Professional Documents
Culture Documents
1439هـ
1439/03/04هـ
4
1439/03/04هـ
وأساس ال َّثب ِ ِ ْلح َكَم ُ ِ
ات َ ـام َأ مم ِن األُ َّمة َ َ ُ
ت ص َم ُ ا مُ م َ
اْلقدمـــــــــــة
ٍ
معرتف بالتقصري ،والصالة والسالم عىل البشري النذير ، احلمد هلل محدَ
(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)
1439/03/04هـ
[آل عمران. ]٧ :
5
وأساس ال َّثب ِ ِ ْلح َكَم ُ ِ
ات َ ـام َأ مم ِن األُ َّمة َ َ ُ
ت ص َم ُ ا مُ م َ
أسأل اهلل تعاىل الثبات ،وأن نعني أبناء أمتنا عليه .
1439/03/04هـ
6
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
تعريف اْلحكَمت
وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ﭧ ﭨ (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
( )1انظر :جامع البيان البن جرير الطربي ( ، )188-206/5وتفسري القرآن أليب بكر ابن 1439/03/04هـ
،
اْلنذر (رقم )229-217وتفسري القرآن العظيم البن أيب حاتم ()592-594/2
،
7
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ولن ندخل يف تفاصيل هذا االختالف وتعداد أقواله ،فليس هذا هو
هدف هذا البحث ،الذي سيعتني باجلانب العميل لفقه هذا الباب ،منطلقا
من الدرس النظري ،لكن دون الوقوف عنده ودون التطويل فيه .
خالف منها
ر لكن األمر الواضح يف اآلية وال َقدم َر الذي ينبغي أن ال يقع فيه
هو :أن اْلحكَمت يف هذه اآلية هي أ ُّم الكتاب (القرآن الكريم) وأص ُله ،
ولئن اقترصت هذه اآلية اجلليلة عىل ذكر حمكَمت القرآن الكريم ،فال
1439/03/04هـ
أيضا ،حتى إن من مشتبهات القرآن الكريم ما ال ُيعرف معناه إال بالسنة ،
ً
8
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ٍ
اختصاص بمحكَمت القرآن الكريم وحده .فإنه إن كانت اآلي ُة قد بينت دون
ُيتص
ُّ ُ
والتفصيل ال منهجا لفقه اْلحكَمت يف القرآن الكريم فذلك الفق ُه
ً
بنوع خاص من اْلحكَمت ،بل هو شامل جلميع أنواعها ؛ الّت ِ
ادها يف هذا
ِ
اجلامعة ،وهي أهنا (حمكَمت). الوصف اْلؤ ِّث ِر واخلاصي ِة
ِ
واْلحكَمت النقلية (الشاملة للسنة مع القرآن) ؛ إال يف كونه تعري ًفا شامال
( )1تنبهوا لقويل « :اْلحكَمت الرشعية :نقليها وعقليها» ؛ فقد قصدت هبذا التعبري 1439/03/04هـ
أيضا ؛
حمكَمت رشعية ،كَم هي حمكَمت النقل ً
ر ِ
حمكَمت العقل التأكيد عىل أن
َ
التكليف أصال عىل العقل ،وبغري العقل ُيرفع التكليف بالرشع ألن الرشع إنَم أقام
كله ؛ وألن العقل يؤيد الرشع ،والرشع هيدي العقل ،وال تنتهي عالقتهَم ببعضهَم
فحسب . ِ
عند َد مرء التعارض م
9
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
اْلصطلح ،وبيان األثر العميل ْلعناه الذي طرح ُته فيه .وال داعي للوقوف
كثريا يف هذا السياق عند هذا اْلصطلح ؛ إال بقدر ما يدل عىل مراد كاتبه منه
ٍ
حمكَمت ومع أن اْلحكَمت قد تكون من جهة النظر إليها عىل ِحدَ ٍة :
جزئي ًة َ
غري كلية ،لكنها من جهة وصوهلا إىل درجة اليقني ،ومن جهة أنه
1439/03/04هـ
ر
أصول فكرية ،ينطلق العقل منها يف تكوين تصوراته وأحكامه .
10
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
التفكري !
وتلمسه بيدك ،فال تشك يف صحة رؤيتك وإحساسك الكامل به ،ولو كان
ُ
استطاع أحدر أن ُي ِري َب َ
ك يف يقينك هذا ،فإنه َ تافها ،لكنك متيق رن منه .فلو
مرا ًأ ً
احلق اْلتي َّق ِن ؛ إال وقد أفسد
ِّ ِّ
الشك يف قلبك من هذا ال يصل إىل إيقاع
ِ
وسائل عليك عق َلك ،وأ َّدى بك إىل خلل يف التفكري ؛ ألنه أفسدَ عليك َ
بعض
َّـشـك ِ
ُّك فيه ،وإنزا ُله عن منزلة ُ
حصول الت َ يقيني ال ُّ
تشك فيه ، وهكذا كل
ٍّ
ومؤ ٍّد إىل ِ
اليقني إىل منزلة الظن أو الشك = هو يف اْلآل ُمفسدر للعقل ُ ،
1439/03/04هـ
ٍ
إخالل يف طريقة التفكري ،وإىل عدم القدرة عىل التصور الصحيح ،فضال
11
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ليقينيتها إال من أيقن بمصدرية الوحي ،وأنه من عند اهلل اخلالق سبحانه
وتعاىل .
ٍ
يشء من التأمل) أن بني القسمني عموما وخصوصا وال ُيفى (بعد
حمكم إسالمي ،وليس ُّ
كل حمك ٍم إسال ٍّ
مي ر مطل ًقا :فكل حمكم إنساين
1439/03/04هـ
فال يمكن أن تتعارض دالالتُه النقلية مع الدالالت العقلية الصحيحة .
عىل أننا إذا تذكرنا أن أدلة النبوة هي يف النهاية أدلة عقلية تُثبت لغري
12
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
منهَم (وهى اْلحكَمت اإلسالمية) يف األعم ،عىل الوجه اْلشار إليه آنفا .
ُ
تلحظ أنه تضمن أهم تأملت ذلك التعريف فإنك سوف
َ وهبذا ..فأنت إذا
ألن اْلحكَمت لو قبلت الزوال والتبدل لكان ذلك إثباتا للنسبية اْلطلقة
1439/03/04هـ
يف احلقائق ،بل لكان ذلك مما ينفي وجود احلقائق أصال ،وأن احلق ال
وجود له إال يف أحكام الناس الذهنية ،ال يف واقع الوجود .ألن اليقيني ال
13
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
-كالتعددية الدينية(.)1
-أو اخللط بني حوار األديان (وهو مطلوب) ووحدة األديان (بمعنى
1439/03/04هـ
-قراءة يف التعددية الدينية :هل هي دعوة إىل الالدينية :للشيخ مالك مصطفى
وهبي العاميل .الطبعة األوىل 1428 :ه .دار اهلادي :بريوت .
-التعددية أصول ومراجعات :للدكتور طه جابر علوان .
-التعددية الرؤية اإلسالمية والتحديات الغربية :للدكتور حممد عَمرة .
-التعددية يف اإلسالم :للدكتور حممد سليم العوا .
-التعددية العقائدية وموقف اإلسالم منها :ليوسف بن حممد القحطاين .
14
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
-أو اجلمع بني مطلب التعايش السلمي (وهو مطلب مهم وعادل)
ِ
ائتالف وموضع حمل ا ٍ
تفاق بني العقالء ، السمة الثانية :أهنا ُّ
ُ
ٍ
قلوب بني األسوياء .
وهذا من لوازم يقينيتها وثباهتا ،ومن لوازم احلقيقة التي قررها اإلسال ُم
ر
جمبول أوضح تقرير :عن سالمة فطرة اجلنس البرشي يف أصل اخللقة وأنه
،
َ
1439/03/04هـ
عىل معرفة احلق واإلقرار به( .)1كَم يف قوله تعاىل ﭽﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ
( )1ومن أهم الكتب التي درست هذه احلقيقة كتاب ( :اْلعرفة يف اإلسالم :مصادرها
وجماالهتا) للدكتور عبداهلل بن حممد القرين .
15
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
( )1أكثر التفسري اْلنقول عن أجيال السلف الثالثة كان عىل أن معنى ﭽ ﭞ ﭟ ﭠﭼ
ختصيص الصورة البرشية الظاهرة .فانظر موسوعة
ُ وظاهره :
ُ أي :يف أحسن صورة ،
التفسري باْلأثور :إعداد مركز الدراسات القرآنية (. )370- 368/23
ومن السلف من َع َّمم ،ومل ُيص اْلعنى يف الصورة الظاهرة فقط ،كعبد اهلل بن
العباس (ريض اهلل عنهَم) ،حيث قال« :يف أعدل َخ ملق» ،أخرجه آدم بن أيب إياس يف
1439/03/04هـ
زوائده عىل تفسري جماهد ( ، )770/2وابن جرير يف تفسريه ( ، )510/24بإسناد
وحسنه ابن حجر يف الفتح ( . )713 /8وتفسري ابن عباس هذا يشمل يف جيد َ ،
داللته ِ :
اخل ملقة الظاهر َة والباطنة ،وهو األرجح .وقد ذكر هذا اْلعنى عد رد من
اْلحرر الوجيز البن عطية
َّ رص َح آخرون برتجيحه ،كَم يف
اْلفرسين ،بل َّ
ِّ
( ، )648/8والتسهيل البن ُجزَ ي اْلالكي ( ،)615/3والتحرير والتنوير للطاهر ابن
عاشور ( ، )427 -424 /12ونرصه بقوة.
16
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
اء؟»( ،)1وقوله ،فيَم يرويه عن ربه يف احلديث القديس « :إِ ِّين
َجدم َع َ
اجتَالَ متـ ُهم عن ادي ح َن َفاء ُك َّلهم ،وإِهنم َأ َتـتمـهم َّ ِ
ت ِعب ِ
ني َف م
الش َياط ُ َ َّ ُ ُ ُ َ َخ َل مق ُ َ
ِدين ِ ِهم»(.)2
ويف ذلك يقول اإلمام الطحاوي (ت321ه) َ « :ف َأ مع َل َمنَا َ أ َّن من كِتَابِ ِه
ٍ
ثورية يف منطلقها ٍ
بعبارة شيخ اإلسالم ابن تيمية هذه احلقيقة
قر ُر ُ
و ُي ِّ
عقالء بني آدم ال تكون
ُ اإلنساين ،حيث يقول « :والقضايا التي يتفق عليها
إال ح ًّقا ؛ كاتفاقهم عىل مدح الصدق والعدل ،وذ ِّم الكذب والظلم»(. )4
(رقم.)2658
( )2أخرجه مسلم (رقم . )2865
( )3رشح مشكل اآلثار للطحاوي (. )337/6
( )4االستقامة لشيخ اإلسالم ابن تيمية (. )263/2
17
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
وحضاراهتم .
ُ أدياهنم وأعرا ُقهم
ُ األرضي ُة اْلشرتكة بينهم ،مهَم اختلفت
َ
الصادق الوحيدَ ؛ ألنه اْلرشوع الوحيد ِ
التعايش وع
وهي بذلك ستكون مرش َ
البرش مجي ُعهم ؛ فاْلحكَمت هي اْلنطلق
ُ الذي يمكن أن يتوافق عليه
وهذا ك ُّله يتناقض مع تلك الدعوات الضالة أو اْلض ِّللة ،والتي تريد
مقصد هذه الدعوات من جميئها إىل ما يتفق عليه عقالء بني آدم ،من
1439/03/04هـ
اْلحكَمت ،بمعول اهلدم وآلة النسف ّ ،تت غطاء النِّسبية والتعددية ،كَم
سبق ! مع أن اْلحكَمت (بات ِ
فاق عقالء بني آدم عليها) كانت هي وحدها
ِ
التآلف واالجتَمع بني بني البرش عىل ما ينفع اجلنس اْلؤهلة لتحقيق
َّ
البرشي كله .
18
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
واألدلة القطعية :قد تكون أدل ًة نقلية (من الكتاب والسنة) ،وقد تكون
عقلي ًة .
لكن األدلة النقلية ال تكون قطعي ًة حتى يثبت باالستدالل العقيل اليقيني
باخلالق سبحانه.
وحاجة األدلة النقلية إىل إثبات صلتها بالوحي اإلهلي ليست حاج ًة
قارص ًة عىل غري اْلسلمني حال دعوهتم إىل اإلسالم ،بل هي رضور رة
1439/03/04هـ
احلق واحلكمة ؛ وألهنا
ِّ ُ
احتَمل خمالفتها مقتىض ُ
احتَمل اخللل أو إليها
19
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
وإن من أخطر ما هيدد فقه اْلحكَمت ،ومن أشد ما هيدم هذا الباب :
بناء القط ِع عليه( ، )1وحينَم يتعاملون مع صاحب االجتهاد اْلعترب تعاملهم مع
ُ
أيضا اإلقصائيون الذين يريدون
صاحب االجتهاد غري اْلعترب .وكَم يفعله ً
َ
االستدالل عىل تبديعهم وتفسيقهم ْلخالفيهم ،وربَم وصلوا إىل حدِّ
تكفريهم ،بدعاوى خمالفة اليقينيات التي يدعون هلا اليقني وهي ليست من
ٍ
بيقني مآ ُله اليقني يف يشء .فإن هذا التوس َع يف دعاوى اليقني فيَم ليس
1439/03/04هـ
ني عىل خلط اليقيني بالظني ،مما ِ ُ
التشكيك يف اليقيني احلقيقي ،ألنه ُيع ُ
( )1وهذا ما حرصت كل احلرص عىل جتليته بوضوح وإتقان يف كتايب (اختالف
اْلفتني).
20
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ابتغاء الفتنة ؛ فإن من وجوه اتبا ِعَ اْلحكَمت :ممن يتبعون اْلتشابه
اْلتشابه ادعاء اإلحكا ِم لغري اْلحكَم ؛ بل أي اتبا ٍع للمتشابه أشدُّ من اد ِ
عاء ُّ َ
اإلحكام له وإسبا ُغ هذا الوصف عليه وإنزا ُله هذه اْلنزلة التي ال يستح ُّقها .
التوس ُع
ُّ عكس ما سبق ،وهو :
ُ ومن وجوه اخلطر عىل فقه هذا الباب :
يف دعاوى االشتباه ! فهو ضدُّ اخلطر السابق ،لكنه ُي ُل ُص إىل النتيجة
نفسها !!
الظن لليقيني كالمها خطران ُيـهدِّ دان إحكا َم عاء ِّ
اليقني للظني واد ُ ِ عاء
فاد ُ
واالشتِبا َه ،بني اليقني والظن َ ،فـ َيـ مف ُسدُ
م ِ الـ ُم محكَم ؛ ألهنَم ُيس ِّب ِ
بان اال ملت َ
باس
1439/03/04هـ
والظن كالمها ،وتستويل عىل النفس حال ُة الشك اْلطلق ،
ُّ اليقني
ُ بذلك
ٍ
مطلق للعقل والتفكري . ٍ
فساد التي هي -با مستِ مرشائها -حال ُة
21
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
فإن ُ ِ
اعرت َض عىل موضوع يقينية أدلة اْلحكَمت :بأن ما كان يقين ًّيا
غري ر
إطالق ُ ِ
االعرتاض ُ
اإلطالق الوارد يف هذا فسنجيب بقولنا :هذا
ظني قابال
صحيح ،فليس كل يقيني قابال لالختالف يف يقينيته ،وليس كل ٍّ
لالختالف يف ظنيته .فمن اليقني ما ال يقع يف يقينيته اختالفر ؛ إال بنو ِع ٍ
خلل
ال جيعل هلذا االختالف اْلزعوم وز ًنا ،كمن أنكر الشمس يف كبد السَمء
ٍ
خلل من مقطوع بظنيته ،كأمر ال جمال لبلوغ القطع فيه قطعا ؛ إال بنو ِع
ر ظن
ٌّ
جنس خلل ادعاء الظن يف اليقني اْلقطوع يف يقينيته .وهناك حال رة ثالث رة ،
1439/03/04هـ
فيه االختالف :هل هو يقني أم ظن ،أو حال ُة ما ُيتصور وقوع هذا االختالف
22
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
وخفاء ،وأن
ً وضوحا
ً وخفاء ال ُيشك يف خفائه ،وما ُيـخت َل ُ
ف فيه ً وضوحه ،
هذا االختالف لن يعني عدم وجود الوضوح واخلفاء اْلقطوع هبَم .
وبَم أننا نريد االختصار يف هذا البحث ،واخلروج من دائرة التنظري إىل
والثاين :متشاب ره بال خالف ،والثالث (وهو اْلختلف فيه) :لو أخرجناه
1439/03/04هـ
بسبب هذا االختالف من دائرة اْلحكم ،ورددناه إىل القسم الثاين اْلتفق
إحكامه أقوى
ُ باشتباهه .وإن جوزنا االختالف يف إحكامه واشتباهه فلن يكون
من إحكام اْلتفق عليه ،ولن يكون يف اشتباهه ما يدل عىل تعذر احلكم
23
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
بإحكام غريه من اْلتفق عىل قطعية دالئله .واْلعنى (كَم سبق) :أن وجود
: وقد أشار النبي إىل أصل هذا التقسيم بوضوح عندما قال
،
ات َ :ال َي مع َل ُم ُه َّن كَثِ رري من ني ،وإِ َّن احل َرا َم َب ِّ ر
ني َ ،و َب مين َُه ََم ُم مشتَبِ َه ر «إ َّن احل َال َل َب ِّ ر
الشبه ِ ات ،است ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ الشبه ِ
ات ، َرب َأ لدينه َوع مرضه َ .و َم من َو َق َع يف ُّ ُ َ
م مَ الناس َ .ف َم من ا َّت َقى ُّ ُ َ
اعي يرعى حو َل احلمى ،ي ِ
وش ُك َأ من َي مرت ََع فيه»(. )1 و َقع يف احلرا ِم ،كَالر ِ
َ ُ َم َ َ م َّ َ َ
كَم أننا جيب أن نفرق بني نوعني من اخلالف الذي يقع حول احلقائق
1439/03/04هـ
التقسيم الثالثي السابق .
َ وهم عموم بني آدم ،فهذا هو الذي َن مق ِس ُم عىل أساسه
24
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
والنوع الثاين :هو اخلالف الذي ال يقدح يف االتفاق عىل يقينية الدليل ،
اْلشتبه :
وكخالف ُّ
الشـكاك واْلوسوسني ومرىض النفوس أو العقول ، ب-
ِ
التفات عقالء بني آدم ،ولوال عد ُم ت إىل تشكيكهم ممن ال ي ِ
لتف ُ
ُ َ
علم من العلوم وال اتفق العقالء عىل حقيقة من
الناس إليهم ما قام ر
احلقائق .
1439/03/04هـ
السمة الرابعة :أهنا ُأ ر
صول ُك ِّلي رة ُي م
ـح َتـ َك ُم إليها :
25
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
يقيني فهو
ٍّ الفروع وّتتكم إليها( .)1وكليتها جاءت من كوهنا يقيني ًة ،فكل
ويف ذلك يقول الشاطبي « :التشابه ال يقع يف القواعد الكلية ،وإنَم يقع
والثاين :أن األصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الرشيعة من اْلتشابه ،
وهذا باطل .وبيان ذلك :أن الفرع مبنى عىل أصله ،يصح بصحته ،ويفسد
1439/03/04هـ
األصل ُم مث َب ر
ت يف الفرع ؛ إذ كل فرع فيه ما يف األصل ،وذلك يقتيض أن
ر
منوط الفروع اْلبنية عىل األصول اْلتشاهبة متشاهب رة .ومعلوم أن األصول
بعضها ببعض يف التفريع عليها ،فلو وقع يف أصل من األصول اشتباه ،لزم
26
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
رسيانه يف مجيعها ،فال يكون اْلحكم أم الكتاب ؛ لكنه كذلك ،فدل عىل
ََ
أن اْلتشابه ال يكون يف يشء من أمهات الكتاب .
فإن قيل :فقد وقع يف األصول أيضا ،فإن أكثر الزائغني عن احلق إنَم
زاغوا يف األصول ،ال يف الفروع ،ولو كان زيغهم يف الفروع لكان األمر
فاجلواب :أن اْلراد باألصول القواعدُ الكلية :كانت يف أصول الدين ،
أو يف أصول الفقه ،أو يف غري ذلك من معاين الرشيعة الكلية ال اجلزئية .
وعند ذلك ال نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة ،وإنَم يف فروعها .فاآليات
واقع ذلك
هو قاعدة من قواعد العلم اإلهلي .كَم أن فواتح السور وتشاهبها ر
يف بعض فروع من علوم القرآن ،بل األمر كذلك أيضا يف التشابه الراجع إىل
1439/03/04هـ
اْلناط ،فإن اإلشكال احلاصل يف الذكية اْلختلطة باْليتة من بعض فروع
أصل التحليل والتحريم يف اْلناطات البينة ،وهي األكثر .فإذا اعترب هذا
اْلعنى مل يوجد التشابه يف قاعدة كلية ،وال يف أصل عام ؛ اللهم إال أن
27
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
يؤخذ التشابه عىل أنه اإلضايف( . )1فعند ذلك ال فرق بني األصول والفروع
يف ذلك ،ومن تلك اجلهة حصل يف العقائد الزيغ والضالل .وليس هو
( )2
باْلعنى»(.)3
ر
أصول السمة اخلامسة :أهنا ما دامت أصوال كلي ًة ،فهي
اإلنسان
ُ فكَم أن اْلعارف العقلية الرضورية هي التي تقود إىل أن ُيفكِّر
( )1قسم الشاطبي التشابه يف اآليات إىل حقيقي وإضايف ،واحلقيقي هو ما كان راجعا
1439/03/04هـ
إىل اآلية نفسها ،من جهة أهنا خفية ال سبيل إىل ظهور معناها .واإلضايف :هو ما
كان االشتباه جاء من جهة قصور يف علم أو نظر الناظر ال يف اآلية نفسها فهي بينة
، ،
ٍ
خللل يف الناظر أو يف نظره اشتبهت عليه .فانظر اْلوافقات حمكمة لكن ،
(. )315318/3
( )2أي :وليس االشتباه االضايف هو اْلقصود بالنفي هنا .
( )3اْلوافقات (. )322-327/3
28
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
وهذا يعني :أن اخللل يف التعامل مع اْلحكَمت يؤدي إىل فساد يف
ُ
اخللل يف أسلوب التفكري الفكر ،وإىل خمالفة فطرة العقل ،وال يظهر هذا
تكون نتيجته فسا ًدا فكر ًّيا كامال ،بأن ُيصاب صاحبُه
َ حتى يطر َد ،وحتى
فإن اخلطأ يف فهمها أو عدم فهمها يؤدي إىل فساد جزئي يف تلك اْلسألة ،
رجوع الفرع
ُ وعىل هذا فمن لوازم كون اْلحكَمت أصال :أن يكون
ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
1439/03/04هـ
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [آل عمران ، ]٧:فوصف اْلحكَمت بأهنا األصل ُيلزم
بأن يكون مرجع الفرع إليها ،وكل ما سوى األصل فهو فرع .وعىل هذا :
29
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ﮩ ،وأهنم َي َّتبِ ُع َ
ون ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ .ذلك ألهنم جعلوا
وبذلك يتضح بأن هذه اآلية اجلليلة قد أرشدت إىل اْلنهج العقيل
َّ
تستقل الصحيح يف اْلوقف من اْلحكَمت واْلشتبهات ،وهو بأن ال
فإن َّ
اختل هذا اْلنهج ،بأن استقلت اْلشتبهات باالستنباط والفهم ،أو
وكان فاعل ذلك كمن جعل الدليل مدلوال ،واْلدلول دليال ،فال بقي عنده
1439/03/04هـ
إثبات اْلدلول .وهذا هو سبب الزيغ والفتنة
َ الدليل دليال ،وال استطاع
30
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ولذلك قال ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) يف تفسري قوله تعاىل (ﮪ ﮫ
ِ
اْلتشابه ،واْلتشاب َه عىل اْلحكم ، اْلحكم عىل ﮬ ﮭ) « :حيملون
َ
سون َ ،ف َلب َس اهلل عليهم»(. )1
و ُي َل ِّب َ
ِ
دليل النهار إىل إذا احتاج يشء ِ
ُ يصح يف األذهان ر
ُّ وليس
يقيني واحد يكون باطراده سب ًبا
ٍّ احلكيم أن اخللل يف
ُ البيت
ُ بني هذا
فقد َ
لعدم صحة كل يقيني آخر ،فضال عن إخالل هذا اْلنهج باألدلة التي ترجع
ُ
فاخللل الذي بلغ من قوة إفساده والرجحان ..من باب َأوىل ،
إىل غلبة الظن ُّ
دليل ٍ
حينئذ ر اليقني سيكون بالظن الراجح أشدَّ إفسا ًدا ،فال يبقى أنه أفسدَ
َ
يقيني وال ظني !
ٌّ برهان :ال
ر يصح يف الذهن
ُّ ستنار به ،وال
ُي ُ
1439/03/04هـ
ومن أمثلة هذا اخللل :ما وقع لإلمام الغزايل (ت505ه) من الوقوع يف
31
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
يعود إىل حمكَمهتَم ،من طريق التوفيق اإلهلي .وقريب منه ما وقع
الطريقة)( ، )2والفرق بينه وبني الغزايل أن جلوء ديكارت للشك كان من أجل
الوصول لليقني( . )3لكن كال التجربتني بدأت بجعل اْلحكَمت مشتبهات ،
فتبني لصاحبها أن ذلك ُيفسد عليه كل يشء ،ويوصله إىل الشك يف كل
َ
يشء ،فعاد إىل ترتيب النظر بالطريقة الفطرية الصحيحة .
1439/03/04هـ
الشك بسبب البحث عن احلقيقة من خالل النظر اْلحسات والرضوريات والتشكيك
فيهَم ،ومل يشك لكي يتيقن ،كَم فعل ديكارت .غري أنه أثناء شكه وقبله كان تواقا
للوصول إىل طمأنينة اليقني ،فوصل إليها يف آخر اْلطاف .نعم ..هو اعترب أن الذي
أعاده للمنهج الصحيح هو التوفيق اإلهلي ،وليس اْلنهج العلمي ،لكن هذا ال ينايف
أن وصوله إىل احلقيقة كان بالسبب والطريق العقيل الذي وفقه اهلل تعاىل إليه ،وهو
الرتتيب العقيل الصحيح .
32
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
ولذلك فقد جاء الذم الرصيح يف اآلية ْلن اتبع اْلشتبهات ،وجعلها
هي األصل اْلرجوع إليه ،وأكدَ النبي أن هذا اْلنهج هو منهج أهل
فعن َعائِ َش َة (ريض اهلل عنها) قالت « :ت ََال رسول اهلل هذه ماآل َي َة (ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ
اح َذ ُر ُ
وه مم»(. )1 اهلل َ ،ف م
وينبه إىل ذلك احلافظ أبو حممد أمحد بن عبد اهلل بن حممد بن عبد اهلل
الـ ُم َزين الـ ُم َغـ َّفيل (ت356ه) ،فيذكر اْلوقف الصحيح جتاه النصوص
1439/03/04هـ
اْلشتبهة ،فيقول « :لعلَمء األثر يف تلقي األخبار اْلتشاهبة مذهبان :
33
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
أحدمها :أن اإليَمن هبا فرض كاإليَمن بمتشابه القرآن حني يقول تعاىل :
، ،
اْلحكم واْلتشابه من عند ربنا وقد استأثر اهلل تعاىل بعلم اْلتشابه يف هذا
،
القول ،فال يعلمه إال اهلل . قالوا :فمثله اْلتشابه من أخبار الرسول ،
اْلتشاهبة ؟ فقال :من اهلل العلم ،وعىل رسوله البالغ ،وعلينا التسليم َ ،أ ِم ُّروا
َ
أحاديث رسول اهلل كَم جاءت .وقال عبد اهلل بن نافع ُ :سئل مالك بن أنس
1439/03/04هـ
مذهب كثري من العلَمء .
ُ هذا
َ
والبحث عن واْلذهب الثاين :أن اإليَمن بَم قاله الرسول فرض ،
رارا من تعطيلِ
واجب يف األصول والعقول ؛ ف ً
ر متشابه التنزيل وأخبار الرسول
34
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
الصفات وآفة التشبيهات .قال :والقدوة يف هذا اْلذهب عيل وابن عباس
طريق ر
سهل ،يستوي فيه العامل ر ور ُّد األخبار واْلتشابه من القرآن
َ
وع مق ِل ُ ِ
فضل ع مل ِم العلَمء َ يتبني
ُ واجلاهل ،والسفي ُه والعاقل .وإنَم
1439/03/04هـ
صح ُحه العقول»(.)2 وحـ مم ِل األخبار عىل ما ُيوافق األ َ
صول و ُت ِّ َ
35
تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها
اْلتشابه عىل هذا الوجه ،فهو مذموم .وهو حال من يريد أن يشكك الناس
فيَم علموه ؛ لكونه وإياهم مل يفهموا ماتومهوا أنه يعارضه .وهذا أصل
الفتنة :أن ُيرتك اْلعلوم لغري معلوم ،كالسفسطة التي ُت ُ
ورث ُش ًبها ُيقدح هبا
لم و ُتـ ُيـ ِّقن .فهذه حال من يفسد قلوب الناس وعقوهلم بإفساد ما فيها
فيَم ُع َ
من العلم والعمل أصل اهلدى ،فإذا شككهم فيَم علموه ،بقوا حيارى»(. )1
1439/03/04هـ
36
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
ِ
جمموعة اْلبني عىل ِ
التصورات واألحكا ِم ، ِ
العقل من نتاج
ُّ والفكر :هو ُ
ِ
اإلنسان اْلبادئ واْلعلومات واألخالقيات والتجارب التي ّتوهيا ذاكر ُة
1439/03/04هـ
القيم ؛ فإن مل يتحدوا يف ِ
الق َيم :ففي ِ
الدِّ ين ؛ فإن مل يتحدوا يف الدين :ففي َ
العلم والثقافة واحلضارة ؛ فإن مل يتحدوا يف يشء من ذلك (ال يف ِدين وال
37
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
قِ َي ٍم وال عل ٍم وال ثقافة وال حضارة) :فلن يكونوا أمة واحدة أبدً ا .ولذلك كان
والتفر ِق واالهنيار ، األمن الفكري ألي أمة هو القوة التي ّتميها من التَّفك ِ
ُّك
ُّ
ٍ
خطر هيدِّ ُدها باهلزيمة النفسية وباالستالب احلضاري وحيفظها من أي
لآلخرين .
وق َي ِمـه
عقائده ِ
ِ ِ
يقينية فاألمن الفكري هو ُ :طمأنين ُة الفكر وثباتُه عىل
وأخالقه .
َـحـ ُّق َـق األمن الفكري يف أي أمة من األمم يعني
وبعبارة أخرى :إن ت َ
يقينَها واطمئناهنا بأحقية عقائدها وقيمها وأخالقها يف البقاء ،وليس يف
البقاء فحسب ،بل يف التأثري يف اآلخرين ،ويف قيادة أمم األرض إىل القناعة
1439/03/04هـ
بل حتى لو كانت مهزوم ًة عسكر ًّيا حمتل ًة من عدو خارجي .كَم حصل
ان ِ
غزو اْلغول والصليبيني ،فقد أثر اْلسلمون فيهم للمسلمني األوائل إب َ
وغريوا من فكرهم ،حتى وصل باْلغول حد الدخول يف اإلسالم واعتناق
عقائده ،ووصل بالنصارى حدَّ االنبهار باحلضارة اإلسالمية والتتلمذ عليها ،
38
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
أما اْلحكَمت :فلقد عرفنا من خالل تعريفها وبيان أهم سَمهتا ،أهنا
ب َ
السقوط يف ُج ٍّ األول :أي خلل يصيب هذه اْلحكَمت سيعني
من احلرية وفقدان القدرة عىل التفكري واختاذ القرار ،كَم حصل
وحيصل مع ُّ
الشـكاك واْلصابني بالوسوسة .
ِ
اْلحكَمت هي اْلبادئُ العقلي ُة الرضوري ُة الفطري ُة( )1؛ حيث إن ُأ ُس َس
1439/03/04هـ
يشء يقين ًّيا ؛ إال إذا اتفق مع مبادئ العقل
ر ألن اْلحكَمت يقينية ،ولن يكون
( )1تقوم اْلبادئ العقلية األولية عىل مبدأين أساسيني ،ومها :مبدأ عدم التناقض (أن
النقيضني ال جيتمعان وال يرتفعان) ،ومبدأ السببية (أن لكل حادث سبب) .انظر :
اْلعرفة يف اإلسالم للدكتور عبد اهلل القرين (. )305-306
39
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
الفطرية ،بل لن يكون كذلك إال إذا انطلق منها .فهذه اْلبادئ األولية هي
األساس األكرب للمحكَمت ،بل لو قلنا :إن اْلبادئ العقلية الرضورية هي
اْلحكَمت الفطرية ،لصح هذا الوصف فيها :من جهة أهنا يقينية ،لكنها
يقيني رة تسمو عىل االستدالل (عىل كل استدالل) ؛ ألهنا يقينية فطرية ُ ،خلق
العقل عليها ،وهي خاصي ُة اإلنسان التي أعطته القدرة عىل القيام بالعبودية
الصحيحة إال من هذه اْلحكَمت الفطرية .ولذلك قلنا :إن أي خلل يصيب
والضياع
َ ب من األوهام والشكوك َ
السقوط يف ُج ٍّ هذه اْلحكَمت سيعني
ّتت ُجنح الظالم الدامس من احلرية وفقدان القدرة عىل التفكري واختاذ
1439/03/04هـ
وخطورة اخللل يف التعامل مع حمكَمت الكتاب والسنة أنه خلل
منهجي يف طريقة عمل العقل ،ومثل هذا اخللل إذا اطرد (وهو األصل)
ٍ
خلل يف التعامل مع حمكَمت الكتاب سينتهي باخللل يف التعامل :من
40
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
الكتاب والسنة عليها ،كَم نبهنا عليه آن ًفا .وأي خلل وخطر أشد من مثل هذا
ويف اْلقابل :ما أعظم انتصارنا يف معركة الغزو احلضاري والفكري ،
وما أشد ّتصيننا لفكرنا وعقائدنا :إذا ما َض ِمنا سالم َة ِ
عمل العقل اإلسالمي،
وعىل قدرته عىل التفاعل اإلجيايب مع معطيات التفكري ،وعىل إصابته يف
والطمأنينة .
1439/03/04هـ
سيكون من لوازمه الثبات واليقني ،والطمأنينة هي الثبات واليقني به .
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ
41
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
أيضا .
ً
وقال الراغب األصبهاين (ت425ه) « :رسوخ اليشء ثباته ثباتا متمكنا ،
تعاىل ( :ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
1439/03/04هـ
ﯽ)[النساء.)2(»]١٦٢:
42
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
بكل ُص َو ِره ؛ ألهنا يقينية ،وأما الشبهات فأقىص ما يظنه العاقل فيها أن تكون
ظنية ،والعاقل ال يقدم َظـنَّه عىل يقينه .بل التحاكم إىل اْلحكَمت
ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رمحه اهلل (ت101ه) « :من جعل دينه
1439/03/04هـ
عر ًضا دينَه لشبهات
حمصنًا باْلحكَمت ُ ،م ِّ
َّ قلوهبم زيغ ،من غري أن يكون
ت عىل مبدأٍ
أهل الزيغ ،بل جاعال من دينه هد ًفا ومرمى لتلك الشبه ،فلن َي مثـبُ َ
أبدً ا ،ولن يدوم عىل عقيدة مطلقا ؛ ألنه قد جعل دينه مكشو ًفا هلجوم
43
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
الثابت ال
ُ احلق واْلعت َقـدُ
ُّ الشبهات اْلختلفة لكل مبدأ وألي معتقد .والدين
ينكشف للشبهات انكشا ًفا كهذا ؛ إال إذا خال من ّتصني اْلحكَمت .
ُ
العقول ،وهي « :إذا مل قد قيلت ساب ًقا عبار رة ،وهي عبار رة قد َص َّح َحتمها
مدع ٌّو» ،وال َ
ثالث هلذين ؛ أي إن كل شخص إما أن يكون تكن داع ًيا ،فأنت ُ
سفريا لدينه وأمته وحضارته داعيا إىل ذلك الدين واألمة واحلضارة ،بقوله
ً
ٍ
دعوة لدين غري دينه مرشوع وفعله اْلبارش وغري اْلبارش ،وإما أن يكون
َ
وألمة سوى أمته وحلضارة ختالف حضارته .هذه حتمية األثر والتأ ُّثر ،التي
1439/03/04هـ
َ
القول قبل ُ
العقول هذا فلئن قيلت وصحت تلك العبارة ،ولئن َقبِ َلت
عرص االنفتاح العاْلي الذي نعيشه ،قبل عرص العوْلة ،فَمذا سنقول اليوم ،
وقد أصبح العامل ُ ك ُّله يف كل بيت ،ويف يد كل شخص ،ويف أي حلظة ،
44
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
ففي ِّ
ظل هذا االنفتاح العاْلي اهلائل :مل َي ُعدم للمسلم اخليار :يف أن ال
بضخ
ٍّ يكون داعية أو ال يكون ؛ ألنه إذا مل يكن داعي ًة فسيكون َم ُ
دع ًّوا قط ًعا ،
ويف هذا الوسط الواسع من شبهات اْلخالفني الذي حييط باْلسلم من
كل جهة ،ويف كل وقت ُ ،ح َّق لنا أن نقول :جيب عىل اْلسلم اْلعارص
مسلَم !!
ً باْلحكَمت وبأدلة إحكامها :أن ُيشى عىل نفسه بأن ال يكون
واضحا ،
ً الصعب هذا ّتديدً ا
َ خياره ٍ
معارص أن حيد َد َ نعم ..فعىل ُّ
كل مسل ٍم
1439/03/04هـ
اخليارين :إما أن يكون اْلسلم اْلعارص متحصنا بَم جيب عىل الداعية أن
مدعوا
ًّ يتحصن به ،ومتسلحا بمبادئ الـ ُح َجج والرباهني التي جتعله داعيا ال
ومؤ ِّث ًرا ال متأث ًرا ؛ وإما أن يستعدوا ْلوجة هائلة بني أبناء اْلسلمني من
45
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
إرساء ِ
اإلنسانية( )1هو يف احلقيقة ِ
اْلحكَمت اخلامس :أن تثبيت
ر
لقواعد التعايش اإلنساين ؛ ألنه لن حيصل التفاهم بني بني البرش ،ولن
ٍ
أرضية مشرتكة بغري الرجوع إىل تلك االلتقاء بينهم عىل يتم
ُ
اْلحكَمت.
ِ
واحلرية ِ
العدالة فَم الذي يمكن أن يصيب البرشي َة من الدمار لو أن قِ َي َم
ِ
يقينية كوهنا ٍ
شعارات قابل ًة للتشكيك يف إحكامها ويف ِ
واْلساواة أصبحت
ِ
اإلنسانية هم ِ
اْلحكَمت َّ
يتوىل الدعو َة إىل هذه َ
وأوىل من كان ينبغي أن
اْلسلمون ؛ ألهنم أعرف الناس هبا ،والوحيدون من ُأمم األرض ممن يقدر
شان
عىل ختليص هذه اْلحكَمت من شوائب الغلو والتطرف فيها الذي َ
1439/03/04هـ
وأ َ
دخل يف أصوهلا اليقينية بعض تطبيقاهتا لدى احلضارات األخرى َ ،
َ
( )1من اْلحكَمت ما هو حمكم إنساين ،ومنها ما هو حمكم إسالمي مع كونه إنسانيا .
وسبق احلديث عن ذلك يف تعريف اْلحكَمت .
46
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
ٍ
جزئيات من الفروع الظنية ،ال مع اإلقرار بظنيتها ،بل مع اعتقاد يقينيتها(.)1
اخل مل ِ
ط بني األصول اليقينية والفروع الظنية لتلك وال شك أن من سلبيات هذه َ
ر
خلط قد غري اْلُ مسلِ َمة :أنه اإلنسانية الـمح َك ِ
مة لدى تلك احلضارات ِ ُ م
ِ القي ِم
( )1مثل أكثر حركات ّترير اْلرأة التي تسعى لتحريرها من االضطهاد وانتقاص
حقيقي جيب
ٌّ حقوقها ،إذ إن بعض ما تسعى إليه هذه احلركات التحريرية هو اضطها رد
بعضه
بعضه اآلخر ليس كذلك ،بل ُ
والتعاون عىل ّترير اْلرأة منه ،ولكن َ
ُ السعي
ُ
واحلركات عند
ُ متوه رم ال حقيق َة له .فال تقف هذه اْلنظ ُ
َمت َّ اضطها رد مزعو رم
فق عليها بني ِ
بحقوق اْلرأة اْلقطو ِع هبا وعند اْلطالبة بالعدالة اليقينية اْلت ِ اْلطالبة
1439/03/04هـ
عقالء بني آدم ،بل تتجاوز ذلك إىل ُص ٍ
ور من اْلطالبات أقل ما يقال عنها :إهنا
وجهات النظر اْلتباينة ؛ ألهنا ال تعتمد يف
ُ ٍ
اختالف ،وجيب أن ُتقبل فيها ُّ
حمل
دعوى عدالتها عىل ٍ
أدلة يقينية ،بل عىل أدلة ظنية .هذا إن مل تكن بعض تلك
مقطوعا ببطالهنا إنسان ًّيا ،قبل أن تكون باطل ًة ُبطالنًا دين ًّيا ورشع ًّيا ،
ً اْلطالبات باطل ًة
وآراء مأسور ًة يف ثقافتها وقيمها اْلتعالية – بكِ ٍ
رب ً وال تتجاوز أن تكون أمزج ًة وأذواقا
ٍ
وغرور -عىل ثقافة اآلخر وقيمه!
47
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
من تسليط فروعها عليها ،ومن أوىل منهم بالدعوة إىل تلك األصول
الـمح َك ِ
مة ،ومن أحق منهم بإقناع الناس بأن تفسريات اإلسالم لتلك األصول ُ م
األصلح واألَ موىل بإسعاد البرشية مجعاء .هذا إن كانت
ُ وتفريعاته عليها هي
ٍ
وتفريعات ٍ
تفسريات اجتهادي ًة تلك التفسريات والتفريعات يقينية ،فإن كانت
1439/03/04هـ
ظني ًة ،ففي أقل تقدير :ينبغي أن تقتنع ُأ َم ُم األرض (من غري اْلسلمني) بأن
ِ
وجهات تفاريع ُ
تقبل اختالفَ ِ
البرشية ِ
األصول التفاريع اإلسالمي َة لتلك تلك
ُ َ
النظر ،وال حيق فيها التشنيع وانتقاص الشعوب التي تلتزم هبا(. )1
48
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
آثار
آثار كلية ،تنطوي ّتتها ر
هذه بعض آثار تثبيت اْلحكَمت ،وهي ر
كثرية تتفرع عنها .فكَم أن اْلحكَمت أصول تتفرع عنها مجيع التصورات
واألحكام ،كذلك تكون آثارها :تتفرع من أصول آثارها مجيع اآلثار احلسنة
ِ
اْلتفق عليها .كقضية احلجاب :الذي ليس يف تطبيقه الصحيح ما جيعله عائ ًقا دون
حياهتا الطبيعي َة ،وأن تبلغَ غاي َة عطائها يف البناء احلضاري .
َ أن متارس اْلرأ ُة
فإن مل يقبل الغرب احلجاب ،فال حيق له أن حياربه ،كَم ُتـحارب صور االضطهادِ
َ ُ ُ ُ َ ُ
واْلتفق عىل َم مقتِها وحماربتها بني بني آدم .بل عىل الغرب أن يعرتف بأن
ِ ِ
احلقيقية
ِ
احلجاب اضطها ًدا ينايف العدالة ، تقطع بكون ٍ
يقينية رفضه للحجاب ال يقوم عىل ٍ
أدلة َ
ُ
وجهات النظر ،يف أقلِ ظني يقبل اختالفَ رفضه له ر
رفض ٌّ بل عليه أن يعرتف بأن َ
تقدير .وأن ال ُيلط موقفه من احلجاب بموقفه من صور استعباد اْلرأة االستعبا َد
احلقيقي ،واستغاللِـها جنسيا ،يف اجلرائم اْلحر ِ
مة دول ًّيا ،فيَم ُيسمى ببيوت ًّ َّ
1439/03/04هـ
الغرب من بعضه .
ُ نج
الدعارة وجتارة األطفال والرقيق األبيض ،مما مل َي ُ
تنبيه :الصحيح أن ُيطالب بالعدل بني الرجل واْلرأة ،ال باْلساواة بينهَم ؛ الختالف
ظاهر للعيان ، ر اختالف
ر اْلرأة عن الرجل يف تكوينها اجلسَمين والنفساين ،وهو
أيضا ؛ إذِ اْلساوا ُة الكامل ُة
كثريا من خفاياه غري الظاهرة ً ُ
احلديث ً والعلم
ُ و ُيثبت الطب
بني األمور اْلختلفة ليست من العدالة ،بل هي من الظلم ؛ ألن االختالف يمنع من
ُمط َل ِق اْلساواة .
49
أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي
1439/03/04هـ
50
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
تثبيت اْلحكَمت
مقرتحات عملية يف ذلك
ُح َّق هلذا اْلوضوع أن يكثر فيه النقاش ،وأن تتواله الدراسات
والبحوث ،وأن يكون جماال لعقد ندوات ومؤمترات .فهو العميل الذي
يسمو عىل التنظري ،وهو وحده ذو التأثري الواقعي يف ّتقيق أهداف هذا
تقريراته .
أفكار قابلة
ر وما أذكره يف هذا الفصل ليس سوى أفكار ،ال أشك أهنا
(علَمء ومفكرين
َ فمن وسائل تثبيت اْلحكَمت التي عىل األمة
1439/03/04هـ
وأصحاب قرار) أن يلتفتوا إليها ،ما ييل :
َ
األول :تثبيت أصول الدين يف قلوب أبناء األمة باألدلة اليقينية ،
ٍ
عقيدة أو َر مأ ٍي . كل ٍ
فكر أو لتكون هي اْلحكَمت التي ُيـحاكمون إليها َّ
51
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وهذا حيتاج (أوالً) :إىل ختليص أصول الدين ح ًّقا من كثري من
تفاريعها التي اختلطت هبا عىل مر األزمان ،والتي نشأت يف غمرة السجال
العقائدي بني طوائف اْلسلمني ،وتسللت إىل أصول الدين ،وهي ليست
منها .
احلقيقي ُة ال بد أن يكون مرجعها إىل األدلة العقلية ؛ ألننا نواجه ُش ًبها إحلادية
1439/03/04هـ
أكثر ما تفيده من اليقني ،
فاألدلة النقلية (من القرآن وثابت السنة) ،وما َ
بل هي اهلب ُة الرباني ُة التي هتدي لطمأنينة اليقني احلقيقي ؛ إال أنه ال بد من
إثبات صلة هذه األدلة النقلية بالوحي اإلهلي أوال .وينبغي يف هذا السياق أن
52
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وإثبات أن ذلك
ُ ِ
بفطرية وجود اهلل تعاىل ووحدانيته ، أوال :التذكري
َ
اإلنفكاك منها ؛ إال بتشويه متعمد رضور رة عقلية ال يستطيع العقل البرشي
للفطرة البرشية .وأن يتم ذلك باألدلة العقلية الصحيحة ..أوالً ،ثم ببقية
-كتاب :كربى اليقينيات الكونية ،لفضيلة الشيخ حممد سعيد رمضان البوطي.
الطبعة الثالثون1430 :ه .دار الفكر اْلعارص :بريوت.
-وكتاب :الكليات األساسية للرشيعة اإلسالمية ،لألستاذ الدكتور أمحد
الريسوين .طبع دار السالم :القاهرة .
53
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
بثورة عىل حيث إن احلضارة الغربية التي تغزو العامل اليوم إنَم قامت
من عقائده وتعاليمه .وهي ال تعرف التفريق بني الدين اْلحرف والدين احلق
اْلحفوظ ،ولذلك فهي حضار رة قامت عىل فلسفة اإلحلاد ،وهذا ما جيعل
ويف ِّ
ظل هذه احلضارة اْلادية الوجودية أصبح التشكيك يف احلقيقة
الفطرية الثابتة يف عقل كل إنسان (وهي وجود اهلل تعاىل) ظاهر ًة خطري ًة ،
ثان ًيا :ومن هذه األصول اْلهمة جدا :إثبات نبوة النبي ، وأنه خاتم
1439/03/04هـ
أيضا(: )1
األنبياء ،وباألدلة العقلية ً
( )1وإن أردنا إثبات النبوة باْلعجزات احلسية التي روهتا األخبار ،كتلك األخبار الثابتة
ب دالئل النبوة (كدالئل النبوة :للفريايب ،وأليب نعيم ،وللبيهقي ،
التي ُعنيت هبا ُك ُت ُ
عقيل ُيثبت صحتها ،كَم
ٍّ ٍ
بدليل وأليب القاسم التيمي ،ونحوها) ،فال بد أن نَـ مق ِر َهنا
54
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
بالغي(.)1
ٍّ oمن
فعل اإلمام أبو بكر الباقالين (ت403ه) يف كتابه التمهيد (. )135 -134
( )1مع كثرة ما كُتب يف اإلعجاز البالغي يف تراثنا اإلسالمي ،ومع جاللة كثري من ذلك
الرتاث ،خاصة ما كتبه القايض عبد القاهر اجلرجاين (ت474ه) ؛ لكن يبقى أن هذا
الرتاث ال يستفيد منه إال اْلتخصصون يف اللغة واألدب العربيني ،وهو بعيد عن
1439/03/04هـ
عموم اْلثقفني ،فضال عمن سواهم .ولذلك فنحن يف حاجة ماسة إىل تقريب
اإلعجاز البالغي لعموم اْلسلمني بأسلوب سهل ،تفهمه أوسع رشحية ممكنة
أظهر وجوه اإلعجاز القرآين ومن أثبتها .
منهم ،خاصة أنه ُ
ومن اجلهود اْلعارصة التي تناسب الذوق احلديث ويمكن أن يتفاعل معها عموم
اْلثقفني والدارسني (من غري أهل االختصاص) يف إظهار اإلعجاز البالغي يف
القرآن :كتاب (التصوير الفني يف القرآن) :لسيد قطب .
55
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وغيبي .
ٍّ o
وترشيعي(.)1
ٍّ o
ولقد كان للشيخ حممد متويل الشعراوي (ت1419ه) جهدر متميز يف تقريب بعض
النسج
َ وجوه اإلعجاز البالغي بأسلوب سهل ممتع يف دروسه التلفزيونية ،يستحق
عىل منواله فيها وتطويره وتنقيحه.
( )1اإلعجاز الترشيعي :هو بيان حماسن الترشيعات اإلسالمية :يف ثباهتا ،وشموهلا ،
تتم إال وأهنا األصلح لكل ٍ
زمان ويف كل مكان وأن سعادة البرشية يف الدنيا واآلخرة ال ُّ
،
هبا.
ختصيصا (حسب اطالعي) :هو كتاب (حماسن الرشيعة)
ً وأقدم ما كُتب يف ذلك
كتاب كُتب لغري أهل
ر لإلمام أيب بكر القفال الشايش الكبري الشافعي (ت365ه) .لكنه
متاما عن اهتَمماتنا .وال يعني أنه ال ُيستفاد منه يف ٍ
عرصنا ،وباهتَممات ختتلف ً
عرصنا ،لكنه يعني أن ُيستفاد منه ويزاد عليه و ُيتمم ألهل عرصنا .
1439/03/04هـ
وكل من كتب عن جمال اْلصلحة أو يف جمال مقاصد الرشيعة اإلسالمية فقد
تضمنت كتابته بيان حماسن الترشيع ،منذ القرن الرابع اهلجري ،مرورا باجلويني يف
اخلامس ،فالغزايل ،فالعز ابن عبد السالم يف السابع ،فالطويف ،فابن تيمية يف
الثامن ،وانتهاء بالشاطبي .ثم ما كتبه اْلعارصون يف مقاصد الرشيعة :بدءا بالطاهر
وعالل الفايس ،مرورا باإلسهامات العديدة للدكتور أمحد الريسوين ،
ابن عاشور َ ،
تباعا مؤسسة الفرقان
وانتهاء بالعديد من الدراسات القريبة التي أصدرهتا وتصدرها ً
56
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
1439/03/04هـ
يف سنتها األوىل سنة 1951م .
وهناك حماوالت متفرقة يف هذا الباب ،كاْلقدمات اْلخترصة التي كان يكتبها
الشيخ سيد سابق يف كتابه (فقه السنة) يف فاّتة األبواب ،وكدراسات أخرى عديدة.
لكن عمومها حيتاج إىل تعميق واستدالل عليها ،وتقويتها بعقد مقارنات بني الترشيع
اإلسالمي والقوانني اْلعارصة ،وبيان الفرق بني الترشيعني يف واحد مما ييل :يف
أي منهَم ،أو بيان عدالة األحكام والقوانني وإنسانيتها
جريان اْلصلحة يف ٍّ
57
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
معنوية(.)1 ودالئل ذات ٍية
َ o
ِ
وغري ذلك من وجوه إعجاز القرآن الكريم . o
وصالحيتها لكل عرص ،أو بيان السبق إىل ّتقيق اْلصلحة َ :من فاز به .وأن يكون
ذلك كله بأسلوب سهل ،وبأدلة صحيحة موثقة ّ ،ترتم العقل ،وتؤدي إىل القناعة
الصحيحة الثـابتة .
( )1الدراسات يف هذا اجلانب قليلة جدا ،مع أمهيته القصوى ،ومع قرب إدراكه إىل
أكثر األفهام لدى عموم اْلثقفني من غري أهل االختصاص الرشعي أو اللغوي ،ومن
كتب ثالثة :
أهم الدراسات يف ذلك ر
-كتاب :تثبيت دالئل النبوة :للقايض عبد اجلبار اْلعتزيل (ت415ه) ،ومل يعد
1439/03/04هـ
أمرا مفهو َم اْلعنى ْ ،لجرد أن مؤلفه معتزيل ،أمام
إمهال هذا الكتاب العظيم ً
موجة اإلعراض والشك التي ُوجدت يف كثري من بقاع العامل اِإلسالمي .ولو
بعد اْلراجعة له والتنقيح ،أو التعليق .
-كتاب :النبأ العظيم ْ :لحمد بن عبد اهلل دِ َراز (ت1377ه) ،وهو كتاب عظيم ،
ومرشوع حيتاج إىل إمتام .
-الظاهرة القرآنية ْ :لالك بن نبي (ت1393ه) .
58
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
-ومنها النقد الذايت والتحلييل لسرية النبي ، بَم ُيظهر صدق النبوة
ٍ
جمموعة من كتب فقه السرية اْلعارصة :ككتاب مالمح متفرق ًة من ذلك يف ( )1جتد
َ
الغزايل والبوطي وغريمها .كَم جتده يف بعض الدراسات األخرى ،من مثل :
جمموعة مؤلفات القبطي اْلرصي نظمي لوقا (ت1407ه) ،ومن أمهها كتاب
(حممد الرسالة والرسول) و(حممد يف حياته اخلاصة) وغريها من مؤلفات هذا
الكاتب اْلسيحي اْلنصف ،ومنها ( :شخصية رسول اهلل بني تصوير الوحي
وتصورات الدارسني) للدكتور سعيد اْلغناوي ،و(عظمة حممد خاتم الرسل)
1439/03/04هـ
للشيخ مصطفى الزرقا ( ،ولوحات نبوية) للشيخ عبد الوهاب بن نارص الطريري .
ٍ
منصـفة لـبعض الغـربيني ،وقـد اعتنـت ٍ
عبارات وجتد هذا اْلعنى جل ًّيا يف تضاعيف
بعض الكتب بجمعها ،مثل ( :اإلسالم يف نظر أعالم الغـرب) للشـيخ حسـني عبـداهلل
باسالمة و(ثناء الغربيني عىل سيد اْلرسلني )للسيد حممد بن علوي العيدروس،
،
و(حممد عند علَمء الغرب) للشيخ خليل ياسـني وابنـه الـدكتور حممـد ياسـني ،
وهو أمجع هذه الكتب يف جماله .
وما زال هذا الباب يف حاجة ماسة إىل إكَمل بحثه وإبرازه باألسلوب العرصي
59
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
نبوة النبي ^ ،فال جيوز إغفاله ،بل جتب العناية به غاية العناية ،
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الصف ، ]٦ :وقال
تعاىل ﭽﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁﮂ ﮃ
1439/03/04هـ
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮊﮋﮌ
اْلناسب ،مع العناية التامة بالتوثيق القوي لتلك االعرتافات من مصادرها األصلية ،
مع الداللة عىل أماكن وجود تلك اْلصادر .
60
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ثال ًثا :ومن األصول التي جتب العناية بتثبيت اليقني هبا ُ :
دفع ُّ
الشبه عن
إال أن هناك شكوكًا -كانت وما زالت -ختتطف بعض أبناء اْلسلمني ،
فتثري لدهيم الريب يف يقينية حفظ القرآن الكريم ! وما كان لتلك التشكيكات
1439/03/04هـ
اليقني بحفظ القرآن الكريم لدى أولئك اْلخت َطفني من اْلسلمني
َ أن تزحزح
ضعف يف التكوين الفكري واْلعريف لدهيم ،لوال تقصري ِ
قادة العلم ُ لوال ال
ُ
واْلعرفة وقادةِ التنفيذ من السياسيني يف ّتصني أبناء وطنهم وأمتهم
واإليَمين .
َّ والعلمي
َّ العقيل
َّ التحصني
َ
61
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ولذلك :ال يصح أن ختلو مناهج التعليم اإلجباري اليوم ما يبني كيفية
الصديق
كتابة القرآن الكريم وحفظه يف زمن النبي ^ ،ثم يف زمن أيب بكر ِّ
(ريض اهلل عنه) ،ثم يف زمن عثَمن بن عفان (ريض اهلل عنه) .
هي عالقتها باألحرف السبعة ،وأن بقاء قراءة واحدة من القراءات العرش
()1
اليقينية الثبوت كافية حلفظ القرآن ،وأن حفظ باقيها تأكيدر عىل قوة حفظ
وهناك أسئلة أخرى جيب أن ّتيط هبا مناهج التعليم اإلجبارية :
-1ما حقيقة نسخ التالوة ؟ وهل يمكن أن يكون ثبو ُته مش ِّككًا يف حفظ
()2
القرآن الكريم؟
( )1ومن الكتب النافعة يف ذلك :كتاب (االختيار عند القراء :مفهومه ،ومراحله ،وأثره 1439/03/04هـ
يف القراءات) للدكتور أمني بن إدريس فالته .من مطبوعات كريس القرآن الكريم
وعلومه يف جامعة اْللك سعود بالرياض ،سنة 1436هـ .
( )2انظر إلثبات نسخ التالوة :كتاب (مرويات نسخ التالوة :مج ًعا ودراسة) لرياض
حسني عبد اللطيف الطائي .طبعته األوىل 1435 :هـ .الدار األثرية َ :عَمن –
62
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وعالقة تلك الدعاوى بتطور داللة مصطلح النسخ بني اْلتقدمني من
ِ
يقينية القرآن الكريم يف ذلك ك ِّله ويف غريه ، ب أدل ُة
ُستوع َ
َ جيب أن ت
األردن .وهي رسالة ماجستري يف جامعة العلوم اإلسالمية العاْلية ،بعَمن .
وانظر :مقايل اْلنشور يف موقعي الشخيص بعنوان « :أثر إنكار نسخ التالوة يف
التشكيك بالقرآن» .
1439/03/04هـ
https://www.dr-alawni.com/articles.php?show=155
درسا مصورا ّتدثت فيه عن ثبوت آية الرجم اْلنسوخة تالوة ،وهو بعنوان :
وانظر ً
اْلجلس اْلفتوح -حد الرجم ونقاش منكريه :
=https://www.youtube.com/watch?v=PZjb0L7OohA&index
1&list=PLMQtoa0AhxvJ4jP3HiWObsEQRq8P_sbpw
( )1انظر دريس اْلنشور يف موقع اليوتيوب بعنوان « :اْلجلس اْلفتوح -الرد عىل من
أنكر النسخ يف القرآن الكريم» :
https://www.youtube.com/watch?v=ikNcfLy2YY4
63
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
راب ًعا :ومن األصول التي جتب العناية بإبراز أدلة إحكامها اليقينية :
اْلزعوم .
والضياع ِ
ني ،وبغري إثبات ذلك َ فبغري بيان سالمة السنة من هذين ال َقدم َح ِ
ني
باألدلة القاطعة :ال يمكن اْلطالبة باعتَمد السنة مصدرا من مصادر الترشيع ،
1439/03/04هـ
وال يمكن تصحيح االحتجاج باألحاديث النبوية .
64
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
للمسلم الذي يؤمن بالقرآن .وتفصيل ذلك ليس هو مقصد هذا البحث ،وإن
ٍ
طرف منه ال تعارضه(. )1 كانت اإلشارة إىل
وبعد ذكر هذه األصول األربعة التي ال بد من احلرص عىل بيان إحكامها
وإبراز أدلتها اليقينية ،جيب أن ُأذكِّر بأن ذكري هلا مل يكن إال من باب
رضب اْل َثل بأهم هذه األصول وليس هذا البحث اْلخترص ً
حمال للحرص ،
وال للتعداد ؛ فمجال عدِّ األصول التي جيب احلرص عىل تثبيت اليقني هبا
، بعض أولويات هذه األصول قد تتغري من ٍ
حال إىل حال ر
جمال طويل ؛ كَم أن َ
ال يف كوهنا أصوال لكن يف أمهيتها ضمن ُسلم األصول .فلئن كان ما يتعلق
،
1439/03/04هـ
واضحا حول اختالف األولويات باختالف
ً ولكي يكون الكالم
( )1يل بحث منشور يف موقعي الشخيص بعنوان :األدلة اليقينية عىل حفظ السنة النبوية .
http://www.dr-alawni.com/files/books/pdf/1432345339.pdf
65
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ال بتقريرات نظرية فقط( ،)2بل ( :أوال) بإثبات ذلك بدراسات جادة صادقة
( )1هناك تقريرات مجيلة لبيان إسهامات اْلسلمني يف احلضارة اإلنسانية لبعض العلَمء
والباحثني العرصيني ،ومنها تقريرات قديمة ،بدأت منذ مطلع القرن الرابع العرش
اهلجري ،يف فرتة االستعَمر ،وبعد سقوط اخلالفة العثَمنية .من مثل كتاب األمري
شكيب أرسالن (ت1366ه) (ْلاذا تأخر اْلسلمون وْلاذا تقدم غريهم) ،وكتاب
(اإلسالم واحلضارة العربية) ْلحمد كرد عيل ،و(علَمء العرب وما أعطوه
للحضارة) لقدري حافظ طوقان ،و(فضل العرب عىل الغرب يف جمال البحث
التجريبي) ،للدكتور حممد عبد رب النبي سيد ،و(تراث العرب العلمي يف
ٍ
دراسات مطولة الرياضيات والفلك) لقدري حافظ طوقان ،وغريها كثري .لكنها بني :
اْلقنعة بسبب ضعف التواصل ِ ِ
لإلثباتات ٍ
ودراسات تفتقد غري قابلة للتداول العام ،
1439/03/04هـ
ٍ
عاطفية تَـكمـ ُث ُـر فيها ٍ
ودراسات العلمي مع اْلكـتشفات احلديثة ومراكزها العاْلية ،
اْلغالطات وال َق مفزُ عىل احلقائق العلمية .
ُ
فَم زال اْلسلمون حيتاجون إىل مشاريع علمية يف هذا اجلانب ،تناسب ذوقهم
العرصي يف عرضها ،وّترتم عقوهلم يف استدالالهتا .
( )2وال يعني ذلك االستخفاف بالتقريرات النظرية ،بل هي يف غاية األمهية .ولو مل يكن
من أمهيتها إال الرد عىل الطرح اْلتطرف اْلشار إليه يف التعليقة السابقة لكفى ،
66
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
تكشف أثر احلضارة اإلسالمية يف أوج جمدها عىل حضارات العامل كلها
قدموا للبرشية خدمات جليلة يف جمال التقدم العلمي الكوين .وهذا يبني لنا
وجها جديدً ا لرضورة اْلسابقة إىل العلم احلديث والتِّـ مقـنِية ،وهو أن وجود
ً
كيف وهو من وسائل تثبيت هذه اْلحكمة لدى طبقة معينة من القراء واْلثقفني .
ومن هذه اجلهود اْلشكورة يف هذا اْلجال :جمموعة إصدارات يف الشهود
احلضاري لألمة اإلسالمية للدكتور عبد اْلجيد النجار ( :فقه التحرض اإلسالمي) ،
و(عوامل الشهود احلضاري) ،و(مشاريع اإلشهاد احلضاري) .ومنها كتاب (:منهج
احلضارة اإلنسانية يف القرآن) للدكتور حممد سعيد رمضان البوطي ،وكتاب :
(اإلسالم ومنطلقات اْلشرتك احلضاري البرشي) لألستاذ الدكتور حامد أمحد
الرفاعي .
1439/03/04هـ
( )1مثل كتاب :شمس العرب تسطع عىل الغرب ،لزغريد هونكة ،وحضارة العرب :
لغوستاف لوبون ،واحلضارة اإلسالمية يف القرن الرابع اهلجري :آلدم متز ،وتاريخ
ضائع (الرتاث اخلالد لعلَمء اإلسالم) ْلايكل هاميلتون مورجان .
سوى ما كُتب عن أثر اْلسلمني عىل علم خاص من العلوم ،من مثل :علم الفلك
لكرلو َم ِّلينو ،وتاريخ األدب اجلغرايف
تارُيه عند العرب يف القرون الوسطى :م
العريب :لكاراتشكوﭬسكي .
67
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
احلقيقية(. )1
( )1وال ُيفى أن التقدم العلمي والتفوق احلضاري ال يدل عىل صحة الدين ؛ ألن الدين
تأثريا سلب ًّيا) قد ُي مق ِصيه أتباعه عن مناحي
الباطل أو اْلحرف (الذي يؤثر عىل العلم ً
نفسه
احلياة وعن مناهجهم العلمية (كَم حصل مع النصارى) ،أو قد يكون دينهم ُ
يؤصل للعلَمنية (دع ما لقيرص لقيرص ،وما هلل هلل) ،وقد يكون دينًا ال ُين ِّظ ُم احلياة وال
يضع القوانني وال يعطي أي تفسري له عالقة بالوجود (كالبوذية) ،وإنَم هو نصائح
أخالقية ورياضات نفسية .
ولو كان التقدم العلمي والتفوق احلضاري دليال عىل صحة الدين ،للزم من ذلك
صحة األديان اْلتناقضة !! فحضارة اليوم من أوربا وأمريكا إىل اليابان والصني ،فيها
اليهود والنصارى والبوذيون وغريهم ،وكل دين منها ال يعرتف باآلخر ،ومع ذلك
1439/03/04هـ
كانت كلها صاحب َة السبق العلمي والتفوق احلضاري يف العرص احلديث .
نن ومناهج ،من أخذ هبا ،وصل وفاز .
فللتقدم العلمي والتفوق احلضاري ُس ر
ومع اهتام اإلسالم بأنه ال يتفق والتقد َم واحلضار َة ،سيكون من أساليب الرد :بيان أن
(قديَم وحدي ًثا) قد عاشوا يف أكناف اإلسالم ويعيشون معتنقني
ً العلَمء اْلسلمني
عقائدَ ه ومتمسكني بأحكامه ،ومل جيدوا يف ذلك شيئًا من التعارض والتناقض ،بل
وجدوا فيها داف ًعا للبحث واالكتشاف واإلبداع .
68
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
الندوات النخبوية ،فال يكفي ولن يؤدي األثر الذي نريده منها .
أنواعه) هبذه اْلحكَمت ،بطريقة مبارشة وغري مبارشة ،مع العناية بتنويع
وسائل هذا التكرار اْلعريف ؛ لكي ال ُيمل ،وأن ُيعتنى بتحسني األساليب غري
ٍ
إشعار بالوصاية اْلبارشة ؛ لكي تتسلل القناع ُة منه إىل القلوب بغري
والفرض .أما األساليب اْلبارشة ،فقد ّتدثنا عنها ساب ًقا ،وعن حاجتها
1439/03/04هـ
الرضورية إىل العناية بإبراز أدلتها اليقينية .
اْلحكَمت .
69
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
اإلقناع عن تلك
ُ سبق ذكر بعضها ،فإن اإلقناع ال يقترص عليها ،وال يستغني
نصوص الوحي
ُ كثريا
• احلديث الوجداين العاطفي ،والذي حفلت به ً
؛ يف الكتاب والسنة ،حتى يف سياق ذكر األحكام والتنظيَمت
( )1
( )1وانظر (عىل سبيل التمثيل) لآليتني التاليتني الواردتني يف ترشيع أحكام األرسة
1439/03/04هـ
والطالق والتزويج ،كيف زخرت باخلطاب الوجداين األخاذ ،فيقول اهلل تعاىل :
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ
ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆﮇﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎﮏﮐ
ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ
70
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
َّ
اْلرشد ،فهو من ومن صور اخلطاب الوجداين :اخلطاب الوعظي
عاطفي ،جيعل
ٌّ خطاب
ر أقوى الوسائل اْلعينة عىل تثبيت اْلحكَمت ؛ ألنه
ِ
الستقبال احلقائق ،مستعد ًة لتغيري القناعات ،منطلق ًة من ضغط النفس قابل ًة
أو يف سبيل السلوك الذي تستلزمه القناعات الراسخة .وال ختفى آثار
اخلطاب العاطفي يف حشد اْلشاعر الطاغية عىل التفكري ،ولئن استغل ذلك
وما ظهور بعض الوعاظ اليوم واجلَمهريية الواسعة التي يتميزون هبا؛
دليل ر
ماثل عىل قوة تأثري خطاهبم الوجداين ،وأهنم جيب أن يتعاونوا مع إال ر
وقد تنب َه إىل ذلك ابن اجلوزي (ت597ه) قبل نحو ثَمنية قرون ،حيث
1439/03/04هـ
قال « :وقد كان مجاع رة من السلف يرون ختليط ال ُقصاص ،فينهون عن
كثر
حضور القصص صا ًّدا هلم .واليوم َ
َ ذلك الزمن متشاغلني بالعلم ،فرأوا
ﮥ ﮦ ﮧ) [البقرة.]232-231:
71
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
وعظ َ :ي ُر ُّده عن ذنب ،وحيركُه جملس فأنفع ما للعامي ُ
اإلعراض عن العلم ،
ُ ُ
إىل توبة .وإنَم اخللل يف القاص ِ ،
فليتق اهلل .)2(»)1(
ولئن كان جملس الوعظ يف زمن ابن اجلوزي يكاد يقترص عىل أنه َي ُر ُّد
وأعَمل ِ
الـم مشجاة (الدراما) يف ِ • االستعانة بالفنون األدبية واجلَملية
ٍ
تصوير ِ
فنون ٍ
قصص وروايات ،ومن تثبيت اْلحكَمت :من
1439/03/04هـ
ِ
اختالف اْلرحلة ،وعدم اجلمود عىل ما كانت تقتضيه ( )1هذه صور رة من ُص َور فِ مق ِه
مرحلة السلف !!
( )2صيد اخلاطر البن اجلوزي ( ، 108-109اخلاطرة رقم . )60
زلت أعجب من ِ
قوة أثر الرسوم اهلزلية (الكاريكاتورية) ،ورسعة بلوغها إىل ذلك ( )3ما ُ
األثر ،وتركيز الرسالة التي توصلها وكثافتها ،وقدرهتا الفائقة عىل ترسيخ رسالتها
72
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
لقد ثبت ِعظَ ُم تأثري ذلك ك ِّله ،وثبتت سع ُة الرشحية التي يتناوهلا بالتأثري،
.فال قادر عىل إلغاء العقل من خالل سحره اإلقناعي غري الربهاين
( )2
وأنه ر
جيوز إغفال هذا الوجه ،وإال سنجد أنفسنا خارج سياق التاريخ ،إذا ما نحن
1439/03/04هـ
رفضا قاط ًعا ، ُ
العقل ً ( )2لقد كانت (وما زالت) فكرة اخلالص النرصاين فكر ًة يرفضها
فال يستطيع فهمها ،فضال عن القناعة هبا .وكان دعاة النرصانية ال جيدون وسيل ًة
لإلقناع هبا ؛ إال من خالل العواطف التي تطغى عىل العقل .حتى خرج الفيلم
العاْلي الشهري (آالم اْلسيح) ،والذي هز العامل ،واستطاع أن ُيك ِّثفَ اهل َّز العاطفي
الـمكن ُة اإلخراجي ُة ْلنتجيه ،فحقق
والسخر َة الوجدانية إىل آخر حدٍّ وصلت إليها ُ
ُّ
ٍ
قرون مضت! ذلك الفيلم هد ًفا مل يستطيع القساوس ُة ّتقيقه بآالف اْلواعظ منذ
73
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
من مثل تعليل األحكام الرشعية ،وبيان مقاصدها ،وّتقيقها للمصالح .
مقدار تقصرينا يف إشاعة األدلة اليقينية التي تثبت الربوبية وصحة النبوة
الرسوخ بالعلم (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
1439/03/04هـ
ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [آل عمران ، ]٧ :فكيف نطالب َ
غري الراسخني من
( )1انظر اْللحق الثاين يف آخر البحث لنموذجٍ من فتوى تقليدية ،لكنها ُبنيت عىل فقه
اْلحكَمت واْلشتبهات .
74
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
يصح أن
ُّ إيَمن الناس ما يفوق ُقدرته ،وال
َ ُـحمل
نعم ..ال جيوز أن ن ِّ
نُثقل قلوهبم باْلطالبة بتسلي ٍم قرصنا نحن يف ترسيخ قواعده عندهم ،وذلك
بل لقد كان اخلرض (عليه السالم) يعلم أن التسليم له الذي سيكون
1439/03/04هـ
ُ
التسليم له ،وهو :عدم معرفة موسى (عليه السالم) بالغيب الذي َأ مط َ
لع اهلل
75
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ولقد عجز موسى (عليه السالم) فعال عن ّتمل ذلك القدر من التسليم ،
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭼ [الكهف: بقوله ﭽ ﭝ
،]٧٦فلَم عجز موسى (عليه السالم) عن ّتمل التسليم الذي كان يطالبه به
ْلوسى :وكيف تصرب يا موسى عىل ما ترى مني من األفعال التي ال علم لك بوجوه 1439/03/04هـ
معي عليها ،وأنت إنَم ّتكم عىل صواب اْلصيب وخطأ اْلخطئ
صواهبا ،و ُتقيم َ
دليل ظاه ٍر لرأي عينك عىل
بالظاهر الذي عندك ،وبمبلغ علمك ،وأفعايل تقع بغري ٍ
ث آجل ًة َ
غري عاجلة ،ال علم لك باحلادث عنها، صواهبا ،ألهنا تبتدأ ألسباب َتـ محدُ ُ
ربا ،يقول :علَم» . )334 /15( .
ألهنا غيب ،وال ّتيط بعلم الغيب ُخ ً
76
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
1439/03/04هـ
أو اخلرب ،فبدال من أن يعرتفوا للناس باجلهل أو العجز ،بدال من أن يقولوا :
ِ
اْلستفه َم أمام ذلك االمتحان اخلطري ،دون رمحة َ
السائل ال ندري ،يضعون
77
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
أشهد :ما هؤالء بالدُّ عاة الناصحني وال باْلفتني العالِـمني ،وما َأبعدهم
ِ
واإلفتاء احلقيقي . ِ
الدعوة منصب ِ
أهل عن منازل العلَمء الربانيني ،الذي هو
ُ
ِ
إظهار موافقته عىل أن هذه اْلطالبة بِ َعـ مق َل ِنة اخلطاب الرشعي من خالل
تعني إلغاء واجب التسليم ،بل ستبقى اْلطالبة بالتسليم يف حملها الصحيح
تسليم) لكنه عقيل !! فليس كل تسلي ٍم مناف ًيا لعمل العقل ،
ر تسليم (وهو
ر هناك
بإدراك موضع احلكمة القطعية وأحق مني يف ّتديد معامل اخلريية اليقينية ،
1439/03/04هـ
ُ
فالعقل يقبل هبذا التسليم مع اْلخلوق الذي ُيقر له باألعلمية وباألحقية فيَم
ال علم له به وال أهلية عنده عىل تقديره ،فكيف يرفض العقل ذلك مع اخلالق
عز وجل ؟! إذ هذا التسليم العقيل هو التسليم الذي يؤمن حقا بمضمون هذا
78
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
اْلطالبة بالتسليم فيَم ال يصح فيه إال التسليم ..فقط ،وأن نجعل ِح مر َصنا
ومصالح
ُ احلكم ..ما أمكننا ذلك ،لتكون ِحك َُم الترشيع
متوجها إىل إظهار ِ
ِّ ً
األظهر للرشيعة اإلسالمية يف نفوس
َ والتفسري
َ نوان األبرزَ
األحكام هي ال ُع َ
اْلسلمني .
1439/03/04هـ
اْلحكَمت بأدلتها اليقينية .
79
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
فمع أن اْلحكَمت قد تكون ثابتة بأدلة قطعية يقينية ؛ إال أن التشكيك قد
أيضا ،وذلك فيَم إذا غاب فق ُه التعامل مع اْلحكَمت .وهو ذلك ُ
يطاهلا ً
الفقه الواضح الفطري :من وجوب إرجاع اْلشتبه للمحكم ،وليس العكس.
ولذلك كان هذا اْلنهج هو ما ذكرته آية اْلحكَمت اجلليلة ،كَم سبق بيانه.
(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)
[آل عمران. ]٧ :
وهذا اْلنهج جتاه تثبيت اْلحكَمت ،وهو منهج وجوب تقديم اليقني
عىل الظن ،ووجوب إرجاع الظن إىل اليقني ،فضال عن الشك والوهم
1439/03/04هـ
اْلوقف األصح واألنجع من موقف الدفاع اجلزئي جتاه التشكيكات
دفاعا َ
نفصل عن حمكَمته ،خرج ًمنهج الدفاع اجلزئي إذا ما ا
ُ والشبهات ؛ إ مذ
ُّ
80
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
شك ظني ،فمهَم قوي الرد يف الظن ،فسيبقى للشك إليه ُفسح رة َ
مقابل ٍّ ظن ًّيا
قوانني عقلية بدهية ،ومع بدهيتها فهي حمتاج رة إىل تدريسها وإدخاهلا يف
مناهج التعليم اإلجباري ،وإىل دوام التذكري هبا ،ولربَم البداية هبا عند كثري
وكثريا ما يغفل
ً كثريا ما تغيب عن ذهن من ُيصابون بداء الشك واالرتياب ،
ً
بالش ِبه والرتهات من أبناء اْلسلمني ،ما ييل :
عنها اْلختت َطفون ُّ
1439/03/04هـ
القانون األول :أن اليقني ال يزول بالشك ،وأن الشك ال ُيقدم عىل
اليقني .
ٍ
شبهة متعلقة بدية اْلرأة ،وْلاذا كانت عىل النصف من دية ( )1انظر اْللحق الثالث لرد
الرجل ،ويعتمد الرد عىل فقه اْلحكَمت .
81
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وإزال َة اليقني بالشك ،بال تن ُّب ٍه من أصحاب تلك العقول إىل أن عمل عقوهلم
لذلك كان من الواجب أن نعيد عمل العقل إىل طبيعته ،من خالل
التذكري الدائم هبذا اْلنهج الفطري ،ومن خالل تصحيح ٍ
عدد من األخطاء
التي ُبنيت عىل الغفلة عنه ،لكي تتنبه تلك العقول إىل خلل طريقة عملها ،
ولتعود األعَمل الذهنية إىل قواعدها الفطرية التي ُخلقت عليها .
ِ
اليشء ال يلزم منها أن ال ُيشك َ
ِّك فيه أحدر ، القانون الثاين :أن يقيني َة
1439/03/04هـ
يقيني واحد .وما
ٌّ ،ال ينبغي أن ُينزله ذلك عن منزلة اليقني ؛ وإال ْلا بقي لدينا
دمنا موقنني بوجود يقينيات ،فاْلنهج الذي ينفي وجود اليقينيات نف ًيا مطل ًقا
منهجا
ً يقيني ْلجرد ُوجود َمن ُيشك ُ
ِّك فيه) سيكون ٍّ (وهو الذي َي ُش ُّك يف ِّ
كل
باطال .
82
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
يقينيتَه ُو ُرو ُد االحتَمالت الساقطة عليه ؛ إذ كل قطعي متفق عليه يمكن إيراد
االحتَمالت عن يقينيته
ُ االحتَمالت الساقطة عليه ،ومع ذلك فلم تُنزله تلك
1439/03/04هـ
حواسك بمن حولك من الناس واْلارة ؟!
َّ
ِ
يقينية اليقني ؛ إال إن مثل هذه االحتَمالت الساقطة ال يمكن أن تؤثر يف
سيشك يف َيـ ِقين ِـيـ ِة كونه شاكًّا ! فإن فعل ،فَم َأب َقى
ُّ يشء ،حتى من شكه ،ف
83
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
لذي ٍ
عقل من سبيل إىل حواره .وإن تيقن من ش ِّكه هذا ،أي :إن َتيق َن من
كونه شاكًّا ،مع ورود االحتَمالت الساقطة عىل يقينه من شكه ،فقد رجع عن
ٍ
احتَمل عليه ،حتى لو أي ِ
يصح أبدً ا مع ُو ُرود ِّ
ُّ دعواه التي تقول :إن اليقني ال
ً
احتَمال ساق ًطا ! كان الوار ُد
القانون الثالث :أن فروع الدين وفروع التصورات يكفي إلثباهتا غلب ُة
غري
ب اليقني فيها – فوق كونه َ فروع ليست أصوال ،و َتطَـ ُّل ُ
ر الظن الغالب ،فهي
ف عليها غال ًبا ،وهي الظن الراجح : لوسيلة كافية للتعر ِ
ٍ ر
تعطيل الزم – فهو
ُّ
غلبة الظن .
فليس كل ما ننسبه للدين جيب أن يكون قطع ًّيا ،كَم يتومهه بعض
الناس ،حتى استغربوا واستنكروا نسبة أمر للدين بالظن الغالب .إنَم جيب
1439/03/04هـ
طلب القطع فيَم ننسبه للدين يف األصول فقط :عقدي ًة كانت أو عملي ًة ؛ ألن
84
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
لفكرة ما ..أن تكون وعلينا أن نتذكر دائَم :أنه ال يلزم لقبول العقل
ساْل ًة من كل اعرتاض ،بل قد يكفي أن تكون راجح ًة َ
وأوىل بالقبول من
أكثر
غريها لتستحق قبوهلا واالعتَمد عليها .كالنظريات العلمية التي يقوم ُ
ِ
احلقائق نظريات أغلبية :مل تَـتَـ َب مـر َه من تَـ َب مـر ُه َن
ر العلم احلديث عليها ،وهي
القانون الرابع :أن الدليل الظني ال يقدح يف صحة االحتجاج به ورو ُد
االحتَمالت الظنية اْلرجوحة عليه ؛ ألنه لوال ورو ُدها عليه أصال ْلا كان
ظن ًّيا ،ولكان يقين ًّيا .فالدليل الظني :هو ما يرد عليه االحتَمل اْلرجوح ،
ر
احتَمل قريب :من جهة كونه ليس احتَمال فيصح وصف هذا االحتَمل بأنه
ساقطا ،كالذي ال ينزل بالدليل عن منزلة اليقني (كَم سبق بيانه) ،ويصح
1439/03/04هـ
رجحان الظن وغلبته .
85
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
الظنون» .
َ
()1
البعيدة :ال تُقاطِ ُع
يقينًا .
1439/03/04هـ
ظنون راجحة وليست مرجوحة ،وعندها سيكونون معرتضني عىل
ر الدليل
ٍ
وحينئذ سيكون هذا الدليل عندهم ظنًّا مغلو ًبا .. كون الدليل يفيد غلبة الظن ،
86
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ُ
اعرتاضهم بذلك :ال عىل صحة االحتجاج بالظن الغالب ، ال غالبا .فسيكون
القانون اخلامس :التذكري دائَم بأن كل األمور تنقسم إىل ثالثة أقسام :
اْلقطوع بوجودمها ،و ال ُيلغي صحة ذلك التقسيم إىل طرفني ووسط ؛ إ مذ
1439/03/04هـ
إنكاره وال االستكبار يف إنكاره؛
ُ أمر ال يمكن فوجو ُد هذين الطرفني اْلتي َّقن ِ
َني ر
عرت َض عىل أصل هذا التقسيم (إىل واضح وخفي) ،
ولذلك فال يصح أن ُي َ
ٍ
مسألة من مسائل احلكم وال يصح أن ُيعرتض عىل االعتَمد عليه يف تقرير
القسم
َ ُ
ختلف يف وضوحه وخفائه ؛ إذ يبقى أن هذا العقيل :بحجة وجود ما ُيـ
87
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ر
ثالث ال ننكر وجو َده ،لكن وجوده ال ُيلغي وجو َد قسم
ر اْلخت َل َ
ف فيه
وج مع ِل اْلحكم
حمكَمَ ،
ً منهج َ :ج مع ِل اْلتشابه
ُ نفسه
الظنيات ،وهو ُ
هبا ،وإرجا ِع اْلحكم إىل اْلتشابه .
متشا ً
أجل ِ
بيان النبي هلذا التقسيم العقيل احلامي من الزيغ يف قوله وما َّ
1439/03/04هـ
وش ُك َأ من َي مرت ََع اعي يرعى حو َل احلمى ،ي ِ ات ،و َقع يف احلرا ِم ،كَالر ِ الشبه ِ
ُ َ َم َ َ م َّ َ َ ُّ ُ َ
فيه»(. )1
88
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
فمن معاين هذا احلديث ومن فوائده :أن ال تعرتضوا عىل وضوح
ومت ُّي ِزه عن احلرام ،وعىل وضوح احلرام اْلتميز عن احلالل ،
احلالل َ
قديَم
ً يكون إال يف اآلخرة ! والغفلة عن ذلك هي سبب السفسطة والشك
وحدي ًثا .فالعقل مفطور عىل قبول غلبة الظن أوال ،وهو مفطور عىل قبول
اختالف مراتب اإلدراك يف اليقني والظن .فالعقل يدرك أن اليقني مراتب ،
1439/03/04هـ
شخص اليقني األدنى ،حتى يبلغ اليقني
ر كَم أن الظن مراتب .فإن رفض
األعىل :فقد نزل باليقني من درجة اليقني إىل درجة الشك والتوهم ،وبذلك
سيفسد عليه عق ُله ؛ ألنه ما عاد يستفيد يقينًا وال ظنًّا راجحا .
89
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
بَملغة وغُ ُل ٍّو يف طلب أعىل درجات اليقني ، العقيل وقد يبدأ هذا الفسا ُد
ُّ
طالب ذلك وسيل ًة لبلوغها بدأ ُي ِ
ور ُد االحتَمالت ُ يف كل يقني ،فإن مل جيد
ٍ
احتَمالت ساقط ًة ،قد ِ
يقينية اليقني ،مع أهنا قد تكون التي يظنها تُشك ُ
ِّك يف
ٍ
يقني دوهنا . تنزل – مع سقوطها -باليقني عن أعىل درجات اليقني إىل
اْلطاف بصاحب هذا الغلو يف َت َط ُّل ِ
ب أعىل درجات اليقني يف ُ لينتهي
األخري :إىل يصبح شاكًّا غري متي ِّقن ،بعد أن كان متي ِّقنًا ،بسبب عدم
استحضاره هذه احلقيق َة احلارض َة السهل َة :حقيق َة تفاوت مراتب اليقني يف
نفسه هو .
استحق
َّ بالشهادة ،وهذا هو حمل االمتحان باإليَمن أصال ،ولوال ذلك ْلا
1439/03/04هـ
ويف احلديث الصحيح :قال رسول اهلل ^ « :ليس الـ ُم َعايِ ُن كالـ ُمخم َرب
[ويف رواية :ليس الـخَ َبـ ُر كالـ ُمعاينة] :أخرب اهلل موسى أن قومه ُفتنوا ،فلم
بيان
األلواح ،فلَم رآهم ،ألقى األلواح» .وهذا احلديث النبوي هو ر
()1
َ ُي مل ِق
( )1أخرجه اإلمام أمحد (رقم ،)2447 ،1842وابن أيب حاتم يف تفسريه ( رقم
90
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
(عليه السالم) مل ُيلق األلواح رغم علمه اليقيني بَم فعل قومه من بعده
بعبادهتم العجل ،حيث إن اهلل جل جال ُله كان هو الذي كلمه وأخربه هبذا
موسى (عليه السالم) أكرب من أثر ذلك اخلرب اليقيني الذي سمعه من ربه عز
وبعد هذا اْلوقف يف هذه القصة :لن جتد حاال ُيظهر َفـ مر َق ما بني
1439/03/04هـ
(عليه السالم) .
91
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
الكربى يف نفس كل مؤمن إال أنه لن يكون يف يقينيته مثل نتيجة ، 2 = 1 +1
ولن يكون يف يقينيته مثل رؤيته الشمس يف كبد السَمء ؛ إال يف اآلخرة
(عندما ينكشف الغيب ،ليكون عامل َ شهادة ،وعندما ينتهي زمن التكليف) .
وأما يف الدنيا :فلن يتحقق ذلك األمر إال يف حالة واحدة :هي حالة الفيض
الرباين والتوفيق اإلهلي والعلم اللدُ ِّين ؛ ألن َج مع َل منزلة اليقني بالغيب
فإن كان هذا هو احلال يف أعظم يقني :وهو يقني وجود اهلل تعاىل ،أنه
1439/03/04هـ
ُ
خلليل إبراهيم (عليه السالم) إىل ربه عز وجل يف طلب ولذلك توج َه ا
أعىل درجات اليقني يف عقيدة اإلحياء بعد اإلماتة :توج َه إليه عز وجل أن
غيب فيها شهاد ًة ،بأن ُير َي ُه عملي َة إحياء اْلوتى بأم عينيه :ﭽ ﭑ
جيعل له ال َ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
92
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ُ
اخلليل (عليه ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ [البقرة . ] ٢٦٠ :وكان
نوع
تعليم اهلل تعاىل له فيه ر
ُ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [البقرة ، ]٢٥٩ :ولذلك كان
ٍ
تأديب ،ال كَم وقع مع اخلليل (عليه السالم) ،فكان تعليم صاحب القرية من
ُيتص بالقدرة عىل ذلك ،وهو ربه عز وجل ،وأما الذي مر عىل القرية فلم
ُّ
1439/03/04هـ
( )1كان ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) يقرأ قوله تعاىل يف آخر آية قصة صاحب القرية :
اع َل مم﴾ ،وال يقرؤها بصيغة ﴿ َق َال اع َلم َأ َّن اهللََّ ع َىل ك ُِّل َ ٍ ِ
يشء َقد رير﴾ ،بصيغة األمر يف ﴿ م
م َ م م
اْلضارع ﭽﯾ ﯿﭼ ،ويقول (ريض اهلل عنهَم) عن صاحب القرية مبينا سبب
ترجيحه اْلعنوي هذا « :مل يكن بأفضل من إبراهيم» .أخرجه سعيد بن منصور يف
تفسريه (رقم )435بإسناد صحيح.
93
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
القانون السابع :أن هناك فر ًقا بني أمرين :األول هو االستحالة العقلية ،
سبب انعدام
َ ُ
العقل -فاالستحالة العقلية :هي احلكم الذي ُيدرك
ْلأخذ احلكم فيه ،أي :بسبب عدم القدرة عن التصور أصال .
معدوما يف الوقت
ً مثال :العقل يدرك استحالة أن يكون اليشء موجو ًدا
َ
وأبيض يف اللحظة نفسها ؛ ألن إدراك نفسه ،يدرك استحالة أن يكون أسو َد
اْلوجودات وفرق ما بني األلوان مما يدركه العقل ،بسبب وجودنا ورؤيتنا
1439/03/04هـ
وهو يقصد أن اهلل تعاىل حيث خاطب خلي َله إبراهيم (عليه السالم) يف آخر قصته
شك أن يؤمر أيضا ﴿ َق َال ا مع َل مم﴾ ،ال أن يدعي علمه بذلك :ﭽ ﯿﭼ.
وكأن قول ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) عن صاحب القرية « :مل يكن بأفضل من
أيضا إىل أفضلية طريقة اخلليل (عليه السالم) عىل صاحب
إبراهيم» ،مما يشري ً
القرية يف تَط ُّلب زيادة اليقني ،وهي كذلك بال شك ،كَم هو واضح من القصتني .
94
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
للموجودات ورؤيتنا لأللوان .ولكن الشخص الرضير الذي ُولد رضيرا ،فهو
أن حيكم بإدراكه اخلاص بوجود الفرق فيَم بني األلوان ؛ ألنه عاجز عن
ومن هذا الفرق ندرك ْلاذا أيقنا بوجود اخلالق ،مع عجزنا عن تصور
موجود بال ُم ِ
وجد .
ذلك أن قانون السببية العقيل قد َج َعلنا نُوقن أنه يستحيل أن يكون هناك
موجو رد بال ُم ِ
وجد ،كَم يستحيل عقال أن يكون وجو ُده متسلسال بال بداية ؛
ألن التسلسل بال هناية ينقض قانون السببية من أساسه ،وجيعل وجو َد السبب
بال ُم َس ِّب ٍ
ب ممكنًا .
1439/03/04هـ
اْلشاهد .
َ السببية ،فنحن نعجز عن تصوره أصال ؛ ألننا مل َنر غري عاْلِنا
( )1واخللل يف التفريق بني عجز العقل واالستحالة العقلية هي ما أوقعت عَمنوئيل َكنمت
إىل إنكار صالحية قانون السببية يف إثبات وجود اهلل تعاىل ،فانظر نقد العقل اْلجرد
لعَمنوئيل كنت (. )644-690
95
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
فلَم تقابلت االستحالة العقلية (التي قضت بوجوب وجود خالق هلذا
العامل) والعجز العقيل (الذي يعجز عن احلكم عىل ما كان سوى هذا العامل
اْلشاهد) :وجب تقديم احلكم عىل عدم احلكم ،ووجب تقديم ما أنتجه
َ
احلكم من وجوب وجود اخلالق عىل ما أنتجه العجز عن احلكم من عدم
تصور وجود موجود من غري عاْلنا اْلخلوق بال ُم ِ
وجد .
وهكذا أفادنا العجزُ عن احلكم ُحك ًمَم يقين ًّيا ْ ،لا اجتمع مع احلكم
وهذا من عجائب هذا الباب :أن العقل قد يصل إىل اليقني من خالل
ٍ
جواب يقيني ألمر يقيني ! العجز عن إجياد
ٍ
1439/03/04هـ
خالق مما اتفق عليه عموم أهل األرض من وهلذا كان اإليَمن بوجود
وجود اخلالق .ومل ُيالف يف ذلك قديَم وحدي ًثا إال ُشذا رذ قليلون من
96
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
بقصور العقل البرشي ،واالستدالل إلثبات ذلك بكل دليل صحيح من
فإننا مع الثورة العلمية احلديثة ،ومع تسارع ظهور اْلكتشفات التي تبهر
ِ
منتجات هذا التقدُّ م التِّ مقني مكسو ًة بالقيم الغربية َ
العقول فعال ،ومع تسويق
القائمة عىل تقديس العقل يف مقابل تسفيه عامل الغيب وإقصاء اإليَمن =
غرور ك َِري ره ،ال أحسبه مسبو ًقا يف تاريخ البرشية هبذا االنتشار
ر العالـم
َ أصاب
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ
1439/03/04هـ
(ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ) [األنبياء . ]٣٧ :إن ختفيف حدة هذا الغرور مما ُي َو ِّط ُئ
لعدم اجلنوح يف التفكري ،ومما يبني قاعد ًة سليم ًة لتأسيس فقه اْلحكَمت
عليها ،ومما يسمح لقاعدة التسليم أن تستقر .وأما مع وجود هذا الغرور ،
فال يشء من ذلك سيكون له وجود :فالعقل اْلغرت ما الذي سيمنعه من القفز
97
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
فوق احلقائق وجتاوزها ؟! وما الذي سيقنعه برضورة االلتزام بمنهج العقل
معلوماتنا أمام حقائق الكون ،وأن نعلم :بأن التسارع اهلائل يف اكتشاف
(االكتشاف) ما هو إال
َ ذلك االكتشاف إىل التواضع ،ال إىل الغرور ؛ ألن
اكتشاف ْلا كان موجو ًدا وكنَا نجهله ؛ وألن (االخرتاع) ما هو إال معرفة
ر
ٍ
معروفة لنا .فإذا ٍ
لعالقة بني شيئني -فأكثر -وكانت هذه العالقة غري ٍ
استثَمر
1439/03/04هـ
كتاب متميز ،وحيتاج إىل تتميم وّتسني ،وهو كتاب ( :قصور العلم
ر ( )1ويف ذلك
ر
استعراض آلراء ُرواد العلم احلديث ،ولعلَمء اْلسلمني ،يف آفاق العلم البرشي :
اْلكتسب وحدوده) ْ ،لؤلفه :قيس قرطاس ،ومن مطبوعات مركز اْللك فيصل
للبحوث والدراسات اإلسالمية .
وقريب منه :كتاب (اهلل يتجىل يف عرص العلم) لكرييس موريسون ،وترمجة :
حممود صالح الفلكي .
98
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
نفسها) أن نسارع إىل االعرتاف بقصور عقلنا البرشي وبضعفنا اإلنساين .
ِ
احلرية
()1
الوسيلة السابعة (من وسائل تثبيت اْلحكَمت) :إشاع ُة
ِ
اْلنضبطة غري الفوضوية ،وعدم جتريم الفكر اْلعترب ،وإحسان
( )1اختياري ْلفهوم احلرية الفكرية الذي جيب أن يكون عليه مفهومها يف الفقه
اطمئنان كل شخص أنه لن يتعرض ألي نوع ُ اإلسالمي -حسب اجتهادي : -هو أهنا
1439/03/04هـ
من أنواع الظلم أو األذى بسبب فِك ِمره الذي اقتنع به ،ما دام ليس فِك ًمـرا إجرام ًّيا (ال
الس ملم اْلجتمعي من خالل نرش الشك
يستبيح اإلجرام) ،وما دام يلتزم بعدم هتديد ِّ
يف أصول الدين (أو أصول احلضارة وأصول القيم التي قامت عليها احلضارة) ،
جهل اْلخا َطبني لنرش فكره ،وال أن يبتزهم بسبب احلاجة ليجربهم
َ ٍّ
مستغل وغري
َ
عىل تغيري عقائدهم ،مع عدم منعه هو من حوار قادة الفكر والعلَمء ممن ُيالفونه ،
اضطهاد وبال ٍ
قيود متنعه من إبداء قناعته بحججها كاملة . ٍ ٍ
خوف وال دون
99
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
( )1إحسان التعامل مع الرأي غري اْلعترب ال يعني عدم إنكاره ،وال السكوت عن رده
وتزييفه ؛ ولكنه يعني التفريق بني القول والقائل ،ويعني العدل مع صاحبه ،وعدم
إكراهه عىل تغيري معتقده .
التعايش معها ً
أصال : َ ُ
التعايش معها ومنها عقائدُ ال تقبل هي
،
( )2من العقائد الباطلة ما يمكن
-فالصهيونية العنرصية التي تستبيح استعبا َد شعوب األرض كلها ممن ليس
بيهودي ،والتي تستكرب عىل اجلنس البرشي كله من غري اليهود = هذه الصهيونية
عقيد رة ال يمكن التعايش معها .يف حني أن اليهود من غري الصهاينة العنرصيني
أحكاما تسمح
ً هم أهل مل ٍة يمكن التعايش معهم ،ولذلك فقد رشع اإلسال ُم لنا
لليهود بأن يعيشوا بيننا (نحن اْلسلمني) ويف بالدنا ،من غري اضطهادٍ هلم وال
إكراه عىل تغيري القناعات .
1439/03/04هـ
واالعتداء عىل األبرياء بالقتل والسلب :ال يمكن
َ -والعقيدة التي تستبيح اإلجرا َم
ٍ
عقيدة ال تستبيح التعايش معها ،وإن كان صاحبها من أهل الشهادتني .بخالف
كافرا ! بل حتى لو كان صاح ُبها ممن ُيكف ُر
حرمات الناس ،وإن كان صاحبها ً
االعتداء عليهم =
َ جي ِّوزُ
خمالفيه ،ما دام ال يستبيح حرمات اْلخالفني له وال ُ
فيمكن التعايش مع صاحب هذه العقيدة .ويف مثل هؤالء قال اإلمام الشافعي :
«و َلو َأ َّن َقوما َأ مظهروا ر مأي اخلوارج ،وجتنبوا مج ِ
اعات الناس َ ،و َك َّف ُر ُ
وه مم :مل ََ َ َُ َ َ مً َ م
100
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
يف اْلنهاج للنووي -مع رشحه :النجم الوهاج للدمريي . )46/9( -وهو
أيضا :قال ابن قدامة يف اْلغني (« : )247-248/12وإذا مذهب احلنابلة ً
تكفري من ارتكب كبرية ،و َت مر ِك اجلَمعة ،
ِ أظهر قوم رأي اخلوارج ،مثل :
ِ
واستحالل دماء اْلسلمني وأمواهلم ؛ إال أهنم مل ُيرجوا عن قبضة اإلمام ،
ومل يسفكوا الدم احلرام = فحكى القايض عن أيب بكر :أنه ال حيل بذلك َقتم ُلهم
وال قتا ُلـهم ،وهذا قول أيب حنيفة ،والشافعي ،ومجهور أهل الفقه ،وروي
ذلك عن عمر بن عبد العزيز (...ثم قال ):وقال مالك يف اإلباضية وسائر أهل
البدع ُ :يستتابون ،فإن تابوا وإال ُرضبت أعناقهم .قال إسَمعيل بن إسحاق :
ٍ
مالك َق مت ُل اخلوارج وأهل القدر» .وقال العالم ُة ابن مفلح احلنبيل ي
رأ ُ
ي (ت763ه) يف كتابه الفروع (َ « : )177-178/10وإِ من َأ مظ َه َر َق مو رم رأ َ
اخلوا ِرجِ ،ومل ُي ُرجوا عن َق مب َض ِة اإلمام :مل ُي َقا َتلوا ،ومل ُيت َع َّر مض هلم ،
1439/03/04هـ
وذي [اإلما َماع رة َ .و َسأَ َل ال َـم ُّـر ُّ جت ِري األَ محكَا ُم عليهم ،ك ََأ مه ِل ا مل َعدم ِل َ .ذك ََر ُه َ َ
مج َ َو َ م
ون ؟ قال َ :ال َت مع ِر ُضوا هلم ، أمحد] عن َق مو ٍم من َأ مه ِل البِدَ ِع َ :ي َت َع َّر ُض َ
ون َو ُي َك ِّف ُر َ
ات !! وقال يف ات َو َأ َخ َو ر ـحبسوا؟! قال :هلم َوالِدَ ر ُق ملت :و َأي َ ٍ
يشء َتك َمر ُه من َأ من ُي ُ َ ُّ م
إىل دِين ِ ِه مم َ :ف َقا َت َل ُه مم ،وإال
إىل ما ُهم عليه َ ، ور :احلر ِ
ور َّي ُة إ َذا َد َع موا َ ِر َوا َي ِة ا مب ِن َمن ُمص ٍ
101
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
اْلسلمني ،فإن كان الوسط العلمي والثقايف حينها يتمتع باحلرية ،فإن
يف ذلك إال القول اْلشهور عند اْلالكية ،كَم سبق عن اْلوفق ابن قدامة ،
وهو مسبوق إىل هذه النِّسبة من اإلمام اْلالكي أيب عمر ابن عبد الرب يف كتابه
التمهيد ( ،)338/23حيث ذكر مذهب اإلمام مالك ،ثم قال « :هذا قول عامة
الفقهاء الذين يرون َقتم َلهم واستتاب َتهم .ومنهم من يقول :ال ُي َّ
تعر ُض هلم باستتابة
وال غريها ،ما استرتوا ،ومل َي مب ُغوا و ُيـ ِ
حاربوا .وهذا مذهب الشافعي وأيب حنيفة
ٍ
وكثري من أهل احلديث» . ِ
ومجهور أهل الفقه وأصحاهبَم ،
وانظر هلذه اْلسألة :يف مذهب احلنفية :رشح خمترص الطحاوي للجصاص
( ، )104-99/6واْلبسوط للرسخيس ( ، )124-130/10واْلحيط
الربهاين البن مازة احلنفي ( ، )296-302/7وحاشية ابن عابدين (-260/4
1439/03/04هـ
. )265ويف مذهب اْلالكية :النوادر والزيادات البن أيب زيد ()87/3
( ، )546-539/14والذخرية للقرايف ( ، )401/3ومواهب اجلليل لرشح
خمترص خليل للحطاب (. )365-370/8
وهذه اْلسألة مسألة كبرية ،وفيها اختالفات دقيقة يف فروعها ،ولكن ليس هذا
موطن بسطها ،ويكفي منها هنا هذه اإلْلاحة ،لبيان وجه من جوه تسامح
اإلسالم مع أصحاب األفكار اْلنحرفة .
102
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
صاحب الشبهة سوف ُيظهرها سائال ُم مس َتـ معلِ ًَم ،أو داع ًيا إليها ظانًّا صح َة ما
1439/03/04هـ
احلق ِ
شمس ِّ ألشعة ختشى الربوزَ
الباطلة) ؛ إال يف اْلجتمعات اْلنغلقة .وإن ُوجدت حرك رة باطني رة يف جمتم ٍع
103
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
العادل .
ُ
ُيالف حدو َد الرشع : ٍ
بانضباط ال ضَمن احلرية الفكرية
ُ ولذلك كان
ٍ
منضبطة لتثبيت اْلحكَمت :أن من ٍ
حرية ومما يؤكد رضور َة وجود
1439/03/04هـ
له أثر يف إيذائه والتضييق عليه .
هذه احلرية لن تسمح بكتَمن اآلراء الباطلة ،وال تسو ُغ ألصحاب األفكار
104
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
والغوغاء .
ٍ
بجهاز يسمح باكتشاف الداء العضال إن احلرية اْلنضبطة أشبه ما تكون
مغالطات ُّ
الشبهات .
وهذه احلرية اْلنضبطة قد أقرها اإلسالم وسبق إليها ،وليس هذا جمال
ذكر أدلة إقرار اإلسالم هلا ،فقد ذكرهتا يف موطن آخر ،لكني سأذكر معامل
()1
من السرية النبوية تدل عىل واقع وجود احلريات يف اْلجتمع اْلدين يف
1439/03/04هـ
وأول ذلك :واقع اْلنافقني يف زمن النبي ^ :
( )1انظر مقايل البحثي اْلنشور يف موقعي بعنوان :احلرية الفكرية وأثرها يف تعميق
احلوار وإثَمره :
http://www.dr-
alawni.com/files/books/pdf/1429718305.pdf
105
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
فالثابت أن النبي صىل اهلل عليه وسلم مل يعامل اْلنافقني بمقتىض علمه
ُ
بالوحي بخفايا ما يف قلوب بعضهم ،بل عاملهم بمقتىض ظاهرهم الذي كان
ِ
ومواقف ٍ
وسخرية يشهد – غال ًبا -لنفاقهم العميل (ال االعتقادي) ،من ٍ
فسق ()1
ٍ
وإرجاف يف ساعات الشدة ،لكنه نفاق ال يقطع (بحسب الظاهر) ٍ
خذالن
باجتَمعهم عىل هذا النفاق العميل ،وبتأييد بعضهم بعضا عليه ،وباّتاد
ومع ذلك اتسعت الدولة اإلسالمية هلم ،وحفظت هلم ح ًّقا يف االختالف ،
1439/03/04هـ
من أن يتحدث الناس أن حممدا يقتل أصحابه ،مع أهنم ارتدوا ومل يرجعوا عن
إظهار توبتهم ،فهو توهم باطل ؛ ألن اْلنافقني كانوا إذا ُشهد عليهم بَم يوجب
التكفري بادروا بادعاء التوبة أو باإلنكار القائم مقام التوبة .لذلك كان قتلهم بعد ذلك
َ
سببا ال هتام النبي ^ بأنه يقتل أصحابه ؛ بسبب ادعائهم التوبة أو بسبب إنكارهم .
اكتفيت هنا باإلْلاح إىل اإلشكال وإىل
ُ وليس هذا موطن تقرير ذلك ومناقشته ،لكني
جوابه .
106
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
خالف رأ ٍي
ُ ب عقوب ًة وحدًّ ا ،وإنَم َأتـ مَـوا ما يدعون أنه ما داموا مل يأتوا ما ُي ِ
وج ُ
ِ
وجهات نظر . و َت َعدُّ ُد
1439/03/04هـ
oوثالثا :عد ُم عقوبتهم عىل جمرد فكرهم اْلع َلن اْلخالِف ،
بعضها
ُ وخمالفات عملية تستوجب العقوبة ،وقد جييز
107
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
اْلصالح ،أو بدعوى أعذارهم اخلاصة التي كانوا يعتذرون هبا أحيانًا
ُأخرى.
كَم حصل ْلا اختار اْلنافقون التحاكم لغري رسول اهلل ^ من كاهن أو
هيودي (عىل اختالف بني اْلفرسين) ،فلم يؤمر النبي ^ بيشء أكثر من أن
يعظهم موعظة بليغة ،رغم خمالفتهم الشديدة ألمر اهلل ورسوله يف التحاكم
إىل ما أنزل اهلل تعاىل وإىل الرسول ^ ،كَم يف قوله تعاىل :ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾ
1439/03/04هـ
ﭿﮀﮁ ﮂﮃﮄ ﮅﮆﮇﮈﮉ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﭼ [النساء.]63 – 61 :
108
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
( )1قال ابن جرير يف تفسريه « :إنكم أهيا اْلنرصفون عن نبيكم بغري إذنه ،تسرتا وخفية
منه ،وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم عىل رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ،فإن اهلل
يعلم ذلك ،وال ُيفى عليه ،فليتق من يفعل ذلك منكم الذين ُيالفون أمر اهلل يف
االنرصاف عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم إال بإذنه ،أن تصيبهم فتنة من اهلل ،أو
يصيبهم عذاب أليم ،فيطبع عىل قلوهبم ،فيكفروا باهلل» .تفسري الطربي (.)391 /17
1439/03/04هـ
ومن لطيف ما يدل عىل ما نستدل له :أن عددا من السلف فرس العذاب األليم بالقتل
اْلرتتب عىل إظهار الكفر والردة ،فانظر موسوعة التفسري باْلأثور (-772 /15
كثريا ،وأهنم قد
. )775فاهلل تعاىل حيذرهم من أن استتارهم هذا بالنفاق قد ال يدوم ً
ُيفتضحون بالكفر ،فيستحقون القتل خليانتهم وردهتم .
ومعنى ذلك :أهنم مل يستحقوا العقوبة عىل خمالفتهم بالتسلل عن أمر اهلل ورسوله ،
وإنَم يستحقوهنا إن أظهروا خيانتهم وكفرهم الرصيح .
109
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ومن مواقف السرية الدالة عىل تعامل النبي صىل اهلل عليه وسلم مع جبهة
الفكري
َّ االختالف
َ اْلعارضة الفاسدة يف زمنه تعامال يدل أنه َرا َعى فيهم
أقىص أنواع اْلراعاة ،رغم حكمه بفساد فكرهم ،ورغم إنكاره ^ هذا الفكر
تقريرا قوليا وتقعيدا عقد ًّيا أشد اإلنكار :ما فعله اْلنافقون يوم ُأحد ،عندما
ً
رجع رأسهم عبد اهلل بن ُأيب ابن سلول ب ُث ُل ِ
ث اجليش ،وخذلوا اْلسلمني يف
تلك اْلوقعة اخلطرية أشد خذالن .حتى اختلف فيهم الصحابة (رضوان اهلل
عليهم) ،وانقسموا فئتني :بني حاك ٍم عليهم بالكفر وحاك ٍم هلم باإلسالم ،
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
1439/03/04هـ
( )1أن هذه اآلية كانت بسبب انخزال عبد اهلل بن أيب بن سلول ببعض اجليش يوم ُأحد :
هو ما ثبت يف الصحيحني من حديث زيد بن ثابت (ريض اهلل عنه) ،يقول ْ :لا خرج
النبي (صىل اهلل عليه وسلم) إىل أحد ،رجع ناس من أصحابه ،فقالت فرقة :نقتلهم
،وقالت فرقة :ال نقتلهم ،فنزلت {فَم لكم يف اْلنافقني فئتني} .وقال النبي (صىل
اهلل عليه وسلم) « :إهنا طيبة :تنفي الرجال كَم تنفي النار خبث احلديد» .أخرجه
البخاري (رقم ، )4589 ،4050 ،1884ومسلم (رقم. )2776
110
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وسلم عىل أهنم كفار ،فال قتل أحدً ا منهم ممن بقي يف اْلدينة ،وال
استتاهبم من كفر ،بل استمر يف حسن التعامل معهم ،عمال بظاهر حال من
خالف ال يقطع
ر كبري هلم مع اْلسلمني يف اآلراء واْلواقف ،لكنه ٍ
خالف ٍ
ظاهره بالكفر الذي جييز احلكم عليهم بالردة .كَم فعل النبي (صىل اهلل عليه
ُ
وسلم) مع رأس اْلنافقني وكبريهم عبد اهلل بن ُأيب ابن سلول ،رغم تكررهم
الفتن فيها ،مل يؤمر النبي ^ بقتلهم وال بإنزال العقوبات اْلشددة عليهم !
بل رغم كل تلك اخليانات ُح ِّذروا من تكرار مواقف اخليانة فقط ،و ُهدِّ دوا –
1439/03/04هـ
عقوبة النفي ،فقال تعاىل ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﭼ
111
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
^ ذلك التهديد معهم قط ،وال أنزل هبم عقوبته أبدً ا ،حتى تويف (عليه
عنده « :ال نعلم شيئًا َأ مر َجى للمنافقني من هذه اآلية ! ما علمناه ُأغم ِر َ
ي هبم
وهذا النص من هذا التابعي العامل اجلليل يدل عىل مقدار التسامح
الديني مع اْلنافقني يف زمن النبوة ،وأن هذا كان شأن النبي ^ معهم ،حتى
1439/03/04هـ
( )1قال قتادة يف تفسريها « :إذا هم أظهروا النفاق» .أخرجه الطربي (. )186 /19
( )2أخرجه أبو نعيم يف حلية األولياء ( ، )270 /2واخلطيب يف تايل ختليص اْلتشابه
يف الرسم ( 579 -578 /2رقم ، )350بإسناد صحيح .
112
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
إنه ما أنزل هبم عقوبة خترج عن حدود عقوبات احلدود اْلقدرة والتعزيرات
فعدم إنزال العقوبة الدنيوية عليهم عىل ما كان يبدو منهم من خذالن
وإثارة للشكوك والفتن ،هو موطن الشاهد عىل أهنم كانوا ُيعاملون بقدر من
احلرية ،ال نكاد نعرف مثلها يف تصورات ٍ
كثري من اْلنتمني لعلوم الرشيعة
اليوم !
«وقد كان اْلنافقون يف مقام رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم باْلدينة غري
متعرضني من قبل رسول اهلل بقتل ،وال بَم سواه ،وكان صىل اهلل عليه وسلم
ِّ
حيملهم عىل عالنيتهم ،وعىل ما كانوا ُيظهرون له من أمورهم ،وإن كان قد
وقف من باطنهم عىل خالف ذلك مما أعلمه اهلل عز وجل منهم ،وما دله عليه
1439/03/04هـ
بقوله فيَم أنزل عليه :ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﭼ
[األحزاب ، ]60 :ومل ُيغ ِمره عز وجل هبم ،وال كان منه صىل اهلل عليه وسلم
فيهم بعد علمه بَم كان اهلل عز وجل أعلمه عنهم ،مما كانوا عليه من الكفر
113
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ومن إخباره بمصريهم الذي يصريون إليه يف اآلخرة بقول اهلل عز وجل :ﭽ ﮱ
أرزاقهم وال ُيـقاتَلون ،ثم قال عن اْلنافقني « :واقتىض يف ذلك سرية رسول
1439/03/04هـ
اهلل (صىل اهلل عليه وسلم) يف اْلنافقني :يف َكـ ِّفه عنهم ،مع علمه
114
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
مقدار كبري من احلريات كان يتمتع به اْلجتمع وهذا كله يدل عىل
1439/03/04هـ
ٍ
حسد أو استكبار :ورصح بحسده أو عناده ، أ -ألنه لو كان نفاقه عن
وأنه هو سبب عدم صدق إيَمنه ،لسقط بذلك من أعني الناس ،
115
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
انتقاص من حريته ،وإنَم بسبب أن موقفه اْلخزي يمنعه من بسبب
تعاىل ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ولو كان نفاقه بسبب أنه يريد التخطيط إليذاء اْلسلمني ،كَم ب-
1439/03/04هـ
سيأيت االستدالل له ،فمن الطبيعي أنه سوف يلجأ إىل إخفاء حقيقة
موقفه ،ولن يكون نفا ُقه حينها ناجتا عن نقصان احلريات .
116
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
( )1أدلة عدم اإلجبار عىل الدخول يف اإلسالم أدل رة قطعية ،منها :
. ]22
-وقوله تعاىل ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
1439/03/04هـ
ﭵﭶ ﭼ [يونس.]99 :
-وقوله تعاىل ﭽ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
.]29ومع كون التخيري هنا جاء عىل وجه التهديد والوعيد ،ال عىل وجه اإلباحة؛
117
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
واليهود ،وال ُألم ِز ُموا بتغيري أدياهنم باإلكراه الرصيح أو غري الرصيح .فمن
ادعى اإلسالم من اْلنافقني مل يفعل ذلك ألنه ُمكر ره أصال ،حتى ُيظن أن
إظهار هؤالء
ُ ظهور النفاق يف اْلدينة كان بسبب قمع احلريات .وإنَم كان
والتجسس عليهم
ُّ الدس عىل اْلسلمني
ِّ خالف ما يبطنون بغرض
َ اْلنافقني
لصالح أعدائهم وحماولة تشكيكهم يف دينهم ،ال بسبب قمع احلريات .
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ ؛ إال أنه
1439/03/04هـ
هتديدر ووعيد بعقوبة اآلخرة ،ال بعقوبة دنيوية عاجلة من البرش ،مع ترك حرية
اختيار اْلصري األخروي لإلنسان يف الدنيا .ولذلك يصح االستدالل باآلية عىل
أهنا تبني حرمة اإلكراه عىل الدين .
( )1قال ابن جرير يف تفسريه « :وإذا انرصف اْلنافقون خالني إىل مردهتم من اْلنافقني
واْلرشكني قالوا :إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد ^ ،وبَم جاء به
ومعاداته ومعاداة أتباعه ،إنَم نحن ساخرون بأصحاب حممد ^ يف قيلنا هلم إذا
118
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
سبب
َ كَم قد أخربنا اهلل تعاىل عن أحد أهدافهم الـ َمخم ِفيـة التي كانت
بل هو هدف متع ِّل رق بتمكنهم من خالل النفاق أن ينرشوا الفتن واإلفساد يف
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭞ ﭟ
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
1439/03/04هـ
ﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣ ﭤ ﭥﭦ
ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
119
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ﭫ ﭬﭼ [آل عمران . ]72 :بل بلغ هبم السعي يف إيذاء اْلؤمنني أن بنوا
مسجد الرضار ،لكي يكون منطل ًقا ْلؤامراهتم عىل اْلسلمني ،كَم قال
تعاىل ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ
ولذلك فقد يوجد النفاق حتى يف أكثر اْلجتمعات حرية ؛ عندما تكون
ومن فساد أخالقي يرفضه كل صاحب ُخ ُل ٍق قويم .والفرق بني وجود النفاق
يف جمتمع حر (كاْلجتمع النبوي) وجمتمع آخر يقمع احلريات :أن النفاق
1439/03/04هـ
يف اْلجتمع احلر يكون حال ًة استثنائية ختالف ما عليه عموم اْلجتمع ،
وكذلك كان يف زمن النبي ^ ،فاألعم األغلب ممن أظهروا اإلسالم كانوا
أهل إيَمن حقيقي وعدالة واستقامة ،خاصة بعد استقرار اإلسالم يف اْلدينة،
وبعد مرور سنوات ِعدة عىل انتشاره فيها .وأما النفاق يف اْلجتمع القامع
120
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
الداللة :
وهو ما صح عن أيب ُأ َم َام َة ،قال « :إن َفتًى َشا ًّبا أتى النبي ، فقال :
زَج ُرو ُه َ ،و َقا ُلوا َ :م مه ! َم مه ول اهلل ،ائ َمذ من يل بِالزِّ نَا ؟!! َف َأ مق َب َل ال َق مو ُم عليه َ ،ف َ يا َر ُس َ
ك؟ قال : ! فقال : ادنـه َ ،فدَ نَا منه َق ِريبا ،قال َ :فج َلس ،قال َ : أ ُ ِ
ّت ُّب ُه ألُ ِّم َ َ َ ً م
اهتِ مم .قال : حيِ ُّبو َن ُه ألُ َّم َه ِ
ال واهلل ،جعلني اهلل فداك ! قال َ : وال الناس ُ
ول اهلل ،جعلني اهلل فداك ! قال َ : والَ ك ؟ قال :ال واهلل يا َر ُس َ ُح ُّب ُه ِال مبنَتِ َ
َأ َفت ِ
1439/03/04هـ
ُح ُّب ُه ألُ مختِ َك ؟ قال :الَ واهلل ،جعلني اهلل َاهتِم .قال َ : أ َفت ِ حيِ ُّبو َن ُه لِ َبن ِ
الناس ُ
ُح ُّب ُه لِ َع َّمتِ َك ؟ قال اهتِم .قال َ : أ َفت ِ حيِ ُّبو َن ُه ألَ َخ َو ِفداك ! قال َ : وال الناس ُ
حيِ ُّبو َن ُه لِ َع ََّم ِهتِم .قال : :الَ واهلل ،جعلني اهلل فداك ! قال َ : وال الناس ُ
خلالَتِ َك ؟ قال :الَ واهلل ،جعلني اهلل فداك ! قال َ : والَ الناس ُحبه َِ ِ
َأ َفت ُّ ُ
121
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
خلاالَ ِهتِم .قال َ :ف َو َض َع رسول اهلل َ يدَ ُه عليه ،وقال :اللهم اغ ِمف مر حيِبو َنه َِ
ُ ُّ ُ
ت إىل َذ من َب ُه َ ،و َط ِّه مر َق مل َب ُه َ ،و َح ِّص من َف مر َج ُه .فلم َيك مُن َب معدُ ذلك ا مل َفتَى َي ملت َِف ُ
ٍ
يشء»(. )1
جاللة النبي وهيبته باْلكان الذي ال يقار ُبه فيه أحدر من البرش ،وهي
واألكرب لدولة
َ َ
واألول احلاكم األوحدَ
َ جالل رة وهيب رة ال تنبع فقط من كونه
1439/03/04هـ
األنبياء واْلرسلني ك َّلهم
َ ُ
رسول اهلل االرتباط الكامل باهلل التي أ َّم هبا
( )1أخرجه اإلمام أمحد يف مسنده (رقم ، )22212 ، 22211بإسناد صحيح .وقد
صححه احلافظ زين الدين العراقي يف اْلغني عن محل األسفار يف األسفار -يف
حاشية إحياء علوم الدين للغزايل . )1432/2( -
122
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
بل هي مهاب رة نابع رة من ذلك كله ،مع ما أفاض اهلل به عليه ،وأحاطه به ،
وعصمه بجنوده ،مما ال يعلم ُكن َمهه وال َقدم َره إال اهلل تعاىل ُ .
فح َّق أن يكون
َّ
وأجل اخللق !!! : رسول اهلل َ أ مه َ
يب البرش ، ُ
1439/03/04هـ
النبي يف أن يبيح له فاحش ًة كفاحشة الزنا ،التي تعرف
الشاب بأن يستأذن َّ
َّ
ُ
والعقول السليم ُة ،وأدل ُة جتريمها يف الرشيعة أدل رة قطعي رة الفطر السوي ُة
ُ قبحها
َ
يقيني رة ،وهي حدٌّ من حدود اهلل تعاىل ؟!!
123
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
هل كان من السهل عىل شاب اليو َم أن جيلس أمام أحد اْلفتني ليناقشه
يف ّتريم ٍ
أمر دون الزنا يف الفحش ووضوح جريمته ،مناقش ًة ال ليطلب فيها
ويفهم
َ االستباح َة كَم فعل ذلك الشاب مع النبي ^ ،وإنَم ليعرفَ الدليل
ِ
جملس بني ويقف عىل ِ
احلكمة ؟!! هذا مع الفارق الكبري بني َ َ
االستدالل
ِ
وجملس َمن سواه من البرش ،هو فارق أوسع من الفارق يدي رسول اهلل
بني السَمء واألرض!!
ما كان لذلك الشاب أن جيرتئ عىل أن ُيطو إىل جملس رسول اهلل
خطو ًة واحد ًة لذلك الغ ََرض ،وال أن جيلس بني يديه ألجل ذلك الطلب ،وال
1439/03/04هـ
!!
ولو أن هذا الشاب كتم ما كان يريد ،لعدم وجود تلك احلرية ،هل كان
العقيل ،الذي
ُّ يشء من تلك الرغبة اجلاحمة كَم شفاه هذا احلوار
ر سيشفيه
124
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ِ
جمتمعه النبوي يف مدينته النبي يف كفلتمه له احلري ُة النبوي ُة التي أشاعها
ُّ
النبوية؟!!
وهبذا يتبني أن جمتم ًعا سمح لشاب أن جيابه رسول اهلل ^ بمثل هذا
احلوار ،ال يمكن إال أن يكون جمتم ًعا ُح ًّرا ،جمتم ًعا ال ُياف من إبداء
قناعاته ،ولو كانت يف غاية اْلصادمة لدين اْلجتمع ولقيمه اْلقدسة !!
طلب
ر وداللة الشورى عىل احلرية دالل رة ظاهرة :فالشورى يف حقيقتها
1439/03/04هـ
للمجتمع عىل ممارسة هذه احلرية ،ال عىل أهنا بال رء ال بد منه ،بل عىل أهنا
ٍ
ملحظ آخر نلحظه يف السرية النبوية ويف عالقة احلاكم باْلحكوم ففي
كان يف زمن النبي ^ من أهم معامل عالقة الدولة بالشعب ومن أوضح
125
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
اْلظاهر السياسية للمجتمع اْلدين يف زمن النبوة :أال وهو ترشيع ُّ
الشورى
ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ففي اآلية األوىل يذكر اهلل تعاىل أهم ما يتصف به اْلؤمنون ،فذكر
التشاور فيَم بينهم صف ًة بني إقامتهم للصالة وأدائهم للزكاة ،بني ركني
اإلسالم اللذين ال يفرتقان !! وال معنى للتشاور إال مع قبول االختالف ،
1439/03/04هـ
ويف اآلية الثانية ( :ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [آل
عمرانُ : ]١٥٩:ي ُ
ؤمر النبي بمشاورة أصحابه ،وهو النبي اْلعصوم ،وسيد
خمالفة أمره يف غزوة ُأ ُحد ،وبعد خمالفة أكثرهم لرغبته يف عدم اخلروج
126
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
من اْلدينة ،وبعد أن تعر َض اْلسلمون ألحد أشد اْلواقع أ َل ًـمـا عىل
نفوسهم .لتؤكد اآلي ُة بذلك عىل األمهية القصوى للشورى يف اإلسالم ،
أساسا من
ً ولتؤكد أنه ليس هناك حجة من احلجج تبيح عدم اعتَمد الشورى
أساسات احلكم اإلسالمي :فليس إخفاق نتائج الشورى مرة بالذي جييز
اهتام الشورى بعدم صالحيتها يف سياسة الدولة ،وال خمالفة أهل الشورى
ْلوجبات مشورهتم بالتي جتيز معاقبتهم بعد تكرار مشورهتم بعد ذلك!
ولو تأملنا يف داللة استشارة النبي ألصحابه (ريض اهلل عنهم) ،
لوجدناها ُتـ َج ِّلـي حقيق َة ما كان عليه اْلجتمع النبوي من احلرية الفكرية
خري من اتَّـبَـ َعه البرش هو رسول اهلل ، فهو أحق من ُقلدَ ،
فلو تذكرنا أن َ
وهو َأوىل من ذابت فيه الشخصيات .ومع ذلك كله :فقد كان أصحا ُبه
1439/03/04هـ
ٍ
واحد منهم شخصيتُه اْلنفردة ، (وهم أعظم الناس ح ًّبا له وتعظيَم) لكل
ٍ
واحد منهم رأيه اخلاص الذي يعتزُّ به ،والذي مل ينصهر يف رأي أحد ولكل
من الناس ..وال يف رأي رسول اهلل . ولوال أن الصحابة عىل هذا احلد من
127
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
الرعاية النبوية ْ ،لا كان ألخذ رأهيم فائدة ،وْلا ُأمر النبي باستشارهتم
ما قيل ،وربَم ال ترى إال ما رآه النبي ؛ فَم فائدة استشارة األصداء التي
والـمرايا التي ال َتـ َرى ،وإنَم تعكس رؤية الرائي أمامها ؟!!
تردد الصوت َ ،
العني
ُ أن تكون احلري ُة اْلنضبط ُة قيم ًة راسخ ًة فيه وممارس ًة واقعي ًة ال ُتـخطئها
ٍ
وموقف : يف كل موق ٍع
1439/03/04هـ
-احلَمية من سياسة َق مم ِع احلريات الفكرية .
-واحلَمية ً
أيضا من إفساد عقائد الناس بالرتويج للعقائد الباطلة
128
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
إن الفكر ال يغريه إال الفكر ،وأما التسلط عىل اْلفكر وعىل تفكريه ،فقد
ِ
القدرية باالنتصاف للمظلوم من الظامل .
عجائب
َ تاريخ االضطهاد الفكري يف التاريخ اإلسالمي
ُ لقد حفظ لنا
فبدءا باضطهاد كفار مكة للمسلمني األوائل ،والذي استمر خالل الفرتة
ً
اْلكية ،مما ُّ
اضطر معه اْلسلمون للهجرات اْلتوالية من مكة إىل احلبشة
1439/03/04هـ
واْلدينة .والذي انتهى بالفتح اْلبني والنرص اْلؤزر الذي قامت عىل أركانه
ُ
ممالك اإلسالم منذ ذلك اليوم دول ُة اإلسالم النبوية ،ثم اخلالف ُة الراشدة ،ثم
فح َّق ْلن أرخ لإلسالم أن جيعل غاية االضطهاد للنبي
إىل هذا اليوم ُ .
129
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ومرورا :بفتنة خلق القرآن ،يف مطلع القرن اهلجري الثالث .والتي
ً
ٍ
بتأييد من السلطان انتصارا للمعتزلة ، ُّ
اضطهدَ فيها علَمء األمة وأئمة السنة ،
ً
العلَمء
ُ فسجن (بدءا باخلليفة اْلأمون ،ثم اْلعتصم ،ثم الواثق)ُ ،
ً وجنوده
ٍ
معتقد بالقوة واإلكراه(. )1 وع ِّذبوا و ُقتلوا ،من أجل إجبارهم عىل اعتناق
ُ
1439/03/04هـ
وح مل ِمه ،ويف
وثانيها :أن اْلأمون (وهو أعظم ملوك بني العباس يف عقله وخُ ُلقه ِ
يض ِ
سعة مداركه وعمق تفكريه ،وإحاطته بعلوم عرصه اْلنقولة واْلرتمجة) كيف َر َ
ِ
َـرش
َـصو َر أن األفكار تَـنمـت ُ
وص َم بالعدوان عىل حرية الفكر ؟! وكيف ت َ
لنفسه أن ُي َ
الناس عىل أن ُيرجوا من دورهم ،ويبدلوا
َ بالقوة؟! إن السلطان يستطيع أن ُيكر َه
ِ
وتبديل أفكارهم . ثياهبم ،ولكنه ال يستطيع أن يكرههم عىل اخلروج عن مبادئهم ،
َ
تستحق هذه العناية ،
ُّ وثالثها :اْلسألة التي صارت مدار اخلالف ،وهي مسأل رة ال
130
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
فكان عاقبة ذلك أن دارت الدائرة عىل اْلعتزلة يف خالفة اْلتوكل ،فنرص
ُّ ،
واضطهد اْلعتزلة ،حتى إن رأس ُ
اْلتوكل اْلحدثني عىل اْلعتزلة
( )1
وصودرت
اْلعتزلة ابن أيب دؤاد (ت240ه) ُعزل عن القضاء سنة 237ه ُ ،
أمالكُه( ،)2وْلا مات منكو ًبا ،مل يمكن دفنه إال يف بيته(.)3
مشريا إىل
ً الـح مج ِوي(ت1376ه)
ويف ذلك يقول حممد بن احلسن َ
اْلأمون واْلتوكل « :ولو أن اخلليفتني ت ََـركا احلري َة التامة ألهل العلم ،
فأطلقوا عنان أفكارهم يف البحث عن احلق َ ،ل َظ َـه َـر ،ولرجعت الطائفتان
فتدخ ُل ِ
أهل السياسة يف أمثال هذا هو َسدم رل جللباب الليل عىل ُّ إىل ٍ
وفاق .
ُ
تداخل العوام مع العلَمء يف وسدٌّ حاجزر عن تقدُّ ِم العلم .وكذلك
احلقائق َ ،
وليست من أركان الدين ،وال أمرنا اهلل هبا ،وال يسألنا يوم القيامة عنها ،وهي :هل
1439/03/04هـ
ر
رجال من التاريخ (. )99-100 القرآن خملوق أم ال ؟» .
( )1انظر :تاريخ بغداد -ترمجة :حممد بن عبد اْللك بن أيب الشوارب ،وترمجة :
عبداهلل بن حممد بن إبراهيم بن عثَمن ،أيب بكر ابن أيب شيبة )344-345/2( -
(. )67/10
( )2تاريخ الطربي (. )188-189/9
( )3تاريخ اإلسالم للذهبي (. )760-761/5
131
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
فَم أن انفرجت اْلحنة عن احلنابلة ،وبعد وفاة اإلمام أمحد ،حتى غال
غال ُة احلنابلة ،وظلموا وتعا َلوا عىل خصومهم ،حتى منعوا اإلمام حممد بن
السلطان
ُ فأوذوا من قِ َب ِل األشعرية ،وأعان
ثم تقلبت باحلنابلة األيام ُ ،
بعضهم مذه َبه ،وهرب األشعري َة عليهم ،واشتدت الوطأ ُة عليهم ،حتى َ
غري ُ
1439/03/04هـ
بغداد للخطيب ( ، )164/2وتكملة تاريخ الطربي ْلحمد بن عبد اْللك اهلمذاين
(ت521ه) ( ، )294-295/11والكامل البن األثري -حوادث سنة323ه -
( ، )248/6واحلنابلة يف بغداد ْلحمد أمحد عيل حممود (. )171-188
( )3انظر :اْلنتظم البن اجلوزي ( ، )3-4/9( )305-307/8وتاريخ اإلسالم للذهبي
( ، )314-313 ، 152-151/10وذيل طبقات احلنابلة البن رجب (.)39-43/1
ويف ذلك يقول ابن عقيل احلنبيل (ت513ه) « :ثم جاءت دولة النِّـظام [يعني :
132
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
سب الصحاب َة ،حتى اْلُك َمره عىل ذلك ،وكانت الدولة األزبكية احلنفية
من َّ
السنية هي من يعني عىل ذلك .فقابل الشيع ُة غلوهم بغلو آخر ،وقامت
1439/03/04هـ
وقال الشاعر يف أحد هؤالء :
ُ
الرسائل وإن كان ال ُ
جتدي إليه ومن مبلغر عني الوجي َه رسال ًة
ُ
اْلآكل وذلك لـمـا َأ مع َوزَ ت َ
مك ٍ
حنبل متذهبت للنعَمن بعد ابن
َ
ُ
حاصل ولكنَم هتوى الذي منه الشافعي تدينًا
ِّ اخرتت َ
قول َ وما
قائل ٍ
مالك ،فا مف َط من ْلا أنا ُ إىل صائر شك - وعَم ٍ
قليل أنت -ال َّ
ر
وفيات األعيان البن خلكان (. )152-153/4
133
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
غلوا ،
الدولة الصفوية عىل آثار طلب الثأر واالنتقام ،فزادت يف غلو الشيعة ًّ
واستباحت من دماء أهل السنة أضعاف ما استباحه أهل السنة منهم(. )1
الـم مقبُيل
ويف ظاهرة تغيري العقائد بقوة السلطان ،يقول العالم ُة َ
(ت1108ه) « :ثم حدثت بني اْلسلمني أنفسهم نوادر ،كالكالم يف القدر ،
( )1نقل مال عيل القاري (1014ه) عن أحد شيوخه قوله « :إن زيادة التعصب والعناد
والفساد يف هذه الطائفة اللعينة [يعني الشيعة الصفويني] إنَم وقعت من تعصبات
شخصا يبتدئ يف غسل األيدي من مرفقه ،أو مسح عىل
ً الطبقة األزبكية :حيث رأوا
حجرا يف مسجده :قتلوه .فعارضوهم بـ :إن غسل رجله ،أو مسح
ً رجله ،أو وضع
رقبته وأذنه :قتلوه .
1439/03/04هـ
وكل من صىل مرسال يديه [يعني كالشيعة] :قتله هؤالء ،فعارضوهم :أن من صىل
واض ًعا يديه :قتلوه .
مكرها :قتلوه ،فزادوا
ً إىل أن ازداد التعصب بني الطائفتني :فمن سب الصحابة ولو
عليهم يف القباحة والوقاحة ،بأن أمروا أهل السنة بسب الصحابة ،فمن امتنع عنه :
قتلوه . »...شم العوارض يف ذم الروافض ْلال عيل القاري ( ، )86وانظره ،مع
حاشية التحقيق . )85-79
134
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وينقض ما فعله األول ،و ُينك ُِّل هؤالء ،و ُي َو ِّطي شأن
ُ اآلخر
ُ األليم ،وُي ُل ُفه
يشء .وإنَم هي فتن رة وحادث رة يف اإلسالم ،ويمدحون نفوسهم بكل خري ،
بإجبار الناس عىل تغيري عقائدهم باإلكراه ،ال باحلجة والربهان(. )2
1439/03/04هـ
( )1ال َع َلم الشامخ يف تفضيل احلق عىل اآلباء واْلشايخ للمقبيل (. )367
ٍ
بوصلة ، تنترص اْلذاهب ( )2ويف ذلك يقول ابن عقيل احلنبيل (ت513ه) « :إذا كانت
ُ ُ
هي الدولة والكثرة ،أو حشمة اإلنعام = فال عربة هبا .إنَم اْلذهب ما نرصه دليله ؛
طاهرا بصورته ٍ
ومال مبذول = كان حمتش ٍم
َ ٍ
نارص ساذجا من
ً حتى إذا انكشف بوحدته
ً
ٍ
صقالة من الصحة والسالمة من الدَّ خَ ِل واالعرتاضات ،كاجلوهر الذي ال حيتاج إىل
ٍ
مذهب ال ينترص إال ِ
واحلسن الذي ال حيتاج إىل ّتسني .ونعوذ باهلل من وتزويق ،
135
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
وال يعني ذلك أنه ال حيق للحكومة اإلسالمية أن ّتمي أفراد شعبها من
األفكار الضالة واْلنحرفة ،بل هذا من أوجب الواجبات عليها .لكن محاية
القائم عىل ت ََص ُّو ٍر خاطئ ،وهو تصور أن تغيري القناعات يمكن أن يتم بالقوة
ورب
ُ ، اْلرشوع ،فليس كل من جازت عقوبتُه جازت فيه ُّ
كل عقوبة
( )1
ٍ
بدليل أو ُو ُضوحِ الذاهب إليه من االنتصار
ُ نارصه ،أ مف َل َس
ُ بوصلة ! فذاك الذي إذا زال
تعليل .والدَّ ِّي ُن من خَ ل َص الدالل َة من الدولة ،والصح َة من النرصة بالرجال ،وقلَم
عو ُل يف دينه عىل الرجال» .الفنون البن عقيل (237/1رقم. )245
ُي ِّ
التأديب
ُ ( )1وقد قال العز ابن عبد السالم يف القواعد الكربى (« : )157/2ومهَم حصل
1439/03/04هـ
باألخف من األفعال واألقوال واحلبس واالعتقال = مل ُيعدَ مل إىل األغلظ ؛ إذ هو
مفسد رة ال فائدة فيه ،حلصول الغرض بدونه» .
التاريخ مواقفَ ناصع ًة لعلَمء السلف يف محاية اْلخالفني من جور
ُ ( )2وقد حفظ لنا
السالطني :فمع ما ُيذكر ف ُيشكر للخليفة العبايس اْلهدي (ت169ه) أنه أنشأ جهازا
يف الدولة خمتصا بتتبع الزنادقة ،ونشط يف ذلك (كَم جتده يف تاريخ
الطربي ، 165/8واجلليس الصالح للمعاىف بن زكريا . )207/3لكن ذلك اجلهاز
136
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
ٍ
بأمور ال إذن :فحَمية الشعوب من األفكار الضالة واْلنحرفة يكون
-الرتبية اإليَمنية العميقة ،واْلبنية عىل األدلة الصحيحة ،التي تُو ِّلدُ
أي ٍ
فكر مواجه ًة القناع َة الراسخة والتي ال ُيشى صاح ُبها من مواجه َة ِّ
،
فكري ًة .
الرشعي َ
بعض هؤالء ُّ احلكومي كان ربَم قسا وجتاوز احلد ،حتى ربَم محى العامل ُ
اْلخالفني من بطش ُّ َ
الرشط واجلالدين !!
ابن أيب ذئب (ت158ه) ببدعة القدر ،فسئل عن ذلك
بعضهم اإلما َم الكبري َ
اهت َم ُ
فقد َّ
مصعب الزبريي (ت236ه) ،فنفى هذه التهمة أشدَّ النفي ،قائال « :معا َذ
ُ عالم ُة قريش
اهلل !! إنَم كان يف زمن اْلهدي قد أخذوا َ
أهل القدر باْلدينة ،ورضبوهم ،ونفوهم.
1439/03/04هـ
فجاء قو رم من أهل القدر فجلسوا إليه ،واعتصموا به من الرضب .فقال قوم :إنَم
جلسوا إليه ألنه يرى القدر ،لقد حدثني من أثق به أنه ما تكلم فيه قط» .تاريخ بغداد
للخطيب (. )301/2
وهكذا حيمي هذا اإلما ُم الكبري من أئمة السنة أولئك اْلبتدعة من ظلم احلاكم ،وال
يرىض بتجاوز احلد يف عقوبتهم ،وربَم كان ال يرى عقوب َة هؤالء أصال ،كَم سبق
ُ
نقل اخلالف يف نحوه .
137
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
اْلسلم تؤدي إىل تشقق وحدته ،ومن يتضح تالع ُبه بعقائد الناس
1439/03/04هـ
واألباطيل .
ترشيع
َ وهذا التأديب اْلنضبط مما ُيوجب عىل احلكومة اإلسالمية
القوانني الواضحة التي تبني الفرق بني أمرين :األول :هو التعايش مع األفكار
والعقائد القابلة للتعايش ،والثاين :هو عقوبة من يستغل هذا التسامح يف
138
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
( )1يف زمن الفضاء اْلفتوح بالقنوات العاْلية اْلرئية واْلسموعة ،وزمن الشبكة
الدولية (اإلنرتنت) ،ووسائل االتصال واإلعالم العاْلية اْلختلفة ،ومع وجود
الرحالت العلمية والتدريبية ألبناء اْلسلمني إىل بالد غري اْلسلمني :مل يعد وج ُه
اْلنرصين أو غريهم تتسل ُل إىل بالد اْلسلمني
ِّ مقترصا عىل مجاعة من
ً ِّ
بث الدعوات
والـمن ُمع التا ُّم اْلطلق هلذا
َ باسم الطب أو التعليم أو اإلغاثة أو البعثات الدبلوماسية .
ك ِّله شب ُه مستحيل بل هو مستحيل واق ًعا .كَم أهنم لو قابلوا َمنم َعنا هلم بمنع الدعوة يف
،
1439/03/04هـ
حقيقة اإلسالم باحلجج والرباهني .مع جتريم غري هذه الصورة ،من صور التأثري
عىل جهلة اْلسلمني واستغالل فقر بعضهم وحاجتهم إلجبارهم عىل تغيري
معايريه وال َت مع ُظ ُم ٍ
قانون عادل ال ختتلف وضع أول مبادئ
ُ معتقداهتم .ألمكن بذلك
ُ
مفاسدُ ه لدعوتنا ودعوهتم ؛ لكي ال نُتهم بالتضييق عىل احلريات ،وال بازدواجية
اْلعايري .
وهلذا االقرتاح تفاصيل واستشكاالت وأجوبة ،ستتضح إذا ُأفرد بالدرس والنقاش .
139
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
يسريا من اْلقرتحات ،لكني أرجو أن أكون قد ذكرت شيئًا مهَم منها .
جزءا ً
وهذا آخر مباحث هذه الورقة ،التي أرجو من اهلل تعاىل أن يبارك يف
قليلها فيكون كثريا ،وأن جيرب نقص إخاليص فيها بإخالص اْلنتفعني هبا .
1439/03/04هـ
140
تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)
الخاتمــــــــــة
1439/03/04هـ
141
الخاتمــــــــــــــــــــــــــة
اخلامتــــــــــــــــــة
عاصَم للفكر
ً اْلحكَمت هي :كل ثابت بأدلة يقينية ،يكون -1
ٍ
قلوب بني األسوياء . ِ
ائتالف وموضع حمل ٍ
اتفاق بني العقالء ، -أهنا ُّ
ُ
1439/03/04هـ
-أهنا أصول كلية ُيـحتكم إليها .
143
الخاتمــــــــــــــــــــــــــة
وفقدان القدرة عىل التفكري واختاذ القرار ،كَم حصل وحيصل مع
ُّ
الشـكاك واْلصابني بالوسوسة .
-أن ّتكيم اْلحكَمت هو الذي سيؤدي إىل الثبات عىل اْلبدأ ،
ِ
االستقرار النفيس وهو سبب الشعور باألمان والثبات هو سبب
والطمأنينة .
والتفلت .
-أن الثبات عىل اْلبدأ وعدم اخلشية من خت ُّطف الشبهات مها أهم
1439/03/04هـ
رضوريات بقاء اْلسلم اْلعارص .
144
الخاتمــــــــــــــــــــــــــة
ٍ
أرضية مشرتكة بغري الرجوع إىل تلك االلتقاء بينهم عىل
ُ
اْلحكَمت.
-تثبيت أصول الدين يف قلوب أبناء األمة باألدلة اليقينية ،لتكون هي
منه .
1439/03/04هـ
وخطبهم
-عدم إغفال اخلطاب العقالين يف كل فتاوى العلَمء ُ
145
الخاتمــــــــــــــــــــــــــة
ِ
اْلنضبطة غري الفوضوية ،وعدم جتريم الفكر ِ
احلرية -إشاع ُة
1439/03/04هـ
وكتب
146
الخاتمــــــــــــــــــــــــــة
1439/03/04هـ
147
الخاتمــــــــــــــــــــــــــة
المالحق
في ذكر بعض الفتاوى واألجوبة
( )1
التي تراعي فقه المحكمات
1439/03/04هـ
149
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
اْللحــــق األول
()1
إنكار السنة بدعوى أن اهلل مل يتعهد بحفظها
اجلواب:
1439/03/04هـ
احلمد هلل وحده ،والصالة والسالم عىل من ال نبي بعده ،وعىل آله
ر
مثال من فتوى يل أستند فيها إىل أدلة يقينية يف إثبات حفـظ اهلل تعـاىل للسـنة ،وهـي ()1
منشورة يف موقع اإلسالم اليوم .
151
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
إن السنة النبوية حمفوظة بحفظ اهلل تعاىل لدينه وكتابه القرآن الكريم ،
باإلسالم والقرآن ،وإما أنك لست بمسلم .فإن كنت من اْلسلمني فلك
أما اْلسلم فإنا نقول له :يدل عىل حفظ اهلل تعاىل للسنة أمور كثرية منها
ما ييل:
1439/03/04هـ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [األحزاب .]٤٠:وقال تعاىل( :ﭡ
ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ
ﭮ) [التوبة .]٣٣:فدلت هذه اآليات أن دين اإلسالم هو آخر الرشائع ،
152
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
وال شك أن بقاء هذا الدين يعني حفظ رشائعه وأحكامه ،وعىل رأس
ومن اْلعلوم أن الصالة إنَم جاء يف القرآن األمر بإقامتها أمر ًا جمم ً
ال ،
دون بيان أعدادها ورشوطها وأركاهنا وواجباهتا وسننها ،وأن ذلك كله إنَم
ضياع السنة ،التي ال بقاء هلذا الركن العظيم من أركان اإلسالم بدوهنا؟!
وقل مثل ذلك يف الزكاة والصيام واحلج وغريها من األحكام ؛ حيث إن
تفاصيل أحكام ذلك كله مل تأت يف القرآن الكريم ،إنَم جاء يف السنة .
1439/03/04هـ
وعىل هذا فلو اعتقدنا ضياع السنة فقد َّ
كذبنا القرآن الذي أخربنا ببقاء
153
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
ومن اْلعلوم أن القرآن إنَم أنزله ربنا لنفهم معانيه ولنتدبره ،كَم قال
ُ
العمل بأحكامه ، ﭼ ﭽ) [النساء . ]٨٢ :واْلقصود من التدبر ،هو :
1439/03/04هـ
ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ) [النحل.]٦٤:
وهذه اآليات تبني أن َفهم القرآن ال يمكن بغري بيان النبي ، وأن معرفة
مراد اهلل من كتابه العظيم ال يتم إال بالتفسري النبوي هلا .ولذلك كان تعهد
اهلل تعاىل بحفظ القرآن يتضمن التعهد بحفظ بيانه من السنة النبوية ؛ ألن حفظ
154
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
القرآن لن يتم بغري حفظ ألفاظه ومعانيه ،ومعانيه ال ُتعرف إال بالسنة ،فدل
بل إن حفظ معاين القرآن التي جاءت هبا السنة أهم من حفظ حروفه مع
تضييع معانيه ؛ ألن اْلقصود من حفظ القرآن العمل بمقتضاه ،ولن ُيعمل
بمقتضاه إذا مل ُتعرف معانيه ،ولذلك فال يتحقق حفظ القرآن بغري حفظ السنة
أيضا.
يتضمن الوعد بحفظ السنة النبوية ً
:
1439/03/04هـ
-كقوله تعاىل( :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ
ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ
155
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ) [النساء.]٦٥:
-وأمر بالرجوع إىل كتابه الكريم وإىل سنة رسوله عند التنازع،
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ)
1439/03/04هـ
[األحزاب :من اآلية .]٣٦وقال سبحانه( :ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
156
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ)
[األحزاب.]٢١:
فهذه األوامر اإلهلية وغريها مما هو يف معناها كثري جدًّ ا يف كتاب اهلل
تعاىل :كيف س ُتط َّبق وما هو طريق العمل هبا ،لو أن السنة النبوية مل تكن
إن اعتقاد ضياع السنة يعني أن تلك اآليات (مجيعها وغريها مما هو يف
اهتاما
ً معناها) ال فائدة منها ،وال معنى هلا !! وهذا اهتا رم للقرآن قبل أن يكون
ر
وعبث ُينز ُه عنه لغو
للسنة ؛ ألن وجود تلك األوامر مع العجز عن تطبيقها ر
1439/03/04هـ
كال ُم العقالء من اْلخلوقني ،فكيف بكالم اخلالق سبحانه وتعاىل .
ر
تكليف بَم ال يستطاع!! أيضا فيه
ووجود تلك األوامر مع العجز عن تطبيقها ً
وهو تكليفر ُينايف و ُيضا ُّد العدال َة اإلهلية ! واحلاصل أن ربنا قد نفى ذلك
157
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
وهلذا كله كان التشكيك يف السنة تشكي ًكا يف القرآن الكريم ،وهذا ال
أما غري اْلسلم :وهو الذي إذا احتججنا عليه بمنقوالتنا (وهي القرآن
والسنة) احتج علينا بمنقوالته ،كَم جاء يف السؤال ؛ فإننا لسنا مضطرين بأن
نبدأ خطابه باألدلة النقلية السابقة ؛ ألنه ال يؤمن بالقرآن أصالً .وإنَم نبدأ
بدعوته إىل اإلسالم ،وبإثبات نبوة حممد له ،من خالل دالئل نبوته
1439/03/04هـ
اْلتعددة :كإعجاز القرآن الكريم اْلتنوع الوجوه :يف بالغته ،
باإلعجاز العلمي) ،وكإعجاز السنة النبوية كذلك ،وبيان بشارات األنبياء به
158
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
لكثري منها = مل يزل فيها إىل اليوم ما يدل عىل ذلك ...إىل غري ما سبق من
فإذا ما صد َق وآمن باهلل ر ًّبا وباإلسالم دينًا وبمحمد رسوالً ونب ًّيا ،ب َّينا
الديانات األخرى علينا بمنقوالهتم ؛ ألن األمر ليس بمجرد الدعاوى ،وإنَم
األمر باحلجة والربهان ؛ فشتان شتان ما بيننا وبني من ُيالفنا يف الدين !!
عىل هذه األرض ،ولدينا األدلة القاطعة عىل ذلك كله ،ولوال ذلك ْلا بقيت
حرهبم ضدنا.
1439/03/04هـ
إن ديننا احلق ؛ ألنه دين اهلل تعاىل الذي ال إله إال هو وحده ال رشيك له ،
وأدلة هذه الدعوى عندنا كثرية ،كافية إليَمن أهل األرض كلهم .لكن من
159
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
هداية الناس كلهم إىل ما فيه سعادهتم يف الدنيا واآلخرة .هذا واهلل أسأل أن
واحلمد هلل والصالة والسالم عىل رسول اهلل وعىل آله وصحبه ومن
وااله.
1439/03/04هـ
160
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
اْللحق الثاين
()1
فتوى تقليدية راعت فقه اْلحكَمت
التشكيك يف جاللة مكانة الفاروق عمر بن اخلطاب
(ريض اهلل عنه)
أرسل أحد السائلني يقول « :لقد ناقشت أحد زمالئي الشيعة اإلمامية
يف األمور اْلذهبية ،وقد جتنبت احلديث معه ،ويف مرة من اْلرات أثار
يل شبهة عظيمة ،ما زال أثرها باق ًيا يف نفيس ،وهذه الشبهة تتلخص يف
حديث رزية اخلميس الذي رواه ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) يف البخاري ،
وقصة هتجم عمر بن اخلطاب عىل رسول اهلل حني قال عمر عىل
رسول اهلل « دعوه فإنه هيجر» ،وقد أثار هذه الشبهة يل عن طريق إرسال
1439/03/04هـ
رسالة يل ،وأنا مل أتثبت األمر ،فساعدوين يف كشف هذه الشبه .وجزاكم
اجلواب :
161
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
«احلمد هلل ،والصالة والسالم عىل رسول اهلل ،وعىل آله وصحبه ومن
حرجا شديدً ا ،ويريد ما يفرج عنه هذا احلرج ،فإين أنصح السائل بمنهج
ً
صحيح جتاه اْلشتبهات والشبهات ،وهو أن يستحرض يف علمه وقلبه
ُّ
الشبه عليها ،فإنه سيجد أن هذه الشبه قد سقطت عىل جدار حصون
عدو ٍ
تراب ألقاها ٌّ وتصبح تلك الشبه -حتى ولو مل جيد هلا جوا ًبا -كحفنة
ٍ
حصن عظيم ،هل تؤثر فيه شي ًئا؟! أما أن جيعل اْلرء قل ًبا حاقدر عىل جدار
مستودعا للمتناقضات
ً لوا من ّتصينات اْلحكَمت ،فسيكون قلبه حينها
ُخ ً
1439/03/04هـ
،ولن يدوم عىل عقيدة ؛ إال وقد ّتول عنها إىل غريها ،ح ًّقا كانت أو باطالً،
كدرا،
أصفوا كان أو ً
ً وكأن قلبه حينها قطعة من قطن ،متتص كل ما المسها،
162
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
وبناء عىل هذا اْلنهج الشايف ،فإين أقدم اجلواب :بأنه عليك يا أخي
فجا إال سلك فجا غري فجك» أخرجه الشيخان البخاري (،)3683
-أمل يقل النبي « : بينَم أنا نائم ،رأيت الناس يعرضون ،وعليهم
ِ
ُقمص ،منها ما يبلغ ال ُّثد َّ
ي ،ومنها ما يبلغ دون ذلك ،ومر عمر بن
قدحا ُ ،أ ُ
تيت به ،فيه لبن ، -أمل يقل النبي « : بينَم أنا نائم ،إذ رأيت ً
1439/03/04هـ
ي جيري يف أظفاري ،ثم أعطيت
فرشبت منه ،حتى إين ألرى الر َّ
لت ذلك يا رسول اهلل؟ قال :
فضيل عمر بن اخلطاب » .قالوا :فَم أو َ
عمر .
163
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
قرصا ،فقلت:
دارا أو ً
-أمل يقل النبي « : دخلت اجلنة ،فرأيت فيها ً
ْلن هذا؟ فقالوا لعمر بن اخلطاب ،فأردت أن أدخل ،فذكرت
غريتك» .فبكى عمر ،وقال :أي رسول اهلل! أو عليك ُيغار .أخرجه
-أمل يقل النبي « : قد كان يكون يف األمم قبلكم حمدثون ،فإن
1439/03/04هـ
-أوليس هو الذي وطد قواعد الدولة اإلسالمية بفتوحه وتنظيمها
164
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
-أوليس هو الذي امتألت كتب السري بأخبار زهده الشديد يف الدنيا ،
وبقصص ورعه وإنصافه وقيامه عىل مصالح الناس ،كانت وما زالت
-أوليس هو رمز العدالة التي ال تعرف اْلحاباة ،وال ّتيد عنها حلب
وال لكره ،وال لبعد وال لقرب ،وال لعداوة وال لصداقة .لقد كانت
عدالته وما زالت مرضب اْلثل ،وهلا رمزي رة ال يصل إليها أحدر بعده.
-وهذا عيل بن أيب طالب يعلن حبه وإجالله وتعظيمه لعمر :
فعن ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) ،قالُ « :وضع عمر بن اخلطاب عىل
رسيره ،فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه ،قبل أن يرفع ،
وأنا فيهم ،فلم يرعني إال برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي ،فالتفت
1439/03/04هـ
أحب
إليه ،فإذا هو عيل ،فرتحم عىل عمر ،وقال :ما خلفتَ أحدً ا َّ
إيل أن ألقى اهلل بمثل عمله منك ،وايم اهلل ! إن كنت ألظن أن
جيعلك اهلل مع صاحبيك ،وذاك أين كنت أ َك ِّث ُر أسمع رسول اهلل
يقول :جئت أنا وأبو بكر وعمر ،ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ،
165
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
ومسلم (.)2389
أليب :أي الناس خري بعد رسول اهلل ؟ قال أبو بكر قلت ثم من؟
-وقال عيل بن أيب طالب« :ما نبعد أن السكينة تنطق عىل لسان عمر»
قد صنف العلَمء فيه كت ًبا ومصنفات .فمن جيهل مكانة الفاروق يف
واْلسلمني ؟!
1439/03/04هـ
وما أحسن قول اإلمام مالك بن أنس إمام دار اهلجرة (رمحه اهلل تعاىل)
عندما سأله هارون الرشيد :يا مالك ،كيف كانت منـزلة أيب بكر وعمر من
النبي ؟ فقال :يا أمري اْلؤمنني ،قرهبَم منه يف حياته ،كقرب مضجعهَم
من مضجعه بعد وفاته ،فقال هارون :شفيتني يا مالك ،شفيتني يا مالك .
166
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
،
فإذا اطمأن القلب بتلك النصوص واألدلة والشواهد اْلحكمة الواضحة
فاعرض عىل قلبك بعدها تلك الشبهة ،هل يبقى هلا أثر؟!
ومع ذلك فقد أجاب العلَمء عن ذلك احلديث ،وبينوا حقيقته ،ومن
الطلب ،الذي فيه معنى دنو األجل واقرتاب ساعة الوفاة من النبي أصابته
دهش ُة اْلحب إذا شعر بقرب الفراق ،واستولت عليه حرية العاشق عند
حلول ساعة اْلوت بمعشوقه ،فقد كانت مشاعر عمر ملتهب ًة مفجوع ًة
1439/03/04هـ
، ويتوعده بالقتل .وما ذاك إال لعظيم حبه وتعلقه القلبي الشديد بالنبي
،فحملته تلك احلرية والدهشة ،مع علمه بأن النبي برش ،يعرتيه ما يعرتي
البرش من اْلرض واحلمى وآثارمها ،إىل أن يظن أن هذا من النبي كال رم
من أثر مرضه وأثناء غيبوبته من احلمى .وانظر أجوبة أخرى يف (اْلُ معلِم)
167
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
.)740
ثم إننا ال نشك أن النبي قد أدى األمانة وبلغ الرسالة عىل الوجه
األكمل ،فلو مل يكن فيَم بلغه ألمته كفاية هلا ،ولو مل يكن ما أراد ذكره
وكتابته ساعة وفاته قد سبق منه ما يدل عليه ،ولو كانت داللته فيها يشء من
اخلفاء = لوال ذلك كله ْلا ترك النبي البالغ والبيان ْلجرد ذلك التنازع
الذي حصل بمحرضه .وإال فقد وقع بني أصحاب النبي وبمحرضه
اختالفات عدة أثناء حياته ، فلم يمنع ذلك النبي من البيان والبالغ ْ ،لا
وعىل هذا ،فإن ترك النبي للكتابة بعد استفاقته من غيبوبته ،يدل عىل
1439/03/04هـ
أن ما أراد كتابته موجود يف كتاب اهلل تعاىل وسنته ، ولو عىل وجه حيتاج
ٍ
اجتهاد واستنباط للوصول إليه . إىل
وهبذا يتبني أنه مل يقع من عمر أمر حيتاج إىل طول اعتذار ،وال
هناك شبهة قوية تقدح يف مكانة الفاروق ، بل مل يزل وال يزال خري
168
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
هذه األمة بعد نبينا وبعد أيب بكر ،كَم قال عيل بن أيب طالب . واهلل
أعلم.
واحلمد هلل ،والصالة والسالم عىل رسول اهلل ،وعىل آله وصحبه ومن
واله » .
1439/03/04هـ
169
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
اْللحق الثالث
()1
شبهة ُيراعي فِ مق َه اْلحكَمت
ٍ ر ٌّد عىل
«دية اْلرأة عىل النصف من دية الرجل»
فالشبهة هي :دية اْلرأة عىل النصف من دية الرجل .هل هذا يدل عىل
احلمد هلل والصالة والسالم عىل رسول اهلل وعىل آله وصحبه ومن وااله،
أما بعد:
فجوابا عىل السؤال أقول (وباهلل التوفيق) :الذي يدل يف اإلسالم عىل
1439/03/04هـ
تساوي الرجل واْلرأة يف اإلنسانية ليس هو الدية؛ إال إن كانت النفس
البرشية ال تعرف قيمتها إال باْلال! وإذا ما نظرنا للدية عىل أهنا قيمة للنفس
170
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
البرشية .فأقبح هبذه النظرة إىل الدية ! سواء كانت دية اْلرأة عىل النصف من
وإنَم الذي يبني قيمة النفس البرشية للمرأة والرجل يف حالة االعتداء عليهَم:
اإلثم والعقوبة األخروية اْلرتتبة عىل ذلك االعتداء؛ ألن ذلك هو اْليزان
النصوص القاطعة أن االعتداء عىل الرجل واْلرأة يف اإلثم سواء( :من أجل
ذلك كتبنا عىل بني إرسائيل أنه من قتل نفسا بغري نفس أو فساد يف األرض
فكأنَم قتل الناس مجيعا ومن أحياها فكأنَم أحيا الناس مجيعا) .بل لقد
خص اهلل تعاىل قتل البنات بمزيد من التوبيخ اْلتضمن مزيدً ا من العقوبة.
َّ
وذلك يف قوله تعاىل (وإذا اْلوءودة سئلت _ بأي ذنب قتلت)؛ ومل يدع
أحد مع ذلك :أن يف هذا متييزً ا للمرأة وتفضيال هلا عىل الرجل؛ ألن أهل
1439/03/04هـ
اجلاهلية كان اعتداؤهم عىل بناهتم بالقتل أكثر من اعتدائهم عىل أبنائهم
الذكور.
وكَم تساوى االعتداء عىل اجلنسني يف العقوبة األخروية فقد تساويا يف
العقوبة الدنيوية :ذلك أن الرجل يقتل باْلرأة قصاصا .ولو كانت قيمتهَم
171
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
وباتفاق وتساوي إثم وعقوبة قتل اْلرأة بعقوبة قتل الرجل يف الدنيا ويف
اآلخرة يتضح أنه ال فرق بني إنسانية اْلرأة والرجل .وأهنَم سواء يف الترشيع
اإلسالمي.
إذن فاختالف دية اْلرأة عن دية الرجل ال عالقة هلا بالقيمة اإلنسانية
أصال .وإنَم لذلك مغزى آخر وحكمة بعيدة عن ذلك .كَم بيناه آنفا .فإن
وقفنا عىل ذلك اْلغزى ووفقنا إىل معرفة تلك احلكمة فبها ونعمت .وإال
فسوف يكون هذا احلكم حكَم تعبديا .اْلقصود منه ابتالء اإليَمن وّتقيق
ومن نظر يف أحكام الدية علم أهنا ال عالقة هلا بالقيمة اإلنسانية .بدليل
برتا أو إفسا ًدا (حتى إن اللحية إذا حلقت فلم تنبت كان فيها
واْلصالح منها ً
1439/03/04هـ
دية كاملة عند بعض الفقهاء) .وبدليل أن الدية رشعت يف القتل اخلطأ الذي
ال إثم فيه أصال .إذن ففقه باب الدية كله مبني عىل معنى آخر غري معنى دفع
قيمة للنفس البرشية .فهي إما تعويض عن كاسب وسبب لتحصيل الرزق.
172
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
ولذلك فالذي يظهر يل من حكمة جعل دية الرجل ضعف دية اْلرأة
أمران:
-1إما أن يكون ذلك تأكيدً ا عىل الوضع الفطري للحياة البرشية منذ
نشأت البرشية .من كون الرجل هو الكاسب اْلحصل للرزق واْلنفق عىل
األرسة بمن فيهم اْلرأة (وهو ما أكده اإلسالم من كون النفقة واج ًبا للرجل،
وح ًّقا للمرأة عليه) .وعىل هذا سيكون فقدان الرجل مما يوجب تعويض
-2وإما أن يكون ذلك االختالف بني الديتني تأكيدً ا عىل قوامة الرجل
(الرجال قوامون عىل النساء) (وللرجال عليهن درجة) .تلك القوامة التي هي
حق رمزي للرجل يف أرسته .فجاء االختالف يف الدية معززً ا لذلك التقديم
الرمزي للرجل عىل اْلرأة يف حق القوامة .و(القوامة) :هي ذلك احلق الذي
1439/03/04هـ
إنَم رشع يف اإلسالم حفا ًظا عىل األرسة من التفكك والضياع .بتحديد رأس
التسلط والظلم واالستبداد .والذي جيب عليه مقابل ذلك حقوق زائدة للمرأة
173
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
وبقية األرسة .كالنفقة واحلَمية والدفاع عنهم بنفسه (من قتل دون عرضه فهو
شهيد).
1439/03/04هـ
174
اْلالحـــــــــــــــــــــــــق
المصادر والمراجع
1439/03/04هـ
175
المصادر والمراجع
اْلصادر واْلراجع
البغا .الطبعة األوىل 1407 :ه .دار ابن كثري :دمشق .
أخبار الرايض واْلتقي (من كتب األوراق) :أليب بكر الصويل . -2
ّتقيق .ج .هريوث .دن .الطبعة الثانية 1399 :ه .دار اْلسرية :
بريوت .
االستقامة :البن تيمية ّ .تقيق :د /حممد رشاد سامل .الطبعة -4
األم :للشافعي ّ .تقيق :د /رفعت فوزي .الطبعة األوىل : -5
1439/03/04هـ
1422ه .دار الوفاء :اْلنصورة .
بحر الفوائد :أليب بكر حممد بن إبراهيم بن يعقوب الكالباذي . -6
ّتقيق :وجيه كَمل الدين زكي .الطبعة األوىل 1429 :ه .دار
177
المصادر والمراجع
،وقف عىل طبعه أمني اخلانجي .عىل نفقة مكتبة اخلانجي ،
تاريخ الطربي (تاريخ األمم واْللوك) ْ :لحمد بن جرير الطربي . -10
اْلعارف :القاهرة.
1439/03/04هـ
التحبري رشح التحرير :للمرداوي ّ .تقيق :د/عبدالرمحن بن -11
التحرير والتنوير :للطاهر ابن عاشور .دار سحنون للنرش . -12
178
المصادر والمراجع
التسهيل لعلوم التنزيل :البن ُجزي اْلالكي .الطبعة األوىل : -13
تفسري القرآن :البن اْلنذرّ .تقيق :سعد بن حممد السعد . -15
تفسري القرآن العظيم :البن أيب حاتم ّ .تقيق :أسعد حممد -16
الطيب .الطبعة األوىل 1417 :ه .مكتبة نزار الباز :مكة اْلكرمة.
التفسري الكبري :للرازي .الطبعة الثالثة :؟ دار إحياء الرتاث -17
1439/03/04هـ
الثانية :؟ .دار اْلعارف :القاهرة .
التمهيد :البن عبد الرب .طبعة وزارة األوقاف اْلغربية . -20
179
المصادر والمراجع
جامع البيان عن تأويل آي القرآن :البن جرير الطربي ّ .تقيق :د/ -21
عبد اهلل الرتكي .الطبعة األوىل 1422 :ه .دار هجر :اجليزة .
إحسان عباس وغريه .الطبعة األوىل 1407 :ه .عامل الكتب :
بريوت .
حاشية ابن عابدين .الطبعة الثانية 1386 :ه .تصوير دار الفكر : -23
بريوت .
حديث الطريقة :لرينيه ديكارت .ترمجة :د /عمر الشارين . -24
الطبعة األوىل 2008 :م .مركز دراسات الوحدة العربية :بريوت .
حقيقة القولني :لإلمام الغزايل ّ .تقيق :دُ /م مسلِم بن حممد -25
الدُّ مو َرسي .الطبعة األوىل 1438 :هـ .دار أسفار :الكويت .
احلنابلة يف بغداد :حممد أمحد عيل حممود .الطبعة األوىل : -26
1439/03/04هـ
1406ه .اْلكتب اإلسالمي :بريوت .
180
المصادر والمراجع
ُ
ذيل طبقات احلنابلة :البن رجب ّ .تقيق :د /عبد الرمحن -28
زاد اْلسري :البن اجلوزي .الطبعة الثالثة 1404 :ه .اْلكتب -30
سنن الدارمي = مسند الدارمي ّ .تقيق :حسني سليم أسد .الطبعة -31
رشح صحيح البخاري :البن بطال ّ .تقيق :يارس إبراهيم . -32
خان وغريه .الطبعة األوىل 1431 :ه .دار البشائر :بريوت .
1439/03/04هـ
رشح مشكل اآلثار :للطحاوي ّ .تقيق :شعيب األرناؤوط . -34
181
المصادر والمراجع
مشهور حسن سلَمن .الطبعة األوىل 2008 :م .الدار األثرية :
صحيح البخاري .الطبعة األوىل 1417 :ه .دار السالم :الرياض. -36
صيد اخلاطر :البن اجلوزي ّ.تقيق :الشيخ عيل الطنطاوي . -38
الطبعة اخلامسة 1412 :ه .دار اْلنارة :جدة ،ومكة اْلكرمة .
ال َع َل ُم الشامخ يف تفضيل احلق عىل اآلباء واْلشايخ :للمقبيل . -39
الفروع :البن مفلح ّ.تقيق :د /عبد اهلل الرتكي .الطبعة األوىل : -40
1439/03/04هـ
احلجوي .خرج أحاديثه وعلق عليه :د /عبدالعزيز بن عبد الفتاح
اْلنورة .
182
المصادر والمراجع
الفنون :البن عقيل ّ .تقيق :جورج مقديس .تصوير سنة : -42
القواعد الكربى :للعز ابن عبدالسالم ّ .تقيق :د /عثَمن مجعة -43
ضمريية ،د /نزيه محاد .الطبعة األوىل 1421 :ه .دار القلم :
دمشق .
الكامل يف التاريخ :البن األثري .الطبعة الرابعة 1403 :ه .دار -44
1406ه .
اْلحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز :البن عطية ّ .تقيق : -47
1439/03/04هـ
الرحال الفاروق ورفقائه .الطبعة الثانية 1428 :هـ .وزارة األوقاف
القطرية .
183
المصادر والمراجع
اْلحيط الربهاين :البن مازة احلنفي ّ .تقيق :نعيم أرشف . -49
اْلكرمة.
اْلغني :البن قدامة ّ .تقيق :د /عبداهلل الرتكي .الطبعة الثالثة : -52
1439/03/04هـ
اْلغني عن محل األسفار يف األسفار (يف حاشية إحياء علوم -53
184
المصادر والمراجع
مقاييس اللغة :البن فارس ّ .تقيق :عبد السالم حممد هارون . -55
اْلنتظم يف تاريخ اْللوك واألمم :البن اجلوزي .الطبعة األوىل : -56
1439/03/04هـ
الطبعة األوىل 1417 :ه .دار ابن عفان :اخلرب .
عمريات .الطبعة األوىل 1423 :ه .دار عامل الكتب :بريوت .
185
المصادر والمراجع
القرآنية .الطبعة األوىل 1439 :هـ .معهد اإلمام الشاطبي :جدة .
نقد العقل اْلجرد :لعَمنوئيل كنت .ترمجة :أمحد الشيباين . -63
النوادر والزيادات :البن أيب زيد ّ .تقيق /:حممد حجي . -64
وفيات األعيان :البن خلكان ّ .تقيق :إحسان عباس .دار صادر: -65
بريوت .
1439/03/04هـ
186
الخاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــة
دليل الموضوعات
1439/03/04هـ
187
دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات
دليل الموضوعات
الصفحة الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
5 اْلقدمـــــــــــة
1439/03/04هـ
28 -5أهنا عاصمة للفكر من االنحراف
189
دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات
الصفحة الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
-2أن ّتكيم اْلحكَمت هو الذي سيؤدي إىل الثبات عىل اْلبدأ،
41 ِ
االستقرار النفيس وهو سبب الشعور باألمان والثبات هو سبب
والطمأنينة
1439/03/04هـ
-3تنويع وسائل إثبات اْلحكَمت (كاحلديث الوجداين ،
70 وأعَمل ِ
الـم مشجاة :الدراما) ِ والفنون األدبية واجلَملية
-4عدم إغفال اخلطاب العقالين يف كل فتاوى العلَمء
74
وخطبهم وحديثهم ومجيع ُأطروحاهتم
ُ
190
دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات
الصفحة الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
-5بيان اْلنهج العقيل الصحيح جتاه اْلحكَمت
79
واْلشتبهات :
81 • قوانني هذا اْلنهج :
القانون األول :أن اليقني ال يزول بالشك ،وأن الشك ال ُيقدم عىل
81
اليقني .
ِ
اليشء ال يلزم منها أن ال ُيشك َ
ِّك فيه أحدر القانون الثاين :أن يقيني َة
82
القانون الثالث :أن فروع الدين وفروع التصورات يكفي إلثباهتا غلب ُة
83
الظن
القانون الرابع :أن الدليل الظني ال يقدح يف صحة االحتجاج به ورو ُد
84
االحتَمالت الظنية اْلرجوحة عليه
1439/03/04هـ
جييز ر
ووسط فيه َقدم رر من اخلفاء ُ أقسام :طرفان واضحان يقينيان ،
86
االختالفَ فيه
191
دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات
الصفحة الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
القانون السابع :أن هناك فر ًقا بني أمرين :األول هو االستحالة
93
العقلية ،والثاين هو عجز العقل عن التصور .
98 ِ
اْلنضبطة غري الفوضوية ِ
احلرية -6إشاع ُة
141 • اخلامتــــــــــة
146 • اْلالحــــــــق
149 اْللحق األول :إنكار السنة بدعوى أن اهلل مل يتعهد بحفظها
1439/03/04هـ
192