You are on page 1of 110

‫نظرات‬

‫في التربية اإليمانية‬

‫مجدي الهاللي‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫رب يسر وأعن يا كريم‬
‫المقدمة‬
‫الحمد هلل رب العالمين ‪ ،‬والصالة والسالم على المبعوث رحمة للعالمين ‪ ،‬سيدنا محمد وعلى‬
‫آله وصحبه أجمعين ‪ ،‬أما بعد ‪:‬‬
‫فهب أنك ‪ -‬أخي القارئ ‪ -‬قد عُدت إلى منزلك في يوم من األيام فوجدت رجاًل في انتظارك‬
‫وبصحبته زوجته وأوالده ‪ ،‬ومعه رسالة من أحد أصدقائك الذين ال يمكنك أن ترد لهم طلبًا ‪،‬‬
‫يخبرك فيها بأن حامل رسالته أخ لك في هللا ‪ ،‬قد تعرض لمحن وابتالءات كثيرة ‪ ،‬وهو اآلن بال‬
‫مال وال مأوى ‪ ،‬وعليك أن تستضيفه وعائلته في منزلك ‪ ،‬وأن تقتسم معه مالك ‪ ،‬وطعامك ‪،‬‬
‫فضاًل عن مسكنك ‪ ،‬وليس لهذه االستضافة مدة معلومة ‪ ،‬فقد تمتد شهورً ا أو سنين ‪...‬‬
‫فماذا تتوقع أن يكون رد فعلك تجاه هذا األمر ؟!‬
‫هل ستكون سعي ًدا بهذه الرسالة وما تحتويه ؟ أم سيضيق صدرك ويشتد غمك ‪ ،‬فالراتب ال‬
‫يكفي إال بالكاد ‪ ،‬والمسكن يضيق بأفراد األسرة ‪ ،‬فكيف سيكون الحال لو تم اقتسام الراتب‬
‫والمسكن بينك وبين أخيك ؟‬
‫ُأ‬
‫وحتى إن كنت موسرً ا ؛ فمن يتحمل أن يتعايش مع ناس ال يعرفهم وال يعرف طباعهم‬
‫وأسلوب حياتهم ؟‬
‫‪ ..‬ال أكتمك القول – أخي – بأنني قد تخيلت نفسي في هذا الموقف ‪ ،‬فتوقعت مقدار الحرج‬
‫الذي سيصيبني ‪ ،‬ومدى الضيق الذي قد يتولد في صدري والذي قد يزيد بطول مدة االستضافة ‪،‬‬
‫ومن المتوقع أن تدور أمنيتي وقتها حول إمكانية كون هذا الرجل قد أخطأ في العنوان ‪ ،‬وأن‬
‫المقصود شخص آخر غيري ‪ ،‬وقد ُأسارع باالتصال بمن كتب الرسالة محاواًل التملص من هذا‬
‫العمل ‪ ،‬وأتعلل بظروف كثيرة تحول بيني وبين استضافة هذه األسرة ‪ ،‬وإن وافقت على‬
‫استضافتها فستكون موقوتة بمدة محددة ‪ ،‬وسأجتهد في أن تكون هذه المدة قصيرة قدر اإلمكان‬
‫‪...‬‬
‫‪..‬هذا الموقف ‪ -‬الذي نتمنى أال نتعرض له ‪ -‬قد تعرض له األنصار في صدر الدعوة ‪ ،‬فلقد‬
‫ً‬
‫تنفيذا‬ ‫خرج المهاجرون فارين بدينهم من مكة تاركين فيها ديارهم وأموالهم ‪ ،‬وتوجهوا إلى يثرب‬
‫ألمر هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ..‬هاجروا إليها دون أن يكون لهم فيها مأوى ‪ ،‬ولم يكن‬
‫معهم من األموال ما يُمكنهم من اإلنفاق على أنفسهم ‪ ،‬أو اقتناء مساكن تؤيهم ‪ ،‬وفي المقابل كان‬
‫أهل المكان من األنصار فقراء ‪ ،‬فضاًل عن أنهم لم يكن بينهم وبين المهاجرين سابق صلة أو‬
‫معرفة ‪ ،‬ومع ذلك كان عليهم أن يستضيفوا إخوانهم المهاجرين استضافة كاملة ‪ ..‬فماذا كان‬
‫تصرفهم تجاه هذا األمر ؟!‬
‫ُتجيبنا كتب السيرة بأنهم كانوا في سعادة غامرة بتلك االستضافة إلى حد تسابقهم وتنافسهم‬
‫شده‬ ‫فيما بينهم للفوز بكل مهاجريّ يصل إلى المدينة ‪ ..‬هذا التسابق والتنافس الذي كان على أ ُ‬
‫جعلهم يلجأون إلى إجراء القرعة لتحديد الفائز باستضافة الوافد الجديد ‪ ..‬نعم ‪ ،‬لقد حدث هذا ‪،‬‬
‫حتى قيل ‪ :‬ما نزل مهاجري على أنصاري إال بقرعة ‪.‬‬
‫ولعلك ‪ -‬أخي القارئ – تعجب من هذا التصرف الذي نعجز عن القيام به ‪ ،‬ولعلك كذلك‬
‫تتساءل معي ‪ :‬ما الذي جعلهم يصلون إلى هذا المستوى ‪ ،‬وهذا السلوك الذي يفوق طاقات‬
‫احتمال البشر ؟‬
‫يُجيب القرآن على تساؤالتنا ‪ ،‬ويبين لنا السبب الذي دفع هؤالء األنصار لهذا اإليثار العظيم‬
‫ان ِمنْ َق ْبل ِِه ْم ُي ِحب َ‬
‫ُّون‬ ‫مع فقرهم وشدة حاجتهم وذلك في قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬والَّذ َ‬
‫ِين َت َبوَّ ءُوا ال َّد َ‬
‫ار َواِإْلي َم َ‬

‫‪2‬‬
‫ان ِب ِه ْم‬ ‫اج ًة ِممَّا ُأو ُتوا َويُْؤ ِثر َ‬
‫ُون َع َلى َأ ْنفُسِ ِه ْم َو َل ْو َك َ‬ ‫ص ُد ِ‬
‫ور ِه ْم َح َ‬ ‫اج َر ِإ َلي ِْه ْم َواَل َي ِج ُد َ‬
‫ون فِي ُ‬ ‫َمنْ َه َ‬
‫اص ٌة ‪[ ﴾ ...‬الحشر‪. ]9/‬‬ ‫ص َ‬‫َخ َ‬
‫فاآلية الكريمة تصف هؤالء بأنهم تبوءوا الدار ‪ :‬أي استوطنوا يثرب قبل مجيء المهاجرين ‪،‬‬
‫وتقول عنهم اآلية كذلك بأنهم استوطنوا اإليمان‪..‬‬
‫ولكن كيف يُستوطن اإليمان ؟! أليس من المعلوم أن اإليمان هو الذي يدخل القلب ؟!‬
‫‪ ..‬نعم هو كذلك ‪ ،‬ولكن من شدة تم ُّكن اإليمان منهم ‪ :‬فكأنهم هم الذين دخلوا فيه واستوطنوه ‪،‬‬
‫والدليل على ذلك هو هذا الفعل العجيب ‪ :‬اإليثار مع الحاجة ‪..‬‬
‫األمر إذن واضح ؛ إن أردنا سلو ًكا صحيحً ا ‪ ،‬واستقامة جادة ‪ ،‬وأخال ًقا حسنة ‪ ،‬فعلينا‬
‫باإليمان ‪ ،‬فكلما ازداد اإليمان انصلح القلب ‪ ،‬فتحسنت األفعال ‪.‬‬
‫راسخا في القلب ومهيمنا عليه البد من ممارسة أسباب زيادته ‪ ،‬وتعاهد‬ ‫ً‬ ‫ولكي يصبح اإليمان‬
‫شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارً ا طيبة بصورة دائمة ‪.‬‬
‫أو بعبارة أخرى ‪ :‬نحتاج ممارسة « التربية اإليمانية » مع أنفسنا ‪ ،‬ومع كل من نتولى أمر‬
‫تربيته إن أردنا اإلصالح الحقيقي ألنفسنا وأمتنا ‪.‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬وكيف لنا أن نفعل ذلك ؟!‬
‫كانت اإلجابة بأن هذه الصفحات التي بين يديك – أخي – ُتعطيك صورة عامة عن ذلك ‪،‬‬
‫فهي بمثابة مبادئ وإشارات حول التربية اإليمانية من حيث ‪ :‬ثمارها ‪ ،‬وأهدافها ‪ ،‬وحقيقتها ‪،‬‬
‫وجناحيها ( أعمال القلوب ‪ ،‬وأعمال الجوارح ) وإن شئت قلت ‪ :‬اإليمان ‪ ،‬والعمل الصالح‪..‬‬
‫نسأل هللا عز وجل أن يتقبل منا بفضله وكرمه كل خير أفاض به علينا في هذه الصفحات ‪،‬‬
‫وأن يغفر لنا زاَّل تنا ‪ ،‬وأال يحرمنا – بجوده – األجر إن أصبنا أو أخطأنا ( سبحانك ال علم لنا إال‬
‫ما علمتنا ) ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الفصل األول‬

‫ضرورة التكامل التربوي عند‬


‫المسلم‬
‫ومكانة التربية اإليمانية منه‬
‫‪4‬‬
5
‫الفصل األول‬
‫*‬
‫ضرورة التكامل التربوي عند المسلم ‪ ،‬ومكانة التربية اإليمانية منه‬
‫المكونات األربعة ‪:‬‬
‫خلق هللا عز وجل اإلنسان بتكوين يشمل أربعة جوانب رئيسية هي ‪ :‬العقل ‪ ،‬والقلب ‪ ،‬والنفس‬
‫‪ ،‬والجسد ‪.‬‬
‫وعندما يبدأ اإلنسان رحلته على األرض منذ نزوله من بطن أمه ‪ ،‬فإنما يبدأها بهذه المكونات‬
‫األربعة وهي غير مكتملة النمو ‪ ،‬فقد جعلها – سبحانه – تبدأ صغيرة محدودة اإلمكانات ‪ ،‬وأودع‬
‫ون ُأ َّم َها ِت ُك ْم اَل َتعْ َلم َ‬
‫ُون َش ْيًئ ا َو َج َع َل َل ُك ُم السَّمْ َع‬ ‫فيها خاصية النماء ‪َ ﴿ :‬وهَّللا ُ َأ ْخ َر َج ُك ْم ِمنْ ب ُ‬
‫ُط ِ‬
‫ُون ﴾ [النحل‪. ]78/‬‬ ‫ار َواَأْل ْفِئدَ َة َل َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكر َ‬ ‫َواَأْلب َ‬
‫ْص َ‬
‫هذه الجوانب األربعة تحتاج إلى دوام تعاهد وإمداد يترك فيها أثره الدائم في اتجاه تحقيق‬
‫الهدف من وجود اإلنسان على األرض أال وهو ‪ :‬تحقيق العبودية الصحيحة هلل عز وجل ‪.‬‬
‫ولكي يظهر األثر اإليجابي الدائم في كل من هذه الجوانب كان من الضروري سلوك طريق‬
‫التربية ‪.‬‬
‫ًئ ( ‪) 1‬‬
‫‪ ،‬ويمكن‬ ‫فالتربية كما يقول اإلمام البيضاوي ‪ :‬هي تبليغ الشيء إلى كماله شيًئ ا فشي ا‬
‫تعريفها كذلك بأنها األداة التي تقوم بإحداث تغيير أو أثر دائم في الشيء ‪.‬‬
‫لذلك فإن من أهم أهداف التربية اإلسالمية الصحيحة هو ‪ :‬إحداث أثر إيجابي دائم في‬
‫المكونات األربعة لإلنسان ‪ ،‬ينتج عنه تغيير حقيقي في ذاته ليشمل ‪ :‬المفاهيم والتصورات في‬
‫العقل ‪ ،‬وإصالح اإليمان في القلب ‪ ،‬وتزكية النفس وترويضها على لزوم الصدق واإلخالص‬
‫والتواضع ونكران الذات ‪.‬‬
‫ويشمل كذلك ضبط حركة المرء والتعود على بذل الجهد في سبيل هللا عز وجل ‪ ،‬لتكون‬
‫ثمرة هذا التغيير ‪ -‬في هذه المحاور – تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي تتأسس عليه‬
‫األسرة المسلمة ‪ ،‬فالمجتمع المسلم ‪...‬‬
‫ضوابط التربية ‪:‬‬
‫هناك عدة أمور ينبغي مراعاتها عند الحديث عن « التربية » ‪ .‬وضرورتها في تغيير الفرد‬
‫واألمة‪.‬‬
‫أواًل ‪ :‬أن يتم تب ِّنيها كثابت رئيسي ومتفرد للتغيير الحقيقي ‪ ،‬فلئن كان تغيير وضع الفرد أو‬
‫األمة من السيئ لألحسن مرتبط بتغيير ما بالنفس كما قال تعالى‪ِ ﴿ :‬إنَّ هَّللا َ اَل ي َُغ ِّي ُر َما ِب َق ْو ٍم َح َّتى‬
‫ي َُغ ِّيرُوا َما ِبَأ ْنفُسِ ِه ْم ﴾ [الرعد‪. ]11/‬‬
‫فإن حدوث هذا التغيير يستلزم سلوك طريق « التربية » ‪ ...‬تأمل معي ما قاله اإلمام المجدد‬
‫حسن البنا ‪ ،‬وهو يحكي عن تجربته في الدعوة حتى أيقن بضرورة التوجه نحو التربية لتغيير‬
‫الفرد واألمة على منهج اإلسالم ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫ً‬
‫طالعت كثيرً ا ‪ ،‬وجربت كثيرً ا ‪ ،‬وخالطت أوساطا كثيرة وشهدت حوادث عدة ‪ ،‬فخرجت من‬
‫هذه السياحة القصيرة بعقيدة ثابتة ال تتزلزل ‪ ،‬هي أن السعادة التي ينشدها الناس جميعا إنما‬
‫تفيض عليهم من نفوسهم وقلوبهم ‪ ،‬وال تأتيهم من خارج هذه القلوب أبدا ‪ ،‬وأن الشقاء الذي يحيط‬
‫بهم ويهربون منه إنما يصيبهم بهذه النفوس والقلوب كذلك ‪ ،‬وإن القرآن يؤيد هذا المعنى ‪،‬‬
‫ويوضح ذلك قول هللا تعالى ‪ِ ﴿ :‬إنَّ هَّللا َ اَل ي َُغ ِّي ُر َما ِب َق ْو ٍم َح َّتى ي َُغ ِّيرُوا َما ِبَأ ْنفُسِ ِه ْم ﴾ [الرعد‪. ]11/‬‬

‫‪ *1‬يتم ‪ -‬بعون هللا – عرض موضوع التكامل التربوي في هذا الفصل باختصار شديد كمدخل للتربية اإليمانية ‪ ،‬فإن أردت – أخي القارئ –‬
‫التعرف عليه بشيء من التفصيل فلك ‪ -‬إن شئت ‪ -‬أن تقرأ لكاتب هذه السطور كتاب « التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم » والكتاب – بفضل هللا‬
‫– يوجد على موقع اإليمان أواُل ‪.‬‬
‫( ) « أصول التربية اإلسالمية وأساليبها المختلفة » لعبد الرحمن النحالوي ص ( ‪ ، )12‬دار الفكر ‪.‬‬
‫ظم وال تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس‬ ‫واعتقدت إلى جانبه أنه ليس هناك ُن ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اعتقدت هذا ‪،‬‬ ‫‪..‬‬
‫البشرية ‪ ،‬وتهدي الناس إلى الطرق العملية الواضحة لهذه السعادة كتعاليم اإلسالم الحنيف‬
‫الفطرية الواضحة العملية ‪..‬‬
‫ت نفسي منذ نشأت على غاية واحدة ‪ ،‬هي إرشاد الناس على اإلسالم حقيقة وعماًل ‪..‬‬ ‫لهذا و َق ْف ُ‬
‫حديثا نفسان ًّيا ‪ ،‬ومناجاة روحية ‪ ،‬أتحدث بها في نفسي لنفسي ‪ ،‬وقد ُأ ْفضِ ي‬ ‫ً‬ ‫ظلت هذه الخواطر‬
‫بها إلى كثير ممن حولي ‪ ،‬وقد تظهر في شكل دعوة فردية ‪ ،‬أو خطابة وعظية ‪ ،‬أو درس في‬
‫حث لبعض األصدقاء من العلماء على بذل الهمة‬ ‫ّ‬ ‫المساجد إذا سنحت فرصة التدريس ‪ ،‬أو‬
‫ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في اإلسالم من خير ‪.‬‬
‫ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم اإلسالمي حوادث عدة ألهبت نفسي ‪ ،‬وأهاجت‬
‫كوامن الشجن في قلبي ‪ ،‬ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل ‪ ،‬وسلوك طريق التكوين بعد‬
‫التنبيه ‪ ،‬والتأسيس بعد التدريس ( ‪. ) 2‬‬
‫و في موضع آخر يقول رحمه هللا ‪:‬‬
‫إن الخطب واألقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء ‪..‬‬
‫كل ذلك وحده ال ُيجدي نف ًعا ‪ ،‬وال ُيحقق غاية ‪ ،‬وال يصل بالداعين إلى هدف من األهداف ؛‬
‫ولكن للدعوات وسائل البد من األخذ بها والعمل لها ‪ .‬والوسائل العاملة للدعوات ال تتغير وال‬
‫تتبدل وال تعدو هذه األمور الثالثة ‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫‪ -3‬العمل المتواصل ‪.‬‬ ‫‪ -2‬التكوين الدقيق‬ ‫‪ -1‬اإليمان العميق‬
‫ثان ًيا ‪ :‬أن تستمر التربية وال تنقطع أو تتوقف عند فترة معينة ‪ ،‬ألن األمر الذي استوجبها‬
‫َّك َح َّتى َيْأ ِت َي َك ْال َيقِينُ ﴾ [الحجر‪. ]99/‬‬
‫دائم ال ينقطع وال يتوقف حتى الموت ‪َ ﴿ :‬واعْ ب ُْد َرب َ‬
‫‪ ..‬تأمل قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ِين َآ َم ُنوا َآ ِم ُنوا ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه ‪[ ﴾...‬النساء‪. ]136/‬‬
‫يقول محمد قطب معل ًقا على هذه اآلية ‪ :‬أي حافظوا على إيمانكم ‪ ،‬استمروا فيه ‪ ،‬ال تغفلوا‬
‫عن المحافظة عليه ‪ ..‬ال تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه (‪. )4‬‬
‫ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إن اإليمان يخلق في القلوب كما يخلق‬
‫الثوب ‪ ،‬فجددوا إيمانكم » (‪. )5‬‬
‫فمهما تقدم عمر المرء ‪ ،‬ومهما ارتقى في سلم المسئولية ‪ ،‬فالبد له من االستمرار في‬
‫التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية هلل عز وجل ‪.‬‬
‫( إن القلب البشري سريع التقلب ‪ ،‬سريع النسيان ‪ ،‬وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور ‪ ..‬فإذا‬
‫طال عليه األمل بال تذكير وال تذ ُّكر ‪ ،‬تبلد وقسا ‪ ،‬وانطمست إشراقته ‪ ،‬وأظلم وأعتم ‪ ،‬فال بد من‬
‫تذكير هذا القلب ‪ ..‬والبد من اليقظة الدائمة كي ال يصيبه التبلد والقساوة ) (‪. )6‬‬
‫أسرْ َته فالبد من اليقظة الدائمة معه‬ ‫وأما النفس فهي كاألسير الذي يحاول مقاومة األسر ‪ ،‬فإن َ‬
‫حتى ال يفلت منك ويأسرك ويجعلك طوع أمره ‪.‬‬
‫والعقل أيضًا يحتاج باستمرار إلى تزويده بالعلم النافع حتى تتسع مداركه ‪ ،‬و ُتفتح نوافذه ‪،‬‬
‫فتزداد معرفته بربه ‪ ،‬وما يُقربه إليه ﴿ َوقُ ْل َربِّ ِز ْدنِي عِ ْلمًا ﴾ [طه ‪. ]114 :‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ومن الضوابط الحاكمة للعملية التربوية كذلك ضرورة أن تشمل التربية الجوانب‬
‫األربعة للشخصية ‪ ،‬فأي إهمال لجانب منها يؤدي إلى عدم ظهور ثمرة التربية الصحيحة (‬

‫‪ ) (2‬رسالة المؤتمر الخامس ‪ ،‬من مجموعة رسائل اإلمام الشهيد حسن البنا ص ‪ ، 116‬باختصار ‪.‬‬
‫‪ ) (3‬رسالة بين األمس واليوم ‪ ،‬ص ‪. 108‬‬
‫‪ ) (4‬مكانة التربية في العمل اإلسالمي لمحمد قطب ‪ ،‬ص ‪ – 26‬دار الشروق ‪.‬‬
‫‪ ) ( 5‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (‪ )1/52‬وقال الهيثمي ‪ :‬إسناده حسن ‪ .‬والحاكم (‪ ، 1/45‬رقم ‪ )5‬وقال ‪ :‬رواته‬
‫مصريون ثقات ‪ .‬وقال المناوي (‪ : )2/324‬قال العراقي في أماليه ‪ :‬حديث حسن ‪ ،‬وحسنه الشيخ األلباني في السلسلة الصحيحة ‪ ،‬رقم ‪.1585‬‬
‫‪ ) (6‬في ظالل القرآن لسيد قطب ‪. 6/3489‬‬
‫‪7‬‬
‫فعندما يحصل اهتمام بتحصيل العلم ‪ ،‬دون االهتمام بزيادة اإليمان ‪ ،‬فستكون النتيجة المتوقعة ‪:‬‬
‫شخص كثير التنظير ‪ ،‬حافظا للنصوص ‪ ،‬كثير الحديث عن القيم والمبادئ ‪ ،‬والمعاني العظيمة ‪،‬‬
‫لكنك قد تجد في المقابل واقعًا يختلف عن األقوال ‪ ،‬فهو يتحدث عن العدل والمساواة ‪ ،‬بينما ال‬
‫يتعامل مع اآلخرين بهذه القيم ‪ ،‬وبخاصة مع من يرأسهم ‪ ..‬يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية‬
‫العمل لآلخرة ‪ ،‬في حين تجده يحرص على جمع المال ‪ ،‬وينفق منه بحساب شديد ‪ ،‬ويدقق في‬
‫كل شيء مهما كان صغيرً ا ‪.‬‬
‫‪ ..‬كل هذا وغيره بسبب عدم االهتمام باإليمان بنفس درجة االهتمام بالعلم ‪ ،‬فالذي يُقرب‬
‫المسافة بين القول والفعل ‪ ،‬ويُترجم العلم إلى سلوك هو ‪ « :‬الطاقة والقوة الروحية المتولدة من‬
‫اإليمان » ‪.‬‬
‫أما عندما يتم االهتمام باإليمان دون العلم فستجد أمامك شخصًا جاهاًل ‪ ،‬يتشدد فيما ال ينبغي‬
‫التشدد فيه ‪ ،‬ويترخص فيما ال ينبغي الترخص فيه ‪ ..‬ستجد شخصًا ضيق اُألفق ال يستطيع أن‬
‫يتعامل مع فقه الواقع ومستجدات العصر ‪.‬‬
‫وفي حالة االهتمام بالعلم واإليمان مع عدم االنتباه للنفس ‪ ،‬وإهمال تزكيتها ‪ ،‬فسيكون النتاج ‪:‬‬
‫شخصًا كثير العبادة ‪ ،‬كثير المعلومات ‪ ،‬سبَّاق لفعل الخير وبذل الجهد ‪ ،‬لكنه متورم الذات ‪ ،‬يرى‬
‫نفسه بعدسة مكبِّرة ‪ ،‬ويرى غيره بعكس ذلك ‪ ،‬ألن عبادته وأوراده وبذله – في الغالب – ستغذي‬
‫إيمانه بنفسه وبقدراته ‪ ،‬وأنه أفضل من غيره ‪ ،‬فيتمكن منه – بمرور األيام واستمرار اإلنجازات‬
‫و النجاحات – داء العُجْ ب ‪ ،‬ومن وراءه الغرور والكبر والعياذ باهلل ‪ ،‬فيُعرِّ ض نفسه لمقت ربه‬
‫وحبوط عمله ‪.‬‬
‫ومع ضرورة االهتمام بالتربية المعرفية واإليمانية والنفسية تأتي كذلك أهمية التعود على‬
‫تع ّلمه‬‫بذل الجهد في سبيل هللا ‪ ،‬وفي دعوة الناس إليه ‪ ،‬فلو لم يتحرك المسلم ‪ ،‬و ُيع ّلم الناس ما َ‬
‫‪ ،‬ويأخذ بأيديهم لتغيير ما بأنفسهم – بإذن هللا – فإنه سيصاب بالفتور والخمول والكسل ‪ ،‬ولن‬
‫يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها ‪ ،‬وقبل ذلك فإن الواجب الشرعي والواقع األليم‬
‫الذي تحياه أمتنا ُيح ِّتمان عليه فعل ذلك ‪.‬‬
‫وفي المقابل ‪ ،‬فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل هللا إن لم يكن وراءها زاد متجدد ‪ ،‬فإن‬
‫عواقب وخيمة ستلحق بصاحبها ‪ ،‬ويكفيك في بيان هذه الخطورة قوله صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬‬
‫مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه ‪ ،‬مثل الفتيلة ‪ُ ،‬تضيء للناس وتحرق نفسها » (‪. )7‬‬
‫فالبد من األمرين معًا ‪ :‬البد من الزاد ‪ ،‬والبد من التحرك بهذا الزاد (‪. )8‬‬
‫(‪)9‬‬
‫بأي الجوانب نبدأ ؟‬
‫بعد أن تعرفنا – باختصار – على االحتياجات التربوية األساسية لكل مسلم وأهمية كل جانب‬
‫منها ؛ يبقى السؤال ‪ :‬بأي الجوانب نبدأ ؟‬
‫ُ ﴾ [محمد‪ ، ]19/‬فالعلم أساس العمل ‪ ،‬ومع‬ ‫هَّللا‬ ‫اَّل‬ ‫َأ‬
‫بال شك أن العلم هو البداية ‪َ ﴿ :‬فاعْ َل ْم َّن ُه اَل ِإ َل َه ِإ‬
‫ً‬
‫راسخا ‪،‬‬ ‫ذلك فليس المطلوب علمًا نظر ًّيا ‪ ،‬يُعمق الفجوة بين القول والفعل ‪ ،‬بل نريده علمًا نافعًا‬
‫يزيد القلب خشية وإيما ًنا ‪.‬‬
‫لذلك فعلينا االجتهاد بتحصيل أصل العلوم وأنفعها ‪ ،‬أال وهو ‪ « :‬العلم باهلل عز وجل » ‪،‬‬
‫واالجتهاد في تحويل هذه المعرفة إلى إيمان ‪.‬‬

‫‪ ) (7‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الطبراني ‪ ،‬وصححه األلباني في صحيح الجامع برقم ‪. 5837‬‬
‫‪ ) (8‬هذه الفقرة من كتاب « التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم » ‪ ،‬من ص ‪ ، 81 – 78‬باختصار ‪.‬‬
‫‪ ) (9‬المصدر السابق ‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫وألن التربية اإليمانية بمفهومها الصحيح الشامل – كما سيأتي بيانه – ُتركز على معرفة هللا‬
‫معان يرسخ مدلولها في القلب – أي أنها‬
‫ٍ‬ ‫عز وجل ‪ ،‬و ُتركز كذلك على ترجمة هذه المعرفة إلى‬
‫قد جمعت بين الخيرين – كان من المناسب البدء بجانب « التربية اإليمانية » ‪.‬‬
‫(‪)10‬‬
‫من فوائد البدء بالتربية اإليمانية ‪:‬‬
‫هناك حلقة مفقودة بين األقوال واألفعال ‪ ،‬والسبب الرئيسي في ذلك هو ضعف اإليمان ‪ ،‬فعندما‬
‫يُهيمن اإليمان الحي على القلب ‪ ،‬فإنه يُولِّد في قلب صاحبه طاقة عظيمة ‪ ،‬وقوة روحية هائلة تدفعه‬
‫للقيام باألفعال التي تناسب المواقف المختلفة من سرَّ اء أو ضرَّ اء ‪ ..‬لذلك فلو تجاوزنا البدء بالتربية‬
‫اإليمانية فإن الفجوة ستزداد بين الواجب والواقع وبين العلم والعمل ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪:‬‬
‫لو بدأنا بالتربية النفسية فإننا قد نقتنع أن بداخلنا أصنامًا ينبغي أن ُتزال ‪ ،‬وأننا مصابون بداء‬
‫العُجْ ب ‪ ،‬واستعظام النفس ‪ ،‬ولكننا لن نستطيع مقاومة هذا المرض ‪ ،‬والوقوف له بالمرصاد ‪،‬‬
‫لضعف القوة الروحية الالزمة لذلك ‪.‬‬
‫ونفس األمر لو بدأنا بالتركيز على التربية الحركية وبذل الجهد في سبيل هللا ‪ ،‬فسيتحول‬
‫األمر بمرور الوقت إلى أداء شكلي روتيني بال روح ‪ ،‬وسيزحف إلى من يفعل ذلك الشعور‬
‫بالفتور والوحشة وضيق الصدر ‪ ،‬وسيفقد تأثيره على اآلخرين شيًئ ا فشيًئ ا ‪.‬‬
‫من هنا تظهر الحاجة إلى البدء بالتربية اإليمانية بمفهومها الصحيح والذي يعمل باستمرار‬
‫على توليد القوة الروحية ‪ ،‬وتنمية الدافع الذاتي ‪ ،‬وتقوية الوازع الداخلي ‪ ،‬وبث الروح في‬
‫األقوال واألفعال ‪ ،‬ومن َث َّم يسهل على المرء بعد ذلك القيام باألعمال المطلوبة لتحقيق أهداف‬
‫ت َرب ِِّه ْم‬‫ِين ُه ْم ِبَآ َيا ِ‬ ‫ون (‪َ )57‬والَّذ َ‬ ‫ِين ُه ْم ِمنْ َخ ْش َي ِة َرب ِِّه ْم ُم ْش ِفقُ َ‬ ‫التربية النفسية والحركية ‪ِ ﴿ :‬إنَّ الَّذ َ‬
‫ون َما َآ َت ْوا َوقُلُو ُب ُه ْم َو ِج َل ٌة َأ َّن ُه ْم ِإ َلى‬ ‫ون (‪َ )59‬والَّذ َ‬
‫ِين يُْؤ ُت َ‬ ‫ون (‪َ )58‬والَّذ َ‬
‫ِين ُه ْم ِب َرب ِِّه ْم اَل ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫يُْؤ ِم ُن َ‬
‫ون ﴾ [المؤمنون‪. ]61-57/‬‬ ‫ت َو ُه ْم َل َها َس ِابقُ َ‬ ‫ُون فِي ْال َخي َْرا ِ‬‫ارع َ‬ ‫ِئك ي َُس ِ‬ ‫ُون (‪ُ )60‬أو َل َ‬ ‫َرب ِِّه ْم َرا ِجع َ‬

‫‪ ) (10‬المصدر السابق ‪.‬‬


‫‪9‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫ثمــــــــا ُر اإليمـــــــان‬

‫‪10‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫ثمار اإليمان‬
‫الشجرة المباركة ‪:‬‬
‫ب هَّللا ُ َمثَاًل َكلِ َم ًة َط ِّي َب ًة َك َش َج َر ٍة َط ِّي َب ٍة َأصْ لُ َها َث ِاب ٌ‬
‫ت َو َفرْ ُع َها فِي‬ ‫ض َر َ‬ ‫يقول تعالى ‪َ ﴿ :‬أ َل ْم َت َر َكي َ‬
‫ْف َ‬
‫ِين بِِإ ْذ ِن َر ِّب َها ﴾ [إبراهيم ‪. ]25-24/‬‬ ‫ُأ‬
‫ال َّس َما ِء (‪ُ )24‬تْؤ تِي ُك َل َها ُك َّل ح ٍ‬
‫فاإليمان كالشجرة الطيبة المباركة التي إذا ما أحس َّنا غرسها في القلب فإنها ُتثمر ‪ -‬بإذن هللا –‬
‫ثمارً ا يانعة وطيبة في كل االتجاهات واألوقات ‪ ،‬واألمثلة العملية التي تؤكد هذه الحقيقة من‬
‫الكثرة بمكان ‪ ،‬وسنذكر – بعون هللا وفضله – في الصفحات القادمة بعض تلك الثمار ‪ ،‬مع‬
‫مزجها بنماذج تطبيقية من حياة الصحابة ‪ ،‬باعتبار أنهم أفضل أجيال األمة باإلجماع ‪..‬‬
‫‪ ..‬أخرج أبو ُنعيم عن عبد هللا بن عمر قال ‪ :‬من كان ُمست ًّنا فليستن بمن قد مات ‪ ،‬أولئك‬
‫أبرها قلو ًبا ‪ ،‬وأعمقها عل ًما ‪،‬‬ ‫أصحاب محمد صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬كانوا خير هذه األمة ‪َّ ،‬‬
‫وأقلها تكلُّ ًفا ‪ ..‬قوم اختارهم هللا لصحبة نبيه صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬ون ْقل دينه ‪ ،‬فتش َّبهوا‬
‫بأخالقهم وطرائقهم ‪ ،‬فهم أصحاب محمد صلى هللا عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم وهللا‬
‫رب الكعبة (‪. )11‬‬
‫ويقول أبو الحسن الندوي في مقدمته لكتاب حياة الصحابة ‪:‬‬
‫إن السيرة النبوية وسير الصحابة وتاريخهم من أقوى مصادر القوة اإليمانية والعاطفة الدينية‬
‫‪ ،‬التي ال تزال هذه األمة تقتبس منها شعلة اإليمان ‪ ،‬وتشتعل بها مجامر القلوب ‪ ،‬التي يسرع‬
‫انطفاؤها وخمودها في مهب الرياح والعواصف المادية ‪ ،‬والتي إذا انطفأت فقدت هذه األمة قوتها‬
‫وميزتها وتأثيرها ‪ ،‬وأصبحت جثة هامدة تحملها الحياة على أكتافها ‪.‬‬
‫إنها تاريخ رجال جاءتهم دعوة اإلسالم فآمنوا بها وصدقتها قلوبهم ‪ ..‬وضعوا أيديهم في يد‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وهانت عليهم نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم ‪ ،‬واستطابوا المرارات‬
‫والمكاره في سبيل الدعوة إلى هللا ‪ ،‬وأفضى يقينها إلى قلوبهم ‪ ،‬وسيطر على نفوسهم وعقولهم ‪،‬‬
‫وصدرت عنهم عجائب اإليمان بالغيب ‪ ،‬والحب هلل والرسول ‪ ،‬والرحمة على المؤمنين والشدة‬
‫على الكافرين ‪ ،‬وإيثار اآلخرة على الدنيا ‪ ،‬والحرص على دعوة الناس ‪ ،‬وإخراج خلق هللا من‬
‫عبادة العباد إلى عبادة هللا وحده ‪ ،‬ومن َجور األديان إلى عدل اإلسالم ‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى‬
‫َس َعتها ‪ ،‬واالستهانة بزخارف الدنيا وحطامها ‪ ،‬والشوق إلى لقاء هللا ‪ ،‬والحنين إلى الجنة ‪ ،‬وعُلو‬
‫الهمة ‪ ،‬وبُعد النظر في نشر ِرفد اإلسالم وخيراته في العالم ‪ ،‬وانتشارهم ألجل ذلك في مشارق‬
‫األرض ومغاربها ‪ ،‬ونسوا في ذلك َّلذتهم ‪ ،‬وهجروا راحاتهم ‪ ،‬وغادروا أوطانهم ‪ ،‬وبذلوا ُم َه َجهم‬
‫وحرّ أموالهم حتى أقبلت القلوب إلى هللا ‪ ،‬وهبَّت ريح اإليمان قوية عاصفة ‪ ،‬طيبة مباركة ‪،‬‬
‫وقامت دولة التوحيد واإليمان والعبادة والتقوى ‪ ،‬وانتشرت الهداية في العالم ‪ ،‬ودخل الناس في‬
‫دين هللا أفواجً ا (‪. )12‬‬

‫‪ ) (11‬حلية األولياء ألبي ُنعيم األصبهاني ( ‪ ،) 1/305‬دار الكتاب العربي – بيروت ‪.‬‬
‫‪ ) (12‬حياة الصحابة للكاندهلوي ( ‪ )1/15‬بتصرف يسير ‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫الثمار العشر ‪:‬‬

‫إن الهدف األساسي من التحدث عن ثمار اإليمان ومدى ظهورها في جيل‬


‫الصحابة رضوان هللا عليهم هو استثارة مشاعر االحتياج نحو التربية اإليمانية‬
‫‪ ،‬وتقوية العزيمة لسلوك طريقها بإذن هللا ‪..‬‬

‫ولقد تم اختيار عشر ثمار ليتم الحديث عنها – بعون هللا – هي بإجمال ‪:‬‬
‫أواًل ‪ :‬المبادرة والمسارعة لفعل الخير ‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬تقوية الوازع الداخلي ‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا ‪ :‬الزهد في الدنيا ‪.‬‬
‫رابعًا ‪ :‬التأييد اإللهي ‪.‬‬
‫خامسًا ‪ :‬إيقاظ القوى الخفية ‪.‬‬
‫سادسًا ‪ :‬الرغبة في هللا ‪.‬‬
‫سابعًا ‪ :‬اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكالت بين األفراد ‪.‬‬
‫ثام ًنا ‪ :‬التأثير اإليجابي في الناس ‪.‬‬
‫تاسعًا ‪ :‬اتخاذ القرارات الصعبة ‪.‬‬
‫عاشرً ا ‪ :‬الشعور بالسكينة والطمأنينة ‪.‬‬
‫والجدير بالذكر أن هذه الثمار العشر ما هي إال قطوف يسيرة من شجرة اإليمان المباركة ‪،‬‬
‫ولقد تم اختيارها كباقة متنوعة ‪ ،‬فمنها ما يتعلق بعالقة المؤمن بربه ‪ ،‬ومنها ما ينعكس على‬
‫عالقته بدنياه وآخرته ‪ ،‬ومنها ما يظهر آثاره على تعامالته مع اآلخرين ‪.‬‬
‫وإليك ‪ -‬أخي القارئ – بعضًا من التفاصيل حول هذه الثمار العشر ‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫أواًل ‪ :‬المبادرة والمسارعة لفعل الخير‬
‫مبادرا ومسار ًعا لفعل الخير ‪ ،‬يتحرك في الحياة‬ ‫ً‬ ‫من أهم ثمار اإليمان الحي أنك تجد صاحبه‬
‫وكأنه قد ُرفعت له راية من بعيد فهو يسعى جاهدًا للوصول إليها مهما كلفه ذلك من بذل وتعب‬
‫وتضحية ‪ ..‬تراه دو ًما يبحث عن أي باب يقربه من رضا ربه والتعرض لرحمته ليندفع إليه‬
‫مرددًا بلسان حاله ‪ « :‬لبيك اللهم لبيك ‪ ..‬لبيك وسعديك » ‪.‬‬
‫ون (‪)57‬‬ ‫ِين ُه ْم ِمنْ َخ ْش َي ِة َرب ِِّه ْم ُم ْش ِفقُ َ‬ ‫ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى ‪ِ ﴿ :‬إنَّ الَّذ َ‬
‫ون َما َآ َت ْوا‬ ‫ون (‪َ )59‬والَّذ َ‬
‫ِين يُْؤ ُت َ‬ ‫ِين ُه ْم ِب َرب ِِّه ْم اَل ُي ْش ِر ُك َ‬ ‫ون (‪َ )58‬والَّذ َ‬ ‫ِين ُه ْم ِبَآ َيا ِ‬
‫ت َرب ِِّه ْم يُْؤ ِم ُن َ‬ ‫َوالَّذ َ‬
‫ون ﴾‬ ‫ت َو ُه ْم َل َها َس ِابقُ َ‬ ‫ُون فِي ْال َخي َْرا ِ‬ ‫ارع َ‬ ‫ِئك ي َُس ِ‬ ‫ُون (‪ُ )60‬أو َل َ‬ ‫َوقُلُو ُب ُه ْم َو ِج َل ٌة َأ َّن ُه ْم ِإ َلى َرب ِِّه ْم َرا ِجع َ‬
‫[المؤمنون‪. ]61-57/‬‬
‫فاآليات ُتعطي دالالت واضحة على أن أصحاب القلوب المؤمنة الخاشعة لربها هم أكثر‬
‫الناس مسارعة للخيرات وأسبقهم إليها ‪.‬‬
‫وإليك – أخي القارئ ‪ -‬بعض األمثلة من حياة الصحابة ‪ -‬رضوان هللا عليهم – والتي تؤكد‬
‫هذا المعنى ‪:‬‬
‫‪ -‬خرج جابر بن عبد هللا رضي هللا عنه ذات سنة إلى بالد الروم غازيًا في سبيل هللا ‪ ،‬وكان‬
‫الجيش بقيادة مالك بن عبد هللا الخثعمي ‪ ،‬وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على‬
‫شد من أزرهم ‪ ،‬ويُولي كبارهم ما يستحقونه من عناية ورعاية ‪ ،‬فمر بجابر بن عبد‬ ‫أحوالهم ‪ ،‬وي ُ‬
‫هللا ‪ ،‬فوجده ماشيًا ومعه َبغل له يمسك بزمامه ويقوده ‪ ،‬فقال له ‪ :‬ما بك يا أبا عبد هللا ‪ ،‬لم ال‬
‫تركب ‪ ،‬وقد يسر هللا لك ظهرً ا يحملك عليه ؟ ! فقال ‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫يقول ‪ « :‬من ُأغبرت قدماه في سبيل هللا حرمه هللا على النار» ‪.‬‬
‫فتركه مالك ومضى حتى غدَ ا في مقدمة الجيش ‪ ،‬ثم التفت إليه ‪ ،‬وناداه بأعلى صوته ‪ ،‬وقال‬
‫‪ :‬يا أبا عبد هللا ‪ ،‬مالك ال تركب بغلك ‪ ،‬وهي في حوزتك ؟! فعرف جابر قصده ‪ ،‬وأجابه بصوت‬
‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ‪ « :‬من ُأغبرت قدماه في سبيل هللا‬ ‫ُ‬ ‫عال وقال ‪ :‬لقد‬
‫ل منهم يريد أن يفوز بهذا األجر ‪ ،‬فما رُِئي‬ ‫حرمه هللا على النار » ‪ ،‬فتواثب الناس عن دوابهم وك ٌ‬
‫جيش أكثر مشاة من ذلك الجيش(‪. )13‬‬
‫وروى النسائي عن أبي سعيد بن الم َُعلَّى أنه قال ‪:‬‬
‫كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فمررنا يومًا ورسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قاعد على المنبر ‪ ،‬فقلت ‪ :‬لقد حدث أمر ‪ ،‬فقرأ رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ضا َها َف َو ِّل َوجْ َه َك َش ْط َر‬ ‫ك ِق ْب َل ًة َترْ َ‬‫ك فِي ال َّس َما ِء َف َل ُن َولِّ َي َّن َ‬‫ب َوجْ ِه َ‬‫وسلم هذه اآلية ‪َ ﴿ :‬ق ْد َن َرى َت َقلُّ َ‬
‫ْال َمسْ ِج ِد ْال َح َر ِام ﴾ [البقرة‪ ، ]144/‬حتى فرغ من اآلية ‪ ،‬فقلت لصاحبي ‪ :‬تعال نركع ركعتين قبل أن‬
‫ينزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فنكون أول من صلى ( في اتجاه الكعبة ) فتوارينا‬
‫فصليناهما ‪ ،‬ثم نزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصلى بالناس الظهر يومئذ (‪. )14‬‬
‫ِمت قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع ‪،‬‬ ‫‪ -‬وفي يوم من األيام َقد ْ‬
‫فلما دخلت المدينة ارتجت األرض بها ‪ ،‬فقالت عائشة ‪ :‬ما هذه الرجة ؟ فقيل لها ‪ :‬عير لعبد‬
‫الرحمن بن عوف ‪ ..‬سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام ‪ ،‬فقالت عائشة ‪ :‬بارك هللا فيما‬
‫أعطاه في الدنيا ‪ ،‬ولثواب اآلخرة أعظم ‪.‬‬

‫‪ُ ) (13‬أسد الغابة ( ‪ ، ) 1/307‬وتاريخ اإلسالم للذهبي ( ‪ ، )3/143‬وسيرة ابن هشام ( ‪ ، )218 ، 3/217‬وحديث « من ُأغبرت قدماه ‪» ..‬‬
‫أخرجه البخاري (‪ ، 1/308‬رقم ‪ ، )865‬وغيره ‪.‬‬
‫‪ ) (14‬تفسير القرآن العظيم البن كثير ‪ – 1/168‬مكتبة العبيكان ‪ ،‬وحديث القبلة أخرجه النسائي في السنن الكبرى ‪ ( -‬ج ‪ / 6‬ص ‪ ،291‬برقم‬
‫‪ ، )11002‬ومسند أحمد بن حنبل ‪( -‬ج ‪ / 4‬ص ‪ ، 408‬برقم ‪. )19677‬‬
‫‪13‬‬
‫وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف ‪ :‬فذهب إليها مسرعًا ‪ ،‬وقال‬
‫‪ :‬أشهدك يا ُأمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحالسها في سبيل هللا ‪.‬‬
‫التنافس في الخير ‪:‬‬
‫صاحب اإليمان الحي ال يريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية ال ُعظمى ‪ ..‬راية رضا هللا‬
‫والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته ‪ ،‬لذلك تراه حزي ًنا حين تتحين أمامه فرصة لالقتراب‬
‫من تلك الراية وال يستطيع اغتنامها ألسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر ‪ ،‬ولنا في‬
‫قصة ال َب َّكائين خير مثال على ذلك ‪:‬‬
‫فعن ابن عباس رضي هللا عنهما قال ‪ :‬أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الناس أن ينبعثوا‬
‫غازين (غزوة تبوك) ‪ ،‬فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد هللا بن معقل المزني ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا‬
‫وع َّز عليهم أن‬ ‫رسول هللا احملنا ‪ .‬فقال ‪ « :‬وهللا ما أجد ما أحملكم عليه » ‪ ،‬فتولوا ولهم بكاء ‪َ ،‬‬
‫يُح َبسوا عن الجهاد ‪ ،‬وال يجدون نفقة وال محماًل ‪ .‬فأنزل هللا عذرهم ‪َ ﴿ :‬واَل َع َلى الَّذ َ‬
‫ِين ِإ َذا َما‬
‫ت اَل َأ ِج ُد َما َأحْ ِملُ ُك ْم َع َل ْي ِه َت َولَّ ْوا َوَأعْ ُي ُن ُه ْم َتفِيضُ م َِن الدَّمْ ِع َح َز ًنا َأاَّل َي ِج ُدوا َما‬
‫ك لِ َتحْ ِم َل ُه ْم قُ ْل َ‬‫َأ َت ْو َ‬
‫ون ﴾ [التوبة‪. )15( ]92/‬‬ ‫ُي ْن ِفقُ َ‬
‫‪ -‬وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقالوا ‪ :‬ذهب أهل‬
‫الدثور (األموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم ‪ ،‬فقال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬وما ذاك‬
‫؟ » ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يُصلون كما نصلي ‪ ،‬ويصومون كما نصوم ‪ ،‬ويتصدقون وال نتصدق ‪ ،‬ويعتقون‬
‫وال نعتق ‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬أفال ُأعلمكم شيًئ ا تدركون به من سبقكم ‪،‬‬
‫وتسبقون به من بعدكم ‪ ،‬وال يكون أحد أفضل منكم ‪ ،‬إال من صنع مثل ما صنعتم ؟ » ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫ثالثا وثالثين مرة‬ ‫بلى يا رسول هللا ‪ ،‬قال ‪ « :‬تسبحون ‪ ،‬وتحمدون ‪ ،‬وتكبرون ‪ ،‬دبر كل صالة ً‬
‫» ‪ ،‬فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقالوا ‪ :‬سمع إخواننا أهل‬
‫األموال بما فعلنا ‪ ،‬ففعلوا مثله ‪.‬‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬ذلك فضل هللا يؤتيه من يشاء » (‪. )16‬‬
‫شدة الحرص على دعوة الخلق إلى هللا ‪:‬‬
‫كلما ازداد اإليمان وشعر المرء بحالوته كلما ازدادت رغبته في دعوة الناس جميعًا إلى هللا ‪،‬‬
‫وإلى التحرر من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وكيف ال وهو يرى غيره من الضالين في‬
‫سجن كان هو فيه وحرَّ ره هللا منه ‪ ،‬لذلك فهو ال يهدأ وال يقر حتى يُبلِّغ الدعوة إليهم ما وسعه‬
‫الجهد والوقت والمال ‪.‬‬
‫ويدفعه ألداء هذا الواجب كذلك علمه بأن الدعوة إلى هللا من أحب األعمال إليه سبحانه ‪..‬‬
‫‪ ..‬من هنا ُندرك كيف اشتد حرص الصحابة على دعوة الخلق إلى هللا ‪.‬‬
‫فهذا أبو بكر الصديق بعد إسالمه يُسارع بالدعوة إلى هللا من َوثق به من قومه فأسلم على‬
‫يديه ‪ :‬الزبير بن العوام ‪ ،‬وعثمان بن عفان ‪ ،‬وطلحة بن عبيد هللا ‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص ‪ ،‬وعبد‬
‫الرحمن بن عوف (‪. )17‬‬
‫وذكر ابن إسحاق أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لمَّا انصرف عن ثقيف ا َّتبع أثره عروة‬
‫بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة ‪ ،‬فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه باإلسالم ‪،‬‬
‫فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إنهم قاتلوك » ‪ ،‬وعرف رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم أن فيهم نخوة االمتناع للذي كان منهم ‪ ،‬فقال عروة ‪ :‬يا رسول هللا ‪ ،‬أنا َأ َحب إليهم من‬
‫أبكارهم ‪ ،‬وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا ‪.‬‬

‫‪ ) (15‬الدر المنثور للسيوطي ‪.3/479‬‬


‫‪ ) (16‬متفق عليه ‪ :‬وهذا لفظ مسلم ‪ ،‬وأخرجه البخاري ( ‪ 1/289‬برقم ‪ ، )807‬ومسلم ( ‪ ، 2/97‬برقم ‪. ) 1375‬‬
‫‪ ) (17‬السيرة البن كثير ( ‪ ، )1/437‬وذكره الحلبي في السيرة الحلبية ( ‪. )1/449‬‬
‫‪14‬‬
‫فخرج يدعو قومه إلى اإلسالم رجاء أن ال يخالفوه بمنزلته فيهم ‪ ،‬فلما أشرف على ُعلَّية (‬
‫مكان مرتفع ) – وقد دعاهم إلى اإلسالم وأظهر لهم دينه – رموه بالنبل من كل وجه ‪ ،‬فأصابه‬
‫سهم فقتله ‪ ،‬فقيل لعروة ‪ :‬ما ترى في دمك ؟ قال ‪ :‬كرامة أكرمني هللا بها ‪ ،‬وشهادة ساقها هللا إليّ‬
‫(‪.. )18‬‬

‫‪ ) (18‬السيرة النبوية البن هشام ( ‪ ، ) 2/538‬وُأسد الغابة ( ‪ ، )1/768‬واالستيعاب البن عبد البر ( ‪ ، )1/328‬واإلصابة البن حجر (‬
‫‪. )4/493‬‬
‫‪15‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تقوية الوازع الداخلي‬
‫كلما قوي اإليمان ‪ ،‬ازدادت حساسية الفرد تجاه الوقوع أو مجرد االقتراب من الشبهات‬
‫ضعُف اإليمان نقصت تلك الحساسية ‪ ..‬يقول عبد هللا بن‬ ‫والمحظورات ‪ ،‬والعكس صحيح ‪ ،‬فكلما َ‬
‫مسعود ‪ :‬إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ‪ ،‬وإن الفاجر يرى‬
‫ذنوبه كذباب َمرَّ على أنفه ‪ ،‬فقال به هكذا(‪ ( )19‬أي ‪ :‬نحَّ اه بيده أو دفعه ) ‪.‬‬
‫معنى ذلك أن درجة إيمان الفرد يعكسها شعوره وحساسيته تجاه الذنوب ‪ ،‬وفي أي‬
‫االتجاهين تكون ‪..‬‬
‫‪ ..‬هل تقترب من حال من يقعد تحت صخور جبل مهدد باالنهيار في أي لحظة ‪ ،‬أم من حال‬
‫من تمر ذبابة على أنفه ؟‬
‫من هنا نقول بأن اإليمان الحي هو الذي يضبط سلوك اإلنسان ‪ ( ،‬ويترك مع كل نفس رقيبًا‬
‫ال يغفل ‪ ،‬وحارسًا ال يسهو ‪ ،‬وشاه ًدا ال يُجامل وال يحابي ‪ ،‬وال يضل وال ينسى ‪ ...‬يصاحبها في‬
‫الغدوة والروحة ‪ ،‬والمجتمع والخلوة ‪ ،‬ويرقُبها في كل زمان ‪ ،‬ويلحظها في كل مكان ‪ ،‬ويدفعها‬
‫إلى الخيرات دفعًا ‪ ،‬ويدعُّها عن المآثم د ًّعا ‪ ،‬ويجنبها طريق الزلل ‪ ،‬ويبصرها سبيل الخير‬
‫والشر) (‪. )20‬‬
‫‪ ..‬في يوم من األيام ذكر النبي صلى هللا عليه وسلم أنواع الخيل وأنها لرجل أجر ‪ ،‬ولرجل‬
‫ستر ‪ ،‬وعلى رجل وزر ‪.‬‬
‫فسئل عن ال ُحمُر ؟ قال ‪ « :‬ما أنزل هللا عليّ فيها إال هذه اآلية الجامعة الفاذة ‪َ ﴿ :‬ف َمنْ َيعْ َم ْل‬
‫م ِْث َقا َل َذرَّ ٍة َخيْرً ا َي َرهُ (‪َ )7‬و َمنْ َيعْ َم ْل م ِْث َقا َل َذرَّ ٍة َش ًّرا َي َرهُ ﴾ [الزلزلة‪.)21( ]8 ،7/‬‬
‫فعندما يزداد اإليمان بأن هناك حساب على اليسير من العمل – ولو كان مثقال ذرة كما‬
‫ُتشير اآليات ‪ -‬فإن ذلك من شأنه أن يدفع المرء للتحرك بحساسية وحذر شديدين تجاه التعامل‬
‫مع جميع األشياء ‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم ‪ ،‬هذا هو أهم قانون لضبط السلوك ومهما ُوضعت القوانين الصارمة في المجتمعات‬
‫لضبط سلوك األفراد فلن تؤتي ثمارها إال إذا ُبدئ بإصالح اإليمان في القلوب لتكون من ثمرته‬
‫‪ :‬تقوية الوازع الداخلي ‪ ...‬وصدق من قال ‪:‬‬
‫ال تنتهي األنفس عن غ ّيها ‪ ...‬ما لم يكن لها من نفسها دافع‬
‫‪ ..‬جاء رجل فقعد بين يدي النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول هللا إن لي مملوكين‬
‫َيكذِبونني ‪ ،‬ويخونونني ‪ ،‬ويعصونني ‪ ،‬وأشتمهم وأضربهم ‪ ،‬فكيف أنا فيهم ؟! ‪ ،‬فقال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إذا كان يوم القيامة يُحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك ‪ ،‬وعقابك إياهم‬
‫‪ ،‬فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفا ًفا ‪ ،‬ال لك وال عليك ‪ ،‬وإن كان عقابك إياهم دون‬
‫ذنوبهم كان فضاًل لك ‪ ،‬وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم ‪ ..‬اق ُتص لهم منك الفضل ‪ ،‬فتنحى‬
‫الرجل ‪ ،‬وجعل يهتف ويبكي ‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ » :‬أما تقرأ قوله تعالى ‪﴿ :‬‬
‫ان م ِْث َقا َل َح َّب ٍة ِمنْ َخرْ دَ ٍل َأ َت ْي َنا ِب َها‬
‫ين ْال ِقسْ َط لِ َي ْو ِم ْال ِق َيا َم ِة َفاَل ُت ْظ َل ُم َن ْفسٌ َش ْيًئ ا َوِإنْ َك َ‬‫از َ‬ ‫ض ُع ْال َم َو ِ‬
‫َو َن َ‬
‫ين ﴾ [األنبياء‪. ]47/‬‬ ‫َو َك َفى ِب َنا َحاسِ ِب َ‬
‫فقال الرجل ‪ :‬يا رسول هللا ما أجد لي ولهؤالء شيًئ ا خيرً ا من مفارقتهم ‪ ،‬أشهدك أنهم كلهم‬
‫أحرار (‪.)22‬‬
‫شدة الورع ‪:‬‬

‫‪ ) (19‬متفق عليه ‪ :‬البخارى ( ‪ ، ) 2324 /5‬ومسلم ( ‪. ) 8/92‬‬


‫‪ ) (20‬رسالة هل نحن قوم عمليون ؟ لحسن البنا ص ‪ 71‬من مجموعة الرسائل ‪.‬‬
‫‪ ) (21‬أخرجه البخاري (‪ ، 2/835‬رقم ‪. )2242‬‬
‫‪ ) ( 22‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الترمذي (‪ ، 5/320‬رقم ‪ )3165‬وأحمد (‪ ، 6/280‬رقم ‪ ، )26444‬والبيهقي في شعب اإليمان (‪، 6/377‬‬
‫رقم ‪ ، )8586‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الترغيب والترهيب ( ‪. )2/280‬‬
‫‪16‬‬
‫عن عائشة رضي هللا عنها قالت ‪ :‬كان ألبي بكر غالم يُخرج له الخراج وكان أبو بكر يُخرج‬
‫من خراجه فجاء يومًا بشيء ووافق من أبي بكر جوعًا ‪ ،‬فأكل منه لقمة قبل أن يسأل عنه ‪ ،‬فقال‬
‫له الغالم ‪ :‬تدري ما هذا ؟ فقال أبو بكر ‪ :‬وما هو ؟ ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت تكهنت إلنسان في الجاهلية وما‬
‫ُأحسن الكهانة ولكني خدعته ‪ ،‬فلقيني فأعطاني بذلك ‪ ،‬فهذا الذي أكلت منه(‪ .. )23‬فماذا فعل أبو‬
‫بكر عندئذ ؟! فعل فعال عجيبًا ‪ ..‬أدخل أصبعه في فمه فقاء كل شيء في بطنه ‪..‬‬
‫وروى ابن جرير الطبري في تاريخه ‪ ،‬قال ‪ :‬لما هبط المسلمون المدائن ‪ ،‬وجمعوا األقباض‬
‫أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب األقباض ‪ ،‬فقال والذين معه ‪ :‬ما رأينا مثل هذا قط ‪ ،‬ما‬
‫يعدله ما عندنا ‪ ،‬وال يقاربه ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هل أخذت منه شيًئ ا ؟ فقال ‪ :‬أما وهللا لوال هللا ما أتيتكم به ‪،‬‬
‫فعرفوا أن للرجل شأ ًنا ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬من أنت ؟ ‪ ،‬فقال ‪ :‬ال وهللا ال أخبركم لتحمدوني وال غيركم‬
‫ليقرظوني ‪ :‬ولكني أحمد هللا وأرضى بثوابه ‪ ،‬فأتبعوه رجاًل حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه‬
‫فإذا هو عامر بن عبد قيس (‪. )24‬‬

‫‪ ) (23‬أخرجه البخاري (‪ 1395 / 3‬برقم ‪. )3629‬‬


‫اًل‬
‫‪ ) (24‬نقل هذا الخبر سيد قطب في ظالل القرآن ‪ ، 1/505‬نق عن تاريخ الطبري ‪.4/16‬‬
‫‪17‬‬
‫ومن ثمار اإليمان ‪:‬‬
‫ثال ًثا ‪ :‬الزهد في الدنيا‬
‫من تعريفات الزهد ‪ « :‬انصراف الرغبة في الشيء مع وجوده » ‪ ،‬ومثال ذلك ‪ :‬الطفل الذي‬
‫يسعد سعادة غامرة حين يلعب بال ُدمى ‪ ،‬ويحرص على اقتنائها ‪ ،‬ويحلم بشراء الجديد منها ‪ ،‬ولكن‬
‫عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول‬
‫وتنصرف رغبته عنها فيصير زاه ًدا فيها وال يبالى بوجودها إذا ما وُ جدت ‪ ،‬وال يحزن على‬
‫ضياعها إذا ما فُقدت ‪.‬‬
‫وحال الناس مع الدنيا – بدون اإليمان – كحال األطفال مع ل َِعبهم ‪ ،‬ولكي يزهدوا فيها البد‬
‫من نمو اإليمان في قلوبهم‪.‬‬
‫فعندما يقوى اإليمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا ‪ ،‬ورغبته فيها ‪ ،‬وحرصه عليها ‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم ‪ ،‬هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه ‪ ،‬فالزهد حالة شعورية يعيشها المرء كانعكاس‬
‫لنمو اإليمان الحقيقي في قلبه ‪ ،‬وهو ال يستلزم الفقر ‪ ،‬وال يتنافي مع الغنى‪.‬‬
‫‪ ..‬الزاهد في الدنيا ال ينشغل بها كثيرً ا إذا ما وُ جدت بين يديه ‪ ،‬فعلى سبيل المثال ‪ :‬قد يتوفر‬
‫لديه العديد من المالبس فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه ال يقف أمامها طوياًل إنما يرتدي ما‬
‫امتدت إليه يده ‪ ،‬وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه اإليمانية ‪.‬‬
‫وكلما قوى اإليمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه باآلخرة ورغبته فيها ‪ ،‬وازداد زهده في‬
‫الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه ال يترك لنفسه إال أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات‬
‫الحياة ‪ ،‬وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمباحات الدنيا ‪ ،‬ولكن ألن إيمانه يأبى عليه ذلك‬
‫اك هَّللا ُ‬
‫ويدفعه الستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره اآلخرة متمثاًل قول هللا تعالى ‪َ ﴿ :‬وا ْب َت ِغ فِي َما َآ َت َ‬
‫س‬‫﴿ َواَل َت ْن َ‬ ‫ار اَآْلخ َِر َة ﴾[القصص‪ ، ]77/‬لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى ‪:‬‬ ‫ال َّد َ‬
‫َنصِ ي َب َك م َِن ال ُّد ْن َيا ﴾ [القصص‪. ]77/‬‬
‫وكيف ال ‪ ،‬وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب ‪.‬‬
‫هكذا كانوا ‪:‬‬
‫بهذه المستويات اإليمانية تعامل الصحابة ‪ -‬رضوان هللا عليهم ‪ -‬مع الدنيا فكانت منهم‬
‫أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف اإليمان الذين ال يزالون في مرحلة الطفولة واللهو‬
‫بطين األرض ‪.‬‬
‫فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من األضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخ ًنا‬
‫‪ ،‬ولم يبعث إليهم باألغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف ‪ ،‬فقال واحد منهم‬
‫أنا أذهب إليه وأكلمه ‪ ،‬فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إال ثوب‬
‫خفيف ال يقي من حر وال يصون من برد ‪ ،‬فقال الرجل ألبي الدرداء ‪ :‬ما أراك بت إال كما نبيت‬
‫نحن !! أين متاعكم ؟! فقال ‪ :‬لنا دار هناك ُنرسل إليها تبا ًعا كل ما نحصل عليه من متاع ولو‬
‫كنا قد استبقينا في هذه الدار شيًئ ا منه لبعثنا به إليكم ‪ ،‬ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك‬
‫ِف فيها خير من ال ُمثقِل ‪ ،‬فأردنا أن نتخفف من أثقالنا ع َّلنا نجتاز (‪. )25‬‬ ‫الدار عقبة كؤود ال ُمخ ّ‬
‫وكان طلحة بن عبيد هللا تاجرً ا فجاءه ذات يوم مال من « حضرموت » مقداره سبعمائة ألف‬
‫درهم ‪ ،‬فبات ليلته جزعًا محزو ًنا ‪.‬‬
‫فدخلت عليه زوجته أم كلثوم ‪ ،‬وقالت ‪ :‬ما بك يا أبا محمد ؟!! لعله رابك م َّنا شيء !!‬ ‫ْ‬
‫فقال ‪ :‬ال ‪ ،‬ول ِنعْ َم حليلة الرجل المسلم أنت ‪ ،‬ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت ‪ :‬ما ظن رجل‬
‫بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال ؟! ‪ ،‬قالت ‪ :‬وما يغمك منه ؟! أين أنت من المحتاجين من‬

‫‪ ) (25‬اإلصابة ج‪ 3‬ترجمة ( ‪ ، )6117‬وأسد الغابة ( ‪ ، )4/159‬تاريخ اإلسالم للذهبي ( ‪. ) 2/107‬‬


‫‪18‬‬
‫قومك وأخاَّل ئك ؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬رحمك هللا ‪ ،‬إنك موفقة بنت موفق ‪ ،‬فلما‬
‫أصبح جعل المال في ص َُر ٍر و ِج َفان ‪ ،‬وقسمه بين فقراء المهاجرين واألنصار (‪. )26‬‬
‫‪ ..‬وفي يوم من األيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل‬
‫« حِمص » ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أ ُس ّد حاجاتهم ‪ ،‬فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه‬
‫فالن وفالن ‪ ،‬وسعيد بن عامر ‪ ،‬فقال ‪ :‬ومن سعيد بن عامر ؟! فقالوا ‪ :‬أميرنا ‪ .‬قال ‪ :‬أميركم‬
‫فقير ؟! قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ووهللا إنه لتمر عليه األيام الطوال وال يوقد في بيته نار ‪ ،‬فبكى عمر حتى‬
‫بللت دموعه لحيته ‪ ،‬ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة وقال ‪ :‬اقرؤوا عليه السالم مني ‪،‬‬
‫وقولوا له ‪ :‬بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك ‪.‬‬
‫جاء الوفد لسعيد بالصُرَّ ة فنظر إليها فإذا هي دنانير ‪ ،‬فجعل يُبعدها عنه ويقول ‪ «:‬إنا هلل وإنا‬
‫إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت ‪ :‬ما شأنك يا سعيد ؟! أمات أمير المؤمنين ؟! قال ‪:‬‬
‫بل أعظم من ذلك ‪ .‬قالت ‪ :‬أُأصيب المسلمون في واقعة ؟! قال ‪ :‬بل أعظم من ذلك ‪ ،‬قالت ‪ :‬وما‬
‫لت الفتنة في بيتي ‪ .‬فقالت ‪ :‬تخلَّص‬ ‫لت عليَّ الدنيا ل ُتفسد آخرتي ‪َ ،‬‬
‫ودخ ْ‬ ‫دخ ْ‬
‫أعظم من ذلك ؟! قال ‪َ :‬‬
‫منها ‪ ،‬قال ‪ :‬أو ُتعِينيني على ذلك ؟ قالت ‪ :‬نعم ‪ .‬فأخذ الدنانير فجعلها في ص َُر ٍر ثم وزعها (‪. )27‬‬
‫‪ ..‬وهذا خباب بن األرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم ‪ :‬إن‬
‫رباطا قط ‪ ،‬وال منعت منها سائاًل قط ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في هذا المكان ثمانين ألف درهم ‪ ،‬وهللا ما شدَ ْد ُ‬
‫ت عليها‬
‫ثم بكى ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما يبكيك؟! فقال أبكي ألن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا‬
‫شيًئ ا ‪ ،‬وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك األعمال (‪. )28‬‬
‫‪ ..‬وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي ‪ ،‬فقال له سعد ‪ :‬ما‬
‫يبكيك يا أخي ؟ أليس قد صحبت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ؟ أليس ‪..‬؟ قال سلمان ‪ :‬ما أبكي‬
‫ض ًّنا على الدنيا ‪ ،‬وال كراهية في اآلخرة ‪ ،‬ولكن رسول هللا صلى هللا‬ ‫واحدة من اثنتين ‪ ،‬ما أبكي َ‬
‫عليه عهد إلينا عه ًدا ما أراني إال قد تع َّديت ‪ ،‬قال ‪ :‬وما َع ِهد إليك ؟ قال ‪َ :‬ع ِهد إلينا أنه يكفي‬
‫أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ‪ ،‬وال أراني إال قد تع َّديت (‪ .. )29‬فجُمع مال سلمان فكان قيمته‬
‫خمسة عشر درهما (‪. )30‬‬

‫‪ ) (26‬طبقات ابن سعد ( ‪ ، )3/214‬وتهذيب التهذيب ( ‪ ، )5/20‬واإلصابة ( ‪ )2/229‬ترجمة ( ‪ ، )4266‬وحلية األولياء ( ‪. )1/7‬‬
‫‪ ) (27‬اإلصابة ج‪ ، 2‬ترجمة ( ‪ ، ) 3270‬وحلية األولياء ( ‪ ، )1/244‬وتهذيب التهذيب ( ‪ ، )4/51‬وصفة الصفوة ( ‪. ) 1/372‬‬
‫‪ ) (28‬اإلصابة ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ترجمة (‪ ، )2210‬وأسد الغابة ( ‪ ، ) 1/316‬وحلية األولياء ( ‪ ، )1/143‬وصفة الصفوة ( ‪. )1/168‬‬
‫‪ ) ( 29‬أخرجه أبو يعلى (‪ ، 8/80‬رقم ‪ ، )4610‬والطبراني (‪ ، 4/77‬رقم ‪ ، )3695‬والبيهقي في شعب اإليمان (‪ ، 7/307‬رقم ‪، )10400‬‬
‫وأبو نعيم في الحلية (‪. )1/360‬‬
‫‪ ) (30‬أخرجه ابن حبان (‪ ، 2/481‬رقم ‪. )706‬‬

‫‪19‬‬
‫ومن ثمار اإليمان‬
‫راب ًعا‪ :‬التأييد اإللهي‬
‫ض﴾‬ ‫ت َو َما فِي اَأْلرْ ِ‬ ‫هللا عز وجل هو مالك الكون وربه ومدبر أمره ﴿هَّلِل ِ َما فِي ال َّس َم َاوا ِ‬
‫[البقرة‪. ]284/‬‬
‫ُؤخر ‪ ،‬يقبض ويبسط ‪ ،‬يخفض ويرفع ‪،‬‬ ‫ال يوجد له شريك في ملكه ‪ ،‬يفعل ما يشاء ‪ ..‬يُق ِّدم وي ِّ‬
‫اس ِمنْ َرحْ َم ٍة َفاَل مُمْ سِ َك َل َها َو َما يُمْ سِ كْ َفاَل مُرْ سِ َل َل ُه ِمنْ َبعْ ِد ِه ﴾‬ ‫يُعز ويُذل ﴿ َما َي ْف َت ِح هَّللا ُ لِل َّن ِ‬
‫[فاطر‪. ]2/‬‬
‫وإن كان البشر كلهم أمام هللا سواء فال أفضلية لجنس أو قبيلة أو لون إال أنه سبحانه يزيد من‬
‫ِين اجْ َت َرحُوا‬ ‫ب الَّذ َ‬ ‫إكرامه وعنايته ورعايته للمؤمنين الذين يحبونه ويؤثرونه على هواهم ﴿ َأ ْم َحسِ َ‬
‫ُون ﴾‬ ‫ت َس َوا ًء َمحْ َيا ُه ْم َو َم َما ُت ُه ْم َسا َء َما َيحْ ُكم َ‬ ‫ِين َآ َم ُنوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ‬ ‫ت َأنْ َنجْ َع َل ُه ْم َكالَّذ َ‬‫ال َّس ِّيَئ ا ِ‬
‫[الجاثية‪. ]21/‬‬
‫فالكرامة على قدر االستقامة ﴿ ِإنَّ َأ ْك َر َم ُك ْم عِ ْندَ هَّللا ِ َأ ْت َقا ُك ْم ﴾ [الحجرات‪. ]13/‬‬
‫الط ِري َق ِة َأَلسْ َق ْي َنا ُه ْم َما ًء َغدَ ًقا ﴾ [الجن‪. ]16/‬‬
‫﴿ َوَأنْ َل ِو اسْ َت َقامُوا َع َلى َّ‬
‫ِين ﴾ [األعراف‪]196/‬‬ ‫وكلما ارتقى العبد في سلم اإليمان ازدادت والية هللا له ﴿ َوه َُو َي َت َولَّى الصَّالِح َ‬
‫‪.‬‬
‫وفي الحديث القدسي ‪ « :‬وال يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ‪ ،‬فإذا أحببته كنت‬
‫سمعه الذي يسمع به ‪ ،‬وبصره الذي يبصر به ‪ ،‬ويده التي يبطش بها ‪ ،‬ورجله التي يمشي بها ‪،‬‬
‫ولئن سألني ألعطينه ‪ ،‬ولئن استعاذني ألعيذنه ‪ ،‬وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن‬
‫قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته » (‪. )31‬‬
‫هذه الوالية والكفاية تشمل الفرد المؤمن ‪ ،‬وتشمل المجتمع المؤمن ‪.‬‬
‫‪ ..‬فعلى مستوى الفرد ‪:‬‬
‫يتولى هللا عز وجل أمور عبده المؤمن بما يُحقق له مصلحته الحقيقية ويجلب له السعادة في‬
‫الدارين ‪ ،‬وفي بعض األحيان قد تكون من مظاهر تلك الوالية التضييق على العبد في أمور الدنيا‬
‫إال أنها تحمل في طياتها خيرً ا كثيرً ا ‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إن هللا‬
‫ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يُحبه ‪ ،‬كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه »‬
‫(‪. )32‬‬
‫األمة واإليمان ‪:‬‬
‫أما في محيط األمة ‪ ،‬فال يكفي إيمان بعض األفراد – هنا وهناك – لكي تتحقق بهم الوالية‬
‫والنصرة لألمة ‪ ،‬فاألمة كالجسد الواحد ‪ ،‬ال يكون صحيحً ا إال إذا صحَّ ت جميع أعضائه ‪ .‬بمعنى‬
‫أن وجود أفراد صالحين في ذواتهم ال يكفي الستجالب المعية والنصرة اإللهية ‪ ،‬بل البد وأن‬
‫يقوموا بالعمل على إصالح غيرهم – بإذن هللا – وأن يبذلوا غاية جهدهم في ذلك من خالل‬
‫العمل على تقوية اإليمان في قلوبهم ‪ ،‬وتصحيح التصورات والمفاهيم الخاطئة في عقولهم ‪،‬‬
‫ودفعهم إلى طريق التواضع ونكران الذات ‪ ،‬وتعويدهم على بذل الجهد في سبيل هللا ‪.‬‬
‫وعندما تشيع معاني الصالح في األمة ويرتفع منسوب اإليمان في القلوب ‪ ،‬ولو بنسبة معقولة‬
‫تتيح للمسلم اتخاذ قرارات التضحية ببعض شهواته ومصالحه من أجل نصرة دينه ‪ ..‬عندئذ‬
‫يتحقق موعود هللا بنصر األمة – بإذنه سبحانه – مصداقا لقوله تعالى ‪ِ ﴿ :‬إنَّ هَّللا َ اَل ي َُغ ِّي ُر َما ِب َق ْو ٍم‬
‫َح َّتى ي َُغ ِّيرُوا َما ِبَأ ْنفُسِ ِه ْم ﴾ [الرعد‪. ]11/‬‬

‫‪ ) (31‬أخرجه البخاري (‪ ،2384 / 5‬برقم ‪. )6137‬‬


‫‪ ) ( 32‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 5/428‬رقم ‪ . )23677‬وأخرجه أيضًا ‪ :‬البيهقي في شعب اإليمان (‪ ، 7/321‬رقم ‪، )10450‬‬
‫والحاكم (‪ ، 4/231‬رقم ‪ )7465‬وصححه ‪ ،‬وصححه األلباني في صحيح الجامع ‪ ،‬ح ‪.1814‬‬
‫‪20‬‬
‫وتاريخ األمة خير شاهد على أنه عندما يغلب اإليمان والصالح على جيل من أجيال األمة‬
‫فإن النصر يكون حليفهم ‪ ،‬والتأييد اإللهي ال يتجاوزهم ‪ ..‬انظر – إن شئت – إلى آيات القرآن‬
‫وهي تقرر وتؤكد على هذا المعنى في قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬وِإنْ َتصْ ِبرُوا َو َت َّتقُوا اَل َيضُرُّ ُك ْم َك ْي ُد ُه ْم َش ْيًئ ا‬
‫﴾ [آل عمران‪ ، ]120/‬وقوله ‪َ ﴿ :‬ب َلى ِإنْ َتصْ ِبرُوا َو َت َّتقُوا َو َيْأ ُتو ُك ْم ِمنْ َف ْو ِر ِه ْم َه َذا يُمْ د ِْد ُك ْم َر ُّب ُك ْم ِب َخمْ َس ِة‬
‫ِين ﴾ [آل عمران‪. ]125/‬‬ ‫ف م َِن ْال َماَل ِئ َك ِة م َُسوِّ م َ‬‫َآاَل ٍ‬
‫فاآلية تؤكد أن المالئكة ستنزل سريعًا لتؤيد المؤمنين ‪ ،‬وتقاتل معهم فور تحققهم بالصبر‬
‫والتقوى ‪ ،‬وفي المقابل ؛ فعندما يغيب اإليمان ينقطع التأييد اإللهي ‪ ،‬ويُترك المسلمون ألعدائهم‬
‫ليسوموهم سوء العذاب ‪.‬‬
‫الوعد الحق ‪:‬‬
‫ين َع َلى‬ ‫لقد وعد هللا عز وجل عباده المؤمنين بالغلبة والنصر ‪َ ﴿ :‬و َلنْ َيجْ َع َل هَّللا ُ ل ِْل َكاف ِِر َ‬
‫ِين َس ِبياًل ﴾ [النساء‪. ]141/‬‬ ‫ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫هذا الوعد القاطع متى يتحقق ؟ ‪ ..‬يُجيب سيد قطب عن هذا السؤال في تفسيره لهذه اآلية‬
‫فيقول ‪:‬‬
‫إنه وعد من هللا قاطع ‪ ،‬وحُكم من هللا جامع ‪ :‬أنه متى استقرت حقيقة اإليمان في نفوس‬
‫وتمثلت في واقع حياتهم منهجً ا للحياة ‪ ،‬ونظامًا للحكم ‪ ،‬وتجر ًدا هلل في كل خاطرة‬ ‫َّ‬ ‫المؤمنين ‪،‬‬
‫وحركة ‪ ،‬وعبادة هلل في الصغيرة والكبيرة ‪ ..‬فلن يجعل هللا للكافرين على المؤمنين سبياًل ‪.‬‬
‫وهذه حقيقة ال يحفظ التاريخ اإلسالمي كله واقعة واحدة ُتخالفها ‪ .‬وأنا ُأقرر في ثقة بوعد هللا‬
‫ال ُيخالجها شك ‪ ،‬أن الهزيمة ال تلحق بالمؤمنين ‪ ،‬ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ‪ ،‬إال وهناك‬
‫خذ العدة ‪ ،‬وإعداد‬ ‫ثغرة في حقيقة اإليمان ‪ :‬إما في الشعور ‪ ،‬وإما في العمل – ومن اإليمان َأ ُ‬
‫القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل هللا ‪ ،‬وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة‬
‫ومن كل شائبة – وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ‪ ،‬ثم يعود النصر للمؤمنين حين‬
‫يوجدون ‪.‬‬
‫ففي « حد » مثاًل ‪ ،‬كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وفي الطمع‬ ‫ُأ‬
‫في الغنيمة ‪ .‬وفي « حُنين » كانت الثغرة في االعتزاز بالكثرة واإلعجاب بها ونسيان السند‬
‫األصيل ! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيًئ ا من‬
‫هذا ‪ ..‬نعرفه أو ال نعرفه ‪ ..‬أما وعد هللا فهو حق في كل حين ‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم ‪ ،‬إن المحنة قد تكون لالبتالء ‪ ..‬ولكن االبتالء إنما يجيء لحكمة ‪ ،‬هي استكمال‬
‫وقص ُه هللا على المسلمين – فمتى‬ ‫َّ‬ ‫حقيقة اإليمان ومقتضياته من األعمال – كما وقع في ُأحد‬
‫اكتملت تلك الحقيقة باالبتالء والنجاح فيه ‪ ،‬جاء النصر وتحقق وعد هللا عن يقين ‪.‬‬
‫‪ ..‬وحين يُقرر النص القرآني ‪ :‬أن هللا « لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبياًل » ‪ ..‬إنما‬
‫يدعو الجماعة المسلمة الستكمال حقيقة اإليمان في قلوبها تصورً ا وشعورً ا ‪ ،‬وفي حياتها واقعًا‬
‫وعماًل ‪ .‬وأال يكون اعتمادها كله على عنوانها ‪ .‬فالنصر ليس للعنوانات ‪ .‬إنما هو للحقيقة التي‬
‫وراءها ‪.‬‬
‫وليس بيننا وبين النصرة في أي زمان وفي أي مكان ‪ ،‬إال أن نستكمل حقيقة اإليمان ‪،‬‬
‫ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك ‪ ..‬ومن حقيقة اإليمان أن نأخذ العدة‬
‫ونستكمل القوة ‪.‬‬
‫إن اإليمان صلة بالقوة الكبرى ‪ ،‬التي ال َتضعُف وال تفنى ‪ ..‬وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة‬
‫وانعزال عنها ‪ ..‬ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية أن تغلب قوة موصولة بمصدر‬
‫القوة في هذا الكون جميعًا ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫غير أنه يجب أن نفرق دائمًا بين حقيقة اإليمان ومظهر اإليمان ‪ ..‬إن حقيقة اإليمان قوة‬
‫حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية ‪ ،‬ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل ‪.‬‬
‫(‪)33‬‬
‫وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها‬
‫‪.‬‬
‫نماذج للوالية والتأييد اإللهي ‪:‬‬
‫والنماذج العملية للتأييد اإللهي للمؤمنين كثيرة ‪ ،‬سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو‬
‫الجماعة المؤمنة ‪.‬‬
‫فعلى مستوى الفرد ‪:‬‬
‫* أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب « مُجابي الدعوة » عن أنس بن مالك ‪ ،‬قال ‪ :‬كان رجل من‬
‫بمال له ولغيره ‪ ،‬وكان‬
‫ٍ‬ ‫أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يُكنى أبا معلق وكان تاجرً ا ي َّتجر‬
‫له ُنسك وورع ‪ ،‬فخرج مرة ‪ ،‬فلقيه لِص ُم َت َق ِّنع في السالح ‪ ،‬فقال ‪ :‬ضع متاعك فإني قاتلك ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬شأنك بالمال ‪ ،‬قال ‪ :‬لست ُأريد إال دمك ‪ ،‬قال ‪ :‬فذرني ُأصلي ‪ ،‬قال ‪ :‬ص ِّل ما بدا لك ‪ ،‬فتوضأ‬
‫ثم صلَّى ‪ ،‬فكان من دعائه ‪ :‬يا ودود ‪ ،‬يا ذا العرش المجيد ‪ ،‬يا فعَّااًل لما يُريد ‪ ،‬أسألك بعزتك‬
‫التي ال ُترام (‪ ، )34‬وملكك الذي ال يُضام (‪ ، )35‬وبنورك الذي مأل أركان عرشك ‪ ،‬أن تكفيني شر‬
‫ثالثا ‪ ،‬فإذا هو بفارس ‪ ،‬بيده حربة رافعها بين أذني فرسه ‪،‬‬ ‫هذا اللص ‪ ،‬يا مغيث أغثني ‪ .‬قالها ً‬
‫فطعن اللص فقتله ‪ ،‬ثم أقبل على التاجر ‪ ،‬فقال من أنت ‪ ،‬فقد أغاثني هللا بك ؟ قال ‪ :‬إني م َلك من‬
‫َ‬
‫دعوت ثانيًا ‪ ،‬فسُمعت ألهل‬ ‫دعوت سمعت ألبواب السماء قعقعة ‪ ،‬ثم‬ ‫َ‬ ‫أهل السماء الرابعة ‪ ،‬لما‬
‫(‪)36‬‬
‫ثالثا فقيل ‪ :‬دعاء مكروب ‪ ،‬فسألت هللا أن يُوليني قتله ‪.‬‬ ‫السماء ضجَّ ة ‪ ،‬ثم ً‬
‫* وأخرج الحاكم عن محمد بن المنكدر أن « سفينة » رضي هللا عنه ‪ -‬مولى رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قال ‪ :‬ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها ‪ ،‬فركبت لوحً ا من‬
‫أج َمة (‪ )37‬فيها األسد ‪ ،‬فأقبل إليّ يُريدني ‪ ،‬فقلت يا أبا الحارث ‪ :‬أنا‬ ‫ألواحها فطرحني اللوح في َ‬
‫سفينة مولى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فطأطأ رأسه ‪ ،‬واقبل إليّ ‪ ،‬فدفعني بمنكبه حتى‬
‫أخرجني من األجمة ووضعني على الطريق ‪ ،‬وهمهم ‪ ،‬فظننت أنه يودعني ‪ ،‬فكان ذلك آخر‬
‫عهدي به (‪. )38‬‬
‫* ولما فتح عمرو بن العاص رضي هللا عنه مصر ‪ ،‬أتى أهلها حين دخل بؤنة ( من أشهُر‬
‫القبط ) فقالوا له ‪ :‬أيها األمير ‪ ،‬إن لنيلنا هذا سُنة ال يجري إال بها ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬وما ذاك ؟ قالوا ‪:‬‬
‫إنه كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية ِبكر بين أبويها ‪ ،‬فأرضينا أبويها ‪،‬‬
‫وجعلنا عليها شيًئ ا من الحُلي والثياب أفضل ما يكون ‪ ،‬ثم ألقيناها في هذا النيل ‪ ،‬فقال لهم عمرو‬
‫‪ :‬إن هذا ال يكون في اإلسالم ‪ ،‬فإن اإلسالم يهدم ما قبله ‪ ،‬فأقاموا أشهُر بؤنة وأبيب و َم َسرى ال‬
‫يجري قلياًل وال كثيرً ا حتى همُّوا بالجالء ‪ ،‬فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب‬
‫رضي هللا عنه بذلك ‪ ،‬فكتب إليه عمر ‪ :‬قد أصبت ‪ ،‬إن اإلسالم يهدم ما قبله ‪ ،‬وقد بعثت إليك‬
‫ببطاقة ‪ ،‬فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي ‪ ،‬فلما قدِم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها‪:‬‬
‫من عبد هللا عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ‪ :‬أما بعد ‪:‬‬
‫فإن كنت تجري من قِ َبلِك فال تجر ‪ ،‬وإن كان الواحد القهار ُيجريك ‪ ،‬فنسأل هللا الواحد‬
‫القهار أن ُيجريك ‪.‬‬

‫‪ ) (33‬في ظالل القرآن ‪. 783 ، 2/782 :‬‬


‫‪ ) (34‬ال ُترام ‪ :‬ال ُتطلب ‪.‬‬
‫‪ ) (35‬ال يُضام ‪ :‬ال ي َُذل ‪.‬‬
‫‪ ) (36‬اإلصابة ( ‪. )4/182‬‬
‫‪ ) (37‬أجمة ‪ :‬شجر كثير ملتف ( غابة)‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ ) (38‬إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري رقم ( ‪ ، ) 6848‬ومعرفة الصحابة ألبي نعيم ‪ ،‬برقم ( ‪ ، ) 3102‬وفي دالئل‬
‫النبوة للبيهقي ‪ ،‬برقم ( ‪. ) 2293‬‬
‫‪22‬‬
‫فألقى عمرو البطاقة في النيل – وقد تهيأ أهل مصر للجالء والخروج منها ‪ ،‬ألنهم ال يقوم‬
‫بمصلحتهم فيها إال النيل – فأصبحوا وقد أجراه هللا ستة عشر ذراعًا ‪ ،‬وقطع تلك ال ُس َّنة السوء‬
‫عن أهل مصر (‪. )39‬‬
‫التأييد اإللهي للفئة المؤمنة ‪:‬‬
‫عندما ننظر إلى المعارك التي خاضها الجيل األول مع أعداء الدين نجد أن الميزان‬
‫«المادي» يميل بقوة نحو أعدائهم من حيث العدد والعدة ‪ ،‬ومع ذلك كان النصر حليف المؤمنين‬
‫‪ ،‬مع األخذ في االعتبار بأن الفئة المؤمنة لم ُتقصر أب ًدا في األخذ باألسباب المادية المتاحة أمامها‬
‫‪ ،‬ولكن كانت تلك األسباب – مهما بلغت ‪ -‬أقل بكثير مما عند أعدائهم ‪.‬‬
‫ففي معركة بدر يتجلى التأييد اإللهي في صور متعددة ليتوج في النهاية بنصر عزيز ‪ِ ﴿ :‬إذْ‬
‫ان‬
‫ْط ِ‬ ‫ِب َع ْن ُك ْم ِرجْ َز ال َّشي َ‬ ‫ُطه َِّر ُك ْم ِب ِه َوي ُْذه َ‬
‫اس َأ َم َن ًة ِم ْن ُه َو ُي َن ِّز ُل َع َل ْي ُك ْم م َِن ال َّس َما ِء َما ًء لِي َ‬‫ي َُغ ِّشي ُك ُم ال ُّن َع َ‬
‫ِين‬ ‫ِّت ِب ِه اَأْل ْقدَ ا َم (‪ِ )11‬إ ْذ يُوحِي َرب َ‬
‫ُّك ِإ َلى ْال َماَل ِئ َك ِة َأ ِّني َم َع ُك ْم َف َث ِّب ُتوا الَّذ َ‬ ‫َولِ َيرْ ِب َط َع َلى قُلُ ِ‬
‫وب ُك ْم َو ُي َثب َ‬
‫ان ﴾‬ ‫اق َواضْ ِربُوا ِم ْن ُه ْم ُك َّل َب َن ٍ‬ ‫َأْل‬
‫ب َفاضْ ِربُوا َف ْو َق ا عْ َن ِ‬ ‫ِين َك َفرُوا الرُّ عْ َ‬ ‫ب الَّذ َ‬ ‫َآ َم ُنوا َسُأ ْلقِي فِي قُلُو ِ‬
‫[األنفال‪* .]12 ،11/‬‬
‫وفي فتح المدائن سخر هللا نهر دجلة ليعبُر عليه المسلمون بخيولهم ‪ ...‬فبعد انتصار القادسية‬
‫العظيم – كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية – دخل سعد بن أبي وقاص (نهر شير) ولكنه لم‬
‫يجد فيها أحد وال شيًئ ا مما يُغنم ‪ ،‬بل قد تحول الفرس إلى المدائن وركبوا السفن ‪ ،‬وضمُّوا السفن‬
‫إليهم ‪ ،‬ولم يجد سعد رضي هللا عنه شيئا من السفن ( لعبور نهر دجلة ) ‪ ،‬وأخبر سعد بأن كسرى‬
‫يزدجرد عازم على أخذ األموال واألمتعة من المدائن ‪ ،‬وإنك إن لم تدركه قبل ثالث فات عليك‬
‫وتفارط األمر ‪ .‬فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجلة فحمد هللا وأثنى عليه وقال ‪ :‬إن عدوكم‬
‫قد اعتصم منكم بهذا البحر فال َتخلُصون ( َتصلُون ) إليهم معه ‪ ،‬وهم يخلُصون إليكم إذا شاؤوا‬
‫فيناوشونكم في سفنهم ‪ ،‬وإني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ‪ ،‬فقالوا جميعًا ‪ :‬عزم هللا لنا‬
‫ولك على الرشد فافعل ‪ ،‬فندب سعد الناس إلى العبور ‪ ..‬وقد أمر سعد المسلمين عند دخول‬
‫الماء أن يقولوا ‪ « :‬نستعين باهلل ونتوكل عليه ‪ ،‬حسبنا هللا ونعم الوكيل ‪ ،‬وال حول وال قوة إال‬
‫باهلل العلي العظيم » ‪ ،‬ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس ‪ ،‬ولم يتخلف عنه أحد ‪ ،‬فساروا فيها‬
‫كأنما يسيرون على وجه األرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين ‪ ،‬فال يُرى وجه الماء من الفرسان‬
‫والرجَّ الة ‪ ،‬وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه األرض ‪ ،‬وذلك لما‬
‫حصل لهم من الطمأنينة واألمن ‪ ،‬والوثوق بأمر هللا ووعده ونصره وتأييده ‪ ..‬ولم يُعدم للمسلمين‬
‫شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل يقال له مالك بن عامر ‪ ،‬فدعا صاحبه هللا عز وجل‬
‫وقال ‪ :‬اللهم ال تجعلني من بينهم يذهب متاعي ‪ ،‬فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه ‪ ،‬فأخذه‬
‫الناس ثم ردوه على صاحبه بعينه ‪.‬‬
‫وعندما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا ‪ :‬ديوا ًنا ديوا ًنا ‪ ،‬أي ‪ :‬مجانين مجانين ‪ .‬ثم‬
‫قالوا ‪ :‬وهللا ما تقاتلون إنسًا ‪ ،‬بل تقاتلون ج ًّنا ‪.‬‬
‫وخرج المسلمون من النهر ولم يغرق منهم أحد ‪ ،‬ولم يفقدوا شيًئ ا ‪ ،‬ودخلوا المدائن ولم يجدوا‬
‫بها أح ًدا(‪.)40‬‬

‫‪ ) (39‬أخرجه أبو الشيخ في العظمة (‪ ، 4/1424‬رقم ‪ ، )9373‬وابن عساكر (‪ ، )44/336‬انظر حياة الصحابة ‪. 409 ، 3/408‬‬
‫‪ ) (40‬البداية والنهاية البن كثير ‪ 72-7/70‬باختصار ‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ومن ثمار اإليمان‬
‫سا ‪ :‬إيقاظ القوى الخفية‬
‫خام ً‬
‫عندما يتمكن اإليمان من القلب تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه فتجده‬
‫يتحدى الصعاب ‪ ،‬ويتحمل الشدائد في سبيل ذلك ‪.‬‬
‫‪ ..‬اإليمان الحي يوقظ القوى الخفية داخل اإلنسان ويجعله دو ًما يتحدى أوضا ًعا أقوى منه ‪،‬‬
‫ويجتاز مصاعب أعظم بكثير من حدود إمكاناته ‪..‬‬
‫‪ ..‬اجتمع يوما أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في مكة‬
‫‪ ،‬وكانوا قلة مستضعفين فقالوا ‪ :‬وهللا ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ‪ ،‬فمن‬
‫رجل يُسمعهم إياه ؟ فقال عبد هللا بن مسعود ‪ :‬أنا ُأسمعهم إياه ‪ .‬فقالوا ‪ :‬إنا نخشاهم عليك ‪ ،‬إنما‬
‫نريد رجال له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه ِب َشر ‪ .‬فقال ‪ :‬دعوني فإن هللا سيمنعني‬
‫ويحميني ‪.‬‬
‫ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى ‪ ،‬وقريش جلوس حول الكعبة ‪ ،‬فوقف‬
‫عند المقام وقرأ ‪ :‬بسم هللا الرحمن الرحيم – رافعًا بها صوته ‪ ﴿ -‬الرَّ حْ َمنُ (‪َ )1‬علَّ َم ْالقُرْ َ‬
‫آن (‪)2‬‬
‫ان (‪َ )3‬علَّ َم ُه ْال َب َي َ‬
‫ان ﴾ [الرحمن‪. ]4-1/‬‬ ‫َخ َل َق اِإْل ْن َس َ‬
‫ومضى يقرؤها ‪ ،‬فتأملته قريش وقالت ‪ :‬ماذا قال ابن أم عبد ؟! ت ًّبا له ‪ ،‬إنه يتلو بعض ما جاء‬
‫به محمد ‪ ،‬وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء هللا أن يبلغ ‪ ،‬ثم‬
‫انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬هذا الذي خشينا عليك ‪ ،‬فقال ‪ :‬وهللا ما كان‬
‫أعداء هللا أهون في عيني منهم اآلن ‪ ،‬وإن شئتم ُأل َغادي َّنهم بمثلها غ ًدا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ال ‪ ،‬حسبك ‪ ،‬لقد‬
‫أسمعتهم ما يكرهون (‪. )41‬‬
‫‪ ..‬وهذا عمرو بن الجموح يرى أبناءه الثالثة يتجهزون للقاء أعداء هللا في ُأحد ‪ ،‬فعزم على‬
‫أن يغدو معهم إلى الجهاد ‪ ،‬لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ‪ ،‬فهو شيخ كبير‬
‫طاعن في السن ‪ ،‬وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج ‪ ،‬وقد عذره هللا فيمن عذرهم ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬يا‬
‫أبانا ‪ ،‬إن هللا عذرك ‪ ،‬فعالم ُتكلف نفسك ما أعفاك هللا منه ؟!‬
‫فغضب الشيخ من قولهم ‪ ،‬وانطلق إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يشكوهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫نبي هللا ‪ ،‬إن أبنائي هؤالء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج ‪ ،‬وهللا‬
‫إني ألرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة ‪.‬‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ألبنائه ‪ « :‬دعوه ؛ لعل هللا عز وجل أن يرزقه الشهادة‬
‫» ‪ .‬فخلوا عنه إذعا ًنا ألمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬
‫أزف وقت الخروج ‪ ،‬حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته ‪ ،‬ثم اتجه إلى القبلة ورفع‬ ‫وما إن ِ‬
‫كفيه إلى السماء وقال ‪ « :‬اللهم ارزقني الشهادة وال تردني إلى أهلي خائبًا » ‪ .‬ثم انطلق يُحيط به‬
‫أبناءه الثالثة ‪ ..‬ولما حمي وطيس المعركة ‪ ،‬وتفرق الناس عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل األول ويثب على رجله الصحيحة وثبًا وهو يقول ‪:‬‬
‫إني ل َمشتاق إلى الجنة ‪ ،‬إني ل َمشتاق إلى الجنة ‪ ،‬وكان وراءه ابنه « خاَّل د » ومازال الشيخ وفتاه‬
‫يجاهدان عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حتى خرَّ ا صريعين شهيدين على أرض المعركة ‪،‬‬
‫ليس بين االبن وأبيه إال لحظات (‪. )42‬‬

‫أعمى يحمل الراية ‪:‬‬

‫‪ ) (41‬صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين ‪ ، 1/314‬نقاًل عن سير أعالم النبالء للذهبي ‪ ،‬وصفة الصفوة البن الجوزي ‪.‬‬
‫‪ ) (42‬سير أعالم النبالء ( ‪ ، )1/54‬وتاريخ اإلسالم للذهبي ( ‪ ، ) 2/216‬والبداية والنهاية البن كثير ( ‪. ) 4/42‬‬
‫‪24‬‬
‫فع َجبٌ إصرار عبد هللا بن أم مكتوم على الجهاد وهو أعمى ‪،‬‬‫وإن تعجب من أثر اإليمان َ‬
‫وسفره مع جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية لمالقاة الفرس ‪ ،‬وهو البس درعه ‪ ،‬مستكمل‬
‫عدته ‪ ،‬فيتقدم ليحمل راية المسلمين ‪ ...‬وهو أعمى !! ويحافظ عليها إلى أن قُتل شهي ًدا ‪ ،‬وهو‬
‫يحتضن الراية !! (‪. )43‬‬

‫‪ ) (43‬صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين ‪ ،132 ، 1/131‬نقاًل عن اإلصابة البن حجر ‪ ،‬والطبقات البن سعد ‪ ،‬وصفة الصفوة البن‬
‫الجوزي ‪ ،‬واالستيعاب البن عبد البر ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ومن ثمار اإليمان ‪:‬‬
‫سا ‪ :‬الرغبة في هللا‬
‫ساد ً‬
‫كلما ازداد اإليمان باهلل عز وجل ازدادت ثقة العبد فيه سبحانه وبأنه مالك الملك ‪ ،‬المتصرف‬
‫في شؤون كل ذرة فيه ‪ ،‬العليم الخبير الذي ال تغيب عنه أي حركة أو سكنة في هذا الكون ‪..‬‬
‫القادر المقتدر ‪ ،‬الغفور الرحيم ‪. ...‬‬
‫وبنمو هذه الثقة في القلب تزداد رغبة العبد في ربه فيصبح ذهنه مشغواًل بالتفكير فيه ‪ ،‬وقلبه‬
‫حاضرً ا معه ‪ ..‬فيتوجه إليه باألعمال ‪ ،‬ويتزين له باألفعال التي ترضيه ‪ ..‬يُكثر من مناجاته وبث‬
‫أشواقه إليه ‪ ...‬يسترضيه كلما قصَّر أو زلَّت قدمه ‪ ...‬يطلب منه المساعدة في كل أموره ‪،‬‬
‫والشهادة على ما يحدث له ‪.‬‬
‫وفي المقابل ‪ :‬يص ُغر حجم الناس في نظره وتقل الثقة فيهم حتى تنمحي من حيث كونهم ال‬
‫ضرا ‪ ،‬فال يتزين لهم في أفعاله ‪ ،‬وال يسعى لعلو منزلته عندهم ‪ ،‬بل يستغني‬ ‫ًّ‬ ‫يملكون له نفعًا أو‬
‫عنهم ‪ ،‬وينقطع من قلبه الطمع فيهم ‪ ،‬ومن َّثم ال يرائيهم بأقواله أو أفعاله ‪..‬‬
‫إن الرياء صورة بغيضة تعكس جهاًل عظي ًما باهلل عز وجل ‪ ،‬وضع ًفا شديدًا في اإليمان به ‪..‬‬
‫هذه الصورة يمكنها أن تضمحل وتنمحي تلقائ ًّيا بزيادة اإليمان الحقيقي باهلل والثقة فيه ‪.‬‬
‫الراغبون في هللا ‪:‬‬
‫‪ -‬يقول أنس بن مالك رضي هللا عنه ‪ :‬غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫غبت عن أول قتال قاتلته المشركين ‪ ،‬لئن أشهدني هللا قتال المشركين َل َي َر َينَّ هللا مني‬ ‫ُ‬ ‫رسول هللا ‪..‬‬
‫ما أصنع ‪.‬‬
‫فلما كان يوم حد وانكشف المسلمون ‪ ،‬قال ‪ :‬اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤالء (يعني ‪:‬‬ ‫ُأ‬
‫المسلمين) ‪ ،‬وأبرأ إليك مما صنع هؤالء (يعنى ‪ :‬المشركين) ‪ ،‬ثم تقدم فاستقبل سعد بن معاذ ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬يا سعد ‪ ،‬الجنة ورب النضر ‪ ،‬إني أجد ريحها دون أحد ‪ .‬قال سعد ‪ :‬فما أستطيع أن أصف‬
‫ما صنع (‪. )44‬‬
‫‪ -‬ويقول سعد بن أبي وقاص ‪ :‬لما كانت « أحد » لق َيني عبد هللا بن جحش وقال ‪ :‬أال تدعو‬
‫هللا ؟ فقلت ‪ :‬بلى ‪ .‬فخلونا في ناحية ‪ ،‬فدعوت ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يارب إذا لقيت العدو ف َل ِّقني رجاًل شدي ًدا‬
‫بأسه ‪ ،‬شدي ًدا حرده ‪ ،‬أقاتله ويقاتلني ‪ ،‬ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه ‪ ،‬فأمَّن عبد‬
‫هللا بن جحش على دعائي ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬اللهم ارزقني رجاًل شدي ًدا حرده ‪ ،‬شدي ًدا بأسه ‪ ،‬أقاتله فيك‬
‫ويقاتلني ‪ ،‬ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ‪ ،‬فإذا لقيتك غ ًدا قلت ‪ :‬فيم جُدع أنفك وأذنك ؟ فأقول ‪:‬‬
‫فيك وفي رسولك ‪ ،‬فتقول ‪ :‬صدقت ‪.‬‬
‫قال سعد ‪ :‬كانت دعوة عبد هللا بن جحش خيرً ا من دعوتي ‪ ،‬لقد رأيته آخر النهار ‪ ،‬وإن أنفه‬
‫وأذنه لمعلقان في خيط ( ) ‪.‬‬
‫‪45‬‬

‫‪..‬وعندما أراد مشركوا مكة قتل خبيب بن عدي رضي هللا عنه طلب منهم أن يتركوه ليركع‬
‫ركعتين ‪ ،‬فوافقوا ‪ .‬فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ‪ ،‬ثم أقبل على القوم فقال ‪ :‬أما وهللا ‪ ،‬لوال أن‬
‫تظنوا أني إنما طوَّ لت جزعًا من القتل الستكثرت من الصالة ‪ .‬ثم رفعوه على خشبة ‪ ،‬فلما أوثقوه‬
‫قال ‪ :‬اللهم إ َّنا قد بلغنا رسالة رسولك ‪ ،‬فبلغه الغداة ما يُصنع بنا ‪..‬‬
‫وبعد أن صلبوه أنشد شعرً ا قال فيه ‪:‬‬
‫فقد بضعوا لحمي وقد بان مطمعي‬ ‫فذا العرش صبِّرني على ما يُراد بي‬
‫ممزع‬ ‫ْ‬
‫يبارك على أوصال شِ ل ٍو َّ‬ ‫وذلك في ذات اإلله وإن يشأ‬

‫‪ ) (44‬رواه البخاري (‪ ،1032 / 3‬برقم ‪. )2651‬‬


‫‪ ) (45‬أخرجه البيهقي في سننه ( ‪ ، ) 6/307‬والحاكم في المستدرك ( ‪ ) 2/86‬وقال ‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه ‪ ،‬وأورده الذهبي‬
‫في السير (‪. ) 1/112‬‬
‫‪26‬‬
‫(‪)46‬‬
‫على أي حال كان في هللا مضجعي‬ ‫لعمري ما أح ِف ْل إذا مت مسلمًا‬

‫‪ ) ( 46‬سيرة ابن هشام ( ‪ ، ) 2/172‬وسيرة ابن كثير ( ‪ ، ) 3/130‬وحلية األولياء ألبي ُنعيم ( ‪ ، ) 1/113‬وسير أعالم النبالء للذهبي (‬
‫‪.)1/48‬‬

‫‪27‬‬
‫ومن ثمار اإليمان‬
‫ساب ًعا ‪ :‬اختفاء الظواهر السلبية وقلة المشكالت بين األفراد‬
‫عندما يضعف اإليمان ‪ :‬يعلو الهوى ويسيطر على اإلرادة ‪.‬‬
‫والهوى هو كل ما تميل إليه النفس ‪ ،‬أي أن غلبة الهوى معناها سيطرة النفس بأطماعها على‬
‫إرادة اإلنسان وقلبه ‪ ،‬فيصبح أسيًرا لها ‪.‬‬
‫فالنفس شحيحة تحب االستئثار بكل ما تظن أن فيه نفعها فينشأ عن هذا الهوى ‪ -‬عندما يتمكن‬
‫من القلب ‪ -‬الطمع والظلم والبخل والتعدي على حقوق اآلخرين ‪.‬‬
‫والنفس تريد دومًا العلو على اآلخرين وتكره أن يتميز عليها أحد فينتج عن ذلك الحسد‬
‫والحقد‪.‬‬
‫والنفس تكره الظهور بمظهر المخطئ فينشأ عن هذا الهوى عندما يسيطر على القلب ‪ :‬الكذب‬
‫والغش والخداع ‪..‬‬
‫المشاق والتكاليف فينشأ عن ذلك ‪ :‬الفسوق وعدم القيام باألوامر الشرعية ‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫والنفس تكره‬
‫وهكذا تنطلق جميع الظواهر السلبية والمشكالت من ضعف اإليمان وغلبة هوى النفس‪.‬‬
‫والحل األول واألمثل لعالج المجتمع المسلم من ظواهره السلبية إنما يكون بإصالح اإليمان‬
‫‪ ،‬فكلما ازداد اإليمان في القلوب انحسر تأثير الهوى عليها وقويت اإلرادة ودفعت صاحبها‬
‫ض ُه ْم َع َلى‬ ‫لمكارم األخالق ومعاليها ‪ ..‬تأمل قول هللا تعالى ‪َ ﴿ :‬وِإنَّ َك ِثيرً ا م َِن ْال ُخ َل َطا ِء َل َي ْبغِي َبعْ ُ‬
‫ت﴾ [ص‪.]24/‬‬ ‫ِين َآ َم ُنوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ‬ ‫ض ِإاَّل الَّذ َ‬ ‫َبعْ ٍ‬
‫ليس معنى هذا هو انعدام المشكالت بين األفراد ‪ ،‬فالطبيعة البشرية وما تحمله من ضعف‬
‫تأبى ذلك ‪ ،‬ولكنها ‪ -‬إن حدثت – تكون هينة ‪ ،‬عارضة سرعان ما تزول عندما يسمع أصحابها‬
‫حادي اإليمان ينادي عليهم أن اتقوا هللا ﴿ ِنعْ َم ْال َع ْب ُد ِإ َّن ُه َأوَّ ابٌ ﴾ [ص‪.]30/‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪ :‬عندما عزم أبو بكر الصديق على قطع النفقة التي كان ينفقها على مسطح‬
‫بن أثاثة ألنه كان ممن تكلم في حادثة اإلفك نزل القرآن ليُذ ّكره وغيره بفضيلة العفو بقوله تعالى‬
‫يل هَّللا ِ‬
‫ين فِي َس ِب ِ‬‫ِين َو ْال ُم َها ِج ِر َ‬‫‪َ ﴿ :‬واَل َيْأ َت ِل ُأولُو ْال َفضْ ِل ِم ْن ُك ْم َوالس ََّع ِة َأنْ يُْؤ ُتوا ُأولِي ْالقُرْ َبى َو ْال َم َساك َ‬
‫ُّون َأنْ َي ْغف َِر هَّللا ُ َل ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َرحِي ٌم ﴾ [النور‪ ]22/‬فعند ذلك قال‬ ‫َو ْل َيعْ فُوا َو ْل َيصْ َفحُوا َأاَل ُت ِحب َ‬
‫الصديق ‪ :‬بلى وهللا إ ّنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا ‪ ،‬ثم أرجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬وهللا ال أنزعها منه أب ًدا (‪. )47‬‬
‫‪ ..‬وعندما اختلف رجالن على ميراث بينهما وذهبا يحتكمان إلى رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فماذا فعل معهما ؟! ‪.‬‬
‫عن أم سلمة رضي هللا عنها قالت ‪ :‬جاء رجالن من األنصار يختصمان إلى رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم في مواريث بينهما قد ُد ِرست ليس بينهما بينة ‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ألحن بحُجَّ ته من بعض فإني أقضي‬ ‫وسلم ‪ « :‬إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ‪ ،‬ولعل بعضكم َ‬
‫بينكم على نحو ما أسمع ‪ ،‬فمن قضيت له من حق أخيه شيًئ ا فال يأخذه ‪ ،‬فإنما أقطع له قطعة من‬
‫النار يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة » فبكى الرجالن وقال كل واحد منهما ‪ :‬حقي ألخي ‪.‬‬
‫توخ َيا الحق ثم استهما ثم‬ ‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬أما إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم َّ‬
‫ليتحلل كل واحد منكم صاحبه» (‪. )48‬‬
‫عمر يستقيل من القضاء ‪:‬‬

‫‪ ) (47‬تفسير القرآن العظيم البن كثير ‪. 260 ، 3/259‬‬


‫‪ ) ( 48‬أخرجه اإلمام أحمد ( ‪ ، )6/320‬وقال شعيب األرنؤوط ‪ :‬إسناده حسن ‪ ،‬وابن أبي شيبة ( ‪ . ) 7/353‬واإلسطام ‪ :‬هي الحديدة التي‬
‫ُت َّ‬
‫حرك بها النار ‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫عندما تولى أبو بكر الصديق الخالفة قام بتعيين عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة ‪ ،‬فمكث‬
‫عمر سنة لم يفتح جلسة ‪ ،‬ولم يختصم إليه اثنان ‪ ،‬فطلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء ‪ ،‬فقال له‬
‫أبو بكر ‪ :‬أمن مشقة القضاء تطلب اإلعفاء يا عمر ؟!‬
‫فقال ‪ :‬ال يا خليفة رسول هللا ‪ ،‬ولكن ال حاجة لي عند قوم مؤمنين ‪ ،‬عرف كل منهم ما له من‬
‫حق فلم يطلب أكثر منه ‪ ،‬وما عليه من واجب فلم يُقصِّر في أدائه ‪ ..‬أحب كل منهم ألخيه ما يحبه‬
‫لنفسه ‪ ..‬إذا غاب أحدهم تفقدوه ‪ ،‬وإذا مرض عادوه ‪ ،‬وإذا افتقر أعانوه ‪ ،‬وإذا احتاج ساعدوه ‪،‬‬
‫وإذا أصيب واسوه ‪..‬دينهم النصيحة ‪ ،‬وخلقهم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ففيم‬
‫يختصمون ؟ ففيم يختصمون ؟!‬

‫‪29‬‬
‫ومن ثمار شجرة اإليمان المباركة‬
‫ثام ًنا ‪ :‬التأثير اإليجابي في الناس‬
‫‪ ،‬بل عليه أن يعمل على إصالح غيره ﴿ َيا‬ ‫ليس على المسلم فقط أن يكون صالحً ا في نفسه‬
‫ك ِإنَّ َذل َِك ِمنْ َع ْز ِم‬ ‫َواصْ ِبرْ َع َلى َما َأ َ‬
‫صا َب َ‬ ‫صاَل َة َوْأمُرْ ِب ْال َمعْ رُوفِ َوا ْن َه َع ِن ْال ُم ْن َك ِر‬ ‫ُب َنيَّ َأق ِِم ال َّ‬
‫ُور﴾ [لقمان‪. ]17/‬‬ ‫ُأْل‬
‫ا م ِ‬
‫ِين ﴾[فصلت‪.]33/‬‬ ‫صالِحً ا َو َقا َل ِإ َّننِي م َِن ْالمُسْ لِم َ‬ ‫﴿ َو َمنْ َأحْ َسنُ َق ْواًل ِممَّنْ دَ َعا ِإ َلى هَّللا ِ َو َع ِم َل َ‬
‫ِين ﴾ [األعراف‪.]170/‬‬ ‫صاَل َة ِإ َّنا اَل ُنضِ ي ُع َأجْ َر ْالمُصْ لِح َ‬ ‫ب َوَأ َقامُوا ال َّ‬ ‫ون ِب ْال ِك َتا ِ‬ ‫﴿ َوالَّذ َ‬
‫ِين ُي َم ِّس ُك َ‬
‫ير ٍة َأ َنا َو َم ِن‬
‫فالدعوة إلى هللا هي عمل الرسل وأتباعهم ﴿قُ ْل َه ِذ ِه َس ِبيلِي َأ ْدعُو ِإ َلى هَّللا ِ َع َلى بَصِ َ‬
‫ا َّت َب َعنِي﴾[يوسف‪. ]108/‬‬
‫ونجاح الداعية في دعوته للناس يعني التأثير اإليجابي فيهم ‪ ..‬هذا التأثير يستلزم وجود‬
‫ج كالمه محماًل‬ ‫روح حي ‪ ،‬ورغبة جارفة تهيمن على قلبه تستحثه إلنقاذ اآلخرين ‪ ،‬فيخ ُر ُ‬
‫بالحرقة والشفقة عليهم ‪ ..‬وال يمكن التلبس بهذه الحالة إال من خالل يقظة اإليمان وتمكنه في‬
‫قلبه ‪.‬‬
‫‪ ..‬اإليمان الحي يدفع صاحبه للبدء بنفسه في القيام بالعمل الصالح قبل أن يدعو الناس إليه ‪،‬‬
‫فيصدق قوله فعله ‪ ،‬ومن َث َّم يزداد تأثيره في اآلخرين ‪.‬‬
‫يقول سيد قطب ‪ :‬الكلمة البسيطة التي يصاحبها االنفعال ‪ ،‬ويؤيدها العمل هي الكلمة المثمرة‬
‫‪ ،‬التي ُتحرك اآلخرين إلى العمل ‪.‬‬
‫ويقول ‪ :‬أيما داعية ال يصدق فعله قوله ‪ ،‬فإن كلماته تقف على أبواب اآلذان ال تتعداها إلى‬
‫القلوب مهما كانت كلماته بارعة ‪ ،‬وعباراته بليغة (‪. )49‬‬
‫القلوب بيد هللا ‪:‬‬
‫إن الذي يفتح القلوب لكالم الدعاة هو هللا عز وجل فإن رأى منهم صد ًقا وإخالصًا ‪ ،‬ورغبة‬
‫في نفع المدعوين ‪ ،‬وشفقة صادقة عليهم فإنه سبحانه يفتح لهم – بفضله – قلوبهم ‪.‬‬
‫وكلما علت منزلة العبد عند ربه باإليمان أحبه هللا عز وجل ‪ ،‬ومن َث َّم وضع له القبول في‬
‫األرض كما في الحديث ‪ « :‬إذا أحب هللا عب ًدا نادى جبريل ‪ :‬إن هللا يحب فال ًنا فأحبه ‪ ،‬فيحبه‬
‫جبريل ‪ ،‬فينادي جبريل في أهل السماء ‪ :‬إن هللا يحب فال ًنا فأحبوه ‪ ،‬فيحبه أهل السماء ثم يوضع‬
‫له القبول في األرض » (‪. )50‬‬
‫أصلح نفسك ُتص َلح لك رعيتك ‪:‬‬
‫‪ ..‬انظر إلى أبي بكر الصديق رضي هللا عنه وهو يمشي بجانب راحلة عمرو بن العاص‬
‫رضي هللا عنه وهو يوصيه قبل سفره على رأس الجيش المتوجه إلى الشام قائاًل ‪ « :‬يا عمرو ‪،‬‬
‫اتق هللا في سرائرك وعالنيتك واستحيه ‪ ،‬فإنه يراك ويرى عملك ‪ ..‬فكن من عمال اآلخرة ‪،‬‬
‫وَأ ِرد بما تعمل وجه هللا ‪ ،‬وكن وال ًدا لمن معك ‪ ،‬وال تكشفن الناس عن أستارهم ‪ ،‬واكتفِ‬
‫بعالنيتهم ‪ ..‬وإذا وعظت أصحابك فأوجز ‪ ،‬وأصلح نفسك ُتص َلح لك رعيتك » (‪. )51‬‬
‫‪ ..‬ولما حضر أبا بكر الموت أوصى باستخالف عمر بن الخطاب ‪ ،‬ثم بعث إلى عمر فدعاه‬
‫فكان مما وصاه به ‪:‬‬
‫إن أول ما أحذرك نفسك ‪ ،‬وأحذرك الناس ‪ ..‬فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت‬
‫هللا و َف َر ْقته (‪. )52‬‬

‫) في ظالل القرآن ‪.4/2369‬‬ ‫‪(49‬‬


‫) متفق عليه ‪ ،‬أخرجه البخاري (‪ ، 3/1175‬رقم ‪ ، )3037‬ومسلم (‪ ، 4/2030‬رقم ‪.)2637‬‬ ‫‪(50‬‬
‫) حياة الصحابة ‪.1/544‬‬ ‫‪(51‬‬
‫) حياة الصحابة ‪.1/541‬‬ ‫‪(52‬‬
‫‪30‬‬
‫ِسور بن مخرمة قال ‪ :‬كنا نتعلم من عمر بن الخطاب الورع (‪. )53‬‬
‫وعن الم َ‬

‫‪ ) (53‬أخرجه ابن سعد (‪.)3/290‬‬

‫‪31‬‬
‫ومن ثمار اإليمان ‪:‬‬
‫تاس ًعا ‪ :‬اتخاذ القرارات الصعبة‬
‫يتعرض المرء في حياته لمواقف تحتاج منه إلى اتخاذ قرارت قد ينتج عنها نقص يلحق به ‪،‬‬
‫أو أذى يُصيبه ‪ ،‬أو ضيق اآلخرين منه ‪ ،‬لذلك تجده مترد ًدا قبل اتخاذها ‪ ،‬ويظل يُف ِّكر فيها ‪،‬‬
‫ويوازن بين الواجب الديني الذي يح ُُّثه على فعل الشيء وبين األضرار التي قد تترتب على فعله‬
‫‪ ،‬مما قد يؤدي في النهاية إلى ترك القيام به ‪ ،‬فيُفوِّ ت على نفسه مصالح كثيرة في دنياه وآخرته ‪.‬‬
‫ضعف القلب وعدم تمكن اإليمان منه ‪ ،‬وفي المقابل ؛ كلما ازداد اإليمان‬ ‫‪ ..‬هذا الحال يعكس َ‬
‫َق ِوي القلب وسهل على صاحبه اتخاذ القرارات التي قد يكون لها من الناحية الظاهرية تأثير سلبي‬
‫عليه ‪..‬‬
‫ومن أمثلة هذه القرارات ‪ :‬الشهادة على النفس أو اآلخرين ‪ ،‬االعتراف بالخطأ ‪ ،‬قبول ال ُنصح‬
‫‪ ،‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر لألصدقاء وأصحاب المناصب ‪ ،‬اإلنفاق في وقت العُسرة ‪،‬‬
‫التضحية بما يحبه المرء ‪..‬‬
‫نماذج مشرقة ‪:‬‬
‫وإليك أخي القارئ بعض األمثلة العملية من حياة الصحابة ‪ ،‬والتي تؤكد هذا المعنى ‪:‬‬
‫جلس عبد هللا بن عبد هللا بن ُأ َبيّ بن سلول إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فشرب‬ ‫‪-‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم ماء ‪ ،‬فقال ‪ :‬باهلل يا رسول هللا ‪ ،‬ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها َأ ِبي‬
‫ض َل له ‪ ،‬فأتاه بها ‪ ،‬فقال له أبوه ‪ :‬فهاَّل جئتني ببول أمك فإنه أطهر‬
‫‪ ،‬لعل هللا يُطهر بها قلبه ‪ .‬فأ ْف َ‬
‫منها ‪ ،‬فغضب وجاء إلى النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول هللا أما أ ِذ ْنت لي في قتل‬
‫َأ ِبي ؟‬
‫فقال النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬بل ترفق به و ُتحسن إليه » ؟(‪. )54‬‬
‫‪ -‬وقال عروة ‪ :‬رأيت عمر بن الخطاب رضي هللا عنه وعلى عاتقه قربة ماء ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا‬
‫أمير المؤمنين ال ينبغي لك ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬لمَّا أتتني الوفود بالسمع والطاعة دخلت في نفسي نخوة‬
‫‪ ،‬فأحببت أن أكسرها ‪ ،‬ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من األنصار فأفرغها في إنائها (‪. )55‬‬
‫‪ -‬عن أنس أن رجاًل من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪،‬‬
‫معاذا ‪ ،‬قال ‪ :‬سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فحمل يضربني‬ ‫ً‬ ‫عائذ بك من الظلم ‪ ،‬قال ‪ :‬عذت‬
‫بالسوط ويقول ‪:‬أنا ابن األكرمين ‪ ،‬فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويُقدم ابنه معه ‪ ،‬فقدما ‪ ،‬فقال‬
‫عمر ‪ :‬أين المصري ؟ خذ السوط فاضربه ‪ ،‬فجعل يضربه بالسوط ‪ ،‬وعمر يقول ‪ :‬اضرب ابن‬
‫األكرمين ‪ .‬قال أنس ‪ :‬فضرب ‪ ،‬فوهللا ضربه ونحن ُنحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يُرفع عنه‬
‫‪ ،‬ثم قال عمر للمصري ‪ :‬ضع السوط على صلعة عمرو ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أمير المؤمنين ‪ ،‬إنما ابنه الذي‬
‫ضربني ‪ ،‬وقد استقدت منه ‪ ،‬فقال عمر لعمرو ‪ :‬مُذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم ُأمهاتهم أحرارً ا ؟ قال ‪:‬‬
‫يا أمير المؤمنين ‪ ،‬لم أعلم ولم يأتني (‪. )56‬‬
‫‪ -‬وعن ابن عمر قال ‪ :‬اشتريت إباًل وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها ‪ ،‬فدخل‬
‫عمر السوق فرأي إباًل سما ًنا فقال ‪ :‬لمن هذه اإلبل ؟ قيل لعبد هللا بن عمر ‪ ،‬فجعل يقول ‪ :‬يا عبد‬
‫هللا بن عمر ‪ :‬بخ بخ ‪ ،‬ابن أمير المؤمنين ‪ ،‬فجئت أسعى ‪ ،‬فقلت ‪ :‬مالك يا أمير المؤمنين ؟ قال ‪:‬‬
‫ما هذه اإلبل ؟ قلت ‪ :‬اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون ‪ ،‬فقال ‪ :‬ارعو‬
‫رأس مالك ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫إبل ابن أمير المؤمنين‪ ،‬اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين ‪ ،‬يا عبد هللا بن عمر ‪ ،‬اغ ُد إلى‬
‫واجعل الفضل في بيت مال المسلمين (‪. )57‬‬
‫‪ ) (54‬الجامع ألحكام القرآن للقرطبي ‪ ،17/199‬وأخرج بن أبي شيبة في مصنفه حديثا بمعناه (ج ‪ /3‬ص ‪ 538‬حديث رقم‪.)6627 :‬‬
‫‪ ) (55‬صالح األمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين العفاني (‪.) 5/435‬‬
‫‪ ) (56‬إسناده ضعيف‪ :‬رواه ابن عبد الحكم في (فتوح مصر) ‪ ،‬كنز العمال ( ‪. )36010‬‬
‫‪ ) ( 57‬السنن الكبرى للبيهقي (‪ ، )12156 ،147 / 6‬وسنن سعيد بن منصور ‪ ،‬ومصنف ابن أبى شيبة ‪ ،‬وأورده المتقي الهندي في كنز العمال‬
‫(‪. ) 36006‬‬
‫‪32‬‬
‫إسداء النصيحة ‪:‬‬
‫‪ ..‬بعد انتصارات خالد بن الوليد المتتالية في العراق بعث إليه أبو بكر الصديق برسالة تهنئة‬
‫ونصيحة فقال فيها ‪:‬‬
‫« فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة ‪ ،‬فأتمم يتم هللا لك ‪ ،‬وال يدخلنك ُعجب فتخسر و ُتخذل‬
‫‪ ،‬وإياك أن تدل بعمل فإن هللا له ال َمنّ وهو ولي الجزاء » ‪.‬‬
‫‪ ..‬وعندما أمَّر عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص على حرب العراق أرسل إليه وأوصاه‬
‫فقال ‪:‬‬
‫ال يغر َّنك من هللا أن قِيل خال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصاحب رسول هللا ‪ ،‬فإن هللا‬
‫عز وجل ال يمحو السيئ بالسيئ ‪ ،‬ولكنه يمحو السيئ بالحسن ‪ ،‬فإن هللا ليس بينه وبين أحد نسب‬
‫إال الطاعة ‪ ،‬فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات هللا سواء ‪ ،‬هللا ربهم وهم عباده ‪ ،‬يتفاضلون‬
‫بالعاقبة ويدركون ما عنده بالطاعة ‪ ،‬فانظر األمر الذي رأيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منذ‬
‫بُعث إلى أن فارقنا ‪ ،‬فالزمه فإنه األمر ‪ .‬هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك ‪،‬‬
‫وكنت من الخاسرين (‪.)58‬‬
‫االنتصاف من النفس ‪:‬‬
‫ُأ‬
‫‪ ..‬كان لعثمان بن عفان رضي هللا عنه عبد ‪ ،‬فقال له ‪ :‬إني كنت عركت ذنك فاقتص مني ‪،‬‬
‫فأخذ بأذنه ثم قال عثمان رضي هللا عنه ‪ :‬اشدد ‪ ،‬يا حبذا قصاص الدنيا ‪ ،‬ال قصاص اآلخرة (‪.)59‬‬
‫‪ ..‬وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال ‪ :‬مرَّ عمر بن الخطاب رضي هللا عنه في السوق ومعه‬
‫الدرة ‪ ،‬فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي ‪ ،‬فقال ‪ :‬أمط عن الطريق ‪ .‬فلما كان في العام‬
‫المُقبل لقيني فقال ‪ :‬يا سلمة ‪ُ ،‬تريد الحج ؟ فقلت ‪ :‬نعم ‪ .‬فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله‬
‫فأعطاني ست مائة درهم وقال ‪ :‬استعن بها على حجِّ ك ‪ ،‬واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك ‪ .‬قلت ‪:‬‬
‫يا أمير المؤمنين ما ذكرتها ‪ .‬قال ‪ :‬وأنا ما نسيتها(‪.)60‬‬

‫‪ ) (58‬تاريخ الطبري (‪ ، )4/306‬البداية والنهاية (‪ ، )42 / 7‬الكامل في التاريخ البن األثير (‪ ، )408 / 1‬وحياة الصحابة ( ‪. ) 1/548‬‬
‫‪ ) (59‬حياة الصحابة ‪ ، 1/537‬نقاًل عن « الرياض النضرة في مناقب العشرة » للمحب الطبري ( ‪. ) 2/111‬‬
‫‪ ) (60‬تاريخ الطبري ‪ ، )578 / 2( -‬وحياة الصحابة ( ‪. ) 1/536‬‬

‫‪33‬‬
‫ومن ثمار اإليمان‬
‫عاشرا ‪ :‬الشعور بالسكينة والطمأنينة‬
‫ً‬
‫اإليمان الحق باهلل عز وجل يعني ‪ :‬الثقة به سبحانه ر ًّبا قادرً ا على فعل أي شيء ‪ ..‬قريبًا‬
‫مجيبًا ‪..‬حاضرً ا غير غائب ‪ ..‬عظيمًا جلياًل ‪ ..‬رؤو ًفا رحيمًا ‪..‬‬
‫وكلما تمكنت هذه الثقة في قلب العبد تبددت منه المخاوف التي ترهب الناس ‪ :‬كالخوف من‬
‫سطوة الظالمين والخوف من المستقبل المجهول وما تخبئه األيام ‪.‬‬
‫وكلما ضعف اإليمان ‪ ،‬وقلت الثقة زادت المخاوف ‪ ،‬وظهرت أمارات الهلع والفزع‬
‫ب الَّذ َ‬
‫ِين‬ ‫واالضطراب عند التعرض البتالء أو نقص أو تضييق ‪ ،‬ألم يقل سبحانه ﴿ َس ُن ْلقِي فِي قُلُو ِ‬
‫ب ِب َما َأ ْش َر ُكوا ِباهَّلل ِ﴾ [آل عمران ‪. ]151 :‬‬ ‫َك َفرُوا الرُّ عْ َ‬
‫فالمشرك باهلل يعاني من ضعف بل انعدام الثقة به سبحانه ‪ ،‬وتظهر الثمرة المُرة لهذا الشرك‬
‫عند النقص واالبتالء ‪ :‬رعبًا وفزعًا وهلعًا ‪.‬‬
‫‪ ..‬يقول ابن تيمية ‪ :‬الخوف الذي يحصل في قلوب الناس ( كالخوف على فوات الرزق ‪،‬‬
‫والخوف من المستقبل المجهول ) هو الشرك الذي في قلوبهم (‪. )61‬‬
‫وفي المقابل تجد المؤمن هادئ النفس ‪ ،‬رابط الجأش ‪ ،‬مطمئن القلب عند تعرضه للمحن‬
‫اخ َش ْو ُه ْم َف َزادَ ُه ْم ِإي َما ًنا‬
‫اس َق ْد َج َمعُوا َل ُك ْم َف ْ‬
‫ِين َقا َل َل ُه ُم ال َّناسُ ِإنَّ ال َّن َ‬ ‫والباليا واألقدار المؤلمة ﴿ الَّذ َ‬
‫ء ﴾ [آل عمران ‪173 :‬‬ ‫َو َقالُوا َحسْ ُب َنا هَّللا ُ َو ِنعْ َم ْال َوكِي ُل (‪َ )173‬فا ْن َق َلبُوا ِب ِنعْ َم ٍة م َِن هَّللا ِ َو َفضْ ٍل َل ْم َيمْ َسسْ ُه ْم سُو ٌ‬
‫‪. ]174 -‬‬
‫صدَ َق هَّللا ُ َو َرسُولُ ُه َو َما‬ ‫اب َقالُوا َه َذا َما َو َعدَ َنا هَّللا ُ َو َرسُولُ ُه َو َ‬ ‫ون اَأْلحْ َز َ‬
‫﴿ َو َلمَّا َرَأى ْالمُْؤ ِم ُن َ‬
‫َزادَ ُه ْم ِإاَّل ِإي َما ًنا َو َتسْ لِيمًا ﴾ [األحزاب ‪. ]22 :‬‬
‫من هنا ندرك معنى القول بأن ‪ « :‬حسبنا هللا ونعم الوكيل » هي كلمة المؤمنين عند مواجهة‬
‫المواقف الصعبة ‪.‬‬
‫وكلما ازداد اإليمان ازدادت الثقة باهلل حتى تصل لذروتها فتصبح ثقة مطلقة يقينية أشد‬
‫رسوخا من الجبال الرواسي ‪ ،‬وتظهر آثارها وقت األحداث المتشابكة والعصيبة ‪ ،‬كمثل ما حدث‬ ‫ً‬
‫لموسى عليه السالم عندما خرج مع بني إسرائيل فرارً ا من فرعون لكنه أدركهم بجنوده ليصبح‬
‫ون ﴾ [الشعراء ‪ ]61 :‬فيجيب عليهم بهدوء‬ ‫البحر أمامهم وفرعون وراءهم فيقول أتباعه ‪ِ ﴿ :‬إ َّنا َلم ُْد َر ُك َ‬
‫ِين ﴾ [الشعراء ‪. ]62 :‬‬ ‫ِي َربِّي َس َي ْهد ِ‬ ‫الواثق في ربه ‪َ ﴿ :‬كاَّل ِإنَّ َمع َ‬
‫وفي رحلة الهجرة وبينما كان الرسول صلى هللا عليه وسلم وصاحبه في غار ثور إذ‬
‫بالمشركين يصلون إلي فم الغار ‪ ،‬فيخاف أبو بكر خو ًفا شدي ًدا على رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وعلى الدعوة ‪ ،‬ويقول لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬يا نبي هللا لو أن أحدهم طأطأ‬
‫تلت أنت هلكت األمة ‪ ،‬ليفاجأ بأن رسول هللا‬ ‫تلت فإنما أنا رجل واحد ‪ ،‬وإن قُ َ‬ ‫بصره رآنا ‪ ..‬إن قُ ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم لم يتأثر بهذه المخاوف ‪ ،‬بل كان هادئ النفس ‪ ،‬رابط الجأش ‪ ،‬على ثقة‬
‫مطلقة باهلل عز وجل ‪ ،‬وبدا ذلك واضحً ا من إجابته على ما أثاره أبو بكر من مخاوف ‪ :‬اسكت يا‬
‫أبا بكر ‪ ،‬اثنان هللا ثالثهما ‪ ..‬ال تحزن إن هللا معنا (‪. )62‬‬
‫طمأنينة القلب ‪:‬‬
‫من ثمار اإليمان العظيمة تلك الطمأنينة والسكينة التي يسكبها في القلب ‪ ،‬فتجده ساك ًنا عند جريان‬
‫األحداث سكون الواثق باهلل ‪ ،‬المطمئن به – سبحانه – لذلك عندما ذهب عمار بن ياسر إلى رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ليخبره بأنه تحت وطأة التعذيب واإليذاء ُأكره على النيل من رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وذكر آلهة الكفار بخير ‪ ،‬فما كان من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إال أنه سأله ‪« :‬‬

‫‪ ) (61‬رسائل ابن تيمية في السجن ‪.‬‬


‫‪ ) (62‬أخرجه البخاري (‪ ،1427 / 3‬رقم ‪ ، ) 3707‬والقصة بتمامها في سيرة ابن هشام ‪ ،‬والرحيق المختوم ‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫فكيف تجد قلبك ؟ » ‪ ،‬فقال عمار ‪ :‬أجد قلبي مطمئ ًنا باإليمان ‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫« فإن عادوا فعد » (‪.)63‬‬
‫‪ ..‬وعندما أسرت الروم عبد هللا بن حذافة السهمي فقال له الطاغية ‪ :‬تنصَّر وإال ألقيتك في‬
‫البقرة ( وعاء من نحاس ) ‪ ،‬قال ‪ :‬ما أفعل ‪ ..‬فدعا بالبقرة النحاس فمُلئت زي ًتا ‪ ،‬وُأغليت ‪ ،‬ودعا‬
‫رجاًل من أسرى المسلمين فعُرض عليه النصرانية ‪ ،‬فأبى ‪ ،‬فألقاه في البقرة فإذا عظامه تلوح ‪،‬‬
‫وقال لعبد هللا ‪ :‬تنصَّر وإال ألقيتك ‪ ،‬قال ‪ :‬ما أفعل ‪ ،‬فأمر به أن يُلقى في البقرة فبكى ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬قد‬
‫جزع ‪ ،‬قد بكى ‪ .‬قال ‪ :‬ردوه ‪ ،‬فقال عبد هللا ‪ :‬ال ترى أني بكيت جزعًا مما تريد أن تصنع بي‬
‫ولكني بكيت حيث ليس لي إال نفس واحدة يُفعل بها هذا في هللا ‪ ،‬كنت أحب أن يكون لي من‬
‫األنفس عدد كل شعرة فيَّ ‪ ،‬ثم ُتسلَّط عليَّ فتفعل بي هذا ‪ ،‬قال ‪ :‬فأعجب منه ‪ ،‬وأحب أن يطلقه ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬قبِّل رأسي وأطلقك ‪ ،‬قال ‪ :‬ما أفعل ‪ ،‬قال ‪ :‬قبِّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من‬
‫المسلمين ‪ ،‬قال ‪ :‬أما هذه فنعم ‪ ،‬فقبل رأسه وأطلقه وأطلق معه ثمانين من المسلمين ‪ ،‬فلما قدِموا‬
‫على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبَّل رأسه ‪ ،‬قال ‪ :‬فكان أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم يمازحون عبد هللا فيقولون ‪ :‬قبلت رأس علج ‪ ،‬فيقول لهم ‪ُ :‬أطلِق بتلك القبلة ثمانون من‬
‫المسلمين (‪. )64‬‬

‫كلمة أخيرة حول ثمار اإليمان ‪:‬‬

‫‪ ..‬هذه – أخي القارئ – عشر ثمار لإليمان الحي عندما يتمكن من القلب ‪،‬‬
‫تعرفنا عليها وعشنا بعض أمثلتها العملية لها ‪ ،‬وكما ذكرنا – ساب ًقا – بأن‬‫قد َّ‬
‫الهدف من هذا الطرح هو استثارة مشاعرنا ‪ ،‬وتعميق شعورنا باالحتياج‬
‫الشديد للتربية اإليمانية ‪.‬‬
‫ولكي يتأكد لدينا هذا الشعور علينا أن نتعرف على المزيد من األمثلة العملية‬
‫لهذه الثمار وغيرها ‪ ،‬وذلك من خالل القراءة في الكتب التي تتحدث عن‬
‫المعاني اإليمانية ‪ ،‬وتربطها بالواقع العملي في جيل الصحابة ‪.‬‬
‫ولعل من أنسب الكتب التي تحدثت عن جيل الصحابة بهذه الطريقة كتاب ‪:‬‬
‫« حياة الصحابة » لمحمد يوسف الكاندهلوي رحمه هللا ‪.‬‬

‫‪ ) (63‬أخرجه ابن سعد ( ‪ ، )178 / 1 / 3‬وأبو نعيم في « الحلية » ( ‪ ، )140 / 1‬والطبري ( ‪ ، ) 182 / 14‬وأخرجه الحاكم ( ‪) 357 / 2‬‬
‫وصححه‪ ،‬ووافقه الذهبي ‪ ،‬والكاندهلوي في حياة الصحابة ( ‪.) 1/222‬‬
‫‪ ) ( 64‬أسد الغابة البن األثير (‪ ، ) 212 ، 3/11 ، 1/597‬معرفة الصحابة ألبي نعيم األصبهاني (‪ 352 / 11‬رقم ‪ ، )3608‬تاريخ دمشق ‪-‬‬
‫(‪.)359 / 27‬‬

‫‪35‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫مراحل النمو اإليماني‬


‫وأهداف التربية اإليمانية‬

‫‪36‬‬
‫يتم – بإذن هللا – الحديث في هذا الفصل عن مراحل النمو اإليماني ‪ ،‬وبعض‬
‫المظاهر العملية لهذه المراحل ‪ ،‬والهدف من هذا الحديث هو استشعار الخطر‬
‫تجاه ضعف اإليمان في قلوبنا – إال من رحم هللا ‪.‬‬
‫وتذ َّكر – أخي – أنه كلما ازداد الشعور بالخطر ‪ ،‬ازدادت الرغبة في التغيير‬
‫والترقي ‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬هذه الصفحات ال ُتقدم لنا حلواًل عملية – وإن كانت تلك الحلول ستأتي‬
‫بعد ذلك بعون هللا في الفصول القادمة – ولكنها قد تجعلنا نشعر بأن هناك‬
‫مشكلة في إيماننا تحتاج إلى عالج وإصالح ‪ ..‬هذا الشعور له تأثير إيجابي في‬
‫استقبال ما سيأتي بيانه من توجيهات وأعمال من شأنها أن تنهض بنا و ُتصلح‬
‫إيماننا بإذن هللا ‪.‬‬
‫لذلك أدعو نفسي وأدعوك – أخي القارئ – إلى قراءة هذا الفصل بعقولنا‬
‫ومشاعرنا وأن يقوم كل م ّنا بتقييم نفسه وحالته اإليمانية من خالل عرض‬
‫اهتماماته وسلوكه وواقعه على المراحل اإليمانية المذكورة في هذه الصفحات ‪،‬‬
‫فلعله بذلك يعرف أين هو من اإليمان ؟ وأين قلبه من هللا ؟‬

‫‪37‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫مراحل النمو اإليماني وأهداف التربية اإليمانية‬
‫نور القلب ‪:‬‬
‫كما أن للعين نور ُتبصر به وترى ما حولها ؛ فإذا ما غاب عنها عميت ‪ ،‬كذلك فإن للقلب‬
‫ان‬ ‫نور يُبصر به ‪ ،‬ويرى حقائق األمور فإذا ما غاب عنه ذلك النور عمِي وتاه وتخبط ﴿ َو َمنْ َك َ‬
‫ض ُّل َس ِبياًل ﴾ [اإلسراء ‪. ]72 :‬‬ ‫فِي َه ِذ ِه َأعْ َمى َفه َُو فِي اآْل خ َِر ِة َأعْ َمى َوَأ َ‬
‫ونور القلب هو أهم مظهر لحياته ‪ ،‬فبدونه يصير القلب مُظلما ‪ ،‬قاسيًا ضي ًقا موح ًشا ‪.‬‬
‫فإذا ما دخله بصيص من نور اإليمان تغيرت طبيعته ‪ ،‬وتحسنت حالته ‪ ،‬وظهرت بعض‬
‫اآلثار اإليجابية على صاحبه ‪.‬‬
‫وعندما يستمر النور في الدخول ‪ ،‬واإليمان في الزيادة والنمو ؛ يتنوَّ ر القلب أكثر وأكثر ‪،‬‬
‫وتتحسن صحته ‪ ،‬وينعكس ذلك باإليجاب على اهتمامات وسلوك صاحبه ‪.‬‬
‫أما إذا ما دخل نور اإليمان القلب ‪ -‬بإذن هللا – ثم لم يعمل صاحبه باستمرار على زيادته ؛‬
‫فسينقص حجمه ‪ ،‬وقد يضمحل ‪ ،‬وينزوي في القلب ‪ ،‬ومن َث َّم تزحف الظلمة إليه مرة ثانية لتكون‬
‫ت‬‫النتيجة ‪ :‬اختفاء الكثير من اآلثار اإليجابية والثمار الطيبة لإليمان ﴿ َف َطا َل َع َلي ِْه ُم اَأْل َم ُد َف َق َس ْ‬
‫قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [الحديد ‪. ]16 :‬‬
‫ويكفيك لتأكيد هذا المعنى قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إن اإليمان َي ْخ َلق في القلوب كما‬
‫يخلق الثوب فجددوا إيمانكم » (‪. )65‬‬
‫يقظة القلب هي البداية ‪:‬‬
‫كما أن للبدن مراحل نمو ‪ ،‬كل مرحلة لها سماتها ومظاهرها ‪ ،‬كذلك اإليمان في القلب ‪.‬‬
‫والمرحلة األولى للنمو اإليماني هي مرحلة « بداية اليقظة » ‪ ..‬يقظة القلب بنور اإليمان ‪،‬‬
‫حيث يمُنُّ هللا عز وجل على العبد بإدخال نور اإليمان إلى قلبه ‪ ،‬لتبدأ الحياة تدب في جنباته ‪،‬‬
‫وتبدأ معها مرحلة جديدة في مسيرة صاحبه ‪ ...‬وكيف ال ‪ ،‬والقلب – قبل يقظته – مظلم قد‬
‫سيطر عليه الهوى وتحكم في مشاعره ‪ ..‬يفرح بما تفرح به نفسه وهواها ‪ ،‬ويغضب لها ‪،‬‬
‫اس‬ ‫ويحزن على ما يفوتها أو يُضايقها ﴿ َأ َو َمنْ َك َ‬
‫ان َم ْي ًتا َفَأحْ َي ْي َناهُ َو َج َع ْل َنا َل ُه ُنورً ا َيمْ شِ ي ِب ِه فِي ال َّن ِ‬
‫ار ٍج ِم ْن َها ﴾ [األنعام ‪. ]122 :‬‬ ‫ت َلي َ‬ ‫َك َمنْ َم َثلُ ُه فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫ْس ِب َخ ِ‬
‫تبدأ اليقظة – في الغالب – ببصيص من النور يجعل القلب يفيق قلياًل من غفلته ويستيقظ‬
‫سباته ‪ ،‬ليبدأ معها العقل في التفكير في حقيقة الحياة والموت ‪ ،‬ويزداد شغفه للتعرف على‬ ‫من ُ‬
‫تفاصيل ما يحدث بعد الموت ‪ ،‬ومن المتوقع في هذه المرحلة ‪ ،‬سيطرة الشعور بالندم على‬
‫القلب كلما استرجع ذكريات الماضي ‪ ،‬واألخطاء التي وقع فيها في حق هللا ‪ ،‬وفي حق اآلخرين‬
‫‪ ،‬فيدفعه هذا الشعور إلى الحياء من هللا عز وجل والرجاء في عفوه ومغفرته وتوبته ‪ ،‬ويدفعه‬
‫كذلك إلى العمل على رد الحقوق التي استلبها من اآلخرين ‪.‬‬
‫وفي هذه المرحلة األولى من مراحل النمو اإليماني من المتوقع أن َيص ُغر حجم الدنيا – ولو‬
‫قليال‪ -‬في عين العبد ‪ ،‬وينعكس ذلك على تعامله مع مفرداتها ‪ ،‬فبعد أن كان يُسابق ويُنافس عليها‬
‫‪ ،‬ويُف ِّكر فيها ليل نهار ‪ ،‬وال يُبالي ‪ -‬في سبيل نيلها – بغيره ‪ ،‬وبالضرر الذي قد يُسببه لآلخرين‬
‫‪ ...‬تجد حرصه عليها يتناقص ‪ ،‬ليثمر ذلك تحسنا ملحوظا في المعامالت والعمل على ضبطها‬
‫بضوابط الشرع ‪ ،‬وإن بقي الكثير من حب الدنيا في القلب ‪.‬‬

‫‪ ) (65‬سبق تخريجه ‪ ،‬ويخلق بمعنى ‪ :‬يبلى ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ومن أهم المظاهر العملية لهذه المرحلة ‪ :‬االتجاه اإليجابي نحو أداء العبادات وفضائل‬
‫األعمال ‪ ،‬فتجد العبد حريصًا على أداء الصلوات المكتوبة في أول وقتها ‪ ،‬وإلحاقها بسننها‬
‫الراتبة ‪ ،‬وكذلك صيام رمضان وقيامه ‪ ،‬واإلكثار من صيام التطوع ‪ ،‬وتتملكه الرغبة في تعلم‬
‫أحكام تالوة القرآن ‪ ،‬وحفظ بعض سوره وأجزائه ‪ ،‬ويزداد حرصه على سماع دروس العلم ‪،‬‬
‫وااللتزام بما يمكن االلتزام به مما يُرضي هللا عز وجل من عبادات الجوارح ‪...‬‬
‫إياك واالغترار ببدايات اليقظة ‪:‬‬
‫وصل العديد – بفضل هللا – إلى مرحلة « بداية اليقظة » ‪ ،‬وكانوا منها على قسمين ‪:‬‬
‫القسم األول ‪ :‬قسم فرح بآثار اليقظة ‪ ،‬وبالتغيير المحدود الذي حدث له ‪ ،‬ففترت همته‬
‫وعزيمته للعمل على استكمال الترقي اإليماني ‪ ،‬واكتفى بما صار إليه ‪ ،‬ونسي أن اإليمان يزيد‬
‫وينقص ‪ ،‬وأن النفس له بالمرصاد ؛ مما يجعل اإليمان يتناقص في قلبه شيًئ ا فشيًئ ا ‪ ،‬فتعود –‬
‫بالتدريج – السيطرة للهوى مما يؤثر بالسلب على اهتماماته وسلوكياته ‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم ‪ ،‬في الغالب لن يعود لسابق عهده من الغفلة الشديدة والنوم العميق ‪ ،‬والسيطرة التامة‬
‫للهوى ‪ ،‬إال أن أحواله اإليجابية ستقل كثيرً ا عن المستوى الذي بدأ به مرحلة « بداية اليقظة » ‪،‬‬
‫فهو يُصلي لكنه ليس – كالسابق ‪ -‬حريصًا على الصالة في أول وقتها بالمسجد وبخاصة صالة‬
‫انضباطا صحيحً ا في معامالته المادية ‪ ...‬وهو ال‬ ‫ً‬ ‫الفجر ‪ ..‬وهو ال يسرق لكنه غير منضبط‬
‫صاًل من لوم اآلخرين أو تحقي ًقا لمصلحة ‪.‬‬ ‫يكذب ‪ ،‬لكنه قد ال يقول الحقيقة كاملة تن ُّ‬
‫تم ُّكن اليقظة ‪:‬‬
‫أما القسم الثاني ‪ :‬فهو قد قسم علِم أن ما َمنَّ هللا عليه من دخول نور اإليمان إلى قلبه ما هو‬
‫إال « بداية » رحلة سير القلب إلى هللا ‪ ،‬فشمَّر عن ساعد الجد ‪ ،‬واجتهد في تعاهد وإمداد القلب‬
‫باإليمان ‪.‬‬
‫هذا القِسم من المتوقع أن يُكرمه هللا عز وجل فينتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل النمو‬
‫واالرتقاء اإليماني ‪ ،‬وهي مرحلة ‪ « :‬تم ُّكن واستحكام اليقظة » ‪.‬‬
‫ومن مظاهر هذه المرحلة ‪:‬‬
‫● زيادة الحرص على فعل الخير أكثر وأكثر ‪.‬‬
‫● زيادة الورع ‪.‬‬
‫● انصراف الرغبة – بعض الشيء – عن الدنيا ‪ ،‬وعدم الفرح الشديد بإقبالها وزيادتها ‪،‬‬
‫أو الحزن العميق على فواتها و ُنقصانها ‪.‬‬
‫● ازدياد التفكير في الموت وإمكانية لقائه في أي وقت ‪ ،‬مما يدفعه إلى زيادة التشمير‬
‫والسباق نحو فعل الخير ‪.‬‬
‫ولقد أخبرنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بهذه العالمات ‪ ،‬فعن ابن مسعود رضي هللا عنه‬
‫قال ‪ :‬قلنا ‪ :‬يا رسول هللا ‪ ،‬قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬أ َف َمنْ َش َر َح هَّللا ُ َ‬
‫ص ْد َرهُ لِِإْل سْ اَل ِم َفه َُو َع َلى ُن ٍ‬
‫ور ِمنْ َر ِّب ِه ﴾‬
‫[الزمر ‪ . ]22 :‬كيف انشرح الصدر ؟ قال ‪ « :‬إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح » ‪ ،‬قلنا ‪ :‬يا‬
‫رسول هللا ‪ ،‬وما عالمة ذلك ؟ قال ‪ « :‬اإلنابة إلى دار الخلود ‪ ،‬والتجافي عن دار الغرور ‪،‬‬
‫واالستعداد للموت قبل نزوله » (‪. )66‬‬
‫استمرار النمو الحقيقي لإليمان ‪:‬‬

‫‪ ) (66‬أخرجه الحاكم (‪ ، 4/346‬رقم ‪ ، )7863‬والبيهقي في شعب اإليمان (‪ ، 7/352‬رقم ‪ ، )10552‬وضعفه الشيخ األلباني في السلسلة‬
‫الضعيفة ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫عندما تتمكن اليقظة من القلب ويستمر اإلمداد ‪ ،‬ومن َث َّم النمو واالرتقاء اإليماني ‪ ،‬فإن ذلك من شأنه‬
‫أن ينعكس على معامالت العبد في شتى المجاالت وبخاصة في تعامله مع ربه ‪ ،‬ومع الدنيا ‪ ،‬ومع المال‬
‫‪ ،‬ومع الناس ‪ ،‬ومع أحداث الحياة ‪...‬‬
‫هذا النمو من شأنه كذلك أن ينقل القلب من مرحلة إلى مرحلة في رحلة سيره إلى هللا حتى يصل إلى‬
‫أقرب ما يُمكن أن يصل إليه عبد في هذه الرحلة ‪ -‬بعد األنبياء ‪ -‬حيث الحضور القلبي الدائم مع هللا ‪ ،‬أو‬
‫بمعنى آخر ‪ :‬القلب السليم األبيض الذي ال تضُرُّ ه فتنة ما دامت السماوات واألرض كما جاء في الحديث‬
‫‪ « :‬تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عو ًدا عو ًدا ‪ ،‬فأي قلب ُأشربها ُنكِتت فيه نكتة سوداء ‪،‬‬
‫ي قلب أنكرها ُنكِتت فيه ُنكته بيضاء ‪ ..‬حتى تصير القلوب على قلبين ‪ :‬قلب أبيض مثل الصفا ال‬ ‫وأ ُ‬
‫تضره فتنة ما دامت السموات واألرض ‪ ،‬ويصير اآلخر مربا ًدا كالكوز مجخيًا ال يعرف معرو ًفا وال‬
‫شرب من هواه » (‪.)67‬‬ ‫ُأ‬
‫ينكر منكرً ا إال ما ِ‬
‫وفي أثناء رحلة القلب إلى هللا يحدث له حدث هام وفارق ومحوريّ أال وهو « الوالدة الثانية‬
‫»‪.‬‬
‫وإليك ‪ -‬أخي القارئ – بعضًا من التفصيل حول هذه النقاط التي تتناول انعكاسات النمو‬
‫اإليماني على الكثير من العالئق والمعامالت ‪.‬‬
‫التعامل مع الدنيا مقياس النمو الحقيقي لإليمان ‪:‬‬
‫عندما يكون اإليمان مخدرً ا نائمًا منزويًا في القلب تجد صاحبه غافاًل ‪ ،‬ال يستطيع أن يرى‬
‫الدنيا على حقيقتها ‪ ،‬بل يراها جميلة مبهرة تذهب باألبصار ‪ ،‬فيشتد حرصه عليها ‪ ،‬ويزداد فكره‬
‫فيها وفي كيفية تحصيلها ‪..‬‬
‫فإن كان هذا الشخص طالبًا في المدرسة أو الجامعة تجده كثير الفكر في مستقبله ‪ ،‬وكيف‬
‫سيُدبِّر أمر زواجه ‪ ،‬وعمله ‪ ،‬إلخ ‪.‬‬
‫وإن كان فقيرً ا تجده يحلم بالغنى ‪ ،‬وينظر نظرة الطامع إلى دنيا غيره ‪ ..‬يمُد عينيه إليها‬
‫ويتم َّناها لنفسه ‪...‬‬
‫وإن كان ثر ًّيا تجده دائم الفكر في كيفية إنماء أمواله ‪ ،‬ومسابقة أقرانه ‪ ،‬واغتنام كل فرصة تلوح‬
‫أمامه من شأنها أن ُتزيده ثراء ‪.‬‬
‫حالهم جميعًا كحال األطفال وهم يلهون بال ُدمى ‪ ..‬يفرحون إذا ما حصلوا على ُدمية جديدة ‪،‬‬
‫ويقضون معها الساعات الطوال ‪ ،‬ويحزنون عليها إذا ما انكسرت وتعطلت ‪ ،‬ويحلمون بشراء المزيد‬
‫والمزيد منها ‪ .‬فإذا جلس إليهم من يك ُبرُهم قلياًل في العمر وتجاوز مرحلة الطفولة ‪ ،‬تجده غير مبال بهم‬
‫وبألعابهم واهتماماتهم ‪.‬‬
‫كذلك حال الناس مع الدنيا ‪ ،‬فهم يلهون بطينها ويتنافسون عليها ‪ ،‬ويفرحون بتحصيل أي شيء منها‬
‫‪ ،‬ويظ ُّنون أن هذا هو غاية السعادة ‪ ،‬فإذا ما استيقظ اإليمان في قلوب بعضهم ‪ ،‬واستحكمت اليقظة‬
‫منها ‪ ،‬فإنهم – وبصورة تلقائية – ال يجدون في أنفسهم رغبة في مشاركة من حولهم اللهو بهذا‬
‫الطين ‪ ،‬وتنصرف رغبتهم ‪ -‬شيًئ ا فشيًئ ا – عنها ‪ ..‬هذا التحول ليس بأيديهم ‪ ،‬بل هو انعكاس لطبيعة‬
‫مرحلة « النمو اإليماني » الذي ارتقوا إليه ‪ ،‬كحال من انتقل إلى مرحلة البلوغ من األطفال عندما‬
‫يأتيه أبوه بالدُمية التي طالما تاقت نفسه إليها في الصِ َغر ‪ ،‬فإذا به يتعامل معها بدون لهفة وال شغف ‪،‬‬
‫سرعان ما يتركها وال ُيبالي بها ‪.‬‬ ‫و ُ‬
‫وليس معنى انصراف الرغبة عن الدنيا هو هجرها وتركها وعدم التعامل مع مفرداتها ‪ ،‬بل إن الفرد‬
‫ُسخرة له لتساعده في إنجاح مهمة‬‫في هذه المرحلة يتعامل معها على أنها مزرعة لآلخرة ‪ ،‬وأنها م َّ‬
‫وجوده عليها ‪ ،‬وال بأس من التمتع بها بالقدر الذي ال يُنسيه تلك المهمة ‪.‬‬

‫‪ ) (67‬أخرجه مسلم ( ‪ )1/89‬رقم ( ‪ ، )386‬واألسود المُرباد ‪ :‬شدة البياض في سواد ‪ ،‬ومُجخيًا ‪ :‬أي منكوسًا ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫أو بمعنى آخر ‪ :‬تخرج الرغبة في الدنيا ‪ ،‬والشغف بها ‪ ،‬والحرص واللهفة عليها من قلبه ‪،‬‬
‫فيتعامل معها بعقله قبل مشاعره ‪ ،‬وبما يُحقق له مصلحته الحقيقية في الدارين ‪ ،‬ويم ِّكنه من نفع‬
‫نفسه وأمته فيكون ممن يترك فيها أثرً ا صالحً ا ‪ ،‬وبذلك ُتصبح الدنيا في يده ‪ ،‬يتحكم فيها وال‬
‫تتحكم فيه ‪.‬‬
‫النمو اإليماني والتعامل مع المال ‪:‬‬
‫المال هو أهم رمز « للدنيا » ‪ ،‬والكثير من الناس يظ ُّنون أنهم يستطيعون من خالل وجوده‬
‫معهم أن يُحققوا جميع أمانيهم ويجلبوا ألنفسهم السعادة ‪ ،‬ويتمتعوا بمباهج الحياة كيفما شاءوا ‪،‬‬
‫لذلك يُش ِّكل المال المادة األساسية للطمع والتنافس والحسد بين الناس ‪.‬‬
‫شحِّ ها به ؛ فإن من‬ ‫وألن الشيطان يعلم ذلك ‪ ،‬ويعلم طبيعة النفس وحبها الشديد للمال ‪ ،‬و ُ‬
‫مداخله الرئيسية على الناس ‪ :‬إزكاء هذه الطبيعة فيهم ‪ ،‬وتخويفهم من المستقبل المجهول ‪ ،‬ومن‬
‫ْطانُ َي ِع ُد ُك ُم ْال َف ْق َر َو َيْأ ُم ُر ُك ْم ِب ْال َفحْ َشا ِء ﴾ [البقرة ‪. ]268 :‬‬
‫احتمالية حدوث الفقر ‪ ﴿ ...‬ال َّشي َ‬
‫فإذا ما استيقظ اإليمان – يقظة حقيقية متمكنة من القلب – كان من أهم عالمات التغيير الذي‬
‫يحدث للمرء ‪ :‬اختالف طريقة تعامله مع المال ‪.‬‬
‫ُّون ْال َما َل‬
‫‪ ..‬نعم ‪ ،‬في البداية ال يكون التغيير كبيرً ا ‪ ،‬فالمال من أحب األشياء للنفس ﴿ َو ُت ِحب َ‬
‫ُح ًّبا َج ًّما ﴾ [الفجر ‪. ]20 :‬‬
‫إال أن النهم والشغف بالمال ستقِل ثائرته ‪ -‬نسب ًّيا ‪ -‬في ذات العبد ‪ ،‬وكلَّما ن َما اإليمان أكثر‬
‫انعكس ذلك على طريقة تعامله معه ‪ ،‬فيزداد إنفاقه في أوجه الخير المختلفة ‪ ،‬ويسهل عليه اتخاذ‬
‫قرار اإلنفاق السيما في أوقات العُسر واالحتياج ﴿ الَّذ َ‬
‫ِين ُي ْن ِفقُ َ‬
‫ون فِي السَّرَّ ا ِء َوالضَّرَّ ا ِء ﴾ [آل عمران ‪:‬‬
‫‪. ]134‬‬
‫وشيًئ ا فشيًئ ا ينقطع تعلق القلب بالمال ‪ ،‬ومن َث َّم يصير ح ًُّرا منه ‪ ،‬ال عبد له ‪.‬‬
‫ومن مظاهر التغيير في هذا الجانب ‪ :‬نقص ملحوظ يشعر به المرء في فرحه عندما ُيفاجأ‬
‫بزيادة رصيده من المال ‪ ،‬أو عند الفوز بصفقة رابحة ‪ ،‬وكذلك نقص ملحوظ في حزنه عند‬
‫فقده جزء من ماله ‪ ،‬أو عند ضياع مصلحة دنيوية كانت في متناول يده ‪ ،‬وليس معنى هذا أن‬
‫مشاعر الفرح والحزن ال تتحرك لديه عند إقبال المال أو إدباره ولكنه انفعال لحظي سرعان ما‬
‫يزول ‪.‬‬
‫ومن المظاهر العملية للتغيير في هذا الجانب ‪ :‬السماحة في البيع والشراء ‪ ،‬فتجده ال يُدقق‬
‫في سعر الشيء ليشتريه بأرخص األسعار ‪ ،‬أو يُغالي فيه ليبيعه بأعالها ‪.‬‬
‫وكلما نما اإليمان أكثر وأكثر صار اإلنفاق أحب إليه من اإلمساك ‪ ،‬وهو حين يفعل ذلك يفعله‬
‫بدافع الثقة العميقة بأن اآلخرة هي خير وأبقى ‪ ،‬وأن الحياة في الجنة هي الحياة الحقيقية الدائمة‬
‫التي ينبغي أن يتجهز لها العبد فيؤدي ذلك اإليمان إلى تحيُّن أي فرصة إلرسال ما يُمكن إرساله‬
‫من أموال وخالفه إلى داره الباقية « هناك » ‪ ،‬ويجد صعوبة في إبقاء الشيء لداره الدنيوية التي‬
‫يشعر أنه سيتركها بين لحظة وأخرى ‪.‬‬
‫ولك أن تتأكد من هذا المعنى أكثر وأكثر إذا ما راجعت سيرة الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫وكيف أنه مات ودرعه مرهو ًنا عند يهودي مع أنه صلى هللا عليه وسلم قد جاءته أموال كثيرة من‬
‫الغنائم كغنائم خيبر والطائف ‪ ،‬لكنه كان يُنفقها إنفاق من ال يخشى الفقر ‪ ،‬فكما يقول أنس بن‬
‫مالك رضي هللا عنه ‪ :‬ما سُئل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على اإلسالم شيًئ ا إال أعطاه ‪ ،‬ولقد‬
‫جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين ‪ ،‬فرجع إلى قومه فقال ‪ :‬يا قوم أسلموا ‪ ،‬فإن محم ًدا يعطي‬
‫عطاء من ال يخشى الفقر (‪. )68‬‬

‫‪ ) (68‬أخرجه مسلم في الفضائل (‪. )2312‬‬


‫‪41‬‬
‫وعن عائشة أنهم ذبحوا شاة ‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬ما بقي منها ؟ » قالت ‪ :‬ما‬
‫بقي منها إال كتفها ‪ .‬قال ‪ « :‬بقي كلها إال كتفها » (‪. )69‬‬
‫ولقد مرَّ علينا قول أبي الدرداء عندما عوتب في عدم وجود أغطية في بيته تقيه وتقي ضيوفه‬
‫من برد الشتاء حيث قال ‪ :‬لنا دار هناك ُنرسل إليها تباعا كل ما نحصل عليها من متاع ‪ ،‬ولو ُك َّنا‬
‫استبقينا في هذه الدار شيئا منها لبعثنا بها إليكم ‪.‬‬
‫وليس معنى هذا هو حب الفقر والرغبة فيه ‪ ،‬فلقد استعاذ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منه‬
‫« وأعوذ بك من الكفر والفقر » (‪ . )70‬ولكننا – هنا ‪ -‬نتكلم عن حالة إيمانية سامقة يعيشها القلب‬
‫تدفعه إلى الضن بالمال على الدنيا ‪ ،‬واالكتفاء بأقل القليل لتيسير أموره فيها ‪ ،‬وإرسال كل ما‬
‫يُمكن إرساله إلى الدار الباقية ‪.‬‬
‫ولقد كان هناك أثرياء في الصحابة رضوان هللا عليهم نتيجة عملهم في التجارة كعثمان بن‬
‫عفان ‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف ‪ ،‬ولكنهم كانوا يُحبون إنفاق أموالهم أكثر من حبهم إلمساكها ‪،‬‬
‫بل كانوا يتحينون أي فرصة تتاح لهم لبذل تلك األموال كما فعل عثمان بن عفان رضي هللا عنه‬
‫في تجهيز جيش العسرة ‪ ،‬وشراء بئر رومة ‪ ،‬وكما فعل عبد الرحمن بن عوف ‪ -‬كما مرَّ علينا –‬
‫عندما أخرج كل تجارته التي جاءت من الشام هلل عز وجل بعدما بلغه قول السيدة عائشة ‪ :‬بارك‬
‫هللا فيما أعطاه في الدنيا ‪ ،‬ولثواب اآلخرة أعظم ‪.‬‬
‫النمو اإليماني والتعلق بالبشر ‪:‬‬
‫في أوقات الغفلة وقبل حدوث اليقظة اإليمانية ‪ ،‬تكون ثقة المرء في ربه ‪ ،‬وفي أنه مالك‬
‫الكون ومدبر أموره والقائم عليه ؛ محدودة ‪ ،‬وفي المقابل تكون ثقته في الناس وفي قدراتهم‬
‫الظاهرة أمامه كبيرة ‪ ،‬ومن َث َّم يزداد إيمانه في إمكانية نفعهم أو ضرهم له ‪ ،‬فيسعى لنيل رضاهم‬
‫واالستفادة منهم ‪ ،‬لذلك تجده يتزين لهم بأقواله وأفعاله ‪ ..‬يفرح بمدحهم ‪ ،‬ويحزن من نقدهم ‪..‬‬
‫يسعى دوما لتحسين صورته أمامهم لعله ينال حظوتهم ‪.‬‬
‫نموا في القلب ازدادت تب ًعا له الثقة في هللا عز وجل ‪،‬‬ ‫فإذا ما حدثت اليقظة وازداد اإليمان ًّ‬
‫ومن َث َّم تحولت هذه المشاعر تدريج ًّيا نحوه سبحانه ‪ ،‬وانصرفت عن الناس ‪ ،‬فيقل االهتمام‬
‫بهم والتفكير فيهم ‪ ،‬والحرص على نيل رضاهم ‪.‬‬
‫وكلما نما اإليمان أكثر نقص التعلق بالناس ‪ ،‬والطمع فيهم حتى يصل المرء لدرجة االستغناء‬
‫القلبي عنهم ‪ ،‬أو بمعنى آخر ‪ :‬ينقطع تعلق القلب بهم من حيث النفع والضر ‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم هو قد يطلب مساعدتهم في بعض األعمال ‪ ،‬لكنه يتعامل معهم باعتبار أنهم من جملة‬
‫األسباب التي قد يأخذ بها ‪ ،‬أما الذي يُحرك األحداث ويُنشئ النتائج فهو هللا عز وجل ‪ ،‬وما البشر‬
‫إال ستار إلظهار قدرته وربوبيته ‪.‬‬
‫وكذلك فهو قد يأخذ منهم ما يُعطونه إياه بطيب نفس ‪ ،‬ولكن يأخذه بمشاعر من يأخذ من هللا‬
‫عن طريقهم ‪ ،‬وأنهم مجرد أدوات لتوصيل رزق ربه – سبحانه – إليه ‪.‬‬
‫‪ ..‬وهكذا تظهر بالتدريج ثمار االستغناء عن الناس تبعًا لنمو اإليمان الحقيقي في القلب ‪.‬‬
‫النمو اإليماني والتعامل مع أحداث الحياة ‪:‬‬
‫الحياة الدنيوية ما هي إال مشهد عظيم تتجلى فيه مظاهر صفات هللا عز وجل ﴿ َأ َو َل ْم َي ْكفِ‬
‫ِّك َأ َّن ُه َع َلى ُك ِّل َشيْ ٍء َش ِهي ٌد ﴾ [فصلت ‪. ]53 :‬‬
‫ِب َرب َ‬

‫‪ ) ( 69‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، )6/50‬والترمذي (‪ ، 4/644‬رقم ‪ )2470‬وقال ‪ :‬صحيح ‪ ،‬وصححه الشيخ األلباني في السلسلة‬
‫الصحيحة برقم ( ‪. )2544‬‬
‫‪ ) ( 70‬أخرجه ابن أبى شيبة (‪ ، 6/24‬رقم ‪ ، )29184‬وأبو داود (‪ ، 4/324‬رقم ‪ ، )5090‬وأحمد (‪ ، 5/42‬رقم ‪ ، )20446‬وقال الشيخ‬
‫األلباني صحيح اإلسناد ‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫والهدف العظيم من وجود المخلوقات بهذه الكثرة على اختالف أشكالها وألوانها وأوصافها هو‬
‫ار َو ْالفُ ْلكِ الَّتِي َتجْ ِري فِي‬ ‫اخ ِتاَل فِ اللَّي ِْل َوال َّن َه ِ‬‫ض َو ْ‬ ‫ت َواَأْلرْ ِ‬ ‫الداللة على هللا ﴿ ِإنَّ فِي َخ ْل ِق ال َّس َم َاوا ِ‬
‫ث فِي َها ِمنْ‬ ‫ض َبعْ دَ َم ْو ِت َها َو َب َّ‬ ‫اس َو َما َأ ْن َز َل هَّللا ُ م َِن ال َّس َما ِء ِمنْ َما ٍء َفَأحْ َيا ِب ِه اَأْلرْ َ‬ ‫ْال َبحْ ِر ِب َما َي ْن َف ُع ال َّن َ‬
‫ون ﴾ [البقرة ‪:‬‬ ‫ت لِ َق ْو ٍم َيعْ ِقلُ َ‬‫ض آَل َيا ٍ‬ ‫ب ْالم َُس َّخ ِر َبي َْن ال َّس َما ِء َواَأْلرْ ِ‬ ‫اح َوالس ََّحا ِ‬ ‫ُك ِّل دَ ا َّب ٍة َو َتصْ ِريفِ الرِّ َي ِ‬
‫‪.]164‬‬
‫والهدف كذلك من تقلبات أحداث الحياة من سرَّ اء وضرَّ اء ‪ ،‬وعطاء ومنع ‪ ،‬وصحة ومرض‬
‫‪ ،‬إلخ ؛ هو إظهار قدرته سبحانه وقيُّوميته ‪ ،‬وعزته ‪ ،‬ورحمته ‪ ،‬وحكمته ‪ ...‬وسائر صفاته ‪.‬‬
‫واإلنسان هو المخاطب بهذا كله ‪ ،‬وعليه أن يتعرف على ربه من خالل هذه المشاهد‬
‫ُون ﴾ [األنعام‬ ‫ت َل َعلَّ ُه ْم َي ْف َقه َ‬‫صرِّ فُ اآْل َيا ِ‬ ‫ْف ُن َ‬ ‫ظرْ َكي َ‬ ‫واألحداث التي تحدث أمامه ‪ ،‬ويُشاهدها دومًا ﴿ ا ْن ُ‬
‫‪. ]65 :‬‬
‫لكن ظلمات الهوى واالنكفاء نحو طين األرض قد تحُول بينه وبين الرؤية الصحيحة والتحليل‬
‫ون َع َل ْي َها َو ُه ْم َع ْن َها‬‫ض َيمُرُّ َ‬ ‫ت َواَأْلرْ ِ‬ ‫الحقيقي لهذه المشاهد واألحداث ﴿ َو َكَأيِّنْ ِمنْ آ َي ٍة فِي ال َّس َم َاوا ِ‬
‫ُون ﴾ [يوسف ‪. ]105 :‬‬ ‫مُعْ ِرض َ‬
‫فإذا ما استيقظ اإليمان ؛ فإنه في البداية يكون بمثابة بصيص من النور يظهر في القلب يجعله‬
‫ينتبه ‪ -‬بعض الشيء – لِما يجري حوله ‪ ،‬وبخاصة في اآليات الكبيرة التي يرسلها هللا عز وجل ‪.‬‬
‫فإذا ما نما اإليمان أكثر ‪ ،‬قوي نور البصيرة أكثر لتزداد الرؤية العامة وضوحً ا ‪ ،‬ويزداد‬
‫ربط األحداث والمشاهد باهلل عز وجل ‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم ‪ ،‬من المتوقع أال تكون هذه الرؤية حاضرة في كل األوقات ‪ ،‬بل ستكون نسبتها‬
‫محدودة ‪ ،‬ولكنها ستزداد مساحتها – بإذن هللا – بمرور الوقت وازدياد النمو اإليماني ‪،‬‬
‫لتسيطر على فكر العبد ومشاعره ‪ ،‬فتجعله يعيش بكيانه في حقيقة التوحيد ‪ ،‬ف َي ْع ُبر من‬
‫المشاهدة إلى شهود صفات هللا عز وجل وهي تعمل ‪ ،‬فيربط كل ما يحدث أمامه وكل ما يشاهده‬
‫ُون ﴾ [الواقعة ‪، 63 :‬‬ ‫ارع َ‬ ‫ون (‪َ )63‬أَأ ْن ُت ْم َت ْز َرعُو َن ُه َأ ْم َنحْ نُ َّ‬
‫الز ِ‬ ‫باهلل عز وجل ﴿ َأ َف َرَأ ْي ُت ْم َما َتحْ ر ُُث َ‬
‫‪. ]64‬‬
‫ْت َو َلكِنَّ هَّللا َ َر َمى ﴾ [األنفال ‪. ]17 :‬‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫﴿ َف َل ْم َت ْق ُتلُو ُه ْم َو َلكِنَّ هَّللا َ َق َت َل ُه ْم َو َما َر َمي َ‬
‫وكان صلى هللا عليه وسلم يعيش بكيانه كله في هذه الحقيقة ‪ ..‬انظر إليه وهو يقول ألصحابه‬
‫‪ « :‬إن الشمس والقمر ال ينكسفان لموت أحد وال لحياته ‪ ،‬ولكنهما آيتان من آيات هللا ‪ ،‬يخوِّ ف‬
‫بهما عباده ‪ ،‬فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم » (‪. )71‬‬
‫وكان يقول ‪ « :‬إنما أنا مبلغ وهللا يهدي ‪ ،‬وإنما أنا قاسم ‪ ،‬وهللا يُعطي » (‪. )72‬‬
‫وعندما مات ابن لزينب ابنته قال ‪ « :‬قولوا لها ‪ :‬هلل ما أخذ وهلل ما أعطى ‪. )73( » ...‬‬
‫ولقد كان الصحابة كذلك يعيشون في ظالل هذه الحقيقة ‪ ،‬فهذا عبد هللا بن عتيك بعد أن قتل‬
‫أبا رافع اليهودي في حصن خيبر يعود مسرعًا إلى أصحابه يُبشرهم بقتله ويستحثهم على سرعة‬
‫مغادرة المكان ‪ ،‬ومع هذا الوضع المتوتر إال أنه لم ينس تلك الحقيقة فقال لهم ‪ :‬النجاء ‪ ،‬فقد قتل‬
‫هللا أبا رافع (‪. )74‬‬
‫وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يقُصّ على من حوله قصة إسالمه فيقول ‪ :‬وأبى هللا إال أن‬
‫يُسمعني بعض قوله (‪..)75‬‬

‫‪) (71‬متفق عليه ‪ :‬أخرجه البخاري (‪ ، 353 / 1‬برقم ‪ ، ) 993‬ومسلم (‪ ، 35 / 3‬برقم ‪. )2153‬‬
‫‪ ) ( 72‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ،133 / 28‬برقم ‪ ، )16936‬و الطبراني في المعجم الكبير (‪ ، 19/389‬رقم ‪ ، )914‬وصححه الشيخ‬
‫األلباني في السلسلة الصحيحة برقم (‪. )1628‬‬
‫‪ ) (73‬جزء من حديث أخرجه البخاري (‪ ، 2435 / 6‬برقم ‪. )6228‬‬
‫‪ ) (74‬جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ج ‪ /4‬ص ‪ 1484‬حديث رقم‪ ، 3813 :‬انظر السيرة النبوية لعلي الصاَّل بي ‪. 2/418‬‬
‫‪ ) (75‬معرفة الصحابة ألبي نعيم األصبهاني‪ ،175 / 11( -‬برقم ‪ ، )3500‬السيرة النبوية البن هشام (‪. )226 / 2‬‬
‫‪43‬‬
‫وهذا سعد بن أبي وقاص يُرسل رسالة إلى عمر بن الخطاب يُبشره فيها بنصر القادسية‬
‫فيقول فيها ‪ :‬ولقد استشهد « هللا » فال ًنا وفال ًنا (‪. )76‬‬
‫مع المنع والعطاء ‪:‬‬
‫ومع انعكاس النمو اإليماني على وضوح الرؤية آليات هللا المختلفة ‪ ،‬فإنه أيضًا ينعكس على‬
‫طريقة استقبال العبد لها ‪ ،‬وتعامله معها ‪ ،‬فتجده يربط النعم التي َت ِرد عليه باهلل المنعم ‪ ،‬ويفرح‬
‫بفضله – سبحانه – ويستكثر على نفسه هذا الفضل ‪ ،‬ومن َث َّم تهيج مشاعر االمتنان هلل عز وجل‬
‫في قلبه ليعيش حالة القلب الشاكر ‪.‬‬
‫‪ ..‬وفي أوقات المحن والباليا تجده – وإن تضايق قلياًل في البداية – إاَّل أنه سرعان ما يعود‬
‫سخط ‪ ،‬بل ومن المتوقع ‪ -‬مع استمرار النمو اإليماني –‬ ‫به إيمانه إلى الصبر وعدم الجزع أو ال َت ُّ‬
‫أن يعيش المرء في حالة الرضا عن هللا ‪ ،‬فيسكن قلبه مهما تقلَّبت به األحداث ‪.‬‬
‫وباستمرار النمو اإليماني يزداد فهم العبد ألحداث الحياة وتقلباتها وبخاصة المؤلمة منها‬
‫ب هَّللا ُ َل َنا ﴾ [التوبة ‪]51 :‬‬
‫لتتحول كلها في نظره إلى عطاء من هللا عز وجل ﴿ قُ ْل َلنْ يُصِ ي َب َنا ِإاَّل َما َك َت َ‬
‫‪.‬‬
‫ومما يلزم التنويه إليه أنه مهما ارتقى اإليمان في قلب العبد إال أن بشريته – وما فيها من‬
‫ضعف – لن ُتفارقه ‪ ،‬لذلك فمن المتوقع أن َت ِز ّل األقدام في بعض األمور القليلة والنادرة ‪ ،‬لكن‬
‫داعي اإليمان سُرعان ما يدفع صاحبه للعودة السريعة والتوبة النصوح ‪ ،‬واستئناف السير إلى هللا‬
‫ُون ﴾ [األعراف ‪. ]201 :‬‬ ‫ان َت َذ َّكرُوا َفِإ َذا ُه ْم ُم ْبصِ ر َ‬‫ْط ِ‬‫ِين ا َّت َق ْوا ِإ َذا َم َّس ُه ْم َطاِئفٌ م َِن ال َّشي َ‬
‫﴿ ِإنَّ الَّذ َ‬

‫النمو اإليماني والحالة القلبية ‪:‬‬


‫كلما نما اإليمان وازداد نوره في القلب كلما أحس المرء بانشراح في صدره ‪ ،‬وتضاءلت‬
‫أوقات شعوره بالضيق ‪ ،‬فإذا ما استمر النور في دخول القلب ازدادت مساحة الحياة فيه ‪ ،‬وشيًئ ا‬
‫فشيًئ ا ُتصبح مساحة الحياة في القلب أكبر وأكثر اتساعًا من غيرها ‪ ،‬فيحدث حدث هام ومادي‬
‫يشعر به المرء في لحظة سعيدة من لحظات عمره ‪ ،‬أال وهو شعوره بتحرك قلبه في صدره‬
‫حركة سريعة ومضطربة ‪ ،‬وهذا ما يُسمى بوالدة القلب الحي ‪ ،‬أو « الوالدة الثانية » ‪ ،‬والتي‬
‫يصفها أحد السلف بقوله ‪ :‬كنت ساج ًدا في صالة فجر يوم من األيام ‪ ،‬وقُمت من السجود لكني‬
‫شعُرت بأن قلبي لم يقُم من سجدته ‪ ..‬أي ‪ :‬حدث له خشوع وهبوط وشدة انجذاب إلى األسفل ‪،‬‬
‫وعندما قام البدن من السجود ظل َّ القلب كما هو ‪ ،‬ثم يعود بعد ذلك إلى حالته الطبيعية إلى أن‬
‫تأتي لحظات أخرى في الصالة أو الذكر أو الدعاء أو التفكر ‪ ،‬يتكرر فيها هذا األمر بصورة ال‬
‫إرادية ‪.‬‬
‫وتفسير هذا األمر أن القلب قبل ذلك يكون متعل ًقا بأشياء َتحول بينه وبين العبودية الح َّقة هلل‬
‫عز وجل ‪ ،‬كالتعلق بالمال ‪ ،‬أو الناس أو المنصب ‪ ،‬أو العقار ‪ ..‬هذه األشياء تكون بمثابة‬
‫السجن الذي يعيش فيه العبد ‪ ،‬والوثاق الذي ُيق ِّيده ‪ ،‬فإذا ما نما اإليمان في قلبه ض ُعفت تلك‬
‫العالئق واألغالل ‪ ،‬حتى تأتي اللحظة السعيدة عندما تنقطع وتنفصل عن القلب ‪ ،‬فيصير ُح ًّرا‬
‫منها ‪ُ ،‬متعل ًقا بربه ‪ ،‬لذلك تجده يخشع ويهبط ويضطرب عند ذكر هللا ‪ ،‬ودعائه ‪ ،‬والتضرع إليه‬
‫‪...‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول ابن القيم ‪ :‬فللروح في هذا العالم نشأتان ‪ ،‬إحداهما ‪ :‬النشأة الطبيعية‬
‫المشتركة ‪ ،‬والثانية ‪ :‬نشأة قلبية روحانية ‪ ،‬يُولد بها قلبه ‪ ،‬وينفصل عن مشيمة طبعه ‪ ،‬كما وُ لد‬
‫بدنه وانفصل عن مشيمة البطن ‪.‬‬

‫‪ ) (76‬البداية والنهاية البن كثير‬


‫‪44‬‬
‫وفي كتاب « الزهد » لإلمام أحمد أن المسيح عليه السالم قال للحواريين ‪ :‬إنكم لن تلِجوا‬
‫ملكوت السماوات واألرض حتى ُتولدوا مرتين ‪.‬‬
‫ويستطرد ابن القيم قائاًل ‪ :‬سمعت شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ -‬رحمه هللا – يقول ‪ :‬هي والدة‬
‫األرواح والقلوب من األبدان ‪ ،‬وخروجها من عالم الطبيعة ‪ ،‬كما وُ لدت األبدان من البدن ‪،‬‬
‫وخرجت منه (‪. )77‬‬
‫وعندما تحدث – بإذن هللا وفضله ‪ -‬تلك الوالدة للقلب ‪ ،‬فإنه ينتقل إلى مرحلة جديدة من‬
‫مراحل حياته ‪ ،‬وتظهر آثارها بوضوح في تفاعله مع األحداث فيصبح قلبًا رقي ًقا سريع التأثر‬
‫ه ْم ﴾ [األنفال ‪]2 :‬‬ ‫ِين ِإ َذا ُذك َِر هَّللا ُ َو ِج َل ْ‬
‫ت قُلُو ُب ُ‬ ‫بالمواعظ ‪ ،‬سريع الوجل واالضطراب عند ذكر هللا ﴿ الَّذ َ‬
‫‪ ..‬سريع الحضور واالستدعاء في الدعاء والذكر والفكر والصالة وبخاصة عند تكبيرة اإلحرام ‪.‬‬
‫يشعر صاحبه بهبوطه وخشوعه كحالة من حاالت التأثر والتجاوب مع قراءة القرآن أو‬
‫الدعاء أو الذكر أو المناجاة ﴿ َو َيخِرُّ َ َأْل‬
‫شوعًا ﴾ [اإلسراء ‪ . ]109 :‬وتزداد‬ ‫ان َي ْب ُك َ‬
‫ون َو َي ِزي ُد ُه ْم ُخ ُ‬ ‫ون لِ ْذ َق ِ‬
‫سرعة وقوة هذا التفاعل كلما زاد نور اإليمان فيه ‪.‬‬
‫النمو اإليماني والعالقة مع هللا عز وجل ‪:‬‬
‫لكل واحد م َّنا عالقات مع اآلخرين ‪ ..‬هذه العالقات تتفاوت ما بين القوَّ ة والضعف ‪ ،‬فهناك‬
‫من يحتل المرتبة األولى ‪ ،‬وهناك من يحتل المرتبة العاشرة ‪ ،‬وهناك من يحتل المرتبة الخمسين‬
‫‪ ،‬مع األخذ في االعتبار أن هذه المراتب ال يتم ترتيبها بقرارات من الشخص ‪ ،‬بل هي نتيجة‬
‫ممارسات ‪ ،‬ورصيد ‪ ،‬وثقة ‪ ،‬ومشاعر ‪.‬‬
‫ولكل مرتبة مظاهر تميزها عن غيرها ‪ ،‬فصاحب المرتبة األولى له مكانة خاصة عند المرء‬
‫تجعله يُسِ رُّ له بأسراره ‪ ،‬ويستشيره في خصوصياته ‪ ...‬يفرح بقربه ‪ ،‬ويشتاق إلى رؤيته ‪،‬‬
‫و َي َتحيَّن أي فرصة للقائه ‪ ،‬ويسعد بصحبته ‪ ،‬وال يمل من هذه الصحبة مهما طالت المدة ‪.‬‬
‫أما صاحب المرتبة الخامسة – مثاًل – فاألمر يختلف ‪ ..‬نعم ‪ ،‬هو يفرح برؤيته ويسعد‬
‫بصحبته ‪ ،‬ولكن ليس كاألول ‪.‬‬
‫أما صاحب المرتبة العاشرة فالعالقة أقل بكثير ممن سبقه ‪.‬‬
‫فإذا ما سأل الواحد م َّنا نفسه عن عالقته بر ِّبه ‪ ،‬وأي مرتبة تحتل ؟‬
‫فإننا س ُنفاجأ بأنها ليست في المراتب األولى ‪ ،‬وذلك من خالل رصد مظاهر هذه العالقة ‪..‬‬
‫فال شوق إلى لقائه ‪ ،‬وال ُأنس بمناجاته ‪ ،‬وال سعادة في قربه ‪ ،‬وال فرح بالخلوة به ‪ ،‬وال تن ُّعم‬
‫بذكره ‪ ،‬وكل هذا بسبب ضعف اإليمان ‪ ،‬وضعف الثقة به سبحانه ‪.‬‬
‫‪ ..‬فإذا ما حدثت اليقظة اإليمانية الحقيقية ‪ ،‬ونما اإليمان في القلب ‪ ،‬فإن هذه العالقة تتحسن‬
‫تدريج ًّيا ‪ ،‬وتنتقل من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها ‪ ،‬وتستمر في الصعود كلما زاد اإليمان حتى‬
‫تحتل المرتبة األولى ‪ ،‬حيث تزداد الرغبة في هللا ‪ ،‬والرضا به ‪ ،‬والسعادة في ذكره ‪ ،‬والبهجة‬
‫في تالوة كالمه ‪ ،‬واألنس في الخلوة به ومناجاته ‪.‬‬
‫‪ ..‬يزداد الحضور القلبي الدائم معه ليُثمر سؤاله وطلب مساعدته في أموره كلها ‪ ،‬وإشهاده‬
‫على ما يحدث له من تكذيب المكذبين ‪ ،‬أو إعراض المُعرضين ‪.‬‬
‫ُث إليه أشواقه ‪،‬‬ ‫‪ ..‬ينتظر الفرصة التي يخلو فيها المكان ‪ ،‬وتهدأ األصوات ليخلو بربه ‪ ،‬ويب ُّ‬
‫ويعرض عليه شكايته ‪ ،‬ويطلب منه حاجته ‪..‬‬
‫‪ ..‬يُسارع في استرضائه إذا ما وقع منه تقصير أو تجاوُ ز ‪..‬‬
‫‪ ..‬يزداد بذله للجهد في خدمة دينه ‪ ،‬ودعوة خلقه إليه ‪..‬‬
‫‪ ..‬يشعر بالغنى به ‪ ،‬ويعيش قلبه في حالة من االمتنان نحوه سبحانه ‪.‬‬
‫‪ ..‬يزداد ويزداد تعلقه به ‪ ،‬واستغنائه عن غيره ‪.‬‬

‫‪ ) (77‬مدارج السالكين البن القيم ( ‪. ) 1/146‬‬


‫‪45‬‬
‫هذا هو معنى الوصول إلى هللا في الدنيا ‪ ،‬فكما يقول ابن رجب ‪ :‬الوصول إلى هللا نوعان ‪:‬‬
‫أحدهما في الدنيا ‪ ،‬والثاني في اآلخرة ‪.‬‬
‫عرفته أح َّبته وأنِست‬
‫فأما الوصول الدنيوي فالمراد به ‪ :‬أن القلوب تصل إلى معرفته ‪ ،‬فإذا ِ‬
‫به ‪ ،‬فوجدته منها قري ًبا ‪ ،‬ولدعائها مجي ًبا ‪ ،‬كما في بعض اآلثار ‪ :‬ابن آدم ‪ ،‬اطلبني تجدني ‪،‬‬
‫فإن وجدتني وجدت كل شيء ‪ ،‬وإن فُ ُّتك فاتك كل شيء ‪.‬‬
‫وأما الوصول األخروي ‪ :‬فدخول الجنة التي هي دار كرامة هللا ألوليائه ‪ ،‬ولكنهم في‬
‫َّابقُ َ‬
‫ون (‪)10‬‬ ‫ون الس ِ‬‫َّابقُ َ‬
‫درجاتها متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في القرب ‪َ ﴿ :‬والس ِ‬
‫ُأو َل َ‬
‫ِئك ْال ُم َقرَّ ب َ‬
‫ُون ﴾ [الواقعة ‪. )78( ]11 ، 10 :‬‬

‫‪ ) (78‬المحجة في سير الدلجة للحافظ ابن رجب ‪.‬‬


‫‪46‬‬
‫أهداف التربية اإليمانية‬
‫تم بفضل هللا الحديث في الصفحات السابقة عن مراحل النمو اإليماني والتي من المفترض أن‬
‫يشعر بآثارها الفرد في تعامله مع ربه ‪ ،‬ومع الدنيا ‪ ،‬ومع الناس ‪ ،‬ومع أحداث الحياة ‪ ،‬ويشعر‬
‫بآثارها كذلك في أحوال قلبه ‪.‬‬
‫ويمكننا أن ُنصيغ هذه المراحل في أهداف ثالثة ؛ نضعها أمامنا ونسعى للوصول إليها ‪ ..‬هذه‬
‫األهداف هي ‪:‬‬
‫أواًل ‪ :‬الهدف القريب ‪ :‬وهو تم ُّكن واستحكام اليقظة من القلب ‪ ،‬فال نريد يقظة لحظية ‪ ،‬بل‬
‫نريدها يقظة حقيقية دائمة تتمكن من القلب لتبدأ معها الحياة تدب في جنباته ‪ ،‬ولقد أجمل آثارها‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عندما سُئل عن عالمات دخول النور القلب فقال ‪ « :‬اإلنابة إلى‬
‫دار الخلود ‪ ،‬والتجافي عن دار الغرور ‪ ،‬واالستعداد للموت قبل نزوله » (‪. )79‬‬
‫ثان ًيا ‪ :‬والدة القلب الحي ‪ :‬هذا الهدف ال يمكن الوصول إليه إال باستمرار تزويد القلب‬
‫باإليمان بعد تم ُّكن اليقظة منه ‪ ،‬والمقصود بوالدة القلب الحي ‪ :‬أي تحرره من َأسر الهوى‬
‫وانفصاله عنه ‪ .‬أو بمعنى آخر ‪ :‬انقطاع الحبل الذي يجمع العالئق التي كان القلب مُتعل ًقا بها من‬
‫دون هللا كالمال والجاه والناس ‪ ،‬التي تحول بينه وبين التعلق التام باهلل عز وجل ‪ ،‬وااللتزام به ‪،‬‬
‫والتوجه الدائم نحوه ‪.‬‬
‫هذه الوالدة تتم عندما يعلو النور في القلب على الظلمة بصورة كبيرة ‪ ،‬ومن عالمات حدوثها‬
‫‪ :‬رقة القلب وسرعة تأثره بالمواعظ ‪ ،‬وهبوطه وخشوعه وسجوده هلل ‪ ،‬وسهولة استدعائه إذا‬
‫أراد صاحبه استحضاره ‪ ،‬ومن آثارها كذلك ‪ :‬تحسن ملحوظ في عالقات المرء المختلفة ‪ ،‬فيزداد‬
‫قربه من ربه ‪ ،‬وتعلقه به ‪ ،‬وتنقص رغبته في الدنيا بصورة ملحوظة ‪ ،‬ويقل طمعه في الناس ‪،‬‬
‫ويزداد تشميره نحو الجنة ‪...‬‬
‫ومن آثارها كذلك ‪ :‬راحة البال والشعور بالسكينة والطمأنينة والسالم الداخلي ‪.‬‬
‫الهدف الثالث ‪ :‬الحضور القلبي الدائم مع هللا ‪ ،‬والتعلق الشديد به – سبحانه – أو بمعنى آخر‬
‫‪ :‬تحقيق قوله صلى هللا عليه وسلم عندما سُئل عن اإلحسان فقال ‪ « :‬أن تعبد هللا كأنك تراه »‬
‫(‪ ، )80‬وهذا يحدث إذا ما استمر اإلمداد اإليماني للقلب ‪ ،‬فيزداد فيه النور ‪ ،‬حتى يصير قلبًا سليمًا‬
‫أبيضًا ‪ ،‬ومن آثار ذلك ‪ :‬خضوع المشاعر والسلوك في مجمله هلل عز وجل كما قال صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬من أحب هلل ‪ ،‬وأبغض هلل ‪ ،‬وأعطى هلل ‪ ،‬ومنع هلل ‪ ،‬فقد استكمل اإليمان » (‪. )81‬‬
‫وقال ‪ « :‬ال يبلغ العبد حقيقة اإليمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن‬
‫ليصيبه »(‪. )82‬‬
‫ومن آثارها كذلك ‪ :‬التعامل مع أحداث الحياة وتقلباتها المختلفة تعاماًل إيمان ًّيا كما قال صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪ « :‬عجبًا ألمر المؤمن إن أمره كله له خير وال يكون هذا إال للمؤمن ‪ ،‬إن أصابته‬
‫سراء شكر فكان خيرً ا له ‪ ،‬وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرً ا له » (‪. )83‬‬
‫والقلب في هذه المرحلة العظيمة يعيش في سعادة عظيمة وعالقة متينة مع ربه ‪ ..‬فهو‬
‫راض بقضائه ‪ ،‬مطمئنٌ بذكره ‪ ،‬في شوق دائم إليه وتوجه‬ ‫ٍ‬ ‫شاك ٌر ألنعمه ‪ ،‬صاب ٌر على بالئه ‪،‬‬
‫مستمر نحوه ‪.‬‬
‫نسأل هللا عز وجل أن يشملنا بعظيم فضله ‪ ،‬وأن يجعلنا من أصحاب القلوب السليمة المطمئنة‬
‫‪ ،‬وأن ينورها بنور اإليمان به ‪ ،‬ويخرجها من ظلمات الجهل والغفلة والهوى ‪.‬‬
‫‪ ) (79‬سبق تخريجه ‪.‬‬
‫‪ ) (80‬متفق عليه ‪ ،‬أخرجه البخاري (‪ ، 1/27‬رقم ‪ ، )50‬ومسلم (‪ ، 1/39‬رقم ‪. )9‬‬
‫‪ ) (81‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أبو داود (‪ ، 354 / 4‬برقم ‪ ، ) 4683‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع برقم (‪. )5965‬‬
‫‪ ) ( 82‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (‪ ، )1/58‬وقال الهيثمى ‪ :‬إسناده حسن ‪ .‬وأخرجه أيضًا ‪ :‬أحمد (‪ ، 6/441‬رقم‬
‫‪ ، )27530‬قال الهيثمي (‪ : )7/197‬رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات ‪.‬‬
‫‪ ) (83‬أخرجه مسلم (‪ ، 4/2295‬رقم ‪. )2999‬‬
‫‪47‬‬
48
‫الفصل الرابع‬

‫حقيقــــــــــة‬
‫اإليمـــــــــــــــــــــان‬

‫‪49‬‬
‫الهدف الذي ترمي إليه صفحات هذا الفصل هو وضوح الرؤية حول‬
‫حقيقة اإليمان ‪ ،‬والفارق بين اإليمان والعمل الصالح ( عبادات القلوب‬
‫‪ ،‬وعبادات الجوارح ) ‪ ،‬وكيف نعرف أن إيماننا قد ازداد مع الطاعة أم‬
‫لم يزدد ؟‬
‫و ُتجيب هذه الصفحات عن السؤال الذي يشغل بال الكثيرين ‪:‬‬
‫آثارا سلوكية إيجابية لألعمال الصالحة التي نؤديها ؟!‬
‫لماذا ال نرى ً‬
‫‪ ..‬وإن كان الحديث في هذا الفصل يغلب عليه الجانب العقلي إال أن‬
‫له أهمية كبيرة في الفهم المتكامل لحقيقة اإليمان ‪ ..‬هذا الفهم سيكون‬
‫سا إيجاب ًّيا على طريقة التعامل مع العبادات‬‫له – بإذن هللا – انعكا ً‬
‫واألعمال الصالحة ‪.‬‬
‫لذلك أطلب من نفسي ومنك – أخي القارئ – أن نقرأ هذه الصفحات‬
‫بهدوء وتركيز شديدين ‪ ،‬وأن تكون قراءة متصلة غير منقطعة ألنها‬
‫أفكارا وعناصر متسلسلة ينبني كل واحد منها على اآلخر ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تتضمن‬
‫وهللا المستعان ‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫حقيقة اإليمان‬
‫رأينا فيما سبق كيف أن لإليمان آثارً ا عظيمة تنال الفرد واألمة ‪ ،‬كما تم – بفضل هللا –‬
‫الحديث عن مراحل النمو اإليماني ‪ ،‬وأهداف التربية اإليمانية ليبقى السؤال ‪:‬‬
‫وكيف لنا أن ُنحقق هذه األهداف ونرى هذه اآلثار ؟‬
‫هل المطلوب لكي نتمتع بثمار اإليمان أن نؤدي الصالة على وقتها ‪ ،‬وأن ُنطيل المكث في‬
‫المسجد ‪ ،‬و ُنكثر من القيام باألعمال الصالحة المختلفة ؟‬
‫‪ ..‬مع األهمية القصوى لهذه األعمال إال أننا ُنشاهد من يقوم بها أو ببعضها ‪ ،‬وال نرى آثارً ا‬
‫مثل التي ُذكرت ساب ًقا أو حتى قريبة منها ‪ ،‬بل قد نجد العكس ‪ ..‬قد نجد شخصًا يحافظ على أداء‬
‫الصلوات في المسجد ‪ ،‬ويُصلي النوافل ‪ ،‬ويُكثر من ذكر هللا بلسانه ‪ ،‬ومع ذلك تجده شديد‬
‫الحرص على ماله ‪ ،‬يحسب كل شيء بأدق تفاصيله ‪ ..‬يُفكر دومًا في تحصيل ح ِّقه أواًل قبل‬
‫حقوق اآلخرين ‪ ،‬شديد التركيز مع الدنيا ‪ ،‬إذا ذهب لشراء شيء ما تجده – في الغالب – ينتقل‬
‫بين الحوانيت للبحث عن األرخص ثم ًنا ‪ ،‬فإذا ما استقر على حانوت ما ‪ ،‬تجده يدخل في صراع‬
‫مع البائع لتخفيض الثمن إلى أقصى ما يُمكن تخفيضه ‪.‬‬
‫وإذا ما كان صاحب عقار تجده يتعامل مع المستأجرين معاملة جافة غليظة ‪ ،‬ويجتهد في‬
‫التنصل من حقوقهم عليه ‪.‬‬
‫قد يُعامل زوجته وأوالده معاملة حا َّدة وجافة ‪ ،‬فيُحاسبهم على كل شيء ‪ ،‬ويُدقق معهم في كل‬
‫صغيرة وكبيرة ‪.‬‬
‫ُأ‬
‫يُصاب بالفزع والهلع إذا ما صيب ماله بخسارة ولو طفيفة ‪ ،‬أو ضاعت من بين يديه صفقة‬
‫رابحة ‪ ..‬يحسد اآلخرين على فضل هللا عليهم ‪ ،‬وفي المقابل تجده يخاف من الحسد خو ًفا شدي ًدا ‪،‬‬
‫فال يكاد يُظهر فضل ربه عليه وإن اضطره ذلك للكذب ‪.‬‬
‫صا باألغنياء فقط ‪ ،‬فالفقراء ومتوسطوا الحال كذلك قد تجد فيهم بعض التناقض‬ ‫وليس هذا خا ًّ‬
‫بين عباداتهم الظاهرة وبين سلوكياتهم ومعامالتهم ‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬شدة حرصهم على الدنيا ‪،‬‬
‫والحزن على فوات شيء يسير منها ‪ ،‬والتلهُّف عليها ‪ ،‬وكثرة التفكير في المستقبل ‪.‬‬
‫وينكشف حجم اإليمان الضعيف أكثر وأكثر عند المساس بمصالحهم الدنيوية ‪ ،‬فال غضاضة‬
‫ًّ‬
‫ضرا‪.‬‬ ‫من الكذب ‪ ،‬وعدم الوفاء بالعهود والوعود إذا كان هذا سيحقق لهم نفعًا أو يصرف عنهم‬
‫الدنيا والمال ‪:‬‬
‫مما ال شك فيه أن المحافظة على أداء الصلوات من مظاهر اإليمان ‪ ،‬ولكن عندما ال تتواكب‬
‫هذه المظاهر مع هوان الدنيا في عين صاحبها ‪ ،‬وضآلة حجمها في قلبه ‪ ،‬فإن ذلك يُعد بمثابة‬
‫مؤشر خطير لعدم تم ُّكن اإليمان من قلبه ‪ ،‬وعدم وصوله لمرحلة « استحكام اليقظة » ‪.‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬أليس اإليمان هو الذي دفعه للصالة ؟!‬
‫‪..‬نعم ‪ ،‬الذي دفعه ألداء الصالة – بجوارحه – هو القدر المحدود من اإليمان في قلبه ‪ ،‬وفي‬
‫المقابل فإن الذي يمنعه من التفاعل معها والتأثر بها هو محدودية هذا اإليمان وعدم يقظته ‪،‬‬
‫والدليل على ذلك هو عدم ظهور آثار أدائه للصالة على سلوكه بصورة ملحوظة ‪.‬‬
‫ونفس الكالم ينطبق على األخالق والمعامالت ‪ ،‬فإن لم يحدث تحسن فيها فإن ذلك يعني أن‬
‫اإليمان لم يتحسن وإن قام المرء بأداء الكثير من صور العبادات واألعمال الصالحة ‪.‬‬
‫فأين تكمن المشكلة ؟ ‪ ..‬أين أثر العبادة ؟‬
‫‪ ..‬اإلجابة عن هذه األسئلة تدعونا ألن نتعرف أكثر على القلب وعلى اإليمان وحقيقته ‪...‬‬
‫القلب والمشاعر ‪:‬‬

‫‪51‬‬
‫ت اَأْلعْ َرابُ آ َم َّنا قُ ْل َل ْم ُتْؤ ِم ُنوا َو َل ِكنْ قُولُوا َأسْ َلمْ َنا َو َلمَّا‬‫اإليمان مكانه القلب وليس العقل ﴿ َقا َل ِ‬
‫وب ُك ْم ﴾ [الحجرات ‪. ]14 :‬‬ ‫َي ْد ُخ ِل اِإْلي َمانُ فِي قُلُ ِ‬
‫ِين َقالُوا آ َم َّنا ِبَأ ْف َواه ِِه ْم َو َل ْم ُتْؤ ِمنْ‬
‫ُون فِي ْال ُك ْف ِر م َِن الَّذ َ‬
‫ارع َ‬ ‫ِين ي َُس ِ‬ ‫﴿ َيا َأ ُّي َها الرَّ سُو ُل اَل َيحْ ُز ْن َ‬
‫ك الَّذ َ‬
‫قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [المائدة ‪. ]41 :‬‬
‫والقلب هو مركز اإلرادة داخل اإلنسان ‪ ،‬وهو الملك على الجسد كله وما من فعل أو سلوك‬
‫إرادي نقوم به إال ويأخذ األمر بالتنفيذ من القلب ‪ « :‬أال إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح‬
‫الجسد كله ‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله ‪ ..‬أال وهي القلب »(‪. )84‬‬
‫ومن أهم خصائص القلب أنه َمجمع المشاعر داخل اإلنسان ‪ ..‬مشاعر الحب والشوق ‪،‬‬
‫والرغبة والرهبة ‪ ،‬والطمأنينة ‪ ،‬واالشمئزاز ‪ ،‬والجزع والهلع ‪ ،‬والرعب ‪ ،‬والغيظ ‪ ،‬والرأفة‬
‫والرحمة ‪ ،‬والوجل والسكينة ‪. ...‬‬
‫ب ﴾ [األنفال ‪. ]12 :‬‬ ‫ِين َك َفرُوا الرُّ عْ َ‬ ‫ب الَّذ َ‬‫﴿ َسُأ ْلقِي فِي قُلُو ِ‬
‫﴿ َأاَل ِبذ ِْك ِر هَّللا ِ َت ْط َمِئنُّ ْالقُلُوبُ ﴾ [الرعد ‪. ]28 :‬‬
‫ون ِباآْل خ َِر ِة ﴾ [الزمر ‪. ]45 :‬‬ ‫ت قُلُوبُ الَّذ َ‬
‫ِين اَل يُْؤ ِم ُن َ‬ ‫﴿ َوِإ َذا ُذك َِر هَّللا ُ َوحْ دَ هُ ا ْش َمَأ َّز ْ‬
‫ِين ﴾ [الفتح ‪. ]4 :‬‬ ‫ب ْالمُْؤ ِمن َ‬ ‫﴿ ه َُو الَّذِي َأ ْن َز َل ال َّسكِي َن َة فِي قُلُو ِ‬
‫ِين ا َّت َبعُوهُ َرْأ َف ًة َو َرحْ َم ًة ﴾ [الحديد ‪. ]27 :‬‬ ‫ب الَّذ َ‬ ‫﴿ َو َج َع ْل َنا فِي قُلُو ِ‬
‫وب ِه ْم ﴾ [آل عمران ‪. ]156 :‬‬ ‫﴿ لِ َيجْ َع َل هَّللا ُ َذل َِك َحسْ َر ًة فِي قُلُ ِ‬
‫ت قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [األنفال ‪. ]2 :‬‬‫ِين ِإ َذا ُذك َِر هَّللا ُ َو ِج َل ْ‬
‫ون الَّذ َ‬ ‫﴿ ِإ َّن َما ْالمُْؤ ِم ُن َ‬
‫وب ِه ْم ﴾ [التوبة ‪. ]15 :‬‬ ‫﴿ َوي ُْذهِبْ َغي َ‬
‫ْظ قُلُ ِ‬
‫معنى ذلك أن الدافع والمُحرك للسلوك اإلرادي هي المشاعر ‪.‬‬
‫اإليمان والمشاعر ‪:‬‬
‫وألن اإليمان محله القلب ‪ ،‬والقلب هو مجمع المشاعر داخل اإلنسان ‪ ،‬فاإليمان ‪ -‬إذن ‪ -‬محله‬
‫المشاعر ‪:‬‬
‫ب ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫ِين لِ َي ْزدَ ا ُدوا ِإي َما ًنا َم َع ِإي َمان ِِه ْم ﴾ [الفتح ‪. ]4 :‬‬ ‫● ﴿ ه َُو الَّذِي َأ ْن َز َل ال َّسكِي َن َة فِي قُلُو ِ‬
‫ت َل ُه قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [الحج ‪. ]54 :‬‬ ‫● ﴿ َفيُْؤ ِم ُنوا ِب ِه َف ُت ْخ ِب َ‬
‫وب ُك ْم ﴾ [الحجرات ‪. ]7 :‬‬ ‫ان َو َز َّي َن ُه فِي قُلُ ِ‬ ‫● ﴿ َو َلكِنَّ هَّللا َ َحب َ‬
‫َّب ِإ َل ْي ُك ُم اِإْلي َم َ‬
‫ومن أحاديث الرسول صلى هللا عليه وسلم التي تؤكد هذا المعنى ‪:‬‬
‫« ثالث من ُكنَّ فيه وجد حالوة اإليمان ‪ :‬أن يكون هللا ورسوله أحب إليه مما سواهما ‪ ،‬وأن يُحب‬
‫المرء ال يُحبُّه إال هلل ‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه هللا منه ‪ ،‬كما يكره أن يُلقى في النار »‬
‫(‪. )85‬‬
‫وقوله ‪ « :‬أوثق عُرى اإليمان ‪ :‬الحب في هللا والبغض في هللا » (‪. )86‬‬
‫فاإليمان – إذن ‪ -‬هو الذي يوجه المشاعر ‪ ،‬ومن َث َّم السلوك ‪ ،‬مع األخذ في االعتبار أن الهوى أيضًا‬
‫له دور بارز في توجيه المشاعر ‪ ،‬ولكن ما هو الهوى ؟‬
‫الهوى والمشاعر ‪:‬‬
‫من تعريفات النفس أنها َمجمع الشهوات والغرائز داخل اإلنسان ‪ ،‬والهوى هو ما تميل إليه النفس ‪.‬‬
‫والنفس تهوى الراحة وتكره التكليف ‪ُ ،‬تحب الظهور والمدح ‪ ،‬وتكره النقد والذم ‪ُ ،‬تحب االستمتاع‬
‫بالشهوات ‪ ،‬وتضيق بمنعها ‪ ،‬ترغب في االنتصار لرأيها ‪ ،‬وتنفر ممن يُخالفها ‪.‬‬

‫‪ ) (84‬جزء من حديث متفق عليه ‪ :‬أخرجه البخاري (‪ ، 1/28‬رقم ‪ ، )52‬ومسلم (‪ ، 3/1219‬رقم ‪.)1599‬‬
‫‪ ) (85‬متفق عليه ‪ ،‬أخرجه البخاري (‪ ،14 / 1‬برقم ‪ ، )16‬ومسلم (‪ ، 1/67‬رقم ‪. )43‬‬
‫‪ ) (86‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الطبراني (‪ ، 11/215‬رقم ‪ . )11537‬والبيهقي في شعب اإليمان (‪ ، 7/70‬رقم ‪ ، )9513‬وقال الشيخ األلباني‬
‫في صحيح الجامع‪ :‬صحيح ‪ ،‬رقم ‪.)2539( :‬‬

‫‪52‬‬
‫هذه األهواء ال يُمكن التعبير عنها على أرض الواقع إال من خالل القلب ‪ ،‬ألنه هو مركز اإلرادة ‪،‬‬
‫لذلك فهي تعمل على السيطرة عليه ‪ ،‬والتم ُّكن من المشاعر لتستطيع من خاللها تنفيذ ما ُتريده وتهواه ‪.‬‬

‫الصراع بين اإليمان والهوى ‪:‬‬


‫اإليمان محله المشاعر ‪ ،‬والهوى كذلك ‪ .‬والمشاعر هي الدافع األساسي للسلوك اإلرادي ‪،‬‬
‫فلمن تكون الغلبة على المشاعر ؟ ومن الذي يستطيع االستئثار بها ‪ :‬اإليمان أم الهوى ؟‬
‫اإلجابة عن هذا السؤال يُحددها قوة أحدهما عند القيام باألعمال المختلفة ‪ ،‬فعلى سبيل المثال ‪:‬‬
‫عندما يستيقظ المرء وقت آذان الفجر يحدث صراع داخلي بين إيمانه باهلل الذي يُملي عليه‬
‫االمتثال ألوامره بالقيام للصالة ‪ ،‬وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم ‪ ،‬فإن كان اإليمان وقتها‬
‫أقوى من الهوى فمن المتوقع أن يقوم المرء من فراشه ‪ ،‬وينطلق للصالة ‪ ،‬وإن كان الهوى هو‬
‫األقوى كان اإلخالد إلى النوم هو القرار النهائي ‪ ،‬ويؤكد هذا قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬فِإنْ َل ْم َيسْ َت ِجيبُوا َل َك‬
‫ُون َأهْ َوا َء ُه ْم ﴾ [القصص ‪. ]50 :‬‬ ‫َفاعْ َل ْم َأ َّن َما َي َّت ِبع َ‬
‫هل اإليمان هو المعرفة ؟ ‪:‬‬
‫يُعرِّ ف البعض اإليمان بأنه هو المعرفة ‪ ،‬معرفة أن هللا عز وجل هو رب كل شيء ‪ ،‬وأنه‬
‫هو الخالق ‪ ،‬القدير ‪ ،‬الرزاق ‪. ...‬‬
‫ولكننا نرى ُأناسا يُقرُّ ون بربوبية هللا ولك َّنهم ال يتوجهون إليه بالعبادة ‪ ،‬فلو كان اإليمان هو‬
‫مجرد المعرفة لدفعتهم تلك المعرفة إلى التوجه بالعبادة نحوه ‪ ،‬وخشيته وتقواه والتوكل عليه ‪.‬‬
‫ك السَّمْ َع‬‫ض َأمَّنْ َيمْ لِ ُ‬ ‫ولقد قصَّ القرآن علينا نماذج لهؤالء ‪ ﴿ :‬قُ ْل َمنْ َيرْ ُزقُ ُك ْم م َِن ال َّس َما ِء َواَأْلرْ ِ‬
‫ِّت م َِن ْال َحيِّ َو َمنْ يُدَ ِّب ُر اَأْلمْ َر َف َس َيقُولُ َ‬
‫ون هَّللا ُ‬ ‫ت َوي ُْخ ِر ُج ْال َمي َ‬ ‫ار َو َمنْ ي ُْخ ِر ُج ْال َحيَّ م َِن ْال َم ِّي ِ‬ ‫ْص َ‬ ‫َواَأْلب َ‬
‫ون ﴾ [يونس ‪. ]31 :‬‬ ‫َفقُ ْل َأ َفاَل َت َّتقُ َ‬
‫ُون (‪ )85‬قُ ْل َمنْ‬ ‫ون هَّلِل ِ قُ ْل َأ َفاَل َت َذ َّكر َ‬ ‫ُون (‪َ )84‬س َيقُولُ َ‬ ‫﴿ قُ ْل لِ َم ِن اَأْلرْ ضُ َو َمنْ فِي َها ِإنْ ُك ْن ُت ْم َتعْ َلم َ‬
‫ون ﴾ [المؤمنون ‪. ]87 - 84 :‬‬ ‫ون هَّلِل ِ قُ ْل َأ َفاَل َت َّتقُ َ‬
‫ش ْال َعظِ ِيم (‪َ )86‬س َيقُولُ َ‬ ‫ت ال َّسب ِْع َو َربُّ ْال َعرْ ِ‬
‫َربُّ ال َّس َم َاوا ِ‬
‫فالمشركون يعرفون أن هللا هو ربُّ كل شيء ‪ ،‬ويُقرُّ ون بألسنتهم بهذه الحقيقة لكنهم – مع‬
‫ذلك – ال يعبدونه ‪ ..‬لماذا ؟!‬
‫ألن هذه المعرفة لم يصل مدلولها إلى القلب فتصبح إيما ًنا ‪ ،‬والدليل على ذلك هو عدم‬
‫تنفيذهم لمقتضيات هذه المعرفة ‪ ،‬فلو كانت معرفة إيمانية لدفعتهم إلى التوجه إلى هللا بالعبادة ‪،‬‬
‫أما المعرفة العقلية البحتة فلن تكون دافعًا للسلوك إال إذا انتقل مدلولها إلى القلب ‪ ،‬وامتزجت‬
‫راسخا فيها ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بالمشاعر ‪ ،‬وأصبحت إيما ًنا‬

‫فإن كان األمر كذلك ‪ ،‬فما هو اإليمان ؟‬


‫ين ﴾ [المعارج ‪. ]26 :‬‬ ‫ُص ِّدقُ َ‬
‫ون ِب َي ْو ِم ال ِّد ِ‬ ‫اإليمان بالشيء هو التصديق به ﴿ َوالَّذ َ‬
‫ِين ي َ‬
‫واإليمان محله القلب ‪ ...‬فكيف يكون تصديق القلب للشيء ؟‬
‫تصديق القلب للشيء هو اطمئنانه له ‪ ،‬وثقته فيه ‪ ،‬وعدم االرتياب أو الشك فيه ﴿ ِإ َّن َما‬
‫ِين آ َم ُنوا ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه ُث َّم َل ْم َيرْ َتابُوا ﴾ [الحجرات ‪. ]15 :‬‬ ‫ون الَّذ َ‬ ‫ْالمُْؤ ِم ُن َ‬
‫انظر إلى قول اليهود كما أخبرنا القرآن ﴿ َواَل ُتْؤ ِم ُنوا ِإاَّل لِ َمنْ َت ِب َع دِي َن ُك ْم ﴾ [آل عمران ‪ . ]73 :‬أي ‪:‬‬
‫ال تثقوا وال تطمئنوا وال ُتص ِّدقوا إال من ِتبع دينكم ‪.‬‬
‫ون ِباآْل خ َِر ِة قُلُو ُب ُه ْم‬ ‫وعدم اإليمان بالشيء هو رفضه وإنكاره والتشكيك فيه ﴿ َفالَّذ َ‬
‫ِين اَل يُْؤ ِم ُن َ‬
‫ُون ﴾ [النحل ‪. ]22 :‬‬ ‫ُم ْنك َِرةٌ َو ُه ْم مُسْ َت ْك ِبر َ‬
‫ون ﴾‬ ‫ت قُلُو ُب ُه ْم َف ُه ْم فِي َري ِْب ِه ْم َي َت َر َّد ُد َ‬‫ون ِباهَّلل ِ َو ْال َي ْو ِم اآْل خ ِِر َوارْ َتا َب ْ‬ ‫﴿ ِإ َّن َما َيسْ َتْأ ِذ ُن َك الَّذ َ‬
‫ِين اَل يُْؤ ِم ُن َ‬
‫[التوبة ‪. ]45 :‬‬

‫‪53‬‬
‫فأول وأهم مرحلة لالنقياد للشيء هي اإليمان به ( أو االطمئنان له ‪ ،‬والثقة فيه ) ‪ ،‬فالذي‬
‫يأخذ دواء ما البد وأن يكون قد اطمأن له بقلبه ‪ ،‬وأاَّل يكون شا ًّكا وال مُرتابًا فيه ‪.‬‬
‫والذي يجد أمامه عدة طرق ‪ ،‬وال يدري أيهم يوصله إلى مقصوده فإنه يظل يسأل ويتقصى‬
‫حتى تزول حيرته ‪ ،‬ويطمئن إلى الطريق الصحيح ‪ ،‬فيتوجه إليه ‪ ،‬فإن لم يترجح لديه طريق ‪،‬‬
‫وسار في أحدهم من باب التجربة ‪ ،‬تجده شا ًّكا مرتابًا متحيرً ا أثناء سيره ‪ ،‬ويظل كذلك حتى يجد‬
‫عالمة أو آية ُتذهب حيرته ‪ ،‬وتبعث اإليمان واالطمئنان إلى قلبه بأن ما يسير فيه هو الطريق‬
‫الصحيح ‪ ..‬تأمل قول الحواريين وهم يطلبون من عيسى بن مريم عليه السالم نزول مائدة من‬
‫صدَ ْق َت َنا ﴾ [المائدة ‪. ]113 :‬‬ ‫السماء عليهم ﴿ َقالُوا ُن ِري ُد َأنْ َنْأ ُك َل ِم ْن َها َو َت ْط َمِئنَّ قُلُو ُب َنا َو َنعْ َل َم َأنْ َق ْد َ‬
‫من هنا نقول بأن اإليمان هو تصديق القلب واطمئنانه وثقته في الفكرة التي ُتطرح على‬
‫العقل ‪.‬‬
‫هذه الثقة تبدأ صغيرة وتنمو إذا ما تم تغذيتها حتى تصل إلى ثقة مطلقة بال أدنى ريب أو‬
‫شك ‪.‬‬
‫الفارق بين القناعة العقلية بالفكرة وبين اإليمان بها ‪:‬‬
‫قد ُتناقش شخصًا ما في أمر من األمور فيقتنع أمامك بما تقول لكنه ال يفعل مقتضيات هذا‬
‫االقتناع ‪ ،‬كأن ُتناقشه – مثاًل – في ضرورة وأهمية مقاطعة منتجات الدول التي أساءت إلى‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وتعرفه كيف يُمكن لهذه المقاطعة أن تؤثر على هذه الدول ‪،‬‬
‫فيُبدي أمامك اقتناعه بما تقول بعد سلسلة من االعتراضات والمناقشات ‪ ،‬وبعد ذلك تجده ال يُقاطع‬
‫تلك المنتجات ‪ ،‬فما السبب في ذلك ؟‬
‫السبب أنه وإن كان قد اقتنع بعقله إاَّل أن قلبه لم يطمئن اطمئنا ًنا كاماًل لما تقول ‪ ،‬أي أنه لم‬
‫ِين َقالُوا آ َم َّنا ِبَأ ْف َواه ِِه ْم َو َل ْم ُتْؤ ِمنْ قُلُو ُب ُه ْم ﴾ [المائدة ‪. ]41 :‬‬ ‫يؤمن بما تقول ﴿ م َِن الَّذ َ‬
‫ومما ال شك فيه أن بداية اإليمان بالشيء هو اإلقرار العقلي به ‪ ،‬ولكن إن توقف هذا‬
‫اإلقرار عند حدود العقل ‪ ،‬ولم يمتزج بالمشاعر ‪ ،‬ولم تحدث الطمأنينة والثقة فيه ‪ ،‬فقد ابتعد‬
‫عن مفهوم اإليمان ‪ ،‬ومن َث َّم فلن تظهر له ثمرة في السلوك ‪ ،‬وهناك أمثلة كثيرة تؤكد هذا‬
‫المعنى ‪:‬‬
‫فدراسة أبحاث القضاء والقدر من كتب العقيدة وعلم الكالم ‪ ،‬قد تصل بالمرء إلى االقتناع‬
‫بحقيقة القضاء والقدر ‪ ،‬إال أنها – في الغالب – ال ُتنشئ إيما ًنا حقيق ًّيا به بحيث تظهر آثاره عند‬
‫مواجهة األقدار المؤلمة ‪ ،‬وسبب ذلك أن أغلب هذه الكتب ُتخاطب الفكر فقط ‪ ،‬وال تؤثر في‬
‫المشاعر ‪ ،‬وفي المقابل لك أن تقرأ القرآن وتنظر إلى طريقته في إقناع العقل وإلهاب المشاعر‬
‫فيمتزج الفكر بالعاطفة وينشأ اإليمان – إن انتفت الموانع (‪ ، )87‬ومثال ذلك قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬وِإنْ‬
‫ون هَّللا ِ ِإنْ ُك ْن ُت ْم‬
‫ش َهدَ ا َء ُك ْم ِمنْ ُد ِ‬‫ُور ٍة ِمنْ م ِْثلِ ِه َو ْادعُوا ُ‬ ‫ب ِممَّا َن َّز ْل َنا َع َلى َع ْب ِد َنا َفْأ ُتوا ِبس َ‬ ‫ُك ْن ُت ْم فِي َر ْي ٍ‬
‫ِين ﴾ [البقرة ‪. ]23 :‬‬ ‫صا ِدق َ‬ ‫َ‬
‫فهذا خطاب يُناقش العقل بالحجة ويتح َّداه حتى يُقر بالعجز فيقتنع بصدق الرسالة وأنها من‬
‫عند هللا ‪ ،‬لكن األمر ال يتوقف عند ذلك ‪ ،‬بل نجد اآليات التي تتلوها ُتخاطب المشاعر حتى‬
‫ار الَّتِي َوقُو ُد َها ال َّناسُ‬ ‫يحدث المزج بين الفكر والعاطفة ﴿ َفِإنْ َل ْم َت ْف َعلُوا َو َلنْ َت ْف َعلُوا َفا َّتقُوا ال َّن َ‬
‫ت َتجْ ِري ِمنْ َتحْ ِت َها‬ ‫ت َأنَّ َل ُه ْم َج َّنا ٍ‬ ‫ِين آ َم ُنوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ‬ ‫ين * َو َب ِّش ِر الَّذ َ‬ ‫ارةُ ُأعِ َّد ْ‬
‫ت ل ِْل َكاف ِِر َ‬ ‫َو ْالح َِج َ‬

‫‪ ) (87‬هناك موانع لإليمان تندرج جميعها تحت سببين اثنين ‪ :‬الجهل والهوى ‪ ،‬فالجهل بالحق وعدم معرفته وعدم وصوله للفرد بطريقة صحيحة‬
‫هو السبب األول ‪ ،‬أما السبب الثاني وهو الهوى ‪ :‬فهو إما أن يكون بسبب الكبر واستعظام النفس أن تسمع من غيرها ‪ ،‬أو بسبب حُبّ الدنيا والرغبة في‬
‫ُون َأهْ َوا َء ُه ْم ﴾ [القصص ‪]50 :‬‬
‫االستمتاع بها دون ضوابط أوتكاليف ‪ ،‬أو خو ًفا على النفس من تبعات اإليمان بالحق ﴿ َفِإنْ َل ْم َيسْ َت ِجيبُوا َل َك َفاعْ َل ْم َأ َّن َما َي َّت ِبع َ‬
‫‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫اَأْل ْن َها ُر ُكلَّ َما ر ُِزقُوا ِم ْن َها ِمنْ َث َم َر ٍة ِر ْز ًقا َقالُوا َه َذا الَّذِي ر ُِز ْق َنا ِمنْ َق ْب ُل َوُأ ُتوا ِب ِه ُم َت َش ِابهًا َو َل ُه ْم فِي َها‬
‫ون﴾ [البقرة ‪. ]24 :‬‬ ‫َأ ْز َوا ٌج م َ‬
‫ُطه ََّرةٌ َو ُه ْم فِي َها َخالِ ُد َ‬
‫وخالصة القول في هذه المسألة بأنه ليست العبرة فقط بتصديق العقل واقتناعه بالشيء‬
‫الذي يراه أو يسمع عنه ‪ ،‬بل البد من أن ُيصاحب ذلك تصديق قلبي ‪ ،‬أي ‪ :‬اطمئنان وثقة‬
‫ورضا بهذه المعلومة ‪.‬‬
‫انظر إلى هذا التسلسل الواضح للسلوك اإلرادي ( إصغاء من العقل للمعلومة ‪ ،‬ثم تصديق‬
‫واقتناع بها ثم طمأنينة ورضى قلبي يدفع للسلوك ) وذلك في قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬و َك َذل َِك َج َع ْل َنا لِ ُك ِّل‬
‫ُّك َما‬ ‫ُف ْال َق ْو ِل ُغرُورً ا َو َل ْو َشا َء َرب َ‬ ‫ض ُز ْخر َ‬ ‫ض ُه ْم ِإ َلى َبعْ ٍ‬ ‫س َو ْال ِجنِّ يُوحِي َبعْ ُ‬ ‫َن ِبيٍّ َع ُد ًّوا َشيَاطِ َ‬
‫ين اِإْل ْن ِ‬
‫ض ْوهُ َولِ َي ْق َت ِرفُوا‬ ‫ون ِباآْل خ َِر ِة َولِ َيرْ َ‬ ‫ِين اَل يُْؤ ِم ُن َ‬ ‫ُون (‪َ )112‬ولِ َتصْ َغى ِإ َل ْي ِه َأ ْفِئدَ ةُ الَّذ َ‬ ‫َف َعلُوهُ َف َذرْ ُه ْم َو َما َي ْف َتر َ‬
‫ون ﴾ [األنعام ‪.]113 ، 112 :‬‬ ‫َما ُه ْم ُم ْق َت ِرفُ َ‬
‫شمول معنى اإليمان ‪:‬‬
‫والجدير بالذكر أن اإليمان كلمة عامة تشمل كل تصديق واطمئنان وثقة قلبية بأي شيء‬
‫ت‬ ‫ون ِب ْال ِج ْب ِ‬ ‫ب يُْؤ ِم ُن َ‬ ‫ِين ُأو ُتوا َنصِ يبًا م َِن ْال ِك َتا ِ‬ ‫يقتنع به العقل وإن كان باطاًل ﴿ َأ َل ْم َت َر ِإ َلى الَّذ َ‬
‫ُون ﴾ [النحل ‪. ]72 :‬‬ ‫ت هَّللا ِ ُه ْم َي ْكفُر َ‬ ‫ت ﴾ [النساء ‪َ ﴿ ، ]51 :‬أ َف ِب ْالبَاطِ ِل يُْؤ ِم ُن َ‬
‫ون َو ِب ِنعْ َم ِ‬ ‫الطا ُغو ِ‬ ‫َو َّ‬
‫لذلك نجد تضحيات عظيمة من بعض أصحاب األفكار الباطلة في سبيل نشر دعوتهم وإعالء‬
‫رايتهم ‪ ،‬فهم يفعلون ذلك بدافع إيمانهم القوي بهذه األفكار ‪.‬‬
‫بل إن هذا األمر يشمل أمور الدنيا كذلك ‪ ،‬فالذي يذهب لطبيب ما ويُفضّله على غيره ‪ ،‬فإنه‬
‫يفعل ذلك بدافع ثقته فيه أو بمعنى آخر ‪ :‬إيمانه به ‪ ،‬وكذلك الذي يقوم بإصالح سيارته عند‬
‫شخص ما دو ًنا عن غيره ‪ ،‬و ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫مفهوم اإليمان باهلل ‪:‬‬
‫فإن أردنا أن ُنخصص مفهوم اإليمان العام على « اإليمان باهلل عز وجل » ‪ ،‬فيكون اإليمان‬
‫باهلل هو الثقة والطمأنينة فيه سبحانه ‪ ..‬في قدرته المطلقة ‪ ،‬وقيُّوميِّته الدائمة ‪ ،‬وقوته غير‬
‫المُتناهية ‪ ،‬وعلمه الذي أحاط بكل شيء ‪ ،‬وحكمته العظيمة ‪ ،‬وسعة حلمه ‪ ،‬وكرمه ‪ ،‬و ‪. ...‬‬
‫وكلما ازداد اإليمان بصفاته سبحانه ‪ ،‬أو بمعنى آخر ‪ :‬كلما ازدادت الثقة في هذه األسماء‬
‫والصفات ؛ ُكلَّما انعكس ذلك على تعامل العبد معه ‪ ،‬بمعنى أنه كلَّما ازدادت الثقة في هللا «‬
‫الحكيم » ازدادت حالة الرضا عند العبد ‪ ،‬وكلَّما ازدادت الثقة في قيُّوميِّة هللا وإحاطته بكل شيء‬
‫ازدادت حالة التقوى والتوكل على هللا ‪.‬‬
‫وهكذا يكون انعكاس زيادة الثقة ( اإليمان ) باهلل وبأسمائه وصفاته على القلب هو مزيد‬
‫من العبودية له من تقوى ‪ ،‬وحب ‪ ،‬وتوكل ‪ ،‬ورغبة ورهبة ‪ ،‬وإنابة ‪ ،‬وتعظيم ‪ ،‬ومهابة ‪.‬‬
‫ونفس المعنى ينطبق على جميع أركان اإليمان ‪ ،‬فكلَّما ازداد اإليمان بالبعث ( الثقة في‬
‫حدوثه ) كلما زاد تشمير العبد في االستعداد له ‪ ...‬وهكذا ‪.‬‬
‫اإليمان محض فضل من هللا عز وجل ‪:‬‬
‫مع كل ما قيل وسيقال – بإذن هللا – في هذه الصفحات عن اإليمان وحقيقته وموانعه إال أنه‬
‫البد من التذكير واإلقرار باألمر األساسي في هذه القضية أال وهو ‪ :‬أن اإليمان محض فضل من‬
‫هللا عز وجل ‪ ،‬حتى ال ُتنسى هذه الحقيقة في خضم هذا الحديث ‪.‬‬
‫فإن كانت البداية هي اقتناع العقل بالحق ‪ ،‬فإن انتقال هذه القناعة إلى المشاعر واطمئنانها‬
‫صدْ َرهُ لِِإْل ْساَل ِم﴾‬ ‫ش َر ْح َ‬ ‫بها ‪ ،‬وثقتها فيها محض فضل من هللا عز وجل ‪َ ﴿ :‬ف َمنْ ُي ِر ِد هَّللا ُ َأنْ َي ْه ِد َي ُه َي ْ‬
‫[األنعام ‪. ]125 :‬‬
‫ومع ذلك فإن هذا الفضل يمنحه هللا عز وجل لمن يجد لديه رغبة ‪ ،‬واستعدادًا لذلك ‪ ،‬تأمل‬
‫ُوق‬ ‫وب ُك ْم َو َكرَّ َه ِإ َل ْي ُك ُم ْال ُك ْف َر َو ْالفُس َ‬
‫ان َو َز َّي َن ُه فِي قُلُ ِ‬ ‫قول هللا تعالى ‪َ ﴿ :‬و َلكِنَّ هَّللا َ َحب َ‬
‫َّب ِإ َل ْي ُك ُم اِإْلي َم َ‬
‫‪55‬‬
‫ون (‪َ )7‬فضْ اًل م َِن هَّللا ِ َو ِنعْ َم ًة َوهَّللا ُ َعلِي ٌم َحكِي ٌم ﴾ [الحجرات ‪ . ]8 ، 7 :‬فاآلية‬ ‫ِئك ُه ُم الرَّ اشِ ُد َ‬ ‫ان ُأو َل َ‬ ‫َو ْال ِعصْ َي َ‬
‫ون ﴾ أي ‪ :‬الذين استخدموا عقولهم استخدامًا‬ ‫ِئك ُه ُم الرَّ اشِ ُد َ‬ ‫األولى تنتهي بقوله تعالى ‪ُ ﴿ :‬أو َل َ‬
‫صحيحً ا في البحث عن الحق ‪ ،‬واآلية الثانية تنتهي بقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬وهَّللا ُ َعلِي ٌم َحكِي ٌم ﴾ ‪ ،‬أي ‪ :‬يعلم‬
‫– سبحانه ‪ -‬من يستحق هذا الفضل ‪ ،‬وحكيم في منحه إياه عندما يجده مهيأ له ‪َ ﴿ :‬و َل ْواَل َفضْ ُل هَّللا ِ‬
‫َع َل ْي ُك ْم َو َرحْ َم ُت ُه َما َز َكى ِم ْن ُك ْم ِمنْ َأ َح ٍد َأ َب ًدا َو َلكِنَّ هَّللا َ ي َُز ِّكي َمنْ َي َشا ُء َوهَّللا ُ َسمِي ٌع َعلِي ٌم ﴾ [النور ‪. ]21 :‬‬
‫فاإليمان محض فضل من هللا ال يمكن ألحد أن يصل إليه بنفسه ‪َ ﴿ :‬واعْ َلمُوا َأنَّ هَّللا َ َيحُو ُل َبي َْن‬
‫س َأنْ ُتْؤ م َِن ِإاَّل بِِإ ْذ ِن هَّللا ِ ﴾ [يونس ‪. ]100 :‬‬ ‫ْال َمرْ ِء َو َق ْل ِب ِه ﴾ [األنفال ‪َ ﴿ ، ]24 :‬و َما َك َ‬
‫ان لِ َن ْف ٍ‬
‫ومع ذلك فلقد جعل هللا عز وجل أهم شرط الستجالبه هو ‪ :‬وجود الرغبة واالستعداد لتلقيه ‪،‬‬
‫ففي الحديث القدسي ‪ « :‬يا عبادي كلكم ضال إال من هدي ُته فاستهدوني أهدكم» (‪ ، )88‬أي ‪:‬‬
‫ارغبوا في الهداية ‪ ،‬واطلبوها مني أمنحكم إياها ‪.‬‬
‫ض‬ ‫ونجد آيات كثيرة في القرآن تؤكد هذا المعنى كقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬و َك َذل َِك َف َت َّنا َبعْ َ‬
‫ض ُه ْم ِب َبعْ ٍ‬
‫ين ﴾ [األنعام ‪. ]53 :‬‬ ‫لِ َيقُولُوا َأ َهُؤ اَل ِء َمنَّ هَّللا ُ َع َلي ِْه ْم ِمنْ َب ْي ِن َنا َأ َلي َ‬
‫ْس هَّللا ُ ِبَأعْ َل َم ِبال َّشاك ِِر َ‬
‫فالقلب « المتواضع » الذي من عادته استقبال العطايا باالمتنان والشكر هو القلب المؤهل‬
‫ُعرض الحق على عقله ويقتنع به ‪ ،‬على العكس تمامًا من‬ ‫لتلقي فضل هللا عليه بالهداية عندما ي َ‬
‫ض ِب َغي ِْر ْال َح ِّق َوِإنْ َي َر ْوا ُك َّل‬ ‫َأْل‬ ‫ِين َي َت َك َّبر َ‬
‫ُون فِي ا رْ ِ‬ ‫القلب الجاحد المتكبر ‪َ ﴿ :‬سَأصْ ِرفُ َعنْ آ َيات َِي الَّذ َ‬
‫آ َي ٍة اَل يُْؤ ِم ُنوا ِب َها َوِإنْ َي َر ْوا َس ِبي َل الرُّ ْش ِد اَل َي َّتخ ُِذوهُ َس ِبياًل َوِإنْ َي َر ْوا َس ِبي َل ْال َغيِّ َي َّتخ ُِذوهُ َس ِبياًل ﴾‬
‫[األعراف ‪. ]146 :‬‬

‫‪ ) (88‬أخرجه مسلم (‪ ، 4/1994‬رقم ‪. )2577‬‬

‫‪56‬‬
‫الحالة اإليمانية ( متى يزداد اإليمان )؟‬
‫تسمع في خطب الجمعة ودروس العلم في المساجد ومن خالل وسائل اإلعالم المقروءة‬
‫والمسموعة والمرئية إلى كالم كثير يتناول جوانب الدين المختلفة من عقيدة وأخالق وعبادات‬
‫ومعامالت من علماء ودعاة أفاضل ‪ ،‬فهل يزداد إيماننا باستماعنا لحديثهم ؟ !‬
‫اإلجابة عن هذا السؤال تستدعي تذ ُّكر ما قيل في الصفحات السابقة حول الفارق بين القناعة‬
‫العقلية ‪ -‬فقط – بالفكرة ‪ ،‬وبين اإليمان بها ‪ ،‬فاإليمان بالفكرة يعني ‪ :‬قناعة عقلية يُصاحبها انفعال‬
‫وجداني ‪.‬‬
‫فعندما أستمع إلى خطيب الجمعة وهو يطرح قضية هامة ‪ ،‬فأنتبه إلى كالمه ‪ ،‬وأقتنع به ‪ ،‬ثم‬
‫ال أجد مشاعري تتجاوب معه فإن هذا معناه أن كالمه وقف عند حدود العقل ‪ ،‬ولم يصل إلى‬
‫القلب ومن َث َّم لم يُنشئ إيما ًنا ‪..‬‬
‫فإن انفعلت معه وتأثرت بحديثه عندما قصَّ قصة مؤثرة تؤكد المعنى الذي يطرحه كان وقت‬
‫التأثر هو الوقت الذي زاد فيه اإليمان ‪.‬‬
‫والمقصود باالنفعال والتأثر هو حركة المشاعر بأنواعها المختلفة من فرح واستبشار ورغبة‬
‫ورهبة وشوق وإجالل وسكينة ‪.‬‬
‫أي أن الخوف تأثر ‪ ،‬والفرح تأثر ‪ ،‬والشوق تأثر ‪ ،‬و ‪ ، ...‬فالتأثر هو عنوان لتفاعل‬
‫المشاعر مع ما يُطرح على العقل من أفكار ‪.‬‬
‫معنى ذلك أننا يُمكننا معرفة الوقت الذي يزداد فيه اإليمان في قلوبنا وذلك حين تتجاوب‬
‫معان دينية ‪ ،‬أو مع العمل الذي نقوم به ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫مشاعرنا مع ما نسمعه من‬
‫فحين يدخل المرء إلى الصالة وال تتجاوب مشاعره فيها ( مشاعر الخضوع والخشوع ) هلل‬
‫عز وجل فهذا معناه أن صالته لم تقم بزيادة اإليمان في قلبه ‪ ،‬أما إذا تأثر وانفعل مع دعائه في‬
‫سجود الركعة الثانية – مثاًل – فإن هذا هو القدر الذي زاد فيه اإليمان – بإذن هللا ‪ .. -‬وهكذا ‪.‬‬
‫من هنا نقول بأنه ليست العبرة بكثرة األعمال التي يقوم بها المرء ‪ ،‬بل العبرة بمقدار تجاوب‬
‫القلب معها وتأثره بها ‪ ،‬وانفعال مشاعره معها ‪..‬‬
‫فوجود القلب مع العمل ‪ ،‬أو حضوره ‪ ،‬أو جمعه ‪ ،‬أو تجاوبه ‪ ،‬أو مواطأته للسان في الذكر‬
‫‪ ..‬كلها معان مترادفة « للتأثر » بصوره المختلفة ‪.‬‬
‫اإليمان والطاعة ‪:‬‬
‫اإليمان يزداد بالطاعة ‪ ..‬نعم ‪ ،‬ولكن شريطة أن يتحرك القلب معها – أي يتأثر – فإن لم‬
‫تتحرك المشاعر لن يزداد اإليمان ‪ ،‬ومن َث َّم لن يظهر أثر الطاعة على السلوك ‪ ،‬فالصالة تنهى‬
‫عن الفحشاء والمنكر عندما يتحرك القلب ‪ ،‬وتنفعل المشاعر معها ‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى زيادة اإليمان‬
‫لينتج عنه زيادة الورع والدافع الداخلي لفعل الخيرات وترك المنكرات ‪.‬‬
‫فإن لم يتحرك القلب ويخشع في الصالة ‪ ،‬أصبحت تلك الصالة حركة بالعضالت فقط ‪ ،‬ومن‬
‫َث َّم ال يظهر لها أثر إيجابي في السلوك ‪ ،‬وهذا ُيفسر لنا ظاهرة عدم وجود أثر للعبادات الكثيرة‬
‫التي نؤديها على سلوكنا ومعامالتنا ‪.‬‬
‫(‪)89‬‬
‫‪.‬‬ ‫لذلك كان من دعائه صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬وأعوذ بك من صالة ال تنفع »‬
‫وقال ابن عباس ‪ « :‬ركعتان مقتصدتان في تف ُّكر خير من قيام ليلة والقلب ساه » ‪.‬‬
‫فإحسان العمل – إذن – مقدم على اإلكثار منه بالجوارح فقط ‪.‬‬
‫وإحسان العمل يعني االجتهاد في حضور القلب وتوجه مشاعره نحو هللا عز وجل ‪،‬‬
‫وتستدعي كذلك موافقته للسنة ‪.‬‬
‫‪ ) (89‬أخرجه ابن حبان (‪ ، 3/293‬رقم ‪ ، )1015‬والضياء (‪ ، 6/156‬رقم ‪ ، )2153‬وقال شعيب األرنؤوط ‪ :‬إسناده صحيح على شرط مسلم‬
‫‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫فالعمل القليل مع حضور المشاعر أفضل من العمل الكثير بدون حضورها ‪ ،‬أو حضورها‬
‫بصورة قليلة محدودة ‪.‬‬
‫بل إن الثواب المترتب على العمل يختلف من شخص آلخر حسب حركة مشاعره مع العمل ؛‬
‫فلو أن رجلين يسيران في الطريق سو ًّيا وعُرض عليهما عمل خيري يستوجب منهما بذل ما‬
‫يُمكنهما بذله من مال ‪ ،‬وكان األول فقيرً ا ‪ ،‬وكل ما يملكه عشرة دراهم وعليه أعباء معيشية ال‬
‫تغطيها هذه الدراهم المعدودة ‪ ،‬لكنه تجاوب مع العمل الخيري وشعر بأهميته ‪ ،‬فدفعه حبه هلل‬
‫وطمعه في مثوبته إلى إخراج ثمانية دراهم من العشرة ‪َ ..‬ب َذلها وهو يُدرك قدر العنت الذي قد‬
‫يواجهه لتدبير نفقاته ونفقات عياله ‪ ،‬وأما الرجل اآلخر فهو موسر ‪ ،‬عنده بضعة آالف من‬
‫الدراهم ‪ ،‬فأخرج ألف درهم طمعًا في المثوبة ‪ ،‬وح ًّبا هلل ‪ ،‬لكنه لم يشعر بما شعر به األول ألن‬
‫األلف درهم ال يُشكل إخراجها عنده مشكلة كبيرة ‪ ،‬فهل يستوي االثنان في درجتهما عند هللا ؟‬
‫لو كانت العبرة بالعدد والكم ‪ ،‬لكان الثاني أفضل ‪ ،‬ألن ما أخرجه أكثر بكثير من األول ‪،‬‬
‫ولكن ألن العبرة بحركة المشاعر ‪ ،‬وحضور القلب مع العمل كان األول هو األفضل عند هللا ‪،‬‬
‫كما قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬سبق درهم مائة ألف درهم ‪ :‬رجل له درهمان أخذ أحدهما‬
‫فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها » ( ) ‪ ،‬ويؤكد هذا‬
‫‪90‬‬

‫ِين‬‫ِئك َأعْ َظ ُم دَ َر َج ًة م َِن الَّذ َ‬ ‫المعنى قوله تعالى ‪ ﴿ :‬اَل َيسْ َت ِوي ِم ْن ُك ْم َمنْ َأ ْن َف َق ِمنْ َقب ِْل ْال َف ْت ِح َو َقا َت َل ُأو َل َ‬
‫َأ ْن َفقُوا ِمنْ َبعْ ُد َو َقا َتلُوا َو ُكاًّل َو َعدَ هَّللا ُ ْالحُسْ َنى ﴾ [الحديد ‪. ]10 :‬‬
‫فالذي أنفق قبل الفتح – في أوقات الضيق والحصار والمستقبل المجهول وقلة الموارد –‬
‫أعظم درجة من الذي أنفق بعد الفتح في أوقات الرخاء واألمان والسعة ‪ ،‬فحركة المشاعر مع‬
‫اإلنفاق قبل الفتح أشد منها بعد الفتح ‪.‬‬
‫ونفس األمر ينطبق على الصالة وقراءة القرآن وغيرهما من األعمال ‪َ ﴿ :‬لنْ َي َنا َل هَّللا َ‬
‫لُحُو ُم َها َواَل ِد َماُؤ َها َو َل ِكنْ َي َنالُ ُه ال َّت ْق َوى ِم ْن ُك ْم ﴾ [الحج ‪. ]37 :‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول ابن رجب ‪ :‬كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون اإلكثار‬
‫منه ‪ ،‬فإن العمل القليل مع التحسين واإلتقان ‪ ،‬أفضل بكثير من الغفلة وعدم االتقان ‪.‬‬
‫قال بعض السلف ‪ :‬إن الرجلين ليقومان في الصف ‪ ،‬وما بين صالتهما كما بين السماء‬
‫واألرض ( ) ‪.‬‬
‫‪91‬‬

‫ابن القيم يؤكد ‪:‬‬


‫ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول ‪:‬‬
‫العمل اليسير الموافق لمرضاة الرب وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم أحب إلى هللا تعالى‬
‫ت‬ ‫من العمل الكثير إذا خال عن ذلك أو عن بعضه ‪ ،‬ولهذا قال هللا تعالى ‪ ﴿ :‬الَّذِي َخ َل َق ْال َم ْو َ‬
‫ض ِزي َن ًة َل َها لِ َن ْبلُ َو ُه ْم‬‫َو ْال َح َيا َة لِ َي ْبلُ َو ُك ْم َأ ُّي ُك ْم َأحْ َسنُ َع َماًل ﴾ [الملك ‪ ، ]2 :‬وقال ‪ِ ﴿ :‬إ َّنا َج َع ْل َنا َما َع َلى اَأْلرْ ِ‬
‫َأ ُّي ُه ْم َأحْ َسنُ َع َماًل ﴾ [الكهف ‪. ]7 :‬‬
‫فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات واألرض ‪ ،‬والموت والحياة ‪ ،‬وزيَّن األرض بما‬
‫عليها ‪ ،‬ليبلو عباده أيهم أحسن عماًل ‪ ،‬ال أكثر عماًل ‪.‬‬
‫واألحسن ‪ :‬هو األخلص واألصوب ‪ ،‬وهو الموافق لمرضاته ومحبته ‪ ،‬دون األكثر الخالي‬
‫باألرضى له ‪ ،‬وإن كان قلياًل ‪ ،‬دون األكثر الذي‬ ‫َ‬ ‫من ذلك ‪ ،‬فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُتعبد له‬
‫ال يُرضيه ‪ ،‬واألكثر الذي غيره أرضى له منه ‪.‬‬

‫‪ ) (90‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه النسائي (‪ ،5/59‬رقم ‪ ، )2527‬وابن حبان (‪ ،8/135‬رقم ‪ ، )3347‬والحاكم (‪ ،1/576‬رقم ‪ ، )1519‬والبيهقي‬
‫(‪ ،4/181‬رقم ‪ ، )7568‬وحسنه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ‪ ،‬حديث رقم ‪.3606 :‬‬
‫‪ ) (91‬مجموع رسائل ابن رجب ‪. 1/352‬‬

‫‪58‬‬
‫ولهذا يكون العمالن في الصورة واح ًدا ‪ ،‬وبينهما في الفضل – بل بين قليل أحدهما وكثير‬
‫اآلخر ‪ -‬أعظم مما بين السماء واألرض ‪.‬‬
‫وهذا الفضل يكون بحسب رضا الرب سبحانه بالعمل ‪ ،‬وقبوله له ‪ ،‬ومحبته له ‪ ،‬وفرحه به‬
‫سبحانه وتعالى ‪ ،‬كما يفرح بتوبة التائب أعظم فرح ‪ ،‬وال ريب أن تلك التوبة الصادقة أفضل‬
‫وأحب إلى هللا تعالى من أعمال كثيرة من التطوعات وإن زادت في الكثرة عن التوبة ‪.‬‬
‫ولهذا كان القبول يختلف ويتفاوت بحسب رضا الرب سبحانه وتعالى بالعمل ‪ ،‬فقبول يُو ِجب‬
‫رضا هللا سبحانه وتعالى بالعمل ‪ ،‬ومباهاة المالئكة به ‪ ،‬وتقريب عبده منه ‪ ،‬وقبول يترتب عليه‬
‫كثرة الثواب والعطاء فقط ‪.‬‬
‫كمن تصدق بألف دينار من جملة ماله ‪ -‬مثاًل – بحيث ال يكترث بها ‪ ، ..‬وآخر عنده رغيف‬
‫واحد هو قوته ‪ ،‬ال يملك غيره ‪ ،‬فآثر به على نفسه من هو أحوج إليه منه ‪ ،‬محبة هلل ‪ ،‬وتقربًا إليه‬
‫وتود ًدا ‪ ،‬ورغبة في مرضاته ‪ ،‬وإيثارً ا على نفسه ‪.‬‬
‫فياهلل كم بعد ما بين الصدقتين في الفضل ومحبة هللا وقبوله ورضاه !!‬
‫واألعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من اإليمان والمحبة ‪ ،‬والتعظيم واإلجالل ‪ ،‬وقصد‬
‫وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه ‪ ،‬حتى تكون صورة العملين واحدة ‪ ،‬وبينهما‬
‫في الفضل ما ال ُيحصيه إال هللا تعالى ‪.‬‬
‫ضا بتجريد المتابعة ‪ ،‬فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضالن به في‬ ‫وتتفاضل أي ً‬
‫المتابعة ‪ ،‬فتتفاضل األعمال بحسب تجريد اإلخالص والمتابعة تفاضاًل ال يحصيه إال هللا‬
‫تعالى(‪. )92‬‬
‫إنما األعمال بالنيات ‪:‬‬
‫فالعبرة بما في القلوب من معاني العبودية هلل ‪ ،‬والعبرة كذلك باستحضارها مع العمل ‪ ،‬وكلما‬
‫كان توجه المشاعر هلل – َقبل العمل وفي أثنائه – أشد ‪ ،‬كانت درجته ومثوبته عند هللا أكبر ‪،‬‬
‫لذلك قال صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬إنما األعمال بالنيات » (‪. )2‬‬
‫فالنية ‪ :‬هي القصد والتوجه ‪ ،‬وعلى قدر توجه القلب نحو العمل حبًا هلل ‪ ،‬وابتغاء مرضاته ‪ ،‬وطمعًا‬
‫ت هَّللا ِ َو َت ْث ِبي ًتا مِنْ‬ ‫ون َأ َ‬
‫مْوا َل ُه ُم ا ْبت َِغا َء َمرْ َ‬
‫ضا ِ‬ ‫في مثوبته يكون الفضل واألجر منه سبحانه ‪َ ﴿ :‬و َم َث ُل الَّذ َ‬
‫ِين ُي ْن ِفقُ َ‬
‫ْن َفِإنْ َل ْم يُصِ ْب َها َو ِاب ٌل َف َط ٌّل َوهَّللا ُ ِب َما َتعْ َملُ َ‬ ‫صا َب َها َواب ٌل َفآ َت ْ ُأ‬
‫َأ ْنفُسِ ِه ْم َك َم َث ِل َج َّن ٍة ِب َرب َْو ٍة َأ َ‬
‫ون‬ ‫ت ُك َل َها ضِ عْ َفي ِ‬ ‫ِ‬
‫والطل ‪ :‬هو الرذاذ الخفيف والفارق بينهما في األثر‬ ‫َّ‬ ‫بَصِ ي ٌر ﴾ [البقرة ‪ . ]265 :‬فالوابل ‪ :‬هو المطر الشديد ‪،‬‬
‫كبير على الزرع ‪ ،‬كالفارق بين من يشتد إخالصه وتوجهه هلل وابتغاء مرضاته عند اإلنفاق وبين من لم‬
‫يشتد ذلك عنده ‪..‬‬
‫‪ ..‬فالعبرة – إذن – بالنيات ال بصور األعمال ‪.‬‬
‫لذلك نجده صلى هللا عليه وسلم يحث أصحابه على إخالص الدعاء عند صالة الجنازة حتى‬
‫يكون هذا أنفع لصاحبه في الفضل والمثوبة ‪ « :‬إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء »‬
‫(‪.)93‬‬
‫وإليك – أخي القارئ – التحديز النبوي الشديد من حضور البدن للعمل مع عدم حضور‬
‫القلب فيه ‪ ..‬قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬ما بال أقوام ‪ ،‬يُتلى عليهم كتاب هللا فال يدرون ما يُتلى‬
‫منه مما ُت ِرك ‪ ،‬هكذا خرجت عظمة هللا من قلوب بني إسرائيل ‪ ،‬فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم ‪،‬‬
‫وال يقبل هللا من عبد عماًل حتى يشهد بقلبه مع بدنه » (‪. )94‬‬
‫السباق سباق قلوب ‪:‬‬

‫‪ ) (92‬المنار المنيف البن القيم (‪.)33/ 1‬‬


‫( ‪ ) 2‬أخرجه البخاري (‪ ، 1/3‬رقم ‪ ، )1‬ومسلم (‪ ، 3/1515‬رقم ‪.)1907‬‬
‫‪ ) ( 93‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه ‪ :‬أبو داود ( ‪ ، ) 3200‬والنسائي في " الكبرى " ( ‪ ، ) 10917‬وصححه األلباني في صحيح الجامع الصغير‬
‫(‪. )669‬‬
‫‪ ) (94‬حديث ضعيف ‪ :‬أورده ابن األثير في جامع األصول ( ‪ ، )5/648‬وضعفه الشيخ األلباني في السلسلة الضعيفة ( ‪ 11/52‬برقم ‪. ) 5050‬‬
‫‪59‬‬
‫عندما نقرأ في سيرة التابعين وتابعيهم من سلف هذه األمة نجد أن منهم من كان يُصلي‬
‫الفجر بوضوء العشاء سنوات وسنوات ‪ ،‬ويظل طيلة الليل في صالة ‪ ،‬ومنهم من كان يصوم‬
‫صيام داود عليه السالم ‪ ،‬ومنهم ‪ ،‬ومنهم ‪ ، ..‬فإذا ما نظرنا لسيرة السابقين األولين من جيل‬
‫الصحابة رضوان هللا عليهم نجد أنهم من الناحية ال َكمِّية أقل منهم عبادة ‪ ،‬ومع ذلك فقد فاقوهم في‬
‫الرتبة والمنزلة ‪.‬‬
‫قال ابن مسعود ألصحابه ‪ :‬أنتم أكثر صومًا وصالة من أصحاب محمد صلى هللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫(‪)95‬‬
‫وهم كانوا خيرً ا منكم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وبم ذاك ؟ قال ‪ :‬كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في اآلخرة‬
‫‪.‬‬
‫بل إن أبا بكر الصديق لم يسبق الصحابة بكثرة العمل ‪ ،‬بل بما في قلبه من إيمان ‪.‬‬
‫قال بعض السلف ‪ :‬ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم وال صالة ‪ ،‬ولكن بشيء وقر في صدره ‪.‬‬
‫وألن العبرة بحال القلب قبل وأثناء العمل ‪ ،‬فإن المتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تح ُُّثنا على‬
‫تهيئة األجواء المناسبة الستجاشة المشاعر وحضور القلب قبل العمل ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪ :‬الصالة ‪:‬‬
‫نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من الشواغل ‪ ،‬وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن‬
‫يمنعنا من التركيز فيها ‪ ،‬فإذا حضر الطعام مع دخول وقت الصالة يُفضَّل البدء بالطعام حتى‬
‫يدخل المرء إلى الصالة وذهنه غير مشغول به ‪.‬‬
‫وكذلك عند مدافعة األخبثين ‪ ..‬قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬ال صالة بحضرة طعام ‪ ،‬وال‬
‫وهو يدافعه األخبثان » (‪. )96‬‬
‫وال ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصالة ‪ ،‬بل عليه أن يمشي في‬
‫سكينة وهدوء ‪ ،‬فاإلسراع من شأنه أن يجعله يدخل إلى الصالة وهو مضطرب فيصعُب عليه‬
‫جمع قلبه ‪.‬‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إذا أقيمت الصالة فال تأتوها تسعون وأتوها تمشون عليكم‬
‫السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » (‪. )97‬‬
‫والحث على التبكير في الذهاب إلى المسجد قبل إقامة الصالة له وظيفة مهمة في صرف‬
‫شواغل الدنيا عن الذهن ‪.‬‬
‫وكذلك فإن الحث على تذ ُّكر الموت قبل الصالة من شأنه أن يستجيش المشاعر نحو الرجاء‬
‫والطمع في عفو هللا ‪ ،‬والخوف والرهبة من عقوبته ‪ ،‬فيزداد الحضور القلبي والخشوع فيها ‪.‬‬
‫‪ ..‬قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬اذكر الموت في صالتك ‪ ،‬فإن الرجل إذا ذكر الموت في‬
‫لح ِري أن يُحسن صالته ‪ ،‬وص ِّل صالة رجل ال يظن أنه يصلي صالة غيرها ‪. )98( »..‬‬ ‫صالته َ‬
‫اإليمان ما وقر في القلب‬
‫كان ( عمرو ) يسير في الطريق فرأى أمامه حادث سيارة ‪ ،‬وشاهد دماء المصابين متناثرة‬
‫على الطريق ‪ ،‬والكل يتسابق إلنقاذ ما يُمكن إنقاذه فتأثر تأثرً ا بال ًغا ‪ ،‬وذهب إلى عمله وهو واجم‬
‫‪ ،‬مذهول ‪ ،‬فال حديث مع الزمالء كسابق عهده ‪ ،‬وال ضحك ‪ ،‬وال غيبة ‪ ،‬أو سخرية من اآلخرين‬
‫‪ ..‬وظل طيلة يومه على هذا الحال ‪ ،‬وبعد بضعة أيام بدأ يعود تدريج ًّيا إلى سيرته األولى ‪.‬‬
‫فما الذي حدث حتى يتغير هذا التغيير ‪ ،‬وما الذي حدث حتى يعود ثانية لسابق حاله ؟!‬

‫‪ ) ( 95‬أخرجه الحاكم في المستدرك ( ‪ 4/350‬برقم ‪ ) 7880‬وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ‪ ،‬ووافقه الذهبي ‪ ،‬والبيهقي في‬
‫شعب ( ‪ 13/184‬برقم ‪. ) 10152‬‬ ‫ال ُ‬
‫‪ ) (96‬أخرجه مسلم (‪ 2/78‬برقم ‪. ) 560‬‬
‫‪ ) (97‬متفق عليه ‪ :‬البخاري (‪ ، 1/228‬رقم ‪ ، )609‬ومسلم (‪ ، 1/421‬رقم ‪. )603‬‬
‫‪ ) ( 98‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (‪ ، 1/431‬رقم ‪ ، )1755‬وحسنه الحافظ ابن حجر في زهر الفردوس ‪ ،‬وكذلك حسنه‬
‫الشيخ األلباني في السلسلة الصحيحة ( ‪ 3/408‬برقم ‪. ) 1421‬‬

‫‪60‬‬
‫ت حقيقة الموت‬ ‫الذي حدث أنه عندما شاهد ما شاهده في الطريق تأثر بما رآه ‪َ ،‬‬
‫وط َف ْ‬
‫وإمكانية وقوعه في أي وقت على ساحة فكره ‪ ،‬واستثيرت معها مشاعر الرهبة والخشية ‪،‬‬
‫فانتعش داخله اإليمان بحتمية الموت ‪ ،‬فأثمر هذا اإليمان ‪ :‬يقظة جعلته ينتبه ألحواله ‪ ،‬ويُفكر في‬
‫أموره ‪ ،‬ويُدقق في كالمه وأفعاله ‪ ..‬وشيًئ ا فشيًئ ا ذهبت تلك الحالة ‪ ،‬وهدأت المشاعر ‪ ،‬فعاد مرة‬
‫ثانية إلى غفلته ‪ ،‬ليُمارس حياته كما كان يُمارسها من قبل ‪.‬‬
‫آخر سمع خطبة حارَّ ة تحُث على اإلنفاق في سبيل هللا ‪ ،‬أو شاهد مناظر‬ ‫ويتكرر األمر مع َ‬
‫مؤثرة في التلفاز ُتبيِّن حال الُم َشرَّ دين والبائسين والمنكوبين في بلدان المسلمين ‪ ،‬فإذا به يُبادر‬
‫بإخراج جزء من ماله في سبيل هللا ‪ ،‬بل ويدعو َمن حوله من أهله وجيرانه لذلك ‪ ،‬وبعد بضعة‬
‫أيام يعود إلى سابق عهده ‪ ،‬وتف ُتر همته عن اإلنفاق وعن دعوة الناس إليه ‪.‬‬
‫وسبب ذلك أنه قد حدث استثارة واستجاشة قوية ومؤثرة للمشاعر أثمرت هذا اإلنفاق ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك هدأت المشاعر فتوقف اإلنفاق ‪.‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬وما الحل لكي نستمر في اليقظة والقيام باألعمال الصالحة بدوافع إيمانية ؟‬
‫الحل يكمُن في القيام بالتربية اإليمانية الصحيحة التي تجعل القلب في حالة دائمة من اليقظة ‪.‬‬
‫أو بمعنى آخر ‪ :‬ال ينبغي علينا أن نجعل أعمالنا اإليمانية رهن المؤثرات القوية التي تستثير‬
‫المشاعر بصورة مؤقتة ‪ ،‬ثم يختفي أثرها بمرور الوقت ‪ ،‬وهذا لن يكون إال إذا أصبح اإليمان‬
‫مستقرا في القلب ‪ ،‬وأصبحت المشاعر في حالة من التأهب للتأثر بأدنى مؤثر وبأقل تذكرة ‪.‬‬ ‫ً‬
‫وأدوم ‪ ،‬بعكس اإليمان‬ ‫َ‬ ‫فكلما قوي اإليمان في القلب واستقر فيه كانت استثارته أسرع‬
‫الضعيف الذي يحتاج – لكي يُعبر عن نفسه – لمؤثر قوي ‪ ،‬يدفع صاحبه للعمل الصالح بصورة‬
‫مؤقتة ‪.‬‬
‫وألن الحياة كثيرة األحداث والتقلبات ‪ ،‬فإنها تحتاج م َّنا إلى إيمان قوي مستقر في القلب يدفعنا‬
‫دومًا إلى فعل الخيرات وترك المنكرات في كل وقت وتحت أي ظرف ‪ ،‬وليس إيما ًنا ضعي ًفا‬
‫يحتاج لكي يظهر إلى مؤثر ضخم وحدث جلل ؛ وفي الوقت نفسه ‪ ،‬فإن هذا اإليمان الضعيف‬
‫سرعان ما يزول أثره اإليجابي على السلوك بزوال المؤثر الذي استثاره ‪ ،‬ومثال ذلك ‪ :‬البيت‬
‫الذي ال سقف له فإن أهله يتعرضون بصورة دائمة لحر الشمس ولهيبها ‪ ،‬لذلك فأسعد أوقاتهم تلك‬
‫التي تأتي فيها سحابة فتظللهم ‪ ،‬وتحُول بينهم وبين الشمس ‪ ،‬ولكن – من المعتاد – أال يستمر‬
‫ظل السحابة طوياًل ‪ ،‬فسرعان ما يزول بتحركها وابتعادها عنهم ‪ ،‬لتعود الشمس بحرارتها‬
‫ولهيبها إليهم ‪ ..‬ومن البدهي أنهم إذا رغبوا في ظل دائم ‪ ،‬ووقاية مستمرة من الشمس ‪ ،‬فعليهم‬
‫أن يُشيِّدوا سق ًفا للبيت بداًل من أن ينتظروا ظهور السُحب ‪ ،‬فظل السحاب عارض سرعان ما‬
‫يزول أثره ‪ ،‬أما ظل السقف فهو دائم ألنه مستقر فوقهم ‪.‬‬
‫كذلك حال اإليمان الناشئ عن أمور عارضة ‪ ،‬وحاله الناشئ عن استقراره في القلب ‪.‬‬
‫لماذا ال يظهر أثر اإليمان في كل األوقات واألحوال ؟‬
‫كان ( زيد ) في المسجد يستمع إلى موعظة ‪ ،‬وكانت الموعظة مؤثرة ‪َ ،‬و ِج َلت منها القلوب ‪،‬‬
‫وذرفت منها العيون ‪ ،‬وتال الموعظة صالة العشاء وفيها قرأ اإلمام بآيات من سورة ( ق )‬
‫تتحدث عن الموت وما بعده من أحداث ‪ ،‬فعال نحيب المصلين ‪ ،‬واشتد بكاؤهم ‪ ،‬وانتهت الصالة‬
‫‪ ،‬وانطلق ( زيد ) خارجً ا من المسجد ‪ ،‬وذهب ليأخذ نعله فلم يجده ‪ ..‬بحث عنه في كل مكان فلم‬
‫يعثر له على أثر ‪ ،‬انتابته حالة من الجزع والضيق ‪ ،‬وتل َّفظ بألفاظ غير الئقة ‪ ،‬وغادر المسجد‬
‫حان ًقا متذمرً ا ‪..‬‬
‫لقد كان زيد منذ دقائق يبكي من خشية هللا ‪ ،‬فما الذي تغير حتى يظهر بهذه الحالة البعيدة عن‬
‫اإليمان ؟ لماذا لم تدفعه الحالة اإليمانية التي كان يعيشها إلى التعامل الهادئ مع المصيبة التي‬
‫أصابته ؟‬
‫‪61‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬ألن اإليمان غير مستقر في قلبه وأن بكاءه وتأثره بالموعظة والصالة كان عارضًا‬
‫‪ ،‬فلما زال أثره انكشف إيمانه ‪..‬‬
‫هذا التعليل قد يكون صحيحً ا لو كانت المدة الزمنية بين الصالة وبين سرقة نعله طويلة ‪ ،‬أ َما‬
‫واألمر لم يتعد بضع دقائق ال تسمح بزوال حالته اإليمانية ‪ ،‬فإن السبب غير ذلك ‪.‬‬
‫ولعل ما يكشف لنا سبب هذا التعارض هو تذ ُّكر ما قيل في الصفحات السابقة بأن اإليمان‬
‫يتناول جميع المشاعر ‪ ،‬بمعنى أن الحالة اإليمانية التي كان يعيشها ( زيد ) في الموعظة‬
‫والصالة كانت ُتعبِّر عن بعض مشاعر القلب وليس عن كل مشاعره ‪.‬‬
‫لقد كانت ُتعبِّر عن مشاعر الخوف والرهبة ‪ ،‬في حين ظلَّت باقي المشاعر كما هي دون‬
‫استثارة ‪ ،‬ومن َث َّم عندما تعرض لموقف السرقة ‪ ،‬لم يتعامل معه تعاماًل إيمان ًّيا مناسبًا ألن اإليمان‬
‫في اتجاه مشاعر الطمأنينة والسكينة ضعيف ‪ ،‬ولم يتم استثارته ‪ ،‬وهذا يُفسِّر لنا ‪ -‬إلى حد بعيد –‬
‫الج ِزع ‪.‬‬
‫هذا التناقض بين حالته الباكية ‪ ،‬ورد فعله َ‬
‫فاإليمان يتناول جميع المشاعر ؛ ولكي نتعامل مع أحداث الحياة المختلفة وتقلباتها تعاماًل إيمان ًّيا‬
‫يتناسب مع كل حدث ؛ البد من أن يكون هناك إيمان مستقر في كل شعور من مشاعره ‪ ،‬كالحب‬
‫والبغض ‪ ،‬والرغبة والرهبة ‪ ،‬والسكينة والطمأنينة ‪ ،‬والفرح واالستبشار ‪ ،‬والندم ‪ ،‬و‪. ...‬‬
‫فاإليمان المتكامل هو الذي يدفع صاحبه لحسن التعامل مع األحداث المختلفة كما قال صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪« :‬عجبًا ألمر المؤمن ‪ ،‬إن أمره كله خير ‪ ،‬إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ‪ ،‬وإن أصابته‬
‫ضراء صبر وكان خيرً ا له ‪ ،‬وليس ذلك ألحد إال للمؤمن » (‪.)99‬‬
‫والحد األدنى المطلوب وجوده من اإليمان في جميع المشاعر ‪ -‬ومن َث َّم االنتصار في معركة ردود‬
‫األفعال مع األحداث – هو أن تكون نسبة وجوده أعلى من نسبة وجود الهوى حتى تكون له الغلبة عليه‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪ :‬لو تكلمنا عن شعور الحب كأحد المشاعر الرئيسة ‪ ،‬فمن المتوقع أن يحتوي‬
‫على حُب النفس ‪ ،‬والوالدين ‪ ،‬والزوجة واألوالد ‪ ،‬والمال ‪ ،‬و‪. ...‬‬
‫هَّلِل‬ ‫ً‬ ‫َأ‬ ‫ُ‬
‫ِين آ َمنوا َش ُّد ُح ّبا ِ ﴾‬ ‫َّ‬
‫كل ذلك ال بأس من وجوده إذا كان حُب هللا أكبر من ُحبِّهم مجتمعين ﴿ َوالذ َ‬
‫[البقرة ‪. ]165 :‬‬
‫وفي الحديث ‪ « :‬ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان أن يكون هللا ورسوله أحب إليه مما سواهما‬
‫‪. )100( »...‬‬
‫فإذا تعارض حب هللا مع أي منهم تغلَّب حب هللا عز وجل ‪ ،‬ومن َث َّم يكون القرار لصالحه وليس‬
‫ير ُت ُك ْم َوَأ َ‬
‫مْوا ٌل ا ْق َت َر ْف ُتمُو َها َوت َِج َ‬
‫ارةٌ‬ ‫ان آ َباُؤ ُك ْم َوَأ ْب َناُؤ ُك ْم َوِإ ْخ َوا ُن ُك ْم َوَأ ْز َوا ُج ُك ْم َو َعشِ َ‬‫العكس ‪ ﴿ :‬قُ ْل ِإنْ َك َ‬
‫ض ْو َن َها َأ َحبَّ ِإ َل ْي ُك ْم م َِن هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه َو ِج َها ٍد فِي َس ِبيلِ ِه َف َت َر َّبصُوا َح َّتى َيْأت َِي هَّللا ُ‬‫َت ْخ َش ْو َن َك َسادَ َها َو َم َساكِنُ َترْ َ‬
‫ِين ﴾ [التوبة ‪. ]24 :‬‬ ‫مْر ِه َوهَّللا ُ اَل َي ْهدِي ْال َق ْو َم ْال َفاسِ ق َ‬‫َأ‬
‫ِب ِ‬

‫‪ ) (99‬أخرجه مسلم (‪ ، 4/2295‬رقم ‪.)2999‬‬


‫‪ ) (100‬متفق عليه ‪ ،‬البخاري (‪ ،14 / 1‬برقم ‪ ، )6542 ، 5694 ، 12‬ومسلم (‪ ، 1/67‬رقم ‪. )43‬‬
‫‪62‬‬
‫جناحا التربية اإليمانية‬
‫الفارق بين الحالة اإليمانية وبين االستقرار اإليماني هو أن الحالة أمر عارض يحدث للقلب‬
‫عند تعرضه لمؤثر قوي يُثمر انفعااًل وقت ًّيا قد يُصاحبه سلوك يُعبر عنه ‪.‬‬
‫أما االستقرار اإليماني فهو استقرار اإليمان ( بالشيء ) في القلب ‪ ،‬وتمكنه منه ‪ ،‬ومن َث َّم‬
‫التعبير الدائم عنه بالسلوك المناسب له ‪.‬‬
‫مع األخذ في االعتبار بأن اإليمان ليس مكانه مشعرً ا واح ًدا فقط ‪ ،‬بل يتناول جميع المشاعر ‪،‬‬
‫ولكي نتعامل مع أحداث الحياة وتقلباتها وأقدارها المفرحة والمؤلمة بتعامل إيماني يُناسبها البد‬
‫من وجود إيمان مستقر في جميع المشاعر ويُشكل جزءًا معتبرً ا فيها تتجاوز نسبته كل ما تحتويه‬
‫المشاعر من هوى ‪..‬‬
‫ليبقى السؤال ‪ :‬وكيف نبني اإليمان في كل المشاعر بناء مستقرً ا يغلب الهوى ؟‬
‫هل ُنكثر من النوافل ؟ هل نطيل المُكث في المسجد ؟ هل ُنكثر من أداء العُمرات ؟‬
‫كل هذا طيب وحسن ‪ ،‬ولكننا – كما أسلفنا – نرى ُأناسًا يفعلون ذلك ‪ ،‬ونجد سلوكياتهم‬
‫تتناقض – إلى حد كبير – مع عباداتهم ‪ ،‬فقد نجدهم جّ ِزعين عند المصائب ‪ ،‬حرصين على‬
‫تحصيل أكبر قدر من الدنيا ‪ ،‬و‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫وليس معنى هذا هو التقليل من شأن هذه األعمال ‪ ،‬فالعبادات كلها أنوار ووسائل قُرب من هللا‬
‫عز وجل ‪ ،‬ولكن المقصد هو البحث عن الحلقة المفقودة في منظومة العبادات والسلوك ‪،‬‬
‫والتعرف على السبب الذي يُقلل من أثرها في الواقع ‪ ،‬وهذا يستدعي التعرف على عبادات‬
‫القلوب وعبادات الجوارح ‪.‬‬
‫اإليمان والعمل الصالح ‪:‬‬
‫التربية اإليمانية لها جناحان ال تكتمل إال بهما ‪ ،‬وهما ‪ :‬أعمال القلوب وأعمال الجوارح ‪ ،‬أو‬
‫بعبارة أخرى ‪ :‬اإليمان والعمل الصالح ‪.‬‬
‫ولئن كان اإليمان محله القلب ( المشاعر ) ‪ ،‬فإن العمل الصالح محله الجوارح ‪.‬‬
‫ولكي ُيثمر العمل الصالح زيادة في اإليمان البد وأن ينطلق من حالة إيمانية ( استثارة‬
‫واستجاشة لمشاعر الرغبة تجاه القيام بالعمل ) ‪ ،‬فاإليمان ُيم ِّثل البذرة ‪ ،‬والعمل الصالح ُيمثل‬
‫الماء ‪ ،‬وكما هو معروف أننا إذا سقينا األرض بالماء دون وجود بذور في تربتها فلن ُيثمر هذا‬
‫الماء ‪ -‬مهما َك ُثر – أي إنبات ‪ ،‬وفي المقابل لو وضعنا البذور في باطن األرض ثم لم نسقها‬
‫ونتعاهدها فلن ُتنبت أي ً‬
‫ضا‪.‬‬
‫كذلك اإليمان والعمل الصالح ؛ فهما جناحا التربية اإليمانية ‪ ..‬اإليمان هو البذرة ‪ ،‬والعمل‬
‫الصالح هو الماء ‪ ..‬اإليمان هو األساس والعمل الصالح هو البناء ‪.‬‬
‫فلو انصب اهتمامنا على أعمال القلوب ‪ ،‬ولم نهتم بالعمل الصالح سيكون اإليمان محدو ًدا ‪،‬‬
‫ِّك اَل َي ْن َف ُع َن ْفسًا ِإي َما ُن َها َل ْم َت ُكنْ‬
‫ت َرب َ‬ ‫ولن نستفيد بوجوده االستفادة الحقيقية ﴿ َي ْو َم َيْأتِي َبعْ ضُ آ َيا ِ‬
‫ت ِمنْ َق ْب ُل َأ ْو َك َس َب ْ‬
‫ت فِي ِإي َما ِن َها َخيْرً ا ﴾ [األنعام ‪. ]158 :‬‬ ‫آ َم َن ْ‬
‫وفي المقابل ‪ ،‬لو قفزنا على العمل الصالح دون وجود اإليمان في المشاعر ‪ ،‬ودون استثارة‬
‫هذا اإليمان قبل العمل فسيكون الناتج ضعي ًفا ‪ ،‬إن لم ي ُكن معدومًا ‪.‬‬
‫وإليك ‪ -‬أخي القارئ ‪ -‬نسوق بعض األمثلة التي تؤكد هذا المعنى ‪:‬‬
‫المثال األول ‪:‬‬
‫* االستغفار في حقيقته هو طلب العفو من هللا عز وجل ‪ ،‬ويعني أننا قد قصَّرنا وأخطأنا في‬
‫حقه سبحانه ‪ ،‬لذلك فنحن نطلب منه العفو ‪ ،‬وأهم ما يُعبر عن هذا الطلب هو شعورنا بالندم على‬
‫ما فعلنا ‪ ،‬فإن حدث وقفزنا على االستغفار باللسان دون استثارة لمشاعر الندم فإننا مهما استغفرنا‬
‫باللسان فلن يؤدي هذا إلى زيادة إيماننا بالتقصير نحوه سبحانه ‪ ،‬ومن َث َّم لن يزداد اإليمان‬
‫‪63‬‬
‫باستغفار اللسان فقط ‪ ،‬بل هو في الحقيقة استغفار يحتاج إلى استغفار ألننا حين نفعل ذلك نكون‬
‫كالولد الذي أخطأ خطأ كبيرً ا في حق أبويه ‪ ،‬ثم ذهب يعتذر لهما بلسانه وهو يضحك وكأنه لم‬
‫يفعل شيًئ ا !! أال يجعل ذلك أبويه يزدادان ضي ًقا منه ألنه لم يعتذر اعتذارً ا حقيق ًّيا ‪ ،‬ولم يستشعر‬
‫حجم خطئه ؟‬
‫وإذا بدأنا بتذكر أوجه تقصيرنا في جنب هللا ‪ ،‬وظللنا نتذكر ونتذكر حتى اس ُتجيشت مشاعر‬
‫الندم في قلوبنا ‪ ،‬وتوقفنا عند ذلك ولم نستغفر باللسان فإن اإليمان سيزداد بهذا الندم ‪ ،‬ولكن زيادة‬
‫محدودة ‪.‬‬
‫أما إذا أتبعنا هذه االستجاشة باالستغفار وطلب العفو من هللا عز وجل فإن ذلك من شأنه أن‬
‫يزيد اإليمان بصورة كبيرة بإذن هللا ‪ ،‬فالشعور بالندم هو عمل إيماني قلبي ‪ ،‬واستغفار اللسان‬
‫عمل صالح بالجوارح ‪.‬‬
‫المثال الثاني ‪:‬‬
‫* التواضع له جناحان ‪ ،‬األول ‪ :‬شعور ينبغي ترسيخه في القلب بأنك صغير ‪ ،‬وأنك ال شيء‬
‫‪ ،‬وال قيمة لك بدون هللا عز وجل ‪ ،‬والثاني ‪ :‬القيام بأعمال تؤكد هذه الحقيقة ‪ ،‬كالسعي في قضاء‬
‫حوائج الناس ‪ ،‬والجلوس مع المساكين وإعزازهم ‪ ،‬والقيام علي خدمة اآلخرين ‪ ،‬و ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫فإن قفزنا على أعمال التواضع دون وجود معناه في القلب فإن هذه األعمال لن تزيد المرء‬
‫تواضعًا ‪ ،‬بل قد يكون لها تأثير سلبي على الفرد ‪ ،‬بأن يرى نفسه أفضل من غيره بتواضعه‬
‫وخفض جناحه ‪.‬‬
‫وإن اجتهدنا في تنمية الشعور الداخلي بأننا ال شيء بدون هللا عز وجل ‪ ،‬ولم ُنتبع ذلك‬
‫بأعمال المتواضعين ؛ فإن اإليمان بهذه الحقيقة سيظل محدو ًدا في قلوبنا ‪ ،‬وقد يضعف أكثر‬
‫ُمارس عمل ًّيا على أرض الواقع ‪.‬‬ ‫وأكثر ألنه لم ي َ‬
‫المثال الثالث ‪:‬‬
‫* الحب في هللا ‪ :‬له جناحان ‪ ،‬األول ‪ :‬شعور متبادل يجتاح اثنين من المؤمنين ‪ ،‬يميل كل‬
‫منهما نحو اآلخر لِما يرى فيه من صفات يُحبها هللا عز وجل ‪ ،‬والثاني ‪ :‬القيام بأعمال تؤكد هذا‬
‫األمر ‪ ،‬من الطرفين كالتزاور ‪ ،‬والتهادي ‪ ،‬والسؤال ‪ ،‬والسعي في خدمة اآلخر ‪.‬‬
‫ُأ‬
‫فإن لم يحدث الميل القلبي واأللفة والمودة في القلوب ‪ ،‬فإن أعمال األخوة مهما ديت فلن‬
‫ت‬‫ض َجمِيعًا َما َألَّ ْف َ‬ ‫ت َما فِي اَأْلرْ ِ‬ ‫تؤدي إلى الزيادة الحقيقية لمنسوب الحب في المشاعر ﴿ َل ْو َأ ْن َف ْق َ‬
‫ف َب ْي َن ُه ْم ﴾ [األنفال ‪. ]63 :‬‬‫وب ِه ْم َو َلكِنَّ هَّللا َ َألَّ َ‬
‫َبي َْن قُلُ ِ‬
‫وفي المقابل ‪ ،‬فإذا ما أنعم هللا عز وجل على قلبين مؤمنين بالحب بينهما ولم يقوما بأعمال‬
‫األخوة ‪ ،‬فسيظل هذا الحب محدو ًدا في القلب ‪ ،‬وقد يُصيبه ما يُنقص منه ويُقلله ‪.‬‬
‫فالبد من األمرين معًا ‪ :‬عمل القلب ‪ ،‬وعمل الجوارح ‪ ..‬اإليمان والعمل الصالح ‪.‬‬
‫والقرآن مليء باآليات التي تربط بين االثنين لينتبه المسلم إلى أهميتهما معًا ‪ ،‬فال يهتم‬
‫ه ُم الرَّ حْ َمنُ وُ ًّدا ﴾ [مريم ‪]96 :‬‬‫ت َس َيجْ َع ُل َل ُ‬ ‫ِين آ َم ُنوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ‬ ‫بأحدهما ويُهمل اآلخر ‪ِ ﴿ :‬إنَّ الَّذ َ‬
‫‪.‬‬
‫ظ ْلمًا َواَل َهضْ مًا ﴾ [طه ‪. ]112 :‬‬ ‫ت َوه َُو مُْؤ ِمنٌ َفاَل َي َخافُ ُ‬ ‫﴿ َو َمنْ َيعْ َم ْل م َِن الصَّال َِحا ِ‬
‫َأ‬
‫ِئك َل ُه ْم َم ْغف َِرةٌ َو جْ ٌر َك ِبي ٌر ﴾ [هود ‪. ]11 :‬‬ ‫ُأ‬
‫ت و َل َ‬ ‫ص َبرُوا َو َع ِملُوا الصَّال َِحا ِ‬ ‫ِين َ‬ ‫﴿ ِإاَّل الَّذ َ‬
‫ات ْال ُع َلى ﴾ [طه ‪. ]75 :‬‬ ‫ت َفُأو َل َ‬
‫ِئك َل ُه ُم ال َّد َر َج ُ‬ ‫﴿ َو َمنْ َيْأ ِت ِه مُْؤ ِم ًنا َق ْد َع ِم َل الصَّال َِحا ِ‬
‫صالِحً ا َفِإ َّن ُه َي ُتوبُ ِإ َلى هَّللا ِ َم َتابًا ﴾ [الفرقان ‪. ]71 :‬‬ ‫اب َو َع ِم َل َ‬ ‫﴿ َو َمنْ َت َ‬
‫ان َخيْرً ا َل ُه ْم َوَأ َش َّد َت ْث ِبي ًتا ﴾ [النساء ‪. ]66 :‬‬ ‫ون ِب ِه َل َك َ‬
‫ظ َ‬ ‫﴿ َو َل ْو َأ َّن ُه ْم َف َعلُوا َما ي َ‬
‫ُوع ُ‬
‫اإليمان أواًل ‪:‬‬

‫‪64‬‬
‫ومع أهمية ارتباط اإليمان بالعمل الصالح ‪ ،‬والعمل الصالح باإليمان إال أن األول مقدم على‬
‫الثاني ‪ ،‬فاإليمان مقدم على العمل الصالح ‪.‬‬
‫( فعمل القلب مقدم على عمل الجارحة ‪ ،‬وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب وإن اختلفت‬
‫مرتبتا الطلب ) (‪. )101‬‬
‫والمقصد بأعمال القلوب هي حركة المشاعر تجاه هللا عز وجل كخشيته ‪ ،‬وحبه ‪ ،‬وتعظيمه ‪،‬‬
‫ومهابته ‪ ،‬ورجائه ‪ ،‬واالستعانة به ‪ ،‬واالفتقار إليه ‪ ،‬واالنكسار بين يديه ‪ ،‬والحب فيه ‪ ،‬والغضب‬
‫من أجله ‪.‬‬
‫والمقصد بأعمال الجوارح ‪ :‬هي األعمال التي ُتؤ َّدى بالجوارح ودلتنا عليها نصوص القرآن‬
‫والسنة كالصالة ‪ ،‬والذكر ‪ ،‬والصدقة ‪ ،‬والسعي في قضاء حوائج الناس ‪ ،‬كما سيأتي بيانه بإذن‬
‫هللا ‪.‬‬
‫ولقد مرّ علينا ساب ًقا كيف أن صورة العملين قد تكون واحدة ‪ ،‬وما بينهما في الدرجة والفضل‬
‫ما بين السماء واألرض وذلك لتفاضل ما في القلوب ‪ ،‬ومر علينا كذلك كيف أن زيادة أعمال‬
‫القلب مع قلة أعمال الجوارح أفضل وأفضل من زيادة أعمال الجوارح وقلة أعمال القلب ‪ ،‬ومما‬
‫يؤكد ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬سبق درهم مائة ألف درهم ‪ :‬رجل له درهمان أخذ‬
‫أحدهما فتصدق به ورجل له مال كثير فأخذ من عُرضه مائة ألف درهم فتصدق بها » (‪، )102‬‬
‫وقوله ‪ « :‬ما تحاب اثنان في هللا تعالى إال كان أفضلهما أشدهما ح ًّبا لصاحبه » (‪.)103‬‬
‫ونفس األمر ينطبق على معاصي القلوب ومعاصي الجوارح ‪ ،‬فمعاصي القلوب من كِبر وغرور ‪،‬‬
‫وإعجاب بالنفس ‪ ،‬ورياء ‪ ،‬ونفاق ‪ ،‬وحسد ‪ ،‬والفرح بمصائب المسلمين ‪ ،‬واستعظام النفس ‪ ،‬واحتقار‬
‫اآلخرين وازدرائهم ‪ ...‬أشد وأشد في العقاب من معاصي الجوارح كالكذب ‪ ،‬والسرقة ‪ ،‬والغيبة‬
‫والنميمة و‪. ...‬‬
‫يقول ابن القيم ‪:‬‬
‫َمن تأمَّل الشريعة في مقاصدها ومواردها َعلِم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ‪ ،‬وأنها ال تنفع‬
‫بدونها ‪ ،‬وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح ‪ ،‬وهل يميَّز المؤمن من المنافق إاَّل‬
‫بما في قلب كل واحد منهما ؟!‬
‫وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم ‪ ،‬فهي واجبة في كل وقت ‪ ،‬ولهذا كان‬
‫اإليمان واجب القلب على الدوام ‪ ،‬واإلسالم واجب الجوارح في بعض األحيان (‪. )104‬‬
‫اإلسالم بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع (‪:)105‬‬
‫من هنا يتضح لنا أهمية االهتمام ببناء اإليمان الحقيقي الذي يتناول جميع المشاعر ‪ ،‬على‬
‫أال ُيهمل العمل الصالح ‪ ،‬بل ُيقرن دائ ًما بأعمال القلب ‪ ،‬ويجتهد المرء في تحسينه وحضور‬
‫المشاعر معه ‪ ،‬فمن فعل ذلك فهو السابق ح ًّقا ‪.‬‬
‫فاإليمان أواًل والعمل الصالح ثانيًا ‪ ،‬لتكون النتيجة ‪ :‬تحسُّن ملحوظ في ال ُخلق والسلوك ‪،‬‬
‫والمتأمل في التربية الربانية للجيل األول يجد أنها كانت ُتركز على أعمال القلوب ‪ ،‬وزيادة‬
‫اإليمان في القلب قبل تشريع العبادة ‪ ،‬فكما قيل بأن اإلسالم قد بدأ « مشاعر ‪ ،‬ثم شعائر ‪ ،‬ثم‬
‫شرائع » ‪.‬‬

‫‪ ) (101‬من كالم اإلمام حسن البنا في رسالة التعاليم ‪ ،‬من مجموعة رسائل اإلمام الشهيد ‪.‬‬
‫‪ ) ( 102‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه النسائي (‪ ،5/59‬رقم ‪ ، )2527‬وابن حبان (‪ ،8/135‬رقم ‪ ، )3347‬والحاكم (‪ ،1/576‬رقم ‪، )1519‬‬
‫والبيهقي (‪ ،4/181‬رقم ‪ ، )7568‬وحسنه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ‪ ،‬حديث رقم ‪.3606 :‬‬
‫‪ ) (103‬حديث صحيح ‪ :‬صححه الشيخ األلباني انظر حديث ( رقم ‪ ) 5594 :‬في صحيح الجامع ‪.‬‬
‫‪ ) (104‬بدائع الفوائد البن القيم ( ‪. ) 4/287‬‬
‫‪ ) (105‬هذه الفقرة تم نقل أغلبها من كتاب « حقيقة العبودية » للمؤلف ببعض التصرف من ص ‪ 52‬إلى ص ‪. 55‬‬
‫‪65‬‬
‫إنه ألمر عجيب أن ُتفرض الصالة في رحلة اإلسراء والمعراج ‪ ،‬ويُفرض الصيام وسائر‬
‫التشريعات في المدينة ‪ ،‬و ُتفرض الحدود في السنوات األخيرة من حياة الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ..‬فما الذي كان يفعله المسلمون األوائل في مكة إذن ؟!‬
‫ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه وقتها تكاليف يؤديها أو‬
‫محظورات يجتنبها ؟‬
‫تصوَّ ر وضع امرأة مسلمة في السنوات األولى للبعثة في شهر « رمضان » ‪ ،‬تستيقظ من‬
‫النوم في الصباح فتشرب بعضًا من الخمر ‪ ،‬وتخرج لحاجتها وهي مكشوفة الشعر ‪.‬‬
‫ومع ذلك فلم يكن عليها أي حرج شرعي ألن الصيام والحجاب لم يُفرضا ‪ ،‬والخمر لم يُحرَّ م‬
‫‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم ‪ ،‬كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون األوائل ‪ ..‬فمع عدم وجود تكاليف إال أنه‬
‫كان يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم ‪ ،‬وهي مرحلة تأسيس القاعدة‬
‫اإليمانية ‪ ،‬وتعبيد المشاعر هلل سبحانه ‪ ،‬لتأتي الشعائر بعد ذلك ف ُتحسِ ن التعبير عن هذه المشاعر ‪.‬‬
‫تقول السيدة عائشة رضي هللا عنها ‪ :‬أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل ‪ ،‬فيها ذكر‬
‫الجنة والنار ‪ ،‬حتى إذا ثاب الناس إلى اإلسالم نزل الحالل والحرام ‪ ،‬ولو نزل أول األمر ‪ :‬ال‬
‫تزنوا ‪ ،‬لقالوا ‪ :‬ال ندع الزنا أب ًدا ‪ ،‬ولو نزل أول األمر ‪ :‬ال تشربوا الخمر ‪ ،‬لقالوا ‪ :‬ال نترك‬
‫الخمر أب ًدا ‪ُ ..‬أنزل على النبي صلى هللا عليه وسلم وأنا جارية ألعب ‪َ ﴿ :‬ب ِل الس َ‬
‫َّاع ُة َم ْوعِ ُد ُه ْم‬
‫َّاع ُة َأ ْد َهى َوَأ َمرُّ ﴾ [القمر ‪ ، ]46 :‬وهي من سورة القمر‪ ،‬وما نزلت البقرة والنساء إال وأنا عنده‬ ‫َوالس َ‬
‫(‪)106‬‬
‫‪.‬‬ ‫في المدينة‬
‫وليس معنى هذا أن نترك العبادة ‪ ،‬أو نقول ‪ :‬البد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة ؛ فلقد‬
‫يت َل ُك ُم‬ ‫ت َل ُك ْم دِي َن ُك ْم َوَأ ْت َممْ ُ‬
‫ت َع َل ْي ُك ْم ِنعْ َمتِي َو َرضِ ُ‬ ‫اكتمل التشريع كما قال تعالى ‪ْ ﴿ :‬ال َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُ‬
‫اِإْلسْ اَل َم دِي ًنا ﴾ [المائدة ‪. ]3 :‬‬
‫فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه هللا علينا ‪ ،‬ومع ذلك فالبد من التركيز على القلب ‪،‬‬
‫وعلى زيادة اإليمان وتعبيد المشاعر هلل ‪ ،‬وأن ُنعطي هذا األمر القدر الكافي من االهتمام ‪،‬‬
‫وبخاصة في بداية تكوين الفرد المسلم ل ُتصبح العبادة مؤثرة تزيد اإليمان في القلب ‪ ،‬ومن َث َّم‬
‫ُتقرب صاحبها إلى هللا أكثر وأكثر ‪ ،‬ويظهر أثرها في السلوك ‪.‬‬
‫ولعلنا من ذلك أيضًا نستخلص طريقة تربوية نسلكها مع أبنائنا قبل سن التكليف ‪ ،‬فمع‬
‫تعويدهم على أداء عبادات الجوارح المختلفة ‪ ،‬إال أن الجهد األكبر ينبغي أن ينصب على تعريفهم‬
‫باهلل عز وجل ‪ ،‬وتحبيبهم فيه ‪ ،‬وتعظيم قدره في قلوبهم ‪ ،‬وتعريفهم بأنفسهم ‪ ،‬وأنهم ال شيء‬
‫بدون ربهم ‪ ..‬انظر إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو يوجِّ ه عبد هللا بن عباس رضي هللا‬
‫عنهما ويغرس فيه هذه المعاني فيقول له ‪:‬‬
‫« يا غالم ‪ ،‬إني ُأعلمك كلمات ؛ احفظ هللا يحفظك ‪ ،‬احفظ هللا تجده تجاهك ‪ ،‬إذا سألت فاسأل‬
‫هللا ‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن باهلل ‪ ،‬واعلم أن األمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إال‬
‫بشيء قد كتبه هللا لك ‪ ،‬ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضرُّ وك إال بشيء قد كتبه هللا‬
‫عليك ‪ ،‬رُفعت األقالم ‪ ،‬وج َّفت الصحف » (‪. )107‬‬
‫الخالصة ‪:‬‬

‫‪ ) (106‬أخرجه البخاري (‪ ،1910 / 4‬برقم ‪. ) 4707‬‬

‫‪ ) (107‬حديث صحيح‪ .‬رواه الترمذي (‪ ، )2516‬وصححه الشيخ األلباني في مشكاة المصابيح برقم (‪. )5302‬‬

‫‪66‬‬
‫وخالصة القول في هذا الفصل أن التربية اإليمانية الصحيحة التي ُتقرب العبد من ربه ‪،‬‬
‫صحيحا في حياة الفرد لها جناحان ‪ :‬أعمال القلوب وأعمال الجوارح ‪ ..‬اإليمان‬ ‫ً‬ ‫و ُتثمر سلو ًكا‬
‫والعمل الصالح ‪.‬‬
‫مع التأكيد على أن أعمال القلوب تسبق أعمال الجوارح في األهمية والترتيب ‪ ،‬شريطة أال‬
‫صالِحً ا َفِإ َّن ُه َي ُتوبُ ِإ َلى هَّللا ِ َم َتابًا ﴾‬ ‫ُيهمل العمل الصالح فهو بمثابة الماء للبذرة ﴿ َو َمنْ َت َ‬
‫اب َو َع ِم َل َ‬
‫[الفرقان ‪. ]71 :‬‬
‫‪ ..‬وفي الصفحات القادمة – بإذن هللا – سيتم إفراد الحديث عن كيفية بناء القاعدة اإليمانية‬
‫باتساعها في القلب ‪ ،‬وحديث آخر عن كيفية االنتفاع بالعمل الصالح في زيادة اإليمان ‪ ،‬وهللا‬
‫المُوفق ‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫تأسيس القاعدة اإليمانية‬


‫من خالل القرآن‬

‫‪68‬‬
‫الهدف الذي ترمي هذه الصفحات إلى تحقيقه – بإذن هللا – هو زيادة الثقة‬
‫في القرآن ‪ ،‬وتنمية الشعور باالحتياج إليه في تأسيس القاعدة اإليمانية‬
‫وتحقيق الربانية ‪.‬‬
‫ضا إلى دفع المرء الكتساب مهارة تدبر القرآن والتأثر بمعانيه‬‫وتهدف أي ً‬
‫والمداومة على ذلك ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫تأسيس القاعدة اإليمانية‬
‫ما المقصود بالقاعدة اإليمانية ؟‬
‫بناء القاعدة اإليمانية يعني تمكين اإليمان باهلل عز وجل في المشاعر المختلفة ‪ ،‬ليُصبح المرء‬
‫رقيق القلب ‪ ،‬سريع االستثارة عند تعرُّ ضه ألدنى مؤثر ‪ ،‬فينعكس ذلك على طريقة تعامله مع‬
‫أحداث الحياة بتقلباتها المختلفة ‪.‬‬
‫والمقصود بتمكين وبناء اإليمان في المشاعر المختلفة هو بناء الثقة في هللا عز وجل ‪ ،‬وفي‬
‫أسمائه وصفاته ‪ ،‬وفي اليوم اآلخر ‪ ،‬وبقية أركان اإليمان ‪.‬‬
‫هذه الثقة والطمأنينة عليها أن تكون لها اليد الطولى في المشاعر المختلفة ‪.‬‬
‫فإن تساءلت ‪ :‬وكيف يُمكن لإليمان أن يصل إلى هذه الدرجة ؟!‬
‫اًل‬
‫قد يُجيب البعض عن هذا التساؤل إجابة نظرية ؛ فيطرح أعما ووسائل من شأنها – في‬
‫نظره – أن تصل بالمرء لهذا المستوى اإليماني ‪ ،‬فمن قائل ‪ :‬بأن علينا اإلكثار من صيام النفل‬
‫وقيام الليل ومكابدة ذلك وتحمله سنوات وسنوات ‪ ،‬ومن قائل باإلكثار من األوراد واألذكار‬
‫والتسابيح ‪ ،‬إال أن هذه اإلجابة تختلف عن إجابة البعض اآلخر الذي يتبنى – من الناحية النظرية‬
‫القيام بأعمال أخرى كاإلكثار من األعمال االجتماعية ذات النفع المُتع ِّدي لآلخرين ‪..‬‬
‫‪ ..‬مما ال شك فيه أن كل هذه األعمال الصالحة وغيرها لها وظيفة عظيمة في زيادة اإليمان‬
‫شريطة أن ُتؤدى بإحسان ‪ -‬كما أسلفنا ‪ ، -‬لكننا هنا نتحدث عن القاعدة اإليمانية باتساعها في‬
‫القلب ‪ ،‬والتي تسبق األعمال الصالحة في الترتيب في األهمية ‪.‬‬
‫إن طريقة بناء تلك القاعدة في المشاعر المختلفة يحتاج إلى نوعية خاصة من األعمال التي‬
‫ُتخاطب العقل وتقنعه بكل ما ينبغي اإليمان به ‪ ،‬وتستثير في الوقت ذاته المشاعر حتى تتحول‬
‫القناعة العقلية إلى حالة إيمانية يعيشها القلب ‪ ..‬على أن تستمر هذه المخاطبة حتى تتحول تلك‬
‫الحالة إلى إيمان مستقر في القلب ‪ ،‬وليس ذلك فحسب بل ينبغي أن يتناول ذلك جميع المشاعر‬
‫المختلفة التي تظهر ثمار اإليمان في كل األحوال والتقلبات الحياتية التي يتعرض لها المرء ‪.‬‬
‫تعرفهم بسيماهم ‪:‬‬
‫لكي نتفق على الطريقة الصحيحة لتأسيس القاعدة اإليمانية علينا أن نبحث في التاريخ عن‬
‫نموذج حقيقي من البشر ظهرت عليه آثار وثمار اإليمان المتنوعة والشاملة والتي ُت َع ّد بمثابة مرآة‬
‫تعكس وجود تلك القاعدة في القلب ‪ ،‬فإن وجدناه علينا أن نتحرى عن األسباب التي أ َّدت إلى‬
‫تكوينها بإذن هللا ‪.‬‬
‫اًل‬ ‫اَّل‬
‫والباحث المنصف في تاريخ األمة لن يجد إ جي واح ًدا ظهرت عليه تلك الثمار الشاملة أال‬
‫وهو جيل الصحابة ‪ ،‬ولعل ما قيل في الفصل الثاني ( ثمار اإليمان ) ما يؤكد هذا األمر ‪.‬‬
‫ليبقى السؤال عن سبب وصولهم إلى هذا المستوى اإليماني السامق حتى نحذو حذوهم ‪،‬‬
‫وبخاصة أنهم كانوا قبل إسالمهم في ذيل األمم ‪ ،‬وكانوا يغرقون في ظلمات الجاهلية ‪ ،‬وكان‬
‫حالهم أسوأ بكثير من حالنا اآلن ‪ ..‬كانوا يعبدون الحجارة ‪ ،‬ويأتون الفواحش ‪ ،‬ويقطعون األرحام‬
‫‪ ،‬ويئدون البنات ‪ ،‬ويأكل القوي منهم الضعيف ‪..‬‬
‫فكيف حدث لهم هذا التحول العجيب ؟!‬
‫كيف استطاعوا أن يصلوا إلى هذا المستوى اإليماني ّ‬
‫الفذ ؟‬
‫فإن قلت ‪ :‬قد يكون وجود الرسول صلى هللا عليه وسلم بينهم هو السبب في ذلك ‪ .‬أجبتك أنه‬
‫ما من شك في أن وجود الرسول صلى هللا عليه وسلم بين الصحابة كان له دور كبير في‬
‫استقامتهم ‪ ،‬فهو المعلم والمُربِّي ‪ ،‬ولكن لو كان األمر يقف عند هذا الحد ألصبح من المستحيل‬

‫‪70‬‬
‫الوصول إلى هذه الدرجة اإليمانية أو االقتراب منها في ظل غياب شخص الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫‪ ..‬هذه واحدة ‪ ،‬واألخرى أنه صلى هللا عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد مستويات‬
‫إيمانية عالية من ُأناس لم يسبق له أن رآهم أو تعامل معهم من قبل ‪ ،‬فبعد بيعة العقبة أرسل‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم مصعب بن عمير ألهل يثرب – الذين كانوا على شركهم –‬
‫ليدعوهم إلى اإلسالم ‪ ،‬وقد كان ‪ ،‬وانشرحت الصدور للدين الجديد ‪ ،‬وامتألت القلوب باإليمان‬
‫من قبل مجيء المهاجرين إليهم ومن بعدهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬ويكفي لالستدالل‬
‫على قوة إيمانهم ما فعلوه مع المهاجرين من إيثار عجيب مع شدة فقرهم ‪ ،‬والذي تم الحديث عنه‬
‫ان ِمنْ َق ْبل ِِه ْم ُي ِحب َ‬
‫ُّون َمنْ‬ ‫في مقدمة الكتاب ‪ ،‬وذكرته اآلية الكريمة ﴿ َوالَّذ َ‬
‫ِين َت َبوَّ ءُوا ال َّد َ‬
‫ار َواِإْلي َم َ‬
‫ان ِب ِه ْم‬ ‫ُون َع َلى َأ ْنفُسِ ِه ْم َو َل ْو َك َ‬ ‫اج ًة ِممَّا ُأو ُتوا َويُْؤ ِثر َ‬ ‫ص ُد ِ‬
‫ور ِه ْم َح َ‬ ‫ون فِي ُ‬‫اج َر ِإ َلي ِْه ْم َواَل َي ِج ُد َ‬
‫َه َ‬
‫اص ٌة ﴾ [الحشر ‪. ]9 :‬‬ ‫ص َ‬ ‫َخ َ‬
‫والعجيب أن الكثير من شعائر اإلسالم لم تكن فُ ِرضت في هذه المرحلة حتى نقول بأن‬
‫التزامهم بالعبادات واألعمال الصالحة كان السبب في هذا اإليمان الفذ ‪..‬‬
‫فكيف وصلوا لهذا المستوى ؟!‬
‫ماذا فعل معهم ُمصعب بن عمير ؟!‬
‫كل ما في األمر أن مصعبًا عندما ذهب إلى يثرب كان معه ما نزل من القرآن ‪ ،‬أو بعبارة‬
‫أخرى كانت معه المعجزة التي نزلت من السماء والتي من شأنها أن ُتحدث زلزااًل رهيبًا في‬
‫القلوب فال تستقر بعده على حالها السابق ‪ ،‬بل تكون في حالة من االنبهار الشديد ‪ ،‬واالستسالم‬
‫لرب هذه المعجزة ‪.‬‬
‫لقد كان مصعب يُدرك أن معه معجزة عظيمة له آثار مزلزلة على من يتعرض لها ‪ ،‬لذلك‬
‫كان إذا أراد أن يدعو أح ًدا إلى اإلسالم ؛ يقرأ عليه آيات من القرآن ‪ ،‬فيحدث له الزلزال ومن َث َّم‬
‫التسليم واإلذعان الفوري ‪ ،‬لدرجة أن أهل يثرب أطلقوا عليه لقب ‪ « :‬المُقرئ » ‪ ،‬ولك – أخي‬
‫القارئ – أن تتأكد من هذا األمر إذا ما قرأت قصة إسالم ُأسيد بن حضير ‪ ،‬وسعد بن معاذ ‪.‬‬
‫فُأسيد بن حضير ‪ ،‬وسعد بن معاذ كانا من سيدي ( األوس ) ‪ ،‬وقد ضاقا ذرعًا بالدعوة‬
‫الجديدة التي يحمل لوائها مصعب بن عمير ‪ ،‬فعزما على إخراجه من يثرب بعد أن تزايد عدد‬
‫من أسلم من أهلها على يديه ‪ ،‬وذات مره كان مصعب في بستان من بساتين بني ( عبد األشهل )‬
‫يدعو الناس إلى اإلسالم ‪ ،‬ويقرأ عليهم القرآن ‪ ،‬فإذا بُأسيد يأخذ حربته ويتوجه نحو البستان ‪،‬‬
‫فلما رآه أسعد بن زرارة مقباًل قال لمصعب ‪ :‬ويحك يا مصعب ‪ ،‬هذا سيد قومه وأرجحهم عقاًل‬
‫خلق كثير ‪ ،‬فاصدق هللا فيه ‪..‬‬ ‫‪:‬أسيد بن حضير ‪ ،‬فإن يُسلم يتبعه في إسالمه ٌ‬
‫وقف أسيد بن حضير على الجمع ‪ ،‬والتفت إلى مصعب وصاحبه أسعد ‪ ،‬وقال ‪ :‬ما جاء بكما‬
‫إلى ديارنا ‪ ،‬وأغراكما بضعفائنا ؟! اعتزال هذا الحي إن كانت لكما بنفسيكما حاجة ‪.‬‬
‫فالتفت مصعب إلى أسيد قائاًل ‪ :‬يا سيد قومه ‪ ،‬هل لك في خير من ذلك ؟‬
‫قال ‪ :‬وما هو ؟‬
‫قبلته ‪ ،‬وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم‬ ‫قال ‪ :‬تجلس إلينا ‪ ،‬وتسمع م َّنا ‪ ،‬فإن رضيت ما قلناه ِ‬
‫نعد إليكم ‪.‬‬
‫فقال أسيد ‪ :‬لقد أنصفت ‪ ،‬وركز رمحه في األرض وجلس ‪ ،‬فأقبل عليه مصعب فكلمه عن‬
‫اإلسالم ‪ ،‬وقرأ عليه شيًئ ا من آيات القرآن ‪ ،‬فانبسطتت أساريره ‪ ،‬وأشرق وجهه ‪ ،‬وقال ‪ :‬ما‬
‫أحسن هذا الذي تقول ‪ ،‬ما أخ َّل ذلك الذي تتلو !! كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في اإلسالم ؟‬
‫قال مصعب ‪ :‬تغتسل وتطهر ثيابك ‪ ،‬وتشهد أن إله إال هللا وأن محم ًدا رسول هللا ‪ ،‬وتصلي‬
‫ركعتين ففعل ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬إن ورائي رجاًل إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ‪ ،‬وسأرشده‬
‫‪71‬‬
‫إليكما اآلن – سعد بن معاذ – ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه ‪ .‬فقال سعد ‪ :‬أحلف‬
‫باهلل لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ‪.‬‬
‫‪ ..‬ثم ذهب سعد إلى مصعب فحدث له ما حدث ألسيد ‪ ..‬حدث له الزلزال فأسلم واستسلم هلل ‪،‬‬
‫وخرج مسرعًا إلى قومه يقول لهم ‪ :‬إن كالم رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا باهلل‬
‫ورسوله (‪. )108‬‬
‫الجيل الرباني ‪:‬‬
‫من هنا نقول بأن القرآن الكريم هو الوسيلة العظيمة والمتفردة التي قامت بتغيير الصحابة ‪..‬‬
‫ويؤكد فريد األنصاري على هذا المعنى فيقول ‪ :‬إن القرآن الكريم كان هو الباب المفتوح‬
‫والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت هللا ‪ ،‬حيث صُنعوا على عين هللا ‪ ..‬إنه السبب‬
‫الوثيق الذي تعلقت به قلوبهم ‪ ،‬فأوصلهم إلى مقام التوحيد (‪ )109‬أو كما قال الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم في الحديث الصحيح ‪ « :‬كتاب هللا ‪ ،‬هو حبل هللا الممدود من السماء إلى األرض »‬
‫(‪. )110‬‬
‫ً‬
‫ارتباطا عمَّق صلة القلوب بربها ‪،‬‬ ‫‪ ( ..‬لقد َّ‬
‫توثق ارتباط الصحابة بالقرآن في العهد النبوي ‪،‬‬
‫إلى درجة أنهم كانوا يتتبعون الوحي تتبع الملهوف الحريص على التر ِّقي في مدارج المعرفة باهلل‬
‫والسلوك إليه سبحانه ‪ ،‬فهذا عمر بن الخطاب عندما كان مكل ًفا ‪ ،‬وصاحبًا له بالمرابطة في ثغر‬
‫من ثغور المدينة ‪ ،‬تر ُّقبًا لغزو مُتو َّقع من ملك غسان ) (‪ )111‬كان يتناوب النزول مع صاحبه إلى‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم لمعرفة خبر الوحي ‪ ،‬فيقول في ذلك ‪:‬‬
‫كان لي جار من األنصار ؛ فكنا نتناوب النزول إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فينزل‬
‫يومًا ‪ ،‬وأنزل يومًا ‪ ،‬فيأتيني بخبر الوحي وغيره ‪ ،‬وآتيه بمثل ذلك ‪ ،‬وكنا نتحدث أن غسان تنعل‬
‫(‪)112‬‬
‫الخيول لتغزونا‬
‫لقد كان القرآن هو المنبع األول والمنهج المؤثر الذي قام بتربية الصحابة ‪ ،‬ورفعهم إلى أعلى‬
‫اآلفاق بعد أن كانوا في أسفل السفوح ‪ ،‬وكان الرسول صلى هللا عليه وسلم يقوم بوظيفة المعلم‬
‫والمربي الذي يتعاهد فعل القرآن فيهم ‪ ،‬ويُعمق معانيه في نفوسهم ‪ ،‬ويشرح لهم ما ُأشكل فهمه‬
‫عليهم ‪ ..‬كان صلى هللا عليه وسلم هو المُبلغ عن هللا ‪ ،‬والمُربي والقدوة العملية لتمام وكمال‬
‫العبودية هلل عز وجل ‪..‬‬
‫صنِعوا ها هنا ‪:‬‬ ‫إنهم ُ‬
‫عندما تحدثنا – بفضل هللا – في الفصل الثاني عن ثمار اإليمان ؛ كانت األمثلة من جيل الصحابة‬
‫رضوان هللا عليهم ‪ ،‬فقد كانوا جياًل من الربانيين العابدين الزاهدين المجاهدين المتواضعين ‪ ،‬ليكونوا‬
‫بمثابة أعظم وأصدق شهادة لقوة تأثير القرآن ‪ ،‬وأكبر دليل إثبات لقدرته – بإذن هللا – على إعادة‬
‫صياغة وتشكيل اإلنسان على النحو الذي يُحبه هللا ويرضاه مهما كان انحرافه وضالله ‪..‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول سيد قطب رحمه هللا ‪:‬‬
‫لقد كنت وأنا ُأراجع سيرة الجماعة المسلمة األولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود هللا –‬
‫سبحانه – وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم ‪ ،‬فال أكاد ُأدرك كيف تم هذا ؟!‬
‫كنت ُأدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم ‪ ،‬ولكني لم أكن‬
‫ُأدرك كيف تم هذا حتى عُدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه األصيل ‪ :‬تجلية حقيقة‬
‫األلوهية وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها ‪.‬‬
‫‪ ..‬وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله !‬

‫) سيرة ابن هشام ( ‪ ، )2/207‬والرحيق المختوم للمباركفوري ( ‪. ) 164 ، 163‬‬ ‫‪(108‬‬


‫) التوحيد والوساطة في العمل الدعوي د‪ .‬فريد األنصاري ص ‪. 46‬‬ ‫‪(109‬‬
‫) أخرجه الطبري (‪. )4/31‬‬ ‫‪(110‬‬
‫) التوحيد والوساطة في العمل الدعوي د‪ .‬فريد األنصاري ص ‪. 42‬‬ ‫‪(111‬‬
‫) متفق عليه ‪ ،‬أخرجه البخاري ( ‪ 1/46‬برقم ‪ 5/1991 ، 89‬برقم ‪ ، ) 4895‬ومسلم ( ‪ 4/192‬برقم ‪. ) 3768‬‬ ‫‪(112‬‬
‫‪72‬‬
‫أدركت – وال أقول أحطت – سر الصنعة عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ‬
‫البشرية وكيف صُنع !‬
‫صنعوا بهذا القرآن ! بهذا المنهج ال ُمتجلي فيه ! بهذه الحقيقة المتجلية‬ ‫صنعوا هاهنا ! ُ‬ ‫إنهم ُ‬
‫في هذا المنهج ! حيث ُتحيط هذه الحقيقة بكل شيء ‪ ،‬وتغمر كل شيء ‪ ،‬ويصدر عنها كل شيء‬
‫‪ ،‬ويتصل بها كل شيء ‪ ،‬ويتكيف بها كل شيء ‪ ..‬بهذا كله وجدت ‪ -‬في األرض وفي دنيا الناس‬
‫– حقيقة « الربانية » متمثلة في ُأناس من البشر ‪.‬‬
‫ُوجد « الربانيون » الموصولون باهلل ‪ ،‬العائشون باهلل ‪ ،‬وهلل ‪ ،‬الذين ليس في قلوبهم ‪،‬‬
‫وليس في حياتهم إال هللا ‪..‬‬
‫وحينما وُ جدت حقيقة « الربانية » هذه في دنيا الناس ‪ ،‬ووُ جد الربانيون الذين هم الترجمة‬
‫الحقيقية لهذه الحقيقة ‪ ..‬حينئذ انساحت الحواجز األرضية ‪ ،‬والمقررات األرضية ‪ ،‬والمألوفات‬
‫األرضية ‪ ،‬ودبَّت هذه الحقيقة على األرض ‪ ،‬وصنع هللا ما صنع في األرض وفي حياة الناس‬
‫بتلك الحفنة من العباد ‪ ..‬وبطلت الحواجز التي اعتاد الناس أن يروها تقف في وجه الجهد‬
‫البشري و َت ُح ُّد مداه ‪ ،‬وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس األحداث واألشياء ‪ ..‬ووُ جد الواقع‬
‫اإلسالمي الجديد ‪ ،‬ووُ لد معه اإلنسان الحقيقي الجديد (‪. )113‬‬
‫من هنا ُندرك كيف كان حزن الصحابة على انقطاع الوحي ‪ ،‬وليس أدل على ذلك مما رواه‬
‫أنس رضي هللا عنه عندما قال ‪:‬‬
‫قال أبو بكر رضي هللا عنه بعد وفاة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لعمر ‪ « :‬انطلق بنا إلى‬
‫أم أيمن نزورها كما كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يزورها‪ ..‬فلما انتهينا إليها ‪ ،‬بكت ‪ ،‬فقاال‬
‫لها ‪ :‬ما يُبكيك ؟ ما عند هللا خير لرسوله صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فقالت ‪ :‬ما أبكى أن ال أكون أعلم‬
‫أن ما عند هللا خير لرسوله صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء!‬
‫فهيجتهما على البكاء ‪ ،‬فجعال يبكيان معها »(‪.)114‬‬
‫تأثر الصحابة بالقرآن ‪:‬‬
‫ذاق الصحابة رضوان هللا عليهم حالوة اإليمان من خالل القرآن ‪ ،‬وأدركوا قيمته ‪ ،‬فأقبلوا‬
‫عليه وانشغلوا به ‪ ،‬وانجذبت مشاعرهم نحوه لدرجة االستغراق والهيمنة ‪:‬‬
‫ِّك َل َوا ِق ٌع (‪َ )7‬ما َل ُه ِمنْ دَ اف ٍِع ﴾‬ ‫فهذا عمر بن الخطاب يسمع رجاًل يقرأ ‪ِ ﴿ :‬إنَّ َع َذ َ‬
‫اب َرب َ‬
‫[الطور ‪ ، ]8 ، 7 :‬فجعل يبكي حتى اشتد بكاؤه ‪ ،‬فقيل له في ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬دعوني ‪ ،‬إني قد‬
‫حق من ربي(‪.)115‬‬ ‫سمعت َق َس َم ٍ‬
‫وكان عبد هللا بن عباس يُقرئ عبد الرحمن بن عوف في خالفة عمر بن الخطاب ‪ ..‬قال عبد‬
‫هللا بن عباس ‪ :‬لم أر أح ًدا يجد من القشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند القراءة (‪. )116‬‬
‫وفي يوم من األيام قال بعض الصحابة لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬ألم تر ثابت بن قيس‬
‫بن الشماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ؟!‬
‫(‪)117‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال ‪ « :‬فلعله قرأ بسورة البقرة » ‪ ،‬فسُئل ثابت فقال ‪ :‬قرأت سورة البقرة‬
‫نزل رجل من العرب على عامر بن ربيعة‪ ،‬فأكرم عامر مثواه‪ ،‬وكلم فيه رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فجاء الرجل إليه بعد ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬إني استقطعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم واديًا‬
‫ما في العرب أفضل منه‪ ،‬ولقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك‪.‬‬

‫) مقومات التصور اإلسالمي لسيد قطب ‪ ،‬ص ‪ 193 ، 192‬باختصار ‪ ،‬دار الشروق – مصر ‪.‬‬ ‫‪(113‬‬
‫) أخرجه مسلم ( ‪ 7/144‬برقم ‪. ) 6472‬‬ ‫‪(114‬‬
‫) رواه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء ‪.‬‬ ‫‪(115‬‬
‫) االنتصار للقرآن للباقالني ( ‪ ، )1/201‬ومختصر قيام الليل لمحمد بن نصر ( ‪.)145‬‬ ‫‪(116‬‬
‫) فضائل القرآن ألبي عبيد ص ‪ ،66‬وابن كثير في فضائل القرآن ‪ ،‬وقال‪ :‬إسناده جيد‪.‬‬ ‫‪(117‬‬
‫‪73‬‬
‫اس‬ ‫ب لِل َّن ِ‬ ‫فقال عامر‪ :‬ال حاجة لي في قطيعتك‪ ،‬نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا ‪‬ا ْق َت َر َ‬
‫ُون‪[ ‬األنبياء‪.)118( ]1 :‬‬ ‫ح َِسا ُب ُه ْم َو ُه ْم فِي َغ ْف َل ٍة مُّعْ ِرض َ‬
‫المصدر المتفرد ‪:‬‬
‫إذن فالقرآن الكريم هو المصدر المتفرد والوسيلة العظيمة التي صنعت الجيل األول ‪ ،‬ومن َث َّم‬
‫فهو المؤهل للقيام بهذه الوظيفة معنا إن أحس َّنا التعامل معه ‪.‬‬
‫‪ ..‬هذا من ناحية الواقع العملي ‪ ،‬أما من ناحية الشروط التي تم الحديث عنها في الصفحات‬
‫السابقة والخاصة ببناء القاعدة اإليمانية ‪ ،‬فإن جميعها متحقق في القرآن وزيادة وزيادة ‪ ،‬وكيف‬
‫ال والذي أنزله هو رب العالمين ‪ ،‬العالم باحتياجاتهم ‪ ..‬الذي يُريد لهم الخير والقرب الدائم منه ﴿‬
‫ض ﴾ [الفرقان ‪. ]6 :‬‬ ‫ت َواَأْلرْ ِ‬ ‫َأ ْن َز َل ُه الَّذِي َيعْ َل ُم السِّرَّ فِي ال َّس َم َاوا ِ‬
‫إن طريقة القرآن في زيادة اإليمان ‪ ،‬وبناء قاعدته في جميع المشاعر طريقة فريدة ال يُمكن‬
‫للعقل البشري القاصر أن يُحيط بها ‪ ،‬ويكفيك في ذلك أن تتعرف على تأثير آيات القرآن عندما‬
‫ِين ُأو ُتوا ْالع ِْل َم ِمنْ َق ْبلِ ِه َذا ُي ْت َلى َع َلي ِْه ْم َيخِرُّ َ َأْل‬
‫ان‬ ‫ون لِ ْذ َق ِ‬ ‫ِإ‬ ‫ُتتلى على من يُحسن استقبالها ﴿ ِإنَّ الَّذ َ‬
‫ان َوعْ ُد َر ِّب َنا َل َم ْفعُواًل (‪َ )108‬و َيخِرُّ َ َأْل‬
‫ون‬ ‫ان َي ْب ُك َ‬ ‫ون لِ ْذ َق ِ‬ ‫ان َر ِّب َنا ِإنْ َك َ‬
‫ون ُسب َْح َ‬ ‫سُجَّ ًدا (‪َ )107‬و َيقُولُ َ‬
‫شوعًا ﴾ [اإلسراء ‪. ]109 - 107 :‬‬ ‫َو َي ِزي ُد ُه ْم ُخ ُ‬
‫فهؤالء الذين أشارت إليهم اآليات عندما سمعوا القرآن خرُّ وا إلى األذقان سُج ًدا من تأثيره‬
‫عليهم ‪ ..‬اندفعوا نحو األرض بجباههم دون أن يُطلب منهم ذلك ‪ ..‬دفعهم لهذا السجود قوة تأثير‬
‫اآليات على قلوبهم ‪ ،‬واستثارتها الفائقة لمشاعر اإلجالل والتعظيم هلل عز وجل ‪ ،‬فلم يملكوا‬
‫أنفسهم ‪ ،‬ولم يستطيعوا السيطرة على مشاعرهم ‪ ،‬فاندفعوا ساجدين خاشعين باكين ﴿ ِإ َّن َما يُْؤ مِنُ‬
‫ُون ﴾ [السجدة ‪. ]15 :‬‬ ‫ِين ِإ َذا ُذ ِّكرُوا ِب َها َخرُّ وا سُجَّ ًدا َو َس َّبحُوا ِب َحمْ ِد َرب ِِّه ْم َو ُه ْم اَل َيسْ َت ْك ِبر َ‬ ‫ِبآ َيا ِت َنا الَّذ َ‬
‫وكأن هذا هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه كل من يستمع آيات القرآن ؛ لِما فيها من قوة‬
‫ون‬ ‫تأثير جبارة ‪ ،‬لذلك ذم هللا عز وجل من ال يؤمن واليخشع عند سماعه للقرآن ﴿ َف َما َل ُه ْم اَل يُْؤ ِم ُن َ‬
‫ون ﴾ [االنشقاق ‪. ]21 ، 20 :‬‬ ‫(‪َ )20‬وِإ َذا قُ ِرَئ َع َلي ِْه ُم ْالقُرْ آنُ اَل َيسْ ُج ُد َ‬
‫ون ﴾‬ ‫ث َبعْ دَ هُ يُْؤ ِم ُن َ‬ ‫فمن لم يتأثر بالقرآن ويزداد به إيما ًنا ‪ ،‬فبماذا سيتأثر ويؤمن ؟! ﴿ َف ِبَأيِّ َحدِي ٍ‬
‫[المرسالت ‪. ]50 :‬‬
‫المعرفة الشاملة ‪:‬‬
‫القرآن كتاب عظيم به آالف اآليات التي تتضمن الكثير والكثير من المعلومات عن هللا عز‬
‫وجل ‪ ،‬وعن أسمائه وصفاته ‪ ،‬وآثارها في الكون ‪ ،‬ويحتوي كذلك على كل ما ينبغي أن يؤمن به‬
‫اإلنسان لينجح في مهمته على األرض ‪.‬‬
‫ولئن كان يصعُب على البعض النظر الصحيح ‪ ،‬والتفكر في الكون وآياته المشهودة فإن‬
‫ت‬ ‫القرآن العظيم يختصر له الكون ‪ ،‬بل ويرشده إلى طريقة التفكر فيه ﴿ هَّللا ُ الَّذِي َر َف َع ال َّس َم َاوا ِ‬
‫ت طِ َبا ًقا َما َت َرى فِي َخ ْل ِق الرَّ حْ َم ِن ِمنْ‬ ‫ِب َغي ِْر َع َم ٍد َت َر ْو َن َها ﴾ [الرعد ‪ ﴿ ، ]2 :‬الَّذِي َخ َل َق َسب َْع َس َم َاوا ٍ‬
‫ص ُر َخاسِ ًئ ا‬ ‫ْك ْال َب َ‬ ‫ْن َي ْن َقلِبْ ِإ َلي َ‬ ‫ور (‪ُ )3‬ث َّم ارْ ِج ِع ْال َب َ‬
‫ص َر َكرَّ َتي ِ‬ ‫ط ٍ‬ ‫ص َر َه ْل َت َرى ِمنْ فُ ُ‬ ‫ت َفارْ ِج ِع ْال َب َ‬ ‫َت َفاوُ ٍ‬
‫َوه َُو َحسِ ي ٌر ﴾ [الملك ‪. ]4 ، 3 :‬‬
‫والقرآن العظيم كذلك يحتوي – بإجمال ‪ -‬على أهم األحداث التي مرَّ ت بالبشرية ليأخذ منها‬
‫المسلم العبر والعظات التي ُتعينه على القيام بواجبه الصحيح على األرض ‪.‬‬
‫ولك أن تتأمل آيات سورة القمر ‪ ،‬وكيف أنها تذكر العديد من قصص السابقين كقوم نوح‬
‫آن ل ِِّلذ ْك ِر َف َه ْل ِمنْ‬ ‫وعاد وثمود ‪ ،‬ثم نجد كل قصة منها تنتهي بقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬و َل َق ْد َيسَّرْ َنا ْالقُرْ َ‬
‫ُم َّدك ٍِر ﴾ [القمر ‪ ، ]17 :‬أي أنك إن كنت – أيها القارئ – لم ُتشاهد ما حدث لهؤالء ‪ ،‬وفاتك أخذ‬
‫صصِ ِه ْم عِ ب َْرةٌ‬ ‫ان فِي َق َ‬ ‫العبرة منهم ‪ ،‬فإن القرآن يكفيك ‪ ،‬ويُقدم لك خالصة تلك األحداث ﴿ َل َق ْد َك َ‬

‫‪ )(118‬تفسير ابن كثير ( ‪ ، )5/332‬والدر المنثور للسيوطي ( ‪ ، )5/615‬وروح المعاني لأللوسي ( ‪. )17/2‬‬
‫‪74‬‬
‫ِيق الَّذِي َبي َْن َيدَ ْي ِه َو َت ْفصِ ي َل ُك ِّل َشيْ ٍء َو ُه ًدى َو َرحْ َم ًة‬ ‫ان َحد ً‬
‫ِيثا ُي ْف َت َرى َو َل ِكنْ َتصْ د َ‬ ‫ُأِلولِي اَأْل ْل َبا ِ‬
‫ب َما َك َ‬
‫ون ﴾ [يوسف ‪. ]111 :‬‬ ‫لِ َق ْو ٍم يُْؤ ِم ُن َ‬
‫ويؤكد سيد قطب على شمول المعرفة القرآنية فيقول ‪:‬‬
‫إن القرآن الكريم وهو يتناول الحقائق والمقومات التي يقوم على أساسها التصور اإلسالمي‬
‫للوجود ‪ ،‬ويُقدم على أساسها التفسير الصحيح لهذا الوجود أيضًا ‪ ..‬لم يدع جانبًا منها يراود الفكر‬
‫البشري عنه سؤال إال وقد أجاب على هذا السؤال ‪ ،‬ولم يدع انحرا ًفا في تصورها يخالط الفكر‬
‫البشري إال وصحح هذا االنحراف بحيث يستقيم في القلب والعقل وفي الكينونة البشرية بجملتها‬
‫تصور كامل من وراء هذا البيان الشامل ‪ ،‬وتفسير صحيح للوجود كله وللتاريخ اإلسالمي (‪.)119‬‬
‫المعرفة المؤثرة‬
‫‪ ..‬والقرآن الكريم ال يُقدم المعلومة فقط ‪ ،‬بل يُقدمها بطريقة ُتقنع العقل ‪ ،‬وتستثير المشاعر في‬
‫آن واحد ‪ ،‬فينشأ اإليمان ‪ -‬بإذن هللا – ‪.‬‬
‫وإذا ما داوم المرء على قراءة القرآن ‪ -‬قراءة صحيحة – ازداد إيما ًنا ‪ ..‬لماذا ؟‬
‫ت َع َلي ِْه ْم آ َيا ُت ُه َزادَ ْت ُه ْم ِإي َما ًنا ﴾ [األنفال ‪. ]2 :‬‬ ‫ألنه ازداد معرفة نافعة ومؤثرة ﴿ َوِإ َذا ُتلِ َي ْ‬
‫ويُقارن بديع الزمان النورسي بين المعرفة التي يُقدمها القرآن والمعرفة التي يُقدمها علم‬
‫الكالم فيقول ‪:‬‬
‫ح ًّقا ‪ ،‬إن معرفة هللا المستنبطة من علم الكالم ليست هي المعرفة الكاملة ‪ ،‬وال تورث‬
‫االطمئنان القلبي‪.‬‬
‫في حين أن تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز ‪ُ ،‬تصبح معرفة تامة ‪،‬‬
‫و ُتسكب االطمئنان الكامل في القلب ‪.‬‬
‫إن المعرفة ال ُمستقاة من القرآن الكريم تمنح الحضور القلبي الدائم مع هللا ‪.‬‬
‫ويضرب النورسي مثااًل للفرق بين األمرين ‪:‬‬
‫ألجل الحصول على الماء ‪ ،‬هناك من يأتي به بواسطة أنابيب من مكان بعيد يُحفر في أسفل‬
‫الجبال ‪ ،‬وآخرون يجدون الماء أينما حفروا ‪ ،‬ويُفجِّ رونه أينما كانوا ‪.‬‬
‫فاألول سير في طريق َوعر وطويل ‪ ،‬والماء مُعرَّ ض فيه لالنقطاع وال ُّشحة ‪ ،‬بينما الذين هم‬
‫أهل لحفر اآلبار فإنهم يجدون الماء أينما حلُّو دونما صعوبة ومتاعب ‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)120‬‬
‫‪ ..‬إن كل آية من آيات القرآن الكريم كعصا موسى ُتفجِّ ر الماء أينما ضربت ‪..‬‬
‫ويقول ‪ :‬ال حاجة إلى االستضاءة بنور الشموع مادامت هناك شمس ساطعة (‪.)121‬‬
‫ويقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪:‬‬
‫إن اللذة والفرحة والسرور ‪ ،‬وطيب الوقت ‪ ،‬والنعيم الذي ال يمكن التعبير عنه ‪ ،‬إنما هو في‬
‫(‪)122‬‬
‫معرفة هللا عز وجل ‪ ،‬وتوحيده ‪ ،‬واإليمان به ‪ ،‬وانفتاح الحقائق اإليمانية والمعارف القرآنية‬
‫‪ ،‬وكيف ال ( والقرآن يُثير العواطف ‪ ،‬ويوقظ العقول في وقت واحد ‪ ،‬وبعد االقتناع يطمئن العقل‬
‫ويهدأ اإلحساس ‪ ،‬ويشعر اإلنسان بنشوة الفرح واالرتياح ) (‪.)123‬‬
‫القرآن يستثير جميع المشاعر ‪:‬‬
‫الذي يُقبل على القرآن إقبااًل صحيحً ا فيتدبر معانيه ويتأثر بها يجد أنه يُخاطب جميع مشاعره‬
‫‪ ،‬فتارة يستثير فيه مشاعر الخوف والرهبة ‪ ،‬وتارة الفرح واالستبشار ‪ ،‬وتارة الرضا والتفويض‬
‫‪ ،‬وتارة السكينة والطمأنينة ‪ ،‬وتارة الحب والشوق إلى هللا عز وجل ‪.‬‬

‫‪ )(119‬مقومات التصور اإلسالمي ص (‪.)80‬‬


‫‪ ) (120‬المكتوبات ( ‪ )426 -425‬باختصار وتصرف يسير ‪.‬‬
‫‪ ) (121‬المصدر السابق ( ‪. ) 463‬‬
‫‪ ) (122‬رسائل ابن تيمية في السجن ص ( ‪. ) 31‬‬
‫‪ ) (123‬التعبير القرآني والداللة النفسية للجيوسي ص ( ‪. ) 136‬‬
‫‪75‬‬
‫يقول ابن القيم ‪:‬‬
‫ال شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر ‪ ،‬فإنه جامع لجميع منازل السائرين‬
‫وأحوال العاملين ‪ ،‬ومقامات العارفين ‪ ،‬وهو الذي يورث المحبة والشوق ‪ ،‬والخوف والرجاء ‪،‬‬
‫واإلنابة والتوكل ‪ ،‬والرضا والتفويض ‪ ،‬والشكر والصبر ‪ ،‬وسائر األحوال التي بها حياة القلب‬
‫وكماله (‪.)124‬‬
‫( يشعر القارئ ( المتدبر للقرآن ) أنه يعيش حياة نابضة في في عالم آخر غير الذي يعيش ‪،‬‬
‫يُدرك أن روحً ا تسري فيه ‪.‬‬
‫‪ ..‬يحس من يقرأ في القرآن متنقاًل بين آياته وسوره أنه يعيش في قرية صغيرة ‪ ،‬يجمعها‬
‫مكان واحد ‪ ،‬هي هذه المعمورة رغم اتساعها ‪ ،‬ويكتنفها زمان واحد من لدن آدم حتى قيام‬
‫الساعة ‪ ..‬نصوص مفتوحة أمامها الطريق ‪ ،‬ال ي ُح ُّدها زمان ‪ ،‬وال يُقيدها مكان ‪ ،‬تلقي تعاليمها‬
‫لهذا اإلنسان الذي ال تتغير مشاعره وجوانبه النفسية وميوله على اختالف الزمان ‪.‬‬
‫هكذا يجد كل إنسان فيه بُغيته ‪ ..‬يُقبل عليه المهموم ليجد فيه بلسمه ‪ ،‬ويُقبل عليه المحزون‬
‫ليجد فيه سلوته ‪ ،‬ويُقبل عليه العالم ليجد فيه طلبته ‪ ،‬ويُقبل عليه الهارب من قيود الحياة الرتيبة‬
‫ليجد فيه خلوته ‪ ..‬يُقبل عليه الضال التائه الحائر ليجد ضالته ‪.‬‬
‫انظر كيف أن آيات السورة الواحدة تنتقل بك من موضوع إلى آخر ‪ ،‬ومن وصف إلى‬
‫قصص ‪ ،‬إلى وعد ووعيد ‪ ،‬إلى تشريع ‪. ... ،‬‬
‫‪ ..‬هذا ‪ ،‬وإن في تنوع سور القرآن طواًل وقصرً ا ‪ ،‬انسجامًا مع هذه النفس اإلنسانية التي تل‬
‫الرتابة ‪ ،‬كل سورة من سور القرآن ُتضيف لبنة نفسية إلى ذلك الكيان اإلنساني ‪ ،‬حتى تجده مع‬
‫آخر سورة قد اكتمل بناؤه النفسي ‪ ،‬وتكاملت مشاعره وأحاسيسه ‪..‬‬
‫حث المسلم على اإلقبال على هذا‬ ‫‪ ..‬من هنا ُندرك الحكمة من كثرة النصوص الواردة في ِّ‬
‫القرآن ‪ ،‬وإشارة النصوص إلى ضرورة أن يكون لهذا اإلنسان ورد يومي وزاد يتقوَّ ت به في‬
‫يومه ‪ ،‬وأهمية قراءة القرآن من أوله إلى آخره ألنها ُتمكن المرء من استثارة كامل مشاعره التي‬
‫تنطوي عليها نفسه ) (‪.)125‬‬
‫القرآن وبناء اإليمان ‪:‬‬
‫وإليك أخي القارئ بعض اللمحات اليسيرة عن طريقة القرآن الفريدة في بناء اإليمان ‪:‬‬
‫القرآن الكريم يطرح جميع الحقائق التي ينبغي اإليمان بها طرحً ا يُخاطب به العقل فيُقنعه‬
‫بشتى أساليب اإلقناع من خالل الحوار الذي يُشعر قارئ القرآن أنه أحد أطرافه ‪ ،‬ويصل معه في‬
‫النهاية إلى اإلجابة المقنعة للقضية المثارة ‪ ،‬وخالل هذا الحوار نجد هناك أسئلة ُتطرح وأمثلة‬
‫ُتضرب وإجابات ُتفحِم و ُتدحِض أي شبهة ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪:‬‬
‫شبهة أن القرآن ليس من عند هللا ‪ ،‬وأن محم ًدا صلى هللا عليه وسلم قد افتراه من عنده ‪ ،‬نجد‬
‫الرد على هذه الشبهة في أكثر من موضع في القرآن بكالم مُفحم وأدلة دامغة كقوله تعالى في‬
‫ت َو ْادعُوا َم ِن اسْ َت َطعْ ُت ْم ِمنْ ُد ِ‬
‫ون‬ ‫ون ا ْف َت َراهُ قُ ْل َفْأ ُتوا ِب َع ْش ِر س َُو ٍر م ِْثلِ ِه ُم ْف َت َر َيا ٍ‬
‫سورة هود ‪َ ﴿ :‬أ ْم َيقُولُ َ‬
‫ِين (‪َ )13‬فِإنْ لَّ ْم َيسْ َت ِجيبُوا َل ُك ْم َفاعْ َلمُوا َأ َّن َما ُأ ْن ِز َل ِبع ِْل ِم هَّللا ِ َوَأنْ اَل ِإ َل َه ِإاَّل ه َُو َف َه ْل‬ ‫صا ِدق َ‬ ‫هَّللا ِ ِإنْ ُك ْن ُت ْم َ‬
‫ُون ﴾ [هود ‪. ]14 ، 13 :‬‬ ‫َأ ْن ُت ْم مُسْ لِم َ‬
‫‪ ..‬ومع اإلقناع العقلي فإن القرآن يستثير المشاعر في نفس الوقت من خالل أساليبه المتنوعة‬
‫من تشويق وترغيب وترهيب ‪ ،‬ومن خالل القصة والموعظة ‪ ،‬فعلى سبيل المثال ‪ :‬سورة النبأ‬

‫‪ ) (124‬مفتاح دار السعادة ( ‪. ) 1/553‬‬

‫‪ ) (125‬التعبير القرآني والداللة النفسية للجيوسي ص ( ‪ )226-224‬باختصار ‪ ،‬دار الغوثاني – دمشق ‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫حث القارئ على اإلجابة‬ ‫تناقش قضية البعث والجزاء ‪ ،‬و ُتثبتها من الناحية العقلية ‪ ،‬من خالل ّ‬
‫على أسئلة بدهية مفادها أن الذي جعل لك النوم سُبا ًتا ‪ ،‬والنهار معا ًشا ‪ ،‬وأنزل المطر ‪ ،‬وبسط‬
‫األرض ‪ ،‬وثبَّتها بالجبال ‪ ،‬و‪ ، ..‬هو الذي يُخبرك أن هناك يومًا للجزاء ‪..‬‬
‫ومع هذا اإلقناع العقلي يأتي الترهيب بذكر هول يوم القيامة وبشاعة النار ‪ ،‬وكذلك ذكر الجنة‬
‫‪ ،‬وبعض ما فيها من ألوان النعيم ‪ ،‬ف ُتستثار المشاعر مع تلك القناعة العقلية فينشأ اإليمان بإذن هللا‬
‫‪.‬‬
‫وليس ذلك فحسب ‪ ...‬فمن أهم الوسائل التي يتفرد بها القرآن الستثارة المشاعر هي الطريقة‬
‫آن َترْ تِياًل‬
‫التي ينبغي أن يُتلى بها ؛ أال وهي الترتيل والتغني به طب ًقا ألحكام التجويد ﴿ َو َر ِّت ِل ْالقُرْ َ‬
‫﴾ [المزمل ‪. ]4 :‬‬
‫أهمية الترتيل ‪:‬‬
‫إن تحسين الصوت بالقرآن وترتيله له وظيفة عظيمة في الطرق على المشاعر الستثارتها ‪،‬‬
‫فيؤدي ذلك إلى امتزاج القناعة العقلية بالعواطف المنفعلة ‪ ،‬لذلك كان الحث على تحسين الصوت‬
‫عند قراءة القرآن ‪.‬‬
‫(‪)126‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬زينوا القرآن بأصواتكم »‬
‫وقال ‪ « :‬ليس م َّنا من لم يتغن بالقرآن » (‪. )127‬‬
‫وقيل البن أبي مُليكة ‪ « :‬يا أبا محمد ‪ ،‬أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ؟ قال ‪ :‬يحسنه ما‬
‫استطاع » (‪. )128‬‬
‫ويؤكد ابن حجر العسقالني على هذا المعنى فيقول ‪:‬‬
‫والذي يتحصل من األدلة أن حُسن الصوت بالقرآن مطلوب ‪ ،‬فإن لم يكن حس ًنا فليحسنه ما‬
‫استطاع(‪.)129‬‬
‫ويقول الجيوسي في كتابه « التعبير القرآني والداللة النفسية » ‪:‬‬
‫القرآن الكريم كتابٌ ال كأي كتاب ‪ ،‬فهو يُتلى بطريقة مرتبة ‪ ،‬على أصول منظمة ‪ ،‬يجب أن‬
‫ُتراعى فيه قواعد القراءة وأصول األداء ‪ ،‬وهذا مما اختص به القرآن الكريم على سائر الكتب ‪،‬‬
‫آن َترْ تِياًل ﴾ [المزمل ‪:‬‬ ‫وورود األمر بذلك في اآليات األولى من مرحلة نزول القرآن ﴿ َو َر ِّت ِل ْالقُرْ َ‬
‫‪. ]4‬‬
‫وال شك أن هناك قواعد تتصل باألداء القرآني البد من مراعاتها كأحكام التجويد ‪ ،‬فالتجويد‬
‫هو التحسين ‪.‬‬
‫‪ ..‬هذه األحكام التي ينبغي لقارئ القرآن أن يُراعيها هي في حقيقة األمر أحد أسرار ذلك‬
‫اإليقاع الذي يش ُّد األسماع إليه ‪ ،‬ال تكاد تخلو آية من حُكم ما بين ُغ ّنة أو م ّد أو إخفاء ‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك من األحكام التي تفرض على السامع لو ًنا معي ًنا ال يعهده في الكالم االعتيادي ‪ ،‬وإذا ما‬
‫علمنا أن قراءة القرآن ينبغي أن تكون بالترتيل وبمراعاة هذه األحكام ‪ ،‬أدركنا أن ذلك سرٌّ كامنٌ‬
‫في كتاب هللا ‪ ،‬هذا الذي يجعل النفس تنجذب إليه (‪. )130‬‬
‫فإذا ما اقترن ذلك بحضور العقل وتفهُّمه للخطاب كان األثر عظيمًا على القلب كحال وفد‬
‫ُول َت َرى َأعْ ُي َن ُه ْم َتفِيضُ م َِن‬ ‫﴿وِإ َذا َس ِمعُوا َما ُأ ْن ِز َل ِإ َلى الرَّ س ِ‬
‫نصارى نجران عندما استمعوا للقرآن َ‬
‫الدَّمْ ِع ِممَّا َع َرفُوا م َِن ْال َح ِّق ﴾ [المائدة ‪. ]83 :‬‬

‫‪ ) ( 126‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 4/283‬رقم ‪ ،)18517‬وأبو داود (‪ ، 2/74‬رقم ‪ ، )1468‬والنسائي (‪ ، 2/179‬رقم ‪، )1015‬‬
‫وابن ماجه (‪ ، 1/426‬رقم ‪ )1342‬وغيرهم ‪ ،‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ( ‪. ) 3575 - 3574‬‬
‫‪ ) (127‬أخرجه البخاري (‪ ، 6/2737‬رقم ‪. )7089‬‬
‫‪ ) (128‬أخرجه أبو داود ( ‪ 1/548‬برقم ‪ ، ) 1473‬وقال الشيخ األلباني رحمه هللا ‪ :‬حسن صحيح ‪.‬‬
‫‪ ) (129‬فتح الباري ( ‪. )9/72‬‬
‫‪ ) (130‬التعبير القرآني والداللة النفسية ‪ ،‬لعبد هللا الجيوسي ص ( ‪ ) 165 ،164‬باختصار وتصرف يسير ‪ ،‬دار الغوثاني – سوريا ‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫وجدير بالذكر أن ( التغني بالقرآن هو تحسين الصوت بقراءة القرآن ‪ ،‬بخالف الغناء‬
‫المعروف في زماننا ‪ ،‬فالقصد من هذا الغناء أن يطرب ويُطرب غيره ال ليتعظ ويعتبر ‪ ،‬فالتغني‬
‫مستلمحا مستطي ًبا‬
‫ً‬ ‫بالقرآن ًإذا هو ‪ :‬استماع المتكلم لما ُي َتكلم به ‪ ،‬مترن ًما بالنطق ‪ ،‬مستح ًّبا له ‪،‬‬
‫للكلمات ‪ ،‬ذو ًقا لها ولمعانيها ) (‪. )131‬‬
‫ويؤكد الحافظ ابن كثير على هذا المعنى فيقول ‪:‬‬
‫والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه ‪،‬‬
‫والخشوع والخضوع واالنقياد للطاعة ‪ ،‬فأما األصوات بالنغمات المحدثة المركبة على األوزان ‪،‬‬
‫واألوضاع المُلهية والقانون الموسيقائي ‪ ،‬فالقرآن ي َّ‬
‫ُنزه عن ذلك (‪. )132‬‬

‫أهمية المداومة على تالوة القرآن ‪:‬‬


‫القرآن يُخاطب العقل فيُقنعه ‪ ،‬ويضغط على المشاعر فيستثيرها ‪ ،‬لينشأ بذلك اإليمان ‪ -‬بإذن‬
‫آن ِمنْ‬‫اس فِي َه َذا ْالقُرْ ِ‬ ‫ض َر ْب َنا لِل َّن ِ‬ ‫هللا ‪ ، -‬فيُثمر ذلك اإليمان مزي ًدا من العبودية هلل عز وجل ﴿ َو َل َق ْد َ‬
‫ون ﴾ [الزمر ‪. ]28 ، 27 :‬‬ ‫ُون (‪ )27‬قُرْ آ ًنا َع َر ِب ًّيا َغي َْر ذِي عِ َو ٍج َل َعلَّ ُه ْم َي َّتقُ َ‬ ‫ُك ِّل َم َث ٍل َل َعلَّ ُه ْم َي َت َذ َّكر َ‬
‫والقرآن يعرض جميع الحقائق التي ينبغي اإليمان بها ‪ ،‬وعلى رأسها اإليمان باهلل عز وجل‬
‫وبأسمائه وصفاته ‪.‬‬
‫واإليمان الذي يحدثه القرآن يتناول جميع المشاعر ‪ ،‬فإذا ما داوم المرء على تالوته ‪،‬‬
‫وأعطاه وق ًتا معتبرً ا من يومه فإن هذا من شأنه أن يزيده إيما ًنا ‪ ،‬وهكذا تستمر زيادة اإليمان حتى‬
‫تستقر وترسخ في المشاعر ‪ ،‬وتكون له اليد الطولى بها ‪ ،‬وباستمرار التالوة يزداد الترقي‬
‫اإليماني ‪ ،‬ويزداد ظهور ثمار اإليمان ‪.‬‬
‫من هنا كان الحث في القرآن والسنة على ضرورة المداومة على تالوة القرآن حتى يتحقق‬
‫مقصوده العظيم بتحصيل العلم واإليمان والترقي في مدارج السائرين إلى هللا ‪.‬‬
‫صاَل َة َوَأ ْن َفقُوا ِممَّا َر َز ْق َنا ُه ْم سِ ًّرا‬ ‫اب هَّللا ِ َوَأ َقامُوا ال َّ‬ ‫ون ِك َت َ‬‫ِين َي ْتلُ َ‬
‫فمن اآليات قوله تعالى ‪ِ ﴿ :‬إنَّ الَّذ َ‬
‫ُور ﴾ [فاطر ‪. ]29 :‬‬ ‫ار ًة َلنْ َتب َ‬ ‫ُون ت َِج َ‬‫َو َعاَل ِن َي ًة َيرْ ج َ‬
‫ون م َِن‬ ‫ت َأنْ َأ ُك َ‬ ‫ت َأنْ َأعْ بُدَ َربَّ َه ِذ ِه ْال َب ْلدَ ِة الَّذِي َحرَّ َم َها َو َل ُه ُك ُّل َشيْ ٍء َوُأ ِمرْ ُ‬ ‫وقوله ‪ِ ﴿ :‬إ َّن َما ُأ ِمرْ ُ‬
‫آن ﴾ [النمل ‪. ]92 ، 91 :‬‬ ‫ِين (‪َ )91‬وَأنْ َأ ْتلُ َو ْالقُرْ َ‬ ‫ْالمُسْ لِم َ‬
‫صاَل َة ﴾ [العنكبوت ‪. ]45 :‬‬ ‫ب َوَأق ِِم ال َّ‬
‫ْك م َِن ْال ِك َتا ِ‬‫وقوله ‪ ﴿ :‬ا ْت ُل َما ُأوح َِي ِإ َلي َ‬
‫ومن األحاديث النبوية ‪ ،‬قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬تعاهدوا القرآن ‪ ،‬فوالذي نفسي بيده‬
‫صيًا من قلوب الرجال من اإلبل من عُقلها » (‪. )133‬‬ ‫لهو أشد َت َف ِّ‬
‫وقوله ‪ « :‬اقرؤوا القرآن واعملوا به ‪ ،‬وال تجفوا عنه ‪ ،‬وال تغلوا فيه ‪ ،‬وال تأكلوا به ‪ ،‬وال‬
‫تستأثروا به»(‪.)134‬‬
‫ولمّا جاء وفد ثقيف إلى المدينة أنزلهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في قبة بين المسجد ‪ ،‬وبين‬
‫أهله ‪ ،‬فكان يأتيهم ويُحدثهم بعد العشاء ‪ ،‬وفي ليلة من الليالي تأخر عليهم ثم أتاهم ‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬يا رسول‬
‫هللا ‪ ،‬لبثت ع َّنا الليلة أكثر مما كنت تلبث ‪ ،‬فقال ‪ « :‬نعم ‪ ،‬طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج‬
‫من المسجد حتى أقضيه » (‪.)135‬‬

‫‪ ) (131‬المصدر السابق ص ‪. 168‬‬


‫‪ ) (132‬فضائل القرآن البن كثير ( ‪. )1/114‬‬
‫‪ ) (133‬أخرجه البخاري (‪ ، 4/1921‬رقم ‪ ، )4746‬ومسلم (‪ ، 1/545‬رقم ‪. )791‬‬
‫‪ ) ( 134‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 3/428‬رقم ‪ ، )15568‬وأبو يعلى (‪ ، 3/88‬رقم ‪ ، )1518‬وصححه الشيخ األلباني في السلسلة‬
‫الصحيحة ‪.‬‬
‫‪ ) (135‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه‪ ،‬وأبو داود (‪ ، 2/55‬رقم ‪ ، )1393‬وابن ماجه (‪ ، 1/427‬رقم ‪ ، )1345‬و أحمد (‪ ، 4/9‬رقم ‪ )16211‬حسنه‬
‫الحافظ العراقي في "تخريج اإلحياء" (‪ )1/276‬والحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات" البن عالن (‪.)3/229‬‬
‫‪78‬‬
‫ولكي يقع هذا الحث النبوي مواقعه الصحيحة فال يؤدي إلى إسراع البعض في القراءة دون‬
‫تف ُّكر وتفهُّم وتدبُّر كانت التوجيهات النبوية بضرورة التركيز وجمع العقل مع التالوة ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول‬
‫‪ ،‬فلينصرف فليضطجع » (‪. )136‬‬
‫وقوله لعبد هللا بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه عن قراءة القرآن في أقل من‬
‫ثالثة أيام ‪ « :‬ال يفقهه من يقرؤه في أقل من ثالث » (‪.)137‬‬
‫اخ ِتاَل فِ اللَّي ِْل‬ ‫ت َواَأْلرْ ِ‬
‫ض َو ْ‬ ‫وعندما نزلت آيات سورة آل عمران ﴿ ِإنَّ فِي َخ ْل ِق ال َّس َم َاوا ِ‬
‫ت ُأِلولِي اَأْل ْل َبابِ﴾ [آل عمران ‪ . ]190 :‬قال صلى هللا عليه وسلم « ويل لمن قرأ‬ ‫ار آَل َيا ٍ‬
‫َوال َّن َه ِ‬
‫هذه اآليات ثم لم يتفكر فيها » (‪. )138‬‬
‫ال بديل عن القرآن ‪:‬‬
‫من هنا نقول بأننا إذا ما أردنا بناء القاعدة اإليمانية باتساعها في جميع مشاعر القلب فالبد من العودة‬
‫الصحيحة إلى القرآن ‪ ،‬وإعطائه وق ًتا معتبرً ا من يومنا ‪ ،‬وأن ُنداوم على ذلك كل يوم ‪ ..‬نقرؤه بتدبر‬
‫وترتيل وصوت حزين ‪ ،‬فإن لم نفعل ذلك فال نلومن إال أنفسنا عندما ُنفاجأ بعد الموت بهذا الكنز الذي‬
‫كان بين أيدينا ‪ ،‬فهجرناه بمحض إرادتنا ‪ ،‬وقد كان بإمكاننا من خالل حُسن التعامل معه أن نقترب أكثر‬
‫ِي َف َع َل ْي َها َو َما َأ َنا َع َل ْي ُك ْم‬ ‫صاِئ ُر مِنْ َر ِّب ُك ْم َف َمنْ َأب َ‬
‫ْص َر َفلِ َن ْفسِ ِه َو َمنْ َعم َ‬ ‫وأكثر من هللا عز وجل ﴿ َق ْد َجا َء ُك ْم َب َ‬
‫ِب َحفِيظٍ ﴾ [األنعام ‪. ]104 :‬‬
‫القرآن والسنة ‪:‬‬
‫وغني عن البيان أن الحديث عن القرآن يشمل الحديث عن السنة بالتبعية ‪ ،‬فكما يقول ابن‬
‫رجب ‪:‬‬
‫فأما السُنة فهي مفسرة للقرآن ‪ ،‬ومُبيِّنة ‪ ،‬وموضحة ‪ ،‬فهي تابعة له ‪ ،‬والمقصود األعظم هو‬
‫القرآن (‪..)139‬‬
‫وليس أدل من أهمية التمسك بالسنة مع القرآن من قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬تركت فيكم‬
‫يردا على الحوض » (‪. )140‬‬ ‫شيئين ‪ ،‬لن تضلُّوا بعدهما ‪ :‬كتاب هللا ‪ ،‬وسنتي ‪ ،‬ولن يتفرقا حتى ِ‬

‫ابتعاد األمة عن االنتفاع الحقيقي بالقرآن ‪:‬‬


‫ومما يدعو لألسف أن جيل الصحابة لم يتكرر مرة ثانية في تاريخ األمة حتى اآلن ‪ ،‬ومن‬
‫أهم األسباب لذلك هو هجر االنتفاع بالقرآن كمصدر متفرد لتحصيل العلم واإليمان ‪.‬‬
‫إن مشكلتنا الرئيسة مع القرآن والتي تمنعنا من االنتفاع الحقيقي به هي ضعف إيماننا به ‪،‬‬
‫وثقتنا فيه كمصدر متفرد لتحصيل العلم واإليمان ‪ ،‬ومن َث َّم التغيير ‪ ..‬ولك – أخي القارئ ‪ -‬أن‬
‫تتأكد من هذا التشخيص بإجراء اختبار لنفسك ولآلخرين ‪ ،‬بأن تتخيل بأنك يومًا ما رغبت في‬
‫قراءة شيء من الرقائق والمواعظ لترقيق قلبك ‪ ،‬فاتجهت إلى مكتبتك ‪ ،‬ووقع بصرك على كتاب‬
‫التوهم للمحاسبي ‪ ،‬والتبصرة البن الجوزي ‪ ،‬ومدارج السالكين البن القيم ‪ ،‬وإحياء علوم الدين‬
‫للغزالي ‪ ،‬ووقع بصرك – فيما وقع – على المصحف ‪ ،‬فأي الكتب ستختار ؟! وما هو ترتيب‬
‫القرآن في هذا االختيار ؟!‬

‫) أخرجه مسلم (‪ ، 1/543‬رقم ‪. )787‬‬ ‫‪(136‬‬


‫) حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 11/104‬برقم ‪ ، )6546‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ‪ ،‬حديث رقم ( ‪. ) 1157‬‬ ‫‪(137‬‬
‫) حديث صحيح ‪ :‬أخرجه ابن حبان في صحيحه ( ‪ ، 2/386‬برقم ‪ ، ) 620‬وصححه الشيخ األلباني في السلسلة الصحيحة برقم ‪. 68‬‬ ‫‪(138‬‬
‫) االستغناء بالقرآن في تحصيل العلم واإليمان البن رجب ‪.‬‬ ‫‪(139‬‬
‫) حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الحاكم (‪ ، 1/172‬رقم ‪ ، )319‬والدارقطني (‪ ، )4/245‬وصححه األلباني ‪.‬‬ ‫‪(140‬‬
‫‪79‬‬
‫س ُتفاجأ أخي – كما فوجئت ‪ -‬بأن القرآن هو آخر كتاب ستختاره لهذه المهمة ‪ ..‬هذا إن كنت‬
‫ستضعه في دائرة االختيار والتفضيل ‪.‬‬
‫إنه أمر يدعو إلى الحسرة ‪ ..‬كتاب هللا أعظم وسيلة للتأثير يُصبح مهجورً ا بهذه الطريقة ؟!‬
‫يا حسرة على العباد ‪:‬‬
‫هل انطفأ نور القرآن ؟‬
‫ال وهللا ‪ ،‬فهو كما هو النور المبين ‪ ،‬وسيظل تأثيره أقوى من تأثير أي نور آخر ‪ ،‬ولكننا‬
‫أدرنا له ظهورنا ‪ ،‬ولم ُنحسن توجيه نوره لعقولنا وقلوبنا ‪ ،‬فلم نشعر بأثره ‪ ،‬فهل نقول ألنفسنا‬
‫‪ « :‬يا حسرة على العباد ؟! »‬
‫(‪)141‬‬
‫القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب‬ ‫يقول معاذ بن جبل رضي هللا عنه ‪ :‬سيبلى‬
‫(‪)143‬‬
‫‪.‬‬ ‫فيتهافت (‪ ، )142‬يقرؤونه ال يجدون له شهوة وال لذة‬
‫لقد صدق معاذ رضي هللا عنه ‪ ،‬فلقد ضعفت قيمة القرآن في قلوبنا ‪ ،‬وأصبحنا ال نجد‬
‫اشتهاء لإلقبال عليه ‪ ،‬وال لذة حينما نتلو آياته ‪.‬‬
‫‪ ..‬لقد تضافرت عوامل كثيرة أدَّ ت إلى هذا الهجر الخطير للقرآن ‪ ،‬ولكن حيث أنه ال بديل‬
‫أمامنا سوى العودة إليه واالنتفاع به لتحصيل العلم النافع لعقولنا ‪ ،‬واإليمان المتجدد لقلوبنا ‪،‬‬
‫والتزكية الصحيحة لنفوسنا ‪ ،‬والحركة الدائبة لخدمة ديننا ‪ ،‬فالبد من بذل غاية الجهد ‪،‬‬
‫واجتياز كافة العقبات التي تحول بيننا وبينه ‪..‬‬
‫أخي القارئ‬
‫مرض مرضًا عضااًل ‪ ،‬وأنه‬ ‫لو أن رجاًل يعمل في مكان بعيد عن أهله ‪ ،‬وعلِم أن ابنه قد ِ‬
‫يحتاج إلى دواء (ما ) وصفه له األطباء ‪ ،‬وأن هذا الدواء غير متوافر ببلد االبن ‪ ،‬فبحث عنه‬
‫حتى وجده ‪ ،‬ووضعه في صندوق محكم غاية اإلحكام ‪ ،‬وبالغ في وضع األغلفة على الصندوق‬
‫وأرسله إلى ابنه ‪ ،‬وعندما وصلت العلبة إليه وعلم أن فيها دواءه حاول فتحها هو ومن حوله فلم‬
‫يستطيعوا ‪ ،‬فماذا تظن أنهم سيفعلون ؟‬
‫هل سييأسون من فتحها وينصرفون عنها ‪ ،‬أم سيحاولون فتحها مرات ومرات ومرات حتى‬
‫ينجحوا ؟‬
‫لقد أصبح بيننا وبين القرآن حجابًا كثي ًفا ‪ ،‬يحول بيننا وبين االنتفاع به ‪ ،‬فال ينبغي علينا أن‬
‫نيأس إن أقبلنا على القرآن فلم نجد أي تجاوب ‪ ،‬فاألمر يحتاج إلى محاوالت متكررة ‪ ،‬وإلحاح‬
‫شديد على هللا عز وجل ‪ ،‬و َتبُّؤ س وانكسار حتى يفتح لنا سبحانه أبواب القرآن ‪ ،‬وتصل أنواره‬
‫إلى عقولنا وقلوبنا ‪.‬‬
‫يقول المحاسبي ‪:‬‬
‫فإن طلبت الفهم بصدق أقبل عليك بالمعونة ‪..‬‬
‫ال َيثقُل فهم كالمه إال على من تعطل قلبه أال يسمع ‪..‬‬
‫فإن علم – سبحانه – من التالي لكتابه صدق ضمير ‪ ،‬وعناية حتى يجمع همه للفهم ‪ ،‬أفهمه‬
‫‪ ..‬أال تسمعه يقول ‪ِ ﴿ :‬إنْ َيعْ َل ِم هَّللا ُ فِي قُلُ ِ‬
‫وب ُك ْم َخيْرً ا يُْؤ ِت ُك ْم َخيْرً ا ﴾ [األنفال ‪. ]70 :‬‬
‫فإذا أقبلت على هللا بصدق نية ‪ ،‬ورغبة لفهم كتابه بإجماع ه ٍّم ‪ ،‬متوكاًل عليه أنه هو الذي‬
‫يفتح لك الفهم ‪ :‬لم يخيبك من الفهم والعقل عنه إن شاء هللا (‪.)144‬‬
‫ويقول الزركشي ‪:‬‬

‫) بلى الثوب ‪ :‬من كثرة استعماله حتى صار قديمًا ال قيمة له ‪.‬‬ ‫‪(141‬‬
‫) التهافت ‪ :‬التساقط والتتابع ‪.‬‬ ‫‪(142‬‬
‫) أخرجه الدارمي في سننه ( ‪ 2/531‬برقم ‪. ) 3346‬‬ ‫‪(143‬‬
‫) البرهان في علوم القرآن للزركشي ‪.‬‬ ‫‪(144‬‬
‫‪80‬‬
‫إذا كان العبد مصغيًا إلى كالم ربه ‪ ،‬مفتقرً ا إلى التفهم ‪ ،‬بدعاء وتضرع ‪ ،‬وابتئاس وتمسكن‬
‫‪ ،‬ومنتظرً ا للفتح عليه عند الفتاح العليم ‪ ،‬وأن تكون تالوته على معاني الكالم ؛ فهذا القارئ‬
‫اب َي ْتلُو َن ُه َح َّق ِتاَل َو ِت ِه‬‫ِين آ َت ْي َنا ُه ُم ْال ِك َت َ‬
‫أحسن الناس صو ًتا بالقرآن ‪ ،‬وفي مثله يقول هللا تعالى ‪ ﴿ :‬الَّذ َ‬
‫‪.‬‬‫(‪)145‬‬
‫ون ِب ِه ﴾ [البقرة ‪ .. ]121 :‬وهذا هو الراسخ في العلم‬ ‫ُأو َل َ‬
‫ِئك يُْؤ ِم ُن َ‬
‫فمن هنا نقول ‪ -‬بيقين – بأننا إن استطعنا أن ندخل على القرآن دخول التلميذ ال ُمتشوق‬
‫للمعرفة حينما ُيقابل أعظم أستاذ ‪ ،‬وداومنا على ذلك ‪ ،‬فإن القرآن سيفتح لنا أبوابه ‪ ،‬وسيغزو‬
‫نوره قلوبنا ‪ ،‬لنكون من بعد مالقاته قو ًما صالحين بإذن هللا ‪ ،‬وأكثر إيما ًنا وبهجة وسكينة ‪.‬‬
‫التحدي الكبير ‪:‬‬
‫ال يُمكن للتربية اإليمانية أن تتم بمراحلها المختلفة دون التعامل الصحيح مع القرآن ‪ ،‬وهذا لن‬
‫يحدث إال إذا زادت الثقة فيه ‪ ،‬كمصدر متفرد لتنوير العقول والقلوب ‪ ،‬وتزكية النفوس ﴿ َفآ ِم ُنوا‬
‫ور الَّذِي َأ ْن َز ْل َنا ﴾ [التغابن ‪. ]8 :‬‬ ‫ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َوال ُّن ِ‬
‫هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهنا ‪..‬‬
‫فالحل بين أيدينا ‪ ،‬ومع ذلك لن نقدر على االنتفاع به طالما ضعف إيماننا به وثقتنا فيه ‪.‬‬
‫‪ ..‬من هنا نقول أن نقطة البداية في طريق االنتفاع بالقرآن بعد االستعانة الصادقة والمستمرة‬
‫باهلل عز وجل هي تنمية الثقة فيه لتزداد رغبتنا فيه ‪ ،‬وإقبالنا الصحيح عليه ‪.‬‬
‫وتنمية هذه الثقة تحتاج م َّنا إلى القيام ببعض األمور هي ‪:‬‬
‫أولها ‪ :‬التعرف على أوصاف القرآن من القرآن ‪:‬‬
‫فكلما تعَّف المرء على فاعلية الدواء الذي سيستخدمه ؛ كلما ازداد ثقة فيه ‪ ،‬فكما يقول‬
‫الحارث المحاسبي ‪:‬‬
‫« لقد عظم هللا عز وجل القرآن وسمَّاه ‪ :‬برها ًنا ‪ ،‬ونورً ا ‪ ،‬ورحمة ‪ ،‬وموعظة ‪ ،‬ومجي ًدا ‪،‬‬
‫وبصائر وهدى ‪ ،‬وفرقا ًنا ‪ ،‬وشفاء لما في الصدور ‪ ،‬وذلك ليعظم قدره عند المؤمنين ‪ ،‬فيقبلوا‬
‫عليه منبهرين وم ِّقدرين ‪ ،‬ومتدبرين ‪ ،‬فينالوا به شفاء قلوبهم » ‪.‬‬
‫وأخبرنا أنه أحسن من كل حديث ومن كل قصص وقال نحن نقص عليك أحسن القصص ﴿‬
‫ِين َي ْخ َش ْو َن َر َّب ُه ْم ُث َّم َتلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم‬ ‫هَّللا ُ َن َّز َل َأحْ َس َن ْال َحدِي ِ‬
‫ث ِك َتابًا ُم َت َش ِابهًا َم َثان َِي َت ْق َشعِرُّ ِم ْن ُه ُجلُو ُد الَّذ َ‬
‫َوقُلُو ُب ُه ْم ِإ َلى ذ ِْك ِر هَّللا ِ ﴾ [الزمر ‪. ]23 :‬‬
‫آن ﴾ [يوسف ‪. ]3 :‬‬ ‫ْك َه َذا ْالقُرْ َ‬‫ص ِب َما َأ ْو َح ْي َنا ِإ َلي َ‬ ‫ْك َأحْ َس َن ْال َق َ‬
‫ص ِ‬ ‫﴿ َنحْ نُ َنقُصُّ َع َلي َ‬
‫ت َربِّي َل َنفِدَ ْال َبحْ ُر َق ْب َل َأنْ َت ْن َفدَ‬ ‫ان ْال َبحْ ُر مِدَ ا ًدا لِ َكلِ َما ِ‬ ‫وأخبرنا أنه ال يفنى وال ينفد ﴿ ْل َل ْو َك َ‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)146‬‬
‫ات َربِّي َو َل ْو ِجْئ َنا ِبم ِْثلِ ِه َمدَ ًدا ﴾ [الكهف ‪]109 :‬‬ ‫َكلِ َم ُ‬

‫ثانيها ‪ :‬التعرف على النماذج القرآنية التي صنعها القرآن على مر العصور ‪:‬‬
‫ولعل أهم قدوة في ذلك ‪ :‬رسولنا محمد صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬ثم صحابته الكرام الذي قال‬
‫عنهم اإلمام القرافي ‪:‬‬
‫(‪)147‬‬
‫‪.‬‬ ‫لو لم يكن لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم معجزة إال أصحابه لكفوه في إثبات نبوته‬
‫فعلينا أن نتعرف على عالقة الرسول صلى هللا عليه وسلم بالقرآن ‪ ،‬وكيفية تعامله معه ‪،‬‬
‫ووصاياه نحوه ‪.‬‬
‫وعلينا كذلك أن نتعرف على أثر القرآن على الصحابة ‪ ،‬وكيفية تناولهم له ‪ ،‬وتوجيهاتهم لمن‬
‫بعده ‪.‬‬

‫‪ ) (145‬فهم القرآن للمحاسبي ‪.‬‬


‫‪ ) (146‬فهم القرآن للمحاسبي ص ( ‪ ، ) 282‬دار الكندي ‪.‬‬
‫‪ ) (147‬الفروق للقرافي (‪. )303 / 4‬‬
‫‪81‬‬
‫وهناك نماذج قرآنية في العصر الحديث ُتعطينا األمل في إمكانية تكرارها بيننا ‪ ،‬فعلينا أن‬
‫نتعرف عليها وعلى أثر القرآن فيها ‪.‬‬
‫ومن هذه النماذج ‪ :‬محمد إقبال ‪ ،‬وبديع الزمان النورسي ‪ ،‬وحسن البنا ‪ ،‬وعبد الحميد بن‬
‫باديس ‪ ،‬وسيد قطب ‪ ،‬وأبو الحسن الندوي ‪ ،‬وأبو األعلى المودودي ‪ ،‬وفريد األنصاري ‪.‬‬
‫ثالثها ‪ :‬التعرف على أهم العوائق التي تحول بيننا وبين االنتفاع بالقرآن ‪ ،‬وهي ‪ -‬بإجمال ‪: -‬‬
‫الصورة الموروثة عنه ‪ ،‬وطول إلف سماعه ‪ ،‬ونسيان الهدف الذي من أجله نزل ‪،‬‬
‫واالنشغال بفروع العلم والتبحر فيها ‪ ،‬وغياب أثره في واقع الحياة ‪ ،‬ورسوخ مفاهيم ساهمت في‬
‫عدم االنتفاع به كالخوف من تدبره ‪ ،‬وأهمية اإلسراع في حفظه ‪ ،‬والسعي وراء تحصيل الثواب‬
‫فقط من تالوته مما يؤدي إلى اإلسراع في تالوته دون تفهُّم وال تدبر ‪ ،‬وغير ذلك من المفاهيم‬
‫حاجزا نفس ًّيا يمنعنا من االنتفاع الحقيقي بالقرآن ‪.‬‬
‫ً‬ ‫والممارسات التي ُتشكل‬
‫‪ ..‬وقبل ذلك كله ‪ ،‬فإن كيد الشيطان واجتهاده في الحيلولة بين وصول القرآن للعقل والقلب‬
‫من أهم عوائق االنتفاع بالقرآن (‪.)148‬‬

‫‪ ) (148‬اقتراح ‪ :‬يُفضَّل – من وجهة نظري ‪ -‬أن نقول ‪ :‬فإن كيد الشيطان واجتهاده في الحيلولة بين وصول القرآن للعقل والقلب ‪ -‬لعلمه بعظم‬
‫أثره على دينهم ودنياهم وسلوكهم واخالقهم ‪ -‬من أهم عوائق االنتفاع بالقرآن ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫ولعلك تجد – أخي القارئ – بعض التفصيل حول هذه العوائق في كتاب « تحقيق الوصال‬
‫‪149‬‬
‫‪ ،‬وفيه كذلك العديد من النماذج العملية لألثر اإليجابي للقرآن العظيم ‪،‬‬ ‫بين القلب والقرآن »‬
‫فاقرأه ‪ -‬إن شئت ‪ -‬على أن تكون قراءة متأنية من بدايته حتى نهايته ‪ ،‬لعل هذه القراءة ُتسهم ‪-‬‬
‫بإذن هللا – في تحقيق الهدف الذي ترمي إليه هذه الصفحات ‪.‬‬
‫التواص والتعاهد ‪:‬‬

‫من أخطر العوائق التي تحول بيننا وبين الممارسة العملية المستمرة لقراءة القرآن وتدبر‬
‫معانيه والتأثر بها ‪ ،‬هو تعودنا على طريقة شكلية لتالوته ؛ تلك التي ُتركز على قراءة أكبر قدر‬
‫بحثا عن الثواب المترتب على‬ ‫من آياته دون التفكر في معانيها ‪ ،‬وبخاصة في شهر رمضان ‪ً ،‬‬
‫قراءتها ‪.‬‬
‫لذلك من المتوقع ان يجد المرء صعوبة بالغة في االنتقال إلى الطريقة الصحيحة في قراءة‬
‫ك لِ َي َّد َّبرُوا آ َيا ِت ِه َولِ َي َت َذ َّك َر ُأولُو اَأْل ْل َبا ِ‬
‫ب‬ ‫ار ٌ‬ ‫القرآن ‪ ،‬والتي ُتحقق قوله تعالى ‪ِ ﴿ :‬ك َتابٌ َأ ْن َز ْل َناهُ ِإ َلي َ‬
‫ْك ُم َب َ‬
‫﴾ [ص ‪. ]29 :‬‬
‫نعم ‪ ،‬قد ينجح يومًا او بضعة أيام ولكنه سرعان ما يعود إلى الطريقة القديمة ‪..‬‬
‫‪ ..‬إن الذي تعوَّ د أن يأكل بيده اليسرى ثالثين عامًا يصعب عليه األكل بيده اليمنى بمجرد أنه‬
‫قد عرف أهمية ذلك ‪ ،‬فاألمر يحتاج منه إلى عزم أكيد ‪ ،‬وتوكل عظيم على هللا عز وجل ‪،‬‬
‫وممارسة طويلة ‪ ،‬ومع ذلك فمن المتوقع أنه سيجد معاناة شديدة حتى يعتاد األكل باليمنى ‪.‬‬
‫ونفس األمر بخصوص القرآن ‪ ،‬فلقد اعتدنا قراءته والتعامل معه بشكل غير صحيح ‪،‬‬
‫ولكي يتم تعديل ذلك البد من استعانة صادقة باهلل ‪ ،‬وعزم أكيد ‪ ،‬وممارسة ‪ ،‬ومتابعة ‪ ،‬وتعاهد‬
‫ممن سبقونا في هذا األمر حتى نتعود على القراءة اليومية للقرآن ‪ ،‬بتدبر وترتيل وصوت‬
‫حزين ‪ ،‬وتفاعل مع اآليات التي نتأثر بها ‪.‬‬
‫وسائل عملية لالنتفاع بالقرآن ‪:‬‬
‫ولتمام الفائدة نضع بين يديك أخي القارئ بعض الوسائل العملية التي من شأنها أن ُتدخلنا –‬
‫بإذن هللا – إلى عالم القرآن ‪ ،‬وتفتح لنا أبواب االنتفاع به ‪ ،‬فعلينا أن نستخدمها عند تالوتنا‬
‫اليومية للقرآن ‪ ،‬وأن تسير جنبًا إلى جنب مع وسائل تنمية الثقة في القرآن والتي ُذكرت آن ًفا ‪.‬‬

‫أواًل ‪ :‬قبل أن نبدأ بقراءة القرآن علينا باإللحاح على هللا عز وجل أن يفتح قلوبنا ألنوار كتابه‬
‫‪ ،‬وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر ‪ ،‬ولنتذكر جميعًا بأن اإللحاح الشديد على هللا هو أهم‬
‫مفتاح يفتح القلوب للقرآن ‪ ،‬فليكن – إذن – إلحاح ودعاء وتضرع كتضرع المضطر الذي يخرج‬
‫دعاؤه من أعماق قلبه ‪.‬‬

‫‪ 149‬بفضل هللا ‪ ،‬الكتاب موجود على موقع اإليمان أواًل ‪.‬‬


‫يقول ابن رجب‪ :‬على قدر الحُرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء(‪.)150‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬القراءة في مكان هادئ ‪ ،‬بعي ًدا عن الضوضاء حتى يتس َّنى جمع العقل والقلب ومع‬
‫القرآن ‪ ،‬وكذلك اختيار الوقت المناسب الذي يكون فيه المرء بعي ًدا عن اإلجهاد البدني أو الذهني‬
‫‪ ،‬وال ننسى الوضوء والسواك ‪.‬‬
‫ثال ًثا ‪ :‬تخصيص وقت معتبر للقراءة ال يقل في البداية عما يُقارب الساعة المتصلة وحبذا لو‬
‫كان أكثر من ذلك ‪ ،‬مع مراعاة ضرورة ‪ -‬عدم قطع القراءة بأي أمر من األمور ما أمكن ذلك –‬
‫حتى ال نخرج من جو القرآن ‪ ،‬وسلطان االستعاذة ‪.‬‬
‫راب ًعا ‪ :‬القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل ‪ ،‬على أن تكون القراءة هادئة حزينة‬
‫الستجالب التأثر بإذن هللا ‪.‬‬
‫سا ‪ :‬الفهم اإلجمالي لآليات من خالل إعمال العقل في تفهُّم الخطاب ‪ ،‬وهذا يستلزم م َّنا‬ ‫خام ً‬
‫التركيز التام مع القراءة ‪.‬‬
‫وليس معنى إعمال العقل في تفهم الخطاب أن نقف عند كل كلمة ونتكلف في معرفة معناها‬
‫وما وراءها ‪ ،‬بل يكفي المعنى اإلجمالي الذي تدل عليه اآلية حتى يتس َّنى لنا االسترسال في‬
‫القراءة ‪ ،‬ومن َث َّم التصاعد التدريجي لحركة المشاعر فتصل إلى التأثر واالنفعال في أسرع وقت‬
‫*‪.‬‬
‫ُخاطب به ‪ ،‬والتفاعل مع‬‫سا ‪ :‬االجتهاد في التعامل مع القرآن كأنه ُأنزل عليك وكأنك الم َ‬ ‫ساد ً‬
‫هذا الخطاب من خالل الرد على األسئلة التي تطرحها اآليات ‪ ،‬والتأمين عند مواضع الدعاء ‪،‬‬
‫واالستغفار في مواضع طلب االستغفار ‪ ...‬وهكذا ‪.‬‬
‫ساب ًعا ‪ :‬تكرار وترديد اآلية أو اآليات التي يحدث معها تجاوب وتأثر مشاعري حتى يتسنى‬
‫للقلب االستزادة من النور الذي يدخل عن طريقها ‪ ،‬واإليمان الذي ينشأ في هذه اللحظات ‪.‬‬
‫ويستمر ترديد اآلية أو اآليات حتى يزول التأثر واالنفعال ‪.‬‬
‫ثام ًنا ‪ :‬إعادة قراءة اآليات التي يشرد عنها العقل ‪ ،‬ويتركها ويسبح في أودية الدنيا ‪ ،‬وفي‬
‫نفس الوقت ال نعيد قراءة اآليات التي لم نتأثر بها ‪ ،‬ألن التأثر حالة قلبية ال نملك استدعاءها ‪،‬‬
‫وهي في الغالب تأتي – بإذن هللا – بعد االسترسال في القراءة بترتيل وصوت حزين وفهم‬
‫إجمالي ‪ ،‬وهللا الموفق ‪.‬‬
‫مالحظة ‪:‬‬
‫في حالة تولد الرغبة لمعرفة تفسير بعض اآليات المقروءة أو أسباب النزول ‪ ،‬فمن األفضل‬
‫الرجوع للتفسير بعد إنتهاء القراءة حتى ال نخرج من جو القرآن واالنفعاالت الوجدانية التي‬
‫نعيش في رحابها ‪.‬‬
‫وأخيرا ‪ :‬علينا أاَّل نيأس إن تأخر تجاوب القلب مع القرآن ‪ ،‬فال بديل عنه في تحقيق أهداف‬ ‫ً‬
‫التربية اإليمانية ‪ ،‬وال حل أمامنا سوى االستمرار في قراءته – كل يوم – بترتيل وتدبر وصوت‬
‫حزين حتى ياتي الفتح من الفتاح العليم ‪.‬‬
‫ولنعلم جميعًا بأن التحدي األكبر الذي يواجهنا في طريقنا نحو تحقيق التربية اإليمانية‬
‫الصحيحة هو كيفية اكتساب مهارة تدبر القرآن والتأثر بمعانيه ‪ ،‬والمداومة اليومية على تالوته‬
‫بهذه الطريقة مهما كانت الشواغل‪.‬‬
‫فإن نجحنا في ذلك فلنبشر بقرب ظهور الجيل القرآني – الجيل الموعود بالنصر والتمكين‬
‫–‬
‫فهل َق ِبلنا التحدي ؟!‬

‫‪ )(150‬الذل واالنكسار البن رجب ‪.‬‬


‫* يُفضَّل القراءة في مثل مصحف التجويد الذي يوجد على هامشه معاني األلفاظ الغريبة عن فهم القارئ حتى يتس َّنى له معرفة معناها وقت القراءة‬
‫‪ ،‬دون الحاجة لقطع القراءة والبحث عنها ‪.‬‬
‫‪ ..‬هيا هيا ‪ ،‬فلنبدأ من اآلن بأهم خطوة ‪ :‬العزم األكيد واإللحاح الشديد على هللا عز وجل بأن‬
‫يفتح لنا أبواب القرآن ‪ ،‬ويجعل عقولنا تفهم معانيه ‪ ،‬وقلوبنا تتأثر بها ‪.‬‬

‫الفصل السادس‬

‫العمل الصالح‬
‫وكيف ننتفع به في زيادة‬
‫اإليمان ؟!‬

‫‪85‬‬
‫الهدف الذي ترمي هذه الصفحات إلى تحقيقه – بإذن هللا – هو كيفية‬
‫االنتفاع الحقيقي بالعمل الصالح في زيادة اإليمان وتحسين السلوك ‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل التعرف على الوسائل التي من شأنها تحفيز المشاعر قبل القيام به ‪.‬‬
‫ولكي نكتسب مهارة التحفيز قبل القيام بالعمل علينا أن نتدرب طوياًل على‬
‫استخدام الوسائل المختلفة المذكورة في تلك الصفحات وغيرها ‪ ،‬وهللا الموفق ‪.‬‬
‫الفصل السادس‬
‫العمل الصالح‬
‫وكيف ننتفع به في زيادة اإليمان ؟!‬
‫ال يكفي ونحن نسير في طريقنا لبناء صرح اإليمان في القلب التركيز على أعمال القلوب فقط‬
‫‪ ،‬بل البد من القيام بأعمال صالحة بالجوارح ُتثبِّت اإليمان وترفع بنيانه ‪.‬‬
‫فلو اكتفينا بعمل القلب ولم نهتم بالعمل الصالح فإن اإليمان سيظل محدو ًدا في القلب ‪ ،‬ولن‬
‫يظهر أثره الواضح على صاحبه ‪ ،‬وبمرور الوقت قد ينزوي وينزوي في القلب ‪.‬‬
‫يقول اإلمام الغزالي ‪:‬‬
‫(‪)151‬‬
‫‪.‬‬ ‫« والعمل يؤثر في نماء اإليمان وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء األشجار »‬
‫صالِحً ا َفِإ َّن ُه‬ ‫فالبد من االثنين معًا حتى يتم البناء الصحيح لصرح اإليمان ﴿ َو َمنْ َت َ‬
‫اب َو َع ِم َل َ‬
‫َي ُتوبُ ِإ َلى هَّللا ِ َم َتابًا ﴾ [الفرقان ‪. ]71 :‬‬
‫االنتفاع بالعمل الصالح ‪:‬‬
‫ولكي يتم االنتفاع بالعمل الصالح البد من استجاشة المشاعر قبل القيام به ‪ ،‬ليحدث االتصال‬
‫بين المشاعر والجوارح ‪ ،‬فيُثمر أداء العمل – بعد ذلك – زيادة اإليمان في هذه المشاعر ‪.‬‬
‫فإن لم يحدث هذا االتصال قبل العمل ‪ ،‬فلن يكون ألداء هذا العمل أثر على المشاعر ‪ ،‬ومن‬
‫َث َّم السلوك‪.‬‬
‫وكلما قوي االتصال بين المشاعر والجوارح قبل وأثناء العمل ‪ ،‬كان األثر أشد وأقوى ‪،‬‬
‫وكما قيل سل ًفا فإن األعمال تتفاضل بتفاضل حركة القلب والمشاعر معها ‪ ،‬وأكبر مثال لذلك‬
‫الصالة ‪:‬‬
‫يقول صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إن الرجل لينصرف وما كتب له إال عشر صالته ‪ ،‬تسعها ‪،‬‬
‫ثمنها ‪ ،‬سبعها ‪ ،‬سدسها ‪ ،‬خمسها ‪ ،‬ربعها ‪ ،‬ثلثها ‪ ،‬نصفها » (‪.)152‬‬
‫أهمية التذكرة قبل العمل ‪:‬‬
‫من هنا تبرز أهمية التذكرة قبل القيام بأداء العمل الصالح حتى يتم االنتفاع الحقيقي به ‪ ،‬ومثال ذلك‬
‫ما قاله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬اذكر الموت في صالتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صالته لحرِّ ي‬
‫(‪.)153‬‬
‫أن يحسن صالته »‬
‫والتذكرة النافعة هي التي تستجيش وتستثير المشاعر ‪.‬‬
‫ومن الضرورة بمكان وجود إيمان في القلب ‪ -‬ولو كان ضعي ًفا ‪ -‬والبد من استثارة هذا‬
‫اإليمان بالتذكرة حتى يحدث الوصال بن المشاعر والجوارح ﴿ َو َذ ِّكرْ َفِإنَّ ِّ‬
‫الذ ْك َرى َت ْن َف ُع ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫ِين ﴾‬
‫[الذاريات ‪. ]55 :‬‬
‫وكلما كانت مساحة اإليمان في القلب كبيرة كان حجم التذكرة المطلوبة الستثارته قليلة ‪ ،‬أما‬
‫إذا كان اإليمان محدو ًدا ومنزويًا في القلب ‪ ،‬فإن التذكرة المطلوبة البد وأن تكون شديدة حتى‬
‫تتمكن من إحداث هزة في المشاعر القاسية ‪..‬‬
‫وكذلك فإن التذكرة المطلوبة لألعمال الكبيرة الشاقة على النفوس أعظم من غيرها ‪ ،‬فالقتال‬
‫على سبيل المثال من األعمال التي تشق على النفوس لذلك كان التوجيه القرآني للرسول عليه‬
‫ال﴾ [األنفال ‪ ]65 :‬ومعنى « حرض» ‪:‬‬ ‫ض ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫ِين َع َلى ْال ِق َت ِ‬ ‫الصالة السالم ﴿ َيا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ َحرِّ ِ‬
‫أي بالغ في حثهم وتحفيزهم ‪.‬‬

‫‪ ) (151‬إحياء علوم الدين ( ‪. ) 1/120‬‬

‫‪ ) ( 152‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه أبو داود (‪ ، 1/211‬رقم ‪ ، )796‬وأحمد (‪ ، 4/321‬رقم ‪ ، )18914‬وابن حبان (‪ ، 5/210‬رقم ‪، )1889‬‬
‫والبيهقي (‪ ، 2/281‬رقم ‪ ، )3342‬وحسنه الشيخ األلباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم ( ‪.)537‬‬
‫‪ ) (153‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه أبو داود (‪ ، 1/211‬رقم ‪. )796‬‬
‫وهدف التحفيز والتذكير هو استجاشة المشاعر ‪ ..‬مشاعر الرغبة أو الطمع أو الرهبة أو‬
‫الغيرة ‪ ..‬إلخ‬
‫وكلما قويت تلك االستجاشة واستمرت أثناء القيام بالعمل كان األثر عظيمًا في زيادة اإليمان‬
‫ومن َثم تحسين السلوك ‪.‬‬
‫والمتأمل للخطاب القرآني والخطاب النبوي يجد أنهما يستخدمان هذه الطريقة قبل التوجيه‬
‫المطلوب القيام به ‪ ،‬ومن النادر أن يخلو توجيه من تحفيز يسبقه ‪.‬‬
‫من فقه التحفيز ‪:‬‬
‫لئن كان الجناح الثاني للتربية اإليمانية هو العمل الصالح ‪ ،‬فإن االنتفاع به انتفاعًا حقيقيًا في‬
‫زيادة اإليمان يحتاج إلى تحفيز واستجاشة المشاعر قبل القيام به ‪.‬‬
‫ولكي تكون هذه الطريقة مالزمة للعمل بصورة دائمة فإنها تحتاج إلى ممارسة ومكابدة مرات‬
‫ومرات حتى يتعود المرء عليها ‪ ،‬ويقوم بتنفيذها بصورة تلقائية ‪..‬‬
‫ومفهوم التحفيز والتذكير قبل القيام بالعمل يشترك – إلى حد كبير – مع مفهوم استحضار‬
‫النية قبل العمل ‪ ،‬فالنية ‪ :‬هي القصد والتوجه ‪ ،‬وكلما كان التوجه إلى هللا عز وجل بالعمل كبيرً ا‬
‫وعمي ًقا كان العمل أنفع ‪..‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬وكيف أقوم بتحفيز نفسي وتحفيز اآلخرين قبل القيام بالعمل ؟!‬
‫هناك وسائل كثيرة للتحفيز والتذكير يمكن للمرء أن يستخدمها مع نفسه ومع اآلخرين ‪،‬‬
‫وسنذكر العديد منها ‪ -‬بعون هللا تعالى – في األسطر القادمة ‪ ،‬مع العلم بأنه ليس من المطلوب‬
‫استخدامها كلها قبل القيام بالعمل ‪ ،‬بل علينا أن نأخذ منها ما يناسب العمل المراد القيام به ‪،‬‬
‫والوقت المتاح أمامنا لممارسة هذا التحفيز‪.‬‬
‫فالذي يجد أمامه في الطريق غص ًنا أو حجرً ا فإنه يحتاج إلى تحفيز نفسه سريعًا بوسيلة أو‬
‫عجوزا يريد عبور الطريق فإنه يحتاج إلى‬ ‫ً‬ ‫وسيلتين قبل أن يرفعه من الطريق ‪ ،‬والذي يجد أمامه‬
‫تحفيز سريع كذلك ‪.‬‬
‫أما الذي يذهب للمسجد ألداء الصالة فعنده من الوقت ما يجعله يستخدم عدة وسائل في‬
‫التحفيز ‪ ،‬وكذلك الذي يذهب لمساعدة محتاج أو زيارة مريض أو صلة رحم ‪ ..‬وهكذا ‪.‬‬
‫المهم أن نجتهد غاية اإلمكان في تحفيز أنفسنا وتذكيرها قبل القيام بالعمل ‪ ،‬وأن نستخدم من‬
‫الوسائل ما يتناسب مع الوقت والعمل ‪ ،‬وإن كانت هناك وسائل تكاد تكون مشتركة في كل‬
‫األعمال ‪ :‬كالتذكير باهلل وابتغاء مرضاته ‪ ،‬وبأهمية العمل وفضله ‪ ،‬ولذلك أنصح نفسي وأنصحك‬
‫– أخي القارئ – باقتناء كتاب عن فضائل األعمال(‪.)154‬‬
‫وسائل التحفيز‬
‫أواًل ‪ :‬السؤال‬
‫السؤال يستثير مشاعر الرغبة داخل اإلنسان لمعرفة اإلجابة ‪ ،‬والسؤال كذلك يشغل الذهن‬
‫بطلب اإلجابة ‪ ،‬ومن ث َّم فهو من الوسائل المهمة لتنبيه العقل ‪ ،‬فإذا ما انتبه العقل كان من السهل‬
‫استثارة المشاعر بالوسائل األخرى ‪.‬‬
‫لذلك علينا أن نسأل أنفسنا قبل أداء العمل ‪:‬‬
‫لماذا أقوم بهذا العمل ؟!‬
‫ثم نبحث عن اإلجابة من خالل استعراض الوسائل األخرى التي ستأتي الح ًقا – بإذن هللا –‬
‫وأهمها ‪ :‬تذ ُّكر أن هللا عز وجل يحب هذا العمل ‪ ،‬وتذكر فضله وأهميته ‪..‬‬
‫ُوسى ﴾ [طه ‪]17 :‬‬ ‫ِك َيا م َ‬ ‫‪ ..‬تأمل قوله تعالى لموسى عليه السالم ‪َ ﴿:‬و َما ت ِْل َ‬
‫ك ِب َيمِين َ‬
‫فاهلل عز وجل يعلم أن ما بيمينه عصا ‪ ،‬ولكن المطلوب هو تركيز انتباه موسى – عليه السالم‬
‫– ألقصى درجة ‪.‬‬
‫‪ ) (154‬ومن هذه الكتب ‪ :‬رياض الصالحين للنووي ‪ ،‬والمتجر الرابح للحافظ الدمياطي ‪.‬‬
‫والقرآن مليء بالتوجيهات والمعاني اإليمانية التي تسبقها أسئلة ‪ ،‬كقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ِين‬
‫ب َأل ٍِيم ﴾ [الصف ‪. ]10 :‬‬ ‫ار ٍة ُت ْن ِجي ُك ْم ِمنْ َع َذا ٍ‬ ‫آ َم ُنوا َه ْل َأ ُدلُّ ُك ْم َع َلى ت َِج َ‬
‫ين َأعْ َمااًل ﴾ [الكهف ‪. ]103 :‬‬ ‫وقوله ‪﴿ :‬قُ ْل َه ْل ُن َن ِّبُئ ُك ْم ِباَأْل ْخ َس ِر َ‬
‫ون (‪َ )1‬ع ِن ال َّن َبِإ ْال َعظِ ِيم ﴾ [النبأ ‪. ]2 ، 1 :‬‬ ‫﴿ع َّم َي َت َسا َءلُ َ‬ ‫وقوله ‪َ :‬‬
‫ومعان إيمانية تسبقها أسئلة ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫والسنة كذلك مليئة بتوجيهات‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬أتدرون من المفلس ؟ قالوا ‪ :‬المفلس فينا من ال درهم له وال‬
‫متاع ‪ .‬فقال ‪ :‬إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصالة وصيام وزكاة ‪ ،‬ويأتي قد شتم هذا ‪،‬‬
‫وقذف هذا ‪ ،‬وأكل مال هذا ‪ ،‬وسفك دم هذا ‪ ،‬وضرب هذا ‪ ،‬فيعطى هذا من حسناته وهذا من‬
‫حسناته ‪ ،‬فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى عنه ما عليه ُأخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح‬
‫في النار» (‪.)155‬‬
‫وقوله ‪ « :‬أال أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصالة والصدقة ‪ ،‬إصالح ذات البين فإن‬
‫فساد ذات البين هي الحالقة » (‪.)156‬‬
‫وقوله ‪ « :‬أال أدلك على سيد االستغفار ؟! اللهم أنت ربي ال إله إال أنت خلقتني وأنا عبدك ‪،‬‬
‫وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ‪ ،‬أعوذ بك من شر ما صنعت ‪ ،‬وأبوء إليك بنعمتك علي ‪،‬‬
‫وأعترف بذنوبي ‪ ،‬فاغفر لي ذنوبي ‪ ،‬إنه ال يغفر الذنوب إال أنت ‪ ،‬ال يقولها أحدكم حين يُمسي‬
‫فيأتي عليه قدر قبل أن يُصبح إال وجبت له الجنة ‪ ،‬وال يقولها حين يُصبح فيأتي عليه قدر قبل أن‬
‫يُمسي إال وجبت له الجنة » (‪.)157‬‬
‫فعندما نذهب للوضوء نسأل أنفسنا ‪ :‬لماذا نتوضأ ؟ ‪.‬‬
‫وعندما نذهب للصالة في المسجد نسأل أنفسنا ‪ :‬لماذا نصلي في المسجد ؟ ‪.‬‬
‫وعندما نذهب لصلة أرحامنا نسأل أنفسنا ‪ :‬لماذا نذهب إليهم ؟ ‪...‬‬
‫وهكذا في كل أعمالنا ‪...‬‬
‫ثان ًيا ‪ :‬تذ ُّكر هللا عز وجل‬
‫من الوسائل المهمة التي تحفز للعمل ‪ ،‬وتوجه النية توجيهًا صحيحً ا ‪ :‬تذ ُّكر هللا عز وجل في‬
‫هذا العمل ‪ ،‬وكيف أنه سبحانه وتعالى يحب من عبده القيام بهذا العمل ‪ ،‬وأنه – سبحانه – يباهي‬
‫بنا المالئكة عندما نقوم به ‪ ،‬وأن هذا العمل وسيلة لنيل مرضاته ‪ ،‬وأن العبودية له سبحانه‬
‫تستدعي القرب منه باألعمال الصالحة ‪ ،‬فتستثير هذه المعاني – عندما نتذكرها – مشاعر الشوق‬
‫والرغبة في هللا عز وجل ‪.‬‬
‫واآليات التي تؤكد هذا المعنى كثيرة ‪.‬‬
‫ين ﴾ [البقرة ‪. ]222 :‬‬ ‫منها قوله تعالى ‪ِ ﴿:‬إنَّ هَّللا َ ُيحِبُّ ال َّتوَّ ِاب َ‬
‫ين َو ُيحِبُّ ْال ُم َت َطه ِِّر َ‬
‫صالِحً ا َواَل ُي ْش ِركْ ِب ِع َبادَ ِة َر ِّب ِه َأ َح ًدا﴾ [الكهف ‪:‬‬ ‫ان َيرْ جُو لِ َقا َء َر ِّب ِه َف ْل َيعْ َم ْل َع َماًل َ‬ ‫وقوله‪َ ﴿:‬ف َمنْ َك َ‬
‫‪. ]110‬‬
‫ت هَّللا ِ َو َت ْث ِبي ًتا ِمنْ َأ ْنفُسِ ِه ْم َك َم َث ِل َج َّن ٍة ِب َرب َْو ٍة ﴾‬
‫ضا ِ‬ ‫ون َأمْ َوا َل ُه ُم ا ْبت َِغا َء َمرْ َ‬ ‫﴿و َم َث ُل الَّذ َ‬
‫ِين ُي ْن ِفقُ َ‬ ‫وقوله ‪َ :‬‬
‫[البقرة ‪. ]265 :‬‬
‫ونجد في السنة كذلك أحاديث تبدأ بالتذكير باهلل عز وجل وأنه يحب من عبده القيام بهذا العمل‬
‫كقوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إن هللا يحب إذا عمل أحدكم عماًل أن يتقنه » (‪.)158‬‬

‫‪ ) (155‬أخرجه مسلم ( ‪. ) 8/18‬‬


‫‪ ) (156‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أبو داود (‪ ، 4/280‬رقم ‪ ، )4919‬والترمذي (‪ ، 4/663‬رقم ‪ .)2509‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح‬
‫الجامع ‪ ،‬حديث رقم ( ‪. ) 2595‬‬
‫‪ ) (157‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الترمذي (‪ ، 5/467‬رقم ‪ ، )3393‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع رقم ( ‪. ) 2612‬‬
‫‪ ) ( 158‬حديث حسن ‪ :‬أخرجه البيهقي في شعب اإليمان (‪ ، 4/334‬رقم ‪ ، )5312‬وأبو يعلى (‪ ، 7/349‬رقم ‪ ، )4386‬وحسنه الشيخ األلباني‬
‫في صحيح الجامع ( رقم ‪. )1880 :‬‬
‫وقوله ‪ « :‬إن هللا يحب سمح البيع ‪ ،‬سمح الشراء ‪ ،‬سمح القضاء» (‪.)159‬‬
‫وقوله ‪ « :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليحسن إلى جاره ‪ ،‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم‬
‫اآلخر فليكرم ضيفه ‪ ،‬ومن كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليقل خيرا أو ليصمت »(‪.)160‬‬
‫‪ ..‬فإذا قمنا إلي الصالة في الليل نتذكر أن هللا عز وجل يحب أن يسمع صوتنا ومناجاتنا‬
‫ودعاءنا له ‪ ،‬وأن هذا العمل وسيلة من وسائل نيل مرضاته ‪.‬‬
‫وإذا وجدنا أذىً في الطريق ُنذ ِّكر أنفسنا بأن هللا عز وجل يحب من عباده الرحماء الذين‬
‫يشفقون على خلقه ‪ ،‬ويحرصون على دفع الضر عنهم ‪...‬‬
‫ثال ًثا ‪ :‬التذكير بفضل العمل‬
‫النفس البشرية ُجبلت على الرغبة في تحصيل أي نفع ُيتاح أمامها ‪ ،‬لذلك فمن أيسر وسائل‬
‫استثارة المشاعر تجاه القيام بعمل ما ‪ :‬التذكير بالعائد الذي سيعود على المرء نظير أدائه له ‪،‬‬
‫حافزا قو ًّيا للقيام‬ ‫ً‬ ‫ولقد حفلت نصوص القرآن والسنة بذكر الثواب المترتب على األعمال لتكون‬
‫بها ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪:‬‬
‫ون َأمْ َوا َل ُه ْم فِي َس ِب ِ‬
‫يل هَّللا ِ‬ ‫من اآليات القرآنية قوله تعالى في فضل اإلنفاق ‪َ ﴿ :‬م َث ُل الَّذ َ‬
‫ِين ُي ْن ِفقُ َ‬
‫ُضاعِ فُ لِ َمنْ َي َشا ُء َوهَّللا ُ َواسِ ٌع َعلِي ٌم ﴾‬ ‫ت َسب َْع َس َن ِاب َل فِي ُك ِّل ُس ْن ُب َل ٍة ِماَئ ُة َح َّب ٍة َوهَّللا ُ ي َ‬ ‫َك َم َث ِل َح َّب ٍة َأ ْن َب َت ْ‬
‫[البقرة ‪. ]261 :‬‬
‫ب ل ٍِيم (‪)10‬‬ ‫َأ‬ ‫ار ٍة ُت ْن ِجي ُك ْم ِمنْ َع َذا ٍ‬ ‫َأ‬
‫ِين آ َم ُنوا َه ْل ُدلُّ ُك ْم َع َلى ت َِج َ‬ ‫َأ‬
‫وفي فضل الجهاد ‪َ ﴿ :‬يا ُّي َها الَّذ َ‬
‫يل هَّللا ِ ِبَأمْ َوالِ ُك ْم َوَأ ْنفُسِ ُك ْم َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر َل ُك ْم ِإنْ ُك ْن ُت ْم َتعْ َلم َ‬
‫ُون‬ ‫ون فِي َس ِب ِ‬ ‫ون ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َو ُت َجا ِه ُد َ‬ ‫ُتْؤ ِم ُن َ‬
‫ت َع ْد ٍن‬ ‫ت َتجْ ِري ِمنْ َتحْ ِت َها اَأْل ْن َها ُر َو َم َساك َِن َط ِّي َب ًة فِي َج َّنا ِ‬ ‫(‪َ )11‬ي ْغ ِفرْ َل ُك ْم ُذ ُنو َب ُك ْم َوي ُْدخ ِْل ُك ْم َج َّنا ٍ‬
‫َذل َِك ْال َف ْو ُز ْال َعظِ ي ُم ﴾ [الصف ‪. ]12 - 10 :‬‬
‫ومن األحاديث النبوية في فضل ذكر هللا قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬أال أنبئكم بخير‬
‫والو ِرق في سبيل‬ ‫أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب َ‬
‫(‪)161‬‬
‫‪.‬‬ ‫هللا وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ‪ ..‬ذكر هللا »‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم في فضل اإلنفاق ‪ « :‬من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب وال‬
‫يقبل هللا إال الطيب فإن هللا عز وجل يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم َفلُوَّ ه حتى‬
‫تكون مثل الجبل » (‪. )162‬‬
‫وفي فضل قيام الليل يقول صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬عليكم بقيام الليل ؛ فإنه دأب الصالحين‬
‫قبلكم ‪ ،‬وإن قيام الليل قربة إلى هللا ‪ ،‬ومنهاة عن اإلثم ‪ ،‬وتكفير للسيئات ‪ ،‬ومطردة للداء عن‬
‫الجسد » (‪. )163‬‬
‫فعلينا إذن االجتهاد بتذكير أنفسنا بفضل العمل قبل القيام به ‪ ،‬وهذا يستدعي منا النظر في‬
‫كتب فضائل األعمال كالمتجر الرابح للحافظ الدمياطي وغيره ‪.‬‬
‫راب ًعا ‪ :‬التذكير بأهمية العمل‬
‫مشاعر الرغبة داخل القلب تستثار كلما أدرك المرء أهمية العمل الذي ينوي القيام به ‪ ،‬فعلى‬
‫سبيل المثال ‪ :‬إذا ما قام العبد بتذكير نفسه قبل قراءة القرآن بأنه سيقرأ كالم هللا وما فيه من‬

‫‪ ) ( 159‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الترمذي (‪ ، 3/609‬رقم ‪ ، )1319‬والحاكم (‪ ، 2/64‬رقم ‪ ، )2338‬وصححه الشيخ األلباني في السلسلة‬
‫الصحيحة برقم ( ‪. ) 899‬‬
‫‪ ) (160‬متفق عليه ‪ ،‬أخرجه البخاري (‪ ، 5/2240‬رقم ‪ ، )5673‬ومسلم (‪ ، 1/69‬رقم ‪. )48‬‬
‫‪ ) ( 161‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الترمذي (‪ ، 5/459‬رقم ‪ ، )3377‬وابن ماجه (‪ ، 2/1245‬رقم ‪ ، )3790‬والحاكم (‪ ، 1/673‬رقم ‪، )1825‬‬
‫وأحمد (‪ ، 5/195‬رقم ‪ ، )21750‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح سنن الترمذي ( ‪ ، 3/139‬برقم ‪. ) 2688‬‬
‫‪ ) ( 162‬متفق عليه ‪ :‬أخرجه البخاري (‪ ، 2/511‬رقم ‪ ، )1344‬ومسلم (‪ ، 2/702‬رقم ‪ . )1014‬والفلو ‪ :‬بفتح الفاء ‪ ،‬وضم الالم ‪ ،‬وتشديد‬
‫الواو ‪ ،‬هو الفرس أول ما يولد ‪.‬‬
‫‪ ) (163‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الترمذي (‪ ، 5/552‬رقم ‪ ، )3549‬والبيهقي (‪ ، 2/502‬رقم ‪ ، )4425‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح‬
‫الجامع حديث رقم ‪ ، 4079 :‬بدون لفظة (ومطردة للداء عن الجسد) فإنها ضعيفة عنده ‪.‬‬
‫روعة وجالل ‪ ،‬وأنه سيتناول الدواء الرباني الذي فيه شفاؤه ‪ ،‬وأنه سيتعرض للنور المبين الذي‬
‫يبدد الظلمات في عقله وقلبه ‪ ،‬وأن المالئكة تقترب منه لتسمع قراءته و ‪ ، ...‬فإن ذلك من شأنه‬
‫أن يستثير مشاعر الرغبة والشوق نحوه ‪ ،‬فيقبل عليه إقبال الظمآن على الماء ‪.‬‬
‫وإذا ما قام المرء بتذكير نفسه قبل زيارته لمريض أن هذه الزيارة سترفع معنويات المريض‬
‫– بإذن هللا – و ُتسرّ ي عنه ‪ ،‬وأنه سوف يجني منها رقة في قلبه ‪ ،‬وامتنا ًنا لربه ألنها ستذكره‬
‫بنعمة العافية التي يتقلب فيها ‪ ،‬و‪ ، ...‬فمن المتوقع أن يُقبل عليها بمشاعر متأججة ‪.‬‬
‫وعند اإلنفاق في سبيل هللا يُذ ِّكر المرء نفسه بأن هذا اإلنفاق قد يكون سببًا في إنقاذ مريض‬
‫من الموت ‪ ،‬وسد حاجة فقير معسر ‪ ،‬وشكر لنعمة اليسار والغنى ‪..‬‬
‫وعند قيام الليل يُذ ِّكر المرء نفسه بأن هذا القيام هو شرفه وعزه ‪ ،‬وأنه من أفضل أوقات‬
‫استجابة الدعاء ‪ ،‬وأنه يعطي قوة في البدن وانشراحً ا في الصدر ‪ ،‬وبركة في اليوم ‪.‬‬
‫سا ‪ :‬الترهيب من ترك العمل‬ ‫خام ً‬
‫من طبيعة النفس أنها إذا ما ُخوفت خافت ‪ ،‬فإذا ما نجحنا في تذكير أنفسنا بخطورة ترك‬
‫العمل الصالح أو التهاون في أدائه وما قد يترتب على ذلك من أضرار في الدنيا واآلخرة ؛ فإنها‬
‫ستدفعنا للقيام به ‪.‬‬
‫يقول أحد األصدقاء ‪ :‬توجد لوحة إرشادية على أحد الجدران الخارجية لمسجد يقع على‬
‫طريق سريع ‪ ،‬مكتوب عليها ‪ :‬نظرً ا لكثرة حوادث العبور من الطريق السريع عليك باستخدام‬
‫نفق المشاة ‪..‬‬
‫ويستطرد قائاًل ‪ :‬كلما قرأت هذه اللوحة أجد نفسي تدفعني للعبور من النفق ‪.‬‬
‫من هنا نقول ‪ :‬بأن من الوسائل المهمة الستثارة مشاعر الرهبة والشعور بالخطر الدافعة‬
‫للعمل ‪ :‬التذكير بخطورة ترك العمل الصالح ‪ ،‬أو بخطورة اإلقدام على فعل المعاصي ‪.‬‬
‫وهنا الكثير من اآليات واألحاديث التي تتحدث في هذا الشأن ‪.‬‬
‫يل‬‫ومن ذلك قوله تعالى في الترهيب من ترك اإلنفاق ‪َ ﴿ :‬ها َأ ْن ُت ْم َهُؤ اَل ِء ُت ْد َع ْو َن لِ ُت ْن ِفقُوا فِي َس ِب ِ‬
‫هَّللا ِ َف ِم ْن ُك ْم َمنْ َيب َْخ ُل َو َمنْ َيب َْخ ْل َفِإ َّن َما َيب َْخ ُل َعنْ َن ْفسِ ِه َوهَّللا ُ ْال َغنِيُّ َوَأ ْن ُت ُم ْالفُ َق َرا ُء َوِإنْ َت َت َولَّ ْوا َيسْ َت ْب ِد ْل‬
‫َق ْومًا َغي َْر ُك ْم ُث َّم اَل َي ُكو ُنوا َأمْ َثا َل ُك ْم ﴾ [محمد ‪. ]38 :‬‬
‫ِين آ َم ُنوا اَل ُت ْل ِه ُك ْم َأمْ َوالُ ُك ْم َواَل َأ ْواَل ُد ُك ْم َعنْ ذ ِْك ِر هَّللا ِ َو َمنْ َي ْف َع ْل َذل َِك‬ ‫وقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ُون ﴾ [المنافقون ‪.]9 :‬‬ ‫َفُأو َل َ‬
‫ِئك ُه ُم ْال َخاسِ ر َ‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم في الترهيب من عدم إتمام الصالة ‪ « :‬أسوأ الناس سرقة الذي‬
‫يسرق من صالته » ‪ ،‬قالوا ‪ :‬كيف يسرق من صالته ؟ قال ‪ « :‬ال يتم ركوعها وال سجودها وال‬
‫خشوعها » (‪. )164‬‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم في الترهيب من الظلم ‪ « :‬اتقوا دعوة المظلوم ؛ فإنها ُتحمل على‬
‫ص َر َّنك ولو بعد حين » (‪. )165‬‬ ‫الغمام ‪ ،‬يقول هللا ‪ :‬وعزتي وجاللي َأل ْن َ‬
‫سا ‪ :‬التشجيع‬ ‫ساد ً‬
‫من الحوافز ذات األثر البالغ على النفس ‪ :‬استشعار المرء تقدير اآلخرين له ‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى‬
‫فتح منافذ االستماع لهم ‪ ،‬وزيادة الرغبة في القيام بما يطلبونه منه ‪.‬‬
‫هذه الوسيلة ينبغي أن نستخدمها مع أنفسنا أو مع اآلخرين في حدود ضيقة حتى ال تأتي‬
‫بنتيجة عكسية وتتحول إلى صورة من صور المدح الذي يؤدي إلى استعظام المرء لنفسه ‪،‬‬
‫وشعوره باألفضلية الذاتية على غيره ‪.‬‬

‫‪ ) (164‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 5/310‬رقم ‪ ، )22695‬والحاكم (‪ ، 1/353‬رقم ‪ ، )835‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع‬
‫( رقم ‪.)986 :‬‬
‫‪ ) (165‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه الطبراني (‪ 4/84‬رقم ‪ ،)3718‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ( رقم ‪.)117 :‬‬
‫والمتأمل في القرآن والسنة يجد مواقف عديدة اس ُتخدمت فيها هذه الوسيلة في التحفيز للقيام‬
‫بالعمل ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪ :‬كثيرً ا ما يتكرر في القرآن قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ِين آ َم ُنوا ﴾ قبل‬
‫التوجيه إلى العمل المطلوب ‪ ..‬هذا النداء فيه من التقدير والتشجيع ما يحفز النفس للقيام بالعمل ‪.‬‬
‫وفي الخطاب الموجه لليهود نجد أن القرآن يناديهم بقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬يا َبنِي ِإسْ َراِئي َل ﴾ أي ‪ :‬يا‬
‫أبناء النبي إسرائيل ‪ ،‬فيكون هذا النداء بمثابة استدراج لهم لكي يستمعوا لما سيُتلى عليهم ‪.‬‬
‫هللا اصْ َط َفاكِ َو َطه ََّركِ َواصْ َط َفاكِ َع َلى ن َِسا ِء‬ ‫وتأمل قول المالئكة لمريم الصديقة ‪َ ﴿ :‬يا َمرْ َي ُم ِإنَّ َ‬
‫ِين﴾ [آل عمران ‪ ]42 :‬فهذا لون من ألوان التقدير الخاص ‪ ،‬ليأتي التوجيه في اآلية التالية ‪:‬‬ ‫ْال َعا َلم َ‬
‫ِين ﴾ [آل عمران ‪. ]43 :‬‬ ‫﴿ َيا َمرْ َي ُم ا ْق ُنتِي ل َِربِّكِ َواسْ ُجدِي َوارْ َكعِي َم َع الرَّ ا ِكع َ‬
‫وعندما أراد موسى ‪ -‬عليه السالم – أن يدخل ببني إسرائيل األرض المقدسة ظل يحفزهم‬
‫ُوسى لِ َق ْو ِم ِه َيا َق ْو ِم ْاذ ُكرُوا ِنعْ َم َة ِ‬
‫هللا‬ ‫﴿وِإ ْذ َقا َل م َ‬ ‫بهذه الطريقة قبل أن يطلب منهم هذا الطلب ‪َ :‬‬
‫ِين (‪َ )20‬يا َق ْو ِم ْاد ُخلُوا‬ ‫ت َأ َح ًدا م َِن ْال َعا َلم َ‬ ‫َع َل ْي ُك ْم ِإ ْذ َج َع َل فِي ُك ْم َأ ْن ِب َيا َء َو َج َع َل ُك ْم ُملُو ًكا َوآ َتا ُك ْم َما َل ْم يُْؤ ِ‬
‫ين ﴾ [المائدة ‪، 20 :‬‬ ‫ار ُك ْم َف َت ْن َقلِبُوا َخاسِ ِر َ‬ ‫َأ‬
‫ب هَّللا ُ َل ُك ْم َواَل َترْ َت ُّدوا َع َلى ْد َب ِ‬ ‫ض ْال ُم َق َّد َس َة الَّتِي َك َت َ‬ ‫اَأْلرْ َ‬
‫‪. ]21‬‬
‫وانظر إليه صلى هللا عليه وسلم وهو يقول لمعاذ بن جبل ‪ « :‬يا معاذ ‪ :‬وهللا إني ألحبك ‪،‬‬
‫دعنَّ في دبر كل صالة أن تقول ‪ :‬اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن‬ ‫أوصيك يا معاذ ال َت َ‬
‫عبادتك » (‪. )166‬‬
‫ولك أن تتخيل و ْقع كلمة ‪ « :‬يا معاذ ‪ :‬وهللا إني ألحبك » على نفس معاذ ‪ ،‬وكيف سيستقبل‬
‫الكالم بعدها ؟!‬
‫ساب ًعا ‪ :‬التذكير بالمواقف اإليجابية السابقة‬
‫فمن الوسائل التي تثير الهمة ‪ ،‬وتدفع للقيام بالعمل ‪ :‬تذكر المواقف اإليجابية التي مرت‬
‫بالمرء في حياته ولها عالقة بالعمل المراد القيام به في الحاضر ‪ ،‬فعندما يجد المرء في نفسه‬
‫تكاساًل عن قيام الليل ي َُذ ِّكر نفسه بيوم كذا وكذا عندما قام نصف الليل وكيف كان ذلك ممتعًا‬
‫وسهاًل على نفسه ‪ ،‬وعندما يستشعر عدم جدوى القيام بعمل ما نتيجة ضيق الوقت وقلة اإلمكانات‬
‫فعليه أن ي َُذ ِّكر نفسه بمواقف إيجابية تعرض لها من قبل وكانت الظروف أشد ‪ ،‬ومع ذلك أكرمه‬
‫هللا بالتوفيق والنجاح ‪..‬‬
‫ُوك َفِإنَّ َحسْ َب َك هَّللا ُ‬ ‫َأ‬
‫تأمل قول هللا تعالى لرسوله صلى هللا عليه وسلم ‪َ ﴿ :‬وِإنْ ي ُِري ُدوا نْ َي ْخدَ ع َ‬
‫ت‬ ‫ض َجمِيعًا َما َألَّ ْف َ‬ ‫ت َما فِي اَأْلرْ ِ‬ ‫وب ِه ْم َل ْو َأ ْن َف ْق َ‬
‫ف َبي َْن قُلُ ِ‬ ‫ِين (‪َ )62‬وَألَّ َ‬ ‫ه َُو الَّذِي َأيَّدَ َك ِب َنصْ ِر ِه َو ِب ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫ف َب ْي َن ُه ْم ِإ َّن ُه َع ِزي ٌز َحكِي ٌم ﴾ [األنفال ‪. ]63 ، 62 :‬‬ ‫وب ِه ْم َو َلكِنَّ هَّللا َ َألَّ َ‬
‫َبي َْن قُلُ ِ‬
‫في هذه اآليات تم التذكير بمواقف سابقة تجلت فيها قدرة هللا وتأييده ليأتي التوجيه بعد هذا‬
‫ِين‬‫ض ْالمُْؤ ِمن َ‬ ‫ِين (‪َ )64‬يا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ َحرِّ ِ‬ ‫التذكير ﴿ َيا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ َحسْ ب َ‬
‫ُك هَّللا ُ َو َم ِن ا َّت َب َع َك م َِن ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫ِين‬ ‫ْن َوِإنْ َي ُكنْ ِم ْن ُك ْم ِماَئ ٌة َي ْغلِبُوا َأ ْل ًفا م َِن الَّذ َ‬ ‫ُون َي ْغلِبُوا ِماَئ َتي ِ‬‫ص ِابر َ‬ ‫ُون َ‬ ‫ال ِإنْ َي ُكنْ ِم ْن ُك ْم عِ ْشر َ‬ ‫َع َلى ْال ِق َت ِ‬
‫ُون ﴾ [األنفال ‪. ]65 ، 64 :‬‬ ‫َك َفرُوا ِبَأ َّن ُه ْم َق ْو ٌم اَل َي ْف َقه َ‬
‫ثام ًنا ‪ :‬المحاورة واإلقناع والموازنة العقلية ( تخيير النفس ) ‪:‬‬
‫عندما يقتنع المرء بأهمية وقيمة العمل المطلوب قيامه به ومدى نفعه له ‪ ،‬فإن ذلك من شأنه‬
‫أن يدفعه ألدائه بمشاعر الرغبة واالحتياج ‪ ،‬وكذلك عندما يقتنع بخطورة وضرر العمل الذي يود‬
‫فعله فإنه سيتركه بإرادته ‪..‬‬
‫من هنا تبرز أهمية الحوار واإلقناع سواء كان بين المرء ونفسه ‪ ،‬أو بينه وبين اآلخرين ‪.‬‬

‫‪ ) (166‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أبو داود (‪ ، 2/86‬رقم ‪ ، )1522‬والنسائي في الكبرى (‪ ، 6/32‬رقم ‪ ، )9937‬وصححه الشيخ األلباني في‬
‫صحيح الجامع ( رقم ‪.)7969 :‬‬
‫ومن الضروري أن ينطلق الحوار من قاعدة مفادها أن «صالحك لمصلحتك» ‪ ،‬وأنك‬
‫المستفيد األول من قيامك بالعمل الصالح ‪ ،‬وأنك – أيضًا – الخاسر من عدم قيامك به ‪.‬‬
‫فالنفس ال تحب أو ترضى بفوات مصلحة تنفعها ‪ ،‬أو الوقوع في ضرر يؤذيها ‪ ،‬لذلك نجد‬
‫القرآن يستخدم هذه الطريقة في اإلقناع ‪:‬‬
‫ْأ‬
‫﴿ ِإنْ َأحْ َس ْن ُت ْم َأحْ َس ْن ُت ْم َأِل ْنفُسِ ُك ْم َوِإنْ َأ َس ُت ْم َف َل َها ﴾ [اإلسراء ‪. ]7 :‬‬
‫ار َخ ْي ٌر َأ ْم َمنْ َيْأتِي آ ِم ًنا َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة ﴾ ؟! ﴿اعْ َملُوا َما شِ ْئ ُت ْم ﴾ [فصلت ‪:‬‬ ‫﴿ َف َمنْ ي ُْل َقى فِي ال َّن ِ‬
‫َأ‬
‫‪. ]40‬‬
‫ض َّل َفِإ َّن َما يَضِ ُّل َع َل ْي َها ﴾ [اإلسراء ‪. ]15 :‬‬ ‫﴿ َم ِن اهْ َتدَ ى َفِإ َّن َما َي ْه َتدِي لِ َن ْفسِ ِه َو َمنْ َ‬
‫ث َو َن َّز ْل َناهُ َت ْن ِزياًل (‪ )106‬قُ ْل آ ِم ُنوا ِب ِه َأ ْو اَل ُتْؤ ِم ُنوا‬ ‫اس َع َلى م ُْك ٍ‬ ‫﴿ َوقُرْ آ ًنا َف َر ْق َناهُ لِ َت ْق َرَأهُ َع َلى ال َّن ِ‬
‫﴾ [اإلسراء ‪. ]107 ، 106 :‬‬
‫ِي َف َع َل ْي َها ﴾ [األنعام ‪. ]104 :‬‬ ‫ْص َر َفلِ َن ْفسِ ِه َو َمنْ َعم َ‬ ‫َأ‬
‫صاِئ ُر ِمنْ َر ِّب ُك ْم َف َمنْ ب َ‬ ‫﴿ َق ْد َجا َء ُك ْم َب َ‬
‫فهذه اآليات وغيرها تضع المرء في مواجهة مع نفسه ‪ ،‬و ُتشعره باالحتياج الشخصي للعمل ‪،‬‬
‫ث اآْل خ َِر ِة َن ِز ْد َل ُه فِي َحرْ ِث ِه َو َمنْ َك َ‬
‫ان‬ ‫ان ي ُِري ُد َحرْ َ‬ ‫وأنه الفائز إن عمله ‪ ،‬والخاسر إن تركه ﴿ َمنْ َك َ‬
‫ب ﴾ [الشورى ‪. ]20 :‬‬ ‫ث ال ُّد ْن َيا ُنْؤ ِت ِه ِم ْن َها َو َما َل ُه فِي اآْل خ َِر ِة ِمنْ َنصِ ي ٍ‬ ‫ي ُِري ُد َحرْ َ‬
‫وعندما طلبت زوجات النبي صلى هللا عليه وسلم التوسعة في النفقة نزل القرآن يحاورهن ‪:‬‬
‫﴿ َيا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ قُ ْل َأِل ْز َوا ِج َك ِإنْ ُك ْن ُتنَّ ُت ِر ْد َن ْال َح َيا َة ال ُّد ْن َيا َو ِزي َن َت َها َف َت َعا َلي َْن ُأ َم ِّتعْ ُكنَّ َوُأ َسرِّ حْ ُكنَّ َس َراحً ا‬
‫ت ِم ْن ُكنَّ َأجْ رً ا َعظِ يمًا‬ ‫ار اآْل خ َِر َة َفِإنَّ هَّللا َ َأ َع َّد ل ِْلمُحْ سِ َنا ِ‬ ‫َجمِياًل (‪َ )28‬وِإنْ ُك ْن ُتنَّ ُت ِر ْد َن هَّللا َ َو َرسُو َل ُه َوال َّد َ‬
‫﴾ [األحزاب ‪. ]29 ، 28 :‬‬
‫وتأمل الحوار الذي دار بين الرسول صلى هللا عليه وسلم وبين الشاب الذي أتاه يطلب منه أن‬
‫يأذن له بالزنا ‪:‬‬
‫فعن أبي أمامة قال ‪ :‬إن فتى شابًا أتى النبي صلى هللا عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول هللا ! ائذن‬
‫لي بالزنا ‪ .‬فأقبل القوم عليه فزجروه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬مه ‪ ،‬مه ! فقال ‪ « :‬أدنه » ‪ .‬فدنا منه قريبًا ‪ .‬قال‬
‫‪ :‬فجلس ‪ .‬قال ‪ « :‬أتحبه ألمك ؟ » ‪ ،‬قال ‪ :‬ال وهللا ‪ ،‬جعلني هللا فداك ‪ .‬قال ‪ « :‬وال الناس يحبونه‬
‫ألمهاتهم » ‪ .‬قال ‪ « :‬أفتحبه البنتك ؟ » ‪ ،‬قال ‪ :‬ال وهللا يا رسول هللا ‪ ،‬جعلني هللا فداك ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫« وال الناس يحبونه لبناتهم » ‪ .‬قال ‪ « :‬أتحبه ألختك ؟ » ‪ ،‬قال ‪ :‬ال وهللا ‪ ،‬جعلني هللا فداك ‪.‬‬
‫قال ‪ « :‬وال الناس يحبونه ألخواتهم » ‪ .‬قال ‪ « :‬أتحبه لعمتك ؟ » ‪ ،‬قال ‪ :‬ال وهللا ‪ ،‬جعلني هللا‬
‫فداك ‪ .‬قال ‪ « :‬وال الناس يحبونه لعماتهم » ‪ .‬قال « أتحبه لخالتك ؟ » ‪ ،‬قال ‪ :‬ال وهللا ‪ ،‬جعلني‬
‫هللا فداك ‪ .‬قال ‪ « :‬وال الناس يحبونه لخاالتهم » ‪ .‬قال ‪ :‬فوضع يده عليه وقال ‪ « :‬اللهم اغفر‬
‫ذنبه ‪ ،‬وطهر قلبه ‪ ،‬وحصن فرجه » ‪ .‬فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (‪. )167‬‬
‫فالرسول صلى هللا عليه وسلم لم ينهره أو ي َُوبخه عندما طلب منه هذا الطلب المحرم ‪ ،‬بل‬
‫حاوره ‪ ،‬ووصل به إلى القناعة التامة بأن هذا ال يصلح ‪.‬‬
‫وهذا عبد هللا بن رواحة عندما وجد في نفسه بعض التردد عند في معركة مؤتة ‪ ،‬ظل‬
‫يُحاورها ‪ ،‬ويقول لها‪:‬‬
‫أقسمت يا نفس لتنزلنه ‪ ...‬طائعة أو لتكرهنه‬
‫إن أجلب الناس وشدوا الرنه ‪ ...‬ما لي أراك تكرهين الجنة‬
‫قد طالما قد كنت مطمئنة ‪ ...‬هل أنت إال نطفة في شنه‬
‫يا نفس إال تقتلي تموتي ‪ ...‬هذا حمام الموت قد صليت‬
‫وما تمنيت فقد أعطيت ‪ ...‬إن تفعلي فعلهما هديت‬
‫وإن تأخرت فقد شقيت‬

‫‪ ) (167‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، )257 - 256 / 5‬وصححه الشيخ األلباني رحمه هللا في السلسلة الصحيحة برقم ( ‪. ) 712‬‬
‫فعلينا أن نستخدم هذه الطريقة في التحفيز ‪ ،‬وبخاصة عندما نجد في أنفسنا تكاساًل عن أداء‬
‫األعمال ‪ ..‬فعلى سبيل المثال ‪ :‬عندما نسمع آذان الفجر ‪ ،‬ونجد في أنفسنا خمواًل وتكاساًل عن‬
‫القيام ‪ ،‬علينا أن ُنحاورها ونتحدث معها بمثل هذه الكلمات ‪:‬‬
‫‪ ..‬ال بأس من النوم والراحة ‪ ..‬ولكن من سيدفع الثمن ؟ من المتضرر ؟‬
‫‪ ..‬من الذي سيفقد بركة هذا اليوم ؟‬
‫‪ ..‬من الذي سيبتعد عن ذمة هللا في هذا اليوم ؟‬
‫ش ًّحا بالمال ‪ ،‬وعدم رغبة في اإلنفاق ‪ ،‬علينا أن ُنحاورها و ُنبيِّن لها‬ ‫‪ ..‬وعندما نجد في أنفسنا ُ‬
‫حجم الخسارة التي ستعود عليها من ترك اإلنفاق ‪ ،‬وحجم المكاسب المترتبة على اإلنفاق ‪.‬‬
‫وعندما نجد أوالدنا يتكاسلون عن أداء الصالة أو أي عمل آخر علينا أن نستخدم معهم هذه‬
‫الطريقة‪.‬‬
‫تاس ًعا ‪ :‬التحفيز من خالل إبراز قدوة ‪:‬‬
‫من طبيعة النفس أنها ال ُتحب أن يسبقها أو يتميز عليها أحد ‪ ،‬لذلك علينا أن نستثير مشاعر‬
‫الغيرة ‪ ،‬ونوجهها التوجيه الصحيح نحو القيام بالعمل المطلوب من خالل التذكير بأناس قاموا به‬
‫وبغيره على أحسن وجه ‪.‬‬
‫فتقول لنفسك قبل اإلنفاق ‪ :‬تذكري فالن الذي كان يُنفق كذا وكذا ‪ ،‬ولم يترك لنفسه إال القليل‬
‫‪..‬‬
‫تذكري الصحابي عبد هللا ابن أم مكتوم األعمى الذي لم يترك الصالة في المسجد ‪.‬‬
‫تذكري أبا بكر الصديق الذي أتى بماله كله لتجهيز جيش العسرة ‪..‬‬
‫والقرآن مليء باآليات التي ُتح ِّفز المسلمين للقيام بالعمل الصالح من خالل ذكر نماذج بشرية‬
‫ِين‬ ‫ان ُأم ًَّة َقا ِن ًتا هَّلِل ِ َحنِي ًفا َو َل ْم َي ُ‬
‫ك م َِن ْال ُم ْش ِرك َ‬ ‫قامت به خير قيام ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ِ ﴿ :‬إنَّ ِإب َْراهِي َم َك َ‬
‫(‪َ )120‬شا ِكرً ا َأِل ْن ُع ِم ِه ﴾ [النحل ‪. ]121 ، 120 :‬‬
‫ض ُعفُوا َو َما‬ ‫يل هَّللا ِ َو َما َ‬‫صا َب ُه ْم فِي َس ِب ِ‬ ‫ُّون َكثِي ٌر َف َما َو َه ُنوا لِ َما َأ َ‬
‫﴿ َو َكَأيِّنْ ِمنْ َن ِبيٍّ َقا َت َل َم َع ُه ِر ِّبي َ‬
‫ين ﴾ [آل عمران ‪. ]146 :‬‬ ‫اسْ َت َكا ُنوا َوهَّللا ُ ُيحِبُّ الص ِ‬
‫َّاب ِر َ‬
‫والقدوة الحاضرة أقوى في التأثير في النفس من غيرها ‪ ،‬فكما قيل ‪ « :‬عمل رجل في ألف‬
‫رجل ‪ ،‬أفضل من قول ألف رجل لرجل » ‪.‬‬
‫وأيضًا ‪ « :‬إذا أردت أن تكون إمامي ‪ ،‬فكن أمامي » ‪ ،‬و « القدوة إمامة بال إمارة » ‪.‬‬

‫عاشرا ‪ :‬القصة ‪:‬‬


‫ً‬
‫( للقصة دور بارز في تحريك المشاعر ‪ ،‬وإبراز العواطف ‪ ،‬وتثبيت األفكار في األذهان ‪،‬‬
‫مرت‬‫فهي ال تحتاج إلى جهد كبير لنقل أفكارها إلى النفس ‪ ..‬ألن من شان النفس اإلنسانية إذا َّ‬
‫بحدث من األحداث أن تتفاعل معه ‪.‬‬
‫كما ال يخفى ما للقصة من دور في التأثير على نفوس المخاطبين بها ‪ ،‬إذ ال تنتهي القصة‬
‫إال ويكون المستمع أو القارئ أو المشاهد قد عاش في تجربة نفسية ‪ ،‬وقطع رحلة طويلة‬
‫آثارا وجدانية وروحية ) (‪ ، )168‬وأصبح مهيًئ ا أكثر وأكثر‬
‫بحسب طول القصة ‪ ،‬تترك في النفس ً‬
‫للقيام بما تدل علي القصة ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال ‪:‬‬
‫عندما نقرأ حديث « إنما األعمال بالنيات » ‪ ،‬فهو بال شك يُذكرنا بأهمية اإلخالص هلل عز‬
‫وجل ‪ ،‬لكننا نجد أنفسنا أكثر تأثرً ا ورغبة في اإلخالص عندما نقرأ القصة التي ذكرها الرسول‬
‫عليه الصالة والسالم عن الثالثة الذين كانوا في سفر فدخلو غارً ا يستريحون فيه ‪ ،‬فانطبقت عليه‬

‫‪ ) (168‬التعبير القرآني للجيوسي ( ‪ ) 482 - 481‬باختصار ‪.‬‬


‫صخرة ‪ ،‬فدعوا هللا بإخالص ‪ ،‬وتذكروا أعمااًل يظنون أنهم كانوا فيها من المخلصين حتى‬
‫تزحزحت الصخرة فخرجوا من الغار سالمين ‪.‬‬
‫‪ ..‬لذلك من المناسب تذكير أنفسنا بقصة مؤثرة لها عالقة بالعمل الصالح الذي نود القيام به ‪،‬‬
‫وبخاصة مع تلك األعمال التي ألِ ْفنا القيام بها فأصبحت تؤدى بال روح ‪.‬‬

‫حادي عشر ‪ :‬ضرب المثل ‪:‬‬


‫جدّ ا أنها‬ ‫يقول بديع الزمان النورسي في فائدة ضرب األمثال ‪ :‬أنها ُتظهر الحقائق البعيدة ً‬
‫قريبة جدًا ‪ ،‬وتوصل إلى أسمى الحقائق وأعالها بسهولة ويسر (‪. )169‬‬
‫ومن فوائد المثل ( إبراز صورة معنوية في صورة حسية فيتقبلها العقل ؛ ألن المعاني‬
‫المعقولة ال تستقر في األذهان إال إذا صِ يغت في صورة حسية قريبة الفهم ‪ ..‬فيكون وقعها‬
‫التأثيري أقوى وأومض في النفوس والعقول ‪.‬‬
‫واألمثال تخاطب عقول الناس بما يعرفونه ‪ ،‬وتجعل ما هو غائب ماثاًل أمامهم ف ُتقرب إليهم‬
‫البعيد ) (‪.)170‬‬
‫ولضرب المثل وظيفة مهمة في تحفيز اإلنسان للقيام بالعمل من خالل تقريب المعنى والتأثير‬
‫في المشاعر ‪ ،‬يقول اإلمام محمد عبده ‪ :‬واختير للمثل لفظ الضرب ألنه يأتي عند إرادة التأثير ‪،‬‬
‫(‪)171‬‬
‫كأن ضارب المثل يقرع به ُأذن السامع قر ًعا ينفذ أثره إلى قلبه ‪ ،‬وينتهي إلى أعماق نفسه‬
‫‪.‬‬
‫لذلك قيل بأن ‪ :‬المعلم الناجح هو الذي يُكثر من ضرب األمثال ‪.‬‬
‫فعلينا استخدام هذه الوسيلة للتأثير على المشاعر قبل القيام بالعمل وبخاصة عند مخاطبة‬
‫اآلخرين ‪.‬‬
‫والقرآن والسنة بها الكثير من األمثال التي ُتقرب المعاني البعيدة في صور قريبة محسوسة ‪،‬‬
‫ُون َو َر ُجاًل َس َلمًا ل َِرج ٍُل َه ْل‬ ‫ب هَّللا ُ َمثَاًل َر ُجاًل فِي ِه ُ‬
‫ش َر َكا ُء ُم َت َشا ِكس َ‬ ‫ض َر َ‬ ‫ومن ذلك قوله تعالى ‪َ ﴿ :‬‬
‫ُون ﴾ [الزمر ‪. ]29 :‬‬ ‫ان َمثَاًل ْال َحمْ ُد هَّلِل ِ َب ْل َأ ْك َث ُر ُه ْم اَل َيعْ َلم َ‬
‫َيسْ َت ِو َي ِ‬
‫ص ِّدعًا ِمنْ َخ ْش َي ِة هَّللا ِ َوت ِْل َك اَأْلمْ َثا ُل‬
‫آن َع َلى َج َب ٍل َل َرَأ ْي َت ُه َخاشِ عًا ُم َت َ‬ ‫وقوله ‪َ ﴿:‬ل ْو َأ ْن َز ْل َنا َه َذا ْالقُرْ َ‬
‫ُون ﴾ [الحشر ‪. ]21 :‬‬ ‫اس َل َعلَّ ُه ْم َي َت َف َّكر َ‬ ‫َنضْ ِر ُب َها لِل َّن ِ‬
‫ومما جاء في السنة قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬مثل المؤمنين في توا ِّدهم وتراحمهم‬
‫وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ‪ ،‬إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »‬
‫(‪. )172‬‬

‫وقوله ‪ « :‬إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ‪ ،‬فحامل‬
‫المسك إما أن يُحذ َيك ‪ ،‬وإما أن تبتاع منه ‪ ،‬وإما أن تجد منه ريحً ا طيبة ‪ ،‬ونافخ الكير إما أن‬
‫يحرق ثيابك ‪ ،‬وإما أن تجد ريحً ا خبيثة » (‪. )173‬‬
‫ثاني عشر ‪ :‬الصورة المؤثرة‬
‫تأثيرا‬
‫ً‬ ‫المشاهد التي تراها العين يصل مدلولها إلي العقل والقلب بصورة سريعة وتكون أشد‬
‫على المشاعر مما ُينقل عن طريق السمع ‪ ..‬انظر إلى موسى – عليه السالم – وقد تأثر‬
‫وغضب عندما أعلمه هللا عز وجل بما فعله قومه من عبادة العجل ‪ ،‬لكنه لم يلق األلواح التي في‬
‫يديه ‪ ،‬ولكن عندما ذهب لقومه ورآهم بعينيه اشتد غضبه واشتد ‪ ،‬وألقى األلواح ‪ ،‬وفي هذا‬

‫) المكتوبات ص ‪. 487‬‬ ‫‪(169‬‬


‫) اإلعجاز التأثيري في القرآن ص ( ‪ ) 190 – 188‬د‪ .‬مصطفى السعيد ‪،‬باختصار – مؤسسة أجيالنا ‪.‬‬ ‫‪(170‬‬
‫) التعبير القرآني ص ( ‪ ) 454‬عن تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ( ‪. ) 1/236‬‬ ‫‪(171‬‬
‫) متفق عليه أخرجه ‪ :‬البخاري ( ‪ 9/62‬برقم ‪ ، ) 7075‬ومسلم (‪ ، 4/1999‬رقم ‪. )2586‬‬ ‫‪(172‬‬
‫) متفق عليه ‪ :‬أخرجه ‪ :‬البخاري (‪ ، 5/2104‬رقم ‪ ،)5214‬ومسلم (‪ ، 4/2026‬رقم ‪. )2628‬‬ ‫‪(173‬‬
‫المعنى يقول صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬ليس الخبر كالمعاينة إن هللا أخبر موسى بما صنع قومه فى‬
‫العجل فلم يلق األلواح فلما عاين ما صنعوا ألقى األلواح فانكسرت » (‪.)174‬‬
‫لذلك من الوسائل العظيمة للتحفيز ‪ :‬استخدام الصورة الحية ‪ ،‬والمشاهدة المؤثرة التي تعلق‬
‫في الذهن وتستثير المشاعر في اتجاه ما ترمي إليه الصورة ‪..‬‬
‫عن جابر رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مرَّ بالسوق والناس كنفتيه ‪ -‬أي ‪:‬‬
‫عن جانبيه – فمر بجدي أسك (‪ )175‬ميت ‪ ،‬فتناوله ‪ ،‬فأخذ بأذنه ‪ ،‬ثم قال ‪ « :‬أيكم يحب أن هذا له‬
‫بدرهم ؟» فقالوا ‪ :‬ما نحب أنه لنا بشيء ‪ ،‬وما نصنع به ؟ثم قال ‪ « :‬أتحبون أنه لكم ؟» قالوا ‪:‬‬
‫وهللا لو كان ح ًّيا كان عيبًا ‪ ،‬إنه أسك ‪ ،‬فكيف وهو ميت ! فقال ‪ « :‬فوهللا للدنيا أهون على هللا من‬
‫هذا عليكم » (‪.)176‬‬
‫تخيل معي – أخي القارئ – مدى تأثير هذا المشهد على الحاضرين ‪ ،‬وكيف ستكون عالقتهم‬
‫بالدنيا بعد ذلك ؟!‬
‫ولقد أصبح من السهل استخدام هذه الوسيلة في عصرنا هذا من خالل انتقاء المشاهد المرئية‬
‫وعرضها على النفس وعلى اآلخرين المراد توجيههم ‪.‬‬
‫وإليك – أخي – مثااًل تطبيقيًا الستخدام هذه الوسيلة في المحيط الدعوي ‪:‬‬
‫كان على أحد الدعاة أن يقوم بإلقاء محاضرة عن األخوة والحب في هللا وأهميتهما الشديدة‬
‫بالنسبة ألصحاب الدعوات ‪ ،‬وقبل حلول موعد المحاضرة بدأ هذا الداعية في التفكير في محتوى‬
‫المحاضرة ‪ ،‬هل سيفعل مثلما فعل في المرات السابقة فيقوم بجمع اآليات واألحاديث الدالة على‬
‫فضل األخوة في هللا وحقوقها وواجباتها مع مزجها ببعض القصص والنماذج المأثورة عن تاريخ‬
‫السلف وماضي رجال الدعوة؟!‬
‫في هذه المرة لم يجد في نفسه أي رغبة في تكرار ما فعله ساب ًقا ‪ ،‬وبخاصة أن المحاضرة‬
‫ستلقى على أناس يعرفون هذا الكالم بل يحفظونه جي ًدا ‪ ،‬ورغم هذه المعرفة فإن العالقات‬
‫األخوية بينهم ضعيفة يكسوها الجفاء والفتور ‪.‬‬
‫ظل الداعية يفكر ويفكر ‪ ،‬ويستعين باهلل حتى هُدي إلي فكرة جديدة ‪ ،‬فأسرَّ ها في نفسه ولم‬
‫يُبدها ألحد ‪ ،‬وقام بتجهيز ما يتطلبه لتنفيذها ‪ ،‬وانطلق إلى المحاضرة ‪.‬‬
‫جلس هذا الداعية في المكان المخصص له ‪ ،‬وبدأ حديثه بالثناء على هللا ‪ ،‬والصالة على‬
‫رسول هللا ‪ ،‬ثم أخرج من جيبه (مسبحة) طويلة ‪ ،‬وسأل الحاضرين عن اسمها ‪ ،‬فأجابوه ‪ ،‬وظل‬
‫يحركها يمي ًنا ويسارً ا أمام أعينهم طالبًا منهم تركيز أنظارهم إليها جي ًدا ‪.‬‬
‫صا) ‪ ،‬وعند منتصف المسبحة قام بقص الخيط‬ ‫وظل صام ًتا للحظات ‪ ،‬ثم أخرج من جيبه (مق ًّ‬
‫الذي يجمع حباتها ‪ ،‬فانفرطت الحبات وتناثرت في أرجاء المكان وتحت أقدام الحاضرين ‪،‬‬
‫والجميع في ذهول من ذلك المنظر المثير ‪.‬‬
‫في هذه اللحظات قطع الداعية صمته قائاًل لجلسائه ‪ :‬إن صمام األمان لهذه الدعوة – بعد قوة‬
‫الصلة باهلل ‪ : -‬هو رابطة األخوة ‪ ،‬فاألخوة هي الحبل الذي ينتظم قلوب أبناء الدعوة ‪ ،‬ويربط‬
‫بعضها ببعض ‪ ،‬فإذا ما وهن ذلك الحبل أو انقطع تفرقت القلوب وابتعدت ‪ ،‬فيكون لذلك أسوأ‬
‫األثر على الدعوة ‪.‬‬
‫ساد الصمت المكان ‪ ،‬واستشعر الحاضرون الخطر ‪ ،‬وفهموا الرسالة جي ًدا ‪ ،‬ثم انكبوا‬
‫يجمعون حبات المسبحة ليعيدوا وصلها من جديد بخيط متين ‪ ،‬وانطلقوا يعانق بعضهم بعضًا‬
‫ويتصافحون في حب وود ‪ ،‬العيون دامعة ‪ ،‬والقلوب خافقة ‪ ،‬والصدور سليمة صافية ‪.‬‬
‫ثالث عشر ‪ :‬االستفادة من األحداث غير المألوفة‬

‫‪ ) (174‬أخرجه أحمد (‪ ، 1/215‬رقم ‪ ، )1842‬والحاكم (‪ ، 2/351‬رقم ‪ ، )3250‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع ( رقم ‪. )5374‬‬
‫‪ ) (175‬أسك ‪ :‬أي صغير األذنين ‪.‬‬
‫‪ ) (176‬أخرجه مسلم (‪ ، 4/2272‬رقم‪. )2957‬‬
‫يزداد إرهاف الحس ‪ ،‬وتأجج المشاعر ‪ ،‬ويقظة العقل عندما تحدث أمام المرء أحداث غير‬
‫مألوفة ‪ ،‬ويصبح على درجة عالية من االستعداد للتلقي ‪ ،‬لذلك نجد القرآن الكريم بعد األحداث‬
‫الكبيرة التي مرت بالصحابة رضوان هللا عليهم ينزل ليعلمهم ويوجههم ويربيهم حتى يستفيدوا‬
‫من هذه األحداث في مزيد من االستقامة هلل عز وجل ‪ ،‬وبخاصة أن النفوس تظل مدة من الزمن‬
‫متعلقة بتلك األحداث ‪ ،‬وتكون فيها على استعداد لتلقي التوجيهات المتعلقة بها ‪ ،‬ومثال ذلك ‪:‬‬
‫تعقيب القرآن الطويل على حادثة اإلفك وكيف يستفيدون منها بعد ذلك ‪َ ﴿ :‬ل ْواَل ِإ ْذ َس ِمعْ ُتمُوهُ َظنَّ‬
‫ِظ ُك ُم هَّللا ُ َأنْ َتعُو ُدوا‬ ‫ك م ُِبينٌ ﴾ [النور ‪َ ﴿ ، ]12 :‬يع ُ‬ ‫ات ِبَأ ْنفُسِ ِه ْم َخيْرً ا َو َقالُوا َه َذا ِإ ْف ٌ‬‫ون َو ْالمُْؤ ِم َن ُ‬ ‫ْالمُْؤ ِم ُن َ‬
‫ِين ﴾ [النور ‪ ، ]17 :‬وتعقيبه على ما فعله حاطب بن أبي بلتعة – رضي‬ ‫لِم ِْثلِ ِه َأ َب ًدا ِإنْ ُك ْن ُت ْم مُْؤ ِمن َ‬
‫هللا عنه ‪ -‬في محاولته ‪-‬غير الناجحة – إلخبار أهل مكة بعزم الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫ون‬ ‫ِين آ َم ُنوا اَل َت َّتخ ُِذوا َع ُدوِّ ي َو َع ُدوَّ ُك ْم َأ ْولِ َيا َء ُت ْلقُ َ‬ ‫على السير إليهم ودخول مكة فاتحً ا ‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ُون الرَّ سُو َل َوِإيَّا ُك ْم َأنْ ُتْؤ ِم ُنوا ِباهَّلل ِ َر ِّب ُك ْم ِإنْ‬ ‫ِإ َلي ِْه ْم ِب ْال َم َو َّد ِة َو َق ْد َك َفرُوا ِب َما َجا َء ُك ْم م َِن ْال َح ِّق ي ُْخ ِرج َ‬
‫ون ِإ َلي ِْه ْم ِب ْال َم َو َّد ِة َوَأ َنا َأعْ َل ُم ِب َما َأ ْخ َف ْي ُت ْم َو َما‬
‫ضاتِي ُتسِ رُّ َ‬ ‫ُك ْن ُت ْم َخ َرجْ ُت ْم ِج َها ًدا فِي َس ِبيلِي َوا ْبت َِغا َء َمرْ َ‬
‫يل ﴾ [الممتحنة ‪. ]1 :‬‬ ‫َأعْ َل ْن ُت ْم َو َمنْ َي ْف َع ْل ُه ِم ْن ُك ْم َف َق ْد َ‬
‫ض َّل َس َوا َء الس َِّب ِ‬
‫وكذلك التعقيب القرآني بعد غزوة بدر ‪ ،‬وأحد ‪ ،‬وبني النضير ‪ ،‬واألحزاب ‪ ،‬وما فيها من‬
‫دروس وعبر وتوجيهات نحو مزيد من االستقامة ‪.‬‬
‫ولقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يفعل ذلك مع الصحابة رضوان هللا عليهم ويربط‬
‫دومًا بين الحدث غير المألوف والمعاني اإليمانية الدالة عليه ‪.‬‬
‫ففي يوم من األيام وبينما كان الرسول صلى هللا عليه وسلم بين صحابته إذ جاءه َسبْي ‪ ،‬وفي‬
‫هذا السبي امرأة تسعى ملهوفة مضطربة قد ضاع منها رضيعها ‪ ،‬واستمرت على هذا الحال‬
‫الشديد حتى وجدته ‪ ،‬فأخذته وضمته إلي صدرها بشدة ثم أرضعته ‪.‬‬
‫هذا المنظر شاهده الصحابة فأثر فيهم غاية التأثير ‪ ،‬فلم يتركه صلى هللا عليه وسلم يذهب‬
‫سُدى ‪ ،‬بل وجهه توجيهًا إيمانيًا ‪ ،‬فقال لهم ‪ « :‬أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟!» قالوا ‪ :‬ال‬
‫وهللا ‪ .‬قال ‪ « :‬هللا أرحم بعباده من هذه على ولدها» (‪.)177‬‬
‫‪ ..‬إذن علينا أن نستفيد من األحداث غير المألوفة التي تمر بنا في توجيه أنفسنا واآلخرين‬
‫نحو مزيد من االستقامة هلل عز وجل ‪.‬‬
‫هل هناك مزيد من الوسائل ؟‬
‫ليست الوسائل السابقة هي فقط التي تستثير المشاعر وتحفزها للقيام بالعمل الصالح ‪ ،‬فهناك‬
‫وسائل أخري كالصوت المؤثر ‪ ،‬واإلشارة باليد ‪ ،‬وال َق َسم ‪ ،‬والمسابقات التنافسية ‪ ،‬ولكننا –‬
‫بفضل هللا – اخترنا في هذه الصفحات أكثرها تأثيرً ا وأيسرها استخدامًا ‪.‬‬
‫كلمة أخيرة عن وسائل التحفيز‬
‫كما ذكرنا من قبل بأن علينا االجتهاد في استثارة مشاعرنا وتحفيز أنفسنا قبل القيام بالعمل‬
‫حتى يزداد نفعه في زيادة اإليمان وتحسين السلوك ‪ ،‬ولقد تم ذِكر العديد من وسائل التحفيز ‪..‬‬
‫نعم ‪ ،‬هناك بعض الصعوبة في استخدام كل هذه الوسائل للمرء مع نفسه ‪ ،‬فبعضها يكون‬
‫أكثر نفعًا عند توجيه اآلخرين وتحفيزهم للقيام بعمل ما ‪ ،‬ومع ذلك فمن الممكن استخدام الكثير‬
‫منها مع أنفسنا ‪.‬‬
‫فقبل القيام بالعمل أسأل نفسي ‪ :‬لماذا أقوم بهذا العمل ؟ وأبدأ بالجواب من خالل ‪:‬‬
‫● تذكير النفس بأن هذا العمل قربة إلى هللا وابتغاء مرضاته ‪.‬‬
‫● وتذكير النفس بفضل هذا العمل ‪.‬‬
‫● وأذكرها كذلك بأهمية القيام به ‪.‬‬

‫‪ ) (177‬متفق عليه‪ :‬أخرجه البخاري (‪ ، 5/2235‬رقم ‪ ، )5653‬ومسلم (‪ ، 4/2109‬رقم ‪.)2754‬‬


‫● وأخوفها من عاقبة تركه ‪.‬‬
‫● وأحاورها وأعرض عليها منافع القيام به ‪ ،‬وأضرار تركه التي قد تصيبني ‪.‬‬
‫● وأذكرها بالمواقف اإليجابية السابقة التي قمت فيها – بفضل هللا – بأداء هذا العمل‬
‫وغيره رغم الصعوبات التي واجهتني ‪.‬‬
‫● وأشجع نفسي بمثل ‪ :‬هيا يا بطل ‪ ..‬هيا قم إلى العمل لعل هللا عز وجل يختارك لنفع‬
‫األمة وتكون من السابقين في الدنيا والمقربين في اآلخرة ‪..‬‬
‫● وأحاول تذكيرها ببعض القدوات التي تعرفها والتي تقوم بهذا العمل وغيره ‪.‬‬
‫● وأقرأ قصة لها ارتباط بالعمل ‪.‬‬
‫أما في حالة توجيه اآلخرين فعلينا إضافة بقية الوسائل األخرى ‪.‬‬
‫الوصول للهدف هو الغاية‬
‫الهدف الذي نريده من طرح هذا الموضوع هو االجتهاد في استثارة مشاعر الرغبة للقيام‬
‫بالعمل ‪ ،‬فإن تحققت هذه االستثارة بوسيلة أو اثنتين فبها ونعمت ‪ ،‬وإن لم تحدث فعلينا استخدام‬
‫المزيد من الوسائل حتى نصل للهدف ‪..‬‬
‫وكما قيل ساب ًقا بأنه كلما كان العمل المراد القيام به كبيرً ا ‪ ،‬وشا ًقا على النفس كان من‬
‫المناسب استخدام العديد من الوسائل ‪.‬‬
‫أهمية التدريب على تحفيز المشاعر قبل القيام بالعمل‬
‫لكي نكتسب هذه المهارة بإذن هللا ‪ ،‬ولكي يتم تحفيز واستثارة المشاعر قبل القيام بالعمل‬
‫بصورة تلقائية فإن األمر يحتاج إلى تدريب طويل ‪ ،‬بأن يتخيل المرء أنه سيبدأ عمل ما فكيف‬
‫يُح ِّفز نفسه للقيام به ؟! وحبذا لو تم القيام بجزء من هذا التدريب أمام اآلخرين – كالزوجة أو‬
‫األصدقاء – حتى يقوموا بتقييم طريقتنا في التحفيز ‪.‬‬
‫ومن أمثلة األعمال التي يمكن للفرد التدريب عليها ‪:‬‬
‫التبكير للصالة – قراءة القرآن بتدبر – صالة الفجر – قيام الليل – اإلنفاق – الدعوة إلى هللا‬
‫– صلة األرحام – العفو والصفح – اإلصالح بين متخاصمين ‪ ،‬مساعدة محتاج ‪.‬‬
‫وإليك – أخي القارئ – مثااًل عمليًا لتحفيز المشاعر ألحد هذه األعمال وهو قراءة القرآن‬
‫بتدبر ‪ ،‬فقبل شروعي في القراءة عليَّ أن أسأل نفسي ‪ :‬لماذا تريد قراءة القرآن ؟‬
‫وأجيب عليها بأن القرآن كالم هللا ‪ ،‬وأنه من أعظم السبل لنيل مرضاته ‪ ،‬وأن هذا القرآن فيه‬
‫شفاء ألمراض قلبي ‪ ،‬وهو من أهم أسباب زيادة اإليمان ‪ ،‬والقرب من هللا عز وجل ‪ ،‬وهو أيضًا‬
‫له مثوبة عظيمة‪.‬‬
‫وأن هذا القرآن هو حبل هللا الممدود من السماء إلى األرض ‪َ ،‬من تمسَّك به نجا ‪ -‬بإذن هللا ‪-‬‬
‫من الفتن ‪ ،‬وعاش سعي ًدا في الدارين ‪..‬‬
‫وأخوفها من هجر القرآن ‪ ،‬وأن من أهم صور هجره ‪ :‬ترك تدبره وتفهّم آياته ‪..‬‬
‫معان عظيمة كان لها بالغ األثر في‬ ‫ٍ‬ ‫وأذكرها بأوقات سابقة ترنمت بالقرآن واستخرجت منه‬
‫التغيير اإليجابي لسلوكي ‪..‬‬
‫وأقول لنفسي مشجعًا ‪ :‬إن جيل التمكين جي ٌل قرآنيٌّ ‪ ،‬فهيا لنكون من أبنائه ‪.‬‬
‫وأعمل على تذكيرها ببعض أحوال الصحابة مع القرآن وكيف كانت قراءتهم بتدبر ‪ ،‬وكيف‬
‫كانوا يعيشون بالقرآن ‪..‬‬
‫وأذكر نفسي بأنني المستفيد من قراءة القرآن ‪ ،‬وأنا الخاسر من عدم قراءته ‪ ...‬وهكذا ‪.‬‬
‫تدريبات عملية من القرآن والسنة ‪:‬‬
‫وباإلضافة إلى هذه التدريبات علينا كذلك أن نتدرب على استخراج وسائل التحفيز من القرآن‬
‫والسنة حتى ُنحسن ممارستها في حياتنا العملية ‪ ..‬ومن أمثلة ذلك قوله تعالى ﴿ َيا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ِين آ َم ُنوا‬
‫يل هَّللا ِ‬
‫ون فِي َس ِب ِ‬ ‫ب َأل ٍِيم (‪ُ )10‬تْؤ ِم ُن َ‬
‫ون ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َو ُت َجا ِه ُد َ‬ ‫َه ْل َأ ُدلُّ ُك ْم َع َلى ت َِج َ‬
‫ار ٍة ُت ْن ِجي ُك ْم ِمنْ َع َذا ٍ‬
‫ت َتجْ ِري ِمنْ‬ ‫ُون (‪َ )11‬ي ْغ ِفرْ َل ُك ْم ُذ ُنو َب ُك ْم َوي ُْدخ ِْل ُك ْم َج َّنا ٍ‬ ‫ِبَأمْ َوالِ ُك ْم َوَأ ْنفُسِ ُك ْم َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر َل ُك ْم ِإنْ ُك ْن ُت ْم َتعْ َلم َ‬
‫ت َع ْد ٍن َذل َِك ْال َف ْو ُز ْال َعظِ ي ُم (‪َ )12‬وُأ ْخ َرى ُت ِحبُّو َن َها َنصْ ٌر م َِن‬ ‫َتحْ ِت َها اَأْل ْن َها ُر َو َم َساك َِن َط ِّي َب ًة فِي َج َّنا ِ‬
‫يسى ابْنُ‬ ‫ار هَّللا ِ َك َما َقا َل عِ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ِين آ َم ُنوا ُكو ُنوا َأ ْن َ‬ ‫ِين (‪َ )13‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬ ‫هَّللا ِ َو َف ْت ٌح َق ِريبٌ َو َب ِّش ِر ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫ت َطاِئ َف ٌة ِمنْ َبنِي‬ ‫صا ُر هَّللا ِ َفآ َم َن ْ‬ ‫ُّون َنحْ نُ َأ ْن َ‬ ‫اري َ‬ ‫اري ِإ َلى هَّللا ِ َقا َل ْال َح َو ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ِّين َمنْ َأ ْن َ‬ ‫اري َ‬ ‫َمرْ َي َم ل ِْل َح َو ِ‬
‫ين ﴾ [الصف ‪]14 - 10 :‬‬ ‫ِين آ َم ُنوا َع َلى َع ُدوِّ ِه ْم َفَأصْ َبحُوا َظاه ِِر َ‬ ‫ت َطاِئ َف ٌة َفَأي َّْد َنا الَّذ َ‬ ‫ِإسْ َراِئي َل َو َك َف َر ْ‬
‫‪.‬‬
‫فالتوجيه الذي تحمله اآليات ‪ :‬اإليمان باهلل والجهاد في سبيله بالمال والنفس ‪ ،‬ووسائل التحفيز‬
‫التي اس ُتخدمت في تلك اآليات الستثارة المشاعر ودفعها للقيام بهذا التوجيه كثيرة نذكر منها ‪:‬‬
‫ِين آ َم ُنوا ﴾ ‪ :‬تشجيع واستدراج لفتح منافذ االستماع ‪.‬‬ ‫﴿ َيا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫﴿ َه ْل َأ ُدلُّ ُك ْم ؟﴾ ‪ :‬سؤال للفت االنتباه والتركيز فيما يُقال ‪.‬‬
‫ار ٍة ﴾ ‪ :‬ضرب المثل بالتجارة وتقريب معنى الربح من خاللها ‪.‬‬ ‫﴿ َع َلى ت َِج َ‬
‫ب َأل ٍِيم ﴾ ‪ :‬ترغيب وترهيب ‪ ،‬ترغيب في النجاة بالعمل ‪ ،‬وترهيب من‬ ‫﴿ ُت ْن ِجي ُك ْم ِمنْ َع َذا ٍ‬
‫العذاب بتركه ‪.‬‬
‫ُون ﴾ ‪ :‬موازنة عقلية ‪ ،‬وإشعارك بأنك المستفيد من ذلك ‪.‬‬ ‫﴿ َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر َل ُك ْم ِإنْ ُك ْن ُت ْم َتعْ َلم َ‬
‫ت ﴾ ‪ :‬استثارة مشاعر الطمع في األجر ( فضل العمل ) ‪.‬‬ ‫﴿ َي ْغ ِفرْ َل ُك ْم ُذ ُنو َب ُك ْم َوي ُْدخ ِْل ُك ْم َج َّنا ٍ‬
‫﴿ َوُأ ْخ َرى ُت ِحبُّو َن َها َنصْ ٌر م َِن هَّللا ِ َو َف ْت ٌح َق ِريبٌ ﴾ ‪ :‬فضل العمل ‪.‬‬
‫اري ِإ َلى هَّللا ِ ﴾ ‪ :‬قصة ‪.‬‬ ‫ص ِ‬ ‫ِّين َمنْ َأ ْن َ‬ ‫اري َ‬ ‫يسى ابْنُ َمرْ َي َم ل ِْل َح َو ِ‬ ‫ار هَّللا ِ َك َما َقا َل عِ َ‬ ‫ص َ‬ ‫﴿ ُكو ُنوا َأ ْن َ‬
‫صا ُر هَّللا ِ ﴾ ‪ :‬قدوة ‪.‬‬ ‫ُّون َنحْ نُ َأ ْن َ‬ ‫اري َ‬ ‫﴿ َقا َل ْال َح َو ِ‬
‫ت َطاِئ َف ٌة ﴾ ‪ :‬تخيير ‪ :‬مع أي الفريقين ُتريد أن تكون ؟‬ ‫ت َطاِئ َف ٌة ِمنْ َبنِي ِإسْ َراِئي َل َو َك َف َر ْ‬ ‫﴿ َفآ َم َن ْ‬
‫ين ﴾ ‪ :‬فضل العمل وأهميته ‪.‬‬ ‫ِين آ َم ُنوا َع َلى َع ُدوِّ ِه ْم َفَأصْ َبحُوا َظاه ِِر َ‬ ‫﴿ َفَأي َّْد َنا الَّذ َ‬
‫ومن السنة ‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬كلمتان خفيفتان على اللسان ‪ ،‬ثقيلتان في الميزان‬
‫‪ ،‬حبيبتان للرحمن ‪ :‬سبحان هللا وبحمده ‪ ،‬سبحان هللا العظيم » (‪. )178‬‬
‫فقبل التوجيه بالذكر كان التحفيز من خالل التذكير باهلل عز وجل ‪ ،‬وأنه يُحب هذا الذكر ‪،‬‬
‫والتذكير بالثواب العظيم المترتب عليه ‪ ،‬وإشعار المستمع بأنه يتم بأقل مجهود ‪ ،‬فكيف يتركه ؟!‬
‫وإليك أخي القارئ أمثلة من القرآن والسنة ‪ ،‬عليك باستخراج ما تحمله من توجيه ‪ ،‬ووسائل‬
‫التحفيز التي اس ُتخدمت فيها ‪:‬‬
‫ض َأ َرضِ ي ُت ْم ِب ْال َح َيا ِة‬ ‫يل هَّللا ِ َّاثا َق ْل ُت ْم ِإ َلى اَأْلرْ ِ‬ ‫ِين آ َم ُنوا َما َل ُك ْم ِإ َذا قِي َل َل ُك ُم ا ْن ِفرُوا فِي َس ِب ِ‬ ‫﴿ َيا َأ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ال ُّد ْن َيا م َِن اآْل خ َِر ِة َف َما َم َتا ُع ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا فِي اآْل خ َِر ِة ِإاَّل َقلِي ٌل (‪ِ )38‬إاَّل َت ْن ِفرُوا ي َُع ِّذ ْب ُك ْم َع َذابًا َألِيمًا‬
‫ص َرهُ هَّللا ُ‬ ‫صرُوهُ َف َق ْد َن َ‬ ‫َو َيسْ َت ْب ِد ْل َق ْومًا َغي َْر ُك ْم َواَل َتضُرُّ وهُ َش ْيًئ ا َوهَّللا ُ َع َلى ُك ِّل َشيْ ٍء َقدِي ٌر (‪ِ )39‬إاَّل َت ْن ُ‬
‫ِصاح ِِب ِه اَل َتحْ َزنْ ِإنَّ هَّللا َ َم َع َنا َفَأ ْن َز َل‬ ‫ار ِإ ْذ َيقُو ُل ل َ‬ ‫ْن ِإذ ُه َما فِي ْال َغ ِ‬
‫ِين َك َفرُوا َثان َِي ْاث َني ِ ْ‬ ‫ِإ ْذ َأ ْخ َر َج ُه الَّذ َ‬
‫ِي ْالع ُْل َيا َوهَّللا ُ‬ ‫ِين َك َفرُوا ال ُّس ْف َلى َو َكلِ َم ُة هَّللا ِ ه َ‬ ‫هَّللا ُ َسكِي َن َت ُه َع َل ْي ِه َوَأيَّدَ هُ ِب ُج ُنو ٍد َل ْم َت َر ْو َها َو َج َع َل َكلِ َم َة الَّذ َ‬
‫يل هَّللا ِ َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر َل ُك ْم ِإنْ‬ ‫َع ِزي ٌز َحكِي ٌم (‪ )40‬ا ْن ِفرُوا ِخ َفا ًفا َو ِث َقااًل َو َجا ِه ُدوا ِبَأمْ َوالِ ُك ْم َوَأ ْنفُسِ ُك ْم فِي َس ِب ِ‬
‫ُون ﴾ [التوبة ‪. ]41 - 38:‬‬ ‫ُك ْن ُت ْم َتعْ َلم َ‬
‫وقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها ال َّن ِبيُّ قُ ْل َأِل ْز َوا ِج َك ِإنْ ُك ْن ُتنَّ ُت ِر ْد َن ْال َح َيا َة ال ُّد ْن َيا َو ِزي َن َت َها َف َت َعا َلي َْن ُأ َم ِّتعْ ُكنَّ‬
‫ت‬ ‫ار اآْل خ َِر َة َفِإنَّ هَّللا َ َأ َع َّد ل ِْلمُحْ سِ َنا ِ‬ ‫َوُأ َسرِّ حْ ُكنَّ َس َراحً ا َجمِياًل (‪َ )28‬وِإنْ ُك ْن ُتنَّ ُت ِر ْد َن هَّللا َ َو َرسُو َل ُه َوال َّد َ‬
‫ْن‬ ‫اعفْ َل َها ْال َع َذابُ ضِ عْ َفي ِ‬ ‫ُض َ‬ ‫ت ِم ْن ُكنَّ ِب َفا ِح َش ٍة ُم َب ِّي َن ٍة ي َ‬ ‫ِم ْن ُكنَّ َأجْ رً ا َعظِ يمًا (‪َ )29‬يا ن َِسا َء ال َّن ِبيِّ َمنْ َيْأ ِ‬
‫ْن‬ ‫صالِحً ا ُنْؤ ِت َها َأجْ َر َها َمرَّ َتي ِ‬ ‫ت ِم ْن ُكنَّ هَّلِل ِ َو َرسُولِ ِه َو َتعْ َم ْل َ‬ ‫ان َذل َِك َع َلى هَّللا ِ يَسِ يرً ا (‪َ )30‬و َمنْ َي ْق ُن ْ‬ ‫َو َك َ‬
‫ضعْ َن ِب ْال َق ْو ِل‬ ‫َوَأعْ َت ْد َنا َل َها ِر ْز ًقا َك ِريمًا (‪َ )31‬يا ن َِسا َء ال َّن ِبيِّ َلسْ ُتنَّ َكَأ َح ٍد م َِن ال ِّن َسا ِء ِإ ِن ا َّت َق ْي ُتنَّ َفاَل َت ْخ َ‬
‫َف َي ْط َم َع الَّذِي فِي َق ْل ِب ِه َم َرضٌ َوقُ ْل َن َق ْواًل َمعْ رُو ًفا (‪َ )32‬و َقرْ َن فِي ُبيُو ِت ُكنَّ َواَل َت َبرَّ جْ َن َت َبرُّ َج ْال َجا ِهلِ َّي ِة‬
‫س َأهْ َل‬ ‫ِب َع ْن ُك ُم الرِّ جْ َ‬ ‫الز َكا َة َوَأطِ عْ َن هَّللا َ َو َرسُو َل ُه ِإ َّن َما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِي ُْذه َ‬ ‫ِين َّ‬ ‫صاَل َة َوآت َ‬ ‫اُأْلو َلى َوَأ ِقمْ َن ال َّ‬
‫‪ ) (178‬متفق عليه ‪ :‬أخرجه البخاري (‪ ، 5/2352‬رقم ‪ ، )6043‬ومسلم (‪ ، 4/2072‬رقم ‪. )2694‬‬
‫ان َلطِ ي ًفا‬ ‫ت هَّللا ِ َو ْالح ِْك َم ِة ِإنَّ هَّللا َ َك َ‬ ‫ُطه َِّر ُك ْم َت ْط ِهيرً ا (‪َ )33‬و ْاذ ُكرْ َن َما ُي ْت َلى فِي ُبيُو ِت ُكنَّ ِمنْ آ َيا ِ‬ ‫ت َوي َ‬ ‫ْال َب ْي ِ‬
‫َخ ِبيرً ا ﴾ [األحزاب ‪. ]34 - 28 :‬‬
‫ت َسب َْع َس َن ِاب َل فِي ُك ِّل‬ ‫يل هَّللا ِ َك َم َث ِل َح َّب ٍة َأ ْن َب َت ْ‬‫ون َأمْ َوا َل ُه ْم فِي َس ِب ِ‬ ‫ِين ُي ْن ِفقُ َ‬‫وقوله تعالى ‪َ ﴿ :‬م َث ُل الَّذ َ‬
‫يل‬ ‫ون َأمْ َوا َل ُه ْم فِي َس ِب ِ‬ ‫ِين ُي ْن ِفقُ َ‬ ‫ُضاعِ فُ لِ َمنْ َي َشا ُء َوهَّللا ُ َواسِ ٌع َعلِي ٌم (‪ )261‬الَّذ َ‬ ‫ُس ْن ُب َل ٍة ِماَئ ُة َح َّب ٍة َوهَّللا ُ ي َ‬
‫ون‬ ‫ُون َما َأ ْن َفقُوا َم ًّنا َواَل َأ ًذى َل ُه ْم َأجْ ُر ُه ْم عِ ْندَ َرب ِِّه ْم َواَل َخ ْوفٌ َع َلي ِْه ْم َواَل ُه ْم َيحْ َز ُن َ‬ ‫هَّللا ِ ُث َّم اَل ُي ْت ِبع َ‬
‫ِين‬ ‫صدَ َق ٍة َي ْت َب ُع َها َأ ًذى َوهَّللا ُ َغنِيٌّ َحلِي ٌم (‪َ )263‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬ ‫(‪َ )262‬ق ْو ٌل َمعْ رُوفٌ َو َم ْغف َِرةٌ َخ ْي ٌر ِمنْ َ‬
‫اس َواَل يُْؤ مِنُ ِباهَّلل ِ َو ْال َي ْو ِم اآْل خ ِِر‬ ‫َأْل‬
‫صدَ َقا ِت ُك ْم ِب ْال َمنِّ َوا َذى َكالَّذِي ُي ْنف ُِق َما َل ُه ِرَئ ا َء ال َّن ِ‬ ‫آ َم ُنوا اَل ُت ْبطِ لُوا َ‬
‫ُون َع َلى َشيْ ٍء ِممَّا َك َسبُوا َوهَّللا ُ اَل‬ ‫ص ْل ًدا اَل َي ْق ِدر َ‬ ‫صا َب ُه َو ِاب ٌل َف َت َر َك ُه َ‬ ‫ان َع َل ْي ِه ُت َرابٌ َفَأ َ‬ ‫ص ْف َو ٍ‬ ‫َف َم َثلُ ُه َك َم َث ِل َ‬
‫ت هَّللا ِ َو َت ْث ِبي ًتا ِمنْ َأ ْنفُسِ ِه ْم‬ ‫ضا ِ‬ ‫ون َأمْ َوا َل ُه ُم ا ْبت َِغا َء َمرْ َ‬ ‫ِين ُي ْن ِفقُ َ‬‫ين (‪َ )264‬و َم َث ُل الَّذ َ‬ ‫َي ْهدِي ْال َق ْو َم ْال َكاف ِِر َ‬
‫ْن َفِإنْ َل ْم يُصِ ْب َها َو ِاب ٌل َف َط ٌّل َوهَّللا ُ ِب َما َتعْ َملُ َ‬ ‫صا َب َها َواب ٌل َفآ َت ْ ُأ‬ ‫َك َم َث ِل َج َّن ٍة ِب َرب َْو ٍة َأ َ‬
‫ون بَصِ ي ٌر‬ ‫ت ُك َل َها ضِ عْ َفي ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َتجْ ِري ِمنْ َتحْ ِت َها اَأْل ْن َها ُر َل ُه فِي َها ِمنْ ُك ِّل‬ ‫ِيل َوَأعْ َنا ٍ‬ ‫ون َل ُه َج َّن ٌة ِمنْ َنخ ٍ‬ ‫(‪َ )265‬أ َي َو ُّد َأ َح ُد ُك ْم َأنْ َت ُك َ‬
‫ت َك َذل َِك ُي َبيِّنُ هَّللا ُ َل ُك ُم‬ ‫صا ٌر فِي ِه َنا ٌر َفاحْ َت َر َق ْ‬ ‫صا َب َها ِإعْ َ‬ ‫صا َب ُه ْال ِك َب ُر َو َل ُه ُذرِّ ي ٌَّة ض َُع َفا ُء َفَأ َ‬ ‫ت َوَأ َ‬ ‫الث َم َرا ِ‬ ‫َّ‬
‫ت َما َك َس ْب ُت ْم َو ِممَّا َأ ْخ َرجْ َنا َل ُك ْم م َِن‬ ‫ِين آ َم ُنوا َأ ْن ِفقُوا ِمنْ َط ِّي َبا ِ‬ ‫ُون (‪َ )266‬يا َأ ُّي َها الَّذ َ‬ ‫ت َل َعلَّ ُك ْم َت َت َف َّكر َ‬‫اآْل َيا ِ‬
‫ون َو َلسْ ُت ْم ِبآ ِخذِي ِه ِإاَّل َأنْ ُت ْغ ِمضُوا فِي ِه َواعْ َلمُوا َأنَّ هَّللا َ َغنِيٌّ‬ ‫يث ِم ْن ُه ُت ْن ِفقُ َ‬ ‫ض َواَل َت َي َّممُوا ْال َخ ِب َ‬ ‫اَأْلرْ ِ‬
‫ْطانُ َي ِع ُد ُك ُم ْال َف ْق َر َو َيْأ ُم ُر ُك ْم ِب ْال َفحْ َشا ِء َوهَّللا ُ َي ِع ُد ُك ْم َم ْغف َِر ًة ِم ْن ُه َو َفضْ اًل َوهَّللا ُ َواسِ ٌع‬ ‫َحمِي ٌد (‪ )267‬ال َّشي َ‬
‫ت ْالح ِْك َم َة َف َق ْد ُأوت َِي َخيْرً ا َك ِثيرً ا َو َما َي َّذ َّك ُر ِإاَّل ُأولُو‬ ‫َعلِي ٌم (‪ )268‬يُْؤ تِي ْالح ِْك َم َة َمنْ َي َشا ُء َو َمنْ يُْؤ َ‬
‫ار‬ ‫ص ٍ‬ ‫ِين ِمنْ َأ ْن َ‬ ‫ِلظالِم َ‬ ‫ب (‪َ )269‬و َما َأ ْن َف ْق ُت ْم ِمنْ َن َف َق ٍة َأ ْو َن َذرْ ُت ْم ِمنْ َن ْذ ٍر َفِإنَّ هَّللا َ َيعْ َل ُم ُه َو َما ل َّ‬ ‫اَأْل ْل َبا ِ‬
‫ِي َوِإنْ ُت ْخفُو َها َو ُتْؤ ُتو َها ْالفُ َق َرا َء َفه َُو َخ ْي ٌر َل ُك ْم َو ُي َك ِّف ُر َع ْن ُك ْم ِمنْ‬ ‫ت َف ِن ِعمَّا ه َ‬ ‫(‪ِ )270‬إنْ ُت ْب ُدوا الصَّدَ َقا ِ‬
‫ون َخ ِبي ٌر ﴾ [البقرة ‪. ]271 ، 261 :‬‬ ‫َس ِّيَئ ا ِت ُك ْم َوهَّللا ُ ِب َما َتعْ َملُ َ‬
‫ِين آ َم ُنوا ِم ْن ُك ْم َوَأ ْن َفقُوا‬ ‫ِين فِي ِه َفالَّذ َ‬ ‫وقوله تعالى ‪ ﴿ :‬آ ِم ُنوا ِباهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َوَأ ْن ِفقُوا ِممَّا َج َع َل ُك ْم مُسْ َت ْخ َلف َ‬
‫ون ِباهَّلل ِ َوالرَّ سُو ُل َي ْدعُو ُك ْم لِ ُتْؤ ِم ُنوا ِب َر ِّب ُك ْم َو َق ْد َأ َخ َذ مِي َثا َق ُك ْم ِإنْ‬ ‫َل ُه ْم َأجْ ٌر َك ِبي ٌر (‪َ )7‬و َما َل ُك ْم اَل ُتْؤ ِم ُن َ‬
‫ور َوِإنَّ هَّللا َ‬ ‫الظلُ َما ِ‬‫ت لِي ُْخر َج ُك ْم م َِن ُّ‬ ‫ِين (‪ )8‬ه َُو الَّذِي ُي َن ِّز ُل َع َلى َع ْب ِد ِه آ َيا ٍ‬ ‫ُك ْن ُت ْم مُْؤ ِمن َ‬
‫ت ِإ َلى ال ُّن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت َب ِّي َنا ٍ‬
‫ض اَل َيسْ َت ِوي‬ ‫ت َواَأْلرْ ِ‬ ‫اث ال َّس َم َاوا ِ‬ ‫ِير ُ‬ ‫يل هَّللا ِ َوهَّلِل ِ م َ‬ ‫ِب ُك ْم َل َرءُوفٌ َرحِي ٌم (‪َ )9‬و َما َل ُك ْم َأاَّل ُت ْن ِفقُوا فِي َس ِب ِ‬
‫ِين َأ ْن َفقُوا ِمنْ َبعْ ُد َو َقا َتلُوا َو ُكاًّل َو َعدَ‬ ‫ِئك َأعْ َظ ُم دَ َر َج ًة م َِن الَّذ َ‬ ‫ِم ْن ُك ْم َمنْ َأ ْن َف َق ِمنْ َقب ِْل ْال َف ْت ِح َو َقا َت َل ُأو َل َ‬
‫ُضاعِ َف ُه َل ُه َو َل ُه‬ ‫ون َخ ِبي ٌر (‪َ )10‬منْ َذا الَّذِي ُي ْق ِرضُ هَّللا َ َقرْ ضًا َح َس ًنا َفي َ‬ ‫هَّللا ُ ْالحُسْ َنى َوهَّللا ُ ِب َما َتعْ َملُ َ‬
‫ِيه ْم َو ِبَأ ْي َمان ِِه ْم ُب ْش َرا ُك ُم ْال َي ْو َم‬ ‫ت َيسْ َعى ُنو ُر ُه ْم َبي َْن َأ ْيد ِ‬ ‫ِين َو ْالمُْؤ ِم َنا ِ‬ ‫َأجْ ٌر َك ِري ٌم (‪َ )11‬ي ْو َم َت َرى ْالمُْؤ ِمن َ‬
‫ِين فِي َها َذل َِك ه َُو ْال َف ْو ُز ْال َعظِ ي ُم [الحديد ‪. ]12 - 7 :‬‬ ‫ات َتجْ ِري ِمنْ َتحْ ِت َها اَأْل ْن َها ُر َخالِد َ‬ ‫َج َّن ٌ‬
‫ومن السنة قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬أوليس قد جعل هللا لكم ما َتص َّدقون ‪ ،‬إن بكل‬
‫تسبيحة صدقة ‪ ،‬وبكل تحميدة صدقة ‪ ،‬وفى بُضع أحدكم صدقة » ‪ ،‬قال ‪ :‬قالوا ‪ :‬يا رسول هللا ‪،‬‬
‫أيأتي أحدنا شهوته يكون له فيها أجر ؟! قال ‪ « :‬أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه فيها‬
‫وزر ؟ وكذلك إذا وضعها في الحالل كان له فيها أجر » (‪.)179‬‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه ‪ ،‬مثل الفتيلة‬
‫تضيء للناس وتحرق نفسها »(‪. )180‬‬

‫‪ ) (179‬أخرجه مسلم (‪ 3/82‬برقم ‪. )3276‬‬


‫‪ ) (180‬أخرجه الطبراني ‪ ،‬وقال الشيخ األلباني رحمه هللا ‪ :‬صحيح لغيره ‪.‬‬
‫الفصل السابع‬

‫الهزة اإليمانية‬
‫وبداية االرتقاء اإليماني‬
‫هدف هذه الصفحات هو التعرف على طريق إحداث الشرارة األولى‬
‫– بإذن هللا – النطالق رحلة اإليمان ‪ ،‬وسير القلب إلى هللا ‪ ،‬واالجتهاد‬
‫في تحقيق ذلك من خالل استثارة وإلهاب مشاعر المحبة والشوق إلى‬
‫هللا‬
‫الفصل السابع‬
‫َّ‬
‫الهزة اإليمانية وبداية االرتقاء اإليماني‬
‫الحلقة المفقودة ‪:‬‬
‫بعد الحديث عن أهمية اإليمان وثماره ‪ ،‬ومراتب االرتقاء اإليماني ‪ ،‬وجناحي التربية اإليمانية‬
‫‪ ،‬يبقى السؤال ‪ :‬هل ما قيل يكفي لبدء الرحلة اإليمانية والسير إلى هللا ؟‬
‫بال شك أن حُسن التعامل مع القرآن والتفكر فيه ‪ ،‬ومداومة قراءته بتدبر وترتيل وصوت‬
‫حزين ‪ ،‬مع العمل – قدر المستطاع – على االستفادة من القرآن في التفكر في الكون وأحداث‬
‫الحياة وربطها باهلل عز وجل ‪ ..‬بال شك أن هذه األعمال القلبية ستقوم – بإذن هللا ‪ -‬بزيادة‬
‫احبها أعمال صالحة فإن األثر سيكون أشد وأشد شريطة أن‬ ‫ص َ‬‫عظيمة وملحوظة لإليمان ‪ ،‬فإن َ‬
‫يسبق تلك األعمال تحفيز للمشاعر كما أسلفنا ‪.‬‬
‫ولكن تبقى حلقة مفقودة في هذه المنظومة ‪ ،‬أال وهي الشرارة األولى والشحنة القوية التي‬
‫تهز القلب ‪ ،‬وتوقظ اإليمان لتأتي بعد ذلك تلك الوسائل فتعمل عملها ‪.‬‬
‫والشحنة القوية التي نحتاجها في البداية لكي توقظنا من سُباتنا وتجعلنا – بإذن هللا – نبدأ‬
‫شحنة‬ ‫شحنة تخويف وترهيب ‪ ،‬وإما ُ‬ ‫رحلة االرتقاء اإليماني والسير إلى هللا لها طريقتان ‪ :‬إما ُ‬
‫تشويق وترغيب ‪ ،‬كما قال بعض السلف ‪ « :‬ال ُيخرج الشهوة من القلب إال خوف مزعج أو‬
‫شوق مقلق » ‪.‬‬
‫هيا بنا نزداد ُح ًّبا هلل وشو ًقا إليه ‪:‬‬
‫بفضل هللا تم الحديث في موضع سابق عن الخوف من هللا وكيف نستخدمه ونجلب به‬
‫الشرارة األولى والشحنة القوية الدافعة للعمل (‪ ، )181‬ومع ذلك فهناك عدة أسباب تدفعنا لتفضيل‬
‫طريق التشويق والترغيب في هللا عز وجل ‪.‬‬
‫ومن هذه األسباب أن الحديث عن الخوف من هللا وأسباب استجالبه من َتذ ُّكر الموت ‪،‬‬
‫وعذاب القبر والقيامة والنار ‪ ،‬قد احتل مساحات كبيرة في كتابات وأحاديث العلماء والدعاة‬
‫وغيرهم ‪ ،‬ومن َث َّم فإن تأثيره ‪ -‬بسبب هذا التكرار ‪-‬‬
‫‪ -‬قد ال يأتي باألثر المطلوب كالطبيب الذي يعتاد رؤية اإلصابات والدماء والكسور فيفقد‬
‫بمرور الوقت تأثره بها ‪.‬‬
‫وعكس ذلك بخصوص طريق المحبة والتشويق إلى هللا عز وجل ‪ ،‬فالحديث عنها قليل ‪ ،‬وال‬
‫يتوازن مع الحديث عن الخوف من هللا عز وجل ‪.‬‬
‫ومن هذه األسباب ‪ :‬أن الشحنة اإليمانية والشرارة األولى الناتجة عن طريق التشويق‬
‫والترغيب لها صدى طيب في النفس ‪ ،‬فمن شأنها أن تجعل المرء يستيقظ من سُباته وهو باسم ‪..‬‬
‫فرح ‪ ..‬يُسارع في القيام بالعبادات المختلفة ‪ ،‬وهو في حالة من الرضا عن هللا‬ ‫يهرع إلى هللا وهو ِ‬
‫والشوق إليه والحب له ‪. ...‬‬
‫ومنها كذلك أن الغافل يحتاج إلى َمن يُوقظه بحنان ورفق حتى يستوعب تلك اليقظة ‪ ،‬أما‬
‫المُستيقظ فهو يحتاج إلى بعض التخويف حتى ال يُعجب بنفسه ‪ ،‬ويغتر بعلمه ‪ ،‬فالترغيب يُفضل‬
‫البدء به مع أمثالي من الغافلين ‪ ،‬أما الترهيب فيكون مع العابدين والصالحين ‪.‬‬
‫وليس معنى هذا هو ترك التخويف والترهيب ‪ ،‬بل المقصد هو التوازن بينهما والبدء منهما‬
‫بما يُناسب حالة القلب ‪.‬‬
‫فإن اتفقت معي ‪ -‬أخي القارئ – على البدء بشحنة التشويق والترغيب في هللا عز وجل ‪،‬‬
‫شحنة قوية حتى تظهر الثمرة وتؤدي إلى اليقظة بإذن هللا ‪.‬‬ ‫فلتكن إذن ُ‬

‫‪ ) (181‬وذلك في كتاب « اإليمان أواًل فكيف نبدأ به ؟ » ‪.‬‬


‫مع مالحظة ضرورة االستمرار – بعد حدوث اليقظة – في القيام بأعمال القلوب ( التفكر في القرآن‬
‫وتدبره واالجتهاد في التأثر به ‪ ،‬والتفكر في الكون وأحداث الحياة واالعتبار بها وربطها باهلل عز وجل )‬
‫وكذلك األعمال الصالحة المؤثرة التي يسبقها تذكير وتحفيز حتى يستمر االرتقاء اإليماني ‪.‬‬
‫أما إذا حدثت اليقظة ‪ ،‬ورضي المرء بها واطمأن لها ولم يُتبعها بأعمال اإليمان فسيعود – في‬
‫الغالب – كما كان قبل اليقظة ‪.‬‬
‫ومما يُساعد العبد على االستمرار في االرتقاء اإليماني – بإذن هللا‪ -‬هو انتقاله بهذه المعاني ‪-‬‬
‫بعد استيقاظه – إلى محيط الدعوة ‪ ،‬فعمله في إصالح اإليمان وإيقاظ القلوب – بمثل ما حدث له‬
‫– له وظيفة كبيرة في تثبيت المعاني في قلبه ‪ ،‬وتجديدها ‪ ،‬ومن َث َّم دفعه أكثر وأكثر للتزود‬
‫واالرتقاء ‪. *182‬‬
‫مفتاح الدخول لباب المحبة ‪:‬‬
‫كما قيل ساب ًقا بأن المعاملة على قدر المعرفة ‪ ،‬فمعاملة هللا بحب واشتياق ستكون – بإذن هللا‬
‫– نتيجة طبيعية لمعرفة وُ ِّده و ُحبِّه لنا ‪ ،‬ونعمه الكثيرة التي يغمرنا بها ‪..‬‬
‫وأدعوك ‪ -‬أخي القارئ – إلى التعرف على هللا الودود – بصورة إجمالية – من خالل قراءة‬
‫الصفحات القادمة على أن تجعل عقلك بين مشاعرك ‪ ،‬ثم سل نفسك بعدها ‪ :‬هل ازددت رغبة في‬
‫هللا و ُح ًّبا له ؟‬
‫‪ ..‬هذه األسطر بعنوان ‪:‬‬
‫أقبل وال تخف فربك ينتظرك‬
‫كان في بلد من البلدان في زمن بني إسرائيل رجل يُدعى " الكفل " ‪ ،‬وكان يفعل ما يُريد ‪،‬‬
‫وال يُبالي بحالل أو حرام ‪ ،‬وكان أهل بلدته يعرفون عنه هذا ‪ ،‬وإذا ما جاء اسمه على لسان‬
‫بعضهم ال تجد أح ًدا منهم يذكره بخير أب ًدا ‪.‬‬
‫وفي ليلة من الليالي ‪ ،‬وبعد أن دخل كل واحد بيته ‪ ،‬وأغلق بابه ‪ ،‬إذا بالكفل يسمع طر ًقا على‬
‫بابه ‪ ،‬فقام ليفتح فإذا به يُفاجأ بامرأة يقطر منها الحياء ‪ ،‬ويذوب وجهها خجاًل ‪ ،‬فسألها عن سر‬
‫مجيئها فأخبرته أنها تمُر بضائقة مالية شديدة ‪ ،‬ولم تجد أمامها أحد سواه لتقترض منه ‪ ..‬وجد‬
‫الكفل الفرصة سانحة أمامه ‪ ..‬امرأة جاءت إلى داره بمحض إرادتها ‪ ،‬وفي سكون الليل ‪ ،‬وال‬
‫يراها أحد من الناس ‪ ،‬فتلطف معها وأدخلها داره ‪ ،‬وأخبرها بأنه ال مانع لديه من إقراضها ولكن‬
‫لديه شرط ‪ ..‬أن ُتم ِّكنه من نفسها ‪.‬‬
‫ألحت المرأة عليه أاَّل يفعل ‪ ،‬فلم يلتفت إلى إلحاحها وتوسالتها ‪ ،‬فوافقت مرغمة وهي تتقطع‬
‫من داخلها ‪ ،‬وعندما اقترب منها وجد فرائصها ترتعد ‪ ،‬فسألها عن السبب ‪ ،‬فأخبرته بأنها لم‬
‫تفعل هذا الفعل من قبل ‪ ،‬وأنها تخاف هللا عز وجل وتخشى عقوبته وغضبه ‪ ..‬هنا توقف الكفل ‪،‬‬
‫وابتعد عنها ‪ ،‬فقد وقعت تلك الكلمات موقعها في نفسه ‪ ،‬ولبث هُنيهة ‪ ،‬ثم قال لها ‪ :‬أنت تقولين‬
‫هذا القول مع أنك مضطرة لذلك ‪ ،‬فماذا عليَّ إذن أن أقول ؟! ألست أنا أحق بالخوف من هللا منك‬
‫؟! ثم تركها تنصرف بعد أن أعطاها ما طلبته من المال ‪.‬‬
‫تركها لتذهب وهو يعيش في لحظات من الذهول ‪ ..‬األلم يعتصره ‪ ،‬والندم على ما فعله في‬
‫هز كيانه ‪ ،‬واستخرج من‬ ‫حياته يُسيطر عليه ‪ ،‬لقد كانت كلمات المرأة عن هللا كالزلزال الذي َّ‬
‫ذاكرته شريط أحداث ماضيه األسود ‪ ،‬ذكرى أفعال سابقة ‪ ،‬نسي فيها هللا ‪ ،‬ولم َي َخف مقامه‬
‫سبحانه ‪ ،‬وكلما تذكر موق ًفا من مواقفه المخزية ازداد ندمه ‪ ،‬واشتد ألمه ‪ ،‬وعال بكاؤه ‪.‬‬

‫‪ *182‬من المناسب أن يتم انتقال المرء بهذه المعاني إلى محيط الدعوة بعد خوضه غمار التربية النفسية ‪ ،‬وممارسة‬
‫مبادئها في التعرف على النفس وكيفية التعامل معها ‪ ،‬حتى ال يشعر أن عنده شيًئ ا ليس عند غيره ‪ ،‬ف ُيعجب بنفسه ‪ ،‬فيكون‬
‫صغيرا " ما ُيعينك – بإذن هللا‬
‫ً‬ ‫حطم صنمك وكن عند نفسك‬ ‫ذلك سب ًبا في بعده عن هللا ‪ ،‬ولعلك تجد أخي القارئ في كتاب " ِّ‬
‫‪ -‬على تخطي هذه العقبة التي تقف أمامنا جمي ًعا كحائل يحول بيننا وبين التقدم نحو هللا ‪ ،‬والكتاب موجود بفضل هللا على‬
‫موقع اإليمان أواًل ‪.‬‬
‫في هذه األثناء ‪ ،‬وبينما هو في هذه الحالة ‪ ،‬حدث أمر لم يكن في الحسبان ‪ ..‬لقد زار الكفل‬
‫ضيف آخر ‪ ..‬لم يكن ذاك الضيف من بني البشر ‪ ،‬لقد زاره ملك الموت ليقبض روحه ‪ ،‬وهو في‬
‫أشد لحظات الندم والتوبة ‪.‬‬
‫‪ ..‬جاءه ملك الموت ومعه مالئكة الرحمة ي ُز ُّفون إليه بشرى مغفرة هللا له ورضاه عنه ‪.‬‬
‫قبل هللا ندمه وعفا عنه ‪ ،‬وفوق هذا الجُود لم يتركه ليعيش بعد ذلك فقد يعود إلى سابق‬ ‫لقد ِ‬
‫عهده من الظلم والطغيان ‪ ،‬فقبض روحه في هذا الوقت لتكون النهاية السعيدة ‪.‬‬
‫َأ‬ ‫هَّللا‬
‫نعم – أخي – حدث هذا ‪ ،‬فربك رؤوف رحيم ‪ ،‬يُريد أن يعفو ع َّنا جميعًا ﴿ َو ُ ي ُِري ُد نْ‬
‫وب َع َل ْي ُك ْم﴾ [النساء ‪ .. ]27 :‬يُريد أن يُدخل الجميع الجنة ﴿ َوهَّللا ُ َي ْدعُو ِإ َلى ْال َج َّن ِة َو ْال َم ْغف َِر ِة بِِإ ْذ ِن ِه‬ ‫َي ُت َ‬
‫﴾ [البقرة ‪. ]221 :‬‬
‫‪ ..‬ال تتعجب أخي مما حدث مع الكفل ‪ ،‬فاهلل عز وجل ينتظر من جميع عباده أي التفاتة‬
‫صادقة إليه ل ُيقبل عليهم ويعفو عنهم و ُيدخلهم الجنة ‪.‬‬
‫ولكن ‪ ،‬هل انتهت قصة الكفل عند ذلك ؟‬
‫ال ‪ ،‬فقد حدث أمر عجيب ‪ ،‬قد استيقظ الناس في الصباح وخرجوا من بيوتهم كعادتهم‬
‫يلتمسون معايشهم وأرزاقهم ‪ ،‬فمرَّ بعضهم بجوار بيت الكفل ‪ ،‬فلفت نظرهم كال ٌم مكتوب بخط‬
‫واضح على بابه ‪ ،‬فاقتربوا منه ليقرأوه ‪ ،‬فعقدت الدهشة ألسنتهم ‪ ،‬وفغروا أفواههم ‪ ،‬ووقفوا‬
‫مشدوهين ال يكادون يُصدقون ما يرونه ‪..‬‬
‫لقد وجدوا عبارة تقول ‪ « :‬إن هللا قد غفر للكفل » ‪.‬‬
‫تجمَّع الناس وقرؤوا العبارة وهم غير مُصدقين ‪ ..‬طرقوا الباب فلم يفتح لهم أحد ‪ ،‬ففتحوه‬
‫ُنوة ليجدوا الكفل قد مات ‪ ،‬فازداد عجبهم وحيرتهم ‪ ،‬فهرعوا إلى نبيِّهم ليسألوه عن أمر الكفل ‪،‬‬ ‫ع َ‬
‫فأوحى هللا إليه بما حدث ‪ ،‬فاشتد بكاء الناس ‪ ،‬وازداد ُحبُّهم هلل ‪ ،‬وتعلقهم برحمته ‪ ،‬وسارعوا إلى‬
‫التوبة إليه ‪.‬‬
‫كان من الممكن أن تمر هذه الحادثة وال يعلم بها أحد ‪ ،‬فالناس يموتون وال يدري أحد بماذا‬
‫ُختِم لهم ‪ ،‬ولكن الرب الودود الذي يُريد أن يُطمئن الجميع ويدفعهم للفرار إليه أنزل هذه اآلية‬
‫لينتفع بها الناس ويتفكروا في مغزاها ‪ ،‬وما تدل عليه من سعة رحمة هللا ‪ ،‬ومدى ُحبِّه لعباده ‪،‬‬
‫وأنه سبحانه ينتظر منهم أي بادرة صادقة للتوبة ‪ ،‬فيُقبل عليهم ويقبلهم ويمحو كل سيء فعلوه ‪.‬‬
‫وب َع َل ْي ُك ْم ﴾ [النساء ‪. ]27 :‬‬ ‫نعم – أخي – هذا هو ربنا ﴿ َوهَّللا ُ ي ُِري ُد َأنْ َي ُت َ‬
‫ألم تر إلى ربك كيف ُيح ُّبك ؟‬
‫إننا جميعًا نتمنى محبة هللا عز وجل لنا ‪ ،‬ولو تف َّكرنا وتأملنا في طريقة معاملة هللا لنا لتأكدنا‬
‫أنه سبحانه يُريد لنا وللناس جميعًا الخير ‪ ،‬وأن محبته لنا سبقت وجودنا ‪ ،‬وأن مُراده دخول‬
‫ار ال َّساَل ِم ﴾ [يونس ‪. ]25 :‬‬ ‫الجميع جنته ﴿ َوهَّللا ُ َي ْدعُو ِإ َلى دَ ِ‬
‫وكلما تف َّكرنا في جوانب حُب هللا لعباده ازددنا ُح ًّبا له ‪ ،‬وحياء منه سبحانه ‪ ،‬وأصبحت ُأمنيتنا‬
‫هي ‪ :‬كيف ُنحب هللا كما يُحبنا ‪ ،‬وكيف نتودد إليه كما يتودد إلينا ؟‬
‫خلقنا في أحسن تقويم ‪:‬‬
‫أوجدنا سبحانه‬ ‫هللا عز وجل هو الذي خلقنا من العدم ‪ ،‬ولم نكن قبل ذلك شيًئ ا مذكورً ا ‪ ،‬وقد َ‬
‫صوَّ َر ُك ْم َفَأحْ َس َن ص َُو َر ُك ْم ﴾ [غافر ‪. ]64 :‬‬ ‫في أحسن صورة ﴿ َو َ‬
‫كرَّ منا على جميع خلقه ‪ ،‬ونفخ فينا من روحه ‪ ،‬وأسجد ألبينا مالئكته ‪ ،‬وهيأ الكون كله‬
‫لخدمتنا بال مقابل ‪ ،‬فاألرض ُتخرج لنا الطعام ‪ ،‬والسماء ُتنزل الماء ‪ ،‬والشمس تمدنا بالدفء‬
‫والضياء ‪ ،‬والقمر يُعرفنا األيام والشهور ‪ ..‬الدواب تحملنا ‪ ،‬والنحل يمدنا بالعسل ‪ ،‬واألنعام‬
‫ُتخرج لنا اللبن ‪ ،‬واألزهار ُتشعرنا بالبهجة ﴿ ه َُو الَّذِي َأ ْن َز َل م َِن ال َّس َما ِء َما ًء َل ُك ْم ِم ْن ُه َش َرابٌ َو ِم ْن ُه‬
‫ت ِإنَّ‬ ‫اب َو ِمنْ ُك ِّل َّ‬
‫الث َم َرا ِ‬ ‫ون َوال َّنخِي َل َواَأْلعْ َن َ‬ ‫الز ْي ُت َ‬
‫الزرْ َع َو َّ‬ ‫ت َل ُك ْم ِب ِه َّ‬ ‫ُون (‪ُ )10‬ي ْن ِب ُ‬ ‫َش َج ٌر فِي ِه ُتسِ يم َ‬
‫ات‬ ‫س َو ْال َق َم َر َوال ُّنجُو ُم م َُس َّخ َر ٌ‬ ‫ار َوال َّشمْ َ‬ ‫ُون (‪َ )11‬و َس َّخ َر َل ُك ُم اللَّ ْي َل َوال َّن َه َ‬ ‫فِي َذل َِك آَل َي ًة لِ َق ْو ٍم َي َت َف َّكر َ‬
‫ض م ُْخ َتلِ ًفا َأ ْل َوا ُن ُه ِإنَّ فِي َذل َِك آَل َي ًة‬ ‫ون (‪َ )12‬و َما َذ َرَأ َل ُك ْم فِي اَأْلرْ ِ‬ ‫ِبَأمْ ِر ِه ِإنَّ فِي َذل َِك آَل َيا ٍ‬
‫ت لِ َق ْو ٍم َيعْ ِقلُ َ‬
‫ُون ﴾ [النحل ‪. ]13 - 10 :‬‬ ‫لِ َق ْو ٍم َي َّذ َّكر َ‬
‫إل ٌه ق ُّيوم ‪:‬‬
‫هللا عز وجل يقوم على شؤون عباده جميعًا ‪ ،‬يرعانا بالليل والنهار ‪ ..‬يقبض أرواحنا فننام‬
‫ونرتاح ‪ ،‬ثم يُعيدها لنا فنستيقظ ونستأنف حركتنا في الحياة ‪ ..‬هكذا كل يوم ﴿ َو ِمنْ آ َيا ِت ِه َم َنا ُم ُك ْم‬
‫ار َوا ْبت َِغاُؤ ُك ْم ِمنْ َفضْ لِ ِه ﴾ [الروم ‪. ]23 :‬‬ ‫ِباللَّي ِْل َوال َّن َه ِ‬
‫يمدنا بمقوِّ مات الحياة مع كل طرفة عين ‪ ..‬يمد أجهزة الجسم المختلفة بالقدرة على القيام‬
‫بوظائفها ‪ ..‬يمد اللسان بالقدرة على الكالم ‪ ،‬والعين بالقدرة على الرؤية ‪ ،‬واألنف بالقدرة على‬
‫الشم ‪ ،‬واألذن بالقدرة على السمع ‪ ،‬واليد بالقدرة على الحركة والبطش ‪ ،‬والرجل على المشي‬
‫وحمل الجسم ‪ ،‬والقلب بالقدرة على ضخ الدم حوالي سبعين مرة في الدقيقة الواحدة ‪ ..‬يمد كل‬
‫خلية في الجسم – كل طرفة عين – بأسباب حياتها ﴿ ه َُو الَّذِي ي َُس ِّي ُر ُك ْم فِي ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ر ﴾ [يونس ‪:‬‬
‫‪. ]22‬‬
‫فنحن جميعًا من هللا َخل ًقا وإيجا ًدا ‪ ،‬وباهلل رعاية وإمدا ًدا ‪ ،‬فال حول وال قوة إال به سبحانه ﴿‬
‫َو َما ِب ُك ْم ِمنْ ِنعْ َم ٍة َفم َِن هَّللا ِ ﴾ [النحل ‪. ]53 :‬‬
‫حليم ستير ‪:‬‬
‫ربنا حليم ستير ‪ ،‬يرانا نعصيه مرات ومرات فال يفضحنا ‪ ،‬وال يهتك سترنا ‪ ،‬بل يسترنا‬
‫ك َع َلى َظه ِْر َها ِمنْ دَ ا َّب ٍة ﴾‬ ‫ويحلم علينا ‪ ،‬ويُمهلنا علَّنا نتوب ﴿ َو َل ْو ُيَؤ اخ ُِذ هَّللا ُ ال َّن َ‬
‫اس ِب َما َك َسبُوا َما َت َر َ‬
‫[فاطر ‪. ]45 :‬‬
‫رب صبور ‪ ..‬يصبر على أذى عباده وكفرهم وجحودهم مع قدرته المطلقة عليهم ‪ ..‬يقول‬
‫صلى هللا عليه وسلم « ليس أحد أصبر على أذى سمعه من هللا تعالى ‪ ،‬إنهم لي َّدعون له ول ًدا ‪،‬‬
‫ويجعلون له أندا ًدا ‪ ،‬وهو مع ذلك يُعافيهم ويرزقهم » (‪. )183‬‬
‫رب رحيم ‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫رحمته وسعت كل شيء ‪ ،‬حتى العاصين له ‪ ،‬المنكرين لوجوده ‪ ،‬يُطعمهم ويسقيهم وال يمنع‬
‫رزقه عنهم ‪.‬‬
‫‪ ..‬أنزل في األرض جزءا من مائة جزء من رحمته يتراحم بها خلقه ‪ ،‬واختزن لنا عنده تسعة‬
‫وتسعين جزءًا لوقت سنكون فيه أحوج ما نكون إلى تلك الرحمات ‪.‬‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬إن ربكم رحيم ؛ من ه َّم بحسنة فلم يعملها ُكتبت له حسنة ‪ ،‬فإن‬
‫عملها ُكتبت عشرً ا ‪ ،‬إلى سبعمائة ‪ ،‬إلى أضعاف كثيرة ‪ ،‬ومن ه َّم بسيئة ولم يعملها كتبت له‬
‫حسنة ‪ ،‬فإن عملها كتبت واحدة ‪ ،‬أو يمحوها هللا ‪ ،‬وال يهلك على هللا إال هالك » (‪. )184‬‬
‫إل ٌه رؤوف ‪:‬‬
‫ربنا رب رؤوف ‪ ،‬حنان ‪ ..‬أحن علينا من آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأبنائنا ‪ ..‬إذا ابتالنا‬
‫بمرض فإنه ال يحرمنا معه األجر ‪ ..‬قال صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬ما أحد من المسلمين يصاب‬
‫ببالء في جسده إال أمر هللا الحفظة الذين يحفظونه فقال ‪ :‬اكتبوا لعبدي هذا في كل يوم وليلة ما‬
‫كان يعمله في الصحة من الخير ما دام محبوسًا في وثاقي » (‪. )185‬‬
‫‪ ..‬نعم – أخي – هذا هو ربنا الرؤوف « إن هللا يُنزل المعونة على قدر المؤنة ‪ ،‬ويُنزل‬
‫الصبر على قدر البالء » (‪.)186‬‬
‫‪ ) (183‬متفق عليه ‪ :‬أخرجه البخاري (‪ ، 5/2262‬رقم ‪ ، )5748‬ومسلم (‪ ، 4/2160‬رقم ‪. )2804‬‬
‫‪ ) (184‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 1/279‬رقم ‪ ، )2519‬والطبراني (‪ ، 12/161‬رقم ‪ ، )12760‬والبيهقي في شعب اإليمان (‪1/300‬‬
‫‪ ،‬رقم ‪. )334‬‬
‫‪) (185‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 2/194‬رقم ‪ ، )6825‬ورجاله رجال الصحيح ‪ ،‬وصححه الشيخ األلباني في صحيح الجامع رقم‬
‫(‪. ) 5761‬‬
‫‪ ) ( 186‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه البزار ‪ ،‬كما فى كشف األستار (‪ ، 2/195‬رقم ‪ ، )1506‬وابن الل في مكارم األخالق ‪ ،‬وصححه الشيخ‬
‫األلباني رحمه هللا في صحيح الجامع رقم ( ‪. )1919‬‬
‫ال يُريدنا أن ندخل النار ‪ ،‬فيظل يُخوفنا ويُخوفنا منها ‪ ،‬ويُظهرها لنا بصورة بشعة مؤلمة‬
‫ظ َل ٌل م َِن ال َّنار َو ِمنْ َتحْ ت ِِه ْم ُ‬
‫ظ َل ٌل َذل َِك ي َُخوِّ فُ‬ ‫قاسية ‪ ،‬حتى نعمل على الهرب منها ﴿ َل ُه ْم ِمنْ َف ْوق ِِه ْم ُ‬
‫ِ‬
‫ون ﴾ [الزمر ‪. ]16 :‬‬ ‫هَّللا ُ ِب ِه عِ َبادَ هُ َيا عِ َبا ِد َفا َّتقُ ِ‬
‫ً‬
‫حثيثا‬ ‫ويعرض – سبحانه – لنا الجنة بصورة جميلة مبهرة تفوق الوصف ‪ ،‬حتى نسعى‬
‫ْت َنعِيمًا َوم ُْل ًكا َك ِبيرً ا ﴾ [اإلنسان ‪. ]20 :‬‬ ‫ْت َث َّم َرَأي َ‬ ‫للوصول إليها ﴿ َوِإ َذا َرَأي َ‬
‫لعلهم يرجعون ‪:‬‬
‫مُراده – سبحانه – دخول الجميع الجنة ‪ ،‬لكنه ال يقهر أح ًدا على اإليمان به ‪ ،‬وإال انتفت‬
‫الحكمة من خلق اإلنسان وتمتعه بحرية االختيار ‪ ،‬ولصار كسائر المخلوقات ‪.‬‬
‫وألنه سبحانه يُريد لعباده دخول جنته ‪ ،‬وهم في غفلة معرضون لذلك فهو يبتليهم بألوان شتى‬
‫من االبتالءات حتى يفيقوا من غفلتهم ويعودوا إليه ‪.‬‬
‫فكل ما َي ِرد على اإلنسان من أشكال المنع كالمرض والنقص في الرزق واألمن فإن الحكمة‬
‫األساسية منه هو إخراجه من حالة الغفلة إلى اليقظة ‪ ،‬ورجوعه إلى هللا ‪ ..‬تأمل معي هذه اآليات‬
‫التي تؤكد هذا المعنى ‪:‬‬
‫ض الَّذِي َع ِملُوا َل َعلَّ ُه ْم‬ ‫اس لِ ُيذِي َق ُه ْم َبعْ َ‬ ‫ت َأ ْيدِي ال َّن ِ‬ ‫﴿ َظ َه َر ْال َف َسا ُد فِي ْال َبرِّ َو ْال َبحْ ِر ِب َما َك َس َب ْ‬
‫ُون ﴾ [الروم ‪. ]41 :‬‬ ‫َيرْ ِجع َ‬
‫ُون ﴾ [السجدة ‪. ]21 :‬‬ ‫ب اَأْل ْك َب ِر َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ‬ ‫ب اَأْل ْد َنى ُد َ‬
‫ون ْال َع َذا ِ‬ ‫﴿ َو َل ُنذِي َق َّن ُه ْم م َِن ْال َع َذا ِ‬
‫ُون ﴾ [األعراف ‪. ]168 :‬‬ ‫ت َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ‬ ‫ت َوال َّس ِّيَئ ا ِ‬ ‫﴿ َو َب َل ْو َنا ُه ْم ِب ْال َح َس َنا ِ‬
‫ُون ﴾ [األعراف ‪. ]174 :‬‬ ‫ت َو َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ‬ ‫ص ُل اآْل َيا ِ‬ ‫﴿ َو َك َذل َِك ُن َف ِّ‬
‫ُون ﴾ [الزخرف ‪:‬‬ ‫ب َل َعلَّ ُه ْم َيرْ ِجع َ‬ ‫ِي َأ ْك َب ُر ِمنْ ُأ ْخ ِت َها َوَأ َخ ْذ َنا ُه ْم ِب ْال َع َذا ِ‬
‫يه ْم ِمنْ آ َي ٍة ِإاَّل ه َ‬ ‫﴿ َو َما ُن ِر ِ‬
‫‪. ]48‬‬
‫بل إن الهموم التي تهجم على العبد صورة من صور التنبيه وتكفير الذنوب ‪ ،‬يقول صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتاله هللا بالحزن ليكفرها‬
‫عنه» (‪. )187‬‬
‫رب شكور ‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫ربنا ربٌ شكور ‪ ..‬يشكر عمل عبده – مع قلته ‪ -‬ويعظم له به األجر ‪..‬‬
‫‪ ..‬يقول صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق ‪،‬‬
‫فأخره فشكر هللا له ‪ ،‬فغفر له » (‪. )188‬‬

‫ويقول ‪ « :‬كان تاجر يداين الناس‪ ،‬فإذا رأى معسرً ا قال لفتيانه ‪ :‬تجاوزوا عنه‪ ،‬لعل هللا أن‬
‫يتجاوز عنا‪ ،‬فتجاوز هللا عنه » (‪. )189‬‬
‫رب غفور ‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫أتدري – أخي – ما هي دعوة هللا التي يدعو عباده إليها ؟‬
‫إنها المغفرة ‪ ..‬يدعوهم لكي يستغفروه فيغفر لهم ‪ ،‬ويستسمحوه فيُسامحهم مهما كانت‬
‫أخطاؤهم ‪..‬‬
‫وهو مع غناه المطلق عنهم ينتظرهم ليُلبُّوا دعوته ﴿ َي ْدعُو ُك ْم لِ َي ْغف َِر َل ُك ْم ِمنْ ُذ ُن ِ‬
‫وب ُك ْم ﴾ [إبراهيم‬
‫‪. ]10 :‬‬
‫﴿ َوهَّللا ُ َي ْدعُو ِإ َلى ْال َج َّن ِة َو ْال َم ْغف َِر ِة بِِإ ْذ ِن ِه ﴾ [البقرة ‪. ]221 :‬‬

‫‪ ) (187‬أخرجه أحمد (‪ ، 6/157‬رقم ‪ ، )25275‬وإسناده ضعيف لضعف ليث ‪-‬وهو ابن أبي سليم‪ -‬وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين ‪.‬‬
‫‪ ) (188‬متفق عليه ‪ :‬أخرجه البخاري ( ‪ 1/233‬رقم ‪ ، ) 624‬ومسلم ( ‪ 6/51‬رقم ‪. ) 5049‬‬
‫‪ ) (189‬أخرجه البخاري ( ‪ 2/731‬رقم ‪. ) 1972‬‬
‫﴿ َوهَّللا ُ َي ِع ُد ُك ْم َم ْغف َِر ًة ِم ْن ُه َو َفضْ اًل ﴾ [البقرة ‪. ]268 :‬‬
‫ي غفلة نحن فيها ؟!‬ ‫‪ ..‬أ ُ‬
‫ربنا العظيم ‪ ،‬مالك الملك ‪ ،‬الغني الحميد ‪ ،‬الذي ال تنفعه طاعة الطائعين ‪ ،‬وال تضرُّ ه معصية‬
‫العاصين ‪ ،‬يستحثنا لتلبية دعوته ‪ ..‬للعفو والصفح والمغفرة ‪.‬‬
‫َأ‬ ‫َأ‬ ‫ِي الَّذ َ‬
‫ِين سْ َرفُوا َع َلى ْنفُسِ ِه ْم اَل‬ ‫ينادي على العاصين الذين بارزوه بالمعاصي ﴿ ق ْل َيا عِ َباد َ‬
‫وب َجمِيعًا ِإ َّن ُه ه َُو ْال َغفُو ُر الرَّ حِي ُم ﴾ [الزمر ‪. ]53 :‬‬
‫الذ ُن َ‬ ‫طوا ِمنْ َرحْ َم ِة هَّللا ِ ِإنَّ هَّللا َ َي ْغ ِف ُر ُّ‬‫َت ْق َن ُ‬
‫ال يتعاظم لديه ذنب أن يغفره ‪ ،‬بل يغفر وال يُبالي ‪..‬‬
‫عن أنس بن مالك قال ‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ‪ « :‬والذي نفسي بيده ‪،‬‬
‫لو أخطأتم حتى تمأل خطاياكم ما بين السماء واألرض ‪ ،‬ثم استغفرتم هللا لغفر لكم » (‪. )190‬‬
‫ومن هذا الذي تمأل خطاياه ما بين السماء واألرض ؟!‬
‫لكنه خطاب تطمين وتحفيز للمسارعة إلى نيل المغفرة وانتهاز الفرصة قبل فوات األوان ﴿‬
‫ات َواَأْلرْ ضُ ﴾ [آل عمران ‪. ]133 :‬‬ ‫ض َها ال َّس َم َاو ُ‬ ‫ارعُوا ِإ َلى َم ْغف َِر ٍة ِمنْ َر ِّب ُك ْم َو َج َّن ٍة َعرْ ُ‬ ‫َو َس ِ‬
‫ض ﴾ [الحديد ‪. ]21 :‬‬ ‫َأْل‬
‫ض ال َّس َما ِء َوا رْ ِ‬ ‫ض َها َك َعرْ ِ‬ ‫﴿ َس ِابقُوا ِإ َلى َم ْغف َِر ٍة ِمنْ َر ِّب ُك ْم َو َج َّن ٍة َعرْ ُ‬

‫بابه مفتوح للجميع ‪:‬‬


‫هللا عز وجل ال يُغلق بابه في وجه سائل ‪ ..‬ينتظر توبة عبده ‪ ،‬ويفرح بها أيما فرح ‪ ،‬ويُكافئه‬
‫عليها مكافأة فورية بأن يُبدل سيئاته حسنات ‪ ،‬ليبدأ حياته الجديدة برصيد كبير منها ﴿ ِإاَّل َمنْ َت َ‬
‫اب‬
‫ان هَّللا ُ َغفُورً ا َرحِيمًا ﴾ [الفرقان ‪:‬‬ ‫ت َو َك َ‬ ‫صالِحً ا َفُأو َل َ‬
‫ِئك ُي َب ِّد ُل هَّللا ُ َس ِّيَئ ات ِِه ْم َح َس َنا ٍ‬ ‫َوآ َم َن َو َع ِم َل َع َماًل َ‬
‫‪. ]70‬‬
‫ينتظر من عبده أية التفاتة صادقة ليُقبل عليه ‪ ،‬وأي شعور بالندم على ما مضى منه من‬
‫تفريط ‪ ،‬ورغبة في التوبة إليه ‪ ،‬فيغفر له وال يُبالي ‪.‬‬
‫يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ‪ ،‬فإذا تاب عبد‬
‫من عباده كان – سبحانه – أفرح بتوبته من ذاك الذي تاهت راحلته في الصحراء وعليها كل‬
‫أسباب حياته ‪.‬‬
‫فقل لي – بربك – لماذا يفرح كل هذا الفرح ؟!‬
‫هل يُزيد هذا التائب في خزائن ربك أو ملكه شيًئ ا ؟‬
‫هل تنقُص خزائن ربك إذا ظل ذلك العبد عاصيًا ؟‬
‫كال ‪ ..‬فلماذا إذن ؟‬
‫هل هناك إجابة غير أنه يُحبنا ويُريد لنا الخير ودخول جنته ‪ ،‬ويخاف علينا من دخول النار ؟‬
‫ت ِإ َلى‬ ‫ُصلِّي َع َل ْي ُك ْم َو َماَل ِئ َك ُت ُه لِي ُْخر َج ُك ْم م َِن ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬ ‫فأي رب رحيم ودود هو ربنا ﴿ ه َُو الَّذِي ي َ‬
‫ِ‬
‫ِين َرحِيمًا ﴾ [األحزاب ‪. ]43 :‬‬ ‫ان ِب ْالمُْؤ ِمن َ‬ ‫ال ُّن ِ‬
‫ور َو َك َ‬
‫‪ ..‬جاء في الحديث ‪ « :‬ما من يوم إال والبحر يستأذن ربه أن يُغرق ابن آدم ‪ ،‬والمالئكة‬
‫تستأذن أن ُتعجله وتهلكه ‪ ،‬والرب يقول ‪ :‬دعوا عبدي ‪ ،‬فأنا أعلم به إذ أنشأته من األرض ‪ ،‬إن‬
‫كان عبدكم فشأنكم به ‪ ،‬وإن كان عبدي فمني إلى عبدي ‪ ،‬وعزتي وجاللي إن أتاني لياًل قبلته ‪،‬‬
‫وإن أتاني نهارً ا قبلته ‪ ،‬وإن تقرب مني شبرً ا تقربت منه ذراعًا ‪ ،‬وإن تقرب مني ذراعًا تقربت‬
‫باعًا ‪ ،‬وإن مشي إليّ هرولت إليه ‪ ،‬وإن استغفرني غفرت له ‪ ،‬وإن استقالني أقلته ‪ ،‬وإن تاب إليّ‬
‫ُتبت عليه ‪َ .‬من أعظم مني جو ًدا وأنا الجواد الكريم ؟ عبادي يبيتون يُبارزوني بالعظائم ‪ ،‬وأنا‬

‫‪ ) ( 190‬حديث صحيح ‪ :‬أخرجه أحمد (‪ ، 3/238‬رقم ‪ ، )13518‬وأبو يعلى (‪ ، 7/226‬رقم ‪ ، )4226‬وصححه الشيخ األلباني رحمه هللا في‬
‫السلسلة الصحيحة برقم ( ‪. ) 1951‬‬
‫أكلؤهم (‪ )191‬في مضاجعهم ‪ ،‬وأحرسهم على فُرُشهم ‪ ،‬من أق َبل َتل َّقيته من بعيد ‪ ،‬ومن ترك ألجلي‬
‫أعطيته فوق المزيد ‪ ،‬ومن تصرَّ ف بحولي وقوتي أ َل ْنت له الحديد ‪ ،‬ومن أراد مُرادي أردت ما‬
‫يُريد ‪ .‬أهل ذكري أهل مجالستي ‪ ،‬وأهل شكري أهل زيادتي ‪ ،‬وأهل طاعتي أهل كرامتي ‪ ،‬وأهل‬
‫معصيتي ال ُأقنطهم من رحمتي ‪ ،‬فإن تابوا إليّ فأنا حبيبهم ‪ ،‬وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ‪ ،‬أبتليهم‬
‫بالمصائب ُألطهرهم من المعاصي » (‪. )192‬‬
‫فماذا تقول بعد ذلك ؟‬
‫أال توافقني – أخي – أن باب التشويق والترغيب في هللا باب عظيم يُلهب مشاعر من يدخل‬
‫منه ‪ ،‬ويوقظ اإليمان في قلبه ‪ ،‬ويدفعه إلى المسارعة إلى هللا وطلب مغفرته ومحبته ‪ ،‬مع أن ما‬
‫ُذكر ال يُساوي قطرة في بحر وُ ُّده ‪.‬‬
‫فإن كان األمر كذلك ؛ فعلينا أن ُنحسن الدخول من هذا الباب ‪ ،‬وبخاصة ونحن في بداية‬
‫رحلتنا اإليمانية وسيرنا نحو هللا عز وجل ‪ ،‬وهذا يحتاج منا إلى تف ُّكر في مظاهر أسمائه وصفاته‬
‫التي لها عالقة بهذا األمر ‪ ،‬كالوهاب ‪ ،‬والرزاق ‪ ،‬والمُنعم ‪ ،‬والودود ‪ ،‬والرحيم ‪ ،‬والحليم ‪،‬‬
‫والصبور ‪ ،‬والغفور ‪ ،‬واللطيف ‪..‬‬
‫هذا التف ُّكر يشمل القرآن والكون ‪ ،‬أما القرآن فالمتفكر فيه يرى مظاهر حب هللا لعباده تقطر‬
‫من آياته ‪ ،‬فخطاب الترغيب في هللا والتشويق إليه هو الغالب عليه‪ ،‬ويكفيك في هذا أن س َُورة تبدأ‬
‫بـ ‪ « :‬بسم هللا الرحمن الرحيم » ‪ ..‬وال تبدأ بأسماء أخرى من أسمائه سبحانه ‪ ،‬وكأن هذه البداية‬
‫تحمل رسالة تطمين للجميع ‪ ،‬وتقول له ‪ :‬أقبل وال تخف ‪ ،‬فربك « رحمن رحيم » ‪.‬‬
‫من هنا نقول بأن القرآن هو أعظم وسيلة للتعرف على هللا وتنمية حبِّه والشوق إليه في القلب‬
‫‪ ،‬فعلينا لزوم هذا الكتاب والمدوامة على قراءته والبحث من خالله على هذه المعاني ‪.‬‬
‫وأما الكون فالمتفكر فيه يرى الكثير والكثير من آثار حب هللا لعباده كمظاهر حلمه وستره‬
‫وطول إمهاله لهم ‪ ،‬وتوالي ن َِعمه عليهم ‪.‬‬
‫ومع التفكر في القرآن والكون تأتي أهمية القيام بأعمال صالحة لها عالقة وثيقة بتثبيت عُرى‬
‫المحبة هلل في القلب كإحصاء النعم ‪ ،‬ومُناجاة هللا بها ‪ ،‬وسجود الشكر عند ورود النعم الكبيرة ‪،‬‬
‫والقيام برحالت االعتبار ورؤية أهل البالء ‪ ،‬والقيام كذلك بتحبيب الناس في هللا عز وجل‪.‬‬
‫شوقة ل ُحب هللا ‪ ،‬واألعمال التي ُتث ِّبتها في القلوب ت َّم الحديث‬
‫هذه المعاني ال ُم ِّ‬
‫عنها بشيء من التفصيل في كتاب « كيف ُنحب هللا ونشتاق إليه ؟ » (‪، )193‬‬
‫فلك أن تقرأه – إن شئت – لعلك تجد فيه ما يستثير مشاعرك ‪ ،‬و ُينمي حب‬
‫هللا في قلبك ‪ ،‬ويقدح شرارة االنطالق نحوه سبحانه ‪ ،‬على أن تقرأه من‬
‫بدايته لنهايته ‪ ،‬وتقوم بتطبيق ما دل عليه من أعمال حتى تتم الفائدة بإذن هللا‬
‫‪.‬‬

‫‪ ) (191‬أكلؤهم ‪ :‬أي أحفظهم ‪.‬‬


‫‪ ) (192‬أخرجه اإلمام أحمد ‪ ،‬وذكره ابن القيم أيضا ً من روايته في "مدارج السالكين" (‪. )433-432 /1‬‬
‫‪ ) (193‬يُمكنك ‪ -‬أخي القارئ – قراءة الكتاب وتحميله من موقع « اإليمان أواًل » ‪.‬‬
‫كلمة أخيرة‬
‫‪ ..‬وبعد ‪:‬‬
‫أخي القارئ ‪ :‬إن كل ما قيل في الصفحات السابقة سيبقى ِحبْرً ا على ورق إن لم نقرأه بهدف‬
‫العمل والتنفيذ ‪ ،‬وال ينقصنا لتحقيق ذلك إال العزم األكيد ‪ ،‬واالستعانة الصادقة باهلل عز وجل ‪.‬‬
‫فهيَّا لنبدأ من اآلن قبل فوات األوان ‪ ..‬قبل أن يأتي الموت ويحول بيننا وبين العمل فنكون من‬
‫النادمين‪..‬‬
‫‪ ..‬إن الموت ال يستأذن أح ًدا قبل مجيئه ‪ ،‬واأليام ُتسرع بنا نحوه ‪ ،‬والراحة والسعادة بعده‬
‫طويلة لمن أحسن العمل ‪..‬‬
‫فلنبادر ولنشمر للِّحاق بركب السائرين إلى هللا ‪..‬‬
‫ِين ﴾ [آل‬ ‫ات َواَأْلرْ ضُ ُأعِ َّد ْ‬
‫ت ل ِْل ُم َّتق َ‬ ‫ض َها ال َّس َم َاو ُ‬‫ارعُوا ِإ َلى َم ْغف َِر ٍة ِمنْ َر ِّب ُك ْم َو َج َّن ٍة َعرْ ُ‬
‫﴿ َو َس ِ‬
‫عمران ‪. ]133 :‬‬

‫والحمد هلل الذي هدانا لهذا وما ُك َّنا لنهتدي لوال أن هدانا هللا ‪.‬‬
‫وصل ِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪.‬‬

You might also like