You are on page 1of 233

1

2
‫هذه هي الطبعة الرابعة من هذا الكتاب‪ ،‬وتتضمن إضافات‬
‫مهمة للطبعات السابقة‪ ،‬ومراجعات وتدقيقا لألفكار‪ ،‬فيرجى‬
‫اعتماد الطبعة الرابعة هذه بديال ملا سبق!‬
‫ً‬
‫هذا الكتاب يمثل جهودا طويلة من البحث والتنقيب والدراسة‬
‫والتمحيص‪ ،‬والنظروإعادة النظر!‬
‫سائلين املولى عزوجل القبول‪ ،‬واإلخالص في العمل‪ ،‬وأن يفتح‬
‫بهذا الكتاب عقوال و أفئدة وينيرها التباع سننه وطريقته التي‬
‫أوحى بها‪ ،‬فيعمل العاملون على استئناف الحياة اإلسالمية على‬
‫بصيرة‪ ،‬وأن ينزل هللا نصره على األمة‪ ،‬إنه ولي ذلك والقادرعليه!‬
‫وقد تم نشرالطبعة األولى منه في موقع املكتب اإلعالمي لحزب‬
‫التحريرومن ثم نشر في موقع الخالفة‪.‬‬

‫‪3‬‬
4
‫إقامة الدولة اإلسالمية في ظل قانون السببية‬
‫والسنن اإللهية والسنن التاريخية‪.‬‬

‫إضاءات فكرية‪ ،‬وتأمالت عقدية في مفاهيم‪:‬‬


‫التوكل واألخذ باألسباب‪ ،‬والقضاء والقدر‪ ،‬والنصروالرزق‬
‫واإلحياء واإلماتة‪ ،‬والنفع والضر‪ .‬في ظل قانون السببية‪.‬‬

‫ثائر أحمد سالمة – أبو مالك‬


‫شارك في التأليف‪ :‬األستاذ املفكريوسف نجيب الساريس ي‪،‬‬
‫راجعه ودققه‪ ،‬األستاذ عصام الشيخ غانم‪،‬‬
‫الطبعة الرابعة‪ /‬مزيدة ومنقحة‬
‫الطبعات السابقة‪:‬‬
‫‪ 1438‬هـ ‪ 2017‬م‬

‫‪5‬‬
6
‫الفهرس‬
‫‪12‬‬ ‫توطئة‬
‫‪14‬‬ ‫مقدمة الطبعة الرابعة‪ :‬السببية الكونية‪ ،‬واألنظمة السببية املجتمعية‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫توطئة بين يدي الطبعة الثالثة من الكتاب‬

‫‪18‬‬ ‫مقدمة ال بد منها لفهم الكتاب‬

‫‪20‬‬ ‫التغيير بين طريقة الرسول ﷺ والسنن التاريخية‬

‫‪23‬‬ ‫الجزء الثاني من الكتاب‪:‬‬

‫‪23‬‬ ‫إقامة الدولة واستمرارها في ظل قانون السببية والسنن التاريخية والسنن اإللهية‬

‫‪23‬‬ ‫توطئة مهمة‪:‬‬


‫‪24‬‬ ‫فما الذي يدعونا لنكون متأكدين من أن طريقة الرسول ﷺ موصلة حتما للخالفة؟‬
‫‪25‬‬ ‫أسباب دنيوية‪ ،‬مدنية‪ ،‬مجتمعية ينبغي دراستها!‬
‫‪26‬‬ ‫عوائق وعقبات‪ ،‬تقف في طريق الوصول للغاية‪:‬‬
‫‪28‬‬ ‫السنن التاريخية والسببية بين جيلين‪:‬‬
‫‪28‬‬ ‫التاريخ ليس كومة من األحداث!‬
‫‪31‬‬ ‫األمر اإللهي الحكيم بالنظر في السنن‪:‬‬
‫‪33‬‬ ‫التفاتة سريعة ملواضع ذكر السنن في القرآن‬
‫‪35‬‬ ‫حديث شريف يختصر مآس ي األمة اإلسالمية وفق قانون السببية! فهل من ُم َّد ِكر؟‬
‫‪35‬‬ ‫قانون السببية وقوانين السنن اإللهية من املفاهيم األساسية في اإلسالم‬
‫‪36‬‬ ‫ذو القرنين‪ ،‬وقانون السببية والتمكين‪:‬‬
‫‪36‬‬ ‫األسباب واملسببات‪ ،‬من أجل فهم أدق‪:‬‬
‫‪38‬‬ ‫السنن الكونية‪ ،‬والسنن املجتمعية والسنن اإللهية‬
‫‪40‬‬ ‫الغائية والسببية كجناحي الطائر‪:‬‬
‫‪42‬‬ ‫تعريفات الزمة للفهم‪:‬‬
‫‪42‬‬ ‫تعريف السنن‪:‬‬
‫‪7‬‬
‫‪42‬‬ ‫السببية والغائية‪ :‬تعريف العلة والسبب‪ ،‬والغاية‪ ،‬والعلة الغائية‪:‬‬
‫‪44‬‬ ‫العلة الغائية والعلة الباعثة‪:‬‬
‫‪45‬‬ ‫الفرق بين العلة والسبب‪ ،‬وبين الغاية والعلة الغائية‪:‬‬
‫‪47‬‬ ‫نقد تقسيمات أرسطو للعلل‪:‬‬
‫‪48‬‬ ‫املوقف من ال ِع ِل َّية‪:‬‬
‫‪49‬‬ ‫السبب األصولي والسبب الشرعي والسبب العقلي وأسباب العادة‪:‬‬
‫‪53‬‬ ‫املصادفة ومبدأ السببية‬
‫‪56‬‬ ‫فالسببية إذن‪:‬‬
‫‪59‬‬ ‫السبب له ثالث صفات‬
‫‪59‬‬ ‫العلة الغائية دليل على وجود هللا‪ :‬العلة الغائية عند األشاعرة‪:‬‬
‫‪62‬‬ ‫فهل يخضع الخالق لألسباب أم تخضع األسباب له؟‬
‫َ َٓ َ َ َ َْ َ ۢ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ َ َّ ٓ ٓ َ َ ْ‬
‫‪65‬‬ ‫لس َما ِء َماء فأ ۢن َبت َنا ِب ِهۦ حدا ِئق ذات بهجة﴾‬ ‫﴿وأنزل لكم ِمن ٱ‬
‫‪69‬‬ ‫من مأل البرميل باملاء؟ أنت أم هللا؟‬
‫‪70‬‬ ‫السببية والحتمية في ظل تدبير هللا‪ ،‬والتنبؤ‪ ،‬وسؤال حرية إرادة اإلنسان‪:‬‬
‫‪74‬‬ ‫ادة في عالم سببي حتمي؟‬
‫حرية اإلر ِ‬
‫خطة الوجود‪ :‬هل اإلنسان مسلوب اإلرادة؟ أين يقع سؤال ِ‬
‫‪75‬‬ ‫"فلسفة اإلسالم في تصور الحياة" (خطة الوجود)‬
‫‪79‬‬ ‫القضاء والقدر والنصر والرزق واإلماتة؛ أين يقع بحث السنن والسببية منها؟‬
‫‪88‬‬ ‫الصفات والخواص في األشياء‪ ،‬والسنن في املجتمعات‪:‬‬
‫‪91‬‬ ‫معنى القضاء والقدر والتسليم به‬
‫‪93‬‬ ‫القدرية الغيبية أفيون الشعوب‬
‫‪97‬‬ ‫السببية والقدر‪ ،‬بين اإليجابية والسلبية في الفهم والتطبيق‪:‬‬
‫‪101‬‬ ‫السببية‪ ،‬والتوكل على هللا‪ ،‬نحو فهم دقيق‪:‬‬
‫‪102‬‬ ‫ربط األسباب باملسببات ربطا ماديا أحيانا‪ ،‬وربطا غير مادي في أخرى‪:‬‬
‫‪106‬‬ ‫نماذج أعمال خارقة قام بها املؤمنون نتيجة التوكل على هللا‪:‬‬
‫‪108‬‬ ‫األندلس؟‬ ‫فتوحات‬
‫ِ‬ ‫كان َ‬
‫سبب‬ ‫أسود َ‬‫أحمر ثم َ‬ ‫َ‬
‫البيضاء بلون َ‬ ‫صير‬ ‫صبغ ِل ْح َية ْابن ُن َ‬
‫هل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪110‬‬ ‫مفاهيم العقيدة محرك دافع للعمل وطاقة هائلة تفتح اآلفاق‬
‫‪111‬‬ ‫املوت والرزق والنصر‪ :‬الفاعل فيها واحد وهو هللا تعالى‬
‫‪116‬‬ ‫املنظومة السببية للرزق‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫‪117‬‬ ‫السعي ليس سببا في ايجاد الرزق وإنما هو سبب ألخذ الرزق من أبوابه‪:‬‬
‫‪119‬‬ ‫الرزق ليس ُبم َس َّـبـب ينتج عن سبب‪ ،‬وليس العمل علة له‬
‫‪121‬‬ ‫النصر ليس ُبم َس َّـبـب ينتج عن سبب‪ ،‬وليس العمل علة له‪:‬‬
‫‪128‬‬ ‫النصر والتمكين واالستخالف متى؟‬
‫‪129‬‬ ‫أوال‪ :‬أيات حصرت النصر بيد هللا‪:‬‬
‫‪129‬‬ ‫ثانيا‪ :‬آيات تبين أنه حق على هللا أن ينصر من ينصره‪ ،‬وأن ينصر املؤمنين‪:‬‬
‫‪129‬‬ ‫ثالثا‪ :‬آيات تبين بعض سنن النصر وشروطه‪:‬‬
‫‪129‬‬ ‫وقت النصر‪ :‬النصر قد يكون دنيويا وقد يكون أخرويا‪:‬‬
‫‪130‬‬ ‫معاني النصر‪:‬‬
‫‪131‬‬ ‫وجوه حصول النصر‪:‬‬
‫‪132‬‬ ‫هل يملك املؤمنون أسباب النصر أم شروطه؟‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ‬
‫‪133‬‬ ‫نص ْرك ْم﴾ هو شرط باملعنى اللغوي وليس باملعنى الشرعي‪:‬‬ ‫﴿إن تنصروا ّللا ي‬‫الشرط في آية‪ِ :‬‬
‫‪135‬‬ ‫من كرم هللا تعالى على األمة أن النصر غير مرتبط بأسباب‬
‫‪135‬‬ ‫ملاذا يتأخر النصر؟‬
‫‪137‬‬ ‫االستخالف‪:‬‬
‫‪137‬‬ ‫النصر التام هو‪ :‬نصر هللا! فمتى نزل نصر هللا على الرسول ﷺ‬
‫‪138‬‬ ‫التمكين‪:‬‬
‫َ‬
‫والك ْـيس ُ‬
‫‪139‬‬ ‫والعقوبات!‬ ‫ِ‬ ‫الفرق بين العمل والقضاء والقدر‪ ،‬والتوكل والتواكل‪،‬‬
‫‪141‬‬ ‫معضلة الشر‪ :‬الحجة املركزية لإللحاد‪:‬‬
‫‪141‬‬ ‫العدل اإللهي‪ ،‬والسببية‪:‬‬
‫‪143‬‬ ‫التصور اإلسالمي لفلسفة الخير والشر‪:‬‬
‫‪144‬‬ ‫قبل دراسة معضلة الشر‪ ،‬ملخص تنفيذي ألهم القضايا املتعلقة بها‪:‬‬
‫‪147‬‬ ‫املساواة‪ :‬زاوية خطأ لدراسة العدل‪:‬‬
‫‪150‬‬ ‫"اإلرادة الحرة" ومسؤولية الخالق عن العلل الواضحة في الخلق‪.‬‬
‫‪151‬‬ ‫عدل اإلله مطلق القدرة‪ ،‬كلي املحبة‪ /‬كلي الرحمة!‬
‫‪152‬‬ ‫انعدام املقاييس املؤسسة لألخالق وللخير والشر في ظل استبعاد الدين‪:‬‬
‫‪158‬‬ ‫حوار خطير في فيلم املعادل ‪ EQUALIZER 2‬غاية في األهمية!‬
‫‪160‬‬ ‫كل ش يء مباح إذا غاب الدين‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫‪161‬‬ ‫هل عاملنا أفضل العوالم املمكنة؟ وهل هذا دليل على عجز اإلله؟‬
‫‪164‬‬ ‫إتقان الصنعة‪ ،‬الدقة الالمتناهية في نظام الكون والحياة‪:‬‬
‫‪167‬‬ ‫دليل الحكمة واإلتقان‬
‫‪169‬‬ ‫الفقر والغنى‪ ،‬والصحة واملرض‪ ،‬وخطة الوجود‪:‬‬
‫‪171‬‬ ‫هل مصائب الدنيا هي عقوبات على الذنوب؟‬
‫‪175‬‬ ‫عدل هللا تعالى‪ ،‬تأمالت في مناظرة رائعة‬
‫ُ َْ‬ ‫ُ َ َ‬
‫هل يقع السؤال"نحن لم ن ْستش ْر‪ ،‬ولو خ ِيرنا ربما رفضنا الحياة أصال" تحت بند العدل أم الحكمة؟ ‪179‬‬
‫‪180‬‬ ‫عدل هللا‪ ،‬تأمالت في مناظرة أخرى رائعة!‬
‫ُّ َ ْ‬
‫‪183‬‬ ‫السنن‪:‬‬ ‫أنواع‬
‫‪186‬‬ ‫ملخص األشكال الثالثة للسنن عند السيد محمد باقر الصدر‪:‬‬
‫‪186‬‬ ‫خالصة التفسير التاريخي عند السيد الصدر‪:‬‬
‫‪187‬‬ ‫تطبيق قانون السنن والسببية على تغيير الدولة‬
‫‪187‬‬ ‫سائل من الباكستان‪:‬‬
‫َ َ ُ َ ُ ُّ َ ْ َ َ َ ََ‬ ‫َ َْ َ ُ َ ْ َُ َْ َ َ َْ‬ ‫َ ْ ُْ َ‬
‫األ ْنظ َم ْة ال َّس ْ َبب َّية َ‬
‫لع َم ْل األ ْح ْ َ‬
‫ف والغاي ْات تج ْر األعم ْال ِم ْن األم ْ ِام‪،‬‬‫اب‪ ،‬فاألس ْباب ت ْدفع األعم ْال مْْن الخل ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تص ْ ِميم‬
‫‪188‬‬ ‫والغائية هي محرك تصميم النظام السببي‪:‬‬
‫‪190‬‬ ‫التطبيق العملي‬
‫‪194‬‬ ‫سنة قيام الدول في التاريخ جرت على هذا نفسه!‬
‫‪196‬‬ ‫تعقيد األنظمة الغائية السببية املجتمعية‬
‫‪199‬‬ ‫شبكة العالقات داخل األنظمة‪:‬‬
‫‪201‬‬ ‫ال بد لتفعيل الطاقة السببية‪ ،‬من كيان فاعل‪ ،‬وكيان منفعل‬
‫‪202‬‬ ‫مقومات الدولة‪:‬‬
‫‪203‬‬ ‫توافق طريقة الرسول ﷺ في التغيير مع السنن املجتمعية‪:‬‬
‫ما هي مواطن القوة في األمة والتي ينبغي معرفتها‪ ،‬ثم معرفة كيفيـة اسـتثمارها لتنتصـر بهـا األمـة فـي هـذه املواجهـة املصـيرية‬
‫‪204‬‬ ‫مع الغرب والشرق اللذين يرفضان نهضة األمة وقيام دولتها؟‬
‫‪204‬‬ ‫العنصر األول‪ :‬طبيعة العقيدة اإلسالمية‪:‬‬
‫‪205‬‬ ‫ولتفعيل العقيدة اإلسالمية في النفوس ولتفعيل الطاقة السببية في العقيدة نقول‪:‬‬
‫العنص ــر الث ــاني‪ :‬األم ــة اإلس ــالمية‪ ،‬العنص ــر البش ــري‪ ،‬الث ــروات‪ ،‬البع ــد الجغراف ــي‪ ،‬املوق ــع االس ــتراتي ي‪ ،‬الت ـرابط الحض ــاري‪:‬‬
‫‪207‬‬

‫‪10‬‬
‫‪208‬‬ ‫وأما طريقة تفعيل القاعدة السببية في األمة‪،‬‬
‫ُ ُ‬
‫‪208‬‬ ‫الخالفة محاوالت إجهاضها حين نشوئها؟‬ ‫ِ‬ ‫كيف تحبط دولة‬
‫‪217‬‬ ‫العنصر الثالث‪ :‬هو القوة املادية املتمثلة بالجيوش‪،‬‬
‫‪217‬‬ ‫ولتفعيل الطاقة السببية في عملية طلب النصرة‪:‬‬
‫الس ــتمرار الدول ــة بع ــد نش ــوئها ال ب ــد م ــن إقامته ــا عل ــى مؤسس ــات ونظ ــام ص ــحيح وعالق ــات ص ــحيحة م ــع الكي ــان املجتمعــي‬
‫‪218‬‬
‫‪218‬‬ ‫أمثلة تطبيقية على السنن اإللهية والسنن التاريخية‪:‬‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ‬
‫‪218‬‬ ‫نص ْرك ْم﴾‬ ‫﴿إن تنصروا ّللا ي‬ ‫ِ‬
‫‪221‬‬ ‫مثال‪ :‬حمل الدعوة واألعمال الجزئية املتفرعة عنه الخاضعة للسنن التاريخية‪:‬‬
‫‪222‬‬ ‫املثال الثالث‪ :‬مسألة الدعاية واإلعالن ال بد فيه من األخذ بأسبابه من مظانها‪:‬‬
‫‪223‬‬ ‫تقنيات الدعاية واإلعالم‪ ،‬سبعة أمثلة‪:‬‬
‫‪224‬‬ ‫من تقنيات إيجاد الرأي العام‪ :‬الدندنة‪ ،‬أمثلة عليها‪:‬‬
‫‪225‬‬ ‫محمد علي كالي وجورج فورمان في زائير‬
‫‪230‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫توطئة‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ات َو ْاأل ْ‬ ‫األ ْرض َو َمـ ْن فـيه َّن‪َ ،‬و َلـ َك ْال َح ْمـ ُد َلـ َك ُم ْلـ ُك ال َّسـ َم َ‬ ‫َّ ُ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫ض َو َمـ ْن ِفـ ِيه َّن‪َ ،‬ول ـ َك‬ ‫َِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات و ِ‬ ‫اللهـم لـك الحمـد أنـت قـ ِيم السـمو ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ ُ َ ْ َ ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫ض‪َ ،‬ول َك ال َح ْم ُد أ ْن َت ال َح ُّق‪َ ،‬و َو ْع ُد َك‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ات َواأل ْ‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫الس َم َ‬ ‫األ ْرض َو َم ْن ِفيه َّن‪َ ،‬ول َك ال َح ْم ُد أ ْن َت َم ِل ُك َّ‬
‫ِ‬ ‫ات و ِ‬ ‫الحمد أنت نور السمو ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ َ َّ َ ُ‬ ‫ْ َ ُّ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ‬
‫اعة َحـق‪ ،‬الل ُهـ َّم لـ َك‬ ‫الن ِب ُّيـون َحـق‪َ ،‬و ُم َح َّمـد ﷺ حـق‪ ،‬والسـ‬ ‫الحـق‪ ،‬وِلقـاُك حـق‪ ،‬وقولـك حـق‪ ،‬والجنـة حـق‪ ،‬والنـار حـق‪ ،‬و‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َأ ْس َل ْم ُت‪َ ،‬وب َك َآم ْن ُت‪َ ،‬و َع َل ْي َك َت َو َّك ْل ُت‪َ ،‬وإ َل ْي َك َأ َن ْب ُت‪َ ،‬وب َك َخا َ‬
‫صـ ْم ُت‪َ ،‬و ِإل ْيـ َك َحاك ْمـ ُت‪ ،‬فـاغ ِف ْر ِلـي َمـا قـ َّد ْم ُت َو َمـا أ َّخـ ْر ُت‪َ ،‬و َمـا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ َ َ ِ َ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ ُ َ َ ْ َ ِْ ُ َ ُ َ َ َ َّ ِ َ‬
‫أسررت وما أعلنت‪ ،‬أنت املق ِدم وأنت املؤ ِخر ال ِإله ِإال أنت‪ ،‬وبعد‪..‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ َ ََ َ َ ْ ُ‬ ‫ص ُد َور َأ ْهل اإل ْ‬ ‫الح ْم ُد لل ﷻ َّال ِذي َش َر َح ُ‬
‫وب أ ْهـ ِل الطغ َيـ ِان فـال ت ِعـ ْي ال ِحك َمـة أ َبـ َدا‪َ ،‬وأشـ َه ُد‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬‫ل‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫ـ‬‫ف‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ـ‬‫ك‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ى‪،‬‬ ‫د‬ ‫ـ‬‫ه‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫الم‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫هللا َو ْحـ َد ُه َال َش ـرْي َك َلـ ُه إ َله ــا َأ َحـدا‪َ ،‬ف ـ ْر َدا َ‬ ‫َأ ْن َال إ َلـ َه إال ُ‬
‫صـ َمدا‪َ ،‬وأشـ َه ُد أ َّن ُم َح َّم ـدا َع ْبـ ُد ُه َو َر ُس ـ ْول ُه َمـا أك َر َم ـ ُه َع ْبـدا َو َس ـ ِيدا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ َِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫صـلى هللا عل ْيـه َوعلـى آلـه َو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫صدرا َو َم ْوردا‪َ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫صال َومحتدا‪َ ،‬وأط َه َره َمضج َعا َو َم ْولدا‪َ ،‬وأ ْب َه َره َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َوأ ْع َظ َم ُه أ ْ‬
‫صـح ِب ِه غ ُيـ ْو ِث النـد ْى‪،‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ْ ْ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َّ ُ َ‬ ‫َُُ ْ ْ َ ََ‬
‫اس غ َدا‪،1‬‬ ‫صالة َو َسالما دا ِئمي ِن ِمن اليو ِم ِإلى أن يبعث الن‬ ‫وليو ِث ال ِعدا‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الح ْم ـ ُد لل ِذ ْي ال ـمنة َوالط ـ ْول‪َ ،‬والق ـ َّوة َوال َح ـ ْول‪ِ ،‬ذ ْي الفض ـل َوال َعط ـ ِاء‪ ،‬إل ـه األ ْرض َوال َّس ـ َم ِاء‪ُ ،‬مع ـز اإل ْس ـالم بن ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ص ـ ِر ِه‪،‬‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُُ َ‬
‫ور ِبـأ ْم ِر ِه‪َ ،‬و ُمـ ِد ْي ِم الـ ِـن َع ِم ِبشـك ِر ِه‪َ ،‬و ُم ْسـ َت ْد ِر ِج الكـا ِف ِرْي َن ِب َمكـ ِر ِه‪ ،‬الـ ِذ ْي قـ َّد َر األ َّيـ َام ُد َوال‬ ‫َُ َ‬
‫ومـ ِذ ِل ال ِشـ ْر ِك ِبق ْهـ ِر ِه‪ ،‬ومصـ ِر ِف األمـ ِ‬
‫َ‬ ‫َُ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫أظ َه َر د ْي َن ُه َع َلى الد ْين ُكله‪َ ،‬‬ ‫َ ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫العاق َب َة ل ْل ُم َّتق ْي َن ب َف ْ‬ ‫َْ َ َ َ َ َ‬
‫الق ِاه ُر ف ْوق ِع َبـ ِاد ِه فـال‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِل ِه‪َ ،‬وأف َاء َعلى ِع َب ِاد ِه ِم ْن ِظ ِل ِه‪ ،‬و‬ ‫ِبعد ِل ِه‪ ،‬وجعل ِ ِ ِ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ُي َم ـان ُع‪َ ،‬والظ ـ ِاه ُر َعل ـى خ ْلي َق ِت ـ ِه ف ـال ُي َن ـ َاز ُ ‪َ ،‬واآل ِم ـ ُر ِب َم ـا َاش ـ ُاء ف ـال ُي َرا َج ـ ُع‪َ ،‬وال َح ـ ِاك ُم ِب َم ـا ُي ِرْي ـ ُد ف ـال ُي ـ َداف ُع‪ ،‬الغ ِن ـ ُّي الـ ـ ُم ْف َت َق ُر‬
‫َ َ َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫إ َل ْيـ ِه‪ْ ،‬ال َقـ َو ُّي ا ْل ـ ُم ْع َت َم ُد َع َل ْيـ ِه‪ ،‬ا ْلـ ُـم ْس َت ْغن ْي َعـن ال َّشـرْي ِك َوال َّ‬
‫وات ِبـال َع َمـ ْد‪ُ ،‬سـ ْب َحان ُه َوت َعـالى تنـ َّز َه‬ ‫اح َب ِة َوال َولـد‪َ ،‬را ِفـ ُع ال َّسـ َم ِ‬ ‫صـ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫األ ْك َف ِاء َو ْال ُّش َر َك ِاء‪َ ،‬وت َعـالى عـن األ ْمثـال والظ َهـ َر ِاء َوالنظـ َر ِاء‪ ،‬هـ َو األ َّو ُل بـال ْاب ِتـد ْاء‪َ ،‬واآل ِخـ ُر بـال ان ِت َهـاء‪ْ،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ َْ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع ِن األند ِاد واألضد ِاد و‬
‫َ َ َّ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ُ ُ َ َ ْ َ ْ ُ َّ َّ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ‬
‫لِل ال ـ ِذي جع ـل ِم ـن ألب ِابن ـا بص ـا ِئر تقودن ـا ِإل ـى مع ِرف ِت ـ ِه‪ ،‬ومع ـ ِارف‬ ‫ال س ـ ِمي ل ـه‪ ،‬ل ـيس ك ِمث ِل ـ ِه ش ـ يء وال اش ـ ِ هه أح ـد‪ ،‬الحم ـد ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ ْ ُّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ات ِإلـى النـ ْو ِر ِب َر ْح َم ِت ـ ِه‪ ،‬أ ْح َمـد ُه َعل ــى ِإظفـ ِار ِه َو ِإظ َه ـ ِار ِه َو ِإ ْعـ َز ِاز ِه ِأل ْوِل َيا ِئ ـ ِه‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫اإلق ـ َر ِار ِب ُرُب ْو ِبي ِتـ ِه‪ِ ،‬ل ُيخ ِرجن ـا ِمـن الظل َم ـ ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ت ْر ِشـ ُدنا ِإلـى‬
‫َ ْ َ َ َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ َ َ‬ ‫صـاره‪َ ،‬و َت ْطه ْيـر ُق ُل ْوب َنـا مـ ْن َأ ْد َنـاس الشـ ْرك َو َأ ْو َ‬ ‫صـره َأل ْن َ‬ ‫ََ ْ‬
‫استشـ َع َر‬ ‫الص َوأ ْنـ َو ِار ِه‪ ،‬حمـد مـ ِن‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫اإل‬
‫ِ ِ‬ ‫ص‬ ‫ال‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ـ‬
‫ِِ ِ ِ ِ‬ ‫ه‬ ‫ار‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ار‬ ‫ـ‬ ‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ون ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫اط َن ِس ِر ِه َوظ ِاه َر َج ْه ِر ِه في ل ْي ِل ِه َو َن َه ِار ِه‪.‬‬ ‫الح ْمد ب ِ‬
‫ص ـ ْن َع ِت ِه‪،‬‬ ‫هللا َو ْحـ َد ُه َال َشـرْي َك َلـ ُه‪ ،‬إ َلـه َا َّسـ َر َو َس ـ َّه َل َمـا َت َع َّسـ َر‪ُ ،‬سـ ْب َح َان ُه َمـا َأ ْع َظـ َم ُق ْد َرتـه‪َ ،‬و َأ ْبـ َد َ َ‬ ‫َو َأ ْشـ َه ُد َأ ْن َال إ َلـ َه إ َّال ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫صـ َر َف َعـ ْن ف ْعل َهـا َمـ ْن َأ ْشـ َق ُاه َع َم ُلـ ُه َو َأ ْب َعـ َد ُه‪َ ،‬و َأ ْشـ َه ُد َأ َّن ُم َح َّمـداَ‬ ‫ات َمـ ْن َأ ْسـ َع َد ُه‪َ ،‬و َ‬ ‫الخيـرْ‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ َ َ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫وأعجـب ِحكم ِتـ ِه‪ ،‬وفـق ِإلـى سـ ِبي ِل‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫اعة َبش ْي َرا َونذ ْي َرا‪َ ،‬و َداع َيا إلى هللا بإذنه َوس َر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ ُ ُ ََ ُ ُْ ُ َ َ ُ ْ َْ َ ْ‬
‫َ‬
‫اجا ُم ِن ْي َرا‪َ ،‬ع َّم‬ ‫ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫عبده ورسوله‪ ،‬وص ِف ُّيه ِمن خل ِق ِه وخ ِليله‪ ،‬أ ْرسله بين يد ِي ال َّس ِ ِ‬
‫َ َْ َ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ُ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ ْ َ ُ ُ ُ ْ ََ َ َ ْ ُ ْ َ‬
‫صط َفى ِم ـ ْن خ ِل ْي َق ِت ـ ِه‪َ ،‬وأك ـ َر ُم األ َّوِل ـ ْي َن َواآل ِخ ـ ِرْي َن ِم ـ ْن َب ِرَّي ِت ـ ِه‪َ ،‬را ِف ـ ُع‬ ‫ن ـوره اآلف ـاق‪ ،‬ول ـم يِ ِج ـب ِض ـياه كس ـوف وال مح ـاق‪ ،‬ال ـم‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ْ ُ ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ض ْ ََ‬ ‫َّ َ َ‬
‫اح ِب ال ِلـ َو ِاء الـ َم ْعق ْو ِد‪،‬‬ ‫ْ َ‬
‫ص ِبالـ َمق ِام الـ َمح ُمو ِد‪ِ ،‬فـي اليـو ِم الـ َمش ُهو ِد‪ ،‬صـ ِ‬
‫َْ‬
‫اإلف ِك‪ ،‬املخصـو ِ‬ ‫الشر ِك‪ ،‬ور ِاحض ِ‬ ‫الش ِك ود ِاح ُ ِ‬

‫‪ 1‬مقدمة فتح الباري بشرح صحيح البخاري للعالمة ابن حجر العسقالني رحمه هللا رحمة واسعة‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫صالة َتكو ُن‬ ‫ين َو ِفي امل ِأل األ ْعلى ِإلى َي ْو ِم ال ِد ِين‪،‬‬ ‫األ َّول َين َواآلخر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ض الـ َمور ِود‪ ،‬الل ُه َّم ص ِل على ُمح َّمد وعلى ِآل ُمح َّمد في ِ‬
‫ُْ‬
‫ِ‬ ‫َوال َح ْو‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ْ َ ُ َّ ُ َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َلـ َك ر َ‬
‫صـ ِل َعلـى ُم َح َّمـد ك َمـا ُهـ َو أ ْهلـ ُه َو َي ْسـ َت ِح ُّق ُه‪ ،‬ك َمـا َي ِليـ ُـق‬ ‫ضـاء َوِل َح ِقـ ِه أ َداء‪َ ،‬وأ ْع ِطـ ِه الو ِسـيلة واملقـام الـ ِذي وعدتـه اللهـم‬ ‫ِ‬
‫ص ـ َالة َو َأ ْك َم َل َه ـا َو َأ َت َّم َه ـا ُك َّل َم ـا َذ َك ـ َر َك َو َذ َك ـ َرهُ‬ ‫اك َع ْن ـ ُه َو َم ـا ُتح ـ ُّب َو َت ْر َب ـ ى َل ـ ُه َدائم ــا َأ َب ـدا‪َ ،‬أ ْف َ‬
‫ض ـ َل َ‬ ‫ب َعظ ـيم َش ـ َرفه َو َك َمال ـه َور َ‬
‫ضـ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ َّ ُ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ‬
‫الذ ِاكرون وغفل عن ِذك ِرك و ِذك ِر ِه الغا ِفلون وس ِلم تسليما ك ِثيرا‪،‬‬
‫‪...‬وبعد‪..‬‬

‫‪13‬‬
‫مقدمة الطبعة الرابعة‪ :‬السببية الكونية‪ ،‬واألنظمة السببية املجتمعية‪:‬‬
‫الحمد لل‪ ،‬والصالة والسالم على سيدي رسول هللا‪ ،‬أما الدافع إلخراج الكتاب في طبعة جديدة فألسباب أهمها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬فص ــل بح ــث ق ــانون الس ــببية والس ــنن اإللهي ــة والتاريخي ــة والكوني ــة ف ــي بح ــث إقام ــة الدول ــة‪ ،‬ع ــن بح ــث دراس ــة‬
‫طريقة الرسول ﷺ في التغيير‪ ،‬التـي كانـت موضـو الجـزء األول مـن الكتـاب‪ ،‬والتـي تـم التركيـز فيهـا علـى التأصـيل الشـرعي‬
‫للطريقة‪ ،‬والخطوات العملية التي يقوم بها الحزب إلحداث التغيير‪ ،‬والتوسع في دراسة الجزء الثاني من الكتاب توسعا‬
‫اقتضته الحاجة امللحة‪ ،‬وإفراده في كتاب خاص أسميناه‪" :‬إقامة الدولة اإلسالمية في ظْْل قْْانون السْْببية" وعنوانْْه‬
‫الفرعي‪ :‬إضاءات فكريْْة‪ ،‬وتْْأمالت عقديْْة فْْي مفْْاهيم‪ :‬التوكْْل واألخْْذ باألسْْباب‪ ،‬والقضْْاء والقْْدر‪ ،‬والنصْْروالْْرزق‬
‫واإلحياء واإلماتة‪ ،‬والنفع والضر‪ .‬في ظل قانون السببية‪.‬‬
‫ولعل ضرورة التأصيل ملفاهيم السببية والسننية‪ ،‬ومْْا يتعلْْق بهْْا مْْن أبحْْاض كبحْْث القضْْاء والقْْدر‪ ،‬والقْْدر‪،‬‬
‫والتوكْْل واألخْْذ باألسْْباب‪ ،‬والنفْْع والضْْر‪ ،‬والنصْْروالتمكْْين‪ ،‬وغيرهْْا اقت ْ ن أن تكْْون أك ْْرمْْن نصْْف مْْادة هْْذا‬
‫الجزء متعلقْْة بالتأصْْيل لتلْْك املفْْاهيم توطئْْة لدراسْْة أثْْرتلْْك املفْْاهيم علْْى طريقْْة إقامْْة الدولْْة‪ ،‬اقتضْْت هْْذه‬
‫املنهجية في البحث‪.‬‬
‫ثانيــا‪ :‬يك ــاد موضــو الس ــببية )‪ (Causation- Causality‬أن يكــون م ــن أهــم املواض ــيع التــي بحث ــت فــي ت ــاريخ الفلس ــفة‬
‫والعلم الحس ي التجريبي على مستوى العالم كلـه‪ ،‬وكـان التأسـيس لفكـرة االسـتقرار والقصـور الـذاتي والسـببية والتغييـر‬
‫األثر العظـيم فـي أبحـاث الفلسـفة والفيزيـاء فـي آن‪ ،‬لدرجـة أن السـببية تكـاد تكـون حجـر الزاويـة فـي بنـاء التفكيـر فـي العلـم‬
‫التجريبــي‪ ،‬وغي ــره‪ ،‬فل ــان انفك ــت العل ــوم الطبيعي ــة ع ــن الس ــببية فكي ــف س ــتبني العالق ــة واالرتب ــاط ب ــين ظ ــاهرتين؟ ول ــان‬
‫سارت األحداث والظواهر في الوجود سير عشواء بال انضباط‪- ،‬إذا ما انفكت عن التفكير السببي‪ -‬فأي القوانين يمكن‬
‫استنباطها أو تعميمها؟ وما تغني التجارب إن كان السبب سيتخلف عن إحداث النتيجة مرة وينتجها مـرة أخـرى! أي إن‬
‫انفك ــت الس ــببية ع ــن الحتمي ــة؟ لق ــد كــان التفاع ــل الس ــببي ال ــذي تج ــري وفق ــه العملي ــات الفيزيائي ــة والكوني ــة ب ــين امل ــادة‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬
‫والطاقـة والقـوى العبـا أساسـيا فـي خطـة الوجـود حتـى أننـي اعتبرتــه فـي كتـا ي‪( :‬نشـأة الكـ ْو ِن‪َ ،‬دل ْيـل َع ْق ِلـي ِعل ِمـي ِح ِسـ ي َعلـ ْى‬
‫الخامس الذي تتشكل منه هندسة الكون!‬ ‫َ‬ ‫ُو ُج ْود ْال َخالق)‪ُ :‬‬
‫الب ْع َد‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ثالث ــا‪ :‬وعل ــى ص ــعيد آخ ــر‪ ،‬تخ ــوض األم ــة اإلس ــالمية ف ــي العص ــر ال ـراهن مخ ــاض ميالده ــا م ــن جدي ــد‪ ،‬تس ــير في ــه األم ــة‬
‫اإلس ــالمية س ــيرا حثيث ــا باتج ــاه اس ــتعادة مكانته ــا الس ــامقة‪ ،‬وإع ــادة بن ــاء ص ــرح حض ــار ها العظيم ــة‪ ،‬وتق ــديم مش ــروعها‬
‫النهضــوي لألمــم كافــة ـكـامال متكــامال‪ ،‬وهــي اآلن علــى مفتــرق طـرق‪ ،‬ويــتم هــذا الســير وفقــا لعمليــة تغييريــة جذريــة انقالبيــة‬
‫شاملة‪ ،‬وفقا ألعمال جبارة سارت على منهج قويم مستنبط من الوحي‪ ،‬بعد دراسة األنظمة املجتمعيـة السـببية دراسـة‬
‫تفصـيلية‪ ،‬لكـن هــذه العمليـة التغييريـة أشــبه مـا تكــون َح ْفـرا فـي الصــخر‪ ،‬لشـدة مــا اعترضـها مـن املعوقــات‪ ،‬ولخطـورة مــا‬
‫يتــآمر بــه أعــداء األمــة عليهــا مــن مــؤامرات بغيــة إحبــاط هــذه العمليــة التغييريــة‪ ،‬األمــر الــذي دفــع الكثيــر مــن العــاملين فــي‬
‫حقــل التغيي ــر عل ــى مســتوى األم ــة ليتس ــاءلوا‪ :‬هــل نح ــن بحاج ــة ملراجع ــات لألعمــال التــي نق ــوم بهــا؟ ه ــل أخفق ــت العملي ــة‬
‫‪14‬‬
‫التغييرية؟ وملاذا لم يتنزل نصر هللا إلى الساعة؟ هل هو بسبب أننا لم ننصر هللا؟ هل العيـب فينـا وفـي أعمالنـا؟ وجـدير‬
‫بالـذكر أن الـبعض يطــرح هـذه التســاُالت بـدافع اإلخــالص‪ ،‬بينمـا نــتج اإلحبـاط عنــد ثلـة أخــرى نتيجـة عــدم فهـم طبيعــة‬
‫العملية التغييرية والنظام السببي الذي تقوم عليه‪ ،‬وقفزهم عـن العالقـة بـين الفعـل السـببي الـذي تقـوم عليـه العمليـة‬
‫التغييرية‪ ،‬وبين األفعال التي نس ها الخالق سبحانه وتعالى لنفسه بأنه هو من يباشرها‪ ،‬ويختار موعد إنفاذها‪ ،‬بحكمته‬
‫وعلمـه‪ ،‬مثـل أفعـال النصــر واالسـتخالف‪ ،‬والتمكـين‪ ،‬وإبـدال الخــوف أمنـا‪ ،‬فكانـت هـذه الدراســة لتوضـيح هـذه العالقــة‬
‫الدقيقة‪ ،‬حتى يقف املسلم على دوره في العملية التغييرية وعالقة هذا الدور وهذه األعمال مع النتيجة املبتغاة منها‪.‬‬
‫لـذلك أرى أنـه موضـو بـالغ األهميـة علـى كافـة الصـعد التــي تتعلـق بـه‪ ،‬لـذلك أهيـب بالقـاري الكـريم أن يوليـه الصــبر‬
‫الكافي‪ ،‬والدراسة الحثيثة التي تتخلى ‪-‬مؤقتا‪ -‬عن األحكام املسبقة‪ ،‬واآلراء السابقة املتعلقة بهذه املسائل‪ ،‬كي ال تتسلط‬
‫على البحث وما يحتاجه من تدبر‪ ،‬وكي ال تكون عائقا بينه وبين دراسة هذه املسألة الدقيقة‪.‬‬
‫توطئة بين يدي الطبعة الثالثة من الكتاب‬
‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُُ‬
‫ور ِب ـأ ْم ِر ِه‪َ ،‬و ُم ـ ِد ْي ِم ال ـ ِـن َع ِم ِبش ـك ِر ِه‪َ ،‬و ُم ْس ـ َت ْد ِر ِج‬ ‫َُ َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫الم ِبنص ـ ِر ِه‪ ،2‬وم ـ ِذ ِل ال ِش ـ ْر ِك ِبق ْه ِر ِه‪،‬ومص ـ ِر ِف األم ـ ِ‬
‫الح ْم ـ ُد لل ُمع ـز اإل ْس ـ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫العاق َب َة ل ْل ُم َّتق ْي َن ب َف ْ‬ ‫َّ ْ َ َّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضـ ِل ِه‪َ ،‬وأفـ َاء َعلـى ِع َبـ ِاد ِه ِمـ ْن ِظ ِلـ ِه‪َ ،‬وأظ َهـ َر ِد ْي َنـ ُه‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫األ َّي َام ُد َوال ب َع ْدله‪َ ،‬و َج َع َل َ‬
‫ِ ِِ‬ ‫الكا ِف ِرْي َن ِب َمك ِر ِه‪ ،‬ال ِذي قدر‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ َ َْ َ َُ َ ُ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ُ َ ُ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ََ‬
‫اآلم ُر ِب َمـا شـ َاء فـال ُي َرا َجـ ُع‪َ ،‬وال َحـ ِاك ُم ِب َمـا‬ ‫الدي ِن ك ِل ِه‪ ،‬الق ِاه ُر فوق ِعب ِاد ِه فال ي َمانع‪ ،‬والظ ِاه ُر على خليق ِت ِه فال يناز ‪ ،‬و ِ‬ ‫ع لى ِ‬
‫ََ ْ ْ ُُْ َ ْ ََْ‬ ‫َ َ ْ َْ َ‬ ‫ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َْ َ‬ ‫ُ ْ ُ َ ُ َ َُ َ ْ َ ُُ َ‬
‫اس ال ِش ـ ْر ِك‬ ‫ي َ ِري ـد ف ـال ي ـدافع‪ ،‬أحم ـده عل ــى ِإظف ـ ِار ِه َو ِإظه ـ ِار ِه و ِإع ـز ِاز ِه ِألوِليا ِئ ـ ِه‪ ،‬ونص ـ ِر ِه ِألنص ـ ِار ِه‪ ،‬وتط ِهي ـ ِر قلو ِبن ـا ِم ـن أدن ـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َْ ْ َ َ َ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ َ َْ َ َ‬
‫اط َن ِس ِر ِه َوظ ِاه َر َج ْه ِر ِه في ل ْي ِل ِه َو َن َه ِار ِه‪.‬‬‫الص وأنو ِار ِه‪ ،‬ح ْمد م ِن استشع َر الح ْمد ب ِ‬ ‫اإلخ ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫وأوض ِار ِه‪ ،‬و ِإعم ِارها ِبخ ِال ِ‬
‫وف ْ‬‫َ‬ ‫و عــد‪ ،‬فقــد مــن هللا علينــا بأصــحاب ُن َهـى ُ‬
‫ضـل راجعــوا الطبعــة الثانيــة مــن الكتــاب‪ ،‬وأشــاروا إلــى قليــل مــن‬ ‫وعقــول‬ ‫ِ‬
‫األخط ــاء الطباعي ــة فيه ــا‪ ،‬ث ــم إننــي وبينم ــا كن ــت أدرس قض ــية النص ْْرواالس ْْتخالف ب ْْين الش ْْرطية والس ْْببية‪ ،‬رأي ــت أن‬
‫مفهوم السببية بحاجة ملزيد من بذل الجهْْد فْْي دراسْْته وتوضْْيحه‪ ،‬وذلـك أن هللا تعـالى وعـد بنصـر مـن ينصـره‪ ،‬فقـال‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫ع ــز ثن ــاُه‪ ،‬وتقدس ــت أس ــماُه ﴿ َي ـا َأ َُّ َه ـا ا َّل ـذ َ‬
‫ص ـ ْرك ْم َو ُيث ِب ـ ْت أق ـ َد َامك ْم﴾ [‪ 7‬محم ــد]‪ ،‬وق ــال ج ــل‬ ‫ين َآم ُن ـوا ِإن تنص ـروا ّللا ين‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َّ ُ َّ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ ُْ‬
‫ص ـ ُر امل ـ ْؤ ِم ِن َين﴾ [ال ــروم ‪ ،]47‬وق ــال الح ــق س ــبحانه ف ــي محك ــم كتاب ــه‪﴿ :‬وع ـد ّللا ال ـ ِذين آمن ـوا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جالل ــه‪﴿ :‬وكـان حق ـا علين ـا ن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صـال َحات َل َي ْسـ َتخل َف َّن ُه ْم فـي األ ْرض ك َمـا ا ْسـ َتخلف الـذ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫نك ْم َو َعم ُلـوا ال َّ‬
‫ُ‬
‫ين ِمـن قـ ْب ِل ِه ْم َول ُي َم ِكـن َّن ل ُهـ ْم ِدي َـن ُه ُم الـ ِذي ْارت َ ـ ْى ل ُهـ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِمـ‬
‫َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ ُ َن َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َْ َ َ ُ َْ َ ُ ُ ْ َ ُ نَ‬ ‫َ َ ُ َ َُ‬
‫َّ‬
‫وليب ِدلنهم ِمن بع ِد خو ِف ِهم أمنا ۚ اعبدون ِني ال اش ِركو ِ ي شيئا ۚ ومن كفر بعد ذ ِلك فأول ِئـك هـم الفا ِسـقو ﴾ [النـور ‪،]55‬‬
‫وقْْد اخْْتلم فهْْم هْْذه اآليْْات علْْى بعْْم املسْْلمين فظنْْوا أن مْْن لْْم يتنْْزل عليْْه نصْْرهللا فْْي الْْدنيا‪ ،‬وق ْ ن نحبْْه‪،‬‬
‫فإنما لخلل عنده‪ ،‬كيف وقد وعد هللا ‪-‬ووعده حْْق‪ -‬بْْأن ينصْْراملْْؤمنين‪ ،‬ويسْْتخلفهم؟ وقـد اخـتلط أمـر النصـر علـى‬

‫‪ 2‬اســتعاد املســلمون‪ ،‬بقي ــادة البطــل صــالح ال ــدين األيــو ي‪ ،‬املدــجد األقي ـ ى مــن أي ــدي الصــليبيين الغاصــبين‪ ،‬وش ــاء هللا أن يكتمــل النصــر ي ــوم الجمعــة الس ــابع‬
‫والعشــرين مــن شــهر رجــب عــام ‪ 583‬هجريــة‪ .‬وقــد أوعــز القائــد صــالح الــدين األيــو ي للقاب ـ ي مملــي الــدين أ ــي املعــالي محمــد بــن ز ـكـي الــدين علــي القرش ـ ي بــأن ير ــى‬
‫املنبر ويخطب الجمعة فنهض وارتجل خطبة عصماء‪ ،‬هذه مقدمتها‪ ،‬بش يء اسير من التصرف‪ ،‬ونصها الكامل في مجلة الوعي كانون الثاني ‪ 1994‬العدد ‪.81‬‬
‫‪15‬‬
‫بعــض املســلمين فظنــوا أنهــم يملكــون أســباب النصــر‪ ،‬فيســتطيعون إنزالــه متــى شــاءوا بقيــامهم بتلــك األســباب‪ ،‬وكمــا أن‬
‫َ‬
‫سـبب املـوت هــو انقضـاء األجــل‪ ،‬فمتـى مـا وقــع ال َّسـ َب ُب َوقـ َع الـ ُم َس َّب ُب ال يتخلـف عــن ذلـك‪ ،‬فــإنهم ظنـوا أنهـم متــى مـا قــاموا‬
‫باألعمــال آخــذين بأســبابها‪ ،‬فــإن ذلــك اعنــي بالضــرورة أنهــا جــاءوا بأســباب النصــر نفســه‪ ،‬ويتحــتم وجـوب وقوعــه ف ْْورا‪،‬‬
‫وخلط بعضهم بين النصر في املعركة‪ ،‬أي الغلبة في ساحة القتال‪ ،‬فهذا له سبب وحيد وهو اإلعْْداد ملْْا يلْْزم املعركْْة‪،‬‬
‫سواء إعداد القوة أو العتاد أو الجند أو التفوق في الخطة أو اجتما ذلك كله‪ ،‬وهو سنة تاريخية‪ /‬مجتمعية ثابتـة لـن‬
‫تجد لها تبديال‪ ،‬تنطبـق علـى املسـلم والكـافر‪ ،‬ينتصـر علـى مـن كـان أقـل إعـدادا‪ ،‬وبـين نصـر الـدعوات والرسـل فْْي سْْاحة‬
‫الصراع بين الحق والباطل‪ ،‬وانتصار الحق على الباطل الذي تتجلى صورته في االستخالف والتمكين واألمن والعبودية‬
‫لل‪ ،‬فهْْذا لْْهس لْْه سْْبب‪ ،‬وإنمــا هـو مــن فعــل هللا تعـالى‪ ،‬كقضــائه‪ ،‬فْْاملؤمنون مْْأمورون باألخْْذ بأسْْباب العمْْل الْْذي‬
‫خوطب ْْوا ب ْْه‪ ،‬والنصــر بيــد هللا ينزلــه متــى شــاء‪ ،‬فظــن مــن خلــط بينهمــا أن س ــبب نصــر الــدعوات هــو اإلعــداد‪ ،‬قــال تع ــالى‬
‫﴿ َو َأعـ ُّدوا َل ُهـ ْم َمـا ا ْسـ َت َط ْع ُت ْم مـ ْن ُقـ َّوة َومـ ْن رَبـاط ْال َخ ْيـل ُت ْره ُبـو َن بـه َعـ ُد َّو َّّللا َو َعـ ُد َّو ُك ْم َوآ َخـر َ‬
‫ين ِمـ ْن ُد ِون ِهـ ْم﴾ [األنفــال‪،]60:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فموضو هذه اآلية هو النصر في املعركة ولذلك كان العمل املطلوب هو إعداد ما يحقق القوة واإلرهـاب‪ ،‬بينمـا فـي غيـر‬
‫املعركة‪ :‬ال تؤسس األسباب على إعداد القوة‪ ،‬بل على أعمال أخرى جلهـا فكـري‪ ،‬لـذلك فـال يقـال بـأن اإلعـداد هـو سـبب‬
‫النص ــر ف ــي غي ــر املعرك ــة‪ ،‬عل ــى أن النص ْْرف ْْي املعرك ْْة‪ ،‬يخض ــع أيض ــا لس ــنة إلهي ــة خ ــص هللا املس ــلمين به ــا‪ ،‬راع ــت أس ــباب‬
‫َ‬
‫السنة التاريخية (فكان ال بد من اإلعداد ما استطيع مـن قـوة)‪ ،‬حتـى ُا ْعـذ ُروا‪ ،‬لكنهـا أضـافت شـروطا وفرضـت فروضـا إن‬
‫أخذ بها املسلمون انتصروا‪ ،‬حتى وإن ضعفت شوكتهم! تنصـر مـن أعـد قـدر اسـتطاعته‪ ،‬ولكنـه لـم يتفـوق علـى عـدوه فـي‬
‫ُ‬ ‫ص َر َ‬ ‫إن َن َ‬ ‫اإلعداد واالستطاعة‪ْ ،‬‬
‫هللا‪ ،‬وصـبر وثبـت وأطـا وتوكـل‪ ،‬وغيرهـا مـن الشـروط نصـره هللا‪ ،‬فهـذه التزامـات تو ِقـ ُع فـي‬
‫املسب ِب وفقا للسنة اإللهية‪ ،‬وكال النوعين من النصر مشروط بنصر هللا‪،‬‬ ‫َمظ َّنة ُحصول َّ‬
‫ِ ِ‬
‫فرأيــت أن مفهــوم الس ــبب بحاجــة ملزي ــد مــن البح ــث والتنقيــب لتجليت ــه‪ ،‬وبينــت الف ــرق بــين األعم ــال والتكــاليف التــي‬
‫خوطبوا بها‪ ،‬وفرض األخذ بها‪ ،‬وفرض القيام بها على وجهها‪ ،‬ودراسـة سـننها املجتمعيـة اإلنسـانية التاريخيـة‪ ،‬للقيـام بهـا‬
‫بصورة تبري الذمة‪ ،‬وتحقق مرضاة هللا تعالى‪ ،‬ويتضمن ذلك‪ :‬حسن تنظيم األنظمة السننية املجتمعية التي تتعلق بها‪،‬‬
‫والتي توقع في مظنة تحقيق شروطها التي يتنزل النصر من هللا بشرط تحقيقها‪ ،‬وبين نتيجته املرجْْوة‪ :‬النصْْر‪ ،‬وأنْْه ال‬
‫أسباب له‪ ،‬وإنمْْا هْْو مشْْرو ‪ ،‬وينزلـه هللا تعـالى بصـور متعـددة سأقتصـر فـي هـذه املقدمـة علـى صـورة منهـا وهـي‪ :‬إهـالك‬
‫األقـوام وتـدميرهم كمـا فعـل بقـوم نـوح ولـوط وصـال وهـود وشـعيب علـيهم سـالم هللا‪ ،‬وهـذه الصـورة لـم تكـن علـى صـورة‬
‫ُ‬
‫هدايتهم كنتيجة للتبليغ‪ ،‬أو تمكين الدين وتحكيمه في الحياة كما هي وظيفة الكتب والرساالت‪ ،‬فهذه صورة نصر النبي‬
‫عل ــى قوم ــه‪( ،‬وس ــنورد الص ــور األخ ــرى ف ــي موض ــعها م ــن البح ــث إن ش ــاء هللا تع ــالى)‪ ،‬والش ــاهد فيه ــا أن النبــي ق ـام باألعم ــال‬
‫السببية لتبليغ الدعوة وهداية الناس بالرساالت بغية تحكيم الكتاب‪ ،‬وقـام بهـذه األعمـال السـببية علـى أتـم وجـه‪ ،‬ولـم‬
‫ينتج عنها تحقق نتيجتها في الواقع‪ ،‬إنما اختار هللا صورة للنصر تمت بإهالك عدوهم وتدميرهم‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫م ــن هن ــا ينبغــي التفري ــق ب ــين‪ :‬أعم ـال حمل ــة ال ــدعوة للتغيي ــر‪ ،‬والتــي يج ــب أن تخض ــع للس ــببية وللس ــننية املجتمعي ــة‪،‬‬
‫فتصــمم األنظمــة الســبببية الصــحيحة إلحــداث التغييــر‪ ،‬وتعمــل وفقــا لهــا‪ ،‬وفقــا لنظــام الوجــود الــذي نظــم هللا الوجــود‬
‫علي ــه م ــن س ــنن مجتمعي ــة إنس ــانية تاريخي ــة‪ ،‬وب ــين نتائجه ــا‪ ،‬وذل ــك ألن ــه م ــع أن غاي ــة ه ــذا النظ ــام الس ــببي ه ــو إح ــداث‬
‫التغيي ــر‪ ،‬أي االس ــتخالف والتمك ــين واألم ــن والنص ــر‪ ،‬إال إنن ــا وج ــدنا أن ه ــذه الغاي ــة ليس ــت مم ــا ت ــرك هللا ش ــأنه للبش ــر‬
‫يفعلونه هم‪ ،‬أو يحدثونـه هـم‪ ،‬بـل اخـتص ذاتـه العليـة بشـأنه‪ ،‬فهـو تعـالى الناصـر‪ ،‬كمـا أنـه الـرازق‪ ،‬فلـم يتـرك للبشـر أن‬
‫يرزقوا أنفسهم‪ ،‬وال أن يرزق بعضـهم بعضـا‪ ،‬بـل اخـتص ذاتـه العليـة بـأمر الـرزق ينزلـه متـى شـاء ملـن شـاء وبالصـورة التـي‬
‫اشـ ــاء ‪ ،‬واشـ ــترط السـ ــعي وسيحاسـ ــب عليـ ــه‪ ،‬وكـ ــذلك النصـ ــر‪ ،‬اشـ ــترط فيـ ــه نصـ ــرة هللا‪ ،‬وأمـ ــر باتبـ ــا منهجـ ــه وطريقتـ ــه‬
‫باالقتـداء بسـنة نبيـه ﷺ‪ ،‬وبالتــالي فـإن مـن يصــمم األنظمـة السـببية ويقــوم باألعمـال اعلـم أن نتيجــة هـذا العمـل ليســت‬
‫ُ‬
‫مترتبــة عل ــى فعل ــه ه ــو ترتي ــب الس ــبب وامل َسـ َّبب‪ ،‬ب ــل ترتي ــب الش ــرط أو الحال ــة‪ ،‬يتوس ــل بهــا إل ــى تحقي ــق ه ــذه الغاي ــات‪ ،‬م ــع‬
‫اإليمان املطلق بوعد هللا وأنه ناصر دينه‪.‬‬
‫لــذلك اقت ـ ى األمــر هــذه املراجعــة الثالثــة للكتــاب‪ ،‬فــأفردت لبحــث النصــر والتمكــين واالســتخالف‪ ،‬مقرونــا ببحــث‪:‬‬
‫التوك ْْل واألخ ْْذ باألس ْْباب‪ ،‬والقض ْْاء والق ْْدر‪ ،‬والنص ْْروال ْْرزق واإلحي ْْاء واإلمات ْْة‪ ،‬والنف ْْع والض ْْر‪ ،‬ف ْْي ظ ْْل ق ْْانون‬
‫السْْببية لعالقتـه الوثيقــة بهــا فصـال ـكـامال جديــدا‪ ،‬ثْْم نقلتْْه لكتْْاب خْْاص بْْه فْْي تفصْْيالته‪( ،‬هْْو هْْذا الكتْْاب يجلــي‬
‫هـذه املفــاهيم ويـدقق فيهــا‪ ،‬وأعـدت صــياغة بعــض فصـول الكتــاب التـي ـكـان هــذا املعنـى فيهــا غامضـا‪ ،‬خصوصــا وأن هــذا‬
‫البحـث الجديــد جديــد غيـر مســبوق‪ ،‬ممــا اسـتدعي النظــر العميــق املســتنير فيـه‪ ،‬لتقديمــه لألمــة بمـا ينيــر بصــائرها بــإذن‬
‫هللا تعــالى‪ ،‬وهللا تعــالى املوفــق وهــو الهــادي‪ ،‬نســأل هللا أن اعلمنــا مــا ينفعنــا‪ ،‬وأن ينفعنــا بمــا علمنــا‪ ،‬وينيــر بصــائرنا للحــق‬
‫ويرشدنا إليه‪.‬‬
‫في السادس من شهر تموز للعام ‪ 2018‬م‪ ،‬املوافق ‪ 21‬من شهر شوال ‪ 1439‬ه‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫مقدمة ال بد منها لفهم الكتاب‬
‫لقـد أقـام هللا سـبحانه وتعــالى الكـون وفـق نظــام محكـم‪ ،‬سـواء مـا تعلــق بالشـق الكـوني‪ /‬الفيزيــاوي مـن قـوانين صــارمة‬
‫كقانون الجاذبية‪ ،‬أو ما تعلق بالشق اإلنساني‪ /‬املجتمعي من أنظمـة ونـواميس صـارمة سـماها فـي القـرآن الكـريم‪ :‬سـننا‪،‬‬
‫لـن تجــد لهـا تبــديال‪ ،‬ولـن تجــد لهــا تحـويال‪ ،‬وأمــر بـالنظر فيهــا ودراســتها‪ ،‬ويمكـن اســتنباطها باالسـتقراء الصــحيح للتــاريخ‪،‬‬
‫وسنطلق عليها اسم السنن التاريخية‪.‬‬
‫وبالنظر وبدراسة نظام الكون وجدنا ثالثة أنوا من السنن‪:‬‬
‫‪ )1‬السنن الكونية (الفيزيائية)‪ )2 ،‬والسنن التاريخية (اإلنسانية‪ /‬املجتمعية)‪ )3 ،‬والسنن اإللهية!‬
‫والســنن التاريخيــة (املجتمعيــة‪ /‬اإلنســانية) هــذه تحكــم تــدافع النــاس بعضــهم بعضــا فــي هــذه الحيــاة الــدنيا! فيغلــب‬
‫القوي‪ ،‬ويغلب من أخذ باألسباب ويصل ملبتغاه!‬
‫وأما السنن اإللهية‪ ،‬فلها أسبابها أيضا‪ ،‬وتكون عاقبتها انتصـار الحـق علـى الباطـل‪ ،‬وإقامـة العـدل فـي الـدنيا‪ ،‬ومـا إلـى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ذلك! فتكون نتيجة التدافع بين النـاس هـي غلبـة الحـق ال غلبـة القـوي! ﴿ َقـ َ َّ َ َ ُ ُّ َ َ َّ‬
‫ّللا كـم ِمـن ِفئـة‬ ‫ال الـ ِذين يظنـون أن ُهـم ُّمالقـو ِ‬
‫الصابر َ‬
‫ين﴾ ‪ 249‬البقرة‪.‬‬ ‫َقل َيلة َغ َل َب ْت ف َئة َكث َيرة بإ ْذن ّللا َو ُ‬
‫ّللا َم َع َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وص ــحابة رس ــول هللا ﷺ ح ــين خ ــالفوا ع ــن طاع ــة الرس ــول ﷺ ف ــي غ ــزوة أح ــد‪ ،‬ارتفع ــت ع ــنهم س ــنة النص ــر اإللهي ــة‪،‬‬
‫لتخلفهم عن بعض أهم شروطها‪ ،3‬وخضعوا للسنة اإلنسانية الثابتة في انتصار القوي على الضعيف‪ ،‬انتصار من اعد‬
‫الع ــدة أفض ــل‪ ،‬س ــواء الع ــدة الحربي ــة م ــن عت ــاد وجن ــد وس ــالح‪ ،‬أو الخط ــة والحنك ــة‪ ،‬فكان ــت الغلب ــة لع ــدوهم! ق ــال تع ــالى‬
‫ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ُ َ ْ َ َ‬
‫األ َّي ُام ُن َداو ُلها َب ْي َن َّ‬
‫اس﴾ [آل عمـران‪،]140/‬‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ِ‬ ‫يصف ذلك املوقف‪ِ ﴿ :‬إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح ِمثله و ِتلك‬
‫فس ــماهم بالن ــاس‪ ،‬وع ــد م ــا حص ــل له ــم ف ــي غم ــار م ــا يحص ــل للن ــاس ف ــي مث ــل تل ــك املواق ــف! فخض ـعوا ب ــذلك للس ــنن التــي‬
‫يخضع لها سائر الناس‪ ،‬لعدم استحقاقهم حصولهم على السنة اإللهية في ظل عدم طاعتهم للرسول ﷺ‪.‬‬
‫املسب ِب أي النتيجة أو‬ ‫وقد وجدنا بالدراسة واالستقراء؛ أن السنن التاريخية تتطلب األخذ بأسباب معينة لحصول َّ‬
‫ُ‬
‫املعلــول‪ ،‬أو تتطل ــب تص ــميما ألنظمــة س ــببية تتفاع ــل فيه ــا األســباب م ــع الش ــروط والح ــاالت والطــرق إلنت ــاج امل َس ـ َّب ِب وأم ــا‬
‫السنن اإللهية فإنها تتطلب األنظمة السببية ذا ها‪ ،‬التي اقتضتها السنن التاريخية‪ ،‬وقد تحدد بعض الطرق أو الحاالت‬
‫أو الشروط التي تقتضيها أو تسمح بها تلك األنظمة‪ ،‬دون غيرها من الطرق‪ ،‬وتمنع األخرى‪ ،‬مع أن سلوك أي من الطـرق‬

‫‪ 3‬ولسائل أن اسأل‪ :‬فهل هذا اعني أن املسلمين لن ينتصروا إال إذا لم يرتكبوا أي خطأ أو معصية؟ فنجيب بأن عصر الصحابة امتاز عــن عصــرنا بأنــه أشــبه مــا‬
‫ُ َ َّ َ ُ ْ َ‬
‫ض َبط تعييرا دقيقا‪ ،‬وضبطا محكما ليصل للوزن في كل‬ ‫يكون بامليزان الذي يراد له أن استعمل على مر الزمان وفي أي مكان‪ ،‬فال بد لهذا امليزان من أن اعـيـر وي‬
‫َّ‬
‫ظرف‪ ،‬فلان أتاهم النصر مع املعصية وإن َدقت! فإن هذا قــد يفــتح املجــال ملــن بعــدهم فــي أن استســيغوا املعصــية‪ ،‬وقــد يتســع الشــق علــى الراتـق! فكــان ال بــد أن‬
‫يكــون التعامــل مــع الصــحابة صــارما جــدا‪ ،‬بحيــث يكونــون حجــة علــى مــن جــاء بعــدهم‪ ،‬فــال يتصــور أن يتحــول املســلمون إلــى مالئكــة ليســتحقوا النصــر‪ ،‬ومــع ذلــك‬
‫ففي قصة طالوت وجالوت عبرة مهمة إذ إن طالوت رفــض أن يصــحب معــه مــن عصــاه فشــرب أكثــر مــن غرفــة اليــد‪ ،‬ألن أمثــالهم ال يصــلحون الســتجالب النصــر‬
‫من هللا!‬
‫‪18‬‬
‫والح ــاالت يمك ــن أن يف ـ ي للغاي ــة‪ ،‬بتفعي ــل الطاق ــة الس ــببية أو التفاع ــل معه ــا إلنت ــاج املعل ــول مت ــى م ــا ارت ــبط املعل ــول‬
‫بالســبب‪ ،‬أو للقي ــام بالعم ــل عل ــى وجهــه أخ ــذا بأس ــبابه ح ــين ال يكــون املعل ــول مرتبط ــا بتل ــك األســباب‪ ،‬فنص ــر الح ــق عل ــى‬
‫الباطل غيـر معلـول باألسـباب‪ ،‬ومـع ذلـك فالعمـل نفسـه أي الصـرا بـين الحـق والباطـل خاضـع ألسـباب ينبغـي القيـام بهـا‬
‫ليقوم العمل على وجهه الصحيح املف ي لرضا هللا وطاعته‪ ،‬والقيام باملشروط من نصرته‪ ،‬استجالبا لنصره وتمكينه‪.‬‬
‫ويكــون تجســيدا لألخــذ باألســباب إلنجــاح العمــل وفقــا للســنن التاريخيــة‪ ،‬إال أن الســنن اإللهيــة تقت ـ ي تلــك الطــرق‬
‫َ‬
‫تحديـدا‪ ،4‬فالســنن اإللهيــة تشـترط وتســمح وتمنــع‪ ،‬وتشــق طريقـة معينــة ال ترت ـ ي ســواها‪ ،‬وتش ِـك ُل عمليــة التفاعــل بــين‬
‫عناصر النظام السببي بقالب معين‪ ،‬وشكل معـين مـن أخـذ بـه اسـتحق الرضـا والقيـام بشـرط نصـرة هللا‪ ،‬بالتزامـه‪ ،‬حتـى‬
‫وإن ضعف جانبه وفق األنظمة السببية التاريخية‪.‬‬
‫إن هللا تعــالى جعــل إلقامــة الــدول وتغييــر املجتمعــات وإيجــاد الـرأي العــام فيهــا‪ ،‬وتحولــه ألعـراف وقــيم‪ ،‬ومــا إلــى ذلــك‪،‬‬
‫جعــل ل ــذلك كل ــه ســننا تاريخي ــة مجتمعي ــة ال تحــا ي أح ــدا‪ ،‬تنطب ــق علــى املس ــلمين وعل ــى الكفــار‪ ،‬مط ــردة منعكس ــة‪ ،‬فه ــي‬
‫بمثابـة القــوانين أو النــواميس التــي ينبغـي ســلوكها إلقامــة الــدول بشـكل صــحيح قابــل للبقــاء‪ ،‬ومـن لــم يتبعهــا‪ ،‬فقــد يقــيم‬
‫دولـة ولكنهـا سـتكون هشـة ولـن تعتمـد علـى العالقـات الطبيعيــة بـين الراعـي والرعيـة‪ ،‬لـن تكـون دولـة تمثـل إعطـاء الرعيــة‬
‫س ـلطانهم ال ــذي يمتلك ــون لح ــاكم يحكمه ــم وف ــق منظوم ــة أحك ــام ارتض ــوها‪ ،‬وال تك ــون الرعي ــة س ــندا طبيعي ــا للح ــاكم‪،‬‬
‫فيضطر الحاكم إذ يخالف السنة املجتمعية تلك أن يقيم ملكا جبرية وحكما متجبرا استند لقوى خارجية‪ ،‬ثم ما يلبث‬
‫حكمه أن ينهار وال اعيش حياة طبيعية آمنة في مجتمعه الذي يحكمه‪ ،‬بمخالفته للسـنن املجتمعيـة إلقامـة الـدول‪ ،‬أمـا‬
‫مـن سـلك تلـك السـنن املجتمعيـة فسـيقيم دولـة قابلـة لالسـتمرار‪ ،‬تـؤدي وظيفتهـا الرعويـة‪ ،‬وتطبـق النظـام الـذي وجـدت‬
‫من أجل تطبيقه كما يجب أن تكون الدولة!‬
‫فـإذا مــا أضــاف للسـنن التاريخيــة‪ /‬املجتمعيــة تلـك الشــروط التــي أوجبتهـا الســنن اإللهيــة‪ ،‬كانـت دولتــه دولــة إســالمية‬
‫عاملية أذن هللا تعالى بنصرها وتحقيقها وإقامتها وتمكينها‪ ،‬في ظل الهجمة الشرسة من الكفر وأنظمته التي تسـهر الليـل‬
‫والنهار في عمل دُوب يحاول منع قيامها‪،‬‬
‫فهــذه الســنن اإللهيــة تتمث ــل فــي طريقــة الرســول ﷺ ف ــي التغييــر‪ ،‬والتــي تشــكل أحكام ــا شــرعية عمليــة واجبــة االتب ــا ‪،‬‬
‫وهــذه األحكــام تأخــذ باالعتبــار تلــك الســنن املجتمعيــة‪ ،‬وال همــل شــيئا منهــا‪ ،‬وتضــيف إليهــا األخــذ بحــاالت وشــروط وطــرق‬
‫إضـافية‪ ،‬مهمـة مثـل الصـبر علـى االبــتالء‪ ،‬والثبـات‪ ،‬والعمـل فـي جـو إيمـاني‪ ،‬ومــا إلـى ذلـك! أو تفصـل فـي الطـرق املســموحة‬
‫واملمنوعة كما أسلفنا!‬

‫‪ 4‬فمثال‪ :‬تقت ي السنن التاريخية األخذ بحــاالت تســتعمل فيهــا القــوة إليصــال الفكــرة للحكــم‪ ،‬بعــد حصــول القناعــات بهــا مــن قبــل املجتمــع‪ ،‬فقــد تســتعمل القــوة‬
‫املادي ــة للوص ــول للحك ــم طريق ــة م ــن ط ــرق تتص ــل باألخ ــذ بأس ــباب التغيي ــر التاريخي ــة لتفعيله ــا‪ ،‬مث ــل القي ــام ب ــالثورة أو ب ــاالنقالب العس ــكري‪ ،‬وق ــد تمن ــع األس ــباب‬
‫اإللهية القيام باألعمال املادية طريقة لتفعيل تلك األسباب والشروط‪ ،‬وتسلك طريقا أخرى‪ ،‬لتفعيل عين األسباب‪ ،‬فهي تحدد ما يجوز وما ال يجوز!‬
‫‪19‬‬
‫فكما أن املسلمين ‪ -‬بوضعهم الحالي‪ ،‬من قلة في اإلمكانيات‪ ،‬والتفكك والضعف‪ -‬غير قادرين على أن ينتصـروا علـى‬
‫أعداء األمة من الشرق والغرب ممن جمعوا لألمة خيلهم وركابهم‪ ،‬وذلك وفق ما تقتضيه السنن التاريخية‪ /‬املجتمعية‪،‬‬
‫إال أن تقــوم األمــة باألخــذ باألســباب اإللهيــة للنصــر فــي املعركــة‪ ،‬فحــين ذلــك فقــط ستنتصــر األمــة علــى أعــدائها تحقيقــا‪،‬‬
‫مهما بلغت قوة أعدائها‪ ،‬فلو توحدت ملا انهزمت‪ ،‬ولـو نصـرت هللا لنصـرها‪ ،‬وهكـذا‪ ،‬وكـذلك األمـر‪ ،‬فـإن األمـة إذا أخـذت‬
‫بالسنن اإللهية املتمثلة بطريقة التغيير التي سار عليها املصطفى ﷺ‪ ،‬فإنها ستقيم الدولة ويتنزل عليها نصـر هللا تعـالى‪،‬‬
‫مهما اشتدت وادلهمت الخطوب ومهما بلغ من كيد أعداء األمة لها‪ ،‬وما لم تأخـذ بالسـنن اإللهيـة‪ ،‬فإنهـا لـن تقـيم دولـة‪،‬‬
‫ولن تنهض وستبقى في واد سحيق تتخطفها األمم‪ ،‬وتتداعى عليها كما تتداعى األكلة إلى قصعتها‪ ،‬وفقا لسنة التدافع بين‬
‫األمم!‬
‫التغييربين طريقة الرسول ﷺ والسنن التاريخية‬
‫وال بد من اإلشارة املهمة هنا أن في طريقة إقامة الدولة نوعان من البحث‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬أحكام شرعية تقتضيها طريقـة الرسـول ﷺ فـي التغييـر‪ ،‬تؤخـذ علـى أنهـا أحكـام شـرعية علـى الوجـه الـذي يقـع‬
‫اإلجتهاد فيها عليه‪ ،‬ففرضها فرض‪ ،‬ومندوبها مندوب وهكذا‪ ،‬وقطعيها قطعي‪ ،‬ال يص االختالف فيه‪ ،‬وظنيهـا ظنـي‪ ،‬ممـا‬
‫يجــوز تعــدد االجتهــادات الشــرعية التــي تتبــع مــنهج األصــول فــي االجتهــاد فيــه‪ ،‬وهــذا يمثــل القســم األول مــن البحــث‪ ،‬وكمــا‬
‫أسلفنا في املقدمة فهذا من األخذ بالسنن اإللهية في التغيير‪.‬‬
‫وثانيهم ــا‪ :‬ال بحـ ــث ف ــي التعريفـ ــات‪ ،‬ومعرفـ ــة واق ــع الدولـ ــة‪ ،‬واملجتمـ ــع‪ ،‬والح ــزب‪ ،‬والبحـ ــث فيمـ ــا تقتض ــيه سـ ــنن تغييـ ــر‬
‫املجتمعــات والتفاعــل معه ــا‪ ،‬وإقامــة ال ــدول‪ ،‬وبنــاء األحـزاب‪ ،‬وتكتله ــا‪ ،‬ومــا يلزمه ــا لتحقيــق غايا هــا‪ ،‬والت ــدافع بــين األم ــم‪،‬‬
‫وصـ ـ ـ ـرا الحـ ـ ـ ــق مـ ـ ـ ــع الباطـ ـ ـ ــل‪ ،‬ممـ ـ ـ ــا تقتضـ ـ ـ ــيه الس ـ ـ ـ ــنن اإللهيـ ـ ـ ــة والسـ ـ ـ ــنن التاريخيـ ـ ـ ــة (بشـ ـ ـ ــقيها‪ :‬الكـ ـ ـ ــوني‪ /‬الفيزي ـ ـ ـ ــاوي‪،‬‬
‫واملجتمعي‪/‬اإلنساني)‪ ،‬وهذه السنن التاريخية تنطبق علـى املسـلم والكـافر‪ ،‬ثابتـة مطـردة منعكسـة‪ ،‬ال تحـا ي أحـدا‪ ،‬لهـا‬
‫أسباب وأنظمة سببية ينبغي دراستها واألخذ بها‪ ،‬تم ي وفق نظام السببية‪ ،‬مما نظم هللا الوجود عليها‪ ،‬وسـنلقي عليهـا‬
‫إضاءات مطولة إن شاء هللا في فصل مستقل يتناولها‪ ،‬وهو القسم الثاني من البحث‪.‬‬
‫عل ــى أنن ــا وج ــدنا أن طريق ــة الرس ــول ﷺ تتط ــابق م ــع الس ــنن التاريخي ــة س ــواء ف ــي األبح ــاث األساس ــية للطريق ــة‪ ،‬أو ف ــي‬
‫الجزئيات (نعني باألبحاث األساسية‪ :‬املراحل الثالث لتغيير املجتمع‪ ،‬وما تضمنته من أعمـال أساسـية‪ :‬كحمـل الـدعوة‪،‬‬
‫ص ـد الفئ ــات الق ــادرة عل ــى‬ ‫والص ـرا املب ــدوي ب ــين الح ــق والباط ــل (الص ـرا الفك ــري والكف ــاح السياس ـ ي)‪ ،‬والتثقي ــف‪َ ،‬وت َق ُّ‬
‫ف ــرض التغيي ــر ف ــي املجتم ــع‪ ،‬وم ــا كــان م ــن ه ــذا القبي ــل م ــن األعم ــال)‪ ،‬ووج ــدنا أنه ــا ش ــكلت النظ ــام الس ــببي ال ــذي تقتض ــيه‬
‫السنن التاريخية بقالب خاص باملسلمين اسـتجلب لهـم النصـر والتمكـين واالسـتخالف حتـى وإن كـانوا مستضـعفين مـن‬
‫قبل‪ ،‬فسلوكها ضرورة حتمية‪ ،‬ومخالفتها هاوية سحيقة!‬

‫‪20‬‬
‫وحي ــث إن هللا تع ــالى ق ــد أمرن ــا بالبح ــث ف ــي الس ــنن اإللهي ــة والتاريخي ــة الس ــتنباطها واس ــتعمالها‪ ،‬وق ــد وج ــدنا ف ــي ه ــذه‬
‫الس ــنن أيض ــا متعلق ــات بجزئي ــات تحقي ــق األبح ــاث األساس ــية‪ ،‬كاألس ــباب ال ــالزم أخ ــذها لتبلي ــغ ال ــدعوة‪ ،‬فتبلي ــغ ال ــدعوة‬
‫عم ــل أساس ـ ي‪ ،‬ول ــه جزئي ــات منه ــا م ــثال الدعاي ــة والت ــرويج واإلع ــالن‪ ،‬وأس ــاليب املخاطب ــة‪ ،‬وكالبح ــث ف ــي أس ــاليب مواجه ــة‬
‫التكتيم اإلعالمي‪ ،‬والتشويه الفكري ومواجهته‪ ،‬واملعوقات على الجملة‪ ،‬وكالبحث في طـرق صـناعة الـرأي العـام‪ ،‬وطـرق‬
‫أخــذ قيــادة املجتمعــات‪ ،‬ومــا شــابه‪ ،‬فهــذه األســاليب واألبح ــاث تقت ـ ي األخــذ بأســبابها‪ ،‬ودراس ْْة نوامهس ْْها اإلنس ْْانية‪،‬‬
‫واستعمالها ليكون القيـام باألعمـال األساسـية نا حـا ومؤتيـا للثمـار‪ ،‬أي ليكـون العمـل آخـذا بطرفـي أسـباب السـنن‪ :‬تلـك‬
‫التاريخي ــة‪ ،‬وتل ــك اإللهي ــة‪ ،‬وإال ف ــإن العم ــل م ــن غيره ــا س ــيكون ناقص ــا غي ــر آخ ــذ باألس ــباب‪ ،‬فتتع ــرض الكتل ــة ملخ ــاطر‬
‫اإلخفـاق فــي بلــوا غايا هـا‪ ،‬أو تتــأخر كثيـرا‪ ،‬حتـى وإن ســارت فــي طريقـة الرســول ﷺ املســتنبطة مـن األحكــام الشــرعية شــبرا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بشبر‪ُ ،‬مهملة أو مقصرة فيما يلزم تلك األحكام من أساليب ووسائل لها أسـبابها التـي يتحـتم األخـذ بهـا ليتحقـق فعـال أن‬
‫يكون االلتزام شبرا بشبر!‬
‫لســببين‪ :‬أولهمــا ألن الســنن التاريخيــة ال تحــا ي أحــدا‪ ،‬ومراعا هــا واجــب وحتمــي لتحقيــق الغايــة‪ ،‬فالســنن اإللهيــة لــم‬
‫تغفل السنن التاريخية‪ ،‬بل أضافت لها‪ ،‬وصقلتها‪ ،‬فاتبا السنن اإللهية حتمي وال يكون إال بالتزام الطريقة شبرا بشبر!‬
‫وثانيهما‪ :‬ألن الرسول ﷺ اتبع هذه السنن التاريخية أيضا في األعمال الرئيسية (قلنا‪ :‬السنن اإللهية تضيف لألنظمة‬
‫الســببية التــي تقتضــيها الســنن املجتمعيــة شــروطا وطرقــا وأحــواال وفروضــا أخــرى‪ ،‬ولكنهــا ال همــل األســباب التــي تقتضــيها‬
‫السنن التاريخية‪ ،‬وأنها تفصل وتخصص وتسمح وتمنع)‪.‬‬
‫وكــذلك أخــذ املص ــطفى ﷺ باألســباب التاريخي ــة ف ْْي األعم ْْال الجزئي ْْة بم ــا صــل لواقع ــه مــن أس ْْاليب كاملخاطبــة ف ــي‬
‫األسـ ــواق وعلينـ ــا اسـ ــتنباط األسـ ــاليب الالزمـ ــة لواقعنـ ــا مثـ ــل كيفيـ ــة التـ ــرويج والدعايـ ــة وأفنانهـ ـا‪ ،‬والتعامـ ــل مـ ــع وسـ ــائل‬
‫اتباع ُه في أخذه بالسنن‬ ‫التواصل االجتماعي‪ ،‬وما شابه مما سنفصل فيه إن شاء هللا تعالى في موضعه‪ ،‬فمن اتباعه ﷺ ُ‬
‫ِِ‬
‫التاريخية ونواميسها واستعمالها‪ ،‬واتباعه يمثل أخذا باألسباب التي تستوجب مظنة نزول النصر الذي تحتمـه السـنن‬
‫اإللهية!‬
‫وحتى تطمان باال‪ ،‬وتتعمق فهما‪ ،‬فإن استقراء السنن التاريخية والسـنن اإللهيـة يف ـ ي إلـى أن طريقـة إقامـة الدولـة‬
‫اإلسالمية التي سلكها الرسول ﷺ هي الطريقة الوحيدة التي تف ي لنشوء الدولة نشوءا طبيعيا‪ ،‬وقيامها واستمرارها‪،‬‬
‫وأن أي طريقـة أخــرى تخالفهــا ســتجعل الدولــة متسـلطة جبريــة‪ ،‬أو إنهــا قــد تتفــق فـي التـزام الســنة التاريخيــة وتختلــف فــي‬
‫بعض التفاصيل (الحاالت والشروط والطرق التي بها يمكن تفعيل الطاقة السببية إلنتاج املسبب)‪ ،‬وسنبين لك ‪-‬بـإذن‬
‫هللا تعالى‪ -‬كيف‪،‬‬
‫وعلي ــك أن تنتب ــه إل ــى أن الس ــنن التاريخي ــة ه ــذه اقتض ــت عل ــى س ــبيل املث ــال أن ف ــي كــل أم ــة كيان ــان‪ ،‬كي ــان مجتمعــي‪،‬‬
‫يتمثل باألمة‪ ،‬والعلماء واملفكرين‪... ،‬الخ وكيان تنفيذي يتمثل بالحكومات والجيش والشرطة والوزارات ‪...‬الـخ) فـال بـد ‪-‬‬
‫في الحالة الطبيعية الصـحيحة‪ -‬أن يكـون الكيـان التنفيـذي قائمـا علـى تطبيـق مجموعـة املفـاهيم واملقـاييس والقناعـات‬

‫‪21‬‬
‫التــي عنــد األمــة‪ ،‬وأن تكــون وظيفــة الجــيش حراســة األمــة ونشــر مبــدئها‪ ،‬ووظيفــة الشــرطة الســهر علــى تطبيــق األنظمــة‪،‬‬
‫وهكـذا تكــون العالقــات طبيعيــة‪ ،‬فقيـام مثــل هــذا الكيــان يكــون وفـق ســنن محــددة بدقــة‪ ،‬تتمثـل فــي وجــود قناعــات لــدى‬
‫الن ــاس‪ ،‬ووج ــود ق ــدرة توص ــل ه ــذه القناع ــات للحك ــم‪ ،‬ق ــد تتمث ــل بأه ــل الق ــوة ف ــي املجتم ــع‪ ،‬أو ف ــي األم ــة نفس ــها‪ ،‬فهن ــا ق ــد‬
‫تختلف أمة عن أمة في سبيل إيصال القناعـات للحكـم‪ ،‬فتسـتغل القـوة بصـورة تختلـف عـن مجتمـع آخـر ودولـة أخـرى‪،‬‬
‫ولكن السنة هي هي‪ ،‬فالطريقة الشرعية التي سلكها الرسول ﷺ حددت بدقة السبيل الذي يجب بلوغه لتحقيق قيام‬
‫تلك السنة املجتمعية‪ ،‬فالتزامها واجب ألنها حكم شرعي‪ ،‬ودراسة الطرق األخرى مثل الثورة الفرنسية واألمريكية مثال‪،‬‬
‫والتي استعملت األعمال املادية لتحصيل القوة املطلوبة‪ ،‬يف ي الستكشاف الطرق املختلفة التي تحقق األسباب التـي‬
‫تقتضــيها الســنن التاريخي ــة‪ ،‬ولكــن إن خالف ــت تلــك الط ــرق التــي بلغتهــا أم ــم أخــرى طريق ــة الرســول ﷺ فإنن ــا ال نأخــذ به ــا‪،‬‬
‫ولكننا وإياهم سلكنا عين السنة املجتمعية التي تستوجب قيام قناعات في املجتمع (أفكار روسو وفولتير والعلمانيـة ‪...‬‬
‫عند الفرنسيين‪ ،‬ومفاهيم الحاكمية‪ ،‬والعدل والشورى ‪ ...‬الخ عندنا) ثم تحصيل قوة تبلغ تلك القناعات لدور التنفيذ‬
‫م ــن خ ــالل حكوم ــة‪( ،‬الث ــورة عن ــد الفرنس ــيين‪ ،‬وطل ــب النص ــرة عن ــدنا) فه ــذا األم ــر يج ــب أن يبق ــى م ــاثال ف ــي ال ــذهن حتــى ال‬
‫يف ـ ي لفوب ـ ى فكري ــة ت ــدخل ف ــي طريق ــة التغيي ــر الش ــرعية‪ ،‬والتــي تمث ــل الس ــنة اإللهي ــة التــي أمرن ــا بالتزامه ــا الس ـتحقاق‬
‫النصر والتمكين واالستخالف من هللا تعالى‪ ،‬بطرق أخرى تتماش ى في التزام السنة املجتمعية وتختلف في التفاصيل التي‬
‫يمكن القيام بأسبابها من خاللها!‬

‫‪22‬‬
‫الجزء الثاني من الكتاب‪:5‬‬
‫‪6‬‬ ‫إقامة الدولة واستمرارها في ظل قانون السببية والسنن التاريخية والسنن اإللهية‬
‫توطئة مهمة‪:7‬‬
‫سنقوم في هذا البحث بوضع األسـس السـليمة لبحـث قـوانين السـببية والسـنن اإللهيـة‪ ،‬والسـنن التاريخيـة (بشـقيها‪:‬‬
‫الكوني ــة‪ -‬الفيزيائي ــة‪ ،‬واإلنس ــانية‪ -‬املجتمعي ــة)‪ ،‬لنض ــع الب ــاحثين م ــن بع ــد عل ــى س ــكة قط ــار اس ــير به ــم نح ــو املزي ــد م ــن‬
‫االسـتنباط ألبـرز هـذه النـواميس والسـنن الفاعلـة فـي التغييــر‪ ،‬ملطابقتهـا علـى طريقـة التغييـر‪ ،‬ولدراسـة حركـة املجتمعــات‬
‫ص ــعودا وهبوط ــا بن ــاء عل ــى أسس ــها الراس ــخة‪ ،‬فه ــذا البح ــث اش ــكل بداي ــة الطري ــق ألبح ــاث بع ــده‪ .‬عل ــى أن الح ــزب ق ــام‬
‫باستنباط أكثر هذه السنن والنواميس وجرت في عروقه جريان الدم‪ ،‬فمنها أفكاره في كتاب التكتل الحز ي مثال‪ ،‬ويعتبر‬
‫كتاب التكتل الحز ي الدستور واملرجع األساس ي لنا في سـير الحـزب بنـاء علـى طريقـة الرسـول ﷺ‪ ،‬وبنـاء علـى إدراك سـنن‬
‫التغيي ــر وتج ــارب الحركــات واألحـ ـزاب الت ــي س ــبقتنا واس ــتفادتنا م ــن أخطائه ــا ونواقص ــها‪ ،8‬ومنه ــا م ــا توزع ــت ب ــه نشـ ـراته‬
‫وأعمالــه م ــن بيــان ط ــرق صــناعة ال ـرأي الع ــام وقيــادة األم ــة‪ ،‬والعمليــة الص ــهرية وغيره ــا املئــات م ــن األفكــار‪ ،‬إال أنن ــا نري ــد‬
‫بلورة تلك من خالل زاوية السنن التاريخية واإللهية ليحدث الربط بين األمرين على أتم وجه من الفهم والبحث!‬
‫ال بد عند تغيير أي ش يء أن نحدد واقعه بمعنى تحديد واقع املجتمع‪ ،‬وواقع الدولة‪ ،‬وواقع الكتلة املنـوط بهـا تغييـر‬
‫املجتمع والدولة‪ ،9‬األمر الثاني ال بد لنا من تحديد واقع املشكلة القائمة في املجتمع والدولـة ومعرفـة أسـبابها ونتائجهـا‪،‬‬
‫ثم االنتقال إلى تحديد الحل املناسب بتحديد الغاية واألعمال التي يجب القيام بها للوصول إلى النتائج املرجوة‪،10‬‬
‫توصــلنا فــي هــذا البحــث أنــه مــن أجــل الوصــول إلــى الغايــة‪ ،‬فإنــه باإلضــافة إلــى التـزام الحكــم الشــرعي فــي اتبــا طريقــة‬
‫الرس ـول ﷺ ف ــي التغيي ــر ف ــي كليا ه ــا وجزئيا ه ــا‪ ،‬والتــي س ــن بت ف ــي ه ــذا البح ــث أنه ــا تتواف ــق م ــع الس ــنن اإللهي ــة‪ ،‬والتاريخي ــة‬

‫‪ 5‬كتاب‪ :‬هل حدد الرسول ﷺ طريقة إلقامة الدولة اإلسالمية‪.‬‬


‫‪ 6‬لل تعالى الفضل األعظم والثناء الجميل في إخراج هذا الفصل بهذه الصورة وقد رفدني األستاذ يوسف الساريس ي باملعلومات‪ ،‬واملراجعة‪ ،‬واملراجع‪ ،‬واألفكار!‬
‫‪ 7‬األستاذ يوسف الساريس ي‪.‬‬
‫ُ َّ‬
‫‪ 8‬ورد في نشرة للحزب بعنوان‪" :‬الخطوط العريضة التي أعطاها حزب التحرير للمحامين الذين يترافعون عن شبابه" "كل ذلك دفع ِبخلص واعين من أبناء هــذه‬
‫األمــة العظيمــة إل ــى التفكيــر فــي ه ــذا الواقــع‪ ،‬الــذي آل إلي ــه املســلمون‪ ،‬ودفعه ــم إلــى دراســة ه ــذا الواقــع‪ ،‬ودراسْْة األس ْْباب التْْي أدت إليْْه‪ ،‬ودراس ــة الحركــات الت ــي‬
‫قام ــت إلنق ــاذه‪ ،‬مم ــا وق ــع في ــه‪ ،‬س ْْواء أكان ْْت حركْْات إس ْْالمية أم كان ْْت حركْْات قومي ْْة أو وطني ْْة‪ ،‬ودراس ــة األس ْباب الت ْْي أدت إل ْْى إخفاقه ْْا‪ ،‬وع ــدم نجاحه ــا‪،‬‬
‫ودراسة الحركات الكبرى التي كان لها أثْْرفْْي التْْاريخ‪ ،‬ودراسْْة أسْْباب نجاحهْْا‪ ،‬ودفعهــم إلــى الرجــو إلــى أحكــام اإلســالم‪ ،‬ودراســتها دراســة واعيــة‪ ،‬مــن كتــاب هللا‬
‫وسنة رسوله‪ ،‬واجتهادات فقهاء املسلمين‪ ،‬ودراسة كيفية سير الرسول ﷺ لبناء الكيان السياس ي الذي طبق فيه هذه األحكام" ‪ / 4‬ذي القعدة ‪1403 /‬هـ ـ ‪/ 12‬‬
‫آب ‪1983 /‬م‪.‬‬
‫‪ 9‬وهذا ما قام به الحزب في الكثير من الكتب (التكتل الحز ي) والنشرات‪.‬‬
‫‪ 10‬وهذا األمر قام به الحزب في الكثير من الكتب مثل نداء حار للمسلمين من حزب التحرير‪ ،‬ومفاهيم حزب التحرير‪ ،‬والشخصية‪ ،‬والعديد من النشرات‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫(املجتمعي ــة) ف ــي تغيي ــر املجتم ــع وإقام ــة الدول ــة‪ ،‬فإن ــه ال ب ــد م ــن دوام البح ــث ف ــي الس ــنن التاريخي ــة واس ــتنباطها لألعم ــال‬
‫الجزئية لتنج األعمال األساسية على أتم وجه‪.‬‬
‫وقلنــا ب ــأن األســباب التــي تقتض ــيها الســنن التاريخي ــة قــد تحص ــل بط ــرق متعــددة وق ــد يكــون الش ــار ق ــد حــدد لن ــا أَه ــا‬
‫يمكن سلوكه وأَها يمنع سلوكه! مع أن هذه الطرق جميعا قد تف ي لألخذ باألسباب التي تلزم لقيام السنة التاريخية‪،‬‬
‫إال أن املنع واإللزام الذي قامت به الشريعة يدخل في باب األخذ بالسنن اإللهية وهو ليس مسألة اختيارية!‬
‫َّ‬
‫وتوصلنا إلى سنة أخرى وهي أن الفرد بوصفه الفردي ال استطيع تغيير املجتمع‪ ،‬بل ال بد من حزب منظم على نحو‬
‫صحيح يقوم ببث األفكار وحملها إلى الناس لتغيير الفكر القائم املنحط واستبداله بفكر ناهض‪ ،‬ولهذا ال بد من أقامة‬
‫حزب سياس ي‪ ،‬وكذلك توصـلنا إلـى سـنة النهضـة وهـي أن النهضـة الحقيقيـة تقـوم علـى املبـدأ وأن املبـدأ الصـحيح للنهضـة‬
‫هو اإلسالم‪ ،‬وتوصلنا إلى استنباط طريقة الرسول ﷺ في التغيير كما فصلنا في هذا الكتاب من قبل؛‬
‫فما الذي يدعونا لنكون متأكدين من أن طريقة الرسول ﷺ موصلة حتما للخالفة؟‬
‫الدليل األول واألساس هو االستدالل الشرعي باالستنباط الصحيح للطريقة من سنة الرسول ﷺ‪ ،‬وهنا قام حـزب‬
‫التحرير بإعادة النظر مرات ومـرات ملراجعـة الطريقـة ووجـدها سـليمة وصـحيحة وسـتحقق الغايـة بـإذن هللا تعـالى‪ ،‬وأمـا‬
‫املعيقات فقد تؤخر الوصول للغاية‪ ،‬ولكنها لن تمنـع تحقيقهـا‪ .‬وهـذا االلتـزام بالطريقـة هـو قـوام تحقيـق السـنة اإللهيـة‬
‫التــي تقــع فــي مظنــة تحقيــق شــروط نــزول النصــر وبالتــالي فــإن الحيــدة عــن تلــك الطريقــة تــورد املهالــك أو ال تقــيم الدولــة‬
‫قياما صحيحا طبيعيا!‬
‫األم ــر الث ــاني ال ــذي ي ــدعونا للتأك ــد م ــن الوص ــول ه ــو مراع ــاة الطريق ــة للن ــواميس والس ــنن الفاعل ــة ف ــي تغيي ــر ال ــدول‬
‫واملجتمعات‪ ،‬وتدخيرها إلنجاز الهدف املطلوب واإلسرا به وإزالة العوائق أمام تحقيقه‪ ،‬وهذا ما نحاول طرحه في هذا‬
‫البحـث‪ ،‬والتأصـيل لـه‪ ،‬كـي يكـون تمهيـدا لدراسـات تـأتي مـن بعـد للبحـث فـي العلـل واألسـباب واألسـاليب‪ ،‬وطـرق تفعيلهــا‪،‬‬
‫واملعوقات وطرق إزالتها‪ ،‬حتى نكـون أخـذنا باألسـباب التـي تقتضـيها السـنن التاريخيـة والسـنن اإللهيـة‪ ،‬فيتحقـق الوصـول‬
‫للغاية بإذن هللا تعالى‪ ،‬ويتحقق الوقو في مظنة تنزيل النصر علينا بإذن هللا تعالى‪.‬‬
‫واألم ــر األه ــم ه ــو أن الخط ــة الس ــببية الالزم ــة ف ــي الس ــير للوص ــول إل ــى الغاي ــة ق ــد تك ــون ص ــحيحة ومثالي ــة قب ــل الب ــدء‬
‫بالعم ــل‪ ،‬ولك ــن ال يمك ــن وض ــع خط ــة س ــببية فاعل ــة للموان ــع واملعيق ــات إال إذا كان ـت املوان ــع موج ــودة عن ــد وض ــع الخط ــة‬
‫األساس ــية‪ ،‬ولك ــن العوائ ــق ت ــأتي ‪-‬عموم ــا‪ -‬أثن ــاء الس ــير لتحقي ــق الغاي ــة وال ب ــد م ــن العم ــل عل ــى إزالته ــا‪ ،‬وال ب ــد م ــن اتخ ــاذ‬
‫إجراءات مناسبة للتغلب عليها‪ ،‬فكيف نفعل ذلك؟‬
‫التغل ــب عل ــى العوائ ــق أم ــام الخط ــة الس ــببية يك ــون ببح ــث واق ــع ك ــل ع ــائق ث ــم البح ــث ع ــن األس ــباب الت ــي تزيل ــه أو‬
‫الشروط التي تحبط عمله‪ ،‬ليصبح غير فاعل أمام سير الحزب‪ ،‬وكذلك ال بد من معرفة السنن والنواميس التي تتحكم‬
‫في العوائق ومحاولة استغاللها من أجـل تعطيـل عمـل العوائـق أو تجاوزهـا دون االصـطدام بهـا‪ ،‬فمـثال املالحقـات األمنيـة‬
‫واملخــابرات تحــاول إحبــاط أعمالنــا فنــدرس كيفيــة عملهــا‪ ،‬وكيــف تقــوم بــاختراق الحر ـكـات‪ ،‬والســنن والقــوانين الناظم ــة‬
‫‪24‬‬
‫لعملها ثم نعمل على التغلب عليها‪ ،‬أو تجاوزها‪ ،‬لئال تؤثر في جسم الكتلة وهكذا‪ ،‬وكذلك يحصل التكتيم (أو التشويه)‬
‫اإلعالمي على أعمالنا‪ ،‬فكيف نتجاوز هذا العائق‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫أسباب دنيوية‪ ،‬مدنية‪ ،‬مجتمعية ينبغي دراستها!‬
‫إذن‪ :‬فكيف نتأكد من أننا أخذنا باألسباب الدنيوية للوصـول إلـى الغايـة؟ إن الجـواب يكـون بدراسـة سـيرة النبـي ﷺ‬
‫ودراســة الحر ـكـات الجماعيــة التــي حققــت أهــدافها ووصــلت إلــى النهضــة فــي التــاريخ ومحاولــة فهــم أســباب وآليــات وصــولها‬
‫لننتفــع به ــا‪ ،11‬إن كان ــت تل ــك األس ــباب واآللي ــات جاري ــة علــى أس ــاس الس ــنن التاريخي ــة بش ــكل ص ــحيح‪ ،‬فالس ــنن التاريخي ــة‬

‫‪ 11‬لــرب ســائل يقــول‪ :‬أال يتنــاقض هــذا مــع االقتصــار علــى األخــذ بمــا نــزل بــه الــوحي؟ فنجيــب‪ :‬لقــد فصــلنا فــي بــاب‪ :‬مقدمــة ال بــد منهــا لفهــم الكتــاب فــي العالقــة بــين‬
‫السنن اإللهية والسنن التاريخية (املجتمعية)‪ ،‬وبينا فيه أن السنن اإللهية‪ ،‬وهي هنا تتمثل فــي أحكــام الطريقــة‪ ،‬قــد راعــت الســنن املجتمعيــة وفصــلت فــي األســباب‬
‫واألعمــال والطــرق التــي يمكــن ســلوكها وتلــك التــي ال يمكــن اســتعمالها فــي طريقــة التغييــر‪ ،‬فهنــاك إذن جــامع مشــترك بــين الســنن املجتمعيــة اإلنسـانية الثابتــة وبــين‬
‫الس ــنن اإللهي ــة الت ــي بن ــت عل ــى تل ــك الس ــنن وخصص ــت وأوجب ــت ومنع ــت وص ــقلت تل ــك الس ــنن وف ــق طريق ــة ثابت ــة‪ ،‬ل ــذلك فه ــذا يض ــمن ع ــدم إدخ ــال م ــا ل ــيس م ــن‬
‫الطريقة فيها‪.‬‬
‫أم ــا الخش ــية م ــن األخ ــذ م ــن الش ــرق أو الغ ــرب واالس ــتفادة م ــن حركــات التغيي ــر العاملي ــة‪ ،‬فعن ــدنا الض ــوابط الالزم ــة لألخ ــذ والت ــرك‪ ،‬م ــن خ ْْالل مقي ْْاس الحض ْْارة‬
‫واملدنيْْة‪ ،‬والنظــر فــي األعمْْال التْْي قْْد تحقْْق وجْْود األسْْباب‪ ،‬فمــن هــذه األعمــال مــا منعتْْه الطريقْْة الشْْرعية‪ ،‬فــال يؤخــذ بــه‪ ،‬ومنهــا مــا حددتــه بدقــة فيجْْب‬
‫التزامه على وجهه‪ ،‬وهكذا‪،‬‬
‫وكْْذلك األم ْْرفْْالتفريق ب ْْين الطريق ْْة وهْْي ثابت ْْة ال تتغيْْر‪ ،‬ال تؤخ ــذ إال م ــن الــوحي‪ ،‬وب ْْين الوسْْائل واألس ْْاليب وه ــي مباحــة‪ ،‬فاألخ ــذ بتقنيــة الرادي ــو واس ــتعماله‬
‫إلذاعــة خطبــة لــيس إال مــن الوســائل املباحــة‪ ،‬واســتعمال تقنيــات وســائل االتصــال االجتمــاعي أمــر مبــاح مــن األســاليب املباحــة للتخاطــب‪ ،‬فــال تعــارض‪ ،‬وهــو مــن‬
‫املدني ــة ول ــيس م ــن الحض ــارة‪ ،‬وق ــد ت ــم التفري ــق بينهم ــا بدق ــة‪ ،‬فاألش ــكال املدني ــة مث ــل الحاس ــوب والرادي ــو واملواق ــع االلكتروني ــة م ــن األش ــكال املدني ــة الت ــي ال ت ــؤثر‬
‫بالحضارة‪ ،‬وهي عاملية يجوز أخذها‪،‬‬
‫وك ــذلك الس ــنن التاريخي ــة الت ــي تحك ــم حرك ــة املجتمع ــات أمرن ــا هللا تع ــالى بدراس ــتها واالس ــتفادة منه ــا ألنه ــا ن ــواميس أودعه ــا هللا تع ــالى ف ــي الك ــون واإلنس ــان والحي ــاة‬
‫واملجتمعــات وأمرنــا باســتنباطها واألخــذ بهــا‪ ،‬فســنة التــدافع بــين الحــق والباطــل ســنة مجتمعيــة خالــدة ذكرهــا هللا تعــالى فــي القــرآن وبـ َّـين نواميســها وأســبابها وأمرنــا‬
‫بدراستها لنتفاعل معها على بينة! فهذا من هذا! وقد رأينا تطبيق هــذا فــي األعمــال الجزئيــة الخادمــة لألعمــال الشــرعية الالزمــة للطريقــة‪ ،‬مثــل مــا يتفــر عــن حمــل‬
‫الدعوة من دعاية وإعالن مثال‪ ،‬فالدعاية شكل مدني عام‪ ،‬سواء أكانت دعاية ملنتج يبا ويشترى‪ ،‬أو كان دعاية لفكــرة‪ ،‬فالدعايــة أســلوب‪ ،‬ولهــا تقنيــات ال تغيــر‬
‫مــن طبيعــة الفكــرة‪ ،‬بــل تــدرس اآلليــات التــي تحمــل بهــا الفكــرة‪ ،‬لتبلــغ الطــرف اآلخــر وتــؤدي غرضــها‪ ،‬وهــذا اشــبه االســتفادة فــي الخطابــة مــن املــذيا والحاســوب‪،‬‬
‫فهما آالت وال اغير في مضمون الرسالة شيئا!‬
‫ثــم إن الحــزب درس جميــع الحركــات الجماعيــة املحليــة والعامليــة وذكــر ذلــك فــي كتــاب التكتــل ســنة ‪ ،1953‬وذكــر كيفيــة اســتفادته مــن تجاربهــا عمومــا‪ ،‬فــال مــانع‬
‫مثال من االستفادة من تجربة الثورة البلشــفية فــي مجــال الســنن والقــوانين مْْا دامْْت مْْن املباحْْات وال تخــالف الشــر ‪ ،‬فالشــر أمــر بإقامــة حــزب‪ ،‬ولــم يفصــل فــي‬
‫قوانينه اإلدارية‪ ،‬وال في الشكل األنجع الذي يضمن حســن تكتلــه‪ ،‬بــل تْْرك ذلْْك للسْْنن التاريخيْْة التْْي تحكْْم إقامْْة األحْزاب‪ ،‬فةْْي قْْوانين مجتمعيْْة مدنيْْة‪،‬‬
‫مثل بناء البيوت على أسس ونوافذ وأبواب وجدران‪ ،‬فهي عاملية‪.‬‬
‫وأما فيما يأتي من الغير فيما يخالف الشر فنرفضه‪ ،‬فنحن مثال ال نجيز وجوب جناح مسلح كما تفعل با ي الحركات وخصوصــا اليســارية ألنهــا تخــالف طريقــة‬
‫الرسول ﷺ‪ ،‬ولكننا استفدنا منهم في كيفيــة التكتيــل وكيفيــة تحــول الحــزب مــن كتلــة حزبيــة إلــى حــزب متكامــل‪ ،‬وكــذلك اســتفدنا فكــرة مبدئيــة الصــرا والكفــاح‬
‫السياسـ ي ضــد الخصــوم الفك ـريين والسياســيين‪ ،‬وكــذلك نحــن نقــول بوجــود ســنن وقــوانين تحكــم ســير التغييــر للمجتمعــات والــدول‪ ،‬ولكننــا نخــالف الشــيوعيين‬
‫الذين يقولون بالحتمية التاريخية من حيث إن التاريخ تحكمه قــوانين حركــة التــاريخ التــي تجــري جبـرا عــن النــاس باتجــاه تصــاعدي نحــو التطــور والتقــدم إلقامــة‬
‫املجتمع الرأسمالي ثم املرحلة االشتراكية وانتهاء بالشيوعية‪ ،‬فنرى أن افعال الناس وتصرفا هم لهــا تــأثير فــي ســير حركــة تغييــر املجتمــع وهــي ليســت حركــة جبريــة ‪-‬‬
‫‪25‬‬
‫ُ‬
‫تفهـ ــم باالسـ ــتقراء واالسـ ــتنباط‪ ،‬وليسـ ــت كـ ــل تجربـ ــة تعنـ ــي أنهـ ــا قامـ ــت بنـ ــاء علـ ــى السـ ــنن التاريخيـ ــة‪ ،‬وال شـ ــك أن السـ ــنن‬
‫التاريخيــة تلــك إن كانــت جاريــة علــى أســاس الســببية‪ ،‬فإنهــا ممــا نظــم هللا تعــالى الكــون بنــاء عليــه‪ ،‬ولكْْن تفاصْْيل األخْْذ‬
‫بأس ْْبابها هن ْْا مم ْْا ق ْْد تفت ْْرق في ْْه التج ْْارب اإلنس ْْانية وهن ْْا ي ْْدخل م ْْا يج ْْوزوم ْْا ال يج ْْوز‪ ،‬م ْْا س ْْمحت ب ْْه الطريق ْْة‬
‫الش ْْرعية وم ْْا منعت ْْه‪ ،‬ل ــذلك فهــذا مرتق ــى صــعب‪ ،‬ودقيــق‪ ،‬وينبغــي فيــه ام ــتالك آليــات العقــل والفه ــم والدقــة واالجته ــاد‬
‫الصحيح‪ ،‬واملرجع النهاوي فيه للصواب والخطأ هو قياس األفكار على الوحي وعلى طريقة الرسول ﷺ في التغيير‪.‬‬
‫فمثال توصل حزب التحرير فـي كتـاب التكتـل الحز ـي إلـى سـنة مجتمعيـة وهـي أن التغييـر الفاعـل حتـى يكـون مـؤثرا فـي‬
‫املجتمعات‪ ،‬فإنه يكون فاعال في األماكن التي يكثر فيها الفساد والظلم واإللحاد‪ ،‬حيث يكون الدافع للتغيير لدى الناس‬
‫أ كبر من العمل في املجتمعات املستقرة والخالية من الفساد والظلم‪ ،‬وكـذلك توصـل إلـى أن سـنة أخـذ الحكـم بالتسـلط‬
‫يوج ُد متسلطين علـى رقـاب النـاس فتـرة مـن الـزمن‪ ،‬ولكـن ذلـك لـن يقـيم دولـة حقيقيـة‪ ،‬ولـذلك‬ ‫والقوة دون رب ى الناس ِ‬
‫ال ينف ــع االنق ــالب العس ــكري دون وج ــود ال ـرأي الع ــام‪ ،‬وتوص ــل إل ــى أن املتس ــلطين يلج ــأون إل ــى الس ــند الخ ــار ي لتثبي ــت‬
‫حكمهم‪ ،‬فيكونون عمالء ملن اساندهم من دول الكفر واالستعمار‪.‬‬
‫وتوصــل حــزب التحريــر كــذلك إلــى ضــرورة وجــود برنــامج عمــل تفصــيلي لتنفيــذ املبــدأ عنــد الوصــول للحكــم وال ينفــع‬
‫االرتجــال‪ ،‬فقــام بت ــأليف مجموعــة م ــن الكتــب الالزم ــة للدولــة كالنظ ــام االقتصــادي‪ ،‬واالجتم ــاعي‪ ،‬والحكــم‪ ،‬والدس ــتور‪،‬‬
‫ونظام التعليم‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫فلـيس هـدف الحـزب هـو أخـذ الحكـم‪ ،‬بـل إقامـة الدولـة‪ ،‬فأخـذ الحكـم أمـر أسـهل مـن إقامـة الدولـة‪ ،‬ألنـه يحتـاج إلــى‬
‫أخ ــذ أه ــل الق ــوة بجان ــب الح ــزب‪ ،‬وه ــذا أم ــر ق ــد ي ــتم م ــن خ ــالل االتص ــال ب ــبعض الس ــفارات التــي له ــا ت ــأثير عل ــى الجي ــوش‬
‫فيكـون الوصــول سـهال كمــا فعلـت الكثيــر مــن الحركـات الوطنيــة والقوميـة‪ ،‬ولــيس ذلــك ممـا يفعلــه حـزب التحريــر البتــة‪،‬‬
‫وبالتــالي ال يمكــن مقارنــة األمــرين معــا! ألننــا نريــد بن ْْاء دول ْْة مبدئيْْة و إقام ْْة الحك ْْم عل ْْى فك ْْرة اإلس ْْالم فليســت غايتنــا‬
‫الوصول للحكم بأي وسيلة‪ ،‬بل الحكم هو طريقة لتنفيذ املبدأ وليس هو غاية بحد ذاته‪.‬‬
‫عوائق وعقبات‪ ،‬تقف في طريق الوصول للغاية‪:‬‬
‫ولكن هل تم انجاز املهمة؟ وملاذا تأخرنا حتى اآلن؟‬
‫القضية التتعلق بالفكرة أو الطريقة أو العمل الحز ي‪ ،‬بل تتعلق بدراسة املوانع واملعيقات أمام نشر الدعوة وأخذ‬
‫النصــرة‪ ،‬فبعــد الدراســة وجــد الح ــزب أن مــن أهــم املعيقــات ه ــو حصــار النشــر أمــام أفكــار الح ــزب‪ ،‬ولكــن هــذا األمــر ت ــم‬

‫كما يدعون‪ ،-‬بل اإلنسان فاعل فيها ومؤثر صعودا ونزوال حسب أفكار النهضة واالنحطــاط الفاعلــة فــي املجتمــع والــدول‪ ،‬أي أننْْا نلْْزم اْْحة التصْْوراإلسْْالمي‬
‫أيضا وال ندخل فيه جسما غريبا أو قالبا غريبا للفهم كقالب املرونة وهو قالب رأسمالي مثال‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫فهــذا مــا ينبغــي فهم ــه هنــا فــال يفــتح الب ــاب علــى أهــواء م ــن يريــدون تغييــر الطريقــة وإدخ ــال طــرق مخالفــة للش ــر فيهــا مثــل التغييــر م ــن خــالل مجــالس الن ــواب‪ ،‬أو‬
‫التغيير من داخل األنظمة‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فهذه مخالفة للشر ‪ ،‬وليست من دائرة األساليب املباحــة! وال تشــبه املــذيا والصــحيفة كــأدوات لنقــل الفكــرة! وال يمكــن أن‬
‫يص اجتهاد يقوم عليها بنسبة إلى الشر ِ صحيحة!‬
‫‪26‬‬
‫ً‬
‫التغلْْب علي ْْه نسْْبيا بعــد انتشــار االنترنــت واملواقــع الدعويــة والفضــائيات والجرائــد منــذ أكثــر مــن عشــرين ســنة‪ ،‬ولكــن‬
‫األمر ما زال بحاجة لتحسين فعاليته لتحقيق هدف وصول الفكرة والرأي لكل الناس!‬
‫أمــا مســألة النجــاح فــي طلــب النصــرة فهــذا أمــر بحاجــة إلــى أهــل االختصــاص فــي الجيــوش لبحثــه وإزالــة املعيقــات مــن‬
‫أمامه وهو خارج شأننا وبحثنا هنا على الرغم من أهميته‪ ،‬فليست عندنا تفصيالت تفيد في بحثه‪.‬‬
‫وكذلك ال بد من االنتباه إلى سنة التدافع بين الناس‪ ،‬خصوصا ونحن ال نواجه الحكام والغرب فحسب‪ ،‬بل نواجه‬
‫الكثير من الحركات واألحزاب ومنظمات املجتمع املدني والجمعيات النسوية وغيرها ممن اعمل لهدم ما نبنيه من أفكار‬
‫وشـل عملنـا السياسـ ي وفاعليتنـا‪ ،‬ومزاحمتنـا علــى قيـادة املجتمــع‪ ،‬فكيـف نواجـه هــذا التـدافع مـع هــؤالء؟ ونعـاني كــذلك‬
‫مــن فه ــم بعــض الحركـات السـ يء لالس ــالم‪ ،‬ومحــاولتهم تش ــويه صــورتنا وأفكارن ــا ونــز ثق ــة النــاس بن ــا منــا‪ ،‬وك ــذلك أحيان ــا‬
‫تشويه صورة اإلسالم ككل أمام العالم!‬
‫كذلك ال بد لنا من االنتباه إلى سنة االبتالء والتمحيص للدعوات‪ ،‬وهل صبرنا على اإليذاء‪ ،‬وهل نحن مستمرون في‬
‫السير حسب ما يرب ي هللا؟ ال بد أن تكون الصورة واضحة لحملة الدعوة لفهـم سـنن االبـتالءات والتمحـيص فيجتـازوا‬
‫ص ْرنا دينه؟ أم قصرنا في بعض الجوانب الحزبية أو الفردية مما أخر‬ ‫االمتحان! وهل نستحق تنزل نصر هللا علينا بأن َن َ‬
‫النصر؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بل فوق ذلك‪ ،‬هل تأخرالنصر؟ أم إننا نسيرنحوه سيرا حثهثا‪ ،‬يتناسب مع عظم الغاية‪ ،‬وعظيم املجهود الذي‬
‫ً‬
‫تستوجبه هذه الغاية‪ ،‬فأن توقظ أمة من سباتها‪ ،‬وأن تنفث فيها روحا حْْاول الغْْرب إخمادهْْا بْْاذال فْْي ذلْْك أق ْ ن‬
‫جهْْوده‪ ،‬وأن تصْْنع األسْْس التْْي سْْتقوم عليهْْا الحضْْارة اإلسْْالمية مْْن جديْْد‪ ،‬وأن تواجْْه الشْْرق والغْْرب فْْي هْْذا‬
‫كله‪ ،‬مع كل ما يسخرمن اإلمكانيات إلعاقته ومنعه‪ ،‬على ضعف اإلمكانيات التي تمتلكها إذا ما قهست بما يقابلها‪،‬‬
‫لْْهس بْْاألمرالْْذي يتصْْورحصْْوله فْْي بضْْع سْْنين‪ ،‬فاملقيْْاس إذن سْْيكون‪ :‬كْْم قطعنْْا فْْي شْْو عملنْْا الجبْْار هْْذا‪،‬‬
‫وكم أحدثنا من التغيير؟ ال شك أن األرقام واإلحصائيات التي وثقناها في فصل‪ :‬هل تم بناء الرأي العام املنبثْْق عْْن‬
‫الْْوعي العْْام ف ْْي األمْْة اإلس ْْالمية؟ هْْل ت ْْم إحْْداض االنق ْْالب الفكْْري والش ْْعوري فْْي األم ْْة اإلسْْالمية؟ ف ْْي كتْْاب‪ :‬ه ْْل‬
‫حدد الرسول ﷺ طريقة إلقامة الدولة‪ ،‬مبشرة للغاية‪.‬‬
‫املوضو إذن عميق جدا ومتشعب وبحاجة إلى جهود جبارة وعقول مبدعة لتخطي كل العقبات‪ ،‬من خالل البحث‬
‫عـن السـنن والنـواميس التـي تججـل فـي الوصـول إلـى األهــداف‪ ،‬فـإن نحـن قصـرنا فـي اسـتنباط هـذه السـنن والنـواميس التــي‬
‫تخــص كــل فع ــل وكــل أم ــر وكــل أســلوب‪ ،‬فق ــد نك ــون قصــرنا ف ــي األخ ــذ باألســباب املوص ــلة لأله ــداف‪ ،‬وهنــا التقص ــير ل ــيس‬
‫تقصيرا من الزاوية الشرعية‪ ،‬بـل هـو تقصـير فـي األخـذ باألسـباب الواقعيـة املوصـلة لألهـداف‪ ،‬وهـذه النـواميس ال تحـا ي‬
‫وال تراعي أحدا‪ ،‬بل تنطبق على الجميع مسلما كان أو كافرا!‬
‫أعــان هللا األمي ــر والح ــزب واألم ــة عل ــى القي ــام به ــذه املهم ــات العظيمــة والجليل ــة‪ ،‬وه ــي بحاج ــة إل ــى تش ــمير الس ــواعد ف ــي‬
‫البحث واالستنباط وتنزيل السنن والنواميس بشكل صحيح على الواقع!‬

‫‪27‬‬
‫السنن التاريخية والسببية بين جيلين‪:‬‬
‫ينبغي أن نعلم أن مفهوم السـببية‪ ،‬وال ُّسـ َننية مـن املفـاهيم األساسـية عنـد املسـلمين‪ ،‬ويجـب أن يظـل واضـحا لـدَهم‬
‫ألن رس ــالتهم فـ ــي الحيـ ــاة رسـ ــالة عمـ ــل‪ ،‬ويعيشـ ــون فـ ــي الحيـ ــاة م ــن أجـ ــل غايـ ــة محـ ــددة‪ .‬والسـ ــببية‪ ،‬والسـ ــنن مـ ــن املفـ ــاهيم‬
‫اإلسـالمية التـي تتصـل بسـلوك املسـلم اليـومي‪ ،‬حيـث إنـه ال يتـأتى لـه تحقيـق عمـل مـن أعمالـه اليوميـة دون مراعـاة لهـذه‬
‫القاعـدة‪ ،‬أي قاعـدة السـببية؛ وباملثــل تقـع علـى األمــة اإلسـالمية طـوام عظيمــة إن لـم تتنبـه إلــى السـنن الكونيـة واإللهيــة‪،‬‬
‫وتأخذها باالعتبار‪.‬‬
‫وحــين أدرك املســلمون األوائ ــل فــي عص ــر الصــحابة والت ــابعين وتــابعي الت ــابعين ومــن بع ــدهم مــن أجي ــال النهضــة ه ــذه‬
‫املفــاهيم‪ ،‬ح ــين أدركوه ـا إدراكــا تام ــا وفهموهـا فهم ــا ص ــحيحا مبل ــورا‪ ،‬ومارس ــوها مفهومــا ف ـي تص ــرفا هم وس ــلوكهم حقق ــوا‬
‫أعم ــاال أش ــبه ب ــاملججزات إذا قيس ــت بوقتن ــا الحاض ــر‪ ،‬إذ حمل ــوا اإلس ــالم ونش ــروا دعوت ــه وفتح ــوا الفتوح ــات ف ــي أرج ــاء‬
‫األرض‪ ،‬وأق ــاموا ص ــرح أعظ ــم حض ــارة عرفته ــا البش ــرية ف ــي أس ــر وق ــت م ـ َّـر بت ــاريخ أم ــة م ــن األم ــم م ــع أن وس ــائل االتص ــال‬
‫والتنقل كانت الناقة والبعير على أحسن حال‪.‬‬
‫التاريخ لهس كومة من األحداض!‬
‫"قد يفسر اإلنسان العادي أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من األحداث‪ ،‬وقد يفسرها على أساس الصدفة‬
‫تارة وعلى أساس القضاء والقدر‪ 12‬والقدرية الغيبية‪ ،13‬والتعلل باالستسالم الغيبي ألمر هللا سبحانه وتعـالى تـارة‪ ،‬وكأنـه‬
‫ريش ــة ف ــي مه ــب ال ــريح‪ ،‬ولك ــن الق ـرآن الك ــريم ق ــاوم ه ــذه النظ ــرة العفوي ــة وق ــاوم ه ــذه النظ ــرة االستس ــالمية‪ ،‬و َن َّب ـ َه الق ـر ُ‬
‫آن‬
‫العقل البشري إلى أن لساحة أحداث التاريخ‪ ،‬ولحركة تغيير املجتمعات‪ ،‬وللتدافع بين األمم سنن ولهـا قوانينهـا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الكريم‬
‫وأنها ال تسير خبط عشواء‪ ،‬وأنه لكـي تسـتطيع أن تكـون إنسـانا فـاعال مـؤثرا‪ ،‬ولكـي تكـون األمـة فاعلـة مـؤثرة‪ ،‬البـد لنـا أن‬
‫نكتشف هذه السنن‪ ،14‬البد لنا أن تتعرف على هذه القوانين لكي نستطيع أن نتحكم فيها‪ ،‬وإال تحكمت هـي فينـا ونحـن‬
‫مغمضوا العينين"!‪ 15‬فإدراكها إذن ليس من باب الترف الفكري!‬

‫‪ 12‬راجع فصل‪ :‬القضاء والقدر والنصروالرزق واإلماتة أين يقع بحث السنن والسببية منها؟ في هذا الكتاب!‬
‫‪ 13‬فبدال من العمل على إيجاد اإلسالم في معترك الحياة‪ ،‬واستئناف الحياة اإلسالمية وإقامة الدولة‪ ،‬قعد من قعد بانتظار املهدي!‬
‫‪ 14‬لقد برزت هذه النظرة الصحيحة ملفهوم السنن والسببية في مواطن كثيرة في حياة الرســول ﷺ والصــحابة الكــرام‪ ،‬خصوصــا فــي بــاب االنتقــال مــن التواكــل إلــى‬
‫حقيقة التوكل واألخذ باألسباب‪ ،‬وأنه ﷺ كان اعد للقاء العدو عدة من ال اعتمد إال على هذه األسباب‪ ،‬ومن ثــم بعــد أن يأخــذ باألســباب يتكــل عليــه وكــأن العــدة‬
‫التي أعدها وهذه األسباب ليست بش يء‪ ،‬ولم يكن ﷺ يقعد عن الجهاد مثال ويكتفي بالدعاء حين يكون عليه أن يجاهد‪ ،‬وقد قام ابن خلــدون بمحاولــة لدراســة‬
‫التاريخ وكشف سننه وقوانينه‪ ،‬ثم بعد ذلك بأر عة قرون اتجه الفكر االورو ي في بــدايات مــا اســمى بعصــر النهضــة هــذا االتجــاه‪ ،‬ولكــي يجســد هــذا املفهــوم‪ ،‬بــدأ‬
‫بأبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سنن التاريخ‪ ،‬ونشأت على هذا األساس اتجاهات مثاليــة وماديــة ومتوســطة ومــدارس متعــددة‪ ،‬كــل واحــدة منهــا‬
‫تحاول أن تحدد نواميس التاريخ‪ .‬وقد تكون املادية التاريخية أشهر هذه املدارس وأوسعها تغلغال وأكثرها تأثيرا‪.‬‬
‫‪ 15‬السيد محمد باقر الصدر‪ ،‬بتصرف كبير‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫"وهذا ما تؤكد عليه العقيدة اإلسالمية‪ ،‬حيث بين ملعتنقيها أن حركة التاريخ وسنة التاريخ‪ ،‬إنما تحدث وفـق نظـام‬
‫﴿و َمـا‬‫وتقدير خاص‪ ،‬وكل ما يحدث في الوجود انما يقع في إطار سنة هللا املحكمة بربط األسـباب بمسـببا ها‪ ،‬قـال تعـالى َ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َّ َ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫ض َو َمـا َب ْي َن ُه َمـا ال ِع ِبـ َين﴾ [األنبي ــاء‬ ‫األ ْر َ‬ ‫ض َو َمـا َب ْي َن ُه َمـا ال ِع ِبـ َين﴾ [‪ 38‬الــدخان]‪﴿ ،‬وم ـا خلقنـا السـماء و‬ ‫األ ْر َ‬ ‫ات و‬‫خلقنـا السـماو ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫‪﴿ ،]16‬أف َح ِس ْب ُت ْم أ َّن َما خل ْق َناك ْم َع َبثا َوأ َّنك ْم ِإل ْي َنا ال ت ْر َج ُعون﴾ [‪ 115‬املؤمنون]‪ ،‬فكل ما في الكون لم يخلق عبثا‪ ،‬وكل ما‬
‫يجري في دنيا البشر ليس اعتباطيا‪ ،‬ومن هنا ال سبيل لنهضة األمة إال بمراعاة هذه السنة املطردة‪ ،‬ومراعاة هذه السنة‬
‫يدفع باألمة كي تنطلق في حركتها النهضوية بكل جدية وإخالص‪ ،‬مهتدية في ذلك بهدي هللا تعالى الذي يوجهها إلى النظر‬
‫ف ــي أن أس ــباب انحط ــاط األم ــم وان ــدثارها بعـ ـد رقيه ــا وظهوره ــا إنم ــا ه ــو ناشـ ـ ع ــن إهماله ــا ألساس ــها الفك ــري ومنطلقه ــا‬
‫العقائــدي‪ ،‬ألن النهضــة لألمــم ال تكــون إال بســبب رقيهــا علــى أســاس روحــي‪ ،‬وارتكــاز فيهــا علــى أســاس فكــري عقــدي‪ ،‬ولــيس‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َٓ َ َٓ َ‬
‫﴿و ِإذا أ َر ْدنـا أن ُّن ْه ِلـ َك ق ْرَيـة أ َم ْرنـا‬ ‫علــى أســاس االزدهــار االقتصــادي‪ ،‬والتقــدم العلمــي‪ ،‬والتوســع العمرانــي؛ قــال هللا تعــالى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ُمت َر ِفي َهـا ف َف َسـ ُقوا ِفي َهـا ف َحـ َّق َعل ْي َهـا ٱل َقـ ْو ُل فـ َد َّم ْرَن َها تـ ْد ِميرا﴾ [اإلسـراء ‪ ،]16‬وقـال هللا تعــالى‪﴿ :‬فكـال أخـذنا ِبذن ِبـ ِه ف ِمـ ْن ُه ْم َمـ ْن‬
‫ْ‬
‫ْ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ َّ ُ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ّللا ِل ـ َيظ ِل َم ُه ْم‬ ‫ص ـ ْي َحة َو ِم ـ ْن ُه ْم َمـ ْن خ َس ـ ْف َنا ِب ـ ِه األرض و ِم ـنهم مـن أغرقن ـا ۚ وم ـا كـان‬ ‫أ ْر َسـل َنا َعل ْي ـ ِه َحا ِص ـبا و ِم ـنهم مـن أخذت ـه ال‬
‫َ َّ ْ‬ ‫َ‬
‫ين ِم ـن ق ـ ْب ِل ِه ْم ۚ ك ـذ ُبوا ِبـ ـ َْاي ِت َنا‬ ‫َو َْلك ـ ْن َكـ ُانوا َأ ْن ُف َس ـ ُه ْم َي ْظل ُم ـو َن﴾ [العنكب ــوت ‪ ]40‬وق ــال س ــبحانه ﴿ َك ـ َد ْأب َءال ف ْر َع ـ ْو َن َوٱ َّل ـذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ َّ ُ ُ ُ ْ َ َّ ُ َ ُ ْ‬
‫اب﴾ [آل عمران ‪ ،]11‬فهذه اآليات تبين مـدى التـرابط السـببي بـين تخلـف األمـم‬ ‫فأخذهم ٱلِل ِبذن ِوب ِهم ۗ وٱلِل ش ِديد ٱل ِعق ِ‬
‫وانحطاطهــا وب ــين إعراضــها ع ــن املنطل ــق العقــدي ال ــذي كلفه ــا هللا بــه‪ ،‬وهن ــاك العدي ــد مــن اآلي ــات التــي تــربط ب ــين نه ــوض‬
‫األمم‪ ،‬ورفعتها وحركتها التاريخية‪ ،‬ودورها القيادي‪ ،‬و بين التزامها بعقيد ها وتعيين وجهة نظرها في الحياة على أساسها‪،‬‬
‫ُْ َ ُ ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫وجعل ذلك هو السبب الرئيس في كينونتهـا خيـر األمـم علـى اإلطـالق مـن مثـل قولـه سـبحانه ﴿ َولْ ْو أ َّن أ ْهْ َل ُلقْ َر مى َء َامنْوا‬
‫َ‬ ‫َ ُ ْ ْ‬ ‫َم َ َّ ْ َ َ َ ْ م‬ ‫َ َْ‬ ‫َم س‬ ‫َّ َ ْ َ َ َ َ َ‬
‫ب َول ِك ْن ك ْذ ُبوا فأخ ْذ َ ُهم ِب َم ْا كْانوا َيك ِس ْ ُبون﴾ [األعـراف ‪ ،]96‬فعــدم‬ ‫ِ‬ ‫َوُتق ْ ْوا لفت ْحن ْا َعل ْ ْي ِهم َب َرك ْ لت ِم ْ َن ُل َّس ْ َما ِء َوُأل ْر‬
‫َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫ََ َ َْ‬
‫أخذهم باألسباب التي وضحتها السنن اإللهية لهم أثمر أخذهم بالعذاب‪﴿ ،‬فأخذن ُاهم ِب َما ك ُانوا َيك ِسـ ُبون﴾‪ ،‬والبـاء هنـا‬
‫سببية‪ ،‬فال يص بحال إهمال هذه السنن!‬
‫وهذا هو السر في انطالقة املسلمين األولى‪ ،‬إنما كان بفضل إدراك املسلمين األوائل أن النهضة هي االرتفا الفكـري‬
‫علــى أس ــاس اإلس ــالم‪ ،‬وتعي ــين وجه ــة نظــرهم ف ــي الحي ــاة عل ــى أس ــاس العقي ــدة اإلســالمية‪ ،‬وإقام ــة الدول ــة واألم ــة عل ــى ه ــذا‬
‫األس ــاس نفس ــه‪ ،‬وبن ــاء العالق ــات‪ ،‬وع ــالج مش ــكال هم ف ــي الحي ــاة وف ــق األحك ــام الش ــرعية‪ ،‬وس ــيرهم ف ــي الحي ــاة كله ــا وف ــق‬
‫توجيهات اإلسالم‪ ،‬وتفاعلهم مع العقيدة اإلسالمية التي هدي اإلنسان املؤمن بها للتي هي أقوم في كل أمر من األمور"‪16‬‬

‫وحين طرأت الغشاوات على املفاهيم اإلسالمية‪ ،‬وفقدت ملعانهـا فـي أذهـان املسـلمين املعاصـرين وأجيـاال ممـن قـبلهم‬
‫رمت بهم إلى عصور الظالم واالنحطاط‪ ،‬حين فقد مفهوم السببية وضوحه لدَهم واختلط بمفهوم التوكل؛ فلم يفهموا‬
‫التوكل حق فهمه‪ ،‬وبمفهـوم القـدر والعلـم األزلـي‪ ،‬وقعـدوا عـن تحقيـق رسـالتهم فـي الحيـاة‪ ،‬قعـدوا عـن العمـل‪ ،‬بـل قعـدوا‬

‫‪ 16‬دور السنن اإللهية في نهضة األمة اإلسالمية‪ .‬إحسان سمارة‪ .‬بتصرف‪.‬‬


‫‪29‬‬
‫ع ــن إزال ــة س ــيطرة الكف ــر وه ــم يلمس ــون وج ــوده وخط ــره عل ــى دم ــائهم وأم ــوالهم ومقدس ــا هم وأعراض ــهم يومي ــا‪ ،‬وف ــي كــل‬
‫لحظ ــة م ــن لحظ ــات حي ــا هم‪ .‬وح ــين أهمل ــت األم ــة األخ ــذ بالس ــنن‪ ،‬وبالس ــببية‪ ،‬تخلف ــت األم ــة اإلس ــالمية عس ــكريا وعملي ــا‬
‫وفكريـا واقتصــاديا وسياسـيا وأصــبحت نهبـا بــين دول الكفـر تتقاســم ثروا هـا وخيرا هــا وتدـخر دمــاء املسـلمين للمحافظــة‬
‫على هذه الثروات والخيرات؛ إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اآلن من ترك إسالمها وتساهلها في أبعـاده عـن الحيـاة مـن قبـل‬
‫حكامهــا وتقليــدها للغــرب‪ ،‬بــل ولعشــقها ألفكــاره ومحاكاتــه فــي مظــاهر الحيــاة وقشــورها فظلــت األمــة وال تـزال تنحــدر مــن‬
‫السي إلى األسوأ‪.17‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ح ــين أغفل ــت األم ــة اإلس ــالمية ال ُّس ـن َن الناظم ــة لحرك ــة الت ــدافع ب ــين األم ــم‪ ،‬وغفل ــت ع ــن مقوم ــات قو ه ــا‪ ،‬وأهملته ــا‪،‬‬
‫انحطت من علياء خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬وتردت إلى أن وقعت صريعة االستعمار‪ ،‬وما زالت تحت نيره‪ ،‬وأضحت غثاء‬
‫كغثاء السيل‪!18‬‬
‫وها هي تخطئ ثانية بأنها ال تأخذ بسنن التدافع ثانية وهـي تحـاول إزالـة االسـتعمار عـن صـدرها! ومـا لـم تفهـم السـنن‬
‫الثابتة في نهضة األمم ورقيها‪ ،‬وتأخذ بها‪ ،‬فإنها ستبقى غثاء كغثاء السيل!‬
‫يقول اإلمام الن هاني رحمه هللا‪" :‬فإزالة الدولة املستعمرة عن البالد التي تستعمرها‪ ،‬لها قوانين ونوامهس‪ ،‬وهي أن‬
‫تكـون لـدى مـن اعملـون إلزالتهـا‪ ،‬القـوة املاديـة التـي تتغلــب علـى قواهـا املاديـة‪[ ،‬أي علـى القـوى املاديـة للمسـتعمر] والقــوة‬
‫الفكرية التي تمكنها من إدراك األحابيل‪ ،‬وإدراك معنى القوة املادية‪[ .19‬أي استغالل القوى الفكريـة لفهـم مـواطن القـوة‬
‫املادي ــة الكامن ــة ف ــي األم ــة واس ــتغاللها] فم ــا ل ــم توج ــد الق ــوة الفكري ــة والق ــوة املادي ــة ال يمك ــن إزال ــة الدول ــة املس ــتعمرة؛‬

‫‪ 17‬أبحاث إسالمية‪ ،‬السببية‪ ،‬مجلة الوعي العدد ‪151 ،21 ،20 ،19 ،18‬‬
‫‪ 18‬روى ثوبان مولى رسول هللا ﷺ قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪« :‬يوشك أن تداعى عليكم األمم من كل أفق كما تداعى األكلة على قصعتها قــال قلنــا يــا رســول هللا أمــن‬
‫قلــة بنــا يومئــذ قــال أنــتم يومئــذ كثيــر ولكــن تكونــون غثــاء كغثــاء الســيل ينتْْزع املهابْْة مْْن قلْْوب عْْدوكم ويجعــل فــي قلــوبكم الــوهن قــال قلنــا ومــا الــوهن قــال حــب‬
‫َ َّ‬ ‫ُ َ‬
‫ّللا ﷺ يقـ ــول‬ ‫الحي ــاة وكراهيـ ــة املـ ــوت‪ ،‬رواه اإلم ــام أحمـ ــد ف ــي املسـ ــند وإسـ ــناده حس ــن‪ ،‬وروى اإلمـ ــام أحم ــد فـ ــي مس ــنده‪ :‬عـ ــن أ ـ ــي ه َرْيـ ـ َرة قـ ــال س ــمعت َر ُس ـ ـول ِ‬
‫ََ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ َ َّ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َُ ُ َ َ َ ُ‬
‫يك ْم على َق ْ‬ ‫ََْ َ َ َ‬
‫ّللا أ ِم ْن ِقلة ِب َنا قال ال أ ْن ُت ْم َي ْو َم ِئذ‬
‫ص َع ِة الط َع ِام ُي ِص ُيبون منه قال ث ْو َبان بأ ي وأمي يا رسول ِ‬ ‫ان”ك ْيف أنت يا ثوبان ِإذ تداعت عليكم األمم كتد ِاع‬ ‫ِلثوب‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُّ ُ ُ ُّ ْ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُُ ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ْ ُْ‬
‫ّللا قال حبكم الدنيا وكر ِاهيتكم ال ِقتال ‪.‬‬ ‫ك ِثير ول ِكن يلقى في قل ِوبكم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول ِ‬
‫إن هذا الحديث اعلمنا سنة كونية من سنن هللا تعالى في تدافع األمم‪ :‬أن األمم في تصــارعها علــى املصــال إنمــا هــي كالســيل‪ ،‬فمــن كــان أصــل الســيل ومادتــه كــان‬
‫إما رحمــة للنــاس بمــا يحملــه مــن هــدى اإلســالم‪ ،‬فجــرى مجــرى طيبــا‪ ،‬فأنبــت الــزر ودر الضــر ‪ ،‬ورفــع الظلــم وأقــر العــدل‪ ،‬وإمــا أن يكــون ســيال جارفــا ال تحركــه إال‬
‫األطما والشهوات‪ ،‬وتكون األمم الضعيفة فيه كالغثاء والزبد والرغوة‪ ،‬ال أثر لها في مجرى السيل‪ ،‬فتسير معه على غير هــدى‪ ،‬ويجرفهــا ويلقــي بهــا علــى األحجــار‬
‫الناتئة‪ ،‬واألشواك القاتلة‪ ،‬ويفرقها شذر مذر‪ ،‬وال مهابة وال ش يء إال اإلبادة! فتأمل أهمية دراسة السنن حتن نتحكم بها ال أن تتحكم بنا!‬
‫‪ 19‬هناك قوة مادية هائلة كامنة فــي األمــة اإلســالمية ســنبينها فــي بــاب الحــق بعنــوان‪ :‬العنصــر الثــاني‪ :‬األمــة اإلســالمية‪ ،‬العنصــر البشــري‪ ،‬الثــروات‪ ،‬البعــد الجغرافــي‪،‬‬
‫املوق ــع االس ــتراتي ي‪ ،‬الت ـرابط الحض ــاري‪ ،‬و عن ــوان العنص ــر الثال ــث‪ :‬ه ــو الق ــوة املادي ــة املتمثل ــة ب ــالجيوش‪ .‬وك ــذلك م ــن الق ــوة املادي ــة‪ :‬الث ــروات االس ــتراتيجية الت ــي‬
‫يمكن من خاللها الضغط وإخضا األمم األخرى‪ ،‬فليس املقصود إذن فقط تكنولوجيا الحــرب واألســلحة‪ ،‬فمــن القــوة الفكريــة إدراك واســتعمال مكــامن القــوة‬
‫املاديــة املختلفــة فــي األمــة‪ ،‬واألهــم‪ :‬العمــل املــنظم املف ـ ي إلــى اســتثمار هــذه القــوى الكامنــة وتدــخيرها لقضــايا األمــة بــدال مــن االســتججال إلــى ردات األفعــال قبــل‬
‫التهيؤ الكامل للمواجهة بما تقتضيه من تحضير‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫وانتفاضـات االمــم‪ ،‬مهمــا عظمــت ال يمكــن أن تزيــل االســتعمار‪ ،‬ولــو ـكـان عــدو هللا! [فالســنن ال تحــا ي أحــدا] لــذلك ال بــد‬
‫من معرفة قوانين ونوامهس هللا في التسلم واالستعمار"!‪20‬‬

‫لق ــد ح ــرص املس ــتعمر عل ــى تفتي ــت األم ــة حت ــى اس ــتطيع التغل ــب عل ــى الق ــوى املادي ــة الهائل ــة املوج ــودة ل ــدى األم ــة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فكان من السهل عليه جعلها تابعة له! لقد عمل وفقا للسنن الكونية ونج في استغاللها أيما نجاح!‬
‫وفي املقابل‪ :‬حين تعرضت األمة للهجمة الصليبية الشرسة‪ ،‬قام عماد الدين زنكي‪ ،‬ومن ثم ابنه نور الدين محمود‪،‬‬
‫ومـن ثـم صـالح الــدين األيـو ي بالعمـل منـذ ‪ 516‬ه ـ إلـى تـاريخ فـتح بيــت املقـدس فـي ‪ 583‬هــ‪ ،‬أي حــوالي ‪ 67‬سـنة مـن اإلعــداد‬
‫واألخذ بأسباب ضم مصر للشام وتقوية الجيوش ومغالبة مـن ال يفقهـون سـنة التـدافع مـن أمـراء املـدن وحكـام القـال ‪،‬‬
‫وتفكيك إمارا هم الصغيرة ومقاتلة أمرائها‪ ،‬أخـذا بأسـباب القـوة والوحـدة‪ ،‬حتـى اسـتقام لـه املنسـم‪ ،‬وقـام بحـرب حطـين‬
‫ففــتح بيــت املقــدس بعــدها‪ ،‬ولــم يقـم عمــاد الــدين وال ابنــه نــور الــدين‪ ،‬وال صــالح الــدين باملواجهــة الحاســمة إال بعــد أن‬
‫أكملوا أسباب االستعداد! إذ إن للحرب سببية‪ ،‬فالنصر في املعركة سببه اإلعداد‪.‬‬
‫ينبغي على األمة اليوم إذن أن تنتقل من أمة ردات األفعال إلى أمـة أفعـال مبنيـة علـى دراسـة مستفيضـة للس ِـنن التـي‬
‫مألت جنبات القرآن والتاريخ!‬
‫األمراإللةي الحكيم بالنظرفي السنن‪:‬‬
‫ُ ْ ُ َ َّ‬ ‫ف َ ـك َ‬‫َْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫َْ ُ ْ ُ َ َ ُ ْ‬ ‫َ ْ ََ ْ‬
‫ان َعا ِق َبـة املكـذ ِب َين﴾ [‪ 137‬آل‬ ‫ض ف ْانظروا كيـ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫األ‬ ‫ي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ير‬ ‫ـ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫قــال الحــق ســبحانه‪﴿ :‬ق ْد خل ْ‬
‫عمـران]‪ ،‬عــالوة علــى أمــر هللا تعــالى بــالنظر فــي الســنن التــي مضــت‪ ،‬ففــي هــذه اآليــة داللــة واضــحة علــى اط ْراد السْْنن‪ ،‬أي‬
‫ً‬
‫تكرارها متن ما تكررت األسباب املفضية لها‪ ،‬وداللة واضحة على أن هذه السنن ال تحابي أحدا!‬
‫وإال فإن النظر في السنن إن لم تكن تتكرر بتكرر أسبابها ال يفيد في أخذ العبرة للحاضر! بل ولوال أنها تتكرر ملا ص‬
‫أن تسمى بالسنن!‬
‫َ ُ‬‫َ‬ ‫فالس ــنن هن ــا للعب ــرة والعظ ــة‪ ،‬مخاف ــة الوق ــو ف ــي َمظ َّن ـة ال َّس ـ َبب فيق ــع املس ـ َّـب ُب‪ ،‬وق ــال تع ــالى ﴿ ُيري ْ ُْد ُ‬
‫ل ِل ُي َبْ ْ ِين لكْ ْ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا َع ِليم َح ِكيم﴾ ‪ 26‬النساء‪.‬‬ ‫وب َع َل ْي ُك ْم َو ُ‬ ‫ين من َق ْب ِل ُك ْم َو َي ُت َ‬ ‫َ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ َ‬
‫وي ْه ِديكم سنن ال ِذ ِ‬
‫وهناك آيات أخـرى أكـدت علـى االسـتقراء والنظـر والتـدبر فـي الحـوادث التاريخيـة‪ ،‬مـن أجـل تكـوين نظـرة اسـتقرائية‬
‫ان َعاق َب ُة َّالذ َ‬ ‫ف َك َ‬ ‫ْ َْ َ َ ُ ُ َ ْ َ‬ ‫من أجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية ﴿ َأ َف َل ْم َا ِس ُ‬
‫ين ِمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض فينظروا كي‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫األ‬ ‫ي‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ير‬
‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َّ‬ ‫ين َأ ْم َث ُال َه ـا﴾ [محم ــد ‪َ ﴿ .]10‬أ َف َل ـ ْم َا ِس ـ ُ‬ ‫ّللا َع َل ـ ْيه ْم َول ْل َك ـافر َ‬
‫َقـ ْبله ْم َد َّم ـ َر َّ ُ‬
‫ض فينظ ـروا كي ـف كـان عا ِقب ـة ال ـ ِذين ِم ـن‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ‬ ‫ي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ير‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َََ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ َ ُ َ ْ ُ نَ‬ ‫َ ْ ْ َ ُ َ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َّ ُ َّ َ َ‬
‫ض فم ـا أغن ـى ع ـنهم م ـا كـانوا يك ِس ـبو ﴾ [غ ــافر ‪﴿ ،]82‬فك ـأ ِين ِم ـن قري ـة‬ ‫َق ـب ِل ِهم كـانوا أكث ـر ِم ـنهم وأش ـد ق ـوة وآث ـارا ِف ـي األر ِ‬
‫ْ َْ َ َ ُ َ َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُّ َ‬
‫ض فتكْون لهْم قلْوب‬ ‫أهلكناها و ِه َي ظ ِاملة ف ِهي خ ِاويـة علـى عرو ِشـها و ِباـر م َعطلـة وقصـر م ِشـيد ۝‪ ،‬أفلـم ا ِسـيروا ِفـي األر ِ‬
‫ور‪ 46 -45[ ﴾...‬الح ــج]‪.‬‬ ‫د‬ ‫وب َّالت ْي ف ْي ال ُّ‬
‫صْ ُ‬ ‫ص ْ ُار َو َلك ْن َت ْع َو ْن ْال ُق ُل ْ ُ‬ ‫َي ْعق ُل ْو َن ب َه ْا أ ْو َذان َي ْس ْ َم ُعو َن ب َه ْا َفإ َّ َه ْا َال َت ْع َو ْن ْاأل ْب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪ 20‬جواب سؤال عن الغيبيات واألسباب واملسببات ‪ 1974‬تقي الدين الن هاني‪ .‬بتصرف اسير ما بين األقواس شرحا‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫َ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ َ َ‬
‫﴿ َوكـ ْم أ ْهلك َنـا قـ ْبل ُهم ِمـن قـ ْرن ُهـ ْم أشـ ُّد ِمـ ْن ُهم َبطشـا ف َن َّق ُبـوا ِفـي الـ ِبال ِد َهـ ْل ِمـن َّم ِحـيص ۝ ِإ َّن ِفـي ذ ِلـ َك ل ْ ِذك َرى ِملْن كْان ل ْ ُه‬
‫َ‬ ‫َْ َ َْ َ‬
‫قل ْب أ ْو ألق َّْ ال َّس ْ ْم َع َو ُه ْ َو ش ْ ِهيد﴾ [‪ 37 -36‬ق]‪ ،‬مــن مجمــو هــذه اآليــات الكريمــة يتبلــور املفهــوم القرآنــي‪ ..‬وهــو تأكي ْْد‬
‫الق ْْر ن عل ْْى أن الس ْْاحة التاريخي ْْة له ْْا س ْْنن وله ْْا ض ْْوابم كم ــا يك ــون هن ــاك س ــنن وض ــوابط لك ــل الس ــاحات الكوني ــة‬
‫َّ‬
‫االخرى‪ ،‬وأن استكشافها‪ ،‬والتفكر فيها‪ ،‬ومجانبة الوقوع في َم ِظن ِة مهلكاتها آيات ألولي القلوب واألبصار!‬
‫ً‬
‫وتتميْْزهْْذه السْْنن بالثبْْات‪ ،‬واالط ْراد‪ ،‬وأ هْْا ال تحْْابي أحْْدا‪ ،‬فبحــدوث املسـ ِـببات التــي تتسـبب بوجــود هــذه الســنن‬
‫َ ْ ُ َ َ َ َ ُ َّ َّ َ ً‬ ‫﴿س َّن َة َّ َّ َ ْ َ َ ْ‬
‫ل ت ْبْ ِديال﴾ [الفـتح‪،]23/‬‬ ‫ّللا ال ِتي قد خلت ِمن قبل ولن ت ِجد ِلسْن ِة ِ‬ ‫ِ‬
‫توجد‪ ،‬أي إنها تسير وفقا لقانون السببية‪ُ ،‬‬
‫َ َ َ َ ُ َّ َّ َ ً‬
‫ّللا ت ْح ِويال﴾‪[ ،‬فاطر‪ ،]43/‬فال تتبـدل‪ ،‬وال تتحـول‪ ،‬فةْْي قْْوانين صْْارمة‪ ،‬والسْْنة الطريقْْة الثابتْْة‪،‬‬ ‫﴿ولن ت ِجد ِلسن ِت ِ‬
‫وال تس ْْون س ْْنة إال إذا كان ْْت ثابت ْْة‪ ،‬وألن األم ــر في ــه عب ــرة‪ ،‬والعب ْْرة ال تك ْْون إال ف ْْي س ْْنة جاري ْْة مض ْْطردة ال تتب ْْدل وال‬
‫تتغير‪،‬‬
‫فهي منهج قائم على قانون دائم يجري حين تتوفر شروط معينة‪ ،‬وأسباب معينة‪ ،‬هذه األسباب والشرو تمتلك‬
‫القْْدرة علْْى إحْْداض التغييْْرفْْي و اقْْع مْْا حْْين تتسْْلم عليْْه‪( ،‬فيهْْا طاقْْة كافيْْة إلحْْداض التغييْْرإذا مْْا تسْْلطت علْْى‬
‫ذلْْك الو اقْْع فْْإذا م ْْا وجْْدت حصْْل التغييْْرم ْْن حْْال إلْْى حْْال! فمعرفــة الشــروط واألســباب غايــة فــي األهميــة فــي كــل‬
‫عمل! وال توجد الجدية في أي عمل إال إذا درست هذه الشروط وهذه األسباب حق الدراسة‪ ،‬وتم العمل بناء عليها!‬
‫يقول السيد محمد باقر الصدر رحمه هللا‪" :‬حينما أراد القرآن أن يتحدث عن انكسار املسلمين فـي غـزوة أحـد بعـد‬
‫َ ْ َ َ َّ ُ ُ َ ُ َ ْ َ َّ‬
‫اس﴾ آل عمران‪ .140/‬هنا أخذ يتكلم‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫أن أحرزوا ذلك االنتصار الحاسم في غزوة بدر‪ ،‬قال‪﴿ :‬و ِتلك األيام ند ِاولها بين‬
‫عـن املسـلمين بوصــفهم أناسـا‪ ،‬قـال‪ :‬بــأن هـذه القضــية هـي فـي الحقيقــة تـرتبط بســنن التـاريخ‪ ،‬املسـلمون انتصــروا فـي بــدر‬
‫حينم ــا كان ــت الش ــروط املوض ــوعية للنص ــر بحس ــب منط ــق س ــنن الت ــاريخ تف ــرض أن ينتص ــروا‪ ،‬وخس ــروا املعرك ــة ف ــي أح ــد‬
‫س َ‬
‫الق ْو َم‬ ‫حينما كانت الشروط املوضوعية في معركة أحد تفرض عليهم أن يخسروا املعركة‪﴿ .‬إ ْن َي ْم َس ْس ُك ْم َق ْرح َف َق ْد َم َّ‬
‫ِ‬
‫َ ْ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َّ ُ ُ َ ُ َ ْ َ َّ‬
‫اس﴾ [آل عمـران‪ .]140/‬ال تتخيلــوا أن النصــر حــق إلهــي لكــم‪ ،‬وإنمــا النصــر حــق‬ ‫قـرح ِمثلـه و ِتلـك األيـام نـد ِاولها ب ْين ال ِ‬
‫ْ‬ ‫ن‬
‫طبيعــي لكــم بقــدر مــا يمكــن أن تــوفروا الشــروط املوضــوعية لهــذا النصــر‪ ،‬بحســب منطــق ســنن التــاريخ التــي وضــعها هللا‬
‫ســبحانه وتعــالى كونيــا ال تشــريعيا‪ ،‬وحيــث إنكــم فــي غــزوة أحــد لــم تتــوفر لــديكم هــذه الشــروط ولهــذا خســرتم املعركــة"‪21‬‬

‫انتهى قول الصدر‪.‬‬


‫أقــول معقب ــا‪ ،‬ومخالفــا ل ــه فــي التص ــور‪ :‬مــن ش ــروط النصــر التــي تســتجلب ُس ـ َّنة إلهيــة أن ينص ــروا هللا‪ ،‬فلمــا ل ــم يط ــع‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫كونية‪ُ ،‬ور ِف َعت عنهم ُسنة إلهية هي التي نصر هم في‬ ‫ل‬ ‫املسلمون الرسول ﷺ في أحد‪ ،‬لم يحققوا الشرط فخضعوا ل‬
‫لسنة‬ ‫َ‬
‫بدر وهم قلة! أين رأينا هذه السنة من قبل في التاريخ؟ حين جاوز طـالوت بجنـوده الـذين أطـاعوه النهـر ملواجهـة جـالوت‬

‫‪ 21‬السيد محمد باقر الصدر‪ ،‬السنن التاريخية في القرآن الكريم‪.‬‬


‫‪32‬‬
‫وجنوده‪ ،‬ولم اشربوا من املاء إال غرفة باليد‪ ،‬ولم يجاوز معه من شرب وعي ى‪ ،‬وحققوا شروط نصر هللا‪ ،‬نصرهم هللا‬
‫وهم قلة! فثمة فرق بين السنن املجتمعية‪ ،‬وبين السنن اإللهية‪.‬‬
‫التفاتة سريعة ملواضع ذكرالسنن في القر ن‬
‫ال نســتطيع فــي عجالــة أن نبلــور كــل الســنن املــذكورة فــي اآليــات وال اســتنباطها‪ ،‬وسنقتصــر علــى اســتنباط مــا يحتاجــه‬
‫البح ــث إن ش ــاء هللا تع ــالى الحقْ ْْا‪ ،‬فنكتف ــي هن ــا بااللتفات ــة الس ــريعة حي ــث وردت الس ــنن اإللهي ــة ف ــي الق ـرآن ف ــي املواض ــع‬
‫التالية‪:‬‬
‫‪ )1‬العبرة من سنن هللا فـي عقابـه للمكـذبين‪ ،‬سـنة تكـذيب املتكبـرين للرسـل‪ ،‬واغتـرارهم بالـدنيا‪ ،‬فـي السـنن عبـرة لهـم‬
‫بمـن ـكـان أشــد مــنهم قــوة وبطشــا‪ ،‬فأحــاط بهــم العـذاب‪ ،‬و هديــد املنــافقين والكفــار بمــا يخلــع قلــوبهم ويزلــزل أفئــد هم إذا‬
‫مـردوا علـى النفـاق‪ ،‬واسـتمروا فـي معـاداة الرسـول ﷺ ولـم يرجعـوا‪ ،‬وكـذلك هـي عبـرة ألصـحاب الـدعوات لـدفعهم للثبـات‬
‫على الحق‪ ،‬وسنة عدم قبول اإليمان عند املوت‪،‬‬
‫ان َعاق َبـ ُة ْاملُ َكـ َّذب َين﴾ [‪137‬آل عمـران]‪ُ ﴿ ،‬قـل ل َّلـذ َ‬ ‫ف َكـ َ‬ ‫َْ َ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ََ ْ‬
‫ين‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض فـانظروا كيـ‬ ‫ِ‬ ‫﴿قـ ْد خلـت ِمـن قـ ْب ِلك ْم ُسـنن ف ِسـ ُيروا ِفـي األر‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ود ْوا َف َقـ ْد َم َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ َ َ ْ َ ُ َّ َ ْ َ َ َ‬
‫ضـ ْت ُسـ َّنة األ َّوِلـ ِين﴾ [‪ 38‬األنفــال]‪َ ﴿ ،‬و َمـا َيـأ ِت ِيهم ِمـن َّر ُسـول ِإال‬ ‫ف َوإ ْن َا ُعـ ُ‬ ‫كفـروا ِإن ينتهـوا اغفـر لهـم مـا قـد سـل‬
‫َ‬ ‫َ ُ ْ ُ َ َ َ ْ َ َ ْ ُ َّ ُ ََّ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُْ‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ ُ ُ ُِ ُ‬ ‫َ ْ َْ ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫وب املجـ ِر ِمين ۝ ال يؤ ِمنـون ِبـ ِه وقـد خلـت سـنة األوِلـين﴾ [‪ 13 -11‬الحجــر]‪،‬‬ ‫ـكانوا ِبـ ِه اسـته ِزئون ۝ كـذ ِلك نسـلكه ِفـي قلـ ِ‬
‫واآلي ــات الكريم ــة ت ــتكلم ع ــن حقيق ــة حتمي ــة ال تتخل ــف وال تتب ــدل وه ــي الص ـرا ب ــين الح ــق والباط ــل‪ ،‬وم ــا يلق ــاه أص ــحاب‬
‫الحق من استهزاء وتنكيـل مـن أقـوام ال اعـرف اإليمـان سـبيال لقلـوبهم‪ ،‬وهـذه الحقيقـة سـنة ماضـية مـا تخلفـت فـي الـذين‬
‫جاءوا من قبل‪ ،‬ولن تتخلف حتى يرث هللا األرض ومن عليهـا‪ ،‬واآليـات خطـاب للمـؤمنين لتتهيـأ نفوسـهم لحقيقـة الصـرا‬
‫الذي ال هوادة فيه‪ ،‬مع البشارة لهم بالعاقبة والنصر كما كـان للرسـل وأتبـاعهم‪ ،‬وخطـاب للمعانـدين أال اسـلكوا سـبيل‬
‫الذين خلو من قبل فما أصابهم من الهالك الحق بكم فهي سنة ال تحا ي وال تجامل أحدا‪22‬‬
‫َ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ ُ ْ ُ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ ُ ْ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ُ َّ ُ ْ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ‬
‫اب ق ُبال﴾ [‪55‬‬ ‫﴿وما منع الناس أن يؤ ِمنوا ِإذ جاءهم الهدى ويستغ ِفروا ربهم ِإال أن تأ ِتيهم سنة األوِلين أو يأ ِتيهم العذ‬
‫َ ْ ُ َ َ َ َ ُ َّ َّ َْ‬ ‫َّ َ َ َ ْ‬ ‫ُ َّ َ َّ‬ ‫َْ ُ َ ََْ ُ ُ ُ ُ َ ُ ُ َ ْ‬
‫ّللا تبـ ِديال﴾‬ ‫ّللا ِفـي الـ ِذين خلـوا ِمـن قبـل ولـن ت ِجـد ِلسـن ِة ِ‬ ‫الكهف]‪﴿ ،‬ملعو ِنين أين َما ث ِقفوا أ ِخذوا وق ِتلـوا تق ِتـيال ۝ سـنة ِ‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ ُ َ‬ ‫األ ْ ض ل ُي ْخرج ـ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُّ َ َ َ َ‬
‫ـوك ِم ْن َهـا َو ِإذا ال َيل َبث ـون ِخالف ـ َك ِإال ق ِلـيال ۝ ُس ـ َّنة َم ـن‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫[‪ 62 – 61‬األحـزاب]‪﴿ ،‬و ِإن كـادوا ليسـت ِفزونك ِم ـن‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ ْ َ َ‬
‫قـ ْد أ ْر َسـل َنا ق ْبلـ َك ِمـن ُّر ُسـ ِل َنا َوال ت ِجـ ُد ِل ُسـ َّن ِت َنا ت ْحـ ِويال﴾ [‪ 77 -76‬اإلسـراء]‪" ،‬وردت هــذه اآليـة فــي سـياق الحــديث عـن صــورة‬
‫مــن صــور الصـرا بــين الحــق والباط ــل‪ ،‬تنتقــل مــن مجــرد بغــض الحــق وكراهت ــه إلــى إظهــار العــداوة واملبــارزة مــع أص ــحاب‬
‫الـدعوة‪ ،‬فالباطــل ال يربـ ى حتــى بمجـرد وجــود الحـق ألنــه مـوقن أن فــي الحـق قــوة ذاتيـة متحركــة غيـر ســاكنة ال تقبــل إال‬
‫االنتشــار والتوســع والتــأثير وكســب األنصــار واألتبــا والتمكــين والهيمنــة لــه‪ .‬وســنة هللا انتصــار الحــق ولــو بعــد حــين ولــو‬

‫‪ 22‬السنن اإللهية وأثرها في فهم الواقع‪ ،‬أبو مريم محمد الجريتلي‪ ،‬موقع األلوكة‬
‫‪33‬‬
‫دالــت للباطــل دولــة يومــا مــا فإنهــا ال تــدوم فســرعان مــا ينجلــي الباطــل ويحــل الحــق وإن أخرجــوا الــدعاة مــن ديــارهم وإن‬
‫حبسوهم وإن قتلوهم فلن يحل الباطل محل الحق أبدا؛ سنة ثابتة ال تتغير وال تتبدل"‪23‬‬
‫َّ‬ ‫ْ ْ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ ُ َ‬ ‫َّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ َّ ُ َ‬ ‫﴿و َأ ْق َ‬
‫اءه ْم نـ ِذير َّمـا َز َاد ُهـ ْم ِإال ُن ُفـورا‬ ‫اءه ْم ن ِذير ل َيك ُون َّن أ ْه َدى ِمن ِإحدى األم ِم فلمـا جـ‬ ‫الِل جهد أيم ِان ِهم ل ِان ج‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َّ ُ َّ َ ْ َ َ ُ َ َّ ُ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ ُ َّ َّ‬ ‫ْ ْ‬
‫الس ِي ِإال ِبأه ِل ِه ف َه ْل ينظ ُرون ِإال سـنت األ َّوِلـين فلـن ت ِجـد ِلسـن ِت ِ‬
‫ّللا‬ ‫ض ومكر الس ِي ِ وال ي ِحيق املكر‬ ‫ِ‬ ‫اس ِتك َبارا ِفي األر‬ ‫۝‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َت ْبـديال َولـن تجـد ل ُسـنت ّللا ت ْحـويال ۝ أ َولـ ْم َاسـ ُيروا فـي األ ْرض ف َينظـ ُروا ك ْيـف ـكان َعاق َبـة الـذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ين ِمـن قـ ْب ِل ِه ْم َوكـانوا أشـ َّد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ف َل َّمـا َ َرأواْ‬ ‫َ‬
‫ض ِإنـه ـكان ع ِليمـا قـ ِديرا﴾ [‪ 44 – 42‬فـاطر]‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َّ ُ َ‬
‫ات وال ِفـي األر‬
‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ِمـن ُه ْم قـ َّوة ومـا ـكان ّللا ِل ُيج ِجـزه ِمـن شـ ْيء ِفـي السـماو ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫َ َ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ْ َ ُ ُ ْ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ ُ َّ َ َّ َّ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ ْ َ َ َ ُ َ َّ َّ َ ْ َ ُ َ َ َ َ‬
‫ّللا ال ِتـي ق ـ ْد‬ ‫الِل وح ـده وكف ْرن ـا ِب َمـا كن ـا ِب ـ ِه ُمشـ ِر ِكين ۝ فل ـم ي ـك يـنفعهم ِإيم ـانهم مل ـا رأوا بأسـنا س ـنت ِ‬ ‫بأسـنا ق ـالوا آمن ـا ِبـ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫خل ْت ِفي ِع َب ِاد ِه َوخ ِس َر هن ِالك الكا ِف ُرون﴾ [‪ 85 – 84‬غافر]‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪ )2‬سنة هللا في نصر املؤمنين‪ ،‬بشارة لهم بالنصر والتمكين‪ ،‬بتمسكهم باإليمان‪ ،‬واالستعانة بالل واالستنصار به‪،‬‬
‫وضعف الكفار‪ ،‬والعبرة في طريق الدعوات ومآلها بشارة ونذارة ودفعا لحسن العمل‬
‫َ َ َ‬ ‫ُ َّ َ َّ َّ َ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َ َ‬
‫ّللا ال ِتـي قـ ْد خلـ ْت ِمـن ق ْبـ ُل َولـن ت ِجـ َد‬ ‫﴿ولـو قـاتلك ُم الـ ِذين كفـ ُروا لولـوا األدبـ َار ثـ َّم ال ي ِجـدون وِليـا وال ن ِصـيرا ۝ سـنة ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ َ َ ُّ ُ َ َ ُّ َ‬ ‫ُ َّ َّ َ‬
‫ور َوذ ِكـ ْر ُه ْم ِبأ َّيْ ِام‬ ‫ات ِإلى النـ ِ‬ ‫ّللا ت ْب ِديال﴾ [‪ 23 – 22‬الفتح]‪﴿ ،‬ولقد أرسلنا موس ى ِبآيا ِتنا أن أخ ِرج قومك ِمن الظلم ِ‬ ‫ِلسن ِة ِ‬
‫ُ َ َّ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ل إ َّن في ذلك َ‬ ‫َ‬
‫آليات ِلك ِل صبار شكور﴾ [‪ 5‬إبراهيم]‪.‬‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫‪ 3‬سنن ثابتة في الشرائع التي أنزلت على الرسل‪ ،‬وللتأمل في سنن السابقين ألخذ العبْْرفْْي أي شْْأن مْْن شْْئون‬
‫الحياة‪ ،‬وللهداية‪:‬‬
‫َّ َ َ َ َ‬ ‫وب َعل ْي ُك ْم َو ُ‬ ‫َ‬ ‫ين من َق ْب ِل ُك ْم َو َي ُت َ‬ ‫ُ ُ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫ّللا َع ِليم َح ِكيم﴾ [‪ 26‬النساء]‪﴿ ،‬ما ـكان علـى‬ ‫﴿ي ِريد ّللا ِليب ِين لكم وَ ْه ِديكم سنن ال ِذ ِ‬
‫َ ْ ُ َ َ َ َ ْ ُ َّ َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ َ ُ ُ َّ َ َّ‬
‫ّللا قـ َدرا َّم ْقـ ُدورا﴾ [‪ 38‬األحـزاب]‪ ،‬أي‪ :‬وكـان‬ ‫ّللا ِفـي الـ ِذين خلـوا ِمـن قبـل و ـكان أمـر ِ‬ ‫ض ّللا لـه سـنة ِ‬ ‫الن ِب ِي ِم ْن َح َرج ِفيما فـر‬ ‫َّ‬
‫أمره الذي يقدره كائنا ال محالة‪ ،‬وواقعا ال محيد عنه وال معدل‪ ،‬فما شاء هللا كان‪ ،‬وما لم اشأ لم يكن‪.24‬‬
‫‪ 4‬سنن استفدناها من العلية‪ ،‬والشرطية‪ ،‬ودالالت اآليات على السنن في مواطن مختلفة من القر ن‪:‬‬
‫ُ‬
‫ضـ َّراء َو ُزل ِزلـوا َحتـى َيق ـو َل‬
‫َّ‬ ‫ْ ُ ْ‬ ‫ين َخ َلـ ْو ْا مـن َقـ ْبل ُكم َّم َّس ـ ْت ُه ُم ْال َب ْأ َسـاء َوال َّ‬ ‫﴿أ ْم َحسـ ْب ُت ْم َأن َتـ ْد ُخ ُل ْوا ْال َج َّنـ َة َو َ َّملـا َيـ ْأت ُكم َّم َث ـ ُل ا َّلـذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ـ ُروا َّّللاَ‬ ‫ين َآم ُن ـوا إن َتن ُ‬ ‫ص ـ َر ّللا َقري ــب﴾ [‪ 214‬البق ــرة]‪َ ﴿ ،‬ي ـا َأ َُّ َه ـا ا َّل ـذ َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ُ ُل َ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ ْ ُ َ َّ َ‬
‫ّللا أال ِإن ن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الرس ـو وال ـ ِذين آمن ـوا مع ـه مت ـى نص ـر ِ‬
‫اس‬ ‫َ َ ْ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ َ َّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ْ َ َّ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َْ َ ْ ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُْ ْ ََُ ْ َْ َ َ ُ ْ‬
‫﴿إن يمسسـكم قـرح فقـد مـس القـوم قـرح ِمثلـه و ِتلـك األيـام نـد ِاولها بـين النـ ِ‬ ‫ينصـركم ويث ِبـت أقـدامكم﴾ [‪ 7‬محمـد]‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫َّ َ َ ُ َ ْ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ْ َ َ ُ َّ َ َ ُ ْ َ َ َّ َ ُ ْ ُ َ َ َ ُ َ‬
‫ّللا ِل َيـذ َر املـ ْؤ ِم ِن َين َعلـى‬ ‫ّللا ال ُي ِح ُّب الظ ِ ِامل َين﴾ [‪ 140‬آل عمـران]‪﴿ ،‬مـا ـكان‬ ‫وِليعلم ّللا ال ِذين آمنوا ويت ِخذ ِمنكم شهداء و‬
‫ُّ ُ َ َ َ َ ُ ْ‬
‫ّللا َي ْج َت ِبي ِمن رس ِل ِه من اشاء ف ِآمنوا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ّللا ل ُيطل َعك ْم َعلى الغ ْيب َولك َّن َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ُ‬
‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫مآ أنت ْم عل ْي ِه حت َى ي ِميز الخ ِبيث ِمن الط ِي ِب وما كان ِ ِ‬
‫ْ َ ْ ََ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫الِل َو ُر ُس ِل ِه َو ِإن ت ْؤ ِم ُنوا َوت َّت ُقوا فلك ْم أ ْجر َع ِظيم﴾ [‪ 179‬آل عمران]‪ ،‬وأمثال هذه اآليات حيث تبين سننا لنزول النصر‪،‬‬ ‫ِب ِ‬
‫فمن لم ينصر هللا لن ينصره هللا! لم يأخذ بالشروط‪ ،‬ولم يفهم السنن‪ ،‬فلن يقع في مظنة نزول النصر!‬

‫‪ 23‬السنن اإللهية وأثرها في فهم الواقع‪ ،‬أبو مريم محمد الجريتلي‪ ،‬موقع األلوكة‪ ،‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 24‬تفسير القرآن العظيم (‪)492/3‬‬
‫‪34‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ان َي ُظ ُّن َأن َّلن َي ُ‬
‫نص َر ُه َّ ُ‬
‫ّللا ِفـي ال ُّـد ْن َيا َواآل ِخـ َر ِة فل َي ْمْ ُد ْد ِب َسْ َب لب ِإلْى ال َّسْ َماء ثـ َّم ِل َي ْقطـ ْع فل َينظـ ْر َهـ ْل ُيـذ ِه َب َّن ك ْيـ ُد ُه‬ ‫﴿من َك َ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫َمـا َا ِغـي ﴾ [‪ 15‬الحـج]‪ ،‬قــال القرطبــي‪ :‬قــال أبــو جعفــر النحــاس‪ :‬مــن أحســن مــا قيــل فيهــا أن املعنــى مــن ـكـان يظــن أن ل ــن‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫ينصر هللا محمدا ﷺ وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه‪﴿ .‬فل َي ْمـ ُد ْد ِب َسـ َبب ِإلـى ٱل َّسـ َم ِآء﴾ أي فليطلـب حيلـة يصـل‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫بها إلى السماء‪﴿ .‬ث َّم ل َي ْقط ْع﴾ أي ثم ليقطـع النصـر إن هيـأ لـه‪﴿ .‬فل َي ْنظـ ْر َهـ ْل ُيـذ ِه َب َّن ك ْيـ ُد ُه﴾ وحيلتـه مـا اغيظـه مـن نصـر‬
‫النبي ﷺ‪ .‬والفائدة في الكالم أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هـذا لم يصل إلى قطع النصر‪ .25‬وفي هْْذه‬
‫اآليْْة بشْْارة عظيمْْة لحملْْة الْْدعوة‪ ،‬بْْأن الغْْرب الكْْافرمهمْْا حْْاول أن يقطْْع عْْن اإلسْْالم الحبْْل املتصْْل بالسْْماء‬
‫الذي وعد بنصرهللا‪ ،‬فإنه لن يستطيع‪ ،‬فاهلل ناصردينه ولو كره الكافرون‪.‬‬
‫تأمل البالغة‪ :‬إن سبب النصر متصـل بـالل تعـالى‪ ،‬فلـو صـعد مـن كـان يظـن أن هللا لـن ينصـر نبيـه ودينـه إلـى السـماء‬
‫بسـبب‪ ،‬ووصــل إلــى ســبب النصــر فليقطعــه‪ ،‬لــيعلم أنــه لـن اســتطيع أن يحــول بــين نصــر النبــي ﷺ ونصــر دينــه‪ ،‬والســبب‬
‫الذي اتصل بالسماء والذي به يتنزل النصر‪ ،‬فإذ لن استطيع قطـع السـبب ومنـع النصـر‪ ،‬فليمـت كمـدا وغيظـا! وهكـذا‬
‫فاألسباب متصلة بالسماء‪ ،‬متحققة بوجود املسببات! حتمية ال استطيع أحد تغييرها‪ ،‬تتنزل بأمر هللا تعالى!‬
‫‪ )5‬وس ــنن ملداول ــة األي ــام ب ــين الن ــاس‪ ،‬وس ــنن االختب ــارات والتمح ــيص‪ ،‬وإل ــى م ــا ذل ــك‪ ،‬فكم ــا ت ــرى ف ــالقرآن مش ــحون‬
‫بالسنن وباألسباب واملسببات!‬
‫حديث شريف يختصر مآس ي األمة اإلسالمية وفق قانون السببية! فهل من ُم َّد ِكر؟‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وقد َ‬
‫ـدركوهن‬ ‫ـالل أن ت‬
‫معشر املهاجرين‪ :‬خصال خمس إذا ابتليـتم بهـن وأعـوذ ب ِ‬ ‫األكرم ﷺ‪ « :‬يا‬
‫ِ‬ ‫جاء في قو ِل الرسو ِل‬
‫ـيهم الطـاعو ُن‪ ،‬واألوجـا ُ التـي لـم تكـن مض ْـت فـي أسـال ِف ُ‬ ‫قط حتى ُاعلنوا بها إال فشـا ف ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫هم الـذين‬ ‫تظهر الفاحشة في قوم‬ ‫لم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ان إال أخذوا بالس َ‬ ‫املكيال وامليز َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َم َ‬
‫ض ْوا‪ ،‬ولم َينقـ ُ‬
‫ـوالهم‬
‫السلطان علـيهم‪ ،‬ولـم يمنعـوا زكـاة أم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ور‬
‫املؤونة‪ ،‬وج ِ‬‫ِ‬ ‫وشدة‬
‫ِ‬ ‫نين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صوا‬
‫َ َّ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫ـدو ُهم‬ ‫ط ُ‬
‫هللا علـيهم عـ َّ‬ ‫هللا وعه َـد رس ِـول ِه إال سـل‬ ‫َ‬
‫ـماء‪ ،‬ولـوال ال هـائم لـم يمطـروا‪ ،‬ولـم ينقـضوا عهـد ِ‬ ‫إال ُمنعـوا القط َـر مـن الس ِ‬
‫َ ُ َّ‬
‫هللا‪ ،‬إال‬ ‫هللا عْ َّْزوجْ َّْل‪َ ،‬ويتحْ َّْر ْوا فيمْْا أنْْزل‬
‫ْاب ِ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬‫بك‬ ‫م‬ ‫ـان فــي أيــدَهم‪ ،‬ومْْا لْْم ت َْحكم أئمت ُْ ُ‬
‫ه‬ ‫ـض مــا ك َ‬ ‫مـن غيــرهم‪ ،‬فأخــذوا بعـ َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ِ ُ َ ُ َ‬
‫جعل هللا بأسهم بهنْهم رواه ابن ماجة‪ ،‬وهو حديث حسن‪.‬‬
‫قانون السببية وقوانين السنن اإللهية من املفاهيم األساسية في اإلسالم‬
‫لذلك لنا أن نقول إن مفهوم السنن اإللهية من املفاهيم اإلسالمية املهمة جدا‪ ،‬وال تقتصر أهميته على أخذ العظة‬
‫والعبــرة مــن العقــاب الــذي حــل بــاألمم الســابقة جـراء وقوعهــا فــي محــاذير تعتبــر العقوبــة عليهــا مــن ســنن هللا تعــالى‪ ،‬ولكنهــا‬
‫فــوق ذلــك تن هنــا إلــى ســنن هللا تعــالى التــي ينبغــي فهمهــا لبنــاء ســلوك معــين مبنــي عليهــا‪ ،‬وس ْْنقوم بإس ْْقا ه ْْذا املفه ْْوم‪،‬‬
‫وهْْذه السْْنن اإللهيْْة والكونيْْة علْْى مسْْألة تغييْْرالدولْْة‪ ،‬و إقامتهْْا ثْْم اسْْتمرارها بعْْد قيامهْْا‪ ،‬وتغييْْراملجتمعْْات‪،‬‬

‫‪ 25‬تفسير القرطبي‬
‫‪35‬‬
‫وتغييراألفراد‪ ،‬لنعلم أن إهمالنا للفاعلية السببية‪ ،‬وسلوكنا لطرق أخرى ال تأخذ السببية (األسباب ومسببا ها‪ ،‬العلل‬
‫ومعلوال ها) والسنن في الحسبان سيف ي إلى مزيد من الفوب ى ولن يوصل إلى التغيير املرجو‪ ،‬وأن أهمالنا لسنن هللا في‬
‫التغيير‪ ،‬والذي بدوره سيف ي إلى الوقو في مظنة نزول النصر وتمكين الدين وإقامة الدولة‪ ،‬لن يزيدنا إال شقاء!‬
‫ذو القرنين‪ ،‬وقانون السببية والتمكين‪:‬‬
‫ََْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َّ َّ َ ُ ْ َ‬
‫ض َوآت ْي َن ُاه ِمن ك ِل ش ْيء َس َببا ۝ فـأت َب َع َسـ َببا﴾ [الكهـف‪ ،]85 - 84/‬فهـذا ذو القـرنين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ ْ‬ ‫﴿إنا مكنا له ِفي‬ ‫قال تعالى‪ِ :‬‬
‫مك ــن هللا ل ــه ف ــي األرض‪ ،‬والتمك ــين‪ :‬جع ــل الش ـ يء متمكن ــا‪ ،‬أي راس ــخا‪ ،‬وه ــو تمثي ــل لق ــوة التص ــرف بحي ــث ال يزع ــز قوت ــه‬
‫أحد"‪ ،‬وأعطاه األسباب‪" ،‬والسبب‪ :‬حقيقته الحبل‪ ،‬وأطلـق هنـا علـى مـا يتوسـل بـه إلـى الشـ يء مـن علـم أو مقـدرة أو آالت‬
‫التدخير على وجه االستعارة"‪ 26‬آتاه من كل ش يء معرفـة‪ ،‬وذريعـة يتوصـل بهـا‪ ،‬فاسـتعملها ليتوصـل إلـى الغايـات‪ ،‬فتأمـل‬
‫كيف يجري قانون السـببية فـي عـروق نظـام الوجـود‪ ،‬وكيـف ينبغـي األخـذ بـه للتغييـر‪ ،‬إذ إن التمكـين لـذي القـرنين اقتـرن‬
‫بمعرفتـه واسـتعماله األســباب‪ .‬حـين أتبـع ذو القــرنين السـبب األول أوصــله إلـى أحـد األمــاكن التـي تغـرب فيهــا الشـمس عــن‬
‫ُ َْ‬
‫األرض عند قـوم لهـم قصـة‪( ،‬سـماه مغـرب الشـمس)‪﴿ ،‬ثـ َّم أت َبـ َع َسـ َببا﴾ فبلـغ أحـد األمـاكن التـي تشـرق فيهـا الشـمس عنـد‬
‫ُ َْ‬
‫ق ــوم له ــم قص ــة‪﴿ ،‬ث ـ َّم أت َب ـ َع َس ـ َببا﴾ فبل ــغ ب ــين الس ــدين‪ ،‬عن ــد ق ــوم له ــم قص ــة‪ ،‬وهك ــذا كــان س ــيره ف ــي األرض وتمكين ــه فيه ــا‬
‫بأخذه باألسباب واتباعها!‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ َ َ َّ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صـ ْرحا َّل َعل ـي أ ْب ُلـ ُغ األ ْسـ َب َ‬ ‫ال ف ْر َعـ ْو ُن َي ـا َها َمـ ُ‬ ‫ََ‬
‫ات فـأط ِل َع ِإل ـى ِإلـ ِه ُمو َس ـ ى﴾ [‪37 -36‬‬
‫اب ۝ أس ـباب السـماو ِ‬ ‫ِ‬
‫ان ا ْبـن ل ـي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿وقـ َ ِ‬
‫اب﴾ [‪ 10‬ص]‪ ،‬إذا كانوا يملكون حقا‪ ،‬فليسـتعملوا‬ ‫َْْ َ‬ ‫األ ْ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ُّ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫ض وما بينهما فليرتقوا ِفي األسب ِ‬ ‫ات و ر ِ‬ ‫غافر]‪﴿ .‬أم لهم ملك السماو ِ‬
‫األس ــباب والحب ــال املوص ــلة‪ ،‬وليص ــعدوا ف ــي املع ــارج التــي ُي َت َو َّ‬
‫ص ـ ُل به ــا إل ــى الع ــرش‪ ،‬حتــى يرتق ــوا علي ــه وي ــدبروا أم ــر الع ـالم‬
‫وملكـوت هللا‪ ،‬ولكــنهم ال يملكــون علـى الحقيقــة! قــال ابـن عاشــور‪" :‬وحــرف الظرفيـة اســتعارة تبعيــة للـتمكن مــن األســباب‬
‫حتـى كأنهــا ظــروف محيطـة بــاملرتقين" انتهــى‪ ،‬ومـن الواضـ فــي اآليــة الـربط بــين بلــوا ملـك الســموات واألرض وبــين امــتالك‬
‫ناصــية األســباب التــي تســيره ليكــون مــن اســيره هــو امللــك‪ ،‬أي امــتالك ناصــية القــوانين والســنن والقــدرة علــى الــتحكم بهــا‪،‬‬
‫وهذا ليس إال لل تبارك وتعالى فتأمل كيف تقرراآلية أن السببية والسْْنن والقْْوانين الثابتْْة فْْي صْْميم خلْْق الكْْون‪،‬‬
‫ي ــدبر هللا تع ــالى ملكوت ــه به ــا‪ ،‬وال حاجْ ْْة لْ ْْه ‪-‬س ْْبحانه وتعْ ْْالى ‪ -‬إليهْ ْْا إال أن حكمت ــه تع ــالى اقتض ــت أن َا ِس ـ َير الك ــون به ــا‪،‬‬
‫لنتوصل من خاللها إلى اإليمان به‪ ،‬وهللا تعالى أعلى وأعلم‪.‬‬
‫األسباب واملسببات‪ ،‬من أجل فهم أدق‪:‬‬
‫خلـ ــق هللا تعـ ــالى الوجـ ــود‪ ،‬وخلـ ــق لـ ــه قـ ــوانين ونـ ــواميس‪ ،‬وخلـ ــق النـ ــاس‪ ،‬وخلـ ــق ملعيشـ ــتهم قـ ــوانين‪ ،‬وسـ ــننا‪ ،‬وأمـ ــرهم‬
‫باستنباطها‪ ،‬ويكاد موضو السببية (‪ )Causation- Causality‬أن يكون من أهم املواضيع التي بحثت في تاريخ الفلسـفة‬
‫والعلم الحس ي التجريبي على مستوى العالم كله‪ ،‬فهو حجر أساس في نظرية املعرفة عند البشرية كلها‪.‬‬

‫‪ 26‬التحرير والتنوير البن عاشور‬


‫‪36‬‬
‫لقــد ـكـان التفاعــل الســببي الــذي تجــري وفقــه العمليــات الفيزيائيــة والكونيــة بــين املــادة بمــا فيهــا مــن خصــائص قابلــة‬
‫للتفاعل‪ ،‬والطاقة والقوى واملجاالت العبا أساسيا في خطة الوجـود‪ ،‬ومحركـا أسـاس فـي نـواميس قيـام النـاس باألعمـال‪،‬‬
‫واالستفادة من الخصائص التي أودعها هللا في األشياء بفهم نواميسها واتخاذ األسباب الكفيلة بتحريكها وتفعيلها‪ ،‬حتى‬
‫أنني اعتبرت قانون السببية في كتا ي‪(َ :‬ن ْش َأ ُة ْال َك ْون‪َ ،‬د ْليل َع ْقلي ع ْلمـي حسـ ي َع َلـ ْى ُو ُجـ ْود ْال َخـالق)‪ُ :‬‬
‫الب ْعْ َد الخْ َ‬
‫ْامس الْْذي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫تتشكل منه هندسة الكون!‬
‫وحينما تم استعمال السببية لربط الظواهر الخارقـة فـي العلـوم والطبيعـة بمبـدعها سـبحانه وتعـالى‪ ،‬اعتـرض فريـق‬
‫من العلماء التجريبيين الغربيين على ذلك الربط‪ ،‬وحاولوا فك االرتباط هذا‪ ،‬وقام فريق آخر من بعض أسـاطين علمـاء‬
‫الفيزيــاء بطــرح أســئلة خطيــرة قوامهــا فكــرة‪ :‬هــل صــفات هللا وأفعالــه خاضــعة للســببية؟ هــل الخلــق فعــل ســببي؟ ويشــبه‬
‫ه ــذا أن اس ــأل الس ــائل‪ :‬إذا كــان خ ــالق الك ــون ال يخض ــع للق ــوانين الكوني ــة‪ ،‬وال يخض ــع للس ــببية‪ ،‬إذ إن ق ــوانين الك ــون‬
‫والس ــببية ال تتجس ــد إال بوج ــود امل ــادة والطاق ــة والزم ــان واملك ــان؛ بمعنــى آخ ــر إذا كان ــت ق ــوانين الس ــببية تتجس ــد وفق ــا‬
‫لنظــام الوجــود‪ ،‬فهــل الخلــق فعــل ســببي؟ والخلــق هــو الــذي أوجــد نظــام الوجــود‪ ،‬فهــل خضــعت عمليــة الخلــق للســببية‬
‫ولنظام الوجـود قبـل أن يوجـد ذلـك النظـام؟ وإذا لـم يكـن الخلـق فعـال سـببيا فكيـف نجعـل السـببية العقليـة دلـيال علـى‬
‫وجود الخالق؟ هل تنهار أدلتنا السببية بناء على ذلك؟‪27‬‬

‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬


‫‪ 27‬أجبنا عنه بالتفصيل في كتابنا‪ :‬نشأة الك ْو ِن‪َ ،‬د ْليل َع ْق ِلي ِعل ِمي ِح ِس ي َعل ْى ُو ُج ْو ِد الخ ِال ِق‬
‫‪37‬‬
‫السنن الكونية‪ ،‬والسنن املجتمعية والسنن اإللهية‬
‫إذا لــم يأخ ــذ مص ــمم الط ــائرة بعــين االعتب ــار حس ــابات دقيق ــة ألوزان الطــائرة‪ ،‬بأجنحته ــا ومحركا ه ــا وهيكله ــا‪ ،‬وأوزان‬
‫الركــاب وبض ــاوعهم‪ ،‬والق ــوة التــي ينبغــي للمح ــرك أن يمتلكه ــا للتغل ــب عل ــى الجاذبي ــة ومقاوم ــات اله ــواء‪ ،‬ول ــدفع الط ــائرة‬
‫لألمـام‪ ،‬وأطـوال األجنحـة وأشـكالها االنسـيابية التـي تسـبب فـرق الضـغط بـين أعالهـا وأسـفلها‪ ،‬وأجهـزة املالحـة والتوجيـه‬
‫فيها‪ ،‬وعمليات االحتراق في املحركات لبلـوا درجـات حـرارة معينـة قـادرة علـى إنتـاج قـوة دفـع‪ ،‬وأشـكال املـراوح فـي املحـرك‪،‬‬
‫واملــواد املســتعملة فــي الصــناعة‪ ،‬وقــدر ها علــى تحمــل الحـرارة الشــديدة فــي املحــرك‪ ،‬وســائر القــوانين الحاكمــة لهــذا كلــه‪،‬‬
‫فإنـه لــن اســتطيع أن يجعــل الطـائرة تطيــر‪ ،‬فهــو فــي هــذا كلـه إنمــا اســتعمل قــوانين السـببية والســنن الكونيــة التــي نظمــت‬
‫ه ــذا كل ــه وفق ــا لق ــوانين منض ــبطة علي ــه أن يحس ــن اس ــتقراءها‪ ،‬وأن يج ــري التج ــارب التــي تعين ــه عل ــى إنج ــاح التص ــميم‬
‫ووض ــع كــل م ــادة ف ــي موض ــعها‪ ،‬وأن يق ــوم كــل جه ــاز‪ ،‬وكــل نظ ــام ف ــي الط ــا ئرة بعملي ــات منض ــبطة للغاي ــة‪ ،‬وهك ــذا ف ــإن أي‬
‫اختـرا بشــري‪ ،‬وأي تصــميم ذ ـكـي‪ ،‬وأي عمــل غــاوي‪ ،‬ال بــد أن يقــوم صــانعه ومصــممه باســتقراء القــوانين الناظمــة للكــون‬
‫واالستفادة منها‪ ،‬فإذا ما عرف املسببات وأخذها بالحسبان‪ ،‬بلغ الغاية‪ ،‬وإذا فشل في أي منها فقد تكون النتائج كارثية!‬
‫فهن ا استثمار للعالقات السببية ضمن نطاق السنن الكونية الحتمية‪ ،‬استثمرت في عمل غاوي منتج‪.‬‬
‫ومثـال آخـر‪ :‬أن يجتمـع أهـل القـوة فـي مجتمـع علـى اعتقـاد مجموعـة مـن املفـاهيم واملقـاييس والقناعـات املنبثقـة عـن‬
‫عقيــدة كلي ــة‪ ،‬ويــرون إقام ــة الســلطان عليه ــا‪ ،‬فيفرضــوا رأَه ــم علــى الب ــاقين‪ ،‬ويكــون له ــم قــوة مادي ــة ومعنويــة ف ــي املجتم ــع‬
‫كافية لتجعل املجتمع ينقاد لرأَهم‪ ،‬فيشكلوا الرأي العام‪ ،‬فيقوم املجتمع وفقا ملفاهيم وأنظمة معينة‪ ،‬ويتغير املجتمع‬
‫بناء علـى املفـاهيم والقناعـات التـي تحملهـا هـذه الفئـة‪ ،‬فتقـوم دولـة مكـان دولـة‪ ،‬فهـؤالء لـو قـاموا بهـذا الفعـل‪ ،‬مـع وجـود‬
‫الش ــروط الالزم ــة ف ــإن قي ــامهم ب ــه س ــوف يوج ــد النتيج ــة حتم ــا‪ ،‬وإن ت ــأخر وق ــو النتيج ــة زمن ــا‪ ،‬فه ــذه س ــنة إنس ــانية أو‬
‫مجتمعي ــة‪ ،‬مس ــتنبطة م ــن النظ ــر ف ــي س ــنن قي ــام ال ــدول واس ــتمرارها‪ .‬ولك ــن ه ــذا التفعي ــل للطاق ــة الس ــببية‪ ،‬وإح ــداث‬
‫النتيجة مرهون بوجود الحزب السياس ي‪ ،‬فاألنظمة السببية العاقلة كاإلنسان والدول واألحـزاب لهـا دوافـع إرادة وغايـة‬
‫وراء كــل فع ــل س ــببي تق ــوم بأدائ ــه وتك ــون س ــابقة لألفع ــال الس ــببية‪ ،‬وعل ــيهم أن اس ــتنبطوا ه ــذه الس ــنن الالزم ــة للتغيي ــر‪،‬‬
‫ويسيروا في ركابها تشدهم الغائية لألمام‪ ،‬وتدفعهم األسباب من الخلف ليصلوا ملبتغاهم‪.‬‬
‫أما األنظمة السـببية غيـر العاقلـة كالسـيارة والطـائرة والسـاعة والنظـام البي ـي فليسـت غائيـة بـذا ها أي ال توجـد لهـا‬
‫أهــداف خاص ــة بهــا‪ ،‬ب ــل تقــوم ب ــأداء عملهــا ووظيفته ــا كمــا ه ــي مبرمجــة علي ــه وفــق الق ــوانين والســنن الطبيعي ــة‪ ،‬ولــذا ف ــإن‬
‫مبرمج أو صانع األنظمة السببية غير العاقلـة هـو مـن يملـك اإلرادة وهـو صـاحب الهـدف وهـو الـذي يحـدد وظيفـة وعمـل‬
‫النظام‪ ،‬ولكن عليه أن يدرك السنن الكونية املحكمة ويعمل في إطارها وإال فإن تصميمه لن ينج ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ل ـ ــذلك ف ـ ــإن الس ـ ــببية يمك ـ ــن أن ت َف َّع ـ ـ َل تفع ـ ــيال‪ ،‬بن ـ ــاء عل ـ ــى تص ـ ــميم وحكم ـ ــة وغاي ـ ــة‪ ،‬بمعرف ـ ــة أس ـ ــبابها وش ـ ــروطها‪،‬‬
‫واستغاللها‪ ،‬وليس بالضرورة أن تكون تصرفا آليا ال دخل للعقل والحكمة في األخذ بشروطه وأسبابه وإيقاعه!‬

‫‪38‬‬
‫إذن فقد فرقنا بين السنن الكونية (الفيزيائية) التي ال يتأخر فيها حدوث املعلول بمجرد وجود علته و شكل حتمي‪،‬‬
‫فاإلنسان الذي يطير في الجو من غير آلة‪ ،‬سـتجذبه األرض فـورا نحوهـا بالجاذبيـة‪ ،‬فـال تتـأخر‪ ،‬وبـين السـنن اإلنسـانية‪/‬‬
‫املجتمعية والتي يحتاج فيها املصمم لدراسة املؤثرات الالزمة له إلنجاح تصميمه‪ ،‬والتـي اسـير فيهـا اإلنسـان فـي اسـتثمار‬
‫العالقات ودراسة السنن ليستعمل العناصر الالزمة إلنجاح منظومته السببية‪ ،‬أو للوصول لغاياته املجتمعية وأنه إذا‬
‫أغفــل أي عنصــر أساسـ ي فــي العالقــة الســببية أو أغفــل شــروطا أساســية للســببية فــإن تصــميمه ســوف يكــون ناقصــا وال‬
‫يـنج بالشـكل املطلــوب‪ ،‬فـإذا اسـتغل كــل العناصـر السـببية أنــتج املسـبب حتميـا ونجـ فـي مهمتـه‪ ،‬ولكــن النتيجـة قــد ال‬
‫تح ــدث دائم ــا ف ــورا‪ ،‬أو بش ــكل آل ــي‪ ،‬إنم ــا بمقت ـ ـ ى اإلرادة‪ ،‬وت ــدافع ال ــدوافع م ــع املعيق ــات ونج ــاح ذل ــك‪ ،‬والش ــروط م ــع‬
‫الغايات وما شاكل‪.‬‬
‫سـنعرف السْْنن اإلنسْْانية‪ /‬املجتمعيْْة‪ ،‬والسْْنن الكونية‪/‬الفيزيائيْْة بأنهــا "الشـ يء الــذي يكتســب طاقــة التغييــر فــي‬
‫زمن معين‪ ،‬ويستطيع بامتالكه هذه القوة السببية أن يؤثر في غيره من األشياء القابلة للتأثر ونقلها من حالة معينة إلى‬
‫املسبب للطاقة‬ ‫حالة جديدة مغايرة للحالة السابقة‪ ،‬بشكل ال يتخلف‪ ،‬تغييرا فيه من اآللية (أي الحتمية في استجابة َّ‬
‫الســببية بمجــرد وجوده ــا – الســنن الكونيــة‪ /‬الفيزيائي ــة)‪ ،‬مــع تــأثره بطب ــاوع وســنن إنســانية مص ــممة (الســنن اإلنس ــانية‪/‬‬
‫املجتمعية)‪ ،‬وهي وإن كانـت بـذكاء تصـميمها تف ـ ي إلـى إحـداث التغييـر‪ ،‬إال إنهـا غيـر حديـة‪ ،‬فهـي قابلـة للتفاعـل‪ ،‬بحيـث‬
‫تف ي إلى التغيير نتيجة حسن التدبير والتصميم‪ ،‬ومناسبة اآلليات والشروط املصممة خصيصا إلحـداث التغييـر مـع‬
‫الش يء املراد تغييره‪ ،‬فالتغيير الذي تحدثه ليس تغييرا آليا مجردا‪ ،‬وهذه السنن أو النواميس الكونية واإلنسانية تجـري‬
‫عل ــى الص ــال والط ــال ‪ ،‬عل ــى امل ــؤمن والك ــافر س ــواء‪ ،‬فعم ــل ق ــانون الس ــببية الك ــوني ي ــتالئم ونظ ــام الوج ــود‪ ،‬ينتص ــر في ــه‬
‫الق ــوي عل ــى الض ــعيف‪ ،‬وإن انتص ــر الضـ ــعيف فالس ــتعماله عناص ــر ق ــوة ل ــم اسـ ــتعملها الق ــوي مث ــل ال ــذكاء والحيلـ ــة‪،‬‬
‫فيتفوق بقوة ذكائه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫فالســببية والســنن هــي ربــط األســباب املاديــة بمســببا ها املاديــة مــن أجــل تحقيــق قصــد معــين أو هــدف معــين بمعرفــة‬
‫جميــع األســباب والشــروط املفضــية إلــى تحقيقــه ثــم ربطهــا في ــه جميعهــا ربطــا صــحيحا‪ ،‬وعنــدها فقــط نقــول إننــا أخ ــذنا‬
‫باألسباب أي بقاعدة السببية‪.‬‬
‫وليس املقصد من العالقة السببية مجرد أن نفهـم شـرط وجـود الشـروط والسـبب‪ ،‬لتحقـق املسـبب ووقوعـه‪ ،‬وإنمـا‬
‫الغايــة ه ــي حســن فه ــم هــذه العالق ــة بغيــة االس ــتفادة منهــا ف ــي تســيير ش ــئوننا بمــا يف ـ ي للقيــام بالواجب ــات املنوطــة عل ــى‬
‫الوجه األكمل‪ ،‬أي توظيف السببية إلنجاز الغايات وتحقيق األهداف‪.‬‬
‫وس ْْنقابل ذل ْْك بالس ْْنن اإللهي ْْة‪ ،‬وه ــي ت ل ــك الن ــواميس التــي تحص ــل بس ــبب االس ــتجابة لق ــوانين إلهي ــة بينه ــا هللا لن ــا‪،‬‬
‫تتميز بتوجيه النواميس الكونية وجهة التماشْ ي مْْع قصْْد الخلْْق‪ ،‬فينتصـر الحـق علـى الباطـل مـثال‪ ،‬وينصـر هللا رسـله‬
‫وال ــذين آمن ــوا‪ ،‬حت ــى وإن كــانوا قل ــة مستض ــعفين‪ ،‬فتق ـ ي الس ــنن اإللهي ــة بتس ــيير املس ــببات بالغائي ــة فاألس ــباب ت ــدفع‬
‫الح ــدث م ــن الخل ــف والغاي ــات تج ــر اله ــدف إل ــى األم ــام‪ ،‬فتحق ْْق الس ْْببية اإللهي ْْة مقص ْْدا يف ْْوق مج ْْرد التفاع ْْل ب ْْين‬

‫‪39‬‬
‫األسباب واملسببات إلنتاج تغييْْرمْْا‪ ،‬ليعمْْل قْْانون السْْببية بمْْا يحقْْق غايْْات الشْْرائع وقيْْام ميْزان الحْْق والعْْدل‬
‫في األرب‪.‬‬
‫الغائية والسببية كجناحي الطائر‪:‬‬
‫لألنظمة السببية العاقلـة كاإلنسـان والـدول واألحـزاب دوافـع إرادة‪ ،‬وغايـة وراء كـل فعـل سـببي تقـوم بأدائـه‪ ،‬وتكـون‬
‫هذه الغايات سابقة لألفعال السببية‪ ،‬إذ إنه ال بد أن يكون وراء األسباب غاية تدفعها إلى تحقيق وظيفة معينة‪،‬‬
‫والغائية باعث على تسخير األسباب الالزمة إلنتاج الغايات بالتفصيل! أو الغائية هي الباعث على إيجاد‬
‫وتفعيل العمليات ‪ Processes‬التي يتم من خاللها تنفيذ التصميم الذكي في كل مرحلة من مراحله! هذه العمليات‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫والتفاعل‬
‫ِ‬ ‫الالزم تذليلها‪،‬‬
‫العقبات ِ‬
‫ِ‬ ‫وتذليل‬
‫ِ‬ ‫الالزمة‬
‫ِ‬ ‫األسباب‬
‫ِ‬ ‫لتفعيل‬
‫ِ‬ ‫والعلم واملعارف الخاصة‬ ‫َ‬ ‫ت َس ِخ ُرالقدرة واإلرادة‬
‫الهدف! هذه هي الغائية بكل دقة!‬ ‫ِ‬ ‫إلنتاج‬
‫ِ‬ ‫الالزمة‬
‫ِ‬ ‫مع الشرو ِ‬
‫والذكاء هو اختيار خيارات محددة دون غيرها‪ ،‬واملعارف املخصوصة‪ ،‬والخبرات الالزمة‪ ،‬ودراسة كيف يمكن‬
‫لهذه الخيارات أن تقوم في الو اقع‪ ،‬من حيث أشكالها وارتباطا ها‪ ،‬وكيفية التغلب على قوى الطبيعة‪ ،‬أو تدخير تلك‬
‫القوى لخدمة املشرو بشكل ذكي‪ ،‬والسير في املشرو بخطوات محددة مدروسة تنتجه بالصورة املطلوبة‪ ،‬منذ كان‬
‫املشرو فكرة إلى أن نتج بتفاصيله على أرض الواقع‪.‬‬
‫فاملخطط الهندس ي (مثال الطائرة في مثالنا السابق) على الورق هو "تصميم ذكي"‪ ،‬واملخطط الهندس ي بعد التنفيذ‬
‫هو "تصميم ذكي" نقلته الغائية من الورق إلى الواقع عبر تدخير األسباب ومدافعة العوائق‪ ،‬والتعاون مع الشروط‪ ،‬في‬
‫كل خطوة من الخطوات‪ ،‬ودائما في كل خطوة يالح أن الغاية فيها تجر األسباب من األمام وأن األسباب تدفع‬
‫الحدض من الخلف‪ ،‬وأن الغائية تعمل على تحقيق التنفيذ‪ ،‬وأن الذكاء يربم بين التخطيم والتنفيذ واختيار‬
‫الخيارات املعينة املطلوبة دون غيرها‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالغايات والسببية كجناحي الطائر‪ ،‬ال يطير إال بهما‪ ،‬فاألسباب تدفع الحدث من الخلف‪ ،‬وتحقق وجوده‪،‬‬
‫والغايات تجره من األمام بتشكيلها ل "باعث" في كل خطوة من الخطوات لدراسة األعمال الالزمة واألسباب الالزمة‬
‫للقيام بتلك األعمال‪ ،‬هذا الباعث وما ينتجه من أعمال نسميه بالغائية‪ ،‬أو "العلة الغائية"‪ ،‬أو "العلة الباعثة"‪،‬‬
‫فالغائية هي الواصل بين الغايات واألسباب لتحقيق التصميم الذكي على صورة احيحة‪ ،‬أي تصميم وصناعة‬
‫الطائرة في مثالنا السابق‪ ،‬وبين السببية والغايات والغائية كلها عروة وثقى ال تنفصم!‬
‫لكنن ــا نعل ــم أن الس ــببية حتــى تتفاع ــل م ــع األس ــباب وتح ــدث العم ــل املطل ــوب‪ ،‬ال ب ــد أن تمتل ــك الق ــدرة عل ــى إح ــداث‬
‫التغيير أو إنتاج املسبب‪ ،‬فال بد لها أن تمتلك الطاقة الكافية للتغييـر‪ ،‬وال بـد لهـا مـن القـدرة علـى التفاعـل مـع الشـروط‬
‫املحيطـة الالزمـة إلحـداث التغييــر‪ ،‬ال بـد لهـا مــن أن تكـون علـال للتغييــر‪ ،‬بحيـث إن التغييـر (املعلــول) محتـاج لهـا لحدوثــه!‬
‫أي ال بد أن تكون هي هي األسباب الحقيقية للتغيير (فمثال‪ :‬املجتمع ال يمكن أن ير ى بر ي األخالق فقط‪ ،‬بل ير ى بتغير‬
‫املفاهيم املؤثرة في العالقات القائمة فيه‪ ،‬وبتغير األنظمة الحاكمة له‪ ،‬وبتغير املشاعر واألفكار التي يمتلكها أفراده كما‬
‫‪40‬‬
‫َ‬
‫بينا سابقا في هذا الكتاب‪ ،‬فإذا ما أراد حزب ما أن ينهض باملجتمع ُم َّت ِخذا األخالق وحـدها سـببا للتغييـر‪ ،‬فإنـه سيفشـل‬
‫حتما‪ ،‬فال بـد لـه مـن األخـذ باألسـباب الحقيقيـة املـؤثرة فـي املجتمـع ليحـدث التغييـر! ومـثال‪ :‬النهضـة هـي االرتفـا الفكـري‪،‬‬
‫فهذه سنة مجتمعية ثابتة راسخة)‬
‫علــى أن نظ ــام األســباب ال يمك ــن أن اعمــل وح ــده دون وجــود الطاق ــة الدافعــة التــي تجرهــا الغاي ــات ليــأثر الفاع ــل ف ــي‬
‫الفعل على نحو معـين بنـاء علـى التصـميم الـذي وجـد لـدى القـادر علـى إحـداث التغييـر‪( ،‬ففـي مثـال الطـائرة السـابق‪ :‬لـو‬
‫لـم اسـتغل املصـمم الحســابات الدقيقـة التـي تحسـب لــه القـوة الالزمـة لــدفع الطـائرة لألمـام‪ ،‬فـإن تصــميمه لـن يـنج فــي‬
‫دفعهــا‪ ،‬وبالتــالي‪ ،‬فعلــى الــرغم مــن أن القــوانين الناظمــة للكــون والتــي فــي طيا هــا تحمــل العالقــات بــين األشــياء‪ ،‬مثــل كميــة‬
‫الوقود الالزم إحراقها إلنتاج كم معين من الطاقة استطيع دفع الطائرة‪ ،‬إال إن املصـمم إذا لـم اسـتغل هـذه املعلومـات‬
‫والعالق ــات الس ــببية املوج ــودة ف ــي س ــنن الطبيع ــة‪ ،‬فإن ــه ل ــن اس ــتطيع االس ــتفادة م ــن تص ــميمه‪ ،‬ل ــذلك فالغاي ــات تدفع ــه‬
‫للبحث عن العالقات السببية وتفعيلها) فيما ال استطيع التغير وحده (أي القاصر ذاتيا) دون وجـود السـبب أو العلـة‪،‬‬
‫(بمعنـى آخــر‪ ،‬فــإن العالقــات الســببية املوجـودة فــي الطبيعــة مثــل كميــة الوقــود الالزمـة إلنتــاج طاقــة معينــة وحــدها‪ ،‬مــن‬
‫دون تصميم ذكي‪ ،‬لن تستطيع أن تنهض لتصمم وتصنع طائرة تطير! فال بد من الغايات واألسباب وال بد من الغائية!‪28‬‬

‫‪ 28‬بتصرف كبير عن األستاذ املفكر يوسف الساريس ي!‬


‫‪41‬‬
‫تعريفات الزمة للفهم‪:‬‬
‫تعريف السنن‪:‬‬
‫السـنة‪ :‬السـين والنــون أصـل واحــد مطـرد‪ ،‬وهــو جرَيـان الشـ يء وإطـر ُاد ُه فـي ســهولة‪ .29،‬والسـنن‪ ،‬وهــو الطريقـة‪ ،‬يقــال‪:‬‬
‫والطرْيـ ُق‪ .‬وكــذلك السـ َـن ُن‪َ :‬‬‫َّ‬ ‫ـيرة‪ 30.‬والسـ َـن ُن‪ :‬ا َملـ ْذ َه ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ َّ ُ‬ ‫امــض علــى َسـ َنن َك و ُسـ َنن َ‬
‫القصـ ُـد الــذي‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ـ‬‫س‬‫ال‬ ‫ة‬ ‫ن‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫وال‬ ‫ـك‪.‬‬
‫ـ‬ ‫ه‬ ‫وج‬ ‫ـى‬‫ـ‬‫ل‬ ‫ع‬ ‫أي‬ ‫‪،‬‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت ِرْيـ ُده‪ ... ،‬والســنة‪ :‬العــادة أيضــا ‪ ...‬و َسـن ّللا قضـ َاء حــاجتي علــى يد ْيـه‪ :‬أي أجـ َراه وس ْببه‪ 31 .‬فالســنن‪ :‬جمــع ســنة‪ ،‬وســنة‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫النبي ﷺ‪ :‬طريقته التي كان يتحراها‪ ،‬وسنة هللا تعالى‪ :‬قد تقال لطريقة حكمته‪ ،‬وطريقة طاعته‪32‬‬

‫لم اشع استخدام أي معنى اصطالحي للفظة سنن بحيث تساوي معنى قـوانين األشـياء املاديـة فيبقـى املعنـى اللغـوي‬
‫الصقا بها‪ ،‬وقد رأينا أن القرآن والحديث قد استخدما السنة والسنن للداللة على طريقة التصرف أو تأثراملجتمعات‬
‫البشْْرية عقْْب قيامهْْا بأفعْْال معينْْة‪ .‬فــالل عـز وجــل قــد سـن ســننا للنــاس وطلــب مـن املســلمين معرفتهــا أو اكتشــافها‪،‬‬
‫ُ ُْ َ‬ ‫ف َ ـك َ‬‫ْ َْ َ ْ ُ َ ْ َ‬ ‫َ ْ ََ ْ ْ َْ ُ ْ ُ َ َ ُ‬
‫ان َعا ِق َبـة املكـ ِذ ِب َين﴾ [‪ 137‬آل عمـران] وفــي‬ ‫ض فـانظروا كيـ‬ ‫قـال هللا تعـالى ﴿قـد خلـت ِمـن قـب ِلكم سـنن ف ِسـيروا ِفـي األر ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ ََ‬
‫تفســير اب ــن كثيــر‪" :‬يق ــول تعــالى مخاطب ــا عبــاده امل ــؤمنين ملــا أص ــيبوا يــوم أح ــد وقتــل م ــنهم ســبعون ﴿ق ـ ْد خلـ ْت ِم ـ ْن ق ـ ْب ِلك ْم‬
‫َ‬
‫ُسـنن﴾ أي ق ــد ج ــرى نح ــو هــذا عل ــى األم ــم ال ــذين ـكـانوا م ــن ق ــبلكم م ــن أتبــا األنبي ــاء ث ــم كان ــت العاقبــة له ــم وال ــدائرة عل ــى‬
‫الكافرين"‪.33‬فهي سنة انتصار الحق على الباطل ولو بعد جوالت قد ينتفش فيها الباطل!‬
‫السببية والغائية‪ :‬تعريف العلة والسبب‪ ،‬والغاية‪ ،‬والعلة الغائية‪:‬‬
‫يء‪34‬‬ ‫الغاية‪ :‬ما ألجله وجود الش‬
‫العادة‪ :‬ما استمر الناس عليه على حكم املعقول‪ ،‬وعادوا إليه مرة بعد أخرى‪،35.‬‬
‫صـ َع ُد ِبـ ِه ُوين َحـ َد ُر"‪ 37‬فال َّسـ َب ُب يتخـذ طريقـة لبلـوا الـ ُـم َس َّب ِب كمـا‬
‫الح ْبـ ُل ُي ْ‬ ‫الح ْب ُل‪َ .‬‬
‫والق َد ُر أيضا"‪" 36‬ال َّسـ َب ُب‪َ :‬‬ ‫" َ‬
‫السب ُب‪َ :‬‬
‫والس َب ُب التام‪ :‬هو الذي يوجد‬ ‫استعمل الحبل للصعود والهبوط‪" .‬والسبب في اللغة‪ :‬اسم ملا يتوصل به إلى املقصود‪َّ ،‬‬
‫ووا ال ـ ُـم َس َّب ِب عليو ل ي ووي ج ا و الـ ُـم َس َّب ُب با ووا‬ ‫الـ ُـم َس َّب ُب بوجــوده فق ــط‪ .‬وال َّسـ َب ُب غيــر الت ــام‪ :‬هووا ذي وووق واوو‬

‫‪ 29‬مججم مقاييس اللغة البن فارس‬


‫‪ 30‬الصحاح للجوهري‪.‬‬
‫‪ 31‬املحيط في اللغة للصاحبي ابن عباد‬
‫‪ 32‬مفردات ألفاظ القرآن لألصفهاني‬
‫‪ 33‬تفسير ابن كثير‬
‫‪ 34‬التعريفات للجرجاني‬
‫‪ 35‬التعريفات للجرجاني‬
‫‪ 36‬املحيط في اللغة للصاحبي ابن عباد‬
‫‪ 37‬فقه اللغة وسر العربية للثعالبي‬
‫‪42‬‬
‫ََْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َّ َّ َ ُ ْ َ‬
‫ض َوآت ْي َنـ ُاه ِمـن كـ ِل شـ ْيء َسـ َببا ۝ فـأت َب َع‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫األ ْ‬ ‫فقط"‪" .38‬وسمي كل مايتوسل به إلى ش يء سببا‪ ،‬قال تعـالى‪ِ ﴿ :‬إنـا مكنـا لـه ِفـي‬
‫َس ـ َببا﴾ [الكه ــف ‪ ،]85 - 84‬ومعن ــاه‪ :‬أن هللا تع ــالى آت ــاه م ــن كــل ش ـ يء معرف ــة‪ ،‬وذريع ــة يتوص ــل به ــا‪ ،‬ف ــاتبع واح ــدا م ــن تل ــك‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َّ َ َ ْ ُ ُ ْ َ‬ ‫ال ف ْر َع ـ ْو ُن َي ـا َها َم ـ ُ‬ ‫ََ‬
‫ات﴾‬ ‫ِ‬ ‫او‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ـ‬ ‫َّ‬
‫س‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫اب‬ ‫ب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫أ‬ ‫۝‬ ‫َ‬
‫اب‬ ‫ب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫األ‬ ‫ان ا ْب ـ ِن ِل ـي ص ـرحا لع ِل ـي أبل ـغ‬ ‫األس ــباب‪ ،‬وعل ــى ذل ــك قول ــه تع ــالى‪﴿ :‬وق ـ َ ِ‬
‫[غــافر ‪ ،]37 - 36‬أي‪" :‬لعلــي أعــرف الــذراوع واألســباب الحادثــة فــي الســماء‪ ،‬فأتوصــل بهــا إلــى معرفــة مــا يدعيــه موسـ ى"‪.39،‬‬
‫"وهك ــذا ف ــإن معنــى الس ــبب ه ــو كــل ش ـ يء ُيتوص ــل ب ــه إل ــى غي ــره‪ ،‬وبه ــذا املعنــى اس ــتعملها الع ــرب والق ـرآن الك ــريم والعلم ـ ُـاء‬
‫ُّ‬
‫والفقهـ ُـاء؛ وعليــه فــإن الحبـ َـل والطريــق وانتهــاء األجــل وإعــداد العـ َّـدة مــثال كلهــا أســباب ألنــه يمكـ ُـن التوصــل بهــا إلــى الغيــر؛‬
‫ـتعمل لف ـ الس ــبب ف ــي قولن ــا م ــثال أس ــباب اإلرث‪ ،‬أو أس ــباب التمل ــك‪ ،‬أو رب ــط األس ــباب بمس ــببا ها‪ ،‬أو أس ـ ُ‬
‫ـباب‬ ‫فح ــين نس ـ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل ما يتوصل به إلى الغير وال نعني َ‬ ‫النزول فإنها تعني َّ‬
‫والغير هو‬ ‫غير ذلك مطلقا‪ ،‬فواسطة التوصل إلى الغير هي السبب‬
‫َّ‬
‫املسب ْ‬
‫ب"‪40.‬‬

‫والعلْ ْْة‪ 41‬ف ــي اللغ ــة‪ 42‬ت ــأتي م ــن العوائ ــق املعيق ــة‪ ،‬وم ــن ض ــعف ف ــي الش ـ يء‪ ،‬والعل ــة بالت ــالي ه ــي "باع ــث" عل ــى التفكي ــر‬
‫والتخطيط لتجاوز العقبات والعوائق‪ ،‬أو لوضع الحلول‪ ،‬والتغلب على الضعف والوهن‪ ،‬من أجل بلوا غايات معينة‪،‬‬
‫فالعلة الغائية إذن علة باعثة‪ ،‬ولهست هي الغاية‪ ،‬بل هي التـي تبعـث علـى تصـميم األنظمـة‪ ،‬ووضـع الحلـول كـي توصـل‬
‫َّ ُ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫إلــى الغايــة‪ .‬و ِعل ْة الش ْ يء‪ :‬مــا يتوقــف عليــه ذلــك الشـ يء‪ ،43،‬ال ِعلـة الصــورية‪ :‬مــا ُيو ِجـ ُد الشـ ْي َء بالفعــل‪ .‬ال ِعلـة الغا ِئ َّيـة‪ :‬مــا‬
‫َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ُ َ‬
‫اع َّلية‪ :‬مـا ُيو َجـ ُد ال َّشـ ُيء ِل َسـ َب ِب ِه‪ .‬ال ِعلـة املاديـة‪ :‬مـا ُيو ِجـ ُد ال َّشـ َيء بـالقوة‪ 44.‬وال بـد لكـل معلـول‬ ‫يوجد الش ُيء ِ‬
‫ألجله‪ .‬ال ِعلة الف ِ‬
‫ُ َ ُ‬
‫من علة‪ ،‬تعرف باالستقراء التام‪ ،‬اعرف أثرها في املعلول بالبرهان اليقينـي‪ ،‬والعلْْة تتميـز بظـاهرة االطْراد‪ ،‬واالنعكْْاس‪،‬‬
‫أي كلما وجدت العلة وجد املعلول‪ ،‬وكلما فقدت العلة فقد املعلول‪ ،‬والعلة واضحة غير مضطربة‪45.‬‬

‫‪ 38‬التعريفات للجرجاني‬
‫‪ 39‬مفردات ألفاظ القرآن لألصفهاني‬
‫‪ 40‬السببية ودورها في حياة املسلم‪ .‬عبد الكريم الشامي‪ ،‬دار البيارق‪ ،‬وكذلك مجلة الوعي األعداد ‪21-18‬‬
‫‪ 41‬وهي قسمان‪ :‬ذأل ل‪ :‬ما تقام ب ذملاهية مي أ زذئهال تسمى‪ :‬علة ذملاهيةل ذيثاني‪ :‬ما واو عي ذتصاف ذملاهيووة ذملوقامووة بئ زذئهووا بووايا ا ذوتووا ل تسوومى‬
‫عل ووة ذيا ووا ل عل ووة ذملاهي ووةل بم ووا ألو و ج ووف له ووا ووا ذملال ووال باي ا و ب و ب ووايقا ل و ذيال ووة ذ ملادي ــة‪ ،‬وإم ــا ألن ــه يج ــب به ــا وج ــوده‪ ،‬وه ــي العل ــة الص ــورية‪ ،‬وعل ــة‬
‫الوجود‪ ،‬إما أن يوجد منها املعلول‪ ،‬أي يكون مؤثرا في املعلول موجودا له‪ ،‬وهي العلة الفاعلية‪ ،‬أو ال‪ ،‬وحينئذ إما أن يكون املعلول ألجلها‪ ،‬وهي العلــة الغائيـة‪ ،‬أو‬
‫ال‪ ،‬وهي الشرط إن كان وجوديا‪ ،‬وارتفا املوانع إن كان عدميا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫صاحبه عن وجهه‪.‬‬ ‫تكرر أو تكرير‪ ،‬واآلخر عائق اعوق‪ ،‬والثالث ضعف في الش يء‪ ،‬قال الخليل‪ :‬ال ِعلة حدث اشغ ُل‬ ‫‪ 42‬العين والالم أصول ثالثة صحيحة‪ :‬أحدها ُّ‬
‫اعتله عن كذا‪ ،‬أي ْاع َت َاق ُه‪ .‬قال‪ :‬واألصل الثالث‪ :‬ال ِعلة‪ :‬املرض‪ ،‬وصاح ُ ها ُمعتل‪ .‬مججم مقاييس اللغة البــن فــارس‪ .‬وال َّسـب ُب كـ ُّـل شـ يء ُيت َو َّ‬
‫صـ ُل بــه ِإلــى غيــره؛‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ويقال‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫غيره‪ ،‬وقد تسبب ِإليه‪ ،‬والجمع أسباب‪ .‬لسان العرب‪.‬‬ ‫أو كل ش يء يتوسل به ِإلى ش يء ِ‬
‫‪ 43‬قســم أرس ــطوطاليس العلــل إل ــى أر ــع‪ -1 :‬عل ــة م ــؤثرة – ‪ -2‬علــة مادي ــة‪ -3 -‬علــة ص ــورية‪ -4 -‬عل ــة غائيــة‪ .‬واملث ــال الــذي مث ـل ب ــه هــو ص ــنم الرخــام؛ فالنح ــات علت ــه‬
‫ُ‬
‫امل ـؤثرة‪ ،‬والرخ ــام علتــه املادي ــة‪ ،‬وشــكل الص ــنم علت ــه الصــورية‪ ،‬وتخلي ــد ذكــرى الش ــخص ال ــذي ُنحــت الص ــنم علــى ص ــورته علت ــه الغائيــة‪ ،‬وس ــنرى بعــد قلي ــل خط ــأ‬
‫أرسطو في هذه التقسيمات‪.‬‬
‫‪ 44‬التعريفات للجرجاني‬
‫‪ 45‬كبرى اليقينيات الكونية للبوطي ص ‪.45 -44‬‬
‫‪43‬‬
‫العلة الغائية والعلة الباعثة‪:‬‬
‫بمعن ى واحد‪ ،‬وهي عبارة عن القصد الذي يدفعك إلى تحقيق عمل من األعمال‪ ،‬فلوال قيام هذا القصد فـي الـذهن‬
‫واتجاهك إلى تحقيقه ملا قمت بهذا العمل املعين‪ ،‬فقد كان قصدك هذا علة لوجوده‪ .‬ومن شأن العلة الغائيـة هـذه أنهـا‬
‫َّ‬
‫تسبق املعلول في الوجود الذهني‪ ،‬وتتأخر نتيجتها (الغاية) عنه في الوجود الخار ي‪ ،‬فالحصول على الشهادة ِعلة غائية‬
‫لدراسة الطالب‪ ،‬وهو أمر موجود في الذهن قبل الدراسة‪ ،‬ثم يصبح موجودا (تتحقق الغاية) في الخارج من بعدها‪.‬‬
‫ولفهم معنى العلة الباعثة‪ ،‬نرى أنك حين تشعر بالبرد قد تشعل النار‪ ،‬فالشعور بالبرد "علة باعثة" لتحقيق غاية‪،‬‬
‫فهــي "عل ْْة غائي ْْة"‪ ،‬ت ــدفع اإلنس ــان للتفكيــر بالعم ــل ال ــذي يحقــق غاي ــة م ــا‪ ،‬وهــي هن ــا الش ــعور بالــدفء‪ ،‬فالغاي ــة إذن ه ــي‬
‫الدفء‪ ،‬والبرد هو علة غائية‪ ،‬فينشأ عن العلة الغائية باعث لفعل يكون عكس البرد‪ ،‬فالغاية إذن متصورة في الذهن‪،‬‬
‫فيقوم اإلنسان حينها بإشعال النار أو ارتداء املعطف الثقيل‪ ،‬فالنار أو املعطف أسباب ال بد من تفعيلها لبلوا الغاية‬
‫املتصورة في الذهن‪ ،‬أو النتيجة‪ ،‬فالعلة الغائية باعث على تحريك األسباب وتفعيلها بما يحقق النتيجة أي الغاية‪.‬‬
‫لذلك حين النظر في النظام من حيث الغايات التي حققها‪ ،‬أو التي يمكن استنباطها من وجوده‪ ،‬أو التي نراها فيـه‪،‬‬
‫نــدرك أنــه لوجــود هــذه الغايــات املنظمــة‪ ،‬ـكـان ال بــد بالضــرورة أن يوجــد باعــث مــا (أو مجموعــة بواعــث‪ /‬مشــاكل‪ ،‬علــل‪،‬‬
‫تحريك أسباب الزمة تتغلب على تلك العوائق‪ ،‬وتفعيل الطاقة السببية إليجاد ما يحقق تلك النتائج‬ ‫ُ‬ ‫حاجات ‪...‬الخ) تم‬
‫والغايات بشكل منظم وذكي‪،‬‬
‫ص َّو َرة في الذهن‪ ،‬وكان ال بد من أن يكون تصور األسباب الالزم تفعيلها قائما في الذهن أيضا‪،‬‬ ‫تلك الغايات كانت ُم َت َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وبالتالي فالتصميم الذكي املحكم‪ ،‬أو تصميم األنظمة السببية ال بد أن يكْْون غائيْْا‪ ،‬والغائيْْة أيضْْا قْْرين للتصْْميم‬
‫الذكي‪ ،‬وال محـل للعشـوائية أو املصـادفة‪ ،‬أو العب يـة (العبـث ال يوصـل لغايـة‪ ،‬وال يحقـق قصـدا‪ ،‬ألن القصـد أصـال غيـر‬
‫موجود عند العابث‪ ،‬وقد يكون العابث عاقال‪ ،‬إال أنه ال يقصد بفعله تحقيق غاية‪ ،‬ومتى ما وجدت الغايـة عنـده‪ ،‬حتـى‬
‫ولو كانت تافهة فإن فعله يوصل للقصد‪ ،‬وبالتالي فهو غاوي‪،‬‬
‫فال عب ي ــة ال تعنــي الفع ــل غي ــر املفي ــد هن ــا‪ ،‬ب ــل تعنــي الفع ــل ال ــذي ال يف ـ ي لتحقي ــق قص ــد وغاي ــة النتفائهم ــا أص ــال‪،‬‬
‫والغائي ــة ال تعنــي حص ــر الفع ــل بالفع ــل املفي ــد‪ ،‬ب ــل ه ــي تد ــخير األس ــباب (لتحقي ــق غاي ــات معين ــة)‪ ،‬ف ــي األنظم ــة الغائي ــة‬
‫الذكية التي يالح فيها طرق ذكية تعالج املشاكل‪ ،‬يلعب فيها كل جزء من أجزاء النظام وظيفة معينة لتحقيق النتيجة‬
‫املطلوب ــة‪ ،‬فال ــذكاء وحس ــن التص ــميم مقترن ــان باالس ــتجابة لح ــل معض ــلة م ــا‪ ،‬أو تج ــاوز عقب ــة م ــا‪ ،‬أو تد ــخير س ــبب م ــا‪،‬‬
‫َ‬
‫ف ُي َد ِخ ُر املصمم إذن ذكاءه ليحل املشكلة ويتجاوز العقبات‪ ،‬لذلك فقولنا‪" :‬التصميم ذكي" هو نفسه قولنا "التصميم‬
‫غاوي"‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫الفرق بين العلة والسبب‪ ،‬وبين الغاية والعلة الغائية‪:‬‬
‫قال بعض الفالسفة واملفكرين‪ " :‬الغاية ما ألجله وجـود الشـ يء‪ ،‬وتطلـق علـى الحـد النهـاوي الـذي يقـف العقـل عنـده‪،‬‬
‫وعلى التمام أو الكمال املقصود تحقيقه‪ ،‬واملصير املراد بلوغه‪ .‬وقد تطلق كذلك على الغرب‪ ،‬ويسمى علة غائية‪ ،‬وهي‬
‫مْْا ألجلْْه إقــدام الفاعــل علـى الفعــل‪ ،‬وهــي ثابتـة لكــل فاعــل يفعـل بالقصْْد واالختيْْار"‪ ،‬وتعليقنــا علــى هـذا التعريــف هــو‬
‫مالحظــة تفريقن ــا بــين العل ــة الغائيــة والغاي ــة‪ ،‬ق ــال ابــن س ــينا‪" :‬والغايــة بم ــا هــي ش ـ يء فإنه ــا تتقــدم س ــائر العلــل‪ ،‬وه ــي عل ــة‬
‫العلل في أنها علل ‪ ...‬وذلك ألن سائر العلل إنما تصير علال بالفعل ألجل الغاية‪ ،‬وليست هي ألجل ش يء آخر ‪ ...‬ويشبه أن‬
‫يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل األول واملحرك األول في كل ش يء هو الغاية"‪ 46.‬واض ان ابن سينا يخلط بين‬
‫الغاية والعلة الغائية‪ ،‬وقد وجدنا هذا يتكرر كثيرا عند الفالسفة واملفكرين‪،‬‬
‫وكذلك وجدنا كثيرا منهم يخلط بين العلة والسبب‪ ،‬ولكن كالمنا أدق‪ ،‬وتعريفنا أضبط‪.‬‬
‫والف ْْرق ب ْْين العل ْْة والس ْْبب‪ ،‬ه ــو أن الس ــبب "فاع ــل"‪ ،‬بينم ــا العل ــة "باع ــث" عل ــى التغيي ــر‪ .‬والس ــبب ه ــو م ــا يل ــزم م ــن‬
‫وجوده وجود‪ ،‬ومن عدمه العدم‪ ،‬ولم يكن هو الباعث على التغيير‪ ،‬بل هو الذي به يحصل التغيير‪.‬‬
‫كذلك بالتحليل نجد أن السبب ينتج املسبب حتما‪ ،‬بينما العلة تـدور مـع املعلـول وجـودا وعـدما‪ ،‬وال تنـتج املعلـول‪،‬‬
‫فــالعطش باعــث (علــة) علــى الشــرب لدرتــواء‪ ،‬وقــد اشــرب العطشــان وقــد ال اشــرب‪ ،‬وقــد اعطــش اإلنســان يومــه وقــد ال‬
‫اعطــش ذلــك اليــوم‪ ،‬فــإن عطــش وجــد املعلــول‪ ،‬فوجــدت العلــة بوجــوده‪ ،‬وإن لــم اعطــش انتفــى املعلــول ولــم اعــد للعل ــة‬
‫وجود‪ ،‬بينما الشرب سبب في اإلرتواء‪ ،‬إن حصل الشرب حصل اإلرتواء دائما‪.‬‬
‫وال بــد لكــل ُمسـ َّـبب مــن ســبب‪ُ ،‬اعــرف باالســتقراء التــام‪ ،‬أو باالســتقراء النــاقص‪ 47‬مــع مالحظــة تكــرر إنتــاج الـ ُـم َس ِب ِب‬
‫للم َس ـ َّب ِب‪( ،‬كثي ـرا م ــا اس ــميها املفك ــرون‪ :‬عل ــة‪ ،‬ويمك ــن أن نس ــميها عالق ــة معل ــول بعل ــة إذا فهمناه ــا ف ــي إط ــار الباع ــث عل ــى‬ ‫ُ‬
‫الغليــان مــثال الــذي يحــرك العالقــة الســببية فــي اللحظــة املناســبة إلنجــاز الغليــان‪ ،‬وذلــك ألن العالقــة العليــة ال توجــد إال‬
‫بوجود السببية‪ ،‬أي أنه ال تتحقق العلية إال بتفعيْْل السْْببية! مـن هنـا كـان املفكـرون اسـتعملونهما بشـكل متبـادل! وال‬
‫بأس في ذلك‪ ،‬طاملا أن الفرق بينهما واض في الذهن)‪ ،‬وهذا التكرار استحيل أن يكون مصادفة كل مرة‪ ،‬ويعرف أثره في‬
‫الـ ُـم َس َّب ِب بالبرهــان اليقينــي‪ ،‬والس ــبب يتميــز بظــاهرة االط ْراد‪ ،‬واالنعكْْاس‪ ،‬أي كلمــا ُو ِجـ َد ال َّس ـ َب ُب ُو ِجـ َد الـ ُـم َس َّب ُب‪ ،‬وكلم ــا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ف ِق َد ال َّس َب ُب ف ِق َد ال ُـم َس َّب ُب‪.‬‬
‫والفـرق بينهمـا أن الغايـات قـد ال تكـون لهــا أي عالقـة باألسـباب‪ ،‬وقـد كـان لعــدم تفريـق علمـاء الغـرب التجـريبيين بــين‬
‫الغايات وبين العلة الغائية نتائج كارثية على املعرفة‪ ،‬اعرض لنا باروخ برودي مثلين على غايات معينة اعتبرهما مثالين‬
‫للتفس ــير "ال ــوظيفي"‪ 48‬ف ــي س ــياق العل ــوم االجتماعي ــة والبايولوجي ــة‪ ،‬أولهم ــا‪ :‬مل ــاذا اس ــتمر هن ــود اله ــو ي ف ــي أداء طق ــوس‬

‫‪ 46‬األنطولوجيا العربية‪ ،‬باب‪ :‬الغاية ومقولة ابن سينا مقتبسة من (النجاة‪ ،‬ص ‪.)345‬‬
‫‪ 47‬نعني هنا أننا ال نحتاج أن نستقري كل حاالت غليان املاء كل مرة في الدنيا وفي املستقبل حتى يكون االستقراء كامال!‬
‫‪ 48‬أنظر‪ :‬باروخ برودي في كتابه‪ :‬قراءات في فلسفة العلوم‪ ،‬ترجمة د‪ .‬نجيب الحصادي ص ‪.29‬‬
‫‪45‬‬
‫االستس ــقاء رغ ــم أنه ــا ف ــي الع ــادة ال تف ـ ي إل ــى النت ــائج املرج ــوة؟ الس ــبب ه ــو توظي ــف ه ــذه الطق ــوس ف ــي تعزي ــز التماس ــك‬
‫االجتم ــاعي عب ــر خل ــق مناس ــبات للمس ــاهمة ف ــي أنظم ــة مش ــتركة‪ ،‬األم ــر ال ــالزم لبق ــاء وح ــدة الجماع ــة ورفاه ـة أعض ــائها‪،‬‬
‫والرابط هنا في املثال األول هو رابط الغايات املقصودة من األعمال‪ ،‬وقابلية هـذه األهـداف للتفسـير‪ ،‬واخـتالف النظـرة‬
‫له ــذه الغاي ــات مم ــا يجع ــل إقح ــام العل ــم ف ــي تفس ــيرها مركب ــا "ص ــعبا" ق ــد يخط ــئ تل ــك الغاي ــات‪ ،‬ف ــال َهم ــه إذن م ــن ه ــذه‬
‫الظــاهرة التــي ه ــي هن ــا‪ :‬االستســقاء‪ ،‬إال ب ح ــث طبيعته ــا ونتيجته ــا بأنهــا ال تجل ــب املط ــر‪ ،‬وخل ــو هــذه الظ ــاهرة م ــن ق ــوانين أو‬
‫نظريــات‪ ،‬األم ــر الــذي يف ـ ي إل ــى أن يصــرف العل ــم وجهــه عنه ــا" انته ــى‪ ،‬والطامــة ف ــي ه ــذا األمــر ه ــو إس ْْقا بح ْْث العل ْْل‬
‫الغائي ْْة م ْْن البح ْْث العلو ْْي برمت ْْه‪ ،‬ح ــين اخ ــتلط مفه ــوم الغاي ــة بمفه ــوم العل ــة الغائي ــة أو الباعث ــة‪ ،‬فح ــين ق ــام علم ــاء‬
‫البيولوجيا بدراسـة حقيقة كون نوع من الفراشات يظهْْرنوعْْا مْْن األلْْوان‪ ،‬غيْْرقابلْْة ألن تشْْتق‪ ،‬ومْْن ثْْم غيْْرقابلْْة‬
‫ألن تفسر‪ ،‬من قبل القضية التي تقرر أن لهذا النو من األلوان أثرا في الحْْول دون مطْْاردة الطيْْور لتلْْك الفراشْْات‪،‬‬
‫فهناك مشكلة مطـاردة الفراشـات‪ ،‬وهـي علـة غائيـة أي باعـث علـى التصـميم الحكـيم‪ ،‬كـان الحـل هـو تلـك األلـوان‪ ،‬تمامـا‬
‫كما للحرباء من ألوان تخفيه‪ ،‬فالعلة الباعثة أو العلة الغائية هي التخفي من املطاردة والحفاظ على الحياة‪ ،‬واألسباب‬
‫التي تحركت هي ألوان معينة تحقق هذه النتيجة‪،‬‬
‫األمر الذي سيف ي إلى التساُل‪ :‬من الذي جعل الججماوات من الحيوانات كتلك الفراشات التي لها ألوان تصرف‬
‫عنه ــا اعت ــداء ومالحق ــة الطي ــور‪ ،‬أو األل ــوان التــي تتخ ــذها الحرب ــاء لالختف ــاء لحماي ــة نفس ــها أو االنقض ــاض الص ــامت عل ــى‬
‫فريستها‪ ،‬وما اشبه ذلك من أعمال ذكية تدل على تصميم مسبق محكم؟ هل قامت الججمـاوات بوضـع هـذا التصـميم‬
‫امل هـ ــر واختيـ ــار ألـ ــوان غيـ ــر قابلـ ــة لالشـ ــتقاق‪ ،‬أو ألـ ــوان تتكيـ ــف مـ ــع الوسـ ــط املحـ ــيط؟ لكـ ــن هـ ــذه الخيـ ــارات ذكيـ ــة وهـ ــي‬
‫عجماوات؟ األمر الذي سيدفع العلم ليقدم الصلة بين تلك الظواهر وتلك التصاميم‪ ،‬والخالق املبد ‪،‬‬
‫وألن علم ــاء البيولوجي ــا ال يري ــدون رب ــط التص ــميم املحك ــم بالخ ــالق‪ ،‬ح ــاروا‪ ،‬واحتج ــوا ب ــأن ه ــذه "غاي ــات" يختل ــف‬
‫تفسيرها‪ ،‬كما ال يمكن تفسير الرابط بين االستسقاء الذي لم ينزل معه أي مطر‪ ،‬وبين املطر وهو غايته!‬
‫فـ ـرأوا أن بحـ ــث الغايـ ــات هـ ــذا ال اسـ ــمى بالبحـ ــث العلمـ ــي‪ ،‬فالواضـ ـ أن املـ ــنهج املعرفـ ــي الطـ ــا ي فـ ــي الوسـ ــط العلمـ ــي‬
‫التجريبي الغر ي يريد أن يضع مسمارا في نعش الغائية‪ ،‬والوظيفية‪ ،‬ويصرف التفكير عن مثل هذا التفكير الغاوي مهما‬
‫كان ظاهرا وواضحا‪ ،‬إلى محاولة تلمس تعليالت مادية بحتة ال عالقة لها بالتفكير الغاوي املسبق! أي إلى البحث في أمور‬
‫ـدخ َل فيهــا للــذكاء املســبق‪ ،‬وال للتخطــيط لغائيــات بايولوجيــة تفســر ظــواهر محسوســة‪ ،‬أو ســلوكا وظيفيــا‬ ‫طبيعيــة‪ ،‬ال تـ ُّ‬
‫ظ ــاهرا عل ــى ك ــف الي ــد‪ .‬إذن‪ ،‬فع ــدم التفري ــق ب ــين الغاي ــة وب ــين العل ــة الغائي ــة أف ـ ى إل ــى ك ــوارث عل ــى نظري ــة املعرف ــة عن ــد‬
‫َ‬
‫الغربيين‪ .‬وهذا ما يفسد مسار العلم ويبعده عن أن يكون أداة لتفسير العالم!‬
‫نالحـ أيضـا أن كلمـة العلـة الغائيـة‪( ،‬الغائيـة) تـرتبط عـادة بالهـدف‪ ،‬أو الغـرض‪ ،‬أو الوظيفـة التـي تتمثـل فـي نتيجـة‬
‫الفعــل الغ ــاوي‪( ،‬الباع ــث عل ــى القي ــام بأفع ــال توج ــد النتيج ــة)‪ ،‬ل ــذلك يح ــرص بع ــض العلم ــانيين الرافض ــين للغائي ــة عل ــى‬
‫ْ ُ‬
‫"الكل َية جهاز الزم للتخلص مـن البـول" بـدال مـن‬ ‫تجنب استعمال هذه األلفاظ للداللة على "وظائف" األجهزة‪ ،‬كقولهم‪ِ :‬‬

‫‪46‬‬
‫َ َْ ُ ْ‬
‫الكل َي ـ ِة ه ــي ال ــتخلص م ــن الب ــول"‪ ،‬وذل ــك ألن بعض ــهم ينك ــر الغائي ــة ويعتبره ــا تتن ــاقض م ــع العل ــم‪ ،‬وي ــؤمن فق ــط‬
‫"و ِظيف ـة ِ‬
‫بالسببية والحتمية‪ ،‬على أساس االنفصام بين السببية والعلة الغائية‪،‬‬
‫فكــأن األســباب ال تتحــرك تبعــا لوجــود بواعــث غائيــة تحركهــا‪ ،‬فيظنــون أنــه إذا تــوافرت األســباب نفســها فــي الظــروف‬
‫ذا هــا حصــلت النتــائج نفســها بش ْْكل حتو ْْي أو ذاتــي‪ ،‬فمن ْْا "العل ْْم التجريب ْْي" املتمثل ْْة ف ْْي االس ْْتقراء واالس ْْتنتاج ال‬
‫تقوم على افتراب غاية سابقة تحكم الوجود‪ ،‬وإنما هناك قوى كامنة في طبيعة األشياء تفعل فيها‪،49‬‬
‫وما نود اإلشارة إليه هنا‪ ،‬أن هناك فرقا بين الغائية والغايات‪ ،‬فحيثما وجـدت مصـطل "الغائيـة" فـي هـذا البحـث‪،‬‬
‫فهو اعني‪ :‬العلة الغائية‪ ،‬وهو غير الغاية أو القصد‪ ،‬فالغاية أو القصد يرتبطان ب "الحكمة" من الش يء‪ ،‬فالحكمة هي‬
‫ما ينتج عن الفعل من مصال ومنافع بعد حصوله‪.‬‬
‫ففي مسألة االستسقاء التي طرحهـا بـرودي قبـل قليـل نجـد "حكمـة" أو "غايـة" مـن ذلـك الفعـل‪ ،‬يصـعب علـى مـن لـم‬
‫يفهم طبيعة ذلك الشعب بلوغها‪ ،‬وقد استنبط فالسفة "حكما وغايات" أخرى‪ ،‬وال مجال لتقنين هذه الحكم‪ ،‬وبالتالي‬
‫أسقطوا مثل هذه األبحاث من العلم جملة‪ ،‬وأسقطوا بحث الغائية‪ ،‬مع أنه ال يمكن دراسة "التصميم الذكي املحكـم"‬
‫في كثير من مجاالت العلوم بغير فهم للغائية‪ ،‬والغائية هي املحرك الذي يطور العلوم واالختراعات!‬
‫لذلك ترى تراكم كم هائل من القضايا التي لم استطع العلم أن يقول فيها كلمة‪ ،‬وحين حاول الفالسفة واملفكرون‬
‫ربـط تلـك القضـايا بالغائيـة وبالخـالق هـاجمهم بعـض الفيزيـائيين أو امللحـدين با هـامهم باسـتعمال مـا أطلقـوا عليـه‪" :‬إلــه‬
‫الفجوات"‪ ،‬وهؤالء امللحدون فْْي الو اقْْع يقطعْْون الصْْلة الحتميْْة بْْين الظْْواهروأسْْبابها الوا ْْحة فْْيمألون العلْْم‬
‫بالفجوات الهائلة! ‪50‬‬

‫نقد تقسيمات أرسطو للعلل‪:‬‬


‫لقد وجدنا بالدراسة خلطا شديدا بين مفهوم العلة ومفهوم السبب عند كثير مـن املناطقـة والفالسـفة واملفكـرين‪،‬‬
‫َّ ُ‬
‫من ذلك مثال‪ :‬قيل‪- :‬وهـو قـول فيـه جملـة مـن األخطـاء‪ -‬ال ِعلـة‪ 51 :‬علـة الشـ يء‪" :‬مـا يتوقـف عليـه ذلـك الشـ يء"‪ ،‬والصـواب‬
‫أن وجـود الشـ يء يتوقـف علـى وجـود السـبب الـذي أوجـده‪ ،‬ال العلـة‪ ،‬فالنحـات حـين ينحـت التمثـال ادـخر األسـباب التـي‬
‫توجده‪ ،‬فيوجد بوجود تلك األسباب‪ ،‬لكن علة النحات أو الباعث على النحت قد يتغير‪ ،‬فبينما هو ينحت تمثال امرأة‬

‫‪ 49‬أنظر‪ :‬موقع املعرفة‪ ،‬بحث‪ :‬الغائية‪.‬‬


‫‪ 50‬أنظر تفاصيل كثيرة في كتابنا‪ :‬نظرية املعرفة ومناهج التفكير واالستدالل‪.‬‬
‫‪ 51‬وهي قسمان‪ :‬ذأل ل‪ :‬ما تقام ب ذملاهية مي أ زذئهال تسمى‪ :‬علة ذملاهيةل ذيثاني‪ :‬ما واو عي ذتصاف ذملاهيووة ذملوقامووة بئ زذئهووا بووايا ا ذوتووا ل تسوومى‬
‫علووة ذيا ووا ل عل ووة ذملاهيووةل بم ووا ألو و ج ووف لهووا ووا ذملال ووال باي ا و ‪ ،‬ب ــل بووايقا ل و ذيالووة ذ ملادي ــة‪ ،‬وإمــا ألنــه يج ــب بهــا وج ــوده‪ ،‬وهــي العل ــة الصــورية‪ ،‬وعل ــة‬
‫الوجود‪ ،‬إما أن يوجد منها املعلول‪ ،‬أي يكون مؤثرا في املعلول موجودا له‪ ،‬وهي العلة الفاعلية‪ ،‬أو ال‪ ،‬وحينئذ إما أن يكون املعلول ألجلها‪ ،‬وهي العلــة الغائيــة‪ ،‬أو‬
‫ال‪ ،‬وهي الشرط إن كان وجوديا‪ ،‬وارتفا املوانع إن كان عدميا‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫قــد اغيــر التصــميم مـرات ومـرات‪ ،‬فالعلــة الغائيــة تغيــرت لديــه كــل مــرة‪ ،‬والتصــميم تغيــر لديــه‪ ،‬لكنــه ســخر األدوات التــي‬
‫تنتج الصورة أو التصميم النهاوي الذي استقر عليه ويوجد بوجود تلك األسباب‪.‬‬
‫قسم أرسطوطاليس العلل إلى أر ع‪ -1 :‬علة مؤثرة (فاعلية) ‪ -2‬علة مادية ‪ -3‬علة صورية (أو املاهية) ‪ -4‬علة غائية‪.‬‬
‫ُ‬
‫واملث ــال ال ــذي مث ـل ب ــه ه ــو ص ــنم الرخ ــام؛ فالنح ــات علت ــه امل ـؤثرة‪( ،‬أو الفاعلي ــة)‪ ،‬والرخ ــام علت ــه املادي ــة (أي وج ــوده‬
‫الخ ــار ي الحقيق ــي املحس ــوس مادي ــا)‪ ،‬وش ــكل الص ــنم علت ــه الص ــورية (أو املاهي ــة) أي التص ــور ال ــذهني ألج ـزاء الش ـ يء أو‬
‫هيئته أو صورته التي سيكون عليها‪ ،‬وتخليد ذكرى الشخص الذي ُنحت الصنم على صورته علته الغائية (أو الباعثـة)‪،‬‬
‫وال شك أنه هنا يخلط بين العلة والسبب وال يفرق بينهما‪.‬‬
‫وقد تابعه كثير من املفكرين‪ ،‬فعلى سبيل املثال‪ :‬تجد التعريفات التالية ألنوا العلة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ‬‫ُ‬ ‫َّ ُ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫ُ ُ َّ‬ ‫َّ ُ‬
‫اعل َّي ـة‪ :‬م ــا ُيو َج ـ ُد الش ـ ُيء‬
‫ال ِعل ـة الص ــورية‪ :‬م ــا يو ِج ـد الش ـ ْي َء بالفع ــل‪ .‬ال ِعل ـة الغا ِئ َّي ـة‪ :‬م ــا يوج ـد الش ـ ُيء ألجل ـ ِـه‪ .‬ال ِعل ـة الف ِ‬
‫يء بالقوة‪52.‬‬ ‫الش َ‬ ‫ُ ُ َّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ََ‬
‫وجد‬‫ِلسب ِب ِه‪ .‬ال ِعلة املادية‪ :‬ما ي ِ‬
‫م ْْن خ ْْالل تفريقن ْْا الس ْْابق ب ْْين العل ْْة والس ْْبب‪ ،‬يتب ْْين خط ْْأ تقس ْْيمات أرس ْْطو للعل ْْل‪ ،‬وأن ْْه يخل ْْم ب ْْين العل ْْة‬
‫ُ‬
‫والسبب‪ ،‬وأن مفهوم السببية غير واض لديه تمام الوضوح‪ ،‬ففي مثال التمثـال الرخـام قـال‪" :‬فالنحـات علتـه املـؤثرة‪،‬‬
‫(أو الفاعليـة)"‪ ،‬والصـحيح أن النحـات هـو الـذي يحـرك مجموعـة األسـباب الالزمـة لحصـوله‪ ،‬وهـو الـذي لديـه التصــميم‬
‫املسب ُب‪.‬‬
‫الذكي الذي ينفذه بالنحت‪ ،‬فهو الفاعل‪ ،‬وليس بالعلة‪ ،‬هو الذي يوجد الصنم بالقوة‪ ،‬فهو ِ‬
‫قي ــل‪" :‬والرخ ــام علت ــه املادي ــة (أي وج ــوده الخ ــار ي الحقيق ــي املحس ــوس مادي ــا)"‪ ،‬وال دخ ــل للرخ ــام بالعلي ــة ف ــي ش ـ يء‪،‬‬
‫فالرخام ما دته التي تعمل عليها األسباب حتى تشكلها بصورة متصورة في الذهن‪ ،‬فالرخام منفعل بما فيه من خصائص‪.‬‬
‫قيـل‪" :‬وشـكل الصـنم علتـه الصـورية (أو املاهيـة) أي التصـور الـذهني ألجـزاء الشـ يء أو هيئتـه أو صـورته التـي سـيكون‬
‫عليها"‪ ،‬وهذه وصفناها بالغاية املتصورة في الذهن‪ ،‬فهي والعلة الغائية سواء‪ ،‬ال فرق بينهما‪ ،‬فالشكل أو الصورة باعث‬
‫ادـخر النحــات األســباب للوصــول إليهمــا‪ ،‬فهــو "التصــميم الــذكي" الــذي ينفــذه النحــات‪ ،‬ولــيس هــو الباعــث الوحيــد‪ ،‬بــل‬
‫"وتخلي ــد ذك ــرى الش ــخص ال ــذي ُنح ــت الص ــنم عل ــى ص ــورته علت ــه الغائي ــة (أو الباعث ــة)"‪ ،‬أي أن الص ــورة أو التص ــميم‪،‬‬
‫والتخليد علتان باعثتان غائيتان‪.‬‬
‫املوقف من ال ِع ِل َّية‪:‬‬
‫يق ــول ال ــدكتور محم ــد محم ــد قاس ــم‪" :‬كــان مب ــدأ العلي ــة أكث ــر املب ــادي اس ــتهدافا لهج ــوم الفيزي ــاء املعاص ــرة‪ ،‬كان ــت‬
‫نظريات نيوتن في مجملها ترجمة وإيضاحا ملقولة العلية أو لتلك العالقة الضرورية بين العلة واملعلول‪ ،‬بحيث يتاح لنا‬
‫‪-‬طبقــا لهــا‪ -‬التنب ــؤ بالحالــة املقبلــة ألي ــة مجموعــة اســتنادا إل ــى حالتهــا الســابقة‪ ،‬وق ـد قادنــا هــذا التص ــور العلــي إلــى الفه ــم‬
‫امليكانيكي للطبيعة بحيث أصبح "بمثابة مثل أعلى للتفسير العلمي في كل مجاالت املعرفة أيا كان الطريق الذي نسـلكه‬

‫‪ 52‬التعريفات للجرجاني‬
‫‪48‬‬
‫للوصول إليها" كما يقول نيلز بور في كتابه‪" :‬الفيزياء الذرية" ص ‪ ،81‬وجاءت ردود الفعل مختلفة تجاه مبدأ العلية بين‬
‫العلماء املعاصرين‪ ،‬فهناك رفض تام في ناحية‪ ،‬أو قبول لـه مـع تحفـ فـي ناحيـة ثانيـة‪ ،‬أو تعـديل لـه مـع إعطائـه صـبغة‬
‫إحصائية في ناحية أخرى‪ ،‬وتمثل نتائج نظرية ديراك موقف الرفض التام وهي التي انتهت إلى أن التجارب املتماثلـة كمـا‬
‫تدــجل مشــاهدتنا ل ــيس مــن الض ــروري أن تــؤدي إلــى نت ــائج متطابقــة‪ ،‬وه ــذه النتيجــة تنفــي مب ــدأ االطـراد كم ــا تنفــي مب ــدأ‬
‫ال ِع ِل َّية‪،‬‬
‫وطائف ــة أخ ــرى مـ ــن العلم ــاء لـ ــم تس ــتبعد العليـ ــة‪ ،‬وإنم ــا اس ــتبعدت املفهـ ــوم التقلي ــدي لهـ ــا‪ ،‬ال ــذي ـك ــان يوح ــد بينهـ ــا‬
‫والحتمي ــة‪ ،‬ألن الفيزي ــاء ل ــن تص ــبح علم ــا ف ــي نظ ــرهم إذا م ــا ه ــي تخل ــت ع ــن البح ــث ع ــن عل ــل الظ ــواهر‪ ،‬ولك ــن م ــا دام ــت‬
‫الظواهر التي تدرسها الفيزياء املعاصرة ال تتميز بالحتمية التقليدية نتيجة التشابك والترابط بينها‪ ،‬فليس أمامنـا سـوى‬
‫أن نثبت العلية إذا انطوت عليها بعض نتائج تجاربنا وأن نتخلى عن إعالنها إذا لم ت بتها أدوات قياسنا الدقيقة‪ ،‬ويمكن‬
‫أن نمثل لهذا االتجاه بآينشتاين‪.‬‬
‫واالتجاه الثالث يرى أن ال ِع ِل َّية في مجال الظواهر الجديدة ِع ِل َّية مجالية‪ ،‬وهي محصلة لتأثيرات متعددة ناتجة عن‬
‫التفاعـل الـدائب بـين التركيبـات األولـى لهـذه الظـواهر‪ ،‬هــي ِع ِل َّيـة يمكـن تحديـدها إحصـائيا بمقت ـ ى حسـاب االحتمــاالت‬
‫ونمثـل لهــذا االت جـاه بأصــحاب امليكانيكـا املوجيــة‪ ،‬ورغـم مــا قــد يبـدو مــن اخـتالف فــي وجهـات النظــر املعاصـرة تجــاه مبــدأ‬
‫العلية‪ ،‬فإن ما يتفقون عليه في الحقيقة هو أن ذلك املبدأ ال ِع ِل َّي القديم الذي يجعل لكل معلول علة ولكل علة معلوال‬
‫هو شكل من أشكال القيم األخالقية التي ما تزال تفرض ثقلها على الطبيعة الخارجية"‪53‬‬

‫هــذا‪ ،‬وقــد بحثنــا املســألة هــذه‪ ،‬وأثبتنــا ضــرورة الســببية (العليــة) والحتميــة‪ ،‬وفرقناهمــا عــن مفهــوم التنبــؤ ووضــعنا‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َُْ َْ‬
‫املسألة في نصابها بالتفصيل الشديد في كتابنا‪( :‬نشأة الك ْو ِن‪َ ،‬د ْليل َع ْق ِلي ِعل ِمي ِح ِس ي َعل ْى ُو ُج ْو ِد الخ ِال ِق)‪ ،‬فراجعه‪.‬‬
‫السبب األصولي والسبب الشرعي والسبب العقلي وأسباب العادة‪:‬‬
‫أمــا الســبب فــي األصــول‪ ،‬فالســبب أحــد أقســام الحكــم الوضــعي‪ ،‬وعــرف بأنــه‪ :‬كــل وصــف ظــاهر منضــبط دل الــدليل‬
‫السمعي على كونه معرفا لوجود الحكم ال لتشريع الحكم‪ ،54،‬وهو ليس موضع البحث هنا‪،‬‬
‫اعلم أن مظان العلم تطلب من أبواب أر عة‪ ،55‬أولها‪ :‬العقل (وقوانين التفكير)‪ ،‬وضرورات التوحيد‪ ،‬وسنن العادة‪،‬‬
‫والخبر‪ ،‬وما َهمنا هنا هو استنباط ثالثة أنوا من أسباب من هذه املظان األر عة‪:‬‬
‫وأما السبب العقلي فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته‪.‬‬

‫‪ 53‬الدكتور محمد محمد قاسم‪ :‬كارل بوبر‪ ،‬نظرية املعرفة في ضوء املنهج العلمي ‪ ،1986‬ص ‪123-122‬‬
‫‪ 54‬تيسير الوصول إلى األصول لعطاء بن خليل أبو الرشتة‪ .‬ص‪.32‬‬
‫‪ 55‬يراجع كتابنا‪" :‬نظرية املعرفــة ومنــاهج التفكيــر واالســتدالل"‪ ،‬وبحــث األســتاذ يوســف الساريسـ ي‪" :‬قــوانين التفكيــر"‪ ،‬وكتــاب األســتاذ محمــد بــاقر الصــدر رحمــه‬
‫هللا "فلسفتنا"‪ ،‬وكتاب‪" :‬كبرى اليقينيات الكونية" للبوطي‪ ،‬وبحث‪" :‬خبر اآلحاد بين فخ السؤال‪ ،‬وإشكالية املنهج" وأظن اسم كاتبه‪ :‬علي عقيل الحمروني‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫فأمــا العقــل فينــتج عنــه الســبب العقلــي‪ ،‬باســتعمال قــوانين التفكيــر‪ ( 56‬وهــي قــوانين بنيــت علــى املنطــق) وتســتند إلــى‬
‫القـوانين التاليـة‪ :‬قـانون الهويـة‪ ،‬وقـانون التنـاقض (أي مبـدأ عـدم التنـاقض)‪ ،‬وقـانون التضـاد‪ ،‬وقـانون الثالـث املرفـو ‪،‬‬
‫وغيره ــا م ــن ق ــوانين التفكي ــر‪ ،‬والق ــوانين األولي ــة‪ ،‬وي ــتم اس ــتنباط الس ــببية أو الس ــننية منه ــا بمالحظ ــة ال ــربط العقل ــي ب ــين‬
‫الس ــبب ومس ــببه‪ ،‬وبمالحظ ــة واس ــتقراء االط ـراد (أي مب ــدأ اط ـراد س ــير الح ــوادث الطبيعي ــة بخض ــوعها لتفاع ــل ق ــوانين‬
‫الطبيعة مع خصائص املادة على كيفية معينة دائمية‪ ،‬أو اطراد سير العالقات املجتمعية وفقا لسنن ونـواميس معينـة‬
‫نظــم هللا املجتمعــات وفقــا لهــا)‪ ،‬واالرتبــاط بــين شــيئين أحــدهما تســبب فــي حــدوث اآلخــر‪ ،‬والثــاني ـكـان نتيجــة لــه‪ ،‬وتعــرف‬
‫الداللة بينهما بتالزمهما‪ ،‬ولكن هذه الداللة لها أنوا بحسب إفادة اليقين من هذا التالزم أو الظن أو غير ذلك‪ ،‬كذلك‬
‫يجري ذلك وفقا ملبدأ نفي تكرار املصادفة‪.57‬‬
‫فيقع الحس على ذات العلة وذات املعلول‪ ،‬فندرك ببصرنا سقوط القلم على األرض إذا سحبت من تحته املنضدة‬
‫التي وضع عليها‪ ،‬وندرك باللمس حرارة املاء حين يوضع على النار‪ ،‬وكذلك ندرك تمدد الفلزات في وسط حار‪ .‬ففي هـذه‬
‫األمثل ــة نحْ ْْس بظْ ْْاهرتين متعْ ْْاقبتين وال نحْ ْْس بصْ ْْلة خاصْ ْْة بينهمْ ْْا‪( ،‬أي ق ــدرة ت ــأثير إح ــدى الظ ــاهرتين ف ــي األخ ــرى‪،‬‬
‫وتوقــف حــدوث التغييــر فــي الخصــائص علــى وجــود هــذا التــأثير)‪ ،‬وغايــة مــا يحصــل هــو تكـرار التجربــة واســتقراء حــدوث‬
‫الظـاهرة عنـد ظـروف معينـة‪ ،‬ومــن ثـم تقنـين هـذه العالقــة بصـورة رياضـية! هـذه الصـلة التــي نسـميها بالعليْْة أو السْْببية‬
‫ونعني بها‪:‬‬
‫أ‪ -‬ق ْْدرة أو اس ْْتطاعة إح ْْدى الظ ْْاهرتين أن ت ْْؤثرف ْْي األخ ْْرى وتح ْْدض فيه ْْا التغيي ْْر‪( ،‬م ــثال‪ :‬ح ــين ت ــدفع منض ــدة‬
‫فتحركهــا نقــول بأنــك اســتعملت القــوة للتــأثير عليهــا‪ ،‬فــالقوة هــي الشـ يء الــذي يحــدث تــأثيرا فــي حركــة الجســم أو‬
‫مكانه في زمن معين‪ ،‬فالقوة مقدار قيس بتناسب سرعة الحركة مع كتلـة الجسـم املتحـرك فـي زمـن مـا‪ ،‬فلـم تقـع‬
‫(املسبب ال العلة (السبب نفسه!‬ ‫َّ‬ ‫القوة نفسها تحت حس املختبر‪ ،‬وإنما آثارها! أي من خالل املعلول‬
‫ب‪ -‬وحاجة الظاهرة األخرى إليها ألجل أن توجد أو تتأثر أو يحصل فيها التغيير‪.‬‬
‫ت‪ -‬وج ــود ص ــفات وخص ــائص ف ــي الظ ــاهرة الثاني ــة تجعله ــا قابل ــة للت ــأثر بالظ ــاهرة األول ــى‪( ،‬الوق ــود في ــه خص ــائص‬
‫القدرة على االشتعال مثال‪ ،‬بخالف املاء)‬
‫ث‪ -‬وجود صفات وخصائص في الظاهرة األولى تجعلها قابلة للتأثير في الظاهرة الثانية‪.‬‬

‫‪ 56‬راجع كتابنا‪ :‬نظرية املعرفة ومناهج التفكير واالستدالل‪ ،‬فيه تفاصيل كاملة حول قوانين التفكير‪.‬‬
‫‪ 57‬ومثال ذلك أن نحصر تجربة بتدخين املعدن بالحرارة‪ ،‬وحين تصل الحرارة لدرجة معينة يتمــدد املعــدن مقــدارا معينــا‪ ،‬وفــي ظــروف معياريــة منضــبطة تمامــا‪،‬‬
‫تحصر كل العوامل املؤثرة‪ ،‬ثم نكرر التجربة مرة إثر مرة‪ ،‬فيتكرر التصرف نفسه‪ ،‬وليس ثمة عوامل مؤثرة غير الحرارة فــي ظــروف التجربــة املخبريــة املنضــبطة‪،‬‬
‫فيــأتي قائــل ليق ــول‪ :‬مــاذا لــو كــان هنــاك عامــل مجه ــول غيــر الح ـرارة يص ــادف تدخلــه فــي ك ــل مــرة‪ ،‬ويكــون ه ــو الســبب فــي بع ــض حــاالت التمــدد والح ــرارة فــي بعض ــها‬
‫اآلخر! فنقول له استحيل تكرار املصادفة!‬
‫‪50‬‬
‫ج‪ -‬والتعاون مع الشروط‪ ،‬ففي مثال الغليان لو وجد املل في املاء ملا كانت حرارة الغليان ‪ 100‬درجة مئوية‪ ،‬لذلك‬
‫من شروط حصول الغليان على تلك الدرجة نقاء املاء مثال‪ ،‬وفي حال النار يحتاج الحطب أو الوقود الذي فيه‬
‫قابلي ــة االحت ـراق لوج ــود األكد ــجين‪ ،‬ولوج ــود مص ــدر لدش ــعال‪ ،‬ولوج ــود كمي ــة كافي ــة م ــن ك ــل ه ــذه العناص ــر‬
‫لحصول الحريق‪ ،‬فقطعة حطب كبيرة ال يكفي القليل من مصدر اإلشعال أو القليل من األكدجين إلشعالها!‬
‫ح‪ -‬وامتالك زمن كاف إلحداض التغييرمنذ بدء الفعالية السببية وحتْْن حصْْول التغييْْر‪ ،‬وكلمـا زاد عامـل الـزمن‬
‫زاد التــأثير وكلمــا قـ َّـل قـ َّـل التــأثير‪ ،‬فأنــت إذا وضــعت ش ــعلة نــار عنــد خشــبة وتــوفرت لــك كــل العوامــل والش ــروط‬
‫مثل األوكدجين والتالمس‪ ،‬ولكن إذا كان الوقت هو مثال نصف ثانية فهـو غيـر كـاف الشـتعال الخشـبة‪ ،‬ولكنـه‬
‫قــد يك ـون كافيــا الش ــتعال البنــزين الخ ــتالف الخصــائص‪ ،‬وحتــى الشــغل اعرفون ــه بمقــدار الق ــوة املبذولــة ف ــي زم ــن‬
‫معـ ــين‪ ،‬فالشـ ــغل هـ ــو الـ ــذي يحـ ــدد مقـ ــدار التـ ــأثير ككميـ ــة‪ ،‬واالنفعـ ــال فـ ــي املسـ ــبب يكـ ــون بمقـ ــدار متناسـ ــب مـ ــع‬
‫الفعالية السببية‪ .‬ألن الطاقة السببية تنتقل من السبب إلى املسبب بمقادير معينة حسب زمن التأثير‪.‬‬
‫للم َس َّبب‪ ،‬أي حتمية أن تنتج الظاهرة األولى الظاهرة الثانية كل مرة‪ ،‬لوجود قدر ها‬ ‫خ‪ -‬وحتمية أو ضرورة اإلنتاج ُ‬
‫علــى التــأثير‪ ،‬وقــدرة األخــرى علــى التــأثر‪ ،‬فــإذا لــم ينــتج عــن وجــود الســبب وجــود املعلــول (املسـ َّـبب) ال يكــون علــة‬
‫(سببا) له‪،‬‬
‫د‪ -‬يــتم االســتقراء‪ ،‬ويســتعمل العقــل مفاهيمــه عــن "الــتالزم الــذهني"‪ ،‬ويســتعمل هــذه املفــاهيم لتفســير واســتنباط‬
‫العالقات‪ ،‬فيستنج وجود العلية‪ ،‬أي وألنـه فـي كـل مـرة وصـلت حـرارة املـاء ملائـة درجـة حصـل الغليـان‪ ،‬ربطنـا مـن‬
‫خ ــالل االس ــتقراء واس ــتعمال مفه ــوم "ال ــتالزم ال ــذهني" ربطن ــا ب ــين الفاع ـل والنتيج ــة‪ ،‬واس ــتنتجنا وج ــود العلي ــة‪،‬‬
‫وقلنــا‪ :‬حـرارة مائــة مئويــة تسْْبب الغليــان! وفــي كــل مــرة تــؤثر قــوة فــي طاولــة فتزيحهــا مقــدارا معينــا فــي زمــن معــين‪،‬‬
‫وبتالزم ذلك قلنا بأن املؤثر هو القوة‪ .‬فالتالزم الذهني لـيس جـزءا مـن التجربـة‪ ،‬وإنمـا هْْو قْْانون عقلْْي تركْْزفْْي‬
‫العقل! أي أنه من قوانين التفكير‪.‬‬
‫وهذا هو السبب العقلي‪.‬‬
‫وأما العادة فينتج عنهـا السـبب "العـادي"‪ ،‬ونعنـي بـذلك الطرائـق الجاريـة فـي الكـون‪ ،‬واإلنسـان‪ ،‬والحيـاة‪ .‬أي القـوانين‬
‫والس ــنن والن ــواميس املودع ــة ف ــي جنب ــات الك ــون‪ ،‬وف ــي حرك ــة اإلنس ــان‪ ،‬والحي ــاة‪ ،‬والطبيع ــة‪ ،‬واملجتمع ــات البش ــرية بك ــل‬
‫تفاصــيلها‪ ،‬م ــن مث ــل‪ ،‬وج ــود خاص ــية اإلح ـراق ف ــي النــار‪ ،‬لألجس ــام القابل ــة لالحت ـراق‪ ،‬أو خاص ــية تم ــدد املع ــادن ب ــالحرارة‪،‬‬
‫وانكماش ــها ب ــالبرودة‪ ،‬أو ق ــوانين الفع ــل ورد الفع ــل‪ ،‬أو ق ــوانين تغيي ــر املجتمع ــات وإقام ــة ال ــدول‪ ،‬والص ـرا واملدافع ــة‪،‬‬
‫والحـ ــروب وغلبـ ــة القـ ــوي ذي اإلعـ ــداد األفضـ ــل فيهـ ــا‪ ،‬فبتكـ ـرار وقـ ــو العـ ــادات هـ ــذه‪ ،‬نجـ ــد العـ ــادات املسـ ــتقرة والغالبـ ــة‬
‫واملشتهرة والقلية والنادرة‪،‬‬
‫فالعــادة املســتقرة ال تنخــرم إال بــاملججزات‪ ،‬مــن مثــل‪ :‬عــدم اختـراق النظــر لألجســام املعتمــة‪ ،‬وعــدم طيـران اإلنســان‬
‫دون آلة‪ ،‬وسقوط األجسام الثقيلة إلى أسفل في حال تواجدها في مجال جاذبيـة األرض‪ ،‬ومثـل هـذا النـو يفيـد القطـع‪،‬‬

‫‪51‬‬
‫ويحصـل باالسـتقراء‪ ،‬فالسـبب الراجـع لعـادة مسـتقرة يفيـد القطــع‪ ،‬مثـل قولنـا‪ :‬الجاذبيـة سـبب فـي سـقوط األجسـام مــن‬
‫أعلى ألسفل‪ ،‬ويترتب عليه صحة استنباط وجوب حصول املعلول بوجود علته‪ ،‬وأما العادة الغالبة‪ ،‬فكأن يولد الطفل‬
‫وفي يده خمسة أصابع‪ ،‬وينقطع أحيانا فيولد املرء بستة أصابع في اليد الواحدة مثال!‬
‫وه ــذا الن ــو يفي ــد نس ــبة غلب ــة الظ ــن املرتفع ــة‪ ،‬بحي ــث اغل ــب عل ــى الظ ــن وبص ــورة مرتفع ــة وق ــو وتك ـرار متعلق ــه ف ــي‬
‫العـادة‪ .‬وباملثـل تكـون العالقـة السـببية املبنيـة عليـه تفيـد غلبـة الظـن بوقوعهـا‪ ،‬مثـل أن يحصـل النصـر ملـن أعـد إعـدادا‬
‫أفضل من خطة وعتاد وتسليح‪ ،‬ومصابرة علـى الحـرب‪ ،‬فإنـه فـي الغالـب السـاحق يتسـبب هـذا بفـوزه فـي املعركـة‪ ،‬ويكـون‬
‫اإلعداد سببا في انتصاره‪.‬‬
‫وعنــدما يريــد الباحــث أن يكتشــف ســنة معين ــة مــن ســنن العــادة أو الطبــاوع التــي تجــري وفقهــا األمــور فــي املجتمع ــات‬
‫البشـرية فـال اســتطيع أن يحـدد جميـع العوامــل التـي تــدخل فـي السـنة مــن أسـباب وشـروط بشــكل دقيـق وال أن يحصــرها‬
‫ويحدد مقاديرها‪ ،‬وبالتـالي فهـو يلجـأ إلـى عمليـة اختـزال وتقريـب لهـذه املجموعـة مـن العوامـل وإلـى التركيـز علـى عـدد قليـل‬
‫من هذه املجموعة من األسباب والشروط ويتم تجاهل أسباب أخرى أقل أهمية في نظره‪58‬‬

‫وأما األسباب الراجعة للخبر‪ ،‬فأمثلته‪ :‬اإلماتة‪ ،‬فالفاعل فيهْْا علْْى الحقيقْْة هْْو هللا تعْْالى‪ ،‬يميـت‪ ،‬ولـم اسـند فعـل‬
‫اإلماتـة لغيـره‪ ،‬فـاملوت يحصــل حتمـا باألجـل وال يتخلـف مطلقــا فكـان األجـل سـببا للمــوت‪ ،‬والـذي يميـت هـو هللا ســبحانه‬
‫وتعـالى‪ ،‬فهو الذي يباشْْرفعْْل اإلماتْْة‪ ،‬وإسْْناد الفعْْل لْْه علْْى الحقيقْْة‪ ،‬واملْراد منْْه فعْْل اإلماتْْة‪ ،‬ولْْهس خلقْْه‪ ،‬ألن‬
‫األصــل فــي اإلســناد الحقيقــة‪ ،‬وال ينصــرف إلــى املجــاز إال بقرينــة‪ ،‬وال قرينــة تصــرف اإلســناد عــن معنــاه الحقيقــي‪ ،‬فتكْْون‬
‫نسْْبة اإلماتْْة إلْْى هللا نس ْْبة حقيقيْْة‪ ،‬ونفــت اآليــات نفيــا مطلقــا قاطعــا أن ينســب لغيــره ‪-‬وســيأتيك بيانهــا بعــد قليــل إن‬
‫ش ــاء هللا‪ ،-‬فين ــتج ع ــن ه ــذا معرف ــة الس ــبب الش ــرعي أو ال ــذي ج ــاء الخب ــر ب ــذكره‪ ،‬فبين ــه لن ــا ول ــم يك ــن العق ــل ليس ــتطيع‬
‫الكشف عنه‪.‬‬
‫وأم ــا الش ــرط‪ :‬ق ــال ال ـرازي‪ :‬والش ــرط ه ــو ال ــذي يل ــزم عن ــد عدم ــه ع ــدم املش ــروط‪ ،‬لك ــن ال يل ــزم عن ــد وج ــوده وج ــود‬
‫املشروط‪59،‬‬

‫كمال ملشروطه فيمـا اقتضـاه ذلـك املشـروط‬ ‫ُ‬


‫قال اإلمام الن هاني في الشخصية اإلسالمية‪ :‬الشرط هو ما كان وصفا م ِ‬
‫أو فيما اقتضاه الحكم في ذلك املشروط‪.‬‬

‫‪ 58‬من بحث‪ :‬السببية وسنن الحياة لألستاذ يوسف الساريس ي بتصرف اسير‪.‬‬
‫‪ 59‬تفسير سورة آل عمران من تفسير الرازي‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫املصادفة ومبدأ السببية‪60‬‬

‫ال بد‪ ،‬قطعا وحتما ألي حدض يحدض من سبب يتسبب في حصوله‪ ،‬فال حدض يحدض دون فاعل مؤثر‪ .‬فاالدعاء‬
‫بأن حدثا ما قد يحدض بدون سبب محدد ‪-‬سواء أكان السبب معروفا أم غير معروف‪ ،-‬يتناقم مع قانون كوني‬
‫ُ‬
‫الر ْج َح ِان من غير ُم َر ِج لح‪.61‬‬
‫بطالن َّ‬ ‫بدهي هو‪ :‬لكل فعل فاعل‪ ،‬أو بتعبير خر‪:‬‬
‫ً‬
‫جميعا أ ها مستقرة‪ 63‬ومتزنة‬ ‫والدليل على ذلك هو قانون القصور الذاتي (العطالة) ‪62‬؛ فاألصل في أشياء الكون‬
‫ال تتغير ذاتيا‪ ،‬أي أ ها عاجزة وقاصرة عن تغيير حالة االستقرار التي هي فيها لوجود صفة االحتياج (أي "عدم‬
‫استطاعة األشياء التصرف واالنتقال من حال إلى حال إال بغيرها"‪ 64‬أو القصور الذاتي فيها‪ ،‬فةي تقاوم تغييرتلك‬
‫الحالة من االستقرار وال تتغير إال بتأثير أسباب معينة‪ .‬إلخراجها من حالة القصور إلى التغيير‪ ،‬ومن نزوعها الطبيعي‬
‫نحو العشوائية والفوب ى إلى التنظيم‪ ،‬والسبب هو الش يء الذي يكتسب طاقة التغيير في زمن معين‪ ،‬ويستطيع‬
‫ُّ‬
‫بامتالكه هذه القوة السببية أن يؤثرفي غيره من األشياء القابلة للتأث ِر ونقلها من حالة معينة إلى حالة جديدة مغايرة‬

‫‪ 60‬األستاذ يوسف الساريس ي‬


‫‪ 61‬من القواعد البدهية التي يتفق عليها العقالء بطالن الر حان من غير مر ‪ ،‬أي بطالن أن يكون الش يء جاريا على نسق معين‪ ،‬ثم يتغير نسقه ويتحول عنــه‬
‫بدون وجود أي مغير أو محول إطالقا‪ ،‬وجميع العقالء اعلمون أن األصل بقاء ما كان على ما كان عليه‪( ،‬القصور الذاتي) وال بد لتحويله عن حاله السابقة من‬
‫محول ومؤثر يفرض عليه هذا الوضع الجديد ويندخ حاله القديمة‪ .‬وهذا القانون اعني منع حدوث فعل من غير فاعل‪ ،‬إننا نالحظ أنه ال بد لكل تغير يحْْدض‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫مْْن سْْبب‪ ،‬أثْرفيْْه تْْأثيرا يكفْْي ألن يحولْْه ويغيْْره مْْن وضْْع إلْْى خْْر‪ ،‬وال يسْْلم عاقْْل أن هْْذا التغيْْر يحْْدض بنفسْْه مْْن غيْْر سْْبب يْْؤثرفيْْه تطبيقْْا ملبْْدأ‬
‫ً‬ ‫ُ َّ‬
‫السببية البدهي في عقولنا‪ ،‬لذلك كان من املْسلم به أن كل هذه التغيرات الكونية ال بد لها قطعا من مؤثرحقيقي‪.‬‬
‫‪ 62‬العطالة "‪ "Inertia‬أو عزم القصورالذاتي مصطل فيزياوي اعني مقاومة الجســم الســاكن للحركــة ومقاومــة الجســم املتحــرك للتغييــر فــي حركتــه‪ ،‬ففــي الحالــة‬
‫األصلية يبقى الجسم ساكنا إال أن تحركــه قــوة خارجيــة‪ ،‬وتكســبه طاقــة حركيــة‪ ،‬فيســير إذن بســرعة ثابتــة أكســبته إياهــا تلــك القــوة الخارجيــة‪ ،‬وبــنفس االتجــاه‬
‫الذي دفعته إليه تلك القوة الخارجية التي أخرجته مــن حالــة العطالــة األصــلية‪ ،‬ويبقــى علــى نفــس الســرعة واالتجــاه مــا لــم تــؤثر عليــه قــوة أخــرى تغيــر ســرعته أو‬
‫اتجاهه‪ ،‬فهي عطالة أو قصور ذاتي‪ ،‬ولقد عبر نيوتن عن هذا املصطل في قانونه األول املعروف بقانون القصور الــذاتي أو العطالــة (‪ :)Law of Inertia‬الجســم‬
‫السْْاكن يبق ــى س ــاكنا م ــا ل ــم ت ــؤثر علي ــه ق ــوة خارجي ــة فتحرك ــه‪ ،‬وا لجس ــم املتح ــرك بس ــرعة ثابت ــة ف ــي خ ــط مس ــتقيم يبق ــى عل ــى ه ــذه الحال ــة م ــا ل ــم ت ــؤثر علي ــه ق ــوة‬
‫خارجية فتغير حالته الحركية أو اتجاهه‪.‬‬
‫‪ 63‬االستقرار‪ :‬هو حالة من السكون والركود أو حالة من الثبات بحيــث تكــون األشــياء فــي وجودهــا وصــفا ها وخواصــها وجميــع مــا يتعلــق بهــا ثابتـة غيــر متغيــرة‪ ،‬وإن‬
‫كانت في األصل متحركة فال يحصل تغيير في الحركة ضمن املحيط أي الظروف التي تكتنفها‪ ،‬ويلــزم بالضــرورة – أي بالبداهــة ‪ -‬أن تبقــى حالــة األشــياء فــي الــزمن‬
‫الحاضر كما كانت عليه في الزمن املاب ي أو الزمن املستقبلي دونما تغيير‪ .‬فاألصل استمرار الحالة التي تالزم األشياء ما لم يطرأ عليها أمر مر يــؤدي إلــى تغييــر‬
‫تلك الحالة املســتقرة التــي تكــون فيهــا األشــياء‪ ،‬بشــرط امــتالك ذلــك املــر أو املــؤثر طاقــة ســببية كافيــة قــادرة علــى إحــداث التغييــر‪ ،‬فاملــاء الســائل يبقــى فــي حالــة‬
‫السيولة ما لم يــؤثر عليــه شـ يء خــارج عنــه كــالحرارة فتــؤدي إلــى تغييــر حالتــه إلــى الغازيــة أو التجمــد‪ ،‬فالر حــان إذن يحتــاج إلــى مــر وإال فاالســتقرار هــو الحالــة‬
‫األصــلية لألش ــياء‪ .‬فاألش ــياء إذن ع ــاجزة وقاص ــرة ع ــن تغيي ــر حال ــة االس ــتقرار الت ــي ه ــي فيه ــا واملالزم ــة لوج ــود ص ــفة االحتي ــاج أو القص ــور ال ــذاتي فيه ــا‪ .‬وتق ــاوم ه ــذه‬
‫األجسام تغيير تلك الحالة من االستقرار إال بتأثير غيرهــا‪ .‬والغيــر هنــا هــو ذلــك املــؤثر الخــار ي (الســبب) صــاحب القــوة املر حــة الــذي يتصــف بالقــدرة الحاســمة‬
‫واالستطاعة القاهرة على تغيير حالة االستقرار التي في ذلك الش يء على نحو حتمي والزم‪.‬‬
‫‪ 64‬نقض االشتراكية املاركسية ‪ -‬غانم عبده صفحة (‪)4‬‬
‫‪53‬‬
‫للحالة السابقة‪ .‬ومن املالح أيضا‪ ،‬أن بيضة القبان في فهم السببية هي الطاقة السببية القادرة على إحداث التغيير‬
‫أو الحفاظ على التنظيم أو منع انفراط عقد النظام‪ ،‬أو التغلب على املوانع والعوائق‪.‬‬
‫تصمم تصميما فعاال ذكيا إلنتاج الغايات‪ ،‬لتفعيل الطاقة السببية‬ ‫وسنالح أيضا‪ ،‬أن األنظمة الغائية هي التي َّ‬
‫إلنتاج املسببات‪ ،‬وأن هذه األنظمة الغائية قد تقصر‪ ،‬إن لم تصمم تصميما صحيحا يأخذ باالعتبار طبيعة األنظمة‬
‫التي يتعامل معها‪ ،‬فال تصل حينذاك لتكون أنظمة سببية تامة‪ ،‬بل ستقصر عن إنتاج املسببات‪ ،‬أو قد تؤدي‬
‫وظيفتها بشكل صحيح‪ ،‬فتكون أنظمة سببية فعالة‪ ،‬إذن فاألنظمة الغائية بيضة قبان في نجاح األنظمة السببية‪.‬‬
‫ويمكْْن مالحظْْة ثالثْْة أشْْكال مْْن حْْامالت الطاقْْة السْْببية‪ :‬أولهْْا‪ :‬أي نْْوع مْْن أنْْواع القْْوى‪( ،‬النوويْْة القويْْة‪،‬‬
‫والكهرومغناطهس ْْية‪ ،‬والجاذبي ْْة‪ ،‬والنووي ْْة الض ْْعيفة ‪ ،‬وثانيه ْْا‪ :‬أي ن ْْوع م ْْن أن ْْواع الطاق ْْة‪ ،65‬وثالثه ْْا‪ :‬أي ن ْْوع م ْْن‬
‫أنواع الحقول ‪ Fields‬أو املجاالت‪ .‬فالتأثيرالسببي يتم بواسطة أي منها‪.‬‬
‫كمـا أن أي مجـال أو حقـل‪ 66‬يمتلــك أيضـا الطاقـة التأثيريـة الســببية فـي الجسـيمات التـي تقــع تحـت تـأثيره وتتـأثر بهــذا‬
‫النو من املجاالت أو الحقول‪ ،‬كالحقل الكهرومغناطيس ي‪ ،‬أو حقل هيجز أو مجال الجاذبية األرب ي وغيرها‪.‬‬
‫ُ‬
‫أمر ما يحصل مصادفة ال يعني أنه يحصل بدون فاعل! إذ إنه من غير املمكن للفطرة السوية القبول‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫فكو‬
‫مسبب‪ .‬مهما تقعرت ألفاظ املتفلسفين‪.‬‬ ‫بوجود ش يء من العدم أو من غير ِ‬
‫يقول الفيلسوف امللحد ديفيد هيوم في رسالة إلى ستيوارت‪" :‬ال ش يء أك ر عبثية من القول بأن شهئا ما‬
‫يحصل من دون سبب"‪ 67‬وباملثل قال ب‪.‬ج‪ .‬زوارت في مقالته "حول الوقت"‪" :‬إذا كان هناك ش يء ال يمكن تصوره‬
‫فهو أن شهئا ما يمكن أن ينشأ من ال ش يء"‪.‬‬

‫‪ 65‬يمك ــن حص ــر أن ــوا الطاق ــة – حس ــب العل ــوم الطبيعي ــة – بأر ع ــة عش ــر نوع ــا منه ــا‪ :‬الطاق ــة الكيميائي ــة‪ ،‬والطاق ــة الكهرومغناطيس ــية‪ ،‬والطاق ــة امليكانيكي ــة‬
‫(املوجية‪ ،‬والصوتية‪ ،‬واملرنة‪ ،‬والجاذبية‪ ،‬والسكون)‪ ،‬والطاقة الحرارية‪ ،‬والطاقــة اإلشــعاعية‪ ،‬والطاقــة النوويــة (والكروموديناميكيــة)‪ ،‬وطاقــة التــأين‪ .‬فــأي شـ يء‬
‫يكتسب أي نو من أنــوا الطاقــة هــذه أو يحــوي أيــة قــوة مــن أنــوا القــوى املوجــودة فــي الكــون يصــير ســببا‪ ،‬ويصــبح قــادرا علــى تغييــر حالــة األشــياء التــي يــؤثر فيهــا‬
‫والتي فيها القابلية للتأثر بفعله إلى حالة جديدة مغايرة للوضع األصلي التي كانت عليه‪.‬‬
‫‪ 66‬يق ــول روج ــر بن ــروز ف ــي كتاب ــه‪ :‬عق ــل اإلمبراط ــور الجدي ــد‪ ،‬روج ــر بن ــروز‪ ،‬ترجم ــة محم ــد األتاس ـ ي‪ ،‬و س ــام املعص ـراني ‪ 1998‬ص ‪" :232‬وهك ــذا نج ــد أن العنص ــر‬
‫األساس ي الجديد في تصور الحقيقة الفيزيائية‪ ،‬الــذي قدمتــه لنــا نظريــة ماكســويل عــالوة علــى مــا كــان عليــه ســابقا هــذا التصــور‪ ،‬هــو أن الحقْْول يجْْب أن تؤخْْذ‬
‫اآلن مأخذ الجد بحكم حقيقتها الخاصة بها‪ ،‬وال يجوز اعتبارها مجرد ملحقات رياضية بالجسيمات التي كانت هــي وحــدها "الحقيقــة" فــي نظريــة نيــوتن‪ ،‬إذ بـ َّـين‬
‫ماكســويل بالفعــل أنــه حــين تنتشــر الحقــول علــى صــورة أمــواج كهرومغناطيســية فإنهــا تحمــل معهــا كميــات معينــة مــن الطاقــة‪ ،‬بــل لقــد اســتطا أن اعطينــا عبــارة‬
‫رياضية واضحة لهذه الطاقة‪ ،‬كما أثبــت هيرتــز بالتجربــة فعــال عنــدما اســتطا كشــف األمــواج الكهرومغناطيسية ـ صــحة هــذه الحقيقــة الراوعــة‪ ،‬وهـي أن الطاقــة‬
‫يمك ــن نقله ــا م ــن مك ــان إل ــى آخ ــر به ــذه األم ــواج "الالمادي ــة"‪ ،‬ولق ــد أص ــبح م ــن األش ــياء املألوف ــة لن ــا أن أم ــواج الرادي ــو تحم ــل معه ــا طاق ــة‪ ،‬عل ــى ال ــرغم م ــن أن ه ــذه‬
‫الحقيقة ال تزال مذهلة بالفعل!"‬
‫كذلك‪ :‬يحمل الحقل املغناطيس ي طاقة‪ ،‬وبناء على معادلة أينشتاين الشهيرة فالحقل مــادة أيضــا إذ إن لــه كتلــة‪ ،‬فــالحقول الكهرومغناطيســية املوجــودة داخــل‬
‫أي جسم تشارك مشاركة جوهرية في كتلته‪ ،‬أنظر تفاصيل في عقل اإلمبراطور الجديد‪ ،‬روجر بنروز‪ ،‬ترجمة محمد األتاس ي‪ ،‬و سام املعصراني ‪ 1998‬ص ‪267‬‬
‫‪67 http://www.humesociety.org/hs/issues/v1n2/craig/craig-v1n2.pdf‬‬

‫‪54‬‬
‫ْبب عش ْْوائيا غي ــر عاق ــل (أعمــى)‪ ،‬أو م ــن عاق ــل ال قص ــد ل ــه‪ ،‬وق ــد يك ــون الس ْْبب نت ْْاج فع ْْل عاق ْْل‬ ‫وق ــد يك ــون الس ْ ُ‬
‫قاصدا إيجاد الحدض لغاية يريدها‪ ،‬فالريح تدفع الزجاجـة الفارغـة فتقـع علـى األرض وتنكسـر‪ ،‬ونفـس الحـدث يحـدث‬
‫بفعل فاعل يدفع الزجاجة بقوة يده فيسقطها أرضا وتنكسر بإرادته وقصده ولغاية في نفسه‪ ،‬إذن نفس الحـدث وهـو‬
‫انكسار الزجاجة قد يحدض عشوائيا أي مصادفة أو يحدث قصدا‪ .‬ففي كل األحوال نتج الحدض عن فاعل ولم ينْْتج‬
‫بغيْ ْْرفاعْ ْْل! وب ــالطبع ف ــإن ه ــذا ال اعن ــي أن م ــا نش ــأ مص ــادفة ق ــد نش ــأ م ــن ال شـ ـ يء‪ ،‬أو ب ــدون ُم َسـ ـ ِبب‪ ،‬ولك ــن معن ــاه أن‬
‫الس َب َب تفاعل مع الشروط الالزمة إلنتاج الحدث‪ ،‬وامتلك الطاقة السببية الكافيـة‬ ‫ال ُْم َسب َب لم يقصد إنتاجه‪ ،‬ولكن َّ‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫إلنتاج الـمسب ِب‪ ،‬لكنه افتقرفقم إلى القصد‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫فاألفع ْْال واألح ْْداض والتغي ْرات الت ْْي تج ْْري ف ْْي الك ْْون كله ْْا َسْ ْ َب ِب َّية‪ ،‬وتحص ْ ُْرف ْْي إط ْْارالعش ْْوائية (املص ْْادفة‬
‫والغائي ْْة فق ْْم‪ ،‬بن ْْاء علْ ْْى وج ْْود قص ْْد وت ْْدبيروتسْ ْْخيرلألس ْْباب أو ع ْْدم وجودهْ ْا‪ ،‬سْ ْْواء أك ْْان القص ْْد والتْ ْْدبير‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والتسْْخيرمحكمْْا واْْحيحا ومدروسْْا ومنتجْْا‪ ،‬أم لْْم يكْْن كْْذلك‪ ،‬لكنــه يبقــى قصــدا‪ ،‬ويحتــاج لتــدبير لبلــوا الغايــة‪،‬‬
‫كمـا ويحتـاج لتدـخير لألســباب الالزمـة إلنتـاج الحـدث‪ ،‬وبالتــالي فالعمـل سـيكون غائيـا‪ ،‬والعمــل الغـاوي الـذي يتـوفر فيــه‬
‫القصد‪ ،‬ويخلو من التدبير وتدخير األسباب لن يف ي للنتيجة أيضا‪ ،‬وفي املقابل‪ ،‬نجد أن العمل الخالي من القصْ ِْد‬
‫عشوائي‪ ،‬حتن لو أوصل لنتيجة معينة باملصادفة‪ ،‬ألنه إنما أوصل إلى تلك النتيجة من غير تخطيط وال قصد‪.‬‬
‫إن مالحظة عملية التغيير التي تحدث في عالم الواقع تشير إلى أن هذا التغيير ال يمكن أن يحدث قطعا إال بوجود‬
‫طاقة سببية فاعلة تحرك الخواص الكامنة في األشياء فتجعلها مؤثرة ومنتجة للتغيير‪ ،‬ولوال هذه الطاقة ملا حصل‬
‫تغير مطلقا‪ ،‬واإلحساس يدل أيضا أن التغير يحدث بفعل عوامل متعددة‪ ،‬وعند النظر في هذه العوامل يالح وجود‬
‫بعض منها يلزم حتما لحصول النتيجة‪ ،‬ولكن هذه العوامل الالزمة ليست متشابهة وال متساوية فبعضها خامل‬
‫و عضها فعال متحرك‪ ،‬ولحدوت التغيير ال بد حتما من وجود عامل واحد على األقل يحمل طاقة سببية تدفع لحدوث‬
‫التغيير‪ ،‬فيما با ي العوامل الالزمة الخاملة ال طاقة فيها‪ ،‬األمر الذي يجعلنا نقوم بالتمييز بين هاتين املجموعتين من‬
‫العوامل فنعطي العامل الحامل للطاقة (قوة‪ ،‬مجال‪ ،‬طاقة) اسم السبب فيما تكون العوامل الالزمة األخرى هي‬
‫شرو الزمة لحصول النتيجة‪.‬‬
‫وباالرتكاز إلى ما تم من بلورة لواقع السبب في هذا البحث‪ ،‬فإن املعيار الذي يمكن التمييز فيه بين العوامل الالزمة‬
‫السبب‪ ،‬أي ذلك‬ ‫إلحداث النتيجة هو اختيار تلك العوامل أو العامل املتصف باالستطاعة على التغيير ليكون هو َّ‬
‫العامل الذي اكتسب الطاقة ولنسمها "طاقة التأثير السببية"‪ .‬وكذلك البد لحصول النتيجة من عوامل معاونة الزمة‬
‫إلحداث التأثير والتغيير بشكل مخصوص وهذه العوامل املعاونة هي الشروط‪.‬‬
‫فالسبب هو شر الزم وضروري يحمل طاقة سببية فاعلة‪ ،‬يترتب على وجود الطاقة السببية في السبب‬
‫حصول النتيجة ويترتب على عدم وجود السبب عدم حصول النتيجة‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫فمثال‪ :‬إلضرام النار شروط وهي وجود كمية كافية من األوكدجين‪ ،‬وكمية كافية من الوقود أو من مادة قابلة‬
‫لالشتعال‪ ،‬ومصدر لالشتعال قادر على إيصال الوقود أو املادة القابلة لالشتعال لدرجة حرارة كافية إلحداث الحريق‪،‬‬
‫والتفاعل الكيمياوي الطارد للحرارة ‪ ،exothermic reaction‬فهذه الشروط األر عة يجب توفرها حتى يحصل الحريق‪،‬‬
‫فإذا ما ألقى إنسان بعقب سيجارة في وسط تتحقق فيه هذه الشروط‪ ،‬فإن ذلك الفعل من اإلنسان‪ /‬السيجارة هو‬
‫السبب في إحداث الحريق‪ ،‬تعاونت معه الشروط الالزمة لحصول ال ُـم َس َّب ِب‪ ،‬وانتفت املوانع مثل وجود مطر شديد‬
‫يطفئ النار فور اشتعالها‪ .‬بينما لو ألقيت عقب السيجارة على جذ شجرة‪ ،‬فإنه ال يحوي طاقة سببية كافية إلشعال‬
‫الحريق‪ ،‬وال استطيع التغلب على العوائق أو املوانع‪.‬‬
‫فالسببية إذن‪:‬‬
‫َ َ َ‬
‫العطال ِة‬ ‫الذاتي‪ ،‬أو‬
‫ِ‬ ‫القصور‬
‫ِ‬ ‫انتقال وتغير من حالة‬ ‫✓‬
‫لش يء اتصف بصفات‪:‬‬ ‫✓‬
‫‪ o‬الججز عن القيام بالتغيير ذاتيا‪،‬‬
‫‪ o‬بل ومقاومة ذلك التغيير ليبقى في وضع يكون فيه في أقل طاقة ممكنة‪،‬‬
‫َ ُّ‬
‫‪ o‬لكنه في الوقت ذاته يمتلك قابلية التأث ِر‪ ،‬أي أنه يمتلك االستعداد لالنتقال والتغيير بما فيه من‬
‫خواص َّ‬
‫ذاتية‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫الس َب َب (أو امل َس ِب َب))‪:‬‬
‫فاحتاج ملؤثر آخر (نسميه َّ‬ ‫✓‬
‫‪ o‬يملك طاقة (قدرة) سببية كافية إلحداث التغير واالنتقال‪،‬‬
‫‪ o‬وقابلية للتفاعل مع الخواص الذاتية املوجودة في الش يء‪،‬‬
‫الذاتية للش يء بحيث تستطيع التأثير فيها‪ ،‬والتفاعل معها‬ ‫ِ‬ ‫الخواص‬
‫ِ‬ ‫لطبيعة‬
‫ِ‬ ‫‪ o‬ومالءمة‬
‫‪ o‬وبحيث تستجيب تلك الخواص لذلك التأثير (والتفاعل) فتتأثر (وتتفاعل)‪،‬‬
‫ُ‬
‫الس َب ُب (أو امل َس ِب ُب) نسبا معينة‪،‬‬‫‪ o‬ويملك َّ‬
‫إلحداث النقلة والتغيير املطلوب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫▪ كافية‬
‫▪ كافية للتفاعل مع الخواص املوجودة في ال ُـم َس َّب ِب‪،‬‬
‫▪ كافية للتعاون مع الشروط‪،‬‬
‫▪ كافية للتغلب على العوائق واملوانع‪،‬‬
‫‪ o‬وقدرة على إحداث التغيير حتما‪ ،‬و شكل ال يتخلف (االطراد‪ ،‬وتكرر إحداث الحدث كل مرة بشكل‬
‫ال يتخلف)‪ ،‬أي قدرة على إجبار الش يء الذي يقاوم التغيير على التغيير‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ o‬وزمنا كافيا إلحداث التغيير‪.68‬‬
‫✓ و شرط‬
‫‪ o‬التعاون مع الشروط الالزمة إلحداث التغيير‪ ،‬أو فرض هذه الشروط أو تفعيلها‪،‬‬
‫‪ o‬غياب املوانع والعوائق التي تعوق العملية التفاعلية أو تعطلها‬
‫واملوانع‪.‬‬ ‫العوائق‬ ‫تلك‬ ‫على‬ ‫التغلب‬ ‫على‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫‪ o‬أو قدرة املُ َ‬
‫س‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تقوم العالقة السببية على أركان ثالثة هي‪- :‬‬
‫الس َب ِب وال ُـم َس َّب ِب‪.‬‬ ‫الس َب ُب ب‪ .‬ال ُـم َس َّب ُب جـ‪ِ .‬ص َل ُة َّ‬
‫الس َبب َّي ِة بين َّ‬ ‫أ‪َّ .‬‬
‫ِ‬
‫الس َب ُب فقـد عرفنـاه بأنـه عامـل (قـوة‪ ،‬طاقـة‪ ،‬مجـال) يحمـل طاقـة تغييـر مـؤثرة ينقـل بهـا األشـياء التـي فيهـا قابليـة‬ ‫أما َّ‬
‫التأثر من حال إلى آخر‪ ،‬وأما ال ُـم َس َّب ُب بمعنـى النتيجـة أو األثـر (األعـراض) فهـو التغييـر الـذي حـدث علـى حالـة الشـ يء أو‬
‫الس َب ِب‪ .‬بمعنى أن الش يء انتقل من حالة معينة في الزمن األول قبـل تـأثير السـبب إلـى حالـة جديـدة فـي‬ ‫وضعه كأثر لفعل َّ‬
‫ُ‬
‫الــزمن الثــاني بعــد انتهــاء فعاليــة وتــأثير ال َّسـ َب ِب‪ .‬وأمــا العالقــة ال َّسـ َب ِب َّية فهــي الصــلة بــين ال َّسـ َب ِب والنتيجــة أو هــي ربــط بــين‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ظـاهرتين محسوسـتين همــا ال َّسـ َب ُب والـ ُـم َس َّب ُب‪ .‬وتقْْوم هْْذه الصْْلة أو العالقْْة ال َّس ْ َب ِب َّية فيمْْا بْْين ال َّس ْ َب ِب والنتيجْ ِْة وال‬
‫تقوم بين الشر والنتيجة‪.‬‬
‫والعالقة السببية تثبت بين واقعتين متتابعتين إذا تبين بالتحليل والربط الفكري أن حصول الواقعة السابقة زمنا‬
‫(بدء فعالية السبب) قد حدث جراء تفاعـل خصـائص معينـة فـي السـبب (مثـل القـوى‪ ،‬والطاقـات واملجـاالت) لهـا القـدرة‬
‫ُّ‬
‫عل ــى الت ــأثير ف ــي خص ــائص معين ــة ف ــي ال ـ ُـم َس َّب ِب له ــا قابلي ــة الت ــأثر‪ ،‬ف ــتم التفاع ــل أو التح ــرك وف ــق ق ــانون أو مجموع ــة م ــن‬
‫القــوانين الطبيعيــة‪ ،‬وهــذا التفاعــل أف ـ ى وأدى حتمــا ولزومــا إلــى حصــول الواقعــة التاليــة‪ ،‬وظــل دور تــأثير هــذه القــوى‬
‫والطاق ــات واملج ــاالت وتفاعلهـ ــا م ــع الخصـ ــائص وف ــق هـ ــذه الق ــوانين مس ــتمرا خـ ــالل جمي ــع حلقـ ــات التسلس ــل السـ ــببي‬
‫(التفاعـل بـين القـوى والطاقـات واملجــاالت والخصـائص) حتـى النهايـة أي حتـى حصــول النتيجـة‪ ،‬وبمـا أن خضـو األشــياء‬
‫للق ــوانين الطبيعي ــة التــي تص ــف تص ــرف الق ــوى واملج ــاالت والطاق ــات وس ــير امل ــادة بم ــا فيه ــا م ــن خص ــائص الزم وحتمــي‪،‬‬
‫فيكون نقل الش يء من حالته في الزمن األول إلى حالته في الزمن الثاني حتميا والزما أيضا‪.‬‬
‫وحيث إن من البْْدهيات التـي ال يمكـن إنكارهـا بداهـة اسْْتحالة تكْراراملصْْادفة‪ ،‬فـإن العالقـة السـببية بـين طرفيهـا‬
‫أي بـين الســبب والـ ُـم َس َّب ِب يمكـن تعميمهْْا إذا تكــررت كــل مـرة بشــرط القــدرة علـى تحديــد دور كــل فاعـل فــي هــذا التفاعــل‬

‫‪ 68‬امتالك زمن كاف إلحداث التغيير منذ بدء الفعالية السببية وحتى حصول التغيير‪ ،‬وكلما زاد عامل الزمن زاد التأثير وكلما قـ َّـل؛ قـ َّـل التــأثير‪ ،‬فأنــت إذا وضــعت‬
‫ش ــعلة ن ــار عن ــد خش ــبة وت ــوفرت ل ــك ك ــل العوام ــل والش ــروط مث ــل األوكد ــجين وال ــتالمس س ــيحدث االش ــتعال‪ ،‬ولك ــن إذا كــان الوق ــت املعط ــى لالش ــتعال ه ــو م ــثال‬
‫نصف ثانية فهو غير كــاف الشــتعال الخشــبة‪ ،‬ولكنــه قــد يكــون كافيــا الشــتعال البنــزين الخــتالف الخصــائص‪ ،‬وحتــى الشــغل ُاعـ َّـرف بمقــدار القــوة املبذولــة فــي زمــن‬
‫معين‪ ،‬فالشغل هو الذي يحدد مقدار التأثير ككمية‪ ،‬واالنفعال في املسبب يكون بمقدار متناسب مع الفعالية السببية‪ .‬ألن الطاقة السببية تنتقل مــن الســبب‬
‫إلى املسبب بمقادير معينة حسب زمن التأثير‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫وأثـره فــي العمليــة‪ ،‬فمــثال حــين اغلــي املــاء النقــي جـراء رفــع درجـة حرارتــه إلــى مائــة مئويــة عنــد ضــغط جــوي معــين‪ ،‬وفــق مــا‬
‫اسمى بالظروف املعيارية‪ ،‬فإن هذا الغليـان سـيحدث كـل مـرة‪ ،‬وتكـون عالقـة الحـرارة بتغييـر حالـة املـاء مـن السـيولة إلـى‬
‫الغازيــة (البخــار) عالقــة س ــببية‪ ،‬ويلعــب الضــغط الج ــوي فيهــا دورا ســببيا أيض ــا‪ ،‬ولــو انتقلــت إل ــى أعلــى الجبــال واختل ــف‬
‫الضغط الجوي اختلفت درجة الحرارة املطلوبة إلحداث الغليان نفسه‪ ،‬ولكن هذا يبقي على العالقة السـببية نفسـها‪،‬‬
‫وإنم ــا ال ــذي اختل ــف ه ــو النس ــب وفق ــا للظ ــروف املعياري ــة أو غيره ــا‪ ،‬ويص ـ تعم ــيم النتيج ــة واعتباره ــا قطعي ــة‪ ،‬بْ ْْدليل‬
‫اسْ ْْتحالة تك ْ ْراراملصْ ْْادفة‪ ،‬فيس ــتحيل أن يت ــدخل عام ــل آخ ــر غي ــر الح ـرارة والض ــغط ونق ــاء امل ــاء كْ ْْل مْ ْْرة مصْ ْْادفة‬
‫فيحدث التغيير في حالة املاء عند درجة حرارة معينة‪ ،‬وتتكرر هذه املصادفة مرة بعد مـرة فْْنظن أن الحـرارة والظـروف‬
‫املعياريــة ه ــي الســبب ف ــي حــين أن ذل ــك األمــر "اآلخ ــر" الــذي يتك ــرر كــل م ــرة مصــادفة وال ن ـراه ضــمن العملي ــة الســببية ه ــو‬
‫السبب على الحقيقة! استحيل هذا‪ ،‬لذلك يمكننا التعميم! وبالتالي‪ :‬القطع‪ ،‬والحتمية!‬
‫إن تفاعــل الطاقــة الســببية التــي فــي الســبب مــع الشــروط الالزمــة املحيطــة بحالـة األشــياء تــؤدي إلــى إنهــاء تحكــم تلــك‬
‫القــوانين الطبيعي ــة التــي كان ــت تــتحكم ف ــي األش ــياء فــي حال ــة االســتقرار‪ ،‬وتنق ــل وتح ــرك قــوانين جدي ــدة غيــر ق ــوانين حال ــة‬
‫االســتقرار فتقــوم هــذه الق ــوانين بإخضــا األشــياء إلــى تص ــرف وانفعــال جديــد مغــاير للتص ــرف األصــلي‪ ،‬وتحــدث بالت ــالي‬
‫التغيير على وضع وحالة هذه األشياء‪.‬‬
‫فالتغيير يكون بتحويل واستبدال القوانين التي تتحكم في حالة االستقرار والسكون بشكل حتمي والزم إلى القوانين‬
‫التـي تــتحكم فــي حالــة الحركــة والنشــاط بفعــل الطاقــة السـببية املحركـة‪ .‬وهــذا التبــدل للقــوانين يــؤدي إلــى إجبــار األشــياء‬
‫علـى التصــرف والتحـرك علــى نسـق جديــد مغـاير للوضــع األول فـي الــزمن األول‪ .‬وإذا انتهـى تــأثير السـبب تكــون األشـياء قــد‬
‫اكتس ــبت طاق ــة ه ــذا الس ــبب بأقي ـ ى درج ــة فتتح ــرك بت ــأثير الطاق ــة التــي اكتس ــبتها بش ــكل مع ــين إل ــى أن ينته ــي ت ــأثير ه ــذه‬
‫الطاقـة التـي فيهـا بتحويلهــا أو إكسـابها لشـ يء آخــر فتعـود هـذه األشـياء إلــى حالـة االسـتقرار والثبــات مـن جديـد بالخضــو‬
‫لقوانين أخرى تتحكم في حالة االستقرار الجديدة‪.‬‬
‫فالضْْابم للعالقْْة السْْببية إذن أنْْه "يترتْْب علْْى وجْْود السْْبب وجْْود النتيجْْة حتمْْا‪ ،‬ويترتْْب علْْى عْْدم وجْْود‬
‫السبب عدم حصول النتيجة حتما"‪.‬‬
‫واملعيار الصحيح للتفريق بين العوامل التي تحدث النتيجة أي التفريق ما بين السبب وبا ي الشروط يكون بناء على‬
‫اكتساب واحد من هذه العوامل أو أكثر للطاقة املؤثرة فيتم اعتباره سببا لتلك النتيجة‪ ،‬وعدم تخلفه عن القدرة على‬
‫إنتاج ال ُـم َس َّب ِب‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫السبب له ثالض صفات‬
‫أ‪ -‬امتالك الطاقة السببية الكافية (بنسب معينة‪ ،‬في زمن معين إلحداض التغيير‪ ،‬أي استطاعة إحداض‬
‫التغيير‪ ،‬والقدرة على التأثيرفي ال ُْم َس َّب ِب‪،‬‬
‫ب‪ -‬والتعاون مع الشرو الالزمة إلحداض التغيير‪ ،‬أو فرض هذه الشروط‪ ،‬والقدرة على التغلب على‬
‫املوانع‪،‬‬
‫سب ِب‪ .‬فإذا لم ينتج عن وجوده وجود املعلـول ال يكـون علـة لـه‪ ،‬وضـربنا مـثال‬ ‫للم َّ‬ ‫وحتمية أو ضرورة اإلنتاج ُ‬
‫ُ‬
‫على تغيير املجتمع بتغيير أخالقه مثاال على ما ظ َّن بأنه علة للتغيير وما هو كذلك!‬
‫وتثبــت العالقــة الســببية بــين واقعتــين متتــابعتين إذا تبــين بالتحليــل العقلــي أن حصــول الواقعــة الســابقة زمنــا (بــدء‬
‫فعالية السبب) قد حرك قانونا أو مجموعة من القوانين الطبيعية (أو نواميس املجتمعات) أفضت وأدت حتما ولزوما‬
‫إل ـ ــى حص ـ ــول الواقع ـ ــة التالي ـ ــة‪ ،‬كمث ـ ــال غلي ـ ــان امل ـ ــاء ب ـ ــالحرارة؛ فالعالق ـ ــة س ـ ــببية‪ ،‬فْ ْ ْْالقوانين الطبيعي ْ ْ ْة‪ ،‬ونْ ْ ْْوامهس‬
‫املجتمعات هي الرابط بين طرفي العالقة السببية‪.‬‬
‫العلة الغائية دليل على وجود هللا‪ :‬العلة الغائية عند األشاعرة‪:‬‬
‫وهــذا املوضــو ـكـان مــدار نقــاش طويــل بــين الفالســفة واملتكلمــين‪ ،‬وسنستعرضــه ســريعا أوال‪ ،‬ثــم نبــين الـرأي فيــه إن‬
‫شــاء هللا تعــالى‪ ،‬وطرحــه مه ــم لدراســة تــدبير هللا تعــالى ف ــي الخلــق وفــق نظ ــام الســببية‪ ،‬هــل ينــتج عن ــه نقــص؟ أو جبــر ل ــه ‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬على ش يء (من باب أن صورة العلة الغائية حملها للفاعل على القيام بتدخير سبب ضروري لتحقيق الغايات‪ ،‬ال‬
‫تتحقق بدونه)؟ وهل األسباب تنتج املسببات بالضـرورة تلقائيـا‪ ،‬بمعنـى آخـر هـل نـتحكم بنتيجـة أفعالنـا السـببية؟ وهـل‬
‫خل ــق هللا الك ــون ووض ــعه عل ــى س ــكة‪ ،‬وفق ــا لنظ ــام األس ــباب واملس ــببات‪ ،‬وترك ــه اس ــير وح ــده؟ ه ــل نفص ــل العمل ــي ع ــن‬
‫العقدي؟ أم ال بد أن يتداخال؟ كيف نفهم القدر فهما إيجابيا‪ ،‬بدال من فهم القدرية الغيبية السلبي؟‬
‫ُ‬
‫لقــد نفــى األشــاعرة‪ 69‬تعليـ َـل أفعــال هللا تعــالى‪ ،‬واملعنــى املقصــود ‪-‬بحسـ هم‪ -‬هــو العلــة الغائيــة‪ ،‬وهــي الغــرض والباعــث‬
‫خلق النتائج دون توسيط األسباب‪،‬‬ ‫واملؤثر‪ ،‬وهذا ألن لل تعالى الكمال املطلق وأنه املؤثر ال املؤثر عليه‪ ،‬وأنه قادر على ِ‬
‫وأنه ليس له حاجة في ش يء ألنه غني عن املخلوقات جميعا‪.‬‬
‫وينطلق الفالسفة واملتكلمون جميعا؛ من معتزلة وأشاعرة وماتريدية‪ ،‬من مقـررات تعريـف العلـة وأركانهـا كمـا وردت مـن‬
‫الفلسـفة اإلغريقيــة‪ ،‬وبــاألخص فلســفة أرســطو‪ .‬وطبقـوا هــذا األمــر علــى أفعــال اإللــه‪- ،‬علـى عــاد هم فــي قيــاس مــن ال يقــع‬
‫الحس عليه تعالى‪ ،‬على الشاهد‪ -‬وبالتالي نفوا وجود العلة الغائية في أفعال هللا سبحانه وتعالى‪ .‬أما الدليل الذي استند‬
‫اليـه املتكلمــون عمومــا ‪-‬واألشــاعرة مــنهم‪ -‬علــى نفـي العلــة الغائيــة فهــو دليــل أو حجــة االسْْتكمال؛ فاإلمــام الفخــر الـرازي‬

‫‪ 69‬األستاذ يوسف الساريس ي‪ ،‬العلة الغائية عند األشاعرة‬


‫‪59‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫يقول‪" :‬إن كل َم ْن ف َعل فعال لغرض فهو ُم ْس َتك َمل بذلك الغرض‪ ،‬واملستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على هللا محال‪،‬‬
‫وإما أن يكون الداعي هو الحكمة واملصلحة فالل قادر على تحقيقها دون توقف على وسائط"‪.‬‬
‫فاملخلوق قد يدفعه البرد إلى إيقاد النار ليصطلي بها أو يدفعه الجو إلى تناول الطعام ليصل إلى الشـبع‪ ،‬أمـا اإللـه‬
‫فإنـه مسـتغن بنفسـه وال اسـعى ليسـد نقصـا أو يـزداد كمـاال‪ ،‬ونفـي العلـة‪ -‬بهـذا املعنـى – عـن أفعـال اإللـه ال اعنـي أبـدا أن‬
‫الكونية وشر ُ‬ ‫ُ‬ ‫أفعاله عب ية غير مقصودة كأنما أتت بها املصادفات‪ ،‬وإنما تحدد اإل ادة أفعال هللا تعالى‪ُ ،‬‬
‫اوعه على‬ ‫وسننه‬ ‫ر‬
‫نحو متسق وحكيم‪ ،‬دون غرض أو باعث أو علة تتسلط على اإلله‪ ،‬فإرادته تامة ال اشوبها أى معنى من معاني الجبر أو‬
‫الحمل على ما ال يريد‪ .‬يقول اإلمام الشهرستاني‪( :‬إن هللا تعالى خلق العالم ‪ ...‬ال لعلة حاملة له على الفعل‪ ،‬سواء ُقد ْ‬
‫رت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تلـك العلــة نافعــة لــه أو غيـ َـر نافعــة‪ ،‬إذ لــيس يقبــل النفــع والضـرر‪ ،‬أو قـدرت تلــك العلــة نافعــة للخلـ ِـق إذ لــيس يبعثــه علــى‬
‫الفعل باعث فال غرض له في أفعاله وال حامل‪ ،‬بل علة كل ش يء صنعه)‪.‬‬
‫يقـول البــوطي‪( :‬صـفة اإلرادة فــي ذات هللا صـفة تامــة كاملـة ال اشــوبها أي جبـر أو قســر‪ ،‬فلـو قلــت بـأن هللا أنـزل املطــر‬
‫م ــن أج ـل عل ــة اس ــتهدفها‪ ،‬وه ـي ظه ــور النب ــات عل ــى وج ــه األرض‪ ،‬وأنه ــا حامل ــة ل ــه عل ــى إن ـزال املط ــر ‪-‬كم ــا ه ــو ش ــأن العل ــة‬
‫الغائيـة‪ -‬فمعنـى ذلــك أنـك تقــول إن الضـرورة هــي التـي حملتــه علـى اإلمطـار‪ ،‬إذ كانــت هـي الواســطة التـي ال بــد منهـا للنبــات‬
‫فاإلرادة متجهة إذن إلى اإلنبات أما األمطار فإنها مشـوبة بقـدر كبيـر مـن الضـرورة التـي تنـافي اإلرادة‪ ... ،‬وهـذا االعتقـاد فـي‬
‫حق الباري جل جالله كفر محض وأنه يتناقض مع مقت ى األلوهية تناقضا بينا)‪.‬‬
‫وأدلة من ذهب من املتكلمين كاألشاعرة إلى نفي التعليل هي نفـس أدلـة الفالسـفة‪ ،‬إال إن املتكلمـين متفقـون علـى أن‬
‫أفع ــال هللا تص ــدر ع ــن إرادت ــه وعلم ــه‪ ،‬فه ــي ص ــادرة باالختي ــار ف ــال ش ـ يء ف ــي أفع ــال هللا يص ــدر وجوب ــا ع ــن ذات ــه كم ــا يق ــول‬
‫الفالســفة‪ ،‬حي ــث إن الفالس ــفة يقولــون ب ــأن ص ْْدوروتول ْْد املعل ْْول ع ْْن علت ْْه التام ْْة ه ْْو واج ْْب تلق ْْائي ض ْروري دون‬
‫إرادة‪ ،‬وبالتــالي ق ْْالوا بق ْْدم الع ْْالم أي إن الوج ــود أزل ــي مــع هللا‪ ،‬ألن العل ــة الفاعل ــة وهــي هللا وجمي ــع م ــا يلــزم للوج ــود ق ــد‬
‫وجد منذ األزل‪ ،‬فالعالم موجود ضرورة منذ األزل فهو قديم حسب اصطالحا هم‪ ،‬وقد كفرهم حجة اإلسالم اإلمام أبو‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حامـد الغزالــي علــى مقــولتهم بقــدم العــالم‪ .‬وقــد خــالف املاتريديـة ‪-‬مــن املتكلمــين‪ -‬األشــاعرة فــي قــولهم بنفــي العلــل الغائيــة‬
‫عن أفعال اإلله‪ ،‬حيث إنهم عللوا أفعال هللا بأنها لرعاية مصال العباد‪.‬‬
‫وأما السببية الكونية فإن السادة األشاعرة قد نفوا أيضا أي ترابط ضروري بـين العلـل واملعلـوالت‪ ،‬أو بـين األسـباب‬
‫والنتــائج ردا علــى الفالســفة الطبيعيــين الــذين ال يــرون وراء املعلــول إال علتــه‪ ،‬وال يــدركون إال األســباب الظــاهرة القريبــة؛‬
‫َ‬
‫فإيج ــاد املمكن ــات أو إع ــدامها ‪-‬عن ــد األش ــاعرة‪ -‬ي ــأتي مقارن ــا للس ــبب ال بواسْ ْْطة السْ ْْبب ذاتْ ْْه؛ ف ــاإلحراق ُيخل ْ ْ ُق عن ــد‬
‫مالمسة النار للورق ال بمالمسة النار للورق‪ ،‬ولكن من اطراد اقتران النار باإلحراق تصور بعض الفالسفة أن النار هي‬
‫ُ‬
‫فاعلية للمادة الصماء"‪.‬‬ ‫ل‬ ‫التي أوجدت اإلحراق! وأن املاء هو الذي يوجد الري بذاته‪ ،‬فانتصب لهم األشاعرة نافين أ َّي‬
‫اآلن وقد استعرضنا املذهب‪ ،‬والخالف‪ ،‬نبين الرأي فيه إن شاء هللا تعالى‪ ،‬وبالل تعالى التوفيق‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫إن أول خطـأ ارتكبــه املتكلمـون والفالســفة هــو قياسـهم مــا ال يقــع الحـس عليــه‪ ،‬أي هللا تعــالى‪ ،‬علـى الشــاهد‪ ،‬أي علــى‬
‫أي فهم لصفات هللا تعالى يقتـرن بـالزمن فهـم مرفـوض‪ ،‬إذ إنـه اعنـي إخضـا الخـالق سـبحانه‬ ‫اإلنسان وإرادته وأفعاله‪ .‬و ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫وتعـالى لنظــام الوجــود‪ ،‬بــأن تجعــل أفعالــه‪ ،‬محــل تــأثر بــالزمن‪ ،‬لهــا بدايــة‪ ،‬ولهــا نهايــة‪ ،‬وكانــت بعــد أن لــم تكــن‪ ،‬وانعــدمت‬
‫بعد أن كانت‪ ،‬وفهم الصفات على هذا األساس يجعل هللا تعالى محال للحوادث‪ ،‬ويلزم منه حدوثه (تعالى هللا عن ذلك)‪،‬‬
‫إذ إن أدلة وجود هللا تبرهن بما ال يقع فيه شك وجوب مخالفة هللا تعالى للحوادث في كل ش يء‪ ،‬وإال كان من جنسها!‬
‫َ ُ َ ُ ُ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿إ َّن َم ـا أ ْم ـ ُر ُه ِإذا أ َر َاد ش ـ ْيئا أ ْن َي ُق ـو َل ل ـ ُه ك ـ ْن ف َيك ـون﴾‬
‫ول ــذلك تج ــد هللا تع ــالى يص ــف ت ــأثير إرادت ــه َ فيم ــا يوج ــده بقول ــه‪ِ :‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وقولــه تعــالى‪﴿ :‬إ َّنـا ُكـ َّل َشـ ْيء َخ َل ْق َنـ ُاه ب َقـ َدر َو َمـا أ ْم ُرَنـا إ َّال َواحـ َدة َك َل ْمـح بال َب َ‬
‫وم ُم َدـ َّخ َرات‬ ‫س َوال َق َمـ َر َو ُّ‬
‫الن ُجـ َ‬ ‫صـر﴾‪َ ﴿ ،‬وال َّشـ ْم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ َّ ُ َ ُّ ْ َ َ‬
‫ِب ـأم ِر ِه ۗ أال ل ـه الخل ـق واألم ـر ۗ تب ـارك ّللا رب الع ـ ِاملين﴾ [األع ـراف ‪ ]54‬ف ــانتفى احتي ــاج أم ــر هللا وقدرت ــه وإرادت ــه إل ــى ال ــزمن‬
‫ليحصل التأثير فيه‪ ،‬كما أن "الزمن" ابتدأ لحظة خلق الكون‪ ،‬أي لم تكن هناك لحظات زمنية‪ ،‬وال ساعة أزلية مـع هللا‬
‫تعــالى قب ــل خل ــق الخل ــق‪ ،‬فتق ــاس أفعال ــه به ــا‪ ،‬وال وج ــود لل ــزمن أب ــدا ب ــدون وج ــود املك ــان وامل ــادة والطاق ــة‪ ،‬ويتعل ــق ال ـ ُ‬
‫ـزمن‬
‫بوجود األشياء وبحدوث التغييرات فيها‪ ،‬ليقيس وقت انتقالها من حال إلى حـال‪ ،‬وهـذا محـال فـي حـق هللا تعـالى‪ ،‬وبالتـالي‬
‫ف ــال يق ــال‪ :‬أراد هللا أن يخل ــق الخل ــق من ــذ األزل‪ ،‬وأنف ــذ إرادت ــه بع ــد زم ــن طوي ــل ج ــدا م ــن إرادت ــه! وه ــذا م ــا أوق ــع الفالس ــفة‬
‫بالقول بقدم العالم‪ ،‬ألنهم يرون أنه ال يص تأخير اإلرادة عن اإلنفاذ‪!70‬‬
‫وحيث إن هللا تعالى في ذاته‪ ،‬وفي صفات ذاته‪ ،‬وفي صفات فعله (في الشق الذي أسميناه فيها "الصفة الحقيقية" في‬
‫كتابنا (ضوابط التعامل مع مسائل الصفات) تلك الصفات التي تتضمن شقا متعلقا بالل تعالى‪ ،‬وهو صفته‪ ،‬وتتضمن‬
‫شـقا متعلقــا باملخلوقــات وبنظــام الوجــود‪ ،‬وهــو تجليــات أو ُمتعلقــات هـذه الصــفة التــي اســير هللا بهــا الوجــود‪ ،‬بــأن يــرزق‬
‫هللا تعالى الناس‪ ،‬فشاهدنا تجليات الرزق بصور كثيرة منها العطاء)‪ ،‬ليس محال للحوادث‪ ،71‬وال يخضع لقانون الزمـان‬
‫واملكان‪ ،‬وال يحصل فيه تغييـر‪ ،‬فـاإلرادة والقـدرة والخلـق والعلـم والحيـاة عنـده هـي هـي‪ ،‬ال تتـأثر‪ ،‬وال تتغيـر‪ ،‬وال تزيـد‪ ،‬وال‬
‫تـنقص‪ ،‬وال تتجـدد‪ ،‬وال تطـرأ‪ ،‬وال اسـبقها جهــل‪ ،‬كحـال العلـم عنــد املخلوقـات‪ ،‬بــل علمـه سـبحانه وتعــالى‪ ،‬وصـفاته غيــر‬
‫هــذا الــذي نعرفــه فــي املخلوقــات‪ ،‬وأمــا صــفات فعلــه فــي الشــق املتعلــق بــالوجود‪( ،‬أي صــفة الــرزاق مــن حيــث تعلقهــا بمــن‬
‫ُُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األشياء بها ُلتحدث في تلك األشياء التغيير والتقدير والتسيير‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫يرزقه) والذي ت ِأث ُر إرادة هللا تعالى وقدرته وصفات ِ‬
‫فعل ِه في‬
‫والتدبير‪ ،‬أي ما نلحظه من أثرهذه الصفات‪ ،‬ومتعلقاتها‪( ،‬مثل تعلق صفة الرزاق بأثرها وهو أنه يرزق‪ ،‬فترى تجليات‬
‫ذلك األثر في حياتك اليومية رزقا‪ ،‬والرحمن بأنه يرحم‪ ،‬وأنه ينصر‪ ،‬والعزيز الذي اعز مـن اشـاء) ففـي هـذا الشـق‪ ،‬ثْْار‬
‫الصفات هي غيرالصفات‪ ،‬وهي تتفاعل مع الوجود وفق نظام الوجود بأمره أن كن فيكون‪ ،‬و سيطرته وإرادته وخلقه‬

‫‪ 70‬وقد ناقشنا رأَهــم وأبطلنــاه بالتفصــيل فــي مجموعــة مــن كتبنــا‪ ،‬منهــا‪( :‬ضــوابط التعامــل مــع مســائل الصــفات)‪ ،‬و(نظريــة املعرفــة ومنــاهج التفكيــر واالســتدالل)‪،‬‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬
‫و(نشأة الك ْو ِن‪َ ،‬د ْليل َع ْق ِلي ِعل ِمي ِح ِس ي َعل ْى ُو ُج ْو ِد الخ ِال ِق‪ /‬فصل‪ :‬دليل الحدوث والتغير والسببية)‪.‬‬
‫‪ 71‬فهذا اعني إثبات صــفات الفعــل لل تعــالى‪ ،‬ومنــع أن يكــون محــال للحــوادث‪ ،‬وتفــويض معنــى تلــك الصــفات علــى الحقيقــة لل تعــالى‪ ،‬واإلقــرار بحــدوث متعلقا هــا‪،‬‬
‫َْ َ َ ْ َ‬
‫س ك ِمث ِل ِه ش ْيء﴾ [الشورى ‪.]11‬‬ ‫واملهم أن هللا تعالى في ذاته وفي صفاته‪ ،‬ال يخضع لقانون الزمان‪ ،‬وليس محال للحوادث وال للتغيرات‪ ،‬بدليل ﴿لي‬
‫‪61‬‬
‫َّ‬
‫لها على نظام معين أراده‪ ،‬فيحصل ُمتعلق اإلرادة في اللحظة التي قدرت اإلرادة أن يحصل الش يء فيها‪ ،‬ويبدأ خلق ما في‬
‫اللحظة التي قدر هللا تعالى فيها أنه سيبدأ‪ ،‬من غيرتغيرفي الصفات الحقيقية كاإلرادة أو القدرة‪( ،‬ألنه تعالى ال يخضع‬
‫للــزمن) ومــن غيــر أن يحتــاج الخــالق ســبحانه وتعــالى فــي صــفة الخلــق والــرزق وغيرهــا إلحــداث إرادة جديــدة‪ ،‬وال إلحــداث‬
‫ُّ‬
‫قــدرة جديــدة‪ ،‬وال لتكلـف القيــام بالفعــل علــى النحــو الــذي يقــوم بــه املخلــوق‪ ،‬فحــين ينصــر هللا تعــالى تــرى تجليــات ذلــك‬
‫النص ــر بتد ــخير ال ــريح ف ــي الخن ــدق م ــثال ب ــأمره‪ ،‬وه ــذا تد ــخير ألس ــباب كوني ــة خاض ــعة ألم ــر هللا تع ــالى اد ــخرها متــى ش ــاء‬
‫فينصـر بهــا عبـاده! أي يتجلــى فعـل هللا بــأن النصـر بيــده ويتمثــل فـي صــور مـن نظــام الوجـود‪ ،‬ال خرقــا لـه‪ ،‬أو يفــتح أبــواب‬
‫السماء بمـاء منهمـر‪ ،‬وتجـري األرض عيونـا ليلتقـي املـاء علـى أمـر قـد قـدر‪ ،‬وهـذا مـا ال يحـدث إال بـأمر منـه ليدـخره لنصـر‬
‫نبيــه‪ ،‬وهــذا مــن نظــام الوجــود‪ ،‬ولكنــه ال يحــدث عــادة‪ ،‬بــل حصــل وفقــا ألمــره ســبحانه وتعــالى نصــرة لنبيــه‪ ،‬أو أن ادــخر‬
‫األسـباب بصـورة طبيعيـة وفقـا لنظـام مخصـوص جـرى عليــه نظـام الوجـود‪ ،‬فيدـخر املطـر إلنبـات الـزر ‪ُ ،‬ويجـري الــرزق‬
‫بـ ــين الخالئـ ــق بأسـ ــباب دنيويـ ــة مثـ ــل الكسـ ــب وامليـ ـراث‪ .‬أو ينصـ ــر هللا دينـ ــه بـ ــأن اشـ ــرح صـ ــدور األوس والخـ ــزرج للهدايـ ــة‬
‫فيســتعدون لنصــرة الــدين‪ ،‬لــذلك نــرى أن صــفات الفعــل عنــد هللا تعــالى غيــر منفعلــة بأفعــال البشــر‪ ،‬وال تخضــع لنظــام‬
‫الوجود‪ ،‬ولكن تجليا ها‪ ،‬ومتعلقا ها وطريقة عملها في الوجود‪ ،‬يكون بتسيير وسائط ممـا هـو فـي الوجـود وفقـا إلرادة هللا‬
‫تعالى ال عن احتياج لها‪ ،‬وإنما عن تسيير‪ ،‬وتدبير‪ ،‬وقدرة‪ ،‬وملكوت‪.‬‬
‫فهل يخضع الخالق لألسباب أم تخضع األسباب له؟‬
‫بالتأم ــل ف ــي فه ــم العل ــة الغائي ــة ال ــدقيق ال ــذي توص ــلنا إلي ــه ف ــي ه ــذا البح ــث‪ ،‬نج ــد أن اإلنس ــان يق ــوم بالتفاع ــل م ــع‬
‫الخصــائص التــي أودعهــا هللا فــي املــواد‪ ،‬والنــواميس التــي خلــق هللا تعــالى الكــون عليهــا‪( ،‬أي يتفاعــل مــع القــدر)‪ ،‬لتدــخيرها‬
‫مـن خــالل القيـام بأفعــال ســببية قـادرة علــى إنجــاز املهمـات وتحقيــق النتـائج‪ ،‬فهــذه الخصــائص وتلـك النــواميس‪ ،‬ومثلهــا‬
‫الحاجـات أو املشـاكل التـي تـؤثر فـي اإلنسـان جبـرا عنـه مثـل الجـو والبـرد ممـا نـتج عـن وجـود الطاقـة الحيويـة فـي اإلنســان‬
‫كما قدرها هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬كلها في الدائرة التي تسيطر على اإلنسان وال يتحكم فيها‪ ،‬وهو مـن نظـام الوجـود أو ممـا‬
‫يق ــع عل ــى اإلنس ــان وه ــو اع ــيش حيات ــه مم ــا خل ــق هللا تع ــالى الك ــون وس ــخر م ــا في ــه ل ــه‪ ،‬و ِف ْع ـ ُل اإلنس ــان ه ــو التفاع ــل م ــع‬
‫خص ــائص األش ــياء والن ــواميس (أي م ــع الق ــدر)‪ ،‬واس ــتعمال م ــا س ــخر هللا تع ــالى ل ــه مم ــا ف ــي الك ــون‪ ،‬لتحقي ــق النت ــائج ع ــن‬
‫طريق األفعال السببية‪ ،‬مثل اتقاء البـرد بإشـعال النـار‪ ،‬ومثـل شـرب املـاء لالرتـواء‪ ،‬والعلـة الغائيـة بهـذا املعنـى منفيـة عـن‬
‫هللا تع ــالى قطع ــا‪ ،‬ألن م ــن ص ــفات كم ــال هللا تع ــالى أن ــه ص ــمد‪ ،‬قي ــوم‪ ،‬أي ق ــائم بذات ــه‪ ،‬أي إن ــه غي ــر محت ــاج‪ ،‬غي ــر ع ــاجز‪،‬‬
‫والصمد ال يحتاج إلـى شـ يء‪ ،‬وال اسـتند إلـى شـ يء‪ ،‬فهـو ُيط ِعـ ُم وال ُيط َعـ ُم‪ ،‬ويشـفي املربـ ى‪ ،‬وينـزل مـن السـماء مـاء‪ ،‬فينبـت‬
‫به الزر ‪ ،‬بل كل املخلوقات تستند إليه وتعتمد عليه في وجودهـا وفـي سـد وقضـاء حوائجهـا‪ ،‬بوصـفه ربـا يرعاهـا‪ ،‬وخـص‬

‫‪62‬‬
‫ذات ــه العلي ــة بالقي ــام بتحقي ــق بع ْْم ه ْْذه الغاي ْْات تحدي ــدا‪ ،‬ألنه ــا م ْْن ص ْْفات ألوهيت ْْه وربوبهت ْْه‪( ،72‬ال ــرزق‪ ،‬النف ــع‪،‬‬
‫ُُ‬ ‫َََ ُ ُ ََ ُ ُ‬ ‫َّ ُ َّ‬
‫﴿ّللا الـ ِذي خلقكْ ْم ثـ َّم َرزقكْ ْم ثـ َّم ُي ِميْْتك ْم‬ ‫النصر‪... ،‬الخ)‪ ،‬فال استطيعها اإلنسـان بنفسـه وال بغيـر هللا تعـالى‪ :‬قـال تعـالى‬
‫يك ْم َه ْل من ُش َر َكائ ُكم َّمن َي ْف َع ُل من َذل ُكم من َش ْي لء ُس ْب َح َان ُه َو َت َع َالى َع َّما ُاشركون﴾ [الروم ‪َ ،]40‬‬
‫﴿و َما َج َع َل ُه َّّللاُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َّ ُ ْ ُ‬
‫ثم يح ِي‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُر إ َّال م ْن عند َّّللا ۚ إ َّن َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َّ ُ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ ُ ُ ْ َ َ َّ ْ‬
‫ّللا َع ِزيز َح ِكيم﴾ [األنفال ‪ ،]10‬فجعل ما يفعله اإلنسان‬ ‫ِإال بشرى وِلتطم ِان ِب ِه قلوبكم ۚ وما الن ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ملثـل هــذه القضــايا ‪-‬حـين النظــر مــن زاويــة السـنن اإللهيــة فيهــا‪" -‬حـاالت أو شــروطا" يتوســل بهــا إلـى تحقيــق هــذه الغايــات‪،‬‬
‫لكــن حــين النظــر مــن زاويــة الســنن املجتمعيــة واإلنســانية التــي أقــام نظــام الوجــود عليهــا جعــل لهــا أســبابا علــى الحقيقــة‪،‬‬
‫فقد جعل لكل ش يء سببا في نظام الوجود‪ ،‬لذلك وجب اتبا أسبابها املجتمعية‪.‬‬
‫وبم ــا خل ــق هللا تع ــالى علي ــه الك ــون م ـن ن ــواميس ال اس ــتطيع غي ــره خلقه ــا أو التص ــرف فيه ــا إال ف ــي ض ــمن النط ــاق ال ــذي‬
‫سمحت به هذه النواميس (كتحول خاصية السيولة في املاء إلى الغازية بالتدخين)‪.‬‬
‫أين املشكة التي تترتب على تصريف هللا تعالى للكون وفقا للسببية إذن؟ يقول البوطي‪" :‬إن هللا أنزل املطر من أجل‬
‫علة استهدفها‪ ،‬وهو ظهور النبات على وجه األرض وأنها حاملة له على إنزال املطر ‪-‬كما هو شـأن العلـة الغائيـة‪ -‬فمعنـى‬
‫ذلك أنك تقول إن الضرورة هي التي حملته على اإلمطار‪ ،‬إذ كانت هي الواسطة التي ال بد منها للنبات"‪.‬‬
‫إذن انتقل املوضو من أنه يقت ي أن يكون هللا محتاجا في ذاته‪ ،‬فليس هللا تعالى بحاجة للنبات في ذاته‪ ،‬فيتوسل‬
‫باألمط ــار لتحقي ــق ذل ــك‪ ،‬ب ــل أراد س ــبحانه اإلنب ــات لس ــد حاج ــات مخلوقات ــه‪ ،‬ألن ــه ربه ــا‪ ،‬ول ــيس م ــن أج ــل ذات ــه‪ ،‬وذل ــك‬
‫بواسطة تفعيل سبب معين وهو اإلمطار هنا‪ ،‬لكننا نرى بالتدقيق أن هذا ال يترتب عليه أي نقص أو حاجة عند الذات‬
‫العلي ــة س ــبحانه‪ ،‬ب ــل ال ــنقص ف ــي املخلوق ــات‪ ،‬وه ــذا النظ ــام الس ــببي اس ــد تل ــك الحاج ــات‪ ،‬وترتي ــب هللا س ــبحانه لعالق ــة‬
‫اإلمطـار باإلنبـات ممــا سـن هللا عليـه الوجــود مـن نــواميس‪ ،‬فـالل تعـالى خــالق األشـياء وخــالق القـدرة علـى التــأثير الـذي فــي‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫األســباب‪ ،‬وخ ــالق ومق ــدر قابلي ــة الت ــأثر ال ــذي ف ــي املس ـ َّـببات‪ ،‬وخ ــالق للعالق ــة الس ــببية بينهم ــا‪ ،‬ويخض ــعها جميع ــا لقدرت ــه‬
‫ونواميسه التي قدرها لتسير عليه فتجري وفقه ال تستطيع الخروج عنه‪ ،‬وفقا لنظام الوجود‪ ،‬وليس فـي هـذا أي جبـر لـه‬
‫تعــالى يجبــره علــى الخضــو للنــواميس؛ ل ْْذلك كْْان قول ْْه لش ْ يء إذا أراده "ك ْْن"‪ ،‬وإنم ْْا يسْْخره ْْذه الوس ْْائم الت ْْي ه ْْو‬
‫َْ َ‬ ‫ُ َ‬
‫﴿س ْب َحان ُه ُه َو الغ ِن ُّي لـ ُه َمـا ِفـي‬ ‫خالقها وهو الذي أخضعها لنظام الوجود‪ ،‬وجعلها نوامهس يسيرعليها نظام الوجود‪،‬‬

‫‪ 72‬يأتي الرب في العربية بمعنيين‪ )1 :‬السيد أي املتصرف املدبر‪ ،‬اآلمــر النــاهي‪ ،‬الحــاكم املشــر ‪ )2 ،‬املالــك‪ :‬أي مالــك العــين أو الشـ يء ملكيــة تعطيــه حــق التصــرف‬
‫ُ‬
‫ـدل علــى أصــول‪ .‬فــاألول إصْْالح الش ْ ِيء والقيْْا ُم‬ ‫فــي العــين‪ .‬أنظــر‪ :‬الحاكميــة وســيادة الشــر للــدكتور املســعري ص ‪ .29-28‬قــال ابــن فــارس‪(" :‬الــرب) ال ـراء والبــاء يـ ُّ‬
‫ُ‬ ‫يعته‪ ،‬إذا قام علــى إصــالحها‪ .‬والــر ُّب‪ :‬الـ ُـم ْ‬ ‫ض َ‬ ‫صلح للش يء‪ .‬يقال َر َّب فالن َ‬‫ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫والخالق‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ص ِل للشـ يء‪ .‬وهللا جــل ثنــاُه الـ َّـرب؛‬ ‫والصاحب‪ .‬والر ُّب‪ :‬امل ِ‬ ‫املالك‪،‬‬ ‫عليه‪ .‬فالر ُّب‪:‬‬
‫َْ‬ ‫ألنه مصل ُ‬
‫أحوال خلقه"‪ .‬مججم مقاييس اللغة‪ .‬و "﴿رب﴾ في األصل‪ :‬مصدر بمعنــى التربيــة‪ ،‬وهــو تبليــغ الشـ يء إلــى كمالــه شــيئا فشــيئا‪ ،‬وذلــك يجمــع الــنعم كلهــا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل‪ .‬وقيل‪ :‬هو وصف من ربه يربه‪ ،‬وأصله‪ :‬ربــب ثــم أدغــم‪ ،‬ســمى بــه املالــك ألنــه يحفـ مــا يملكــه ويربيــه‪ ،‬وال يطلــق علــى غيــره‬
‫َ‬ ‫﴿ارج ـ ْع إل ــى َرب ـ َك﴾‪ .‬قــال ابــن جــزى‪ :‬ومعاني ــه أر عــة‪ :‬اإللــه والســيد واملالــك واملصــل ‪ ،‬وكله ــا تصــل فــي َ‬
‫﴿ر ِب ال َع ـ ِاملين﴾‪ ،‬إال أن األر ـ ف ــي‬ ‫ْ‬
‫تعــالى إال بقيــد كقولــه تعــالى‪ِ ِ ِ :‬‬
‫معنــاه‪ :‬اإلل ــه الختصاص ــه ب ــالِل تعــالى"‪ .‬تفس ــير البح ــر املدي ــد البــن عجيب ــة بتص ــرف‪ .‬وق ــال أب ــو حيــان األندلس ـ ي ف ــي البح ــر املحــيط‪" :‬ال ــرب‪ :‬الس ــيد واملال ــك والثاب ــت‬
‫واملعبود واملصل وزاد بعضهم بمعنى الصاحب"‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫َْ ْ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ‬
‫األ ْرض ۚ إ َّن َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫َْ‬
‫ّللا ُه َو الغ ِن ُّي ال َح ِمي ُـد﴾ [لقمـان ‪ ،]26‬والخطـأ‬ ‫ِ ِ‬ ‫و‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫او‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫﴿لِل َ‬
‫م‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫]‪،‬‬‫‪68‬‬ ‫[يونس‬ ‫﴾‬ ‫ۚ‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫األ‬ ‫ات َو َما ِفي‬
‫الس َم َاو ِ‬ ‫َّ‬
‫الـذي وقـع فيـه املتكلمــون أنهـم رأوا أن اإلنسـان يخضـع لهــذه األسـباب‪ ،‬وال اسـتطيع تحقيـق الغايــات إال بهـا‪ ،‬ولـم يلتفتــوا‬
‫إلى أن األمر بالنسبة لل تعالى يختلف‪ ،‬فهو خلقها‪ ،‬ونظم الكون بها‪ ،‬وسخرها تدخيرا‪ ،‬يدبر به ملكوته‪ ،‬اسلط األسباب‬
‫َ َ‬ ‫َّ َ‬
‫﴿إن َمْا أ ْمْ ُر ُه ِإذا أ َر َاد‬
‫املسببات وفقا إلرادته‪ ،‬فهو مسيطر متحكم حكيم مريد قـادر‪ ،‬وأمـره لهـا مـن بـاب كـن فيكـون‪ِ ،‬‬ ‫على‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫﴿لِل ُملـ ُك ال َّسـ َم َاو ِ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َ َ ُّ َ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ‬
‫ض ۚ َيخلـ ُق َمـا‬ ‫ات واألر ِ‬
‫ََ‬
‫ش ْهئا أن يق ْول ل ْه ك ْن فيك ْون [‪ 82‬اــس]‪﴿ ،‬ورب ْك يخل ْق م ْا يش ْاء ويخت ْ ُار ‪ِ ِ ،‬‬
‫َ َ‬
‫َ َّ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ّللا َعل ْى ك ِل ش ْيء ق ِدير﴾ [املائدة ‪،]17‬‬ ‫ض وما بينهما ۚ يخلق ما اشاء ۚ و‬ ‫ات واألر ِ‬ ‫اش ُاء ۚ﴾ [الشورى ‪﴿ ]49‬وِ ِ‬
‫لِل ملك السماو ِ‬
‫ف ــال يمك ــن أن يك ــون خاض ــعا له ــا‪ ،‬وإال ل ــم يك ــن مس ــيطرا متحكم ــا‪ ،‬وحين ــذاك‪ ،‬كان ــت األس ــباب لتس ــتغني عن ــه س ــبحانه‪،‬‬
‫وتصــبح غي ــر محتاج ــة! والواق ــع يقــرر عك ــس ذل ــك تمام ــا‪ ،‬فــالل س ــبحانه وال ش ــك مال ــك األســباب كله ــا‪ ،‬نظ ــم جري ــان ه ــذا‬
‫الك ــون وفق ــا لنظ ــام الس ــببية‪ ،‬ول ــو ح ــدث كــل ش ـ يء لوج ــود األس ــباب مل ــا كــان الطف ــل لينتظ ــر وج ــود أبي ــه ليوج ــد‪ ،‬ب ــل إن‬
‫األسباب متصلة وموجودة‪ ،‬كان كل ش يء ليكون دفعة واحدة وهذا واض الفساد والبطالن‪،‬‬
‫وك ــون األس ــباب واملس ــببات مفتق ــرة محتاج ــة اعنــي أنه ــا خاض ــعة‪ ،‬وحاجته ــا ال تقتص ــر عل ــى اإليج ــاد بع ــد الع ــدم‪ ،‬ب ــل‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫التنظيم والقدرة على التفاعل املتبادل والتأثير‪ ،‬فلو لم تكن امل َس َّببات قابلة للتأثر باألسباب ملا تمت العالقة السببية‪،‬‬
‫والعكس‪ ،‬فليس أي منها بمستغن بنفسه‪ ،‬وأي خلـل فـي أي مـن هـذه الحاجـات يجعلهـا غيـر فاعلـة فـي سـببيتها‪ ،‬أو يجعلهـا‬
‫معدومـة فــي وجودهــا‪ ،‬وال تملــك الســير إال وفقــا لهــذه النـواميس‪ ،‬بالصــورة التــي قــدرها خالقهــا ســبحانه وتعــالى‪ ،‬وال تملــك‬
‫تغيي ــر نظامه ــا وال خصائص ــها بنفس ــها أو بغيره ــا إال ف ــي نط ــاق م ــا س ــمح ب ــه الخ ــالق بم ــا أوج ــده فيه ــا م ــن خص ــائص‪ ،‬فامل ــاء‬
‫يمكــن أن يتحــول إلــى بخــار بتعرضــه للتدــخين‪ ،‬فتتغيــر في ــه خاصــية الســيولة‪ ،‬وهــذا ممــا ســمح بــه نظــام الوج ــود‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫فحاجتها للخالق مستمرة‪ ،‬فهو املسيطر عليها (األسباب واملسببات (وهي التي تجري فيهـا أو عليهـا األحـداث)‪ ،‬والنـواميس‬
‫التـي تجـري العالقـة السـببية وفقهـا‪ ،‬وكـل ذلـك مـن نظـام الوجـود‪ ،‬تسـير وفقـا لـه)‪ ،‬وبالتـالي فـال يمكـن أن يخضـع هـو لهـا‪،‬‬
‫وال يمك ــن أن تك ــون ه ــي املس ــيطرة‪ ،‬وه ــذا دلي ــل عل ــى أن ــه مس ــتغن عنه ــا‪ ،‬وعل ــى انتف ــاء ص ــفة الجج ــز ترتيب ــا عل ــى تد ــخير‬
‫األسباب‪.‬‬
‫كذلك ال شك أن بيد الخالق القدير الذي خلق الكون وفق نواميس معينة‪ ،‬ونظمه بنظام خاص‪ ،‬أن يخلق الكـون‬
‫علــى غي ــر النظ ــام ال ــذي نظم ــه علي ــه‪ ،‬ف أس ــباب خلق ــه عل ــى وج ــه أو نظ ــام آخ ــر مملوك ــة ل ــه س ــبحانه‪ ،‬ق ــادر عل ــى أن يخ ــرق‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نــواميس الكــون‪﴿ ،‬ف َّعـال ِملـا ُي ِريـ ُـد﴾ [البــروج ‪[ ]16‬هــود ‪ ]107‬وبيــده خلــق أســباب كثيــرة أخــرى‪ ،‬أو التــأثير فــي تلــك األســباب‬
‫﴿و َرُّب ْ َك‬
‫كيــف اشــاء‪ ،‬لتحصــيل نفــس املســببات‪ ،‬فهــو ال يخضــع لهــا‪ ،‬بــل خضــع كــل مــا فــي الوجــود ألمــره ســبحانه وتعــالى‪َ ،‬‬
‫ْ ُ َ‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ ْ َ َ َّ َ َ‬
‫ّللا َوت َعـالى َع َّمـا ُاشـ ِركون [‪ 68‬القصـص]‪ ،‬لكنـه تعـالى شـاء وأراد هـذا‬ ‫يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهْم ال ِخيْرة سـبحان ِ‬
‫النظام بعينه ليسير به الوجود‪ ،‬وجعل في النظام السببي دليال عليه‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫ـام الس ــببية‪ ،‬وأضــملى باإلمكــان أن يحــدث الش ـ يء بغيــر الســببية‪ ،‬فــإن ه ــذا ُيفقــد نظــام الســببية نفس ــه‬ ‫ولــو ُخـر َق نظـ ُ‬
‫ِ‬
‫ميزته‪ ،‬ويعطله‪ ،‬فيختل نظام الوجود‪ ،‬فقسم فيه يحدث بالسببية‪ ،‬وقسم يحدث بنظام آخر ! وحينذاك ال استطيع‬
‫‪73‬‬

‫اإلنسان االستدالل على خالقه‪ ،‬وال استنباط العلل‪ ،‬وال دراسة نظام الوجود ليفهمه ويعمر األرض‪ ،‬لذلك جرى إجراء‬
‫رزق هللا وتنزل رحمته وتنزل نصره وتوفيقه بتدخيره سبحانه لألسباب‪ ،‬فينصر بالريح‪ ،‬أو بالصاعقة‪ ،‬أو بالطوفان‪ ،‬أو‬
‫بالهداية‪ ،‬ويرزق ماال‪ ،‬أو عقارا‪ ،‬وكل ذلك يتنزل وفقا لنظام الوجـود‪ ،‬لكنـه تعـالى خـص نفسـه بـالرزق والنصـر واإلحيـاء‬
‫ـباب أمـور معينـة كإشـعال الحريـق‪ ،‬والتفاعــل‬ ‫َ‬
‫واإلماتـة والبعـث وغيرهـا‪ ،‬وملـك اإلنسـان أو األشـياء القـدرة علــى تفعيـل أس ِ‬
‫الكيماوي‪ ،‬دون غيرها‪ ،‬كالخلق واإلماتة والرزق والنصر‪ ،‬وذلك ألن من شأن مثل هذه األفعال أن تكون من اختصاصه‬
‫ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ ُ‬ ‫َََ ُ ُ ََُ ُ‬ ‫َّ ُ َّ‬
‫﴿ّللا الـ ِذي خلقك ْ ْم ثـ َّم َرزقك ْ ْم ثـ َّم ُي ِميْْتك ْم ثـ َّم ُي ْح ِيْيك ْم َه ْ ْل ِم ْن شْ َركا ِئكم َّم ْن َيف َع ْ ُل‬ ‫بوصـفه ربـا مالكــا ‪-‬سـبحانه وتعــالى‪-‬‬
‫ْ ُ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِمن ذ ِلكم ِمن ش ْي لء ُس ْب َحان ُه َوت َعالى َع َّما ُاش ِركون﴾ [‪ 40‬الروم]‪،‬‬
‫الخالق سبحانه نظام الوجود ونقيضه‪ ،‬أو نظام الوجود وآخر غيره‪ ،‬فهذا‬ ‫ُ‬ ‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ :‬لم يخلق‬
‫باطل‪ ،‬فاألسباب ال تتصرف آليا دون حكمة‪ ،‬وال تتصرف ذاتيا وآليا على هواها بدون أمره وتدبيره‪ ،‬بل تتصرف في خلق‬
‫﴿و َلك َّن َّ َ‬ ‫َّ َ ُ َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ‬
‫ّللا َي ْف َع ُل َما ُي ِر ُيد﴾ [‪ 253‬البقرة]‪.‬‬ ‫َ‬
‫﴿إن َما أ ْم ُره ِإذا أ َراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾ [‪ 82‬اس]‪ِ ،‬‬ ‫غاوي غير عبثي! ِ‬
‫وقد رأينا أن هللا تعالى أحدث اختالفا في بعض األنظمة الحيوية لفتا للنظر أنها ال تسير سيرا آليا ذاتيا ميكانيكيا بال‬
‫تــدبير أو تــدخل منــه‪ ،‬فمــثال وجــدنا فــرس البحــر والكائنــات التــي تنتمــي إلــى نفــس فصــيلته مثــل األســماك األنبوبيــة وتنــين‬
‫البحر املورق كائنات غير عاديـة للغايـة‪ ،‬فيحمـل الـذكور األجنـة فـي كـيس اشـبه نوعـا مـا كـيس الكنغـر‪ ،‬ويلـدون بـدال مـن‬
‫األنثى‪ ،‬ورأينا بعض النباتات تحمل العضو املذكر واملؤنث معا‪ ،‬و عض الكائنـات تتكـاثر باالنقسـام (التكـاثر الالجنسـ ي‪،‬‬
‫فــي الكائنــات وحيــدة الخلي ــة)‪ ،‬ووجــدنا بعــض الحيوانــات جرابي ــة ( ـكـالكنغر والكــواال‪ ،‬تكمــل حم ــل وليــدها بعــد والدتــه ف ــي‬
‫الجراب)‪ ،‬و عضها ثدييا‪ ،‬و عضها يبيض‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وهـذا كلـه وفقـا للسـببية‪ ،‬ولكـن قـدر هللا أشـكاال متعـددة تجـري وفقـا‬
‫لها حتى ال يظن ظان أن هللا تعالى خلق الكون ووضعه ‪-‬كالقطار‪ -‬على سكة‪ ،‬وكـل شـ يء ينـتج تلقائيـا وحتميـا وآليـا بـنفس‬
‫الصورة دون تدخل من الخالق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫س‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ َ َّ َ َ َ َ س ْ َ‬
‫ُلس َما ِء َما ًء فأن َبتنا ِب ِهۦ َح َدا ِئ َق ذات َب ْه َج لة‬ ‫﴿و أنزل لكم ِمن‬
‫بدراس ــة آي ــات الق ـرآن‪ ،‬وج ــدنا أن هللا تع ــالى ينف ــي ع ــن اإلنس ــان أن ــه ه ــو م ــن ينب ــت ال ــزر ‪ ،‬أو ين ــزل امل ــاء م ــن ال ُـ ْ‬
‫مز ِن‪ ،‬أو‬
‫ُينش شجرة النار‪( ،‬اآليات ‪ 74-57‬من سورة الواقعة‪ ،)74‬ويالح فيها بقوة أن التذكير هو بالخصائص التي أودعها هللا‬

‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬


‫‪ 73‬قــد تتعــدد الصــور التــي يج ــري عليهــا نظــام الســببية‪ ،‬فقــد ناقش ــنا فــي كتــاب (نش ـأة الك ـ ْو ِن‪َ ،‬دل ْي ـل َع ْق ِل ـي ِعل ِم ـي ِح ِس ـ ي َعل ـ ْى ُو ُج ـ ْو ِد الخ ـ ِال ِق) صــورة جريــان الس ــببية‬
‫وعالقتها بالحتمية في الجسيمات تحت الذرية (الكوانتم) والفرق بينها وبين األجسام املرئية‪ ،‬أو التي ال تنطبق عليها فيزياء الكم‪.‬‬
‫َ َ ْٓ َ‬ ‫ُ َۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫‪َ ُ َ ُ َ ۡ َ َ ۡ ُ َْ ۡ َ َ ُ ۡ َ 74‬‬
‫ص ِدقون ۝ أفـ َر َء ۡي ُتم َّمـا ُت ۡم ُنـون ۝ َءأنـ ُـت ۡم َت ۡخل ُقو َنـ ُ َٓه أ ۡم َن ۡحـ ُن ٱلخ ِل ُقـون ۝ َن ۡحـ ُن قـ َّد ۡرَنا َب ۡيـ َنك ُم ٱملـ ۡو َت و َمـا نحـن ِب َم ۡسـ ُبو ِقين ۝ علـى أن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿نحن خلقنكم فلوال ت‬
‫ون ۝ َل ۡو َن َشـ ٓاءُ‬ ‫َ َ ُ ۡ َ ۡ َ ُ َ ُ َ ۡ َ ۡ ُ َّْ ُ َ‬ ‫َ َ َ َ ۡ ُ َّ َ ۡ ُ ُ ونَ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ون َ َ َ ۡ َ ۡ ُ ُ َّ ۡ َ َ ۡ ُ َ ْ َ َ ۡ َ َ َ َّ‬ ‫ُّ َ َ َ ۡ َْ َ ُ ۡ َ ُ َ ُ ۡ َ َ َ ۡ َ ُ َ‬
‫نشئكم ِفي ما ال تعلم ۝ ولقد ع ِلمتم ٱلنشأة ٱألولى فلوال تذكرون ۝ أفرءيتم ما تحرث ۝ ءأنتم تزرعون َٓه أم نحن ٱلز ِرع‬ ‫نب ِدل أمثلكم ون ِ‬
‫ون ۝ َلـوۡ‬ ‫َ َ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ُ ُ َ ۡ ُ ۡن َ ۡ َ ۡ ُ ۡ ُ ُ َ‬ ‫ون َ َ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ٓ َ َّ َ ۡ َ ُ ونَ‬ ‫ون َ ۡ َ ۡ ُ َ ۡ ُ ُ َ‬ ‫َّ َ ُ ۡ َ ُ َ‬ ‫َ َ َ ۡ َْ ُ ُ َْ ٗ َ َ ۡ ُ ۡ َ َ َّ ُ ونَ‬
‫لجعلنه حطما فظلتم تفكه ۝ ِإنـا ملغرمـ ۝ بـل نحـن محرومـ ۝ أفـرءيتم ٱملـاء ٱلـ ِذي تشـرب ۝ ءأنــتم أنزلتمـوه ِمـن ٱملـز ِ أم نحـن ٱمل ِنزلـ‬
‫‪65‬‬
‫ُ‬
‫فـي األشـياء لينتفـع بهـا النـاس‪ ،‬فاملـاء الـذي ينـزل مـن املـزن يمكـن أن يصـيره هللا تعـالى أجاجـا‪ ،‬واملعنـى لـو نشـاء جعلنـاه غيـر‬
‫ن ــافع لك ــم‪ .‬فه ــذا اس ــتدالل بأن ــه ق ــادر عل ــى نق ــض م ــا ف ــي امل ــاء م ــن الص ــالحية للنف ــع بع ــد وج ــود ص ــورة املائي ــة في ــه‪ ،‬والن ــار‬
‫يمكنكم أن توروها بصور مختلفة منها‪ :‬حـك نـوعين مـن الخشـب األخضـر (املـرخ والعفـار) فينقـدح الشـرر منهمـا‪ ،‬والـزر‬
‫ال ينبـت إال بمـا فـي البـذورواملاء الـذي يروَهـا مـن خصـائص‪ ،‬ال دخـل لكـم فـي إنشـائها وتقـديرها‪ ،‬بـل فقـط االسـتفادة منهــا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫ض ـرا َوال ن ْفع ـا ِإال َم ـا ش ـ َاء الل ـ ُـه﴾‬ ‫وآي ــات نس ــبت الض ــر والنف ــع لل‪ ،‬وال يمل ــك غي ــره نفع ــا وال ض ـرا‪﴿ ،‬ق ـل ال أ ْم ِل ـ ُك ِل َن ْف ِس ـ ي‬
‫َ‬ ‫َ َ ََ‬ ‫ُ ْ َ َ َ ْ ُ َ ُ َ َّ َ ْ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ُ َ‬
‫ال أف َت ْع ُبـ ُدون ِمـن‬ ‫ضـرا أ ْو أ َر َاد ِبكـ ْم ن ْفعـا﴾ [الفـتح ‪﴿ ،]11‬قـ‬ ‫[يونس ‪﴿ ،]49‬قل فمن يم ِلك لكم ِمن الل ِـه شيئا ِإن أراد ِبكـم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وه ْم َولكـ َّن َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض ُّر ُك ْم﴾ [األنبياء ‪ ،]66‬ونسب لنفسه الرمـي والقتـل‪﴿ ،‬فلـ ْم َت ْق ُتلـ ُ‬ ‫اللـه َما َال َي َنف ُع ُك ْم َش ْيئا َوَال َي ُ‬ ‫َّ‬
‫ّللا قـ َتل ُه ْم ۚ‬ ‫ِ‬ ‫دو ِن ِ‬
‫ُ‬
‫َ َٓ ََ‬ ‫َ َ‬
‫ض ـ ُّر َد َعان ـا ِل َج ۢن ِب ـ ِهۦٓ أ ْو قا ِع ـدا أ ْو قا ِئم ـا فل َّم ـا‬
‫َ‬ ‫س ْٱإلن َْس ـ َن ٱل ُّ‬ ‫﴿وإ َذا َم ـ َّ‬ ‫ّللا َر َم ـ ْى ۚ﴾ [األنف ــال ‪َ ،]17‬‬ ‫َو َم ـا َر َم ْي ـ َت إ ْذ َر َم ْي ـ َت َو َْلك ـ َّن َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضر َد َعا َنـا ُثـ َّم إ َذا َخ َّو ْل َْنـ ُه ن ْع َمـة منـاَّ‬ ‫نس َن ُ‬ ‫س ْٱإل َْ‬ ‫َك َش ْف َنا َع ْنه ض َّر َه م َّر كأن لم يدعنا إل ْى ض ۢر مس َه ۚ﴾ [يونس ‪﴿ ،]12‬فإذا م َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ ُٓ‬
‫ال ِإ َّن َمـا أو ِتي ُتـ ُ َه َعلـ ْى ِعلـمۚ﴾ [الزمــر ‪ ،]49‬فهـذه اآليـات كلهــا تتحـدث عـن االعتقــاد‪ ،‬ومالحظـة قـدرة هللا تعــالى علـى تدــخير‬ ‫قـ‬
‫األش ــياء الت ــي ف ــي الك ــون بم ــا أود فيه ــا م ــن خص ــائص لنف ــع اإلنس ــان وض ــره‪ ،‬وال يمل ــك غي ــره أن يمتل ــك ق ــدرة خل ــق تل ــك‬
‫الخصــائص فيهــا‪ ،‬فينفـ ع نفســه أو يضــر غيــره كيــف اشــاء‪ ،‬بــل يخضــع ملــا فــي نظــام الســببية مــن خصــائص يتفاعــل معهــا‬
‫بحسب ما قدر هللا فيها‪.‬‬
‫وبدراسـة آيــات أخــرى‪ ،‬وجـدنا أن هللا تعــالى جعــل أسـبابا لحصــول املـراد‪ ،‬فمـثال‪ :‬مــن أســباب الهدايـة القـرآن الكــريم‪،‬‬
‫ْْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ْ َ ْ َْ ُ َ َ ْ‬ ‫ومحمد ﷺ‪َ ﴿ ،‬و َك َْذل َك َأ ْو َح ْي َن ٓا إ َل ْي َ‬
‫ٱإلي َْمـ ُن َول ِكـن َج َعل َنـ ُه ُنـورا َّن ْهـ ِدى ِبـ ِهۦ َمـن‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ٱل‬ ‫ا‬ ‫ـ‬‫م‬ ‫ى‬‫ر‬‫ِ‬ ‫د‬ ‫ـ‬‫ت‬ ‫ـت‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫ـ‬‫م‬ ‫ۚ‬ ‫ا‬ ‫ـ‬‫ن‬‫ر‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫وح‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٱلس َم ٓاء َم ٓاء َف َأ ۢن َب ْت َنا بهۦ َحـ َد ٓائ َق َذاتَ‬ ‫َّ‬ ‫يم﴾ [الشورى ‪َ ﴿ ،]52‬و َأن َز َل َل ُكم منَ‬ ‫َّن َش ٓا ُء ِم ْن ِع َب ِاد َنا ۚ َوإنك لت ْه ِدى إل ْى ِص َرط مست ِق ۢ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ۢ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ۢ‬
‫َب ْه َج ـ ـة﴾ [النم ـ ــل ‪ ،]60‬أي أنب ـ ــت باملـ ــاء ح ـ ــدائق‪ ،‬فلنتأم ـ ــل أكث ـ ــر‪ ،‬كيـ ــف ي ـ ـزاوج هللا ب ـ ــين أن ـ ــه هـ ــو الفاع ـ ــل‪ ،‬وب ـ ــين تد ـ ــخيره‬
‫الخصائص التي أودعها في األشياء ليسير الكون وفقا لنظام مخصوص‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ْ َ َ َ َّ َم َم َ ْ َ ْ َ َ َ ُ‬
‫ب َو أنْ َْز َل لكْم ِم ْ َن ُل َّسْ َما ِء َم ْا ًء فأن َبتن ْا ِبْ ِهۦ َح ْ َدا ِئ َق ذات َب ْه َجْ لة َّم ْا كْان‬ ‫قـال هللا تعـالى‪﴿ :‬أم ْن خلْق ُلس ْمو ِت وُألر‬
‫َ‬
‫ُۚ ل َبْ ْل ُهْ ْم قْ ْوم ي ْعْ ِدلون﴾ [النمـل ‪ ،]60‬ونـون الجمـع فـي ﴿أنبتنـا﴾ إلتفـات‪َ ،‬عـد َل عــن‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وا َرْ َج َر َه َا َأء َملْه َّمْ َع َّ‬ ‫َ ُ ْ َ ُس ُ ْ‬
‫لكْم أن تن ِبتْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضمير الغائب إلى ضمير املتكلم (نحن) الدال على التعظيم‪ ،‬ومن لطائف هذا االلتفات هنا التنصيص على أن املقصود‬
‫َّ َ َ َ ُ َ ُ ْ‬
‫ان لكـ ْم أن ت ۢن ِب ُتـوا‬ ‫إسناد اإلنبات إليـه لـئال ينصـرف ضـمير الغائـب إلـى املـاء‪ ،‬وال إلـى اإلنسـان بسـقيه وحرثـه وزرعـه‪﴿ ،‬مـا ـك‬
‫َ‬ ‫ُۡ‬ ‫َٓ َ‬ ‫َ َ َ ُۡ َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬
‫شـ َج َر َها﴾‪ ،‬وتـذكرنا هــذه اآليـة بآيــة الواقعـة عــن النـار‪َ ﴿ :‬ءأنـ ُـت ۡم أنشـأت ۡم شـ َج َرَ َها أ ۡم ن ۡحـ ُن ٱملن ِش ـون﴾‪ ،‬ألن التـذكير باملن ِبـت‬

‫ون ۝ َن ۡح ـ ُن َج َع ۡل َْن َه ـا َت ـ ۡذك َر ٗة َو َم َْت ٗع ـا ل ۡل ُم ۡق ـو َ‬


‫َ‬ ‫ُۡ‬ ‫َٓ‬ ‫َ َ َ ۡ َ‬ ‫َ َ َ َ ۡ ُ ُ َّ َ َّ ُ ُ َ‬ ‫َن َش ـ ٓا ُء َج َع ۡل َْن ـ ُه ُأ َجا ٗج ـا َف َل ـ ۡوَال َت ۡش ـ ُك ُر َ‬
‫ين ۝‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورون ۝ َءأن ـ ُـت ۡم أنش ـأ ُت ۡم ش ـ َج َرَ َها أ ۡم َن ۡح ـ ُن ٱملن ِش ـ‬‫ون ۝ أف ـرءيتم ٱلن ـار ٱل ِت ـي ت ـ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َف َسب ۡح ب ۡ‬
‫ٱس ِم َرِب َك ٱل َع ِظ ِيم )‪ ،﴾(74‬أما شجرة النار‪ :‬فللعــرب شــجرتان‪ :‬إحــداهما املــرخ‪ ،‬واألخــرى العفــار‪ ،‬إذا أخــذ منهمــا غصــنان أخضــران ف ُحـ َّك أحــدهما بــاآلخر‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫تباين من بينهما شرر النار‪ .‬فإن النار تخرج من الشــجر باالقتــداح وتــذكى بالشــجر فــي االشــتعال وااللتهــاب‪ .‬وهــذا اســتدالل علــى تقريــب كيفيــة اإلحيــاء للبعــث مــن‬
‫ُ‬
‫حيــث إن االقتــداح إخ ـراج‪ ،‬والزن ــد الــذي بــه إيقــاد الن ــار يخــرج مــن أعــواد االقت ــداح وهــي ميتــة‪ ،‬والتعبيــر ع ــن خلقهــا بالنشــأ‪ ،‬املنب ـ ع ــن بــداع الصــنع‪ ،‬امل ْع ـ ِرب ع ــن‬
‫كمال القدرة والحكمة ِملا فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر األشجار‪( .‬محاسن التأويل‪ ،‬والتحرير والتنوير‪ ،‬والبحر املديد)‬
‫‪66‬‬
‫الحقيق ــي ال ــذي خل ــق األس ــباب ألي ــق بمق ــام الت ــوبيخ عل ــى ع ــدم رع ــايتهم ِن َع َم ـ ُه‪ ،‬والت ــذكير بم ــن أنش ــأ ن ــوعين خاص ــين م ــن‬
‫األشجار ينقدح شرر من احتكاك عودَهما‪ ،‬بما فيهما من الخصائص الغريبة‪ ،‬مع مالحظة أن لدنسان دور في تحصيل‬
‫نعــم هللا تعــالى‪ ،‬ـكـالحرث والــزر والســقي‪ ،‬وقــدح الشــرر إليقــاد النــار‪ ،‬لكــن اإلنســان ال ينبــت النبــات‪ ،‬وال ينــزل املطــر‪ ،‬وال‬
‫يخل ــق ف ــي الب ــذرة الق ــدرة عل ــى اإلنب ــات‪ ،‬وال يخل ــق ف ــي امل ــاء خص ــائص يتفاع ــل فيه ــا م ــع الب ــذرة لدنب ــات‪ ،‬لكن ــه اس ــتفيد م ــن‬
‫خصائص املواد التي أودعها هللا فيها لصنع ما يقدح الشرر إلشعال النار‪ ،‬كأن يقدحها من حك حجرين‪ ،‬لذلك قال هللا‬
‫َ‬
‫ٱلز ِار ُعـ ـون﴾ [الواقع ــة ‪ ،75]64-63‬ف ــالل تع ــالى ه ــو الفاع ــل ف ــي‬ ‫﴿أ َفـ ـ َ َرأ ْي ُتم َّمـ ـا َت ْح ُرُثـ ـو َن ۝ َأ َأن ـ ُـت ْم َت ْز َر ُعو َنـ ـ ُه َأ ْم َن ْحـ ـ ُن َّ‬
‫َ‬
‫تع ــالى‪:‬‬
‫ََسََْ‬
‫اإلنبــات ‪-‬الــذي كنـى عن ــه هنــا بنتيجتــه وهــو ال ــزر ‪ ،-‬هــو الفاعــل علــى الحقيق ــة ال املجــاز‪ ،‬والبــاء فــي قول ــه ﴿فأنبتن ْا ِب ْ ِهۦ﴾‬
‫س ــببية‪ ،‬لفت ــا لألنظ ــار إل ــى عظ ــيم ق ــدرة هللا تع ــالى إذ إن نف ــس امل ــاء ين ــزل م ــن الس ــماء إلنب ــات الح ــدائق املختلف ــة األص ــناف‬
‫واأللوان‪ ،‬والطعوم واألشكال‪ ،‬مع بهجتها‪ ،‬بماء واحد‪ ،‬ال يقدر على تقدير تلك الخصائص في املاء غيره سبحانه وتعـالى‪،‬‬
‫وال في البذور والنباتات خاصية التفاعل مع نفس املاء‪ ،‬فتنبت زروعا مختلفة األلوان واألصناف واملذاق‪ ،‬ويلفت النظر‬
‫إلــى أن قــدرة هللا تعــالى جــرت علــى تســيير الكــون بتد ــخير النــواميس التــي ال اســتطيع إيجادهــا غيــره‪ ،‬وفقــا لنظــام الوج ــود‬
‫الذي نظم هللا الوجود وفقه‪ ،‬لفتا لألنظار إلى أنه وحده هو من قدر تلـك النـواميس‪ ،‬بصـورة تجعـل الكـون مدـخرا وفـق‬
‫النظـام الـذي نظمـه عليـه‪ ،‬ولـيس فــي إنبـات النبـات حاجـة عنـد هللا تعـالى‪ ،‬أو ضــرورة تتوسـط كـي تسـد عجـزا أو تســتكمل‬
‫حاجة‪ ،‬أو تحقق غرضا متعلقا بذاته العلية‪ ،‬بل تسد حاجات املخلوقات الناقصة العاجزة التي هـو ربهـا ‪-‬وعجزهـا هـذا‬
‫دليل على حاجتها لخالقها‪ ،-‬وبصورة تسي ُر الوجود وفقا للنظام الذي فرضه عليه بما أودعه فيه من خصائص تفاعلية‬
‫بــين خ ــواص املــواد‪ ،‬والق ــوى والطاقــات‪ ،‬ليس ــير الكــون وفق ــا لهــذا النظ ــام الــدال علي ــه‪ ،‬لكنــه تعال ــت قدرتــه‪ ،‬جع ــل نظ ــام‬
‫الوجود قائما على ظهور وبروز قدرته من خالل تجليها في إحكام الصنعة بإيجاد تلك العالقات التنظيمية السببية بين‬
‫أشــياء نظــام الوجــود‪ ،‬لتوجــد نظامــا محكمــا‪ ،‬ال فوبـ ى! وهــذا كلــه مــن بــاب االعتقــاد‪ ،‬وصــناعة الشخصــية املؤمنــة التــي‬
‫تتخذ العقيدة اإلسالمية قيادة فكرية لها في غمرات الواقع‪ ،‬مدركـة دورهـا فـي الحيـاة‪ ،‬مطمئنـة إلـى حسـن تـدبير خالقهـا‪،‬‬
‫ومؤمنــة بقدرتــه‪ ،‬شــاكرة ألنعمــه‪ ،‬ومراقبــة بــداع صــنع هللا تع ــالى‪ ،‬ولــيس مــن بــاب العمــل‪ ،‬إذ إن اإلنســان مكلــف‪ ،‬فيق ــوم‬
‫الف ــالح بالزراع ــة‪ ،‬مسـ ــتغال تل ــك الخص ــائص والتفـ ــاعالت الس ــببية‪ ،‬ليسـ ــعى ف ــي األرض‪ ،‬وه ــو مكلـ ــف‪ ،‬عاق ــل‪ ،‬مسـ ــؤول‪،‬‬

‫ُ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬


‫‪ 75‬ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله‪﴿ :‬أف َر ْأي ُت ْم َّما ُت ْم ُنون﴾ إشارة إلى دليل الخلق وبــه االبتــداء‪ ،‬وقولــه‪﴿ :‬أفـ َر ْءي ُتم َّمـا َت ْح ُرثـون﴾ إشــارة إلــى دليــل الــرزق وبــه‬
‫البقاء‪ ،‬وذكر أمورا ثالثة املأكول‪ ،‬واملشروب‪ ،‬وما به إصالح املأكول‪ ،‬ورتبه ترتيبا فذكر املأكول أوال ألنه هو الغذاء‪ ،‬ثم املشــروب ألن بــه االســتمراء‪ ،‬ثــم النــار التــي‬
‫بهــا اإلصــالح وذكــر مــن كــل نــو مــا هــو األصــل‪ ،‬فــذكر مــن املــأكول الحــب فإنــه هــو األصــل‪ ،‬ومــن املشــروب املــاء ألنــه هــو األصــل‪ ،‬وذكــر مــن املصــلحات النــار ألن بهــا‬
‫إصــالح أكثــر األغذيــة وأعمهــا‪ ،‬ودخــل فــي كــل واحــد منهــا مــا هــو دونــه‪ ،‬هــذا هــو الترتيــب‪ ،‬وأمــا التفســير فنقــول‪ :‬الفــرق بــين الحــرث والــزر هــو أن الحــرث أوائــل الــزر‬
‫ََ‬
‫ومقدماتــه م ــن ك ـراب األرض‪ ،‬وإلق ــاء الب ــذر‪ ،‬وس ــقي املب ــذور‪ ،‬وال ــزر ه ــو آخ ــر الح ــرث م ــن خ ــروج النب ــات واس ــتغالظه واس ــتوائه عل ــى الس ــاق‪ ،‬فقول ــه‪﴿ :‬أف ـ َر ْأي ُتم َّم ـا‬
‫ُ َ‬
‫َت ْح ُرثون﴾ أي ما تبتدئون منه من األعمال أأنتم تبلغونها املقصود أم هللا؟ وال اشك أحد في أن إيجاد الحب في السنبلة ليس بفعل الناس‪ ،‬وليس بفعلهم إن كان‬
‫سوى إلقاء البذر والسقي‪،‬‬
‫‪67‬‬
‫محاسـ ــب‪ ،‬ح ـ ــر اإلرادة‪ ،‬سيحاس ـ ــبه هللا إن زر القمـ ــح (الح ـ ــالل) أو زر القن ـ ــب الهنـ ــدي! وسيحاس ـ ــب اإلنس ـ ــان إن رم ـ ــى‬
‫بإطالق النار من بندقية فقتل‪ ،‬ولن يقبل منه أن يقول‪ :‬بل هللا هو من قتل‪ ،‬وهو من رمى!‬
‫وهـ ــذا بالضـ ــبط ه ـ ــو مـ ــا يجس ـ ــر الهـ ــوة التـ ــي أح ـ ــد ها فصـ ــل املتكلم ـ ــين والفالسـ ــفة بـ ــين تد ـ ــخير هللا تعـ ــالى لألس ـ ــباب‬
‫والنــواميس فــي الكــون لتحقيــق الغايــات التــي تــدل عليــه س ــبحانه وتعــالى‪ ،‬وبــين إرادتــه وعلمــه وخلقــه وقدرتــه‪ ،‬وظــنهم أن ــه‬
‫يتصرف باألسباب كتصرف اإلنسان الخاضع لها‪ ،‬أو كتصـرف املـادة فـي الكـون فـي تفاعلهـا السـببي‪ ،‬فـال تسـتطيع خروجـا‬
‫عنه‪ ،‬وال تغييرا له‪ ،‬فهي خاضعة له‪.‬‬
‫وه ــذا بالض ــبط ه ــو م ــا نري ــد أن نخ ــرج ب ــه م ــن قيامن ــا باألخ ــذ باألس ــباب‪ ،‬فلس ــنا م ــن يح ــدث‪ ،‬ولس ــنا م ــن يفع ــل عل ــى‬
‫الحقيقــة‪ ،‬كمــا أننــا ال نــزر ‪ ،‬وهللا هــو الـزار ‪ ،‬وال نــرزق وهللا هــو الـرازق‪ ،‬وال ننبــت‪ ،‬وهللا ينبــت‪ ،‬ألنــه هــو مســبب األســباب‪،‬‬
‫ول ــيس معنــى ه ــذا م ــا ذه ــب إلي ــه األش ــاعرة م ــن ق ــولهم "إن إيج ــاد املمكن ــات أو إع ــدامها ي ــأتي مقارن ــا للس ــبب ال بواسْ ْْطة‬
‫َ‬
‫الس ْْبب ذات ْْه؛ ف ــاإلحراق ُيخلْ ْ ُق عن ــد مالمس ــة الن ــار لل ــورق ال بمالمس ــة الن ــار لل ــورق"‪ ،‬فاألش ــاعرة أع ــدموا وأبطل ــوا فيه ــا‬
‫الق ــدرة عل ــى الفعالي ــة الس ــببية التــي أوج ــدها هللا فيه ــا‪ ،‬وه ــذا خط ــأ‪ ،‬ب ــل هللا خل ــق ف ــي الن ــار خاص ــية اإلح ـراق‪ ،‬وف ــي ال ــورق‬
‫خاصية االحتراق‪ ،‬فال يبحث املوضو في إطار "الخالق للفعل"‪ ،‬بل في إطار أن الخالق هو الذي أود هذه الخصائص‪،‬‬
‫وأن اإلنســان يتفاعــل معهــا بأفعالــه‪ ،‬ويدــخرها بمــا فيهــا مــن الخصــائص ملعاشــه‪ ،‬تدــخيرا مســؤوال‪ ،‬وتدــخيرا يــدرس فيــه‬
‫هذه الخصائص ليستفيد منها وينظم األفعال السببية بناء على ما فيها من فعالية سببية‪ ،‬ويالح حين االستفادة منها‬
‫أن الخصائص التي قدرها هللا فيها هي التي مكنته من االسـتفادة والقـدرة علـى التفاعـل‪ ،‬لـذلك اشـكر هللا عليهـا‪ ،‬ويبصـر‬
‫إتقانه لصنعته‪.‬‬
‫لقــد درج املفك ــرون والفالســفة عل ــى اســتعمال دلي ــل العلــة الغائي ــة ودليــل العناي ــة‪ ،‬علــى وج ــود هللا ســبحانه وتع ــالى‪،‬‬
‫وهما مـن أمـتن األدلـة وأدقهـا‪ ،‬واسـتعملهما القـرآن الكـريم بكثـرة‪ ،‬ولقـد سـمى شـيخ اإلسـالم مصـطفى صـبري رحمـه هللا فـي‬
‫كتاب ــه موق ــف العق ــل ه ــذا ال ــدليل ب(دلي ــل ال ِعل ـة الغائي ــة) أو (دلي ــل الحكم ــة ودلي ــل نظ ــام الع ــالم)‪ ،‬ورآه أفض ــل األدل ــة‬
‫وأقواهـا‪ ،‬فقــال‪" :‬لقــد اعتنــى القـرآن الكــريم بهـذا الــدليل أكثــر مــن غيــره حتــى أمكنـت تســميته بــدليل القـرآن ألن كثيـرا مــن‬
‫آياتــه وال نحص ــيها هن ــا لكثر ه ــا ط ــافح ب ــه‪ ،‬وه ــو أث ــرى األدلــة وأوس ــعها وأكثره ــا اس ــتعدادا لنص ــرة املس ــتدل وخ ــذالن املنك ــر‬
‫وأوفقها ألمزجة العصريين"‪،‬‬
‫وقـال أيضــا‪" :‬إن مـا بلغــه العـالم مــن كمـال اإلتقــان فـي جميــع أجزائـه الكبيــرة والصـغيرة وجميــع مـا فــي أجرامـه ومــا بــين‬
‫أجـزاء الجمي ــع مــن التناس ــق والتوافــق واالرتب ــاط واالتـزان واالند ــجام ليــدل عل ــى وجــود إل ــه مــدبر حك ــيم"‪ ،‬انتهــى قول ــه‪،‬‬
‫وقوام دليل العناية‪ :‬التعرف على هللا تعالى من خالل مصنوعاته التي تظهر إتقان صنعته وطالقة قدرته‪ ،‬وبداع آياته في‬
‫خلقه‪ ،‬وتتجلى في التنظيم املججز للكون واإلنسان والحياة بشكل خارق يظهر عظمته وترتبط العناية بالغائية ارتباطـا‬
‫وثيقـا بحيـث تــدلل علـى أن صـنع هللا لــيس مـن بــاب العبـث‪ ،‬ويـتم التــدليل عليهـا مــن خـالل استحضـار ظــواهر تتجلـى فيهــا‬

‫‪68‬‬
‫عنايـة هللا تعـالى بإتقــان الصـنعة‪ ،‬وإحكامهـا‪ ،‬فكيــف إذن يصـ االسـتدالل بــدليل العلـة الغائيـة إذا ـكـان واقعـه كمـا فهــم‬
‫األشاعرة مما يف ي إلى عجز وجبر؟ وكيف استعمله القرآن الكريم إذن؟‬
‫ولكن املقصود أن الكون مركب في وجوده‪ ،‬ووجود أجزائه على نحـو تنظيمـي معـين‪ ،‬اسـتتبع غايـات مهمـة لدنسـان‪،‬‬
‫مع العلم بأن هللا كان وال يزال قـادرا علـى أن يحقـق لـه هـذه الغايـات بـدون وسـاطة شـ يء مـن مظـاهر الكـون‪ .‬لكنـه تعالـت‬
‫قدرتــه‪ ،‬جع ــل نظ ــام الوجــود قائم ــا عل ــى ظهــور وب ــروز قدرت ــه مــن خ ــالل تجليه ــا فــي إحك ــام الص ــنعة بإيجــاد تل ــك العالق ــات‬
‫التنظيمية السببية بين أشياء نظام الوجود‪ ،‬لتوجد نظاما محكما‪ ،‬ال فوب ى!‬
‫ون َّ هنــا القـرآن إلــى النظــر املحكــم فيه ــا لالســتدالل عليــه ســبحانه وتعــالى‪ ،‬فه ــو أوجــدها بقدرتــه علــى الخلــق واإليج ــاد‪،‬‬
‫ونظمهــا بقدرت ــه علــى إتق ــان الص ــنعة‪ ،‬لتكــون دل ــيال علي ــه‪ ،‬ال لكونــه محتاج ــا لهــا كوس ــائط ووس ــائل كمــا يحت ــاج اإلنس ــان‬
‫مثلها حين قيامه بالتنظيم واالخترا والتصنيع!‬
‫من مأل البرميل باملاء؟ أنت أم هللا‪76‬؟‬
‫ولو أنك فتحت الصنبور لتمأل البرميل ماء‪ ،‬فالسؤال هو‪ :‬من الذي مأل البرميل؟ أنت أم هللا؟‬
‫للمــاء صــفات وخصــائص كثيــرة‪ ،‬منهــا خاصــية اإلرواء‪ ،‬ومنهــا الرابطــة الهيدروجينيــة التســاهمية (‪)Covalent bond‬‬
‫التـي تـربط ذرتـي الهيـدروجين بـذرة األوكدـجين‪ ،‬بزاويـة معينـة (‪ )104.5º‬أفضـت إلعطـاء املـاء خصـائص مميـزة‪ ،‬مـن سـعة‬
‫حراريــة نوعيــة تكســبه مقاومــة كبيــرة فــي التحــول مــن الصــالبة إلــى الســيولة ومــن الســيولة للغازيــة‪ ،‬و ســبب هــذه الرابطــة‬
‫أيض ــا تج ــد أن لزوج ــة امل ــاء عالي ــة‪ ،‬واللزوج ــة ه ــي مقاوم ــة الس ــوائل لالنس ــياب‪ ،‬فالس ــائل األس ــر انس ــيابا أق ــل لزوج ــة‪،‬‬
‫والرابطــة الهيدروجينيــة أيضــا تســبب زيــادة فــي التــوتر الســطملي للمــاء مقارنــة بغيــره مــن الســوائل‪ ،‬والتــوتر الســطملي ه ــو‬
‫ظاهرة شد جزيئات السائل السطحية ليصل إلى أقل مساحة ممكنة‪ ،‬فيأخذ شكل اإلناء الذي يوضع فيه‪.‬‬
‫أال تـرى أنـك لـم تخلــق فـي املـاء خصائصــه السـابقة؟ وال خلقـت الجاذبيـة التــي تجـذب البرميـل واملــاء معـا‪ ،‬فـال يتســرب‬
‫املاء لألعلى‪ ،‬وال خلقت املادة التي صنع البرميل منها‪ ،‬صلبة قادرة على حبس املاء والتشكل بصورة برميل‪ ،‬ولوال هذا كله‬
‫ملا استطعت أن تمأل البرميل‪ ،‬وهذا كله من زاوية التأمل‪ ،‬والتفاعل مـع الخصـائص التـي أودعهـا هللا فـي الوجـود‪ ،‬وإدراك‬
‫قدرة هللا والثناء عليه‪ ،‬ومن الناحية اإليمانية‪.‬‬
‫لكن من ناحية عملية (الفعل) أنت من مأل البرميل! أنت مـن صـنع البرميـل‪ ،‬ومثـل هـذا أنـت مـن فلـ األرض وزرعهـا‪،‬‬
‫وأنت من أورى الشرار من العودين وأوقد النار‪ .‬واإليمان هو ما طلب اإليمان به‪ ،‬والعمل هو ما طلب القيام به تكليفا‪،‬‬
‫وعند السعي للرزق ال بد أن يكون االيمـان بـأن الـرازق هـو هللا وبـأن اب َـن آدم لـو صـبر ألتـاه رزقـه بـالحالل‪ ،‬وبـأن هللا تعـالى‬
‫قـادر علــى أن يرزقنــا بــالحالل مهمــا كانـت فرصــنا فــي هــذا العــالم السـ يء ضـيقة أساســا للعمــل‪ ،‬وأن يمــزج اإليمــان بالعمــل‬
‫املسلم من هذه الزاوية العقدية‪ ،‬أي يتخذ العقيدة اإلسالمية قيادة فكرية له في غمرات‬ ‫ُ‬ ‫مزجا إيجابيا منتجا‪ ،‬بأن يفكر‬

‫‪ 76‬املفكر األستاذ بالل فتملي سليم‪ ،‬بتصرف‪.‬‬


‫‪69‬‬
‫الحياة‪( ،‬مع زوايا أخرى كثيرة تجدها في الهامش‪ )77‬حين القيام بعمله ضبطا إلحسانه للعمل‪ ،‬إذ إن اإلسالم حرص على‬
‫أن يرفد العمل بدافع إيماني إيجا ي يمأل القلب طمأنينة‪ ،‬ويجعل التشريع َّ‬
‫فعاال حين تطبيقه‪.‬‬
‫السببية والحتمية في ظل تدبيرهللا‪ ،‬والتنبؤ‪ ،‬وسؤال حرية إرادة اإلنسان‪:‬‬
‫م ــع تزاي ــد ثق ــة الغ ــرب ف ــي العق ــل إث ــر م ــا اس ــمى بعص ــر التن ــوير‪ ،‬ونج ــاح ق ــوانين الفيزي ــاء الكالس ــيكية بإثب ــات دق ــة‬
‫حس ــابا ها‪ ،‬ومعرف ــة ق ــوانين الحرك ــة بص ــورة جعل ــت م ــن املمك ــن التنب ــؤ بحرك ــة الكواك ــب ف ــي املس ــتقبل "هيمن ــت مقول ــة‬
‫الحتميـة (‪ )Determinism‬امليكانيكيـة الشـاملة التـي فرضـتها فيزيـاء نيــوتن علـى العلـم الكالسـيكي مـن رأسـه حتـى إخمــص‬
‫قدميه‪ ،‬وحكمته بقضبان حديدية‪ .‬والحتمية تعني عمومية قوانين الطبيعة وثبا ها واطرادها‪ ،‬فـال تخلـف وال مصـادفة‬
‫وال ج ــواز وال إمك ــان‪ ،‬ألن كــل ش ـ يء ف ــي الك ــون ض ــروري ذو عالق ــات ثابت ــة‪ ،‬وكــل ح ــدث مش ــروط بم ــا يتقدم ــه أو يص ــحبه‪،‬‬
‫فترتبت أحداث الكون في اتجاه واحد من مطلق املاب ي إلى مطلق املستقبل‪ ،‬مما يجعل نظام الكون ثابتا شامال مطردا‪،‬‬
‫وكــل ظ ــاهرة م ــن ظ ــواهره مقي ــدة بش ــروط تل ــزم ح ــدو ها اض ــطرارا‪ ،‬أي خاض ــعة لق ــانون يجعله ــا نتيج ــة ض ــرورية مل ــا قبله ــا‬
‫ومقدمة شرطية ملا بعدها‪ ،‬مما يعني أن كل مايحدض البد أن يحدض ويستحيل حدوض سواه‪.‬‬

‫‪ 77‬فالتاجر مثال اختار التجارة وانتهى عن الربا وفقا ملنظومة وإطار (الحالل والحرام)‪ ،‬ملتزما بما اسمح به الوحي وما يمنع‪ ،‬يمتنع عن بيع الخمــر وإن كانــت فيــه‬
‫مـرابح ماديــة دنيويــة ألنــه ملتــزم بإطــار الحــالل والحـرام ال بإطــار املــادة وجنــي األربــاح‪ ،‬ويجــب عليــه أن يتحــرى الصــدق‪ ،‬وممنــو عليــه الغــش‪ ،‬وفقــا ملنظومــة وإطــار‬
‫(األخــالق)‪ ،‬وممنــو مــن االحتكــار (يظهــر فيــه اســتغالل حاجــة النــاس لجنــي األربــاح) (وفقــا ملنظومــة االقتصــاد الــذي اعنــى بعــالج مشــاكل املجتمــع وضــمان كيفيــة‬
‫توزيــع الثــروة ووصــول النــاس لقضــاء حاجــا هم)‪ ،‬كمــا أنــه أمــره بــالتقوى فــي كــل حــال ومــع كــل فعــل‪( ،‬مراقبــة هللا) وهــذا إطــار عــام يلــزم فــي كــل فع ـل يضــمن تحقيــق‬
‫غايــات كثيــرة تتعلــق بــالحرص علــى التـزام النظــام اإلســالمي بشــكل عــام فــي كــل شــأن‪ ،‬وأمــره باإلحســان‪( ،‬وهــو إطــار عــام يتكفــل بإتقــان وإحســان كــل عمــل اعملــه)‪،‬‬
‫واعتبر سعيه في الرزق طلبا للحالل نوعــا مــن العبــادة يــؤجر عليــه‪ ،‬إذ لــو داخلــه الحـرام أثــم‪ ،‬فــال يأكــل إال حــالال‪( ،‬وهــذا إطــار جمــع االعتقـاد بالعبــادة‪ ،‬فهــو إطــار‬
‫عقدي ناظم لتصوره لطبيعة نتيجة عمله املادية إذ تربطه باالعتقاد وال يكتفي بالسعي لجني األرباح بأي طريقة كانت)‪ ،‬وأمره باألخذ باألسباب‪( ،‬وهو إطار عــام‬
‫مطلوب في كل عمل ليحقق غايات دينية ودنيوية‪ ،‬فيختــار ســلعا معينــة للتجــارة بهــا تــدر عليــه الـربح أو يحتاجهــا املجتمــع وهكــذا‪ ،‬فهــو إطــار دافــع لحســن اختيــار‬
‫أفضل األعمال املحققــة لغايــات اإلنســان واملجتمــع‪ ،‬فلــم اغفـل اإلســالم مصــلحة هــذا التــاجر ومنفعتــه وحاجــات املجتمــع)‪ ،‬والتوكــل علــى هللا‪( ،‬وهــو إطــار عقــدي‬
‫جــامع م ــانع‪ ،‬يتج ــاوز معضــلة إخف ــاق بع ــض األس ــباب فــي تحقي ــق امل ـراد‪ ،‬في ــربط عملــه باالتك ــال عل ــى هللا لي ــدبر لــه م ــن ش ــأنه م ــا ال اســتطيعه بأس ــبابه الت ــي ق ــدرها‬
‫بمعطياتــه اإلنســانية البش ـرية القاصــرة)‪ ،‬وربــط عملــه بمفهــوم الــرزق أنــه علــى هللا‪ ،‬فهــو مــدبر الكــون وهــو الــرب الــذي يرعــى خلقــه‪ ،‬فيطمــان‪ ،‬وال يخــاف إال هللا‪،‬‬
‫وه ــو إط ــار ض ــامن ب ــأن ال اعتب ــر التزام ــه بأفع ــال أخ ــرى م ــؤثرا عل ــى عمل ــه كت ــاجر‪ ،‬ك ــأن يق ــول ب ــالحق أينم ــا ك ــان‪ ،‬وال يخشـ ـ ى إال هللا‪ ،‬وأم ــره بتطهي ـر مال ــه بالزك ــاة‪،‬‬
‫والصدقة ‪( ،‬وهو إطار يصب في تحقيق غايات مجتمعية يتكامل فيها النظــام االقتصــادي باالجتمــاعي ليحقــق التكافــل االجتمــاعي ويكفــي حاجــات مــن ال اســتطيع‬
‫قضاء بعض الحاجات‪ ،‬وهذا اإلطار يتضمن أيضا أن يقوم بهذه الصدقات والزكاة ال من باب اإلحسان للفقير فقط‪ ،‬ولكن من باب مسئولياته املجتمعية التــي‬
‫أناطهــا اإلســالم بــه‪ ،‬ومــن بــاب الواليــة العامــة بــين املــؤمنين بعضــهم بعضــا‪ ،‬فهــي أطــر كثيــرة تحقــق غايــات عظيمــة خطيــرة)‪ ،‬ووضــع علــى الســوق محتس ـبين‪ ،‬وأمــر‬
‫التجــار بالفقــه ف ــي الــدين ملعرف ــة الحــالل م ــن الح ـرام ف ــي معــامال هم‪ ،‬وهك ــذا تجــد املزاوجــة ب ــين األفعــال وب ــين العقيــدة وب ــين األخــالق وب ــين القــيم الت ــي تمثــل الغاي ــة‬
‫املطلوب تحقيقا مــن وراء تلــك األفعــال‪ ،‬والتــي يـراد لهــا أن تســود! وبــين الفعــل وبــين الثــواب والعقــاب‪ ،‬والتخويــف مــن عقوبــة الــدنيا واآلخــرة‪ ،‬واملفــاهيم العقديــة‪،‬‬
‫وهذا من شأنه أن يضمن تكامل األنظمة املختلفة لتحقيق غايات مجتمعية وأخروية‪ ،‬وكل ذلك يجتمع في عمل واحد! فلم اعــد التــاجر يمــارس التجــارة فقــط‪،‬‬
‫ب ــل تتجس ْْد في ْْه مجموع ْْة الق ْْيم واألخ ْْالق واملق ْْايهس واملقاص ْْد واملف ْْاهيم العقدي ْْة وأنظم ْْة اإلس ْْالم املختلف ْْة ف ْْي ن واح ْْد وه ــو يم ــارس التج ــارة! وه ــذا‬
‫بالضبط هو ما ضمن فعالية تطبيق نظام اإلسالم وسرعة االستجابة لتشريعاته‪ ،‬فهذا مثال يبين الضمانات التي تحقق فعالية تطبيق التشريع اإلسالمي‬
‫في الو اقع‪ ،‬مقارنة بفشل التشريعات البشرية التي تستعمل عصا القانون لتطبيق التشريعات وال تحيم التشريعات بأي سياج يضمن فعاليتها!‬
‫‪70‬‬
‫لقد أصبحت الحتمية العلمية شاملة‪ ،‬ومن هذه الحتمية الفيزيائية خرجت الحتمية االجتماعية التي تزعم قوانين‬
‫ض ــرورية للحرك ــة االجتماعي ــة‪ ،‬وتعض ــدت الحتمي ــة التاريخي ــة التــي ت ــزعم طريق ــا واح ــدا محتوم ــا ملس ــار الت ــاريخ"‪ 78.‬وق ــد‬
‫انس ــاق الق ــائمون عل ــى امل ــنهج الحسـ ـ ي التجريب ــي وراء نج ــاح الفيزي ــاء وأرادوا أن يطبق ــوا املـ ــنهج ذات ــه عل ــى س ــائر العلـ ــوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬واعتبروه أصال للمعرفة البشرية ال ثاني له! من هنا برزت الحتمية املادية والحتمية التاريخية فـي تلـك الفتـرة‬
‫من تطور املنهج العلمي التجريبي الحس ي الغر ي! لقد كانت الشيوعية‪ ،‬التي كانت توصف باملاركسية العلمية (وقوامها‪:‬‬
‫الحتميـة العلميـة التاريخيـة املاديــة كمـا يصـفها منظروهـا) وليــدة للعلمانيـة تأخـذ بـأكثر رُاهــا تطرفـا وتبنـي عليـه منهجهــا‬
‫املــادي! إذن امتــدت الحتميــة الكونيــة الفيزيائيــة و ســطت جناحهــا علــى ســائر العلــوم واملعــارف عنــد الغــرب‪" .‬ولــم يكتــف‬
‫العلماء الغربيون في شتى املجاالت بجعل الحتمية األساس في نظرية املعرفة‪ ،‬بل سلموا أيضا بأن الغرض األولي من كل‬
‫دراس ــة علمي ــة تجريبي ــة ه ــو تعي ــين حتمي ــة موض ــوعها‪ ،‬وص ــوال إل ــى الحتمي ــة الش ــاملة التــي ه ــي الحقيق ــة املطلق ــة وبالت ــالي‬
‫هـدف العلـم النهـاوي "‪ 79‬قـال العـالم الفيلسـوف الفرنسـ ي بييـر سـيمون دي البـالس ‪ Pierre Simon de Laplace‬فـي القـرن‬
‫التاسع عشر‪" :‬من املمكن أن نعتبر حالة الكون اآلن نتيجة ملاضيه‪ ،‬وهي السبب في مستقبله"‪80‬‬

‫"وحينما اقترح إسحاق نيوتن قوانينه للميكانيكا في القرن ‪ُ 17‬بنيت الحتمية عليها تلقائيا‪ ،‬فعند التعامل مع النظام‬
‫الشمس ـ ي وبمعرف ــة ق ــوانين الحرك ــة يمك ــن تحدي ــد س ــرعات كواكب ــه وأقماره ــا وأوض ــاعها ف ــي أي وق ــت مس ــتقبلي‪ ،‬والتنب ــؤ‬
‫بمواعيـد الخســوف والكسـوف‪ ،‬والوقــوف عكسـيا علــى متـى حــدث أي حــدث فـي املابـ ي‪ ،‬وكـل هــذا وفقـا ملنظومــة الســبب‬
‫حت َو َي ـ ِان" ف ــي الحاض ــر‪ ،‬ويك ــون الك ــون كل ــه "آل ــة هائل ــة" أو "س ــاعة ض ــخمة‬‫والنتيج ــة‪ ،‬وعلي ــه ف ــإن املاب ـ ي واملس ــتقبل ُ"م َ‬
‫منتظمة اإليقا "‪ .‬وحين ال نستطيع التنبؤ بنتيجة التجربة العملية فإن هذا يرجع إلى محدودية معلوماتنا عن العالم‬
‫وحقيقة األشياء‪.‬‬
‫وبقيــت هــذه الرُي ــة الحتميــة امليكانيكيــة مس ــيطرة علــى الغ ــرب حتــى بــرزت فيزي ــاء الكــم فــي ب ــدايات القــرن العش ــرين‪،‬‬
‫وجرى الفصل بين السببية والحتمية‪ ،‬بل شكك البعض في السببية نفسها‪ ،‬وهذا موضو طويل تناولناه بالتفصيل في‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬
‫كتابنـا‪( :‬نشـأة الكـ ْو ِن‪َ ،‬دل ْيـل َع ْق ِلـي ِعل ِمـي ِح ِسـ ي َعلـ ْى ُو ُجـ ْو ِد الخـ ِال ِق)‪ .‬وبــرزت ثــورة الالحتميـة فــي العلـوم اإلنســانية‪ ،‬وجــدير‬
‫بالذكر أن السبب في اضطراب املوقـف الفكـري فـي الغـرب مـن قضـية النسـبية والحتميـة يرجـع إلـى غـرض نظريـة املعرفـة‬
‫وج َه بوصلة التفكير‪ ،‬فقد حددوا للعلم التجريبي أطرا أر عة هي القدرة على التحكم والسـيطرة‪ ،‬والتنبـؤ‬ ‫لدَهم‪ ،‬والذي َّ‬
‫والقيــاس‪ ،‬وقــد وقــع العلــم التجريبــي أســيرا للعلمانيــة‪ ،‬وهــذه قصــة طويلــة قصصــناها فــي كتابنــا "نظريــة املعرفــة ومنــاهج‬

‫‪ 78‬فلسفة العلم في القرن العشرين د‪ .‬يمنى طريف الخولي ص ‪،12‬‬


‫‪ 79‬فلسفة العلم في القرن العشرين د‪ .‬يمنى طريف الخولي ص ‪.100‬‬
‫‪ 80‬فيزياء الكوانتم حقيقة أم خيال‪ ،‬تأليف أليستر راي‪ ،‬ترجمة أسامة عباس‪ ،‬إصدار مركز براهين‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪71‬‬
‫التفكيــر واالســتدالل"‪ ،‬ومــا َهمنــا هنــا هــو أن القــدرة علــى القيــاس فــي عــالم الكــم‪ 81‬اصــطدم بصــخرة الطبيعــة الكموميــة‬
‫لألشــياء فــي املقــاس مــا تحــت الــذري‪ ،‬وظهــر مبــدأ عــدم اليقــين‪ ،‬الــذي ملخصــه أنــك حتــى تتنبــأ بموضــع جســيم أو ســرعته‬
‫(األدق‪ :‬اندفاع ــه ‪ )Momentum‬ف ــي املس ــتقبل علي ــك أن تق ــيس مكان ــه واندفاع ــه اآلن بدق ــة‪ ،‬وذل ــك بتس ــليط ض ــوء عل ــى‬
‫الجسيم‪ ،‬إال أنك لن تستطيع تحديـد موضـعه بدقـة أكبـر مـن املسـافة بـين ذروات موجـات الضـوء‪ ،‬وهكـذا كلمـا قصـرت‬
‫كمات هو أيضا‪ ،‬وهذه‬ ‫طول موجات الضوء املستعمل للقياس زادت دقة القياس‪ ،‬إال أن الضوء املستعمل للقياس له َّ‬
‫الك َّم ـات س ــتؤثر عل ــى الجس ــيم ال ــذي تقيس ــه‪ ،‬فتغي ــر س ــرعته أو موض ــعه‪ ،‬وكلم ــا قص ــرت ط ــول موج ــة الض ــوء املس ــتعمل‬
‫للقي ــاس زادت طاقت ــه التــي ت ص ــاح ها كمات ــه‪ ،‬وه ــذا س ــيزيد الت ــأثير عل ــى الجس ــيم املق ــيس‪ ،‬فهن ــا ي ــأتي ع ــدم اليق ــين‪ ،‬فع ــدم‬
‫اليقــين عــن موضــع الجســيم‪ ،‬مضــروبا فــي عــدم اليقــين فــي اندفاعــه‪ ،‬مضــروبا فــي كتلتــه ال يمكــن أن يكــون أصــغر مــن قــدر‬
‫معين اسمى ثابت بالنـك‪ ،‬ومبدأ الالحتمية أو عدم اليقين كمْْا يقْْول سْْتيفن هْْاوكينج فْْي مْْوجزتْْاريخ الزمْْان "أعطَّْْ‬
‫ً‬
‫اإلشارة لنهاية حلم البالس بنظرية علمية‪ ،‬أو نموذج للكون يكون حتميا بالكليْْة‪ ،82‬ومْْن املؤكْْد أن املْْرء ال يسْْتطيع‬
‫أن يتنبأ بأحداض املستقبل بالضبم ما دام ال يستطيع حتن أن يقهس الوضع الحْْالي للكْْون بدقْْة "‪ ،‬إذن‪ ،‬فمشـكلة‬
‫نف ــي الحتمي ــة ناتج ــة ع ــن ع ْ ْْدم قْ ْْدرة اإلنس ْ ْْان علْ ْْى القي ْ ْْاس‪ ،‬ال عل ــى أن طبيع ــة األح ــداث الس ــببية يمك ــن أن تك ــون‬
‫الحتميــة‪ ،‬وف ــي الواقــع م ــا يج ــب نفيــه ه ــو حتمي ْْة التنب ْْؤ‪ ،‬ال حتمي ْْة وق ْْوع الح ْْدض!‪ 83‬وكم ــا أس ــلفت‪ ،‬فهــذا نق ــاش طوي ــل‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬
‫حبرنــا فيــه صــفحات ف ــي كتابنــا‪( :‬نشـأة الكـ ْو ِن‪َ ،‬دل ْي ـل َع ْق ِلـي ِعل ِمـي ِح ِسـ ي َعل ـ ْى ُو ُجـ ْو ِد الخـ ِال ِق)‪ ،‬وهــذه الفك ــرة هــي التــي نري ــد‬
‫إيصالها في هذا املوضو حول السببية والحتمية‪ ،‬وهي أن سبب تحول الغرب عن الحتمية في عالم الكم هو تأطيرهم‬
‫له ْْدف نظري ْْة املعرف ْْة بالقيْ ْْام بالقي ْْاس والتنب ْْؤ‪ ،‬فْ ْْإذ ل ْْم يس ْْتطيعوا القي ْْاس‪ ،‬فلْ ْْن يس ْْتطيعوا التنب ْْؤ‪ ،‬وبالتْ ْْالي‬
‫تصوروا أن هذا يعني أن التصرف ال حتوي‪ ،‬فهذا سؤال يرجع لنظرية املعرفة ال لطبيعة األشياء‪.‬‬

‫‪ 81‬ميكانيكا الكم‪ :‬مجموعة من النظريات الفيزيائية ظهرت في القرن العشـرين‪ ،‬وذلــك لتفســير الظــواهر علــى مســتوى الــذرة والجســيمات دون الذريــة‪ ،‬وال تنطبــق‬
‫على الجسيمات التي مقياسها أكبر من ‪ 9-^10‬متر‪ ،‬أي أكبر من نانو متر‪ ،‬ودراسة الخصائص املوجية والجسيمية لتلك الجسيمات بالغة الصغر‪.‬‬
‫‪ 82‬اعني أن ستيفن هاوكنج ال ينفي الحتمية تماما‪ ،‬وإنما اعني أن بعض نتائج العلم حتمي‪ ،‬و عضها ال حتمي‪.‬‬
‫‪ 83‬وهنالك معضلة أن التنبؤ يحتاج إلى معطيات وفهم دقيق للواقع‪ ،‬أو للحالــة األولــى لألشــياء قبــل حصــول التــأثير الســببي‪ ،‬وفهــم دقيــق لكيفيــة جريــان العمليــة‬
‫الس ــببية وتأثيره ــا‪ ،‬وم ــن ث ــم الخ ــروج بتنب ــؤ دقي ــق ع ــن النتيج ــة! فدق ــة معرف ــة البش ــر بالبيان ــات االبتدائي ــة مح ــدودة دوم ــا‪ ،‬خصوص ــا ف ــي ظ ــل ع ــدم اس ــتقرار تل ــك‬
‫املعطيات‪ ،‬وأثر أي تغير في البيانات األولية على النتائج النهائية‪ ،‬فمثال حــين تريــد أن تضــرب كرتــي بليــاردو بعضــهما بــبعض بطريقــة غيــر مباشــرة‪ ،‬فتصــوب الكــرة‬
‫البيضاء على الطاولة بزوايا معينة تحس ها كي ينتج عن ذلك أن تتحرك في مسارات معينة تنتهي بضرب الكرة األخرى بزاوية معينة فتســقط فــي الجيــب‪ ،‬تجــد أن‬
‫أي تغي ــر ف ــي املعطي ــات األول ــى‪ ،‬ل ــه أث ــر كبي ــر عل ــى النتيج ــة النهائي ــة‪ ،‬فعملي ــة االرت ــداد ع ــن ح ــواف الطاول ــة تعتم ــد عل ــى ج ــودة تنض ــيدها‪ ،‬وتعتم ــد عل ــى ق ــوة الض ـربة‬
‫والزاويــة الت ــي ض ـربت به ــا‪ ،‬وطريقــة حرك ــة الكــرة ك ــدورانها مــثال‪ ،‬وم ــا إلــى ذل ــك‪ ،‬وكــذلك ل ــو كانــت الض ــربة موجهــة لك ــرتين معــا‪ ،‬فق ــد تضــرب إح ــداهما قبــل األخ ــرى‬
‫بأجزاء بسيطة من الثانية‪ ،‬ويحدث هذا االصطدام تغييرات معينة تغير زاوية االصطدام بالثانية‪ ،‬أو طريقة االصطدام بها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا ال يــؤثر‬
‫على التفاعل الحتمي في سلوك الكرات وجريانها وفقا لقوانين منضبطة فــي كــل األحــوال‪ ،‬فــالكرة التــي ضــربت ضــربة غيــر مباشــرة حــين تتوجــه الكــرة البيضــاء إليهــا‬
‫بزاويــة معينــة وبقــوة معينــة ســتدفعها للتحــرك وفقــا للقــوانين الطبيعيــة بشــكل حتمــي‪ ،‬ولكــن الــذي ســيتغير هــو حتميْْة قْْدرتنا علْْى التنبْْؤ‪ ،‬وهكــذا‪ ،‬ففْْرق بْْين‬
‫قدرتنا على حتمية التنبؤ‪ ،‬والتفاعل السببي وإنتاجه لل ُْم َس َّب ِب حتما وفقا لقوانين كونية منضبطة‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫وقبل أن نلج إلى سؤالنا املتعلق بالحتمية وحرية اإلرادة‪ ،‬نريد لفت النظر إلى سؤال مهم عن دور هللا تعـالى فـي تـدبير‬
‫الك ــون! ه ــل خل ــق هللا تع ــالى الك ــون عل ــى ش ــاكلة قط ــار ووض ــعه عل ــى الس ــكة فأخ ــذ الك ــون يج ــري وح ــده وفق ــا للق ــوانين‬
‫والنواميس؟‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫منظمْْا للوجْْود‪ ،‬وجعــل الوجــود اســير‬ ‫قــال اإلمــام تقــي الــدين الن هــاني‪" :‬وهللا هــو الــذي خلــق نظــام الوجــود‪ ،‬وجعلــه ِ‬
‫بحسبه وال يملك التخلف عنه"‪ ،84‬إال أن هللا سبحانه وتعالى لم يخلق الكون ويضعه على سكة مثل القطار‪ ،‬ويتركه من‬
‫َْ‬
‫دون تــدخل‪ ،‬كمــا يفهــم أصــحاب املــدارس الخل ِقيـة الغربيــة‪ ،‬مثــل مدرســة الخلقيــين الطبيعيــين‪ ،‬الــذين يؤمنــون بــأن هللا‬
‫تعالى خلق الكون ووضع فيه هذه السنن والنواميس لتعمل بشكل آلي لتحقيق الغاية‪ ،‬إذ إننا معاشر املسلمين نؤمن أن‬
‫هللا تع ــالى يق ــدر ُويس ـ ِـير‪ ،‬وي ــدبر الك ــون‪ ،‬ويخ ــرق الن ــواميس‪ ،‬ويس ــبب األس ــباب‪ ،‬كم ــا أن م ــن طبيع ــة مع ــاش اإلنس ــان أن ــه‬
‫ســيخوض غمـرات الحيــاة ليســعى وراء رزق‪ ،‬وأن تحــوط بــه ســهام املنــون مــن كــل جانــب‪ ،‬وأن يتــدافع النــاس‪ ،‬ويتظــاملوا‪،‬‬
‫فكــان ال بــد مــن أن تعضـد الســنن املجتمعيــة التاريخيــة ســنن أخــرى هــي الســنن اإللهيــة التــي تغيــر فــي طبيعــة طريقــة عمــل‬
‫الس ــنن املجتمعي ــة‪ ،‬فم ــثال تقت ـ ي الس ــنن املجتمعي ــة أن ينتص ــر الق ــوي عل ــى الض ــعيف‪ ،‬فت ــأتي الس ــنن اإللهي ــة لتح ــدد‬
‫مجموعة من األسباب أو الشروط التي تف ي إلى انتصار الحق على الباطل‪ ،‬بغض النظر عن عوامل الضعف والقوة‪،‬‬
‫أو تِجــب رزقــا عــن إنســان ســعى ســعيه التــام وراءه‪ ،‬فــال تجعــل الــرزق مرتبطــا بالنظــام الســببي ارتباطــا آليــا علــى شــاكلة‬
‫الســبب والنتيج ــة‪ ،‬بــل عل ــى أســاس نظ ــام الحالــة والش ــرط‪ ،‬وتقــدير هللا تع ــالى وإرادتــه‪ ،‬أو تعط ــي مــن ل ــم اســتطع تحقي ــق‬
‫األســباب علــى وجههــا ‪-‬إذ يتوكـل علــى هللا‪ -‬طاقــة قــادرة علــى بلــوا الغايــات‪ ،‬يصــعب تصــور بلوغهــا فــي ظــل النظــام الســببي‬
‫نفس ــه ع ــادة‪ ،‬لكن ــه يبلغ ــه بع ــون هللا ل ــه وتد ــخيره للنظ ــام الس ــببي‪ ،‬باختص ــار‪ :‬أمرن ــا هللا بالعم ــل‪ ،‬وباتخ ــاذ أس ــبابه وفق ــا‬
‫لنظ ــام الوج ــود‪ ،‬ونس ــب فع ــل النص ــر واالس ــتخالف والتمك ــين وإب ــدال الخ ــوف أمن ــا إل ــى ذات ــه العلي ــة‪ ،‬فه ــو الفاع ــل عل ــى‬
‫الحقيقــة للنصــر والتمكــين واالســتخالف والتــأمين‪ ،‬وهــو املباش ــر لــذلك الفعــل حقيقــة ال مجــازا‪ ،‬وفعلــه غيــر منفع ــل وال‬
‫ن ــاتج ع ــن قيامن ـا نح ــن بالعم ــل ال ــذي كلفن ــا ب ــه‪ ،‬أي ل ــيس بمس ــبب ع ــن أخ ــذنا نح ــن باألس ــباب‪ ،‬إذ إن هللا تع ــالى ال يخض ــع‬
‫لنظــام الوجــود الــذي خلقــه‪ ،‬وال للقــوانين التــي أقــام الكــون بنــاء عليهــا (ومنهــا قــانون الســببية)‪ ،‬وعلــى هــذا األســاس‪ ،‬نفهــم‬
‫معنـى الخلـق والـرزق واإلحيـاء واإلماتــة والبعـث والهـدى والضـالل‪ ،‬واملهــم التنبـه لـه‪ :‬هـو أن نتيجــة العمـل الـذي نقـوم بــه‪،‬‬
‫وه ــي االس ــتخالف والتمك ــين واألم ــن والنص ــر‪ ،‬متوقف ــة عل ــى فع ــل هللا‪ ،‬ال عل ــى فعلن ــا نح ــن‪ ،‬ف ــنحن مط ــالبون بالعم ــل‪ ،‬ال‬
‫مؤاخذون بتحقق نتائجه عاجال أو بعد حين!‬
‫لكننا نمتلك وعدا من هللا بأنه سيكافؤ على نتيجة العمل بإنفاذ وعده‪ ،‬متى شاء‪،‬‬
‫قام البروفسور مايكل دينتون‪ Michael J. Denton ،‬بتـأليف كتـاب اشـتمل علـى بحـث قـيم بـذل فيـه جهـودا خارقـة‬
‫ُ‬
‫أسماه‪( :‬قدرالطبيعة‪ :‬كيف تظهر قوانين البيولوجيا (علم الحياة) وجود هدف وغاية في الكون)‪.85‬‬

‫‪ 84‬الشخصية اإلسالمية‪ ،‬تقي الدين الن هاني‪ ،‬الجزء األول باب‪ :‬القضاء والقدر‪.‬‬
‫‪85 Michael J. Denton. 1998. Nature's Destiny: How the Laws of Biology Reveal Purpose in the Universe. New York: xix+454 pages‬‬

‫‪73‬‬
‫ويجدر أن نقول إن البروفسور يؤمن بأن هللا تعالى خلق الكون ووضع فيه هذه السنن والنواميس لتعمل بشكل آلي‬
‫لتحقيق الغاية‪ ،‬فهذا التصور قام نتيجة مشاهدات البروفسور لحقائق غائية قامت النـواميس الكونيـة و شـكل دقيـق‬
‫باالجتمـا والتوافـق لتحقـق قيــام الحيـاة فـي ظــل شـروط دقيقـة تخـرج عــن نطـاق الصـدفة إلــى نطـاق التصـميم والغائيــة‪.‬‬
‫وقام ــت نظريت ــه عل ــى أس ــاس أن الق ــوانين أفض ــت إل ــى وج ــود الحي ــاة‪ ،‬بالش ــكل ال ــدقيق ال ــذي نعرف ــه‪ ،‬وأنه ــا منع ــت قي ــام‬
‫حيوات على شاكلة مخالفة‪ ،‬ألن تلك الشاكلة ال تتوافق مع هذه القوانين‪ ،‬أي إن القوانين ال تسمح بسير األحداث سيرا‬
‫يف ـ ي إلــى غيــر مــا أف ضــت إليــه‪ ،‬وهــو فــي هــذا كلــه ينطلــق مــن منطلــق أن الخــالق وضــع القــاطرة علــى الســكة وتركهــا تســير‬
‫دون تدخل منه‪ .‬فهذه املدرسة األولى (الخلقيون الطبيعيون) تضع في الحسـبان أن القـوانين تف ـ ي إلـى غايـة وتصـميم‪،‬‬
‫لكن من دون تدخل الخالق بعد أن وضع التصميم األساس‪.86‬‬
‫ما َهمنا هنا هو السؤال الذي ثار في الغرب وملخصه‪ :‬إن سلوك األشياء الحتمي نتيجة خضوعها للسببية‪ ،‬ونتيجة‬
‫ً‬
‫خضــوعها للقــوانين الكونيــة اســلب عنهــا حريــة اإلرادة‪ ،‬وبتعبيــر آخــر يجعْْل كتْْاب القْْدر مفتوح ْا‪ ،‬فيســتطيع املســتقري‬
‫للسلوك الحتمي لألشياء حين تفاعلها أن يتنبأ بما سيحدث‪ ،‬فيتنبـأ بموعـد والدة الهـالل بدقـة‪ ،‬ويتنبـأ بشـ يء مـن الدقـة‬
‫بأحوال الطقس وتقلباته‪( ،‬بمقدار ما لديه من املعلومات الالزمة للتنبؤ)‪ ،‬والجواب عليه هو أنه صحيح‪ ،‬فكتاب القدر‬
‫ال اعنــي "القض ــاء"‪ ،‬ب ــل اعنـي الخص ــائص التــي أودعه ــا هللا ف ــي األش ــياء والس ــنن ف ــي املجتمع ــات‪ ،‬ل ــذلك يمك ــن أن اس ــتقرئه‬
‫اإلنسان بدقة ويتفاعل معه‪ ،‬وليس في خصائص األشياء وال سنن املجتمعات ما يجبر اإلنسان ‪-‬حين تفاعله معها‪ -‬على‬
‫سلوك معين يحمله على الخروج عن إرادته الحرة‪ ،‬فهو لديه القدر فاعل ولـيس بمنفعـل فـي الـدائرة التـي اسـيطر عليهـا‪،‬‬
‫قادر على التغيير وليس ريشة في مهب الريح وال سنا في الدوالب‪،‬‬
‫حتوي؟‬
‫ل‬ ‫سببي‬
‫ل‬ ‫اإلرادة في عال لم‬
‫ِ‬ ‫حرية‬
‫خطة الوجود‪ :‬هل اإلنسان مسلوب اإلرادة؟ أين يقع سؤال ِ‬
‫س ـ َّـن ُ‬
‫هللا للن ــاس س ــننا (مجتمعي ــة (تاريخي ــة ‪ /‬إنس ــانية))‪ ،‬وطل ــب م ــن الن ــاس معرفته ــا أو اكتش ــافها‪ ،‬وكــان م ــن طبيع ــة‬
‫هــذه الســنن أنهــا ذات طــابع انســاني؛ ألنهــا ال تفصــل اإلنســان عــن دوره اإليجــا ي‪ ،‬وال تعطــل فيــه إرادتــه وحريــة اختي ــاره‪،‬‬
‫اإلنسان بأدوات املعرفة‪ :‬الحواس‪ ،‬التي‬ ‫َ‬ ‫وإنما تؤكد أكثر فأكثر على مسؤوليته على الساحة التاريخية واملجتمعية‪ ،‬وزو َد‬
‫تنقــل لــه صــورة الواقــع ليفكــر فيــه ويفســره‪ ،‬وزود اإلنســان بالــدماا القــادر علــى التفكيــر‪ ،‬وســخر مــا فــي األرض لدنســان‬

‫‪ 86‬أما املدرسة الثانية‪ ،‬فهي مدرســة الخلقيــين الخاصــة‪ ،‬نظـريتهم أن املخلوقــات ليســت إال نتــاج عمليــات طبيعيــة‪ ،‬تســتطيع أن تضــع اليــد علــى أصــلها وتصــميمها‬
‫وفق ــا للق ــوانين الطبيعي ــة لك ــن ل ــيس بن ــاء عل ــى تص ــميم م ــن الخ ــالق‪ ،‬أو بت ــدخل مباش ــر من ــه ف ــي ه ــذه العملي ــات‪ ،‬ب ــل عل ــى النق ــيض م ــن املدرس ــة األول ــى‪ ،‬مدرس ــة‬
‫الخلقيــين الطبيعي ــين‪ ،‬فــإنهم ي ــرون أن قرينــة أو دلي ــل التكامــل واالس ــتمرارية بــين املخلوق ــات التــي ف ــي الطبيعــة‪ ،‬ه ــو نتــاج طبيع ــي‪ ،‬ال يحتــاج مع ــه إل ـى ت ــدخل خ ــالق‬
‫يصــمم ذلــك‪ ،‬بــل يتشــكل بشــكل طبيعــي ذاتــي خــال مــن التصــميم املســبق‪ .‬البروفســور مايكــل دينتــون ‪ ،Michael Denton‬كــان لــه األثــر األكبــر علــى نشــوء مدرســة‬
‫الخلقيين الجدد‪ ،‬ونشوء حركة التصميم الذكي ‪ The intelligent design movement‬التي كان من أساطينها‪ :‬البروفسور فيليب جونسون ‪،Phillip E. Johnso‬‬
‫ومحور أبحاث هــذه الحركــة هــو أن التفســير األدق لظــواهر معينــة فــي الكــون وفــي الكائنــات الحيــة‪ ،‬هــو التصــميم الــذكي‪ ،‬ولــيس عبــر احتمــاالت عمليــات تطــور غيــر‬
‫متحكم بها‪ ،‬مثل "االنتقاء الطبيعي" التي هي قوام الدارونية‪ ،‬وهي حركة خرجت من رحم حركات نصرانية منتشرة بكثرة‪ ،‬هدف إلى رفض املادية وااللحاد‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫استطيع أن يتفاعل مع خواص األشياء التي قدرها فيها‪ ،‬فتفاعل اإلنسان مع غيره ال يتم على شاكلة السنن الكونية بين‬
‫املواد والقوى والطاقات‪ ،‬بل يظهر أثر حرية اإلرادة في صـورة القـدرة علـى االختيـار والتفاعـل املسـؤول‪ ،‬وذلـك كـي يتسـنى‬
‫لدنسان القيام بواجب االستخالف في األرض‪.‬‬
‫"فلسفة اإلسالم في تصورالحياة" (خطة الوجود‬
‫لقد الحظنا الفرق بين السنن الكونية وقوانينها الصارمة وتفاعل القوى والطاقات مع خصائص املادة‪ ،‬والذي ينتج‬
‫عن ــه املس ــبب بش ــكل حتمــي ومباش ــر‪ ،‬وب ــين األنظم ــة الس ــببية املجتمعي ــة‪ ،‬إذ إن نظ ــام االس ــتخالف ف ــي األرض اقت ـ ى أن‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫استخلف ُ‬
‫املحاس َب‪ ،‬ذا اإلرادة الحرة والقدرة على االختيار والتخطيط والتنفيـذ‪،‬‬ ‫َ‬
‫املسؤول‬ ‫العاقل املكلف‬ ‫اإلنسان‬ ‫هللا‬
‫ْ َْ‬ ‫َّ َْ َْ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ ْ َ َّ َّ َ َ َّ َ َ ُ َّ‬
‫ض﴾ [لقمـان ‪ ،]20‬لتمكينـه‬ ‫وسخر هللا تعالى لدنسان كل شـ يء‪﴿ ،‬ألـم تـروا أن ٱلِل سـخر لكـم مـا ِفـى ٱلسـمو ِت ومـا ِفـى ٱألر ِ‬
‫من أسباب ما يلزم الستخالفه في األرض‪ ،‬وفق معادلة بشـرية يوضـحها القـرآن‪ ،‬سـنحاول اختصـار "فلسْْفة اإلسْْالم فْْي‬
‫تصورالحياة" (أي خطة الوجود ‪ ،‬وهذه املعادلة فيها مجموعة من العوامل التي تلعب دورا اساسيا في تصور الحياة‪:‬‬
‫أوال‪ :‬العقل‪ ،‬والعقل آلـة اإلنسـان ملعرفـة خالقـه وإدراك سـر وجـوده فـي الحيـاة‪ ،‬وللعلـم وفـض كثيـر مـن مغـاليق هـذا‬
‫ُ‬
‫الوج ــود وتفس ــيرها ب ــالربط ال ــذكي‪ ،‬والفه ــم واإلدراك‪ ،‬وإنش ــاء األفك ــار‪ ،‬والبح ــث واالس ــتنباط واالس ــتقراء‪ ،‬والعق ـ ُـل من ــاط‬
‫ـف‪ .‬وحيــث ـكـان للعقــل هــذه املكانــة الهائلــة فــي "خطــة الوجــود"‪ ،‬وفــي امتيــاز اإلنســان العاقــل عــن ســائر املخلوقــات‬ ‫التكليـ ِ‬
‫واالتك ــال عل ــى العق ــل ف ــي إدراك الص ــلة بالخ ــالق؛ ف ــال ش ــك أن ــه آل ــة بالغ ــة األهمي ــة‪ ،‬بالغْ ْْة القْ ْْدرة‪ .‬ويؤك ــد الق ـرآن عل ــى‬
‫التحــالف ب ــين االيم ــان والح ــق والعق ــل‪ .‬وم ــن أس ــلوب الق ـرآن أنــه يط ــرح األس ــئلة عل ــى الق ــاري بطريق ــة نقدي ــة ليجب ــره عل ــى‬
‫إعادة التفكير في معتقداته‪ ،‬ألن الوصول إلى الحق استلزم تحرير العقول من املوروثات‪ ،‬فالتعلم يلعب دورا أساسيا في‬
‫تطورنا وتزكيتنا كبشر‪.‬‬
‫ثاني ــا‪ :‬التكلي ــف‪ ،‬وامل ــنهج‪ ،‬واملس ــؤولية‪ ،‬واملحاس ــبة‪ ،‬والواجب ــات‪ ،‬والحق ــوق‪ :‬وق ــد أق ــام هللا تع ــالى نظ ــام الوج ــود عل ــى‬
‫فسد فيهـا‪ ،‬فـردا‬ ‫العدل ومنع الظلم‪ ،‬وإعطاء كل ذي حق حقه‪ ،‬واستخلف اإلنسان وارت ى له أن ُيصل َ في األرض وال ُي َ‬
‫ِ‬
‫أو جماعــة‪ ،‬ولــم يتــرك تنظــيم الحقــوق وإقامــة العــدل ومنــع الظلــم‪ ،‬وضــبط الســلوك الــذي يف ـ ي لدصــالح ال اإلفســاد‪،‬‬
‫وف ــض الخصـ ــومات والنزاعـ ــات دون تشـ ــريع وتنظـ ــيم يضـ ــبطه وينظمـ ــه‪ ،‬ويقـ ــيم الحجـ ــة علـ ــى الخالئـ ــق‪ ،‬ويحاسـ ـ هم علـ ــى‬
‫أساســه‪ ،‬لــم يتركــه للبشــر وأهــوائهم وتســلط قــوَهم علــى ضــعيفهم‪ ،‬وتخــبطهم فــي معرفــة التنظــيم الصــحيح الــذي يصــل‬
‫أح ــوالهم ويق ــيم نظ ــامهم ويمن ــع فس ــادهم‪ .‬فتش ــريع هللا ه ــو الض ــامن لتحقي ــق الع ــدل وإقام ــة مي ـزان القس ــط ف ــي األرض‪،‬‬
‫هللا ال َ‬
‫ـدين‪ ،‬وأتـ َّـم بــه‬ ‫ويتحقـق ذلــك التنظـيم علــى مسـتوى الجماعــة مــن خـالل دولــة وأنظمـة الحيــاة املختلفــة‪ ،‬وقـد أك َمـ َل ُ‬
‫ـأس منـه الك َ‬ ‫النعمة على املسـلمين‪ ،‬وأي َ‬ ‫َ‬
‫ـافرين‪ ،‬واملسـؤولية مفهـوم بـالغ األهميـة‪ ،‬يتضـمن مسـؤولية اإلنسـان عـن أفعالـه‪،‬‬
‫ومسؤوليته عن نفسه وعن غيره‪ ،‬ومسؤوليته وواجباته تجاه اآلخرين بحمل الدعوة لهم والحرص على صالحهم‪.‬‬
‫ثالث ــا‪ :‬العبودي ــة والطاع ــة‪ ،‬والع ــدل واإلحس ــان‪ ،‬واملراقب ــة والتق ــوى‪ ،‬واملحب ــة والخ ــوف والرج ــاء‪ ،‬والعبودي ــة لل تح ــرر‬
‫اإلنســان مــن أن اســتعبده غيــره مــن البشــر‪ ،‬بتشــريعا هم‪ ،‬وقــوانينهم‪ ،‬والطاعــة والتقــرب والتقــوى واملراقبــة ســياج يقــرب‬
‫‪75‬‬
‫املــؤمن مــن ربــه‪ ،‬ويباعــده ع ــن املعانـ ي‪ ،‬واإلحســان ير ــى ب ــه فــي معــالي االرتقــاء نحــو أعل ــى الــدرجات فــي صــقل شخص ــيته‪،‬‬
‫وإدراك معنى إنسانيته‪ ،‬واملحبة والخوف والرجاء يبلغه سمو القرب من هللا‪.‬‬
‫رابع ــا‪ :‬االجتم ــا ‪ ،‬والت ــدافع‪ ،‬وحاج ــة اإلنس ــان إل ــى االجتم ــا والتع ــاون عل ــى قض ــاء املص ــال وتنظ ــيم رعايته ــا يتطل ــب‬
‫اجتماعهم‪ ،‬وسينتج عن االجتما بالضرورة أن يتعارف الناس‪ ،‬وأن يتـدافعوا‪ ،‬ومـن فوائـد التـدافع أن يحصـل التـوازن‬
‫واالس ــتقرار والتع ــارف‪ ،‬وأال تفس ــد األرض‪ ،‬إذ إن انتص ــار الح ــق عل ــى الباط ــل حتم ــي‪ ،‬واألرض مس ــرح لت ــدافع الح ــق م ــع‬
‫الباط ــل‪ ،‬وم ــن الت ــدافع ب ــين البش ــر‪ :‬تص ــادم الحض ــارات‪ ،‬وين ــتج عن ــه ب ــروز نزع ــات الس ــيطرة وتن ــتج النزاع ــات والح ــروب‪،‬‬
‫والع ــدل والظل ــم‪ ،‬ويري ــد اإلس ــالم أن يخ ــرج العب ــاد م ــن عب ــادة العب ــاد إل ــى عب ــادة رب العب ــاد‪ ،‬وم ــن ج ــور األدي ــان إل ــى ع ــدل‬
‫اإلسالم‪ ،‬وأن يحقق االستخالف والتمكين واألمن والعبادة‪.‬‬
‫َّ‬
‫خامســا‪ :‬واإليجابي ــة‪ ،‬واالب ــتالء‪( ،‬االب ــتالء بالفتنــة‪ ،‬ب ــالخير وبالش ــر‪ ،‬وب ــاملحن والشــدائد‪ ،‬وال ــدنيا دار اختب ــار ﴿ٱل ـ ِذى‬
‫َ ُ ُ َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َْ‬
‫خل ـ َق ٱمل ـ ْو َت َوٱل َح َي ـ ْوة ِل َي ْبلـ ـ َوك ْم أ ُّيك ـ ْم أ ْح َس ـ ُن َع َمـ ـالۚ﴾ [املل ــك ‪ ]2‬وه ــو اختب ــار ف ــي كت ــاب مفت ــوح ال مغ ــاليق في ــه‪ ،‬واب ــتالء‬
‫التمح ــيص (للتمييـ ــز)‪ ،‬والعقوبـ ــة عل ــى املعانـ ـ ي)‪ ،‬وعلـ ــى عكـ ــس ك ــل الـ ــديانات يؤكـ ــد القـ ـرآن عل ــى عـ ــدم سـ ــلبية االبـ ــتالء‬
‫واملعانــاة‪ ،‬فهمــا ضــروريان لتزكيـة اإلنس ــان ولصــيرورته‪ ،‬وقــد صــقل اإلســالم مع ــان إيجابيــة راقيــة للصــبر والقــدر والرض ــا‬
‫بالقض ــاء وللتوكــل‪ ،‬وم ــن اإليجابي ــة أن اإلس ــالم رف ــض أن يك ــون فلس ــفة جام ــدة‪ ،‬وإنم ــا كــان عقي ــدة حي ــة م ــؤثرة‪ ،‬تص ــوا‬
‫الحياة على مزاجها اإليجا ي‪ ،‬اسير فيه املؤمن مغمورا بسعادة الرضا بالقرب من هللا وطاعته‪ ،‬ويحس على الحقيقة أن‬
‫كل ما أصابه هو مما كتبه هللا له ال عليه‪ ،‬وأن أمره كله خير‪ ،‬إن أصابته سراء شكر‪ ،‬فكـان خيـرا لـه‪ ،‬وإن أصـابته ضـراء‬
‫صبر‪ ،‬فكان خيرا له‪ ،‬وعالمة على محبة هللا له‪ ،‬يبتليه ليرفع درجاته‪ ،‬وليحط عن سيئاته‪ ،‬وإن مع العسر اسرا‪ ،‬وإن هللا‬
‫تع ــالى بقدرت ــه ق ــادر عل ــى أن اد ــخر ل ــه م ــن األس ــباب م ــا ال يحس ــنه بقدرات ــه البش ــرية‪ ،‬إذا م ــا أحس ــن التوكــل علي ــه‪ ،‬وأن‬
‫التوفي ــق م ــن عن ــد هللا‪ ،‬اس ــتنهض اإلس ــالم عزيمت ــه ليق ــوم بمع ــالي األم ــور‪ ،‬وينته ــي ع ــن سفاس ــفها‪ ،‬دائ ــم الس ــعي للكم ــال‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َّ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ‬
‫صـ ـط َف ْي َنا ِمـ ـ ْن ِع َب ِادنـ ـا ف ِمـ ـ ْن ُه ْم ظـ ـ ِالم ِل َن ْف ِسـ ـ ِه َو ِمـ ـ ْن ُهم ُّم ْق َت ِصـ ـد َو ِمـ ـ ْن ُه ْم َسـ ـ ِابق‬‫وإحس ــان العم ــل ﴿ثـ ـم أورثنـ ـا ال ِكتـ ـاب الـ ـ ِذين ا‬
‫ْ َّ َ َ ُ َ ْ ْ ْ َ‬ ‫ْ َْ‬
‫فض ُل الك ِب ُير﴾ [فاطر ‪ ،]32‬باب التوبة مفتوح‪ ،‬فال يأس حتى مع اإلسراف في املعان ي‪.‬‬ ‫ّللا ذ ِلك هو ال‬ ‫ِبالخي َر ِ‬
‫ات ِب ِإذ ِن ِ‬
‫الن ْجـ َد ْي ِن﴾‪ ،‬وقــدرة‬ ‫سادسـا‪ :‬واالختيــار (فــي ظــل أن اإلنســان ـكـائن أخال ــي‪ ،‬لديـه نــواز للخيــر وأخــرى للشــر ﴿و َهـ َد ْي ُ‬
‫ناه َّ‬
‫عل ــى االختي ــار ب ــين اإليم ــان أو الكف ــر‪ ،‬ب ــين اله ــدى أو الض ــالل‪ ،‬ب ــين االتب ــا أو املعص ــية‪ ،‬ب ــين اإلص ــالح أو اإلفس ــاد‪ ،‬ب ــين‬
‫َ‬
‫شاكرا وإما ك ُفورا﴾)‪ ،‬فقد أعطي اإلنسان مطلق حرية اإلرادة‬ ‫يل إما ِ‬ ‫السب َ‬‫َ َ ْ ُ َّ‬
‫االختيار أن يكون شاكرا أو كفورا ﴿إنا هديناه ِ‬
‫فــي اختيــار معتقداتــه وأفعالــه‪ ،‬وتمكينــه مــن خيــار اتبــا املــنهج الربــاني أو اإلعـراض عنــه‪ ،‬مــع تحميلــه املســئولية الكاملــة‬
‫عل ــى أفك ــاره وأفعال ــه وقرارات ــه‪ ،‬وم ــا ين ــتج عنه ــا م ــن ظل ــم لنفس ــه أو لغي ــره‪ ،‬وم ــع املحاس ــبة الدقيق ــة عل ــى أفك ــاره وس ــلوكه‬
‫وعالقاته‪ ،‬والثواب والعقاب‪ ،‬وإنصاف املظلوم من الظالم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫سـابعا‪ :‬الــدنيا واآلخـرة‪ ،‬والثــواب والعقــاب‪ ،‬والجنـة والنــار‪ ،‬فــاآلخرة خيـر لــك مـن األولــى‪ ،‬والــدنيا ممـر لخخــرة‪ ،‬والــدنيا‬
‫زائلــة‪ ،‬واآلخــرة باقيــة‪ ،‬يحاس ــب اإلنســان علــى أعمال ــه التــي قــام به ــا فــي الــدنيا‪ ،‬وي ــرى جـزاء مثقــال ال ــذر مــن الخيــر والش ــر‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫فيحاس ــب نفس ــه قب ــل أن ُيحاس ــبه هللا‪ ،‬ويمتن ــع ع ــن املس ــاس بحق ــوق اآلخ ــرين لعلم ــه بأن ــه سيض ــطر للتكفي ــر عنه ــا وأنه ــا‬
‫مبنية على املشاححة ال املسامحة‪ ،‬فال تفريط‪.‬‬
‫ُ نَ‬
‫ثامنـا‪ :‬تحقيــق الغايـة مــن الوجـود والهــدف مـن الحيــاة‪ .‬فلـم يخلــق هللا الكـو عبثــا‪ ،‬ولـم يتــرك اإلنسـان ســدى بـال أمــر‬
‫ونه ــي‪" ،‬وبالبح ــث ف ــي الق ـرآن نج ــد أن أقي ـ ى م ــا س ــيحققه البش ــر ف ــي ال ــدنيا واآلخ ــرة ه ــو عالق ــة الح ــب م ــع هللا‪ ،‬ونج ــد ف ــي‬
‫القرآن ذكر رحمة هللا وكرمه وتوفيقه وعطاءه‪ ،‬وسائر صفات هللا‪ ،‬اعطيها هللا لكل البشر املقبلين عليـه بـال موانـع‪ ،‬مـن‬
‫تقرب إليه شبرا تقرب إليه باعا‪ ،‬وأبوابه مشرعة‪ ،‬ويده مبسوطة‪ ،‬وعفوه قريب‪ ،‬ويبسط رزقه حتى للكافر!‬
‫والحـ ــب هـ ــو عالقـ ــة بـ ــين اثنـ ــين‪ ،‬أمـ ــا وقـ ــد غمرنـ ــا هللا برحمتـ ــه ومغفرتـ ــه وعطائـ ــه وتوفيقـ ــه ورعايتـ ــه‪ ،‬فـ ــإذا لـ ــم نقـ ــم‬
‫بمقتضيات املحبة بعد هذا العطاء بأداء حق هللا‪ ،‬فكأنما نكون رفضنا عطاءه‪ ،‬ولم نحبه علـى الحقيقـة‪ ،‬والنتيجـة أننـا‬
‫لم نتمكن مـن الشـعور بعالقـة الحـب مـع هللا‪ ،‬ألننـا لـم نفـتح قلوبنـا لـه‪ ،‬وحـب هللا ينتظرنـا ولـن نحصـل علـى محبـة هللا مـا‬
‫لم نسع لذلك‪ ،‬فال ينمو هذا الحب أبدا‪ .‬وكفر النعمة يحدث من خالل الرفض والتجاهل والتنكر للنعمـة التـي اعطيهـا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هللا لنا‪ .‬من ناحية أخرى فالقرآن يؤكـد أن املـؤمنين املتبعـين سـيتمتعون بهـذه العالقـة مـن الحـب مـع هللا‪﴿ ،‬قـ ْل ِإ ْن ك ْنـ ُت ْم‬
‫ُ ُّ َن َ َ َّ ُ ُ ْ ْ ُ ُ ُ َ َ ْ ْ َ ُ ْ ُ ُ َ ُ ْ َ ُ َ‬
‫هللا غ ُفـور َر ِحـيم﴾ [آل عمـران ‪ ]31‬وهللا يؤكــد أنــه يحــب صــفات‬ ‫ت ِحبـو هللا فـات ِبعو ِني يح ِبـبكم هللا ويغ ِفـر لكـم ذنـوبكم و‬
‫معينة في البشر كالتقوى واإلحسان‪ ،‬والرحمة‪ ،‬والكرم‪ ،‬والصبر‪.‬‬
‫وبهذا يتض من القرآن بشكل جلي بأن الهـدف مـن الحيـاة‪ ،‬أن هللا اسـتخلف اإلنسـان فـي األرض‪ ،‬ال ليفسـد فيهـا وال‬
‫ليســفك الــدماء‪ ،‬بــل أراد مجموعــة مــن البشــر أنشــأت بإراد هــا الحــرة‪ ،‬وبتفكيرهــا املســتنير‪ ،‬وبقــدر ها علــى التفاعــل مــع مــا‬
‫سـخره هللا لهــا‪ ،‬عالقــة ســامية مــن معرفــة هللا‪ ،‬ومــن الحــب مــع هللا‪ ،‬وهــؤالء سيســتمتعون بســعادة فــي عالقــتهم مــع البشــر‬
‫وفي عالقتهم مع هللا‪ ،‬وهي أقي ى املتع التي ستبهجهم في الدنيا وكذلك في اآلخرة‪ ،‬عندما تنتهي كل املشوشات لألبد‪ ،‬لكن‬
‫يل سؤال مهم وهو أنه كان باإلمكان أن يخلقنا هللا في الجنة‪ ،‬ويبرمجنا على حبه‪ ،‬فلماذا كان ال بد من اإليمان واالبتالء‬
‫والصبر واالختبار والتكليف طريقا للجنة؟‬
‫لدجاب ــة ع ــن الس ــؤال‪ ،‬يج ــب أن نج ــد ال ـرابط ب ــين امل ــؤمنين وب ــين هللا‪ .‬إن م ــا يطلب ــه الق ـرآن م ــن امل ــؤمنين ه ــو ص ــفات‬
‫َ‬ ‫ين َآم ُن ـوا َو َعم ُل ـوا ال َّ َ‬
‫معين ــة يح ه ــا هللا ف ــيهم‪﴿ ،‬إ َّن ا َّل ـذ َ‬
‫ات َس ـ َي ْج َع ُل ل ُه ـ ُم ال ـ َّـر ْح َْم ُن ُودا﴾ [م ــريم ‪ ،]96‬وإذا م ــا حص ــرنا‬
‫ص ـ ِالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قائمـ ــة األعمـ ــال الصـ ــالحة والصـ ــفات الحسـ ــنة‪ ،‬كالرحمـ ــة والرأفـ ــة واملسـ ــامحة والكـ ــرم والعلـ ــم والحكمـ ــة والحـ ــق وحـ ــب‬
‫اآلخــرين؛ وســألنا أنفســنا‪ :‬مــا الــذي يخبرنــا القـرآن عــن الطــرف الثــاني فــي العالقــة (هللا)؟ هللا هــو أحــد صــمد‪ ،‬لــيس كمثلــه‬
‫ش ـ ـ يء‪ ،‬غي ـ ــر مح ـ ــدود بالزم ـ ــان وال باملك ـ ــان‪ ،‬ح ـ ــي ال يم ـ ــوت‪ ،‬ال ـ ــخ‪ ،‬ل ـ ــذلك فل ـ ــيس هن ـ ــاك وج ـ ــه مقارن ـ ــة وال تك ـ ــافؤ ب ـ ــين هللا‬
‫واملخلوق ــات‪ ،‬ويص ــعب حينه ــا الوص ــول للـ ـرابط األس ــاس بينن ــا وبـ ــين هللا‪ ،‬ف ــأين ه ــي الص ــفات الجامع ــة ف ــي العالق ــة بـ ــين‬
‫اإلنس ــان وب ــين هللا تع ــالى؟ ول ــو تأمل ــت الق ـرآن‪ ،‬فس ــتجد اآلي ــات تص ــف هللا بوص ــف ثن ــاوي‪ :‬بأن ــه رحم ــن رح ــيم‪ ،‬وأن ــه غف ــور‬
‫شــكور‪ ،‬وأنــه عزي ــز حكــيم‪ ،‬وأن ــه حلــيم غف ــور‪ ،‬وتســتطيع معرف ــة العشـرات م ــن صــفات هللا ف ــي القـرآن وه ــذه هــي االس ــماء‬
‫الحسنى‪ ،‬فـإذا مـا قابلتهـا بصـفات املـؤمنين التـي أرادهـا مـنهم‪ ،‬اذن ينبغـي علينـا التحلـي بهـذه الصـفات‪ ،‬نحـن هنـا فـي الـدنيا‬

‫‪77‬‬
‫لنعب ــد هللا ونح ــب هللا ونق ــيم مع ــه عالق ــة‪ ،‬ولك ــن كي ــف نق ــيم مع ــه عالق ــة ونح ــن مح ــدودون نفنــى ونم ــوت وه ــو أزل ــي غي ــر‬
‫محــدود‪ ،‬فه ــذه ص ــفات متض ــادة بيننــا وب ــين هللا‪ .‬فكي ــف نص ــبح ق ــريبين مــن هللا به ــذه الص ــفات؟ إذا أردت أن أك ــون قريب ــا‬
‫منك علي أن أشاركك في ش يء مشترك بيننا‪ ،‬تماما كما يحدث بين الناس بعضهم بعضا‪،‬‬
‫ولكـن كيـف لشـخص أن يقتـرب مــن هللا؟ مـا املشـترك بيننـا وبينــه؟ لـو نظرنـا لوجـدنا أنـه سـبحانه أعطانـا عنـد خلقنــا‬
‫نفخة من روحه‪ .‬لذلك نأتي الى الدنيا بهذه الصفات وامليزات بسبب نفخة الروح هذه‪ ،‬ونحن بدورنا كبشر إما ان ُن َدس ي‬
‫هذه الصفات أو أن نزكيها‪ ،‬والتزكية ليست فقط تشعرنا بالسعادة بسبب هذه الخبرة في الحياة الدنيا‪ ،‬ولكن سنتمكن‬
‫م ــن اإلحس ــاس بص ــفات هللا الراوع ــة م ــن الجم ــال والق ــدرة والرحم ــة وال ــود وك ــل أس ــمائه الحس ــنى‪ ،‬وك ــل ه ــذه الص ــفات‬
‫الالمتناهي ــة ت ــأتي م ــن املص ــدر الالمتن ــاهي له ــذه الص ــفات الحس ــنى م ــن هللا‪ ،‬كلم ــا جاه ــدنا لنتص ــف بالرحم ــة تمكن ــا م ــن‬
‫االقت ـراب م ــن الرحم ــة العظمــى ل ــرب الع ــاملين ف ــي ه ــذه الحي ــاة ال ــدنيا وف ــي اآلخ ــرة‪ ،‬وك ــذلك األم ــر بالنس ــبة للرأف ــة ولنص ــرة‬
‫الحق‪ ،‬وكلما جاهدنا لنتصف بصفات املؤمنين كلما تمكنا من االقتراب من هللا ذي الصفات الحسنى وبالتـالي نسـتطيع‬
‫أن نـدرك هللا ونعرفـه‪ ،‬فكلمـا تزكينـا اقتربنـا مـن هللا‪ ،‬وأدركنـا عظمــة هللا‪ ،‬وهـو قـرب أعظـم مـن القـرب املـادي او العــاطفي‬
‫أو العقلي إنه االقتراب من الخالق املعبود‪ ،‬املستحق للعبادة‪ ،‬الرب املالك املر ي القائم على إصالح أحوالنا‪ ،‬إنها أعظم‬
‫املشاعر التي يمكنك أن تختبرهـا وتمـر بهـا علـى االطـالق‪ ،‬لكـن‪ ،‬وألننـا كائنـات تنمـو وتتزكـى بالفعـل‪ ،‬ولكننـا ال نسـتطيع أن‬
‫نتص ــف بص ــفات هللا‪ ،‬وال أن نر ــى بشخص ــياتنا اإلس ــالمية لنتق ــرب إلي ــه‪ ،‬م ــا ل ــم نم ــر به ــذه األم ــور الس ــابق ذكره ــا‪ ،‬م ــن‬
‫االب ــتالء‪ ،‬والتفكي ــر‪ ،‬واإليجابي ــة ف ــي تعاملن ــا م ــع الق ــدر‪ ،‬والرض ــا بالقض ــاء‪ ،‬والتق ــوى واإلحس ــان ‪ ...‬فه ــي اذن ه ــي كله ــا الزم ــة‬
‫وأساســية لتزكي ــة ال ــنفس البشــرية‪ ،‬وال يمك ــن إس ــقاط أي عامــل منه ــا م ــن أجــل أن تك ــون ه ــذه الــنفس مؤهل ــة لعالق ــة م ــع‬
‫هللا"‪.87‬‬

‫‪ 87‬النقطة الثامنة مبنية على محاضرة بعنوان‪ :‬الهدف من الحياة ‪ -‬قصة إسالم البروفيسور جيفري النج املحاضرة الكاملة‪ .‬بتصرف شديد‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫القضاء والقدروالنصروالرزق واإلماتة؛ أين يقع بحث السنن والسببية منها؟‬
‫ثم ــة عالق ــة وثيق ــة ب ــين الس ــنن وك ــذلك النص ــر‪ ،‬وب ــين القض ــاء والق ــدر‪ ،‬وب ــين بح ــث الس ــببية وبح ــث الق ــدر‪ ،‬وبح ــث‬
‫القضــاء والقــدر‪ ،‬وبحــث الــرزق؛ ولكــي نفهــم هــذه العالقــة ال بــد مــن االستفاضــة بعــض الشـ يء فــي بحــث القضــاء والقــدر‬
‫والنصر والرزق واإلماتة لتجلية مفاهيم مثل‪ :‬السبب‪ ،‬والحالة‪ ،‬والشرط!‬
‫لــيس مــن طبيع ــة هــذا البح ــث الخــوض فــي تفاص ــيل الخــالف ف ــي فهــم مســألة القض ــاء والقــدر عن ــد املتكلمــين‪ ،‬ولكنن ــا‬
‫سنعرض للنقاط املهمة التالية حتى نفهم موقع السببية واألخذ باألسباب من هذه األبحاث العقدية املهمة‪:‬‬
‫‪ )1‬نشأت مسألة القضاء والقدر رجعا ألبحاث الفالسفة اليونان‪،‬‬
‫تسمى مسألة القضاء والقدر‪ ،‬وتسمى الجبر واالختيار‪ ،‬وتسمى حرية اإلرادة‪.‬‬
‫صـ َنع الشـ يء ِبإحكـام‪ ،‬وأم ـ ى األمـر‪ ،‬وجعـل الشـ يء‪،‬‬ ‫‪ )2‬كلمة قضاء‪ 88‬من األلفاظ املشتركة التي لها عدة معـان منهـا‪َ :‬‬
‫وأمر بأمر‪ ،‬وأتم األمر‪ ،‬وحتم وجود األمر‪ ،‬وأبرم األمر‪ ،‬وانتهى األمر‪ ،‬وحكم باألمر‪ ،‬وأمر أمرا مقطوعا به‪.‬‬
‫وكلم ــة ق ــدر م ــن األلف ــاظ املش ــتركة الت ــي له ــا ع ــدة مع ــان منه ــا التق ــدير‪ ،‬والعل ــم‪ ،‬والت ــدبير‪ ،‬والوق ــت (التوقي ــت)‪،‬‬
‫والتهيئة‪ ،‬والتضييق‪ ،‬والقضاء والحكم‪ ،‬وجعل خاصية في الش يء‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫‪ )3‬موضو القضاء والقدر‪ :‬هل اإلنسان مجبور أم مخير؟ حر اإلرادة أم مسلوبها؟‬
‫‪ )4‬فالقضاء والقدر بناء على منهجية بحث املتكلمين هو أفعال العباد وخاصـيات األشـياء التـي يحـد ها اإلنسـان مـن‬
‫فعل ــه ف ــي األش ــياء (والص ــواب‪ :‬الت ــي ق ــدرها هللا‪ ،‬وس ــخرها لدنس ــان ليتفاع ــل اإلنس ــان معه ــا‪ ،‬أو لتتفاع ــل األش ــياء‬
‫والق ــوى وفق ــا للس ــببية بن ــاء عل ــى وجوده ــا)‪ .‬فالقض ْْاء ه ــو أفع ْْال العب ْْاد والق ْْدر ه ــو الص ْْفات والخاص ْْيات ف ْْي‬
‫األشياء‪ ،89‬والقدر هو أيضا السنن في املجتمعات‪،‬‬
‫‪ )5‬والقدر الذي طلب اإليمان به هو أيضا‪ :‬تقْْديراألشْْياء مْْن األزل‪ ،‬قبْْل خلقهْْا‪ ،‬وهْْو حكْْم مبْْرم حتوْْي الوقْْوع‪،‬‬
‫إذ إن هللا بْْالأ أمْْره النافْْذ‪ ،‬حسْْب تقْْديره فْْي الوقْْت الْْذي يقْْع فيْْه‪ ،‬وأن علينْْا التسْْليم للقْْدروالتوكْْل علْْى‬
‫َ‬ ‫﴿و ُك ـ ُّل َ‬
‫ص ـ ِغير َوك ِبي ــر‬ ‫ص ـر﴾ [القم ــر ‪َ ،]50-49‬‬‫هللا ﴿إ َّن ـا ُك ـ َّل َش ـ ۡيء َخ َل ۡق َْن ـ ُه ب َق ـ َدر ۝ َو َم ـ ٓا َأ ۡم ُرَن ـ ٓا إ َّال َْوح ـ َدة َك َل ۡم ـح ب ۡٱل َب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ ۡ َ َ‬
‫مستطر﴾ [القمر‪ ،]53‬أي كل صغير وكبير من األعمال واألشياء وكل ما هو كائن مسطور في اللوح املحفوظ‪.‬‬
‫‪ )6‬وب ــالتفكر ف ــي أبح ــا هم نج ــد تعل ــق لفظ ــة القض ــاء ل ــدَهم بأفع ــال العب ــاد‪ ،‬وتعل ــق لفظ ــة الق ــدر ل ــدَهم بخاص ــيات‬
‫األشياء‪،‬‬
‫‪ )7‬بدأ البحث عند املعتزلة ببحث هل يقوم اإلنسان بأفعاله مختارا أم مجبرا؟‬

‫‪ 88‬نظ ــام اإلس ــالم لتق ــي ال ــدين الن ه ــاني‪ ،‬الشخص ــية اإلس ــالمية الج ــزء األول لتق ــي ال ــدين الن ه ــاني‪ ،‬إزال ــة األترب ــة ع ــن الج ــذور" رب ــط األفك ــار واألحك ــام بالعقي ــدة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬لحزب التحرير‪ ،‬نقض اإلشتراكية املاركسية لغانم عبده‪ ،‬بتصرف عن كل تلك املراجع‪.‬‬
‫‪ 89‬كاأللم الناتج عن الضرب‪ ،‬وخاصية القطع في السكين‪ ،‬وطعم ما نطهو من املأكوالت ولونه‪ ،‬والبرودة والدخونة والجبن والشجاعة‪ ،‬والصالبة والسيولة ‪...‬‬
‫‪79‬‬
‫‪ )8‬الزاوية التي تناول املعتزلة املسألة منها هي زاوية عدل هللا تعالى؛ وبالتالي الثواب والعقاب بناء على تحقق العدل‪،‬‬
‫هللا عبدا على فعل ش يء وحاسبه عليه يكون في هذا ظلم على العبد‪،‬‬ ‫فإذا أجبر ُ‬
‫‪ )9‬مـن تنزيـه املعتزلـة املطلــق لل تعـالى‪ ،‬رأوا وجـوب أال يكـون هللا تعــالى هـو خـالق األفعـال أيضــا‪ ،‬بـل إن اإلنسـان يقــوم‬
‫بخلــق فعل ــه حــين القي ــام بــه‪ ،‬والفع ــل عنــد اإلنس ــان نت ــاج اإلرادة والقــدرة‪ ،‬فه ــو يقــدر عل ــى القيــام بالفع ــل‪ ،‬ويري ــد‬
‫القيام به عند القيام به‪ ،‬فمجمو اإلرادة والقدرة يف ي أنه هو خالق أفعاله‪.‬‬
‫‪ )10‬ثـ ــم تفـ ــر عـ ــن بحـ ــث خلـ ــق األفعـ ــال بحـ ــث مـ ــا يتولـ ــد عـ ــن هـ ــذه األفعـ ــال‪ ،‬ـك ــاأللم الناشـ ـ عـ ــن الضـ ــرب‪ ،‬ورأوا أن‬
‫املتولدات عن األفعال أيضا من خلق اإلنسان‪.‬‬
‫‪ )11‬خط ــأ م ــنهج املعتزل ــة تمث ــل ف ــي قي ــاس م ــن ال يق ــع الح ــس علي ــه (املس ــمى خط ــأ بقي ــاس الغائ ــب‪ ،‬إذ إن هللا تع ــالى ال‬
‫اغيب) على الشاهد‪ ،‬فقد وصف هللا تعالى نفسه بقوله عز وجل‪﴿ :‬وال يظلم ربك أحدا﴾‪ ،‬وصفات هللا تعالى التي‬
‫تسمى صفات األفعال‪ ،‬تشترك مع صفات اإلنسان في اإلسـم فقـط‪ ،‬وفـي املعنـى اإلجمـالي‪ ،‬دون معرفـة تفاصـيل أو‬
‫الخوض في شروح‪ ،‬نفهم فهما إجماليا أن هللا تعالى عادل ال يظلم‪ ،‬وال نخوض في التفاصيل‪ ،‬إذ إن بحث صفات‬
‫هللا ممنــو مثــل بحــث الــذات‪ ،‬ال يحــيط بــالل عقــل وال فكــر‪ ،‬وحــين تقــول‪ :‬هللا حــي‪ ،‬فــإن وصــف الملــي يختلــف عــن‬
‫وصف ا لملي عند اإلنسان‪ ،‬فالل حي بحياة ال أمس فيها وال غد‪ ،‬وال تغيير‪ ،‬وال بداية وال نهاية‪ ،‬وال شباب وال هرم‪،‬‬
‫وعقل اإلنسان اججز عن تصور هذا ألنه معتاد على القيـاس بمـا اعتـاده مـن معـان‪ ،‬لـذلك مـن الخطـأ تشـبيه هللا‬
‫تعالى أو صفاته بصفات املخلوقين‪ ،‬أو إنزال املعاني التي نعرفها عن صفات املخلوقين على الذات العلية‪.90‬‬
‫‪ )12‬وكذلك‪ ،‬فإن عقولنا ال تملك املعلومات الكافية لفهم كيف يتحقق العدل املطلق‪ ،‬إذ تتوقف استطاعة العقل‬
‫على إصدار األحكام على العدل والظلم على فهم طبيعة األفعال‪ ،‬واملصال ‪ ،‬والعواقب‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬والحسن‬
‫والقبح‪ ،‬والثواب والعقاب في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وعلى أدوات ومعلومات وقدرات ليست متاحة له‪( ،‬كمعرفة عواقب‬
‫الفع ــل أو الواق ــع املس ــتقبلية‪ ،‬ه ــل س ــيكون خي ـرا ل ــه أم ش ـرا علي ــه؟ ه ــل ه ــو خي ــر عاج ــل ف ــي ال ــدنيا‪ ،‬وش ــر آج ــل ف ــي‬
‫اآلخــرة؟ أو العكــس؟ هــل تكمــن املصــلحة التــي حكــم مــن خاللهــا بحصــول الظلــم أو العــدل فــي النفــع املــادي‪ ،‬أم فــي‬
‫تحقيق منافع غير مادية ؟ فهذه مغاليق ال استطيع العقل فكها)‪ ،‬أو إن بعض القضايا التي تلزم إلنشاء األحكام‬
‫متاحـة بشــكل جزوــي للعقــل‪ ،‬لكنــه ال يكفــي إلصــدار األحكــام (كفهــم طبيعــة الواقـع)‪ ،‬أضــف إلــى ذلــك أن القضْْايا‬
‫التْْي تتوقْْف عليهْْا اْْحة الحكْْم بالعْْدل أو بْْالظلم متشْْعبة‪ ،‬أو معلومــة بصــورة نســبية أو غيــر كاملــة للعقــل‪،‬‬
‫اإلنسان العدل ظلمـا‪ ،‬أو ينصـرف عـن فعـل فيـه صـالحه إلـى نقيضـه‬ ‫ُ‬ ‫مما سيؤثر قطعا على أحكامه فلربما يجعل‬
‫لألسباب السابق ذكرها‪ ،‬من هنا فال مجال للعقل لدحاطة بشئون الدنيا (ملاذا هذا مريض‪ ،‬واآلخر سليم‪ ،‬وملاذا‬

‫‪ 90‬أنظر باب‪ :‬عدل هللا تعالى‪ ،‬تأمالت في مناظرة راوعة‪.‬‬


‫‪80‬‬
‫حصـ ــل لـ ــي هـ ــذا ‪...‬الـ ــخ)‪ ،‬وال بشـ ــؤون اآلخـ ــرة وال بعواقـ ــب األمـ ــور‪ ،‬وال بحسـ ــاب هللا تعـ ــالى يـ ــوم القيامـ ــة‪ ،‬وال كيـ ــف‬
‫سيق ي بين الخالئق حتى ينصب نفسه حاكما على عدل هللا تبارك وتعالى!‬
‫‪ )13‬وقالـت املعتزلـة‪ :‬إنـا نـرى أن مريـد الخيـر خيـر‪ ،‬ومريـد الشـر شـرير‪ ،‬ومريـد العـدل عـادل‪ ،‬ومريـد الظلـم ظـالم‪ ،‬فلــو‬
‫ـكـان الخيــر والشــر مـرادين لل تعــالى لكــان هللا تعــالى موصــوفا بالخيريــة والشــرية‪ ،‬والعــدل والظلــم‪ ،‬وهــذا محــال فــي‬
‫حق هللا تعالى‪،‬‬
‫‪ )14‬فخطؤهم منشؤه قياس صفات هللا تعالى على صفات اإلنسان‪.‬‬
‫‪ )15‬انظ ــر كي ــف قاس ــوا فع ــل هللا عل ــى فع ــل اإلنس ــان‪ ،‬فاإلنس ــان ح ــين يفع ــل‪ُ ،‬يق ـ ِد ُر‪ ،‬ويري ــد‪ ،‬وينف ــذ ح ــين يق ــدر عل ــى‬
‫الفعل‪ ،‬فحين اسرق اإلنسان مثال‪ ،‬يقدر‪ ،‬وتتوجـه إرادتـه نحـو ذلـك الفعـل السـ يء‪ ،‬وينفـذ‪ ،‬ويـتمكن (يقـدر) علـى‬
‫السرقة‪ ،‬فيوصف بأن فعله الس يء نتاج إرادته وتقديره وقدرته‪،‬‬
‫تأمل‪ :‬هناك كـافر مـثال‪ :‬أبـو لهـب‪ ،‬فكفـره فعـل‪ ،‬فدرسـوا عالقـة هللا تعـالى بهـذا الفعـل‪ :‬لـو كـان فعـل الكفـر مـن أ ـي‬
‫لهب بتقدير هللا وإرادته‪ ،‬ملا استقام أن يأمره باإليمـان‪ ،‬وملـا اسـتقام أن اعذبـه‪ ،‬وهـم بهـذا يقيسـون هللا تعـالى علـى‬
‫الشــاهد‪ ،‬علــى مــا يرون ــه مــن أفعــال البش ــر‪ ،‬وهــذا مــنهج خط ــأ فــي التفكيــر‪ ،‬فق ــد علــم هللا أنــه ل ــن يــؤمن‪ ،‬مــع إن ــذاره‬
‫وإقامة الحجة عليه‪ ،‬ولم يكن الحكم عليه بالكفر سابقا ألمره باإليمان‪ ،‬بل إنه اختار الكفر بعد سما النـذارة‬
‫َ َْْ‬ ‫ََ‬
‫﴿وأ ِنذ ْر َع ِش َيرت َك األق َرِب َين﴾ ‪ 214‬الشعراء‪ ،‬فاختار الكفر وعلم هللا أنـه لـن يرجـع عنـه! وقـد سـبق وبينـا أن أفعـال‬
‫هللا تعالى ال تخضع للزمان‪ ،‬وهذا فرق شاسع يجعل قياس أفعال الخالق عليها مستحيال‪.‬‬
‫‪ )16‬وليس كل املعتزلة على قلب رجل واحد في الفهم واالصطالح‪ ،‬وإن كان يجمعهم عموميات ال تخرج عن سياق ما‬
‫سبق‪ ،‬وباملثل با ي الفرق مثل الجبرية واألشاعرة هناك الكثير من اآلراء واألفهام‪.‬‬
‫‪ )17‬ثم جاءت الجبرية وعلى رأسهم الجهم بن صفوان ورأوا الرأي النقيض‪ ،‬رأوا أن اإلنسان كالريشة في مهب الريح‪.‬‬
‫‪ )18‬و ـكـان رأي أهــل الســنة (األشــاعرة) مشــابها لـرأي الجبريــة رغــم أنهــم ـكـانوا يرمــون إلــى الوقــوف موقــف الوســط ب ــين‬
‫ال ـرأيين‪ ،‬إال أن م ــا يف ـ ي إلي ــه ق ــولهم ه ــو أن هللا تع ــالى ه ــو ص ــاحب اإلرادة واملش ــيئة‪ ،‬وق ــالوا‪ :‬أن اإلرادة واملش ــيئة‬
‫بمعنــى واحــد‪ ،91‬وهــي صــفة أزليــة فــي الملــي توجــب تخصــيص أحــد املقــدورين فــي أحــد األوقــات بــالوقو ‪ ،‬مــع اســتواء‬
‫نسبة القدرة إلى الكل‪.‬‬

‫‪ 91‬بالتدقيق في استعمال القرآن الكريم للفظتي اإلرادة واملشيئة نجد أن‪ :‬اإلرادة هي طلب ش يء‪ ،‬أما املشيئة فهي الطلب واإليجاد‪ .‬وكلمــة املشــيئة إذا أســندت إلــى‬
‫لف الجاللة "هللا" كان معناها طلب الشـ يء وإيجــاده‪ ،‬وتحقــق املشــيئة بالنســبة لدنســان متعلــق باألســباب‪ ،‬علمــا بــأن موجــد األســباب هــو هللا وحــده‪ ،‬فمــن ذلــك‬
‫ّللا ُيريـ ُـد َأن َي ُتـ َ‬
‫وب‬ ‫﴿و ُ‬ ‫قول رسول هللا ﷺ «ما شاء هللا كان وما لم اشأ لم يكن ‪ .‬وإرادة الش ي ال يلزم تحققه على عكس املشيئة‪ .‬يقول هللا تعالى في كتابه الكـريم‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َ ُ ُ َّ َ َ َّ ُ َ َّ َ َ َ‬
‫ُ ْ‬
‫ات أن َت ِميل ـوا َم ـ ْيال َع ِظيم ــا﴾ [النس ــاء‪ .]28 ،‬وتتحق ــق إرادة هللا تع ــالى بقول ــه «ك ــن وه ــي به ــذه الحال ــة بمعن ــى املش ــيئة‪ .‬ق ــال هللا‬
‫عل ـيكم وي ِري ــد ال ـ ِذين يت ِبع ـون الش ـهو ِ‬
‫ول َ ُ ُ ْ َ َ ُ ونُ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿إ َّن َم ـا أ ْم ـ ُر ُه ِإذا أ َر َاد ش ـ ْيئا أ ْن َي ُق ـ ل ـه ك ـن فيك ـ ﴾ [ا ــس‪ ،]82 ،‬وهللا تع ــالى يري ــد أن اس ــلم ل ــه ك ــل الن ــاس‪ ،‬ولكن ــه ال يجب ــرهم عل ــى ذل ــك‪ .‬أي أن ــه أراد ك ــونهم‬
‫َ‬
‫تع ــالى‪ِ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ ُ ْ َ َّ ْ َ َ‬
‫س ال ـ ِذين آمن ـوا أن ل ـو اش ـاء ّللا له ـدى الن ـاس ج ِميع ـا﴾‬
‫ُ َ َ ََ ُ ْ ُ‬ ‫مســلمين‪ ،‬ولكنــه لــم اشــأ ذلــك م ــنهم وإال كــان النــاس كلهــم مســلمين ال محال ــة‪ .‬يقــول هللا تعــالى‪﴿ :‬أفل ـم يي ـأ ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫[الرعد‪ ]31 ،‬إذا صارت إرادة اإلنسان للهداية مشيئة من ذلك اإلنسان تقبل هللا منه وهداه‪ .‬قال هللا تعالى‪﴿ :‬ولـو شـاء ّللا لجعلكـم أمـة وا ِحـدة ول ِكـن ي ِضـل مـن‬
‫‪81‬‬
‫‪ )19‬فهناك قدرة هللا‪ ،‬وهناك قدرة العبد‪ ،‬اعتبروا قدرة العبد كسبا‪ ،‬وهي حادثة عند قيامه بالفعـل‪ ،‬وهـذه القـدرة‬
‫ال تؤثر في املقدور وإنما تؤثر به قدرة هللا‪ ،‬التي خصصت قيامه بما كسب في لحظة معينة‪ ،‬والتخصيص أتى من‬
‫إرادة هللا‪ ،‬وألن قـدرة العبـد عــاجزة عـن تحقيـق املقــدور‪ ،‬ألنـه يلـزم أن يوجــده مـن العـدم‪ ،‬واإلنســان لـيس بخــالق‪،‬‬
‫لـزم وجــود قـدرة هللا‪ ،‬لكــن نسـبة القــدرة التـي أثــرت اسـتوت نســبتها إلـى الكــل أي إلـى هللا وإلــى اإلنسـان‪ ،‬لوجــود شــق‬
‫بشري هو الكسب‪ ،‬وشق قادر على إحداث األثر أي اإليجاد من العدم‪ ،‬من القادر سبحانه!‬
‫‪ )20‬معنى الكسب عند األشاعرة‪ :‬أن يكون الفعل بقدرة محدثة فكـل مـن وقـع منـه الفعـل بقـدرة قديمـة‪ ،‬فهـو فاعـل‬
‫خالق‪ ،‬ومن وقع منه بقدرة محدثة‪ ،‬فهو مكتسب‪ ،‬فالل تعالى هو الفاعل على الحقيقة أي الخالق‪ ،‬يخرج الفعل‬
‫مــن العــدم إلــى الوج ــود‪ ،‬واإلنســان يفعــل بقــدرة محدث ــة‪ ،‬و عبــارة أخــرى‪ :‬إن هللا تعــالى أج ــرى العــادة بخلــق الفع ــل‬
‫عند قدرة العبد وإرادته ال بقدرة العبد وإرادته‪.‬‬
‫‪ )21‬وهم هنا يثبتون أن الفعل من هللا تعالى‪ ،‬مثل الخلق والرزق مثال وغيرهما يقع بتعلـق اإلرادة بـه‪ ،‬وال يقـع بتعلـق‬
‫الق ــدرة أو العل ــم ب ــه‪ ،‬ف ــإذا تعلق ــت اإلرادة حص ــل الخل ــق وال ــرزق وغيره ــا م ــن املتعلق ــات‪ ،‬لك ــن كم ــا ت ــرى النتيج ــة‬
‫عن ــدهم س ــواء تعل ــق العل ــم أو الق ــدرة أو اإلرادة بفع ــل أ ــي له ــب م ــثال‪ ،‬فالنتيج ــة أن الحاص ــل ل ــدَهم أن أب ــا له ــب‬
‫خصص ــت اإلرادة جان ــب الكف ــر لدي ــه فكف ــر‪ ،‬ق ــالوا‪ :‬إن قي ــل‪ :‬ف ــإن عل ــى ق ــولكم يك ــون الك ــافر مجب ــورا ف ــي كف ــره ف ــال‬
‫يصـ تكليفــه باإليمــان والطاعــة‪ ،‬قلنــا (أي األشــاعرة) إن هللا تعـالى أراد منــه الكفــر باختيــاره فــال جبــر! أي أراد مــن‬
‫الكــافر الكفــر‪ ،‬ولــم يجبــره عليــه‪ ،‬إذ اإلرادة غيــر القــدرة‪ ،‬وغيــر العلــم‪ ،‬فكونــه اعلــم أنــه ـكـافر شـ يء وكونــه يقــدر لــه‬
‫الكفــر شـ يء‪ ،‬غيــر أن يريــد منــه الكفــر‪ ،‬فــاإلرادة تختلــف عــن القــدرة‪ ،‬فاإلنســان هــو الــذي قــام بــالكفر بــإرادة هللا‪،‬‬
‫والحاصل إذن أن األشاعرة جبريون‪ ،‬وأن اختفاءهم وراء التمييز بين اإلرادة والقدرة والعلم لم يجن هم نتيجة أنه‬
‫مجبور‪.‬‬
‫‪ )22‬واختبـأوا أيضــا وراء مفهــوم الكســب‪ ،‬فــالل تعــالى يقــدر الفعــل للعبــد حــين إيجــاده‪ ،‬واإلنســان فــي اللحظــة نفســها‬
‫يصرف قدرته وإرادته للفعل‪ ،‬فالل يخلق الفعـل حـين (فـي اللحظـة التـي) يقـدر اإلنسـان ويريـد‪ ،‬فاإلنسـان يكسـب‬
‫وهللا يخلق! إمساك للعصا من املنتصف بين املعتزلة والجبرية‪.‬‬
‫‪ )23‬زاويـة النظــر التــي نظـر األشــاعرة فيهــا إلـى مفهــوم الكســب وعالقتـه بمســألة القضــاء والقـدر هــي الخطــأ‪ ،‬أي زاويــة‬
‫خلق هللا للفعل عند قيام العبد به‪ ،‬إذ إن بحث القضاء ال يكون من زاوية خلق األفعال‪ ،‬فال عالقة لهذه الزاوية‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫بالثواب والعقاب‪ ،‬أما أن القيام بالفعل كسب‪ ،‬فهذا مفهوم قرآني ﴿ك ُّل ن ْفس ِب َما ك َس َب ْت َر ِه َينة﴾ [املدثر ‪]38‬‬

‫ُ َ ُ َ‬ ‫َ َُ َُ‬ ‫َ‬
‫َاشـاء َو ََ ْه ـ ِدي َمـن َاش ـاء َولت ْسـأل َّن َع َّم ـا كنـ ُـت ْم ت ْع َمل ـون﴾ [النحــل‪ ]93/16،‬أي يضــل اإلنســان الــذي اشــاء الضــاللة‪ ،‬وَهــدي اإلنســان الــذي اشــاء الهدايــة‪ ،‬ف﴿ َم ـ ْن﴾‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ْ‬
‫هنا تعــود علــى اإلنســان بــدليل‪َ ﴿ :‬وقـ ِل ال َحـ ُّق ِمـن َّرِبكـ ْم ف َمـن شـاء فل ُيـ ْؤ ِمن َو َمـن شـاء فل َيك ُفـ ْر ِإ َّنـا أ ْع َتـ ْد َنا ِللظـ ِ ِامل َين َنـارا أ َحـاط ِب ِهـ ْم ُسـ َر ِادق َها﴾ [الكهــف‪ ]29/18 ،‬فــال‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ َّ َّ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫يت َوق ـ ْل َع َس ـ ى أن‬‫يتحقــق أي ش ـ يء ف ــي الكــون إال بمش ــيئة هللا تعــالى‪ .‬يقــول هللا تع ــالى‪َ ﴿ :‬وال َت ُق ـول َّن ِلش ـ ْيء ِإ ِن ـي فا ِع ـل ذ ِل ـك غ ـدا‪ِ .‬إال أن اش ـاء ّللا واذك ـر رب ـك ِإذا ن ِس ـ‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬
‫ََ ْه ِد َي ِن َرِ ي ِألق َر َب ِم ْن َهذا َرشدا﴾ [الكهف‪ .]24-23 /18 ،‬أ‪ .‬د‪ .‬عبد العزيز بايندر‪ :‬التجارة والربا بتصرف‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫‪ )24‬وأم ــا فرق ــة القدري ــة فه ــي الت ــي تق ــول بأن ــه ال ق ــدر‪ ،‬أي ال مق ــدر‪ ،‬وأن ك ــل ش ـ يء يح ــدث دون س ــابق تق ــدير‪ ،‬وه ــم‬
‫يقولون إن هللا خلق أصول األشياء وترك جزئيا ها وال اعلم جزئيا ها‪.‬‬
‫‪ )25‬لف ـ القض ــاء والق ــدر مجتمع ــين به ــذا املعنــى ال ــذي بحث ــه املتكلم ــون‪ 92‬ل ــم ي ــرد ف ــي كت ــاب أو س ــنة‪ ،‬ول ــم توج ــد ف ــي‬
‫أبحاث املسلمين قبل عصر املعتزلة‪،‬‬
‫‪ )26‬أساس البحث عند املتكلمين في مسألة القضاء والقدر‪ ،‬أو الجبر واالختيار هو‪ :‬أفعال اإلنسان هل هـو يخلقهـا‬
‫(يوجدها)‪ ،‬أم هللا يخلقها؟‬
‫وأسـاس آخـر هـو‪ :‬هـل فعـل العبــد‪ ،‬والخاصـيات التـي يحـد ها ذلـك الفعــل‪ ،‬نتـاج تعلـق إرادة هللا تعـالى وقدرتـه بهــذا‬
‫الفعل فوجد الفعل بهذه اإلرادة وبهذه القدرة؟ أم بقدرة العبد وإرادته؟‬
‫وأساس ثالث هو‪ :‬علم هللا تعالى بأن العبد سيفعل الفعل الفالني‪ ،‬ويحيط به علما‬
‫وأساس رابع هو‪ :‬كون الفعل مكتوبا في اللوح املحفوظ‪ ،‬فال بد أن يقوم به وفق ما هو مكتوب‪.‬‬
‫وأساس خامس هو‪ :‬عالقة عدل هللا تعالى باإلنسـان‪ ،‬فكيـف يتحقـق العـدل إن أجبـر إنسـانا علـى فعـل أو اعتقـاد‬
‫أم ــر ث ــم حاس ــبه؟ م ــع مالحظ ــة فهمه ــم لع ــدل هللا تع ــالى مقارن ــة بمفه ــوم الع ــدل عن ــد البش ــر‪ ،‬وقياس ــهم م ــن ال يق ــع‬
‫الحس عليه (املسمى خطأ بقياس الغائب‪ ،‬إذ هللا تعالى ال اغيب) على الشاهد‪،‬‬
‫املالح أن هذه األسس تقوم على أساس عالقة الفعل باإليجاد والعـدم‪ ،‬ومـن حيـث تعلـق اإلرادة باملمكنـات‪ ،‬أو‬
‫إحاطة العلم بكل ش يء‪ ،‬أو احتواء اللوح املحفوظ على كل ش يء‪.‬‬
‫وهذه العالقات ال أثر لها في موضو الثواب والعقاب‪.‬‬
‫‪ )27‬فـالخلق واإلرادة صـفتان مـن صـفات هللا‪ ،‬وبح ُ همـا إنمـا يكـون فـي بحـث الصـفات‪ ،‬وال عالقـة لهمـا فـي بحـث أفعـال‬
‫العبد من حيث الثواب والعقاب‪ ،‬فإن صفات هللا بحث آخر غير بحث إثابة العبد علـى فعلـه‪ ،‬وعقابـه عليـه‪ ،‬بـل‬
‫هما بحثان منفصالن كل االنفصال‪ ،‬موضوعا واستدالال‪ ،‬فموضو صفات هللا هو ما تتصف به الذات اإللهية‬
‫من العلم واإلرادة والحيا ة والسمع والبصر والخلق والكالم إلى غير ذلك‪ ،‬وموضو الثواب علـى الفعـل‪ ،‬والعقـاب‬
‫عليه‪ ،‬هو ما استوجبه ذلك الفعل من جزاء‪.‬‬
‫والــدليل علــى صــفات هللا‪ ،‬هــو البرهــان علــى إثبا هــا لل‪ ،‬ثــم إن الــدليل علــى الصــفات لــيس كالــدليل علــى وجــود هللا‬
‫ووحدانيت ــه يؤخ ــذ عق ــال‪ ،‬وإنم ــا يؤخ ــذ ال ــدليل عل ــى الص ــفات س ــمعا (بع ــض الص ــفات تع ــرف بالعق ــل كالحكم ــة‬
‫والقدرة‪.)93‬‬

‫‪ 92‬وإن وردتــا مجتمعت ــين بمعناهم ــا اللغ ــوي فيم ــا أخرج ــه الب ــزار ف ــي كش ــف األس ــتار‪( ،‬والطيالس ـ ي ف ــي مس ــنده والطح ــاوي ف ــي مش ــكل اآلث ــار) م ــن ح ــديث ج ــابر بس ــند‬
‫ْ‬ ‫حسن عن النبي ﷺ قال‪« :‬أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء هللا وقدره باألنفس َق َ‬
‫الر ِاوي‪َ :‬ا ْع ِني ِبال َع ْي ِن‪.‬‬
‫ال َّ‬
‫‪83‬‬
‫وأمــا الــدليل علــى الثــواب والعقــاب فهــو الــنص الــذي يتضــمن أن هــذا الفعــل يثــاب عليــه‪ ،‬وأن هــذا الفعــل اعاقــب‬
‫عليه‪ ،‬وهذا غير البرهان‪ ،‬ألنه يثبت أنه يتضمن وجود الثواب على الفعل والعقاب عليه في النص‪ ،‬وليس بإقامة‬
‫البرهـان عليـه‪ .‬ثـم أنـه لـو كـان دلــيال إلقامـة البرهـان عليـه‪ ،‬فإنـه إقامـة برهــان علـى ثـواب وعقـاب‪ ،‬ال علـى صـفة مــن‬
‫صفات هللا‪ .‬ولهذا كان املوضوعان منفصلين تمام االنفصال‪.‬‬
‫‪ )28‬أما كون هللا خلق الفعل‪ ،‬أم العبـد‪ ،‬فلـيس ذلـك واردا هنـا‪ ،‬ألن املسـألة هنـا هـي قيـام العبـد نفسـه بفعلـه مختـارا‬
‫غيـر مجبـر‪ ،‬وليسـت املسـألة هـي إيجـاد الفعـل مـن العــدم‪ ،‬فاملسـألة هـي اإلثابـة علـى الفعـل والعقـاب عليـه‪ ،‬والعبــد‬
‫قام بالفعل مختارا غيـر مجبـر‪ ،‬ولـذلك كـان اإلنسـان مسـئوال عـن هـذا الفعـل‪ ،‬مسـئوال عمـا كسـبه ﴿كـل نفـس بمـا‬
‫كس ــبت رهين ــة﴾ [‪ 38‬امل ــدثر] فإيج ــاد الفع ــل م ــن الع ــدم غي ـر وارد هن ــا‪ ،‬وال مح ــل ل ــه‪ ،‬ف ــال مح ــل لبحث ــه ف ــي األفع ــال‬
‫االختيارية‪.‬‬
‫وأمــا إرادة هللا للفعــل فإنــه قــد أراده خيـرا ـكـان أم شـرا‪ ،‬ألنــه ال يقــع فــي ملكــه إال مــا يريــد (أو مــا اشــاء)‪ ،‬ولكــن معنــى‬
‫إرادته هنا أنه ال يقع في ملكه ش يء جبرا عنه‪ ،‬فإذا عمل العبد عمال ولم يمنعه هللا منه ولم يرغمه عليه‪ ،‬بل تركه‬
‫اعمــل مخت ــارا‪ ،‬ـكـان فعل ــه هــذا ب ــإرادة هللا تعــالى‪ ،‬ال جب ـرا عنــه س ــبحانه وتعــالى‪ ،‬وكــان فعــل العب ــد نفســه باختي ــاره‪،‬‬
‫وكانت اإلرادة غير مجبرة على العمل‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فقد شاءت إرادة هللا تعالى أن يخلق اإلنسان عـاقال قـادرا‪،‬‬
‫(حـ ــر اإلرادة)‪ ،‬ويمكنـ ــه مـ ــن االختيـ ــار بـ ــين الخيـ ــر والشـ ــر فتنـ ــة وابـ ــتالء واختبـ ــارا‪ ،‬وأرسـ ــل الرسـ ــل‪ ،‬وأقـ ــام البينـ ــات‬
‫والحجــج‪ ،‬وأنــذر و شــر‪ ،‬ومــأل جنبــات الكــون باآليــات واألدل ــة‪ ،‬فكانــت إرادتــه أن يكــون اإلنســان مختــارا قــادرا عل ــى‬
‫فعــل الخيــر والشــر‪ ،‬فمســئولية االختيــار تقــع علــى اإلنســان ألنــه قــادر عليهــا‪ ،‬فهــو لــيس مســلوب اإلرادة بــإرادة هللا‬
‫تعالى‪ ،‬وال تسلطت عليه إرادة هللا تعالى ليقوم بالشر!‬
‫فبحث اإلرادة ال دخل لـه فـي األفعـال االختياريـة‪ ،‬ألن البحـث لـيس أن هللا أراد الفعـل‪ ،‬أم لـم يـرده‪ ،‬بـل البحـث هـل‬
‫قـام العبــد بالفعـل مجبـرا أم مختـارا؟ وبمــا أنـه ثبــت أنــه قـام بالفعــل مختـارا فــي األفعـال االختياريــة‪ ،‬أي التـي تقــع فــي‬
‫الـ ــدائرة التـ ــي اسـ ــيطر عليهـ ــا‪ ،‬لـ ــذلك لـ ــم يكـ ــن مجبـ ـرا‪ ،‬فـ ــال تكـ ــون هـ ــذه األفعـ ــال داخلـ ــة بالقضـ ــاء والقـ ــدر بـ ــاملعنى‬
‫االصطالحي الذي ترجم عن الفلسفة اليونانية‪.‬‬
‫‪ )29‬عالقــة الث ــواب والعق ــاب تظه ــر ف ــي مس ــألة الجب ــر واالختي ــار‪ ،‬ه ــل العب ــد مل ــزم عل ــى القي ــام بالفع ــل أم مخي ــر في ــه؟‬
‫حيــث إن اإلنســان محــل تكليــف‪ ،‬يترتــب علــى فعلــه الثــواب أو العقــاب‪ ،‬وهــذا ال شــأن لــه باألســس الســابق ذكرهــا‪،‬‬
‫فاإلنسان مكلف بأفعاله‪ ،‬بعضها واجب و عضها مندوب و عضها مكروه و عضها حرام‪ ،‬و عضها مباح‪.‬‬

‫والقطع بوجود الخالق‪ ،‬وبوجْْود بعــض صــفاته التــي تجلــت فــي بــداع صــنعه املــتقن‪ :‬كالقــدرة والخلــق والحكمــة‪ ،‬بدراســة نظــام الكــون‬‫َ‬ ‫َ‬
‫التدليل‬ ‫‪ 93‬فالعقل استطيع‬
‫وعظمتــه‪ ،‬لك ــن العق ـ َـل ال اس ــتطيع إدراك ذات هللا تع ــالى‪ ،‬وال س ــبر أغ ــوار تل ــك الصــفات إلدراك ماهيته ْْا وحقيقته ــا‪ ،‬وال اس ــتطيع الحك ــم بوج ــود بع ــض الص ــفات‬
‫األخرى مثل الرحمة واملغفرة والعدل بالعقل مباشرة‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫‪ )30‬واإلنســان عاقــل‪ ،‬والعقــل منــاط التكليــف‪ ،‬وحــين ت ــم تكليفــه كلفــه هللا مــا يطيــق‪ ،‬ال مــا ال يطيــق‪﴿ :‬ال يكل ــف هللا‬
‫نفسا إال وسعها﴾‪ ،‬أي لم يكلف هللا تعالى نفسا تكليفا إال وكان هذا التكليف في وسعها‪ ،‬أي ألزمه من األعمـال مـا‬
‫يطيق‪ ،‬فالتكليف في ضمن املقدور واملستطا ‪ ،‬كما أن اإلنسان حر اإلرادة‪ ،‬فيه قابلية فعل الخير وقابلية فعـل‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬
‫ٱس َت َح ُّبوا ٱل َع َم ْى َعلى‬ ‫﴿و َأ َّما َث ُم ُ‬
‫ود َف َه َد ْي َمن ُه ْم َف ْ‬ ‫الشر‪ ،‬ولديه منهج رباني يبين له ما الخير وما الشر‪ ،‬وتكليف بالفعل‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ َْ ُ ْ َ‬
‫اب ٱل ُهو ِن ِب َما ك ُانوا َيك ِس ُبون﴾ [فصلت ‪ ،]17‬والباء في ﴿ ِب َما﴾ سببية‪ ،‬أي بسـبب مـا‬ ‫ِ‬ ‫ص ِع َقة ٱل َعذ‬ ‫ٱلهدى فأخذ هم‬
‫ٓ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ َ َ َْ َ‬
‫صـ ِلحا ف ِل َن ْف ِسـ ِهۦ َو َمـ ْن أ َسـا َء ف َعل ْي َهـا ۗ‬ ‫كسـبوه أصــابتهم الصــاعقة‪ ،‬وهــداهم هللا ولكــنهم اختــاروا العمــى‪﴿ ،‬مـن ع ِمـل‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُّ َ َ َّْ ۢ ْ‬
‫ى‬
‫ومـا ربـك ِبظلـم ِللع ِبيـ ِـد﴾ [فص ــلت ‪ ،]46‬ورو اإلمــام مســلم فــي ص ــحيحه عـن جـ ِابر قـال ج ـاء سـراقة بـن ما ِلـ ِك ب ـ ِن‬
‫ََْْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ُ َ َ َ ُ َ َّ‬
‫ّللا َب ـ ِي ْن ل َن ـا ِدين َن ـا كأ َّن ـا خ ِل ْق َن ـا اآل َن ِفي َم ـا ال َع َم ـ ُل ال َي ـ ْو َم أ ِفي َم ـا َج َّف ـ ْت ِب ـ ِه األق ـال ُم َو َج ـ َر ْت ِب ـ ِه‬
‫ال «ي ـا َرس ـول ِ‬ ‫جعش ـم ق ـ‬
‫ْ َ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ َ َّ ْ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ ُ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ َ ْ َُّ‬
‫املق ِادير أم ِفيما نستق ِبل؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬بل ِفيما جفت ِب ِه األقالم‪ ،‬وجرت ِب ِه املق ِادير‪ ،‬قال ف ِفيم العمل؟ قال زهير ثم‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َّ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ ُّ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ْ ُ َ ُ‬
‫ّللا ﷺ ك ُّل َع ِامل‬ ‫ال َرسول ِ‬ ‫اع َملوا فكل ُم َي َّسر وفي رواية‪ :‬فق‬ ‫تكلم أبو الزبي ِر ِبش يء لم أفهمه فسألت ما قال فقال‪:‬‬
‫ُم َي َّسر ِل َع َم ِل ِه وفي روايـة ابـن حبـان‪ :‬قـال سـراقة بعـد جـواب رسـول هللا ﷺ "فـال أكـون أبـدا أشـد اجتهـادا فـي العمـل‬
‫صـ َّد َق‬ ‫﴿ف َأ َّمـا َمـ ۡن َأ ۡع َطـ ْى َو َّٱت َقـ ْى ۝ َو َ‬ ‫َ‬
‫منــي اآلن"‪ ،‬وفــي روايــات أخــرى صــحيحة قـرأ رســول هللا ﷺ آيــات تبــين املعنــى‪:‬‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َّ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬
‫ِبٱل ُح ۡس ـ َن ْى ۝ ف َس ُن َي ِسـ ـ ُر ُ َه ِلل ُي ۡسـ ـ َر ْى ۝ َوأ َّمـ ـا َمـ ـ ۢن َب ِخ ـ َل َوٱ ۡسـ ـ َتغ َن ْى ۝ َوكـ ـذ َب ِبٱل ُح ۡسـ ـ َن ْى ۝ ف َس ُن َي ِسـ ـ ُر ُ َه ِلل ُع ۡسـ ـ َر ْى﴾‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬
‫[الليــل ‪ ،]10-5‬والف ــاء ف ــي قولــه ﴿ف َس ُن َي ِس ـ ُر ُ َه ِلل ُي ۡس ـ َر ْى﴾ وفــي قول ــه‪﴿ :‬ف َس ُن َي ِس ـ ُر ُ َه ِلل ُع ۡسـ َر ْى﴾ رابط ــة لج ــواب الش ــرط‪،‬‬
‫وسنيس ــره ج ــواب الش ــرط‪ ،‬فجع ــل اليس ــرى مس ـ َّـببة ع ــن إعط ــاء اإلنس ــان وتق ــواه‪ ،‬وجع ــل العس ــرى مس ـ َّـببة ع ــن‬
‫معان ي اإلنسان املتقدمة‪ ،94‬أي إنها مرتبة على فعل اإلنسان واختياره‪ ،95‬وهذا معنى‪ :‬كل ميسر لعملـه مـن قـول‬
‫َ ْ َ‬ ‫َّ َّ َ َ َ‬
‫ٱلِل ال ُاغ ِي ُر َما ِب َق ْوم َح َّت ْى ُاغ ِي ُروا َما ِبأ ُنف ِس ِه ْمۚ﴾ [الرعد ‪.]11‬‬ ‫رسول هللا ﷺ‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪ِ ﴿ :‬إن‬
‫لذلك األصل أن يكون أساس البحث فيما يتعلق بأفعال اإلنسان هو بح ها في ضمن نطاق التكليف‪،‬‬
‫ومقيــاس األفعــال الصــحيح هــو الحــالل والحـرام‪ ،‬أي إن الشــر هــو املقيــاس‪ ،‬هــذه هــي النظــرة الصــحيحة ألفعــال‬
‫اإلنسان‪ ،‬ال نظرة هل هللا هو خالقها أم اإلنسان؟ هل هي نتاج تعلق اإلرادة اإللهية بها أم إرادة اإلنسان؟‬
‫‪ )31‬واإلرادة الحــرة ليســت نظيــر حريــة الســلوك أو التصــرف‪( ،‬أي لــيس كالحريــة الشخصــية أو حريــة التــدين) وحــين‬
‫ترى تعاريف اإلرادة الحرة تجدها كما اعرفها قاموس ميريام و ستر‪" :‬حرية اإلنسان فـي اتخـاذ خيـارات ال تحـددها‬
‫أسـباب سـابقة أو تـدخل إلهـي"‪ .‬بمعنـى آخـر‪ :‬هـي الجـواب علــى سـؤال‪ :‬هـل اإلنسـان مجبـر (مـن قبـل الخـالق) أم هــو‬
‫مخيــر! فــإذا ـكـان مخيـرا فهــذا اعنــي أنــه يملــك اإلرادة الحــرة فــي أن يفعــل أو ال يفعــل"‪ ،‬أي إن النــاس ولــدوا أحـرارا ال‬
‫يج ــوز ألح ــد أن اس ــتعبدهم لغي ــر خ ــالقهم‪ ،‬وال تن ــاقض ف ــي ه ــذا م ــع وج ــود اإلرادة واملش ــيئة والق ــدرة عل ــى القي ــام‬
‫بالفعل عندهم‪ ،‬فاإلنسان يمتلك إرادة حرة في الدائرة التي اسيطر عليها‪.‬‬

‫‪ 94‬الفروق ‪ 147/2‬للقرافي‪.‬‬
‫‪ 95‬اإليمان بالقدر‪ ،‬علي السعود‪ ،‬ص ‪ ،16‬وإعراب القرىن الكريم وبيانه‪ ،‬ململي الدين الدرويش‪،‬‬
‫‪85‬‬
‫‪ )32‬بالنظر في األفعال إجماال يرى اإلنسان اعيش في دائرتين‪ ،‬دائرة يكون اإلنسان فيها مسيرا‪ ،‬ال يملـك االختيـار فـي‬
‫أفعالــه وتصــرفاته فــي ضــمنها‪ ،‬ودائــرة ثانيــة اســير فيهــا اإلنســان ســيرا اختياريــا ال إكـراه فيــه وال جبــر‪ ،‬وقــد أحاطــت‬
‫النصوص الشرعية هذه الدائرة الثانية بجملـة مـن التكـاليف واملعالجـات‪ ،‬وتـرك لـه الخيـار للقيـام بمـا أمـر بـه أو‬
‫عدم القيام به‪ ،‬وعلى أساس اختياره يتم الحساب ويكون الثواب والعقاب‪.‬‬
‫‪ )33‬أما الدائرة التي يكون اإلنسان فيها مخيرا فال عالقة لها بالقضاء والقدر‪،‬‬
‫‪ )34‬وأم ــا ال ـ دائرة التــي تس ــيطر علي ــه ويجب ــر فيه ــا عل ــى أفع ــال ال خي ــار ل ــه فيه ــا‪ ،‬فعل ــى قس ــمين‪ :‬قس ــم يقتض ــيه نظ ــام‬
‫الوجــود مباشــرة‪ ،96‬يخض ــع اإلنســان فيه ــا مباشــرة لنظ ــام الوجــود ويس ــير بحســبه س ــيرا جبريــا‪ ،‬طب ــق ذلــك النظ ــام‬
‫الذي ال يتخلف‪ ،‬على غير إرادة من اإلنسان‪،‬‬
‫وقسم ال يقتضيه نظام الوجود مباشرة‪ ،‬وإن كان كل ش يء ال يخرج عن نظام الوجود‪.‬‬
‫فأم ــا م ــا يقتض ــيه نظ ــام الوج ــود‪ :‬ي ــأتي اإلنس ــان للحي ــاة جب ـرا عن ــه‪ ،‬وش ــكل رأس ــه‪ ،‬ول ــون عيني ــه‪ ،‬وكون ــه اس ــير عل ــى‬
‫األرض ال يطير في الهواء‪ ،‬هذه كلهـا مـن القسـم الـذي يقتضـيه نظـام الوجـود‪ ،‬فـالل تعـالى خلـق الكـون وأجـرى فيـه‬
‫قـوانين معينـة تجعـل الكـون صـالحا للمعيشـة‪ ،‬مثـل قـانون الجاذبيـة‪ ،‬ومثـل أن الجينـات تـتحكم فـي جـنس املولــود‬
‫ولون عينيه‪ ،‬وال أثر للعبد وال عالقة له في ذلك‪ ،‬فالوجود مفطور على السير وفق هذه القوانين‪.‬‬
‫وهناك قسم ال يقتضيه نظام الوجود مباشرة‪ ،‬وإن كان خاضعا لنظام الوجود‪ ،‬مثل أن اسقط جسم من أعلـى‬
‫علـى شـخص دون تحكــم منـه فــي ذلـك‪ ،‬ولـو أطلــق شـخص رصاصــة فـي الهـواء فأصــابت شخصـا لــم يكـن يقصــد أن‬
‫يص ــيبه‪ ،‬فه ــو قض ــاء عليهم ــا مع ــا‪ ،‬أو أطل ــق علي ــه الرصاص ــة ب ــإرادة القات ــل‪ ،‬فه ــو قض ــاء عل ــى املقت ــول ال اس ــتطيع‬
‫دفعـه‪ ،‬والقاتــل يحاســب علــى فعلــه‪ ،‬ومثــل تــدهور الســيارة‪ ،‬وسـقوط طــائرة لخطــأ لــم يكــن باإلمكــان تالفيــه‪ ،‬هــذه‬
‫األفعال وقعت على اإلنسان أو منـه علـى غيـر إرادة منـه‪ ،‬وهـي ليسـت فـي مقـدوره‪ ،‬وال ِق َبـ َل لـه بـدفعها‪ ،‬وال يقتضـيها‬
‫نظام الوجود‪ ،‬فتدخل في الدائرة التي تسيطر عليه‪.‬‬
‫‪ )35‬الــدائرة التــي تســيطر علــى اإلنســان تســمى دائــرة القضــاء‪ ،‬ألن هللا هــو الــذي ق ـ ى الفعــل‪ ،‬وال توجــد حريــة إرادة‬
‫للعبـد فـي الفعـل أي لـيس لـه اختيـار‪ ،‬ولـذلك ال يحاسـب العبــد عليهـا مهمـا كـان فيهـا مـن نفـع‪ ،‬أو ضـرر‪ ،‬أو حــب‪ ،‬أو‬
‫كراهية بالنسبة لدنسان‪ ،‬أي مهما كان فيها من خيـر أو شـر حسْْب تفسْْيراإلنسْْان لهْْا‪ ،‬وإن كْْان هللا وحْْده هْْو‬
‫الذي يعلم الشروالخيرفي هذه األفعال‪ ،‬ألن اإلنسان ال أثر له بها وال اعلم عنها وال عن كيفية إيجادها وال يملك‬

‫‪ 96‬فالن ــار تح ــرق إذا كان ــت امل ــادة األخ ــرى فيه ــا قابلي ــة االحت ـراق‪ ،‬وإذا ل ــم تك ــن فيه ــا قابلي ــة االحت ـراق ال تحرقه ــا‪ .‬و ع ــض األحم ــاض ت ــذيب بع ــض العناص ــر وال ت ــذيب‬
‫غيره ــا‪ .‬و ع ــض العناص ــر تتح ــد م ــع عناص ــر أخ ــرى وتتفاع ــل معه ــا وال تتفاع ــل م ــع غيره ــا‪ ،‬وذرت ــان م ــن الهي ــدروجين م ــع ذرة م ــن األكد ــجين تن ــتج م ــاءا‪ ،‬ولك ــن حت ــى‬
‫نحصل على املاء الثقيل ال بد من اتحاد ذرتين من الهيدروجين الثقيل مع ذرة من األكدجين‪ .‬فهذه األشياء لم تستطع أن تتصرف في كل شـ يء وال أن تنتقــل مــن‬
‫حالة إلى أية حالة أخرى إال ضمن وضع قاصر على حاالت معينة‪ ،‬وال تستطيع سواها إال بإحداث تغيير فيها أو في سواها‪ ،‬أو بعامل آخر‪ ،‬اقت ى نظام الوجود‬
‫إمكانية أن يحدث مثل هذا التغيير‪ ،‬مثل أن تطير بطائرة فتتخطى الجاذبية‪ ،‬فهي إذن محتاجة‪ ،‬وخاضعة لنظام الوجود جبرا‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫دفعهـا أو جل هــا مطلقــا‪ ،‬ولـذ لك ال يثــاب وال اعاقــب عليهـا‪ .‬فهــذا هــو القضـاء‪ ،‬ويقــال حينئــذ أن الفعـل وقــع قضــاء‪،‬‬
‫وعلى اإلنسان أن يؤمن بهذا القضاء أنه من هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ )36‬يخضع اإلنسان للقضاء‪ ،‬وال يملك دفعه‪ ،‬ويخضع لنوامهس القدر وال استطيع تغيير تلك النوامهس‪ ،‬ولكنه‬
‫َّ‬
‫يتفاعل مع القدر إذ هو ُم َسخرله‪ ،‬وعليه مسؤوليات محددة تجاه ما يقع من القضاء‪.‬‬ ‫ُ‬
‫‪ )37‬فاألفعال التي تقـع علـى اإلنسـان جبـرا عنـه‪ ،‬والتـي نسـميها القضـاء‪ ،‬هـذه األفعـال ودرجـة مسـئولية اإلنسـان عنهـا‬
‫أم ــر دقي ــق‪ ،‬ف ــأن يق ــود ش ــاب الس ــيارة بس ــرعة ‪ 200‬كيل ــومترا ف ــي الس ــاعة ث ــم يفق ــد الس ــيطرة عليه ــا فيم ــوت‪ ،‬فإن ــه‬
‫يتحمــل جـزءا مــن املســئولية عــن الحــادث‪ ،‬وال يقــال بأنــه ال مســئولية عليــه! وال عقوبــة! بــل إنــه يتحمــل جــزءا مــن‬
‫العم ــل ألن ــه ل ــم يأخ ــذ بالس ــببية‪ ،‬أي "بالتفاع ــل م ــع الق ــدر وفق ــا للس ــببية"‪ ،‬والس ــببية تقت ـ ي البح ــث ف ــي حال ــة‬
‫الطرقــات (الخصــائص التــي ســنها هللا فــي األش ــياء‪ ،‬كيــف تتفاعــل م ــع األســباب)‪ ،‬وحالــة الس ــيارة‪ ،‬وحالــة عجال ه ــا‪،‬‬
‫وحالة السـائق مـن اليقظـة واالنتبـاه‪ ،‬وقدرتـه علـى السـيطرة عليهـا‪ ،‬فكـل هـذا إن لـم يؤخـذ بأسـبابه‪ ،‬فإنـه ال يصـ‬
‫أن يقال‪ :‬نتوكل على هللا! نعم كل ش يء يقع بقضاء هللا‪ ،‬وهنا لم ُيرد الشاب الوقو في الحادث عمدا‪ ،‬ووقـع عليـه‬
‫رغما عنه‪ ،‬أي قضاء من هللا‪ ،‬ولكن متى يكون اإلنسان محاسبا على عمله؟ متن يقع في مظنة القتل الخطأ حين‬
‫يرمـي بالنــار فــي عـرس مكــت بالنــاس‪ ،‬فيقتـل‪ ،‬وهكــذا‪ ،‬لــذلك وجـدنا القاتــل الخطــأ َيـ ِد ْي‪ ،‬أو يــدفع األرش مــن بــاب‬
‫الس ــببية! أو بش ــكل أدق‪ :‬م ــن ب ــاب‪ :‬الس ــننية‪ ،‬أي مْ ْْن ب ْْاب التفاعْ ْْل مْ ْْع القْ ْْدر‪ ،‬ومْ ْْع خْ ْْواص األشْ ْْياء تفْ ْْاعال‬
‫وقدر في املجتمعات سننا معينة‪ ،‬واإلنسان يتفاعل‬ ‫قدر في األشياء خواص معينة‪َّ ،‬‬ ‫احيحا أو خطأ‪ ،‬فالل تعالى َّ‬
‫م ــع ه ــذه الخ ــواص وه ــذه الس ــنن‪ ،‬فم ــن خ ــواص عج ــالت الس ــيارة م ــثال أن تنزل ــق ف ــي ظ ــروف معين ــة‪ ،‬عن ــد س ــرعات‬
‫معينة‪ ،‬فتفاعل اإلنسان مع هذه الخواص مما هو مطلوب منه‪ُ ،‬ويسأل عنه‪ ،‬ويقع في دائرة السببية‪ ،‬ومسؤولية‬
‫اإلنسان‪ ،‬بمعزل عن النتيجة التي وقعت جبرا عن اإلنسـان‪ ،‬وهـي قضـاء هللا‪ ،‬وال يخلـط بينهمـا‪ ،‬وحالـه كحـال مـن‬
‫اشعل نارا في حطب بالقرب من أشياء قابلة لالشتعال‪ ،‬فيتسبب بحرق غابة أو بيوت‪ ،‬فهو مسؤول عـن فعلتـه‪،‬‬
‫وه ــذا البح ــث يق ــع تح ــت التفاع ــل م ــع الق ــدر‪ ،‬ال تح ــت بح ــث القض ــاء والق ــدر (الجب ــر واالختي ــار)‪ ،‬فالح ــادث وق ــع‬
‫"قضــاء"‪ ،‬ولكــن اإلنســان مســئول عــن أفعالــه الناتجــة عــن التفاعــل مــع خــواص األشــياء‪ ،‬كقطعــه بالســكين‪ ،‬فــإن‬
‫ح ــز به ــا رقب ــة‪ ،‬فه ــو مس ــؤول ع ــن فعل ــه‪ ،‬وفعل ــه ف ــي ال ــدائرة التــي اس ــيطر ه ــو عليه ــا‪ ،‬أو رمي ــه شخص ــا بالرص ــاص‪،‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فهذا التفاعل واألفعال الناتجة عنه ليست في الدائرة التي تسيطر عليه‪ ،‬فهو مسؤول عنها‪ ،‬سواء فعلها‬
‫باختي ــاره (كح ــز الرقب ــة)‪ ،‬أو فعله ــا بغي ــر تخط ــيط وني ــة عل ــى القت ــل‪ ،‬كم ــن أطل ــق الن ــار ف ــي ع ــرس فقت ــل بالخط ــأ‪،‬‬
‫ومس ــئوليته أق ــل ولكن ــه مس ــئول‪ ،‬وبالت ــالي فيتحم ْْل عو اق ْْب ع ْْدم أخ ْْذه بالس ْْنن‪ ،‬ويتحم ْْل عو اق ْْب تفاعل ْْه‬
‫الخطأ مع خواص األشياء‪.‬‬
‫ومـن ناحيــة أخــرى‪ ،‬فـإن إهمــال املــرء لصــحته‪ ،‬وعـدم االعتنــاء بهــا قـد اججــل فــي أجلــه‪ ،‬ونحـن نعلــم أن اآلجــال بيــد‬
‫هللا تعـالى‪ ،‬علـم مــا سـيكون مـن حــال املـرء فقــدر لـه أجلـه‪ ،‬لكــن‪ :‬هـل لــو أخـذ باألسـباب الدنيويــة واعتنـى بصــحته‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫فه ــل يطي ــل عم ــره؟ (علم ــا ب ــأن األج ــل معل ــوم لل تع ــالى مجه ــول للخل ــق)‪ ،‬والج ــواب بأن ــه وفق ــا للس ــببية فإن ــه يأخ ــذ‬
‫باألس ــباب التــي أم ــر باألخ ــذ به ــا‪ ،‬وق ــد يأتي ــه األج ــل بح ــادث أو أم ــر ل ــيس بالحس ــبان‪ ،‬ل ــيس ه ــذا ه ــو البح ــث‪ ،‬لك ــن‬
‫البح ـ ــث أن ه ـ ــذه األجه ـ ــزة الت ـ ــي زود هللا اإلنس ـ ــان به ـ ــا م ـ ــن قل ـ ــب ودم ـ ــاا ورئت ـ ــين‪ ،‬إن أحس ـ ــن إليه ـ ــا ط ـ ــال عمره ـ ــا‪،‬‬
‫واس ـ ــتطاعت أن تبق ـ ــى تض ـ ــخ وتش ـ ــتغل فت ـ ــرة أط ـ ــول‪ ،‬وإن تجن ـ ــب أس ـ ــباب األم ـ ـراض واعتنـ ــى بنفس ـ ــه فإن ـ ــه يأخ ـ ــذ‬
‫باألسباب‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فهذه األبحاث مما يتناسب مع السببية! «إن لبدنك عليك حقا! ‪.‬‬
‫الصفات والخواص في األشياء‪ ،‬والسنن في املجتمعات‪:‬‬
‫‪ )38‬ســخر هللا تعــالى األشــياء فــي الكــون لدنســان حتــى اســتفيد منهــا ويســتعمل خواصــها فــي عمــارة األرض‪ ،‬لــذلك ينــتج‬
‫عن وجود مادة قابلة لالحتراق‪ ،‬ونار قابلة لدحراق‪ ،‬وأكدجين بكميات كافية من كل منها ينتج عن هذا نار بشكل‬
‫حتمــي‪ ،‬يتفاعــل اإلنســان مــع هــذه الصــفات والخــواص‪ ،‬ويســتغلها لقضــاء حوائجــه‪ ،‬ألنهــا مدــخرة بــأمر هللا تعــالى‬
‫له‪ ،‬ويخضع اإلنسان كما قلنا لقوانين الكون مثل قانون الجاذبية‪ ،‬وينتج األثر الحتمي لوجـوده فـي نطاقهـا فـورا‪،‬‬
‫فإذا ما قذف حجرا في الهواء بطاقة تتغلب على الجاذبية‪ ،‬ال تلبث تلك الطاقة أن تتفاعل مع الجاذبية فتتحول‬
‫مــن طاقــة حركــة لطاقــة وضــع تبلــغ ذرو هــا حــين تضــامر الطاقــة الحركيــة فيرجــع الحجــر لــألرض ثانيــة متــأثرا بقــوة‬
‫الجاذبية (سنة كونية)‪ ،‬قدر‪ ،‬وعليه فاإلنسان يخضع للقدر في نواميسه‪ ،‬ال استطيع تغيير تلـك النـواميس‪ ،‬ومـا‬
‫سخر له منها استطيع التفاعل معها واستغاللها‪.‬‬
‫‪ )39‬فالص ْْفات والخص ْْائص التــي ف ــي األش ــياء تس ــمى بالق ــدر‪ ،‬ألن هللا تع ــالى ه ْْو ال ْْذي ق ْْدرفيه ْْا ه ْْذه الخاص ْْيات‪،‬‬
‫وذلــك أن األفعــال التــي تحصــل مــن اإلنســان أو عليــه فــي أي مــن الــدائرتين (املســيطرة عليــه أو التــي اســيطر عليهــا)‬
‫تقع أفعاله على أشـياء أو مـن أشـياء مـن مـادة الكـون والحيـاة فيحـدث هـذا الفعـل أثـرا‪ ،‬أي يترتـب علـى هـذا الفعـل‬
‫أمــر مــا‪ ،‬فه ــذه اآلثــار ليســت م ــن خلــق اإلنســان ح ــين قيامــه بالفعــل‪ ،‬وإنم ــا هــي مــن الخص ــائص التــي قــدرها هللا ف ــي‬
‫األشــياء فتتفاعــل م ــع األفعــال عل ــى نحــو مخص ــوص حــين القي ــام بالفعــل أي يظه ــر أثــر ه ــذه الخــواص‪ ،‬كخاص ــية‬
‫اإلحراق في النار‪ ،‬وخاصية القطع في السكين‪ ،‬وخاصية إنبات النخل مـن النـواة‪ ،‬وخاصـية حـب البقـاء فـي الكـائن‬
‫الملي‪.‬‬
‫فقد قدر هللا تعالى في األشياء صفات ثابتة‪ ،‬كصفة اللون والطول والصالبة والسيولة‪ ،‬تظهر هذه الصفات حال‬
‫َ‬
‫االســتقرار‪ ،‬وقـ َّدر فــي األشــياء الخا ِصـيات‪ ،‬والتــي هــي فــي األســاس صــفات ذاتيــة الزم ــة فــي األشــياء‪ ،‬فــإذا مــا تفاعل ْْت‬
‫الص ْ ْْفات م ْ ْْع األس ْ ْْباب وتحرك ــت انبثق ْ ْْت الخاص ْ ْْيات‪ ،97‬مثـ ــل قابلي ــة الخشـ ــب لالحتـ ـراق‪ ،‬وقابليـ ــة إرواء املـ ــاء‬

‫‪ 97‬فم ــثال ف ــي عل ــم املع ــادن ‪ Metallurgy‬ن ــرى اعتم ــاد خص ــائص املع ــادن ‪ properties of materials‬عل ــى ال ــروابط م ــا ب ــين الذري ــة‪ ،‬فتج ــد بعض ــها غي ــر متبل ــور‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ ،amorphous‬و عضــها متبل ــورا ‪ ،crystalline‬واألخي ــر تج ــد أن الــذرات في ــه تص ــطف بش ــكل َش ـ ْعري ‪ lattice‬ثالث ــي األبع ــاد‪ُ ،‬وتك ــرر هــذه األش ـ ُ‬
‫ـكال ال َّش ـ ْع َّرية طريق ــة‬ ‫ِ‬
‫تكوينهــا ف ــي كــل االتجاه ــات بــنفس الطريق ــة البلوري ــة الهندســية‪ ،‬وذل ــك عبــر ق ــوى ت ـرابط كيميائيــة ب ــين تلــك البل ــورات تك ــرر النســق ذات ــه‪ ،‬ومــن الخص ــائص املهم ــة‬
‫لحبيب ــة ‪ size of the grain‬وه ــذا يح ــدد الخص ــائص الخاص ــة ب ــذلك املع ــدن‪ ،‬وم ــن الخص ــائص األخ ــرى تج ــد م ــثال الص ــالبة ‪ Hardness‬والهشاش ــة‬ ‫مقي ــاس ا ُ‬

‫‪88‬‬
‫للعطشان‪ ،‬وقابلية تحول املاء السائل إلى بخار بالتدـخين‪ ،‬فالخاصية هي االنفعال الحاصل في الشْ يء بسْْبب‬
‫فعل وقع عليه‪ ،‬وباطراد التالزم املؤثر بين هذا الفعل واالنفعال الناتج نستنبط وجود عالقة ثابتة بينهما نسميها‬
‫الخاصية‪ .‬ويمكن دراستها بدقة بالغة‪ ،‬كما وجدنا سابقا في علم املعادن‪ ،‬وحين يحصل التأثير بين السبب الـذي‬
‫يمتل ــك طاق ــة س ــببية كافي ــة للتفاع ــل م ــع الص ــفات أو الخ ــواص فتنفع ــل به ــذه الطاق ــة وتتع ــاون معه ــا الش ــروط‬
‫الالزمة‪ ،‬فال بـد أن يحصـل التغييـر بشـكل حتمـي ضـروري‪ ،‬وإن لـم يحصـل التغييـر فإمـا أن الطاقـة السـببية كانـت‬
‫غير كافية‪( ،‬مثال درجة الحرارة لم تكن كافية لتحويل خصائص املعدن) أو أن الشروط لم تتوفر كلها‪ ،‬ففي كل‬
‫ه ــذه العالق ــات تج ــد ض ــرورة تفاع ــل الص ــفات م ــع األس ــباب بش ــكل دقي ــق إلنت ــاج النتيج ــة‪ ،‬فه ــذه ه ــي الض ــرورة‬
‫والحتمية باملفهوم الفكري العقلي الفلسفي‪ ،‬والـذي يثبـت علميـا أيضـا‪ ،‬وعلْْى أساسْْه تقْْوم العلْْوم التْْي تبحْْث‬
‫خواص األشياء!‬
‫‪ )40‬والس ْْنن أيض ْْا م ْْن الق ْْدرألن هللا تع ْْالى ه ْْو ال ْْذي ق ْْدرف ْْي الجماع ْْات والش ْْعوب واملجتمع ْْات وال ْْدول ه ْْذه‬
‫السنن‪ ،‬وهذه النوامهس‪ ،‬وأخضعها لقوانين معينة تسيرعليها‪ ،‬ال تجد لها تبديال‪ ،‬وال تحويال‪،‬‬
‫فالسنن أو النْْوامهس أو الطبْْائع هـي صـفات منبثقـة للجماعـات والشـعوب أمرنـا باستكشْْافها والتفاعْْل معهْْا‪،‬‬
‫وهـ ــي ال تظهـ ــر مـ ــن اإلحسـ ــاس املباشـ ــر‪ ،‬بـ ــل تظهـ ــر فقـ ــط مـ ــن خـ ــالل اآلثـ ــار أي مـ ــن خـ ــالل وجـ ــود هـ ــذه الشـ ــعوب‬
‫والجماعات تحت تأثير فعل أو أفعال أو أوضا معينة‪ ،‬فينـتج مـن ذلـك نتـائج وآثـار وحـين نقـوم بمشـاهدة وجـود‬
‫ُ‬
‫اطراد معين بين أفعال محددة مع نتائج لها واقعة على املجتمعات نستنبط وجـود عالقـة ثابتـة نسـميها ال ُّسـ َّنة أو‬
‫َّ‬ ‫ال َّنـ ـ ُام ُ‬
‫وس أو الط ْب ـ ـ ُع وه ْ ْْو يخ ْ ْْص اإلنس ْ ْْان واملجتم ْ ْْع البش ْ ْْري فق ْ ْْم"‪ .98.‬فالسـ ــنن فـ ــي املجتمعـ ــات كالصـ ــفات‬
‫والخاصــيات ف ــي األشــياء‪ ،‬ق ــدرها هللا تعــالى وأجراه ــا وفق ــا لنــواميس معين ــة ينبغــي دراس ــتها وفهمه ْْا وفه ْْم األس ْْباب‬
‫الت ْْي تحركه ْْا‪ ،‬والش ــروط الالزم ــة إلح ــداث التغيي ـرات فيه ــا‪ ،‬واإلف ْْادة م ْْن ه ْْذا ف ْْي العملي ْْة التغييري ْْة‪ .‬فكم ــا تح ــد‬
‫الس ــكين ليص ــل القط ــع به ـا‪ ،‬وتس ــتعمل الس ــكين املناس ــب لقط ــع اللح ــم وال تقط ــع ب ــه املع ــدن األق ــوى من ــه‪ ،‬أخ ــذا‬
‫بالخاصيات املودعة في هـذه األشـياء‪ ،‬فإنـك كـذلك ينبغْْي أن تفهْْم سْْنن ونْْوامهس التغييْْرفْْي املجتمعْْات لألخْْذ‬
‫بها‪ .‬واألخذ باألسباب‪ ،‬تفاعل مع القدر‪.‬‬
‫‪ )41‬ومن زاوية أخرى‪ ،‬فإن الفرق بين السنن املجتمعية وبين السنن الكونية واض ‪ ،‬فالسببية الكونية تمثل تفاعـل‬
‫القوى واملجاالت والطاقات مع خصائص املادة وفقا للقوانين ال تخرج عنها‪ ،‬وتنتج النتيجة الحتمية فور حصول‬

‫‪ Brittleness‬والليون ــة ‪ ،Ductility‬والق ــوة ‪ Strength‬وهك ــذا‪ ،‬وبت ــأثير الح ـرارة عل ــى املع ــدن تتغي ــر أش ــكال البل ــورات وتراتي ه ــا بش ــكل متناس ــب م ــع درج ــات الح ــرارة‬
‫وطريقة التبريد‪ ،‬وبالتالي استطيع اإلنسان االستفادة من هذه املعادن ومعرفة خصائصها علــى نحــو دقيــق! ففــي كــل مجْْال مْْن درجْْات الحْرارة تجــد خصــائص‬
‫املعادن تتشكل بصورة معينة‪ ،‬فإذا انتقلت إلى نطاق درجات حرارة خر بالتدخين أو التبريد تغيرت تلك الخصائص‪ ،‬لكن بشكل متناســب مــع درجــات الحـرارة‬
‫وطريقة التبريد‪ ،‬فهي خصائص دقيقة اإلحكام ال عشوائية!‬
‫‪ 98‬من بحث‪ :‬السببية وسنن الحياة لألستاذ يوسف الساريس ي‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫ُّ‬
‫التفاعل السببي كما تم شرحه أعاله‪ ،‬وأما السنن املجتمعية‪ ،‬هذه السنن التي تحكم حركـة املجتمعـات‪ ،‬وتأثرهـا‬
‫باألسباب واملسببات‪ ،‬ال تسير على شاكلة القطار الذي اسير على سكة إن خرج عنها انقلب وخرب‪ ،‬بل هـي أشـبه‬
‫مــا تك ــون بحرك ــة الس ــيارات املنض ــبطة بق ــوانين الس ــير الص ــارمة‪ ،‬م ْْع مس ْْاحة بس ْْيطة م ْْن التس ْْامح ف ْْي ق ْْوانين‬
‫جزئية لم يلزم ضبطها بدقة‪ ،‬مثل زمن الوقوف على إشارات التوقـف‪ ،‬والسـير فـي منتصـف املسـرب الـذي يمكـن‬
‫أن تتخــذه بالضــبط‪ ،‬وال تخــرج عــن هــذه الــدائرة الضــيقة مــن التســامح‪ ،‬فقــد تخــرج دولــة عــن نظــام العــدل‪ ،‬ومــع‬
‫ذلــك تحقــق مس ــتوى جريمــة م ــنخفض محــدود فــي املجتم ــع‪ ،‬إال أن عــدم س ــيرها فــي ر ـكـاب نظ ــام العــدل ال يلب ــث أن‬
‫يفس ــد عليه ــا س ــيرها فتنقل ــب املركب ــة بم ــن عليه ــا‪ ،‬ألنه ــا ال ب ــد أن تخض ــع ف ــي النهاي ــة لس ــنن منض ــبطة ناظم ــة لحرك ــة‬
‫املجتمعات‪ ،‬وكذلك حصـل مـع قـوم لـوط عليـه سـالم هللا‪ ،‬حـين خـالفوا سـنة هللا فـي العالقـات بـين الرجـل واملـرأة‪،‬‬
‫فلم يلبثوا إال اسيرا حتى نزل عليهم العذاب‪ ،‬وقد تقوم دولة باغتصـاب حـاكم للسـلطة فيهـا‪ ،‬وفرضـه نظرتـه علـى‬
‫املجتم ــع‪ ،‬وإقامت ــه دول ــة بوليس ــية‪ ،‬إال إن ه ــذه الدول ــة ل ــن تس ــتمر ألنه ــا تخ ــالف الس ــنن الكوني ــة ف ــي نش ــوء ال ــدول‬
‫واســتمرارها! لــذلك تج ــد مثــل ه ــذه الدولــة تس ــتعين بعوامــل غيــر ذاتي ــة الســتمرارها‪ ،‬مث ــل االســتعانة باالس ــتعمار!‬
‫األ ْ ض ل ُي ْخرجـ َ‬‫َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُّ َ َ َ َ‬ ‫َّ‬
‫ـوك ِم ْن َه ـا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ـ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ون‬‫ز‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ـ‬ ‫س‬‫ي‬‫ل‬ ‫وا‬‫اد‬ ‫ـ‬
‫ك‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫﴿و‬ ‫‪:‬‬ ‫ـه‬
‫ـ‬
‫َ َ ْ َ َ ِ‬‫ل‬‫بقو‬ ‫ـنن‬‫ـ‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ـذه‬ ‫ـ‬‫ه‬ ‫ـدى‬
‫ـ‬ ‫ح‬ ‫إ‬ ‫ـى‬‫ـ‬‫ل‬ ‫ع‬ ‫ـبحانه‬‫ـ‬‫س‬ ‫ـزة‬
‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫رب‬ ‫ل‬ ‫ـ‬ ‫ث‬ ‫وقــد م‬
‫ْ‬ ‫ُّ ُ َ َ َ َ ُ ُ َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫َو ِإذا ال َيل َبثـ ـون ِخالفـ ـك ِإال ق ِلـ ـيال ۝ ُسـ ـنة َمـ ـن قـ ـد أ ْر َسـ ـلنا ق ْبلـ ـك ِمـ ـن رسـ ـ ِلنا وال ت ِجـ ـد ِلسـ ـن ِتنا تحـ ـ ِويال﴾ [‪77 -76‬‬
‫اإلسراء]‪ ،‬فهو هديد للكفار بأنهم إن أخرجوا نبيهم لن يلبثوا خالفه إال قليال‪ ،‬وكان لب هم بعده إلى يوم فتح مكة‪،‬‬
‫أي إنـه اســتغرق ســنوات‪ ،‬فثمــة فدــحة فـي الوقــت بــين الوقــو فــي تحقيـق األســباب املســتوجبة للســنن‪ ،‬وبــين وقــو‬
‫نتائجه ــا‪ ،‬فالحتمي ــة ال من ــاص عنه ــا‪ ،‬ولكنه ــا ق ــد تسـ ـتغرق زمن ــا‪ ،‬وال ُاع ــرف ك ــم مق ــدار ه ــذا الوق ــت خصوص ــا فـ ــي‬
‫القضايا التي اختص هللا تعالى نفسه بها مثل الرزق والنصر‪ ،‬وال الصورة التي ستتحقق فيها تلك السنن‪.‬‬
‫‪ )42‬وعندما يريد الباحث أن يكتشف سنة معينة من سنن العادة أو الطباوع التي تجري وفقها األمور في املجتمعات‬
‫البش ــرية ف ــال اس ــتطيع أن يح ــدد جمي ــع العوام ــل التــي ت ــدخل ف ــي الس ــنة م ــن أس ــباب وش ــروط بش ــكل دقي ــق وال أن‬
‫يحصرها ويحدد مقاديرها‪ ،‬وبالتالي فهو يلجأ إلى عملية اختزال وتقريب لهذه املجموعة من العوامل وإلى التركيز‬
‫على عدد قليل من هذه املجموعة من األسباب والشروط ويتم تجاهل أسباب أخرى أقل أهمية في نظره‪99‬‬

‫‪ )43‬م ــن هن ــا‪ ،‬فإنن ــا إذا م ــا طبقن ْْا ه ْْذا عل ْْى بح ْْث التغيي ْْر‪ ،‬و إقام ْْة الدول ْْة‪ ،‬فللعملي ْْة التغييري ْْة س ْْنن‪ ،‬وأس ْْباب‬
‫وشرو ‪ ،‬ومعوقات يجب التركيزعلى األهم منها‪ ،‬بالتقريب واالختزال‪ ،‬والتْزام الرئهسْ ي الضْْروري منهْْا‪ ،‬الْْذي‬
‫يشْْكل عمْْود الطريقْْة‪ ،‬إذ إن العوامــل املـؤثرة واملتغيـرات كثيـرة جـدا‪ ،‬ومتغيــرة دائمـا (ديناميكيــة)‪ ،‬بحيـث يصــبح‬
‫ً‬
‫م ــن الص ــعب حص ــرها جميع ــا بأص ــولها وفروعه ــا‪ ،‬واألخْ ْْذ بأسْ ْْباب فروعهْ ْْا جميعْ ْْا‪ ،‬فيجتهْ ْْد الحْ ْْزب ويقْ ْْدر‪،‬‬
‫ويس ْْدد ويق ْْارب‪ ،‬ويتوك ْْل عل ْْى هللا تع ْْالى فيم ْْا ال يس ْْتطيعه م ْْن أس ْْباب بقدرات ْْه البش ْْرية‪ ،‬بع ْْد أن يس ْْتفر‬

‫‪ 99‬من بحث‪ :‬السببية وسنن الحياة لألستاذ يوسف الساريس ي بتصرف اسير‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫وس ْ ْْعه‪ ،‬وال يمكـ ــن أن ُي َتصـ ــور أن التغييـ ــر يـ ــتم بتحـ ــول الحـ ــزب وأعضـ ــائه إلـ ــى مالئكـ ــة ال يخطئـ ــون‪ ،‬وال أن تكـ ــون‬
‫العملية التغييرية نفقا ال نهاية لـه‪ ،‬كلمـا أخـذت بأسـباب أفعـال جزئيـة مـن الفـرو واألسـاليب طلـب منـه الوصـول‬
‫للكمـال املطلـق فـي كـل مـا يتعلــق بشـروطها والتغلـب علـى معوقا هـا حتــى يحصـل التغييـر‪ ،‬إذ إن كثيـرا مـن املعوقــات‬
‫واألساليب ديناميكية حركية متغيرة متقلبة‪ ،‬فتحتاج إلى خطط متفاعلة معها‪ ،‬األمر الذي قد يطيل أمد العمل‬
‫أو ق ــد يره ــق كثي ـرا‪ ،‬ف ْْال بْ ْْد م ْْن التركيْ ْْزعل ْْى أهْ ْْم األس ْْاليب التْ ْْي يمك ْْن أن تثمْ ْْر‪ ،‬وأه ْْم املْ ْْؤثرات والعوامْ ْْل‬
‫الرئهسة‪ ،‬وأن تدرس خطورة كل املتغيرات وتعال بحسْْب مجمهْْا وضْْررها أو نفعهْْا بمْْا يناسْْب‪ ،‬ومثـال ذلـك‬
‫دوام التغير في تقنيات التواصل االجتماعي‪ ،‬فما أن تتقن تقنية حتى تجد غيرها قد أخذ محلها‪ ،‬واألخـذ بأسـبابها‬
‫كله ــا ودوام مالحقته ــا ص ــعب للغاي ــة‪ ،‬ف ــي ظ ــل محدودي ــة اإلمكاني ـات‪ ،‬ولكنه ــا أس ــاليب تق ــع ف ــي إط ــار حم ــل ال ــدعوة‪،‬‬
‫والص ـرا الفك ــري‪ ،‬والكف ــاح السياس ـ ي‪ ،‬وأهْ ْْم م ْْا فْ ْْي هْ ْْذه األعمْ ْْال ه ْْو األفكْ ْْارالتْ ْْي تقيم ْْه فْ ْْي الوجْ ْْود‪ ،‬وهْ ْْي‬
‫موجْْودة علْْى أفضْْل وجْْه‪ ،‬فْْال تقصْْيرفْْي أسْْبابها‪ ،‬أمــا تغيــر الوسـائل الــدائم‪ ،‬فهـو عقبــة تحتـاج للتغلــب عليهــا‪،‬‬
‫لكن ليس لقتلها بحثا وشروطا إلتقانها‪.‬‬
‫معنن القضاء والقدروالتسليم به‬
‫‪ )44‬وبـذلك تخـرج األفعــال االختياريـة عـن بحــث القضـاء والقـدر‪ ،‬فيملــك اإلنسـان فيهـا حريــة اإلرادة‪ ،‬ويحاسـب علــى‬
‫أفعاله‪ .‬وألن هللا حين خلق اإلنسان وخلـق الخاصـيات فـي األشـياء والغرائـز والحاجـات العضـوية‪ ،‬وخلـق لدنسـان‬
‫العق ــل املم ِي ـز‪ ،‬أعط ــاه االختي ــار ب ــأن يق ــوم بالفع ــل أو يترك ــه ول ــم يلزم ــه القي ــام بالفع ــل أو الت ــرك‪ ،‬ول ــم يجع ــل ف ــي‬
‫خاص ــيات األش ــياء والغرائ ــز والحاج ــات العض ــوية م ــا يلزم ــه عل ــى القي ــام بالفع ــل أو الت ــرك‪ ،‬ول ــذلك كــان اإلنس ــان‬
‫املميز‪ ،‬وجعله مناط التكليف الشرعي‪ ،‬ولهذا‬ ‫مختارا في اإلقدام على الفعل واإلقال عنه بما وهبه هللا من العقل ِ‬
‫جعــل لــه الثــواب علــى فعــل الخيــر ألن عقلــه اختــار القيــام بــأوامر هللا واجتنــاب نواهيــه‪ ،‬وجعــل العقــاب علــى فعــل‬
‫الشر ألن عقله اختار مخالفة أوامر هللا وعمل ما نهى عنه‪ .‬وكان جزاُه على هذا الفعل حقا وعدال ألنه مختار في‬
‫القيام به وليس مجبرا عليه‪ ،‬وال شأن للقضاء والقدر فيه‪،‬‬
‫‪ )45‬معنى اإليمان بالقضاء والقدر‪ :‬أن اإليمان بأن أفعال العبد التـي تقـع فـي الـدائرة التـي تسـيطر عليـه والتـي ال قبـل‬
‫له بدفعها وال إرادة له بالقيام بها والخاصيات التـي يحـد ها فـي األشـياء كـل ذلـك مـن هللا تعـالى‪ ،‬وليسـت مـن العبـد‪،‬‬
‫وفي حين أن العبد ال يملك دفعا للقضاء‪ ،‬وال تغييرا في السنن والخاصيات والصفات‪ ،‬إال في ضمن ما سمحت بـه‬
‫الخاصــيات والصــفات مــن تفاعــل مــع أســباب تســمح بتغييرهــا‪ ،‬ـكـالحرارة تحــول صــفة الســيولة للبخــار‪ ،‬أقــول‪ ،‬فــي‬
‫حين ال يملك العبد تغييرا للسـنن والخاصـيات والصـفات‪ ،‬فإنـه يملـك التفاعـل معهـا وتفعيلهـا واسـتغاللها للقيـام‬
‫بأفعال تدخل في دائرة سيطرته هو‪ ،‬ويحاسب عليها!‬

‫‪91‬‬
‫‪ )46‬معنى اإليمان بالقدر‪ :100‬لقد استفاضت األدلة الشـرعية بـالتركيز علـى اإليمـان بالقـدر‪ ،‬حتـى جعلتـه أساسـا مـن‬
‫أسس العقيدة‪ ،‬في الحـديث الـذي رواه مسـلم فـي صـحيحه عـن عمـر بـن الخطـاب ربـ ي هللا عنـه‪« :‬قـال‪ :‬فـأخبرني‬
‫ع ــن اإليم ــان‪ .‬ق ــال‪ :‬أن ت ــؤمن ب ــالل ومالئكت ــه وكتب ــه‪ ،‬ورس ــله‪ ،‬والي ــوم اآلخ ــر‪ ،‬وت ــؤمن بالق ــدر خي ــره وش ــره ‪ .‬ق ــال‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ ََ ُ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫ُ َ‬
‫﴿وخل َق ك َّل ش ْيء ف َق َّد َر ُه ت ْق ِديرا﴾ [الفرقان ‪،]2‬‬ ‫﴿إ َّنا ك َّل ش ْيء خل ْق َن ُاه ِب َق َدر﴾‪[ ،‬القمر ‪]49‬‬
‫صدقت وقوله تعالى ِ‬
‫َ َّ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َُ َ‬
‫﴿وكـ ُّل شـ ْيء ِع ْنـ َد ُه ِب ِم ْقـ َدار﴾ [الرعــد ‪ ،]8‬أي إن كــل مــا يجــري فــي الكــون مقــدر تقــديرا‪ ،‬كمـا وقـدرا ومبلغـا بمقــدار‬
‫محـدد‪ ،‬ومخلـوق ب َقـ َدر‪ ،‬علــى مقـدار مخصـوص ووجــه مخصـوص‪ ،‬حسـبما اقتضــت الحكمـة‪ ،‬وبصـنعة متقنــة‪،‬‬
‫بلغ ــت نهايـ ــة اإلحك ــام والدقـ ــة‪ ،‬ومنضـ ــبط ف ــال يخـ ــرج عـ ــن الق ــوانين‪ ،‬ولـ ــه نـ ــواميس وطواب ــع وخصـ ــائص‪ ،‬تمكـ ــن‬
‫اإلنس ــان م ــن التفاع ــل معه ــا‪ ،‬لتد ــخيره س ــبحانه وتع ــالى م ــا ف ــي الس ــموات واألرض لدنس ــان كــي يق ــوم بوظيفت ــه‬
‫كخليف ــة ف ــي األرض‪ ،‬وم ــا يترت ــب عل ــى ذل ــك م ــن مس ــئوليات للقي ــام بالتفاع ــل وفق ــا لنظ ــام ص ــحيح‪ ،‬أو ن ــواميس‬
‫وطوابع وخصائص تمكـن األشـياء مـن البقـاء والتفاعـل وفـق نظـام الكـون ليجـري الكـون علـى سـنن معينـة‪ ،‬وفـق‬
‫نظــام مع ــين‪ ،‬لحص ــول غاي ــات معين ــة‪ ،‬وه ــذه الس ــنن تض ــبط وج ــود واس ــتقرار واس ــتمرار وفن ــاء وحرك ــة األش ــياء‪،‬‬
‫إذن‪ ،‬فاإليم ــان بال ق ــدر ه ــو أس ــاس م ــن أساس ــيات االعتق ــاد‪ ،‬يلف ــت النظ ــر إل ــى دق ــة الص ــنعة‪ ،‬وإل ــى النظ ــام‪ ،‬وإل ــى‬
‫عظمة الصانع سبحانه وتعالى‪ ،‬وإلـى السـنن والنـواميس التـي تسـير عليهـا حركـة املجتمعـات‪ ،‬والتـي يضـمن حسـن‬
‫اســتغاللها أن يقــوم نظــام العــدل والقســط فــي الــدنيا علــى أســاس صــحيح يتــآلف مــع قيــام الســموات علــى الحــق‬
‫والعدل‪ ،101‬وهذا هو معنى اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫‪ )47‬علينا تجنب الخلط في الفهم بين واقع القضاء والقدر وبين ما ينتج عنه من التسليم به‪ ،‬فال دخل لنا بالقضاء‬
‫والقــدر‪ ،‬وهــو يقــع بعلــم هللا وإرادتــه وقدرتــه‪ ،‬وأمــا مــا ينــتج عنــه مــن التســليم بــه فإنــه يــدخل فــي بــاب العقيــدة التــي‬
‫أمرنا فيها باإليمان بالقدر الذي قدره هللا تعالى‪.‬‬

‫‪ 100‬استفدنا في تحديد هذا الفهم من كتاب األستاذ علي السعود‪ :‬اإليمان بالقدر‪ ،‬بتصرف شديد‪.‬‬
‫‪ 101‬أنظر باب‪ :‬عدل هللا‪ ،‬تأمالت في مناظرة أخرى راوعة‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫القدرية الغيبية أفيون الشعوب‬
‫‪ )48‬تناولنا في كتاب‪( :‬ضوابط التعامل مع مسائل الصفات) خطأ املتكلمين األخطر في منهجهم في البحث والتفكير‪،‬‬
‫وال ــذي تمث ــل ف ــي وض ــع املس ــائل العقدي ــة ف ــي قال ــب غي ــر القال ــب ال ــذي كان ــت العقي ــدة اإلس ــالمية تؤس ــس ل ــه‪ ،‬مم ــا‬
‫ح ــرف دراس ــة العقي ــدة اإلس ــالمية ع ــن طريقته ــا املتمي ــزة‪ ،‬فتش ــابه ق ــال هم الجدي ــد م ــع قال ــب اليون ــان الفلس ــفي‬
‫املعرفي النظري الجاف املنبت عن الواقع‪ ،‬فحادوا عن طريقة عمـل هـذا املـنهج العقـدي القرآنـي (أي حـادوا عـن‬
‫اإلجـ ـراء العمليـ ــاتي الـ ــذي يفعـ ـل هـ ــذا املـ ــنهج ليكـ ـون أساسـ ــا تنبثـ ــق عنـ ــه نظـ ــم الحيـ ــاة‪ ،‬ولتنبثـ ــق عنـ ــه الحضـ ــارة‬
‫اإلسالمية طريقة في العيش)‪ ،‬وتسرب إلى املسلمين جراء فهمهم ملسألة القضاء والقدر وفق بح هم لهـا مـن تلـك‬
‫الزوايـا املختلفـة وخلطهــم بـين تلــك الزوايـا‪ ،‬تسـرب قالــب "التسـليم واالستســالم‪ ،‬ومـا هـو مكتــوب علـى الجبــين ال‬
‫بد أن تراه العين‪ ،‬قالب‪ :‬القعود والتواكل" الذي أف ى النتشار القدرية الغيبية بينهم‪ ،‬بدال من قالب العقيدة‬
‫الذي صبت فيه‪ ،‬وهو قالب اإليجابية والتحريك والدفع للقيام بالعمل على أفضل وجه‪ ،‬من هنا كان ال بد من‬
‫فصل القدر عن القالب الذي صب فيه‪ ،‬وإعادة مزجه بالقالب األصلي العقدي‪.‬‬
‫‪ )49‬إن هللا أمرنـا بااليمـان بالقـدر‪ 102‬خيـره وشـره (ونعنـي هنـا مـن معـاني القـدر بالتحديـد‪ :‬علـم هللا ومـا كتبـه فـي اللــوح‬
‫َّ َْ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ َْ َ‬ ‫َّ َ َ ْ َ‬ ‫املحفوظ ﴿ َأ َل ْم َت ْع َل ْم َأ َّن َّ َ‬
‫ّللا َا ْع َل ُم َ‬
‫ّللا َا ِسير﴾ [الحج ‪،)]70‬‬ ‫ض ۗ ِإن ذ ِلك ِفي ِكتاب ۚ ِإن ذ ِلك على ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ ْ‬ ‫و‬ ‫اء‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫الس‬ ‫ي‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ولكنه لم ُا ْع ِل ْمنا بما قدره لنا وكتبه علينا‪ .‬بل أمرنا بأوامر ظاهرة‪ ،‬ونهانـا عـن نـواه معينـة‪ .‬أعلمنـا بهـا‪ ،‬وبينهـا لنـا‪.‬‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫فخلـط االيمـان بمــا أمرنـا أن نـؤمن بــه (علـم هللا‪ ،‬وكتابتــه فـي اللـوح املحفــوظ)‪ ،‬بـاألوامر التـي أمرنــا بتنفيـذها‪ ،‬قــد‬
‫ُيفهـم بصـورة تلـبس علينــا وجـه العمـل‪ ،‬وكيفيــة السـير‪ ،‬حـين يتخــذ هـذه الغيبيـات تكئــة الختيـار األسـهل األهــون‬
‫عل ــى األش ــق األص ــعب ‪ ،‬ويح ــتج ال ــذي يخت ــار األس ــهل بالغيبي ــات‪ ،‬م ــع أن ــه ل ــم يطل ــع عليه ــا‪ ،‬في ــأتي م ــن ذل ــك الخل ــط‬
‫ُ‬
‫خطــر االستســالم والقعــود عــن األعمــال‪ ،‬أي إنــه قالــب دخيــل ُي َّتخــذ م ْْدخال لتحوي ْْل التوكْْل إل ْْى تواك ْْل‪ .‬مــع أن‬
‫الوضـع الســليم هــو أن يتخــذ اإليمــان بالغيــب دافعــا إيجابيـا للعمــل‪ ،‬وقيــادة فكريــة تــذلل الصــعاب وتبعــث علــى‬
‫الطمأنين ــة والتوكْ ْْل الح ْْق‪ ،‬واإلنس ــان محاس ــب عل ــى تفاعل ـه م ــع الخاص ــيات التــي ق ــدرها هللا ف ــي األش ــياء وعل ــى‬
‫نتيجته‪ ،‬ومأمور باألخذ باألسباب ومحاسب على التقصير‪ ،‬فاإليمان بالقدر‪ ،‬والتفاعل مع الخواص التي قدرها‬
‫هللا في األشياء موضوعان مختلفان!‬

‫‪ 102‬القــدر ف ــي بح ــث القدري ــة الغيبي ــة ل ــيس ه ــو الق ــدر نفس ــه ف ــي بح ــث "القضــاء والق ــدر"‪ ،‬فف ــي بح ــث القض ــاء والق ــدر يك ــون م ــداره ح ــول الجب ــر واالختي ــار‪ ،‬وحري ــة‬
‫اإلرادة‪ ،‬ومعنى القدر فيها هي خواص األشياء‪ ،‬وسنن املجتمعات التي قدرها هللا تعالى‪ ،‬وبحث القدرية الغيبية ال يتعلق بهذا املفهوم‪ ،‬أي إنه ال يــدور حــول ســؤال‬
‫هــل تقــوم بالفعــل مجب ـرا أم مخي ـرا؟ أمــا فــي بحــث الق ــدر ككلمــة منفصــلة‪ ،‬والتــي تبحــث قضــية القدريــة الغيبيــة ف ــي ظلهــا‪ ،‬فيقصــد بهــا علــم هللا وكتابــة كــل ش ـ يء ف ــي‬
‫اللــوح املحفــوظ‪ ،‬فالبحــث فيهــا يــدور حــول عــدم قــدرة اإلنســان علــى الوقــوف فــي وجــه مــا خطــه القلــم‪ ،‬ومــا ه ـو مكتــوب عليــه‪ ،‬أي إن القضــية أن الفعــل "مكتــوب‬
‫عليه"‪" ،‬واملكتوب على الجبين يجب أن تراه العين"‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫‪ )50‬روى الترمـذي عــن عبـادة بــن الصـامت قــال‪ :‬قـال رســول هللا ﷺ‪« :‬إن أول مـا خلــق هللا القلـم‪ ،‬فقــال‪ :‬اكتـب‪ ،‬قــال‪:‬‬
‫ما أكتب؟ قال‪ :‬اكتب القـدر‪ ،‬مـا كـان ومـا هـو كـائن إلـى األبـد ‪ ،‬فالكتابـة إنمـا هـي لتدـجيل أو تثبيـت مـا هـو كـائن‪،‬‬
‫ُ‬
‫أو ما تجري به املقادير حتى قيام الساعة‪ ،‬وما ك ِت َب في اللوح املحفوظ أيضا هـو علـم هللا بكيـف ستسـير األمـور‬
‫بحسب مقاديرها‪ ،‬وما سيجري‪ ،‬ومقدار كل ش يء خلقه هللا‪ ،‬وخصائصه‪ ،‬وكذلك علم هللا بكل تلك املقادير أو‬
‫ُ‬
‫األقـدار وعلمــه بمــا سـيجري‪ ،‬فالْْذي كتْْب هْْو القْْدر‪ ،‬علــى أن املــؤثر فـي حصــول األحــداث ووجـود األشــياء وفقــا‬
‫ملقـادير خاصـة‪ ،‬لـيس كـون ذلـك مكتوبـا ومدـجال‪ ،‬أي "ليسـت الكتابـة هـي املـؤثرة‪ ،‬بـل السـبب املـؤثر فـي ذلـك هـو‬
‫فعل هللا في قيوميته للسموات واألرض وتدبيره للخالئق"‪ ،103‬والكتابة وثقت ذلـك فـال تغييـر‪ ،‬وفعـل اإلنسـان فـي‬
‫تفاعلـه مــع الخصـائص تفــاعال ســببيا مـؤثر فــي حصــول األحـداث بحســب السـنن والنــواميس ومــا سـمحت بــه مــن‬
‫تمكين لدنسان بالتفاعل وفي الخصائص من سماح مقدر فيها‪.‬‬
‫‪ )51‬قــال العالمــة تق ــي الــدين الن هــاني رحم ــه هللا‪" :‬ممــا ال ش ــك فيــه أن الغيبيــات ن ــو مــن املخــرج الس ــهل مــن الض ــيق‬
‫واألزمــات‪ ،‬بــدال مــن تعميــق التفكيــر فــي األســباب واملســببات وهــو الطريــق الصــحيح للخــروج مــن الضــيق واألزمــات‪.‬‬
‫ولقــد مــرت األمــة اإلســالمية فــي فتـرات صــعبة كثيــرة‪ .‬وكانــت تخــرج مــن الضــيق واألزمــات بــالتفكير املســتنير الجتيــاز‬
‫تل ــك األزم ــات‪ .‬بمعرف ــة األس ــباب واملس ــببات‪ ،‬وبالت ــالي التفكي ــر ف ــي األس ــباب واملس ــببات ‪ ...‬والثغ ــرة التــي ي ــدخل منه ــا‬
‫اللج ــوء إل ــى الغيبي ــات ل ــدى املس ــلمين ه ــي اإليم ــان بالقض ــاء والق ــدر‪ ،‬واليق ــين ب ــأن هللا ه ــو ال ــذي يخل ــق كــل ش ـ يء‪،‬‬
‫ويفع ــل كــل ش ـ يء فك ــان املخ ــرج الس ــهل أن يتك ــل امل ــرء عل ــى الق ــدر‪ .‬ذل ــك أن "األم ــر ُمق ـ َّدر"‪ ،‬وأن هللا ه ــو الفع ــال‪،‬‬
‫فل ــتكن مش ــيئة هللا‪ ،‬ول ــيكن م ــا أراده هللا‪ .‬هك ــذا بك ــل بس ــاطة‪ ،‬يج ــري القع ــود ع ــن التفكي ــر باألس ــباب واملس ــببات‬
‫ويستسلم لالقدار! ‪...‬‬
‫والحقيقة كذلك هي أن هللا أراد بنا أشياء‪ ،‬وأراد منا أشياء‪ ،‬فما أراده بنا طواه عنـا ومـا أراده منـا أمرنـا بـه‪ ،‬فـنحن‬
‫لم نطلع على قدر هللا ألنه مطوي عنا‪ ،‬فـال نعلمـه وال يمكـن أن نعلمـه‪ ،‬وأمـا مـا أراده منـا فقـد أمرنـا بالقيـام بـه‪... ،‬‬
‫فالل تعالى‪ ،‬قد خلق الوجود‪ ،‬وخلق له قوانين‪ ،‬وخلق النـاس وخلـق لعيشـهم قـوانين‪ .‬وأمـرهم بـأوامر ونهـاهم عـن‬
‫نــواه‪ ،‬فيج ْْب أن ال يخلط ْْوا م ْْا أم ْْرهم باإليم ْْان ب ْْه م ْْن األم ْْور‪ ،‬بم ْْا أم ْْرهم بالقي ْْام ب ْْه م ْْن األعم ْْال‪ 104،‬فه ــذا‬

‫‪ 103‬اإليمان بالقدر‪ ،‬علي السعود‪ ،‬ص ‪ 163‬بتصرف‪.‬‬


‫ُ‬
‫‪[ 104‬مثال عملي‪ :‬فصل موظف من العمل‪ ،‬وهذا أمر مقدر من هللا‪ ،‬فقد يتصرف بأن يقعد عن البحث عن عمل محتجا أو مقتنعا بأنه مقدر عليه الشــقاء وأن‬
‫اعاني‪ ،‬وفي الواقع هو ال اعلم هل مكتوب عليه الشقاء أم السعادة! فال يص أن يخلط "قنوطه" وتخريصه بأنه مكتــوب عليــه الشــقاء بعملــه‪ ،‬فهــذا الخلــط هــو‬
‫أي تفكيــر يضــع فــي االعتبــار أنــه مكتــوب عليــه كــذا أو كــذا‪ .‬ألنــه ال اعلــم‪ ،‬فلعــل فــي فصــله مــن عملــه األول خيــر لــه‪،‬‬ ‫صـ َل عــن العمــل ُّ‬‫القدريــة الغيبيــة‪ ،‬ويجــب أن ُي ْف َ‬
‫فح ــين اس ــعى ويحص ــل عل ــى العم ــل الجدي ــد يج ــده أفض ــل م ــن س ــابقه (ف ــي دني ــاه وعاقب ــة أم ــره)‪ ،‬وأن عمل ــه الس ــابق كــان مق ِي ـدا ل ــه ع ــن البح ــث ع ــن عم ــل أفض ــل‪،‬‬
‫َّ‬
‫فخلصه هللا من هذا القيد‪ ،‬لذلك فاملوقف السليم هو أن يتصرف بأن يأخذ باألسباب ويبحث عن عمل جديد‪ ،‬وحصوله على عمله الجديد األفضل هو بقدر‬
‫هللا أيضا‪ ،‬لم يكن اعلمه‪ ،‬ولكن حسن ظنه بالل‪ ،‬وأن ما يأتيه من هللا كله خير‪ ،‬وما أصابه ما كان ليخطئه‪ ،‬وإيمانه بأن الــرزق مــن عنــد هللا‪ ،‬كلهـا شــكلت عنــده‬
‫دافع ــا لديجابي ــة والس ــعي والهم ــة والطمأنين ــة ب ــدال م ــن االرتك ــاس والي ــأس والقن ــوط ال ــذي تدفع ــه ل ــه القدري ــة الغيبي ــة والقع ــود‪ ،‬ل ــذلك ينبغ ــي فص ــل العم ــل ع ــن‬
‫‪94‬‬
‫َ ُ ََُ‬
‫الخلط هو الذي اسبب الغيبية ُوي َّتخذ تكئة للجوء اليها‪ .‬فهو لم يأمرهم بالعمل على أنه قادر على خرق القوانين‬
‫والن ــواميس‪ ،‬وإنم ــا أم ــرهم باإليم ــان بأن ــه ق ــادر عل ــى كــل ش ـ يء‪ ،‬وأم ــرهم بالعم ــل وف ــق ه ــذه الق ــوانين والن ــواميس ‪...‬‬
‫لذلك يجب التفريق بين ما يجب اإليمان به وما يجب العمل فيه‪ .‬وما لم يحصل هذا التفريق ُوي َّتقى الخلط فإنه‬
‫ستظل الغيبيات تتسرب إلى النفوس‪ ،‬وستظل الناس تتخذ الغيبيات تكئة للخروج إلى األسهل األهون في الضيق‬
‫واألزمات‪ ،‬وال سيما في الفترات الصعبة من الحياة"‪.105‬‬
‫‪ )52‬قال العالمة تقي الدين الن هاني رحمه هللا (بتصرف)‪" :‬وكذلك فإن علم هللا بأن األمر الفالني سيحصل ال اعني‬
‫عــدم األخ ْْذ باألس ْْباب واملس ْْببات وعــدم رب ْْم األس ْْباب بمس ْْبباتها‪ ،‬ألن عل ــم هللا لــم ينكش ــف ألح ــد‪ ،‬حتــى اعل ــم‬
‫ُ‬
‫الشـ يء وال يأخــذ بأســبابه‪ ،‬فالكتابــة‪ ،‬والقــدر اســتحيل أن تعــرف مــن ِق َبـ ِل الخلــق حتــى يحكمــوا علــى وقــو الشـ يء‬
‫وعدم وقوعه‪ ،‬فال يص أن يتركوا األخذ باألسباب واملسببات بِجة القدر والكتابة‪ ،‬ألن ذلك ربط بمجهول‪ ،‬بل‬
‫ال بد من األخذ باألسباب واملسببات دون ربطها بالقدر [ما كتب في اللوح املحفوظ]‪ ،‬أي دون التفكير به‪ ،‬ولهـذا‬
‫فإن عمر بن الخطاب استنكر على أ ي عبيدة حين ربط القدر باألخذ باألسباب واملسببات‪ ... ،‬فهذا الحوار بـين‬
‫عمر وأ ي عبيدة‪ ،‬واستنكار عمر العتراض أ ي عبيدة‪ ،‬يدل على أن االثنين عمـر وأبـا عبيـدة كانـا يفهمـان أن قـدر‬
‫هللا اعني علم هللا‪ ،‬غير أن عمـر كـان يـرى أن قـدر هللا ال دخـل لـه فـي موضـو ربْْم األسْْباب باملسْْببات‪ ،‬فالـذهاب‬
‫إلـى الشـام مـع وجـود الطـاعون قــد يتسـبب عنـه مـوت‪ ،‬والرجـو أخْْذ باألسْْباب واملسْْببات للنجـاة مـن الطــاعون‪،‬‬
‫ولهـذا أنكــر علــى أ ــي عبيــدة أن اعتــرض عليـه فقــال لــه‪" :‬لــو غيــرك قالهــا يــا أبـا عبيــدة" ولــم يكتــف بــذلك‪ ،‬بــل شــرح‬
‫رأيــه بــأن الــذهاب إلــى الشــام ذهــاب بقــدر هللا‪ ،‬والرجــو إلــى املدينــة رجــو بقــدر هللا‪ ،‬أي بعلــم هللا‪ .‬ممــا يرشــد ب ــأن‬
‫القدرال يصح أن يربم باألعمال‪ ،‬وال يص أن يترك األخذ باألسباب واملسببات بحجة القدر‪،‬‬
‫وإذا كان القدر [أي علم هللا] ال يجبـر العبـد علـى القيـام بالعمـل‪ ،‬بـل يقـوم بـه مختـارا‪ ،‬بـدليل محاسـبة هللا للعبـاد‬
‫علـى أعمـالهم‪ ،‬وقـد رفـع عـنهم مـا اسـتكرهوا عليـه‪ ،‬أي مــا أجبـروا علـى القيـام بـه‪ ،‬وإذا كـان القـدر ال يصـ أن يتكــل‬
‫عليه بدليل نهي الرسول ﷺ عن االتكال عليه وأمره بالعمل‪ ،‬وإذا كان القدر [بمعنى علم هللا‪ ،‬وما كتب فـي اللـوح‬
‫املحف ــوظ] ال يص ـ أن ت ــربط ب ــه األعم ــال ألن ــه مجه ــول لن ــا‪ ،‬وال يص ـ أن يت ــرك األخ ــذ باألس ــباب واملس ــببات بِج ــة‬
‫القــدر‪ ،‬كم ــا يرش ــد إل ــى ذل ــك فه ــم عم ــر للق ــدر‪ ،‬وإنك ــاره عل ــى أ ــي عبي ــدة اعتراض ــه عل ــى ه ــذا الفه ــم‪ ،‬إذا كــان الق ــدر‬
‫كذلك فإنه يظهر بوضـوح أن القدرية الغيبية مخالفة للشْْرع كْْل املخالفْْة‪ ،‬بـل جـاء الشـر بـالنهي عـن االتكـال‬
‫علــى القــدر‪ ،‬وأمــر الشــر ُ بالعمــل‪ ،‬وهــي فكــر [قالــب] غيــر إســالمي تســرب للمســلمين مــع مــا تســرب إلــيهم مــن أفكــار‬

‫القالــب األول (قالــب القدريــة الغيبيــة) ودمجــه بالقالــب الثــاني‪ :‬أي الطمأنينــة واإليجابيــة والثقــة بــالل‪ ،‬دون أن يضــع فــي حســاباته حــين الســعي بحــث أن هللا قـ َّـدر‬
‫علي فصلي من العمل‪ ،‬والشقاء‪ ،‬وهو مكتوب‪ ،‬ونتيجته الطبيعية املعانــاة ونقــص فــي األمــوال‪( ،‬فالفصــل عــن قالــب القدريــة الغيبيــة هــو املطلــوب) لكــن ال يمكــن‬ ‫َّ‬
‫أن نفصل املسلم عن فهم القدر اإليجا ي املبني على الثقة بالل وأنه الرزاق‪ ،‬فهذا قالب إسالمي عقدي‪ ،‬وفي كل األحوال ينبغي السعي واألخذ باألسباب]‪.‬‬
‫‪ 105‬جواب سؤال عن الغيبيات واألسباب واملسببات ‪ 1974‬تقي الدين الن هاني‪،‬‬
‫‪95‬‬
‫الفرس واليونان‪ ،‬بـل هـي تنـاقض أفكـار اإلسـالم‪ ،‬للنهـي الصـريح عنهـا‪ .‬ولهـذا ال بـد مـن مقاومتهـا للقضـاء عليهـا وهـي‬
‫من أخطر األفكار على حيوية األمة اإلسالمية‪ ،‬بل على حيوية جميع الشعوب وجميع األمم‪.‬‬
‫وإذا كانــت القدريــة الغيبيــة تعتبــر بحــق أفيــون الشــعوب ألنهــا تقت ـ ي االستســالم لألقــدار والتواكــل عليهــا وت ــبط‬
‫الهمـم وتميــت العـزائم‪ ،‬فْْإن اإليمْْان بالقْْدر[علْْم هللا] يبعْْث علْْى الج ْرأة واإلقْْدام‪ ،‬وعــدم املبــاالة بمــا اعتــرض‬
‫طريــق املــؤمن مــن مخــاطر وصــعاب‪[ ،‬أي إن اإليمْْان بالقْْدر يشْْكل‪ :‬قيْْادة فكريْْة إيجابيْْة تْْدفع املْْؤمن للعمْْل‬
‫َ ْ َّ‬ ‫ُ َ َ ُ َ َ ْ ََ َ َ َ‬ ‫ُ َّ ُ َ َ َّ َ َ َ‬
‫ّللا فل َي َت َوكـ ـ ِل‬
‫ولتْ ْْذليل الصْ ْْعاب] فال ــذين يؤمن ــون بأن ــه ﴿ق ـل لـ ـن ي ِص ـيبنا ِإال م ـا كتـ ـ َب ّللا لن ـا ه ـو موالنـ ـا وعل ـى ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ُْ ْ ُ َ‬
‫﴿لك ِل أ َجل ِك َتاب﴾ [‪ 38‬الرعد]‪ ،‬وأن ما من ش يء يقع إال بقدر هللا‪ ،‬هؤالء املؤمنون‬ ‫املؤ ِمنون﴾ [‪ 51‬التوبة]‪ ،‬وبأن ِ‬
‫إذا اعتزم ـ ــوا أم ـ ـرا اتخْ ْ ْْذوا لْ ْ ْْه أسْ ْ ْْبابه‪[ ،‬أي‪ :‬درس ـ ــوا الق ـ ــدر بمعنـ ــى الس ـ ــنن والن ـ ــواميس والخص ـ ــائص‪ ،‬وذللوه ـ ــا‬
‫واستعملوها‪ ،‬واطمأنوا إلى أمر هللا فما أصابهم فهـو مـا كتـب هللا لهـم ال علـيهم] مضـوا فيـه قـدما ال يصـدهم دونـه‬
‫خطر‪ ،‬وال يقعدهم عنه بالء أو ضرر‪ ،‬وال تقـف فـي وجههـم العقبـات‪ ،‬ألنهـم يؤمنـون أن مـا قـدره هللا سـيقع قطعـا‪،‬‬
‫وإن ليس عليهم إال األخذ باألسباب واملسببات‪ ،‬والنظر في األمور‪ ،‬والتدبر فيها إلحسان التصرف‪ ،‬حتى إذا نضج‬
‫الرأي عندنا وعزمنا‪ ،‬وجب أن نغض الطرف عن كل ما سوى هذا األمر‪ ،‬فإنه ال يقع فْي الوجْْود إال مْْا قْْدره هللا‪.‬‬
‫وهذا هو ما كان عليه رسول هللا ﷺ في كل أعماله‪ ،‬في بدر‪ ،‬وفي حنين‪ ،‬في الهجرة يوم بيتوا قتله‪ ،‬وفي غشـيانه أبـا‬
‫جهل يطلب منه أن يدفع املال لصاحبه‪ ،‬وأبو جهل كان ينتظر الفرصة إليذائه‪ .‬وهذا هو ما كان عليـه الصـحابة‬
‫رضــوان هللا علــيهم يــوم انــدفعوا فــي الفتوحــات‪ ،‬ويــوم خــرج إلــى العــالم يحملــون لــه رســالة اإلســالم‪ ،‬وعليــه فالق ْْدر‬
‫[بمعانيه السابقة] غيرالقدرية الغيبية‪ ،‬بل هو على النقيم منهْْا‪ ،‬فإنهـا تميـت األمـم‪ ،‬واإليمْْان بالقْْدريحييهْْا‬
‫ويدفعها لإلقدام‪ ،‬والسير قدما لتحقيق عظائم األمور وأسمى الغايات‪106".‬‬

‫بخالف من لم يأخذ باألسباب فإنه يلقى جزاء التقصير‪ ،‬فتم ي فيه عواقب السـنن‪ ،‬فمـن لـم يـدرس لـن يـنج ‪،‬‬
‫ومـن لــم اعــد العــدة ويجاهــد لــن ينتصـر‪ ،‬وال يصـ لــوم القــدر حينهــا! وهــا هـو رســول هللا ﷺ حــين هــاجر أخــذ بكــل‬
‫األســباب‪ ،‬فم ــوه علــى أعدائ ــه‪ ،‬وقصــد الجن ــوب بــدال م ــن الش ــمال‪ ،‬واســتأجر م ــن يطمــس آث ــاره‪ ،‬ومــن يأتي ــه ب ــالزاد‬
‫واألخبار‪ ،‬واختبأ في الغار‪ ،‬واستأجر دليال خريتـا كفـؤا‪ ،‬اعـرف الطريـق مـع أنـه كـان كـافرا‪ ،‬وهكـذا‪ ،‬أخـذ باألسـباب‬
‫َّ‬
‫وكأنهــا كــل شـ يء‪ ،‬ثــم توكــل علــى هللا تعــالى‪ ،‬وقــال أل ــي بكــر ربـ ي هللا عنــه‪« :‬مــا ظنــك يــا أبــا بكــر بــاثنين ّللا ثال همــا !‬
‫كثيرون من املسلمين اليوم ينامون‪ ،‬ويرفعون أكف الضراعة‪ :‬يا رب عليك بهم! وهذا من قلة األدب مع هللا تعالى‬
‫ألنه أمر باألخذ باألسباب واإلعداد والعمل ال القعود والججز واستبدال الدعاء بالعمل!‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ ْ َ َ َّ َ َ َ‬
‫ّللا ق ـ َتل ُه ْم َو َم ـا َر َم ْي ـ َت ِإذ َر َم ْي ـ َت َول ـ ِـك َّن ّللا َر َم ـى﴾ ق ــد ق ــال‬
‫َ‬ ‫"والحقيق ــة ه ــي أن هللا كم ــا ق ــال ﴿فل ـم تقتل ـوهم ول ـ ِـكن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ََ ُ ُ‬
‫ّللا ذ ِلك ْم خ ْير لك ْم ِإن كن ُت ْم ت ْعل ُمون﴾ [‪ 41‬التوبة]‪،‬‬ ‫َ‬
‫﴿ان ِف ُروا ِخفافا و ِثقاال وج ِاهدوا ِبأ ْمو ِالك ْم وأنف ِسك ْم ِفي س ِب ِيل ِ‬

‫‪"( 106‬إزالة األتربة عن الجذور" ربط األفكار واألحكام بالعقيدة اإلسالمية‪ ،‬لحزب التحرير‪ ،‬وما بين األقواس [] تعليق مني)‬
‫‪96‬‬
‫ُ‬ ‫يك ْم غ ْل َظـة﴾ [‪ 123‬التوبــة]‪َ ،‬‬
‫﴿و ْاق ُت ُلـ ُ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ ْ َّ َ َ ُ َ ُ َ ْ ُ َّ َ َ ُ ْ ُ‬
‫وه ْم َح ْي ـث‬ ‫ِ‬ ‫﴿يـا أَهـا الـ ِذين آمنـوا قـا ِتلوا الـ ِذين يلـونكم ِم ـن الكفـ ِار وِلي ِجـدوا ِفـ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َْ ُ َ َْ ُ ُ‬ ‫وه ْم َو َأ ْخر ُج ـ ُ‬
‫َثق ْف ُت ُم ـ ُ‬
‫﴿وأل ـف َب ـ ْي َن قل ـ ِوب ِه ْم ل ـ ْو أ َنف ْق ـ َت َم ـا ِف ـي‬ ‫وك ْم﴾ [‪ 191‬البق ــرة]‪ ،‬وكم ــا ق ــال‪َ :‬‬ ‫وهم ِم ـن حي ـث أخرج ـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض َج ِميعــا َّمـا ألفـت َبـ ْين قلـ ِوب ِه ْم َولـ ِـك َّن ّللا ألـف َب ْي ـن ُه ْم ِإنـه َع ِزيــز َح ِكـيم﴾ [‪ 63‬األنفــال]‪ ،‬قــد قــال ﴿واعت ِص ـموا‬ ‫ِ‬ ‫األ ْر‬
‫َ ََ‬ ‫ُ َ‬ ‫ب َح ْبـ ـل ّللا َجميعـ ـا َو َال َت َف َّر ُقـ ـ ْوا﴾ [‪ 103‬آل عمـ ـران]‪﴿ ،‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا ُيحـ ـ ُّب ا َّلـ ـذ َ‬
‫صـ ـفا ـك ـأ َّن ُهم ُبن َيـ ـان‬ ‫ين ُي َقـ ـا ِتلون ِفـ ـي َسـ ـ ِب ِيل ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫صوص﴾‪ 4[ .‬الصف]‪107 .‬‬ ‫َّم ْر ُ‬

‫السببية والقدر‪ ،‬بين اإليجابية والسلبية في الفهم والتطبيق‪:‬‬


‫‪ )53‬إذن‪ ،‬ح ــين أس ــاء بع ــض املس ــلمين فه ــم مس ــألة الق ــدر؛ (عل ــم هللا‪ ،‬وم ــا كت ــب ف ــي الل ــوح املحف ــوظ)‪ ،‬واستس ــلموا‬
‫للقــدر‪ :‬بمعنــى أنــه مكتــوب وال اســعهم عمــل شـ يء غيــره (مــع جهلهــم إيــاه‪ ،‬فربطــوا تــدبيرهم بــاملجهول‪ ،‬وقعــدوا عــن‬
‫الت ــدبير)‪ ،‬وبمعنــى أن ــه ُم َق ـ َّدر‪ :‬فق ــالوا‪ :‬ل ــتكن مش ــيئة هللا‪ ،‬ول ــيكن م ــا أراده هللا‪ ،‬وتحول ــوا ع ــن التوكــل إل ــى التواكــل‪،‬‬
‫فالقدريـة الغيبيـة قوامهـا هـو عـدم تفريـق املــؤمن بهـا بـين علـم هللا بمـا هـو ـكـائن إلـى يـوم القيامـة‪ ،‬وكتابتـه فـي اللــوح‬
‫املحفـوظ‪ ،‬وبـين قـدرة اإلنسـان علـى االختيـار والتخطـيط واألخـذ باألسـباب‪ ،‬مـن هنـا ظـن املـؤمن بالقدريـة الغيبيــة‬
‫عدم قدرة اإلنسان على الوقوف في وجـه مـا خطـه القلـم ومـا هـو مكتـوب ومقـدر عليـه‪ ،‬وسـلم تسـليما مطلقـا بـأن‬
‫أفعال ــه مس ـيرة به ــذا املكت ــوب ال اس ــتطيع دفع ــه‪ ،‬فاإلخف ــاق ‪-‬وه ــو نتيج ــة الفع ــل‪ -‬مق ــدر عن ــده‪ ،‬والنج ــاح ‪-‬ك ــذلك‪-‬‬
‫مقــدر عليــه‪ ،‬ف ــي وقتــه ومكان ــه وظروفــه كمــا ي ــؤمن‪ ،‬وأنــه ال يمل ــك الخيــار الــذي يمكن ــه مــن األخ ــذ بأســباب النج ــاح‬
‫وتجنب اإلخفـاق‪ ،‬فاألفعـال يفعلهـا القـدر‪ ،‬أي يوقعهـا هللا تعـالى عليـه جبـرا عنـه‪ ،‬وإرادتـه مشـلولة‪ ،‬ويقـوم بالفعـل‬
‫كيفمـا اتفــق‪ ،‬مــع أنــه ال اعلــم مــا هــو مقــدر عليــه أصــال‪ ،‬ال اعلــم أي شـ يء عمــا قــدره هللا تعــالى‪ ،‬ولــم يطلــب ُ‬
‫هللا منــه‬
‫ربـط أفعالــه بغيــب لـم يطلــع عليــه‪ ،‬ال قبـل القيــام باألفعــال‪ ،‬وال حـين القيــام بهــا‪ ،‬بـل طلــب منــه تفاعـل أســبابه مــع‬
‫الخص ــائص التــي ق ــدرها هللا ف ــي األش ــياء‪ ،‬والس ــنن التــي أق ــام هللا املجتمع ــات عليه ــا‪ ،‬بغي ــة تحقي ــق الغاي ــات‪ ،‬في ــأتي‬
‫قائلهم ويقول‪ :‬لن أعمل‪ ،‬ولن آكل‪ ،‬أو لن أتخير بين أن أفعل كذا أو كذا بعـد دراسـة للموضـو ‪ ،‬طاملـا أن مـا شـاء‬
‫هللا كــائن‪ ،‬وم ــا ل ــم اش ــأ ل ــن يك ــون‪ ،‬وطامل ــا أن كــل ش ـ يء اس ــير حس ــب إرادة هللا‪ ،‬ونق ــول ل ــه‪ :‬ص ــحيح أن م ــا ش ــاء هللا‬
‫كائن‪ ،‬وأن كل ش يء اسير بحسـب إرادتـه وعلمـه‪ ،‬فـال يحـدث جبـرا عنـه‪ ،‬ولكـن النتيجـة التـي خرجـت بهـا مـن فهمـك‬
‫خطــأ‪ ،‬وهــي أن علــى اإلنســان أن استســلم لألقــدار‪ ،‬والصــحيح أنــه مكلــف ومســؤول‪ ،‬ومحاســب‪ ،‬ومطالــب باألخــذ‬
‫َ َّْ ْ‬ ‫َ ٓ َ َ‬ ‫َ‬ ‫باألس ــباب ﴿ َّم ـ ْن َعم ـ َل َْ‬
‫ص ـ ِلحا ف ِل َن ْف ِس ـ ِهۦ َو َم ـ ْن أ َس ـا َء ف َعل ْي َه ـا ۗ َو َم ـا َرُّب ـ َك ِبظل ـ ۢم ِلل َع ِبي ـ ِـد﴾ [فص ــلت ‪ ،]46‬فالرس ــول ﷺ‬ ‫ِ‬
‫اختبأ في الغار ولم يقل "السـترة علـى هللا"‪ ،‬وحفـر الخنـدق‪ ،‬وكـتم عـن جـل أصـحابه خطـة فـتح مكـة‪ ،‬فهـو قـد قـام‬
‫بالفع ــل حس ــب م ــا يقتض ــيه الفع ــل‪ ،‬وأن ــه ‪-‬وإن كــان ف ــي املحص ــلة س ــيفعل فع ــال عل ــم هللا أن ــه فاعل ــه‪ ،‬إال أن ــه فعل ــه‬
‫بإرادته هو‪ ،‬وبتخطيطه هو‪ ،‬وباختياره هو‪ ،‬وسيحاسب على اختياره‪.‬‬

‫‪ 107‬جواب سؤال عن الغيبيات واألسباب واملسببات ‪ 1974‬تقي الدين الن هاني‪،‬‬


‫‪97‬‬
‫ولم يلتفتوا إلى معنى القـدر بأنـه السـنن والنـواميس والخصـائص التـي علـيهم أن يحسـنوا التفاعـل معهـا ودراسـتها‪،‬‬
‫ُ َّ ُ َ َ َّ َ َ َ َ ُ َ‬
‫ّللا ل َنـا ُهـ َو‬ ‫واألخـذ بأســبابها‪ ،‬ولــم يلتفتــوا إلــى أن القــدر اعطــيهم إيجابيــة فـي التفكيــر‪﴿ ،‬قـل لـن ي ِصـيبنا ِإال مـا كتـب‬
‫َْ‬ ‫ۡ َ ۡ َ َ ٓ َ ُ ُ ۡ َّ‬ ‫اب مـن ُّمصـ َ‬ ‫صـ َ‬ ‫َم ْو َال َنـا َو َع َلـى ّللا َف ْل َي َت َو َّكـل ْاملُ ْؤم ُنـو َن﴾ [التوبــة ‪َ ﴿ ،]51‬مـ ٓا َأ َ‬
‫ض وال ِفـي أنف ِسـكم ِإال ِفـي ِكت ـب‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫ٱأل‬ ‫ي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ة‬ ‫يب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ۡ َ َ ۡ َ ۡ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ۡ َ َ َ ۡ َ ُ ْ َ ٓ َ َ ْ ُ ۡۗ َ َّ ُ َ ُ ُّ َُّ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َ َّ ۡ َ َ َ ٓۚ َّ َْ َ َ َ َّ‬
‫ٱلِل ا ِسير ۝ ِلكيال تأسوا على ما فـاتكم وال تفرحـوا ِبمـا ءاتٰكـم وٱلِل ال ي ِحـب كـل‬ ‫ِمن قب ِل أن نبرأها ِإن ذ ِلك على ِ‬
‫َ‬
‫ُم ۡخ َتـال ف ُخـور﴾ [الحديــد ‪ ،]23-22‬فانقلــب معنــى اإليمــان بالقــدر عنــدهم مــن اإليجابيــة التــي ـكـان يجــب أن يكــون‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عليــه‪ ،‬إلــى الســلبية والتواكــل والقعــود والتقصــير‪ ،‬ومــن ذلــك مــا رواه ابــن عبــادة بــن الصــامت‪َ :‬دخلـ ُـت علــى ُعبــادة‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُْ ُ‬
‫أجلســوني‪ ،‬فل َّمـا أجلســوه قـال‪ :‬يــا ُب َنـ َّي‪،‬‬ ‫ْ‬
‫وهـو مـريض أتخايـ ُل فيــه املـوت‪ ،‬فقلـت‪ :‬يـا أبتــاه‪ ،‬أو ِصـني واجت ِهـد لــي‪ ،‬فقـال‪ِ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُْ‬
‫بالق َد ِر خ ِيره وش ِره‪ ،‬قال‪ :‬قل ُت‪ :‬يا أبتاه‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ َ‬
‫ؤمن‬ ‫ْ َ ُ َ َ َّ َ‬ ‫طع َم َط َ‬ ‫لن َت َ‬ ‫َّإن َك ْ‬
‫بالل حتى ت ِ‬ ‫قيقة ال ِع ِلم ِ‬ ‫اإليمان‪ ،‬ولن تبلغ حق ح ِ‬ ‫ِ‬ ‫عم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫أن أع َل ـ َم م ــا َخي ـ ُـر ال َق ـ َدر م ـن َش ـره؟ ق ــال‪َ :‬تع َل ـ ُم َّ‬
‫أن م ــا أخط ـأ َك ل ــم َيك ـ ْن ُليص ـ ُـيب َك‪ ،‬وم ــا أص ـ َـاب َك ل ــم َيك ـ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وكي ــف ل ــي ْ‬
‫ُ َّ َّ َ َ َ َ ُ َ ُ‬ ‫ُلي ُ َ ُ َ‬
‫القل ـ ُـم‪ ،‬ثـ َّم ق ــال‪ :‬اك ُت ـ ْب‪ ،‬ف َجـرى ف ــي تل ــك‬ ‫هللا ﷺ يق ــول‪« :‬إن أول م ــا خلـق هللا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫خطئـك‪ ،‬ي ــا بنـ َّي‪ ،‬إ ِن ـي س ـ ِمعت رســول ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫النار‪َ.‬‬ ‫لت َّ‬ ‫ولست على ذلك َد َخ َ‬ ‫َ‬ ‫إن متَّ‬ ‫الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ‪ ،‬يا ُب َن َّي‪ْ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫هللا ﷺ يوم ـا ق ــال ي ــا غ ـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أعل ُم ـك كلم ــات‪:‬‬ ‫ـالم‪ ،‬إن ــي ِ‬ ‫وع ــن عب ــد هللا ب ــن عب ــاس رب ـ ي هللا عنهم ــا‪« :‬كن ــت خل ــف رس ــو ِل ِ‬
‫ـتعن َت فاســتع ْن بــالل‪ ،‬واعلـ ْـم َّ‬ ‫هللا‪ ،‬وإذا اسـ ْ‬ ‫ـألت فاســأل َ‬ ‫هللا تجـ ْده ُتجا َهـك‪ ،‬إذا سـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫احفـ ِ هللا يحفظـك‪ ،‬احفـ ِ‬
‫هللا لـك‪ ،‬وإن اجتمعـوا علـى أن ي ُ‬ ‫اجتمعت على أن ينفعوك بش يء‪ ،‬لم ينفعوك إال بش يء قـد كتبـه ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضـ ُّروك‬ ‫لو‬ ‫األمة‬
‫ُّ َ ۢ‬ ‫ُّ ُ َ ِ َ ٓ َ‬
‫وج َّف ـ ِت الصـحف‪﴿ ، .‬م ـا أصـاب ِم ـن م ِصـيبة ِف ـى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـالم َ‬ ‫هللا عليــك‪ُ ،‬ر ِف َع ـ ِت األقـ ُ‬ ‫ضـروك إال بش ـ يء قــد كتب ــه ُ‬ ‫بشـ يء ل ــم ي ُ‬
‫َ َ َّ ْ َ َ ٓ َّ َْ َ َ َ َّ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ ْ َ َ َ ُ ُ َّ‬
‫ٱلِل َا ِس ـير﴾ [الحديــد ‪َ ﴿ ،]22‬و َمـا ِم ـ ْن َدا َّبـة ِف ـي‬ ‫ض وال ِفـ ٓى أنف ِسـك ْم ِإال ِف ـى ِكتـ ۢب ِم ـن ق ْبـ ِل أن نب َرأهـا ۚ ِإن ذ ِل ـك علـى ِ‬ ‫ٱألر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اح ْيـه إال أ َمـم أ ْمثـالك ْم ۚ َمـا ف َّرط َنـا فـي الكتـاب مـ ْن شـ ْيء ۚ ثـ َّم إلـ ْى َ بهـ ْم ُي ْحشـ ُر َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ ََ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫األ ْر َ‬ ‫َْ‬
‫ون﴾ [األنعــام‬ ‫ِ ِر ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ض وال طـا ِئر ي ِطيــر ِبجن ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ ]38‬معناها إال أمـم أمثـالكم مكتـوب أرزاقهـا‪ ،‬وآجالهـا وأعمالهـا‪ ،‬كمـا كتـب أرزاقكـم وآجـالكم وأعمـالكم‪ ،‬مـا تركنـا‬
‫وم ــا أغفلن ــا ف ــي الل ــوح املحف ــوظ م ــن ش ـ يء‪ ،‬ف ــأطلق الكت ــاب عل ــى الل ــوح املحف ــوظ‪ ،‬أي كــل ش ـ يء مكت ــوب ف ــي الل ــوح‬
‫َ ٓ َّ ۢ ْ َ ْ َّ َ َ َّ ُ‬
‫ٱلِل ِر ْزق َهـا‬ ‫ض ِإال علـى ِ‬
‫ََ‬
‫املحفــوظ‪ ،‬وهــذا كنايــة عــن علــم هللا‪ ،‬أي مــا مــن شـ يء إال وهللا اعلمــه‪﴿ .‬ومـا ِمـن دابـة ِفـى ٱألر ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َو َي ْعل ـ ُم ُم ْس ـ َت َق َّر َها َو ُم ْس ـ َت ْو َد َع َها ۚ كـل ِف ـى ِك َت ـ ۢب ُّم ِب ـ ۢين﴾ [ه ــود ‪ ،]6‬وم ــن عل ــم أن رزق ــه عل ــى هللا وأجل ــه بي ــد هللا‪ ،‬وأن م ــا‬
‫وأن أحــدا ال يمل ــك لــه نفع ــا وال ضـرا إال هللا تعــالى‪ ،‬وأن رزق ــه وأجلــه لــيس بي ــد أحــد غي ــر‬ ‫أصــابه لــم يك ــن ليخطئــه‪َّ ،‬‬
‫أن يقـو َل ب َحـق إذا‬ ‫هللا‪ ،‬وال يطـول عمـره‪ ،‬وال يقصــر‪ ،‬روى أبـو سـعيد الخــدري‪َ « :‬أال ال َيم َـن َع َّن أ َحـ َدكم َ ْهبـ ُـة ال َّنـاس ْ‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫بعظيم ‪ ،‬فاملؤمن الذي يدمج‬ ‫بحق أو ُيذك َر َ‬ ‫أن يقو َل َ‬ ‫أجل‪ ،‬وال ُيباع ُد من ر ْزق؛ ْ‬ ‫َ‬ ‫فإنه ال ُي ُ‬ ‫َ ُآه أو َشه َده؛ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ل‬ ‫ِ‬ ‫قرب من ل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫إيمانه بهذه املعاني للقدر مع أفعاله‪ :‬ال يخش ى إال هللا‪ ،‬وال يتهاون في أداء أمر بمعـروف وال نهـي عـن منكـر مخافـة‬
‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َّ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َّ َ َ َ‬
‫الز ـكاة َولـ ْم‬ ‫الِل واليـو ِم اآل ِخـ ِر وأقـام الصـالة وآتـى‬ ‫ّللا مـن آمـن ِبـ ِ‬ ‫اجد ِ‬ ‫اقتـراب أجــل أو انقطــا ْرزق‪ِ ﴿ ،‬إنمـا اعمـر مسـ ِ‬
‫ين﴾ [التوب ــة ‪ ،]18‬ول ــم يخ ــش إال هللا فيق ــول الح ــق‪ ،‬فه ــذا ه ــو‬ ‫ّللا َف َع َس ـ ْى ُأ َولئ ـ َك َأ ْن َي ُكو ُن ـوا م ـ َن ْاملُ ْه َت ـد َ‬ ‫ش إ َّال َّ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يخ ـ ِ‬
‫املعنى اإليجا ي لدمج اإليمان بالقدر بالعمل‪ ،‬فهو طاقة هائلة تعطي املؤمن زخما هائال ألداء األعمال غير هياب‪،‬‬

‫‪98‬‬
‫وق ــد امتـ ــاز املؤمنـ ــون بتس ــليمهم ورضـ ــاهم بقضـ ــاء هللا وقـ ــدره عل ــى غيـ ــرهم مـ ــن األمـ ــم‪ ،‬األم ــر الـ ــذي مـ ــأل نفوسـ ــهم‬
‫َ َ َ‬ ‫ََ‬
‫طمأنينــة ورضــا‪ ،‬وحيــا هم إيجابيــة‪ ،‬فلــم يرتكســوا ملــا أصــابهم‪ ،‬ولــم َهنــوا ولــم يضــعفوا ﴿ َوكـأ ِي ْن ِمـ ْن ن ِبـي قاتـ َل َم َعـ ُه‬
‫ين﴾ [آل عمران ‪]146‬‬ ‫الصابر َ‬ ‫اس َت َك ُانوا ۗ َو َّ ُ‬
‫ّللا ُي ِح ُّب َّ‬ ‫ض ُع ُفوا َو َما ْ‬ ‫ص َاب ُه ْم في َسبيل َّّللا َو َما َ‬‫رب ُّيو َن َكثير َف َما َو َه ُنوا ملَا َأ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫‪ )54‬إذن‪ :‬تب ْْين جلي ْْا أن مالحظ ْْة الس ْْنن‪ ،‬أي الق ْْدر‪ ،‬ال يعن ْْي الوق ْْوع ف ْْي القدري ْْة الغيبي ْْة‪ ،‬إذ إن اإليم ــان بالق ــدر‬
‫بالص ــورة الص ــحيحة ه ــي اإليم ــان ب ـأن كــل ش ـ يء مكت ــوب ف ــي الل ــوح املحف ــوظ‪ ،‬لعل ــم هللا بم ــا س ــيختاره العب ــد‪ ،‬وبم ــا‬
‫س ــيقع ف ــي الوج ــود ف ــي ملكوت ــه س ــبحانه وتع ــالى‪ ،‬والفه ــم الص ــحيح للق ــدر ه ــو أن تس ــليم امل ــؤمنين للق ــدر ب ــأن «م ــا‬
‫ُ ْ َ ْ ُ َ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َّ‬
‫ّللا فل َي َت َوك ـ ِل‬
‫أص ــابك ل ــم يك ــن ليخطئ ــك ‪ ،‬وتس ــليمهم بأن ــه ﴿ق ـل ل ـن ي ِص ـيبنا ِإال م ـا كت ـب ّللا لن ـا ه ـو موالن ـا وعل ـى ِ‬
‫َ‬ ‫ُْ‬
‫امل ْؤ ِم ُنون﴾ [التوبة ‪ ،]51‬والتي جاءت جوابا على اآلية السابقة لهـا فـي قـول القاعـدين عـن الخـروج مـع الرسـول ﷺ‬
‫َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ َ َ َْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫للجهـاد واملنـافقين‪ِ ﴿ :‬إن ت ِصـ ْب َك َح َسـ َنة ت ُسـ ْؤ ُه ْم َو ِإن ت ِصـ ْب َك ُم ِصـ َيبة َي ُقولـوا قـ ْد أخـذنا أ ْم َرنـا ِمـن ق ْبـ ُل َو َي َت َولـوا َّو ُهـ ْم‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف ِر ُحون﴾ [التوبة ‪" ،]50‬في قولهم ﴿ق ْد أخذنا أ ْم َرنا ِمن ق ْب ُل﴾ وفـرحهم بمصـاب املسـلمين‪ ،‬فيقـول لهـم جوابـا‪ :‬إن‬
‫كْْل مْْا يص ْْهبنا مــا ـكـان إال بتقْْديرهللا ملصْْلحة املس ْْلمين فــي ذلــك‪ ،‬فهْْو نفْْع مح ْْم كمــا تــدل عليــه تعديــة فعــل‬
‫َ‬
‫﴿ك َت َب﴾ بالالم املؤذنة بأنه كتب ذلك لنفعهم‪ ،‬وموقع هذا الجواب هو أن العدو يفـرح بمصـاب عـدوه ألنـه ينكـد‬
‫يحزن ملا أصابه زال فرحهم‪ .‬وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق وهو‬ ‫عدوه ُويحزنه‪ ،‬فإذا علموا أن النبي ال َ‬
‫أن ال يحزن ــوا مل ــا يص ــي هم ل ــئال َهن ــو وت ــذهب ق ــو هم"‪ ،108‬فاإليم ــان بالق ــدر يفه ــم بص ــورة إيجابي ــة دافع ــة للعم ــل‪،‬‬
‫وم ــدعاة لل ــدخول ف ــي معي ــة هللا وكنف ــه ورعايت ــه‪ ،‬فينطل ــق امل ــؤمن ليقتع ــد ال ــذرى‪ ،‬وتس ــليم امل ــؤمنين ب ــأن عل ــم هللا‬
‫محــيط بكــل شـ يء‪ ،‬فهــو مــن يــدبر الكــون ويصــرفه‪ ،‬وهــو فــي الوقــت ذاتــه مــن عليــه حســن االتكــال‪ ،‬وتفــويض األمــر‬
‫اب﴾‪ :‬أي في اللوح املحفوظ‪ ،‬رفعت‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ َ َّ ْ َ ْ َ‬
‫﴿في ال ِكت ِ‬ ‫اب ِمن ش يء﴾ [‪ 38‬األنعام]‪ِ ،‬‬ ‫إليه‪ ،‬واالستعانة به‪﴿ ،‬ما فرطنا ِفي ال ِكت ِ‬
‫األقالم وجفت الصحف‪ ،‬فـال يقـع شـ يء فـي الوجـود إال وقـد علـم هللا أنـه سـيقع‪ ،‬وقـدر ذلـك مـن األزل‪ ،‬وأن املسـلم‬
‫ُ‬
‫ال اعلــم مــا قـدر إذ إنــه لــم يطلــع علــى قــدر هللا‪ ،‬وال علــى اللــوح املحفــوظ (وهــذه صــورة اإليمــان الصــحيح بالقــدر)‪،‬‬
‫انتقـل القـائلون بالقدريـة الغيبيـة مـن هـذه الصـورة الصـحيحة لديمـان إلـى التسـليم بـأن كـل شـ يء مكتـوب علــيهم‪،‬‬
‫فيج ــب التس ــليم ب ــاملكتوب الن ــاتج ال محال ـة ف ــي الواق ــع‪ ،‬س ــواء فعل ـوا ك ــذا أم ك ــذا‪ ،‬فينس ــبون النج ــاح أو اإلخف ــاق‬
‫للقـدر‪ ،‬ظنـا مـنهم أنـه مـن العبـث مجـاوزة املقــدور‪( ،‬مـع أنهـم ال اعلمونـه‪ ،‬فكيـف استسـلمون لغيـب ال اعلمونـه؟)‪،‬‬
‫متناسـين وجـوب قيـامهم بالعمـل آخـذين بأســباب النجـاح‪ ،‬مبتعـدين عـن أسـباب اإلخفــاق‪ ،‬فهشْْل ذلْْك الفصْ ُْل‬
‫إرادته ْم‪ ،‬فيقعــدوا عــن عظــائم األمـور‪ ،‬وال يقتحمـوا الصــعوبات‪ ،‬ويستســلموا لكــل مــا ينــال النــاس مــن خيــر وشــر‪،‬‬
‫بسلبية لدورهم في التغيير‪ ،‬هذا هـو و اقع القدرية الغيبية‪ ،‬فيجب على املسلم أن ال يالحظ القدر‪( ،‬بمعنن ال‬ ‫ل‬

‫‪ 108‬التحرير والتنوير البن عاشور‬


‫‪99‬‬
‫ً‬
‫يدخل في حساباته عند القيام بالعمل علم هللا بما سيقع ألنه أصال ال يعلمه! ‪ ،‬لكْْن عليْْه أن يفهْْم أن القْْدر‬
‫هو أساس إيجابي دافع للعمل‪ ،‬والهمة‪ ،‬واألخذ باألسباب‪.‬‬
‫‪ )55‬علــى أنــه ثمــة فــرق بــين االســتهداء بقــدر معــروف‪ ،‬رغــم أن توقيتــه غيــر معلــوم‪ ،‬وكيفيــة تحققــه غيــر معلومــة لنــا‪،‬‬
‫كوعد هللا تعـالى أنبيـاءه والـذين آمنـوا بنصـره‪ ،‬وتكفلـه سـبحانه وتعـالى لعبـاده بـالرزق‪ ،‬فيطمـان املـؤمن إلـى أن هللا‬
‫سينصــره‪ ،‬وســيرزقه‪ ،‬وأنــه حســبه إذا توكــل عليــه‪ ،‬فــال يبــالي حينهــا بمقــدار اضــطراب مــوازين القــوة فــي الــدنيا‪ ،‬وال‬
‫يقول‪ :‬إذا قامت الدولة فكيف لها أن تقف في وجـه الشـرق والغـرب‪ ،‬وبالتـالي‪ُ :‬ي ْقـ ِد ُم علـى العمـل مطمئنـا مشـحونا‬
‫بعزيمــة وطاقــة هائلــة‪ ،‬بخــالف مــن يتس ــرب اليــأس إليــه‪ ،‬ويتــرك الســعي والعم ــل‪ ،‬وي ــبط العـزائم نــاظرا فــي م ــوازين‬
‫القــوى مســت نيا منهــا ميـزان أن هللا ناصــر دينــه ومــتم نــوره ولــو كــره الكــافرون‪ ،‬فالنــاظر فــي حــال الرســول ﷺ قبيــل‬
‫بيعة العقبة يرى أن قومه كانوا قد قاطعوه مقاطعة شاملة‪ ،‬ألجأت املؤمنين إلى أكل ورق الشجر والجلود‪ ،‬وكان‬
‫جل املؤمنين له في الحبشة‪ ،‬ومن كان في مكة كان املستضعفون منهم ُاسامون سوء التعذيب‪ ،‬ومن اعـااش حـاال‬
‫كهذا يصعب عليه أن يقبل أن األسباب املادية توحي باقتراب نصر مؤزر‪ ،‬ومع ذلـك كـان الصـحابة يؤمنـون بفـتح‬
‫فـارس منــذ ذلــك الوقــت! بــل وفــي ظـل هــذا الوضــع طلــب الرســول ﷺ النصــرة مـن بنــي شــيبان‪ ،‬فوافقــوا علــى نصــرة‬
‫مشروطة منقوصة اعطونه إياها على العرب دون الججم‪ ،‬الرتباطهم بعهود ومواثيق مع الفرس‪ ،‬فرفض الرسول‬
‫َ‬ ‫ﷺ قب ــول نصـ ــر هم ألن « ِدي ـ َـن ّللا َلـ ـ ْن َي ْن ُ‬
‫صـ ـ َر ُه إال َمـ ـ ْن َحاطـ ـ ُه ِمـ ـ ْن َج ِميـ ـ ِـع َج َوا ِن ِبـ ـ ِه ‪ ،‬ومـ ــا ه ــي إال أن سـ ــخر هللا لهـ ــم‬ ‫ِ‬
‫األنصار حتى قامت الدولة‪.‬‬
‫َ‬
‫وأيض ــا‪ ،‬بخ ــالف ق ـ َدر غي ــر معل ــوم‪ ،‬ومثال ــه‪ :‬ه ــل الخي ــر ف ــي ه ــذا العم ــل أو ف ــي ه ــذا التخص ــص م ــن الدراس ــة أم ال؟‬
‫فأمثــال هــذا ال يوضــع الغيــب فــي الحســبان‪ ،‬يأخــذ باألســباب ويفــوض األمــر إلــى هللا أن يختــار لــه أحســنه‪ ،‬وفــي هــذا‬
‫يــدخل موضــو االســتخارة‪ ،‬التــي ـكـان الرســول ﷺ اعلمهــا أصــحابه فــي كــل شــأن‪ ،‬فعلــيهم األخــذ باألســباب والقي ــام‬
‫بالخيارات‪ ،‬ومن ثم استخيرون هللا بأن يختار لهم الخير‪ ،‬وأن يوفقهم ملا فيه خيري الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫‪ )56‬وهذا البحث ال يعني بحال أن ينتقل لبحث نفي أن هللا الفعال‪ ،‬فهو بحث منفصل‪،109‬‬
‫‪ )57‬وال يمك ْْن أن يق ْْع بح ْْث األفع ْْال الت ْْي خ ْْص هللا تع ْْالى به ْْا نفس ْْه‪ ،‬كالقض ْْاء وال ْْرزق والنص ْْرواإلمات ْْة تح ْْت‬
‫بح ْْث القدري ْْة الغيبي ْْة‪ ،‬خصوص ْْا وق ْْد ت ْْم األخ ْْذ باألس ْْباب ودراس ْْة الس ْْنن والتفاع ْْل معه ْْا عل ْْى أت ْْم وج ْْه‪،‬‬
‫ولذلك فإن خلم موضوع القدرية الغيبية ببحث أن النصرمن عند هللا‪ ،‬واالدعاء بأن من ينتظْْرالنصْْرمْْن‬
‫هللا بعْْد أخْْذه باألسْْباب بأنْْه و اقْْع فْْي القدريْْة الغيبيْْة خلْْل فْْي االعتقْْاد‪ ،‬وسْْوء فْْي الفهْْم‪ ،‬وإهمْْال لدراسْْة‬
‫السنن اإللهية ال يصح الوقوع فيه‪.‬‬

‫‪ 109‬أنظر‪ :‬نشرة مؤرخة‪ 25 :‬من ذي القعدة ‪ 1969/2/12 ،1388‬م في ملف النشرات الفكرية لحزب التحرير‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫السببية‪ ،‬والتوكل على هللا‪ ،‬نحو فهم دقيق‪:‬‬
‫‪ )58‬كْْذلك‪ ،‬مْْن الخطْْأ خلْْم مفهْْوم السْْببية بمفهْْوم التوكْْل‪ ،‬فلكْ لْل دوره‪ ،‬ومفهْْوم التوكْْل مْْن أعظْْم مفْْاهيم‬
‫َ‬
‫العقيدة وأخطرها‪ ،‬وله أثرمباشرعلى العمل‪ ،‬فهو لْْهس مجْْرد مفهْْوم غيبْْي ُينحْى عْْن الو اقْْع!! ومْْن الخطْْر‬
‫ً‬
‫العظْْيم أيضْْا فصْْل االرتبْْا بْْين حقيقْْة أن النصْْربيْْد هللا تعْْالى وأنْْه الفاعْْل فيْْه علْْى الحقيقْْة‪- ،‬وه ْْذا‬
‫املفهوم من ضمن مجموعة مفاهيم عقدية اختص هللا تعالى نفسه بها بوصفه ربا‪ ،‬كالرزق واإلحياء واإلماتة‬
‫والنصْْر‪ -‬وبْْين هْْذه الحقيقْْة‪( ،‬أو هْْذه الحقْْائق وخلطْْه بمفهْْوم األسْْباب‪ ،‬فْْنظن أن أسْْبابنا املاديْْة فقْْم‬
‫كفيلة بتحقيق الرزق أو النصرأو اإلماتة‪ ،‬فإننا فْْي الوقْْت الْْذي نحْْن مطْْالبون فيْْه باألخْْذ بأسْْباب األعمْْال‬
‫التْْي خوطبنْْا بهْْا علْْى وجههْْا‪ ،‬واألخْْذ بسْْننها املجتمعيْْة‪ ،‬وال نقعْْد عنهْْا وعْْن اتخْْاذ أسْْبابها ْكْي نقْْع فْْي مظنْْة‬
‫ُ‬
‫تحقيق ما اشتر علينا من نصرة هللا ودينه‪ ،‬فإن قعودنا عْْن العمْْل‪ ،‬أو عْْن اتخْْاذ أسْْبابه إثْْم‪ ،‬لكْْن هْْذا ال‬
‫ُ‬
‫يعني البتة أن نخضع التغييرللسنن املادية التاريخية الحتمية املاركسية‪ ،‬بثوب "إسالمي" ال يضع في االعتبار‬
‫تص ْْرف هللا ف ْْي النص ْْر‪ ،‬ف ْْنظن أن بأي ْْدينا مفاتح ْْه‪ ،‬وأنن ْْا نس ْْتطيع تنزيل ْْه بأفعالن ْْا‪ ،‬وأن "دور هللا تع ْْالى في ْْه‬
‫مجْْرد دوررمْْزي‪ ،‬منفعْْل بأفعالنْْا"‪ ،‬حْْا هلل‪ ،‬وبــذلك يجــب أن تكــون حقيقــة أن النصــر مــن عنــد هللا عقيــدة‪،‬‬
‫وأنـه الفاعــل فيــه علــى الحقيقــة بغْْم النظْْرعْْن األسْْباب واملسْْببات‪ ،‬فةْْي لهسْْت قيْْدا لْْه‪ ،‬وال ينفعْْل فعلْْه‬
‫سبحانه وتعالى بها‪ ،‬وإنما هي شروط الزمة ضرورية‪.‬‬
‫‪)59‬قال اإلمام تقي الدين الن هاني‪" :‬وأما التوكل على هللا‪ ،‬فإن املسلمين األوائل قد فهموه حق الفهم‪ ،‬وتوكلوا علـى‬
‫هللا حــق التوكــل‪ ،‬ولــذلك قــاموا بعظــائم األمــور‪ ،‬واقتحمــوا أشــد الصــعاب‪ ،‬بخــالف املســلمين املتــأخرين‪ ... ،‬فكــان‬
‫م ــن نتيج ــة ذل ــك أن انحط ــت الهم ــم‪ ،‬وض ــعفت الع ـزائم‪ ،‬وض ــاق األف ــق ف ــي النظ ــرة إل ــى الحي ــاة‪ ،‬فص ــاروا يحس ــون‬
‫بـ ــالججز‪ ،‬ويعتقـ ــدون أن قـ ــدر هم محـ ــدودة‪ ،‬وأنهـ ــم ال اس ـ ــتطيعون إال مـ ــا اسـ ــتطاعوا تحقيقـ ــه‪ ،‬ولهـ ــذا لـ ــن يرج ـ ــع‬
‫ُ‬
‫املســلمون إل ــى اقتعــاد ذرى املج ــد‪ ،‬واالنــدفا ف ــي الحيــاة لتحقي ــق املعــالي‪ ،‬إال إذا فه ــم التوكــل عل ــى هللا حــق الفه ــم‪،‬‬
‫وتوكلوا على هللا حق توكله‪ ،‬فإن عظائم األمور ال يمكن أن يحققها الرجال إذا حدوا قدرتهم بقْْواهم اإلنسْْانية‬
‫وح ْْدها‪ ،‬ف ــإن ه ــذه الق ــوى اإلنس ــانية إذا نظ ــر إليه ــا وح ــدها‪ ،‬وعم ــل بمق ــدار نظرت ــه ه ــذه قص ــرت باع ــه‪ ،‬حتــى ع ــن‬
‫تحقيـ ــق األمـ ــور العاديـ ــة‪ ،‬فضـ ــال عـ ــن األمـ ــور غيـ ــر العاديـ ــة‪ ،‬ولكـ ــن إذا آمـ ــن الرجـ ــال أن هنـ ــاك قـ ــوى وراء اإلنسـ ــان‬
‫تســاعده علــى تحقيــق طلباتــه‪ ،‬فإنــه وال شــك ينــدفع إلــى مــا هــو أكبــر مــن قوتــه‪ ،‬معتمــدا علــى تلــك القــوى ‪ ...‬فكيــف‬
‫باملسلم وهـو يؤمن باهلل عـن دليـل قـاطع‪ ،‬ويصـدق بوجـود هللا تصـديقا جازمـا مطابقـا للواقـع عـن دليـل‪ ،‬فإنـه وال‬
‫شـك يحقـق بتوكلــه علـى هللا أضــعاف أضـعاف مـا يحققــه غيـر املســلمين‪ ،‬ومـن هنـا ـكـان التوكـل علــى هللا مـن أعظــم‬
‫مقوم ــات األم ــة اإلس ــالمية وم ــن أه ــم أفك ــار اإلس ــالم ‪ ...‬وطل ــب التوكــل عل ــى هللا ف ــي ه ــذه األدل ــة كله ــا ل ــم ي ــأت مقرون ــا‬
‫بشرط‪ ،‬وال مشروطا فيه عمل من األعمال‪ ،‬بل جاءت األدلة مطلقة في طلب التوكل‪ ،‬فيكون الواجب هو التوكل‬
‫على هللا بشكل مطلق‪ ،‬في كل أمرمن األمور‪ ،‬وفي كل عمل من األعمال‪ ،‬يجب أن نتوكل على هللا‪.‬‬
‫‪101‬‬
‫وب ــذلك يك ــون التوكــل عل ــى هللا فرض ــا بغ ْْم النظ ْْرع ْْن األس ْْباب واملس ْْببات‪ ،‬وه ْْي لهس ْْت قي ْْدا ل ْْه‪ ،‬وال بيان ْْا‬
‫لحكم ْْه‪ ،‬ألن أدلت ــه جــاءت مطلق ــة غيــر مقي ــدة‪ ،‬ولــم تقي ــد وال بــنص م ــن النصــوص‪ ،‬وألن أدلت ــه ليســت مجمل ــة‪،‬‬
‫حتــى تحتــاج إل ــى بيــان‪ ،‬ومس ْْألة األخ ْْذ باألس ْْباب واملس ْْببات‪ ،‬مس ْْألة أخ ْْرى غي ْْرمس ْْألة التوك ْْل‪ ،‬فهــي مس ــألة‬
‫ثاني ــة غي ــر التوكــل‪ ،‬وأدلته ــا غي ــر أدل ــة التوكــل‪ ،‬ف ْْال يص ْْح أن تحش ْْرمع ْْه‪ ،‬أو تجع ــل قي ــدا ل ــه‪ .‬فكم ْْا يج ْْب عل ْْى‬
‫املسلمين أن يأخذوا باألسْْباب واملسْْببات‪ ،‬كمْْا ثبْْت ذلْْك باألدلْْة الشْْرعية‪ ،‬كْْذلك يجْْب علْْيهم أن يتوكلْْوا‬
‫على هللا تعالى‪ ،‬كما ثبت ذلك باألدلة الشرعية‪ ،‬وليس أحدهما بقيد لخخر‪ ،‬وال شرطا من شروطه‪.110".‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ربم األسباب باملسببات ربطا ماديا أحيانا‪ ،‬وربطا غيرمادي في أخرى‪:‬‬
‫سبق وأن بينا أن هللا تعالى قد جعل للمؤمنين سننا إلهية خاصة بهم‪ ،‬نلمح فيها ملمحين رئيسين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬تمكن الحق من االنتصار على الباطل إن بذل أصحاب الحق أقي ى ما استطيعون من اإلعداد‪ ،‬ولكن‬
‫إعداد أعدائهم يتفوق على إعدادهم‪ ،‬فيتداركون الفرق باالستعانة بالل‪ ،‬وبالطاعة والصبر والثبات‪ ،‬أي باألخذ‬
‫بأسباب النصر في املعركة‪ ،‬الواردة في السنن اإللهية‪ ،‬ففي السنن اإللهية‪ ،‬تكون العاقبة انتصار الحق على الباطل‪،‬‬
‫ال َّالذ َ‬ ‫َ‬
‫ين‬ ‫وإقامة العدل في الدنيا‪ ،‬وما إلى ذلك! فتكون نتيجة التدافع بين الناس هي غلبة الحق ال غلبة القوي! ﴿ق َ ِ‬
‫ين﴾ [‪ 249‬البقرة]‪ .‬فهذا امللمح‬ ‫الصابر َ‬ ‫َي ُظ ُّنو َن َأ َّن ُهم ُّم َال ُقو ّللا َكم من ف َئة َقل َيلة َغ َل َب ْت ف َئة َكث َيرة بإ ْذن ّللا َو ُ‬
‫ّللا َم َع َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫األول يخصص أسبابا معينة للوقو في مظنة تحقيق السنن اإللهية‪ ،‬تزيد على األسباب التي تبنى عليها السنن‬
‫املجتمعية التاريخية‪ ،‬أو تخصص بعضها دون بعض‪ ،‬لتهذب العمل بقيمها اإلسالمية الراقية‪.‬‬
‫فمثال‪ :‬تجري سنن تغيير الدول واملجتمعات وفقا لنواميس وقوانين معينة واضحة‪ ،‬تتضمن التأثير في الرأي العام‬
‫وقيادة الكيان املجتمعي لتبني أفكار ومقاييس وقناعات معينة يراد لها أن تصل إلى الحكم وأن تستبدل القوانين‬
‫واألفكار واملقاييس والقناعات الحاكمة بها‪ ،‬ويسار فيه إلى امتالك القوة القادرة على إحداث هذا التغيير‪ ،‬لكن اإلسالم‬
‫يرفض أن تكون األعمال املادية جزءا من هذه العملية التغييرية لتغيير دار الكفر إلى دار إسالم‪ ،‬حين تنعدم دار‬
‫وتطب ُق أنظمة الكفر على الحياة فتكون ُع َرفا مجتمعية‪ ،‬لكنها تعمل على نز القوة من‬ ‫اإلسالم من األرض تماما‪ِ ،‬‬
‫الكيان التنفيذي الحاكم لتجنب العملية التغييرية أن تكون دموية قدر املستطا ‪،‬‬
‫ففي حين أن السنن املجتمعية التي تسير العملية التغييرية سيرا مطردا ال يحا ي أحدا‪ ،‬تفرض قوانين معينة‬
‫تحكم العملية التغييرية‪ ،‬إال أننا نالح أن السنن اإللهية قد هذبت تلك القوانين وحددت املقبول منها وغير املقبول‪،‬‬
‫تم تأطيرها بإطار قيمي إسالمي يحكم العملية التغييرية لتف ي لغايا ها‪ ،‬لكنها في املجمل تتوافق مع السنن التاريخية‬
‫املجتمعية‪.‬‬

‫‪"( 110‬إزالة األتربة عن الجذور" ربط األفكار واألحكام بالعقيدة اإلسالمية‪ ،‬لحزب التحرير)‬
‫‪102‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أما املل الثاني للسنن اإللهية‪ ،‬فهو ملمح أنه يربم األسباب باملسببات ربطا ماديا حين يحتاج ذلك‪ ،‬وأحيانا ال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يربم األسباب باملسببات ربطا ماديا تظهر فيه كيف تؤثر القوة أو الطاقة القادرة على التأثير في ال ُـم َسب ِب إلحداث‬
‫﴿و َم ْن َي َّتق َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫التغيير في حالته‪ ،‬بل قد ال تجد عالقة سببية مباشرة البتة بين طرفي املعادلة السببية‪" ،‬قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫َ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َ َّ ْ َ َ َّ َ ُ َ َ ْ ُ ُ َّ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َّ ُ ُ‬ ‫َ ْ َ َُ َ ْ‬
‫ّللا ِلك ِل‬ ‫ّللا فهو حسبه ِإن ّللا ب ِالغ أم ِر ِه قد جعل‬ ‫يجع ْل له مخ َرجا ۝ ويرزقه ِمن حيث ال يحت ِسب ومن يتوكل على ِ‬
‫ان‬‫اس َت ْغف ُروا َ َّب ُك ْم إ َّن ُه َك َ‬ ‫﴿ف ُق ْل ُت ْ‬
‫َ‬
‫ش ْيء ق ْدرا﴾ [الطالق‪ ،]3-2 :‬قال تعالى على لسان رسوله نوح عليه السالم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ َ ر ِ‬ ‫ُ َ‬
‫َُ‬ ‫َُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َغ َّفارا ۝ ُي ْر ِس ْل َّ‬
‫الس َم َاء َعل ْيك ْم ِم ْد َرارا ۝ َو ُي ْم ِد ْدك ْم ِبأ ْم َوال َو َب ِن َين َو َي ْج َع ْل لك ْم َج َّنات َو َي ْج َع ْل لك ْم أ ْن َهارا﴾ [نوح‪-10 :‬‬
‫‪.]12‬‬
‫اآليات املذكورة أعاله من سورة الطالق وسورة نوح تفيد أن كثيرا من النتائج تنتج من أسباب ال استطيع اإلنسان‬
‫ُ‬
‫رُية الرابط فيها بين السبب والنتيجة‪ .‬فهي ليست من نو األسباب املادية التي تنتج عادة مثل هذه النتائج املادية‪.‬‬
‫هللا به‪ .‬ولذلك فإن الذي ال يؤمن بالل وآياته ال يؤمن بهذا النو‬ ‫فالرابط بين هذه األسباب ونتائجها رابط غيبي‪ ،‬أعلمنا ُ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫وتفرج الكروب وتجلب الرزق؟! وكيف‬ ‫من األسباب لهذه النتائج‪ .‬إذ كيف يتصور امللحد أن تقوى هللا تحل املشاكل ِ‬
‫يصدق امللحد أن االستغفار ينـزل املطر‪ ،‬ويأتي باألموال واألوالد والبساتين؟ وهو ال يرى عالقة مادية بين االستغفار‬
‫وبين هذه األشياء‪.‬‬
‫أن ال حركة وال سكون إال بأمر‬ ‫أما املؤمن الذي يوقن أن هللا هو خالق كل ش يء ومسير كل ش يء‪ ،‬فإنه اعلم يقينا ْ‬
‫هللا‪ ،‬ويعلم أن هللا حين اعطي ال يحتاج إلى أسباب مادية‪ .‬والطفل الصغير حين يصرخ تسر إليه أمه لترى ما حاجته‪.‬‬
‫فالصرخة من حيث هي ال تنقذ الطفل‪ ،‬بل عطف أمه هو الذي اساعده‪ .‬ولذلك فالطفل يتكل على عطف أمه‬
‫َ َ َ َ ُ ْ ْ َْ َ َ ُ‬ ‫َّ‬
‫ض ذلوال‬ ‫ومساعد ها‪ .‬واإلنسان املؤمن العاقل يتكل على رحمة ربه وعونه وتوفيقه‪ .‬قال تعالى‪ُ ﴿ :‬ه َو ال ِذي جعل لكم األر‬
‫اط‬ ‫ب‬ ‫الن ُشو ُر﴾ [امللك‪ ،]15:‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َأع ُّدوا َل ُه ْم َما ْ‬
‫اس َت َط ْع ُت ْم م ْن ُق َّوة َوم ْن رَ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ ْ ُّ‬ ‫َ ُ‬
‫ف ْامشوا ِفي من ِاك ِ ها وكلوا ِمن ِرز ِق ِه و ِإلي ِه‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ ْ ُ ْ ُ َن َ ُ َّ َّ َ َ ُ َّ ُ ْ َ َ‬
‫ين ِم ْن ُد ِون ِه ْم﴾ [األنفال‪.]60:‬‬
‫آخر َ‬
‫ّللا وعدوكم و ِ‬ ‫الخي ِل تر ِهبو ِب ِه عدو ِ‬
‫واآليتان املذكورتان أعاله من سورة امللك وسورة األنفال تفيدان أن اإلنسان مأمور من هللا أن يربط النتائج املادية‬
‫ُُ‬ ‫َ ُ‬
‫بأسبابها املادية أيضا‪ ،‬وليس أن يكتفي بربط النتائج بأسبابها الغيبية فقط‪ .‬فاآلية تقول‪﴿ :‬ف ْامشوا ِفي َم َن ِاك ِ َها َوكلوا ِم ْن‬
‫ِر ْز ِق ِه﴾ فاملؤمن رغم معرفته أن هللا هو مقسم األرزاق‪ ،‬يرى أن مقسم األرزاق يأمره أن اسعى لكسب الرزق‪ ،‬وأن‬
‫التوكل على هللا ليس معناه إهمال األسباب املادية‪ ،‬وقد ورد في الحديث عن رسول هللا ﷺ‪« :‬لو أنكم تتوكلون على هللا‬
‫حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير‪ ،‬تغدو ِخماصا وتروح بطانا [رواه أحمد والترمذي والنساوي وابن ماجة] فأثبت له‬
‫ُ‬
‫رواحا وغ ُدوا لطلب الرزق‪ ،‬وفي حين أن الرزق بيد هللا‪ ،‬وأن السعي حالة من الحاالت التي يتنزل فيها الرزق‪ ،‬إال أن‬
‫األخذ بأسباب السعي يندرج تحت السببية التي أقام هللا الوجود عليها‪ ،‬فالتاجر مثال يحسن عرض بضاعته‪ ،‬ويقوم‬
‫بالدعاية املطلوبة لها‪ ،‬ويحسن تسعيرها وما إلى ذلك من أسباب الزمة لتحقق إحسان السعي للوقو في مظنة الرزق‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُّ َ ُ ْ َ ْ َ‬
‫اس َتط ْع ُت ْم ِم ْن ق َّوة﴾ واملسلم اعرف أن النصر في املعركة وفي غيرها من هللا‪،‬‬ ‫واآلية األخرى تقول‪﴿ :‬وأ ِعدوا لهم ما‬
‫وفي هذه اآلية كان موضوعها النصر في املعركة ولذلك كان العمل املطلوب هو اإلعداد‪ ،‬بينما في غير املعركة األسباب‬
‫ليست تؤسس على إعداد القوة‪ ،‬بل بأعمال أخرى جلها فكري‪ ،‬فإن نصر الحجة والبيان غير نصر السيف والسنان‪،‬‬
‫وغلبة القهر والظفر على العدو‪ ،‬غير غلبة هدم األفكار وقذفها بالحق فيدمغها فإذا هي زاهقة‪ .‬ومع ذلك فإن هللا الذي‬
‫تكفل للمؤمنين بالنصر أمرهم أن ُا ِعدوا كل ما استطيعون من قوة‪ .‬ولم َي ْقبل هللا من املسلمين أن يكتفوا بالتقوى‬
‫والتوكل على هللا وَهملوا األسباب املادية‪ .‬فكان الرسول ﷺ يجهز الجيش‪ ،‬وكان يأمر بالتدريب كالرماية والسباحة‬
‫وركوب الخيل‪ .‬وكان يناور في الحرب‪ ،‬ويسمح بالكذب على العدو‪ ،‬ويحرض املؤمنين على القتال‪ ،‬ويحفر الخندق‪ ،‬ويأمر‬
‫من يتجسس على العدو‪ ،‬ويعقد الصل مع عدو ليتفرا لعدو كما فعل في صل الحديبية مع قريش ليستفرد بخيبر‪.‬‬
‫وحين نقول بأن النصر في املعركة سببه اإلعداد‪ ،‬فإنه اشمل األعمال التي تلزم إلزالة الخطر املحدق باملجتمعات‬
‫والدول‪ ،‬إم ا عبر الصرا الداخلي بين كيانات مختلفة الجنس أو الدوافع‪ ،‬أو بين كيانات مختلفة الدوافع لكنها من‬
‫جنس واحد‪ ،‬وإما يكون ذلك باستعمال القوة الذاتية للدفا ‪ ،‬من خالل العمل الجماعي املنظم الذي يمد األفراد‬
‫باسباب تمكنهم من التغلب على قصور قدرا هم الذاتية الفردية عن مواجهة األخطار‪ ،‬فيتحصل باجتماعهم من القوة‬
‫ما يلزم للدفع‪ ،‬أو استعينوا بغيرهم ليسد ذلك الججز والقصور‪ ،‬فيكون االنتصار باملواالة والعون‪ ،‬وهذا كله يخص‬
‫انتصار الحروب والنزاعات‪ ،‬والدفا والهجوم‪ ،‬ويشمل األعمال املادية التي تلزم ملنع البلدان من االحتالل‪ .‬فالنصر هو‬
‫الظهور والغلبة‪ ،‬والنصرة هي املواالة واإلعانة بقوة من الغير‪ .‬وفي حال املسلمين‪ ،‬فإن خطاب الشار وجههم إلى طلب‬
‫العون والنصرة والتأييد من هللا تعالى‪ ،‬فهو الولي وهو النصير الذي يمدهم بقوة الزمة لتحقيق الغلبة واالنتصار‪،‬‬
‫وبالتالي فال يلجأون لتحالفات وال ملواالة أطراف غير إسالمية يخضعون معها لشروطها‪ .‬وحتى حين يتحصل لدى‬
‫املسلمين قوة ذاتية كافية للغلبة واالنتصار‪ ،‬فإن عليهم أن استعينوا بالل تعالى‪ ،‬وأن استنصروه‪ ،‬وأن ال يتكلوا على‬
‫قواهم الذاتية وحدها‪111.‬‬

‫ولذلك فاألسباب في نظر املسلم نوعان‪ :‬األول هو تقوى هللا‪ ،‬ورعايته وتدبيره والتزام أمره‪ .‬والثاني هو األسباب‬
‫املادية التي من شأنها عادة أن تنتج النتيجة املطلوبة‪ .‬وال يجوز للمسلم أن يكتفي بأحد هذين السببين متى كان‬
‫استطيعهما"‪.112‬‬
‫لذلك نجد أن نصر هللا للمسلمين في املعركة هو من النو األول من السنن اإللهية‪ ،‬النو الذي سببه اإلعداد قدر‬
‫االستطاعة‪ ،‬والصبر والثبات والطاعة (كما جلتها آيات سورة البقرة التي تناولت قصة طالوت وجالوت)‪ ،‬وأما نصر هللا‬
‫تعالى لدسالم وللدعوة‪ ،‬فهو من النو الثاني من السنن اإللهية‪ ،‬بيد هللا‪ ،‬ليست له أسباب وإنما املطلوب من املسلم‬
‫العامل للتغيير أن يقوم باألفعال املأمور بها آخذا بأسبابها‪ ،‬مثل حمل الدعوة والدعاية وطلب النصرة والكفاح‬

‫‪ 111‬بتصرف‪ ،‬عن مقالة بعنوان‪ :‬نظرة في تعريف ومعنى النصر ومعنى نصرة هللا للمسلمين‪ ،‬لألستاذ يوسف الساريس ي‪.‬‬
‫باملسببات‪ ،‬بتصرف‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ 112‬مقال في مجلة الوعي العدد ‪- 128‬السنة الحادية عشرة – رمضان ‪ – 1418‬كانون الثاني ‪1998‬م بين التوكل على هللا وربط األسباب‬
‫‪104‬‬
‫السياس ي وغيرها‪ ،‬فلكل من هذه األعمال أسباب تف ي لنجاحها وإيصالها للغاية‪ ،‬سواء كانت الغاية حسن إيجاد هذه‬
‫األعمال في الواقع بشكل يوقع في مظنة تحقيق شرط هللا لنصره من ينصره‪ ،‬أم كانت الغاية ثمرة هذه األعمال‪ ،‬لكن‬
‫هذه األعمال ليست هي األسباب التي يتنزل النصر مباشرة إن قام املسلمون بها‪ ،‬فرسول هللا ﷺ كان قد قام بكل هذه‬
‫األعمال على أتم وجه في سني دعوته املكية كلها‪ ،‬ولم يتنزل النصر عليه إال بعد السنة الثامنة للهجرة حين نزلت سورة‬
‫َ‬
‫النصر‪ ،‬فجاءه نصر هللا والفتح‪ ،‬ورآى الناس يدخلون في دين هللا أفواجا‪ ،‬وأ ِم َن املسلمون ولم اعد مطلوبا منهم أن‬
‫يبيتوا وأسلحتهم على مقرب منهم خشية الغائلة!‬
‫كما أن كثيرا من الرسل واألنبياء قاموا باألعمال السببية لنصرة دين هللا‪ ،‬وتحكيم شريعته‪ ،‬ليقوم الناس‬
‫بالقسط‪ ،‬ولم يكن النصر الذي نزل عليهم امتدادا لألفعال السببية‪ ،‬أي لم يكن تحقيقا للغاية في الواقع‪ ،‬بل نزل على‬
‫صورة محق أقوامهم وإهالكهم‪.‬‬
‫وصحابة رسول هللا ﷺ حين خالفوا عن طاعة الرسول ﷺ في غزوة أحد‪ ،‬ارتفعت عنهم سنة النصر اإللهية‬
‫لتخلفهم عن بعض أهم أسبابها‪ ،‬وخضعوا للسنة اإلنسانية الثابتة في انتصار القوي على الضعيف‪ ،‬انتصار من اعد‬
‫العدة أفضل‪ ،‬سواء العدة الحربية من عتاد وجند وسالح‪ ،‬أو الخطة والحنكة‪ ،‬فكانت الغلبة لعدوهم! قال تعالى‬
‫ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ َ ْ َ َ ْ ْ ُ ُ َ ْ َ َ‬
‫األ َّي ُام ُن َداو ُلها َب ْي َن َّ‬
‫اس﴾ [آل عمران ‪،]140‬‬ ‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ِ‬ ‫يصف ذلك املوقف‪ِ ﴿ :‬إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح ِمثله و ِتلك‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫فسماهم بالناس‪ ،‬وعد ما حصل لهم في غمار ما يحصل للناس في مثل تلك املواقف! وقال‪َ ﴿ :‬و ِتل َك األ َّي ُام ُن َد ِاولها َب ْي َن‬
‫اس﴾ فخضعوا بذلك للسنن التي يخضع لها سائر الناس‪ ،‬لعدم استحقاقهم حصولهم على السنة اإللهية في ظل‬ ‫َّ‬
‫الن ِ‬
‫عدم طاعتهم للرسول ﷺ‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬فقد أمر الشار اإلنسان باألخذ باألسباب املؤدية لتحقيق النتائج‪ ،‬ولكن اإلنسان اآلخذ باألسباب يخفق‬
‫اإلسالم لدنسان مفهوم التوكل على هللا تعالى‪ ،‬وهو إطار عقدي جامع مانع‪ ،‬يتجاوز‬ ‫ُ‬ ‫أحيانا في بلوا غاياته‪ ،‬فجلى‬
‫معضلة ضعف اإلمكانيات الالزمة لتحقيق املراد‪ ،‬لوجود العوائق‪ ،‬أو لتجاوز معضلة أن السنن املجتمعية تق ي‬
‫بانتصار القوي على الضعيف‪ ،‬فيربط عمله باالتكال على هللا ليدبر له من شأنه ما ال استطيعه بأسبابه التي قدرها‬
‫بمعطياته اإلنسانية البشرية القاصرة‪ ،‬بأن اعلم أن هللا تعالى عون له ونصير‪ ،‬وأن هللا العلي القوي القدير وراءه‪،‬‬
‫اسنده ويساعده على تحقيق معالي األمور‪ ،‬فيندفع بعزيمة ترفعه القتعاد ذروة النسر بين األمم مو ِقنا أن قوته‬
‫البشرية املحدودة مسنودة بقوة غير محدودة‪ ،‬وأن خططه وغاياته أوسع من أن تحد باالقتصار على اإلنجازات‬
‫العادية القاصرة‪ ،‬معتمدا على قوة هللا وعلى أنه اسير جنديا لتحقيق الغايات العظيمة التي ألجلها خلق هللا الخلق‬
‫وأرسل الرسل!‬

‫‪105‬‬
‫نماذج أعمال خارقة قام بها املؤمنون نتيجة التوكل على هللا‪:‬‬
‫فيفوض أمره كله لل‪ ،‬بل يدفعه هذا التوكل للقيام بعظائم األمور‪ ،‬واقتحام أشد الصعاب‪ ،‬واقتعاد ذروة املجد‪،‬‬
‫واالندفا في الحياة لتحقيق املعالي‪،‬األمر الذي جعل اإلسالم ينتشر من أقي ى الشرق ألقي ى األرض في أقل من مائة‬
‫سنة‪ ،‬فتجاوزت إنجازا هم ما استطيعه البشر بقواهم الذاتية‪ ،‬فحفروا خندقا شمال املدينة املنورة‪ ،‬ليربط بين طرفي‬
‫حرة واقم وحرة الوبرة‪ ،‬وهي املنطقة الوحيدة املكشوفة أمام الغزاة‪ ،‬وكان طوله خمسة آالف ذرا (أي حوالي ‪2.5‬‬
‫كيلومترا)‪ ،‬وحددته بعض املصادر ب (‪ )2725‬مترا‪ ،‬وعرضه تسعة أذر ‪( ،‬أي حوالي ‪ 4.5‬مترا)‪ ،‬وعمقه من سبعة أذر‬
‫إلى عشرة‪( .‬أي ما بين ‪ 3.5‬إلى ‪ 5‬أمتار)‪ ،‬وجاء في كتاب‪ :‬أطلس السيرة النبوية للدكتور شو ي أبو خليل‪ :‬أن طول الخندق‬
‫كان خمسة آالف وخمسمائة وأر عة وأر عين مترا (‪ )5544‬ومتوسط عرضه أر عة أمتار فاصلة اثنين وستين‬
‫(‪ )4.62‬ومتوسط عمقه ثالثة أمتار فاصلة ثالثة وعشرين (‪.)3.23‬‬
‫وهذه األبعاد تدل على أن حجم األرض التي تم حفرها يبلغ حوالي ‪ 83‬ألف متر مكعب‪ ،‬وفي أرض صخرية تحتاج‬
‫آلالت خاصة‪ ،‬إال أن هذا الخندق الضخم بكل املعايير تم حفره في أسبوعين‪ ،‬بأدوات بدائية بسيطة‪ ،‬متضمنا أعمال‬
‫الحفر وأعمال نقل التراب املحفور من الحفرة إلى أماكن بعيدة‪ ،‬وكان عدد املسلمين في املدينة ‪ ،3000‬منهم املريض‬
‫والشيخ املسن‪ ،‬والعامل في الخدمة اللوجستية للمشرو ‪ ،‬والقائم بالحفر فعال‪ ،‬وكان على كل عشرة من املسلمين‬
‫الس َمة العامة للمشتغلين بالحفر أن‬
‫حفر أر عين ذراعا وعلى كل واحد حفر أر عة أذر ‪ ،‬فتح الباري (‪ ،)397/3‬وكانت ِ‬
‫عضهم الجو والبرد القارس‪ ،‬فقد كان الجو باردا‪ ،‬والريح شديدة والحالة املعيشية صعبة‪ ،‬باإلضافة إلى الخوف من‬
‫قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة‪ ،‬األمر الذي يجعل العمل خارقا يتجاوز أي إنجاز بشري بالقوى البشرية‬
‫الذاتية‪ .‬قال أبو طلحة‪« :‬شكونا إلى رسول هللا ﷺ الجو َ فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر‪ ،‬فرفع رسول هللا ﷺ عن‬
‫حجرين ‪.‬‬
‫وفي نحو عشرين سنة من تلك الواقعة أنهى املسلمون كيان االمبراطورية الفارسية‪ ،‬وأقصوا اإلمبراطورية الرومية‬
‫عن الشرق وهزموها هزائم منكرة‪ ،‬وفي نحو سبعين سنة من تطبيق اإلسالم‪ :‬مملي الفقر من الدنيا أيام عمر بن عبد‬
‫العزيز!‬
‫إن الناس الذين دخلوا مع املسلمين في الصرا الدموي على مر العصور‪ ،‬لم يكونوا يدركون مدى ما للعقيدة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬أي للفكر‪ ،‬من قوة وتأثير في القوة املادية‪ ،‬ولذلك كانوا اعتمدون على زيادة قو هم املادية على قوة املسلمين‬
‫ليهزموا املسلمين‪ ،‬ولكنهم بالرغم من هذه الزيادة في القوة كان املسلمون ينتصرون عليهم رغم ضعف املسلمين وقلة‬
‫عددهم‪ ،‬ولم تنفع زيادة القوة املادية أصحابها في ميادين الحرب‪ ،‬وظل النصر حليفا للمسلمين‪ .‬هكذا كان حال‬
‫املشركين مع رسول هللا ﷺ وأصحابه‪ ،‬وهكذا كان حال الروم والفرس مع الصحابة‪ ،‬يقف ثالثة آالف من املسلمين‬
‫أمام مائتي ألف من الروم في مؤتة‪ ،‬وفي اليرموك كان تعداد املسلمين ‪ 36‬ألفا مقابل ‪ 70‬ألفا من الروم‪ ،‬بأسلحتهم‬
‫ودروعهم وعتادهم الحر ي الذي فاق كثيرا ما لدى املسلمين‪ ،‬وخبرا هم القتالية الدولية‪ ،‬وكان تعداد جيش الفتح الذي‬
‫‪106‬‬
‫اجتاح فارس ‪ 18‬ألفا من املسلمين‪ ،‬لم تصمد أمامهم راية‪ ،‬وانهارت مدائن الفرس واحدة تلو األخرى‪ ،‬وفي القادسية‬
‫كان املسلمون ‪ 30‬ألفا‪ ،‬والفرس حوالي ‪ 70‬ألفا‪ ،‬وانتصر املسلمون‪ ،‬وقضوا على اإلمبراطورية الفارسية ما بين ‪ 11‬ه‪،‬‬
‫و‪23‬ه قضاء تاما‪.‬‬
‫هذه القضايا تقع في دائرة السنن اإللهية‪ ،‬وهي تختلف عن السنن املجتمعية‪ ،‬إذ األخيرة ال تحا ي أحدا‪ ،‬فاألقوى في‬
‫املعركة سينتصر سواء قوة العسكر أو الخطة أو اآلالت‪ ،‬سينتصر حتما‪ ،‬ولكن السنن اإللهية التي أمرت باإلعداد‬
‫قدر االستطاعة‪ ،‬وعلم هللا أن ستكون ظروف ال استطيع فيها املؤمنون اإلعداد فوق قدرة أعدائهم‪ ،‬فال يملكون‬
‫األسلحة النووية والصواريخ‪ ،‬فكان من رحمته أن جعل سننا إلهية تلغي مفعول السنن املجتمعية وتحقق االنتصار‬
‫للمؤمنين‪ ،‬فبالطاعة‪ ،‬والصبر‪ ،‬واليقين بالنصر من هللا مع اإلعداد قدر االستطاعة والتوكل على هللا يحصل النصر‬
‫مهما كانت قوة الكفار‪.‬‬
‫هذه القضايا تبين صحة عقيدة التوكل على هللا‪ ،‬وأ ها فوق األسباب‪ ،‬وأنها تحقق لألمة انتصارات تجعلها سيدة‬
‫األمم في أقل وقت إن هي اعتصمت بأمر ربها‪ ،‬ولم تستنصر إال به‪ ،‬ولم تتوكل إال عليه‪ ،‬وإن هي أقامت دولتها وحكمت‬
‫شريعة ربها‪ ،‬وأخلصت لل نيا ها‪ .‬وليس معنى أنها فوق األسباب أنها ال تجري وفقا لسنن الوجود‪ ،‬وأنها مججزات‪ ،‬ولكن‬
‫هللا تعالى ادخر لها من العوامل ما يحققها وإن كانت سنن العادة ال تدل على تحقق نظائرها‪ ،‬أو ادخر هللا من أسباب‬
‫الوجود ما ليس بإمكان أحد غيره تدخيره‪ ،‬كتدخير الريح الشديدة نصرة للمؤمنين في الخندق‪ ،‬وإمدادهم باملالئكة في‬
‫بدر‪ ،‬أو تعمية عيونهم فال تبصرهم كما في الغار‪ ،‬فال أحد استطيع أن يضع في الخطة السببية تدخير الريح مثال‪.‬‬
‫والحصان يحتاج يوميا ألر عين ليترا من املاء عالوة على الزاد‪ ،‬ومن الججيب أن نرى أن املسلمين ساروا من املدينة‬
‫إلى تبوك في أشد ما يكون الصيف حرا‪ ،‬استغرقت الغزوة على أقل تقدير خمسين يوما‪ ،‬إذ تتراوح املسافة من املدينة‬
‫الى تبوك بين ‪ 580‬كم الى ‪ 600‬كم ومن املعتاد أن تقطع القوافل في مثل هذه الحالة من ‪ 50-40‬كم كل يوم‪ .‬لهذا من‬
‫املحتمل أن تقطعها القافلة في ‪ 12‬يوم (مرحلة) إذا كان السير متواصال‪ ،‬لكن من عادة القوافل الراحة ليوم أو يومين‬
‫بعد كل ‪ 5-3‬مراحل‪ ،‬ونعتقد أنهم أقاموا فترة يوم أو يومين في كل من‪ :‬مرحلة "ذو خشب"‪ ،‬وادي القرى‪ ،‬وفي الجو قرب‬
‫قا الال‪ ،‬إضافة إلى الفترة التي لب ها في املنطقة يرسل السرايا ويحمل الدعوة‪.‬‬
‫جاء في املواهب اللدنية للقسطالني متحدثا عن غزوة تبوك‪ :‬وكان معه عليه الصالة والسالم ثالثون ألفا‪ :‬وعند أ ي‬
‫زرعة سبعون ألفا‪ ،‬وفي رواية عنه أيضا أر عون ألفا‪ ،‬وكانت الخيل عشرة آالف فرس‪ .‬انتهى‪ .‬األمر الذي اعني الحاجة‬
‫لتأمين أر عمائة ألف ليتر من املاء يوميا للخيل وحدها‪ ،‬ناهيك عن الجيش‪ ،‬أي أنهم كانوا بحاجة لنهر جار!‬
‫سلك الجيش النبوي عبر درب معروف هو درب القوافل بين املدينة والشام‪ ،‬أوال عبر وادي الحمض‪ ،‬ثم أسفل‬
‫وادي الجزل‪ ،‬ثم عبر وادي القرى والعال‪ ،‬ثم الحجر‪ ،‬و عد الحجر تركوا الدرب املعهود للشام‪ ،‬والذي يمر باملعظم‪،‬‬
‫واعتسفوا صعود حرة عويرض رغم صعوبتها وارتفاعها‪ ،‬لكن ألجأهم لها أنهم بحاجة ملراعي منطقة الجو ومائه‪ .‬نزلوا‬
‫من عويرض الى وادي الشق‪ ،‬وعسكروا في منطقة الجو يوما أو يومين كي ترتاح اإلبل وتتغذى على املرعى الجيد والشرب‬

‫‪107‬‬
‫سيكون من مماسك املاء في وادي الشق‪ .‬بعدها تركوا الجو واتجهوا الى درب البكرة ألنه أخصر الدروب وأسهلها ولتوفر‬
‫خزان ماء ضخم فيه‪ ،‬سلكوا عبر درب البكره قاطعين وادي األخضر ثم الزرداب ثم وصلوا العقبة أو الثنية املشهورة‬
‫(النقب) ثم تركوا جبل برك يمينهم ووصلوا الى تبوك‪ ،‬وقد قدر زيد العدد بثالثين ألفا وهذا عدد كبير جدا ال تتحمله‬
‫موارد الدرب‪( .‬خصوصا حاجات الخيل للماء كما أسلفنا) لهذا واجه الركب النبوي حاالت عطش عديدة‪ 113.‬في شدة‬
‫الحر‪ ،‬لذلك كان توكلهم على هللا هو الدافع إلنجاز ضخم بكل املقاييس كهذا الذي أنجزوه!‬
‫كيف استطاعت مكة واملدينة توفير الدعم الكافي خالل أيام الفتوحات مع أن إمكانيتهما تكاد ال تعتبر ذات قيمة‬
‫باملقارنة مع مدن اإلمبراطورية الرومانية والفارسية آنذاك؟‬
‫األندلس؟‬ ‫فتوحات‬ ‫سبب‬
‫َ َ‬
‫كان َ‬ ‫أسود‬ ‫ثم‬ ‫َ‬
‫أحمر‬ ‫ن‬ ‫بلو‬ ‫َ‬
‫البيضاء‬ ‫ير‬ ‫صبأ ل ْح َية ْابن ُن َ‬
‫ص‬
‫ُ‬
‫هل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كيف استطا املسلمون عبور البحر إلى أسبانيا‪ ،‬وبأية أعداد‪ ،‬وبأية أدوات حربية‪ ،‬مع العلم أن الفرس والجمل ال‬
‫يتحمالن دوران البحر؟ ولو فرضنا أن الجيش استطا عبور البحر؛ فكيف تمكن من الصمود واالنتصار والتوغل في‬
‫مجاهل تلك البالد البعيدة والغريبة؟‬
‫يقول املؤرخ األسباني (اغناسيو اوال ي) في كتابه‪( :‬الثورة اإلسالمية في الغرب)‪ .‬الصادر في برشلونة سنة ‪ 1974‬ما‬
‫نصه‪" :‬للوصول إلى إيبيريا كان على العرب أن يجتازوا املضيق البحري الذي يفصل أفريقيا عن أوروبا؛ الجمل (سفينة‬
‫الصحراء) الذي اسبب "دوار البحر" ملن يمتطيه دون خبرة‪ ،‬هو سفينة صحرواية وليست بحرية‪ .‬كذلك البربر لم يكن‬
‫لدَهم سفن حربية‪ .‬وحتى لو تزود العرب الزوارق‪ ،‬فقد كان عليهم أن يجدوا الربابنة املهرة‪ .‬خصوصا أن مضيق جبل‬
‫والج ْز ِر وبين األطلنطي‪ ،‬اشكل ممرا لتيارات قوية تسير باالتجاهين‪،‬‬
‫طارق الذي يصل بين املتوسط الخالي من املد َ‬
‫ِ‬
‫وتخضه بصورة دائمة رياح عنيفة‪ .‬إنه ممر خطر للغاية‪ ،‬ويعرف عنه أنه مقبرة البواخر"‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫"حسب رواية (أخبار مجموعة) أعار املدعو أولبان العرب أر عة زوارق‪ ،‬ال يزيد الحد األقي ى لحمولة الزورق‬
‫الواحد عن خمسين رجال إضافة إلى البحارة‪ .‬يحتاج طارق‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬لنقل جيشه إلى خمس وثالثين رحلة‪ .‬أي‬
‫حوالي سبعين يوما‪ .‬ألن هذا النو من الزوارق يحتاج‪ ،‬على األقل‪ ،‬إلى يوم واحد ليقطع املسافة‪ .‬وإذا حسبنا األسابيع‬
‫ذات الطقس السي والتي تتوقف فيها الرحالت‪ ،‬تصل هذه املدة إلى ثالثة أشهر؛ ال يمكن أن يتم إبحاره كهذا إال إذا‬
‫تمكن النازلون على شواطئ أسبانيا من النجاة من مجزرة‪ .‬ذلك حتى يتمكنوا من استقبال من سيلحق بهم"‪.‬‬
‫ويتابع الكاتب األسباني الجاد فيقول‪" :‬يقول كتاب (أخبار مجموعة) أن موس ى بن نصير حين أراد أن يدفع أهل‬
‫مدينة ماردة الـ ُم َس َّو َرة (بسور لم َي ْب ِن إنسان مثله) إلى االستسالم‪ ،‬قد صبغ لحيته البيضاء بلون أحمر بعد االتصال‬
‫باملفاوضين‪ .‬ثم جاء إلى االجتما الثاني بلحيته الحمراء‪ ،‬صرخ أحد املندوبين‪( :‬البد أنه واحد من أكلة لحوم البشر‬
‫وليس ذلك الشخص الذي رأيناه في املرة املاضية)‪ .‬في االجتما الثالث صبغ لحيته باألسود؛ ولدى عودة املفاوضين إلى‬

‫‪ 113‬تحقيق زمن و درب غزوة تبوك‪.‬‬


‫‪108‬‬
‫املدينة قالوا لسكانها وهم في حالة ذهول؛ أنكم تقاتلون أناسا يتغيرون بمشيئتهم؛ وملكهم الذي كان منذ أسبو شيخا‬
‫مسنا هو اآلن رجل شاب‪ .‬اذهبوا واستسلموا له‪ .‬هذا مطلبه"‪.‬‬
‫"كانت هذه املدينة من أهم مدن ايبيريا؛ كان اسكنها أكثر من نصف مليون نسمة‪( .‬البد أن العرب فقدوا عقولهم‬
‫أمام عظمتها)‪ .‬وقد ظلت مركزا حضاريا هاما خصوصا بعمارا ها األنيقة‪ ،‬ولم تكن مأهولة بسكان جهلة‪ .‬ولم يكن من‬
‫املمكن خداعهم بحيلة تغيير لون اللحية"‪.‬‬
‫"وماذا عن املدن الحصينة مثل طليطلة أو رندة‪ ،‬صمدت هذه األخيرة نصف قرن في وجه أمراء قرطبة األشد قوة‬
‫من طارق وموس ى مجتمعين‪ .‬أن يأخذ العرب مدنا بالخدعة الحربية أو بفعل الخيانات املحلية أمر يمكن فهمه‪ ،‬ولكن‬
‫أن يجتاحوا بسهولة بالغة مئات املدن‪ .‬كان بعضها من أهم مدن العالم آنذاك‪ ،‬فأمر آخر!!"‬
‫ويستمر في طرح األسئلة الكبيرة والعميقة؛ فيقول‪" :‬من املدهش أنه بعد فتح اإلسكندرية بدأت املسافات تصبح‬
‫شيئا فشيئا طويلة‪ .‬وبدأ العرب يواجهون بالدا ذات طبيعة جغرافية صعبة‪ .‬وباملقابل بدأ الوقت الالزم الجتياح هذه‬
‫املسافات يقصر شيئا فشيئا‪ .‬ثالث وخمسون سنة للسيطرة على تونس‪ .‬عشر سنوات لكامل شمال أفريقيا‪ .‬وثالث‬
‫سنوات لشبه الجزيرة االيبيرية‪ ،‬صحاري وأنهار وسالسل جبلية تم اجتيازها بسهولة بالغة"‪.‬‬
‫"في الواقع ال يمكن لحملة عسكرية أن تستمر إلى ما ال نهاية‪ .‬ألن الحملة تفقد قو ها بقدر ما تتوغل وتتقدم‪.‬‬
‫وعندما يتقدم الفاتح‪ ،‬وتفقد قواعده األولى القدرة على تموينه‪ ،‬يجب عليه أن يؤسس قواعد بديلة؛ األمر الذي كان‬
‫يتطلب وقتا في القرن السابع‪ .‬لكن العرب حسب التاريخ التقليدي أهملوا هذا املبدأ االستراتي ي األساس ي في تلك‬
‫املرحلة‪ .‬فما أن اسيطروا على بلد حتى ينطلقوا الجتياح بلد آخر‪ .‬لقد وصلوا إلى تونس واتجهوا فورا نحو املغرب؛ وما‬
‫أن رأوا أمواج املحيط حتى أبحروا نحو أوروبا‪ .‬ثالث سنوات فيما بعد تسللوا عبر جبال التبيريني واجتاحوا مقاطعة‬
‫اكيتانيا في فرنسا"‪.‬‬
‫"لم يكن العرب على معرفة دقيقة بهذه األهداف العسكرية‪ ،‬ولم يكن لدَهم بعد خرائط وال اعرفون حتى ملاذا‬
‫جاءوا وما سيفعلون في إيبيريا"‪.‬‬
‫ولنأخذ اجتماعات موس ى بن نصير املذكورة سابقا‪ .‬هل تخضيب لحية القائد بالحناء هو الذي فتح الحصن‪،‬‬
‫وأدخل الناس في الدين أفواجا‪ ،‬وجعلهم يدافعون عنه ويستشهدون في سبيله‪ .‬ذلك أمر مرفوض حتما‪ .‬الذي جعل‬
‫الناس تؤمن هو ما كان يدور في تلك االجتماعات‪ ،‬من نقاش وحوار وجدال بين قوة أفكار اإلسالم ووهن أفكار الكفر‪.‬‬
‫وحتى إذا ما ثبت ألولئك املعذبين بنار اإلقطا وغموض التثليث أن التوحيد هو الحق‪ ،‬وأن الرجال الذين يحملون‬
‫هذه الدعوة صادقون واعون مؤثرون قادرون على إنزال الهزائم النكراء بمثل تلك املجتمعات املتهاوية من الداخل‪،‬‬
‫فتحوا لهم الحصون‪ ،‬وأقبلوا على اإلسالم يلتزمون به ويدافعون عنه‪ ،‬ملا ملسوه وشاهدوه من عظمته وعدله‪.‬‬
‫"فقد كان القوط الذين حكموا األندلس يظلمون أهل البالد (الوندال والرومان واألخالط األخرى من البشر‬
‫واألعراق التي كانت قدمت من غالية وبالد الجرمان واللومبارد غزاة ثم استقروا فيها‪ ،‬ومن قبائل الوندال جاء اسم‬

‫‪109‬‬
‫األندلس)‪ ،‬ثم جاء القوط قبائل متبربرة من أقي ى الشمال‪ ،‬وغلبوا على البالد واستأثروا بخيرا ها‪ ،‬وبطشوا بكل من‬
‫خالفهم‪ ،‬فلما جاء املسلمون وجدوا قوما ال يريدون شيئا أكثر وال أهم من التخلص من ظلم القوط"‪.114‬‬
‫يحتج الجيش إلى مؤنة تصله من املدينة املنورة ليكمل املسير‪ .‬فالذين دخلوا في الدين سمعوا قوله تعالى‪:‬‬ ‫لذلك لم ْ‬
‫ُ َ‬ ‫َّ َ ُ َ‬
‫ّللا ف َي ْق ُتلون َو ُي ْق َتلون ‪ ،‬فبذلوا النفس‬ ‫ْ ْ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َّ َ ْ َ َّ َ ُ َ ُ َ َ‬ ‫َّ َّ َ ْ َ‬
‫﴿إن ّللا اشت َرى ِمن املؤ ِم ِنين أنفس ُه ْم وأ ْموال ُه ْم ِبأن ل ُه ْم الجنة يقا ِتلون ِفي س ِب ِيل ِ‬‫ِ‬
‫واملال‪ .‬ولم يحتج الجيش إلى الخرائط‪ ،‬ألن الذين آمنوا من أهل البالد حملوا اإلسالم بأنفسهم‪ ،‬أو وجدوا في اإلسالم‬
‫عدال كانوا ينتظرونه‪ ،‬وساعدوا جيشهم ‪-‬الجيش اإلسالمي‪ -‬على التوغل‪ .‬ولم يحتج الجيش إلى آبار ماء متنقلة أو تقنية‬
‫متطورة‪ ،‬ألنه استخدم ذلك املتوفر بدافع تلك الطاقة الحيوية الهائلة التي زرعها اإلسالم في قلوب امللتزمين به‪.‬‬
‫وال شك أن الدعوة سبقت املعركة؛ فالرسول ﷺ أرسل الرسائل إلى امللوك والعظماء‪ .‬فسار على سنته الخلفاء‬
‫كابرا خلف كابر‪ .‬وأمر الصحابة بوجوب دعوة الناس قبل قتالهم‪ ،‬واالكتفاء بالجزية إذا قبلوا سلطان اإلسالم ورفضوا‬
‫اعتناق الدين‪ .‬فالتزم املسلمون بذلك جيال بعد جيل‪ .‬األمر الذي يؤكد أن الناس علمت باإلسالم وعظمته وعدله قبل‬
‫وصول املجاهدين‪ .‬فإذا ما وصل املجاهدون‪ ،‬وشاهد هم الشعوب الضالة إسالما يتحرك فعال‪ :‬إسالما ال اعتدي‪ ،‬وال‬
‫يظلم‪ ،‬وال اسرق‪ ،‬وال اغتصب‪ ،‬إسالما ينصر املظلوم ويعين الضعيف‪ ،‬ويحل العقدة الكبرى عند اإلنسان‪ ،‬إسالما‬
‫يطبق قوانين الدولة اإلسالمية على املسلمين وغيرهم سواء بسواء من دون تمييز‪ ،‬دخل الناس في دين هللا أفواجا‪ ،‬أو‬
‫بقوا على معتقدا هم آمنين من اإلكراه على تركها‪ ،‬مطمئنين إلى العدل واإلنصاف وحسن املعاملة‪115.‬‬

‫مفاهيم العقيدة محرك دافع للعمل وطاقة هائلة تفتح اآلفاق‬


‫إذن‪ ،‬فمفاهيم العقيدة كانت محركا دافعا للعمل‪ ،‬وطاقة هائلة تفتح اآلفاق للقيام بأعمال عظيمة لم يكن‬
‫الذين قاموا بها أنفسهم يتصورون إمكانية القيام بها بقواهم الذاتية يوما‪ ،‬إال بعد إيمانهم بهذا الدين‪ ،‬وبوعد هللا‬
‫ورسوله لهم بالنصر ولدينه بالتمكين‪ ،‬وإيمانهم بأنهم أصحاب رسالة‪ ،‬وأمة خيرية وشهادة تشهد على األمم!‬
‫لم يكن املسلمون ينظرون حتى مجرد نظر في القضايا العقدية نظرة أفكار جامدة‪ ،‬وال قضايا فكرية تنظيرية‬
‫تغوص للبحث عن شوارد األفهام‪ ،‬وال تجلية غوامض األبحاث‪ ،‬ألنهم بسليقتهم الفكرية اللغوية فهموا أن املراد من‬
‫مباحث االعتقاد أن تكون محركا للعمل‪ ،‬قارنوها بمخزونهم الثقافي الجاهلي‪ ،‬وكانت أدلتها في غاية البساطة‪ ،‬يدرك أي‬
‫عر ي ذي سليقة لغوية بسيطة أن هذا القرآن ليس بكالم بشر‪ ،‬ويدرك أن هذه املعاني السامقة التي جاءت بها الرسالة‬
‫النبي ﷺ وقال له‪ :‬اقرأ علي‪ ،‬فقرأ عليه‪:‬‬ ‫الوليد بن املغيرة َّ‬ ‫ُ‬ ‫هي مما أعاله مثمر‪ ،‬وأسفله مغدق‪ ،‬وفرعه جنان‪ ،‬وملا "جاء‬
‫ون﴾ فقال له‬‫ّللا َي ْأ ُم ُر ب ْال َع ْدل َو ْاإل ْح َسان َوإ َيتاء ذي ْال ُق ْرَ ى َو َي ْن َهى َعن ال َف ْح َشاء َواملُ ْنكر َوال َب ْغي َاعظ ُك ْم ل َع َّل ُك ْم َت َذ َّك ُر َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫﴿إ َّن َّ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫َّ‬
‫‪ 114‬الدكتور وليد سيف‪ ،‬صقر قريش‪ ،‬حوار بين بدر وبين أحد املولدين‪.‬‬
‫‪ 115‬أنظر التفاصيل في مقال في مجلة الوعي‪ ،‬العدد ‪ ،83‬السنة السابعة شوال ‪1414‬هـ‪ ،‬اذار ‪1994‬م‪ :‬الفتح اإلسالمي يذهل املستشرقين‪ ،‬بتصرف شديد‪.‬‬
‫‪110‬‬
‫أعد‪ ،‬فأعاد‪ ،‬فقال الوليد‪ :‬وهللا إن له لحالوة‪ ،‬وإن عليه لطالوة‪ ،‬وإن أعاله ملثمر‪ ،‬وإن أسفله ملغدق‪ ،‬وإنه ليعلو وال‬
‫ُاعلى عليه‪ ،‬وما يقول هذا بشر"‪116.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ربط القر ُ‬
‫اإلنسان بحقيقة الكون الكبرى‪ ،‬وجود هللا تعالى‪ ،‬ربطه بالل ربا مالكا متصرفا مدبرا حكيما‬ ‫آن‬ ‫وحين‬
‫رحيما لطيفا‪ ،‬بمعاني إجمالية‪ ،‬سيروا حيوا هم بناء عليها‪ ،‬فعلموا أن معناها إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة‬
‫رب العباد‪ ،‬وتصرفوا بناء على ذلك املعنى‪ ،‬ولجأوا إلى هللا في الشدائد‪ ،‬لقضاء حوائجهم!‬
‫فهموا املعاني بسليقتهم اللغوية الفكرية‪ ،‬فهما يقيم العالقة بين ما في هذه املعاني اللغوية من طاقة تأثيرية هائلة‪،‬‬
‫وبين الواقع والعمل املفروض عليهم لحمل اإلسالم والدعوة إليه حمال تأثيريا استغل طاقات اإلسالم التأثيرية الفكرية‬
‫الهائلة التي تقلب الواقع وتفتح القلوب والعقول لالستسالم لل تعالى والتدين بدينه!‬
‫املوت والرزق والنصر‪ :‬الفاعل فيها واحد وهو هللا تعالى‬
‫"إن سبب الحياة في الكائنات الحية عموما هو وجود الروح‪ ،‬فبدون الروح ال وجود للحياة‪ ،‬قال تعالى في حق آدم‪:‬‬
‫َ َ َ ُْ ُ َََ ْ ُ‬
‫وحى [الحجر ‪ ،]29‬فالحياة في الجسم املادي وجدت في صورة خاليا بالغة التعقيد‪،‬‬ ‫﴿ف ِإذا س َّويت َه ونفخت ِف ِيه ِمن ُّر ِ‬
‫حولت "الجماد" إلى كائن حي نابض بالحياة بكل مظاهرها وخصائصها‪ ،‬وجعلت خاليا اإلنسان نابضة باملشاعر‬
‫واألحاسيس والعاطفة والحزن والفرح ثم بالعقل والتفكير! هي سر رباني أودعه هللا فيها‪ ،‬وهذا السر له سبب وهو‬
‫وجود الروح‪ ،‬فالروح هي سبب الحياة‪.‬‬
‫ونقصد بالسبب هنا كل ش يء يحمل الطاقة السببية الدافعة للعمل (الطاقة الحيوية في الكائنات)‪ ،‬والتي‬
‫بوجودها انبثقت خصائص الحياة من الحاجات العضوية (والتي لها مظاهر معروفة كالنمو والتنفس)‪ ،‬والغرائز‬
‫(كغريزة حب البقاء والنو )‪ ،‬ثم الطاقة الفكرية في اإلنسان‪ ،‬وأيضا الطاقة السببية مصدرها اآلخر طاقة الجسد‬
‫ويأتي بعضها من التنفس و عضها من الطعام‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫فهناك سبب للحياة وهو وجود الروح وهناك سبب لحركة الجسم وهو الطاقة الغذائية‪ ،‬ولكن هناك شروط الزمة‬
‫لبقاء الحياة في جسم الكائن الملي وهي إشبا الحاجات العضوية كالشرب واألكل والنوم واإلخراج والتنفس والتبريد‬
‫والتدفئة‪ ،‬وإذا لم تشبع حاجات األعضاء فإنها تؤدي حتما إلى املوت‪ ،‬ألنها شروط للحياة‪ ،‬فهي ليست أسبابا لها بل هي‬
‫عوامل الزمة لبقاء الحياة‪.‬‬

‫‪ 116‬وقصة ذلك القول من الوليد أنه ملا قرأ عليــه رســول هللا القـرآن فكأنــه رق لــه‪ ،‬فبلــغ ذلــك أبــا جهــل‪ ،‬فأتــاه فقــال‪ :‬يــا عــم! إن قومــك يــرون أن يجمعــوا لــك مــاال‪،‬‬
‫قال‪ :‬لم؟ قال‪ :‬ليعطوكه‪ ،‬فإنك أتيت محمدا لتعرض ملا قبله‪ ،‬قال الوليد‪ :‬قد علمت قريش أني أكثرها ماال‪ ،‬قال أبو جهل‪ :‬فقل فيه قــوال يبلــغ قومــك أنــك منكــر‬
‫له وأنك كاره له‪ ،‬قال الوليد‪ :‬وماذا أقول؟ فوهللا ما فيكم رج ل أعلم باألشعار مني وال أعلم برجز وال قصيد مني‪ ،‬وال بأشعار الجن‪ ،‬وهللا ما اشبه شيئا من هذا‪،‬‬
‫وهللا إن لقوله الذي يقول حالوة‪ ،‬وإن عليــه لطــالوة‪ ،‬وإنــه ملثمــر أعــاله مغــدق أســفله‪ ،‬وإنــه ليعلــو ومــا ُاعلــى‪ ،‬وإنــه لــيحطم مــا تحتــه‪ ،‬قــال أبــو جهــل‪ :‬ال يربـ ى عنــك‬
‫ُْ‬
‫قومك حتى تقول فيه‪ ،‬قال فدعني أفكر‪ ،‬فلما فكر قال‪ :‬هذا سحر يؤثر‪ ،‬يأث ُره عن غيره‪ .‬انتهى‪ .‬بمعنى‪ :‬ينقله عن غيره‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫والفرق بين السبب والشروط‪ ،‬هو أن الشرط يترتب على عدمه وجود العدم‪ ،‬وال يترتب على وجوده الوجود‪ ،‬في‬
‫حين أن السبب هو ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم‪ .‬والشروط هي عوامل وظروف وحاالت لألشياء‬
‫وما حولها لكنها غير فاعلة فال تحوي طاقة سببية‪ ،‬وهذا هو الفرق الجوهري بين السبب والشروط‪ .‬وتعتبر الحالة التي‬
‫تكتنف األحياء بأنها شرط يحدث عنده الش يء وال تكون سببا فيه‪.‬‬
‫وأيضا فإن من شروط بقاء الحياة في الجسم هو سالمة األجزاء وترابطها مع بعضها‪ ،‬بمعنى اتصال أعضاء الكائن‬
‫الملي مع بعضها‪ ،‬فاذا أ تلفت األعضاء الرئيسية الحيوية في جسم الملي فإن الحياة فيه تنتفي حتما‪ ،‬ولكن ال يلزم من‬
‫بقاء هذه األعضاء سليمة وجود الحياة‪ ،‬ألن الذي تعطل في هذه الحالة هو سبب الحياة وليس شروطها‪ ،‬بمعنى أن‬
‫خروج الروح يلزم منه عدم الحياة ووجودها يلزم منه بقاء الحياة‪ ،‬أما الشروط للحياة فإنها قد تكون موجودة وال يترتب‬
‫عليها بقاء الحياة‪ ،‬ولكن يلزم من عدمها عدم الحياة‪ .‬فإذا حبس إنسان وترك دون شراب فإنه سيموت حتما بعد أيام‪،‬‬
‫وإذا منع عنه التنفس فإنه سيموت حتما بعد دقائق‪ ،‬وهذا ليس ألن سبب الحياة هو الذي تعطل‪ ،‬بل ألن شروط‬
‫الحياة في هذا الكائن الملي قد عدمت فعدمت معها الحياة‪.‬‬
‫فإذا لم نفرق بين سبب الحياة وبين شروطها وقعنا في الخلل‪ ،‬وجعلنا شروط الحياة أسبابا لها‪ ،‬وجعلنا من يخنق‬
‫إنسانا أو يقطع رأسه وكأنه هو الذي يملك سبب الحياة وسبب املوت وهذا خطأ كبير‪ ،‬فالوحيد الذي يملك سبب‬
‫الحياة وهو الروح هو هللا تعالى‪ ،‬وهو الوحيد الذي تقبض هذه الروح بأمره‪ ،‬واإلنسان ال يملك سبب الحياة وإنما قد‬
‫يتحكم في شروطها‪ ،‬فمن يضرب عنق شخص بالسيف أو يضربه على رأسه بأداة حادة قاتلة‪ ،‬فهو عمليا قام بتخريب‬
‫جسم الكائن الملي أي قتله‪ ،‬وبالتالي أفقده الشروط الالزمة لبقاء الروح في الجسد‪ ،‬ألن الجسد لم اعد صالحا‬
‫الستقبال الحياة‪ .‬ومن جو نفسه أو شرب السم أو خنق نفسه بحبل‪ ،‬فهذا العمل هو هدم لبنيان هللا وهو قام‬
‫بتخريبه‪ ،‬فهذا الجسد ليس ملك الشخص حتى يتحكم فيه باإلتالف والتخريب‪ ،‬ولذلك ال يجوز له التبر بأعضائه‬
‫الحيوية حيا أو ميتا‪.‬‬
‫واألمثلة املذكورة من قطع الرقبة‪ ،‬إلى إطالق الرصاص على القلب‪ ،‬إلى فرم لحم الكائن الملي‪ ،‬كل ذلك هو تخريب‬
‫وإتالف للجسم الملي بحيث يصبح غير صال للحياة واحتواء الروح‪ .‬وهذا بالضبط هو املعنى الذي ذكره القرآن في‬
‫َ َّ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ َ َ َ َّ‬
‫ّللا املل َك‬ ‫قصة سيدنا إبراهيم عليه سالم هللا مع النمرود‪ .‬يقول هللا تعالى‪﴿ :‬أل ْم ت َر ِإلى ال ِذي حاج ِإبر ِاهيم ِفي رِب ِه أن آتاه‬
‫َْ ْ َ ْ‬ ‫ّللا َي ْأتي ب َّ‬
‫يم َفإ َّن َّ َ‬ ‫ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ُ ُ َ َ َ َ ُ ْ َ ُ ُ َ‬
‫س ِم َن املش ِر ِق فأ ِت ِب َها ِم َن‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫الش ْ‬
‫ِ ِ‬
‫ُ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫اه‬
‫ر‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ال إ ْ‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫ِإذ قال ِإبر ِاهيم رِ ي ال ِذي يح ِيي وي ِميت قال أنا أح ِيي وأ ِميت‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ْ َ ُ َ َّ َ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫ّللا ال ََ ْه ِدي ال َق ْو َم الظ ِ ِامل َين﴾ [البقرة ‪ ،]258‬فسيدنا ابراهيم عليه سالم هللا استشهد بأن هللا‬ ‫املغ ِر ِب ف ِهت ال ِذي كفر ۗ و‬
‫هو الذي َهب الحياة ويخلق جسم االنسان‪ ،‬وهو الذي يقبض الروح فهو الذي يحيي ويميت وحده‪ ،‬وهذا اختص هللا‬
‫به نفسه‪ .‬وأما النمرود فقد رد عليه بأنه هو أيضا يحيي ويميت‪ ،‬من خالل فعل يده باطالق سراح شخص محكوم‬
‫باإلعدام‪ ،‬وتنفيذ اإلعدام في شخص آخر‪ ،‬فكأنه أصبح يملك املوت والحياة بيديه‪ ،‬فالنمرود فهم األمور على غير‬
‫وجهها الصحيح كما يفعل بعض الناس‪ ،‬فابراهيم عليه السالم ذكر أن الحياة أي الخلق والروح هو دليل على وجود‬

‫‪112‬‬
‫هللا وقدرته‪ ،‬والنمرود قلب األمر على وجه آخر بأنه هو استطيع التحكم في إبقاء الحياة في شخص وفي إعدام آخر أي‬
‫بإتالف أعضائه‪ .‬فاعتبر إ تالف األعضاء بالقتل بأنه كملكية الحياة واملوت‪ ،‬وألجل ذلك انصرف سيدنا إبراهيم عن‬
‫نقاشه ألن النمرود حاول ايجاد ثغرة في الدليل لينفذ منها‪ ،‬فحور املعنى الصحيح الذي قصده سيدنا ابراهيم إلى معنى‬
‫ناقص أي جعل سبب الحياة وخلق الجسم وش هه بإتالف األعضاء أو إبقائها سليمة وشتان بين األمرين‪ ،‬لذلك جاءه‬
‫ابراهيم بدليل آخر وهو حركة الشمس من املشرق إلى املغرب ف هت الذي كفر‪."117‬‬
‫املوت واحد وسببه واحد أيضا وهو انتهاء األجل‪ ،‬واملميت هو هللا تعالى وحده‪ ،‬واملباشر إليجاد املوت هو هللا‬
‫سبب ال يمكن أن‬ ‫حتما‪ .‬وأن الْمُْ َّ‬
‫ً‬
‫سبب‬ ‫سببا ال بد أن ينتج الْمُْ َّ‬
‫ً‬
‫سبحانه وتعالى‪ .‬وذلك أن الش يء حتن يصح أن يكون‬
‫ينتج إال عن سببه وحده (أو أسبابه إن كانت له عدة أسباب ‪ .‬وهذا بخالف الحالة‪ 118‬فإنها ظرف خاص بمالبسات‬
‫خاصة يحصل فيها الش يء عادة‪ ،‬ولكنه قد يتخلف وال يحصل‪ .‬والحالة ال تر ى ملستوى السبب ألنها قد تتخلف فال‬
‫سبب فاحتاجت لغيرها لينتجه‪.‬‬ ‫سبب‪ ،‬أي أنها ال تحوي الطاقة السببية الفاعلية الكافية إلنتاج الـمُـ َّ‬
‫ينتج عنها الـمُـ َّ‬
‫واملؤثر الخار ي قد يكون له تأثير في تفعيل الطاقة السببية وقد ال ينج في حاالت معينة‪ ،‬فقد يطلق شخص‬
‫الرصاص على شخص ليقتله‪ ،‬فيموت‪ ،‬بانقضاء أجله‪ ،‬وقد اسعفه األطباء فال يموت‪ ،‬فيكون إطالق الرصاص ودور‬
‫الذي حاول القتل مظنة للسبب‪ ،‬وبتخلف هذا عن إحداث املوت ولو مرة ينفي عنه أن يكون السبب للموت‪ ،‬وكذلك‬
‫لو قام شخص بقطع رقبة شخص‪ ،119‬فقد استطيع األطباء إعادة وصلها فال يموت في الحال‪ ،‬إذ ملا يحن أجله بعد‪ ،‬أو‬

‫‪ 117‬بحث لألستاذ يوسف الساريس ي بعنوان‪ :‬املوت بيد هللا وحده‪.‬‬


‫‪ 118‬فمــثال‪ ،‬الحيــاة ســبب للحركــة فــي الحيــوان‪ ،‬فــإذا وجــدت الحيــاة فيــه‪ ،‬وجــدت الحركــة منــه‪ ،‬وإذا ُع ـدمت الحيــاة فيــه ُع ـدمت الحركــة منــه‪ .‬ومــثال‪ ،‬الطاقــة ســبب‬
‫لتحرك املوتور‪ ،‬فــإذا وجــدت الطاقــة تحــرك املوتــور‪ ،‬وإذا لــم توجــد الطاقــة ال توجــد الحركــة‪ .‬وهــذا بخــالف املطــر بالنســبة إلنبــات الــزر ‪ ،‬فإنــه حالــة مــن الحــاالت‬
‫التي ينبت بها الزر وليس سببا‪ .‬وذلك أن املطر ينبت الزر ‪ ،‬ولكن قد ينـزل املطر وال ينبت الزر ‪ ،‬وقد ينبت الزر من رطوبة األرض وحدها كالزر الصيفي ينبت‬
‫بــدون ن ــزول املطــر‪ .‬وك ــذلك مــرض الط ــاعون وضــرب الرص ــاص وغيــر ذل ــك قــد توج ــد وال يحصــل امل ــوت‪ ،‬وقــد يحص ــل املــوت م ــن غيــر أن يوج ــد أي ش ـ يء م ــن ه ــذه‬
‫األشياء التي يحصل فيها املوت عادة‪ .‬وهو يــدل داللــة واضــحة علــى أن هــذه األشــياء التــي حصــل منهــا املــوت ليســت أســبابا لــه‪ .‬إذ لــو كانــت أســبابا لــه ملــا تخلــف وملــا‬
‫حصــل بغيرهــا‪ ،‬أي ملــا حص ــل بغيــر ســبب محســوس‪ .‬فمج ــرد تخلفهــا ولــو مــرة واح ــدة‪ ،‬ومجــرد حصــول املــوت ب ــدونها ولــو مــرة واحــدة‪ ،‬ي ــدل قطعــا علــى أنهــا ليس ــت‬
‫أسبابا للموت‪ ،‬بل حاالت يحصل فيها املوت‪ ،‬وسبب املوت الحقيقي الذي ُينتج املسبب هو غيرها وليست هي‪.‬‬
‫‪ 119‬وعالوة على ذلك فإن هللا خلــق لألشــياء خاصــيات‪ ،‬فــإذا ُعـدمت الخاصــية زال أثرهــا‪ ،‬وال توجــد الخاصــية إال بوجــود العــين التــي هــي مــن خواصــها‪ ،‬فمــثال خلــق‬
‫هللا فــي العــين الرُيــة‪ ،‬وخلــق فــي األذن الســمع‪ ،‬وخلــق فــي األعصــاب الحــس‪ ،‬وخلــق فــي النــار اإلحـراق‪ ،‬وخلــق فــي الليمــون الحموضــة‪ ،‬وهكــذا‪ .‬وهــذه الخاصــية للش ـ يء‬
‫نتيجة طبيعية لوجوده‪ ،‬فهي بمثابة صفة من صفاته‪ ،‬فمثال املاء من صفاته الطبيعية امليوعة‪ ،‬ومن خاصياته اإلرواء‪ ،‬واملوتور مــن صــفاته الطبيعيــة الحركــة‪،‬‬
‫ومن خاصياته الحرارة‪ ،‬والقلب من صفاته الطبيعية النبض ومن خاصياته الحياة‪ .‬فكــان اإلرواء والحـرارة والحيــاة صــفة مــن صــفات الشـ يء الطبيعيــة مــع كونهــا‬
‫ً‬
‫خاصية من خواصه‪ ،‬فال يكون وجود الخاصية في الش يء هو سبب العمل الذي هو أثرلها‪ ،‬فال يكون حينئذ انعْْدام الخاصْْية سْْببا النعْْدام العمْْل الْْذي‬
‫هْْو أثْْرلهْْا‪ .‬وذلــك أنــه لــيس وجــود خاصــية اإلح ـراق فــي النــار كافيــا إليجــاد اإلحـراق‪ ،‬فــال يصــل أن يكــون ســببا لدحـراق‪ ،‬وإذا كــان وجــود خاصــية اإلحــراق فــي النــار‬
‫لــيس س ــببا إليج ــاد اإلح ـراق‪ ،‬فيك ــون حينئ ــذ انعــدام خاص ــية اإلح ـراق م ــن النــار ل ــيس س ــببا لعــدم اإلح ـراق‪ ،‬ب ــل الس ــبب هــو تفاع ــل األكد ــجين مــع الن ــار م ــع امل ــادة‬
‫القابلة لالحتراق بنسب معينة تسمح بوجود هذا التفاعل‪ ،‬فكمية قليلة من األكدجين مع نار وجذ شجرة ضخم ال ينــتج نــارا‪ ،‬بخــالف ورقــة ونــار وكميــة كافيــة‬
‫من األكدجين‪ ،‬مع انتفاء وجود املوانع (مطفئات النار) فإذا وجدت النار كانت سببا في اإلحراق للش يء القابل لالحتراق!‬
‫‪113‬‬
‫قد استطيعون وضع الرأس والجسد على أجهزة اإلنعاش زمنا ريثما يجرون عملية قد ينتج عنها بقاء املريض حيا زمنا‬
‫آخر‪ ،120‬وقد يموت شخص زمنا موتا سريريا ثم اشاء هللا أن يحييه‪ ،‬فيموت ثانية باألجل املقدر له‪ ،‬وهذا كله يدل على‬
‫أن السبب الحقيقي للموت هو انقضاء األجل‪ ،‬وما دونه ليس إال حاالت!‬
‫وقد فهم النمرود أن اإلحياء واإلماتة يكونان بقتل أسير أو العفو عنه‪ ،‬ولكن الفاعل على الحقيقة هو هللا تعالى‪،‬‬
‫يحيي ويميت‪ ،‬لم اسند فعل اإلماتة واإلحياء لغيره‪ ،‬كما لم اسند فعل الرزق لغيره‪ ،‬فاملوت يحصل حتما باألجل وال‬
‫يتخلف مطلقا فكان األجل سببا للموت‪ ،‬والذي يميت هو هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو الذي يباشر فعل اإلماتة‪ ،‬وإسناد‬
‫الفعل له على الحقيقة‪ ،‬وكذلك الذي يرزق هو هللا تعالى وحده‪ ،‬يرزق من اشاء‪ ،‬وأنه هو الذي يبسط الرزق ملن‬
‫اشاء‪ ،‬ويقدر له‪ ،‬ففيها كلها نسبة الرزق إلى هللا‪ ،‬وفيها أن ال رازق غيره‪ ،‬مما يدل على أنه هو الذي يرزق‪ ،‬وهو إسناد‬
‫َ‬
‫حقيقي‪ ،‬واملراد منه فعل الرزق‪ ،‬ولهس خلقه‪ ،‬أي ليس هو إسناد باعتبار الخلق‪ ،‬ولكن باعتبار املباشرة‪ ،‬ألن األصل‬
‫في اإلسناد الحقيقة‪ ،‬وال ينصرف إلى املجاز إال بقرينة‪ ،‬وال قرينة تصرف اإلسناد عن معناه الحقيقي‪ ،‬فتكون نسبة‬
‫الرزق واإلماتة والنصر إلى هللا نسبة حقيقية‪ ،‬والرزق كذلك فعل أي ال بد له من فاعل‪ ،‬أي من يباشره‪ ،‬واإلنسان ال‬
‫يباشر الفعل بنفسه‪ ،‬والذي يباشر إعطاء الرزق هو هللا تعالى‪ ،‬واملشاهد املحسوس يري بأن هناك تحكما في الرزق‬
‫يكمن وراء الحاالت واألبواب التي يحصل فيها الرزق بسعي اإلنسان أو بغير سعي منه‪ ،‬وهذا التحكم كيفا وكما يجب‬
‫أن اسند إلى فاعل متحكم فيه‪ ،‬وقد دلت األيات القطعية على أن الفاعل الرزاق هو هللا تعالى‪ ،‬ولذلك يجب أن نؤمن‬
‫إيمانا جازما بأن هللا هو الرزاق وهو مقسم هذا الرزق بين العباد وأن سعي اإلنسان ليس هو سبب الرزق‪ ،‬ألن السعي‬
‫ليس هو من يولد الثروة واملال وال هو الذي يوجدهما أو يصنعهما‪ ،‬بل ال بد من خالق للثروة ومقسم لها‪ ،‬وألن الرزق‬
‫قد يأتي من غير سعي‪،‬‬

‫وكــذلك لــيس وجــود خاصــية الحيــاة فــي القلــب كافيــا إليجــاد الحيــاة‪ ،‬فــال يصــل أن يكــون ســببا للحيــاة‪ .‬وإذا كــان وجــود خاصــية الحيــاة لــيس ســببا إليجــاد الحيــاة‪،‬‬
‫فيكون حينئذ انعدام خاصــية الحيــاة مــن القلــب لــيس ســببا النعــدام الحيــاة‪ .‬وعلــى ذلــك ال يقــال إن ذهــاب الشـ يء ســبب لــذهاب خاصــياته‪ ،‬بــل الــذي يكــون ســببا‬
‫ذهب مع ــه خاص ــيته‪.‬‬‫ل ــذهاب خاص ــية الش ـ يء ه ــو أم ــر خ ــارج ع ــن الش ـ يء نفس ــه‪ُ ،‬ي ـذهب خاص ــيته ويبق ــي الش ـ يء ذات ــه دون خاص ــيته‪ ،‬أو ي ــذهب الش ـ يء نفس ــه ف ُي ـ ُ‬
‫فيكون الش يء الذي أذهب الخاصية‪ ،‬أو أذهب الش يء وأذهب معه خاصــيته هــو ســبب ذهــاب الخاصــية ولــيس الشـ يء نفســه ســببا لــذهاب خاصــيته‪ .‬وعليــه فإنــه‬
‫من هذه الجهة أيضا‪ ،‬أي من جهــة كــون ال حيــاة خاصــية مــن خــواص وجــود الـرأس علــى الجســم‪ ،‬وخاصــية مــن خــواص نــبض القلــب‪ ،‬ال يقــال إن إزالــة الــرأس عــن‬
‫الرقبة سبب املوت‪ ،‬ووقف القلب سبب املوت‪ ،‬بل مظنة السبب هو الذي أزال الخاصية من الرقبــة بإزالتهــا‪ ،‬ومــن القلــب بوقفــه‪ ،‬ولــيس هــو قطــع الرقبــة ووقــف‬
‫القلــب‪ .‬بــل وحص ــول األجــل الــذي يأخ ــذ الــروح مــن الجس ــد‪ ،‬وينهــي الحيــاة‪ ،‬وعل ــى ذلــك ال يكــون س ــبب املــوت الحقيقــي ه ــو إتــالف العضــو أي قط ــع الرقبــة ووق ــف‬
‫القلــب‪ ،‬ألنــه اســتحيل أن يحصــل أي إتــالف للعضــو إال بمــؤثر خــار ي وألن الحيــاة خاصــية مــن خواصــه ‪ -‬أي العضــو ‪ -‬فــذهابها ال يكــون منــه وإنمــا بمــؤثر خــار ي‬
‫أزاله ــا ‪ -‬أي الخاص ــية ‪ -‬أو أزال ــه وأزاله ــا مع ــه‪ .‬وك ــذلك ال يك ــون س ــبب امل ــوت ه ــو امل ــؤثر الخ ــار ي ألن ــه ثب ــت عق ــال وواقع ــا أن ــه ق ــد يحص ــل امل ــؤثر الخ ــار ي وال يحص ــل‬
‫املــوت‪ ،‬وقــد يحصــل املــوت دون أن يحصــل هــذا املــؤثر الخــار ي‪ .‬والســبب ال بــد أن ينــتج املســبب حتمــا‪ ،‬فلــم يبـ َـق إال أن ســبب املــوت الحقيقــي الـذي ُينــتج املســبب‬
‫حتما وهو املوت‪ ،‬هو غير هذه األشياء‪ ،‬وهو انقضاء األجل‪.‬‬
‫‪ 120‬قيل‪ ،‬بأن طبيبا أجرى عملية توصيل الرأس بالجسد لقرد استمر بعدها في الحياة بضع ساعات قبل أن يموت‪ ،‬والطــب اآلن ال اســتطيع ذلــك‪ ،‬ولســنا نجــزم‬
‫على املستقبل!‬
‫‪114‬‬
‫وعالوة على هذه فإنه لم يرد نسبة الرزق إلى اإلنسان بأنه هو الذي يرزق نفسه‪ ،‬ال في آية‪ ،‬وال في حديث‪ ،‬بل جاءت‬
‫نسبة الرزق في كل النصوص إلى هللا تعالى‪ ،‬الذي أمر بالسعي في مناك ها وأمر بالعمل‪ ،‬طريقة للحصول على الرزق!‬
‫فالسعي والعمل ليست أسبابا للرزق‪ ،‬بل طريقة له‪ ،‬وحيث إن السبب ينتج عنه املسبب‪ ،‬فإننا نجد سعيا قد ال ينتج‬
‫عنه رزق‪ ،‬وعمال قد ال ينتج عنه رزق‪ ،‬ورزقا قد يأتي من غير سعي وال عمل كامليراث وغيره‪ ،‬والتاجر الذي اسعى للربح‬
‫فيخسر‪ ،‬فكان هذا دليال على أن السعي والعمل وامليراث ليست أسبابا للرزق‪ ،‬بل حاالت يأتي بها الرزق وقد يتخلف!‬
‫فالحاالت التي أنتج فيها السعي الرزق‪ ،‬والحاالت التي لم ينتج السعي فيها الرزق‪ ،‬والحاالت التي يأتي فيها الرزق من‬
‫غير سعي‪ ،‬اشاهد فيها كلها من تتبع واستقراء جميع أنواعها أن هناك وراء هذه الحاالت من يتحكم في الرزق غير هذه‬
‫الحاالت‪ ،‬ألن الحاالت ليست أسبابا‪ ،‬فيكون من يتحكم في الرزق هو الذي يعطي الرزق‪ ،‬وهو الذي يمنعه‪.‬‬
‫وقد رأينا في بحث "انتهاء األجـل هـو السـبب الوحيـد للمـوت" تفريقـا بـين مباشـرة فعـل اإلماتـة والتـي ال دخـل لدنسـان‬
‫بمباشــر ها‪ ،‬ولــم تــرد أي قرينــة تــدل علــى أن مباشــرة املــوت مــن غيــر هللا‪ ،‬فهــو يتــوفى األنفــس‪ ،‬وهــو يرســل مالئكتــه لقــبض‬
‫األرواح‪ ،‬بخ ــالف اله ــدى والض ــالل‪ ،‬ف ــإن م ــن يباش ــر الفع ــل ل ــيس هللا س ــبحانه فيك ــون ق ــد أجب ــر الن ــاس عل ــى الهداي ــة أو‬
‫الضالل‪ ،‬فإذا عاق هم على أمر ال خيـار لهـم فيـه فيكـون فـي ذلـك ظلـم لهـم تعـالى هللا عنـه علـوا كبيـرا‪ ،‬فـالقرائن الـواردة فـي‬
‫القـ ـرآن تص ــرف مباش ــرة الفع ــل فـ ــي الهداي ــة والض ــالل ع ــن هللا تع ــالى إلـ ــى اإلنس ــان‪ ،‬فيهت ــدي اإلنس ــان باس ــتعمال عقلـ ــه‬
‫استعماال صحيحا‪ ،‬فتكون هداية هللا هداية توفيق أو خلق للهداية في نفس اإلنسان‪ ،‬أي إيجاد قابلية الهداية‪ ،‬كما أن‬
‫الهدايــة والضــالل تكــون وفــق مشــيئة هللا وإرادتــه‪ ،‬وهــذا موضــو آخــر‪ ،‬أمــا فــي موضــو النصــر‪ ،‬فــإن هللا تعــالى هــو الــذي‬
‫يباشــر فعــل إنزالــه‪ ،‬وإسْْناد الفعْْل لْْه علْْى الحقيقْْة‪ ،‬وامل ْراد من ْه فعْْل النصْْر‪ ،‬ولْْهس خلقْْه‪ ،‬ألن األصــل فــي اإلســناد‬
‫الحقيقة‪ ،‬وال ينصرف إلى املجاز إال بقرينة‪ ،‬وال قرينة تصرف اإلسناد عن معناه الحقيقي‪ ،‬فتكون نسبة النصرإلى هللا‬
‫ۡ ُُ ُ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َّ ۡ َ ُ‬
‫لِل ِإال ُبشـ َر ْى لكـ ۡم َوِلـ َتط َمَّ َّن قلـ ُوبكم ِبـ ِهۦۗ‬ ‫نسْْبة حقيقيْْة‪ ،‬ونفـت اآليـات نفيــا مطلقـا قاطعـا أن ينسـب لغيـره ﴿ومـا جعلـه ٱ‬
‫َ ُ ۡ ُ ُ َّ ُ َ َ َ َ َ ُ ۡ َ َ ۡ ُ ۡ ُ ۡ َ َ َ‬ ‫ص ُرإ َّال م ۡن عند ُ َّۚ ٱ ۡل َعزیز ٱ ۡل َ‬ ‫َ َ َّ ۡ‬
‫﴿إن ینصركم ٱلِل فال غ ِالب لكم و ِإن یخذلكم فمن ذا‬ ‫ِ‬ ‫]‪،‬‬ ‫‪126‬‬ ‫ان‬
‫ر‬ ‫عم‬ ‫[آل‬ ‫﴾‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ی‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وما ُلن ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫َ َّ ۡ َ ْ َ َّ ُ َ ُ ل َّ ُ ۡ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َّ َ ۡ َّ ۡ ُ‬ ‫َّ َ ُ ُ ۢ َ ۡ‬
‫صـ ُركم ِمـن‬ ‫لِل فل َی َت َوك ِل ٱمل ۡؤ ِم ُنـون﴾ [آل عمـران ‪﴿ ]160‬أمـن هـذا ٱلـ ِذی هـو جنـد لكـم ین‬ ‫ٱل ِذی ینص ُركم ِمن بع ِد ِهۦۗ وعلى ٱ ِ‬
‫ُ‬ ‫ۡ َ ْ ُ َ َّ‬ ‫ْ‬
‫ون ِإال ِف ـی غ ـ ُرور﴾ [املل ــك ‪ ،]20‬أو ييه ـ له ــم م ــن ينص ــرهم م ــن عب ــاده (األنص ــار م ــثال) فف ــي س ــورة‬ ‫ُدو ِن ٱ َّلر ۡح َم ـ ِ ۚن ِإ ِن ٱلك ـ ِفر‬
‫األنبيـاء‪﴿ :‬ونوحــا إذ نــادى مــن قبــل فاســتجبنا لــه فنجينــاه وأهلــه مــن الكــرب العظــيم ي ونصــرناه مــن القــوم الــذين كــذبوا‬
‫سوء فأغرقناهم أجمعين﴾ ‪77-76‬‬ ‫بآياتنا إنهم كانوا قوم ْ‬
‫وفي سورة األعراف ‪…﴿ :157‬فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الـذي أنـزل معـه أولئـك هـم املفلحـون﴾‪،‬‬
‫فنصرهم للدعوة تدخير لهم إلجراء السنة اإللهية على أيدَهم‪ ،‬وليسوا هم من يملك مباشرة فعل النصـر إذ أنـه بـنص‬
‫القرآن محصور بيد هللا تعالى وحده‪.‬‬
‫"وألجل أن يطمان اإلنسان فال يقلق من نقص املوارد والثروات‪ ،‬فقد تكفل له الرب سبحانه بتوفير ما يلزمه‬
‫للمعاش‪ ،‬فعناية هللا باملخلوقات اقتضت تدخير كل ما في األرض للبشر ليعمروها وليكونوا خلفاء فيها‪ ،‬و هيئة ما فيها‬

‫‪115‬‬
‫من ثروات لتكون صالحة لحيا هم قال تعالى‪﴿ :‬وجعلنا لكم فيها معااش ومن لستم له برازقين﴾‪ ،‬فجعل هللا سبحانه في‬
‫ثروات األرض الصالحية ألشبا حاجات اإلنسان حيث قدر هللا خواصا وصفات معينة‪ ،‬تجعلها قابلة لالشبا‬
‫واالنتفا منها‪ ،‬وما على اإلنسان إال السعي ألخذ ما يلزمه من هذه الثروات الربانية املعدة ملنفعته وأن اشبع بها‬
‫جوعاته‪.‬‬
‫وجميع مصادر الثروة الظاهرة والباطنة في األرض هي عطاء رباني أور ها هللا تعالى لبني آدم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وآتوهم من‬
‫مال هللا الذي آتاكم﴾‪ ،‬فاملال هو مال هللا وحده والبشر مستخلفون فيه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين‬
‫فيه﴾‪ ،‬وجعل هللا هذه الثروات قريبة اسهل الحصول عليها بش يء بسيط من السعي والتعب‪ ،‬كالتقاط الثمار من‬
‫الشجر أو صيد السمك من البحر أو صيد الحيوانات البرية‪ ،‬وكذلك خلق هللا تعالى األنعام وسخرها لدنسان لينتفع‬
‫منها قال تعالى‪﴿ :‬واألنعام خلقها لكم﴾ وقال‪﴿ :‬ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم هللا على ما رزقهم من بهيمة‬
‫األنعام﴾‪.‬‬
‫وهذا العطاء الرباني للمخلوقات جميعا ‪-‬بما فيها اإلنسان‪ -‬هو الرزق‪ ،‬فالرازق لدنسان وللمخلوقات هو هللا تعالى‪،‬‬
‫ومعنى كونه رازقا هو عطاُه الكريم لجميع البشر ملا يلزمهم الشبا جوعة األكل والشرب وتملك املال‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬كال‬
‫نمد هؤالء وهؤالء من عطاء ربك وما كان عطاء ربط محظورا﴾ وهذا يدلنا على املعنى الواقعي للرزق‪ .‬ويدلنا على معنى‬
‫أن هللا تعالى هو السبب الفاعل للرزق‪ ،‬فهو اعطي عطاء بال مقابل وال ثمن‪ ،‬وهو مقسم الرزق بين عباده كما اشاء‪،‬‬
‫وهذا التقسيم لألرزاق باإلنعام أو بالتقدير (ضيق الرزق) كما وكيفا هو ابتالء وامتحان رباني للعباد‪."121‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ ُ‬ ‫َََ ُ ُ ََُ ُ‬ ‫َّ ُ َّ‬
‫﴿ّللا ال ِذي خلقك ْم ث َّم َرزقك ْم ث َّم ُي ِميتك ْم ث َّم ُي ْح ِييك ْم َه ْل ِمن ش َركا ِئكم َّمن َيف َع ُل ِمن ذ ِلكم ِمن ش ْي لء ُس ْب َحان ُه‬
‫َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َّ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ُ ُ ُ ُ ْ َ َ َّ ْ‬
‫ص ُر إ َّال م ْن عند َّّللا ۚ إ َّن َّ َ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ ُ ْ ُ َ‬
‫ّللا‬ ‫وتعالى عما اش ِركون﴾ [‪ 40‬الروم]‪﴿ ،‬وما جعله ّللا ِإال بشرى وِلتطم ِان ِب ِه قلوبكم ۚ وما الن ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ َّ ْ ُ َّ ْ ْ َّ ْ‬ ‫َ‬
‫ّللا ال َع ِز ِيز ال َح ِك ِيم﴾ [آل عمران ‪﴿ ،]126‬أمن هذا الذي هو جند‬ ‫ع ِزيز ح ِكيم﴾[األنفال ‪﴿ ،]10‬وما النصر ِإال ِمن ِعن ِد ِ‬
‫َ‬
‫ْ ُُْ‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ ْ ُ ْ ُ ُ َّ ُ َ َ َ‬
‫ّللا فال غ ِال َب لك ْم َو ِإ ْن َيخذلك ْم‬ ‫﴿إن ينصركم‬ ‫لكم ينصركم من دون الرحمن ِإن الكافرون إال في غرور﴾ [‪ 20‬امللك]‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َّ ْ ُ‬
‫ّللا فل َي َت َوك ِل امل ْؤ ِم ُنون﴾ [آل عمران ‪.]160‬‬
‫فمن ذا ال ِذي ينصركم ِمن بع ِد ِه وعلى ِ‬
‫املنظومة السببية للرزق‪:122‬‬
‫وحتى يدرك اإلنسان أن الفاعل الحقيقي للرزق هو هللا تعالى‪ ،‬فإن عليه إدراك عمل املنظومة السببية للرزق‪،‬‬
‫ونقصد بذلك أن هللا تعالى جعل بني البشر اعيشون ضمن مجتمعات ويتعاونون فيما بينهم إلشبا حاجا هم املختلفة‬
‫وإعمار األرض‪ ،‬ويحصلون كمجموعات على الرزق الرباني‪ .‬ولكن تعاون البشر في الحصول على هذه الثروات والنعم ال‬

‫‪ 121‬األستاذ يوسف الساريس ي‪ ،‬بحث بعنوان‪ :‬الرزق بيد هللا‪.‬‬


‫‪ 122‬األستاذ يوسف الساريس ي‪ ،‬بحث بعنوان‪ :‬الرزق بيد هللا‬
‫‪116‬‬
‫اعني أنهم هم من صنعوا هذه الثروات واملنافع‪ ،‬بل هم اكتسبوا هذه الثروات التي هي رزق وعطاء رباني‪ ،‬فهم ال‬
‫يقدرون على ايجاد الثروة واالنتفا بها إال بتمكين هللا لهم في األرض وتدخير ما فيها ملنافعهم‪.‬‬
‫ويقت ي واقع العمران البشري أن اعتمد بعض الناس على بعض الكتساب األرزاق‪ ،‬ويكون االعتماد فيما بينهم‬
‫على شكل سالسل مترابطة‪ ،‬وكل إنسان اشكل حلقة من حلقات هذه السالسل الرزقية‪ ،‬ومن خالل العالقات‬
‫والتعاون فيما بينهم تصل األرزاق إليهم جميعا‪ ،‬فواقع التعاون املجتمعي أن األعمال تقسم بين األفراد كل حسب‬
‫قدراته وإمكانياته‪ ،‬فيتخصص مجموعة من األفراد في أعمال معينة يقومون بها للحصول على املال فينتفعون بها‬
‫وينفعون املجتمع ككل‪.‬‬
‫وتقسيم العمل التخصي ي يتعدد حسب ما يلزم للمجتمع من أمور‪ ،‬فهناك الزراعة التي هي طريقة الحصول على‬
‫األقوات والطعام‪ ،‬وهناك الصناعة التي هي طريقة تنمية الثروات وتحويلها لتكون نافعة باستخدام األدوات‪ ،‬وهناك‬
‫التجارة التي هي طريقة إيصال وامتالك أفراد املجتمع لهذه الثروات‪ ،‬وهناك اإلجارة وهي طريقة إلضافة الجهود بالعمل‬
‫البدني والذهني لالنتفا بالثروات وتنميتها‪ ،‬وبهذه الطريقة توز هذه الثروات بين أفراد املجتمع‪.‬‬
‫وعليه فالتخصص وتقسيم العمل بين الناس ال اعني أن بعض البشر يرزقون البعض اآلخر‪ ،‬بل الرزاق هو هللا‬
‫وهم فقط يباشرون االنتفا بهذه األرزاق بتعاونهم مع بعضهم‪ ،‬ولذلك ال يجب أن يظن األجير حين يأخذ ماال ممن‬
‫استأجره أن املؤجر هو الذي رزقه‪ ،‬بل يجب أن يدرك أنه واحد من حلقات السلسلة الرزقية التي توز هذه األرزاق بين‬
‫العباد‪ ،‬يقول هللا تعالى‪﴿ :‬وإذا حضر القسمة أولوا القر ى واليتامى فارزقوهم منه﴾ أي ادفعوا لهم من هذا الرزق‬
‫الذي أصابكم‪ .‬فيجب االيمان بأن هللا هو الرزاق‪ ،‬ويجب القيام بالعمل املطلوب في أي باب من األبواب للحصول على‬
‫رزق هللا‪ ،‬فهناك الرزق وهناك طريقة معينة للحصول على هذا الرزق‪.‬‬
‫السعي لهس سببا في ايجاد الرزق وإنما هو سبب ألخذ الرزق من أبوابه‪:‬‬
‫إن هللا تعالى قد طلب من اإلنسان السعي من أحد أبواب الرزق الحالل التي يوجد فيها مدخل للسعي كالزراعة‬
‫والصناعة والتجارة والعمل ‪ ...‬الخ‪ ،‬ووعد هللا الساعين املبتغين لفضل هللا بسعة الرزق‪ ،‬ولكنه لم اعد غير الساعين‬
‫بالرزق إال تكرما منه وفضال‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬وأن ليس لدنسان إال ما سعى‪ ،‬وأن سعيه سوف يرى‪ ،‬ثم يجزاه الجزاء‬
‫األوفى﴾‪ .‬وقال في سورة امللك‪﴿ :‬هو الذي جعل لكم األرض ذلوال فامشوا في مناك ها وكلوا من رزقه﴾‪.‬‬
‫وهللا تعالى قد حدد لدنسان طريقة للحصول على الرزق من مظانه‪ ،‬ويكون ذلك من خالل طلب الرزق من أحد‬
‫األبواب التي هناك مدخل للسعي فيها‪ ،‬فإذا سعى اإلنسان للحصول على الرزق فإنه ‪-‬بغلبة الظن‪ -‬سيحصل على هذا‬
‫الرزق من أحد أبواب السعي أو بأكثر من باب‪ ،‬كما وعده هللا تعالى‪ ،‬وإذا لم َ‬
‫اسع اإلنسان فقد يرزقه هللا تعالى من‬
‫أبواب أخرى غير أبواب السعي‪ ،‬ولكنه يكون ‪-‬في الغالب‪ -‬رزقا ضيقا ويقع خارج دائرة الكسب االختياري إلى دائرة‬
‫القضاء والقدر‪ ،‬ويحاسب املكلف شرعا على اختياره وتقصيره بعدم السعي إن كان قادرا‪ ،‬ثم تواكل على حصوله على‬
‫الرزق من األبواب ال مدخل للسعي فيها‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫ولكن يجب مالحظة أن جميع أبواب للرزق‪ ،‬ال تولدالثروات التي ينتفع بها‪ ،‬فالثروات موجودة في األرض بخلق هللا‬
‫تعالى فهو مالك كل الثروات وهو مالك هذا األموال حقيقة‪ ،‬وهو الذي أذن لنا بتملك هذا املال والثروة واالنتفا بهما‪،‬‬
‫وفرق ساشع بين إيجاد الرزق أي توليد الثروة وبين الحصول عليها وأخذها حيازة أو االنتفا بها‪ ،‬فالسعي الذي يقوم‬
‫به اإلنسان ليس هو الذي يولد الرزق‪ ،‬ألن الرزاق حقيقة هو هللا تعالى خالق الثروات وخالق املال ومقسمه بين عباده‪.‬‬
‫فالشخص الذي يملك املال ليس هو مالكه الحقيقي ألنه ليس هو الذي أوجده‪ ،‬بل هو سعى إليه فحصل عليه وحازه‬
‫بعطاء من هللا‪ ،‬وهذا يدل بشكل قاطع على أن الرزق أو العطاء هو من هللا تعالى حصرا‪ ،‬واإلنسان إنما اسعى‬
‫للحصول عليه أي أخذه بعمله وجهده‪.‬‬
‫ورد في نشرة بعنوان‪( :‬الرزق بيد هللا وحده والعبد إنما اسعى للحاالت التي يحصل فيها الرزق) ما يلي‪" :‬الناس‬
‫يخلطون بين امللكية وبين الرزق ويخلطون بين الحالة التي يأتي فيها الرزق وبين السبب املوصل حتما إلى الرزق‪،‬‬
‫والحقيقة هنالك فرق بين امللكية والرزق فامللكية هي حيازة الش يء بكيفية من الكيفيات التي أجاز الشر حيازة املال‬
‫بها‪ ،‬فيعتبر إذا حيز بحس ها ماله‪ ،‬وإذا لم يحز بحس ها فال اعتبر ماله‪ ،‬أما الرزق فهو كل ما وصل إلى اإلنسان سواء‬
‫وصله بحسب الكيفية التي أجازها الشر أو وصله ال بحس ها فهو رزقه ‪ ....‬ولهذا يجب على املسلمين أن اسعوا في طلب‬
‫الرزق بجد واهتمام في كل حالة يمكن أن يكون من شأنها أن يحصل فيها الرزق‪ ،‬ولكن يجب أن يظلوا معتقدين أن‬
‫الرزق بيد هللا وحده وأن هللا هو الرازق"‬
‫يقول في كتاب الفكر االسالمي‪"" :‬الرزق غير امللكية‪ ،‬ألن الرزق هو العطاء وأما امللكية فهي حيازة الش يء بكيفية‬
‫من الكيفيات التي أجاز الشر حيازة املال بها ‪ ....‬فاملال الذي يأخذه العامل أجرة عمله رزق واملال الذي يأخذه املقامر‬
‫من غيره في لعب القمار رزق‪ ،‬ألنه مال أعطاه هللا لكل منهاما حين باشر حالة مكن الحاالت التي يحصل فيها الرزق"‬
‫وهكذا يظن كل واحد يباشر عمال يكسب منه ماال أنه هو الذي رزق نفسه‪ ،‬وإنما جاء هذا الظن للناس من كونهم‬
‫لم يدركوا حقيقة الحاالت التي يأتيهم فيها الرزق فظنوها أسباب ‪ ...‬وأن هذه الحاالت التي يأتي منها الرزق هي أوضا‬
‫حصل فيها الرزق وليست أسباب نتج عنها الرزق ولو كانت أسبابا ملا تخلفت مطلقا مع أن املشاهد حسا أنها تتخلف‬
‫فقد تحصل هذه الحاالت وال يأتي الرزق ‪ ....‬وهذا ما يجعلنا نجزم بأن ما نشاهده من وسائل وأساليب يأتي فيها الرزق‬
‫إنما هي حاالت يحصل أن يأتي الرزق فيها ‪ ...‬فهم الذين يباشرون جميع الحاالت التي يأتي فيها الرزق باختيارهم‬
‫فاإلسالم بين أسباب التملك ال أسباب الرزق وحصر امللكية بهذه األسباب‪ ،‬فليس ألحد أن يملك الرزق إال بسبب‬
‫شرعي ألنه هو الرزق الحالل وما عداه فهو رزق حرام‪ ،‬وإن كان الرزق كله ‪-‬حالال وحراما‪ -‬من هللا سبحانه وتعالى‪".‬‬

‫‪118‬‬
‫الرزق لهس ُبم َس َّْب لْب ينتج عن سبب‪ ،‬ولهس العمل علة له‬
‫الحظنا أن العبد يتفاعل مع الخصائص التي في األشياء‪ ،‬أي القدر‪ ،‬مما هو مدخر له‪ ،‬والحظنا أن العبد مطالب‬
‫باألخذ باألسباب‪ ،‬وقد خوطب بأوامر ونواه متعلقة بأمور قد يقع في مثلها قضاء‪ ،‬فقيادة السيارة بسرعة ‪ 200‬كم‪ ،‬في‬
‫أحوال جوية سيئة وبإطارات سيئة تزيد احتمال وقو الحادث‪ ،‬أي القضاء‪ ،‬وقد ال يقع مع كل هذه الظروف السيئة‪،‬‬
‫وقد يقود السيارة بسرعة ‪ 50‬في ظروف ممتازة ويتسرب زيت الفرامل أو تنقلب السيارة‪ ،‬لذلك هناك مسئولية‬
‫وواجبات على الفاعل اإلنسان‪ ،‬وهناك أمور بيد الفاعل‪ :‬هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬والقضاء بفعل هللا تعالى وحده‪ ،‬فقد‬
‫يترتب وقو القضاء على أفعال جرت من العبد يتحمل مسئوليتها‪ ،‬ويتحمل جرم عدم األخذ باألسباب فيها‪ ،‬ومع ذلك‬
‫وقع القضاء جبرا على العبد‪ ،‬وال استطيع دفعه بعد وقوعه‪.‬‬
‫وهذا كله ال يجعل منه هو الفاعل في القضاء‪ ،‬فلو اتخذ كل اإلجراءات وق ى هللا تعالى بأمر فال راد لقضائه‪،‬‬
‫وبالتالي فالفاعل هو هللا تعالى في القضاء‪،‬‬
‫مضت السنن املجتمعية على قواعد معينة في تسيير الحياة‪ ،‬بعضها صارم‪ ،‬و عضها غير صارم‪ ،‬ولنأخذ مثال رجل‬
‫منهي من أصحاب الكفاءات‪ ،‬يكسب رزقه من املهنة التي يتقنها‪ ،‬ولنفترض أن هذه املهنة تتطلب أن يمتلك املؤهالت‬
‫التالية‪ :‬شهادة جامعية في الهندسة‪ ،‬شهادات في إدارة األعمال واملشاريع‪ ،‬خبرة عشر سنوات‪ ،‬رخصة قيادة سيارة‪،‬‬
‫مهارات معينة وهكذا‪ ،‬فإنه بالنظر في السنن التي تجري عليها األمور في الحياة‪ ،‬ينبغي على من يكسب رزقه من وظيفة‬
‫أن يأخذ باألسباب املجتمعية هذه فيحصل على الشهادات والخبرات املطلوبة‪ ،‬وأن يتقن عمله‪ ،‬ويداوم في أوقات‬
‫مخصوصة‪،‬‬
‫فهذا من السنن املجتمعية الغالبة‪ ،‬وبالتالي فإن الجريان وفق هذه السنن اعتبر أخذا باألسباب‪ ،‬فالسبب ارتبط‬
‫بمسببه من حيث طبيعة وخلق الش يء أو من حيث إن األمور طبيعيا تحدث بهذه الحال‪ ،‬أي إن السبب الذي هو من‬
‫ضرورات العادة هنا‪ ،‬يدخل في معظمه تحت نظام الوجود الذي خلقه هللا‪ ،‬أي من السنن‪.‬‬
‫والتاجر مثال عليه أن يحسن عرض بضاعته‪ ،‬وتسعيرها‪ ،‬والدعاية لها‪ ،‬وهذا من أسباب إحسان العمل (أي‬
‫السعي) وإتقانه‪ ،‬فهذا السعي للوقو في مظنة حصول الرزق‪ ،‬أو مباشرة للحاالت التي يأتي فيها الرزق‪ ،‬لكن هللا تعالى‬
‫ترك أمر الرزق اختصاصا له‪ ،‬لم يتركه بيدك وال لك‪ ،‬فسعيك إذن‪ :‬لهس سببا للرزق‪ ،‬وإنما هو حالة قد يحصل‬
‫من خاللها الرزق وقد ال يحصل‪ ،‬إذن‪ :‬فاألخذ باألسباب في موضوع الرزق‪ :‬هو أن نأخذ بأسباب السعي‪ ،‬ونوجده في‬
‫الو اقع على أفضل صورة ممكنة‪ ،‬وأما السعي نفسه فلهس بسبب للرزق وإنما هو حالة من حاالته‪.‬‬
‫وهذا بالتالي نظام سببي يجب األخذ به في املعيشة ليقال بأننا أخذنا باألسباب واملسببات‪ ،‬ولم نتواكل‪ ،‬ويقع املرء‬
‫ضل َّّللا﴾ [الجمعة ‪ُ ]10‬‬‫األ ْرض َو ْاب َت ُغوا م ْن َف ْ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ ُ َ َ‬ ‫ُ‬
‫﴿ه َو‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصالة ف ْانت ِش ُروا ِفي‬ ‫حينها في مظنة نزول الرزق عليه‪﴿ ،‬فإذا ق ِض َي ِت‬
‫َ َ َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ ْ ُّ‬
‫الن ُش ُ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ ْ َْ َ َ ُ َ ُ‬ ‫َّ‬
‫ور﴾ [امللك ‪ ،]15‬وروى البخاري في صحيحه‬ ‫ض ذلوال ف ْامشوا ِفي من ِاك ِ ها وكلوا ِمن ِرز ِق ِه و ِإلي ِه‬ ‫ال ِذي جعل لكم األر‬
‫يأكل من عمل يده‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ََ َ‬
‫وإن َّ‬
‫نبي‬ ‫ِ ِ‬ ‫قط‪ ،‬خيرا من أن َ‬ ‫عن املقدام بن معد يكرب الكندي عن النبي ﷺ قال‪« :‬ما أك َل أ َحد طعاما‬
‫‪119‬‬
‫عمل ِيده وقال النبي ﷺ «ال تحل الصدقة لغني وال لذي مرة سوي أخرجه اإلمام‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫عليه السالم كان يأكل من ِ‬ ‫هللا داود ِ‬ ‫ِ‬
‫أحمد وأصحاب السنن‪ ،‬وذو املرة هو ذو القوة على الكسب‪ ،‬والسوي هو صحيح البدن تام الخلقة‪ ،‬وفي املسند‬
‫ْ‬
‫والسنن أن النبي ﷺ أتاه رجالن في حجة الودا وهو يقسم الصدقة فسأاله منها فرفع فيهما رأسه فرآهما َجلدين (أي‬
‫يقويان على العمل) فقال «إن شئتما أعطيتكما وال ح فيها لغني وال لقوي مكتسب ‪.‬‬
‫ومع هذا فبالنسبة للرزق تجد أن هذا النظام ليس من باب السببية التي ينتج عنها نزول الرزق‪ ،‬فقد اعمل املرء‬
‫ويتقن عمله‪ ،‬ولديه كل املؤهالت‪ ،‬ومع ذلك ال يحصل على األجر‪ ،‬ألن سبب الرزق الحقيقي غير معروف لنا‪ ،‬فالرزق‬
‫بيد هللا تعالى‪،‬‬
‫فالل تعالى خلق نواميس في املجتمعات ينبغي القيام بها على وجهها للوقو في مظنة تحصيل الرزق‪ ،‬لذلك فاألخذ‬
‫ُ‬
‫باألسباب املجتمعية هذه والنواميس التي خلق هللا تعالى املجتمعات عليها‪ ،‬ليس هو هو املسبب للرزق‪ ،‬ولكن في الوقت‬
‫نفسه ندرك أن السماء ال تمطر ذهبا وال فضة‪ ،123‬فالسعي لطلب الرزق قد يصل لدرجة الفرض على من احتاج‪،‬‬
‫والقيام به وفق أسبابه قد يأخذ حكمه بالنسبة للمحتاج للعمل في بعض الحاالت‪ ،‬فعالقة الرزق بالعمل (السعي‬
‫لهست عالقة سببية‪ ،‬ولكن عالقة اإلنسان بالعمل (السعي واألخذ باألسباب جري على السنة املجتمعية‪ ،‬وهو‬
‫عالقة سببية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ّللا ال َي ْم ِلكو َن‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ ُ َ ْ ُ‬
‫﴿إن ال ِذين تع ُبدون ِمن دو ِن ِ‬
‫وأضاف لهذه السنن املجتمعية سننا إلهية فقال عز من قائل سبحانه‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫َ ُ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َّ ُ ْ َّ ُ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْز َ َ ْ ُ ُ ُ ْ ُ َ َ ُ‬ ‫َ ُ ْ َ ْ َ ُ ْ َ َّ‬
‫وه َواشك ُروا ل ُه ِإل ْي ِه ت ْر َج ُعون﴾‪﴿ ،‬فقلت استغ ِفروا ربكم ِإنه كان غفارا (‪)10‬‬
‫َّ‬ ‫الر ق واعبد‬ ‫ِ‬ ‫لك ْم ِرزقا فابتغوا ِعند ِ‬
‫ّللا‬
‫َُ َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫الس َم َاء َعل ْيك ْم ِم ْد َرارا (‪َ )11‬و ُي ْم ِد ْدك ْم ِبأ ْم َوال َو َب ِن َين َو َي ْج َع ْل لك ْم َج َّنات َو َي ْج َع ْل لك ْم أ ْن َهارا )‪[ ﴾(12‬نوح]‪ ،‬وقال هللا‬ ‫ُي ْر ِسل َّ‬
‫ِ‬
‫الس َم َاء َع َل ْي ُك ْم م ْد َرارا َو َيز ْد ُك ْم ُق َّوة إ َلى ُق َّو ِت ُكمْ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ ْ َ ْ ُ َ َّ ُ ْ ُ َّ ُ ُ َ‬
‫تعالى عن هود‪ -‬عليه السالم‪﴿ :‬وياقو ِم استغ ِفروا ربكم ثم توبوا ِإلي ِه ير ِس ِل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َوَال َت َت َو َّل ْوا ُم ْجرم َين﴾ [‪ 52‬هود]‪َ ﴿ ،‬و َم ْن َي َّتق َّ َ‬
‫ّللا َي ْج َع ْل ل ُه َمخ َرجا (‪َ )2‬و َي ْر ُزق ُه ِم ْن َح ْيث ال َي ْحت ِس ُب﴾ [الطالق ‪،]3-2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ ُ َ ْ ُ نَ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َ ْ َ ْ ُ َ َ ُ َ َّ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ َ‬
‫ض ول ِكن كذبوا فأخذناهم ِبما كانوا يك ِسبو ﴾‬ ‫﴿ولو أن أهل القرى َآمنوا واتقوا لفتحنا علي ِهم بركات ِمن السم ِاء واألر ِ‬
‫الر ِاز ِق َين﴾ [سبأ ‪ ،]39‬وغيرها من السنن اإللهية‪ ،‬وعن أنس ‪-‬‬ ‫﴿و َما أ ْن َف ْق ُت ْم ِم ْن َش ْيء َف ُه َو ُي ْخ ِل ُف ُه َو ُه َو َخ ْي ُر َّ‬
‫[‪ 96‬األعراف]‪َ ،‬‬
‫فليصل ِرحمه ؛ متفق‬ ‫أحب أن ُيبسط له في رزقه‪ُ ،‬وينسأ له في أثره‪َ ،‬‬ ‫«من َّ‬ ‫رب ي هللا عنه ‪ -‬قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪َ :‬‬
‫َ ُّ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َّ ْ‬
‫عليه‪ ،‬وعن عمر بن الخطاب رب ي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا ﷺ «ل ْو أ َّنك ْم ت َوكل ُت ْم َعلى هللا َح َّق ت َوك ِل ِه ل َر َزقك ْم ك َما‬
‫َ ْ ُ ُ َّ ْ َ َ ْ ُ َ َ َ َ ُ ُ َ‬
‫وح ِبطانا أخرجه الترمذي وابن ماجه‪.‬‬ ‫يرزق الطير تغدو ِخماصا وتر‬

‫‪" 123‬روي أن عمر بن الخطاب رب ي هللا عنه‪ ،‬رأى بعد الصالة قوما قابعين في املدجد بدعوى التوكل علــى هللا فعالهــم بدرتــه وقــال ال يقعــدن أحــدكم عــن طلــب‬
‫الــرزق‪ ،‬ويق ــول‪ :‬الله ــم ارزقن ــي‪ ،‬وق ــد عل ــم أن الس ــماء ال تمط ــر ذهب ــا وال فض ــة‪ ،‬إنمْْا ي ْْرزق هللا الن ْْاس بعض ْْهم م ْْن بع ْْم‪ ،‬أم ــا س ــمعتم ق ــول هللا ‪ -‬تع ــالى ‪﴿ :-‬ف ــإذا‬
‫األ ْ َ َ ُ ْ َ ْ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ ُ َ ْ َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫ّللا﴾ [الجمعة ‪"]10‬‬ ‫ض و ْابتغوا ِمن فض ِل ِ‬ ‫ق ِضي ِت الصالة فانت ِشروا ِفي ر ِ‬
‫‪120‬‬
‫النصرلهس ُبم َس َّْب لْب ينتج عن سبب‪ ،‬ولهس العمل علة له‪:‬‬
‫كما في موضو الرزق‪ ،‬وجدنا في موضو النصر أن هللا سبحانه وتعالى قد خص ذاته العلية بتحقيق الغايات‬
‫والنتائج‪ ،‬ولم يرتب حصولها على تحقيق األسباب املجتمعية‪ ،‬فأفعاله غير منفعلة بأفعال البشر‪ ،‬سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ولو كانت أفعال اإلنسان قادرة على إيجاد تلك الغايات على الحقيقة‪ ،‬ملا كان من معنى لتخصيص الذات العلية‬
‫﴿و َع َد َّ ُ‬
‫ّللا‬ ‫بمباشرة تلك األفعال على الحقيقة‪ ،‬لكن هللا تعالى نسب إلى نفسه مباشرة القيام باألفعال على الحقيقة‪َ :‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ف َّالذ َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َّ َ ُ‬
‫ين ِمن ق ْب ِل ِه ْم َول ُي َم ِكن َّن ل ُه ْم ِد َين ُه ُم ال ِذي‬ ‫ِ‬ ‫ض كما استخل‬ ‫ِ‬ ‫ات ليستخ ِلفنهم ِفي األر‬ ‫ال ِذين َآمنوا ِمنك ْم َوع ِملوا الص ِالح ِ‬
‫َ‬
‫اس ُقون﴾‬ ‫ف‬‫ْ َت َ ْى َل ُه ْم َو َل ُي َبد َل َّن ُهم من َب ْعد َخ ْوفه ْم َأ ْمنا ۚ َا ْع ُب ُد َونني َال ُا ْشر ُكو َن ي َش ْيئا ۚ َو َمن َك َف َر َب ْع َد َْذل َك َف ُأ َْولئ َك ُه ُم ْال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ار‬
‫[‪ 55‬النور]‪ ،‬هو الذي استخلفهم‪ ،‬وهو الذي يمكن لهم دينه‪ ،‬وهو الذي يبدلهم‪ ،‬وليس فعلهم وقيامهم باألسباب هو‬
‫الذي ينتج عنه ذلك‪ ،‬فهم ليسوا الفاعل على الحقيقة‪ ،‬لكنه هو سبحانه وتعالى بوصفه إلها ناصرا!‬
‫يوجد في الواقع بصورة تحققه‪ ،‬وهو أحد الحاالت التي يتنزل بها‬ ‫وتماما كما أن السعي يتطلب األخذ بأسبابه كي َ‬
‫الرزق‪( ،‬الحاالت األخرى مثل امليراث مثال) ولكن السعي نفسه ليس إال حالة من الحاالت التي يتنزل بها الرزق أو ال‬
‫يتنزل‪ ،‬فعالقة السعي بالرزق ليست عالقة سببية‪ ،‬وال بد أن يتنزل الرزق بأي صورة اشاء هللا تعالى‪ ،‬فكذلك األمر‬
‫بالنسبة للنصر‪ ،‬فقد خوطبنا بأعمال يجب علينا القيام بها‪ ،‬واألخذ بأسبابها‪ ،‬ولكن هذه األسباب تتعلق بالعمل‬
‫نفسه‪ ،‬والقيام به بأفضل صورة‪ ،‬إليجاده في الو اقع‪ ،‬على نحو يوقع في مظنة تحقيق شر نصر هللا‪ ،‬وال تتعلق‬
‫السببية بالنصر‪ ،‬إذ إن عالقتها بالنصر لهست عالقة سببية‪ ،‬وقد سبق وضربنا مثال بنبي هللا نوح عليه السالم‪ ،‬إذ‬
‫إن صورة النصر التي نزلت عليه ليست امتدادا للفعل السببي الذي ق ى زهاء ألف سنة يقوم به‪ ،‬أي إن عمل‬
‫الدعوة لهداية الناس‪ ،‬وعمل تبليغهم الشر بغية تحكيمه في الحياة ‪-‬كما هو واجب كل الرسل‪ -‬ليقوم الناس‬
‫بالقسط‪ ،‬هذه األفعال السببية لم تكن صورة النصر امتدادا لها‪ ،‬وال إيجادا لها في الواقع‪ ،‬بل نزل النصر بإغراق‬
‫قومه بالطوفان‪ ،‬فلم يذر على األرض من الكافرين ديارا‪ ،‬وعليه‪ ،‬فأخذه عليه سالم هللا بأحسن األسباب‪ ،‬حتى صار‬
‫من أولي العزم من الرسل‪ ،‬لم يكن سببا في نزول النصر بصورة يكون امتدادا له‪ ،‬وتحقيقا لثمرته في الواقع‪.‬‬
‫والنصر له صور مختلفة كما سيأتي منها صورة ما حصل لسيدنا محمد ﷺ من نصر دعوته وتمكينه واستخالفه‬
‫وهذا النصر وقع امتدادا للفعل السببي‪ ،‬فهو حالة من الحاالت‪ ،‬وأما في حالة سيدنا نوح عليه السالم فقد نزل النصر‬
‫بصورة من صوره األخرى وهي االنتقام وإهالك قومه‪ ،‬لذلك ففعله السببي بالدعوة ليس إال حالة من الحاالت التي‬
‫يتنزل النصر بها‪ ،‬مما يدل على أن عالقة األفعال بالنصر ليست عالقة سببية‪ ،‬بينما القيام بتلك األعمال على وجهها‬
‫يجب أن يتم وفقا للسببية‪ ،‬أي األخذ باألسباب التي توجدها في الواقع بأفضل صورة توقع في مظنة تنزل النصر‬
‫ُ ْ‬ ‫ۡ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ٓ َّ‬ ‫ََ‬ ‫َ ٗ‬ ‫َ‬ ‫بصور ها‪َ ﴿ ،‬ق َ‬
‫ال َر ِب ِإ ِني َد َع ۡو ُت ق ۡو ِمي ل ۡيال َو َن َه ٗارا ۝ فل ۡم َي ِز ۡد ُه ۡم ُد َعا ِء ٓي ِإال ِف َر ٗارا ۝ َو ِإ ِني كل َما َد َع ۡو ُ ُه ۡم ِل َتغ ِف َر ل ُه ۡم َج َعل ٓوا‬
‫ُ َّ ٓ َ ۡ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ َ ُ ۡ ٓ َ َ ۡ َ ۡ َ ۡ َ ۡ ْ َ َ ُ ۡ َ َ َ ُّ ْ َ ۡ َ ۡ َ ُ ْ ۡ ۡ‬
‫نت ل ُه ۡم‬ ‫ٱس ِتك َب ٗارا ۝ ث َّم ِإ ِني َد َع ۡو ُ ُه ۡم ِج َه ٗارا ۝ ثم ِإ ِني أعل‬ ‫أص ِبعهم ِفي ءاذ ِان ِهم وٱستغشوا ِثيابهم وأصروا وٱستكبروا‬

‫‪121‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َوأ ۡس َر ۡر ُت ل ُه ۡم ِإ ۡس َر ٗارا۝﴾ [نوح ‪ ،]9-5‬وهو بهذا بلغ غاية األخذ باألسباب‪ ،‬ولل تعالى أن ينزل النصر بالصورة التي اشاء‪،‬‬
‫وال بد أن يتنزل النصر من هللا تعالى ألنه وعد به‪ ،‬لكنه ينزله بالصورة التي اشاء‪.‬‬
‫فلو قلنا‪ :‬العمل هو البالا املبين‪ ،‬واألخذ باألسباب تتضمن حسن التبليغ‪ ،‬وإقامة الحجة بالبراهين‪ ،‬يتفاعل فيها‬
‫حامل الدعوة مع من يخاط هم (ممتلكا الحجة واإلقنا ‪ ،‬واملعلومات‪ ،‬والعرض السليم السلس للقضية‪ ،‬الذي يثير‬
‫َّ‬
‫اهتمام املبلغ‪ ،‬وباختيار األفكار الصحيحة‪ ،‬ذات العالقة‪ ،‬في الظرف الزماني واملكاني الصحيح‪ ،‬واملثابرة ليال ونهارا‪،‬‬
‫سرا وعالنية‪ ... ،‬الخ) وباستعمال الوسائل (كأن استعمل وسائل التواصل‪ ،‬أو التدجيل املروي املشوق) واألساليب‬
‫املناسبة على أتم وجه‪( ،‬بأسلوب ممتع بعيد عن التعقيد)‪ ،‬فهذه كلها مما يمكن وصفها بأنها من أسباب إحسان‬
‫التبليغ والشروط والعوامل الالزمة إلنجاحه‪،‬‬
‫ولو قلنا‪ :‬الغاية من العمل أو نتيجته املرجوة هي إستجابة الطرف املدعو للدعوة واتباعه لها‪ ،‬نجد أن األخذ‬
‫َْ َ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫﴿اد ُ ِإلى َس ِب ِيل َ ِرب َك ِبال ِحك َم ِة َوامل ْو ِعظ ِة ال َح َس َن ِة‬ ‫باألسباب ضرورة لنجاح الدعوة‪ ،‬ويحاسب عليها صاح ها بدليل‪:‬‬
‫﴿فل َذل َك َف ْاد ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ ُ َ َْ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ ْ َ‬ ‫َ ْ َ ُ َّ َ ُ َ َ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ْ‬
‫وج ِادل ُه ْم ِبال ِتي ِه َي أحسن ِإن َرَّبك هو أعل ُم ِب َمن ض َّل عن س ِب ِيل ِه وهو أعل ُم ِبامل ْهت ِدين﴾ [‪ 125‬النحل]‪ِ ِ ،124‬‬
‫ين‬‫ان َلفي ُخ ْسر ۝ إ َّال َّالذ َ‬ ‫صر ۝ إ َّن ْ َ َ‬ ‫اس َتق ْم َك َما ُأم ْر َت﴾ [‪ 15‬الشورى]‪ُ ﴿ ،‬ق ْم َف َأنذ ْر﴾ [املدثر ‪َ ،]2‬‬
‫﴿و ْال َع ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اإلنس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و ِ‬
‫الص ْب ِر﴾ [العصر‪ ،]3-1‬فترتيب الخسارة على عدم التوان ي بالحق‬ ‫اص ْوا ب َّ‬ ‫اص ْوا ب ْال َحق َو َت َو َ‬ ‫ات َو َت َو َ‬ ‫َآم ُنوا َو َعم ُلوا َّ َ‬
‫الص ِالح ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫أي الدعوة له دليل على أن الدعوة والتوان ي بالحق والصبر على تبعا ها ومشاقها والتوان ي على ذلك الصبر فروض‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ُْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ون ب ْاملَ ْ‬ ‫نك ْم ُأ َّمة َي ْد ُعو َن إ َلى ْال َخ ْير َو َي ْأ ُم ُر َ‬
‫ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫وف َو َي ْن َه ْون َع ِن املنك ِر َوأ ْولـ ِئ َك ُه ُم امل ْف ِل ُحون﴾ [آل عمران ‪،]104‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ر‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ول َتكن ِم‬
‫وترتيب الفالح على القيام بالدعوة إلى الخير دليل على أنه فرض‪ ،‬ومع ذلك فقد ال تحصل النتيجة املرجوة من العمل‬
‫َ‬
‫وهي استجابة الطرف املدعو‪ ،‬فال تتغير قناعات املخاطب!‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فال بديل لحامل الدعوة من أن يأخذ بأسباب العمل‪ ،‬والقيام به على وجهه‪ ،‬كجزء من النظام السببي‬
‫إلحداث التغيير (إقامة الدولة)‪ ،‬وأنه إن لم يتحر العامل على التغيير أن ينش النظام الغاوي السببي السليم املتحري‬
‫لسنن هللا املجتمعية التي تفعل الطاقة الالزمة إلحداث التغيير‪ ،‬فإنه لن يقوم بإحداث التغيير أبدا‪ .‬فالتغيير يخضع‬
‫لسنن مجتمعية وكذلك لسنن إلهية واضحة‪،‬‬
‫وللعملية التغييرية سنن‪ ،‬وأسباب وشرو ‪ ،‬ومعوقات يجب التركيزعلى األهم منها‪ ،‬بالتقريب واالختزال‪ ،‬والتزام‬
‫الرئهس ي الضروري منها‪ ،‬الذي يشكل عمود الطريقة‪ ،‬إذ إن العوامل املؤثرة واملتغيرات كثيرة جدا‪ ،‬ومتغيرة دائما‬

‫ْ ْ‬
‫﴿بال ِحك َم ـ ِة﴾ ق ــال اب ــن جري ــر‪ :‬وه ــو م ــا أنزل ــه علي ــه م ــن الكت ــاب والس ــنة‬ ‫يق ــول اإلم ــام اب ــن كثي ــر يق ــول تع ــالى آم ــرا رس ــوله محم ــدا ﷺ أن ي ــدعو الخل ــق إل ــى هللا ِ‬
‫‪124‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َْ َ ْ‬
‫﴿و َجـ ِادل ُه ْم ِبـال ِتي ِهـ َي أ ْح َسـ ُن﴾ أي‪ :‬مــن احتــاج مــنهم‬ ‫﴿وامل ْو ِعظ ِة ال َح َس َن ِة﴾ أي‪ :‬بمــا فيــه مــن الزواجــر والوقــاوع بالنــاس ذكــرهم بهــا‪ ،‬ليحــذروا بــأس هللا تعــالى‪ .‬وقولــه‪:‬‬
‫َّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫ين ظل ُمـ ـوا ِمـ ـ ْن ُه ْم﴾‬ ‫اب ِإال ِب ـال ِتي ِهـ ـ َي أ ْح َسـ ـ ُن ِإال الـ ـ ِذ‬
‫ِ‬ ‫﴿وال ُت َجـ ـ ِادلوا أ ْه ـ َل ال ِك َت ـ‬
‫إل ــى من ــاظرة وج ــدال ‪ ،‬فل ــيكن بالوج ــه الحس ــن برف ــق ول ــين وحس ــن خط ــاب‪ ،‬كم ــا ق ــال‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َّ َ َّ َ‬ ‫َ‬
‫[العنكبوت‪ ]46 :‬فأمره تعالى بلــين الجانــب‪ ،‬كمــا أمــر موسـ ى وهــارون‪ ،‬عليهمــا الســالم‪ ،‬حــين بع همــا إلــى فرعــون فقــال‪﴿ :‬ف ُقـوال لـ ُه قـ ْوال ل ِينـا ل َعلـ ُه َي َتـذك ُر أ ْو َي ْخشـ ى﴾‬
‫[طه‪.]44 :‬‬
‫‪122‬‬
‫ً‬
‫(ديناميكية)‪ ،‬بحيث يصبح من الصعب حصرها جميعا بأصولها وفروعها‪ ،‬واألخذ بأسباب فروعها جميعا‪ ،‬فيجتهد‬
‫الحزب ويقدر‪ ،‬ويسدد ويقارب‪ ،‬ويتوكل على هللا تعالى فيما ال يستطيعه من أسباب بقدراته البشرية‪ ،‬بعد أن‬
‫يستفر وسعه‪ ،‬وال يمكن أن ُي َتصور أن التغيير يتم بتحول الحزب وأعضائه إلى مالئكة ال يخطئون‪ ،‬وال أن تكون‬
‫العملية التغييرية نفقا ال نهاية له‪ ،‬كلما أخذت بأسباب أفعال جزئية من الفرو واألساليب طلب منه الوصول للكمال‬
‫املطلق في كل ما يتعلق بشروطها والتغلب على معوقا ها حتى يحصل التغيير‪ ،‬إذ إن كثيرا من املعوقات واألساليب‬
‫ديناميكية حركية متغيرة متقلبة‪ ،‬فتحتاج إلى خطط متفاعلة معها‪ ،‬األمر الذي قد يطيل أمد العمل أو قد يرهق كثيرا‪،‬‬
‫فال بد من التركيز على أهم األساليب التي يمكن أن تثمر‪ ،‬وأهم املؤثرات والعوامل الرئهسة‪ ،‬وأن تدرس خطورة كل‬
‫املتغيرات وتعال بحسب مجمها وضررها أو نفعها بما يناسب‪ ،‬ومثال ذلك دوام التغير في تقنيات التواصل‬
‫االجتماعي‪ ،‬فما أن تتقن تقنية حتى تجد غيرها قد أخذ محلها‪ ،‬واألخذ بأسبابها كلها ودوام مالحقتها صعب للغاية‪ ،‬في‬
‫ظل محدودية اإلمكانيات‪ ،‬ولكنها أساليب تقع في إطار حمل الدعوة‪ ،‬والصرا الفكري‪ ،‬والكفاح السياس ي‪ ،‬وأهم ما في‬
‫هذه األعمال هو األفكار التي تقيمه في الوجود‪ ،‬وهي موجودة على أفضل وجه‪ ،‬فال تقصير في أسبابها‪ ،‬أما تغير‬
‫الوسائل الدائم‪ ،‬فهو عقبة تحتاج للتغلب عليها‪ ،‬لكن ليس لقتلها بحثا وشروطا إلتقانها‪.‬‬
‫صحيح أن من طبيعة السنن املجتمعية أنها مطردة ثابتة وأنها ال تحا ي أحدا‪ ،‬لذلك هي سنن‪ ،‬لكن هذه السنن‬
‫َّ‬
‫املجتمعية قد تصطدم بعوائق تمنع طاقتها السببية من إنتاج الفعالية السببية‪ ،‬كأن اعرض املبل ُغ متبعا أهواءه ال‬
‫عقله كما ينبغي أساسا‪ ،‬ولو أعمل عقله ملا تخلف العمل عن تحقيق غايته‪( ،‬لذلك فهي سنن‪ ،‬تنتج الغاية حين‬
‫تتحقق الشروط وتتعاون مع األسباب‪ ،‬وال تتخلف‪ ،‬وكذلك حين تكون قادرة على التغلب على العوائق‪ ،‬وكذلك أن‬
‫تمتلك الزمن الكافي لتفعيل الطاقة السببية القادرة على إحداث التغيير)‪ ،‬أو كأن تخش ى الفئة القوية القادرة في‬
‫املجتمع أن تستجيب للبالا وتفعل قدر ها على التغيير‪ ،‬وغير ذلك من العوائق‪ ،‬حينذاك‪ ،‬ال بد من تدخل السنن‬
‫اإللهية التي تتجاوز عدم قدرة من أخذ باألسباب أن يبلغ بها مبتغاه‪ ،‬فتقوم بإزالة العوائق مثال أو تدخيرها‪ ،‬أو تقوم‬
‫بتقصير الزمن الالزم للفعالية السببية‪ ،‬أو تغير الشروط املحيطة‪ ،‬والسنن اإللهية هي العامل الحاسم‪ ،‬وهذه السنن‬
‫هللا كي ينصرهم‪ ،‬وأن يأخذوا بأسباب العمل‬ ‫اإللهية تتنزل وفقا لشروط بينها هللا سبحانه منها أن ينصر املسلمون َ‬
‫حسب طاقتهم‪ ،‬ولكن هذه السنن اإللهية ليست منفعلة بالسببية املجتمعية أو بالسنن املجتمعية‪ ،‬بل هي مستقلة‬
‫عنها‪ ،‬فهي ال تتنزل فور استكمال أسباب السنن املجتمعية من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ ،‬فقد سبق وأوضحنا الفرق بين‬
‫السنن املجتمعية وبين السنن الكونية‪ ،‬فاألخيرة تحصل فور وجود السبب بال تأخير‪ ،‬فمن ارتفع عن سطح األرض بغير‬
‫آلة وقع فورا جراء الجاذبية‪ ،‬أ ما السنن املجتمعية فثمة فدحة من الوقت بين وجود أسبابها‪ ،‬وتحقق نتائجها‪ ،‬وضربنا‬
‫أمثلة كثيرة على ذلك مثل قوم لوط ومخالفتهم لسنة الحفاظ على غريزة النو ‪ ،‬ولب هم بضع سنين قبل أن تتنزل عليهم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ ْ ُ َ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُّ َ َ َ َ‬
‫األ ْ ض ل ُي ْخرج َ‬
‫وك ِم ْن َها َو ِإذا ال َيل َبثون ِخالف َك ِإال ق ِليال ۝ ُس َّنة َمن ق ْد‬ ‫َالعقوبة‪ ،‬ومثل ﴿و ِإن كادوا ليست ِفزونك ِمن ر ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ َ َ‬
‫أ ْر َسل َنا ق ْبل َك ِمن ُّر ُس ِل َنا َوال ت ِج ُد ِل ُس َّن ِت َنا ت ْح ِويال﴾ [‪ 77 -76‬اإلسراء]‪ ،‬فهو هديد للكفار بأنهم إن أخرجوا نبيهم لن يلبثوا‬

‫‪123‬‬
‫خالفه إال قليال‪ ،‬وكان لب هم بعده إلى يوم فتح مكة‪ ،‬أي إنه استغرق سنوات‪ ،‬فثمة فدحة في الوقت بين الوقو في‬
‫تحقيق األسباب املستوجبة للسنن‪ ،‬وبين وقو نتائجها‪ ،‬فالحتمية ال مناص عنها‪ ،‬ولكنها قد تستغرق زمنا‪ ،‬وال ُاعرف‬
‫كم مقدار هذا الوقت خصوصا في القضايا التي اختص هللا تعالى نفسه بها مثل الرزق والنصر‪ ،‬وال الصورة التي‬
‫ستتحقق فيها تلك السنن‪ ،‬لذلك نقول بأن النصر من هللا تعالى ينزله متى شاء‪ ،‬وال ينزله فور تحقيق السنن املجتمعية‬
‫واألخذ باألسباب املجتمعية الالزمة للعملية التغييرية‪.‬‬
‫ولكن الغاية التي تحصل بإحسان العمل هي مرضاة هللا والقيام بأمره وفق ما أمر‪ ،‬واتبا السنة شبرا بشبر‪ ،‬وهذه‬
‫الغاية يتعلق األخذ باألسباب بها‪ ،‬فبقدر اإلحسان في العمل يحصل األجر األعظم‪ ،‬وتحصل مرضاة هللا تعالى‪ ،‬ويقوم‬
‫املسلم بما عليه من واجبات شرعية على وجهها‪ ،‬ويبري ذمته‪ ،‬فهذا كله هو املسبب عن العمل‪ ،‬وهو أمر غاية في‬
‫األهمية‪.‬‬
‫أي إننا مخاطبون بإحسان العمل في حمل الدعوة‪ ،‬واألخذ باألسباب التي توصل البالا بأفضل صورة مؤثرة‪ ،‬وأما‬
‫نتيجة الدعوة من تجاوب الطرف الثاني فلسنا الفاعلين فيه‪ ،‬فالطرف املقابل لديه دماا يفكر به‪ ،‬ولديه إرادة حرة‪،‬‬
‫ومكلف بإعمال العقل كي يصل إلى الحق ويتبع الهدى‪ ،‬وطريقة وصوله للحق هو التفكير‪ ،‬لكنه قد ال يتقبل الدعوة وال‬
‫تتغير قناعاته‪ ،‬التباعه ألهوائه مثال‪ ،‬أو لجحود عنده أو لعناد‪ ،‬فال يجوز تغيير طريقة الدعوة هذه ألن الطرف املقابل‬
‫اعاند‪ ،‬فنستبدل اإلجبار مثال باإلقنا العقلي وإقامة الحجة‪ ،‬وال يص القول في مثل هذه الحالة بأن العيب فينا‪ ،‬أو‬
‫في أفكارنا أو أساليبنا‪ ،‬ولكن يمكن أن نعضد حمل الدعوة بأساليب مساندة‪ ،‬تزيل العوائق‪ ،‬ومع ذلك فقد يركب‬
‫َ‬
‫املخاط ُب رأسه‪ ،‬ويحكم أهواءه تماما‪ ،‬كما حصل من كفار مكة حين دعاهم رسول هللا ﷺ‪ ،‬فال أحد يجرُ أن يدعي أن‬
‫ثمة قصور ووجوب إعادة نظر من قبل الرسول الكريم ﷺ‪ ،‬بل هو أخذ تام بأسباب إحسان العمل من قبل حامل‬
‫الدعوة‪ ،‬ولكن نتيجة العمل وهي إحداث التغيير‪ ،‬اعترضتها أهواء نفوس مريضة‪ ،‬لم تستعمل عقولها‪ ،‬ولو استعملتها‬
‫حقا لخضعت للحق‪ ،‬ونحن نعلم أن اإلنسان يباشر فعل الهداية بنفسه وال جبر عليه فيه من هللا‪ ،‬لذلك فالفعل‬
‫السببي سليم‪ ،‬ويجب أن يدخل فيه دراسة املعوقات وطريقة إزالتها‪ ،‬لتحقيق الفعالية السببية‪ ،‬وقد ال تزول لعناد‬
‫الطرف الثاني و حوده واستكباره‪ ،‬وليس أخذنا باألسباب هو الذي يجلب الهدى‪ ،‬مع أن فعلنا السببي مصمم للوقو‬
‫في مظنته فمثال‪ :‬من الدعوة‪ :‬البالا املبين‪ ،‬وإقامة الحجة‪ ،‬نجد أن الرسول الكريم ﷺ دعا‪ ،‬وبلغ بالغا مبينا‪ ،‬وأقام‬
‫َ‬
‫﴿إ َّن َك ال َ ْه ِدي َم ْن‬
‫َالحجة القاطعة على أ ي طالب وعلى َ أ ي لهب وعلى الوليد بن املغيرة وغيرهم‪ ،‬ولم استجيبوا‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ص َع َلى ُه َد ُاه ْم َفإ َّن َ‬
‫ّللا ال ََ ْه ِدي َمن‬ ‫ّللا ََ ْهدي َمن َا َشاء َو ُه َو أ ْع َل ُم ب ْاملُ ْه َتد َ‬
‫ين﴾ [‪ 56‬القصص]‪﴿ ،‬إن َت ْحر ْ‬ ‫أ ْح َب ْب َت َو َلك َّن َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ َ‬ ‫ُ‬
‫اص ِرين﴾ [‪ 37‬النحل]‪ ،‬والذي يحرص ال شك أنه يأخذ باألسباب على وجهها‪ ،‬ومع ذلك فإنه مخاطب‬ ‫ي ِض ُّل وما ل ُهم ِمن ن ِ‬
‫بالقيام بالعمل على وجهه‪ ،‬ومحاسب على القيام به‪ ،‬لكنه غير محاسب على نتيجته التي قد تتحقق وقد ال تتحقق‪،‬‬
‫هللا رسوله ﷺ على عدم‬ ‫يحاس هم على القيام بالتكليف ال على النتائج املرجوة من القيام بالتكليف‪ ،‬ولن يحاسب ُ‬
‫استجابة أ ي جهل وأ ي لهب له حين دعاهما فأحسن العمل وأتقنه‪ ،‬ولم يكن فعله ﷺ السببي ‪-‬الذي قام به متوافقا‬

‫‪124‬‬
‫مع الهدف الظاهر من إرسال الرسل ودعوة الناس للهدى‪ ،‬رجاء هدايتهم‪ -‬لم يكن متفقا مع النتيجة في هذه الحالة‪ ،‬أي‬
‫لم تحصل الغاية مع أنه قام باألخذ بأسباب إحسان الدعوة‪ ،‬واإلتيان باألدلة والخطاب بالحكمة واملوعظة الحسنة‪،‬‬
‫والجدال بالتي هي أحسن‪ ،‬ومع ذلك اتفقت النتيجة مع الفعل أحيانا حين استجاب أبو بكر وعمر واملسلمون‪ ،‬ولم‬
‫تتفق في أحيان أخرى‪ ،‬حين حد الكافرون‪ ،‬مما يدل على أن العالقة ليست عالقة سببية‪.‬‬
‫فالرسول ﷺ لم استطع أن اغير أفكار املجتمع املكي مع قيامه بالعمل على وجهه‪ ،‬ولم استطع هدايتهم مع أنه أخذ‬
‫ُ‬
‫بأسباب حمل الدعوة على وجهها‪ ،‬فربط العمل بنتيجته (الحكم عليه بالصحة والخطأ بالربط بنتيجته) خطأ كبير!‬
‫مع أن الجدية تقت ي أن اسعى املؤمن إليجاد النتيجة قدر املستطا ‪ ،‬وأن ينظر في إحسان إتيانه باألسباب‬
‫س َع َل ْي َك ُه َد ْى ُه ْم َو َْلك َّن َّ َ‬
‫ٱلِل ََ ْه ِدى‬ ‫املفضية لها‪ ،‬لكن عليه أن يدرس‪ :‬أي األعمال ال يملك هو نتيجتها‪ ،‬مثل الهداية‪َّ ﴿ ،‬ل ْي َ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ َّ ْ ُ َّ ْ ْ َّ ْ‬ ‫َ َ َٓ‬
‫ّللا ال َع ِز ِيز ال َح ِك ِيم﴾ [آل عمران ‪ ،]126‬فإذا ما قام‬ ‫من اشا ُءۚ﴾ [البقرة ‪ ،]272‬ومثل النصر‪﴿ :‬وما النصر ِإال ِمن ِعن ِد ِ‬
‫بالعمل على وجهه فما عليه إال انتظار النتيجة‪ ،‬أو انتظار األجر من هللا‪ ،‬وال ينحرف عن العمل إذا لم تتحقق نتيجته‬
‫بصورة يتصورها الذي يقوم بالعمل‪ ،‬فيقول‪ :‬لم تقم الدولة‪ ،‬فعلي أن أغير طريقتي! (وهذا موضو مختلف عن دوام‬
‫املحاسبة وا هام النفس بالتقصير‪ ،‬هذا املوضو تحديدا أن تقوم باألعمال السببية على وجهها‪ ،‬ثم حين ال تحصل‬
‫النتيجة املرجوة‪ ،‬تستبدل األعمال السببية بغيرها)‪ ،‬فنحن مأمورون بالعمل اقتداء بفعل الرسول ﷺ على وجهه‪ ،‬وأن‬
‫نأخذ بأسباب ذلك العمل نفسه‪ ،‬وإقحام النصر في العمل يتم بأن نضع النصر أو النتيجة بعالقة سببية مع العمل‬
‫نفسه‪ ،‬هنا الخطر‪ ،‬فاألخذ بأسباب العمل تدرس في ضوء ما هو العمل الذي أمرك به‪ ،‬فإن قمت بهذه األسباب‪ ،‬فقد‬
‫أوجدت العمل في الواقع‪ ،‬أي قمت بحمل الدعوة‪ ،‬قمت بالكفاح السياس ي‪ ،‬بالصرا الفكري‪ ،‬هذه األعمال لها أسبابها‬
‫التي توجدها في الواقع‪ ،‬لذلك‪ ،‬يخلط من ال يفرق بين األخذ بأسباب األعمال التي كلفنا بها‪ ،‬وبين نتائجها‪ ،‬فاألخذ‬
‫بأسباب األعمال والقيام بها على وجهها‪ ،‬ليس بالضرورة سببية لنتائجها‪.‬‬
‫ويالح هنا أن التكليف ‪-‬وهو حمل الدعوة‪ ،-‬له أسباب توجده في الواقع‪ ،‬نعلم منها أن من قام به استفرا وسعه‬
‫أو لم استفرغه‪ ،‬كأن يكون مقصرا‪ ،‬هل استعمل الوسائل واألساليب استعماال موفقا مستغال إياها بما يخدم دعوته؟‬
‫هل اختار الفكر الصحيح ذا العالقة في ظرف زماني ومكاني سليم‪ ،‬بعيد عن التعقيد‪ ،‬فأحسن التبليغ‪ ،‬وحاول إزالة‬
‫املعوقات عند الطرف املقابل واإلجابة على تساُالته بشكل مقنع؟ فهذه كلها مما يمكن وصفها بأنها من أسباب‬
‫إحسان التبليغ والشروط والعوامل الالزمة إلنجاحه‪ ،‬ولكنها مع ذلك‪ ،‬قد ال تحدث النتيجة فال تتغير قناعات‬
‫َ‬
‫املخاطب!‬
‫وباملثل‪ ،‬فقد كلفك الشار بأعمال من شأنها أن توجد الدولة في الواقع‪ ،‬كالتثقيف‪ ،‬والصرا الفكري‪ ،‬والكفاح‬
‫السياس ي‪ ،‬ومحاسبة الحكام‪ ،‬وضرب العالقات بين األمة وبين حكام الضرار‪ ،‬وضرب عالقات األمة القائمة على غير‬

‫‪125‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬والكشف‪ ،‬وتبني مصال األمة‪ ،‬وكشف مخططات االستعمار‪ ،‬وطلب النصرة‪ ،125‬فلكل عمل من هذه األعمال‬
‫أسبابه التي تجعله قائما في الواقع‪ ،‬فالصرا الفكري ال يوجد في الواقع إال إذا قمت بدراسة األفكار املغلوطة أو‬
‫املضللة وبنقضها‪ ،‬وبطرح البديل عنها في املجتمع‪ ،‬وبخوض غمرات الصرا بوسائل تر قدر ها على إنجاح الصرا ‪،‬‬
‫والغاية منه ضرب األفكار املضللة‪ ،‬وتبني األفكار الصحيحة مكانها‪ ،‬فهذا هو القيام بأسباب هذا العمل‪ ،‬لكن نتيجته‬
‫ليست من ضمن التكليف‪ ،‬شأنها شأن الهداية‪ ،‬وقد خاضه الرسول ﷺ في مكة‪ ،‬ولم يؤت ثمرته إال في املدينة! فالقيام‬
‫بهذه األعمال على وجهها واتخاذ أسباب نجاحها وإيجادها هي في الواقع (ال نتحدث عن إيجاد نتائجها)‪ ،‬يجب أن يتم كي‬
‫نقع في مظنة نصرة هللا التي هي شرط كي ينصرنا هللا‪.‬‬
‫فالنصر بيد هللا‪ ،‬وليس بمسبب عن األعمال التي قام بها على وجهها‪ ،‬ألن هللا تعالى‪ ،‬ترك أمر النصر بيده‪ ،‬ولم‬
‫اعطك مفاتحه‪ ،‬فال يحاسبك على تأخره أو تقدمه‪ ،‬فاألخذ بأسباب العمل تدرس في ضوء ما هو العمل الذي أمرك به‪،‬‬
‫فإن قمت بهذه األسباب‪ ،‬فقد أوجدت العمل في الواقع‪ ،‬أي قمت بحمل الدعوة‪ ،‬قمت بالكفاح السياس ي‪ ،‬بالصرا‬
‫الفكري‪ ،‬هذه األعمال لها أسبابها التي توجدها في الواقع‪ ،‬لذلك‪ ،‬يخلط من ال يفرق بين األخذ بأسباب األعمال التي‬
‫كلفنا بها‪ ،‬وبين نتائجها‪ ،‬إذ إن نتائجها ليست مما وضع هللا مفاتحه بيد أحد غيره‪ ،‬فالنصر حصرا من عند هللا‪ ،‬فاألخذ‬
‫بأسباب األعمال والقيام بها على وجهها‪ ،‬ليس بالضرورة سببية لنتائجها‪ ،‬وبدراسة القرآن‪ ،‬وجدناها شروطا ال أسبابا‪،‬‬
‫ُ‬
‫فإن اللـه تعالى قال واصفا شديد االبتالء والتضحيات التي قدمها حملة الدعوة‪ ،‬ومن بلغ به الحال في عمله أن مسته‬
‫البأساء والضراء‪ ،‬وأن يزلزل وهو ثابت على الحق‪ ،‬فال يمكن أن يكون عمله إال على الوجه املرب ي عنه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فلم‬
‫َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ َّ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫يكن هذا كله سببا في نزول النصر‪ ،‬بل كان عليهم سؤال هللا أن ينزل نصره‪﴿ ،‬أ ْم َح ِس ْب ُت ْم أن ت ْدخلوا ال َج َّنة َوملا َيأ ِتكم‬
‫َ‬ ‫ين َخ َل ْو ْا من َق ْبل ُكم َّم َّس ْت ُه ُم ْال َب ْأ َساء َو َّ‬
‫الض َّراء َو ُ ْزلزُل ْوا َح َّتن َي ُقو َل َّ ُ ُ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ ْ‬ ‫َّم َث ُل َّالذ َ‬
‫ّللا أال ِإ َّن‬
‫الرسول وال ِذين آمنوا معه متى نص ُر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َََ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫ّللا ق ِريب﴾ ِل ُيعلمنا اللـه مدى شدة املحنة التي واجهت حملة الدعوة‪ ،‬وال نقدر أن نصف هذه املحنة التي جعلت‬ ‫نص َر ِ‬
‫ََ َ ْ‬
‫ّللا﴾‪ ،‬ولكن عندما ثبت الصحابة على إيمانهم وعلى عهدهم مع اللـه‪ ،‬جاء‬ ‫الصحابة والرسول ﷺ يقولون ﴿متى نص ُر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿أال إ َّن َن ْ‬ ‫َ‬
‫ّللا ق ِريب﴾ فإن نصر اللـه ال يتنزل إال على أناس استحقوا النصر‪ .‬الذين يثبتون على‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫ِ‬ ‫الجواب من اللـه‬
‫رُوسهم للعاصفة‪ .‬الذين استيقنون أن ال نصر إال نصر‬ ‫السراء والضراء الذين يصمدون للزلزلة‪ .‬الذين ال َي ْحنون َ‬
‫ُ ُ‬
‫اللـه‪ ،‬وعندما اشاء اللـه‪ .‬وحتى حين تبلغ املحنة ذرو ها‪ ،‬فهم يتطلعون إلى نصر اللـه فحسب ال إلى أي حل غيره‪ ،‬وال إلى‬
‫َ ۡ َ َ َ َ ُ َ َ ْ َ ُ ُ َ ُ ُ َ َّ م َ َ ْ ُ ۡ َ ۡ َ ۚ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ص ُرنا َوال ُم َب ِد َل‬ ‫﴿ول َق ۡد ك ِذ َب ۡت ُر ُس لل ِمن قب ِلك فصبروا على ما ك ِذبوا وأوذوا حتن أتىهم ن‬ ‫أي نصر ال ي يء من عند اللـه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۤ‬ ‫َّ ۚ َ‬ ‫َ ْ‬
‫لِل َول َق ۡد َجا َء َك ِمن َّن َب ِإی ٱمل ۡر َس ِلي َن﴾ [األنعام ‪ ،]34‬فهذه سنة هللا ال مبدل لها‪ ،‬أن تثبت على الحق وتصبر‬ ‫ِلك ِل َمـ ِت ٱ ِ‬
‫وتنتظر حتن يأتي نصر هللا‪ ،‬هل الحظت ﴿حتن﴾؟ لم يملكوا أن ينزلوا النصر مع أخذهم بأسباب عملهم الذي كلفوا‬
‫به‪ ،‬لم يكن نزول النصر كإشعال النار في الهشيم‪ ،‬بمجرد أن توجد شروطه األر عة‪ ،‬وتزول العوائق‪ ،‬تشتعل النار ذاتيا‬

‫‪ 125‬وحين بحث موضو النصر ويكون املقصود نصر الدعوة في صرا الحق والباطل‪ ،‬وإقامة الدولة‪ ،‬واالستخالف والتمكين‪ ،‬فال يقال بأن ســببه اإلعــداد‪ ،‬ألن‬
‫األعمال التي يقام بها لتحقيقه في الواقع (التثقيف والصرا الفكري ‪ )...‬ال عالقة لها باإلعداد‪ ،‬بخالف النصر في املعركة فإن سببه اإلعداد‪.‬‬
‫‪126‬‬
‫استجابة للسنة الكونية التي قدرها هللا في النار‪ ،‬بل هللا خص نفسه بالنصر‪ ،‬وبالتمكين‪ ،‬وبالسلطان يؤتيه من اشاء‪،‬‬
‫فهو مالك امللك‪.‬‬
‫"ولدينا دليل على أنه ال اشترط تحقق النصر فورا على تحقيق شروطه‪ ،‬بل يمكن أن يتراخى النصر عن شروطه‪،‬‬
‫َ َ ُ ُ ْ ْ َ َ َّ‬ ‫َ‬
‫مع وجود وتحقق انتفاء موانعه‪ ،‬ولكنه سيتحقق ال محالة‪ ،‬إذ إن هللا تعالى قال ﴿أ ْم َح ِس ْب ُت ْم أن ت ْدخلوا ال َج َّنة َوملا‬
‫الض َّراء َو ُزْل ُزل ْوا َح َّتن َي ُقو َل َّ ُ ُ َ َّ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ ْ‬ ‫ين َخ َل ْو ْا من َق ْبل ُكم َّم َّس ْت ُه ُم ْال َب ْأ َساء َو َّ‬ ‫َي ْأت ُكم َّم َث ُل َّالذ َ‬
‫الرسول وال ِذين آمنوا معه متى نص ُر ِ‬
‫ّللا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرس ُل‬ ‫ُ‬ ‫س ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ّللا قريب﴾ فالقريب هو ما تأكد استحقاقه وملا يقع بعد‪ ،‬وكذلك في قوله تعالى ﴿حتى إذا است ْيئ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َأال إن نص َ‬
‫ر‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ُ َ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ َ ُّ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ ْ ْ ُ‬
‫وظنوا أنهم قد ك ِذبوا جاء هم نصرنا فن ِ ي من نشاء وال يرد بأسنا عن القو ِم املج ِر ِمين﴾ [يوسف ‪ ،]110‬فوقع النصر‬
‫بعد االستيئاس‪ ،‬واالستيئاس ال يقع إال بعد تحقق األسباب‪ ،‬وانتظار النتيجة‪ ،‬بل وطول انتظار النتيجة‪126".‬‬

‫فربط األسباب باملسببات هو هيئة ما يلزم إليجاد ش يء‪ ،‬كإشعال النار استلزم األخذ بأسباب تشعل النار‪ ،‬أمر‬
‫باإلعداد ما استطعتم من قوة في القتال‪ ،‬فأسبابه أن تنظر في القوة املحققة للرهبة وفقا لالستطاعة‪ ،‬فإن فعلتها‬
‫أخذت باألسباب املطلوبة منك‪ ،‬لكنه لم يأمرك بتحقيق االنتصار في املعركة فيحاسبك على الهزيمة!‬
‫وباملثل نتيجة الدعوة بحصول النصر‪ ،‬فاألسباب التي نتخذها في الدعوة واجبة علينا‪ ،‬وليست هي األسباب التي‬
‫تفعل الطاقة السببية في النصر فتجلبه‪ ،‬إذ إن الفاعل فيه هو هللا‪ ،‬وال ندري سببه الذي ينزله‪ ،‬ولكننا مطالبون‬
‫بالعمل ومطالبون باألخذ بأسباب العمل نفسه‪ ،‬مطالبون بإبراء الذمة بإحسان العمل‪ ،‬ومؤاخذون على التقصير في‬
‫إحسان العمل‪.‬‬
‫لذلك فالفاعل في إنتاج ال ُـم َس َّب ِب إن كان هللا تعالى‪ ،‬مثل اإلماتة‪ ،‬واإلحياء‪ ،‬والرزق‪ ،‬والنصر فإن تفعيل الطاقة‬
‫السببية من قبل اإلنسان ضروري للوقو في َمظنة السببية في إحسان العمل‪ ،‬وفي بلوا غايته من القيام بالواجبات‬
‫وإرضاء هللا تعالى وإبراء الذمة‪ ،‬وليس هو السبب في قضاء هللا بوقو النصر‪ ،‬ويوقع هللا تعالى النصر متى شاء وعلى‬
‫الصورة التي اشاء‪ ،‬فقد يوقعه بصورة تكون امتدادا للفعل السببي‪ ،‬كأن ينصر الدعوة والنبي معا‪ ،‬فيستخلف النبي‬
‫ويؤم َن املسلمين‪ ،‬وقد يوقعه ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬بصورة ال تكون امتدادا للفعل السببي‪ ،‬أي‬ ‫واملسلمين ويمكن للدين‪ِ ،‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ات َوأ َنزل َنا َم َع ُه ُم ال ِك َت َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫اب‬ ‫عمل األنبياء على تحكيم شراوعهم وكت هم‪ ،‬وقيام الناس بالقسط‪﴿ ،‬لقد أ ْر َسلنا ُر ُسلنا ِبال َب ِين ِ‬
‫َ َ‬ ‫الن ُ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ َّ َ َ‬ ‫ان َّ‬ ‫َ‬
‫﴿ك َ‬ ‫َ ْ َ َ َ ُ َ َّ ُ ْ‬
‫ين َوأ َنز َل‬ ‫نذ ِر‬ ‫َ َ‬
‫اس أ َّمة و ِاحدة ف َبعث ّللا الن ِب ِيين ُمب ِش ِرين و ُم ِ‬ ‫اس ِبال ِق ْس ِط﴾ [‪ 25‬الحديد]‪،‬‬ ‫و ِامليزان ِليقوم الن‬
‫اس ِف َيما اخ َتل ُفوا ِف ِيه﴾ [البقرة ‪ ،]213‬فال تكون صورة النصر تحكيم الكتب‬
‫ْ َ ْ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ ْ َ َّ‬
‫معهم ال ِكتاب ِبالح ِق ِليحكم بين الن ِ‬
‫والشراوع ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬بل تكون بصورة إهالك عدوهم الذي رفض كل الرفض أن يؤمن ويتبع الرسل ويقيم‬
‫ميزان العدل والقسط‪ ،‬مما يدل على أن قيام األنبياء بالفعل السببي وهو الدعوة وغايتها‪ :‬تحكيم الكتب‪ ،‬وإقامة ميزان‬

‫‪ 126‬من بحث بعنوان‪ :‬مفهوم النصر‪ ،‬أعده بعض الشباب‪ ،‬بتصرف‪.‬‬


‫‪127‬‬
‫العدل‪ ،‬لم ينتج عنه املسبب (وهو غايته)‪ ،‬بل نتج عنه نصر من هللا بإهالك عدوهم‪ ،‬ونصر األنبياء والذين آمنوا وعد‬
‫من هللا‪ ،‬يحققه كيف شاء سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫فقد تلقح النطفة البويضة وال يأذن هللا تعالى بتكون الجنين‪ ،‬وقد يصاب الشخص برصاصات كثيرة في صدره وال‬
‫يموت‪ ،‬وقد تنتصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة‪ ،‬رغم مخالفة هذا للسنن التاريخية‪ ،‬وموافقته للسنن اإللهية وقد‬
‫يقوم الرسول بكل ما طلب منه في الدعوة والثبات عليها ويأتيه النصر بعد حين‪ ،‬ال لتأخره في القيام بأسبابها‪ ،‬ولكن ألن‬
‫الفاعل هو هللا‪ ،‬فالرسول مطالب بأفعال ومطالب باألخذ بأسبابها‪ ،‬وإحسان العمل‪ ،‬ولكن الفاعلية التي تنتج املسبب‬
‫ليست هي نتاج األسباب التي يقوم بها الرسول‪ ،‬والنتائج املترتبة على فعل الرسول والذين آمنوا معه هي مرضاة هللا‬
‫والقيام بما أمروا به على وجهه‪ ،‬وأبسط مثال للتدليل على ذلك دعوة نوح عليه السالم‪ ،‬فال يقال بأنه لم يأخذ‬
‫يفض لنتيجة‪ ،‬بل بلغ مرتبة أولي العزم من الرسل‪ ،‬وأرب ى ربه سبحانه وتعالى‪،‬‬ ‫باألسباب‪ ،‬وال بأن أخذه باألسباب لم ِ‬
‫فحققت أعماله السببية مسببا ها‪ ،‬واستجلبت له نصر هللا بمحق عدوه وإغراقهم‪.‬‬
‫لذلك كان النصر جراء تحقيق الشرط‪ ،‬ال جراء القيام باألسباب‪ ،‬مع أن القيام باألسباب واجب‪ ،‬والقيام‬
‫باملشروط واجب‪ ،‬وقد نسب هللا الفاعلية في النصر لنفسه‪ ،‬ولم يربطها بأسباب معينة‪ ،‬والسبب فيها ال يمكن إدراكه‬
‫بالعقل‪ ،‬فالنصرإذن مثل القضاء بيد هللا تعالى ينزله متن شاء‪ ،‬على من شاء‪ ،‬في املكان الذي اشاء‪ ،‬ومن كرمه تعالى‬
‫أن جعله حقا على ذاته العلية‪ ،‬يؤيد به األنبياء واملرسلين واملؤمنين في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫على أنه يوجد فرق بين القضاء وبين النصر‪ ،‬فالنصر نتيجة مرتبطة‪ ،‬مشروطة بأعمال معينة‪ ،‬مطلوبة‪ ،‬منصوص‬
‫عليها‪ ،‬مأمور بها‪ ،‬نحاسب على التقصير في القيام بها‪ ،‬وليس القضاء من هذا الباب‪.‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬
‫النصروالتمكين واالستخالف متن؟‬
‫لو وضعنا املسألة في إطار الصرا ‪ ،‬والتدافع بين الحق والباطل‪ ،‬والذي يف ي إلى نتيجة انتصار الحق على‬
‫الباطل‪ ،‬ووراثة أهل الحق لألرض واستخالفهم فيها‪ ،‬فإننا نجد الترتيب التالي لألحداث‪ :‬عمل وصرا (قذف بالحق على‬
‫الباطل)‪ ،‬فاندماا‪ ،‬فانتصار للحق‪ ،‬فاستخالف ووراثة وتمكين فأمن‪ ،‬فنزول نصر هللا تعالى‪ ،‬فإن لنا أن نجعل النصر‬
‫مترافقا للمراحل السابقة له‪ ،‬فنصر تم بتحقيق االستخالف‪ ،‬ونصر تم بتحقق التمكين‪ ،‬ونصر بتأمين املسلمين‪،‬‬
‫وأخيرا‪ :‬نصر هللا تعالى الذي يتضمن تحقق كل ذلك‪ ،‬فالنصر املرحلي الذي يقع على أجزاء من العمل وأثناءه يكون‬
‫توطئة لنصر هللا ‪ ،‬بل إن الثبات على الحق مع شدة صولة الباطل هو نصر بحد ذاته‪ ،‬فال استطيع الباطل قهر الحق‬
‫ورجاله‪ ،‬وال إرغامهم على باطله‪ ،‬فهذا الثبات انتصار‪ ،‬لذلك ينبغي تجلية مفهوم النصر وصوره‪ ،‬ومعانيه‪ ،‬ونفهم‬
‫طبيعة الصرا بين الحق والباطل‪ ،‬أين وصلنا فيه في عملية القذف بالحق على الباطل‪ ،‬و هيئة الدين ليتحقق تمكينه‪،‬‬
‫بعملية التصفية والتنقية والبلورة‪ ،‬و عملية الصرا الفكري بين الحق والباطل لدمغ الباطل وقهره‪ ،‬وإحالل الحق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َ ََ َْ‬
‫اط ِل ف َي ْد َمغ ُه ف ِإذا ُه َو َز ِاهق ۚ َولك ُم ال َو ْي ُل ِم َّما ت ِص ُفون﴾[األنبياء ‪.]18‬‬
‫مكانه‪﴿،‬ب ْل نق ِذف ِبالح ِق على الب ِ‬
‫‪128‬‬
‫أوال‪ :‬أيات حصرت النصربيد هللا‪:‬‬
‫ّللا َع ِزيز َح ِكيم﴾ [األنفال ‪،]10‬‬ ‫َ َ َ َ َ ُ َّ ُ َّ ُ ْ َ ْ َ َ ْ َ َّ ُ ُ ُ ُ ْ َ َ َّ ْ‬
‫ص ُر إ َّال م ْن عند َّّللا ۚ إ َّن َّ َ‬
‫﴿وما جعله ّللا ِإال بشرى وِلتطم ِان ِب ِه قلوبكم ۚ وما الن ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ْ ُُْ َ َ‬ ‫ْ َ ْ ُ ْ ُ ُ َّ ُ َ َ َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َّ ْ ُ َّ ْ ْ َّ ْ‬
‫ّللا فال غ ِال َب لك ْم َو ِإ ْن َيخذلك ْم ف َم ْن ذا‬ ‫ّللا ال َع ِز ِيز ال َح ِك ِيم﴾ [آل عمران ‪ِ ﴿ ،]126‬إن ينصركم‬
‫﴿وما النصر ِإال ِمن ِعن ِد ِ‬
‫َّ َ ْ ُ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َ َ َ َّ ْ ُ ْ ُ نَ‬
‫ّللا فليتوك ِل املؤ ِمنو ﴾ [آل عمران ‪﴿ ]160‬أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من‬ ‫ال ِذي ينصركم ِمن بع ِد ِه وعلى ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ْ َ ْ َ ْ َّ َّ َ ُ ُ ْ ُ َّ َ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض ۗ وما لكم ِمن دو ِن ِ‬
‫ّللا‬ ‫ات واألر ِ‬ ‫دون الرحمن ِإن الكافرون إال في غرور﴾ [‪ 20‬امللك]‪﴿ ،‬ألم تعلم أن ّللا له ملك السماو ِ‬
‫َ َ‬
‫ِمن َو ِلي َوال ن ِصير﴾ [‪ 107‬البقرة]‪،‬‬
‫ثانيا‪ :‬يات تبين أنه حق على هللا أن ينصرمن ينصره‪ ،‬وأن ينصراملؤمنين‪:‬‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫ص ُر ْاملُ ْؤمن َين﴾ [الروم ‪َ ﴿ ،]47‬يا َأ َُّ َها َّالذ َ‬ ‫ان َحقا َع َل ْي َنا َن ْ‬
‫﴿و َك َ‬
‫نص ْرك ْم َو ُيث ِب ْت أق َد َامك ْم﴾ [‪7‬‬‫ين َآم ُنوا ِإن تنصروا ّللا ي‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ‬
‫َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫َّ ُ ْ َ ُ ْ ْ َ ُ ُ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ندنا ل ُه ْم الغ ِال ُبون﴾ [الصافات‬ ‫ورون ۝ و ِإن ج‬ ‫محمد]‪َ ﴿ ،‬ول َق ْد َس َب َق ْت ك ِل َم ُت َنا ِل ِع َب ِادنا امل ْر َس ِل َين ۝ ِإنهم لهم املنص‬
‫‪127]173 -171‬‬

‫ثالثا‪ :‬يات تبين بعم سنن النصروشروطه‪:‬‬


‫َ َ ُ ُ ْ َ َ َّ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫﴿ َيا َأ َُّ َها َّالذ َ‬
‫نص ْرك ْم َو ُيث ِب ْت أق َد َامك ْم﴾[محمد ‪﴿ ،]7‬أ ْم َح ِس ْب ُت ْم أ ْن ت ْدخلوا ال َج َّنة َوملا َيأ ِتك ْم‬ ‫ين َآم ُنوا ِإن تنصروا ّللا ي‬ ‫ِ‬
‫ص ُر َّّللا َأ َال إنَّ‬ ‫ين َآم ُنوا َم َع ُه َم َتى َن ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ين َخ َلوا ِمن ق ْب ِلك ْم مست ُهم البأس ُاء والض َّر ُاء وزلزلوا حتى يقول َّ‬
‫الر ُسو ُل َو َّالذ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َم َث ُل َّالذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ ْ َ ُّ ُ ُ َ ُّ َّ ُ ْ ْ ُ َ َ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َّ‬
‫ص ُرنا ف ُن ِ َي َم ْن نش ُاء َوال ُي َر ُّد‬ ‫ّللا ق ِريب﴾ [البقرة ‪َ ﴿ ،]214‬ح َّتى ِإذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد ك ِذبوا جاء هم ن‬ ‫نص َر ِ‬
‫اه ْم‬ ‫وذوا َح َّتن َأ َت ُ‬ ‫ْ َْ َ َ ََُ ََ َ ُ ُ َُ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُْ‬
‫َبأ ُس َنا َع ْن ال َق ْو ِم امل ْج ِر ِم َين﴾ [يوسف ‪َ ﴿ ،]110‬ول َق ْد ك ِذ َب ْت ُر ُسل ِمن قب ِلك فصبروا على ما ك ِذبوا وأ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َ ُْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫ّللا َول َق ْد َج َاء َك ِم ْن ن َب ِإ امل ْر َس ِل َين﴾ [األنعام ‪،128]34‬‬
‫ات ِ‬ ‫نص ُرنا َوال ُم َب ِد َل ِلك ِل َم ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقت النصر‪ :‬النصرقد يكون دنيويا وقد يكون أخرويا‪:‬‬
‫َّ ْ َ‬
‫ثم ل َي ْقط ْع‪،‬‬
‫َْ‬
‫ينص َر ُه هللا في الدنيا واآلخرة فل َي ْم ُد ْد ِب َس َبب إلى السماء‪،‬‬ ‫كان َي ُظ ُّن َأ ْن َل ْن َ‬
‫قال هللا سبحانه وتعالى‪َ ﴿ :‬م ْن َ‬
‫ُ‬ ‫َف ْل َي ْن ُظ ْر هل ُي ْذه َب َّن ُ‬
‫كيد ُه ما َاغي ﴾ [الحج ‪ ،]15‬ويكون النصر في الدنيا بإعالء كلمة هللا وإظهار دينه‪ ،‬ويكون في اآلخرة‬ ‫ِ‬
‫بإعالء الدرجة واملنزلة في الجنة‪ ،‬ويكون بمعاقبة أعدائه واالنتقام منهم‪ ،‬أو بصورة ال نعلمها‪ ،‬يعلمها هللا‪ ،‬ومثال ذلك‬
‫ّللا‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َّ َّ َ ُ ُ ْ َ‬
‫أن هللا تعالى يرزق الشهيد بعد استشهاده‪ ،‬وال نعلم كيفية ذلك‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وال تحسبن ال ِذين ق ِتلوا ِفي س ِب ِيل ِ‬
‫ُّ ْ‬
‫الدن َيا‬
‫ْ‬ ‫ند َربه ْم ُي ْر َز ُقو َن﴾ [آل عمران ‪ ،]169‬قال تعالى‪ ﴿ :‬إ َّنا َل َن ُ‬
‫نص ُر ُر ُس َل َنا َو َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا ِفي ال َح َي ِاة‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أمواتا‪ ،‬بل أ َحياء ِع ِ ِ‬
‫ََ ْ َ َُ ُ ْ ْ‬
‫وم األش َه ُاد﴾ [غافر ‪.]51‬‬ ‫ويوم يق‬

‫‪ 127‬وج ــاء ف ــي تفس ــير الزمخش ــري ف ــي تفس ــير ه ــذه اآلي ــة‪ ،‬وامل ــراد الوع ــد بعل ــوهم عل ــى ع ــدوهم ف ــي مالح ــم القت ــال ف ــي ال ــدنيا وك ــذلك عل ــوهم عل ــيهم ف ــي اآلخ ــرة‪ .‬تفس ــير‬
‫الزمخشري ‪.67/4‬‬
‫‪ 128‬وجاء في تفسير ابن كثير (ال مبدل لكلمات اللـه) أ ي التي كت ها في الدنيا واآلخرة بالنصر لعباده املؤمنين‬
‫‪129‬‬
‫إن اللـه جلت قدرته قد ينصر أنبياءه ورسله في حيا هم كحال معظم األنبياء والرسل‪ ،‬وقد ينصرهم بعد وفا هم‬
‫كما حصل مع عيس ى عليه السالم‪ ،‬فقد انتصرت شريعته بعد أن رفعه اللـه إليه‪ ،‬وكذلك الحال مع حملة الدعوة‪،‬‬
‫فربما نصرهم اللـه مباشرة‪ ،‬وربما نصرهم بتدخير آخرين لنصر هم‪ ،‬وربما نصرهم في حيا هم‪ ،‬وربما نصر دعو هم بعد‬
‫موت الرواد منهم‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وال يص القول أو االدعاء باقتصار نزول النصر على حملة الدعوة بواحدة بالذات من هذه‬
‫األحوال‪ ،‬ونفي ما سواها‪ ،‬اليص هذا القول وهذا االدعاء وال يجوز‪ ،‬ألن تخصيص نصر حملة الدعوة بأي منها‬
‫تخصيص دون مخصص‪ ،‬وهو تشريع عقلي وليس تشريعا شرعيا‪ ،‬فليحذر حامل الدعوة من مخالفة هذا الحكم‬
‫الشرعي‪ ،‬واألخذ بالهوى في اختيار حالة معينة دون غيرها واستبعاد ما سواها‪ ،‬وليعلم أن النصر من عند اللـه ينزله‬
‫على املؤمنين إن هم نصروه بالطاعة وااللتزام والتقيد بعيدا عن اتبا الهوى والتشريعات العقلية‪129 .‬‬

‫وقال اإلمام السدي "لم يبعث اللـه عز وجل رسوال قط فيقتلونه أو قوما من املؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم‬
‫فيذهب ذلك القرن حتى يبعث اللـه تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك في الدنيا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫فكانت األنبياء واملؤمنون ُيقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها"‪ ..130‬ومعنى ذلك أن الغلبة للمؤمنين وإن قوتلوا ُ‬
‫وعذبوا‪.‬‬
‫معاني النصر‪:‬‬
‫هذه املعاني كما قررها علماء اللغة مثل‪ :‬أبو هالل العسكري (كتاب‪ :‬الفروق اللغوية)‪ ،‬الراغب األصفهاني‬
‫(مفردات القرآن)‪ ،‬الرازي‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫ص َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫األول‪ :‬النصر بمعنى‪ :‬املنع‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وال ُيؤخذ منها َع ْدل وال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫رون﴾ [البقرة ‪،]48‬‬
‫ويعني‪ :‬وال ُهم يمنعون من العذاب‪ ،‬ويقابل ذلك إثبات النصرة للمؤمنين‪ ،‬وهي النجاة من العذاب‪.‬‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫﴿يا َأ َُّ َها َّالذ َ‬
‫نص ْرك ْم َو ُيث ِب ْت أقـ َد َامك ْم﴾‬ ‫ين َآم ُنوا ِإن تنصروا ّللا ي‬ ‫ِ‬
‫الثاني‪ :‬النصر بمعنى‪ :‬العون‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬
‫[محمـد ‪ .]7‬فنصـرة العبـد لل هـو نصـرته لعبـاده والقيـام بحفـ حـدوده‪ ،‬ورعايـة عهـوده‪ ،‬واعتنـاق أحكامـه‪ ،‬واجتنـاب‬
‫هللا َم ـ ْن َي ْن ُ‬
‫ص ـ ُر ُه﴾‬ ‫(مناهيــه)‪ ،‬ويترت ــب عل ــى ه ــذا الجه ــد مــن العب ــد نص ــر هللا وه ــو عون ــه لعبــده‪ ،‬وك ــذلك قول ــه‪َ ﴿ :‬و َل َي ْن ُ‬
‫ص ـ َر َّن ُ‬
‫َ‬
‫أن هناك فرقا بين النصرة واإلعانة‪ :‬وذلك "أ َّن النصرة ال تكون إال على املناز‬ ‫[الحج ‪ .]40‬وذهب أبو هالل العسكري إلى َّ‬
‫َ‬
‫املغالــب والخصـم املنــاوي املشــاغب‪ ،‬واإلعانــة تكــون علــى ذلــك وعلــى غيــره‪ ،‬يقــول‪ :‬أعانــه علــى مــن غالبــه‪ ،‬ونازعــه‪ ،‬ونصــر‬
‫عليه‪ ،‬وأعانه علـى فقـره‪ :‬إذا أعطـاه مـا اعينـه‪ ،‬وأعانـه علـى األحمـال‪ ،‬وال يقـال‪ :‬نصـره علـى ذلـك‪ ،‬فاإلعانـة عامـة والنصـرة‬
‫خاصة"‪.‬‬
‫هللا﴾ [آل عمران‬ ‫ْ‬ ‫الن ُ‬ ‫الوجه الثالث‪ :‬النصر بمعنى‪ :‬الظفر‪[ ،‬والظهور‪ ،‬والغلبة]‪ ،‬وذلك قوله‪﴿ :‬وما َّ‬
‫ند ِ‬‫صر إال من ِع ِ‬
‫ون﴾ [األعراف ‪ ،]192‬أي ال استطيعون تحقيق‬ ‫نص ُر َ‬ ‫صرا َوَال َأ ُنف َس ُه ْم َي ُ‬ ‫يعو َن َل ُه ْم َن ْ‬
‫‪[ ،]126‬األنفال ‪َ ﴿ ،]10‬وَال َا ْس َتط ُ‬
‫ِ‬

‫‪( 129‬حامل الدعوة واجبات وصفات أل ي إياس محمود عويضة)‬


‫‪ 130‬ابن كثير‪84/83/4-‬‬
‫‪130‬‬
‫الغلبة والظفر ال بقواهم الذاتية لغلبة العدو‪ ،‬وال نصرة غيرهم وإعانته بقوة للتغلب على عدوهما‪ ،‬وقد خص القرآن‬
‫النصر بأنه من عند هللا لكي يكون توكلهم على هللا ال على املالئكة الذين وعدهم هللا بإمدادهم بها‪.‬‬
‫َ‬
‫اس َت ْيأ َ‬
‫﴿ح َّتى إ َذا ْ‬
‫والوجه الرابع‪ :‬النصر بمعنى‪ :‬االنتقام‪ ،‬وذلك قوله‪﴿ :‬ولو شاء هللا النتصر منهم﴾ [محمد ‪َ " ،]4‬‬
‫س‬ ‫ِ‬
‫ُّ ُ ُ َ َ ُّ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ْ َ‬
‫ص ُرنا﴾ هذا القول هو عن النصر العام للدعوة بإهالك األقوام الكافرين‬ ‫الرسل وظنوا أنهم قد ك ِذبوا جاءهم ن‬
‫وتدميرهم كأقوام سيدنا نوح ولوط وصال ‪ ،‬ولكن هذا ال ينطبق على دعوة سيدنا محمد ﷺ وال على دعوتنا‪ ،‬ألن دعوة‬
‫محمد كانت إلقامة دولة وكذلك نحن‪ ،‬فالنصر يكون بظهور الدعوة وإقامة الدولة‪ ،‬وليس بإهالك الظاملين وإنجاء‬
‫ُْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫املؤمنين‪ ،‬فقد ورد في نهاية اآلية قول هللا‪﴿ :‬ف ُن ِ َي َمن نش ُاء َوال ُي َر ُّد َبأ ُس َنا َع ِن ال َق ْو ِم امل ْج ِر ِم َين﴾‪ ،‬فهذا الجزء يوض‬
‫َ‬ ‫َ َُ ْ َ ْ َ‬
‫ص ُرنا﴾‪ ،‬أي يبين معنى نصر هللا للرسل بأن ين ي هللا املؤمنين وَهلك الظاملين‪ ،‬فالفاء في ﴿ف ُن ِ َي﴾ هي‬ ‫معنى ﴿جاءهم ن‬
‫للتفريع وتوضيح معنى النصر‪ .‬ولكن ليس هذا هو النصر الذي نطلبه نحن في دعوتنا بإهالك وتدمير قومنا‪ .‬ولذلك‬
‫فهذه اآلية ال عالقة لها بنصرة الدعوة إلقامة الدولة‪ ،‬عالوة على أن إهالك الظاملين جميعا ندخه هللا ببعثة سيدنا‬
‫محمد ﷺ‪ ،‬فال إهالك عام لألقوام املكذبين في زمن النبي عليه السالم وال األزمان التي بعده"‪.131‬‬
‫وألن القرآن الكريم استعمل النصر بكل هذه املعاني‪ ،‬فإن هذا اعني أنه ال يوجد للنصر معنى شرعي خاص‪ ،‬وليس‬
‫له معنى عرفي أيضا‪ ،‬وإنما استعمل بمعانيه اللغوية‪.‬‬
‫وجوه حصول النصر‪:‬‬
‫باستعراض قصص األنبياء واملرسلين في القرآن نجد أن نصر اللـه لهم له ثالثة أوجه‪ :‬إما نصر النبي نفسه على‬
‫قومه ومعارضيه ومعانديه‪ ،‬وإما نصر الدعوة أو الفكرة التي حملها النبي والرسول‪ ،‬وإما نصر النبي ونصر الدعوة معا‪.‬‬
‫فنبي اللـه نوح‪ ،‬ونبي اللـه هود‪ ،‬ونبي اللـه صال ‪ ،‬ونبي اللـه شعيب‪ ،‬ونبي اللـه لوط قد نصرهم اللـه على أقوامهم بأن‬
‫أهلك أقوامهم ودمرهم بأصناف شتى من العذاب والتدمير‪ ،‬وهذا النصر هو الوجه األول‪ ،‬أي هو نصر النبي نفسه‬
‫على قومه‪ .‬ونبي اللـه يونس ونبي اللـه موس ى قد نصر اللـه فكر هما ودعو هما‪ ،‬فآمن قوم يونس‪ ،‬وآمن بنو إسرائيل‪،‬‬
‫وهذا النصر هو الوجه الثاني‪ .‬ونبي اللـه محمد ﷺ قد نصره اللـه على أعدائه من قرشيين وَهود وسائر العرب في‬
‫الجزيرة ومن حولهم‪ ،‬ونصر اللـه فكرته ودعوته ودينه فآمن العرب وغير العرب بدين اإلسالم‪ ،‬وهذا النصر هو الوجه‬
‫الثالث‪ .‬فاللـه سبحانه إما أن ينصر نبيه‪ ،‬وإما أن ينصر شريعة نبيه‪ ،‬وإما أن ينصر النبي وشريعته معا‪ ،‬وهذه مسألة‬
‫واضحة ال تحتاج إلى إيراد اآليات الكثيرة الدالة عليها‪132 .‬‬

‫‪ 131‬عن مقالة بعنوان‪ :‬نظرة في تعريف ومعنى النصر ومعنى نصرة هللا للمسلمين‪ ،‬لألستاذ يوسف الساريس ي‪.‬‬
‫‪( 132‬حامل الدعوة‪ ،‬واجبات وصفات أل ي إياس محمود عويضة)‬
‫‪131‬‬
‫وإما أن ينصر هللا النبي وحملة الدعوة بنفسه أي يباشر النصر بنفسه سبحانه وتعالى‪ ،‬أو ييه لهم من ينصرهم‬
‫من عباده (األنصار مثال)‪ :‬ففي سورة [األنبياء ‪﴿ ]77-76‬ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب‬
‫العظيم ۝ ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم ْ‬
‫سوء فأغرقناهم أجمعين﴾‪.‬‬
‫وفي سورة [األعراف ‪…﴿ :]157‬فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم‬
‫املفلحون﴾‪ ،‬فنصرهم للدعوة تدخير لهم إلجراء السنة اإللهية على أيدَهم‪ ،‬وليسوا هم من يملك مباشرة فعل النصر‬
‫إذ إنه بنص القرآن محصور بيد هللا تعالى وحده‪.‬‬
‫هل يملك املؤمنون أسباب النصرأم شروطه؟‬
‫هل استطيع املسلمون إنزال النصر متى شاءوا وكيف شاءوا بأن يأتوا بأسباب هذا النصر‪ ،‬أم أن األمر غير ذلك‪،‬‬
‫فال يملك املسلمون تقدير وقت نزوله‪ ،‬وال كيفية هذا النزول مهما فعلوا ومهما حاولوا‪ ،‬وإنما يملكون فحسب تحقيق‬
‫الشروط الواجبة والالزمة عليهم حتى يكرمهم بنصره في الوقت والكيفية اللذين يقدرهما هو سبحانه؟‬
‫إن املدقق في آيات اللـه املتعلقة بالنصر استنبط منها أن النصر كالرزق وكالقضاء‪ ،‬وأن النصر كأمر الرزق بيد‬
‫اللـه وحده‪ ،‬وأن قضاء اللـه ونصره بيد اللـه وليس بيد الناس حتى ولو كانوا أنبياء ورسال‪ ،‬فكما أن الرزق قضاء‪ ،‬وكما‬
‫أن األعمار قضاء‪ ،‬وكما أن نزول الغيث قضاء‪ ،‬فكذلك نزول النصر "نو من القضاء"‪ ،‬والقضاء بيد اللـه وحده وليس‬
‫بيد أحد من خلقه‪ ،‬فكما أن اإلنسان ال يملك تحديد رزقه وقتا وكمية‪ ،‬وال يملك تقدير عمره طوال وقصرا‪ ،‬وال يملك‬
‫إنزال الغيث وقتا وكمية‪ ،‬فكذلك النصر ال يملك أحد إنزاله توقيتا ومقدارا‪ ،‬وإنما كل ذلك قضاء‪ ،‬وحيث إن النصر‬
‫ً‬
‫قضاء كسائر ما ق ى ويق ي اللـه فإن أحدا ال يملك أسبابه التي تنتجه فال يتخلف‪ ،‬ولو كان النصر في مقدور أحد‬
‫صنعه باإلتيان بأسبابه التي تنتجه فال يتخلف‪ ،‬لصنعه األنبياء والرسل‪ ،‬وألنزلوه فور حاجتهم إليه‪ ،‬وما دام األنبياء‬
‫والرسل ال يملكون أسباب النصر فإن من سواهم من املؤمنين ال يملكونه قطعا‪ ،‬قال تعالى في سورة [القمر ‪:]10‬‬
‫فانتصر﴾‪ ،‬فلو كان النصر في مقدور نبي اللـه نوح يأتي به متى شاء ملا قال ما قال‪ ،‬وقال سبحانه‬ ‫ِ‬ ‫﴿فدعا ربه أني مغلوب‬
‫َ ْ ُ َّ َّ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ َ َّ َّ َ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ ُ َّ َ ُ َّ َ َ َ ْ ْ‬
‫في سورة البقرة‪﴿ :‬أم ح ِسبتم أن تدخلوا الجنة وملا يأ ِتكم مثل ال ِذين خلوا ِمن قب ِلكم مستهم البأساء والضراء وزل ِزلوا‬
‫َ‬
‫ّللا ق ِريب﴾‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ص ُر ّللا َأال إ َّن َن ْ‬
‫ص‬ ‫ين َآم ُن ْوا َم َع ُه َم َتى َن ْ‬
‫الر ُسو ُل َو َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫َح َّتى َي ُقو َل َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫فلو كان النصر في مقدور رسول اللـه الكريم ﷺ وفي مقدور صحابته ملا قالوا ما قالوا‪ ،‬وقال جل جالله في سورة‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ ُّ ُ ُ َ َ ُّ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ َ ُ ْ َ ْ َ َ‬
‫ص ُرنا ف ُن ِ َي َمن نش ُاء ۖ َوال ُي َر ُّد َبأ ُس َنا َع ِن ال َق ْو ِم‬ ‫يوسف‪﴿ :‬حتى ِإذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد ك ِذبوا جاءهم ن‬
‫ُ‬ ‫ُْ‬
‫امل ْج ِر ِم َين﴾ فلو كان صنع النصر مقدورا عليه من قبل الرسل ملا يئسوا وملا ظنوا أنهم ك ِذبوا دون أن يتمكنوا من فعل‬
‫َّ‬
‫أي ش يء‪ ،‬إذ "املستيئس" املكذب ال يصنع نصرا‪ ،‬ولهذا جاء القول ـ جاءهم نصرنا‪ .‬فمن ادعى أنه يملك أسباب النصر‬
‫نص ُروا‬ ‫ين َآم ُنوا إن َت ُ‬ ‫فليأتنا بالبينة الشرعية‪ ،‬أو البينة الكونية على ادعائه‪ .‬إن قوله تعالى في سورة محمد‪َ ﴿ :‬يا َأ َُّ َها َّالذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬
‫نص ْرك ْم َو ُيث ِب ْت أق َد َامك ْم﴾ ليس دليال على دعوى تملك األسباب‪ ،‬ثم إن الرسول الكريم ﷺ لو كان يملك أسباب‬ ‫ّللا ي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫إنزال النصر ألنزله في معركة أحد لشدة حاجته إليه‪ ،‬وألنزله في معركة الخندق عندما ضيق عليه الحصار فزلزل‬
‫‪132‬‬
‫املؤمنون وظنوا باللـه الظنون‪ ،‬يقول تعالى في سورة األحزاب‪﴿ :‬إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت‬
‫األبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون باللـه الظنونا ۝ هنالك ابتلي املؤمنون وزلزلوا زلزاال شديدا﴾‪ ،‬ولوال أن اللـه‬
‫سبحانه قد أرسل على األحزاب الريح وقذف في قلوبهم الرعب ففروا ال يلوون على ش يء ملا ملك املسلمون من أمرهم‬
‫شيئأ‪ ،‬فالحق الذي ال مراء فيه‪ ،‬والصواب الذي ال ينبغي العدول عنه هو أن النصر قضاء‪ ،‬وأنه بيد اللـه وحده تماما‬
‫كالرزق واألعمار ونزول الغيث‪ .‬وقضاء اللـه بالنصر للمؤمنين ال يقضيه اللـه كيفما اتفق‪ ،‬وحاشا للـه أن يكون كذلك‪،‬‬
‫وإنما اشترط رب العزة على املؤمنين كي ينزل نصره عليهم أن ينصروه بمعنى أن يلتزموا أحكام دينه ويطيعوه في كل ما‬
‫أمر‪ ،‬فإن حقق املسلمون هذا الشرط الذي شرطه اللـه عليهم أنزل نصره عليهم‪ ،‬وإال خذلهم اللـه وحجب نصره عنهم‬
‫ص ْر ُك ُم َّ ُ‬
‫ّللا‬ ‫ولم اعد في مقدورهم نوال النصر ال بأنفسهم وال بنصرة آخرين لهم‪ ،‬قال تعالى في سورة آل عمران‪﴿ :‬إ ْن َي ْن ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َّ َ ْ ُ ُ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َ َّ َ ْ َّ ْ ُ‬
‫ّللا فل َي َت َوك ِل امل ْؤ ِم ُنون﴾‪.‬‬
‫فال غ ِالب لكم و ِإن يخذلكم فمن ذا ال ِذي ينصركم ِمن بع ِد ِه وعلى ِ‬
‫وإذن فإن املسلمين حتى ينزل اللـه نصره عليهم يجب عليهم أن يحققوا الشرط الالزم لنزول هذا النصر‪ ،‬فإن‬
‫تحقق الشرط تحقق وعد اللـه بالنصر‪ ،‬وإن تخلف الشرط خذلهم اللـه ولم ينصرهم‪ ،‬وعلى هذا يجب حمل قوله‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫تعالى في سورة محمد‪َ ﴿ :‬يا َأ َُّ َها َّالذ َ‬
‫نص ْرك ْم َو ُيث ِب ْت أق َد َامك ْم﴾ فإن اللـه سبحانه حتى ينصرنا قد‬ ‫ين َآم ُنوا ِإن تنصروا ّللا ي‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫اشترط علينا أن ننصره‪ ،‬فإن نصرناه نصرنا‪ ،‬وإن لم ننصره خذلنا وحجب نصره عنا‪ ،‬وذلك أن حرف ﴿ ِإن﴾ حرف‬
‫ّللا﴾ معناه اشترط عليكم أن تنصروا اللـه‪ ،‬هذا هو معنى اآلية وال‬ ‫نص ُروا َّ َ‬
‫شرط كما هو معلوم لغة‪ ،‬فقوله‪﴿ :‬إن َت ُ‬
‫ِ‬
‫يص تحميلها معاني ال تحتملها‪.‬‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ‬
‫نص ْرك ْم هو شر باملعنن اللغوي ولهس باملعنن الشرعي‪:‬‬ ‫﴿إن تنصروا ل ي‬
‫الشر في ية‪ِ :‬‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ‬
‫نص ْرك ْم﴾ هو شرط باملعنى اللغوي وليس باملعنى الشرعي‪ ،‬ألن هناك مشكلة في‬ ‫﴿إن تنصروا ّللا ي‬
‫"والشرط في آية ِ‬
‫فهم الشرط باملعنى الشرعي؛ لئال يترتب على وجوده وجود ويترتب على عدمه عدم‪ ،‬وهذا اعني أن املسلمين يمكن أن‬
‫ص ُر‬‫ان َحقا َع َل ْي َنا َن ْ‬
‫ينصروا هللا تعالى‪ ،‬ويمكن لل تعالى أن يخلف وعده‪ ،‬وهذا ال يجوز قطعا‪ ،‬ألن هللا تعالى قال‪َ ﴿ :‬و َك َ‬
‫ُْ‬
‫امل ْؤ ِم ِن َين﴾‪ ،‬فالنصر استحقاق أوجبه هللا على نفسه‪ ،‬فال يمكن أن تفهم هذه اآلية بهذا املعنى‪.‬‬
‫والرا حمل اآلية على املعنى اللغوي للشرط‪ ،‬وهو اشبه السبب الذي يترتب على وجوده وجود ويترتب على عدمه‬
‫عدم‪ ،‬بمعنى أن الشرط اعمل في االيجاب (الوجود) وقد اعمل أو ال اعمل في السلب (العدم)‪ ،‬فإذا نصر املسلمون هللا‬
‫فإنه سينصرهم قطعا‪ ،‬وإذا لم ينصروه فإنه ال ينصرهم استحقاقا‪ ،‬ولكن قد ينصرهم هللا ألمر آخر كتبه على نفسه‪.‬‬
‫فالل تعالى قد يجبر تقصير املسلمين وعدم استحقاقهم التام للنصر بسبب بعض املخالفات واملعان ي والنواقص‬
‫عندهم‪ ،‬من أجل أمر آخر كتبه على نفسه وهو حف كتابه وحف أمته وإهالك الكفرة واملجرمين بتسليط املسلمين‬
‫عليهم بسبب طغيانهم وظلمهم‪ ،‬وليس استحقاقا تاما للمسلمين بأفعالهم بنصر هم لل حق نصرته"‪ 133‬وألن أسلوب‬

‫‪ 133‬عن مقالة بعنوان‪ :‬نظرة في تعريف ومعنى النصر ومعنى نصرة هللا للمسلمين‪ ،‬لألستاذ يوسف الساريس ي‬
‫‪133‬‬
‫الشرط اللغوي يدل على أن تحقق الجواب وجودا وعدما موقوف على تحقق الشرط وجودا وعدما‪ ،‬اصطل‬
‫األصوليون على أن أسلوب الشرط اللغوي يدل على السببية‪ ،‬ملطابقته للتعريف السببي األصولي بأنه ما يلزم من‬
‫وجوده الوجود‪ ،‬ومن عدمه العدم‪.‬‬
‫والحق‪ ،‬أن السبب العقلي ال بد أن ينتج عنه املسبب حتما‪ ،‬وقد يتحقق هنا أن النصر بأحد أنواعه سينزل حتما‬
‫على املؤمنين‪ ،‬ولكن الدقيق في املسألة أن الفعل السببي (وهو الدعوة والصرا بين الحق والباطل) لم ينتج عنه دائما‬
‫انتصار الدعوة وتمكينها‪ ،‬أي لم يكن النصر على صورة امتداد للفعل السببي‪ ،‬بل نزل أحيانا بصورة إهالك العدو‪ ،‬مما‬
‫يدل على أنه ليس سببا عقليا‪ ،‬ولذلك فالقول الحق هو أن النصر في هذه الحالة ال أسباب له‪.‬‬
‫إال إنه‪ ،‬وكما بينا الفرق بين انتصار دعوة الرسول ﷺ‪ ،‬والتي انتهت باالستخالف والتمكين واألمن‪ ،‬وكانت على‬
‫صورة امتداد ألفعاله السببية‪ ،‬فإننا نقتفي أثره ﷺ في دعوته‪ ،‬ولدينا وعد حق من هللا تعالى باالستخالف والتمكين‬
‫واألمن‪ ،‬ووعد بأن دينه سيظهر على الدين كله‪ ،‬ولدينا جملة من األدلة التي تبين أن سنة إهالك الظاملين كانت فيمن‬
‫سبق‪ ،‬مما يدل داللة قاطعة على أن نتيجة دعوتنا النهائية ستكون تحقيق قيام الدولة إن شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫وكما قلنا فإن نصرتنا للـه سبحانه تعني تقيدنا بأوامره ونواهيه والتزامنا بطاعته واالجتهاد في الطاعة‪ ،‬فإن نحن‬
‫نفذنا أوامره كلها ومن األوامر اإلعداد بقدر االستطاعة نصرنا اللـه‪ ،‬وإن قصرنا في تنفيذ ش يء منها ال ينصرنا سبحانه‪،‬‬
‫وهكذا جميع العوامل التي يجب توفرها قبل النصر كلها شروط للنصر وليست أسبابا له‪.‬‬
‫فعلى حملة الدعوة إن هم أرادوا نزول النصر عليهم من عند اللـه أن يحققوا الشروط الالزمة لنزول النصر‪ ،‬وال‬
‫يتهاونوا في ش يء منها وإال فال نصر‪ ،‬فالنصر له شروط يجب توفرها إن أريد إنزاله‪ ،‬وبدونها ال يتحقق نزول النصر‪،‬‬
‫وتتوفر الشروط بالتقيد باإلسالم عقيدة وأحكاما‪ ،‬والعمل بما يرب ي اللـه‪ ،‬أي القيام بنصرة اللـه‪ ،‬ثم يأتي بعد ذلك أو‬
‫َ‬
‫يأتي ضمن ذلك اإلعداد الصحيح للمعركة‪ ،‬أو االجتهاد قدر الوسع من قبل َح َملة الدعوة في حملهم للدعوة‪ ،‬وصحة‬
‫هذا االجتهاد‪ ،‬وال يكفي الجيش اإلسالمي القيام بالواجبات الشرعية دون أن يقوم بشكل صحيح وبقدر الطاقة‬
‫بالواجبات العسكرية في الحروب‪ ،‬كما ال يكفي حملة الدعوة أن يخلصوا العمل للـه ويتقيدوا باألوامر والنواهي‬
‫الشرعية دون أن يقوموا بشكل صحيح بحمل الدعوة كما حملها رسول اللـه ﷺ‪ ،‬فالعبادة ال تكفي‪ ،‬واإلخالص للـه ال‬
‫يكفي‪ ،‬واجتناب املحرمات ال يكفي‪ ،‬بل ال بد معها وفوقها من توفر حسن العمل‪ ،‬واتبا الوسائل واألساليب املؤدية إلى‬
‫بلوا الغاية‪ ،‬ألن كل ذلك من الشروط الواجب توفرها إن نحن رجونا اللـه سبحانه أن يكرمنا بنصره‪ ،‬سواء في إقامة‬
‫ً‬
‫الخالفة أو في خوض املعارك‪ ،‬وليعلم حملة الدعوة أن اعتبار النصر قضاء وأن له شروطا لنزوله‪ ،‬ولهس هو مسببا‬
‫عن سبب أو أسباب يجعلهم أكثر نشاطا وأعلى همة‪ ،‬وأشد تمسكا بالواجبات وتركا للمحظورات‪ ،‬ألننا عندما ندرك أن‬
‫نصر اللـه ليس بأيدينا‪ ،‬وإنما هو بيد اللـه وحده اعطيه ملن يحقق الشروط كل الشروط‪ ،‬فإن ذلك يجعلنا شديدي‬
‫الخشية من التقصير املف ي إلى حجب النصر‪ ،‬سواء كان التقصير في العبادات والطاعات‪ ،‬أو كان في اتبا الطرق‬

‫‪134‬‬
‫والوسائل واألساليب الصحيحة املفضية إلى بلوا الغاية‪ ،‬فكل ذلك تقصير‪ ،‬وكل ذلك يحول دون تحقيق الشروط التي‬
‫يجب توفرها قبل نزول النصر‪.134‬‬
‫إن عوامل النصر هي بمثابة شروط للنصر وليست أسبابا‪ ،‬ذلك أن حصول الشرط ال يلزم منه حصول املشروط‪،‬‬
‫ّللا﴾ هو بمثابة الشرط وليس شرطا باملعنى‬‫نص ُروا َّ َ‬
‫املسبب‪ .‬فقوله تعالى‪﴿ :‬إن َت ُ‬
‫بينما حصول السبب يلزم منه حصول َّ‬
‫ِ‬
‫الدقيق‪ ،‬إذ قد ينصر اللـه الكفار‪ .‬إن اللـه وعد أن ينصر من ينصره‪ ،‬ولكنه لم يحدد فترة زمنية لتحقيق نصره‪ ،‬ولم‬
‫يحدد نوعية نصره‪ .‬فهذا رسول اللـه نوح عليه السالم لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إال خمسين عاما‪ ،‬ولم‬
‫استجيبوا له‪ .‬وال أحد يتهم نوحا بأنه كان مقصرا في تحقيق شروط النصر‪ .‬وأما نو النصر الذي حققه اللـه له بعد‬
‫هذه املدة فكان بإهالك قومه بالطوفان‪ .‬إذا ال يجوز لنا أن نتهم العاملين في الدعوة اإلسالمية لـمجرد إبطاء النصر‬
‫عنهم‪ ،‬بل نتهمهم إذا رأيناهم يخالفون شر اللـه أو يقصرون في أداء ما أوجبه اللـه عليهم‪.‬‬
‫من كرم هللا تعالى على األمة أن النصرغيرمرتبم بأسباب‬
‫لو ارتبط النصر بأسباب‪ ،‬لربما لم يكن بإمكان املؤمنين اإلتيان بها على الوجه الذي يفعل الطاقة السببية وينتج‬
‫املسبب! فمن كرم هللا تعالى أن رب ي أن يجعل النصر مشروطا بأن ينصره املؤمنون‪ ،‬وأنه حق عليه‪ ،‬على الرغم من‬
‫قصورهم‪ ،‬وضعف قدرا هم‪ ،‬و شريتهم‪ ،‬وذلك من تمام الفضل والنعمة والرحمة بهم!‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فهم مطالبون باألخذ التام باألسباب التي تجعل قيامهم بالعمل على الوجه املبري للذمة‪ ،‬وكما قلنا‪ :‬فرق‬
‫بين العمل الذي أمرهم هللا بالقيام به واألخذ بأسبابه على وجهها‪ ،‬وفرق بين نتيجته والتي هي بيد هللا تعالى غير مربوطة‬
‫بعين األسباب!‬
‫ملاذا يتأخرالنصر؟‬
‫ال بد لنا أن نبين أن نصر اللـه لعباده املؤمنين قد يتأخر ألن اللـه يريد لهم النصر األكبر واألعظم واألكمل واألدوم‬
‫واألكثر تأثيرا في واقع الحياة‪ ،‬وفي عموم الناس بعد أن يتهيأ في املؤمنين القاعدة الالزمة الستحقاقهم هذا النصر األكبر‬
‫واستقبالهم له‪ ،‬ويدل على ذلك أن نصر رسول اللـه ﷺ ومعه املؤمنون لم يحصل في يوم وليلة وال في سنة واحدة وإنما‬
‫تأخر فلم يحصل إال بعد م ي أك ر نبوته ﷺ ‪ ،‬فقد حصل هذا النصر بالغلبة واالنتصار على قريش وفتح مكة وذلك‬
‫ُ‬
‫في سنة ثمان للـهجرة‪ ،‬أي قبل وفاته ﷺ بسنتين وقد دخل بسبب هذا النصر الناس في دين اللـه أفواجا وأنزل قوله‬
‫تعالى‪﴿ :‬إذا جاء نصر اللـه والفتح ۝ ورأيت الناس يدخلون في دين اللـه أفواجا ۝ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه‬
‫كان توابا﴾ النصر‪.‬‬
‫وكــذلك قــد اســبق نصـ َـر الل ــه أذى مــن العــدو شــديد عل ــى املســلمين وهــذا‪ ،‬مــن االبــتالء لك ــي يثبتــوا علــى الحــق‪ ،‬ولك ــي‬
‫يترب ْـوا علـى الصــبر كمـا أرادهــم اللــه ال يخــافون فـي اللــه لومـة الئـم‪ ،‬لــذلك قـال اللــه تعـالى مبينــا لنـا حــال مـن ســبقونا‪﴿ :‬إن‬

‫‪( 134‬حامل الدعوة واجبات وصفات‪ ،‬أل ي إياس محمود عويضة)‬


‫‪135‬‬
‫َ‬ ‫ـوم قـرح مثلـه وتلـك األيـام نـداولها بـين النـاس ول َ‬ ‫يمسسكم قرح فقد مس الق َ‬
‫ـيعلم اللــه الـذين آمنـوا ويتخـذ مـنكم شـهداء‬
‫ص الل ــه ال ــذين آمن ــوا ويمح ــق الك ــافرين﴾ [آل عم ـران‪ .]141/140-‬فق ــد ب ــين لن ــا الل ــه‬ ‫والل ــه ال يح ــب الظ ــاملين ۝ ول ـ ُـي َم ِح َ‬
‫َ‬
‫تعالى في هاتين اآليتين أن املؤمنين الذين يصي هم قرح أي جراحات بسبب القتال يجب أال يضـعف ذلـك همـتهم فـي جهـاد‬
‫العدو ألنه كما أصابهم قرح فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك‪ ،‬وعدوهم لم يتأثروا ملا أصابهم من القرح من محاربتكم‬
‫م ــع ك ــونهم مبطل ــين‪ ،‬ف ــأنتم أَه ــا املؤمن ــون أه ــل الح ــق أول ــى أن ال تض ــعفوا وال تفت ــروا ع ــن مجاه ــدة ومحارب ــة ه ــؤالء الق ــوم‬
‫األعداء املبطلين‪ .‬الرازي ‪.14/9‬‬
‫"ل ــذلك ف ــإن النصـ ــر ل ــيس بالشـ ـ يء اله ــين‪ ،‬إنـ ــه محف ــوف باملش ــاق والصـ ــعوبات الت ْ ْْي يعج ْ ْْزع ْ ْْن احتماله ْ ْْا إال م ْ ْْن‬
‫َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ ُ َّ َ ُ َّ َ َ َ ْ‬
‫ين خلـ ْوا ِمـن‬ ‫اصْْطفاهم الل ْْه لقيْْادة البشْْرية‪ .‬فــإن اللــه تعــالى قــال‪﴿ :‬أم ح ِسـبتم أن تـدخلوا الجنـة وملـا يـأ ِتكم مثـل الـ ِذ‬
‫َ‬ ‫صـ ُر َ َّ َ ْ‬ ‫ين َآم ُن ْوا َم َعـ ُه َم َتـى َن ْ‬
‫الر ُسو ُل َو َّالذ َ‬ ‫َق ْبل ُكم َّم َّس ْت ُه ُم ْال َب ْأ َساء َو َّ‬
‫الض َّراء َو ُزْلزُل ْوا َح َّتى َي ُقو َل َّ‬
‫ّللا ق ِريـب﴾ هـذا‬ ‫ّللا أال ِإن نصـ َر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الخطـاب ـكـان للرســول ﷺ ولصــحابته الكـرام الــذين أقــاموا دولــة اإلسـالم وحملــوا رســالته رســالة عامليـة إلــى النــاس كافــة‪.‬‬
‫وهكــذا واجــه حــزب الرســول ﷺ املصــاعب القاتلــة وخاضــوا تجربــة عميقــة جليلــة‪ .‬لــذلك فــإن هــذا الســؤال مــن الرســول‬
‫ََ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫ّللا﴾ ِل ُيعلمنا اللـه مدى شدة املحنة التي واجهـت َح َملـة الـدعوة‪ ،‬وال نقـدر أن نصـف هـذه‬ ‫والذين آمنوا معه ﴿متى نص ُر ِ‬
‫ََ َ ْ‬
‫ّللا﴾‪ ،‬ولك ــن عن ــدما ثب ــت الص ــحابة عل ــى إيم ــانهم وعل ــى‬ ‫املحن ــة التــي جعل ــت الص ــحابة والرس ــول ﷺ يقول ــون ﴿متـى نص ـ ُر ِ‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ ْ‬
‫ّللا ق ِريب﴾ فإن نصراللْه ال يتنزل إال على أناس استحقوا النصر‪.‬‬ ‫عهدهم مع اللـه جاء الجواب من اللـه ﴿أال ِإن نص َر ِ‬
‫الذين يثبتون على السراء والضراء الذين يصمدون للزلزلة‪ .‬الذين ال َي ْحنْْون رسو َسْهم للعاصْْفة‪ .‬الْْذين يسْْتيقنون‬
‫ُ ُ‬
‫أن ال نصرإال نصراللْه وعندما يشاء اللْه‪ .‬وحتن حين تبلْْأ املحنْْة ذروتهْْا فهْْم يتطلعْْون إلْْى نصْْراللْْه فحسْْب ال إلْْى‬
‫أي ح ْْل غي ْْره‪ ،‬وال إلــى أي نصــر ال ي ــيء مــن عنــد اللــه‪ .‬ويجــب علينــا أن نتص ــور النصــر أمــام أعيننــا لقولــه تعــالى‪﴿ :‬ولق ــد‬
‫س ــبقت كلمتن ــا لعبادن ــا املرس ــلين ۝ إنه ــم له ــم املنص ــورون ۝ وإن جن ــدنا له ــم الغ ــالبون﴾‪ ،‬ألن ه ــذه حقيق ــة كــل دع ــوة‬
‫ُيخلص فيها العاملون‪ ،‬ويتجرد لها الدعاة‪ ،‬ويصبح لدَها قناعات بأنها منصورة مهما ُوضعت فـي سـبيلها العوائـق وقامـت‬
‫في طريقها العراقيل‪ ،‬مهما رصد لها األعداء من قوى الحديد والنار‪ ،‬وقوى الدعاية واالفتراء‪ ،‬وقوى الدجن والقتل‪ .‬وما‬
‫َ‬
‫هي إال معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعـد الـذي وعـده اللــه ُلر ُسـله والـذي لـن ُيخلـف‪ ،‬ولـو قامـت كـل قـوى األرض‬
‫لهزيمتنا فالوعـد لنـا بالغلبـة والنصـر والتمكـين‪ .‬وهـذا الوعـد ُسـنة اللــه الكونيـة‪ُ .‬سـنة ماضـية كمـا تم ـ ي هـذه الكواكـب‬
‫والنجوم في دورا ها املنتظمة وكما يتعاقب الليـل والنهـار فـي األرض علـى مـدار الزمـان‪ ،‬وكمـا تنبثـق الحيـاة فـي األرض امليتـة‬
‫حين ينزل عليها املاء‪ ،‬ولكنها مرهـونة بتقدير اللـه يحقـقـها حين اشــاء وعلى من اشاء من الذين استحقون النصر"‪.135‬‬

‫‪ 135‬أسامة أبو سراج – الوعي‪ ،‬العدد ‪ -121‬السنة الحادية عشرة – صفر ‪ – 1418‬حزيران ‪1997‬م‬
‫‪136‬‬
‫االستخالف‪:‬‬
‫ـالحات‬ ‫ـنكم وعمل ــوا الصـ ـ‬ ‫ـذين آمن ــوا مـ ـ ْ‬ ‫هللا الـ ـ َ‬‫واالس ــتخالف فـ ــي اآلي ــة الخامسـ ــة والخمس ــين مـ ــن س ــورة النـ ــور‪َ ﴿ :‬وع ـ َـد ُ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل َي ْسـ َتخ ِل َفن ُه ْم ف ــي األرض﴾‪ ،‬هــو النياب ــة تش ــريفا للمســتخلف‪ ،‬وله ــذا ذهــب املفس ــرون إل ــى أن قولــه تع ــالى‪﴿ :‬ل َي ْس ـ َتخ ِل َفن ُه ْم﴾‬
‫اعن ــي‪ :‬لي ــورثنهم األرض ف ــيجعلهم ملوكه ــا وساس ــتها‪ ،‬والق ــول ع ــام اش ــمل اس ــتخالف الجمه ــور م ــا تحق ــق ف ــيهم اإلس ــمان‬
‫ض ـ َعفو َن َمش ـ ِـار َق‬ ‫ذين كــانوا ُا ْس َت ْ‬ ‫والعم ــل الص ــال ‪ ،‬املفس ــر بقول ــه‪َ ﴿ :‬ا ْع ُب ـ ُد َونني َال ُا ْش ـر ُكو َن ـي َش ـ ْيئا﴾‪َ ﴿ .‬و َأ ْو َرْث َن ـا ال َق ـ ْو َم ال ـ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فر َع ْو ُن َو َق ْو ُمهُ‬ ‫ص َن ُع ْ‬ ‫ودم ْرنا ما كا َن َي ْ‬ ‫ص َبروا َ‬ ‫ائيل بما َ‬ ‫إسر َ‬ ‫الح ْسنى على بني ْ‬ ‫بار ْكنا فيها َو َتم ْت َك َلم ُة َرب َك ُ‬ ‫األرض َو َمغاربها التي َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫وما كانوا َا ْع ِرشون﴾‬
‫ُ‬
‫لك َع ُد َّوك ْم‬ ‫قال َعس ى َرُّب ُك ْم َأ ْن َُ ْه َ‬ ‫في نزول قوم ديار قوم بعدهم بما صبروا‪ ،‬وجاءت هذه اآلية مقابلة لقول موس ى‪َ ﴿ :‬‬
‫ف َت َ‬ ‫ْ ََْ ُ َ َْ َ‬ ‫َ ْ َ ُ‬
‫عمل ــون﴾‪ ،‬وإذا كــان هللا س ــبحانه ق ــد جع ــل املستض ــعفين يرث ــون األرض فق ــد م ــن‬ ‫ض ف ي ن ظ ـر ك ي ـ‬‫ِ‬ ‫َو َي ْس ـتخلفك ْم ف ــي األر‬
‫الوارثين﴾‪.136‬‬ ‫م‬ ‫األرض َو َن ْج َع َل ُه ْم َأ ِئمة َو َن ْج َع َل ُه ُ‬
‫ضعفوا في ْ‬ ‫اس ُت ْ‬‫ريد َأ ْن َن ُم َّن َع َلى الذين ْ‬ ‫عليهم َبأ ْن جعلهم أئمة في قوله‪َ ﴿ :‬و ُن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين مـن َقـ ْب ِله ْم َو َل ُي َم ِكـ َن َّن َل ُهـمْ‬ ‫ف ا َّلـذ َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َ َ َّ ُ َّ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ض كمـا اسـتخل‬ ‫ِ‬ ‫ات ليسـتخ ِلفنهم ِفـي األر‬ ‫﴿ َوعـد ّللا الـ ِذين َآمنـوا ِمـنك ْم َوع ِملـوا الصـ ِالح ِ‬
‫َْ َ ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِدي َـن ُه ُم الـ ِذي ْارت َ ـ ْى ل ُهـ ْم َول ُي َبـ ِدل َّن ُهم ِمـن َب ْعـ ِد خـ ْو ِف ِه ْم أ ْمنـا ۚ َا ْع ُبـ ُدون ِني ال ُاشـ ِركون ِ ـي شـ ْيئا ۚ َو َمـن ك َفـ َر َب ْعـ َد ذ ِلـ َك فأول ِئـ َك ُهـ ُم‬
‫اس ُقون﴾ [النور ‪.]55‬‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫الف ِ‬
‫كما نجد في اآليْْة وعْْدا باالسْْتخالف‪ ،‬نجْْد وعْْدا بْْالتمكين واألمْْن بعْْد الخْْوف‪ ،‬ونزلـت هـذه اآليـة فـي املدينـة بعـد‬
‫قيـام الدولـة بكثيـر‪ ،‬قـال القرطبـي رحمـه هللا‪ ،‬وقـال أبـو العاليـة‪ :‬مكـث رسـول هللا ﷺ بمكـة عشـر سـنين بعـدما أوحـي إليــه‬
‫خائفا هـو وأصـحابه‪ ،‬يـدعون إلـى هللا سـرا وجهـرا‪ ،‬ثـم أمـر بـالهجرة إلـى املدينـة‪ ،‬وكـانوا فيهـا خـائفين يصـبحون ويمسـون فـي‬
‫الس ــالح‪ .‬فق ــال رج ــل‪ :‬ي ــا رس ــول هللا‪ ،‬أم ــا ي ــأتي علين ــا ي ــوم ن ــأمن في ــه ونض ــع الس ــالح؟ فق ــال‪ :‬ﷺ‪ :‬ال تلبث ــون إال اس ــيرا حتــى‬
‫يجلــس الرجــل م ــنكم فــي املــأل العظ ــيم محتبيــا لــيس علي ــه حديــدة‪ .‬ونزلــت ه ــذه اآليــة‪ ،‬وأظهــر هللا نبي ــه علــى جزيــرة الع ــرب‬
‫فوضــعوا الســالح وأمنــوا‪ .‬قــال النحــاس‪ :‬فكــان فــي هــذه اآليــة داللــة علــى نبــوة رســول هللاﷺ؛ ألن هللا جــل وعــز أنجــز ذل ــك‬
‫الوعد‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫النصرالتام هو‪ :‬نصرهللا! فمتن نزل نصرهللا على الرسول ﷺ‬
‫ّللا َو ْال َف ـ ْت ُح ۝ َو َ َرأ ْي ـ َت ال َّن ـ َ‬‫َ َ َ ْ َّ‬
‫﴿إذا ج ـاء نص ـ ُر ِ‬
‫اس‬ ‫فالنص ــر الت ــام ن ـ َـزل قبي ــل وف ــاة الرس ــول ﷺ إذ نزل ــت س ــورة النص ــر‪ِ ،‬‬
‫َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ ْ ُ َّ ُ َ َ َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َ ْ ُُ َ‬
‫ان ت َّوابـا﴾ [النصــر ‪ ،]3-1‬هــذا هــو النصــر الــذي ت ــم‬ ‫ّللا أف َواجـا ۝ فسـ ِبح ِبحمـ ِد رِبـك واسـتغ ِفره ِإن ـه كـ‬ ‫يـدخلون ِفـي ِديـ ِـن ِ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ َّ َ َ َ َّ َ ْ ُ َّ َ ُ َّ َ َ َ ْ‬
‫ين خل ـ ْوا ِم ـن ق ـ ْب ِلكم َّم َّس ـ ْت ُه ُم ال َبأ َس ـاء‬ ‫الس ــؤال عن ــه ف ــي قول ــه تع ــالى‪﴿ :‬أم ح ِس ـبتم أن ت ـدخلوا الجن ـة ومل ـا ي ـأ ِتكم مث ـل ال ـ ِذ‬
‫َ‬ ‫صـ ُر َ َّ َ ْ‬ ‫ين َآم ُن ْوا َم َع ُه َم َتـى َن ْ‬ ‫الض َّراء َو ُزْلزُل ْوا َح َّتى َي ُقو َل َّ‬
‫الر ُسو ُل َو َّالذ َ‬ ‫َو َّ‬
‫ّللا ق ِريـب﴾ [‪ 214‬البقـرة]‪ ،‬والـذي بشـر‬ ‫ّللا أال ِإن نصـ َر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫األ َر ِت‪َ ،‬قـ َ َ َ ْ َ َ ُ‬ ‫َ ْ َ َّ ْ ْ َ‬
‫ّللا ﷺ َو ُهـ َو ُم َت َو ِسـد ُبـ ْر َدة لـ ُه ِفـي ِظـ ِل‬ ‫ال‪ :‬شـكونا ِإلـى َرسـو ِل ِ‬ ‫اب بـ ِن‬ ‫بـه النبـي األكـرم ﷺ كمـا روى البخـاري «عـن خبـ ِ‬

‫‪ 136‬ألفاظ النصر والتمكين في القرآن الكريم – دراسة داللية – د‪ .‬عبدالوهاب محمد علي العدواني وعماد عبد يحيى‬
‫‪137‬‬
‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ َ ْ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ ُ َّ ُ ُ َ ُ ْ َ ُ َ ُ ْ َ‬
‫ض‪ ،‬ف ُي ْج َعـ ُل‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ ْ‬ ‫الكعبـ ِة‪ ،‬فقلنـا‪ " :‬أال تستن ِصـر لنـا‪ ،‬أال تـدعو لنـا؟ فقـال‪ :‬قـد ـكان مـن قـبلكم يؤخـذ الرجـل فيحفـر لـه ِفـي‬
‫صـ ُّد ُه‬‫ط ب َأ ْم َشاط ْال َح ِد ِيد َما ُدو َن َل ْحمـه َو َعظمـه‪ ،‬ف َمـا َي ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َُ ْ َ ُ ْ َْ َُْ َ ُ‬
‫ش‬ ‫م‬ ‫ي‬‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ف‬‫ص‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫س‬
‫َ َ ُ َ ُ ْ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َْ‬
‫أ‬
‫ر‬ ‫ِفيها‪ ،‬فيجاء ِب ِاملنش ِار فيوضع على‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ َ َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ َّ َّ َ ‪َ َ َ ْ َ 137‬‬ ‫َ َ َ ْ‬
‫ل لي ِتمن هذا األمرحتن ي ِسيرالر ِاكب ِمن صْنعاء ِإلْى حضْرموت ال يخْاف ِإال ل ‪ ،‬والْ ِْذئب علْى‬ ‫ذ ِلك عن ِدي ِن ِه‪ ،‬و ِ‬
‫َ َّ ُ َ َ ُ َ‬ ‫ََ‬
‫غن ِم ِه‪َ ،‬ول ِكنك ْم ت ْست ْع ِجلون ‪ ،‬فكان تمام األمر بنصر هللا‪ ،‬وانتشار األمن‪ ،‬وسلطان الدولة اإلسالمية حتى سار الراكب‬
‫من صنعاء إلى حضر موت كما وصف الحديث!‬
‫واالستخالف وقع قبل ذلك‪ ،‬واألمن حصل بعـد الخنـدق‪ ،‬وكمـا نعلـم فقـد مـات واستشـهد قبـل حصـول االسـتخالف‬
‫والتمك ــين واألم ــن خل ــق كثي ــر م ــن ص ــحابة الرس ــول ﷺ مم ــن عم ــل ف ــي مك ــة واس ــتحق أن ي ــدخل ف ــي موع ــود هللا بالنص ــر‬
‫واالستخالف‪ ،‬فيتبين أن االستخالف املذكور في اآلية ال يـدل أن كـل مـن عمـل وآمـن اسـتخلف فـي الـدنيا‪ ،‬وإنمـا هـي جـرت‬
‫مجـرى العمــوم وأريـد بــه الخصـوص‪ ،‬وأن الغايــة انتصـار الــدين وتمكينـه‪ ،‬واســتخالف مـن اســتخلفهم هللا بفضـله وبمــن‬
‫سبقهم في العمل واإليمان و هيئة األمة لهذا النصر املبين‪ ،‬ومنهم من ينصـره هللا فـي اآلخـرة‪ ،‬ومـنهم مـن ينصـره هللا بنصـر‬
‫الدين وله أجر ما قدم وعمل!‬
‫قال ابن عاشور‪ :‬وقد كان املسلمون واثقين باألمن‪ ،‬ولكن هللا قدم على َو ْعدهم باألمن أن َو َعدهم باالسْْتخالف‬
‫ً‬
‫في األرب وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيها لهْْم بْْأن سْْنة هللا أنْْه ال تْْأمن أمْْة بْْأس غيرهْْا حتْْن تكْْون قويْْة مكينْْة‬
‫ً‬
‫أمنا إيماء إلى ُّ‬
‫التهيؤ لتحصيل أسْْبابه مْْع‬ ‫مهيمنة على أصقاعها‪ .‬ففي الوعد باالستخالف والتمكين وتبديل الخوف‬
‫ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك‪.‬‬
‫التمكين‪:‬‬
‫وتمكـ ــين الـ ــدين فـ ــي اآليـ ــة الخامسـ ــة والخمسـ ــين مـ ــن سـ ــورة النـ ــور اسـ ــتعارة مـ ــن هـ ــذا املعنـ ــى‪ .‬قـ ــال الطبـ ــري فـ ــي قولـ ــه‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ‬
‫﴿ َول ُي َم ِكن َّن ل ُه ْم ِد َين ُه ُم ال ِذي ْارت َ ْى ل ُه ْم﴾‪ :‬ليوطا َّن‪.‬‬
‫وفســر الزمخشــري‪ :‬بالتثبيــت‪ ،‬وقــال الـرازي‪ :‬هــو أن يؤيــدهم بالنصــر واإلعـزاز‪ ،‬وقــال عبــد هللا بــن أحمــد بــن محمــود‬
‫النس ــفي ه ــو التثبي ــت والتعض ــيد‪ ،‬ودالل ــة التمك ــين عل ــى التوطئ ــة والتثبي ــت دالل ــة تض ــمنية‪ ،‬وداللت ــه عل ــى التأيي ــد دالل ــة‬
‫َ‬
‫التزامي ــة‪ .‬واملالح ـ أ َّن التمك ــين متض ــمن اآلل ــة واملك ــان ال ــذي ي ــتمكن في ــه‪ .‬وتمك ــين هللا ال ــدين للم ــؤمنين في ــه دالل ــة عل ــى‬

‫َ ْ َ ُْ‬ ‫آخ ُر َف َشـ َكا إ َل ْيـ ِه َق ْطـ َع ال َّسـبيل َف َقـ َ‬ ‫ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َ َ ْ ْ َ َ َ ُ َّ َ َ ُ َ‬ ‫ال « َب ْي َنا َأ َنا ع ْن َد َّ‬‫‪ 137‬في حديث َع ِدي ْبن َحا ِتم َق َ‬
‫ال َيـا َعـ ِد ُّي َهـ ْل َرأ ْيـ َت ال ِحيـ َـرة قلـ ُت‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الن ِب ِي ﷺ ِإذ أتاه رجل فشكا ِإلي ِه الفاقة ثم أتاه‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ََ‬ ‫ل ُق ْل ُت ِف َ‬ ‫اف أ َح ًدا إ َّال َّ َ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ َ ْ ُ ْ ْ ُ َ ْ َ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ َّ َّ َ َ َ ْ َ ُ ْ ْ َ َ َّ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ‬
‫يما َب ْي ِني َو َب ْي َن َن ْف ِس ي فأ ْي َن‬ ‫ِ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ك‬ ‫ال‬‫ب‬‫ِ‬ ‫وف‬ ‫ط‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫ير‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫ر‬ ‫ت‬ ‫ة‬ ‫ين‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫الظ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ر‬‫ت‬ ‫ل‬ ‫اة‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ط‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫ا‬‫ه‬ ‫لم أرها وقد أن ِبئت عن‬
‫الر ُج ـلَ‬‫ال ِك ْس ـ َرى ْب ـن ُه ْر ُمـ َز َو َل ـ ِا ْن َطا َل ـ ْت بـ َك َح َي ـاة َل َت ـ َر َي َّن َّ‬ ‫وز ِك ْس ـ َرى ُق ْلـ ُت ِك ْس ـ َرى ْب ـن ُه ْر ُمـ َز َق ـ َ‬ ‫ين َقـ ْد َس ـ َّع ُروا ا ْل ـب َال َد َو َلـا ْن َطا َل ـ ْت ب ـ َك َح َي ـاة َل ُت ْفـ َت َح َّن ُك ُن ـ ُ‬
‫ِ‬
‫ُد َّعـ ُار َطي ـ ا َّل ـذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ََ َ َ‬ ‫َ‬
‫س َب ْي َنـ ُه َو َب ْي َنـ ُه َت ْر ُج َمـان ُيتـ ْر ِج ُم لـ ُه فل َي ُقـول َّن لـ ُه‬ ‫ضة َي ْط ُل ُب َم ْن َي ْق َب ُل ُه م ْن ُه َف َال َيج ُد َأ َحدا َي ْق َب ُل ُه م ْن ُه َو َل َي ْل َق َي َّن َّ َ‬
‫ّللا أ َح ُد ُك ْم َي ْو َم َي ْل َق ُاه َو َلـ ْي َ‬ ‫ُي ْخر ُج م ْل َء َكفه م ْن َذ َهب َأ ْو ف َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َ َ َ َّ َ َ َّ َ َ َ ْ ُ ُ َ ْ َ َ َ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ َْ َ ْ َ ْ َ َ ُ َ ُ َ َ َ َ َ ُ ُ ََ َ َ ُ ُ ََ ْ ُ ْ َ َ َُ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ ُ ُ ََ َ َ ْ ُ‬
‫ى‬ ‫ى‬ ‫ول‬
‫ألـم أبع ـث ِإليـك رس ـوال فيب ِلغـك فيق ـ بلـى فيق ـ ألـم أع ِط ـك مـاال وأف ِض ـل عليـك فيق ـ بلـى فينظ ـر عـن ي ِمي ِن ـ ِه فـال ي ـر ِإالجهـنم وينظ ـر عـن اس ـ ِار ِه فـال ي ـر ِإال‬ ‫ول‬ ‫ول‬
‫ْ‬ ‫َّ َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ول َّات ُقوا ال َّنـ َار َو َلـ ْو ب ِشـ َّق ِة َت ْمـ َرة َف َمـ ْن َلـ ْم َيجـ ْد ِشـ َّق َة َت ْمـ َرة َفب َك ِل َمـة َطي َبـة َقْ َ‬ ‫َ َّ َ‬
‫ال َعْ ِدي ف َر أ ْيْ ُت الظ ِعينْة ت ْرت ِحْ ُل ِمْ ْن ال ِحيْ َْر ِة َح َّتْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النب َّي ﷺ َي ُق ُ‬
‫ِ‬
‫ال َعدي َسم ْع ُت َّ‬
‫ِ‬ ‫ج َهن َم ق َ ِ‬
‫َ‬ ‫وز ك ْس َرى ْبن ُه ْر ُم َز َو َلا ْن َط َال ْت ب ُك ْم َح َياة َل َت َر ُو َّن َما َق َ َّ َ ُ ْ َ‬ ‫ل َو ُك ْن ُت ف َ ْ ْ َ َ َ ُ ُ َ‬ ‫اف إ َّال َّ َ‬ ‫َ ُ َ َْ َْ َ َ َ ُ‬
‫اس ِم ﷺ ُي ْخ ِر ُج ِم ْل َء ك ِف ِه‬ ‫ال الن ِب ُّي أبو الق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يمن افتتح كن ِ‬ ‫ِ‬ ‫تطوف ِبالكعب ِة ال تخ ِ‬
‫‪138‬‬
‫إعط ــاء م ــا يص ـ ب ــه الفع ــل كائن ــا م ــا كــان م ــن اآلالت والع ــدد والق ــوى‪ ،‬كم ــا أن التمك ــين في ــه دالل ــة عل ــى ع ــدم ام ــتالك م ــا‬
‫ألن التمكــين مــن الــدين يكـون علــى وفــق مــا أراد هللا – ســبحانه – مــن تنفيـذ شــريعته‪ ،‬ال علـى وفــق مــا يريــده‪،‬‬ ‫حـازه املــرء‪َّ ،‬‬
‫َ‬
‫املمكن له في األرض‪.‬‬
‫فالتمكين إذن للدين‪ ،‬واالستخالف للمؤمنين‪ ،‬والحمد لل رب العاملين‪.‬‬
‫َ‬
‫والك ْْهس ُ‬
‫والعقوبات!‬ ‫ِ‬ ‫الفرق بين العمل والقضاء والقدر‪ ،‬والتوكل والتواكل‪،‬‬
‫يل‪،‬‬ ‫ّللا َو ِن ْع َم ْال َو ِك ُ‬ ‫ال ْاملَ ْق ُّي َع َل ْيه َملَّا َأ ْد َب َر‪َ :‬ح ْسب َي َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫النب َّي ﷺ َق َ ى َب ْي َن َ ُج َل ْين‪َ ،‬ف َ‬
‫ق‬ ‫ر‬ ‫َع ْن َع ْوف ْبن َمالك َأ َّن ُه َح َّد َ ُه ْم َأ َّن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫وم َع َلـ ـى ْال َج ْجـ ـز‪َ ،‬و َلكـ ـ ْن َع َل ْيـ ـ َك بـ ـ ْال َك ْيس‪َ ،‬فـ ـإ َذا َغ َل َبـ ـ َك َأ ْمـ ـر َف ُقـ ـ ْل‪َ :‬ح ْسـ ـب َي َّ ُ‬
‫ّللا َو ِن ْعـ ـ َم ْال َو ِكي ــلُ‬ ‫ُ‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬‫ل‬
‫َّ َّ َ َ ُ‬
‫ي‬ ‫ّللا‬ ‫ن‬ ‫«إ‬ ‫‪:‬‬ ‫ﷺ‬ ‫ي‬ ‫َف َقـ ـ َ‬
‫ال َّ‬
‫النبـ ـ ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫[أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة]‪ ،‬ومفهوم هذا أنه ال يص للمسلم أن استسلم‪ ،‬أو أن يقول‪ :‬ليس بيدي‬
‫س ‪ ،‬ف ــال ب ــد م ــن األخ ــذ‬ ‫َّ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ‬
‫شـ ـ يء‪ ،‬وال يفع ــل ش ــيئا‪ ،‬ويخ ــاف م ــن ك ــل شـ ـ يء‪«ِ ،‬إن ّللا يلـ ـوم علـ ـى الججـ ـ ِز‪ ،‬ول ِكـ ـن عليـ ـك ِبـ ـالكي ِ‬
‫باألسباب‪ .138‬قال القاري في مرقاة املفاتيح‪« :‬إن هللا تعالى يلوم على الججز ‪ :‬أي على التقصير والتهاون في األمور « ولكن‬
‫عليك بالكيس ‪ ،‬بفتح فسكون؛ أي باالحتياط والحزم في األسباب‪ ،‬وحاصله أنه تعالى ال يرب ى بالتقصـير‪ ،‬ولكـن يحمـد‬
‫على التيق والحزم‪ ،‬فال تكن عاجزا وتقول‪ :‬حسبي هللا‪ ،‬بل كن كيسا متيقظا حازما‪139‬‬
‫َ‬
‫اع ُز ُب عنه مثقال ذرة في السموات‬ ‫فالل سبحانه الذي قدر كل ش يء لكل زمان ولكل مكان صغيرا كان أو كبيرا‪﴿ ،‬ال ْ‬
‫وال ف ــي األرض﴾ [س ــورة س ــبأ ‪ ،]3‬والل ــوح املحف ــوظ ﴿ال اغ ــادر ص ــغيرة وال كبي ــرة إال أحص ــاها﴾ [س ــورة الكه ــف ‪ .]49‬إذن‪،‬‬
‫ل ــيس ف ــي الك ــون أو ف ــي الط بيع ــة ش ـ يء عش ــواوي‪ ،‬ول ــيس هن ــاك ش ـ يء يحص ــل ص ــدفة‪ ،‬ب ــل كــل ش ـ يء م ــنظم ومرت ـب ومق ــدر‬
‫َ‬
‫ومق ي من ل ُدن حكيم عليم‪.‬‬
‫وه ــذا يفس ـر لن ــا كي ــف اس ــتجيب هللا دع ــاء الص ــالحين ال ــذين ي ــدعون ب ــه اآلن‪ ،‬ف ــالل اعل ــم من ــذ األزل أن عب ــده فالن ــا‬
‫َ‬
‫س ــيدعو ف ــي وق ــت م ــا ب ــدعاء م ــا‪ ،‬ف ــإذا ق ِب ـل ُدع ـ َـاء ُه فإن ــه يرت ـب األم ــور ويق ــدرها بحي ــث ينج ــز ل ــه طلب ــه‪ .‬أي تك ــون اس ــتجابة‬
‫الــدعاء ج ــزءا م ــن القضــاء‪ .‬وك ــذلك توفي ــق هللا لعب ــاده الصــالحين‪ ،‬ف ــإن هللا س ــبحانه اعل ــم منــذ األزل أن ه ــذه الفئ ــة م ــن‬
‫عباده تستحق توفيقه فيرتب األمور ويقدرها منـذ األزل بحيـث يكـون التوفيـق حلـيفهم دون حاجـة إلـى خـرق سـنن الكـون‬
‫أو تخل ــف خص ــائص األش ــياء‪ .‬ومث ــل ذل ــك يحص ــل مل ــن يري ــد هللا أن يبتل ــيهم أو اع ــاق هم‪ ،‬فه ــو اعل ــم س ــبحانه من ــذ األزل أن‬
‫ه ــذه الفئ ــة م ــن الن ــاس تس ــتحق عقوب ــة م ــا ف ــي ال ــدنيا‪ ،‬وأن تل ــك الفئ ــة س ــيبلوها هللا بش ـ يء م ــن االب ــتالء ف ــي ال ــدنيا‪ ،‬فه ــو‬
‫سبحانه يقدر األمور ويقضيها منذ األزل بحيث يتم كل ذلـك فـي مواقيتـه ومقـاديره وناسـه ضـمن سـنن الكـون وخصـائص‬
‫األشياء‪.140‬‬

‫‪ 138‬أحاديث رمضان ‪ 1425‬هـ ‪ -‬ومضات ولقطات إيمانية ‪ -‬الدرس (‪ :)64-37‬األخذ باألسباب الدكتور محمد راتب النابلس ي‪.‬‬
‫‪ 139‬مرقاة املفاتيح شرح مشكاة املصابيح“ كتاب اإلمارة والقضاء“ باب األقضية والشهادات‪ ،‬علي بن سلطان محمد القاري‪،‬‬
‫‪ 140‬هل مصائب الدنيا هي عقوبات على الذنوب؟ مجلة الوعي العدد ‪150‬‬
‫‪139‬‬
‫إذن‪ ،‬فقــد تبــين لنــا أن األخــذ باألســباب أمــر واجــب‪ ،‬فــال يصـ تــرك العمــل بِجــة أن األمــر مق ـ ي مــن هللا وال داف ــع‬
‫َ‬
‫لقضــائه! ففــي مثــل هــذا التصــور مخالفــة صــريحة لألمــر بالعمــل واألخــذ بأســبابه‪ ،‬أي بــالكيس‪ ،‬ومــن ثــم يحصــل التوكــل‬
‫على هللا تعالى‪ ،‬فالقضاء والقدر يقعان في الدائرة التي تسـيطر علـى اإلنسـان وال يملـك دفعهمـا‪ ،‬واإلنسـان غيـر محاسـب‬
‫ُ‬
‫على األفعال التي تقع جبرا عليه في هذه الدائرة ‪-‬أي دائرة القضاء والقدر‪ -‬أما األفعال التي ك ِلف بهـا‪ ،‬فهـو محاسـب علـى‬
‫القيـام بهــا واألخـذ باألسـ باب التــي يتطل هـا نــو العمـل‪ ،‬فــإن ـكـان العمـل واجبــا‪ ،‬كـان األخــذ باألســباب املفضـية إليــه واجبــا‪،‬‬
‫وما ال يتم الواجـب إال بـه فهـو واجـب‪ ،‬والـدائرة هـذه التـي كلـف بهـا النـاس ليسـت مـن القضـاء والقـدر فـي شـ يء‪ ،‬ويحاسـب‬
‫اإلنسان على التقصير فيها‪،‬‬

‫‪140‬‬
‫معضلة الشر‪ :‬الحجة املركزية لإللحاد‪:‬‬
‫صـرح مايكـل روس (‪ )Michael Ruse‬أحـد أشـهر فالسـفة العلـوم فـي مناظرتـه مـع الالهـوتي فـزاال رانـا (‪)Fazale Rana‬‬
‫تحــت عنــوان "أصــل الحيــاة‪ :‬التطــور أم التصــميم؟" ســنة ‪ 2013‬أنــه ال يــرفض اإليمــان بوجــود هللا إال لســبب واحــد وهــو‬
‫مشكلة الشر‪ ،‬إنها الش هة التي وصفها الشاعر األملاني امللحـد جـورج بـوخنر (‪ )George Büchner‬بأنهـا "صـخرة اإللحـاد"‪.‬‬
‫وف ــي مناظرت ــه م ــع الاله ــوتي ويلي ــام كري ــغ (‪ )William Lane Craig‬ص ــرح الفيلس ــوف األمريك ــي مايك ــل ت ــولي (‪Michael‬‬
‫ح َّجة الشر"‪141.‬‬‫‪ )Tooley‬أن "الحجة املركزية لدلحاد هي ُ‬
‫ملاذا هناك ألم ومعاناة في العالم؟ هل يجب على اإلله أن "يحب املخلوقات" وأن "يرحمها"‪ .‬كون اإلله مطلق القدرة‬
‫وكلـي املحبــة غيــر متســقة مـع الشــر الواضـ والعيــوب التـي فــي العــالم‪ ،‬مــن هـو املســؤول عــن الشــر؟ مـا هــي طبيعــة الشــر؟‬
‫ملاذا اسمح اإلله بوجود الشر في ملكوته؟ مآل الشر؟ هل األلم واملعاناة شر؟‬
‫العدل اإللةي‪ ،‬والسببية‪:‬‬
‫بداية ال ُيقاس العدل اإللهي على مفهوم العدل كما يفهمه البشـر‪ ،‬وال ُاسـأل هللا تعـالى عمـا يفعـل‪ ،‬فلـيس املقصـود‬
‫مـن البحـث هنـا إسـقاط فهـم البشـر للعـدل علـى هللا تعـالى‪ ،‬ولكــن املقصـود أنـه قـد ثبـت أن هللا تعـالى قـد بـين لنـا أنـه أقــام‬
‫القسط والعدل في السموات واألرض‪ ،‬وحرم على نفسه الظلـم‪ ،‬فهـذه "محاولْْة" لفهـم نظـام الكـون وكيـف جـرى مفهـوم‬
‫القسـط والعـدل فــي ثنايـاه بمــا يقـيم الحجــة علـى املخلوقــات بـأنهم تســاووا فـي الفــرص‪ ،‬واآلالت‪ ،‬واألنظمـة‪ ،‬واملســئوليات‪،‬‬
‫وأن م ــن تخل ــف ع ــن فه ــم الق ــوانين الناظم ــة له ــذا كل ــه‪ ،‬ووق ــع ض ــحية ظل ـ ِـم م ــن أخ ــذ باألس ــباب ولكن ــه اس ــتغلها اس ــتغالال‬
‫خطــأ‪ ،‬أو ضــحية ع ــدم أخــذه باألس ــباب‪ ،‬فإن ْْه يتحم ْْل مس ْْئولية ذل ْْك‪ ،‬وال يق ــال بــأن نظ ــام القســط ال ــذي أقامــه هللا ف ــي‬
‫الدنيا لم يحقق له ما حققه لغيره!‬
‫فحجة هللا تعالى بالغة‪ ،‬وقائمة‪ ،‬وال ينفع اإلنسان أن يغفل أو يتهاون في دراسة السببية والسنن وأن يأخذ بها!‬
‫وجدت بالتفكير أن هللا تعالى إذ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فقد‬
‫‪ )1‬قدر وخلق الكون واإلنسان والحياة واملجتمعات وفقا ألنظمة سببية دقيقة‪ ،‬ثابتة‪ ،‬مضطردة‪ ،‬ال تحا ي أحدا‪،‬‬
‫‪ )2‬وأرسل رسله بالبينات ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬أي إنه أنزل النظام الحكيم الذي يحقق الغاية من الخلق!‬
‫‪ )3‬وزود الناس بآلة العقل والتفكير بالغة التعقيد والدقة والقدرة‪،‬‬
‫‪ )4‬وجعل لالجتما وفقا لغايات معينة قوة تجلب تحقيق غايات ال استطيعها الفرد بمفرده‪،‬‬
‫ْ‬
‫‪ )5‬وجعل ذلك في ُمكنة اإلنسان واملجتمع وأرشده لطرق استثمار ذلك كله ليحقق الغايات!‬
‫فإنـه قــد أقــام الحجـة علــى الخلــق جميعـا‪ ،‬فمــن أخــذ بأسـباب الفــالح مــن إنسـان أو مجتمــع ارتقــى‪ ،‬ومـن أعــرض عنهــا‬
‫اك‪ ،‬والحرك ِـة فـي ال ُّـدنيا‪ ،‬فـإن اسـتغلها‬‫ارتكس‪ ،‬فعلى صعيد الفرد‪ ،‬وجدنا أن اإلنسان مزود بقدرات خارقة للفه ِـم واإلدر ِ‬

‫‪ 141‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص‪.18‬‬


‫‪141‬‬
‫ات‪ ،‬ولك ــن هنــاك عوائ ــق مجتمعي ــة ق ــد تحــول بين ــه وب ــين بل ــوا‬ ‫االســتغالل الص ــحيح وأخ ــذ باألس ــباب حصــلت ل ــه ال ـ ُـم َس َّب َب ُ‬
‫املسببات‪ ،‬كأن يكون املجتمع والدولة منحطتين‪ ،‬أو أن يتحكم أولوا القوة بمقدرات الدولة فيمنعون عنها األفراد أو ما‬
‫شابه‪،‬‬
‫لـذلك وجــدنا أسـباب تغييــر ونهضـة املجتمعــات فـي متنــاول اليـد‪ ،‬وقوانينهــا الصـارمة تجــري فـي كــل مجتمـع‪ ،‬فــال بــد أن‬
‫اعمل اإلنسان أيضا على هذا الصعيد كي ير ى‪ ،‬ويـنهض ويـتمكن مـن تحقيـق مـا أو ِجـ َد فيـه مـن أسـباب فرديـة لـم يـتمكن‬
‫منهــا كفــرد أن يحصــل علــى الغايــات‪ ،‬لوجــود املعوقــات‪ ،‬فــإذا مــا أزيلــت تلــك املعوقــات بالعم ْْل الجم ْْاعي امل ْْنظم وتحمــل‬
‫املس ــئوليات الجماعي ــة‪ ،‬تحقق ــت الغاي ــات‪ ،‬فاألص ــل أن يك ــون نت ــاج ذل ــك أن ت ــوز الث ــروات توزيع ــا ص ــحيحا‪ ،‬وبالت ــالي أن‬
‫يمملـي الفقــر‪ ،‬ألن األرض ممتلئـة بــالثروات بمـا يكفــي أن اغمــر البشـرية كلهــا بـالخيرات‪ ،‬واألصــل أن يكثـف النــاس البحــث‬
‫العلمـي لدراســة األمـراض واكتشــاف أدويتهــا وعالجهــا‪ ،‬دون أن تتــدخل األغـراض الرأســمالية الجشــعة فــي صــرف األبحــاث‬
‫إل ــى وجهـ ــة زيـ ــادة ثـ ـراء شـ ــركات األدويـ ــة فقـ ــط‪ ،‬علـ ــى حس ــاب عـ ــالج األمـ ـراض‪ ،‬وأن يرافـ ــق هـ ــذه الجهـ ــود اضـ ــطال الدولـ ــة‬
‫بمس ــؤوليات رعوي ــة تق ــيم ب ـرامج ص ــحية عالي ــة املس ــتوى وتمك ــن منه ــا الجمي ــع‪ ،‬وه ــذا م ــن ش ــأنه أن يخل ــص املالي ــين م ــن‬
‫أمراضهم‪ ،‬واألصل أن يقـف النـاس فـي وجـه مـن يطغـى ويسـتأثر بـالحكم ويقـيم الحـروب لغايـات اسـتعمارية‪ ،‬وهكـذا فـإن‬
‫الكثير من أنوا الشر واملآس ي هي نتاج مباشر لعمل اإلنسان‪ ،‬وفي ُمكنته أن يمنعها‪.‬‬
‫وهك ــذا‪ ،‬ف ــإن الع ــدل ف ــي إيج ــاد وإنش ــاء الك ــون وفق ــا لق ــوانين الس ــببية‪ ،‬تمك ــن الن ــاس جميع ــا م ــن االرتق ــاء واالنتف ــا‬
‫والع ــيش بم ــا يحق ــق له ــم التس ــاوي (م ــع ش ـ يء م ــن االخ ــتالف ف ــي التوزي ــع‪ ،‬فق ــد يحص ـل ال ــبعض عل ــى ش ــطر أكب ــر م ــن امل ــال‬
‫مقاب ــل ش ــطر أق ــل م ــن األوالد م ــثال‪ ،‬واآلخ ــرون ب ــالعكس‪ ،‬ولك ــنهم ف ــي النهاي ــة ن ــالوا نص ــي هم الكام ــل م ــن الحص ــص)‪ ،‬ولك ــن‬
‫الناس إذا أعرضوا عن األخذ باألسباب‪ ،‬وارتكسوا ولم يتحقق حصولهم على ما به يتساووا في التوزيع‪ ،‬فإنها مسئوليتهم‬
‫وذن ـ هم‪ ،‬وس ــتجد ال تف ــاوت أينم ــا نظ ــرت‪ ،‬وستتس ــاءل ع ــن ح ــال أق ــوام استش ــرت به ــم األوبئ ــة والفق ــر والض ــالل‪ ،‬وتقارن ــه‬
‫بحال أقوام لم يجدوا من ذلك شيئا‪ ،‬وقد تججب! ولكنك إن فهمت وتأملت في أن العدل اإللهي املطلق كان قد وفر لهم‬
‫األس ــباب ووف ــر له ــم اآلالت‪ ،‬ووف ــر له ــم النظ ــام الص ــحيح‪ ،‬ووف ــر له ــم كــل م ــا ل ــو أخ ــذوا ب ــه الرتق ــوا ونهض ــوا وع ــزوا واغتن ــوا‬
‫ورضـوا‪ ،‬وأنـاط بهـم التكليــف واملسـئوليات‪ ،‬فالسـببية حققــت العـدل بشـكل دقيـق‪ ،‬وحملــت اإلنسـان مسـئولية أن يرفــع‬
‫عن نفسه ومجتمعه الظلم واالستعمار والتفاوت وجور األحكام‪ ،‬وما شابه‪ ،‬فإن قصر فعليه أن يتحمل التبعات! لزال‬
‫عنك التججب!‬
‫ومــن التطبيــق العملــي لهــذا األمــر‪ ،‬أننــا وجــدنا مــثال أن عصــر التــابعين امتــاز بالســكوت علــى نظــام الوراثــة فــي انتقــال‬
‫الحكــم ب ــدال مــن الش ــورى‪ ،‬و ـكـان ذل ــك نتيج ــة أنهــم رأوا االقتت ــال والصـرا ف ــي عص ــر الصــحابة رب ـ ي هللا عــنهم ف ــي معرك ــة‬
‫ص ــفين‪ ،‬ووقع ــة الجم ــل‪ ،‬وم ــا ص ــاحبه م ــن دم ــاء‪ ،‬ف ــآثروا ع ــدم التغيي ــر‪ ،‬ومض ــت س ــنة الوراث ــة‪ ،‬وكان ــت وب ــاال عظيم ــا عل ــى‬
‫الدولة‪ ،‬فهؤالء إذ رضوا بهذا فإنهم لم يأخذوا باألسباب املجتمعية للتغيير وإظهار ثقل املجتمع فـي رفـض االنحـراف عـن‬
‫فك ــرة الش ــورى‪ ،‬والض ــغط بق ــوة الكي ــان املجتمعــي بقي ــادة العلم ــاء ليمنع ــوا االنح ـراف‪ ،‬فلم ــا س ــكتوا‪ ،‬أو مل ــا ل ــم يلتحق ــوا‬

‫‪142‬‬
‫ب ــالثورات التــي عمل ــت عل ــى التغيي ــر لتحق ــق الق ــوة الق ــادرة عل ــى تحص ــيل املطل ــوب‪ ،‬مض ــت ف ــيهم ع ــادة الوراث ــة زه ــاء أل ــف‬
‫وأر عمائــة ســنة! فالنظــام اإلســالمي بــين لهــم ســنن التغييــر‪ ،‬وســنن اإلنكــار‪ ،‬وســنن الشــورى‪ ،‬فــإذ لــم يأخــذوا بهــا حصــل مــا‬
‫حصل من فواجع في التاريخ!‬
‫التصوراإلسالمي لفلسفة الخيروالشر‪:‬‬
‫من الطبيعي أن يكون األخذ والرد بـين الفالسـفة املـاديين وبـين الالهـوتيين فـي أوروبـا حيـال هـذه املسـألة‪ ،‬ألن نظـر هم‬
‫للمس ــألة قاص ــرة‪ ،‬وتح ــوي عناص ــر الهوتي ــة ال أص ــل له ــا‪ ،‬وف ــي املقاب ــل‪ ،‬ف ــإن الفالس ــفة امل ــاديين ينظ ــرون للمس ــألة نظ ــرة‬
‫ماديــة بحتــة منفصــلة عــن فلســفة الوجــود‪ ،‬وســوف ت ــرى تفنيــدا تامــا لنظــر هم إن شــاء هللا‪ ،‬وعلينــا هنــا أن نبــرز جوان ــب‬
‫تظهر بعض خصائص التصور اإلسالمي لفلسفة الخير والشر‪.‬‬
‫وح ــين تفك ــر أرس ــطو ف ــي الص ــفات الت ــي يتوج ــب عل ــى ال ــذات الت ــي ُاعه ــد إليه ــا تفس ــير وج ــود الع ــالم ونش ــأته وبنيت ــه‬
‫الشاسعة أن تمتلكها‪ ،‬توصل إلى الصفات التالية‪" :‬الثبات‪ ،‬والالمادية‪ ،‬وطالقة القدرة‪ ،‬وطالقة العلم‪ ،‬والوحدانية أو‬
‫عدم القابلية للتجزئة‪ ،‬والخيرالتام‪ ،‬والوجود الضروري"‪.‬‬
‫إن العقل قد يضفي على الخالق سبحانه صفات خاطئة ال وجـود لهـا‪ ،‬كمـا فعلـت الجـن بظـنهم أن لـن يبعـث هللا‬ ‫إال َّ‬
‫أحـدا‪ ،‬وفعـل الـذين يتقربــون إلـى هللا بعبـادة آلهــة تكـون وسـيطا بيـنهم وبينــه‪ ،‬وأيضـا افتـرض النصــارى أنـه اسـتوجب علــى‬
‫ُ‬
‫هللا تعـالى القـدير الـرحيم أن يكــون (ك ِلـ َّي املحبـة والقــدرة والرحمـة والخيـر)‪ ،‬ممــا ترتـب عليـه ســؤال امللحـدين‪ :‬هـل "يجــب"‬
‫علــى اإللــه أن تتجلــى هــذه املحبــة والرحمــة والقــدرة والخيــر‪ ،‬بــأن يتــدخل بقدرتــه ومحبتــه فيمنــع شــقاء البشــرية وحروبهــا‬
‫وآالمها‪ ،‬بل وأن يق ي على الشر كله في الحياة الدنيا!‬
‫فكـان التســاُل هـذا مبنيــا علــى أهـوائهم التــي افترضــت طريقـة وتصــورات أوجبــوا علـى الخــالق أن يتعامــل وفقـا لهــا مــع‬
‫املخلوق ــات‪ ،‬فيخت ــار له ــم األص ــل َ ‪ ،‬وفق ــا لفهمه ــم ال ــذي انب ــت تمام ــا ع ــن تص ــور فلس ــفة الوج ــود‪ ،‬وانب ــت أيض ــا ع ــن م ــنهج‬
‫االسـتخالف الربـاني الصـحيح لعمـارة األرض‪ ،‬ذلـك املـنهج الضـامن ملنـع اإلفسـاد فـي األرض وسـفك الـدماء فيهـا بغيـر حــق‪،‬‬
‫والض ــامن إلحق ــاق الحق ــوق ليق ــوم الن ــاس بالقس ــط‪ ،‬والق ــائم عل ــى اب ــتالء واختب ــار اإلنس ــان العاق ــل ف ــي الحي ــاة ال ــدنيا‬
‫بإعطائه مطلق حرية اإلرادة في اختيار معتقداته وأفعاله‪ ،‬وتمكينه من خيار اتبـا املـنهج الربـاني أو اإلعـراض عنـه‪ ،‬مـع‬
‫تحميله املسئولية الكاملة على أفكاره وأفعاله وقراراته‪ ،‬وما ينتج عنها من ظلم لنفسه أو لغيره‪ ،‬ومع املحاسـبة الدقيقـة‬
‫على أفكاره وسلوكه وعالقاته‪ ،‬والثواب والعقاب‪ ،‬وإنصاف املظلوم من الظالم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫زر ظلــم وطغي ــان واســتبداد النــاس بعضــهم ب ــبعض‪ ،‬حــين انحــرف النــاس ع ــن‬ ‫َ‬
‫ـالق و َ‬
‫وواقــع األمــر أنهــم ق ــد حملــوا الخـ ِ‬
‫مــنهج هللا تعــالى‪ ،‬فأســاءوا اســتعمال حريــة اإلرادة واالختيــار وأفســدوا‪ ،‬وزودهــم هللا تعــالى بــاملنهج القــويم لالســتخالف فــي‬
‫صـلت‬ ‫األرض ليمنــع اإلفســاد والظلــم فأعرضــوا عنــه‪ ،‬واســتبدلوا بــه منهجــا قائمــا علــى رُيــة علمانيــة ماديــة ميكانيكيــة َف َ‬
‫اإلنسان عن ذاته‪ ،‬وسحقت كينونته‪ ،‬واستسلم لرغباته الجامحة وشهواته الهائجة‪ ،‬مما أورثه ضنك املعيشة‪ ،‬وشقوة‬

‫‪143‬‬
‫الروح‪ ،‬وخواء الفكر‪ ،‬وأمراض النفس‪ ،‬وحيـرة وال أدريـة تسـربل بهـا‪ ،‬ولـم اعـد يبـالي! وانعكـس هـذا علـى تصـورهم للصـال‬
‫والفاسد‪ ،‬والخير والشر‪.‬‬
‫وكـان التسـاُل هـذا مبنيـا أيضــا علـى فهمهـم الـذي ال يتســق مـع التصـور الصـحيح مــن خلـق اإلنسـان والحيـاة الختبــار‬
‫اإلنســان أَه ــم أحس ــن عم ــال‪ ،‬ف ــي الس ـراء والض ـراء‪ ،‬وبتد ــخير الكــون لغاي ــة ه ــذا االختب ــار‪ ،‬وتنظ ــيم الك ــون وفق ــا لن ــواميس‬
‫كونيــة ثابتــة ال تتخلــف‪ ،‬وتنظــيم الخــالق حيــاة البشــر وفقــا لنــواميس إنســانية ومجتمعيــة ســببية أرشــدهم إليهــا يمكــنهم‬
‫اســتغاللها ملكافحــة وعــالج أس ــباب الشــر والفســاد ال ــذي ينشــأ عــن مخــالفتهم للتنظ ــيم الربــاني الصــحيح لعم ــارة األرض‪،‬‬
‫والتي تصوب لهم تقدير الخير والشر‪ ،‬فليس كل ما تكرهه شر‪ ،‬وال كل ما تحبه خير‪ ،‬وهللا اعلم وأنتم ال تعلمون‪.‬‬
‫ذلك التنظيم الرباني الذي يربط الحياة الدنيا باآلخرة‪ ،‬فيضفي على مفاهيم الصبر على االبتالء‪ ،‬والتوكل على هللا‪،‬‬
‫واألجر ورفع الدرجات رفعة لفاعلها‪ ،‬ونظرة إيجابية لها هون معها مصائب الدنيا وتذل معها صعابها‪.‬‬
‫فهمه ــم املنب ــت ع ــن حكم ــة االب ــتالء ب ــالخير والش ــر‪ ،‬وع ــن حكم ــة ت ــدافع الن ــاس واحتي ــاجهم بعض ــهم ل ــبعض‪ ،‬ورف ــع‬
‫بعضهم فوق بعض ضرورة لعمارة األرض ولتخفيف ثقل مسئوليات اإلنسـان عـن إشـبا حاجاتـه األساسـية والكماليـة‬
‫عليــه‪ ،‬باعتمــاده علــى غيــره فــي ذلــك اإلشــبا ‪ ،‬ولضــمان قدرتـه علــى الوصــول للســلع والخــدمات بصــورة اســتطيعها ضــمن‬
‫كيان مجتمعي‪.‬‬
‫ففلسفة الوجود هذه التي يمكن أن نسميها تجاوزا "بالخطة الكونية" ال تتفـق أبـدا مـع جعـل األرض جنـة خاليـة مـن‬
‫الشقاء والعنت‪ ،‬وتدافع الناس واحتياجهم بعضهم لبعض‪ ،‬وأسباب الفالح والنجاح واأللم واألمراض التـي تـذكر بـنعم‬
‫هللا‪ ،‬وتــدفع النــاس لشــكره عليهــا‪ ،‬أو التقــرب إليــه لشــفائها‪ ،‬وفــي كــل خيــر لهــم‪ ،‬أو تكــافؤهم أضــعاف عنــتهم فــي الــدنيا وفــي‬
‫اآلخرة‪ ،‬وغير ذلك من املفاهيم التي تجعل السؤال األصلي عن تجليات محبة هللا ورحمته وقدرته بالغ الخطأ أصال!‬
‫لقــد كت ــب هللا تع ــالى علــى نفس ــه الرحم ـة‪ ،‬ولكــن كثي ـرا م ــن البش ــر أعــرض عن ــه واض ــطروا أنفســهم إل ــى أن ال يقع ــوا ف ــي‬
‫موجبات رحمته ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬لشدة ظلمهم ألنفسهم‪ ،‬وأعرضوا عن منهجه الضمين بأن اعيش الناس رغد العيش‪،‬‬
‫فكان إعراضهم سببا مباشرا ملعيشة ضنكى‪.‬‬
‫ولعــل فــي البــاب التــالي تلخيصــا لــبعض القضــايا التــي تبــين "فلســفة اإلســالم" فــي االبــتالء والخيــر والشــر‪ ،‬ثــم ســنتناول‬
‫بش يء من التفصيل إظهار الجوانب العظيمة مما ظاهره االبتالء في األبواب التي تلي‪.‬‬
‫قبل دراسة معضلة الشر‪ ،‬ملخص تنفيذي ألهم القضايا املتعلقة بها‪:‬‬
‫االبتالءات من حيث املسئولية‪:‬‬
‫أوال‪ :‬نو ناتج عن تقصير اإلنسان في معرفة السنن واألخذ باألسباب والتفاعل مع القدر‪ ،‬تقع مسئوليته على اإلنسان‪،‬‬
‫(يمكن تفاديه)‪:‬‬
‫أمثلة‪ :‬أمراض وراثية يمكن تفادَها بإجراء فحوصات قبل الزواج‪ ،‬سكوت العامة على طغيان الخاصة يوقعهم‬
‫فــي العقوبــة‪ ،‬العــيش فــي منطقــة نشــاط بر ـكـاني‪ ،‬تنقي ــب عــن ثــروات باطنيــة يف ـ ي لخلــل فــي طبقــات األرض ين ــتج‬
‫‪144‬‬
‫عنه زالزل‪ ،‬جلطات ناتجة عن إهمال الصحة‪ ،‬سـرطان نـاتج عـن التـدخين‪ ،‬تعـاطي األم للكحـول خـالل الحمـل‪،‬‬
‫الح ــروب‪ ،‬االس ــتعمار‪ ،‬الفق ــر الن ــاتج ع ــن الح ــروب واالس ــتعمار وتوزي ــع الث ــروات غي ــر الع ــادل ب ــين الن ــاس‪ ،‬وع ــدم‬
‫استغاللهم للسنن املجتمعية التي تكافح االستعمار وتحسن التصرف فـي اسـتغالل الثـروات وتوزيعهـا‪ ،‬األمـراض‬
‫الناتجة عن تلوث البيئة‪ ،‬تدمير الناس للنظام البي ي‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬ونو يصيب الناس بغير علمهم أو خيارهم أو تقصيرهم (القضاء)‪( .‬ال يمكن تفاديه)‬
‫أمثلة‪ :‬زلزال في منطقة غير معروفة بالنشاط الزلزالي‪ ،‬تسونامي يصعب التنبؤ به‪ ،‬أن يولد الطفل أعمى‪.‬‬
‫االبتالءات من حيث األهداف‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أهْْداف إيجابي ْْة‪( :‬األصــل أن ينظــر لالبــتالءات كلهــا نظــرة إيجابيــة‪ ،‬وأجــر الصــبر علــى االبــتالء أعظــم مــن كثيــر مــن‬
‫الطاعات)‬
‫‪ .1‬كشف عن معدن اإليمان والصدق‪ ،‬تججيل عقوبة‪ ،‬تكفير سيئات‪ ،‬رفع درجات‪ ،‬تقريـب العبـد مـن ربـه‪ ،‬تطهيـر‬
‫وتقوية وصقل للنفوس‪ ،‬تمييز للصفوف‪.‬‬
‫‪ .2‬تنبيه عن غفلة للرجو إلى هللا (تخويف للمبتلى نفسه أو غيره)‪ ،‬تحذير وعبرة للغير لردهم إلى هللا‪.‬‬
‫‪ .3‬تذكير بنعم منسية‪ ،‬فاملرض يذكر بنعمة الصحة‪ ،‬فيشكر هللا عليها‪.‬‬
‫‪ .4‬ضرورات كونية ناتجة عن نظام الوجود (يمكن تفادي بعضها بدراسة السنن‪ ،‬وال يمكـن تفـادي بعضـها اآلخـر)‬
‫(الزالزل‪ ،‬البراكين‪ ،‬الفيضانات‪ ،‬انفجارات املستعرات األعظمية) ضرورات لصالحية األرض للحياة واستمرارها‬
‫ضمن نظام الوجود‪.‬‬
‫‪ .5‬دليــل علــى تحك ــم هللا فــي الكــون‪ ،‬فل ــم يمــارس هللا تع ــالى ســلطانه مــرة واح ــدة فقــط حــين خل ــق النــواميس وأج ــرى‬
‫الكون بناء عليها‪ ،‬بل هي من مقتضيات قيوميته سـبحانه وتعـالى‪ ،‬فيظهـر فيهـا قدرتـه‪ ،‬ويظهـر منهـا حاجـة الكـون‬
‫لخالقه‪" ،‬ليس في الكون ما يدل على أنه‪ ،‬ككل أو بأجزائه‪ ،‬واجب الوجود‪ ،‬أي‪ :‬ما يلزم مـن عدمـه محـال عقلـي‪،‬‬
‫ومـن دالئــل حقيقــة أنــه كــذلك وجــود الشــر فيــه كــنقص معبــر عــن قصــوره‪ ،‬وفـي تعبيــر الكــون عــن قصــوره داللْْة‬
‫عل ْْى حاجت ْْه إل ْْى واج ْْب الوج ْْود الــذي ي ــر وجــوده علــى عدم ــه‪ ،‬وعهــو هللا ســبحانه‪ ،‬فالش ــر بــذلك دليــل م ــن‬
‫األدلة على وجود هللا‪ ،‬إذ ال استقيم فهمنا ألصل الوجود دون واجب للوجود في كون ممكن الوجود"‪.142‬‬
‫‪ .6‬وهــذا الــدليل عل ــى تحكــم هللا اعط ــي الحيــاة معنــى إيجابي ــا‪ ،‬إذ إن الحيــاة م ــن غيــر هللا تكــون مادي ــة بحتــة‪ ،‬عب ي ــة‬
‫بحتــة‪ ،‬عدمي ــة بحت ــة (‪ )Nihilism‬خاليــة م ــن أي مق ــاييس تعــين الخي ــر والش ــر‪ ،‬والحســن والق ــبح‪ ،‬تص ــيب الن ــاس‬
‫بالت ــأزم النفس ـ ي‪ ،‬واالنكف ــاء واالنط ــواء للفش ــل ال ــذريع ف ــي أي محاول ــة لتفس ــير الوج ــود ومعن ــاه‪ ،‬والحي ــاة والغاي ــة‬
‫منهــا‪ ،‬واملق ــاييس التــي س ــيبني عليه ــا اإلنس ــان س ــلوكه‪ ،‬لــذلك فوج ــود (الش ــر) أو (االب ــتالء) م ــن أعظ ــم األدل ــة عل ــى‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬


‫‪ 142‬صاا هذا البرهان أبو منصور املاتريدي‪ ،‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪ .67‬يراجع كتابنا‪( :‬نشأة الك ْو ِن‪َ ،‬د ْليل َع ْق ِلي ِعل ِمي ِح ِس ي َعلـ ْى ُو ُجـ ْو ِد‬
‫ْ َ‬
‫الخ ِال ِق) فصل‪" :‬دليل اإللزام العقلي بين الوجود والعدم" لتفصيل شرح هذا التدليل‪.‬‬
‫‪145‬‬
‫الحاج ــة للخ ــالق وم ــن أعظ ــم الط ــرق لجع ــل حي ــاة اإلنس ــان ذات قيم ــة بوص ــل اإلنس ــان بخالق ــه‪ ،‬وبتعمي ــق ه ــذه‬
‫الصلة من خالل االبتالءات‪.‬‬
‫‪" .7‬إذا كــان هللا غي ــر موج ــود‪ ،‬ف ــالقيم األخالقي ــة املوض ــوعية‪ ،‬والخي ــر والش ــر غي ــر موج ــودة‪ ،‬لك ــن معض ــلة الش ــر‬
‫تنطلـ ــق مـ ــن إثبـ ــات وجـ ــود الشـ ــر‪ ،‬إذن فاملعـ ــايير األخالقيـ ــة املوضـ ــوعية‪ ،‬والخيـ ــر والشـ ــر موجـ ــودة‪ ،‬إذن‪ :‬فـ ــالل‬
‫موجــود‪ "143‬وإذا اقت ـ ى التفكيــر وجــود أمــور علــى صــورة معينــة هــي الخيــر‪ ،‬وأنهــا األصــل فــي الوجــود‪ ،‬فــال بــد مــن‬
‫معيــار متعــال علــى املــادة يفــرض علــى الــذهن أن يتصــور وجــود تمييــز بــين الخيــر والشــر‪ ،‬وال يمكــن ذلــك فــي كــون‬
‫مادي بحت كما استنبط الدكتور سامي عامري‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أهداف سلبية (استحقاق‪ ،‬جزاء وفاق للذنوب)‪:‬‬
‫‪ .1‬عقوبات عاجلة (جراء ذنوب‪ ،‬جراء عدم تفعيل السنن والسكوت على الظاملين)‬
‫ثالثا‪ :‬أهْْداف غيْْرمعروفْْة العو اقْْب لإلنسْْان‪( :‬يميـل اإلنسـان لتفسـير االبـتالءات بنـاء علـى مـا يصـيب مـن نفـع أو ضـر‬
‫متخيل لدنسان‪ ،‬وال اعلم العواقب الحقيقية على الحقيقة‪ ،‬وال يربط االبتالء املعين بنعم أخرى تعوض عنه‪ ،‬فيتخيل‬
‫أن ــه اب ــتالء ف ــي ح ــين أن ــه نعم ــة‪ ،‬م ــثال بيته ــوفن أص ــيب بالص ــمم وكــان أعظ ــم موس ــيقي)‪ ،‬مث ــال‪ :‬أن يص ــاب املول ــود ب ــالعمى‪،‬‬
‫ويعوضه هللا نعما أخرى‪ ،‬أو يدخله الجنة بغير حساب‪ ،‬أن يموت في زلزال فيكون شهيدا‪،‬‬
‫االبتالءات والعدل اإللةي‪:‬‬
‫‪ )1‬قصـ ــور عقـ ــل اإلنسـ ــان عـ ــن إدراك الحكـ ــم جـ ـراء عـ ــدم معرفتـ ــه باملعلومـ ــات الكافيـ ــة الالزمـ ــة لدراسـ ــة القضـ ــايا‬
‫املتعلقة‪ ،‬فال اعلم عواقب األمور‪ ،‬واملقاييس الصحيحة للحكم‪ ،‬وال أحوال اآلخرة‪.‬‬
‫‪ )2‬اتخاذ اإلنسان ملقاييس خطأ للنفع والضر‪ ،‬وظنه أن الخير هو ما جلب له منفعة مادية‪ ،‬أو شهوة أو لذة‪،‬‬
‫‪ )3‬توزيــع عــادل للــنعم‪ :‬ســلب نعمــة البصــر مقابــل زيــادة فــي نعمــة البصــيرة‪ ،‬توزيــع الــنعم املختلفــة بنســب متفاوتــة‪،‬‬
‫لكن املحصلة النهائية هو توزيع عادل للنعم على الخلق‪.‬‬
‫‪ )4‬ال ب ــد لدنس ــان م ــن أي ــن يم ــوت‪ ،‬ف ــأن يق ـ ي هللا بموت ــه ف ــي زل ـزال‪ ،‬ويجع ــل ه ــذا امل ــوت عب ــرة للغي ــر‪ ،‬ل ــيس بظل ــم‬
‫لدنسان الذي يموت في الزلزال‪.‬‬
‫‪ )5‬العقوبات على الذنوب‪ ،‬والعقوبات زواجر جوابر وهي موافقة للذنوب ال تتعدى‪.‬‬
‫‪ )6‬ال يفســد الشــذوذ الــذي يحصــل فــي األفـراد صــحة النظــام الكلــي‪ ،‬ويرجــع بعضــه ملســئوليات قصــر فيهــا اإلنســان‬
‫عن إدراك السنن وتفعيلها‪ ،‬و عضـها مـن التوزيـع املتفـاوت للـنعم‪ ،‬فيسـلط النظـر علـى الـنعم املفقـودة متناسـيا‬
‫النعم األخرى‪ ،‬أو اسلط النظر على مقارنة إنسان بغيره في نعمة واحدة‪ ،‬دون مقارنة إجمالي النعم املوزعة على‬
‫كليهما‪ ،‬و عضها من القضاء الذي يندجم مع خطة الوجود (املوت حتمي)‬

‫‪ 143‬الالهــوتي ولي ــام لــين كري ــغ‪ ،‬مشــكلة الش ــر‪ ،‬ووجــود هللا‪ ،‬د‪ .‬س ــامي عــامري ص ‪ .64 – 62‬راج ــع أيضــا‪ :‬ت ــاريخ الفلســفة الغربي ــة‪ ،‬براترانــد راس ــل‪ ،‬الكتــاب الثال ــث‪:‬‬
‫الفلسفة الحديثة‪ ،‬ص ‪ 182‬تعريف لوك للشر والخير‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫‪ )7‬ال يبح ــث موض ــو االب ــتالء ومعض ــلة الش ــر‪ ،‬إال إذا ع ــم النظ ــر إل ــى الجان ــب اآلخ ــر‪ ،‬وه ــو الخي ــر ونع ــم هللا تع ــالى‬
‫السابغة على املخلوقات‪ ،‬والتنظيم الدقيق للكون وللحياة‪ ،‬فاالبتالء است ناء والشر َع َرض ونشوز‪ ،‬من األصل‬
‫الذي اعم‪ ،‬وحاالت خاصة تخدم أغراضا خاصة‪ ،‬واألصل هو النظام والخير‪( .‬يقول ديفيد بك (‪:)David Beck‬‬
‫"ل ــو ـك ــان اإللح ــاد حقـ ــا‪ ،‬مل ــا ـك ــان علين ــا أن نتوقـ ــع أن يك ــون الخيـ ــر ه ــو الـ ــرئيس أو األكث ــر أصـ ــالة م ــن الشـ ــر‪ ،‬فـ ــي‬
‫الحقيقة‪ ،‬كنا سنتوقع أال يكون هناك قسما الخير والشر أصال"‪144‬‬

‫املساواة‪ :‬زاوية خطأ لدراسة العدل‪:‬‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ُ َ ْ َُ َ َ َ ُْ ْ ُ َ‬
‫آن َعلـى َر ُج ـل ِمـ ْن ال َق ـ ْرَي َت ْي ِن َع ِظ ـيم (‪ )31‬أ ُهـ ْم َي ْق ِس ـ ُمون َر ْح َمـة َرِب ـ َك ن ْح ـ ُن‬‫يقــول هللا تع ــالى‪﴿ :‬وقـالوا ل ـوال نـ ِزل ه ـذا الق ـر‬
‫ضـ ُه ْم َب ْعضـا ُسـ ْخريا َو َر ْح َمـ ُة َربـكَ‬ ‫َق َسـ ْم َنا َب ْيـ َن ُه ْم َمعي َشـ َت ُه ْم فـي ْال َح َيـاة الـ ُّـد ْن َيا َو َر َف ْع َنـا َب ْعضـ ُه ْم فـ ْوق َب ْعـض َد َر َجـات ل َيتخـذ َب ْع ُ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َّ َ ْ َ ُ نَ‬
‫خير ِمما يجمعو (‪ )32‬الزخرف‬
‫حين ندرس كثيرا من القيم التي تقوم عليها األسس الفكرية للعلمانية‪ ،‬التي يروج من خاللها لفكرة "املساواة"‪ ،‬فإننا‬
‫نلح ملحظا هاما اسري على تلك "القيم" وهو "ضبابية املصطل "‪ ،‬فماذا نعني باملساواة؟ هل هي التطابق؟ (قطعا ال‪،‬‬
‫الخ ــتالف الهوي ــة والطبيع ــة ب ــين الرج ــل وامل ـرأة م ــثال)‪ ،‬فتجري ــد امل ـرأة م ــن هويته ــا لتط ــابق الرج ــل اعنــي إهم ــال أهميته ــا ف ــي‬
‫املجتم ــع‪ ،‬وجع ـ ل الرج ــل مث ــاال متفوق ــا غايته ــا أن تبل ــغ ش ــأوه‪ ،‬أم التش ــابه (التط ــابق التقريبــي)؟ أم التماث ــل؟ (وه ــو أق ــرب‬
‫معن ــى للمس ــاواة)‪ ،‬يفت ــرض حك ــم املس ــاواة وج ــود ف ــرق ب ــين األش ــياء الت ــي ت ــتم مقارنته ــا‪ .‬وفق ـا له ــذا التعري ــف‪ ،‬ف ــإن فك ــرة‬
‫املساواة "الكاملة" أو "املطلقة" متناقضة مع نفسها‪145 .‬‬

‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإننا وجدنا أنه ال بد في الحياة من وجود فروقات تف ي إلى اختالف الذكر عن األنثى‪ ،‬اخـتالف‬
‫الخبير عن غير الخبير‪ ،‬اختالف املهندس عن الطبيب‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فهل هذه الفروقـات مهمـة فـي الحيـاة‪ ،‬أم أنـه فـي األسـاس‬
‫ال بد أن يكون الكل سواسية؟‬
‫ال اشك عاقل أن من ضرورات الحياة وجود االختالفات بين الناس‪ ،‬فألجل تمام حصول االجتما املف ي إلى قيام‬
‫مجتمع سليم‪ ،‬يحتاج املجتمع إلى الصانع واملستهلك‪ ،‬وإلى الطبيب واملدرس‪ ،‬وإلى الذكر واألنثى‪ ،‬وأي محاولة إلزالة هذه‬
‫الفروقات يؤدي إلى دمار املجتمعات وإلى الثغرات الهائلة التي تف ي إلى فساد الحياة‪.‬‬
‫ومــن امله ــم إدراك أن بعــض ه ــذه الفروقــات مترتب ــة عل ــى اختيــار البش ــر‪ ،‬مثــل أن يخت ــار اإلنســان أن يك ــون طبيب ــا‪ ،‬أو‬
‫مهندسا‪ ،‬أو أال اعمل‪ ،‬وبالتالي فتفاوت القيمة واملنزلة والعطاء املترتب على ذلك أمر طبيعي‪ ،‬ينتج عنه أن اسد كل منهم‬
‫مكانا ودورا في الحياة‪،‬لكن هللا آتاهم أساسا العقل وامللكات ‪-‬في أصل الخلقـة‪ -‬والتـي تيهـ لكـل مـنهم أن يختـار‪ ،‬ويبلـغ‪ ،‬إال‬
‫إن بعض الخيارات قد تكون صعبة نتيجة الظلم االجتماعي في املجتمعات التي ال تقيم موازين العدالة في تمكين الناس‬

‫‪ 144‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪.59‬‬


‫‪145‬‬
‫‪https://plato.stanford.edu/entries/equality/‬‬
‫‪147‬‬
‫من الفرص نفسها‪ ،‬أو الظلم الناش عن تطبيق نظام معين برمته‪ ،‬كالنظام الرأسمالي على سبيل املثال وطريقة تركيبة‬
‫النظــام التــي تش ــكلت مــن أج ــل ض ــمان حق ــوق فئــات عل ــى حس ــاب فئــات أخ ــرى‪ ،‬وهن ــاك ف ــروق ال خيــار للبش ــر فيه ــا‪ ،‬كــأن‬
‫يكون اإلنسان ذكرا أو أنثى‪،‬‬
‫وم ــن امله ــم فه ــم أن ك ــال م ــن ال ــذكر واألنثــى‪ ،‬م ــن الطبي ــب وامل ــدرس والعام ــل اس ــد ثغ ــرة مهم ــة ف ــي املجتم ــع فل ــه قيم ــة‬
‫اجتماعيــة مهمــة‪ ،‬وأن بعــض هــذه الفروقــات ترفــع الــبعض فــوق الــبعض فــي حــاالت معينــة‪ ،‬وتســاوَهم فــي حــاالت أخــرى‪،‬‬
‫فمكان ــة األم م ــثال ال تض ــاهؤها مكان ــة! بس ــبب الجه ــود املطلوب ــة للوص ــول له ــذه املنزل ــة‪ ،‬يمك ــن تف ــاو هم ف ــي األج ــور‪ ،‬فم ــثال‬
‫الطبيــب يــدرس ســبع ســنوات طــب يصــل فيهــا الليــل بالنهــار‪ ،‬والــذي اختــار تخصصــا أســهل فــي الحيــاة ال يحتــاج ملثــل هــذا‬
‫املجهود ال يص أن اساوى بينهما في األجر‪ ،‬ولكنهما يتساويان في القيمة اإلنسانية وفي أساس االستعدادات علـى سـبيل‬
‫املثال! وفي تمكين الكل من الفرص نفسها بالتساوي‪( ،‬بما اشبه األواني املستطرقة)‪.‬‬
‫إن اتخــاذ مســألة املســاواة أساســا فــي البحــث خطــأ فكــري جســيم‪ ،‬ألن "كــون املـرأة تســاوي الرجــل‪ ،‬أو الرجــل اســاوي‬
‫ُ‬
‫املرأة ليست باملسألة ذات البال التي تؤثر في مجرى الحياة‪ ،‬بل املسألة التي يجب أن تبحث هي الحقوق والواجبات التي‬
‫لدنس ــان‪ ،‬فه ــي متماثل ــة ب ــين الرج ــل وامل ـرأة حيثم ــا تقت ـ ي طبيعتهم ــا التماث ــل‪ ،‬وم ــن الع ــدل أن تختل ــف تل ــك الحق ــوق‬
‫والواجبات حين تقت ي طبيعتهما االختالف‪ ،‬ومـن الظلـم أن تتسـاوى الحقـوق والواجبـات حـين االخـتالف فـي طبيعتهمـا‪،‬‬
‫وه ــذا التبـ ــاين ال ُيبحـ ــث مـ ــن بـ ــاب املسـ ــاواة أو عـ ــدم املسـ ــاواة‪ ،‬ب ــل يبحـ ــث بوصـ ــفه مشـ ــكلة ينـ ــتج عنهـ ــا سـ ــلوك وعالقـ ــات‬
‫مجتمعيــة تقت ـ ي حــال وعالجــا بوصــف اإلنســان ‪-‬ذكـرا ـكـان أم أنثــى‪ -‬كائنــا اجتماعيــا متفــاوت القــوى واالســتعدادات بمــا‬
‫يؤثر في طبيعة حقوقه وواجباته بناء على ذلك‪.‬‬
‫فحـين تكـون الحقــوق والواجبـات إنسـانية تتعلــق باإلنسـان كإنسـان تجــد التماثـل فـي الحقــوق والواجبـات بـين الــذكر‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ َ ُ َ‬
‫ص ِالحا ِمـن ذكـر أ ْو أنثـى َو ُهـ َو ُمـ ْؤ ِمن فل ُن ْح ِي َي َّنـ ُه َح َيـاة ط ِي َبـة‬ ‫واألنثى في اإلسالم‪ ،‬قال تعالى في سورة (النحل ‪َ ﴿ :)97‬م ْن َعم َل َ‬
‫ِ‬
‫َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َول َن ْجـ ِزَي َّن ُه ْم أ ْجـ َر ُهم ِبأ ْح َس ـ ِن َمـا كـ ُانوا َا ْع َمل ـون﴾‪ ،‬وكــذلك جعــل للم ـرأة كمــا للرجــل الح ــق فــي أن تمتلــك م ــا تشــاء وأن تنمــي‬
‫َ‬
‫أموالها كما تشاء ‪-‬وفقا لضوابط الشر املنطبقة على الذكر واألنثى سواء بسواء‪ -‬قال تعالى في سورة (النساء ‪َ ﴿ :)32‬وال‬
‫ضـ ُك ْم َع َلـى َب ْعـض للر َجـال َنصـيب م َّمـا ْاك َت َسـ ُب ْوا َوللن َسـاء َنصـيب م َّمـا ْاك َت َسـ ْب َن َوا ْسـ َأ ُل ْوا َّ َ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ َّ َّ ُ‬
‫ّللا بـه َب ْع َ‬
‫ّللا ِمـن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫تت َمنـوا مـا فضـ َل ِ ِ‬
‫َ ْ َّ َّ َ َ َ ُ َ‬
‫ان ِبك ِل ش ْيء َع ِليما﴾‪.‬‬ ‫فض ِل ِه ِإن ّللا ك‬
‫وحين تكون هـذه الحقـوق والواجبـات متعلقـة بـاختالف فـي طبيعـة الرجـل واملـرأة كـأنثى لهـا مكانتهـا فـي املجتمـع ُجعلـت‬
‫هذه الحقوق والواجبات متنوعة‪ ،‬ويتجلى ذلك في باب الشهادات على سبيل املثال‪ ،‬فشهادة الرجل في الرضا ال تقبل‪،‬‬
‫وتكفي فيه شهادة امرأة واحدة‪ ،‬ألن هذه األمور في العادة ال يطلع عليها إال النساء‪ ،‬كالشهادة على البكارة والشهادة على‬

‫‪148‬‬
‫الــوالدة‪ ،‬وعلــى ذلــك فجميــع األمــور بــين الرجــل واملـرأة تســير وفــق مــا تقتضــيه الحيــاة ملجتمــع صــال فــي بيئــة إســالمية مــن‬
‫التماثل أو التنو أو التفاوت"‪146.‬‬

‫وحي ــث إن للمس ــاواة مف ـ َ‬


‫ـاهيم متع ــددة‪ ،‬فم ــثال ق ــد ال يك ــون م ــن الع ــدل أن تس ــاوي ب ــين ض ــعيف وق ــوي ف ــي التك ــاليف‬
‫املرهقة التي تحتاج لقوة بدنية‪ ،‬فتستفيد بدال من ذلك من قدرات الضعيف األخرى‪ ،‬كقدراته الذهنيـة مـثال‪ ،‬وباملثـل‪،‬‬
‫فـال يجـب أن يكـون مفهــوم املسـاواة أن تحمـل املـرأة والرجـل علـى القيـام بعــين األعمـال‪ ،‬فـي حــين إن حاجـة املجتمـع ملحــة‬
‫الض ــطال امل ـرأة بأعم ــال معين ــة‪ ،‬والرج ــل بأعم ــال أخ ــرى‪ ،‬فتك ــون النظ ــرة للمس ــاواة أعم ــق وأبع ــد نظ ـرا م ــن مج ــرد القي ــام‬
‫بنفس األعباء الجسـدية فـي العمـل‪ ،‬فهـو ينقـل أثقـاال علـى ظهـره مـن الشـار للطـابق الخـامس فـي مشـرو بنـاء‪ ،‬وهـي تفعـل‬
‫األمر ذاته!‬
‫بل تتحقق املساواة بقيامه بواجبات معينة تتناسب مع قدراته وطبيعة خلقته وحاجات املجتمع‪ ،‬وقيامها بواجبات‬
‫معينة مناسبة لطبيعة خلقتها وقدرا ها وحاجات املجتمع وحاجا ها هي‪ ،‬وحين تتكامل املهام وحسن القيام بها يتساوون‬
‫فــي الثــواب والقيمــة االجتماعيــة‪ ،‬وذلــك بالضــبط مثــل أنــه ال يصـ أن يكــون كــل أفـراد املجتمــع أطبــاء‪ ،‬فــاملجتمع بحاجــة‬
‫للطبيب وللنجار وللمدرس وللوزير‪ ،‬وكذلك بحاجة للذكر ولألنثى!‬
‫درسـة وللطبيبـة حاجتـه للمـدرس وللطبيـب!‬ ‫ُ‬
‫ويمكن للذكر واألنثى أيضا أن اعمال نفس األعمـال لحاجـة املجتمـع للم ِ‬
‫ال مانع من أن تعمل املرأة ما يناسب ِخلقتها وطبيعتها من األعمال املباحة!‬
‫ثم لنأخذ املساواة غير املشروطة بين فئات املجتمع في الحقوق السياسية‪ ،‬فاملجتمع بحاجة لحلـول املشـاكل‪ ،‬فـإذا‬
‫كان لدينا مشكلة اقتصادية وساوينا بين الناس في رأَهم في حلها‪ ،‬ساوينا بين من امتلك دكتوراة في االقتصاد السياس ي‪،‬‬
‫وبــين أي شــخص آخــر لــم يــدرس كتابــا فــي االقتصــاد فــي حياتــه‪ ،‬فهــل يــا تــرى مثــل هــذه املســاواة ســينتج عنهــا الحــل األمثــل‬
‫ملشـاكل املجتمــع أم أن الغالبيــة التــي ال عالقــة لهــا باالقتصــاد سـتفرض حلــوال تناســب نظر هــا الســطحية للمشــكلة والتــي‬
‫تتعلق بحلول تتناسب وأهواءها وال تتناسب مع الصال العام؟‬
‫فالنظ ــام السياس ـ ي ال ــذي يتجاه ــل الف ــروق العلمي ــة واإلدراكي ــة ألف ـراد املجتم ــع‪ ،‬ويتجاه ــل القيم ــة النس ــبية ل ــبعض‬
‫أفراد املجتمع‪ ،‬بل ويفرض نوعا من املساواة غير املشروطة بين أفراد هذا املجتمع ستف ي به هـذه املسـاواة إلـى كـوارث‬
‫على املجتمع!‬
‫ل ــذلك‪ ،‬فالخالص ــة أن القض ــية األس ــاس ه ــي‪ :‬النظ ــام الص ــحيح ال ــذي يض ــع ك ــل مس ــألة ف ــي نص ــابها لص ــالح الحي ــاة‪،‬‬
‫وسعادة املجتمع‪ ،‬وأن استوي الكل في قضايا معينة‪ ،‬ويختلفوا في قضايا أخرى‪ ،‬وبهذا تفهم قضية العدل‪.‬‬

‫‪ 146‬الشخصية اإلسالمية‪ ،‬تقي الدين الن هاني الطبعة األولى سنة ‪ 1952‬ص ‪ .76‬فصل‪ :‬املساواة بين املرأة والرجل‪ ،‬بتصرف بسيط‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫"اإلرادة الحرة" ومسؤولية الخالق عن العلل الوا حة في الخلق‪.‬‬
‫يصف الفيلسوف اإلنجليزي أنتوني فلو موقفه القديم والجديد ملعضلة الشر في كتابه‪( :‬هناك إله)‪:‬‬
‫"القضية األخرى التي غيرت رأيـي فيهـا هـي حريـة اإلرادة؛ حريـة اإلنسـان املطلقـة‪ .‬هـذه املسـألة لهـا ثقلهـا وأهميتهـا‪ ،‬ألن‬
‫مسـألة مــا إذا كنـا أحـرارا أم ال؟ تكمـن فــي جــوهر أغلـب األديــان الرئيسـية‪ .‬فــي بــداياتي فـي الكتابــة املناهضـة لألديــان‪ ،‬لفـ ُّـت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َََ ُ َ‬
‫االنتب ــاه إل ــى تن ــاقض وج ــود الش ــر ف ــي ك ــون خلق ـه ويحك ُم ـه كي ــان مطل ــق الق ـ ِ‬
‫ـدرة وك ِل ـ ُّي املحب ــة‪ .‬ج ــاء رد امل ــؤمنين عل ــى ذل ــك‬
‫ـدرك املحس ــوس بادع ــاء أن اإلل ــه َه ــب اإلنس ــان حري ــة اإلرادة‪ ،‬وأن معظ ــم –إن ل ــم يك ــن كــل– تل ــك الش ــرور‬ ‫التن ــاقض امل ـ َ‬
‫الواضحة املخزية‪ ،‬سب ها جميعـا سْْوء اسْْتخدام اإلنسْْان لهْْذه العطيْْة الخطيْْرة‪ ،‬ولكـن النتـائج النهائيـة لتحقـق ذلـك‬
‫ف ــي املجم ــو ‪ ،‬س ــتكون أكث ــر خيري ــة مم ــا ق ــد يت ــاح ف ــي انع ــدام وج ــود اإلرادة الح ــرة‪ .‬ف ــي الواق ــع‪ ،‬كن ــت أول م ــن اس ــمي ذل ــك ب‬
‫“دفا عن اإلرادة الحرة‪".‬‬
‫وسْ ْْواء ُر ِم ْ ْ َزإليهْ ْْا كمنْ ْْاظرة بْ ْْين "حريْ ْْة اإلرادة" و"القْ ْْدراملسْ ْْبق"‪ ،‬أو فْ ْْي اإلطْ ْْارالعلمْ ْْاني بْ ْْين "حريْ ْْة اإلرادة"‬
‫و"الحتمية"‪ ،‬فإن سؤال ما إذا كان لدينا حرية أم ال؛ أمر جوهري‪ .‬رددت بمحاولة للجمع بين كال االتجاهين‪ ،‬وذلك من‬
‫خ ــالل ط ــرح افت ـراض اع ــرف حالي ــا بالتوافقي ــة )‪ ،(Compatibilism‬فبينم ــا يق ــول غي ــر الت ــوافقي أن الجبري ــة التام ــة غي ــر‬
‫متوافقة مع حرية اإلرادة‪ ،‬يؤكد التوافقي ليس فقط علـى إمكانيـة اتسـاقهما؛ بـل الجمـع بـين القـول بأنـه يمكـن لشـخص‬
‫مــا اتخــاذ قـرار بحريــة‪ ،‬وإدراك أن هــذا القـرار املســتقبلي معلــوم ســلفا لجهــة مســتقبلية‪ ،‬ولكــن أيضــا أن القـرارات الحــرة‬
‫يمكنها أن تكون حرة وقرارات في آن‪ ،‬حتى ولـو كـان السـبب فـي حـدو ها بالطريقـة التـي حـدثت بهـا سـبب فيزيـاوي‪ ،‬وحتـى ولـو‬
‫كان حدو ها بهذه الطريقة تحتم حدو ها بقانون ما أو بقوانين الطبيعة‪.‬‬
‫بينما ال زلت أُمن بقدرة البشر على االختيار الحـر‪ ،‬لكنـي توصـلت فـي األعـوام الالحقـة السـتحالة الجمـع بـين اإليمـان‬
‫بك ــون الخي ــارات ح ــرة وكونه ــا نت ــاج أس ــباب فيزيائي ــة ف ــي نف ــس الوق ــت‪ ،‬بعب ــارة أخ ــرى‪ ،‬مب ــدأ التوافقي ــة ال اعم ــل‪ .‬ق ــانون‬
‫الطبيع ــة ل ــيس بيان ـا لحقيق ــة مج ــردة عمي ــاء ف ــي أن ح ــدثا معين ــا ‪-‬كم ــا يح ــدث‪ -‬س ــيعقب بع ــض األح ــداث األخ ــرى‪ ،‬ولكن ــه‬
‫حـدوث حــدث معــين‪ ،‬والــذي اسـتلزم فيزيائيــا حتميــة حــدوث مجموعـة أخــرى مــن األحــداث‪ ،‬األمـر الــذي يجعــل مــن عــدم‬
‫حدوث املجموعة األخرى من األحداث "استحالة فيزيائية" وليس هذا الحال إطالقا في "االختيار الحر‪".147‬‬
‫"وفي ضوء ارتدادي عن االقتنـا الكامـل بمبـدأ التوافقيـة‪ ،‬فـإن أغلـب مـوادي املنشـورة عـن االختيـار واإلرادة الحـرة‪،‬‬
‫ف ــي الس ــياقات الديني ــة أو العلماني ــة عل ــى ح ــد س ــواء‪ ،‬تتطلـ ـ ب املراجع ــة والتص ــحيح‪ .‬ونظ ـرا إل ــى أن القض ــية هن ــا تتعل ــق‬
‫بالتســاُل الثــاني ملجموعــة التســاُالت الفلســفية الثالثــة لعمانويــل كانــت (اإللــه‪ ،‬والحريــة‪ ،‬واألزليــة)‪ ،‬فــإن تحــولي فــي هــذا‬
‫األمر‪ ،‬وكما كان الحال في تحولي بشأن موضو اإلله؛ تحول جذري"‪ .148‬وقـد أجبنـا علـى هـذه التسـاُالت بوضـوح شـديد‬

‫‪ 147‬هناك إله ص ‪73-72‬‬


‫‪ 148‬هناك إله ص ‪.76‬‬
‫‪150‬‬
‫في أبواب‪ :‬السببية والحتميـة فـي ظـل تـدبير هللا‪ ،‬والتنبـؤ وسـؤال حريـة إرادة اإلنسـان‪ ،‬وبـاب‪ :‬خطـة الوجـود‪ :‬هـل اإلنسـان‬
‫مسلوب اإلرادة؟ أين يقع سؤال حرية اإلرادة في عـالم سـببي حتمـي؟ ويجـدر التنبيـه أيضـا إلـى ضـرورة التفريـق بـين السـنن‬
‫الكونيـة والعالقــة الســببية الفوريــة فيهــا بــين الســبب والنتيجـة‪ ،‬وبــين الســنن املجتمعيــة اإلنســانية‪ ،‬التــي اعتــرض العالقــة‬
‫السببية فيها‪ :‬اإلنسان العاقل الحر املريد املسئول عن خياراته‪.‬‬
‫عدل اإلله مطلق القدرة‪ ،‬كلي املحبة‪ /‬كلي الرحمة!‬
‫تقوم حجة مشـكلة الشـر علـى أن "وجـود الشـر فـي العـالم يتنـافى مـع أن يكـون الـرب عليمـا ألن علمـه يقت ـ ي أن يمنـع‬
‫هذا الشـر مـن الوجـود‪ ،‬ويتنـافى مـع أنـه قـدير‪ ،‬ألن قدرتـه تقت ـ ي أن يمنـع هـذا الشـر مـن الوجـود‪ ،‬ويتنـافى مـع أنـه رحـيم‪،‬‬
‫ألن رحمته تقت ي بمنع هذا الشر من الوجود‪ ،‬ولذلك فإن وجود الشر ينفي وجود هذا اإلله الذي ال يمكـن أن يفتقـد‬
‫الصــفات ال ــثالث الس ــابقة جمل ــة‪" "149‬وتق ــوم حج ــة مش ــكلة الشــر عل ــى مغالط ــة وه ــي افت ـراض أن كم ــال هللا يتع ــارض م ــع‬
‫إرادتــه‪ ،‬فإرادتــه مقيــدة بكمالــه‪ ،‬وأن الحكمــة تقت ـ ي أن يكــون كــل مخلــوق كامــل الصــنعة فــي ذاتــه‪ ،‬وهــو يحصــر أب ــواب‬
‫الحكمـة"‪ 150‬فــي زاويـة واحــدة (انتفـاء األلــم‪ ،‬ودوام امللـذات) دون التأمــل فـي مزايــا الزوايـا األخــرى التـي أوردناهــا فـي امللخــص‬
‫التنفيــذي أله ــم القض ــايا املتعلقــة بمعض ــلة الش ــر‪ ،‬األمــر ال ــذي ينته ــي ف ــي النهايــة ب ــأن عل ــى هللا أن "يخلــق إله ــا مثل ــه" حتــى‬
‫يثب ــت ل ــه كم ــال الكم ــال‪ ،‬وتفت ــرض الحج ــة أن الش ــر يتع ــارض م ــع الحكم ــة‪ ،‬وم ــع الق ــدرة‪ ،‬لكنن ــا بالتأم ــل وج ــدنا قص ــورا‬
‫وســطحية فــي حصــر الحكمــة بمقتضــيات هــذه النظــرة‪ ،‬فمــثال‪ :‬حــين يجتمــع النــاس علــى دولــة واحــدة بنظــام ُيرسـ ي فــيهم‬
‫الطمأنينة واألمن واالستقرار‪ ،‬ويأتي مـن ينـاز علـى الحكـم ويشـق الصـف‪ ،‬ويريـد فـرض نظـام يف ـ ي للفسـاد‪ ،‬فـإن قتلـه‬
‫(والــذي ه ــو فــي ظ ــاهره ش ــر) إنمــا ه ــو خي ــر للمجمــو ‪ ،‬وعق ــاب لــه عل ــى م ــا أراد مــن اإلفس ــاد‪ ،‬حتــى وإن حشــد مع ــه جماع ــة‬
‫تؤيده ملصال آنية لها‪ ،‬تضر باملصلحة العامة للمجتمع‪ ،‬فقتلهم جميعا فيه صالح للمجمو ‪ ،‬وموافق للحكمة‪.‬‬
‫كم ــا أن املعض ــلة تغف ــل التأم ــل ف ــي خط ــة الوج ــود‪ ،‬وخل ــق اإلنس ــان ح ــر اإلرادة املس ــؤول ع ــن االس ــتخالف ف ــي األرض‪،‬‬
‫واختبــاره فــي خياراتــه‪ ،‬األمــر الــذي يتعــارض مــع "جبْْره علْْى أن يك ْْون كْْامال خاليْْا مْْن العي ْْوب واآلثْْام واألخطْْاء"‪ ،‬وهــم‬
‫بذلك يجعلون الجبرأفضل من االختيار‪ ،‬ويجعلون غاية خلق اإلنسان إسعاد اإلنسان ال اختباره على محك العبودية‬
‫لل‪ ،‬ويجعلون إسعاد اإلنسـان متمـثال باللـذات اآلنيـة‪ ،‬واملتـع املاديـة‪ ،‬ويغفلـون القـيم اإلنسـانية والخلقيـة والدينيـة التـي‬
‫تجع ــل للحي ــاة رونق ــا خاص ــا‪ ،‬ويغفل ــون ل ــذة أن يتق ْْرب هللا لعب ْْده ب ْْاالبتالء‪ ،‬فيتض ــر العب ــد إل ــى رب ــه‪ ،‬ويقت ــرب م ــن رب ــه‪،‬‬
‫فـيحس بسـعادة روحيــة هائلـة بعـد أن نــآى عـن ربـه وراء دنيــا ماديـة‪ ،‬ويغفلـون لــذة مصـارعة الشـر بأنواعــه‪ ،‬والصـبر علــى‬
‫الوج ــع تقرب ــا م ــن هللا‪ ،‬ورض ــا بقض ــائه‪ ،‬وإال ف ــإن ال ــنفس املس ــرفة ف ــي الل ــذات‪ ،‬الغارق ــة ف ــي املادي ــة س ْْرعان م ْْا سيص ْْي ها‬

‫‪ 149‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪.22‬‬


‫‪ 150‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪ 60‬بتصرف‬
‫‪151‬‬
‫الضجر‪ ،‬والذي سيعقبه بشكل حتمي أمراض نفسية من كآبة‪ ،‬ولوال اعتراض اللذات باأللم ملا كان للذات املعنى الراوع‬
‫لها الذي يجليها‪ ،‬فيدرك اإلنسان عندها حجم النعم التي يرفل فيها دون أن ينتبه إليها‪.‬‬
‫انعدام املقايهس املؤسسة لألخالق وللخيروالشرفي ظل استبعاد الدين‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ال يمك ــن أن تؤس ــس العلماني ــة (وال الديمقراطي ــة وال الليبرالي ــة) وال اإللح ــاد ملق ــاييس لألخ ــالق وال للفض ــيلة وال‬
‫للخي ــر وال للش ــر‪ ،‬ففلس ــفة العلماني ــة قام ــت عل ــى أس ــاس "م ــادي‪ ،‬حس ـ ي" يف ـ ـ ي النفض ــاض "املعرف ــة العلماني ــة" ع ــن‬
‫الغيــب‪ ،‬وعمـا وراء الطبيعــة‪ ،‬والتركيــز علــى الطبيعــة‪ ،‬مملكــة املعرفــة اإلنســانية‪ ،‬ومفــاهيم الخيــر والشــر ليســت مفــاهيم‬
‫مادي ــة‪ ،‬وال يق ــع الح ــس عليه ــا لقياس ــها أو إخض ــاعها للتجرب ــة‪ ،‬وبالت ــالي "فالض ــمير األخال ــي" أو "اإلنس ــاني" مف ــاهيم غي ــر‬
‫مادية‪ ،‬فكيف ستبح ها العلمانية وتؤسس عليها مرجعية للسلوك لوصفه باألخال ي؟‬
‫يقــول الــدكتور عبــد الوهــاب املســيري‪" :‬الفلســفة الهيومانيــة فــي الغــرب‪ ،‬بتأكيــدها القــيم األخالقيــة املطلقــة ومقــدرة‬
‫اإلنسـان علــى تجــاوز واقعـه الطبيعــي‪ /‬املــادي وذاتـه الطبيعيــة‪ /‬املاديــة‪ ،‬تعبيـر عــن اإللــه الخفـي وعــن البحْْث غيــر الــواعي‬
‫من قبل اإلنسان املادي عن املقدس‪ ،‬فمثل هذه القيم‪ ،‬ومثل هذه املقدرة لهس لهما أساس مادي"‪151‬‬

‫من هنا‪" ،‬عند مناقشة السؤال األنطولوجي (الوجودي) لألخالق وهو السؤال الفلسفي املتعلق بوجود األخالق من‬
‫ع ــدمها‪ ،‬يف ــر املالح ــدة [وامل ــاديون] فت ـراهم يح ــاولون ص ــرف املوض ــو إل ــى الس ــؤال اإلبس ــتمولو ي (نظري ــة املعرف ــة) وه ــو‬
‫ســؤال يتعلــق بكيفي ــة التعــرف علــى الق ــيم األخالقيــة‪ ... ،‬فحــين نتح ــدث عــن الفلســفة األخالقي ــة‪ ،‬ثمــة مســتويان مهم ــان‬
‫للحديث‪ :‬املستوى األول‪ :‬هل للقيم األخالقية املطلقة وجود أم ال؟‬
‫املستوى الثاني‪ :‬كيف نتعرف على تلك القيم األخالقية إن كان لها وجود؟‬
‫فاملاديون يبقون السؤال األول معلقا دون جواب‪ ،‬ألنه اشكل مأزقا حقيقيـا ضـخما للفلسـفة املاديـة اإللحاديـة"‪152‬‬

‫(وذلك ألنهم ماديون‪ ،‬واألخالق والضمير‪ ،‬والخير والشر كلها مفاهيم غيبية ال يقع الحس عليها)‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬في ظل طغيان الليبرالية كأساس معرفي منذ عصر النهضة في أوروبـا‪ ،‬حـرص املنظـرون علـى عـدم وضـع مبـادي‬
‫منطقية أو سلطوية أو ثقافية أو طائفية أو تراثية أو دينية أو غير ذلك توجه التفكير البشري ملعرفـة الخيـر مـن الشـر‪،‬‬
‫بدعوى أن هذا سيحد من قـدرة العقـل علـى التفكيـر‪ ،‬وبالتـالي يركـزون علـى "خيريـة اإلنسـان" ذلـك املفهـوم املسـتعار مـن‬

‫‪ 151‬العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ‪،189/1 /‬‬


‫‪ 152‬عب ــد هللا الججي ــري‪ ،‬ميليش ــيا اإللح ــاد‪ ،‬م ــدخل لفه ــم اإللح ــاد الجدي ــد‪ ،‬مرك ــز تك ــوين‪ ،‬ص ‪ ،150‬ويض ــرب أمثل ــة منه ــا محاول ــة س ــام ه ــارس ف ــي كتاب ــه‪" :‬املش ــهد‬
‫األخال ي" التنظير أن العلم التجريبي يحدد القيم اإلنسانية بأنها التي ترتقي بعافية اإلنسان‪ ،‬وبما أن العلم قادر على إخبارنــا بمــا يحقــق العافيــة‪ ،‬فهــو قــادر علــى‬
‫تحديد القيم األخالقية الحسنة والقبيحة" ويقول ريتشارد دوكنز في كتاب "وهم اإلله"‪" :‬ليست جميع األحكام املطلقــة مســتمدة مــن الــدين‪ ،‬ولكــن مْْن الصْْعب‬
‫جدا الدفاع عن القيم األخالقية املطلقة على أرضية أخرى غير الدين" ‪ ،The God Delusion 232‬ويقول دوكنز أيضا‪" :‬ما الذي يمنعنــا مــن القــول بــأن هتلــر‬
‫ك ـ ــان عل ـ ــى ص ـ ــواب؟ أعن ـ ــي ه ـ ــذا س ـ ــؤال ص ـ ــعب فع ـ ــال" ‪ ،http://byfaithonline.com/Richard-dawkins-the-oatheist-evangelist‬وف ـ ــي من ـ ــاظرة ب ـ ــين حم ـ ــزة‬
‫تزوريتزاس‪ ،‬والبروفيسور لورنس كراوس‪ ،‬في بريطانيا عنوانها اإلسالم أو اإللحاد‪ ،‬أَهما أكثر منطقية؟ قال لورنس كراوس مجيبا على سؤال حول سبب كون زنا‬
‫املحارم خطأ‪ ،‬قال‪" :‬ال يظهر لي أنه خطأ" وأكد "أنه ال يرى مشكلة من ممارسة الجنس بين األخ وأخته"‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫املسـيحية‪[ ،‬وهــم هنــا يقعـون فــي إشــكال فلسـفي عظــيم يقعــون فيــه فـي الــدور‪ ،‬إذ كيــف تعـرف أن اإلنســان خيـر بــدون أن‬
‫تقيسه بمقاييس الخير والشر فما يفعله من خير يجعله خيرا‪ ،‬أم أنها صك غفران لدنسان اعطيه العلمانيون له يفعل‬
‫م ــا اش ــاء بوص ــفه خي ـرا؟] ومس ــئوليا هم ع ــن ق ـرارا هم اإلنس ــانية‪ ،‬دون مرجعي ــة إيم ــان أو دي ــن تح ــدد له ــم أن س ــلوكيا هم‬
‫أخالقية أو غير أخالقية‪،‬‬
‫ثالث ــا‪ :‬وهن ــاك توج ــه ع ــواقبي يب ــدأ في ــه امل ــرء باأله ــداف ال بالقواع ــد األخالقي ــة‪ ،‬ال بمقي ــاس خي ــر أو ش ــر‪ ،‬وم ــن ث ــم‬
‫يقيســون الســلوك مــن خــالل تحقيقــه لألهــداف‪ ،‬فالفعــل خيــر أو حســن أو أخال ــي أو صــائب إذا جــر نتيجــة صــالحة‪ ،‬أو‬
‫عاقبة حسنة‪ ،‬وهذه العاقبة الحسـنة أو الصـالحة مـن املقيـاس الغر ـي هـي‪ :‬النفعيـة (‪ )Utilitarianism‬املاديـة؛ األسـاس‬
‫ال ــذي بن ــت علي ــه الحض ــارة الغربي ــة مفه ــوم الس ــعادة‪ ،‬والتــي ارتبط ــت به ــا فك ــرة الل ــذة‪ )Hedonism( 153‬الحس ــية‪ ،‬وفك ــرة‬
‫الرفاهية (‪ )Welfare‬كمقاييس غائية‪ ،‬ينقـل برترانـد راسـل فـي كتابـه تـاريخ الفلسـفة الغربيـة عـن لـوك نظريتـه األخالقيـة‬
‫فيقول لوك‪" :‬تكون األشـياء خيـرا أو شـرا فقـط مـن حيـث ارتباطهـا باللـذة أو األلـم‪ ،‬بحيـث إننـا نـدعو "خيـرا" مـا هـو خليـق‬
‫بــأن اســبب اللــذة أو يزيــدها‪ ،‬أو يخفــف األلــم فينــا"‪" ،‬مــا الــذي يحــرك الرغبــة؟ أجيــب‪ :‬الســعادة‪ ،‬والســعادة فقــط"‪" ،‬إن‬
‫تفضيل الرذيلة على الفضيلة هو حكم خاطئ واض الخطأ"‪154‬‬

‫"والتبرير النفعي البراغماتي لألخالق يفقد األخالق قيمتها‪ ...‬وتقرير أن األخالق نسبية يفقدها قيمتها املطلقة"‪155‬‬

‫ض لنــا الســلوك نفســه مــن شخصـين َجـ َّر علــى أحــدهما نفعــا وعلــى اآلخـر ضــررا‪( ،‬فأحــدهما ربــح فــي القمــار‬ ‫وحـين ُا ْعـ َر ُ‬
‫واآلخ ــر خس ــر من ــه‪ ،‬أو أن الش ــخص نفس ــه رب ــح م ــرة وخس ــر م ـرات؟ أو أن ق ــاتال م ــأجورا قت ــل شخص ــا وق ـبض ثمن ــا مادي ــا‬
‫مقابـل فعلــه‪ ،‬بـل أصــال فـوق ذلــك‪ ،‬كيـف ستصــف القتــل نفسـه بأنــه خيـر أو شــر؟ أو أن تـاجرا روج للمخــدرات واكتســب‬
‫ث ــروة طائل ــة‪ ،‬ث ــم اس ــتغل نف ــوذه ف ــي الدول ــة لتقن ــين تجار ه ــا مث ــل القن ــب الهن ــدي م ــثال؟‪ )156‬فعل ــى أي أس ــاس سنفاض ــل ف ــي‬

‫‪ 153‬الفعل الذي ينتج منفعة لدنسان (الفرد) هو املرغوب فيه‪ ،‬واملنفعة ‪-‬كما عرفها جيريمي بنثام‪ -‬هي‪" :‬كل لذة أو كــل ســبب إليجــاد لــذة‪ ،‬إنهــا القــدرة الكافيــة فــي‬
‫غ ــرض مع ــين عل ــى إنت ــاج رب ــح أو نف ــع أو امتي ــاز أو ل ــذة أو خي ــر أو س ــعادة"‪ ،‬وهك ــذا تح ــدد النفعي ــة (‪ )Utilitarianism‬غاي ــة اإلنس ــان بس ــعيه إل ــى الحص ــول عل ــى‬
‫السعادة‪ ،‬وهذه السعادة تتحقق بكل ما ينفعه‪ ،‬ومــا ينفــع اإلنســان هــو اللــذة‪ ،‬وهــذا الـرأي هــو الــذي اشــكل التصــور العملــي الغر ــي للحيــاة‪ ،‬إال أنهــم اعبــرون عنــه‬
‫ح ــديثا بمفه ــوم الرفاهي ــة (‪ ،)Welfare‬فيقول ــون‪ :‬يق ــوم الفع ــل للقب ــول األخال ــي أو ال ــرفض ولع ــده حس ــنا أو قبيح ــا بحس ــب م ــا يحق ــق م ــن رف ــاه لدنس ــان بوص ــفه‬
‫الفردي أو الجمعي‪ ،‬وما القيم واملعايير املوضوعة إال لتحقيق ذلك‪ ،‬فالنتيجة واحدة وهي النفعية التي يقررها العقل البشري‪ ،‬وال دخل للدين أو اإلله فيها‪،‬‬
‫‪ 154‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬برتراند راسل‪ ،‬الكتاب الثالث‪ :‬الفلسفة الحديثة‪ ،‬ترجمة د‪ .‬محمد فتملي الشنيطي‪ ،‬ص ‪184-183‬‬
‫‪ 155‬عب ــد هللا الججي ــري‪ ،‬ميليش ــيا اإللح ــاد‪ ،‬م ــدخل لفه ــم اإللح ــاد الجدي ــد‪ ،‬مرك ــز تك ــوين‪ ،‬ص ‪ ، 149‬ونختل ــف مع ــه ف ــي اعتب ــار األخ ــالق قيم ــا مطلق ــة‪ ،‬إذ إن البح ــث‬
‫ليس في أنها مطلقة أو نسبية‪ ،‬إذ إن الفعل ال يحمل قيمة ذاتيــة فيــه‪ ،‬بــل اعتبــر خيـرا باعتبــارات خارجيــة عنــه‪ ،‬فقــد يكــون القتــل خيـرا أو شــرا بحســب االعتبــارات‬
‫الخارجية املسلطة عليه‪ ،‬وهنا مربط الفرس‪.‬‬
‫‪ 156‬عائلة دوبونت في أميريكا من العائالت صاحبة النفوذ الضخم‪ ،‬برزت في صناعة البارود واملتفجـرات‪ ،‬وخــالل الحــرب العامليــة األولــى أنتجــت ‪ %40‬مــن القنابــل‬
‫واملتفج ـرات املس ــتعملة فــي الح ـرب‪ ،‬وتســيطر عل ــى تج ــارة القنــب الهن ــدي (املاريجوانــا)‪ ،‬وال ــذي تخلصــت م ــن الحظ ــر املفــروض علي ــه مقابــل تص ــنيعها للبلوتوني ــوم‬
‫املستعمل في القنابل الذرية‪ ،‬والدعم املقدم منها في الحرب العاملية الثانية للحكومة األمريكية!‬
‫‪153‬‬
‫اختيار النظام األخال ـي الـذي سيسـود املجتمـع؟ ال بـد أن تصـبح مفاضـلة أي نظـام أخال ـي علـى آخـر مسـألة عشـوائية ال‬
‫يمكن الدفا عنها‪.‬‬
‫رابع ــا‪ :‬اإلنس ــان كــائن اجتم ــاعي‪ ،‬وال ب ــد أن تض ــبط عالقات ــه ب ــالغير عل ــى أس ــس منه ــا تحقي ــق املص ــلحة العام ــة‪ ،‬وفع ــل‬
‫األصـ ــوب الـ ــذي يرتضـ ــيه املجتمـ ــع وإن خـ ــالف عـ ــن رضـ ــا الفـ ــرد‪ ،‬األمـ ــر الـ ــذي اسـ ــتوجب مقـ ــاييس تحـ ـدد الخيـ ــر والشـ ــر‪،‬‬
‫والص ــواب والخط ــأ‪ ،‬والحس ــن والق ــبح‪ ،‬والث ــواب والعق ــاب‪ ،‬فليس ــت مق ــاييس الخي ــر والش ــر إال ض ــرورة لتس ــتقيم حي ــاة‬
‫البشــر‪ ،‬ويصــل اجتمــاعهم‪ ،‬وال يمكــن للفــرد أن اســتغني عــن هــذه املقــاييس واملفــاهيم فــي حــال االجتمــا ‪ ،‬بِجــة قدرتــه‬
‫علــى فعــل مــا اشــاء‪ ،‬وملــا ـكـان األمــر كــذلك‪ ،‬كررنـا بالســؤال عــن مصــدر صــحيح يتخــذ مقياســا لهــذه القضــايا الضــرورية‪،‬‬
‫ووجدنا عدم قدرة العقل أن يكون املرجع الصحيح لهذه القضايا‪ ،‬فلزم أن تؤخذ من الخالق‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬يقول الالهوتي وليام لين كريغ‪" :‬إذا كان هللا غير موجود‪ ،‬فالقيم األخالقية املوضوعية‪ ،‬والخير والشـر غيـر‬
‫موج ــودة‪ ،‬لكـ ــن معضـ ــلة الشـ ــر تنطلـ ــق مـ ــن إثبـ ــات وجـ ــود الشـ ــر‪ ،‬إذن فاملعـ ــايير األخالقيـ ــة املوضـ ــوعية‪ ،‬والخيـ ــر والشـ ــر‬
‫موجودة‪ ،‬إذن‪ :‬فالل موجود" ويضـيف كريـغ‪" :‬رغـم أن املعانـاة تشـكك علـى املسـتوى السـطملي فـي وجـود هللا‪ ،‬إال إنهـا علـى‬
‫مستوى أعمق تثبت وجود هللا‪ ،‬إذ إنه فـي غيـاب هللا ال تمثـل املعانـاة شـيئا قبيحـا‪ ،‬إذا آمـن امللحـد أن املعانـاة شـ يء سـ يء‪،‬‬
‫أو أنها أمر يجب أال يكون‪ ،‬فهو بذلك يقدم أحكاما أخالقية ال يمكن أن توجد إال إذا ُوجد هللا"‬
‫وفي مناظرة شهيرة بين الفيلسوف برتراند راسل‪ ،‬والفيلسوف‪ :‬فردريك كوبلستون‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬
‫راسل‪ :‬أنا أشعر أن بعـض األشـياء جيـدة‪ ،‬واألخـرى قبيحـة‪ ،‬أنـا أحـب األشـياء الجيـدة‪ ،‬التـي أعتقـد أنهـا جيـدة‪ ،‬وأكـره‬
‫األشياء التي أعتقد أنها قبيحة‪ ،‬أنا ال أقول‪ :‬إن هذه األشياء جيدة ألنها تشارك في الصالح اإللهي‪.‬‬
‫كوبلستون‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن ما هو مبررك للتمييز بين الجودة والقبح؟ أو كيف ترى التمييز بينهما؟‬
‫راسل‪ :‬لـيس عنـدي أي تبريـر أكثـر ممـا لـدي ملـا أميـز بـين األزرق واألصـفر‪ ،‬مـا هـو تبريـري للتمييـز بـين األزرق واألصـفر؟‬
‫بإمكاني أن أرى أرى أنهما متخالفين‪.‬‬
‫كوبلستون‪ :‬جيد‪ ،‬هذا تبرير ممتاز‪ ،‬وأنا أوافقك‪ ،‬أنت تميـز بـين األزرق واألصـفر برُيتـك لهمـا‪ ،‬فبـأي ملكـة أنـت إذن‬
‫تميز بين الجودة والقبح؟‬
‫راسل‪ :‬بمشاعري"‬
‫اســتفز الحــديث الســابق أحــد الفالســفة ليقــول‪ :‬لقــد ـكـان كوبلســتون مؤدبــا للغايــة‪ ،‬ولــو كنــت مكانــه لســألت راســل‪:‬‬
‫"تــدعو بعــض الحضــارات إلــى أن نحــب جيراننــا‪ ،‬وتــدعو أخــرى إلــى أن نــأكلهم‪ ،‬واالختيــار قــائم فــي كــل منهمــا علــى املشــاعر‪،‬‬
‫هل عندك تفضيل ألي منهما؟"‬
‫"وقـد أدرك الفيلســوف الوجــودي امللحــد الشــرس (جـون بــول ســارتر) مبلــغ اإلحـراج الفكـري فــي مســألة أصــل التمييــز‬
‫األخال ي بـين الخيـر والشـر‪ ،‬ولـذلك قـال‪" :‬يجـد الوجـودي حرجـا بالغـا فـي أال يكـون هللا موجـودا‪ ،‬ألنـه بعـدم وجـوده تنعـدم‬

‫‪154‬‬
‫كــل إمكانيــة للعثــور علــى قــيم فــي عــالم واضـ ‪ ،‬ال يمكــن أن يكــون هنــاك خيــر بــدهي ألنــه ال يوجــد وعــي ال نهــاوي وكامــل مــن‬
‫املمكن التفكير فيه‪ ،‬لم ُيكتب في أي مكان أن "الخير" موجود‪ ،‬وال أن على املرء أن يكون صادقا أو أال يكذب"‪،‬‬
‫ويوافقه ديكنز بقوله "إنه من العسير جدا الدفا عن األخالق املطلقة على أسس غير دينية"‪.157‬‬
‫سادسا‪" :‬وأما التيار اإللحادي الذي يدعي أن األخالق نسبية‪ ،‬ويقولون بأن الذوق األخال ي نسبي‪ ،‬فردي‪ ،‬شخي ي‪،‬‬
‫ولـيس ألحـد أن يلــوم غيـره علــى فعـل مــا أو عـادة مــا إذا كـان يرضـاهما امللــوم‪ ،‬فـإن مشــكلة الشـر ال يمكــن أن تتأسـس علــى‬
‫القول بنسبية األخالق‪ ،‬إذ االعتراض على وجود الرب الرحيم‪ ،‬القدير العليم بوجود الشر ال يمكن أن يكون حتى َيثبت‬
‫وجود الشر الذي ال يختلف في أنه شر‪ ،‬ولكن عندما يكون الشـر محـل خـالف ذو ـي‪ ،‬فإنـه بـذلك اغـدو مجـرد رأي ولـيس‬
‫حقيق ــة ُاعت ــرض به ــا عل ــى وج ــود هللا"‪ ،158‬كم ــا أن األخ ــالق النس ــبية ال يمك ــن أن تص ــل أرض ــية للتع ــااش ب ــين الن ــاس ف ــي‬
‫املجتمعــات‪ ،‬فــال بــد مــن جهــة تحــدد الخيــر والشــر‪ ،‬والصــواب والخطــأ‪ ،‬وأن تفــرض رأَهــا علــى املجتمــع‪ ،‬وملــا فشــل النظــام‬
‫الغر ـي فـي إيجـاد جهـة تمثـل رأي النـاس بشـكل صـحيح‪ ،‬فـإن وجـود األخـالق النسـبية سيف ـ ي إلـى فسـاد اجتمـا النـاس‪،‬‬
‫وتنم ــر ق ــوَهم عل ــى ض ــعيفهم بِج ــة الحري ــة ف ــي التص ــرف‪ ،‬أو أن يخض ــعوا لدكتاتوري ــة الدول ــة التــي تف ــرض عل ــيهم رُاه ــا‪،‬‬
‫وبالتالي فهذا يثبت فشل نظرية األخالق النسبية‪.‬‬
‫سادســا‪ :‬وقــد الحـ الثيولــو ي املس ــيملي "رون رودز" أنــه "مــن املســتحيل تفريــق الش ــر والخيــر مــن دون وجــود نقط ــة‬
‫إحالة تكون خيرة مطلقة" أي اإلله‪.‬‬
‫وأضــيف ملالحظتــه‪ :‬أيضــا مــن دون مقــاييس تؤصــل أساســا ملــا يمكــن وصــفه بــالخير أو بالشــر وأن يكــون مصــدر هــذه‬
‫املقاييس قطعيا لتف ي إلى أخالق مطلقة بغض النظر عن اإلنسان‪ ،‬وزمانه‪ ،‬ومكانه‪ ،‬أو مجتمعـه‪ :‬مبتناهـا علـى صـحة‬
‫األحكـام‪ ،‬والعصــمة مــن التنــاقض واالختالفــات والــنقص والخلــل والعب يــة‪ ،‬وللموضــوعية املتمثلــة فــي البـراءة مــن التحيــز‬
‫والهـوى وامليــل مــع األهـواء واملصــال ‪ ،‬فــال تحــا ي أحـدا علــى أحــد‪ ،‬والقـدرة علــى النفــاذ إلــى أعمـاق املشــكالت املختلفــة ومــا‬
‫يؤثر فيها وما يتأثر فيها واإلحاطـة بهـا‪ ،‬بمعرفـة الـنفس اإلنسـانية وحقيقـة دوافعهـا وتطلعا هـا وأشـواقها‪ ،‬ومعرفـة الحيـاة‬
‫البش ــرية وتن ــو احتياجا ه ــا وتقلبا ه ــا‪ ،‬وتحقي ــق الت ــوازن ف ــي إش ــبا حاج ــات اإلنس ــان العض ــوية وغرائ ــزه‪ ،‬والت ــوازن ف ــي‬
‫تحص ــيل الحق ــوق الفردي ــة واملص ــلحة العام ــة والح ــق الع ــام‪ ،‬وتحقي ــق الع ــدل واإلنص ــاف والتيس ــير ورف ــع الح ــرج‪ ،‬فه ــذه‬
‫أسـس أساسـية ال بـد أن توجـد فــي املقيـاس القطعـي إلضـفاء صـفة الخيــر أو الشـر أو تحقيـق الصـواب والحسـن أو القــبح‬
‫في السلوك‪،159‬‬

‫‪ 157‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪64 – 62‬‬


‫‪ 158‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪.64‬‬
‫‪ 159‬قال فولتير ‪ -‬كما أوردها ول ديورانت في (قصة الفلســفة)‪..." :‬ال بــد للبلــد ليكــون صــالحا أن يكــون لــه ديــن‪ .‬أريــد مــن زوجتــي وخيــاطي ومحــاميي أن يؤمنــوا بــالل‪،‬‬
‫وب ْْذلك يق ْْل غش ْهم وس ْْرقاتهم ل ْْي‪ .‬وإن كــان ال وج ــود لل يج ــب علين ــا أن نخت ــر إله ــا‪ "...‬ف ـ ُ‬
‫ـالخلق نفس ــه ف ــي الفك ــر الغر ــي الزم بمق ــدار م ــا يحق ــق م ــن مص ــلحة أو‬
‫منفعة"‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫وعبر روسو عن هذا الواقع ببراعة قـائال‪ "Il faudrait des Dieux pour donner des lois aux hommes" :‬أي "أننـا‬
‫نحتاج إلى آلهة لكي نسن القوانين للناس"!‬
‫وبالتالي لتتأسس على أساسها السلطة التي ستكون مرجعية قانونية للثواب والعقـاب‪ ،‬وهـذه ال يمكـن أن توجـد إال‬
‫عند الخالق سبحانه‪ ،‬وال يمكن أن يتوصل إليها بالعقل‪.160‬‬
‫ســابعا‪ :‬بح ــث املتكلم ــون املس ــلمون ق ــديما تحدي ــد موق ــف اإلنس ــان م ــن الفع ــل الض ــابط للس ــلوك عل ــى أس ــاس زاوي ــة‬
‫الحسن والقبح‪ ،‬ومبتناها على أساس الكمال والجمال‪ ،‬وزاوية الخير والشر‪ ،‬ومبتناها على أسـاس النظـرة العقائديـة أو‬
‫األخالقي ــة‪ ،‬أي تسْ ْْليم قْ ْْيم اإلنسْ ْْان علْ ْْى الفعْ ْْل والش ْ ْ يء لوصْ ْْفه ب ْ ْالخيروالشْ ْْر‪ ،‬وزاوي ــة امل ــدح وال ــذم أو الث ــواب‬
‫والعقاب‪ ،‬ومبتناها تسليط نتيجة القيام بالفعل والغاية املرجوة من القيام به عليه‪.‬‬
‫فالحس ــن والق ــبح باعتب ــار مالءم ــة طب ــع اإلنس ــان وميول ــه الفطري ــة وأغراض ــه أو منافرت ــه له ــا‪ ،‬كقولن ــا إنق ــاذ الغري ــق‬
‫حس ــن‪ ،‬وا ه ــام الب ــريء قب ــيح‪ ،‬وم ــا واف ــق الغ ــرض وجل ــب منفع ــة أو دف ــع ض ـرا كــان حس ــنا‪ ،‬وأس ــماه علم ــاء "أص ــول الفق ــه"‬
‫باملناسب‪.‬‬
‫لك ــن العب ــرة ليس ــت بمج ــرد إص ــدار حك ــم أي حك ــم‪ ،‬وإنم ــا لض ــمان ص ــوابية الحك ــم ومقدرت ــه عل ــى معالج ــة مش ــاكل‬
‫بشــرية متعلقــة بــذلك الســلوك عالجــا صــحيحا‪ ،‬دائميــا يصــل لكــل إنســان فــي كــل زمــان ومكــان‪ ،‬ولتحقيــق قــيم مجتمعيــة‬
‫وفردية‪ ،‬فال يكفي إلصدارالحكم على الفعل أن يشعراإلنسان بفطرته بالنفور منه‪ ،‬أو امليل له‪،‬‬
‫األمر الذي ال يحيط العقل به لكثرة املالبسات الخارجية عنه وتعقيدا ها‪ ،‬فليس األمر نظير الحكم على الش يء بأنه‬
‫حلو وبالتالي حسن‪ ،‬أو مر وبالتالي فهو قبـيح‪ ،‬أو صـفة الصـدق بأنهـا حسـنة‪ ،‬والغـش بأنهـا تصـرف قبـيح‪ ،‬إذ إن الصـدق‬
‫فــي املعركــة قب ــيح‪ ،‬فهــو اعتبــار خ ــار ي ضــابط للتصــرف‪ ،‬فالفع ــل فــي ذاتــه خ ــال مــن مر حــات الحس ــن والقــبح‪ ،‬ف ــاألهواء‬
‫َ ُ‬
‫تجعـل بعــض العقــول تميـل للزنــى‪ ،‬ولشــرب الخمــر‪ ،‬فـال يكفــي ذلــك لجعـل الحكــم الصــادر عــن العقـل صــوابا‪ ،‬ف َقـ ْد ف ِقـ َد‬
‫امليزان واملقياس السليم‪ ،‬والفطرة وامليول قد يتـأثران بعوامـل خارجيـة وثقافيـة تجعـل فطـرة الغر ـي غيـر فطـرة املسـلم‪،‬‬
‫والعقـول تتـراوح قـوة وضـعفا‪ ،‬دقــة فـي الفهـم وضـبابية‪ ،‬فـال يتــأتى للعقـل القـدرة علـى الحكـم علــى كـل األفعـال فـي مختلــف‬
‫الظـروف والحــاالت لغيــاب عوامــل غيبيــة‪ ،‬أو بســبب نظــرة جزئيـة غيــر شــاملة‪ ،‬أو مر حــات يتبــين فســادها فيمــا بعــد‪ ،‬أو‬
‫مما قد ال يتفطن له العقل من فهم مجزوء للواقع‪ ،‬تقلب الحكم إلى نقيض الصواب في عواقبه‪ ،‬فما تراءى له مصلحة‬
‫أو جالبــا ملنفعــة اتضـ لــه أن الشـ َّـر يكمــن فــي أحــد زوايــاه املعتمــة‪ ،‬إذ ال علــم لــه بشــكل قــاطع بمــآالت األفعــال ونتائجهــا‪،‬‬
‫لهذا السبب درجت تشريعات البشر على االنتقال والتقلب من أقي ى النقيض إلى نقيضه!‬
‫وهذا ال يجرد العقل البشري (املتأثر بالثقافة الدينية‪ ،‬بشرط أن يكون غيـر مـادي) مـن القـدرة علـى إصـدار األحكـام‬
‫جملــة وتفصــيال‪ ،‬مثــل حســن العــدل والصــدق‪ ،‬وقــبح الظلــم والعــدوان‪ ،‬إال أن العقــل ال اســتطيع إدراك حســن وال ق ــبح‬

‫‪ 160‬راج ــع كتابن ــا‪( :‬الص ــندوق األس ــود للفك ــر الغر ــي) في ــه تفص ــيالت تتعل ــق بإناط ــة التش ـريعات للدول ــة ف ــي النظ ــام الغر ــي‪ ،‬وإثب ــات أن ه ــذا أف ـ ى إل ــى دكتاتوري ــة‬
‫األحزاب السياسية‪ ،‬وتسلطها على اإلرادة العامة‪ ،‬وسلط الضوء أيضا على اإلشكاليات القانونية التي تتعلق بمرجعية الدستور‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫جملة من األفعال ال ضرورة وال بالتفكر والتأمل‪ ،‬وال أن يجزم بعاقبة أي فعل‪ ،‬أو الشروط التي تكتنفه لتجعلـه حسـنا‬
‫مطلقا صوابا في ذلك املوقف‪ ،‬أو بنتائجه على الفرد واملجتمع واملصـلحة العامـة‪ ،‬فـال بـد لـه أن يأخـذ ذلـك مـن الشـر ال‬
‫من العقل‪ ،‬فليس في الفعل مقومات ذاتية تجعل الحكم عليه واضحا ال لبس فيه‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإن كان العدل حسنا بحكم العقل‪ ،‬إال أن تحقيق ما يقيمه أمر وراء قدرة العقل على الحكم فيه‪ ،‬فقد يظن‬
‫البعض أن العدل اعني مساواة الرجل واملرأة في امليراث‪ ،‬أو في املسئوليات العامة والخاصة‪ ،‬فيتبين قصور تلـك النظـرة‬
‫وأنه ــا تك ــرس الظل ــم ال الع ــدل ف ــي أحي ــان كثي ــرة‪ ،‬ألن نظ ــام اجتم ــا ال ــذكر واألنثــى أعق ــد م ــن أن يتعل ــق بقض ــية مي ـراث أو‬
‫عمل‪ ،‬بل يتعلق به نظام مسئوليات رعوية‪ ،‬وواجبات‪ ،‬وحقوق‪ ،‬وقدرات واستعدادات متفاوتة‪ ،‬وأحوال مختلفة‪ ،‬ممـا‬
‫يجعل تحقيق العدل في كل شأن منها أمرا ال استطيع العقل الحكم عليه‪.‬‬
‫ومثل ذلك يقال عـن زاويـة الخيـر والشـر‪ ،‬إذ أطلـق اإلنسـان علـى مـا يضـره أو يكرهـه وصـف الشـر‪ ،‬بغـض النظـر عـن‬
‫الحسن والقـبح‪( ،‬أي إن الزاويـة التـي ينظـر مـن خاللهـا هنـا هـي زاويـة أثـر قيمـه فـي وصـف الفعـل‪ ،‬ال زاويـة كمـال الفعـل أو‬
‫نق ــيض كمال ــه)‪ ،‬و غ ــض النظ ــر ع ــن الص ــواب والخط ــأ‪ ،‬وبن ــاء عل ــى ه ــذه النظ ــرة ُي ْق ـ ِد ُم عل ــى الفع ــل ُوي ِْ ِج ـ ُم عن ــه‪ ،‬فج ــاء‬
‫التصـحيح لهـذه النظـرة بـأن الفعـل ال يقـال إنـه خيـر أو شــر حسـب الكراهيـة والحـب أو النفـع والضـر‪ ،‬وإنمـا قيـاس كونــه‬
‫خيـرا أو شـرا هــو مرضــاة هللا تعــالى‪ ،‬أي إن الخيــر والشــر ال يقومــان بمقــوم الحــب والكراهيــة‪ ،‬أو النفــع والضــر‪( ،‬فــالخمر‬
‫وامليسر فيهما ضر كبير‪ ،‬وإثم عظيم‪ ،‬ومنافع للناس‪ ،‬وإثمهما أكبر من نفعهما) وإنما بمقوم مرضـاة هللا‪ ،‬فـالخير والشـر‬
‫أثـران لنظ ــرة قيميـة‪ ،‬ول ــيس ملنــافع ومض ــار حسـية مادي ـة أو معنوي ـة‪ ،‬وهــذه النظ ــرة القيميــة خارج ــة عــن الفع ــل نفس ــه‪،‬‬
‫وتتفاوت القيم عند البشر‪ ،‬فالقتل قد يوصف بأنه خير أو شر بما يكتنفه من عوامل خارجية‪ ،‬وبتسليط القيم التي ال‬
‫تستطيع الحكم بالخير أو الشر إال أن تكون صحيحة بمرجعيتها اإللهية‪ ،‬لتحكم حكما صحيحا على الفعل بأنه خير أو‬
‫شر‪ ،‬وبالتالي فال بد لها من مصدر معصوم عن الخطأ واألهواء والتحيز‪...‬الخ‪،‬‬
‫إذن‪ :‬لــيس لألفع ــال قيمــة ذاتي ــة توصــف عل ــى أساســها بأنه ــا خيــر أو ش ــر‪ ،‬وإنمــا وص ــف الخيــر والش ــر يــأتي باعتب ــارات‬
‫ومالبسات خارجية عن الفعل‪( ،‬أي من النظام‪ ،‬والذي بدوره ال بد أن يضمن صحة معالجاته لتحقق صـواب الوصـف‬
‫بـالخير أو الشـر بالصـورة التـي فصـلنا فيهـا عـن طبيعـة املقـاييس فـي النقطـة الرابعـة أعـاله‪ ،‬والتـي ال تتمثـل إال بنظـام إلهـي‬
‫املصــدر) بغــض النظــر عــن النفــع والضــر‪ ،‬الحــب والكــره‪ ،‬فالقتــل قــد يكــون خيـرا وقــد يكــون شـرا‪ ،‬فقتــل العــدو املعتــدي‬
‫خي ــر وقت ــل ال ــنفس بغي ــر ح ــق ش ــر‪ ،‬واملرجعي ــة ف ــي ه ــذا كل ــه إل ــى ال ــدين‪ ،‬ال للعق ــل‪ ،‬ألن العق ــل عرض ــة للتف ــاوت واالخ ــتالف‬
‫والتناقض‪ ،‬إذ قياسات العقل للحسن والقبح تتأثر بالبيئة التي اعيش فيها‪ ،‬بل تتفاوت وتختلف بالعصور على تعاق ها‪،‬‬
‫فإذا ترك قياس القبح والحسن للعقل كان الش يء قبيحا عند فئة من الناس‪ ،‬وحسنا عند آخرين‪ ،‬بل قـد يكـون الشـ يء‬
‫الواحد حسنا فـي عصـر‪ ،‬قبيحـا فـي عصـر آخـر‪ ،‬مـع أن وصـف الفعـل بـالقبح أو الحسـن يجـب أن يكـون سـاريا علـى جميـع‬
‫بني اإلنسان في جميع العصور‪ ،‬ولذلك كان ال بد من أن يكون بيان كون الفعل حسنا أو قبيحا آتيا من قوة وراء العقل‪،‬‬
‫وهو هللا سبحانه‪ ،‬وعليه فإن قياسـات اإلنسـان للخيـر والشـر‪ ،‬وللحسـن والقـبح قياسـات متفاوتـة ومتناقضـة لصـدورها‬

‫‪157‬‬
‫عــن عقــل قاصــر‪ ،‬وشــعور متفــاوت غيــر ثابــت‪ ،‬فــال يصـ إذن أن يتــرك قيــاس الخيــر والشــر‪ ،‬والحســن والقــبح لدنســان‪،‬‬
‫ألنه يجعلها مختلفة من عصر إلى آخر‪ ،‬ومن فئة إلى أخرى‪ .161،‬واالعتبارات الخارجية التي تكتنف الفعل تجعل الزوايا‬
‫التـ ــي يجـ ــب مراعا هـ ــا عنـ ــد الحكـ ــم بالحسـ ــن أو القـ ــبح‪ ،‬بـ ــالخير أو الشـ ــر كثيـ ــرة قـ ــد ال يحـ ــيط العقـ ــل بأكثرهـ ــا‪ ،‬أو بأثرهـ ــا‬
‫املسـتقبلي علـى الفاعــل‪ ،‬أو علـى املجتمـع‪ ،‬فتظهــر لـه منفعـة آنيــة تنقلـب ضـررا بعــد حـين أو العكـس‪ ،‬أو تجلــب نفعـا علــى‬
‫شخص وضرا على املجتمع‪ ،‬أو العكـس‪ ،‬فيصـدر حكمـا ثـم يتبـين لـه نقـص ذلـك الحكـم العتبـارات أخـرى لـم يحسـب لهـا‬
‫حسابا‪ ،‬فيعيد النظر فيها وهكذا‪ ،‬وقد استفضنا في نقاش مفهوم الحسن والقبح‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬والثواب والعقاب في‬
‫فص ــل‪( :‬الزواي ــا واالعتب ــارات التــي يج ــب بح ه ــا ح ــين اإلجاب ــة عل ــى الس ــؤال‪ :‬مل ــن الح ــق بالتش ــريع؟) وس ــيأتي بحث ــه أيض ــا ف ــي‬
‫فصل‪( :‬العقالنية) في بحث الليبرالية الحقا‪.‬‬
‫ثامنـا‪ :‬لــذلك فـالقيم هــي التــي يوصـف مــن خاللهـا الفعــل بالخيرَّيـة أو ال َّشـ ِرَّية‪ ،‬وهــذه القـيم هــي عــين قولنـا‪ :‬الشــر هــو‬
‫من يحكم بالخير أو الشر‪ ،‬أما القيم البشرية‪ ،‬فإن جعلها أساسـا للحكـم بـالخير أو الشـر هْْو دور‪ ،‬وهْْو باطْْل‪ ،‬ألنهـا هـي‬
‫نفس ــها بحاج ــة لتوص ــف ب ــالخير أو الش ــر‪ ،‬اعنــي ل ــو فرض ــنا أن الق ــيم الرأس ــمالية ه ــي التــي ستس ــلط عل ــى الفع ــل لوص ــفه‬
‫بالخير أو الشر‪ ،‬وهذه القيم نتاج العقـل‪ ،‬وقـد اتفقنـا علـى أن العقـل ال اسـتطيع الحكـم علـى الفعـل بـالخير أو الشـر إال‬
‫بتسليط قيم خارجية‪ ،‬فهذه القيم الخارجية إن أتت من العقل نفسه فهي بحاجة ملا يصفها بالخير أو الشر أو يجعلها‬
‫صالحة لوصف الفعل بالخير أو الشر‪ ،‬وهذا دور والدور باطل ومستحيل! فوجب أن يؤخذ الحكم بالخير أو الشر من‬
‫الشر ال من العقل!‬
‫حوار خطيرفي فيلم املعادل ‪ equalizer 2‬غاية في األهمية!‬
‫يكتش ــف املمث ــل املب ــد "دين ــزل واش ــنطن" أن رفيق ــه الق ــديم ف ــي املهن ــة "ديفي ــد" ه ــو م ــن قت ــل ص ــديقتهما املحقق ــة‬
‫"ســوزان" ف ــي بلجيكــا‪ ،‬كي ــف تحــول "ديفي ــد" مــن رج ــل مهم ــات خاصــة يفت ــرض فيهــا أنه ــا تقتــل األع ــداء واملجــرمين إل ــى قات ــل‬
‫أجير؟‬
‫لق ــد ب ــدأ األم ــر ح ــين أنه ــوا خ ــدمات "ديفي ــد"‪ ،‬فب ــدأ اعم ــل لحس ــابه الخ ــاص! قب ــل ذل ــك كان ــت تأتي ــه أس ــماء م ــن علي ــه‬
‫َ‬
‫تصفيتهم من "األعداء"‪ ،‬لكن من يحدد أن هذا عدو أو صديق؟ خ ِير أم ِشرير؟ هل استحق القتل أم الحياة؟‬
‫كان مستخدمهم األول (الحكومة) هو من يحدد لهم ذلك!‬
‫واآلن ح ــين أص ــبح "ديفي ــد" اعم ــل لحس ــابه‪ ،‬أي أص ــبح مرتزق ــا‪ ،‬كــان علي ــه أن اعي ــد تعري ــف م ــن ه ــو الع ــدو‪ ،‬م ــن ه ــو‬
‫الس يء؟ من هو الذي استحق املوت؟‬
‫كـان عليـه أن اعيـد "جـرد" مبادئــه وقيمـه‪ ،‬واملرجعيـة التـي علــى أساسـها سـيحدد الخيـر مــن الشـر! إن كـان َهمـه أصــال‬
‫مرجعية معينة‪ ،‬أو إن كان يؤمن بش يء اسمه الخير‪ ،‬وآخر اسمه الشر!‬

‫‪ 161‬نقض الفكر الغر ي الرأسمالي مبدأ وحضارة وثقافة‪ ،‬من إصدارات حزب التحرير صفر ‪ 1443‬ه‪ ،‬أيلول ‪ 2021‬م‪ .‬ص ‪.33- 26‬‬
‫‪158‬‬
‫اكتشــف فج ــأة أن هــذه تعريف ــات زائفــة‪ ،‬ف ــال يوجــد ش ـ يء اســمه ع ــدو أو "سـ يء" أو "ش ــرير"‪ ،‬بحيــث إن ص ــاحب تل ــك‬
‫األوصاف استحق ألجل هذه األوصاف القتل! بل يوجد ش يء اسمه "س يء الح "‪ ،‬وقع عليه االختيار ليموت‪،‬‬
‫ك ْْان االختي ْْار يق ْْع ف ْْي الس ْْابق م ْْن قب ْْل "الحكوم ْْة"‪ ،‬واآلن يق ْْوم م ْْن يس ْْتعمله ب ْْأجرة بتحدي ْْد م ْْن يق ْْع علي ْْه‬
‫االختيار!‬
‫ثــم أض ــاف "ديفي ــد"‪ :‬ال تعطنــي م ــواع ع ــن تأني ــب الض ــمير‪ ،‬وال ع ــن اإلث ــم‪ ،‬ألن ــه ال يوج ــد ش ـ يء اس ــمه إث ــم وال تأني ــب‬
‫ضمير! بل ال يوجد "ضمير‪".‬‬
‫ُ نَ‬
‫هـذا الحــوار اسـتفز األعمــاق للتفكيــر بالقضـية التــي يجليهــا‪ ،‬خصوصـا إذا مــا قـر بتــرويج كثيــر مـن األفــالم األمريكيــة‬
‫لفك ــرة الرج ــل الخ ــارق أو البط ــل الهم ــام‪ ،‬مث ــل "الس ــوبرمان"‪ ،‬و"املنتقم ــون" وغي ــرهم‪ ،‬ذل ــك البط ــل ال ــذي يح ــل مش ــاكل‬
‫املجتمع بنفسه‪ ،‬فهو القاب ي والجالد في الوقت نفسه‪ ،‬هو الخصم والحكم واملنفذ للحكم في نفس الوقت‪ ،‬واملرجعية‬
‫ه ـي م ــا يـ ـراه ه ــو م ــن خي ــر وش ــر‪ ،‬ويح ــدد الش ــرير ويعاقب ــه ف ــورا دون محاكم ــة وال دف ــا ‪ ،‬وه ــذه الفك ــرة ف ــي أغل ــب اف ــالم‬
‫"هوليوود" تجعل العدالة الناجزة هي الخالص من الشر‪ ،‬وحتى في األفالم التي يحكـم بهـا القضـاء أحكامـا ال توافـق هـوى‬
‫الضحية يقوم بتصفية املجرم على أدراج املحكمة!‬
‫السؤال َّ‬
‫الهام التالي‪:‬‬ ‫َ‬ ‫عودا على بدء‪ ،‬في الحوار أعاله‪ ،‬نطرح‬
‫كيـف سـنعرف الخيـر مـن الشـر؟ مـن سـيحدد القـيم واملرجعيـات الفكريـة لتحديـدهما؟ مـن سـيحدد أن هـذا إثــم‪ ،‬أو‬
‫انتبه للسؤال األخطر التالي‪ :‬هل هناك "إثم"؟ هل هناك "خير وشر"؟‬
‫االثـم مخالفـة لقواعـد معينـة‪ ،‬سـواء أكانـت أعرافــا مجتمعيـة‪ ،‬أو تشـريعات دينيـة ‪،‬أو تشـريعات قانونيـة‪ ،‬أو قواعــد‬
‫معينة تواضع عليها الناس!‬
‫ف ــإذا م ــا كــان ال ــدافع لحرك ــة الن ــاس ف ــي الحي ــاة ه ــي "الحري ــة"‪ ،‬أي االنعت ــاق م ــن املرجعي ــات س ــواء تل ــك التــي مص ــدرها‬
‫األعراف املجتمعية‪ ،‬أو التشريعات الدينية‪ ،‬أو القوانين التي وضعها "الغير"‪ ،‬ممن سيحدد لالنسان أن هذا خير‪ ،‬وهذا‬
‫ُ َ‬
‫ستعاقب على فعله!‬ ‫شر‪ ،‬هذا إثم ال يجوز اقترافه‪ ،‬بل‬
‫فيقف ــز ال ــداعي للحري ــة ليق ــول‪ :‬عقل ــي ه ــو م ــن س ــيحدد ل ــي الخي ــر م ــن الش ــر‪ ،‬والص ــواب م ــن الخط ــأ‪ ،‬أن ــا إنس ــان عاق ــل‬
‫مفكر‪ ،‬حر‪ ،‬فرد أبحث عن تحقيق ذاتي‪ ،‬دون " أعراف مجتمعية"!‬
‫لكن ــك أَه ــا العاق ــل املفك ــر ال تع ــيش ف ــي غاب ــة‪ ،‬وال ف ــي جزي ــرة معزول ــة‪ ،‬ب ــل تع ــيش وس ــط أن ــاس‪ ،‬تخ ــتلط به ــم‪ ،‬فتحت ــاج‬
‫عالقات ــك الدائمي ــة معه ــم لتنظ ــيم‪ ،‬وتقن ــين وتش ــريعات واتف ــاق عل ــى م ــا يج ــوز وم ــا ال يج ــوز‪ ،‬فأن ــت ت ــرى إباح ــة اإلباحي ــة‪،‬‬
‫والعري التام في الشوار (كما في أوروبا)‪ ،‬وغيرك يريد منعها تماما‪ ،‬تضاربت النظرة وال بد من حل!‬
‫بع ــض األم ــور شخص ــية ف ــي املن ــزل‪ ،‬ولك ــن معظ ــم األم ــور م ــن الحي ــاة العام ــة التــي س ــتختلط ب ــالغير ويج ــب أن يتح ــدد‬
‫املوقف! هل سنسمح بالتصرف الفالني وماذا سنفعل مع من يخالفه من عقوبات!‬

‫‪159‬‬
‫وهـذا الحـل بالضـرورة سـيقيد حريـة كـل مـن اعـيش فـي ذلـك املجتمـع بمـا تواضـع عليـه املجتمـع‪ ،‬وسـيعاقبونه لـو قــرر‬
‫ممارسة "حريته" بما يف ي للخروج على ما اتفقوا عليه!‬
‫وال بد أن يكون في مواد كثيرة من هذه التشريعات مـا ال يوافـق رأي هـذا الشـخص أو ذاك‪ ،‬وبالتـالي فقـد يتفقـوا علـى‬
‫بعــض األمــور‪ ،‬ولكــنهم ســيختلفون علــى أكثرهــا‪ ،‬وسيضــطرون للتنــازل عــن "حريــا هم" وأفكــارهم لصــال مــا تواضــع عليــه‬
‫املجتمع! إذن‪ ،‬ال يمكن وجود ش يء اسمه حرية في الواقع نهائيا!‬
‫مصـطل الحريـة يتنـاقض تمامـا مـع عـيش البشـر مجتمعـين وحـاجتهم لـذلك االجتمـا ‪ ،‬حتـى فـي القضـايا التـي تواضــع‬
‫عليهـا املجتمــع ووافقــت أهــواءك‪ ،‬فأنــت لســت حـرا ألنــك تمارسـها ألن "الغيــر (القــانون)" ســمح لــك بممارســتها‪ ،‬ولــو تغيــرت‬
‫نظرة "الغير (السلطة)" لها الضطررت لتغيير موقفك للنقيض!‬
‫كل ش يء مباح إذا غاب الدين‪:‬‬
‫إذن‪ ،‬ف ــال يوج ــد س ــلطة للعلماني ــة للتأس ــيس لألخالقي ــة‪ ،‬أو ل ــل “قيمي ــة" وخصوص ــا ألخالقي ــات أو مرجعي ــات األم ــر‬
‫والنهي‪ ،‬أو للقيم التي سيقوم املجتمع على تحقيقها (إضافة للقيمة املادية النفعية)‪،‬‬
‫في راوعته األدبية "اإلخوة كارامازوف" قام الرواوي الروس ي الكبير دوستويفسكي بالتعرض ملواضيع فلسفية وجودية‬
‫وطرح عالقتها مع الخـالق واإلرادة الحـرة واألخـالق‪ .‬وهـي عمـل درامـي روحـي تتصـار فيـه رُى أخالقيـة مختلفـة بمـا يخـص‬
‫اإليمان والشك والعقل‪ ،‬وروسيا املعاصرة لفترة الرواية‪.‬‬
‫أبطــال الروايــة ه ــم األب فيــودور كارامــازوف؛ رج ــل بــال واز أخال ــي وال مب ــادي‪ ،‬وأوالده الثالثــة الــذين يمث ــل كــل م ــنهم‬
‫نموذجـا ملـا كـان شــاوعا فـي املجتمــع الروسـ ي فــي القـرن التاســع عشـر؛ فالصــغير رجـل تقــي‪ ،‬والثـاني مفكــر مـادي يبحــث عــن‬
‫معرفة إشكالية ماذا يترتب على "عدم وجود الخالق"‪ ،‬وإذا كان كل ش يء سيصبح مباحا ومسموحا به في هذه الحالة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وأكبرهم رجل متهور تتصار فيه الرذيلة والفضيلة بقوة‪ ،‬وهذا األخير تتجسد فيه الشخصية الروسية بحسب املؤلف‪.‬‬
‫ما هي املرجعية التي ستؤسس للخير والشر؟ لألخالق واملقاييس التي ستضبط السلوك اإلنساني في حياتـه اليوميـة‬
‫(فيما هو أكثر من مجرد االلتزام أو عقوبة مخالفة قوانين الدولة)!‬
‫وما َهمنا أيضا هو أثر تغييب أثر اإليمان بالل والحساب في اآلخرة على أفعـال اإلنسـان فـي الـدنيا‪ ،‬وعلْْى أي أسْْاس‬
‫سيقوم إنسان ما بوضع قوانين ملزمة إلنسان خْْر تحـدد لـه الخيـر والشـر كمقـاييس لدفعـه للقيـام بأفعـال معينـة أو‬
‫االنتهاء عن غيرها‪ ،‬كيف ستسد العلمانية هذه الفجوة الهائلة املؤثرة في السلوك البشري والعالقـات املجتمعيـة بشـكل‬
‫َّ‬
‫كبيــر! وهــذا عــين مــا نظـرت لــه "الليبراليــة" حــين حاربــت "نظريــا" مبــدأ أن تفــرض الدولــة تشــريعا ها علــى األفـراد‪ ،‬وفشــلت‬
‫فشال ذريعا ألن الناس ال بد أن اعيشوا في مجتمعات‪ ،‬ال على األشجار في األدغال!‬

‫‪160‬‬
‫هل عاملنا أفضل العوالم املمكنة؟ وهل هذا دليل على عجزاإلله؟‬
‫بـل إن "براترانـد راسـل" يقـول فـي كتابــه‪" :‬ملـاذا أنـا لسـت مسـيحيا" فـي الصــفحة العاشـرة‪" :‬إنـه مـن املـدهش أنـه عنــدما‬
‫ننظـر إلــى حجـة التصــميم هـذه‪ ،‬نجــد أن النـاس بإمكــانهم أن يؤمنـوا أن هــذا العـالم‪ ،‬بكــل األشـياء التــي فيـه‪ ،‬بكــل عيوبــه‪،‬‬
‫ينبغــي أن يك ــون الع ــالم األفض ــل ال ــذي أمك ــن لك ــائن كل ــي الق ــدرة والعل ــم أن ينش ــئه ف ــي مالي ــين الس ــنين‪ ،‬أن ــا ال أس ــتطيع ف ــي‬
‫الحقيقة أن أُمن بذلك"‪ 162‬إذن‪ ،‬فراسل اعتبر أن وجود الشر يتناقض مع دليل التصـميم الـذكي الحكـيم‪ ،‬باعتبـار أن‬
‫هذا العالم ليس أفضل العوالم املمكنة‪ ،‬أي إنه ليس الجنة! أو بمعنى‪ :‬أليس بإمكان هللا فعل أفضل مما فعل‪ ،‬فيخلق‬
‫عاملا أقرب إلى الجنة‪ ،‬يخلو من الشقاء واألمراض والحروب وضنك العيش؟‬
‫فهـذه املدرسـة فـي التفكيـر‪ 163‬اتخـذت مـا ظنتـه شـذوذات أو عيوبـا فـي الكـون دلـيال علـى عـدم وجـود الخـالق‪ ،‬ومدرسـة‬
‫أخرى اعتبرت رتابة النظام في الكون دليال على عدم وجود اإلله وأن االرتقاء والنشوء إنما يتم باالنتقاء الطبيعي‪.‬‬
‫ولكن النظر في نظام الكون وأنه غير فاسد يدل على وحدانية الخالق‪ ،‬والنظر في النظام دليل على املنظم‪ ،‬والنظر‬
‫فـي الشــذوذات والحـوادث التــي تجـري تبعــا لســيطرة اإللـه علــى حـوادث الكــون دليـل علــى وجــود اإللـه‪ ،‬وعلــى أنـه لــم يخلــق‬
‫الكون ونواميسه ويتركها تعمل دون سيطرة وتدخل منه‪ ،‬أي إنه لم يمـارس سـلطانه مـرة واحـدة فقـط حـين خلـق الكـون‬
‫والن ــواميس‪ ،‬ب ــل س ــلطانه مس ــتمر‪ ،‬فح ــين ُيخ ــرق الن ــاموس‪ ،‬أو ح ــين يج ــري عل ــى أكث ــر م ــن ص ــورة‪ ،164‬ف ــإن ه ــذا ي ــدل عل ــى‬
‫الخالق أيضا‪ ،‬أو لحكمة بالغة تصب في تنظيم الكون‪ ،‬فعلى سبيل املثال‪ ،‬تنفجر نسـبة معينـة مـن النجـوم انفجـارات‬
‫مستعرة أعظمية‪ ،‬لكن النظر املستنير إلى هذه الظاهرة يجد أنها ليست بشذوذات‪ ،‬بل ضرورة للخلق ولتشكيل النظم‬
‫املجرية والنجمية الجديدة‪ ،‬فتجد النظام "يحكم الذرات املتناثرة الناجمة من الجيل السابق من املسـتعرات املتفجـرة‬
‫الوقت‪ ،‬لتتجمع في أنظمة شمسية من الجيل الالحق من النجوم‪ ،‬وليضمن توز وتكرار االنفجارات النجمية باعتدال‪،‬‬
‫فال اشتد فيغرق أسطح الكواكب بحميم األشعة القاتلة مرارا‪ ،‬وال يقل لدرجة تمنع صـنع كفايـة مـن الـذرات الثقيلـة فـي‬
‫املس ــتعرات األعظمي ــة لتتجمـ ــع عل ــى س ــطح الكواكـ ــب املتكون ــة ح ــديثا" ‪ 165‬فاالنفجـ ــار ظ ـ ُ‬
‫ـاهره ح ــدث يمـ ــوت في ــه نجـ ــم‪،‬‬

‫‪ 162‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪41‬‬


‫‪ 163‬استفدنا بعض األفكار في هذا الباب من محاضرة‪ :‬ما الحكمة في البالء؟" ‪ -‬تفسير الشعراوي لخيات من ‪ 78‬إلى ‪ 79‬من سورة النساء‬
‫‪ 164‬وقد رأينا أن هللا تعالى أحدث اختالفا في بعض األنظمة الحيوية لفتا للنظر أنها ال تسير سيرا آليا ذاتيا ميكانيكيا بال تدبير أو تدخل منه‪ ،‬فمــثال وجــدنا فــرس‬
‫البحر والكائنات التي تنتمي إلى نفس فصيلته مثل األسماك األنبوبية وتنين البحر املورق كائنات غير عاديــة للغايــة‪ ،‬فيحمــل الــذكور األجنــة فــي كــيس اشــبه نوعــا‬
‫مــا كــيس الكنغــر‪ ،‬ويلــدون بــدال مــن األنثــى‪ ،‬ورأينـ ا بعــض النباتــات تحمــل العضــو املــذكر واملؤنــث معــا‪ ،‬و عــض الكائنــات تتكــاثر باالنقســام (التكــاثر الالجنس ـ ي‪ ،‬فــي‬
‫الكائنــات وحي ــدة الخليــة)‪ ،‬ووج ــدنا بعــض الحيوان ــات جرابيــة (كــالكنغر والكــواال‪ ،‬تكم ــل حم ــل وليــدها بع ــد والدتــه ف ــي الج ـراب)‪ ،‬و عض ــها ثــدييا‪ ،‬و عض ــها يب ــيض‪،‬‬
‫وهكذا‪ ،‬وهذا كله وفقا للسببية‪ ،‬ولكــن قــدر هللا أشــكاال متعــددة تجــري وفقــا لهــا حتــى ال يظــن ظــان أن هللا تعــالى خلــق الكــون ووضــعه ‪-‬كالقطــار‪ -‬علــى ســكة‪ ،‬وكــل‬
‫ش يء ينتج تلقائيا وحتميا وآليا بنفس الصورة دون تدخل من الخالق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ 165‬قدر الطبيعة‪ ،‬قوانين الحياة تفص عن وجود الغاية في الكون‪ .‬د‪ .‬مايكل دينتون‪ ،‬ترجمة د‪ .‬موس ى إدريس وآخرين‪ ،‬مركز براهين‪ ،‬ص ‪51 - 49‬‬
‫‪161‬‬
‫وينفجر‪ ،‬لكن التأمل في هذه الظاهرة يراها سببا ضروريا لتوزيع الذرات الثقيلة في مناطق كونية احتاجت لها‪ ،‬فـالنجم‬
‫َ‬
‫مات ُلي ْح َيي‪.‬‬
‫ُ‬
‫نفس الض ــغط الهائ ــل والح ـرارة م ــن ب ــاطن األرض‪ ،‬وتم ــد القش ــرة األرض ــية بمع ــادن ض ــرورية‪ ،‬وله ــا‬ ‫وتج ــد الب ـراكين ت ـ ِ‬
‫فوائــد أخ ــرى‪ ،‬وتجــد ال ــزالزل تخلــص ب ــاطن األرض مــن الطاق ــة املوجــودة في ـه‪ ،‬إذ إن للغــازات املحبوس ــة فــي ب ــاطن األرض‬
‫تأثير كبير في إحداث اهتزازات عنيفة في قشرة األرض أو إنفجارات بركانية‪ ،‬وهذه الغازات تنكمش أحيانا وتتمدد أحيانا‬
‫أخ ــرى‪ ،‬فتح ــدث موج ـة م ــن امل ــد تخت ــرق طبق ــات الص ــخور ف ــي قش ــرة األرض‪ ،‬ف ــي إتج ــاه أفق ــي أو رأس ـ ي‪ ،‬ينت ــتج عنه ــا اله ــزة‬
‫األرضية‪ ،‬وتتشكل نتيجة لحركات طبقـات األرض الجبـال‪ ،‬وفـي دراسـة فـي جامعـة هـارفرد فـي العـام ‪ ،2008‬قـدر الفلكيـون‬
‫ْتقبال الحيْ ِْاة‪ ،‬وأنــه لــو كانــت كتلــة أو حجــم األرض أصــغر‪ ،‬فــإن‬ ‫أن كتلــة األرض تقــع ف ْْي حالْْة حديْْة لكوكْ لْب قابْ لْل السْ ِ‬
‫الص ــفائح البنائي ــة ‪ tectonics plates‬الت ــي تش ــكلها الطبق ــات الص ــخرية ل ــألرض (تتح ــرك لتنش ــأ عنه ــا اليابس ــة)‪ ،‬ه ــذه‬
‫الحركات كانت لتكون مستحيلة لو كانت األرض على غيـر حجمهـا الحـالي‪ ،‬وقـد قـارنوا األرض بـالزهرة التـي اعـادل حجمهـا‬
‫‪ 85‬باملائ ــة م ــن حج ــم األرض‪ ،‬فوج ــدوا أن ــه ال أث ــر له ــذه النش ــاطات الص ــفائحية البنائي ــة عل ــى س ــطحه‪ ،‬ل ــذا اعتب ــر حج ــم‬
‫األرض ومساحة سطحها‪ ،‬وكتلتها‪ ،‬والتناسب بين ذلك كله مثاليا الستقبال الحياة عليها"‪ 166‬فالزالزل والبراكين ضرورية‬
‫لجعل األرض صالحة للحياة!‬
‫لكن الشذوذ عن االنتظام يظهر على صعيد جزيئات ال على صعيد النظام العام‪ ،‬فال يفسد الشذوذ الفردي صحة‬
‫االنتظــام‪ ،‬فيولــد طفــل بس ــتة أصــابع‪ ،‬ويكــون بع ــض النــاس عقيمــا‪ ،‬أو أعمــى‪ ،‬أو أصــم‪ ،‬فقســم م ــن هــؤالء جـراء أم ـراض‬
‫وراثي ــة كــان باإلمك ــان تفادَه ــا بدراس ــة الجين ــات قب ــل ال ــزواج‪ ،‬وقس ــم ن ــاتج ع ــن س ــوء تص ــرف األم خ ــالل الحم ــل كتع ــاطي‬
‫الخمر‪ ،‬وقسم مقدر من قبل هللا تعالى ال عالقة له بالقسمين السابقين‪ ،‬وال ُاسأل هللا عن حكمتـه فـي توزيـع الـنعم علـى‬
‫الخالئـق‪ ،‬فيمنـع أحـدهم نعمـة البصـر مقابـل أن اسـبغ عليــه نعمـا أخـرى ال حـد لهـا تعوضـه‪ ،‬كنعمـة الـذاكرة والبصــيرة‪،‬‬
‫وما مثال بيتهوفن األصم الذي كان عالمة فارقة في دنيا املوسيقى ببعيد‪ ،‬أو أن اعوضه عن فقـدان بصـره دخـول الجنـة‬
‫َ‬
‫بغي ــر حس ــاب‪ ،‬بينم ــا ه ــو يحاس ــب غي ــره‪ ،‬و ِم ـ ْن ِحك ِم ـ ِه ف ــي ه ــذا أن يلف ــت نظ ــر عم ــوم الن ــاس إل ــى ه ــذه ال ــنعم التــي يرونه ــا ف ــي‬
‫أنفسـهم أو فـي غيـرهم‪ ،‬فمـن ذهـب إلـى املستشـفى تـذكر نعـم هللا عليـه التـي يرفـل فيهـا دون أن يتنبـه لهـا‪ ،‬أو أن يخـوف هللا‬
‫ـاس بــالحوادث ـكـالزالزل فيرجعــوا إليــه‪ ،‬ويتضــرعوا لــه‪ ،‬فيكــون رجعــوهم إليــه عاصــما لهــم مــن عــذاب اآلخــرة بغفل ــتهم‬ ‫النـ َ‬
‫عنه‪ ،‬أو اعذب العامة بعمل الخاصة‪ ،‬حين سكت العامـة عـن إفسـاد الخاصـة فـي املجتمعـات‪ ،‬ذلـك اإلفسـاد الـذي أنـتج‬
‫شـرورا ال حصــر لهــا مـن ســوء توزيــع الثـروة‪ ،‬والحــروب والطغيــان واالسـتبداد‪ ،‬فاســتحق العامــة العقـاب بســكو هم وعــدم‬

‫‪166 However، a 2008 study by the Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics suggests that the dividing line may be higher. Earth may‬‬

‫‪in fact lie on the lower boundary of habitability، since if it were any smaller، plate tectonics would be impossible. Venus، which has 85‬‬
‫‪percent Earth's mass، shows no signs of tectonic activity. http://en.wikipedia.org/wiki/Planetary_habitability‬‬
‫‪162‬‬
‫اســتعمالهم للســنن املجتمعيــة للتغييــر ـكـي اعيشــوا حيــاة أفضــل‪ ،‬وفــي هــذا كلــه إقامــة للحجــة علــى الخالئــق ال لحاجــة هللا‬
‫تعالى أن اعلم من يصبر ومن يكفر‪ ،‬بل هكذا تكون الحياة جميلة لها معنى‪ ،‬بخيرها وشرها‪.‬‬
‫قال اإلمام الغزالي في كتاب (اإلمالء على إشكاالت اإلحياء)‪" :‬ليس في اإلمكان أبد من صورة هذا العالم‪ ،‬وال أحسـن‬
‫ترتيبــا‪ ،‬وال أكم ــل ص ــنعا"‪ ،‬وال يفه ــم م ــن كــالم الغزال ــي أن ــه ل ــيس ف ــي إمك ــان هللا أن يخلــق أفض ــل م ــن ه ــذا‪ ،‬لكن ــه يقص ــد أن‬
‫كمال الصنعة ظاهر مججز م هـر‪ ،‬قـال اإلمـام ابـن حـزم فـي الـدرة فيمـا يجـب اعتقـاده ص ‪" :311‬ومـن قـال‪ :‬إنـه لـيس عنـد‬
‫هللا عز وجل أصـل ممـا ع ِمـل بنـا؛ ألنـه لـو كـان عنـده أصـل ممـا فعـل بنـا‪ ،‬ولـم اعطنـا إيـاه لكـان بخـيال محابيـا‪ ،‬فهـو كـافر‬
‫من وجهين‪:‬‬
‫َ‬
‫أحــدهما‪ :‬أنــه عجـز ربــه‪ ،‬تعــالى‪ ،‬فجعلــه عــاجزا مطبوعــا‪ ،‬ال يقــدر إال علــى مــا فــي قوتــه أن يــأتي بــه فقــط‪ ،‬وهــذه صــفة‬
‫منقوص البنية‪ ،‬متناهي القوة‪ ،‬ذي طبيعة‪ ،‬تعالى هللا عن ذلك علوا كبيرا‪.‬‬
‫والوجه اآلخر‪ :‬تكذيبه القرآن فيما أوردناه‪ ،‬ومع ذلك فهو مكابر ال اشك ذو مسكة عقل في أنه تعالى كان قادرا على‬
‫أن يخلقن ــا مالئك ــة أو أنبي ــاء كلن ــا‪ ،‬أو ف ــي الجن ــة كم ــا خل ــق آدم علي ــه الس ــالم‪ ،‬وال يكلفن ــا ش ــيئا‪ ،‬أو ال يخل ــق م ــن ي ــدري أن ــه‬
‫يكفر به‪ ،‬أو اعصيه‪ ،‬أو أن يميتهما قبل البلوا كما أمات سائر الصبيان"‪.‬‬
‫"وحيـث إن النـزا لــيس حــول تحقيــق عاملنـا املخلــوق للغايــة مــن خلقــه‪ ،‬دار اختبـار وممــر لخخــرة‪ ،‬وإنمــا حــول إمكــان‬
‫خلـق عـالم أفضـل مـن عاملنـا‪ ،‬فاملعترضــون مـن املالحـدة هنـا يتحـدثون عـن عــالم اللـذة الـذي يحقـق لدنسـان املتعــة دون‬
‫منغص من شر أو ألم‪ ،‬بعيدا عن غائية الخلق ضـمن هـدفي االبـتالء والجـزاء‪ ،‬إننـا نقـول إن هللا سـبحانه قـادر علـى خلـق‬
‫عـالم ال اعتــوره أي نقــص بـاملعنى اإللحــادي‪ ،‬وقــادر علــى إزالـة جميــع أســباب األلــم‪ ،‬وتحقيـق غايــة اإلمتــا لدنســان‪ ،‬وأن‬
‫هللا تعالى خلق مثل هذا العالم فعال‪ ،‬حقيقة ال افتراضا‪ ،‬وهْْو الجنْْة‪ ،‬لكـن هـذه الجنـة هـي جنْْة الجْزاء‪ ،‬وليسـت محـال‬
‫لقبول غاية الخلق املتمثلة في اختبار العبـاد‪ ،‬فـدعوى سـقوط حقيقـة وجـود اإللـه ألن هـذا العـالم لـيس أفضـل العـوالم‬
‫التي من املمكن إلله قادر وحكيم أن يخلقها قائمة على تصور أولي باطل‪ ،‬وهي ساقطة‪،‬‬
‫علــى أنــه ال يلــزم مــن كــون هللا ـكـامال أن يخلــق عاملــا ـكـامال‪ ،‬إذ إن دواع ْْي الخل ْْق عدي ْْدة ومتنوع ْْة‪ ،‬ولــيس يفت ــرض أن‬
‫تـؤول كلهــا إلـى أن يكــون املخلـوق مثاليــا"‪ ،167‬والنظْْراملسْْتنيريظهْْرأنْْه مثْْالي فْْي مناسْْبته للغايْْة التْْي خلْْق مْْن أجلهْْا‪،‬‬
‫كمــا ســنظهر فــي كــل األبــواب القادمــة‪ ،‬والتــي تجلــي بصــورة ال ريــب فيهــا أن العــالم مثــالي فــي مناســبته للغايــة التــي خلــق مــن‬
‫أجلها‪ ،‬فيسقط االعتراض جملة وتفصيال‪.‬‬

‫‪ 167‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪.45-44‬‬


‫‪163‬‬
‫إتقان الصنعة‪ ،‬الدقة الالمتناهية في نظام الكون والحياة‪:‬‬
‫على أن املتأمل في خلـق هللا ونـواميس الكـون يجـد الدقـة املتناهيـة وإحكـام الصـنعة فـي كـل شـ يء فـي الكـون‪ ،‬مـن الـذرة‬
‫إلــى املجــرة‪ ،‬ويجــد النــواميس التــي تضــبط ســير هــذا كلــه‪ ،‬ال يمكــن أن ينــاز فــي دقــة قوانينــه امل هــرة‪ ،‬لقْْد توقفْْت كيميْْاء‬
‫الكْْون‪ ،‬وعمليْْات نشْْوء واسْْتمراروتطْْويرالهياكْْل الفيزيائيْْة الفلكيْْة ‪ ،astrophysical structures‬التْْي يتشْْكل‬
‫منهْْا الكْْون‪ ،‬مْْن نجْْوم ومج ْرات‪ ،‬وعناقيْْد‪ ،‬وعناقيْْد فائقْْة‪ ،‬وتوقفْْت عمليْْات تخليْْق العناصْْرالتْْي تْْتم فْْي أعمْْاق‬
‫النجوم عبراالندماج النووي‪ ،‬وتوقفت العمليات التي أفضت إلْْى كْْون صْْديق للحيْْاة‪ ،‬يْْدعم نشْْوءها واسْْتمرارها‬
‫واستقرارها‪ ،‬على نظام معقد من التعييراملنضبم الدقيق املحكم ملقاديرالقوى واملجاالت والطاقات‪ ،‬وألشْْكالها‪،‬‬
‫ممْْا يعنْْي أ هْْا قْْوانين مصْْممة مسْْبقا لضْْمان نشْْوء الكْْون والحيْْاة واسْْتمرارهما واسْْتقرارهما مْْن خْْالل اختيْْار‬
‫أنواعها‪( ،‬الجاذبية‪ ،‬والكهرومغناطهسية والقوة النوويْْة القويْْة والضْْعيفة ‪ ،‬ولطريقْْة عملهْْا (مثْْل نطْْاق تْْأثيركْْل‬
‫منها‪ ،‬وشدتها النسبية ‪ ،‬ولألدوارالتي تلع ها في تنظيم أنظمة املواد املعقدة‪ ،‬وعلى تفاعلها السببي الذي توقف على‬
‫اختيار خصْْائص معينْْة محْْددة فْْي الجسْْيمات أمْْدتها بهويْْة معجْْزة‪ ،‬مْْن كتْْل ورْْحنات وعْْزم مغزلْْي‪ ،‬معيْْرة بدقْْة‬
‫بالغة‪ ،‬وجعلتها تخضع لها‪ ،‬وتسيروفقا لها‪ ،‬وتتميزبها!‬
‫كْ ْْان ال بْ ْْد مْ ْْن تعييْ ْ لْرمنضْ ْْبم دقيْ ْْق محكْ ْْم للمعْ ْْايير‪( ،‬املحْ ْْددات‪ ،‬املعْ ْْالم‪ ،‬املتغي ْ ْرات الوسْ ْْيطة الكونيْ ْْة‬
‫‪ ،cosmological parameters‬والثوابْ ْْت الفيزيائيْ ْْة األساسْ ْْية ‪ ،fundamental constants‬ولشْ ْْدة القْ ْْوى‬
‫نطاق من القْْيم الدقيقْْة املعينْْة‪ ،‬وفْْي‬
‫النسبية‪ ،‬التي تصف القوانين الفيزيائية والتي تحدد خصائص كوننا ضمن ل‬
‫َّ َ‬ ‫َ َ‬
‫ْات الفيزيائيْ ِْة‬ ‫ْات القْْوى والحقْْو ِل والثوابْ ِْت والخصْ ِ‬
‫ْائص والعمليْ ِ‬ ‫اين املسموح به في قْ ِْيم وعالقْ ِ‬ ‫ِإط لار ض ِي لق من التب ِ‬
‫ْادة والطاق ْ ِْة‪ ،‬بحي ْْث يكْْون الخ ْْروج ع ْْن إطْْارذل ْْك الض ْْبم والتعييْْراملنض ْْبم ال ْْدقيق املحكْْم‪ ،‬أو الخ ْْروج م ْْن‬ ‫للمْ ِ‬
‫نطاق ذلك التباين املسموح به مؤذنا باستحالة نشوء واستمرارالكون‪ ،‬أو استحالة نشوء واستمرارالحياة‪.‬‬
‫ولقْْد توقْْف نشْْوء الكْْون واس ْْتقراره واسْْتمراره أيضْْا علْْى تعييْْرمنض ْْبم دقيْْق محكْْم وعلْْى صْْعد متع ْْددة‬
‫للش ْْرو االبتدائي ْْة املس ْْبقة بالغ ْْة الدق ْْة‪ ،‬غي ْْرالعش ْْوائية‪ ،‬واملخت ْْارة بعناي ْْة‪ ،‬الت ْْي ص ْْاحبت نش ْْأة الك ْْون وترت ْْب‬
‫عليهْْا إمكانيْْة نشْْوء هْْذه الحيْْاة الت ْْي نراهْْا فْْي الكْْون‪ ،‬مْْن إنتروبيْْة منخفض ْْة جْْدا‪ ،‬وانفتْْاق منْْتظم للرتْْق ال ْْذي‬
‫حْْوى املْْادة والطاقْْة‪ ،‬ومْْن توسْْع منْْتظم للكْْون‪ ،‬ومْْن كميْْة محْْددة محسْْوبة بدق ْة للمْْادة والطاقْْة‪ ،‬ومْْن كثافْْة‬
‫طاقْْة الكْْون العامليْْة التْْي كانْْت قريبْْة جْْدا مْْن القيمْْة الحرجْْة‪ ،‬فمنعْْت التوسْْع غيْْراملنْْتظم أو االنكمْْا للكْْون‬
‫البدائي‪ ،‬ومن سعة نسبية لتقلبات الكثافة في بدايات الكون‪.‬‬
‫بْْل لقْْد احتْْاج نشْْوء واسْْتقرار واسْْتمرار الكْْون لْْهس فقْْم إلْْى هْْذا كلْْه‪ ،‬لقْْد احتْْاج فْْوق ذلْْك إلْْى التناسْْب‬
‫املحكْم بْْين هْْذه كلهْا‪ ،‬فلْْو اختْْل أحْدها ملْْا كْْان لتوليْف وضْْبم اآلخْْر مْن منفعْْة‪ ،‬والضْْبم هْذا ال يْْتم بشْْكل لْْي‬
‫ذاتْْي ملجْْرد وجْْود املْْادة بعضْْها مْْع بعْْم‪ ،‬إذ إنْْه ثبْْت أن نطْْاق تفاعْْل تل ْك القْْوى والثوابْْت واملجْْاالت والكتْْل‬
‫والشْْحنات وخصْْائص املْْادة السْْببي املتبْْادل محْْدود جْْدا‪ ،‬بحيْْث إن أي خْْروج عليْْه كفيْْل با هيْْار املْْادة‪ ،‬وأيضْْا‬
‫‪164‬‬
‫فإ ها عالقات تداخلية تحتاج لتضبم نسبة كل قوة مع األخرى‪( ،‬مثال القوة النوويْة القويْة والكهرومغناطهسْية ‪،‬‬
‫وكل كتلة مع األخرى‪( ،‬مثال كتلة البروتون مع كتلة النيوترون ‪ ،‬وكل رحنة مع األخرى‪( ،‬رحنة البروتون مع رحنة‬
‫اإللكتْرون ‪ ،‬والقْْوى مْع الشْْحنات والكتْل‪ ،‬وكْْل قْْوة مْع خصْْائص معينْة فْْي املْْادة مهيئْة للتفاعْْل مْع تلْْك القْْوة‬
‫بشْْكل معْْين‪ ،‬وهكْْذا‪ ،‬فهْْو تنظْْيم علْْى مسْْتوى أوسْْع مْْن مجْْرد اجتمْْاع نْْوعين مْْن القْْوى أو ن ْوعين مْْن الكتْْل أو‬
‫نوعين من الشحنات فينضبطا‪ ،‬بل ال بد أن يتم على مستوى املادة والطاقة على مستوى الكون كله‪،‬‬
‫بْل ويتوقْْف نجْْاح سْير سالسْْل مْْن العمليْْات املختلفْة املعقْْدة املتنوعْْة‪ ،‬أو معْْدالت إنتاجهْا علْْى ضْْبم قْْوة‬
‫معينة أو على أن تتصرف تلك القوة بصورة معينة‪،‬‬
‫بل احتاج فوق ذلك إلى تعيير سرعة توسع الكون‪ ،‬كي تجتمع الجسْيمات فتشْكل الْذرات‪ ،‬وإلْى تبْاين الكثافْة‪،‬‬
‫املج ِر َّية‪ ،‬احتاج األمر وجْود كْل هْذا وغيْره الكثيْر فْي نفْس‬ ‫كي تتمكن الجاذبية من إنشاء الهياكل الكونية والعناقيد َ‬
‫الوقت وبنفس النسب الخارقة املعجزة كي يكون كون‪ ،‬وال تكون فوض ن!‬
‫وأن أيْْا مْْن هْْذه املقْْاديراملضْْبوطة بعنايْْة لْْو اختلْْف‪ ،‬أو تخلْْف عْْن موقعْْه وعملْْه وقيمتْْه ملْْا نشْْأ الكْْون وال‬
‫الحيْْاة وال اإلنسْْان العاقْْل الْْذي يتفكْْرفْْي الْْربم الْْذكي بْْين كْْل هْْذا التعييْْر‪ ،‬ويتفكْْرفْْي اسْْتحالة أن يكْْون نت ْْاج‬
‫عملي ْْات عش ْْوائية غي ْْرعاقل ْْة‪ ،‬وبالت ْْالي فه ْْو تنظ ْْيم ومخط ْْم مس ْْبق‪ ،‬ومف ْْروب عل ْْى امل ْْادة م ْْن خارجه ْْا‪ ،‬أي م ْْن‬
‫الخالق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ووضوح صورة أن هـذا اشـكل نظامـا مصـمما تصـميما محكمـا حكيمـا غائيـا سـببيا‪ ،‬والـربط الـذكي بـين هـذا كلـه وأن‬
‫ُ ْ َ َّ َّ َ ْ ُ َ‬ ‫﴿و َت َرى ْالج َب َ‬
‫ال َت ْح َس ُ َها َج ِام َدة َوه َي َت ُم ُّر َم َّر َّ‬
‫ّللا ال ِذي أت َق َن ك َّل ش ْيء‬
‫اب صنع ِ‬ ‫ِ‬ ‫ح‬‫الد َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يكون صنع هللا الذي أتقن كل ش يء َ‬
‫َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ِإ َّن ُه خ ِبير ِب َما ت ْف َعلون﴾ ‪ 88‬النمل‪ .‬احتاج ذلك كله إلى الخالق العظيم‪!168‬‬
‫أمـا علــى صــعيد الحيــاة‪ ،‬فقــد احتـوت الخاليــا الحيــة والكائنــات الحيــة علـى مخطــط يمتلــك شــيفرة كيميائيــة‪ ،‬تحــوي‬
‫املخط ــط واملعلوم ــات الداللي ــة التــي تحرك ــه باتج ــاه إقام ــة أنظم ــة معق ــدة‪ ،‬وباتج ــاه أن يمتل ــك ق ــدرة عل ــى التك ــاثر ال ــذاتي‬
‫واالستمرار‪ ،‬وما فيها من قدرة على قراءته وتحليله وترجمته‪ ،‬وتخزينه وحمايته‪ ،‬وتحويله إلى أنظمة (الجين مثال وصفة‬
‫لتص ــنيع البروتين ــات)‪ ،‬أو أوام ــر أو ص ــفات (ل ــون العي ــون م ــثال) يحتاجه ــا الك ــائن المل ــي‪ ،‬وف ــوق ذل ــك مل ــاذا ه ــذا التش ــفير‬
‫بالذات (خيار من ضمن خيارات تحتاج ملر ‪ ،‬وخيار ذكي ضامن لحصـول النتـائج وفقـا ملخطـط غـاوي مـن بـين خيـارات‬
‫أخــرى ـكـان باإلمكــان أن تنــتكس بالحيــاة وتنهيهــا‪ ،‬وفــوق ذلــك أن هــذه التعليمــات واألوامــر فعالــة فقــط فــي بيئــة قــادرة علــى‬
‫تأويل املعنى بالشيفرة الوراثية"‪ ،‬ثم إن سلب الخلية الحية اليوم من مكونات رئيسية فيها‪ ،‬مثل البروتينات أو األحماض‬
‫النووية أو األنزيمات مثال‪ ،‬اعطل وظائف ها‪ ،‬أو يفسدها ويحدث خلال فيها‪ ،‬فوجود بعضها حتمي الستمرار حياة الخلية‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ُّ‬
‫تتوقف عليه الحياة واستمرارها‪ ،‬وبالتالي فهذا دليل أيضا على أنهـا‪ ،‬أو ُجلهـا يجـب أن توجـد ُدف َعـة وا ِحـ َدة وفـي آن واحـد‬

‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ َْ‬


‫‪ 168‬امللخص التنفيذي لكتابنا‪( :‬نشأة الك ْو ِن‪َ ،‬د ْليل َع ْق ِلي ِعل ِمي ِح ِس ي َعل ْى ُو ُج ْو ِد الخ ِال ِق)‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫لتق ــوم بتأدي ـ ِـة وظا ِئ ِفه ــا‪ .‬وه ــذه الوظ ــائف ت ــدل عل ــى الغائي ــة‪ ،‬وه ــذا االجتم ــا بالش ــكل املعق ــد ي ــدل عل ــى التص ــميم ال ــذكي‬
‫الحكيم املسبق للخلق‪ ،‬واحتاجت لحـد أدنـى مـن الجزيئـات التـي تتركـب منهـا الخليـة الحيـة‪ ،‬فـي أدنـى كـائن حـي فمـا فوقـه‪،‬‬
‫س ــواء م ــن الجين ــات‪ ،‬أو م ــن البروتين ــات‪ ،‬أو األنزيم ــات أو ب ــا ي الجزيئ ــات الت ــي تش ــكل البني ــة األساس ــية للخلي ــة الحي ــة‪،‬‬
‫واحتاج ــت لط ــرق ارتب ــاط ص ــحيحة بأش ــكال هندس ــية بالغ ــة الدق ــة ثالثي ــة األبع ــاد‪ ،‬فكان ــت الحي ــاة مجج ــزة خارق ــة تظه ــر‬
‫كمال ودقة الصنعة وإحكامها‪ ،‬ومهما حاول البشر أن يخترعوا آالت إبصار أو تصوير فإنها لن تضاهي العين البشرية في‬
‫دقتها‪ ،‬وإذا نظرت إلى األجهزة التي تشكل تركيب الكائن الملي‪ ،‬تجد التنظيم الكياني لألنظمة املختلفة (السمع واإلبصار‬
‫واألعصـ ــاب) وتجـ ــد التكامـ ــل التكـ ــويني بـ ــين األنظمـ ــة املختلفـ ــة التـ ــي تنـ ــتج كائنـ ــات بالغـ ــة التعقيـ ــد والدقـ ــة‪ ،‬وقـ ــد وصـ ــف‬
‫العلمـاء الكائنــات الحيــة كــنظم غايــة فــي التعقيـ د‪ ،‬علــى مســتويات وطبقــات متعــددة حيــث تعتمــد الخصــائص املميــزة لهــا‬
‫علــى "تنظــيم الكيــان" أكثــر مــن اعتمادهــا علــى "تركيــب الكــائن"‪ ،‬فارتبــاط الكــل بأجزائــه فــي عــالم الحيــاة‪ ،‬ال يقتصــر علــى‬
‫التكام ــل الكمــي بينهم ــا‪ ،‬ب ــل اش ــمل أيض ــا م ــا ين ــتج ع ــن ذل ــك م ــن س ــيطرة الك ــل عل ــى أجزائ ــه‪ ،‬وقي ــام األج ـزاء بالتف ــاعالت‬
‫املخصوصة بحيث تف ي لحصول التكامل‪ ،‬وبحيث يكـون التـرابط بـين األجـزاء املشـكلة لألنظمـة املختلفـة شـرطا لعمـل‬
‫النظام الكلي الكياني‪ ،‬ومثال هذا الكائن الملي نفسه كاإلنسان والبقرة والبعوضة بما فيها كلها من أنظمة كلية وصفات‬
‫كياني ــة وتحك ــم مرك ــزي ف ــي األنظم ــة‪ .‬فه ــذا دلي ــل ق ــاطع عل ــى التص ــميم ال ــذكي الحك ــيم املس ــبق‪ ،‬ويس ــتحيل أن ين ــتج ع ــن‬
‫االنتقاء الطبيعي‪.‬‬
‫فهذه كلها تدل على طالقـة قـدرة الخـالق وإحكامـه لصـنعته‪ ،‬وهللا تعـالى أرشـدنا إلـى التفكيـر العقلـي فـي أن الكـون غيـر‬
‫فاسد النظام دليال على وحدانية اإلله سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد حاول بعض املتفذلكين اإلتيـان بـبعض التصـاميم للبحـث‬
‫ف ــي قص ــورها أو خط ــأ التص ــميم‪ ،‬وفش ــلوا ف ــي تل ــك املح ــاوالت كله ــا‪ ،‬كتس ــاُلهم ع ــن س ــبب وج ــود أجنح ــة للبطري ــق وه ــو ال‬
‫يطير‪ ،‬فتبين أنها ضرورة لتحقيق مهارته في السباحة‪ ،‬فكان سؤالهم دليال على شديد قصور نظرهم وعلمهم‪ ،‬وتساُلهم‬
‫عــن الزائــدة الدوديــة فــي جســم اإلنســان‪ ،169‬وعــن "إصــبع البانــدا الزائــدة التــي ال قيمــة لهــا‪ ،‬علــى أســاس أنهــا عظــم نــاتئ ال‬
‫وظيفة له‪ ،‬وكانت املفاجأة في دراسة علمية يابانية نشرت في مجلـة الطبيعـة سـنة ‪ 1999‬بعـد تصـوير يـد البانـدا بـالرنين‬
‫املغناطيسـ ي والكشــف عــن أمــور تش ــريحية لــم تكــن معروفــة خلص ــت تلــك الدراسـة إلــى أن إص ــبع البانــدا هــو "واحــد م ــن‬
‫أعظم أنظمة التحكم الخارقة" في عالم الثدييات"‪ 170‬وغير ذلك من األسئلة‪171.‬‬

‫‪ 169‬اسـتنتج البــاحثون أن الزائــدة الدوديــة مصْْممة لحمايــة البكتيريــا الجيــدة فــي األمعــاء‪ .‬بهــذه الطريقــة‪ ،‬عنــدما تتــأثر القنــاة الهضــمية بنوبــة إســهال أو أي مــرض‬
‫آخر ينظف األمعاء‪ ،‬يمكن للبكتيريا الجيدة املوجودة في الزائدة الدودية إعادة ملء الجهاز الهضمي والحفاظ على صحتك‪.‬‬
‫‪Appendix May Actually Have a Purpose, WebMd.‬‬
‫‪ 170‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪.61‬‬
‫‪ 171‬التــي تتبــع بعضــها الــدكتور إيــاد قنيبــي فــي حلقــة خاصــة مــن بحثــه‪ :‬سلس ــلة رحلــة اليقــين‪ ،‬فــي سلســلة "رحلــة اليقــين" للــدكتور إيــاد قنيبــي ‪ -‬الحلقــة ‪ 29‬بعن ــوان‬
‫"أحرجتك"‪ .‬وتفصيل ذلك من جهة عل وم الحياة وعلوم وظائف األعضاء اعلم دقتها أهل االختصاص‪ ،‬وليست موضو بحثنا هذا‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫إ ن الخطـ ــأ فـ ــي دوران األفـ ــالك (مـ ــثال) يف ـ ـ ي الصـ ــطدامها أو فسـ ــاد نظامهـ ــا‪ ،‬ولكـ ــن النظـ ــام غيـ ــر فاسـ ــد‪ ،‬فثبـ ــت أنـ ــه‬
‫اسـتحيل أن اعـزب عـن هللا تعـالى مثقـال ذرة فـي السـموات وال فــي األرض‪ ،‬كمـا يترتـب عليـه أن القـوانين الكونيـة التـي اســير‬
‫الكون وفقها ‪-‬في حال الخطأ والفساد‪ -‬قد تتخلف أو تخطئ أحيانا وهذا سيترتب عليه دمار أو فساد نظام الكون‪ ،‬وقد‬
‫تبــين لدنس ــان أن الك ــون بــالغ التنظ ــيم م ــن خــالل اس ــتقراء تجل ــي ذلــك عب ــر دراس ــة ماليــين الظ ــواهر والق ــوانين والثواب ــت‬
‫والحقــول وخصــائص املــادة والطاقــة وانتظــام ذلــك كلــه وفقــا لقــوانين بالغــة الدقــة مــن الــذرة إلــى املجــرة‪ ،‬حتــى بلــغ األم ــر‬
‫ببعض علماء الفيزياء لوصف الكون بأنه مكتوب بلغة الرياضيات املتقدمة جدا ‪.172‬‬
‫دليل الحكمة واإلتقان‬
‫الدال على أن هللا تعـالى حكْْيم ومْْتقن لصْْنعته‪( ،‬أي إنْْه‬ ‫أما على صعيد الكون‪ ،‬فإن قوام دليل الحكمة واإلتقان ِ‬
‫ال يخطئ)‪ ،‬من خالل مالحظتنا لجميع هذه األشياء الكونية‪ ،‬باملنهج العقلي في التفكيـر‪ ،‬نـدرك بداهـة فـي كـل واحـدة منهـا‬
‫َ َ‬
‫أنـه ـكـان مـن املمكــن عقـال؛ أن ت َّت ِخـذ هـذه األشــياء صــورة وصـفة وحالــة غيـر مــا هـي عليــه اآلن‪ ،‬فهنالـك احتمــاالت كثيــرة ال‬
‫حصر لها في مجال املمكنات‪ ،‬ال يرى العقل مانعا من أن تتحول هذه األشياء الكونية إلى واحد منها‪.‬‬
‫أ‪ -‬فالعقـل ال يمنـع مـن أن تتخـذ هـذه األشـياء صـورة غيــر الصـورة التـي هـي عليهـا‪ ،‬وشـكال غيـر الشـكل الــذي‬
‫كما وكيفا؛ فتكون أكبر مما هي عليـه أو أصـغر‪ ،‬أو مركبـة غيـر التركيـب الـذي‬ ‫هي عليه‪ ،‬أو حدا غير حدها الواقع َّ‬
‫هــي عليــه‪ ،‬أو فــي حيــز م ــن الكــون وزمــان مــن ال ــدهر غيــر حيزهــا وزمانهــا‪ ،‬أو أن تكــون له ــا صــفات وقــوى غيــر ص ــفا ها‬
‫وقواها‪ ،‬أو حركات ومدارات وسرعات مغايرة ملا هي عليه‪ ،‬كل هذا وأمثاله من االحتماالت التـي ال حصـر لهـا‪ ،‬ممـا‬
‫يجوزه العقل بداهة‪ ،‬ويعتبره من املمكنات العقلية‪ ،‬التي لو كان تركيب الكون على وفقها؛ لم يكن في ذلك منافاة‬
‫ألصل عقلي‪.‬‬
‫ومــن جهــة أخــرى؛ حيــث إن كــل شـ يء فــي هــذا الك ــون يحتمــل أن يكــون علــى واح ــد مــن أوضــا كثيــرة غي ــر‬ ‫ب‪-‬‬
‫خصصْْه‬ ‫الوضع الذي هو عليه؛ فإن عقولنا ال بد أن تحكم بداهة بأن مـا كـان كـذلك فْْال بْْد لْْه مْْن مخصْْص قْْد َّ‬
‫باحتمْ لْال مو افْ لْق للحكم ْة واإلبْْداع واإلتقْْان؛ مـن جملــة احتمـاالت كثيــرة (العـين والبصــر‪ ،‬األذن والسـمع‪ ،‬الخليــة‬
‫الحيــة ومــا يجــري فيهــا مــن عمليــات حيويــة مججــزة‪ ،‬الــدماا وقدراتــه الهائلــة‪ ،‬الكــون ونظامــه املــتقن)‪ ،‬كــل هــذه أمثلــة‬
‫تبين ضرورة أن يكون هذا الخلق من صنع حكيم خبير عليم‪ ،‬ولْْوال وجْْود املخصْْص للْْزم تْْرجيح أحْْد املتسْْاويين‬
‫علْ ْْى اآلخْ ْْرمْ ْْن غيْ ْْرمْ ْْرجح؛ أو الق ــول ب ــأن‪ :‬مو افقْ ْْة الحكمْ ْْة فيمْ ْْا ال حصْ ْْرلْ ْْه مْ ْْن األعْ ْْداد كْ ْْان علْ ْْى طريْ ْْق‬
‫ً‬
‫التصادف‪ ،‬وكالهما مستحيل عقال‪.‬‬

‫‪ 172‬مثــل جــاليليو جــاليلي‪ ،‬وعــالم الفلــك اإلنجليــزي جــيمس جينــز ‪ ،James Jeans‬وبــاول ديـراك ‪ Paul A. M. Dirac‬الــذي أكمــل عمــل هــايزنبرج وشــرودنجر بوضــع‬
‫صياغة ثالثة لنظرية الكوانتم‪ ،‬حيث صرح أن "اإلله هو عالم رياضيات على درجة عالية من التنظيم‪ ،‬وقد استعمل رياضيات متقدمة جدا في بنائه للكون"‪.‬‬
‫‪167‬‬
‫وأم ــا أن ــه مواف ــق للحكم ــة‪ ،‬ف ــإن نش ــوء واس ــتمرار واس ــتقرار الك ــون والحي ــاة يتوق ــف علي ــه‪ ،‬وإن الق ــوانين التــي تس ــير‬
‫الكـ ــون بالغـ ــة الدقـ ــة والتجـ ــانس بعضـ ــها مـ ــع بعـ ــض‪ ،‬مـ ــن الـ ــذرة إلـ ــى املجـ ــرة‪ ،173‬وإن تكامـ ــل تكـ ــوين املخلوقـ ــات وأجهز هـ ــا‬
‫ووظائفها يوافق الحكمة والدقة واإلتقان الشديد‪ ،‬وإن اإلنسان إذا ما أفسد النظام البي ي على سبيل املثال‪ ،‬فإنه يرى‬
‫تبعات ذلك التغيير الكارثية‪ ،‬مما يدل على موافقة الحكمة واإلتقان‪.‬‬
‫والعق ــالء ف ــي ه ــذا الوج ــود ال يص ـ م ــنهم قب ــول الت ـزام املس ــتحيالت بينم ــا ه ــم ي ــرون أن ق ــوانين ه ــذا الك ــون ثابت ــة ال‬
‫تتخلف أبدا‪ ،‬ومن هذه القوانين رفض الترجيح بال مر ِ ‪ ،‬ورفض احتمال املصادفة في نظام هذا الكون البداع‪.‬‬
‫وأيض ــا ُيحي ــل العق ــل أن يك ــون ه ــذا النظ ــام الحك ــيم الب ــداع ف ــي الك ــون نت ــاج العش ــوائية أو املصـ ــادفة‬ ‫ت‪-‬‬
‫صـ َ‬ ‫َ‬
‫املستحيلة‪ ،‬ويفرض العقل أيضا نسبة هذا النظام الحكيم إلى حكمـة ُمخ ِصـص حكـيم قـد خ َّ‬
‫ص هـذا املمكـن فـي‬
‫احتماله املوافق للحكمة!‬
‫وال يص ـ الق ــول باملص ــادفة ف ــي تفس ــير قي ــام ه ــذه الظ ــواهر الطبيعي ــة والق ــوانين الخارق ــة الص ــارمة ف ــي الك ــون‪ ،‬ذاك‬
‫النظام الذي ال يتخلف‪ ،‬ولو كان باإلمكان قيامه عن طريق املصادفة‪ ،‬ملا استطا العقل تفسير هذه املصادفة التي لم‬
‫تتع ــدد ول ــم تتخل ــف ف ــي املس ــألة الواح ــدة التــي تعل ــق البح ــث فيه ــا لتقنينه ــا ودراس ــتها‪ ،‬فل ــو كــان األم ــر مص ــادفة ألمك ــن أن‬
‫يتخل ــف الق ــانون أو يتص ــرف ف ــي كــل مك ــان بطريق ــة مغ ــايرة لألخ ــرى‪ ،‬أم ـا أن ـه حقيق ــة ين ــتظم وال يتخل ــف‪ ،‬ف ـإن ه ــذا ينف ــي‬
‫العقل وجود التصميم الحكيم املسبق‪ ،‬أي وجود الخالق!‬ ‫ُ‬ ‫املصادفة‪ ،‬إذ استحيل عقال تكرارها في كل مرة‪ ،‬ويفرض‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫فل ــيس أسـ ــوأ م ــن تفسـ ــير الظـ ــواهر الخارق ــة باملصـ ــادفة‪ ،‬إال اإليم ــان ُبمصـ ـ ِ‬
‫ـادفة أن املصـ ــادفة تك ــررت‪ ،‬ولـ ــم تتعـ ــدد‬
‫أنواعه ــا‪ ،‬ول ــم تتخل ــف وال م ــرة ع ــن إنت ــاج ع ــين الق ــانون ال ــدقيق وس ــريانه ب ــنفس الطريق ــة! وإذا م ــا كــان موض ــو البح ــث‬
‫اإلثبات أو النفي فإن املحتمل ال يصل لالستدالل به على أي منهما‪ ،‬إذ يكون ضربا من الخيال‪ ،‬وحتى العـالم فـي املختبـر‬
‫ال استطيع تفسير الظاهرة املبحوثة إذا ما أمكن حصولها مصادفة‪ ،‬فال بد لديـه مـن العالقـة السـببية حتـى يـتمكن مـن‬
‫تفســير الظــواهر‪ ،‬فاملصــادفة ال تصــل تعلــيال ال فــي العلــم التجريبــي وال فــي الفلســفة‪ ،‬هــذا‪ ،‬والحــديث هنــا لــيس عــن نف ــي‬
‫مصــادفة فــي أمــر ع ــارض‪ ،‬ـكـأن تصــادف شخصــا ف ــي مكــان علــى غيــر موع ــد‪ ،‬بــل إن الكــون مــنظم ف ــي جريانــه وفقــا لق ــوانين‬

‫‪ 173‬يق ــول ب ــاول ديفي ــز‪" :‬إن عالم ــة الق ــوة ف ــي الق ــانون أن ــه ي ــذهب إل ــى م ــا وراء البع ــد اإليم ــان ي ف ــي وص ــف أي ظ ــاهرة أو طريق ــة ش ــرحها‪ ،‬ويق ــوم بربطه ــا م ــع غيره ــا م ــن‬
‫الظ ــواهر‪ ،‬وعل ــى س ــبيل املث ــال‪ ،‬ف ــإن ق ــانون ني ــوتن ع ــن الجاذبي ــة يم ــدنا بحس ــاب دقي ــق لحرك ــة الكواك ــب‪ ،‬كم ــا اش ــرح لن ــا ظ ــاهرة امل ــد ف ــي املح ــيط‪ ،‬وش ــكل األرض‪،‬‬
‫والحرك ــة الت ــي يج ــب أن تس ــير عليه ــا الس ــفن الفض ــائية‪ ،‬وكثي ــر غيره ــا‪ ،‬ونظري ــة الكهرومغناطيس ــية ملاكس ــويل ذهب ــت ب ــدورها بعي ــدا ع ــن مج ــرد وص ــف الظ ــاهرة‬
‫الكهربيــة أو الظــاهرة املغناطيســية‪ ،‬حيــث شــرحت لنــا أمــواج الضــوء‪ ،‬وتنبــأت بوجــود أمــواج الراديــو‪ ،‬وهكــذا تقــوم القــوانين األساســية والحقيقيــة ببنْْاء روابْْم‬
‫عميقة بين العمليات الفيزيائية املختلفة‪ ،‬وتاريخ العلم يكشف لنا أنه بمجــرد قبــول قــانون جديــد يبــدأ البحــث عمــا يترتــب علــى هــذا القــانون‪ ،‬ويخضــع القــانون‬
‫نفســه لالختبــار مــن خــالل مشــاهدات‪ ،‬وإنــه مــن املعتــاد أن يــؤدي ذلــك إلــى اكتشــاف الجديــد وغيــر املتوقــع والظــواهر الهامــة‪ ،‬وكــل ذلــك يقــودني إلــى االعتقــاد بأننــا‬
‫ُ‬
‫نكتشــف مــن خــالل العلــم امل َر َّش ـد جيــدا االضــطرارات الحقيقيــة والــروابط الفعليــة‪ ،‬وأننــا نق ْرأ االضــطرارات الحقيقيــة والــروابط هــذه فــي الطبيعــة وال نض ْْعها أو‬
‫نكت ها فيها" باول ديفيز‪ ،‬االقتراب من هللا بحث في أصل الكون وكيف بدأ‪ The Mind of God ،‬ترجمة منير شريف ص ‪.103-101‬‬
‫‪168‬‬
‫كونية بالغة الدقة اسري التعيير الدقيق في مفاصله‪ ،‬بأرقام بالغة الدقة‪ ،‬فال يمكن أن يكون اجتما كل تلك الخوارق‬
‫التي اعتمد عليها تنظيم الكون على املصادفة!‬
‫وحين استقرأنا شواهد الكون ونظامه‪ ،‬ودرسناها أيضا باملنه العقلي الوصفي االستداللي وتبين‬ ‫ض‪-‬‬
‫لنا أ هْْا مو افقْْة للعنايْْة والحكمْْة واإلتقْْان‪ ،‬حتْْن إننْْا اسْْتطعنا فْْي نوامهسْْها الكونيْْة اسْْتنبا قْْوانين ناظمْْة‬
‫ً‬
‫له ْْا َع ِلمن ْْا أ ه ْْا ال تتخل ْْف أب ْْدا‪ ،‬وف ْْي أنظم ْْة الحي ْْاة وج ْْدنا تص ْْميما م ْْذهال للكائن ْْات الحي ْْة قام ْْت في ْْه األجه ْْزة‬
‫بالتكام ْ ْْل التك ْ ْْويني والتنظ ْ ْْيم الكي ْ ْْاني وفق ْ ْْا ألدق نظ ْ ْْام‪ ،‬وف ْ ْْي تهيئ ْ ْْة األرب للحي ْ ْْاة وج ْ ْْدنا عناي ْ ْْة تام ْ ْْة بك ْ ْْل‬
‫التفاص ْْيل‪ ،‬وتس ْْخيرا كْْامال لتض ْْمن معهش ْْة اإلنس ْْان املس ْْتقرة‪ ،‬وف ْْي نوامهس ْْها اإلنس ْْانية تجل ْت ف ْْي أدق نظ ْْام‬
‫يضْْمن صْْالح االجتمْْاع والعْْه ‪ ،‬فإننْْا نتوصْْل مْْن ذلْْك كلْْه إلْْى أن الْْذي نظْْم الكْْون والحيْْاة والكائنْْات وفقْْا‬
‫لهْْذه الن ْْوامهس يوص ْْف بالحكم ْْة واإلتق ْْان والعناي ْْة‪ ،‬ف ْْإذا م ْْا َح ْ َز َب علين ْْا أ ْم ْرل ْْم نس ْْتطع الحك ْْم بالعق ْْل أن ْْه‬
‫مو افق للحكمة أو العناية لقصورالعقل ومحدوديته‪ ،‬وجب أن يسلم العقل بحكمة الرب فيه‪ ،‬جريا على عدم‬
‫تخلف الحكمة والعناية واإلتقان فيما يمكن للعقل أن يحكم فيه‪.‬‬
‫الفقروالغنن‪ ،‬والصحة واملرب‪ ،‬وخطة الوجود‪:‬‬
‫بق ــي أن ننظ ــر ف ــي خط ــة الوج ــود بالنس ــبة لدنس ــان‪ ،‬ووج ــود الفق ــر والغن ــى‪ ،‬والص ــحة وامل ــرض‪ ،‬والعق ــم واإلنج ــاب‪،‬‬
‫واملـوت والحيــاة‪ ،‬والجــو والشــبع‪ ،‬والســعادة والشــقاء‪ ،‬وتســلط األقويـاء علــى الضــعفاء‪ ،‬وينقســم النظــر إليهــا إلــى نــوعين‬
‫من البحث‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬ن ـ ــو ن ـ ــاتج ع ـ ــن تقص ـ ــير اإلنس ـ ــان ف ـ ــي تفعي ـ ــل الن ـ ــواميس املجتمعي ـ ــة‪ ،‬واألخ ـ ــذ باألس ـ ــباب‪ ،‬أو س ـ ــوء تد ـ ــخيرها‬
‫واستعمالها‪ ،‬فتصيب اإلنسان نتيجتها السيئة‪ ،‬كـالحروب واالسـتعمار والفقـر واملجاعـات وإفسـاد النظـام البي ـي وغيـره‪،‬‬
‫فمسئوليته عـن نتـائج هـذا التقصـير وسـوء االسـتعمال يرجـع عليـه‪ ،‬وال بـد مـن اإلشـارة إلـى العالقـة بـين االسـتعمار ونهـب‬
‫خيرات الشعوب وتسليط حكام عمالء للغرب على رقاب الناس (في أفريقيا مثال) وبين املجاعات والفقر‪ ،‬على الرغم من‬
‫أن أفريقيا من أغنى وأخصب قارات األرض‪.‬‬
‫ثاني ْْا‪ :‬ون ــو ث ــان‪ :‬ه ــو املص ــائب التــي تص ــيب الن ــاس بغي ــر عمله ــم‪ ،‬و غي ــر ق ــدر هم عل ــى دفعه ــا‪ ،‬بقض ــاء هللا تع ــالى‪ ،‬وق ــد‬
‫يملكون القدرة على عالج بعضها (كبعض األمراض)‪ ،‬فإن اإلنسان ال يملك قدرة استيعاب كل حكمة في الكون‪ ،‬والنظر‬
‫العقلــي فــي عواق ه ــا ومآال هــا‪ ،‬إذ تتوقــف اس ــتطاعة العقــل عل ــى إصــدار األحكــام عل ــى العــدل والظلــم والخي ــر والشــر وعل ــى‬
‫الحكمة في النوازل عموما على فهم طبيعة األفعال‪ ،‬واملصال ‪ ،‬والعواقب‪ ،‬والحسن والقبح‪ ،‬والثواب والعقاب في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬وعلى أدوات ومعلومات وقدرات ليست متاحة له‪( ،‬كمعرفة عواقب الفعـل أو الواقـع املسـتقبلية‪ ،‬هـل سـيكون‬
‫خيرا له أم شرا عليه؟ هل هو خير عاجل في الدنيا‪ ،‬وشر آجل في اآلخرة؟ أو العكس؟ هل تكمن املصـلحة التـي حكـم مـن‬
‫خالله ــا بحص ــول الظل ــم أو الع ــدل ف ــي النف ــع امل ــادي‪ ،‬أم ف ــي تحقي ــق من ــافع غي ــر مادي ــة؟ فه ــذه مغ ــاليق ال اس ــتطيع العق ــل‬
‫ف كها)‪ ،‬أو إن بعض القضايا التي تلزم إلنشاء األحكام متاحة بشكل جزوي للعقل‪ ،‬لكنه ال يكفي إلصدار األحكام (كفهم‬
‫‪169‬‬
‫طبيعة الواقع)‪ ،‬أضف إلى ذلك أن القضْْايا التْْي تتوقْْف عليهْْا اْْحة الحكْْم بالعْْدل أو بْْالظلم متشْْعبة‪ ،‬أو معلومـة‬
‫ـان العـدل ظلمـا‪ ،‬أو ينصـرف عـن‬ ‫بصورة نسبية أو غير كاملة للعقل‪ ،‬مما سيؤثر قطعا على أحكامه فلربما يجعـل اإلنس ُ‬
‫فع ــل في ــه ص ــالحه إل ــى نقيض ــه لألس ــباب الس ــابق ذكره ــا‪ ،‬م ــن هن ــا ف ــال مج ــال للعق ــل لدحاط ــة بش ــئون ال ــدنيا (مل ــاذا ه ــذا‬
‫م ــريض‪ ،‬واآلخ ــر س ــليم‪ ،‬ومل ــاذا حص ــل ل ــي ه ــذا ‪...‬ال ــخ)‪ ،‬وال بش ــؤون اآلخ ــرة وال بعواق ــب األم ــور‪ ،‬وال بحس ــاب هللا تع ــالى ي ــوم‬
‫ـان نفس ــه حاكمــا عل ــى عــدل هللا تب ــارك وتعــالى‪ .174‬وه ــذا م ــا‬ ‫القيامــة‪ ،‬وال كي ــف سيق ـ ي ب ــين الخالئــق حتــى ينصــب اإلنس ـ ُ‬
‫سنفصل فيه في باب‪ :‬عدل هللا‪ ،‬تأمالت في مناظرة أخرى راوعة‪ ،‬فراجعه هناك‪.‬‬
‫عل ــى أن م ــن يح ــاكم دق ــة الص ــنعة‪ ،‬وحكمته ــا‪ ،‬إنم ــا يحاكمه ــا بأهوائ ــه التــي ص ــورت ل ــه الحس ــن والخي ــر والص ــواب م ــا‬
‫وافقها‪ ،‬والقبيح والشر والخطأ ما خالفها‪ ،‬مع أن عقل اإلنسان محدود‪ ،‬وال استطيع الحكم على ش يء من ذلك ليصل‬
‫حكمه مقياسا تقاس عليه أفعال هللا تعالى‪ ،‬فإن عقولنا ال تملك املعلومـات الكافيـة إلدراك هـل املـرض خيـر أم الصـحة‬
‫خير لدنسان؟ هل رغد العيش أفضل أم الكفاية املصحوبة بالطمأنينة‪ ،‬أم الجو ؟ ألن الزاوية التي ينظر منها قد تكون‬
‫مضــللة‪ ،‬أو محــدودة بالناحيــة املاديــة فقــط‪ ،‬فقــد نســلط زاويــة أخــرى مقابلــة وهــي‪ :‬أن هللا تعــالى يبتلــي النــاس بــالفقر أو‬
‫باملرض أو بغيره مما ظاهره الشر ليرفع درجـا هم فـي الـدنيا واآلخـرة‪ ،‬أو يبتلـيهم ليختبـر إيمـانهم‪ ،‬فيمحصـهم ويجتبـي مـنهم‬
‫ص َد َق في إيمانه‪ ،‬أو يبتليهم ليتقربوا إليه في الشدائد بعد أن غفلوا عن التقرب إليه في حال رغد العيش‪ ،‬أو ليدركوا‬ ‫من َ‬
‫نعمـة الصــحة التــي ال يتفطنـون إليهــا وإلــى دقائقهــا إال فـي حــال املــرض‪ ،‬فيـدرك املــريض الــذي بلــغ الثمـانين مــن عمــره حــين‬
‫َ‬
‫اسـعفه الطبيـب بـأجهزة التـنفس ليلــتقط ن َف َسـا واحـدا عـز عليــه التقاطـه فـي حـال مـرض ألـ َّـم بـه عظمـة أن اعـيش حياتــه‬
‫كله ــا بغي ــر حاج ــة ألجه ــزة اص ــطناعية تع ــين عل ــى الت ــنفس! أو أن اجج ــل له ــم عقوب ــة ج ـراء م ــا اقترف ــوه تج ُب ـ ُر ع ــنهم عقوب ــة‬
‫أعظــم‪ ،‬أو يكفــر عــنهم ســيئا هم‪ ،‬أو أن يــدل البشــر علــى أن طالقــة قــدرة هللا هــي مــن تســير الكــون وأنــه ال اســير ســيرا رتيبــا‬
‫اإلنسان عجزه أمام قدرة الخالق‪ ،‬فـال‬ ‫ُ‬ ‫استغني فيه عن خالقه‪ ،‬فيضر اإلنسان إلى خالقه في الشدائد واملحن‪ ،‬ويدرك‬
‫يطغى اإلنسان وال استبد‪ ،‬فيضر نفسه ويضر غيره‪.‬‬
‫كم ــا أن هللا تع ــالى ‪-‬بوص ــفه رب ــا م ــدبرا لش ــؤون الخل ــق‪ -‬نظ ــم الك ــون واملجتمع ــات بس ــنن ال تح ــا ي أح ــدا‪ ،‬تنطب ــق عل ــى‬
‫املسـلمين وعلــى الكفــار‪ ،‬مطــردة‪ ،‬تنفعــل باألســباب‪ ،‬وأمــر النـاس باكتشــافها‪ ،‬فمــا مــن داء إال ولــه دواء إال املــوت‪ ،‬فــإذا مــا‬
‫صــادف الــدواء داء عالجــه‪ ،‬فلــم يكــن االبــتالء بــاملرض إال حالــة طارئــة مرحليــة‪ ،‬وكــذلك الفقــر‪ ،‬فقــد وضــع نظامــا عــادال‬
‫يق ــوم ف ــي قس ــم من ــه عل ــى تحقي ــق التكاف ــل االجتم ــاعي‪ ،‬وب ــين مس ــئوليات الدول ــة الرعوي ــة تج ــاه الرعي ــة لتكف ــيهم حاج ــا هم‬
‫األساســية‪ ،‬وجعــل هللا األرض صــالحة للحيــاة وللمعــاش‪ ،‬وقـ َّدر فيهــا أقوا هــا‪ ،‬فجعــل فــي التربــة قابليــة إنبــات النبــات وفيهــا‬
‫الص ــالحية لل ــزر ‪ ،‬وجع ــل ف ــي األرض كمي ــات واف ــرة م ــن امل ــاء وأن ــزل ه ــذا امل ــاء م ــن الس ــماء لينتش ــر ف ــوق األراب ـ ي اليابس ــة‬
‫ليعيش منه النبات والحيوان‪.‬‬

‫‪ 174‬يراجع كتابنا‪ :‬الصندوق األسود للفكر الغر ي‪ ،‬فصل‪ :‬انعدام املقايهس املؤسسة لألخالق وللخير والشرفي ظل استبعاد الدين‪ ،‬وما بعده من فصول‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫وباإلجمال فالل تعالى قد خلق جميع ما يلزم ملعاش وحياة املخلوقات‪ ،‬وجعل في األرض أشياء خاصة باإلنسان بأن‬
‫أود ث ــروات ف ــي ب ــاطن األرض م ــن حدي ــد ونح ــاس وذه ــب وفض ــة ومع ــادن وبت ــرول ال ــخ‪ ،‬وجعله ــا بكمي ــات كافي ــة ملعيش ــة‬
‫البشر‪ ،‬حيث جعل هللا فيها قابلية إعادة االستخدام مرات ومرات‪ ،‬كدورة املياه في الطبيعة مثال‪ ،‬ولو وسد أمر معيشة‬
‫النــاس لدولــة إســالمية ترعــاهم لكفــت البشــر حاجــا هم األساســية‪ ،‬والنعــدم الفقــر‪ ،‬وحــين اعــرض اإلنســان عنهــا فــإن لــه‬
‫معيش ــة ض ــنكى‪ ،‬ولكنه ــا الرأس ــمالية الجش ــعة! اس ــتأثر فيه ــا قل ــة بم ــا ه ــو ح ــق للجم ــو ‪ ،‬ازدادوا غنــى لي ــزداد الفق ـراء فق ـرا‪،‬‬
‫ونهب ــوا ث ــروات دول ليتج ــاوزا بش ــعوبهم ح ــد الس ــرف والت ــرف‪ ،‬وبحس ــابا هم البنكي ــة ملي ــارات امللي ــارات‪ ،‬ف ــافتقرت أفريقي ــا‬
‫لتغنى فرنسا‪ ،‬ولكنه ظلم اإلنسان لدنسان‪ ،‬وخضو املظلوم للظالم دون أن استعين بالسنن املجتمعية للتغيير‪.‬‬
‫ولكنه ــا س ــوء ت ــدبير الحك ــام واإلنس ــان عموم ــا ف ــي أال اس ــتغل األرض ف ــي الزراع ــة وف ــي استص ــالحها وعمار ه ــا بالص ــورة‬
‫الصحيحة مستفيدا من تدخير هللا إياها له‪ ،‬وإفساد اإلنسان للنظام البي ي الذي ينتج ما ينتج من كوارث‪.‬‬
‫هل مصائب الدنيا هي عقوبات على الذنوب؟‬
‫وأمـا العقوبـات‪ ،‬فـإن هللا تعـالى عجـل لألقـوام الـذين خلـوا مــن قب ُـل عقوبـات فـي الـدنيا جـراء ارتكـابهم مخالفـة الرســل‬
‫ُ‬
‫والكف ــر به ــم‪ ،‬وح ــين أرس ــل محم ــد ﷺ تغي ــرت س ــنة هللا ف ــي إه ــالك الكف ــار ال ــذين يك ــذبون رس ــوله‪ .‬وب ــرز ه ــذا التغيي ــر ف ــي‬
‫النصوص التالية‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ند َك َفأ ْم ِط ْر َع َل ْي َنا ِح َج َارة ِم َن َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ َ َْ َ ُ َ َّ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ‬
‫الس َم ِاء أ ِو ائ ِت َنا ِب َعذاب‬ ‫‪1‬ـ قال هللا تعالى‪﴿ :‬و ِإذ قالوا الل ُه َّم ِإن كان هذا ه َو الحق ِمن ِع ِ‬
‫ون﴾‪[ ،‬سـورة األنفـال ‪ 32‬ـ ‪ .]33‬والـذي أطلـق‬ ‫ّللا ُم َعذ َب ُه ْم َو ُه ْم َا ْسـ َت ْغف ُر َ‬
‫ان َّ ُ‬ ‫نت فيه ْم َو َما َك َ‬ ‫َ َ َ َ َّ ُ ُ َ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ ِليم ۝ وما كان ّللا ِليع ِذبهم وأ ِ ِ‬
‫ه ــذا التك ــذيب والتح ــدي ه ــو النض ــر ب ــن الح ــارث وأب ــو جه ــل‪ ،‬وه ــذا كــان لس ــان ح ــال مش ــركي مك ــة‪ .‬ول ــم ي ــأ هم الج ــواب‬
‫َ َ‬
‫بـاإلهالك‪ ،‬بـل أعطــاهم أمـانين‪ :‬األمــان األول وجـود الرســول ﷺ بـين ظهـران ْيهم‪ ،‬واألمـان الثــاني االسـتغفار‪ .‬وإذا زال األمــان‬
‫األول بوفاة الرسول ﷺ فإن األمان الثاني ال يزول بالكلية‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اب َول َي ـأت َي َّن ُهم َب ْغ َت ـة َو ُه ـ ْم ال َا ْش ـ ُع ُر َ‬ ‫﴿و َي ْس ـ َت ْجج ُل َون َك ب ْال َع ـ َذاب َو َل ـ ْوَال َأ َج ـل ُّم َس ـمى َّل َج ـ َاء ُه ُم ال َع ـ َذ ُ‬
‫ْ‬ ‫‪2‬ـ ق ــال تع ــالى‪َ :‬‬
‫ون ۝‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين ۝ َيـ ْو َم َا ْغ َشـ ُاه ُم ْال َعـ َذ ُ‬ ‫َا ْسـ َت ْجج ُل َون َك ب ْال َعـ َذاب َوإ َّن َج َهـ َّن َم َ ُملحي َطـة ب ْال َكـافر َ‬
‫اب ِمـن فـ ْو ِق ِه ْم َو ِمـن َت ْحـ ِت أ ْر ُج ِل ِهـ ْم َو َي ُقـو ُل‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ُ ِ ُ َِ ُ َ ِ ِ‬
‫ذوقوا َما ك ُنت ْم ت ْع َملون﴾ [سورة العنكبوت ‪ 53‬ـ ‪.]55‬‬
‫ق ــال القرطبــي ج‪ /13‬ص ‪( :356‬ق ــال اب ــن عب ــاس‪ :‬اعنــي ه ــو م ــا وع ــدتك أال أع ــذب قوم ــك وأُخ ــرهم إل ــى ي ــوم القيام ــة‪.‬‬
‫َّ َ ُ‬
‫اعة َم ْو ِع ُد ُه ْم﴾‪.‬‬ ‫بيانه َ‬
‫﴿ب ِل الس‬
‫َّ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿و َمـ ـا َين ُظـ ـ ُر َْهـ ـ ُؤَال ِء إ َّال َ‬
‫صـ ـ ْي َحة َوا ِحـ ـ َدة َّمـ ـا ل َهـ ـا ِمـ ـن فـ ـ َواق ۝ َوقـ ـالوا َرَّب َنـ ـا َع ِجـ ـل ل َنـ ـا ِقط َنـ ـا ق ْبـ ـ َل َيـ ـ ْو ِم‬ ‫ِ‬
‫‪3‬ـ قـ ــال تعـ ــالى‪َ :‬‬
‫صـ ْي َحة‬ ‫﴿ين ُظـ ُر﴾ أي ينتظــر‪َْ ﴿ .‬هـ ُؤَال ِء﴾ اعنــي كفــار مكــة‪﴿ .‬إ َّال َ‬ ‫ْالح َسـاب﴾ [ســورة ص ‪ 15‬ـ ‪ .]16‬قــال القرطبــي فــي تفســيرها‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّ‬
‫َو ِاح َدة﴾ أي نفخة القيامة‪ِ ﴿ .‬قطنا﴾‪ ،‬قال مجاهد وقتادة‪ :‬عذابنا‪.‬‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫الر ْح َمة ل َي ْج َم َع َّنك ْم ِإل ْى َي ْو ِم ال ِق َي َام ِة ال َرْي َب ِفي ِـه﴾‪[ ،‬سـورة األنعـام ‪ ]12‬قـال القرطبـي‬ ‫‪4‬ـ قال تعالى‪﴿ :‬ك َت َب َعل ْى ن ْف ِس ِه‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫الر ْح َمة﴾‪ ،‬أي وعد بها فضـال منه وكرما‪ ،‬ولذلك أ ْم َه َل‪.‬‬ ‫في تفسيرها‪﴿ :‬ك َت َب َعل ْى ن ْف ِس ِه‬
‫‪171‬‬
‫َ ََ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ ُّ ْ َ ْ َ َّ َ َ َّ َ َ ْ َ َّ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ َ َّ َ َ‬
‫الناقة ُم ْب ِص َرة فظل ُموا ِب َها َو َما ُن ْر ِس ُل‬ ‫ات ِإال أن كذب ِبها األولون وآتينا ثمود‬ ‫‪ 5‬ـ قال تعالى‪﴿ :‬وما منعنا أن نر ِسل ِباآلي ِ‬
‫َ َ َ َ َ َ َ ُّ ْ َ َْ‬ ‫ْ َ َّ َ ْ‬
‫ات﴾ التي اقترحوها إال أن‬ ‫ات ِإال تخ ِويفا﴾‪[ ،‬سورة اإلسراء ‪ .]59‬قال القرطبي في تفسيرها‪﴿ :‬وما منعنا أن نر ِسل ِباآلي ِ‬ ‫ِباآلي ِ‬
‫ُ‬
‫يكذبوا بها فيهلكوا كما ف ِعل بمن كان قـبلهم … فـأخر هللا تعـالى العـذاب عـن كفـار قـريش لعلمـه أن فـيهم مـن يـؤمن وفـيهم‬
‫ـئت كـان مـا‬ ‫مـن يولـد مؤمنـا … إنهـم طلبـوا أن يحـول هللا لهـم الصـفا ذهبـا ُوت َتنملـى الجبـال عـنهم‪ ،‬فنـزل جبريـل وقـال‪« :‬إن ش َ‬
‫استأن بهم ‪.‬‬ ‫استأنيت بهم فقال‪« :‬ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قومـك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم ُي ْم َهـلوا‪ ،‬وإن َ‬
‫شئت‬ ‫سأل ُ‬
‫َْ‬ ‫ِ‬
‫صـ ُار﴾‪[ ،‬سـورة‬ ‫األ ْب َ‬ ‫ص ِفي ِـه‬ ‫ّللا َغـا ِفال َع َّمـا َا ْع َمـ ُل ال َّظـاملُو َن إ َّن َمْا ُيْ َؤ ِخ ُر ُه ْم ِل َيْ ْوم َت ْشـ َخ ُ‬ ‫﴿وَال َت ْح َسـ َب َّن َّ َ‬
‫‪6‬ـ قـال هللا تعـالى‪َ :‬‬
‫ل‬ ‫ِ ِ‬
‫إبراهيم ‪.]42‬‬
‫وه ــذا خط ــاب م ــن هللا للرس ــول ﷺ بع ــد أن اش ــتد اس ــتفزاز املش ــركين وتح ــدَهم ل ــه واس ــتهزاُهم ب ــه وبالع ــذاب ال ــذي‬
‫َ َ ُ َ ُّ ْ َ َ َ َ َّ ْ َ ْ ُ َ َ َ َ ْ َ‬
‫األ ْ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫َهــددهم بــه‪ .‬وه ــذا االســتهزاء والتح ــدي واالســتفزاز يب ــرز فــي قول ــه تعــالى‪﴿ :‬وقـالوا ل ـن نـؤ ِمن ل ـك حتـى تفج ـر لنـا ِم ـن‬
‫ط ال َّسـ َم َاء َك َم ـا َ َع ْم ـ َت َع َل ْين ـاَ‬ ‫َْ ُ ْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ َ َ‬
‫ز‬ ‫َي ُنبوعـا ۝ أ ْو تك ـون ل ـ َك َج َّنـة ِم ـن َّن ِخي ــل َو ِع َنـب ف ُت َف ِج ـ َر األ ْن َه ـ َار ِخالل َهـا ت ْف ِجي ــرا ۝ أو تس ـ ِق‬
‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ َّ ْ َ َ َ َ‬
‫الِل َواملال ِئك ِة ق ِبيال ۝ أ ْو َيكون ل َك َب ْيـت ِمـن ُزخـ ُرف أ ْو ت ْر ـ ْى ِفـي ال َّسـ َم ِاء َولـن ُّنـ ْؤ ِم َن ِل ُر ِق ِيـ َك َح َّتـ ْى تنـ ِز َل َعل ْي َنـا‬ ‫ِكسفا أو تأ ِتي ِب ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ك َتابـا َّن ْقـ َر ُُ ُه ُقـ ْل ُسـ ْب َح َ‬
‫ان َرِ ـي َهـ ْل كنـ ُـت ِإال َبشـرا َّر ُسـوال﴾‪[ ،‬ســورة اإلسـراء ‪ 90‬ـ ‪ ]93‬وقــد قــام الرســول ﷺ مــن بيــنهم حزينــا‬ ‫ِ‬
‫متأملا‪ .‬فأنزل هللا عليه تسلية له بأن هللا ليس غافال عنهم إنما يؤخرهم إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫لقد تحدثنا حتى اآلن عن األقوام الذين يأتيهم رسل هللا فيكذبونهم‪ .‬فما هي سنـة هللا في الناس بشكل عام‪ ،‬أي حين‬
‫َ َ‬
‫ال يكون هناك رسول بين ظهران ْيهم يدعوهم إلى هللا‪ ،‬كما كانت الحال في الفتـرة بـين رسـول ورسـول‪ ،‬أو كمـا صـارت الحـال‬
‫واستمرت منذ وفاة الرسول محمد ﷺ؟ هذه الحال العامة للناس تحكمها النصوص التالية‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ ُ َّ ُ َّ َ ُ ْ‬
‫اس ِبظل ِم ِهـم َّمـا تـ َر َك َعل ْي َهـا ِمـن َدا َّبـة َول ِكْن ُيْؤ ِخ ُر ُه ْم ِإلْ مى أ َجْ لل ُّم َسْون فـ ِإذا َجـ َاء‬ ‫‪1‬ـ قـال هللا تعـالى‪﴿ :‬ولـو يؤا ِخـذ ّللا النـ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُُ ْ َ َ ْ َْ ُ َ َ َ َ‬
‫اعة َوال َا ْس َت ْق ِد ُمون﴾‪[ ،‬سورة النحل ‪.]61‬‬ ‫أجلهم ال استأ ِخرون س‬
‫َ َّ َ َم ُ َ ُ ُ ْ َ م َ َ ُّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿و َلـ ْو ُي َؤاخـذ َّ ُ‬
‫ُ‬
‫اس ِب َمـا ك َسـ ُبوا َمـا تـ َر َك َعلـ ْى ظ ْه ِر َهـا ِمـن دابـة ول ِكْن يْؤ ِخرهم ِإلْى أجْ لل مسْون فـ ِإذا‬ ‫ّللا ال َّنـ َ‬ ‫ِ‬
‫‪2‬ـ قال تعالى‪َ :‬‬
‫ان ِب ِع َب ِاد ِه َب ِصيرا﴾ [سورة فاطر ‪.]45‬‬ ‫َج َاء َأ َج ُل ُه ْم َفإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َك َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ َّ ْ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ ْ َ ُ ُ ُ َّ ْ َ َ ْ ُ َ ُ ُ َ َ َ ُ َ َ َّ َ َ ُ ُ ْ َ َ‬
‫‪3‬ـ قـال تـعـالـى‪﴿ :‬وربك الغفور ذو الرحم ِة لو يؤ ِاخذهم ِبما كسبوا لججل لهم العذاب‪ ،‬بـل لهـم مو ِعـد لـن ي ِجـدوا ِمـن‬
‫ُدو ِن ِه َم ْو ِئال﴾‪[ ،‬سورة الكهف ‪.]58‬‬
‫َْ‬
‫األ ْب َ‬ ‫﴿وَال َت ْح َس ـ َب َّن َّ َ‬
‫ّللا َغ ـا ِفال َع َّم ـا َا ْع َم ـ ُل ال َّظ ـاملُو َن إ َّن َمْ ْا ُيْ ْ َؤ ِخ ُر ُه ْم ِل َيْ ْ ْوم َت ْش ـ َخ ُ‬ ‫‪4‬ـ ق ــال تع ــالى‪َ :‬‬
‫ص ـ ُار﴾‪[ ،‬س ــورة‬ ‫ص ِفي ـ ِـه‬ ‫ل‬ ‫ِ ِ‬
‫إبراهيم ‪.]42‬‬
‫اليوم عمل وال حساب‪ ،‬وغدا حساب وال عمل [رواه البخاري]‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ قال رسول هللا ﷺ‪َ « :‬‬
‫هـذه النصـوص الخمسـة ومـا كـان فـي معناهـا تفيــد بوضـوح أن هللا سـبحانه لـم يجعـل الـدنيا دار حسـاب‪ ،‬بـل هــي دار‬
‫َ َّ َ ُ َ َّ ْ َ ُ ُ َ ُ‬
‫ورك ْم َي ـ ْو َم‬ ‫عم ــل‪ ،‬والحس ــاب غ ــدا‪ .‬واس ــتيفاء الحس ــاب يك ــون ي ــوم القيام ــة ال ــذي اس ــمى ي ــوم الـحـس ــاب ﴿و ِإنم ـا توف ـون أج ـ‬
‫ْ‬
‫ال ِق َي َام ِة﴾‪[ ،‬آل عمران ‪.]185‬‬

‫‪172‬‬
‫أمــا مــا يصــيب النــاس فــي الــدنيا مــن املصــائب فهــذه تحصــل بحســب ســنن الكــون وخصــائص األشــياء التــي أودعهــا هللا‬
‫فيها‪ ،‬وهي تصيب املـؤمـن كمـا تصـيب الكافر‪ ،‬وتصـيب الـتـقـي كما تصيب الشقي‪.‬‬
‫واملصـائب فــي الـدنيا لــيس مـن الضــرورة أن تكـون عقوبــة مــن هللا علـى معصــية‪ ،‬ولـيس مــن الضـرورة أن تكــون انتقامــا‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ ُ ُ َ‬
‫﴿ول َن ْبل َو َّنكم ِبش ْيء ِم َن الخ ْو ِف َوال ُجو ِ َون ْقص ِم َن األ ْم َو ِال‬ ‫إلهيا من العبد املصاب‪ .‬فهذا قول هللا تعالى مخاطبا املؤمنين‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َ َ َ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َّ‬
‫لِل َو ِإن ـا ِإل ْي ـ ِه َر ِاج ُع ـون ۝ أول ِئ ـ َك َعل ـ ْي ِه ْم‬ ‫َ‬
‫ص ـ ِاب ِرين ۝ ال ـ ِذين ِإذا أص ـابت ُهم ُّم ِص ـيبة ق ـالوا ِإن ـا ِ ِ‬
‫الث َم ـ َرات َو َ ش ـر ال َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫سو‬ ‫واألنف ـ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫صـل َوات ِمـن َّ ِرب ِهـ ْم َو َر ْح َمـة َوأول ِئـ َك ُهـ ُم امل ْه َتـ ُدون﴾‪[ ،‬ســورة البقــرة ‪ 155‬ـ ‪ .]157‬وهــذا قــول الرســول ﷺ‪« :‬أشـ ُّـد النــاس بــالء‬
‫البالء بالعبد حـتـى يتركه يـمـشـي على األرض وما عليه‬ ‫ُ‬ ‫الرجل على حسب دينه‪ .‬فما ُ‬
‫يبرح‬ ‫ُ‬ ‫فاألمثل‪ُ ،‬يبتلى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األمثل‬ ‫األنبياء‪ ،‬ثم‬
‫خطيئة [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ف ــاملؤمن ال ــذي يص ــاب ويص ــبر ويحتس ــب ذل ــك عن ــد هللا تك ــون املص ــيبة نعم ــة علي ــه وليس ــت ِنقم ــة‪ ،‬فه ــي تح ــط م ــن‬
‫سيئاته وتزيد في حسناته يوم القيامة‪.‬‬
‫وأم ــا الك ــافر ال ــذي ُيص ــاب ف ــإن مص ــيبته ال تك ــون مح ــوا لس ــيئاته وال زي ــادة ف ــي حس ــناته ي ــوم القيام ــة‪ ،‬ألن ــه ل ــيس ل ــه‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫﴿وقـ ِد ْم َنا ِإلـ ْى َمـا َع ِملـوا ِمـ ْن َع َمـل ف َج َعل َنـ ُاه َه َبـاء َّمنثـورا﴾‪[ ،‬ســورة الفرقــان ‪ .]23‬وقــال‬ ‫حســنات يــوم القيامــة‪ ،‬قــال تعــالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ين َك َفـ ُروا علـى النـار أذه ْبـت ْم طي َبـا ِتك ْم فـي ح َيـا ِتك ُم الــدن َيا َوا ْسـت ْمت ْعتم ب َهـا فـال َي ْو َم تجـزون عـذ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ض ا َّلـذ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫اب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعـالى‪﴿ :‬ويـ ْو َم ا ْعـ َر ُ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُ ُ ْ َ ْ َْ ُ َ َْ‬ ‫ْال ُ‬
‫ض ِبغ ْي ِر ال َح ِق َو ِب َما ك ُنت ْم ت ْف ُس ُقون﴾‪[ ،‬سورة األحقاف ‪.]20‬‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫األ ْ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ون‬
‫ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫ب‬‫ك‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫نت‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫و‬‫ه‬
‫وقــد وردت كلم ــة (ع ــذاب) ف ــي النص ــوص الشــرعية بمعنــى العقوب ــات التــي أم ــر هللا بإيقاعهــا عل ــى العص ــاة‪ ،‬مث ــل قول ــه‬
‫َّ‬ ‫﴿و َي ْد َ ُرأ َع ْن َها ْال َع َذ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ‬ ‫﴿و ْل َي ْش َه ْد َع َذ َاب ُه َما َطائ َفة م َن ْاملُ ْؤمن َين﴾‪[ ،‬سورة النور‪ ،]2‬ومثل‪َ :‬‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫اب أن تش َهد أ ْر ع ش َهادات ِب ِ‬
‫الِل‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ َْ‬
‫ِإ َّن ُه ِمل َن الك ِاذ ِب َين﴾‪[ ،‬سورة النور‪.]7‬‬
‫وق ــد وردت كلم ــة (ع ــذاب) وكلم ــة (عق ــاب) وكلم ــة (ه ــالك) وكلم ــة (ت ــدمير) وكلم ــة (اس ــتبدال) ف ــي النص ــوص الش ــرعية‬
‫بمعنــى م ــا يص ــيب الن ــاس م ــن أذى أو مص ــائب بحس ْْب س ْْنة الك ْْون‪ ،‬وبحس ْْب األس ْْباب واملس ْْببات‪ ،‬مث ــل قول ــه تع ــالى‪:‬‬
‫َ َ ُْ َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ ْ َ َ‬
‫ّللا َس ـ َب َق مل َّس ـك ْم ِفي َم ـا أخ ـذت ْم َع ـذاب َع ِظ ـيم﴾‪[ ،‬س ــورة األنف ــال ‪ ،]68‬أي إن ت ــرك القت ــل أثن ــاء املعرك ــة‬ ‫﴿ل ـوال ِكت ـاب ِم ـن ِ‬
‫والحرص علـى األسـر طمعـا بأخـذ فديـة األسـير قـد يـؤدي إلـى خسـرانكم املعركـة وأن تصـبحوا أنـتم القتلـى واألسـرى‪ .‬فهْْذا‬
‫يرينا أهمية فهم السنن حتن ال نقع في مظنة السبب فتنزل املسببات بساحتنا!‬
‫صـ ُد َور قـ ْوم ُّمـ ْؤ ِم ِن َين﴾‪[ ،‬ســورة‬
‫َ‬ ‫صـ ْر ُك ْم َع َلـ ْيه ْم َو َي ْشـف ُ‬ ‫ّللا ب َأ ْيـ ِد ُيك ْم َو ُي ْخـزه ْم َو َين ُ‬ ‫وه ْم ُا َعـذ ْب ُه ُم َّ ُ‬
‫ِ‬
‫ومثـل قولــه تعـالى‪َ ﴿ :‬قـات ُل ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُل َ َ َّ ْ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َ ُّ ْ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ َ َ‬
‫التوبة ‪ .]14‬ومثله قوله تعالى‪﴿ :‬و ِإذا أردنا أن نه ِلك قرية أمرنا متر ِفيها ففسقوا ِفيها فحق عليها القو فدمرناها تد ِميرا﴾‪،‬‬
‫[س ــورة اإلسـ ـراء ‪ ،]16‬وذل ْ ْْك ح ْ ْْين تق ْ ْْع ح ْ ْْروب أهلي ْ ْْة بس ْ ْْبب ك ْ ْْرة الفس ْ ْْاد‪ ،‬وال ْ ْْذي يف ْ ْ ي إل ْ ْْى الظل ْ ْْم والتف ْ ْْاوت‬
‫االقتصادي‪ /‬االجتماعي‪ ،‬ويولْْد النقمْْة وعْْدم اسْْتقراراملجتمعْْات‪ ،‬فتنشْْأ الصْراعات والحْْروب واإلهْْالك للوقْْوع‬
‫في مظنة تلك األسباب‪ ،‬أو يطمع عدو خار ي حين يرى تلك القرية غـارقين فـي التـرف واللـذات ومهملـين فـي أسـباب القـوة‬
‫والجهاد‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫َ َ َ َ َّ ْ َ ْ َ ْ ْ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ُ َّ َ َ ُ ُ َ ْ َ َ ُ‬
‫ْولي املس ْْلمين‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬‫ف‬ ‫]‪.‬‬‫‪38‬‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬‫م‬ ‫مح‬ ‫ـورة‬ ‫ـ‬‫س‬ ‫[‬ ‫‪،‬‬ ‫م﴾‬ ‫ك‬ ‫ومثلــه قولــه تعــالى‪﴿ :‬و ِإن تتولـوا اسـتب ِدل قومـا غيـركم ثـم ال يكونـوا أمثـال‬
‫عْْن ش ْْريعة هللا س ْْيؤدي به ْْم إل ْْى التم ْْزق والض ْْعف م ْْا يجعْْل أع ْْداءهم يقض ْْون عل ْْيهم حت ْْن ي ْْأتي م ْْن األم ْْة غي ْ ُْر ُهم‬
‫يتمسكون بدين هللا‪.‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ض َعـن ذ ْكـري َفـإ َّن لـ ُه َمعي َشـة َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اي َفال َيض ُّل َوال َا ْش َق ْى ۝ َو َم ْن أ ْع َر َ‬ ‫َ‬
‫﴿ف َمن َّات َب َع ُه َد َ‬
‫ضـنكا َون ْحشـ ُر ُه‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومثله قوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َيـ ْو َم ال ِق َيا َمـ ِة أ ْع َمـ ْى﴾‪[ ،‬ســورة طــه ‪ 123‬ـ ‪ .]124‬فْْأي الْْنظم غي ْْرنظْْام اإلس ْْالم يجلْْب للنْْاس الس ْْعادة وحسْْن التص ْْور‬
‫لسبب وجودهم‪ ،‬ويجلب حسن تطبيقه عليهم الرخاء والرضْْا‪ ،‬والتكافْْل االجتمْْاعي‪ ،‬وحسْْن رعايْْة الرعيْْة مْْن قبْْل‬
‫الدولْ ْْة وتحمْ ْْل مسْ ْْئولياتها؟ فْ ْْإذا مْ ْْا أعرضْ ْْوا عنْ ْْه وقعْ ْْوا ْ ْْحية األنظمْ ْْة البشْ ْْرية الجْ ْْائرة! فهْ ْْذه كلهْ ْْا سْ ْْنن‬
‫مجتمعية ينبغي فهمها ودراستها!‬
‫َُ‬
‫ومثل حديث الرسول ﷺ وقد ُسـ ِئل‪َ « :‬أن ِهل ُك وفينـا الصـالحون؟ قـال‪ :‬نعـم‪ ،‬إذا كــثر الخبـث [رواه البخـاري ومسـلم]‪.‬‬
‫هللا أن يبعـث علـيكم‬ ‫ـأمرن بـاملعروف ولتنه ُـون عـن املنكـر أو ليوش َـكن ُ‬ ‫ومثل ذلك قول الرسول ﷺ‪« :‬والذي نفسـ ي بيـده لت ُ‬
‫لتدعنـه فــال اســتجاب لكــم [رواه اإلمــام أحمــد والترمــذي]‪ .‬وهن ْْا الك ْْالم ع ْْن س ْْنة إلهي ْْة‪ ،‬ف ْْاهلل ال‬ ‫عقابــا مــن عنــده‪ ،‬ثــم ُ‬
‫يستجيب حينها للدعوات‪ ،‬ويقع الناس في عقوبات ما تجلبه عليهم املنكرات من أمراب لْْم تكْْن فْْيمن قْْبلهم‪ ،‬أو فْْي‬
‫استشراء الفساد واملنكرات والنظم الوضعية الربوية وما شابه!‬
‫ه ْْذه النت ْْائج الت ْْي تن ْْتج حس ْْب ق ْْانون الس ْْببية لهس ْْت ه ْْي الحس ْْاب عل ْْى ال ْْذنوب‪ ،‬ب ْْل الحس ْْاب عل ْْى ال ْْذنوب‬
‫سيأتي يوم القيامة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ضـنكا َو َن ْح ُشـ ُر ُه َيـ ْو َم ال ِق َيا َمـ ِة أ ْع َمـ ْى ۝ َقـ َ‬ ‫َ‬
‫ض َعـن ذ ْكـري َفـإ َّن لـ ُه َمعي َشـة َ‬ ‫َ‬
‫﴿و َمـ ْن أ ْعـ َر َ‬‫الحظـوا قولــه تعــالى‪َ :‬‬
‫ال َر ِب ِلـ َم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫ال ك ـذ ِل َك أت ْتـ ـ َك َآيات َن ـا فن ِس ـ َيت َها َوك ـذ ِل َك ال َيـ ـ ْو َم تنسَ ـ ْى﴾ [س ــورة ط ــه ‪ 124‬ـ ‪.]126‬‬ ‫َحش ـ ْرت ِني أ ْع َم ـ ْى َوق ـ ْد كن ـ ُـت َب ِص ـيرا ۝ ق ـ‬
‫فــاإلعراض عــن ذكــر هللا (أي شــر هللا) تنــتج عنــه املعيشــة الضــنك (أي الشــقاء) فــي الحيــاة الــدنيا‪ ،‬وهــذا الشــقاء ال يجبـر‬
‫عـن صـاحبه عـذاب يـوم القيامـة‪ .‬العــذاب الـدنيوي الـذي يجبـر عـن صـاحبه عــذاب يـوم القيامـة هـو العقوبـات الشــرعية‬
‫مـ ــن حـ ــدود وتعزيـ ــر‪ ،‬إذ إن هـ ــذه العقوبـ ــات هـ ــي زواجـ ــر وجـ ــوابر‪ .‬أمـ ــا املصـ ــائب واألمـ ـراض التـ ــي تحصـ ــل ج ـ ـراء األسـ ــباب‬
‫واملسببات فهذه ليست عقوبات تجبر عقوبات يوم القيامة‪ .‬فالذي يرتكب الزنا ويصاب بمرض اآليدز مثال ال يقال بأن‬
‫هذه هي عقوبته عجلها هللا له في الدنيا ليسقطها عنه في اآلخرة‪ .‬بل مرض اآليدز هو نتيجة حينما تتوفر أسبابه‪ ،‬وتبقى‬
‫عقوبة الزنا إلى يوم الحساب‪.‬‬
‫أم ــا األمـ ــور التـ ــي تحص ــل فـ ــي الكـ ــون‪ ،‬ولـ ــيس لدنس ــان فيهـ ــا أي دور‪ ،‬مثـ ــل ال ــزالزل واألعاصـ ــير والفيضـ ــانات والبـ ـراكين‬
‫وانحباس املطر وشدة الحر وشدة البرد وما ينتج عنها من آثار‪ ،‬فإ ها من أفعال هللا وحده‪ ،‬حسْْب السْْنن التْْي أودعهْْا‬
‫هللا ف ْْي األش ْْياء‪ ،‬ه ْْذه األم ْْور تص ْْهب الن ْْاس ال ف ْْرق ب ْْين م ْْؤمن وكْْافر‪ ،‬وال ب ْْين ص ْْالح وط ْْالح‪ .‬وهــي ليســت شـرا بــاملعنى‬
‫الش ــرعي للش ــر‪ .‬وه ــي بالنس ــبة للم ــؤمنين اب ــتالء ف ــإن ص ــبروا واحتس ــبوا كان ــت خي ـرا ونعم ــة‪ .‬وه ــي بالنس ــبة لجمي ــع الن ــاس‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫مؤمنين وكافرين آية من هللا تدعوهم للتفكر واالعتبار‪ ،‬وهي تخويـف لهـم مـن عاقبـة إهمـالهم واسـتغراقهم فـي الشـهوات‬
‫العابرة ونسيانهم ما هم مقدمون عليه من نعيم أو حيم‪.‬‬
‫إن ه ــذه األح ــداث ال تح ــدث عش ــوائيا وال ص ــدفة‪ ،‬إنه ــا تح ــدث حس ــب التق ــدير والترتي ــب ال ــذي اخت ــاره هللا س ــبحانه‬
‫بحكمته وعلمه‪.175‬‬
‫عدل هللا تعالى‪ ،‬تأمالت في مناظرة رائعة‬
‫ُ َ َ‬
‫قابلــت شــابا ولــد ونشــأ فــي كنــدا‪ ،‬مقــبال علــى اإلســالم‪ ،‬وســألني فقــال‪ :‬نحــن لــم ن ْستشـ ْر فــي أن نقــدم علــى هــذه الــدنيا‪،‬‬
‫ونخضـع المتحـان رهيـب فيهـا‪ ،‬نتيجتـه إمـا جنـة وإمـا نـار! ولـو كـان لـي الخيـار لربمـا رفضـت دخـول االمتحـان أصـال‪ ،‬ألنــي ال‬
‫أعلم ما يكون مني أو علي!‬
‫س في إطار مسألة أخرى‪ ،‬لكنها تصل تماما لدجابة على سؤاله!‬ ‫ذكرني سؤاله بقصة‪ُ ،‬ت ْد َر ُ‬
‫فــي تفســير القـرآن العظــيم تصــنيف الشــيخ فخــر الــدين الـرازي فــي ســورة األنعــام‪" :‬أن اإلمــام أبــا الحســن األشــعري ملــا‬
‫فارق مجلس األستاذ أ ي علي الجباوي وترك مذهبـه وكثـر اعتراضـه علـى أقاويلـه عظمـت الوحشـة بينهمـا‪ ،‬فـاتفق يومـا أن‬
‫الجب ــاوي عق ــد مجل ــس الت ــذكير‪ ،‬وحض ــر عن ــده ع ــالم م ــن الن ــاس‪ ،‬ف ــذهب األش ــعر ُّي إل ــى ذل ــك املجل ــس‪ ،‬وجل ــس ف ــي بع ــض‬
‫َّ‬
‫النـواحي ُمختفيــا عــن الجبــاوي‪ ،‬وقـال لــبعض مــن حضــره مــن النسـاء‪ :‬أنــا أعلمـ ِـك مســألة فاذكرَهـا لهــذا الشــيخ‪ ،‬ثــم علمهــا‬
‫سؤاال بعد سؤال‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬أَها الشيخ‪ ،‬ما قولك في ثالثة مؤمن وكافر وصبي؟‬
‫فقال الجباوي‪ :‬املؤمن من أهل الدرجات‪ ،‬والكافر من أهل الهلكات‪ ،‬والصبي من أهل النجاة‪.‬‬
‫فقالت املرأة‪ :‬فإن أراد الصبي أن ير ى الى أهل الدرجات هل يمكن؟‬
‫قال الجباوي‪ :‬ال‪ ،‬يقال له‪ :‬إن املؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة‪ ،‬وليس لك مثله‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬فإن قال‪ :‬التقصير ليس مني‪ ،‬فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل املؤمن‪.‬‬
‫َ‬
‫قـال الجبـاوي‪ :‬يقــول لـه هللا‪ :‬كنــت أعلـم أنــك لـو بقيـت لعصــيت وعوقبـت‪ ،‬فراعيــت مصـلحتك‪ ،‬وأ َم ُّتـ َك قبـل أن تنتهــي‬
‫إلى سن التكليف‪.‬‬
‫َ‬
‫علمت حال ُه كما َع ِل ْم َت حالي‪ ،‬فهال راعيت مصلحتي مثله‪.‬‬ ‫َ‬ ‫قالت‪ :‬فلو قال الكافر‪ :‬يا رب‪،‬‬
‫فانقطع الجباوي"!‬
‫تذكر هذه الحادثة في مجال الرد على املعتزلة في قولهم إن هللا تعالى يتوجب عليه أن يختار األصل لعباده‪ ،‬وليست‬
‫هــذه مســألتنا هنــا‪ ،‬فلــن نخــوض فيهــا‪ ،‬ولكنــي أذكرهــا هنــا ألبــين لكــم مســألة أخــرى تظهــر جليــة مــن هــذه املســألة‪ ،‬وهــي مــا‬
‫أجبــت بــه الســائل آنفــا! وهــي أن هللا تعــالى وهــو الحكــم الع ــدل القــائم بالقســط الــرحيم بعبــاده‪ ،‬إذ يقــارن عدلــه فــي ص ــبي‬

‫‪ 175‬هل مصائب الدنيا هي عقوبات على الذنوب؟ مجلة الوعي العدد ‪ 150‬بتصرف‬
‫‪175‬‬
‫مـات ولـم اســتحق عـذابا‪ ،‬وكـان فــي هـذا عــدال مقارنـة بتعـذيب مجــرم بالنـار‪ ،‬فهمــا متكافئـان فـي االشــتراك بأسـباب النجــاة‬
‫ويسرها عليهما وتمكنهما من األخذ بها سواء‪ ،‬إننا حين ننظر في أسباب النجاة والعقاب‪ ،‬ونركز النظر عليهـا‪ ،‬تحـل لـدينا‬
‫اإلشكالية بسهولة‪.‬‬
‫وأق ــول ف ــوق ذل ــك فإن ــا ال نعل ــم م ــن ح ــال الص ــغير ف ــي اآلخ ــرة م ــا ينال ــه‪ ،‬وأم ــا املحس ــن واملس ـ يء فق ــد آتاهم ــا هللا آالت‬
‫التفكير واألدلة التي تملؤ جنبات الكون‪ ،‬وأنزل البينات وأرسل الرسل بالنذارة والبشارة‪ ،‬فاستحقا جزاء أعمالهما‪ ،‬فلم‬
‫تك ــن عقوب ــة املس ـ يء بغي ــر س ــابقة ن ــذارة وإقام ــة للحج ــة علي ــه‪ ،‬فاس ــتحق م ــا قارف ــت ي ــداه‪ ،‬وأم ــا الص ــغير فل ــم ي ــدخل ه ــذا‬
‫الولـدان املخلـدين ويـدخلهم‬ ‫االختبار برمته‪ ،‬فلم يكن دخوله الجنة ونجاته من العذاب ظلما للكبير؛ فالل تعـالى يخلـق ِ‬
‫الجنة ال جزاء على أعمالهم‪ ،‬ولكن فضال منه وكرما لم استحقهما املس يء فتأمل!‬
‫مـن هـذه القصـة يظهـر أن قيـاس عـدل هللا تعـالى علـى عـدل البشـر يوقـع النـاس فـي مشـاكل فكريـة أصـل التفكيـر فيهــا‬
‫ه ــو الخط ــأ‪ ،‬فاإلنس ــان يق ــيس الع ــدل والخي ــر والش ــر بمق ــاييس أرض ــية مح ــدودة‪ ،‬ل ــذلك ال يج ــوز قي ــاس ع ــدل هللا عل ــى‬
‫مفهوم العدل عند البشر‪﴿ .‬أال اعلم من خلق؟ وهو اللطيف الخبير﴾!‬
‫فإن هللا تعالى ال اعذب حتى يبعث رسوال نذيرا ببالا مبين بما تحويه هذه الجملة من معان تامة‪ ،‬بالا مبين‪ ،‬واضـ‬
‫ال لبس فيه‪ُ ،‬ح َّجة بالغة‪ ،‬ونذارة تامة فيها مكاشفة تامة عن املصائر‪ ،‬ويسبقها أن يمد هللا تعالى اإلنسان بأعظم آلة في‬
‫الكــون‪ ،‬أال وهــي العقــل‪ ،‬بمــا فيــه مــن قــدرات خارقــة علــى الــربط والتفكيــر والتحليــل‪ ،‬ومــا يحتاجــه مــن أدوات استكشــاف‬
‫كاألسما واألبصار واإلحساس‪ ،‬فالعقـل الحجـة األولـى علـى الخلـق‪ ،‬ثـم تـأتي الحجـة الثانيـة علـى الخلـق بـأن يمتلـك النبـي‬
‫مججـزة خارقـة لقـوانين الكـون‪ ،‬تفـرض نفسـها علـى السـامع والقـاري فرضـا فـال يجـد بـدا مـن أن يراهـا عالمـة واضـحة علـى‬
‫صدق النبي في رسالته!‬
‫و عد هذه املججزة الخارقة تأتي الحجة الثالثة الدامغة متمثلة بأدلة تمـأل جنبـات اإلنسـان‪ ،‬وتمـأل أرجـاء الكـون‪ ،‬ال‬
‫مج ــال فيه ــا ل ــنقض وال حي ــرة وال ش ــك‪ ،‬ك ــون م ــنظم ال فوب ـ ى في ــه‪ ،‬مض ــبوط كــأدق س ــاعة‪ ،‬فالع ــالم يج ــد م ــن األدل ــة م ــا‬
‫يناســب أبحاث ــه وعقلــه وتفكي ــره ونظ ــره‪ ،‬واألديــب يج ــد ك ــذلك إذ ينظــر ف ــي بالغــة الق ـرآن ونظم ــة‪ ،‬والطبيــب يج ــد ك ــذلك‪،‬‬
‫إذي ــرى أند ــجة اإلنس ــان وأجهزت ــه‪ ،‬ولق ــد خض ــع أكب ــر ملح ــد ف ــي الق ــرن العش ــرين "أنت ــوني فل ــو" ملجج ــزة ال ــدي أن إي ــه‪ ،‬ول ــم‬
‫يملك منها فرارا بالتسليم باستحالة أن تكون إال من صنع خالق قدير حكيم! والفالح إذ ينظر في البذرة واألرض والثمرة‬
‫واملطر ودورته‪ ،‬وكل إنسان يرى في جنبيه من اآليات ما ال مجال لرده بأنه مخلوق لخالق عظيم كريم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ث ــم ت ــأتي الحج ــة الرابع ــة‪ ،‬فق ــد أتب ــع هللا تع ــالى العق ـ َـل واملجج ــزة واألدل ــة بال ــدين نفس ــه‪ ،‬بكت ــاب حك ــيم في ــه فص ــل‬
‫الخطــاب‪ ،‬وفي ــه عقي ــدة تطم ــان له ــا العق ــول وتستبش ــر به ــا القلــوب‪ ،‬ق ــوال فص ــال حكيم ــا موافق ــا للفط ــرة‪ ،‬ث ــم انبث ــق عن ــه‬
‫نظام حياة يضمن السعادة والرفاهية والطمأنينة والعدالة والقيام بالقسط للناس‪،‬‬
‫فهـذه األســباب األر عـة‪ :‬العقــل واملججــزة‪ ،‬واآليـات‪ ،‬والــدين نفســه بشـقيه العقــدي والتشــريعي حجـة واضــحة ال لــبس‬
‫فيهـا علــى النــاس جميعــا! وهــي مــن البســاطة والوضــوح‪ ،‬والقــوة فــي الداللــة بمثابــة أنهــا لــو عرضــت علــى أي عاقــل خــال مــن‬

‫‪176‬‬
‫املعوقـات الناشـئة عـن زخـرف األهـواء وضـاللة الرغبـة فـي اإلعـراض عـن الحـق‪ ،‬أو اإلعـراض بالكليـة عـن محاولـة التفكيـر‬
‫واإلخــالد لــألرض أو الــركض وراء املــال بطــرق غيــر مشــروعة‪ ،‬وغيــر ذلــك مــن األســباب التــي تتســبب فــي إعـراض الكــافر عــن‬
‫النظر في هذه اآليات البينات الواضحات التي هي حجة دامغة واضحة‪ ،‬ملا وسعه إال أن يتبعها!‬
‫وهي من السهولة كما لو أنها عرضت على صبي لم يبلغ سن التكليف‪ ،‬فقبلها فنجا من العقاب!‬
‫وهــي بالســهولة والبالغــة نفســها بالنســبة لــذلك الشــقي الــذي اختــار اإلعــراض عنهــا مــع مــا فيهــا مــن بيــان مبــين وحجــة‬
‫قائمة ال يمكن لعاقل أن يدفعها لشدة سهولها ووضوحها!‬
‫وأمــا الك ــافر فتلــك الحج ــة أمام ــه بــنفس الوض ــوح ولديــه نف ــس القابلي ــة للنظــر م ــن عقــل ت ــام‪ ،‬ول ــيس بينــه وب ــين تل ــك‬
‫الحجج أي معوقات جبرية تحمله على الكفر‪ ،‬إنما قام بذلك بمحض اختياره‪ ،‬فاستحق العذاب التـام‪ ،‬لـذلك فالعـدل‬
‫تـام متحقـق فقــد كـان الـذي أعــرض عنـه بمنزلـة مشــابهة تمامـا للصـبي‪ ،‬لــيس فيهـا تعقيـد يبعــده‪ ،‬وال باطـل يصـرفه‪ ،‬وإنمــا‬
‫هـي شـقوته التــي هـو الســبب فيهـا‪ ،‬قــال تعـالى‪﴿ :‬ال إكـراه فــي الـدين قــد تبـين الرشــد مـن الغـي﴾‪ ،‬نعــم‪ ،‬تبـين الرشــد مـن الغــي‬
‫لدرجة أن ال حاجة لدكراه على قبول الدين لشدة وضوحه وتبينه وانفصاله عن الغي ومبالغته في صفة الرشد‪ ،‬أي أن‬
‫أي حم ــل عل ــى االتب ــا ال حاج ــة ل ــه‪ ،‬ألن ــه ح ــق ب ــالغ الوض ــوح‪ ،‬وإنم ــا الغراب ــة ف ــي اإلع ـراض عن ــه‪ ،‬ل ــذلك‪ ،‬فم ــن دخ ــل ه ــذا‬
‫االمتحـان‪ ،‬فقـد وجـد أنــه قـد زوده هللا تعـالى بكــل أسـباب النجـاح ســهلة ميسـرة‪ ،‬العقـل واملججــزة واألدلـة ومنهـاج الحيــاة‪،‬‬
‫فهو امتحان في كتاب مفتوح ال مغاليق فيه!‬
‫ومنش ــأ ه ــذا الس ــؤال – االعت ـراض‪ -‬متعل ــق بكم ــاالت هللا وص ــفاته‪ ،‬و ش ــكل أدق ه ــو متعل ــق بص ــفة الع ــدل اإلله ــي‪،‬‬
‫ََ‬
‫واألســئلة التــي مــن هــذا القبيــل عــادة مــا تكــون مشــكلة ان لــم تكــن طريقــة التفكيــر فيهــا مبنيــة علــى أســس صــحيحة‪ ،‬وهــذا‬
‫الذي أوقع املعتزلة في إلزام هللا بأمور بناء على مقاييس بشرية للعدل‪.‬‬
‫ولو عدنا اللتماس الجواب من املصادر الشرعية ملا وجدنا جوابا مباشرا‪ ،‬فالل تعالى لم يخبرنا عن تجليات صفات‬
‫الخالق بكمالها فيما يتعلق بهذا السؤال ونظائره‪ ،‬وهذه األسـئلة‪ ،‬مثـل ملـاذا خلقنـا هللا تعـالى‪ ،‬تتفـر عـن السـؤال الكبيـر‬
‫ال ــذي اس ــبقها وه ــو م ــن ه ــو هللا تع ــالى ال ــذي آمن ــا ب ــه وخلقن ــا عل ــى غي ــر إرادة من ــا؟ ه ــل يتص ــف هللا تع ــالى بص ــفات الكم ــال‬
‫املطلق وبالتالي ال اعتري أفعاله ما اعتري أفعال البشر من عرضة الصواب والخطأ؟ أم يتصف بالنقص فيحتمل فعله‬
‫الخط ــأ؟ إن التنظ ــيم العظ ــيم ال ــذي ن ـراه حيثم ــا وج ــدنا ف ــي الك ــون م ــن حولن ــا‪ ،‬وتق ــدير كــل ش ـ يء بدق ــة متناهي ــة وبإحك ــام‬
‫صنعة ظاهر يدل داللة قاطعة على صفات الكمال‪ ،‬واستحالة الخطـأ والـنقص‪ ،‬ممـا يوجـب أن يقـع الجـواب إلـى جانـب‬
‫الصحة والحكمة في خلق اإلنسان وامتحانه‪.‬‬
‫ولدجابة على هذا االعتراض يجب مراعاة األمور التالية‪:‬‬
‫األم ــر األول‪ :‬أن ه ــذا االعتـ ـراض مبن ــي عل ــى مغالط ــة عقلي ــة ظ ــاهرة‪ ،‬وه ــي أن االنس ــان قب ــل وج ــوده يمك ــن أن ُاس ــأل‬
‫ُويستشار‪ ،‬ويمكنه أن اشعر ويريد ويحدد اختياراته‪ ،‬وهذا أمـر مسـتحيل‪ ،‬ألن هـذه األمـور ال يمكـن أن تتحقـق اال ممـن‬

‫‪177‬‬
‫يملك أدوا ها وشروطها‪ ،‬وأهم ذلك الحياة ووجود البنية والعقل والتمييز‪ ،‬واملعدوم ال يملك مـن مقومـات الحيـاة شـيئا‪،‬‬
‫فكيف يمكنه أن ُاسأل ُويستشار ويتخذ القرارات املصيرية في حياته؟!‬
‫األمر الثاني‪ :‬أن هذا االعتراض منطلق من التعامل مع االنسـان علـى أنـه نـد لل تعـالى ومنـاظر لـه‪ ،‬ولهـذا استسـاا أن‬
‫ويعترض على فعله وخلقه‪ ،‬والحقيقة أن االنسان هو مجرد مخلوق صغير ال يحق له التعامل مع هللا بنديـة‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اسأل هللا‪،‬‬
‫ومناظرة‪ ،‬وانما يجب عليه أن يخضع لل ويسلم ألمره تعـالى‪ ،‬ويفكـر فيمـا يجـب عليـه القيـام بـه‪ ،‬ويبتعـد عـن األمـور التـي‬
‫لن تغير مـن حقيقـة كونـه مخلوقـا‪ ،‬ومـع ذلـك فـالتكليف فـي ضـمن املسـتطا ‪ ،‬واالعتقـاد قامـت عليـه أدلـة سـهلة قاطعـة‪،‬‬
‫األمر الذي يجعل االمتحان "في كتاب مفتوح"‪.‬‬
‫األمـر الثالـث‪ :‬أن هـذا االعتـراض عــادة مـا يصـدر مـن انسـان متــألم فـي حياتـه‪ ،‬وال تكـاد تجـد انســانا اعـيش فـي رغـد مــن‬
‫العيش وسعة من الرزق واستقرار في الحال يتأفف من وجوده‪ ،‬ويعترض على خلق هللا له‪ ،‬وهذا يدل على أن منبع هـذا‬
‫السؤال العاطفة‪ ،‬فهو اعتراض عاطفي بامتياز‪ ،‬وال يص في مقاييس العقل أن تكون العاطفة معيارا تقاس به أحداث‬
‫الوجود ومظاهره وحكمه‪ ،‬فالعاطفة عادة ما تكون غير منضبطة وخارجة عن املوضوعية واالعتدال‪.‬‬
‫األم ــر الراب ــع‪ :‬أن املعت ــرض به ــذا االعت ـراض يمي ــل ال ــى اعتب ــار الع ــدم أفض ــل م ــن الوج ــود‪ ،‬وه ــذه املفاض ــلة مبني ــة عل ــى‬
‫أس ــس غي ــر ص ــحيحة‪ ،‬فالع ــدم بالنس ــبة لنـ ــا مجه ــول تم ــام الجه ــل‪ ،‬وال يصـ ـ تفضـ ــيل شـ ـ يء عل ــى شـ ـ يء اال بع ــد العلـ ــم‪،‬‬
‫فانحصــر حــال االنســان بــين أمــرين‪ :‬األول‪ :‬حيــاة اعلــم مــا فيهــا‪ ،‬ويشـعر بِجــم مــا يصــيبه مــن اآلالم ويمكنــه أن اســعى فــي‬
‫التخلص منها‪ ،‬والثاني‪ :‬عدم ال يدري ما فيه‪ ،‬وال اعلم شيئا عن حقيقته وماهيته‪ ،‬وال يدري أفيه خير أم شر‪ ،‬أم ال خير‬
‫وال شر؟‬
‫والعقل السـليم والفطـرة املسـتقيمة توجبـان تقـديم الحـال األولـى علـى الحـال الثانيـة‪ ،‬ألن الحـال التـي فيهـا خيـر وشـر‬
‫أفضـل مـن الحــال التـي ال خيــر فيهـا وال شـر‪ ،‬ومــن الحـال التــي ال اعلـم االنســان عنهـا شـيئا‪ ،‬والحــال التـي فيهــا شـر يمكــن أن‬
‫تفعـل النــواميس والســنن التــي ســبق ذكرهــا ليخــرج بهــا اإلنســان مــن ضــنك العــيش إلــى رغــده‪ ،‬فعلــى اإلنســان مســئوليات‪،‬‬
‫ولديــه قــدرات (فرديــة وجماعيــة) تمكنــه مــن التغييــر‪ ،‬ورغــد العــيش ال اعنــي أن الغنــى أفضــل لــه مــن الفقــر‪ ،‬بــل قــد يكــون‬
‫اإلنس ــان الرب ـ ي بم ــا قس ــم ل ــه ولدي ــه ق ــوت يوم ــه وطمأنين ــة قلب ــه أس ــعد م ــن غي ــره‪ ،‬وبالت ــالي ال ب ــد م ــن إع ــادة النظ ــر ف ــي‬
‫املفاهيم واملقاييس والقناعات التي تؤسس لنظرة اإلنسان إلى واقعه‪ ،‬في ظل قدراته ومسئولياته عن التغيير‪.‬‬
‫األم ــر الخ ــامس‪ :‬أن ه ــذا االعت ـراض مبنــي عل ــى نظ ــرة ناقص ــة للحي ــاة والوج ــود‪ ،‬ف ــاملعترض ح ــين وج ــد حيات ــه الخاص ــة‬
‫مليئة باألتعاب واملشاق والتكاليف طفق يتذمر منها‪ ،‬ويعترض على أصـل وجـوده فـي الحيـاة‪ ،‬وكأنـه بـذلك اشـترط لقبـول‬
‫الحياة في األرض أن تكون حسنة وجميلة في كل وقت‪ ،‬وفي كل مكان‪ ،‬وأن تكون جارية على ما يحب أبدا‪ ،‬فان لم يجدها‬
‫َ َ‬
‫فحك ُم ُه هي أهواُه وما وافقها!‬ ‫كذلك حكم عليها بالبطالن والفساد‪ ،‬وأخذ اعترض عليها!‬
‫والحقيق ــة أن طبيع ــة الحي ــاة كله ــا ليس ــت قائم ــة عل ــى أذواق الن ــاس وال عل ــى رغب ــا هم‪ ،‬وكــل انس ــان يج ــد م ــن املش ــاق‬
‫واألتعــاب مــا يتناســب مــع حال ــه‪ ،‬بــل كــل الحيوانــات ال تجــري الحي ــاة بالنســبة لهــا علــى وفــق م ــا تشــتهي‪ ،‬ولــيس مــا ُاش ــتهى‬

‫‪178‬‬
‫ُ‬
‫ويوافـق األهـواء بحسـن دائمـا‪ ،‬واإلنسـان ال اعلــم الخيـر مـن الشـر فـي حاضـر أمــره وعاقبتـه‪ ،‬فـرب إنسـان طـرد مـن عملــه‪،‬‬
‫فدفعـه طموحـه للقيــام بعمـل أفضــل منـه جـر عليــه نفعـا عــاجال أو آجـال مــا كـان ليبلغـه لــو بقـي فــي عملـه األول‪ ،‬فســؤاله‬
‫إذن مس ــتظل تمام ــا بظ ــالل جهل ــه ب ــالخير والش ــر‪ ،‬والحس ــن والق ــبح‪ ،‬وج ــري وراء األه ــواء‪ ،‬ال يجع ــل م ــن تأفف ــه وأهوائ ــه‬
‫مرجعا للصواب والخطأ‪ ،‬وال يدري عواقب األمر الذي لم اججبه لعل فيه الخير له في الدنيا واآلخرة!‬
‫فظه ــر ب ــذلك أن املعت ــرض ف ــي الحقيق ــة ال اعت ــرض عل ــى حال ــه فق ــط‪ ،‬وانم ــا اعت ــرض عل ــى ق ــانون الحي ــاة كل ــه‪ ،‬وه ــو ال‬
‫يتــأفف مــن طبيعــة وجــوده فقــط‪ ،‬وانمــا يتــأفف مــن طبيعــة الوجــود كلــه‪ ،‬واملطلــوب مــن االنســان أن يتفاعــل مــع قــوانين‬
‫الحياة وطبيعة الوجود‪ ،‬ألنه جزء منها‪ ،‬وال يص أن يطالب بتغييرها وتبديلها‪ ،‬لكون ذلك أمرا مستحيال متعذرا‪.‬‬
‫ُ َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫هل يقع السؤال"نحن لم ن ْستش ْر‪ ،‬ولو خ ِي ْرنا ربما رفضنا الحياة أصال" تحت بند العدل أم الحكمة؟‬
‫فأما العدل‪( ،‬نقيض الظلم) فيتجلى في حياة البشر في أر ع صور‪:‬‬
‫العدالـة التوزيعيـة (تحديـد مـن يحصـل علــى مـاذا بنـاء علـى معـايير متناسـبة (وقــد يكـون مـن العـدل تفاو هـا أحيانــا أو‬
‫تســاوَها فــي أحيــان أخــرى)‪ ،‬واإلجرائيــة ‪ ( procedural‬تحديــد كيفيــة معاملــة النــاس بإنصــاف‪ ،‬كمــا يحصــل فــي الحكــم)‪،‬‬
‫والعقاب (على أساس العقوبة على الفعل الخاطئ بأن تكون العقوبة مكافئـة للجريمـة ورادعـة للمجتمـع)‪ ،‬والتصـالحية‬
‫(الذي يحاول إعادة العالقات إلى "الصواب"‪ ،‬أو الحقوق إلى أهلها)‪.‬‬
‫فبالتأم ــل ف ــي ه ــذه ال نج ــد مس ــألتنا منطوي ــة تح ــت أي منه ــا‪ ،‬ألن الخل ــق كله ــم وض ــعوا ف ــي ه ــذا االختب ــار وفق ــا للمع ــايير‬
‫نفســها‪ ،‬واملقومــات التــي اســتطيعون معهــا اجتيــاز االختبــار‪ ،‬وفــي التنبيــه املســبق (الــبالا املبــين) ملــآلهم‪ ،‬فــال ظلــم‪ ،‬وال يــرد‬
‫السؤال تحت بند العدل‪،‬‬
‫بل هو ألصق بمفهوم الحكمة‪ ،‬هل من الحكمة أن يخلق هللا خلقا ويعطيهم األمور األر عة السـابق ذكرهـا فـي املقـال‬
‫لتساعدهم على اجتياز االختبار؟ وهـل هـي كافيـة؟ هـل فيهـا مثالـب ال اسـتطيعون معهـا النجـاح‪ ،‬فـإذا خلـت مـن املثالـب‪،‬‬
‫فالحكمة تامة‪.‬‬
‫"عرف اب ن تيمية واملاتريدي والغزالي العدل على أنه من أفعال الحكمة‪ ،‬قال ابن تيمية‪" :‬الظلم وضع الش يء في غير‬
‫موض ــعه‪ ،‬والع ــدل وض ــع كــل ش ـ يء ف ــي موض ــعه‪ ،‬وه ــو س ــبحانه حك ــم ع ــدل يض ــع األش ــياء موض ــعها‪ ،‬وال يض ــع ش ــيئا إال ف ــي‬
‫موضـعه الــذي يناســبه وتقتضــيه الحكمــة والعــدل‪ ،‬وال يفــرق بـين متمــاثلين‪ ،‬وال اســوي بــين مختلفــين‪ ،‬وال اعاقــب إال مــن‬
‫اس ــتحق العقوب ــة فيض ــعها موض ــعها ف ــي ذل ــك م ــن الحكم ــة والع ــدل"‪ ،176‬وعلي ــه‪ ،‬فالحكم ــة ف ــي تزوي ــد الن ــاس بم ــا يل ــزمهم‬
‫إلتمام االختبار بنجاح تف ي إلى تحقق العدل كامال‪.‬‬

‫‪ 176‬مشكلة الشر‪ ،‬ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪.40‬‬


‫‪179‬‬
‫عدل هللا‪ ،‬تأمالت في مناظرة أخرى رائعة!‬
‫وســألني ســائل‪ ،‬قــد أفهــم قضــية تعــذيب املتــرفين الــذين كــذبوا فــي هــذه الحيــاة الــدنيا‪ ،‬وعاشــوها "بــالطول والعــرض"‬
‫ونـالوا كـل حظـوظهم فيهـا‪ ،‬أو املتجبـرين الـذين طغـوا فـي الـبالد وأكثـروا فيهـا الفسـاد‪ ،‬وعـم طغيـانهم البـر حتـى ضـاق عــنهم‪،‬‬
‫فمألت جرائمهم الجو براميل متفجرات‪ ،‬والبحر "سفينا" حامالت الهاربين منهم ومن جورهم!‬
‫قال عمرو بن كلثوم في معلقته‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ َّ َ َّ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ‬
‫الب ْح ِـر ن ْمل ُـؤ ُه َس ِف ْي َنـا‬ ‫مـألنا البـر حتى ضاق عنـا وظهر‬
‫لم يكن اعلم أن البشر الظاملين سيملؤون الجو أيضا بظلمهم بعد أن يضيق البر والبحر بهم! يتابع السائل‪ :‬ولكن‪،‬‬
‫مــاذا عــن ذلــك الفــالح البســيط الــذي عــاش فــي "كوريــا الشــمالية"‪ ،‬ولــم اســمع عــن اإلســالم شــيئا‪ ،‬أو ذلــك الــذي عــاش فــي‬
‫الهند‪ ،‬واتبع دين آبائه وعاش "مدخما"‪ ،‬ثم يق ي على الكفر فيعذبه هللا‪ ،‬كيف أفهم ناموس العدالة؟‬
‫ذكرني هذا السؤال بمناظرة‪ ،‬دخل رجل على أ ي علي الجباوي‪ ،‬فقال‪ :‬هل يجوز أن اسمى هللا تعالى عاقال؟‬
‫فقال الجباوي‪ :‬ال؛ ألن العقل مشتق من العقال‪ ،‬وهو املانع‪ ،‬واملنع في حق هللا تعالى محال‪ ،‬فامتنع اإلطالق‪.‬‬
‫ق ــال الش ــيخ أب ــو الحس ــن األش ــعري رب ـ ي هللا عن ــه فقل ــت ل ــه‪ :‬فعل ــى قياس ــك الاس ــمى هللا س ــبحانه حكيم ــا؛ ألن ه ــذا‬
‫َ‬
‫االسم مشتق من َحك َمة اللجام‪ ،‬وهي الحديدة املانعة للدابة عن الخروج‪ ،‬ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت‪:‬‬
‫فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء‬
‫وقول جرير‪:‬‬
‫عليكم أن أغضبا‬ ‫ُ‬ ‫أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني اخاف‬
‫أي نمنــع بــالقوافي مــن هجانــا‪ ،‬وامنعــوا ســفهاءكم فــإذا ـكـان اللفـ مشــتقا مــن املنــع‪ ،‬واملنــع علــى هللا محــال لزمــك أن‬
‫تمنع إطالق حكيم عليه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلم يحر أبو علي جوابا‪ ،‬إال أنـه قـال لـي (أل ـي الحسـن األشـعري)‪ :‬فلـم منعـت أنـت أن اسـمى هللا سـبحانه وتعـالى‬
‫عاقال واخترت أن اسمى حكيما؟‬
‫ق ــال‪ :‬فقل ــت ل ــه‪ :‬ألن طريق ــي ف ــي مأخ ــذ أس ــماء هللا اإلذن الش ــرعي دون القي ــاس اللغ ــوي‪ ،‬فأطلق ــت حكيم ــا؛ ألن الش ــر‬
‫أطلقه‪ ،‬ومنعت عاقال؛ ألن الشر منعه؛ ولو أطلقه الشر ألطلقته!‬
‫لقد تسمت فرقة املعتزلة بأهل العدل والتوحيد‪ ،‬ألنهم اتخذوا قاعدة نسبة العدل املطلق لل تعالى أساسا لفهمهم‬
‫للع قيدة‪ ،‬ولكن وفقا لفهمهم هم ملفهوم العدل الذي يتم بين البشـر ومـن ثـم إسـقاط هـذا املعنـى والفهـم علـى هللا تعـالى‪،‬‬
‫فإذا ما تعكر ذلك اإلسقاط‪ ،‬حارت ألبابهم وأسقط في أيدَهم!‬
‫إذن‪ ،‬فمقاييسنا نحن البشر ملفهوم العدل واألصل واألنفع والخير والشر مفاهيم قاصرة‪ ،‬ناقصة‪ ،‬ال ترى الصورة‬
‫الكبيرة كما هي‪ ،‬وتقيس ما يحصل في عالم البشر على خالق البشر وهو قياس ال يص !‬

‫‪180‬‬
‫لكنن ــا س ــنحل اإلش ــكال ب ــإذن هللا ح ــال يط ــرح رُي ــة جدي ــدة ك ــل الج ــدة‪ ،‬ناتج ــة ع ــن تفح ــص وفه ــم ودراس ــة عميق ــة‬
‫للموضو نسأل هللا أن تبلغ االستنارة‪:‬‬
‫لقد زود هللا تعالى البشر كلهم بآلة العقل‪ ،‬فأما من ال عقل له فقد رفع عنه القلم!‬
‫وجع ــل ف ــي اإلنس ــان نج ــدين اس ــتهدي بأح ــدهما فيق ــوده للهداي ــة‪ ،‬ويس ــتدرجه اآلخ ــر ف ــي مغ ــاوي الض ــاللة فيض ــلله‪،‬‬
‫والنجــدان هن ــا همــا اختي ــار اإلنس ــان لكيفيــة إش ــبا رغباتــه وحاجات ــه العض ــوية‪ ،‬فلــه مطل ــق حريــة اإلختي ــار أن اش ــبعها‬
‫ب ــأوامر هللا ونواهي ــه أم بم ــا يخ ــالف م ــا أم ــر هللا‪ ،‬وجع ــل ل ــه مطل ــق حري ــة االختي ــار املبنــي عل ــى اس ــتعمال العق ــل أو اله ــوى‬
‫والعمى‪ ،‬وزوده باملنهج القويم ليرشده للحق‪ ،‬ويبين له ما يحذر منه!‬
‫وملا لم يكن اإلنسان من طبعه أن اعيش في غابة منفردا مع الوحوش‪ ،‬فكان ال بد من سنن مجتمعية تلزم اإلنسان‬
‫كــي ي ــدركها ويس ــتعملها ليمن ــع ظل ــم أخي ــه اإلنس ــان ال ــذئب عن ــه‪ ،‬ف ــإن اإلنس ــان إن اس ــتطا ف ــي أحي ــان أن يخت ــار س ــبيل‬
‫الرشــاد ويقــوده ذلــك االختيــار لســعادة الــدنيا واآلخــرة‪ ،‬فــإن آخــرين ســتجبرهم كيانــا هم املجتمعيــة‪ ،‬وتســلط القــوي فيهــا‬
‫علـى الضـعيف‪ ،‬والرأســمالي علـى الفقيــر‪ ،‬والـدكتاتور علــى الشـعب كلـه علــى اختيـار العمــى علـى الهــدى‪ ،‬أو للعـيش عيشــة‬
‫كرَهة لوالها ملا كان الرأسمالي يتحكم بتسعة أعشار ثروة املجتمع ويترك للفقير فتات العيش!‬
‫لـذلك ـكـان ال بــد مــن ســنن مجتمعيـة اســتطيع معهــا "الفــرد" و "الجماعــة" أن تغيـر مفــاهيم املجتمــع وتركيبتــه وتوزيــع‬
‫ثروته وأن تحتكم لشرعة ترضاها‪ ،‬وهذه السنن املجتمعية في متناول اليد‪ ،‬على الفرد والجماعة أن تتعلمها وتستعملها‬
‫فيحصل التغيير املرجو ويسقط ظلم اإلنسان عن أخيه اإلنسان!‬
‫فاإلنسان املدحوق سيبقى مدحوقا إذا استسـلم لفرديتـه‪ ،‬ولـم يـدرك السـنن املجتمعيـة التـي تمكنـه مـن أن يتقـوى‬
‫بأخيه في املعاناة في نفس املجتمع‪ ،‬فيتحصل باجتماعهما لهما ما لم يحصل ألحدهما بفرديته‪ ،‬لـذلك كـان التحـزب مـن‬
‫صميم سنن املجتمع التي خلق هللا تعالى املجتمعات وتدافع البشـر علـى أساسـها بحيـث تتشـكل األحـزاب علـى فكـر معـين‬
‫مثل فكرة رفع الظلم أو على فكرة أن تسود الشريعة في الحياة محل التشريعات الظاملة التي تف ي لالستبداد‪ ،‬فإذا ما‬
‫أخذ البشر بتلك السنن املجتمعيـة فـإن أحـوالهم سـتتغير‪ ،‬فيمملـى الفقـر‪ ،‬ويرفـع الظلـم‪ ،‬ويحكـم النـاس بالعـدل‪ ،‬يـأتون‬
‫ب ــه رغ ــم أن ــف القلـ ــة الت ــي تس ــتأثر بـ ــالحكم وبف ــرض األنظم ــة التـ ــي تف ـ ـ ي للقه ــر والطغيـ ــان والجه ــل واألمـ ـراض‪ ،‬لـ ــذلك‬
‫فاملســئولية تقــع علــى كاهــل النــاس أن يفهمــوا ســنن هللا تعــالى فــي الخلــق‪ ،‬تلــك الســنن التــي تتعلــق بــالفرد وكيــف اســتعمل‬
‫عقلـه وحواســه لفهـم الوجــود ويسـتنير بالهــدى املرسـل لــه مـن رب العــاملين ليعـيش حيــاة سـعيدة راضــية مرضـية‪ ،‬أو تلــك‬
‫الســنن املتعلق ــة بتغييــر املجتمع ــات وأط ــر الظــالم عل ــى الح ــق أطـرا ومن ــع الظل ــم واألمــر ب ــاملعروف والنه ــي عــن املنك ــر حتــى‬
‫تســود القــيم الفاض ــلة فــي املجتمعــات وت ــوز الثــروات توزيعــا ع ــادال‪ ،‬وال يتســلط القــوي عل ــى الضــعيف‪ ،‬لــذلك‪ ،‬فالوض ــع‬
‫الغلط الذي تحياه البشرية والذي يف ي ألن نرى ذلك الفقير املتعوس فـي الهنـد وكوريـا الشـمالية أو فـي أمريكـا وأفريقيـا‬
‫وغيره ــا اع ــيش حي ــاة ك ــد وش ــقاء ليع ــيش الرأس ــمالي حي ــاة رف ــاه‪ ،‬ويع ــيش ب ــال هداي ــة ألن أنظمت ــه تمن ــع عن ــه الن ــور وتعمــي‬
‫حقيقة الهدى عنه بغـالف مـن التضـليل اإلعالمـي‪ ،‬هـذا الوضـع الغلـط الـذي سيف ـ ي لنتسـاءل فيـه عـن كيفيـة تحقيـق‬

‫‪181‬‬
‫العدل‪ ،‬هو من صنع البشر‪ ،‬من صنع الرأسمالي ومن صنع الـدكتاتور‪ ،‬واألخطـر‪ :‬هـو مـن صـنعنا نحـن حـين نسـكت عـن‬
‫الظلـم ونسـكت عـن األنظمـة الفاسـدة والحكــام الفاسـدين وعـن ال ُعـرف الفاسـدة فــي املجتمـع حتـى تدـحقنا تحـت أرجلهــا‬
‫سحقا‪ ،‬ثم نسأل أين عدل هللا!‬
‫إنه سؤال بالغ الظلم!‬
‫وأما كيف سيتحقق عدل هللا‪ ،‬فليطمان السائل‪ ،‬فإن هللا تعالى بعباده خبير!‬
‫فلسـنا نشـك فـي أن عــدل هللا تعـالى ســيتحقق فـي الــدنيا واآلخــرة حتـى يقــول كـل ـكـائن حـي‪﴿ :‬وق ـ ي بيـنهم بــالحق وقيــل‬
‫الحمد لل رب العاملين﴾‪ ،‬من شدة ما يرون مـن عـدل هللا ورحمتـه وقيـام الحجـة علـى الظـالم وإنصـاف املظلـوم‪ ،‬كـل هـذا‬
‫ســيكون وهــو مــن تمــام النظــرة الكاملــة للصــورة الكاملــة لنــرى تكامــل الحــق فــي الــدنيا واآلخــرة‪ ،‬وحــال العبــاد فــي اآلخــرة لل‬
‫تعــالى يحاسـ هم وينتصــف لضــعيفهم مــن قــوَهم‪ ،‬ولكــن فــي الوقــت نفســه‪ ،‬فإنــه قــد أخبرنــا عــن أولئــك الــذين ســكتوا علــى‬
‫الطواغيت واألشرار فأوردوهم النار‪ ،‬فطلبوا من هللا أن يضاعف لهم العذاب‪ ،‬فقال لكل ضعف! ألن هؤالء لم يتجبروا‬
‫إال بسكوت هؤالء!‬

‫‪182‬‬
‫ُّ َ ْ‬
‫السنن‪:‬‬ ‫أنواع‬
‫يرى السيد محمد باقر الصدر أن القرآن الكريم أكد على ثالث حقائق بالنسبة إلى سنن التاريخ‪:‬‬
‫"الحقيقة االولى‪ :‬أن السنن القرآنية للتاريخ ذات طابع علمي؛ ألنها تتميز باالطراد الذي يميز القانون العلمي‪.‬‬
‫الحقيقة الثانية‪ :‬أنها ذات طابع رباني؛ ألنها تمثل حكمة هللا وحسن تدبيره على الساحة التاريخية‪.‬‬
‫الحقيق ــة الثالث ــة‪ :‬أنه ــا ذات ط ــابع انس ــاني؛ ألنه ــا ال تفص ــل اإلنس ــان ع ــن دوره االيج ــا ي وال تعط ــل في ــه إرادت ــه وحري ــة‬
‫اختياره‪ ،‬وإنما تؤكد أكثر فأكثر على مسؤوليته على الساحة التاريخية‪"177.‬‬
‫وليس ــت كــل األح ــداث والقض ــايا تحكمه ــا الس ــنن التاريخي ــة‪ ،‬إذ ق ــد تحكمه ــا الس ــنن (الق ــوانين) الفيزيائي ــة‪ ،‬وق ــوانين‬
‫الحياة‪ ،‬وإنما "العمل التاريخي الذي تحكمه سـنن التـاريخ هـو العمـل الـذي يكـون حـامال لعالقـة مـع هـدف وغايـة‪ ،‬ويكـون‬
‫في نفس الوقت ذا أرضية أوسع من وجود الفرد‪ ،‬ذا موج يتخذ من املجتمع علة مادية له وبهذا يكون عمال اجتماعيا"‪.‬‬
‫ثم استنبط الصدر ثالثة أشكال للسنة التاريخية في القرآن الكريم‪ ،‬ويفرق بينها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الشْْكل األول للسْْنة التاريخيْْة‪ :‬هــو شــكل القضــية الشــرطية‪ .‬فــي هــذا الشــكل تتمثــل الســنة التاريخيــة فــي قضــية‬
‫شرطية تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الحـوادث علـى السـاحة التاريخيـة وتؤكـد العالقـة املوضـوعية بـين الشـرط‬
‫والجزاء‪ ،‬وأ نه متى ما تحقق الشرط تحقق الجزاء‪ .‬وهذه صياغة نجدها في كثير من القوانين والسنن الطبيعية والكونية‬
‫فـي مختلـف السـاحات االخـرى‪ .‬فمـثال‪ :‬حينمـا نتحـدث عـن قْْانون طبيعْْي لغليـان املـاء‪ ،‬نتحـدث بلغـة القضـية الشـرطية‪،‬‬
‫نقول بأن املاء إذا تعرض إلى الحرارة بدرجة معينة سوف يحدث الغليان‪ .‬هذا قانون طبيعي يربط بين الشرط والجزاء‪.‬‬
‫نفس الش نجده في الشكل األول من السنن التاريخية القرآنية‪ ،‬فإن عددا كبيرا من السنن التاريخية في القرآن قد‬
‫تمت صياغتها على شكل القضية الشرطية التي تربط ما بين حادثتين اجتماعيتين أو تاريخيتين‪ ،‬بحيث إنه متى وجدت‬
‫الحادثـة األولـى وجــدت الحادثـة الثانيـة‪ .‬ففــي قولـه تعــالى ﴿إن هللا ال اغيـر مـا بقــوم حتـى اغيـروا مــا بأنفسـهم﴾ [الرعــد ‪]11‬‬
‫الشرطية؛ ألن مرجع هذا املفاد القرآني إلى أن هناك عالقة بين تغييرين‪ :‬بـين‬ ‫القضية‬ ‫بلغة‬ ‫ُ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إشارة إلى سنة تاريخية ب ِينت ِ‬
‫تغييـر املحتـوى الـداخلي لدنسـان‪ ،‬وتغييــر الوضـع الظـاهري للبشـرية واإلنسـانية‪ .‬مفــاد هـذه العالقـة قضـية شـرطية‪ :‬أنــه‬
‫متى ما وجد ذاك التغيير في أنفس القوم وجد هذا التغييرفي بنائهم وكيا هم‪ .‬هذه السنة جاءت بلغة القضية الشرطية‬
‫كما هو الواض من صياغتها النحوية أيضا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الشكل الثاني الذي تتخذه السنن التاريخية‪ :‬شكل القضية الفعلية النـاجزة الوجوديـة املحققـة‪ ،‬وهـذا الشـكل‬
‫أيضا نجد له أمثلة وشـواهد فـي القـوانين الطبيعيـة والكونيـة‪ .‬مـثال‪ :‬العـالم الفلكـي حينمـا يصـدر حكمـا علميـا علـى ضـوء‬
‫قــوانين مســارات الفلــك‪ ،‬بــأن الشــمس ســوف تنكســف فــي اليــوم الفالنــي أو أن القمـر ســوف ينخســف فــي اليــوم الفالنــي‪،‬‬
‫فإنه قانون علمي وقضية علميـة‪ ،‬إال أنهـا قضْْية وجوديْْة نْْاجزة‪ ،‬لهسْْت قضْْية شْْرطية‪ .‬فاإلنسـان ال يملـك تجـاه هـذه‬

‫‪ 177‬السيد محمد باقر الصدر‪ ،‬السنن التاريخية في القرآن الكريم‪.‬‬


‫‪183‬‬
‫القضية أن اغير من ظروفها‪ ،‬أو أن اعـدل مـن شـروطها؛ ألنهـا لـم تبـين كلغـة قضـية شـرطية‪ ،‬وانمـا صـيغت بلغـة التنجيـز‬
‫والتحقيـق بلحـاظ مكـان معـين وزمـان معـين‪ .‬هـذا هـو الشــكل الثـاني مـن السـنن التاريخيـة‪« .‬ومـا منـع قـوم الزكـاة إال منعــوا‬
‫القطر من السماء ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الشكل الثالث للسنة التاريخية‪ :‬وهو شكل اهتم به القرآن الكريم اهتماما كبيرا‪ ،‬هو السنة التاريخية املصاغة‬
‫عل ــى ص ــورة تج ــاه طبيعــي ف ــي حرك ــة الت ــاريخ ال عل ــى ص ــورة ق ــانون ص ــارم ح ــدي‪ .‬وف ــرق ب ــين االتج ــاه والق ــانون‪ .‬ولك ــي تتض ـ‬
‫الفذلكة في ذلك البد وان نطرح الفكرة االعتيادية التي نعيشها في أذهاننا عن القانون!‬
‫القـانون العلمــي كمــا نتصــوره عــادة‪ :‬عبــارة عــن تلــك الســنة التــي ال تقبــل التحــدي مــن قبــل اإلنســان؛ ألنهــا قــانون مــن‬
‫قوانين الكون والطبيعية فال يمكن لدنسان أن يتحداها ويخرج عن طاعتها‪ .‬يمكنه أال يصلي؛ ألن وجـوب الصـالة حكـم‬
‫تشــريعي ولــيس قانونــا تكوينيــا‪ ،‬يمكنــه أن اشــرب الخمــر؛ ألن حرمــة شــرب الخمــر قــانون تشــريعي ولــيس قانونــا تكوينيــا‪،‬‬
‫لكنه ال يمكنه أن يتحدى القوانين الكونية والسنن املوضوعية‪ ،‬مثال‪ :‬ال يمكنه أن يجعل املاء ال اغلي إذا توفرت شروط‬
‫الغليان‪ ،‬ألن هذا قانون‪ ،‬والقانون صارم‪ ،‬والصرامة تأ ى التحدي‪.‬‬
‫هذه هي الفكرة التي نتصورها عادة عن القوانين‪ ،‬وهي فكرة صحيحة إلى حد مـا‪ ،‬لكـن لـيس مـن الضـروري أن تكـون‬
‫كل سنة طبيعية موضوعية على هذا الشكل بحيث تأ ى التحدي وال يمكن تحدَها من قبل اإلنسان بهذه الطريقة‪،‬‬
‫بل هناك تجاهات موضوعية في حركة التاريخ وفي مسار اإلنسان‪ ،‬إال أن هذه االتجاهات لها ش من املرونـة بحيـث‬
‫إنه ــا تقب ــل التح ــدي ول ــو عل ــى ش ــوط قص ــير‪ ،‬وإن ل ــم تقب ــل التح ــدي عل ــى ش ــوط طوي ــل‪ .‬أن ــت ال تس ــتطيع أن ت ــؤخر موع ـد‬
‫غلي ــان امل ــاء لحظ ــة‪ ،‬لك ــن تس ــتطيع أن تجم ــد ه ــذه االتجاه ــات لحظ ــات م ـن عم ــر الت ــاريخ‪ ،‬لك ــن ه ــذا ال اعنــي أنه ــا ليس ــت‬
‫تجاهات تمثل واقعا موضوعيا في حركة التاريخ‪ ،‬هي تجاهات ولكنها مرنة تقبل التحدي لفترة ثم تحطم املتحدي نفسه‪.‬‬
‫إن هناك تجاها فـي تركيـب اإلنسـان‪ ،‬تجاهـا موضـوعيا ال تشـريعيا‪ ،‬إلـى إقامـة العالقـات املعينـة بـين الـذكر واالنثـى فـي‬
‫ُ‬
‫مجتمع اإلنسان ضمن إطار من أطر النكاح‪ .‬ال نسـتطيع أن نقـول‪ :‬إن هـذا مجـرد قـانون تشـريعي أو مجـرد حكـم شـرعي‪،‬‬
‫وإنما هذا تجاه ُركب في طبيعة اإلنسان وفي تركيبه‪ ،‬وهو االتجاه إلى االتصال بين الذكر واألنثى وإدامة النو عن طريق‬
‫هذا االتصال ضمن إطار من أطر النكاح االجتماعي هذه سنة‪ ،‬لكنها سنة على مستوى االتجاه ال على مستوى القانون‪.‬‬
‫مل ــاذا؟ ألن التح ــدي له ــذه الس ــنة (أي غري ــزة حف ـ الن ــو ‪ ،‬وإقام ــة العالق ــات ب ــين ال ــذكر واألنث ــى للمحافظ ــة عل ــى الن ــو‬
‫البشري) لفترة ما ممكن‪ .‬أمكن لقوم لوط أن يتحدوا هذه السنة وخالفوها فترة من الزمن‪ ،‬لكنهم بخالفهم لتلك السنة‬
‫اإلنسانية لم يلبثوا إال قليال وجاء هم العقوبة‪ ،‬ومن فعل فعلهم عوقب باألمراض واألوبئة التي لم تكن فيمن سبق!‬
‫بينمــا ل ــم يك ــن بإمك ــانهم أن يتح ــدوا ســنة الغلي ــان بش ــكل م ــن االش ــكال‪ ،‬لكــنهم تح ــدوا ه ــذه الس ــنة اإلنس ــانية‪ ،‬إال أن‬
‫تحدي هذه السنة على املدى الطويل يؤدي إلى أن يتحطم املتحدي كما تحطم مجتمع قوم لوط‪.‬‬
‫كل تجاه من هذا القبيـل هـو فـي الحقيقـة سْْنة موضْْوعية مْْن سْْنة التْْاريخ ومـن سـنن حركـة اإلنسـان‪ ،‬ولكنهـا سـنة‬
‫مرنة تقبل التحدي على الشوط القصير‪ ،‬ولكنها تجيب على هذا التحدي‬

‫‪184‬‬
‫‪ ...‬لكــن هنــاك ظــواهر علــى الســاحة التاريخيــة تحمــل عالقــة مــن نمــط آخــر وهــي عالقــة ظــاهرة بهــدف عالقــة نشــاط‬
‫بغاية أو ما اسميه الفالسفة بالعلـة الغائيـة تميـزا عـن العلـة الفاعليـة‪ ،‬هـذه العالقـة عالقـة جديـدة متميـزة‪ ،‬غليـان املـاء‬
‫بالحرارة‪ ،‬يحمل مـع سـببه مـع ماضـيه لكـن ال يحمـل عالقـة مـع غايـة ومـع هـدف مـالم يتحـول إلـى فعـل انسـاني [اغلـي املـاء‬
‫لهدف لديه] والى جهد بشري بينما العمل اإلنساني الهادف يحتوي على عالقة ال فقط مع السبب‪ ،‬ال فقط مع املاب ي‪،‬‬
‫بل مع الغاية التي هي غيـر موجـودة حـين إنجـاز هـذا العمـل وإنمـا يترقـب وجودهـا‪ .‬أي العالقـة هنـا عالقـة مـع املسـتقبل ال‬
‫م ــع املاب ـ ي‪ ،‬الغاي ــة دائم ــا تمث ــل املس ــتقبل بالنس ــبة إل ــى العم ــل‪ ،‬بينم ــا الس ــبب يمث ــل املاب ـ ي بالنس ــبة إل ــى ه ــذا العم ــل‪.‬‬
‫فالعالقْْة التْْي يتميْْزبهْْا العمْْل التْْاري ي‪ ،‬العمْْل الْْذي تحكمْْه سْْنن التْْاريخ هْْو أنْْه عمْْل هْْادف‪ ،‬عمْْل يْْرتبم بعلْْة‬
‫غائيْْة ســواء أكانــت هــذه الغايــة صــالحة أو طالحــة‪ ،‬نظيفــة أو غيــر نظيفــة‪ ،‬علــى أي حــال اعتبــر هــذا عمــال هادفــا‪ ،‬اعتبــر‬
‫نش ــاطا تاريخي ــا ي ــدخل ف ــي نط ــاق س ــنن الت ــاريخ عل ــى ه ــذا األس ــاس وه ــذه الغاي ــات الت ــي ي ــرتبط به ــا ه ــذا العم ــل الهـ ــادف‬
‫املس ــؤول‪ ،‬ه ــذه الغاي ــات حي ــث إنه ــا مس ــتقبلية بالنس ــبة إل ــى العم ــل فه ــي ت ــؤثر م ــن خ ــالل وجوده ـا ال ــذهني ف ــي العام ــل ال‬
‫محالـة‪ ،‬ألنهــا بوجودهـا الخــار ي‪ ،‬بوجودهـا الــواقعي‪ ،‬طمـوح وتطلــع إلـى املســتقبل‪ ،‬ليسـت موجــودة وجـودا حقيقيــا وإنمــا‬
‫تؤثر من خالل وجودها الذهني في الفاعل‪ .‬إذن املستقبل أو الهدف الذي اشكل الغاية للنشاط التاريخي يؤثر في تحريك‬
‫هـذا النشـاط وفـي بلورتـه مـن خْْالل الوجْْود الْْذهني أي مْْن خْْالل الفكْْر الـذي يمثـل فيـه الوجـود الـذهني للغايـة ضــمن‬
‫شــروط ومواصــفات‪ ،‬حينئــذ يــؤثر فــي إيجــاد هــذا النشــاط‪ ،‬إذ حصــلنا االن علــى مميــز نــوعي للعمــل التــاريخي لظــاهرة علــى‬
‫الســاحة التاريخي ــة‪ ،‬ه ــذا املمي ــز غيــر موج ــود بالنس ــبة إل ــى ســائر الظ ــواهر االخ ــرى عل ــى ســاحات الطبيع ــة املختلف ــة‪ ،‬ه ــذا‬
‫املميز ظهور عالقة فعل بغاية نشاط بهدف في التفسير الفلسفي‪ ،‬ظهور دور العلة الغائية‪ ،‬كون هذا الفعل متطلعا الى‬
‫املستقبل‪ ،‬كون املستقبل محركـا لهـذا الفعـل مـن خـالل الوجـود الـذهني الـذي يرسـم للفاعـل غايتـه أي مـن خـالل الفكـر‬
‫اذن هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعية للتاريخ‪.‬‬
‫إذن فالسنن النوعية للتـاريخ موضـوعها ذلـك الجـزء مـن السـاحة التاريخيـة الـذي يمثـل عمـال لـه غايـة‪ ،‬عمـال يحمـل‬
‫عالقـة إضـافية إلـى العالقـات املوجـودة فـي الظـاهرة الطبيعيـة وهـي العالقـة بالغايـة والهـدف‪ ،‬بالعلـة الغائيـة‪ ،‬لكـن ينبغـي‬
‫هنـا أيضـا أنـه لـيس كـل عمـل لـه غايـة هـو عمـل تــاريخي‪ ،‬هـو عمـل تجـري عليـه سـنن التـاريخ‪ ،‬بـل يوجـد بعـد ثالـث ال بــد أن‬
‫يتوفر لهذا العمل لكي يكون عمال تاريخيا أي عمال تحكمه سنن التايخ‪ .‬البعد األول كان هو «السبب والبعد الثاني كان‬
‫هو الغاية «الهدف ‪.‬‬
‫ال بــد إذن مــن بعــد ثالــث لكــي يكــون هــذا العمــل داخــال فــي نطــاق ســنن التــاريخ‪ ،‬هــذا البعــد الثالــث هــو أن يكــون لهــذا‬
‫العمـل أرضـية تتجـاوز ذات العامـل‪ ،‬أن تكـون أرضـية العمـل هــي عبـارة عـن املجتمـع‪ ،‬قـد يأكـل الفـرد إذا جـا ويشــرب إذا‬
‫عطــش‪ ،‬لكــن هــذه األعمــال علــى الــرغم مــن أنهــا أعمــال هادفــة أيضــا تريـد أن تحقــق غايــات ولكنهــا أعمــال ال يمتــد موجهــا‬
‫أكثـر مـن العامــل خالفـا لعمــل يقـوم بــه اإلنسـان مــن خـالل نشـاط اجتمــاعي وعالقـات متبادلــة مـع أفـراد جماعتـه‪ ،‬فمــثال‬

‫‪185‬‬
‫التـاجر حينمـا اعمــل عمـال تجاريـا أو القائــد حينمـا اعمـل عمـال حربيـا أو السياسـ ي حينمـا يمـارس عمــال سياسـيا‪ ،‬املفكــر‬
‫حينما يتبنى وجهة نظر في الكون والحياة ‪.178‬‬
‫ملخص األشكال الثالثة للسنن عند السيد محمد باقرالصدر‪:‬‬
‫إذن فالسيد الصدر ينظر إلى السنن من حيث عالقة مسببا ها بحدو ها‪ ،‬فهي على قسمين‪:‬‬
‫قس ْْم حتو ْْي يح ْْدض ف ْْورح ْْدوض مس ْْبباته‪ ،‬الش ْْكل األول ص ــيغ بص ــورة الش ــرط‪ ،‬فمتــى م ــا وج ــد املش ــروط تحق ــق‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫﴿يا َأ َُّ َها َّالذ َ‬
‫نص ْرك ْم َو ُيث ِب ْت أق َد َامك ْم﴾ ‪ 7‬محمد‪ ،‬والشكل الثاني حتوي أيضا‪ ،‬يتحقق‬ ‫ين َآم ُنوا ِإن تنصروا ّللا ي‬ ‫ِ‬
‫الشرط‪َ :‬‬
‫ف ــورا وه ــو الس ــنن الفيزيائي ــة الناظم ــة لحرك ــة الك ــون واإلنس ــان والحي ــاة‪ ،‬فبح ــدوث أش ـراطها تح ــدث‪ ،‬كغلي ــان امل ــاء عن ــد‬
‫درجة حرارة معينة‪ ،‬عند ضغط معين‪ ،‬أو أنها تسير على هيئة قضايا وجودية نـاجزة كحركـة األفـالك ومـا ينشـأ عنهـا مـن‬
‫تعاقب الليل والنهار والخسوف والكسوف‪ ،‬فيمكن استقراُها‪ ،‬وال يمكن لدنسان أن اغير فيها‪،‬‬
‫وأم ْْا القس ْْم الث ْْاني فحتو ْْي ولك ْْن ق ْْد ال يق ْْع جْ ْزاسه ف ْْوروق ْْوع مس ْْبباته‪ :‬وأم ــا الش ــكل الثال ــث‪ :‬فحرك ــة اإلنس ــان‬
‫والجماعة في ضمن دائرة اختيارهم‪ ،‬فيخالفوا عن أوامر هللا‪ ،‬ويتحركوا في األرض بما يخالف ما طبعوا عليه من السنن‬
‫الفطرية‪ ،‬وما شابه‪ ،‬فيتحدون السنن مدة قصيرة ثم يأخذهم هللا تعالى بظلمهم‪ .‬لكن هذه السنن من هذا الشكل تمتاز‬
‫بميزتين‪:‬‬
‫أوالهما‪ :‬أنها تتعدى حركة الفرد إلى حركة ذات تأثير في الجماعة‪،‬‬
‫والثاني ْة‪ :‬ارتباطه ــا بالعل ــة الغائي ــة‪ ،‬وأن العل ــة الغائي ــة تح ــرك األس ــباب وتتفاع ــل معه ــا‪ ،‬وف ــق نش ــاط ذهنــي ومخط ــط‬
‫فكري!‬
‫خالصة التفسيرالتاري ي عند السيد الصدر‪:‬‬
‫ويلخص لنا املفكر األستاذ يوسف الساريس ي خالصة التفسير التاريخي عند السيد الصدر‪:‬‬
‫‪ )1‬إن املحتوى الداخلي لدنسان هو األساس في حركة التاريخ‪.‬‬
‫‪ )2‬إن حركـ ــة التـ ــاريخ حركـ ــة غائيـ ــة مربوطـ ــة بهـ ــدف وليس ـ ــت سـ ــببية فقـ ــط أي أنهـ ــا حركـ ــة مشـ ــدودة إلـ ــى املس ـ ــتقبل‬
‫فاملستقبل هو املحرك ألي نشاط من أنشطة التاريخ‪.‬‬
‫‪ )3‬املستقبل معدوم فعال وإنما يتحرك من خالل الوجود الذهني‪.‬‬
‫‪ )4‬الوجود الذهني هو الحافز واملحرك واملدار لحركة التاريخ‪.‬‬
‫‪ )5‬ف ــي الوج ــود ال ــذهني يمت ــزج الفك ــر واإلرادة وب ــامتزاج الفك ــر واإلرادة تتحق ــق فاعلي ــة املس ــتقبل وتحريك ـ ُـه للنش ــاط‬
‫التاريخي على الساحة االجتماعية‪.‬‬

‫‪ 178‬السيد محمد باقر الصدر‪ ،‬السنن التاريخية في القرآن الكريم‪.‬‬


‫‪186‬‬
‫إذن العالقـة بـين املحتـوى الـداخلي لدنسـان الفكـر واإلرادة وبــين البنـاء الفـو ي والتـاريخي للمجتمـع هـي عالقـة تبعيــة‬
‫أي عالق ــة س ــبب بمس ــبب فك ــل تغي ــر ف ــي البن ــاء الف ــو ي والت ــاريخي للمجتم ــع إنم ــا ه ــو م ــرتبط بتغيي ــر املحت ــوى ال ــداخلي‪.‬‬
‫انتهى‪179‬‬

‫نســتطيع صــياغة األفكــار الســابقة بشـ يء مــن التحــوير فيهــا‪ ،‬والبنــاء عليهــا بنــاء فكريــا نضــيف إليهــا نظرتنــا للموضــو‬
‫فنميز بين ثالثة أنوا من السنن‪ :‬السنن اإللهية‪ ،‬والسنن الكونية‪ ،‬والسنن اإلنسانية‪.‬‬
‫تطبيق قانون السنن والسببية على تغييرالدولة‬
‫سائل من الباكستان‪:‬‬
‫سألني سائل من الباكستان في حمأة موسم االنتخابات‪ ،‬كيف أقنع الناخب الـذي اعتـاد علـى االختيـار بـين األحـزاب‬
‫العلماني ــة‪ ،‬ح ــزب الرابط ــة اإلس ــالمية (ن ــواز ش ــريف)‪ ،‬ح ــزب الش ــعب (بوت ــو‪ ،‬عاص ــف زرداري‪ ،‬ش ــهباز ش ــريف)‪ ،‬حرك ــة‬
‫تحريك اإلنصاف (عمران خان)‪ ،‬وبين الجماعة اإلسالمية (حزب إسالمي) (أنشأها املودودي رحمـه هللا)‪ ،‬فهـذه األحـزاب‬
‫الرئيســة‪ ،‬تنــاوب منــذ العــام ‪ 1951‬علــى الحكومــات أعضــاء مــن أحـزاب‪ :‬الرابطــة (غالــب الوقــت)‪ ،‬وحــزب الشــعب بعــض‬
‫الوقت‪ ،‬ومرة واحدة حزب عوامي الوطني‪ ،‬و عض املستقلين‪ ،‬لكن الغالبية الساحقة كانت من الرابطة‪ ،‬ومن ثـم حـزب‬
‫الشعب‪ ،‬وهي أحزاب معروفة بعلمانيتها الشديدة‪ ،‬ويضن بصوته أن يذهب للجماعة اإلسالمية‪.‬‬
‫فأجبته‪ :‬إذا سألت النـاس فـي الشـار ‪ ،‬مـا هـي أهـم املشـاكل التـي اعيشـونها؟ ومـاذا يريـدون مـن هـذه األحـزاب أن تفعـل‬
‫حيال هذه املشاكل؟ فحددنا املشاكل التالية‪ :‬الفقر‪ ،‬والفساد على كل مسـتوى‪ ،‬وانعـدام العدالـة‪ ،‬واالنحـالل اإلداري‪،‬‬
‫والتعليم‪ ،‬والطائفية و"التطـرف" كمـا اشـا لـه فـي وسـائل اإلعـالم‪ ،‬وانعـدام حركـة التطـور والتقـدم‪ ،‬ووجـود عـدم الثقـة‬
‫بالنظام كله‪ ،‬باملؤسسات الحكومية أو باألحزاب السياسية‪.‬‬
‫فف ــي أذه ــان الن ــاس ه ــذه املش ــاكل الرئيس ــية التــي اعيش ــونها‪ ،‬ج ـراء تطبي ــق النظ ــام عل ــيهم م ــن األح ـزاب نفس ــها‪ ،‬التــي‬
‫تتنــاوب علــى الحكــم وتحكــم بــنفس النظــام‪ ،‬ويســتفحل خطــر كــل هــذه املشــاكل مــرة بعــد مــرة‪ ،‬ويقــوم الناخــب بالتوج ــه‬
‫لصناديق االقترا مرة بعد مرة! فإذا كانت األحزاب قد أفرزت هذا الواقع الس يء‪ ،‬ولم تنج ‪-‬مع كل ما تطرح من برامج‪-‬‬
‫بـ ــالنهوض بـ ــاملجتمع أو بإيجـ ــاد حـ ــل لتلـ ــك املشـ ــاكل‪ ،‬فـ ــإن العيـ ــب إذن فـ ــي النظـ ــام‪ ،‬وإن املشـ ــاركة فـ ــي مثـ ــل هـ ــذه الحيـ ــاة‬
‫السياسية عب ية‪ ،‬ولذلك ال بد أن يكون هذا الواقع الفاسد دافعا للتفكير بالتغيير‪ ،‬فالغاية هي التغيير‪ ،‬والدوافع هذه‬
‫التي أسلفنا‪ ،‬وبالتالي فال شك أن السؤال سيطرح‪ :‬مـا هـو شـكل النظـام البـديل؟ وكيـف ننتقـل مـن الواقـع هـذا إلـى ذاك‪،‬‬
‫وهل نركز الحل على كل تلك املشاكل‪ ،‬أم أنها إفرازات للنظام وبحل النظام تنحل كل تلـك املشـاكل تلقائيـا؟ وهـذا لـيس‬
‫بخاص بباكستان‪ ،‬بل في أي واقع في أي دولة أخرى!‬

‫‪ 179‬املفكر األستاذ يوسف الساريس ي‬


‫‪187‬‬
‫وحتــى نفهــم املوضــو بدقــة‪ ،‬فلنأخــذ مــثال كيــف نصــمم النظـام الســببي الــالزم لعملنــا فــي العمليــة التغييريــة‪ ،‬يتــألف‬
‫النظام السببي هذا من أعمال معينـة متعلقـة بتغييـر املجتمعـات وأنظمـة الـدول تغييـرا جـذريا انقالبيـا شـامال‪ ،‬فنتقصـد‬
‫األعمال التي من شأنها أن تحدث التغيير في املجتمع بصورة قادرة على تفعيل الفعالية السببية للنظام السببي إلحداث‬
‫التغيير‪ ،‬أو بدقة أكثر‪ :‬للوقو في مظنة القدرة على إحداث التغيير ألن التغيير والنصر والتمكين واالستخالف كلها بيـد‬
‫هللا تعالى‪ ،‬لكنه رتب نزولها على شروط وأعمال كلفنا بها‪:‬‬
‫َ ُ َ‬ ‫َ َْ َ ُ َ ْ َُ َْ َ َ َْ‬ ‫َ ْ ُْ َ‬
‫األ ْنظ َمْ ْة ال َّسْ ْ َبب َّية َ‬
‫لع َمْ ْل األ ْحْ ْ َ‬
‫ف والغا َيْ ْات ت ُجْ ْ ُّر‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫الخ‬ ‫ْن‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬ ‫ال‬‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬‫األع‬ ‫ع‬‫ف‬ ‫د‬‫ْ‬ ‫ْ‬‫ت‬ ‫اب‬‫ب‬‫ْ‬ ‫ْ‬‫س‬‫األ‬‫ف‬ ‫‪،‬‬‫اب‬
‫ِ‬ ‫ز‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫تصْ ْ ِميم ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ال ِم َن األ َم ِام‪ ،‬والغائية هي محرك تصميم النظام السببي‪:‬‬ ‫األ ْع َم َ‬
‫اإلرِتـ َو ُاء‪،‬‬ ‫الع َطـ ُ‬
‫ش‪ ،‬والغايـ ُـة مــن ال ُّشـ ْرب هــي ْ‬ ‫ـان عنــد العطــش‪ ،‬فالعمـ ُـل هــو‪ُ :‬شـ ُ‬
‫رب املـ ِـاء‪ ،‬والـ َّـد ُ‬
‫افع لــه هــو َ‬ ‫ـرب اإلنسـ ُ‬‫اشـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدافع والغاية والعمل في الواقع كما يلي‪:‬‬ ‫ويكو ُن َت ُ‬
‫رتيب َّ‬
‫‪ -1‬الدافع‪ -2 ،‬العمل‪ -3 ،‬تحقيق الغاية!‬
‫إال أن هــذا الحكــم ســطملي ويمثــل نظــرة ســطحية للواقــع‪ ،‬لكــن بــالتعمق فيــه نجــد أن اإلنســان يضــع لنفســه أهــدافا‬
‫(غايات) وهو اسعى لتحقيقها من خالل بحثه عن العمل الذي يحقق الغاية ثم يقوم بمباشرة العمل‪.‬‬
‫بأي عمل – وسنضرب العمل لتغيير املجتمع وأنظمة الدولة‬ ‫وعليه فالترتيب الذي ينبغي أن يصار إليه عند القيام ِ‬
‫أجل غاية ما كما يلي‪:‬‬ ‫من قبل الحزب العامل إلحداث هذا التغيير‪ ،‬مثاال ‪ -‬من ِ‬
‫‪ -1‬الــدافع‪( ،‬وه ــو هن ــا ال ــدافع لتغيي ــر الواق ــع الفاس ــد‪ ،‬وعــيش املس ــلمين عيش ــة غي ــر إس ــالمية‪ ،‬وخض ــوعهم ألنظم ــة‬
‫الجاهلية والطاغوت)‪.‬‬
‫ُ َ ُ‬ ‫َُ َ ُ‬
‫ص َّو َرة فــي الــذهن‪( ،‬إقامــة النظــام اإلســالمي‪ ،‬الــذي تســوده أفكــار اإلســالم الصــحيحة‪ ،‬تســتأنف فيــه‬ ‫‪ -2‬الغايــة الــمت‬
‫الحياة اإلسالمية‪ ،‬وتكون أعراف ومنكرات املجتمع والدولة أعراف اإلسالم ومنكراته)‪.‬‬
‫‪ -3‬التفكير بالعمل الذي يحقق الغاية وبالتالي اشبع الدافع‪ ،‬وهذا التفكير يقت ي أنواعا ثالثة من األفكار‪:‬‬
‫أ‪ -‬التفكير بجملة األفكار واملبادي التي تضمن تحقق الغاية في الواقع‪ ،‬إذ إن تغيير الواقع يتطلب الصرا بين‬
‫األفكار التي أدت لفساد الواقع مع األفكار التي يراد إحاللها محلها لتغيير الواقع بها‪ ،‬فيقـوم القـائمون علـى‬
‫العم ــل ببل ــورة مجموع ــة م ــن األفك ــار الالزم ــة له ــذا الص ـرا ‪ ،‬وتص ــفيتها م ــن الش ــوائب‪ ،‬وتنقيته ــا م ــن الغري ــب‬
‫الــدخيل‪ ،‬لضــمان قــدر ها علــى تحقيــق الغايــة‪ ،‬وال بــد مــن وضــع تصــور دقيــق للتطبيــق العملــي لألفكــار التــي‬
‫يحمله ــا الح ــزب ح ــين وص ــوله للحك ــم‪ ،‬فيق ــوم الح ــزب بوض ــع مخط ــط تفص ــيلي ألنظم ــة الحك ــم والسياس ــة‬
‫واالقتصاد واالجتما والقضاء وأمثالها ليبين للناس شكل النظام الذي يدعوهم إليه‪.‬‬
‫ب‪ -‬التفكيــر فــي الطريق ــة الالزمــة إليج ــاد الغايــة ف ــي الواقــع (أي التفكي ــر فــي الخط ــوات العمليــة التــي تلــزم لتفاع ــل‬
‫الحزب مع املجتمع والدولة‪ ،‬بدراسة مقومات املجتمع والدولة‪ ،‬ووضع الخطة التفصيلية للتعامل مع تلك‬
‫املقوم ــات‪ ،‬أخ ــذا بالس ــنن والن ــواميس التاريخي ــة‪ ،‬واألحك ــام الش ــرعية العملي ــة الالزم ــة للعملي ــة التغييري ــة‪،‬‬
‫‪188‬‬
‫والتفكير في العقبات التي تقف في طريقه‪ ،‬وكيفية أخذه لقيادة األمة إليصال األفكـار التـي قـام عليهـا لتقـود‬
‫املجتمــع والدول ــة)‪ ،‬وال ب ــد للح ــزب م ــن التفكي ــر بالشــروط الالزم ــة للعملي ــة التغييري ــة وكيفي ــة التفاع ــل معه ــا‬
‫(تصميم النظام السببي للطريقة وتفعيله)‪.‬‬
‫ت‪ -‬التفكيــر ب ــالربط ب ــين الفكــرة الالزم ــة لتغيي ــر الواق ــع مــع الطريق ــة الالزم ــة لتغييــر الواق ــع (إذ إن أهمي ــة وج ــود‬
‫وبلورة وتنقية األفكار بدرجة أهمية وجود وبلورة الطريقة التي ستوصل هذه األفكار للغاية وبدرجة أهمية‬
‫تجانس الفكرة مع الطريقة)‪.‬‬
‫‪ -4‬التفكير بالوسائل واألساليب الالزمة لتفعيل الطريقة‪ ،‬وبالتالي التفكير باألسباب التي ال بد منها الستغالل هذه‬
‫األساليب وكيفيـة التفاعـل معهـا‪ ،‬ومـا يتضـمن ذلـك لوجـود املعلـول‪( ،‬املعلـول بالنسـبة لألسـاليب والوسـائل هـو‬
‫أعمـ ــال الطريقـ ــة)‪ ،‬والتفكي ـ ــر بالشـ ــروط الالزمـ ــة وكيفي ـ ــة التفاعـ ــل معهـ ــا (تص ـ ــميم النظـ ــام السـ ــببي لألس ـ ــاليب‬
‫والوسائل وتفعيله)‪.‬‬
‫‪ -5‬العمل (أعمال الطريقة‪ ،‬مثل التثقيف‪ ،‬الصرا الفكري‪ ،‬الكفاح السياس ي‪ ،‬طلب النصرة ‪...‬الخ)‪.‬‬
‫‪ -6‬املراجع ــة والدراس ــة والبح ــث‪ ،‬ف ــال ب ــد للح ــزب أن ينق ــب دوم ــا ف ــي أفك ــاره لتنقيته ــا م ــن كــل ش ــائبة ق ــد تلح ــق به ــا‪،‬‬
‫ويصغي لكل رأي فيما تبناه ويصيخ سمعه لكل ما يحصل في املجتمع مما يتعلق باألفكار واألحكام حتـى يظـل مـا‬
‫تبناه في الذروة التي ال يطالها أحد من الصحة والصدق والقوة ودقة االنطباق‪.‬‬
‫‪ -7‬تحقيق الغاية في الواقع‪.‬‬
‫‪ -8‬بناء ذلك كله على اإليمان لضمانات غاية في األهمية‪:‬‬
‫وأن يكــون ذلــك كلــه مبنيــا علــى اإليمــان حتــى يبقــى اإلنســان ســائرا فــي الجــو اإليمــاني ســيرا دائميــا‪ .‬وال يجــوز مطلقــا أن‬
‫يفصل العمل عن الفكر أو عن الغاية املعينة أو عن اإليمان‪ ،‬فإن في هذا الفصل ‪-‬مهما قل‪ -‬خطـرا علـى العمـل نفسـه‪،‬‬
‫وعلى نتائجه‪ ،‬وعلى استمراره‪.‬‬
‫م ــن هن ــا نق ــول ب ــأن الغاي ــة تع ــين ن ــو العم ــل‪ ،‬وأن الفك ــر اس ــبق العم ــل‪ ،‬إذن ال ب ــد م ــن الفك ــر الخ ــاص به ــذا الح ــزب‬
‫املوصل له لبلوا غايته!! أي ال بد من التبني!!‬
‫إن أي تجــاوز ألي نقط ــة تفصــيلية م ــن ه ــذه النقــاط سيف ـ ي إلــى ارتكاس ــات ف ــي العمــل‪ ،‬وإخف ــاق فــي تحقي ــق الغاي ــة‪،‬‬
‫وتفريْْأ للطاقْْات والجهْْود فْْي غيرمْْا نتيجْْة‪ ،‬ومـن ثـم إلـى مراجعـات وتراجعـات وانتكاسـات وإضـافة عقـد جديـدة للواقــع‬
‫بدال من حل العقد الكثيرة التي تكتنفه من جميع جوانبه! لذلك كان لزاما على كل من يتصدى للعمل املـنظم الجمـاعي‬
‫للتفاعل مع الواقع أن يتبنى ما يلزمه من أفكار وأن يتبنى طريقة لتغيير الواقع‪ ،‬فـالتبني إذن واجب من واجبْْات القيْْام‬
‫بالعم ْْل عل ْْى وجه ْْه‪ ،‬وم ــن غيــر التبنــي ال يمكــن أن تس ــمى أي حركــة أو جماع ــة أو تكتــل ب ــالحزب‪ ،‬ومــن الحتمــي أن تك ـون‬
‫أفعالها دائما ردات أفعال ارتجالية‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫وإن الح ــزب السياس ـ ي ال ــذي ال يض ــع برنامج ــا واض ــحا أم ــام األم ــة يب ــين كي ــف سيص ــل إل ــى التغيي ــر وكي ــف س ــيحقق‬
‫برنامجه الذي يطرحه لألمة للتغيير بشكل واض دقيق فإنه يضيع وقت األمة الثمين‪ ،‬ويلهو بشبابها ويفرا شحنا هم‪،‬‬
‫وهو وبال على األمة‪ ،‬وعائق من عوائق النهضة‪ ،‬وال يزيد عمله عن أن يكون نوعا من العبث قيد أنملة‪،‬‬
‫فالغايات شكلت لدى العاملين علـى التغييـر "باعثْْا" لتدـخير األسـباب بشْْكل ذ ْكْي‪ ،‬إلنتـاج األعمـال‪ ،‬وهـذا التدـخير‬
‫نس ــميه "الغائي ْ ْْة"‪ ،‬ألن ــه محك ــوم به ــا (بالغاي ــة)‪ ،‬ومنض ــبط بمح ــددا ها بال ــذات دون غيره ــا‪ ،‬فه ــي الباع ــث عل ــى وج ــوده‬
‫بالصـورة تلـك‪ ،‬فالغائيـة إذن يمكـن فهمهـا أنهـا‪ :‬دراسْْة مْْا يلْْزم كْْل عقبْْة مْْن أعمْْال للتغلْْب عليهْْا‪ ،‬وتسْْخيركْْل سْْبب‬
‫قادر على إنتاج املسبب‪ ،‬ودراسة كيفية تنفيذ املخطم إلنتاج الغاية‪ ،‬فالغائية هي‪ :‬التدبيرالالزم لتحقيق املخطم‪،‬‬
‫أي أن الغائي ــة عب ــارة ع ــن املح ــرك ال ــدُوب ال ــذي يل ــزم ف ــي كــل خط ــوة م ــن خط ــوات العم ــل لالنط ــالق م ــن األخ ــذ باألس ــباب‬
‫الالزمة لتحقيق الغايات أي املقاصد‪ ،‬والتغلب على العوائق واملوانع‪ ،‬والتفاعل مع الشروط الالزمة‪.‬‬
‫التطبيق العملي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـذهن مــن وراء عمليــة تغييــر املجتمــع وإقامــة الدولــة علــى أنقــاض دول ــة‬ ‫فمــا هــو الــدافع ومــا هــي الغايــة املتصــورة فــي ال ـ ِ‬
‫أخــرى؟ وم ــا ه ــي األم ــور التــي بتحققه ــا يتحق ــق بل ــوا الغاي ــة؟ ومــا ه ــي األس ــباب التــي ال ب ــد مــن توفره ــا لحص ــول ه ــذا العم ــل‬
‫بشكل حتمي؟ سواء األسباب الالزمة للطريقة (النقطة الثالثة) أو للوسائل واألساليب (النقطة الرابعة)؟‬
‫الجواب‪:‬‬
‫‪ )1‬الــدافع للتغييــر هــو تغييــر دار الكفــر إلــى دار إس ــالم‪ ،‬وتمكــين الــدين‪ ،‬وتطبيــق الشــريعة‪ ،‬وإنهــاض األم ــة‬
‫لتحمل رسالتها لألمم‪ ،‬وتقتعد مكانتها التي ارتضاها هللا لها‪.‬‬
‫َُ َ ُ‬
‫ص َّو َرة ف ــي الـ ِـذ ْه ِن اســتئناف الحي ــاة اإلســالمية‪ ،‬فه ــذه الغايــات الكبــرى‪ ،‬وين ــتج عــن وجوده ــا‬ ‫‪ )2‬والغايــة الــمت‬
‫تحقق غايات أخـرى كثيـرة جانبيـة مثـل محـو الفقـر‪ ،‬واستئصـال الجريمـة‪ ،‬ورفاهيـة العـيش‪ ،‬وتحسـين التعلـيم‪،‬‬
‫والقضاء على الفساد والرشوة ‪ ...‬الخ‪ ،‬تلك التي نشأت عن النظـام الحـالي املـراد تغييـره‪ ،‬فهـي نتـائج للواقـع املـراد‬
‫تغييره فاالنشغال بتغييرها يفاقمها ألنها انشغال عن السبب األساس الذي نتجت عنه (كحال مـريض سـرطان‬
‫جاء لطبيب لديه أعراض من الحمى ووجع الـبطن وغيرهـا‪ ،‬فـإن انشـغل الطبيـب بـاألعراض عـن املـرض األسـاس‬
‫تفاقم املرض األساس‪ ،‬فال اعطيه من عالجها إال ما يلزم لتخفيض الحرارة مثال أي للحفاظ على الحياة‪ ،‬بل إن‬
‫اإلكثـ ــار مـ ــن أنـ ــوا األدويـ ــة التـ ــي تخـ ــص كـ ــل عـ ــرض مـ ــن األع ـ ـراض سيف ـ ـ ي لتعـ ــارض األدويـ ــة ومـ ــلء الجسـ ــم‬
‫بالكيماويات‪ ،‬ولربما تتعارض مع عالج املرض األساس‪ ،‬فالتركيز يكون على املرض األساس)‪.‬‬
‫‪ )3‬وأم ــا ن ــو العم ــل ال ــذي يحق ــق الغاي ــة‪ ،‬فه ــو إقام ـة الدول ــة اإلس ــالمية التــي بوجوده ــا‪ :‬س ــيتمكن ال ــدين‪،‬‬
‫وب ــدون وجوده ــا ل ــن ي ــتمكن ال ــدين‪ ،‬وبوجوده ــا‪ :‬تتح ــول ال ــدار إل ــى دار إس ــالم‪ ،‬وتوض ــع أحك ــام اإلس ــالم موض ــع‬
‫التطبيق‪ ،‬وينهض املسلمون ويرتقوا‪ ،‬وتقتعد األمة اإلسالمية املكانة الالئقة بها‪ ،‬وتـتمكن مـن حمـل رسـالتها بـين‬
‫األم ــم‪( .‬وم ــن نافل ــة الق ــول أن الفق ــر والجه ــل والبطال ــة والعنوس ــة وس ــائر أدواء املجتم ــع تح ــل بتطبي ــق النظ ــام‬
‫‪190‬‬
‫اإلسالمي تطبيقا صحيحا‪ ،‬وقد تستغرق وقتا ما بين قيام الدولـة وتفعليهـا للبـرامج التـي تحـل هـذه املشـاكل وبـين‬
‫حلها)‪ ،‬وإلقامة الدولة طريقة وأعمال سببية ال تقام دولـة علـى أنقـاض دولـة إال باألخـذ بهـا‪ ،‬منهـا إقامـة الحـزب‪،‬‬
‫وتثقيفه‪ ،‬وتفاعله مع املجتمع‪ ،‬وصرا أفكار املجتمع‪ ،‬وما استفضنا به من أعمال الطريقة‪ ،‬وهذه األعمال هي‬
‫أنظم ـ ــة س ـ ــببية‪ ،‬ينبغ ـ ــي األخ ـ ــذ به ـ ــا‪ ،‬فم ـ ــثال‪ :‬الصـ ـ ـرا الفك ـ ــري نظ ـ ــام يقت ـ ـ ـ ي ه ـ ــدم األفك ـ ــار املخالف ـ ــة‪ ،‬م ـ ــثال‬
‫الديمقراطيــة‪ ،‬وبالت ــالي ت ــدرس األفك ــار وتضــع الي ــد عل ــى م ــواطن ض ــعفها وتعارضــها م ــع الفك ــر اإلس ــالمي‪ ،‬وتبل ــور‬
‫األفك ــار حولهـ ــا‪ ،‬وتبل ــور البـ ــديل اإلسـ ــالمي‪ ،‬رُي ــة وتصـ ــورا وطرح ــا‪ ،‬وتقـ ــذف باطـ ـ َـل الديمقراطي ــة بحـ ــق اإلسـ ــالم‬
‫فيدمغه فإذا هو زاهق‪ ،‬والصرا هذا يتم في املجتمع‪ ،‬للباطل رُوسـه وإعالمـه وأهلـه‪ ،‬فيـدور صـرا بيـنهم وبـين‬
‫الدعوة‪ ،‬فيضعون العوائق في طريق وصولها للناس‪ ،‬والدعوة تسعى إليجاد رأي عام حول تلك األفكار‪ ،‬فكيف‬
‫تتحول األفكار لرأي عام؟ هذا له تقنياته التي درسناها في فصـل بنـاء الـرأي العـام‪ ،‬وهكـذا‪ ،‬فاملسـألة إذن نظـام‬
‫سببي يبغي هدم فكر وإحالل فكر آخر مكانه في مجتمع حركي (ديناميكي) حيوي يتفاعل‪ ،‬فيه العبون كثر‪.‬‬
‫أما األسباب التي ينبغي التفكير بها والتي بوجودها يتم تفعيل نظام السببية للطريقة وأعمالها‪ ،‬و غيابها لن‬
‫يف ـ ي العمـل إلـى تحقيـق الغايـة املتصـورة فـي الـذهن‪ ،‬فهـي كمـا قـال اإلمـام تقـي الـدين الن هـاني فـي جـواب ســؤال‪:‬‬
‫"و إقامة دولة أي دولة‪ ،‬فْْي جماعْْة أي جماعْْة‪ ،‬لهْْا قْْوانين ونْْوامهس‪ ،‬وهـي أن تتقبـل تلـك الجماعـة أو الفئـة‬
‫األقوى فيها للمفاهيم واملقاييس والقناعات التي تقوم عليها تلك الدولة‪ ،‬وما لم تتقبل تلك املفاهيم واملقاييس‬
‫ال يمكن أن تقوم فيها الدولة‪ ،‬ولو تسلط عليها متسلطون‪ ،‬وتولى السلطة فيها أقوياء‪ .‬فاألصـل فـي إقامـة الدولـة‬
‫هـ ــو تقب ـ ــل الجماعـ ــة أو الفئ ـ ــة األقـ ــوى لتل ـ ــك املفـ ــاهيم واملق ـ ــاييس والقناعـ ــات‪ ،‬ف ـ ــالخطوة األولـ ــى ه ـ ــي املف ـ ــاهيم‬
‫واملق ــاييس والقناع ــات‪ .‬ه ــذه ه ــي ن ــواميس الجماع ــات‪ ،‬وه ــذه ه ــي قْ ْْوانين الحكْ ْْم والسْ ْْلطان‪ .‬فه ــذه الق ــوانين‬
‫مشـاهدة منظـورة‪ ،‬فمحاولـة تجاهلهـا‪ ،‬وأخذالسـلطة بـالقوة والقهـر‪ ،‬ال يمكـن أن يوجـد الدولـة‪ ،‬وإن كـان يمكــن‬
‫أن يوجد املتسلطين إلى حين"‪،180‬‬
‫وذلك ألن إقامة الدولة تعني إقامة وأخذ السلطان وهذا ال يتحقق إال بأمرين‪181:‬‬

‫أحدهما‪ :‬رعاية املصالح‪ ،‬أي مصالح الناس عامة‪( ،‬نظام الحكم‪ ،‬وأنظمة الدولة بأحكام معينة‪،‬‬
‫وثانيهما‪ :‬القوة التي تحوي الرعية‪ ،‬وتنفذ األحكام‪ ،‬أي األمان‪.‬‬
‫أم ْْا رعاي ْْة مص ْْالح الن ْْاس عام ْْة (نظ ْْام الحك ْْم‪ ،‬وأنظم ْْة الدول ْْة بأحك ــام معين ــة‪ .‬فق ــد ثب ــت بم ــا ال ي ــد ُ‬
‫مجاال للشك أن السلطة هي التصرف في مصالح الناس‪ ،‬ومصال الناس تتحـدد قطعـا حسْْب وجهْْة نظْْرهم‬
‫ف ْْي الحي ْْاة‪ ،‬فم ــا يرون ــه م ــن أعم ــال وأش ــياء مص ــلحة له ــم اعتبرون ــه مص ــلحة‪ ،‬وم ــا ال يرون ــه مص ــلحة يرفض ــون أن‬
‫اعتبرونه مصلحة‪ ،‬فاملصلحة إنما تكون مْْن حيْْث النظْْرة إليهْْا ال مْْن حيْْث و اقعهْْا فقْْم‪ ،‬فـاملوت فـي سـبيل‬

‫‪ 180‬جواب سؤال عن الغيبيات واألسباب واملسببات ‪ 1974‬تقي الدين الن هاني‪.‬‬


‫‪ 181‬مقدمة الدستور‪ ،‬أو األسباب املوجبة له‪ ،‬أحكام عامة‪.‬‬
‫‪191‬‬
‫هللا (االستشهاد) يراه املسلم أنه مصلحة مع أنه موت [أي املوت لهس مصلحة في ذاته]‪ ،‬والربا عنـد املسـلم ال‬
‫يـراه مصــلحة مــع أنــه كســب مــال [كســب املــال هــو مصــلحة فــي ذاتــه]‪ ،‬فوجهْْة النظ ْْرفْْي الحي ْْاة حْْددت طبيع ْْة‬
‫الشْ ْ يء بأنْ ْْه مصْ ْْلحة أو مفسْ ْْدة‪ ،‬فالك ــذب مفس ــدة ولكن ــه ف ــي الح ــرب مص ــلحة‪ ،‬م ــع أن واقع ــه أن ــه ك ــذب لْ ْْم‬
‫ً‬
‫يختلْْف فْْي الحْْالتين‪ ،‬وإنمـا اختلفـت النظـرة إليـه بحسـب وجهـة النظـر فـي الحيـاة‪ ،‬فاملصْْالح هْْي قطعْْا حسْْب‬
‫وجهة النظرفي الحياة‪ ،‬فمن يريد أن يأخذ السلطة إنما اعني أنـه يريد التصرف فْْي مصْْالح النْْاس‪ ،‬فـال بـد أن‬
‫يأخذ هو وجهة نظرالناس وحينئذ يتصرف في مصالحهم حسب وجهْْة نظْْرهم‪ ،‬وإمْْا أن يعطْْيهم وجهْْة نظْْره‬
‫في الحياة فيقنعهم بها ثم يتصرف في مصالحهم‪ ،‬أو أن يجبرهم علـى رُيتـه كمـا فـي أنظمـة اإلسـتبداد‪( ،‬والتـي ال‬
‫ً‬
‫تدوم إلخاللها بهذا الشرط) وفي الحالتين األولى والثانيـة إنما جعل النظرة إلى الحياة أساسا في أخذ التصرف‬
‫ً‬
‫ف ْْي مص ْْالح الن ْْاس‪ ،‬أي أساس ْْا ف ْْي أخ ْْذ الس ْْلطة‪ ،‬بنــاء علــى رض ــا الطــرفين‪ ،‬وفــي الحال ــة الثالثــة اختلفــت فق ــط‬
‫بفرض وجهة النظر لـدى الحـاكم علـى النـاس فرضـا‪ ،‬وبقيـت هـي الزاويـة التـي مـن خاللهـا تؤخـذ السـلطة‪ ،‬وعليـه‬
‫فإن النظْْرة إلْْى الحيْْاة هْْي األسْْاس فْْي أخْْذ السْْلطة‪ ،‬لـذلك كـان لزامـا العمـل علـى تغييـر النظـرة إلـى الحيـاة إن‬
‫ُ‬
‫ـرة اإلسـ َ‬
‫ـالم‪ ،‬و إقنْْاع الن ْْاس باتخْْاذ العقي ْْدة اإلسْْالمية أساسْْا ف ْْي نظْْرتهم إل ْْى الحيْْاة وإل ْْى‬ ‫خالفــت تلــك النظـ‬
‫مص ْْالحهم‪ ،‬فحيثم ــا كــان الش ــر ف ــثم املص ــلحة‪ ،‬وأن يتح ْْول الْ ْرأي الع ْْام ف ْْي املجتم ْْع التخ ْْاذ ه ْْذه النظ ْْرة‬
‫أساسْْا للحكْْم‪ ،‬فتقـوم بنـاء علـى ذلـك‪ :‬مجموعـة املفـاهيم واملقـاييس والقناعـات مـن هـذه العقيـدة‪ ،‬وتحمـل إلـى‬
‫املجتمع أو إلى الفئة األقوى فيه والتي تمتلك القدرة على إحداث التغييـر فيـه‪ ،‬فيؤخـذ الحكـم ممـن ال يقيمونـه‬
‫على أساس هذه النظرة‪ ،‬من هنـا فاسـتئناف الحيـاة اإلسـالمية يقت ـ ي أن تتحـول النظـرة إلـى املصـال واألفعـال‬
‫والشؤون إلى زاويـة اإلسـالم فتتخـذ هـي الزاويـة التـي يحكـم بهـا علـى املصـال وترعـى الشـؤون علـى أساسـها‪ ،‬لْْذلك‬
‫كان عمل الحزب املركزي تغييراملفاهيم والقناعات واملقايهس التي لدى املجتمع إلقامة الدولة على أساس‬
‫مف ْْاهيم ومق ْْايهس وقناع ْْات إس ْْالمية‪ ،‬يق ْْيم الس ْْلطان عل ْْى أساس ْْها وتح ْْل مح ْْل م ْْا يخ ْْالف اإلس ْْالم ف ْْي‬
‫الو اقع‪ 182.‬فهذا العمل يجري وفقْْا للسْْنن اإللهيْْة‪ :‬التْْي بينْْت طريقْْة عمْْل الرسْْول ﷺ والتْْي اسْْتنبطناها‬
‫منها‪ ،‬ويستجلب النصرمن هللا بحسن اتباع منه نبيه ﷺ‪ ،‬ويجري وفقْْا للسْْنن املجتمعيْْة‪ ،‬فيحقْْق إقامْْة‬
‫الدولة بالضرورة‪ ،‬وحتما‪ ،‬بإذن هللا تعالى حين يشاء هللا تعالى‪.‬‬
‫ويراعي هذا العمل‪ :‬الشروط الالزمة إلنجاحه من خالل البحث في مقومات الدولة‪ ،‬وكيفية التعامل مع كل‬
‫مقوم من هذه املقومات بشكل يف ي إلى إحداث التغيير واستمراره!‬
‫وأمـا أخــذ الحكــم بــالقوة‪ ،‬فإنــه لــيس مــن الســنن‪ ،‬وذلــك ألن مــن يريــد أخــذ الحكــم بــالقوة‪ ،‬عليــه أن اســتعين‬
‫بقوة أقوى ماديا وفكريا من قوة الشعب كاالسـتعانة بنفـوذ الـدول الكبـرى‪ ،‬وبـذلك قـد اسـتطيع أن يتغلـب علـى‬

‫‪ 182‬أنظر مجموعة النشرات التكتلية‪ ،‬ص ‪ 137‬بتصرف‪.‬‬


‫‪192‬‬
‫الشــعب ويأخــذ الســلطة‪ ،‬ولكــن مثــل هــذه الدولــة تقــوم ـكـالجمر مــن تحــت الرمــاد‪ ،‬ال يلبــث أن اشــعل النــار ولــو‬
‫بعـد حـين‪ ،‬ولـذلك ال يجعــل عمـل مـن يأخـذ الحكــم بـالقوة دلـيال علــى جعـل القـوة أساسـا ألخــذ السـلطة‪ ،‬فـال بــد‬
‫من جعل نظرة األمة في الحياة أمرا أساسيا واالستعانة بقوة األمة الذاتية ماديا وفكريا‪.‬‬
‫‪ )4‬وأمـا الوسـائل واألســاليب‪ ،‬أي التفكيـر بالوســائل واألسـاليب الالزمــة لتفعيـل الطريقــة‪ ،‬وبالتـالي التفكيــر‬
‫باألســباب التــي ال ب ــد منه ــا الس ــتغالل ه ــذه األس ــاليب وكيفيــة التفاع ــل معه ــا‪ ،‬وم ــا يتض ــمن ذل ــك لوج ــود املعل ــول‪،‬‬
‫(املعلول بالنسبة لألساليب والوسائل هو أعمال الطريقة)‪ ،‬والتفكير بالشـروط الالزمـة وكيفيـة التفاعـل معهـا‬
‫(تص ــميم الن ظ ــام الس ــببي لألس ــاليب والوس ــائل وتفعيل ــه) ف ــإن م ــن أعم ــال الطريق ــة م ــثال‪ :‬حم ــل ال ــدعوة‪ ،‬وله ــذا‬
‫الحم ـ ــل وس ـ ــائل‪ ،‬مث ـ ــل امل ـ ــذيا والص ـ ــحيفة ووس ـ ــائل التواص ـ ــل االجتم ـ ــاعي‪ ،‬وأس ـ ــاليب‪ :‬مث ـ ــل الخطب ـ ــة واملقال ـ ــة‬
‫والنقاش ‪ ،‬ولكن التعامل مع هذه الوسائل واألساليب يقت ي الوقوف على سننها ونواميسها‪ ،‬فمثال‪ :‬قد تكتـب‬
‫أفضل مقالة‪ ،‬ولكن ال يقرُها إال ثلة قليلة‪ ،‬ملاذا؟ ألنك حين كتبتها في مواقع التواصل االجتماعي مثال لم تأخذ‬
‫ببعض السنن والنواميس أو األنظمـة التـي صـممت تلـك املواقـع علـى أساسـها‪ ،‬فكـان الجمهـور قلـيال‪ ،‬فقـد يكـون‬
‫من التقنيات مثال أن تكتب في صحف يومية مقاالت هامة حتى تكون وجها إعالميا معروفا‪ ،‬وأن تتقصد مواقع‬
‫لها روادها من املثقفين فتربط هؤالء وأولئك بصـفحاتك علـى مواقـع التواصـل االجتمـاعي‪ ،‬وأن اسـتعمل ملقالتـه‬
‫الكلمات الداللية التي يكثر البحث عنها في محركات البحث‪ ،‬وأن يطرق املوضوعات التي هم الناس وتجيب على‬
‫تسـاُال هم‪ ،‬وأن يختـار للموضـو عنوانــا جـذابا‪ ،‬وأن يتقصـد مواقــع ازدحـام النـاس فيطــرق تلـك املنـاطق بهمــة‪،‬‬
‫ـكـأن يجيــب علــى شـ هة ألقاهــا متفيقــه فيصــرعه بالحجــة والبرهــان‪ ،‬وأن يختــار ملقالتــه أوقــات الــذروة مــن تواجــد‬
‫الق ـراء عل ــى الش ــبكة ف ــي تل ــك األوق ــات ويعي ــد النش ــر والت ــذكير ويس ــتعمل املجموع ــات ذات األع ــداد الكبي ــرة م ــن‬
‫األعضاء‪ ،‬وقد يكون من التقنيات املهمة إجراء نقاشات حول األفكار يكون فيها طرفان‪ ،‬فالناس تتابع مثل هذا‬
‫بشكل أكبر‪ ،‬وقـد يكـون مـن التقنيـات الحمـالت الدعائيـة‪ ،‬فتنشـر أخبـارا عـن مقالتـك تلـك علـى وسـائل متعـددة‬
‫تربط بمقالتك تلك‪ ،‬أو يتقصد فريق من امل تابعين الترويج ملقالتك تلك‪ ،‬أو تدفع مقابل الدعاية لها‪ ،‬باإلضافة‬
‫إل ــى املض ــمون‪ ،‬وحجم ــه‪ ،‬وطريق ــة طرح ــه‪ ،‬وهك ــذا‪ ،‬فه ــذه األس ــاليب والوس ــائل تحت ــاج لفه ــم أس ـرارها وتقنيا ه ــا‬
‫وتفعيلها لتخدم العمل األساس من أعمال الطريقة وهو حمل الدعوة!‬
‫‪ )5‬وأم ــا القي ــام بالعم ــل‪ ،‬فإن ــه م ــن املعل ــوم أن ــه عن ــدما تت ــوالى املص ــائب عل ــى األم ــة‪ ،‬وتتت ــابع عليه ــا األح ــداث‬
‫الجســام‪ ،‬والخطــوب العظــام‪ ،‬ويســود فيهــا الظلــم‪ ،‬ويوســد األمــر إلــى غيــر أهلــه‪ ،‬يبــدأ النــاس بالتــذمر‪ ،‬ثــم ينتقــل‬
‫هذا إلى إحساس بـالظلم‪ ،‬يـدفع إلـى الحركـة لـدفع الظلـم‪ ،‬وإبعـاد الفسـاد‪ ،‬ورفـع شـأن املجتمـع واألمـة‪ ،‬والنهـوض‬
‫بها إلى املستوى الذي يليق بها‪ ،‬ومـن البـديهي أن ُيلجـأ مـن أجـل بلـوا ذلـك إلـى التكتـل‪ ،‬والعمـل الجمـاعي‪ ،‬إليجْْاد‬
‫الق ْْوة الق ْْادرة عل ْْى إح ْْداض التغيي ْْر‪ ،‬ف ــي الخط ــوب التــي تتع ــدى ق ــدرات الف ــرد كف ــرد‪ ،‬بمع ــزل ع ــن جماع ــة‪ ،‬أي‬
‫إليجاد الطاقة السببية القادرة على تفعيل األسباب إلنتاج مسببا ها‪،‬‬

‫‪193‬‬
‫وال شك أن اجتما هؤالء القوم من أجل تحقيق ذلك األمر الذي نهضوا من أجلـه‪ ،‬سـيجمعهم علـى هـدف‬
‫أو أهداف‪ ،‬أو أفكار يلتفون حولهـا تتضـمن أهـدافهم وخطـة سـيرهم لبلـوا مـرامهم‪ ،‬وبـدون هـذه األفكـار وبـدون‬
‫رسم طريقة لبلوا الغايـة‪ ،‬وبـدون تصـور للغايـة قابـل للتطبيـق‪ ،‬لـن يثمـر العمـل وستفشـل الحركـة فشـال ذريعـا‬
‫طـال الوقـت أم قصـر‪ .‬لـذلك فالعمـل املطلـوب إلحـداث هـذا التغييـر هـو العمـل الحز ـي‪ ،‬والـذي سـيتطلب وجـود‬
‫حــزب‪ ،‬عليــه أمي ــر مطــا ‪ ،‬ولدي ــه ثقافــة متبنــاة تض ــع النقــاط عل ــى الحــروف‪ ،‬وترســم مخطط ــا للعمليــة التغييري ــة‬
‫وف ــق ق ــوانين ال س ــببية‪ ،‬ث ــم اعم ــل ه ــذا الح ــزب ف ــي املجتم ــع بش ــكل ص ــحيح فين ــتج ع ــن عمل ــه ه ــذا تفعي ــل العالق ــة‬
‫السـ ــببية‪ ،‬فيتقصـ ــد املجتمـ ــع ليغيـ ــره بمجموعـ ــة املفـ ــاهيم واملقـ ــاييس والقناعـ ــات‪ ،‬ويتقصـ ــد مقومـ ــات الدولـ ــة‪،‬‬
‫ويصــمم مخطــط التغييــر الهندسـ ي تصــميما ذكيــا‪ ،‬ويفعــل العالقــات واألنظمــة الســببية فيصــل العمــل بحسـن‬
‫اتبا األنظمة السببية والقيام به على وجهه فيقع في مظنة تنزيل النصر وهو حدوث التغيير وإقامة الدولة!‬
‫‪ )6‬ثم تقوم الدولة!‬
‫سنة قيام الدول في التاريخ جرت على هذا نفسه!‬
‫اس ــتقرأنا ف ــي ه ــذا البح ــث الس ــنة التــي أق ــام به ــا املص ــطفى ﷺ دول ــة اإلس ــالم ف ــي املدين ــة‪ ،‬فوج ــدناها عل ــى نف ــس ه ــذه‬
‫السنة‪ ،‬واستغرقت العملية التغييرية ‪ 13‬سنة‪ ،‬وفيها تفصيالت خاصة ألعمال يجوز القيام بها وغيرها مما هو ممنو ‪،‬‬
‫وباستقراء نشوء الدولة العباسية على أنقاض الدولة األموية نجد إقامة العباسيين للحزب السياس ي الفاعل الذي‬
‫نشط في خراسان والكوفة‪ ،‬وأقام الرأي العام حول فكرة الرايات السود‪ ،‬واإلمام‪ ،‬وأحقية بيت النبوة بالخالفة‪ ،‬وطعن‬
‫ف ــي الدول ــة األموي ــة ورعايته ــا لش ــئون الن ــاس‪ ،‬وأخ ــذ بأس ــباب الق ــوة ف ــي خراس ــان حتــى اس ــتتبت ل ــه فب ــدأ ب ــالثورة منه ــا وأق ــام‬
‫الدولة في الكوفة!‬
‫وباملثـل فقـد اسـتعان عبــد الـرحمن الـداخل بقــوة اليمنيـين فـي املجتمـع األندلسـ ي ألخـذ الحكـم بعــد أن كـان يجـد قــوة‬
‫معنوية متمثلـة بـالوالء ألجـداده األمـويين فـي الدولـة‪ ،‬فالنـاس رأت أن لـه فـي أعناقهـا بيعـة! واسـتغل حاجـة املجتمـع لقائـد‬
‫قوي يخلصه من كثرة الخصومات والحروب واالنشغال عن الثغور وإضعاف الدولة!‬
‫ودولــة املـرابطين فــي املغــرب نشــأت بالطريقــة ذا هــا‪ ،‬فقــد جــاء الفقيــه عبــد هللا بــن ياســين إلــى جنــوب موريتانيــا حيــث‬
‫قبلي ــة ُج َدال ــة‪ ،‬ب ــدعوة م ــن يحيــى ب ــن إب ـراهيم ال ُج ـدالي‪ ،‬ملحارب ــة الب ــد والفس ــق ف ــي مجتمع ــه‪ ،‬ث ــم مل ــا ص ــار م ــا ص ــار م ــن‬
‫مناهضة لرأيه وثار عليه أصحاب املصال ‪ ،‬بل وثار عليه الشعب أيضا‪ ،‬فالكل يريد أن اعيش في شهواته وملذاته ودون‬
‫قي ــد أو ش ــرط‪ ،‬وأص ــحاب املص ــال ه ــم أكب ــر مس ــتفيد مم ــا يح ــدث‪ ،‬فب ــدأ الن ــاس يجادلون ــه ويص ــدونه عم ــا يفع ــل‪ ،‬ول ــم‬
‫اسـتطع يحيـى بـن إبـراهيم ال ُجـدالي زعـيم القبيلـة أن يحميــه‪ ،‬فالغالبيـة مـن قبيلــة ملتونـة‪ ،‬وقـد ولـوه اإلمــارة علـيهم مـع أنــه‬
‫من جدالة‪ ،‬وذلك ألن الشعب كان ال اعـرف الفضـيلة‪ ،‬وفـي ذات الوقـت كـان رافضـا للتغييـر‪ ،‬ولـو أصـر يحيـى بـن إبـراهيم‬
‫ال ُجـدالي علــى موقفــه هـذا لخلعــه الشــعب ولخلعتـه القبيلــة‪ ،‬ثــم ارتحــل بـن ياســين عــنهم تحـت الضــغط الشــديد والتهديــد‬
‫بالقتـل إلـى شــمال السـنغال‪ ،‬وصــنع خيمـة بســيطة لـه وجلــس فيهـا وحـده مــع يحيـى بــن إبـراهيم‪ ،‬ثــم بعـث برســالة إلـى أهــل‬
‫‪194‬‬
‫ُ‬
‫ُجدالـة فـي موريتانيـا‪ ،‬تلـك التــي أخرجـه أهلهـا منهـا يخبـرهم فيهــا بمكانـه‪ ،‬فمـن يريـد أن يـتعلم العلــم فليـأتني فـي هـذا املكــان‪،‬‬
‫وتوافــدت عليــه جمــو طلبــة العلــم‪ ،‬ممــن اســتقر الـرأي العــام فــي قلبــه ولــم اســتطع إظهــاره قبــل هــذا‪ ،‬فشــكل بهــم حزبــا‪،‬‬
‫فثقفهم وعلمهم‪ ،‬مع كثرة الخيام وازدياد العدد إلـى الخمسـين فاملائـة فاملـائتين‪ ،‬أصـبح مـن الصـعب علـى الشـيخ توصـيل‬
‫علمه إلى الجميع‪ ،‬فقسمهم إلى مجموعات صغيرة‪ ،‬وجعل على كل منهـا واحـدا مـن النـابغين‪ ،‬وهـو نفـس مـنهج رسـول هللا‬
‫ﷺ بدايــة مــن دار األرقــم بــن أ ــي األرقــم‪ ،‬وحــين ـكـان يجلــس ﷺ مــع صــحابته فــي مكــة اعلمهــم اإلســالم‪ ،‬حتــى بلــغ العــدد فــي‬
‫سنة ‪ 440‬هـ= ‪ 1048‬م‪ ،‬بعد أر عة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى شمال السنغال إلى ألف نفس مسلمة‪ ،‬وفي‬
‫قبائـل صـنهاجة املفرقـة واملشـتتة تـوز هـؤالء األلـف الـذين كـانوا كمـا ينبغـي أن يكـون الرجـال‪ ،‬فأخـذوا يـأمرون بــاملعروف‬
‫وينه ــون ع ــن املنك ــر‪ ،‬اعلم ــون الن ــاس الخي ــر ويعرف ــونهم أم ــور دي ــنهم‪ ،‬فب ــدأت جم ــاعتهم ت ــزداد ش ــيئا فش ــيئا‪ ،‬وب ــدأ ال ــرقم‬
‫يتخطى حاجز األلف إلى ثالثمائة وألف‪ ،‬فكان التفاعل مـع املجتمـع إليجـاد الـرأي العـام فـيهم‪ ،‬وإليجـاد منظومـة األفكـار‬
‫التــي يـراد لهــا أن تكــون أعرافــا ف ــي املجتمــع‪ ،‬وفــي ســنة ‪ 445‬هــ= ‪ 1053‬م يحــدث م ــا هــو متوقــع ولــيس بغريــب عــن س ــنن هللا‬
‫سبحانه وتعالى فكما عهدنا أن من سنن هللا سبحانه وتعالى أن يتقدم املسلمون ببطء في سلم االرتفا والعلو‪ ،‬ثم يفتح‬
‫هللا عل ــيهم بش ـ يء ل ــم يكون ــوا يتوقعون ــه‪ ،‬أيض ــا ف ــي ه ــذه ال ــبالد تح ــدث انفراج ــة كبي ــرة‪ ،‬ويقتن ــع بفك ــرة الش ــيخ عب ــد هللا ب ــن‬
‫ياسـين وجماعتــه مـن شــباب قبيلـة ُجدالــة يقتنـع يحيــى بـن عمــر اللمتـوني (ت ‪ 447‬هــ= ‪ 1055‬م) زعـيم ثــاني أكبـر قبيلتــين‬
‫من قبائل صنهاجة وهي قبيلة ملتونة ‪ -‬القبيلة األولى هي ُجدالة كما ذكرنا ‪.-‬‬
‫ف ــدخل ف ــي جماع ــة امل ـرابطين‪ ،‬وعل ــى الف ــور وكم ــا فع ــل الص ــحا ي الجلي ــل س ــعد ب ــن مع ــاذ رب ـ ي هللا عن ــه ح ــين دخ ــل‬
‫اإلسالم وذهب إلى قومه وكان سيدا عليهم وقال لهم‪ :‬إن كـالم رجـالكم ونسـائكم وأطفـالكم علـي حـرام‪ ،‬حتـى تشـهدوا أنـه‬
‫ال إلـه إال هللا وأن محمـدا رســول هللا‪ ،‬قـام يحيــى بـن عمـر اللمتــوني وفعـل األمــر نفسـه‪ ،‬وذهـب إلــى قومـه وأتــى بهـم ودخلــوا‬
‫َ‬
‫مع الشيخ عبد هللا بن ياسين في جماعته‪ ،‬وأصبح الثالثمائة وألفا‪ :‬سبعة آالف في يوم وليلة‪ ،‬حملة دعوة كمـا ينبغـي أن‬
‫يكون اإلسالم‪.‬‬
‫َْ‬
‫وفــي مث ــال لحس ــن الختــام و ع ــد قلي ــل مــن دخ ــول قبيل ــة مل ُتونــة ف ــي جماع ــة املـرابطين يم ــوت زع ــيمهم الــذي دله ــم عل ــى‬
‫طريق الهداية الشيخ يحيـى بـن عمـر اللمتـوني (‪ 447‬هــ= ‪ 1055‬م)‪ ،‬ثـم يتـولى مـن بعـده زعامـة القبيلـة الشـيخ أبـو بكـر بـن‬
‫عمر اللمتوني (‪ 480‬هـ= ‪ 1087‬م)‪.‬‬
‫دخـ ــل الشـ ــيخ أبـ ــو بكـ ــر بـ ــن عمـ ــر اللمتـ ــوني بحماسـ ــة شـ ــديدة مـ ــع الشـ ــيخ عبـ ــد هللا بـ ــن ياسـ ــين‪ ،‬وبـ ــدأ أمـ ــرهم يقـ ــوى‬
‫وأع ــدادهم ت ــزداد‪ ،‬وب ــدأ املرابط ــون يص ــلون إل ــى أم ــاكن أوس ــع ح ــول املنطق ــة التــي كــانوا فيه ــا ف ــي ش ــمال الس ــنغال‪ ،‬فب ــدءوا‬
‫يتوســعون حتــى وص ــلت حــدودهم م ــن ش ــمال الس ــنغال إلــى جن ــوب موريتاني ــا‪ ،‬وأدخل ــوا معهــم ُجدال ــة‪ ،‬فأص ــبحت ُجدال ــة‬
‫َْ‬
‫ومل ُتونة وهما القبيلتان املوجودتان في شمال السـنغال وجنـوب موريتانيـا جماعـة واحـدة تمثـل جماعـة املـرابطين‪ ،183‬ثـم‬

‫‪ 183‬بتصرف عن موقع الدكتور راغب السرجاني‪ :‬قصة اإلسالم‪.‬‬


‫‪195‬‬
‫انصرف أبو بكر اللمتوني ينشر الدعوة في شمال أفريقيا وبالد السودان‪ ،‬وخلف وراءه يوسف بن تاشفين‪ ،‬والذي مكن‬
‫للدولـة فــي املغـرب األقيـ ى جميعـه‪ ،‬وهكــذا بــدأت دولـة املـرابطين آخـذة بعــين الســنة املجتمعيـة فــي تكـوين الــدول‪ ،‬ومــرت‬
‫ب ــأطوار التغيي ــر والتثقي ــف والتفاع ــل م ــع املجتم ــع والنص ــرة م ــن أه ــل الق ــوة ال ــذين فتح ــوا أب ــواب املجتم ــع أم ــامهم‪ ،‬ث ــم‬
‫انتشرت الدولة بالدعوة والجهاد‪ ،‬وهكذا نشأت هذه الدولة العظيمة!‬
‫ومن ثم فإنه باسـتقراء نشـوء الدولـة الفرنسـية بعـد إسـقاط النظـام امللكـي‪ ،‬نجـد أن مـا اسـمى عصـر النهضـة رافقـه‬
‫قيام حركة فكرية روجت لألفكار التنويرية القائمة على مبادي معينة نشرت بين الناس مثل الحرية واإلخـاء واملسـاواة‪،‬‬
‫وحقـوق اإلنســان والليبراليـة والعلمانيــة بـديال للمســيحية‪ ،‬وجـرى تبنــي هـذه األفكــار وقامـت الثــورة الفرنسـية بنــاء عليهــا‪،‬‬
‫واستغلت مطالب الطبقات الوسطى والفقيرة في املجتمع لحشدها‪ ،‬وإحقاق بعض الحقوق لطبقة العمال‪ ،‬ونجحت في‬
‫ه ــدم كي ــان وإقام ــة آخ ــر محل ــه! فمح ــور العملي ــة التغييري ــة كــان إح ــالل نظ ــام ق ــائم عل ــى مف ــاهيم معين ــة علماني ــة مح ــل‬
‫مفــاهيم قديمــة‪ ،‬وحش ــد الـرأي الع ــام حولهــا‪ ،‬واالس ــتقواء بالطبقــات املد ــحوقة فــي املجتم ــع لبلــوا الق ــوة الالزمــة لف ــرض‬
‫التغيي ــر‪ ،‬واس ــتمرت العملي ــة التغييري ــة ح ــوالي عش ــر س ــنوات م ــن الث ــورة‪ .‬عل ــى أن الث ــورة قام ــت ص ــدى ألفك ــار املفك ــرين‬
‫"التنــويريين" كمــا اســمونهم‪ ،‬ولــم يقــف وراءهــا حــزب سياسـ ي واحــد‪ ،‬إال أن انتشــار األفكــار فــي العامــة ـكـان جـراء الحاجــة‬
‫للتغيي ــر‪ ،‬والحقيق ــة أن الح ــزب السياس ـ ي واملفك ــر أو الع ــالم ص ــنوان إذا م ــا كان ــت األفك ــار والطريق ــة التــي توص ــل األفك ــار‬
‫للحكــم واضــحة‪ ،‬وم ــا مثــال عــز ال ــدين بــن عبــد الس ــالم رحمــه هللا وقيادتــه لح ــزب غيــر مســمى قوام ــه طالبــه ومريــدوه م ــن‬
‫غالبيــة الرعيــة فــي مصــر‪ ،‬فمــا أن خــرج محتجــا علــى الحــاكم حتــى خرجــت الجمــو وراءه ممــا اضــطر الحــاكم للنــزول علــى‬
‫رغبته خشية من الرأي العام‪ ،‬وما مثال يزيد بن هارون ووقوفه بحزم أخاف املأمون من إظهار القول بخلق القرآن حتى‬
‫مات يزيد رحمه هللا تعالى‪ ،‬فالعالم واملفكر قد يكونا قائدين لحزب سياس ي ليس له اسـم‪ ،‬ولكـن لـه وجـود وثقـل وحركـة‬
‫في املجتمع‪ ،‬بخالف العالم واملفكـر الـذي يـود أفكـاره بطـون الكتـب وال يطـرح فيهـا آليـة إيجادهـا فـي الواقـع فـال يكـون لهـا‬
‫من أثر في الواقع وال في األمة!‬
‫وه ــا ه ــي األح ـزاب السياس ــية الرئيس ــية ف ــي الع ــالم ح ــين تري ــد الوص ــول لس ــدة الحك ــم وأخ ــذه‪ ،‬فإنه ــا تط ــرح برامجه ــا‬
‫الفكريــة ووجهــة نظرهــا علــى املجتمــع‪ ،‬فيجــري اختيارهــا بمــا تحــوزه وتــؤثر فيــه مــن الـرأي العــام الــذي تـراوده علــى طريقــة‬
‫رعاية مصالحه وفق أنظمة معينة يتقبلها‪.‬‬
‫تعقيد األنظمة الغائية السببية املجتمعية‬
‫كذلك‪ ،‬نرى أن اإلنسان اعيش كنظام داخل عالم مـن األنظمـة وال يمكـن فهـم هـذا اإلنسـان إال بفهـم النظـام ذاتـه‪،‬‬
‫وفهم الفكر السببي لألنظمة‪ ،‬إن لوجود النظام نفسه وظيفة أو هدفا اسعى لتحقيقه‪ ،‬ولنأخذ مثال من هذه األنظمة‪:‬‬
‫كي نفهم ما هو النظام؟‬
‫إن أي نظــام معــين وإن ـكـان ال بــد أن يتكــون مــن أجـزاء‪ ،‬ولكــن ال يجــب أن ينظــر إلــى هــذه األجـزاء كمكونــات مســتقلة‬
‫عـن بعضـها كمـن ينظــر إلـى كومـة مــن الحيـ ى‪ ،‬بـل يجـب النظــر إلـى النظـام بأجزائــه وإلـى مـا يجمـع هــذه األجـزاء معـا‪ ،‬وهــو‬
‫‪196‬‬
‫وجود مجموعة أو –لنقل‪ -‬شبكة من الروابط بين هذه األجزاء ويجب أن ننظر إلى أشكال الربط فيما بينها والى ترت ها في‬
‫نسق معين وفق برمجة محددة‪.‬‬
‫فمــثال‪ :‬مص ــيدة الفاـران‪ ،‬ف ــي أبســط تص ــميم لهــا تت ــألف م ــن قضــيب تثبي ــت‪ ،‬ومطرقــة تض ــرب الفــأر ح ــين اص ــطياده‪،‬‬
‫وقطعة جبن ُو ِض َع ْت فخا للفأر‪ ،‬ونابض (زمبرك)‪ ،‬ومنصة خشبية‪ ،‬ومثبتات تثبت كل هذه األجزاء بعضها مـع بعـض‪ .‬ال‬
‫َ‬
‫شــك أن مثــل هــذا يمثــل نظامْْا مبنيــا مــن مجموعــة مــن األر ـكـان أو العناصــر‪ ،‬كْْل واحْْد منه ْْا يْْؤدي غرضْْا يْْؤازروظيف ْْة‬
‫ً‬
‫خر يؤدي غرضا خْ َْر‪ ،‬وكْْل عنصْْرفيهْْا يوضْْع فْْي مكْْان مخصْْوص مْْن النظْْام الكلْْي‪ ،‬وبعْْم العناصْْرتحتْْاج‬ ‫ركن َ‬
‫ل‬
‫لتعيي ْْرمع ْْين يف ْْي ب ْْالغرب‪ ،‬مث ْْل الن ْْابم م ْْثال‪ ،‬وف ْْي املجم ْْوع ك ْْل عناص ْْره ْْذا النظ ْْام ت ْْؤدي غرض ْْا معين ْْا دقيق ْْا‪،‬‬
‫بحيث لو أزلت أي ركن منها أو أي عضو‪ ،‬أو لو لم تقم بتعييرما يحتاج لتعييرمنها بدقة كافية‪ ،‬لفسد النظام العام‪،‬‬
‫ولم تْْؤد الغْْرب الْْذي ألجلْْه وضْْعت! وكْْل ركْْن أو عضْْو منهْْا إذا وجْْد وحْْده لْْم يْْؤد الغْْرب أو الغايْْة أو الهْْدف‪ ،‬ال‬
‫بـد أن تجتمــع كـل العناصــر معـا فــي نفـس الوقــت وفـي تصــميم ذكـي يضــع وظيفـة وارتباطــا لكـل واحــد منهـا مــع اآلخـر بشــكل‬
‫منظم دقيق‪ ،‬وفي موضع دقيـق ضـمن النظـام الكلـي‪ ،‬هـذا هـو التصْْميم الْْذكي الغْْائي‪ ،‬وهـذا النظـام قـادر علـى إحـداث‬
‫الوظيفة أو الغاية املرجوة منه في ظروف معينة‪ ،‬وإذا لم يتم تصميمه بشكل صحيح فقد ال ينتج الغاية‪.‬‬
‫إن التخطــيط ورســم األه ــداف وتوقــع النت ــائج عنــد التعام ــل مــع نظــام مع ــين هــي أم ــور جيــدة‪ ،‬ولكنه ــا معقــدة ك ــذلك‪،‬‬
‫وب ــدون النظ ــر إل ــى الظ ــواهر وفه ــم ج ــوهر أح ــدا ها م ــن خ ــالل الفك ــر الس ــببي لألنظم ــة ال يمك ــن إع ــداد الع ــدة ملواجه ــة‬
‫األحداث املستقبلية واكتساب القدرة على التأثيرفيها‪ .‬إن السـبب ‪-‬فـي كثيـر مـن األحـداث‪ -‬هـو نمـط لنظـام معـين ولـيس‬
‫فعـال معــزوال يـؤدي إلــى حــدوث نتيجـة تســمى ظــاهرة‪ .‬إن املشـكلة األساســية عنــد التعامـل مــع املشــكالت والسـعي إلــى حلهــا‬
‫ق ــد تكم ــن ف ــي طريق ــة التفكي ــر للش ــخص ال ــذي يح ــاول القي ــام به ــذا الح ــل‪ ،‬إن ح ــل املش ــكالت ال تتعل ــق بالنواي ــا الحس ــنة‬
‫لألفراد وال تتعلق بوفرة املعلومات لدَهم‪ ،‬ألنها قد تصبح مصدرا لتشويش فكرهم إذا لم يكن هنالك عقل راشد يدلهم‬
‫على ما هو مفيد منها‪ ،‬وعلى طريقة معالجتها وتفعيلها‪ .‬وقد تكون التفسيرات الواضحة أحيانا وكذا رأي األغلبية هي عين‬
‫الخط ــأ‪ .‬ك ــذلك ف ــإن القي ــام بتحمي ــل املس ــؤولية عن ــد حص ــول خل ــل م ــا ملجم ــو األف ـراد أو لبعض ــهم (ك ــبش الف ــداء) ه ــو‬
‫تصـرف غيــر ســديد مــن زاويــة فكــر النظــام السـببي‪ ،‬بــل الــذي يتحمــل هــذه املســؤولية هــو البنيــة الغائيْْة التــي يقــوم عليهــا‬
‫النظام نفسه‪.‬‬
‫إن اســتخدام التفكيــر املنطق ـي فــي حــل املش ــكالت والــذي ُاعنــى بفه ــم األحــداث والظــواهر م ــن خــالل تحليــل وتفكي ــك‬
‫األجـ ـزاء ثـ ــم تجميعه ــا‪ ،‬ال يـ ــنج كأس ــلوب للفهـ ــم وللحك ــم علـ ــى الوق ــاوع لـ ــدى تطبيق ــه علـ ــى األنظم ــة السـ ــببية‪ ،‬ذلـ ــك أن‬
‫تصرفات الناس وحركة األحداث ال تحكمها في كثير من األحيان قواعد املنطق‪ .‬ولذلك يجب تناول مجموعة العوامل‬
‫ذات التْْأثيراملتب ْْادل‪ ،‬ولــيس التركيــز علــى السالســل الســببية البســيطة املحصــورة بزمــان ومكــان محــدد كمــا هــو أســلوب‬
‫املنطــق‪ .‬فالعق ــل البش ــري بقدرات ــه الذاتي ــة يق ــف ش ــبه ع ــاجز عنــدما يتعام ــل م ــع نس ــيج نظ ــامي‪ ،‬فف ــي األنظم ــة ق ــد يك ــون‬
‫هن ــاك فت ــرة زمني ــة ب ــين الس ــبب والنتيج ــة فيج ــب ال ــربط الص ــحيح ب ــين الس ــبب والنتيج ــة م ــن خ ــالل ال ــتعلم م ــن التج ــارب‬

‫‪197‬‬
‫واستنباط القوانين والسنن التي تسير األحداث‪ .‬واستخدام التفكير املنطقي يمكن أن يضلل كمـا أن الحلـول الواضـحة‬
‫التي يقدمها قد تزيد الطين بلة‪.‬‬
‫إن النظام الكلي اعمل بطريقة ال يمكن فهمها وتوقع نتائجها من خالل تفكيك وتحليل األجزاء‪ ،‬ألن للنظام صفات‬
‫وميـ ـزات منبثقـ ــة مـ ــن عملـ ــه النظـ ــامي‪ ،‬وهـ ــذه ال يمكـ ــن إدراكهـ ــا وفهمهـ ــا مـ ــن أجزائهـ ــا املفككـ ــة‪ ،‬بـ ــل باإلحسـ ــاس بالنظـ ــام‬
‫ومالحظته أثناء فعاليته السببية وعمله ككل‪ .‬فللنظام صفات منبثقة عن عمله الكلي ال تتصـف بهـا األجـزاء املكونـة لـه‬
‫كـال علـى حــدة‪ ،‬وألجزائـه وظـائف معينــة تتكامـل مـع النظــام الكلـي لتـؤدي غايــات معينـة‪ ،‬وأحيانـا ال يمكــن معرفـة ســمات‬
‫النظام الكامل بتفكيك وتحليل أجزائه‪ ،‬ألن هذا النظام في هذه الحالة يفقد سماته الكلية إذا ما تم تفكيكه إلى أجزاء‪،‬‬
‫وإن كــان م ــن امله ــم دراس ــة وظيف ــة كــل عنص ــر في ــه وارتباط ــه بالنظ ــام كك ــل‪ ،‬لك ــن يبق ــى فه ــم النظ ــام كك ــل وفق ــا لطريق ــة‬
‫مالحظ ــة ومعرف ــة الص ــفات املنبثق ــة ع ــن عمل ــه كك ــل‪ ،‬عب ــر تش ــغيل النظ ــام ومالحظت ــه‪ ،‬ومعرف ــة وظيف ــة كــل عنص ــر في ــه‬
‫نســبة إلــى النظــام ككــل‪ .‬وأبســط مثــال علــى ذلــك أنظمــة الجســم كالجهــاز الســمعي والبصــري‪ ،‬إذ إن جميــع أجـزاء النظــام‬
‫(الجسم البشري) وأنظمته الفرعية (السمع والبصر) تتعاون معا للقيام بعمل جماعي موحد‪ ،‬لكل منها دور محوري فـي‬
‫إنجــاز تلــك الغايــة‪ ،‬تتقاســم األعمــال‪ ،‬فهنــاك توجيــه واضـ لعمــل كــل جــزء مــن النظــام باتجــاه معــين‪ ،‬وبمقــدار وكيفيــة‬
‫مح ــددة‪ ،‬وفق ــا لنظ ــام مخص ــوص‪ ،‬وق ــد يك ــون باإلمك ــان ‪-‬نظري ــا‪ -‬أن تتص ــرف تل ــك األج ـزاء بط ــرق مختلف ــة‪ ،‬أو أن تن ــتظم‬
‫بط ــرق مختلف ــة‪ ،‬كــأن توج ــد الطبل ــة ف ــي مقدم ــة األذن ب ــدال م ــن موقعه ــا‪ ،‬أو أن تتص ــل املطرق ــة بش ــحمة األذن ب ــدال م ــن‬
‫الســندان‪ ،‬وهك ــذا‪ ،‬ولكــن اختي ــار تص ــرفها بطريقــة مح ــددة‪ ،‬واتص ــالها بطريقــة مح ــددة‪ ،‬عل ــى مســتوى األج ـزاء (األنظم ــة‬
‫ـالء َم بشـكل يصـل إلنتـاج الغايـة‪ ،‬فهـو نظـام غـاوي بامتيـاز‪ ،‬فارتبـاط‬ ‫الفرعية) أو على مستوى النظام الكلـي (الجسـم)‪ ،‬ت َ‬
‫الكل بأجزائه في عالم الحياة‪ ،‬ال يقتصر على التكامل الكمي بينهمـا‪ ،‬بـل اشـمل أيضـا مـا ينـتج عـن ذلـك مـن سـيطرة الكـل‬
‫على أجزائه‪ ،‬وقيـام األجـزاء بالتفـاعالت املخصوصـة بحيـث تف ـ ي لحصـول التكامـل‪ ،‬وبحيـث يكـون التـرابط بـين األجـزاء‬
‫املشـ ــكلة لألنظمـ ــة املختلفـ ــة شـ ــرطا لعمـ ــل النظـ ــام الكلـ ــي الكيـ ــاني‪ ،‬ومثـ ــال هـ ــذا الكـ ــائن الملـ ــي نفسـ ــه كاإلنسـ ــان والبقـ ــرة‬
‫والبعوضة بما فيها كلها من أنظمة كلية وصفات كيانية وتحكم مركزي في األنظمة‪ ،‬ما يجعلها أنظمة ذكية غائية قادرة‬
‫على القيام بوظائف معينة‪ ،‬وهذا التصميم الحكيم الغاوي يثبت أنها مخلوقة لخالق‪.‬‬
‫ق ــال رس ــول هللا ﷺ‪" :‬مث ــل امل ــؤمنين ف ــي ت ــوادهم وت ـراحمهم وتع ــاطفهم كمث ــل الجس ــد الواح ــد إذا اش ــتكى من ــه عض ــو‬
‫تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"‪.‬‬
‫والحال حين النظر إلى العالقات املجتمعية واألنظمة التي تحكمها يصبح أعقد‪ ،‬فمثال عملية التغيير التي يراد منهـا‬
‫هدم كيان وإيجاد كيان محله‪ ،‬أو إصالح كيان ينفرط عقده‪ ،‬تحتاج لدراسة مستنيرة لفهم الطريقة التي اعمل بها هذا‬
‫الكيان (القوانين والسنن التي تحكم قيـام الدولـة بشـكل عـام)‪ ،‬والعوامـل املـؤثرة فيهـا‪ ،‬قـال اإلمـام تقـي الـدين الن هـاني فـي‬
‫جواب سؤال‪" :‬و إقامْْة دولْْة أي دولْْة‪ ،‬فْْي جماعْْة أي جماعْْة‪ ،‬لهْْا قْْوانين ونْْوامهس‪ ،‬وهـي أن تتقبـل تلـك الجماعـة أو‬
‫الفئة األقوى فيها للمفاهيم واملقاييس والقناعات التي تقوم عليها تلك الدولة‪ ،‬وما لم تتقبل تلك املفاهيم واملقاييس ال‬

‫‪198‬‬
‫يمكـن أن تقـوم فيهـا الدولـة‪ ،‬ولـو تسـلط عليهـا متسـلطون‪ ،‬وتـولى السـلطة فيهـا أقويـاء‪ .‬فاألصـل فـي إقامـة الدولـة هـو تقبـل‬
‫الجماعة أو الفئة األقوى لتلك املفاهيم واملقاييس والقناعات‪ ،‬فالخطوة األولى هي املفاهيم واملقاييس والقناعات‪ .‬هذه‬
‫ه ــي ن ــواميس الجماع ــات‪ ،‬وه ــذه ه ــي ق ْْوانين الحك ْْم والس ْْلطان‪ .‬فه ــذه الق ــوانين مش ــاهدة منظ ــورة‪ ،‬فمحاول ــة تجاهله ــا‪،‬‬
‫وأخذالسلطة بالقوة والقهر‪ ،‬ال يمكن أن يوجد الدولة‪ ،‬وإن كان يمكن أن يوجد املتسلطين إلى حين"‪،184‬‬
‫ويقـول اإلمـام الن هـاني رحمـه هللا‪" :‬فإزالـة الدولــة املسـتعمرة عـن الـبالد التـي تســتعمرها‪ ،‬لهْْا قْْوانين ونْْوامهس‪ ،‬وهــي‬
‫أن تك ــون ل ــدى م ــن اعمل ــون إلزالته ــا‪ ،‬الق ــوة املادي ــة التــي تتغل ــب عل ــى قواه ــا املادي ــة‪[ ،‬أي عل ــى الق ــوى املادي ــة للمس ــتعمر]‬
‫والق ــوة الفكري ــة الت ــي تمكنه ــا م ــن إدراك األحابي ــل‪ ،‬وإدراك معن ــى الق ــوة املادي ــة‪[ .185‬أي اس ــتغالل الق ــوى الفكري ــة لفه ــم‬
‫م ــواطن الق ــوة املادي ــة الكامن ــة ف ــي األم ــة واس ــتغاللها] فم ــا ل ــم توج ــد الق ــوة الفكري ــة والق ــوة املادي ــة ال يمك ــن إزال ــة الدول ــة‬
‫املسـتعمرة؛ وانتفاضــات االمـم‪ ،‬مهمــا عظمــت ال يمكـن أن تزيــل االســتعمار‪ ،‬ولـو ـكـان عــدو هللا! [فالسـنن ال تحــا ي أحــدا]‬
‫لذلك ال بد من معرفة قوانين ونوامهس هللا في التسلم واالستعمار"!‪186‬‬

‫إذن فمــن أجــل تحســين فهمنــا للظــواهر واألحــداث‪ ،‬ال بــد مــن القيــام بتشــكيل نمــاذج وأنمــاط معينــة لهــذه الظــواهر‬
‫وفق التفاعالت بـين العناصـر املكونـة لهـا‪ ،‬ويـتم ذلـك مـن خـالل فهـم الـروابط بـين األحـداث والظـواهر‪ ،‬ونكـون أقـدر علـى‬
‫التصرف حيال الحوادث حـين نفهـم كيـف تحـدث‪ ،‬وحـين نكـون عـاجزين عـن رُيـة العالقـة بـين هـذه األشـياء نضـع اللـوم‬
‫عل ــى الظ ــروف‪ .‬ويس ــتطيع العق ــل البش ــري أن يتعام ــل ويفه ــم األنظم ــة الس ــببية باس ــتخدام الرياض ــيات املتط ــورة ونظري ــة‬
‫"الدارات" وقد نج في التنبؤ وتحقيق نتائج بدقة عالية في املجاالت الفيزيائية‪ ،‬أما في مجال األنظمة الحية فإن تنبؤات‬
‫العقل ما زالت متواضعة الدقة‪.‬‬
‫شبكة العالقات داخل األنظمة‪:‬‬
‫ولنحـ ــاول اآلن فهـ ــم بنيـ ــة النظـ ـ ام ذاتـ ــه‪ ،‬إن أهـ ــم مـ ــا فـ ــي النظـ ــام هـ ــو التـ ــأثير املشـ ــترك بـ ــين أجزائـ ــه مـ ــن خـ ــالل شـ ــبكة‬
‫العالق ــات‪ ،‬ول ــيس امله ــم ع ــدد أو حج ــم األج ـزاء ذا ه ــا‪ ،‬وه ــذه العالق ــات ‪-‬أي النظ ــام‪ -‬يمك ــن أن تك ــون بس ــيطة أو معق ــدة‪.‬‬
‫واملقصود بالعالقات البسيطة تلك التـي يكـون عـدد أجزائهـا قلـيال والـروابط بينهـا قليلـة‪ ،‬أمـا العالقـات املعقـدة فهـي علـى‬
‫ن ـ ــوعين‪ :‬األول ه ـ ــو التعقي ـ ــد ف ـ ــي التفاص ـ ــيل لوج ـ ــود أج ـ ـزاء كثي ـ ــرة الع ـ ــدد‪ ،‬والن ـ ــو الث ـ ــاني ه ـ ــو التعقي ـ ــد الحي ـ ــوي املتغي ـ ــر‬

‫‪ 184‬جواب سؤال عن الغيبيات واألسباب واملسببات ‪ 1974‬تقي الدين الن هاني‪.‬‬


‫‪ 185‬هن ــاك ق ــوة مادي ــة هائل ــة كامن ــة ف ــي األم ــة اإلس ــالمية بيناه ــا ف ــي كت ــاب‪ :‬ه ــل ح ــدد الرس ــول ﷺ طريق ــة إلقام ــة الدول ــة‪ ،‬ف ــي ب ــاب بعن ــوان‪ :‬العنص ــر الث ــاني‪ :‬األم ــة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬العنصر البشري‪ ،‬الثروات‪ ،‬البعد الجغرافي‪ ،‬املوقع االستراتي ي‪ ،‬الترابط الحضــاري‪ ،‬و عنــوان العنصــر الثالــث‪ :‬هــو القــوة املاديــة املتمثلــة بــالجيوش‪،.‬‬
‫وكذلك من القوة املادية‪ :‬الثروات االستراتيجية التي يمكن من خاللها الضغط وإخضا األمم األخرى‪ ،‬فليس املقصود إذن فقط تكنولوجيــا الحــرب واألســلحة‪،‬‬
‫فمن القوة الفكرية إدراك واستعمال مكامن القوة املادية املختلفة في األمــة‪ ،‬واألهــم‪ :‬العمــل املــنظم املف ـ ي إلــى اســتثمار هــذه القــوى الكامنــة وتدــخيرها لقضــايا‬
‫األمة بدال من االستججال إلى ردات األفعال قبل التهيؤ الكامل للمواجهة بما تقتضيه من تحضير‪.‬‬
‫‪ 186‬جواب سؤال عن الغيبيات واألسباب واملسببات ‪ 1974‬تقي الدين الن هاني‪ .‬بتصرف اسير ما بين األقواس شرحا‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫(الديناميكي) لوجود روابط كثيرة بين األجزاء‪ .‬والحكم على التعقيد ال يجوز النظر إليه في ضوء عدد األجزاء وإنما يجب‬
‫أن ينظر إليه من زاوية عدد الطرق املحتملة للروابط بين هذه األجزاء‪.‬‬
‫إن أهمية دراسة بنية النظام السببي وشبكة العالقات فيه‪ ،‬تكمن في أن هذه العالقات بين أجزاء النظام املختلفة‬
‫تحــدد طريقــة العمــل الســببي للنظــام وبالتــالي ســلوكه‪ ،‬ذلــك أن أجـزاء هــذا النظــام اعتمــد بعضــها علــى الــبعض اآلخــر أي‬
‫تتفاعــل فيمــا بينهــا‪ ،‬وهــذا التفاعــل هــو ســر قو هــا الــذي يجعــل فيهــا القــدرة علــى التــأثير علــى النظــام ككــل‪ .‬وكلمــا ازدادت‬
‫الروابط بين األجزاء لتكوين شبكة يكون مجال التأثير أكبر‪.‬‬
‫إن األنظمة املعقدة والتي تكون الروابط بـين أجزائهـا علـى شـكل روابـط شـبكية تكـون عـادة مسـتقرة جـدا‪ .‬ففـي حالـة‬
‫حصـول تغيـر مــا فـي بعـض أجـزاء هـذا النظـام يــزداد عـدد الــروابط املتـأثرة بهـذا التغيــر ممـا يزيـد بالتــالي التعقيـد التفــاعلي‬
‫الحيوي املتغير للنظام‪ .‬فإذا أريد التأثير على جزء من هذا النظام لتغييره فـإن الـروابط بـين هـذا الجـزء واألجـزاء األخـرى‬
‫املرتبط ــة ب ــه تق ــاوم ه ــذا الت غيي ــر‪ ،‬ألن ه ــذا التغيي ــر معن ــاه تغييره ــا ه ــي أيض ــا وه ــذا ض ــد ميله ــا الب ــديهي والطبيعــي للثب ــات‬
‫واالس ــتقرار‪ .‬فالنظْ ْْام بطبيعتْ ْْه يقْ ْْاوم التغييْ ْْر‪ ،‬وس ــر مقاومت ــه للتغيي ــر ف ــي أي ج ــزء م ــن ه ــذا النظ ــام راج ــع إل ــى ش ــبكة‬
‫الروابط ونسيج العالقات مع األجزاء األخرى املرتبطة بهذا الجزء‪.‬‬
‫فالثبْْات واالس ْْتقرار ه ْْو صْْفة م ْْن الص ْْفات املنبثقْْة ع ْْن األنظم ْْة كحــال بــا ي جميــع أشــياء هــذا الكــون‪ ،‬وبالتــالي‬
‫تقاوم هذه األنظمة التغير في أحوالها‪ ،‬فقـد يضـعف عضـو مـن جسـم اإلنسـان نتيجـة املـرض ولكـن الجسـم يظـل بشـكل‬
‫عام على ما يرام‪ ،‬ولوال هذه الصفة ألصبحت الصحة متذبذبة وتتأثر بأقل ش يء من األذى‪ .‬والتغير الحاصل في األنظمة‬
‫يح ــدث ع ــادة بش ــكل س ــريع وج ــذري‪ ،‬ذل ــك أن وج ــود مقاوم ــة التغيي ــر ف ــي أي نظ ــام ل ــه ح ــدود مرون ــة معين ــة ف ــإذا تراكم ــت‬
‫الض ــغوط إلح ــداث تغيي ــر ف ــي نظ ــام مع ــين ووص ــل ذل ــك إل ــى ح ــد املرون ــة الفاص ــل ف ــإن أق ــل س ــبب م ــؤثر يتس ــبب ف ــي انهي ــار‬
‫النظام كليـا كمثـل القشـة التـي تقصـم ظهـر البعيـر‪ .‬فالسـد املـاوي إذا زاد ضـغط املـاء خلفـه إلـى درجـة أكبـر بقليـل مـن حـد‬
‫املرونة أدى إلى تصدعات تبدو صغيرة في جسم السد ثم ال يلبث أن ينهار فجأة ويشكل سريع ومدمر‪.‬‬
‫ومــع أن الثبــات واالســتقرار هــو صــفة منبثقــة عــن األنظمــة‪ ،‬إال أنــه مــر هن بقــوى معينــة تحــاف علــى اجتمــا أجـزاء‬
‫النظام في مواضعها ومع قدر ها على تأدية وظائفها‪ ،‬وإال فإن النظام سيميل إلى الفوب ى كما أسلفنا‪ ،‬ومتى ما خرج إليها‬
‫فإنـه لــن اعــود إلـى االســتقرار والتنظــيم إال جبـرا عنــه وفقــا لقـوانين وأنظمــة ســببية معينـة قــادرة علــى فعـل ذلــك‪ ،‬كمــا أنــه‬
‫مـن املمكــن دراســة هـذه األنظمـ ة بغيــة تغييـر تركيبتهــا وإعــادة تنظيمهـا‪ ،‬كحــال األفعــال التـي يـراد منهــا تغييـر شــكل الدولــة‬
‫مثال وأنظمتها‪.‬‬
‫إن محاول ــة الت ــأثير لتغيي ــر نظ ــام م ــا يحت ــاج ملجموع ــة م ــن األس ــباب والش ــروط الالزم ــة التــي ال ب ــد م ــن توافره ــا‪ ،‬لك ــن‬
‫التأثير في أحد أجزاء النظام يمكن أن يتم بشكل فعال إذا تم فك العقدة أو العقد التي تربط هذا الجزء مع غيره وهـذا‬
‫اسمى "التأثير الفعال"‪ .‬وبالتالي يمكن التأثير إلحداث تغيير معين في نظام ما بسهولة إذا عرفنا الروابط الصحيحة وتم‬
‫التــأثير بمحاولــة قطعهــا أو إضــعافها فــي الوقــت املناســب أي عنــد تــوافر الشــروط املناســبة لــذلك‪ ،‬بحيــث ينـتج جهــد مــن‬

‫‪200‬‬
‫التأثير الصغير نتائج راوعة في التغيير‪ ،‬وهذا هو التأثير الفعـال‪ .‬وإذا كـان الجـزء الـذي تـم التـأثير عليـه لتغييـره ذو أهميـة‬
‫كبيرة من السيطرة كانت نتائج التغيير ذات نطاق واسع‪.‬‬
‫ويكـون التــأثير فـي أي جــزء مــن النظـام مــؤثرا فـي بــا ي األجـزاء علـى شــكل انتشـار موجــات املــاء عنـد إلقــاء حجـر فــي بركــة‬
‫مياه راكدة‪ ،‬فالتغيير ينتقل إلى النظام ككل ويحدث آثارا جانبية معينة فيه‪ ،‬وإذا كانت اآلثار الجانبية مطلوبة فقد يتم‬
‫الحصول عليها بالقيام بتغيير في جزء آخر من خالل تطبيق التأثير الفعال‪ .‬فإيمان الناس بنظام معين مثال‪ ،‬هو أساس‬
‫بقاء هذا النظام وإذا أردنا تغيير هذا النظام وجب التأثير فيه من هذه الزاوية التي تنتج التأثير الفعال‪.‬‬
‫ال بد لتفعيل الطاقة السببية‪ ،‬من كيان فاعل‪ ،‬وكيان منفعل‬
‫وإلدراك واقع السنن ال بد من التذكير بطريقة عمل األنظمة السببية الحية‪ ،‬واألنظمة السببية إما أن تكون فاعلة‬
‫بوجود إرادة‪ ،‬أو أن تكـون منفعلـة بغيـاب اإلرادة الكيانيـة وبالتـالي تحـدث النتـائج بـدون عقـل وا مخطـط سـلفا لألمـور‪،‬‬
‫فـالحزب والش ــخص‪ ،‬والعلم ــاء ه ــي كيان ــات فاعل ــة له ــا إرادة أم ــا الدول ــة واملجتم ــع واألم ــة فه ـي ف ــي الغال ــب كيان ــات منفعل ــة‬
‫تتــأثر بغيرهــا‪ .‬ونس ــتطيع تلخــيص طريقــة عم ـل األنظمــة الســببية الحي ــة الفاعلــة بــاإلرادة ب ــالقول إن بنيــة األنظمــة تمي ــل‬
‫ع ــادة إل ــى االسـ ــتقرار وتق ــاوم التغيي ــر‪ .‬ولكـ ــل نظ ــام هـ ــدف اس ــعى لتحقيق ــه كالحفـ ــاظ عل ــى بق ــاء النظـ ــام م ــثال أو إشـ ــبا‬
‫حاجاتـه‪ ،‬وألجــل الوصـول الهــدف الـذي اســعى إليـه هــذا النظـام فهنــاك حاجـة إلــى طاقـة ســببية دافعـة‪ ،‬فـالحزب يصــمم‬
‫النظام السببي ويفعله فيتفاعل مع الكيان املجتمعي وكيان الدولة فيحدث التغيير‪.‬‬
‫"والحزب بوصفه كيانا يصبح يتصار مع كيان الدولة ومع كيان األمة ليصرعهما معا‪ ،‬ألن فيه خاصية الفاعلية ال‬
‫خاصـية االنفعاليـة‪ .‬بعكـس كيــان الدولـة أو كيـان األمــة فـإن فـي كــل منهمـا خاصـية االنفعاليــة ال خاصـية الفاعليـة‪ ،‬وعلــى‬
‫قــدر تمســك الحــزب بكيانــه الفكــري تطــول أو تقصــر فتــرة صـراعه‪ ،‬إذ إن تمســكه الفكــري ككيــان يقصــر فتــرة ص ـراعه‪،‬‬
‫وتساهله فيه يطيل مدة هذه الفترة‪.‬‬
‫وما لم يتحـول الحـزب عـن مفاهيمـه ومقاييسـه وقناعاتـه فإنـه وال شـك سيصـر الكيـانين‪ :‬كيـان األمـة وكيـان الدولـة‬
‫معا‪ .‬إذ سيصر كيان الفئة القوية في الناس‪ ،‬ويصبح وإياها كيانا واحدا يأخذ فيه كيانه البارز ضمن كيان األمة مركز‬
‫القيـادة‪ ،‬وبهـذا الكيــان الجديـد يصــر كيـان الدولــة‪ .‬وبالكيـانين الفكــري والتنفيـذي اســتولي علـى بــا ي الفئـات‪ ،‬ويصــهرها‬
‫كلها في كيان واحد هو كيان األمة‪.‬‬
‫والصرا الذي يحصل مـع كونـه صـراعا فكريـا فهـو صـرا مفـاهيم ومقـاييس وقناعـات‪ ،‬ولـيس صـرا أفكـار مجـردة‪،‬‬
‫ول ــذلك يتن ــاول العالق ــات العام ــة‪ ،‬واملص ــال العام ــة‪ ،‬ألن ــه يري ــد أن يحط ــم الص ــفة الكياني ــة الفاس ــدة لألم ــة‪ ،‬بتحطْ ْْيم‬
‫املفاهيم واملقايهس والقناعات التي يتكون عليها الكيان‪ ،‬ال تحطيم األمة‪ ،‬وال أي فرد منها‪ ،‬إذ إنه يسعى ألخذ األمة‪،‬‬
‫ً‬
‫ورفع شأ ها‪ ،‬واستبدال كيا ها الحالي بإعطائها كيانا أفضل منه‪ ،‬يصبح كيانها املتميز بالرفعة والسمو‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫ويري ــد أن يحط ــم الص ــفة الكياني ــة للدول ــة بتحط ــيم املف ــاهيم واملق ــاييس والقناع ــات الت ــي يتك ــون عليه ــا‪ ،‬ال تحطْ ْْيم‬
‫السلطان‪ .‬إذ إنه يسعى ألخذه واستبدال كيانه الحالي بإعطائه كيانا جديدا على أساس املفاهيم واملقاييس والقناعات‬
‫الجديدة‪.‬‬
‫وله ــذا فص ـرا الح ــزب ككي ــان فك ــري يك ــون للكيـ ـ انين التنفي ــذي واملجتمع ــي‪ .‬فالعم ــل مس ــلط عل ــى الكي ــانين ال عل ــى‬
‫غيرهما‪ ،‬وتسليطه إنما يكون بتسليط كيان على كيان‪.‬‬
‫وبما أن كيان الدولة هو الذي يملك السلطان‪ ،‬وهو الذي يتولى إدارة كيان األمة‪ ،‬فإن مظهر الصرا يكون واضحا‬
‫أنه لكيان الدولة فحسب‪ ،‬وإن كان هو في حقيقته مسلطا على الكيانين‪.‬‬
‫وعلـى ذلـك فـال بـد أن يـدخل الحــزب املجتمـع بوصـفه كيانـا فكريـا‪ ،‬تبـرز فيــه الصـفة الكيانيـة وحـدها بشـكل واضـ ‪،‬‬
‫ألن الص ــفة الكياني ــة ه ــي التــي يج ــب أن تعم ــل وح ــدها‪ ،‬وال يج ــوز فيه ــا أي إش ـراك بأي ــة ص ــفة أخ ــرى‪ .‬إذ ه ــو كي ــان يص ــار‬
‫كيانين‪ ،‬وأي حالة يحصل فيها أي عمل حز ي على غير الصفة الكيانية‪ ،‬أو بإشـراك صـفة أخـرى معهـا‪ ،‬فـإن هـذا العمـل‬
‫ال يقتصر على اإلخفاق‪ ،‬بل يضعف الحزب في الصرا ‪ ،‬ويضعف الصفة الكيانية‪.‬‬
‫وكي ــان الح ــزب ال اعنــي جه ــازه‪ ،‬ب ــل ه ــو أش ــمل م ــن ذل ــك‪ .‬نع ــم إن األعم ــال الحزبي ــة تص ــدر ع ــن أجه ــزة الح ــزب‪ ،‬وإن‬
‫املفـاهيم واملقــايي س والقناعــات التــي تقـوم عليهــا هــذه األجهــزة جــزء مـن كيــان الحــزب‪ ،‬ولكنهــا ليســت كيانـه‪ .‬بــل كيانْْه هْْو‬
‫ه ْْذه املجموع ْْة م ْْن املف ْْاهيم واملق ْْايهس والقناع ْْات املتجس ْْدة ف ْْي مجموع ْْة م ْْن الن ْْاس بوص ــفهم ناس ــا ال بص ــفتهم‬
‫الفردية‪187".‬‬

‫مقومات الدولة‪:‬‬
‫ثمة مواجهة شديدة بين األمة اإلسالمية وبين الغـرب‪ ،‬وال شـك أن هـذه املواجهـة تخضـع لقـانون السـببية‪ ،‬فأمـا‬
‫الســببية الكونيــة‪ ،‬فتق ـ ي بانتص ــار القــوي علــى الض ــعيف‪ ،‬وصــاحب الســالح الفتــاك ح ــين اســتعمله بهمجيــة عل ــى‬
‫النائم في البيت‪ ،‬أو الذي ال يمتلك رد هذا السالح!‬
‫ولك ــن الس ــببية اإللهي ــة له ــا حك ــم آخ ــر‪ ،‬وس ــنن أخ ــرى‪ ،‬ف ــال ب ــد لألم ــة م ــن أن تعــي عل ــى ق ــوانين الس ــببية اإللهي ــة‬
‫ْ ُُْ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ ُ ُْ ُ ُ َ َ َ‬
‫ّللا فـال غا ِلـ َب لكـ ْم َو ِإن َيخـذلك ْم ف َمـن ذا‬ ‫﴿إن ينصـركم‬ ‫وتسـلك سـبيلها لينصـرها هللا علـى عـدوها مهمـا بلغـت قوتـه‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ َ ََ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬
‫ّللا فل َي َت َو ِكـ ِل امل ْؤ ِم ُن ـون﴾ [‪ 160‬آل عم ـران]‪ ،‬وق ــد قي ــل لعم ــر املخت ــار املجاه ــد الليبــي‬
‫ال ـ ِذي ينص ـ ُركم ِم ـن بع ـ ِد ِه وعل ـى ِ‬
‫رحمه هللا تعالى‪ :‬إيطاليا تمتلك طائرات ال نملكها‪ ،‬فقال‪ :‬هل تحلـق تحـت العـرش أم فـوق العـرش؟ قـالوا‪ :‬بـل تحتـه‪،‬‬
‫قال‪ :‬معنا من فوقه‪ ،‬فكيف يخيفنا من تحته؟‬
‫ومع أن الغرب يتمادى في املواجهة ويسعر أوارها‪ ،‬وينفخ في نارها‪ ،‬ويسرف في القتل والتدمير واملكائد‪ ،‬فإن هذا‬
‫استدعي الجدية في التعامل وتدارك األمة قبل أن نرى ألف عراق وألف شام وألف يمن تتكرر‪ ،‬والغرب يدفع األمـة‬

‫‪ 187‬دخول املجتمع لحزب التحرير‬


‫‪202‬‬
‫لهــذه املواجهــة قبــل أن تس ــتكمل األمــة امــتالك ناصــية الق ــوة لــدَها‪ ،‬لــذلك فــال من ــاص مــن أن تأخــذ األمــة باألس ــباب‬
‫اإللهي ــة لتنج ــو‪ ،‬إذ إن ـه م ــن غي ــر املتص ــور أن تمتل ــك األم ــة ناص ــية الق ــوة العس ــكرية امتالكــا يتف ــوق عل ــى الغ ــرب قب ــل‬
‫إقامة الدولة اإلسالمية!‬
‫ف األمة إذا لم تحمل املواجهة على محمل الجد وتعد لها العدة الصـحيحة فإنهـا ستفشـل بسـبب أن هنـاك سـنن‬
‫كونيــة‪ ،‬وســنن إلهيــة تحكــم التــدافع بــين األمــم‪ .‬ومــن طبيعــة الســنن أنهــا تسـير فــي العالقــة الســببية‪ ،‬وتســتدعي األخــذ‬
‫بأسباب معينة للوصول لنتائج حتمية تترتب على األسباب!‬
‫وس أضرب مثال بسيطا‪ ،‬في مريض ذهب للطبيب فأعطاه الطبيب وصفة عليه أن يأخذها بدقة‪ ،‬مـثال أن يأخـذ‬
‫حبـة دواء معـين مـرة كـل سـت سـاعات‪ ،‬مــع كـوب مـن املـاء يحـوي مزيجـا اســاعد الـدواء علـى العمـل بنسـب معينـة بــين‬
‫املــاء وبــين املــزيج‪ .‬إن أي تالعــب فــي طريقــة أخــذ الــدواء‪ ،‬أو فــي نســب املــزيج ربمــا تف ـ ي آلثــار عكســية‪ ،‬وربمــا لتحســن‬
‫مؤقت ولكن قد ال تؤتي الثمار املرجوة‪ ،‬فيطول األلم أو استفحل!‬
‫وكما فرض هللا تعالى الصالة‪ ،‬وبين لنا املصطفى ﷺ طريقة إقامتها‪ ،‬فإذا لم نتبع تلك الطريقة ال نقيم الصالة‪،‬‬
‫فإن أي تالعب في سنة طريقة التغيير التـي فرضـها رب العـاملين سـبحانه مـن خـالل املـنهج الـذي سـار عليـه املصـطفى‬
‫ﷺ في تغيير دار الكفر في مكة واملدينة إلى دار إسالم‪ ،‬فإن هذا التالعب سيف ي إلى نتائج كارثية‪.‬‬
‫تو افق طريقة الرسول ﷺ في التغييرمع السنن املجتمعية‪:‬‬
‫غن ــي عـ ــن الق ــول بـ ــأن منهجيـ ــة الرس ــول ﷺ فـ ــي التغييـ ــر ع ــالوة علـ ــى توافقه ــا مـ ــع السـ ــنن اإللهي ــة فـ ــي التغييـ ــر (أي‬
‫اســتنباط األحكــام الش ــرعية بعمليــة اجتهادي ــة صــحيحة للســير عل ــى بينــة‪ ،‬ث ــم التـزام الحكــم الش ــرعي والثبــات علي ــه‪،‬‬
‫والنجاح في الصبر على االبتالءات الشديدة‪ ،‬وحسن الثقة بموعود هللا‪ ،‬والقذف بالحق على الباطل ليدمغه)‬
‫مما يف ي إلى تنزل نصر هللا‪ ،‬فإنها أيضا تتوافق مع السنن الكونية في التغيير‪ ،‬أي أنها تتعامل مع واقع املجتمع‬
‫والدولـة واإلنسـان تعــامال يأخـذ بعــين االعتبـار العناصــر املكونـة للمجتمـع‪ ،‬وللدولــة‪ ،‬ومقومـات اإلنســان‪ ،‬وتحـدد مــا‬
‫يجوز وما ال يجوز القيام به من أعمال‪،‬‬
‫ويلــج إلــى ع مليــة التغييــر هــذه عبــر اســتغالل كــل عنصــر مــن هــذه العناصــر واملقومــات بالشــكل الــذي يف ـ ي إلــى‬
‫إحــداث التغييــر‪ ،‬فيتقص ــد مــواطن الق ــوة املاديــة واملعنوي ــة‪ ،‬ويســتثمرها‪ ،‬ويتقص ــد أســس النظ ــام الفاســد فيهدم ــه‪،‬‬
‫ويضــع البــديل موضــعه‪ ،‬وكــل هــذا كمــا ســبق وبينــاه بالتفصــيل فــي فصــول هــذا الكتــاب (التثقيــف املركــز والجمــاعي‪،‬‬
‫والص ـرا الفك ــري‪ ،‬والكف ــاح السياس ـ ي‪ ،‬والكش ــف‪ ،‬وتبن ــي مص ــال األم ــة‪ ،‬وص ــناعة الـ ـرأي الع ــام‪ ،‬وص ــهر األم ــة م ــع‬
‫عقيـد ها‪ ،‬وأخـذ قياد هـا‪ ،‬وكشـف مخططـات العـدو‪ ،‬وطلـب النصــرة مـن قـادة الكيـان املجتمعـي‪ ،‬وطلـب النصـرة مــن‬
‫قادة الكيان التنفيذي‪ ،‬وإعداد األنظمة والدستور ‪ ...‬الخ‪ ،‬بكل التفاصيل التي بيناها سابقا)‪.‬‬
‫لذلك فحين قفزت الثورات العربية عن سنة التغيير هـذه‪ ،‬ولـم تأخـذها بعـين االعتبـار نتجـت الحـروب األهليـة‪،‬‬
‫وسادت الفوب ى‪.‬‬
‫‪203‬‬
‫وحــين قفــزت حركــة النهضــة فــي تــونس مــثال إلــى ســدة الحكــم تفاجــأت بأنهــا لــم تعــد لألمــر عدتــه‪ ،‬وأنهــا غيــر قــادرة‬
‫علــى نق ــل املجتم ــع والدول ــة النقل ــة الص ــحيحة نح ــو التغيي ــر املرجــو‪ ،‬فنكص ــت عل ــى عقبيه ــا‪ ،‬ومش ــت ف ــي ع ــرى النظ ــام‬
‫القديم وأضحت جزءا منه بدال من تغييره‪.‬‬
‫وهكــذا‪ ،‬فــإن س ــر النجــاح ف ــي إحــداث التغييــر املرج ــو هــو حس ــن التعامــل مــع الس ــنن الكونيــة والس ــنن اإللهيــة ف ــي‬
‫عملية التغيير والتي بينها الكتاب والسنة النبوية املشرفة‪ ،‬والتي بدورنا في حزب التحرير قمنا باستنباطها والتعامل‬
‫معها كما بيناه في هذا الكتاب وفصلناه‪.‬‬
‫لذلك فال بد لألمة أن تأخذ عملية التغيير واملواجهة مع الكفار مأخذ الجد فتستوفي اإلعداد واألسباب حقها‪،‬‬
‫وإن أي حركـة أو حـزب ال يضــع لـه برنامجــا يتضـمن بيانــا لكيفيـة فهــم وتطبيـق الســنن التاريخيـة واإللهيــة فـي التغييــر‬
‫فإنـه سيف ـ ي إلــى الفوبـ ى أو إلــى الفشــل فـي تحقيــق أي مــن غاياتــه‪ ،‬وســتكون جهــوده عب يـة‪ ،‬مهمــا ـكـان لهــا مــن آثــار‬
‫جانبيـة يظهــر للنـاس أنهــا حسـنة‪ ،‬فإنهــا فـي الواقــع تصـرف عــن الغايـة الكبــرى‪ ،‬أو تعمـل بــال بصـيرة فــي كيفيـة بلوغهــا‪،‬‬
‫فهــي حــين ال تأخــذ بنظ ــام الســببية الحتمــي‪ ،‬فإنهــا ستفش ــل حتمــا‪ ،‬وإذ تفشــل‪ ،‬فإنهــا أض ــاعت جهــودا عظيمــة لألم ــة‬
‫وشــبابها‪ ،‬وأدخلــتهم ف ــي أعمــال مفتوحــة النهاي ــات تنتقــل مــن اليس ــار إلــى اليمــين ب ــال فهــم‪ ،‬فتهــدر طاق ــات عظيمــة كــان‬
‫باإلمكان انخراطها في العمل الصحيح واستغاللها إلقامة الغاية بالشكل الحتمي املف ي إليها!‬
‫لذلك كان لزاما أن نستعرض أوال‪:‬‬
‫ما هي مواطن القوة في األمة والتي ينبغْْي معرفتهْْا‪ ،‬ثْْم معرفْْة كيفيْْة اسْْتثمارها لتنتصْْربهْْا األمْْة فْْي‬
‫هذه املواجهة املصيرية مع الغرب والشرق اللذين يرفضان هضة األمة وقيام دولتها؟‬
‫لنستعرض هذه األمور‪:‬‬
‫عناصر القوة لدى األمة اإلسالمية‬
‫العنصراألول‪ :‬طبيعة العقيدة اإلسالمية‪:‬‬
‫تتمي ــز العقيـ ــدة اإلسـ ــالمية بميـ ـزات أهمهـ ــا‪ :‬أنهـ ــا تعط ــي التصـ ــور الصـ ــحيح والتفس ــير الشـ ــامل للكـ ــون واإلنسـ ــان‬
‫والحيــاة‪ ،‬مم ــا يجعــل املس ــلم مطمئن ــا إلــى س ـالمة تصــوره‪ ،‬في ــدرك الحق ــائق الكبــرى الكوني ــة وطبيعــة االرتباط ــات ب ــين‬
‫هـذه الحقــائق‪ ،‬مــن ألوهيــة‪ ،‬وعبوديــة‪ ،‬وحســاب وعقــاب‪ ،‬ويـدرك دور اإلنســان فــي الوجــود‪ ،‬وغايــة وجــوده‪ ،‬وعالقتــه‬
‫بالخالق‪ ،‬وبالتالي يتحدد له منهج حياته‪ ،‬والنظام الذي يحقق هذا املنهج‪،‬‬
‫ويرى أن عقيدته تتميز بأنها ربانية‪ ،‬ثابتة‪ ،‬شاملة‪ ،‬متوازنة‪ ،‬إيجابية‪ ،‬واقعية قائمة على التوحيد والوحي‪،‬‬
‫وأنه ــا عقي ــدة سياس ــية (تس ــوس الحي ــاة ال ــدنيا ب ــاألوامر والن ــواهي) وروحي ــة‪( ،‬تب ــين ل ــه ش ــئون اآلخ ــرة)‪ ،‬عقلي ــة‪،‬‬
‫تتوافـق مـع عقلـه وتعطيـه األدلـة علـى صـحتها‪ ،‬وتتوافـق مــع فطرتـه فتقـرر مـا فيـه مـن نزعـات وأشـواق روحيـة‪ ،‬لــذلك‬

‫‪204‬‬
‫فهي عقيدة حيـة‪ ،‬تـربط الـدنيا بـاآلخرة‪ ،‬فيستصـغر معهـا املـرء التضـحية بالغـالي والنفـيس حتـى بـالروح اسـتجابة ملـا‬
‫تتطلبه تبعات هذه العقيدة‪،‬‬
‫من هنا‪ ،‬فإن أمة تمتلك مثل هذه العقيدة ال يمكن أن هزم‪،‬‬
‫خصوصـا وأن أعــداءها قــوام عقيــد هم‪ :‬النفعيــة‪ ،‬واملصــال اآلنيـة‪ ،‬وتركــز املــال بيــد القلــة‪ ،‬وال اعيــرون التصــور‬
‫ع ــن الوج ــود إال أق ــل القلي ــل‪ ،‬ف ــال يمك ــنهم إذن مواجه ــة العقي ــدة بعقي ــدة مناهض ــة‪ ،‬وال التص ــور بتص ــور يبطل ــه أو‬
‫يتف ــوق علي ــه‪ ،‬ل ــذلك فمعرك ــة العقي ــدة محس ــومة لص ــال األم ــة اإلس ــالمية‪ ،‬ف ــال الحم ــالت التبش ــيرية‪ ،‬وال الحم ــالت‬
‫الص ــليبية‪ ،‬وال حم ــالت التغري ــب الحديث ــة التــي تبغــي تش ــويه اإلس ــالم‪ ،‬وال الغ ــزو الفك ــري الح ــديث‪ ،‬والغ ــزو اإلعالم ــي‬
‫الــذي يركــز علــى إثــارة الغرائــز ومحاولــة تشــويه اإلســالم‪ ،‬كــل ذلــك لــم اغــن عــن الغــرب شــيئا فــي ثنــي األمــة عــن تحقيــق‬
‫تبعات هذه العقيدة الحية‪.‬‬
‫نعم لذلك كله أضرار جانبية‪ ،‬ولكنها على املدى الطويل ال تثني األمـة عـن اعتقـاد عقيـد ها‪ ،‬والقيـام بمـا تتطلبـه‬
‫تلك العقيدة‪ ،‬فأثره وال شك إلى زوال‪.‬‬
‫فالعنصر األهم في معركتنا مع أعداء اإلسالم هو هذا التصور عن الكون واإلنسان والحياة‪،‬‬
‫والــذي أثب ــت عل ــى مــدار الت ــاريخ أن األم ــة إذ تعرضــت لحم ــالت إث ــر حمــالت‪ ،‬م ــن ص ــليبية‪ ،‬إلــى مغولي ــة إل ــى تس ــلط‬
‫أس ــر عل ــى األم ــة‪ ،‬مث ــل الب ــوَهيين‪ ،‬والعبي ــديين‪ ،‬وغي ــرهم‪ ،‬ل ــم يثم ــر إال أن تص ــحو األم ــة م ــن كبو ه ــا ف ــي كــل م ــرة فتع ــود‬
‫لتقتعد مقعد الريادة‪ ،‬بل وربما تجد أن من َهاجمها اعتقد عقيد ها ويعود مسلما كما حصل لبعض التتار‪.‬‬
‫ولتفعيل العقيدة اإلسالمية في النفوس ولتفعيل الطاقة السببية في العقيدة نقول‪:‬‬
‫ال شك أن الخطأ الفادح الذي وقع فيه الكثير من املسلمين هذه األيام‪ ،‬أنهـم لـم ينظـروا لعقيـد هم علـى أسـاس‬
‫أنهـا قاعـد هم الفكريـة بمـا فيهـا مـن أفكـار كليـة عـن الكـون واإلنسـان والحيـاة تعـرفهم بالغايـة مـن وجـودهم فـي الحيـاة‬
‫وتضبط سلوكهم فيها وفق مقياس الحالل والحرام‪ ،‬وفق دين مكتمـل خـال مـن الـنقص‪ ،‬يصـل الزمـان واملكـان بـه‪،‬‬
‫وتحدد لهم طريقة معينة فـي العـيش‪ ،‬وراحـوا بـدال مـن ذلـك يأخـذون أفكـارا جزئيـة مـن عقائـد أخـرى‪ ،‬ليخلطوهـا بمـا‬
‫لــدَهم مــن أفكــار ممــا أنــتج لــدَهم خليطــا غيــر متجــانس مــن الفكــر‪ ،‬يتضــارب أعــاله مــع أســفله‪ ،‬ممــا تســبب فــي حالــة‬
‫عظيمة من الشقاء والحيرة والتخبط والجهل‪ ،‬ومما جعل سـلوكهم غيـر منضـبط بمـا آمنـوا بـه مـن عقيـدة انضـباطا‬
‫كامال‪ ،‬فتسبب بفساد كثير في معامال هم‪ ،‬بحيـث أصـبح الربـا أمـرا طبيعيـا‪ ،‬وتحكـم القـوانين الغربيـة فـي حيـا هم أمـرا‬
‫ال اس ــتدعي ل ــدى الكثي ــرين إجـ ـراء الحي ــاة أو امل ــوت‪ ،‬وتحك ــم الكـ ــافر املس ــتعمر ف ــي رق ــابهم أمـ ـرا اعت ــادوه فل ــم يجـ ــرد‬
‫غالبيتهم العظمى السيف لوقف خطره‪ ،‬وغير ذلك من الدواهي التي نعلم‪.‬‬
‫ولعــل مــن أخطــر نتــائج هــذا الخلــط بــين اإلســالم وغيــره‪ ،‬خاصــة وأن الغــرب الكــافر هــو الــذي انتصــر فــي معركتــه‬
‫العسكرية الحاليـة ضـد املسـلمين‪ ،‬هـو إقامـة القـوانين التـي تـنظم العالقـات بـين املسـلمين علـى غيـر أسـاس اإلسـالم‪،‬‬
‫أي إن الـدول التــي اعــيش املســلمون فـي كنفهــا ليســت هــي الكيــان التنفيـذي ملجموعــة املفــاهيم واملقــاييس والقناعــات‬
‫‪205‬‬
‫املتميـزة التـي يحملهـا املسـلمون املتميـزون بعقيـد هم وأفكـارهم عــن الحيـاة‪ ،‬بـل هـي كيانـات تنفيذيـة إمـا ألفكـار الفئــة‬
‫املتغلب ــة ف ــي املجتم ــع أقام ــت الق ـ وانين بم ــا يحق ــق له ــا نه ــب خي ـرات األم ــة واس ــتباحة بيض ــتها وإبقاءه ــا خاض ــعة لنف ــوذ‬
‫الغرب الكافر يقتل رجالها ويستضعف نساءها ويغير عقيدة أطفالها‪ ،‬بثمن بخس كراس ي مهترئة‪،‬‬
‫أو كيانات تنفيذية ألفكار مستوردة بينها وبين اإلسالم ما بين األرض والثريا‪ ،‬مما يجعل املسلم في غربة دائمة في‬
‫مكان عيشه‪ ،‬وفي صرا دائم بين ما يراه حقا ومـا يفـرض عليـه فـي عالقـات املجتمـع فرضـا بقـوة الشـرطي‪ ،‬ممـا جعـل‬
‫عالقته مع هذا الكيان التنفيذي الذي من املفترض أن يحقق له السعادة بحراسة تنفيذ أفكاره عن الحياة‪ ،‬أقول‪:‬‬
‫جعل عالقته بهذا الكيان عالقة العداء والكيد له‪ ،‬فالنظام يكيد للناس والنـاس تتمنـى الخـالص مـن هـذه األنظمـة‬
‫املأجورة املارقة‪.‬‬
‫هـذا هــو مكمـن الــداء‪ ،‬وأمـا الــدواء فهـو بانبثــاق مجموعـة املفــاهيم واملقـاييس والقناعــات الالزمـة إلقامــة الدولــة‬
‫مـن هــذه العقيـدة‪ ،‬ثــم بانصـهار األمــة قاطبـة مــع أفكارهـا التــي اعتنقتهـا عــن الحيـاة‪ ،‬أفكارهــا التـي شــكلت لهـا عقيــد ها‬
‫اإلســالم ية الصــرفة الخالص ــة مــن كــل ش ــائبة‪ ،‬تلــك األفكــار الكلي ــة التــي تشــكل ل ــدَها األســاس الــذي تق ــيس عليــه كــل‬
‫فكر‪ ،‬وتضبط به كل سلوك‪،‬‬
‫تنصهر األمة مع هذه األفكار انصهارا بحيث ال تتصرف أي تصرف إال وفق مقياس الحـالل والحـرام‪ ،‬وال تحمـل‬
‫أي فكر إال بعد أن تتأكد من انبثاقه من هذه العقيدة‪.‬‬
‫ال شك أن حجر الزاوية في إعادة استئناف الحياة اإلسالمية‪ ،‬أن تقوم األمة اإلسالمية بتحديد وجهة نظرها فـي‬
‫الحيـاة‪ ،‬والتــي سـتحدد لهــا طريقتهــا فـي العــيش‪ ،‬وذلـك بدراســة العقيــدة اإلسـالمية دراســة سياسـية‪ ،‬بحيــث تــدرك أن‬
‫ه ــذه العقي ــدة عقي ــدة سياس ــية‪ ،‬تع ــالج كــل مش ــاكل الحي ــاة بحل ــول ش ــرعها هللا س ــبحانه ع ــن طري ــق ال ــوحي‪ ،‬وعقي ــدة‬
‫روحية تربط اإلنسان بالحياة اآلخرة وتجعل سعادته تتحقق بنوال رضوان هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وبالتالي تكف األمة‬
‫عــن أخــذ حلــول جزئيــة ترقيعيــة مــن الغيــر بِجــة توافقهــا أو عــدم مخالفتهــا لالســالم‪ ،‬فاإلســالم لــيس بحاجــة لقطــع‬
‫غيـار تؤخـذ مــن غيـره‪ ،‬وال يمكــن أليـة فكـرة أن تكــون متوافقـة مــع اإلسـالم أو غيـر متعارضــة معـه إذا مــا كانـت منبثقــة‬
‫ع ــن غي ــره ألن أس ــاس أفك ــار اإلس ــالم األخ ــذ م ــن ال ــوحي وإفـ ـراد هللا س ــبحانه بح ــق التش ــريع ووض ــع الحل ــول ملش ــاكل‬
‫اإلنسان في الحياة‪.‬‬
‫ومــن ثــم أن تقــوم األمــة بفــرض هــذه األفكــار فــي واقعهــا مــن خــالل الدولــة التــي تنفــذ هــذه األفكــار فــي واقــع الحيــاة‬
‫ليع ــيش املس ــلمون حي ــاة اس ــالمية ترب ـ ي س ــاكن األرض ويرب ـ ى عنه ــا رب الع ــاملين‪ .‬وال ش ــك أن ه ــذا كل ــه ي ــتم بالعم ــل‬
‫الحز ــي املــنظم الــذي يبــين لألمــة عقيــد ها‪ ،‬وفســاد العقائــد واألفكــار األخــرى‪ ،‬باإلضــافة إلــى جهــود العلمــاء والــدعاة‪،‬‬
‫والكتب‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫العنصر الثاني‪ :‬األمة اإلسالمية‪ ،‬العنصرالبشري‪ ،‬ال روات‪ ،‬البعد الجغرافْْي‪ ،‬املوقْْع االسْْتراتي ي‪،‬‬
‫الترابم الحضاري‪:‬‬
‫لقـ ــد جـ ــرت محـ ــاوالت لتفتيـ ــت األمـ ــة بغيـ ــة إضـ ــعافها‪ ،‬فجـ ــرى ترسـ ــيم الحـ ــدود بعـ ــد تقسـ ــيم الدولـ ــة العثمانيـ ــة‪،‬‬
‫وجـرى نشـر الفكـر الـوطني (األردن أوال‪ ،‬مصـر للمصـريين‪ ... ،‬الـخ) بحيـث تتفتـت األمـة‪ ،‬وتقـدس أعالمهـا التـي فصـلها‬
‫الغ ــرب له ــا وتق ــدس الح ــدود التــي تفص ــلها ع ــن بعض ــها‪ ،‬وفك ــرة القومي ــة التــي تقس ــم األم ــة إل ــى عر ــي وفارس ـ ي وتركــي‬
‫وكــردي ‪ ...‬الــخ‪ ،‬فيســهل إثــارة النعـرات بينهــا‪ ،‬والتقســيم الطــائفي البغــيض الــذي اســتثمر هــذه األيــام‪ :‬ســنة‪ ،‬شــيعة‪،‬‬
‫زيدية‪،‬‬
‫وهكذا فإن عنصر قوة األمة يكمن في أنها‪ :‬أمة واحدة من دون األمم‪،‬‬
‫﴿كنـتم خيــر أمــة أخرجـت للنــاس﴾‪ ،‬متــى؟ ﴿تــأمرون بـاملعروف وتنهـون عــن املنكــر﴾‪ ،‬وأيضـا مــاذا؟ بالشــهادة علــى‬
‫األمم أي بحمل رسالة اإلسالم والقوامة على البشرية‪ .‬فمن طبيعة األمة اإلسالمية أنها أمة تتوسـع وتضـم الشـعوب‬
‫األخ ــرى لتصـ ــهرها ف ــي بوتقـ ــة األم ــة اإلسـ ــالمية وعقي ــد ها‪ ،‬فمـ ــن العنص ــر البشـ ــري أن األم ــة اإلسـ ــالمية تف ــوق املليـ ــار‬
‫وسبعمائة مليون‪ ،‬وهـذا تعـداد رهيـب وقـوة ال اسـتهان بهـا إن لـم يكـن هـذا العـدد غثـاء كغثـاء السـيل‪ ،‬وطريقـة أن ال‬
‫يكون غثاء هو أن يكون هو السيل‪ ،‬وحتى يكون هو السيل ال بد أن تتوحد األمة في كيان مخلص!‬
‫وكمــا تعلــم‪ ،‬فــإن هــذه األمــة تعتقــد العقيــدة ذا هــا‪ ،‬تلــك العقيــدة الحيــة التــي تكلمنــا عنهــا فــي النقطــة األولــى‪ ،‬ممــا‬
‫اسهل على األمة أن تنفض عن نفسها غبار التقسيم والفرقة‪ ،‬فكل ما تحتاجه هو الوعي على ضرورة الوحدة‪ ،‬وأن‬
‫سبيل نهضتها هي باتبا منهج ربها‪ ،‬وطريقة حصـول هـذا هـو حمـل الـدعوة لألمـة مـن خـالل األحـزاب السياسـية التـي‬
‫تزر هذه األفكار في األمة‪ ،‬ولذلك فقد أجرت بعض مراكز األبحاث الغربية استفتاءات في دول مختلفة مـن العـالم‬
‫اإلسالمي منها املغرب وباكستان ومصر وكانت األسئلة تتمحور حول الوحدة اإلسالمية‪ ،‬وتطبيق الشريعة‪،‬‬
‫وكانت النتائج مبشرة بكل خير تتراوح النسب بين الستين باملائة ومنتصف التسعين باملائة‪ ،‬لذلك فاألمة تدرك‬
‫وتتطلع إلى وحد ها‪ .‬واألمة تدرك خيانة حكامها لها‪ ،‬وتتطلع إلى اليوم الذي ينهي فرقتها ويجمعها في كيان واحد!‬
‫ومـن عنصــر الثــروات التــي لــدى األمــة‪ ،‬نجــد أنهــا تتميــز بثــروات طبيعيــة هائلــة تســتطيع معهــا الــتحكم بالسياســة‬
‫الدوليـة بسـهولة بالغـة‪ ،‬مـن نفـط وغـاز ومعـادن طبيعيـة‪ ،‬إلـى ثـروات زراعيـة تسـتطيع معهـا االكتفـاء الـذاتي‪ ،‬إلـى غيـر‬
‫ذلك‪ ،‬فما ينقص األمة هو حكومة إسالمية تضع هذه الثروات لصال األمة ال نهبا ألعدائها!‬
‫طبعــا نحــن نــدرك أن هــذا األمــر معركــة وجــود بيننــا وبــين الغــرب الــذي يحــاول جهــده أن يمنــع هــذا االنعتــاق‪ ،‬إال‬
‫أننا هنا نرصد عوامل القوة التي لدى األمة التي ينبغي استثمارها‪ ،‬وتفعيلها بالطاقة السببية!‬
‫وم ــن البع ــد الجغراف ــي نج ــد امت ــدادا شاس ــعا م ــن أندونيس ــيا ش ــرقا إل ــى املغ ــرب غرب ــا‪ ،‬فه ــذا االمت ــداد يجع ــل م ــن‬
‫املستحيل على أي قـوة فـي العـالم مهمـا بلغـت أن توقـف أو تفشـل فكـرة آن أوانهـا اعتنقتهـا جمـو تمتـد هـذا االمتـداد‬

‫‪207‬‬
‫الفســيح‪ ،‬لــذلك فهــذا عنصــر قــوة رهي ــب‪ ،‬وقــد عملــت الــدعوة اإلســالمية فــي ش ــتى بقــا العــالم اإلســالمي لنشــر ع ــين‬
‫األفكار‪ ،‬وأضملى الرأي العام في العالم اإلسالمي من مشرقه ملغربه مهيأ للوحدة ولتطبيق الشريعة‪.‬‬
‫ومــن املوقــع االســتراتي ي تجــد األمــة تــتحكم بمضــائق وممـرات التجــارة العامليــة‪ ،‬والتواصــل بــين األمــم فــي األرض‪،‬‬
‫وتتوسط العالم‪ ،‬مما يجعلها قادرة على التحكم في مصائر األمم‪.‬‬
‫وأما الترابط الحضاري‪ ،‬فإن األمة اإلسالمية ترتبط بقيم وبتاريخ مشترك‪ ،‬وبلغة مشتركة‪ ،‬تجعل االنصهار بين‬
‫ه ــذه الش ــعوب أم ـرا س ــهال‪ ،‬ف ــيمكن بس ــهولة تقب ــل ع ــودة وح ــدة األم ــة‪ ،‬واحتكامه ــا للقاس ــم املش ــترك وه ــو الش ــريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فهذا هو العنصر الثاني من عناصر القوة التي تمتلكها األمة اإلسالمية‪.‬‬
‫وأما طريقة تفعيل القاعدة السببية في األمة‪،‬‬
‫فهــو بالعمــل الحز ــي املــنظم الــذي ي ــدعو لوحــدة األمــة جنب ــا إلــى جنــب م ــع تحكــيم الشــريعة‪ ،‬جنب ــا إلـى جنــب م ــع‬
‫مقاومـة االســتعمار‪ ،‬فــال يجـوز أن تقعــد األمــة عـن هــذه األعمــال الثالثـة فــي أي لحظــة‪ ،‬فـإذا مــا حقــق الحـزب فــي األمــة‬
‫وجود الرأي العام لصال الوحدة‪ ،‬وحقق الحزب تفاعال مع أهل القوة واملنعة في دولة مـن دول العـالم اإلسـالمي أو‬
‫أكثر فيها مقومات الدولة‪ ،‬ثم أقام الدولة‪ ،‬فإنه بعمله في الدول األخـرى سـيكون قـد أوجـد القاعـدة الكافيـة والبيئـة‬
‫الخصبة لحدوث الرأي العام لصال التوحد‪ ،‬وأما املوقع االستراتي ي والثروات الطبيعية‪ ،‬فتفعيلها يكون بامتالك‬
‫األمة لناصيتها‪ ،‬وهكذا‪،‬‬
‫ُ ُ‬
‫الخالفة محاوالت إجهاضها حين نشوئها؟‬
‫ِ‬ ‫كيف تحبم دولة‬
‫راجـع فصـل‪ :‬هْْل تْْم بنْْاء الْرأي العْْام املنبثْْق عْْن الْْوعي العْْام فْْي األمْْة اإلسْْالمية؟ هْْل تْْم إحْْداض االنقْْالب‬
‫الفكْْري والشْْعوري فْْي األمْْة اإلسْْالمية؟ ألهميْْة دراسْْته قبْْل الشْْروع باإلجابْْة علْْى سْْؤال‪ :‬كيْْف تحْْبم دولْْة‬
‫الخالفة محاوالت إجهاضها حين نشوئها!‬
‫ومن ذلك الفصل تبين لنا بدقة أن املشكلة اآلن ليست غرس فكرة الخالفة في األمة فالفكرة قد ُغرست َون ْ‬
‫بتت‬
‫ُ‬
‫ـالغرض األساسـ ي مــن هــذه‬ ‫ـتغلظت‪ .‬وليســت املشــكلة إنشــاء حــزب أو أحـزاب إســالمية أو تقويــة هــذه األحـزاب‪ ،‬فـ‬ ‫ْ‬ ‫واسـ‬
‫ُ‬
‫األحـزاب قــد تحقــق‪ .‬املشــكلة اآلن هــي‪ :‬إذا أقامــت األمــة اإلس ــالمية الخالفــة اإلســالمية‪ ،‬ه ْْل تس ْْمح له ْْا دول الغ ْْرب‪،‬‬
‫وعلى رأسها أميريكا‪ ،‬باالستمرار؟ وهل تملك دولة الخالفة الناشئة القدرة على حماية نفسها من كيد دول الكفر‬
‫االسْْتعمارية؟ هــذه هــي املرحلــة التــي وصــلتها األمــة اآلن؛ اســتغل النبــت الــذي غرســته يــد حــزب التحريــر بحمــد هللا‬
‫تعالى‪ ،‬واستوى على سوقه‪ ،‬وأضملى مشرو األمة وليس مشرو حزب واحد أو حركة واحدة من األمـة‪ ،‬فاألمـة لـدَها‬
‫الوعي العام عليه‪ ،‬ولدَها الرغبة واألمل بقيامه‪ ،‬ولدَها اإليمان بأن دينها‪ ،‬وشريعة ربها هي الضامن بحل مشكال ها‪،‬‬
‫أما التفاصيل لقيام ذلك املشرو ‪ ،‬فلدى الحزب الوعي التام على تفاصيله‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫هــذا النجــاح البــاهر بفضــل هللا تعــالى‪ ،‬تــم علــى الــرغم مــن ممارســة األنظمــة الحاكمــة سياســة التعتــيم اإلعالمــي‬
‫التــام علــى حــزب التحريــر‪ ،‬ممــا أدى إلــى الحيلولــة بينــه وبــين الوصــول إلــى شـرائح واســعة مــن املجتمعــات التــي ينشــط‬
‫فيها‪ ،‬وفي ظالل حمالت متواصلة تحاول تشويه فكرة الخالفة واالنتقاص من قيمتها من قبل "مفكرين" و"مثقفين"‬
‫و"محللـين" والتــي تـأتي مندــجمة تمامـا مــع الحملـة التــي يقودهـا ساســة الغـرب ومراكــز الدراسـات والبحــوث الداعمــة‬
‫لها من أجل تشويه مفهوم الخالفة وجعل مسألة إحيائها أمرا محظورا‪188.‬‬

‫ولإلجابْْة عْْن السْْؤال األول نقْْول‪ :‬الــدول االســتعمارية فــي العــالم وعلــى رأســها أميريكــا ال تســمح بقيــام الخالفــة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وإن قامت فستعمل جهدها لهدمها من جديد‪ .‬هذه حقيقة ال يماري فيها إال مغفل‪.‬‬
‫ولإلجابة عن السؤال الثاني نقول بالفم باملخن وبكامل الثقة‪ :‬نعم إن األمة اإلسالمية مع دولتها الناشئة تملك‬
‫القدرة وتستطيع رد كيد الكفار الطامعين إلى نحورهم بعون هللا وتوفيقه‪.‬‬
‫نط ــرح اآلن خطوط ــا عريض ــة لتبي ــان كيفي ــة العم ــل‪ ،‬علم ــا أن عق ــول املش ــرفين عل ــى الخالف ــة (الخليف ــة وأعوان ــه)‬
‫أكبــر مــن عقــل مــن يكتــب هــذه األســطر‪ ،‬والواقــع الــدولي فــي حينــه يكــون أوضـ مــن توقعاتنــا لــه اآلن‪ ،‬هــذه الخطــوط‬
‫العريضة تتلخص فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬خي ــر أم ــة أخرج ــت للن ــاس ال تس ــتجدي حقه ــا وال تنال ــه اختالس ــا؛ خي ــر أم ــة ال ترب ـ ى أن تك ــون ف ــي ذي ــل‬
‫األمــم‪ ،‬مهيضــة الجنــاح‪ ،‬مســتباحة البيضــة‪ ،‬وهــي تحمــل للبشــرية خيــر رســالة تؤهلهــا للوقــوف بكــل قــوة فــي وجــه‬
‫هيمنة الحضارة الغربية‪.‬‬
‫‪ -2‬إن األفكار فـي أيـة أمـة مـن األمـم هـي أعظـم ثـروة تنالهـا األمـة فـي حيا هـا إن كانـت أمـة ناشـئة‪ ،‬وأعظـم هبـة‬
‫يتسـلمها الجيــل مــن ســلفه إذا كانــت األمـة عريقــة فـي الفكــر املســتنير‪ .‬أمـا الثــروة املاديــة‪ ،‬واالكتشــافات العلميــة‪،‬‬
‫واملخترع ــات الص ــناعية‪ ،‬وم ــا ش ــاكل ذل ــك ف ــإن مكانه ــا دون األفك ــار بكثي ــر‪ ،‬ب ــل إن ــه يتوق ــف الوص ــول إليه ــا عل ــى‬
‫األفكار‪ ،‬ويتوقف االحتفاظ بها على األفكار‪ .‬فإذا ُد ِم َر ْت ثروة األمة املادية فسرعان ما اعاد تجديدها‪ ،‬ما دامـت‬
‫األمة محتفظة بثرو ها الفكرية‪ .‬أما إذا تداعت الثروة الفكرية‪ ،‬وظلت األمة محتفظة بثرو ها املادية فسرعان ما‬
‫تتضاءل هذه الثروة‪ ،‬وترتد األمة إلى حالة الفقر‪ .‬كما أن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها األمة يمكن أن‬
‫هتدي إليها مرة أخرى إذا فقد ها دون أن تفقد طريقة تفكيرها‪ .‬أما إذا فقدت طريقة التفكير املنتجة فسرعان‬
‫مــا ترتــد إلــى الــوراء وتفقــد مــا لــدَها مــن مكتشــفات ومخترعــات‪ .‬ومــن هنــا ـكـان ال بــد مــن الحــرص علــى األفكــار أوال‪.‬‬
‫ُْ‬ ‫وعلـ ــى أسـ ــاس ه ـ ــذه األفكـ ــار‪ ،‬وحس ـ ــب طريقـ ــة التفكي ـ ــر ْ‬
‫املن ِت َج ـ ـة تك َس ـ ـب الث ـ ــروة املاديـ ــة‪ُ ،‬ويس ـ ــعى للوصـ ــول إل ـ ــى‬
‫ا ملكتشفات العلمية واالختراعات الصناعية وما شاكلها‪189‬‬

‫‪ 188‬هل حان الوقت ليقول حزب التحرير كلمته!!؟ حسن الحسن‪ ،‬موقع الجزيرة‪ .‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ 189‬مقدمة كتاب‪ :‬النظام االقتصادي في اإلسالم لتقي الدين الن هاني‪.‬‬
‫‪209‬‬
‫ال ش ــك أن الفك ــر أم ـ ى ق ــوة م ــن الس ــالح‪ ،‬وأن االتح ــاد الس ــوفياتي ف ــي أوج قوت ــه وامتالك ــه أس ــلحة كافي ــة‬
‫لتدمير األرض كلها سقط في سويعات بسقوط املنظومة الفكرية التي قام عليها بعد أن وهن إيمان الشعب بها‪،‬‬
‫وأن الرسول ﷺ أقام الدولة اإلسالمية في املدينة قبل أن ينقل إليها التكنولوجيا واألسلحة‪ ،‬أقامها بالفكر‪ ،‬وما‬
‫هـي إال عشـر سـنوات حتـى هاجمــت أعظـم امبراطـوريتين فـي األرض وقتهـا‪ ،‬فقضــت علـى اإلمبراطوريـة الفارسـية فــي‬
‫زهاء عشر سنوات‪ ،‬وهزمت االمبراطورية البيزنطية في الشام هـزائم نكـراء‪ .‬مـن هنـا‪ ،‬فـإن العمـود األهـم والركيـزة‬
‫األقــوى فــي بنــاء أي دولــة هــي أساســها الفكــري‪ ،‬وهــذا األســاس الفكــري للدولــة اإلســالمية بمــا فــي اإلســالم مــن قــوة‬
‫فكرية كفيل بضمان انتصارها!‬
‫‪ -3‬وقد فشل الغرب الكافر أيما فشل في أن يبدل دين األمـة‪ ،‬أو َهـز ثقتهـا بـدينها‪ ،‬أو أن يقـدم لهـا البـديل‪،‬‬
‫فاألم ــة رفض ــت اختي ــار العلم ــانيين ف ــي مص ــر‪ ،‬وتنظ ــر إل ــيهم ب ــأنهم مص ــدر الفس ــاد ف ــي باكس ــتان وب ــنغالدش‪ ،‬وكــل‬
‫األنظم ــة العلماني ــة ف ــي املنطق ــة تس ــتند لق ــوة العس ــكر أو العمال ــة‪ ،‬ول ــم ت ــنج أميريك ــا بتس ــويقهم إال م ــن خ ــالل‬
‫النم ــوذج التركــي ال ــذي يح ــاول ل ــبس عب ــاءة اإلس ــالم أو هك ــذا ينظ ــر إلي ــه م ــن يؤي ــده م ـن املس ــلمين ظن ــا م ــنهم بأن ــه‬
‫يتدرج لتطبيق اإلسالم‪ ،‬ولكن العلمانية نفسها فشلت أيما فشل‪ ،‬وال بد للدولة من أساس فكري‪ ،‬وحين فشل‬
‫الغ ــرب الك ــافر بتأس ــيس أس ــاس فك ــري لل ــدول ف ــي الع ــالم اإلس ــالمي‪ ،‬فإن ــه يك ــون وض ــع أه ــم املس ــامير ف ــي نع ــش‬
‫مشروعه لتعطيل قيام الدولة اإلسالمية القائمة على فكر راسخ لدى األمة! "ومن املؤشرات التي تدل على ذلك‬
‫أن عمليـة تــرويج وتسـويق تشــريعات الكفـر وأفكــاره فـي بــالد املسـلمين ال ُيكتــب لهـا النجــاح إذا لـم تصــبغ بصــبغة‬
‫ُ‬
‫روج لها عمائم إسالمية باعت دينها بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين"‪.190‬‬ ‫إسالمية‪ ،‬وإذا لم ت ِ‬
‫‪ -4‬ل ـيس ثم ــة أق ــوى م ــن فك ــرة آن أوانه ــا‪ :191‬ف ــي مق ــال نش ــرته «مؤسس ــة منا َه ــضة الح ــرب ف ــي ‪2006/6/23‬‬
‫بقل ــم باتري ــك بوش ــانان املستش ــار الكبي ــر الس ــابق للرُس ــاء نيكس ــون وف ــورد وريغ ــان‪ ،‬بعن ــوان «فك ــرة آن أوانه ــا‬
‫تتكلم عن أن عملية إحياء لدسالم تجري اليوم‪ ،‬وأن فكرة الحكم اإلسالمي تتوطد عراها بين املسلمين بـالرغم‬
‫مــن مقاومــة الغــرب الشــديدة… ويــدعو أميريكــا إلــى انتهــاج سياســة جديــدة فــي تعاملهــا مــع املســلمين‪ .‬وممــا جــاء فــي‬
‫املقال‪ " :‬لقد كان بيلوك متنبئا‪ ،‬فبينما تبدو املسيحية وكأنها في حالة موت في أوروبا‪ ،‬فإن اإلسالم ينهض ليزلزل‬
‫القـرن الواحــد والعشــرين‪ ،‬كمـا فعــل قبــل عــدة قـرون ســابقة‪ .‬فعــال‪ ،‬عنــدما نشـاهد القــوات املســلحة األميركيــة‪،‬‬
‫وه ــي تح ــارب الس ــنة الث ــائرة عل ــى الس ــلطة واملجاه ــدين الش ــيعة والجه ــاديين ف ــي الع ـراق‪ ،‬وطالب ــان الخارج ــة عل ــى‬

‫َّ‬
‫أعط ما لقيصر لقيصر وما لل لل‪ ،‬وال أنها تعني أن املشر هــو اإلنســان ولــيس‬ ‫‪" 190‬فالديمقراطية مثال ال ُي َرو ُج لها «اآلن في بالد املسلمين على اعتبار أنها تعني‪ِ :‬‬
‫هللا تعــالى‪ .‬وإنمــا ُي ـ َّروج لهــا علــى اعتبــار أنهــا تعنــي رفــع األحكــام القمعيــة التــي تفرضــها أنظمــة الحكــم البوليس ـ ي التــي تــتحكم فــي رقــاب املســلمين وعلــى اعتبــار أنهــا ه ــي‬
‫الش ــورى‪ .‬وعل ــى ذل ــك ف ــإن الدعاي ــة لت ــرويج وتس ــويق الديمقراطي ــة ف ــي ب ــالد املس ــلمين إنم ــا تك ــون للف ـ دون املعن ــى الحقيق ــي ال ــذي ت ــدل علي ــه‪ .‬وبالت ــالي ف ــإن قب ــول‬
‫املسلمين للديمقراطية إن وجد فهو قبول ِللف املقترن باملدلول اإلسالمية ليس غير"‬
‫اتجاه الرأي العام في العالم اإلسالمي د‪ .‬ماهر عبد الجواد‪ ،‬الوعي العدد ‪ 93‬كانون الثاني ‪.1994‬‬
‫‪ 191‬إعرف عدوك‪ :‬فكرة الحكم اإلسالم تتوطد عراها بين املسلمين‪ ،‬مجلة الوعي العدد ‪235-234‬‬
‫‪210‬‬
‫الق ــانون‪ ،‬وه ــم يبتهل ــون إل ــى هللا‪ ،‬تع ــود إل ــى أذهانن ــا كلم ــات فيكت ــور هيغ ــو‪" :‬إن ق ــوة أي ج ــيش ال تض ــاهي انبع ــاث‬
‫فكرة آن أوانها"‬
‫إن الفكرة التي اعادَهـا كثيـر مـن املنـاوئين هـي فكـرة تفـرض نفسـها‪ ،‬فهـم اعتقـدون أن هنالـك إلهـا واحـدا هـو‬
‫(هللا) وأن (محم ــدا) رس ــول هللا‪ ،‬وأن اإلس ــالم أو الخض ــو للق ـرآن ه ــو الطري ــق الوحي ــد إل ــى الجن ــة‪ .‬وأن املجتم ــع‬
‫الربــاني يجــب أن يحك ــم بواســطة الشــريعة أي ق ــانون اإلســالم‪ .‬و عــد اختب ــار طــرق أخــرى أدت إل ــى الفشــل‪ ،‬فق ــد‬
‫َ‬
‫عادوا مجددا إلى موطن اإلسالم‪ .‬إن َجل َد اإليمان اإلسالمي مدهش حقا‪.‬‬
‫لقـ ــد بقـ ــي اإلسـ ــالم علـ ــى قيـ ــد الحيـ ــاة‪ ،‬رغـ ــم مضـ ــي قرنـ ــين علـ ــى الهـ ــزيمة والـ ــذل الـ ــذي أصـ ــاب اإلمبراطوريـ ــة‬
‫تحمل اإلسالم حكم الغرب لعدة أجيال‪.‬‬ ‫العثمانية والقضاء على الخالفة في عهد أتاتورك‪ .‬كما َّ‬
‫ثم يختم الكاتب مقالته بما يلي‪:‬‬
‫ما يتوجب على أميريكا أن تدركه‪ ،‬هو ش يء غير اعتيادي بالنسبة لنا‪ :‬من املغرب إلى باكستان‪ ،‬لن تنظر لنا‬
‫األغلبيـ ــة بعـ ــد اآلن علـ ــى أننـ ــا أشـ ــخاص طيبـ ــون‪ .‬إذا ـك ــان الحكـ ــم اإلسـ ــالمي فكـ ــرة تتوطـ ــد عراهـ ــا بـ ــين الجمـ ــاهير‬
‫املسلمة‪ ،‬فكيف باستطاعة أقوى الجيو على األرب أن توقفها؟ ألسنا بحاجة إلى سياسة جديدة؟‪"192‬‬
‫‪ -5‬ومن دالئل ذلك نجد أن جورج بوش األب‪ ،‬وهو في أوج جنون العظمة األميريكية‪ ،‬وحين كان يريد قتال‬
‫العـراق‪ ،‬ق ــام صــدام بمالمس ــة اإلس ــالم مالمســة خفيف ــة فــي بع ــض تص ــريحاته‪ ،‬إذ أشــار إل ــى األمــاكن املقدس ــة ف ــي‬
‫الســعودية وإلــى أن أميريكــا تســيطر اآلن عل ــى هــذه األمــاكن وحــض املســلمين والع ــرب علــى التحــرك ضــد أميريك ــا‪،‬‬
‫فظه ــر االرتب ــاك والرع ــب عل ــى ب ــوش‪ .‬وب ــرز ذل ــك ف ــي الخط ــاب ال ــذي ألق ــاه ب ــوش ف ــي ‪ 90/08/15‬ف ــي وزارة ال ــدفا‬
‫األميركي ــة‪ .‬ق ــال ب ــوش‪« :‬إن العم ــل األميركــي ف ــي الخل ــيج ال يتعل ــق بال ــدين أو ب ــالطمع أو بالفروق ــات الثقافي ــة كم ــا‬
‫يحــاول العـراق تصــويره ‪ .‬وأضــاف بــوش‪« :‬عــن صــدام ادعــى أنهــا جهــاد العــرب ضــد الكفــار ‪ ...‬وهــو مــن اس ــتعمل‬
‫الغاز السام ضد الرجال والنساء واألطفال في بلده‪ ،‬وهـو الـذي غـزا إيـران فـي حـرب كلفـت أرواح أكثـر مـن نصـف‬
‫مليون مسلم وأضاف‪« :‬صدام حول الغنى إلى الفقر بسبب الحرب التي شنها على املسلمين اآلخـرين وأضـاف‪:‬‬
‫«صدام يصورها صراعا بين العـرب واألميـركيين‪ ،‬والحقيقـة أن صـدام هـو الـذي َهـدد اآلن األمـة العربيـة فـي حـين‬
‫أنن ــا نس ــعى إل ــى مس ــاعدة أص ــدقائنا الع ــرب وأض ــاف‪« :‬نح ــن لس ــنا وح ــدنا ض ــد ص ــدام‪ ،‬ب ــل تق ــف معن ــا ال ــدول‬
‫العربية واإلسالمية املحيطة به ‪.‬‬
‫إن هذه العبارات من بوش تدل على أنه يرتعد خوفا من تحول املواجهة بين أميريكا والعراق إلى مواجه بين‬
‫أميريك ــا والع ــرب ويخ ــاف أكث ــر وأكث ــر م ــن تحوله ــا إل ــى مواجه ــة ب ــين أميريك ــا واملس ــلمين‪ .‬ول ــذلك ك ــرر كلم ــة الع ــرب‬

‫‪192 An Idea Whose Time Has Come? Patrick J. Buchanan‬‬

‫‪211‬‬
‫واملس ــلمين م ـرات كثي ــرة وح ــاول أن يص ــور أميريك ــا ه ــي ص ــديقة الع ــرب وص ــديقة املس ــلمين وأن الع ـراق ه ــو ع ــدو‬
‫العرب وهو عدو املسلمين‪.193‬‬
‫‪ -6‬إن الناس الذين دخلـوا مـع املسـلمين فـي الصـرا الـدموي علـى مـر العصـور‪ ،‬لـم يكونـوا يـدركون مـدى مـا‬
‫للعقيدة اإلسالمية‪ ،‬أي للفكر‪ ،‬من قوة وتأثير في القـوة املاديـة‪ ،‬ولـذلك كـانوا اعتمـدون علـى زيـادة قـو هم املاديـة‬
‫علــى قــوة املســلمين ليهزمــوا املســلمين‪ ،‬ولكــنهم بــالرغم مــن هــذه الزيــادة فــي القــوة ـكـان املســلمون ينتصــرون علــيهم‬
‫رغــم ض ــعف املس ــلمين وقل ــة ع ــددهم‪ ،‬ول ــم تنف ــع زي ــادة الق ــوة املادي ــة أص ــحابها ف ـي مي ــادين الح ــرب‪ ،‬وظ ــل النص ــر‬
‫حليفــا للمســلمين‪ .‬هكــذا ـكـان حــال املشــركين مــع رســول هللا ﷺ وأصــحابه‪ ،‬وهكــذا ـكـان حــال الــروم والفــرس م ــع‬
‫الصحابة‪ ،‬يقف ثالثة آالف من املسلمين أمام مائتي ألف من الروم في مؤتة‪ ،‬وفـي اليرمـوك كـان تعـداد املسـلمين‬
‫‪ 36‬ألفــا مقابــل ‪ 240‬ألفــا مــن الــروم‪ ،‬بأســلحتهم ودروعهــم وعت ــادهم الحر ــي الــذي فــاق كثيـرا مــا لــدى املس ــلمين‪،‬‬
‫وكــان تع ــداد ج ــيش الف ــتح ال ــذي اجت ــاح ف ــارس ‪ 18‬ألف ــا م ــن املس ــلمين‪ ،‬ل ــم تص ــمد أم ــامهم راي ــة‪ ،‬وانه ــارت م ــدائن‬
‫الف ـ ــرس واح ـ ــدة تل ـ ــو األخ ـ ــرى‪ ،‬وف ـ ــي القادس ـ ــية كـ ــان املس ـ ــلمون ‪ 30‬ألف ـ ــا‪ ،‬والف ـ ــرس ح ـ ــوالي ‪ 200‬أل ـ ــف‪ ،‬وانتص ـ ــر‬
‫املسلمون‪ ،‬وقضوا على اإلمبراطورية الفارسـية مـا بـين ‪ 11‬ه‪ ،‬و‪23‬ه قضـاء تامـا‪ .‬ومـا خسـر املسـلمون الحـرب إال‬
‫مـ ــرتين اثنتـ ــين لـ ــيس غيـ ــر‪ ،‬إحـ ــداهما فـ ــي الحـ ــروب الصـ ــليبية قـ ــد خسـ ــروا الحـ ــرب وإن عـ ــادوا واسـ ــتأنفوا الحـ ــرب‬
‫وكسبوها‪ ،‬والثانية في القرن التاسع عشر امليالدي بطوله حتى انتهت بهزيمتهم نهائيا في الحرب العاملية األولى‪.‬‬
‫‪ -7‬هناك حقيقة وهي أن الواليات املتحدة خاضت حروبا ضد العالم اإلسالم استنزفتها‪ ،‬وأغرقتها في وحل‬
‫ال ــديون‪ ،‬لق ــد بلغ ــت تكلف ــة الح ــرب عل ــى الع ـراق ثالث ــة تريليون ــات دوالر‪ ،‬بحس ــب جوزي ــف س ــتيغلتز الح ــائز عل ــى‬
‫جــائزة نوبــل لالقتصــاد‪ ،‬قــال‪" :‬بــات مــن الجلــي اآلن أن الغ ــزو األمريكــي للعـراق ـكـان خطــأ فادحــا‪ ،‬فثمــة نحــو م ــن‬
‫‪ 4000‬جنــدي أمريكــي قضــوا نحـ هم فيــه‪ ،‬باإلضــافة إلــى ‪ 58000‬آخــرين ســقطوا مــا بــين جــريح أو متــأذ أو مصــاب‬
‫بمرض خطير‪ ،‬ناهيك عن ‪ 7300‬جندي جرحوا أو تأذوا أو أصيبوا بمرض خطير في أفغانسـتان‪ ،‬وقـد عـاد مائـة‬
‫أل ــف جن ــدي أميريك ــي م ــن الح ـرب وه ــم اع ــانون م ــن اض ــطرابات خطي ــرة ف ــي ص ــحتهم العقلي ــة والنفس ــية‪ ،‬الش ــطر‬
‫األكبر منها ستتحول إلى بلوى مزمنة‪ 194.‬وأما الحرب على أفغانستان‪ ،‬فما زالـت تكلـف الخزينـة األمريكيـة حـوالي‬
‫‪ 45‬ملي ــار دوالر س ــنويا‪ ،‬وبحس ــب البــي ــي س ـ ي‪" :‬وحس ــب تق ــديرات مرك ــز الدراس ــات االس ــتراتيجية ال ــذي يترأس ــه‬
‫انطـوني كوردسـمان ان الكلفـة املباشـرة للحـرب فـي افغانسـتان بمـا فـي ذلـك املبلـغ املخصـص لهـا للعـام املقبـل قـد‬
‫بلغت ‪ 841‬مليار دوالر‪ .‬بينما تقول تقديرات أخرى إن هذه الحرب التي دخلت عاما السادس عشر (‪ )2017‬قد‬
‫تجــاوزت تريلي ــون دوالر إذا أخ ــذنا بعــين اإلعتب ــار كلفته ــا غي ــر املباشــرة‪ ،‬دون أن يل ــوح ف ــي األف ــق مــا اش ــير ال ــى نهاي ــة‬
‫قريب ــة له ــذه الح ــرب‪ .‬فعل ــى س ــبيل املث ــال ت ــرى نيت ــا كراوف ــورد‪ ،‬منس ــقة مش ــرو كلف ــة الح ــروب ف ــي جامع ــة ب ـراون‬

‫‪ 193‬كلمة الوعي‪ :‬أمريكا ترتعب من اإلسالم العدد ‪41‬‬


‫‪ 194‬حرب الثالثة تريليونات دوالر‪ ،‬الكلفة الحقيقية لحرب العراق‪ ،‬جوزيف ستيغلتز‪ ،‬ص ‪11‬‬
‫‪212‬‬
‫االمريكيــة أن كلف ــة الحــروب االمريكي ــة ف ــي كــل م ــن الع ـراق وافغانســتان وباكس ــتان من ــذ عــام ‪ 2001‬ق ــد قارب ــت ‪5‬‬
‫تريليون دوالر من بينها ‪ 2‬تريليون كلفة الحرب االفغانية بما في ذلك الكلفة املتوقعة مستقبال"‪.195‬‬
‫‪ -8‬حــين أرادت الواليــات املتحــدة خــوض حربهــا ضــد العـراق قامــت بتجنيــد كــم هائــل مــن املرتزقــة‪ ،‬بعــد أن‬
‫يئس ــت م ــن أن يتج ــاوب الش ــار األمريك ــي معه ــا فيتط ــو لخ ــوض غم ــار تل ــك الح ــرب‪ ،‬فجن ــدت أميريك ــا ‪ 200‬أل ــف‬
‫مرتــزق فــي حــرب الع ـراق‪ ،196‬مــن خــالل بضــعة ش ــركات اســتفادت مــن ذلــك الوض ــع مثــل شــركات‪Blackwater :‬‬
‫‪ .USA , DynCorp, Triple Canopy, Erinys and ArmorGroup‬وأميريكـا ال تملـك ضـبطا وال ربطـا لجـرائمهم‪،‬‬
‫وسـ ــلوكهم‪ ،‬وفـ ــوق ذلـ ــك والءهـ ــم‪ ،‬خصوصـ ــا إذا عرفنـ ــا أن قسـ ــما كبيـ ـرا مـ ــنهم ليس ـ ـوا مـ ــن األمـ ــريكيين‪ ،‬بـ ــل مـ ــن‬
‫املهـاجرين الــذين وعــد هم الحكومــة وقتهــا بتحســين أوضــا هجـر هم‪ ،‬وحــين رجعــوا مــن تلــك الحــرب تنكــرت لهــم‪،‬‬
‫وواجهوا مشاكلهم الصحية والنفسية واملالية بأنفسهم‪،‬‬
‫هـذا‪ ،‬وبحسـب بعـض التقـديرات مـن أعضـاء مجلــس الشـيوخ األمريكـان‪ ،‬فـإن ‪ %40‬ممـا ينفـق علـى الحــروب‬
‫األمريكيــة تجنيــه تلــك الش ــركات الخاصــة التــي تجن ــد املرتزقــة‪ ،‬وهــذه تكلف ــة ضــخمة وعــبء كبي ــر علــى كاهــل بل ــد‬
‫بلغت ديونها أكثر من عشرين تريليون دوالر!‬
‫إن أي حــرب تخوضــها الواليــات املتحــدة ضــد العــالم اإلســالمي كفيلــة بتقلــيص قــدرا ها العســكرية بمــا يزيــد‬
‫علـى ‪ %20‬علـى أقــل تقـدير‪ ،‬وهـذا يقلــص املسـافة بينهـا وبــين كـل منافسـيها فــي العـالم مـن روســيا والصـين‪ ،‬ويضــع‬
‫قدر ها على البقاء مهيمنة عليه على املحك‪ ،‬فهي وال شك ستخرج خاسرة من الحرب على العالم اإلسالمي مهما‬
‫كانت تلك املحاولة‪ .‬ولذلك فهي استعانت بـإيران وروسـيا وتركيـا فـي حربهـا فـي الشـام‪ ،‬فقامـت روسـيا بمسـاعد ها‬
‫في حربها ضد فصائل وتنظيمات في الشام‪ ،‬وأحرقت األخضر واليابس فيهـا‪ ،‬ولكـن الوضـع مختلـف حـين تواجـه‬
‫دولة!‬
‫‪ -9‬حين كانـت الواليـات املتحـدة تحـدث نفسـها بضـرب إيـران إبـان البرنـامج النـووي اإليرانـي‪ ،‬قـام الصـحفي‬
‫املشـ ــهور سـ ــيمون هيـ ــرش‪ 197‬بإعـ ــداد دراسـ ــة عـ ــن تلـ ــك الحـ ــرب‪ ،‬خلـ ــص فيهـ ــا‪ ،‬بعـ ــد استشـ ــارة خبـ ـراء عسـ ــكريين‬
‫واس ــتراتيجيين‪ ،‬أن ــه ال يمك ــن حس ــم نتيج ــة أي ح ــرب م ــن الج ــو‪ ،‬وال ب ــد م ــن املواجه ــة البري ــة‪ ،‬وق ــد اس ــتقرأ حروب ــا‬
‫كثيـرة‪ ،‬لـم تحسـم بالقصــف الجـوي مهمـا بلغـت قوتــه‪ ،‬ومـن ثـم فــإن إرسـال الجنـود بـرا فــي عمـق العـالم اإلســالمي‬
‫لن يكون مغامرة محسومة النتائج ألميريكا!‬
‫‪ -10‬وحين دخلت الواليات املتحدة في حرب ضد العراق‪ ،‬قامت بتجييش ‪ 23‬دولة معها‪ ،‬واسـتغرق اإلعـداد‬
‫ســتة أشــهر‪ ،‬ولــم يكــن ليــنج لــوال الــدعم اللوجســتي واالنطــالق مــن قواعــد فــي العــالم اإلســالمي مثــل الســعودية‬

‫‪ 195‬الكلفة الفلكية للحرب األمريكية في افغانستان ي ي س ي ‪ -22‬آب – ‪.2017‬‬


‫‪196 The Mercenary Revolution: Flush with Profits from the Iraq War,‬‬

‫‪197 The Iran Plans, Our Men in Iran?, Iran And the Bomb, Shifting Targets, the next act, last stand.‬‬

‫‪213‬‬
‫والكوي ــت‪ ،‬وه ــذا كل ــه بفض ــل عم ــالء الع ــالم الغر ــي م ــن حك ــام املس ــلمين‪ ،‬ولك ــن ح ــين تق ــوم الخالف ــة إن ش ــاء هللا‬
‫تعــالى ســتنهار تلــك األنظمــة الكرتونيــة انهيــار أحجــار الــدومينو‪ ،‬فهــي أنظمــة بالغــة الهشاشــة‪ ،‬وال امتــداد لهــا ف ــي‬
‫العالم اإلسالمي‪ ،‬ولذلك سيصعب على أمريكا أن تجـد لهـا منطلقـا سـهال تنطلـق فيـه لحـرب مصـيرية كتلـك التـي‬
‫ستحاول من خاللها إجهاض الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ -11‬لق ــد أنفق ــت دوي ــالت الض ـرار عل ــى التس ــليح مب ــالغ فلكي ــة‪ ،‬وهن ــاك دول تمل ــك ق ــوة هائل ــة حقيقي ــة مث ــل‬
‫تركيا‪ ،‬وباكستان‪ ،‬ومن طبيعة الجيوش هي أنها تتر ى على الطاعة لألوامر‪،‬لذلك فإننا إذا استطعنا العمل على‬
‫إزاحــة طبق ــة العم ــالء ف ــي قي ــادات ا لجي ــوش‪ ،‬والعم ــل عل ــى االستنص ــار بالطبق ــة املخلص ــة م ــن الض ــباط املنتم ــين‬
‫له ــذه األم ــة ال ــذين اعتنق ــون العقي ــدة اإلس ــالمية‪ ،‬ف ــإن أم ــر تغي ــر الجي ــوش لص ــال األم ــة أس ــهل م ــن تغي ــر الن ــاس‬
‫الع ــاديين‪ ،‬ألنه ــم بطبيع ــة الح ــال سيس ــتجيبون لألوام ــر التــي ت ــأتيهم م ــن الطبق ــة املخلص ــة‪ ،‬والدول ــة التــي تمتل ــك‬
‫مضـادات للصـواريخ وللطــائرات‪ ،‬وضـباطا متــدربين أصـحاب خبـرات عســكرية‪ ،‬يصـعب االنتصــار عليهـا بقصــفها‬
‫م ــن الج ــو‪ ،‬ويص ــعب احتالله ــا‪ ،‬وإن اح ــتالل امل ــدن الرئيس ــية ف ــي الع ــالم اإلس ــالمي كبغ ــداد والق ــاهرة واس ــطنبول‬
‫وإسالم أباد لـيس برحلـة سـياحية سـهلة! ومْْرة أخْْرى ال تصْْح املقارنْْة بْْين مْْا جْْرى علْْى األنظمْْة املهترئْْة وبْْين‬
‫الدولة اإلسالمية املخلصة!‬
‫‪ -12‬تمتلــك األمــة اإلســالمية ثــروات هائلــة لــيس بمقــدور العــالم التخلــي عنهــا‪ ،‬مــن ذلــك مــثال املخــزون الهائــل‬
‫مـن الطاقــة‪ ،‬ومـا بــين قيــام الخالفـة ومحــاوالت القيــام بحـرب ضــدها‪ ،‬تكـون الخالفــة قــد قطعـت تلــك اإلمــدادات‬
‫عن العالم كله‪ ،‬فتستفحل األزمات االقتصـادية‪ ،‬وتتعطـل الحيـاة فـي الغـرب بحيـث تتعـرض حكوماتـه لضـغوط‬
‫ش ــعبية هائل ــة‪ ،‬فتم ــد دول ــة الخالف ــة ي ــدها إلقام ــة تحالف ــات اس ــتراتيجية مهم ــة مقاب ــل تل ــك الطاق ــة‪ ،‬فتقس ــم‬
‫املعس ــكر املن ــاوي قس ــمين وتجع ــل مهم ــة القس ــم املع ــادي بالغ ــة الص ــعوبة‪.‬وتتعاقد م ــع علم ــاء وش ــركات ع ــابرة‬
‫للقـ ــارات علـ ــى إنشـ ــاء صـ ــناعات ومراكـ ــز أبحـ ــاث أو شـ ـراء معـ ــدات الزمـ ــة‪ ،‬وتبـ ــدأ رحلـ ــة التصـ ــنيع الثقيـ ــل ونقـ ــل‬
‫التكنولوجيا‪.‬‬
‫‪ -13‬تتحـرق الشـعوب اإلسـالمية للخــالص مـن حكامهـا وأنظمتهــا التـي سـامتها الــويالت‪ ،‬وتتحـرق لالنعتـاق مــن‬
‫أوضاعها الكارثية التي وصلت إليها‪ ،‬وتتربص بتلك األنظمة‪ ،‬وتتحرق شوقا لالنقضاض عليها‪ ،‬وتنظر إلى التغيير‬
‫بعــين الترقــب واألمــل‪ ،‬وتــرى وحــد ها مصــدر قو هــا‪ ،‬وحــين تســقط تلــك األنظمــة‪ ،‬فإنهــا لــن تجــد مــن يناضــل عنه ــا‬
‫إلعاد ه ــا‪ ،‬وس ــتجد األم ــة تلت ــف ملن ــع الرج ــو لل ــوراء تابع ــة للغ ــرب الك ــافر‪ ،‬وم ــع األخ ــذ باالعتب ــار أن تل ــك األنظم ــة‬
‫بالغ ــة الهشاشـ ــة واالهتـ ـراء‪ ،‬وسـ ــهلة الس ــقوط‪ ،‬لـ ــذلك فـ ــإن انتشـ ــار الدول ــة اإلسـ ــالمية وامتـ ــدادها حـ ــال قيامهـ ــا‬
‫سيعطيها مساحات واسعة‪ ،‬و عدا استراتيجيا هائال‪ ،‬فال تكون وقتها مجرد عاصـمة فـي بلـد مـا يمكـن غزوهـا‪ ،‬بـل‬
‫تص ــبح دول ــة مترامي ــة األط ـراف‪ ،‬وح ــرب مث ــل ه ــذه الدول ــة ليس ــت نزه ــة س ــريعة‪ ،‬وال حرب ــا خاطف ــة‪ .‬واملس ــلمون ال‬
‫يتعـ ــاطفون اآلن مـ ــع األنظمـ ــة القائمـ ــة فـ ــي بالدهـ ــم‪ ،‬ألنهـ ــا فرضـ ــت علـ ــيهم دون إراد هـ ــم‪ ،‬وهـ ــي تنـ ــاقض عقيـ ــد هم‬

‫‪214‬‬
‫وشريعتهم‪ .‬وهي بدل أن ترعى شؤونهم تأكلهم‪ ،‬وبدل أن تحاف عليهم تظلمهم وتذلهم وتكم أفواههم‪ .‬فال يصح‬
‫أن نقهس موقف املسلمين من دولتهم اإلسالمية على موقفهم من دول الكفروالظلم القائمة اآلن‪ .‬وإذا كان‬
‫املوقف ليكون وقتها هو هو بعد قيام الدولة‪ ،‬فال تكون الدولة دولة إسالمية ولو تسم ْت بهذا اإلسالم! وعندئذ‬
‫ستكون دولة بوليسية تحتاج إلى حماية من شع ها وليس فقط من الدول الخارجية‪.‬‬
‫إن الدول ـ ــة التـ ــي يحتض ـ ــنها ش ـ ــع ها ال يمك ـ ــن إس ـ ــقاطها بمج ـ ــرد إس ـ ــقاط حاكمه ـ ــا‪ ،‬ألن كـ ــل ف ـ ــرد فيه ـ ــا اش ـ ــعر‬
‫باملسؤولية ويدافع عنها من املوقف الذي هو فيه تحقيقا لقول املصطفى ﷺ‪« :‬أنت على ثغـرة مـن ثغـر اإلسـالم‬
‫فال يؤتين من قبلك وذلك كالجند في املعركة إذا سقط حامل الراية فسرعان ما يخف غيره لرفعها كي تستمر‬
‫مرفوعة‪ .‬هذا االلتفاف من األمة حول دولتها‪ ،‬وهذا الشعور باملسؤولية تجاهها‪ ،‬وهذا التصميم الراوع الراسـخ‬
‫علــى ال ــدفا عنه ــا ال ــذي يص ــل إل ــى جعله ــا قض ــية مص ــيرية تحي ــا وتم ــوت م ــن أجله ــا‪ :‬ه ــذا ه ــو ال ــذي يجع ــل الدول ــة‬
‫اإلسالمية تستمر رغم أنف الخصوم‪.‬‬
‫ال ــرئيس األميركــي الس ــابق ريتش ــارد نيكس ــون ف ــي كتاب ــه «أميركــا والفرص ــة التاريخي ــة الص ــادر ف ــي س ــنة ‪1992‬‬
‫يلفت نظر الغرب مؤكدا على هذه الحقيقة بقوله‪« :‬هناك عنصران مشـتركان فقـط فـي العـالم اإلسـالمي‪ :‬الـدين‬
‫اإلس ــالمي‪ ،‬ومش ــاكل االض ــطراب السياس ـ ي‪ ،‬واإلس ــالم ل ــيس دين ــا فق ــط‪ ،‬ب ــل ه ــو أيض ــا األس ــاس لحض ــارة كب ــرى‪،‬‬
‫ونح ــن نتح ــدث ع ــن الع ــالم اإلس ــالمية ككي ــان واح ــد ل ــيس ألن هنال ــك مرك ـزا سياس ــيا يوج ــه سياس ــته‪ ،‬ب ــل ألن‬
‫الشـ ــعوب التـ ــي يتكـ ــون منهـ ــا تتشـ ــارك فـ ــي تيـ ــارات سياسـ ــية وثقافيـ ــة مصـ ــدرها الحضـ ــارة اإلسـ ــالمية‪ .‬فالتحر ـك ــات‬
‫السياسية في مختلف بالد العالم اإلسالمي تجري وفقا إليقا واحد بصرف النظر عن الفوارق بين هذه البالد‪.‬‬
‫ً‬
‫هــذه الوحــدة فــي املعتقــد وفــي السياســة تغ ْْذي تض ْْامنا غيْْرمت ْْين‪ ،‬ولكن ْْه حقيق ْْي‪ :‬عنــدما يقــع حــدث خطيــر فــي‬
‫جزء من العالم اإلسالمي اسمع له صدى أكيد في بقية األجزاء ‪.‬‬
‫‪ -14‬هن ــاك حقيق ــة تق ــول‪( :‬إن الش ــعوب ال تتح ــرك إال إذا ُحرك ـ ْـت)‪ ،‬وانطالق ــا م ــن ذل ــك ف ــإن القيم ــين عل ــى‬
‫الدول ــة الناش ــئة أن يتول ـ ْـوا تحري ــك األم ــة ب ــأقوى وأس ــر م ــا يمك ــن‪ .‬قب ــل قي ــام الخالف ــة ال تك ــون وس ــائل اإلع ــالم‬
‫والتحريــك بأيــدي دعــاة الخالفــة ولــذلك يكــون تــأثيرهم فــي هــذا املجــال محــدودا‪ .‬أمــا حــين تقــوم الخالفــة وتصــبح‬
‫هذه الوسائل بأيدي القيمين عليها فـإن الواجـب يحـتم علـيهم أن اسـتثمروا هـذه الوسـائل وكـل الوسـائل لتعبئـة‬
‫األمة وشحن نفوسها‪ .‬إذ ال نوم وال راحة بعد اليوم حتـى يق ـ ي هللا أمـرا كـان مفعـوال‪ .‬األمـة اإلسـالمية مـع دولتهـا‬
‫الناشئة في سباق مع الزمن‪.‬‬
‫‪ -15‬ح ــين تت ــدخل أميريك ــا م ــع حلفائه ــا وعمالئه ــا عس ــكريا له ــدم الخالف ــة ال يك ــون التص ــدي له ــا ع ــن طري ــق‬
‫الج ــيش النظ ــامي وح ــده‪ ،‬ب ــل ال ب ــد أن تش ــترك األم ــة م ــع الج ــيش النظ ــامي ف ــي ص ــد الع ــدوان‪ .‬ف ـالجيش النظ ــامي‬
‫واألمة ستحاربهم بالحرب الشعبية وحرب العصابات‪.‬‬
‫وهذا التصور يوجب على القيمين على دولة الخالفة أن يبادروا من اللحظة التي تقوم فيها الخالفة إلى‪:‬‬

‫‪215‬‬
‫اســتدعاء جمي ــع القــادرين عل ــى حم ــل الســالح ف ــي األمــة لت ــدربهم عل ــى أســاليب الح ــرب الش ــعبية‬ ‫أ‪-‬‬
‫وعلى أساليب حرب العصابات‪ ،‬وأن تخضعهم إلى دورات مكثفـة وسـريعة تشـحنهم خاللهـا باإليمـان وأفكـار‬
‫الصبر والتضحية واالستشـهاد وعـدم الفـرار‪ ،‬كمـا تـدربهم علـى مختلـف األسـاليب واألسـلحة الالزمـة للحـرب‬
‫الشعبية‪.‬‬
‫ب‪ -‬توزيـ ــع األسـ ــلحة علـ ــى جميـ ــع مـ ــن تـ ــم تـ ــدري هم وأن تـ ــربط كـ ــل مجموعـ ــة بقائـ ــد منهـ ــا مـ ــن القـ ــادة‬
‫الشعبيين‪.‬‬
‫ت‪ -‬إخض ــا الج ــيش النظ ــامي كل ــه إل ــى دورات فكري ــة ـ إيماني ــة ـ استش ــهادية قوي ــة وس ــريعة بحي ــث‬
‫تصبح نفسيته واستعداده على املستوى املطلوب من املجاهدين املؤمنين‪.‬‬
‫ث‪ -‬دعــوة أبن ــاء األم ــة ال ــذين ليســوا تح ــت حك ــم الخالف ــة ألن يتطوعــوا وي ــأتوا إليه ــا لتق ــوم بت ــدري هم‬
‫وتأهيلهم للقيام بأعمال لنصرة الخالفة سواء داخل الخالفة أو في أماكن أخرى من العالم‪.‬‬
‫ه ـ‪ -‬ت ــدريب مجموع ــات ذات أهلي ــة مناس ــبة لتنش ــر ف ــورا ف ــي أنح ــاء الع ــالم اإلس ــالمي وف ــي أنح ــاء‬ ‫ج‪-‬‬
‫العالم للقيام بأعمال الضغط املناسبة لدعم الخالفة‪.‬‬
‫وفي هذا كله تكون الدولة في سباق حثيث مع الزمن قبل وقو التدخل العسكري من األعداء‪.‬‬
‫‪ -16‬في هذه األجواء تكون أنظار العالم مسلطة على الخالفة وموقف العـالم منهـا‪ .‬وتكـون مشـاعر املسـلمين‬
‫فــي الع ــالم م ــع خالف ــتهم وهــم مس ــتعدون للتض ــحية م ــن أجــل دعمه ــا وه ــذا يوج ــب علــى دول ــة الخالف ــة أن تحس ــن‬
‫استغالل هذه املوجة املشاعرية اإلسالمية العارمة‪ .‬وقد رأينا ردود الفعل العنيفة من قبل املسلمين حين كانت‬
‫أزمة الرسومات الكاريكاتوريـة مـن الـدنمارك وفرنسـا‪ ،‬واشـتعال نـار الغضـب فـي العـالم اإلسـالمي‪ ،‬وهـذا وال شـك‬
‫َهدد املصال الغربية في غير بقعة من العالم اإلسالمي مما ال يحتمله الغرب‪.‬‬
‫‪ -17‬ال يتصور وجود أشخاص أو حركات أو جماعات داخل الدولة اإلسالمية تستطيع أن تكون حيادية في‬
‫هــذه املعركــة الفاصــلة بــين اإلسـالم والكفــر‪ .‬حتــى خــارج الدولــة اإلســالمية يصــعب تصــور وجــود علمــاء مســلمين‬
‫يجه ــرون بتبعي ــتهم ألميريك ــا أو عم ــالء أميريك ــا والغ ــرب كم ــا حص ــل ح ــين ح ــرب الخل ــيج‪ ،‬ل ــذلك وح ــين ت ــرى أميريك ــا‬
‫وحلفاُهــا وقــوف األم ــة اإلســالمية وقف ــة رجــل واح ــد ومســتعدة للمــوت دفاع ــا عــن دينه ــا ودولتهــا ف ــإن أميريكــا ق ــد‬
‫تعـدل عـن التـدخل إلـى الحصـار االقتصـادي ومـا شــاكله‪ .‬ولـيس بـاألمر السـهل أن تنفـذ الحصـار فـي الوقـت الــذي‬
‫تتحكم فيه الدولة اإلسالمية بموارد طاقة هائلة يحتاجها العالم كله‪ ،‬وبذلك تكون األمة قد حققت نصرا قبل‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ـيغ ِلب ال ــدو َل‬ ‫خ ــوض املعرك ــة العس ــكرية‪ .‬وإذا ركب ــت أميريك ــا رأس ــها‪ ،‬ف ــإن الخالف ــة ال ت ْس ـقط‪ .‬وص ــمود األم ــة س ـ‬
‫ْ‬
‫املعتدي ــة َويغ ِل ـ ُب عمالءه ــم ال ــذين يح ــاولون تنص ــي هم‪ .‬ول ــن تتع ــاون األم ــة م ــع أي عمي ــل ينص ــبه الكف ـار حاكم ــا‬
‫للمسـلمين‪ .‬حتــى أن حرســه ســيقدم علــى تصــفيته‪ .‬وإذا أرادت أميريكــا أن تضــع لــه حرســا مــن جنودهــا فــإن األمــة‬
‫ستصطاد العميل وحرسه كما تصطاد العصافير‪ .‬وسيخرج الكفار في النهاية مدحورين‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫‪ -18‬ولقـد جــرت ســنة هللا تعـالى اإللهيــة بنصــر مـن ينصــره‪ ،‬وقــد وعـد هللا تعــالى‪ ،‬ووعــده حـق بنصــر املــؤمنين‬
‫واستخالفهم والتمكين لدينه‪ ،‬ومن كان هللا تعالى ناصره فال غالب له!‬
‫الرح ُ‬ ‫صر َّ َ ُ َ ْ َ َ َ ُ َ ْ َ ُ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ ُ ُْ ْ ُ َ َ ْ‬
‫يم﴾‪198‬‬
‫ل ينص ُرمن يش ُاء وهو الع ِزيز َّ ِ‬ ‫﴿ويوم ِئ لذ يف َرح املؤ ِمنون ي ِبن ِ ِ‬
‫فلننطلق للعنصر الثالث‪:‬‬
‫العنصرالثالث‪ :‬هو القوة املادية املتمثلة بالجيو ‪،‬‬
‫لق ــد أنفق ــت دوي ــالت الض ـرار عل ــى التس ــليح مب ــالغ فلكي ــة‪ ،‬وهن ــاك دول تمل ــك ق ــوة هائل ــة حقيقي ــة مث ــل تركي ــا‪،‬‬
‫وباكستان‪،‬‬
‫وم ــن طبيع ــة الجي ــوش ه ــي أنه ــا تتر ــى عل ــى الطاع ــة لألوام ــر‪ ،‬ل ــذلك فإنن ــا إذا اس ــتطعنا العم ــل عل ــى إزاح ــة طبق ــة‬
‫العمــالء فــي قيــادات الجيــوش‪ ،‬والعمــل علــى االستنصــار بالطبقــة املخلصــة مــن الضــباط املنتمــين لهــذه األمــة ال ــذين‬
‫اعتنقـون العقيــدة اإلســالمية‪ ،‬فـإن أمــر تغيــر الجيـوش لصــال األمــة أسـهل مــن تغيــر النـاس العــاديين‪ ،‬ألنهــم بطبيعــة‬
‫الحال سيستجيبون لألوامر التي تأتيهم من الطبقة املخلصة‪.‬‬
‫ولتفعيل الطاقة السببية في عملية طلب النصرة‪:‬‬
‫هــذه العمليــة تــتم م ــن خـالل التواصــل املس ــتمر مــع الجيــوش‪ ،‬والبح ــث عــن أولئــك النف ــر املخلصــين مــنهم‪ ،‬وه ــي‬
‫عملية شاقة‪ ،‬إال أنها من ضرورات التغيير‪،‬‬
‫إذ إن إهماله ــا يف ـ ي إل ــى تس ــليط الجي ــوش عل ــى الش ــعوب إذا أرادت الش ــعوب االنعت ــاق‪ ،‬ومث ــال الجزائ ــر ماث ــل‬
‫للعي ــان‪ ،‬فح ــين قال ــت األم ــة كلمته ــا وانتخب ــت ج ه ــة االنق ــاذ ف ــي ‪ ،1992‬بأغلبي ــة س ــاحقة‪ ،‬س ــحق الج ــيش الجزائ ــري‬
‫التجربة كلها وأدخل البالد في حرب أهليـة كانـت نتائجهـا رهيبـة‪ ،‬عمليـة تغييـر الجيـوش هـذه نسـميها‪ :‬طلـب النصـرة‪،‬‬
‫وهي جزء ال يتجزأ من األعمال الالزمة لحصول التغيير‪ ،‬لزوم املاء للعطشان‪.‬‬
‫أم ــا عنص ــر الق ــوة ه ــذا املتمث ــل ب ــالجيوش‪ ،‬فإن ــه إذا أخ ــذنا الج ــيش لص ــف األم ــة‪ ،‬وأقمن ــا عقيدت ــه عل ــى عقي ــدة‬
‫الجهاد والتضحية‪ ،‬فإنه قادر على إحداث النقلة ذا ها التي نقلتها األمة اإلسالمية أيام الصحابة للبشرية في غضون‬
‫عقود قليلة لتنتشر دولة اإلسالم على نصف الكرة األرضية التي كانت معروفة وقتها‪.‬‬
‫وعليــه‪ ،‬فه ــذا اســتعراض س ــريع لعملي ــة تغييــر الدول ــة‪ ،‬وف ــق قاعــدة الس ــببية‪ ،‬وإن أي تج ــاوز لهــذه العملي ــة التــي‬
‫اتفقت فيها السنن اإللهية التي عرفناها من استنباط العملة التغييريـة التـي قـام بهـا سـيد الخلـق محمـد ﷺ فـي مكـة‪،‬‬
‫اتفقت تلك السنن اإللهية‪ ،‬مع السـنن الكونيـة التـي تأخـذ بعـين االعتبـار‪ :‬طبيعـة الدولـة‪ ،‬ومقوما هـا‪ ،‬ومـواطن القـوة‬
‫فيها‪ ،‬وعقائدها‪ ،‬وتتفق مع السنن اإلنسانية التي تصمم أنظمة التغيير بما يف ي إلحداثه‪.‬‬

‫‪ 198‬أين وصلت األمة في رحلة العودة إلى الخالفة؟ الوعي العدد ‪ ،75‬بتصرف كبير‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫الستمرار الدولة بعد نشوئها ال بد من إقامتهْْا علْْى مؤسسْْات ونظْْام اْْحيح وعالقْْات اْْحيحة مْْع‬
‫الكيان املجتمعي‬
‫كما تقوم الدولة وفق سنن ثابتة ال بد من اتباعها‪ ،‬فإنها حتى تستمر ال بد أن تكون قامت بشكل صحيح‪ ،‬بمعنى أن‬
‫ض ــمانة اس ــتمرارها وع ــدم س ــقوطها ه ــو اس ــتناد ه ــا إل ــى ق ــوة املف ــاهيم واملق ــاييس والقناع ــات التــي زرعته ــا ف ــي األم ــة زراع ــة‬
‫صــحيحة‪ ،‬وأقامــت عليهــا الســلطان قيامــا صــحيحا‪ ،‬فهــذا ضــمانة الســتمرارها‪ ،‬ولتغلغلهــا فــي النــاس ودعمهــم لهــا بصــفتها‬
‫دولتهم‪،‬‬
‫وحتى ال استأثر الحاكم بميزات الحكم ويخرج عن املفاهيم اإلسالمية‪ ،‬فإن في الدولة مؤسسات ودستورا مستنبطا‬
‫مــن الشــريعة‪ ،‬ينبغــي أن يكــون الدســتور (والــذي يتجســد فيــه تمثيــل مبــدأ أن الســيادة للشــر ) فــوق الحــاكم‪ ،‬فــإن خــرج‬
‫علي ــه بم ــا اس ــتوجب خلع ــه‪ ،‬خلعت ــه محكم ــة املظ ــالم‪ ،‬فباس ــتقرار مف ــاهيم الحك ــم ب ــين القي ــادات السياس ــية والوس ــط‬
‫السياس ي‪ ،‬إلى وسائل اإلعالم إلى قيادات الجيش‪ ،‬إلى جمهور الناس‪ ،‬حيث إن العملية التغييرية سارت بالتغيير الفكري‬
‫وسـط هــؤالء أنفســهم‪ ،‬فيتشــكل وعــي األمــة بكــل فئا هــا علــى االنقيــاد الفكــري لدســالم‪ ،‬فيكــون فــي هــذا ضــمانة اســتمرارية‬
‫الدولة‪.‬‬
‫أمثلة تطبيقية على السنن اإللهية والسنن التاريخية‪:‬‬
‫أما السنن اإللهية‪ ،‬فعلى سبيل املثال‪:‬‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ‬
‫نص ْرك ْم‬ ‫﴿إن تنصروا ل ي‬
‫ِ‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫سـنة النصــر فـي املعركــة (ســاحة القتـال) ﴿ َيـا َأ َُّ َهـا ا َّلـذ َ‬
‫صـ ْرك ْم َو ُيث ِبـ ْت أقـ َد َامك ْم﴾ ‪ 7‬محمــد‪،‬‬ ‫ين َآم ُنـوا ِإن تنصـروا ّللا ين‬ ‫ِ‬
‫فلها أسباب ينبغي القيام بها السـتحقاق تنـزل النصـر‪ ،‬فـإن كـان االستنصـار فـي شـأن الحـرب والقتـال‪ ،‬فاألسـباب تقت ـ ي‬
‫أنه حين يتوجب الجهاد يجب القتال واألخذ بعدته وأسبابه‪ ،‬ثم بعد األخذ باألسباب نستنصر هللا تعالى‪ ،‬وندعوه‪ ،‬وقد‬
‫رأينــا أن ســنة هللا تعــالى فــي النصــر للمــؤمنين ال تقت ـ ي كثــرة العــدد والعــدة‪ ،‬فقــد أرســل الرســول ﷺ جيشــا ملؤتــة ال اعــد‬
‫ش ــيئا أم ــام ج ــيش الع ــدو ع ــدة وع ــددا‪ ،‬ورس ــول هللا ﷺ خي ــر م ــن يأخ ــذ باألس ــباب ويعلمه ــا عل ــى حقيقته ــا! ولك ــن اإلع ــداد‬
‫الحقيقــي ـكـان بمــزج القــوة املاديــة (حتــى وإن قلــت) بالعقيــدة ومــا فيهــا مــن طاقــات فكريــة قــادرة علــى ســحق القــوة املاديــة‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ ْ َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ َ َ ُْ‬ ‫َ َ ُّ ْ َ‬
‫ّللا َو َعـ ُد َّوك ْم‬
‫اط الخ ْيـ ِل ت ْر ِه ُبـون ِبـ ِه عـد َّو ِ‬‫عند العدو‪ ،‬واإلعداد املادي واملالي‪﴿ ،‬وأ ِعدوا ل ُهم َّما استطعتم ِمـن قـ َّوة و ِمـن ِربـ ِ‬
‫َ ُ َْ َ‬ ‫َّ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ َ َْ ُ َُ ُ ُ َ َْ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫ّللا ُي ـ َوف ِإل ـ ْيك ْم َوأن ـ ُـت ْم ال تظل ُم ـون﴾ واألخ ــذ‬ ‫َ‬
‫نفق ـوا ِم ـن ش ـ ْيء ِف ـي س ـ ِب ِيل ِ‬ ‫وآخ ـ ِرين ِم ـن د ِون ِه ـم ال تعلم ـونهم ّللا اعلمه ـم وم ـا ت ِ‬
‫بأس ــباب أخ ــرى س ــتأتي بع ــد قلي ــل ب ــإذن هللا‪ ،‬وق ــد تك ــررت ه ــذه الس ــنة كثي ـرا ف ــي ب ــدر ولق ــاء ط ــالوت وج ــالوت‪ ،‬وغيره ــا‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ ْ ْ َ ْ ُْ ُ‬ ‫ََ‬
‫صـ ِب ُروا َوت َّت ُقـوا َو َيـأتوكم ِمـن فـ ْو ِر ِه ْم‬ ‫﴿بلـى ِإن ت‬ ‫وبالثبـات والصــبر‪ ،‬وحســن اتبـا رأي القيــادة‪ ،‬والثقــة بوعــد هللا‪ ،‬والتقـوى‪،‬‬
‫َْ َ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫َهـذا ُي ْم ِد ْدك ْم َرُّبكم ِبخ ْم َسـ ِة آالف ِمـ َن املخ ِئكـ ِة ُم َسـ ِو ِم َين﴾ فهـذه بعـض دعـائم وأسـس سـنة النصـر فـي املعـارك والتـي ال بـد‬
‫منها لتحقق النصر (الح في قصة طالوت أن هللا تعالى ذكر أنه أوتي بسطة فـي العلـم‪ ،‬وقـد تجلـت تلـك فـي مـواطن‪ :‬أوال‪:‬‬
‫‪218‬‬
‫اختبــار الطاعــة‪ ،‬ورفضــه اصــطحاب مــن شــرب مخالفــا عــن أمــره‪ ،‬فــالعبرة ليســت بــالكم‪ ،‬ثــم الثقــة بــالل واالستنصــار بــه‬
‫ْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫تجلــت فــي ﴿ َكـم مـن ف َئـة َقلي َلـة َغ َل َبـ ْت ف َئـة َكثيـ َـرة ب ْإ ْذن ل َو ُ‬
‫ّللا َمـ َع ال َّ َ‬
‫ل﴾‬ ‫صـ ِاب ِرين﴾‪ ،‬وفــي قولــه تعــالى‪﴿ :‬ف َهز ُمـوهم ِب ْ ِإذ ِن ِ‬ ‫ِ ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫صْ ْب ًرا َو َثبـ ْت َأ ْقـ َد َامناَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫﴿وملا َب َرزوا ل َجـالوت َو ُجنـوده قـالوا َرَّبنـا أفْر عل ْينْا َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الصابرين﴾ َ‬ ‫ُ‬
‫والصبر والثبات تجلى في ﴿ َول َم َع َّ‬
‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نص ُروا َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫ين َآم ُنوا إن َت ُ‬ ‫﴿و َثب ْت َأ ْق َد َام َنا﴾ وقوله تعالى َ‬
‫﴿يا أ َُّ َها َّالذ َ‬ ‫ين﴾ والثبات في قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫انص ْرَنا َع َلى ْال َق ْوم ْال َكافر َ‬
‫َو ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َِ‬
‫ْ َ ْ َ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ْ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ ُ ُْ ْ ََُ ْ ْ َ َ ُ ْ‬
‫اب لك ـ ْم﴾ فه ــذه دع ــائم تس ــتجلب الس ــنة اإللهي ــة‬ ‫﴿إذ تس ـت ِغيثون ربك ـم فاس ـتج‬ ‫ينص ـركم ويث ِب ـت أق ـدامكم﴾ ‪ 7‬محم ــد‪ِ .‬‬
‫بنصر املؤمنين!‬
‫قال األستاذ بالل فتملي سليم في كتابه‪ :‬النصر سببه اإلعداد‪" :‬ورد في النشرة املؤرخة بتاريخ ‪1970/1/10‬م بذلك في‬
‫قولــه‪( :‬فحصــول النصــر بالفعــل ال يمكــن أن يتــأتى إال مــن اإلعــداد‪ ،‬فيك ْْون حص ْْول النصْْرس ْْببه اإلع ْْداد‪ ،‬فكــان مــن‬
‫قبي ــل رب ــط األس ْْباب باملس ْْببات‪ ،‬وعل ــى ذل ــك ف ــإن طل ــب املس ــلمين حص ــول النص ــر بالفع ــل دون أن يقوم ــوا باإلع ــداد ل ــه‬
‫مخالف للشر ومخالف لقاعدة األخذ باألسباب‪ ،‬ومخالف ملا كان عليه الرسول ـ عليه السالم ـ ‪.199)...‬‬
‫فهو قد صرح بأن النصر ال يحصل بالفعل إال من اإلعداد‪ ،‬وصرح بأن طلب املسلمين حصول النصر بالفعل دون‬
‫اإلعداد له مخالف للشر ومخالف لقاعدة األخذ باألسباب ومخالف ملا كان عليه الرسول ﷺ‪ .‬وقوله‪( :‬مخالف لقاعدة‬
‫األخذ باألسباب) نص صريح على قصده األسباب العقلية‪ ،‬وقوله‪( :‬مخالف ملا كان عليه الرسول) يؤكد قوله في موضو‬
‫آخـر مـن النشـرات الفكريـة‪( :‬ومـا روي عنـه قـط أنــه توسـل [توصـل] للنصـر وال فـي معركـة مـن املعـارك دون إعــداد ‪ )...‬ص‬
‫‪.96‬‬
‫دلت النصوص الشرعية القطعية على أن النصر من عند هللا‪ ،‬وأنه هو الناصر للمؤمنين وغيرهم ﴿وما النصر إال‬
‫مــن عنــد هللا﴾ آل عمـران واألنفــال؛ واملشــاهد املحســوس أن اإلعــداد ســبب للنصــر‪ ،‬وال داعــي للتمثيــل بحــروب ومعــارك‪،‬‬
‫ألن هذا هو األغلب األعم‪ ،‬ولكن ما بال النصر يِجب عمن أعد ـ وأظن هذا مختصا باملؤمنين دون غيرهم ـ؟!‬
‫والجــواب عــن ذلــك اآليــات التــي اشــترطت علــى املــؤمنين شــروطا أخــرى زائــدة عــن كــونهم أعــدوا‪ ،‬قــال تعــالى‪﴿ :‬تؤمنــون‬
‫بالل ورسوله وتجاهدون في سبيل هللا بأموالكم وأنفسكم﴾ ‪﴿ ....‬وأخرى تحبونهـا نصـر مـن هللا وفـتح قريـب ‪[ ﴾...‬الصـف‬
‫‪11‬ـ ‪ ،]13‬فاشترطت اآلية‪ :‬أ ـ اإليمان بالل ب ـ اإليمان بالرسول جـ ـ الجهاد في سبيل هللا باملال والنفس‪.‬‬
‫وملــا ـكـان فريقــان ـكـافران يقتــتالن وينتصــر أحــدهما دون وجــود أي مــن هــذه الشــروط دل ذلــك علــى أن النصــر الــذي‬
‫اعطيه هللا للمؤمنين ال بد له من شروط وهي املذكورة أعاله وغيرها كما سيظهر في آيات أخرى‪.‬‬
‫َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ ُْ‬ ‫وكـذلك قولـه تعـالى‪﴿ :‬إ َّنـا َل َنن ُ‬
‫صـ ُر ُر ُسـ َل َنا َوا َّلـذ َ‬
‫صـ ُر املـ ْؤ ِم ِن َين﴾ فاملنصـور فـي اآليتـين مــن‬ ‫ين َآم ُنـوا﴾‪﴿ ،‬و ـكان حقـا علينـا ن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اتص ــف بص ــفة اإليم ــان‪ ،‬وك ــذلك الرس ــل‪ ،‬واش ــترط الص ــبر أيض ــا ف ــي قول ــه تع ــالى‪﴿ :‬ف ــإن يك ــن م ــنكم مائ ــة ص ــابرة اغلب ــوا‬
‫مائتين﴾‪.‬‬

‫‪ 199‬ص‪ 97‬ملف النشرات الفكرية‬


‫‪219‬‬
‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ‬
‫ص ـ ْرك ْم﴾‪ ،‬وم ــدح هللا‬ ‫واش ــترط س ــبحانه وتع ــالى نص ــرة هللا أي نص ــرة امل ــؤمنين لل حتــى ينص ــرهم ﴿ ِإن تنص ـروا ّللا ين‬
‫املؤمنين بأنهم ينصرون هللا ورسوله في آيـة أخـرى‪ ،‬واشـترط سـبحانه وتعـالى التوكـل‪ ،‬وهـو مفهـوم مـن غـزوة حنـين ﴿ويـوم‬
‫حنـين إذ أعجبـتكم كثـرتكم فلـم تغـن عـنكم شـيئا﴾ [التوبــة‪ ،]25/‬فاإلعجـاب بـالكثرة ينـافي التوكـل‪ .‬فالنصـر فـي أول غــزوة‬
‫حنين حجب عن املسلمين ألنهم أعجبوا بكثر هم‪ ،‬والكثرة ليست دائما سـبب النصـر وهـذا سـيبحث فـي بحـث اإلعـداد إن‬
‫شاء هللا‪.‬‬
‫أما غير املؤمنين فلم اشترط علـيهم سـبحانه وتعـالى هـذه الشـروط حتـى ينصـرهم‪ ،‬وبقيْْت السْْنة الكونيْْة فْْي حقهْْم‬
‫كما هي‪ :‬أن األكثر إعداد هو األحق بالنصر (هي اإلعداد)‪ ،‬وهذا هو الواقع املحسوس‪ ،‬أما نصر املؤمنين فإن الشر زاد‬
‫إلى اإلعداد (الذي هو سـبب) شـروطا اشـترط وجودهـا حتـى يوجـد النصـر لهـم‪ ،‬وهـي‪ :‬اإليمـان بـالل ورسـوله‪ ،‬والتوكـل علـى‬
‫هللا‪ ،‬ونصر هم لل والجهاد والصبر ‪ ...‬والذي يوض ذلك أكثر هو أن نصر املؤمنين يختلف عن نصر غيرهم من جهة أن‬
‫إعدادهم في الغالب أقل من إعداد الكفار ومع ذلك ينتصر املؤمنون‪ ،‬مما يدل على أن نصر املؤمنين يختلف عن نصر‬
‫الكفار‪ ،‬ولعله من هذا القبيل زيدت الشروط عليهم‪.200‬‬
‫وهم‬ ‫﴿و َل َق ـ ْد َأ ْر َس ـ ْل َنا م ـن َق ْبل ـ َك ُر ُس ـال إ َل ـى َق ـ ْومه ْم َف َج ـ ُاُ ُ‬
‫وأم ــا إن كــان النص ــر عل ــى ص ــعيد إقام ــة الدول ــة وتمك ــين ال ــدين َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫نص ُر ُر ُس َل َنا َو َّالذ َ‬ ‫ص ُر ْاملُ ْؤمن َين﴾‪﴿ ،‬إ َّنا َل َ‬ ‫ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َّ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ‬
‫ين َآم ُنـوا ِفـي ال َح َيـ ِاة ال ُّـد ْن َيا‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ات فانتقمنا ِمن ال ِذين أجرموا وكان حقا علينا‬ ‫ِبالب ِين ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ََ ْ َ َُ ُ ْ‬
‫وم األشـ َه ُاد﴾ فبـالتزام الحكـم الشـرعي‪ ،‬واجتيـاز اختبـار االبـتالءات واملحـن‪ ،‬والصـبر علـى حمـل الـدعوة‪ ،‬واقتـران‬ ‫ويـوم يقـ‬
‫اإليمـان بالعمـل‪ ،‬والعمـل فـي الجـو اإليمـاني‪ ،‬فاعتمـاد املسـلم علـى وعـد هللا وعـدم قيامـه بالعمـل‪ ،‬هـو عصـيان لل ولــيس‬
‫نصرا له‪.‬‬
‫قال حزب التحرير في نشرة له‪" :‬أما الجانب العقائدي‪ ،‬فإننا نؤمن يقينا أن هللا ناصرنا وهـذا اإليمـان جـزء ال يتجـزأ‬
‫َ َ َ َ ً َ َ ْ َ َ ْ ُْ ْ َ‬ ‫َ ُ ُ َّ َ َ ُ ُ‬
‫صْ ْ ُرامل ْ ْؤ ِم ِنين﴾ إال أن الجان ــب‬ ‫صْ ْ ْرك ْم﴾ وقول ــه‪﴿ :‬وكْ ْان حقْ ْا علين ْ ْا ن‬ ‫م ــن عقي ــدتنا‪ ،‬لقول ــه تع ــالى‪ِ ﴿ :‬إن تنص ْ ْروا ل ين‬
‫العقائدي ليس سوى دافع ذاتي ومعين ال ينضب لشحذ الهمم‪ ،‬وتقوية النفوس‪ ،‬فينـدفع الشـاب فـي العمـل وهـو مـوقن‬
‫أن هللا ناصره ومؤيده‪ ،‬يعمل ضمن قوانين ويربم األسباب باملسببات‪ ،‬غير متواكل على هذا اإليمان ألنه كما آمنا به‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعالى وجب أن نؤمن بأن له قوانين تسيرالحياة‪ .‬فتسيرتبعا لقوانهنه‪ ،‬ووفقا ملا أمرنا به‪.‬‬
‫يا شـباب الحـزب إن ما نعـانيـه أمـران‪:‬‬
‫‪ -‬تقوية الفكرة في نفوسكم والعمل على إيجادها في األمة‪ ،‬بل وبناء األمة على أساسها‪.‬‬
‫‪ -‬تقوية الحزب‪.‬‬
‫أمـا الدولــة فهــي آتيــة ال محالـة‪ ،‬طــال الطريــق أم قصــر‪ .‬وهْْي لهسْْت بهمْْتكم‪ ،‬وال عملكْْم املباشْْر‪ .‬وإن كْْان عملكْْم‬
‫يسهل إيجادها ‪ .‬أما عملكم املباشر فهو مقتصر على إيجاد الفكرة في األمة وتقوية الحزب"‪201‬‬

‫‪ 200‬النصر سببه اإلعداد لبالل فتملي سليم‬


‫‪ 201‬نشرة غير مؤرخة في مجموعة النشرات التكتلية‬
‫‪220‬‬
‫وس ــنة الت ــدافع والق ــذف ب ــالحق دائم ــا عل ــى الباط ــل ليدمغ ــه ف ــإذا ه ــو زاه ــق‪ ،‬فل ــيس ب ــين الح ــق والباط ــل إال الص ـرا ‪،‬‬
‫وغير املسلمين صراعهم مادي بحت وسلطانهم سلطان مادي فـي حـين أن صـرا اإلسـالم معهـم صـرا فكـري أداتـه املـادة‬
‫وسـلطانه ســلطان قــائم علــى الفكــر وهــذا هــو الســبب فـي أن املســلمين ـكـانوا دائمــا يكســبون الحــروب ولــو خســروا العديــد‬
‫من املعارك‪ ،‬وباالستنصار بالل تعالى بعد نصره‪ ،‬واألخذ باألسباب التي بينتها السنن اإللهية للتغيير من خالل سرد عمل‬
‫األنبياء في مجتمعا هم فـي القـرآن الكـريم‪ ،‬ودراسـة تلـك السـنن‪ ،‬وأمـا السـنن التاريخيـة‪ ،‬فألنـه حـين إقامـة أي دولـة‪ ،‬سـواء‬
‫اإلسالمية أو غيرهـا فإنـه ال بـد أيضـا مـن مراعـاة سـنن ونـواميس تغييـر الـدول بتغييـر املفـاهيم واملقـاييس والقناعـات لـدى‬
‫مجمو الناس أوال‪ ،‬ثم أخذ أهل القوة بجانب فكرة التغيير‪،‬‬
‫مثال‪ :‬حمل الدعوة واألعمال الجزئية املتفرعة عنه الخاضعة للسنن التاريخية‪:‬‬
‫املثـال األول‪ :‬ال شــك أن العمــل األسـاس للحــزب هــو حمـل الــدعوة‪ ،‬فهــذا حكـم شــرعي‪ ،‬وجــزء ال يتجـزأ مــن الطريقــة‪،‬‬
‫وباتباعه نكون قد اقتفينا أثر املصطفى ﷺ‪ ،‬وقد تختلف التفاصيل في نوعية األفكار بين زمان وزمان‪ ،‬فبدال من قيامه‬
‫ﷺ بصرا فكري مع عبادة األصنام‪ ،‬نقوم اليوم بصرا فكري مع العلمانية‪ ،‬ولكن ليس هنا املشكلة‪ ،‬فالعمل هو هو‪،‬‬
‫سواء كان دعوة لترك األصنام أم دعوة لترك عبادة البقر‪ ،‬فالعبرة أنه حمل دعوة‪ ،‬لكن األعمال الجزئية التي نقصد هي‬
‫األعمال الالزمة لتحقيق حمل الدعوة بشكل صحيح‪،‬‬
‫" إن ال ــدعوة ه ــي فع ــل إمال ــة وترغي ــب‪ .‬ف ــأن ت ــدعو إنس ــانا إل ــى اإلس ــالم معن ــاه أن ــك تميل ــه إل ــى م ــا ت ــدعوه إلي ــه وترغب ــه‬
‫املبلغ الذي يحمل فكرة مضبوطة ومبلورة في‬ ‫فيه"‪ .202‬وعملية حمل الدعوة فيها طرفان‪ :‬حامل الدعوة‪ ،‬واملحمول إليه‪ِ ،‬‬
‫َّ‬
‫ذهن ــه يري ــد أن يوص ــلها باس ــتعمال تع ــابير معين ــة إل ــى ط ــرف ث ــان ه ــو املبل ـغ إلي ــه‪ ،‬وال ش ــك أن ــه يحم ــل أفك ــارا معين ــة‪ ،‬ول ــه‬
‫مستوى فكري اسمح له بهضم األفكار ونقاشها‪.‬‬
‫وحمل الدعوة تبليغ األفكار لألمة‪ ،‬بل هو إحسان التبليغ ال مجرد التبليـغ‪ ،‬أي فهـم العقليـات املوجـودة فـي املجتمـع‬
‫ومخاطبة كل عقلية باستعمال أو ابتداع األساليب والوسْْائل التْْي تناسْ ها حتـى تتحقـق الغايـة مـن التفاعـل أي إقنـا‬
‫املبلغ ومن ثم أن ُتسلم األمة قياد ها للكتلة‪203‬‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ف ــأول فك ــرة نري ــد طرحه ــا كجزئي ــة م ــن جزئي ــات حم ــل ال ــدعوة ه ــي الف ــرق ب ــين األفك ــار واملعلوم ــات‪ ،‬ألن األفك ــار ت ــؤثر‬
‫وتوصل للقناعات بينما املعلومات كثيرا ما ال تصل للوصول لتغيير القناعات‪ ،‬هذه سنة!‬
‫ولنضرب املثال التالي‪ :‬أحد الشباب يريد أن يبـين أن حكـم اإلسـالم عـادل‪ ،‬فقـام بإعـداد موضـو عـن عـدل عمـر بـن‬
‫الخطـاب وعمـر بـن عبـد العزيـز وجـاء بقصـص مـن تــاريخ الخلفـاء ‪ ...‬هـل تتصـور أن هـذا الشـاب أوصـل فكرتـه؟ الجــواب‪:‬‬

‫‪ 202‬الدعوة إلى اإلسالم‪ ،‬أحمد املحمود‬


‫‪ 203‬مدخل لبحث موضو التبليغ‪ ،‬أبو علي‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫ال‪ .‬إن املستمع بإمكانه أن استدل من التاريخ بأحداث لخلفاء توض أن الظلم والجور كان موجودا (واألمثلة على ذلـك‬
‫عجت بها كتب املستشرقين)‪ ،‬فيهدم بذلك كل ما بناه الشاب‪.‬‬ ‫قد َّ‬
‫إن خطـأ الشــاب نـتج عــن كونــه كـان اعطــي معلومـات عــن عــدل حكـم اإلســالم‪ ،‬ولـم يبلــغ فكــرة "حكـم اإلســالم عــادل"‬
‫ألنه إن أراد ذلك حقا فإنه ينبغي له أن يضع مقياسا لعدالة الحكم ثم يرى هل ينطبق هـذا املقيـاس علـى حكـم اإلسـالم‬
‫أم ال؟‬
‫َّ‬
‫وعلي ــه فالش ــاب إن ل ــم يبل ــور فكرت ــه ف ــي ذهن ــه‪ ،‬فإن ــه ل ــن اس ــتطيع تبليغه ــا كم ــا ه ــي فك ــرة للمبل ـغ إلي ــه‪ ،‬ولكن ــه س ــيردد‬
‫معلومات‪.204‬‬
‫فال بد من ربط املعلومات بالواقع املحسوس أو املحسوس أثره‪ ،‬وإصدار الحكم عليه بناء على عقلية‪ ،‬لذلك فحين‬
‫َّ‬
‫تض ــع املقي ــاس الص ــحيح لعدال ــة الحك ــم فإن ــك واملبل ـغ إلي ــه س ــتجريان الحك ــم بن ــاء عل ــى عقلي ــة تح ــاكم وت ــربط‪ ،‬فت ــؤتي‬
‫العملي ــة التبليغي ــة أكله ــا‪ ،‬ل ــذلك ف ــإن ه ــذا كل ــه م ــن قبي ــل األخ ــذ باألس ــباب ف ــي العملي ــة التبليغي ــة إلنج ــاح حم ــل ال ــدعوة‪،‬‬
‫فحمل الدعوة ليس مجرد عمل آلي نقوم فيه بتجميع املعلومات وسردها!‬
‫َ َّ‬
‫وباملبلغ إليه‪ ،‬ننص بمراجعتها في كتاب‪( :‬مدخل لبحـث موضـو التبليـغ)‬ ‫باملبلغ حامل الدعوة‪،‬‬ ‫وهناك أمور تتعلق ِ‬
‫وهو متوفر بالبحث في الشبكة العنكبوتية‪.‬‬
‫املثال الثالث‪ :‬مسألة الدعاية واإلعالن ال بد فيه من األخذ بأسبابه من مظا ها‪:‬‬
‫لحمل الدعوة أيضا عالقة وطيدة بالدعاية والترويج لألفكار‪ ،‬أي تسويق األفكار‪ ،‬وهناك فـن كامـل حـول التسـويق‬
‫ينبغي أن نغرف منه ونتقن آلياته ووسائله حتى نروج لبضاعتنا الفكرية على أفضل وجه!‬
‫والدعاية هدف إليصال منتج أو فكرة بشكل دعاوي‪ ،‬بشكل مؤثر يدفع النـاس التخـاذ موقـف‪ ،‬مثـل شـراء سـلعة أو‬
‫إعــادة نش ــر في ــديو أث ــر ف ــيهم يوص ــل فكــرة قوي ــة‪ ،‬وم ــا ش ــابه‪( .‬ه ــدفها نش ــر فكــرة وإبرازه ــا وتس ــليط الض ــوء عليه ــا‪ ،‬ودع ــم‬
‫حملـة باألفكــار واألســاليب اإلعالميـة الالفتــة للنظــر مــن أجـل التــرويج لنشــاط أو عمــل أو إصـدار للحــزب ‪...‬إلــخ) فالهــدف‬ ‫ْ‬
‫م ــن الدعاي ــة‪ :‬نش ــر أفك ــار معين ــة‪ ،‬بغي ــة بن ــاء رأي ع ــام حوله ــا‪ ،‬واله ــدف م ــن اإلع ــالن‪ :‬الت ــرويج للنش ــاطات‪ ،‬اإلع ــالن ع ــن‬
‫م ــؤتمر‪ ،‬أو ع ــن نش ــاط‪ ،‬أو الت ــرويج ودع ــوة للحض ــور‪ ،‬وم ــا ش ــابه‪ ،‬فكم ــا ت ــرى م ــن جزئي ــات حم ــل ال ــدعوة والتفاع ــل م ــع‬
‫املجتمــع نــرى الدعايــة واإلعــالن! وهمــا فن ْان عامليْْان لهمــا أســبابهما وتقنيا همــا التــي ينبغْْي األخ ْْذ به ْْا للنجْْاح فــي إيصــال‬
‫حمل الدعوة وإحسان التبليغ!‬
‫فيقت ـ ي العم ــل إذن التنفيــذ م ــن خ ــالل فري ْْق للتخط ْْيم االس ْْتراتي ي‪ ،‬ومهمتــه وض ــع الخط ــط لألفكــار التــي ي ـراد‬
‫الدعاية لها‪ ،‬أو اإلعالن عنها‪ ،‬ووضـع التصـورات لألفكـار حتـى يكـون العمـل اإلعالمـي بنـاء علـى تخطـيط اسـتراتي ي ال بنـاء‬
‫علـى ارتجـال‪ ،‬ومْْن خْْالل فريْْق لإلبْْداع والتصْْميم‪ ،‬لتصــميم املـواد التـي يـراد نشــرها بـأعلى تقنيـة‪ ،‬وفريْْق للتعامْْل مْْع‬

‫‪ 204‬مدخل لبحث موضو التبليغ‪ ،‬أبو علي‬


‫‪222‬‬
‫وسْ ْْائل االتصْ ْْال االجتمْ ْْاعي ‪ Social Media‬دراس ــة وفهم ــا‪ ،‬ل ــه مس ــئولية وض ــع اس ــتراتيجيات التعام ــل م ــع مواق ــع‬
‫التواص ــل االجتم ــاعي‪ ،‬ووض ــع ط ــرق التواص ــل ب ــين تل ــك املواق ــع وب ــين الح ــزب‪ ،‬وإع ــداد مق ــاييس تق ــيس النج ــاح والفش ــل‬
‫ومعدالت التواصل‪ ،‬ودراسة األفكار الجديدة في الترويج والنشر‪ ،‬ودراسة املواقع التي ينبغي تقصدها للحدث‪ ،‬فأحداث‬
‫س ــوريا عل ــى س ــبيل املثـ ــال تس ــتدعي معرف ــة بـ ــاملواقع الت ــي يتقص ــدها أهلهـ ــا‪ ،‬وهك ــذا‪ ،‬وم ــن ثـ ــم فري ْ ْْق النش ْ ْْر‪Product :‬‬
‫‪ Placement‬مس ــئوليته نش ــر امل ــواد الت ــي يص ــممها فري ــق اإلب ــدا ‪ ،‬وفريْ ْْق التواصْ ْْل مْ ْْع اإلعْ ْْالم واملواق ــع اإلعالمي ــة‪،‬‬
‫واإلعالميين‪ ،‬والخطباء ‪ ...‬الخ ومتابعة االتصال الملي‪ ،‬وهكذا نأخذ بأسباب صناعة املادة وترويجها وإيصالها بحرفية!‬
‫ه ــذا‪ ،‬وينبغــي الق ــول ب ــأن الح ــزب يق ــوم بأعم ــال الدعاي ــة واإلع ــالن الس ــابق ذكره ــا عل ــى ق ــدم وس ــاق‪ ،‬ويكف ــي متابع ــة‬
‫مواقعه الرسمية واإلعالمية إلدراك حجم الجهود التي تبذل لتوصيل الدعوة‪.‬‬
‫تقنيات الدعاية واإلعالم‪ ،‬سبعة أمثلة‪:‬‬
‫وهناك تقنيات للدعاية واإلعالم ينبغي اإلملام بها‪ ،‬مثالها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬تقنيْْة الحقْْائق واألرقْْام‪ ،‬إذ تلعـب مســألة الحقــائق واألرقــام دورا مهمـا فــي أســاس املـادة الدعائيــة‪ ،‬فمــثال‪ :‬حــين‬
‫تنش ــر تقري ـرا يق ــول إن أمريك ــا تطل ــب ميزاني ــة ‪ 500‬ملي ــار دوالر م ــن هيئا ه ــا التش ــريعية ملحارب ــة تنظ ــيم داع ــش‪ ،‬وداع ــش‬
‫عب ــارة ع ــن ‪ 20‬أل ــف مقات ــل‪ ،‬مم ــا اعن ــي تخص ــيص ‪ 25‬ملي ــون دوالر لك ــل داعش ـ ي‪ ،‬وح ــين تق ــول أمريك ــا عل ــى لس ــان وزي ــر‬
‫الخارجيـة السـعودي بأنهـا تتوقــع حربـا تمتـد عشـر ســنوات‪ ،‬فـإن هـذا كلـه اعنــي أنهـا غيـر جـادة فــي حـرب داعـش جـديتها فــي‬
‫حرب طويلة على اإلسالم السياس ي وعلى املنطقة مخافة خروجها من يدها!‬
‫وم ــن الحق ــائق التــي ق ــد نتط ــرق له ــا م ــثال‪( :‬حق ــائق ع ــن الخالف ــة‪ ،‬الخلف ــاء‪ ،‬تطبي ــق الش ــريعة‪ ،‬أس ــباب وج ــوب تطبي ــق‬
‫الشريعة‪ )... ،‬فهذه حقائق ينبغي صياغتها والترويج لها بشكل مثمر‪ ،‬مثال‪ :‬لو جئنا لنقدم إعالما عن الخالفة فقد نقدم‬
‫كتيــب الخالفــة‪ ،‬ولكــن حــين نقــوم بالدعايــة لفكــرة أن الخالفــة حقيقــة شــرعية‪ ،‬نقــدم مــادة مصــورة مثــل "ملصــق" عليــه‬
‫صب إمام وخليفة ُا ْس َمع له ويطا ؛ لتجتمع به الكلمة‪ ،‬وتنفذ به أحكام الخليفة‪ .‬وال‬ ‫قال القرطبي‪" :‬هذه اآلية أصل في َن ْ‬
‫صـ َّم‪ ،‬وكـذلك كـل مـن قـال‬ ‫األصم حيث كان عن الشريعة أ َ‬ ‫خالف في وجوب ذلك بين األمة وال بين األئمة إال ما ُروي عن َ‬
‫بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه"‪.‬‬
‫ثم نسأل‪ :‬هل تختار أن تكون عن الشريعة أصما فتخرج عن إجما األمة واألئمة؟‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َّ َ َّ َ ُ ْ ُ‬
‫ّللا أ ْوِل َيـ َاء ك َمثْ ِل‬
‫أو مثال‪ :‬نختار في "ملصق" عن حرمة االستعانة بالكفار‪ ،‬فنأتي بآية‪﴿ :‬مث ُل ال ِذين اتخذوا ِمن دو ِن ِ‬
‫َ َ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ْ ً َ َّ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ َ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫ْ َْ َ‬
‫وت لـ ْو كـ ُانوا َا ْعل ُمـون﴾‪ ،‬ونــأتي بحقــائق عــن العنكبــوت‪ :‬ال ــذكر‬‫وت لبيـت العنكبـ ِ‬ ‫وت اتخ ْذت بهت ْْا و ِإن أوهـن البيـ ِ‬‫العنك ُب ْ ِ‬
‫يقــدم لألنثــى فريســة حــين يقربهــا ـكـي ال تقتلــه‪ ،‬واألنثــى تبقـي علــى صــغارها فتــرة قصــيرة فــإن طالــت قتلــتهم‪ ،‬فــأي بيــت هــذا‬
‫َ‬
‫الذي تفترس فيه األم زوجها وأوالدها؟ هذا َمث ُل من اسـتعين بأمريكـا بـدال مـن أن اسـتعين بـالل‪ ،‬فـإن أمريكـا لـن تتصـرف‬
‫إال كــأنثى العنكب ــوت‪ :‬ستفترس ــه ول ــن تلتق ــي مع ــه ف ــي مص ــال مش ــتركة‪ ،‬فه ــل تخت ــار أن تتخ ــذ هللا ولي ــا أم أن تتخ ــذ أمريك ــا‬
‫معينا‪ ،‬أنثى عنكبوت؟‬
‫‪223‬‬
‫ثانيــا‪ :‬تقنيْْة الدعايْْة املضْْادة لألفكْْار بشــكل مركــز وبقالــب دعــاوي‪ ،‬فــي ضــمن قســم املفــاهيم واألفكــار‪( ،‬ربــط فكــرة‬
‫الخالفــة بفكــرة تطبيــق الشــريعة‪ ،‬فــإن أغلــب النــاس ال تتصــور تعارضــا مــع فكــرة تطبيــق الشــريعة‪ ،‬لكــنهم ال يفهمــون أن‬
‫الخالف ــة ه ْْي ه ْْي تطبي ــق الش ــريعة‪ ،‬ف ــإن كس ــرت ه ــذا الح ــاجز انض ــموا ل ــك) وم ــثال‪ :‬أمريك ــا ت ــروج للديمقراطي ــة عل ــى أنه ــا‬
‫صــناديق اقتـرا ‪ ،‬ثــم حــين ثــار الجـيش علــى مرسـ ي فــي مصــر‪ُ ،‬نبــرز قــول الــرئيس األمريكــي أوبامــا وقــول أحــد ساســة أمريكــا‬
‫الكبار بأن الديمقراطية ليست فقط صناديق اقترا ‪ ،‬نأتي بفيديو فيه القول ونقيضه‪ ،‬ثم نأتي بصورة املالكي‪ ،‬وصورة‬
‫ك ــرزاي وهك ــذا‪ ،‬ونق ــول‪ :‬ه ــذا وص ــل عب ــر ص ــناديق اقت ـرا ‪ ،‬وه ــذا ‪ ...‬ث ــم نس ــأل ه ــل غي ــرت الديمقراطي ــة واق ــع املس ــلمين أم‬
‫زاد هم تبعية ألمريكا؟ وهكذا ننسف فكـرة الديمقراطيـة وفكـرة أنهـا صـناديق اقتـرا ‪ ،‬أو نقـول‪ :‬إن مثـل أمريكـا كمثـل مـن‬
‫عبد صنما من التمر ثم ملا جا أكله!‬
‫ثالثا‪ :‬تقنية األسباب واملسببات (أسباب تـأخر األمـة‪ ،‬أثـر هـذا التـأخر علـى واقـع األمـة‪... ،‬الـخ)‪ ،‬هـذه الحقـائق تـربط‬
‫بواقع األمة لتفهم الربط بين املشكلة وبين الحل فتنقاد للحل!‬
‫رابعا‪ :‬تقنية اعرف عدوك (الرأسمالية على السفود‪ ،‬العلمانية‪ ،‬الليبرالية ‪ )...‬فإن كثيرا من األفكار إن بلورت سهل‬
‫هدمها في نفوس الناس‪ ،‬ولكن معرفتهم بحقائقها الدقيقة ضعيف لذا ال يتصورون خطرها!‬
‫خامسا‪ :‬تقنية إبراز مشاكل ومصائب األمة الناتجة عن غياب اإلسالم‪ ،‬مثل فقراء األمـة وأطفالهـا (مـن لهـم‪ ،‬مآسـ ي‬
‫العالم اإلسالمي‪ ،‬وكيف يكون الحل العملي من خالل اإلسالم)‬
‫سادس ــا‪ :‬تقني ْْة االس ْْتعانة ب ْأقوال ع ْْن الخالف ْْة‪ ،‬أق ــوال ع ــن اللغ ــة العربي ــة‪ ،‬أق ــوال ع ــن الحض ــارة ‪ ...‬ال ــخ‪ ،‬فالن ــاس‬
‫عادة تصغي ألقوال الفالسفة‪ ،‬واملفكرين‪ ،‬واإلعالميين‪ ،‬والعلماء‪ ،‬وأمثالهم‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬تقنية كيف تقدم الخالفة الحلول ملشاكل الناس بشكل عملي‪.‬‬
‫فهذه سبعة أمثلة على تقنيات الترويج والدعاية أخذناها من مواقع عاملية تعنى بتقنيـات الدعايـة وأسـقطناها علـى‬
‫واقع العمل الذي نقوم به!‬
‫من تقنيات إيجاد الرأي العام‪ :‬الدندنة‪ ،‬أمثلة عليها‪:‬‬
‫م ــن تقني ــات إيج ــاد ال ـرأي الع ــام تقني ــة االس ــتفتاءات‪ ،‬وه ــي تقني ــة مهم ــة‪ ،‬ولكنن ــا س ــنعرض تقني ــة أخ ــرى وه ــي تقني ــة‬
‫الدندنة أو "الوكزات"‪ ،‬لنستعرضها‪:‬‬
‫الفكرة العامة هي الوصول لل "وكزات" التي تستطيع إحداث التغيير في مسألة معينة يراد الدعاية لها‪.‬‬
‫مثال‪:‬‬

‫‪224‬‬
‫محمد علي كالي وجورج فورمان في زائير‬
‫فــي العــام ‪ 1971‬خس ــر املالكــم محمــد عل ــي لقــب بط ــل العــالم للــوزن الثقي ــل فــي املالكم ــة لصــال جــو فري ــزر‪ ،‬فــي لق ــاء‬
‫سماه الكثيرون‪ :‬لقاء القرن‪ ،‬استمر خمس عشرة جولة‪ ،‬وفي العام ‪ 1973‬التقى محمد علي بمالكم اسمه كين نورتون‪،‬‬
‫فقــام ك ــين بكس ــر حن ــك محمــد عل ــي ف ــي الجول ــة الثاني ــة عشــرة‪ ،‬ث ــم التق ــى ج ــورج فورم ــان بجــو فري ــزر ‪-‬الرج ــل ال ــذي انت ــز‬
‫اللقـب مــن محمــد علـي‪ -‬قــام آلــة املالكمــة املتحركـة الضــخمة جــورج فورمـان بطــرح جــو فريــزر سـت مـرات قبــل أن يوقفــه‬
‫الحكــم عــن اســتمرار اللقــاء خشــية علــى حيــاة جــو فريــزر‪ ،‬ـكـان هــذا فــي الجولــة الثانيــة‪ ،‬ثــم التقــى جــورج فورمــان بالرجــل‬
‫الــذي كس ــر حنــك محم ــد عل ــي‪ ،‬وقــام ج ــورج بطرحــه أرض ــا ث ــالث مـرات قب ــل أن يتــدخل الحك ــم لوق ــف املبــاراة ف ــي الجول ــة‬
‫الثانية أيضا!‬
‫وحـين تـم اإلعــالن عـن اللقــاء التـاريخي بــين محمـد علــي وجـورج فورمــان فـي زائيــر بأفريقيـا‪ ،‬وقــف العـالم كلــه علـى ســاق‬
‫واحدة يترقب املصير الذي ينتظر محمد علـي‪ ،‬توقـع الغالبيـة أن ُيمنـى محمـد علـي بهزيمـة سـاحقة‪ ،‬لكـن الحـال فـي غرفـة‬
‫غيار املالبس التي ينزل فيها محمد علي كان على حـال آخـر‪ ،‬كـان الوجـوم اسـود الغرفـة‪ ،‬فالطـاقم املرافـق لـه كـان يخشـ ى‬
‫على حياة محمد علي نفسه!‬
‫ال ش ــك أن خص ــمه ذو ب ــأس ش ــديد! ف ــي الجول ــة األول ــى‪ ،‬تب ــادل عل ــي وج ــورج اللكم ــات‪ ،‬لك ــن ل ــم يم ــض وق ــت طوي ــل ف ــي‬
‫الجولة األولى‪ ،‬حتى م ى فورمان بتسديد اللكمات القاسية في كل موضع من جسم علي‪ ،‬بتلك الضربات املوجعة‪ ،‬فما‬
‫كان من علي إال أن دافع عن نفسه باتقاء تلك اللكمات‪ ،‬و عد ثالث دقائق دقت ساعة انتهاء الجولة األولى!‬
‫عاد علي لزاويته‪ ،‬لكنه لم يجلس‪ ،‬بل لقد أخذ ينظر إلى خصمه نظرات مسددة‪ ،‬لقد كان موضع الضربات القوية‬
‫بل فـي جسـد علـي شـديد األلـم‪ ،‬لكنـه أخـذ يرمـق خصـمه‪ ،‬لقـد غيـر تقنيـات القتـال التـي‬ ‫التي سحقت فريزر ونورتون من َق ُ‬
‫بدأ بها‪ ،‬وأعد خطة!‬
‫مع بداية الجولة الثانية‪ ،‬اتكأ محمـد علـي علـى الحبـال‪ ،‬وتـرك خصـمه اسـدد لـه الضـربات‪ ،‬وتركـه يفعـل ذلـك جولـة‬
‫إثــر جولــة‪ ،‬لكــن النــاس الحظــوا أن محمــد علــي يفعــل شــيئا آخــر إلــى جانــب تلقــي تلــك الضــربات مــن تلــك اليــد األســطورة!‬
‫كان علي َهمس في أذن خصمه! كان يقاتل خصمه بالهمس بدال من رد الضربات بمثلها‪،‬‬
‫لقــد ـكـان اســأله ســؤاال واحــدا طــوال الجــوالت كلهــا‪ :‬ملــاذا تســدد ضــرباتك بيــدك اليمنــى فقــط؟ ال شــك أنــك ضــعيف‬
‫اليد اليسرى! هل هذا هو كل ما تستطيعه؟ ظننتك تستطيع الضرب بشكل أقوى!‬
‫بعد جوالت من الهمس‪ ،‬وبال شعور‪ ،‬قام فورمان بتغيير يده التي يضرب بها‪ ،‬وبدأ يضرب عليا بيده اليسرى! وأخذه‬
‫اإلعياء من كثرة جهوده لتسديد ضربات أقوى‪.‬‬
‫لق ــد كــان الش ــق األاس ــر م ــن جس ــم عل ــي ق ــد ب ـدأ بالخ ــدران نتيج ــة الض ــربات الش ــديدة م ــن يمن ــى فورم ــان القوي ــة‪،‬‬
‫فاسـتغل علــي الوقــت الــذي أخــذ فيــه فورمــان يضــرب باليســار شــقه األيمــن ليســترد عافيــة جزئــه األاســر‪ ،‬و ـكـان فورمــان‬

‫‪225‬‬
‫اشعر بالتعب من شدة ما ضرب عليا‪ ،‬وفي الجولة الثامنة‪ ،‬استغل محمد علي فرصة سانحة فقذف باألسطورة جـورج‬
‫فورمان إلى األرض‪ ،‬لم َهزم محمد علي خصمه بضرباته‪ ،‬بل هزمه بعقله‪ ،‬لقد هزمه بتقنية الهمس!‬
‫تلـك الهمســات أقنعــت فورمـان بــأن اغيــر تقنيتــه‪ ،‬فهـذا التغييــر الصــغير أعـاد للبطــل محمــد علــي لقبـه الــذي ـكـان قــد‬
‫خسره!‬
‫ثم بدأ العالم استعمل تقنية الهمس والدندنة ليغير وجهات النظر‪ ،‬ويستغل قدرة الهمس على إحداث التغيير!‬
‫هـذه التقنيـة نســميها‪ :‬الـوكزات‪ ،‬فقــد اسـتطا محمــد علـي أن يضــع يـده علــى الـوكزة التــي مـن خاللهــا اسـتطيع تــدمير‬
‫خصمه‪،‬‬
‫فالوكزة التي استعملها علي هي تكرار الهمس بْْنفس الفكْْرة‪ ،‬أو كمـا قـال عليـه صـالة هللا وسـالمه‪« :‬ندنـدن حـول ال‬
‫إله إال هللا ‪ ،‬فكثرة الدندنة حول الفكرة تزرعها في األذهان‪.‬‬
‫إذن فتقنية الدعاية عبرالدندنة توصل للتأثيرعلى السلوك ودفع اإلنسان للقيام بعمل ما أو حمل فكرة ما‪.‬‬
‫ل ــذلك تج ــد االرتب ــاط الوثي ــق ب ــين فك ــرة الخالف ــة وب ــين ح ــزب التحري ــر‪ ،‬ف ــالحزب م ــن كث ــرة م ــا دن ــدن ح ــول الفك ــرة‪،‬‬
‫استطا بحمد هللا تعالى أن يجعلها رأيـا عامـا فـي األمـة‪ ،‬قامـت بعـض دراسـات اسـتقراء الـرأي العـام مـن مؤسسـات عاليـة‬
‫املهنيــة بقياس ــه ب‪ %79‬م ــن مش ــرق األم ــة ملغربهــا‪ ،‬واس ــتطا أن اعي ــد للكلم ــة بريقه ــا فــي أذه ــان األم ــة‪ ،‬والفض ــل لل تع ــالى‬
‫وللمخلصين من حملة الدعوة إلى تطبيق الشريعة أيضا!‬
‫وعلى الشباب أن ينت هوا ألهمية الدندنة في صناعة الرأي العام وفي الدعاية لألفكار!‬
‫املثْْال الثْْاني‪ :‬الحكومـة البريطانيــة طلبــت مـن النــاس القيــام بعــزل "ال ِعل َّيـة" فــي منــازلهم لتـوفير الطاقــة‪ ،‬فهــي مصــدر‬
‫تسريب حراري وتسبب للناس برودة في بيو هم وبالتالي يتطلب منهم تدفئة البيوت باسـتهالك طاقـة أكبـر‪ ،‬فترتفـع فـاتورة‬
‫الطاقة لدَهم شهريا‪ ،‬وقدمت بريطانيا األسباب واألرقام والحقائق للناس ولم يبادر إال قلة قليلة لعزل العليات حراريا‪،‬‬
‫درســت بريطانيــا الســبب فــي تعنــت النــاس؟ فوجــدت أن الحائــل بيــنهم وبــين قبــول الفكــرة هــو مســألة أنهــم ال يريــدون‬
‫تنظيف هذه العليات‪ ،‬فقامت بالتعاقد مع شركة لتوفير خدمة تنظيف العليات وعزلها‪ ،‬فكان اإلقبال كبيرا‪،‬‬
‫إذن فقد وجدت بريطانيا‪ :‬الوكزة التي دفعت الناس العتناق فكرة والعمل بمقتضاها‪ ،‬رغم أن هْْذه الفكْْرة كانْْت‬
‫بحد ذاتها تمتلك أسباب نجاحها‪ ،‬لكن املعوقات منعت من التلبس بالعمل بها‪،‬‬
‫باملثْْل علين ْْا ف ْْي الح ْْزب أن نقْْوم بدراس ْْة األس ْْباب الت ْْي تحْْول ب ْْين بع ْْم الن ْْاس وبْْين اس ْْتقبال فك ْْرة الخالف ْْة‬
‫مثال‪ ،‬ومن ثم تصميم الدعاية بشكل يركزعلى حل هذه اإلشكاليات تركيزنا على الفكرة نفسها‪،‬‬
‫املثْْال الثالْْث‪" :‬ســوبرماركت" يريـد زيــادة مبيعـات قســم الخضـروات‪ ،‬قــام بوضـع رســالة علـى عربــة املشـتريات يطلــب‬
‫فيها من الزبائن التلطف بترتيـب العربـة بحيـث توضـع الخضـروات علـى جهـة وبـا ي املشـتريات علـى جهـة ثانيـة‪ ،‬فحـين يـرى‬
‫املس ــتهلك أن ــه ال يرك ــز ف ــي مش ــترياته عل ــى الخض ــروات لقلته ــا ف ــي العرب ــة‪ ،‬فإن ــه سيس ــتدعي مف ــاهيم األعم ــاق ع ــن الص ــحة‬
‫وفوائد الخضروات‪ ،‬وسيقوم بشراء الكثير منها‪ ،‬الفكرة نجحت فزادت مشتريات الناس من الخضروات‪ ،‬فكانت الوكزة‬

‫‪226‬‬
‫النا حة لدفع الناس لسلوك معين هي فصل املشتريات على جهتـين‪ ،‬ممـا يجعـل املشـتري يبصـر بعينـه قلـة الخضـروات‬
‫التي اشترَها!‬
‫باملثـل نسـتطيع االســتفادة دعائيــا مــن هـذه الفكــرة‪ ،‬فمــثال نقــول‪ :‬كــل يــوم تبيـع األمــة اإلســالمية ثالثــين مليــون برميــل‬
‫من النفط بسعر كـان ينبغـي أن يكـون مائـة دوالر للبرميـل‪ ،‬ممـا اعنـي ثالثـة مليـارات دوالر يوميـا‪ ،‬فلـو كانـت هـذه املليـارات‬
‫الــثالث بيــد مخلصــة فإنهــا تســتطيع إنشــاء مصــنع ضــخم يوظــف عشــرة آالف عامــل كــل يــوم‪ ،‬ويســتطيع أن يطعــم ســتين‬
‫مليــون شــخص كــل ي ــوم‪ ،‬ويســتطيع أن يبنــي ثالثمائ ــة ألــف بيــت يوميــا وَه ه ــا للنــاس‪ ... ،‬الــخ‪ ،‬ولك ــن بــدال مــن أن تس ــتفيد‬
‫األمة من خيرا ها‪ ،‬فإن حكامها يضعون هذه األموال في يد أمريكا لتقيم اقتصادها‪ ،‬وهناك كذا تريليون دوالر من أموال‬
‫الخلــيج فــي االقتصــاد األمريكــي ‪ ...‬الــخ‪ ،‬ثــم نقــول‪ :‬إلــى متــى تصــمت األمــة علــى تبديــد ســفهائها ألموالهــا؟ إلــى متــى يــنعم العــدو‬
‫بأموالنا وفي األمة كذا مليون فقير ‪ ...‬الخ ألم يان األوان لتعمل األمة لوضع األمانة بيد مخلصة؟‬
‫أفكار كثيرة استطيع حملة الدعوة إبداعها لتصل رسائل مهمة لألمة حول قضايا مختلفة‪.‬‬
‫املثال الرابع‪:‬‬
‫تقوم األحزاب السياسية بالدعاية االنتخابية‪ ،‬وقد جربت تلك األحزاب فكرة أن تعمـل علـى الفئـة مـن املجتمـع التـي‬
‫اسمونها‪ :‬تلك التي لم تحسم قرارها‪ ،‬هل تصوت لهذا الحزب أو لذلك؟‬
‫ث ــم إنه ــم ع ــدلوا ع ــن ب ــذل الجه ــود م ــع ه ــذه الفئ ــة ورك ــزوا عل ــى تحري ــك قواع ــدهم االنتخابي ــة‪ ،‬ف ــالحزب اعل ــم م ــثال أن‬
‫هنــاك مليــون ناخ ــب عــادة يص ــوت لهــم ف ــي مدينــة ك ــذا‪ ،‬فــأرادوا تحريــك ه ــؤالء املليــون وقس ــموهم ألر ــع أقس ــام كــل قس ــم‬
‫‪ %25‬من املليون‪،‬‬
‫ورأوا دراســة أر ــع وس ــائل إليص ــال الرس ــالة التــي تح ــض الناخــب عل ــى التص ــويت له ــم‪ ،‬فكان ــت الوس ــيلة األول ــى توكي ــل‬
‫فريق يتصل بالهاتف بأرقام هواتـف النـاس لحضـهم علـى الخـروج لالنتخـاب وحضـهم علـى التصـويت للحـزب‪ ،‬والوسـيلة‬
‫الثانية تمثلت في إرسال بطاقة بريدية لعنوان الشخص عليها رسـالة سـريعة قويـة تقـول لـه‪ :‬نشـكرك علـى التصـويت لنـا‬
‫فـ ــي االنتخابـ ــات املاضـ ــية‪ ،‬ونأمـ ـل أن نرسـ ــل لـ ــك رسـ ــالة مماثلـ ــة بعـ ــد أر ـ ــع سـ ــنوات لشـ ــكرك علـ ــى التصـ ــويت لنـ ــا فـ ــي هـ ــذه‬
‫االنتخابات‪ ،‬والوسيلة الثالثة‪ :‬الطرق على أبواب الناس من خالل متطوعين للحمالت االنتخابية والحـديث مـع النـاس‪،‬‬
‫والوسيلة الرابعة‪ :‬لم يتصل بهم الحزب‪.‬‬
‫كل قسم من هؤالء عبارة عن ‪ %25‬من القاعدة االنتخابية لهذا الحزب‪.‬‬
‫بعــد دراســة املصــوتين رأوا أن وســيلة االتصــال بالهــاتف لــم تــأت بنتيجــة ذات بــال‪ ،‬وأن البطاقــة البريديــة واالتصــال‬
‫املباشر الملي أتيا بنتائج باهرة‪.‬‬
‫وفـي منطقــة ثانيــة اســتعملوا وســيلة إرســال رســالة عــار عليـك! فقــد أحصــوا أولئــك الــذين لــم يصــوتوا فــي االنتخابــات‬
‫املاضــية‪ ،‬وأرس ــلوا له ــم ب ــأن ج ــارك ق ــام بالتص ــويت أو نس ــبة ك ــذا ف ــي حي ــك قام ــت بالتص ــويت فا ج ــل م ــن نفس ــك ب ــأن ال‬
‫تشارك في الحياة السياسية‪ ،‬هذه الرسالة زادت نسبة التصويت ‪ 20‬باملائة‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫الشــاهد م ــن ه ــذا املث ــال‪ ،‬هــو أن هن ــاك وس ــائل ف ــي تغيي ــر الـرأي الع ــام ق ــد تف ــرا فيهــا جه ــود كثي ــرة وال تف ـ ي لنتيج ــة‪،‬‬
‫وهن ــاك وس ــائل أخ ــرى ت ــأتي بالنتيج ــة‪ ،‬ل ــذلك حم ــالت مث ــل حمل ــة ﴿وم ــن أع ــرض ع ــن ذك ــري﴾ تمثل ــت ف ــي مخاطب ــة الن ــاس‬
‫مباش ــرة ف ــي أس ــواقهم وبي ــو هم حمل ــة ممت ــازة لتغيي ــر ال ـرأي الع ــام‪ ،‬ومس ــألة إرس ــال رس ــائل للص ــحفيين عل ــى س ــبيل املث ــال‬
‫بش ــكل دوري فيه ــا تحل ــيالت أو فيهـ ــا رأي‪ ،‬أو فيه ــا دع ــم لجـ ـرأة الص ــحفي ف ــي الكشـ ــف ع ــن حقيق ــة‪ ،‬كـ ــل ه ــذا يق ــرب هـ ــذا‬
‫الصحفي منا أو يؤثر في أفكاره فتجد صدى أفكارنا في كالمـه‪ ،‬وهكذا يجب أن نبحث عْْن الْْوكزة التْْي توصْْل إلحْْداض‬
‫التغيير‪ ،‬وأن نمتلك وسيلة لقياس النجاح والفشل‪ ،‬فمثال عندنا لنقل مائة موقع لحزب التحرير على الشـبكة‪ ،‬ال بـد‬
‫من دراسة تفاعل الناس مع هذه املواقع‪ ،‬وكيفية الدعاية لها‪ ،‬حتى اغشاها الناس‪ ،‬فال تكون كجهد من اتصلوا بالناس‬
‫بالهاتف ولم يحصل أي تغيير في قناعات الناس‪ ،‬ال بد من البحث عن وسيلة الدعاية للمواقع ليغشاها الناس‪.‬‬
‫املثال الخامس‪ :‬في الهند في فترة الركود االقتصادي ركدت حركة استئجار غرف الفنادق الفخمة‪ ،‬وكسـد سـوقها‪،‬‬
‫فقــام أح ــد تل ــك الفن ــادق بالدعاي ــة لنفســه ب ــأن س ــاعات اس ــتقبال الزب ــائن للغ ــرف لــيس الثالث ــة عص ـرا‪ ،‬ب ــل م ــن الحادي ــة‬
‫عشرة صباحا‪ ،‬ويمكنك الخروج من الغرفة ليس في الحادية عشرة من اليوم التالي‪ ،‬بل من الثانيـة عصـرا‪ ،‬ودعايـة بأنـه‬
‫سيستقبلك في املطار ويوصلك للفندق بسيارة فاخرة مجانا ‪ ...‬الخ فهذه الوكزة زادت حركة الزبائن بشكل كبير‪،‬‬
‫الش ــاهد م ــن ه ــذه التقني ــة أنن ــا ح ــين ن ــروج لفك ــرة الخالف ــة م ــثال‪ ،‬فأحيان ــا نحت ــاج ل ــذكر أدلته ــا ومش ــروعيتها‪ ،‬وأحيان ــا‬
‫أخرى قد ال نعمد إلى ذكر أدلتها‪ ،‬ومشروعيتها في مقدمة الحملة الدعائية‪ ،‬بل نركز على قدر ها على حل مشاكل الناس‪،‬‬
‫ولكن حتى ال يختلط على الناس أن الخالفة تطلب لحل مشاكلهم بمعزل عن فرضيتها‪ ،‬نخلط في نهاية الحملـة بـين هـذا‬
‫وه ــذا‪ ،‬فنق ــول‪ :‬إذن فالخالف ــة ه ــي التــي ستق ـ ي عل ــى مش ــكلة الفق ــر‪ ،‬كي ــف ال وه ــي ف ــرض رب الع ــاملين وعلين ــا أن نق ــيم‬
‫الفرض ألنه سيعزنا في الدنيا واألخرة وألن! ﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى﴾‬
‫املثْْال السْْادس‪ :‬فـي كاليفورنيـا كـانوا يريـدون توجيــه رسـالة ملسـتهلكي الطاقـة حتـى يخففـوا اسـتهالكهم‪ ،‬فأرسـلوا لهــم‬
‫فـاتورة تحـوي أرقـام اسـتهالكهم مقارنـة باملتوسـط‪ ،‬ليـرى النـاس أن اسـتهالكهم للطاقـة عـال فيحـدوا منـه‪ ،‬ولكـن النتيجـة‬
‫أن الــذين اســتهلكون أكثــر مــن املعــدل خفضــوا اســتهالكهم‪ ،‬والــذين اســتهلكون أقــل مــن املعــدل زادوا اســتهالكهم‪ ،‬فغيــرت‬
‫الحكومــة اســتراتيجيتها‪ ،‬بــأن أرســلت األرقــام ومعهــا صــورة وجــه تعبي ــري فمــن ـكـان اســتهالكه أكثــر مــن املعــدل ـكـان الوج ــه‬
‫عابسا واآلخر ضاحكا وقد نجحت الوكزة‪.‬‬
‫الشــاهد م ــن ه ــذه التقني ــة‪ ،‬أن نخاط ــب الن ــاس عل ــى ق ــدر عقوله ــا‪ ،‬وننتق ْْي م ْْن الرس ْْائل م ْا ي ْْؤدي النتيج ْْة‪ ،‬فم ــثال‬
‫يمك ــن أن نق ــرن ب ــين كلم ــة خالف ــة وب ــين كلم ــة تطبي ــق ش ــر هللا‪ ،‬حتــى ي ــزول م ــن ذه ــن م ــن اس ــتهين بفك ــرة الخالف ــة ويظنه ــا‬
‫مسألة فرعية في الدين هذه الغشاوة‪ ،‬ويفهم أن تطبيق شر هللا أمر مهم ومحوري‪.‬‬
‫املثال األخير‪ :‬االستهزاء باملبْْادا األخْْرى‪ :‬قامـت شـركة "أبـل" بمجموعـة دعايـات تـأتي بـرجلين أحـدهما شـاب رشـيق‬
‫القوام‪ ،‬يمثل كمبيوتر "األبل" واآلخر ممتلئ‪ ،‬يمثل كمبيوتر "البي س ي" العادي‪ ،‬أي الكمبيوتر الذي أساسه "الوندوز"‪،‬‬

‫‪228‬‬
‫وفــي كــل دعاي ــة مــن ال ــدعايات ال‪ 66‬يك ــز الش ــاب الرشــيق خص ــمه ب ــوكزة تظهــر عيب ــا ف ــي املن ــتج الــذي يمثل ــه‪ ،‬ارتف ــع س ــهم‬
‫"األبل" نتيجة لذلك ‪ 140‬باملائة وبالكاد تحرك سهم "امليكروسوفت"‪،‬‬
‫الش ــاهد م ــن ه ــذا‪ ،‬أن التـ ــرويج لفظ ــاوع الرأس ــمالية باألرقـ ــام‪ ،‬واس ــتعمالها ألس ــلحة الـ ــدمار الش ــامل م ــثال‪ ،‬أو تركـ ــز‬
‫الثروات بيد قلتها ‪ ...‬الخ والقيام بمجموعة متتالية من الدعايات املضادة للعلمانية أو الرأسـمالية عبـر حلقـات كـل منهـا‬
‫دقيقتين‪ ،‬يوصل لنتيجة إن شاء هللا‪.‬‬
‫كذلك هنا يمكن الوصول لبعض التقنيات األخرى‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫بعـد هــذا التطــواف‪ ،‬أســأل هللا العظــيم رب العــرش العظــيم أن يكـون أجــرى الحــق علــى ألســنتنا‪ ،‬وأن يكــون هــدانا ملــا‬
‫فيه الحق والرشاد‪ ،‬فقد بينا طريقة إقامة الدولة ودللنـا علـى ذلـك بالكتـاب والسـنة‪ ،‬وأجبنـا علـى كـل األقـوال التـي قالهـا‬
‫الــدكتور املطيــري فــي مقالتــه تلــك ممــا لــه عالقــة بالطريقــة‪ ،‬ومــا بعــد ذلــك كلــه تكـرار ال أرى تســويد صــفحات فــي الجــواب‬
‫عليه‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإننا نجل الدكتور املطيري‪ ،‬وإن اختلفنا فإن خالفنا ال يفسد للود قضية‪.‬‬
‫وقد حرصنا أن نتوسع فـي مـادة الكتـاب لتكـون منهاجـا يتدارسـه املخلصـون الحريصـون علـى تغييـر مـا فـي األمـة لتعـود‬
‫خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫اك َن ْع ُبـ ـ ُد َوإ َّيـ ـ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ٱلر ْحمـ ـن ٱلـ ـ َّـرحيمي َمـ ـلك َيـ ـ ْوم ٱل ــديني إ َّيـ ـ َ‬ ‫َ‬
‫لِل َرب ْٱل َعـ ـ ِامل َين ي َّ‬
‫ْ َ ُ َّ‬ ‫﴿بس ـ ِـم ٱلل ال ـ َّـر ْح ْمن َّ‬
‫اك‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ِحيـ ـ ِـم ي ٱلح ْمـ ـد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ََْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫وب علي ِهم وال ٱلض ِآلين﴾ آمين‪.‬‬ ‫ٱلصراط ٱملست ِقيم ي ِصراط ٱل ِذين أنعمت علي ِهم غي ِر ٱملغض ِ‬ ‫نست ِعين ي ٱه ِدنا ِ‬
‫اللهـم صـل وســلم وبـارك علـى خيــر خلقـك نبينـا محمــد بـن عبــد هللا‪ ،‬وعلـى آلـه وصــحبه وسـلم صـالة مــن فـي الســموات‬
‫وأهل األرضين عليه وأجر يا رب لطفك الخفي في أمورنا بفضل رحمتك وكرمك ولطفك يا كريم‪.‬‬
‫اللهـم إنـي أسـألك بــك يـا رب العـاملين‪ ،‬أسـألك باســمك األعظـم الـذي إن سـئلت بــه أجبـت‪ ،‬وإن اسـتغفرت بـه غفــرت‪،‬‬
‫وإن استرحمت به رحمت‪ ،‬وإن استشفيت به شفيت‪ ،‬وإن استرزقت به رزقت يا مجيب دعوة الداعين‪:‬‬
‫َ َّ‬
‫ليس إال ُه رب ُيدعى‪ ،‬سألتك يـا مالـك حـوائج السـائلين الـذي ُاع ِطـي إذا ُسـئل‪ ،‬وال يـزداد‬ ‫أسألك يا رب بك يا أَها الذي‬
‫ـثق ُل بالهموم شاكيا‪ ،‬فيفرج كرباته‪،‬‬ ‫على كثرة السؤال إال جودا وكرما‪ ،‬وعلى كثرة اإللحاح إال تفضال وإحسانا‪ ،‬يأتيه ال ُـم َ‬
‫وأم َهـ َل‪،‬‬ ‫والغارق في الذنوب مستغفرا‪ ،‬فيغفر زالته‪ ،‬واملستيئس من النجاة‪ ،‬فيمد له يد نجاته‪ ،‬إذا أسـاءت العبـاد َح ِلـ َم ْ‬
‫َ‬
‫وإن أحس ــنوا تفضـ ـ َـل وق ِبـ ـ َل وإن عص ــوا سـ ــتر‪ ،‬وإن أذنبـ ــوا عف ــا وغفـ ــر‪ ،‬وإذا دعـ ــوه أج ــاب‪ ،‬فكـ ــان أقـ ــرب إل ــيهم مـ ــن حبـ ــل‬
‫وريــدهم‪ ،‬وأرحــم بهــم مــن والــدهم علــى وليــدهم‪ ،‬وإذا نــادوه ســمعهم‪ ،‬وإذا أقبلــوا عليــه أســر إلــيهم‪ ،‬مــن تقــرب إليــه بشــبر‬
‫َّ‬
‫قربــه ذراعــا‪ ،‬ومــن أتــاه يمشـ ي أســر إليــه هرولــة‪ ،‬وإذا ولـوا عنـ ُـه تكــرم وتفضــل ودعــاهم‪ ،‬ولــم يوصــد بابــه أمــامهم‪ ،‬شــديد‬
‫العقاب‪ ،‬وهو الغفور الرحيم‪.‬‬
‫لكــل ُمســترحم لديــه رحمــة‪ ،‬ولكــل راغــب إليــه ُزلفــى‪ ،‬تتابعــت نعمــه وآالُه‪ ،‬حتــى اطمأنــت األنفــس بتتابعهــا‪ ،‬وتظــاهرت‬
‫املنن منه حتى اعترف أولياُه بالتقصير عن حقه‪ ،‬أسبغ نعمه عليهم ظاهرة وباطنة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ســألتك بمــن تظــاهرت الع َبـ ُر حتــى نطقــت الصـ ُ‬
‫ـوامت بِجتــه‪ ،‬ودل كــل مــا كتــب علــى صــفحة نجــوم الســماء‪ ،‬وحبــات‬ ‫ِ‬
‫رمل أديم األرض علـى عظـيم قدرتـه‪ ،‬وأظهـر مـن اآليـات حتـى أفصـحت السـماوات واألرضـون بأدلتـه‪ ،‬وقهـر بعظـيم قدرتـه‬
‫حتى خضع كل ش يء لعزته وعنت الوجوه لعظمته ‪.‬‬
‫سـألتك يـا هللا بـك أن تنـزل علينـا شـآبيب رحمتـك‪ ،‬وأن تتقبـل أعمالنـا وان تجعلهـا خالصـة لوجهـك‪ ،‬وان تسـتر علينــا‬
‫فـي الـدنيا واآلخـرة‪ ،‬وأن تق ـ ي حوائجنــا وحـوائج املسـلمين‪ ،‬وتـنفس كرباتنـا‪ ،‬وكربــات املسـلمين‪ ،‬وتشـفي مرضـانا ومربـ ى‬
‫‪230‬‬
‫املســلمين‪ ،‬وت ــرحم موتانــا‪ ،‬وم ــوتى املس ــلمين‪ ،‬وتتوالنــا واملس ــلمين ف ــيمن توليــت‪ ،‬وتت ــولى أبناءن ــا وأهلنــا برعايت ــك وعنايت ــك‬
‫وتربيت ــك وإصـ ــالحك وحفظـ ــك فإي ــاك نسـ ــتودعهم‪ ،‬ونسـ ــتود أنفس ــنا‪ ،‬وأموالنـ ــا‪ ،‬وأعراضـ ــنا‪ ،‬ودينن ــا وأمانتنـ ــا وخـ ــواتيم‬
‫أعمالنا‪ ،‬اللهم إني أسألك لنا وللمسلمين أجمعين من خير ما سألك الحبيب املصطفى ﷺ وعبادك الصالحون‪ ،‬وأعوذ‬
‫بك لهم ولنا من شر ما استعاذ بك منه الحبيب املصطفى ﷺ وعبادك الصالحون‪.‬‬
‫أسألك الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لـم نعلـم ونعـوذ بـك مـن الشـر كلـه عاجلـه وآجلـه مـا علمنـا منـه ومـا‬
‫لم نعلم‪ ،‬نسألك خالفة راشدة على منهاج النبوة‪ ،‬اعز فيها اإلسالم وأهله‪ ،‬ويؤمر فيها باملعروف‪ ،‬وينهى فيها عن املنكر‪،‬‬
‫وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد خير خلقك‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلم صالة من في السموات وصالة أهل‬
‫األرضين عليه وأجر يا رب لطفك الخفي في أمورنا‪،‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد لل رب العاملين‬
‫الحمد لل على نعمائه‪ ،‬ونسأله تعالى أن يكون أجرى الحق على ألسنتنا وبأيدينا‪ ،‬وأن يكون عصـمنا مـن الزلـل‪ ،‬وأن‬
‫يتجاوز عنا برحمته‪ ،‬وفضله‪ ،‬وكرمه‪ ،‬فإنا وهللا لذاتـه العليـة محبـون‪ ،‬علـى مـا فينـا مـن التقصـير‪ ،‬والشـرود عـن الجـادة‪،‬‬
‫واالنغم اس في الدنيا‪ ،‬ومع أن هذا كله يدل على تقصير من جانب املحب‪ ،‬إال أننا نسأله تعالى أال يكون حبنا له ادعاء‪،‬‬
‫هو غافرهو راحم هو عافي‬ ‫أنا مذنب أنا مخطَّء أنا عاص ي‬
‫وستغلبن أوصافْه أوصافْي‬ ‫قْْابْل ْتْهْْن ثْالثْْة بْثْْالثْْة‬
‫ح ــدثنا املزن ــي ق ــال‪ :‬دخل ــت عل ــى الش ــافعي ف ــي مرض ــه ال ــذي م ــات في ــه‪ ،‬فقل ــت‪ :‬ي ــا أب ــا عبدالل ــه‪ ،‬كي ــف أص ــبحت؟ فرف ــع‬
‫رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬أصبحت من الدنيا راحال‪ ،‬والخواني مفارقا‪ ،‬ولسوء عملي مالقيا‪ ،‬وعلى اللـه واردا‪ ،‬ما أدري روحي تصير إلى‬
‫جنة فأهنيها‪ ،‬أو إلى نار فأعزَها‪ ،‬ثم بكى‪ ،‬وأنشأ يقول‪:205‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫املن والجود ‪-‬مجرما‬ ‫وإن كنت ‪-‬ياذا ِ‬ ‫إليك إله الخلق أرفع رغبتي‬
‫ْ‬ ‫َج َع ْل ُت َّ‬ ‫َّ‬
‫الر َجا ِم ِني ِل َعف ِو َك ُسل َما‬ ‫وملا قسا قلبي وضاقت مذاهبي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫عفوك أعظما‬ ‫بعفوك ربي كان‬ ‫قرنته‬ ‫تعاظمني ذنبي فلما‬
‫َ ُ ُ َ ُ َّ َ َ‬ ‫َّ ْ َ َ‬ ‫َ ْ َ ْ‬
‫ود َوت ْعفو ِمنة ً َوتك ُّر َما‬ ‫تج‬ ‫ف َما ِزل َت ذا َعف لو َع ِن الذن ِب ل ْم ت َز ْل‬
‫َ‬
‫صفي َك دما‬‫فكيف وقد أغوى َ َّ‬ ‫َ‬
‫إلبلهس عابد‬ ‫َ‬
‫فلوالك لم يصمد‬
‫ُ‬ ‫َُ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يزايل مأثما‬ ‫وم ال‬‫وم غش ل‬ ‫ظل ل‬ ‫متمرد‬
‫ل‬ ‫فإن تعف عني تعف عن‬
‫َّ‬ ‫ولو أدخلوا نفس ي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫بج ْرم جهنما‬ ‫بآيس‬
‫وإن تنتقم مني فلست ل‬

‫‪ 205‬روى املزني بعض هذه األبيات‪ ،‬وألحقت بها با ي القصيدة من مراجع أخرى‪.‬‬
‫‪231‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َّ‬
‫تفيم ِلف ْر ِ ال َو ْج ِد أجفان ُه َد َما‬ ‫فلل ِه َد ُّرال َع ِار ِف الن ْد ِب إن ُه‬
‫َ َ‬ ‫يم َإذا َما ُ‬
‫الخوف مأتما‬ ‫ِ‬ ‫شدة‬‫على نفسه من َّ‬
‫ِ‬ ‫الليل َم َّد ظال َم ُه‬ ‫ُيق ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ً َ َ َ‬ ‫َ‬
‫واه ِفي ال َو َرى كان أ ْع َج َما‬ ‫َو ِفي َما ِس‬ ‫ف ِصيحا ِإذا َما كان ِفي ِذك ِر َرِب ِه‬
‫ْ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ ً‬
‫َو َما كان ِف َيها ِبال َج َهالة ِ أ ْج َر َما‬ ‫شبابه‬
‫ِ‬ ‫ويذكرأياما مضت من‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ َ َ َ ُ‬
‫والنجوى إذا ُ‬
‫الليل أظلما‬ ‫هد‬ ‫ُّ‬
‫أخا الس ِ‬ ‫اله ِم طو َل َ َه ِار ِه‬ ‫فصار ق ِرين‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫كفَّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بك للراجين سؤال ومغنما‬ ‫َيقو ُل َحبيبي أنت ُسؤ ِلي َو ُبغ َي ِتي‬
‫ْ‬ ‫َ ْ َ َّ ً َ‬ ‫َ‬
‫َوال ِزلت َمنانا َعل َّي َو ُمن ِع َما‬ ‫الذي غذيتني وهديتني‬ ‫ألست ِ‬
‫ويسترأوزاري وما قد تقدما‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ َّ‬
‫اإل ْح َسان َيغ ِف ُر َزلتي‬ ‫ه‬ ‫َع َس ن َم ْن َل ُ‬
‫ِ‬
‫الس َما‬
‫َّ‬ ‫ونور من الرحمن يفتر‬ ‫فضل ل من كل جانب‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َح َّ‬
‫والي‬
‫ُ‬
‫إذا قارب البشرى وجازإلى الحون‬ ‫بوصل ِه‬
‫ِ‬ ‫املحب‬
‫ِ‬ ‫وفي القلب إشراق‬
‫يطالعني في ظلمة القبرأنجما‬ ‫ل وحده‬ ‫حوالي إيناس من َّ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫الحب أن يتثلما‬
‫ِ‬ ‫وأحفظ عهد‬ ‫أصون ودادي أن يدنسه الْهوى‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫تالحق خطوي نشوة وترنما‬ ‫ففي يقظتي شوق وفي غفوتي ُم ًنن‬
‫ومن َي ْر ُجه هيهات أن َّ‬
‫يتندما‬ ‫باۚ يسلم من الورى‬ ‫ومن يعتصم َّ‬

‫كذلك ونسأله تعالى أن يجعـل أعمالنـا خالصـة لوجهـه الكـريم‪ ،‬صـائبة‪ ،‬خاليـة مـن حـب الشـهرة‪ ،‬وحـب الـذكر‪ ،‬وأال‬
‫يكون نصيبنا منها إال الخير في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫وأن اغفـر بفضــله لسـادتنا العلمــاء‪ ،‬وملـن أخــذنا عـنهم هــذا الـدين العظــيم‪ ،‬وأال يجعـل فــي صـدورنا غــال للـذين آمنــوا‪،‬‬
‫فإنا وهللا نحب املسلمين‪ ،‬ونحب لهم الخير‪ ،‬ونحب لهم أن يجتمعوا على ما جمع هللا عليه قلوب من لو أنفق رسول هللا‬
‫ﷺ م ــا ف ــي األرض جميع ــا‪ ،‬م ــا أل ــف ب ــين قل ــوبهم‪ ،‬ولك ــن هللا أل ــف بي ــنهم‪ ،‬ف ــاللهم أل ــف ب ــين قل ــوب املس ــلمين واجمعه ــم عل ــى‬
‫وح َس ِن العمل الخالص لوجهك الكريم‪.‬‬ ‫محبتك وطاعتك وحسن اإليمان بك‪َ ،‬‬
‫و عد‪ ،‬فهذا ما اجتهدنا فيه في هذه املسألة الشائكة‪ ،‬وهو جهد املقل‪ ،‬وللمسلم على املسلم حـق النصـ ‪ ،‬فمـن أراد‬
‫مخ ــاطبتي وأداء واجـ ــب النصـ ـ لـ ــي علـ ــى زل ــة غيـ ــر مقصـ ــودة‪ ،‬أو رأي مرجـ ــوح‪ ،‬أو استفسـ ــار ع ــن شـ ـ يء مـ ــن ذلـ ــك‪ ،‬فعليـ ــه‬
‫مكاتبتي‪.‬‬
‫والحمد لل رب العاملين‪.‬‬
‫كتبه‪:‬‬
‫الفقير إلى رحمة ربه سبحانه وتعالى‬

‫‪232‬‬
‫أبو مالك‬
‫ثائر أحمد سالمة‬
‫كندا في ‪ 25‬آب ‪2017‬‬
‫‪ /03‬ذو الحجة‪1438 /‬ه‪.‬‬
‫راجعه ودققه‪ ،‬األستاذ عصام الشيخ غانم‪ ،‬واألستاذ يوسف الساريس ي‪ ،‬جزاهم هللا كل خيروبارك هللا فيهم‪.‬‬
‫للتواصل مع الكاتب عبرالبريد اإللكتروني‪:‬‬
‫‪tasalameh@gmail.com‬‬
‫واملوقع الشخ ي على صفحات التواصل اإلعالمي‪:‬‬
‫‪https://www.facebook.com/tasalameh‬‬
‫وقناة اليوتيوب الخاصة بالكاتب‪:‬‬
‫‪https://www.youtube.com/user/taasalameh‬‬
‫ونشرت الطبعة األولى من هذا الكتاب على موقع املكتب اإلعالمي املركزي لحزب التحرير‬
‫‪http://www.hizb-ut-tahrir.info/ar/index.php/sporadic-sections/articles/cultural/44261.html‬‬
‫وكذلك على موقع الخالفة‪:‬‬
‫‪http://www.khilafah.net/archives/4556‬‬

‫‪233‬‬

You might also like