You are on page 1of 190

‫‪3‬‬

‫‪1439‬هـ‬
‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪4‬‬
‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وأساس ال َّثب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْلح َكَم ُ ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫ـام َأ مم ِن األُ َّمة َ َ ُ‬
‫ت ص َم ُ‬ ‫ا مُ م َ‬

‫اْلقدمـــــــــــة‬

‫ٍ‬
‫معرتف بالتقصري ‪ ،‬والصالة والسالم عىل البشري النذير ‪،‬‬ ‫احلمد هلل محدَ‬

‫السحر واهلجري ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫وعىل أزواجه وذريته كلَم تعاقب‬

‫نورا وحكمة ‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫عجبت من آية يف كتاب اهلل تعاىل ‪ُ ،‬ملئت ً‬
‫ُ‬ ‫أما بعد ‪ :‬فلقد‬

‫وحشيت بأسباب الطمأنينة واليقني ‪ ،‬و ُيوجد‬ ‫ُ‬


‫وشحنت بالعلوم واْلعارف ‪ُ ،‬‬
‫يف اْلؤمنني هبا من ال زالت َتتخطـ ُفه احلري ُة والشكوك ‪ .‬إهنا قول اهلل تعاىل ‪:‬‬

‫(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ‬

‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬

‫ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫[آل عمران‪. ]٧ :‬‬

‫إهنا آي ُة اْلحكَمت واإلحكام ‪ ،‬وآي ُة اْلنهج العقيل الذي فطرنا عليه‬

‫اخلالق العظيم ‪ ،‬وآي ُة التسلي ِم اإليَمين ‪ ،‬وآية ُأولِـي األلباب ‪.‬‬


‫ُ‬

‫‪5‬‬
‫وأساس ال َّثب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْلح َكَم ُ ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫ـام َأ مم ِن األُ َّمة َ َ ُ‬
‫ت ص َم ُ‬ ‫ا مُ م َ‬

‫إهنا اآلية العاصمة من تَـخَ ـ ُّط ِ‬


‫ـف ُّ‬
‫الش ُبـ َهات ‪ ،‬واحلامية من هجمة الشكوك ‪،‬‬

‫والفاضحة ْلنهج وأغراض الزائغني ‪ ،‬واْلحذرة من فتنة مرىض القلوب ‪.‬‬

‫كثري من اْلسلمني عنها ‪ ،‬فلم يقدروها قدرها ؟!‬


‫فلَمذا غفل ر‬
‫ٍ‬
‫طرف من كنز أرسارها ‪ :‬التقطتُه يف هذا البحث ‪،‬‬ ‫ولذلك فقد أتي ُتـكم من‬

‫مشيت شيئًا عىل ساحل بحر أعَمقها ‪ ،‬كات ًبا عن ‪:‬‬


‫ُ‬ ‫وجئتكم بعدما‬

‫وأساس الثبات) ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫(اْلحكَمت ‪ِ :‬ص ََم ُم َأ مم ِن األُمة ‪،‬‬
‫(‪)1‬‬

‫أسأل اهلل تعاىل الثبات ‪ ،‬وأن نعني أبناء أمتنا عليه ‪.‬‬

‫فإىل مباحث هذه البحث اْلخترص ‪..‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫السداد واْلحبس ‪ .‬وال تقل ‪:‬‬ ‫ِ‬


‫(‪« )1‬ص ََمم» ‪ :‬بكرس الصاد وختفيف اْليم ‪ ،‬هو ‪ِّ :‬‬
‫الـم ِضـي يف‬
‫« َصـَمم»‪ ،‬بفتح الصاد وتشديد اْليم ؛ ألن « َصـَمم» من التصميم ‪ ،‬وهو ُ‬
‫العزم ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫تعريف اْلحكَمت‬
‫وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫ﭧ ﭨ (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬

‫ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ‬

‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬

‫ﯨﯩ) [آل عمران‪. ]٧ :‬‬

‫ورد يف هذه اآلية العظيمة ِذ مك ُر (اْلحكم) و(اْلتشابه) ‪ ،‬ومن هذه اآلية‬

‫وقع االختالف الكبري يف تفسري اْلراد من هذين القسمني احلارصين ‪ ،‬ال‬

‫للنصوص القرآنية أو الرشعية فحسب ‪ ،‬بل جلميع النصوص والتصورات‬

‫واألفكار ‪ ،‬فجميعها ينقسم إىل ‪( :‬حمكم) و(متشابه)(‪. )1‬‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬جامع البيان البن جرير الطربي (‪ ، )188-206/5‬وتفسري القرآن أليب بكر ابن‬ ‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪،‬‬
‫اْلنذر (رقم ‪ )229-217‬وتفسري القرآن العظيم البن أيب حاتم (‪)592-594/2‬‬
‫‪،‬‬

‫وزاد اْلسري البن اجلوزي (‪ ، )350-354/1‬وأساس التقديس للرازي (‪-230‬‬


‫‪ ، )233‬والتعريفات للجرجاين (‪ ، )263‬واْلوافقات للشاطبي (‪، )305-333/3‬‬
‫والبحر اْلحيط للزركيش (‪ ، )450-457/1‬والتحبري رشح التحرير للمرداوي‬

‫‪7‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫ولن ندخل يف تفاصيل هذا االختالف وتعداد أقواله ‪ ،‬فليس هذا هو‬

‫هدف هذا البحث ‪ ،‬الذي سيعتني باجلانب العميل لفقه هذا الباب ‪ ،‬منطلقا‬

‫من الدرس النظري ‪ ،‬لكن دون الوقوف عنده ودون التطويل فيه ‪.‬‬

‫خالف منها‬
‫ر‬ ‫لكن األمر الواضح يف اآلية وال َقدم َر الذي ينبغي أن ال يقع فيه‬

‫هو ‪ :‬أن اْلحكَمت يف هذه اآلية هي أ ُّم الكتاب (القرآن الكريم) وأص ُله ‪،‬‬

‫سبب االنحراف ‪ .‬وهذا القدر الذي ال‬ ‫وأن تَر َك ات ِ‬


‫باعها باتباع اْلشتبهات هو‬
‫ُ‬ ‫م‬
‫بني رضور َة معرفة اْلحكَمت الرشعية (النقلية والعقلية) التي‬
‫خالف فيه ‪ُ ،‬ي ُ‬
‫ُيشى عىل من‬
‫ال خوف عىل من متسك هبا ‪ ،‬بخالف اْلشتبهات التي ُ‬

‫متسك هبا أن يكون َأ مخ ُذه هبا عىل غري ُهدَ ى ‪.‬‬

‫ولئن اقترصت هذه اآلية اجلليلة عىل ذكر حمكَمت القرآن الكريم ‪ ،‬فال‬

‫شك أن اْلحكَمت ال تقترص عىل القرآن الكريم ‪ ،‬ففي السنة حمكَمت‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫أيضا‪ ،‬حتى إن من مشتبهات القرآن الكريم ما ال ُيعرف معناه إال بالسنة ‪،‬‬
‫ً‬

‫(‪ ، )1418-1395/3‬واإلتقان للسيوطي ‪ -‬النوع ‪، )639-670/1( - 43 :‬‬


‫والكليات للكفوي (‪ ، )380‬واْلحكَمت يف الرشيعة اإلسالمية وأثرها يف وحدة‬
‫األمة وحفظ اْلجتمع للدكتور عابد السفياين (‪. )19-40‬‬

‫‪8‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫أيضا ‪ ،‬أساسها‬ ‫ٍ‬


‫حمكَمت ً‬ ‫ولذلك وجب فهم القرآن بالسنة ‪ .‬كَم أن للعقل‬

‫اْلعارف العقلية الرضورية ‪ ،‬مما سيأيت احلديث عنه ‪ .‬ولذلك فسيكون‬

‫حديثنا عن اْلحكَمت شامال للمحكَمت الرشعية كلها ‪َ :‬ن مقل ِّيها َ‬


‫وعقل ِّيها ‪،‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ٍ‬
‫اختصاص بمحكَمت القرآن الكريم وحده ‪ .‬فإنه إن كانت اآلي ُة قد بينت‬ ‫دون‬

‫ُيتص‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫والتفصيل ال‬ ‫منهجا لفقه اْلحكَمت يف القرآن الكريم فذلك الفق ُه‬
‫ً‬
‫بنوع خاص من اْلحكَمت ‪ ،‬بل هو شامل جلميع أنواعها ؛ الّت ِ‬
‫ادها يف هذا‬
‫ِ‬
‫اجلامعة ‪ ،‬وهي أهنا (حمكَمت)‪.‬‬ ‫الوصف اْلؤ ِّث ِر واخلاصي ِة‬
‫ِ‬

‫فالذي هيمنا يف هذا اْلبحث هو أن أعرف مقصودي فيه من‬

‫(اْلحكَمت) ‪ ،‬والذي ال ُيتلف عن تعريف اْلحكَمت القرآنية‬

‫واْلحكَمت النقلية (الشاملة للسنة مع القرآن) ؛ إال يف كونه تعري ًفا شامال‬

‫للمحكَمت الرشعية بنوعيها ‪ :‬النقيل والعقيل ‪ .‬ثم أن أدخل يف دراسة هذا‬

‫(‪ )1‬تنبهوا لقويل ‪« :‬اْلحكَمت الرشعية ‪ :‬نقليها وعقليها» ؛ فقد قصدت هبذا التعبري‬ ‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫أيضا ؛‬
‫حمكَمت رشعية ‪ ،‬كَم هي حمكَمت النقل ً‬
‫ر‬ ‫ِ‬
‫حمكَمت العقل‬ ‫التأكيد عىل أن‬
‫َ‬
‫التكليف أصال عىل العقل ‪ ،‬وبغري العقل ُيرفع التكليف بالرشع‬ ‫ألن الرشع إنَم أقام‬
‫كله ؛ وألن العقل يؤيد الرشع ‪ ،‬والرشع هيدي العقل ‪ ،‬وال تنتهي عالقتهَم ببعضهَم‬
‫فحسب ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عند َد مرء التعارض م‬

‫‪9‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫اْلصطلح ‪ ،‬وبيان األثر العميل ْلعناه الذي طرح ُته فيه ‪ .‬وال داعي للوقوف‬

‫كثريا يف هذا السياق عند هذا اْلصطلح ؛ إال بقدر ما يدل عىل مراد كاتبه منه‬

‫وإىل خالصة ترجيحه يف تعريفه ‪.‬‬

‫فَم هي اْلحكَمت إذن ؟‬

‫عاصَم للفكر من االنحراف ‪ ،‬لشدة‬


‫ً‬ ‫هي ‪ :‬كل ثابت بأدلة يقينية ‪ ،‬يكون‬
‫ُ‬
‫اخللل فيه سب ًبا يف إفساد التفكري ‪.‬‬ ‫إتقانه وقوة بنائه الفكري ‪ ،‬ويكون‬

‫وباختصار ‪ :‬فإن اْلحكَمت هي اليقينيات ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫حمكَمت‬ ‫ومع أن اْلحكَمت قد تكون من جهة النظر إليها عىل ِحدَ ٍة ‪:‬‬

‫جزئي ًة َ‬
‫غري كلية ‪ ،‬لكنها من جهة وصوهلا إىل درجة اليقني ‪ ،‬ومن جهة أنه‬

‫واعتبارها أصال = ستكون كُلي ًة ‪ .‬ولذلك فهي‬


‫ُ‬ ‫البناء عليها‬
‫ُ‬ ‫ليقينيتها ُيمكن‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ر‬
‫أصول فكرية ‪ ،‬ينطلق العقل منها يف تكوين تصوراته وأحكامه ‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬هل يلزم يف كل اْلحكَمت أن تكون عاصم ًة للفكر من‬

‫فرعي ال يبلغ ما ذكرتَه‬


‫ٍّ‬ ‫االنحراف ؟ أال يمكن أن يكون هناك حمك رَم يف ٍ‬
‫أمر‬

‫يف التعريف من أن يكون اخللل فيه سببا يف إفساد التفكري ؟‬

‫‪10‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫يقيني مقطو ٍع به بال‬


‫ٍّ‬ ‫واجلواب ‪ :‬نعم ‪ ،‬يلزم ذلك ‪ ،‬وال يمكن غريه ! ُّ‬
‫فكل‬
‫ٍ‬
‫خلل يف‬ ‫ُ‬
‫التشكيك فيه سب ًبا يف‬ ‫خالف يف يقينيته (وهو اْلحكم) يكون‬

‫التفكري !‬

‫كنت ترى شيئًا قري ًبا بعينك ‪،‬‬


‫وتوضيح ذلك يكون هبذا اْلثال ‪ :‬لو َ‬

‫وتلمسه بيدك ‪ ،‬فال تشك يف صحة رؤيتك وإحساسك الكامل به ‪ ،‬ولو كان‬
‫ُ‬
‫استطاع أحدر أن ُي ِري َب َ‬
‫ك يف يقينك هذا ‪ ،‬فإنه‬ ‫َ‬ ‫تافها ‪ ،‬لكنك متيق رن منه ‪ .‬فلو‬
‫مرا ً‬‫أ ً‬
‫احلق اْلتي َّق ِن ؛ إال وقد أفسد‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الشك يف قلبك من هذا‬ ‫ال يصل إىل إيقاع‬
‫ِ‬
‫وسائل‬ ‫عليك عق َلك ‪ ،‬وأ َّدى بك إىل خلل يف التفكري ؛ ألنه أفسدَ عليك َ‬
‫بعض‬

‫ّتصيل اليقني ‪ ،‬من الثقة باحلواس ‪.‬‬

‫َّـشـك ِ‬
‫ُّك فيه ‪ ،‬وإنزا ُله عن منزلة‬ ‫ُ‬
‫حصول الت َ‬ ‫يقيني ال ُّ‬
‫تشك فيه ‪،‬‬ ‫وهكذا كل‬
‫ٍّ‬
‫ومؤ ٍّد إىل‬ ‫ِ‬
‫اليقني إىل منزلة الظن أو الشك = هو يف اْلآل ُمفسدر للعقل ‪ُ ،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ٍ‬
‫إخالل يف طريقة التفكري ‪ ،‬وإىل عدم القدرة عىل التصور الصحيح ‪ ،‬فضال‬

‫عن إعطاء احلكم الصحيح !‬

‫عاصَم للفكر من االنحراف ‪.‬‬


‫ً‬ ‫يقيني كُل ًّيا ‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫وهذا هو وجه اعتبار كل‬

‫‪11‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫وينبغي االنتباه هنا ‪ ،‬وانطالقا من هذا التعريف الشامل للمحكَمت ‪ :‬أن‬

‫اْلحكَمت تنقسم إىل قسمني ‪:‬‬

‫األول هو اْلحكَمت اإلنسانية ‪ :‬وهي اليقينيات التي يدرك يقينيتها‬

‫العقالء من البرش ‪ ،‬من مجيع األديان ‪.‬‬


‫ُ‬

‫والثاين ‪ :‬هو اْلحكَمت اإلسالمية ‪ :‬وهي اليقينيات التي ال يصل‬

‫ليقينيتها إال من أيقن بمصدرية الوحي ‪ ،‬وأنه من عند اهلل اخلالق سبحانه‬

‫وتعاىل ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫يشء من التأمل) أن بني القسمني عموما وخصوصا‬ ‫وال ُيفى (بعد‬
‫حمكم إسالمي ‪ ،‬وليس ُّ‬
‫كل حمك ٍم إسال ٍّ‬
‫مي‬ ‫ر‬ ‫مطل ًقا ‪ :‬فكل حمكم إنساين‬

‫حمكَم إنسانيا ؛ فاْلحكم اإلسالمي أخص من اْلحكم اإلنساين ‪ .‬وهذا‬


‫ً‬
‫دين الفطرة اإلنسانية ‪ ،‬ولذلك‬
‫نابع من حقيقة إسالمية كربى ‪ ،‬وهي أن اإلسالم ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫فال يمكن أن تتعارض دالالتُه النقلية مع الدالالت العقلية الصحيحة ‪.‬‬

‫عىل أننا إذا تذكرنا أن أدلة النبوة هي يف النهاية أدلة عقلية تُثبت لغري‬

‫برش ُموحى إليه من اهلل تعاىل ‪ ،‬وأن أدلة النقل ال‬


‫اْلؤمن بالوحي أن النبي ر‬
‫يمكن أن تنقضها أدل ُة العقل الصحيحة وال أن تعارضها معارض ًة حقيقية ‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫علمنا بأن اْلحكَمت اإلسالمية هي يف احلقيقة حمكَمت إنسانية ‪ ،‬بعد‬


‫العلم بأدلة النبوة وبعد الي ِ‬
‫قني بمصدرية الكتاب والسنة وأهنَم وحي اهلل تعاىل‬

‫إىل رسوله ﷺ ‪.‬‬

‫وهلذا فسوف يتداخل حديثي عن اْلحكَمت ‪ ،‬بني اْلحكَمت‬

‫اإلنسانية واْلحكَمت اإلسالمية ؛ لعدم التعارض بينهَم ‪ ،‬ولدخول األخص‬

‫منهَم (وهى اْلحكَمت اإلسالمية) يف األعم ‪ ،‬عىل الوجه اْلشار إليه آنفا ‪.‬‬

‫ُ‬
‫تلحظ أنه تضمن أهم‬ ‫تأملت ذلك التعريف فإنك سوف‬
‫َ‬ ‫وهبذا ‪ ..‬فأنت إذا‬

‫سَمت اْلحكَمت ‪ ،‬والتي تتلخص فيَم ييل ‪:‬‬

‫السمة األوىل ‪ :‬الثبات وعدم قبوهلا للزَّوال وال للتبدُّ ل ‪:‬‬

‫ألن اْلحكَمت لو قبلت الزوال والتبدل لكان ذلك إثباتا للنسبية اْلطلقة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫يف احلقائق ‪ ،‬بل لكان ذلك مما ينفي وجود احلقائق أصال ‪ ،‬وأن احلق ال‬

‫وجود له إال يف أحكام الناس الذهنية ‪ ،‬ال يف واقع الوجود ‪ .‬ألن اليقيني ال‬

‫يقبل اختالف احلكم فيه ‪ ،‬وهذا يوجب له الثبات ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫ويف الفلسفات الالدينية واْلنظَمت العاْلية اْلشبوهة (كاْلاسونية)‬


‫دعو رة حثيث رة إىل التأكيد عىل نِ مسبِية احلق ‪ ،‬وأنه ر‬
‫قابل للتبدل والتغيري ‪ .‬ومنها‬
‫ِ‬
‫وحدة األديان ‪ ،‬أو تستمدُّ منها جان ًبا من جوانب مواجهة‬ ‫دعوات‬
‫ُ‬ ‫تنبثق‬

‫اإلسالم؛ ولذلك تدعمه بعض اجلهات الدينية كاحلمالت التنصريية (اْلسَمة‬

‫بالتبشريية) ‪ .‬وقد تتسمى هذه الدعوات بأسَمء خمتلفة ومشتبهة ‪:‬‬

‫‪ -‬كالتعددية الدينية(‪.)1‬‬

‫‪ -‬أو اخللط بني حوار األديان (وهو مطلوب) ووحدة األديان (بمعنى‬

‫َحـقانِـيتها كلها ‪ ،‬بَم فيها من تناقض يف أصول اْلعتقدات)‪.‬‬

‫كتب عديدة يف مناقشة موضوع التعددية ‪ ،‬مثل ‪:‬‬


‫(‪ )1‬هناك ر‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ -‬قراءة يف التعددية الدينية ‪ :‬هل هي دعوة إىل الالدينية ‪ :‬للشيخ مالك مصطفى‬
‫وهبي العاميل ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1428 :‬ه ‪ .‬دار اهلادي ‪ :‬بريوت ‪.‬‬
‫‪ -‬التعددية أصول ومراجعات ‪ :‬للدكتور طه جابر علوان ‪.‬‬
‫‪ -‬التعددية الرؤية اإلسالمية والتحديات الغربية ‪ :‬للدكتور حممد عَمرة ‪.‬‬
‫‪ -‬التعددية يف اإلسالم ‪ :‬للدكتور حممد سليم العوا ‪.‬‬
‫‪ -‬التعددية العقائدية وموقف اإلسالم منها ‪ :‬ليوسف بن حممد القحطاين ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫‪ -‬أو اجلمع بني مطلب التعايش السلمي (وهو مطلب مهم وعادل)‬

‫ومطلب التقارب القائم عىل التنازل عن اْلبادئ والعقائد ‪.‬‬

‫شمسا ّترق بأشعتها‬


‫ً‬ ‫لذلك كله تأيت هذه السمة من سَمت اْلحكَمت‬

‫عاوى التسامحِ والطيفي ِة‬ ‫َ‬


‫خلف َد َ‬ ‫ب تلك األفكار اهلدامة ‪ ،‬التي ُتـخفي‬
‫ُح ُج َ‬
‫َّ‬
‫اصطف مع‬ ‫قبيحا ‪ ،‬ال ينخدع به بعد انكشافه أحدر ‪ ،‬إال من‬
‫وجها أسو َد ً‬ ‫َ‬
‫اخلالبة ً‬
‫الباطل و َتـ َجنـدَ له ‪.‬‬

‫ِ‬
‫ائتالف‬ ‫وموضع‬ ‫حمل ا ٍ‬
‫تفاق بني العقالء ‪،‬‬ ‫السمة الثانية ‪ :‬أهنا ُّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫قلوب بني األسوياء ‪.‬‬

‫وهذا من لوازم يقينيتها وثباهتا ‪ ،‬ومن لوازم احلقيقة التي قررها اإلسال ُم‬
‫ر‬
‫جمبول‬ ‫أوضح تقرير ‪ :‬عن سالمة فطرة اجلنس البرشي يف أصل اخللقة وأنه‬
‫‪،‬‬
‫َ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫عىل معرفة احلق واإلقرار به(‪ .)1‬كَم يف قوله تعاىل ﭽﯔ ﯕ ﯖ‬

‫ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ‬

‫(‪ )1‬ومن أهم الكتب التي درست هذه احلقيقة كتاب ‪( :‬اْلعرفة يف اإلسالم ‪ :‬مصادرها‬
‫وجماالهتا) للدكتور عبداهلل بن حممد القرين ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﭼ [الروم‪ ،]٣٠:‬ويف قوله تعاىل ﭽ ﭛ‬


‫ٍ‬
‫ظاهرة وباطنة ‪،‬‬ ‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭼ [التني‪ ،]٤ :‬أي يف أحسن ِخ مل َق ٍة‬

‫اخل مل َق ِة الباطنة هي ‪ :‬العقل والتمييز ‪ ،‬واخلريية اْلركوزة فيه ‪ .‬وقوله‬


‫(‪)1‬‬
‫وأهم ِ‬
‫َ َ ُّ‬
‫َرصانِ ِه ‪،‬‬ ‫ِِ‬ ‫َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫‪« : ‬ما من َم مو ُلود إال ُيو َلدُ عىل الف مط َرة ‪َ :‬فأ َب َوا ُه ُ َ‬
‫هي ِّو َدانه ‪َ ،‬و ُين ِّ َ‬
‫ون فيها من‬ ‫ويمجسانِ ِه ‪ .‬كَم ُت منتَج الب ِهيم ُة هبِيم ًة مجعاء ‪ ،‬هل ُ ِ‬
‫ّت ُّس َ‬ ‫َمَ َ‬ ‫ُ َ َ َ َ‬ ‫َ ُ َ ِّ َ‬

‫(‪ )1‬أكثر التفسري اْلنقول عن أجيال السلف الثالثة كان عىل أن معنى ﭽ ﭞ ﭟ ﭠﭼ‬
‫ختصيص الصورة البرشية الظاهرة ‪ .‬فانظر موسوعة‬
‫ُ‬ ‫وظاهره ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أي ‪ :‬يف أحسن صورة ‪،‬‬
‫التفسري باْلأثور ‪ :‬إعداد مركز الدراسات القرآنية (‪. )370- 368/23‬‬
‫ومن السلف من َع َّمم‪ ،‬ومل ُيص اْلعنى يف الصورة الظاهرة فقط ‪ ،‬كعبد اهلل بن‬
‫العباس (ريض اهلل عنهَم) ‪ ،‬حيث قال‪« :‬يف أعدل َخ ملق» ‪ ،‬أخرجه آدم بن أيب إياس يف‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫زوائده عىل تفسري جماهد (‪ ، )770/2‬وابن جرير يف تفسريه (‪ ، )510/24‬بإسناد‬
‫وحسنه ابن حجر يف الفتح (‪ . )713 /8‬وتفسري ابن عباس هذا يشمل يف‬ ‫جيد ‪َ ،‬‬
‫داللته ‪ِ :‬‬
‫اخل ملقة الظاهر َة والباطنة ‪ ،‬وهو األرجح ‪ .‬وقد ذكر هذا اْلعنى عد رد من‬
‫اْلحرر الوجيز البن عطية‬
‫َّ‬ ‫رص َح آخرون برتجيحه ‪ ،‬كَم يف‬
‫اْلفرسين ‪ ،‬بل َّ‬
‫ِّ‬
‫(‪ ، )648/8‬والتسهيل البن ُجزَ ي اْلالكي (‪ ،)615/3‬والتحرير والتنوير للطاهر ابن‬
‫عاشور (‪ ، )427 -424 /12‬ونرصه بقوة‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫اء؟»(‪ ،)1‬وقوله ‪ ،‬فيَم يرويه عن ربه ‪ ‬يف احلديث القديس ‪« :‬إِ ِّين‬
‫َجدم َع َ‬
‫اجتَالَ متـ ُهم عن‬ ‫ادي ح َن َفاء ُك َّلهم ‪ ،‬وإِهنم َأ َتـتمـهم َّ ِ‬
‫ت ِعب ِ‬
‫ني َف م‬
‫الش َياط ُ‬ ‫َ َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َخ َل مق ُ َ‬
‫ِدين ِ ِهم»(‪.)2‬‬

‫ويف ذلك يقول اإلمام الطحاوي (ت‪321‬ه) ‪َ « :‬ف َأ مع َل َمنَا ‪َ ‬أ َّن من كِتَابِ ِه‬

‫ول اْلرادِ هبا ‪،‬‬


‫فق عىل ت مَأ ِويلِ َها َواْلع ُق ِ‬ ‫يل ‪ِ ،‬‬
‫وه َي اْلت ُ‬ ‫حمكََم ٍ‬
‫ت بِالت مَّأ ِو ِ‬ ‫ٍ‬
‫آ َيات ُ م َ‬
‫الال ِيت ُه َّن‬ ‫ات اْلمُحكََم ِ‬
‫ات ‪ ،‬ي ملتَمس تَأم ِوي ُلها من اآلي ِ‬ ‫اهب ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ت َّ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َو َأ َّن منه آ َيات ُمت ََش ِ َ‬
‫ات اْلمُخم تَلِ َف ُة يف ت مَأ ِويلِ َها»(‪. )3‬‬
‫َاب ‪َ ،‬و ِه َي اآل َي ُ‬
‫ُأ ُّم ا ملكِت ِ‬

‫ٍ‬
‫ثورية يف منطلقها‬ ‫ٍ‬
‫بعبارة‬ ‫شيخ اإلسالم ابن تيمية هذه احلقيقة‬
‫قر ُر ُ‬
‫و ُي ِّ‬
‫عقالء بني آدم ال تكون‬
‫ُ‬ ‫اإلنساين‪ ،‬حيث يقول ‪« :‬والقضايا التي يتفق عليها‬

‫إال ح ًّقا ؛ كاتفاقهم عىل مدح الصدق والعدل ‪ ،‬وذ ِّم الكذب والظلم»(‪. )4‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (رقم‪ )6599 ، 4775 ، 1385 ، 1359 ، 1358‬ومسلم‬


‫‪،‬‬
‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫(رقم‪.)2658‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (رقم ‪. )2865‬‬
‫(‪ )3‬رشح مشكل اآلثار للطحاوي (‪. )337/6‬‬
‫(‪ )4‬االستقامة لشيخ اإلسالم ابن تيمية (‪. )263/2‬‬

‫‪17‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫وبذلك تكون اْلحكَمت هي موضع االتفاق احلقيقي بني البرش ‪ ،‬وهي‬

‫وحضاراهتم ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أدياهنم وأعرا ُقهم‬
‫ُ‬ ‫األرضي ُة اْلشرتكة بينهم ‪ ،‬مهَم اختلفت‬
‫َ‬
‫الصادق الوحيدَ ؛ ألنه اْلرشوع الوحيد‬ ‫ِ‬
‫التعايش‬ ‫وع‬
‫وهي بذلك ستكون مرش َ‬
‫البرش مجي ُعهم ؛ فاْلحكَمت هي اْلنطلق‬
‫ُ‬ ‫الذي يمكن أن يتوافق عليه‬

‫التفاهم وال أن يكون للغة‬


‫ُ‬ ‫الصحيح حلوارهم البناء والنافع ‪ ،‬وال يمكن‬
‫التخاطب معنى ً‬
‫أصال ‪ :‬بدوهنا ‪.‬‬

‫وهذا ك ُّله يتناقض مع تلك الدعوات الضالة أو اْلض ِّللة ‪ ،‬والتي تريد‬

‫إلغاء وجود اْلحكَمت ‪ ،‬وبحجة العاْلية والتعايش والتعددية ‪ ..‬ونحو ذلك‬


‫َ‬
‫ظاهرها قبول االختالف والتعايش السلمي ‪ ،‬وباطنها إقصاء‬ ‫ٍ‬
‫شعارات ‪:‬‬ ‫من‬
‫ُ‬
‫اْلخالِف والقضاء عىل االختالف بكل صوره وأنواعه ‪ .‬وال َّ‬
‫أدل عىل سوء‬

‫مقصد هذه الدعوات من جميئها إىل ما يتفق عليه عقالء بني آدم ‪ ،‬من‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلحكَمت ‪ ،‬بمعول اهلدم وآلة النسف ‪ّ ،‬تت غطاء النِّسبية والتعددية ‪ ،‬كَم‬
‫سبق ! مع أن اْلحكَمت (بات ِ‬
‫فاق عقالء بني آدم عليها) كانت هي وحدها‬
‫ِ‬
‫التآلف واالجتَمع بني بني البرش عىل ما ينفع اجلنس‬ ‫اْلؤهلة لتحقيق‬
‫َّ‬
‫البرشي كله ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫السمة الثالثة ‪ :‬أن أدلتها قطعية يقينية ‪ ،‬وليست ظنية ‪.‬‬

‫واألدلة القطعية ‪ :‬قد تكون أدل ًة نقلية (من الكتاب والسنة) ‪ ،‬وقد تكون‬

‫عقلي ًة ‪.‬‬

‫لكن األدلة النقلية ال تكون قطعي ًة حتى يثبت باالستدالل العقيل اليقيني‬

‫ت ِص َلـتُها اْلتي َّقن ُة‬


‫أهنا كالم اهلل تعاىل أو كالم رسوله ‪ ، ‬أي ‪ :‬حتى َت مثـ ُب َ‬

‫باخلالق سبحانه‪.‬‬

‫وحاجة األدلة النقلية إىل إثبات صلتها بالوحي اإلهلي ليست حاج ًة‬

‫قارص ًة عىل غري اْلسلمني حال دعوهتم إىل اإلسالم ‪ ،‬بل هي رضور رة‬

‫لتثبيت إيَمن اْلسلم وّتصينه هبذه اْلحكمة الكربى ‪ ،‬وهي أن األدلة‬

‫إهلي ال يتطر ُق‬


‫ٌّ‬ ‫وحي‬
‫ر‬ ‫والتسليم هلا ؛ ألهنا‬
‫ُ‬ ‫النقلية (السمعية) جيب االنقيا ُد‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫احلق واحلكمة ؛ وألهنا‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫احتَمل خمالفتها مقتىض‬ ‫ُ‬
‫احتَمل اخللل أو‬ ‫إليها‬

‫رشع اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫ويف احلقيقة فإن هذا القيد من قيود تعريف اْلحكَمت هو أوضح‬

‫سَمت اْلحكَمت ‪ ،‬بل هو الفارق األهم بني اْلحكَمت وغريها ‪ .‬ولذلك‬

‫‪19‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫كان االستدالل ليقينية اليقينيات وإثبات إحكامها من أوجب الواجبات ‪ ،‬وكان‬

‫التقصري يف ذلك من أعظم اْلحرمات عىل أهل العلم والدعوة ‪.‬‬

‫وإن من أخطر ما هيدد فقه اْلحكَمت ‪ ،‬ومن أشد ما هيدم هذا الباب ‪:‬‬

‫بيقيني وال هو من اْلحكَمت ‪،‬‬


‫ٍّ‬ ‫التوس َع يف ادعاء اليقني واإلحكام ‪ ،‬فيَم ليس‬
‫ٍ‬
‫انضباط للغَرية بالضابط الرشعي ‪ ،‬حينَم‬ ‫كَم يفعله ُ‬
‫بعض الغيورين بغري‬

‫يقيني يصح‬ ‫ٍ‬


‫بقول ‪ ،‬دون ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫دليل ٍّ‬ ‫مقطوعا فيها‬
‫ً‬ ‫االختالف اْلعترب‬ ‫مسائل‬ ‫جيعلون‬

‫بناء القط ِع عليه(‪ ، )1‬وحينَم يتعاملون مع صاحب االجتهاد اْلعترب تعاملهم مع‬
‫ُ‬
‫أيضا اإلقصائيون الذين يريدون‬
‫صاحب االجتهاد غري اْلعترب ‪ .‬وكَم يفعله ً‬
‫َ‬
‫االستدالل عىل تبديعهم وتفسيقهم ْلخالفيهم ‪ ،‬وربَم وصلوا إىل حدِّ‬

‫تكفريهم ‪ ،‬بدعاوى خمالفة اليقينيات التي يدعون هلا اليقني وهي ليست من‬
‫ٍ‬
‫بيقني مآ ُله‬ ‫اليقني يف يشء ‪ .‬فإن هذا التوس َع يف دعاوى اليقني فيَم ليس‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ني عىل خلط اليقيني بالظني ‪ ،‬مما‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫التشكيك يف اليقيني احلقيقي ‪ ،‬ألنه ُيع ُ‬

‫(‪ )1‬وهذا ما حرصت كل احلرص عىل جتليته بوضوح وإتقان يف كتايب (اختالف‬
‫اْلفتني)‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫آخر األمر ‪ ،‬بسبب هذا اخللط اجلائر بني اليقني‬ ‫َّ‬


‫الشك يف اليقني َ‬ ‫ب‬
‫ُيس ِّب ُ‬
‫والظن ‪.‬‬

‫أنفسهم الذين ذكرت ُمـهم آي ُة‬ ‫ِ‬


‫اليقني هم ُ‬ ‫وهؤالء الذين يتوسعون يف َد َع َاوى‬

‫ابتغاء الفتنة ؛ فإن من وجوه اتبا ِع‬‫َ‬ ‫اْلحكَمت ‪ :‬ممن يتبعون اْلتشابه‬
‫اْلتشابه ادعاء اإلحكا ِم لغري اْلحكَم ؛ بل أي اتبا ٍع للمتشابه أشدُّ من اد ِ‬
‫عاء‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫اإلحكام له وإسبا ُغ هذا الوصف عليه وإنزا ُله هذه اْلنزلة التي ال يستح ُّقها ‪.‬‬

‫التوس ُع‬
‫ُّ‬ ‫عكس ما سبق ‪ ،‬وهو ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ومن وجوه اخلطر عىل فقه هذا الباب ‪:‬‬

‫يف دعاوى االشتباه ! فهو ضدُّ اخلطر السابق ‪ ،‬لكنه ُي ُل ُص إىل النتيجة‬

‫نفسها !!‬

‫الظن لليقيني كالمها خطران ُيـهدِّ دان إحكا َم‬ ‫عاء ِّ‬
‫اليقني للظني واد ُ‬ ‫ِ‬ ‫عاء‬
‫فاد ُ‬
‫واالشتِبا َه ‪ ،‬بني اليقني والظن ‪َ ،‬فـ َيـ مف ُسدُ‬
‫م‬ ‫ِ‬ ‫الـ ُم محكَم ؛ ألهنَم ُيس ِّب ِ‬
‫بان اال ملت َ‬
‫باس‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫والظن كالمها ‪ ،‬وتستويل عىل النفس حال ُة الشك اْلطلق ‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫اليقني‬
‫ُ‬ ‫بذلك‬
‫ٍ‬
‫مطلق للعقل والتفكري ‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫فساد‬ ‫التي هي ‪-‬با مستِ مرشائها ‪ -‬حال ُة‬

‫‪21‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫فإن ُ ِ‬
‫اعرت َض عىل موضوع يقينية أدلة اْلحكَمت ‪ :‬بأن ما كان يقين ًّيا‬

‫غريك يقين ًّيا ‪،‬‬


‫عندك ربَم كان ظنيا عند غريك ‪ ،‬وما تدعيه ظنيا عندك يدعيه ُ‬
‫اليقني من الظن إذا كان احلال كذلك(‪ )1‬؟‬
‫ُ‬ ‫يتبني‬
‫فمن أين ُ‬

‫غري‬ ‫ر‬
‫إطالق ُ‬ ‫ِ‬
‫االعرتاض‬ ‫ُ‬
‫اإلطالق الوارد يف هذا‬ ‫فسنجيب بقولنا ‪ :‬هذا‬

‫ظني قابال‬
‫صحيح ‪ ،‬فليس كل يقيني قابال لالختالف يف يقينيته ‪ ،‬وليس كل ٍّ‬
‫لالختالف يف ظنيته ‪ .‬فمن اليقني ما ال يقع يف يقينيته اختالفر ؛ إال بنو ِع ٍ‬
‫خلل‬

‫ال جيعل هلذا االختالف اْلزعوم وز ًنا ‪ ،‬كمن أنكر الشمس يف كبد السَمء‬

‫إنكاره عن َحدِّ كالم العقالء ‪ .‬وهناك‬


‫َ‬ ‫عقل أو لعنادٍ ُيـخرج‬ ‫لعدم ٍ‬
‫برص أو لعدم ٍ‬

‫ٍ‬
‫خلل من‬ ‫مقطوع بظنيته‪ ،‬كأمر ال جمال لبلوغ القطع فيه قطعا ؛ إال بنو ِع‬
‫ر‬ ‫ظن‬
‫ٌّ‬
‫جنس خلل ادعاء الظن يف اليقني اْلقطوع يف يقينيته ‪ .‬وهناك حال رة ثالث رة ‪،‬‬

‫ف فيه ‪ ،‬وليست ظنًّا ال ُيـخت َل ُ‬


‫ف فيه ‪ ،‬وهي ‪ :‬حالة ما وقع‬ ‫ليست يقينًا ال ُيـخت َل ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫فيه االختالف ‪ :‬هل هو يقني أم ظن ‪ ،‬أو حال ُة ما ُيتصور وقوع هذا االختالف‬

‫الو مس َطى التي ُيـختلف فيها مما ُيلغي حقيق َة‬


‫فيه ‪ .‬وليس وجود هذه احلالة ُ‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬التفسري الكبري للرازي (‪. )170- 169/7‬‬

‫‪22‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫وظن مقطو ٍع‬ ‫يقني مقطو ٍع فيه وال ُيـخت َل ُ‬ ‫ِ‬


‫وجود َطـ َر َفـيِ القط ِع ‪ٍ :‬‬
‫ف عىل يقينيته ‪ٍّ ،‬‬
‫فيه وال ُيـخت َل ُ‬
‫ف عىل ظنيته‪.‬‬

‫وضوحا ال ُيشك يف‬


‫ً‬ ‫أرأيت الوضوح واخلفاء ‪ :‬هل يشك عاقل أن هناك‬
‫َ‬

‫وخفاء ‪ ،‬وأن‬
‫ً‬ ‫وضوحا‬
‫ً‬ ‫وخفاء ال ُيشك يف خفائه ‪ ،‬وما ُيـخت َل ُ‬
‫ف فيه‬ ‫ً‬ ‫وضوحه ‪،‬‬

‫هذا االختالف لن يعني عدم وجود الوضوح واخلفاء اْلقطوع هبَم ‪.‬‬

‫وبَم أننا نريد االختصار يف هذا البحث ‪ ،‬واخلروج من دائرة التنظري إىل‬

‫التطبيق والعمل ‪ ،‬فيكفي أن نقول يف التفريق بني اْلحكَمت احلقيقية‬

‫خالف يف قطعيته بني‬


‫َ‬ ‫قطعي ال‬
‫ٌّ‬ ‫واْلحكَمت اْلوهومة ‪ :‬إن األدلة منها ما هو‬

‫ظني ال خالف يف ظنيته بينهم ‪ ،‬ومنها ما قد يقع‬


‫العقالء ‪ ،‬ومنها ما هو ٌّ‬
‫اخلالف فيه بينهم هل هو دليل قطعي أم ظني ‪ .‬فاألول ‪ :‬حمكم بال خالف ‪،‬‬

‫والثاين ‪ :‬متشاب ره بال خالف ‪ ،‬والثالث (وهو اْلختلف فيه) ‪ :‬لو أخرجناه‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫بسبب هذا االختالف من دائرة اْلحكم ‪ ،‬ورددناه إىل القسم الثاين اْلتفق‬

‫عىل اشتباهه ‪ ،‬فليس يف ذلك ما يدعو للرتدد واخلوف من االعرتاف‬

‫إحكامه أقوى‬
‫ُ‬ ‫باشتباهه‪ .‬وإن جوزنا االختالف يف إحكامه واشتباهه فلن يكون‬

‫من إحكام اْلتفق عليه ‪ ،‬ولن يكون يف اشتباهه ما يدل عىل تعذر احلكم‬

‫‪23‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫بإحكام غريه من اْلتفق عىل قطعية دالئله ‪ .‬واْلعنى (كَم سبق) ‪ :‬أن وجود‬

‫واشتباها ‪ ،‬ال ُيلغي وجو َد‬


‫ً‬ ‫إحكاما‬
‫ً‬ ‫هذا القسم اْلتوسط بني اْلتفق عليهَم‬

‫يصح أن يكون ُوجو ُد‬


‫ُّ‬ ‫َ‬
‫التشكيك يف اْلتفق عليه ‪ ،‬وال‬ ‫جيوزُ‬
‫اْلتفق عليه ‪ ،‬وال ُ‬
‫ف فيه سببا الد ِ‬
‫عاء عدم القدرة عىل متييز اْلتفق عليه ‪.‬‬ ‫هذا القدر اْلخت َل ِ‬
‫ً‬

‫‪:‬‬ ‫وقد أشار النبي ‪ ‬إىل أصل هذا التقسيم بوضوح عندما قال‬
‫‪،‬‬

‫ات ‪َ :‬ال َي مع َل ُم ُه َّن كَثِ رري من‬ ‫ني ‪ ،‬وإِ َّن احل َرا َم َب ِّ ر‬
‫ني ‪َ ،‬و َب مين َُه ََم ُم مشتَبِ َه ر‬ ‫«إ َّن احل َال َل َب ِّ ر‬
‫الشبه ِ‬ ‫ات ‪ ،‬است ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫الشبه ِ‬
‫ات ‪،‬‬ ‫َرب َأ لدينه َوع مرضه ‪َ .‬و َم من َو َق َع يف ُّ ُ َ‬
‫م مَ‬ ‫الناس ‪َ .‬ف َم من ا َّت َقى ُّ ُ َ‬
‫اعي يرعى حو َل احلمى ‪ ،‬ي ِ‬
‫وش ُك َأ من َي مرت ََع فيه»(‪. )1‬‬ ‫و َقع يف احلرا ِم ‪ ،‬كَالر ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َم َ َ م‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬

‫كَم أننا جيب أن نفرق بني نوعني من اخلالف الذي يقع حول احلقائق‬

‫ومعيار هذا التنويع هو النظ ُر إىل صفات أهل هذا االختالف‪:‬‬


‫ُ‬ ‫اليقينية والظنية ‪،‬‬

‫خالف العقالء األسوياء الفطرة ‪،‬‬


‫ُ‬ ‫فالنوع األول من هذا االختالف ‪ :‬هو‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫التقسيم الثالثي السابق ‪.‬‬
‫َ‬ ‫وهم عموم بني آدم ‪ ،‬فهذا هو الذي َن مق ِس ُم عىل أساسه‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (رقم‪ ، )2051 ، 52‬ومسلم (رقم‪. )1599‬‬

‫‪24‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫والنوع الثاين ‪ :‬هو اخلالف الذي ال يقدح يف االتفاق عىل يقينية الدليل ‪،‬‬

‫اْلتفق عىل إحكامه إىل منزلة اْلختلف فيه أو منزلة‬


‫َ‬ ‫اْلحكم‬
‫َ‬ ‫وال ُي ُ‬
‫نزل‬

‫اْلشتبه ‪:‬‬

‫أ‪ -‬كخالف اْلكابرين اْلعاندين ممن يعرفون احلق ويرصون عىل‬


‫َ‬
‫االتفاق عىل اإلحكا ِم ‪ ،‬وال ُيضعف‬ ‫الباطل ‪ ،‬فهؤالء ال ينفي خال ُفهم‬

‫العقالء اْلبرصون عىل رؤيتهم‬


‫ُ‬ ‫اليقني يف دليل إثباته ‪ ،‬كَم لو ُخولف‬
‫َ‬
‫ٍّ‬
‫مستخف ‪.‬‬ ‫ت أو ِ‬
‫ساخ ٍر‬ ‫مباه ٍ‬
‫معاند ِ‬
‫ٍ‬ ‫لشمس يف رابعة النهار من‬ ‫ا‬
‫َ‬

‫وكخالف ُّ‬
‫الشـكاك واْلوسوسني ومرىض النفوس أو العقول ‪،‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫ِ‬
‫التفات‬ ‫عقالء بني آدم ‪ ،‬ولوال عد ُم‬ ‫ت إىل تشكيكهم‬ ‫ممن ال ي ِ‬
‫لتف ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫علم من العلوم وال اتفق العقالء عىل حقيقة من‬
‫الناس إليهم ما قام ر‬
‫احلقائق ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫السمة الرابعة ‪ :‬أهنا ُأ ر‬
‫صول ُك ِّلي رة ُي م‬
‫ـح َتـ َك ُم إليها ‪:‬‬

‫وهذا ما جاءت اإلشارة إليه يف اآلية بأن اْلحكَمت هي األم (ﮜ ﮝ‬

‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ) أي ‪ :‬إن اْلحكَمت هي األصل الذي ترجع إليها‬

‫‪25‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫يقيني فهو‬
‫ٍّ‬ ‫الفروع وّتتكم إليها(‪ .)1‬وكليتها جاءت من كوهنا يقيني ًة ‪ ،‬فكل‬

‫يصح البناء واالعتَم ُد عليه ‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫كيل ‪،‬‬
‫ٌّ‬

‫يقينيات ‪ ،‬وكلها حمكَمت ‪ ،‬وال يقع‬


‫ر‬ ‫ويمكن أن ُيقال ‪ :‬إن كل الكليات‬
‫ُ‬
‫يشء من اْلتشاهبات الظنيات ‪.‬‬
‫يف الكليات ر‬

‫ويف ذلك يقول الشاطبي ‪« :‬التشابه ال يقع يف القواعد الكلية ‪ ،‬وإنَم يقع‬

‫يف الفروع اجلزئية ‪ .‬والدليل عىل ذلك من وجهني ‪:‬‬

‫أحدمها ‪ :‬االستقراء ‪ :‬أن األمر كذلك ‪.‬‬

‫والثاين ‪ :‬أن األصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الرشيعة من اْلتشابه ‪،‬‬

‫وهذا باطل ‪ .‬وبيان ذلك ‪ :‬أن الفرع مبنى عىل أصله ‪ ،‬يصح بصحته ‪ ،‬ويفسد‬

‫بفساده ‪ ،‬ويتضح باتضاحه ‪ ،‬وُيفى بخفائه ‪ ،‬وباجلملة فكل وصف يف‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫األصل ُم مث َب ر‬
‫ت يف الفرع ؛ إذ كل فرع فيه ما يف األصل ‪ ،‬وذلك يقتيض أن‬
‫ر‬
‫منوط‬ ‫الفروع اْلبنية عىل األصول اْلتشاهبة متشاهب رة ‪ .‬ومعلوم أن األصول‬

‫بعضها ببعض يف التفريع عليها ‪ ،‬فلو وقع يف أصل من األصول اشتباه ‪ ،‬لزم‬

‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬اْلفردات للراغب (‪. )85‬‬

‫‪26‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫رسيانه يف مجيعها ‪ ،‬فال يكون اْلحكم أم الكتاب ؛ لكنه كذلك ‪ ،‬فدل عىل‬
‫ََ‬
‫أن اْلتشابه ال يكون يف يشء من أمهات الكتاب ‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬فقد وقع يف األصول أيضا ‪ ،‬فإن أكثر الزائغني عن احلق إنَم‬

‫زاغوا يف األصول ‪ ،‬ال يف الفروع ‪ ،‬ولو كان زيغهم يف الفروع لكان األمر‬

‫أسهل عليهم ‪.‬‬

‫فاجلواب ‪ :‬أن اْلراد باألصول القواعدُ الكلية ‪ :‬كانت يف أصول الدين ‪،‬‬

‫أو يف أصول الفقه ‪ ،‬أو يف غري ذلك من معاين الرشيعة الكلية ال اجلزئية ‪.‬‬

‫وعند ذلك ال نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة ‪ ،‬وإنَم يف فروعها ‪ .‬فاآليات‬

‫فروع عن أصل التنزيه ‪ ،‬الذي‬


‫ر‬ ‫اْلومهة للتشبيه واألحاديث التي جاءت مثلها‬

‫واقع ذلك‬
‫هو قاعدة من قواعد العلم اإلهلي ‪ .‬كَم أن فواتح السور وتشاهبها ر‬
‫يف بعض فروع من علوم القرآن ‪ ،‬بل األمر كذلك أيضا يف التشابه الراجع إىل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلناط ‪ ،‬فإن اإلشكال احلاصل يف الذكية اْلختلطة باْليتة من بعض فروع‬

‫أصل التحليل والتحريم يف اْلناطات البينة ‪ ،‬وهي األكثر ‪ .‬فإذا اعترب هذا‬

‫اْلعنى مل يوجد التشابه يف قاعدة كلية ‪ ،‬وال يف أصل عام ؛ اللهم إال أن‬

‫‪27‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫يؤخذ التشابه عىل أنه اإلضايف(‪ . )1‬فعند ذلك ال فرق بني األصول والفروع‬

‫يف ذلك ‪ ،‬ومن تلك اجلهة حصل يف العقائد الزيغ والضالل ‪ .‬وليس هو‬
‫( ‪)2‬‬

‫اْلقصود ههنا ‪ ،‬وال هو مقصود رصيح اللفظ ‪ ،‬وإن كان مقصودا‬

‫باْلعنى»(‪.)3‬‬

‫ر‬
‫أصول‬ ‫السمة اخلامسة ‪ :‬أهنا ما دامت أصوال كلي ًة ‪ ،‬فهي‬

‫عاصم رة للفكر من االنحراف‪:‬‬


‫ِ‬
‫الرضورية صل ًة قوي ًة ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الفطرية‬ ‫ِ‬
‫العقلية‬ ‫ِ‬
‫ْلعارف‬ ‫ِ‬
‫اْلحكَمت وا‬ ‫ألن بني‬

‫اإلنسان‬
‫ُ‬ ‫فكَم أن اْلعارف العقلية الرضورية هي التي تقود إىل أن ُيفكِّر‬

‫(‪ )1‬قسم الشاطبي التشابه يف اآليات إىل حقيقي وإضايف ‪ ،‬واحلقيقي هو ما كان راجعا‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫إىل اآلية نفسها ‪ ،‬من جهة أهنا خفية ال سبيل إىل ظهور معناها ‪ .‬واإلضايف ‪ :‬هو ما‬
‫كان االشتباه جاء من جهة قصور يف علم أو نظر الناظر ال يف اآلية نفسها فهي بينة‬
‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬

‫ٍ‬
‫خللل يف الناظر أو يف نظره اشتبهت عليه ‪ .‬فانظر اْلوافقات‬ ‫حمكمة لكن‬ ‫‪،‬‬

‫(‪. )315318/3‬‬
‫(‪ )2‬أي ‪ :‬وليس االشتباه االضايف هو اْلقصود بالنفي هنا ‪.‬‬
‫(‪ )3‬اْلوافقات (‪. )322-327/3‬‬

‫‪28‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫يقينيات فِ مطري ًة ‪ ،‬فكذلك اْلحكَمت ؛ لكوهنا ً‬


‫أيضا‬ ‫ٍ‬ ‫تفكريه السوي ‪ ،‬لكوهنا‬
‫َ‬
‫يصح أن يش ِّك َك فيها الظني‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫يقينية ‪ ،‬وأنه ال‬

‫وهذا يعني ‪ :‬أن اخللل يف التعامل مع اْلحكَمت يؤدي إىل فساد يف‬
‫ُ‬
‫اخللل يف أسلوب التفكري‬ ‫الفكر ‪ ،‬وإىل خمالفة فطرة العقل ‪ ،‬وال يظهر هذا‬

‫تكون نتيجته فسا ًدا فكر ًّيا كامال ‪ ،‬بأن ُيصاب صاحبُه‬
‫َ‬ ‫حتى يطر َد ‪ ،‬وحتى‬

‫بالشك اْلطلق وعدم معرفة يشء ‪ .‬وهذا بخالف التعامل مع اْلشتبهات ؛‬

‫فإن اخلطأ يف فهمها أو عدم فهمها يؤدي إىل فساد جزئي يف تلك اْلسألة ‪،‬‬

‫وال يصل إىل درجة الفساد الكيل ‪.‬‬

‫رجوع الفرع‬
‫ُ‬ ‫وعىل هذا فمن لوازم كون اْلحكَمت أصال ‪ :‬أن يكون‬

‫إليها‪ ،‬وليس العكس ‪ .‬وهذا ما ذكرته اآلية (ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ‬

‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ) [آل عمران‪ ، ]٧:‬فوصف اْلحكَمت بأهنا األصل ُيلزم‬

‫بأن يكون مرجع الفرع إليها ‪ ،‬وكل ما سوى األصل فهو فرع‪ .‬وعىل هذا ‪:‬‬

‫فروعا عن األصول اْلحكَمت ‪،‬‬


‫ً‬ ‫فاْلشتبهات أعىل ما قد تبلغه أن تكون‬

‫إرجاع اْلشتبهات إىل أصوهلا من اْلحكَمت ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ب‬
‫ولذلك َو َج َ‬

‫‪29‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫ولذلك عاب اهلل تعاىل من حيتجون باْلشتبهات وذمهم بأهنم ﮧ ﮨ‬

‫ﮩ ‪ ،‬وأهنم َي َّتبِ ُع َ‬
‫ون ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ‪ .‬ذلك ألهنم جعلوا‬

‫الفرع أصال ‪ ،‬ومل ُيرجعوه إىل األصل‪.‬‬

‫وبذلك يتضح بأن هذه اآلية اجلليلة قد أرشدت إىل اْلنهج العقيل‬
‫َّ‬
‫تستقل‬ ‫الصحيح يف اْلوقف من اْلحكَمت واْلشتبهات ‪ ،‬وهو بأن ال‬

‫اْلشتبهات بالفهم واالحتجاج ‪ ،‬بل ال بد من إرجاعها إىل اْلحكَمت ‪،‬‬

‫لنضبط فهمنا بَم ال يتناقض مع األصول الكلية من اْلحكَمت ‪.‬‬

‫فإن َّ‬
‫اختل هذا اْلنهج ‪ ،‬بأن استقلت اْلشتبهات باالستنباط والفهم ‪ ،‬أو‬

‫الفروع أصوال ‪ ،‬وزال (يف‬


‫ُ‬ ‫ُأعيدت اْلحكَمت إىل اْلشتبهات ‪ ،‬و ُجعلت‬

‫إحكامها ‪ ،‬وزادت اْلشتبهات اشتباها ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫نظر من فعل ذلك) عن اْلحكَمت‬

‫وكان فاعل ذلك كمن جعل الدليل مدلوال ‪ ،‬واْلدلول دليال ‪ ،‬فال بقي عنده‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫إثبات اْلدلول ‪ .‬وهذا هو سبب الزيغ والفتنة‬
‫َ‬ ‫الدليل دليال ‪ ،‬وال استطاع‬

‫والتحريف ‪ ،‬وهذه هي األدواء التي ذكرهتا اآلي ُة يف أسباب ونتائج هذا‬

‫اْلنهج اْلختل يف التعامل مع اْلحكَمت واْلشتبهات ‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫ولذلك قال ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) يف تفسري قوله تعاىل (ﮪ ﮫ‬
‫ِ‬
‫اْلتشابه ‪ ،‬واْلتشاب َه عىل اْلحكم ‪،‬‬ ‫اْلحكم عىل‬ ‫ﮬ ﮭ) ‪« :‬حيملون‬
‫َ‬
‫سون ‪َ ،‬ف َلب َس اهلل عليهم»(‪. )1‬‬
‫و ُي َل ِّب َ‬

‫وما أحسن احلكمة القائلة ‪:‬‬

‫ِ‬
‫دليل‬ ‫النهار إىل‬ ‫إذا احتاج‬ ‫يشء‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫يصح يف األذهان ر‬
‫ُّ‬ ‫وليس‬
‫يقيني واحد يكون باطراده سب ًبا‬
‫ٍّ‬ ‫احلكيم أن اخللل يف‬
‫ُ‬ ‫البيت‬
‫ُ‬ ‫بني هذا‬
‫فقد َ‬
‫لعدم صحة كل يقيني آخر ‪ ،‬فضال عن إخالل هذا اْلنهج باألدلة التي ترجع‬
‫ُ‬
‫فاخللل الذي بلغ من قوة إفساده‬ ‫والرجحان ‪ ..‬من باب َأوىل ‪،‬‬
‫إىل غلبة الظن ُّ‬
‫دليل‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ ر‬ ‫اليقني سيكون بالظن الراجح أشدَّ إفسا ًدا ‪ ،‬فال يبقى‬ ‫أنه أفسدَ‬
‫َ‬
‫يقيني وال ظني !‬
‫ٌّ‬ ‫برهان ‪ :‬ال‬
‫ر‬ ‫يصح يف الذهن‬
‫ُّ‬ ‫ستنار به ‪ ،‬وال‬
‫ُي ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ومن أمثلة هذا اخللل ‪ :‬ما وقع لإلمام الغزايل (ت‪505‬ه) من الوقوع يف‬

‫الـم َحسات والرضوريات (‪ ،)1‬قبل أن‬ ‫الشك والسفسطة ‪ ،‬حتى َّ‬


‫شك يف ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َرشاك‬

‫(‪ )1‬أخرجـــه ابـــن جريـــر الطـــربي يف تفســـريه (‪ ، )204/5‬وابـــن اْلنـــذر يف تفســـريه‬


‫(رقم‪ ،)231‬وابن أيب حاتم يف تفسريه (رقم‪ ، )3185‬من نسخة عيل بـن أيب طلحـة‬
‫عن ابن عباس ‪ ،‬وهي نسخة صحيحة ‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫يعود إىل حمكَمهتَم ‪ ،‬من طريق التوفيق اإلهلي ‪ .‬وقريب منه ما وقع‬

‫لديكارت ‪ ،‬فيَم حكاه عن نفسه يف اجلزء األول والثاين من كتابه (حديث‬

‫الطريقة)(‪ ، )2‬والفرق بينه وبني الغزايل أن جلوء ديكارت للشك كان من أجل‬

‫الوصول لليقني(‪ . )3‬لكن كال التجربتني بدأت بجعل اْلحكَمت مشتبهات ‪،‬‬

‫فتبني لصاحبها أن ذلك ُيفسد عليه كل يشء ‪ ،‬ويوصله إىل الشك يف كل‬
‫َ‬
‫يشء‪ ،‬فعاد إىل ترتيب النظر بالطريقة الفطرية الصحيحة ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر اْلنقذ من الضالل أليب حامد الغزايل (‪. )112-116‬‬


‫(‪ )2‬انظر حديث الطريقة لرينيه ديكارت (‪. )41-68‬‬
‫أيضا ‪ ،‬لكن ظاهر ما حكاه عن نفسه أنه وقع يف‬
‫(‪ )3‬واحلقيقة أن الغزايل قد فعل ذلك ً‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫الشك بسبب البحث عن احلقيقة من خالل النظر اْلحسات والرضوريات والتشكيك‬
‫فيهَم ‪ ،‬ومل يشك لكي يتيقن ‪ ،‬كَم فعل ديكارت ‪ .‬غري أنه أثناء شكه وقبله كان تواقا‬
‫للوصول إىل طمأنينة اليقني ‪ ،‬فوصل إليها يف آخر اْلطاف ‪ .‬نعم ‪ ..‬هو اعترب أن الذي‬
‫أعاده للمنهج الصحيح هو التوفيق اإلهلي ‪ ،‬وليس اْلنهج العلمي ‪ ،‬لكن هذا ال ينايف‬
‫أن وصوله إىل احلقيقة كان بالسبب والطريق العقيل الذي وفقه اهلل تعاىل إليه ‪ ،‬وهو‬
‫الرتتيب العقيل الصحيح ‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫ولذلك فقد جاء الذم الرصيح يف اآلية ْلن اتبع اْلشتبهات ‪ ،‬وجعلها‬

‫هي األصل اْلرجوع إليه ‪ ،‬وأكدَ النبي ‪ ‬أن هذا اْلنهج هو منهج أهل‬

‫األهواء الذين ال ُيريدون احلق وال ُيدَ ُّلون عليه ‪.‬‬

‫فعن َعائِ َش َة (ريض اهلل عنها) قالت ‪« :‬ت ََال رسول اهلل ‪ ‬هذه ماآل َي َة (ﮗ ﮘ‬

‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬

‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ‬

‫ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [آل عمران‪ . ]٧:‬قالت ‪:‬‬


‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون ما ت ََشا َب َه منه ‪َ ،‬ف ُأو َلئك ا َّلذ َ‬
‫ين َس َّمى‬ ‫قال رسول اهلل ‪ : ‬فإذا َر َأ ميت ا َّلذ َ‬
‫ين َيتَّبِ ُع َ‬

‫اح َذ ُر ُ‬
‫وه مم»(‪. )1‬‬ ‫اهلل ‪َ ،‬ف م‬

‫وينبه إىل ذلك احلافظ أبو حممد أمحد بن عبد اهلل بن حممد بن عبد اهلل‬

‫الـ ُم َزين الـ ُم َغـ َّفيل (ت‪356‬ه) ‪ ،‬فيذكر اْلوقف الصحيح جتاه النصوص‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلشتبهة ‪ ،‬فيقول ‪« :‬لعلَمء األثر يف تلقي األخبار اْلتشاهبة مذهبان ‪:‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (رقم‪ ، )4547‬ومسلم (رقم‪. )2665‬‬

‫‪33‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫أحدمها ‪ :‬أن اإليَمن هبا فرض كاإليَمن بمتشابه القرآن حني يقول تعاىل ‪:‬‬
‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬

‫(ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ) [آل عمران‪ : ]٧:‬أي ٌّ‬


‫كل من‬

‫اْلحكم واْلتشابه من عند ربنا وقد استأثر اهلل تعاىل بعلم اْلتشابه يف هذا‬
‫‪،‬‬

‫القول ‪ ،‬فال يعلمه إال اهلل ‪ . ‬قالوا ‪ :‬فمثله اْلتشابه من أخبار الرسول ‪، ‬‬

‫وصدَّ مقنا بَم قال ‪َ ،‬و َو َك ملنا ِع مل َم تأويلِه إىل اهلل‬


‫علم تأويله ‪ :‬آمنا ‪َ ،‬‬
‫إذا ُحجب عنا ُ‬
‫الزهري عن بعض األخبار‬ ‫َّ‬ ‫‪( ...‬ثم أسند) عن األوزاعي ‪ ،‬أنه سأل‬

‫اْلتشاهبة ؟ فقال ‪ :‬من اهلل العلم ‪ ،‬وعىل رسوله البالغ ‪ ،‬وعلينا التسليم ‪َ ،‬أ ِم ُّروا‬
‫َ‬
‫أحاديث رسول اهلل ‪ ‬كَم جاءت ‪ .‬وقال عبد اهلل بن نافع ‪ُ :‬سئل مالك بن أنس‬

‫عن قوله ‪( :‬ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ) [طه‪ ، ]٥ :‬كيف استوى ؟ فقال ‪:‬‬

‫االستواء غري جمهول ‪ ،‬والكيف غري معقول ‪ ،‬واإليَمن به واجب ‪ ،‬والسؤال‬

‫عنه بدعة ‪ ،‬وما أراك إال ضاال ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫مذهب كثري من العلَمء ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هذا‬

‫َ‬
‫والبحث عن‬ ‫واْلذهب الثاين ‪ :‬أن اإليَمن بَم قاله الرسول ‪ ‬فرض ‪،‬‬

‫رارا من تعطيل‬‫ِ‬
‫واجب يف األصول والعقول ؛ ف ً‬
‫ر‬ ‫متشابه التنزيل وأخبار الرسول‬

‫‪34‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫الصفات وآفة التشبيهات ‪ .‬قال ‪ :‬والقدوة يف هذا اْلذهب عيل وابن عباس‬

‫(ريض اهلل عنهَم) ‪ ،‬ومن تابعهَم من فقهاء أهل األثر ‪.‬‬

‫وبمعرفة اْلحكم واْلتشابه متيزَ الفاضل من اْلفضول ‪ ،‬والعامل‬


‫َ‬
‫حاديث عىل ما‬ ‫من اْلتعلم ‪ ،‬واحلكيم من اْلتعجرف ‪ .‬ومن َأ َم َّر األ‬
‫ٍ‬
‫جاحد ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫منكر‬ ‫التبس عليه ُكنم ُه معرفتها = مل َي ُر َّدها(‪َ )1‬ر َّد‬
‫جاءت ‪ ،‬حني َ‬
‫بل آ َم َن ‪ ،‬واستسلم ‪ ،‬وانقاد ‪َ ،‬و َو َك َل ِع مل َمه إىل اهلل تعاىل ‪ ،‬وإىل من‬

‫َع َّل َمه اهلل ‪ ،‬وفوق كل ذي علم عليم ‪.‬‬

‫طريق ر‬
‫سهل ‪ ،‬يستوي فيه العامل‬ ‫ر‬ ‫ور ُّد األخبار واْلتشابه من القرآن‬
‫َ‬
‫وع مق ِل‬ ‫ُ ِ‬
‫فضل ع مل ِم العلَمء َ‬ ‫يتبني‬
‫ُ‬ ‫واجلاهل ‪ ،‬والسفي ُه والعاقل ‪ .‬وإنَم‬

‫العقالء بالبحث والتفتيش ‪ ،‬واستخرا ِج احلكمة من اآلية والسنة ‪،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫صح ُحه العقول»(‪.)2‬‬ ‫وحـ مم ِل األخبار عىل ما ُيوافق األ َ‬
‫صول و ُت ِّ‬ ‫َ‬

‫(‪ )1‬هذا هو جواب الرشط ‪.‬‬


‫ُ‬
‫تلميذه أبو بكر الكالباذي الصويف يف كتابه بحر الفوائد (‪-539/1‬‬ ‫سَمعا‬
‫ً‬ ‫(‪ )2‬نقله عنه‬
‫‪.)540‬‬

‫‪35‬‬
‫تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن غريها‬

‫أيضا ‪ ،‬فيقول ‪ « :‬فكل من اتبع‬


‫ويقرر شيخ اإلسالم ابن تيمية هذا اْلعنى ً‬

‫اْلتشابه عىل هذا الوجه ‪ ،‬فهو مذموم ‪ .‬وهو حال من يريد أن يشكك الناس‬

‫فيَم علموه ؛ لكونه وإياهم مل يفهموا ماتومهوا أنه يعارضه ‪ .‬وهذا أصل‬
‫الفتنة ‪ :‬أن ُيرتك اْلعلوم لغري معلوم ‪ ،‬كالسفسطة التي ُت ُ‬
‫ورث ُش ًبها ُيقدح هبا‬

‫لم و ُتـ ُيـ ِّقن ‪ .‬فهذه حال من يفسد قلوب الناس وعقوهلم بإفساد ما فيها‬
‫فيَم ُع َ‬
‫من العلم والعمل أصل اهلدى ‪ ،‬فإذا شككهم فيَم علموه ‪ ،‬بقوا حيارى»(‪. )1‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى (‪. )417/16‬‬

‫‪36‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫أيضا سكون القلب واطمئنانه(‪. )1‬‬


‫األمن هو ضدُّ اخلوف ‪ ،‬وهو ً‬

‫ِ‬
‫جمموعة‬ ‫اْلبني عىل‬ ‫ِ‬
‫التصورات واألحكا ِم ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫العقل من‬ ‫نتاج‬
‫ُّ‬ ‫والفكر ‪ :‬هو ُ‬
‫ِ‬
‫اإلنسان‬ ‫اْلبادئ واْلعلومات واألخالقيات والتجارب التي ّتوهيا ذاكر ُة‬

‫احلارض ُة والغائبة ‪.‬‬

‫ومنتِجاتِه ‪ :‬وجدناها تشمل كل ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫مكونات الفكر وحمدِّ داته ُ‬
‫وإذا الحظنا ِّ‬
‫يدخل يف مسمى الدِّ ين ِ‬
‫والق َيم والعلم والثقافة واحلضارة ‪ ،‬فسالمة الفكر هي‬
‫والقيم والعلم والثقافة واحلضارة ‪ ،‬واّتاد ِ‬
‫الفكمر (وليس‬ ‫ِ‬ ‫سالم رة للدِّ ين‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫األفكار) يف أي أمة من األُمم ُيم ِّث ُل أساس ِوحدهتا ؛ ألنه يمثل اّتادها يف‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫القيم ؛ فإن مل يتحدوا يف ِ‬
‫الق َيم ‪ :‬ففي‬ ‫ِ‬
‫الدِّ ين ؛ فإن مل يتحدوا يف الدين ‪ :‬ففي َ‬
‫العلم والثقافة واحلضارة ؛ فإن مل يتحدوا يف يشء من ذلك (ال يف ِدين وال‬

‫(‪ )1‬مقاييس اللغة البن فارس (‪. )133-135/1‬‬

‫‪37‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫قِ َي ٍم وال عل ٍم وال ثقافة وال حضارة) ‪ :‬فلن يكونوا أمة واحدة أبدً ا ‪ .‬ولذلك كان‬

‫والتفر ِق واالهنيار ‪،‬‬ ‫األمن الفكري ألي أمة هو القوة التي ّتميها من التَّفك ِ‬
‫ُّك‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫خطر هيدِّ ُدها باهلزيمة النفسية وباالستالب احلضاري‬ ‫وحيفظها من أي‬

‫لآلخرين ‪.‬‬

‫وق َي ِمـه‬
‫عقائده ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يقينية‬ ‫فاألمن الفكري هو ‪ُ :‬طمأنين ُة الفكر وثباتُه عىل‬
‫وأخالقه ‪.‬‬
‫َـحـ ُّق َـق األمن الفكري يف أي أمة من األمم يعني‬
‫وبعبارة أخرى ‪ :‬إن ت َ‬
‫يقينَها واطمئناهنا بأحقية عقائدها وقيمها وأخالقها يف البقاء ‪ ،‬وليس يف‬

‫البقاء فحسب ‪ ،‬بل يف التأثري يف اآلخرين ‪ ،‬ويف قيادة أمم األرض إىل القناعة‬

‫األمن ال شك أهنا آمن رة من الذوبان يف غريها‬


‫َ‬ ‫بفكرها ‪ .‬واألمة التي ُتـح ِّق ُق هذا‬
‫أضعف قو ًة أو َّ‬
‫َ‬ ‫ِ ِ‬
‫أقل ُّ ً‬
‫ّترضا‪،‬‬ ‫أفقر اقتصا ًدا أو‬
‫ومن ال َّتبعيـة لآلخرين ‪ ،‬ولو كانت َ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫بل حتى لو كانت مهزوم ًة عسكر ًّيا حمتل ًة من عدو خارجي ‪ .‬كَم حصل‬
‫ان ِ‬
‫غزو اْلغول والصليبيني ‪ ،‬فقد أثر اْلسلمون فيهم‬ ‫للمسلمني األوائل إب َ‬
‫وغريوا من فكرهم ‪ ،‬حتى وصل باْلغول حد الدخول يف اإلسالم واعتناق‬

‫عقائده ‪ ،‬ووصل بالنصارى حدَّ االنبهار باحلضارة اإلسالمية والتتلمذ عليها ‪،‬‬

‫مما عىل أساسه قامت حضارة الغرب احلالية ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫أما اْلحكَمت ‪ :‬فلقد عرفنا من خالل تعريفها وبيان أهم سَمهتا ‪ ،‬أهنا‬

‫احلصن احلصني للعقل اإلسالمي ‪ ،‬وأهنا هي العاصمة من االغرتار بشبهات‬

‫اْلبطلني ووساوس التشكيكيني ‪.‬‬

‫لكننا يف هذا اْلبحث نريد أن نبني أثر اْلحكَمت اْلبارش يف ّتقيق‬

‫األمن الفكري والعقدي ‪ ،‬وذلك يتضح من خالل أمور ‪:‬‬

‫ب‬ ‫َ‬
‫السقوط يف ُج ٍّ‬ ‫األول ‪ :‬أي خلل يصيب هذه اْلحكَمت سيعني‬

‫الضياع ّتت ُجنح الظالم الدامس‬


‫َ‬ ‫من األوهام والشكوك ‪ ،‬وسيكون‬

‫من احلرية وفقدان القدرة عىل التفكري واختاذ القرار ‪ ،‬كَم حصل‬

‫وحيصل مع ُّ‬
‫الشـكاك واْلصابني بالوسوسة ‪.‬‬
‫ِ‬
‫اْلحكَمت هي اْلبادئُ العقلي ُة الرضوري ُة الفطري ُة(‪ )1‬؛‬ ‫حيث إن ُأ ُس َس‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫يشء يقين ًّيا ؛ إال إذا اتفق مع مبادئ العقل‬
‫ر‬ ‫ألن اْلحكَمت يقينية ‪ ،‬ولن يكون‬

‫(‪ )1‬تقوم اْلبادئ العقلية األولية عىل مبدأين أساسيني ‪ ،‬ومها ‪ :‬مبدأ عدم التناقض (أن‬
‫النقيضني ال جيتمعان وال يرتفعان) ‪ ،‬ومبدأ السببية (أن لكل حادث سبب) ‪ .‬انظر ‪:‬‬
‫اْلعرفة يف اإلسالم للدكتور عبد اهلل القرين (‪. )305-306‬‬

‫‪39‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫الفطرية ‪ ،‬بل لن يكون كذلك إال إذا انطلق منها ‪ .‬فهذه اْلبادئ األولية هي‬

‫األساس األكرب للمحكَمت ‪ ،‬بل لو قلنا ‪ :‬إن اْلبادئ العقلية الرضورية هي‬

‫اْلحكَمت الفطرية ‪ ،‬لصح هذا الوصف فيها ‪ :‬من جهة أهنا يقينية ‪ ،‬لكنها‬

‫يقيني رة تسمو عىل االستدالل (عىل كل استدالل) ؛ ألهنا يقينية فطرية ‪ُ ،‬خلق‬

‫العقل عليها ‪ ،‬وهي خاصي ُة اإلنسان التي أعطته القدرة عىل القيام بالعبودية‬

‫الطوعية هلل تعاىل (التكاليف) ‪.‬‬

‫وال شك أن العقل البرشي ال ينطلق يف كل تصوراته وأحكامه اْلربهنة‬

‫الصحيحة إال من هذه اْلحكَمت الفطرية ‪ .‬ولذلك قلنا ‪ :‬إن أي خلل يصيب‬

‫والضياع‬
‫َ‬ ‫ب من األوهام والشكوك‬ ‫َ‬
‫السقوط يف ُج ٍّ‬ ‫هذه اْلحكَمت سيعني‬

‫ّتت ُجنح الظالم الدامس من احلرية وفقدان القدرة عىل التفكري واختاذ‬

‫القرار ‪ ،‬كَم حصل وحيصل مع ُّ‬


‫الشـكاك واْلصابني بالوسوسة ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وخطورة اخللل يف التعامل مع حمكَمت الكتاب والسنة أنه خلل‬

‫منهجي يف طريقة عمل العقل ‪ ،‬ومثل هذا اخللل إذا اطرد (وهو األصل)‬
‫ٍ‬
‫خلل يف التعامل مع حمكَمت الكتاب‬ ‫سينتهي باخللل يف التعامل ‪ :‬من‬

‫والسنة ‪ ،‬إىل خل ٍل يف التعامل مع اْلحكَمت األولية الفطرية ؛ لبناء حمكَمت‬

‫‪40‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫الكتاب والسنة عليها ‪ ،‬كَم نبهنا عليه آن ًفا ‪ .‬وأي خلل وخطر أشد من مثل هذا‬

‫اخللل واخلطر ؟!!‬

‫ويف اْلقابل ‪ :‬ما أعظم انتصارنا يف معركة الغزو احلضاري والفكري ‪،‬‬
‫وما أشد ّتصيننا لفكرنا وعقائدنا ‪ :‬إذا ما َض ِمنا سالم َة ِ‬
‫عمل العقل اإلسالمي‪،‬‬

‫وعىل قدرته عىل التفاعل اإلجيايب مع معطيات التفكري ‪ ،‬وعىل إصابته يف‬

‫أحكامه ؟! من خالل سالمة التعامل مع اْلحكَمت اإلسالمية ‪.‬‬

‫الثاين ‪ :‬أن ّتكيم اْلحكَمت هو الذي سيؤدي إىل الثبات عىل‬


‫ِ‬
‫االستقرار النفيس وهو سبب الشعور باألمان‬ ‫اْلبدأ ‪ ،‬والثبات هو سبب‬

‫والطمأنينة ‪.‬‬

‫ذلك أن اْلحكَمت ثابت رة يقينية (كَم سبق) ‪ ،‬فتحكيمها والتحاكم إليها‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫سيكون من لوازمه الثبات واليقني ‪ ،‬والطمأنينة هي الثبات واليقني به ‪.‬‬

‫وقد ذكرت آي ُة اْلحكَمت ذلك ‪ ،‬قال تعاىل ‪( :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬

‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ‬

‫ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ‬

‫‪41‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [آل عمران‪ . ]٧:‬فالرسوخ‬

‫والتمكن من العلم ‪ ،‬فهو ‪ -‬قبل ذلك ‪ -‬يعني الثبات‬


‫َ‬ ‫العمق‬
‫َ‬ ‫يف العلم كَم يعني‬

‫أيضا ‪.‬‬
‫ً‬

‫قال ابن فارس (ت‪395‬ه) ‪« :‬رسخ ‪ :‬الراء والسني واخلاء ر‬


‫أصل واحدر‬
‫ُّ‬
‫يدل عىل الثبات ‪ .‬ويقال رسخ ‪ :‬ثبت ‪ ،‬وكل راسخ ثابت»(‪. )1‬‬

‫وقال الراغب األصبهاين (ت‪425‬ه) ‪« :‬رسوخ اليشء ثباته ثباتا متمكنا ‪،‬‬

‫ورسخ الغدير نضب ماؤه ‪ ،‬ورسخ ّتت األرض ‪ ،‬والراسخ يف العلم‬

‫اْلتحقق به الذي ال يعرضه شبهة ‪ .‬فالراسخون يف العلم هم اْلوصوفون‬

‫بقوله تعاىل (ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ) [احلجرات‪ ]١٥:‬وكذا قوله‬

‫تعاىل ‪( :‬ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﯽ)[النساء‪.)2(»]١٦٢:‬‬

‫(‪ )1‬مقاييس اللغة البن فارس (‪. )395/2‬‬


‫(‪ )2‬اْلفردات يف غريب القرآن (‪. )325‬‬

‫‪42‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫الثالث ‪ :‬أن اْلحكَمت هي العاصمة من ختطف الشبه واألهواء ‪،‬‬

‫وهي العاصمة من الغلو والتطرف ‪ :‬بالتشدد والتزمت ‪ ،‬أو باالنحالل‬

‫والتف ُّلت ‪.‬‬

‫فاْلحكَمت هي وحدها القادرة عىل صد شبهات االنحراف الفكري‬

‫بكل ُص َو ِره ؛ ألهنا يقينية ‪ ،‬وأما الشبهات فأقىص ما يظنه العاقل فيها أن تكون‬

‫ظنية ‪ ،‬والعاقل ال يقدم َظـنَّه عىل يقينه ‪ .‬بل التحاكم إىل اْلحكَمت‬

‫خداع الشبهات ‪ ،‬وسيفرس اخلطأ يف فهم اْلشتبهات ‪.‬‬


‫َ‬ ‫سيكشف‬

‫ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رمحه اهلل (ت‪101‬ه) ‪ « :‬من جعل دينه‬

‫أكثر التن ُّق َل » (‪. )1‬‬


‫غَ َر ًضا للخصومات ‪َ ،‬‬

‫ومقصوده ‪ :‬أن من دخل ساحة اجلدال مع أهل األهواء والذين يف‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫عر ًضا دينَه لشبهات‬
‫حمصنًا باْلحكَمت ‪ُ ،‬م ِّ‬
‫َّ‬ ‫قلوهبم زيغ ‪ ،‬من غري أن يكون‬
‫ت عىل مبدأٍ‬
‫أهل الزيغ ‪ ،‬بل جاعال من دينه هد ًفا ومرمى لتلك الشبه ‪ ،‬فلن َي مثـبُ َ‬

‫أبدً ا ‪ ،‬ولن يدوم عىل عقيدة مطلقا ؛ ألنه قد جعل دينه مكشو ًفا هلجوم‬

‫(‪ )1‬أخرجه الدارمي يف السنن ( رقم‪ ، )312‬بإسناد صحيح ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫الثابت ال‬
‫ُ‬ ‫احلق واْلعت َقـدُ‬
‫ُّ‬ ‫الشبهات اْلختلفة لكل مبدأ وألي معتقد ‪ .‬والدين‬

‫ينكشف للشبهات انكشا ًفا كهذا ؛ إال إذا خال من ّتصني اْلحكَمت ‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬أن الثبات عىل اْلبدأ وعدم اخلشية من خت ُّطف الشبهات‬

‫مها أهم رضوريات بقاء اْلسلم اْلعارص ‪:‬‬

‫ُ‬
‫العقول ‪ ،‬وهي ‪« :‬إذا مل‬ ‫قد قيلت ساب ًقا عبار رة ‪ ،‬وهي عبار رة قد َص َّح َحتمها‬
‫مدع ٌّو» ‪ ،‬وال َ‬
‫ثالث هلذين ؛ أي إن كل شخص إما أن يكون‬ ‫تكن داع ًيا ‪ ،‬فأنت ُ‬
‫سفريا لدينه وأمته وحضارته داعيا إىل ذلك الدين واألمة واحلضارة ‪ ،‬بقوله‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫دعوة لدين غري دينه‬ ‫مرشوع‬ ‫وفعله اْلبارش وغري اْلبارش ‪ ،‬وإما أن يكون‬
‫َ‬
‫وألمة سوى أمته وحلضارة ختالف حضارته ‪ .‬هذه حتمية األثر والتأ ُّثر ‪ ،‬التي‬

‫اإلنسان االجتَمعي بطبعه ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ال بد أن يعيشها‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫َ‬
‫القول قبل‬ ‫ُ‬
‫العقول هذا‬ ‫فلئن قيلت وصحت تلك العبارة ‪ ،‬ولئن َقبِ َلت‬

‫عرص االنفتاح العاْلي الذي نعيشه ‪ ،‬قبل عرص العوْلة ‪ ،‬فَمذا سنقول اليوم ‪،‬‬

‫وقد أصبح العامل ُ ك ُّله يف كل بيت ‪ ،‬ويف يد كل شخص ‪ ،‬ويف أي حلظة ‪،‬‬

‫من خالل وسائل االتصال واإلعالم اْلرئي واْلسموع واْلقروء (ويكاد‬

‫ملموسا ومذا ًقا!) ‪.‬‬


‫ً‬ ‫يكون‬

‫‪44‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫ففي ِّ‬
‫ظل هذا االنفتاح العاْلي اهلائل ‪ :‬مل َي ُعدم للمسلم اخليار ‪ :‬يف أن ال‬

‫بضخ‬
‫ٍّ‬ ‫يكون داعية أو ال يكون ؛ ألنه إذا مل يكن داعي ًة فسيكون َم ُ‬
‫دع ًّوا قط ًعا ‪،‬‬

‫هائل من الشبهات والشهوات ‪.‬‬

‫ويف هذا الوسط الواسع من شبهات اْلخالفني الذي حييط باْلسلم من‬

‫كل جهة ‪ ،‬ويف كل وقت ‪ُ ،‬ح َّق لنا أن نقول ‪ :‬جيب عىل اْلسلم اْلعارص‬

‫حمصنًا بَم يتحصن به الدُّ عاة من العلم‬


‫َّ‬ ‫الذي ال يريد أن يكون داع ًيا أو‬

‫مسلَم !!‬
‫ً‬ ‫باْلحكَمت وبأدلة إحكامها ‪ :‬أن ُيشى عىل نفسه بأن ال يكون‬

‫واضحا ‪،‬‬
‫ً‬ ‫الصعب هذا ّتديدً ا‬
‫َ‬ ‫خياره‬ ‫ٍ‬
‫معارص أن حيد َد َ‬ ‫نعم ‪ ..‬فعىل ُّ‬
‫كل مسل ٍم‬

‫متحم ًال تبعات هذا االختيار ‪.‬‬


‫ِّ‬

‫وعىل العلَمء واْلفكرين وأصحاب القرار يف البالد اإلسالمية أن‬

‫انحصار خياراهتم جتاه أفراد اْلسلمني وشعوهبم يف هذين‬


‫َ‬ ‫يعرفوا‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اخليارين‪ :‬إما أن يكون اْلسلم اْلعارص متحصنا بَم جيب عىل الداعية أن‬

‫مدعوا‬
‫ًّ‬ ‫يتحصن به ‪ ،‬ومتسلحا بمبادئ الـ ُح َجج والرباهني التي جتعله داعيا ال‬

‫ومؤ ِّث ًرا ال متأث ًرا ؛ وإما أن يستعدوا ْلوجة هائلة بني أبناء اْلسلمني من‬

‫اإلحلاد والكفر واإلعراض عن اإلسالم مجلة وتفصيال ‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫إرساء‬ ‫ِ‬
‫اإلنسانية(‪ )1‬هو يف احلقيقة‬ ‫ِ‬
‫اْلحكَمت‬ ‫اخلامس ‪ :‬أن تثبيت‬
‫ر‬
‫لقواعد التعايش اإلنساين ؛ ألنه لن حيصل التفاهم بني بني البرش ‪ ،‬ولن‬
‫ٍ‬
‫أرضية مشرتكة بغري الرجوع إىل تلك‬ ‫االلتقاء بينهم عىل‬ ‫يتم‬
‫ُ‬
‫اْلحكَمت‪.‬‬
‫ِ‬
‫واحلرية‬ ‫ِ‬
‫العدالة‬ ‫فَم الذي يمكن أن يصيب البرشي َة من الدمار لو أن قِ َي َم‬
‫ِ‬
‫يقينية كوهنا‬ ‫ٍ‬
‫شعارات قابل ًة للتشكيك يف إحكامها ويف‬ ‫ِ‬
‫واْلساواة أصبحت‬

‫احلق الذي ال يمكن التهاون يف اعتقاد َحقانيته والدفاع عنه ‪.‬‬


‫َّ‬

‫ِ‬
‫اإلنسانية هم‬ ‫ِ‬
‫اْلحكَمت‬ ‫َّ‬
‫يتوىل الدعو َة إىل هذه‬ ‫َ‬
‫وأوىل من كان ينبغي أن‬

‫اْلسلمون ؛ ألهنم أعرف الناس هبا ‪ ،‬والوحيدون من ُأمم األرض ممن يقدر‬

‫شان‬
‫عىل ختليص هذه اْلحكَمت من شوائب الغلو والتطرف فيها الذي َ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وأ َ‬
‫دخل يف أصوهلا اليقينية‬ ‫بعض تطبيقاهتا لدى احلضارات األخرى ‪َ ،‬‬
‫َ‬

‫(‪ )1‬من اْلحكَمت ما هو حمكم إنساين ‪ ،‬ومنها ما هو حمكم إسالمي مع كونه إنسانيا ‪.‬‬
‫وسبق احلديث عن ذلك يف تعريف اْلحكَمت ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫ٍ‬
‫جزئيات من الفروع الظنية ‪ ،‬ال مع اإلقرار بظنيتها ‪ ،‬بل مع اعتقاد يقينيتها(‪.)1‬‬
‫اخل مل ِ‬
‫ط بني األصول اليقينية والفروع الظنية لتلك‬ ‫وال شك أن من سلبيات هذه َ‬

‫ر‬
‫خلط قد‬ ‫غري اْلُ مسلِ َمة ‪ :‬أنه‬ ‫اإلنسانية الـمح َك ِ‬
‫مة لدى تلك احلضارات ِ‬ ‫ُ م‬
‫ِ‬ ‫القي ِم‬

‫أرضا ِخ مصب ًة ‪ ،‬تقبل بذور الشك ‪،‬‬ ‫ِ‬


‫التشكيك يف اْلحكَمت ً‬ ‫جعل َ‬
‫أرض‬

‫فروعها إال عىل دعوى‬


‫ُ‬ ‫وتُنبت شجر َة الباطل اخلبيثة التي ال تعيش وال تتمد ُد‬

‫مر التاريخ‬ ‫ِ‬


‫نسبية احلق ‪ .‬ولذلك اشتد ُعو ُد تلك الفلسفات ‪ ،‬والتي كانت عىل ِّ‬

‫(‪ )1‬مثل أكثر حركات ّترير اْلرأة التي تسعى لتحريرها من االضطهاد وانتقاص‬
‫حقيقي جيب‬
‫ٌّ‬ ‫حقوقها‪ ،‬إذ إن بعض ما تسعى إليه هذه احلركات التحريرية هو اضطها رد‬
‫بعضه‬
‫بعضه اآلخر ليس كذلك‪ ،‬بل ُ‬
‫والتعاون عىل ّترير اْلرأة منه ‪ ،‬ولكن َ‬
‫ُ‬ ‫السعي‬
‫ُ‬
‫واحلركات عند‬
‫ُ‬ ‫متوه رم ال حقيق َة له ‪ .‬فال تقف هذه اْلنظ ُ‬
‫َمت‬ ‫َّ‬ ‫اضطها رد مزعو رم‬
‫فق عليها بني‬ ‫ِ‬
‫بحقوق اْلرأة اْلقطو ِع هبا وعند اْلطالبة بالعدالة اليقينية اْلت ِ‬ ‫اْلطالبة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫عقالء بني آدم ‪ ،‬بل تتجاوز ذلك إىل ُص ٍ‬
‫ور من اْلطالبات أقل ما يقال عنها ‪ :‬إهنا‬
‫وجهات النظر اْلتباينة ؛ ألهنا ال تعتمد يف‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫اختالف ‪ ،‬وجيب أن ُتقبل فيها‬ ‫ُّ‬
‫حمل‬
‫دعوى عدالتها عىل ٍ‬
‫أدلة يقينية ‪ ،‬بل عىل أدلة ظنية ‪ .‬هذا إن مل تكن بعض تلك‬
‫مقطوعا ببطالهنا إنسان ًّيا ‪ ،‬قبل أن تكون باطل ًة ُبطالنًا دين ًّيا ورشع ًّيا ‪،‬‬
‫ً‬ ‫اْلطالبات باطل ًة‬
‫وآراء مأسور ًة يف ثقافتها وقيمها اْلتعالية – بكِ ٍ‬
‫رب‬ ‫ً‬ ‫وال تتجاوز أن تكون أمزج ًة وأذواقا‬
‫ٍ‬
‫وغرور‪ -‬عىل ثقافة اآلخر وقيمه!‬

‫‪47‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫البرشي من قبيل السفسطات والوساوس اْلمقوتة لدى عموم العقالء ‪ ،‬فإذا‬


‫ٍ‬
‫ومنهجيات‬ ‫ٍ‬
‫نظريات علمي ًة (زعموا)‬ ‫هبا يف احلضارة الغربية احلديثة اليوم‬

‫فكر يستحق اإلجالل ‪ ،‬وتقوم‬


‫ُدرس ‪ ،‬و ُينظر إليها عىل أهنا ر‬
‫آراء ت َ‬
‫تقوم عليها ر‬
‫كثري من التفسريات النظرية والتطبيقات العملية يف جمال احلريات‬
‫عليها ر‬
‫وبقية القيم اإلنسانية األخرى ‪.‬‬

‫أقدر عىل ختليص البرشية من َأ م ِ‬ ‫ِ ُ‬


‫رس‬ ‫َف َم من م من أمم األرض ُ‬
‫غري اْلسلمني ُ‬
‫هذه االنتكاسة ‪ ،‬بتخليص اْلحكَمت اإلنسانية (وهي تلك األصول ِ‬
‫الق َيمية)‬

‫من تسليط فروعها عليها ‪ ،‬ومن أوىل منهم بالدعوة إىل تلك األصول‬
‫الـمح َك ِ‬
‫مة ‪ ،‬ومن أحق منهم بإقناع الناس بأن تفسريات اإلسالم لتلك األصول‬ ‫ُ م‬
‫األصلح واألَ موىل بإسعاد البرشية مجعاء ‪ .‬هذا إن كانت‬
‫ُ‬ ‫وتفريعاته عليها هي‬
‫ٍ‬
‫وتفريعات‬ ‫ٍ‬
‫تفسريات اجتهادي ًة‬ ‫تلك التفسريات والتفريعات يقينية ‪ ،‬فإن كانت‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ظني ًة ‪ ،‬ففي أقل تقدير ‪ :‬ينبغي أن تقتنع ُأ َم ُم األرض (من غري اْلسلمني) بأن‬
‫ِ‬
‫وجهات‬ ‫تفاريع ُ‬
‫تقبل اختالفَ‬ ‫ِ‬
‫البرشية‬ ‫ِ‬
‫األصول‬ ‫التفاريع اإلسالمي َة لتلك‬ ‫تلك‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫النظر ‪ ،‬وال حيق فيها التشنيع وانتقاص الشعوب التي تلتزم هبا(‪. )1‬‬

‫أصل تلك العدالة‬ ‫الغرب يف ٍ‬


‫أمور ال تُنايف َ‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )1‬ففي جمال مساواة اْلرأة بالرجل ‪ :‬يتدخل‬

‫‪48‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫آثار‬
‫آثار كلية ‪ ،‬تنطوي ّتتها ر‬
‫هذه بعض آثار تثبيت اْلحكَمت ‪ ،‬وهي ر‬
‫كثرية تتفرع عنها ‪ .‬فكَم أن اْلحكَمت أصول تتفرع عنها مجيع التصورات‬

‫واألحكام ‪ ،‬كذلك تكون آثارها ‪ :‬تتفرع من أصول آثارها مجيع اآلثار احلسنة‬

‫والثَمر الطيبة ‪.‬‬

‫ِ‬
‫اْلتفق عليها ‪ .‬كقضية احلجاب ‪ :‬الذي ليس يف تطبيقه الصحيح ما جيعله عائ ًقا دون‬
‫حياهتا الطبيعي َة ‪ ،‬وأن تبلغَ غاي َة عطائها يف البناء احلضاري ‪.‬‬
‫َ‬ ‫أن متارس اْلرأ ُة‬
‫فإن مل يقبل الغرب احلجاب ‪ ،‬فال حيق له أن حياربه ‪ ،‬كَم ُتـحارب صور االضطهادِ‬
‫َ ُ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫واْلتفق عىل َم مقتِها وحماربتها بني بني آدم ‪ .‬بل عىل الغرب أن يعرتف بأن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احلقيقية‬
‫ِ‬
‫احلجاب اضطها ًدا ينايف العدالة ‪،‬‬ ‫تقطع بكون‬ ‫ٍ‬
‫يقينية‬ ‫رفضه للحجاب ال يقوم عىل ٍ‬
‫أدلة‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫وجهات النظر ‪ ،‬يف أقل‬‫ِ‬ ‫ظني يقبل اختالفَ‬ ‫رفضه له ر‬
‫رفض ٌّ‬ ‫بل عليه أن يعرتف بأن َ‬
‫تقدير ‪ .‬وأن ال ُيلط موقفه من احلجاب بموقفه من صور استعباد اْلرأة االستعبا َد‬
‫احلقيقي ‪ ،‬واستغاللِـها جنسيا ‪ ،‬يف اجلرائم اْلحر ِ‬
‫مة دول ًّيا ‪ ،‬فيَم ُيسمى ببيوت‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫الغرب من بعضه ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نج‬
‫الدعارة وجتارة األطفال والرقيق األبيض ‪ ،‬مما مل َي ُ‬
‫تنبيه ‪ :‬الصحيح أن ُيطالب بالعدل بني الرجل واْلرأة ‪ ،‬ال باْلساواة بينهَم ؛ الختالف‬
‫ظاهر للعيان ‪،‬‬ ‫ر‬ ‫اختالف‬
‫ر‬ ‫اْلرأة عن الرجل يف تكوينها اجلسَمين والنفساين ‪ ،‬وهو‬
‫أيضا ؛ إذِ اْلساوا ُة الكامل ُة‬
‫كثريا من خفاياه غري الظاهرة ً‬ ‫ُ‬
‫احلديث ً‬ ‫والعلم‬
‫ُ‬ ‫و ُيثبت الطب‬
‫بني األمور اْلختلفة ليست من العدالة ‪ ،‬بل هي من الظلم ؛ ألن االختالف يمنع من‬
‫ُمط َل ِق اْلساواة ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪50‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫تثبيت اْلحكَمت‬
‫مقرتحات عملية يف ذلك‬

‫ُح َّق هلذا اْلوضوع أن يكثر فيه النقاش ‪ ،‬وأن تتواله الدراسات‬

‫والبحوث‪ ،‬وأن يكون جماال لعقد ندوات ومؤمترات ‪ .‬فهو العميل الذي‬

‫يسمو عىل التنظري ‪ ،‬وهو وحده ذو التأثري الواقعي يف ّتقيق أهداف هذا‬

‫البحث ‪ .‬وخروج تنظريه للواقع هو األمر الكفيل بتصحيح أفكاره ‪ ،‬وبتحرير‬

‫تقريراته ‪.‬‬

‫أفكار قابلة‬
‫ر‬ ‫وما أذكره يف هذا الفصل ليس سوى أفكار ‪ ،‬ال أشك أهنا‬

‫للتنقيح والزيادة ‪.‬‬

‫(علَمء ومفكرين‬
‫َ‬ ‫فمن وسائل تثبيت اْلحكَمت التي عىل األمة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وأصحاب قرار) أن يلتفتوا إليها ‪ ،‬ما ييل ‪:‬‬
‫َ‬

‫األول ‪ :‬تثبيت أصول الدين يف قلوب أبناء األمة باألدلة اليقينية ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عقيدة أو َر مأ ٍي ‪.‬‬ ‫كل ٍ‬
‫فكر أو‬ ‫لتكون هي اْلحكَمت التي ُيـحاكمون إليها َّ‬

‫‪51‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وهذا حيتاج (أوالً) ‪ :‬إىل ختليص أصول الدين ح ًّقا من كثري من‬

‫تفاريعها التي اختلطت هبا عىل مر األزمان ‪ ،‬والتي نشأت يف غمرة السجال‬

‫العقائدي بني طوائف اْلسلمني ‪ ،‬وتسللت إىل أصول الدين ‪ ،‬وهي ليست‬

‫منها ‪.‬‬

‫وقد سبق احلديث عن خطر الذين يتوسعون يف دعاوى اإلحكام ْلا‬

‫خطر يعود عىل فقه باب اْلحكَمت باإلهدار والسقوط ؛‬


‫ليس بمحكم ‪ ،‬وأنه ر‬
‫ٍ‬
‫حمكَمت ‪ ،‬وهو منهج الذين يف قلوهبم مرض من‬ ‫ِ‬
‫اْلشتبهات‬ ‫ألنه جعل‬
‫ِ‬
‫ّتريف احلقائق !!‬ ‫وابتغاء‬ ‫ابتغاء الفتنة‬ ‫اْلتبعني للمتشابه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫حقيقية اليقني ‪ .‬واألدل ُة اليقيني ُة‬ ‫وحيتاج (ثان ًيا) إىل إثباهتا بأدلة يقينية ‪،‬‬

‫احلقيقي ُة ال بد أن يكون مرجعها إىل األدلة العقلية ؛ ألننا نواجه ُش ًبها إحلادية‬

‫وكفرية ‪ :‬إن آمنت باهلل ‪ ،‬كفرت بالرسالة !!‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫أكثر ما تفيده من اليقني ‪،‬‬
‫فاألدلة النقلية (من القرآن وثابت السنة) ‪ ،‬وما َ‬
‫بل هي اهلب ُة الرباني ُة التي هتدي لطمأنينة اليقني احلقيقي ؛ إال أنه ال بد من‬

‫إثبات صلة هذه األدلة النقلية بالوحي اإلهلي أوال ‪ .‬وينبغي يف هذا السياق أن‬

‫بناء عىل هذا الوعي ‪ ،‬اْلبني عىل أنه ال يمكننا‬


‫دائَم ‪ ،‬وأن نقرر ُح َج َجنا ً‬
‫نعي ً‬

‫‪52‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫واإلقناع بذلك ؛ إال باألدلة العقلية خاصة ‪،‬‬


‫ُ‬ ‫إثبات ربانية مصدر األدلة النقلية‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫مصدر‬ ‫ثم تأيت بعدها وسائل اإلقناع األخرى (اآليت ِذك ُمرها) ؛ لتكون رباني ُة‬

‫البناء‬ ‫يصح بعد ذلك‬ ‫ٍ‬


‫وقناعة ال تتزحزح ‪ ،‬ثم‬ ‫حمل تسلي ٍم ٍ‬
‫ثابت‬ ‫َّ‬ ‫األدلة النقلية‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫عىل هذا اإليَمن الراسخ ‪.‬‬

‫ومن أهم هذه األصول(‪: )1‬‬

‫وإثبات أن ذلك‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بفطرية وجود اهلل تعاىل ووحدانيته ‪،‬‬ ‫أوال ‪ :‬التذكري‬

‫َ‬
‫اإلنفكاك منها ؛ إال بتشويه متعمد‬ ‫رضور رة عقلية ال يستطيع العقل البرشي‬

‫للفطرة البرشية ‪ .‬وأن يتم ذلك باألدلة العقلية الصحيحة ‪ ..‬أوالً ‪ ،‬ثم ببقية‬

‫وسائل اإلثبات األخرى ‪ ،‬والتي سيأيت ذكر بعضها‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر يف احلديث عن هذه اْلحكَمت ‪:‬‬ ‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪ -‬كتاب ‪ :‬كربى اليقينيات الكونية ‪ ،‬لفضيلة الشيخ حممد سعيد رمضان البوطي‪.‬‬
‫الطبعة الثالثون‪1430 :‬ه ‪ .‬دار الفكر اْلعارص‪ :‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬وكتاب ‪ :‬الكليات األساسية للرشيعة اإلسالمية ‪ ،‬لألستاذ الدكتور أمحد‬
‫الريسوين ‪ .‬طبع دار السالم ‪ :‬القاهرة ‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫بثورة عىل‬ ‫حيث إن احلضارة الغربية التي تغزو العامل اليوم إنَم قامت‬

‫إقصاء الدين ‪ ،‬بل تضمنت السخري َة‬


‫َ‬ ‫اْلحرف ‪ ،‬فحوت يف مضامينها‬
‫َّ‬ ‫الدين‬

‫من عقائده وتعاليمه ‪ .‬وهي ال تعرف التفريق بني الدين اْلحرف والدين احلق‬

‫اْلحفوظ ‪ ،‬ولذلك فهي حضار رة قامت عىل فلسفة اإلحلاد ‪ ،‬وهذا ما جيعل‬

‫اإلحلا َد أحد أظهر نتائج االنبهار هبا واالهنزام أمامها ‪.‬‬

‫ويف ِّ‬
‫ظل هذه احلضارة اْلادية الوجودية أصبح التشكيك يف احلقيقة‬

‫الفطرية الثابتة يف عقل كل إنسان (وهي وجود اهلل تعاىل) ظاهر ًة خطري ًة ‪،‬‬

‫الر مي ِن الذي ُي َغطِّي َ‬


‫نور‬ ‫جيب الوقوف ضدَّ ها ‪ :‬بإيقاظ الفطرة السوية ‪ ،‬وبكشف َّ‬
‫ُ‬
‫إثبات وجود اخلالق‬
‫َ‬ ‫أهم وسائل إيقاظها‬
‫ـي ‪ ،‬والتي سيكون ُّ‬ ‫القلب ِ‬
‫اجلبِ ِّل َّ‬ ‫ِ‬

‫العليم احلكيم الواحد األحد باألدلة العقلية اليقينية ‪.‬‬

‫ثان ًيا ‪ :‬ومن هذه األصول اْلهمة جدا ‪ :‬إثبات نبوة النبي ‪ ، ‬وأنه خاتم‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫أيضا(‪: )1‬‬
‫األنبياء ‪ ،‬وباألدلة العقلية ً‬

‫(‪ )1‬وإن أردنا إثبات النبوة باْلعجزات احلسية التي روهتا األخبار ‪ ،‬كتلك األخبار الثابتة‬
‫ب دالئل النبوة (كدالئل النبوة ‪ :‬للفريايب ‪ ،‬وأليب نعيم ‪ ،‬وللبيهقي ‪،‬‬
‫التي ُعنيت هبا ُك ُت ُ‬
‫عقيل ُيثبت صحتها ‪ ،‬كَم‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بدليل‬ ‫وأليب القاسم التيمي ‪ ،‬ونحوها) ‪ ،‬فال بد أن نَـ مق ِر َهنا‬

‫‪54‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫‪ -‬كاإلخبار باْلغيبات ‪ ،‬ومنها ما يسمى باإلعجاز العلمي يف الكتاب‬


‫ٍ‬
‫مبالغات وتالعب بدالالت النصوص‬ ‫والسنة (برشوط قبوله) ‪ ،‬دون‬
‫ٍ‬
‫مبالغات يف نفي هذا النوع‬ ‫أو بالنظريات واحلقائق العلمية ‪ ،‬ودون‬

‫من األدلة اليقينية ‪.‬‬

‫‪ -‬ومنها ‪ :‬صنوف اإلعجاز القرآين اْلتعددة ‪:‬‬

‫بالغي(‪.)1‬‬
‫ٍّ‬ ‫‪ o‬من‬

‫فعل اإلمام أبو بكر الباقالين (ت‪403‬ه) يف كتابه التمهيد (‪. )135 -134‬‬
‫(‪ )1‬مع كثرة ما كُتب يف اإلعجاز البالغي يف تراثنا اإلسالمي ‪ ،‬ومع جاللة كثري من ذلك‬
‫الرتاث ‪ ،‬خاصة ما كتبه القايض عبد القاهر اجلرجاين (ت‪474‬ه) ؛ لكن يبقى أن هذا‬
‫الرتاث ال يستفيد منه إال اْلتخصصون يف اللغة واألدب العربيني ‪ ،‬وهو بعيد عن‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫عموم اْلثقفني ‪ ،‬فضال عمن سواهم ‪ .‬ولذلك فنحن يف حاجة ماسة إىل تقريب‬
‫اإلعجاز البالغي لعموم اْلسلمني بأسلوب سهل ‪ ،‬تفهمه أوسع رشحية ممكنة‬
‫أظهر وجوه اإلعجاز القرآين ومن أثبتها ‪.‬‬
‫منهم‪ ،‬خاصة أنه ُ‬
‫ومن اجلهود اْلعارصة التي تناسب الذوق احلديث ويمكن أن يتفاعل معها عموم‬
‫اْلثقفني والدارسني (من غري أهل االختصاص) يف إظهار اإلعجاز البالغي يف‬
‫القرآن ‪ :‬كتاب (التصوير الفني يف القرآن) ‪ :‬لسيد قطب ‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وغيبي ‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫‪o‬‬

‫وترشيعي(‪.)1‬‬
‫ٍّ‬ ‫‪o‬‬

‫ولقد كان للشيخ حممد متويل الشعراوي (ت‪1419‬ه) جهدر متميز يف تقريب بعض‬
‫النسج‬
‫َ‬ ‫وجوه اإلعجاز البالغي بأسلوب سهل ممتع يف دروسه التلفزيونية ‪ ،‬يستحق‬
‫عىل منواله فيها وتطويره وتنقيحه‪.‬‬
‫(‪ )1‬اإلعجاز الترشيعي ‪ :‬هو بيان حماسن الترشيعات اإلسالمية ‪ :‬يف ثباهتا ‪ ،‬وشموهلا ‪،‬‬
‫تتم إال‬ ‫وأهنا األصلح لكل ٍ‬
‫زمان ويف كل مكان وأن سعادة البرشية يف الدنيا واآلخرة ال ُّ‬
‫‪،‬‬

‫هبا‪.‬‬
‫ختصيصا (حسب اطالعي) ‪ :‬هو كتاب (حماسن الرشيعة)‬
‫ً‬ ‫وأقدم ما كُتب يف ذلك‬
‫كتاب كُتب لغري أهل‬
‫ر‬ ‫لإلمام أيب بكر القفال الشايش الكبري الشافعي (ت‪365‬ه) ‪ .‬لكنه‬
‫متاما عن اهتَمماتنا ‪ .‬وال يعني أنه ال ُيستفاد منه يف‬ ‫ٍ‬
‫عرصنا ‪ ،‬وباهتَممات ختتلف ً‬
‫عرصنا ‪ ،‬لكنه يعني أن ُيستفاد منه ويزاد عليه و ُيتمم ألهل عرصنا ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وكل من كتب عن جمال اْلصلحة أو يف جمال مقاصد الرشيعة اإلسالمية فقد‬
‫تضمنت كتابته بيان حماسن الترشيع ‪ ،‬منذ القرن الرابع اهلجري ‪ ،‬مرورا باجلويني يف‬
‫اخلامس ‪ ،‬فالغزايل ‪ ،‬فالعز ابن عبد السالم يف السابع ‪ ،‬فالطويف ‪ ،‬فابن تيمية يف‬
‫الثامن ‪ ،‬وانتهاء بالشاطبي ‪ .‬ثم ما كتبه اْلعارصون يف مقاصد الرشيعة ‪ :‬بدءا بالطاهر‬
‫وعالل الفايس ‪ ،‬مرورا باإلسهامات العديدة للدكتور أمحد الريسوين ‪،‬‬
‫ابن عاشور ‪َ ،‬‬
‫تباعا مؤسسة الفرقان‬
‫وانتهاء بالعديد من الدراسات القريبة التي أصدرهتا وتصدرها ً‬

‫‪56‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫يف جمال اْلقاصد ‪.‬‬


‫ومن الكتب يف هذا اْلجال ‪:‬‬
‫‪ -‬كتاب (اإلعجاز الترشيعي يف القرآن الكريم) ‪ :‬دراسة تطبيقية حول حقوق‬
‫اإلنسان) ‪ ،‬وهي رسالة علمية للدكتورة مريم الد َو ميلة ‪ .‬طبع سنة ‪1432‬هـ ‪ .‬يف‬
‫دار ِغراس ‪ :‬بالكويت ‪.‬‬
‫‪ -‬ورسالة (حماسن الرشيعة ومساوئ القوانني الوضعية) ‪ :‬للشيخ عطية بن حممد‬
‫سامل (رمحه اهلل) ‪.‬‬
‫‪ -‬وكتاب (اإلعجاز الترشيعي يف القرآن) ‪ :‬للدكتور عيل حممد با بكر ‪ .‬اْلطبوع‬
‫سنة ‪1984‬م ‪.‬‬
‫‪ -‬وكتب الشيخ حممد أبو زهرة تسع مقاالت بعنوان ‪ :‬رشيعة القرآن ر‬
‫دليل عىل أنه‬
‫من عند اهلل ‪ ،‬تناول فيها حماسن الترشيع يف عدد من األبواب ‪ :‬كالعتق والرق ‪،‬‬
‫وتعدد الزوجات ‪ ،‬والطالق ‪ ،‬واْلرياث ‪ ،‬واحلريات العامة واخلاصة ‪ ،‬وغري‬
‫ذلك ‪ ،‬نرشها مجيعا يف أعداد جملة اْلسلمون ‪ ،‬من العدد األول وحتى التاسع ‪،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫يف سنتها األوىل سنة ‪1951‬م ‪.‬‬
‫وهناك حماوالت متفرقة يف هذا الباب ‪ ،‬كاْلقدمات اْلخترصة التي كان يكتبها‬
‫الشيخ سيد سابق يف كتابه (فقه السنة) يف فاّتة األبواب ‪ ،‬وكدراسات أخرى عديدة‪.‬‬
‫لكن عمومها حيتاج إىل تعميق واستدالل عليها ‪ ،‬وتقويتها بعقد مقارنات بني الترشيع‬
‫اإلسالمي والقوانني اْلعارصة ‪ ،‬وبيان الفرق بني الترشيعني يف واحد مما ييل ‪ :‬يف‬
‫أي منهَم ‪ ،‬أو بيان عدالة األحكام والقوانني وإنسانيتها‬
‫جريان اْلصلحة يف ٍّ‬

‫‪57‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫معنوية(‪.)1‬‬ ‫ودالئل ذات ٍية‬
‫َ‬ ‫‪o‬‬

‫ِ‬
‫وغري ذلك من وجوه إعجاز القرآن الكريم ‪.‬‬ ‫‪o‬‬

‫وصالحيتها لكل عرص ‪ ،‬أو بيان السبق إىل ّتقيق اْلصلحة ‪َ :‬من فاز به ‪ .‬وأن يكون‬
‫ذلك كله بأسلوب سهل ‪ ،‬وبأدلة صحيحة موثقة ‪ّ ،‬ترتم العقل ‪ ،‬وتؤدي إىل القناعة‬
‫الصحيحة الثـابتة ‪.‬‬
‫(‪ )1‬الدراسات يف هذا اجلانب قليلة جدا ‪ ،‬مع أمهيته القصوى ‪ ،‬ومع قرب إدراكه إىل‬
‫أكثر األفهام لدى عموم اْلثقفني من غري أهل االختصاص الرشعي أو اللغوي ‪ ،‬ومن‬
‫كتب ثالثة ‪:‬‬
‫أهم الدراسات يف ذلك ر‬
‫‪ -‬كتاب ‪ :‬تثبيت دالئل النبوة ‪ :‬للقايض عبد اجلبار اْلعتزيل (ت‪415‬ه) ‪ ،‬ومل يعد‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫أمرا مفهو َم اْلعنى ‪ْ ،‬لجرد أن مؤلفه معتزيل ‪ ،‬أمام‬
‫إمهال هذا الكتاب العظيم ً‬
‫موجة اإلعراض والشك التي ُوجدت يف كثري من بقاع العامل اِإلسالمي ‪ .‬ولو‬
‫بعد اْلراجعة له والتنقيح ‪ ،‬أو التعليق ‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب ‪ :‬النبأ العظيم ‪ْ :‬لحمد بن عبد اهلل دِ َراز (ت‪1377‬ه) ‪ ،‬وهو كتاب عظيم ‪،‬‬
‫ومرشوع حيتاج إىل إمتام ‪.‬‬
‫‪ -‬الظاهرة القرآنية ‪ْ :‬لالك بن نبي (ت‪1393‬ه) ‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وتقريب ذلك كله لعموم اْلسلمني ‪ ،‬من خالل برامج التعليم‬

‫اإلجباري واالختياري ‪ ،‬ومن خالل منتجات إعالمية مشوقة‬

‫(كاألفالم الوثاقية) ‪ ،‬تناسب الذوق العرصي ‪.‬‬

‫‪ -‬ومنها النقد الذايت والتحلييل لسرية النبي ‪ ، ‬بَم ُيظهر صدق النبوة‬

‫بدالئل عقلية (‪.)1‬‬

‫ٍ‬
‫جمموعة من كتب فقه السرية اْلعارصة ‪ :‬ككتاب‬ ‫مالمح متفرق ًة من ذلك يف‬ ‫(‪ )1‬جتد‬
‫َ‬
‫الغزايل والبوطي وغريمها ‪ .‬كَم جتده يف بعض الدراسات األخرى ‪ ،‬من مثل ‪:‬‬
‫جمموعة مؤلفات القبطي اْلرصي نظمي لوقا (ت‪1407‬ه) ‪ ،‬ومن أمهها كتاب‬
‫(حممد الرسالة والرسول) و(حممد يف حياته اخلاصة) وغريها من مؤلفات هذا‬
‫الكاتب اْلسيحي اْلنصف ‪ ،‬ومنها ‪( :‬شخصية رسول اهلل ‪ ‬بني تصوير الوحي‬
‫وتصورات الدارسني) للدكتور سعيد اْلغناوي ‪ ،‬و(عظمة حممد خاتم الرسل)‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫للشيخ مصطفى الزرقا ‪( ،‬ولوحات نبوية) للشيخ عبد الوهاب بن نارص الطريري ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫منصـفة لـبعض الغـربيني ‪ ،‬وقـد اعتنـت‬ ‫ٍ‬
‫عبارات‬ ‫وجتد هذا اْلعنى جل ًّيا يف تضاعيف‬
‫بعض الكتب بجمعها ‪ ،‬مثل ‪( :‬اإلسالم يف نظر أعالم الغـرب) للشـيخ حسـني عبـداهلل‬
‫باسالمة و(ثناء الغربيني عىل سيد اْلرسلني ‪ )‬للسيد حممد بن علوي العيدروس‪،‬‬
‫‪،‬‬

‫و(حممد ‪ ‬عند علَمء الغرب) للشيخ خليل ياسـني وابنـه الـدكتور حممـد ياسـني ‪،‬‬
‫وهو أمجع هذه الكتب يف جماله ‪.‬‬
‫وما زال هذا الباب يف حاجة ماسة إىل إكَمل بحثه وإبرازه باألسلوب العرصي‬

‫‪59‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫‪ -‬ومنها ‪ :‬البشارات بالنبي ‪ ‬اْلوجودة يف كتب أهل الكتاب ‪،‬‬

‫وحماولة إبرازها من خالل أفالم وثائقية ودراسات معمقة تتيحها لنا‬

‫وسائل العلم احلديث والكشوفات احلديثة عن خمطوطات كتب‬

‫العهد القديم واحلديث ودراساهتا ‪.‬‬

‫فيجب أن نستحرض بأن تثبيت النبوة واالستدالل هلا ببشارات الكتب‬

‫قرآين أكيد ‪ ،‬أقام به ر ُّبنا احلج َة عىل صحة‬


‫ٌّ‬ ‫منهج‬
‫ر‬ ‫السَموية السابقة‬

‫نبوة النبي ^ ‪ ،‬فال جيوز إغفاله ‪ ،‬بل جتب العناية به غاية العناية ‪،‬‬

‫فقد قال تعاىل (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬

‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الصف‪ ، ]٦ :‬وقال‬

‫تعاىل ﭽﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬

‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁﮂ ﮃ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮊﮋﮌ‬

‫ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﭼ [األعراف‪ . ]١٥٧ :‬وقال تعاىل ﭽ ﭑ‬

‫اْلناسب ‪ ،‬مع العناية التامة بالتوثيق القوي لتلك االعرتافات من مصادرها األصلية ‪،‬‬
‫مع الداللة عىل أماكن وجود تلك اْلصادر ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬

‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭼ [البقرة‪. ]١٤٦ :‬‬

‫ثال ًثا ‪ :‬ومن األصول التي جتب العناية بتثبيت اليقني هبا ‪ُ :‬‬
‫دفع ُّ‬
‫الشبه عن‬

‫التشكيكات التي يثريها‬


‫ُ‬ ‫القرآن الكريم ‪ ،‬وبيان ُس ُم ِّو حمله من أن تؤثر فيه‬

‫اجلهل ُة واخلصوم ‪.‬‬

‫فمع أن اهلل تعاىل قد وعد بحفظ القرآن الكريم يف قوله تعاىل ﭽ ﮗ ﮘ‬


‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭼ [احلجر‪ ، ]٩ :‬ومع أن األمة قد تلق ِ‬
‫ت القرآن الكريم عن‬

‫قطعي الثبوت ‪ ،‬حتى ال يشك‬


‫َّ‬ ‫رسول اهلل ^ ً‬
‫جيال بعد جيل ‪ ،‬فكان بذلك‬

‫سوي العقل من غري اْلسلمني يف يقينية ثبوته ‪ ،‬فضال عن اْلسلم ؛‬


‫ُّ‬ ‫ر‬
‫منصف‬

‫إال أن هناك شكوكًا ‪ -‬كانت وما زالت ‪ -‬ختتطف بعض أبناء اْلسلمني ‪،‬‬

‫فتثري لدهيم الريب يف يقينية حفظ القرآن الكريم ! وما كان لتلك التشكيكات‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اليقني بحفظ القرآن الكريم لدى أولئك اْلخت َطفني من اْلسلمني‬
‫َ‬ ‫أن تزحزح‬
‫ضعف يف التكوين الفكري واْلعريف لدهيم ‪ ،‬لوال تقصري ِ‬
‫قادة العلم‬ ‫ُ‬ ‫لوال ال‬
‫ُ‬
‫واْلعرفة وقادةِ التنفيذ من السياسيني يف ّتصني أبناء وطنهم وأمتهم‬

‫واإليَمين ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والعلمي‬
‫َّ‬ ‫العقيل‬
‫َّ‬ ‫التحصني‬
‫َ‬

‫‪61‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ولذلك ‪ :‬ال يصح أن ختلو مناهج التعليم اإلجباري اليوم ما يبني كيفية‬

‫الصديق‬
‫كتابة القرآن الكريم وحفظه يف زمن النبي ^ ‪ ،‬ثم يف زمن أيب بكر ِّ‬
‫(ريض اهلل عنه) ‪ ،‬ثم يف زمن عثَمن بن عفان (ريض اهلل عنه) ‪.‬‬

‫جيب أن يتضح لدهيم كيف ُوجدت القراءات اْلقطوع بثبوهتا ‪ ،‬وما‬

‫هي عالقتها باألحرف السبعة ‪ ،‬وأن بقاء قراءة واحدة من القراءات العرش‬
‫(‪)1‬‬

‫اليقينية الثبوت كافية حلفظ القرآن ‪ ،‬وأن حفظ باقيها تأكيدر عىل قوة حفظ‬

‫الكتاب العزيز ‪.‬‬

‫وهناك أسئلة أخرى جيب أن ّتيط هبا مناهج التعليم اإلجبارية ‪:‬‬

‫‪ -1‬ما حقيقة نسخ التالوة ؟ وهل يمكن أن يكون ثبو ُته مش ِّككًا يف حفظ‬
‫(‪)2‬‬

‫القرآن الكريم؟‬

‫(‪ )1‬ومن الكتب النافعة يف ذلك ‪ :‬كتاب (االختيار عند القراء ‪ :‬مفهومه ‪ ،‬ومراحله ‪ ،‬وأثره‬ ‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫يف القراءات) للدكتور أمني بن إدريس فالته ‪ .‬من مطبوعات كريس القرآن الكريم‬
‫وعلومه يف جامعة اْللك سعود بالرياض ‪ ،‬سنة ‪1436‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر إلثبات نسخ التالوة ‪ :‬كتاب (مرويات نسخ التالوة ‪ :‬مج ًعا ودراسة) لرياض‬
‫حسني عبد اللطيف الطائي ‪ .‬طبعته األوىل ‪1435 :‬هـ ‪ .‬الدار األثرية ‪َ :‬عَمن –‬

‫‪62‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫‪ -2‬ما هي حقيقة النسخ مع بقاء اْلنسوخ ؟ وهل إثبات وجوده مما‬


‫(‪)1‬‬

‫يعارض إحكام القرآن الكريم ‪ ،‬كَم يزعم بعض أدعياء التجديد‬

‫اْلعارصين ؟ وما هو توجيه كثرة دعاوى النسخ يف كالم السلف ‪،‬‬

‫وعالقة تلك الدعاوى بتطور داللة مصطلح النسخ بني اْلتقدمني من‬

‫علَمء األمة واْلتأخرين ؟‬

‫ِ‬
‫يقينية القرآن الكريم يف ذلك ك ِّله ويف غريه ‪،‬‬ ‫ب أدل ُة‬
‫ُستوع َ‬
‫َ‬ ‫جيب أن ت‬

‫بطريقة سهلة يمكن لكل مسلم أن ُيفيد منها اليقني ‪.‬‬

‫األردن‪ .‬وهي رسالة ماجستري يف جامعة العلوم اإلسالمية العاْلية ‪ ،‬بعَمن ‪.‬‬
‫وانظر ‪ :‬مقايل اْلنشور يف موقعي الشخيص بعنوان ‪« :‬أثر إنكار نسخ التالوة يف‬
‫التشكيك بالقرآن» ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪https://www.dr-alawni.com/articles.php?show=155‬‬
‫درسا مصورا ّتدثت فيه عن ثبوت آية الرجم اْلنسوخة تالوة ‪ ،‬وهو بعنوان ‪:‬‬
‫وانظر ً‬
‫اْلجلس اْلفتوح ‪ -‬حد الرجم ونقاش منكريه ‪:‬‬
‫=‪https://www.youtube.com/watch?v=PZjb0L7OohA&index‬‬
‫‪1&list=PLMQtoa0AhxvJ4jP3HiWObsEQRq8P_sbpw‬‬
‫(‪ )1‬انظر دريس اْلنشور يف موقع اليوتيوب بعنوان ‪« :‬اْلجلس اْلفتوح ‪ -‬الرد عىل من‬
‫أنكر النسخ يف القرآن الكريم» ‪:‬‬
‫‪https://www.youtube.com/watch?v=ikNcfLy2YY4‬‬

‫‪63‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫راب ًعا ‪ :‬ومن األصول التي جتب العناية بإبراز أدلة إحكامها اليقينية ‪:‬‬

‫إثبات أن السنة النبوي َة حمفوظ رة من وجهني من وجوه الضياع ‪:‬‬

‫اندثاره بحفظ الدين‪،‬‬ ‫يشء من السنة يـ ِ‬


‫خ ُّل‬ ‫قدان ‪ :‬باندثار ٍ‬
‫ضياع ال ُف ِ‬ ‫األول ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫نبوية عىل النَّـ َقلة من اْلحدِّ ثني والفقهاء وعلَمء الدين ‪.‬‬ ‫َ‬
‫أحاديث‬ ‫وبتَـ َف ُّل ِ‬
‫ت‬

‫باختالط ثابتها بمكذوهبا دون قدرةٍ‬


‫ِ‬ ‫الشك يف ال ُّثبوت ‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫ضياع‬ ‫والثاين ‪:‬‬
‫ُ‬
‫عىل التمييز بينهَم ‪ ،‬مما ُيوقِ ُع الريب َة يف كل حديث منها ؛ فبهذا الضياع ‪ -‬لو‬
‫ٍ‬
‫حديث منسوب‬ ‫مروي ‪ ،‬إ مذ به ما من‬ ‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫تَـحق َق – سيقع الشك يف كل‬
‫ٍّ‬
‫للسنة إال وقد تكون نِسبتُه ح ًّقا وقد تكون نِسبتُه باطال ؛ بسبب ذلك االختالط‬

‫اْلزعوم ‪.‬‬

‫والضياع ِ‬
‫ني ‪ ،‬وبغري إثبات ذلك‬ ‫َ‬ ‫فبغري بيان سالمة السنة من هذين ال َقدم َح ِ‬
‫ني‬

‫باألدلة القاطعة ‪ :‬ال يمكن اْلطالبة باعتَمد السنة مصدرا من مصادر الترشيع ‪،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وال يمكن تصحيح االحتجاج باألحاديث النبوية ‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وإثبات ذلك ُيتلف يف مقامني ‪ :‬مقام إثباته لغري اْلسلم ‪ ،‬وإثباته‬

‫للمسلم الذي يؤمن بالقرآن ‪ .‬وتفصيل ذلك ليس هو مقصد هذا البحث ‪ ،‬وإن‬
‫ٍ‬
‫طرف منه ال تعارضه(‪. )1‬‬ ‫كانت اإلشارة إىل‬

‫وبعد ذكر هذه األصول األربعة التي ال بد من احلرص عىل بيان إحكامها‬

‫وإبراز أدلتها اليقينية ‪ ،‬جيب أن ُأذكِّر بأن ذكري هلا مل يكن إال من باب‬
‫رضب اْل َثل بأهم هذه األصول وليس هذا البحث اْلخترص ً‬
‫حمال للحرص‬ ‫‪،‬‬

‫وال للتعداد ؛ فمجال عدِّ األصول التي جيب احلرص عىل تثبيت اليقني هبا‬
‫‪،‬‬ ‫بعض أولويات هذه األصول قد تتغري من ٍ‬
‫حال إىل حال‬ ‫ر‬
‫جمال طويل ؛ كَم أن َ‬

‫ال يف كوهنا أصوال لكن يف أمهيتها ضمن ُسلم األصول ‪ .‬فلئن كان ما يتعلق‬
‫‪،‬‬

‫بالشهادتني سيبقى هو أصل األصول يف كل حال ‪ ،‬لكن ما سواه قد يتأخر وقد‬

‫يتقدم يف سلم األولويات ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫واضحا حول اختالف األولويات باختالف‬
‫ً‬ ‫ولكي يكون الكالم‬

‫اْلرحلة التي متر عىل األمة اإلسالمية ‪ :‬أجد أن من أولويات األصول‬

‫(‪ )1‬يل بحث منشور يف موقعي الشخيص بعنوان ‪ :‬األدلة اليقينية عىل حفظ السنة النبوية ‪.‬‬
‫‪http://www.dr-alawni.com/files/books/pdf/1432345339.pdf‬‬

‫‪65‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫التي جيب إبرازها يف هذا العرص من حمكَمت اإلسالم ‪ :‬بيان موقف‬

‫اإلسالم من احلضارة والتقدم التِّـ مقن ِ ِّي والبناء البرشي والعمراين(‪،)1‬‬

‫ال بتقريرات نظرية فقط(‪ ،)2‬بل ‪( :‬أوال) بإثبات ذلك بدراسات جادة صادقة‬

‫(‪ )1‬هناك تقريرات مجيلة لبيان إسهامات اْلسلمني يف احلضارة اإلنسانية لبعض العلَمء‬
‫والباحثني العرصيني ‪ ،‬ومنها تقريرات قديمة ‪ ،‬بدأت منذ مطلع القرن الرابع العرش‬
‫اهلجري ‪ ،‬يف فرتة االستعَمر ‪ ،‬وبعد سقوط اخلالفة العثَمنية ‪ .‬من مثل كتاب األمري‬
‫شكيب أرسالن (ت‪1366‬ه) (ْلاذا تأخر اْلسلمون وْلاذا تقدم غريهم) ‪ ،‬وكتاب‬
‫(اإلسالم واحلضارة العربية) ْلحمد كرد عيل ‪ ،‬و(علَمء العرب وما أعطوه‬
‫للحضارة) لقدري حافظ طوقان ‪ ،‬و(فضل العرب عىل الغرب يف جمال البحث‬
‫التجريبي) ‪ ،‬للدكتور حممد عبد رب النبي سيد ‪ ،‬و(تراث العرب العلمي يف‬
‫ٍ‬
‫دراسات مطولة‬ ‫الرياضيات والفلك) لقدري حافظ طوقان ‪ ،‬وغريها كثري ‪ .‬لكنها بني ‪:‬‬
‫اْلقنعة بسبب ضعف التواصل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لإلثباتات‬ ‫ٍ‬
‫ودراسات تفتقد‬ ‫غري قابلة للتداول العام ‪،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ٍ‬
‫عاطفية تَـكمـ ُث ُـر فيها‬ ‫ٍ‬
‫ودراسات‬ ‫العلمي مع اْلكـتشفات احلديثة ومراكزها العاْلية ‪،‬‬
‫اْلغالطات وال َق مفزُ عىل احلقائق العلمية ‪.‬‬
‫ُ‬
‫فَم زال اْلسلمون حيتاجون إىل مشاريع علمية يف هذا اجلانب ‪ ،‬تناسب ذوقهم‬
‫العرصي يف عرضها ‪ ،‬وّترتم عقوهلم يف استدالالهتا ‪.‬‬
‫(‪ )2‬وال يعني ذلك االستخفاف بالتقريرات النظرية ‪ ،‬بل هي يف غاية األمهية ‪ .‬ولو مل يكن‬
‫من أمهيتها إال الرد عىل الطرح اْلتطرف اْلشار إليه يف التعليقة السابقة لكفى ‪،‬‬

‫‪66‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫تكشف أثر احلضارة اإلسالمية يف أوج جمدها عىل حضارات العامل كلها‬

‫وعىل حضارة الغرب خاصة(‪ ،)1‬و(ثانيا) بإثبات ذلك من خالل رضب‬

‫النموذج احلي من علَمء اْلسلمني اْلعارصين اْلتمسكني بدينهم والذين‬

‫قدموا للبرشية خدمات جليلة يف جمال التقدم العلمي الكوين ‪ .‬وهذا يبني لنا‬

‫وجها جديدً ا لرضورة اْلسابقة إىل العلم احلديث والتِّـ مقـنِية ‪ ،‬وهو أن وجود‬
‫ً‬

‫كيف وهو من وسائل تثبيت هذه اْلحكمة لدى طبقة معينة من القراء واْلثقفني ‪.‬‬
‫ومن هذه اجلهود اْلشكورة يف هذا اْلجال ‪ :‬جمموعة إصدارات يف الشهود‬
‫احلضاري لألمة اإلسالمية للدكتور عبد اْلجيد النجار ‪( :‬فقه التحرض اإلسالمي) ‪،‬‬
‫و(عوامل الشهود احلضاري) ‪ ،‬و(مشاريع اإلشهاد احلضاري) ‪ .‬ومنها كتاب ‪(:‬منهج‬
‫احلضارة اإلنسانية يف القرآن) للدكتور حممد سعيد رمضان البوطي ‪ ،‬وكتاب ‪:‬‬
‫(اإلسالم ومنطلقات اْلشرتك احلضاري البرشي) لألستاذ الدكتور حامد أمحد‬
‫الرفاعي ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫(‪ )1‬مثل كتاب ‪ :‬شمس العرب تسطع عىل الغرب ‪ ،‬لزغريد هونكة ‪ ،‬وحضارة العرب ‪:‬‬
‫لغوستاف لوبون ‪ ،‬واحلضارة اإلسالمية يف القرن الرابع اهلجري ‪ :‬آلدم متز ‪ ،‬وتاريخ‬
‫ضائع (الرتاث اخلالد لعلَمء اإلسالم) ْلايكل هاميلتون مورجان ‪.‬‬
‫سوى ما كُتب عن أثر اْلسلمني عىل علم خاص من العلوم ‪ ،‬من مثل ‪ :‬علم الفلك‬
‫لكرلو َم ِّلينو ‪ ،‬وتاريخ األدب اجلغرايف‬
‫تارُيه عند العرب يف القرون الوسطى ‪ :‬م‬
‫العريب ‪ :‬لكاراتشكوﭬسكي ‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫علَمء مسلمني برعوا يف العلم احلديث مع متسكهم بأحكام الدين أحد‬

‫األدلة العملية عىل عدم تناقض الفكر اإلسالمي مع اْلناهج العلمية‬

‫احلقيقية(‪. )1‬‬

‫(‪ )1‬وال ُيفى أن التقدم العلمي والتفوق احلضاري ال يدل عىل صحة الدين ؛ ألن الدين‬
‫تأثريا سلب ًّيا) قد ُي مق ِصيه أتباعه عن مناحي‬
‫الباطل أو اْلحرف (الذي يؤثر عىل العلم ً‬
‫نفسه‬
‫احلياة وعن مناهجهم العلمية (كَم حصل مع النصارى) ‪ ،‬أو قد يكون دينهم ُ‬
‫يؤصل للعلَمنية (دع ما لقيرص لقيرص ‪ ،‬وما هلل هلل) ‪ ،‬وقد يكون دينًا ال ُين ِّظ ُم احلياة وال‬
‫يضع القوانني وال يعطي أي تفسري له عالقة بالوجود (كالبوذية) ‪ ،‬وإنَم هو نصائح‬
‫أخالقية ورياضات نفسية ‪.‬‬
‫ولو كان التقدم العلمي والتفوق احلضاري دليال عىل صحة الدين ‪ ،‬للزم من ذلك‬
‫صحة األديان اْلتناقضة !! فحضارة اليوم من أوربا وأمريكا إىل اليابان والصني ‪ ،‬فيها‬
‫اليهود والنصارى والبوذيون وغريهم ‪ ،‬وكل دين منها ال يعرتف باآلخر ‪ ،‬ومع ذلك‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫كانت كلها صاحب َة السبق العلمي والتفوق احلضاري يف العرص احلديث ‪.‬‬
‫نن ومناهج ‪ ،‬من أخذ هبا ‪ ،‬وصل وفاز ‪.‬‬
‫فللتقدم العلمي والتفوق احلضاري ُس ر‬
‫ومع اهتام اإلسالم بأنه ال يتفق والتقد َم واحلضار َة ‪ ،‬سيكون من أساليب الرد ‪ :‬بيان أن‬
‫(قديَم وحدي ًثا) قد عاشوا يف أكناف اإلسالم ويعيشون معتنقني‬
‫ً‬ ‫العلَمء اْلسلمني‬
‫عقائدَ ه ومتمسكني بأحكامه ‪ ،‬ومل جيدوا يف ذلك شيئًا من التعارض والتناقض ‪ ،‬بل‬
‫وجدوا فيها داف ًعا للبحث واالكتشاف واإلبداع ‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الوسيلة الثانية لتثبيت اْلحكَمت ‪ :‬تكثيف احلديث عن‬


‫ِ‬
‫العني والسمع عند‬ ‫اْلحكَمت ‪ ،‬واختاذ كل الوسائل لكي تكون ِم مل َء‬
‫ِ‬
‫القلب منه ‪.‬‬ ‫كل مسلم ‪ ،‬لتصل إىل أن تكون ِم مل َء‬

‫أما االستمرار يف خفائها ؛ إال يف قاعات الدرس التخصصية ‪ ،‬أو يف‬

‫الندوات النخبوية ‪ ،‬فال يكفي ولن يؤدي األثر الذي نريده منها ‪.‬‬

‫فَم أحوج اْلسلمني إىل َم مل ِء مناهجهم الدراسية وإعالمهم (بجميع‬

‫أنواعه) هبذه اْلحكَمت ‪ ،‬بطريقة مبارشة وغري مبارشة ‪ ،‬مع العناية بتنويع‬

‫وسائل هذا التكرار اْلعريف ؛ لكي ال ُيمل ‪ ،‬وأن ُيعتنى بتحسني األساليب غري‬
‫ٍ‬
‫إشعار بالوصاية‬ ‫اْلبارشة ؛ لكي تتسلل القناع ُة منه إىل القلوب بغري‬

‫والفرض‪ .‬أما األساليب اْلبارشة ‪ ،‬فقد ّتدثنا عنها ساب ًقا ‪ ،‬وعن حاجتها‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫الرضورية إىل العناية بإبراز أدلتها اليقينية ‪.‬‬

‫وللتكرار أثره الكبري يف ترسيخ العقائد الباطلة ‪ ،‬فكيف بالعقائد َ‬


‫احلقة ‪.‬‬

‫فال يصح إغفال هذا اجلانب ‪ ،‬وال التقصري يف استثَمره يف تثبيت‬

‫اْلحكَمت ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الوسيلة الثالثة ‪ :‬تنويع وسائل إثبات اْلحكَمت ‪.‬‬

‫فلئن كانت األدلة العقلية هي األساس األكرب لتثبيت اْلحكَمت ‪ ،‬كَم‬

‫اإلقناع عن تلك‬
‫ُ‬ ‫سبق ذكر بعضها ‪ ،‬فإن اإلقناع ال يقترص عليها ‪ ،‬وال يستغني‬

‫الوسائل اْلغايرة لألدلة العقلية ‪.‬‬

‫ومن هذه الوسائل ‪:‬‬

‫نصوص الوحي‬
‫ُ‬ ‫كثريا‬
‫• احلديث الوجداين العاطفي ‪ ،‬والذي حفلت به ً‬
‫؛‬ ‫يف الكتاب والسنة ‪ ،‬حتى يف سياق ذكر األحكام والتنظيَمت‬
‫( ‪)1‬‬

‫مما يدل عىل وجوب العناية به ‪.‬‬

‫(‪ )1‬وانظر (عىل سبيل التمثيل) لآليتني التاليتني الواردتني يف ترشيع أحكام األرسة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫والطالق والتزويج ‪ ،‬كيف زخرت باخلطاب الوجداين األخاذ ‪ ،‬فيقول اهلل تعاىل ‪:‬‬

‫(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ‬
‫ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆﮇﮈ ﮉﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎﮏﮐ‬
‫ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ‬

‫‪70‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫َّ‬
‫اْلرشد ‪ ،‬فهو من‬ ‫ومن صور اخلطاب الوجداين ‪ :‬اخلطاب الوعظي‬

‫عاطفي‪ ،‬جيعل‬
‫ٌّ‬ ‫خطاب‬
‫ر‬ ‫أقوى الوسائل اْلعينة عىل تثبيت اْلحكَمت ؛ ألنه‬
‫ِ‬
‫الستقبال احلقائق ‪ ،‬مستعد ًة لتغيري القناعات ‪ ،‬منطلق ًة من ضغط‬ ‫النفس قابل ًة‬

‫اإللف والعادة واألعراف والتقاليد ‪ ،‬مستعد ًة للفداء يف سبيل القناعة اجلديدة‬

‫أو يف سبيل السلوك الذي تستلزمه القناعات الراسخة ‪ .‬وال ختفى آثار‬

‫اخلطاب العاطفي يف حشد اْلشاعر الطاغية عىل التفكري ‪ ،‬ولئن استغل ذلك‬

‫استثَمره ‪.‬‬ ‫ِ‬


‫اْلحقون‬ ‫اْلبطِلون ‪ ،‬فال يصح أن يرتك‬
‫َ‬

‫وما ظهور بعض الوعاظ اليوم واجلَمهريية الواسعة التي يتميزون هبا؛‬
‫دليل ر‬
‫ماثل عىل قوة تأثري خطاهبم الوجداين ‪ ،‬وأهنم جيب أن يتعاونوا مع‬ ‫إال ر‬

‫أهل العلم يف برنامج تثبيت اْلحكَمت ‪.‬‬

‫وقد تنب َه إىل ذلك ابن اجلوزي (ت‪597‬ه) قبل نحو ثَمنية قرون ‪ ،‬حيث‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫قال ‪« :‬وقد كان مجاع رة من السلف يرون ختليط ال ُقصاص ‪ ،‬فينهون عن‬

‫حيسن اليوم ؛ ألنه كان الناس يف‬


‫ُ‬ ‫احلضور عندهم ‪ .‬وهذا عىل اإلطالق ال‬

‫كثر‬
‫حضور القصص صا ًّدا هلم ‪ .‬واليوم َ‬
‫َ‬ ‫ذلك الزمن متشاغلني بالعلم ‪ ،‬فرأوا‬

‫ﮥ ﮦ ﮧ) [البقرة‪.]232-231:‬‬

‫‪71‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫وعظ ‪َ :‬ي ُر ُّده عن ذنب ‪ ،‬وحيركُه‬ ‫جملس‬ ‫فأنفع ما للعامي‬ ‫ُ‬
‫اإلعراض عن العلم ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إىل توبة ‪ .‬وإنَم اخللل يف القاص ‪ِ ،‬‬
‫فليتق اهلل ‪.)2(»)1( ‬‬

‫ولئن كان جملس الوعظ يف زمن ابن اجلوزي يكاد يقترص عىل أنه َي ُر ُّد‬

‫اْلرجو منه اليوم (مع ذلك) ‪ :‬أن‬


‫َّ‬ ‫اْلسلم عن ذنب ‪ ،‬وحيركُه إىل توبة ؛ فإن‬
‫َ‬
‫يصده عن ظلمة اإلحلاد ‪ ،‬أو أن يروي ظمأه اإليَمين (الروحي) الذي يعيشه‬

‫بسبب اإلعراض عن الدين ؛ باإلعانة عىل تثبيت اْلحكَمت ‪ ،‬وإثارة‬

‫اْلشاعر الداعية للعناية هبا ‪.‬‬

‫وأعَمل ِ‬
‫الـم مشجاة (الدراما) يف‬ ‫ِ‬ ‫• االستعانة بالفنون األدبية واجلَملية‬
‫ٍ‬
‫تصوير‬ ‫ِ‬
‫فنون‬ ‫ٍ‬
‫قصص وروايات ‪ ،‬ومن‬ ‫تثبيت اْلحكَمت ‪ :‬من‬

‫ورس ٍم(‪ ،)3‬ومن أفالم ومسلسالت(‪.)1‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ِ‬
‫اختالف اْلرحلة ‪ ،‬وعدم اجلمود عىل ما كانت تقتضيه‬ ‫(‪ )1‬هذه صور رة من ُص َور فِ مق ِه‬
‫مرحلة السلف !!‬
‫(‪ )2‬صيد اخلاطر البن اجلوزي (‪ ، 108-109‬اخلاطرة رقم ‪. )60‬‬
‫زلت أعجب من ِ‬
‫قوة أثر الرسوم اهلزلية (الكاريكاتورية)‪ ،‬ورسعة بلوغها إىل ذلك‬ ‫(‪ )3‬ما ُ‬
‫األثر ‪ ،‬وتركيز الرسالة التي توصلها وكثافتها ‪ ،‬وقدرهتا الفائقة عىل ترسيخ رسالتها‬

‫‪72‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫لقد ثبت ِعظَ ُم تأثري ذلك ك ِّله ‪ ،‬وثبتت سع ُة الرشحية التي يتناوهلا بالتأثري‪،‬‬

‫‪ .‬فال‬ ‫قادر عىل إلغاء العقل من خالل سحره اإلقناعي غري الربهاين‬
‫( ‪)2‬‬
‫وأنه ر‬
‫جيوز إغفال هذا الوجه ‪ ،‬وإال سنجد أنفسنا خارج سياق التاريخ ‪ ،‬إذا ما نحن‬

‫الشديد عىل عواطف الناس ‪ ،‬ومن َث َّم عىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫التأثري‬ ‫الباب ذا‬ ‫اعتزلنا هذا‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫عقوهلم‪ .‬ولئن استغله اْلبطلون ‪ ،‬فنجحوا ‪ ،‬فأوىل بالـ ُمح ِّق َ‬
‫ني أن يستثمروه ؛‬

‫احلق والعدل الذي قامت عليه السموات واألرض ‪.‬‬


‫لكي ينرصوا َّ‬

‫يف األذهان ‪.‬‬


‫(‪ )1‬وقد يكون من اْلجدي يف القصص والروايات ويف األعَمل السينَمئية أو اْلرسحية‬
‫ِ‬
‫غياب اْلحكَمت ‪ ،‬وكيف أهنا تدمر الفكر‬ ‫إظهار اآلثار السلبية اخلطرية جر َاء‬
‫ُ‬
‫واحلياة ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫رفضا قاط ًعا ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫العقل ً‬ ‫(‪ )2‬لقد كانت (وما زالت) فكرة اخلالص النرصاين فكر ًة يرفضها‬
‫فال يستطيع فهمها ‪ ،‬فضال عن القناعة هبا ‪ .‬وكان دعاة النرصانية ال جيدون وسيل ًة‬
‫لإلقناع هبا ؛ إال من خالل العواطف التي تطغى عىل العقل ‪ .‬حتى خرج الفيلم‬
‫العاْلي الشهري (آالم اْلسيح) ‪ ،‬والذي هز العامل ‪ ،‬واستطاع أن ُيك ِّثفَ اهل َّز العاطفي‬
‫الـمكن ُة اإلخراجي ُة ْلنتجيه ‪ ،‬فحقق‬
‫والسخر َة الوجدانية إىل آخر حدٍّ وصلت إليها ُ‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫قرون مضت!‬ ‫ذلك الفيلم هد ًفا مل يستطيع القساوس ُة ّتقيقه بآالف اْلواعظ منذ‬

‫‪73‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الوسيلة الرابعة ‪ :‬عدم إغفال اخلطاب العقالين يف كل فتاوى‬

‫وخطبهم وحديثهم ومجيع ُأطروحاهتم(‪: )1‬‬


‫العلَمء ُ‬

‫من مثل تعليل األحكام الرشعية ‪ ،‬وبيان مقاصدها ‪ ،‬وّتقيقها للمصالح ‪.‬‬

‫وعدم االستهانة واالستخفاف بعقول اْلسلمني ‪ ،‬من خالل اْلبالغة يف‬

‫اإلكثار من مطالبتهم بالتسليم اْلطلق ‪ ،‬واإلثقال عىل عقوهلم بذلك ؛ فإن‬

‫إلغاءه عق َله ‪ .‬وعلينا أن نتذكر بأن‬


‫َ‬ ‫ذلك سيكون لدى كثري منهم بمثابة مطالبته‬

‫فرع ثبوته باألدلة اليقينية ‪،‬‬


‫فرع رسوخ اإليَمن ‪ ،‬وأن رسوخَ اإليَمن ُ‬
‫التسليم ُ‬
‫فكيف نطالب الناس بَم يفوق القدرات اإليَمنية لكثري منهم ‪ ،‬ونحن نعلم‬

‫مقدار تقصرينا يف إشاعة األدلة اليقينية التي تثبت الربوبية وصحة النبوة‬

‫خاصا بأهل‬ ‫(فض ً‬


‫ال عَم سوامها) ‪ .‬أال ترى أن التسليم اْلطلق جاء يف اآلية ًّ‬

‫الرسوخ بالعلم (ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ) [آل عمران‪ ، ]٧ :‬فكيف نطالب َ‬
‫غري الراسخني من‬

‫عوام اْلسلمني هبذا القدر من الرسوخ ؟!!‬

‫(‪ )1‬انظر اْللحق الثاين يف آخر البحث لنموذجٍ من فتوى تقليدية ‪ ،‬لكنها ُبنيت عىل فقه‬
‫اْلحكَمت واْلشتبهات ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫يصح أن‬
‫ُّ‬ ‫إيَمن الناس ما يفوق ُقدرته ‪ ،‬وال‬
‫َ‬ ‫ُـحمل‬
‫نعم ‪ ..‬ال جيوز أن ن ِّ‬
‫نُثقل قلوهبم باْلطالبة بتسلي ٍم قرصنا نحن يف ترسيخ قواعده عندهم ‪ ،‬وذلك‬

‫العقيل واالستدالل اليقيني الذي جيب أن يكون‬


‫َّ‬ ‫َ‬
‫االستدالل‬ ‫عندما أمهلنا‬

‫اإليَمن مبن ًّيا عليه ‪.‬‬


‫ُ‬

‫أرأيتم كيف عجز موسى (عليه السالم) عن التسليم للخرض (عليه‬

‫َليمه (عليه السالم) أن يرحل‬


‫السالم) ؟! مع أن اهلل تعاىل هو من كان قد أمر ك َ‬
‫إىل اخلرض ليتع َّلم منه ‪ ،‬مع ذلك عجز موسى (عليه السالم) عن التسليم له !‬

‫بل لقد كان اخلرض (عليه السالم) يعلم أن التسليم له الذي سيكون‬

‫تسليم أكرب من أن يدخل يف ُقدرته ‪ ،‬حتى قال‬


‫ر‬ ‫موسى (عليه السالم) ُمطا َلـ ًبا به‬

‫له اخلرض (عليه السالم)‪ :‬ﭽﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬

‫سبب َع مج ِز موسى عن‬


‫َ‬ ‫اخلرض‬ ‫ﮤ ﮥ ﮦﭼ [الكهف‪ ، ]٦٨ – ٦٧ :‬وهكذا عل َل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ُ‬
‫التسليم له‪ ،‬وهو ‪ :‬عدم معرفة موسى (عليه السالم) بالغيب الذي َأ مط َ‬
‫لع اهلل‬

‫اخلرض عليه ‪.‬‬


‫(‪)1‬‬
‫َ‬ ‫تعاىل‬

‫خربا عن قول العامل‬ ‫ِ‬


‫(‪ )1‬قال ابن جرير الطربي يف تفسري هذه اآلية ‪« :‬يقول ( َع َّز ذ مك ُره) ‪ُ ،‬مـ ً‬

‫‪75‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ولقد عجز موسى (عليه السالم) فعال عن ّتمل ذلك القدر من التسليم ‪،‬‬

‫اخلرض يف اْلرة األوىل ﭽ ﯳ ﯴ‬


‫ُ‬ ‫ويف اْلرات الثالث كلها ‪ ،‬حتى قال له‬

‫ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﭼ [الكهف‪ ، ]٧٢ :‬وقال له يف مرة َع مج ِزه الثانية ﭽﭓ ﭔ‬

‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭼ [الكهف‪ ، ]٧٥ :‬فاعتذر له موسى (عليه السالم)‬

‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭼ [الكهف‪:‬‬ ‫بقوله ﭽ ﭝ‬

‫‪ ،]٧٦‬فلَم عجز موسى (عليه السالم) عن ّتمل التسليم الذي كان يطالبه به‬

‫اخلرض يف اْلرة الثالثة ‪ ،‬قال له اخلرض (عليه السالم) ‪ :‬ﭽ ﮆ ﮇ ﮈ‬

‫ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ [الكهف‪ . ]٧٨ :‬إهنا هناية تدل عىل‬

‫أمرا سهال أبدً ا ‪،‬‬


‫الظاهر اْلعلوم ‪ ،‬ليس ً‬
‫َ‬ ‫أن التسليم اْلطلق ‪ ،‬والذي يعارض‬

‫بل هو من أصعب األمور ‪.‬‬

‫ْلوسى‪ :‬وكيف تصرب يا موسى عىل ما ترى مني من األفعال التي ال علم لك بوجوه‬ ‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫معي عليها‪ ،‬وأنت إنَم ّتكم عىل صواب اْلصيب وخطأ اْلخطئ‬
‫صواهبا‪ ،‬و ُتقيم َ‬
‫دليل ظاه ٍر لرأي عينك عىل‬
‫بالظاهر الذي عندك‪ ،‬وبمبلغ علمك‪ ،‬وأفعايل تقع بغري ٍ‬

‫ث آجل ًة َ‬
‫غري عاجلة‪ ،‬ال علم لك باحلادث عنها‪،‬‬ ‫صواهبا‪ ،‬ألهنا تبتدأ ألسباب َتـ محدُ ُ‬
‫ربا ‪ ،‬يقول ‪ :‬علَم» ‪. )334 /15( .‬‬
‫ألهنا غيب‪ ،‬وال ّتيط بعلم الغيب ُخ ً‬

‫‪76‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫واخلالصة ‪ :‬أن هذه القصة ال شك أهنا قد دلت دالل ًة واضحة عىل‬

‫صعوبة التسليم اْلطلق ‪ ،‬وأنه جيب علينا أن ُنخ ِّف َ‬


‫ف عىل الناس يف هذا‬
‫ٍ‬
‫ودليل ‪ ..‬عىل أقىص القدرة واإلمكان ‪ ،‬فهذا من أوجب‬ ‫التسليم بعل ٍم‬

‫الواجبات عىل العلَمء واْلفكرين ‪.‬‬

‫الناس بالتسليم ْلا زعمناه من الغيب ‪ ،‬فيَم‬


‫َ‬ ‫فكم ‪ -‬باهلل عليكم ‪ -‬طالبنا‬

‫طلب احلكمة بتلك احلجة ‪،‬‬ ‫ِ‬


‫يعجزون عن َد مرك احلكمة فيه ‪ ،‬بل َبغ مضنا إليهم َ‬
‫وأومهناهم أن طلب ِ‬
‫احلكمة يدل عىل ضعف اإليَمن ؟! ووضعناهم بذلك‬
‫ِ‬
‫واجب‬ ‫ِ‬
‫متحان الصعب ‪ :‬إما أن ُيس ِّلموا ْلا ندعيه نحن من‬‫أمام هذا اال‬

‫إيَمهنم وينهار يقينُهم !!‬


‫ُ‬ ‫التسليم‪ ،‬وإما أن يسقط‬

‫كثريا من مطالبات هؤالء اْلفتني والدعاة بالتسليم هي يف‬


‫وال ُيفى أن ً‬
‫عجز يف استنباط ِ‬
‫العلة الرشعية واحلكمة من ذلك الطلب‬ ‫ٍ‬ ‫حقيقتها ناشئ رة عن‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫أو اخلرب ‪ ،‬فبدال من أن يعرتفوا للناس باجلهل أو العجز ‪ ،‬بدال من أن يقولوا ‪:‬‬
‫ِ‬
‫اْلستفه َم أمام ذلك االمتحان اخلطري ‪ ،‬دون رمحة‬ ‫َ‬
‫السائل‬ ‫ال ندري ‪ ،‬يضعون‬

‫به‪ ،‬وعد َم مباالةٍ برصاع إيَمنه مع تلك الشكوك !‬

‫‪77‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫أشهد ‪ :‬ما هؤالء بالدُّ عاة الناصحني وال باْلفتني العالِـمني ‪ ،‬وما َأبعدهم‬
‫ِ‬
‫واإلفتاء احلقيقي ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الدعوة‬ ‫منصب ِ‬
‫أهل‬ ‫عن منازل العلَمء الربانيني ‪ ،‬الذي هو‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫إظهار موافقته‬ ‫عىل أن هذه اْلطالبة بِ َعـ مق َل ِنة اخلطاب الرشعي من خالل‬

‫واستنباط ِح َك ِم األحكام ومقاصد الرشائع ال‬


‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتأكيد ّتقيقه للمصلحة‬ ‫للعقل‬

‫تعني إلغاء واجب التسليم ‪ ،‬بل ستبقى اْلطالبة بالتسليم يف حملها الصحيح‬

‫واختبار ثباته ‪ .‬وإنَم نعني أمرين اثنني ‪:‬‬


‫َ‬ ‫هي َمـ َح َّك اإليَمن‬

‫تسليَم عقل ًّيا ! نعم‬


‫ً‬ ‫ِّ‬
‫حمل التسليم الواجب‬ ‫األول ‪ :‬أن نجعل التسليم يف‬

‫تسليم) لكنه عقيل !! فليس كل تسلي ٍم مناف ًيا لعمل العقل ‪،‬‬
‫ر‬ ‫تسليم (وهو‬
‫ر‬ ‫هناك‬

‫اْلبني عىل رسوخ اإليَمن ‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫التسليم‬
‫ُ‬ ‫نفسه !! أال وهو‬
‫بل منه ما يوجبه العقل ُ‬
‫ٍ‬
‫إقرار متي َّقن أن الذي ُيس َّلم له أعلم وأحكم وأوىل مني‬ ‫والذي يرجع إىل‬

‫بإدراك موضع احلكمة القطعية وأحق مني يف ّتديد معامل اخلريية اليقينية ‪،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ُ‬
‫فالعقل يقبل هبذا التسليم مع اْلخلوق الذي ُيقر له باألعلمية وباألحقية فيَم‬

‫ال علم له به وال أهلية عنده عىل تقديره ‪ ،‬فكيف يرفض العقل ذلك مع اخلالق‬

‫عز وجل ؟! إذ هذا التسليم العقيل هو التسليم الذي يؤمن حقا بمضمون هذا‬

‫‪78‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫التقرير القرآين الذي يقول فيه ر ُّبنا سبحانه ‪ :‬ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬

‫ﭢﭼ [امللك‪. ] ١٤ :‬‬

‫الـح مك ِم‬ ‫ِ‬ ‫الثاين ‪ . :‬أن ال نجعل َع مجزَنا عن َد مر ِك احلكمة ً‬


‫دليال عىل تَع ُّبدية ُ‬
‫امتحان التَّع ُّب ِد بالتسليم ‪ ،‬بل أن نحرص‬
‫ِ‬ ‫الرشعي وأنه ال ِحك َمم َة فيه سوى‬

‫اْلطالبة بالتسليم فيَم ال يصح فيه إال التسليم ‪ ..‬فقط ‪ ،‬وأن نجعل ِح مر َصنا‬

‫ومصالح‬
‫ُ‬ ‫احلكم ‪ ..‬ما أمكننا ذلك ‪ ،‬لتكون ِحك َُم الترشيع‬
‫متوجها إىل إظهار ِ‬
‫ِّ ً‬
‫األظهر للرشيعة اإلسالمية يف نفوس‬
‫َ‬ ‫والتفسري‬
‫َ‬ ‫نوان األبرزَ‬
‫األحكام هي ال ُع َ‬
‫اْلسلمني ‪.‬‬

‫الوسيلة اخلامسة (من وسائل تثبيت اْلحكَمت) ‪ :‬بيان اْلنهج‬

‫العقيل الصحيح جتاه اْلحكَمت واْلشتبهات ‪ ،‬بعد تثبيت‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلحكَمت بأدلتها اليقينية ‪.‬‬

‫فهذا أفضل أسلوب لتحصني العقول من محلة الشبهات ‪ ،‬ومن حماولة‬

‫التشكيك يف اْلحكَمت ‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫فمع أن اْلحكَمت قد تكون ثابتة بأدلة قطعية يقينية ؛ إال أن التشكيك قد‬

‫أيضا ‪ ،‬وذلك فيَم إذا غاب فق ُه التعامل مع اْلحكَمت ‪ .‬وهو ذلك‬ ‫ُ‬
‫يطاهلا ً‬

‫الفقه الواضح الفطري ‪ :‬من وجوب إرجاع اْلشتبه للمحكم ‪ ،‬وليس العكس‪.‬‬

‫ولذلك كان هذا اْلنهج هو ما ذكرته آية اْلحكَمت اجلليلة ‪ ،‬كَم سبق بيانه‪.‬‬

‫(ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ‬

‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬

‫ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)‬
‫[آل عمران‪. ]٧ :‬‬

‫وهذا اْلنهج جتاه تثبيت اْلحكَمت ‪ ،‬وهو منهج وجوب تقديم اليقني‬

‫عىل الظن ‪ ،‬ووجوب إرجاع الظن إىل اليقني ‪ ،‬فضال عن الشك والوهم‬

‫اليقني عن مكانته = هو‬


‫َ‬ ‫السوي منهَم أن ُيزحزحا‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫العقل‬ ‫اللذين ال يقبل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلوقف األصح واألنجع من موقف الدفاع اجلزئي جتاه التشكيكات‬

‫دفاعا‬ ‫َ‬
‫نفصل عن حمكَمته ‪ ،‬خرج ً‬‫منهج الدفاع اجلزئي إذا ما ا‬
‫ُ‬ ‫والشبهات ؛ إ مذ‬
‫ُّ‬

‫‪80‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫شك ظني ‪ ،‬فمهَم قوي الرد يف الظن‪ ،‬فسيبقى للشك إليه ُفسح رة‬ ‫َ‬
‫مقابل ٍّ‬ ‫ظن ًّيا‬

‫من طريق ‪ ،‬وسيظل تساوي كفتي الشبهة والرد عليها حمتمال(‪.)1‬‬

‫فوجدت أن فقه التعامل مع اْلحكَمت‬


‫ُ‬ ‫كثريا ‪،‬‬
‫وقد تأملت هذا الباب ً‬
‫واْلشتبهات ال حيتاج إىل دراسة فلسفي ٍة عميقة لكي ُيت َقن ‪ ،‬وال حيتاج إىل‬
‫َ‬
‫العقل من الزلل ‪ .‬لكنه حيتاج إىل إشاعة‬ ‫دراسة علم اْلنطق لكي حيمي‬

‫قوانني عقلية بدهية ‪ ،‬ومع بدهيتها فهي حمتاج رة إىل تدريسها وإدخاهلا يف‬

‫مناهج التعليم اإلجباري ‪ ،‬وإىل دوام التذكري هبا ‪ ،‬ولربَم البداية هبا عند كثري‬

‫من األجوبة واْلناقشات مع الطالب والشباب ‪.‬‬

‫ومن هذه القوانني البدائية اْلهمة ‪ ،‬والتي هي مع كوهنا بدائية‬

‫وكثريا ما يغفل‬
‫ً‬ ‫كثريا ما تغيب عن ذهن من ُيصابون بداء الشك واالرتياب ‪،‬‬
‫ً‬
‫بالش ِبه والرتهات من أبناء اْلسلمني ‪ ،‬ما ييل ‪:‬‬
‫عنها اْلختت َطفون ُّ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫القانون األول ‪ :‬أن اليقني ال يزول بالشك ‪ ،‬وأن الشك ال ُيقدم عىل‬

‫اليقني ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫شبهة متعلقة بدية اْلرأة ‪ ،‬وْلاذا كانت عىل النصف من دية‬ ‫(‪ )1‬انظر اْللحق الثالث لرد‬
‫الرجل ‪ ،‬ويعتمد الرد عىل فقه اْلحكَمت ‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وهذا القانون مع فِ مط ِريته احلارضة يف كل عقل ؛ إال أن التخريب‬

‫وأسلوب التعلي ِم‬ ‫ُ‬


‫اجلاهل‬ ‫ِ‬
‫الرتبية‬ ‫أسلوب‬ ‫الـم َمن َمه َج للعقول الذي يَمرسه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تقديم الشك عىل اليقني ‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫العقول‬ ‫ُ‬
‫اخلطأ ربَم غيباه ‪ ،‬حتى ربَم مارست تلك‬

‫وإزال َة اليقني بالشك ‪ ،‬بال تن ُّب ٍه من أصحاب تلك العقول إىل أن عمل عقوهلم‬

‫قد فسد ‪ ،‬وأن نتائج تفكريهم نتائج منحرفة !‬

‫لذلك كان من الواجب أن نعيد عمل العقل إىل طبيعته ‪ ،‬من خالل‬
‫التذكري الدائم هبذا اْلنهج الفطري ‪ ،‬ومن خالل تصحيح ٍ‬
‫عدد من األخطاء‬

‫التي ُبنيت عىل الغفلة عنه ‪ ،‬لكي تتنبه تلك العقول إىل خلل طريقة عملها ‪،‬‬

‫ولتعود األعَمل الذهنية إىل قواعدها الفطرية التي ُخلقت عليها ‪.‬‬

‫ِ‬
‫اليشء ال يلزم منها أن ال ُيشك َ‬
‫ِّك فيه أحدر ‪،‬‬ ‫القانون الثاين ‪ :‬أن يقيني َة‬

‫فأيقن اليقينيات قد جتد من يشكك فيها ‪ .‬فمجر ُد وجود من ُيشك ُ‬


‫ِّك يف يقيني‬ ‫ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫يقيني واحد‪ .‬وما‬
‫ٌّ‬ ‫‪ ،‬ال ينبغي أن ُينزله ذلك عن منزلة اليقني ؛ وإال ْلا بقي لدينا‬

‫دمنا موقنني بوجود يقينيات ‪ ،‬فاْلنهج الذي ينفي وجود اليقينيات نف ًيا مطل ًقا‬

‫منهجا‬
‫ً‬ ‫يقيني ْلجرد ُوجود َمن ُيشك ُ‬
‫ِّك فيه) سيكون‬ ‫ٍّ‬ ‫(وهو الذي َي ُش ُّك يف ِّ‬
‫كل‬

‫باطال ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫أو بلفظ آخر ‪ :‬أن يقيني َة ٍ‬


‫أمر ال يلزم منها عد ُم إيراد ُّ‬
‫الشبه عليه ‪ ،‬وال ينايف‬

‫يقينيتَه ُو ُرو ُد االحتَمالت الساقطة عليه ؛ إذ كل قطعي متفق عليه يمكن إيراد‬

‫االحتَمالت عن يقينيته‬
‫ُ‬ ‫االحتَمالت الساقطة عليه ‪ ،‬ومع ذلك فلم تُنزله تلك‬

‫عند عموم العقالء ‪.‬‬

‫ومضيت إىل ساحة فسيحة ‪ ،‬ساع َة ال ُّظهر ‪،‬‬


‫َ‬ ‫خرجت من بيتك ‪،‬‬
‫َ‬ ‫أرأيت لو‬
‫َ‬

‫قرت وال سحاب ‪ ،‬ثم جاءك‬


‫والشمس ساطعة يف كبد السَمء ال حيجبها عنك ر‬
‫َـح ُلم يف منامك ‪ ،‬واحتج عليك بأنك ما أكثر‬ ‫َ‬
‫احتَمل كونك ت م‬ ‫من ُي ِ‬
‫ور ُد عليك‬

‫متنيت وأنت يف منامك‬


‫َ‬ ‫ما رأيت أحالما ظننتها يف منامك يقظ ًة ‪ ،‬حتى ربَم‬
‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫ُ‬
‫االحتَمل الذي أورده عليك هذا‬ ‫أن لو كانت ُرؤيا منامية ؛ أفكان هذا‬
‫م‬
‫كنت سرتتاب يف كونك متي ِّق ًظا ‪،‬‬
‫سيحملك عىل الشك يف يقينك ؟! هل َ‬
‫الشمس بحرارهتا ‪ ،‬وجتهر عينيك بقوة شعاعها ‪ ،‬ومتأل الساح ُة‬
‫ُ‬ ‫ترضبك‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫حواسك بمن حولك من الناس واْلارة ؟!‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫يقينية اليقني ؛ إال‬ ‫إن مثل هذه االحتَمالت الساقطة ال يمكن أن تؤثر يف‬

‫السعي يف عالجه ! ومن ابتُيل به ‪ ،‬لن يتيقن من‬


‫َ‬ ‫مع ٍ‬
‫قدر من فساد العقل ُيوجب‬

‫سيشك يف َيـ ِقين ِـيـ ِة كونه شاكًّا ! فإن فعل ‪ ،‬فَم َأب َقى‬
‫ُّ‬ ‫يشء ‪ ،‬حتى من شكه ‪ ،‬ف‬

‫‪83‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫لذي ٍ‬
‫عقل من سبيل إىل حواره ‪ .‬وإن تيقن من ش ِّكه هذا ‪ ،‬أي ‪ :‬إن َتيق َن من‬

‫كونه شاكًّا ‪ ،‬مع ورود االحتَمالت الساقطة عىل يقينه من شكه ‪ ،‬فقد رجع عن‬
‫ٍ‬
‫احتَمل عليه ‪ ،‬حتى لو‬ ‫أي‬ ‫ِ‬
‫يصح أبدً ا مع ُو ُرود ِّ‬
‫ُّ‬ ‫دعواه التي تقول ‪ :‬إن اليقني ال‬
‫ً‬
‫احتَمال ساق ًطا !‬ ‫كان الوار ُد‬

‫القانون الثالث ‪ :‬أن فروع الدين وفروع التصورات يكفي إلثباهتا غلب ُة‬

‫الظن ؛ ألهنا ال تستوجب يف نسبتها للدين أو يف تصحيح تصورها أكثر من‬

‫غري‬
‫ب اليقني فيها – فوق كونه َ‬ ‫فروع ليست أصوال ‪ ،‬و َتطَـ ُّل ُ‬
‫ر‬ ‫الظن الغالب ‪ ،‬فهي‬

‫ف عليها غال ًبا ‪ ،‬وهي الظن الراجح ‪:‬‬ ‫لوسيلة كافية للتعر ِ‬
‫ٍ‬ ‫ر‬
‫تعطيل‬ ‫الزم – فهو‬
‫ُّ‬
‫غلبة الظن ‪.‬‬

‫فليس كل ما ننسبه للدين جيب أن يكون قطع ًّيا ‪ ،‬كَم يتومهه بعض‬

‫الناس ‪ ،‬حتى استغربوا واستنكروا نسبة أمر للدين بالظن الغالب ‪ .‬إنَم جيب‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫طلب القطع فيَم ننسبه للدين يف األصول فقط ‪ :‬عقدي ًة كانت أو عملي ًة ؛ ألن‬

‫رشع بأدلة يقينية ‪ .‬أما‬


‫األصل من أصول الدين ال يكون أصال إال إن أثبته ال ُ‬
‫فروع الدين ‪ :‬فهي التي تكون أدلتها ظنية أصال ‪ ،‬وال كانت من الفروع إال‬

‫لظنية أدلتها الرشعية ‪ ،‬ولذلك ال يصح أن نستلزم إلثباهتا اليقني ‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫لفكرة ما ‪ ..‬أن تكون‬ ‫وعلينا أن نتذكر دائَم ‪ :‬أنه ال يلزم لقبول العقل‬
‫ساْل ًة من كل اعرتاض ‪ ،‬بل قد يكفي أن تكون راجح ًة َ‬
‫وأوىل بالقبول من‬

‫أكثر‬
‫غريها لتستحق قبوهلا واالعتَمد عليها ‪ .‬كالنظريات العلمية التي يقوم ُ‬
‫ِ‬
‫احلقائق‬ ‫نظريات أغلبية ‪ :‬مل تَـتَـ َب مـر َه من تَـ َب مـر ُه َن‬
‫ر‬ ‫العلم احلديث عليها ‪ ،‬وهي‬

‫القطعية ‪ ،‬رغم االعتَمد عليها يف كثري من اْلخرتعات والتفسريات العلمية ‪.‬‬

‫القانون الرابع ‪ :‬أن الدليل الظني ال يقدح يف صحة االحتجاج به ورو ُد‬

‫االحتَمالت الظنية اْلرجوحة عليه ؛ ألنه لوال ورو ُدها عليه أصال ْلا كان‬

‫ظن ًّيا ‪ ،‬ولكان يقين ًّيا ‪ .‬فالدليل الظني ‪ :‬هو ما يرد عليه االحتَمل اْلرجوح ‪،‬‬
‫ر‬
‫احتَمل قريب ‪ :‬من جهة كونه ليس احتَمال‬ ‫فيصح وصف هذا االحتَمل بأنه‬

‫ساقطا ‪ ،‬كالذي ال ينزل بالدليل عن منزلة اليقني (كَم سبق بيانه) ‪ ،‬ويصح‬

‫أيضا ‪ :‬من جهة كونه مل ينزل بالدليل عن درجة‬ ‫ر‬


‫احتَمل بعيدر ً‬ ‫وصفه بأنه‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫رجحان الظن وغلبته ‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ولذلك قال اإلمام الغزايل عن نحو هذه االحتَمالت اْلرجوحة ‪« :‬أما‬

‫إمكاهنا عىل ُب مع ٍد ‪ .‬ولكن اْلمكنات‬


‫ُ‬ ‫االحتَمالت التي ذكرناها ‪ :‬فال ُين َك ُر‬

‫الظنون» ‪.‬‬
‫َ‬
‫(‪)1‬‬
‫البعيدة ‪ :‬ال تُقاطِ ُع‬

‫اْلظنون ُبعدُ ها (أي ‪ :‬غري‬


‫َ‬ ‫ِ‬
‫اْلمكنات‬ ‫والعبارة األدق أن ُيقال ‪ :‬ولكن‬

‫الظن الـ ُم مستفا َد منها‪.‬‬ ‫الظنون ‪ ،‬وال َتنم ُق ُض ُر مج َ‬


‫حان ِّ‬ ‫َ‬ ‫اْلقطوع ُبعدها) ‪ :‬ال تُقاطع‬

‫وهذا هو مراد اإلمام ‪ ،‬كَم يظهر من سياق كالمه ‪.‬‬

‫أقول هذا ؛ ألنني وجدت كثريا من الباحثني (فضال عمن دوهنم)‬

‫االحتجاج بالظن الراجح مع ورود االحتَمل عليه ‪ ،‬غافلني عن أن‬


‫َ‬ ‫يستشكلون‬

‫الظن الراجح ‪ ،‬ولوال ذلك لكان‬


‫ِّ‬ ‫ورود االحتَمل اْلظنون هو أصال خاصي ُة‬

‫يقينًا ‪.‬‬

‫وإنَم يكون العرتاضهم وجاه رة لو زعموا أن االحتَمالت الواردة عىل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ظنون راجحة وليست مرجوحة ‪ ،‬وعندها سيكونون معرتضني عىل‬
‫ر‬ ‫الدليل‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ سيكون هذا الدليل عندهم ظنًّا مغلو ًبا ‪..‬‬ ‫كون الدليل يفيد غلبة الظن ‪،‬‬

‫(‪ )1‬حقيقة القولني لإلمام الغزايل (‪. )130‬‬

‫‪86‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ُ‬
‫اعرتاضهم بذلك ‪ :‬ال عىل صحة االحتجاج بالظن الغالب ‪،‬‬ ‫ال غالبا ‪ .‬فسيكون‬

‫ظن مغلوب أصال ‪ .‬ونحن ال نعارض جوا َز االختالف‬


‫وإنَم عىل الدليل ‪ :‬بأنه ٌّ‬
‫ر‬
‫مكفول‬ ‫يف الظنون ‪ :‬هل هي راجحة أو مرجوحة ‪ ،‬غالبة أو مغلوبة ‪ ،‬فهذا حق‬
‫ْلن تكلم يف ذلك بعل ٍم ‪ ،‬وإنَم نعارض فكر َة َر مف ِ‬
‫ض االحتجاج بالظن الغالب‬

‫يف الفروع الظنية ‪.‬‬

‫القانون اخلامس ‪ :‬التذكري دائَم بأن كل األمور تنقسم إىل ثالثة أقسام ‪:‬‬

‫االختالف فيه ‪.‬‬


‫َ‬ ‫جييز‬ ‫ر‬
‫ووسط فيه َقدم رر من اخلفاء ُ‬ ‫طرفان واضحان يقينيان ‪،‬‬

‫االختالف فيه ‪ ،‬ال ُيلغي وجو َد الطرفني‬


‫ُ‬ ‫فوجود هذا الوسط الذي جيوز‬

‫اْلقطوع بوجودمها ‪ ،‬و ال ُيلغي صحة ذلك التقسيم إىل طرفني ووسط ؛ إ مذ‬

‫مقطوع بوجودمها ‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫وخفاء ‪ ،‬هذان الطرفان‬ ‫ال يشك ر‬
‫عاقل يف وجود وضوحٍ‬
‫ر‬
‫فهناك واضح ال خالف يف وضوحه ‪ ،‬وهناك خ ٍ‬
‫اف ال خالف يف خفائه ‪.‬‬ ‫ر‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫إنكاره وال االستكبار يف إنكاره؛‬
‫ُ‬ ‫أمر ال يمكن‬ ‫فوجو ُد هذين الطرفني اْلتي َّقن ِ‬
‫َني ر‬
‫عرت َض عىل أصل هذا التقسيم (إىل واضح وخفي) ‪،‬‬
‫ولذلك فال يصح أن ُي َ‬
‫ٍ‬
‫مسألة من مسائل احلكم‬ ‫وال يصح أن ُيعرتض عىل االعتَمد عليه يف تقرير‬

‫القسم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ختلف يف وضوحه وخفائه ؛ إذ يبقى أن هذا‬ ‫العقيل ‪ :‬بحجة وجود ما ُيـ‬

‫‪87‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ر‬
‫ثالث ال ننكر وجو َده ‪ ،‬لكن وجوده ال ُيلغي وجو َد‬ ‫قسم‬
‫ر‬ ‫اْلخت َل َ‬
‫ف فيه‬

‫اْلقطو ِع بوضوحه وخفائه أ ً‬


‫يضا‪.‬‬

‫وقل نحو ذلك يف ‪ :‬القطعي والظني ‪ ،‬واْلحكم واْلتشابه (كَم سبق‬

‫التنبيه عليه) ‪.‬‬

‫فكثريا ما ُيعرتض عىل هذا التقسيم اْلقطوع به بتلك احلالة الوسط‪،‬‬


‫ً‬
‫وهذا االعرتاض منهج خطري ‪ ،‬ألنه سيؤدي إىل التشكيك يف اليقينيات لوجود‬

‫وج مع ِل اْلحكم‬
‫حمكَم‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫منهج ‪َ :‬ج مع ِل اْلتشابه‬
‫ُ‬ ‫نفسه‬
‫الظنيات ‪ ،‬وهو ُ‬
‫هبا‪ ،‬وإرجا ِع اْلحكم إىل اْلتشابه ‪.‬‬
‫متشا ً‬

‫أجل ِ‬
‫بيان النبي ‪ ‬هلذا التقسيم العقيل احلامي من الزيغ يف قوله‬ ‫وما َّ‬

‫ات ‪َ :‬ال َي مع َل ُم ُه َّن كَثِ رري‬


‫ني ‪َ ،‬و َب مين َُه ََم ُم مشتَبِ َه ر‬‫احلرا َم َب ِّ ر‬‫ني ‪ ،‬وإِ َّن َ‬
‫احلال َل َب ِّ ر‬
‫إن َ‬ ‫‪َّ « : ‬‬
‫َرب َأ لِ ِدين ِ ِه َو ِع مر ِض ِه ‪َ .‬و َم من َو َق َع يف‬ ‫الش ُب َهات ‪ ،‬ماست َم‬
‫ِ‬ ‫من الناس ‪َ .‬ف َم من ا َّت َقى ُّ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وش ُك َأ من َي مرت ََع‬ ‫اعي يرعى حو َل احلمى ‪ ،‬ي ِ‬ ‫ات ‪ ،‬و َقع يف احلرا ِم ‪ ،‬كَالر ِ‬ ‫الشبه ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َم َ َ م‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُّ ُ َ‬
‫فيه»(‪. )1‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (رقم‪ ، )2051 ، 52‬ومسلم (رقم‪. )1599‬‬

‫‪88‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫فمن معاين هذا احلديث ومن فوائده ‪ :‬أن ال تعرتضوا عىل وضوح‬

‫ومت ُّي ِزه عن احلرام ‪ ،‬وعىل وضوح احلرام اْلتميز عن احلالل ‪،‬‬
‫احلالل َ‬

‫إحسان التعامل مع احلالل البني ‪:‬‬


‫ُ‬ ‫بوجود اْلشتبهات ‪ .‬بل اْلطلوب هو ‪:‬‬

‫وإحسان التعامل مع احلرام البني ‪ :‬بعدم االرتياب يف‬


‫ُ‬ ‫بعدم الشك يف ِحليته ‪،‬‬

‫ُحرمته ‪ ،‬وبإحسان التعامل مع اْلشتبهات ‪ :‬بعدم االعرتاض باشتباهها يف‬

‫التشكيك باحلالل البني واحلرام البني‪ ،‬وبتجنبها ما أمكن ذلك ‪.‬‬

‫القانون السادس ‪ :‬التحذير من طلب أعىل درجات اليقني يف كل يشء‪،‬‬

‫فطلب أعىل درجات اليقني يف كل يشء ال يمكن يف احلياة الدنيا ‪ ،‬ولن‬

‫قديَم‬
‫ً‬ ‫يكون إال يف اآلخرة ! والغفلة عن ذلك هي سبب السفسطة والشك‬

‫وحدي ًثا ‪ .‬فالعقل مفطور عىل قبول غلبة الظن أوال ‪ ،‬وهو مفطور عىل قبول‬

‫اختالف مراتب اإلدراك يف اليقني والظن ‪ .‬فالعقل يدرك أن اليقني مراتب ‪،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫شخص اليقني األدنى ‪ ،‬حتى يبلغ اليقني‬
‫ر‬ ‫كَم أن الظن مراتب ‪ .‬فإن رفض‬

‫األعىل ‪ :‬فقد نزل باليقني من درجة اليقني إىل درجة الشك والتوهم ‪ ،‬وبذلك‬

‫سيفسد عليه عق ُله ؛ ألنه ما عاد يستفيد يقينًا وال ظنًّا راجحا ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫بَملغة وغُ ُل ٍّو يف طلب أعىل درجات اليقني ‪،‬‬ ‫العقيل‬ ‫وقد يبدأ هذا الفسا ُد‬
‫ُّ‬
‫طالب ذلك وسيل ًة لبلوغها بدأ ُي ِ‬
‫ور ُد االحتَمالت‬ ‫ُ‬ ‫يف كل يقني ‪ ،‬فإن مل جيد‬
‫ٍ‬
‫احتَمالت ساقط ًة ‪ ،‬قد‬ ‫ِ‬
‫يقينية اليقني ‪ ،‬مع أهنا قد تكون‬ ‫التي يظنها تُشك ُ‬
‫ِّك يف‬
‫ٍ‬
‫يقني دوهنا ‪.‬‬ ‫تنزل – مع سقوطها ‪ -‬باليقني عن أعىل درجات اليقني إىل‬
‫اْلطاف بصاحب هذا الغلو يف َت َط ُّل ِ‬
‫ب أعىل درجات اليقني يف‬ ‫ُ‬ ‫لينتهي‬

‫األخري‪ :‬إىل يصبح شاكًّا غري متي ِّقن ‪ ،‬بعد أن كان متي ِّقنًا ‪ ،‬بسبب عدم‬

‫استحضاره هذه احلقيق َة احلارض َة السهل َة ‪ :‬حقيق َة تفاوت مراتب اليقني يف‬

‫نفسه هو ‪.‬‬

‫اْلسلم أن اإليَمن بالغيب لن يكون يف يقينيته كاإليَمن‬


‫ُ‬ ‫جيب أن يعلم‬

‫استحق‬
‫َّ‬ ‫بالشهادة ‪ ،‬وهذا هو حمل االمتحان باإليَمن أصال ‪ ،‬ولوال ذلك ْلا‬

‫الكافر العقاب ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫الثواب وال‬
‫َ‬ ‫اْلؤمن‬
‫ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ويف احلديث الصحيح ‪ :‬قال رسول اهلل ^ ‪« :‬ليس الـ ُم َعايِ ُن كالـ ُمخم َرب‬

‫[ويف رواية ‪ :‬ليس الـخَ َبـ ُر كالـ ُمعاينة] ‪ :‬أخرب اهلل موسى أن قومه ُفتنوا ‪ ،‬فلم‬

‫بيان‬
‫األلواح‪ ،‬فلَم رآهم ‪ ،‬ألقى األلواح» ‪ .‬وهذا احلديث النبوي هو ر‬
‫(‪)1‬‬
‫َ‬ ‫ُي مل ِق‬

‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أمحد (رقم ‪ ،)2447 ،1842‬وابن أيب حاتم يف تفسريه ( رقم‬

‫‪90‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫لقوله تعاىل ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ‬

‫ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣﭼ [األعراف‪ ،]١٥٠ :‬فالنبي ^ ُ‬


‫يبني أن موسى‬

‫(عليه السالم) مل ُيلق األلواح رغم علمه اليقيني بَم فعل قومه من بعده‬

‫بعبادهتم العجل ‪ ،‬حيث إن اهلل جل جال ُله كان هو الذي كلمه وأخربه هبذا‬

‫اخلرب اْلؤمل قبل رؤيته إياهم ‪ ،‬كَم يف قوله تعاىل ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ‬

‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﭼ [طه‪ . ]٨٥ :‬ومع ذلك فقد كان أثر اْلشاهدة عىل‬

‫موسى (عليه السالم) أكرب من أثر ذلك اخلرب اليقيني الذي سمعه من ربه عز‬

‫وجل ‪ ،‬ولذلك قال ^ ‪« :‬ليس اخلرب كاْلعاينة» ‪.‬‬

‫وبعد هذا اْلوقف يف هذه القصة ‪ :‬لن جتد حاال ُيظهر َفـ مر َق ما بني‬

‫حواس الشهادة من اليقني ‪ ..‬وما‬


‫ُّ‬ ‫َ‬
‫وفرق بني ما تؤديه‬ ‫اْلشاهدة ‪ ..‬واخلرب ‪،‬‬

‫أعظم من هذا اْلثال ‪ ،‬ومن اْلثال اآليت إلبراهيم اخلليل‬


‫َ‬ ‫غريها منه ‪:‬‬
‫يؤديه ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫(عليه السالم) ‪.‬‬

‫‪ ،)8998‬وابن حبان يف صحيحه (رقم ‪ ، )6214 ، 6213‬وابن عدي يف الكامل –‬


‫ّتقيق الرسساوي – (‪ 396 -395 /10‬رقم ‪. )17809- 17805‬‬

‫‪91‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫نعم ‪ ..‬جيب عىل اْلسلم أن يعلم أن وجود اخلالق عز وجل مع يقينيته‬

‫الكربى يف نفس كل مؤمن إال أنه لن يكون يف يقينيته مثل نتيجة ‪، 2 = 1 +1‬‬

‫ولن يكون يف يقينيته مثل رؤيته الشمس يف كبد السَمء ؛ إال يف اآلخرة‬

‫(عندما ينكشف الغيب ‪ ،‬ليكون عامل َ شهادة ‪ ،‬وعندما ينتهي زمن التكليف) ‪.‬‬

‫وأما يف الدنيا ‪ :‬فلن يتحقق ذلك األمر إال يف حالة واحدة ‪ :‬هي حالة الفيض‬

‫الرباين والتوفيق اإلهلي والعلم اللدُ ِّين ؛ ألن َج مع َل منزلة اليقني بالغيب‬

‫كمنزلة اليقني بالشهادة ليس يف قدرة اخللق ‪ ،‬إنَم هو من خصائص اخلالق‬

‫يتفض ُل عليه ِمن عباده ‪.‬‬


‫وحده عز وجل ‪َ ،‬ي َـهـ ُبها َمن َّ‬

‫فإن كان هذا هو احلال يف أعظم يقني ‪ :‬وهو يقني وجود اهلل تعاىل ‪ ،‬أنه‬

‫الـم َح َّسة ‪ ،‬فَم با ُلك فيَم‬ ‫ِ‬


‫األمور ُ‬ ‫ِ‬
‫اإلقرار بيقينيته حتى يبلغ يقيني َة‬ ‫تعليق‬
‫ُ‬ ‫ال يصح‬

‫هو دونه من اليقينيات ؟!‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ُ‬
‫خلليل إبراهيم (عليه السالم) إىل ربه عز وجل يف طلب‬ ‫ولذلك توج َه ا‬

‫أعىل درجات اليقني يف عقيدة اإلحياء بعد اإلماتة ‪ :‬توج َه إليه عز وجل أن‬

‫غيب فيها شهاد ًة ‪ ،‬بأن ُير َي ُه عملي َة إحياء اْلوتى بأم عينيه ‪ :‬ﭽ ﭑ‬
‫جيعل له ال َ‬

‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬

‫‪92‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬
‫ُ‬
‫اخلليل (عليه‬ ‫ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ [البقرة‪ . ] ٢٦٠ :‬وكان‬

‫خريا من صاحب القرية الذي وقع يف نفسه استبعا رد للقدرة‬


‫السالم )يف ذلك ً‬

‫عىل إحياء اْلوتى ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬

‫نوع‬
‫تعليم اهلل تعاىل له فيه ر‬
‫ُ‬ ‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﭼ [البقرة‪ ، ]٢٥٩ :‬ولذلك كان‬
‫ٍ‬
‫تأديب ‪ ،‬ال كَم وقع مع اخلليل (عليه السالم) ‪ ،‬فكان تعليم صاحب القرية‬ ‫من‬

‫مارا هبول اإلماتة أوال ‪ :‬ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﭼ [البقرة‪ ! ]٢٥٩ :‬حيث إن‬


‫ًّ‬
‫َ‬
‫اخلليل (عليه السالم) كان قد توج َه لطلب أعىل درجات اليقني إىل الذي‬

‫ُيتص بالقدرة عىل ذلك ‪ ،‬وهو ربه عز وجل ‪ ،‬وأما الذي مر عىل القرية فلم‬
‫ُّ‬

‫يفعل ذلك ‪ ،‬بل اكتفى بسؤال االستبعاد ﭽﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﭼ ‪.‬‬


‫(‪)1‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫(‪ )1‬كان ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) يقرأ قوله تعاىل يف آخر آية قصة صاحب القرية ‪:‬‬
‫اع َل مم﴾ ‪ ،‬وال يقرؤها بصيغة‬ ‫﴿ َق َال اع َلم َأ َّن اهللََّ ع َىل ك ُِّل َ ٍ ِ‬
‫يشء َقد رير﴾‪ ،‬بصيغة األمر يف ﴿ م‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫م م‬

‫اْلضارع ﭽﯾ ﯿﭼ‪ ،‬ويقول (ريض اهلل عنهَم) عن صاحب القرية مبينا سبب‬
‫ترجيحه اْلعنوي هذا ‪« :‬مل يكن بأفضل من إبراهيم» ‪ .‬أخرجه سعيد بن منصور يف‬
‫تفسريه (رقم ‪ )435‬بإسناد صحيح‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫القانون السابع ‪ :‬أن هناك فر ًقا بني أمرين ‪ :‬األول هو االستحالة العقلية ‪،‬‬

‫والثاين هو عجز العقل عن التصور ‪.‬‬

‫سبب انعدام‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫العقل‬ ‫‪ -‬فاالستحالة العقلية ‪ :‬هي احلكم الذي ُيدرك‬

‫إمكانه ؛ ألنه مما يدخل ضمن قدرته عىل احلكم ‪.‬‬

‫‪ -‬وأما العجز عن التصور ‪ :‬فهو عد ُم احلكم ‪ ،‬بسبب عدم إدراك العقل‬

‫ْلأخذ احلكم فيه ‪ ،‬أي ‪ :‬بسبب عدم القدرة عن التصور أصال ‪.‬‬

‫معدوما يف الوقت‬
‫ً‬ ‫مثال ‪ :‬العقل يدرك استحالة أن يكون اليشء موجو ًدا‬

‫َ‬
‫وأبيض يف اللحظة نفسها ؛ ألن إدراك‬ ‫نفسه ‪ ،‬يدرك استحالة أن يكون أسو َد‬

‫اْلوجودات وفرق ما بني األلوان مما يدركه العقل ‪ ،‬بسبب وجودنا ورؤيتنا‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وهو يقصد أن اهلل تعاىل حيث خاطب خلي َله إبراهيم (عليه السالم) يف آخر قصته‬

‫بصيغة األمر يف قوله ﭽ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‪ ،‬فاألوىل بصاحب القرية الذي‬

‫شك أن يؤمر أيضا ﴿ َق َال ا مع َل مم﴾‪ ،‬ال أن يدعي علمه بذلك ‪ :‬ﭽ ﯿﭼ‪.‬‬
‫وكأن قول ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) عن صاحب القرية ‪« :‬مل يكن بأفضل من‬
‫أيضا إىل أفضلية طريقة اخلليل (عليه السالم) عىل صاحب‬
‫إبراهيم» ‪ ،‬مما يشري ً‬
‫القرية يف تَط ُّلب زيادة اليقني‪ ،‬وهي كذلك بال شك ‪ ،‬كَم هو واضح من القصتني ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫للموجودات ورؤيتنا لأللوان ‪ .‬ولكن الشخص الرضير الذي ُولد رضيرا ‪ ،‬فهو‬

‫ال يرى إال ظلمة ‪ ،‬لن يكون عق ُله ً‬


‫قادرا عىل فهم الفرق بني األلوان ‪ ،‬ولن يقدر‬

‫أن حيكم بإدراكه اخلاص بوجود الفرق فيَم بني األلوان ؛ ألنه عاجز عن‬

‫تصور الفرق بني األلوان(‪.)1‬‬

‫ومن هذا الفرق ندرك ْلاذا أيقنا بوجود اخلالق ‪ ،‬مع عجزنا عن تصور‬
‫موجود بال ُم ِ‬
‫وجد ‪.‬‬

‫ذلك أن قانون السببية العقيل قد َج َعلنا نُوقن أنه يستحيل أن يكون هناك‬
‫موجو رد بال ُم ِ‬
‫وجد ‪ ،‬كَم يستحيل عقال أن يكون وجو ُده متسلسال بال بداية ؛‬

‫ألن التسلسل بال هناية ينقض قانون السببية من أساسه ‪ ،‬وجيعل وجو َد السبب‬
‫بال ُم َس ِّب ٍ‬
‫ب ممكنًا ‪.‬‬

‫اْلشاهد ‪ ،‬وال جيري عليه قانون‬ ‫ٍ‬


‫موجود ليس من عاْلنا‬ ‫أما ُوجو ُد‬
‫َ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلشاهد ‪.‬‬
‫َ‬ ‫السببية ‪ ،‬فنحن نعجز عن تصوره أصال ؛ ألننا مل َنر غري عاْلِنا‬

‫(‪ )1‬واخللل يف التفريق بني عجز العقل واالستحالة العقلية هي ما أوقعت عَمنوئيل َكنمت‬
‫إىل إنكار صالحية قانون السببية يف إثبات وجود اهلل تعاىل ‪ ،‬فانظر نقد العقل اْلجرد‬
‫لعَمنوئيل كنت (‪. )644-690‬‬

‫‪95‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫فلَم تقابلت االستحالة العقلية (التي قضت بوجوب وجود خالق هلذا‬

‫العامل) والعجز العقيل (الذي يعجز عن احلكم عىل ما كان سوى هذا العامل‬

‫اْلشاهد) ‪ :‬وجب تقديم احلكم عىل عدم احلكم ‪ ،‬ووجب تقديم ما أنتجه‬
‫َ‬
‫احلكم من وجوب وجود اخلالق عىل ما أنتجه العجز عن احلكم من عدم‬
‫تصور وجود موجود من غري عاْلنا اْلخلوق بال ُم ِ‬
‫وجد ‪.‬‬

‫وهكذا أفادنا العجزُ عن احلكم ُحك ًمَم يقين ًّيا ‪ْ ،‬لا اجتمع مع احلكم‬

‫باالستحالة ! أال وهو اليقني بوجود اخلالق عز وجل ﭽﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬

‫ﭰ ﭱﭼ [الطور‪. ]٣٥ :‬‬

‫وهذا من عجائب هذا الباب ‪ :‬أن العقل قد يصل إىل اليقني من خالل‬
‫ٍ‬
‫جواب يقيني ألمر يقيني !‬ ‫العجز عن إجياد‬

‫ٍ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫خالق مما اتفق عليه عموم أهل األرض من‬ ‫وهلذا كان اإليَمن بوجود‬

‫الناس شيئًا اتفقوا عليه كَم اتفقوا عىل‬


‫ُ‬ ‫قديَم وحدي ًثا ‪ ،‬وال يعرف‬
‫ً‬ ‫البرش ‪،‬‬

‫وجود اخلالق ‪ .‬ومل ُيالف يف ذلك قديَم وحدي ًثا إال ُشذا رذ قليلون من‬

‫اْلستكربين أو اْلرىض بداء الشك والوسوسة ‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الوسيلة اخلامسة (من وسائل تثبيت اْلحكَمت) ‪ :‬تكثيف التذكري‬

‫بقصور العقل البرشي ‪ ،‬واالستدالل إلثبات ذلك بكل دليل صحيح من‬

‫األدلة الرشعية (النقلية والعقلية) ‪:‬‬

‫فإننا مع الثورة العلمية احلديثة ‪ ،‬ومع تسارع ظهور اْلكتشفات التي تبهر‬
‫ِ‬
‫منتجات هذا التقدُّ م التِّ مقني مكسو ًة بالقيم الغربية‬ ‫َ‬
‫العقول فعال ‪ ،‬ومع تسويق‬

‫القائمة عىل تقديس العقل يف مقابل تسفيه عامل الغيب وإقصاء اإليَمن =‬

‫غرور ك َِري ره ‪ ،‬ال أحسبه مسبو ًقا يف تاريخ البرشية هبذا االنتشار‬
‫ر‬ ‫العالـم‬
‫َ‬ ‫أصاب‬

‫اإلنسان معه يعبد ذاته‪ ،‬متمثل ًة يف العقل البرشي‪ .‬فال بد من‬


‫ُ‬ ‫والشيوع ‪ ،‬وأصبح‬

‫كبح ُجنوح هذا اجلنون ‪ ،‬بتذكري اإلنسان بحقيقة ضعفه وجهله (ﯟ ﯠ‬

‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ‬

‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ) [األحزاب‪( ، ]٧ :‬ﭥ ﭦ ﭧ) [النساء‪، ]٢٨:‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫(ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ) [األنبياء‪ . ]٣٧ :‬إن ختفيف حدة هذا الغرور مما ُي َو ِّط ُئ‬

‫لعدم اجلنوح يف التفكري ‪ ،‬ومما يبني قاعد ًة سليم ًة لتأسيس فقه اْلحكَمت‬

‫عليها ‪ ،‬ومما يسمح لقاعدة التسليم أن تستقر ‪ .‬وأما مع وجود هذا الغرور ‪،‬‬

‫فال يشء من ذلك سيكون له وجود ‪ :‬فالعقل اْلغرت ما الذي سيمنعه من القفز‬

‫‪97‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫فوق احلقائق وجتاوزها ؟! وما الذي سيقنعه برضورة االلتزام بمنهج العقل‬

‫جتاه اليقينيات والظنيات؟! وأنَّى له أن يرىض بالتسليم ؟!!‬

‫وعلينا أن نستعني يف جمال التذكري بقصور العقل البرشي بجميع األدلة‬

‫الرشعية (النقلية والعقلية) ‪ ،‬وبشهادات عباقرة العامل ومبتكريه عىل أنفسهم‬

‫بالضعف والعجز أمام الكثرة الكاثرة من األرسار الكونية(‪ ، )1‬وبالتذكري بضآلة‬

‫معلوماتنا أمام حقائق الكون ‪ ،‬وأن نعلم‪ :‬بأن التسارع اهلائل يف اكتشاف‬

‫تسارعا هائال يف اكتشاف جهلنا ‪ ،‬فكان ينبغي أن يقودنا‬


‫ً‬ ‫احلقائق العلمية يعني‬

‫(االكتشاف) ما هو إال‬
‫َ‬ ‫ذلك االكتشاف إىل التواضع ‪ ،‬ال إىل الغرور ؛ ألن‬

‫اكتشاف ْلا كان موجو ًدا وكنَا نجهله ؛ وألن (االخرتاع) ما هو إال معرفة‬
‫ر‬
‫ٍ‬
‫معروفة لنا ‪ .‬فإذا‬ ‫ٍ‬
‫لعالقة بني شيئني ‪ -‬فأكثر ‪ -‬وكانت هذه العالقة غري‬ ‫ٍ‬
‫استثَمر‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫كتاب متميز ‪ ،‬وحيتاج إىل تتميم وّتسني ‪ ،‬وهو كتاب ‪( :‬قصور العلم‬
‫ر‬ ‫(‪ )1‬ويف ذلك‬
‫ر‬
‫استعراض آلراء ُرواد العلم احلديث ‪ ،‬ولعلَمء اْلسلمني ‪ ،‬يف آفاق العلم‬ ‫البرشي ‪:‬‬
‫اْلكتسب وحدوده) ‪ْ ،‬لؤلفه ‪ :‬قيس قرطاس ‪ ،‬ومن مطبوعات مركز اْللك فيصل‬
‫للبحوث والدراسات اإلسالمية ‪.‬‬
‫وقريب منه ‪ :‬كتاب (اهلل يتجىل يف عرص العلم) لكرييس موريسون ‪ ،‬وترمجة ‪:‬‬
‫حممود صالح الفلكي ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫سارعنا يف االكتشاف واالخرتاع ‪ ،‬فينبغي علينا (يف الوقت نفسه ‪ ،‬وبالرسعة‬

‫نفسها) أن نسارع إىل االعرتاف بقصور عقلنا البرشي وبضعفنا اإلنساين ‪.‬‬

‫واسع ال حدود لوسائله ‪ ،‬كَم أنه ال حدود جلهل اإلنسان !!‬


‫ر‬ ‫ر‬
‫جمال‬ ‫وهذا‬

‫ِ‬
‫احلرية‬
‫(‪)1‬‬
‫الوسيلة السابعة (من وسائل تثبيت اْلحكَمت) ‪ :‬إشاع ُة‬
‫ِ‬
‫اْلنضبطة غري الفوضوية ‪ ،‬وعدم جتريم الفكر اْلعترب ‪ ،‬وإحسان‬

‫(‪ )1‬اختياري ْلفهوم احلرية الفكرية الذي جيب أن يكون عليه مفهومها يف الفقه‬
‫اطمئنان كل شخص أنه لن يتعرض ألي نوع‬ ‫ُ‬ ‫اإلسالمي ‪ -‬حسب اجتهادي ‪ : -‬هو أهنا‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫من أنواع الظلم أو األذى بسبب فِك ِمره الذي اقتنع به ‪ ،‬ما دام ليس فِك ًمـرا إجرام ًّيا (ال‬
‫الس ملم اْلجتمعي من خالل نرش الشك‬
‫يستبيح اإلجرام) ‪ ،‬وما دام يلتزم بعدم هتديد ِّ‬
‫يف أصول الدين (أو أصول احلضارة وأصول القيم التي قامت عليها احلضارة) ‪،‬‬
‫جهل اْلخا َطبني لنرش فكره ‪ ،‬وال أن يبتزهم بسبب احلاجة ليجربهم‬
‫َ‬ ‫ٍّ‬
‫مستغل‬ ‫وغري‬
‫َ‬
‫عىل تغيري عقائدهم ‪ ،‬مع عدم منعه هو من حوار قادة الفكر والعلَمء ممن ُيالفونه ‪،‬‬
‫اضطهاد وبال ٍ‬
‫قيود متنعه من إبداء قناعته بحججها كاملة ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خوف وال‬ ‫دون‬

‫‪99‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الذي‬ ‫اْلعترب‬ ‫غري‬ ‫الفكر‬ ‫مع‬ ‫حتى‬ ‫(‪)1‬‬


‫التعامل‬
‫(‪)2‬‬
‫ُ‬
‫التعايش معه ‪:‬‬ ‫ُيمكن‬

‫(‪ )1‬إحسان التعامل مع الرأي غري اْلعترب ال يعني عدم إنكاره ‪ ،‬وال السكوت عن رده‬
‫وتزييفه ؛ ولكنه يعني التفريق بني القول والقائل ‪ ،‬ويعني العدل مع صاحبه ‪ ،‬وعدم‬
‫إكراهه عىل تغيري معتقده ‪.‬‬
‫التعايش معها ً‬
‫أصال ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫التعايش معها ومنها عقائدُ ال تقبل هي‬
‫‪،‬‬
‫(‪ )2‬من العقائد الباطلة ما يمكن‬
‫‪ -‬فالصهيونية العنرصية التي تستبيح استعبا َد شعوب األرض كلها ممن ليس‬
‫بيهودي‪ ،‬والتي تستكرب عىل اجلنس البرشي كله من غري اليهود = هذه الصهيونية‬
‫عقيد رة ال يمكن التعايش معها ‪ .‬يف حني أن اليهود من غري الصهاينة العنرصيني‬
‫أحكاما تسمح‬
‫ً‬ ‫هم أهل مل ٍة يمكن التعايش معهم ‪ ،‬ولذلك فقد رشع اإلسال ُم لنا‬
‫لليهود بأن يعيشوا بيننا (نحن اْلسلمني) ويف بالدنا ‪ ،‬من غري اضطهادٍ هلم وال‬
‫إكراه عىل تغيري القناعات ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫واالعتداء عىل األبرياء بالقتل والسلب ‪ :‬ال يمكن‬
‫َ‬ ‫‪ -‬والعقيدة التي تستبيح اإلجرا َم‬
‫ٍ‬
‫عقيدة ال تستبيح‬ ‫التعايش معها ‪ ،‬وإن كان صاحبها من أهل الشهادتني ‪ .‬بخالف‬
‫كافرا ! بل حتى لو كان صاح ُبها ممن ُيكف ُر‬
‫حرمات الناس ‪ ،‬وإن كان صاحبها ً‬
‫االعتداء عليهم =‬
‫َ‬ ‫جي ِّوزُ‬
‫خمالفيه ‪ ،‬ما دام ال يستبيح حرمات اْلخالفني له وال ُ‬
‫فيمكن التعايش مع صاحب هذه العقيدة ‪ .‬ويف مثل هؤالء قال اإلمام الشافعي ‪:‬‬
‫«و َلو َأ َّن َقوما َأ مظهروا ر مأي اخلوارج ‪ ،‬وجتنبوا مج ِ‬
‫اعات الناس ‪َ ،‬و َك َّف ُر ُ‬
‫وه مم ‪ :‬مل‬ ‫ََ َ‬ ‫َُ َ َ‬ ‫مً‬ ‫َ م‬

‫‪100‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫يَم ِن ‪ ،‬مل َي ِص ُريوا َ‬


‫إىل احلال التي َأ َم َر‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬
‫حيل مل بذلك قتا ُلـهم ؛ ألهنم عىل ُح مر َمة اإل َ‬‫م‬
‫َاهلم فيها» ‪ .‬األم (‪ . )521/5‬وهذا هو اْلذهب عند الشافعية ‪ ،‬كَم‬ ‫اهلل ‪ ‬بِ ِقت ِ‬

‫يف اْلنهاج للنووي ‪ -‬مع رشحه ‪ :‬النجم الوهاج للدمريي ‪ . )46/9( -‬وهو‬
‫أيضا ‪ :‬قال ابن قدامة يف اْلغني (‪« : )247-248/12‬وإذا‬ ‫مذهب احلنابلة ً‬
‫تكفري من ارتكب كبرية ‪ ،‬و َت مر ِك اجلَمعة ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أظهر قوم رأي اخلوارج ‪ ،‬مثل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫واستحالل دماء اْلسلمني وأمواهلم ؛ إال أهنم مل ُيرجوا عن قبضة اإلمام ‪،‬‬
‫ومل يسفكوا الدم احلرام = فحكى القايض عن أيب بكر ‪ :‬أنه ال حيل بذلك َقتم ُلهم‬
‫وال قتا ُلـهم ‪ ،‬وهذا قول أيب حنيفة ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬ومجهور أهل الفقه ‪ ،‬وروي‬
‫ذلك عن عمر بن عبد العزيز ‪(...‬ثم قال ‪ ):‬وقال مالك يف اإلباضية وسائر أهل‬
‫البدع ‪ُ :‬يستتابون ‪ ،‬فإن تابوا وإال ُرضبت أعناقهم ‪ .‬قال إسَمعيل بن إسحاق ‪:‬‬
‫ٍ‬
‫مالك َق مت ُل اخلوارج وأهل القدر» ‪ .‬وقال العالم ُة ابن مفلح احلنبيل‬ ‫ي‬
‫رأ ُ‬
‫ي‬ ‫(ت‪763‬ه) يف كتابه الفروع (‪َ « : )177-178/10‬وإِ من َأ مظ َه َر َق مو رم رأ َ‬
‫اخلوا ِرجِ ‪ ،‬ومل ُي ُرجوا عن َق مب َض ِة اإلمام ‪ :‬مل ُي َقا َتلوا ‪ ،‬ومل ُيت َع َّر مض هلم ‪،‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وذي [اإلما َم‬‫اع رة ‪َ .‬و َسأَ َل ال َـم ُّـر ُّ‬ ‫جت ِري األَ محكَا ُم عليهم ‪ ،‬ك ََأ مه ِل ا مل َعدم ِل ‪َ .‬ذك ََر ُه َ َ‬
‫مج َ‬ ‫َو َ م‬
‫ون ؟ قال ‪َ :‬ال َت مع ِر ُضوا هلم ‪،‬‬ ‫أمحد] عن َق مو ٍم من َأ مه ِل البِدَ ِع ‪َ :‬ي َت َع َّر ُض َ‬
‫ون َو ُي َك ِّف ُر َ‬
‫ات !! وقال يف‬ ‫ات َو َأ َخ َو ر‬ ‫ـحبسوا؟! قال ‪ :‬هلم َوالِدَ ر‬ ‫ُق ملت ‪ :‬و َأي َ ٍ‬
‫يشء َتك َمر ُه من َأ من ُي ُ‬ ‫َ ُّ م‬
‫إىل دِين ِ ِه مم ‪َ :‬ف َقا َت َل ُه مم ‪ ،‬وإال‬
‫إىل ما ُهم عليه ‪َ ،‬‬ ‫ور‪ :‬احلر ِ‬
‫ور َّي ُة إ َذا َد َع موا َ‬ ‫ِر َوا َي ِة ا مب ِن َمن ُمص ٍ‬

‫َف َال» ‪.‬‬


‫وهذا هو قول مجهور أهل العلم من احلنفية والشافعية واحلنابلة ‪ ،‬ومل ُيالف‬

‫‪101‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وعالقة إشاعة احلرية اْلنضبطة باْلحكَمت ‪ ،‬وبيان أمهية وجود هذه‬

‫احلرية حلَمية الثوابت ‪ :‬هو أن الشبهة قد تنقدح يف فِ مك ِر أحد أبناء‬

‫اْلسلمني‪ ،‬فإن كان الوسط العلمي والثقايف حينها يتمتع باحلرية ‪ ،‬فإن‬

‫يف ذلك إال القول اْلشهور عند اْلالكية ‪ ،‬كَم سبق عن اْلوفق ابن قدامة ‪،‬‬
‫وهو مسبوق إىل هذه النِّسبة من اإلمام اْلالكي أيب عمر ابن عبد الرب يف كتابه‬
‫التمهيد (‪ ،)338/23‬حيث ذكر مذهب اإلمام مالك ‪ ،‬ثم قال ‪« :‬هذا قول عامة‬

‫الفقهاء الذين يرون َقتم َلهم واستتاب َتهم ‪ .‬ومنهم من يقول ‪ :‬ال ُي َّ‬
‫تعر ُض هلم باستتابة‬
‫وال غريها ‪ ،‬ما استرتوا ‪ ،‬ومل َي مب ُغوا و ُيـ ِ‬
‫حاربوا ‪ .‬وهذا مذهب الشافعي وأيب حنيفة‬
‫ٍ‬
‫وكثري من أهل احلديث» ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ومجهور أهل الفقه‬ ‫وأصحاهبَم ‪،‬‬
‫وانظر هلذه اْلسألة ‪ :‬يف مذهب احلنفية ‪ :‬رشح خمترص الطحاوي للجصاص‬
‫(‪ ، )104-99/6‬واْلبسوط للرسخيس (‪ ، )124-130/10‬واْلحيط‬
‫الربهاين البن مازة احلنفي (‪ ، )296-302/7‬وحاشية ابن عابدين (‪-260/4‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ . )265‬ويف مذهب اْلالكية ‪ :‬النوادر والزيادات البن أيب زيد (‪)87/3‬‬
‫(‪ ، )546-539/14‬والذخرية للقرايف (‪ ، )401/3‬ومواهب اجلليل لرشح‬
‫خمترص خليل للحطاب (‪. )365-370/8‬‬
‫وهذه اْلسألة مسألة كبرية ‪ ،‬وفيها اختالفات دقيقة يف فروعها ‪ ،‬ولكن ليس هذا‬
‫موطن بسطها ‪ ،‬ويكفي منها هنا هذه اإلْلاحة ‪ ،‬لبيان وجه من جوه تسامح‬
‫اإلسالم مع أصحاب األفكار اْلنحرفة ‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫صاحب الشبهة سوف ُيظهرها سائال ُم مس َتـ معلِ ًَم ‪ ،‬أو داع ًيا إليها ظانًّا صح َة ما‬

‫اإلظهار َأ مد َعى إلماتة الشبهة يف مهدها ‪ ،‬قبل أن ينبني عليها‬


‫ُ‬ ‫يدعو إليه ‪ .‬وهذا‬

‫ول يف خطِّها اْلنحرف ‪،‬‬


‫ُركا رم من اْلجازفات واألباطيل ‪ ،‬وقبل أن متتدَّ و َت ُط َ‬
‫لتزداد بعدً ا من نقطة انحرافها األُوىل عن ِ‬
‫نقطة اخلط اْلستقيم الذي انحرفت‬ ‫ُ‬
‫صاحب الشبهة السؤال ‪ ،‬وكتم ُمتبِ ُع اْلشتبهات تصوراته‬
‫ُ‬ ‫عنه‪ .‬أما إذا خيش‬

‫األخطاء ‪ -‬عنده وعند من تأثر‬


‫ُ‬ ‫وتتفاقم‬
‫ُ‬ ‫اْلختلة ‪ ،‬فسوف يزدا ُد اخللل ‪،‬‬

‫كاما من العقائد والتصورات الباطلة ‪ ،‬وسوف يسترشي ذلك‬


‫بقناعاته ‪ُ -‬ر ً‬
‫شخص إىل شخص ‪ّ ،‬تت ُجنح ظال ٍم من‬ ‫ٍ‬ ‫والعقائدي من‬
‫ُّ‬ ‫العقيل‬
‫ُّ‬ ‫الوباء‬
‫ُ‬
‫تظن أهنا‬ ‫ت الصدور التي َتغميل ُّ‬
‫بالش ُبهات ‪ ،‬وهي‬ ‫الكتَمن ‪ ،‬ويف َطـيا ِ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫للم َغـ َّر ِر هبم ‪ ،‬استَمل ًة‬
‫نفسها أهنا كذلك ُ‬
‫ُصو ُر َ‬
‫احلق ‪ ،‬أو ت ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ضطهـدَ رة عىل‬
‫ُم َ‬
‫حصن أباطيلهم التي‬
‫ُ‬ ‫وحضا هلم عىل الكتَمن الذي هو يف احلقيقة‬
‫ًّ‬ ‫لقلوهبم ‪،‬‬

‫بهة من ُش َب ِـه الباطل ‪.‬‬


‫احلارقة لكل ُش ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫احلق‬ ‫ِ‬
‫شمس ِّ‬ ‫ألشعة‬ ‫ختشى الربوزَ‬

‫ومن احلقائق الثابتة ‪ :‬أن الضالالت التي يفضحها جمر ُد اإلعالن ؛‬


‫ُ‬
‫اْلنضبط من الشيوع واالنتشار يف جنح‬ ‫االنفتاح‬
‫ُ‬ ‫لوضوح بطالهنا ‪ ،‬يمنعها‬
‫ُ‬
‫سوق احلركات الباطنية (التي تُـخفي عقائدَ ها‬ ‫الظالم ‪ .‬ولذلك فإنه ال يروج‬

‫الباطلة) ؛ إال يف اْلجتمعات اْلنغلقة ‪ .‬وإن ُوجدت حرك رة باطني رة يف جمتم ٍع‬

‫‪103‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫منفتح (كاْلنافقني يف اْلجتمع النبوي) ‪ ،‬فإن سوقها سيكون كاسدً ا ‪،‬‬

‫وستكون كالعصابات اْلتخفية بخططها ومبادئها اإلجرامية عن عني القانون‬

‫العادل ‪.‬‬

‫ُ‬
‫ُيالف حدو َد الرشع ‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بانضباط ال‬ ‫ضَمن احلرية الفكرية‬
‫ُ‬ ‫ولذلك كان‬

‫ُعني عىل تثبيت اْلحكَمت ‪.‬‬


‫من أفضل األمور التي ت ُ‬

‫ٍ‬
‫منضبطة لتثبيت اْلحكَمت ‪ :‬أن من‬ ‫ٍ‬
‫حرية‬ ‫ومما يؤكد رضور َة وجود‬

‫إرجاع اْلشتبهات إليها ور َّد الشبهات‬


‫َ‬ ‫وسائل تثبيت اْلحكَمت اْلعلومة ‪:‬‬

‫باألدلة ‪ .‬ولكن ال يمكن تعيني كل اْلشتبهات وال يمكن حرص الشبهات‬

‫مجيعها للرد عليها ؛ ألن الشبهات واْلشتبهات أوها رم ال يمكن أن حيصيها‬


‫عا ٌّد ‪ ،‬وال أن يدعي حرصها ر‬
‫عقل ؛ إال إذا أظهرها اْلل َّبس عليه هبا ‪ .‬وال يمكن‬

‫صاحب الشبهة شبهته بغري شعور باألمن من أن إظهاره هلا لن يكون‬


‫ُ‬ ‫أن ُيظهر‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫له أثر يف إيذائه والتضييق عليه ‪.‬‬

‫لذلك كان من وسائل تثبيت اْلحكَمت إشاعة احلرية اْلنضبطة ؛ ألن‬

‫هذه احلرية لن تسمح بكتَمن اآلراء الباطلة ‪ ،‬وال تسو ُغ ألصحاب األفكار‬

‫‪104‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫احلق الذي ُي َلـ ِّب ُس َ‬


‫ون به عىل العوا ِّم‬ ‫الباطنية النِّـ َفاقِي ِة من اد ِ‬
‫عاء التسرت خو ًفا عىل ِّ‬ ‫ِ‬

‫والغوغاء ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بجهاز يسمح باكتشاف الداء العضال‬ ‫إن احلرية اْلنضبطة أشبه ما تكون‬

‫عالجه غال ًبا ‪ ،‬وذلك منذ أول وجوده ‪ ،‬أو حني‬


‫ُ‬ ‫قبل استرشائه ‪ ،‬وحني يمكن‬

‫أثر كبري يف تثبيت‬ ‫يمكن استئصا ُله بأقل ٍ‬


‫قدر من اخلسائر !! ولذلك كان هلا ر‬ ‫ُ‬
‫اْلحكَمت ‪ ،‬ويف تصحيح اْلشتبهات بإرجاعها إليها ‪ ،‬ويف كشف‬

‫مغالطات ُّ‬
‫الشبهات ‪.‬‬

‫وهذه احلرية اْلنضبطة قد أقرها اإلسالم وسبق إليها ‪ ،‬وليس هذا جمال‬

‫ذكر أدلة إقرار اإلسالم هلا ‪ ،‬فقد ذكرهتا يف موطن آخر ‪ ،‬لكني سأذكر معامل‬
‫(‪)1‬‬

‫من السرية النبوية تدل عىل واقع وجود احلريات يف اْلجتمع اْلدين يف‬

‫زمن النبي ^ ‪:‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وأول ذلك ‪ :‬واقع اْلنافقني يف زمن النبي ^ ‪:‬‬

‫(‪ )1‬انظر مقايل البحثي اْلنشور يف موقعي بعنوان ‪ :‬احلرية الفكرية وأثرها يف تعميق‬
‫احلوار وإثَمره ‪:‬‬
‫‪http://www.dr-‬‬
‫‪alawni.com/files/books/pdf/1429718305.pdf‬‬

‫‪105‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫فالثابت أن النبي صىل اهلل عليه وسلم مل يعامل اْلنافقني بمقتىض علمه‬
‫ُ‬
‫بالوحي بخفايا ما يف قلوب بعضهم ‪ ،‬بل عاملهم بمقتىض ظاهرهم الذي كان‬
‫ِ‬
‫ومواقف‬ ‫ٍ‬
‫وسخرية‬ ‫يشهد – غال ًبا ‪ -‬لنفاقهم العميل (ال االعتقادي) ‪ ،‬من ٍ‬
‫فسق‬ ‫(‪)1‬‬

‫ٍ‬
‫وإرجاف يف ساعات الشدة ‪ ،‬لكنه نفاق ال يقطع (بحسب الظاهر)‬ ‫ٍ‬
‫خذالن‬

‫الكفر ‪ ،‬ولذلك مل َيـح ُكم ^ بكفرهم ومل يستتبهم منه ‪ .‬لكنهم‬


‫َ‬ ‫باستبطاهنم‬

‫باجتَمعهم عىل هذا النفاق العميل ‪ ،‬وبتأييد بعضهم بعضا عليه ‪ ،‬وباّتاد‬

‫صفهم يف اْلواقف‪ :‬أصبحوا يمثلون جبهة معارضة (بالتعريف العرصي) ‪.‬‬

‫ومع ذلك اتسعت الدولة اإلسالمية هلم ‪ ،‬وحفظت هلم ح ًّقا يف االختالف ‪،‬‬

‫ظاهرهم بنفاقهم االعتقادي لوجب معاملتهم معاملة اْلرتدين ‪.‬‬


‫ُ‬ ‫(‪ )1‬ألنه لو شهد‬
‫وأما ما يتومهه بعض الباحثني من أن النبي ^ مل حيكم بالردة عىل اْلنافقني خو ًفا‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫من أن يتحدث الناس أن حممدا يقتل أصحابه ‪ ،‬مع أهنم ارتدوا ومل يرجعوا عن‬
‫إظهار توبتهم ‪ ،‬فهو توهم باطل ؛ ألن اْلنافقني كانوا إذا ُشهد عليهم بَم يوجب‬
‫التكفري بادروا بادعاء التوبة أو باإلنكار القائم مقام التوبة ‪ .‬لذلك كان قتلهم بعد ذلك‬
‫َ‬
‫سببا ال هتام النبي ^ بأنه يقتل أصحابه ؛ بسبب ادعائهم التوبة أو بسبب إنكارهم ‪.‬‬
‫اكتفيت هنا باإلْلاح إىل اإلشكال وإىل‬
‫ُ‬ ‫وليس هذا موطن تقرير ذلك ومناقشته ‪ ،‬لكني‬
‫جوابه ‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫خالف رأ ٍي‬
‫ُ‬ ‫ب عقوب ًة وحدًّ ا ‪ ،‬وإنَم َأتـ مَـوا ما يدعون أنه‬ ‫ما داموا مل يأتوا ما ُي ِ‬
‫وج ُ‬
‫ِ‬
‫وجهات نظر ‪.‬‬ ‫و َت َعدُّ ُد‬

‫حق االختالف هذا الذي َحظِـ َي به اْلنافقون هو ٌّ‬


‫حق ال يعني تصوي ًبا‬ ‫و ُّ‬
‫ْلوقفهم ‪ ،‬وال تسويغًا خلالفهم ‪ ،‬بل ال يعني سكوتًا عن إنكار رأهيم أشد‬

‫اإلنكار ‪ ،‬إذا كانت أدلة ُبطالنه أدل ًة قطعية ‪ ،‬ولكنه ‪:‬‬

‫حق يف احلياة ضمن الدولة اإلسالمية ‪.‬‬


‫‪ o‬أوال ‪ٌّ :‬‬

‫إجراء ألحكام اإلسالم الظاهرة عليهم ‪ ،‬ودخوهلم‬


‫ر‬ ‫‪ o‬وثانيا ‪:‬‬

‫بذلك يف مجلة اْلسلمني يف عموم أحكامهم ؛ إال بمقدار‬

‫ما يوجبه إظهارهم لعدم الصالح من احلذر ‪ ،‬وعدم‬

‫حماسبتهم بالظنون اْلشككة يف عقد اإليَمن والتي تشري‬

‫إىل كفرهم ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ o‬وثالثا ‪ :‬عد ُم عقوبتهم عىل جمرد فكرهم اْلع َلن اْلخالِف ‪،‬‬

‫أيضا بكل مواقفهم التي تدل عىل اختيارهم‬


‫وعدم حماسبتهم ً‬

‫الفسق ورقة الديانة ‪ .‬وإنَم ُيـحاسبون بَم ارتكبوه من جرائم‬

‫بعضها‬
‫ُ‬ ‫وخمالفات عملية تستوجب العقوبة‪ ،‬وقد جييز‬

‫‪107‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫العفو والتجاوز ‪ ،‬وإيكال عقوبتهم التامة عىل العقائد‬


‫َ‬ ‫للحاكم‬

‫واْلبادئ إىل يوم احلساب األخروي ‪.‬‬

‫ولذلك مل يعاقب النبي ^ اْلنافقني يف مواقف عديدة خالفوا فيها أمره‬


‫ِ‬
‫ّتقيق‬ ‫ِ‬
‫سياسة‬ ‫بدت خمالفتُهم يف َم مظ َه ِر الرأي اْلختلِف يف‬
‫م‬ ‫^ ‪ ،‬إذا‬

‫اْلصالح ‪ ،‬أو بدعوى أعذارهم اخلاصة التي كانوا يعتذرون هبا أحيانًا‬

‫ُأخرى‪.‬‬

‫كَم حصل ْلا اختار اْلنافقون التحاكم لغري رسول اهلل ^ من كاهن أو‬

‫هيودي (عىل اختالف بني اْلفرسين) ‪ ،‬فلم يؤمر النبي ^ بيشء أكثر من أن‬

‫يعظهم موعظة بليغة ‪ ،‬رغم خمالفتهم الشديدة ألمر اهلل ورسوله يف التحاكم‬

‫إىل ما أنزل اهلل تعاىل وإىل الرسول ^ ‪ ،‬كَم يف قوله تعاىل‪ :‬ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ‬

‫ﭳﭴﭵﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﭿﮀﮁ ﮂﮃﮄ ﮅﮆﮇﮈﮉ‬

‫ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮖﮗ‬

‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﭼ [النساء‪.]63 – 61 :‬‬

‫‪108‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وكم من مرة تسلل اْلنافقون عن مواطن أمر اهلل ورسوله ‪ ،‬وخالفوا‬

‫األوامر ‪ ،‬فكان النبي ^ يكتفي بتحذيرهم من هذه اْلعايص ويبني هلم‬

‫خطورة ذلك عىل ُأخراهم ‪ ،‬كَم يف قوله تعاىل ‪ :‬ﭽ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬

‫ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬

‫ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ [النور‪. ]63 :‬‬


‫(‪)1‬‬

‫(‪ )1‬قال ابن جرير يف تفسريه ‪ « :‬إنكم أهيا اْلنرصفون عن نبيكم بغري إذنه‪ ،‬تسرتا وخفية‬
‫منه‪ ،‬وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم عىل رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإن اهلل‬
‫يعلم ذلك ‪ ،‬وال ُيفى عليه‪ ،‬فليتق من يفعل ذلك منكم الذين ُيالفون أمر اهلل يف‬
‫االنرصاف عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم إال بإذنه‪ ،‬أن تصيبهم فتنة من اهلل ‪ ،‬أو‬
‫يصيبهم عذاب أليم‪ ،‬فيطبع عىل قلوهبم‪ ،‬فيكفروا باهلل» ‪ .‬تفسري الطربي (‪.)391 /17‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ومن لطيف ما يدل عىل ما نستدل له ‪ :‬أن عددا من السلف فرس العذاب األليم بالقتل‬
‫اْلرتتب عىل إظهار الكفر والردة ‪ ،‬فانظر موسوعة التفسري باْلأثور (‪-772 /15‬‬
‫كثريا ‪ ،‬وأهنم قد‬
‫‪ . )775‬فاهلل تعاىل حيذرهم من أن استتارهم هذا بالنفاق قد ال يدوم ً‬
‫ُيفتضحون بالكفر ‪ ،‬فيستحقون القتل خليانتهم وردهتم ‪.‬‬
‫ومعنى ذلك ‪ :‬أهنم مل يستحقوا العقوبة عىل خمالفتهم بالتسلل عن أمر اهلل ورسوله ‪،‬‬
‫وإنَم يستحقوهنا إن أظهروا خيانتهم وكفرهم الرصيح ‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ومن مواقف السرية الدالة عىل تعامل النبي صىل اهلل عليه وسلم مع جبهة‬

‫الفكري‬
‫َّ‬ ‫االختالف‬
‫َ‬ ‫اْلعارضة الفاسدة يف زمنه تعامال يدل أنه َرا َعى فيهم‬

‫أقىص أنواع اْلراعاة ‪ ،‬رغم حكمه بفساد فكرهم ‪ ،‬ورغم إنكاره ^ هذا الفكر‬

‫تقريرا قوليا وتقعيدا عقد ًّيا أشد اإلنكار ‪ :‬ما فعله اْلنافقون يوم ُأحد ‪ ،‬عندما‬
‫ً‬
‫رجع رأسهم عبد اهلل بن ُأيب ابن سلول ب ُث ُل ِ‬
‫ث اجليش ‪ ،‬وخذلوا اْلسلمني يف‬

‫تلك اْلوقعة اخلطرية أشد خذالن ‪ .‬حتى اختلف فيهم الصحابة (رضوان اهلل‬

‫عليهم) ‪ ،‬وانقسموا فئتني ‪ :‬بني حاك ٍم عليهم بالكفر وحاك ٍم هلم باإلسالم ‪،‬‬

‫وحاكم بوجوب قتلهم وبعدم قتلهم ‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل ﭽ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬

‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬

‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭼ [النساء‪ ، ]88 :‬ومع ذلك مل يعاملهم النبي صىل اهلل عليه‬


‫(‪)1‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫(‪ )1‬أن هذه اآلية كانت بسبب انخزال عبد اهلل بن أيب بن سلول ببعض اجليش يوم ُأحد ‪:‬‬
‫هو ما ثبت يف الصحيحني من حديث زيد بن ثابت (ريض اهلل عنه) ‪ ،‬يقول ‪ْ :‬لا خرج‬
‫النبي (صىل اهلل عليه وسلم) إىل أحد ‪ ،‬رجع ناس من أصحابه ‪ ،‬فقالت فرقة ‪ :‬نقتلهم‬
‫‪ ،‬وقالت فرقة ‪ :‬ال نقتلهم ‪ ،‬فنزلت {فَم لكم يف اْلنافقني فئتني} ‪ .‬وقال النبي (صىل‬
‫اهلل عليه وسلم) ‪« :‬إهنا طيبة ‪ :‬تنفي الرجال كَم تنفي النار خبث احلديد» ‪ .‬أخرجه‬
‫البخاري (رقم‪ ، )4589 ،4050 ،1884‬ومسلم (رقم‪. )2776‬‬

‫‪110‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وسلم عىل أهنم كفار ‪ ،‬فال قتل أحدً ا منهم ممن بقي يف اْلدينة ‪ ،‬وال‬

‫استتاهبم من كفر ‪ ،‬بل استمر يف حسن التعامل معهم ‪ ،‬عمال بظاهر حال من‬

‫ورجاء هدايتهم ‪ ،‬رغم إعالهنم ما يدل عىل‬


‫َ‬ ‫استمر منهم يف إظهار اإلسالم ‪،‬‬

‫خالف ال يقطع‬
‫ر‬ ‫كبري هلم مع اْلسلمني يف اآلراء واْلواقف ‪ ،‬لكنه‬ ‫ٍ‬
‫خالف ٍ‬

‫ظاهره بالكفر الذي جييز احلكم عليهم بالردة ‪ .‬كَم فعل النبي (صىل اهلل عليه‬
‫ُ‬
‫وسلم) مع رأس اْلنافقني وكبريهم عبد اهلل بن ُأيب ابن سلول ‪ ،‬رغم تكررهم‬

‫يف مواقف التخاذل والتهكم واألذى يف اْلسلمني ‪.‬‬

‫ويف غزوة األحزاب ‪ ،‬ورغم مجيع مواقف خيانتهم وختذيلهم وإثارهتم‬

‫الفتن فيها ‪ ،‬مل يؤمر النبي ^ بقتلهم وال بإنزال العقوبات اْلشددة عليهم !‬

‫بل رغم كل تلك اخليانات ُح ِّذروا من تكرار مواقف اخليانة فقط ‪ ،‬و ُهدِّ دوا –‬

‫جمرد هتديد – إن هم انزجروا عن خيانتهم وإثارهتم الفتن وإال نزلت هبم‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫عقوبة النفي ‪ ،‬فقال تعاىل ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬

‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﭼ‬

‫[األحزاب‪ . ]60 :‬وأما قوله تعاىل بعد هذه اآلية ﭽﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬

‫‪111‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ﯰ ﯱﭼ [األحزاب‪ ، ]61 :‬فهذا هتديدر هلم بذلك إن هم أعلنوا الكفر‬


‫(‪)1‬‬

‫واستمرأوا اخليانة ‪.‬‬

‫أكثر منه ‪ ،‬مل يفعل النبي‬


‫الغادر َ‬
‫ُ‬ ‫اخلائن‬
‫ُ‬ ‫ومع هذا التهديد الذي يستحق‬

‫^ ذلك التهديد معهم قط ‪ ،‬وال أنزل هبم عقوبته أبدً ا ‪ ،‬حتى تويف (عليه‬

‫الصالة والسالم) وحلق بالرفيق األعىل !!‬

‫األمر أحدَ أئمة التابعني ‪ ،‬وهو اإلمام الفقيه اْلفرس‬


‫ُ‬ ‫وقد استوقف هذا‬

‫صح عنه ‪ ،‬فقد قال بعدما تُليت هذه اآلية‬


‫حممد بن سريين (ت‪110‬هـ) ‪ ،‬فيَم َّ‬

‫عنده ‪« :‬ال نعلم شيئًا َأ مر َجى للمنافقني من هذه اآلية ! ما علمناه ُأغم ِر َ‬
‫ي هبم‬

‫حتى مات ^» ‪.‬‬


‫(‪)2‬‬

‫وهذا النص من هذا التابعي العامل اجلليل يدل عىل مقدار التسامح‬

‫الديني مع اْلنافقني يف زمن النبوة ‪ ،‬وأن هذا كان شأن النبي ^ معهم ‪ ،‬حتى‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫(‪ )1‬قال قتادة يف تفسريها ‪« :‬إذا هم أظهروا النفاق» ‪ .‬أخرجه الطربي (‪. )186 /19‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو نعيم يف حلية األولياء (‪ ، )270 /2‬واخلطيب يف تايل ختليص اْلتشابه‬
‫يف الرسم (‪ 579 -578 /2‬رقم‪ ، )350‬بإسناد صحيح ‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫إنه ما أنزل هبم عقوبة خترج عن حدود عقوبات احلدود اْلقدرة والتعزيرات‬

‫عىل اخلطايا التي ال ُيتلفون فيها عن بقية اْلسلمني ‪.‬‬

‫فعدم إنزال العقوبة الدنيوية عليهم عىل ما كان يبدو منهم من خذالن‬

‫وإثارة للشكوك والفتن ‪ ،‬هو موطن الشاهد عىل أهنم كانوا ُيعاملون بقدر من‬
‫احلرية ‪ ،‬ال نكاد نعرف مثلها يف تصورات ٍ‬
‫كثري من اْلنتمني لعلوم الرشيعة‬

‫اليوم !‬

‫أيضا اإلمام الطحاوي (ت‪321‬هـ) ‪ ،‬حيث قال ‪:‬‬


‫وقد نص عىل ذلك ً‬

‫«وقد كان اْلنافقون يف مقام رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم باْلدينة غري‬

‫متعرضني من قبل رسول اهلل بقتل ‪ ،‬وال بَم سواه ‪ ،‬وكان صىل اهلل عليه وسلم‬
‫ِّ‬
‫حيملهم عىل عالنيتهم ‪ ،‬وعىل ما كانوا ُيظهرون له من أمورهم ‪ ،‬وإن كان قد‬

‫وقف من باطنهم عىل خالف ذلك مما أعلمه اهلل عز وجل منهم ‪ ،‬وما دله عليه‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫بقوله فيَم أنزل عليه‪ :‬ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬

‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﭼ‬
‫[األحزاب‪ ، ]60 :‬ومل ُيغ ِمره عز وجل هبم ‪ ،‬وال كان منه صىل اهلل عليه وسلم‬

‫فيهم بعد علمه بَم كان اهلل عز وجل أعلمه عنهم ‪ ،‬مما كانوا عليه من الكفر‬

‫‪113‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الذي كانوا يرسونه ‪ ،‬بقوله‪ :‬ﭽ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ‬

‫ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﭼ [اْلنافقون‪ ،]1 :‬ثم أتبع‬

‫ذلك بقوله ‪ :‬ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﭼ [اْلنافقون‪ ،] 4 :‬وبَم أنزل اهلل عز وجل عليه‬

‫صىل اهلل عليه وسلم فيهم من قوله عز وجل‪ :‬ﭽ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬

‫ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﭼ [التوبة‪. ]84 :‬‬

‫ومن إخباره بمصريهم الذي يصريون إليه يف اآلخرة بقول اهلل عز وجل‪ :‬ﭽ ﮱ‬

‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﭼ [النساء‪. »]145 :‬‬


‫(‪)1‬‬

‫وهذا هو ما أشار إليه اإلمام اْلاوردي (ت‪450‬هـ) ‪ ،‬عندما قرر أن‬

‫اخلوارج اْلك ِّفرين ال ُي َ‬


‫ؤمرون باالعتزال عن بقية اْلسلمني وال ُيمنَعون‬

‫أرزاقهم وال ُيـقاتَلون ‪ ،‬ثم قال عن اْلنافقني ‪« :‬واقتىض يف ذلك سرية رسول‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اهلل (صىل اهلل عليه وسلم) يف اْلنافقني ‪ :‬يف َكـ ِّفه عنهم ‪ ،‬مع علمه‬

‫بمعتقدهم‪ ،‬لتظاهرهم بطاعته ‪ ،‬مع استبطان معصيته» ‪.‬‬


‫(‪)2‬‬

‫(‪ )1‬رشح مشكل اآلثار للطحاوي (‪. )170/13‬‬


‫(‪ )2‬احلاوي للَموردي (‪. )117/13‬‬

‫‪114‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫مقدار كبري من احلريات كان يتمتع به اْلجتمع‬ ‫وهذا كله يدل عىل‬

‫تجاوز ف ُيزاد عليه ؛ إال عىل معنى تقرير الفوىض (ال‬


‫النبوي ‪ ،‬ال يمكن أن ُي َ‬
‫ٍ‬
‫مكانة للدين وللحرص عىل صالحه‬ ‫أي‬
‫احلرية)‪ ،‬وعىل معنى عدم إقامة ِّ‬
‫أي حضارة معارصة ال‬
‫واْلحافظة عىل عقائده ومقدساته ‪ ،‬كَم هو الواقع يف ِّ‬
‫جتعل للمقدَّ س الديني أي اعتبار ‪.‬‬

‫فإن زُعم أن وجود النفاق ر‬


‫دليل عىل نقص احلريات ‪ ،‬ولوال ذلك ْلا‬

‫اضطر اْلنافقون عىل أن ُيـخ ُفوا قناعاتِـهم ؟‬

‫فسيكون اجلواب أن نقول ‪ :‬إن إخفاء الكفر بالدين ال يلزم أن يكون‬


‫ٍ‬
‫حسد يمنع من‬ ‫صادرا عن قناعة بعدم مصداقية الدين ‪ ،‬بل قد يكون بسبب‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫ختطيط إلفساد وخيانة ‪.‬‬ ‫االنصياع ‪ ،‬أو بسبب استكبار وعناد ‪ ،‬أو من أجل‬

‫وبذلك يتبني أن اْلنافق قد ال يتمكن من إبداء حقيقة ما ُيفيه ‪:‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ٍ‬
‫حسد أو استكبار ‪ :‬ورصح بحسده أو عناده ‪،‬‬ ‫أ‪ -‬ألنه لو كان نفاقه عن‬

‫وأنه هو سبب عدم صدق إيَمنه ‪ ،‬لسقط بذلك من أعني الناس ‪،‬‬

‫مضطر إىل النفاق ليسرت عورته األخالقية ‪ ،‬ال‬


‫ر‬ ‫واسرتذلوا موقفه ‪ .‬فهو‬

‫‪115‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫انتقاص من حريته ‪ ،‬وإنَم بسبب أن موقفه اْلخزي يمنعه من‬ ‫بسبب‬

‫إبداء حقيقة خيانته ‪.‬‬

‫وقد أخربنا اهلل تعاىل عن وجود هذا الصنف من اإلنكار‪ ،‬اإلنكار‬

‫الذي ال يصدر عن قناعة حقيقية‪ ،‬فقال تعاىل ﭽﭑ ﭒ ﭓ‬

‫ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭼ [النمل‪ ،]14 :‬وقال‬

‫تعاىل ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬

‫ﯝﯞ ﯟ ﯠﭼ [األنعام‪ ،]33 :‬وقال تعاىل ﭽ ﭑ‬

‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬

‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭼ [البقرة‪. ]146 :‬‬

‫ولو كان نفاقه بسبب أنه يريد التخطيط إليذاء اْلسلمني ‪ ،‬كَم‬ ‫ب‪-‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫سيأيت االستدالل له ‪ ،‬فمن الطبيعي أنه سوف يلجأ إىل إخفاء حقيقة‬

‫موقفه ‪ ،‬ولن يكون نفا ُقه حينها ناجتا عن نقصان احلريات ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫جتا عن نقص‬ ‫فليس كل اضطرار إلخفاء مبدأٍ أو ٍ‬


‫رأي ال بد أن يكون نا ً‬

‫يف احلريات ‪ ،‬فاْلجرمون ُيـخم ُف َ‬


‫ون مبادئهم وآراءهم ؛ ألهنم يعلمون أهنا‬

‫وآراء فاسد رة ‪.‬‬


‫ر‬ ‫مبادئُ إجرامي رة‬

‫ويؤكد ذلك ‪ :‬أن الدخول يف اإلسالم مل يكن قط إجباريا ‪ ،‬وكانت‬


‫(‪)1‬‬

‫اْلدينة اْلنورة يف زمن النبي ^ فيها اْلرشكون الوثنيون من العرب‬

‫(‪ )1‬أدلة عدم اإلجبار عىل الدخول يف اإلسالم أدل رة قطعية ‪ ،‬منها ‪:‬‬

‫ول اهلل تعاىل ﭽﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ [البقرة‪. ]256 :‬‬


‫‪ -‬ق ُ‬

‫‪ -‬وقوله تعاىل ﭽ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﭼ [الغاشية‪– 21 :‬‬

‫‪. ]22‬‬

‫‪ -‬وقوله تعاىل ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﭵﭶ ﭼ [يونس‪.]99 :‬‬

‫‪ -‬وقوله تعاىل ﭽ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬

‫ﯢﭼ [ق‪. ] 45 :‬‬

‫‪ -‬وقوله تعاىل ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭼ [الكهف‪:‬‬

‫‪ .]29‬ومع كون التخيري هنا جاء عىل وجه التهديد والوعيد ‪ ،‬ال عىل وجه اإلباحة؛‬

‫ألن اهلل تعاىل قال بعد هذا التخيري ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ‬

‫‪117‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫واليهود ‪ ،‬وال ُألم ِز ُموا بتغيري أدياهنم باإلكراه الرصيح أو غري الرصيح ‪ .‬فمن‬

‫ادعى اإلسالم من اْلنافقني مل يفعل ذلك ألنه ُمكر ره أصال ‪ ،‬حتى ُيظن أن‬

‫إظهار هؤالء‬
‫ُ‬ ‫ظهور النفاق يف اْلدينة كان بسبب قمع احلريات ‪ .‬وإنَم كان‬

‫والتجسس عليهم‬
‫ُّ‬ ‫الدس عىل اْلسلمني‬
‫ِّ‬ ‫خالف ما يبطنون بغرض‬
‫َ‬ ‫اْلنافقني‬

‫لصالح أعدائهم وحماولة تشكيكهم يف دينهم ‪ ،‬ال بسبب قمع احلريات ‪.‬‬

‫حيا يف كالم اْلنافقني أنفسهم ‪ ،‬وأهنم إنَم أظهروا‬


‫وقد جاء هذا رص ً‬
‫اإلسالم سخرية باْلسلمني ‪ ،‬وما زعموا هم أنفسهم أن نفاقهم كان بسبب‬

‫خمربا عن قِ ميـلِـهم هذا ‪ :‬ﭽﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬


‫ً‬ ‫اإلكراه ‪ ،‬فقد قال تعاىل‬

‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﭼ [البقرة‪. ]14 :‬‬


‫(‪)1‬‬

‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ ؛ إال أنه‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫هتديدر ووعيد بعقوبة اآلخرة ‪ ،‬ال بعقوبة دنيوية عاجلة من البرش ‪ ،‬مع ترك حرية‬
‫اختيار اْلصري األخروي لإلنسان يف الدنيا ‪ .‬ولذلك يصح االستدالل باآلية عىل‬
‫أهنا تبني حرمة اإلكراه عىل الدين ‪.‬‬
‫(‪ )1‬قال ابن جرير يف تفسريه ‪ « :‬وإذا انرصف اْلنافقون خالني إىل مردهتم من اْلنافقني‬
‫واْلرشكني قالوا‪ :‬إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد ^ ‪ ،‬وبَم جاء به‬
‫ومعاداته ومعاداة أتباعه‪ ،‬إنَم نحن ساخرون بأصحاب حممد ^ يف قيلنا هلم إذا‬

‫‪118‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫سبب‬
‫َ‬ ‫كَم قد أخربنا اهلل تعاىل عن أحد أهدافهم الـ َمخم ِفيـة التي كانت‬

‫هدف ال عالقة له باإلكراه وقم ِع احلريات ‪،‬‬


‫ر‬ ‫فتبني أنه‬
‫َ‬ ‫اختاذهم قرار النفاق ‪،‬‬

‫بل هو هدف متع ِّل رق بتمكنهم من خالل النفاق أن ينرشوا الفتن واإلفساد يف‬

‫اْلجتمع اْلسلم ‪ :‬ﭽﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬

‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭑ ﭒ‬

‫ﭓ ﭔ ﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭞ ﭟ‬

‫ﭠﭼ [التوبة‪ ، ]48 – 47 :‬ولذلك كان اْلنافقون ينارصون الكفار‬

‫عىل اْلسلمني باخلفية ‪ ،‬كَم قال تعاىل ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‬

‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬

‫ﯢ ﯣ ﯤ ﭼ [النساء‪ ، ]139 – 138 :‬ثم أخربنا اهلل تعاىل عن تربصهم‬

‫وخيانتهم للمسلمني ‪ ،‬فقال تعاىل ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣ ﭤ ﭥﭦ‬

‫ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬

‫ﭶ ﭼ [النساء‪ ، ]141 :‬بل قد أخربنا اهلل تعاىل عن أحد أهدافهم يف تذبذهبم‬

‫لقيناهم ‪ :‬ﭽ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭼ» ‪. )311 /1( .‬‬

‫‪119‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫بني اإليَمن والكفر ‪ ،‬وهو تشكيك اْلسلمني يف دينهم ‪ ،‬فقال تعاىل ﭽ ﭜ‬

‫ﭝ ﭞﭟﭠ ﭡ ﭢﭣﭤ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪ‬

‫ﭫ ﭬﭼ [آل عمران‪ . ]72 :‬بل بلغ هبم السعي يف إيذاء اْلؤمنني أن بنوا‬

‫مسجد الرضار ‪ ،‬لكي يكون منطل ًقا ْلؤامراهتم عىل اْلسلمني ‪ ،‬كَم قال‬

‫تعاىل ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬

‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ‬

‫ﭩ ﭪ ﭼ [التوبة‪. ]107 :‬‬

‫ولذلك فقد يوجد النفاق حتى يف أكثر اْلجتمعات حرية ؛ عندما تكون‬

‫منطلقات اْلنافقني ليست نابعة عن قناعات حقيقية ‪ ،‬وإنَم من أمراض نفسية‬

‫ومن فساد أخالقي يرفضه كل صاحب ُخ ُل ٍق قويم ‪ .‬والفرق بني وجود النفاق‬

‫يف جمتمع حر (كاْلجتمع النبوي) وجمتمع آخر يقمع احلريات ‪ :‬أن النفاق‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫يف اْلجتمع احلر يكون حال ًة استثنائية ختالف ما عليه عموم اْلجتمع ‪،‬‬

‫وكذلك كان يف زمن النبي ^ ‪ ،‬فاألعم األغلب ممن أظهروا اإلسالم كانوا‬

‫أهل إيَمن حقيقي وعدالة واستقامة ‪ ،‬خاصة بعد استقرار اإلسالم يف اْلدينة‪،‬‬

‫وبعد مرور سنوات ِعدة عىل انتشاره فيها ‪ .‬وأما النفاق يف اْلجتمع القامع‬

‫‪120‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫للحريات ‪ :‬فسيكون هو احلالة األصلية غالبا ‪ ،‬خاصة مع امتداد زمن القمع‬

‫وبحسب اشتداد َو مط َأتِه ‪.‬‬

‫واألمر الثاين الدال عىل واقع احلريات يف زمن النبي ^ ‪ :‬هو‬

‫توهم من احلقوق ‪:‬‬


‫حرية التعبري واجلدل يف اْلطالبة باحلقوق أو ما ُي َّ‬

‫وسنكتفي من اْلواقف الدالة عىل ذلك هبذا اْلوقف الواحد اجلليل‬

‫الداللة ‪:‬‬

‫وهو ما صح عن أيب ُأ َم َام َة ‪ ،‬قال ‪« :‬إن َفتًى َشا ًّبا أتى النبي ‪ ، ‬فقال ‪:‬‬

‫زَج ُرو ُه ‪َ ،‬و َقا ُلوا ‪َ :‬م مه ! َم مه‬ ‫ول اهلل ‪ ،‬ائ َمذ من يل بِالزِّ نَا ؟!! َف َأ مق َب َل ال َق مو ُم عليه ‪َ ،‬ف َ‬ ‫يا َر ُس َ‬

‫ك؟ قال ‪:‬‬ ‫! فقال ‪ : ‬ادنـه ‪َ ،‬فدَ نَا منه َق ِريبا ‪ ،‬قال ‪َ :‬فج َلس ‪ ،‬قال ‪َ : ‬أ ُ ِ‬
‫ّت ُّب ُه ألُ ِّم َ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫م‬
‫اهتِ مم‪ .‬قال ‪: ‬‬ ‫حيِ ُّبو َن ُه ألُ َّم َه ِ‬
‫ال واهلل ‪ ،‬جعلني اهلل فداك ! قال ‪َ : ‬وال الناس ُ‬
‫ول اهلل ‪ ،‬جعلني اهلل فداك ! قال ‪َ : ‬والَ‬ ‫ك ؟ قال ‪ :‬ال واهلل يا َر ُس َ‬ ‫ُح ُّب ُه ِال مبنَتِ َ‬
‫َأ َفت ِ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ُح ُّب ُه ألُ مختِ َك ؟ قال ‪ :‬الَ واهلل ‪ ،‬جعلني اهلل‬ ‫َاهتِم ‪ .‬قال ‪َ : ‬أ َفت ِ‬ ‫حيِ ُّبو َن ُه لِ َبن ِ‬
‫الناس ُ‬

‫ُح ُّب ُه لِ َع َّمتِ َك ؟ قال‬ ‫اهتِم ‪ .‬قال ‪َ : ‬أ َفت ِ‬ ‫حيِ ُّبو َن ُه ألَ َخ َو ِ‬‫فداك ! قال ‪َ : ‬وال الناس ُ‬

‫حيِ ُّبو َن ُه لِ َع ََّم ِهتِم‪ .‬قال ‪:‬‬ ‫‪ :‬الَ واهلل ‪ ،‬جعلني اهلل فداك ! قال ‪َ : ‬وال الناس ُ‬

‫خلالَتِ َك ؟ قال ‪ :‬الَ واهلل ‪ ،‬جعلني اهلل فداك ! قال ‪َ : ‬والَ الناس‬ ‫ُحبه َِ‬ ‫ِ‬
‫َأ َفت ُّ ُ‬

‫‪121‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫خلاالَ ِهتِم ‪ .‬قال ‪َ :‬ف َو َض َع رسول اهلل ‪َ ‬يدَ ُه عليه ‪ ،‬وقال ‪ :‬اللهم اغ ِمف مر‬ ‫حيِبو َنه َِ‬
‫ُ ُّ ُ‬
‫ت إىل‬ ‫َذ من َب ُه ‪َ ،‬و َط ِّه مر َق مل َب ُه ‪َ ،‬و َح ِّص من َف مر َج ُه ‪ .‬فلم َيك مُن َب معدُ ذلك ا مل َفتَى َي ملت َِف ُ‬
‫ٍ‬
‫يشء»(‪. )1‬‬

‫اْلجتمع اْلدين يف زمن‬ ‫َف ِـالستِج ِ‬


‫الء مقدار احلرية التي كان يتمت ُع هبا‬
‫ُ‬ ‫م م‬
‫النبوي اْلؤ ِّثر ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫واحلوار‬ ‫النبي ‪ ‬نقف وقف ًة يسري ًة من هذا احلديث اجلليل‬

‫داع ًيا إىل استحضار اْلعاين التالية ‪:‬‬

‫جاللة النبي ‪ ‬وهيبته باْلكان الذي ال يقار ُبه فيه أحدر من البرش ‪ ،‬وهي‬

‫واألكرب لدولة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫واألول‬ ‫احلاكم األوحدَ‬
‫َ‬ ‫جالل رة وهيب رة ال تنبع فقط من كونه‬

‫اإلسالم الناشئة الفتية ‪ ،‬وال من كون شخصيته ‪ ‬شخصي ًة تفوق يف الرزانة‬


‫ِ‬
‫وقوة النظر َّ‬
‫كل ما عرفه وسيعرفه البرش من‬ ‫ِ‬
‫البصرية‬ ‫ِ‬
‫ونفاذ‬ ‫ِ‬
‫العقل‬ ‫ِ‬
‫ورجاحة‬
‫ويقني اإليَمن وس مل ِ‬
‫طة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقوة الزهد‬ ‫ِ‬
‫وضياء التعبد‬ ‫البرش‪ ،‬وال من نور التأ ُّل ِه‬
‫ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫األنبياء واْلرسلني ك َّلهم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل ‪‬‬ ‫االرتباط الكامل باهلل ‪ ‬التي أ َّم هبا‬

‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أمحد يف مسنده (رقم‪ ، )22212 ، 22211‬بإسناد صحيح ‪ .‬وقد‬
‫صححه احلافظ زين الدين العراقي يف اْلغني عن محل األسفار يف األسفار ‪ -‬يف‬
‫حاشية إحياء علوم الدين للغزايل ‪. )1432/2( -‬‬

‫‪122‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وسادهم هبا ‪ ،‬وال من إحاطة أصحابه وجنده ِ‬


‫الفدائيني به إحاط َة احلصن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫احلصني بقلب اْلدينة اْلقدسة ‪ ،‬وال من سكون جوارحهم ‪ ‬وخضو ِع‬
‫ِ‬
‫أبصارهم بني يديه ^ ‪ ،‬وإن كانت قلوهبم لتضطرب وختفق باحلب‬

‫واإلجالل واإلعظام له ‪ ،‬حتى إنك ال تشك (إذا رأيتَهم حميطني به ‪ )‬بأهنم‬


‫ٍ‬
‫بإكبار وإعظا ٍم ال يعرف شيئًا منه‬ ‫كانوا حيملون رسول اهلل ‪ ‬يف قلوهبم‬

‫جبابر ُة اْللوك من القيارصة واألكارسة يف جنودهم وخواصهم اْلقربني ‪،‬‬

‫بل هي مهاب رة نابع رة من ذلك كله ‪ ،‬مع ما أفاض اهلل به عليه ‪ ،‬وأحاطه به ‪،‬‬

‫وعصمه بجنوده ‪ ،‬مما ال يعلم ُكن َمهه وال َقدم َره إال اهلل تعاىل ‪ُ .‬‬
‫فح َّق أن يكون‬
‫َّ‬
‫وأجل اخللق ‪!!!  :‬‬ ‫رسول اهلل ‪َ ‬أ مه َ‬
‫يب البرش ‪،‬‬ ‫ُ‬

‫اْلقصود من التذكري بتلك احلرضة اْلهيبة وبذلك اْلجلس اجلليل‬

‫ـج ِّـرئَ ذلك‬


‫بني يدي رسول اهلل ‪ ، ‬أن نتصور ‪ :‬ما الذي كان يمكن أن ُي َ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫النبي ‪ ‬يف أن يبيح له فاحش ًة كفاحشة الزنا ‪ ،‬التي تعرف‬
‫الشاب بأن يستأذن َّ‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫والعقول السليم ُة ‪ ،‬وأدل ُة جتريمها يف الرشيعة أدل رة قطعي رة‬ ‫الفطر السوي ُة‬
‫ُ‬ ‫قبحها‬
‫َ‬
‫يقيني رة ‪ ،‬وهي حدٌّ من حدود اهلل تعاىل ؟!!‬

‫‪123‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫هل كان من السهل عىل شاب اليو َم أن جيلس أمام أحد اْلفتني ليناقشه‬
‫يف ّتريم ٍ‬
‫أمر دون الزنا يف الفحش ووضوح جريمته ‪ ،‬مناقش ًة ال ليطلب فيها‬

‫ويفهم‬
‫َ‬ ‫االستباح َة كَم فعل ذلك الشاب مع النبي ^ ‪ ،‬وإنَم ليعرفَ الدليل‬
‫ِ‬
‫جملس بني‬ ‫ويقف عىل ِ‬
‫احلكمة ؟!! هذا مع الفارق الكبري بني‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫االستدالل‬
‫ِ‬
‫وجملس َمن سواه من البرش ‪ ،‬هو فارق أوسع من الفارق‬ ‫يدي رسول اهلل ‪‬‬
‫بني السَمء واألرض!!‬

‫ما كان لذلك الشاب أن جيرتئ عىل أن ُيطو إىل جملس رسول اهلل ‪‬‬
‫خطو ًة واحد ًة لذلك الغ ََرض ‪ ،‬وال أن جيلس بني يديه ألجل ذلك الطلب ‪ ،‬وال‬

‫قدر عظي ٍم من احلرية ‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫بحرف مما قال ؛ لوال وجو ُد ٍ‬ ‫أن يشافه رسول اهلل ‪‬‬
‫اجليل عليها ‪ .‬وهي حري رة ال أجد مث َلها (وال قري ًبا منها) بني َيدَ م‬
‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ـي ذلك‬ ‫ُرب َ‬
‫ِ‬
‫وقدوة التُّقى اخلالدة‬ ‫مر التاريخ ‪ ،‬فكيف بإمام اهلدى اْلطلق‬ ‫إما ِم ُهدً ى عىل ِّ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪!! ‬‬

‫ولو أن هذا الشاب كتم ما كان يريد ‪ ،‬لعدم وجود تلك احلرية ‪ ،‬هل كان‬

‫العقيل ‪ ،‬الذي‬
‫ُّ‬ ‫يشء من تلك الرغبة اجلاحمة كَم شفاه هذا احلوار‬
‫ر‬ ‫سيشفيه‬

‫‪124‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ِ‬
‫جمتمعه النبوي يف مدينته‬ ‫النبي ‪ ‬يف‬ ‫كفلتمه له احلري ُة النبوي ُة التي أشاعها‬
‫ُّ‬
‫النبوية؟!!‬

‫وهبذا يتبني أن جمتم ًعا سمح لشاب أن جيابه رسول اهلل ^ بمثل هذا‬

‫احلوار ‪ ،‬ال يمكن إال أن يكون جمتم ًعا ُح ًّرا ‪ ،‬جمتم ًعا ال ُياف من إبداء‬

‫قناعاته ‪ ،‬ولو كانت يف غاية اْلصادمة لدين اْلجتمع ولقيمه اْلقدسة !!‬

‫واألمر الثالث الدال عىل واقع احلريات يف زمن النبي ^ ‪ :‬ترشيع‬

‫الشورى واألمر هبا ‪:‬‬

‫طلب‬
‫ر‬ ‫وداللة الشورى عىل احلرية دالل رة ظاهرة ‪ :‬فالشورى يف حقيقتها‬

‫وترشيع لذكر القناعات اْلتباينة ‪،‬‬


‫ر‬ ‫واستدعاء حلرية االختالف ‪،‬‬
‫ر‬ ‫لآلراء ‪،‬‬

‫وتأكيدر عىل فائدة سَمع وجهات النظر اْلختلفة واْلتعددة ‪ ،‬وتدريب‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫للمجتمع عىل ممارسة هذه احلرية ‪ ،‬ال عىل أهنا بال رء ال بد منه ‪ ،‬بل عىل أهنا‬

‫نعمة مقدسة ال بد من صوهنا !‬

‫ٍ‬
‫ملحظ آخر نلحظه يف السرية النبوية ويف عالقة احلاكم باْلحكوم‬ ‫ففي‬

‫ترشيع إهلي قطعي ‪،‬‬


‫ر‬ ‫ويف عالقة القيادة الدينية بأفراد اْلجتمع النبوي ‪ :‬يأيت‬

‫كان يف زمن النبي ^ من أهم معامل عالقة الدولة بالشعب ومن أوضح‬

‫‪125‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫اْلظاهر السياسية للمجتمع اْلدين يف زمن النبوة ‪ :‬أال وهو ترشيع ُّ‬
‫الشورى‬

‫يف اإلسالم ‪ ،‬وذلك يف قوله تعاىل يف وصف اْلؤمنني (ﮙ ﮚ ﮛ‬

‫ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ) [الشورى‪ ، ]٣٨:‬وقوله تعاىل‬

‫خماط ًبا نب َّيه ‪( ‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬

‫ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬

‫ﭹ ﭺ) [آل عمران‪. ]١٥٩:‬‬

‫ففي اآلية األوىل يذكر اهلل تعاىل أهم ما يتصف به اْلؤمنون ‪ ،‬فذكر‬

‫التشاور فيَم بينهم صف ًة بني إقامتهم للصالة وأدائهم للزكاة ‪ ،‬بني ركني‬

‫اإلسالم اللذين ال يفرتقان !! وال معنى للتشاور إال مع قبول االختالف ‪،‬‬

‫ومع تشجيع إبداء الرأي اْلخالِف ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ويف اآلية الثانية ‪( :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ) [آل‬

‫عمران‪ُ : ]١٥٩:‬ي ُ‬
‫ؤمر النبي ‪ ‬بمشاورة أصحابه ‪ ،‬وهو النبي اْلعصوم ‪ ،‬وسيد‬

‫األولني واآلخرين ‪ ،‬وهو اْلؤيد بالوحي ‪ ،‬والذي ال ينطق عن اهلوى !! ثم‬

‫ُيؤمر ‪ ‬بالشورى يف هذه اآلية ‪ :‬عقب وقوع بعض أصحابه يف خطيئة‬

‫خمالفة أمره يف غزوة ُأ ُحد ‪ ،‬وبعد خمالفة أكثرهم لرغبته يف عدم اخلروج‬

‫‪126‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫من اْلدينة ‪ ،‬وبعد أن تعر َض اْلسلمون ألحد أشد اْلواقع أ َل ًـمـا عىل‬

‫نفوسهم ‪ .‬لتؤكد اآلي ُة بذلك عىل األمهية القصوى للشورى يف اإلسالم ‪،‬‬

‫أساسا من‬
‫ً‬ ‫ولتؤكد أنه ليس هناك حجة من احلجج تبيح عدم اعتَمد الشورى‬

‫أساسات احلكم اإلسالمي ‪ :‬فليس إخفاق نتائج الشورى مرة بالذي جييز‬

‫اهتام الشورى بعدم صالحيتها يف سياسة الدولة ‪ ،‬وال خمالفة أهل الشورى‬

‫ْلوجبات مشورهتم بالتي جتيز معاقبتهم بعد تكرار مشورهتم بعد ذلك!‬

‫ولو تأملنا يف داللة استشارة النبي ‪ ‬ألصحابه (ريض اهلل عنهم) ‪،‬‬

‫لوجدناها ُتـ َج ِّلـي حقيق َة ما كان عليه اْلجتمع النبوي من احلرية الفكرية‬

‫وحرية التعبري عىل أقىص صورة ‪:‬‬

‫خري من اتَّـبَـ َعه البرش هو رسول اهلل ‪ ، ‬فهو أحق من ُقلدَ ‪،‬‬
‫فلو تذكرنا أن َ‬
‫وهو َأوىل من ذابت فيه الشخصيات ‪ .‬ومع ذلك كله ‪ :‬فقد كان أصحا ُبه ‪‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم شخصيتُه اْلنفردة ‪،‬‬ ‫(وهم أعظم الناس ح ًّبا له وتعظيَم) لكل‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم رأيه اخلاص الذي يعتزُّ به ‪ ،‬والذي مل ينصهر يف رأي أحد‬ ‫ولكل‬

‫من الناس ‪ ..‬وال يف رأي رسول اهلل ‪ . ‬ولوال أن الصحابة عىل هذا احلد من‬

‫سقف ِآم ٍن من‬


‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫إبداء الرأي ّتت‬ ‫ٍ‬
‫وحرية يف التفكري ومتك ٍ‬
‫ُّن من‬ ‫ِ‬
‫قوة النفس‬

‫‪127‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الرعاية النبوية ‪ْ ،‬لا كان ألخذ رأهيم فائدة ‪ ،‬وْلا ُأمر النبي ‪ ‬باستشارهتم‬

‫أصداء ال تقول إال‬


‫ً‬ ‫(ﭭ ﭮ ﭯ)؛ ألهنم لو مل يكونوا كذلك لكانوا‬

‫ما قيل ‪ ،‬وربَم ال ترى إال ما رآه النبي ‪ ‬؛ فَم فائدة استشارة األصداء التي‬

‫والـمرايا التي ال َتـ َرى ‪ ،‬وإنَم تعكس رؤية الرائي أمامها ؟!!‬
‫تردد الصوت ‪َ ،‬‬

‫وبعد أن استدللنا عىل إقرار اإلسالم هلذه احلرية اْلنضبطة ‪ ،‬وأهنا‬

‫واضحا من معامل اْلجتمع النبوي يف اْلدينة النبوية ‪ ،‬نريد أن‬


‫ً‬ ‫لَم‬
‫كانت َم مع ً‬
‫ُ‬
‫الوصول باْلجتمع اْلسلم إىل‬ ‫نعرف كيفية ّتقيق هذا اهلدف ‪ ،‬أال وهو ‪:‬‬

‫العني‬
‫ُ‬ ‫أن تكون احلري ُة اْلنضبط ُة قيم ًة راسخ ًة فيه وممارس ًة واقعي ًة ال ُتـخطئها‬
‫ٍ‬
‫وموقف ‪:‬‬ ‫يف كل موق ٍع‬

‫تقنني القوانني ووضع اخلطط‬


‫ُ‬ ‫فمن أجل ّتقيق هذا اهلدف جيب‬

‫وتنفيذ الربامج التي جتمع بني أمرين رضوريني ‪:‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ -‬احلَمية من سياسة َق مم ِع احلريات الفكرية ‪.‬‬

‫‪ -‬واحلَمية ً‬
‫أيضا من إفساد عقائد الناس بالرتويج للعقائد الباطلة‬

‫اْلجرمة‪:‬كالكذب ‪ ،‬واخلداع ‪ ،‬واْلغالطات ‪ ،‬واستغالل‬


‫َّ‬ ‫بالوسائل‬

‫حاجات اْلحتاجني ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫إن الفكر ال يغريه إال الفكر ‪ ،‬وأما التسلط عىل اْلفكر وعىل تفكريه ‪ ،‬فقد‬

‫أمد بخسائر من التطرف‬ ‫رسيعة ‪ ،‬لكنه سينتهي بعد ٍ‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫انتصار‬ ‫نتائج‬ ‫تكون له‬
‫ُ‬
‫للـم مبطِل عىل‬
‫وع ُل ٍّو ُ‬
‫ٍ‬
‫والغلو أو الفتن الطائفية ‪ ،‬ولربَم أ َّدى إىل انتصار غلبة ُ‬
‫اْلح ِّق ؛ بسبب الظلم الذي يدفع اْلبطِ َل إىل االنتقام ‪ ،‬وبسبب سنة اهلل تعاىل‬
‫ِ‬

‫ِ‬
‫القدرية باالنتصاف للمظلوم من الظامل ‪.‬‬

‫عجائب‬
‫َ‬ ‫تاريخ االضطهاد الفكري يف التاريخ اإلسالمي‬
‫ُ‬ ‫لقد حفظ لنا‬

‫وغرائب العظات ‪ ،‬التي تدل عىل أن االضطهاد الفكري ال جيدي‬


‫َ‬ ‫الـم ُثالت‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫مؤقتة (ولو طالت) وبتحقيق‬ ‫ٍ‬
‫بانتصارات‬ ‫شيئًا ‪ ،‬ولو خدع القائمني عليه‬

‫أهدافهم يف الظاهر ‪:‬‬

‫فبدءا باضطهاد كفار مكة للمسلمني األوائل ‪ ،‬والذي استمر خالل الفرتة‬
‫ً‬
‫اْلكية ‪ ،‬مما ُّ‬
‫اضطر معه اْلسلمون للهجرات اْلتوالية من مكة إىل احلبشة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫واْلدينة ‪ .‬والذي انتهى بالفتح اْلبني والنرص اْلؤزر الذي قامت عىل أركانه‬
‫ُ‬
‫ممالك اإلسالم منذ ذلك اليوم‬ ‫دول ُة اإلسالم النبوية ‪ ،‬ثم اخلالف ُة الراشدة ‪ ،‬ثم‬

‫فح َّق ْلن أرخ لإلسالم أن جيعل غاية االضطهاد للنبي ‪‬‬
‫إىل هذا اليوم ‪ُ .‬‬

‫‪129‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫التي دعته ْلفارقة وطنه يف حادثة اهلجرة ‪َ :‬‬


‫أول تاريخٍ لدولة اإلسالم ؛ ألن‬

‫بلوغ ذلك االضطهاد غايتَه ‪ ،‬كانت هنايتَه ‪ ،‬وبداي َة االنتصار !‬

‫ومرورا ‪ :‬بفتنة خلق القرآن ‪ ،‬يف مطلع القرن اهلجري الثالث ‪ .‬والتي‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫بتأييد من السلطان‬ ‫انتصارا للمعتزلة ‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫اضطهدَ فيها علَمء األمة وأئمة السنة ‪،‬‬
‫ً‬
‫العلَمء‬
‫ُ‬ ‫فسجن‬ ‫(بدءا باخلليفة اْلأمون ‪ ،‬ثم اْلعتصم ‪ ،‬ثم الواثق)‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫وجنوده‬
‫ٍ‬
‫معتقد بالقوة واإلكراه(‪. )1‬‬ ‫وع ِّذبوا و ُقتلوا ‪ ،‬من أجل إجبارهم عىل اعتناق‬
‫ُ‬

‫قرأت خرب اْلحنة‬


‫ُ‬ ‫(‪ )1‬يقول الشيخ عيل الطنطاوي (ت‪1420‬ه) رمحه اهلل ‪« :‬وأنا كلَم‬
‫[يعني فتنة القول بخلق القرآن] أقف عند أمور ثالثة ‪ ،‬وأعجب منها أشد العجب ‪:‬‬
‫أوهلا ‪ :‬أن اْلعتزلة هم أصحاب اْلذهب العقيل يف اإلسالم ‪ ،‬وفيهم ال َل َس ُن والبالغ ُة‬
‫وإمامهم ابن أيب ُدؤاد من أجل رجال اإلسالم فضال ونبال‬
‫ُ‬ ‫و ُب معدُ النظر وسع ُة اْلعرفة ‪،‬‬
‫الناس بالقوة عىل قبول آرائهم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫العقل أن ُيكرهوا َ‬ ‫‪ ،‬وبيانا وعقال ؛ فكيف سو َغ هلم هذا‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وح مل ِمه ‪ ،‬ويف‬
‫وثانيها ‪ :‬أن اْلأمون (وهو أعظم ملوك بني العباس يف عقله وخُ ُلقه ِ‬

‫يض‬ ‫ِ‬
‫سعة مداركه وعمق تفكريه ‪ ،‬وإحاطته بعلوم عرصه اْلنقولة واْلرتمجة) كيف َر َ‬
‫ِ‬
‫َـرش‬
‫َـصو َر أن األفكار تَـنمـت ُ‬
‫وص َم بالعدوان عىل حرية الفكر ؟! وكيف ت َ‬
‫لنفسه أن ُي َ‬
‫الناس عىل أن ُيرجوا من دورهم ‪ ،‬ويبدلوا‬
‫َ‬ ‫بالقوة؟! إن السلطان يستطيع أن ُيكر َه‬
‫ِ‬
‫وتبديل أفكارهم ‪.‬‬ ‫ثياهبم ‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يكرههم عىل اخلروج عن مبادئهم ‪،‬‬
‫َ‬
‫تستحق هذه العناية ‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وثالثها ‪ :‬اْلسألة التي صارت مدار اخلالف ‪ ،‬وهي مسأل رة ال‬

‫‪130‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫فكان عاقبة ذلك أن دارت الدائرة عىل اْلعتزلة يف خالفة اْلتوكل ‪ ،‬فنرص‬

‫‪ُّ ،‬‬
‫واضطهد اْلعتزلة ‪ ،‬حتى إن رأس‬ ‫ُ‬
‫اْلتوكل اْلحدثني عىل اْلعتزلة‬
‫( ‪)1‬‬

‫وصودرت‬
‫اْلعتزلة ابن أيب دؤاد (ت‪240‬ه) ُعزل عن القضاء سنة ‪237‬ه ‪ُ ،‬‬
‫أمالكُه(‪ ،)2‬وْلا مات منكو ًبا ‪ ،‬مل يمكن دفنه إال يف بيته(‪.)3‬‬

‫مشريا إىل‬
‫ً‬ ‫الـح مج ِوي(ت‪1376‬ه)‬
‫ويف ذلك يقول حممد بن احلسن َ‬
‫اْلأمون واْلتوكل ‪« :‬ولو أن اخلليفتني ت ََـركا احلري َة التامة ألهل العلم ‪،‬‬

‫فأطلقوا عنان أفكارهم يف البحث عن احلق ‪َ ،‬ل َظ َـه َـر ‪ ،‬ولرجعت الطائفتان‬
‫فتدخ ُل ِ‬
‫أهل السياسة يف أمثال هذا هو َسدم رل جللباب الليل عىل‬ ‫ُّ‬ ‫إىل ٍ‬
‫وفاق ‪.‬‬
‫ُ‬
‫تداخل العوام مع العلَمء يف‬ ‫وسدٌّ حاجزر عن تقدُّ ِم العلم ‪ .‬وكذلك‬
‫احلقائق ‪َ ،‬‬

‫وليست من أركان الدين ‪ ،‬وال أمرنا اهلل هبا ‪ ،‬وال يسألنا يوم القيامة عنها ‪ ،‬وهي ‪ :‬هل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ر‬
‫رجال من التاريخ (‪. )99-100‬‬ ‫القرآن خملوق أم ال ؟» ‪.‬‬
‫(‪ )1‬انظر ‪ :‬تاريخ بغداد ‪ -‬ترمجة ‪ :‬حممد بن عبد اْللك بن أيب الشوارب ‪ ،‬وترمجة ‪:‬‬
‫عبداهلل بن حممد بن إبراهيم بن عثَمن ‪ ،‬أيب بكر ابن أيب شيبة ‪)344-345/2( -‬‬
‫(‪. )67/10‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ الطربي (‪. )188-189/9‬‬
‫(‪ )3‬تاريخ اإلسالم للذهبي (‪. )760-761/5‬‬

‫‪131‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫هذه اْليادين ‪ .‬كَم أن العلَمء ال يستعينون باخللفاء أو العامة ؛ إال قرصت‬

‫ظهور خطئهم»(‪. )1‬‬


‫َ‬ ‫خطاهم ‪ ،‬وخافوا‬

‫فَم أن انفرجت اْلحنة عن احلنابلة ‪ ،‬وبعد وفاة اإلمام أمحد ‪ ،‬حتى غال‬

‫غال ُة احلنابلة ‪ ،‬وظلموا وتعا َلوا عىل خصومهم ‪ ،‬حتى منعوا اإلمام حممد بن‬

‫جرير الطربي (ت‪310‬ه) من التعليم ‪ ،‬وحبسوه يف بيته(‪. )2‬‬

‫السلطان‬
‫ُ‬ ‫فأوذوا من قِ َب ِل األشعرية ‪ ،‬وأعان‬
‫ثم تقلبت باحلنابلة األيام ‪ُ ،‬‬

‫بعضهم مذه َبه ‪ ،‬وهرب‬ ‫األشعري َة عليهم ‪ ،‬واشتدت الوطأ ُة عليهم ‪ ،‬حتى َ‬
‫غري ُ‬

‫بعضهم بمعتقده(‪. )3‬‬


‫ُ‬

‫(‪ )1‬الفكر السامي للحجوي (‪. )12/2‬‬


‫(‪ )2‬انظر ‪ :‬أخبار الرايض واْلتقي من كتاب األوراق أليب بكر الصويل (‪ ، )65‬وتاريخ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫بغداد للخطيب (‪ ، )164/2‬وتكملة تاريخ الطربي ْلحمد بن عبد اْللك اهلمذاين‬
‫(ت‪521‬ه) (‪ ، )294-295/11‬والكامل البن األثري ‪ -‬حوادث سنة‪323‬ه ‪-‬‬
‫(‪ ، )248/6‬واحلنابلة يف بغداد ْلحمد أمحد عيل حممود (‪. )171-188‬‬
‫(‪ )3‬انظر ‪ :‬اْلنتظم البن اجلوزي (‪ ، )3-4/9( )305-307/8‬وتاريخ اإلسالم للذهبي‬
‫(‪ ، )314-313 ، 152-151/10‬وذيل طبقات احلنابلة البن رجب (‪.)39-43/1‬‬
‫ويف ذلك يقول ابن عقيل احلنبيل (ت‪513‬ه) ‪« :‬ثم جاءت دولة النِّـظام [يعني ‪:‬‬

‫‪132‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ويف بداية القرن اهلجري العارش ‪ ،‬ويف خراسان ‪ :‬غال ُ‬


‫بعض السنة يف‬
‫تت ُّب ِع الشيعة ‪ ،‬فقتلوا من مسح رجله أو َّ‬
‫صىل مرسال يديه ‪ ،‬وكذلك قتلوا كل‬

‫سب الصحاب َة ‪ ،‬حتى اْلُك َمره عىل ذلك ‪ ،‬وكانت الدولة األزبكية احلنفية‬
‫من َّ‬
‫السنية هي من يعني عىل ذلك ‪ .‬فقابل الشيع ُة غلوهم بغلو آخر ‪ ،‬وقامت‬

‫فرأيت من كان يتسخ ُط عيل ِ‬


‫بنفي التشبيه ُغ ُل ًّوا‬ ‫ُ‬ ‫الوزير نظام اْللك] ‪ :‬ف َع ُظ َم األشعري ُة ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫بالغض عىل احلنابلة ‪ ،‬وصار‬ ‫عيل‬
‫يف مذهب أمحد ‪ ،‬وكان ُيظهر ُبغيض = يعود َّ‬
‫كثريا من‬
‫ورأيت ً‬
‫ُ‬ ‫رافيض وصل إىل مشهد احلسني ‪َ ،‬فأ ِم َن وباح ‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫كالمه ككالم‬
‫ُ‬
‫أصحاب اْلذاهب انتقلوا ونافقوا وتوث َق بمذهب األشعري والشافعي ‪ ،‬طم ًعا يف العز‬
‫واجلرايات» ‪ .‬اْلنتظم البن اجلوزي (‪. )93/9‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وقال الشاعر يف أحد هؤالء ‪:‬‬
‫ُ‬
‫الرسائل‬ ‫وإن كان ال ُ‬
‫جتدي إليه‬ ‫ومن مبلغر عني الوجي َه رسال ًة‬
‫ُ‬
‫اْلآكل‬ ‫وذلك لـمـا َأ مع َوزَ ت َ‬
‫مك‬ ‫ٍ‬
‫حنبل‬ ‫متذهبت للنعَمن بعد ابن‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫حاصل‬ ‫ولكنَم هتوى الذي منه‬ ‫الشافعي تدينًا‬
‫ِّ‬ ‫اخرتت َ‬
‫قول‬ ‫َ‬ ‫وما‬
‫قائل‬ ‫ٍ‬
‫مالك ‪ ،‬فا مف َط من ْلا أنا ُ‬ ‫إىل‬ ‫صائر‬ ‫شك ‪-‬‬ ‫وعَم ٍ‬
‫قليل أنت ‪ -‬ال َّ‬
‫ر‬
‫وفيات األعيان البن خلكان (‪. )152-153/4‬‬

‫‪133‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫غلوا ‪،‬‬
‫الدولة الصفوية عىل آثار طلب الثأر واالنتقام ‪ ،‬فزادت يف غلو الشيعة ًّ‬
‫واستباحت من دماء أهل السنة أضعاف ما استباحه أهل السنة منهم(‪. )1‬‬

‫الـم مقبُيل‬
‫ويف ظاهرة تغيري العقائد بقوة السلطان ‪ ،‬يقول العالم ُة َ‬
‫(ت‪1108‬ه) ‪« :‬ثم حدثت بني اْلسلمني أنفسهم نوادر ‪ ،‬كالكالم يف القدر ‪،‬‬

‫والتعرض ْلا جرى بني الصحابة ‪ . ‬واتصل بذلك‬


‫ُّ‬ ‫ومسألة خلق القرآن ‪،‬‬

‫اْلناظرة عند اْللوك واألمراء ‪ ،‬واتصل بذلك عصبية ‪ ،‬والدعوى من‬

‫(‪ )1‬نقل مال عيل القاري (‪1014‬ه) عن أحد شيوخه قوله ‪« :‬إن زيادة التعصب والعناد‬
‫والفساد يف هذه الطائفة اللعينة [يعني الشيعة الصفويني] إنَم وقعت من تعصبات‬
‫شخصا يبتدئ يف غسل األيدي من مرفقه ‪ ،‬أو مسح عىل‬
‫ً‬ ‫الطبقة األزبكية ‪ :‬حيث رأوا‬
‫حجرا يف مسجده ‪ :‬قتلوه ‪ .‬فعارضوهم بـ ‪ :‬إن غسل رجله ‪ ،‬أو مسح‬
‫ً‬ ‫رجله ‪ ،‬أو وضع‬
‫رقبته وأذنه ‪ :‬قتلوه ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وكل من صىل مرسال يديه [يعني كالشيعة] ‪ :‬قتله هؤالء ‪ ،‬فعارضوهم ‪ :‬أن من صىل‬
‫واض ًعا يديه ‪ :‬قتلوه ‪.‬‬
‫مكرها ‪ :‬قتلوه ‪ ،‬فزادوا‬
‫ً‬ ‫إىل أن ازداد التعصب بني الطائفتني ‪ :‬فمن سب الصحابة ولو‬
‫عليهم يف القباحة والوقاحة ‪ ،‬بأن أمروا أهل السنة بسب الصحابة ‪ ،‬فمن امتنع عنه ‪:‬‬
‫قتلوه ‪ . »...‬شم العوارض يف ذم الروافض ْلال عيل القاري (‪ ، )86‬وانظره ‪ ،‬مع‬
‫حاشية التحقيق ‪. )85-79‬‬

‫‪134‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫طورهم ‪ ،‬ومل يقفوا عىل حدهم‬


‫اجلانبني أن ذلك تدين ‪ ،‬وما هو إال أن َت َعدَّ وا َ‬
‫وشأهنم ‪ ،‬ولبسهم شي ًعا ‪ ،‬وأذاق‬
‫َ‬ ‫الذي وقفهم اهلل ورسوله ‪ ‬عليه ‪ ،‬تركهم اهلل‬

‫يوافق هؤالء فيذيق خمالفيهم العذاب‬


‫ُ‬ ‫بعضهم بأس بعض ‪ .‬فكان خليف رة‬
‫َ‬

‫وينقض ما فعله األول ‪ ،‬و ُينك ُِّل هؤالء ‪ ،‬و ُي َو ِّطي شأن‬
‫ُ‬ ‫اآلخر‬
‫ُ‬ ‫األليم ‪ ،‬وُي ُل ُفه‬

‫الناس شي ًعا ‪ُ .‬يولد اْلولود يف قوم ‪ ،‬فال‬


‫الرش ‪ ،‬وصار ُ‬
‫هؤالء ‪ .‬حتى استحكم ُّ‬
‫يسمع من اإلنصاف شيئًا ‪ ،‬بل جيد شيعته مطبقني عىل أن خمالفهم ليس عىل‬

‫يشء ‪ .‬وإنَم هي فتن رة وحادث رة يف اإلسالم ‪ ،‬ويمدحون نفوسهم بكل خري ‪،‬‬

‫و ُينزهوهنا من كل رش ‪ ،‬ويعزون إىل اْلخالف َ‬


‫نقيض ذلك»(‪. )1‬‬

‫اليس ِء لتدخُّ ل السالطني‬


‫ِّ‬ ‫وموطن الشاهد يف هذا الكالم ‪ :‬بيان األثر‬

‫بإجبار الناس عىل تغيري عقائدهم باإلكراه ‪ ،‬ال باحلجة والربهان(‪. )2‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫(‪ )1‬ال َع َلم الشامخ يف تفضيل احلق عىل اآلباء واْلشايخ للمقبيل (‪. )367‬‬
‫ٍ‬
‫بوصلة ‪،‬‬ ‫تنترص‬ ‫اْلذاهب‬ ‫(‪ )2‬ويف ذلك يقول ابن عقيل احلنبيل (ت‪513‬ه) ‪« :‬إذا كانت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هي الدولة والكثرة ‪ ،‬أو حشمة اإلنعام = فال عربة هبا ‪ .‬إنَم اْلذهب ما نرصه دليله ؛‬
‫طاهرا بصورته‬ ‫ٍ‬
‫ومال مبذول = كان‬ ‫حمتش ٍم‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫نارص‬ ‫ساذجا من‬
‫ً‬ ‫حتى إذا انكشف بوحدته‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫صقالة‬ ‫من الصحة والسالمة من الدَّ خَ ِل واالعرتاضات ‪ ،‬كاجلوهر الذي ال حيتاج إىل‬
‫ٍ‬
‫مذهب ال ينترص إال‬ ‫ِ‬
‫واحلسن الذي ال حيتاج إىل ّتسني ‪ .‬ونعوذ باهلل من‬ ‫وتزويق ‪،‬‬

‫‪135‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫وال يعني ذلك أنه ال حيق للحكومة اإلسالمية أن ّتمي أفراد شعبها من‬

‫األفكار الضالة واْلنحرفة ‪ ،‬بل هذا من أوجب الواجبات عليها ‪ .‬لكن محاية‬

‫الشعوب من األفكار الضالة واْلنحرفة ال تكون أصال باالضطهاد الفكري ‪،‬‬

‫القائم عىل ت ََص ُّو ٍر خاطئ ‪ ،‬وهو تصور أن تغيري القناعات يمكن أن يتم بالقوة‬

‫أيضا بالعقوبات اجلائرة التي تزيد عن احلد‬


‫واإلكراه ‪ .‬وال تكون محايتُهم ً‬

‫ورب‬
‫‪ُ ،‬‬ ‫اْلرشوع ‪ ،‬فليس كل من جازت عقوبتُه جازت فيه ُّ‬
‫كل عقوبة‬
‫( ‪)1‬‬

‫جمر ٍم كانت عقوبتُه أشدَّ يف ُج مر ِمها من ُج مر ِمه(‪. )2‬‬

‫ٍ‬
‫بدليل أو ُو ُضوحِ‬ ‫الذاهب إليه من االنتصار‬
‫ُ‬ ‫نارصه ‪ ،‬أ مف َل َس‬
‫ُ‬ ‫بوصلة ! فذاك الذي إذا زال‬
‫تعليل ‪ .‬والدَّ ِّي ُن من خَ ل َص الدالل َة من الدولة ‪ ،‬والصح َة من النرصة بالرجال ‪ ،‬وقلَم‬
‫عو ُل يف دينه عىل الرجال» ‪ .‬الفنون البن عقيل (‪237/1‬رقم‪. )245‬‬
‫ُي ِّ‬
‫التأديب‬
‫ُ‬ ‫(‪ )1‬وقد قال العز ابن عبد السالم يف القواعد الكربى (‪« : )157/2‬ومهَم حصل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫باألخف من األفعال واألقوال واحلبس واالعتقال = مل ُيعدَ مل إىل األغلظ ؛ إذ هو‬
‫مفسد رة ال فائدة فيه ‪ ،‬حلصول الغرض بدونه» ‪.‬‬
‫التاريخ مواقفَ ناصع ًة لعلَمء السلف يف محاية اْلخالفني من جور‬
‫ُ‬ ‫(‪ )2‬وقد حفظ لنا‬
‫السالطني ‪ :‬فمع ما ُيذكر ف ُيشكر للخليفة العبايس اْلهدي (ت‪169‬ه) أنه أنشأ جهازا‬
‫يف الدولة خمتصا بتتبع الزنادقة ‪ ،‬ونشط يف ذلك (كَم جتده يف تاريخ‬
‫الطربي‪ ، 165/8‬واجلليس الصالح للمعاىف بن زكريا ‪ . )207/3‬لكن ذلك اجلهاز‬

‫‪136‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫ٍ‬
‫بأمور ال‬ ‫إذن ‪ :‬فحَمية الشعوب من األفكار الضالة واْلنحرفة يكون‬

‫عالقة هلا باالضطهاد الفكري واإلكراه ‪ ،‬ومنها ‪:‬‬

‫‪ -‬الرتبية اإليَمنية العميقة ‪ ،‬واْلبنية عىل األدلة الصحيحة ‪ ،‬التي تُو ِّلدُ‬
‫أي ٍ‬
‫فكر مواجه ًة‬ ‫القناع َة الراسخة والتي ال ُيشى صاح ُبها من مواجه َة ِّ‬
‫‪،‬‬

‫فكري ًة ‪.‬‬

‫الرشعي َ‬
‫بعض هؤالء‬ ‫ُّ‬ ‫احلكومي كان ربَم قسا وجتاوز احلد ‪ ،‬حتى ربَم محى العامل ُ‬
‫اْلخالفني من بطش ُّ َ‬
‫الرشط واجلالدين !!‬
‫ابن أيب ذئب (ت‪158‬ه) ببدعة القدر ‪ ،‬فسئل عن ذلك‬
‫بعضهم اإلما َم الكبري َ‬
‫اهت َم ُ‬
‫فقد َّ‬
‫مصعب الزبريي (ت‪236‬ه) ‪ ،‬فنفى هذه التهمة أشدَّ النفي ‪ ،‬قائال ‪« :‬معا َذ‬
‫ُ‬ ‫عالم ُة قريش‬
‫اهلل !! إنَم كان يف زمن اْلهدي قد أخذوا َ‬
‫أهل القدر باْلدينة ‪ ،‬ورضبوهم ‪ ،‬ونفوهم‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫فجاء قو رم من أهل القدر فجلسوا إليه ‪ ،‬واعتصموا به من الرضب ‪ .‬فقال قوم ‪ :‬إنَم‬
‫جلسوا إليه ألنه يرى القدر ‪ ،‬لقد حدثني من أثق به أنه ما تكلم فيه قط» ‪ .‬تاريخ بغداد‬
‫للخطيب (‪. )301/2‬‬
‫وهكذا حيمي هذا اإلما ُم الكبري من أئمة السنة أولئك اْلبتدعة من ظلم احلاكم ‪ ،‬وال‬
‫يرىض بتجاوز احلد يف عقوبتهم ‪ ،‬وربَم كان ال يرى عقوب َة هؤالء أصال ‪ ،‬كَم سبق‬
‫ُ‬
‫نقل اخلالف يف نحوه ‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫‪ -‬وبتجنيد كل طاقات الدولة وإمكانياهتا لرد اْلقاالت الباطلة ‪:‬‬

‫باحلوار والنقد ‪ ،‬والتزييف ‪ .‬واختاذ كل السياسات التعليمية‬‫‪،‬‬

‫واإلعالمية والثقافية لتحقيق ذلك ‪.‬‬

‫‪ -‬وبتأديب كل من حياول نرش آرائه بالطرق غري النظامية التي تستغل‬

‫جهل الناس أو حاجاهتم ‪ ،‬وعقوبة كل من يثري فتن ًة يف اْلجتمع‬

‫اْلسلم تؤدي إىل تشقق وحدته ‪ ،‬ومن يتضح تالع ُبه بعقائد الناس‬

‫لالحتيال عليهم ولتحصيل مكاسب شخصية باْلكر واخلداع ‪ ،‬ومن‬

‫طالب حق متأول ‪ ،‬ومع ذلك تراه يريد‬


‫َ‬ ‫يتبني أنه معاندر مستكرب وليس‬

‫نفسه فسا َده ‪.‬‬


‫إفسا َد عقائد الناس بَم يعرف هو ُ‬

‫تعزير عىل تلك‬


‫ر‬ ‫وهذا التأديب ليس ألجل تغيري القناعة ‪ ،‬وإنَم هو‬

‫أمر محاية الناس من الشبهات‬


‫اخلطايا واجلرائم ونحوها ‪ ،‬إذا احتاج إليها ُ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫واألباطيل ‪.‬‬

‫ترشيع‬
‫َ‬ ‫وهذا التأديب اْلنضبط مما ُيوجب عىل احلكومة اإلسالمية‬

‫القوانني الواضحة التي تبني الفرق بني أمرين ‪ :‬األول ‪ :‬هو التعايش مع األفكار‬

‫والعقائد القابلة للتعايش ‪ ،‬والثاين ‪ :‬هو عقوبة من يستغل هذا التسامح يف‬

‫‪138‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫بالد اْلسلمني لنرش عقائده الباطلة بينهم ‪ ،‬ال من طريق حواره َ‬


‫أهل العلم‬

‫واالختصاص(‪ ، )1‬بل باستغالل جهل الناس وحاجاهتم ‪.‬‬

‫(‪ )1‬يف زمن الفضاء اْلفتوح بالقنوات العاْلية اْلرئية واْلسموعة ‪ ،‬وزمن الشبكة‬
‫الدولية (اإلنرتنت) ‪ ،‬ووسائل االتصال واإلعالم العاْلية اْلختلفة ‪ ،‬ومع وجود‬
‫الرحالت العلمية والتدريبية ألبناء اْلسلمني إىل بالد غري اْلسلمني ‪ :‬مل يعد وج ُه‬
‫اْلنرصين أو غريهم تتسل ُل إىل بالد اْلسلمني‬
‫ِّ‬ ‫مقترصا عىل مجاعة من‬
‫ً‬ ‫ِّ‬
‫بث الدعوات‬
‫والـمن ُمع التا ُّم اْلطلق هلذا‬
‫َ‬ ‫باسم الطب أو التعليم أو اإلغاثة أو البعثات الدبلوماسية ‪.‬‬
‫ك ِّله شب ُه مستحيل بل هو مستحيل واق ًعا ‪ .‬كَم أهنم لو قابلوا َمنم َعنا هلم بمنع الدعوة يف‬
‫‪،‬‬

‫أعظم اخلارسين ‪ .‬ولكن لو اقترصنا فيَم‬


‫َ‬ ‫بالدهم ‪ ،‬ولو عاملونا يف ذلك باْلثل ‪ :‬لكنا‬
‫يدخل ّتت سلطة اْلسلمني وّتت ترصف حكوماهتم عىل فتح منافذ للحوار مع‬
‫دعاهتم ‪ ،‬حياورون من خالل هذه اْلنافذ علَمءنا ومثقفينا القادرين عىل الدفاع عن‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫حقيقة اإلسالم باحلجج والرباهني ‪ .‬مع جتريم غري هذه الصورة ‪ ،‬من صور التأثري‬
‫عىل جهلة اْلسلمني واستغالل فقر بعضهم وحاجتهم إلجبارهم عىل تغيري‬
‫معايريه وال َت مع ُظ ُم‬ ‫ٍ‬
‫قانون عادل ال ختتلف‬ ‫وضع أول مبادئ‬
‫ُ‬ ‫معتقداهتم ‪ .‬ألمكن بذلك‬
‫ُ‬
‫مفاسدُ ه لدعوتنا ودعوهتم ؛ لكي ال نُتهم بالتضييق عىل احلريات ‪ ،‬وال بازدواجية‬
‫اْلعايري ‪.‬‬
‫وهلذا االقرتاح تفاصيل واستشكاالت وأجوبة ‪ ،‬ستتضح إذا ُأفرد بالدرس والنقاش ‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫هذه بعض اْلقرتحات لتثبيت اْلحكَمت ‪ ،‬أعرتف أهنا ال متثل إال‬

‫يسريا من اْلقرتحات ‪ ،‬لكني أرجو أن أكون قد ذكرت شيئًا مهَم منها ‪.‬‬
‫جزءا ً‬

‫وهذا آخر مباحث هذه الورقة ‪ ،‬التي أرجو من اهلل تعاىل أن يبارك يف‬

‫قليلها فيكون كثريا ‪ ،‬وأن جيرب نقص إخاليص فيها بإخالص اْلنتفعني هبا ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪140‬‬
‫تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك)‬

‫الخاتمــــــــــة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪141‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــــــــــــة‬

‫اخلامتــــــــــــــــــة‬

‫أهم نتائج الكتاب ‪:‬‬

‫عاصَم للفكر‬
‫ً‬ ‫اْلحكَمت هي ‪ :‬كل ثابت بأدلة يقينية ‪ ،‬يكون‬ ‫‪-1‬‬

‫من االنحراف ‪ ،‬لشدة إتقانه وقوة بنائه الفكري ‪ ،‬ويكون اخللل‬

‫فيه سببا يف إفساد التفكري ‪.‬‬

‫سَمت اْلحكَمت ‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫‪ -‬الثبات وعدم قبوهلا للزَّ وال وال للتبدُّ ل ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫قلوب بني األسوياء ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ائتالف‬ ‫وموضع‬ ‫حمل ٍ‬
‫اتفاق بني العقالء ‪،‬‬ ‫‪ -‬أهنا ُّ‬
‫ُ‬

‫‪ -‬أن أدلتها قطعية يقينية ‪ ،‬وليست ظنية ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ -‬أهنا أصول كلية ُيـحتكم إليها ‪.‬‬

‫‪ -‬أهنا عاصمة للفكر من االنحراف ‪.‬‬

‫أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري والعقدي ‪:‬‬ ‫‪-3‬‬

‫‪143‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــــــــــــة‬

‫‪ -‬أي خلل يصيب هذه اْلحكَمت سيعني السقو َط يف ُج ٍّ‬


‫ب من‬

‫والضياع ّتت ُجنح الظالم الدامس من احلرية‬


‫َ‬ ‫األوهام والشكوك‬

‫وفقدان القدرة عىل التفكري واختاذ القرار ‪ ،‬كَم حصل وحيصل مع‬

‫ُّ‬
‫الشـكاك واْلصابني بالوسوسة ‪.‬‬

‫‪ -‬أن ّتكيم اْلحكَمت هو الذي سيؤدي إىل الثبات عىل اْلبدأ ‪،‬‬
‫ِ‬
‫االستقرار النفيس وهو سبب الشعور باألمان‬ ‫والثبات هو سبب‬

‫والطمأنينة ‪.‬‬

‫‪ -‬أن اْلحكَمت هي العاصمة من ختطف الشبه واألهواء ‪ ،‬وهي‬

‫العاصمة من الغلو والتطرف ‪ :‬بالتشدد والتزمت ‪ ،‬أو باالنحالل‬

‫والتفلت ‪.‬‬

‫‪ -‬أن الثبات عىل اْلبدأ وعدم اخلشية من خت ُّطف الشبهات مها أهم‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫رضوريات بقاء اْلسلم اْلعارص ‪.‬‬

‫إرساء لقواعد‬ ‫ِ‬


‫اإلنسانية هو يف احلقيقة‬ ‫ِ‬
‫اْلحكَمت‬ ‫‪ -‬أن تثبيت‬
‫ر‬
‫التعايش اإلنساين ؛ ألنه لن حيصل التفاهم بني بني البرش ‪ ،‬ولن يتم‬

‫‪144‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــــــــــــة‬

‫ٍ‬
‫أرضية مشرتكة بغري الرجوع إىل تلك‬ ‫االلتقاء بينهم عىل‬
‫ُ‬
‫اْلحكَمت‪.‬‬

‫مقرتحات عملية لتثبيت اْلحكَمت ‪:‬‬ ‫‪-4‬‬

‫‪ -‬تثبيت أصول الدين يف قلوب أبناء األمة باألدلة اليقينية ‪ ،‬لتكون هي‬

‫اْلحكَمت التي حياكمون إليها كل فكر أو عقيدة أو رأي ‪.‬‬

‫‪ -‬تكثيف احلديث عن اْلحكَمت ‪ ،‬واختاذ كل الوسائل لكي تكون‬


‫ِ‬
‫القلب‬ ‫العني والسمع عند كل مسلم ‪ ،‬لتصل إىل أن تكون ِم مل َء‬
‫ِ‬ ‫ِم مل َء‬

‫منه ‪.‬‬

‫‪ -‬تنويع وسائل إثبات اْلحكَمت (كاحلديث الوجداين ‪ ،‬والفنون‬


‫وأعَمل ِ‬
‫الـم مشجاة ‪ :‬الدراما) ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫األدبية واجلَملية‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وخطبهم‬
‫‪ -‬عدم إغفال اخلطاب العقالين يف كل فتاوى العلَمء ُ‬

‫وحديثهم ومجيع ُأطروحاهتم ‪.‬‬

‫‪ -‬بيان اْلنهج العقيل الصحيح جتاه اْلحكَمت واْلشتبهات ‪ ،‬بعد‬

‫تثبيت اْلحكَمت بأدلتها اليقينية ‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــــــــــــة‬

‫ِ‬
‫اْلنضبطة غري الفوضوية ‪ ،‬وعدم جتريم الفكر‬ ‫ِ‬
‫احلرية‬ ‫‪ -‬إشاع ُة‬

‫اْلعترب‪ ،‬وإحسان التعامل حتى مع الفكر غري السائغ الذي ُيمكن‬

‫وتقنني القوانني ووضع اخلطط وتنفيذ الربامج التي‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التعايش معه ‪،‬‬

‫جتمع بني أمرين رضوريني ‪ :‬احلَمية من سياسة َق مم ِع احلريات‬

‫أيضا من إفساد عقائد الناس بالرتويج للعقائد‬


‫الفكرية ‪ ،‬واحلَمية ً‬
‫‪،‬‬
‫اْلجرمة ‪:‬كالكذب واخلداع واْلغالطات‬
‫‪،‬‬
‫َّ‬ ‫‪،‬‬
‫الباطلة بالوسائل‬

‫واستغالل حاجات اْلحتاجني ‪.‬‬

‫واهلل أعلم ‪.‬‬

‫محد إال بنعمته‬


‫واحلمد هلل الذي ما ُ‬

‫والصالة والسالم عىل رسوله اهلل وأزواجه وذريته ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وكتب‬

‫‪146‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــــــــــــة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪147‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــــــــــــة‬

‫المالحق‬
‫في ذكر بعض الفتاوى واألجوبة‬
‫( ‪)1‬‬
‫التي تراعي فقه المحكمات‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫إجابات مني منشورة يف الشبكة الدولية ‪ ،‬ومل يقـع اختيـاري عليهـا‬


‫ر‬ ‫(‪ )1‬هذه اْلالحق هي‬
‫دون غريها من إجابات أهل العلم إال لكي ال أعتدي عىل جهد غريي وال أتشبع ببحثه‬
‫‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫اْللحــــق األول‬
‫(‪)1‬‬
‫إنكار السنة بدعوى أن اهلل مل يتعهد بحفظها‬

‫السـؤال ‪ :‬السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫حمتجا بأن اهلل تعاىل مل يتعهد‬


‫ًّ‬ ‫ما حكم من كذب بأحاديث الرسول ‪‬‬
‫أيض ًا بأننا لو فتحنا هذا الباب‬
‫بحفظها كالقرآن ‪ ،‬فال تثريب عيل ‪ ،‬وحيتج ً‬

‫أيضا عىل ما لدهيم من اْلنقول ‪ ،‬فهذه‬


‫الحتج أصحاب الديانات األخرى ً‬
‫َّ‬
‫شبهة قامت يف نفوس مجاعة من اْلسلمني يف بلدنا‪ ،‬فنرجو تزويدنا‬

‫باجلواب؟ وجزاكم اهلل خري اجلزاء‪.‬‬

‫اجلواب‪:‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫احلمد هلل وحده‪ ،‬والصالة والسالم عىل من ال نبي بعده‪ ،‬وعىل آله‬

‫وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حده‪.‬‬

‫ر‬
‫مثال من فتوى يل أستند فيها إىل أدلة يقينية يف إثبات حفـظ اهلل تعـاىل للسـنة ‪ ،‬وهـي‬ ‫(‪)1‬‬
‫منشورة يف موقع اإلسالم اليوم ‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫أما بعد‪ :‬أقول وباهلل التوفيق‪:‬‬

‫إن السنة النبوية حمفوظة بحفظ اهلل تعاىل لدينه وكتابه القرآن الكريم ‪،‬‬

‫وعىل ذلك إمجاع اْلسلمني ‪.‬‬

‫مسلم مصد رق‬


‫ر‬ ‫أما من شك أو شكك يف ذلك ‪ ،‬فإنا نقول له ‪ :‬إما أنك‬

‫باإلسالم والقرآن ‪ ،‬وإما أنك لست بمسلم ‪ .‬فإن كنت من اْلسلمني فلك‬

‫جواب ‪ ،‬وإن كنت غري ذلك فلك جواب آخر ‪.‬‬

‫أما اْلسلم فإنا نقول له ‪ :‬يدل عىل حفظ اهلل تعاىل للسنة أمور كثرية منها‬

‫ما ييل‪:‬‬

‫أوالً ‪ :‬قال اهلل تعاىل‪( :‬ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬

‫ﭹ ﭺ ﭻ) [آل عمران‪ .]٨٥:‬وقال تعاىل‪( :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ) [األحزاب‪ .]٤٠:‬وقال تعاىل‪( :‬ﭡ‬

‫ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ‬

‫ﭮ) [التوبة‪ .]٣٣:‬فدلت هذه اآليات أن دين اإلسالم هو آخر الرشائع ‪،‬‬

‫‪152‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫دين خالدر ‪ ،‬سيبقى يف‬


‫وأن اهلل تعاىل ال يقبل من العاْلني دينًا سواه‪ ،‬وأنه ر‬
‫الدنيا إىل قيام الساعة ‪.‬‬

‫وال شك أن بقاء هذا الدين يعني حفظ رشائعه وأحكامه ‪ ،‬وعىل رأس‬

‫ذلك أركان اإلسالم ‪.‬‬

‫ومن اْلعلوم أن الصالة إنَم جاء يف القرآن األمر بإقامتها أمر ًا جمم ً‬
‫ال ‪،‬‬

‫دون بيان أعدادها ورشوطها وأركاهنا وواجباهتا وسننها ‪ ،‬وأن ذلك كله إنَم‬

‫ورد يف السنة مفص ً‬


‫ال مبينًا ‪ ،‬فكيف نؤمن ببقاء دين اهلل تعاىل ‪ ،‬لو اعتقدنا‬

‫ضياع السنة ‪ ،‬التي ال بقاء هلذا الركن العظيم من أركان اإلسالم بدوهنا؟!‬

‫وقل مثل ذلك يف الزكاة والصيام واحلج وغريها من األحكام ؛ حيث إن‬

‫تفاصيل أحكام ذلك كله مل تأت يف القرآن الكريم ‪ ،‬إنَم جاء يف السنة ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وعىل هذا فلو اعتقدنا ضياع السنة فقد َّ‬
‫كذبنا القرآن الذي أخربنا ببقاء‬

‫هذا الدين وحفظه ؛ ألن يف ضياعها ضياع الدين كله!!‬

‫بل إن اعتقاد ضياع السنة ال جيتمع مع إسالمنا وقيامنا بأركان اإلسالم‬

‫التي ما عرفنا طريقة أدائها إال بالسنة ‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫ثاني ًا ‪ :‬يقول اهلل تعاىل‪( :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [احلجر‪، ]٩:‬‬


‫وال شك أن ِّ‬
‫الذكر يف هذه اآلية هو القرآن الكريم ‪ ،‬وهذا وعد من اهلل ‪‬‬
‫بحفظ كتابه القرآن الكريم ‪.‬‬

‫ومن اْلعلوم أن القرآن إنَم أنزله ربنا ‪ ‬لنفهم معانيه ولنتدبره‪ ،‬كَم قال‬

‫تعاىل‪( :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [ص‪ .]٢٩:‬وقال سبحانه (ﭻ‬

‫ُ‬
‫العمل بأحكامه ‪،‬‬ ‫ﭼ ﭽ) [النساء‪ . ]٨٢ :‬واْلقصود من التدبر ‪ ،‬هو ‪:‬‬

‫بني لنا ربنا‬


‫واالهتداء بنوره ‪ ،‬وعباد ُة اهلل تعاىل عىل َوفق مراده سبحانه ‪ .‬وقد َ‬
‫ر‬
‫موكول إىل النبي ‪ ، ‬وأن ذلك التفسري والبيان هو‬ ‫‪ ‬أن بيان القرآن وتفسريه‬
‫‪،‬‬
‫ومعاين‬
‫َ‬ ‫أعظم وظيفة للنبي ‪ ، ‬وألجل ذلك أنزل عليه القرآن ليبلغه حرو ًفا‬
‫‪،‬‬

‫وذلك كله يف قوله تعاىل‪( :‬ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬

‫ﭭ ﭮ) [النحل‪ :‬من اآلية ‪ .]٤٤‬ويف قوله سبحانه‪( :‬ﰀ ﰁ ﰂ‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ) [النحل‪.]٦٤:‬‬

‫وهذه اآليات تبني أن َفهم القرآن ال يمكن بغري بيان النبي ‪ ، ‬وأن معرفة‬

‫مراد اهلل ‪ ‬من كتابه العظيم ال يتم إال بالتفسري النبوي هلا ‪ .‬ولذلك كان تعهد‬

‫اهلل تعاىل بحفظ القرآن يتضمن التعهد بحفظ بيانه من السنة النبوية ؛ ألن حفظ‬

‫‪154‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫القرآن لن يتم بغري حفظ ألفاظه ومعانيه‪ ،‬ومعانيه ال ُتعرف إال بالسنة‪ ،‬فدل‬

‫ذلك عىل ّتقيق حفظ السنة بحفظ القرآن‪.‬‬

‫بل إن حفظ معاين القرآن التي جاءت هبا السنة أهم من حفظ حروفه مع‬

‫تضييع معانيه ؛ ألن اْلقصود من حفظ القرآن العمل بمقتضاه ‪ ،‬ولن ُيعمل‬

‫بمقتضاه إذا مل ُتعرف معانيه ‪ ،‬ولذلك فال يتحقق حفظ القرآن بغري حفظ السنة‬

‫‪ .‬وهذا هو الذي جعل العلَمء من قديم يذكرون أن قوله تعاىل‪( :‬ﮗ ﮘ‬

‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [احلجر‪ ، ]٩:‬كَم يتضمن الوعد بحفظ القرآن ‪ ،‬فهو‬

‫أيضا‪.‬‬
‫يتضمن الوعد بحفظ السنة النبوية ً‬

‫األمر بطاعة النبي‬


‫ُ‬ ‫ثال ًثا ‪ :‬لقد جاء يف آيات كثرية جدًّ ا يف القرآن الكريم‬

‫‪:‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ -‬كقوله تعاىل‪( :‬ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ‬

‫ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ‬

‫ﰐ ﰑ ﰒ) [النساء‪ :‬من اآلية ‪ .]٥٩‬وكقوله تعاىل‪( :‬ﭑ ﭒ‬

‫ﭓ ﭔ ﭕﭖ) [النساء‪.]٨٠ :‬‬

‫‪155‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫اإليَمن عمن مل يقبل حكم النبي ‪ ‬فقال تعاىل‪( :‬ﯜ‬


‫َ‬ ‫‪ -‬ونفى تعاىل‬

‫ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬

‫ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ) [النساء‪.]٦٥:‬‬

‫‪ -‬وأمر بالرجوع إىل كتابه الكريم وإىل سنة رسوله ‪ ‬عند التنازع‪،‬‬

‫فقال تعاىل‪( :‬ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ‬

‫ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑﰒ) [النساء‪ :‬من اآلية ‪. ]٥٩‬‬

‫‪ -‬وحذر تعاىل من خمالفة أمر النبي ‪ ‬فقال ‪( :‬ﮍ ﮎ‬

‫ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ) [النور‪ :‬من اآلية‬

‫‪ .]٦٣‬وقال تعاىل‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬

‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ)‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫[األحزاب‪ :‬من اآلية ‪ .]٣٦‬وقال سبحانه‪( :‬ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬

‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ) [اجلـن‪ :‬من اآلية ‪.]٢٣‬‬

‫‪156‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫وح َّثنا سبحانه أن نقتدي بالنبي ‪ ‬يف قوله تعاىل‪( :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬


‫‪َ -‬‬

‫ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ)‬
‫[األحزاب‪.]٢١:‬‬

‫فهذه األوامر اإلهلية وغريها مما هو يف معناها كثري جدًّ ا يف كتاب اهلل‬

‫تعاىل ‪ :‬كيف س ُتط َّبق وما هو طريق العمل هبا ‪ ،‬لو أن السنة النبوية مل تكن‬

‫أوامره ‪ ‬ونواهيه ؟‬ ‫َ‬


‫رسول اهلل ‪ ، ‬لو ضاعت‬ ‫يع‬‫ِ‬
‫ُ‬ ‫حمفوظة ؟! كيف سنُط ُ‬
‫وكيف سنعرف َهدم يه ‪ ‬الذي أمرنا اهلل تعاىل بأن نتخذة لنا ُأسوة ‪ ،‬وأنَّى لنا أن‬

‫صحيحها بضعيفها ؟!‬


‫ُ‬ ‫نقتدي به ‪ ، ‬لو أن سنته قد ضاعت أو اختلط‬

‫إن اعتقاد ضياع السنة يعني أن تلك اآليات (مجيعها وغريها مما هو يف‬

‫اهتاما‬
‫ً‬ ‫معناها) ال فائدة منها ‪ ،‬وال معنى هلا !! وهذا اهتا رم للقرآن قبل أن يكون‬
‫ر‬
‫وعبث ُينز ُه عنه‬ ‫لغو‬
‫للسنة ؛ ألن وجود تلك األوامر مع العجز عن تطبيقها ر‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫كال ُم العقالء من اْلخلوقني ‪ ،‬فكيف بكالم اخلالق سبحانه وتعاىل ‪.‬‬

‫ر‬
‫تكليف بَم ال يستطاع!!‬ ‫أيضا فيه‬
‫ووجود تلك األوامر مع العجز عن تطبيقها ً‬

‫وهو تكليفر ُينايف و ُيضا ُّد العدال َة اإلهلية ! واحلاصل أن ربنا ‪ ‬قد نفى ذلك‬

‫عن نفسه ‪ ،‬فقال سبحانه ‪( :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ) [البقرة‪ :‬من اآلية ‪. ]٢٨٦‬‬

‫‪157‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫وجها جديدً ا ودليالً آخر عىل أن حفظ القرآن ال يتحقق‬


‫وبذلك نضيف ً‬
‫ِّ‬
‫واْلحذر َة من‬ ‫ِ‬
‫اآليات اآلمر َة بطاعة النبي ‪‬‬ ‫بغري حفظ السنة ؛ ألن تلك‬
‫ُ‬
‫العمل هبا إذا مل‬ ‫ِ‬
‫واالقتداء بسنته لن يمكن‬ ‫معصيته واحلاث َة عىل االحتكام إليه‬
‫ُ‬
‫ّتفظ السنة!!!‬

‫وهلذا كله كان التشكيك يف السنة تشكي ًكا يف القرآن الكريم‪ ،‬وهذا ال‬

‫يقع من مسلم أبدً ا ؛ إال أن يكون جاه ً‬


‫ال ‪ ،‬واجلاهل ال ُيعذر بعد أن تقوم عليه‬

‫احلجة هبذه األدلة اآلنفة الذكر‪.‬‬

‫أما غري اْلسلم‪ :‬وهو الذي إذا احتججنا عليه بمنقوالتنا (وهي القرآن‬

‫والسنة) احتج علينا بمنقوالته‪ ،‬كَم جاء يف السؤال ؛ فإننا لسنا مضطرين بأن‬

‫نبدأ خطابه باألدلة النقلية السابقة ؛ ألنه ال يؤمن بالقرآن أصالً ‪ .‬وإنَم نبدأ‬

‫بدعوته إىل اإلسالم ‪ ،‬وبإثبات نبوة حممد ‪ ‬له ‪ ،‬من خالل دالئل نبوته‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلتعددة ‪ :‬كإعجاز القرآن الكريم اْلتنوع الوجوه ‪ :‬يف بالغته ‪،‬‬

‫وترشيعاته ‪ ،‬وإخباره باْلغيبات ‪ ،‬ويف سبقه العلمي الكوين (اْلسمى‬

‫باإلعجاز العلمي) ‪ ،‬وكإعجاز السنة النبوية كذلك ‪ ،‬وبيان بشارات األنبياء به‬

‫‪ ، ‬والتي هي حتى مع ّتريف اليهود والنصارى لكتبهم ‪ ،‬ومع إخفائهم‬

‫‪158‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫لكثري منها = مل يزل فيها إىل اليوم ما يدل عىل ذلك ‪ ...‬إىل غري ما سبق من‬

‫دالئل نبوته ‪. ‬‬

‫فإذا ما صد َق وآمن باهلل ر ًّبا وباإلسالم دينًا وبمحمد ‪ ‬رسوالً ونب ًّيا‪ ،‬ب َّينا‬

‫له باألدلة اْلتقدمة ِح مف َظ اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬للسنة النبوية ‪.‬‬

‫ولذلك فلسنا نخشى إن احتججنا بمنقوالتنا من احتجاج أصحاب‬

‫الديانات األخرى علينا بمنقوالهتم ؛ ألن األمر ليس بمجرد الدعاوى ‪ ،‬وإنَم‬

‫األمر باحلجة والربهان ؛ فشتان شتان ما بيننا وبني من ُيالفنا يف الدين !!‬

‫وهذا هو مصدر قوتنا ‪ -‬نحن اْلسلمني ‪ -‬أننا أصحاب احلق اْلطلق‬

‫عىل هذه األرض ‪ ،‬ولدينا األدلة القاطعة عىل ذلك كله ‪ ،‬ولوال ذلك ْلا بقيت‬

‫لإلسالم واْلسلمني باقية ‪ ،‬مع كثرة أعدائنا ‪ ،‬وتكالبهم علينا ‪ ،‬ورشاسة‬

‫حرهبم ضدنا‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫إن ديننا احلق ؛ ألنه دين اهلل تعاىل الذي ال إله إال هو وحده ال رشيك له ‪،‬‬

‫وأدلة هذه الدعوى عندنا كثرية ‪ ،‬كافية إليَمن أهل األرض كلهم‪ .‬لكن من‬

‫برص أبناء اْلسلمني هبا قبل غريهم؟ هذا ما‬


‫يبلغها ألهل األرض؟! بل من ُي ِّ‬
‫يسعى إليه الناصحون لدينهم‪ ،‬الغيورون عىل أبناء ملتهم‪ ،‬احلريصون عىل‬

‫‪159‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫هداية الناس كلهم إىل ما فيه سعادهتم يف الدنيا واآلخرة‪ .‬هذا واهلل أسأل أن‬

‫هيدينا مجيع ًا رصاطه اْلستقيم‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫واحلمد هلل والصالة والسالم عىل رسول اهلل وعىل آله وصحبه ومن‬

‫وااله‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪160‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫اْللحق الثاين‬
‫(‪)1‬‬
‫فتوى تقليدية راعت فقه اْلحكَمت‬
‫التشكيك يف جاللة مكانة الفاروق عمر بن اخلطاب‬
‫(ريض اهلل عنه)‬
‫أرسل أحد السائلني يقول ‪« :‬لقد ناقشت أحد زمالئي الشيعة اإلمامية‬

‫يف األمور اْلذهبية ‪ ،‬وقد جتنبت احلديث معه ‪ ،‬ويف مرة من اْلرات أثار‬

‫يل شبهة عظيمة ‪ ،‬ما زال أثرها باق ًيا يف نفيس ‪ ،‬وهذه الشبهة تتلخص يف‬

‫حديث رزية اخلميس الذي رواه ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) يف البخاري ‪،‬‬

‫وقصة هتجم عمر بن اخلطاب ‪ ‬عىل رسول اهلل ‪ ‬حني قال عمر ‪ ‬عىل‬

‫رسول اهلل ‪« ‬دعوه فإنه هيجر» ‪ ،‬وقد أثار هذه الشبهة يل عن طريق إرسال‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫رسالة يل ‪ ،‬وأنا مل أتثبت األمر ‪ ،‬فساعدوين يف كشف هذه الشبه‪ .‬وجزاكم‬

‫اهلل خري اجلزاء عن اإلسالم واْلسلمني» ‪.‬‬

‫اجلواب ‪:‬‬

‫(‪ )1‬هي فتوى يل منشورة يف موقع اإلسالم اليوم ‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫«احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم عىل رسول اهلل‪ ،‬وعىل آله وصحبه ومن‬

‫وااله‪ ،‬أما بعد‪ :‬فجواب ًا عىل السؤال أقول‪ ،‬وباهلل التوفيق‪:‬‬

‫قبل اجلواب عن اإلشكال الذي ذكره السائل‪ ،‬والذي أوقع يف قلبه‬

‫حرجا شديدً ا‪ ،‬ويريد ما يفرج عنه هذا احلرج‪ ،‬فإين أنصح السائل بمنهج‬
‫ً‬
‫صحيح جتاه اْلشتبهات والشبهات ‪ ،‬وهو أن يستحرض يف علمه وقلبه‬

‫اْلحكَمت واألدلة الواضحات القاطعات اْلشتهرات ‪ ،‬ثم ليعرض تلك‬

‫ُّ‬
‫الشبه عليها ‪ ،‬فإنه سيجد أن هذه الشبه قد سقطت عىل جدار حصون‬

‫اْلحكَمت ‪ ،‬وسرياها قد احرتقت ّتت ضوء شمس األدلة الباهرات ‪،‬‬

‫عدو‬ ‫ٍ‬
‫تراب ألقاها ٌّ‬ ‫وتصبح تلك الشبه ‪ -‬حتى ولو مل جيد هلا جوا ًبا ‪ -‬كحفنة‬
‫ٍ‬
‫حصن عظيم ‪ ،‬هل تؤثر فيه شي ًئا؟! أما أن جيعل اْلرء قل ًبا‬ ‫حاقدر عىل جدار‬

‫مستودعا للمتناقضات‬
‫ً‬ ‫لوا من ّتصينات اْلحكَمت ‪ ،‬فسيكون قلبه حينها‬
‫ُخ ً‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ ،‬ولن يدوم عىل عقيدة ؛ إال وقد ّتول عنها إىل غريها ‪ ،‬ح ًّقا كانت أو باطالً‪،‬‬

‫كدرا‪،‬‬
‫أصفوا كان أو ً‬
‫ً‬ ‫وكأن قلبه حينها قطعة من قطن ‪ ،‬متتص كل ما المسها‪،‬‬

‫وطي ًبا كان أو خبي ًثا‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫وبناء عىل هذا اْلنهج الشايف‪ ،‬فإين أقدم اجلواب ‪ :‬بأنه عليك يا أخي‬

‫أن تتذكر بعض ما جاء يف مناقب عمر بن اخلطاب ‪: ‬‬

‫‪ -‬أمل يقل النبي ‪« : ‬والذي نفيس بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً‬

‫فجا إال سلك فجا غري فجك» أخرجه الشيخان البخاري (‪،)3683‬‬

‫ومسلم (‪ )2396‬من حديث سعد بن أيب وقاص ‪. ‬‬

‫‪ -‬أمل يقل النبي ‪« : ‬بينَم أنا نائم‪ ،‬رأيت الناس يعرضون‪ ،‬وعليهم‬
‫ِ‬
‫ُقمص‪ ،‬منها ما يبلغ ال ُّثد َّ‬
‫ي ‪ ،‬ومنها ما يبلغ دون ذلك ‪ ،‬ومر عمر بن‬

‫لت ذلك يا رسول اهلل ؟‬


‫اخلطاب وعليه قميص جيره»‪ ،‬قالوا ‪ :‬ماذا أو َ‬

‫قال‪« :‬الدين»‪ .‬متفق عليه البخاري (‪ ،)23‬ومسلم (‪ )2390‬من‬

‫حديث أيب سعيد اخلدري ‪. ‬‬

‫قدحا ‪ُ ،‬أ ُ‬
‫تيت به ‪ ،‬فيه لبن ‪،‬‬ ‫‪ -‬أمل يقل النبي ‪« : ‬بينَم أنا نائم‪ ،‬إذ رأيت ً‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫ي جيري يف أظفاري ‪ ،‬ثم أعطيت‬
‫فرشبت منه ‪ ،‬حتى إين ألرى الر َّ‬
‫لت ذلك يا رسول اهلل؟ قال ‪:‬‬
‫فضيل عمر بن اخلطاب »‪ .‬قالوا‪ :‬فَم أو َ‬

‫»العلم» ‪ .‬متفق عليه البخاري (‪ ،)82‬ومسلم (‪ )2391‬من حديث ابن‬

‫عمر ‪. ‬‬

‫‪163‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫قرصا ‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫دارا أو ً‬
‫‪ -‬أمل يقل النبي ‪« : ‬دخلت اجلنة‪ ،‬فرأيت فيها ً‬
‫ْلن هذا؟ فقالوا لعمر بن اخلطاب ‪ ،‬فأردت أن أدخل ‪ ،‬فذكرت‬

‫غريتك» ‪ .‬فبكى عمر‪ ،‬وقال‪ :‬أي رسول اهلل! أو عليك ُيغار ‪ .‬أخرجه‬

‫الشيخان البخاري (‪ ،)5226‬ومسلم (‪ )2394‬من حديث جابر ‪. ‬‬

‫‪ -‬أمل يقل النبي ‪« : ‬قد كان يكون يف األمم قبلكم حمدثون‪ ،‬فإن‬

‫يكن يف أمتي منهم أحد‪ ،‬فإن عمر بن اخلطاب منهم» أخرجه‬

‫البخاري (‪ )3469‬من حديث أيب هريرة ‪ ‬وأخرجه مسلم‬

‫(‪ )2398‬من حديث عائشة ‪ . ‬وانظر فتح الباري (‪.)50/7‬‬

‫‪ -‬أوليس هو الفاروق؟ الذي ما ختلف عن غزوة مع النبي ‪ ، ‬وال‬

‫تأخر عن موقف من مواقف البطولة والفداء بني يديه ‪ ‬حتى كان‬


‫‪،‬‬

‫أحد وزيريه ‪. ‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ -‬أوليس هو الذي وطد قواعد الدولة اإلسالمية بفتوحه وتنظيمها‬

‫بوضع الدواوين والتنظيَمت التي حفظت كياهنا ‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫‪ -‬أوليس هو الذي امتألت كتب السري بأخبار زهده الشديد يف الدنيا ‪،‬‬

‫وبقصص ورعه وإنصافه وقيامه عىل مصالح الناس ‪ ،‬كانت وما زالت‬

‫حيكى و ُيذكر و ُيفاخَ ُر به أمم األرض ‪.‬‬


‫من أروع ما ُ‬

‫‪ -‬أوليس هو رمز العدالة التي ال تعرف اْلحاباة ‪ ،‬وال ّتيد عنها حلب‬

‫وال لكره ‪ ،‬وال لبعد وال لقرب ‪ ،‬وال لعداوة وال لصداقة ‪ .‬لقد كانت‬

‫عدالته وما زالت مرضب اْلثل ‪ ،‬وهلا رمزي رة ال يصل إليها أحدر بعده‪.‬‬

‫‪ -‬أليس هو أحد العرشة اْلبرشين باجلنة؟‬

‫‪ -‬وهذا عيل بن أيب طالب ‪ ‬يعلن حبه وإجالله وتعظيمه لعمر ‪: ‬‬

‫فعن ابن عباس (ريض اهلل عنهَم) ‪ ،‬قال‪ُ « :‬وضع عمر بن اخلطاب عىل‬

‫رسيره ‪ ،‬فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه ‪ ،‬قبل أن يرفع ‪،‬‬

‫وأنا فيهم ‪ ،‬فلم يرعني إال برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي ‪ ،‬فالتفت‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫أحب‬
‫إليه ‪ ،‬فإذا هو عيل ‪ ،‬فرتحم عىل عمر ‪ ،‬وقال‪ :‬ما خلفتَ أحدً ا َّ‬
‫إيل أن ألقى اهلل بمثل عمله منك‪ ،‬وايم اهلل ! إن كنت ألظن أن‬

‫جيعلك اهلل مع صاحبيك ‪ ،‬وذاك أين كنت أ َك ِّث ُر أسمع رسول اهلل ‪‬‬
‫يقول ‪ :‬جئت أنا وأبو بكر وعمر ‪ ،‬ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ‪،‬‬

‫‪165‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» ‪ .‬متفق عليه البخاري (‪،)3677‬‬

‫ومسلم (‪.)2389‬‬

‫‪ -‬وقال حممد بن احلنفية (وهو ابن عيل بن أيب طالب ‪« :)‬قلت‬

‫أليب‪ :‬أي الناس خري بعد رسول اهلل ‪‬؟ قال أبو بكر قلت ثم من؟‬

‫قال‪ :‬ثم عمر» أخرجه البخاري (‪.)3671‬‬

‫‪ -‬وقال عيل بن أيب طالب‪« :‬ما نبعد أن السكينة تنطق عىل لسان عمر»‬

‫أخرجه اإلمام أمحد (‪ )834‬بإسناد صحيح‪.‬‬

‫تعرضت ألمر عظيم ‪،‬‬


‫ُ‬ ‫وإين إذ أعرض هذه النصوص أللوم نفيس ؛ إذ إين‬

‫قد صنف العلَمء فيه كت ًبا ومصنفات ‪ .‬فمن جيهل مكانة الفاروق يف‬

‫اإلسالم؟! ومن ينسى سريته وعدله وعبادته وزهده ونرصه لإلسالم‬

‫واْلسلمني ؟!‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫وما أحسن قول اإلمام مالك بن أنس إمام دار اهلجرة (رمحه اهلل تعاىل)‬

‫عندما سأله هارون الرشيد‪ :‬يا مالك ‪ ،‬كيف كانت منـزلة أيب بكر وعمر من‬

‫النبي ‪ ‬؟ فقال‪ :‬يا أمري اْلؤمنني ‪ ،‬قرهبَم منه يف حياته ‪ ،‬كقرب مضجعهَم‬

‫من مضجعه بعد وفاته ‪ ،‬فقال هارون‪ :‬شفيتني يا مالك ‪ ،‬شفيتني يا مالك ‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫أخرجه الزبري بن بكار يف مجهرة نسب قريش (‪ ،)584/2‬واآلجري يف‬

‫الرشيعة (‪ ،)1849‬وغريمها بإسناد صحيح ‪.‬‬

‫‪،‬‬
‫فإذا اطمأن القلب بتلك النصوص واألدلة والشواهد اْلحكمة الواضحة‬

‫فاعرض عىل قلبك بعدها تلك الشبهة‪ ،‬هل يبقى هلا أثر؟!‬

‫ومع ذلك فقد أجاب العلَمء عن ذلك احلديث ‪ ،‬وبينوا حقيقته‪ ،‬ومن‬

‫أحسن األجوبة ‪ :‬هو أن عمر بن اخلطاب ‪ْ ‬لا سمع من النبي ‪ ‬ذلك‬

‫الطلب ‪ ،‬الذي فيه معنى دنو األجل واقرتاب ساعة الوفاة من النبي ‪ ‬أصابته‬

‫دهش ُة اْلحب إذا شعر بقرب الفراق ‪ ،‬واستولت عليه حرية العاشق عند‬

‫حلول ساعة اْلوت بمعشوقه ‪ ،‬فقد كانت مشاعر عمر ‪ ‬ملتهب ًة مفجوع ًة‬

‫يف ذلك اْلقام العظيم واْلصاب اجلسيم ‪ ،‬وهو ُ‬


‫مرض وفاته ‪ . ‬كَم أصابه‬
‫ُ‬
‫والذهول بعد وفاة النبي ‪ ، ‬حتى كان ُي َك ِّذ ُب من يذكر وفاة النبي‬ ‫ذلك الول ُه‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ ، ‬ويتوعده بالقتل ‪ .‬وما ذاك إال لعظيم حبه وتعلقه القلبي الشديد بالنبي ‪‬‬
‫‪ ،‬فحملته تلك احلرية والدهشة ‪ ،‬مع علمه بأن النبي ‪ ‬برش ‪ ،‬يعرتيه ما يعرتي‬

‫البرش من اْلرض واحلمى وآثارمها ‪ ،‬إىل أن يظن أن هذا من النبي ‪ ‬كال رم‬

‫من أثر مرضه وأثناء غيبوبته من احلمى ‪ .‬وانظر أجوبة أخرى يف (اْلُ معلِم)‬

‫‪167‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫للَمزري (‪ ،)234/2‬وإكَمل اْلعلم للقايض عياض (‪،)379-382/5‬‬

‫واْلفهم للقرطبي (‪ ،)559-560/4‬وفتح الباري البن حجر (‪-739/7‬‬

‫‪.)740‬‬

‫ثم إننا ال نشك أن النبي ‪ ‬قد أدى األمانة وبلغ الرسالة عىل الوجه‬

‫األكمل‪ ،‬فلو مل يكن فيَم بلغه ألمته كفاية هلا ‪ ،‬ولو مل يكن ما أراد ذكره‬

‫وكتابته ساعة وفاته قد سبق منه ما يدل عليه ‪ ،‬ولو كانت داللته فيها يشء من‬

‫اخلفاء = لوال ذلك كله ْلا ترك النبي ‪ ‬البالغ والبيان ْلجرد ذلك التنازع‬

‫الذي حصل بمحرضه ‪ .‬وإال فقد وقع بني أصحاب النبي ‪ ‬وبمحرضه‬

‫اختالفات عدة أثناء حياته ‪ ، ‬فلم يمنع ذلك النبي ‪ ‬من البيان والبالغ ‪ْ ،‬لا‬

‫كان البالغ والبيان مما ال غنية للمسلمني عنه من شؤون دينهم‪.‬‬

‫وعىل هذا‪ ،‬فإن ترك النبي ‪ ‬للكتابة بعد استفاقته من غيبوبته ‪ ،‬يدل عىل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫أن ما أراد كتابته موجود يف كتاب اهلل تعاىل وسنته ‪ ، ‬ولو عىل وجه حيتاج‬
‫ٍ‬
‫اجتهاد واستنباط للوصول إليه ‪.‬‬ ‫إىل‬

‫وهبذا يتبني أنه مل يقع من عمر ‪ ‬أمر حيتاج إىل طول اعتذار ‪ ،‬وال‬

‫هناك شبهة قوية تقدح يف مكانة الفاروق ‪ ، ‬بل مل يزل ‪ ‬وال يزال خري‬

‫‪168‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫هذه األمة بعد نبينا ‪ ‬وبعد أيب بكر‪ ،‬كَم قال عيل بن أيب طالب ‪ . ‬واهلل‬

‫أعلم‪.‬‬

‫واحلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم عىل رسول اهلل‪ ،‬وعىل آله وصحبه ومن‬

‫واله » ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪169‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫اْللحق الثالث‬
‫(‪)1‬‬
‫شبهة ُيراعي فِ مق َه اْلحكَمت‬
‫ٍ‬ ‫ر ٌّد عىل‬
‫«دية اْلرأة عىل النصف من دية الرجل»‬

‫فالشبهة هي ‪ :‬دية اْلرأة عىل النصف من دية الرجل‪ .‬هل هذا يدل عىل‬

‫هبوط مكانة اْلرأة اإلنسانية عن مكانة الرجل يف الترشيع اإلسالمي ؟‬

‫اجلواب عىل الشبهة ‪:‬‬

‫احلمد هلل والصالة والسالم عىل رسول اهلل وعىل آله وصحبه ومن وااله‪،‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫فجوابا عىل السؤال أقول (وباهلل التوفيق)‪ :‬الذي يدل يف اإلسالم عىل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫تساوي الرجل واْلرأة يف اإلنسانية ليس هو الدية؛ إال إن كانت النفس‬

‫البرشية ال تعرف قيمتها إال باْلال! وإذا ما نظرنا للدية عىل أهنا قيمة للنفس‬

‫(‪ )1‬فتوى يل منشورة يف موقع اإلسالم اليوم ‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫البرشية‪ .‬فأقبح هبذه النظرة إىل الدية ! سواء كانت دية اْلرأة عىل النصف من‬

‫دية الرجل أو ضعفها!! فالدية ليست هي ميزان القيمة اإلنسانية يف اإلسالم‪.‬‬

‫وإنَم الذي يبني قيمة النفس البرشية للمرأة والرجل يف حالة االعتداء عليهَم‪:‬‬

‫اإلثم والعقوبة األخروية اْلرتتبة عىل ذلك االعتداء؛ ألن ذلك هو اْليزان‬

‫احلقيقي يف اإلسالم (ولعذاب اآلخرة أشد وأبقى)‪ .‬وباإلمجاع وبداللة‬

‫النصوص القاطعة أن االعتداء عىل الرجل واْلرأة يف اإلثم سواء‪( :‬من أجل‬

‫ذلك كتبنا عىل بني إرسائيل أنه من قتل نفسا بغري نفس أو فساد يف األرض‬

‫فكأنَم قتل الناس مجيعا ومن أحياها فكأنَم أحيا الناس مجيعا)‪ .‬بل لقد‬

‫خص اهلل تعاىل قتل البنات بمزيد من التوبيخ اْلتضمن مزيدً ا من العقوبة‪.‬‬
‫َّ‬
‫وذلك يف قوله تعاىل (وإذا اْلوءودة سئلت _ بأي ذنب قتلت)؛ ومل يدع‬

‫أحد مع ذلك‪ :‬أن يف هذا متييزً ا للمرأة وتفضيال هلا عىل الرجل؛ ألن أهل‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اجلاهلية كان اعتداؤهم عىل بناهتم بالقتل أكثر من اعتدائهم عىل أبنائهم‬

‫الذكور‪.‬‬

‫وكَم تساوى االعتداء عىل اجلنسني يف العقوبة األخروية فقد تساويا يف‬

‫العقوبة الدنيوية‪ :‬ذلك أن الرجل يقتل باْلرأة قصاصا‪ .‬ولو كانت قيمتهَم‬

‫اإلنسانية خمتلفة ما قتل الرجل باْلرأة‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫وباتفاق وتساوي إثم وعقوبة قتل اْلرأة بعقوبة قتل الرجل يف الدنيا ويف‬

‫اآلخرة يتضح أنه ال فرق بني إنسانية اْلرأة والرجل‪ .‬وأهنَم سواء يف الترشيع‬

‫اإلسالمي‪.‬‬

‫إذن فاختالف دية اْلرأة عن دية الرجل ال عالقة هلا بالقيمة اإلنسانية‬

‫أصال‪ .‬وإنَم لذلك مغزى آخر وحكمة بعيدة عن ذلك‪ .‬كَم بيناه آنفا‪ .‬فإن‬

‫وقفنا عىل ذلك اْلغزى ووفقنا إىل معرفة تلك احلكمة فبها ونعمت‪ .‬وإال‬

‫فسوف يكون هذا احلكم حكَم تعبديا‪ .‬اْلقصود منه ابتالء اإليَمن وّتقيق‬

‫العبودية بالتسليم للخالق وحكمه‪.‬‬

‫ومن نظر يف أحكام الدية علم أهنا ال عالقة هلا بالقيمة اإلنسانية‪ .‬بدليل‬

‫استحقاق الشخص الواحد عد ًدا من الديات وهو حي بفقده عد ًدا من األعضاء‬

‫برتا أو إفسا ًدا (حتى إن اللحية إذا حلقت فلم تنبت كان فيها‬
‫واْلصالح منها ً‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫دية كاملة عند بعض الفقهاء)‪ .‬وبدليل أن الدية رشعت يف القتل اخلطأ الذي‬

‫ال إثم فيه أصال‪ .‬إذن ففقه باب الدية كله مبني عىل معنى آخر غري معنى دفع‬

‫قيمة للنفس البرشية‪ .‬فهي إما تعويض عن كاسب وسبب لتحصيل الرزق‪.‬‬

‫وإما ْلعنى رمزي معني‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫ولذلك فالذي يظهر يل من حكمة جعل دية الرجل ضعف دية اْلرأة‬

‫أمران‪:‬‬

‫‪ -1‬إما أن يكون ذلك تأكيدً ا عىل الوضع الفطري للحياة البرشية منذ‬

‫نشأت البرشية‪ .‬من كون الرجل هو الكاسب اْلحصل للرزق واْلنفق عىل‬

‫األرسة بمن فيهم اْلرأة (وهو ما أكده اإلسالم من كون النفقة واج ًبا للرجل‪،‬‬

‫وح ًّقا للمرأة عليه)‪ .‬وعىل هذا سيكون فقدان الرجل مما يوجب تعويض‬

‫األرسة واْلرأة عن كاسبهم واْلنفق عليهم‪.‬‬

‫‪ -2‬وإما أن يكون ذلك االختالف بني الديتني تأكيدً ا عىل قوامة الرجل‬

‫(الرجال قوامون عىل النساء) (وللرجال عليهن درجة)‪ .‬تلك القوامة التي هي‬

‫حق رمزي للرجل يف أرسته‪ .‬فجاء االختالف يف الدية معززً ا لذلك التقديم‬

‫الرمزي للرجل عىل اْلرأة يف حق القوامة‪ .‬و(القوامة)‪ :‬هي ذلك احلق الذي‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫إنَم رشع يف اإلسالم حفا ًظا عىل األرسة من التفكك والضياع‪ .‬بتحديد رأس‬

‫األرسة وتعيني قائدها الذي يقودها باإلحسان والتسامح والتشاور وعدم‬

‫التسلط والظلم واالستبداد‪ .‬والذي جيب عليه مقابل ذلك حقوق زائدة للمرأة‬

‫‪173‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫وبقية األرسة‪ .‬كالنفقة واحلَمية والدفاع عنهم بنفسه (من قتل دون عرضه فهو‬

‫شهيد)‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪174‬‬
‫اْلالحـــــــــــــــــــــــــق‬

‫المصادر والمراجع‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪175‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫اْلصادر واْلراجع‬

‫اإلتقان يف علوم القرآن ‪ :‬للسيوطي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪/‬مصطفى ديب‬ ‫‪-1‬‬

‫البغا ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1407 :‬ه ‪ .‬دار ابن كثري ‪ :‬دمشق ‪.‬‬

‫أخبار الرايض واْلتقي (من كتب األوراق) ‪ :‬أليب بكر الصويل ‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫ّتقيق ‪ .‬ج ‪ .‬هريوث ‪ .‬دن ‪ .‬الطبعة الثانية ‪1399 :‬ه ‪ .‬دار اْلسرية ‪:‬‬

‫بريوت ‪.‬‬

‫اختالف اْلفتني ‪ :‬للرشيف حاتم العوين ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬ ‫‪-3‬‬

‫‪1429‬ه ‪ .‬دار الصميعي ‪ :‬الرياض ‪.‬‬

‫االستقامة ‪ :‬البن تيمية ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬حممد رشاد سامل ‪ .‬الطبعة‬ ‫‪-4‬‬

‫الثانية ‪1409 :‬ه ‪ .‬تصوير ‪ :‬مكتبة السنة ‪ :‬القاهرة ‪.‬‬

‫األم ‪ :‬للشافعي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬رفعت فوزي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬ ‫‪-5‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪1422‬ه ‪ .‬دار الوفاء ‪ :‬اْلنصورة ‪.‬‬

‫بحر الفوائد ‪ :‬أليب بكر حممد بن إبراهيم بن يعقوب الكالباذي ‪.‬‬ ‫‪-6‬‬

‫ّتقيق ‪ :‬وجيه كَمل الدين زكي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1429 :‬ه ‪ .‬دار‬

‫السالم ‪ :‬القاهرة ‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫البحر اْلحيط ‪ :‬للزركيش ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬الشيخ عبد القادر العاين‬ ‫‪-7‬‬

‫ومجاعة ‪ .‬الطبعة الثانية ‪1413 :‬ه ‪ .‬وزارة األوقاف ‪ :‬الكويت ‪.‬‬

‫تصوير دار الصفوة ‪ :‬الغردقة ‪.‬‬

‫تاريخ اإلسالم ‪ :‬للذهبي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪/‬بشار عواد معروف ‪ .‬الطبعة‬ ‫‪-8‬‬

‫األوىل ‪1424 :‬ه ‪ .‬دار الغرب ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫تاريخ بغداد ‪ :‬للخطيب البغدادي ‪ .‬تصحيح ‪ :‬حممد سعيد العريف‬ ‫‪-9‬‬

‫‪ ،‬وقف عىل طبعه أمني اخلانجي ‪ .‬عىل نفقة مكتبة اخلانجي ‪،‬‬

‫واْلكتبة العربية ‪ ،‬ومطبعة السعادة ‪ :‬بغداد ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬

‫‪1349‬ه ‪ .‬تصوير ‪ :‬دار الكتاب العريب ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫تاريخ الطربي (تاريخ األمم واْللوك) ‪ْ :‬لحمد بن جرير الطربي ‪.‬‬ ‫‪-10‬‬

‫ّتقيق‪ :‬حممد أبو الفضل إبراهيم‪ .‬الطبعة الثانية‪ :‬؟ ‪ .‬دار‬

‫اْلعارف‪ :‬القاهرة‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫التحبري رشح التحرير ‪ :‬للمرداوي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪/‬عبدالرمحن بن‬ ‫‪-11‬‬

‫عبد اهلل بن جربيل ومجاعة ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1421 :‬ه ‪ .‬مكتبة‬

‫الرشد ‪ :‬الرياض ‪.‬‬

‫التحرير والتنوير ‪ :‬للطاهر ابن عاشور ‪ .‬دار سحنون للنرش ‪.‬‬ ‫‪-12‬‬

‫‪178‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫التسهيل لعلوم التنزيل ‪ :‬البن ُجزي اْلالكي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬ ‫‪-13‬‬

‫‪1430‬هـ ‪ .‬دار الضياء ‪ :‬الكويت ‪.‬‬

‫التعريفات ‪ :‬للجرجاين ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬إبراهيم األبياري ‪ .‬الطبعة الثانية‪:‬‬ ‫‪-14‬‬

‫‪1413‬ه ‪ .‬دار الكتاب العريب ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫تفسري القرآن ‪ :‬البن اْلنذر‪ّ .‬تقيق ‪ :‬سعد بن حممد السعد ‪.‬‬ ‫‪-15‬‬

‫الطبعة األوىل‪1423 :‬ه ‪ .‬دار اْلآثر ‪ :‬اْلدينة اْلنورة ‪.‬‬

‫تفسري القرآن العظيم ‪ :‬البن أيب حاتم ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬أسعد حممد‬ ‫‪-16‬‬

‫الطيب ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1417 :‬ه ‪ .‬مكتبة نزار الباز ‪ :‬مكة اْلكرمة‪.‬‬

‫التفسري الكبري ‪ :‬للرازي ‪ .‬الطبعة الثالثة ‪ :‬؟ دار إحياء الرتاث‬ ‫‪-17‬‬

‫العريب‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫تكملة تاريخ الطربي (بذيل تاريخ الطربي) ‪ْ :‬لحمد بن عبد‬ ‫‪-18‬‬

‫اْللك اهلمذاين ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬حممد أبو الفضل إبراهيم ‪ .‬الطبعة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫الثانية ‪ :‬؟ ‪ .‬دار اْلعارف ‪ :‬القاهرة ‪.‬‬

‫التمهيد ‪ :‬للباقالين ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬رترشد يوسف مكارثي اليسوعي ‪.‬‬ ‫‪-19‬‬

‫الطبعة األوىل ‪1975 :‬م ‪ .‬جامعة احلكمة ‪ :‬بغداد ‪.‬‬

‫التمهيد ‪ :‬البن عبد الرب ‪ .‬طبعة وزارة األوقاف اْلغربية ‪.‬‬ ‫‪-20‬‬

‫‪179‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫جامع البيان عن تأويل آي القرآن ‪ :‬البن جرير الطربي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪/‬‬ ‫‪-21‬‬

‫عبد اهلل الرتكي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1422 :‬ه ‪ .‬دار هجر ‪ :‬اجليزة ‪.‬‬

‫اجلليس الصالح واألنيس الناصح ‪ :‬للمعاىف بن زكريا ‪ّ .‬تقيق ‪:‬‬ ‫‪-22‬‬

‫إحسان عباس وغريه ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1407 :‬ه ‪ .‬عامل الكتب ‪:‬‬

‫بريوت ‪.‬‬

‫حاشية ابن عابدين ‪ .‬الطبعة الثانية ‪1386 :‬ه ‪ .‬تصوير دار الفكر ‪:‬‬ ‫‪-23‬‬

‫بريوت ‪.‬‬

‫حديث الطريقة ‪ :‬لرينيه ديكارت ‪ .‬ترمجة ‪ :‬د‪ /‬عمر الشارين ‪.‬‬ ‫‪-24‬‬

‫الطبعة األوىل ‪2008 :‬م ‪ .‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫حقيقة القولني ‪ :‬لإلمام الغزايل ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪ُ /‬م مسلِم بن حممد‬ ‫‪-25‬‬

‫الدُّ مو َرسي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1438 :‬هـ ‪ .‬دار أسفار ‪ :‬الكويت ‪.‬‬

‫احلنابلة يف بغداد ‪ :‬حممد أمحد عيل حممود ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬ ‫‪-26‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪1406‬ه ‪ .‬اْلكتب اإلسالمي ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫الذخرية ‪ :‬للقرايف ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬حممد بو خبزة ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬ ‫‪-27‬‬

‫‪1994‬م ‪ .‬دار الغرب ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫ُ‬
‫ذيل طبقات احلنابلة ‪ :‬البن رجب ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬عبد الرمحن‬ ‫‪-28‬‬

‫العثيمني ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1425 :‬ه ‪ .‬مكتبة العبيكان ‪ :‬الرياض ‪.‬‬

‫رجال من التاريخ ‪ :‬عيل الطنطاوي ‪ .‬الطبعة الثانية ‪ :‬؟ ‪ .‬اْلكتبة‬ ‫‪-29‬‬

‫األموية ‪ :‬دمشق ‪.‬‬

‫زاد اْلسري ‪ :‬البن اجلوزي ‪ .‬الطبعة الثالثة ‪1404 :‬ه ‪ .‬اْلكتب‬ ‫‪-30‬‬

‫اإلسالمي ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫سنن الدارمي = مسند الدارمي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬حسني سليم أسد ‪ .‬الطبعة‬ ‫‪-31‬‬

‫األوىل ‪1421 :‬ه ‪ .‬دار اْلغني ‪ :‬الرياض ‪.‬‬

‫رشح صحيح البخاري ‪ :‬البن بطال ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬يارس إبراهيم ‪.‬‬ ‫‪-32‬‬

‫الطبعة الثالثة ‪1425 :‬ه ‪ .‬مكتبة الرشد ‪ :‬الرياض ‪.‬‬

‫رشح خمترص الطحاوي ‪ :‬للجصاص ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬حممد عبيد‬ ‫‪-33‬‬

‫خان وغريه ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1431 :‬ه ‪ .‬دار البشائر ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫رشح مشكل اآلثار ‪ :‬للطحاوي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬شعيب األرناؤوط ‪.‬‬ ‫‪-34‬‬

‫الطبعة األوىل ‪1415 :‬ه ‪ .‬مؤسسة الرسالة ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫شم العوارض يف ذم الروافض ‪ْ :‬لال عيل القاري ‪ّ .‬تقيق ‪:‬‬ ‫‪-35‬‬

‫مشهور حسن سلَمن ‪ .‬الطبعة األوىل ‪2008 :‬م ‪ .‬الدار األثرية ‪:‬‬

‫عَمن ‪ ،‬األردن ‪.‬‬

‫صحيح البخاري ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1417 :‬ه ‪ .‬دار السالم ‪ :‬الرياض‪.‬‬ ‫‪-36‬‬

‫صحيح مسلم ‪ .‬ترقيم حممد فؤاد عبد الباقي ‪.‬‬ ‫‪-37‬‬

‫صيد اخلاطر ‪ :‬البن اجلوزي ‪ّ.‬تقيق ‪ :‬الشيخ عيل الطنطاوي ‪.‬‬ ‫‪-38‬‬

‫الطبعة اخلامسة ‪1412 :‬ه ‪ .‬دار اْلنارة ‪:‬جدة ‪ ،‬ومكة اْلكرمة ‪.‬‬

‫ال َع َل ُم الشامخ يف تفضيل احلق عىل اآلباء واْلشايخ ‪ :‬للمقبيل ‪.‬‬ ‫‪-39‬‬

‫مكتبة دار البيان ‪ :‬دمشق ‪.‬‬

‫الفروع ‪ :‬البن مفلح ‪ّ.‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬عبد اهلل الرتكي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬ ‫‪-40‬‬

‫‪1424‬ه ‪ .‬مؤسسة الرسالة ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫الفكر السامي يف تاريخ الفقه اإلسالمي ‪ْ :‬لحمد بن احلسن‬ ‫‪-41‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫احلجوي ‪ .‬خرج أحاديثه وعلق عليه ‪ :‬د‪ /‬عبدالعزيز بن عبد الفتاح‬

‫القارئ ‪.‬الطبعة األوىل ‪1397 :‬ه ‪ .‬اْلكتبة العلمية ‪ :‬اْلدينة‬

‫اْلنورة ‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫الفنون ‪ :‬البن عقيل ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬جورج مقديس ‪ .‬تصوير سنة ‪:‬‬ ‫‪-42‬‬

‫‪1411‬ه ‪ .‬مكتبة لينة ‪ :‬دمنهور‪.‬‬

‫القواعد الكربى ‪ :‬للعز ابن عبدالسالم ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬عثَمن مجعة‬ ‫‪-43‬‬

‫ضمريية ‪ ،‬د‪ /‬نزيه محاد ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1421 :‬ه ‪ .‬دار القلم ‪:‬‬

‫دمشق ‪.‬‬

‫الكامل يف التاريخ ‪ :‬البن األثري ‪ .‬الطبعة الرابعة ‪1403 :‬ه ‪ .‬دار‬ ‫‪-44‬‬

‫الكتاب العريب ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫الكليات ‪ :‬للكفوي ‪ّ.‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬عدنان درويش ‪ ،‬وحممد‬ ‫‪-45‬‬

‫اْلرصي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1412 :‬ه ‪ .‬مؤسسة الرسالة ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫اْلبسوط ‪ :‬للرسخيس ‪ .‬تصوير دار اْلعرفة ‪ :‬بريوت ‪ .‬سمة ‪:‬‬ ‫‪-46‬‬

‫‪1406‬ه ‪.‬‬

‫اْلحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ‪ :‬البن عطية ‪ّ .‬تقيق ‪:‬‬ ‫‪-47‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫الرحال الفاروق ورفقائه ‪ .‬الطبعة الثانية ‪1428 :‬هـ ‪ .‬وزارة األوقاف‬

‫القطرية ‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫اْلحكَمت يف الرشيعة اإلسالمية وأثرها يف وحدة األمة وحفظ‬ ‫‪-48‬‬

‫اْلجتمع‪ :‬للدكتور عابد بن حممد السفياين ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬

‫‪1420‬ه ‪ .‬دار ابن اجلوزي‪ :‬الدمام ‪.‬‬

‫اْلحيط الربهاين ‪ :‬البن مازة احلنفي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬نعيم أرشف ‪.‬‬ ‫‪-49‬‬

‫الطبعة األوىل ‪1424 :‬ه ‪ .‬إدارة القرآن ‪ :‬كراتيش ‪.‬‬

‫اْلسند ‪ :‬لإلمام أمحد بن حنبل ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬شعيب األرناؤوط ‪،‬‬ ‫‪-50‬‬

‫ومجاعة ‪ .‬الطبعة الثانية‪1429 :‬ه ‪ .‬مؤسسة الرسالة ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫اْلعرفة يف اإلسالم (مصادرها وجماالهتا) ‪ :‬د‪ /‬عبداهلل بن حممد‬ ‫‪-51‬‬

‫القرين‪ .‬الطبعة األوىل ‪1419 :‬ه ‪ .‬دار عامل الفوائد ‪ :‬مكة‬

‫اْلكرمة‪.‬‬

‫اْلغني ‪ :‬البن قدامة ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪ /‬عبداهلل الرتكي ‪ .‬الطبعة الثالثة ‪:‬‬ ‫‪-52‬‬

‫‪1417‬ه ‪ .‬دار عامل لكتب ‪ :‬الرياض ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫اْلغني عن محل األسفار يف األسفار (يف حاشية إحياء علوم‬ ‫‪-53‬‬

‫الدين للغزايل)‪ :‬لزين الدين العراقي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪/‬حممد وهبي‬

‫سليَمن ‪ ،‬وأسامة عمورة ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1427 :‬ه ‪ .‬دار الفكر‬

‫اْلعارص ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫اْلفردات يف غريب القرآن ‪ :‬للراغب األصبهاين ‪ّ .‬تقيق ‪:‬‬ ‫‪-54‬‬

‫صفوان الدوودي ‪ .‬الطبعة الثانية ‪1418 :‬ه ‪ .‬دار القلم والدار‬

‫الشامية ‪ :‬دمشق ‪.‬‬

‫مقاييس اللغة ‪ :‬البن فارس ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬عبد السالم حممد هارون ‪.‬‬ ‫‪-55‬‬

‫دار الكتب العلمية ‪ :‬قم ‪.‬‬

‫اْلنتظم يف تاريخ اْللوك واألمم ‪ :‬البن اجلوزي ‪ .‬الطبعة األوىل ‪:‬‬ ‫‪-56‬‬

‫‪1357‬ه ‪ .‬دائرة اْلعارف العثَمنية ‪ :‬اهلند ‪.‬‬

‫اْلنقذ من الضالل ‪ :‬للغزايل ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬د‪/‬عبداحلليم حممود ‪.‬‬ ‫‪-57‬‬

‫الطبعة السابعة ‪1392 :‬ه ‪ .‬دار الكتب احلديثة ‪ :‬القاهرة ‪.‬‬

‫اْلنهاج ‪ :‬للنووي (مع رشحه ‪ :‬النجم الوهاج ‪ ،‬فنظر معلومات‬ ‫‪-58‬‬

‫طبعه فيه) ‪.‬‬

‫اْلوافقات ‪ :‬للشاطبي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬مشهور بن حسن آل سلَمن ‪.‬‬ ‫‪-59‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫الطبعة األوىل ‪1417 :‬ه ‪ .‬دار ابن عفان ‪ :‬اخلرب ‪.‬‬

‫مواهب اجلليل لرشح خمترص خليل ‪ :‬للحطاب ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬زكريا‬ ‫‪-60‬‬

‫عمريات ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1423 :‬ه ‪ .‬دار عامل الكتب ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫إهداء ‪ :‬سمو األمري الوليد بن طالل ‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫موسوعة التفسري باْلأثور ‪ :‬إعداد ‪ :‬مركز الدراسات واْلعلومات‬ ‫‪-61‬‬

‫القرآنية ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1439 :‬هـ ‪ .‬معهد اإلمام الشاطبي ‪ :‬جدة ‪.‬‬

‫النجم الوهاج يف رشح اْلنهاج ‪ :‬للدَّ مريي ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬مجاعة‬ ‫‪-62‬‬

‫بإرشاف ‪ :‬حممد غسان عزقول ‪ .‬الطبعة األوىل ‪1425 :‬ه ‪ .‬دار‬

‫اْلنهاج ‪ :‬جدة ‪.‬‬

‫نقد العقل اْلجرد ‪ :‬لعَمنوئيل كنت ‪ .‬ترمجة ‪ :‬أمحد الشيباين ‪.‬‬ ‫‪-63‬‬

‫الطبعة األوىل‪ :‬؟ ‪ .‬دار اليقظة العربية ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫النوادر والزيادات ‪ :‬البن أيب زيد ‪ّ .‬تقيق ‪ /:‬حممد حجي ‪.‬‬ ‫‪-64‬‬

‫الطبعة األوىل ‪1999 :‬م ‪ .‬دار الغرب ‪ :‬بريوت ‪.‬‬

‫وفيات األعيان ‪ :‬البن خلكان ‪ّ .‬تقيق ‪ :‬إحسان عباس ‪ .‬دار صادر‪:‬‬ ‫‪-65‬‬

‫بريوت ‪.‬‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪186‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬

‫دليل الموضوعات‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪187‬‬
‫دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات‬

‫دليل الموضوعات‬
‫الصفحة‬ ‫الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع‬
‫‪5‬‬ ‫اْلقدمـــــــــــة‬

‫• تعريف اْلحكَمت وبيان سَمهتا التي متيزها عن‬


‫‪7‬‬
‫غريها‬
‫‪9- 8‬‬ ‫• تعريف اْلحكَمت‬
‫‪10‬‬ ‫سَمت اْلحكَمت ‪:‬‬
‫‪13‬‬ ‫‪ -1‬الثبات وعدم قبوهلا للزَّوال وال للتبدُّ ل‬
‫ٍ‬
‫قلوب بني‬ ‫ِ‬
‫ائتالف‬ ‫وموضع‬ ‫ٍ‬
‫اتفاق بني العقالء ‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫حمل‬ ‫‪ -2‬أهنا‬
‫ُ‬
‫‪15‬‬
‫األسوياء‬

‫‪19‬‬ ‫‪ -3‬أن أدلتها قطعية يقينية ‪ ،‬وليست ظنية‬


‫‪25‬‬ ‫‪ -4‬أهنا أصول كلية ُيـحتكم إليها‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪28‬‬ ‫‪ -5‬أهنا عاصمة للفكر من االنحراف‬

‫• أثر اْلحكَمت يف ّتقيق األمن الفكري‬


‫‪37‬‬
‫والعقدي‪:‬‬
‫ب من‬ ‫َ‬
‫السقوط يف ُج ٍّ‬ ‫‪ -1‬أي خلل يصيب هذه اْلحكَمت سيعني‬
‫‪39‬‬
‫األوهام والشكوك‬

‫‪189‬‬
‫دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات‬

‫الصفحة‬ ‫الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع‬
‫‪ -2‬أن ّتكيم اْلحكَمت هو الذي سيؤدي إىل الثبات عىل اْلبدأ‪،‬‬
‫‪41‬‬ ‫ِ‬
‫االستقرار النفيس وهو سبب الشعور باألمان‬ ‫والثبات هو سبب‬
‫والطمأنينة‬

‫‪ -3‬أن اْلحكَمت هي العاصمة من ختطف الشبه واألهواء ‪ ،‬وهي‬


‫‪43‬‬ ‫العاصمة من الغلو والتطرف ‪ :‬بالتشدد والتزمت ‪ ،‬أو باالنحالل‬
‫والتفلت‬
‫‪ -4‬أن الثبات عىل اْلبدأ وعدم اخلشية من خت ُّطف الشبهات مها‬
‫‪44‬‬
‫أهم رضوريات بقاء اْلسلم اْلعارص‬

‫إرساء لقواعد‬ ‫ِ‬


‫اإلنسانية هو يف احلقيقة‬ ‫ِ‬
‫اْلحكَمت‬ ‫‪ -5‬أن تثبيت‬
‫ر‬
‫‪46‬‬
‫التعايش اإلنساين‬

‫‪51‬‬ ‫• تثبيت اْلحكَمت (مقرتحات عملية يف ذلك) ‪:‬‬


‫‪51‬‬ ‫‪ -1‬تثبيت أصول الدين يف قلوب أبناء األمة باألدلة اليقينية‬
‫‪69‬‬ ‫‪ -2‬تكثيف احلديث عن اْلحكَمت‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫‪ -3‬تنويع وسائل إثبات اْلحكَمت (كاحلديث الوجداين ‪،‬‬
‫‪70‬‬ ‫وأعَمل ِ‬
‫الـم مشجاة ‪ :‬الدراما)‬ ‫ِ‬ ‫والفنون األدبية واجلَملية‬
‫‪ -4‬عدم إغفال اخلطاب العقالين يف كل فتاوى العلَمء‬
‫‪74‬‬
‫وخطبهم وحديثهم ومجيع ُأطروحاهتم‬
‫ُ‬

‫‪190‬‬
‫دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات‬

‫الصفحة‬ ‫الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع‬
‫‪ -5‬بيان اْلنهج العقيل الصحيح جتاه اْلحكَمت‬
‫‪79‬‬
‫واْلشتبهات ‪:‬‬
‫‪81‬‬ ‫• قوانني هذا اْلنهج ‪:‬‬
‫القانون األول ‪ :‬أن اليقني ال يزول بالشك ‪ ،‬وأن الشك ال ُيقدم عىل‬
‫‪81‬‬
‫اليقني ‪.‬‬

‫ِ‬
‫اليشء ال يلزم منها أن ال ُيشك َ‬
‫ِّك فيه أحدر‬ ‫القانون الثاين ‪ :‬أن يقيني َة‬
‫‪82‬‬
‫القانون الثالث ‪ :‬أن فروع الدين وفروع التصورات يكفي إلثباهتا غلب ُة‬
‫‪83‬‬
‫الظن‬

‫القانون الرابع ‪ :‬أن الدليل الظني ال يقدح يف صحة االحتجاج به ورو ُد‬
‫‪84‬‬
‫االحتَمالت الظنية اْلرجوحة عليه‬

‫القانون اخلامس ‪ :‬التذكري دائَم بأن كل األمور تنقسم إىل ثالثة‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬
‫جييز‬ ‫ر‬
‫ووسط فيه َقدم رر من اخلفاء ُ‬ ‫أقسام ‪ :‬طرفان واضحان يقينيان ‪،‬‬
‫‪86‬‬
‫االختالفَ فيه‬

‫القانون السادس ‪ :‬التحذير من طلب أعىل درجات اليقني يف كل‬


‫‪88‬‬
‫يشء‬

‫‪191‬‬
‫دليـــــــــل الموضوعــــــــــــــــــــــــات‬

‫الصفحة‬ ‫الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع‬
‫القانون السابع ‪ :‬أن هناك فر ًقا بني أمرين ‪ :‬األول هو االستحالة‬
‫‪93‬‬
‫العقلية ‪ ،‬والثاين هو عجز العقل عن التصور ‪.‬‬

‫‪98‬‬ ‫ِ‬
‫اْلنضبطة غري الفوضوية‬ ‫ِ‬
‫احلرية‬ ‫‪ -6‬إشاع ُة‬

‫‪141‬‬ ‫• اخلامتــــــــــة‬
‫‪146‬‬ ‫• اْلالحــــــــق‬
‫‪149‬‬ ‫اْللحق األول‪ :‬إنكار السنة بدعوى أن اهلل مل يتعهد بحفظها‬

‫‪161‬‬ ‫اْللحق الثاين‪ :‬فتوى تقليدية راعت فقه اْلحكَمت‬

‫‪168‬‬ ‫شبهة ( ُيراعي فِ مق َه اْلحكَمت)‬


‫ٍ‬ ‫اْللحق الثالث‪ :‬ر ٌّد عىل‬

‫‪174‬‬ ‫اْلصادر واْلراجع‬

‫‪187‬‬ ‫دليل اْلوضوعات‬

‫‪1439/03/04‬هـ‬

‫‪192‬‬

You might also like