Professional Documents
Culture Documents
وفي الختام ؛ الكتاب مجرد ذكــرى ،وانمــا قلبــك المنفتــح هــو الشــرط
الهم للستفادة منه ،وال المستعان وعليه التكلن .
)1
(
بحار النوار ج 79ص 220رواية 41
وقــرة عيـني الصــلة " ،فالصــلة كانت احــب شــيء عنــده ) صــلى
ال عليه وآلــه ( .
ونحن اذا وصلنا الى مرحلة بحيث احببنا الصلة ،وارتاحت انفسنا
اليهـا ،وشعرنـــــا بأنهـا خفيفــــة علينـا وليســت ثقيلــة ،واذا راينـا ان
قلوبنا تندفع الى ان تتهيأ للصلة بمجرد ان يتناهى الــى اســماعنا نــداء
)حي على الصــلة( ،فلنعــرف ان الـ -جــل وعل -قــد مــن علينــا ،
ولــم يجعل بيننا وبينه حجابا ،وانه يحبنا ،لنه عندما يحب احدا فانه
يجذبـــه اليه ،ويدعـوه ،ويستضيفـــه ،اما اذا لم يضمر ال -تعــالى
-لك الحب فانــه ســـوف ليردك .إل إذا ألححت عليه في ان يرفــع
الحجاب بينك وبينه لن " مــن اكثــر طــرق البــاب أوشــك ان يســمع
الجــواب " .
وإذا لم نكن في مثل تلك الحالــة مـن حــب الصــلة والرتيــاح لهــا ،
فــان علينــا ان
لنيأس ،وان نحاول معرفة السلبيات الروحية والسلوكية الــتي نعــاني
منها ،والتي لتجعل صلتنا تصـبح صــلة حقيقيـة .وعلــى هــذا فـان
الصـــلة معـــراج المـــؤمن ،وخيـــر موضـــــوع ،وعمـــود الـــدين ،
وخصوصا عندما يؤدي النسان الصــلة بشروطهـــا
الجتماعيــة .
القرآن الكريم بما يضم من سور وآيات بينات يقــدم الجــواب الصــريح
والواضــح علــى حقيقــة يتجاهلهــا النســان ،ويحتجــب عنهــا وعــن
معرفتهــا والتفاعــل معهــا رغــم وضــوحها ،ال وهــي حقيقــة اليمــان
وتجلياته ،والتي يقف على النقيض منها الكفر وابعاده .
)1
(
بحار النوار ج 61ص 268رواية 30
مخلوقا ل ،ولــذلك فـان المــؤمن يعيــش وهــو يحــترم كــل شــيء ؛ فل
يعبث ،وليفسد ،وليبذر ،ويحترم ويقدر كل نعمة انعم ال بها عليه
.
فـاليمان بال الذي يتعدى الى اليمان الشمولي بكل مــاهو خــارج
الــذات النســانية ،هــذا اليمــان يصــوغ شخصــية النســان المــؤمن ،
وســلوكيته ،وتعــامله مــع الحـيـــاة والمجتمــع .وفــي القــرآن الكريــم
اشارات الى مثل هذا السلوك من ذلــك قوله
-عز وجل -في اليات التالية :
وهكـذا فان اليمان بال يعني اليمان بأسمائه وسننه وبما خلق وبرأ
فــي هــذا الكــون والطبيعــــة ،وعنــدما ننمــي فــي انفســنا هــذا اليمــان
الشمولي فانه سيخرجنا من زنزانـة
الذات ،واطار النانية الضيق الى الرحاب الواسعة للحقيقة .
ومن البواب التي يخرج النسان من خللها من اطار ذاته الى عالم
اليمان والحساس بالخرين ،باب النفاق ،والعفو ،وكظم الغيــظ ،
وبــاب الشــجاعة ،والبــذل ،والتضــحية ،والتوكــل ...وغيرهــا مــن
البواب التي تصوغ حياة النســان الجتماعيــة فـي اطـار ايمـاني مـن
المحبة والسلم والوئام والخوة .
الكافر : صفات النسان
والنسان الذي يأبى على نفسه التحرر من ضيق الــذات ،وســجن
النانية ،لضعف ايمانه بال -تعالى -لبد ان يتحول شــيئا فشــيئا الــى
شخص جبان ،لئيم ،عدواني الطباع ،مغرور متكبر ،يمله العجــب
بنفسه ،وهذه هي صفات النسان الكافر بال -سبحانه ، -ومثل هــذه
الصــفات اشــــارت اليهــا ســورة )يــونس( كعنــاوين ،ودللت علــى
الكافرين ،فيقول -عز من قائل -في هذه السـورة :
ل ِلَتْعَلُموا ضَيآًء َواْلَقَمَر ُنورًا َوَقّدَرُه مََناِز َ س ِ شْم َل ال ّ جَع َ } ُهَو اّلِذي َ
ت ِلَقْوٍم لَيا ِصلُ ا َق ُيَف ّ حّل ِباْل َك ِإ ّل َذِل َ
قا ّ خَل َ
ب َما َ سا َ حَ ن َواْل ِ سِنيــ َ عَدَد ال ّ
َ
ن* َيْعَلُمو َ
لْر ِ
ض ت َوا َ سـَماَوا ِ لـ ِفــي ال ّ قا ّ خَلـ َل َوالّنَهاِر َوَمــا َ ف اّلْي ِ
ل ِ خِت َن ِفــي ا ْ ِإ ّ
ت ِلَقْوٍم
لَيا ٍ
َ
ن { ) يونس . ( 6-5 / َيّتُقو َ
ن َ
ل ن اّلـِذي َ ثم ينتقل السياق الكريم ليعــرض ســلوك الكــافرين ِ } :إ ّ
ن ِلَقآَءَناجو َ َيْر ُ
ن َءاَياِتَنــاعــ ْن ُهـــ ـْم َ طَمَاّنـــــوا ِبَهــــا َواّل ـِذي َ
حَيــاِة الـّدْنَيا َوا ْضــوا ِباْل َ َوَر ُ
ن { ) يــونس -7 / سُبـــــو َ
ك َمْأَواُهــُم الّنـــــاُر ِبَمــا َكــاُنوا َيْك ِ ن * ُاْوَلِئــ َ غاِفُلــو َ
َ
( 8؛ فالنســان الكافــــر الــذي يعيـــــش اسيـــــر الــذات ،والدنيــــا ،
وشهواتها ويعبدهــا ،ويطمئــن اليهــا انمــا هــو غافــــل عـــن آيــــات
ال ،وغفلتـــه هــــذه تــــؤدي الــى ان يتسـافل ،ويســقط فــي حضــيض
الموبقــات والجرائم ،والفساد والفساد فــي الرض .
وبكلمة واحدة فان اليمان مـن شـأنه ان يخــرج النسـان مـن ذاتـه
الضيقة الى عالم اليمان بالحقائق الخرى ،والتسليم لها ،واحترامها
،وبالتالي فانه رأس كل فضيلة وينبوع كل خير ،ومصــدر كــل قيمــة
مثلى ،ومبدأ سام في الحياة .
)1
(
بحار النوار ج 73ص 155رواية 35
النسان ،ولكن هل يكتفي المؤمن بهذه الربعة فقط ؟ طبعــا ل ،فهــو
يحاول ان يصل الى اعلى درجات السعادة ،وحب ال -تعــالى -مــن
الدرجات العلى للسعادة واليمان في نفس الوقت .
اننــا نقــرأ -علــى ســبيل المثــال -فــي ســورة المــائدة هــذه اليـــات
ف َيـْأِتي
س ـْو َعن ِديِنـِه َف َ ن َيْرَتّد ِمْنُكْم َ
ن َءاَمُنوا َم ْ الكريمة َ } :يآ َأّيَها اّلِذي َ
عَلـى اْلَكـاِفري َ
ن عـّزٍة َ ن َأ ِ
عَلـى اْلُمـْؤِمِني َحّبـوَنُه َأِذّلـٍة َحّبُهـْم َوُي ِلـ ِبَقـْوٍم ُي ِ
ا ّ
ل ُيـْؤِتيِه َمـنلا ّ ضُ ك َف ْ ن َلْوَمَة لِئٍم ذِل َخاُفو َ
ل َي َ ل َو َ لا ّ سِبي ِن ِفي َ جاِهُدو َ ُي َ
عِليٌم { ) المــائدة ( 54 /والن لنحاول ان نتــدبر فــي هــذه سٌع َ ل َوا ِشآُء َوا ّ َي َ
الية الكريمة ،انها تقول انه قد تحدث ظروف ارتداد فــي المــة فيمــا
يتعلق بالمسلمين الضعاف اليمان ،على ان الخطاب هنا ليس موجهــا
لعامــة النــاس ،ول المســلمين وانمــا للمــؤمنين الــذين يمثلــون اعلــى
درجات المسلمين ؛ اي ان هناك ظروفا صعبة تجعل النسان المــؤمن
يرتد عن دينه ارتدادا كامل .
وعلى هذا فان الفـــلح قمة من قمــم اليمــان ،او ذروة مــن ذرى
السعادة البشرية ،والمؤمنون حقا هم المفـلحون لن ال -عـز وجـــل
حــو َ
ن ك ُهـُم الُمْفِل ُ
ن َرّبِهْم َوُأْولِئ َ
عَلى ُهًدى ِم ْ
ك َ
-يقول بشــأنهم ُ } :أْولِئ َ
{ ) البقرة . ( 5 /
لقد كنا ذرات تائهة ثم اودعنا في اصــلب آبائنـا ،وكنــا فــي بعــض
المراحل مضغا ثم اصبحنا اطفال صــغارا ،وكنــا ضــعفاء فقوانــا الـ
وحفظنا من المكاره ،فلمــاذا ل نــذكر رحمــة الـ ؟ ومــتى غّيــر عــادة
الحسان حتى نبحث عن غيره ؟ انه يأتينــا فــي كــل لحظــة ،ويــدعونا
الى نفسه ،وهو الذي خلق دارا لضيافته هيــأ فيهــا كــل اســباب الرفــاه
والسعادة ،فلنفكر في هذه السعادة .
ثم ان ال -عــز وجــل -لــم يكتــف بــذلك بــل بعــث الــدعاة اليــه تلــو
الدعاة ،والرســائل بعــد الرســائل ،فهــل علمنــا ان القــرآن هــو بطاقــة
دعوة لنا الى الجنة ،يقول ال -تعالى -فيها لكــل واحــد منــا :عبــدي
اني احبــك ،وقــد خلقتــك للبقــاء ل للفنـــــاء ،ولرحمــك ل لعــذبك ،
ولدخلك جنتي ،وفيها سأعطيك ملكا كبيرا ،
ونعمة واسعة ،وحياة خالدة فماذا تريد اكثر من ذلك ؟
ان اقل اصحاب الجنة شأنا بأمكانه ان يضيف اهل الدنيا كلهم علــى
مائدة واحدة في بيته ،وقد خلق ال -عز وجل -هــذه الجنــة للنســان
عُلّوا ِفي
ن ُ
ل ُيِريُدو َ
ن َ
جَعُلَها ِلّلِذي َ
خَرُة َن ْلِ
ك الّداُر ا َ المؤمن المتقي ِ } :تْل َ
ن { ) القصص ( 83 /فالذي يريد الخــرة سادًا َواْلَعاِقَبُة ِلْلُمّتِقي َ
ل َف َ
ض َو َ
لْر ِ
اَ
لبد ان ل يستعلــي ،ول يطلب الفساد في الـدنيا ،فالـذي خلـق الجنـة
رحيم بنا ،ويضمر الحب لنــا .
)1
(
موسوعة بحار النوار ج 67ص 385
وال ليحسن ظن عبد مؤمن بال ال كان الـ عنــد ظنــه بــه ،لن الـ
عـز وجــل كريــم يسـتحي ان يخلــف ظــن عبـده ورجـائه .فــــأحسنوا
الظـــن باللـــه وارغبــوا اليه وقد قال ال عز وجــل " :الظــانين بــال
ظن الســوء عليهــم دائرة الســوء " . ((2وحــتى لــو ارتكــب احــدنا كــل
الفواحش ،وترك كل الحدود فان عليه مع ذلك ان ل ييأس من رحمــة
ال لن يأسه سيكون اشد من ذنوبه .
هذا فـــي حيـــن ان غير المتقين علـــى العكـــس مـن ذلــك تمامــا ،
ي { ) العراف 202 / خَواُنُهْم َيُمّدوَنُهْم ِفي اْلَغ ّفهم يستمرون في الغي } :وِإ ْ
( ،فالشيطان يمني النسان دائما ،فيقول له -على سبيل المثال -انــك
لم تتزوج بعد وعندما تتزوج ستصبح انسانا كامل ،او انك لــم تــذهب
الى الحج بعد وعندما تحج ستتحول الى انسان ممتاز ...وهكــذا يظــل
النسان يبحث دومــا عــن فرصــة جديــدة للهدايــة فــي حيــن ان فــرص
الهداية موجودة في ارجاء الحياة .
)2
(
موسوعة بحار النوار ج 68ص 145
بصائر تسقط الحجب :
والقرآن الكريم هو بصيرة بل بصائر تفتح اعيننا ،فتسقط الحجب
عن عقولنا ،وتنفتح منافذ قـلـوبـنـا على الحقيقة كما يقول -عز وجــل
صآِئُر ِمـن َرّبُكـْم َوُهـًدى ي ِمن َرّبي َهَذا َب َ حى ِإَل ّ ل ِإّنَمآ َاّتِبُع َماُيو َُ } : -ق ْ
صُتوا َلَعّلُكْم سَتِمُعوا َلُه َوَأْن ِن َفا ْ
ئ اْلُقْرَءا ُ
ن * َوِإَذا ُقِر َ حَمٌة ِلَقْوٍم ُيْؤِمُنو َ َوَر ْ
ن { ) العــراف ( 204-203 /؛ أي تـدبروا في آيــاته ،وتحسســوا مــا حُمو َ ُتْر َ
فيه من تجليات هذا الكلم اللهي الذي لو وضع
على الجبال لتصدعت على عظمتها لنها ل تستطيع تحمل تجلي ال .
خيَف ـًةضّرعًا َو ِ ك َت َ س َ ك ِفي َنْف ِثم يقول -عز من قائل َ } : -واْذُكر َرّب َ
ل ) { ..العــراف ( 205 /اي اذكــر ربــك فــي كــل ن اْلَقــْو ِ
جْهِر ِمـ َ ن اْل ََوُدو َ
الوضاع والحوال ،وصل قلبـك بمصــدر الخيــر ؛ بـالنيس الحـبيب
القريب .
ان الشيطان يسعى فـي كــل لحظـة لن يســقط النســان ،فلبــد مـن
غــاِفِلين { ) العـــراف /
ن اْل َ
الحذر والنتباه على طول الخط َ } :ول َتُكن ِم َ
. ( 205
وفي هذا المجال يروي لنا التأريخ ان الحاكم الموي سليمان بن عبد
الملك بعث رسول الــى احد العلمــاء والفقهــاء فــي المدينــة المنـــــورة
ليخطب ابنتـــه لبنـــه الوليد ،وعندما قابـــل الرسول ذلك العالم قــال
له " لقد اصــابك شــرف عظيــــم ،ونعمــة كــبيرة ،فقــال العــالم :ومــا
هو ؟ ،فقال :لقد اتيت من قبــل الخليفــة الــذي يمتلــك ثلثيــن بلــدا فــي
العالم السلمي لكي اخطب ابنتك لبنه ،واما المهر فاننا سنجعلها فــي
كفة ونجعل في الكفة الخرى الذهب والفضة والحجار الكريمة بقدر
وزنها ،ونعطيــه مهــرا لـهــا ،فما كان من ذلك العالم التقــي الـورع
ال ان قال :حدثنا رســـول الـ ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( ان الــدنيا ل
تعدل عنــد ال جناح بعوضة ،وماذا يملك ســليمان بــن عبــــد الملــــك
مــن هذا الجناح ،اذهب فان ال -سبحــانه وتعــالى -يقــول َ } :وِإَذا
ت { ) التكـــوير ، ( 9-8 /فتعجب الرسول ب ُقِتَل ْ
ي َذن ٍ
ت * ِبَأ ّ
سِئَل ْ
اْلَمْوُءوَدُة ُ
وقال :وما شأن هذه الية بأبنتك ؟ فقال العالم :وهل تريد وادا اخطر
من هذا الوأد ،لقد كان الجاهليون يئدون بنــاتهم تحــت الــتراب ،فهــل
تريد منــي ان ائد ابنــتي واجعلهــا فــي الفســاد والــرذائل ،وادفعهــا فــي
قصور الملوك ؟
وهكذا فان هذا هو اليمان الحقيقي ؛ اليمان الذي يدفع صاحبه الى
ان يتحدى الطغاة والجبابرة ،ول يتنـازل عــن عقــائده ومبـادئه خشــية
وخوفــا منهــم ،وهــذا اليمــان هــو الــذي يبعــث المــل فــي النفــس
النسانية ،ويجعلها تتغلب على العقبــات ،والصــعاب الــتي تقــف فــي
مقدمتها تلك التي يضعها الشيطان الرجيم في طريق النسان المؤمن .
بين النسان والحقائق حجاب من الكفر ،فالكفر يعني لغــة الســتر ،
لح )كافرا( لنه يستر الحبة تحت الــتراب ،وهكــذا ومن هنا سمي الف ّ
الحــال بالنســبة الــى النســان الكــافر فهــو يحجــب عــن نفســه الحقــائق
بالوهــام والتمنيــات ،وهــذه هــي اعقــد مشــكلة يواجههــا النســان ،
واخطر عقبــة لبــد ان يجتازهــا البشــر لكــي يتصــلوا بالحقــائق بشــكل
مباشر .
ل َكـّذُبوا
ظ * َبـ ْحِفيـ ٌ
ب َ عنـَدَنا ِكَتـا ٌ ض ِمْنُهْم َو ِ لْر ُ صاَ عِلْمَنا َما َتنُق ُ} َقْد َ
ج { ) ق . ( 5-4 / جآَءُهْم َفُهْم ِفي َأْمٍر َمِري ٍ ق َلّما َ
حّ ِباْل َ
فالنسان عندما يكذب بالحق ليجد ال الباطــل ،والباطــل ل يعطـي
النسان سكينة ول اطمئنانا ،ول ثقة ،فالذي لــم يبلــغ الحــق تــراه ابــد
الدهر في تردد وقلق وحرج ل يعرف ماذا يصنع ،فــالمور مختلطــة
ومتشابهة ومظلمة بالنسبة اليه .
اما ذلك النسان الــذي خــرق حجــاب الكفــر ،وعــاش مــع الحقــائق
مباشرة بحيث ينظر من خللها الى كل شيء فــي هــذا الوجــود ،فهــو
ينظر الى وجه ال -سبحانه وتعالى -ويشاهد تلك الحقائق التي عجز
الفلسفة والمفكرون عن الوصول اليها .
ولننــظر الى الفرق الشاسع بين نظرة النسان العادي الى السماء ،
ونظرة النسان المؤمن ،فــالول لعلــه يلهــي نفســه بتعــداد طائفــة مــن
النجوم ،في حين ان النسان المؤمن عندما ينظر في السماء ،ويــرى
النجوم التي تزينت بها ،فيعلم ان كل نجمة منهـا تقـع ضـمن منظومـة
شمسية ،وان بعض هذه النجوم البعيدة عنا التي من الصعب علينا ان
نراها بأعيننا هي شموس اكبر من شمسنا مئـات بل الوف المــرات ...
عندما يرى النسان المؤمن كل هــذه اليــات المعجــزة البــاهرة يســجد
لربه قائل :
وحينئذ يتفتح قلب هذا النسان ،وينشرح صدره باليمان ،فل يعبأ
بالمصــائب والمآســي والكــوارث ،لنــه يعلــم ان الـ -عــز وجــــل -
يحيط علما بكل ذلك وقدرة ،فهو القادر على ان يفرجها عنه .
)1
(
موسوعة بحار النوار ج 90ص 305
ومع كل ذلك فان كل الظروف الصعبة التي نمر بهـا مـن شــأنها ان
تقربنا من النصر وتقرب اعداءنا من الهزيمة ،ولبد ان تبقــى حربنــا
المقدسة مع طواغيت الرض مشتعلة حتى ييأس الكفار من ان ينــالوا
من دينـنـا وقيـمنا ،وارادتنا ،وحينئذ ســينهزمون نفسـيـــا ،ويـولـــون
الدبار ،لنـنا نمتلك ) زاد اليمــان ( الــذي يمثــل قوتنــا العظمــى فــي
مواجهة تكالب اعداء الـ علينــا ،هــذه القــوة الــتي ينبغــي علينــا ان ل
نستهين بها مطلقــا لنهــا تمثــل الخلفيــة المنيعــة والقويــة للقــوة الماديــة
المتمثلة في العدة والسلح .
ان اعظم وسام يشرف ال -تعــالى -بــه النســان هــو ذلــك الوســام
الذي وعد بمنحه للمستقيمين على الطريقة ؛ فالــذين اســتقاموا يعطيهــم
ال -عز وجل -درجة هي من اختصاص النبياء ) عليهم السلم ( ،
لن ميزتهم هي انهم يؤيدون بالوحي ،ويهتدون بعلم ال ،وينظــرون
بنوره ،ويمنحون درجة المــن فــي حيــاتهم الــدنيا كمــا يمنحونهــا فــي
ل ُهـْم
عَلْيِهـْم َو َ
ف َ
خْو ٌ
ل َ
الخرة ،والى ذلك يشير قوله -تعالى َ } : -ف َ
ن { ) البقرة ، ( 38 /وهذه الميزة يتفضل ال -ســبحانه -بهــا علــى
حَزُنو َ
َي ْ
المستقيمين على الطريقة بعد النبياء ،ذلك لنه -تعالى -يقول:
خاُفوا ل َت َلِئَكُة َأ ّ
عَلْيِهُم اْلَم َ
ل َ سَتَقاُموا َتَتَنّز ُل ُثّم ا ْ
ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّ ن اّلِذي َ
} ِإ ّ
ن { ) فصلت . ( 30 / عُدو َجّنِة اّلِتي ُكنُتْم ُتو َ شُروا ِباْل َحَزُنوا َوَأْب ِ ل َت ْ
َو َ
والستقامة هي الدرجة الرفيعة العليا التي ل يصــل اليهــا ال القليــل
من الناس ،ويؤيد ذلك الحديث المروي عن الـــنبي ) صــلى الـ عليــه
وآله ( والـذي يـقول فيه " :الناس هــالكون ال العــالمون ،والعــالمون
هــــالكون ال العــــاملون ،والعــــاملون هــــالكون ال المخلصــــون ،
والمخلصون على خطر عظيم" .
فحتى الذي يخلص ل عمله ،ويبلغ درجة الخلص الرفيعة يكــون
على خطر عظيم لنه ل يعلم كيف ســتنتهي عاقبــة امــره ،ول يــدري
هل سيموت مؤمنا ام ينحرف قبل وفاته .
ومن الناس من انحرف قبيل وفاته فمات بعيدا عن الـ ،بعيــدا عـن
الجنة والرحمة ،ولذلك كانت وصية النبياء ) عليهم السلم ( لبنائهم
ن { ) البقــرة /سـِلُمو َل َوَأْنُتــم ُم ْن ِإ ّ
ل َتُمــوُت ّ متمثلة في قوله -تعــالى َ } : -ف َ
، ( 132وهذا هدف عظيم يجب ان يتبناه النسان في حياته ؛ وهــو ان
يحرص على ان ل يموت ال وهو مسلم ،لن الحصول علــى الجنــة
هو اعظم الهداف ،وهذا الهدف ل يمكن ان يتحقـق ال بعـد ان تختـم
حياة النسان بالحسنى .
ولكن كيف نحقــق هــذا الهــدف الــذي يــأتي بعــد اليمــان مــن ناحيــة
الهمية ،ال وهو هدف الستقامة الذي اشار اليه -تعالى -في سورة
موا { ) فصلت . ( 30 / سَتَقا ُ
ل ُثّم ا ْ ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّن اّلِذي َ
فصلت قائل ِ }:إ ّ
بالتوكل : مواجهة التحديات
وسورة هود التي تبين تحديات المم الماضية للرسل ،وكيف انهــم
واجهوا تلــك التحــديات الكــبيرة بالتوكــل علــى الـ -ســبحانه ، -هــذه
السورة تتضمن في خواتيمهــــا حكمــة تعـبر عن محتواهــا ومغزاهــا
ك{ ب َمَع ـ َ
ت َوَمن َتا َ
سَتِقْم َكَمآ ُاِمْر َ
متمثلة في قوله -عز من قائل َ } :فا ْ
) هود ، ( 112 /وفي هذا المجال يروى عن النبي ) صلى ال عليه وآله (
ان احد اصــحابه تعجــب عنــدما رأى كــثرة الشــيب فــي رأســه الكريــم
رغـــم ان سنـــه كان بيـــن الربعيـن والخمســين ،فقـال ) صـلى الـ
عليه وآله ( له " :شيبتني سورة هود " .
وهكـذا فـان رسول ال ) صلى الـ عليــه وآلــه ( المؤيــد بــالوحي ،
والذي كان نبيا وآدم ما بين الطين والتراب ،والذي اخذ ال -تعالى -
ميثاق اليمان برسالته من كــل النــبيين ،هــذا النــبي كــان يهــتز عنــدما
ت {. سَتِقْم َكَمآ ُاِمْر َ
يسمع قوله -عز وجل َ } : -فا ْ
ومن هنا نستنتج ان الطريق طويل ،والعقبات كثيرة ،والمتحانات
والفتن عظيمة ،واننـا يجــب ان ل نغـتر بأنفســنا ،بـل علينـا ان نثبـت
على هذه الطريقة الى نهايــــة اعمارنا ،ولقد كنا نسمع الخطباء وهــم
يرددون من فوق المنابر قول النبي ) صلى ال عليــه وآلــه ( " :يــأتي
زمان على امتي القابض فيـه علــى دينـه ،كالقــابض علـى جمــرة مـن
نار" .
ولكننا لم نكن ندرك مغزى هذا القول حتى وقعت حــوادث فــي هــذا
الزمان ،ورأينا كيف ان الكفار اســتولوا علــى البلد ،وحرمــوا علــى
الناس اقامة الشعائر الدينية ،ثم اكتشفنا حينئذ ان المستقيم على دينــه ،
والمحافظ عليه هو اصعب حال من القابض على جمرة من نار .
وبناء على ذلك ؛ كيــف أغــتر بنفســي ،وامنيهــا بــان تكــون نهــايتي
سعيدة من دون التوكل على ال ،والثقة به ،والعتماد عليــه ،ولتكــن
لنا في هذا المجال اسوة حسنة في ائمتنا ) عليهم الســلم ( ،فعــن ابــن
ابي يعفور قال :سمعت أبا عبــد الـ الصــادق ) عليــه الســلم ( يقــول
وهو رافع يده الى السماء :رب ل تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا ل
أقل من ذلك ول أكثر قال :فما كان بأسرع من أن تحــدر الــدموع مــن
جوانب لحيته ثم أقبل علي فقال :يا أبن أبي يعفور ان يونس بــن مــتى
وكله ال عز وجل الى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلــك الــذنب ،
قلت :فبلغ به كـفـرا اصـلـحـك ال قال :ل ولـكـــن المــوت علــى تلــك
((1
الحال هلك .
)1
(
الكافي ج 2ص 581
لــ ُثـــــّم
ن َقــاُلوا َرّبَنـــــا ا ُّ
ن اّلــِذي َ
تــترى ،كمــا يقــول -تعــالى ِ }: -إ ّ
كُة { ) فصلت . ( 30 / لِئ َ
عَلْيِهُم اْلَم َ
ل َ
سَتَقاُمــــوا َتَتَنّز ُ
اْ
والسؤال المهم الـمطروح في هـذا المجال هو :كيــف نســتقيم علــى
الدرب ؟
وقـبـل ان اجـيـب عـلـى هـذا الســؤال لبــد ان اقدم لـــــه بـتـــفسير
مـعنـــــى ) اليمان ( ؛ هذه الكلمة التي شاعت وتكــررت فــي القــرآن
الكريــم ،والحــاديث الشــريفة ،فمــا هــو اليمــان ،ومــا هــي اركــانه
وشروطه ،وكيف نحقق اليمان الحق في انفسنا ؟
ان اليمان يتجلـى عنــدما يخيــر النســان بيـن هــوى النفــس والحــق
فيختار الحق ويــذعن لـه وخصوصــا عنـدما يكـون هــذا الحــق مخالفـا
لهواه ،وعلى هذا فاننا نقف ازاء ظاهرة مهمة هــي ظــاهرة اليمــان ،
واختيار الحـق على الهوى ،وعادة ما تبدأ خيارات النسان بين الحق
وهــوى النفــس بســيطة ليتقــدم فــي اليمــان تــدريجيا حــتى يصــل الــى
مستوى الستقامة ،وعلى العكس من ذلك فان الذين يختارون الهــوى
فــانهم يتنزلــون درجــة بعــد اخــرى حــتى يصــلوا الــى درجــة اســفل
السافلين .
ومن الثابت ان النسان كلما سقط درجــة فـانه يبتلــى بامتحـان اخــر
فيسقط درجة اخــرى حــتى يصــل الــى ادنــى المســتويات كمــا يقــول -
لـ
ت ا ِّ
ســوَأى َأن َكـّذُبوا ِبَاَيـا ِ
سـآُءوا ال ّ
ن َأ َ
عاِقَبَة اّلـِذي َ
ن َتعالى ُ } : -ثّم َكا َ
ن { ) الــروم ( 10 /اي ان النســــان الــذي يرتكــب س ـَتْهِزُئو َ
َوَكــاُنوا ِبَهــا َي ْ
المعاصــي ،ويســقط فــي دركــات العصــيان دركــة فدركــة ،فــان هــذا
النسان ينتهي به المر الى الكفر بكل شيء .
وعلـى هذا فان علينا ان نكون حذريــن ،فــاذا اذنبنــا الــذنب الول
فان علينــا
العتراف به ،وان ل نبرره لننا لو بررناه فان حالنا سيزداد ســوء ،
وعلى سبيل المثال فان النسان المســلم الــذي يـترك الصــلة ،ويــبرر
تركه لها بان ال لم يوفقه بعد لهذا الطريق رغــم انــه يعلــم ان الصــلة
تنهى عن الفحشاء والمنكر ،فان مثل هذا الشخـــص احسن حال مــن
ذلك الذي يبرر تركه للصــلة بانهـا ليسـت واجبـة اساسـا ،فمثـل هـذا
التبرير هو أسوء من تــرك الصــلة ،ذلــك لن النســان عنــدما يــترك
الصلة وهو مقتنع بوجوبها فان من الممكن ان يهديه ال -عز وجل -
بعيد . فــي يوم من اليام ،اما الذي ينكر الصلة فان المل بهدايته
وهنا توجد فكرة استوحيتها من آيــات ســورة الحديــد الــتي هــي مــن
غرر ســور القــرآن الكريــم شــريطة ان تكــون لنـا آذان واعيــة ؛ هــذه
الفكرة تتمثل في ضرورة ان يستشــعر النســان المــؤمن الخشــوع فــي
شـَع ُقُلــوُبُهْم
خَن َءاَمُنــوا َأن َت ْ
ن ِلّلـِذي َ
قلبه كما يقول -تعـالى َ } : -أَلـْم َيـْأ ِ
ب ِمــن َقْبـ ُ
ل ن ُاوُتــوا اْلِكَتــا َل َيُكوُنوا َكاّلِذي َ ق َو َ حّ ن اْل َل ِم َ ل َوَما َنَز َ ِلِذْكِر ا ِّ
هْم { ) الحديد . ( 16 / ت ُقُلوُب ُ
س ْ لَمُد َفَق َعَلْيِهُم ا َل َ
طا ََف َ
والمهم في سورة الحديد المباركة ان القرآن الكريم يصــرح ان كــل
ما في الوجود يسبح ل وينزهــه ،فهــو -تعــالى -ل يشــبه شــيئا ،ول
يمكن ان تتصوره الوهام ،فهو نور ولكن ل كالنور الذي نعرفه .
ض { ) الحديد ، ( 5 / لْر ِ ت َوا َ سَماَوا ِ ك ال ّوهو المقتدر المهيمن َ } :لُه ُمْل ُ
ومــن آيــات ملكــه انــه يخلــق الشــجرة مــن الحبــة الصــغيرة ،ويجعــل
النسان السوي من نطفة تافهة ،واذا شاء سـلب منـه روحــه فـاذا هـو
يٍء َقـِديٌر { ) الحديــد ، ( 2 / ش ْل َ عَلى ُك ّ ت َوُهَو َ حِيي َوُيِمي ُ جثة هامدة ُ } :ي ْ
وبناء على ذلك فان ال -جل وعل -على كل شيء قـدير ،فقــد خلــق
الفيــل والحــوت بعظمتهمــا ،وخلــق ايضــا الذبابــة والبعوضــة علــى
صغرهما في حين ان هذين الحيوانين الصغيرين مثل ذينك الحيــوانين
الضخمين في اجهزتهما ،فسبحان ال الذي يخلـق ما ل يمكن للنسان
ان يتصوره .
ظاِهُر خُر َوال ّ لِ ل َوا َلّو ُويستمر السياق القرآني الكريم قائل ُ } :هَو ا َ
لْر َ
ض ت َوا َ سـَماَوا ِ ق ال ّ خَلـ َعِليـٌم * ُهـَو اّلـِذي َ يٍء َش ْل َ ن َوُهَو ِبُك ّ طُ َواْلَبا ِ
ض َوَمــالْر ِ ج ِفــي ا َش َيْعَلـُم َمــا َيِلـ ُ
عَلــى اْلَعـْر ِ
سـَتَوى َ سّتِة َأّياٍم ُثـّم ا ْ
ِفي ِ
ن َمــاج ِفيَهــا َوُهـَو مََعُكـْم َأْيـ َ سَمآِء َوَما َيْعـُر ُ
ن ال ّل ِم َج ِمْنَها َوَما َينِز ُ خُر َُي ْ
كنُتْم { ) الحديد . ( 4-3 / ُ
فاذا نزلت قطرة من السـماء الى الرض فان الـ -ســبحانه -يعلــم
بـــها ،وكــذلك يحيــط علمــا حــتى بالنبتــة الصــغيرة الــتي تخــرج مــن
الرض .
وبالضافة الى ذلك فان النسان قد يمتلك العلــم ،ومــن المعلــوم ان
زكاة العلم هو نشــره بيــن الخريــن ،واخــراج هــذا النــور مــن قلوبنــا
ليستضيء به الناس ،وربما يتذرع الواحــد منـا فـي هـذا المجـال بـأنه
ليس عالم دين ،وانه لم يضع لحد الن عمامة على رأسه ،وفــي هــذه
الحالة فان الناس سوف يستهزؤون به اذا ما قدم العلم والنصـح لهــم ،
في حين ان المر علــى العكس من ذلك تماما ،فالنســان الــذي ينفــق
من علمه سوف يــزداد علمــا ،فكلمــا اعطــى هــــذا النســان شــيئا فــي
سبيل ال -عز وجل -كلما رفع من شان صاحبه ،ونمى ما يعطيه .
وتأسيسا على كل ما سبق فان القضية كلها تتلخص في كلمة واحــدة
هي ان النسان يجب ان يعرف ان كل ما فــي يــده مــن مــال ،وجــاه ،
وعلم ،ورئاسة ..انما هو مستخلف فيه ،وان عليــه ان يتخــذه طريقــا
لمرضاة ال -جل شأنه . -
واذا ما ترسخ هذا السلوب لدى النسان فستحصل عنده الســتقامة
التي توجب عليه ان يجعل كل قدراته ،وممتلكاته وسيلة للتقــرب الــى
ال -تعالى ، -وحينئذ ستنتهي حياة هذا النسان بالحسنى الــتي يشــير
اليها قوله -عز من قائل :
ان شمولية الرؤية لدى النسان المؤمن تــؤثر علــى مختلــف ابعــاد
حياته ،وتؤدي دورا أساسيا في تطويرها حيث انها تلغــي التناقضــات
الموهومــة بينهــا .بينمــا نجــد البعــض يزعــم ان حيــاته هــي كتلــة مــن
التناقضات بسبب رؤيته المحدودة ،فاذا انشغل بعمــل اجتمــاعي تــراه
يفقــد القــدرة فــي ادارة أســرته ،واذا اهتــم بأســرته اهمــل المســؤولية
الجتماعية ،واذا اهتم بالدنيا ترك الخرة وبالعكس .
ان هذه النظرة الهرمية التي يقع اليمان بال والتسليم له في قمتها ،
ثم تنحدر لتشمل العالم كله سوف تؤدي الى ان يمتلك النسان المــؤمن
رؤية تكاملية ،ولذلك فـانه ليعاني من مشــكلة التنــاقض بيــن الوســيلة
والهدف ؛ فالوسيلة تبقى عنده جسرا
الى الهدف ،وليمكن ان تتحول في اي حال من الحــوال الــى هــدف
بحد ذاته .
واذا ما تحولت الوسائل عند النسان الى اهداف فحينئذ تظهر لديه
حالة من الشرك تغزو قلبه ،ولبد ان يحذر منها ؛ وعلى سبيل المثال
فانه اذا انتمى الـى تنظيـم مـا فـان عليـه ان يحــذر اشـد الحـذر مـن ان
يحــول هــذا التنظيــم -الــذي هــو وســيلة -الــى هــدف .وهكــذا الحــال
بالنسبة الى العتبارات المادية الخرى فانها كلهــا تبقــى محترمــة فــي
حدود كونها وسيلة ،فاذا تحولت الى هدف فانها ســتكون صــنما يعبــد
مــن دون ال -تعــالــى ، -وهذه الصنمية هـي الــتي تــدفع المــؤمنين
الى ان يضرب بعضهـــــم بعضــا فتنشـــأ لديهـــم الحــــالة الــتي يشيــــر
ن * ِمـ َ
ن ش ـِرِكي َ
ن اْلُم ْ
ل َتُكوُنــوا ِم ـ َ
اليها القرآن الكريم فـــي قـولـه َ } :و َ
شَيعًا { ) الروم . (32-31 /
ن َفّرُقوا ِديَنُهْم َوَكاُنوا ِ
اّلِذي َ
عندما يفسد قلب النسان ،وتتزعزع روح اليمان الحق في نفسه ،
فان فراغا هائل سوف يحس به يتمثل في الشــعور العميــق بــالخوف ،
والقلق ،والضيق ،فاذا بهذا النسان يخــاف مــن المســتقبل ،ويخشــى
المــوت ،ويتهيــب المجهــول ،فــان حصــل علــى شــيء فــانه يقلــق
ويضطرب لكي ل يفقده ،وان لم يحصــل عليــه بحــث عنــه عســى ان
تكون فيه النجاة ،والسعادة ،والفلح .
ان هذا هو حال القلب الذي يفقد اليمان ،ولذلك نرى فرعون عندما
صـَرك ِم ْ
س ِلي ُمْلـ ُ
اراد ان يحاج موسى ) عليه السلم ( قال له َ } :أَلْي َ
حِتي { ) .الزخرف ( 51 /
جِري ِمن َت ْ
لْنَهاُر َت ْ
َوَهِذِه ا َ
فقد اتكأ على امواله وملكه ليــدعي انــه الــه ،وهــذا مــا يكشــف عــن
طبيعته المفرغة من اليمان بال ،والعتماد على النفـس ،وهــذه هـي
حالة الكفر الصريحة .
ومع ذلك فان هناك حالة اخرى هي حالة الكفــر المبطــن ،واليـات
التالية من سورة )التوبة( ربما تعالج هذه الحالة فــي النفــس البشــرية ؛
اي حالة النفاق والشــرك الخفـي ،وفـي المقابـل فاننـا اذا شـعرنا بقـوة
اليمان في نفوسنا واحسســنا بالطمئنــان والســكينة ،فاننــا ســوف لــن
نبحث عن السلطة لن اليمان اشد قــوة منهــا ،وهكــذا الحــال بالنســبة
الى سائر المظاهر الدنيوية الخــرى ،وحنيئذ نكـون قـد بلغنـا مرحلـة
من مراحل اليمان الحق الــذي هــو اليمــان المســتقر ،وال فــان هــذا
اليمان سيكون مستودعا لننا اوتيناه لفترة معينة ثم يســتعاد بعــد ذلــك
منا قبيل الموت .
وقد يكون ) العلم ( هو الشيء الخــر الــذي يبحــث عنــه النســان ،
ل اّلـِذي َ
ن ونقصد به العلــم الــذي يقــول -تعــالى -عــن اصــحابه َ } :مَثـ ُ
سَفارًا { ) الجمعة ، ( 5 /
ل َأ ْ
حِم ُ
حَماِر َي ْ
ل اْل ِ
حِمُلوَها َكَمَث ِ
حّمُلوا الّتْوَراَة ُثّم َلْم َي ْ
ُ
فهذا العلم يتحول الى هدف بعد ان كــان وســيلة ،وهــو ذريعــة يتــذرع
بها النسان للتهرب من مسؤوليات اليمان ،والجهاد فـي سـبيل الـ ،
فهنــاك مــن يبحــث عــن كتــاب يطــالعه لكــي يهــرب مـــن الــدخول فــي
ساحات الجهاد ،ويجلس في زاوية ولسان حاله يقول :ما أحسن
الزوايــا والخبايــا عنــدما يهــرب اليهــا النســان مــن مواجهــة مشــاكل
المجتمع .
ان اليات القرآنية تصور النســان الفاقــد لليمــان برجــل ألقــي مــن
السماء الى الرض فأما ان يتخطفه الطيــر ،او تهــوي بــه الريــح فــي
مكان سحيق .وفي مواضع اخرى يشبه القرآن الكريم النســان الــذي
يفقد اليمان بالذي يجعل ال قلبه ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء .
واذا ما كان احدنا فــي صــحراء واســعة ،وكــان الظلم يســود هــذه
الصحراء بحيث ل يرى شــيئا ،فــانه ســيعيش الظلم المطلــق ،وفــي
نفس الوقت الضيق المطلق ،اما اذا اشرقت الرض وأضيئت فحينئذ
سيعيش في رحاب الحقائق .
وهكذا الحال بالنســبة الــى اليمـان عنــدما يسـلب مـن النسـان فـانه
سيعيش حالة البحث عن عمل ســهل يعــوض بــه عــن العمــل الحقيقــي
الذي هو اليمان كمن يبني مسجدا ليغطي به على اكلــه للمــال الحــرام
وانتمــاءاته وولءاتــه الغيــر مشــروعة .فبــدل مــن ان يحصــل علــى
الثواب ،يتحول بناء المسجد بالنسبة اليه وسيلة للفرار من اليمــان ل
لجــوء اليــه .وفــي هــذا المجــال يقــول القــرآن الكريــم َ } :مــا َكــا َ
ن
ل { ) التوبة ( 17 /؛ فالمشرك الذي يـرى جَد ا ّ
سا ِن َأن َيْعُمــُروا َم َ
ِلْلُمشِْرِكي َ
ان هناك الها غير ال يعبـــد فـــــي الرض او السماء ل ينبغي لــه ان
يعمر المسجد لنه سيشهد على نفسه بالكفر ،وهذا ما يشير اليه -عز
سِهم ِبــاْلُكْفِرعَلى َأْنُف ِ ن َ شاِهِدي َوجل -في قوله بعد الية السابقة َ ... } :
لـجَد ا ّ ســا ِ
ن * ِإّنَما َيْعُمُر َم َ خاِلُدو َ
عَماُلُهْم َوِفي الّناِر ُهْم َ ت َأ ْ
ط ْحِب َ
ك َُاْوَلِئ َ
ش ِإ ّ
ل خـ َ لَة وَءاَتى الّزَكاَة َوَل ـْم َي ْ ص َخِر َوَأَقاَم ال ّلِل َواْلَيْوِم ا َن ِبا ّ
ن َءاَم َ
َم ْ
ل { ) التوبة . ( 18-17 / ا ّ
اننا في كثير من الوقات نمني انفسنا باليمان ،في حيــن انــه ليــس
بالتمني بل يحتاج الى سكينة ووقار ،وان ل يخاف النسان لومــة لئم
،ول بطشا من سلطة .
وهكذا فاننا -للسف -نلجأ الى بعض العمال القشرية فــرارا مــن
العمل الحقيقي ،وكل واحد منا معرض لهذه المشكلة ،فالنسان الذي
يضخم الشيء الصغيـر ،ويبحث عـن القشور انما يعوض بــذلك عــن
حالة انعدام المسؤولية في نفسه ،وهذا ما يشير اليه القرآن الكريم في
ل { ) التوبة . ( 18 / لا ّ ش ِإ ّ
خ َقوله عن المؤمن الحقيقي َ }:وَلْم َي ْ
دينَ { ) التوبة ( 18 / ن اْلُمْهَت ِ
ك َأن َيُكوُنوا ِم َ سى ُاْوَلِئ َ
ثم يقول تعالى َ } :فَع َ
،وفي نهاية اليات التي اشــرنا اليهـا فـي ســورة التوبـة جـاءت ايضـا
كلمة ) الهداية ( ،فلنحاول ان نربط بينها وبين تلك .
شروط اليمان
ت ُقُلــوُبُهْم
جَل ْ
ل وَ ِن ِإَذا ُذِكَر ا ّن اّلِذي َ
قال ال -تعالى ِ }: -إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
ن { ) النفــال /
علــى َرّبِهـْم َيَتَوّكُلــو َ
عَلْيِهْم َءاَياُتُه َزاَدْتُهْم ِإيَمانـًا َو َ
ت َ
َوِإَذا ُتِلَي ْ
.(2
يحدثنا القــرآن الكريم فــي هذه اليــة عن ثلثة عناصــر رئيســية
لليمــان ومعطييــن مــن معطياتــــه فأمــا العناصــر الرئيســية فهــي :
الوجل ،وزيادة اليمان من خلل تلوة اليات القرآنيـة ،والتوكـــل ،
واما المـعـطيات فهما الصلة ،والنفـاق من الـرزق .
صــاَبْتُهْم
ويصف القرآن الكريم النسان المؤمن قائل } :اّلـِذينَ ِإَذآ َأ َ
ن { ) البقــرة ، ( 156 /فــالمؤمن الــذي جُعــو َ
ل وِإّنآ ِإَلْيِه َرا ِ صيَبٌة َقاُلوا ِإّنا ِّ
ُم ِ
يصاب بمصيبة ما ل ينظر الى هذه المصيبة من خلل اطــار ضــيق ،
ن{، جُعــو َل ـ وِإّنــآ ِإَلْي ـِه َرا ِ
بل ينظر اليها بمنظار كوني فيقول ِ } :إّنا ِّ
اي ان هذه المصيبة طفيفة وصغيرة بالنسبة الــى حيــاتي ،ثــم ان هــذا
الحدث وغيره أعتبره بســيطا بالنسـبة الـى مبتـدئي ومنتهـاي ،فحــدث
الموت اكبر من هذا الحدث ،وحــدث البتــداء ونعمــة الوجــود اعظــم
منه ،فوجود النسان هو نعمة مســبوغة علــى النســان ل تعادلهـا ايـة
نعمة اخرى ،فل مبرر -اذن -لليأس والقنوط .
وهكذا فان المعادلت تتغير جميعا خلل لحظة .وقد اشار الى ذلك
ل ـ ُبْنَيــاَنُهم
-تعالى -في قوله عن مباغتة الكافرين بالعذاب َ } :فـَاَتى ا ُّ
ث َ
ل حي ـ ُ
ن َ ب ِمـ ْف ِمن َفْوِقِهْم َوَأَتاُهُم اْلَعَذا ُ
سْق ُعَلْيِهُم ال ّ
خّر َعِد َف َن اْلَقَوا ِ
ِم َ
ن { ) النحل . ( 26 /شُعُرو َ َي ْ
وهكذا الحال بالنسبة الى النصر والفرج فانهما يأتيــان الــى المــؤمنين
خَرجـًا *جَعــل لَـُه َم ْ
لـ َي ْق ا َّ من حيث ل يشعـــرون ايضــا َ } :وَمــن َيّتـ ِ
ب { ) الطلق . ( 3-2 /
س ُ حَت ِ
ل َي ْ ث َ
حْي ُن َ َوَيْرُزْقُه ِم ْ
عَلـىسْوا َ
ل َتْأ َ
والى هذه الصفة يشيــر القرآن الكريم في قوله ِ }:لَكْي َ
حوا ِبَمآ َءاَتاُكْم { ) الحديــد ، ( 23 /وفي تفســير هــذه اليــة
ل َتْفَر ُ
َما َفاَتُكْم َو َ
يقول المام الصادق ) عليه السلم ( " :ل يكتمــل ايمــان امــرء حــتى
يكون مثل لهذه الية " ،وفي نفس المعنى يقول ايضا ) عليه السلم (
" :المؤمن اشد مــن الجبــل وقلبــه اقــوى مــن زبــر الحديــد ،فقيــل لــه
) عليه السلم ( :وكيف يابن رسول ال ؟ قــال :ينــال مــن الجبــل ول
ينال منه " .
فالمعول قد يكسر احجار الجبل ،ولكن هذا المعول نفسه ل يمكــن
ان ينال مــن شخصــية النســان المــؤمن والمثـال علــى ذلــك مــؤمن آل
فرعون ،هذا المؤمن الذي كان يكتم ايمــانه ،فلمــا احــس بــه فرعــون
امــر ان يعــرض الــى عــذاب ل يســتطيع النســان العــادي احتمــاله ،
فهرأوا جلده عن طريق القصب المفتت الذي شدوه بجســده العــاري ،
واخذوا يسحبونه قصبة قصبة بحيث كان جلده يتقطع مــع القصــب ثــم
قطعوا يديه ورجليه ،وثبتوه في اربعة مسامير على الرض ثم قتلــوه
واحرقوه ،وذروا برماده في الهواء ،ومع ذلك فقد كان هــذا النســان
ت َق ـْوِمي
المؤمن الصابر يقول وهو يعــاني مــرارة التعــذيب َ } :يــا َلْيـ َ
ن { )يس . ( 27-26 / ن اْلُمْكَرِمي َ
جَعَلِني ِم َ
غَفَر ِلي َرّبي َو َ
ن * ِبَما َ
َيْعَلُمو َ
ولذلك فـان هذا النسان المؤمن لم ينهار امام التعذيب ،لنــه اقــوى
مــن الجبــل ،واقــــوى مــن الحديــــد ،وهــذا هــو معنــى الوجــل ،
والضطراب القلبي الذي يجعــــل
النسان يعيش مترددا بين الخوف والرجاء .
والسؤال المطروح هنا هو :هل حالة التردد هــذه هــي حالــة ســلبية
لــدى النســان المــؤمن ؟ وجوابــا علــى ذلــك نقــول :كل ،فالنســان
المؤمن يدرك ان ال -تعالى -حكيم ،ولنه يمتلك هذه الصفة فــانه ل
يمكن ان ينتقم من احد عبثا ،ول يمكن ان يفضــل شخصــا علــى اخــر
بدون مقياس ،فالمؤمن يعرف ان المصاعب هي طريقــه الــى تحقيــق
النعمة ،وان السهولة والراحة هما الطريق الى النقمــة ،وهــو يعــرف
ايضا ان الدنيا دار ابتلء وامتحان ،وعندما ل يجد النسان نفســه فــي
الدنيا مبتلى بامتحان ،ول يجد نفسه تحت وطأة نقمة او نعمة لبــد لــه
ان يعرف انه اخذ يفشل في المتحان .
ففي اليوم الذي يجد فيــه النسـان المــؤمن نفسـه امـام صــعوبة فـانه
يــؤنس نفســه ،وكــذلك الحــال اذا مــا واجــه نعمــة ،فهــو يعيــش حالــة
التأنيب الدائم والمستمر لنفسه ،اما اذا وجد نفسه يوما غير خائف ول
وجل من ال -تعالى -فانه ينصب بالتأنيب على نفسه ايضا معتقدا ان
ال -تعالى -قد وكله الى نفسه ،واخذ يستدرجه لكي ينسى الخرة .
فعــن المام الصــادق ) عليه السلم ( أنه قال " :ارج ال رجاء ل
يجرئك على
معاصيه وخف ال خوفا ل يؤيسك من رحمته " . ((1
وعنه ) عليه السلم ( " :ل يكون المؤمن مؤمنا حتى يكــون خائفــا
راجيا وليكون خائفا راجيا حتى يكون عامل لما يخاف ويرجو " . ((2
)1
(
موسوعة بحار النوار ج 67ص 384
)2
(
موسوعة بحار النوار ج 67ص 365
وبعــد فان هــذه الروح هــي الـتي تحــث النـــسان المـــؤمن علــى
القيام بالعمل في سبيل ال -تعالى ، -وهذا هو معنى الوجل الذي هــو
احد العناصر الرئيسية الداخلة في تركيب الشخصية اليمانية .
عندما تقاتل فئة فئة اخرى فانهما قد تكونان كلهما ضالتين تدخلن
النار ،وقد تكون احداهما مؤمنة والخرى كافرة .
وفي هذه الحالت من القتال والصراع فان كل فريق يدعي بأنه هو
الفئة الناجية التي تدخل الجنة دون الفئات الخــرى ،ولبــد ان يــدعي
كل فريق انه هو الذي يمثل الرادة اللهية فوق الرض .حــتى هتلــر
الذي أحرق العالم بأسلحته ،كان يدعي انه يدافع عــن الصــليب ،وان
ال -تعالى -قد بعثه منقذا للبشرية ،وهكذا الحال بالنســبة الــى طغــاة
العالم الخرين .
وفي سورة آل عمران التي خصصت فيمــا يبــدو لــي لبيــان الوحــدة
المبدئيــة بيــن ابنــاء الرســالت اللهيــة ،وخصوصــا بيــن ابنــاء المــة
السلمية ،وضرورة العتصام بحبل ال ،وعدم التفــرق ،فــي هــذه
السورة المباركة يشير -سبحانه وتعالى -الى ان هنــاك صــراعا بيــن
فئتين ؛ فئة مؤمنة ،وفئة كــافرة ،ولكــن الفئة المؤمنــة ســوف تنتصــر
بأذن ال .
ن َلُكْم َءاَيٌة والقرآن الكريم يحدثنا عن هذا الصراع فيقول َ } :قْد َكا َ
ت{ ش ـَهَوا ِ ب ال ّ ح ّ س ُ ن ِللّنا ِ ن اْلَتَقَتا { ثم ل يلبث ان يقول ُ } :زّي َ ِفي ِفَئَتْي ِ
ليبين ان هذا الحب الذي زينه الشيطان للناس هو اساس الصراع .
ل يتبرم بطلب الحوائج قبله ،ول يسأم من طلب العلم عمره ،الذل
أحب اليه من العز ،والفقر أحب اليه من الغنا ،حسبه من الدنيا قــوت
،ل يلقى أحدا ال قال :هو خير مني وأتقى .
انما الناس :رجل خير منه واتقى ،وأخر شر منه وادنى ،فاذا لقي
الذي هو خير منه )واتقى ( تواضع له ليلحق به ،واذا لقــي الــذي هــو
شر منه وأدنى قال :لعل شر هذا ظاهر وخيره باطن ،فاذا فعل ذلــك
عل وساد أهل زمانه " . ((1
)1
(
موسوعة بحار النوار ج 64ص 296
ن{ ن َواْلَقاِنِتي َصـــاِدِقي َ
ن َوال ّصـــاِبِري َ ثم يستأنف -تعالى -قائل } :ال ّ
،فقلوب هؤلء المؤمنين المجاهدين خاضعة وخاشــعة ،فلنرجــع الــى
انفسنا ،ولنقيمها بمدى خضوع قلوبنا ،فهناك شيطان مارد يخــدعنا ،
ويثير فينا دائما النانيات ،والكبرياء الذاتية ،فلنقهر هذا الشيطان من
خلل الـبرنـامـج الـروحي الـتـالي الـذي يشـير اليــه القــرآن الـكـريـــم
ر {. حا ِسَلْ
ن ِبا َسَتْغِفِري َن َواْلُم ْقـائـل َ } :واْلَقاِنِتين َواْلُمنِفِقي َ
فحينما تنام العيون ،وتسـكت الصــوات ،وتهـدأ الحركـة ،ينبعـث
النسان المؤمن بأيمانه الصادق من فراشه ،ويقف امام ال -تعــالى -
ودموعــه تجري وقلبه يرتجف ،وفرائصه ترتعد ،قائل " :من انا ؟
وكيف اواجــه ربــي بهــذه الــذنوب الــتي احملهــا علــى ظهــري ؟ ومــن
ينقذني من نار جهنم حيث ل عشيرة ،ول قبيلة ،ول شعـــارات ،ول
اسماء ،ولعناوين ،ول تجمعات ؟ وحينئذ يغسل هذا النسان ذنــوبه ،
ويرسم استراتيجيته ،ويقهر نفسه المارة بالسوء .
واذا وجــدت هذه الفــئة المؤلفــة من هكذا مؤمنين فلنعلـم انهـا هـي
الفئة التي بشرها ال -جـل وعل -فـي كتـابه العزيــز بالنصـر عنـدما
ء{. شآ ُ
صِرِه َمن َي َل ُيَؤّيُد ِبَن ْ
ن َوا ّ ي اْلَعْي ِ
قال َ } :يَرْوَنُهم ِمْثَلْيِهْم َرْأ َ
وعلى هذا فان اليمان ليس درجة واحدة ،فكل واحد منا من الممكن
ان يكون مؤمنا .وقد صرحت الروايات في هــذا المجــال ان درجــات
اليمان تتفاوت من انســان لخــر ،وان هــذا التفــاوت يظهــر بصــورة
جلية في يوم القيامة بسبب اختلف الناس فيما بينهم في مدى طــاعتهم
ل -سبحانه وتعــالى -ومــدى مقــاومتهم ،وصــبرهم علــى المصــائب
والمحن التي تمر بهم في ذات ال .
وهنــاك طائفــة اخرى تقول فــي تفسير عــدم ايمـان النسان الكافر
انه اذا آمن
فسيصبح ذليل ،في حين ان عكس ذلك هــــو الصحيح ،فاليمان هو
لـ اْلِعـّزُة
الــذي يعطـــي النســان العــــــزة كمـا يقـول -تعـالى َ } : -و ِّ
ن { ) المنافقون . ( 8 /
سوِلِه َوِلْلُمْؤِمِني َ
َوِلَر ُ
فلماذا ل يؤمن النسان مادام الخير كله ،والحرية ،والعزة ،ونعــم
الحياة الدنيا والخــرة فيـــــه ؟ ان هنــاك شــيئا هــو الــوهم ،فمــن الــذي
يــزرع الــوهم فــي قلــب النســـــان ؟ انــــه الشيطــــان الــــذي يأتــــي
ويــــزرع الوهــــام الباطلــــة الــمــــرة بعــــد الخــــرى ،فللشــيطان
مليــين الشتائــل مــن الــوهــم ،وعلــى النسان ان يزود نفسـه بـــ )
ومن اجل ان نصور كيف يزرع الشيطان الوهام الباطلة فــي قلــب
النسان ،نضرب المثال التالي :افترض انك اردت ان تصلي صــلة
الليل بعــد ان ســمعت عمــا تقــدمه للنســان مــن فــوائد جمــة فــي الــدنيا
والخرة ،فتوقت الساعة ،ومن ثم تنام وانــت مصــمم علــى اداءهــا ،
وعندما يرن جرس الساعة تنهض من نومــك ،واذا بالشــيطان يــزرع
الوهام في قلبك ،فيوســوس لــك مثل بــان لــديك اعمــال فــي الصــباح
سوف ل تستطيع ان تؤديها اذا مــا اديــت صــلة الليــل لنـك ســوف ل
تستطيع النهوض مبكرا من النوم ...وهكذا يخدعك الشيطان بالوهام
التي يزينها لـك ،ويقـدمها فـي لبـاس معقـول ،فـاذا بـك تستسـلم لهـذا
الشيطان ،فتنام ثانية ،ولكنك مع كل ذلك قد تنهض متأخرا ،فتفوتــك
صلة الفجر ايضا ،لتنصب باللوم والتقريع على نفسك .
الحياة : ارادة الحياة تهب
واذا ما تغلبت على هذه الوهام ،واستيقظت ،وردعت الشيطان من
خلل المبادرة الـى الوضـوء ،واداء صـلة الليـل ،فـان هـذه الصـلة
ستمنحك ارادة قوية في الحياة ،بالضافة الى استطاعتك الذهاب الــى
عملك فــي وقــت مبكــر ،واداء جميــع اعمالــك ،كمــا يشــير الــى ذلــك
الحديث الشريف :
وفي مجال اخر اثبتت الدراسات بعد بحث دقيق ان الذين ينتحـرون
بتناول المواد السامة ،فان ارادة الموت تسهم في القضاء عليهم اكــثر
من تلك المواد نفسها ،فالكمية التي كانت موجــودة فــي اجســامهم مــن
المواد السامة لم تكن كافية للقضاء عليهم بسرعة ،فماتوا لنهم فقــدوا
الحساس بالحياة .
ان هذا صحيح كله ،ولكن كيف يســتطيع النســان متابعــة مســيرته
العلميــة ؟ فتحصــيل العلــم هــو مــن اصــعب المــور ،فكيــف يســتطيع
النسان ان يطلب العلــم الــى اخــر مســتوياته ؟ انــه يســتطيع ذلــك مــن
خلل اليمــان ،وهــذا اليمــان يمكننــا الحصــول عليــه بواســطة اداء
العبادات واجبة كانت ام مستحبة .
ان الضللة الولى تأتي من كون الناس على نوعين :نوع يستقبل
الحق ويسلم له ،ويستوعبه ،ونوع يكفر ويكــذب بــه ،والنــوع الول
هو الذي يستقبل الحق بمجــرد ان يقتنــع ان مــن الفضــل لــه ان يتقبــل
الحق ويؤمن به ،وهذا هو اليمان ؛ اي ان تكون عنــد النســان حالــة
القناعــة ،والخضــوع للحــق والســلم لــه بمجــرد التوصــل اليـــــه ،
وحينئذ وبمجرد ان يصل النسان الى هذه الدرجة تتضح امامه جميــع
الحقائق ،لن الحجاب سيسقط ،والعقــل سيغمره النور لن النســان
المؤمن ينظر بنور ال -تعالى . -
ولكن هــذا النســان بمجــرد ان يكــذب بــالحق فــان كــل تلــك اليــات
والعلمات والمعالم الموضوعة على طريق الحــق ســتختفي عنــه كمــا
هْم {
جآَء ُ
ق َلّما َ حّل َكّذُبوا ِباْل َ
اشار الى ذلك -عز وجل -في قوله َ } :ب ْ
) ق ، ( 5 /فالنسان يبقى في حالة عمى ،وضللــــة فل هـو مهتـد ول
حّتــى
ن َهو منحرف حتى يأتيه الحق عبر الرسـول َ } :وَما ُكّنا مَُع ـّذِبي َ
ل { ) السراء . ( 15 /
سو ً
ث َر ُ
َنْبَع َ
اما الفريق الخر فيبدأ السير المعاكس ،فيكذب بالحق ،وبمجرد ان
يكــذب بــه تختلــط عليــه الحقــائق كلهــا ،فيســتنتج سلســلة مــن الفكــار
الباطلة ،والتبريرات والعذار الواهية ،وبالتالي يصنع وينسج حــول
نفسه شرنقة يعيش في داخلها ،وفي هذا المجال يقول -عز مــن قــائل
ج { ) ق ، ( 5 /اي جــآَءُهْم َفُهـْم ِفــي َأْمـٍر َمِريـ ٍ
ق َلّمــا َ
حّل َكّذُبوا ِبـاْل ََ } :-ب ْ
مختلط .
واذا كان الرسول ليس حقا فمـا هـو -اذن -؟ ،لقــد قـالوا عنـه انـه
شاعر ،ومجنون ،وكاهن ،فاختلط عليهم المــر ،وتبعــثرت عنــدهم
المقاييس فلم يعرفوا ماذا يقولون ،فما هو القرآن -اذن -؟ هناك مــن
المستشرقين الذين يحاولون تفسير الوحي مـن ل يمتلـك رأيـا واضــحا
ومحددا يفسر به ذلك التحول الذي حدث في الجزيرة الـعـــربية خلل
فترة قصيرة .
ان كــل واحــد منهــم يقــدم تفســيرا مختلفــا ،وتفاســيرهم وتحليلتهــم
متناقضة بمجموعها ،فقد تــرى المــؤرخ الواحــد يكتــب في كتــابين
تفسيرين مختلفين لنهم -كما يقول القرآن الكريم ِ } : -في َأْمٍر َمِري ٍ
ج
{ ،فهم ل يريدون ان يعترفوا بالحـق .والباطل -كما هو معلــوم -ل
يمكــن ان يثبــت ،فمــوازين العقــل ،والطبيعــة ،والتأريــخ ترفــض
الباطل ،لذلك نراهم يتنقلون من باطل الى اخر .
ثم انك ل ترى في هذه الســماء أيــة ثغــرات ومنافــذ َ } :مـا َلَهـا ِمـن
ُفُروجٍ { وان ثقبــا واحــدا حــدث فــي طبقــة الوزون بـالغلف الجــوي
اليــوم جعــل العــالم يعيــش فــي حيــرة ،فــاذا الثلــوج تــذوب ،ودرجــة
الحرارة تزداد ،واذا بالشعة الكونية الضارة تتسرب ،وفــي الحقيقــة
فان النسان هو السبب في حدوث هذا الثقب .
ســ َ
ي ض َمَدْدَناَها َوَأْلَقْيَنا ِفيَها َرَوا ِ
لْر َ
ويستأنف -تعالى -قائل َ } :وا َ
ج { ) ق ، ( 7 /ومــع ذلــك فــان كــل هــذه ج َبِهيـ ٍ
ل َزْو ٍَوَأْنَبْتَنا ِفيَها ِمــن ُكـ ّ
الحقائق تخفــى علــى المكــذبين ،فتعمــى بصــائرهم ،ويفقــدون القــدرة
علــى الفهــم والتقــدير فــي حيــن ان هــذه الحقــائق كــانت ومــا زالــت }
ب { ) ق ، ( 8 /فالعبــد المنيــب القلــب ، عْبـٍد ُمِنيـ ٍ
ل َ َتْبصِـَرًة َوِذْكـَرى ِلُكـ ّ
المستعد لتقبل الحقائق ل ينظر الى شـيء ال ويهتـدي مـن خللـه الـى
الحقائق الكبرى ،واسماء ال وسننه في الكون ،والحياة الخرة الــتي
في انتظارنا ،فيتضح كل شيء لهذا النسان المؤمن .
وعلى هذا فان من اهم العمال التي يجب ان نقوم بها ان ننمي فــي
انفسنا روح التقبل ،وننــتزع منهــا حالــة الكــبر ،خصوصــا وان هــذه
الحالة مغروسة في داخلنا ،وهي تعادل الجهل ،وظلم النســان لنفســه
ل { ) الحــزاب ، ( 72 / جُهــو ًظُلومـًا َ ن َكما يقول -عز وجل ِ } : -إّنُه َكــا َ
وهي تلتصق بأعماق طبيعة النسان ،وانا ل اسميها ) فطــرة ( ،لن
طبيعــة النســان ظلمانيــة ،وعــاجزة ،ومحــدودة ،وجاهلــة وظالمــة ،
وهــذه الطبيعــة يجــب ان تتبــدل ،وقــد كلــف الـ -ســبحانه -النســان
بتغييرها ؛ فمن الناس من يحقق هذه المسؤولية في نفسه ،ومنهــم مــن
يرفضها .
وفي آيات اخرى ايضا ،يشير -تعالى -الى التبــاع عنــد الحــديث
عن الند ،كما
لـ َأنـَدادًا
ل ِّ جعَـ َ نرى في هــذه اليــة الكريمــة مــن ســورة الزمــر َ } :و َ
ب الّنار { ) الزمــر / حا ِ صَ ن َأ ْ ك ِم ْ
ل ِإّن َك َقِلي ً ل َتَمّتْع ِبُكْفِر َ سِبيِلِه ُق ْ
عن َ ل َ ِلُيضِ ّ
( 8وفي الية الثامـنـة من هذه السورة يقول -عز من قائل َ } : -وِإَذا
ي َمــاسـ َخ ـّوَلُه ِنْعَم ـًة مِْن ـُه َن ِ
عا َرّبُه ُمِنيبًا ِإَلْيِه ُثّم ِإَذا َضّر َد َ ن ُ سا َ
لن َ
سا ِ َم ّ
ل { ) الزمر ، ( 8 /ثم يقول -عز وجل -عن الــذين عوْا ِإَلْيِه ِمن َقْب ُن َيْد ُ
َكا َ
حـ َ
ت جَعْلُهَمــا َت ْ
س َن ْ
لنـ ِ
ن َوا ِ
جـ ّ
ن اْل ِ
لَنا ِمـ َ
ضـ ّ
ن َأ َ
كفروا َ } :رّبَنآ َأِرَنا اّلَذْي ِ
مَنا { ) فصلت . ( 29 / َأْقَدا ِ
فالحديث هنا -اذن يــدور حــول المتبعيــن اي ؛ النــداد ،ومــن هنــا
ندرك اننا اذا اردنا ان نخلص اليمــان فعلينــا ان نكفــر بالنــداد ،وان
نلغي من حياتنا كل تمحور ،وسلطة ،وهيمنة ،وجاذبية ،ان لــم تكــن
متصـلة بـال -سـبحانه وتعـالى ، -فـي هـذه الحالـة يصـفو اليمـان ،
ويكتمل التصديق ،وتتضح الحقــائق .فاليمــان هــو حالــة فــي النفــس
تدفع النسان الى الرضوخ للحق ،ونحن ل نستطيع ان نحصل عليها
ال من خلل رفض الباطل ،فاذا رفضناه فحينئذ سنذعن للحق .
اذا اردنا ان نعرف قيمة شيء ما فلبد ان نــدرس نهــايته وعــاقبته .
ونحـن اذا اردنـا ان نعـرف قيمـة اليمـان ،او مـدى خسـارة النسـان
الكافر ،فلبــد مــن ان نــدرس النهايــات فعنــد دراســتها نعــرف حقيقــة
الشياء .
ومن المعلوم ان عاقبة اليمان تتمثل في حياة مطمئنة يكللهــا الفلح
والسعادة ،والعاقبة الحســنى ،وفــي يــوم القيامــة الحشــر مــع النبيــاء
والشهداء والصالحين ،وجنة عرضها كعرض السماوات والرض ،
ورضوان من ال اكبر ،وهذه هي فائدة اليمان للنسان .
اما الكفر فعاقبته قلق في النفـس ،وحيـاة نكـدة ،وضــلل وعمـى ،
وعاقبة سوء ،وموت مؤلم ،وقبر ملــؤه النـار ،وحشــر فيــه الهــول ،
وفي يوم القيامة النار الملتهبة والخزي ،واللعن من ال -تعالى . -
المقياس الحقيقي :
وعندما ننظر نظرة سطحية الى الناس من حولنا فاننا ل نستطيع ان
نعرف قيمتهم الحقيقية من خلل ظواهرهم ال اذا استندنا الــى مقيــاس
حقيقي وهو ان نقيس المــر بمقيــاس اعمــق وحينئذ سنكتشــف ان هــذا
النسان في الجنة وانه محبوب من قبل ال -عز وجل ، -وفــي حيــن
نرى النسـان الخـر يـعـيـش في الجحيم منذ الن كما يقول -سبحانه
ن { ) التوبــة ، ( 49 /فقلبه مليء بــالتوتر طٌة ِباْلَكاِفِري َ
حي َ
جَهّنَم َلم ِ
ن َ } : -وِإ ّ
والقلــق والحقــد ،وفــي المقابــل نجــد النســان الول ذا قلــب مطمئن
ب { ) الرعـــد /
ن اْلُقُلو ُطَمِئ ّ ل َت ْل ِبِذْكِر ا ِّ
باليمان كما يقول -تعالى َ } : -أ َ
( 28وبين هذا النسان وذاك بعد المشرقين .
خ ـْو ٌ
ف ل َ لـ َن َأْوِلَيــآَء ا ِّوعن اولياء ال يقول القرآن الكريم َ } :أل ِإ ّ
ن { ) يونس . ( 62 / حَزُنو َ
ل ُهْم َي ْ
عَلْيِهْم َو َ
َ
وكلمة ) الولي ( تعني المحب النصير القريب ،وهناك معان عديدة
وشتى لهذه الكلمات ،ولكننا عندما نتعمق فيها نــرى انهــا منطلقــة مــن
) الولية ( التي تأتي من تقارب الناس الى بعضـهم ،واوليـاء الـ هـم
الذين يكونــون عند ال -تبارك وتعالى ، -والذين هم تحــت وليتــه ،
وفي حصنه وكهفه ،وهم الذين ل خوف عليهم ،ول هم يحزنون .
وفي هذا المجال يروى ان ابن الشعث جاء في ليلة من ليــالي شــهر
رمضان الى المام علــي ) عليه السلم ( وطلب منه ان يتصــالح مــع
معاوية ولكن المــام ) عليــه الســلم ( رفــض ،وحينئذ حــــــــذر ابــن
الشعث المام مــن ان هنــاك مــؤامرة لقتلــه فغضــب ) عليــه الســلم (
وقال " :أبالموت تهددني ؟! وال ان ابا تراب آنس بالموت من الطفل
الرضيع بثدي امه ،انا ل ابــالي أوقعــت علــى المــوت ام وقــع المــوت
عليّ " ،وهــذا هــو النمــوذج الســمى لوليــاء الـ ،والقلــب المطمئن
حقا ،فكل انسان مؤمن مستعد لستقبال ملك الموت ،ولــذلك نجــد ان
موتهم هو موت الرحمـة .قيل للصـادق ) عليـه الســلم ( :صــف لنـا
الموت ،قال ) عليه السلم ( " :للمؤمن كــأطيب ريــح يشــمه فينعــس
لطيبه وينقطع التعب واللم كله عنه " . ((1
)1
(
موسوعة بحار النوار ج 9ص 153
صــلةَ ن ال ّ ب َوُيِقيمُــو َ ن ِبــالَغْي ِ
نُيْؤِمُنــو َ
ن * اّلـِذي َى ِللُمّتِقيـ َ
ب ِفيِه ُهــد ً لَرْي ََ
ن { ) البقــرة ( 3-2 /هــذه الصفــــــات هــي نفسهــــــا َوِمّما َرَزْقَنــاُهْم ُيْنِفُقــو َ
ن* ح اْلُمْؤِمُنــو َ
الصفات المثبتة للمؤمنين في قوله -تعالى َ } : -قْد َأْفَل ـ َ
ن { ) المؤمنون . ( 2-1 / شُعـــــو َخا ِ
لِتِهْم َ صَ ن ُهْم ِفي َ اّلِذيـــ َ
وهنا يتبادر الى الذهان السؤال التالي :هل هناك فرق بين اليمان
والتقوى ام انهما يمثلن مفهوما واحدا ؟ وللجابــة علــى هــذا الســؤال
نقول ان حقيقة اليمان ،وحقيقة التقوى تمثلن حقيقة واحــدة ،ولكــن
المنظور في اليمان الجانب العقيدي ،وفي التقــوى الجــانب العملــي ،
فهما مفهومان متلزمان ل يمكن ان يوجد احدهما دون وجود الخر.
في مثل هذه الحقائق يجب ان لتتخذ الكلمات كموضوعة نفكر في
حروفها ،وفي ذات اللفاظ التي توجــد ضــمنها ،بــل يجــب ان نعتــبر
هذه الكلمات المختلفة كلها جسرا الى ذلك المعنى .وعلى سبيل المثال
؛ ماهو اليمان ،وكيف يبلغ النسان ذروته ؟ ،انه ليس حقيقة بسيطة
صــغيرة وجانبيــة ،فهــو يــدخل فــي كــل جــزيئة مــن جــزيئات حيــاة
النسان ،وفي كل مفردة من مفردات سلوك البشــر ،ولــذلك ليمكننــا
ان نعبر عن اليمان بكلمة ،بل يجــب ان يكــون التعــبير عــن اليمــان
ومحتواه والحقيقة التي يمثلها مختلفا متنوعا لكي يستقبل النســان هــذه
الحقيقة من كل الجوانب والبعاد ،ويتعرف عليها من كل الزوايا .
2ــ ان علينا عندما نستمع الى آية كريمة او حديث مـأثور او نجــد
في الحياة آية من آيات ال -تعالى -ان نبذل جهدا كبيرا للرتفاع الى
مستواها .فمن الصعب على النسان ان يفهم الحقائق الكــبرى ال مـن
خلل تحول فــي ذاتــه ،امــا اولئك الــذين يريــدون ان ينزلــوا مســتوى
الحقيقة الى مستواهم فهم مخطئون عادة لن الحقيقة مرتفعــة بــذاتها ،
وعلينا ان نرتفع اليها ل ان ننزلها الى مستوانا .
اليمان مغادرة الذات :
بعد هاتين المقدمتين نــدخل فــي صــلب الموضــوع ونتســاءل مــرة
اخرى ؛ ماهو اليمان ؟ للجواب على هذا السؤال نقول ؛ اليمــان هــو
ان يخرج النسان مــن ذاتــه وهــواه وشــهواته ومصــالحه الــى رحــاب
الحق ؛ اي ان يسلم النسان للحق طواعية ومن دون اكراه ،فاليمــان
ليس علما وليس عمل ،بل هو علم وعمل ،فعندما يلتقي العلم بالعمل
،وعندما تلتقي بصيرة النســان بسلــــوكه ،فــي لحظــة اللتقــاء هــذه
يحــدث مــا نســميه بــ )اليمــان( ،فالصــلة -مثل -مــن دون قناعــــة
لتمثل اليمان ،والقناعة من دون الصلة لتصدر عن اليمان ايضــا
.
وعلــى هذا فان لحظـة التلقـي بين بصيرة النسان ورؤيته وبيــن
حركته وســلوكه ،هــذه اللحظــة هـي الــتي نعـبر عنهــا بــ )اليمـان( ،
فاليمان هو تسليم النسان ل -عز وجــل -ولكـــــل الحقائــــق التــــي
يأمرنـا بهـــا ،فاليمــان ليمكـــن ان يتجــزأ لنــه -فــي الواقــع -حالــة
التسليم والذوبان والنقياد لن النسان ليملــك نفســين ول قلــبين حــتى
يؤمن هذا القلب بشيء ،ويؤمن القلب الخر بشيء آخر .
وليضـاح هذه الحقيقــة نضــرب المثــال التــالي :لنفــرض ان هنــاك
انســانا يبّعــض الــدين ،اي يأخــذ منــه مــا يوافــق مصــالحه واهــوائه
وشهواته ،فهل هذا النسان مؤمن حقا ام ل ؟ اننا لو تمعنا في ســلوكه
لوجدنا انه يؤمن بشيء واحد هــو المصــالح والشــهوات ،امــا الشــيء
الخر -وهو الدين -فانما يؤمن به تبعــا لتلــك المصــالح والشــهوات ،
خَذ ِإَلَه ـُه
ن اّت َ
ت َم ِ
فهو -اذن -يؤمن بنفسه كما يقول -تعالى َ } : -أَرَأْي َ
َهَواُه { ) الفرقــان ، ( 43 /فهو يعبد نفســه ،ومــن الخطــأ ان نقــول ان هــذا
النســـان مــؤمن بــال -عــز وجــل ، -لنــه ليــؤمن بالخــالق ال اذا
اقتضت مصالحه ،
فهو يؤمن بمصالحه هذه في الحقيقة .
تـــرى لماذا لم نستوعب بعد حقيقة التوحيد رغم آياتها الواضــحة ،
ودللتهــا البينــة ،اي ان بصــيرة التوحيــد ،واليمــان ،والعبوديــة
الخالصة ل -تعالى ، -هذه البصائر الساسية ليزال يكـــتنفها شيء
من الغموض في وعينا ،رغم انها رسالة القرآن واساسه ؟
الجواب :لن هناك حجابا نفسيا بيننا وبين هذه الحقائق ،فالنســان
عنــدما يريــد ان يفهــم هــذه الحقــائق يخشــى ان يفــرض عليــه اللــتزام
بأمور كثيرة ،والنسان يتهرب عادة مــن اللــتزام والمســؤولية لــذلك
تراه ليحاول ان يستمع الى القرآن بوعي وتدبر .فمــن طبــع النســان
التكبر والتعالي والتهــرب مــن المســؤولية ،وعلــى ســبيل المثــال فــانه
على الرغم من انه يشاهد الموات ينقلون الى مثواهم الخير فــي كــل
يوم تقريبا ،وقد يفقد من لم يكن يفكر بفقدانهم ،ال انــك مــع كــل ذلــك
تجده غافل بالنسبة الــى هــذه الحقيقــة ،فيبقــى يتصــور داخليــا انــه لــن
يموت ،فمع ان الموت حقيقة فاننا لنصدق بها .
وفــي ســورة آل عمـران يقـول -عــز وجــل -فــي هــذا المجـال } :
ن { ) آل عمران ، ( 132 /فاذا ما رأينــا حُمو َل َلَعّلُكْم ُتْر َ
سو َ
ل َوالّر ُ
طيُعوا ا َّ
َوَأ ِ
العذاب يحيط بمجتمع ما فان علينا ان نعلــم ان هــذا المجتمــع ل يــؤدي
فـــروض الطاعـــة لــ ورســـوله ،وقـــد جـــاءت كلمـــة ) الـــ ( قبـــل
) الرسول ( للدللة على ان طاعة الرسول هـي مـن طاعــة الـ ،وان
طاعة ال -عز وجل -ل تتحقق ال بطاعــة الرســول ،امــا العصــيان
ففيه النهاية والعاقبة السوء كما يشير الــى ذلــك -عــز مــن قــائل -فــي
حـَذُروا { ) المــائدة ، ( 92 /اي ل َوا ْســو َ طيُعوا الّر ُل َوَأ ِ
طيُعوا ا ّ قوله َ } :وأ ِ
انكم ان تركتم الطاعة ل والرسول فان هنــاك مصــائب وويلت علينــا
ان نحذرها .
سو َ
ل طيُعوا الّر ُ ل َوَأ ِطيُعوا ا َّ ل َأ ِ
وفي آية اخرى يقول -تعالى ُ } : -ق ْ
حّمْلُتْم { ) النور ، ( 54 /فالتحميل عَلْيُكم َما ُل َو َ
حّم َعَلْيِه َما ُ
َفِإن َتَوّلْوا فِإّنَما َ
هو المسؤولية الكبيرة التي يـصـعـــب عـلـــى النســـان اداؤهـــا ،وقــد
حمل ال -ســبحانه وتعــالى -رســوله مســؤولية ابلغ الرســالة الينــا ،
وهنا تنتهي مسؤوليته ) صلى ال عليه وآله ( لتبــدأ مســؤوليتنا نحــن ،
سِمْعَنا ُمَناِديًافاذا سمعنا الرسول ينادي فعلينا ان نستجيب َ } :رّبَنآ ِإّنَنا َ
ن َءاِمُنوا ِبَرّبُكْم َفَاَمّنا { ) آل عمران ، ( 193 /فدور النســان ن َأ ْ
ليَما ِ
ُيَناِدي ِل ِ
عاُكْم ِلَمــا ل ِإَذا َد َ
سو ِ ل َوِللّر ُ
جيُبوا ِّ سَت ِ
يتمثل في الستجابة للرسول } :ا ْ
كْم { ) النفال . ( 24 / حِيي ُ
ُي ْ
وفــي آية اخرى يصرح القرآن الكريم بان طاعة الرسول هي شرط
لقبول العمال الصالحة ،فاذا كان هناك شخص يصــلي ،ويصــوم ،
ويحج ،ويؤدي كافة العمال والواجبــات الثابتـــة ولكنــه ل يسـتجيب
للرسول في المسائل الحياتية التي امر بهـا كـأن يقـول " حسـبنا كتـاب
ســو ُ
ل ال " ،فان ال -جـل وعـل -يقــول بشــأنه َ } :وَمــآ َءاَتــاُكُم الّر ُ
عْنــُه َفــانَتُهوا { ) الحشـــر ، ( 7 /كمــا ان العمــــال خــُذوُه َوَمــا َنَهــاُكْم ََف ُ
الصالحــــة الــتي قــام بهــا ســوف تحبــط وتــذهب ادراج الريـــــاح } :
منُثورًا { ) الفرقان . ( 23 / جَعْلَناُه َهَبآًء ّ
ل َف َ
عَم ٍ
ن َ عِمُلوا ِم ْ َوَقِدْمَنآ ِإَلى َما َ
وفي سورة محمد ) صلى ال عليه وآله ( يقول -تعالى َ } : -يآ َأّيَها
م { ) محمــد /عَماَلُك ْ
طُلوا َأ ْ
ل َول ُتْب ِ
سو َ
طيُعوا الّر ُ
ل َوَأ ِ
طيُعوا ا َّ
ن َءاَمُنوا َأ ِ
اّلِذي َ
( 33؛ اي ان مــن ل يطيــع ال ـ والرســول ســواء فــي المتغيــرات مــن
الشــريعة او الثــوابت ،او الوامــر التبليغيــة فــان اعمــاله كلهــا ســوف
تذهب سدى .
ان الرتباط بين طاعة ال وطاعة الرســول هــو ارتبــاط عضــوي ،
فمشكلة البشر في الساس ل تكمن في العلقــة مــع الـ فــي الظــاهر ،
فمن من الناس ل يعترف بوجود ال ؟ وحتـــى الكفار حينما تســألهم :
من خلق السماوات والرض ؟ يقولــون :خلقهـــن العزيــز الحكيـــــم ،
فليسـت هنــــاك مشكلـــة فـي العـتراف بوجـود الـ ،ولكـن المشـكلة
الحقيقيــة هــي ان النـــــاس ل يريــدون هــذا اليمــان متمثل فــي طاعــة
حــدًا َنّتِبُعـُه { ) القمــر ( 24 /وهــذا هــو
شرًا ِمّنــا َوا ِ
الرسول فيقولون َ } :أَب َ
المتحان الصعب ،وقد مر ابليس من قبل بهذا المتحان ولكنــه ســقط
فيه ،فأبليس قـال لرب العــزة ،اعفــني مــن السجود لدم لحظــتين ،
وسأسجد لك الفي عام ،ولكن ال -تعالى -قال :لحاجة لي بالسجود
،انا اريد طاعة .
ضـُهْم
ت َبْع ُن َواْلُمْؤِمَنـا ُثم يستأنف -عز وجل -قائل َ } :واْلُمْؤِمُنو َ
لَةصــ َ
ن ال ّ ن اْلُمْنَكِر َوُيِقيُمو َ
عِن َ ف َوَيْنَهْو َ
ن ِباْلَمْعُرو ِ
ض َيْأُمُرو ََأوِلَيآُء َبْع ٍ
لـ { ) التوبــة /
حُمُهْم ا ّ سـَيْر َ
ك َ ســوَلُه ُاْوَلِئ َ
لـ َوَر ُ
نا ّ
طيُعو َ ن الّزَكاَة َوُي ِ
َوُيْؤُتو َ
، ( 71فــالمؤمنون يتــولى بعضــهم بعضــا ،ويحــب احــدهم الخــر ،
ويتبادلون التأييد والنصرة ،وهذه الولية قائمة على قيم هي المذكورة
في الية السابقة ،ومن هذه الية نستنتج ان طاعة الرسول )ص( هي
محور بناء المجتمع السلمي .
ولذلك يقول الحديث الشــريف " :ل طاعــة لمخلــوق فـي معصــية
الخــالق " ،والقــرآن الكريــم يشــير الــى هــذه الحقيقــة فــي قــوله عــن
ســوَلُه {
لـ َوَر ُ ن ا َّطْعـ َ
ن الّزَكــاَة َوَأ ِ
لَة َوَءاِتيـ َ
صـ َ
ن ال ّ
الـنـســـاء َ } :وَأِقْمـ َ
) الحزاب ، ( 33 /وقد قلت فيما سبق ان اهــم محــورين لثــوابت الشــريعة
الســلمية همــا :الصــلة والزكــاة ،وان اهــم محــور للمتغيــرات هــو
طاعة ال والرسول .
2ــ الطاعة ؛ فــاذا اســتطعنا ان نوجــد فــي داخلنــا روح الطاعــة ،
والستجابة ،وننتزع من انفسنا الكبر والغرور والنانية والذاتية فاننــا
نكون بذلك قد بدأنا رحلة الصعود والنمو ،رحلة التخلص من الكبر ،
والعجب ،والتفاخر بالمظاهر المادية ،فان كــان لــدينا فخــر فلنــؤخره
الى يوم الحساب عندما ترجح اعمالنا الصالحة على السيئة .
طيُعوا
سَمُعوا َوَأ ِ
اما المحور الثاني فيتمثل في قوله -تعالى َ } : -وا ْ
{ ،وربما يقول احدنا متذرعا في هذا المجال انه لم يقرأ ،ولم يفهــم ،
ولم يدر ما قاله ال ،وما تحــدث بــه النــبي ) صــلى الـ عليــه وآلــه (،
وكيف خطط الســلم ،وبـــرمج القــرآن .وفــي هــذه الحالــة علينــا ان
نتعلم ،ونتفقه ،وال فلماذا منحنا الـ -عــز وجــل -نعمـة البصــار ،
والسماع ،والفهم ،والدراك المتمثلين في العقــل ؟ ،لقــد اعطاهـا لنـا
لنتعلم .
خيرًا طيُعوا َوَأنِفُقوا َ ثم يستأنف السياق القرآني الكريم قائــــل َ } :وَأ ِ
سُكْم { ) التغــابن ( 16 /واذا ما قمنــا بهــذا العمــل ،واســتطعنا ان نتقــي لنُف ِ
َ
ال ،ونسمـع ،ونطيع ،وننفق فستكون النتيجــة هــي مــا يشــير اليــه -
ن { ) التغــابن
حو َ ك ُهُم اْلُمْفِل ُسِه َفُأْوَلِئ َ
ح َنْف ِ
شّق ُ
تعالى -في قوله َ } :وَمن ُيو َ
( 16 /؛ اي ستكون النتيجـة ان نخــرج مـن شـح ذاتنـا ،هـذه الشــرنقة
المحيطة بنا ،لننطلق الى رحاب الفلح الذي يمثل ذروة الســعادة فــي
الدنيا والخرة .
ومع ذلك فان تلك النظريات العلمية تبقى مكملة للنظرية الدينية ،او
بعبارة اخرى ؛ الجناح الخــر الــذي يســتطيع النســان بــه وبالــدين ان
يحلق ويسمو في آفاق المعرفة .
ومع كل ذلك فانه ما يزال هناك لغز غامض يشكل حجر عثرة امام
كل نظرية علمية تبحث في هــذا المضــمار ؛ هــو ســر تكــون الحيــاة ،
ونشــأتها الولــى ،وفــي هــذا المجــال اســتطاع العلمــاء مــن خلل
اختباراتهم وتحليلتهم وضع نظريات تفسر نشأة الرض ،واصلها ،
وكيف انها انفصلت عـن امهـا الشــمس ،ثــم كـانت الــزلزل الهائلـة ،
والتقلبات الحرارية اسبابا لتكون الجبـال والبحـار والسـهول ومختلـف
التضاريس الرضية .
ان المجهولت الكثيرة مازالت تلف آفاق العلم الواسعة وخاصة في
مجال الطب ،والحياء ،وعلــى ســبيل المثــال ل الحصــر فــان علمــاء
الطب والبيولوجيــا يقفــون اليــوم حيــارى امـام معرفــة اســرار مــرض
السرطان او المسمى ايضا بمرض فساد الخلية ؛ فما هي اســباب هــذا
الفساد ،ثم كيف تنتقل حالة الفساد هذه من خلية الى اخرى فتنتشر في
العضو ،او النســيج المصــاب ؟ ان هــذا هــو مــال يعرفــونه ،واذا مــا
قالوا شيئا فهو مجرد حدس وتخمين .
وهكذا فقد خلق النسان متكامل الخلقة ،وفي احســن تقــويم ،ومنــذ
تلك اللحظة خوطب ان لبد لك ايها النسان من ان تبلغ درجة الكمــال
بعد ان اعطيت الكمــال الجســمي ،وان تتعلــم وتفهــم وتبصــر وتــدرك
وتسمو بعقلك لكي تبلغ الكمال ما امكنك ،كمــا يشير الـى ذلك قــوله -
عّل ـَم ِبــاْلَقَلِم { ) العلــق . ( 4-3 /
لْك ـَرُم * اّل ـِذي َ كا َ تعــالى }: -اْق ـَرْأ َوَرّب ـ َ
فالنســان ليــس كــالحيوان الــذي ل حاجــة لــه الــى القــراءة والكتابــة
والتعلم ،فكل ما يملكه الحيوان من معرفة انما هو ذاتي فطــري ،فــي
حين ان النسان عليه ان يقرأ ويكتب ويتابع ويبحث لكي يتعلم ويفهم .
فالمعرفــــة والعلــــم ليــس امــرا فطريــا وغريزيــا لــدى النســان ،بــل
يتحصل بـ ) القلم ( الذي يشير اليه -عز وجـل -في قـولـــه } :اّلـِذي
عَلْم { ) العلق . ( 5-4/
ن َما َلْم َي ْ
سا َ
لن َ عّلَم ا ِ
عّلَم ِباْلَقَلِم * َ
َ
ومن عجائب دماغ النسان رغـم حجمـه الصــغير انـه يتسـع لمـا ل
نهايـة لــه مـن العلــم والمعلومـات ،ومهمـا عّمـر النسـان ،وبلـغ مـن
درجات العلــم والمعرفــة فــان دمــاغه ل يكــون قــد اســتنفد طاقــاته فــي
تحصيل العلم والمعرفة ،وهذه الحقيقة يشـهد بهـا العلمـاء الكبـار فهـم
يؤكدون ان النسان حين يموت لم يكن قد استثمر مــن طاقــاته العقليــة
سوى واحد بالمائة فقط .
وهكذا فــان الحيــاة انمــا هــي لمــن يســتطيع ان ينمــي ويطــور نفســه
وينهض بوضعه الى ما هو افضــل ،ومــن هنـا ل يجــوز لنـا ان نلعــن
الزمن ،ولنلعن بدل من ذلك جمودنا وتقصــيرنا والــروح اللمســؤولة
فينا .فكل منا مسؤول عن نفســه ،فـاذا طـّور احــدنا نفسـه فـان الغيــر
سوف ل يســتطيع الســيطرة عليــه .فلغــة التحــدي والســتجابة للزمــن
وتحولته هي اللغة التي يجب ان نتحدث ونتسم بها ،وهي اللغة الــتي
يجب ان يفهمها كل مسلم في امتنا ،ذلك لن ال ـ -جــل وعل -حيــن
خلــق الــدنيا ،واوجــد الحيــاة ،جعــل لحركتهــا وســيرها سـّنة التطــور
والتكامل ،فاذا ما واكــب النســان هــذه المســيرة فــي الحيــاة فهــذا هــو
المطلــوب ،ولكنــه لــو شــاء ان يبقــى مكتــوف اليــــدي ازاء التطــور
والتحــول نــحو الفضل فلبد ان يصبح ضحية اولئك الذين
سبقوا الزمن ليتسلطوا على مقدراته وامكانياته .
سا َ
ن لن َخَلْقَنا ا ِ
ثم يستمر السياق الكريم ليؤكد الحقيقة السابقة َ } :لَقـْد َ
ِفي َكَبـٍد { ) البلــد ( 4 /فالنســان محــاط بالصــعاب والمعانــاة والتحــديات
واللم الكثيرة ،فلقد خلقه ال واحاطه بهــذه الظــروف ليظهــر حقيقــة
معــدنه ،وليجعــل منــه بطل فــي ســاحة الصــراع ،ولــذلك كــان لبــد
للنسان مـن ان يجهــد عقلـــه ،ويوســع آفــاق فكــره ،ويبعــث الحركــة
المســتمرة ،والنشــاط فــي عقلــه ،بــل ويشــحن بالحركــة والهمــة كــل
وجوده وكيانه .
وبعد ذلــك يقــول -عــز مــن قــائل -مؤنبــا ،ومــذكرا ببعــض النعــم
شَفَتْي ِ
ن سانًا َو َ ن * وَِل َ عْيَنْي ِ
جَعل َلُه َ
العظيمة التي وهبها للنسان َ } :أَلْم َن ْ
ن { ) البلــد ( 10-8 /فلماذا اعطــي النســان العينــان ، جَدْيــ ِ
* َوَهَدْيَنــاُه الّن ْ
ألرؤية الطريق المستقيم أم السقوط في الهاوية ؟ وكذلك الحال بالنسبة
الى اللسان والشفتين وفوق كل ذلك العقل الذي خص بنعمــة الختيــار
والحرية ،ترى من اجــل اي شــيء اعطــي النســان كــل هــذه النعــم ،
أليس من اجل ان يقتحم ويخوض غمار هذه الحيــاة ؟ كما يشــير الـــى
عَقَبـُة {ك َمـا اْل َ حَم اْلَعَقَبَة * َوَمـآ َأْدَرا َ
ل اْقَت َ ذلك قوله -جل شأنه َ } : -ف َ
) البلد . ( 12- 11 /
والقرآن في هذه الية يضرب مثل يستثير بــه همــة النســان ؛ فهــو
عندما يريد ان يتسلق جبل فلبد له من اقتحام العقبــات الــتي تعــترض
طريقه ،بأن يجتهد ويستجمع قواه ويهيء نفسه لهذا القتحام ،وكذلك
الحال بالنسبة الى النسان الــذي يريــد ان يحيــى فــي هــذه الــدنيا حيــاة
اليمان ،فمثل هذه الرادة ليست كلمة يرددها اللسان بــل هــي اعتقــاد
في القلب يتجسد عمل وبذل وعطاء .
سـَغَبٍة * طَعــاٌم ِفـي َيـْوٍم ِذي َم ْثم ينتقل السياق الكريم قـائل َ } :أْو ِإ ْ
س ـِكينًا َذا َمْتَرَب ـٍة { ) البلــد ( 16-14 /وهــذه صــورة َيِنيم ـًا َذا َمْقَرَب ـٍة * َأْو ِم ْ
ومجالت اخرى يتقرب بهــا النســان الــى ربــه ،وينـال بهـا رضــاه ،
ولكن السعي في الخير والخيرات ل ينتهــي الى هــذا الحد بـــل يجــب
ن اّلـِذي َ
ن ن ِمـ َ
الستمرار فيه كمــا يشعر بذلك السياق التــالي ُ } :ثـّم َكــا َ
ة { ) البلد ( 17 /
حَم ِ
صْوا ِباْلَمْر َ
صْبِر َوَتَوا َ
صْوا ِبال ّ
َءاَمُنوا َوَتَوا َ
ان الصبــــر والتواصــــي بـــه يعتبـــــران مــن القضـايـــا الـبـالـغـــة
الهمية ،والبعض -للسف -يقوم من حيث يشعر او ل يشــعر اثنــاء
عمله وحركته الجهادية بنشر الــروح الســلبية المثبطــة فــي المجتمــع ،
والقرآن هنا ينهى عن هذه الحالة من خلل المر بالتواصي بالصبر ،
ولذلك ينبغي علــى النســان المجاهــد ان يوصــي اخــوانه بالصــبر فــي
احلك الظروف ،والى اخر خطوة في المسـيرة الجهاديـة ،ويشــجعهم
على الثبات والستقامة .
ثــم بعـد الصبــر تأتــي المرحمــة والتواصــي بهـا ؛ اي التواصــي
بالتراحم والمـودة
بين الناس ،والعطاء واليثار من اجلهم فــي ايــام الســلم .ثــم يواصــل
السياق مسيره ليبين درجــة هؤلء الذيـن يعملــون بــهذه المجمــــوعة
مـن الوصــايا ،ويجــسدونها في واقعهــم المعــاش فيقــول -تعالى -
ة { )البلد ( 18 /
ب اْلَمْيَمَنــ ِ
حا ُ
صَك َأ ْ
ُ } :أْوَلِئ َ
وفي الحقيقــة فان حديث اهل جهنم حديث طويل عريض كما يفصله
القـرآن في الكثـيـر من ســوره وآيـاته ،ومــن تلــك الصــور الـتي يـألم
النسان لسماعها هي انهـم ينــادون خــازن النار مالكــــا فيقولــون } :
ك { ) الزخــرف ( 77 /فل يجيبهــم ويبقــون علـــى عَلْيَنا َرّبــ َض َك ِلَيْق َِيــاَماِل ُ
هذا الحال سبعين الف ســنة ،وبعــد كــل هــــذه الفــترة الطويلــــة يــأتي
ن { ) الزخرف . ( 77 / ل ِإّنُكم ّماِكُثـــو َ
الجواب من مالك فيقول َ } :قا َ
ثــم يطلبــون مـن خــازن النــار ان يــأذن لهــم بالبكـاء علــى انفســهم ،
فيستأذن مالك ربه لهم ،فيأذن لهم الـ ،فيشــرعون بالبكــاء ،ويبقــون
على هذه الحالة آلفا اخرى من السنين ،ثم يفصـــل كــل واحــد منهــم
عن الخر ،ويوضــع فــي غرفــة مــن غــرف جهنــم ،وتوصــد عليهــم
البواب ،فل يتكلمون فيما بينهم ،ول يكلمون مالكا ،ول احـــدا مــــن
الخـلـــق ،فينساهم النـــاس ،وينساهم الخالق ،وهذا هو المراد من
قوله -تعالى -في الية السابقة :
مــن المعلــوم انــه ل ارادة فــــوق ارادة الـ -تقدســت اســـماؤه ، -
ول يمكن ليــة حادثه ان توقف مشيئته المطلقـــــة فـي الكـون ،وقــــد
اقتضــت ارادته ان يظهــر ديــن الحــق علــى الديــــن كــــله ،ولمــــا
كانت المــور لتجــــري ال وفـــــق اسبابهــــــا فقــــد شــــاءت الرادة
اللـهيـــــة ان تتمثـــــل هـــذه السبـــــــاب فـــــي المؤمنيـــــن الــذيـــــن
سيتحقــق -بــإذن ال -علــى ايديهــم ظهــور الديــن الــحــق .
معرفة ال :
ومــن المعلــوم ان هــذا المســتوى مــن الرجــاء والخشــية مــن رب
العالمين انما هو ناجم من معرفــة الـ ،ونحــن عنــدما ل نتحســس فــي
انفسنا خشية الباري -تعالى -فلننا لم نؤت معرفته ،ولــم نصــل فــي
معرفتنا به الى أدنى حدودها ،اما العارفون بــال ،الــذين تمكنــوا مــن
الوصول الى ذلك النور البهي ،فانهم ل يتكلفون الخشية لنها تصــبح
جزء من ذاتهم .
ومن يعرف جلل الـ ،وعظمتــه ،وقــدرته ،واســماءه الحســنى ،
ويتصل قلبه بنوره ،فــانه ل يســعه ال ان يــذوب فــي العبــادة ذوبانــا ،
فيشتاق الى اداء الصلة اشــتياق يعقــوب الـى يوســف ،ذلــك لن قلبــه
المليء بمعرفة ال -جل جلله -ل يدعه يسكن ويركن الى هذه الدنيا
الدنية ،وبناء على ذلك فان تهجده في الليل ،
وصومه عــن ملــذات الــدنيا ،وزهــده ،ورغبتــه فــي الخــر كــل ذلــك
يصبح جزء ل يتجزأ من ذاته .
وهذه الحالة تنسجم مع طبيعة المعرفة ،وبالتالي فانها تمثل سنة ال
في معرفة النسان بربه ،ولذلك نرى الية الكريمة تصــف المــؤمنين
بالشفاق .
اليمان والتوحيد :
ن{.
ُيؤِْمُنــو َ ت َرّبِهمْ
ن ُهم ِبَاَيا ِ
ثم يقول -عز من قائل َ } : -واّلِذي َ
فاذا ابصروا آية من آيات ال فانهم ل يمــرون عليها مرور البسطاء
،ول يعرضـــون عنهــا اعـــراض الجـــاهلين ،بـــل يتعمقـــون فيهـــا ،
وينظرون من خللها الى وجه ال الكريم .
وتوحيد ال -سبحانه -عند هؤلء المؤمنين ل يعني مجرد المتناع
عن السجود للصنام ،بل ان له آفاقا اخرى .فهم ل يحبــون احــدا إل
في ال ،ول يبغضون آخر إل في الـ .وهــذه المعادلــة تتســع عنــدهم
لتشــمل البتعــاد عــن حــالت الطاعــة ،والخضــوع للخريــن ،حــتى
تصل الى حد ابتعادهم عن مختلــف انــواع الضــغوط والشــهوات الــتي
تعترضهم في حياتهم ،وهو ما تشير اليه اليــة القرآنيـــة القائلــــة } :
شِرُكون { ،وقد ورد في هذا المجــال عــن ابــي ل ُي ْ
ن ُهم ِبَرّبِهْم َ
َواّلِذيــ َ
العباس قال " :سألت أبا عبد ال ) عليه السلم ( عن أدنــى مــا يكــون
به النسان مشركا فقال :من ابتدع رأيا فأحب عليه او أبغض عليه "
.
وقــد يتصــور النســان ان القــوة هــي الهــدف الــذي ينشـــده ،او ان
الشهرة هي ضالتـــه ،حتى يكتشــف فــي نهايــة المطــاف انهــا ضــللة
ن الحــب لــه مــن دون تلــك وليست ضالة ،حــتى يعــرف ربــه ،ويكـــ ّ
المظــاهر الماديــة ،وحينئذ يمل هــذا الحــب قلبــه ،ونفســــه ،وكــــل
الفــراغــات التي يعــانــي منها حتــــى ل يجــد فــي نفســــه ذرة مـــــن
الفــراغ .
)1
(
بحار النوار ج 12ص 380
امــا كيف يحب النســان ربه ،فلبــد مــن ان يــذكره ذكــرا كــثيرا
لكـي يتعلق قلبه بــه ،وحتــــى يرفــع عــن قلبــه هــذا غشــاوة الشــهوات
والغـفـلـة وزيـنـة الحـيـاة الدنـيـــا ،وحـيـنـئـــذ سـيـفـيـــض ال ـ -عـــز
وجــل -على قلبــه من حبـه ما يشـاء ،فاذا كان النســان اعمــى فهــل
ينفعــــه النــور ،واذا كــان اصــم فهــل يصـــل اليــه النـــداء اللهــي ،
فالحجــــاب ل يــدع النســــان يــــرى الـ -تعــالى -واذا مـا زال هــذا
الحجــاب فان كـل شيء سيتضح لديــه ،وسيرى الحقيقــة كما هـي ،
ويوقــن بهــا وكأنــه يلمسها بيديــه ،كمــا قــال المام علــي ) عليــه
الســلم ( " :لو كشف لـي الغطــاء ما ازددت يقينا " ،وكمــــا قــــال
) عليه الســلم ( عندما سألــــه سائــــل :هــــل رأيـــت ربـــك ؟ فـقـــال
) عليــــه الســلم ( :مــــا كنــت لعـبـــد ربـــا لـــم أره ،فقــــال :هــــل
رأيتــــه بعـيـنـيـــك ؟ فأجـــاب )عليـــه الســلم ( :ويحــك ل تدركــــه
البصــار وهــو يــدرك البصــار ،ولكــن رآه المؤمنــون ببصيــرة
اليـمــان والقلــوب .
وعندمــا يخلد النسان المؤمن الى النوم ،يفكر كيف استولت عليــه
حالــة اللوعـــي ،وتراخــت اعصابــــه ،ونــال قســطا مــن الراحــة ،
وعندما ينهض يــردد قائـــل :ســبحان الـ ،فقــد كــان مــن الممكــن ان
تسـلب منـه الـروح الـى البـد لن النــــوم هـو المـوت الصـغر ،انـه
ينهــض فيتذكــر الحيــاة ،ويتذكــر انــه مـــا يــــزال باقيــــا ،ويتــذكر
في نفس الوقت ان ربه هو الذي احيــاه ،وهو الذي ســوف يميتــه .
وبهذا السلوب يزداد حبا ل ،وبتعبير اخر ؛ يــزداد معرفــة بــال ،
فهو عندما يعرف ربه يزداد حبا له .
ال : آثار حب
وهنا نجيب عن التساؤل الثاني :عندما تجد ربك ،وتحبه ،وتصبح
اشد حبا له فماذا سيحدث في حياتك ،ومــا هــي الثــار الــتي ســيتركها
هذا الحب عليك ؟
لشك ان مــن ضــمن هــذه الثــار ان الراحــة النفســية ،والطمئنــان
الروحي سيغمرانك اثناء الصلة ،فتصبح بالنسبة اليك حضــورا عنــد
رب العالمين ،وعند حبيبـك وانيسـك ،فـالقلب يناجـــيه -تعالــــى ، -
واللــسان يلــهج بذكره ،والنفس تنبض في اعمق اعماقك بالتكلم معــه
-جل وعل .-
عندما ذهب موسى ) عليه السلم ( الى الشجرة ليأخذ منهــا النــار ،
اندلعت بأسم ال -سبحانه وتعالى -فقال له -عز من قائـل َ } : -وَمــا
سى { ) طه ، ( 17 /وهنا نسي موسى زوجته التي كانت ك َياُمو َ
ك ِبَيِميِن َ
ِتْل َ
تعــاني آلم المخــاض فـــي الــبر ،فــي حالــة الضــياع ،ونســي نفســه
ي َأَتَوّك ـُؤا
صا َ
ع َ
ي َ
ل ِه َ
وماضيه ،ومستقبله ،ووقف ليحدث ربه َ } :قا َ
خَرى { ) طــه ، ( 18 /فبدأ ب ُا ْ
ي ِفيَها َمَاِر ُ
غَنِمي َوِل َ
عَلى َ
ش ِبَها َعَلْيَها َوَأُه ّ
َ
يحدث ربه ملتذا بهذا الحديث .
وكان رسول الـ ) صــلى الـ عليــه وآلــه ( يقــف للصــلة الوقفــات
الطويلة حتى يقــول اصحابه انه ل يصلـي ،ثم يركع ويطيل الركــوع
حتى يقول مـن حـوله انـه ل يركـــع ...فكـان قلبـه ) صــلى الـ عليـه
وآله ( يلتهب حبا ل ،ويشتعل ايمانا به -ان صح التعبير . -
ل ِقَيامــًان ا َّ ن َيْذُكُرو َ
ولذلك نــرى ان المؤمنيـن الحقيقيين هم }:اّلِذي َ
ض َرّبَنا َما لْر ِ ت َوا َ
سماَوا ِ ق ال ّ
خْل ِ
ن ِفي َ جُنوِبِهْم َوَيَتَفّكُرو َ
عَلى ُ َوُقُعودًا َو َ
ر { ) آل عمران . ( 191 / ب الّنا ِعَذا َ
ك َفِقَنا َ
حاَن َسْب َل ُطًخَلْقتَ هَذا َبا َِ
لقد كانت افضل الساعات عند المام الحسين ) عليــه الســلم ( تلــك
التي يلتقي فيها ربه اثناء الصــلة ،ورغــم ان جــراح الــدنيا وهمومهــا
كانت تنزف في قلبه ولكنه كان يردد قائل " :بسم ال ،وبــال ،وفــي
سبيل ال " ،فنهاية الشوق ،ونهاية المنيــات والحلم لــدى النســان
المؤمن ان يلتقي بربه ،فهو آنس بالموت من الطفل بثدي امه .
والمام علي ) عليه السلم ( انفلق رأسه ،وتفجر الدم منه على اثر
الضربة المسمومة التي وجههــا اليه عــدو ال ،ومع ذلك نسي آلمــه
هذه وهتف قائل " :فــزت ورب الكعبــة " .
ان هذا هـو الحـب الحقيقـــي للـــه -عـــز وجــل ، -فلمـاذا نخشـى
المحن ،والمصائب ،واللم ؟ لنكن كما كان يوسف ) عليه الســلم (
حـ ّ
ب ن َأ َ جُ سـ ْب ال ّضل السجـن على مـعـصـيـة ال قـائـل َ } :ر ّ عندما ف ّ
عوَنِنـي ِإَلْيــِه { ) يوسف . ( 33 /
ي ِمّما َيْد ُ
ِإَل ّ
والمام السجاد ) عليه السلم ( كـان يقــف فـي الصــلة فل يتحــرك
ويناجي ربه قائل " :الهي من ذا الذي ذاق حلوة مناجاتك فرام منــك
بدل" .
النعيم : الجسر الى
النسان المؤمن يحب كل شيء اذا كان فــي ســبيل الـ -تعــالى ، -
وحـتى النـار فانهـا بالنسـبة اليـه جنـة اذا كـان فيهـا مرضـاة الخـالق ،
وبــالطبع فــانه -عــز وجــل -ســيدخلهم جنــانه الفســيحة حيــث النعــم
البدية ،فلنبذل الجهد في تزكية انفسنا من اجــل الوصــول الــى الجنــة
التي يعطى فيها النسان المــؤمن اربعيــن الــف مدينــة كــل مدينــة فيهــا
اربعون الف قصر ،وكل قصر يختلف عن الخــر ،وفــي كــل واحــد
اربعون الــف غرفــة ،وفــي كــل غرفــة اربعــون الــف ســرير ومـائدة
يستطيع صاحبها ان يستضيف عليها اهل الجنة جميعا .
وربما كانت هذه الرقام هــي ارقــام الــدنيا ،فنحــن ل نســتطيع ان
نستوعب ارقـام الخلـود الـتي ل نهايـة لهـا ،ولكـن يكفـي ان اقـول ان
النسان المؤمن عندما يريد ان ينتقل من مملكته الواسعة في الجنة الى
ســائر الممالــك فــان هنــاك عشــرات الملييــن مــن الخــدم والملئكــة ،
والحور العين ،والولد المخلدين يقومون بخدمته فــي مركبــه حيثمــا
يتحرك ..
وقــد روي فــي هــذا المجــال ان المــؤمنين يتحركــون كلهــم فــي ليــالي
الجمعة كل واحد من مدينته في الجنة فيتوجهــون فــي البــدء الــى مقــر
رسول ال ) صلى ال عليه وآله ( لزيارته ،ثم يذهبون الــى العــــرش
فيعطيهم ال -عز وجل -نعما جديدة كل ليلة جمعة ،ويزيدهم معرفة
،ورضا به ،واطمئنانا في انفسهم ،وهذا يعني انه اعظم نعمة يتلقاها
المؤمنون في يوم القيامــة هــي زيــارة عــرش الخــالق ،لن الصــلة ،
والصـوم ،والمناجات وسائر العبادات كانت احب شيء الــى نفوســهم
في الدنيا .
وهذا الحب هو الذي يدفع النسان الى ان يعمل فــي ســبيل مرضــاة
الخالق ،وان يهون على نفســه كــل مصــيبة ومحنـة مـادامت فـي ذات
محبـــوبه ،ومـــادامت مـــن شـــأنها ان تقربـــه اليـــه ،وتجعلـــه يفـــوز
برضــوانه ،ونعيمــه ،كمــا ان هــذا الحــب هــو الــذي يجعــل النســان
المؤمن متميزا عن الخرين ،مجتبى من قبل ال -تعالى شــأنه -مــن
بيــن الملييــن مــن البشــر ،وهــذه درجــة عظيمــة ل يمكــن ان يبلغهــا
النسان ال من خلل تنمية خصلة الحب اللهي في ذاته .
لما كان القرآن الكريم هو التجلي العظم للنــور اللهــي فــي الحيــاة
البشرية فان مستوى استيعابه يختلف من انسان لخر ،وهــو يتناســب
مــع عقليــة النســان ،ونضــجه الفكــري ،ولــذلك فــان طاقــة النســان
العقلية ،ومستواه الفكري ،وقوة ادراكه كل ذلك هو الذي يحدد مــدى
اللهي . استقباله وتلقيه للنور
وفي سورة ) الجاثية ( المباركة التي يقــول -تعــالى -فــي اليــات
╥و ِ
╥ ┌ ِ
ف ╟ط· ٍ
عـــٍغ ╟طـــطِ ٍ°
╚ ِ
╩╟ ِ
▀ ٍ
ط ╟ط· ِ
╥و ُ } ═ع * ٍ
╩غ ِ الولــى منهـــــا :
غ*
عِغو ٍ
ع─· ِ
طط· ُ
╩ ِ
╟ٍو╟ ٌ
╓ط ٍ ╟╟µط ٍ
├╤· ِ ع╟ٍٍ ╩ِ µ
▌و ╟ط╙ٍٍ °
┼غٍِ °
ع* ِ
▀و ِ
═ ِ
╟ط· ٍ
غٍ µ
غ* ع ُوِ µ
▐ُ ▐ٌ ·µ
ط ٍ
╩ ِ
┴╟ٍو╟ ً
╔ ٍ
╧┬╚ٌٍ °
عـــغ ٍ
╚╦ُِ ° ▀ع· ٍٍ µ
ع╟ ٍو ُ ▐ ُ
╬ط· ِ ٍِ µ
▌و ٍ
عــــــــٍغ
ف ِ
ط ╟طــــــــطٍُ °
╥ٍ
├غ ٍ ╤ ٍٍ µ
ع┬ ٍ ط ٍ╟µطــــــــغٍٍ °
ف╟ ِ ▌ ╟طٍ°و· ِ
╟ ِ ٍِ ·╬╟µ
╩ط ٍ
┴╟ٍو╟ ُ
╩ ╩ط·▀ٍ ٍ طٍ µ
غ* ِ ▐ُ ▐ٌ ·µ
ع ٍو┌· ِ ط ً
╩ ِ
┴╟ٍو╟ ً
═ ٍ
▌ ╟ط╤ٍِ°و╟ ِ
╤و ِ ٍٍ µ
╩╒· ِ
╧ ╟طـــطٍِ °
ف ╚┌· ٍ
╦ ٍ
╧و ٌ
═ ِ
├وٍِ °
╚ ٍ
▌ ِ
═▐ٍِ °
╚╟ط· ٍ
▀ ِ
طـــو· ٍ
┌ٍ طٍ µ
ف╟ ٍ غ╩· ُ
ف ٍ
╟طـــطٍِ °
عُغٍ µ
غ { ) الجاثية . ( 6-1 / ف ُو─· ِ
╩ ِ ٍٍ µ
┴╟ٍو╟ ِ
في هذه اليات الكريمة يؤكــد الخــالق المــرة تلــو الخــرى علــى ان
اليات اللهية ليس بمقدور الجميع استيعابها وفهمها ،لن الذي يغلــق
نوافــذ بيتــه ،ويســدل الســتائر ل يمكنــه الستضــاءة بنــور الشــمس ؛
فاليات -اذن -ليسـت لكـل النـاس بـل هـي للمـؤمنين الـواعين الـذين
بلغوا مستوى الدراك والفهم ،فارتقوا به سلم اليمان والتقوى .
ولتقريب هذه الحقيقة الى الذهن نقول ان الحكمة هــي بمثابــة العيــن
الباصرة ،والعزة هي القدم ،وعند السعي والنشاط نحتاج الى الثنين
معا ؛ أي الى قدم نركض بها ،وعين نبصر بها الطريــق ،ونحــن لــو
استعرضنا الحياة وما يحيط بها لوجدناها قائمة على هاتين الصفتين.
ومـــن ذلك نستنتج اننا بحاجة الى امرين مهمين هما ؛ اليمان وهو
الخذ بزمام
النفــس والســيطرة علــى شــهواتها ،واليقيــن وهــو النســجام والعيــش
باســتقرار وطمأنينــة مــع الحقــائق والتبصــر بهــا والنشــداد اليهــا .
والنســان عنــدما يخضــع نفســه ويســيرها وفــق العقــل فــانه سيصــبح
مؤمنا ،وبعد هذه المرحلة يتحرك في المسار التكــاملي نحــو الحقــائق
الرفيعة ،وحين يقترب منها يكون قد بلغ درجة اليقين .
علــى ان هذا اليقين وحــده ل يكفـي ،وهذا مــا نــراه فــي اســتمرار
▌ ╟طٍ°و· ِ
ط ╟ ِ ╩ط ٍالســياق القرآنـي وانتقــاله الــى عــرض جديــد ِ ·╬╟µٍ} :
╤╥· ٌ
▐ عـــــغ ِ
ع▄▄┬┴ِ ِ عـــــٍغ ╟ط╙ٍٍ °
ف ِ
ط ╟طـــــطٍُ °╥ٍ├غ ٍع┬ ٍ ╤ ٍٍ µ
ف╟ ٍِ╟µطـــــغٍٍ °
╤و▌ِ ╟ط╤ٍِ°و╟ ِ
═ ╩╒· ِ ف▄▄╟ ٍٍ µ ╩ ٍ عِ ·µ ╧ ٍ ╚┌· ٍ╓ ٍ╟╤· ٍ ف ╟ط ٍ
╚ ِ╟═·ٍو▄▄╟ ِ ▌ ٍ
ٍ
اذن فاليقين هو ضياء ينبعث على قلب النسان ،وهــذا الضــياء قــد
تتلقاه بعض القلوب لفترة ،ثم يبدأ بالنحســار عنهــا شــيئا فشــيئا حيــث
تهبـط درجــة اليقيـن ،وفـي المقابـل نجـد ان هنـاك قلوبـا تحتفـظ بهـذا
الضياء ليبقى فيها طاقة كامنة مخزونة ؛ فالقلوب الولى هــي كــأرض
ملساء ،او صخرة صلدة ل تحتفظ بــالمطر اذا مــا هطــل عليهــا ،فــي
حيــن ان الثانيــة مثلهــا كمثــل الرض الطيبــة الخصــبة تمتــص مــاء
المطر ،وتحتفظ به ليبعث فيها الروح والحياة .
فلكي نرى الحقائق -فاننا بحاجة الــى النــور الــذي يوصــلنا اليــه -
تعالى -فالحقــائق قريبــة منــا ولكننــا نحــن المحجوبــون عــن رؤيتهــا ،
وتحسســها ،ومــن الظلــم الــذاتي ان نعيــش عشــرات الســنين فــي بعــد
وجهل لحقيقة النفس ،وحقائق اليات اللهية المتناثرة في هــذا الكــون
الرحيــب ،وفــي هــذه الحالــة سنصــبح فــي ضــلل وتيــه عــن الحقيقــة
العظمى المرتفعة فوق كل الحقائق ال وهي حقيقة الرب المتعالي .
انه من الظلم بالنفس حقا ان نكون في بعد عــن الحقــائق وربهــا فــي
حين ل يعوزنا ال ضغطة بسيطة على زر صغير لينبلج نور الصــباح
فنرى مــن خللــه كــل شــيء ،ونــدخل عــالم الســرار الــذي نجهلــه ،
ونلمس كل صغيرة وكبيرة من الحقائق ،وهذه الضــغطة علــى مفتــاح
النور تتمثل في الرادة والعزم اللذين من شأنهما ان يرفعا النسان من
أســفل ســافلين الــى الــدرجات العلــى ،وأعلــى علييــن ،فلكــي يخــرج
النسان نفسه من عمق الحالة السلبية الــى علــو الحالــة اليجابيــة فــانه
بحاجة الى عزمة واحدة .
وعلــى هــذا فاننــا بحاجــة ماســة الــى ان نخلــق فــي انفســنا الهمــة ،
والعزيمة للولوج في عالم الحقائق ،فالى مــتى نبقــى بعيــدين وغربــاء
عنه ،والى متى نبقى في حالة فرار من هـــذا العالـــم النّيــــر الوهـــاج
الـذي يـدعـونـا الـبـارىء -تعالى -الى الدخول فيه ،
والستلهام من اشعاعاته الربانية ؟
فلنتوجه الى ربنا بالدعاء ،ولندعه كما علمنا َ } :رّبَنآ َءاِتَنا ِفي الّدْنَيا
سـَنًة { ) البقــرة ( 201 /وبــذلك تطيــب لنــا الــدنيا ،
حَخـَرِة َ
لِسـَنًة َوِفــي ا َ
حََ
ونطمئن برزقها ،ونضمن في نفس الوقت الخرة ،ونعيمها البدي ،
وربما ل ياكل احدنا كما يأكل الخرون ،فقد يكون طعامه قليل ولكن
اليمان بالحقائق العلوية سيمله اطمئنانا ،ورضــا وســكينة ،ويمنحــه
القناعة باليسير من الرزق ،بــل اكــثر مــن ذلــك فــان اليقيــن بالحقــائق
اللهية ،واليمان الراسخ بها يخففان عن النسان المعاناة واللم فــي
اشد الظروف قسوة .
وعلى سبيل المثال فعندما نتحدث ليكن حديثنا هذا حديث خير يبعث
المسرة في قلوب اخواننا المؤمنين ،ولنراقب ألسنتنا وما يخرج منهــا
من الفاظ ،ولتكن كلماتنا طيبة حتى نصل الى المستوى الذي امــر بــه
ن { ) السراء ( 53 /
سُحَ
ي َأ ْ
تعالى حيث يقول َ } :وُقل ِلِعَباِدي َيُقوُلوا اّلِتي ِه َ
،وأيانــا والسترســال فــي المــور ؛ كــأن نسترســل -فــي كلمنــا ،
وتصرفاتنا ،ومواقفنا ، -بل علينا ان نفكر مرارا بما نريد ان نفعله ،
ونأخذه ،فعندما نصادف -مثل -طعامــا او مــال او ســبيل حرامــا او
كل ما يشتبه امره علينا فعلينا ان نتجنب ذلــك كلــه دون ان تأخــذنا فــي
الحق لومة لئم .
ولنعلم في هذا المجال ان القضية ليست قضــية مــال او نفــس ،فــال -
جل شأنه -غني عن العالمين ،بل ان المهم هو استئصال حالــة الشــح
والبخل من النفس ،هذا الشح الذي اصبح مرضا اصاب الكثير منــا ،
ونحــن بحاجــة الــى علجــه ،وتــدريب النفــس وترويضــها بالصــلح
والطاعة .
ثم وايانا والبتلء بآفة الحسد ،هذه الفة الجتماعية التي لو شاعت
فانها ستؤدي بالمجتمع الى النهيار والضمحلل ،فهي ليست مســألة
هينــة بــل انهــا تمثــل حالــة عميقــة الجــذور فــي القلــب ،تكــدر النفــس
النســانية وهــي آخــر مــا يستأصــل مــن الصــفات الســيئة فــي القلــب
والنفس ،وهذا الستئصال يكــون مــن خلل حــب الخريــن ،وتمنــي
الخير لهم ،والبذل من اجل سعادتهم بعد غلق المنافــذ والبــواب الــتي
قد يدخل من خللهــا الشــيطان الــى النفــس ،فيبــث وساوســه ،ويفســد
القلب ،ويميت الروح المحبة للخير في اعماق النسان .
وما اجمل وقع مثل هذا العمل في النفس ،واعظم اجره عنــد ال ـ -
ســبحانه وتعــالى -مهمــا كــان بســيطا ،ومهمــا بــدا صــغيرا ،بــدل ان
نصرف الساعات الطويلة فــي ممارســة العمــال الــتي ل تجــدي نفعــا
كــبيرا ،والـــتي نـقـــوم بـهـــا للهـــاء انـفسـنـــا ،وقـضـــاء اوقـــات
فـراغـنـا ل مـن اجل ال -جـلـت قدرته . -
ان تلـك الخطـوات البسـيطة الـتي ذكرنـا قسـما منهـا فيمـا سـبق هـي
درجــات علينــا ان نرتقيهــا نحــو الســمو ،والتكامــل ،والقــتراب مــن
الحقيقــة العليــا ،وهــي تبعــث فــي القلــب حــالت الطمأنينــة ،وتقــوي
اليمان وتدعمه وتوثق عراه ،ثم تتبعها بعد ذلك سلســلة مـن العمـال
اكبر واعظم واكثر عمقا ترفعنا نحو عــالم اليقيــن والتكامــل ،والســمو
العقلي .
غ{.عُغٍ µ
ف ُو─· ِ
╩ ِ
┴╟ٍو╟ ِ ف ٍٍ µ
╟ططٍِ °
ان آيــات الـ كــثيرة ولكــن المشــكلة وجــود عقبــة امامنــا علينــا ان
نتجاوزها ،وهذه
العقبة تفصلنا عــن رؤيــة آيـات الـ -تعـالى ، -وعــن العتبــار بهــا .
فالناس يملكون العين ولكن القليل منهــم يمتلــك البصــيرة ،كمــا انهــم
يمتلكون الذان ولكن القليل منهم يمتلــك الســمع ،ولــذلك يقــول -عــز
حَيْيَنــاه { ) النعــام ، ( 122 /فالنســان الميــت ن َمْيتًا َفَا ْ
وجل َ } : -أَوَمن َكا َ
ليكيف نفسه مع ما حوله ،وينفصل عن الوسط الجتماعي والطبيعي
المحيط به ،وهو في الحقيقة انســان ميــت لن الــذي ليمتلــك اليمــان
ليمكن ان يكون متمتعا بالبصيرة ،والقرآن الكريم يشبه هذا النسـان
ج ِمْنَهــا
خــاِر ٍ
س ِب َ
ت َلْي َ
ظُلَما ِ
بـمن يعيش في الظلمات َ } :كَمن َمَثُلُه ِفي ال ّ
ن { ) النعام . ( 122 / ن َماَكاُنوا َيْعَمُلو َ ن ِلْلَكاِفِري َ
ك ُزّي َ
َكَذِل َ
وفي غيــر هــذه الحالــــة ســيبقى النســـان يعيــش فــي الظلمــات ،
فالنسان يولد في
الظلمة ولبد ان يسعى لكي يخرج منها ،لن ال -تعـالى -خلقــه فـي
احسن تقويم ،ولكنه يســقط فــي اســفل ســافلين بســبب جهلــه ،وظلمــه
لنفسه ،وتربيته الفاســدة ؛ اي انــه يهبــط الــى الحضيــــض وعليــه ان
يعود من جديد الى القمـة ،وهي الفطــــرة الــتي ولــد عليهــا النســان .
فكل مولود انما يولد على الفطـرة ،ولكنها لتبقـى معه ،فأبواه -كمــا
جــاء فــي الحــديث الشــريف -همــا اللــذان يهــودانه او ينصــرانه او
يمجسانــه .فــلبد له من ان يشــق طريـق العودة الى ال -سبحانه -
لكي يكـــون من الذيـن استثناهــم الخالــق من الهابطيــــن الــى اسفــــل
عِمُلـــــوا
ن َءاَمُنـــوا َو َ ل اّلِذيــــــ َ
ســـافلين والـــذين يقـــول عنهـــــم ِ } :إ ّ
ت { ) العصر . ( 3 /
حــا ِ صاِل َ
ال ّ
وفـي الحقيقـة فان هؤلء المؤمنين العامليـن الصالحات هــم القلـة
ل { ) هود ، ( 40 / ل َقِلي ٌ
ن َمَعُه ِإ ّ
مـن الناس كما يقول -تعالى َ} : -وَمآ َءاَم َ
ن ِلْلَكـاِفِري َ
ن ك ُزّيـ َوالقـران الكريم يفسر لنا هذه الظاهرة بقـوله َ} :كـَذِل َ
ن { فالمجتمع والفرد لهمــا عــادات مــن الصــعب القلع َماَكاُنوا َيْعَمُلو َ
عنها ،والخير عادة كما ان الشر عادة ايضا ،ولكن المشكلة ان اغلب
الناس متعودون علــى الشــر ؛ فالكســل وحــب الراحــة والرئاســة كلهــا
عادات يزينها الشيطان للنسان .
وعلى سبيــــل المثال فان القصص القرآنية لم توجه الينا للتسلية ،
فقصة ابراهيم ) عليه السلم ( مثل هي موجهة الينا بالدرجة الولى ،
وقصته تبدأ بالحــديث عــن رحلتــه الــى الـ -عــز وجــل ، -فقــد عبــد
النجمة اول ثم افلــت فــأقلع عــن عبادتهــا ،وهكــذا الحــال بالنســبة الــى
القمر والشمس حتـى وصل الى مرحلة توحيد ال ،ومن هــذه القصــة
نستفيد ان على النسان ان يتساءل في كـل مرحلـة عـن مـــدى صــحة
اعمالـه لكـي يصـل الـى الحقيقـة ،وفي هذا المجال يقول -تعــالى : -
ك
ل َواْذُكــر ّرّب ـ َشآَء ا ُّل َأن َي َغدًا * ِإ ّ
ك َ
ل َذِل َعٌ يٍء ِإّني َفا ِ
ش ْ
ن ِل َ
ل َتُقوَل ّ
} َو َ
شــدًا { ) الكهــف /
ن َه ـَذا َر َب ِم ـ ْ
لْقَر َ
ن َرّبي َِ سى َأن َيْهِدَي ِ عَل َت َوُق ْ
سي َ ِإَذا َن ِ
. ( 24-23
وهكذا فان اعمالنا يجب ان لتفصلنا عــن الـ ،فهــي حجــاب بيــن
النسان وربه ال اذا جعلها خالصة لوجهه .
ان بعض الناس يتمنون ان يصبحوا مؤمنين بأن ينــزل الـ عليهــم
ملكا يهـديهم ،فـي حيـن ان القـرآن بيـن ايـديهم ،وآيـاته الكريمـة مـن
جــآَءْتُهْم َءاَي ـٌةشأنها ان ترشدهم ،وعنهم يقول -عز وجــل َ } : -وِإَذا َ
ل { ) النعــام ، ( 124 /فــان لا ّسُ ي ُر ُل َمآ ُاوِت َ
حّتى ُنْؤَتى ِمْث َ ن َ َقاُلوا َلن ُنْؤِم َ
كان قلب النسان ليخشع حين الستماع الى القــرآن ،وحيــن الصــلة
والدعاء فهذا دليل على ان ال لم يغفر للنسان اعماله السيئة ،وبــذلك
تكون هذه العمال حاجزا يحجبه عن ربه .
ومن اليات الخرى لمعرفة النفس تلك التي يشير اليها -عز وجل
م { ) النعــام /
لِسـ َ
لْص ـْدَرُه ِل ِ
ح َ شَر ْل َأن َيْهِدَيُه َي ْ
-في قوله َ } :فَمن ُيِرِد ا ّ
، ( 125فالنسان المؤمن ذو قلب منشــرح ،وليجــد فــي نفســه شــحا ،
فسنتـه العفو والحسان الى الناس ،وهدفه خدمة المجتمع .فهو يعيش
دائما في اطمئنان نفسي ،ولكــن الكــافر تجــده دائمــا منقبــض النفــس ،
ضـّلُه
شحيحا بخيل منغلقا كأنما يصّعد فـي السـماء َ } .وَمـن ُيـِرْد َأن ُي ِ
ء {. سمآ ِ صَعُد ِفي ال ّحَرجًا َكَاّنَما َي ّ ضّيقًا َ
صْدَرُه َ جَعلْ َ َي ْ
ثم يستأنف -عز وجل -قائل :
ن {. لُيْؤِمُنو َ
ن َعَلى اّلِذي َ س َ ج َل الّر ْلا ّ جَع ُ
ك َي ْ
}َكذِل َ
ان على النسان ان يزكـي نفسـه لكـي تكـون نفســه هــذه كـالينبوع
الصافي ،وكالمنظار الشفـاف الذي ينظـر من خـلله الـى كل شيء .
فالنسـان المؤمن ينظر بنور ال -عز وجل ، -وال يزيده نورا على
نور ،وهذا هو الصراط المستقيم ،والطريق القويم الذي من شأنه ان
يوصلنا الى اهدافنا ،وتطلعاتنا الحقيقية في أقصر فترة ممكنة .
قلت :ان اليمان ليتم وينقص ويزيــد ؟ قــال :نعــم ،قلــت :كيــف
ذلك ؟ قال :لن ال تبارك وتعالى فــرض اليمـان علــى جــوارح ابــن
آدم ،وقسمه عليها ،وفرقه فيها ،فليس من جوارحه جارحــة ال وقــد
وكلت من اليمان بغير ما وكلت به أختهــا فمنهــا قلبــه الــذي بــه يعقــل
ويفقه ويفهم ،وهو أمير بدنه الذي ل ترد الجوارح ول تصدر ال عن
رأيه وأمره ،ومنهــا عينــاه اللتــان يبصــر بهمــا ،وأذنــاه اللتــان يســمع
بهما ،ويداه اللتان يبطش بهما ،ورجله اللتان يمشــي بهمــا ،وفرجــه
الذي الباه من قبله ،ولسانه الذي ينطق به ،ورأسه الذي فيه وجهــه ،
فليس من هذه جارحة ال وقد وكلــت مــن اليمــان بغيــر مــا وكلــت بــه
أختها بفرض من ال تبــارك وتعــالى اســمه ،ينطــق بــه الكتــاب لهــا ،
ويشهد به عليها .
ففرض على القلب غير ما فرض على السمع ،وفرض على السمع
غير ما فرض على العينين ،وفرض على العينين غير ما فرض على
اللسان ،وفرض على اللسان غير ما فرض على اليدين وفرض على
اليدين غير ما فرض على الرجلين ،وفرض علــى الرجليــن غيــر مــا
فرض على الفرج ،وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه .
ثم نظم مــا فــرض علــى القلــب واللســان والســمع والبصــر فــي آيــة
سـْمُعُكْم َول عَلْيُكـْم َ
شـَهَد َن َأن َي ْ سـَتِتُرو َ اخــــرى فقـال َ } :وَمـا ُكنُتـْم َت ْ
جُلوُدُكْم { ) فصلت ( 22 /يعني بالجلود الفــروج والفخــاذ ، ل ُ
صاُرُكْم َو َ َأْب َ
ك َكــا َ
ن صَر ُكـلّ ُأْوَلِئ َسْمَع َواْلَب َ ن اْل ّ
عْلٌم ِإ ّ
ك ِبِه ِس َل َف َما َلْي َ
ل َتْق ُوقال } َو َ
ل { ) الســراء ( 36 /فهـذا مـا فــــرض الـ علـى العينيـن مـــن سُؤو ً عْنُه َم ْ
َ
غــض البصر عمـا حرم ال وهو عملهمـــا ،وهـو
مــن اليــمــان .
)1
(
وذلك لن حفظ الفرج ههنا قد قرن بغض البصر ،فصار كل واحد منهما قرينة متممة للمراد مــن الخــر
نافية لطلقه ،على حد صنعة الحتباك كما في قوله تعالى " :ال الذي جعل لكم الليـل لتســكنوا فيـه والنهــار
مبصرا )غافر (61 /ومثله قوله تعالى " :هو الذي جعل لكم الليل لتســكنوا فيـه والنهــار مبصــرا " )يـونس /
(67فان تقدير اليتين :جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتبتغوا فيه مـن فضـله .وهكـذا هنـا
.تقدير الية :قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم من فروج المؤمنين ويحفظوا فروجهم من أبصار المؤمنين
وفرض ال على اليدين ان ل يبطــش بهمــا الــى مــا حــرم الـ وان
يبطش بهما الى ما أمــر الـ عــز وجــل وفــرض عليهمــا مــن الصــدقة
وصلة الرحم والجهاد في سبيل الـ والطهــور للصــلوات فقــال َ } :يــآ
جــوَهُكْم َوَأْي ـِدَيُكْم ِإَلــى سُلوا ُو ُ غِلِة َفا ْ
ص َ ن َءاَمُنوا ِإَذا ُقْمُتْم ِإَلى ال ّ َأّيَها اّلِذي َ
ن { ) المــائدة ( 6 /وقـال جَلُكْم ِإَلى اْلَكْعَبْيـ ِ
سُكْم َوَأْر ُحوا ِبُرُؤو ِ سُ ق َواْم َ اْلَمَراِف ِ
شـّدوا خنُتمُــوُهْم َف ُ حّتــى ِإَذآ َأْث َب َ ب الّرَقــا ِضـْر َ ن َكَفُروا َف َ } َفِإَذا َلِقيُتُم اّلِذي َ
ها { ) محمـــد ( 4 / ب َأْوَزاَر َ حْر ُ ضَع اْل َحّتى َت َ ق َفِإّما َمّنًا َبْعُد َوِإّما ِفَدآًء َاْلَوَثا َ
فهذا ما فرض ال على اليدين لن الضرب من علجهما .
والقرآن الكريم يريد ان يحمل النسان الى الفق العلــى الــذي هــو
افق اليمان ،ولو اننا تدبرنا في آية من آياته الكريمة ،ونظرنا الى ما
حولنا في الكون من خلل بصـائره النيـرة ،وتســلحنا بضـيائه ونـوره
لستطعنا ان ننتفع بهذا الكتاب العظيم ،ونعيش اللحظات اليمانيــة او
بالحرى الحياة اليمانية .
ان نظرتنا الى الكون يحددها ايماننا او كفرنا ،والعــالم المحيــط بنــا
ليس ال آية من آيــات ال -عز وجل -بل اني اكاد اقــول ان النســان
المؤمن هــو الــذي يــرى العــالم ،وان النســان الكــافر ل يــرى شــيئا ،
)1
(
الكافي ج 2ص / 42-40موسوعة بحار النوار /ج 66ص 29-23
فالنسان المؤمن يعتقد بحقانية الكون بنــور اليمــان ،ويــؤمن بصــدق
نفسه ،ويثــق انه مــوجود ،اما النسـان المشرك فانه ل يؤمن بنفسه
لنه ل يـؤمـن بـال -تعالى ، -فالذي يخضع للهوى ل يؤمن بنفســه ،
والذي يستسلم لضغط الرهاب ،وينقــاد لريــاح المجتمــع ل يمكــن ان
يؤمن بنفسه ،فمن آمن بنفسه ،ووثق بأنه انسان حي ،وكيان مســتقل
كيف يسمح لنفسه ان يكــون نجمــا فــي افــق الخريــن ،وكيــف يســمح
لنفســه ان يكــون ريشــة فــي مهــب الــــــــرياح الجتماعيــة ،وكيــف
يستسلم الذي تذوق حلوة مناجـــاة الـ -سـبحانه وتعـالى -ويرضــى
لنفسه ان يناجي البشر ويخضع لهم ؟!
ان المؤمنين الحقيقيين يذكرون ال قياما وقعودا وعلى جنوبهم ،ول
يستبد بهم غــرور القــــوة ،ول يبطرهـــم طغيــــان الستغنــــاء } : ،
ن ِفــي
جُنوِبِهـــْم َوَيَتَفّكـــُرو َ
عَلـــى ُ
ل ِقَيــــامًا َوُقُعــــودًا َو َ
ن ا َّ
ن َيْذُكُرو َ
اّلِذي َ
ض { ) آل عمران ، (191 /فالنسان الذي ل يفكر ل لْر ِ ت َوا َ سمــاَوا ِق ال ّخْل ِ
َ
يساوي شيئا لن الفكر هو ميزة النسان ،والمؤمن هو الذي يدرك ان
الكــون لــم يخلــق بــاطل فــي حيــن ان النســان الكــافر ل يــدرك هــذه
الحقيقة .
ان الكفر ليس حالة بعيدة عنا بل هو على درجات وقد تكون بعض
هــذه الــدرجات فــي انفســنا ،فلنحــاول ان ل ندعــــي اليمــان ونحــن
بعيدون عن آيات القرآن ،بل لنحاول ان نجســد علمـات اليمـان فـي
انفسنا ،وفي هــذا المجــال يــروى ان رجل جــاء الــى المــام الصــادق
) عليه السلم ( فقال له :يابن رسول ال كيف اعــرف اننــي مــؤمن ؟
فقال له المـــام ) عليه السلم ( " :اعــرض نفســك علــى القــرآن " ،
فالقرآن الكريم هو الذي يحدد هل نحن مؤمنون ام ل ؟ لنه قــد وضــع
مقــاييس ثابتــة لليمــان فــي آيــات كــثيرة منهــا قــوله -تعــالى ِ } :-إّنَمــا
ت عََلْيِهـْم َءاَيــاُتُه
ت ُقُلــوُبُهْم َوِإَذا ُتِلَيـ ْ
جَلـ ْ لـ َو ِن ِإَذا ُذِكـَر ا ّ
ن اّلـِذي َ
اْلُمْؤِمُنو َ
ن { ) النفــال ، ( 2 /وقــوله َ } :قـْد َأْفَل ـ َ
ح على َرّبِهْم َيَتَوّكُلو َ
َزاَدْتُهْم ِإيَمانًا َو َ
ن { ) المؤمنــون ( 2-1 /فلنعرض شُعو َ خا ِلِتِهْم َ صَ ن ُهْم ِفي َ ن * اّلِذي َاْلُمْؤِمُنو َ
انفسنا على كتاب ال فانه هو الفرقان والميزان .
وللسف فاننا نعيش في وهم وضــلل فنعتقــد اننــا مؤمنــون ،واننــا
نعرف الدنيا في حين اننا جاهلون فــي الحقيقــة ،وعـــن هـــؤلء يقــول
ك
سـُهْم ُاْوَلِئ َ
سـاُهْم َأنُف َ
لـ َفَان َ
سوا ا َّ
ن َن ُ
ل َتُكوُنوا َكاّلِذي َ
القـرآن الكريم َ } :و َ
ن{ ) الحشر ، ( 19 /فان كان الواحد منا عـادل فلمــاذا يــذنب ، سُقو َ
ُهُم اْلَفا ِ
ويغتاب ،ويتهم ،وينطق بالبذيء مـن القول ،ويسيء الظن ،ولمــاذا
جاِهُدوا ل يجاهد في سبيل ال -تعالى ، -والقــرآن الكريم يقول َ } :و َ
طْعُتْم
سَت َل َما ا ْجَهاِده { ) الحج ( 78 /ويقول ايضــا َ } :فاّتُقوا ا َّ ق ِحّ ل َ ِفي ا ِّ
{ ) التغابن . ( 16 /
وهكذا فان النسان الفاســــق المشــرك يجهـل فـي حيــن ان النســان
المؤمن يدرك الحيــاة ،ويعيــش فــي النــور ،امـا النســان الظــالم فهــو
يعيش في الظلم ،وكلما ازداد كفــرا ازداد ظلمــا وجهل وبعــدا عــن
الحقائق الموجودة في الكون .
ت َوالّنوَر ظلَُما ِ ل ال ّ
جَع َ
ض َو َ لْر َ ت َوا َ سماَوا ِ ق ال ّخَل َ
ل اّلِذي َ حْمُد ِّ
} اْل َ
ضــى ن ُثـّم َق َ طيـ ٍخَلَقُكــم ِمــن ِ
ن * ُهَو اّلـِذي َ ن َكَفُروا ِبَرّبِهْم َيْعِدُلو َُثّم اّلِذي َ
ســماَوا ِ
ت ل ـ ِفــي ال ّ ن * َوُه ـَو ا ّ عنَدُه ُثّم َأْنُتْم َتْمَت ـُرو َ
سّمى ِ ل ُم َجٌل َوَأ َ
جً أَ
ن * َوَما َت ـْأِتيِهم ِم ـ ْ
ن سُبو َجْهَرُكْم َوَيْعَلُم َما َتْك ِ سّرُكْم َو َ ض َيْعَلُم ِ لْر ِ َوِفي ا َ
ق َلّمــاحّ ن * َفَقْد َكّذُبوا ِبــاْل َ ضي َ
عْنَها ُمْعِر ِ ل َكاُنوا َ ت َرّبِهْم ِإ ّ ن َءاَيا ِ َءاَيٍة ِم ْ
ن * َأَلـْم َيـَرْوا َكـْم سـَتْهِزُءو َف َيْأِتيِهْم َأْنَبآُؤْا َمــا َكــاُنوا ِبـِه َي ْ
سْو َ جآَءُهْم َف َ َ
سـْلَنا
ض َما َلْم ُنَمّكــن َلُكـْم َوَأْر َلْر ِ ن َمّكّناُهْم ِفي ا َ َأْهَلْكَنا ِمن َقْبِلِهْم ِمن َقْر ٍ
حِتهِـْم َفَاْهَلْكَنــاُهم
جـِري ِمــن َت ْ لْنَهــاَر َت ْ
جَعْلَنــا ا َ
عَلْيِهــم ِمـْدَرارًا َو َ سمآَء َ ال ّ
ن { ) النعام ( 6-1 /خِري َ شْأَنا ِمن َبْعِدِهْم َقْرنًا َءا َ ِبُذُنوِبِهْم َوَأْن َ
واستنادا الى هذه اليات الكريمــة سنوضح بعض المثلة تأييدا لما
سبق ان ذكرناه ،ان ال -سبحانه وتعالى -يقول " :الحمد ل " هــذه
الكلمة العظيمة التي لو نطقهــا النســان بصــدق لعاشــت كــل جــوارحه
وجــوانحه البهجــة والســرور والنفتــاح ،فعنــدما يتمتــم النســان بهــذه
الكلمــة لبــد ان ينشــرح صــدره ،ويعيــش ذكــر نعــم الـ عليــه كنعمـة
البصار ،والسمع ،والعافية ،والمن ومليين النعم الخرى الــتي ل
يمكن ان تعد وتحصى .
ثم يقرر -تعالى -اننا محدودون بأجل معيــن مــن قبــل ومــن بعــد ،
وأجل معلق علــى رأس النســان ،واخــر ينتظــره فــي نهايــة المطــاف
ومن الممكن ان ينزل عليـه فـي ايـة لحظـة ،والجـل الـذي يحـل فـي
نهاية المطاف هو الذي ل يخطىء ،فمـن الممكـن ان يخطىــء الجــل
المعلــق ؛ فقد تمرض وتذهب الى الطبيب لتستعمل العقاقير الطبية ثم
يعافيك ال -عز وجل ، -ولكن المرض اذا كــان خطيــرا كالســرطان
فان الطبيب ل يستطيع ان يفعل لك شيئــا لن معرفته محدودة بتــأخير
اجل النسان ،واذا كان
عاجزا . الجل حتميا فان فكر الطبيب سيقف
سْو َ
ف جآَءُهْم َف َق َلّما َ حّثم يستأنف -عز وجل -قائل َ } :فَقْد َكّذُبوا ِباْل َ
ن { فمشـكلة النســان ان حيـاته سـَتْهِزُءو َ َيـْأِتيِهْم َأْنَبـآُؤْا َمـا َكـاُنوا ِبـِه َي ْ
ليست محدودة بهذه الدنيا ،وانه باق سيرى عاقبة مــا كــان يســتهزىء
به .
وهنا يتسع الفق ،وينعكس هذا الطار اليماني على عالم السياسة ،
فالنسان المؤمن ينظر الى هذا العالم من خلل بصيرة اليمان ،وفي
هذا المجال يقول القرآن الكريم َ } :أَلْم َيَرْوا َكْم َأْهَلْكَنــا ِمــن َقْبِلِهـْم ِمــن
عَلْيِهم ِمْدَرارًا
سمآَء َ سْلَنا ال ّ
ض َما َلْم ُنَمّكن َلُكْم َوَأْر َ لْر ِ ن َمّكّناُهْم ِفي ا َ َقْر ٍ
شْأَنا ِمن َبْعــِدِهْمحِتِهْم َفَاْهَلْكَناُهم ِبُذُنوِبِهْم َوَأْن َ
جِري ِمن َت ْ لْنَهاَر َت ْ
جَعْلَنا ا ََو َ
ن {. خِري ََقْرنًا َءا َ
ان الغربيين يعتقدون -وهذا العتقاد هو جزء من حضــارتهم بــل
اصبح اليوم فلسفة ل يمكنهم ان يتخلفوا عنها -ان حضارتهم ل تنتهي
،وان قوتهم ل تقهر ،وان اساطيلهم تستطيع ان تنفذ فــي كــل مكـان ،
وهذه هي المشكلة الكبرى رغــم ان عوامـل الفنـاء والنقـراض تحيـط
بحضارتهم المزيفة من مثل مرض ) اليدز ( الذي انتشر بينهم بشكل
مرعب ،فبماذا يغترون ؟!
ومثل هذه الحوادث هي عبرة لهم ولنا ،وكل واحد منا لبد ان يتجه
صوب نفسه ،ويحاول اصلحها وتنمية المواهب اليمانيــة فيهــا لكــي
نصل الى حقيقة اليمان .
مســيرة حياة النسـان منذ ولدته وحتى موته الطبيعي هــي مســيرة
تكاملية ،وسرعة نموه وتكامله المادي وما يتخلل ذلك من تطــور فــي
ابعاد حياته تختلف من زمن لخــر ،فمســيرة النمــو مســتمرة ،وحيــن
يتوقف النمو المادي للنسان ،يبدأ من حيث هذه النهاية نمــوه المــادي
غير المباشر .
وعلـــى هذا فان حياة النسان هي رحلــة مــن النقــص الــى الكمــــال ،
ومن العدم الى
الوجود ،ومن العجز الى القدرة او بتعبير اشمل ؛ من الحالــة الســلبية
الى الحالة اليجابية من وجوده المادي .
وهنا يبرز السؤال المهم التالي :ترى اهذه هي فلسفة الحياة ،وهل
لجل هذا الهدف خلق النسان ؟ واذا كان هذا هو الهدف مــن وجــوده
فلماذا يموت اذن ؟ ولماذا يقرع الموت باب وجود النسان فيقيــم ذلــك
الجدار الصلد الفاصل بينه وبين وجوده الدنيوي العريض الذي صنعه
لنفسه بعد ما خاض من تحديات مضاعفة ،وعقبات كأداء منــذ ســاعة
ولدته وحتى لحظة موته ؟
الجواب بالنفي طبعا ،حاشا ل الذي خلق الوجود والكون فأتقنهما ،
وشرع لذلك الشــرائع والمناهــج العظمــى ان يكــون عابثــا ولعبــا فــي
خلق يخلقه ،ويربيه وينميه ليعطيه نصيبه من الوجــود ثــم ليميتــه فــي
لحظة ما ،ولو جاز لحد غير ال ان يفعل ذلك من الدمييــن لوصــف
فعله هذا بالعبث واللعب فما بالك بال -سبحانه وتعالى . ! -
اذن فمــا معنى الموت بعد الحيــاة ،والعدم بعد الوجــود ،والفنــــاء
ش ـٍر ِمــن
جَعْلَنــا ِلَب َ
بعــد الحيــاء ،وال -عز وجل -يقــول َ } :وَمــا َ
س َذآِئَقــــةُ
ل َنْفـــ ٍ
ن * ُكـــ ّ
خاِلــــُدو َ
ت َفُهـــُم اْل َخْلــَد َأفـــِإْيـــن ّمــ ّ
ك اْل ُ
َقْبِل َ
خْيــِر ِفْتَنـــًة { ) النبيــاء ( 35-34 /فمــــا هــيشــّر َواْل َت َوَنْبُلوُكــم ِبال ّاْلَمــْو ِ
فلسفــة الـــموت وحكمتـــه التــــي يتحطــــم علـــى صخرتهـــا هيكـــل
الفلسفــة المــاديــة للحيــاة ؟
ان جواب كل ذلك وتفسيره ل يمكن ان نجدهما ال من خلل اليمان
باستمرار الرحلة التكاملية للنسان في الجـانب المعنـوي ل فـي اطـار
التكامل المادي المنقطع ل محالــة ،فبالضــافة الــى الجــانب التكــاملي
المادي هناك الجانب التكاملي الروحي او المعنوي ،فالنمــو موجــود
فــي كــــل الجــانبين ،ولكـــن لبــد مــن تــوقفه فــي الجــانب الول ،
واستمراره في الجانب الثاني حتى فيما بعد الموت ؛ اي ان ثماره فــي
الحياة الدنيـــا ستؤتي اكلها في عوالم ما بعد الحياة ،فالحياة الخرة ل
تكــون ال لمــن ارادهــا ،وســعى لهــا ســعيها وهــو مــؤمن ،فالرحلــة
المعنوية لبد لها من ثمن يدفعه النسان في حياته الدنيا كي يستمر بــه
السير نحو السمو الخروي .
وتتجلــى الخســارة الكــبرى لــذلك النســان الــذي طــاف فــي رحلتــه
الحياتية في حدود المادة واطرها ،ويعــي مــدى هــذه الخســارة عنــدما
تدق ساعة اجله ،ويدنو منه هادم اللذات ،وفي هذه اللحظة العصــيبة
يتذكر النسان ماقدمه في حياته ،فل يبقـى زاد لهـذا النسـان المـداهم
بالموت يدفع عنه عنـاء ومصـاعب السـير الجديــد الـى الخـرة سـوى
العمل ،وهذا الزاد هو الذي يضمن سلمة مسيرة النسان من النقص
الى الكمال سواء في حياته ام فيما بعد موته.
ترى هل انتبهنا ووعينا كــم نحــن منصــرفون الــى مشــاغل وهمــوم
حياتنــا الماديــة ؟ فنحــن نســعى ونلهــث ،ونتشــاجر ونتقاتــل ،ونحــب
ونكره من اجل تحقيق طموحــات ماديــة ل تقــف عنــد حــد ،فحاجاتنــا
ومشاكلنا اليومية ل تنتهي ،وكـل منـا ينشـد يومـا افضــل مـن امسـه ،
وغدا احسن من يومه في الهداف والطموحات الماديــة ،وهكــذا فــان
كــل تفكيرنــا يجــري مــع التيــار المــادي الجــارف الــذي يجرفنــا منــذ
اللحظات الولى من حياتنا حتى غدا الواحد منـا اســير دوامــة التفكيــر
والهوس المادي !
بلى ،اننا غافلون وبعيدون كل البعــد عــن اجــواء الســعادة الحقيقيــة
الصيلة التي ل يستشعرها ،ويتنعــم بهــا ســوى اولئك الــذين يعيشــون
في عــوالم النــور الروحيــة والمعنويــة ،والــذين ينظــرون الــى الحيــاة
بمنظار التدبر والتبصــر فيعطــون جانبهــا الروحــي والمعنــوي حقــه ،
وعلى هذا فليس من الصحيح ان نجعل مــن هــذا العمــر مطيــة التقاتــل
مــن اجــل بهــارج الحيــاة وزخارفهــا الماديــة ،بــل علينــا ان نعطــي
المعنويات حقها ،ونسعى ونهتم بها بنفس الحجم من السعي والهتمام
بالماديات ان لم نفقه ،ولنخلق في انفسنا تلك الحوافز التي تدعونا الى
تطوير معنوياتنا ،وتهذيب الجانب الروحي من انفسنا .
فلماذا -اذن -ل نعيــش امـاني الغــد الخــروي فـي يومنـا هـذا قبـل
حسرة الغد وامانيه الخائبة عندما يقول الواحد منا حيــث ل ينفــع النــدم
حَياِتي { ) الفجر . ( 24 /
ت ِل َ
والسى َ } :يا َلْيَتِني َقّدْم ُ
ان هناك الكثير ممــن ينســون الـ -عــز وجــل ، -ول يــذكرون ال
الشركاء من دونه ،فيقولون :ان الطبيب الفلني هــو الــذي عالجنــا ،
وان الدواء الفلني هو الذي شفانا ،ولكنهم يقولون عند المــرض :يــا
ألهنا ! ،وبعد ان يشفوا يتكبرون علــى ربهــم ،ول يرضــون حــتى ان
يعترفوا بان ال هو الذي شافاهم .
3ـ ـ تذكـــر انــك لســت بعيــدا عــن منطقــة الخطــر ،فــأنت غافــل عــن
الخطار المحدقة بك ؛ فمن الممكن ان تكون هنــاك جلطــة فــي دمـائك
تسبح في العروق المختلفة ،ومن الممكن ان تصــل هــذه الجلطــة الــى
قلبك لتصاب بسكتة قلبية .
ان هناك الكثيرين ممن كانوا يحسبون انهم ل يموتون ،وانهم اقوياء
،ولكن خطرا بسيطا استطاع ان يقضي عليهم ،ولــذلك علــى الواحــد
منا ان يتذكر دائما انه ليس بمنجى من الخطار ،ويجب على النسان
ان يطلــب الحفــظ والـحـراســـــة مــن الــ -تعــالى -ل مــن المــوت
فحسب ،او الصابة بالحوادث المختلفة ،بل من خطر اعظــم واكــبر
ال وهو خطر الوقــوع فـي الضــللة ،والســقوط فـي حبـائل الشـيطان
الذي يبحث عن اية ثغرة في نفــس النســان ليضــله ،فــان كــانت هــذه
الضــللة فـي آخــر لحظــة مـن عمــر النســان ،فـانه -والعيـاذ بـال -
سيدخل النار خالدا فيها .
الشكران : اسلوب
ترى كيف نشكر ال على نعمه ؟ القرآن الكريم ينبئنا بذلك قائل } :
ن ِفــي ن َءاَيــاِتِه ِإ ّ ل ِلُيِرَيُكم ِم ـ ْ
ت ا ِّحِر ِبِنْعَم ِجِري ِفي اْلَب ْ ك َت ْن اْلُفْل َ
َأَلْم َتَر َأ ّ
ر { ) لقمان . ( 31 / شُكو ٍصّباٍر َ ل َ ت ِلُك ّلَيا ٍك َ َذِل َ
وهذا هو المعنى الحقيقي لشكـــر النعمــة ؛ وهو ان يتذكر النســان
انها من ال -تعــالى ، -وفــي هــذا المجــال يــروى عــن ابــي عبــد الـ
) عليه السلم ( قال :اوحى ال عز وجل الى موسى ) عليه الســلم (
يـا موسـى اشـكرني حــق شـكري فقـال :يـا رب فكيـف اشـكرك حـق
شكرك وليس من شكر اشكرك به ال وانت انعمت بــه علــي ؟ قــال يــا
موسى الن شكرتني حين علمت ان ذلك مني .
وفي كثير من الحيان نتــذكر كـثيرا مـن الدعيــة فنفهــم منهــا ومــن
الصلة الجانب الترهيبي فقط ،وعلى سبيل المثال فان النسان يخشى
من ان ل يصــلي لكــي ل يعتــبر مــن تــاركي الصــلة ،وكــذلك الحــال
بالنسبة الى مانع الخمس والزكاة ،فالجميع يعلمون ان تارك الصــلة،
ومانع الزكاة والخمس يدخلون النار ،ولذلك فان الناس يتذكرون هــذا
الجــانب الترهيــبي ،فــي حيــن ان مــن الــواجب ان يتــذكروا الجــانب
الترغيبي ايضا لننا عندما نقول " اشهد ان ل الــه ال ال ـ " فاننــا فــي
هذه الحالة لبد ان نقول ) الحمــد لـ ( لنـه -تعـالى -اعطانـا القــدرة
على ان نتحــرر مـن ربقــة الشــهوات ،واســتعباد الطغــاة ،واصــحاب
ن ال بها علينا المال والجاه ،وهذه هي الحرية التي هي افضل نعمة م ّ
.
وعندما يدعونا ال -عز وجــل -لليمــان بــه فانمــا لكــي يحررنــا ،
ويجعل شخصياتنا تتكامل ،وبالتالي لكي يشرفنا بلقائه ،وذكره شــرف
للذاكرين ،وحمده غنى للحامدين ،فنحــن الــذين ننتفــع باليمــان وال ـ
غني عن العالمين .
الصبر فائدة ايمانية :
ومــن ابــرز فــوائد اليمــان " الصــبر " ،لن النســان الــذي ابتلــي
بمرض ،ثم انقذه ال منه فان من المفــروض فيــه ان يشــكر الـ علــى
انقاذه ،واذا ما ابتلي بالمرض مرة اخرى فــانه يحمــد ال ـ لنــه خلل
فترة الصحة لم ينس ذكره ،واستمر قلبه في التصال برب العالمين ،
فالنسان المؤمن صبور رغم ان المشــاكل كــثيرة ،وانهــا تحطــم قــوة
النســان ،ولكننــا نــرى المــؤمن ليــزداد بعــد مـواجـهـــة المشــاكل ال
صلبة وصمودا لنه يعيش دومــا مــع الـ ،والــذي يعيــش مـع الـ ل
يخاف احدا .
والنسان الصبور هــو الــذي يتمتـع بملكـة التفــوق علـى المشـاكل ،
فهناك الكثير من الناس سرعان ما تهزمهــم المشــاكل لجزعهــم منهــا ،
وفي هذا الصدد يقول المام علي ) عليه السلم ( " :اذا خفت من امر
فقع فيه " فالكثير من الناس وبسبب خوفهم ترى ان الطــاغوت يتســلط
عليهم ،ولكن النسان المؤمن تراه على العكس من ذلك رابط الجــأش
،صابرا ،قوي اليمان .
فلماذا -اذن -ل يؤمن النسان بال وهو الذي يعلم متى تقوم الساعة
،ومتى ينزل الغيث ،وماذا في الرحام ،وماذا ســنفعل غــدا ،ومــتى
نموت ؟ ان هذه العلــوم الخمســة متصــلة بــرب العــالمين ل يعلمهــا ال
هــو ،وانت -ايها النسان -جاهــل بهــا ،وحــتى لــو رســمت لنفســك
برنامجا لكافة الدقائق واللحظات القادمة من حياتك فانك سترى انك ل
تستطيع تطبيق هذا البرنامج بدقة لوقوع حوادث لم تكن في حسبانك ،
ولكنها كانت في حسبان ال -تعالى -الذي يعلم الغيب ،ومــا تكسبــــه
عِة َوُيَن ـّز ُ
ل سا َ
عْلُم ال ّ
عنَدُه ِل ِن ا َّ
النفس غدا .يقول -جلت قدرته ِ } : -إ ّ
غــدًا َوَمــا
ب َسـ ُس ّمـاَذا َتْك ِ
حــاِم َوَمــا َتـْدِري َنْفـ ٌ
لْر َ
ث َوَيْعَلُم َما ِفــي ا َ
اْلَغْي َ
ر { ) لقمان . ( 34 /خِبي ٌ
عِليٌم َ
ل َ
ن ا َّت ِإ ّ
ض َتُمو ُ ي َأْر ٍ س ِبَأ ّ
َتْدِري َنْف ٌ
)1
(
موسوعة بحار النوار ج 75ص 213
وهذا النسان يعلم علم اليقين ان هذه المشاكل لبــد ان تــزول ،وان
الــذين ســببوها زائلــون ل محالــة ،وهــذه الحقيقــة يبشــرنا بهــا القــرآن
ل { ) العــراف /
جـ ٌ
ل ُاّمٍة َأ َ
الكريم في آيات عديدة كقوله -تعالى َ } : -وِلُك ّ
يٍء َقْدرًا ) { ..الطلق ( 3 /وهكذا فان ش ْ
ل َ
ل ِلُك ّ
ل ا ُّ
جَع َ
( 34له تعالى َ } :قْد َ
كل حاكم محكوم في النهاية .
وفي هذا المجال يروى ان هارون الرشيد بعث ذات مرة رجل الى
المام موسى بن جعفر ) عليه السلم ( وكان ســجينا عنــده ،فقــال لــه
الرسول :ابن عمك امير المــؤمنين يبلغــك الســلم ويقــول نعفــو عنــك
ولكن بشروط معينة ،فما كان من المام ) عليه السلم ( ال ان اجاب
قائل :كل يوم يمر فانه يقربني الى الجنة خطــوة ،ويقربــه الــى النــار
خطوة ،وسنلتقي عند ال .
وهكذا فان اجل الظالمين محدود ،بل ان ال -تعالى -يطول اعمار
المجاهدين رغم انوف الطغاة .
شـْيئاً
ت َتْرَكـنُ ِإَلْيِهـْم َ
ك َلَقـْد ِكـد ّ
ثم يقول -تعالى َ } : -وَلْول َأن َثّبْتَنا َ
ل { ) السراء ( 74 /صحيح اننا ضعفاء امام تضليل أبليس واغــوائه ، َقِليـ ً
ص ـَرا َ
ط ولكــن لمــاذا نقــوم كــل يــوم فــي الصــلة داعيــن } :اْه ـِدَنا ال ّ
سَتِقيَم { ) الفاتحة ، ( 6 /ولماذا نقول في الدعاء } :اللهــم ل تكلنــا الــى الُم ْ
انفسنا طرفة عين ابــدا { ؟ لن النســان ينهــار امــام العلم المضــلل
بدون العتصام بحبل ال ،فالعلم الشيطاني ليس هينا ،وحــتى فــي
عهــد آدم فــان اول مــن بــدأ بتضــليل البشــر ،واســتخدام الوســائل
العلمية الخبيثة ضده كان ابليس حيث اقســم لدم وزوجــه قــائل } :
ن { ) العراف ( 21 / حي َ
صِن الّنا ِسَمُهَمآ ِإّني َلُكَما َلِم َ
َوَقا َ
وآنذاك لم يكن آدم يتصور ان شخصا يمكن ان يحلف بال -سبحانه
-كاذبا ،ولكنه لم ينتبه الى الخطة العلمية لبليس ،ومنذ ذلك اليوم
وحتى عصرنا الحاضر فان اساليـب الشيطــان في حالــة تطــور كلمــا
تطور وعينا ،فعلينا ان ل نكون غافلين ،بل لنتوكل على ال ـ ،ونثــق
به ،واذا ما خضــع شــخص لشــرك العلم الشــيطاني فســوف ينتهــي
لن النسان هو الذي ينهي نفسه .فالشيطان يريــد لــك ان تــذهب الــى
النار من خلل تضليلك ،فعندما يتغير المقــود الــى التجــاه الخــاطىء
فان النســان سيذهب بنفسه الى النهاية السوداء ،وهذا ما يشير اليه -
ض ـْعفَ اْلَمَمـــــا ِ
ت حَيــاِة َو ِف اْل َ
ضْع َك ِ لَذْقَنا َتعالى -في قــولــه ِ } :إذًا َ
عَلْيَنا
ك َ
جُد َل َ
ل َت ُِثّم َ
صيــرًا { ) السراء . ( 75 / َن ِ
امـــــا الخطــة الثانيــة الــتي اســتخدمها الشــيطان وجنــوده ضــد النــبي
) صلى ال عليه وآله ( فقد اشار اليها -جل وعل -فــي قــوله َ} :وِإن
لَفـ َ
ك خَ ن ِ ل َيْلَبُثــو َ
ك ِمْنَهــا وِإذًا ّجــو َ
خِر ُض ِلُي ْ
لْر ِ نا َ ك ِم َ سَتِفّزوَن َ
َكاُدوا َلَي ْ
ل{ حـِوي ًسّنِتَنا َت ْ
جُد ِل ُ
ل َت ِ
سِلَنا َو َ
ك ِمن ّر ُسْلَنا َقْبَل َ
سّنَة َمن َقْد َأْر َ ل* ُ ل َقِلي ًِإ ّ
،وتتمثل هذه الخطة -كما قلنـا -فــي ارهـاب النســان واخراجــه مـن
بلده .
النسان بأمس الحاجة لن تتكون عنده بصيرة نافــذة فــي الحيــاة ،
فلبد ان يكون على اطلع ومعرفة بالحقائق الكبرى المتعلقة بحياته ؛
مثل ماهية هذه الحياة ،والعلة من وراء وجودها ووجوده ،والى ايــن
يتجه في خضمها ؟ ،ولعل النسان يعيش على جهــل فــي اغلــب هــذه
الحقائق ،في حين انه لبد له من معرفتها وادراكها كي تنكشف امامه
سائر الحقائق ،والمور المهمة الخرى .
وليس المهم في هذا المجال ان يعلم النسان ظاهر الشيء ،بل المهم
الحاطة علما بجـوهر الشـيء ،وعمـق حقيقتـه .فلبـد لـي ولـك مـن
الطلع علــى جــوهر الحقــائق ،وفهــم اســرارها .ولــو نظرنــا الــى
اسلوب القرآن في الطــرح والبيـان ،لكتشــفنا ان بيـانه لفلســفة الحيــاة
يسبق بيانه لحقيقة البلء ،ووقوعه على المؤمنين ،فهو يحث النسان
على التعمق في فهم ومعرفة ماهية الحياة ،وعلــة وجودهــا ،والغايــة
منها .
ولذلك فان القرآن الكريم دأب على بيان الخاتمة التي تنتهي اليها هذه
الحيـــاة الـــدنيا قبـــل ان يتطـــرق الـــى ايضـــاح طبيعـــة هـــذه الـــدنيا
وخصائصها ،وكل ما يتعلق بها من حقائق وظواهر ،فــــالموت هـــو
خاتمة الحياة الدنيا ،ولذلك ينبه القرآن الى هذه الحقيقة ،ويؤكــد علــى
اهميتها ،ولو ان النسان عرف ،ووعى ،واستوعب حقيقة الموت ،
وانه صائر اليه ل محالة وان عّمر ما عّمر نوح ) عليه الســلم ( ،او
ملك ما كان لسليمان ) عليه السلم ( لفهــم ،وتبصــر الطريقــة المثلــى
للسلوك والتعامل مع هذه الحياة ،ومع غيره من بني النسان .
اننــا لــو ادركنــا حقيقــة المنتهــى ،وكيــف يســدل الســتار علــى هــذا
الوجــود ،فاننــا ســندرك بعــد ذلــك الحقــائق الخــرى المتعلقــة بالحيــاة
وطبيعتها .فلو فهم النســان حقيقــة المــوت ،هــانت لــديه المصــائب ،
وذابت امامه جبال العسر والمشاق ،لنه سيعيش بامل الخرة ،ونيل
نصيبه منها ،فيعيش عندئذ حياته ســعيدا فــي ظــل القناعــة والتواضــع
والرضا بما رزقه ال وانعم عليه وان كان قليل يسيرا .
وفـي حياة ائمتنا ) عليهم السلم ( صور رائعة لهذا اليمان الصادق
،تركوها لنــا لقتفائهــا والقتــداء بهــا .فالمــام زيــن العابــدين ) عليــه
السلم ( كان حين يجلس على الرض ،يجلس القرفصاء فل يســتوي
في جلوسه ،او يجلس جلسة القائم ،بل كان يجلس متواضعا ثم يدعو
قائل " :اللهم ارزقنا التجافي عن دار الغرور " .
وهكــذا فــان معرفــة النهايــة لبــد وان تهــدينا الــى معرفــة البدايــة ،
س َذآِئَق ـُة
ل َنْف ـ ٍ
والمسلك الصحيح في الحياة كما يقول -تعــالى ُ } : -ك ـ ّ
جــوَرُكْم َيـْوَم اْلِقَياَمـِة { ) آل عمــران ، ( 185 /فــاذا مــا
ن ُا ُ
ت وِإّنَما ُتَوّفْو َ
اْلَمْو ِ
عمل النسان فــي دنيــاه خيــرا ،وجــد فيهــا الخيــر .واذا ابتغــى الشــر
وعمل به ،فل يجد ال كل ما هو شر وسيء .بل ان عامل الخيــر ل
يجد الخير في دنياه فحسب ،بل سيلقى ما هو اكثر منه خيــرا وجــزاء
حسنا في الخرة عند ربه الكريم .
: الفوز العظيم
فل يحزنك او يؤلمنــك ان انــت عملــت خيــرا ثـم لــم يمــدحك النـاس
عليه ،او يشــكروك مــادام هــذا العمــل ل يمكــن ان يضــيع عنــد الـ -
سبحانه وتعالى -الذي سيعطي الجر الحقيقي ،وفي نفس الوقت فــان
الذي يعمــل الشــر والســوء والعــدوان فـي دنيــاه ،عليــه ان ليســتعجل
جزاءه ،وان ل يسخر ان هو لم يلق هذا الجزاء فـي دنيـاه .ذلــك لنـه
سيجد مــا عملــه حاضــرا امــامه يــوم القيامــة ،فينــال عقــابه الوفــى ،
ويصيبه سوء ما عملت يداه .فالمهم -اذن -ان ينــجو النــسان مــن
الـنار ،ويستطيع اجتياز الصراط وهذا هو الفوز العظيم كمــا يقــول -
جّن ـَة َفَق ـْد
خلَ اْل َ
ن الّناِر َوُاْد ِ
عِح َ
حِز َ
تعالى -بعد الية السابقة َ } :فَمن ُز ْ
ر { ) آل عمران . ( 185 /
ع اْلُغُرو ِ
حَياُة الّدْنَيآ ِإل َمَتا ُ
َفاَز َوَما اْل َ
)1
(
بحار النوار ج 20ص 130
،فاقتحم الميــدان ،وقاتــل قتـال البطــال حتــــى استشــهد ،ليدخــــل
الجنــة .
عز وجل -ل يحب الدنيا وقد كرههــا لعبــاده المــؤمنين لعلمــه الزلــي
انهــا ل تتلءم مــع مقــامهم الرفيــع ،فكــل مــا لهــم مــن هــذه الــدنيا ان
يــتزودوا منهــا مــا ينفعهــم لخرتهــم ،فالــدنيا مزرعــة الخــرة عنــد
المؤمنين ،وهي مسلك وممر ،وليست دار مقر .
وانواعه : حقيقة البتلء
ثـم ينــــتقل الســــياق الكريــــم لـــعرض حقيــــقة البــــتلء وانــواعه
م {)سُك ْ
ن ِفي َأْمَواِلُكْم َوَأْنُف ِ
بشيء من التفصيل فيقول -تعالىَ } : -لُتْبَلُو ّ
آل عمــران ( 186 /فالبـــلء هو جلبــــاب النســان المؤمــــن ،فــاذا اختــار
النسان اليـمان والولء لـ -تعــالى -فليلبــس جلبــاب البلء ،لكــون
هذا البلء يحيط بالمؤمن من كل جانب كمــا يحيــط الجلبــاب بجســده ،
واول ما يكون البلء والتمحيــص فــي المــوال ،فمــن خللهــا يمتحــن
النسان ليعــرف مــدى بــذله ،وعطــائه .مــن بخلــه وحرصــه ،فعلــى
المؤمن ان يضحي بماله اول ،فان لم يضــح بــه اليــوم فــانه ســوف ل
يكون مستعدا لن يضــحي بنفســه ودمــه فــي ســبيل الـ عنــدما يحمــى
الوطيس .
ثم يكشف السياق عن نوع اخر مــن البلء فــي قــوله -تعــالى } : -
شَرُكــــــوا
ن اّلـِذينَ َأ ْ
ب ِمن َقْبِلُكْم َوِمـ َ
ن ُاوُتــــوا اْلِكَتا َ
ن اّلذيــ َ
ن ِم َ
سَمُع ّ
َوَلَت ْ
َأًذى َكِثيــــرًا { ) آل عمــران (186 /فالنسان المــؤمن قــد ل يجــد حــائل فــي
نفسه يمنعه من ان يدفع بماله او نفسه في ســبيل الـ ،ولكــن قــد يبقــى
يواجه مشكلة اخرى وهي حديث الناس وما فيه مــن افــتراء وســخرية
واهانة وما الى ذلك ،والقرآن الكريــم يشــير هنــا الــى هــذه المشــكلة ،
ويدعو المؤمنين الذين يبتلون بهذا النوع مــن البلء الــى الصــبر علــى
حديث الناس ،وكلمهم الفارغ ،وان تكون لديهم الصلبة ،والتريث
والحلم ،فل يعيروا اهمية لتلك القاويل ،ول يثبطنهم كلم الخرين .
وعلى هذا فان القرآن الكريم يحــذر مــن المــراءاة ،وافشــاء عمــل
الخير من اجل الجاه والسمعة والشــهرة ،لن كــل ذلـك سـيتحول الـى
وبال على النسان خصوصا وان الرياء هــو نمــط مــن انمــاط الشــرك
بال -تعالى ، -فأصحاب مثل هذه العمال التي يذيعون بهــا فــي كــل
مكان ،هم اقرب ما يكونون من نــار جهنــم .لن اعمــالهم هــذه كــانوا
يهدرونها بالشهرة ،وطلب الجاه والسمعة ،فلم يستبقوا منها ما يقيهــم
ن اّلـِذينَ سـَب ّ
حَل َت ْ
شر عذاب يــوم القيامــة ،ولــذلك قــال -تعــالى َ } : -
س ـَبّنُهم
حَل َت ْ
حَم ـُدوا ِبَمــا َلـْم َيْفَعُلــوا َف َ
ن َأن ُي ْحّبــو َ
ن ِبَمــآ َأَتــوْا َوُي ِ
حــو َ َيْفَر ُ
ب َأِليٌم { .
عَذا ٌ
ب َوَلُهْم َ ن اْلَعَذا ِ ِبَمَفاَزٍة ِم َ
وحقا فان هذه الية من اليــات ذات الوقــع المــؤثر علــى النســان ،
ولذلك فان من الضروري للنسان المؤمن ان يطرد ما تبقى في نفســه
من ذرات الرياء الذي يهدد عمله الصالح بالحباط ،وهذا جانب مهــم
من جوانب تزكية النفس .
ومن هنا يتضح لنا ان النسان المؤمن بحاجة الى خصلتين هما فـي
غايــة الهميــة لصــيانة ايمــانه وعقيــدته وعملــه مــن الخلــل والضــعف
والحبــاط وهمــا :الصــلبة والســتقامة اللــذان يعتــبران مــن عوامــل
النصر المهمة وبلوغ الهداف اللهية ،وليس هذا النصــر وقفــا علــى
الســاحة السياســية او العســكرية بــل يتجســد اول فــي النتصــار علــى
النفس المارة بالسوء ،وعلى الشيطان ووساوسه .فالنصــر الحقيقــي
هو بلــوغ الجنــة ،ونيــل الرضــا اللهــي ،ففــي ذلــك ضــمان خلــوص
العمال ل -سبحانه . -فالشيطان يستفز النسان المؤمن ،ويســتهين
بما قدمه او يقدمه من اجل اليقاع بـه فـي شــرك الريـاء .ولــذلك فـان
على المؤمن ان يحذر من هذه الستفزازات الشيطانية بأن يكتم عملــه
الصالح ،ويصبر على اقوال المتقولين وتخرصاتهم ،وليعلم ان ال -
عز وجل -يدافع عنه ،ويحرسه بغايته ولطفــه ،ويــوفقه الــى مــا فيــه
الخير والعاقبة الحسنة .
الشخصية اليمانية والطاعة الواعية
هنــاك ثلثــة نمــاذج مــن النــاس ؛ فمنهــم مــن جبــل علــى التمــرد
والفوضى فهم ل يحبون الطاعة ،ول يرغبون في النظام ،ومنهم من
تعود الطاعة المطلقة فهو يطأطىء رأسه دومــا للقــوي ،ومــن النــاس
من يعتدل في سلوكه فهو مطيع تمام الطاعة عندما تكون ل وبــأمره ،
اما عندما تكون الطاعة للقوة الشيطانية فانك تجده متمردا من الطــراز
الول .
وهذه النماذج الثلثة منتشرة بين الشعوب والمجتمعــات ،ولكننــا قــد
نجد احد هذه النماذج هو الطاغي على النماذج الخرى ،فهناك بعض
الشــعوب ولســباب تأريخيــة وعوامــل عديــدة اخــرى ل تميــل الــى
النضباط بل تراهــا مشــغوفة بــالتمرد ،والفوضــى ،فتأريخهــا حافــل
بالعصيان والتمرد والفوضــى ،واذا مــا حــدث وان انضــبطت وقبلــت
الطاعة فانها لفترة مؤقتة سرعان ما تعود بعـدها الـى تلـك الحالـة مـن
الفوضى .
تسليم مطلق :
وهكذا فــان بعــض الشــعوب قــد فطــرت فــي الغلــب علــى التســليم
المطلق ،في حين ان هناك شعوبا اخرى جبلت علــى التمــرد ،وهــذه
الحالة اي ؛ حالة العصيان والفوضــى هــي مــن اخطــر الحــالت الــتي
تعاني منها بعض الشعوب لنها ل تسبب فقط العصيان والتمــرد ضــد
النظمــة الظالمــة ،وانمــا قــد تســبب ايضــا التشــرذم ،والختلف
والتمزق حتى في اطار المؤسسات الشــرعية الدينيــة ،ول يمكــن لي
شعـــب او مجموعة ان تنمــو وتتحــرر وتتطــور اذا كـانت تعــاني مــن
هــذه الحالــة الســلبية ،ذلــك لن التقــدم يحتــاج الــى النظــام ،فلــو كــان
النسان يعيش لوحده ،او لو كان كل منا يريد ان يعيش منفردا بــدون
أسر او تجمعات ،لما تطورت النسانية في اي بعد من ابعادهــا ،لن
النسان مدني بالطبع .
وهكذا فان هذه الحضارات ،والتقدم العلمي الهائل انمــا كــان نتيجــة
للنظام فمــن دونــه ل يمكــن للنســان ان يقــدم شــيئا ،ورســالت الـ -
تعالى -لم تأت لتزرع الفوضى بين الناس انما جاءت لترسخ النظام ،
ونحن نعلم ان كثيرا من الحكام الشرعية والدينية انمــا جــاءت لتربيــة
النفس النسانية وترويضها على قبول الطاعة والنظام .
وعلى سبيـل المــثال فـان مـن ابــــرز اهــــداف الصـلة ايجـاد حالـة
الطاعــة ،والنقيــاد عنــد النســان ،لن النســان الــذي يخضــع ل ـ ،
ويسجد له فانه يربي نفسه في الحقيقية على التسليم للحــق ،والذعــان
للنظام والقانون الشــرعي العــادل ،ولــذلك نــرى ان الصــلة هــي مــن
اصعب العبادات على النسان لنه متكبر وظــالم بطبعــه فــي حيــن ان
الصلة تربيه على حالة الطاعة والتسليم ،وكذلك الحــال بالنســبة الــى
الصوم فان هدفه ايجاد حالة التقوى في نفس النسان ومن المعلــوم ان
جزء منها يربــي النســان علــى الطاعــة والقبــول بالواجبــات ،ونفــس
الكلم يقال عن الحج فهو ايضا قد شّرع من اجل تحقيق هذا الهــدف .
فأحد ابرز اهداف الحج ايجاد حالة التكامل والتكافل بين ابناء المجتمع
،والذعان للنظام الجتماعي .
وبطبيعة الحال فان القليل منا يختار ان يكون وليا مــن اوليــاء الـ -
تعالى ، -فهذا الختيار هو طموح عال بحاجة الى جهود جبارة رغــم
ان من حق النسان المسلم ان يتمنى ان يكون فــي مصــاف الصــديقين
والحواريين كأبي ذر الغفاري ،وسلمان الفارســي ،ومالــك الشــتر ،
وحبيب بن مظاهر ..وغيرهم مــن اولئك الصــديقين الــذين كــانوا اقــل
درجة من الئمة ) عليهم السلم ( .
النسان : لحدود لكمال
ان ال -عز وجل -لم يغلق البواب في وجه النسان ،ولم يخلقه
بحيث ل يمكنه ان يصل الى هذه المراتب العالية ،فان باســتطاعته ان
يصل الى المســتويات اليمانية الرفيعة من خلل التوكــل علــى ال ـ -
جلت قدرته ، -وتربية روح الطموح والتطلع فــي نفســه ،فـاذا هــدف
وصــل الــى مــا يريــد ،وال ـ -سبحانـــه وتعــالى -ســيؤيده بــالتوفيق
والنصر ،شريطة ان تبدأ الخطوة الولى من النسان نفسه كما يشــير
الى ذلك -تعالى -في قوله :
ل َمـــن
فالنسان الذي يتــوب هو مؤمن ولكنه -تعــالى -يقــول ِ }:إ ّ
ب { لن هذا النسان مؤمــــــن فــي ظــاهره ؛ فهــو يصــلي ويصــوم َتا َ
ولكن ايمانه ايمان سطحــي ،ولــذلك لبد ان يتــــــوب اول ويكفــــــر
باليمان القشري ،والشهوات التــي حولت الدين الى مجموعة مراسم
وطقوس وتقاليـــد مفرغــة مــن المحتــوى .
وللسف فــان الكثير منــا ما يزال ايمانه تقليديـــا ،فهو يقدس التقليد
اكثــــر مــن تقديســه للــدين نفســه ،فــالجزء الكــبر مــن افكارنــا تجــده
مختلطـا بالتبريــر واختلق العذار ،ولذلك فان القــرآن الكريــم جــاء
ليزيــــل مــن نفوسنــــا هــذه الـحالـــة التبريريـــــة ،فيــبين ان النســان
مسؤول عن نفسه ،وان اي عذر ل يمكن ان ينفعــه ،ويرفع عنه هذه
صــــيَرٌة * وََلــــْو َأْلَقــــى
ســِه َب ِ
عَلــى َنْف ِ
ن َ
ســا ُ
لن َ
لا ِ المسؤوليــــة َ } :بــ ِ
رُه { ) القيامة ( 15 -14 /
َمَعاِذيــ َ
عَباَدُه ِبــاْلَغْي ِ
ب ن ِ
حم ُ
عَد الّر ْ
ن اّلِتي َو َ
عْد ٍ
ت َ
جّنا ِ
ثم يقول -تعالى َ } : -
عُدُه َمْأِتّيا { ) مريم ، ( 61 /وقد روي عن رسول ال ) صلى ال
ن َو ْ
ِإّنُه َكا َ
ن ِإَلــى
شـُر اْلُمّتِقيـ َ
حُعليه وآله ( في تفسير قوله -عــز وجــل َ } -يـْوَم ن ْ
( انه قال ما مضمونه :ان الوفــد ل يكــون ال ) مريم 85 / { ن َوْفدًا
حَم ِ
الّر ْ
راكبا ،ول يكون ال جامعا ،اي ل يمكنك ان تقول ) جاء الوفــد ( اذا
اتت اليك مجموعة من الحفاة ،بــل يجــب ان يكونــوا اناســا محــترمين
راكبين على مراكب ،ثم ان ) الوفد ( ل يكون متشكل مــن افــراد بــل
من مجموعات ،وهكذا فان هــؤلء المــؤمنين ) الوفــد( يخرجــون مــن
قبورهم وهم اشد بياضا من الثلــج ،ووجــوههم تتلل نــورا ،مرتــدين
ملبس من سندس واســتبرق ،ثــم يــؤتى لهــم بــأفراس الجنــة يركبــون
عليها ،فتطير بهم الى باب الجنة ،وعند هذا الباب يجدون الى يمينهم
حوضا ،والى يسارهم حوضا اخر ،وفوقهم شجرة تظللهم بحيــث ان
الورقة الواحدة من هذه الشجرة تستطيع ان تظلــل مــائة الــف انســان ،
فيجلســون تحــت هــذه الشــجرة الوارفــة الظلل ،ثــم يشــربون مــن
الحوض الول ،فتذهب عنهــم جميـع آلم الــدنيا واســقامها واوســاخها
واغللها .وتتطهر قلوبهم من الحسد الذي هو اخبث امــراض الــدنيا .
ثم يشربون مـن الحــوض الخــر الــذي فيــه مـاء الحيــاة ،فل يموتــون
ابدا ،وحينئذ يحشر هؤلء المتقــون الــى خــازن الجنــة وفــدا ،فيصــر
الباب صريرا تسمعه الحور العين فــي قصــورها ،فيستبشــرون بقــدوم
المؤمنين ،ثم يدخلون الجنة ،ويقفون تحت ساق العــرش ،فيخــاطبهم
الرب -تعالى -قائل " :سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الــدار ...
الى اخر الحديث الشريف " .
والذي يتقي في الدنيا السباب المؤدية الى الدخول في نــار جهنــم ،
جّنـُة اّلِتـي
ك اْل َفـان الـ -تعـالى -سـيورثه فـي الخـرة الجنـة ِ } :تْلـ َ
ن َتِقّيــا { ) مريم . ( 63 /
عَباِدَنا َمن َكا َ
ن ِ ث ِم ْ
ُنوِر ُ
ان امامنــا مشاكـل وصعوبات تـتـطـلـب منا الصبر ،ولذلك يقول -
طِبْر ِلِعَباَدِتــِه { ) مريم ، ( 65/وال -عز وجل - صَعُبْدُه َوا ْ
تعالى َ } -فا ْ
رحيم بالنسان ،ولكن النســان يتبــع الشــيطان ،ونحــن مهــددون فــي
حياتنــا بالنفــاق مــن خلل تــرك الصــلة ،او افراغهــا مــن محتواهــا .
فاللتزام بالدين يعد امرا صعبا ،ولكن من السهل ان يستسلم النســان
للهواء والنفاق والزدواجية ،واذا تركنــا الـ -تعــالى -اوكلنــا الــى
انفسنا ،ومنع عنا عصمته ،فنهبط الى ادنى المستويات حيــث جاذبيــة
الرض والشهوات ،وبالطبع فانني ل اريد ان اقــول هنــا ان النســان
يســتطيع خلل لحظــة واحــدة ان يتخلــص مــن كــل رواســب المجتمــع
الفاسد ؛ المجتمع الذي يدعي السلم ولكنه يترك الواجبــات ،ويــترك
الجهاد ،ويخضع للطغاة ،فمــن الصــعب ان يتخلــــص النســان مـــن
آثار مثل هذا المجتمــــع ،ولكننــي اريــد ان اقــول ان علينـــا ان نجعــل
مسيرتنا في جهة التخلص من التبرير ،وعــدم الشعور بالمسؤوليــة .
وهكذا فان السلم هو بداية الطريق ،فمن عمل بالمبادئ الولية ،
والسس التمهيديــة للسلم فـانه يكــون قــد وضــع قــدمه علــى الجــادة
الصحيحة لتصديق اليمان ،وهذا التصديق انما يكون من خلل جعل
الواحد منا نفسه مؤمنا صادقا في جميع الجوانب وان نحــول تجمعاتنــا
الى تجمعــات ايمانية صادقة في جميع البعاد .وهنا يكمن سر نجــاح
النسان المؤمن الصادق فــي مواجهة الفســاد المنتشــر فــي مجتمعــه .
هذا السر المتمثل في تكامل ايمــانه ؛ فالصــلة -علــى ســبيل المثــال -
تنهــى عــن الفحشــاء والمنكــر ،وعنــدما ينتهــي النســان عــن هــاتين
الصفتين ويتقي ربه ،فــانه ســينّمي ملكــة الصــبر فــي نفســه .وعنــدما
يكــون صابرا فانه سيتحول الى انسان مستقيم على الطريقــة ،وحينئذ
ستكون دعوته صادقة ،ويجد الخرون في اعماله وتحركاته الصــدق
والوفاء والخلص ولذلك فانهم سيصدقونه .
وبهذا السلوب يتشكل التجمع اليماني ،فعندما يكون هذا التجمــع
بعيدا عن الفحشاء والمنكر ،والعتـداء والظلــم ،وبالتـالي بعيــدا عـن
التحزب والقليمية ،فانه سيكون مجتمعا فاضل قادرا علــى ان يكــون
البديل عن المجتمع الفاسد .