور فــي اليــــــات الســابقة عــن النــداد ايضــا ‪ ،‬وذم‬
‫اتباعهــم ‪ ،‬فال ‪ -‬تعالى ‪ -‬يحذر النسان من اتبـاع احــد سـواه ؛ اي ان‬
‫المؤمن يكون في داخل نفسه حالة ان محور حركته هــو اليمــان بــال‬
‫ل شــيء اخــر ‪ ،‬وبالتــالي فــان كــل شــيء يعــود فــي نظــره الــى رب‬
‫العالمين ‪ ،‬اما المور الخرى فتأتي في الدرجة الثانية ‪.‬‬

‫وفي آيات اخرى ايضا ‪ ،‬يشير ‪ -‬تعالى ‪ -‬الى التبــاع عنــد الحــديث‬
‫عن الند ‪ ،‬كما‬
‫لـ َأنـَدادًا‬
‫ل ِّ‬ ‫جعَـ َ‬ ‫نرى في هــذه اليــة الكريمــة مــن ســورة الزمــر ‪َ } :‬و َ‬
‫ب الّنار { ) الزمــر ‪/‬‬ ‫حا ِ‬ ‫صَ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫ك ِم ْ‬
‫ل ِإّن َ‬‫ك َقِلي ً‬ ‫ل َتَمّتْع ِبُكْفِر َ‬ ‫سِبيِلِه ُق ْ‬
‫عن َ‬ ‫ل َ‬ ‫ِلُيضِ ّ‬
‫‪ ( 8‬وفي الية الثامـنـة من هذه السورة يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬وِإَذا‬
‫ي َمــا‬‫سـ َ‬‫خ ـّوَلُه ِنْعَم ـًة مِْن ـُه َن ِ‬
‫عا َرّبُه ُمِنيبًا ِإَلْيِه ُثّم ِإَذا َ‬‫ضّر َد َ‬ ‫ن ُ‬ ‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫سا ِ‬ ‫َم ّ‬
‫ل { ) الزمر ‪ ، ( 8 /‬ثم يقول ‪ -‬عز وجل ‪ -‬عن الــذين‬ ‫عوْا ِإَلْيِه ِمن َقْب ُ‬‫ن َيْد ُ‬
‫َكا َ‬
‫حـ َ‬
‫ت‬ ‫جَعْلُهَمــا َت ْ‬
‫س َن ْ‬
‫لنـ ِ‬
‫ن َوا ِ‬
‫جـ ّ‬
‫ن اْل ِ‬
‫لَنا ِمـ َ‬
‫ضـ ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫كفروا ‪َ } :‬رّبَنآ َأِرَنا اّلَذْي ِ‬
‫مَنا { ) فصلت ‪. ( 29 /‬‬ ‫َأْقَدا ِ‬
‫فالحديث هنا ‪ -‬اذن يــدور حــول المتبعيــن اي ؛ النــداد ‪ ،‬ومــن هنــا‬
‫ندرك اننا اذا اردنا ان نخلص اليمــان فعلينــا ان نكفــر بالنــداد ‪ ،‬وان‬
‫نلغي من حياتنا كل تمحور ‪ ،‬وسلطة ‪ ،‬وهيمنة‪ ،‬وجاذبية ‪ ،‬ان لــم تكــن‬
‫متصـلة بـال ‪ -‬سـبحانه وتعـالى ‪ ، -‬فـي هـذه الحالـة يصـفو اليمـان ‪،‬‬
‫ويكتمل التصديق ‪ ،‬وتتضح الحقــائق ‪ .‬فاليمــان هــو حالــة فــي النفــس‬
‫تدفع النسان الى الرضوخ للحق ‪ ،‬ونحن ل نستطيع ان نحصل عليها‬
‫ال من خلل رفض الباطل ‪ ،‬فاذا رفضناه فحينئذ سنذعن للحق ‪.‬‬

‫البشرى عقبى المؤمنين‬

‫اذا اردنا ان نعرف قيمة شيء ما فلبد ان نــدرس نهــايته وعــاقبته ‪.‬‬
‫ونحـن اذا اردنـا ان نعـرف قيمـة اليمـان ‪ ،‬او مـدى خسـارة النسـان‬
‫الكافر ‪ ،‬فلبــد مــن ان نــدرس النهايــات فعنــد دراســتها نعــرف حقيقــة‬
‫الشياء ‪.‬‬
‫ومن المعلوم ان عاقبة اليمان تتمثل في حياة مطمئنة يكللهــا الفلح‬
‫والسعادة ‪ ،‬والعاقبة الحســنى ‪ ،‬وفــي يــوم القيامــة الحشــر مــع النبيــاء‬
‫والشهداء والصالحين ‪ ،‬وجنة عرضها كعرض السماوات والرض ‪،‬‬
‫ورضوان من ال اكبر‪ ،‬وهذه هي فائدة اليمان للنسان ‪.‬‬
‫اما الكفر فعاقبته قلق في النفـس ‪ ،‬وحيـاة نكـدة ‪ ،‬وضــلل وعمـى ‪،‬‬
‫وعاقبة سوء ‪ ،‬وموت مؤلم ‪ ،‬وقبر ملــؤه النـار ‪ ،‬وحشــر فيــه الهــول ‪،‬‬
‫وفي يوم القيامة النار الملتهبة والخزي ‪ ،‬واللعن من ال ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬
‫المقياس الحقيقي ‪:‬‬
‫وعندما ننظر نظرة سطحية الى الناس من حولنا فاننا ل نستطيع ان‬
‫نعرف قيمتهم الحقيقية من خلل ظواهرهم ال اذا استندنا الــى مقيــاس‬
‫حقيقي وهو ان نقيس المــر بمقيــاس اعمــق وحينئذ سنكتشــف ان هــذا‬
‫النسان في الجنة وانه محبوب من قبل ال ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬وفــي حيــن‬
‫نرى النسـان الخـر يـعـيـش في الجحيم منذ الن كما يقول ‪ -‬سبحانه‬
‫ن { ) التوبــة ‪ ، ( 49 /‬فقلبه مليء بــالتوتر‬ ‫طٌة ِباْلَكاِفِري َ‬
‫حي َ‬
‫جَهّنَم َلم ِ‬
‫ن َ‬‫‪ } : -‬وِإ ّ‬
‫والقلــق والحقــد ‪ ،‬وفــي المقابــل نجــد النســان الول ذا قلــب مطمئن‬
‫ب { ) الرعـــد ‪/‬‬
‫ن اْلُقُلو ُ‬‫طَمِئ ّ‬ ‫ل َت ْ‬‫ل ِبِذْكِر ا ِّ‬
‫باليمان كما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬أ َ‬
‫‪ ( 28‬وبين هذا النسان وذاك بعد المشرقين ‪.‬‬
‫خ ـْو ٌ‬
‫ف‬ ‫ل َ‬ ‫لـ َ‬‫ن َأْوِلَيــآَء ا ِّ‬‫وعن اولياء ال يقول القرآن الكريم ‪َ } :‬أل ِإ ّ‬
‫ن { ) يونس ‪. ( 62 /‬‬ ‫حَزُنو َ‬
‫ل ُهْم َي ْ‬
‫عَلْيِهْم َو َ‬
‫َ‬
‫وكلمة ) الولي ( تعني المحب النصير القريب ‪ ،‬وهناك معان عديدة‬
‫وشتى لهذه الكلمات ‪ ،‬ولكننا عندما نتعمق فيها نــرى انهــا منطلقــة مــن‬
‫) الولية ( التي تأتي من تقارب الناس الى بعضـهم ‪ ،‬واوليـاء الـ هـم‬
‫الذين يكونــون عند ال ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ ، -‬والذين هم تحــت وليتــه ‪،‬‬
‫وفي حصنه وكهفه ‪ ،‬وهم الذين ل خوف عليهم ‪ ،‬ول هم يحزنون ‪.‬‬
‫وفي هذا المجال يروى ان ابن الشعث جاء في ليلة من ليــالي شــهر‬
‫رمضان الى المام علــي ) عليه السلم ( وطلب منه ان يتصــالح مــع‬
‫معاوية ولكن المــام ) عليــه الســلم ( رفــض ‪ ،‬وحينئذ حــــــــذر ابــن‬
‫الشعث المام مــن ان هنــاك مــؤامرة لقتلــه فغضــب ) عليــه الســلم (‬
‫وقال ‪ " :‬أبالموت تهددني ؟! وال ان ابا تراب آنس بالموت من الطفل‬
‫الرضيع بثدي امه ‪ ،‬انا ل ابــالي أوقعــت علــى المــوت ام وقــع المــوت‬
‫عليّ " ‪ ،‬وهــذا هــو النمــوذج الســمى لوليــاء الـ ‪ ،‬والقلــب المطمئن‬
‫حقا ‪ ،‬فكل انسان مؤمن مستعد لستقبال ملك الموت ‪ ،‬ولــذلك نجــد ان‬
‫موتهم هو موت الرحمـة ‪ .‬قيل للصـادق ) عليـه الســلم ( ‪ :‬صــف لنـا‬
‫الموت ‪ ،‬قال ) عليه السلم ( ‪ " :‬للمؤمن كــأطيب ريــح يشــمه فينعــس‬
‫لطيبه وينقطع التعب واللم كله عنه " ‪. ((1‬‬

‫الكبرى ‪:‬‬ ‫الفرحة‬


‫وهذه هـي النفــس المطمئنــة الـتي ل يعتريهـا الخــوف لنهـا تعـرف‬
‫مصــيرها ‪ ،‬وتــوقن انهــا ســتدخل علــى رب كريــم ‪ ،‬فالــذين عرفــوه ‪،‬‬
‫وآمنوا به ‪ ،‬واطاعوه انما يفعلون ذلك في الدنيا والخرة فينتقلــون مــن‬
‫دار ضــيافة الــى دار ضــيافة اخــرى الــتي هـي دار الضــيافة الحقيقيــة‬
‫فالدنيا هي بمثابة السجن للمؤمنين ‪ ،‬وهم يتطلعون دومــا الــى النتقــال‬
‫للخرة ليرون الفرحة الكبرى ‪ ،‬فرحة اللتقاء بال ‪ -‬تعالى‪. -‬‬
‫وهؤلء المؤمنون ل يمكن ان يندمـوا او يحزنــوا لن خطهــم كــان‬
‫خطا مستقيما‪ ،‬فهم منذ اللحظة التي فتحوا فيها اعينهم على نور الــدنيا‬
‫حِنيفـًا َوَمــآ‬‫لْرضَ َ‬ ‫ت َوا َ‬‫سماَوا ِ‬ ‫طَر ال ّ‬
‫ي ِلّلِذي َف َ‬
‫جِه َ‬
‫ت َو ْ‬‫جْه ُ‬ ‫قالوا ‪ِ }:‬إّني َو ّ‬
‫ن { )النعــام‪ (79/‬فلمــاذا يحزنــون وصــلتهم تــأتيهم فــي‬ ‫شـِرِكي َ‬ ‫ن اْلُم ْ‬ ‫َأَنــا ِمـ َ‬
‫صورة انسان جميل يبشرهم بالجنة ‪ ،‬ولماذا يندمون وقد كان صومهم‬
‫جنة من النار ‪ ،‬وانفاقهم في سبيل ال مضاعفا ؟‬ ‫ُ‬
‫عَلْيِهْم‬
‫ف َ‬‫خْو ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫ل َ‬
‫ن َأْوِلَيآَء ا ِّ‬
‫وفي الية التالية لقوله ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬أل ِإ ّ‬
‫ل ُهْم‬‫َو َ‬
‫ن { ) يونس ‪ ( 62 /‬يقول القرآن الكريم ذاكرا شرطين لولياء ال ـ ‪:‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫َي ْ‬
‫} اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫ن { ) يــونس ‪ ، ( 63 /‬والملحــظ اننــا عنــدما نــدرس‬ ‫َءاَمُنوا َوَكــاُنوا َيّتُقــو َ‬
‫اليات القرآنية نجد ان صفات المؤمنين تتشابه مــع صــفات المتقيــن ؛‬
‫ك الِكَتــا ُ‬
‫ب‬ ‫ففي سورة البقرة يقول ‪ -‬عز من قائل ‪ -‬عــن المتقيــن ‪َ }:‬ذِل ـ َ‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 9‬ص ‪153‬‬
‫صــلةَ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ب َوُيِقيمُــو َ‬ ‫ن ِبــالَغْي ِ‬
‫نُيْؤِمُنــو َ‬
‫ن * اّلـِذي َ‬‫ى ِللُمّتِقيـ َ‬
‫ب ِفيِه ُهــد ً‬ ‫لَرْي َ‬‫َ‬
‫ن { ) البقــرة ‪ ( 3-2 /‬هــذه الصفــــــات هــي نفسهــــــا‬ ‫َوِمّما َرَزْقَنــاُهْم ُيْنِفُقــو َ‬
‫ن*‬ ‫ح اْلُمْؤِمُنــو َ‬
‫الصفات المثبتة للمؤمنين في قوله ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬قْد َأْفَل ـ َ‬
‫ن { ) المؤمنون ‪. ( 2-1 /‬‬ ‫شُعـــــو َ‬‫خا ِ‬
‫لِتِهْم َ‬ ‫صَ‬ ‫ن ُهْم ِفي َ‬ ‫اّلِذيـــ َ‬
‫وهنا يتبادر الى الذهان السؤال التالي ‪ :‬هل هناك فرق بين اليمان‬
‫والتقوى ام انهما يمثلن مفهوما واحدا ؟ وللجابــة علــى هــذا الســؤال‬
‫نقول ان حقيقة اليمان ‪ ،‬وحقيقة التقوى تمثلن حقيقة واحــدة ‪ ،‬ولكــن‬
‫المنظور في اليمان الجانب العقيدي ‪ ،‬وفي التقــوى الجــانب العملــي ‪،‬‬
‫فهما مفهومان متلزمان ل يمكن ان يوجد احدهما دون وجود الخر‪.‬‬

‫للمؤمنين ‪:‬‬ ‫بشرى‬


‫وعلى هذا فان القرآن الكريم يبين ان البشرى في الحيــاة الــدنيا هــي‬
‫للــذين آمنــوا ‪ ،‬واســتمروا علــى ايمــانهم عــبر مســيرة التقــوى ‪ ،‬وهنــا‬
‫نتساءل ‪ :‬لماذا لم يقل القرآن ‪ :‬لهم النعم في الحياة الدنيا ‪ ،‬بــل قـال ‪" :‬‬
‫لـهـــم البشــرى " ‪ ،‬ومــا هــو الفــرق بيــن ) النعمــة ( و ) البشــرى ( ؟‬
‫وجوابا على ذلك نقــول ‪ :‬ان النسان ل يعرف ‪ -‬عادة ‪ -‬قيمة ) النعمة‬
‫( فهو ل يستفيد منها الستفادة المثلى ‪ ،‬ولكن المؤمنين يعرفون قيمتهــا‬
‫‪ ،‬ولـــذلك اســـتخدم القـــرآن الكريـــم مصـــطلح ) البشـــرى ( ؛ اي ان‬
‫للمــؤمنين المعرفــة بــالنعم ‪ ،‬ولــذلك نقــرأ فـــي الــدعاء ‪ " :‬اللهــم انــي‬
‫اسـألـك العافية ‪ ،‬والشكر علـى العافيـة "‪ ،‬فالنسـان الــذي ل شـكر لـه‬
‫على العافية ل يمكـن ان ينعـم بهـا ‪ ،‬امـا النسـان الـذي يـؤدي واجـب‬
‫الشــكر علــى هــذه النعمــة فــان العافيــة ســتنعكس علــى روحــه ‪ ،‬لن‬
‫الــروح هي التي تشكر ‪ ،‬والشكر هو عافيـة لها ‪ ،‬ولذلك يقــول ‪ -‬عــز‬
‫خـَرِة { ) يـونس ‪/‬‬ ‫لِ‬ ‫حَيـاِة الـّدْنَيا َوِفـي ا َ‬
‫شـَرى ِفـي اْل َ‬
‫وجل ‪َ } : -‬لُهـُم اْلُب ْ‬
‫‪. ( 64‬‬
‫ان قلب النســـان المـؤمن مفـرغ مـن الحقـاد ‪ ،‬وهـو ينعـم براحــة‬
‫البال ‪ ،‬وطمأنينة النفس ‪ ،‬على عكــس قلــب النســان البعيــد عــن الـ ‪،‬‬
‫والذي تراه في حالة اضطراب وقلق دائمين ‪ ،‬فالنســان المــؤمن نـراه‬
‫ينهض من نـومه فـي جــوف الليـل لينشـغل بالعبـادة ‪ ،‬ويـدعو لخــوته‬
‫ل ِفي ُقُلوِبَنــا‬
‫جعَ ْ‬
‫ل َت ْ‬
‫المؤمنين ‪ ،‬ويطلب لهم الخير والصلح قائل ‪َ } :‬و َ‬
‫حيٌم { ) الحشر ‪ ( 10 /‬وقائل ‪:‬‬ ‫ف َر ِ‬ ‫ك َرؤو ٌ‬ ‫ن َءاَمُنوا َرّبَنآ ِإّن َ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬
‫غــ ّ‬
‫ِ‬
‫ي ُمْؤِمنًا { ) نوح ‪. ( 28 /‬‬ ‫ل َبْيِت َ‬
‫خَ‬‫ي َوِلَمن َد َ‬
‫غِفْر ِلي َوِلَواِلَد ّ‬‫} َربّ ا ْ‬
‫وهكــذا فــان النســان المؤمـــن يعيـــش فــي هــذه الدنيـــا حالـــة النســجام‬
‫والوئام ‪ ،‬فهو يضمر الحب للنـاس ‪ ،‬والطبيعة الى درجة انه ل يؤذي حتى‬
‫الحيوانات ‪ ،‬فهو ليس انسانا عدوانيــا بـل ان قلبـه مفعـم بحــب المجتمـــع ‪،‬‬
‫وهـذه هــي البشرى التي يراهـا في الدنيـا‪.‬‬
‫ومع ان اليمان عظيــم ذو قيمـة عليا ‪ ،‬وان له عشرة آثار رئيسية اشرنا‬
‫اليها فيما مضى ‪ ،‬ال انه ليــس مــن الســهولة ان يدعيــــه النســان ‪ ،‬فثمــــن‬
‫اليمــان عظيــم وهــو ان يســلم النســان أمــره الــى ال ـ ‪ -‬جلــت قــدرته ‪، -‬‬
‫ويخضع لـه فــي جميـــع امــوره ‪ ،‬واذا مــا وصـل الـى هـذه الحالــة ‪ ،‬حالــة‬
‫التسليم المطلق لرب العالمين ‪ ،‬وان ل يرى شيئــــا اخــر معــه ‪ ،‬ول يخلــط‬
‫بين الحـــق والباطــل ‪ ،‬فحينئذ يمكننــا ان نقــول انــه قــد وصــل الــى حقيقــــة‬
‫اليمان‪.‬‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫حقيقة‬


‫فالنسـان المؤمن هــو الــذي يخضـع للخالــــق وحـــده ‪ ،‬امــا اذا خضـع‬
‫للمادة ايضا فهو‬
‫مشــرك ‪ ،‬وحــال المشرك كحــال الكافــر ‪ ،‬فليــس لـــي ان اضـع الشـعب‬
‫او الوطــن او المجتمــع او اي اعتبــار مــادي اخــر مع ال ‪ -‬تعالــــى ‪، -‬‬
‫واذا ما وصلنــا الـــى هـذه المرحلــة مــن اليمــان ‪ ،‬وجعلنــا كـــل القيــــم‬
‫فـي حياتنــا تحت مظلــة اليـمــان لمعهــا فاننــا سنكــون قـد آمنـــــا بــال‬
‫حــق ايــمـانــه ‪ ،‬ول يكـــون مثلنــا كمثــل ) عمــر بــن ســعد ( الــذي خــذل‬
‫المــام الحسيـــن ) عليــه الســلم ( وحاربـــه لنــه كــان يخشــى ان تســلب‬
‫الحكومــة المويــــة اموالــــه منــه فأصبـــح مثــــال للنفــــس المنحطـــــة‬
‫الخاسئــة ‪.‬‬
‫وهكذا فــان علــى النســان الـمؤمـن ان يكــون حــــذرا مــن الختبــارات‬
‫التي ينزلهــا ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬عليــه ‪ ،‬فليــس هنــاك مجــال للتســويف فــي‬
‫مسألــة اليــمان بل ليحــاول كل واحـد منا ان يعقــد العــزم على ان يبقــى‬
‫على اصالتــه اذا ما خــيــر بيـــن اليمــان وبيـــن الدنيـــا ‪ ،‬فل مساومـــة‬
‫على اليــــمان والعقيــــدة ‪ ،‬فهمــــا اعظــم القيــــم ‪ ،‬ولنســتمر فــــي الدفــــاع‬
‫عنهمــا لكــي تتجســد فينــا حقيقــة اليمــان ‪.‬‬
‫واذا مــا فعلنـا ذلك فان ال ‪ -‬سبحانــه ‪ -‬ســوف يمنحنــا القــوة ‪ ،‬فعندمــا‬
‫نرفــض القيــم الماديــة ‪ ،‬سيؤيدنــا الخالــــق ‪ ،‬ويثبتنــــا ‪ ،‬وينصـــرنا فــــي‬
‫الحيــاة الدنيا ‪ ،‬ويــوم يقــوم الشهــاد ‪ ،‬كمــا قــال ‪ -‬عـز وجـــل ‪ِ } : -‬إّنــا‬
‫شَهــــاُد {‬‫لْ‬
‫حَيــاِة الّدْنَيــــا َوَيــ ـْوَم َيُقــوُم ا َ‬
‫ن َءاَمُنوا ِفـــي اْل َ‬
‫سَلَنا َواّلِذي َ‬
‫صُر ُر ُ‬
‫َلَنن ُ‬
‫) غافر ‪ ( 51 /‬؛ اي ان الخالــق ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬ينصــــر عبــاده فــي الحيــــاة‬
‫الدنيـــا ‪ ،‬ولكــن الجواء قد تكون مغبــرة فـــي بعــــض الحيــــــان وقــــد‬
‫يسمــــع النســــان بعــــض الكلمــات السلبيــــة ‪ ،‬وقـــــد يوســــوس لــــه‬
‫الشيطـــــان ‪ ،‬فلبــــد ان ينتبــــه الــى كــل ذلــك لكــي ل يســقط فــي هــــذا‬
‫الختبــار ‪.‬‬

‫السبيل الى حقائق اليمان‬

‫كيــف نســتطيع ان نعــرف اليمــان بحقــائقه ‪ ،‬وكيــف يمكـن ان نجــد‬


‫ســبيل الــى هــذه الحقيقــة الــتي تعتــبر ذروة القيــم ‪ ،‬وســنام الفضــائل‬
‫اللهية ؟‬
‫لكي نتوصل الى الجابة الصحيحة عن هذا السؤال لبد مــن بيــان‬
‫عدة حقائق ‪:‬‬
‫‪1‬ـ ان الــهدف من التعابير والكلمات التي ينطــق بهـا الــوحي ‪ ،‬او‬
‫الحاديث المأثورة ‪ ،‬انما هو الشارة الى المعاني الواقعية لها ‪ ،‬ولذلك‬
‫نجد ان الكلمات تتنوع ‪ ،‬والشارات الــى الحقــائق تتغيــر فــي حيــن ان‬
‫الحقيقة واحدة ؛ فالكلمات القرآنية قد تعبر عن حقيقــة واحــدة بأسـاليب‬
‫شتى ‪ ،‬والذين يتخذون من الكلمات حقائق موضــوعية ل جســرا الــى‬
‫الحقائق التي تعبر عنهــا تلــك الكلمــات ‪ ،‬هــم الــذين يضــربون اللفــاظ‬
‫بعضــها ببعــض ســواء جــاءت فــي القــرآن ‪ ،‬الكريــم ام فــي الحـاديث‬
‫الشــريفة ‪ .‬فــي حيــن ان اولئك الــذين يتخــذون مــن الكلمــات جســورا‬
‫يعبرون الى الحقائق مــن خللهــا ‪ ،‬يكتشــفون انهــا تتكامــل ‪ ،‬وان هــذه‬
‫اللفــاظ انمــا يــدعم بعضــها بعضــا ‪ ،‬وتفســر احداهــــا الخـــرى ‪،‬‬
‫وخصوصــا الحقــائق الكــبرى كحقيقــة التوحيــد ‪ ،‬والرســالة ‪ ،‬والبعــث‬
‫والنشور ‪ ...‬هذه الحقائق الكبرى التي من الصعب علــــى النسان ان‬
‫يبلغها ‪ ،‬ويتعرف عليها لضخامتها ‪ ،‬وانتشارها ‪ ،‬وتشــعبها ‪ ،‬وبالتــالي‬
‫لتجلياتها العديدة في مختلف شؤون الحياة البشرية ‪.‬‬

‫في مثل هذه الحقائق يجب ان لتتخذ الكلمات كموضوعة نفكر في‬
‫حروفها ‪ ،‬وفي ذات اللفاظ التي توجــد ضــمنها ‪ ،‬بــل يجــب ان نعتــبر‬
‫هذه الكلمات المختلفة كلها جسرا الى ذلك المعنى ‪ .‬وعلى سبيل المثال‬
‫؛ ماهو اليمان ‪ ،‬وكيف يبلغ النسان ذروته ؟ ‪ ،‬انه ليس حقيقة بسيطة‬
‫صــغيرة وجانبيــة ‪ ،‬فهــو يــدخل فــي كــل جــزيئة مــن جــزيئات حيــاة‬
‫النسان ‪ ،‬وفي كل مفردة من مفردات سلوك البشــر ‪ ،‬ولــذلك ليمكننــا‬
‫ان نعبر عن اليمان بكلمة ‪ ،‬بل يجــب ان يكــون التعــبير عــن اليمــان‬
‫ومحتواه والحقيقة التي يمثلها مختلفا متنوعا لكي يستقبل النســان هــذه‬
‫الحقيقة من كل الجوانب والبعاد ‪ ،‬ويتعرف عليها من كل الزوايا ‪.‬‬

‫‪2‬ــ ان علينا عندما نستمع الى آية كريمة او حديث مـأثور او نجــد‬
‫في الحياة آية من آيات ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬ان نبذل جهدا كبيرا للرتفاع الى‬
‫مستواها ‪ .‬فمن الصعب على النسان ان يفهم الحقائق الكــبرى ال مـن‬
‫خلل تحول فــي ذاتــه ‪ ،‬امــا اولئك الــذين يريــدون ان ينزلــوا مســتوى‬
‫الحقيقة الى مستواهم فهم مخطئون عادة لن الحقيقة مرتفعــة بــذاتها ‪،‬‬
‫وعلينا ان نرتفع اليها ل ان ننزلها الى مستوانا ‪.‬‬
‫اليمان مغادرة الذات ‪:‬‬
‫بعد هاتين المقدمتين نــدخل فــي صــلب الموضــوع ونتســاءل مــرة‬
‫اخرى ؛ ماهو اليمان ؟ للجواب على هذا السؤال نقول ؛ اليمــان هــو‬
‫ان يخرج النسان مــن ذاتــه وهــواه وشــهواته ومصــالحه الــى رحــاب‬
‫الحق ؛ اي ان يسلم النسان للحق طواعية ومن دون اكراه ‪ ،‬فاليمــان‬
‫ليس علما وليس عمل ‪ ،‬بل هو علم وعمل ‪ ،‬فعندما يلتقي العلم بالعمل‬
‫‪ ،‬وعندما تلتقي بصيرة النســان بسلــــوكه ‪ ،‬فــي لحظــة اللتقــاء هــذه‬
‫يحــدث مــا نســميه بــ )اليمــان( ‪ ،‬فالصــلة ‪ -‬مثل ‪ -‬مــن دون قناعــــة‬
‫لتمثل اليمان ‪ ،‬والقناعة من دون الصلة لتصدر عن اليمان ايضــا‬
‫‪.‬‬
‫وعلــى هذا فان لحظـة التلقـي بين بصيرة النسان ورؤيته وبيــن‬
‫حركته وســلوكه ‪ ،‬هــذه اللحظــة هـي الــتي نعـبر عنهــا بــ )اليمـان( ‪،‬‬
‫فاليمان هو تسليم النسان ل ‪ -‬عز وجــل ‪ -‬ولكـــــل الحقائــــق التــــي‬
‫يأمرنـا بهـــا ‪ ،‬فاليمــان ليمكـــن ان يتجــزأ لنــه ‪ -‬فــي الواقــع ‪ -‬حالــة‬
‫التسليم والذوبان والنقياد لن النسان ليملــك نفســين ول قلــبين حــتى‬
‫يؤمن هذا القلب بشيء ‪ ،‬ويؤمن القلب الخر بشيء آخر ‪.‬‬
‫وليضـاح هذه الحقيقــة نضــرب المثــال التــالي ‪ :‬لنفــرض ان هنــاك‬
‫انســانا يبّعــض الــدين ‪ ،‬اي يأخــذ منــه مــا يوافــق مصــالحه واهــوائه‬
‫وشهواته ‪ ،‬فهل هذا النسان مؤمن حقا ام ل ؟ اننا لو تمعنا في ســلوكه‬
‫لوجدنا انه يؤمن بشيء واحد هــو المصــالح والشــهوات ‪ ،‬امــا الشــيء‬
‫الخر ‪ -‬وهو الدين ‪ -‬فانما يؤمن به تبعــا لتلــك المصــالح والشــهوات ‪،‬‬
‫خَذ ِإَلَه ـُه‬
‫ن اّت َ‬
‫ت َم ِ‬
‫فهو ‪ -‬اذن ‪ -‬يؤمن بنفسه كما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬أَرَأْي َ‬
‫َهَواُه { ) الفرقــان ‪ ، ( 43 /‬فهو يعبد نفســه ‪ ،‬ومــن الخطــأ ان نقــول ان هــذا‬
‫النســـان مــؤمن بــال ‪ -‬عــز وجــل ‪ ، -‬لنــه ليــؤمن بالخــالق ال اذا‬
‫اقتضت مصالحه ‪،‬‬
‫فهو يؤمن بمصالحه هذه في الحقيقة ‪.‬‬

‫اللـه هو الحق ‪:‬‬


‫ولذلك نجد القرآن الكريم يصـف اولئك الذين عبدوا مع ال اثنين ‪،‬‬
‫فقالوا انه ‪ -‬تعالى ‪ -‬ثالث ثلثــة ‪ ،‬يصــفهم بــالكفر ‪ ،‬ذلــك لنهــم عنــدما‬
‫ادعوا اليمان فانهم لم يؤمنوا في الحقيقة برب الســماوات والرض ‪،‬‬
‫وبمن يملك الملكوت ‪ ،‬والقــاهر فــوق عبــاده ‪ ،‬والعزيــز المقتــدر ‪ ،‬بــل‬
‫آمنوا بشيء موهوم ليــس هــو الـ ‪ -‬ســبحانه ‪ ، -‬لن الـ هــو الحــق ‪،‬‬
‫ل َثاِل ُ‬
‫ث‬ ‫نا ّ‬
‫ن َقاُلوا ِإ ّ‬
‫ويعبر القرآن الكريم عن ذلك قائل ‪َ } :‬لَقْد َكَفَر اّلِذي َ‬
‫حٌد { )المائدة ‪. ( 73 /‬‬
‫ل ِإلٌه َوا ِ‬
‫ن ِإلٍه ِإ ّ‬
‫لَثٍة َوَما ِم ْ‬
‫َث َ‬
‫وعندما يحدثنا القرآن الكريم عن المصلين الذين هــم فــي صــلتهم‬
‫ن * اّلـِذي َ‬
‫ن‬ ‫صـّلي َ‬
‫ل ِلْلُم َ‬‫ساهون فانه ليبارك لهم مطلقا بل يقول ‪َ } :‬فَوْيـ ٌ‬
‫ن { ) المــاعون ‪ ، ( 5-4 /‬اي ان كــل مــا هنــاك مــن‬ ‫ســاُهو َ‬‫لِتِهْم َ‬ ‫صـ َ‬‫عن َ‬ ‫ُهْم َ‬
‫حقائق سيئة هي لمثل هذا الرجل لنه ساه عن صلته ‪ ،‬ومن هنا نجــد‬
‫ان القــرآن الكريــم عنــدما يحــدثنا عــن العبــادة فــانه يجعلهــا ملتصــقة‬
‫بالتوحيد ‪ ،‬لن العبادة تعني الخضوع ‪ ،‬والتسليم ‪ ،‬والذوبان ‪ ،‬وعنــدما‬
‫تعني هــذه الكلمة هذه المعاني وأن يعطـــي النسان قياده ل ‪ -‬سبحانه‬
‫وتعــالى ‪ -‬فل يمكــن ان يتجــــزأ لنــه اذا جــزء نفســه فــي هــذه الحالــة‬
‫مطيعا ال في بعض المور ‪ ،‬وعاصيا له في امور اخرى فان عبــادته‬
‫ودينه ليسا مقبولين ‪.‬‬

‫العبادة هي التسليم والخضوع ‪:‬‬


‫وعلــى هذه فان العبادة هـي فـــــي حقيقتهــا الخضــوع للواحــد لن‬
‫معناها التسليم‬
‫والخضوع ‪ ،‬ومعناهــا بالتــالي قبــول القيــادة الــتي ليمكــن ان تتجــزأ ‪،‬‬
‫ومن هنا نجد اليـات القرآنيـة عنـدما تحـدثنا عـن العبـادة فانهـا تركـز‬
‫الحديث حول خلوص هــذه العبـادة لـ ‪ -‬تعـالى ‪ . -‬فعنــدما نتمعــن فــي‬
‫قراءة القرآن الكريم عن رسالة النبياء نجد ان هذه الرسالت لم تكــن‬
‫من اجل اثبات وجود ال بل من اجــل التــذكرة بــه كقــوله ‪ -‬تعــالى ‪} -‬‬
‫ل { ) ابراهيم ‪. ( 5 /‬‬ ‫َوَذّكْرُهم ِبَاّياِم ا ِّ‬
‫وعلى هذا فان محور الصراع بين النبيــاء والكفــار والجهلــة مــن‬
‫قـومهم لــم يكـن حـول اثبـات الـ وانمـا حـول اثبـات وحــدانيته بشـكل‬
‫عملي ‪ ،‬فالقرآن الكريم ليطلب مجرد العتقاد وحده بل يقــول ‪َ } :‬أ ّ‬
‫ل‬
‫ل { ) هود ‪ ، ( 26 /‬وهــذه رسالــة نبينــا العظــم ) صلى ال‬ ‫ل ا َّ‬ ‫َتْعُبُدوا ِإ ّ‬
‫عليه وآله ( التي تكررت في كل اليات القرآنية ‪ ،‬كقوله ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬
‫ن { ) البينــة ‪، ( 5 /‬‬ ‫ن َلــُه ال ـّدي َ‬
‫صــي َ‬
‫خِل ِ‬
‫ل ُم ْ‬ ‫ل ِلَيْعُبـــُدوا ا َّ‬
‫‪َ } :‬ومَـآ ُاِمــُروا ِإ ّ‬
‫م { ) هـــود ‪/‬‬
‫ب َيْوٍم َأِلي ـ ٍ‬
‫عَذا َ‬ ‫عَلْيُكْم َ‬
‫ف َ‬
‫خا ُ‬‫ل ِإّني َأ َ‬ ‫ل ا َّ‬
‫ل َتْعُبــُدوا ِإ ّ‬ ‫وقوله ‪َ } :‬أ ّ‬
‫حي ِإَلْيِه أّنُه ل‬ ‫ل ُنو ِ‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫سو ٍ‬ ‫ك ِمن ّر ُ‬‫سْلَنا ِمن َقْبِل َ‬‫‪ ، ( 26‬وقوله ‪َ } :‬وَمآ َأْر َ‬
‫ن { ) النبياء ‪ ، ( 25 /‬وهذه هي الرسالة الحقيقية للنبياء‬ ‫عُبُدو ِ‬ ‫ل َأَنْا َفا ْ‬
‫ِإَلَه ِإ ّ‬
‫‪ ،‬ولكن هذه الرسالة بحاجة الى بلورة ‪ -‬كما قلنــا ‪ -‬لنهــا مــن الحقــائق‬
‫الكبرى ‪ ،‬وهذه الحقائق لتفهم ال من خلل كل تجلياتها ‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال فانك لن تستطيع ان تتعرف علــى الشــمس مــن‬
‫خلل كوة صغيرة في غرفتك دخل منها بصيص من اشــعة الشــمس ‪،‬‬
‫ولكنــك عنــدما تنطلــق فــي رحــاب الرض ‪ ،‬وتجــد الســهول والتلل‬
‫والجبال والبحار كلهـا مضــاءة بنــور الشــمس فحينئذ تختلــف الحالــة ‪،‬‬
‫وكذلك الحال بالنسبة الى الحقائق الكبرى فمن الصعب علــى النســان‬
‫ان يفهمها من خلل آية من آياتها ‪ ،‬او اسم مـن اسـمائها ‪ ،‬بـل لبــد ان‬
‫نستوعبها من جميــع اطرافهــا ‪ ،‬ومــن هنــا فـان حــديث القــرآن الكريــم‬
‫حول حقيقة التوحيد هو حديث شيق متنوع ذو ابعاد مختلفة ‪.‬‬

‫تـــرى لماذا لم نستوعب بعد حقيقة التوحيد رغم آياتها الواضــحة ‪،‬‬
‫ودللتهــا البينــة ‪ ،‬اي ان بصــيرة التوحيــد ‪ ،‬واليمــان ‪ ،‬والعبوديــة‬
‫الخالصة ل ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬هذه البصائر الساسية ليزال يكـــتنفها شيء‬
‫من الغموض في وعينا ‪ ،‬رغم انها رسالة القرآن واساسه ؟‬
‫الجواب ‪ :‬لن هناك حجابا نفسيا بيننا وبين هذه الحقائق ‪ ،‬فالنســان‬
‫عنــدما يريــد ان يفهــم هــذه الحقــائق يخشــى ان يفــرض عليــه اللــتزام‬
‫بأمور كثيرة ‪ ،‬والنسان يتهرب عادة مــن اللــتزام والمســؤولية لــذلك‬
‫تراه ليحاول ان يستمع الى القرآن بوعي وتدبر ‪ .‬فمــن طبــع النســان‬
‫التكبر والتعالي والتهــرب مــن المســؤولية ‪ ،‬وعلــى ســبيل المثــال فــانه‬
‫على الرغم من انه يشاهد الموات ينقلون الى مثواهم الخير فــي كــل‬
‫يوم تقريبا ‪ ،‬وقد يفقد من لم يكن يفكر بفقدانهم ‪ ،‬ال انــك مــع كــل ذلــك‬
‫تجده غافل بالنسبة الــى هــذه الحقيقــة ‪ ،‬فيبقــى يتصــور داخليــا انــه لــن‬
‫يموت ‪ ،‬فمع ان الموت حقيقة فاننا لنصدق بها ‪.‬‬

‫وهكذا الحال بالنسبة الى الحقائق الخرى ‪ ،‬والقرآن يسعى من اجل‬


‫ان يعرفـــــنا علــــى ابعــــادها وزواياهــا ‪ ،‬ومــن جملــة هــذه البعـــاد‬
‫ن { فمــاذا يعنــي‬ ‫ن َل ـُه ال ـّدي َ‬
‫صــي َ‬
‫خِل ِ‬
‫والزوايــــــا قــوله ‪ -‬تعــالى ‪ُ } : -‬م ْ‬
‫الخلص في الدين ؟ ان هذه الكلمة ليســت ال تفســيرا لقــوله ‪ -‬تعــالى‬
‫لـ { لن معنــى العبــادة لـ هــو خلــوص‬ ‫ل ِلَيْعُبُدوا ا َّ‬
‫‪َ } : -‬وَمآ ُاِمُروا ِإ ّ‬
‫الدين ‪ ،‬وخلــوص الــدين يعنــي خلــوص التســليم ‪ ،‬وان نجعــل الســلطة‬
‫والتشــريع والقيــادة خالصــة لـ ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪ -‬؛ اي ان لتكــون‬
‫عندنا ازدواجية‬
‫في الولء ‪ ،‬وتعددية في القيادة ‪.‬‬

‫وحدتنا ‪:‬‬ ‫كلمة التوحيد محور‬


‫وفــي آيـــة اخــرى اكـثر صــراحة يــدعو القــرآن الكريــم البشــرية‬
‫وخصوصا اللهيين من البشر ‪ ،‬يدعوهم الـى كلمـة ســواء ‪ ،‬وارضــية‬
‫واحدة يشترك فيها كل المؤمنين بال بطريقة او بأخرى ‪ ،‬ففــي ســورة‬
‫ب َتَعــالَْوْا ِإَلــى َكِلَمـٍة‬
‫ل اْلِكَتــا ِ‬
‫ل َيــآ َأْهـ َ‬
‫آل عمران يقول ‪ -‬تعــالى ‪ُ } : -‬قـ ْ‬
‫سَوآٍء َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم { ) آل عمران ‪ ، ( 64 /‬لكي تصبح هــذه الكلمــــة محــورا‬ ‫َ‬
‫ل َنْعُبَد ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫لوحدتنــا ‪ ،‬فما هي هذه الكلمـة ؟ ‪ ،‬يقول ‪ -‬عز وجل ‪َ } : -‬ا ّ‬
‫لـ {‬‫نا ّ‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫ضَنا َبْعضًا َأْرَباب ـًا ِم ـ ْ‬ ‫خــَذ َبْع ُ‬‫لَيّت ِ‬
‫شْيئــًا َو َ‬
‫ك ِبِه َ‬
‫شِر َ‬
‫ل ُن ْ‬
‫ل َو َ‬
‫ا َّ‬
‫) آل عمران ‪ ، ( 64 /‬وفي الحقيقة فان هذه ثلث كلمات في حين ان القرآن‬
‫الكريم يقـول عنهـا انهـا كلمــة واحــدة ‪ ،‬فهـي فـي الواقــع كلمــة واحــدة‬
‫ل ـ { نجــد‬ ‫ل ا َّ‬
‫ل َنْعُب ـَد ِإ ّ‬
‫مطروحــة مــن ثلث زوايــا ‪ ،‬اي ان كلمــة } َا ّ‬
‫ك ِب ـِه‬
‫ش ـِر َ‬
‫ل ُن ْ‬
‫تفسيرهــــا في الكلمة الثانية حيث يقول ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬و َ‬
‫شْيئًا { اما تفصيل هذه الكلمـة فنجــده فـي قـوله ‪ -‬عــز مـن قـائل ‪} : -‬‬ ‫َ‬
‫ل {‪.‬‬‫نا ّ‬‫ن ُدو ِ‬
‫ضَنا َبْعضًا َأْرَبابًا ِم ْ‬
‫خَذ َبْع ُ‬
‫لَيّت ِ‬
‫َو َ‬
‫وتفصيل ذلك ان عبادة الـ تعنـي الخضـوع لـه ‪ ،‬وهــذا الخضـوع‬
‫يتنافى بطبعه مــع الشــراك بــال ‪ ،‬فالــذي يشــرك بالخــالق ليمكــن ان‬
‫يخضع له بل يخضع لما يشرك به ‪ ،‬اما اذا ادعى شخص انه ليشرك‬
‫بال شــيئا ثــم يخضــع للطــاغوت ‪ ،‬ويتخــذ اربابــا مــن دون الـ ‪ ،‬فهــذا‬
‫النسـان ليمكنه ان يدعي انه موحـد ‪ ،‬فالـذي يتبـع سـلطة غيـر الهيـة‬
‫ينطوي اتباعـه عـلى الشرك الخفي ‪.‬‬

‫وهكــذا فان عبـــادة ال تتجلى وتتبلور باخلص العبودية له وعدم‬


‫الشرك به ‪،‬‬
‫وفي عدم قبول ولية غيـــر وليته ‪ ،‬وقيادة لتنبعــث مــن قيــادة ال ـ ‪-‬‬
‫عز وجل ‪ -‬ووليته ‪ ،‬ولذلك فان السلم عندما امــر البشــرية ان تتبــع‬
‫طريق التوحيد فانه ذكر لهذا التوحيد شروطا ؛ فانت عندما تتبع قيــادة‬
‫غير الهية ‪ ،‬واماما ما انزل ال به من ســلطان ‪ ،‬وتخصــع لقــوة ماديــة‬
‫في الرض فكيف يمكن ان تعتبر نفسك موحدا وعابدا ل ‪ -‬جــل شــأنه‬
‫‪ -‬في حين انك لم تخلص الدين له ؛ اي لم تخلص العبودية فــي الحيــاة‬
‫ل في سلوكك ‪ ،‬وقيادتك ‪.‬‬

‫ومن هنـا نـدرك ان اليمـان ‪ ،‬هـذه الحقيقــة الكـبرى ‪ ،‬لبـد ان ينبسـط‬


‫ضمن حقائق وتجليات اخرى نستطيع ان نفهمها ‪ ،‬ومـن هـذه الحقــائق‬
‫العبادة فهــي بــدورها لتعنــي مجــرد السجــــــود او الركــوع او التبتــل‬
‫فهذه مظاهر من مظاهرالعبادة التي تعني فيمـا تعنـي عـدم الشـــــراك‬
‫بال ‪ ،‬وان يتخذ النسان دينه خالصا ل ‪ -‬جل وعل ‪ ، -‬وهــذا يســتلزم‬
‫بدوره ان ل يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون ال ‪.‬‬

‫الطاعة من الحقائق اليمانية‬

‫ماهو برنامج التكامـل الـذي يوصـــي بــه القــرآن الكريــم ‪ ،‬وكيـف‬


‫يمكننا ان نعرج الى ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ ، -‬ونزكي انفسنا ‪ ،‬ونطهــر‬
‫قلوبنا ؟‬
‫ان النسان ل يمتلك ال فرصة واحدة لحداث هذا التحول ‪ ،‬فهنــاك‬
‫في الخرة مليين السنين في انتظارنا ل نعرف كيف سنعيشها ‪ ،‬فمــن‬
‫استطاع ان يغير نفسه او ما فيها في هــذه الفرصــة القصــيرة اســتطاع‬
‫ان يعيش في سعادة وفلح خلل تلك السنين الطويلة ‪ ،‬بل ذلك العمــر‬
‫الخالد ‪.‬‬

‫القرآن ‪:‬‬ ‫ابرز برامج‬


‫وتعتبر الطاعة من ابرز برامج القرآن الكريم في موضوع التكامــل‬
‫والتسامي ‪ ،‬والتحــول الذاتـي ‪ ،‬وهــي مــن ابــرز تجليــات اليمــان بــل‬
‫الصــورة الخــرى لحقيقــة اليمــان ؛ فهــو فــي حقيقتــه يمثــل خــروج‬
‫النسان من سجن الــذات وان يــوق النســان شــح نفســه حســب تعــبير‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ويعيش مع الحقائق ‪ ،‬ل ان يعيش في وساوسه واهوائه‬
‫وشهواته وانانياته بل يحيــا مــع هــذا المهرجــان العظيــم فــي الحيــاة ال‬
‫وهو مهرجان اليمان ‪.‬‬

‫ان كل شيء حق ‪ ،‬وانا ايضا حق ولكن بقــدري ‪ ،‬واليمــان هــو ان‬


‫يعيش النسان هذا الحــق ‪ ،‬وان يعتـرف به ‪ ،‬ويكيف نفسه معه ‪ ،‬امــا‬
‫النسان الكافر فانه ل يعيش ال ذاته ‪ ،‬ول يؤمن ول يعــترف ول يقــر‬
‫بشيء ال بنفسه ‪ ،‬في حين ان النسان يجب ان يعيش مع الحقائق وان‬
‫يأخذ بنظر العتبار غيره ‪ ،‬وفي هذا المجال يقول احد علمــاء التربيــة‬
‫الغربيين انه يكفي النسان عندما يدرك ويبلغ سن الرشد ان يعطى لــه‬
‫مجهر وتلسكوب ‪ ،‬فبالول يرى الجرام المتواضعة ‪ ،‬والمتناهيــة فـي‬
‫الصغـر ‪ ،‬وبالثاني يــرى الجــــرام الفضائيــــة المتناهيــة فــي الكــبر ‪،‬‬
‫وهذا العالم يقترح ان ينظر النسان في المجـهــر لـــيرى فــي الجــانب‬
‫الخــر قطـرة من نطفته ليكتشــف اي شــيء كــان ‪ ،‬ثــم يوضــع امــامه‬
‫جهاز اخر ينظر مــن خللـــه الــى هــذه الفــاق الواســعة ‪ ،‬ليــدرك مــن‬
‫كــان ‪ ،‬وكيــف اصــبح ‪ ،‬ومــا هــو حجمــه بالنســبة الــى هــذا الفضــاء‬
‫اللمتناهــي ؟‬
‫ان النسان لو عرف ذلك لتراجع الى حقيقته ‪ ،‬واعــترف انــه ليــس‬
‫وحيدا في هذا العالم ‪ ،‬وان هناك اخرين فيه ‪ ،‬وهكذا فــان اهــم حقــائق‬
‫اليمان ان يقف النسان عند حجمه الطبيعي ‪ ،‬وحينئذ ينزاح عنه ذلك‬
‫التضخم ‪ ،‬والغرور ‪ ،‬والتكبر ‪ ،‬ليعيــش في واقعــه ‪ ،‬وضمــــن اطــار‬
‫حجمــه الطــبيعي ‪ ،‬والقــرآن الكريــم يــبين لنــا كيــف يمكننــا ان نعيــش‬
‫واقعنــــا مــن خــــلل اليمــــان ‪ ،‬فكيــف نــؤمن ‪ ،‬ومــا هــي علمــــة‬
‫اليمــان ؟‬
‫ينفصلن ‪:‬‬ ‫الطاعة واليمان صنوان ل‬
‫ان الطاعة ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬هـي مـن ابــرز علئم اليمـان ‪ ،‬ولــذلك فــان‬
‫القرآن الكريم يربط دائما بين الـطـاعة واليمان من مثل قوله ‪ -‬تعــالى‬
‫رين { )‬‫ب اْلَكاِف ِ‬‫ح ّ‬
‫ل ُي ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل فِإن َتَوّلوْا َفِإ ّ‬‫سو َ‬‫ل َوالّر ُ‬ ‫طيُعوْا ا ّ‬
‫ل َأ ِ‬
‫‪ُ } : -‬ق ْ‬
‫آل عمران ‪ ، ( 32 /‬وعلى هذا فان هاوية الكفر تقع في الطرف الخــر مــن‬
‫الطاعة ‪ ،‬فحذار من ان نقع في هذه الهاوية السحيقة ‪ ،‬فالطاعة تســتدر‬
‫الرحمة لنها علمة اليمان ‪ ،‬واليمان هو الرحمة اللهية ‪.‬‬

‫وفــي ســورة آل عمـران يقـول ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬فــي هــذا المجـال ‪} :‬‬
‫ن { ) آل عمران ‪ ، ( 132 /‬فاذا ما رأينــا‬ ‫حُمو َ‬‫ل َلَعّلُكْم ُتْر َ‬
‫سو َ‬
‫ل َوالّر ُ‬
‫طيُعوا ا َّ‬
‫َوَأ ِ‬
‫العذاب يحيط بمجتمع ما فان علينا ان نعلــم ان هــذا المجتمــع ل يــؤدي‬
‫فـــروض الطاعـــة لــ ورســـوله ‪ ،‬وقـــد جـــاءت كلمـــة ) الـــ ( قبـــل‬
‫) الرسول ( للدللة على ان طاعة الرسول هـي مـن طاعــة الـ ‪ ،‬وان‬
‫طاعة ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ل تتحقق ال بطاعــة الرســول ‪ ،‬امــا العصــيان‬
‫ففيه النهاية والعاقبة السوء كما يشير الــى ذلــك ‪ -‬عــز مــن قــائل ‪ -‬فــي‬
‫حـَذُروا { ) المــائدة ‪ ، ( 92 /‬اي‬ ‫ل َوا ْ‬‫ســو َ‬ ‫طيُعوا الّر ُ‬‫ل َوَأ ِ‬
‫طيُعوا ا ّ‬ ‫قوله ‪َ } :‬وأ ِ‬
‫انكم ان تركتم الطاعة ل والرسول فان هنــاك مصــائب وويلت علينــا‬
‫ان نحذرها ‪.‬‬

‫سو َ‬
‫ل‬ ‫طيُعوا الّر ُ‬ ‫ل َوَأ ِ‬‫طيُعوا ا َّ‬ ‫ل َأ ِ‬
‫وفي آية اخرى يقول ‪ -‬تعالى ‪ُ } : -‬ق ْ‬
‫حّمْلُتْم { ) النور ‪ ، ( 54 /‬فالتحميل‬ ‫عَلْيُكم َما ُ‬‫ل َو َ‬
‫حّم َ‬‫عَلْيِه َما ُ‬
‫َفِإن َتَوّلْوا فِإّنَما َ‬
‫هو المسؤولية الكبيرة التي يـصـعـــب عـلـــى النســـان اداؤهـــا ‪ ،‬وقــد‬
‫حمل ال ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪ -‬رســوله مســؤولية ابلغ الرســالة الينــا ‪،‬‬
‫وهنا تنتهي مسؤوليته ) صلى ال عليه وآله ( لتبــدأ مســؤوليتنا نحــن ‪،‬‬
‫سِمْعَنا ُمَناِديًا‬‫فاذا سمعنا الرسول ينادي فعلينا ان نستجيب ‪َ } :‬رّبَنآ ِإّنَنا َ‬
‫ن َءاِمُنوا ِبَرّبُكْم َفَاَمّنا { ) آل عمران ‪ ، ( 193 /‬فدور النســان‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ليَما ِ‬
‫ُيَناِدي ِل ِ‬
‫عاُكْم ِلَمــا‬ ‫ل ِإَذا َد َ‬
‫سو ِ‬ ‫ل َوِللّر ُ‬
‫جيُبوا ِّ‬ ‫سَت ِ‬
‫يتمثل في الستجابة للرسول ‪ } :‬ا ْ‬
‫كْم { ) النفال ‪. ( 24 /‬‬ ‫حِيي ُ‬
‫ُي ْ‬

‫بسلطان ‪:‬‬ ‫الرسول ليس‬


‫وللسف فــان البعــض ل يبــادرون الــى الســتجابة للرســول عنــدما‬
‫يدعوهم ‪ ،‬فيقدمون ويختلقون العــذار الواهيــة التافهــة ‪ ،‬فــي حيــن ان‬
‫الرســول ليــس مســؤول او وكيل عنــا ‪ ،‬ول يريــد ان يفــرض علينــا‬
‫نفسه ‪ ،‬فهو ليس بسلطان لن السلطان يريد ان يتحكــم فينــا بـأي شــكل‬
‫من الشكال ‪ ،‬ولــذلك نجــده يتوسـل بكافـة الوسـائل لكـي يحـافظ علـى‬
‫قدرته وسلطتـــــه ‪ ،‬امــا الرســول فــانه ليــس هكــذا ‪ ،‬فهــو مبّلــغ ‪ ،‬يتلــو‬
‫ن َمــن‬ ‫ن { ) النمــل ‪، ( 92 /‬ـ } َفَذّكْر ِباْلُقْرَءا ِ‬ ‫ن َأْتُلَوا اْلُقْرَءا َ‬
‫القرآن ‪َ } :‬وَأ ْ‬
‫عي ـِد { ) ق ‪ ( 45 /‬فهــو ل يتجــاوز دوره التــذكير ‪ ،‬والنــذار ‪،‬‬ ‫ف َو ِ‬
‫خــا ُ‬
‫َي َ‬
‫عَلْيـِه َمــا‬
‫والبـشـارة ‪ ،‬ولـذلـك يقــول ‪ -‬تعالــى ‪َ } : -‬فـِإن َتَوّلـْوا فِإّنَمــا َ‬
‫حّمْلُتـْم { مــن‬ ‫عَلْيُكــم َمــا ُ‬‫ل { اي ما حمـل مـن تـــبليغ الرســالة ‪َ} :‬و َ‬ ‫حّم َ‬
‫ُ‬
‫الستجابة لهذه الرسالة ؛ فكل عليه ان يؤدي واجبه ‪.‬‬

‫وفــي آية اخرى يصرح القرآن الكريم بان طاعة الرسول هي شرط‬
‫لقبول العمال الصالحة ‪ ،‬فاذا كان هناك شخص يصــلي ‪ ،‬ويصــوم ‪،‬‬
‫ويحج ‪ ،‬ويؤدي كافة العمال والواجبــات الثابتـــة ولكنــه ل يسـتجيب‬
‫للرسول في المسائل الحياتية التي امر بهـا كـأن يقـول " حسـبنا كتـاب‬
‫ســو ُ‬
‫ل‬ ‫ال " ‪ ،‬فان ال ‪ -‬جـل وعـل ‪ -‬يقــول بشــأنه ‪َ } :‬وَمــآ َءاَتــاُكُم الّر ُ‬
‫عْنــُه َفــانَتُهوا { ) الحشـــر ‪ ، ( 7 /‬كمــا ان العمــــال‬ ‫خــُذوُه َوَمــا َنَهــاُكْم َ‬‫َف ُ‬
‫الصالحــــة الــتي قــام بهــا ســوف تحبــط وتــذهب ادراج الريـــــاح ‪} :‬‬
‫منُثورًا { ) الفرقان ‪. ( 23 /‬‬ ‫جَعْلَناُه َهَبآًء ّ‬
‫ل َف َ‬
‫عَم ٍ‬
‫ن َ‬ ‫عِمُلوا ِم ْ‬ ‫َوَقِدْمَنآ ِإَلى َما َ‬
‫وفي سورة محمد ) صلى ال عليه وآله ( يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬يآ َأّيَها‬
‫م { ) محمــد ‪/‬‬‫عَماَلُك ْ‬
‫طُلوا َأ ْ‬
‫ل َول ُتْب ِ‬
‫سو َ‬
‫طيُعوا الّر ُ‬
‫ل َوَأ ِ‬
‫طيُعوا ا َّ‬
‫ن َءاَمُنوا َأ ِ‬
‫اّلِذي َ‬
‫‪ ( 33‬؛ اي ان مــن ل يطيــع ال ـ والرســول ســواء فــي المتغيــرات مــن‬
‫الشــريعة او الثــوابت ‪ ،‬او الوامــر التبليغيــة فــان اعمــاله كلهــا ســوف‬
‫تذهب سدى ‪.‬‬

‫الوامر ‪:‬‬ ‫نوعان من‬


‫ومن آية في القرآن الكريم جاءت في سورة ) المجادلة ( نستنتج ان‬
‫فــي الســلم نــوعين مــن الوامــر ؛ نوعــا فــي الثــوابت ‪ ،‬ونوعــا فــي‬
‫المتغيــرات ‪ ،‬ومثــال النــوع الول ‪ :‬الصــلة ‪ ،‬والصــوم ‪ ،‬والحــج ‪،‬‬
‫والزكاة ‪ ...‬اما المتغيــرات فهــي الــتي تتصــل بتحــولت الحيــاة مثــل ‪:‬‬
‫اقامــة الجمعــة ‪ ،‬والجماعــة ‪ ،‬وقيــادة الحــرب ‪ ،‬والقضــاء ‪ ...‬وهــذان‬
‫النمطان مــن الوامــر اللهيــة كجنــاحي طــائر ان بطــل احــدهما بطــل‬
‫لَة َوَءاُتــوا‬
‫ص َ‬
‫الخر ‪ ،‬وفي هذا المجال يقول ‪ -‬سبحانه ‪َ } : -‬فَاِقيُموا ال ّ‬
‫ســوَلُه { ) المجادلــة ‪ ( 13 /‬فالصــلة والزكــاة همــا‬
‫لـ َوَر ُ‬
‫طيُعــوا ا َّ‬
‫الّزَكاةََوَأ ِ‬
‫نموذجان للوامر الثابتة ؛ اي الثـوابت مـن الشــريعة الســلمية ‪ ،‬فـي‬
‫حين ان طاعة الـ والرســول هــي محــور الوامــر الولئيــة والقياديــة‬
‫المتصلة بالولية اللهية لكون احدهما يكمل الخر ‪.‬‬
‫ونحن اذا اطعنا ال ‪ ،‬واطعنا الرسول فان عاقبة الطاعة هذه ستكون‬
‫على عكس عاقبة العصيان ؛ فكما ان عاقبة العصيان تتمثل في بطلن‬
‫العمال ‪ ،‬فان عاقبة الطاعة هي قبول العمال الصالحة ‪ ،‬وليس هــذا‬
‫فحسب بل ان العمال الصالحة اذا كانت تعــاني مــن بعــض الثغــرات‬
‫فــان هــذه الثغــرات ســوف تســد وتــردم بفضــل طاعــة ال ـ والرســول‬
‫وشفاعته ‪ ،‬فتقبــل هــذه العمــال ‪ ،‬ولــذلك يقــول ‪ -‬جـــلت قــدرته ‪ -‬فــي‬
‫عَمـاِلُكْم‬
‫ن َأ ْ‬
‫ل َيِلْتُكـم ِمـ ْ‬
‫ســوَلُه َ‬
‫لـ َوَر ُ‬
‫طيُعـوا ا َّ‬
‫سورة الحجرات ‪َ } :‬وِإن ُت ِ‬
‫حيٌم { ) الحجرات ‪ ( 14 /‬اي ل ينقص من اعمالنا شيئا‬ ‫غُفوٌر َر ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫شْيئًا ِإ ّ‬
‫َ‬
‫لن ال غفور رحيم ‪.‬‬

‫الطاعة ‪:‬‬ ‫اقسام‬


‫والطاعة على اقســام ؛ فهنــاك طاعــة فــرض ‪ ،‬وهنــاك طاعــة حــب‬
‫وولء ‪ ،‬والقرآن الكريم يريد ان ينمي في النســان الطاعــة المثلــى ال‬
‫وهي طاعة الحبيب لمن يحبه ‪ ،‬فالســلم يريــد لنــا ان نحــب الرســول‬
‫وآله ‪ ،‬وقد اهتم بهذا الجانب الولئي اهتماما شديدا بهــدف تنميــة روح‬
‫الطاعة العفوية التي تنبع من ضمير النسان وداخله ووجـدانه ‪ ،‬وهذا‬
‫لـ‬
‫ن ا َّ‬
‫حّبـــو َ‬‫ل ِإن ُكْنُتـْم ُت ِ‬
‫مـا يـشـير الـيـه ‪ -‬عـز وجل ‪ -‬في قـوله ‪ُ } :‬قـ ْ‬
‫م { ) آل‬
‫حيـ ٌ‬
‫غُفــوٌر ّر ِ‬ ‫لـ َ‬‫لـ َوَيْغِفـــْر َلُكـْم ُذُنوَبُكــْم َوا ّ‬
‫حِبْبُكـُم ا ّ‬
‫َفاّتِبُعونـِـي ُي ْ‬
‫عمران ‪ ، ( 31 /‬وهذه الية تدل على نوع من انواع الطاعة وهو الطاعــة‬
‫الحقيقية ‪.‬‬

‫ان الرتباط بين طاعة ال وطاعة الرســول هــو ارتبــاط عضــوي ‪،‬‬
‫فمشكلة البشر في الساس ل تكمن في العلقــة مــع الـ فــي الظــاهر ‪،‬‬
‫فمن من الناس ل يعترف بوجود ال ؟ وحتـــى الكفار حينما تســألهم ‪:‬‬
‫من خلق السماوات والرض ؟ يقولــون ‪ :‬خلقهـــن العزيــز الحكيـــــم ‪،‬‬
‫فليسـت هنــــاك مشكلـــة فـي العـتراف بوجـود الـ‪ ،‬ولكـن المشـكلة‬
‫الحقيقيــة هــي ان النـــــاس ل يريــدون هــذا اليمــان متمثل فــي طاعــة‬
‫حــدًا َنّتِبُعـُه { ) القمــر ‪ ( 24 /‬وهــذا هــو‬
‫شرًا ِمّنــا َوا ِ‬
‫الرسول فيقولون ‪َ } :‬أَب َ‬
‫المتحان الصعب ‪ ،‬وقد مر ابليس من قبل بهذا المتحان ولكنــه ســقط‬
‫فيه ‪ ،‬فأبليس قـال لرب العــزة ‪ ،‬اعفــني مــن السجود لدم لحظــتين ‪،‬‬
‫وسأسجد لك الفي عام ‪ ،‬ولكن ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬قال ‪ :‬لحاجة لي بالسجود‬
‫‪ ،‬انا اريد طاعة ‪.‬‬

‫السلمي ‪:‬‬ ‫محور المجتمع‬


‫ع الَّ‬ ‫طا َ‬
‫ل َفَقْد َأ َ‬
‫سو َ‬‫طِع الّر ُ‬ ‫ولذلك يقول ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪َ } : -‬من ُي ِ‬
‫حِفيظًا { ) النســاء ‪ ، ( 80 /‬وهنا يكــرر مــرة‬ ‫عَلْيِهْم َ‬‫ك َ‬ ‫سْلَنا َ‬ ‫َوَمن َتَوّلى َفَمآ َأْر َ‬
‫اخرى ذات الفكرة وهي ان الرسول ليس مسؤول عنــا ‪ ،‬فمــن اراد ان‬
‫يتولى فليتول ‪ ،‬فالمهم ان يبلــغ الرسول الرسالـة ‪ ،‬ثم يــبين الـ ‪ -‬عــز‬
‫وجــل ‪ -‬بعــد ذلــك معنــى الطاعــة للرســول ‪ ،‬فهــي ليســت الطاعــــة‬
‫الظاهريـــة الــتي يـبيت النسـان وراءهــا عصـيان الرســول ‪ ،‬بــل هـي‬
‫الطاعة النابعة من نية خالصة ‪ ،‬وفي هذا المجال يقــول ‪ -‬تعــالى ‪} : -‬‬
‫غْيــَر اّلِذي‬
‫طآِئَفٌة ِمْنُهــْم َ‬
‫ت َ‬ ‫ك َبّي َ‬‫عْنِد َ‬
‫ن ِ‬
‫طاعـٌة َفِإَذا َبــَرُزوا ِم ْ‬ ‫ن َ‬ ‫َوَيُقوُلــو َ‬
‫لـ َوَكَفــى‬‫عَلــى ا ِّ‬‫ل َ‬ ‫عْنُهْم َوَتَوّكــ ْ‬
‫ض َ‬‫عــِر ْ‬ ‫ن َفَا ْ‬
‫ب َما ُيَبّيُتو َ‬‫ل َيْكُت ُ‬‫ل َوا ُّ‬
‫َتُقــو ُ‬
‫ل { ) النساء ‪. ( 81 /‬‬ ‫ل َوِكيــ ً‬‫ِبا ِّ‬
‫ان طاعة الرسول تعتبر محورا للمجتمع السلمي ‪ ،‬فهذا المجتمع‬
‫يقوم على اسس من مثل اساس ولية ال ‪ ،‬واسـاس المـر بـالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر ‪ ،‬واقامة الصلة وايتاء الزكاة ‪ ...‬فهذه كلهــا اســس‬
‫بناء المجتمع السلمي الشامخ ‪ ،‬ولكــن هــذا البنــاء برمتــه يقــوم علــى‬
‫اساس الســس ال وهــو الطاعــة ‪ ،‬فلــو ســلبنا الطاعــة مــن هــذا البنــاء‬
‫لنهار مرة واحدة ‪.‬‬

‫ضـُهْم‬
‫ت َبْع ُ‬‫ن َواْلُمْؤِمَنـا ُ‬‫ثم يستأنف ‪ -‬عز وجل ‪ -‬قائل ‪َ } :‬واْلُمْؤِمُنو َ‬
‫لَة‬‫صــ َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن اْلُمْنَكِر َوُيِقيُمو َ‬
‫عِ‬‫ن َ‬ ‫ف َوَيْنَهْو َ‬
‫ن ِباْلَمْعُرو ِ‬
‫ض َيْأُمُرو َ‬‫َأوِلَيآُء َبْع ٍ‬
‫لـ { ) التوبــة ‪/‬‬
‫حُمُهْم ا ّ‬ ‫سـَيْر َ‬
‫ك َ‬ ‫ســوَلُه ُاْوَلِئ َ‬
‫لـ َوَر ُ‬
‫نا ّ‬
‫طيُعو َ‬ ‫ن الّزَكاَة َوُي ِ‬
‫َوُيْؤُتو َ‬
‫‪ ، ( 71‬فــالمؤمنون يتــولى بعضــهم بعضــا ‪ ،‬ويحــب احــدهم الخــر ‪،‬‬
‫ويتبادلون التأييد والنصرة ‪ ،‬وهذه الولية قائمة على قيم هي المذكورة‬
‫في الية السابقة ‪ ،‬ومن هذه الية نستنتج ان طاعة الرسول )ص( هي‬
‫محور بناء المجتمع السلمي ‪.‬‬

‫الجميع ‪:‬‬ ‫الطاعة فرض على‬


‫اننا عندما نتدبر في آيات القـرآن الكريم نجد انه يضيء كل زوايــا‬
‫الموضوع الذي يتناوله ‪ ،‬فل يــدع جانبــا منــه ال ويشــبعه بحثــا وبيانــا‬
‫لنه كتاب بلسان عربي مبين ‪ ،‬يعرب عن الحقائق بوضــوح ‪ ،‬وهنــاك‬
‫في هذا المجال فكرة خاطئة انتشرت لدى بعض المم المتخلفــة تقــول‬
‫ان الطاعــة مفروضــة علــى الرجــال ‪ ،‬امــا النســاء فعليهــن ان يكتفيــن‬
‫بطاعة اوليـاء امـورهن مـن آبـائهن ‪ ،‬او ازواجهـن ‪ ،‬والقـرآن الكريــم‬
‫يرفض هذا التصور ‪ ،‬ويقرر ان الطاعة مفروضة على الجميع رجال‬
‫كانوا ام نساء ‪ ،‬ول دخــل للعلقـات في هذا المجال ‪ ،‬فهــذه العلقــات‬
‫مرتبطة بالـدنيا ل بـالخرة ‪ ،‬فعنـدما يقــوم النسـان يــوم القيامـة لــرب‬
‫خ ِفــي‬
‫العالميـــن تنقطــع العلقــات والنســاب بيــن البشــر ‪َ } :‬ف ـِإَذا ُنِف ـ َ‬
‫ب َبْيَنُهْم { ) المؤمنــون ‪ ( 101 /‬؛ فالنسان يهــرب فــي يــوم‬ ‫سا َ‬ ‫صوِر َفل َأن َ‬‫ال ّ‬
‫القيامة حتى من زوجته وابيه وابنه وجماعته ‪.‬‬

‫ولذلك يقول الحديث الشــريف ‪ " :‬ل طاعــة لمخلــوق فـي معصــية‬
‫الخــالق " ‪ ،‬والقــرآن الكريــم يشــير الــى هــذه الحقيقــة فــي قــوله عــن‬
‫ســوَلُه {‬
‫لـ َوَر ُ‬ ‫ن ا َّ‬‫طْعـ َ‬
‫ن الّزَكــاَة َوَأ ِ‬
‫لَة َوَءاِتيـ َ‬
‫صـ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫الـنـســـاء ‪َ } :‬وَأِقْمـ َ‬
‫) الحزاب ‪ ، ( 33 /‬وقد قلت فيما سبق ان اهــم محــورين لثــوابت الشــريعة‬
‫الســلمية همــا ‪ :‬الصــلة والزكــاة ‪ ،‬وان اهــم محــور للمتغيــرات هــو‬
‫طاعة ال والرسول ‪.‬‬

‫التكامل ‪:‬‬ ‫الطاعة واثرها في‬


‫ان طاعة ال والرسول تنفعان النسـان فـي قضـية هـي مـن ابـرز‬
‫القضــايا الــتي يحتاجهــا النســان ال وهــي قضــية التكامــل ؛ فــاذا اراد‬
‫النسان الكمال ‪ ،‬واذا اراد ان يحدث تغيــر حقيقــي فــي ذاتــه فعليــه ان‬
‫يلــتزم جــانب الطاعــة ‪ ،‬لن الكــبر والغــرور همــا اعظــم حجــاب بيــن‬
‫النسان وبين الخلق الرفيع ‪ ،‬فكل انسان يضمر مـا اظهــره فرعــون ‪،‬‬
‫وقد وجد فرعون فرصة ان يدعي الربوبية ‪ ،‬فكل واحد منا يملــك فــي‬
‫داخله فرعونا ؛ فاعط النسان الولية ‪ ،‬وضع كرســيا تحتــه ‪ ،‬واجمــع‬
‫حوله عدة اشخـاص ‪ ،‬فانك سترى انه سينسى نفسه ‪ ،‬ويدعي الربوبية‬
‫كما ادعاها فرعون من قبل !‬

‫وتعتبر سورة التغابن من السور المهمة فـي القــرآن الكريــم ‪ ،‬وهــذه‬


‫السورة تبين للنسان كيفية عدم وقوعه في )الغبن( يوم القيامــة ‪ ،‬لن‬
‫هذا اليوم هو يوم الغبن ‪ ،‬ففيه يتأسف النسان ويندم على ما فــرط فــي‬
‫الــدنيا نتيجــة لغفلتــه وخصوصــا فــي ليــالي وســاعات شــهر رمضــان‬
‫المبارك ‪ ،‬فالشقي من حرم رضوان ال في هذا الشهر ‪ ،‬ولقد بعنا هذا‬
‫غبّنــا فــي‬
‫الشهر بالكلم التافه ‪ ،‬واللغــو ‪ ،‬واللهــو ‪ ،‬فكــانت النتيجــة ان ُ‬
‫ذلك اليوم ‪ ،‬فندمنا ولت حين مندم ‪ ،‬ولذلك فان هذه الســورة تقــدم لنــا‬
‫برنامجا للتسامي والتكامل فما هو هذا البرنامج ؟‬
‫التكامل ‪:‬‬ ‫بنود برنامج‬
‫‪:‬‬ ‫يقرر ‪ -‬تعالى ‪ -‬ان في هذا البرنامج عدة امور اهمها محوران‬

‫‪1‬ــ انتزاع حب الدنيا من القلب ‪ ،‬او ان يكون حب الدنيا في الدرجة‬


‫الثانية على القل بعد حب الخرة ‪.‬‬

‫‪2‬ــ الطاعة ؛ فــاذا اســتطعنا ان نوجــد فــي داخلنــا روح الطاعــة ‪،‬‬
‫والستجابة ‪ ،‬وننتزع من انفسنا الكبر والغرور والنانية والذاتية فاننــا‬
‫نكون بذلك قد بدأنا رحلة الصعود والنمو ‪ ،‬رحلة التخلص من الكبر ‪،‬‬
‫والعجب ‪ ،‬والتفاخر بالمظاهر المادية ‪ ،‬فان كــان لــدينا فخــر فلنــؤخره‬
‫الى يوم الحساب عندما ترجح اعمالنا الصالحة على السيئة ‪.‬‬

‫وفي آيات اخرى من هذه السورة المباركة يقول ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬يـآ‬


‫هْم {‬‫حـَذُرو ُ‬
‫عـُدّوا ّلُكـْم َفا ْ‬
‫لِدُكـْم َ‬
‫جُكـْم َوَأْو َ‬‫ن َأْزَوا ِ‬ ‫ن ِمـ ْ‬ ‫ن َءاَمنوا ِإ ّ‬ ‫َأّيَها اّلِذي َ‬
‫) التغابن ‪ ،( 14 /‬فقد يربي النسان في بيتـه ذئابـا فـاذا بـه يعمـل ‪ ،‬ويتعـب‬
‫نفسه دون ان يحصل على نتيجة بل انه قد يربي انسانا يسلب منه دينه‬
‫ودنياه ‪ ،‬وبالطبع فان المقصود ليس كل الزوجــات ‪ ،‬والولد ‪ ،‬ولكــن‬
‫ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬يطلــب مــن النســان ان ليسترســل ‪ ،‬ول يطيــع زوجتــه‬
‫واولده علــى حســاب قيمــه ومبــادئه خصوصــا وان حــب الزواج‬
‫والولد مترسخ في نفوسنا ‪ ،‬وهذه فتنة لنــا كمــا يقــول ‪ -‬تعــالى ‪} : -‬‬
‫ل َمــا‬
‫ظيٌم * َفاّتُقوا ا َّ‬‫عِ‬ ‫جــٌر َ‬‫عنَدُه َأ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫لُدُكــْم ِفْتَنــٌة َوا ُّ‬‫ِإّنَمآ َأْمَواُلُكــْم َوَأْو َ‬
‫عُتـــــْم { ) التغابن ‪. ( 16-15 /‬‬ ‫طْ‬‫سَت َ‬‫اْ‬
‫برنامج ‪:‬‬ ‫التقوى أفضل‬
‫والقرآن الكريم يشير هنا الى البرنامج الروحي والتربوي الذي على‬
‫طْعُتـــــ ـْم { ؛ اي ان‬‫سَت َ‬
‫ل ـ َمــــا ا ْ‬
‫النسان ان يلتزم به بقوله ‪َ }:‬فــاّتُقوا ا َّ‬
‫علينا ان نلتزم بالتقوى ما استطعنا الى ذلك سبيل ‪ ،‬وهذا هــو المحــور‬
‫الول في البرنامج التربوي ‪.‬‬

‫طيُعوا‬
‫سَمُعوا َوَأ ِ‬
‫اما المحور الثاني فيتمثل في قوله ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬وا ْ‬
‫{ ‪ ،‬وربما يقول احدنا متذرعا في هذا المجال انه لم يقرأ ‪ ،‬ولم يفهــم ‪،‬‬
‫ولم يدر ما قاله ال ‪ ،‬وما تحــدث بــه النــبي ) صــلى الـ عليــه وآلــه (‪،‬‬
‫وكيف خطط الســلم ‪ ،‬وبـــرمج القــرآن ‪ .‬وفــي هــذه الحالــة علينــا ان‬
‫نتعلم ‪ ،‬ونتفقه ‪ ،‬وال فلماذا منحنا الـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬نعمـة البصــار ‪،‬‬
‫والسماع ‪ ،‬والفهم ‪ ،‬والدراك المتمثلين في العقــل ؟ ‪ ،‬لقــد اعطاهـا لنـا‬
‫لنتعلم ‪.‬‬

‫خيرًا‬ ‫طيُعوا َوَأنِفُقوا َ‬ ‫ثم يستأنف السياق القرآني الكريم قائــــل ‪َ } :‬وَأ ِ‬
‫سُكْم { ) التغــابن ‪ ( 16 /‬واذا ما قمنــا بهــذا العمــل ‪ ،‬واســتطعنا ان نتقــي‬ ‫لنُف ِ‬
‫َ‬
‫ال ‪ ،‬ونسمـع ‪ ،‬ونطيع ‪ ،‬وننفق فستكون النتيجــة هــي مــا يشــير اليــه ‪-‬‬
‫ن { ) التغــابن‬
‫حو َ‬ ‫ك ُهُم اْلُمْفِل ُ‬‫سِه َفُأْوَلِئ َ‬
‫ح َنْف ِ‬
‫شّ‬‫ق ُ‬
‫تعالى ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬وَمن ُيو َ‬
‫‪ ( 16 /‬؛ اي ستكون النتيجـة ان نخــرج مـن شـح ذاتنـا ‪ ،‬هـذه الشــرنقة‬
‫المحيطة بنا ‪ ،‬لننطلق الى رحاب الفلح الذي يمثل ذروة الســعادة فــي‬
‫الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫حقائق حول اليمان‬

‫ان النظريات العلمية الـتي تـــحاول كشــف الحجــب والســرار عــن‬


‫بدء الحياة ‪ ،‬وكيفية سيرها نحو التطور والتكامل فــوق هــذه الرض ‪،‬‬
‫خرجت لنا بنتيجة هي زبدة النتائج ؛ وهي انهــا كشــفت لنــا جانبــا مــن‬
‫سنة ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬في تطور الحياة وتكاملها ‪.‬‬

‫ولــو افترضــنا ان هــذا التطــور والتكامــل يمثلن نظريــة متكاملــة ‪،‬‬


‫تتناول مختلف ابعاد الحياة فان هذا الفــتراض ل يتنــافى مــع خلصــة‬
‫الفلســفة اللهيــة ‪ ،‬اي وجــود الحــي القيــوم المهيمــن علــى التطــور ‪،‬‬
‫والحاجة المآسة اليه ‪.‬‬

‫دائمة ‪:‬‬ ‫حاجة‬


‫والبشــر ‪ -‬علــى مــر تــأريخهم ورغــم مــا خاضــوه مــن صــراعات‬
‫ومعتركات فكرية بين‬
‫فلسفتهم وعلمائهم ومفكريهم لم يستطيعوا ان يخرجوا بنظرية‪ -‬رغــم‬
‫انهــم قــد حــاولوا ذلــك مــرارا ‪ -‬تثبــت عــدم حاجــة النســان الماســة‬
‫والفطرية الى البارىء الخالق القيوم ‪ ،‬والمدبر المهيمن ‪ ،‬هذه الحاجــة‬
‫التي نعيشـها دائمـا ‪ ،‬ونحــس بهـا جميعـا فـي كـل لحظــة مـن لحظـات‬
‫عمرنا ‪.‬‬

‫ومع ذلك فان تلك النظريات العلمية تبقى مكملة للنظرية الدينية ‪ ،‬او‬
‫بعبارة اخرى ؛ الجناح الخــر الــذي يســتطيع النســان بــه وبالــدين ان‬
‫يحلق ويسمو في آفاق المعرفة ‪.‬‬

‫ومع كل ذلك فانه ما يزال هناك لغز غامض يشكل حجر عثرة امام‬
‫كل نظرية علمية تبحث في هــذا المضــمار ؛ هــو ســر تكــون الحيــاة ‪،‬‬
‫ونشــأتها الولــى ‪ ،‬وفــي هــذا المجــال اســتطاع العلمــاء مــن خلل‬
‫اختباراتهم وتحليلتهم وضع نظريات تفسر نشأة الرض ‪ ،‬واصلها ‪،‬‬
‫وكيف انها انفصلت عـن امهـا الشــمس ‪ ،‬ثــم كـانت الــزلزل الهائلـة ‪،‬‬
‫والتقلبات الحرارية اسبابا لتكون الجبـال والبحـار والسـهول ومختلـف‬
‫التضاريس الرضية ‪.‬‬

‫وهذه النظريــات قد تكــون صائبــــة او خاطئــــة مــادامت نظريــات‬


‫لحقائق وقوانين مجزوما بصحتها ‪ ،‬ولكن على فرض صــحتها يبقــى‬
‫السؤال الذي حير العلماء ‪ ،‬واتعبهــم ‪ ،‬ولم يجـــــدوا الجــواب الشــافي‬
‫لــه وهــو ‪ :‬كيف تكونت الخليــة الولــى وحســب ادعــــاء ان اصــــل‬
‫الحياة هــو مجــرد خليــة بسيطة ؟ ثم كيــف دبــت الحيــــاة فـي هــــذه‬
‫الخليــة ؟ ويبقــى ايضــا السؤال عن سر السرار وهو ‪ :‬مـا هو كنــه‬
‫هذه الحيـاة وما هــي حقيقتهــا ؟ وهذا ما عجز العلــم عــــن الجابــــة‬
‫عليـــه الى يومنــــا هــــذا رغــــم الخطـــوات الهائلــــة الجبــــارة الـــتي‬
‫خطاهــا‬
‫فــي مضمــار التقــدم ‪.‬‬

‫ربانيــة ‪:‬‬ ‫نعمــة‬


‫هذا في حين ان القرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة دائما فيقول ‪} :‬‬
‫حِييُكْم { ) الحج ‪ ، ( 66 /‬فمن اين لنا الحياة‬
‫حَياُكْم ُثّم ُيِميُتُكْم ُثّم ُي ْ‬
‫َوُهَو اّلِذي َأ ْ‬
‫لول هذه النعمة الربانية المتمثلة في جعل الميت حيــا ‪ ،‬والحــي ميتــا ؟‬
‫اننا نرى النسان يجمــع المــوال ‪ ،‬ويظلــم النــاس ‪ ،‬ويركــض ويلهــث‬
‫وراء الدنيا كي يبقى خالدا مـا امكنـه لكنـه لبـد مـن ان يصــطدم يومـا‬
‫بصخرة الجل ‪ ،‬وهو ما كتبه ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬الذي قهـر عبــاده بــالموت‬
‫والفناء مهما بلغوا مــن العظمــة والقــوة والمنعــة ‪ ،‬ومهمــا جمعــوا مــن‬
‫اموال وثروات ‪.‬‬

‫ان المجهولت الكثيرة مازالت تلف آفاق العلم الواسعة وخاصة في‬
‫مجال الطب ‪ ،‬والحياء‪ ،‬وعلــى ســبيل المثــال ل الحصــر فــان علمــاء‬
‫الطب والبيولوجيــا يقفــون اليــوم حيــارى امـام معرفــة اســرار مــرض‬
‫السرطان او المسمى ايضا بمرض فساد الخلية ؛ فما هي اســباب هــذا‬
‫الفساد ‪ ،‬ثم كيف تنتقل حالة الفساد هذه من خلية الى اخرى فتنتشر في‬
‫العضو ‪ ،‬او النســيج المصــاب ؟ ان هــذا هــو مــال يعرفــونه ‪ ،‬واذا مــا‬
‫قالوا شيئا فهو مجرد حدس وتخمين ‪.‬‬

‫الحياة ‪:‬‬ ‫سر‬


‫وعلى هذا فان سر الحياة في الخلية الواحدة ما زال غيــر مكشــوف‬
‫لحد الن فضل عن سرها في الوجود النساني ‪ ،‬والحلقة المفقودة بين‬
‫النسان والقرد باقية من ايام " دارون " وحتى يومنا هذا ‪ ،‬وليس لهــا‬
‫حل سوى ما بينه ‪ ،‬وصرح به القرآن الكريم اذ يقول بشأن كيفية خلق‬
‫ن { ) الحجــر ‪/‬‬
‫جِدي َ‬
‫ســا ِ‬
‫حي َفَقُعوا َلـُه َ‬
‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫خ ُ‬
‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬
‫آدم ‪َ } :‬فِإَذا َ‬
‫‪. ( 29‬‬
‫فالقرآن الكريم يؤكد ان هناك تحول نوعيا في حركة تكامل الحياة ‪،‬‬
‫وقد دخل هذا التحول في بناء النسان ‪ ،‬فهو وجــد كمــا ان الحيــاة هــي‬
‫الخرى وجدت بنفخة الهية وربانية ‪.‬‬

‫وهنا لبد من ان ابين حقيقــة مهمــة للغايــة وهــي ان الحيــاة تكــاملت‬


‫بصــورة تدريجيــة وطبيعيــة فــي الحيــاء المختلقــة ابتــداء مـــــن ذات‬
‫الخلية الواحدة ‪ ،‬وحتى اللبــائن المتطــورة ‪ ،‬فــي حيــن ان التكامــل فــي‬
‫النسان جعله ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬بصورة قفزة نوعية ؛ اي ان ال منحه‬
‫قفزة نوعية ثم اوكل اليه امر التكامل العقلي ‪ .‬فالنسـان عندما خلق لم‬
‫يخلــق بالمواصــفات الــتي تمتلكهــا بقيــة الحيوانــات ‪ ،‬والــتي تؤهلـــها‬
‫لمواجهة ظروف البيئة الطبيعية ‪.‬‬

‫العقل ‪:‬‬ ‫ميزة‬


‫على ان النســان خلــق بميــزة خاصــة تفــوق جميــع الميــزات وهــي‬
‫العقل ‪ ،‬فلقد منح النسـان العقـل الـذي بـه واجـه الطبيعـة ‪ ،‬وظروفهـا‬
‫القاســية ‪ ،‬بــل انــه كيفهــا لصــالحه ‪ ،‬وبهــذا العقــل طــار الــى رحــاب‬
‫الفضــاء ‪ ،‬وبــه طــوى المســافات الهائلــة ‪ ،‬وســبق الزمــن ‪ ،‬وانشــأ‬
‫الحضارات العريقة‪ ،‬والعمران الهائل على الرض ‪.‬‬

‫وهكذا فقد خلق النسان متكامل الخلقة ‪ ،‬وفي احســن تقــويم ‪ ،‬ومنــذ‬
‫تلك اللحظة خوطب ان لبد لك ايها النسان من ان تبلغ درجة الكمــال‬
‫بعد ان اعطيت الكمــال الجســمي ‪ ،‬وان تتعلــم وتفهــم وتبصــر وتــدرك‬
‫وتسمو بعقلك لكي تبلغ الكمال ما امكنك ‪ ،‬كمــا يشير الـى ذلك قــوله ‪-‬‬
‫عّل ـَم ِبــاْلَقَلِم { ) العلــق ‪. ( 4-3 /‬‬
‫لْك ـَرُم * اّل ـِذي َ‬ ‫كا َ‬ ‫تعــالى ‪ }: -‬اْق ـَرْأ َوَرّب ـ َ‬
‫فالنســان ليــس كــالحيوان الــذي ل حاجــة لــه الــى القــراءة والكتابــة‬
‫والتعلم ‪ ،‬فكل ما يملكه الحيوان من معرفة انما هو ذاتي فطــري ‪ ،‬فــي‬
‫حين ان النسان عليه ان يقرأ ويكتب ويتابع ويبحث لكي يتعلم ويفهم ‪.‬‬
‫فالمعرفــــة والعلــــم ليــس امــرا فطريــا وغريزيــا لــدى النســان ‪ ،‬بــل‬
‫يتحصل بـ ) القلم ( الذي يشير اليه ‪ -‬عز وجـل ‪ -‬في قـولـــه ‪ } :‬اّلـِذي‬
‫عَلْم { ) العلق ‪. ( 5-4/‬‬
‫ن َما َلْم َي ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬ ‫عّلَم ا ِ‬
‫عّلَم ِباْلَقَلِم * َ‬
‫َ‬
‫ومن عجائب دماغ النسان رغـم حجمـه الصــغير انـه يتسـع لمـا ل‬
‫نهايـة لــه مـن العلــم والمعلومـات ‪ ،‬ومهمـا عّمـر النسـان ‪ ،‬وبلـغ مـن‬
‫درجات العلــم والمعرفــة فــان دمــاغه ل يكــون قــد اســتنفد طاقــاته فــي‬
‫تحصيل العلم والمعرفة ‪ ،‬وهذه الحقيقة يشـهد بهـا العلمـاء الكبـار فهـم‬
‫يؤكدون ان النسان حين يموت لم يكن قد استثمر مــن طاقــاته العقليــة‬
‫سوى واحد بالمائة فقط ‪.‬‬

‫التحديات ‪:‬‬ ‫دنيا‬


‫أليس حريا بنا بعد ذلك ان نستخدم هذه الطاقــات الهائلــة الكامنــة فــي‬
‫ادمغتنا ‪ ،‬واذا تسنى لنا هذا الستخدام فكيف يمكن ان يكون ؟‬
‫الجواب علـى هـذا التسـاؤل نجـده فـي نظريـة التحـدي والسـتجابة‬
‫للتحدي والـتي مفادهـا ان النسـان يكـون فـي البـدء خـامل مـن حيـث‬
‫الطاقة العقلية والتفكير ‪ ،‬ولكنه حالما يصطدم بظروف الحياة المختلفة‬
‫تبدأ طاقات عقله بالتفتح ‪ ،‬فالنسان منـذ ان اعطي العقــل ‪ ،‬وراح هــذا‬
‫العقل يتفتح على الحياة كي يخــوض غمــار ظروفهـــا المختلفــة ‪ ،‬كــان‬
‫عليه ان يتحدى الزمن والظــروف الصــعبة ‪ ،‬والمشــاكل المحيطــة بــه‬
‫لكي تنمو قابلياته ‪ ،‬وتتفتح افكاره ‪ ،‬ولذلك كــانت دنيانــا هــذه هــي دنيــا‬
‫التحــديات والفعــال وردود الفعــال ‪ ،‬دنيــا ل بقــاء فيهــا ال للمتطــور‬
‫والمتفوق ‪.‬‬

‫والى يومنا هذا ما يزال هناك من البشر من يعيشــون حيــاة بدائيــة ؛‬


‫يكتســون بــأوراق الشــجر‪ ،‬ويصــطادون الحيوانــات بالرمــاح وربمــا‬
‫يأكلون لحومها نية ‪ .‬في حين نجد ان هناك شعوبا استطاعت ان تغزو‬
‫الفضاء بعقولها ‪ ،‬وتصل الــى القمــر ‪ ،‬وتصــنع العقــول اللكترونيــة ‪،‬‬
‫والفرق والختلف هو ان البشر البدائيين لم يســتجيبوا للتحــدي بعــد ‪،‬‬
‫فــي حيــن عــاش ذلــك النســان المتفتــح عقليــا حالــة التطــور والتقــدم‬
‫فتيسرت له سبل الحيـاة ‪ ،‬واضـمحلت امـام قـوته العقليـة الجبـارة كـل‬
‫الصعوبات ‪ ،‬والظروف القاسية ‪.‬‬

‫وهكذا فــان الحيــاة انمــا هــي لمــن يســتطيع ان ينمــي ويطــور نفســه‬
‫وينهض بوضعه الى ما هو افضــل ‪ ،‬ومــن هنـا ل يجــوز لنـا ان نلعــن‬
‫الزمن ‪ ،‬ولنلعن بدل من ذلك جمودنا وتقصــيرنا والــروح اللمســؤولة‬
‫فينا ‪ .‬فكل منا مسؤول عن نفســه ‪ ،‬فـاذا طـّور احــدنا نفسـه فـان الغيــر‬
‫سوف ل يســتطيع الســيطرة عليــه ‪ .‬فلغــة التحــدي والســتجابة للزمــن‬
‫وتحولته هي اللغة التي يجب ان نتحدث ونتسم بها ‪ ،‬وهي اللغة الــتي‬
‫يجب ان يفهمها كل مسلم في امتنا ‪ ،‬ذلك لن ال ـ ‪ -‬جــل وعل ‪ -‬حيــن‬
‫خلــق الــدنيا ‪ ،‬واوجــد الحيــاة ‪ ،‬جعــل لحركتهــا وســيرها سـّنة التطــور‬
‫والتكامل ‪ ،‬فاذا ما واكــب النســان هــذه المســيرة فــي الحيــاة فهــذا هــو‬
‫المطلــوب ‪ ،‬ولكنــه لــو شــاء ان يبقــى مكتــوف اليــــدي ازاء التطــور‬
‫والتحــول نــحو الفضل فلبد ان يصبح ضحية اولئك الذين‬
‫سبقوا الزمن ليتسلطوا على مقدراته وامكانياته ‪.‬‬

‫ان السلم ل يخاطب الطاغيــة بــل يخــاطب المظلــوم الــذي يــرزح‬


‫تحت جور هذا الطاغية ‪ ،‬ويطلب منه ان ل يسكت لكي ل يقع فريســة‬
‫الظلم ‪ ،‬فهو يخاطبه قائل ‪ :‬ل تكن عبد غيــرك وقــد خلقــك ال ـ حــرا ‪.‬‬
‫فلندع التأســف ‪ ،‬والبكــاء الــذي عشــناه طيلــة هــذه الســنين ‪ ،‬فــالحرى‬
‫والولى بنـا ان نجتمــع ونفكــر فــي كيفيـة علج مشاكلنــــا ‪ ،‬وتغييـــــر‬
‫نفوسنـــا ‪ ،‬والبـــدء بتـأريـخ جديد مشرق في حياتنا ‪ ،‬فال ‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫هدانا الى الطريق في القرآن ‪ ،‬ومنحنا العقــل ‪ ،‬فلنحمــل جميعــا اعبــاء‬
‫مسؤوليتنا الكبرى ‪ ،‬ولنجدد الهمم والعزائم ‪.‬‬

‫هـّم عظيم ‪:‬‬


‫وعندما يحمل النسان قضية كبرى فانه يحمل في نفس الوقت همــا‬
‫عظيما ‪ ،‬على ان ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬سوف ل يتركه وحيــدا بــل ســيعينه‬
‫عندما يرى فيــه الجــد والعــزم والطمــوح والتطلــع ‪ ،‬امــا عنــدما يخلــق‬
‫النسان لنفسه نظرية ‪ ،‬او مجموعة نظريات ل تمت بأدنى صــلة الــى‬
‫الدين والحضارة ‪ ،‬فعليه ان ل يتوقع العون والمــداد اللهــي الغيــبي ‪،‬‬
‫لنه سيكون في هذه الحالة موضع سخط ال ‪.‬‬

‫فلنكن جديين ‪ ،‬ولنتحل بالروح الطموحة المثابرة ‪ ،‬وهذا هو القرآن‬


‫الكريم يدعونا فــي ســورة البلــد المباركــة الــى احــداث هــذا النقلب ‪،‬‬
‫والتغيير في انفسنا ‪ ،‬حيث يبدأ ‪ -‬سبحانه ‪ -‬هذه السورة بالقسم قائـــــل‬
‫سُم ِبَهـَذا اْلَبَلـِد { ) البلــد ‪ ( 1 /‬والمــراد بالبلــد هنــا البلــد الحــرام ‪،‬‬
‫‪ } :‬ل ُأْق ِ‬
‫وربما كل بلد وحضارة ‪ .‬فــالتعبير هنــا ليــس اعتباطيــــا ‪ ،‬فكــل بلــد او‬
‫حضــارة بحاجة الى مقومات حضارية ‪ ،‬فالحضارة ل‬
‫تخرج الى الوجود تلقائيا بل بفعل عوامل ومقومات معينة ‪.‬‬

‫ل ِبَهـَذا اْلَبَلـِد * َوَواِلـــٍد َوَمـــا‬


‫حـ ّ‬
‫ت ِ‬
‫ثــم ينتقــل السياق قائــل ‪َ } :‬وَأن َ‬
‫َوَلــَد { ) البلد ‪ ( 3-2 /‬ومـن المعـلــوم ان الــــولدة لتتــم ال بعد تحمــــل‬
‫التعب والرهــاق ‪ ،‬وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يقسم بالبلد الــذي لــم يوضــع فيــه‬
‫حجر على اخر إل بصعوبـة ‪.‬‬

‫سا َ‬
‫ن‬ ‫لن َ‬‫خَلْقَنا ا ِ‬
‫ثم يستمر السياق الكريم ليؤكد الحقيقة السابقة ‪َ } :‬لَقـْد َ‬
‫ِفي َكَبـٍد { ) البلــد ‪ ( 4 /‬فالنســان محــاط بالصــعاب والمعانــاة والتحــديات‬
‫واللم الكثيرة ‪ ،‬فلقد خلقه ال واحاطه بهــذه الظــروف ليظهــر حقيقــة‬
‫معــدنه ‪ ،‬وليجعــل منــه بطل فــي ســاحة الصــراع ‪ ،‬ولــذلك كــان لبــد‬
‫للنسان مـن ان يجهــد عقلـــه ‪ ،‬ويوســع آفــاق فكــره ‪ ،‬ويبعــث الحركــة‬
‫المســتمرة ‪ ،‬والنشــاط فــي عقلــه ‪ ،‬بــل ويشــحن بالحركــة والهمــة كــل‬
‫وجوده وكيانه ‪.‬‬

‫د { ) البلد ‪( 5 /‬‬ ‫حٌ‬‫عَلْيِه َأ َ‬


‫ب َأن َلن َيْقِدَر َ‬ ‫س ُ‬ ‫حَ‬ ‫ثم يتساءل السياق مذكرا ‪َ } :‬أَي ْ‬
‫فقد يتصور النسان انه في امان من تلك الصعاب والتحديات في حين‬
‫ان هذا المان لن يحصل عليه ال بقوته بعد التوكل على ال ‪ ،‬وبهذين‬
‫الشرطين الساسيين ينال النسان المن والعافية ‪.‬‬

‫وبعد ذلــك يقــول ‪ -‬عــز مــن قــائل ‪ -‬مؤنبــا ‪ ،‬ومــذكرا ببعــض النعــم‬
‫شَفَتْي ِ‬
‫ن‬ ‫سانًا َو َ‬ ‫ن * وَِل َ‬ ‫عْيَنْي ِ‬
‫جَعل َلُه َ‬
‫العظيمة التي وهبها للنسان ‪َ } :‬أَلْم َن ْ‬
‫ن { ) البلــد ‪ ( 10-8 /‬فلماذا اعطــي النســان العينــان ‪،‬‬ ‫جَدْيــ ِ‬
‫* َوَهَدْيَنــاُه الّن ْ‬
‫ألرؤية الطريق المستقيم أم السقوط في الهاوية ؟ وكذلك الحال بالنسبة‬
‫الى اللسان والشفتين وفوق كل ذلك العقل الذي خص بنعمــة الختيــار‬
‫والحرية ‪ ،‬ترى من اجــل اي شــيء اعطــي النســان كــل هــذه النعــم ‪،‬‬
‫أليس من اجل ان يقتحم ويخوض غمار هذه الحيــاة ؟ كما يشــير الـــى‬
‫عَقَبـُة {‬‫ك َمـا اْل َ‬ ‫حَم اْلَعَقَبَة * َوَمـآ َأْدَرا َ‬
‫ل اْقَت َ‬ ‫ذلك قوله ‪ -‬جل شأنه ‪َ } : -‬ف َ‬
‫) البلد ‪. ( 12- 11 /‬‬
‫والقرآن في هذه الية يضرب مثل يستثير بــه همــة النســان ؛ فهــو‬
‫عندما يريد ان يتسلق جبل فلبد له من اقتحام العقبــات الــتي تعــترض‬
‫طريقه ‪ ،‬بأن يجتهد ويستجمع قواه ويهيء نفسه لهذا القتحام ‪ ،‬وكذلك‬
‫الحال بالنسبة الى النسان الــذي يريــد ان يحيــى فــي هــذه الــدنيا حيــاة‬
‫اليمان ‪ ،‬فمثل هذه الرادة ليست كلمة يرددها اللسان بــل هــي اعتقــاد‬
‫في القلب يتجسد عمل وبذل وعطاء ‪.‬‬

‫إقتحام الصعاب ثمن الجنة ‪:‬‬


‫ان اليمان هو حيوية وفاعلية وروح اقتحامية وتحد ‪ ،‬وال ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬عنــدما خلــق الجنــة والنعيــم ومــا فيهمــا مــن ملــذات ل يمكــن ان‬
‫يتصــــورها العقـــل ‪ ،‬لــم يخلقهــا ال لــذوي الهمــم ‪ ،‬والعــزم الراســخ ‪،‬‬
‫والبطال الذين يقتحمون الصعاب ‪ .‬اما الجبناء المنهزمون فليــس لهــم‬
‫نصيب يذكر من هذا النعيم ‪ .‬فالذين يمنون انفسهم ويعيشون على هــذه‬
‫التمنيات ل يشمون حتى نسيم الجنــة ‪ ،‬فلبــد مــن دفــع الثمــن ال وهــو‬
‫س ـُهْم َوَأْم ـَواَلُهم ِب ـَا ّ‬
‫ن‬ ‫ن َأْنُف َ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫شَتَرى ِم َ‬
‫لا ْ‬
‫نا ّ‬ ‫اقتحام العقبات ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫جّنَة { ) التوبة ‪. ( 111 /‬‬
‫َلُهُم اْل َ‬
‫ففيما مضى كانت قيمة العبد كقيمة اثاث المنزل ومن العقبــات الــتي‬
‫ة { ) البلــد ‪( 13 /‬‬ ‫ك َرَقَبـ ٍ‬‫يشير اليها القرآن الكريم هــي تحريــر العبيــد } َفـ ّ‬
‫يشترى ويباع ‪ ،‬وتمنع حريته بكل اشكالها ‪ ،‬ولذلك فان انقاذ هذا العبــد‬
‫‪ ،‬وعتقه ‪ ،‬واطلق حريته كان يعــد مــن العمــال العظيمــة عنــد الـ ‪،‬‬
‫وفي مواضع عدة من القرآن شهادات على عظمة هــذا العمــل وثــوابه‬
‫الجزيل ‪ ،‬كما كان دأب ائمتنا ) عليهم السلم ( في نيل الثواب اللجــوء‬
‫الى هذه الوسيلة ‪.‬‬
‫اما اليــوم حيث تبدلت الظروف ‪ ،‬وتغيرت معها سبل استعباد الناس‬
‫‪ ،‬فان الناس ل يستعبدون كأفراد بــل كجماعــــات وشــعوب تسترقهـــا‬
‫مجموعة من الحكام الطغــاة ‪ ،‬ونحن بأمكاننــا ان نساهم بتضحياتنـا ‪،‬‬
‫وبـــذل اموالنـــا ‪ ،‬ودمائنـــا فـــــي انقـــاذ شـــعوب الرض المستعبـــــدة‬
‫والمضطهــدة مــن نيــر الطغـاة وتسلطهم واستغللهــم ‪.‬‬

‫سـَغَبٍة *‬ ‫طَعــاٌم ِفـي َيـْوٍم ِذي َم ْ‬‫ثم ينتقل السياق الكريم قـائل ‪َ } :‬أْو ِإ ْ‬
‫س ـِكينًا َذا َمْتَرَب ـٍة { ) البلــد ‪ ( 16-14 /‬وهــذه صــورة‬ ‫َيِنيم ـًا َذا َمْقَرَب ـٍة * َأْو ِم ْ‬
‫ومجالت اخرى يتقرب بهــا النســان الــى ربــه ‪ ،‬وينـال بهـا رضــاه ‪،‬‬
‫ولكن السعي في الخير والخيرات ل ينتهــي الى هــذا الحد بـــل يجــب‬
‫ن اّلـِذي َ‬
‫ن‬ ‫ن ِمـ َ‬
‫الستمرار فيه كمــا يشعر بذلك السياق التــالي ‪ُ } :‬ثـّم َكــا َ‬
‫ة { ) البلد ‪( 17 /‬‬
‫حَم ِ‬
‫صْوا ِباْلَمْر َ‬
‫صْبِر َوَتَوا َ‬
‫صْوا ِبال ّ‬
‫َءاَمُنوا َوَتَوا َ‬
‫ان الصبــــر والتواصــــي بـــه يعتبـــــران مــن القضـايـــا الـبـالـغـــة‬
‫الهمية ‪ ،‬والبعض ‪ -‬للسف ‪ -‬يقوم من حيث يشعر او ل يشــعر اثنــاء‬
‫عمله وحركته الجهادية بنشر الــروح الســلبية المثبطــة فــي المجتمــع ‪،‬‬
‫والقرآن هنا ينهى عن هذه الحالة من خلل المر بالتواصي بالصبر ‪،‬‬
‫ولذلك ينبغي علــى النســان المجاهــد ان يوصــي اخــوانه بالصــبر فــي‬
‫احلك الظروف ‪ ،‬والى اخر خطوة في المسـيرة الجهاديـة ‪ ،‬ويشــجعهم‬
‫على الثبات والستقامة ‪.‬‬
‫ثــم بعـد الصبــر تأتــي المرحمــة والتواصــي بهـا ؛ اي التواصــي‬
‫بالتراحم والمـودة‬
‫بين الناس ‪ ،‬والعطاء واليثار من اجلهم فــي ايــام الســلم ‪ .‬ثــم يواصــل‬
‫السياق مسيره ليبين درجــة هؤلء الذيـن يعملــون بــهذه المجمــــوعة‬
‫مـن الوصــايا ‪ ،‬ويجــسدونها في واقعهــم المعــاش فيقــول ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫ة { )البلد ‪( 18 /‬‬
‫ب اْلَمْيَمَنــ ِ‬
‫حا ُ‬
‫صَ‬‫ك َأ ْ‬
‫‪ُ } :‬أْوَلِئ َ‬

‫المشأمة ‪:‬‬ ‫مصير اصحاب‬


‫ثم يتوالى السياق الكريم ليصف الصنف الثاني من النــاس ‪ ،‬والــذين‬
‫هــم فــي صــفاتهم ‪ ،‬وســلوكهم يقفــون فــي الضــد مــن الصــنف الول ‪:‬‬
‫صـَدٌة {‬
‫عَلْيِهـْم َنــاٌر ُمْؤ َ‬
‫شـَأَمِة * َ‬
‫ب اْلَم ْ‬
‫حا ُ‬ ‫صـ َ‬
‫ن َكَفُروا ِبَاَياِتَنا ُهْم َأ ْ‬
‫} َواّلِذي َ‬
‫) البلد ‪ ( 20-19 /‬فالذين يطعنون بعمل الخرين وجهــادهم ‪ ،‬ويكــذبونهم ‪،‬‬
‫ويّدعون ان رسالتهم انما هي مجموعة دعايات وخرافات وأســاطير ‪،‬‬
‫فانهم سيدخلون دهــاليز تتأجـج فيهـا نيــران حاميـة حيــث تغلـق عليهــم‬
‫البواب ‪.‬‬

‫وفي الحقيقــة فان حديث اهل جهنم حديث طويل عريض كما يفصله‬
‫القـرآن في الكثـيـر من ســوره وآيـاته ‪ ،‬ومــن تلــك الصــور الـتي يـألم‬
‫النسان لسماعها هي انهـم ينــادون خــازن النار مالكــــا فيقولــون ‪} :‬‬
‫ك { ) الزخــرف ‪ ( 77 /‬فل يجيبهــم ويبقــون علـــى‬ ‫عَلْيَنا َرّبــ َ‬‫ض َ‬‫ك ِلَيْق ِ‬‫َيــاَماِل ُ‬
‫هذا الحال سبعين الف ســنة ‪ ،‬وبعــد كــل هــــذه الفــترة الطويلــــة يــأتي‬
‫ن { ) الزخرف ‪. ( 77 /‬‬ ‫ل ِإّنُكم ّماِكُثـــو َ‬
‫الجواب من مالك فيقول ‪َ } :‬قا َ‬
‫ثــم يطلبــون مـن خــازن النــار ان يــأذن لهــم بالبكـاء علــى انفســهم ‪،‬‬
‫فيستأذن مالك ربه لهم ‪ ،‬فيأذن لهم الـ ‪ ،‬فيشــرعون بالبكــاء ‪ ،‬ويبقــون‬
‫على هذه الحالة آلفا اخرى من السنين ‪ ،‬ثم يفصـــل كــل واحــد منهــم‬
‫عن الخر ‪ ،‬ويوضــع فــي غرفــة مــن غــرف جهنــم ‪ ،‬وتوصــد عليهــم‬
‫البواب ‪ ،‬فل يتكلمون فيما بينهم ‪ ،‬ول يكلمون مالكا ‪ ،‬ول احـــدا مــــن‬
‫الخـلـــق ‪ ،‬فينساهم النـــاس‪ ،‬وينساهم الخالق ‪ ،‬وهذا هو المراد من‬
‫قوله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في الية السابقة ‪:‬‬

‫صَدٌة { ) البلد ‪. ( 20 /‬‬


‫علَْيِهْم َناٌر ُمْؤ َ‬
‫} َ‬

‫من وحي اليمان‬

‫مــن المعلــوم انــه ل ارادة فــــوق ارادة الـ ‪ -‬تقدســت اســـماؤه ‪، -‬‬
‫ول يمكن ليــة حادثه ان توقف مشيئته المطلقـــــة فـي الكـون ‪ ،‬وقــــد‬
‫اقتضــت ارادته ان يظهــر ديــن الحــق علــى الديــــن كــــله ‪ ،‬ولمــــا‬
‫كانت المــور لتجــــري ال وفـــــق اسبابهــــــا فقــــد شــــاءت الرادة‬
‫اللـهيـــــة ان تتمثـــــل هـــذه السبـــــــاب فـــــي المؤمنيـــــن الــذيـــــن‬
‫سيتحقــق ‪ -‬بــإذن ال ‪ -‬علــى ايديهــم ظهــور الديــن الــحــق ‪.‬‬

‫المؤمنين ‪:‬‬ ‫صفات‬


‫وسنحاول فيما يلي وبالستناد الى اليات القرانية ان نذكر صفات‬
‫هؤلء المؤمنين عبر النقاط التالية ‪:‬‬
‫‪1‬ــ التقـوى ‪:‬‬

‫وفي هذا المجال يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬وَأْلَزَمُهْم كَِلَمـَة الّتْقـَوى‬


‫عِليم ـًا { ) الفتــح ‪ ، ( 26 /‬وقــد‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬
‫ل َ‬ ‫ل ِبُك ّ‬
‫ن ا ُّ‬
‫ق ِبَها َوَأْهَلَها َوَكا َ‬
‫حّ‬‫َوَكاُنوا َأ َ‬
‫جاءت هذه الصفــة في مقابــل الصفة التي اشار اليها ‪ -‬تـعـــالى ‪ -‬فــي‬
‫هِلّيـِة {‬
‫جا ِ‬
‫حِمّيـَة اْل َ‬
‫حِمّيـَة َ‬ ‫ن َكَفـُروا ِفــي ُقلــوِبِهُم اْل َ‬ ‫ل اّلـِذي َ‬‫جَعـ َ‬
‫قوله ‪ِ } :‬إْذ َ‬
‫) الفتح ‪ ، ( 26 /‬فقد كان الجاهليون ينتصرون بدافــع الحمية لذويهم سواء‬
‫كانوا ظالمين أم مظلومين ‪ ،‬اما التقوى فانها تدعونا الى ان نمـد ايــدينا‬
‫لنتضامن مع كل انسان هو في مستوى التقوى أيا كان انتماؤه القــومي‬
‫‪.‬‬

‫‪2‬ــ الشدة مع الكفار ‪ ،‬واللين مع المؤمنين ‪:‬‬


‫فالنسـان المـؤمن يتعامـل مـع الكـافرين تعـامل حــديا ‪ ،‬ومـن جهـة‬
‫اخرى نراه يعتمد الرحمة والتسامح واليثار مع اخوانه المؤمنـين كما‬
‫حَمــآُء َبْيَنُهـْم‬
‫عَلى اْلُكّفاِر ُر َ‬
‫شّدآُء َ‬
‫يشير الى ذلك ‪ -‬تعالى ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬أ ِ‬
‫{ )الفتح ‪. ( 29 /‬‬
‫والرحمة ليســت ال درجــة رفيعــة مــن الشــفقة ‪ ،‬واذا مــا ارتفعــت‬
‫العلقة من المستوى العاطفي الى العقلي عبر عنها بـ )الرحمة( ‪ ،‬فان‬
‫اراد الواحد منــا ان يمــت الــى اليمــان بصــلة فلبــد مــن ان يعقــد مــع‬
‫اخوته المؤمنين صلة الرحمة ؛ فيســهر علــى مصــالحهم ‪ ،‬ويفكــر فــي‬
‫آلمهم ومشاكلهم ‪ ،‬ويعيش واقعهم ‪.‬‬
‫‪3‬ــ العبادة المتواصلة ‪ ،‬وابتغاء رضوان ال ‪:‬‬
‫ويشير ‪ -‬عـز وجــل ‪ -‬الى هذه الصفــة في قولـه ‪َ } :‬تَراُهْم ُرّكعـــًا‬
‫جـــدًا‬
‫سّ‬ ‫ُ‬
‫ضـَوانًا { ) الفتــح ‪ ، ( 29 /‬فـالمؤمنون ومـن اتبـع‬
‫ل َوِر ْ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ل ِم َ‬
‫ضً‬‫ن َف ْ‬‫َيْبَتُغو َ‬
‫سيرتهم وانتهج نهجهم تجدهم دائما في حالة ركوع وسجود ل ـ وحــده‬
‫ل من اجــل الريــاء بــل مــن اجــل ان يطلبــوا الفضــل والرضــوان مــن‬
‫بارئهم ‪.‬‬

‫‪4‬ــ النتصار للحق ‪:‬‬


‫ان المؤمــن الحقيقــي هو الــذي ينتصر ل ورسوله ‪ ،‬وينتزع الحق‬
‫من الغاصبيـن له ‪ ،‬وهو الذي يضـــع يــده علـى الزنــاد وجبهته على‬
‫التراب وقلبه متصل برب العــزة ‪.‬‬

‫مهمة ‪:‬‬ ‫حقائق‬


‫وفــــي هــــذا الصــدد ‪ -‬اي فـــي صــدد ضــرورة ان يتمتــع النســان‬
‫المؤمن بالمواصفات السابقة ‪ -‬لبد من التذكير بحقائق مهمة هي ‪:‬‬

‫‪:‬‬ ‫اول ‪ :‬تحقيق الستقلل الحقيقي‬


‫وهذا الستقلل ليمكـن تحقيقـه ال باليمـان ‪ ،‬لن النســان الفاقــد‬
‫لليمــان ليــس بمقــدوره ان يقــاوم ضــغوط الحيــاة وإرهــاب الطغــاة ‪،‬‬
‫وبالتالي فانه يعجز عن الحفاظ علــى استقللــــه لنــه فــي هــذه الحالــة‬
‫سيحــاط بالهزيــمة من كل جــانب ‪ ،‬فالســتقلل الحقيقــي ليتحقــق ال‬
‫من خلل العمل الجاد ‪ ،‬والسعــي الدؤوب النابعين من المل ‪ ،‬والثقــة‬
‫بالنفس ‪ ،‬وعدم الستهانة بالطاقات والقدرات التي نتمتــع بهــا ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬السرعة واختصار الزمن ‪:‬‬

‫من المعلــوم اننا نعيش اليوم في عصر يتميز بالســرعة والتســابق‬


‫مـن اجــل تحقيــق‬
‫التقدم العلمي ‪ ،‬كما اننا نعيش عصــرا يقتضــي مــن المجتمــع البشــري‬
‫التعاون والتضامن من أجل تحقيق المصالح المشتركة ‪.‬‬

‫وللسف فان هناك طائفة من الناس ماتزال تقبع في اوكـار فكريـة‬


‫تعود الى الماضي في حين اننا لبد ان نعرف قيمة الزمن الذي نعيشه‬
‫‪ ،‬ونضــع نصب اعيننـا قول المام علي ) عليــه الســلم ( ‪ " :‬مــن لــم‬
‫يكن في زيادة كان في نقصان ومن كان في نقصان فالموت اولى به "‬
‫‪ ،‬فان كنا في حالة نقصان فان الذلة والمسكنة سوف تلزماننا ‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫ثالثا ‪ :‬استغلل الفن في التبليغ‬


‫ان هناك افقين للتقدم ؛ احدهما يشمل التقدم العلمــي ‪ ،‬والخــر هــو‬
‫الفن الذي يعتبر اداة فاعلة من ادوات نشر الفكر الرسالي ‪.‬‬
‫وللسف فاننا نعيش اليوم حالة شحة الفن الرسالي ؛ فأين هو الشعر‬
‫الذي يلهم حماس الجماهير ‪ ،‬وأين المسرح الذي ينبغي ان يــدافع عــن‬
‫قضايا المظلومين ‪ ،‬واين القصة ‪ ،‬وكتب الطفال ‪ ....‬؟‬
‫ان فــي ارجــاء العــالم الســلمي عشــرات اللف مــن القصــص‬
‫المأساوية والبطولية التي تصلح لن تكون مادة قيمــة لتغذيــة العمــال‬
‫الفنية ‪ ،‬وبامكانها ان تعطي زخمـا حضـاريا للمـة السـلمية ‪ ،‬فـالفن‬
‫يجب ان يدخـــل اليوم ساحة الصراع ضد الجاهلية ‪ ،‬وان يتحول الى‬
‫ســلح لتوعيــة الجماهيــــر ‪ ،‬وتنبيههــا الــى المخــاطر المحدقــة بهــا ‪،‬‬
‫والمؤامرات التي يحوكها ضدها اعداء السلم ‪ ،‬وبالتــالي فــانه يجــب‬
‫ان يكون سلحا لتوعية الجماهير واستنفارها ‪ ،‬ووســيلة لبنــاء صــرح‬
‫الستقلل الذي يعتبر بدوره جزء ليتجزأ من صرح التوحيد الشــامخ‬
‫‪.‬‬ ‫الذي تتميز به الرسالة السلمية‬

‫الصفات المثلى للمؤمنين‬


‫ت َرّبِهمْ‬ ‫ن ُهم ِبَاَيا ِ‬‫ن * َواّلِذي َ‬ ‫شِفُقو َ‬
‫شَيِة َرّبِهم ُم ْ‬‫خْ‬‫ن َ‬ ‫ن ُهــم ِم ْ‬ ‫ن اّلِذيــ َ‬
‫} ِإ ّ‬
‫ن َمآ َءاَتــْوا‬ ‫ن ُيْؤُتو َ‬
‫ن * َواّلِذي َ‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫ل ُي ْ‬
‫ن ُهم ِبَرّبِهــْم َ‬‫ن * َواّلِذيــ َ‬ ‫ُيْؤِمُنــو َ‬
‫ن ِفــي‬ ‫عو َ‬ ‫ســاِر ُ‬
‫ك ُي َ‬
‫ن * ُاْوَلِئ َ‬
‫جُعـــــو َ‬ ‫جَلٌة َأّنـُهْم ِإَلى َرّبِهــــْم َرا ِ‬
‫َوُقُلوُبُهــْم َو ِ‬
‫سـَعَها َوَلَدْيَنــــا‬
‫ل ُو ْ‬‫ف َنْفســـًا ِإ ّ‬‫ل ُنَكّلـ ُ‬
‫ن * َو َ‬ ‫ساِبُقــــو َ‬
‫ت َوُهـْم َلَهــا َ‬ ‫خْيـَرا ِ‬‫اْل َ‬
‫ن{‬ ‫ظَلُمــو َ‬
‫ل ُي ْ‬
‫ق َوُهــْم َ‬ ‫حّ‬ ‫ق ِباْل َ‬‫طــ ُ‬‫ب َين ِ‬‫ِكَتا ٌ‬
‫) المؤمنون ‪( 62 - 57 /‬‬

‫اليـــــات القرآنيــــة الكريــمــــة النفــــة الــذكر تحــوي بيــن طياتهــــا‬


‫صفــات مثلــى ل يبلغهــا إل الـمــؤمنــون ‪ ،‬بــل الصديقــــون منهــــم‬
‫فقــط ؛ ذلــك لن للكمــال درجــات ومراحل ‪ ،‬والقليــــل مــن النــــاس‬
‫يتمكنــون من الوصــول الــى بعضهــا ‪.‬‬
‫من معاجز اليمان ‪:‬‬
‫ومن معاجز اليمان ‪ ،‬وآيات الصدق في رسالت ال ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬
‫‪ ،‬وبالتالي آيات ودلئل صدق رسل ال الى البشرية ‪ ،‬انهم اســتطاعوا‬
‫ان يصنعوا أناسا بلغوا أعلـى مراحـل اليمـان ‪ ،‬ووصـلوا الـى أسـمى‬
‫درجات الصفات الحسنى ‪ .‬وعلى سبيل المثال فان تربية رسول ال ـ )‬
‫صلى ال عليه وآله ( ‪ ،‬لشخص كالمام علــي ) عليــه الســلم ( كــانت‬
‫آيـة وحجة على صدق الرسالة ‪ ،‬ولــذلك قــرر بعـض العلمـاء ان عليـا‬
‫) عليه السلم ( كان معجزة النبي ) صلى ال عليه وآله ( ‪ ،‬بالضــافة‬
‫الى ان النبي نفسه كان اعجاز الرسالة اللهية ‪ ،‬وان حياته الشخصــية‬
‫منها والجتماعية والسياسية تعتبر مــن أســمى آيــات الكمــال والجمــال‬
‫والجلل ‪.‬‬
‫ونـحن عندما نتلو بعض آيات القرآن الكريم التي تستعرض صفات‬
‫المؤمنين العليا ‪ ،‬فان البعض من أصحاب العقول الضــيقة يزعــم انهــا‬
‫مجموعة تمنيات ل تتحقق إل في عالم الحلم ‪ ،‬ولكننــا لــو عــدنا الــى‬
‫التاريــخ ‪ ،‬وقرأنــا ســيرة النبيــاء العظــام ‪ ،‬والئمــة الطهــار ) عليهــم‬
‫السلم ( ‪ ،‬والعلماء ‪ ،‬والصالحين ‪ ،‬فاننا سوف ل نعــرف فقــط صــدق‬
‫هذه اليات وانما نزداد ايضا ايمانا وتصديقا برسالت ال ـ ‪ -‬ســبحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬التي صنعت هذه النماذج العظيمة ‪.‬‬

‫الخشية من الخالق ‪:‬‬


‫وفـــــي هــــذا المــجـــال ‪ -‬مجــــال اســتعراض الصفـــــات المثلــى‬
‫شِفُقو َ‬
‫ن‬ ‫شَيِة َرّبِهم ُم ْ‬
‫خْ‬‫ن َ‬
‫ن ُهم ِم ْ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫للمؤمنيــن يقـول ‪ -‬سبحانه ‪ِ } : -‬إ ّ‬
‫{ ؛ اي ان قلــوبهم وجلــــة ‪ ،‬ونفوسهـــم ملى بالخـــــوف ‪ ،‬حيــث قــد‬
‫انتشرت في ارجائها الخشيــة من‬
‫ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪. -‬‬
‫وقد ورد في هذا المضمار عن الحرث بن المغيــرة ‪ ،‬عن أبي عبــد‬
‫ال ) عليه السلم ( قال ‪ :‬قلت لــه ‪ :‬مــا كــان فــي وصــية لقمــان ؟ قــال‬
‫) عليه السلم( ‪ " :‬كان فيها العاجيب ‪ ،‬وكان اعجب ما كان فيهــا ان‬
‫قال لبنه ‪ :‬خـف الـ خيفـة لـو جئتـه بـبر الثقليـن لعـذبك ‪ ،‬و ارج الـ‬
‫رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك " ‪.‬‬

‫معرفة ال ‪:‬‬
‫ومــن المعلــوم ان هــذا المســتوى مــن الرجــاء والخشــية مــن رب‬
‫العالمين انما هو ناجم من معرفــة الـ ‪ ،‬ونحــن عنــدما ل نتحســس فــي‬
‫انفسنا خشية الباري ‪ -‬تعالى ‪ -‬فلننا لم نؤت معرفته ‪ ،‬ولــم نصــل فــي‬
‫معرفتنا به الى أدنى حدودها ‪ ،‬اما العارفون بــال ‪ ،‬الــذين تمكنــوا مــن‬
‫الوصول الى ذلك النور البهي ‪ ،‬فانهم ل يتكلفون الخشية لنها تصــبح‬
‫جزء من ذاتهم ‪.‬‬
‫ومن يعرف جلل الـ ‪ ،‬وعظمتــه ‪ ،‬وقــدرته ‪ ،‬واســماءه الحســنى ‪،‬‬
‫ويتصل قلبه بنوره ‪ ،‬فــانه ل يســعه ال ان يــذوب فــي العبــادة ذوبانــا ‪،‬‬
‫فيشتاق الى اداء الصلة اشــتياق يعقــوب الـى يوســف ‪ ،‬ذلــك لن قلبــه‬
‫المليء بمعرفة ال ‪ -‬جل جلله ‪ -‬ل يدعه يسكن ويركن الى هذه الدنيا‬
‫الدنية ‪ ،‬وبناء على ذلك فان تهجده في الليل ‪،‬‬
‫وصومه عــن ملــذات الــدنيا ‪ ،‬وزهــده ‪ ،‬ورغبتــه فــي الخــر كــل ذلــك‬
‫يصبح جزء ل يتجزأ من ذاته ‪.‬‬
‫وهذه الحالة تنسجم مع طبيعة المعرفة ‪ ،‬وبالتالي فانها تمثل سنة ال‬
‫في معرفة النسان بربه ‪ ،‬ولذلك نرى الية الكريمة تصــف المــؤمنين‬
‫بالشفاق ‪.‬‬
‫اليمان والتوحيد ‪:‬‬
‫ن{‪.‬‬
‫ُيؤِْمُنــو َ‬ ‫ت َرّبِهمْ‬
‫ن ُهم ِبَاَيا ِ‬
‫ثم يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬واّلِذي َ‬
‫فاذا ابصروا آية من آيات ال فانهم ل يمــرون عليها مرور البسطاء‬
‫‪ ،‬ول يعرضـــون عنهــا اعـــراض الجـــاهلين ‪ ،‬بـــل يتعمقـــون فيهـــا ‪،‬‬
‫وينظرون من خللها الى وجه ال الكريم ‪.‬‬
‫وتوحيد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬عند هؤلء المؤمنين ل يعني مجرد المتناع‬
‫عن السجود للصنام ‪ ،‬بل ان له آفاقا اخرى ‪ .‬فهم ل يحبــون احــدا إل‬
‫في ال ‪ ،‬ول يبغضون آخر إل في الـ ‪ .‬وهــذه المعادلــة تتســع عنــدهم‬
‫لتشــمل البتعــاد عــن حــالت الطاعــة ‪ ،‬والخضــوع للخريــن ‪ ،‬حــتى‬
‫تصل الى حد ابتعادهم عن مختلــف انــواع الضــغوط والشــهوات الــتي‬
‫تعترضهم في حياتهم ‪ ،‬وهو ما تشير اليه اليــة القرآنيـــة القائلــــة ‪} :‬‬
‫شِرُكون { ‪ ،‬وقد ورد في هذا المجــال عــن ابــي‬ ‫ل ُي ْ‬
‫ن ُهم ِبَرّبِهْم َ‬
‫َواّلِذيــ َ‬
‫العباس قال ‪ " :‬سألت أبا عبد ال ) عليه السلم ( عن أدنــى مــا يكــون‬
‫به النسان مشركا فقال ‪ :‬من ابتدع رأيا فأحب عليه او أبغض عليه "‬
‫‪.‬‬

‫استصغار العطاء ‪:‬‬


‫جَلـٌة‬
‫ن َمآ َءاَتْوا َوُقُلــوُبُهْم َو ِ‬
‫ن ُيْؤُتو َ‬
‫ثم يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬واّلِذي َ‬
‫ن {‪.‬‬
‫جُعو َ‬
‫َأّنُهْم ِإَلى َرّبِهْم َرا ِ‬
‫فمـن الصــفات الحسـنة لـدى المـؤمن انـه ينظـر دائمـا وأبـدا الـى ان‬
‫عطاءه قليل بالنسبة الى الجزاء الذي ينتظره ‪ ،‬ثم من يقول ان عطــاءه‬
‫مقبول ‪ ،‬وان ما عمله في سبيل ال قد اجتــاز كــل الحجــب والحــواجز‬
‫التي يجب ان تمر العمال بها ؟‬
‫وعلى سبيل المثال فان الصلة تمر ‪ -‬كما جاء في الروايات ‪ -‬عــبر‬
‫سبعين حجابا ومركز تدقيق لينظر في حقيقتها ‪ ،‬وقــد ورد عــن المــام‬
‫الباقر عليه السلم في هذا الصــدد قــوله ‪ " :‬ان مــن الصــلة لمــا يقبــل‬
‫نصفها وثلثها وربعها وخمسها الــى العشــر ‪ ،‬وان منهــا لمــا يلــف كمــا‬
‫يلف الثوب الخرق فيضرب بها وجه صاحبها ‪ ،‬وانما لك من صــلتك‬
‫ما اقبلت عليه بقلبك " ‪ ،‬ولذلك فان النسان المؤمن ل يجــد فــي عملــه‬
‫ما يتناسب مع رحمة ال وعظمته حتى وان سهر الليــالي فــي التبتــل ‪،‬‬
‫واجهد نفسه في طاعة ال ‪.‬‬

‫المسارعة في الخيرات ‪:‬‬


‫ويــذكر لنــا ‪ -‬تعــالى ‪ -‬صــفة اخــرى مــن صــفات اولئك المــؤمنين‬
‫ساِبُقونَ { ‪.‬‬
‫ت َوُهْم َلَها َ‬
‫خْيَرا ِ‬
‫ن ِفي اْل َ‬
‫عو َ‬
‫ساِر ُ‬
‫ك ُي َ‬
‫فيقول ‪ُ } :‬اْوَلِئ َ‬
‫فالمؤمنون الذين يعيشون خشية ال في قلوبهم ‪ ،‬ويمتازون بروحيــة‬
‫الشفاق خشية ان ل تقبل حسناتهم ‪ ،‬تراهم يسارعون فــي الخيــرات ‪،‬‬
‫ويتسابقون مع الخرين في القيام بالعمـال الصـالحة ‪ ،‬وتقـديم العـون‬
‫الى الخرين ‪ ،‬وارضاء الخـالق ‪ -‬جـل جللـه ‪ -‬لنهـم يعيشـون دومـا‬
‫حالة الخوف والرجاء التي هي افضل دافع للنسان لفعــل الخيــرات ‪،‬‬
‫وطاعة الخالق ‪ ،‬وضــمان لــه مـن الــدخول فـي نــار جهنــم ‪ ،‬ومفتــاحه‬
‫للدخول في جنات النعيم حيث رضا الخالق ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬والتمتع بنعمــه‬
‫البدية ‪.‬‬

‫المؤمن وحب ال‬


‫يعــيش النسان فــي حالــــة بـــحث دائم عــن شــيء اجمــل مــن كــل‬
‫جميــل ‪ ،‬واسـمــى من كــل ســــام ‪ ،‬واقــــوى مـن كــل قــــوي ‪ ،‬فهــــو‬
‫يبحث عن ضالتــه هــذه منــذ ان يولــد ‪ ،‬او عــــلى القــل منــذ ان يميــز‬
‫يمينه عن شمالــه حتى يلتحق بالرفيــق العلــى ‪.‬‬

‫ويخيل للنسان ان ضالته هذه تتمثل في المال فيجهد نفسه في سبيل‬


‫ان يحصل عليه ولكنه ل يلبث ان يكتشف ان المال ليس ضالته ‪ ،‬فهــو‬
‫لم يستطع ان يشبع غروره ‪ ،‬ولم يمل فراغه ‪ ،‬فيزعــم هنــا ان المزيــد‬
‫من هذا المال كفيل بأن يشبع نهمه حتى يغدو شرها ل يشبعه شيء ‪.‬‬

‫وقــد يتصــور النســان ان القــوة هــي الهــدف الــذي ينشـــده ‪ ،‬او ان‬
‫الشهرة هي ضالتـــه ‪ ،‬حتى يكتشــف فــي نهايــة المطــاف انهــا ضــللة‬
‫ن الحــب لــه مــن دون تلــك‬ ‫وليست ضالة ‪ ،‬حــتى يعــرف ربــه ‪ ،‬ويكـــ ّ‬
‫المظــاهر الماديــة ‪ ،‬وحينئذ يمل هــذا الحــب قلبــه ‪ ،‬ونفســــه ‪ ،‬وكــــل‬
‫الفــراغــات التي يعــانــي منها حتــــى ل يجــد فــي نفســــه ذرة مـــــن‬
‫الفــراغ ‪.‬‬

‫ومن المعلوم ان حبين ل يمكن ان يجتمعــا فــي قلــب واحــد ‪ ،‬فالــذي‬


‫يحب ال ل يحب شيئا اخر ال في سبيل الـ وفــي ذاتــه ‪ ،‬والــذي يجــد‬
‫ربه ‪ ،‬ويصـل الى مستوى حبه فـانه مهمــا بحــث لــن يجــد هنـاك شــيئا‬
‫يمكن ان يمل فراغه لن قلبه قــد ملىء حبا ل ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬
‫فقــد روي عــن رســول ال ) صلى الـ عليــه وآلـــه ( انــه قــال ‪”:‬‬
‫بكى شعيب ) عليه السلم ( من حب ال عز وجل حتى عمــي ‪ ،‬فــــرد‬
‫ال عز وجل عليه بصره ‪ ،‬ثم بكى حتى عمي فرد الـ عليــه بصــره ‪،‬‬
‫ثم بكى حتى عمي فرد ال عليه بصره ‪ ،‬فلما كانت الرابعة أوحى الــ‬
‫اليه ‪ :‬يا شعيب الى متى يكون هذا ؟ ابدا منك ؟ ان يكن هذا خوف من‬
‫النار فقد أجرتك ‪ ،‬وان يكن شوقا الى الجنة فقد أبحتك ؛ فقــال ‪ :‬الهـي‬
‫وسيدي انت تعلم اني مابكيت خوفا من نارك ‪ ،‬ول شوقا الــى جنتــك ‪،‬‬
‫ولكن عقد حبك علــى قلــبي فلســت أصــبر او أراك ‪ ،‬فــأوحى الـ جــل‬
‫جلله اليه ‪ :‬امـــا اذا كان هــذا هكــذا فمــن أجــل هــذا ســأخدمك كليمـي‬
‫موسى بن عمران ) عليه السلم ( " ‪.((1‬‬

‫ولبد ان نعلم في هذا المجال ان الحب والبغض عمليتان اراديتان ‪،‬‬


‫واذا ما رسمنا خطة لحبنا وبغضنا ‪ ،‬فاننا سنحب او نبغض حسب هذه‬
‫الخطة التي رسمتها لنـا عقولنـا ‪ ،‬وال فـان حبنـا سـيتجه الـى شـهواتنا‬
‫وهكذا الحال بالنسبة الى بغضنا ‪ ،‬وهذه هي مشكلة النسان ‪.‬‬
‫ال ‪:‬‬ ‫التزامــات حب‬
‫وهنــا يتبــادر الـى الذهــن الســـؤال المهــم التـالــي ‪ :‬مـــاذا نفعـل‬
‫لكــي نحب ‪ ،‬ومــاذا ينبغــــي عــلينــا لــو أحببنــا ربنــــا كما تقــــول‬
‫ه { ) البقرة ‪165 /‬‬
‫حّبــًا ِلّلـــ ِ‬
‫شـــّد ُ‬
‫ن َءاَمُنـــوا َأ َ‬
‫اليــة الكــريمــة ‪َ } :‬واّلِذيـــ َ‬
‫(‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫بحار النوار ج ‪ 12‬ص ‪380‬‬
‫امــا كيف يحب النســان ربه ‪ ،‬فلبــد مــن ان يــذكره ذكــرا كــثيرا‬
‫لكـي يتعلق قلبه بــه ‪ ،‬وحتــــى يرفــع عــن قلبــه هــذا غشــاوة الشــهوات‬
‫والغـفـلـة وزيـنـة الحـيـاة الدنـيـــا ‪ ،‬وحـيـنـئـــذ سـيـفـيـــض ال ـ ‪ -‬عـــز‬
‫وجــل ‪ -‬على قلبــه من حبـه ما يشـاء ‪ ،‬فاذا كان النســان اعمــى فهــل‬
‫ينفعــــه النــور ‪ ،‬واذا كــان اصــم فهــل يصـــل اليــه النـــداء اللهــي ‪،‬‬
‫فالحجــــاب ل يــدع النســــان يــــرى الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬واذا مـا زال هــذا‬
‫الحجــاب فان كـل شيء سيتضح لديــه ‪ ،‬وسيرى الحقيقــة كما هـي ‪،‬‬
‫ويوقــن بهــا وكأنــه يلمسها بيديــه ‪ ،‬كمــا قــال المام علــي ) عليــه‬
‫الســلم ( ‪ " :‬لو كشف لـي الغطــاء ما ازددت يقينا " ‪ ،‬وكمــــا قــــال‬
‫) عليه الســلم ( عندما سألــــه سائــــل ‪ :‬هــــل رأيـــت ربـــك ؟ فـقـــال‬
‫) عليــــه الســلم ( ‪ :‬مــــا كنــت لعـبـــد ربـــا لـــم أره ‪ ،‬فقــــال ‪ :‬هــــل‬
‫رأيتــــه بعـيـنـيـــك ؟ فأجـــاب )عليـــه الســلم ( ‪ :‬ويحــك ل تدركــــه‬
‫البصــار وهــو يــدرك البصــار ‪ ،‬ولكــن رآه المؤمنــون ببصيــرة‬
‫اليـمــان والقلــوب ‪.‬‬

‫ان النســــان مـجبــول ومــفــطــــور علــــى حــــب مــــن احســــن‬


‫اليــه ‪ ،‬افـلــم يـحســــن الـ الــــى النســـــان ‪ ،‬و هــــل غـــّير عــنــــه‬
‫عــادة الحســــان هــــذه ‪ ،‬و هــــل دعــــاه فــلــــم يـجبــــــه ‪ ،‬و متــــى‬
‫استـغــاث بــــه فــلــم يغــثــه ؟‬
‫وقرب ‪:‬‬ ‫تذكرة‬
‫ان على العبد ان يتذكر نعم ال عليه ‪ ،‬وهذه التــذكرة مــن شــأنها ان‬
‫تزيده قربا من الـ حــتى يصــل الــى مرحلــة المحــبين ‪ ،‬فــانظر ‪ -‬ايهــا‬
‫النســان ‪ -‬وتــذكر مــن خلل التأمــل فــي خلــق الســموات والرض ‪،‬‬
‫ت * َوِإَلــى‬
‫خلَِقـ ْ‬
‫ف ُ‬
‫ل َكْي َ‬
‫لِب ِ‬
‫ن ِإَلى ا ِ‬
‫ظُرو َ‬‫ل َين ُ‬‫والجبال كيف نصبت ‪َ } :‬أَف َ‬
‫ض َكْي َ‬
‫ف‬ ‫لْر ِ‬
‫ت * َوِإَلى ا َ‬‫صَب ْ‬‫ف ُن ِ‬
‫ل َكْي َ‬‫جَبا ِ‬
‫ت * َوِإَلى اْل ِ‬ ‫ف ُرِفَع ْ‬‫سَمآِء َكْي َ‬
‫ال ّ‬
‫ت { ) الغاشية ‪( 20 -17 /‬‬
‫ح ْ‬‫طَ‬ ‫سِ‬‫ُ‬
‫اننا لو غيرنا مواضع هذه الجبال كيلــو مــترا واحــدا لختــل تــوازن‬
‫الرض ‪ ،‬فقد وضــعها الـ ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬علــى عظمتهــا فــي مواقعهــا ‪،‬‬
‫والنسان المؤمن ينظـر الـى مظـاهر الطبيعـة فيـرى فيهـا عظمـة الـ‬
‫وقــدرته اللمتناهيــة ‪ ،‬وكلمــا خطــا خطــوة علـــى الرض ســبح الـ ‪،‬‬
‫واثنى عليه ‪ ،‬ووحده ‪ ،‬وبالتالي فــانه ســيزداد حبــا لـ ‪ ،‬ومعرفــة بــه ‪،‬‬
‫فهو عندما ينظر الى الشياء فانه ل ينظر اليها كأشياء جامدة وميتــة ‪،‬‬
‫بل وكأنها تحدثه بحمد ال ‪.‬‬

‫وعندمــا يخلد النسان المؤمن الى النوم ‪ ،‬يفكر كيف استولت عليــه‬
‫حالــة اللوعـــي ‪ ،‬وتراخــت اعصابــــه ‪ ،‬ونــال قســطا مــن الراحــة ‪،‬‬
‫وعندما ينهض يــردد قائـــل ‪ :‬ســبحان الـ ‪ ،‬فقــد كــان مــن الممكــن ان‬
‫تسـلب منـه الـروح الـى البـد لن النــــوم هـو المـوت الصـغر ‪ ،‬انـه‬
‫ينهــض فيتذكــر الحيــاة ‪ ،‬ويتذكــر انــه مـــا يــــزال باقيــــا ‪ ،‬ويتــذكر‬
‫في نفس الوقت ان ربه هو الذي احيــاه ‪ ،‬وهو الذي ســوف يميتــه ‪.‬‬
‫وبهذا السلوب يزداد حبا ل ‪ ،‬وبتعبير اخر ؛ يــزداد معرفــة بــال ‪،‬‬
‫فهو عندما يعرف ربه يزداد حبا له ‪.‬‬
‫ال ‪:‬‬ ‫آثار حب‬
‫وهنا نجيب عن التساؤل الثاني ‪ :‬عندما تجد ربك ‪ ،‬وتحبه ‪ ،‬وتصبح‬
‫اشد حبا له فماذا سيحدث في حياتك ‪ ،‬ومــا هــي الثــار الــتي ســيتركها‬
‫هذا الحب عليك ؟‬
‫لشك ان مــن ضــمن هــذه الثــار ان الراحــة النفســية ‪ ،‬والطمئنــان‬
‫الروحي سيغمرانك اثناء الصلة ‪ ،‬فتصبح بالنسبة اليك حضــورا عنــد‬
‫رب العالمين ‪ ،‬وعند حبيبـك وانيسـك ‪ ،‬فـالقلب يناجـــيه ‪ -‬تعالــــى ‪، -‬‬
‫واللــسان يلــهج بذكره ‪ ،‬والنفس تنبض في اعمق اعماقك بالتكلم معــه‬
‫‪ -‬جل وعل ‪.-‬‬

‫عندما ذهب موسى ) عليه السلم ( الى الشجرة ليأخذ منهــا النــار ‪،‬‬
‫اندلعت بأسم ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فقال له ‪ -‬عز من قائـل ‪َ } : -‬وَمــا‬
‫سى { ) طه ‪ ، ( 17 /‬وهنا نسي موسى زوجته التي كانت‬ ‫ك َياُمو َ‬
‫ك ِبَيِميِن َ‬
‫ِتْل َ‬
‫تعــاني آلم المخــاض فـــي الــبر ‪ ،‬فــي حالــة الضــياع ‪ ،‬ونســي نفســه‬
‫ي َأَتَوّك ـُؤا‬
‫صا َ‬
‫ع َ‬
‫ي َ‬
‫ل ِه َ‬
‫وماضيه ‪ ،‬ومستقبله ‪ ،‬ووقف ليحدث ربه ‪َ } :‬قا َ‬
‫خَرى { ) طــه ‪ ، ( 18 /‬فبدأ‬ ‫ب ُا ْ‬
‫ي ِفيَها َمَاِر ُ‬
‫غَنِمي َوِل َ‬
‫عَلى َ‬
‫ش ِبَها َ‬‫عَلْيَها َوَأُه ّ‬
‫َ‬
‫يحدث ربه ملتذا بهذا الحديث ‪.‬‬

‫وكان رسول الـ ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( يقــف للصــلة الوقفــات‬
‫الطويلة حتى يقــول اصحابه انه ل يصلـي ‪ ،‬ثم يركع ويطيل الركــوع‬
‫حتى يقول مـن حـوله انـه ل يركـــع ‪ ...‬فكـان قلبـه ) صــلى الـ عليـه‬
‫وآله ( يلتهب حبا ل ‪ ،‬ويشتعل ايمانا به ‪ -‬ان صح التعبير ‪. -‬‬
‫ل ِقَيامــًا‬‫ن ا َّ‬ ‫ن َيْذُكُرو َ‬
‫ولذلك نــرى ان المؤمنيـن الحقيقيين هم ‪ }:‬اّلِذي َ‬
‫ض َرّبَنا َما‬ ‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬
‫سماَوا ِ‬ ‫ق ال ّ‬
‫خْل ِ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫جُنوِبِهْم َوَيَتَفّكُرو َ‬
‫عَلى ُ‬ ‫َوُقُعودًا َو َ‬
‫ر { ) آل عمران ‪. ( 191 /‬‬ ‫ب الّنا ِ‬‫عَذا َ‬
‫ك َفِقَنا َ‬
‫حاَن َ‬‫سْب َ‬‫ل ُ‬‫طً‬‫خَلْقتَ هَذا َبا ِ‬‫َ‬
‫لقد كانت افضل الساعات عند المام الحسين ) عليــه الســلم ( تلــك‬
‫التي يلتقي فيها ربه اثناء الصــلة ‪ ،‬ورغــم ان جــراح الــدنيا وهمومهــا‬
‫كانت تنزف في قلبه ولكنه كان يردد قائل ‪ " :‬بسم ال ‪ ،‬وبــال ‪ ،‬وفــي‬
‫سبيل ال " ‪ ،‬فنهاية الشوق ‪ ،‬ونهاية المنيــات والحلم لــدى النســان‬
‫المؤمن ان يلتقي بربه ‪ ،‬فهو آنس بالموت من الطفل بثدي امه ‪.‬‬

‫والمام علي ) عليه السلم ( انفلق رأسه ‪ ،‬وتفجر الدم منه على اثر‬
‫الضربة المسمومة التي وجههــا اليه عــدو ال ‪ ،‬ومع ذلك نسي آلمــه‬
‫هذه وهتف قائل ‪ " :‬فــزت ورب الكعبــة " ‪.‬‬
‫ان هذا هـو الحـب الحقيقـــي للـــه ‪ -‬عـــز وجــل ‪ ، -‬فلمـاذا نخشـى‬
‫المحن ‪ ،‬والمصائب ‪ ،‬واللم ؟ لنكن كما كان يوسف ) عليه الســلم (‬
‫حـ ّ‬
‫ب‬ ‫ن َأ َ‬ ‫جُ‬ ‫سـ ْ‬‫ب ال ّ‬‫ضل السجـن على مـعـصـيـة ال قـائـل ‪َ } :‬ر ّ‬ ‫عندما ف ّ‬
‫عوَنِنـي ِإَلْيــِه { ) يوسف ‪. ( 33 /‬‬
‫ي ِمّما َيْد ُ‬
‫ِإَل ّ‬
‫والمام السجاد ) عليه السلم ( كـان يقــف فـي الصــلة فل يتحــرك‬
‫ويناجي ربه قائل ‪ " :‬الهي من ذا الذي ذاق حلوة مناجاتك فرام منــك‬
‫بدل" ‪.‬‬
‫النعيم ‪:‬‬ ‫الجسر الى‬
‫النسان المؤمن يحب كل شيء اذا كان فــي ســبيل الـ ‪ -‬تعــالى ‪، -‬‬
‫وحـتى النـار فانهـا بالنسـبة اليـه جنـة اذا كـان فيهـا مرضـاة الخـالق ‪،‬‬
‫وبــالطبع فــانه ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬ســيدخلهم جنــانه الفســيحة حيــث النعــم‬
‫البدية ‪ ،‬فلنبذل الجهد في تزكية انفسنا من اجــل الوصــول الــى الجنــة‬
‫التي يعطى فيها النسان المــؤمن اربعيــن الــف مدينــة كــل مدينــة فيهــا‬
‫اربعون الف قصر ‪ ،‬وكل قصر يختلف عن الخــر ‪ ،‬وفــي كــل واحــد‬
‫اربعون الــف غرفــة ‪ ،‬وفــي كــل غرفــة اربعــون الــف ســرير ومـائدة‬
‫يستطيع صاحبها ان يستضيف عليها اهل الجنة جميعا ‪.‬‬

‫وربما كانت هذه الرقام هــي ارقــام الــدنيا ‪ ،‬فنحــن ل نســتطيع ان‬
‫نستوعب ارقـام الخلـود الـتي ل نهايـة لهـا ‪ ،‬ولكـن يكفـي ان اقـول ان‬
‫النسان المؤمن عندما يريد ان ينتقل من مملكته الواسعة في الجنة الى‬
‫ســائر الممالــك فــان هنــاك عشــرات الملييــن مــن الخــدم والملئكــة ‪،‬‬
‫والحور العين ‪ ،‬والولد المخلدين يقومون بخدمته فــي مركبــه حيثمــا‬
‫يتحرك ‪..‬‬

‫وقــد روي فــي هــذا المجــال ان المــؤمنين يتحركــون كلهــم فــي ليــالي‬
‫الجمعة كل واحد من مدينته في الجنة فيتوجهــون فــي البــدء الــى مقــر‬
‫رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( لزيارته ‪ ،‬ثم يذهبون الــى العــــرش‬
‫فيعطيهم ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬نعما جديدة كل ليلة جمعة ‪ ،‬ويزيدهم معرفة‬
‫‪ ،‬ورضا به ‪ ،‬واطمئنانا في انفسهم ‪ ،‬وهذا يعني انه اعظم نعمة يتلقاها‬
‫المؤمنون في يوم القيامــة هــي زيــارة عــرش الخــالق ‪ ،‬لن الصــلة ‪،‬‬
‫والصـوم ‪ ،‬والمناجات وسائر العبادات كانت احب شيء الــى نفوســهم‬
‫في الدنيا ‪.‬‬

‫وفي المقابل فان اعظم عذاب هو هجران ال ‪ -‬سبحانه ‪ ، -‬ففي يوم‬


‫القيامة يأتي النداء أن ممنوع على اي انسان ان يردد اسم ال ـ ‪ ،‬وهــذه‬
‫اعظــم مصــيبة مــن الممكــن ان يبتلــــي بهـــا النســان ‪ ،‬ولــذلك يقــول‬
‫ك { ) الزخــرف ‪ ( 77 /‬فهــم ل‬
‫عَلْيَنــا َرّبـ َ‬
‫ض َ‬
‫ك ِلَيْقـ ِ‬
‫اصحاب النــار ‪َ } :‬ياَماِلـ ُ‬
‫يقولون ) يا رب (لن الحديث المباشر مع ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬ممنوع عليهم‬
‫‪ ،‬فيتوسلون الى خــازن النــار ان يســمح لهــم بالتحــدث مــع الـ بشــكل‬
‫مباشر ‪.‬‬

‫وقد جاء في دعاء الفتتاح ‪ " :‬اذنت لي في دعائك ومسألتك فأسمع‬


‫يا سميع مدحتي ‪ ،‬واجب يا رحيم دعوتي ‪ ،‬واقل يا غفور عــثرتي " ‪،‬‬
‫فأين نحن من هذه النعمة ؟ وما قيمة الدنيا وما فيها في مقابل رضــوان‬
‫ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬؟‬

‫ال ‪:‬‬ ‫في جوار‬


‫ان المؤمن يعيش في جوار ال ليس فــي الخــرة فحســب وانمــا فــي‬
‫الدنيا ايضا كما يصرح بذلك الدعاء الشريف ‪ " :‬وعذته مــن هجــرك‬
‫وقلك وبــوأته مقعــد الصــدق فــي جــوارك ‪ ،‬وخصصــته بمعرفتــك ‪،‬‬
‫واهلته لعبادتك ‪ ،‬ووهبت قلبه لرادتك " ‪ ،‬فالنســان المــؤمن ل يفعــل‬
‫شيئا ال بارادة ال ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬فان قلت له ‪ :‬اين تذهب ؟ قال لــك ‪:‬‬
‫حيث يشاء ال ‪ ،‬وان سألته ماذا تريد ان تفعل في المستقبل ؟ اجابــك ‪:‬‬
‫ما يقرره لي ال سأقوم به ‪ ،‬وهــذا هــو الحــب الحقيقــي ‪ :‬الــذي يصــبح‬
‫بالنسبة الى النسان سجية ‪ ،‬وفطرة طبيعية ‪.‬‬

‫وهذا الحب هو الذي يدفع النسان الى ان يعمل فــي ســبيل مرضــاة‬
‫الخالق ‪ ،‬وان يهون على نفســه كــل مصــيبة ومحنـة مـادامت فـي ذات‬
‫محبـــوبه ‪ ،‬ومـــادامت مـــن شـــأنها ان تقربـــه اليـــه ‪ ،‬وتجعلـــه يفـــوز‬
‫برضــوانه ‪ ،‬ونعيمــه ‪ ،‬كمــا ان هــذا الحــب هــو الــذي يجعــل النســان‬
‫المؤمن متميزا عن الخرين ‪ ،‬مجتبى من قبل ال ‪ -‬تعالى شــأنه ‪ -‬مــن‬
‫بيــن الملييــن مــن البشــر ‪ ،‬وهــذه درجــة عظيمــة ل يمكــن ان يبلغهــا‬
‫النسان ال من خلل تنمية خصلة الحب اللهي في ذاته ‪.‬‬

‫الوعي القرآني سلم اليمان‬

‫لما كان القرآن الكريم هو التجلي العظم للنــور اللهــي فــي الحيــاة‬
‫البشرية فان مستوى استيعابه يختلف من انسان لخر ‪ ،‬وهــو يتناســب‬
‫مــع عقليــة النســان ‪ ،‬ونضــجه الفكــري ‪ ،‬ولــذلك فــان طاقــة النســان‬
‫العقلية ‪ ،‬ومستواه الفكري ‪ ،‬وقوة ادراكه كل ذلك هو الذي يحدد مــدى‬
‫اللهي ‪.‬‬ ‫استقباله وتلقيه للنور‬
‫وفي سورة ) الجاثية ( المباركة التي يقــول ‪ -‬تعــالى ‪ -‬فــي اليــات‬
‫╥و ِ‬
‫╥‬ ‫┌ ِ‬
‫ف ╟ط· ٍ‬
‫عـــٍغ ╟طـــط‪ِ ٍ°‬‬
‫╚ ِ‬
‫╩╟ ِ‬
‫▀ ٍ‬
‫ط ╟ط· ِ‬
‫╥و ُ‬ ‫} ═ع * ٍ‬
‫╩غ ِ‬ ‫الولــى منهـــــا ‪:‬‬
‫غ*‬
‫عِغو ٍ‬
‫ع─· ِ‬
‫طط· ُ‬
‫╩ ِ‬
‫╟ٍو╟ ٌ‬
‫╓ط ٍ‬ ‫╟‪╟µ‬ط ٍ‬
‫├╤· ِ‬ ‫ع╟ٍ‪ٍ ╩ِ µ‬‬
‫▌و ╟ط╙ٍ‪ٍ °‬‬
‫┼غٍ‪ِ °‬‬
‫ع* ِ‬
‫▀و ِ‬
‫═ ِ‬
‫╟ط· ٍ‬

‫غ‪ٍ µ‬‬
‫غ*‬ ‫ع ُو‪ِ µ‬‬
‫▐ُ‬ ‫▐‪ٌ ·µ‬‬
‫ط ٍ‬
‫╩ ِ‬
‫┴╟ٍو╟ ً‬
‫╔ ٍ‬
‫╧┬╚ٍ‪ٌ °‬‬
‫عـــغ ٍ‬
‫╚╦ُ‪ِ °‬‬ ‫▀ع· ٍ‪ٍ µ‬‬
‫ع╟ ٍو ُ‬ ‫▐ ُ‬
‫╬ط· ِ‬ ‫ٍ‪ِ µ‬‬
‫▌و ٍ‬

‫عــــــــٍغ‬
‫ف ِ‬
‫ط ╟طــــــــطٍ‪ُ °‬‬
‫╥ٍ‬
‫├غ ٍ‬ ‫╤ ٍ‪ٍ µ‬‬
‫ع┬ ٍ‬ ‫ط ٍ‪╟µ‬طــــــــغٍ‪ٍ °‬‬
‫ف╟ ِ‬ ‫▌ ╟طٍ‪°‬و· ِ‬
‫╟ ِ‬ ‫ٍ‪ِ ·╬╟µ‬‬
‫╩ط ٍ‬

‫ف╟‬ ‫ع‪ِ ·µ‬‬


‫╩ ٍ‬ ‫╧ ٍ‬
‫╚┌· ٍ‬
‫╓ ٍ‬
‫╟╤· ٍ‬
‫ف ╟ط ٍ‬
‫╚ ِ‬
‫╟═·ٍو╟ ِ‬
‫▌ ٍ‬
‫▐ ٍ‬
‫╤╥· ٌ‬
‫عـــــــــــــــــــغ ِ‬
‫┴ ِ‬
‫ع┬ ِ‬
‫╟ط╙ٍ‪ٍ °‬‬

‫┴╟ٍو╟ ُ‬
‫╩‬ ‫╩ط·▀ٍ ٍ‬ ‫ط‪ٍ µ‬‬
‫غ* ِ‬ ‫▐ُ‬ ‫▐‪ٌ ·µ‬‬
‫ع ٍو┌· ِ‬ ‫ط ً‬
‫╩ ِ‬
‫┴╟ٍو╟ ً‬
‫═ ٍ‬
‫▌ ╟ط╤ِ‪ٍ°‬و╟ ِ‬
‫╤و ِ‬ ‫ٍ‪ٍ µ‬‬
‫╩╒· ِ‬

‫╧ ╟طـــطٍ‪ِ °‬‬
‫ف‬ ‫╚┌· ٍ‬
‫╦ ٍ‬
‫╧و ٌ‬
‫═ ِ‬
‫├وِ‪ٍ °‬‬
‫╚ ٍ‬
‫▌ ِ‬
‫═▐ِ‪ٍ °‬‬
‫╚╟ط· ٍ‬
‫▀ ِ‬
‫طـــو· ٍ‬
‫┌ٍ‬ ‫ط‪ٍ µ‬‬
‫ف╟ ٍ‬ ‫غ╩· ُ‬
‫ف ٍ‬
‫╟طـــطٍ‪ِ °‬‬

‫عُغ‪ٍ µ‬‬
‫غ { ) الجاثية ‪. ( 6-1 /‬‬ ‫ف ُو─· ِ‬
‫╩ ِ‬ ‫ٍ‪ٍ µ‬‬
‫┴╟ٍو╟ ِ‬

‫في هذه اليات الكريمة يؤكــد الخــالق المــرة تلــو الخــرى علــى ان‬
‫اليات اللهية ليس بمقدور الجميع استيعابها وفهمها ‪ ،‬لن الذي يغلــق‬
‫نوافــذ بيتــه ‪ ،‬ويســدل الســتائر ل يمكنــه الستضــاءة بنــور الشــمس ؛‬
‫فاليات ‪ -‬اذن ‪ -‬ليسـت لكـل النـاس بـل هـي للمـؤمنين الـواعين الـذين‬
‫بلغوا مستوى الدراك والفهم ‪ ،‬فارتقوا به سلم اليمان والتقوى ‪.‬‬

‫فاليات ‪ -‬اذن ‪ -‬في السماوات والرض ‪ ،‬ثــم فــي النفــس النســانية‬


‫والحياء والموجودات التي تـدب علـى هــذه الرض ‪ ،‬ثــم تليهـا آيـات‬
‫الطبيعة المختلفة مــن حركــة ‪ ،‬وجاذبيــة ‪ ،‬وقــوانين طبيعيــة ‪ ،‬ونــزول‬
‫المطار ‪ ،‬وهبوب الرياح ‪ ،‬وما ينجم عنها من مظــاهر الحيــاة فهــي ‪-‬‬
‫ايضا ‪ -‬آيات لقوم يعقلون ‪.‬‬

‫صفة ‪:‬‬ ‫أعظم‬


‫وبناء على ذلك فان هذا الكتاب اللهي المقدس الذي هو خاتم الكتب‬
‫السماوية ‪ ،‬هو مظهر لتجلــي العــزة اللهيــة ‪ ،‬والحكمــــة الربانيـــــة ‪،‬‬
‫╩╟ ِ‬
‫╚‬ ‫▀ ٍ‬
‫ط ╟ط· ِ‬‫╥و ُ‬
‫╩غ ِ‬ ‫كمـا نستشـف ذلك مـن بدايــة الســياق المبــارك ‪ٍ } :‬‬

‫▀وِع { ‪ ،‬ومنــه نســتنتج كــذلك ان القــرآن‬ ‫═ ِ‬‫╥ ╟ط· ٍ‬ ‫╥و ِ‬


‫┌ ِ‬
‫ف ╟ط· ٍ‬
‫عــٍغ ╟طــطٍ‪ِ °‬‬
‫ِ‬

‫يتصف هو الخر بهذين الصفتين " العزة والحكمة " ‪.‬‬


‫ولعل اسمى ما يمكن ان يبلغه النسان في حركته التكاملية في الحياة‬
‫هو هاتان الصفتان العظيمتان ؛ فهو يبغي القوة والعزة في نفس الوقت‬
‫ينشد الحكمة ‪ ،‬وعندئذ يمكنه تطبيق هذه الحكمــة فــي شــؤونه الحياتيــة‬
‫من خلل تلك العزة والقوة ‪.‬‬

‫ولتقريب هذه الحقيقة الى الذهن نقول ان الحكمة هــي بمثابــة العيــن‬
‫الباصرة ‪ ،‬والعزة هي القدم ‪ ،‬وعند السعي والنشاط نحتاج الى الثنين‬
‫معا ؛ أي الى قدم نركض بها ‪ ،‬وعين نبصر بها الطريــق ‪ ،‬ونحــن لــو‬
‫استعرضنا الحياة وما يحيط بها لوجدناها قائمة على هاتين الصفتين‪.‬‬

‫والعزة هي اعلى وارفع صفات القدرة والتمكن في حيــن ان الحكمــة‬


‫تمثــل اســمى مراحــل ودرجــات العلــم والمعرفــة والفكــر والتنظيــم ‪،‬‬
‫والقرآن الكريم ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬هو تجل لهاتين الصفتين اللهيتين ‪ ،‬ونحن‬
‫ان لــم نكـن بمسـتوى تلقــي واسـتيعاب هــذا النــــور اللهــي فانــــى لنـا‬
‫النتفاع منه ‪ ،‬وكيف نستلهم من هذا القرآن وآياته البينــات ؟‬
‫ان القرآن الكريم يستعرض اليات في الســماوات والرض ثــم يقــرر‬
‫انها لكــل النــاس شــريطة ان يبلغــوا المســتوى الســتيعابي والدراكــي‬
‫المطلوب ‪ ،‬وال فانها موجهة الى خاصــة مـن النــاس هــم اولئك الــذين‬
‫بلغوا المستوى المطلوب وهم المؤمنون الذين يتمتعــون بقابليــة التلقــي‬
‫والفهم ‪ ،‬والذين يخشعون لليات فهم يعيشون حالة التسليم والتقبل ‪.‬‬

‫المؤمن ‪:‬‬ ‫من هو‬


‫ان المؤمن هو ذلك النسان الذي آمن بالرسالة ‪ ،‬والقــرآن واليــات‬
‫اللهية ‪ ،‬وهو بأيمانه هــذا باستطاعتــــه ان يتغلــب علــى هــوى النفــس‬
‫وشهواتها ‪ ،‬فقد تمكن من نفســه ‪ ،‬وترفــع عــن ذاتــه ‪ ،‬فملــك زمامهــا ‪،‬‬
‫فالذي يوجهه في حركته وسعيه هو العقل ‪ ،‬والطاقة الــتي تســيره هــي‬
‫الرادة ‪ ،‬فالعقـل ‪ -‬اذن ‪ -‬هــو مطيـة المــؤمن ‪ ،‬والرادة قــوته ‪ ،‬وبنـاء‬
‫على ذلك فان اليات موجهة للمؤمنين ‪.‬‬

‫ومـــن ذلك نستنتج اننا بحاجة الى امرين مهمين هما ؛ اليمان وهو‬
‫الخذ بزمام‬
‫النفــس والســيطرة علــى شــهواتها ‪ ،‬واليقيــن وهــو النســجام والعيــش‬
‫باســتقرار وطمأنينــة مــع الحقــائق والتبصــر بهــا والنشــداد اليهــا ‪.‬‬
‫والنســان عنــدما يخضــع نفســه ويســيرها وفــق العقــل فــانه سيصــبح‬
‫مؤمنا ‪ ،‬وبعد هذه المرحلة يتحرك في المسار التكــاملي نحــو الحقــائق‬
‫الرفيعة ‪ ،‬وحين يقترب منها يكون قد بلغ درجة اليقين ‪.‬‬

‫علــى ان هذا اليقين وحــده ل يكفـي ‪ ،‬وهذا مــا نــراه فــي اســتمرار‬
‫▌ ╟طٍ‪°‬و· ِ‬
‫ط‬ ‫╟ ِ‬ ‫╩ط ٍ‬‫الســياق القرآنـي وانتقــاله الــى عــرض جديــد ‪ِ ·╬╟µٍ} :‬‬

‫╤╥· ٌ‬
‫▐‬ ‫عـــــغ ِ‬
‫ع▄▄┬┴ِ ِ‬ ‫عـــــٍغ ╟ط╙ٍ‪ٍ °‬‬
‫ف ِ‬
‫ط ╟طـــــطٍ‪ُ °‬‬‫╥ٍ‬‫├غ ٍ‬‫ع┬ ٍ‬ ‫╤ ٍ‪ٍ µ‬‬
‫ف╟ ِ‬‫ٍ‪╟µ‬طـــــغٍ‪ٍ °‬‬

‫╤و▌ِ ╟ط╤ِ‪ٍ°‬و╟ ِ‬
‫═‬ ‫╩╒· ِ‬ ‫ف▄▄╟ ٍ‪ٍ µ‬‬ ‫╩ ٍ‬ ‫ع‪ِ ·µ‬‬ ‫╧ ٍ‬ ‫╚┌· ٍ‬‫╓ ٍ‬‫╟╤· ٍ‬ ‫ف ╟ط ٍ‬
‫╚ ِ‬‫╟═·ٍو▄▄╟ ِ‬ ‫▌ ٍ‬
‫ٍ‬

‫غ{‪.‬‬ ‫ط▄▄‪ٍ µ‬‬ ‫▐ُ‬


‫ع ٍو┌· ِ‬‫▐▄▄‪ٌ ·µ‬‬ ‫ط ً‬
‫╩ ِ‬‫┴╟ٍو▄▄╟ ً‬ ‫ٍ‬

‫اذن فاليقين هو ضياء ينبعث على قلب النسان ‪ ،‬وهــذا الضــياء قــد‬
‫تتلقاه بعض القلوب لفترة ‪ ،‬ثم يبدأ بالنحســار عنهــا شــيئا فشــيئا حيــث‬
‫تهبـط درجــة اليقيـن ‪ ،‬وفـي المقابـل نجـد ان هنـاك قلوبـا تحتفـظ بهـذا‬
‫الضياء ليبقى فيها طاقة كامنة مخزونة ؛ فالقلوب الولى هــي كــأرض‬
‫ملساء ‪ ،‬او صخرة صلدة ل تحتفظ بــالمطر اذا مــا هطــل عليهــا ‪ ،‬فــي‬
‫حيــن ان الثانيــة مثلهــا كمثــل الرض الطيبــة الخصــبة تمتــص مــاء‬
‫المطر ‪ ،‬وتحتفظ به ليبعث فيها الروح والحياة ‪.‬‬

‫ولكن !‬ ‫قريبون من الحقائق‬


‫والذي اراه اننا في دنو من الحقائق الساطعة ‪ ،‬وقريبون من الحقيقة‬
‫العظمى ‪ ،‬وعلى مقربة من ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬خالق كل ما في الكون مــن‬
‫الحقــائق ‪ ،‬وواضــع ســننها ‪ ،‬كمــا يشــير الــى ذلــك دعــاء ابــي حمــزة‬
‫الثمالي ‪ " :‬وان الراحل اليك قريــب المســافة ‪ ،‬وانــك ل تحتجــب عــن‬
‫خلقك ال ان تحجبهم العمال دونك "‪.‬‬
‫اننا تحت نظر ال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬اينما كنا ‪ ،‬وهو يشاهدنا ‪ ،‬ويراقبنا ‪،‬‬
‫ن َما ُكنُتـْم { ) الحديــد ‪ ، ( 4 /‬ولكننــا‬‫بل هو معنا اينما كنا ‪َ } :‬وُهَو َمَعُكْم َأْي َ‬
‫نحن البعيدون عنه ‪ ،‬لننا نفتقر الى ذلك التصال الروحي ‪ ،‬وهذه هي‬
‫المفارقة ؛ فالله قريب ‪ ،‬وهو يجيب دعوة الداعـــي اذا دعــاه ‪ ،‬ولكــن‬
‫النقص فينا لبعدنا ‪ ،‬وغفلتنا ‪ ،‬واحتجابنا ‪.‬‬

‫فلكي نرى الحقائق ‪ -‬فاننا بحاجة الــى النــور الــذي يوصــلنا اليــه ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬فالحقــائق قريبــة منــا ولكننــا نحــن المحجوبــون عــن رؤيتهــا ‪،‬‬
‫وتحسســها ‪ ،‬ومــن الظلــم الــذاتي ان نعيــش عشــرات الســنين فــي بعــد‬
‫وجهل لحقيقة النفس ‪ ،‬وحقائق اليات اللهية المتناثرة في هــذا الكــون‬
‫الرحيــب ‪ ،‬وفــي هــذه الحالــة سنصــبح فــي ضــلل وتيــه عــن الحقيقــة‬
‫العظمى المرتفعة فوق كل الحقائق ال وهي حقيقة الرب المتعالي ‪.‬‬

‫انه من الظلم بالنفس حقا ان نكون في بعد عــن الحقــائق وربهــا فــي‬
‫حين ل يعوزنا ال ضغطة بسيطة على زر صغير لينبلج نور الصــباح‬
‫فنرى مــن خللــه كــل شــيء ‪ ،‬ونــدخل عــالم الســرار الــذي نجهلــه ‪،‬‬
‫ونلمس كل صغيرة وكبيرة من الحقائق ‪ ،‬وهذه الضــغطة علــى مفتــاح‬
‫النور تتمثل في الرادة والعزم اللذين من شأنهما ان يرفعا النسان من‬
‫أســفل ســافلين الــى الــدرجات العلــى ‪ ،‬وأعلــى علييــن ‪ ،‬فلكــي يخــرج‬
‫النسان نفسه من عمق الحالة السلبية الــى علــو الحالــة اليجابيــة فــانه‬
‫بحاجة الى عزمة واحدة ‪.‬‬

‫وعلــى هــذا فاننــا بحاجــة ماســة الــى ان نخلــق فــي انفســنا الهمــة ‪،‬‬
‫والعزيمة للولوج في عالم الحقائق ‪ ،‬فالى مــتى نبقــى بعيــدين وغربــاء‬
‫عنه ‪ ،‬والى متى نبقى في حالة فرار من هـــذا العالـــم النّيــــر الوهـــاج‬
‫الـذي يـدعـونـا الـبـارىء ‪ -‬تعالى ‪ -‬الى الدخول فيه ‪،‬‬
‫والستلهام من اشعاعاته الربانية ؟‬

‫المعاناة ‪:‬‬ ‫الدعاء وزوال‬


‫ان الشيطان الرجيــم هـو الــذي يجعلنـا نفــر بعيــدا عــن ريـاض هــذا‬
‫العالم ‪ ،‬فهو يوسوس في صدورنا ليحجب عن اسماعنا وانظارنــا تلــك‬
‫الدعوة اللهية المفتوحة ‪ ،‬وليــس هــذا الموقــف غريبــا ول عجيبــا مــن‬
‫ابليس اللعين الذي اقسم ان يقف لبن آدم بالمرصاد ليصده عن ابتغــاء‬
‫ورؤية الحقائق اللهية ‪ ،‬فهو عدو النسان اللدود ‪ ،‬فينبغي ان ل نعيــر‬
‫اذنا صاغية لهذا العــدو اللــدود لنــه قــد يــأتي بأدلــة مضــلة ‪ ،‬واســباب‬
‫وعناويـن وهمية كاذبة يتفنن في بثها الى الصــدور ‪ ،‬فيخيـل الينـا انهـا‬
‫صادقة مقنعة ‪ ،‬وحسب التعبيـر القرآني فان الشيطان يزين لنا المور‬
‫والعمال فيصدنا عن الحقائــق ‪.‬‬

‫فلنتوجه الى ربنا بالدعاء ‪ ،‬ولندعه كما علمنا ‪َ } :‬رّبَنآ َءاِتَنا ِفي الّدْنَيا‬
‫سـَنًة { ) البقــرة ‪ ( 201 /‬وبــذلك تطيــب لنــا الــدنيا ‪،‬‬
‫حَ‬‫خـَرِة َ‬
‫لِ‬‫سـَنًة َوِفــي ا َ‬
‫حَ‬‫َ‬
‫ونطمئن برزقها ‪ ،‬ونضمن في نفس الوقت الخرة ‪ ،‬ونعيمها البدي ‪،‬‬
‫وربما ل ياكل احدنا كما يأكل الخرون ‪ ،‬فقد يكون طعامه قليل ولكن‬
‫اليمان بالحقائق العلوية سيمله اطمئنانا ‪ ،‬ورضــا وســكينة ‪ ،‬ويمنحــه‬
‫القناعة باليسير من الرزق ‪ ،‬بــل اكــثر مــن ذلــك فــان اليقيــن بالحقــائق‬
‫اللهية ‪ ،‬واليمان الراسخ بها يخففان عن النسان المعاناة واللم فــي‬
‫اشد الظروف قسوة ‪.‬‬

‫والـدليل على ذلك المؤمنون الذين عذبوا في الســجون ‪ ،‬والنبيــاء ‪،‬‬


‫والولياء ‪ ،‬والصالحون ؛ فقد سجن يوسف ) عليه السلم ( من قبــل ‪،‬‬
‫وسجن نبي ال دانيـــال وقدم طعاما للســود الجائعــــة ‪ ،‬وكــذلك كــان‬
‫حال المام الكاظم ) عليه السلم ( ؛ هذا المام الهمام الــذي كـان قلبـه‬
‫نابضا بالعزة ‪ ،‬متصل بنور ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬حتى اصبحت الطوامير‬
‫التي سجن فيها معابد يعبد فيها خالقه ‪ ،‬ويتهجــد بأســمه المبــارك ‪ ،‬بــل‬
‫انه ) عليه السلم ( كان يشكر ال ويحمــده كــثيرا ‪ ،‬ويثنــي عليــه ثنــاء‬
‫طويل لنه ‪ -‬تعالى ‪ -‬اتاح لــه فرصــة لعبــادته ‪ ،‬حــتى غــدا هــذا المـام‬
‫مثال وقدوة للمؤمنين الرساليين الصابرين في ذات ال ‪.‬‬

‫الحقائق ‪:‬‬ ‫الرحلة الى عالم‬


‫وهكــذا علينــا ا ن نعقــد العــــزم ‪ ،‬ونخطــو نحــو عــالم الحقيقــة ‪،‬‬
‫فالخطوات الواسعة تبــدأ بخطوات صغيرة متواضعة ‪ ،‬والتــوجه الــى‬
‫عالم الحقيقــة الكــبرى ‪ ،‬والــــــى الـ ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬ورحابـــه الكريمــــة‬
‫بحاجة الى مجموعــة مـن المســاعي الصــغيرة ‪ ،‬كــأن يبــدأ احــدنا هــذه‬
‫الرحلــة ‪ -‬مثل ‪ -‬مــن خلل تعزيــز الصــرة بــاخوانه ومــد جســور‬
‫العلقــات الروحيــة معهــم ‪ ،‬وجعــل لســانه يلهــج بــذكر ال ـ العظيــم ‪،‬‬
‫وترويض نفسه على القناعـة والرضــا والتســليم وفعــل الخيــرات قـدر‬
‫المستطاع ‪ ،‬وتدريب النفس على الطاعات والمستحبات ‪.‬‬

‫وعلى سبيل المثال فعندما نتحدث ليكن حديثنا هذا حديث خير يبعث‬
‫المسرة في قلوب اخواننا المؤمنين ‪ ،‬ولنراقب ألسنتنا وما يخرج منهــا‬
‫من الفاظ ‪ ،‬ولتكن كلماتنا طيبة حتى نصل الى المستوى الذي امــر بــه‬
‫ن { ) السراء ‪( 53 /‬‬
‫سُ‬‫حَ‬
‫ي َأ ْ‬
‫تعالى حيث يقول ‪َ } :‬وُقل ِلِعَباِدي َيُقوُلوا اّلِتي ِه َ‬
‫‪ ،‬وأيانــا والسترســال فــي المــور ؛ كــأن نسترســل ‪ -‬فــي كلمنــا ‪،‬‬
‫وتصرفاتنا ‪ ،‬ومواقفنا ‪ ، -‬بل علينا ان نفكر مرارا بما نريد ان نفعله ‪،‬‬
‫ونأخذه ‪ ،‬فعندما نصادف ‪ -‬مثل ‪ -‬طعامــا او مــال او ســبيل حرامــا او‬
‫كل ما يشتبه امره علينا فعلينا ان نتجنب ذلــك كلــه دون ان تأخــذنا فــي‬
‫الحق لومة لئم ‪.‬‬

‫الخير ‪:‬‬ ‫ل تأجيل في عمل‬


‫وعلينا ان نعلم انه ل تأجيل ول تأخير في السعي نحو مرضاة ال ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ ، -‬فعلينــا ان نبدأ منذ هذه اللحظة ؛ أي منذ لحظة العودة الى‬
‫الــوعي ‪ ،‬واليقظــة الروحيــة ‪ ،‬كـأن نعمــل علــى مشـاركة اخواننــا فـي‬
‫همومهم ‪ ،‬والمساهمة في رفــع المشــاكل عنهــم ‪ ،‬والســعي فــي قضــاء‬
‫حوائجهم ‪ ،‬والمبادرة الى السؤال عن حاجاتهم واحوالهم ‪ ،‬فقد ل نعلــم‬
‫ان بعضهم قد يبيت الليالي على الجوع ‪ ،‬ويصــبح وهــو يتحســر علــى‬
‫رغيف العيش ‪ ،‬وفي هذا المجال يقول المام الصادق ) عليه السلم (‬
‫‪ " :‬ان الرجل ليسألني الحاجة فأبادر بقضائها مخافة ان يستغني عنها‬
‫فليجد لهــا موقعــا اذ جــاءته " ‪ ،‬فــان لــم يكــن بامكاننــا قضــاء حــوائج‬
‫اخواننا فلنظهر لهم الحب على القل ‪ ،‬ولنتبسم في وجوههم ‪ ،‬ونــدخل‬
‫السرور والبهجة الى قلوبهم ‪.‬‬

‫ولنعلم في هذا المجال ان القضية ليست قضــية مــال او نفــس ‪ ،‬فــال ‪-‬‬
‫جل شأنه ‪ -‬غني عن العالمين ‪ ،‬بل ان المهم هو استئصال حالــة الشــح‬
‫والبخل من النفس ‪ ،‬هذا الشح الذي اصبح مرضا اصاب الكثير منــا ‪،‬‬
‫ونحــن بحاجــة الــى علجــه ‪ ،‬وتــدريب النفــس وترويضــها بالصــلح‬
‫والطاعة ‪.‬‬

‫فلنحــــاول ان نميــت فـــي انفســنا تلــك الحــالت النفســية القبيحــة‬


‫كالشـــــح ‪ ،‬والنانيـــة ‪ ،‬والكبريـــاء ‪ ،‬والغـــرور ‪ ،‬ولنكـــن كرمـــاء ‪،‬‬
‫متواضعين ل ‪ ،‬وان ل نكتفــي بمــا نعملــه مــن الصــالحات والخيــرات‬
‫لمجتمعنا ‪ ،‬وامتنا ‪ ،‬ولنبتعــد كــل البعــد عــن الخلقيــات الفاســدة الــتي‬
‫تـــؤدي الـــى النحـــراف ‪ ،‬والضـــلل كالغيبــــــة والكـــذب والنميمـــة‬
‫والحتيال ‪ ..‬ولنكن محبين لخواننا ‪ ،‬مظهرين التودد لهم‪.‬‬

‫ثم وايانا والبتلء بآفة الحسد ‪ ،‬هذه الفة الجتماعية التي لو شاعت‬
‫فانها ستؤدي بالمجتمع الى النهيار والضمحلل ‪ ،‬فهي ليست مســألة‬
‫هينــة بــل انهــا تمثــل حالــة عميقــة الجــذور فــي القلــب ‪ ،‬تكــدر النفــس‬
‫النســانية وهــي آخــر مــا يستأصــل مــن الصــفات الســيئة فــي القلــب‬
‫والنفس ‪ ،‬وهذا الستئصال يكــون مــن خلل حــب الخريــن ‪ ،‬وتمنــي‬
‫الخير لهم ‪ ،‬والبذل من اجل سعادتهم بعد غلق المنافــذ والبــواب الــتي‬
‫قد يدخل من خللهــا الشــيطان الــى النفــس ‪ ،‬فيبــث وساوســه ‪ ،‬ويفســد‬
‫القلب ‪ ،‬ويميت الروح المحبة للخير في اعماق النسان ‪.‬‬

‫ولنحاول من الن فصاعدا ان نتعب انفسنا ‪ ،‬واجسامنا في الـ ولــو‬


‫لساعة واحدة من ساعات يومنا البالغة اربعا وعشرين ســاعة ‪ ،‬ولنــؤد‬
‫في هذه الساعة عمل يعرق له جبيننا وذلك من اجل راحة المــؤمنين ‪،‬‬
‫وتسهيل امورهم ‪ ،‬وقضاء حوائجهم ‪.‬‬

‫وما اجمل وقع مثل هذا العمل في النفس ‪ ،‬واعظم اجره عنــد ال ـ ‪-‬‬
‫ســبحانه وتعــالى ‪ -‬مهمــا كــان بســيطا ‪ ،‬ومهمــا بــدا صــغيرا ‪ ،‬بــدل ان‬
‫نصرف الساعات الطويلة فــي ممارســة العمــال الــتي ل تجــدي نفعــا‬
‫كــبيرا ‪ ،‬والـــتي نـقـــوم بـهـــا للهـــاء انـفسـنـــا ‪ ،‬وقـضـــاء اوقـــات‬
‫فـراغـنـا ل مـن اجل ال ‪ -‬جـلـت قدرته ‪. -‬‬
‫ان تلـك الخطـوات البسـيطة الـتي ذكرنـا قسـما منهـا فيمـا سـبق هـي‬
‫درجــات علينــا ان نرتقيهــا نحــو الســمو ‪ ،‬والتكامــل ‪ ،‬والقــتراب مــن‬
‫الحقيقــة العليــا ‪ ،‬وهــي تبعــث فــي القلــب حــالت الطمأنينــة ‪ ،‬وتقــوي‬
‫اليمان وتدعمه وتوثق عراه ‪ ،‬ثم تتبعها بعد ذلك سلســلة مـن العمـال‬
‫اكبر واعظم واكثر عمقا ترفعنا نحو عــالم اليقيــن والتكامــل ‪ ،‬والســمو‬
‫العقلي ‪.‬‬

‫القرآن ‪:‬‬ ‫ل نور كنور‬


‫ان القلــب الــذي ل يهتــدي بنــور القــرآن ‪ ،‬واشــعاع آيــاته المباركــة ‪،‬‬
‫وليهتدي بمن ينطقون عن القرآن ‪ ،‬فمثل هذا القلــب ل يمكــن ان يجــد‬
‫╩ط· ٍ‬
‫▀‬ ‫الحقيقــة ابــدا ‪ ،‬فل نــور ول هــدي كنــور القــرآن وهــديه ‪ِ } :‬‬
‫╚┌· ٍ‬
‫╧‬ ‫╦ ٍ‬
‫╧و ٌ‬
‫═ ِ‬
‫├وِ‪ٍ °‬‬
‫╚ ٍ‬
‫▌ ِ‬
‫═▐ِ‪ٍ °‬‬
‫╚╟ط· ٍ‬
‫▀ ِ‬
‫طـــو· ٍ‬
‫┌ٍ‬
‫ف╟ ٍ‬‫ط‪ٍ µ‬‬ ‫غ╩· ُ‬‫ف ٍ‬
‫╩ ╟طـــطٍ‪ِ °‬‬
‫┴╟ٍو╟ ُ‬‫ٍ‬

‫غ{‪.‬‬‫عُغ‪ٍ µ‬‬
‫ف ُو─· ِ‬
‫╩ ِ‬
‫┴╟ٍو╟ ِ‬ ‫ف ٍ‪ٍ µ‬‬
‫╟ططٍ‪ِ °‬‬

‫فالقرآن الكريم هو النور والضياء ‪ ،‬وهو السراج الوهاج ‪ ،‬فعندما ل‬


‫تلتجىء ارواحنا الى هذا السراج ونوره فهل هناك سراج غيره يهــدينا‬
‫الى عالم الهدى واليمان ‪ ،‬وهل هنـاك حــديث او موعظــة او نصــيحة‬
‫تسمو على القرآن ؟!‬
‫شــآَء‬
‫ن * ِلَمــن َ‬
‫ل ِذْكٌر ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫ن ُهَو ِإ ّ‬
‫حاشا ل ‪ ،‬ولكلمه العظيم ‪ِ } :‬إ ْ‬
‫سَتِقيَم { ) التكوير ‪. ( 28-27 /‬‬
‫ِمنُكْم َأن َي ْ‬

‫السبيل الى البصيرة اليمانية‬


‫النسان يعيش في ظلمات نفسه ‪ ،‬وال ‪ -‬سبحانه وتعــالى ‪ -‬ليهــديه‬
‫سبيل ال اذا اسلم نفسه له وزكاها ‪ ،‬وعكف على تنمية مواهبه الخيرة‬
‫‪ ،‬فالعين ‪ -‬مثل ‪ -‬هـي نعمة ال للنسان فبهــا يبصــر طريقــه ‪ ،‬والذن‬
‫هي ايضـا نعمـة عظيمـة بهـا يسـتمع النسـان الـى مـا فـي الحيـاة مـن‬
‫اصوات مختلفة ‪ ،‬والحــس هـو الخــر مـن نعـم الـ ‪ -‬سـبحانه ‪ -‬علــى‬
‫النســان فمــن خللــه يكيــف نفســه مـع الطبيعــة مـن حــوله ‪ ،‬والوســط‬
‫الجتماعي الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫ويبقــى القلب اكبر نعمــة ‪ ،‬واعظم منــة الهيــــة علــى النســــان ‪،‬‬
‫وقــــد يبقــى هــذا القلــب مغلقــا وعلــى النســان ان يفتــح رمــوز نفســه‬
‫وابوابها لكي يستقبل قلبه رحمـــة الـ ‪ -‬كـــما يـــشتير الــى ذلــك ‪ -‬عــز‬
‫جوَرَهــــا‬
‫سّواهـَـــا * َفَأْلَهَمَهــــا ُف ُ‬
‫س َوَمــا َ‬
‫وجــل ‪ -‬فــي قولــــه ‪َ } :‬وَنْف ـ ٍ‬
‫خـا َ‬
‫ب‬ ‫ح َمن َزّكاَهــــا * َوَقْد َ‬‫َوَتْقَواَهــا * َقْد َأْفَلـ َ‬
‫هــــا { ) الشمس ‪. ( 10-7 /‬‬ ‫سا َ‬
‫َمــن َد ّ‬
‫فالقلب مصدر الستلهام ‪ ،‬وهو مستودع الخير ‪ ،‬ولكل قلب اذنــان ‪-‬‬
‫كما جاء ذلك في حديث شريف ‪ ، -‬ينفث الشيطان من احداهما سمومه‬
‫ووساوســه ‪ ،‬وفــي الذن الخــرى تبــث الملئكــة الهــدى ‪ ،‬والبصــائر‬
‫الحقــة ‪ ،‬والنســان مخيــر بيــن الســتماع بأيهمــا شــاء ‪ ،‬وحــتى ال ـ ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬جعل مشيئته تابعة لمشيئة النسان في هذا المجــال ‪،‬‬
‫فهو بأمكانه الستماع باذنه اليمنى حيــث تهــديه الملئكــة الــى الحــق ‪،‬‬
‫كما ان بأمكانه الستماع باليســرى حيــث تخــدعه الشــياطين ‪ ،‬وتقــوده‬
‫الى الضللة ‪.‬‬

‫المسؤول ‪:‬‬ ‫النسان هو‬


‫والمسؤولية في كل ذلك تقع على النسان وحــده ‪ ،‬فهــو المســؤول‬
‫اول واخيرا ؛ فله الجر والثواب ان شاء ان يستمــع باذنــه اليمنــى ‪،‬‬
‫سـّواَها *‬‫س وََمــا َ‬
‫وعليه العقاب اذا اختار الستماع باليســرى ‪َ } :‬وَنْف ـ ٍ‬
‫ها { ‪.‬‬
‫جوَرَها َوَتْقَوا َ‬
‫َفَأْلَهَمَها ُف ُ‬
‫وفي الحقيقة فــان الهــام النفــس فجورهــا وتقواهــا هــو نعمــة الهيــة‬
‫كبرى ‪ ،‬اما تزكية النفس او دسها فهذا يرتبط بارادة النسان وقراره ‪،‬‬
‫وال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬اودع فــي هــذا الكــون ‪ ،‬وفــي انفســنا آيــات ظــاهرة‬
‫وباطنة لتحصــى ‪ ،‬ومنحنـا القـدرة علـى اكتشـافها ‪ ،‬والعتبـار بهـا ‪،‬‬
‫والهتداء من خللها اليه سبحانه ‪.‬‬

‫ولكن من عرف ال وحده ولم يشرك به بالرغم من غزارة اليات‬


‫وعظمتهــا ؟ فــالكثير مــن النــاس مشــركون ‪ ،‬فمــن ليعبــد الصــنام‬
‫الظاهرة ‪ ،‬تراه يعبد الطاغوت او هواه ‪ ،‬او اي شيء آخر ‪.‬‬

‫ان آيــات الـ كــثيرة ولكــن المشــكلة وجــود عقبــة امامنــا علينــا ان‬
‫نتجاوزها ‪ ،‬وهذه‬
‫العقبة تفصلنا عــن رؤيــة آيـات الـ ‪ -‬تعـالى ‪ ، -‬وعــن العتبــار بهــا ‪.‬‬
‫فالناس يملكون العين ولكن القليل منهــم يمتلــك البصــيرة ‪ ،‬كمــا انهــم‬
‫يمتلكون الذان ولكن القليل منهم يمتلــك الســمع ‪ ،‬ولــذلك يقــول ‪ -‬عــز‬
‫حَيْيَنــاه { ) النعــام ‪ ، ( 122 /‬فالنســان الميــت‬ ‫ن َمْيتًا َفَا ْ‬
‫وجل ‪َ } : -‬أَوَمن َكا َ‬
‫ليكيف نفسه مع ما حوله ‪ ،‬وينفصل عن الوسط الجتماعي والطبيعي‬
‫المحيط به ‪ ،‬وهو في الحقيقة انســان ميــت لن الــذي ليمتلــك اليمــان‬
‫ليمكن ان يكون متمتعا بالبصيرة ‪ ،‬والقرآن الكريم يشبه هذا النسـان‬
‫ج ِمْنَهــا‬
‫خــاِر ٍ‬
‫س ِب َ‬
‫ت َلْي َ‬
‫ظُلَما ِ‬
‫بـمن يعيش في الظلمات ‪َ } :‬كَمن َمَثُلُه ِفي ال ّ‬
‫ن { ) النعام ‪. ( 122 /‬‬ ‫ن َماَكاُنوا َيْعَمُلو َ‬ ‫ن ِلْلَكاِفِري َ‬
‫ك ُزّي َ‬
‫َكَذِل َ‬

‫لليمان ‪:‬‬ ‫كيف نشرح صدورنا‬


‫صـْدَرهُ‬
‫ح َ‬
‫شـَر ْ‬
‫لـ َأن َيْهـِدَيُه َي ْ‬
‫ثم يقول ‪ -‬عز وجل ‪َ } : -‬فَمــن ُيـِرِد ا ّ‬
‫لِم { ) النعام ‪ ، ( 125 /‬وفي تعريف السلم يقول المام علي ) عليه‬ ‫سَ‬‫لْ‬‫ِل ِ‬
‫السلم ( ‪ " :‬لنسبن السلم نسبة لم ينسبها احد من قبلي ولــن ينســبها‬
‫احد من بعدي ؛ السلم هو التسليم " ‪ ،‬والقــرآن الكريــم يصــرح فــي‬
‫الية السابقة ان من يريـد الـ ان يشـرح صـدره للسـلم فـانه سـيفتح‬
‫ابواب قلبه وصدره لكي ليعيش داخل اطار نفسه ‪ ،‬وفي سجن ذاتــه ‪،‬‬
‫ولكي ينطلــق الــى الســلم ؛ اي الــى التســليم لـ حــتى تكــون صــلته‬
‫ونسكه وحياته ومماته لـ رب العــالمين ‪ ،‬فــاذا بــه مــؤمن بقضــاء الـ‬
‫وقدره وشريعته واحكامه ‪ ..‬فان حدثت هذه الحـالة فــي نفــس النســان‬
‫فحينئذ ينشرح صدره ‪ ،‬ويخرج من ذاته ‪ ،‬ويدخل في النور ‪.‬‬

‫وفي غيــر هــذه الحالــــة ســيبقى النســـان يعيــش فــي الظلمــات ‪،‬‬
‫فالنسان يولد في‬
‫الظلمة ولبد ان يسعى لكي يخرج منها ‪ ،‬لن ال ‪ -‬تعـالى ‪ -‬خلقــه فـي‬
‫احسن تقويم ‪ ،‬ولكنه يســقط فــي اســفل ســافلين بســبب جهلــه ‪ ،‬وظلمــه‬
‫لنفسه ‪ ،‬وتربيته الفاســدة ؛ اي انــه يهبــط الــى الحضيــــض وعليــه ان‬
‫يعود من جديد الى القمـة ‪ ،‬وهي الفطــــرة الــتي ولــد عليهــا النســان ‪.‬‬
‫فكل مولود انما يولد على الفطـرة ‪ ،‬ولكنها لتبقـى معه ‪ ،‬فأبواه ‪ -‬كمــا‬
‫جــاء فــي الحــديث الشــريف ‪ -‬همــا اللــذان يهــودانه او ينصــرانه او‬
‫يمجسانــه ‪ .‬فــلبد له من ان يشــق طريـق العودة الى ال ‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫لكي يكـــون من الذيـن استثناهــم الخالــق من الهابطيــــن الــى اسفــــل‬
‫عِمُلـــــوا‬
‫ن َءاَمُنـــوا َو َ‬ ‫ل اّلِذيــــــ َ‬
‫ســـافلين والـــذين يقـــول عنهـــــم ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫ت { ) العصر ‪. ( 3 /‬‬
‫حــا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫ال ّ‬
‫وفـي الحقيقـة فان هؤلء المؤمنين العامليـن الصالحات هــم القلـة‬
‫ل { ) هود ‪، ( 40 /‬‬ ‫ل َقِلي ٌ‬
‫ن َمَعُه ِإ ّ‬
‫مـن الناس كما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ} : -‬وَمآ َءاَم َ‬
‫ن ِلْلَكـاِفِري َ‬
‫ن‬ ‫ك ُزّيـ َ‬‫والقـران الكريم يفسر لنا هذه الظاهرة بقـوله ‪َ} :‬كـَذِل َ‬
‫ن { فالمجتمع والفرد لهمــا عــادات مــن الصــعب القلع‬ ‫َماَكاُنوا َيْعَمُلو َ‬
‫عنها ‪ ،‬والخير عادة كما ان الشر عادة ايضا ‪ ،‬ولكن المشكلة ان اغلب‬
‫الناس متعودون علــى الشــر ؛ فالكســل وحــب الراحــة والرئاســة كلهــا‬
‫عادات يزينها الشيطان للنسان ‪.‬‬

‫وعلى سبيــــل المثال فان القصص القرآنية لم توجه الينا للتسلية ‪،‬‬
‫فقصة ابراهيم ) عليه السلم ( مثل هي موجهة الينا بالدرجة الولى ‪،‬‬
‫وقصته تبدأ بالحــديث عــن رحلتــه الــى الـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ ، -‬فقــد عبــد‬
‫النجمة اول ثم افلــت فــأقلع عــن عبادتهــا ‪ ،‬وهكــذا الحــال بالنســبة الــى‬
‫القمر والشمس حتـى وصل الى مرحلة توحيد ال ‪ ،‬ومن هــذه القصــة‬
‫نستفيد ان على النسان ان يتساءل في كـل مرحلـة عـن مـــدى صــحة‬
‫اعمالـه لكـي يصـل الـى الحقيقـة ‪ ،‬وفي هذا المجال يقول ‪ -‬تعــالى ‪: -‬‬
‫ك‬
‫ل َواْذُكــر ّرّب ـ َ‬‫شآَء ا ُّ‬‫ل َأن َي َ‬‫غدًا * ِإ ّ‬
‫ك َ‬
‫ل َذِل َ‬‫عٌ‬ ‫يٍء ِإّني َفا ِ‬
‫ش ْ‬
‫ن ِل َ‬
‫ل َتُقوَل ّ‬
‫} َو َ‬
‫شــدًا { ) الكهــف ‪/‬‬
‫ن َه ـَذا َر َ‬‫ب ِم ـ ْ‬
‫لْقَر َ‬
‫ن َرّبي َِ‬ ‫سى َأن َيْهِدَي ِ‬ ‫عَ‬‫ل َ‬‫ت َوُق ْ‬
‫سي َ‬ ‫ِإَذا َن ِ‬
‫‪. ( 24-23‬‬
‫وهكذا فان اعمالنا يجب ان لتفصلنا عــن الـ ‪ ،‬فهــي حجــاب بيــن‬
‫النسان وربه ال اذا جعلها خالصة لوجهه ‪.‬‬

‫اليمان ‪:‬‬ ‫عقبتان في طريق‬


‫امــا الوسيلة الثانية ‪ ،‬والسبب الخر لنتشار الفساد فقد كشف عنه ‪-‬‬
‫جِرِميَهـا‬
‫ل َقْرَيـٍة َأَكـاِبَر ُم ْ‬
‫جَعْلَنـــا ِفي ُك ّ‬
‫ك َ‬
‫عز وجل ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬وَكَذِل َ‬
‫ِلَيـْمُكُروا ِفيَها { ) النعام ‪ ( 123 /‬؛ اي وجود مكر المجرمين الكابر ‪ ،‬وهم‬
‫الن يتمثلون في الحكام المضلين ‪ ،‬والصحفيين المأجورين ‪ ،‬والعلماء‬
‫الفســقة ‪ ،‬وهــؤلء يشــكلون مصــدر المكــر والضــلل ‪ ،‬فهــم يقومــون‬
‫بالمكر ‪ ،‬ويتآمرون على الجماهير ‪ ،‬ويفسدون ضمائرهم ‪.‬‬
‫وهذه الية تعني ان على كل انسان ان يتحدى عقبتين اساسيتين في‬
‫حياته ؛ العقبــــة الولى هــي عقبــة الظلمــات ‪ ،‬والثانيــــة عقبــة اكــابر‬
‫المجرمين ‪ ،‬وقد اشـــار ‪ -‬تعالى ‪ -‬الى العقبة الولى في قوله ‪َ } :‬كَمن‬
‫ن َماَكــاُنوا‬ ‫ن ِلْلَكــاِفِري َ‬
‫ك ُزّيـ َ‬‫ج ِمْنَهــا َكـَذِل َ‬
‫خــاِر ٍ‬
‫س ِب َ‬
‫ت َلْيـ َ‬ ‫ظُلَمــا ِ‬‫َمَثُلـهُ ِفــي ال ّ‬
‫جَعْلَنــا ِفــي ُكـ ّ‬
‫ل‬ ‫ك َ‬‫ن { ‪ ،‬والـــى العقبـة الثانية في قــوله ‪َ } :‬وَكـَذِل َ‬ ‫َيْعَمُلو َ‬
‫س ـِهْم َوَمــا‬‫ل ِبَاْنُف ِ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫جِرِميَهــا ِلَيـ ـْمُكُروا ِفيَهــا َوَمــا َيْمُك ـُرو َ‬‫َقْرَيـٍة َأَكــاِبَر ُم ْ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫شُعُرو َ‬ ‫َي ْ‬
‫وعلــى الرغم من ان هؤلء المجرمين يحسبون انفسهم عقــلء ال‬
‫ان ال يصـرح‬
‫بأنهم ليسوا منعدمي العقل فحسب ‪ ،‬بل انهم عديمو الشعور ‪.‬‬

‫ان بعض الناس يتمنون ان يصبحوا مؤمنين بأن ينــزل الـ عليهــم‬
‫ملكا يهـديهم ‪ ،‬فـي حيـن ان القـرآن بيـن ايـديهم ‪ ،‬وآيـاته الكريمـة مـن‬
‫جــآَءْتُهْم َءاَي ـٌة‬‫شأنها ان ترشدهم ‪ ،‬وعنهم يقول ‪ -‬عز وجــل ‪َ } : -‬وِإَذا َ‬
‫ل { ) النعــام ‪ ، ( 124 /‬فــان‬ ‫لا ّ‬‫سُ‬ ‫ي ُر ُ‬‫ل َمآ ُاوِت َ‬
‫حّتى ُنْؤَتى ِمْث َ‬ ‫ن َ‬ ‫َقاُلوا َلن ُنْؤِم َ‬
‫كان قلب النسان ليخشع حين الستماع الى القــرآن ‪ ،‬وحيــن الصــلة‬
‫والدعاء فهذا دليل على ان ال لم يغفر للنسان اعماله السيئة ‪ ،‬وبــذلك‬
‫تكون هذه العمال حاجزا يحجبه عن ربه ‪.‬‬
‫ومن اليات الخرى لمعرفة النفس تلك التي يشير اليها ‪ -‬عز وجل‬
‫م { ) النعــام ‪/‬‬
‫لِ‬‫سـ َ‬
‫لْ‬‫ص ـْدَرُه ِل ِ‬
‫ح َ‬ ‫شَر ْ‬‫ل َأن َيْهِدَيُه َي ْ‬
‫‪ -‬في قوله ‪َ } :‬فَمن ُيِرِد ا ّ‬
‫‪ ، ( 125‬فالنسان المؤمن ذو قلب منشــرح ‪ ،‬وليجــد فــي نفســه شــحا ‪،‬‬
‫فسنتـه العفو والحسان الى الناس ‪ ،‬وهدفه خدمة المجتمع ‪ .‬فهو يعيش‬
‫دائما في اطمئنان نفسي ‪ ،‬ولكــن الكــافر تجــده دائمــا منقبــض النفــس ‪،‬‬
‫ضـّلُه‬
‫شحيحا بخيل منغلقا كأنما يصّعد فـي السـماء ‪َ } .‬وَمـن ُيـِرْد َأن ُي ِ‬
‫ء {‪.‬‬ ‫سمآ ِ‬ ‫صَعُد ِفي ال ّ‬‫حَرجًا َكَاّنَما َي ّ‬ ‫ضّيقًا َ‬
‫صْدَرُه َ‬ ‫جَعلْ َ‬ ‫َي ْ‬
‫ثم يستأنف ‪ -‬عز وجل ‪ -‬قائل ‪:‬‬

‫ن {‪.‬‬ ‫لُيْؤِمُنو َ‬
‫ن َ‬‫عَلى اّلِذي َ‬ ‫س َ‬ ‫ج َ‬‫ل الّر ْ‬‫لا ّ‬ ‫جَع ُ‬
‫ك َي ْ‬
‫}َكذِل َ‬

‫النفس ‪:‬‬ ‫السبيل الى تزكية‬


‫وهنا ينتقل القرآن الكريم الى الحديث عن تزكيــة النفــس ‪ ،‬وازالــة‬
‫الحجب عنها من خلل التوبـة الـى الـ ‪ -‬جلــت قـدرته ‪ ، -‬فـاذا كـانت‬
‫نفــس النســان منطويــة علــى الحســــد وحــب الــذات وحــب الرئاســة‬
‫والراحــة والتفكير في النانيــات ‪ ،‬فـان هذه‬
‫النفس ليمكنها ان تستقبل رضوان ال ‪ ،‬وتستجيب وتكون مؤهلة له ‪.‬‬

‫ان على النسان ان يزكـي نفسـه لكـي تكـون نفســه هــذه كـالينبوع‬
‫الصافي ‪ ،‬وكالمنظار الشفـاف الذي ينظـر من خـلله الـى كل شيء ‪.‬‬
‫فالنسـان المؤمن ينظر بنور ال ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬وال يزيده نورا على‬
‫نور ‪ ،‬وهذا هو الصراط المستقيم ‪ ،‬والطريق القويم الذي من شأنه ان‬
‫يوصلنا الى اهدافنا ‪ ،‬وتطلعاتنا الحقيقية في أقصر فترة ممكنة ‪.‬‬

‫والنسان بحاجة دوما الى التذكـر والتذكير والعتبار ‪ .‬فالطبيعة من‬


‫حولنــا تــدعونا الــى الــ ‪ ،‬وآيــاته مكتوبــة ومنقوشــة فــي الســماوات‬
‫والرض وفــي انفســنا ‪ ،‬ولكننــا ‪ -‬للســف الشــديد ‪ -‬محجوبــون عنهــا‬
‫بأعمالنــا الســيئة وذنوبنــا وغفلتنــا وبالصــفات الرذيلــة المعششــة فــي‬
‫نفوسنــــا ‪ ،‬وعلينـا ان نصلح انفسنا ونستغفر الـ ‪ -‬سـبحانه وتعـالى ‪-‬‬
‫من سيئات اعمالنا لنتصل دون اي حجاب بآيات ال ‪ ،‬ويتحول كل مــا‬
‫حولنا الى مركز اشعاع لنور اليمان في قلوبنــا ‪.‬‬

‫اليمان باللـه والمواقف العملية‬

‫من المعلوم ان الكفــر واليمــان همــا ممارســتان عمليتــان مختلفتــان‬


‫شدة وضعفا ‪ ،‬فهناك من هو كافر الى ابعـد الحــدود ‪ ،‬وهنـاك مـن هـو‬
‫مؤمن تتجسد فيه الدرجات اليمانية العليا ‪ ،‬والناس بينهمــا متــدرجون‬
‫فــي درجــات مختلفــة كمــا يشــير الــى ذلــك مــا روي عــن أبــي عمــرو‬
‫االزبيري ‪ ،‬عن أبي عبد ال عليه الســلم قــال ‪ :‬قلــت لــه ‪ :‬ايهــا العــالم‬
‫أخبرني أي العمــال أفضل عند الـ ؟ قــال ‪ :‬مــال يقبــل الـ شــيئا ال‬
‫به ‪ ،‬قلت ‪ :‬وما هـو ؟ قـال ‪ ":‬اليمـان بـال الـذي ل الـه ال هـو أعلـى‬
‫العمــال درجــة وأشــرفها منزلــة ‪ ،‬وأســناها حظــا ‪ ،‬قــال ‪ :‬قلــت ‪ :‬أل‬
‫ل هــو وعمــل أم قــول بل عمــل ؟ فقــال ‪:‬‬ ‫تخــبرني عــن اليمــان ؟ أقــو ٌ‬
‫اليمان عمل كله ‪ ،‬والقول بعض ذلك العمل بفرض مــن ال ـ بّيــن فــي‬
‫كتابه ‪ ،‬واضح نوره ثابتة حجته ‪ ،‬يشهد له به الكتاب ‪ ،‬ويــدعوه اليــه ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬قلت صفه لي جعلت فداك حــتى أفهمــه قــال ‪ :‬اليمــان حــالت ‪،‬‬
‫ودرجــات ‪ ،‬وطبقــات ‪ ،‬ومنــازل ‪ :‬فمنه التام المنتهى تمــامه ‪ ،‬ومنــه‬
‫الناقص البيــن‬
‫نقصانه ‪ ،‬ومنه الراجح الزائد رجحانه ‪.‬‬

‫قلت ‪ :‬ان اليمان ليتم وينقص ويزيــد ؟ قــال ‪ :‬نعــم ‪ ،‬قلــت ‪ :‬كيــف‬
‫ذلك ؟ قال ‪ :‬لن ال تبارك وتعالى فــرض اليمـان علــى جــوارح ابــن‬
‫آدم ‪ ،‬وقسمه عليها ‪ ،‬وفرقه فيها ‪ ،‬فليس من جوارحه جارحــة ال وقــد‬
‫وكلت من اليمان بغير ما وكلت به أختهــا فمنهــا قلبــه الــذي بــه يعقــل‬
‫ويفقه ويفهم ‪ ،‬وهو أمير بدنه الذي ل ترد الجوارح ول تصدر ال عن‬
‫رأيه وأمره ‪ ،‬ومنهــا عينــاه اللتــان يبصــر بهمــا ‪ ،‬وأذنــاه اللتــان يســمع‬
‫بهما ‪ ،‬ويداه اللتان يبطش بهما ‪ ،‬ورجله اللتان يمشــي بهمــا ‪ ،‬وفرجــه‬
‫الذي الباه من قبله ‪ ،‬ولسانه الذي ينطق به ‪ ،‬ورأسه الذي فيه وجهــه ‪،‬‬
‫فليس من هذه جارحة ال وقد وكلــت مــن اليمــان بغيــر مــا وكلــت بــه‬
‫أختها بفرض من ال تبــارك وتعــالى اســمه ‪ ،‬ينطــق بــه الكتــاب لهــا ‪،‬‬
‫ويشهد به عليها ‪.‬‬

‫ففرض على القلب غير ما فرض على السمع ‪ ،‬وفرض على السمع‬
‫غير ما فرض على العينين ‪ ،‬وفرض على العينين غير ما فرض على‬
‫اللسان ‪ ،‬وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين وفرض على‬
‫اليدين غير ما فرض على الرجلين ‪ ،‬وفرض علــى الرجليــن غيــر مــا‬
‫فرض على الفرج ‪ ،‬وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه ‪.‬‬

‫فأما ما فرض على القلب مـن اليمـان فـالقرار والمعرفـة والعقـد‬


‫والرضا والتسليم بان ل اله ال الـ وحــده لشــريك لــه إلهــا واحــدا لــم‬
‫يتخذ صاحبة ول ولدا ‪ ،‬وان محمدا عبده ورسـوله صــلوات الـ عليـه‬
‫وآله ‪ ،‬والقرار بما جــاء مــن عنــد الـ مــن نــبي او كتــاب ‪ ،‬فــذلك مــا‬
‫فرض ال على القلب من القرار والمعرفة وهو عمله وهو قــول ال ـ‬
‫ش ـَر َ‬
‫ح‬ ‫ن َوَلِكــن ّمــن َ‬ ‫ليَمــا ِ‬‫ن ِبا ِ‬
‫طَمِئ ّ‬ ‫ن ُاْك ـِرَه َوَقْلُب ـُه ُم ْ‬‫ل َم ـ ْ‬‫عــز وجــل } ِإ ّ‬
‫ن اْلُقُلــو ُ‬
‫ب‬ ‫طمَِئــ ّ‬‫ل َت ْ‬‫ل ِبِذْكــِر ا ِّ‬ ‫صــْدرًا { ) النحل ‪ ( 106 /‬وقال } َأ َ‬ ‫ِباْلُكْفــِر َ‬
‫ن ِفي‬ ‫عــــو َ‬ ‫ساِر ُ‬ ‫ن ُي َ‬‫ك اّلِذي َ‬‫حُزنــ َ‬ ‫ل ل َي ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫{ ) الرعد ‪ ( 28 /‬وقال } َيآ َأّيَها الّر ُ‬
‫م { ) المــائدة ‪( 41 /‬‬ ‫ن ُقُلــوُبُه ْ‬
‫ن َقاُلوا َءاَمّنا ِبـَأْفَواِهِهْم َوَل ـْم ُتـْؤِم ْ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫اْلُكْفِر ِم َ‬
‫لـ َفَيْغِفـُر‬
‫سـْبُكم ِبـِه ا ّ‬ ‫حا ِ‬‫خُفــوُه ُي َ‬
‫سُكــــْم َأْو ُت ْ‬ ‫وقال } َوِإن ُتْبُدوْا َما ِفي َأْنُف ِ‬
‫شآُء { ) البقرة ‪ ( 284 /‬فذلك ما فرض ال عز وجل‬ ‫ب َمن َي َ‬ ‫شآُء َوُيَعّذ ُ‬
‫ِلَمن َي َ‬
‫على القلب من القرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس اليمان ‪.‬‬
‫وفرض ال تعالى على اللسان القول والتعبير عن القلــب بمــا عقــد‬
‫ســنًا {‬ ‫حْ‬‫س ُ‬ ‫عليه وأقر به قال الـ تبــارك وتعــالى اســمه } َوُقوُلــوا ِللّنــا ِ‬
‫ل ِإَلْيُكْم َوِإَلُهَنا‬
‫ل ِإَلْيَنا َوُأنِز َ‬‫) البقرة ‪ ( 83 /‬وقال ‪َ } :‬وُقوُلوا َءاَمّنا ِباّلِذي ُانـِز َ‬
‫ن { ) العنكبــوت ‪ ( 46 /‬فهــذا مـا فـرض الـ‬ ‫سـِلُمو َ‬ ‫ن َلـُه ُم ْ‬ ‫حُ‬ ‫حٌد َوَن ْ‬‫َوِإَلُهُكْم َوا ِ‬
‫تعالى على اللسان وهو عمله ‪.‬‬

‫وفرض على السمع أن يتنزه عن الستماع الى ما حرم الـ ‪ ،‬وان‬


‫يعرض عما ليحل له مما نهى ال عز وجل عنه ‪ ،‬والصغاء الــى مــا‬
‫ن ِإَذا‬ ‫ب َا ْ‬
‫عَلْيُكْم ِفــي اْلِكَتـا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫أسخط ال عز وجل فقال في ذلك } َوَقْد َنّز َ‬
‫حّتــى‬ ‫ل َتْقُع ـُدوا َمَعُه ـْم َ‬ ‫س ـَتْهَزُأ ِبَهــا َف َ‬
‫ل ـ ُيْكَف ـُر ِبَهــا َوُي ْ‬‫ت ا ِّ‬ ‫س ـِمْعُتْم َءاَيــا ِ‬‫َ‬
‫غْيـِرِه { ) النســاء ‪ ( 140 /‬ثــم اســتثنى الـ عــز وجــل‬ ‫ث َ‬ ‫حـِدي ٍ‬ ‫ضوا ِفــي َ‬ ‫خو ُ‬ ‫َي ُ‬
‫ن َفل َتْقُعـْد َبْعـَد‬ ‫طا ُ‬ ‫ش ـْي َ‬
‫ك ال ّ‬ ‫سـَيّن َ‬
‫موضـــع النسـتـيـــان فـقـــال ‪َ } :‬وِإّمــا ُين ِ‬
‫عَبــاِد اّلـِذي َ‬
‫ن‬ ‫شـْر ِ‬ ‫ن{ ) النعــام ‪ ( 68 /‬وقــال } َفَب ّ‬ ‫ظــاِلِمي َ‬
‫الّذْكَرى َمـَع اْلَقـْوِم ال ّ‬
‫ك ُهـْم‬ ‫لُـ َوُأْوَلِئ َ‬
‫ن َهـَداُهُم ا ّ‬ ‫ك اّلـِذي َ‬ ‫سـَنُه ُأْوَلِئ َ‬
‫حَ‬ ‫ن َأ ْ‬‫ل َفَيّتِبُعــو َ‬‫ن اْلَقـْو َ‬
‫سَتِمُعو َ‬ ‫َي ْ‬
‫ن*‬ ‫ح اْلُمْؤِمُنــو َ‬ ‫ب { ) الزمــر ‪ ( 18-17 /‬وقال عز وجــل } َقـْد َأْفَلـ َ‬ ‫لْلَبا ِ‬‫ُأوُلوْا ا َ‬
‫ن*‬ ‫ضــو َ‬ ‫ن الّلْغ ـِو ُمْعِر ُ‬ ‫عِ‬‫ن ُهْم َ‬ ‫ن * َواّلِذي َ‬ ‫شُعو َ‬ ‫خا ِ‬‫لِتِهْم َ‬ ‫صَ‬ ‫ن ُهْم ِفي َ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫س ـِمُعوا الّلْغ ـَو‬ ‫ن { ) المؤمنــون ‪ ( 4-1 /‬وقال } َوإَذا َ‬ ‫عُلو َ‬ ‫ن ُهْم ِللّزَكاِة َفا ِ‬ ‫َواّلِذي َ‬
‫عَماُلُكْم { ) القصــص ‪ ( 55 /‬وقــال }‬ ‫عَماُلَنا َوَلُكْم َأ ْ‬
‫عْنُه َوَقاُلوا َلَنآ َأ ْ‬ ‫ضوا َ‬ ‫عَر ُ‬ ‫َأ ْ‬
‫َوِإَذا َمّروا ِبالّلْغِو َمّروا ِكَرامًا{ ) الفرقــان ‪ ( 72 /‬فهــذا مــا فــرض الـ علــى‬
‫السمع من اليمان ان ليصغي الى ما ليحل له وهو عمله ‪ ،‬وهو مــن‬
‫اليمان ‪.‬‬
‫وفرض على البصر ان لينظر الى ما حرم ال عليه ‪ ،‬وان يعرض‬
‫عما نهى ال عنه مما ليحل له وهو عمله ‪ ،‬وهــو مـن اليمـان ‪ ،‬فقــال‬
‫ظـــوا‬ ‫حَف ُ‬
‫صــاِرِهْم َوَي ْ‬‫ن َأْب َ‬
‫ضــوا ِمـ ْ‬ ‫ن ُيُغ ّ‬ ‫ال تبــارك وتعــالى} ُقــل ّلْلُمـْؤِمِني َ‬
‫جُهـــْم { ) النــور ‪ ( 30 /‬فنهاهم من ان ينظــــروا الــى عــوراتهم ‪ ،‬وان‬ ‫ُفُرو َ‬
‫ينظر المرء الى فرج أخيه ‪ ،‬ويحفظ فرجه من أن ُينظر إليه ‪ ،‬وقال }‬
‫ن { ) النــور ‪/‬‬ ‫جُهـ ّ‬‫ن ُفُرو َ‬
‫ظـ َ‬ ‫حَف ْ‬
‫ن َوَي ْ‬‫صــاِرِه ّ‬ ‫ن َأْب َ‬‫ن ِمـ ْ‬ ‫ضَ‬‫ض ْ‬ ‫ت َيْغ ُ‬
‫َوُقل ّلْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫‪ ( 31‬من ان ينظر احداهن الى فــــرج اختهـا ‪ ،‬وتحفــظ فرجهــا مـن ان‬
‫ُينظر اليها ‪ ،‬وقال ‪" :‬كل شيء في القرآن من حفظ الفــرج ‪ ،‬فهــو مــن‬
‫الزنا إل هذه الية فانها من النظر " ‪. ((1‬‬

‫ثم نظم مــا فــرض علــى القلــب واللســان والســمع والبصــر فــي آيــة‬
‫سـْمُعُكْم َول‬ ‫عَلْيُكـْم َ‬
‫شـَهَد َ‬‫ن َأن َي ْ‬ ‫سـَتِتُرو َ‬ ‫اخــــرى فقـال ‪َ } :‬وَمـا ُكنُتـْم َت ْ‬
‫جُلوُدُكْم { ) فصلت ‪ ( 22 /‬يعني بالجلود الفــروج والفخــاذ ‪،‬‬ ‫ل ُ‬
‫صاُرُكْم َو َ‬ ‫َأْب َ‬
‫ك َكــا َ‬
‫ن‬ ‫صَر ُكـلّ ُأْوَلِئ َ‬‫سْمَع َواْلَب َ‬ ‫ن اْل ّ‬
‫عْلٌم ِإ ّ‬
‫ك ِبِه ِ‬‫س َل َ‬‫ف َما َلْي َ‬
‫ل َتْق ُ‬‫وقال } َو َ‬
‫ل { ) الســراء ‪ ( 36 /‬فهـذا مـا فــــرض الـ علـى العينيـن مـــن‬ ‫سُؤو ً‬ ‫عْنُه َم ْ‬
‫َ‬
‫غــض البصر عمـا حرم ال وهو عملهمـــا ‪ ،‬وهـو‬
‫مــن اليــمــان ‪.‬‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫وذلك لن حفظ الفرج ههنا قد قرن بغض البصر ‪ ،‬فصار كل واحد منهما قرينة متممة للمراد مــن الخــر‬
‫نافية لطلقه ‪ ،‬على حد صنعة الحتباك كما في قوله تعالى ‪ " :‬ال الذي جعل لكم الليـل لتســكنوا فيـه والنهــار‬
‫مبصرا )غافر ‪ (61 /‬ومثله قوله تعالى ‪ " :‬هو الذي جعل لكم الليل لتســكنوا فيـه والنهــار مبصــرا " )يـونس ‪/‬‬
‫‪ (67‬فان تقدير اليتين ‪ :‬جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتبتغوا فيه مـن فضـله ‪ .‬وهكـذا هنـا‬
‫‪ .‬تقدير الية ‪ :‬قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم من فروج المؤمنين ويحفظوا فروجهم من أبصار المؤمنين‬
‫وفرض ال على اليدين ان ل يبطــش بهمــا الــى مــا حــرم الـ وان‬
‫يبطش بهما الى ما أمــر الـ عــز وجــل وفــرض عليهمــا مــن الصــدقة‬
‫وصلة الرحم والجهاد في سبيل الـ والطهــور للصــلوات فقــال ‪َ } :‬يــآ‬
‫جــوَهُكْم َوَأْي ـِدَيُكْم ِإَلــى‬ ‫سُلوا ُو ُ‬ ‫غِ‬‫لِة َفا ْ‬
‫ص َ‬ ‫ن َءاَمُنوا ِإَذا ُقْمُتْم ِإَلى ال ّ‬ ‫َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن { ) المــائدة ‪ ( 6 /‬وقـال‬ ‫جَلُكْم ِإَلى اْلَكْعَبْيـ ِ‬
‫سُكْم َوَأْر ُ‬‫حوا ِبُرُؤو ِ‬ ‫سُ‬ ‫ق َواْم َ‬ ‫اْلَمَراِف ِ‬
‫شـّدوا‬ ‫خنُتمُــوُهْم َف ُ‬ ‫حّتــى ِإَذآ َأْث َ‬‫ب َ‬ ‫ب الّرَقــا ِ‬‫ضـْر َ‬ ‫ن َكَفُروا َف َ‬ ‫} َفِإَذا َلِقيُتُم اّلِذي َ‬
‫ها { ) محمـــد ‪( 4 /‬‬ ‫ب َأْوَزاَر َ‬ ‫حْر ُ‬ ‫ضَع اْل َ‬‫حّتى َت َ‬ ‫ق َفِإّما َمّنًا َبْعُد َوِإّما ِفَدآًء َ‬‫اْلَوَثا َ‬
‫فهذا ما فرض ال على اليدين لن الضرب من علجهما ‪.‬‬

‫وفرض على الرجلين ان ليمشي بهما الى شيء من معاصي ال ‪،‬‬


‫ل َتْم ِ‬
‫ش‬ ‫وفرض عليهما المشي الى ما يرضي ال عز وجل فقال ‪َ } :‬و َ‬
‫ل{‬ ‫طــو ً‬ ‫ل ُ‬ ‫جَبــا َ‬‫ض َوَلــن َتْبُل ـَغ اْل ِ‬‫لْر َ‬ ‫قا َ‬ ‫خ ـِر َ‬‫ك َلــن َت ْ‬
‫ض َمَرحًا ِإّن َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ِفي ا َ‬
‫ن َأنَكَر‬ ‫ك ِإ ّ‬‫صْوِت َ‬ ‫ض ِمن َ‬ ‫ض ْ‬ ‫غ ُ‬ ‫ك َوا ْ‬‫شِي َ‬‫صْد ِفي َم ْ‬ ‫) السراء ‪ ( 37 /‬وقال ‪َ} :‬واْق ِ‬
‫حِمي ـِر{ ) لقمـــان ‪ ( 19 /‬وقــال فيمــا شــهدت اليــدي‬ ‫ت اْل َ‬
‫ص ـْو ُ‬ ‫ت َل َ‬ ‫لصْ ـَوا ِ‬ ‫اَ‬
‫والرجل على انفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما لما أمر ال ـ عــز‬
‫عَلــى َأْفـَواِهِهْم َوُتَكّلُمَنــآ َأْيـِديِهْم‬ ‫خِتـُم َ‬‫وجل به وفرضه عليهما } اْلَيـْوَم َن ْ‬
‫ن { ) يس ‪ ( 65 /‬فهذا ايضا مما فرض ال‬ ‫سُبو َ‬ ‫جُلُهم ِبَما َكاُنوا َيْك ِ‬ ‫شَهُد َأْر ُ‬ ‫َوَت ْ‬
‫على اليدين وعلى الرجلين ‪ ،‬وهو عملهما ‪ ،‬وهو من اليمان ‪.‬‬

‫وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصــلة‬


‫عُبـُدوا َرّبُكـْم َواْفَعُلــوا‬ ‫جُدوا َوا ْ‬ ‫سـ ُ‬‫ن َءاَمُنوا اْرَكُعــوا َوا ْ‬ ‫فقال } َيآ َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن { ) الحــج ‪ ( 77 /‬فهـذه فريضــة جامعــة علــى الــوجه‬ ‫حو َ‬ ‫خْيَر َلَعّلُكْم ُتْفِل ُ‬‫اْل َ‬
‫لـ َف َ‬
‫ل‬ ‫جَد ِّ‬ ‫ســا ِ‬‫ن اْلَم َ‬
‫واليــدين والرجليــن ‪ ،‬وقــال فــي موضــع آخــر } َوَأ ّ‬
‫حدًا{ )الجن ‪( 18 /‬‬ ‫ل َأ َ‬‫عوْا َمَع ا ِّ‬ ‫َتْد ُ‬
‫وقال فيما فرض على الجوارح من الطهور والصلة بها ‪ ،‬وذلك ان‬
‫ال عز وجل لما صرف نبيه ) صلى ال عليه واله وسلم ( الى الكعبــة‬
‫ضيَع ِإيَماَنُكْم‬‫ل ِلُي ِ‬ ‫نا ّ‬ ‫عن البيت المقدس فأنزل ال عز وجل } َوَمــا َكا َ‬
‫حيٌم { ) البقرة ‪ ( 143 /‬فسمى الصلة ايمانا ‪ ،‬فمن‬ ‫ف َر ِ‬ ‫س َلَرُؤو ٌ‬ ‫ل ِبالّنا ِ‬ ‫نا ّ‬ ‫ِإ ّ‬
‫لقي ال عز وجل حافظا لجوارحه ‪ ،‬موفيا كل جارحة من جوارحه ما‬
‫فرض ال عز وجل عليها لقي ال تعالى مستكمل ليمانه ‪ ،‬وهـــو مــن‬
‫أهل الجنة ‪ .‬ومن خان في شيء منها ‪ ،‬او تعدى ما أمر ال عــز وجــل‬
‫فيها ‪ ،‬لقي ال عز وجل ناقص اليمان ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬قد فهمت نقصان اليمـان وتـمامه فمن أين جاءت زيــادته ‪،‬‬
‫ل َأّيُك ـْم‬‫سوَرٌة َفِمْنُهم َمن َيُقــو ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫فقال ‪ :‬قول ال عز وجل } وِإَذا َمآ ُاْنِزَل ْ‬
‫ن*‬ ‫شـُرو َ‬ ‫سَتْب ِ‬
‫ن َءاَمُنــوا َفَزاَدْتُهـْم ِإيَمانـًا َوُهـْم َي ْ‬ ‫َزاَدْتُه َهِذِه ِإيَمانًا َفَاّما اّلِذي َ‬
‫م { ) التوبـــة ‪-124 /‬‬ ‫سِه ْ‬
‫جِ‬ ‫جسًا ِإَلى ِر ْ‬ ‫ض َفَزاَدْتُهْم ِر ْ‬ ‫ن ِفي ُقُلوِبِهم َمَر ٌ‬ ‫َوَأّما اّلِذي َ‬
‫ق ِإّنهْم ِفْتَيٌة َءاَمُنــوا ِبَرّبِه ـْم‬
‫حّ‬‫ك َنَبَاُهم ِباْل َ‬‫عَلْي َ‬
‫ص َ‬ ‫ن َنُق ّ‬ ‫حُ‬ ‫‪ ( 125‬وقال ‪َ } :‬ن ْ‬
‫َوِزْدَنــاُهْم ُه ـًدى { ) الكهــف ‪ (13 /‬ولــو كــان كلــه واحــدا ل زيــادة فيــه ول‬
‫نقصان ‪ ،‬لم يكن لحد منهــم فضل على الخر ‪ .‬ولستوت النعم فيه ‪،‬‬
‫ولستوى الناس ‪ ،‬وبطل التفضيل ولكن بتمام اليمان دخــل المؤمنــون‬
‫الجنة ‪ ،‬وبالزيادة فــي اليمــان تفاضــل المؤمنــون بالــدرجات عنــد الـ‬
‫‪((1‬‬
‫وبالنقصان دخل المفرطون النار ‪.‬‬
‫)‪1‬‬
‫(‬
‫الكافي ج ‪ 2‬ص ‪37-33‬‬
‫قال ‪ :‬قلت له ‪ :‬ان لليمان درجــات ومنـازل ‪ ،‬ويتفاضــل المؤمنــون‬
‫فيها عند ال ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قلت ‪ :‬صفــه لي رحمك ال ـ حــتى أفهمــه ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬ان ال سبق بين المؤمنيــن كما يسبق بين الخيل يوم الرهان ‪ ،‬ثم‬
‫فضلهم على درجاتهم فــي السـبق اليــه ‪ ،‬فجعـل كــل امـرء منهــم علــى‬
‫درجة ســبقه ‪ ،‬لينقصــه فيهــا مــن حقــه ‪ ،‬وليتقــدم مســبوق ســابقا ول‬
‫مفضول فاضل ‪ ،‬تفاضل بذلك أوائل هذه المة وأواخرهــا ‪ ،‬ولــــو لــم‬
‫يكن للسابق الى اليمان فضــل علــى المســبوق ‪ ،‬اذن للحــق آخــر هــذه‬
‫المة أولها ‪ ،‬نعم ولتقدموهم اذا لم يكن لمن سبق الــى اليمــان الفضــل‬
‫علــى مــن أبطــأ عنــه ‪ ،‬ولكــن بــدرجات اليمــان قــدم ال ـ الســابقين ‪،‬‬
‫وبالبطاء عن اليمان أخر ال المقصرين لنا نجد مــن المــؤمنين مــن‬
‫الخريــن من هو أكثر عمل مـن الوليـن ‪ ،‬واكـثرهم صــلة وصــوما‬
‫وحجا وزكاة وجهادا وانفاقا ‪ ،‬ولو لم يكن سوابق يفضل بها المؤمنون‬
‫بعضهم بعضا عند الـ ‪ ،‬لكــان الخــرون بكــثرة العمــل مقــدمين علــى‬
‫الولين ولكن أبى ال عز وجل ان يدرك آخر درجــات اليمــان اولهــا‬
‫ويقدم فيها من أخر ال ‪ ،‬او يؤخر فيها مــن قــدم الـ ‪ .‬قلــت ‪ :‬أخــبرني‬
‫عما ندب ال عز وجل المؤمنين اليه الى الستباق فقال ‪ :‬قول ال عــز‬
‫سـَمآِء‬
‫ض ال ّ‬‫ضـَها َكَعـــْر ِ‬ ‫عْر ُ‬ ‫جّنـٍة َ‬‫ساِبُقوا ِإَلى َمْغِفَرٍة ِمن َرّبُكـْم َو َ‬ ‫وجل} َ‬
‫س ـِلِه { ) الحديــد ‪ ( 21 /‬وقــال ‪} :‬‬ ‫ل َوُر ُ‬ ‫ن َءاَمُنــوا ِبــا ِّ‬‫ت ِلّل ـِذي َ‬
‫ع ـّد ْ‬
‫ض ُا ِ‬
‫لْر ِ‬ ‫َوا َ‬
‫ن { ) الواقعـــة ‪ ( 11-10 /‬وقــال }‬ ‫ك اْلُمَقّرُبـــو َ‬ ‫ن * ُأْوَلِئ َ‬‫ســاِبُقو َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ســاِبُقو َ‬‫َوال ّ‬
‫ســا ٍ‬
‫ن‬ ‫حَ‬ ‫ن اّتَبُعوُهم بِإ ْ‬
‫صاِر َواّلِذي َ‬
‫لْن َ‬ ‫ن َوا َ‬ ‫جِري َ‬ ‫ن اْلُمَها ِ‬‫ن ِم َ‬ ‫لّوُلو َ‬‫نا َ‬ ‫ساِبُقو َ‬
‫َوال ّ‬
‫عْنـُه { ) التوبة ‪ ( 100 /‬فبدأ بالمهـاجرين الوليــن‬ ‫ضوا َ‬ ‫عْنُهْم َوَر ُ‬ ‫ل َ‬ ‫يا ّ‬ ‫َرضِ َ‬
‫على درجة سبقهم ‪ ،‬ثم ثنى بالنصار ‪ ،‬ثم ثلث بالتابعين لهم باحسان ‪،‬‬
‫فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده ‪.‬‬

‫ثم ذكر ما فضل ال عز وجل به اولياءه بعضهم على بعض ‪ ،‬فقال‬


‫لـ‬ ‫ض ِمْنُهم َمن َكّل ـَم ا ّ‬ ‫عَلى َبْع ٍ‬ ‫ضُهْم َ‬ ‫ضْلَنا َبْع َ‬ ‫ل َف ّ‬ ‫سُ‬‫ك الّر ُ‬ ‫عز وجل ‪ِ } :‬تْل َ‬
‫ت { ) البقــرة ‪ ( 253 /‬الى آخر اليــة ‪ ،‬وقــال ‪َ } :‬وَلَقـْد‬ ‫جا ٍ‬ ‫ضُهْم َدَر َ‬ ‫َوَرَفَع َبْع َ‬
‫ظـْر َكْيـ َ‬
‫ف‬ ‫ض { ) الســراء ‪ ( 55 /‬وقـال } ان ُ‬ ‫عَلـى َبْعـ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫ض الّنِبّييـ َ‬‫ضْلَنا َبْع َ‬‫َف ّ‬
‫ل{‬ ‫ضــي ً‬‫ت َوَأْكَبـُر َتْف ِ‬ ‫جــا ٍ‬ ‫خـَرُة َأْكَبـُر َدَر َ‬ ‫لِ‬ ‫ض َوَل َ‬ ‫عَلــى َبْعـ ٍ‬ ‫ضُهْم َ‬ ‫ضْلنا َبْع َ‬‫َف ّ‬
‫ل ـ { ) آل عمـــران ‪ ( 163 /‬وقــال‬ ‫عْن ـَد ا ِّ‬
‫ت ِ‬ ‫جــا ٌ‬ ‫) الســـراء ‪ ( 21 /‬وقــال } ُه ـْم َدَر َ‬
‫ن َءاَمُنــوا‬ ‫ضــَلُه { ) هـــود ‪ ( 3 /‬وقــال } اّلــِذي َ‬ ‫ل َف ْ‬ ‫ضــ ٍ‬‫ل ِذي َف ْ‬ ‫ت ُكــ ّ‬‫} َوُيــْؤ ِ‬
‫عنـَد‬ ‫ج ـًة ِ‬ ‫ظـُم َدَر َ‬‫عَ‬ ‫سـِهْم َأ ْ‬‫ل ِبَاْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ‬ ‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫جاَهَدوا ِفي َ‬ ‫جُروا َو َ‬ ‫َوَها َ‬
‫جَرًا‬‫ن َأ ْ‬ ‫عِدي َ‬‫عَلى اْلَقا ِ‬‫ن َ‬ ‫جاِهِديــــ َ‬ ‫ل اْلُمـ َ‬ ‫لا ّ‬ ‫ضَ‬‫ل { ) التوبة ‪ ( 20 /‬وقال } َوَف ّ‬ ‫ا ّ‬
‫حَمـًة { ) النســاء ‪ ( 96-95 /‬وقــال ‪َ } :‬‬
‫ل‬ ‫ت ِمْنـُه َوَمْغِفـَرًة َوَر ْ‬ ‫جا ٍ‬ ‫ظيمًا * َدَر َ‬ ‫عِ‬ ‫َ‬
‫جـًة ِمـ َ‬
‫ن‬ ‫ظـُم َدَر َ‬ ‫عَ‬ ‫ك َأ ْ‬
‫ل ُاْوَلِئ َ‬‫ح َوَقاَتـ َ‬‫ل اْلَفْتـ ِ‬‫ق ِمـن َقْبـ ِ‬ ‫ن َأنَفـ َ‬‫سَتِوي ِمنُكم َم ْ‬ ‫َي ْ‬
‫ن َءاَمُنوا‬ ‫لُ اّلِذي َ‬
‫ن َأنَفُقوا ِمن َبْعُد َوَقاَتُلوا { ) الحديد ‪ ( 10 /‬وقال } َيْرَفِع ا ّ‬ ‫اّلِذي َ‬
‫ك ِب ـَاّنُهْم َ‬
‫ل‬ ‫ت { ) المجادلـــة ‪ ( 11 /‬وقال } َذِل َ‬ ‫جا ٍ‬ ‫ن ُاوُتوا اْلِعْلَم َدَر َ‬ ‫ِمنُكْم َواّلِذي َ‬
‫طئًا‬ ‫ن َم ـْو ِ‬ ‫ط ـُأو َ‬‫ل َول َي َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬‫صٌة ِفي َ‬ ‫خَم َ‬ ‫ل َم ْ‬ ‫ب َو َ‬‫ص ٌ‬ ‫ظَمٌأ َول َن َ‬ ‫صيُبُهْم َ‬‫ُي ِ‬
‫ح{‬ ‫صــاِل ٌ‬
‫ل َ‬ ‫ب َلُهــم ِبـِه عََمـ ٌ‬‫ل ُكِتـ َ‬ ‫ل ِإ ّ‬‫عـُدّو َنْي ً‬ ‫ن َ‬ ‫ن ِم ْ‬ ‫ظ اْلُكّفاَر َول َيَناُلو َ‬ ‫َيِغي ُ‬
‫ل { ) البقرة‬ ‫جُدوُه عِْنَد ا ّ‬ ‫خْيٍر َت ِ‬‫ن َ‬ ‫سُكْم ِم ْ‬ ‫لْنُف ِ‬
‫) التوبة ‪ ( 120 /‬وقال } َوَما ُتَقّدُموا َ‬
‫ل ِمْثَقـا َ‬
‫ل‬ ‫خْيرًا َيـَرُه * َوَمـن َيْعَمـ ْ‬ ‫ل َذّرٍة َ‬ ‫ل ِمْثَقا َ‬‫‪ ( 110 /‬وقـــال } َفَمن َيْعَم ْ‬
‫شّرا َيَرُه { ) الزلزلة ‪ ( 8-7 /‬فهذا ذكر درجات اليمان ومنازله عند ال‬
‫َذّرٍة َ‬
‫‪((1‬‬
‫عز وجل " ‪.‬‬

‫تقهر ‪:‬‬ ‫اليمان قوة ل‬


‫وهكـذا فان الغالبية العظمى من الناس ما تزال تعيش تحــت طبقــات‬
‫متراكمــة ‪ ،‬وحجــب كثيفــة ‪ ،‬ول يحــاولون استنشــاق الهــواء الطلــق ‪،‬‬
‫والعيش في الدفء الذي يعطيه اليمان للنسان ‪ ،‬ولــو جــرب الواحــد‬
‫منــا ان يكــون مؤمنــا صــادقا فــي المواقــف الصــعبة الــتي يواجههــا‬
‫لدركنــا حينئذ ان اليمان قوة ل يمكن ان تقهر ‪ ،‬وانه حرية ل تحد ‪،‬‬
‫وأفق ل ترى له نهاية ‪ ،‬وانه هو الحيــاة الحقيقيــة ‪ ،‬وان مانعيشــه الن‬
‫ما هو ال موت محدود اي ان حياتنا بسيطة ساذجة ومحدودة للغاية ‪.‬‬

‫والقرآن الكريم يريد ان يحمل النسان الى الفق العلــى الــذي هــو‬
‫افق اليمان ‪ ،‬ولو اننا تدبرنا في آية من آياته الكريمة ‪ ،‬ونظرنا الى ما‬
‫حولنا في الكون من خلل بصـائره النيـرة ‪ ،‬وتســلحنا بضـيائه ونـوره‬
‫لستطعنا ان ننتفع بهذا الكتاب العظيم ‪ ،‬ونعيش اللحظات اليمانيــة او‬
‫بالحرى الحياة اليمانية ‪.‬‬

‫ان نظرتنا الى الكون يحددها ايماننا او كفرنا ‪ ،‬والعــالم المحيــط بنــا‬
‫ليس ال آية من آيــات ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬بل اني اكاد اقــول ان النســان‬
‫المؤمن هــو الــذي يــرى العــالم ‪ ،‬وان النســان الكــافر ل يــرى شــيئا ‪،‬‬
‫)‪1‬‬
‫(‬
‫الكافي ج ‪ 2‬ص ‪ / 42-40‬موسوعة بحار النوار ‪ /‬ج ‪ 66‬ص ‪29-23‬‬
‫فالنسان المؤمن يعتقد بحقانية الكون بنــور اليمــان ‪ ،‬ويــؤمن بصــدق‬
‫نفسه ‪ ،‬ويثــق انه مــوجود ‪ ،‬اما النسـان المشرك فانه ل يؤمن بنفسه‬
‫لنه ل يـؤمـن بـال ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬فالذي يخضع للهوى ل يؤمن بنفســه ‪،‬‬
‫والذي يستسلم لضغط الرهاب ‪ ،‬وينقــاد لريــاح المجتمــع ل يمكــن ان‬
‫يؤمن بنفسه ‪ ،‬فمن آمن بنفسه ‪ ،‬ووثق بأنه انسان حي ‪ ،‬وكيان مســتقل‬
‫كيف يسمح لنفسه ان يكــون نجمــا فــي افــق الخريــن ‪ ،‬وكيــف يســمح‬
‫لنفســه ان يكــون ريشــة فــي مهــب الــــــــرياح الجتماعيــة ‪ ،‬وكيــف‬
‫يستسلم الذي تذوق حلوة مناجـــاة الـ ‪ -‬سـبحانه وتعـالى ‪ -‬ويرضــى‬
‫لنفسه ان يناجي البشر ويخضع لهم ؟!‬
‫ان المؤمنين الحقيقيين يذكرون ال قياما وقعودا وعلى جنوبهم ‪ ،‬ول‬
‫يستبد بهم غــرور القــــوة ‪ ،‬ول يبطرهـــم طغيــــان الستغنــــاء ‪} : ،‬‬
‫ن ِفــي‬
‫جُنوِبِهـــْم َوَيَتَفّكـــُرو َ‬
‫عَلـــى ُ‬
‫ل ِقَيــــامًا َوُقُعــــودًا َو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ن َيْذُكُرو َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫ض { ) آل عمران ‪ ، (191 /‬فالنسان الذي ل يفكر ل‬ ‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬ ‫سمــاَوا ِ‬‫ق ال ّ‬‫خْل ِ‬
‫َ‬
‫يساوي شيئا لن الفكر هو ميزة النسان ‪ ،‬والمؤمن هو الذي يدرك ان‬
‫الكــون لــم يخلــق بــاطل فــي حيــن ان النســان الكــافر ل يــدرك هــذه‬
‫الحقيقة ‪.‬‬

‫بصيرة ‪:‬‬ ‫اليمان‬


‫وبالضــافة الــى ذلــك فــان اليمــان بصــيرة ‪ ،‬ومــن ل يمتلــك هــذه‬
‫البصيرة ل يمتلك معرفة وعلما ‪ ،‬ول يــؤمن بوجــود الكــون كمــا كــان‬
‫حال الغريق الذين قالوا قبل اربعة الف عام ان الكــون وهــم ‪ ،‬وانــه‬
‫مجــرد ظلل للمرايــا ليــس ال ‪ ،‬فصــرحوا بحقيقــة كفرهــم ‪ ،‬وانطبــق‬
‫ل {)‬ ‫سِبي ً‬‫ل َ‬ ‫ضّ‬ ‫ل ُهْم َأ َ‬ ‫لْنَعاِم َب ْ‬
‫ل َكا َ‬ ‫ن ُهْم ِإ ّ‬‫عليهم قوله ‪ -‬عز وجل ‪ِ } : -‬إ ْ‬
‫الفرقـــان ‪ ، ( 44 /‬فالنســان الجاهــل ل يفهــم لن عــدم الفهــم مــن طبيعــة‬
‫الجهل ‪ ،‬والكافر ل يفهم ول يفقــه شــيئا والــدليل علــى ذلــك ان القــرآن‬
‫الكريــم مــن بــدايته الــى نهــايته يؤكــد علــى ان الكفــار والمشــركين ل‬
‫يعقلون ‪ ،‬ول يفقهون ‪ ،‬ول يشعرون ‪ ،‬ول يعلمون ‪ ،‬وان على اعينهــم‬
‫غشاوة ‪ ،‬وفي قلوبهم مرض ‪ ،‬وانهم صم بكم عمي ‪.‬‬

‫ان الكفر ليس حالة بعيدة عنا بل هو على درجات وقد تكون بعض‬
‫هــذه الــدرجات فــي انفســنا ‪ ،‬فلنحــاول ان ل ندعــــي اليمــان ونحــن‬
‫بعيدون عن آيات القرآن ‪ ،‬بل لنحاول ان نجســد علمـات اليمـان فـي‬
‫انفسنا ‪ ،‬وفي هــذا المجــال يــروى ان رجل جــاء الــى المــام الصــادق‬
‫) عليه السلم ( فقال له ‪ :‬يابن رسول ال كيف اعــرف اننــي مــؤمن ؟‬
‫فقال له المـــام ) عليه السلم ( ‪ " :‬اعــرض نفســك علــى القــرآن " ‪،‬‬
‫فالقرآن الكريم هو الذي يحدد هل نحن مؤمنون ام ل ؟ لنه قــد وضــع‬
‫مقــاييس ثابتــة لليمــان فــي آيــات كــثيرة منهــا قــوله ‪ -‬تعــالى ‪ِ } :-‬إّنَمــا‬
‫ت عََلْيِهـْم َءاَيــاُتُه‬
‫ت ُقُلــوُبُهْم َوِإَذا ُتِلَيـ ْ‬
‫جَلـ ْ‬ ‫لـ َو ِ‬‫ن ِإَذا ُذِكـَر ا ّ‬
‫ن اّلـِذي َ‬
‫اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫ن { ) النفــال ‪ ، ( 2 /‬وقــوله ‪َ } :‬قـْد َأْفَل ـ َ‬
‫ح‬ ‫على َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ‬
‫َزاَدْتُهْم ِإيَمانًا َو َ‬
‫ن { ) المؤمنــون ‪ ( 2-1 /‬فلنعرض‬ ‫شُعو َ‬ ‫خا ِ‬‫لِتِهْم َ‬ ‫صَ‬ ‫ن ُهْم ِفي َ‬ ‫ن * اّلِذي َ‬‫اْلُمْؤِمُنو َ‬
‫انفسنا على كتاب ال فانه هو الفرقان والميزان ‪.‬‬
‫وللسف فاننا نعيش في وهم وضــلل فنعتقــد اننــا مؤمنــون ‪ ،‬واننــا‬
‫نعرف الدنيا في حين اننا جاهلون فــي الحقيقــة ‪ ،‬وعـــن هـــؤلء يقــول‬
‫ك‬
‫سـُهْم ُاْوَلِئ َ‬
‫سـاُهْم َأنُف َ‬
‫لـ َفَان َ‬
‫سوا ا َّ‬
‫ن َن ُ‬
‫ل َتُكوُنوا َكاّلِذي َ‬
‫القـرآن الكريم ‪َ } :‬و َ‬
‫ن{ ) الحشر ‪ ، ( 19 /‬فان كان الواحد منا عـادل فلمــاذا يــذنب ‪،‬‬ ‫سُقو َ‬
‫ُهُم اْلَفا ِ‬
‫ويغتاب ‪ ،‬ويتهم ‪ ،‬وينطق بالبذيء مـن القول ‪ ،‬ويسيء الظن ‪ ،‬ولمــاذا‬
‫جاِهُدوا‬ ‫ل يجاهد في سبيل ال ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬والقــرآن الكريم يقول ‪َ } :‬و َ‬
‫طْعُتْم‬
‫سَت َ‬‫ل َما ا ْ‬‫جَهاِده { ) الحج ‪ ( 78 /‬ويقول ايضــا ‪َ } :‬فاّتُقوا ا َّ‬ ‫ق ِ‬‫حّ‬ ‫ل َ‬ ‫ِفي ا ِّ‬
‫{ ) التغابن ‪. ( 16 /‬‬
‫وهكذا فان النسان الفاســــق المشــرك يجهـل فـي حيــن ان النســان‬
‫المؤمن يدرك الحيــاة ‪ ،‬ويعيــش فــي النــور ‪ ،‬امـا النســان الظــالم فهــو‬
‫يعيش في الظلم ‪ ،‬وكلما ازداد كفــرا ازداد ظلمــا وجهل وبعــدا عــن‬
‫الحقائق الموجودة في الكون ‪.‬‬

‫الكريم ‪:‬‬ ‫اليمان في القرآن‬


‫وفي سورة النعام المباركة نقرأ اليات التالية التي تبين لنا الحقائق‬
‫الكونية ‪ ،‬ودور اليمان في فهمها ‪:‬‬

‫ت َوالّنوَر‬ ‫ظلَُما ِ‬ ‫ل ال ّ‬
‫جَع َ‬
‫ض َو َ‬ ‫لْر َ‬ ‫ت َوا َ‬ ‫سماَوا ِ‬ ‫ق ال ّ‬‫خَل َ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫حْمُد ِّ‬
‫} اْل َ‬
‫ضــى‬ ‫ن ُثـّم َق َ‬ ‫طيـ ٍ‬‫خَلَقُكــم ِمــن ِ‬
‫ن * ُهَو اّلـِذي َ‬ ‫ن َكَفُروا ِبَرّبِهْم َيْعِدُلو َ‬‫ُثّم اّلِذي َ‬
‫ســماَوا ِ‬
‫ت‬ ‫ل ـ ِفــي ال ّ‬ ‫ن * َوُه ـَو ا ّ‬ ‫عنَدُه ُثّم َأْنُتْم َتْمَت ـُرو َ‬
‫سّمى ِ‬ ‫ل ُم َ‬‫جٌ‬‫ل َوَأ َ‬
‫جً‬ ‫أَ‬
‫ن * َوَما َت ـْأِتيِهم ِم ـ ْ‬
‫ن‬ ‫سُبو َ‬‫جْهَرُكْم َوَيْعَلُم َما َتْك ِ‬ ‫سّرُكْم َو َ‬ ‫ض َيْعَلُم ِ‬ ‫لْر ِ‬ ‫َوِفي ا َ‬
‫ق َلّمــا‬‫حّ‬ ‫ن * َفَقْد َكّذُبوا ِبــاْل َ‬ ‫ضي َ‬
‫عْنَها ُمْعِر ِ‬ ‫ل َكاُنوا َ‬ ‫ت َرّبِهْم ِإ ّ‬ ‫ن َءاَيا ِ‬ ‫َءاَيٍة ِم ْ‬
‫ن * َأَلـْم َيـَرْوا َكـْم‬ ‫سـَتْهِزُءو َ‬‫ف َيْأِتيِهْم َأْنَبآُؤْا َمــا َكــاُنوا ِبـِه َي ْ‬
‫سْو َ‬ ‫جآَءُهْم َف َ‬ ‫َ‬
‫سـْلَنا‬
‫ض َما َلْم ُنَمّكــن َلُكـْم َوَأْر َ‬‫لْر ِ‬ ‫ن َمّكّناُهْم ِفي ا َ‬ ‫َأْهَلْكَنا ِمن َقْبِلِهْم ِمن َقْر ٍ‬
‫حِتهِـْم َفَاْهَلْكَنــاُهم‬
‫جـِري ِمــن َت ْ‬ ‫لْنَهــاَر َت ْ‬
‫جَعْلَنــا ا َ‬
‫عَلْيِهــم ِمـْدَرارًا َو َ‬ ‫سمآَء َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن { ) النعام ‪( 6-1 /‬‬‫خِري َ‬ ‫شْأَنا ِمن َبْعِدِهْم َقْرنًا َءا َ‬ ‫ِبُذُنوِبِهْم َوَأْن َ‬
‫واستنادا الى هذه اليات الكريمــة سنوضح بعض المثلة تأييدا لما‬
‫سبق ان ذكرناه ‪ ،‬ان ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول ‪ " :‬الحمد ل " هــذه‬
‫الكلمة العظيمة التي لو نطقهــا النســان بصــدق لعاشــت كــل جــوارحه‬
‫وجــوانحه البهجــة والســرور والنفتــاح ‪ ،‬فعنــدما يتمتــم النســان بهــذه‬
‫الكلمــة لبــد ان ينشــرح صــدره ‪ ،‬ويعيــش ذكــر نعــم الـ عليــه كنعمـة‬
‫البصار ‪ ،‬والسمع ‪ ،‬والعافية ‪ ،‬والمن ومليين النعم الخرى الــتي ل‬
‫يمكن ان تعد وتحصى ‪.‬‬

‫ثم يقرر ‪ -‬تعالى ‪ -‬اننا محدودون بأجل معيــن مــن قبــل ومــن بعــد ‪،‬‬
‫وأجل معلق علــى رأس النســان ‪ ،‬واخــر ينتظــره فــي نهايــة المطــاف‬
‫ومن الممكن ان ينزل عليـه فـي ايـة لحظـة ‪ ،‬والجـل الـذي يحـل فـي‬
‫نهاية المطاف هو الذي ل يخطىء ‪ ،‬فمـن الممكـن ان يخطىــء الجــل‬
‫المعلــق ؛ فقد تمرض وتذهب الى الطبيب لتستعمل العقاقير الطبية ثم‬
‫يعافيك ال ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬ولكن المرض اذا كــان خطيــرا كالســرطان‬
‫فان الطبيب ل يستطيع ان يفعل لك شيئــا لن معرفته محدودة بتــأخير‬
‫اجل النسان ‪ ،‬واذا كان‬
‫عاجزا ‪.‬‬ ‫الجل حتميا فان فكر الطبيب سيقف‬

‫الكفر ‪:‬‬ ‫الشك نوع من‬


‫وهكذا فان النسان محاط بالفناء واحتمالت الموت ‪ ،‬ومع ذلك تراه‬
‫يشك في كل لحظة بل ويعيش الشــك ‪ ،‬وهــذا نــوع مــن الكفــر ‪ ،‬فعلــى‬
‫الرغم من انه يقرأ القرآن تراه يشك ويجادل في حيــن ان ال هــو ال‬
‫في السموات والرض ‪ ،‬ويعلم سركم وجهركم ‪ ،‬ويعلم ما تكســبون ‪،‬‬
‫ن{‪،‬‬ ‫ضــي َ‬‫عْنَهـا ُمْعِر ِ‬ ‫ل َكـاُنوا َ‬ ‫ت َرّبِهـْم ِإ ّ‬‫ن َءاَيـا ِ‬‫ن َءاَيٍة ِم ْ‬ ‫} َوَما َتْأِتيِهم ِم ْ‬
‫فاليات تتوالى علينــا الواحــدة بعــد الخــرى ‪ ،‬والشــمس تشــرق علــى‬
‫اعيننا ولكننــا ل نستطيع ان نرى منها شيئا لن عيوننا عميــاء ‪.‬‬

‫سْو َ‬
‫ف‬ ‫جآَءُهْم َف َ‬‫ق َلّما َ‬ ‫حّ‬‫ثم يستأنف ‪ -‬عز وجل ‪ -‬قائل ‪َ } :‬فَقْد َكّذُبوا ِباْل َ‬
‫ن { فمشـكلة النســان ان حيـاته‬ ‫سـَتْهِزُءو َ‬ ‫َيـْأِتيِهْم َأْنَبـآُؤْا َمـا َكـاُنوا ِبـِه َي ْ‬
‫ليست محدودة بهذه الدنيا ‪ ،‬وانه باق سيرى عاقبة مــا كــان يســتهزىء‬
‫به ‪.‬‬

‫وهنا يتسع الفق ‪ ،‬وينعكس هذا الطار اليماني على عالم السياسة ‪،‬‬
‫فالنسان المؤمن ينظر الى هذا العالم من خلل بصيرة اليمان ‪ ،‬وفي‬
‫هذا المجال يقول القرآن الكريم ‪َ } :‬أَلْم َيَرْوا َكْم َأْهَلْكَنــا ِمــن َقْبِلِهـْم ِمــن‬
‫عَلْيِهم ِمْدَرارًا‬
‫سمآَء َ‬ ‫سْلَنا ال ّ‬
‫ض َما َلْم ُنَمّكن َلُكْم َوَأْر َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ن َمّكّناُهْم ِفي ا َ‬ ‫َقْر ٍ‬
‫شْأَنا ِمن َبْعــِدِهْم‬‫حِتِهْم َفَاْهَلْكَناُهم ِبُذُنوِبِهْم َوَأْن َ‬
‫جِري ِمن َت ْ‬ ‫لْنَهاَر َت ْ‬
‫جَعْلَنا ا َ‬‫َو َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫خِري َ‬‫َقْرنًا َءا َ‬
‫ان الغربيين يعتقدون ‪ -‬وهذا العتقاد هو جزء من حضــارتهم بــل‬
‫اصبح اليوم فلسفة ل يمكنهم ان يتخلفوا عنها ‪ -‬ان حضارتهم ل تنتهي‬
‫‪ ،‬وان قوتهم ل تقهر ‪ ،‬وان اساطيلهم تستطيع ان تنفذ فــي كــل مكـان ‪،‬‬
‫وهذه هي المشكلة الكبرى رغــم ان عوامـل الفنـاء والنقـراض تحيـط‬
‫بحضارتهم المزيفة من مثل مرض ) اليدز ( الذي انتشر بينهم بشكل‬
‫مرعب ‪ ،‬فبماذا يغترون ؟!‬
‫ومثل هذه الحوادث هي عبرة لهم ولنا ‪ ،‬وكل واحد منا لبد ان يتجه‬
‫صوب نفسه ‪ ،‬ويحاول اصلحها وتنمية المواهب اليمانيــة فيهــا لكــي‬
‫نصل الى حقيقة اليمان ‪.‬‬

‫التكامل اليماني فلسفة الحياة‬

‫مســيرة حياة النسـان منذ ولدته وحتى موته الطبيعي هــي مســيرة‬
‫تكاملية ‪ ،‬وسرعة نموه وتكامله المادي وما يتخلل ذلك من تطــور فــي‬
‫ابعاد حياته تختلف من زمن لخــر ‪ ،‬فمســيرة النمــو مســتمرة ‪ ،‬وحيــن‬
‫يتوقف النمو المادي للنسان ‪ ،‬يبدأ من حيث هذه النهاية نمــوه المــادي‬
‫غير المباشر ‪.‬‬

‫الكمال ‪:‬‬ ‫من النقص الى‬


‫وعلى سبيل المثال فان جوارح الطفل تنمو وتشــتد ‪ ،‬فـاذا بلــغ مبلــغ‬
‫الرجال وتوقف نموه الجسمي ‪ ،‬فان فكــره يســتمر فــي نمــوه وتطــوره‬
‫حتى يبلغ عمرا ينتكس فيه نموه الفكري ايضا ولكن الــذي يبقــى ينمــو‬
‫فيه هو طمــوحه المــادي فــتراه يتوســل بكــل وســيلة يزيــد مــن خللهــا‬
‫امواله واعتباراته المادية ‪.‬‬

‫وعلـــى هذا فان حياة النسان هي رحلــة مــن النقــص الــى الكمــــال ‪،‬‬
‫ومن العدم الى‬
‫الوجود ‪ ،‬ومن العجز الى القدرة او بتعبير اشمل ؛ من الحالــة الســلبية‬
‫الى الحالة اليجابية من وجوده المادي ‪.‬‬

‫وهنا يبرز السؤال المهم التالي ‪ :‬ترى اهذه هي فلسفة الحياة ‪ ،‬وهل‬
‫لجل هذا الهدف خلق النسان ؟ واذا كان هذا هو الهدف مــن وجــوده‬
‫فلماذا يموت اذن ؟ ولماذا يقرع الموت باب وجود النسان فيقيــم ذلــك‬
‫الجدار الصلد الفاصل بينه وبين وجوده الدنيوي العريض الذي صنعه‬
‫لنفسه بعد ما خاض من تحديات مضاعفة ‪ ،‬وعقبات كأداء منــذ ســاعة‬
‫ولدته وحتى لحظة موته ؟‬
‫الجواب بالنفي طبعا ‪ ،‬حاشا ل الذي خلق الوجود والكون فأتقنهما ‪،‬‬
‫وشرع لذلك الشــرائع والمناهــج العظمــى ان يكــون عابثــا ولعبــا فــي‬
‫خلق يخلقه ‪ ،‬ويربيه وينميه ليعطيه نصيبه من الوجــود ثــم ليميتــه فــي‬
‫لحظة ما ‪ ،‬ولو جاز لحد غير ال ان يفعل ذلك من الدمييــن لوصــف‬
‫فعله هذا بالعبث واللعب فما بالك بال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪. ! -‬‬
‫اذن فمــا معنى الموت بعد الحيــاة ‪ ،‬والعدم بعد الوجــود ‪ ،‬والفنــــاء‬
‫ش ـٍر ِمــن‬
‫جَعْلَنــا ِلَب َ‬
‫بعــد الحيــاء ‪ ،‬وال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يقــول ‪َ } :‬وَمــا َ‬
‫س َذآِئَقــــةُ‬
‫ل َنْفـــ ٍ‬
‫ن * ُكـــ ّ‬
‫خاِلــــُدو َ‬
‫ت َفُهـــُم اْل َ‬‫خْلــَد َأفـــِإْيـــن ّمــ ّ‬
‫ك اْل ُ‬
‫َقْبِل َ‬
‫خْيــِر ِفْتَنـــًة { ) النبيــاء ‪ ( 35-34 /‬فمــــا هــي‬‫شــّر َواْل َ‬‫ت َوَنْبُلوُكــم ِبال ّ‬‫اْلَمــْو ِ‬
‫فلسفــة الـــموت وحكمتـــه التــــي يتحطــــم علـــى صخرتهـــا هيكـــل‬
‫الفلسفــة المــاديــة للحيــاة ؟‬
‫ان جواب كل ذلك وتفسيره ل يمكن ان نجدهما ال من خلل اليمان‬
‫باستمرار الرحلة التكاملية للنسان في الجـانب المعنـوي ل فـي اطـار‬
‫التكامل المادي المنقطع ل محالــة ‪ ،‬فبالضــافة الــى الجــانب التكــاملي‬
‫المادي هناك الجانب التكاملي الروحي او المعنوي ‪ ،‬فالنمــو موجــود‬
‫فــي كــــل الجــانبين ‪ ،‬ولكـــن لبــد مــن تــوقفه فــي الجــانب الول ‪،‬‬
‫واستمراره في الجانب الثاني حتى فيما بعد الموت ؛ اي ان ثماره فــي‬
‫الحياة الدنيـــا ستؤتي اكلها في عوالم ما بعد الحياة ‪ ،‬فالحياة الخرة ل‬
‫تكــون ال لمــن ارادهــا ‪ ،‬وســعى لهــا ســعيها وهــو مــؤمن ‪ ،‬فالرحلــة‬
‫المعنوية لبد لها من ثمن يدفعه النسان في حياته الدنيا كي يستمر بــه‬
‫السير نحو السمو الخروي ‪.‬‬
‫وتتجلــى الخســارة الكــبرى لــذلك النســان الــذي طــاف فــي رحلتــه‬
‫الحياتية في حدود المادة واطرها ‪ ،‬ويعــي مــدى هــذه الخســارة عنــدما‬
‫تدق ساعة اجله ‪ ،‬ويدنو منه هادم اللذات ‪ ،‬وفي هذه اللحظة العصــيبة‬
‫يتذكر النسان ماقدمه في حياته ‪ ،‬فل يبقـى زاد لهـذا النسـان المـداهم‬
‫بالموت يدفع عنه عنـاء ومصـاعب السـير الجديــد الـى الخـرة سـوى‬
‫العمل ‪ ،‬وهذا الزاد هو الذي يضمن سلمة مسيرة النسان من النقص‬
‫الى الكمال سواء في حياته ام فيما بعد موته‪.‬‬
‫ترى هل انتبهنا ووعينا كــم نحــن منصــرفون الــى مشــاغل وهمــوم‬
‫حياتنــا الماديــة ؟ فنحــن نســعى ونلهــث ‪ ،‬ونتشــاجر ونتقاتــل ‪ ،‬ونحــب‬
‫ونكره من اجل تحقيق طموحــات ماديــة ل تقــف عنــد حــد ‪ ،‬فحاجاتنــا‬
‫ومشاكلنا اليومية ل تنتهي ‪ ،‬وكـل منـا ينشـد يومـا افضــل مـن امسـه ‪،‬‬
‫وغدا احسن من يومه في الهداف والطموحات الماديــة ‪ ،‬وهكــذا فــان‬
‫كــل تفكيرنــا يجــري مــع التيــار المــادي الجــارف الــذي يجرفنــا منــذ‬
‫اللحظات الولى من حياتنا حتى غدا الواحد منـا اســير دوامــة التفكيــر‬
‫والهوس المادي !‬
‫بلى ‪ ،‬اننا غافلون وبعيدون كل البعــد عــن اجــواء الســعادة الحقيقيــة‬
‫الصيلة التي ل يستشعرها ‪ ،‬ويتنعــم بهــا ســوى اولئك الــذين يعيشــون‬
‫في عــوالم النــور الروحيــة والمعنويــة ‪ ،‬والــذين ينظــرون الــى الحيــاة‬
‫بمنظار التدبر والتبصــر فيعطــون جانبهــا الروحــي والمعنــوي حقــه ‪،‬‬
‫وعلى هذا فليس من الصحيح ان نجعل مــن هــذا العمــر مطيــة التقاتــل‬
‫مــن اجــل بهــارج الحيــاة وزخارفهــا الماديــة ‪ ،‬بــل علينــا ان نعطــي‬
‫المعنويات حقها ‪ ،‬ونسعى ونهتم بها بنفس الحجم من السعي والهتمام‬
‫بالماديات ان لم نفقه ‪ ،‬ولنخلق في انفسنا تلك الحوافز التي تدعونا الى‬
‫تطوير معنوياتنا ‪ ،‬وتهذيب الجانب الروحي من انفسنا ‪.‬‬
‫فلماذا ‪ -‬اذن ‪ -‬ل نعيــش امـاني الغــد الخــروي فـي يومنـا هـذا قبـل‬
‫حسرة الغد وامانيه الخائبة عندما يقول الواحد منا حيــث ل ينفــع النــدم‬
‫حَياِتي { ) الفجر ‪. ( 24 /‬‬
‫ت ِل َ‬
‫والسى ‪َ } :‬يا َلْيَتِني َقّدْم ُ‬

‫القرآن مفتاح السعادة ‪:‬‬


‫ان التفكير في انفســنا ومآلهــا فــي القيامــة هــو الــذي يــدفعنا الــى القيــام‬
‫بالعمل الحقيقي الخالد ‪ ،‬ومفتاح التوجه في رحلــة اليمــان الصــادقة ‪،‬‬
‫والخروج من سراب وزيف التيار المادي هو القرآن الذي يعتبر حبــل‬
‫ال ‪ ،‬ورسالته الينا ‪ ،‬واللجوء اليه بالعبادة وتزكية النفــس ‪ ،‬فلمــاذا قلــة‬
‫الهتمام بالقرآن حتى بين حملة الرسالة ‪ ،‬والــدعاة اليهــا وطلبــة العلــم‬
‫الذين يفترض بهم ان يكونوا اول الداعين الى القرآن ؟‬
‫السبب الذي اراه هو هروبنا من المسؤولية ‪ ،‬وتخلينا عنها ؛ فنحن ل‬
‫نرغب في متابعة رحلة اليمان المعنويــة ‪ ،‬فنهــرب ونخشــى ونتهيــب‬
‫منها ‪ ،‬ذلك لننا ربما ل نكن الحــب الحقيقــي لبارئنــا وخالقنــا ‪ ،‬فالــذي‬
‫يحب ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬لبد ان يحب امرين ‪ ،‬فان كانــا فينــا فنحــن نضــمر‬
‫الحب ل ‪ ،‬واذا ما وجدنا انفسنا عازفة عنهما ‪ ،‬فلنعــرف اننــا مــا زلنــا‬
‫بعيدين عن حب ال ‪ ،‬والتقرب اليه ‪ ،‬وابتغاء مرضاته ‪ ،‬وهذان‬
‫المران هما ‪:‬‬
‫‪ -1‬مدى تعلقنا بالقرآن الذي هو حديث ال المباشر معنا ‪.‬‬
‫‪ -2‬مدى حبنا للصلة التي هي بدورها تمثل حديثنا المباشر نحــن‬
‫مع ال ‪.‬‬
‫فلبد من هذين المرين اذا كنا ‪ -‬حقا ‪ -‬نود ان نكون قريبين من ربنا‬
‫المليك المقتدر ونكون عنده في مقعد صدق ‪ ،‬فال ‪ -‬سبحــانه وتعـــالى‬
‫لَة ِلِذْكِري { ) طــه ‪ ، ( 14 /‬فـالقرآن هــو حــديث الـ‬
‫ص َ‬
‫‪ -‬يقول ‪َ }:‬وَأِقِم ال ّ‬
‫الينا ‪ ،‬يكلمنا ‪ ،‬ويأمرنا ‪ ،‬وينهانا ‪ ،‬وينصحنا ‪ ،‬ويوصينا ‪.‬‬
‫إننا نسمع النداء تلو النداء من ال ‪ :‬ان حي علـى الصلة ‪ ،‬حي على‬
‫الفلح ‪ ،‬حـي علـى خيـر العمل ‪ ،‬ولكننا ‪ -‬للســف ‪ -‬ل نعيــر اهتمامــا‬
‫جديا لهذا النداء الذي يطرق آذاننا ‪ ،‬ويمل اسماعنا ليـل نهـار ‪ ،‬فترانـا‬
‫مشــغولين منهمكيــن فــي امــور الــدنيا الــتي ل تنتهــي ‪ ،‬او نــثرثر فــي‬
‫احاديث قد ل يكون ل فيها رضى ‪.‬‬

‫القرآن ‪:‬‬ ‫مسؤوليتنا في تدبر‬


‫وكذلك عندمــــا نسمع هاتف ال ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬فـــي القــرآن فاننــــا ل‬
‫ننصــت اليـــه ‪ ،‬ول نعطــي آذانــا صــاغية لهــذا النــداء المقــدس الــــذي‬
‫ئ اْلُقـْرَءا ُ‬
‫ن‬ ‫يطلــب منـا بصــريح العبـارة ان ننصــت اليــه ‪َ } :‬وِإَذا ُقـِر َ‬
‫ن { ) العراف ‪( 204 /‬‬
‫حُمو َ‬
‫صُتوا َلَعّلُكْم ُتْر َ‬
‫سَتِمُعوا َلُه َوَأْن ِ‬
‫َفا ْ‬
‫ان التدبر في القرآن الكريم مطلوب من المؤمنين فــي كــل الحــوال‬
‫سواء كانوا علماء ام لم يكونوا ‪ ،‬فل ينبغي اهمال موضوع التدبر فــي‬
‫القرآن والخير كله فيه ‪ ،‬فمــن خلل كتــاب الـ يعــرف الـ ‪ ،‬وتعــرف‬
‫احكامه وشرائعه واوامره ونواهيه ‪.‬‬
‫وفـــي حديث مــروي عــــن اميــر المؤمنيــــن ) عليــه الســلم ( انــه‬
‫سئل ‪ :‬أأنــزل ال‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬شيئا غير القــرآن ؟ فقــال ) عليــه الســلم ( ‪ " :‬ال ان يــؤتى‬
‫عبد فهما في كتاب ال " فكتــاب الـ ‪ -‬اذن ‪ -‬يحــوي كــل شــيء ولكــن‬
‫المطلوب فهمه ‪.‬‬
‫ومن المؤسف ان نرى كل هذه الهتمامات بدروس العلوم الدينيــة‬
‫المختلفة من فقه ‪ ،‬واصول ‪ ،‬ولغة وغير ذلــك ‪ ،‬فــي حيــن ل يعـار اي‬
‫اهتمام بدرس التدبر في القرآن ‪ ،‬والسبب في ذلــك ان بيننــا وبيــن هــذا‬
‫الدرس المهم حــاجزا نفســيا ‪ ،‬وهــذا يعنـــي اننــا قــد فشــلنا فــي رحلتنــا‬
‫المعنويــة ‪ ،‬وعلينــــا ان نعــترف بهــذا الفشــل قبــل ان نضــطر الــى‬
‫العتراف به في وقــت يفــوت فيــه الوان فنقــول ‪َ } :‬يــا َلْيَتِنــي َقـّدْم ُ‬
‫ت‬
‫صاِلحًا ِفيَمــا‬
‫ل َ‬ ‫عَم ُ‬ ‫ن * َلَعّلي َأ ْ‬
‫جُعــو ِ‬
‫ب اْر ِ‬
‫حَياِتـــي { ) الفجر ‪ ( 24 /‬و } َر ّ‬‫ِل َ‬
‫ت { ) المؤمنون ‪. ( 100-99 /‬‬
‫َتَرْكــ ُ‬
‫وفشلنا هذا هو سبب لسائر انواع الفشل التي ابتلينا بها ‪ ،‬وعدم فهمنا‬
‫للقرآن ربما يكون هو السبب في تأخرنا ‪ ،‬وانتكاسنا ‪ ،‬وتراجعنا فضل‬
‫عن ان نتقدم في الرحلة اليمانية الى ال ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬
‫والقــرب مــن الـ ليــس وقفــا علــى الســتزادة فــي العلــم ‪ ،‬والفقــه ‪،‬‬
‫والخطابة ‪ ،‬والدب ‪ .‬فقــد يكــون احــدنا عالمــا فقيهــا وخطيبــا معروفــا‬
‫ولكنه بعيد عن ربه ؛ اي ليست لديه رغبة في كثرة التعبد والتدبر فــي‬
‫كتاب ال ؛ فاذا فقد النســان هــذين الخصــلتين فحينئذ ســوف ل ينفعــه‬
‫علمه وتفقهه كما يشير الى ذلك الحديث الشريف ‪ " :‬مــن ازداد علمــا‬
‫ولم يزدد تواضعا ما ازداد عن ال إل بعدا " ‪.‬‬

‫التكاملية ‪:‬‬ ‫زاد الرحلة‬


‫وهكــذا لن يبقــى للنسان ما يحملـه في رحلته التكاملية العظيمة من‬
‫النقص الى‬
‫الكمال ‪ ،‬ولن يبقى له مما ينفعه في هذه الرحلــة ســوى زاد المعنويـات‬
‫الذي يـؤمنه مـن خلل ذينـك المصــدرين ؛ العبـادة الواعيـة ‪ ،‬والتــدبر‬
‫القرآني ‪.‬‬
‫اننا قد نكون مبتلين بكـثير مـن الصــفات والعــادات الــتي تــدل علــى‬
‫ضعف ايماننا وذلك لثر الــبيئة ‪ ،‬والحيــاة الماديــة الــتي نعيــش فيهــا ‪،‬‬
‫وهذه الظاهرة السلبية لهي دليل من ادلة ضــعف ايماننــا هــذا الضــعف‬
‫الذي ل يمكن التكفيــر عنــه ال بالتوبــة ‪ ،‬او ترويــض النفــس علــى مــا‬
‫يقوى به ايمانها ويعززه كالصوم وسائر العبادات ‪.‬‬
‫وفي هذا المجال لبد من الهتمـام بـامور اخوتنـا المـؤمنين وان لـم‬
‫تربطنا بهم صلة رحم ‪ ،‬فاليمان والعقيدةهما الرابط ‪ ،‬والرحم الـــذي‬
‫يوصل بين ابناء المة الواحدة ‪ ،‬كما يؤكد على هــذا المعنــى الحــديثان‬
‫الشريفان التاليان ‪:‬‬
‫" من بات ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم " ‪.‬‬
‫" كلكم راع ‪ ،‬وكلكم مسؤول عن رعيته " ‪.‬‬
‫فلنعش ‪ -‬اذن ‪ -‬آلم ‪ ،‬ومصائب اخواننا المعــذبين المضــطهدين فــي‬
‫سائر بقــاع العــالم الســلمي ‪ ،‬ولنحــول مشــاعرنا ازاءهــم الــى عمــل‬
‫وحركة تسهم في تقديم العــون لهــم ‪ ،‬والتخفيــف عــن مصـائـبـهـــم مـــا‬
‫اسـتـطـعـنتا الى ذلك سبيل ‪.‬‬
‫وللسف فـان الكـثير منـا اصــبح اليـوم يـتراجع عـن الفكــر اللهـي‬
‫الرحب ليدخل في اطر الفكــر الضــيق ‪ ،‬وحــدود العصــبية والحميــة ‪،‬‬
‫وعندما نبحث عـن سـبب هـذا الـتراجع نجــده كامنـا فـي تبـدل الحـافز‬
‫اليماني ‪ ،‬وتحوله الى نوع اخر من الحوافز ‪ ،‬ففــي البــدء كــان حــافز‬
‫المســـيرة اليمــان والـــورع والتقـــوى وحـــب الخريـــن ‪ ،‬والعمـــل ‪،‬‬
‫والتضحية في سبيل ال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬اما الن فان الحافز اصبح ماديا‬
‫كالبيت ‪ ،‬والهل ‪ ،‬والجماعة ‪ ،‬او الحزب ‪ ،‬والعشيرة التي ننتمي اليها‬
‫‪.‬‬
‫وفي السابق كــان العــاملون ينظــرون الــى ربهــم جــاعلين مرضــاته‬
‫هدفهم وغايتهم في عملهم وجهادهم ليكونــا خالصــين لــوجه ال ـ ‪ ،‬امــا‬
‫اليوم فقد غدت المصلحة الذاتية او الحزبيــة هــي الهــدف الــذي طالمــا‬
‫نهانا عنه كتاب ال ‪ ،‬وحذرنا منه كرارا ‪ ،‬فهذا الكتاب العزيز لــم يــدع‬
‫امرا دون بيان ‪ ،‬واشارة ‪ ،‬وتأكيد ‪ ،‬ولكننا نحــن الــذين نحجــب انفســنا‬
‫عن القرآن ‪.‬‬
‫وتعتبر ظاهرة الحمية والتعصب من الظواهر الخطيرة ‪ ،‬وعلينا ان‬
‫نمعن النظر في هذه القضية التي ينهى عنها القرآن الكريم ‪ ،‬ويحــذرنا‬
‫{‬ ‫جاِهِلّي ـةِ‬
‫حِمّيَة اْل َ‬
‫حِمّيَة َ‬‫ن َكَفُروا ِفي ُقلوِبِهُم اْل َ‬ ‫ل اّلِذي َ‬
‫جَع َ‬‫منها قائل ‪ِ } :‬إْذ َ‬
‫) الفتح ‪ ( 26 /‬فالحميــة تعنــــي روح التعصب والتحــزب التي نهــى ال‬
‫سـِكيَنَتُه‬ ‫لـ َ‬
‫ل ا ُّ‬ ‫عنها ‪ ،‬واوصى ان تحل محلها روح التقوى ‪َ .. } :‬فـَانَز َ‬
‫وى { ) الفتح ‪. ( 26 /‬‬ ‫ن َوَأْلَزَمُهْم َكِلَمَة الّتْقـــ َ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫سوِلِه َو َ‬
‫عَلى َر ُ‬
‫َ‬
‫وعلــى مدى الف واربعمائة عام حاول الســلم ان يمتــص الحميــة‬
‫الجاهلية ‪ ،‬ويقضي عليها ‪ ،‬وينتزعها من نفوس المسلمين وافكارهم ‪.‬‬

‫المعنوي ‪:‬‬ ‫عوامل التكامل‬


‫وهكذا فان التكامل المادي يسير سيرا طبيعيا ‪ ،‬اما التكامل المعنوي‬
‫فلبد له لكي يسير السير التصاعدي المرجو نحو الكمال ‪ ،‬من عوامل‬
‫يجــب ان تتــوفر لــدى النســان المــؤمن ؛ كالتــدبر فــي كتــاب الــ ‪،‬‬
‫والخلص في العبادة والكثــار مــن الممارســات العباديــة كالصــوم ‪،‬‬
‫واداء النوافل وخصوصا صلة الليل ‪ ،‬فهذه العبادات هي الــتي تبعــدنا‬
‫عن الشيطان الذي يتربص بنا الــدوائر كـي يســرق منـا مـا بلغنـاه مـن‬
‫درجات اليمان فيحولنا من بعد اليمان هذا كفارا والعياذ بال ‪.‬‬
‫فلبد للمؤمنين من ان يكون ميزانهم الهيا في حياتهم ؛ اي ان تكون‬
‫كل مواقفهم ‪ ،‬وسلوكياتهم ‪ ،‬وحركــاتهم وحبهــم وبغضــهم ‪ ،‬وجهــادهم‬
‫وكلمتهم خالصة لوجهه ‪ -‬تعالى ‪ -‬ولو ان جمعــا صــغيرا تكامــل عــبر‬
‫هــذا النهــج فهــذا يعنــي انهــم قــد واصــلوا رحلتهــم المعنويــة الــى الــ‪،‬‬
‫وغيــروا انفســهم ‪ ،‬فكلمــا اصــطدموا بصــدمات ‪ ،‬وتعــثروا بعــثرات ‪،‬‬
‫واكتشـفوا نواقصـهم ‪ ،‬وأصــلحوها باليمـان ‪ ،‬وعلقتهـم بـال ‪ ،‬فـانهم‬
‫سيغلبون ‪ ،‬وتحصل لهم السيادة على هذا العالم ‪ ،‬لن ال ‪ -‬عــز وجــل‬
‫سِلي { ) المجادلة ‪. ( 21 /‬‬
‫ن َأَنْا َوُر ُ‬
‫غِلَب ّ‬
‫لْ‬‫ل َ‬
‫ب ا ُّ‬
‫‪ -‬هو الغالب ؛ } َكَت َ‬
‫وهكذا فان المحن ‪ ،‬والفتن ‪ ،‬والتحديات التي نعيشها اليوم انما هي‬
‫تمحيص لنا من قبل البارىء ‪ -‬تعالى ‪ -‬لكي يعلم مدى صــدق ايماننــا ‪،‬‬
‫واخلصنا لـه ‪ ،‬وينكشـف المعـدن النقـي مـن الشـائب ‪ ،‬ويتميـز الـذي‬
‫عمل وتحرك من اجل ال حقا ممن يبتغي في حركته وسعيه المصالح‬
‫والمطامع الدنيوية ‪ ،‬والقضايا الشخصية والحزبية التي تمثل العصبية‬
‫المؤدية باصحابها الى النار كمــا يصــرح بــذلك الحــديث الشــريف ‪" :‬‬
‫مـن تعصب او ُتعصب له دخل النــار " ‪.‬‬
‫فل نخدعن انفسنا بما نقدمه من التبريرات التي نغطــي بهـا مظـاهر‬
‫الحمية التي تبدو منا ‪ ،‬فلقد اكمل ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬الحجة علينــا ‪ ،‬وكفــى‬
‫بالقرآن حجة علينا ؛ فمن فتح بصيرته واهتدى فانما يفعــل ذلــك لنفعــه‬
‫وخيره ‪ ،‬ومن لم يأبه بهذا الحديث فل حديث من بعده ينفعه ‪.‬‬
‫ان عاقبة عدم التدبر في القرآن قد تكون وخيمـة غـدا يـوم القيامـة ‪.‬‬
‫فبالضافة الى حرمان النسان المهمل للقرآن من ريـح الجنة ونعيمهــا‬
‫‪ ،‬فــانه ســيكون عرضــة لعــذابين ؛ عــذاب عــدم تــدبره فــي القــرآن ‪،‬‬
‫وعذاب عدم العمل به وتطبيقه في حياته ‪،‬‬
‫فهل ينفعنا بعد ذلك ما نخدع به انفسنا بما نقدمه من تبريرات ل اساس‬
‫لها ؟‬
‫واذا مــا انتبــه المؤمنــون الــى هــذه القضــية الحساســة وتجنبوهــا ‪،‬‬
‫فسيحدونا المل بـأن تنبعــث طلئع تمثـل الخــط اليمانـــي الصـادق ‪،‬‬
‫وتتفاعل مع القرآن ومع نهج الرسول ) صلى الـ عليـه وآلــه ( واهــل‬
‫بيته الذين هم ثقل الكتــاب وعــدله ‪ ،‬وتـترفع عــن الخلفــــات الماديــــة‬
‫والحزبيــة والدنيويــة وينذرون انفسهم ل ـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬ويكونــون ممــن‬
‫عَلــى‬
‫حّبــوَنُه َأِذّل ـٍة َ‬
‫حّبُهْم َوُي ِ‬
‫ف َيْأِتــــي الّلــه ِبَقْوٍم ُي ِ‬
‫سْو َ‬ ‫قال فيهم ال ‪َ } :‬ف َ‬
‫خاُفــــو َ‬
‫ن‬ ‫ل َي َ‬ ‫لـ َو َ‬‫لا ّ‬ ‫سـِبي ِ‬
‫ن ِفــي َ‬ ‫جاِهــُدو َ‬ ‫ن ُي َ‬
‫عَلى اْلَكاِفري َ‬ ‫عّزٍة َ‬‫ن َأ ِ‬‫اْلُمْؤِمِني َ‬
‫مــَة لِئــٍم { ) المائدة ‪. ( 54 /‬‬ ‫َلْو َ‬
‫ومثـل هـذا المـل ليـس بخيـال يعـاش ‪ ،‬بـل هـو ممكـن بقـوة الهمـم‬
‫والعــزائم ‪ ،‬والتصــميم بعــد التوكــل علــى ال ـ ‪ ،‬واغلق كــل البــواب‬
‫والمنافذ التي يدخل منها الشيطان الــى النفــس ‪ ،‬ليحــول دون نهوضــها‬
‫باعباء المسؤولية الرسالية ‪.‬‬
‫ان لنا فـي السـابقين الـذين بـاعوا مبـادئهم بثمـن بخـس ‪ ،‬وارتبطـوا‬
‫بحكومات الجور والظلم ‪ -‬من مثل النصارى ‪ -‬لعــبرة ‪ ،‬ونحــن ينبغــي‬
‫علينا ان نكســب النــاس بــالحق ‪ ،‬ونجمعهــم علــى الحــق ‪ ،‬وان خمســة‬
‫يجتمعون على الحق افضل من خمسة مليين يجمعهم امر باطــل ‪ ،‬او‬
‫خلط بين حق وباطل ‪.‬‬

‫الصبر آية اليمان‬

‫حـالت الضطرار عند النســـان هي افضل الحــالت الــتي يمكــن‬


‫ان تتخذ معراجا للنفس البشــرية لتصل الى مـصــد ر الـنـور ‪ ،‬والــى‬
‫مـعـرفـة ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ ، -‬فعندما يضطر النسان تتمــزق امــام‬
‫عينيــه كــل الحجــب الــتي صــنعتها الغفلــة والشــهوات ‪ ،‬ويتصــل قلبــه‬
‫بمصدر القوة وينبوعها ‪ ،‬بمن يستطيع ان ينقذه ول منقذ سواه ‪.‬‬

‫وهذه الحــالت الــتي تصــيب النســـــان كفــرد وكمجتمــع تســتهدف‬


‫العروج بروحه الى الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬فهــو يرحــم عبــاده لكــي ل‬
‫يغفلوا عنه ‪ ،‬ول يحرموا لذة مناجاته ‪ ،‬ول يبيتوا على حالـة الكفــر بـه‬
‫دون ان يتذوقوا حلوة التصال بـه ‪ ،‬فيبتليهــم ‪ -‬تعـالى ‪ -‬ببعــض هــذه‬
‫المشاكل والخطار لتلوذ قلوبهم به ‪ ،‬ويبتليهم بالمرض يوما ‪ ،‬وبالفقر‬
‫يوما ‪ ،‬وبخطر داهم من الطبيعة يوما اخر ‪.‬‬
‫وفي حالة تعرض النسان الى مثل هذه البتلءات عليه ان ياخذ‬
‫بنظر العتبار الوصايـا التالية لكي يحول هذه البتلءات الى مدرسـة‬
‫تزكي نفسه ‪ ،‬وتصقل روحه ‪ ،‬وترفع من درجة ايمانه ‪.‬‬

‫‪1‬ـ ان يتذكر هذه البتلءات ‪ ،‬ويستشعرها طيلة ايام حياته ‪ ،‬فــان‬


‫كنت الن قوي الجسم معافى فاحمد ال ‪ ،‬وتذكر تلك اليام الــتي كنــت‬
‫فيها بحاجة ماسة الى ال ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬وتذكــر تلك اللحظات التي كنــت‬
‫تناجي فيها ربك ‪ ،‬فلبــد ان تكــون قــد مــررت بمثــل هــذه اللحظــات ؛‬
‫لحظات الخوف ‪ ،‬والهلع ‪ ،‬والبتلء بالمحن ‪ ،‬فتذكر هــذه اللحظــات ‪،‬‬
‫واشكر ال ‪ -‬جلت قدرته ‪. -‬‬

‫ان هناك الكثير ممــن ينســون الـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ ، -‬ول يــذكرون ال‬
‫الشركاء من دونه ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬ان الطبيب الفلني هــو الــذي عالجنــا ‪،‬‬
‫وان الدواء الفلني هو الذي شفانا ‪ ،‬ولكنهم يقولون عند المــرض ‪ :‬يــا‬
‫ألهنا ! ‪ ،‬وبعد ان يشفوا يتكبرون علــى ربهــم ‪ ،‬ول يرضــون حــتى ان‬
‫يعترفوا بان ال هو الذي شافاهم ‪.‬‬

‫‪2‬ـ العتبار بمعاناة الخرين ‪ :‬فلنذهب ‪ -‬مثل ‪ -‬الى المقابر ‪ ،‬ولنتــذكر‬


‫ان الراقدين فيها كانوا فــي يــوم مــن اليــام احيــاء مثلنــا ‪ ،‬ثــم انقطعــت‬
‫آمالهم ‪ ،‬وطموحاتهم وهــم تحــت الــتراب ‪ ،‬فل يســتطيعون ان يقومــوا‬
‫بعمل‪ ،‬ول ان يعــودوا الــى دار الــدنيا رغــم انهــم يتمنــون مــن اعمــاق‬
‫قلوبهم ذلك ‪.‬‬
‫ولنزر المستشفيات ‪ ،‬ولنحمد ال علــى عافيتنــا وســلمتنا لكــثرة مــا‬
‫نرى من مرضى تعج المستشفيات بهم ‪ ،‬واذا ما وقعــت انظارنـا علـى‬
‫صاحب بلء فلنحمد ال على معافاته لنا‪ ،‬وان رأينــا انسانــا اعمــى ‪،‬‬
‫او اصم ‪ ،‬او اعرج ‪ ...‬فلنتوجه الى الـ ‪ -‬جــل ثنــاؤه ‪ -‬ولنحمــده علــى‬
‫اننا معافون ‪ ،‬وعلينا ان نحذر من ان نقول هذا الكــــلم شامتيــــن لن‬
‫من يشمت باخوانه ل يمــوت ال بعـد ان يبتلى بمثـل ما ابتلــوا بــه ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ـ تذكـــر انــك لســت بعيــدا عــن منطقــة الخطــر ‪ ،‬فــأنت غافــل عــن‬
‫الخطار المحدقة بك ؛ فمن الممكن ان تكون هنــاك جلطــة فــي دمـائك‬
‫تسبح في العروق المختلفة ‪ ،‬ومن الممكن ان تصــل هــذه الجلطــة الــى‬
‫قلبك لتصاب بسكتة قلبية ‪.‬‬
‫ان هناك الكثيرين ممن كانوا يحسبون انهم ل يموتون ‪ ،‬وانهم اقوياء‬
‫‪ ،‬ولكن خطرا بسيطا استطاع ان يقضي عليهم ‪ ،‬ولــذلك علــى الواحــد‬
‫منا ان يتذكر دائما انه ليس بمنجى من الخطار ‪ ،‬ويجب على النسان‬
‫ان يطلــب الحفــظ والـحـراســـــة مــن الــ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬ل مــن المــوت‬
‫فحسب ‪ ،‬او الصابة بالحوادث المختلفة ‪ ،‬بل من خطر اعظــم واكــبر‬
‫ال وهو خطر الوقــوع فـي الضــللة ‪ ،‬والســقوط فـي حبـائل الشـيطان‬
‫الذي يبحث عن اية ثغرة في نفــس النســان ليضــله ‪ ،‬فــان كــانت هــذه‬
‫الضــللة فـي آخــر لحظــة مـن عمــر النســان ‪ ،‬فـانه ‪ -‬والعيـاذ بـال ‪-‬‬
‫سيدخل النار خالدا فيها ‪.‬‬
‫الشكران ‪:‬‬ ‫اسلوب‬
‫ترى كيف نشكر ال على نعمه ؟ القرآن الكريم ينبئنا بذلك قائل ‪} :‬‬
‫ن ِفــي‬ ‫ن َءاَيــاِتِه ِإ ّ‬ ‫ل ِلُيِرَيُكم ِم ـ ْ‬
‫ت ا ِّ‬‫حِر ِبِنْعَم ِ‬‫جِري ِفي اْلَب ْ‬ ‫ك َت ْ‬‫ن اْلُفْل َ‬
‫َأَلْم َتَر َأ ّ‬
‫ر { ) لقمان ‪. ( 31 /‬‬ ‫شُكو ٍ‬‫صّباٍر َ‬ ‫ل َ‬ ‫ت ِلُك ّ‬‫لَيا ٍ‬‫ك َ‬ ‫َذِل َ‬
‫وهذا هو المعنى الحقيقي لشكـــر النعمــة ؛ وهو ان يتذكر النســان‬
‫انها من ال ‪ -‬تعــالى ‪ ، -‬وفــي هــذا المجــال يــروى عــن ابــي عبــد الـ‬
‫) عليه السلم ( قال ‪ :‬اوحى ال عز وجل الى موسى ) عليه الســلم (‬
‫يـا موسـى اشـكرني حــق شـكري فقـال ‪ :‬يـا رب فكيـف اشـكرك حـق‬
‫شكرك وليس من شكر اشكرك به ال وانت انعمت بــه علــي ؟ قــال يــا‬
‫موسى الن شكرتني حين علمت ان ذلك مني ‪.‬‬

‫فالشكــر هو ان نعلم ان الـ يحفظنــا مـن كــل الخطـــــار ‪ .‬يقــول ‪-‬‬


‫صي َ‬
‫ن‬ ‫خِل ِ‬ ‫ل ُم ْ‬ ‫عُوْا ا َّ‬‫ل َد َ‬‫ظَلــ ِ‬
‫ج َكال ّ‬ ‫شَيُهــم َمــْو ٌ‬ ‫غِ‬ ‫سبحانه وتعالى ‪َ } : -‬وِإَذا َ‬
‫ح ـُد ِبَاَياِتَنــآ ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫جَ‬ ‫صٌد َوَمــا َي ْ‬‫جاُهْم ِإَلى اْلَبّر َفِمْنُهم ّمْقَت ِ‬‫ن َفَلّما َن ّ‬
‫َلــــُه الّديــــ َ‬
‫خّتــاٍر َكُفــــوٍر { ) لقمــان ‪ ( 32 /‬فــالموج كــان يــأتيهم وكــأنه ســحب‬ ‫ل َ‬ ‫ُكـــ ـ ّ‬
‫متراكمة ‪ ،‬ولذلك كانوا يرجعون الى ال ‪ ،‬ويستغيثون به لينقذهم منه ‪،‬‬
‫وعلى هذا فان بعض الناس يكونون مــع ال ـ فــي الشــدة ‪ ،‬ويســتمرون‬
‫معه في حالة الرخاء ‪ ،‬ولكـن هنـاك اناسـا ل يتـذكرون ايـام الرخــاء ‪،‬‬
‫وكلمتا ) ختار كفور ( تستعمـلن في مقابل ) صبار شكور ( فالنسان‬
‫الذي يشكر ال يبقى في حالة الخوف والرجاء ‪.‬‬
‫واذا كنا دعاة الى ال ‪ ،‬ومبلغين لرسالته دون ان نخشى احدا غيره ‪،‬‬
‫فحينئذ ينبغي ان نقوم بدور من يقرب ويحبب الناس الى ال ـ ‪ ،‬ويزيــن‬
‫لهم اليمان بـه ‪ ،‬ولنعلــم ان اليمـان هـو اكـبر النعـم ‪ ،‬وان الـ ‪ -‬جــل‬
‫وعل ‪ -‬قــد هــدانا اليــه ‪ ،‬وهــو ل يريــد جــزاء ‪ ،‬بــل يتــوجب علينــا ان‬
‫نتعرف عليه ونؤمن به ‪.‬‬

‫وفي كثير من الحيان نتــذكر كـثيرا مـن الدعيــة فنفهــم منهــا ومــن‬
‫الصلة الجانب الترهيبي فقط ‪ ،‬وعلى سبيل المثال فان النسان يخشى‬
‫من ان ل يصــلي لكــي ل يعتــبر مــن تــاركي الصــلة ‪ ،‬وكــذلك الحــال‬
‫بالنسبة الى مانع الخمس والزكاة ‪ ،‬فالجميع يعلمون ان تارك الصــلة‪،‬‬
‫ومانع الزكاة والخمس يدخلون النار ‪ ،‬ولذلك فان الناس يتذكرون هــذا‬
‫الجــانب الترهيــبي ‪ ،‬فــي حيــن ان مــن الــواجب ان يتــذكروا الجــانب‬
‫الترغيبي ايضا لننا عندما نقول " اشهد ان ل الــه ال ال ـ " فاننــا فــي‬
‫هذه الحالة لبد ان نقول ) الحمــد لـ ( لنـه ‪ -‬تعـالى ‪ -‬اعطانـا القــدرة‬
‫على ان نتحــرر مـن ربقــة الشــهوات ‪ ،‬واســتعباد الطغــاة ‪ ،‬واصــحاب‬
‫ن ال بها علينا‬ ‫المال والجاه ‪ ،‬وهذه هي الحرية التي هي افضل نعمة م ّ‬
‫‪.‬‬
‫وعندما يدعونا ال ‪ -‬عز وجــل ‪ -‬لليمــان بــه فانمــا لكــي يحررنــا ‪،‬‬
‫ويجعل شخصياتنا تتكامل‪ ،‬وبالتالي لكي يشرفنا بلقائه ‪ ،‬وذكره شــرف‬
‫للذاكرين ‪ ،‬وحمده غنى للحامدين ‪ ،‬فنحــن الــذين ننتفــع باليمــان وال ـ‬
‫غني عن العالمين ‪.‬‬
‫الصبر فائدة ايمانية ‪:‬‬
‫ومــن ابــرز فــوائد اليمــان " الصــبر " ‪ ،‬لن النســان الــذي ابتلــي‬
‫بمرض ‪ ،‬ثم انقذه ال منه فان من المفــروض فيــه ان يشــكر الـ علــى‬
‫انقاذه ‪ ،‬واذا ما ابتلي بالمرض مرة اخرى فــانه يحمــد ال ـ لنــه خلل‬
‫فترة الصحة لم ينس ذكره ‪ ،‬واستمر قلبه في التصال برب العالمين ‪،‬‬
‫فالنسان المؤمن صبور رغم ان المشــاكل كــثيرة ‪ ،‬وانهــا تحطــم قــوة‬
‫النســان ‪ ،‬ولكننــا نــرى المــؤمن ليــزداد بعــد مـواجـهـــة المشــاكل ال‬
‫صلبة وصمودا لنه يعيش دومــا مــع الـ ‪ ،‬والــذي يعيــش مـع الـ ل‬
‫يخاف احدا ‪.‬‬

‫والنسان الصبور هــو الــذي يتمتـع بملكـة التفــوق علـى المشـاكل ‪،‬‬
‫فهناك الكثير من الناس سرعان ما تهزمهــم المشــاكل لجزعهــم منهــا ‪،‬‬
‫وفي هذا الصدد يقول المام علي ) عليه السلم ( ‪" :‬اذا خفت من امر‬
‫فقع فيه " فالكثير من الناس وبسبب خوفهم ترى ان الطــاغوت يتســلط‬
‫عليهم ‪ ،‬ولكن النسان المؤمن تراه على العكس من ذلك رابط الجــأش‬
‫‪ ،‬صابرا ‪ ،‬قوي اليمان ‪.‬‬

‫والمسلمـون اليوم انما انهاروا لنهم انهزموا نفسيا ‪ ،‬والحرب ‪ -‬كما‬


‫هو معلوم ‪-‬‬
‫انمــا هــي صــراع وارادة ‪ ،‬والمــؤمن ل يمكــــــن ان ينهــــزم نفســيا ‪،‬‬
‫وهــذه اعظــم نعمــة يمنحهــا ال ـ ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬ايــاه ‪ ،‬اذ ل يجعلــه عبــدا‬
‫لغيره ‪ ،‬ول يجعله ينهزم امام الخرين ‪ ،‬ويفقد اســتقلله ‪ ،‬فهــو يمتلــك‬
‫الستقامة ‪ ،‬ونحن عندما نفقد صــفة الصــبر فــي انفســنا فاننــا سنخســر‬
‫ايماننا ‪.‬‬ ‫صفة الستقامة ‪ ،‬وحينئذ لبد ان نشك في‬
‫وعلى سبيل المثال فان السجن هو شرف للنسان المؤمن الرسالي ‪،‬‬
‫وقد سجن كثير من انبياء ال من مثــل يوســف ) عليــه الســلم ( الــذي‬
‫) يوســـف ‪( 33 /‬‬ ‫{‬ ‫عوَنِني ِإَلْيــ ـِه‬
‫ي ِمّمــا َي ـْد ُ‬
‫ب ِإَل ـ ّ‬
‫حـ ّ‬
‫ن َأ َ‬
‫جُ‬‫سـ ْ‬
‫ب ال ّ‬
‫قــال ‪َ } :‬ر ّ‬
‫ودانيال ) عليــه الســلم ( ســجن فــي بئر ‪ ،‬وهكــذا الحــال بالنســبة الــى‬
‫ائمتنا ) عليهم السلم ( ‪.‬‬
‫وعلى النسان المؤمن عندما يلقى في السجن ان ل يخضع للسجان ‪،‬‬
‫فالســجان يجوعــك مــن اجــل ان يخضــعك ‪ ،‬ويعــذبك ليــذلك ‪ ،‬فتحمــل‬
‫الجوع ‪ ،‬واللم والعذاب وابق صامدا ‪ ،‬فنحــن مــا انهزمنــا ال لننــا ل‬
‫نمتلك اليمان الكافي ‪ ،‬وال لكنا قد هزمناهم ‪.‬‬

‫والحركات السلمية ليست مسؤولة عن توعية الناس سياســيا ‪ ،‬او‬


‫اخلقيا ‪ ،‬او تربية الكــوادر والكفــاءات فحســب ‪ ،‬وانمــا هــي مســؤولة‬
‫ايضا عن اعادة الناس الى حضيرة اليمان ‪ ،‬ولبد لكل انسان رســالي‬
‫اليوم ان يكون سلوكه ‪ ،‬وقوله ‪ ،‬وتصرفاته وكــل ابعــاد حيــاته مــذكرة‬
‫بال ‪ -‬عز وجل ‪. -‬‬

‫اللـه ‪:‬‬ ‫المور بيد‬


‫والفقيه هو المؤمن الحقيقي الذي يذّكرك منظره بال ‪ ،‬فقلبه خاشع ‪،‬‬
‫ونفســه مطمئنــة ‪ ،‬وهــو صــابر شــكور ‪ ،‬فلــو اســتطعنا ان نعــود الــى‬
‫حضيرة اليمان فان كرامتنا ستعود الينا وكــذلك حريــــتنا ‪ ،‬فالمــــور‬
‫جميعا بيد ال ‪ -‬جل ثناؤه ‪ -‬فلنصلح ما بيننا وبين ال ليصلح ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫كل امورنا سواء ما بيننا وبين الناس ‪ ،‬او مـا بيننـا وبيـن الطبيعـة ‪ ،‬او‬
‫ما بيننا وبين النفس المارة بالسوء ‪.‬‬

‫فلماذا ‪ -‬اذن ‪ -‬ل يؤمن النسان بال وهو الذي يعلم متى تقوم الساعة‬
‫‪ ،‬ومتى ينزل الغيث ‪ ،‬وماذا في الرحام ‪ ،‬وماذا ســنفعل غــدا ‪ ،‬ومــتى‬
‫نموت ؟ ان هذه العلــوم الخمســة متصــلة بــرب العــالمين ل يعلمهــا ال‬
‫هــو ‪ ،‬وانت ‪ -‬ايها النسان ‪ -‬جاهــل بهــا ‪ ،‬وحــتى لــو رســمت لنفســك‬
‫برنامجا لكافة الدقائق واللحظات القادمة من حياتك فانك سترى انك ل‬
‫تستطيع تطبيق هذا البرنامج بدقة لوقوع حوادث لم تكن في حسبانك ‪،‬‬
‫ولكنها كانت في حسبان ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬الذي يعلم الغيب ‪ ،‬ومــا تكسبــــه‬
‫عِة َوُيَن ـّز ُ‬
‫ل‬ ‫سا َ‬
‫عْلُم ال ّ‬
‫عنَدُه ِ‬‫ل ِ‬‫ن ا َّ‬
‫النفس غدا ‪ .‬يقول ‪ -‬جلت قدرته ‪ِ } : -‬إ ّ‬
‫غــدًا َوَمــا‬
‫ب َ‬‫سـ ُ‬‫س ّمـاَذا َتْك ِ‬
‫حــاِم َوَمــا َتـْدِري َنْفـ ٌ‬
‫لْر َ‬
‫ث َوَيْعَلُم َما ِفــي ا َ‬
‫اْلَغْي َ‬
‫ر { ) لقمان ‪. ( 34 /‬‬‫خِبي ٌ‬
‫عِليٌم َ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬‫ت ِإ ّ‬
‫ض َتُمو ُ‬ ‫ي َأْر ٍ‬ ‫س ِبَأ ّ‬
‫َتْدِري َنْف ٌ‬

‫البتلء مدرسة اليمان‬


‫للدنيا ظاهر وباطن ‪ ،‬واكثر النــاس ل يــرون ال ظــاهرا مــن الحيــاة‬
‫الدنيا ‪ ،‬ولكنهم عن باطنهــا غافلـــون ‪ ،‬والــذين يؤمنــون بهــذه المعادلــة‬
‫التي تحكم الخليقة يمثلــون فئة قليلــة ‪ ،‬ومــع ذلــك فــان هــذا اليمـان لــم‬
‫يصل بعد الى مرحلة اليقين ‪ ،‬بل يبقى مجرد تسليم قلبي لهــذه الحقيقــة‬
‫دون رؤيتها ودون التعمق فيها ‪.‬‬
‫وهكذا فان الناس يقرون بالسنتهم ان الدار الخرة هي دار البقاء ‪،‬‬
‫ويعلمون ان الدنيا هي دار الغــرور والبلء ‪ ،‬ودار معروفــة بالغــدر ‪،‬‬
‫كما ويدركون ان الدنيا مزرعة الخــرة ‪ ،‬وان مــا كســب النســان فــي‬
‫هذه الدنيا سوف يكون وبال عليه ال ما قدمه من عمل صالح ‪.‬‬
‫ومــع ذلك يبقى هذا العلم علما فوقيا ل يخالط افئدتهم ‪ ،‬ول يتوغل‬
‫في اعماقهم ‪ ،‬فهم بحاجة الى اختراق هذا الحجاب السميك الموضــوع‬
‫على عين النسان والذي ل يدعه يرى حقيقة الدنيا ‪.‬‬
‫ترى كيف نخترق هذا الحاجز ‪ ،‬وكيف نفهم حقيقة الدنيا ‪ ،‬وكيــف‬
‫تصــبح هــذه الــدنيا عنــدنا بمثابــة الجيفــة الــتي تـتـــكالب عليهــا الكلب‬
‫المسعورة ؟‬
‫الفتنة هي الطريق الى ذلك ‪ ،‬فهي التي تمحص النسان ‪ ،‬وتطهــر‬
‫قلبه من العلقات المادية الفوقية ‪ ،‬وتصفي نفسه من رواسب الشرك ‪،‬‬
‫ومن التعلق بالدنيا ‪ .‬والفتنة تعني من الناحية اللغوية وضع المعدن في‬
‫النار لكي يصفو مما لحق به من الشوائب ‪ ،‬اما فتنة النسان فتعني انه‬
‫يمثل معدنا ذهبيا خالصا ولكن رواسب مــن الــدنيا اختلطــت بــه ‪ ،‬مــن‬
‫مثــل حــب الشــهرة ‪ ،‬والمــال ‪ ،‬والهــل والولد ‪ ..‬هــذه الرواســب‬
‫اختلطت بمعدن النسان ‪.‬‬
‫ولــذلك فــان النســان المــؤمن لبــد ان يــدخل فــي نــار البتلءات‬
‫والمشاكل لكي يصبــح قلبـه خالصــا مــن كــل العلئق الماديــة ‪ ،‬وهــذه‬
‫س َأن‬‫ب الّنـــــا ُ‬
‫سـ َ‬‫حِ‬‫الحقيقة اشار اليها ‪ -‬تعالى ‪ -‬فــي قولـــه ‪ } :‬الــم * َأ َ‬
‫ن { ) العنكبوت ‪. ( 2-1 /‬‬
‫ل ُيْفَتُنو َ‬
‫ُيْتَرُكــوا َأن َيُقــوُلوا َءاَمّنــا َوُهْم َ‬
‫الولى ‪:‬‬ ‫اليمان الخطوة‬
‫وهكذا فان مجرد اليمان ل يكفــي ‪ ،‬فادعــاء اليمــان هــو الخطــوة‬
‫الولى ‪ ،‬اما الخطوة الثانية فتتمثل في ارتداء جلبــاب البلء ‪ ،‬واقتحــام‬
‫غمار الفتن ‪ ،‬فتترى عليك قطع البلء كالليل المظلم ‪ ،‬وتنتقل من بلء‬
‫الى بلء ‪ ،‬ومن صــعوبة الــى صــعوبة ‪ ،‬وان خرجــت مــن كــل ابتلء‬
‫سليما فانك ستطهر ‪ ،‬وترتفع درجة ‪.‬‬
‫ولقد ابتلي نبينا ابراهيم ) عليه السلم ( مرة حينما القي في النار ‪،‬‬
‫واخرى عندما امر بذبح ابنه ‪ ،‬وثالثة عندما اسكن هو وذريته فــي واد‬
‫غير ذي زرع عند بيت ال المحرم ‪ ،‬وفــي كـل مرة ابتلي فيهــا كــان‬
‫يرتفــع درجــة حــتى اتخــذه الخالــــق ‪ -‬تعــالى ‪ -‬خليل ‪ ،‬وهكــذا الحــال‬
‫بالنسبة الى النسان المــؤمن فهــو ل يمكـن ان يحصـــل علــى درجــات‬
‫اليمان دون ثمن ‪ ،‬وفي هذا المجــال يــروى عــن ســيدنا ونبينــا محمــد‬
‫) صلى ال عليه وآله ( انــه قــال ‪ " :‬اعلمــوا ان مــن كــان مــن قبلكــم‬
‫كان يمشط بامشاط الحديد " ؛ اي ينتزع لحمه بمشط مــن الحديــد ‪ ،‬ثــم‬
‫ينشر بالمنشار ‪ ،‬ويرمى به في النار الملتهبة ‪.‬‬
‫وفي رسالة من المام ابي عبد ال الصادق ) عليه السلم ( الـــــى‬
‫اصحابه ‪ ،‬جاء فيها ‪ " :‬فاتقوا ال ايتها العصابة الناجية ان اتم ال لكــم‬
‫ما اعطاكم به فانه ليتم المر حتى يدخل عليكم مثل الذي دخــل علــى‬
‫الصالحين قبلكم وحتى تبتلــوا فــي انفســكم وامــوالكم وحــتى يســتذلوكم‬
‫ويبغضوكم ‪ ،‬وحتى يحملــوا عليكــم الضــيم فتحملــوه منهــم ‪ ،‬تلتمســون‬
‫بذلك وجه ال والــدار الخرة ‪ ،‬وحتى يكذبوكم بالحق ‪ ،‬ويعادوكم فيه‬
‫‪ ،‬ويبغضكم عليه ‪ ،‬فتصبروا على ذلك منهم ‪ ،‬ومصداق ذلـك كلـه فـي‬
‫كتاب ال الذي انزله جبرئيل ) عليه السلم ( على نبيكم ‪ ،‬سمعتم قــول‬
‫صـَبَر‬
‫صـِبْر َكَمــا َ‬‫ال عز وجل لنبيكم ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( ‪َ } :‬فا ْ‬
‫جل َلُهْم { ) الحقــاف ‪ ( 35 /‬ثـــم قــــال ‪} :‬‬ ‫سَتْع ِ‬
‫ل َول َت ْ‬ ‫سِ‬ ‫ن الّر ُ‬
‫ُأْوُلوْا اْلَعْزِم ِم َ‬
‫ذوا { ) النعــام ‪( 34 /‬‬
‫عَلى َماُكّذُبوا َوُاو ُ‬
‫صَبُروا َ‬ ‫ك َف َ‬‫ل ِمن َقْبِل َ‬‫سٌ‬‫ت ُر ُ‬ ‫َوَلَقْد ُكّذَب ْ‬
‫فقد كذب نبي ال والرسل من قبلــه واوذوا مــع التكــذيب بــالحق ‪ ،‬فــان‬
‫سركم أمر ال فيهم الذي خلقهم لــه فــي الصــل ‪ -‬أصــل الخلــق ‪ -‬مــن‬
‫الكفر الذي سبق في علم ال ان يخلقهم لــه فــي الصــل ‪ ،‬ومــن الــذين‬
‫ر{‬ ‫عونَ ِإَلــى الّنــا ِ‬
‫جَعْلَنــاُهْم َأِئّمـًة َيـْد ُ‬
‫سماهم ال في كتابه فــي قــوله } َو َ‬
‫) القصص ‪ ( 41 /‬فتدبروا هذا واعقلوه ولتجهلوه ‪ ،‬فانه من يجهل هذا‬
‫وأشباهــه مــما افــترض ال عليه في كتابه مما أمر ال به ونهى عنــه‬
‫تـرك دين ال‬
‫وركب معاصيه ‪ ،‬فاسـتـوجـب ســخط الـ فــأكبه الـ علــى وجهــه فــي‬
‫النار " ‪. ((1‬‬

‫ممتد ‪:‬‬ ‫خط البلء‬


‫س { فانه يقصد ان هنـاك‬ ‫ب الّنـــا ُ‬ ‫س َ‬‫حِ‬ ‫وعندما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬أ َ‬
‫الكثير من الناس يتصورون ويزعمون ان اليـمـــان هــو مجــرد لقلقــة‬
‫لسان ‪ ،‬اوعلى القل مجرد ممارسات عبادية يقوم بها النسان ‪ ،‬ولكن‬
‫الحقيقة تقول ان خط البتلء والفتنة ممتد مــن آدم الــى قيــام الســاعة ‪،‬‬
‫وما جرى على المؤمنين سابقا ‪ ،‬لبد ان يجري عليهم لحقا كما يقول‬
‫هْم { ) العنكبوت ‪. ( 3 /‬‬
‫ن ِمن َقْبِل ِ‬
‫‪ -‬عز من قائــــل ‪َ } : -‬وَلَقْد َفَتّنا اّلِذي َ‬
‫واليمان على نوعين ؛ ايمان مستودع ‪ ،‬وآخر مســتقر ‪ ،‬واليمـان‬
‫المستودع هو ايمــان كــاذب ‪ ،‬ايمــان الــذين يؤمنــون بشــروط مســبقة ‪،‬‬
‫فيقول احدهم انا مؤمن ولكن بشرط ان ل يمسني وبيتي واهلي سوء ‪،‬‬
‫ول اتعرض لذى ‪ .‬اما النسان الذي يستقر في قلبه النوع الثــاني مــن‬
‫اليمان فيقول ‪ :‬انا مــؤمن بــدون شــرط وقيــد ‪ ،‬وفــي كــل الظــروف ‪،‬‬
‫ومثل هذا النسان عندما يدخل السجن ‪ -‬مثل ‪ -‬يقول ‪ :‬انا ل وانا اليــه‬
‫راجعــون ‪ ،‬هــذا مــا وعــدنا الــ ورســــوله ‪ ...‬فيــــدخل بروحيــــة‬
‫المؤمــن ‪ ،‬ويتلوى تحــت ســياط الجلديــن ‪ ،‬ولكــن ايمــانه بــال ‪ -‬عــز‬
‫وجل ‪ -‬ينمو ويتسامى ‪ ،‬فيدخل السجن مؤمنا عاديا ليخرج منــه مؤمنــا‬
‫من الدرجة الولى ‪.‬‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫موسوعة بحار النوار ج ‪ 75‬ص ‪213‬‬
‫وهذا النسان يعلم علم اليقين ان هذه المشاكل لبــد ان تــزول ‪ ،‬وان‬
‫الــذين ســببوها زائلــون ل محالــة ‪ ،‬وهــذه الحقيقــة يبشــرنا بهــا القــرآن‬
‫ل { ) العــراف ‪/‬‬
‫جـ ٌ‬
‫ل ُاّمٍة َأ َ‬
‫الكريم في آيات عديدة كقوله ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬وِلُك ّ‬
‫يٍء َقْدرًا ‪ ) { ..‬الطلق ‪ ( 3 /‬وهكذا فان‬ ‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ل ِلُك ّ‬
‫ل ا ُّ‬
‫جَع َ‬
‫‪ ( 34‬له تعالى ‪َ } :‬قْد َ‬
‫كل حاكم محكوم في النهاية ‪.‬‬
‫وفي هذا المجال يروى ان هارون الرشيد بعث ذات مرة رجل الى‬
‫المام موسى بن جعفر ) عليه السلم ( وكان ســجينا عنــده ‪ ،‬فقــال لــه‬
‫الرسول ‪ :‬ابن عمك امير المــؤمنين يبلغــك الســلم ويقــول نعفــو عنــك‬
‫ولكن بشروط معينة ‪ ،‬فما كان من المام ) عليه السلم ( ال ان اجاب‬
‫قائل ‪ :‬كل يوم يمر فانه يقربني الى الجنة خطــوة ‪ ،‬ويقربــه الــى النــار‬
‫خطوة ‪ ،‬وسنلتقي عند ال ‪.‬‬
‫وهكذا فان اجل الظالمين محدود ‪ ،‬بل ان ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬يطول اعمار‬
‫المجاهدين رغم انوف الطغاة ‪.‬‬

‫النسان ‪:‬‬ ‫الجهاد لصالح‬


‫ويبين لنــا ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬حقيقة ان الجهاد لبد ان ينتهــي لصالح‬
‫جاَهــ ـَد َفِإّنَمــــا‬‫النســان فــي النهــــاية فيقــول ‪ -‬جــل شــأنه ‪َ } : -‬وَمــن َ‬
‫ســِه { ) العنكبــوت ‪ ، ( 6 /‬فال هو الغنـي عــن العـالمين ‪ ،‬فهــو‬ ‫جاِهــــُد ِلَنْف ِ‬
‫ُي َ‬
‫ليحتاج الى جهادنا بل نحن الذين نحــــتاج الــــى هــــذا الجــــهاد لنــه‬
‫يرفعنا درجات عنده ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪. -‬‬
‫ترى ماذا يعني الجهاد ‪ ،‬وماذا تعني الفتنة ؟ ففي كثير من الحيان‬
‫تجــري علــى الســنتنا بعــض المصــطلحات والمفــاهيم دون ان نــدرك‬
‫حقيقتها ؛ اي اننا ننطق بالكلمات المجردة دون ان نحولها الــى حقــائق‬
‫واقعية خارجية تعبر عنها ‪ ،‬ولذلك فــان القــرآن الكريــم كلمــا ذكــر لنــا‬
‫حقيقة ضرب عليها مثل ‪.‬‬
‫وفي هذا المجال يقرر ‪ -‬تعالى ‪ -‬ان اول من عليك ان تكون مستعدا‬
‫لمجاهدته في حياتك يتمثل في ابويك كما يشير الى ذلك القرآن الكريــم‬
‫مــآ {‬‫طْعُه َ‬ ‫ل ُت ِ‬ ‫عْلٌم َف َ‬
‫ك ِبِه ِ‬
‫س َل َ‬
‫ك ِبي َما َلْي َ‬
‫شِر َ‬
‫ك ِلُت ْ‬
‫جاَهَدا َ‬
‫في قوله ‪َ } :‬وِإن َ‬
‫) العنكبوت ‪ ( 8 /‬فالمشكلة الولى التي يواجهها النسان هــي مشــكلته مــع‬
‫ابويه ‪ ،‬ولقد تجلت هذه المشكلة عنــد ابراهيــم ) عليــه الســلم ( عنــدما‬
‫عارض اباه وفي الحقيقة فان هذه هي المرحلة الولى من الجهاد ‪.‬‬
‫اما المرحلة الثانية فتتمثل في الجهاد ضد توجهات المجتمع ‪ ،‬وهذه‬
‫ل َءاَمّنــا‬
‫س َمن َيُقو ُ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫المرحلة يشير اليها ‪ -‬تعالى ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬وِم َ‬
‫ص ـٌر‬‫جــــآَء َن ْ‬
‫ل ـ َوَلِئن َ‬
‫ب ا ِّ‬
‫س َكَع ـَذا ِ‬
‫ل ِفْتَنَة الّنا ِ‬
‫جَع َ‬‫ل َ‬ ‫ي ِفي ا ِّ‬ ‫ل َفِإَذآ ُاوِذ َ‬‫ِبا ِّ‬
‫ن ِإّنا ُكّنا َمَعُكْم { ) العنكبوت ‪ ( 10 /‬واذا توقفنا قليل عند قـوله‬ ‫ك َلَيُقوُل ّ‬
‫ّمن ّرّب َ‬
‫ل ـ { لكتشــفنا ان العــذاب‬ ‫ب ا ِّ‬
‫س َكَع ـَذا ِ‬
‫ل ِفْتَن ـَة الّنــا ِ‬‫جَع ـ َ‬
‫‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬‬
‫الدنيوي هو عذاب محدود لن وقته محدود ‪ ،‬في حين ان عذاب ال ـ ‪-‬‬
‫عز وجل ‪ -‬ليس كذلك بل هو عذاب ممتد لينتهي ‪.‬‬

‫والخروي ‪:‬‬ ‫بين البتلء الدنيوي‬


‫وهكذا فان على النسان المؤمن ان يضع نصب عينيه دائما انه لبد‬
‫ان يواجه المصاعب‪ ،‬وان هذه المصاعب هي اقل بكــثير مــن العــذاب‬
‫الذي سيواجهه الجلد يوم القيامة‪ ،‬وكما يقــول الحــديث الشــريف فــان‬
‫يوم المظلوم اشد على الظالم من يـوم الظـالم علـى المظلــوم ‪ ،‬فالظـالم‬
‫يسلط عليـك ســوطا ‪ ،‬ولكـن الـ ‪ -‬تعـالى ‪ -‬سيسـلط عليـه فـي الخـرة‬
‫مقامع من حديــد بحيث ان واحدا منها لو سقط علــى الجبــال لتفتتــت ‪،‬‬
‫فكيف بالنسان ؟‬
‫ان استشعار هذه الحقيقة يمنحنا الصبر والصمود ‪ ،‬ويفهمنا ان للدنيا‬
‫ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وفي سورة العنكبوت التي اوردنا اليات السابقة منها‬
‫اشارات واضحة الى هذه الحقيقة ‪.‬‬
‫ومن ابرز ما ينبغي ان يبتعد عنه النسان هو حب الرئاسة والشهرة‬
‫في الدنيا ‪ ،‬فهــذا الحــب متعمــق فــي ذات النســان ‪ ،‬ولــذلك فــان الـ ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬لم يخرج آدم وحواء من الجنة ال لنهما استســلما لهــذا الحــب‬
‫س ِإّلْيــِه‬
‫سَو َ‬
‫حيث قال لهما الشيطان مخاطبا آدم ) عليه السلم ( ‪َ } :‬فَو ْ‬
‫ل َيْبَلــى { ) طــه ‪/‬‬
‫ك ّ‬
‫خْل ـِد َوُمْل ـ ٍ‬
‫جَرِة اْل ُ‬
‫شَ‬‫عَلى َ‬
‫ك َ‬‫ل َأُدّل َ‬
‫ل َيآ اَدُم َه ْ‬
‫ن َقا َ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ال ّ‬
‫‪. ( 120‬‬
‫ولذلك فان اكثر الناس انما يدخلون النار بسبب حـب الرئاســة امــا‬
‫بصــورة مباشــرة ‪ ،‬او بصــورة غيــر مباشــرة ‪ ،‬وذلـــك مــن خلل‬
‫طــواغيت الرض ومــن يحــوم حــولهم لن الــذين يحبــون الرئاســة‬
‫يدخلون اتباعهم في نار جهنم ‪.‬‬
‫جَعُلَها ِلّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫خَرُة َن ْ‬‫لِ‬
‫ك الّداُر ا َ‬ ‫والى ذلك يقول ال ‪ -‬عز وجل ‪ِ } : -‬تْل َ‬
‫ن { ) القصــص ‪( 83 /‬‬ ‫سادًا َواْلَعاِقَبُة ِلْلُمّتِقي َ‬
‫ل َف َ‬
‫ض َو َ‬
‫لْر ِ‬
‫عُلّوا ِفي ا َ‬
‫ن ُ‬
‫ل ُيِريُدو َ‬
‫َ‬
‫والمقصود بالمتقين هنا الذين يتجاوزون حاجز حب الشهرة والرئاســة‬
‫‪ ،‬وفي هــذا المجــال يــروى عــن المــام الصــادق ) عليــه الســلم ( ان‬
‫دمــوعه كـانت تتســاقط عنــدما يســمع هــذه اليــة فيقــول ‪ :‬ذهبــت والـ‬
‫الماني عند هذه الية‪.‬‬
‫وللسف فان بعض الناس يتصورون انهم من اهل الجنة ‪ ،‬ولكنهم‬
‫عندما يجدون فرصة للعلو في الرض ‪ ،‬والشهرة نراهم ليستطيعون‬
‫مقاومة حب الرئاسة ‪ ،‬وفي رأيــي فــان الكــثير مــن النــاس يتعرضــون‬
‫للســــجون ‪ ،‬ولملحقــــة الســــلطات الرهابيــــة ‪ ،‬فيصــــمدون امــــام‬
‫الصعوبات ‪ ،‬ولكن حب الرئاسة يبقى في قلوبهم مع ذلك ‪.‬‬
‫واذا مــا اســتطعنا ان نصــل الــى مســتوى اخــراج حــب الــدنيا مــن‬
‫قلوبنا ‪ ،‬فاننا سنستطيع فــي الواقــع ان نخــترق الحــاجب الفاصــل بيننــا‬
‫وبين الدنيا ‪ ،‬فنرى هــذه الــدنيا علــى حقيقتهــا ‪ ،‬ولنكتفــي بــالنظر الــى‬
‫ظاهرها ‪.‬‬
‫وعلى علماء الدين بالذات ان يربوا انفسهم منذ اللحظات الولى من‬
‫دراستهم العلمية على نبذ الرئاسة ‪ ،‬وعدم الستسلم لشهوتها ‪.‬‬
‫وفي هذا المجال يروى عــن المــام الصــادق ) عليــه الســلم ( ان‬
‫رجل سأله ‪ :‬يا ابن رسول ال هــل الرواح خلقــت قبــل الجســاد ‪ ،‬أم‬
‫الجســاد هــي الــتي خلقــت قبــل الرواح ؟ ‪ ،‬فقــال المــام ) عليــه‬
‫السلم ( ‪ :‬بلى ‪ ،‬خلقت الرواح قبل البدان بألفي عام ‪ ،‬فقال الرجل ‪:‬‬
‫اين كانت هذه الرواح ؟‪ ،‬فقال المام ) عليه السلم ( كانت حــرة فــي‬
‫هذا الفضاء ‪ ،‬فقال الرجل ‪ :‬يا ابن رسول ال فلماذا جيء بها الى هــذه‬
‫الــدنيا اذا كــان المــر هكــذا ؟ ‪ ،‬فأجــاب المــام ) عليــه الســلم ( ‪ :‬ان‬
‫الرواح احست بالتكبر وهي في الملكوت العلــى ‪ ،‬فــاراد ال ـ ‪ -‬عــز‬
‫وجل ‪ -‬ان ينتزع منها هذا الفتنة فأدخلها الدنيا ‪.‬‬
‫وهكذا فان في قلوبنا الكثير من العلو ‪ ،‬والتكبر ‪ ،‬ولبد ان نتعرض‬
‫للمشــاكل ‪ ،‬والهجــرة ‪ ،‬والبتلءات لكــي نتطهــر مــن تلــك الصــفات‬
‫السلبية ‪ .‬فاذا سمعت ان فلنا يتكلــم عليــك فل تغضــب ‪ ،‬واعتــبر مثــل‬
‫هذا الكلم بمثابــة هديــة قــدمت اليــك ‪ ،‬فكلمهــم امــا ان يكــون صــادقا‬
‫فتبادر الـى اصـلح نفســك ‪ ،‬وامــا ان يكــون كاذبـا فتتطهـر بــذلك مـن‬
‫الذنوب لن الذين يغتابونك هم الذين سيتحملون ذنوبك ‪.‬‬

‫‪:‬‬ ‫انموذج الصمود‬


‫ثم ان النسان كثيرا ما ينجرف في تيار الغرور فيأتي كلم النــاس‬
‫ليسقط غروره هذا ‪ ،‬ولقد كان سليمان ) عليه السلم ( اعظم ملك فــي‬
‫التاريــخ ‪ ،‬ولكنــه مــع ذلــك تلقــى النصــيحة وهــو يعيــش ذروة عظمتــه‬
‫وقدرته ‪ ،‬فقد كان في تلك اللحظات يحمل على بساط ريحه مائة الــف‬
‫مقاتل من الجن والنس ‪ ،‬وكان يصبح في بعلبك ‪ ،‬ويدخل عليه الظهر‬
‫في المدائن ‪ ،‬ويغشيه وقت العصر في بلد الجبــل ‪ ،‬وفــي الليــل يعــود‬
‫الى مكانه ‪ ،‬ومع كل مظاهر العظمة والقوة هذه مر على بيت النمــل ‪،‬‬
‫سَلْيَمـــا ُ‬
‫ن‬ ‫طَمّنُكـْم ُ‬
‫حِ‬‫ل َي ْ‬
‫ســاِكَنُكْم َ‬
‫خُلــوا َم َ‬
‫ل اْد ُ‬
‫فقالت نملة ‪َ } :‬يآ َأّيَهــا الّنــْم ُ‬
‫ن { ) النمــل ‪ ، ( 18 /‬وعندما نطقت النملــة بكلمهــا‬ ‫شُعُرو َ‬ ‫لَي ْ‬‫جُنوُدُه َوُهْم َ‬
‫َو ُ‬
‫هذا سمعها سليمان بما اوتي من قدرة على فهم منطق الحيوان ‪ ،‬فــأمر‬
‫جيشه كله بـالتوقف ‪ ،‬وقـال ‪ :‬ليجـوز ان نـؤذي هـذا النمـل ‪ ،‬دعـوهم‬
‫يدخلون مساكنهم بأمن ‪.‬‬
‫والقرآن يضرب لنا هذا المثل ليفهمنا ان حضارة السماء يجــب ان‬
‫تكون هكذا ‪ ،‬فحتى الحشــرات والمخلوقــات الــتي نتصــور انهــا تافهــة‬
‫يجب ان تشــعر فيهــا بــالمن والطمئنــان ‪ ،‬وقــد كــان ســليمان ) عليــه‬
‫السلم ( مــن اكــثر النبيــاء تواضــعا وزهــدا ‪ ،‬يعيــش علــى كــد يمينــه‬
‫وعرق جبينه ‪ ،‬ول يأكل مطلقا من بيت المال ‪ ،‬ومع كل ذلك كـان هذا‬
‫النبي العظيم يطمح في ان يصل الى مستويات اعلى ‪ ،‬فكان يدعو ربه‬
‫ن { ) النمل ‪. ( 19 /‬‬
‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫ك ال ّ‬
‫عَباِد َ‬
‫ك ِفي ِ‬
‫حَمِت َ‬
‫خْلِني ِبَر ْ‬
‫قائل ‪َ } :‬وَأْد ِ‬
‫ولنســأل انفسنـا الن ‪ :‬اين اصبح ملك سليمان ؟ لقد تحول الى هذه‬
‫الطلل التي نراها في بعلبك وفلسطين ‪.‬‬
‫ان هذه الدروس والعبر التي نستخلصها من هذه القصص والخبار‬
‫التأريخية يجب ان ندرك من خللها ان الدنيا ليســت لنــا ‪ ،‬واننــا يجــب‬
‫ان نخلص اعمالنا ل ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬فكل شيء هالك ال وجهه الكريم‬
‫‪ ،‬وكل شيء فان ال العمال الصالحة التي نقدمها لخرتنــا مــن خلل‬
‫اجتياز المتحانات والبتلءات اللهية بنجاح ‪.‬‬

‫اليمان باللـه مصدر الحرية‬

‫من المعلوم ان ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ارادنا ان نتحرر من عبادة كل‬


‫شيء سواه ل لننا نعبده فحسب ‪ ،‬وانمـا ليضــمن لنـا حريتنــا ‪ ،‬فعبــادة‬
‫ال ‪ -‬تعــالى ‪ -‬ليســت خضــوعا فقــط وانمــا تحــد ايضــا ‪ ،‬وثــورة علــى‬
‫الطواغيت جميعا ‪.‬‬

‫الحرية ‪:‬‬ ‫اللـه مصدر‬


‫وهنا لبد ان نضع نصب اعيننا ان الحرية من ال ‪ ،‬فبدونه ل يمكن‬
‫ان تحدث حرية ‪ ،‬وبدون هــذه الحريــة ل يمكــن ان نــؤمن بــال ‪ -‬عــز‬
‫وجل ‪ ، -‬بــل ان اللــه الــذي ل يأمرنــا بالحصــول علــى الحريــة ‪ ،‬ول‬
‫ينقذنا من عبادة الصنام ‪ ،‬والذي نؤمن به دون ان نقول ل اله غيره ‪،‬‬
‫هذا الله غير موجود اساسا ‪ ،‬وان من العبث ان نبحث عنه ‪.‬‬
‫وهكذا فاننا اذا اردنا ان نــؤمن بــال ‪ ،‬فعلينـــا منــذ البــدء ان نؤمــــن‬
‫بالحريــة ‪ ،‬واذا‬
‫اردنا ان نؤمن بالحرية فلبد ان نؤمن قبــل ذلــك بــالثورة ‪ ،‬واذا اردنــا‬
‫ان نؤمن بهــذه الثــورة فلبــد ان نرفــع انفســنا الــى مســتواها ؛ اي الــى‬
‫مســـتوى الرادة ‪ ،‬والتضـــحية ‪ ،‬والعطـــاء ‪ ،‬وتحطيـــم جميـــع القيـــم‬
‫الباطلـة ‪ ،‬وحينئذ سنسـتطيع الوصـول الـى الثـورة ‪ ،‬واذا وصـلنا الـى‬
‫الثورة فــان هــذا يعنــي اننــا قــد حصــلنا علــى الحريــة ‪ ،‬واذا مــا حققنــا‬
‫الحرية فاننا سنصل حينئذ الى ال ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬
‫اما ان اعبد ال ‪ ،‬ثم اتخذ له شريكا ‪ ،‬فانا كــافر لنــه ل شــريك لــه ‪.‬‬
‫فــالله الحقيقــي ل يمكــن ان يعيــش فــي نفســي مــع الصــنام ‪ ،‬فــالقلب‬
‫الواحد ل يمكن ان يعيش فيه ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬وحب الدنيا في نفس الوقت‬
‫‪ ،‬والنفس الواحدة ل يمكــن ان يعيــش فيهــا الخــالق ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬مــع‬
‫الصنام ‪ ،‬والجبت ‪ ،‬وطواغيت الرض ‪ ،‬بل ان مثل هــذا اللــه غيــر‬
‫موجود اساســا ‪ ،‬وانا في الحقيقة اخــدع نفســــي اذا قلــت انــــي اعبــد‬
‫ال ثــم اعطي قيمــــة لي شــــيء غيــــر الـ ‪ ،‬وغيــر مـا منحــــه الـ‬
‫القيمــة ‪.‬‬
‫وقد نستغرب حينما نسمع مثل هذا الكلم ونقول ‪ :‬لماذا ل نعرف ال‬
‫‪ ،‬ونحن نصلي ونصوم ونمتثل لوامره ؟ وللجواب على ذلــك اقــول ‪:‬‬
‫لننا عندما نقف للصلة ل نـكـون كـالـذيـن قال عـنــهـم ربنا ‪ -‬تعــالى‬
‫عونَ { ) المؤمنــون ‪/‬‬ ‫شـ ُ‬
‫خا ِ‬
‫لِتِهْم َ‬
‫صَ‬‫ن ُهْم ِفي َ‬ ‫ن * اّلِذي َ‬ ‫ح اْلُمْؤِمُنو َ‬ ‫‪َ } : -‬قـْد َأْفَل َ‬
‫‪ ، ( 2-1‬وبصراحة فاننا لسنا مؤمنين ‪ ،‬ول نعــرف الهنــا الحقيقــي حــق‬
‫معرفتــــه ‪ ،‬فاللــــه الحقيقــــي يفســــره لنــــا القـــرآن الكـريــــم فــــي‬
‫حيــمُ { ) البقـــرة ‪/‬‬
‫ن الّر ِ‬‫حم ُ‬
‫ل ُهــَو الّر ْ‬
‫حٌد ل ِإَلَه ِإ ّ‬ ‫قــولــه ‪ } :‬وِإَلُهُكْم ِإلٌه َوا ِ‬
‫‪. ( 163‬‬
‫ثــم يبيــن لنــا القـرآن الكريــم من هو هذا اللــه الذي ظهرت آثـاره‬
‫وآياته في‬
‫ل ِ‬
‫ف‬ ‫خِت َ‬
‫ض َوا ْ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َ‬
‫ســـماوا ِ‬
‫ق ال ّ‬
‫خْلـــــ ِ‬
‫ن ِفـــي َ‬
‫الكـــــون قائــــــل ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫ل َوالّنَهـــــاِر ‪ ) { ..‬البقـــرة ‪ ، ( 164 /‬ومجيــء هــذه اليــة فــي هــذا‬‫الّليـــــ ِ‬
‫الموضع بالذات يفسر لنا ما سبــق وان قلنـــاه من ان الله الحقيقـــــي‬
‫هو اله السماوات والرض‪ ،‬الله الذي يتجلى لنا حـتى فـي السفـــن }‬
‫س { ) البقــرة ‪، ( 164 /‬‬ ‫حِر ِبَمــا َيْنَفــــُع الّنــــا َ‬
‫جـــِري ِفي اْلَب ْ‬‫ك اّلِتـي َت ْ‬
‫َواْلُفلْ ِ‬
‫ح { ) البقرة ‪ ، ( 164 /‬وفي كل آية‬ ‫ف الّرَيا ِ‬ ‫صِري ِ‬ ‫وفـي تقلب الريــاح ‪َ } :‬وَت ْ‬
‫مــن آيــات هــذا الكـــون ان كــان للـــناس عقــــل يـدركــــون بــه هــــذه‬
‫اليات ‪ ،‬ويستدلون بها على وجود الخالق ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬
‫ومع ذلك فان من الناس من هم عبيد النــداد ‪ ،‬كمــا يصــرح بــذلك ‪-‬‬
‫حّبــوَنُهْم‬
‫ل َأْنَدادًا ُي ِ‬
‫نا ّ‬ ‫ن ُدو ِ‬‫خـــُذ ِمـــ ْ‬ ‫س َمن َيّت ِ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫تعالى ‪ -‬قائل ‪َ } :‬وِم َ‬
‫ل { ) البقرة ‪ ( 165 /‬في حين ان من يحب النداد ل يمكن ان يحب‬ ‫با ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫َك ُ‬
‫ال ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬وبالتالي فان الهه ليس الها واحدا ‪.‬‬

‫جميعا ‪:‬‬ ‫القوة ل‬


‫ب َا ّ‬
‫ن‬ ‫ظَلُمــوا ِإْذ َيـَرْونَ اْلَعـَذا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ثم يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬وَلْو َيَرى اّلـِذي َ‬
‫ب { ) البقرة ‪. ( 165 /‬‬ ‫شِديُد اْلَعَذا ِ‬
‫ل َ‬ ‫نا ّ‬ ‫جِميعًا َوَا ّ‬‫ل َ‬ ‫اْلُقّوَة ِّ‬
‫فلماذا تحبون الشركاء والنداد ؟ هل ليعطوكم القوة ‪ ،‬والقــوة عنــد‬
‫ال ‪ ،‬ومادامت عند ال فهي موجودة فيكم انتم ايضا مادمتم مؤمنين به‬
‫‪ -‬تعالى ‪ ، -‬فالقرآن الكريم يصرح ان الذي يحب الشركاء ليس حرا ‪،‬‬
‫وليس ثائرا وطموحا ومتطلعا ‪.‬‬
‫ن اّتِبُعــوا ِمـ َ‬
‫ن‬ ‫ويستمر السياق القرآني الكريم قائل ‪ِ } :‬إْذ َتَبـّرَأ اّلـِذي َ‬
‫ب { ) البقرة ‪. ( 166 /‬‬ ‫سَبا ُ‬ ‫لْ‬‫ت ِبِهُم ا َ‬‫طَع ْ‬‫ب َوَتَق ّ‬
‫ن اّتَبُعْوا َوَرَأُوا اْلَعَذا َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫فكل انسان يزعم في حياته ان تركـه لمسؤولياته في الحياة انما هــو‬
‫بسبب حبه للناس ‪ ،‬وخضوعه لهــم ‪ ،‬فكــل واحــد منــا يعتقــد ان النــاس‬
‫سبب من اسباب رحمة الـ علينــا ‪ ،‬ويزعــم ان الشــخص الفلنــي هــو‬
‫سبب عطاء ال له ‪ ،‬وسبب انقاذه ‪ ،‬في حيــن ان القــرآن يرفــض هـــذا‬
‫ب { ‪ ،‬فالناس ل يمثلــون حــتى‬ ‫سَبا ُ‬‫لْ‬ ‫ت ِبِهُم ا َ‬‫طَع ْ‬
‫الـمـنـطـق قـائـل ‪َ} :‬وَتَق ّ‬
‫السباب ‪ ،‬فالنسان عندما يفكر في العتماد على غير ال ‪ -‬تعالى ‪، -‬‬
‫وعلى غير ما اعطاه الـ مــن قــوى وقــدرات ‪ ،‬فحينئذ تبــدأ انحرافــاته‬
‫الكبرى ‪ ،‬ويستعبد ‪ ،‬ول يستطيع ان يخرج من اسر العبودية ‪ ،‬واذا لم‬
‫يتحرر فانه سوف ل يعبد ال ‪ ،‬لن الهنا هو اله الحرية ‪.‬‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ويستمر القرآن الكريم في هذه التوجيهات القيمة قائل ‪َ } :‬وَقا َ‬
‫لـ‬
‫ك ُيِريِهـُم ا ّ‬‫ن َلَنــا َكـّرًة َفَنَتَبـّرَأ ِمْنُهـْم َكَمــا َتَبـّرُءوا ِمّنــا َكـَذِل َ‬
‫اّتَبُعوا َلْو َا ّ‬
‫عَلْيِهـْم { ) البقــرة ‪ ( 167 /‬وهكــذا تتحــول اعمــالهم الــى‬ ‫ت َ‬ ‫سَرا ٍ‬ ‫حَ‬‫عَماَلُهْم َ‬‫َأ ْ‬
‫ر{‬‫ن الّنا ِ‬‫ن ِم َ‬‫جي َ‬‫خاِر ِ‬‫حسرات وعبث ‪ ،‬ويخلدون في النار ‪َ } :‬وَما ُهمِْب َ‬
‫) البقرة ‪. ( 167 /‬‬
‫س ُكُلوا‬‫ثم يوجه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬خطابه الى المؤمنين قائل ‪َ } :‬يآ َأّيَها الّنا ُ‬
‫طّيبًا { ) البقرة ‪ ، ( 168 /‬ومع ذلك فان اكـثر النـاس‬ ‫ل َ‬‫لً‬‫حَ‬‫ض َ‬‫لْر ِ‬‫ِمّما ِفي ا َ‬
‫يضيقون على انفسهم ‪ ،‬ويحرمونها من متــع الحيــاة الــتي احلهــا ال ـ ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬لهم ‪ ،‬بسبب عبادتهم للدنيا ‪ ،‬وتقديسهم ‪ ،‬وخضــوعهم للعـادات‬
‫الخرافية ‪ ،‬والتقاليد الخاطئة ‪ ،‬ولــذلك فــان القــرآن الكريــم يأمرنــا بــأن‬
‫نخرق هذه التقاليــد ‪ ،‬وان نتفاعــل مــع الحيــاة ‪ ،‬فالحيــاة حــرة ‪ ،‬ونحــن‬
‫خلقنا احـرارا ‪ ،‬فمجــرد جهلنـا لواقـع الحيـاة ‪ ،‬وحبنـا للنـداد ‪ ،‬وعـدم‬
‫معرفتنــا بــأن القــوة لـ جميعــا ‪ ،‬هــو الــذي يمنعنــا مــن التمتــع بالحيــاة‬
‫الحقيقية ‪.‬‬
‫ن { ) البقرة ‪/‬‬
‫شْيطـا ِ‬ ‫ت ال ّ‬
‫طوا ِ‬
‫خُ‬‫ل َتّتِبُعوا ُ‬
‫ويستأنف ‪ -‬تعالى ‪ -‬قائــل ‪َ } :‬و َ‬
‫‪( 168‬‬
‫فالشيطان يصدنا عن التمتع الصحيح بلــذائذ الحيــاة مــن خلل الفكــار‬
‫الخرافية ‪ ،‬والتقيدات الخاطئة ‪ ،‬والزيادة في الدين والغلو فيه ‪ .‬من هنا‬
‫جــاء التحــذير القرآنــي فــي عــدم تتبــع خطــوات الشــيطان لنــه يــأمر‬
‫شــآِء‬ ‫حَ‬ ‫ســوِء َواْلَف ْ‬‫بالفحشاء ‪ ،‬والفتراء علــى الــدين ‪ِ } :‬إّنَمـا َيـْأُمُرُكْم ِبال ّ‬
‫ن { ) البقرة ‪. ( 169 /‬‬‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫ل َما َ‬ ‫عَلى ا ّ‬ ‫َوَأن َتُقوُلوا َ‬
‫ل َنّتِبُع‬
‫ل َقاُلوا َب ْ‬‫لا ّ‬ ‫ل َلُهُم اّتِبُعوا َمآ َاْنَز َ‬
‫ثم يقول ‪ -‬تعالى ‪ } : -‬وِإَذا ِقي َ‬
‫ن{‬ ‫لَيْهَتـُدو َ‬ ‫شـْيئًا َو َ‬
‫ن َ‬ ‫ل َيْعِقُلــو َ‬
‫ن َءاَبـآُؤُهْم َ‬‫عَلْيِه َءاَبآَءَنا َأَوَلْو َكـا َ‬
‫َمآ َألَْفْيَنا َ‬
‫) البقــرة ‪ ( 170 /‬والعجيب اننا نلحــظ هنـا مفارقــة عجيبـة مـن مفارقـات‬
‫النسان فقد منع من ان يتبع اهواءه فاذا به يتبع اهواء آبائه ‪ ،‬ومنع من‬
‫ان يترك دينه من اجل لــذاته ‪ ،‬واذا بــه يــترك حيــاته ولــذاته مــن اجــل‬
‫لذات الخرين ‪ ،‬وهنا يوبخه ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬قائل ‪ " :‬اولــو كــان آبــاؤهم‬
‫ل يعقلون شــيئا ول يهتــدون " ‪ ،‬فالنســان فـــي مـــثل هـــذه الحــــالت‬
‫يتوهم انه يجب ان يسير على ما سار عليه السابقون ‪.‬‬
‫ويستمر القرآن الكريم في توبيخه لـهذا النمـط مـن الـنـاس قـائــل ‪:‬‬
‫صّم‬
‫عآًء َوِنَدآًء ُ‬‫ل ُد َ‬
‫سَمُع ِإ ّ‬
‫ل َي ْ‬‫ق ِبَما َ‬ ‫ل اّلِذي َيْنِع ُ‬
‫ن َكَفُروا َكَمَث ِ‬‫ل اّلِذي َ‬
‫} َوَمَث ُ‬
‫ن { ) البقرة ‪ ( 171 /‬فحال هؤلء كحال مــن يســمع‬ ‫ل َيْعِقُلــو َ‬‫ي َفُهْم َ‬
‫عم ٌ‬ ‫ُبْكٌم ُ‬
‫صــوتا مــا ‪ ،‬فيجيبــه بنفــس الصــوت دون ان يعــرف معنــاه ‪ ،‬او يتكلــم‬
‫بكلم ل يعرف مدلوله ‪ ،‬وهدفــه ‪.‬‬
‫والملحظ ان القرآن الكريم قد خاطب هؤلء بكلمــة ) مشــركين ( ‪،‬‬
‫ولكنه الن يصــعد مــن حــدة مخــاطبته ليصــفهم بــأنهم كفــارا ؛ فهــم ل‬
‫يعتقدون بال ‪ ،‬لن الله الذي نتخذ معه اندادا غيــر موجـــود ‪ ،‬واللــه‬
‫الذي نجعل معه الباء ل وجود له ايضــا ‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يشبه هؤلء الكافرين بأنهم يصيحون صــياحا يشــبه‬
‫صـّم‬‫عآًء َوِنَدآًء { ‪ ،‬وهــم } ُ‬ ‫ل ُد َ‬‫النعيق ‪ ،‬فهم ل يفهمون ما يقولون } ِإ ّ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫ل َيْعِقُلو َ‬
‫ي َفُهْم َ‬
‫عم ٌ‬ ‫ُبْكٌم ُ‬
‫والملحظ ان القرآن الكريم اكثر في هذه اليات من اســتخدام كلمــة‬
‫) العقــل ( ‪ ،‬ومشــتقاتها ‪ ،‬وكــأنه يريــد ان يقــول للنســان انــك عاقــل ‪،‬‬
‫ومسؤول ‪ ،‬وحــر ‪ ،‬فلمــاذا ل تتحــرك ؟ فــالقرآن هــو كتــاب الحريــة ‪،‬‬
‫والله الذي نعبده هو اله التحرر ‪ ،‬والتحرر ل يمكــن ال بالثـــــورة ‪،‬‬
‫والثـــورة ل تتحقق ال عندما نعرف قيمتنا ‪ ،‬وقيمة ربنا ‪ -‬تعالى ‪. -‬‬
‫ونحـن ل نتحـرر بسـبب الجبـن المسـيطر علـى نفوسـنا ‪ ،‬ولننـا ل‬
‫نعرف ان وراءنا ربا قويا ضمن لنا حريتنا ‪ ،‬وان الهنـا هــو الــه القــوة‬
‫جِميعًا { ) البقــرة ‪ ، ( 165 /‬فلــو‬‫ل َ‬ ‫ن اْلُقّوَة ِّ‬‫جميعا كما يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬ا ّ‬
‫كنا نعرف قيمة انفسنا ‪ ،‬وان معنا الــه الحريــة ‪ ،‬والقــدرة ‪ ،‬والعطــاء ‪،‬‬
‫ومن بيــده ملــك الســماوات والرض ‪ ،‬وتصــريف الريــاح ‪ ،‬والفلــك ‪،‬‬
‫لعرفنا انفسنا ‪ ،‬ولصبحنا اقوياء ‪.‬‬
‫وخلصة القول اننا ل يمكن ان نعبد ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬حق عبادته ال‬
‫بعد ان نكفر بالطـواغيــت وكل النــداد ‪ ،‬لن الله الحقيقــي ل يمكن‬
‫ان يتعــايش مــع النــداد ‪ ،‬ثــم ان الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬ل يحررنــا مــن عبــادة‬
‫الطــواغيت والنــداد فحســب ‪ ،‬وانمــا يضــمن لنــا بالضــافة الــى ذلــك‬
‫حريتنا من خلل العتقاد بان القوة ل جميعا ‪.‬‬

‫اليمان في مواجهة خطط الشيطان‬

‫عندمــا اسجد رب العزة لدم ملئكته ال ابليس الذي ابى واستكبـــر‬


‫‪ ،‬اقسم هــذا الخير علــى ان يغــوي ابنــاء آدم ‪ ،‬ويهديهــــم الــى ســواء‬
‫الجحيم ‪ ،‬وبذلك تحــدى ابليــس ربــه ‪ .‬وقــد بيــن الـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬ان‬
‫عبــاده ســوف يتحــدون أبليــس بدورهــــم ‪ ،‬رغــم ان للشــيطان خططــا‬
‫عديدة ابرزها خـمس خطط ‪ -‬سنذكرها فيما يلـي ‪ -‬يستخدمها لغــراء‬
‫بني آدم ‪ ،‬انتقامــا منهم ‪ ،‬ولوجود عداوة قديمة بينــه وبينهــم ‪.‬‬
‫وفــي هذا المـجـال يقــول ‪ -‬عز مــن قــائل ‪ -‬مخاطبــا الشــيــطــــان‬
‫عَلْيِهـْم‬
‫ب َ‬‫جِلـ ْ‬‫ك َوَأ ْ‬
‫صـْوِت َ‬
‫ت ِمْنُهــم ِب َ‬‫طْع َ‬‫سـَت َ‬
‫نا ْ‬‫سـَتْفِزْز َمـ ِ‬ ‫الـلـعيــــن ‪َ } :‬وا ْ‬
‫ع ـْدُهْم َوَماَيِع ـُدُهُم‬
‫لِد َو ِ‬
‫لْو َ‬‫ل َوا َ‬‫لْم ـَوا ِ‬
‫شــاِرْكُهْم ِفــي ا َ‬‫ك َو َ‬‫جِل ـ َ‬
‫ك َوَر ِ‬‫خْيِل ـ َ‬
‫ِب َ‬
‫ن َوَكَفــى ِبَرّبـ َ‬
‫ك‬ ‫طا ٌ‬
‫سـْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬‫س َل َ‬
‫عَبادي َلْي َ‬ ‫ن ِ‬ ‫غُرورًا * ِإ ّ‬ ‫ل ُ‬‫ن ِإ ّ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬ ‫ال ّ‬
‫ل { ) السراء ‪. ( 65-64 /‬‬ ‫َوِكي ً‬
‫الخمس ‪:‬‬ ‫خطط ابليس‬
‫ومن خلل هذا السياق القرآني الكريم اشار ‪ -‬عز وجل ‪ -‬الى خطط‬
‫أبليس وهي كما نلحظ خمس خطط نذكرها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الخطة العلمية التضــليلية الــتي يشيـــر اليهــــا ‪ -‬عــــز وجـــل ‪-‬‬
‫ك { ‪ ،‬وهــذه‬
‫ص ـْوِت َ‬
‫ت ِمْنُهــم ِب َ‬
‫طْع َ‬
‫س ـَت َ‬
‫نا ْ‬
‫س ـَتْفِزْز َم ـ ِ‬
‫فــــي قــولــــه ‪َ } :‬وا ْ‬
‫الخطة تسبق كل الخطط الخرى لسـباب هـي انهـا تسـتخدم قبـل ايــة‬
‫خطة اخرى ‪ ،‬ولنهــا اوســع اســتخداما واكــثر انتشــارا ‪ ،‬ولن ابليــس‬
‫يضل عباد ال بصوتــه واســاليبه ‪ ،‬ومـا الموســيقى والغنــاء ‪ ،‬وادوات‬
‫الطرب ال اسلوب من الساليب الشيطانية ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الساليب الرهابية الخبيثة الــتي تســتخدمها دوائر أبليــس دائمــا ‪،‬‬
‫خْيِلـ َ‬
‫ك‬ ‫عَلْيِهـْم ِب َ‬
‫ب َ‬
‫جِل ْ‬
‫وهي التي يشير اليها ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في قوله ‪َ } :‬وَأ ْ‬
‫ك { ؛ اي من خلل الرهاب عبر القوة الظاهرة وهــي ) الخيــل‬ ‫جِل َ‬
‫َوَر ِ‬
‫(‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ محاولــة ربــط شــهوات النســان بخططــه وتضــليلته متمثلــة فــي‬
‫السعي من اجل افساد النظام القتصادي والبرامــج الجتماعيــة ‪ ،‬هــذه‬
‫شــاِرْكُهْم ِفــي‬
‫الخطــط الــتي يعــبر عنهــا القــرآن الكريــم فــي قــوله‪ } :‬وَ َ‬
‫لِد { ؛ اي ان أبليس يخطط للقتصاد ‪ ،‬فيشــارك النــاس‬ ‫لْو َ‬ ‫ل َوا َ‬ ‫لْمَوا ِ‬‫اَ‬
‫في اموالهم ‪ ،‬ويخطط لفســاد التربيــة ‪ ،‬والنظــام الجتمــاعي فيشــارك‬
‫الناس في اولدهم ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ محاولة اغراء النسان ‪ ،‬وترغيبه ‪ ،‬وعـرض المـــستقبل الكــاذب‬
‫رورا { ‪.‬‬‫غُ‬‫ل ُ‬‫ن ِإ ّ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬‫عْدُهْم َوَماَيِعُدُهُم ال ّ‬ ‫امامه} َو ِ‬
‫‪ 5‬ـ استخدام القوة الباطنة ‪ ،‬اي ما نطلق عليه اليوم تعــبير ) الطــابور‬
‫الخامس ( وهــذا ما يشير اليــه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في كلمة ) رجل ( فــــي‬
‫جِلـ ْ‬
‫ب‬ ‫قــولـه ‪َ } :‬وَأ ْ‬
‫ك {‪.‬‬‫جِل َ‬‫ك َوَر ِ‬ ‫خْيِل َ‬‫عَلْيِهـْم ِب َ‬
‫َ‬
‫عَبــادي َلْي ـ َ‬
‫س‬ ‫ن ِ‬ ‫ومع كل ذلك فان ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫ل { ‪ ،‬فعبــاد الـ الــذين يتصــلون‬ ‫ك َوِكي ً‬‫ن َوَكَفــى ِبَرّبـ َ‬ ‫طا ٌ‬‫سـْل َ‬‫عَلْيِهـْم ُ‬‫ك َ‬ ‫َل َ‬
‫بربهم ‪ ،‬ويتمسكون بحبله ‪ ،‬ويعتصــمون بكتــابه ورســوله ‪ ،‬ويتوكلــون‬
‫عليه ‪ ،‬ويثقون بوعده ‪ ،‬ليمكن للشيطان ان يضلهم ؛ فل اعلمه ‪ ،‬ول‬
‫افساده للنظــام القتصــادي ‪ ،‬والــتربوي ‪ ،‬ول غــروره بقــادر علــى ان‬
‫ينكب عباد الرحمن عن الصراط المستقيم ‪.‬‬
‫واليات التالية تبين لنا مثل اعلى للســتقامة الــتي تحــدى عبــاد الـ‬
‫المخلصون بها أبليس وهي ‪:‬‬
‫ل َيْلَبُثــونَ‬ ‫ك ِمْنَهــا وِإذًا ّ‬ ‫جــو َ‬ ‫خِر ُ‬ ‫ض ِلُي ْ‬‫لْر ِ‬ ‫نا َ‬ ‫ك ِمـ َ‬
‫سـَتِفّزوَن َ‬ ‫} َوِإن َكاُدوا َلَي ْ‬
‫س ـّنِتَنا‬
‫ج ـُد ِل ُ‬‫ل َت ِ‬‫س ـِلَنا َو َ‬
‫ك ِمــن ّر ُ‬ ‫سْلَنا َقْبَل َ‬
‫سّنَة َمن َقْد َأْر َ‬ ‫ل* ُ‬ ‫ل َقِلي ً‬‫ك ِإ ّ‬‫لَف َ‬
‫خَ‬ ‫ِ‬
‫جِر ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ن اْلَف ْ‬ ‫ل َوُقْرَءا َ‬ ‫ق الّلْي ِ‬
‫سِ‬ ‫غَ‬ ‫س ِإَلى َ‬ ‫شْم ِ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫لَة ِلُدُلو ِ‬
‫ص َ‬‫ل * َأِقِم ال ّ‬ ‫حِوي ً‬ ‫َت ْ‬
‫ســى َأن‬ ‫عَ‬ ‫ك َ‬ ‫ج ـْد ِبـِه َناِفَلـًة ّلـ َ‬
‫ل َفَتَه ّ‬‫ن اّلْي ِ‬
‫شُهودًا * َوِم َ‬ ‫ن َم ْ‬ ‫جِر َكا َ‬ ‫ن اْلَف ْ‬
‫ُقْرَءا َ‬
‫جِني‬ ‫خِر ْ‬ ‫ق َوَأ ْ‬ ‫صْد ٍ‬‫ل ِ‬ ‫خَ‬ ‫خْلِني ُمْد َ‬ ‫ب َأْد ِ‬‫ك َمَقامًا ّمحُمودًا * َوُقل ّر ّ‬ ‫ك َرّب َ‬ ‫َيْبَعَث َ‬
‫حـ ّ‬
‫ق‬ ‫جــآَء اْل َ‬ ‫ل َ‬ ‫صــيرًا * َوُق ـ ْ‬ ‫طانًا َن ِ‬ ‫سْل َ‬
‫ك ُ‬ ‫جَعل ِلي ِمن َلُدن َ‬ ‫ق َوا ْ‬ ‫صْد ٍ‬‫ج ِ‬ ‫خَر َ‬‫ُم ْ‬
‫هوقًا{ ) السراء ‪( 81-76 /‬‬ ‫ن َز ُ‬‫ل َكا َ‬‫طَ‬ ‫ن اْلَبا ِ‬‫ل ِإ ّ‬
‫طُ‬ ‫ق اْلَبا ِ‬‫َوَزَه َ‬

‫العلى ‪:‬‬ ‫النبي ) صلى ال عليه وآله ( المثل‬


‫ان رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( قائدنا وقــدوتنا ‪ ،‬والــذي كلمــا‬
‫تضيق بنا مذاهب الحياة ‪ ،‬وتتراكم على قلوبنا هموم الدنيا ‪ ،‬نعود اليــه‬
‫لنلتمس من سيرته ضوء ‪ ،‬ومن حياته قبسا ‪ ،‬ومن احاديثه نــورا لكــي‬
‫نقاوم مشاكلنا ‪ ،‬ونلتمس طريقنا المســتقيم بيــن الطــرق الملتويــة ‪ .‬هــذا‬
‫الرسول العظيم واجه الخطط الشيطانية ‪ ،‬فالشيطان ليــس فقــط ابليــس‬
‫الذي استكبر على ربه بل كل من يتبعه هو أبليس مصــغر ســواء كــان‬
‫جنيا أم أنسيا ‪.‬‬
‫وقبل ان نشرع بتفسير اليات السابقة هناك فكرة يشير اليها القـرآن‬
‫الكريم بين الحين والخر وهي ان وجود النسان فــي هــذه الــدنيا انمــا‬
‫هو لتجربة ارادته ‪ ،‬فقد يتســاءل البعــض ‪ :‬لمــاذا ســلط الـ ‪ -‬تعــالى ‪-‬‬
‫علينا ابليس هذا الشيطان الماكر ‪ ،‬والعدو اللدود الخبيث المحيط بنــا ‪،‬‬
‫والجــاري بعروقنــا مجــرى الــدم ؛ فهــو يضــلنا فــي كــل طريــق ‪،‬‬
‫ويترصدنا في كل مكان ‪ ،‬ويتبعنا اتباع الظل ؟‬
‫هذا الشيطان الذي اعطاه ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬قدرة السيطرة الظاهرية‬
‫علينا عبر هذه الخطط الماكرة لماذا سلط علينا ؟ الجــواب هــو ان ال ـ‬
‫لو لم يسلط علينا ابليس ‪ ،‬ولم يأمرنا بتحديه لما كان بين النسان وبيــن‬
‫ادنــى الحيوانــات اي فــرق ‪ ،‬ولمــا ســخر ال ـ لنــا الطبيعــة ‪ ،‬واســجد‬
‫الملئكـة لبينـا آدم ‪ ،‬وجعـل الكـون فـي خـدمتنا ؛ فـالفرق بيننـا وبيـن‬
‫الحيوانات اننا مريدون ‪ ،‬ومسؤولون ‪ ،‬واصحاب امانــة ‪ ،‬وعلــى هــذا‬
‫فان مجيئنا الى هذه الدنيا انما كان لكي نجرب ارادتنا ‪ ،‬وننتصر علــى‬
‫انفسنا ‪ ،‬ونصرع هوانـــا ‪.‬‬
‫ان النسان الذي يهرب من مسؤوليات مجتمعه ل يمكن ان يدعي انه‬
‫قد جرب ارادته ‪ ،‬بــل يجب ان يعيـش في وسط الرهــاب ‪ ،‬ويتحــدى‬
‫التضليل ‪ ،‬ويخوض التجارب القاســية المــرة ‪ ،‬وكلمــا كــانت المشــاكل‬
‫المحيطة بالنسان اكبر ‪ ،‬كلما كان هذا النسان اعظم ‪ ،‬ونبينا ) صــلى‬
‫ال عليه وآله ( هو الشاهد الكبر على هذه الحقيقة ‪ ،‬يقــول تعــالى ‪} :‬‬
‫غْيـَرُه َوِإذًا‬
‫عَلْيَنــا َ‬
‫ي َ‬
‫ك ِلَتْفَتـِر َ‬
‫حْيَنــآ ِإَلْيـ َ‬
‫ن اّلـِذي َأْو َ‬‫عـ ِ‬‫ك َ‬‫َوِإن َكاُدوا َلَيْفِتُنوَن َ‬
‫ل { ) السراء ‪. ( 73 /‬‬‫خِلي ً‬ ‫ك َ‬ ‫خُذو َ‬‫لّت َ‬
‫َ‬
‫سـَتْفِزْز َمـ ِ‬
‫ن‬ ‫وهكذا فان الخطــة الولــى لبليــس كـانت التضــليل }َوا ْ‬
‫ك { وقـــد حــاول الكفــار والمشــركون تضــليل‬ ‫ص ـْوِت َ‬
‫ت ِمْنُهــم ِب َ‬ ‫طْع َ‬‫سـَت َ‬
‫اْ‬
‫رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( بخططهم العلمية الخبيثة ‪ ،‬فقالوا‬
‫له ‪ :‬انك لو اتبعت سيرتنا ‪ ،‬ولم تمس آلهتنا بسوء ‪ ،‬وسمحت لصنامنا‬
‫ان تبقى فاننا سوف نتبعــك ‪ ،‬فقــد كــان فــوق احــد الجبــال القريبــة مــن‬
‫الكعبة الشريفة صنم تقدسه قريش ‪ ،‬وتؤمن به ‪ ،‬فعرضوا علــى النــبي‬
‫) صلى ال عليـه وآلـه ( ان يحطــم كـل الصـنام ال هـذا الصـنم لكـي‬
‫يميلوا الى دينــه ‪.‬‬
‫واهل الطائف قدموا الى رسول ال ) صلى ال عليــه وآلــه( وقــالوا‬
‫له ‪ :‬سوف نسلم لك ‪ ،‬ونتبعك دون حرب ‪ -‬علمــا انهــم كــانوا يمثلــون‬
‫قوة هائلة في الجزيرة العربية ‪ -‬ولكن بثلثة شروط هــي ‪ :‬ان ل نــدفع‬
‫الزكاة ‪ ،‬ونصلي صلة بدون ركوع وسجود ‪ ،‬ول نحطم صــنم اللت‬
‫لمدة سنة واحدة لكي نأخذ النذور والقرابين الــتي يــؤتى بهــا الــى هــذا‬
‫الصنم !‬
‫ولكن رسول ال ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( رفــض بكـل حديــة هــذه‬
‫الشروط ؛ ففي السلم ل توجد صلة بدون ركوع وسجود ‪ ،‬والزكاة‬
‫هي حقوق الناس ‪ ،‬والصنام يجب ان تكســـــر كلهــا بــدون اســتثناء ‪،‬‬
‫وعندما سمعوا جواب رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( لــم يســلموا ‪،‬‬
‫ورجعوا كافرين ‪ ،‬وبقوا على هذه الحالة لعدة سنوات حتى جرد النبي‬
‫) صلى ال عليه وآله ( جيشــا جــرارا اليهــم ‪ ،‬فحاصــر ديــارهم حــتى‬
‫اسلموا ‪.‬‬

‫أشم ‪:‬‬ ‫جبل‬


‫وهكــذا فــان النسان المؤمن كالجبل الشم ‪ ،‬على ان الجبل ينال منه‬
‫‪ ،‬والنسان‬
‫المؤمن ل يمكن ان ينال منه ‪ .‬فالعداء قد يعرضوا عليك ان تغير من‬
‫دينك ‪ ،‬ومبادئك ‪ ،‬واسلوبك لكــي يؤمنــوا بــك ‪ ،‬فــي حيــن ان هــذا مــن‬
‫عمــل الشــيطان ‪ .‬فالشــيطان ل يــأمرك مــرة واحــدة بعــدم الصــلة ‪،‬‬
‫والصوم بل يحرفك شـيئا فشـيئا ‪ ،‬وهـذا التضـليل العلمـي يجـب ان‬
‫يقاومه النسان‪.‬‬

‫شـْيئاً‬
‫ت َتْرَكـنُ ِإَلْيِهـْم َ‬
‫ك َلَقـْد ِكـد ّ‬
‫ثم يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬وَلْول َأن َثّبْتَنا َ‬
‫ل { ) السراء ‪ ( 74 /‬صحيح اننا ضعفاء امام تضليل أبليس واغــوائه ‪،‬‬ ‫َقِليـ ً‬
‫ص ـَرا َ‬
‫ط‬ ‫ولكــن لمــاذا نقــوم كــل يــوم فــي الصــلة داعيــن ‪ } :‬اْه ـِدَنا ال ّ‬
‫سَتِقيَم { ) الفاتحة ‪ ، ( 6 /‬ولماذا نقول في الدعاء ‪ } :‬اللهــم ل تكلنــا الــى‬ ‫الُم ْ‬
‫انفسنا طرفة عين ابــدا { ؟ لن النســان ينهــار امــام العلم المضــلل‬
‫بدون العتصام بحبل ال ‪ ،‬فالعلم الشيطاني ليس هينا ‪ ،‬وحــتى فــي‬
‫عهــد آدم فــان اول مــن بــدأ بتضــليل البشــر ‪ ،‬واســتخدام الوســائل‬
‫العلمية الخبيثة ضده كان ابليس حيث اقســم لدم وزوجــه قــائل ‪} :‬‬
‫ن { ) العراف ‪( 21 /‬‬ ‫حي َ‬
‫صِ‬‫ن الّنا ِ‬‫سَمُهَمآ ِإّني َلُكَما َلِم َ‬
‫َوَقا َ‬
‫وآنذاك لم يكن آدم يتصور ان شخصا يمكن ان يحلف بال ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬كاذبا ‪ ،‬ولكنه لم ينتبه الى الخطة العلمية لبليس ‪ ،‬ومنذ ذلك اليوم‬
‫وحتى عصرنا الحاضر فان اساليـب الشيطــان في حالــة تطــور كلمــا‬
‫تطور وعينا ‪ ،‬فعلينا ان ل نكون غافلين ‪ ،‬بل لنتوكل على ال ـ ‪ ،‬ونثــق‬
‫به ‪ ،‬واذا ما خضــع شــخص لشــرك العلم الشــيطاني فســوف ينتهــي‬
‫لن النسان هو الذي ينهي نفسه ‪ .‬فالشيطان يريــد لــك ان تــذهب الــى‬
‫النار من خلل تضليلك ‪ ،‬فعندما يتغير المقــود الــى التجــاه الخــاطىء‬
‫فان النســان سيذهب بنفسه الى النهاية السوداء ‪ ،‬وهذا ما يشير اليه ‪-‬‬
‫ض ـْعفَ اْلَمَمـــــا ِ‬
‫ت‬ ‫حَيــاِة َو ِ‬‫ف اْل َ‬
‫ضْع َ‬‫ك ِ‬ ‫لَذْقَنا َ‬‫تعالى ‪ -‬في قــولــه ‪ِ } :‬إذًا َ‬
‫عَلْيَنا‬
‫ك َ‬
‫جُد َل َ‬
‫ل َت ِ‬‫ُثّم َ‬
‫صيــرًا { ) السراء ‪. ( 75 /‬‬ ‫َن ِ‬
‫امـــــا الخطــة الثانيــة الــتي اســتخدمها الشــيطان وجنــوده ضــد النــبي‬
‫) صلى ال عليه وآله ( فقد اشار اليها ‪ -‬جل وعل ‪ -‬فــي قــوله ‪َ} :‬وِإن‬
‫لَفـ َ‬
‫ك‬ ‫خَ‬ ‫ن ِ‬ ‫ل َيْلَبُثــو َ‬
‫ك ِمْنَهــا وِإذًا ّ‬‫جــو َ‬
‫خِر ُ‬‫ض ِلُي ْ‬
‫لْر ِ‬ ‫نا َ‬ ‫ك ِم َ‬ ‫سَتِفّزوَن َ‬
‫َكاُدوا َلَي ْ‬
‫ل{‬ ‫حـِوي ً‬‫سّنِتَنا َت ْ‬
‫جُد ِل ُ‬
‫ل َت ِ‬
‫سِلَنا َو َ‬
‫ك ِمن ّر ُ‬‫سْلَنا َقْبَل َ‬
‫سّنَة َمن َقْد َأْر َ‬ ‫ل* ُ‬ ‫ل َقِلي ً‬‫ِإ ّ‬
‫‪ ،‬وتتمثل هذه الخطة ‪ -‬كما قلنـا ‪ -‬فــي ارهـاب النســان واخراجــه مـن‬
‫بلده ‪.‬‬

‫الرض ‪:‬‬ ‫المؤمنون بركة‬


‫ولقد حاول الكفار والمشركون ان يخرجوا رسول الـ ) صــلى الـ‬
‫عليه وآله ( ‪ ،‬ولو انهم افلحوا في ذلك لنزل عليهم العــذاب وهــذه هــي‬
‫سّنة ال في التأريخ ‪ ،‬فأي بلد يخرج الطغاة المؤمنين منه فــان العــذاب‬
‫سينزل عليه ‪ ،‬لن المؤمنين هم بركة الرض ‪ ،‬وال ‪ -‬سبحانه وتعالى‬
‫‪ -‬انما يمنع العذاب عن امة من المم لوجود المؤمنين فيها كما يقول ‪-‬‬
‫ل ـ ُمَع ـّذَبُهْم‬
‫ت ِفيِهْم َوَما َكــانَ ا ّ‬‫ل ِلُيَعّذَبُهْم َوَأْن َ‬
‫نا ّ‬ ‫جل ثناؤه ‪َ } : -‬وَما َكا َ‬
‫ن { ) النفـــال ‪ ، ( 33 /‬فــالمؤمنون هــم اركــان الرض ‪،‬‬ ‫ســَتْغِفُرو َ‬
‫َوُهــْم َي ْ‬
‫واوتادها ‪ ،‬وهذه حقيقة يمكننا ان نلحظها في كل دروس التأريخ ‪.‬‬
‫وهنــا مــن حقنــا ان نتســاءل ‪ :‬كيــف نقــاوم الرهــاب ؟ ‪ ،‬فــالرادة‬
‫ضعيفة ‪ ،‬والنفس تنهار امام ضربات الجلديــن ‪ ،‬والشــهوات تمــارس‬
‫الضغط على النسان ‪ ،‬والهجرة صــعبة ؟ الجــواب يأتينــا مــن القــرآن‬
‫سـ ِ‬
‫ق‬ ‫غَ‬ ‫س ِإَلــى َ‬‫شـْم ِ‬ ‫ك ال ّ‬‫لَة ِلـُدُلو ِ‬
‫صـ َ‬ ‫الكريم عبر قوله ‪ -‬تعالـى ‪َ } : -‬أِقِم ال ّ‬
‫شـُهودًا { ونحــن نـعـلـــم‬ ‫ن َم ْ‬‫ج ـِر َكــا َ‬
‫ن اْلَف ْ‬‫ن ُقـْرَءا َ‬
‫جِر ِإ ّ‬‫ن اْلَف ْ‬
‫الّلْيلِ َوُقْرَءا َ‬
‫الـفـرق بـيــن ) الصلة ( و ) اقامة الصلة ( ؛ فالثانيـة تعنـي الصــلة‬
‫الحقيقية الــتي امرنــا بهــا ‪ ،‬الصــلة التامــة ‪ ،‬والكاملــة فــي شــروطها ‪،‬‬
‫الصلة التي يستشعر النسان فيها الخضــوع ‪ ،‬ونؤديهــا فــي اوقاتهــا ‪،‬‬
‫ونتــوجه فيهــا ‪ ،‬وحينئذ يمنحنــا الــ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬القــدرة علــى مقاومــة‬
‫الشيطان ‪.‬‬
‫وهكذا فاننا اذا اردنا مقاومة الرهاب فان علينا ان نتهجد الى الـ ‪-‬‬
‫ك {؛ أي ان هــذا‬ ‫سبحانه وتعالى ‪ -‬لن القرآن الكريم يقول ‪َ } :‬ناِفَلًة ّل ـ َ‬
‫التهجد هو فضيلة لك لنــك القــائد الرســالي الــذي يقــاوم هــذا الضــغط‬
‫الهائل ‪ ،‬ويقف امام تيــار الفســـاد ‪ ،‬وزخــم الفســاد الشــيطاني ‪ ،‬ونحــن‬
‫نستطيع ان نصل الى هذه المرحلة بارادتنــا ‪ ،‬وفــي نفــس الــوقت فـان‬
‫هذه الرادة بحاجة الى مضاء ‪ ،‬وعزم وقوة ‪ ،‬وكما ان الجســم يحتــاج‬
‫الى طعام ‪ ،‬فان الرادة هي الخرى بحاجــة الــى زاد ‪ ،‬وزادهــا هــــو‬
‫ج ـْد ِب ـِه َناِفَل ـًة‬
‫ل َفَتَه ّ‬
‫ن اّلْي ـ ِ‬
‫صلة الليل كما يقول ‪ -‬عز من قائل ‪َ } : -‬وِم َ‬
‫مودًا { ‪.‬‬
‫ك َمَقامًا ّمح ُ‬
‫ك َرّب َ‬
‫سى َأن َيْبَعَث َ‬‫عَ‬
‫ك َ‬
‫ّل َ‬

‫الفساد ‪:‬‬ ‫الصدق في مواجهة‬


‫خَرجَ‬‫جِني ُم ْ‬‫خِر ْ‬
‫ق َوَأ ْ‬
‫صْد ٍ‬
‫ل ِ‬
‫خَ‬‫خْلِني ُمْد َ‬
‫ب َأْد ِ‬
‫ثم يقول تعالى ‪َ } :‬وُقل ّر ّ‬
‫صيرًا{ ‪ ،‬والصدق هو السبيل الى‬ ‫طانًا َن ِ‬
‫سْل َ‬
‫ك ُ‬‫جَعل ِلي ِمن َلُدن َ‬ ‫ق َوا ْ‬
‫صْد ٍ‬
‫ِ‬
‫مقاومــة خطــة الشــيطان المتمثلــة فــي اشــاعة الفســـــاد القتصــــادي‬
‫شاِرْكُهْم‬‫والتربوي والتي اشــــار الـيــهـا ‪ -‬تـعـالى ‪ -‬في قـولـــه ‪َ } :‬و َ‬
‫لِد { ‪ ،‬فمقاومة الفساد القتصادي ل تتيسر ال مــن‬ ‫لْو َ‬
‫ل َوا َ‬
‫لْمَوا ِ‬
‫ِفي ا َ‬
‫خلل إلتزام الصدق ‪.‬‬
‫والصدق هذا يبدا من انفسنا ‪ ،‬فعندما نكــون صــادقين فــي اعمالنــا ‪،‬‬
‫وعندما نجعل واجباتنا اكــثر مــن حقوقنــا ‪ ،‬وممــا نطلبــه ونتــوقعه مــن‬
‫الخرين ‪ ،‬فان انتاجنا سيكون اكثر من استهلكنا ‪ ،‬وعطاءنا اكثر مــن‬
‫اخذنا ‪ ،‬ففي هذه الحالة سنقدس العمل ‪ ،‬وندرك انه امانة في اعناقنــا ‪،‬‬
‫وحينئذ سوف ل نخدع ‪ ،‬ول نخون ‪ ،‬ول نغش ‪ ،‬ول نكذب ‪ ،‬وســوف‬
‫يسود الصلح النظام القتصادي والتربوي ‪.‬‬
‫وعنــدما يريــد احــدنا ان يعمــل عمل ويــدخل فيــه فلبــد ان يعملــه‬
‫بصدق ‪ ،‬واذا اراد الخروج منه فليخرج منه بصدق ‪ ،‬فل يترك العمل‬
‫ناقصــا ‪ ،‬واذا مــا ســادت فينــا هــذه الحالــة فحينئذ ‪ ،‬سنحصــل علــى‬
‫الستقلل السياســي والقــوة والنصــر ‪ ،‬امــا المجتمــع الكســول الخامــل‬
‫الذي ل يبحث ال عن الحقوق قبل الواجبات ‪ ،‬وعن الخذ قبل العطــاء‬
‫‪ ،‬وعن الجمود قبل الحركة فــان الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬ل يمكــن ان ينصــره ‪،‬‬
‫ويمنحه القوة ‪.‬‬
‫ثــم يــقــــول ‪ -‬تعـالى ‪ -‬مشــيرا الـــى خطــــة اخــــرى مــــن خـطـــط‬
‫غـُرورًا { ‪ ،‬فالشــيطان‬ ‫ل ُ‬‫ن ِإ ّ‬‫طا ُ‬
‫شـْي َ‬
‫عْدُهْم َوَماَيِعُدُهُم ال ّ‬
‫الـشـيـطـان ‪َ } :‬و ِ‬
‫يعــد بــالغرور كاذبــا ‪ ،‬والمــؤمن الحقيقــي ل يركــن الــى هــذه الوعــود‬
‫الكاذبة ‪ ،‬فالصدق عند ال وحده ‪ ،‬وعندما يطبق المؤمن هذا البرنامــج‬
‫اللهي ‪ ،‬فان ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬سيتفضل عليه بالعزة ‪ ،‬والمنعــة ‪،‬‬
‫والقوة ‪ ،‬ويكون من ضمن العباد الذين يقول عنهم القرآن الكريــم ‪} :‬‬
‫ل { ‪ ،‬لن هــؤلء‬ ‫ك َوِكي ً‬
‫ن َوَكَفــى ِبَرّب ـ َ‬
‫طا ٌ‬‫س ـْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫ك َ‬‫س َل َ‬
‫عَبادي َلْي َ‬
‫ن ِ‬
‫ِإ ّ‬
‫العباد اعدوا امام كل عمل شيطاني قوة رحمانيــة تقــاومه ‪ ،‬وامــام كــل‬
‫كيد من مكائد الشيطان خططا استوحوها من القرآن وبصائره ‪.‬‬

‫المؤمن بين صلبة الموقف وتزكية النفس‬

‫النسان بأمس الحاجة لن تتكون عنده بصيرة نافــذة فــي الحيــاة ‪،‬‬
‫فلبد ان يكون على اطلع ومعرفة بالحقائق الكبرى المتعلقة بحياته ؛‬
‫مثل ماهية هذه الحياة ‪ ،‬والعلة من وراء وجودها ووجوده ‪ ،‬والى ايــن‬
‫يتجه في خضمها ؟ ‪ ،‬ولعل النسان يعيش على جهــل فــي اغلــب هــذه‬
‫الحقائق ‪ ،‬في حين انه لبد له من معرفتها وادراكها كي تنكشف امامه‬
‫سائر الحقائق ‪ ،‬والمور المهمة الخرى ‪.‬‬

‫وليس المهم في هذا المجال ان يعلم النسان ظاهر الشيء ‪ ،‬بل المهم‬
‫الحاطة علما بجـوهر الشـيء ‪ ،‬وعمـق حقيقتـه ‪ .‬فلبـد لـي ولـك مـن‬
‫الطلع علــى جــوهر الحقــائق ‪ ،‬وفهــم اســرارها ‪ .‬ولــو نظرنــا الــى‬
‫اسلوب القرآن في الطــرح والبيـان ‪ ،‬لكتشــفنا ان بيـانه لفلســفة الحيــاة‬
‫يسبق بيانه لحقيقة البلء ‪ ،‬ووقوعه على المؤمنين ‪ ،‬فهو يحث النسان‬
‫على التعمق في فهم ومعرفة ماهية الحياة ‪ ،‬وعلــة وجودهــا ‪ ،‬والغايــة‬
‫منها ‪.‬‬

‫ت { ) آل عمــران ‪ ( 185 /‬؛ فــان‬


‫س َذآِئَقـُة اْلَمـْو ِ‬
‫ل َنْف ٍ‬
‫يقول ‪ -‬تعالى ‪ُ } : -‬ك ّ‬
‫شئت الحاطة بشيء او حقيقة ما فلبد ان تبحث عن بدايتها او نهايتها‬
‫‪ ،‬ولكن اغلب النــاس يبحثــون عــن البدايــة ول يهتمــون بالنهايــة ‪ ،‬امــا‬
‫العقلء ‪ ،‬والحكماء ‪ ،‬واولو اللباب والبصار فتجدهم يتقصون نهايــة‬
‫الحقائق ‪ ،‬فهم حين يريدون ان يسلكوا طريقا فانهم ل يسلكونه ال بعــد‬
‫ان يعلمــوا الــى ايــن سيوصــلهم ‪ ،‬فــان علمــوا انــه سيوصــلهم الــى مــا‬
‫يبتغـون ويرمـون ‪ ،‬سـلكوه حينئذ متـوكلين علـى الـ ‪ -‬تعـالى ‪ ، -‬وال‬
‫تركوه وراحوا يبحثون عن طريق اخر يحقق غايتهم ‪ ،‬ويوصلهم الــى‬
‫هدفهم ‪.‬‬

‫ولذلك فان القرآن الكريم دأب على بيان الخاتمة التي تنتهي اليها هذه‬
‫الحيـــاة الـــدنيا قبـــل ان يتطـــرق الـــى ايضـــاح طبيعـــة هـــذه الـــدنيا‬
‫وخصائصها ‪ ،‬وكل ما يتعلق بها من حقائق وظواهر ‪ ،‬فــــالموت هـــو‬
‫خاتمة الحياة الدنيا ‪ ،‬ولذلك ينبه القرآن الى هذه الحقيقة ‪ ،‬ويؤكــد علــى‬
‫اهميتها ‪ ،‬ولو ان النسان عرف ‪ ،‬ووعى ‪ ،‬واستوعب حقيقة الموت ‪،‬‬
‫وانه صائر اليه ل محالة وان عّمر ما عّمر نوح ) عليه الســلم ( ‪ ،‬او‬
‫ملك ما كان لسليمان ) عليه السلم ( لفهــم ‪ ،‬وتبصــر الطريقــة المثلــى‬
‫للسلوك والتعامل مع هذه الحياة ‪ ،‬ومع غيره من بني النسان ‪.‬‬

‫الحقائق ‪:‬‬ ‫حقيقة‬


‫وعلى الرغم من مرارة الموت ‪ ،‬ال انه يمثل حقيقة جميلة وصادقة‬
‫فلو وضع النسان هذه الحقيقة في لوحة ‪ ،‬وحملها ليطــوف بهــا العــالم‬
‫كله بأديانه ‪ ،‬ومذاهبه ‪ ،‬وطوائفه ‪ ،‬ثم سأل الناس عن رأيهم فيها لقالوا‬
‫انهــا حقيقــة الحقــائق ‪ ،‬وجــوهر وخلصــة الفلســفات ‪ ،‬فهــي حقيقــة‬
‫واضحة مختصرة ل لبس فيها ول غموض ‪ ،‬فكل وجود لبــد مــن ان‬
‫يصير الى الموت والفناء ‪ .‬واذا كان البعض يموتون وهم رقود فــانهم‬
‫ل يموتون كذلك في الحقيقة بــل لبــد مـن ان يســتيقظوا ولــو للحظــات‬
‫لكــي يــذوقوا طعــم المنيــة قبــل ان يصــادر وجــودهم ‪ .‬لــذلك لــو اراد‬
‫النسان ان يدرك ويفهم فلســفة الحيــاة والوجــود وحقيقــة هــذه الــدنيا ‪،‬‬
‫فعليه ان يذهب الى المقابر ‪ ،‬ويزور المغتسل وينظــر بتأمــل كيــف ان‬
‫هذا النسان الذي كان بالمس يحادثه ‪ ،‬ويجالســه ‪ ،‬ويأكــل ‪ ،‬ويشــرب‬
‫معـه ‪ ،‬اصـبح اليـوم جثـة هامـدة بـاردة ‪ ،‬يصــب عليـه المـاء مـن كـل‬
‫جانب ‪ ،‬ويقلب يمنة ويسرة كما تقلب الخشبة اليابسة !‬

‫اننــا لــو ادركنــا حقيقــة المنتهــى ‪ ،‬وكيــف يســدل الســتار علــى هــذا‬
‫الوجــود ‪ ،‬فاننــا ســندرك بعــد ذلــك الحقــائق الخــرى المتعلقــة بالحيــاة‬
‫وطبيعتها ‪ .‬فلو فهم النســان حقيقــة المــوت ‪ ،‬هــانت لــديه المصــائب ‪،‬‬
‫وذابت امامه جبال العسر والمشاق ‪ ،‬لنه سيعيش بامل الخرة ‪ ،‬ونيل‬
‫نصيبه منها ‪ ،‬فيعيش عندئذ حياته ســعيدا فــي ظــل القناعــة والتواضــع‬
‫والرضا بما رزقه ال وانعم عليه وان كان قليل يسيرا ‪.‬‬

‫وفـي حياة ائمتنا ) عليهم السلم ( صور رائعة لهذا اليمان الصادق‬
‫‪ ،‬تركوها لنــا لقتفائهــا والقتــداء بهــا ‪ .‬فالمــام زيــن العابــدين ) عليــه‬
‫السلم ( كان حين يجلس على الرض ‪ ،‬يجلس القرفصاء فل يســتوي‬
‫في جلوسه ‪ ،‬او يجلس جلسة القائم ‪ ،‬بل كان يجلس متواضعا ثم يدعو‬
‫قائل ‪ " :‬اللهم ارزقنا التجافي عن دار الغرور " ‪.‬‬

‫وهكــذا فــان معرفــة النهايــة لبــد وان تهــدينا الــى معرفــة البدايــة ‪،‬‬
‫س َذآِئَق ـُة‬
‫ل َنْف ـ ٍ‬
‫والمسلك الصحيح في الحياة كما يقول ‪ -‬تعــالى ‪ُ } : -‬ك ـ ّ‬
‫جــوَرُكْم َيـْوَم اْلِقَياَمـِة { ) آل عمــران ‪ ، ( 185 /‬فــاذا مــا‬
‫ن ُا ُ‬
‫ت وِإّنَما ُتَوّفْو َ‬
‫اْلَمْو ِ‬
‫عمل النسان فــي دنيــاه خيــرا ‪ ،‬وجــد فيهــا الخيــر ‪ .‬واذا ابتغــى الشــر‬
‫وعمل به ‪ ،‬فل يجد ال كل ما هو شر وسيء ‪ .‬بل ان عامل الخيــر ل‬
‫يجد الخير في دنياه فحسب ‪ ،‬بل سيلقى ما هو اكثر منه خيــرا وجــزاء‬
‫حسنا في الخرة عند ربه الكريم ‪.‬‬
‫‪:‬‬ ‫الفوز العظيم‬
‫فل يحزنك او يؤلمنــك ان انــت عملــت خيــرا ثـم لــم يمــدحك النـاس‬
‫عليه ‪ ،‬او يشــكروك مــادام هــذا العمــل ل يمكــن ان يضــيع عنــد الـ ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬الذي سيعطي الجر الحقيقي ‪ ،‬وفي نفس الوقت فــان‬
‫الذي يعمــل الشــر والســوء والعــدوان فـي دنيــاه ‪ ،‬عليــه ان ليســتعجل‬
‫جزاءه‪ ،‬وان ل يسخر ان هو لم يلق هذا الجزاء فـي دنيـاه ‪ .‬ذلــك لنـه‬
‫سيجد مــا عملــه حاضــرا امــامه يــوم القيامــة ‪ ،‬فينــال عقــابه الوفــى ‪،‬‬
‫ويصيبه سوء ما عملت يداه ‪ .‬فالمهم ‪ -‬اذن ‪ -‬ان ينــجو النــسان مــن‬
‫الـنار ‪ ،‬ويستطيع اجتياز الصراط وهذا هو الفوز العظيم كمــا يقــول ‪-‬‬
‫جّن ـَة َفَق ـْد‬
‫خلَ اْل َ‬
‫ن الّناِر َوُاْد ِ‬
‫عِ‬‫ح َ‬
‫حِز َ‬
‫تعالى ‪ -‬بعد الية السابقة ‪َ } :‬فَمن ُز ْ‬
‫ر { ) آل عمران ‪. ( 185 /‬‬
‫ع اْلُغُرو ِ‬
‫حَياُة الّدْنَيآ ِإل َمَتا ُ‬
‫َفاَز َوَما اْل َ‬

‫النار ‪:‬‬ ‫مسمرون في‬


‫والملـــــفت للـنظـــــر فــــي هـــذا التعــبير القــرآنــــي البـلـيـــغ‬
‫اســتخـدامــه لكـلمــة ) زحزح ( ‪ ،‬وكأن ال ـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬اراد الشــارة‬
‫الى انه ليــس مــن الســهولة ان ينتقــل المســيء مــن النــار الــى الجنــة ‪،‬‬
‫فأولئك الذين يدخلون نـار جهنــم يســمرون فيهــا فيصــبح مـن الصــعب‬
‫اقتلعهم منها ‪ .‬فالنسان عندما يولد في هذه الدنيا فكأنه يولد فــي مهــد‬
‫من نار ‪ ،‬فعليه ان يكد ويتعب ويعمل في سبيل زحزحة روحه من نار‬
‫جهنم ‪ ،‬وادخالها في الجنة والنعيم السرمدي ‪ ،‬وهذا هو الفوز المبين ‪.‬‬
‫وإل فــان الــذي يحــب الــدنيا ‪ ،‬ويوليهــا اهتمامــا اكــثر ممــا تســتحقه ‪،‬‬
‫ويــدوس القيــم ‪ ،‬والمبــادىء ‪ ،‬والمثــل الســامية مــن اجــل دنيــاه ‪ ،‬فــانه‬
‫سيخســر الثنيــن ‪ ،‬الحيــاة الدنيــــا ‪ ،‬والخـــرة ‪ ،‬وهــذا هــو الخســران‬
‫المبين ‪ .‬فهو مهما اهتم بدنياه ‪ ،‬واضمر لها الحب والعبادة ‪ ،‬فانها لبــد‬
‫ان ترفســه يومــا وتلفظــه الــى جهنــم ‪ .‬فالــدنيا ل يمكــن ان تفــي يومــا‬
‫رور { ‪.‬‬ ‫ع اْلُغ ُ‬
‫حَياُة الّدْنَيآ ِإل َمَتا ُ‬
‫لصحابها المغرورين بها ‪َ }:‬وَما اْل َ‬

‫‪:‬‬ ‫أطأ بعرجتي في الجنة‬


‫فليكن هدفنا في الحياة الــدنيا كهــدف المــؤمنين الصــالحين والمتقيــن‬
‫الصادقين وهو ان ننقذ انفسنا من نــار جهنــم ‪ ،‬ونســمو بهــا عاليــا الــى‬
‫رحاب الجنة ‪ ،‬ونعيمها الخالد ‪.‬‬
‫فقد روي انه ‪ :‬كان عمرو بن الجمــوح رجل أعــرج فلمـا كـان يــوم‬
‫أحد وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي ) صــلى ال ـ عليــه وآلــه (‬
‫المشاهد أمثال السد أراد قومه أن يحبسوه وقالوا ‪ :‬أنت رجــل أعــرج‬
‫ول حرج عليك وقد ذهـب بنـوك مـع النـبي ) صــلى الـ عليـه وآلـه (‬
‫خ يذهبون الى الجنة وأجلس انا عندكم ؟ فقالت هند بنت عمرو‬ ‫قال ‪ :‬ب ّ‬
‫بن حرام امرأته ‪ :‬كأني أنظر إليه موّليــا قــد أخــذ درقتــه وهــو يقــول ‪:‬‬
‫اللهم ل تردني الــى أهلــي ‪ ،‬فخــرج ولحقــه بعــض قــومه يكلمــونه فــي‬
‫القعود فأبى وجاء الى رسول ال ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( فقــال ‪ :‬يــا‬
‫رسول ال إن قومي يريدون أن يحبسوني هذا الوجه ‪ ،‬والخروج معك‬
‫‪ ،‬وال إني لرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ‪ ،‬فقال له ‪ :‬أمــا أنــت‬
‫فقد عذرك ال ولجهاد عليك ‪ ،‬فــأبى ‪ ،‬فقــال النــبي ) صــلى الـ عليــه‬
‫وآله ( لقومه وبنيه ‪ " :‬ل عليكم أن لتمنعوه ‪ ،‬لعل ال يرزقه الشــهادة‬
‫" فخّلوا عنه ‪ ،‬فقتل يومئذ شهيدا ‪ ،‬قال ‪ :‬فحملته هند بعد شهادته وابنها‬
‫خلد وأخاها عبد ال على بعير ‪ ،‬فلما بلغت منقطع الحّرة برك البعيــر‬
‫‪ ،‬فكـان كلما توجهه الى المدينة برك ‪ ،‬وإذا وجهته الــى أحــد أســرع ‪،‬‬
‫فرجعت الى النبي ) صلى ال عليه وآله ( فأخبرته بذلك ‪ ،‬فقال ) عليه‬
‫السلم ( ‪ :‬إن الجمل لمأمور ‪ ،‬هل قال عمرو شيئا ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬إنــه‬
‫لما توجه الى أحــد اســتقبل القبلــة ثــم قــال ‪ :‬اللهــم لتردنــي إلــى أهلــي‬
‫وارزقني الشهادة ‪ ،‬فقال ) عليه الســلم ( ‪ " :‬فلــذلك الجمــل ليمضــي‬
‫إن منكم يا معشر النصار من لو أقسم على الـ لبـره ‪ ،‬منهـم عمـرو‬
‫‪((1‬‬
‫بن الجموح "‬
‫وفي كربلء يتقدم ) جون ( وهــو مــولى ابــي ذر ) رض ( ‪ ،‬فيقــف‬
‫امام ابي عبد ال الحسين ) عليه السلم ( ‪ ،‬فيقول له المام ‪ :‬يــا جــون‬
‫انما انت طلبتنا للسلمة ‪ ،‬فاذهب فأنت حر لوجه ال ‪ ،‬فما كان جــوابه‬
‫) رض( ال ان خاطب امامه الحسين ) عليه السلم ( قائـــل ‪ :‬يـا ابـن‬
‫رسول ال ‪ ،‬ان ريحــي لنتــن ‪ ،‬وان لــوني لســود ‪ ،‬وان نســبي للئيــم ‪،‬‬
‫ي بالجنـة ‪ ،‬فأذن له الحسين ) عليه السلم ( بالجهاد معه‬ ‫فتنفــس علـــ ّ‬

‫)‪1‬‬
‫(‬
‫بحار النوار ج ‪ 20‬ص ‪130‬‬
‫‪ ،‬فاقتحم الميــدان ‪ ،‬وقاتــل قتـال البطــال حتــــى استشــهد ‪ ،‬ليدخــــل‬
‫الجنــة ‪.‬‬

‫الهدف السمى ‪:‬‬


‫وهكذا فان على النسان ان يبحث عن هدفه في الحيــاة ‪ ،‬ول يــدع‬
‫ايام عمره الطويلـة ‪ ،‬وما اوتي من فــرص عديــدة تمــر دون اغتنامهــا‬
‫فــي عمــل الخيــرات والصــالحات ‪ ،‬فتنقضــي كلهــا دون ان يشــعر ‪،‬‬
‫وحينئذ ل تنفعه الحسرات ‪ ،‬والندم على ما فات ‪ .‬فليصح النسان مــن‬
‫غفلته ‪ ،‬ولينهــض ويرتفــع بعملــه وعطــائه الــى الهــدف الســمى وهــو‬
‫الجنة والرضوان ‪ .‬والوصول الــى هــدف كهــذا ل يمكـن ان يكــون ال‬
‫بالعمل والعطــاء والخلص لـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ ، -‬وال فــان مــآل اكــثر‬
‫جَهّن ـَم‬
‫الناس سيكون الى جهنم ‪ ،‬كما يقول ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬وَلَق ـْد َذَرْأَنــا ِل َ‬
‫س { ) العراف ‪( 179 /‬‬
‫لْن ِ‬
‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬‫ن اْل ِ‬
‫َكِثيرًا ِم َ‬
‫فلنطهر قلوبنا من شياطين الكسل والهمال والتبرير وطول المل ‪،‬‬
‫فالشياطين انمــا يريــدون اغواءنــا ليكــون مصــيرنا الــى النــار معهــم ‪،‬‬
‫واحــدى وســائلهم بــث الكســل ‪ ،‬وانــواع التبريــــر ‪ ،‬والتغريــر بطــول‬
‫العمـــــار وكثـــرة المــــوال ‪ ،‬وتزييــن حــب الدنيــــا وشهواتهـــــا ‪،‬‬
‫وملذهــا الزائلــة ‪ ،‬والهــواء الضــالة ‪ .‬وهــذه هــي وســائل واســاليب‬
‫الشيطان وجنوده في اغواء النســان واسقاطــــه فــي هــاويـــة جهنــم ‪،‬‬
‫ونارهــا الحاميــة ‪.‬‬
‫ولـو ادرك النسان حقيقة كون الحيــاة الــدنيا غــرورا ‪ ،‬فــانه ســيعلم‬
‫حنيئذ سر البتلء اللهي له ‪ .‬فال ‪ -‬سـبحانه ‪ -‬يحــب عبـاده المــؤمنين‬
‫المتقين ‪ ،‬ولكن لماذا كانت مسالك هؤلء المـــؤمنين مليئـــة بالشــواك‬
‫والمعاناة واللم بدل ان تكون معبدة ‪ ،‬مفعمــة بالـــورود والريــاحين ؟‬
‫السر في ذلك انه ‪ -‬تعالى ‪ -‬يحب المؤمنين ‪ ،‬ويريد سعادتهم ‪ ،‬ولكــن ‪-‬‬

‫عز وجل ‪ -‬ل يحب الدنيا وقد كرههــا لعبــاده المــؤمنين لعلمــه الزلــي‬
‫انهــا ل تتلءم مــع مقــامهم الرفيــع ‪ ،‬فكــل مــا لهــم مــن هــذه الــدنيا ان‬
‫يــتزودوا منهــا مــا ينفعهــم لخرتهــم ‪ ،‬فالــدنيا مزرعــة الخــرة عنــد‬
‫المؤمنين ‪ ،‬وهي مسلك وممر ‪ ،‬وليست دار مقر ‪.‬‬
‫وانواعه ‪:‬‬ ‫حقيقة البتلء‬
‫ثـم ينــــتقل الســــياق الكريــــم لـــعرض حقيــــقة البــــتلء وانــواعه‬
‫م {)‬‫سُك ْ‬
‫ن ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ‬
‫بشيء من التفصيل فيقول ‪ -‬تعالى‪َ } : -‬لُتْبَلُو ّ‬
‫آل عمــران ‪ ( 186 /‬فالبـــلء هو جلبــــاب النســان المؤمــــن ‪ ،‬فــاذا اختــار‬
‫النسان اليـمان والولء لـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬فليلبــس جلبــاب البلء ‪ ،‬لكــون‬
‫هذا البلء يحيط بالمؤمن من كل جانب كمــا يحيــط الجلبــاب بجســده ‪،‬‬
‫واول ما يكون البلء والتمحيــص فــي المــوال ‪ ،‬فمــن خللهــا يمتحــن‬
‫النسان ليعــرف مــدى بــذله ‪ ،‬وعطــائه ‪ .‬مــن بخلــه وحرصــه ‪ ،‬فعلــى‬
‫المؤمن ان يضحي بماله اول ‪ ،‬فان لم يضــح بــه اليــوم فــانه ســوف ل‬
‫يكون مستعدا لن يضــحي بنفســه ودمــه فــي ســبيل الـ عنــدما يحمــى‬
‫الوطيس ‪.‬‬
‫ثم يكشف السياق عن نوع اخر مــن البلء فــي قــوله ‪ -‬تعــالى ‪} : -‬‬
‫شَرُكــــــوا‬
‫ن اّلـِذينَ َأ ْ‬
‫ب ِمن َقْبِلُكْم َوِمـ َ‬
‫ن ُاوُتــــوا اْلِكَتا َ‬
‫ن اّلذيــ َ‬
‫ن ِم َ‬
‫سَمُع ّ‬
‫َوَلَت ْ‬
‫َأًذى َكِثيــــرًا { ) آل عمــران ‪ (186 /‬فالنسان المــؤمن قــد ل يجــد حــائل فــي‬
‫نفسه يمنعه من ان يدفع بماله او نفسه في ســبيل الـ ‪ ،‬ولكــن قــد يبقــى‬
‫يواجه مشكلة اخرى وهي حديث الناس وما فيه مــن افــتراء وســخرية‬
‫واهانة وما الى ذلك ‪ ،‬والقرآن الكريــم يشــير هنــا الــى هــذه المشــكلة ‪،‬‬
‫ويدعو المؤمنين الذين يبتلون بهذا النوع مــن البلء الــى الصــبر علــى‬
‫حديث الناس ‪ ،‬وكلمهم الفارغ ‪ ،‬وان تكون لديهم الصلبة ‪ ،‬والتريث‬
‫والحلم ‪ ،‬فل يعيروا اهمية لتلك القاويل ‪ ،‬ول يثبطنهم كلم الخرين ‪.‬‬

‫الصابرين ‪:‬‬ ‫الحسين ) عليه السلم ( اسوة‬


‫ولتكن لنا في هذا المجال اسوة حسنة بأبي عبد الـ الحســين ) عليـه‬
‫السلم ( عندما‬
‫اتهموه ‪ ،‬ونعتوه بانواع النعوت الباطلة ‪ ،‬ولقــد فرحــوا كــثيرا بمقتلــه ‪،‬‬
‫ولســنوات بعــد شــهادته ) عليــه الســلم ( كــانوا يشــتمون ابــاه أميــر‬
‫المؤمنين ) عليه السلم ( في مساجدهم ‪ ،‬ولكن هل كان لهم ما ارادوه‬
‫من وراء نيلهم من أهل بيــت العصمة والطهــارة ) عليهــم الســلم ( ‪،‬‬
‫أم هم الذين اصبحوا محــط لعـن المـة ‪ ،‬ونقمتهـا ؟ ‪ .‬لقــد مضــى أهــل‬
‫البيت ) عليهم السلم ( على نهجهم ‪ ،‬وقالوا كلمة الحق الــتي مــازالت‬
‫تدوي في الفاق الى يومنـا هــذا ‪ ،‬وبــذلوا الجهــود مـن اجــل ان تكــون‬
‫كلمة ال هي العليـا ‪ ،‬وكلمـة الكـافرين الســفلى‪ ،‬فســلكوا طريقهــم بكـل‬
‫شجاعة ‪ ،‬ل يخافون في ال لومة لئم ‪.‬‬

‫الفتن ‪:‬‬ ‫المؤمن يصارع‬


‫ان الهدف من بياننا لطبيعة الدنيا وحقيقتها ان يقوى عودنا ‪ ،‬وتترسخ‬
‫ص ـِبُروا‬
‫عزائمنــا ‪ ،‬وتتعــزز هممنــــا كمــا يقــول ‪ -‬تعــالى ‪ } : -‬وَِإن َت ْ‬
‫لُمــــوِر { ) آل عمــران ‪ ، ( 186 /‬فـــــل يهــون‬
‫عــْزِم ا ُ‬
‫ن َ‬
‫ك ِمـ ْ‬
‫ن َذِلـ َ‬
‫َوَتّتُقوا َفِإ ّ‬
‫عزمنا ‪ ،‬ول يثبطنا قول العاطلين الكسالــى ‪ ،‬واللهيــــن العابثـيــــن ‪،‬‬
‫ولنكــن رجــال اقويــاء كزبــر الحديــــد ‪ ،‬ل تهزهــــم الحــوادث ‪ .‬فلبــد‬
‫للنسان المؤمـن من ان يجتاز المتحانات الصعبــة الواحد تلو الخــر‬
‫‪ ،‬وان يمحـــص فـــي ايمـــانه ‪ ،‬وعقيـــدته ‪ ،‬واســـتقامته ‪ ،‬ويخـــوض‬
‫المعتركــات ‪ ،‬ويتحمــل الشــواك واللم والمحــن ‪ ،‬ويصــارع الفتــن ‪.‬‬
‫فلبد للمؤمنين من ان يجتــازوا بنجـــــاح ‪ ،‬ويخرجــوا منتصــرين مــن‬
‫انــواع التمحيــص ‪ ،‬والبلء ‪ ،‬ومــن ذلــك التهامــــات ‪ ،‬والفــتراءات‬
‫والتقولت وما شابه ذلك من اساليب الحرب النفسيــة ‪.‬‬
‫اللهية ‪:‬‬ ‫أهل الكتاب والمواثيق‬
‫ثم ينقل السياق صورة عن اهل الكتاب ‪ ،‬وعدم الــتزامهم بــالمواثيق‬
‫ب َلُتَبّيُنّن ـُه‬
‫ن ُاوُتــوا اْلكَِتــا َ‬
‫ق اّل ـِذي َ‬
‫ل ِميَثا َ‬
‫خَذ ا ُّ‬
‫التي اخذت عليهم ‪ } :‬وِإْذ َأ َ‬
‫شـَتَرْوْا ِبـِه َثَمـنـــًا َقِلي ً‬
‫ل‬ ‫ظُهـوِرِهْم َوا ْ‬ ‫ل َتْكُتُموَنُه َفَنَبـُذوُه َوَرآَء ُ‬
‫س َو َ‬‫ِللّنـــا ِ‬
‫ن { ) آل عمران ‪ ، ( 187 /‬فقد كان من المفروض في أهل‬ ‫شَتـــُرو َ‬ ‫س َما َي ْ‬
‫َفِبْئ َ‬
‫الكتاب والمتوقع منهم ان يؤيدوا المسلمين ويدعموهم مادام المســلمون‬
‫يدعون الى ال ‪ ،‬فأهل الكتاب من نصــارى ويهــود هــم اهــل رســالة ‪،‬‬
‫وينبغــي عليهــم ان يــدافعوا عــن الرســالت الســماوية الــتي يختتمهــا‬
‫السلم ‪ ،‬ولكننا نراهم على مر التأريخ يجمعون كــل قــواهم لمحاربــة‬
‫الرسالة السلمية ‪ ،‬فقد كتموا الحق عن الناس ‪ ،‬ولــم يطلعــوهم عليــه‬
‫وهم أدرى به ‪ ،‬كل ذلك من اجل مصالح ومطامع دنيوية اســتحبوها ‪،‬‬
‫وضحوا بمبادئهم وقيمهم وقدسية علمهم من اجلها ‪ ،‬ولكن هــل ســتخلد‬
‫لهم هذه المنافع الشخصية ؟‬

‫التصدي ‪:‬‬ ‫مرحلة‬


‫حونَ‬ ‫ن َيْفَر ُ‬‫ن الِّذي َ‬
‫سَب ّ‬
‫حَ‬ ‫ل َت ْ‬‫ثم ينتقل السياق ليؤكد هذه الحقيقة قائل ‪َ } :‬‬
‫سـَبّنُهم ِبَمَفــاَزٍة ِمـ َ‬
‫ن‬ ‫حَ‬‫ل َت ْ‬‫حَمـُدوا ِبَمــا َلـْم َيْفَعُلــوا َف َ‬
‫ن َأن ُي ْ‬
‫حّبو َ‬‫ِبَمآ أََتوْا َوُي ِ‬
‫ب َأِليٌم { ) آل عمران ‪. ( 188 /‬‬ ‫عَذا ٌ‬
‫ب َوَلُهْم َ‬ ‫اْلَعَذا ِ‬
‫ان الصلبة في هذه المرحلة هي في غاية الهمية لن هذه المرحلة‬
‫هي مرحلة التصدي ‪ ،‬المرحلة التي نبرهن فيها علــى صــدق ايماننــا ‪،‬‬
‫واســتقامتنا ‪ ،‬فاليمــان ل يعنــي ان نــردد آيــات مــن القــرآن ‪ ،‬ونــؤدي‬
‫ظاهر العبادات ‪ ،‬بل اليمــان معــدنه عنــد البــأس ‪ ،‬والشــدائد ‪ ،‬وحينئذ‬
‫تتبيــن حقــيقة النــسان وجوهـــره ‪ ،‬وزيــــف ادعائــــه مــن صــدقه ‪،‬‬
‫جوَهُكْم ِقَب َ‬
‫ل‬ ‫ن ُتَوّلوا وُ ُ‬‫س اْلِبّر َأ ْ‬
‫كما يشير الى ذلك قوله ‪ -‬تعالى‪َ } : -‬لْي َ‬
‫خـِر َواْلَملِئَكـِة‬ ‫لِ‬‫ل َواْلَيــوِم ا َ‬‫ن ِبــا ّ‬
‫ن َءاَم َ‬ ‫ن اْلِبّر َم ْ‬
‫ب َولِك ّ‬‫ق َواْلَمْغِر ِ‬‫اْلَمشِْر ِ‬
‫حّبــِه َذوي اْلُقْرَبــى َواْلَيَتــاَمى‬ ‫عَلــى ُ‬ ‫ل َ‬‫ن َواَتــى اْلَمــا َ‬ ‫ب َوالّنِبّييــ َ‬‫َواْلِكَتــا ِ‬
‫لَة َواَتــى‬ ‫صـ َ‬
‫ب َوَأَقــاَم ال ّ‬ ‫ن َوِفــي الّرقــا ِ‬‫ســآِئِلي َ‬
‫ل َوال ّ‬
‫سِبي ِ‬‫ن اْل ّ‬
‫ن َواْب َ‬ ‫ساِكي َ‬
‫َواْلَم َ‬
‫ســـآِء‬
‫ن ِفـــي اْلَبْأ َ‬
‫صـــاِبِري َ‬ ‫عاَهـــُدوا َوال ّ‬ ‫ن ِبَعْهـــِدِهْم ِإَذا َ‬‫الّزَكـــاَة َواْلُموُفـــو َ‬
‫ن{‬ ‫ك ُهـُم اْلُمّتُقــو َ‬
‫صـَدُقْوا َوُاْوَلِئ َ‬
‫ك اّلـِذينَ َ‬ ‫س ُاْوَلِئ َ‬
‫ن اْلَبـْأ ِ‬
‫حيـ َ‬ ‫ضـّرآِء َو ِ‬ ‫َوال ّ‬
‫) البقرة ‪. ( 177 /‬‬

‫واركانه ‪:‬‬ ‫اعمدة اليمان‬


‫فمن اعمدة اليمان ان يصبر النسان في البأساء والضراء ‪ ،‬وحين‬
‫المعترك والمواجهة ‪ ،‬ومن الصفات الخرى تزكية النفس ‪ ،‬والكتمــان‬
‫والخفية في عمل الخيـرات والصالحات ‪ ،‬وان ل يجعل النسان عملــه‬
‫وجهده عرضة لفة الرياء المدمرة ‪ .‬فالرياء محرقة الجهود الخيــرة ‪،‬‬
‫فعلــى النسان المســلم ان يعمــل بشــكل بحيــث لــو عملــت يــده اليمنــى‬
‫الخير ‪ ،‬جهلته يده اليســرى ‪ ،‬وهذا هو ديدن نبينـا الكـرم وأهــل بيتـه‬
‫عليهم السلم في عمل الخيرات والصالحات ‪.‬‬

‫وعلى هذا فان القرآن الكريم يحــذر مــن المــراءاة ‪ ،‬وافشــاء عمــل‬
‫الخير من اجل الجاه والسمعة والشــهرة ‪ ،‬لن كــل ذلـك سـيتحول الـى‬
‫وبال على النسان خصوصا وان الرياء هــو نمــط مــن انمــاط الشــرك‬
‫بال ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬فأصحاب مثل هذه العمال التي يذيعون بهــا فــي كــل‬
‫مكان ‪ ،‬هم اقرب ما يكونون من نــار جهنــم ‪ .‬لن اعمــالهم هــذه كــانوا‬
‫يهدرونها بالشهرة ‪ ،‬وطلب الجاه والسمعة ‪ ،‬فلم يستبقوا منها ما يقيهــم‬
‫ن اّلـِذينَ‬ ‫سـَب ّ‬
‫حَ‬‫ل َت ْ‬
‫شر عذاب يــوم القيامــة ‪ ،‬ولــذلك قــال ‪ -‬تعــالى ‪َ } : -‬‬
‫س ـَبّنُهم‬
‫حَ‬‫ل َت ْ‬
‫حَم ـُدوا ِبَمــا َلـْم َيْفَعُلــوا َف َ‬
‫ن َأن ُي ْ‬‫حّبــو َ‬
‫ن ِبَمــآ َأَتــوْا َوُي ِ‬
‫حــو َ‬ ‫َيْفَر ُ‬
‫ب َأِليٌم { ‪.‬‬
‫عَذا ٌ‬
‫ب َوَلُهْم َ‬ ‫ن اْلَعَذا ِ‬ ‫ِبَمَفاَزٍة ِم َ‬
‫وحقا فان هذه الية من اليــات ذات الوقــع المــؤثر علــى النســان ‪،‬‬
‫ولذلك فان من الضروري للنسان المؤمن ان يطرد ما تبقى في نفســه‬
‫من ذرات الرياء الذي يهدد عمله الصالح بالحباط ‪ ،‬وهذا جانب مهــم‬
‫من جوانب تزكية النفس ‪.‬‬
‫ومن هنا يتضح لنا ان النسان المؤمن بحاجة الى خصلتين هما فـي‬
‫غايــة الهميــة لصــيانة ايمــانه وعقيــدته وعملــه مــن الخلــل والضــعف‬
‫والحبــاط وهمــا ‪ :‬الصــلبة والســتقامة اللــذان يعتــبران مــن عوامــل‬
‫النصر المهمة وبلوغ الهداف اللهية ‪ ،‬وليس هذا النصــر وقفــا علــى‬
‫الســاحة السياســية او العســكرية بــل يتجســد اول فــي النتصــار علــى‬
‫النفس المارة بالسوء ‪ ،‬وعلى الشيطان ووساوسه ‪ .‬فالنصــر الحقيقــي‬
‫هو بلــوغ الجنــة ‪ ،‬ونيــل الرضــا اللهــي ‪ ،‬ففــي ذلــك ضــمان خلــوص‬
‫العمال ل ‪ -‬سبحانه ‪ . -‬فالشيطان يستفز النسان المؤمن ‪ ،‬ويســتهين‬
‫بما قدمه او يقدمه من اجل اليقاع بـه فـي شــرك الريـاء ‪ .‬ولــذلك فـان‬
‫على المؤمن ان يحذر من هذه الستفزازات الشيطانية بأن يكتم عملــه‬
‫الصالح ‪ ،‬ويصبر على اقوال المتقولين وتخرصاتهم ‪ ،‬وليعلم ان ال ‪-‬‬
‫عز وجل ‪ -‬يدافع عنه ‪ ،‬ويحرسه بغايته ولطفــه ‪ ،‬ويــوفقه الــى مــا فيــه‬
‫الخير والعاقبة الحسنة ‪.‬‬
‫الشخصية اليمانية والطاعة الواعية‬

‫هنــاك ثلثــة نمــاذج مــن النــاس ؛ فمنهــم مــن جبــل علــى التمــرد‬
‫والفوضى فهم ل يحبون الطاعة ‪ ،‬ول يرغبون في النظام ‪ ،‬ومنهم من‬
‫تعود الطاعة المطلقة فهو يطأطىء رأسه دومــا للقــوي ‪ ،‬ومــن النــاس‬
‫من يعتدل في سلوكه فهو مطيع تمام الطاعة عندما تكون ل وبــأمره ‪،‬‬
‫اما عندما تكون الطاعة للقوة الشيطانية فانك تجده متمردا من الطــراز‬
‫الول ‪.‬‬
‫وهذه النماذج الثلثة منتشرة بين الشعوب والمجتمعــات ‪ ،‬ولكننــا قــد‬
‫نجد احد هذه النماذج هو الطاغي على النماذج الخرى ‪ ،‬فهناك بعض‬
‫الشــعوب ولســباب تأريخيــة وعوامــل عديــدة اخــرى ل تميــل الــى‬
‫النضباط بل تراهــا مشــغوفة بــالتمرد ‪ ،‬والفوضــى ‪ ،‬فتأريخهــا حافــل‬
‫بالعصيان والتمرد والفوضــى ‪ ،‬واذا مــا حــدث وان انضــبطت وقبلــت‬
‫الطاعة فانها لفترة مؤقتة سرعان ما تعود بعـدها الـى تلـك الحالـة مـن‬
‫الفوضى ‪.‬‬
‫تسليم مطلق ‪:‬‬
‫وهكذا فــان بعــض الشــعوب قــد فطــرت فــي الغلــب علــى التســليم‬
‫المطلق ‪ ،‬في حين ان هناك شعوبا اخرى جبلت علــى التمــرد ‪ ،‬وهــذه‬
‫الحالة اي ؛ حالة العصيان والفوضــى هــي مــن اخطــر الحــالت الــتي‬
‫تعاني منها بعض الشعوب لنها ل تسبب فقط العصيان والتمــرد ضــد‬
‫النظمــة الظالمــة ‪ ،‬وانمــا قــد تســبب ايضــا التشــرذم ‪ ،‬والختلف‬
‫والتمزق حتى في اطار المؤسسات الشــرعية الدينيــة ‪ ،‬ول يمكــن لي‬
‫شعـــب او مجموعة ان تنمــو وتتحــرر وتتطــور اذا كـانت تعــاني مــن‬
‫هــذه الحالــة الســلبية ‪ ،‬ذلــك لن التقــدم يحتــاج الــى النظــام ‪ ،‬فلــو كــان‬
‫النسان يعيش لوحده ‪ ،‬او لو كان كل منا يريد ان يعيش منفردا بــدون‬
‫أسر او تجمعات ‪ ،‬لما تطورت النسانية في اي بعد من ابعادهــا ‪ ،‬لن‬
‫النسان مدني بالطبع ‪.‬‬
‫وهكذا فان هذه الحضارات ‪ ،‬والتقدم العلمي الهائل انمــا كــان نتيجــة‬
‫للنظام فمــن دونــه ل يمكــن للنســان ان يقــدم شــيئا ‪ ،‬ورســالت الـ ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬لم تأت لتزرع الفوضى بين الناس انما جاءت لترسخ النظام ‪،‬‬
‫ونحن نعلم ان كثيرا من الحكام الشرعية والدينية انمــا جــاءت لتربيــة‬
‫النفس النسانية وترويضها على قبول الطاعة والنظام ‪.‬‬
‫وعلى سبيـل المــثال فـان مـن ابــــرز اهــــداف الصـلة ايجـاد حالـة‬
‫الطاعــة ‪ ،‬والنقيــاد عنــد النســان ‪ ،‬لن النســان الــذي يخضــع ل ـ ‪،‬‬
‫ويسجد له فانه يربي نفسه في الحقيقية على التسليم للحــق ‪ ،‬والذعــان‬
‫للنظام والقانون الشــرعي العــادل ‪ ،‬ولــذلك نــرى ان الصــلة هــي مــن‬
‫اصعب العبادات على النسان لنه متكبر وظــالم بطبعــه فــي حيــن ان‬
‫الصلة تربيه على حالة الطاعة والتسليم ‪ ،‬وكذلك الحــال بالنســبة الــى‬
‫الصوم فان هدفه ايجاد حالة التقوى في نفس النسان ومن المعلــوم ان‬
‫جزء منها يربــي النســان علــى الطاعــة والقبــول بالواجبــات ‪ ،‬ونفــس‬
‫الكلم يقال عن الحج فهو ايضا قد شّرع من اجل تحقيق هذا الهــدف ‪.‬‬
‫فأحد ابرز اهداف الحج ايجاد حالة التكامل والتكافل بين ابناء المجتمع‬
‫‪ ،‬والذعان للنظام الجتماعي ‪.‬‬

‫طقوس مفرغة من الروح ‪:‬‬


‫لعل الكثير من الواجبات التي نمارسها اليــوم اصــبحت مفرغــة مــن‬
‫الروح والهــداف ‪ .‬فنحــن على سبيل المثـال نــؤدي الصــلة دون ان‬
‫نعي انها جــاءت مــــن اجــل تزكيــة انفســنا ‪ ،‬وتنميــة ملكــــة التقــــوى‬
‫شــآِء‬
‫حَ‬‫ن اْلَف ْ‬
‫عــ ِ‬
‫لَة َتْنَهــــى َ‬
‫صــــ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫فيهــــا كمــا يقــول ‪ -‬تعــالى ‪ِ } : -‬إ ّ‬
‫َواْلُمنَكِر { ) العنكبــوت ‪ ، ( 45 /‬كما ان الهدف من الخمــس والزكــــاة ازالــة‬
‫الفقر ‪ ،‬واقامة النظام القتصادي العادل في المجتمــع ‪.‬‬
‫ان كل هذه الواجبات ربما نلـتزم بهـا ولكــن مـن دون الوصــول الـى‬
‫اهدافها ‪ ،‬وحتى بالنسبة الــى الواجبــات الخلقيــة فانهــا هــي الخــرى‬
‫استهدف من اليصــاء بهــا ايجــاد الطاعــة والنضــباط فــي المجتمــع ؛‬
‫فالهدف من الصدق ‪ -‬مثل ‪ -‬هو خلق الثقة المتبادلة بيــن النــاس ‪ ،‬كمــا‬
‫ان السبب فـي حرمة الكذب تمزيقه للمجتمع ‪ ،‬وزرعــه ســوء الظــن ‪،‬‬
‫والشكوك ‪ ،‬والغيبة بين ابناء المجتمع ‪.‬‬
‫وهكذا فـان جميـع الواجبـات والمحرمـات تسـتهدف تأسـيس مجتمـع‬
‫منظم متكامل ‪ ،‬ولكن بعض الشعوب تراهــا ‪ -‬للســف ‪ -‬تتمســك بتلــك‬
‫الحالة البدائية ؛ حالة الجهل والجاهلية ‪ ،‬فتجدها في حالة تمرد دائم ‪.‬‬
‫ظل اللـه وظل الشيطان ‪:‬‬
‫بالضافة الى ذلك فان هناك صفة تقابل صفة التمرد والعصــيان ال‬
‫وهي صفة الخضوع المطلق ‪ ،‬والتسليم الكلي ‪ ،‬وقد حــاول الســلطين‬
‫زرع هذه الثقافة في نفوس الناس من خلل اشاعة فكــرة ان الســلطان‬
‫هو ظل ال في الرض ‪ ،‬في حين ان السلطان اذا كان شرعيا ‪ ،‬ومــن‬
‫عند ال حقا فان امره هو امر ال ‪ ،‬وبيعته بيعة ل ‪ ،‬كمــا يقــول ‪ -‬عــز‬
‫هْم {‬
‫ق َأْي ـِدي ِ‬
‫ل ـ َف ـْو َ‬
‫ل ـ َي ـُد ا ِّ‬
‫ن ا َّ‬
‫ك ِإّنَما ُيَباِيُعو َ‬
‫ن ُيَباِيُعوَن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫وجل ‪ِ } : -‬إ ّ‬
‫) الفتح ‪( 10 /‬‬
‫اما اذا كان السلطان جائرا ‪ ،‬يأمر بالمنكر وينهــى عــن المعــروف ‪،‬‬
‫ويظلم الناس ‪ ،‬ويشيع الفاحشة ‪ ،‬ويعيث في الرض فسادا ‪ ،‬فهو ليــس‬
‫ظل ل ‪ -‬تعالى ‪ ، -‬بل هو ظــل للشــيطان ‪ ،‬وتمثــال لــه ‪ .‬فنحــن عنــدما‬
‫نقرأ القرآن الكريم فاننا نستعيذ بال من الشيطان سواء كان مــن الجــن‬
‫ام من النس كما يأمرنا بذلك الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في ســورة النــاس ‪:‬‬
‫شــّر‬
‫س * ِمــن َ‬ ‫س * ِإَلــِه الّنــا ِ‬
‫ك الّنــا ِ‬
‫س * َمِلــ ِ‬ ‫ب الّنــا ِ‬
‫عــوُذ ِبــَر ّ‬
‫ل َأ ُ‬
‫} ُقــ ْ‬
‫جّنـِة‬
‫ن اْل ِ‬
‫س * ِمـ َ‬
‫صـُدوِر الّنـا ِ‬ ‫س ِفــي ُ‬ ‫سـِو ُ‬ ‫س * اّلـِذي ُيَو ْ‬‫خّنا ِ‬‫س اْل َ‬
‫اْلَوسَْوا ِ‬
‫س {‪.‬‬ ‫َوالّنا ِ‬
‫ان هــذا النــوع مــن الطاعــة للســلطين الظلمــة الــذين ي ـّدعون زورا‬
‫وبهتانــا انهــم ظــل ال ـ فــي الرض ‪ ،‬ليــس طاعــة لـ بــل هــو طاعــة‬
‫للشيطان ‪ ،‬فهذه الطاعة العمياء ‪ ،‬والخضوع المطلق بأسم ال ‪ -‬تعــالى‬
‫‪ -‬وبأسم مقدسات السلم هما في الواقع من ابرز اعمال الشيطان بــل‬
‫مـن اخطرهــا ‪ .‬فهــؤلء الطغــاة يبثــون بيــن النـاس فكــرة ان مـن ملــك‬
‫بالسيف فهو خليفة ال ‪ ،‬اي ؛ ان من يقتل الناس لكي يتحكــم بهــم فمــن‬
‫حقه ان يصبح خليفة ال ! وعلى هــذا الســاس فــان نمــرود وفرعــون‬
‫وكل طغاة التأريخ هم خلفاء ال !‬
‫محاولة تبرير الطغيان ‪:‬‬
‫ان هؤلء الظالمين انمــا يفعلــون ذلــك لكــي يــبرروا طغيــان يزيــد ‪،‬‬
‫والخلفاء المويين والعباسيين الذين كان بعضهم ل يهنأ بطعام ال بعــد‬
‫ان يقتل عبدا من عباد ال ‪ ،‬وينظر الى هذا النســان وهــو يتخبــط فــي‬
‫دمــائه ‪ ،‬والبعـــض الخــر كــانوا يشــربون الخمــر فــي جمــاجم النــاس‬
‫البرياء ‪ ،‬فكيف يمكن ان يكونوا ظل ال في الرض وهــو ‪ -‬تعــالى ‪-‬‬
‫د { ) فصــلت ‪( 46 /‬‬ ‫لٍم ِلْلَعِبيـ ِ‬
‫ظّ‬
‫ك ِب َ‬
‫ابعــد مــا يكــون عــن الظلــم ‪َ } :‬وَمــا َرّبـ َ‬
‫وعرشــه علــى جللــه وعظمتــه يهــتز لبكــاء طفــل يــتيم ‪ ،‬او لــدعوة‬
‫مظلوم ؟!‬
‫ان هـذه الفكـار الباطلـة المنحرفــة زرعــت ‪ -‬للســف الشــديد ‪ -‬فــي‬
‫نفوس بعض الناس حالــة التســليم ‪ ،‬والخنــوع المطلــق ‪ .‬وهـي ظـاهرة‬
‫مغلوطة هي الخرى ‪ ،‬والحل المعقول ان نفتش عن طــريق وســط ‪،‬‬
‫طــــريق عــادل ‪ ،‬وهــــو ان يكــــون تمردنــا موجهــا الــى الشــيطان ‪،‬‬
‫وطاعتنا ل ‪ -‬سبحانه ‪ ، -‬ولمن امر ال بطاعته ‪ ،‬وهذا السلوك هو في‬
‫الواقع من اعلى درجـات اليمـان عنـد النسـان ‪ ،‬فلبـد ان نربـي فـي‬
‫نفوس شعوبنا حالة الطاعة هذه ولكن ليس لكل انسان بل الطاعة لمــن‬
‫امر ال بطاعته ‪.‬‬
‫وقد بين القرآن الكريم كيف كــان العــرب فــي جــاهليتهم ‪ ،‬فقــد كــانوا‬
‫يعيشــون فــي البــوادي والصــحارى وكــانوا مجبــولين علــى التمــرد‬
‫والعصــيان والعنــف بحكــم الــبيئة الــتي كــانوا يعيشــون فيهــا ‪ ،‬ولكــن‬
‫السلم صنع من هذا المجتمع المتمرد امــة واحــدة كـانت خيـــــر امـة‬
‫اخرجت للناس بفضل تعاليمه السامية ‪ ،‬وبفضل قوله ‪ -‬ســبحانه ‪} : -‬‬
‫شــرًا َوَنـِذيرًا { ) الحــزاب ‪ ، ( 45 /‬ثــم يقــول ‪ -‬عــز‬ ‫شاِهدًا َوُمَب ّ‬
‫ك َ‬
‫سْلَنا َ‬
‫ِاّنآ َأْر َ‬
‫وجل ‪ -‬مبينا الشروط التي شرطها لليمان بالرسول ‪ } :‬لُِتْؤِمُنــوا ِبــا ِّ‬
‫ل‬
‫سوِلِه َوُتَعّزُروُه َوُتَوّقــ ـُروُه { ) الفتــح ‪ ، ( 9 /‬فلبــد ان نــؤمن بــال ثــم‬ ‫َوَر ُ‬
‫نؤمن برسوله لنه مرسل من عنــد الـ ‪ .‬وقــد اختلــف المفســرون فــي‬
‫ضمير الهاء الموجود في الفعلين ) تعزروه ( و )تــوقروه ( هــل يعــود‬
‫الى ال ام الى الرسول ‪ ،‬وانا ارى انه يعود الــى كليهمـا لن مـن وّقــر‬
‫وعّزر الرسول فقد وقر وعزر الـ ‪ -‬تعالــى ‪ ، -‬ومـن نصـر الـ فقـد‬
‫نصر رسوله ‪ ،‬ومن نصر الرسول فقــد نصــر الـ وهــذه مـن البلغـة‬
‫القرآنية ‪ ،‬لن الخط واحد ‪ ،‬ولن طاعتنــا لـ هــي فــي الحقيقــة طاعــة‬
‫للرسول والعكس صحيح ‪.‬‬

‫تسلسل الطاعة في السلم ‪:‬‬


‫وهكذا الحال بالنسبة الى امتدادات الرسول ) صلى ال عليه وآلــه (‬
‫فطاعتنا لمام زماننا المام الحجة ) عجل ال ـ فرجــه الشــريف ( هــي‬
‫طاعــة للرســول وبالتــالي فانهــا طاعــة ل ـ ‪ -‬عــز وجــل ‪ -‬لنــه امــر‬
‫بطاعته ‪ .‬كما ان طاعتنا لنائب المام الفقيه العــادل هــي طاعــة للمــام‬
‫نفسه ‪ ،‬وللرسول ‪ .‬فالرويات التي جاءت لتشيد بدور العلمــاء ‪ ،‬وتــبين‬
‫منزلتهم السامية عند ال ‪ ،‬ل يكاد العقل يصدقها لول انهــا تنســجم مــع‬
‫الخط العام لرسالت ال ‪ ،‬وعلى سبيل المثال فقد جاء في رواياتنــا ان‬
‫النظر الى العالم عبادة لن الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬يريــد ان يكــون هــذا العــالم‬
‫موقرا ومحترما في المجتمع السلمي ‪ ،‬ولكي تتشكل في المة القيادة‬
‫الرشيدة وتســد الطريــق امــام القيــادات الباطلــة الظالمــة ‪ ،‬ولــذلك فــان‬
‫ل َفــْو َ‬
‫ق‬ ‫لَ َيُد ا ِّ‬
‫نا ّ‬ ‫ك ِإّنَما ُيَباِيُعو َ‬
‫ن ُيَباِيُعوَن َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫القرآن الكريم يقول ‪ِ }:‬إ ّ‬
‫م { ) الفتح ‪( 10 /‬‬ ‫َأْيِديِه ْ‬
‫واذا مـا بايعنـا العـالم ‪ ،‬وانتمينـا الــى الخــط الرســالي الصــحيح فاننـا‬
‫سنكون قد بايعنا ال ورسوله في الحقيقــة ‪ ،‬وامــا اذا نكثنــا عهــدنا فــان‬
‫وزر ذلك سيقع علينا بالدرجة الولى كما يقول ‪ -‬عز وجل ‪َ } : -‬فَمن‬
‫سـُيْؤِتيِه‬
‫لـ َف َ‬
‫عَلْيـُه ا َّ‬
‫عاَهـَد َ‬ ‫سـِه َوَمـن َأْوَفـى ِبَمـا َ‬ ‫عَلى َنْف ِ‬
‫ث َ‬ ‫َنَكثَ َفِإّنَما َينُك ُ‬
‫ظيمًا{ ) الفتح ‪ ( 10 /‬علمـــا ان كلمــة ) العظيم ( قليلة الورود فــي‬ ‫عِ‬‫جرًا َ‬ ‫َأ ْ‬
‫القرآن الكريم ‪ ،‬فلبد ان نتصور اي اجر عظيم سنحصل عليه اذا مــا‬
‫بايعنا القيادة الرشيدة ‪.‬‬
‫وهكذا فان من الواجب علينا ان نعيش حالـة الطاعــة لمـن يســتحقون‬
‫ان تبذل لهم فروض الطاعــة ‪ ،‬علمــا اننــا نعيــش الن دور بنــاء قوتنــا‬
‫الذاتية ‪ ،‬وبناء انفسنا ‪ ،‬فعلينا العمــل بمــا اوجــب الـ علينــا مــن طاعــة‬
‫اوليائه ‪ ،‬والتمرد على اعدائه ؛ اي الطاعة مــن جهــة ‪ ،‬والرفــض مــن‬
‫جهـة اخــرى لكـي نضــمن بــذلك حيـاة هنيئة سـعيدة تحــت حكــم الـ ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬حيث ل ظلم ‪ ،‬ول طغيان ‪ ،‬وحيث ل مجــال للطغــاة‬
‫الجبابرة ان يتحكموا في مصائر الناس ‪ ،‬وينهبوا مقدراتهم وثرواتهم ‪،‬‬
‫ويحرفوهم عن المسيرة اللهية الصحيحة ‪.‬‬

‫اليمان والمجتمعات المزدوجة‬

‫‪:‬‬ ‫بصورة عامة هناك ثلث مراحل يمر بها المجتمع‬

‫‪ 1‬ـ مرحلة الرواد الذين يفجــرون طاقــاتهم اليمانيــة ‪ ،‬ويبثــون فــي‬


‫روح المجتمع الثقة بالنفس ‪ ،‬والتوكل على ال ‪ ،‬وهــؤلء هــم النبيــاء‬
‫الذين يذكرنا ال ‪ -‬تعــالى ‪ -‬بهــم ليــبين لنــا صــفاتهم النســانية ‪ ،‬ومنهــا‬
‫عَلْيِهـْم َءاَيــا ُ‬
‫ت‬ ‫الصفة الــتي يشــير اليهــا قــوله ‪ -‬ســبحانه ‪ِ }: -‬إَذا ُتْتَلــى َ‬
‫كّيا { ) مريم ‪. ( 58 /‬‬
‫جدًا َوُب ِ‬
‫سّ‬‫خّروا ُ‬
‫ن َ‬
‫حَم ِ‬
‫الّر ْ‬
‫‪ 2‬ـ مرحلة الجيل الذي يــرث الكتــاب ‪ ،‬والحضــارة ‪ ،‬ول يلـتزم بهمــا‬
‫بشكل عملي كما كــان الــرواد يلــتزمون بهمــا ؛ فاليمــان موجــود بينــه‬
‫ولكنــه ليــس ايمــان التحــدي بــل ايـــمان التــبرير ‪ .‬كمــا ان الطقــوس‬
‫والشعائر الدينية قائمة بين اوساطه ‪ ،‬ولكنها محّورة ‪ .‬ويشــير ‪ -‬تعــالى‬
‫عوا‬ ‫ضــا ُ‬
‫ف َأ َ‬
‫خْلـ ٌ‬
‫ف ِمـن َبْعـِدِهْم َ‬ ‫خَلـ َ‬
‫‪ -‬الى هــذه المرحلــة فــي قــوله ‪َ } :‬ف َ‬
‫غّيا { ) مريم ‪. ( 59 /‬‬‫ن َ‬
‫ف َيْلَقْو َ‬
‫سْو َ‬
‫ت َف َ‬
‫شَهَوا ِ‬
‫لَة َواّتَبُعوا ال ّ‬
‫ص َ‬
‫ال ّ‬
‫اولئك الرجــال الــذين يخلقــون المجتمــع اللأبــالي ‪ ،‬واللمســؤول ‪،‬‬
‫والمجتمع القشري الفارغ ‪ ،‬ولكنهم يـرتبــطون بجــيل الـــرواد بشــكل‬
‫ظــاهــري ‪.‬‬

‫‪ -3‬مرحلــــة اولئك الرجــال الـــذين يخالفــــون الواقــــع الفاســد‬


‫ويتوبــون الـــى ال ـ ويتحملــون مســؤوليتهم الشــرعية ‪ .‬والــى هــؤلء‬
‫صــاِلحًا‬
‫ل َ‬
‫عِمـ َ‬
‫ن َو َ‬
‫ب وَءاَمـ َ‬‫ل َمـــن َتــا َ‬
‫يشـيــر ‪ -‬تعالى ‪ -‬فــي قــوله ‪ِ } :‬إ ّ‬
‫شْيئـــًا { ) مريم ‪( 60 /‬‬
‫ن َ‬
‫ظَلُمو َ‬
‫ل ُي ْ‬
‫جّنــَة َو َ‬
‫ن اْل َ‬
‫خُلو َ‬
‫ك َيْد ُ‬
‫َفُاْوَلِئ َ‬
‫ان هذه المراحل الثلث ‪ :‬مرحلــة القيــادة ‪ ،‬ومرحلــة عــدم الشــعور‬
‫بالمســؤولية ‪ ،‬ومرحلــة التوبـة و العــودة الــى صــفاء ونقـاء الرسـالة ‪،‬‬
‫تنطبق على كل مجتمع ‪ .‬فقد تجد فــي المجتمــع الواحــد اناســا يحتلــون‬
‫دور الرواد ‪ ،‬واخرين يتمثل فيهم الــدور الثـاني ؛ دور اولئك الــذين ل‬
‫يأخــذون مــن الكتــاب ســوى رســمه ‪ ،‬ومــن الــدين ال اســمه ‪ ،‬ومــن‬
‫الطقوس ال قشورها وظاهرها ‪ ،‬كما ونجد الى جـانبهم التـائبين الــذين‬
‫يحاولون العودة الى المصادر الولى لمبادئهم ‪.‬‬

‫وانــت ايهــا النســان المســلم تعيــش اليــوم فــي مجتمــع مــزدوج‬


‫الشخصية ‪ ،‬مجتمع تجــد فيــه ذلــك الشــاب الثــائر الصــادق فــي ايمــانه‬
‫والذي ل تجد بينه وبين قلبه حجابــا مـن نفــاق ‪ ،‬ول بيـن قــوله وعملــه‬
‫حجابا من التبرير ‪ ،‬فتجده اذا وعد وفى ‪ ،‬واذا قال صدق ‪ ،‬واذا عمــل‬
‫اتقن ‪ .‬في حين تجد الى جانب هذه الفئة من المؤمنين ‪ ،‬فريقــا ي ـّدعون‬
‫اليمان ولكنهم يكذبون في ادعائهم هذا ‪ .‬ويص ـّلون ولكنهــم ل يــؤدون‬
‫تلك الصلة التي امر بها ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬؛ فيصلون صــلة فارغــة ‪،‬‬
‫ل تنهى عن الفحشاء والمنكر في سلوكهم ‪.‬‬

‫والــى جــانب هــاتين المجموعــتين ‪ ،‬تجــد شخصــيات قياديــة رائدة‬


‫تســتطيع ان تتحمــل المســؤولية ‪ ،‬وتقــود ســفينة المــة الــى شــاطىء‬
‫النجاة ‪ ،‬وهذا هو جيل الولياء الذي يجسد دور النبياء ‪.‬‬

‫وبطبيعة الحال فان القليل منا يختار ان يكون وليا مــن اوليــاء الـ ‪-‬‬
‫تعالى ‪ ، -‬فهذا الختيار هو طموح عال بحاجة الى جهود جبارة رغــم‬
‫ان من حق النسان المسلم ان يتمنى ان يكون فــي مصــاف الصــديقين‬
‫والحواريين كأبي ذر الغفاري ‪ ،‬وسلمان الفارســي ‪ ،‬ومالــك الشــتر ‪،‬‬
‫وحبيب بن مظاهر ‪ ..‬وغيرهم مــن اولئك الصــديقين الــذين كــانوا اقــل‬
‫درجة من الئمة ) عليهم السلم ( ‪.‬‬
‫النسان ‪:‬‬ ‫لحدود لكمال‬
‫ان ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لم يغلق البواب في وجه النسان ‪ ،‬ولم يخلقه‬
‫بحيث ل يمكنه ان يصل الى هذه المراتب العالية ‪ ،‬فان باســتطاعته ان‬
‫يصل الى المســتويات اليمانية الرفيعة من خلل التوكــل علــى ال ـ ‪-‬‬
‫جلت قدرته ‪ ، -‬وتربية روح الطموح والتطلع فــي نفســه ‪ ،‬فـاذا هــدف‬
‫وصــل الــى مــا يريــد ‪ ،‬وال ـ ‪ -‬سبحانـــه وتعــالى ‪ -‬ســيؤيده بــالتوفيق‬
‫والنصر ‪ ،‬شريطة ان تبدأ الخطوة الولى من النسان نفسه كما يشــير‬
‫الى ذلك ‪ -‬تعالى ‪ -‬في قوله ‪:‬‬

‫عن ـَد َرّب ـ َ‬


‫ك‬ ‫خْي ـٌر ِ‬
‫ت َ‬‫حا ُ‬ ‫صــاِل َ‬
‫ت ال ّ‬
‫ى َواْلَباِقَيــا ُ‬
‫ن اْهَتَدْوا ُهد ً‬
‫ل اّلِذي َ‬‫} َوَيِزيُد ا ُّ‬
‫دا{ ) مريم ‪( 76 /‬‬‫خْيٌر ّمَر ّ‬
‫َثَوابًا َو َ‬
‫أي ان الهتداء يبدأ من ذات النسان ثم يزيده ال هــدى ‪ ،‬فــالخطوة‬
‫الولى لبد ان تكون من النسان ‪ ،‬ثم تأتي الخطوات الخرى من ال ـ‬
‫‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬فان لم يستطيع الوصول الــى المســتوى الســابق فليكــن‬
‫ب وَءاَمــ َ‬
‫ن‬ ‫ل َمـن َتا َ‬‫على القل من الذين يقول عنهم القرآن الكريم ‪ِ }:‬إ ّ‬
‫صاِلحًا { ‪.‬‬ ‫ل َ‬ ‫عِم َ‬‫َو َ‬
‫اما اذا كــــان النسان يعيش في مجتمع اللمبـالة ثـم لـم يتـبرأ مـن‬
‫صفاتهم واعمالهم وتبريراتهــــم ‪ ،‬فان هذا النسان لبد ان يحشر مــع‬
‫هذا المجتمع ‪ ،‬ويعتبر منه ‪ .‬ولننظر في هذا الــمجال الى دقة القــــرآن‬
‫الكريـــم في التعبير ‪ ،‬فهــو يحــدثنا عــن النبيــاء ؛ اولئك الذيـــــن انعــم‬
‫عليهم من ذرية آدم ‪ ،‬ثــــم يحدثنا عن جيل عـدم الشــعور بالمســؤولية‬
‫لَة { ثــم يقــــول بعــد‬
‫صـ َ‬
‫عوا ال ّ‬
‫ضــا ُ‬
‫ف َأ َ‬
‫خْل ٌ‬‫ف ِمن َبْعِدِهْم َ‬
‫خَل َ‬
‫قائــل ‪َ } :‬ف َ‬
‫صاِلحًا { ‪ ،‬وبعبــارة اخــرى فـــــان‬ ‫ل َ‬ ‫عِم َ‬
‫ن َو َ‬
‫ب وَءاَم َ‬ ‫ل َمـن َتا َ‬‫ذلك ‪ِ }:‬إ ّ‬
‫النسان عندما يولــد فــي المجتمــع اللمســؤول واللأبالــــي والمجتمــع‬
‫المنطــوي على ذاته والتبريري فــانه يحشــر مــع هــذا المجتمــع ‪ ،‬وان‬
‫سيئـــــات وخطايا هذا المجتمع سوف تلحقه ‪ ،‬وســيكون مســـــــؤول‬
‫عنهــا ال اذا تـــــاب ‪ ،‬والتوبــة تعنــــــي النفصــــال ‪ ،‬اي ان يجعــل‬
‫النسان بينه وبــين هذا المجتمع سدا ‪ ،‬وحاجـــزا ‪.‬‬

‫ل َمـــن‬
‫فالنسان الذي يتــوب هو مؤمن ولكنه ‪ -‬تعــالى ‪ -‬يقــول ‪ِ }:‬إ ّ‬
‫ب { لن هذا النسان مؤمــــــن فــي ظــاهره ؛ فهــو يصــلي ويصــوم‬ ‫َتا َ‬
‫ولكن ايمانه ايمان سطحــي ‪ ،‬ولــذلك لبد ان يتــــــوب اول ويكفــــــر‬
‫باليمان القشري ‪ ،‬والشهوات التــي حولت الدين الى مجموعة مراسم‬
‫وطقوس وتقاليـــد مفرغــة مــن المحتــوى ‪.‬‬

‫وفقهاؤنا يؤكــدون في رسائلهم العمليــة على ان النســان المســلم اذا‬


‫اخذ ايمانه من باب التقليد فانه سوف ل يقبل منه ‪ ،‬فل يمكــن للنســان‬
‫ان يقلد احدا في اصول الدين ‪ ،‬فلبــد لــه ان يفهــم ضــرورات الديــــن‬
‫ول بأس ان يقلد في سائر المــور ‪.‬‬

‫وللسف فــان الكثير منــا ما يزال ايمانه تقليديـــا ‪ ،‬فهو يقدس التقليد‬
‫اكثــــر مــن تقديســه للــدين نفســه ‪ ،‬فــالجزء الكــبر مــن افكارنــا تجــده‬
‫مختلطـا بالتبريــر واختلق العذار ‪ ،‬ولذلك فان القــرآن الكريــم جــاء‬
‫ليزيــــل مــن نفوسنــــا هــذه الـحالـــة التبريريـــــة ‪ ،‬فيــبين ان النســان‬
‫مسؤول عن نفسه ‪ ،‬وان اي عذر ل يمكن ان ينفعــه ‪ ،‬ويرفع عنه هذه‬
‫صــــيَرٌة * وََلــــْو َأْلَقــــى‬
‫ســِه َب ِ‬
‫عَلــى َنْف ِ‬
‫ن َ‬
‫ســا ُ‬
‫لن َ‬
‫لا ِ‬ ‫المسؤوليــــة ‪َ } :‬بــ ِ‬
‫رُه { ) القيامة ‪( 15 -14 /‬‬
‫َمَعاِذيــ َ‬

‫والعقل ‪:‬‬ ‫الدين اداة الرادة‬


‫وهكذا فان الدين هو اداة الرادة ‪ ،‬واداة العقل في مقاومة شـهوات‬
‫النفس ‪ ،‬واكتشاف ما فيها من انحرافات ‪ ،‬اما الدين الذي يصبح جــزء‬
‫من النفس المليئة بالشهوات ‪ ،‬والدين الذي يكرس الســلبيات فــي نفــس‬
‫النسان ‪ ،‬والدين الذي ل يستطيع النسان ان يختار الحق على الباطل‬
‫‪ ،‬فما قيمته ؟ ‪ ،‬انه دين اللمسؤولية ‪ ،‬والتبريرية ‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك يستعيد الدين قيمتــه اذا مــا حــذفنا مــن انفســنا صــفة‬
‫التبرير ‪ ،‬فيصبح مقياسا وملكـا يمكـن العتمـاد عليهمـا ‪ ،‬وازاء هـذه‬
‫المبادرة سيدخلنا ال ‪ -‬تعالى ‪ -‬الجنة دون ان نظلم شــيئا ‪ ،‬فكــل شــيء‬
‫بمقدار عنده ‪ ،‬ول تتصور انه ‪ -‬تعالى ‪ -‬مــن الممكــن ان ينســى موقفــا‬
‫صغيرا من مواقف التحدي كان قد بدر منك ‪ ،‬فاذا كنت ‪ -‬علــى ســبيل‬
‫المثال ‪ -‬مشتركا في جلسة ودية ‪ ،‬فرأيت ان احد المشـتركين فـي هـذه‬
‫الجلسة انبرى ليغتاب صديقا غائبا ‪ ،‬ثم وقفــت لتــدافع عنــه ‪ ،‬فــان هــذا‬
‫هو موقف تحد وان بــدا بســيطا ‪ ،‬ولكنــه ليمكــن ان ينســى عنــد الـ ‪-‬‬
‫سّيا { ) مريم ‪ ، ( 64 /‬فاعمال النسان‬ ‫ك َن ِ‬
‫ن َرّب َ‬
‫سبحانه وتعالى ‪َ }: -‬وَما َكا َ‬
‫مقدرة ومحسوبة ‪ ،‬ومحفوظة في كتاب ل يضل ول ينسى ‪.‬‬

‫عَباَدُه ِبــاْلَغْي ِ‬
‫ب‬ ‫ن ِ‬
‫حم ُ‬
‫عَد الّر ْ‬
‫ن اّلِتي َو َ‬
‫عْد ٍ‬
‫ت َ‬
‫جّنا ِ‬
‫ثم يقول ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬‬
‫عُدُه َمْأِتّيا { ) مريم ‪ ، ( 61 /‬وقد روي عن رسول ال ) صلى ال‬
‫ن َو ْ‬
‫ِإّنُه َكا َ‬
‫ن ِإَلــى‬
‫شـُر اْلُمّتِقيـ َ‬
‫حُ‬‫عليه وآله ( في تفسير قوله ‪ -‬عــز وجــل ‪َ } -‬يـْوَم ن ْ‬
‫( انه قال ما مضمونه ‪ :‬ان الوفــد ل يكــون ال‬ ‫) مريم ‪85 /‬‬ ‫{‬ ‫ن َوْفدًا‬
‫حَم ِ‬
‫الّر ْ‬
‫راكبا ‪ ،‬ول يكون ال جامعا ‪ ،‬اي ل يمكنك ان تقول ) جاء الوفــد ( اذا‬
‫اتت اليك مجموعة من الحفاة ‪ ،‬بــل يجــب ان يكونــوا اناســا محــترمين‬
‫راكبين على مراكب ‪ ،‬ثم ان ) الوفد ( ل يكون متشكل مــن افــراد بــل‬
‫من مجموعات ‪ ،‬وهكذا فان هــؤلء المــؤمنين ) الوفــد( يخرجــون مــن‬
‫قبورهم وهم اشد بياضا من الثلــج ‪ ،‬ووجــوههم تتلل نــورا ‪ ،‬مرتــدين‬
‫ملبس من سندس واســتبرق ‪ ،‬ثــم يــؤتى لهــم بــأفراس الجنــة يركبــون‬
‫عليها ‪ ،‬فتطير بهم الى باب الجنة ‪ ،‬وعند هذا الباب يجدون الى يمينهم‬
‫حوضا ‪ ،‬والى يسارهم حوضا اخر ‪ ،‬وفوقهم شجرة تظللهم بحيــث ان‬
‫الورقة الواحدة من هذه الشجرة تستطيع ان تظلــل مــائة الــف انســان ‪،‬‬
‫فيجلســون تحــت هــذه الشــجرة الوارفــة الظلل ‪ ،‬ثــم يشــربون مــن‬
‫الحوض الول ‪ ،‬فتذهب عنهــم جميـع آلم الــدنيا واســقامها واوســاخها‬
‫واغللها ‪ .‬وتتطهر قلوبهم من الحسد الذي هو اخبث امــراض الــدنيا ‪.‬‬
‫ثم يشربون مـن الحــوض الخــر الــذي فيــه مـاء الحيــاة ‪ ،‬فل يموتــون‬
‫ابدا ‪ ،‬وحينئذ يحشر هؤلء المتقــون الــى خــازن الجنــة وفــدا ‪ ،‬فيصــر‬
‫الباب صريرا تسمعه الحور العين فــي قصــورها‪ ،‬فيستبشــرون بقــدوم‬
‫المؤمنين ‪ ،‬ثم يدخلون الجنة ‪ ،‬ويقفون تحت ساق العــرش ‪ ،‬فيخــاطبهم‬
‫الرب ‪ -‬تعالى ‪ -‬قائل ‪ " :‬سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الــدار ‪...‬‬
‫الى اخر الحديث الشريف " ‪.‬‬

‫الطيبة ‪:‬‬ ‫جسر العاقبة‬


‫وهكذا فـان النسـان المســلم اذا اتخــذ مـن الــدين محــورا لحيــاته ‪،‬‬
‫وتحدى من خلله الصــعوبات ‪ ،‬والشــهوات ‪ ،‬والتــبريرات الشــيطانية‬
‫فان ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬سيعد لـه هـذه العاقبـة الطيبـة الــتي يصــفها‬
‫عـُدُه‬
‫ن َو ْ‬‫ب ِإّنـُه َكــا َ‬
‫عَباَدُه ِبــاْلَغْي ِ‬
‫ن ِ‬‫حم ُ‬‫عَد الّر ْ‬‫ن اّلِتي َو َ‬ ‫عْد ٍ‬
‫ت َ‬‫جّنا ِ‬ ‫قائل ‪َ } :‬‬
‫ش ـّيا‬
‫عِ‬‫لمًا َوَلُهْم ِرْزُقُهْم ِفيَها ُبْك ـَرًة َو َ‬ ‫سَ‬ ‫ل َ‬‫ن ِفيَها َلْغوًا ِإ ّ‬
‫سَمُعو َ‬ ‫ل َي ْ‬
‫َمْأِتّيا * ّ‬
‫{ ) مريم ‪ ( 62-61 /‬والسلم هنا قد يكــون مــن الملئكة ‪ ،‬ومــن المــؤمنين‬
‫بعضهم لبعض ‪ ،‬وقد يكون من ال رب العالمين ‪.‬‬

‫والذي يتقي في الدنيا السباب المؤدية الى الدخول في نــار جهنــم ‪،‬‬
‫جّنـُة اّلِتـي‬
‫ك اْل َ‬‫فـان الـ ‪ -‬تعـالى ‪ -‬سـيورثه فـي الخـرة الجنـة ‪ِ } :‬تْلـ َ‬
‫ن َتِقّيــا { ) مريم ‪. ( 63 /‬‬
‫عَباِدَنا َمن َكا َ‬
‫ن ِ‬ ‫ث ِم ْ‬
‫ُنوِر ُ‬
‫ان امامنــا مشاكـل وصعوبات تـتـطـلـب منا الصبر ‪ ،‬ولذلك يقول ‪-‬‬
‫طِبْر ِلِعَباَدِتــِه { ) مريم ‪ ، ( 65/‬وال ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬ ‫صَ‬‫عُبْدُه َوا ْ‬
‫تعالى ‪َ } -‬فا ْ‬
‫رحيم بالنسان ‪ ،‬ولكن النســان يتبــع الشــيطان ‪ ،‬ونحــن مهــددون فــي‬
‫حياتنــا بالنفــاق مــن خلل تــرك الصــلة ‪ ،‬او افراغهــا مــن محتواهــا ‪.‬‬
‫فاللتزام بالدين يعد امرا صعبا ‪ ،‬ولكن من السهل ان يستسلم النســان‬
‫للهواء والنفاق والزدواجية ‪ ،‬واذا تركنــا الـ ‪ -‬تعــالى ‪ -‬اوكلنــا الــى‬
‫انفسنا ‪ ،‬ومنع عنا عصمته ‪ ،‬فنهبط الى ادنى المستويات حيــث جاذبيــة‬
‫الرض والشهوات ‪ ،‬وبالطبع فانني ل اريد ان اقــول هنــا ان النســان‬
‫يســتطيع خلل لحظــة واحــدة ان يتخلــص مــن كــل رواســب المجتمــع‬
‫الفاسد ؛ المجتمع الذي يدعي السلم ولكنه يترك الواجبــات ‪ ،‬ويــترك‬
‫الجهاد ‪ ،‬ويخضع للطغاة ‪ ،‬فمــن الصــعب ان يتخلــــص النســان مـــن‬
‫آثار مثل هذا المجتمــــع ‪ ،‬ولكننــي اريــد ان اقــول ان علينـــا ان نجعــل‬
‫مسيرتنا في جهة التخلص من التبرير ‪ ،‬وعــدم الشعور بالمسؤوليــة ‪.‬‬

‫وعلى سبيل المثال فلنحاول منذ اليوم ان نضــبط مواعيــدنا ‪ ،‬وان ل‬


‫نتأخر عنها ولو دقيقة واحدة ‪ ،‬وان نطهر انفسنا من حالــة الكــذب مــن‬
‫خلل تثبيت الصدق في نفوســنا وان كــان مخالفــا لمصــالحنا ‪ ،‬وهكــذا‬
‫الحال بالنسبة الى الصفات اليجابية الخرى فان علينـا ان ننميهـا فـي‬
‫داخلنا مــن خلل تغييــر العــادات الســيئة الــى عــادات حســنة ‪ ،‬لتكــون‬
‫عاقبتنا الجنة ان شاء ال ‪.‬‬

‫اليمان اساس المجتمع الفاضل‬


‫عندما ينبعث النسان وينطلــق فــي حيــاته مــن بصــيرة ايمانيــة فــانه‬
‫سيصوغ حياته هذه وفقا لمناهج الرســالة الــتي يــدعم بعضــها بعضــا ؛‬
‫فهي عبارة عن منظومــة متماســكة الجــزاء ‪ ،‬ولــو اهتــم النســان بهـا‬
‫ككل وآمن بجميع ما انزل على قلــب الرســول )صــلى الـ عليــه وآلــه‬
‫وسلم( قلبا وعمل فسيكون بمقدوره تطبيق الرسالة وادعــاء اليمــان ‪،‬‬
‫وال فان مجرد التسليم الظاهر والنطق بالشهادتين ليعني ان النســان‬
‫قد دخل في حقيقة اليمان ‪.‬‬

‫وهكذا فان السلم هو بداية الطريق ‪ ،‬فمن عمل بالمبادئ الولية ‪،‬‬
‫والسس التمهيديــة للسلم فـانه يكــون قــد وضــع قــدمه علــى الجــادة‬
‫الصحيحة لتصديق اليمان ‪ ،‬وهذا التصديق انما يكون من خلل جعل‬
‫الواحد منا نفسه مؤمنا صادقا في جميع الجوانب وان نحــول تجمعاتنــا‬
‫الى تجمعــات ايمانية صادقة في جميع البعاد ‪ .‬وهنا يكمن سر نجــاح‬
‫النسان المؤمن الصادق فــي مواجهة الفســاد المنتشــر فــي مجتمعــه ‪.‬‬
‫هذا السر المتمثل في تكامل ايمــانه ؛ فالصــلة ‪ -‬علــى ســبيل المثــال ‪-‬‬
‫تنهــى عــن الفحشــاء والمنكــر ‪ ،‬وعنــدما ينتهــي النســان عــن هــاتين‬
‫الصفتين ويتقي ربه ‪ ،‬فــانه ســينّمي ملكــة الصــبر فــي نفســه ‪ .‬وعنــدما‬
‫يكــون صابرا فانه سيتحول الى انسان مستقيم على الطريقــة ‪ ،‬وحينئذ‬
‫ستكون دعوته صادقة ‪ ،‬ويجد الخرون في اعماله وتحركاته الصــدق‬
‫والوفاء والخلص ولذلك فانهم سيصدقونه ‪.‬‬
‫وبهذا السلوب يتشكل التجمع اليماني ‪ ،‬فعندما يكون هذا التجمــع‬
‫بعيدا عن الفحشاء والمنكر ‪ ،‬والعتـداء والظلــم ‪ ،‬وبالتـالي بعيــدا عـن‬
‫التحزب والقليمية ‪ ،‬فانه سيكون مجتمعا فاضل قادرا علــى ان يكــون‬
‫البديل عن المجتمع الفاسد ‪.‬‬

‫قرآنية ‪:‬‬ ‫توجيهات‬


‫وفــــي هـــذا المجــال جــاءت توجيهــات اخلقيــة قيمــة فـــي ســورة‬
‫خْر َقْوٌم ِمــن‬
‫سَ‬ ‫ل َي ْ‬
‫ن َءاَمُنوا َ‬ ‫الحجرات كقولــه ‪ -‬تعالى ‪َ } : -‬يآ َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ســى َأن َيُكـ ّ‬
‫ن‬ ‫ســــآٍء عَ َ‬‫ســآٌء ِمـن ِن َ‬ ‫ل ِن َ‬‫خْيرًا ِمْنُهْم َو َ‬
‫سى َأن َيُكوُنوا َ‬ ‫عَ‬ ‫َقْوٍم َ‬
‫ن َءاَمُنـــوا‬
‫ن { ) الحجــرات ‪ ( 11 /‬وقــولـــه } يــَــآ َأّيَهـــــا اّلـِذي َ‬ ‫خْيـــرًا ِمْنُه ّ‬
‫َ‬
‫م { ) الحجرات ‪( 12 /‬‬ ‫ن ِإْثــ ٌ‬
‫ظــ ّ‬
‫ض ال ّ‬ ‫ن َبْعـ َ‬ ‫ن ِإ ّ‬
‫ظــ ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫جَتِنُبوا َكِثيرًا ِم َ‬
‫اْ‬
‫وقــد تضمنت هـذه السورة الكريمة اعظم علمات اليمان ‪ ،‬وابرز‬
‫صفات التجمع اليماني ‪ ،‬وفي المقابل فقد ذكرت صفات الخروج عن‬
‫الدين والفسوق ؛ فتعالي البعض على البعض الخر وادعاؤه العصــمة‬
‫والتزكية واتهام الخريــن بالفســاد والتحــزب ‪ ،‬كــل ذلــك يمثــل اســلوبا‬
‫يتناقض مع روح القرآن فليس من الصحيح مطلقا ان يســتغل النســان‬
‫مواهبه ومركزه الجتماعي او السياسي في توجيه التهم الى الخريــن‬
‫والنيل من شخصياتهم ‪ ،‬فالقضية هي قضية مقاييس الهيــة ‪ ،‬وليمكــن‬
‫لكــل انســان ان يــدعيها ‪ ،‬فهنــاك القضــاء ‪ ،‬وهنــاك القــوانين الدينيــة‬
‫والحـدود الشرعيـــة ‪.‬‬
‫وفي هذا المجال قد يكون هناك انسان يخالفني في الرأي ولكنه لــم‬
‫يرتكب الــذنوب والموبقــات والفــواحش ‪ ،‬وفــي هــذه الحالــة ليــس مــن‬
‫الصحيح ان نبادر الى توجيه التهم الباطلة الى بعضنا البعض ‪ ،‬ونتخذ‬
‫من المنابر والوسائل العلمية وسيلة للتهجم ‪ ،‬فقد نهتنا الشريعة عــن‬
‫هذا السلوك نهيا بالغا الى درجة ان الحــــديث القدســي الشــريف يقـول‬
‫في هذا الصدد ‪ " :‬من اهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة "‪.‬‬
‫وعلى المؤمنيـن ان يتذكروا في هذا المجال انهم اذا ارادوا الصمود‬
‫امام هجمات الشيطان ‪ ،‬ووساوس النفس المــارة بالســوء ‪ ،‬وضــغوط‬
‫المجتمع الفاسد ‪ ،‬والحكومات الطاغية الظالمة ‪ ،‬فان عليهم ان يلتزموا‬
‫بالمستحبات بالضافة الــى الواجبــات ‪ ،‬لن المســتحبات هــي الوســيلة‬
‫للمحافظة على الواجبات ‪.‬‬

‫فلنتجـــه الى ال ‪ -‬ســبحانه وتعــالى ‪ -‬فهــو نصــير المستضــعفين ‪،‬‬


‫ومغيث المستغيثين ‪ ،‬ومجيب الداعين ‪..‬‬

‫وهنا لبــد مــن التأكيــد ان علــى النســان المــؤمن ان يخضــع جميــع‬


‫جــوانب حيــاته للحكــام والتعــاليم اللهيــة ‪ ،‬وان يهتــم بــالفقه ‪ .‬فمــن‬
‫اولويات عمل النسان المؤمن ان يدرس وبعمــق الجــانب العملــي مــن‬
‫الفقه لنه يريد تطبيق السلم على نفسه ودعوة الخرين اليه ‪ ،‬وهــذا‬
‫الهدف لنستطيع ان نحققــه ال مــن خلل اللــتزام بحــدود الـ وتنميــة‬
‫ملكة التقوى في انفسنا ‪.‬‬
‫وهكــذا فان علينــا ان نطهر انفسنـا من جميع الصفات السلبية لكي‬
‫نستطيع ان‬
‫نكـــّون المجتمـــع اليمـــاني النمـــوذجي ‪ ،‬ونكـــون مســـتعدين لتطـــبيق‬
‫الســـلم ‪ .‬امـــا اذا كـــانت قلوبنـــا مليئة بالحقـــاد علـــى الخريـــن ‪،‬‬
‫والستهزاء بهم ‪ ،‬والتعالي عليهــم ‪ ،‬والتعصــب ضــدهم ‪ ...‬فـــان مثــل‬
‫هـذه الظواهر السلبية سوف تخرج اليمان من قلوبنــا ‪.‬‬

‫وهذه الوصــايا الخلقيــة ‪ ،‬والرشــادات التربويــة الــتي يزودنــا بهــا‬


‫القرآن الكريم ‪ ،‬فهــو ينهانــا عــن الســتهزاء ببعضــنا البعــض والغيبــة‬
‫وسوء الظن والتجسس على الخريــن ‪ ،‬فــان كــانت حياتنــا مليئة بهــذه‬
‫الصفات الذميمة فان سبب ذلك عــدم طهــارة قلوبنــا ‪ ،‬فلنعمــل ‪ -‬اذن ‪-‬‬
‫مــن أجــل تطهيرهــا وتزكيتهــا مــن خلل المواظبــة علــى الممارســات‬
‫العبادية وإشاعة الجواء اليمانية واللتزام بالمســتحبات لكــي يتكامــل‬
‫ايماننا ونخــرج مــن مرحلــة الســلم لنــدخل مرحلــة اليمـان الحقيقــي‬
‫الصادق ‪.‬‬

You might also like