You are on page 1of 162

0

‫هذا الكتاب‬
‫يحاول هذا الكتاب بمقاالته المتنوعة أن يوضح للقراء الكرام ذلك‬
‫التط‪$$‬رف الجدي‪$$‬د ال‪$$‬ذي لبس لب‪$$‬اس التن‪$$‬وير‪ ،‬وراح ال يكتفي بمواجه‪$$‬ة‬
‫التطرف الديني‪ ،‬وإنما يقابله بتطرف ال يقل عنه خطرا‪ ،‬وه‪$$‬و التط‪$$‬رف‬
‫التن‪$$‬ويري‪ ،‬ال‪$$‬ذي يه‪$$‬دف إلى تفري‪$$‬غ اإلس‪$$‬الم من جمي‪$$‬ع محتويات‪$$‬ه‪ ،‬وق‪$$‬د‬
‫قسمته إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬التنويريون‪ ..‬والمؤامرات العالمية‪ :‬وقد تناولت فيه‬
‫بعض الحجج وال‪$$‬براهين والوث‪$$‬ائق الدال‪$$‬ة على عناي‪$$‬ة بعض ال‪$$‬دوائر‬
‫العالمية بتشجيع هذا النوع من التن‪$$‬وير‪ ،‬لبث الش‪$$‬به والفتن والتش‪$$‬كيكات‬
‫بين المسلمين‪ ،‬حتى ال يبقى لهم من اإلسالم إال ذلك الشعار المف‪$$‬رغ من‬
‫كل معنى‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬شخصيات ‪ ..‬ومشاريع تنويرية‪ :‬وق‪$$‬د تن‪$$‬اولت في‪$$‬ه‬
‫نماذج عن شخصيات مختلف‪$$‬ة من الح‪$$‬داثيين والقرآن‪$$‬يين وك‪$$‬ل من تعل‪$$‬ق‬
‫بهم ممن يدعون التنوير‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬التنويريون‪ ..‬وه**دم القيم‪ :‬وق‪$$‬د تن‪$$‬اولت في‪$$‬ه بعض‬
‫مظاهر اله‪$$‬دم للقيم اإلس‪$$‬المية‪ ،‬واألس‪$$‬س ال‪$$‬تي تق‪$$‬وم عليه‪$$‬ا‪ ،‬وأول ذل‪$$‬ك‬
‫اإلسالم نفسه‪ ،‬والذي حوله ه‪$$‬ؤالء التنويري‪$$‬ون إلى مع‪$$‬نى هالمي يمكن‬
‫أن يتحقق من دون رعاية لشرائع وعقائده وأخالقه‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬التنويريون ‪ ..‬وتمجيد المالح**دة‪ :‬وقد تن‪$$‬اولت في‪$$‬ه‬
‫ما دفعني إلى كتابته‪ ،‬وهو ذلك التمجيد الذي ارتب‪$$‬ط بهوكين‪$$‬غ‪ ،‬وال‪$$‬ترحم‬
‫عليه‪ ،‬على الرغم من إلحاده الذي صرح به‪ ،‬بل دعا إليه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫الدين‪ ..‬والدجل‬

‫(‪)19‬‬

‫التنويريون ‪ ..‬والمؤامرة على اإلسالم‬


‫مقاالت تبين األهداف الحقيقية وراء المشاريع التنويرية‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫‪www.aboulahia.com‬‬

‫الطبعة األولى‬

‫‪ 1439‬ـ ‪2018‬‬

‫مؤسسة العرفان للثقافة اإلسالمية‬



‫فهرس المحتويات‬
‫‪6‬‬ ‫المقدمة‬
‫القسم األول‪ :‬التنويريون‪ ..‬والمؤامرات العالمية‬
‫‪11‬‬ ‫هؤالء هم التنويريون الجدد‪ ..‬فاحذروهم‬
‫‪17‬‬ ‫التنويريون ‪ ..‬وصفقة القرن‬
‫‪22‬‬ ‫التنويريون‪ ..‬والمصافحات اآلثمة‬
‫‪24‬‬ ‫التنويريون ‪ ..‬وجرائم فرنسا‬
‫‪35‬‬ ‫احذروا القنابل الصوتية‬
‫‪40‬‬ ‫التنويريون ‪ ..‬وتأليه اإلنسان‬
‫القسم الثاني‪ :‬شخصيات ‪ ..‬ومشاريع تنويرية‬
‫‪50‬‬ ‫ما الذي أنكره على عدنان إبراهيم؟‬
‫‪50‬‬ ‫شحرور ‪ ..‬المهندس األفاك‬
‫‪84‬‬ ‫القبانجي ‪ ..‬والعمامة المدنسة‬
‫‪84‬‬ ‫حسن حنفي ‪ ..‬والثورة على الدين‬
‫‪50‬‬ ‫أركون ‪ ..‬وفزاعة المناهج الغربية‬
‫‪66‬‬ ‫هاشم صالح‪ ..‬والتنوير األوروبي‬
‫‪66‬‬ ‫أركون ‪ ..‬وابن نبي‬
‫القسم الثالث‪ :‬التنويريون‪ ..‬وهدم القيم‬
‫‪106‬‬ ‫التنوير‪ ..‬والتفسير المزاجي لإلسالم‬
‫‪110‬‬ ‫التنويريون ‪ ..‬والدنيا‬
‫‪142‬‬ ‫فكرة لم يسبقني إليها أحد‬
‫‪145‬‬ ‫هل اقترب عصر الدجال‬
‫‪148‬‬ ‫المرجئة الجدد‪ ..‬والتألي على هللا‬
‫‪156‬‬ ‫حينما يتجاوز التسامح حدوده‬
‫‪110‬‬ ‫ومن يبتغ غير اإلسالم دينا‪ ..‬فسيقبل منه !‬
‫‪114‬‬ ‫‪ 1‬ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة‪:‬‬
‫‪120‬‬ ‫‪ 2‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول هللا ‪:‬‬
‫‪125‬‬ ‫‪ 3‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع األمر باتباع الرسول ‪ :‬‬
‫‪127‬‬ ‫‪ 4‬ـ تعارض مفاهيمهم مع النصوص الدالة على ضالل أهل الكتاب‪:‬‬
‫‪130‬‬ ‫‪ 5‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع األمة‪:‬‬
‫‪160‬‬ ‫الحق‪ ..‬والخلق‬
‫‪163‬‬ ‫الغزالي‪ ..‬ورحمة هللا الواسعة*‬
‫‪174‬‬ ‫الرحمة‪ ..‬والعدالة‬

‫‪3‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬التنويريون ‪ ..‬وتمجيد المالحدة‬
‫‪186‬‬ ‫تمجيد المالحدة وأثره في نشر اإللحاد‬
‫‪189‬‬ ‫اإلمام الحسين‪ ..‬وتشي غيفارا‬
‫‪192‬‬ ‫فليكن لكم في المسيح أسوة‬
‫‪195‬‬ ‫المالحدة‪ ..‬والخنازير البرية‬
‫‪198‬‬ ‫ما خطورة طروحات هوكينغ اإللحادية؟‬
‫‪209‬‬ ‫الغرب‪ ..‬والتالعب بالعواطف*‬
‫‪211‬‬ ‫وأخيرا‪ ..‬صار هوكينغ شهيدا‬
‫‪214‬‬ ‫عالم األفكار وعالم األشخاص‬
‫‪216‬‬ ‫أخبروني عن خدمات هوكينغ لإلنسانية‬
‫‪218‬‬ ‫الرحمة والترحم‪ ..‬والمصادرة على المطلوب‬
‫‪220‬‬ ‫دعوا هلل جنته وناره‪ ..‬ورحمته ونقمته‬
‫‪222‬‬ ‫سؤال للذين ترحموا على هوكينغ‬
‫‪223‬‬ ‫هوكينغ والدعاية اإلعالمية‬
‫‪225‬‬ ‫هل من دموع على الفيزيائيين الذين اغتالهم الغرب؟‬
‫‪228‬‬ ‫هذا الكتاب‬

‫‪4‬‬
‫المقدمة‬
‫بدأت قصة هذا الكتاب بعد وفاة الفيزيائي‪[ $‬ستيفن هو كينغ]‪ ،‬وما ص‪$$‬حبها‬
‫من حمل‪$$‬ة كب‪$$‬يرة على ص‪$$‬فحات التواص‪$$‬ل االجتم‪$$‬اعي‪ ،‬ب‪$$‬ل ح‪$$‬تى في الص‪$$‬حف‬
‫والمنابر‪ $‬المختلفة من الثناء عليه‪ ،‬والبكاء على فقده‪ ،‬باعتب‪$$‬ار الخ‪$$‬دمات الكث‪$$‬يرة‬
‫التي قدمها للعلم‪ ،‬وللبشرية‪.‬‬
‫ولم يكن ذل‪$$‬ك كل‪$$‬ه ليس‪$$‬تفزني‪ ،‬ول‪$$‬و أني أعلم أن [س‪$$‬تيفن ه‪$$‬و كين‪$$‬غ] ليس‬
‫سوى فرد‪ $‬من آالف العلماء والباحثين الذين قاموا بما قام به‪ ،‬ب‪$$‬ل ك‪$$‬انت خ‪$$‬دمات‬
‫غيره أكبر بكثير‪ ،‬وألصق‪ $‬بحاجات أفراد الناس من الخدمات التي قدمها إن صح‬
‫اعتب‪$$‬ار م‪$$‬ا قدم‪$$‬ه خ‪$$‬دمات لإلنس‪$$‬انية ذل‪$$‬ك أن تخصص‪$$‬ه في الفيزي‪$$‬اء النظري‪$$‬ة ال‬
‫عالقة له بتلك الحاجات‪.‬‬
‫ولكن الذي استفزني أكثر هو إدخال ال‪$$‬دين عن‪$$‬د الح‪$$‬ديث عن‪$$‬ه‪ ،‬س‪$$‬واء من‬
‫المتطرفين الذين راحوا يزج‪$‬ون ب‪$‬ه في جهنم‪ ،‬ويش‪$‬متون‪ $‬بموت‪$‬ه‪ ،‬ويض‪$$‬منون ل‪$‬ه‬
‫النيران‪ ،‬وما معها من أصناف الع‪$$‬ذاب‪ ،‬أو أولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين يزعم‪$$‬ون ألنفس‪$$‬هم أنهم‬
‫متنورون‪ ،‬ولذلك راح‪$$‬وا يض‪$$‬ادون تط‪$$‬رف‪ $‬من س‪$$‬بقهم ب‪$$‬الترحم علي‪$$‬ه‪ ،‬وإس‪$$‬كانه‬
‫الفسيح األعلى من الجنان‪ ،‬بل إن بعض‪$‬هم‪ $‬ـ مث‪$‬ل ش‪$‬حرور‪ $‬ـ جعل‪$‬ه م‪$‬ع األنبي‪$‬اء‬
‫والمرسلين واألولياء‪ $‬والصالحين‪.‬‬
‫والذي آلمني في ك‪$$‬ل ه‪$$‬ذا‪ ،‬وخصوص‪$$‬ا من أولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين يتص‪$$‬ورون أنهم‬
‫متنورون هو تلك الجرأة الكبيرة على هللا‪ ،‬وهم يرون رجال يستغله اإلعالم أبشع‬
‫اس‪$$‬تغالل لنش‪$$‬ر اإللح‪$$‬اد باس‪$$‬م العلم‪ ..‬واعتب‪$$‬ار هللا خراف‪$$‬ة‪ ..‬واعتب‪$$‬ار ك‪$$‬ل حق‪$$‬ائق‬
‫الوجود‪ $‬وهما‪ ..‬ثم يعتبرون كل هذا‪ ،‬وكأنه ال شيء‪.‬‬
‫وقد رأيت أنهم يفعلون ذلك من باب رد الفع‪$$‬ل على المتط‪$$‬رفين الس‪$$‬ابقين‪،‬‬
‫م‪$$‬ع أنهم لم يق‪$$‬رؤوا‪ $‬ل‪$$‬ه‪ ..‬ولم يعرف‪$$‬وا‪ $‬م‪$$‬دى ت‪$$‬أثيره‪ ..‬ولم يعرف‪$$‬وا في نفس ال‪$$‬وقت‬
‫أولئ‪$$‬ك العلم‪$$‬اء الكب‪$$‬ار ممن هم أك‪$$‬ثر من‪$$‬ه علم‪$$‬ا في مج‪$$‬ال تخصص‪$$‬ه‪ ،‬وال‪$$‬ذين‬
‫تج‪$$‬اهلهم االعالم المنح‪$‬از‪ $‬بس‪$‬بب إيم‪$‬انهم أو بس‪$‬بب علميتهم ال‪$$‬تي لم ت‪$‬دخلهم في‬
‫متاهات المالحدة‪.‬‬
‫وقد جعلني ه‪$$‬ذا أغ‪$$‬وص أك‪$$‬ثر في أعم‪$$‬اق األفك‪$$‬ار‪ $‬ال‪$$‬تي يطرحه‪$‬ا‪ $‬ه‪$$‬ؤالء‬
‫التنويريون‪ ،‬فاكتشفت العجب العجاب‪ ..‬فقد رأيت أنهم من خالل طروح‪$$‬اتهم‪ ،‬ال‬
‫يكتف‪$$‬ون فق‪$$‬ط بنق‪$$‬د ال‪$$‬تراث‪ ،‬وال التنبي‪$$‬ه إلى عيوب‪$$‬ه لتص‪$$‬حيحها‪ ،‬وإنم‪$$‬ا ينتق‪$$‬دون‬
‫المقدس أيضا‪ ،‬بل يفرغون اإلسالم جميعا من محت‪$$‬واه‪ ،‬ليتح‪$$‬ول إلى دين هالمي‬
‫مميع ال ضوابط‪ $‬تحكمه‪ ،‬وال شرائع تضبط المنتسبين إليه‪.‬‬
‫وفوق‪ $‬ذلك كله رأيت أن رعاية خاصة ت‪$$‬دعمهم‪ ،‬ومن نفس الجه‪$$‬ات ال‪$$‬تي‬

‫‪5‬‬
‫دعمت قبلهم المتطرفين واإلرهابيين‪ ..‬لتبدل التطرف السابق بتطرف‪ $‬جدي‪$$‬د‪ ..‬أو‬
‫لتضيف‪ $‬للتطرف القديم تطرفا جديدا‪.‬‬
‫وكان ذلك داعية لي‪ ،‬أن أنتق‪$$‬د ه‪$$‬ذا المنهج‪ ،‬واألطروح‪$$‬ات‪ $‬المرتبط‪$$‬ة ب‪$$‬ه‪،‬‬
‫مثلما انتقدت قبله ذلك التطرف القديم‪ ..‬ألنه ال يصح أن نكيل بمكاييل مزدوج‪$$‬ة‪،‬‬
‫فنرمي‪ $‬طرفا‪ ،‬ونسكت عن آخر‪.‬‬
‫***‬
‫وبناء على طبيعة هذه المقاالت واألغراض التي تهدف إليها‪ ،‬فقد قس‪$$‬متها‬
‫إلى أربع‪$$‬ة أقس‪$$‬ام على ال‪$$‬رغم من كونه‪$$‬ا متداخل‪$$‬ة فيم‪$$‬ا بينه‪$$‬ا‪ ،‬ألن اله‪$$‬دف منه‪$$‬ا‬
‫جميعا هو تنوير القراء‪ ،‬وتوضيح ما يحدث في الواقع بدقة‪ ،‬حتى نعود لالعتدال‬
‫والوسطية والقيم الرفيعة ال‪$$‬تي ج‪$$‬اء به‪$$‬ا دينن‪$$‬ا كم‪$$‬ا هي من غ‪$$‬ير أي ت‪$$‬دخل من‪$$‬ا‪،‬‬
‫وهذه األقسام هي‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬التنويريون‪ ..‬والمؤامرات العالمية‪ :‬وق ‪$‬د‪ $‬تن‪$$‬اولت فيه بعض‬
‫الحجج والبراهين والوثائق‪ $‬الدالة على عناية بعض الدوائر‪ $‬العالمية بتشجيع ه‪$$‬ذا‬
‫النوع من التنوير‪ ،‬لتفريغ اإلس‪$$‬الم من محت‪$$‬واه‪ ،‬وبث الش‪$$‬به والفتن والتش‪$$‬كيكات‬
‫بين المس‪$$‬لمين‪ ،‬ح‪$$‬تى ال يبقى لهم من اإلس‪$$‬الم إال ذل‪$$‬ك الش‪$$‬عار المف‪$$‬رغ من ك‪$$‬ل‬
‫معنى‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬شخص**يات ‪ ..‬ومش**اريع تنويرية‪ :‬وق‪$$‬د تن‪$$‬اولت في‪$$‬ه نم‪$$‬اذج‬
‫عن شخصيات‪ $‬مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وك‪$$‬ل من تعل‪$$‬ق بهم ممن ي‪$$‬دعون‬
‫التنوير‪.$‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬التنويريون‪ ..‬وه**دم القيم‪ :‬وق‪$‬د تن‪$‬اولت في‪$‬ه بعض مظ‪$‬اهر‬
‫الهدم للقيم اإلسالمية‪ ،‬واألسس التي تقوم عليها‪ ،‬وأول ذلك اإلسالم نفسه‪ ،‬والذي‬
‫حول‪$$‬ه ه‪$$‬ؤالء التنويري‪$$‬ون إلى مع‪$$‬نى هالمي يمكن أن يتحق‪$$‬ق من دون رعاي‪$$‬ة‬
‫لشرائع وعقائده وأخالقه‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬التنويريون ‪ ..‬وتمجيد المالحدة‪ :‬وقد تناولت فيه ما دفع‪$$‬ني‬
‫إلى كتابته‪ ،‬وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ‪ ،‬وال‪$$‬ترحم علي‪$$‬ه‪ ،‬على ال‪$$‬رغم‬
‫من إلحاده الذي صرح به‪ ،‬بل دعا إليه‪.‬‬
‫وأحب أن أق‪$$$‬ول لل‪$$$‬ذين ع‪$$$‬اتبوني كث‪$$$‬يرا عن‪$$$‬د نش‪$$$‬ري له‪$$$‬ذه المق‪$$$‬االت‪،‬‬
‫وتص‪$$‬وروا‪ $‬أني ب‪$$‬الغت كث‪$$‬يرا في التح‪$$‬ذير‪ $‬من ذل‪$$‬ك الموق‪$$‬ف من هوكين‪$$‬غ‪ ،‬ب‪$$‬أن‬
‫أصحاب النظرة البسيطة يذكرون هذا‪ ،‬ويتمنون مني ومن أمث‪$$‬الي أن نث‪$$‬ني على‬
‫الرجل‪ ،‬ونقدر‪ $‬جهوده وتحديه‪ ،‬ونصوره بصورة العالم العبق‪$$‬ري الق‪$$‬دير‪ ..‬ليت‪$$‬أثر‬
‫الع‪$$‬وام ومن ليس لدي‪$$‬ه الحص‪$$‬انة الكافي‪$$‬ة بالرج‪$$‬ل‪ ..‬ثم ي‪$$‬ذهب ليبحث في كتب‪$$‬ه‬
‫وأفكاره‪ ،‬بعد أن يصير‪ $‬متخما بالتقدير‪ $‬الزائف له‪ ..‬وحينها يج‪$$‬د المس‪$$‬تثمرون في‬
‫هوكينغ فيه القابلية لكل م‪$$‬ا يملون‪$$‬ه علي‪$$‬ه‪ ..‬وحينه‪$‬ا‪ $‬تب‪$$‬ذر في عقل‪$$‬ه ب‪$$‬ذرة اإللح‪$$‬اد‬

‫‪6‬‬
‫والخروج‪ $‬من كل القيم النبيلة‪.‬‬
‫لذلك فإن في هذه المقاالت القصيرة أنواع‪$$‬ا من التحص‪$$‬ينات والتح‪$$‬ذيرات‪$‬‬
‫التي لم اكتبها اال لوجه هللا‪ ..‬وق‪$$‬د كتبت قبله‪$$‬ا ـ بحم‪$$‬د هللا ـ س‪$$‬بعة كتب في ال‪$$‬رد‬
‫على االلحاد الجديد‪ ،‬بما فيها طروح‪$$‬ات هوكين‪$$‬غ نفس‪$$‬ها ـ‪ ..‬ولك‪$$‬ني أعلم أن تل‪$$‬ك‬
‫الكتب لن يس‪$$‬مع به‪$$‬ا أمث‪$$‬ال ه‪$$‬ؤالء ال‪$$‬ذين ال يهتم‪$$‬ون باإليم‪$$‬ان‪ ،‬ب‪$$‬ل يحتقرون‪$$‬ه‪،‬‬
‫ويعتبرون اخ‪$$‬تراع مص‪$$‬باح كهرب‪$$‬ائي أفض‪$$‬ل من غ‪$$‬رس اإليم‪$$‬ان في القل‪$$‬وب أو‬
‫القيم الرفيعة في السلوك‪..‬‬
‫وفي األخير أق‪$$‬ول ألولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين غض‪$$‬بوا م‪$$‬ني بع‪$$‬د أن ك‪$$‬انوا يعتبرون‪$$‬ني‪$‬‬
‫تنويريا مثلهم بس‪$‬بب م‪$‬واقفي‪ $‬من التط‪$$‬رف ال‪$$‬ديني‪ ،‬وله‪$$‬ذا تص‪$‬وروا أني س‪$‬أفعل‬
‫مثلما فعلوا‪ :‬أنا أؤدي واجبي‪ $‬الشرعي‪ ..‬وسأظل‪ $‬أكتب حتى يجف قلمي‪ ..‬وأع‪$$‬ذر‬
‫الى هللا بأني قد أديت ما علي من واجب‪$$‬ات‪ ..‬وال يهم‪$$‬ني من يرض‪$$‬ى أو يس‪$$‬خط‪..‬‬
‫ألن كل من فوق التراب تراب‪.‬‬
‫ورحم هللا اإلمام علي عندما قال‪( :‬ما ترك لي الحق من صديق)‬

‫‪7‬‬
‫القسم األول‬

‫التنويريون‪ ..‬والمؤامرات العالمية‬

‫‪8‬‬
‫هؤالء هم التنويريون الجدد‪ ..‬فاحذروهم‬
‫لم أتعود أن أحذر من جهة من الجهات‪ ،‬حتى من المتش‪$$‬ددين والمتط‪$$‬رفين‬
‫والمالحدة والحداثيين‪ ..‬بل كنت أكتفي فق‪$$‬ط بع‪$$‬رض أطروح‪$$‬اتهم‪ $‬ومناقش‪$$‬تها‪ ،‬ثم‬
‫أدع للقارئ بعد ذلك أن يتخذ الموقف المناسب رفضا‪ $‬أو قبوال‪..‬‬
‫لك‪$‬ني رأيت أن التعام‪$‬ل م‪$$‬ع ه‪$‬ؤالء التن‪$‬ويريين الج‪$$‬دد يختل‪$‬ف م‪$$‬ع أولئ‪$‬ك‬
‫جميعا‪ ..‬ذلك أنهم ال ينطلقون من حقائق ثابت‪$$‬ة‪ ،‬وال من مع‪$$‬ايير دقيق‪$$‬ة يتح‪$$‬اكمون‬
‫إليه‪$$‬ا‪ ،‬وإنم‪$$‬ا ينطلق‪$$‬ون من ه‪$$‬وى مج‪$$‬رد يمكن أن يطل‪$$‬ق علي‪$$‬ه لقب [النق‪$$‬د ألج‪$$‬ل‬
‫النقد]‪ ،‬أو [الرفض ألجل الرفض]‪ ،‬فهم يرفضون كل شيء‪ ،‬ويتمردون على كل‬
‫شيء‪ ،‬حتى لو دلت كل األدلة عليه‪ ،‬فإذا ما ناقشتهم‪ $‬لم تجد الجه‪$$‬ة ال‪$$‬تي تناقش‪$$‬هم‪$‬‬
‫من خاللها‪ ،‬ألنه ليس لديهم معايير ثابتة‪ ،‬وال مصادر محددة مضبوطة‪ ،‬وال قيما‬
‫معقولة‪ ،‬ولذلك فإن النقاش معهم جدل‪ ،‬والحديث معهم لغو‪.‬‬
‫هم يعرفون‪$$$‬ك ويحترمون‪$$$‬ك‪ $‬فق‪$$$‬ط إذا م‪$$$‬ا رفض‪$$$‬ت وانتق‪$$$‬دت وتم‪$$$‬ردت‪..‬‬
‫ويرفضونك بمجرد أن تب‪$$‬دي أي لين أو قب‪$$‬ول‪ $..‬وك‪$$‬أن ال‪$$‬رفض مقص‪$$‬ود لذات‪$$‬ه‪..‬‬
‫وكأن النقد هو األصل وغيره تبع‪ ..‬وكأننا‪ $‬لم نؤمر بالعدل والحكمة‪ ..‬العدل الذي‬
‫يأمرنا‪ $‬أن نشهد بالحقيقة لنا أو علينا‪ ..‬والحكمة التي تجعلنا نأخذ الحقيقة ول‪$$‬و من‬
‫أفواه أعدائنا‪.‬‬
‫ومن خالل متابعتي‪ $‬لبعض هؤالء يمكنني أن أضع بعض األمارات الدال‪$$‬ة‬
‫عليهم‪:‬‬
‫وأولها احتقار علماء الدين والسخرية منهم في نفس الوقت الذي يته‪$$‬افتون‬
‫على غ‪$$‬يرهم‪ ،‬ب‪$$‬ل ح‪$$‬تى على المالح‪$$‬دة منهم‪ ..‬فيلعن‪$$‬ون المؤم‪$$‬نين‪ ،‬ويس‪$$‬خرون‬
‫منهم‪ ..‬وفي نفس ال‪$$‬وقت ي‪$$‬ترحمون على غ‪$$‬يرهم ممن لم ي‪$$‬ؤمن باهلل‪ ..‬ب‪$$‬ل ممن‬
‫عاش حياته كلها محذرا من هللا‪ ..‬ومضلال الخلق عنه وعن سبيله‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك تلك الص‪$$‬لوات واألدعي‪$$‬ة الكث‪$$‬يرة ال‪$$‬تي أقيمت على‬
‫أكبر دعاة اإللحاد في العصر الحديث‪ ..‬بل أك‪$$‬بر فيزي‪$$‬ائي في الت‪$$‬اريخ ح‪$$‬اول أن‬
‫يستثمر‪ $‬تخصصه في الدعوة لإللحاد‪ ،‬وه‪$$‬و [س‪$$‬تيفن هوكين‪$$‬غ] وال‪$$‬ذي ال يختل‪$$‬ف‬
‫عن كل الفيزيائيين ق‪$$‬ديما‪ $‬أو ح‪$$‬ديثا في مج‪$$‬ال تخصص‪$$‬ه‪ ،‬ب‪$$‬ل إن من الفيزي‪$$‬ائيين‬
‫المعاصرين من هم أكثر منه علما‪ ،‬وم‪$‬ع ذل‪$‬ك ال يس‪$‬مع بهم أح‪$‬د‪ ،‬لس‪$‬بب بس‪$‬يط‪،‬‬
‫وهو أنهم لم يصرحوا بإلحادهم‪ ،‬أو لم يقوموا بالدعوة إليه‪ ،‬ولو فعل‪$$‬وا الس‪$$‬تقبلهم‬
‫هؤالء التنويريون باألحضان‪.‬‬
‫ومن أمثل‪$$‬ة تل‪$$‬ك ال‪$$‬دعوات ق‪$$‬ول بعض‪$$‬هم في تأبين‪$$‬ه‪( :‬اللهم ارحم الع‪$$‬الم‬
‫الفيزيائي الكبير ستيفن هوكينغ‪ ،‬واغفر له وادخله جنتك الواسعة)‪ ،‬وق‪$$‬ول‪ $‬آخ‪$$‬ر ـ‬

‫‪9‬‬
‫وهو عدنان إبراهيم كم‪$$‬ا في موقع‪$$‬ه اإللك‪$$‬تروني‪( $:‬افتق‪$$‬دت البش‪$$‬رية ه‪$$‬ذا الي‪$$‬وم‪..‬‬
‫وحظي‪ $‬تاريخ الخالدين بعالم ف‪$$‬ذ‪ ،‬ال يج‪$$‬ود الزم‪$$‬ان بمثل‪$$‬ه إال قليالً‪ ،‬ع‪$$‬الم ض‪$$‬رب‬
‫أروع مثال على طموح العالم الح‪$$‬ق وش‪$$‬غفه بكش‪$$‬ف أس‪$$‬رار الع‪$$‬الم وف‪$$‬ك مغ‪$$‬الق‬
‫الطبيعة‪ ،‬كما في المثابرة والنضال‪ $‬ضد الم‪$$‬رض وص‪$$‬ور‪ $‬المعان‪$$‬اة الناجم‪$$‬ة عن‪$$‬ه‬
‫على مستويات‪ $‬شتى‪ُ ،‬مبر ِهن‪$‬ا ً على أن ال‪$‬روح اإلنس‪$‬انية ال تُقهَ‪$‬ر‪ ..‬ونحن إذ نُعلِن‬
‫مع العالم عن هذا النبأ األسيف بوفاة ستيفن هوكينغ ندعو هللا الرحمن ال‪$$‬رحيم أن‬
‫يتواله برحمته ومغفرته‪ ،‬وإنّا هلل وإنّا إليه راجعون)‬
‫وقد خصصته بالعتاب ألنه يعلم تماما أن كل أطروح‪$$‬ات هوكين‪$$‬غ العلمي‪$$‬ة‬
‫ال تخدم سوى‪ $‬اإللحاد‪ ،‬وأنها مج‪$$‬رد نم‪$$‬اذج لله‪$$‬روب من اإليم‪$$‬ان‪ ،‬وال ت‪$$‬دل على‬
‫عالم فذ‪ ،‬وال عبقرية‪ ،‬وإال كانت العبقرية في اإللحاد نفسه (‪..)1‬‬
‫ومثل ذل‪$$‬ك ق‪$$‬ول آخ‪$$‬ر عن بعض المخ‪$$‬ترعين‪( :‬رحم هللا [ويليس هافيالن‪$$‬د‬
‫كارير]‪ ،‬وغفر له وجزاه خ‪$$‬ير الج‪$$‬زاء‪ ،‬ه‪$$‬ذا الرج‪$$‬ل العبق‪$$‬ري ال‪$$‬ذي اخ‪$$‬ترع لن‪$$‬ا‬
‫المكيف الهوائي‪ ،‬الذي نستعمله ونس‪$‬تمتع‪ $‬ب‪$‬ه أيم‪$‬ا اس‪$‬تمتاع في بيوتن‪$‬ا وس‪$‬ياراتنا‬
‫الفاخرة في ح‪$$‬ر الص‪$$‬يف‪ ،‬كم‪$$‬ا يس‪$$‬تمتع ب‪$$‬ه حجيجن‪$$‬ا المي‪$$‬اميم في حجهم‪ ،‬ول‪$$‬واله‬
‫ألصبح ذلك الحج جحيم ال يط‪$$‬اق‪ $..‬وأن‪$$‬ا أنص‪$$‬ح ك‪$$‬ل من يحتج على ه‪$$‬ذا ال‪$$‬ترحم‬
‫على هذا الرجل المخترع الكببر‪ ،‬أن يستحي من نفسه ويتوق‪$$‬ف على الف‪$$‬ور على‬
‫استعمال المكيف الهوائي بكل أنواعه‪ ،‬في منزله وسيارته‪ ،‬وأن يقدم اعت‪$$‬ذار عن‬
‫كل لحظة قضاها‪ $‬بجانب المكيف في كل مكان)‬
‫ولس‪$$‬ت أدري م‪$$‬ا عالق‪$$‬ة اس‪$$‬تعمال المكي‪$$‬ف الكهرب‪$$‬ائي‪ $‬بال‪$$‬دعوة لص‪$$‬احبه‬
‫بالرحمة‪ ،‬أو بضمان الجن‪$‬ة‪ ..‬فاهلل تع‪$‬الى وض‪$$‬ع لرحمت‪$‬ه وللجن‪$‬ة ش‪$$‬روطا‪ ،‬وه‪$$‬و‬
‫صاحب كليهما‪ ،‬واألدب مع هللا يقتضي اح‪$$‬ترام م‪$‬راد هللا‪ ،‬ق‪$‬ال تع‪$‬الى‪َ ﴿ :‬ع‪َ $‬ذابِي‬
‫ت ُك‪َّ $‬ل َش‪ْ $‬ي ٍء فَ َس‪$‬أ َ ْكتُبُهَا لِلَّ ِذينَ يَتَّقُ‪$$‬ونَ َوي ُْؤتُ‪$$‬ونَ‬ ‫أُ ِ‬
‫صيبُ بِ ِه َم ْن أَ َشا ُء َو َرحْ َمتِي َو ِس‪َ $‬ع ْ‬
‫‪ )(1‬بل أنه هو نفسه اعتبره مخادعا‪ ،‬فقد قال في خطبت‪$‬ه ال‪$‬تي خصص‪$‬ها لهوكين‪$‬غ‪ $‬قب‪$‬ل وفات‪$‬ه‪( :‬كم‪$‬ا‪ $‬قلت‬
‫‪$‬راوغ‪ ،‬وه‪$$‬ذا أم‪$$‬ر عجيب‪ ،‬م‪$$‬ع أن طبع‪$‬ا ً إعاقت‪$$‬ه الجس‪$$‬مية ال ُكلي‪$$‬ة الش‪$$‬املة – ُمص‪$$‬اب بم‪$$‬رض‬ ‫وبدأت – الرجل ُم‪ِ $‬‬
‫األعصاب الح‪$$‬ركي‪ ،‬جعلت الن‪$$‬اس يتع‪$$‬اطفون مع‪$$‬ه بال ش‪$$‬ك وربم‪$$‬ا ه‪$$‬ذا يُ‪$$‬وحي بالنزاه‪$‬ة التام‪$$‬ة وال ُمطلَق‪$$‬ة‪ ،‬لكن‬
‫النزاهة التامة وال ُمطلَق‪$$‬ة مس‪$‬ألة أخالقي‪$$‬ة ُمختلِف‪$‬ة عن النش‪$$‬اط العلمي‪ ،‬لم‪$‬اذا؟ ألن في كتاب‪$‬ه الش‪$$‬هير ج‪$‬داً [ت‪$‬اريخ‬
‫موجز للزمن] قال في الفصل الثامن منه دُعيت سنة ‪ 1981‬إلى ُمؤت َمر‪ $‬نظَّمه الكاثوليك بالفاتيك‪$$‬ان‪ ،‬والباب‪$$‬ا نفس‪$$‬ه‬
‫كان حاضراً ‪ ،‬والكنيسة الكاثوليكية أخطأت في حق العلم والعلماء بالذات من أيام جاليليو‪ ،‬وجاءت اآلن بعد أكثر‬
‫من ‪ 300‬سنة لتعتذر‪ ،‬جاءت تدعو علماء الكوني‪$‬ات‪ $‬الكوزمولوج‪$$‬يين لكي تستش‪$$‬يرهم في القض‪$$‬ايا الكوني‪$‬ة وه‪$‬ذا‬
‫شاركون باللقاء م‪$$‬ع باب‪$$‬ا الفاتيك‪$$‬ان‪ ،‬ثم ق‪$$‬ال الباب‪$$‬ا لن‪$$‬ا أو‬
‫الشيئ الطيب‪ ،‬وبعد أن قدَّمنا أوراقنا وأعمالنا تشرَّف ال ُم ِ‬
‫شاركين‪ :‬جيد‪ ،‬أن‪$‬ه من الح‪$‬ق أن نبحث في ال‪$‬بيج ب‪$‬انج في االنفج‪$‬ار العظيم ال‪$‬ذي ك‪$‬وَّن الك‪$‬ون لكن من حيثي‪$‬ة‬ ‫لل ُم ِ‬
‫تطوّ ر الكون بعد البيج بانج‪ ،‬أما أن نبحث‪ $‬في لحظة البيج بانج لحظ‪$‬ة االنفج‪$‬ار العظيم فه‪$‬ذا ال يج‪$‬وز ألنن‪$‬ا به‪$‬ذا‬
‫نبحث في شيئ من عمل هللا هذا عمل هلل‪ ،‬وصعب أن يستوعب الذهن ه‪$$‬ذا‪ ،‬ثم يق‪$$‬ول س‪$$‬تيفن ه‪$$‬وكينج ُمعلِّق‪$‬ا ً مم‪$$‬ا‬
‫سرني يعني أن البابا لم يفهم كلمتي – أي أن البابا لم يفهم الورق‪$‬ة ال‪$‬تي ألقيته‪$‬ا ألن‪$‬ه ليس عن‪$‬ده معلوم‪$‬ات علمي‪$‬ة‬
‫دقيقة‪ ،‬طبعا ً ما عالقة البابا بهذا العلم – ألنني ذكرت في كلمتي أن الكون وإن ك‪$$‬ان ُمتناهي‪$‬ا ً إال أن‪$$‬ه ليس ُمح‪$‬دَّداً‪،‬‬
‫ليس عنده حدود)‬

‫‪10‬‬
‫ي الَّ ِذي‬ ‫ي اأْل ُ ِّم َّ‬
‫ول النَّبِ َّ‬
‫َّس‪َ $$‬‬‫ال َّز َكاةَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم بِآيَاتِنَا‪ $‬ي ُْؤ ِمنُونَ (‪ )156‬الَّ ِذينَ يَتَّبِعُونَ الر ُ‬
‫ُوف َويَ ْنهَ‪$$‬اهُْ‪$‬م ع َِن‬ ‫‪$‬ال َم ْعر ِ‬ ‫يَ ِجدُونَ ‪$‬هُ َم ْكتُوبً‪$$‬ا ِع ْن‪َ $‬دهُ ْم فِي التَّوْ َرا ِة َواإْل ِ ْن ِجي ‪ِ $‬ل يَ‪$$‬أْ ُم ُرهُ ْم بِ‪ْ $‬‬
‫ض ُع َع ْنهُ ْم إِصْ َرهُْ‪$‬م َواأْل َ ْغاَل َل‬ ‫ث َويَ َ‬ ‫ت َوي َُح ِّر ُ‪$‬م َعلَ ْي ِه ُم ْالخَ بَائِ َ‬
‫ْال ُم ْن َك ِر َويُ ِحلُّ لَهُ ُم الطَّيِّبَا ِ‬
‫ُ‬
‫َص‪$‬رُوهُ َواتَّبَ ُع‪$$‬وا‪ $‬النُّو َر الَّ ِذي أ ْن‪ِ $‬‬
‫‪$‬ز َل‬ ‫َت َعلَ ْي ِه ْم فَالَّ ِذينَ آ َمنُوا بِ‪ِ $‬ه َو َع‪َّ $‬زرُوهُ َون َ‬ ‫الَّتِي َكان ْ‬
‫َم َعهُ أُولَئِكَ هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ [األعراف‪]157 ،156 :‬‬
‫فاهلل تعالى حصر الفالح فيمن توفر في‪$$‬ه تل‪$$‬ك الش‪$$‬روط‪ $،‬فكي‪$$‬ف نعقب على‬
‫هللا‪ ،‬ونتدخل فيما ال حق لنا في التدخل فيه‪.‬‬
‫والمشكلة ليست في الدعاء‪ ،‬وإنما في التهوين من أم‪$$‬ر اإليم‪$$‬ان باهلل والقيم‬
‫الدينية‪ ،‬حيث يصبح المعيار ه‪$$‬و خدم‪$$‬ة البش‪$$‬ر خدم‪$$‬ة مادي‪$$‬ة‪ ،‬ال تحقي‪$$‬ق أم‪$$‬ر هللا‬
‫بااللتزام‪ $‬بدينه‪ ..‬وهذا معيار خطير جدا‪ ،‬ومخالف لكل األديان‪ ،‬وأولها اإلسالم‪.‬‬
‫وثانيها احتق‪$$‬ار المص‪$$‬ادر‪ $‬المقدس‪$$‬ة وخصوص‪$$‬ا الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ ..‬ف‪$$‬إذا م‪$$‬ا‬
‫ذكرت لهم آية من القرآن الكريم تنهى عن االستغفار للمشركين‪ ،‬وهم أقل خطرا‬
‫من المالح‪$$$‬دة‪ ..‬واالس‪$$$‬تغفار‪ $‬أق‪$$$‬ل قيم‪$$$‬ة من ال‪$$$‬ترحم‪ ..‬ذل‪$$$‬ك أن ال‪$$$‬ترحم‪ $‬نتيج‪$$$‬ة‬
‫لالستغفار‪ ..‬واالستغفار مقدمة له‪ ..‬قامت قيامتهم‪ $‬وذكروا‪ $‬لك أنك ال تفهم الق‪$$‬رآن‬
‫وال تستوعبه‪ ..‬وأن في معانيه من الرموز‪ $‬ما ال طاقة لك بفكه‪.‬‬
‫فإذا طلبت منهم آليات يفسرون بها قوله تعالى ـ مخاطبا نوحا عليه السالم‬
‫ك إِنَّهُ‬ ‫ْس ِم ْن أَ ْهلِ‪َ $‬‬ ‫وناهيا له عن الدعاء البنه بس‪$$‬بب ع‪$$‬دم إيمان‪$$‬ه ـ‪ ﴿ :‬يَ‪$$‬انُو ُح إِنَّهُ لَي َ‬
‫ك أَ ْن تَ ُكونَ ِمنَ ْال َج‪$$‬ا ِهلِينَ‬ ‫ك بِ ِه ِع ْل ٌم إِنِّي أَ ِعظُ َ‬ ‫ْس لَ َ‬ ‫ح فَاَل تَسْأ َ ْل ِن َما لَي َ‬‫صالِ ٍ‬‫َع َم ٌل َغ ْي ُر َ‬
‫﴾ [هود‪]46 :‬‬
‫﴿ربِّ إِنِّي أَعُوذُ‬ ‫وقوله ـ على لسان نوح عليه السالم خضوعا ألمر ربه ـ‪َ :‬‬
‫خَاس‪ِ $‬رينَ ﴾‬ ‫ْس لِي بِ‪ِ $‬ه ِع ْل ٌم َوإِاَّل تَ ْغفِ‪$‬رْ لِي َوتَ‪$$‬رْ َح ْمنِي‪ $‬أَ ُك ْن ِمنَ ال ِ‬
‫ْ‬ ‫ك َم‪$‬ا لَي َ‬ ‫بِ‪$$‬كَ أَ ْن أَ ْس‪$‬أَلَ َ‬
‫[هود‪]47 :‬‬
‫وكيف أن هذه النصوص واضحة ال تحتمل الج‪$$‬دل‪ ..‬وبلغ‪$$‬ة واض‪$$‬حة ليس‬
‫فيه‪$$‬ا كناي‪$$‬ة وال اس‪$$‬تعارة وال مج‪$$‬ازة‪ ..‬تجهم‪$$‬وا‪ $‬في وجه‪$$‬ك‪ ،‬واكتف‪$$‬وا ب‪$$‬التجهم‪..‬‬
‫وتصوروا‪ $‬أنهم بتجهمهم يمكنهم أن يقنع‪$$‬وك ب‪$$‬أن هوكين‪$$‬غ أفض‪$$‬ل من ابن ن‪$$‬وح‪..‬‬
‫وأنه يمكننا أن نركبه في السفينة التي لم يركب فيها ابن نوح عليه السالم‪.‬‬
‫وهكذا إذا ذكرت لهم أن قصة آدم عليه السالم في القرآن الك‪$$‬ريم تتن‪$$‬اقض‬
‫مع نظرية التطور‪ $..‬ذكروا لك ـ خالفا لكل ما ت‪$‬دل علي‪$‬ه المص‪$‬ادر‪ $‬العلمي‪$‬ة ـ أن‬
‫نظرية التطور حقيقة علمي‪$‬ة‪ ،‬وأن على الق‪$‬رآن أن يقبله‪$‬ا‪ ،‬ول‪$‬و بتحري‪$‬ف‪ $‬معاني‪$‬ه‬
‫وألفاظه‪ ،‬وإال لُفظ القرآن من أجلها‪.‬‬
‫وهك‪$$‬ذا ت‪$$‬راهم يحتق‪$$‬رون الس‪$$‬نة المطه‪$$‬رة‪ ،‬فيص‪$$‬فون كتب الح‪$$‬ديث بم‪$$‬ا ال‬
‫يتناس‪$$‬ب م‪$$‬ع جالل‪$$‬ة ق‪$$‬درها‪ ،‬ح‪$$‬تى أني رأيت بعض‪$$‬هم يطل‪$$‬ق على بعض كتب‬
‫الح‪$$‬ديث وص‪$$‬ف [األس‪$$‬طورة]‪ ..‬ولس‪$$‬ت أدري مص‪$$‬در ه‪$$‬ذه الج‪$$‬رأة لكت‪$$‬اب ض‪$$‬م‬

‫‪11‬‬
‫الكثير من أحاديث رسول هللا ‪ ‬المتفق عليها عن‪$$‬د األم‪$$‬ة جميع‪$$‬ا‪ ..‬وخالفن‪$‬ا‪ $‬م‪$$‬ع‬
‫بعض األحاديث ال يعني طرح الكتاب وال غيره من الكتب‪ ،‬فك‪$‬ل كتب الس‪$‬نة في‬
‫أي مدسة من المدارس اإلسالمية محترمة ال يجوز إهانتها وال تحقيرها‪ ،‬ويكتفى‬
‫معه‪$$‬ا بالمناقش‪$$‬ة العلمي‪$$‬ة الهادئ‪$$‬ة ال‪$$‬تي تنطل‪$$‬ق من التحقي‪$$‬ق العلمي ال ال‪$$‬رفض‬
‫المزاجي‪ ،‬والهوى‪ $‬المتبع‪.‬‬
‫وثالثها رفض ال‪$$‬تراث جمل‪$$‬ة وتفص‪$$‬يال‪ ..‬وه‪$$‬ذا وهم ك‪$$‬ذلك‪ ..‬ف‪$$‬التراث ال‬
‫يرفض لذاته‪ ،‬وإنما يُرفض من‪$‬ه م‪$‬ا يس‪$‬تحق ال‪$‬رفض بن‪$‬اء على منهجي‪$‬ة علمي‪$‬ة‪،‬‬
‫ومعايير ثابتة‪ ،‬ال على الهوى المجرد‪.‬‬
‫ففي تراثن‪$$‬ا بحم‪$$‬د هللا الكث‪$$‬ير من المع‪$$‬اني الطيب‪$$‬ة المس‪$$‬تفادة من المص‪$$‬ادر‬
‫المقدسة‪ ،‬وفيه الكثير من التجارب البشرية النافعة‪ ..‬وفيه فوق ذل‪$$‬ك كل‪$$‬ه خ‪$$‬برات‬
‫أسالفنا‪ $‬واحتكاكهم باألمم األخرى‪ ..‬فكيف‪ $‬نلغي كل ذلك‪ ،‬ونحتقره‪.‬‬
‫والمنهج الس‪$$‬ليم والعقالني الب‪$$‬ديل ل‪$$‬ذلك ه‪$$‬و وزن ال‪$$‬تراث في م‪$$‬وازين‬
‫الشريعة المقدسة‪ ،‬فنقبل ما تقبله ونرفض ما ترفض‪$$‬ه‪ ..‬أم‪$$‬ا أن نحكم على جه‪$$‬ود‬
‫عشرات آالف العلماء باإللغ‪$$‬اء واإلع‪$$‬دام واإلقص‪$$‬اء‪ ..‬وتحقيره‪$‬ا‪ $‬ونبزه‪$‬ا‪ $‬بأبش‪$$‬ع‬
‫الصفات‪ ..‬فهو مما ال يتناسب مع الحكمة والعدالة‪.‬‬
‫وهو ال يختلف عن ذلك ال‪$$‬ذي يقبله‪$$‬ا قب‪$$‬وال كلي‪$$‬ا بحلوه‪$$‬ا ومره‪$‬ا‪ $‬وخيره‪$$‬ا‬
‫وشرها‪ $..‬فالعاقل هو الذي يميز الطيب من الخ‪$$‬بيث‪ ..‬ال ال‪$$‬ذي ي‪$$‬رمي الطيب م‪$$‬ع‬
‫الخبيث‪.‬‬
‫ورابعها‪ ..‬رفض التاريخ اإلسالمي‪ $‬جملة وتفصيال‪ $..‬واالهتمام بجلد الذات‬
‫في نفس الوقت الذي يُلمع فيه تاريخ اآلخر ويُزين رغم جرائمه الكث‪$$‬يرة‪ ..‬وك‪$$‬أن‬
‫المسلمين لم يكونوا‪ $‬بشرا‪ ،‬ولم يكن فيهم الصالحون‪ ،‬وال األولي‪$$‬اء‪ ،‬وال العلم‪$$‬اء‪..‬‬
‫وكل هذا غير صحيح‪ ..‬فتاريخ األمة ك‪$$‬ان أس‪$$‬ود‪ $‬في الناحي‪$$‬ة السياس‪$$‬ية فق‪$$‬ط كم‪$$‬ا‬
‫أخبر رسول هللا ‪ ..‬لكنه كان مملوءا ببياض كثير وأن‪$$‬وار‪ $‬كث‪$$‬يرة في الج‪$$‬وانب‬
‫العلمية واالجتماعية والحضارية والدينية‪ ..‬بل ك‪$‬انت األم‪$‬ة اإلس‪$‬المية وال زالت‬
‫خير أمة أخرجت للناس‪ ..‬فالتخلف ال يخرجها من هذه الخيرية‪ ..‬فنحن بحم‪$$‬د هللا‬
‫ال نزال نحتف‪$$‬ظ ب‪$$‬الكثير من القيم ال‪$$‬تي فق‪$$‬دت في الغ‪$$‬رب‪ ،‬والقيم هي األس‪$$‬اس ال‬
‫التقدم المادي والحضاري‪ $‬الذي بنته جميع األمم وشاركت فيه‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫التنويريون ‪ ..‬وصفقة القرن‬
‫قد ال يكون ما سأذكره اآلن هو الحقيقة المطلقة‪ ،‬ذل‪$‬ك أن‪$‬ه من الص‪$‬عب أن‬
‫يدعي أي إنسان ال يستند لسند غيبي معصوم أنه يصف المستقبل كم‪$$‬ا سيحص‪$$‬ل‬
‫بالضبط‪ $..‬ولكني أحاول استشرافه من خالل معطي‪$$‬ات كث‪$$‬يرة‪ ،‬أص‪$$‬بحت بالنس‪$$‬بة‬
‫لي على األق‪$$‬ل واض‪$$‬حة جلي‪$$‬ة‪ ،‬ول‪$$‬ذلك أذكره‪$$‬ا من ب‪$$‬اب الثب‪$$‬وب ال من ب‪$$‬اب‬
‫اإلثب‪$$‬ات‪ ..‬ومن ب‪$$‬اب النص‪$$‬ح ال من ب‪$$‬اب التحقي‪$$‬ق العلمي الم‪$$‬تين المؤي‪$$‬د باألدل‪$$‬ة‬
‫القطعية‪.‬‬
‫وخالص‪$$$‬ة ه‪$$$‬ذا االستش‪$$$‬راف تكمن في أن الساس‪$$$‬ة ال‪$$$‬ذين اس‪$$$‬تعملوا‪ $‬في‬
‫الماضي ما يسمونه باإلسالم السلفي والح‪$$‬ركي لتحقي‪$$‬ق بعض م‪$$‬آربهم‪ $‬السياس‪$$‬ية‬
‫ال‪$$‬تي تخ‪$$‬دمهم أو تخ‪$$‬دم الص‪$$‬راع‪ $‬السياس‪$$‬ي الع‪$$‬المي بين األقط‪$$‬اب الك‪$$‬برى‪ ،‬ق‪$$‬د‬
‫اكتشفوا أن هذا الخيار قد حقق أغراضه‪ ،‬وانتهى دوره‪ ،‬واحترقت أوراقه‪ ..‬له‪$$‬ذا‬
‫بدأت تصريحاتهم‪ $‬تنطلق من كل جهة تتبرأ منه‪ ،‬بعد أن اعترفت أنها هي نفس‪$$‬ها‬
‫من دعمه لخدمة أمريكا وحربها الباردة مع االتحاد السوفيتي‪$.‬‬
‫والبديل لذلك ـ كما يراه المت‪$$‬آمرون ـ ه‪$$‬و إس‪$$‬الم آخ‪$$‬ر أك‪$$‬ثر انفتاح‪$$‬ا على‬
‫الغرب‪ ،‬وعلى أمريكا خصوصا‪ ،‬بل ح‪$$‬تى على إس‪$‬رائيل‪ ..‬ح‪$$‬تى يه‪$$‬يئ األج‪$‬واء‬
‫لم‪$$‬ا يس‪$$‬مونه [ص‪$$‬فقة الق‪$$‬رن]‪ ،‬وهي ص‪$$‬فقة ال تش‪$$‬مل السياس‪$$‬ة وال االقتص‪$$‬اد‪$‬‬
‫وحدهما‪ ،‬بل تشمل اإلنسان أيضا‪ ..‬فاإلنسان هو األس‪$$‬اس في ك‪$$‬ل مش‪$$‬روع ي‪$$‬راد‬
‫تنفيذه صالحا كان ذلك المشروع أو فاسدا‪.‬‬
‫وصفقة القرن تقتضي االنفت‪$$‬اح الكلي على الغ‪$$‬رب وإس‪$$‬رائيل وزوال ك‪$$‬ل‬
‫الحواجز‪ $‬النفسية واالجتماعية والثقافية بحيث يص‪$$‬بح المس‪$$‬لم إنس‪$$‬انا م‪$$‬دنيا يفك‪$$‬ر‬
‫بنفس الطريقة التي يفكر بها األمريكي‪ $‬واألوروبي والصهيوني‪.‬‬
‫وهي تقتض‪$$‬ي زوال ك‪$$‬ل الخصوص‪$$‬يات‪ ..‬فاإلس‪$$‬الم‪ $‬ب‪$$‬المفهوم الجدي‪$$‬د ه‪$$‬و‬
‫تحقي‪$$‬ق القيم الحض‪$$‬ارية‪ ..‬وال يهم الش‪$$‬ريعة ال‪$$‬تي نل‪$$‬تزم به‪$$‬ا أو الطق‪$$‬وس ال‪$$‬تي‬
‫نؤديه‪$$$‬ا‪ $..‬فيمكنن‪$$$‬ا اعتب‪$$$‬ار المس‪$$$‬يحي واليه‪$$$‬ودي‪ $‬مس‪$$$‬لما إن حق‪$$$‬ق قيم التنمي‪$$$‬ة‬
‫الحضارية‪ ..‬وقدم‪ $‬خدمات للبشرية‪ ..‬بل هو أكثر قيمة من المسلم الصوام‪ $‬الق‪$$‬وام‪،‬‬
‫ألن هللا تع‪$$‬الى ـ بحس‪$$‬ب ه‪$$‬ذا المفه‪$$‬وم الجدي‪$$‬د ـ لم يخلقن‪$$‬ا لنتع‪$$‬رف علي‪$$‬ه‪ ،‬ونقيم‬
‫الصالت بيننا وبين‪$$‬ه‪ ،‬وإنم‪$$‬ا خلقن‪$$‬ا لنخ‪$$‬ترع الكهرب‪$$‬اء والمواص‪$$‬الت‪ ،‬ون‪$$‬وفر من‬
‫الصحة ألجساده ما لم يوفر لنا الجهاز البيولوجي الذي خلقنا عليه‪.‬‬
‫وهي صفقة تقتضي أن ينظر لألمم باعتبار تطورها‪ $‬االقتصادي‪ $،‬وإنتاجها‬
‫العلمي‪ ..‬ولذلك فإن العاق‪$$‬ل ه‪$$‬و ال‪$$‬ذي يقيم الص‪$$‬الت والتحالف‪$$‬ات والعالق‪$$‬ات م‪$$‬ع‬
‫أمثال هذه الدول‪ ..‬ولذلك ال حرج في إقامة الصالت مع إسرائيل‪ ..‬ذلك أنه يمكن‬

‫‪13‬‬
‫اعتبار اليهود مسلمين في حال اعترافهم‪ $‬فقط بأن محمد ‪ ‬رسول من هللا‪ ..‬دون‬
‫أن يكلفوا أنفسهم بعد ذلك باتباعه‪ ..‬باإلضافة إلى أننا يمكننا أن نستفيد من العق‪$$‬ل‬
‫اليهودي‪ $‬في السياسة واالقتص‪$$‬اد والعل‪$$‬وم‪ $‬المختلف‪$$‬ة‪ ..‬باإلض‪$$‬افة إلى أن‪$$‬ه يمكن أن‬
‫نتحالف معهم عسكريا لنواجه المشروع‪ $‬اإليراني [القذر] كم‪$$‬ا ع‪$$‬بر عن‪$$‬ه ع‪$$‬دنان‬
‫إبراهيم‪.‬‬
‫وفي س‪$$‬بيل تحقي‪$$‬ق ه‪$$‬ذا المش‪$$‬روع احت‪$$‬اج الق‪$$‬ائمون علي‪$$‬ه عن البحث عن‬
‫الشخصيات ال‪$$‬تي تمثل‪$$‬ه‪ ،‬وال‪$$‬تي له‪$$‬ا من الجاذبي‪$$‬ة م‪$$‬ا يمكن أن تنف‪$$‬ذه في الواق‪$$‬ع‪،‬‬
‫وبأقل‪ $‬تكلفة‪.‬‬
‫وحسب رؤيتي‪ $‬البسيطة القاصرة‪ ،‬فقد رأيت أن األنظار موجهة خصوصا‬
‫لعدنان إبراهيم ومحمد شحرور‪ $‬وغيرهما من الذين وفر لهم اإلعالم ك‪$$‬ل وس‪$$‬ائل‬
‫الشهرة‪ ،‬ولست أدري هل يع‪$$‬ون ذل‪$$‬ك أم ال‪ ..‬ألن الكث‪$$‬ير لألس‪$$‬ف من األدوات ال‬
‫يعرف‪$$‬ون أنهم أدوات‪ ،‬ح‪$$‬تى ينته‪$$‬وا من أداء أدوراهم بك‪$$‬ل دق‪$$‬ة‪ ،‬ثم يلفظ‪$$‬ون في‬
‫األخير كما تلفظ كل األوراق‪ $‬المحروقة‪.‬‬
‫وأول األسباب التي جعلتهم يختارون هذه األدوات هو أنه‪$$‬ا اس‪$$‬تطاعت أن‬
‫تجت‪$$‬ذب جم‪$$‬اهير كث‪$$‬يرة لشخص‪$$‬ها‪ $‬ال لمش‪$$‬روعها‪ ،‬ح‪$$‬تى تص‪$$‬ور‪ $‬الكث‪$$‬ير أن م‪$$‬ا‬
‫يطرحونه هو من بنات أفكارهم‪ $‬واجتهاداتهم‪$.‬‬
‫وثانيهم‪$$‬ا‪ $‬ه‪$$‬و أن طروح‪$$‬اتهم اتس‪$$‬مت ب‪$$‬ذلك االنفع‪$$‬ال ال‪$$‬ذي تم‪$$‬يزت ب‪$$‬ه‬
‫الطروح‪$$$‬ات‪ $‬الس‪$$$‬لفية والحركي‪$$$‬ة‪ ..‬والمت‪$$$‬آمرون يعجبهم المنفعل‪$$$‬ون‪ ،‬ذل‪$$$‬ك أنهم‬
‫يهدمون أكثر مما يبنون‪ ،‬ويفس‪$$‬دون أك‪$$‬ثر مم‪$$‬ا يص‪$$‬لحون‪ ..‬ول‪$$‬ذلك لم ن‪$$‬ر لع‪$$‬دنان‬
‫إبراهيم ـ مثال ـ كتابات علمية وبحوثا‪ $‬رصينة موثقة‪ ،‬بل كل ما طرحه خطاب‪$$‬ات‬
‫وتصريحات تحاول جذب العامة أكثر من جذب المثقفين والمفكرين والباحثين‪.‬‬
‫وخطورتها ليست في ذواتها‪ $..‬ذلك أن الكثير مما طرحه كان قد كتب في‪$$‬ه‬
‫المؤلفات الكثيرة‪ ،‬وك‪$$‬ان دور ع‪$$‬دنان في‪$$‬ه ه‪$$‬و حف‪$$‬ظ لبعض م‪$$‬ا ورد‪ ،‬ثم عرض‪$$‬ه‬
‫على الناس بطريقته الخاصة‪.‬‬
‫وخطورة هذه الطريق‪$$‬ة هي تولي‪$$‬د الج‪$$‬رأة في النق‪$$‬د اله‪$$‬دام لع‪$$‬وام الن‪$$‬اس‪..‬‬
‫حتى أصبح الكل ينتقد كل شيء من دون بحث وال نظر وال أسس علمي‪$‬ة‪ ..‬ح‪$‬تى‬
‫أن البعض صار يرد األحاديث الصحيحة المتواترة من غير أي حجة وال دليل‪..‬‬
‫وكما اتسمت الظاهرة السلفية والحركية بذلك االنفعال مع كل ما يختلف‪$$‬ون‬
‫معه حصل مثله مع هذه الظاهرة الجديدة التي ال أستطيع‪ $‬أن أجزم بأن عدنان أو‬
‫إسالم البحيري أو غيرهما قصدها‪$.‬‬
‫لق‪$$‬د ص‪$$‬ار الكث‪$$‬ير يس‪$$‬خر من ص‪$$‬حيح البخ‪$$‬اري أو كت‪$$‬اب الك‪$$‬افي أو كتب‬
‫الصحاح والمسانيد‪ $‬والسنن في المدارس المختلفة‪ ..‬وكأن كل ما فيها دجل مع أن‬
‫األح‪$$‬اديث الم‪$$‬ردودة فيه‪$$‬ا أح‪$$‬اديث مح‪$$‬دودة‪ ،‬ولم يرده‪$$‬ا العلم‪$$‬اء إال بن‪$$‬اء على‬

‫‪14‬‬
‫معطيات كثيرة‪ ..‬وليس على مجرد نزوة الرد‪.‬‬
‫لكن عدنان إبراهيم وزمالءه من التن‪$$‬ويريين ك‪$$‬انوا يخت‪$$‬ارون‪ $‬نموذج‪$$‬ا من‬
‫النماذج‪ ،‬ثم يرمون كل شيء‪ ،‬ويهدمون كل شيء‪ ،‬مثلما كان يفع‪$$‬ل الس‪$$‬لفية حين‬
‫يختارون شيخا منحرف‪$$‬ا من مش‪$$‬ايخ الط‪$$‬رق الص‪$‬وفية ل‪$$‬يرموا ب‪$‬ه جمي‪$$‬ع الط‪$$‬رق‬
‫الصوفية‪ ،‬بل جميع الصوفية في جميع فترات التاريخ‪.‬‬
‫وكل هذا سببه الكسل عن التحقيق العلمي‪ ،‬وعدم ال‪$$‬ورع عن التق‪$$‬ول على‬
‫هللا‪ ،‬أو على المسلمين بما لم يثبت‪.‬‬
‫وقد ذكرت في كت‪$‬اب [التنويري‪$$‬ون ‪ ..‬والص‪$$‬راع م‪$$‬ع المق‪$‬دس] الكث‪$$‬ير من‬
‫األمثلة على تلك الجرأة على نصوص مقدسة عليها نور النبوة‪ ،‬ولكنهم يردونه‪$$‬ا‬
‫لكونها تصطدم مع مزاجهم‪$.‬‬
‫وفي نفس الوقت نرى ذلك االنبهار بكلمات أي فيلسوف أو ع‪$$‬الم غ‪$$‬ربي‪..‬‬
‫حتى أنه أصبح من الموضة عندهم أنهم في كل درس أو خطبة أو مقالة يزين‪$$‬ون‬
‫كلماتهم بما قاله فالن أو فالن من الغربيين مع الثناء عليه‪ ،‬واعتباره عمالق‪$$‬ا من‬
‫عمالقة الفكر‪.‬‬
‫ال يمكنني في هذا المقال المختصر‪ $‬أن أورد أدلتي على م‪$$‬ا أخ‪$$‬اف أن يق‪$$‬ع‬
‫في المستقبل‪ ،‬لكني أذكر بأن ه‪$$‬ذا الط‪$$‬رح الجدي‪$$‬د ه‪$$‬و ته‪$$‬ديم‪ $‬لإلس‪$$‬الم ابت‪$$‬داء من‬
‫مص‪$$‬ادره المقدس‪$$‬ة‪ ..‬ف‪$$‬القرآن عن‪$$‬دهم م‪$$‬ؤول‪ ،‬والس‪$$‬نة عن‪$$‬دهم مكذوب‪$$‬ة‪ ،‬والعلم‪$$‬اء‬
‫عن‪$$‬دهم دج‪$$‬الون‪ ،‬والغ‪$$‬رب عن‪$$‬دهم عب‪$$‬ارة عن مجتم‪$$‬ع من المفك‪$$‬رين والفالس‪$$‬فة‬
‫والعباقرة‪ ،‬والمسافة بين األديان غير موجودة‪ ،‬فكل األديان يمكن أن ن‪$$‬دين به‪$$‬ا‪..‬‬
‫وال خوف من العذاب والعقاب ذلك أن رحم‪$$‬ة هللا وس‪$$‬عت ك‪$$‬ل ش‪$$‬يء‪ ..‬ب‪$$‬ل ح‪$$‬تى‬
‫المالحدة سيكونون أول أهل الجنة‪ ..‬ومثل ذلك األخالق‪ ..‬فاألخالق‪ $‬تقتص‪$‬ر‪ $‬على‬
‫األخالق االجتماعية‪ ..‬أما غض البصر والبعد عن الفواحش‪ ..‬فذلك ت‪$$‬راث ق‪$$‬ديم‪،‬‬
‫ومفاهيم خاطئ‪$$‬ة‪ ،‬والعالق‪$$‬ة بين الرج‪$$‬ل والم‪$$‬رأة يمكن أن تنفتح مثلم‪$$‬ا حص‪$$‬ل في‬
‫الغرب‪.‬‬
‫وهكذا يصبح اإلسالم بهذه النظرة إسالما آخر‪ ..‬بعيدا عن كل م‪$$‬ا ورد في‬
‫النصوص المقدسة‪ ..‬وبذلك م‪$$‬ا الم‪$$‬انع أن نتواص‪$$‬ل م‪$$‬ع أمريك‪$$‬ا‪ ،‬ونقيم ص‪$$‬داقات‬
‫معها‪ ،‬ونب‪$$‬ني له‪$$‬ا الكن‪$$‬ائس في مك‪$$‬ة والمدين‪$$‬ة‪ ..‬وم‪$$‬ا الم‪$$‬انع أن نبكي على حائ‪$$‬ط‬
‫البراق مع اليهود‪ ،‬ونبحث معهم عن البقرة الحمراء أو الصفراء‪ ..‬وما الم‪$$‬انع أن‬
‫نقيم عالقات استراتيجية معهم لنقضي على اليد اإليرانية في اليمن وسوريا وكل‬
‫البالد‪.‬‬
‫هذه رؤيتي التي أتمنى أال أكون صادقا فيها‪ ..‬ولكن كل الواقع يدل عليها‪.‬‬
‫ونصيحتي‪ $‬هي أن نعرف أن هذا األم‪$$‬ر دين‪ ..‬فل‪$$‬ذ نبحث عن أه‪$$‬ل ال‪$$‬ورع‬
‫من الصادقين الذين ال يطلبون ماال وال جاها‪ ،‬لنأخذ عنهم ديننا‪ ..‬فأولئك‪ $‬وح‪$$‬دهم‬

‫‪15‬‬
‫المؤتمنون‪ $‬عليه‪.‬‬
‫أما الذين وضعوا‪ $‬أيديهم في أيدي قتلة أطف‪$$‬ال اليمن‪ ،‬أولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين خرب‪$$‬وا‪$‬‬
‫سوريا‪ $‬وليبيا‪ ،‬وأعطوا بالمج‪$$‬ان آب‪$$‬ار الب‪$$‬ترول ألع‪$$‬داء األم‪$$‬ة‪ ،‬ف‪$$‬إن أي‪$$‬ديهم ق‪$$‬ذرة‬
‫وهي أنجس من أن تفهم المع‪$$‬اني المقدس‪$$‬ة لكلم‪$$‬ات هللا‪ ،‬فكالم هللا ﴿اَل يَ َم ُّس‪$$‬هُ إِاَّل‬
‫ْال ُمطَهَّرُونَ ﴾ [الواقعة‪]79 :‬‬

‫‪16‬‬
‫التنويريون‪ ..‬والمصافحات اآلثمة‬
‫عندما نقرأ التاريخ ق‪$$‬راءة اعتب‪$$‬ار وت‪$$‬دبر نج‪$$‬د أن أك‪$$‬ثر م‪$$‬ا ح‪$$‬دث في‪$$‬ه من‬
‫مآس وآالم هو نتيجة مصافحات‪ $‬آثمة بين رجال العلم والدين والثقافة م‪$$‬ع رج‪$$‬ال‬
‫السياسة والسلطة‪ ،‬أو مع رجال المال واالقتصاد‪ ،‬أو مع رجال الجاه والشهرة‪.‬‬
‫فتلك المصافحات ال تمتد لليد فقط‪ ،‬بل تمتد قبل ذلك وبعده للقلب والعق‪$$‬ل؛‬
‫فينغلق‪$$‬ان انغالق‪$$‬ا كلي‪$$‬ا عن الحق‪$$‬ائق والقيم‪ ،‬وينفتح‪$$‬ان انفتاح‪$$‬ا كلي‪$$‬ا على األه‪$$‬واء‬
‫واألغراض والشهوات؛ فيص‪$$‬بح عق‪$$‬ل المفك‪$$‬ر خادم‪$$‬ا له‪$$‬واه‪ ،‬وه‪$$‬واه خادم‪$$‬ا لمن‬
‫يوفر‪ $‬له رغباته‪.‬‬
‫وقد أخبر القرآن الكريم عن النموذج الممثل لذلك ببلعم بن باعوراء‪ ،‬ذل‪$$‬ك‬
‫ض َواتَّبَ َع َه واهُ﴾ [األع راف‪]176 :‬؛ ف‪$$‬ترك موس‪$$‬ى‬
‫َ‬ ‫َخلَ َد إِىَل اأْل َْر ِ‬
‫الذي ﴿أ ْ‬
‫عليه السالم‪ ،‬وراح إلى صف أعدائه‪ ،‬ألنه ال يرضي‪ $‬أه‪$$‬واءه وطمع‪$$‬ه وش‪$$‬هواته‬
‫إال كنوز‪ $‬أعدائه‪.‬‬
‫وال يمكنن‪$$‬ا هن‪$$‬ا أن نع‪$$‬دد المص‪$$‬افحات‪ $‬اآلثم‪$$‬ة ال‪$$‬تي حص‪$$‬لت في الت‪$$‬اريخ‪،‬‬
‫وتأثيراتها على عالم األفكار‪ $‬واألديان والقيم؛ فذلك مما ال يعد وال يحصى‪ ،‬ولكنا‬
‫سنقتصر‪ $‬على هذه األيدي الممدودة من التنويريين لجهات كثيرة مشبوهة‪ ،‬لم ن‪$$‬ر‬
‫منها خ‪$‬يرا في الماض‪$‬ي‪ ،‬ولن ن‪$‬رى منه‪$‬ا خ‪$‬يرا في المس‪$‬تقبل‪ ،‬ذل‪$‬ك أن ك‪$‬ل تل‪$‬ك‬
‫الكنوز‪ $‬التي وهبت لها لم تستفد منها إال عتوا وغلظة وضاللة‪.‬‬
‫تلك الجهات التي صافحت في عقود سابقة أي‪$‬دي المتط‪$‬رفين واإلره‪$‬ابيين‬
‫لتحول منهم أداة لخدمة المشروع األم‪$$‬ريكي والغ‪$$‬ربي‪ ،‬ومواجه‪$$‬ة القطب الث‪$$‬اني‬
‫ليبقى المجال فسيحا أمام القطب األول ليمارس كبرياءه كما يشتهي‪$.‬‬
‫وعن‪$$‬دما اس‪$$‬تنفذت أغراض‪$$‬ها من المتط‪$$‬رفين واإلره‪$$‬ابيين راحت تت‪$$‬برأ‬
‫منهم‪ ،‬وتمد يدها للمتطرفين الجدد‪ ،‬أولئك الذين يعتبرون أنفس‪$$‬هم متن‪$$‬ورين‪ ..‬وال‬
‫ح‪$$‬ظ لهم من التن‪$$‬وير‪ $‬إال حجب الحق‪$$‬ائق والتالعب به‪$$‬ا‪ ،‬وإتاح‪$$‬ة المج‪$$‬ال لك‪$$‬ل‬
‫رويبضة أو صعلوك أو جاهل ليتحدث في الدين كما يش‪$$‬تهي‪ ،‬ب‪$$‬ل يض‪$$‬ع في‪$$‬ه من‬
‫االجتهادات ما لم يسبقه إليه أحد‪ ،‬ومن غير أي دليل أو حجة‪.‬‬
‫ليس من عادتي أن أذكر األس‪$$‬ماء‪ ..‬ولكنه‪$$‬ا واض‪$$‬حة ج‪$$‬دا‪ ،‬فك‪$$‬ل ي‪$$‬د تمت‪$$‬د‬
‫لمصافحة قرن الشيطان يمكننا أن نخاف منها‪ ،‬أو نحسب لها ألف حساب‪.‬‬
‫ولهذا يمكننا في هذا الوقت بالذات أن نخاف من اليد التي يمدها هذا القرن‬
‫المشؤوم ألولئك التن‪$$‬ويريين‪ ،‬ليعطيهم‪ $‬من الف‪$$‬رص م‪$$‬ا أعط‪$$‬اه س‪$$‬ابقا للمتط‪$$‬رفين‬
‫واإلرهابيين‪ ..‬ليقضي هؤالء المتطرفون الجدد على ما بقي لدينا من قيم وحقائق‬
‫جميلة‪ ..‬ويجعلوا‪ $‬من الدين كرة تتداولها األي‪$$‬دي واألرج‪$$‬ل‪ ،‬ويتف‪$$‬رج الن‪$$‬اس على‬

‫‪17‬‬
‫العبث بها‪ ،‬وهم في قمة السعادة والسرور‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫التنويريون ‪ ..‬وجرائم فرنسا‬
‫ال شك أننا سمعنا جميعا هذه األيام بالدور‪ $‬القذر ال‪$$‬ذي تق‪$$‬وم ب‪$$‬ه فرنس‪$‬ا‪ $‬في‬
‫اليمن‪ ،‬حيث أنه‪$$‬ا أرس‪$$‬لت قواته‪$$‬ا بع‪$$‬دتهم وعت‪$$‬ادهم‪ ،‬ليح‪$$‬اربوا ذل‪$$‬ك الش‪$$‬عب‬
‫المستضعف الفقير الذي ابتلي بأسوأ‪ $‬جوار عرفه التاريخ‪.‬‬
‫وال شك أننا س‪$$‬معنا قب‪$$‬ل ذل‪$$‬ك بتل‪$$‬ك اإلم‪$$‬دادات الكث‪$$‬يرة من األس‪$$‬لحة ال‪$$‬تي‬
‫بيعت لدول العدوان‪ ،‬مع علم فرنسا أن تلك الدول دول مس‪$$‬تبدة ج‪$$‬ائرة ال تع‪$$‬رف‬
‫الديمقراطي‪$$‬ة وال تس‪$$‬مع به‪$$‬ا‪ ،‬وال ت‪$‬ؤمن به‪$‬ا‪ ،‬وم‪$$‬ع ذل‪$‬ك أرس‪$$‬لت له‪$‬ا ك‪$$‬ل أن‪$‬واع‬
‫األس‪$$‬لحة‪ ،‬لتنش‪$$‬ر الديمقراطي‪$$‬ة‪ ،‬وتم‪$$‬ارس من خالل نش‪$$‬رها هوايته‪$$‬ا في القت‪$$‬ل‬
‫والجريم‪$$‬ة‪ ،‬ولت‪$$‬نزل تل‪$$‬ك األس‪$$‬لحة الفرنس‪$$‬ية مط‪$$‬را من الن‪$$‬يران على رؤوس‬
‫األطفال والشيوخ والنساء‪.‬‬
‫وال شك أننا سمعنا‪ ،‬ورأينا‪ $‬دور فرنسا القذر قب‪$$‬ل ف‪$$‬ترة قص‪$$‬يرة في ليبي‪$$‬ا‪،‬‬
‫وكيف‪ $‬أنها خ‪$‬انت عه‪$‬دها م‪$‬ع ال‪$‬رئيس الس‪$‬ابق‪ ،‬بع‪$‬د أن ن‪$‬الت من‪$‬ه م‪$‬ا ن‪$‬الت من‬
‫الرش‪$$‬اوى‪ ،‬ثم راحت ألعدائ‪$$‬ه ت‪$$‬تزلف إليهم‪ ،‬وتن‪$$‬ال من عن‪$$‬دهم رش‪$$‬اوى‪ $‬جدي‪$$‬دة‪،‬‬
‫لتمارس دورها‪ $‬اإلجرامي الذي تعودت عليه‪ ،‬وال تستطيع العيش من دونه‪.‬‬
‫وال شك أننا نسمع كل حين عن االض‪$$‬طرابات واالنقالب‪$$‬ات ال‪$$‬تي تحص‪$$‬ل‬
‫في إفريقيا‪ ،‬وعندما ندقق في البحث‪ ،‬وعبر وسائل‪ $‬اإلعالم الدولية المعتبرة نج‪$$‬د‬
‫أن لفرنسا يدها طولى‪ $‬في كل ما يحصل‪.‬‬
‫وقب‪$$‬ل عق‪$$‬ود قليل‪$$‬ة ك‪$$‬انت فرنس‪$‬ا‪ $‬تس‪$$‬تعمر دوال كث‪$$‬يرة في الع‪$$‬الم‪ ،‬وك‪$$‬انت‬
‫تسرق‪ $‬خيراتها‪ ،‬وتستعبد ش‪$$‬عوبها‪ ،‬وتم‪$$‬ارس‪ $‬معه‪$$‬ا ك‪$$‬ل أن‪$$‬واع الظلم واالس‪$$‬تبداد‬
‫والعدوان‪.‬‬
‫وقبل عقود قليلة أيضا كانت فرنسا‪ $‬في الجزائر‪ ،‬والتي اس‪$‬تمر ظلمه‪$$‬ا له‪$‬ا‬
‫أكثر من قرن من الزمان‪ ،‬وقتل بشر كثير‪ ،‬وس‪$$‬رقت خ‪$$‬يرات كث‪$$‬يرة‪ ،‬ولم ت‪$$‬ترك‬
‫جريم‪$$‬ة في ال‪$$‬دنيا إال ارتكبته‪$$‬ا‪ $،‬ح‪$$‬تى أنه‪$$‬ا ك‪$$‬انت تج‪$$‬ري تجاربه ‪$‬ا‪ $‬النووي‪$$‬ة في‬
‫الصحراء الجزائرية‪ ،‬وال يزال تأثير إشعاعاتها مستمرا إلى اليوم‪.‬‬
‫ومن شاء أن يستمع للذين عاشوا فترة االستعمار الفرنسي؛ فسيحدثوه عما‬
‫رأوا بأعينهم من قسوة الجندي الفرنسي‪ ،‬وطمع المس‪$$‬توطن ال‪$$‬ذي ك‪$$‬ان يغتص‪$$‬ب‬
‫األرض‪ ،‬ثم يح‪$$$‬ول أص‪$$$‬حابها عبي‪$$$‬دا يحرثونه‪$$$‬ا‪ $‬ويزرعونه‪$$$‬ا رغم أن‪$$$‬وفهم‪..‬‬
‫ويحدثونه عن ألوان التعذيب التي قاساها الشعب الجزائري المظل‪$$‬وم‪ ،‬حيث ك‪$$‬ان‬
‫المساجين يستنطقون من خالل الكي بالتيار‪ $‬الكهربائي‪ ،‬أو يح‪$$‬رق ك‪$$‬ل ج‪$$‬زء من‬
‫أجسامهم‪ $‬في الوقت الذي يجد فيه الضباط والمشرفون على التعذيب متعة كبيرة‪،‬‬
‫وهم يضحكون ويسخرون‪..‬‬

‫‪19‬‬
‫هذه نقطة من بح‪$$‬ر ج‪$$‬رائم فرنس‪$$‬ا ال‪$$‬تي ال يمكن إحص‪$$‬اؤها‪ ،‬وم‪$‬ع ذل‪$$‬ك لم‬
‫نسمع منها اعت‪$$‬ذارا‪ ،‬ولم ن‪$$‬ر له‪$$‬ا توب‪$$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬ل هي تتبجح بجرائمه‪$$‬ا‪ ،‬وتفتخ‪$$‬ر به‪$$‬ا‪،‬‬
‫وتستمر في ممارستها‪$.‬‬
‫وكيف ال تفعل ذلك‪ ،‬وكل ما حصل لها من تط‪$$‬ور ورف‪$$‬اه لم يكن ليحص‪$$‬ل‬
‫لوال ع‪$‬رق ودم‪$‬اء أولئ‪$‬ك المستض‪$‬عفين ال‪$‬ذين ب‪$‬ذلوا دم‪$‬اءهم في س‪$‬بيل نهض‪$‬تها‬
‫وتطوره‪$$‬ا‪ ،‬ب‪$$‬ل ك‪$$‬انوا جن‪$$‬ودا إب‪$$‬ان الح‪$$‬رب المفروض‪$$‬ة عليه‪$$‬ا‪ ..‬وبع‪$$‬د أن انتهت‬
‫الحرب‪ ،‬وطالبوها ب‪$$‬أن تعي‪$‬د لهم ح‪$$‬ريتهم ال‪$$‬تي س‪$$‬لبتها راحت تبي‪$$‬د خض‪$‬راءهم‪،‬‬
‫وتذيقهم‪ $‬من ألوان النكال ما يذيق‪$$‬ه المخ‪$$‬ادعون الم‪$$‬ارقون ال‪$$‬ذي ال يعرف‪$$‬ون ش‪$$‬يئا‬
‫عن اإلنسانية والرحمة واألخالق‪.‬‬
‫ونحن ال نل‪$$‬وم فرنس‪$$‬ا‪ $،‬كم‪$$‬ا ال نل‪$$‬وم ال‪$$‬ذئاب والثع‪$$‬الب وك‪$$‬ل الحيوان‪$$‬ات‬
‫المتوحشة‪ ،‬فهي تمارس ما تمليه عليه‪$$‬ا طبيعته‪$‬ا‪ $‬ال‪$$‬تي اختارته‪$$‬ا بنفس‪$$‬ها‪ ..‬ولكن‪$$‬ا‬
‫نلوم أولئك التنويريين الذين ال يزالون يضربون لن‪$$‬ا النم‪$$‬وذج بفرنس‪$$‬ا‪ ،‬ويتغن‪$$‬ون‬
‫بها‪ ،‬ويسمونها‪ $‬بالد الجن والمالئكة‪ ،‬ويريدون منا أن نغمض أعيننا لنسير خلفها‬
‫حتى نكسب ودها‪ ،‬ونتطور في سلم الرقي الحضاري‪$.‬‬
‫واألخطر من ذلك هو مطالبتهم‪ $‬لنا بالتمرد على مصادرنا المقدسة‪ ،‬والقيم‬
‫النبيلة التي جاءت بها‪ ،‬لنستبدلها بالمقدسات الفرنسية والقيم الفرنس‪$‬ية‪ ..‬وه‪$‬ذا م‪$‬ا‬
‫ينقضي منه العجب‪ ..‬فمنذ متى كانت لفرنسا أي قيم أخالقية أو تنويرية‪ ،‬وهي أم‬
‫المجرمين‪ ،‬ومنطلق اإلجرام في القديم والحديث‪ ،‬واليمن خير شاهد على ذلك‪.‬‬
‫لكن مع ذلك نرى التنويريين ال يزالون يسجدون ويركعون له‪$$‬ا‪ ،‬ويجث‪$$‬ون‬
‫على أقدامهم‪ $‬كل م‪$$‬ا ذك‪$$‬رت‪ ،‬ويك‪$$‬ادون يس‪$$‬بحون بحم‪$$‬دها‪ ..‬وح‪$$‬ق لهم أن يفعل‪$$‬وا‬
‫ذلك‪ ،‬فهم ليسوا س‪$$‬وى نت‪$$‬اج للح‪$$‬رب الفرنس‪$$‬ية الثقافي‪$$‬ة على اإلس‪$$‬الم ومص‪$$‬ادره‬
‫والقيم النبيلة التي جاء بها‪.‬‬
‫فجرائم فرنسا‪ $‬ال تقتصر على تلك الحروب ال‪$$‬تي مارس‪$$‬تها على الش‪$$‬عوب‬
‫المستضعفة‪ ،‬وال على سياسة األرض المحروق‪$$‬ة‪ ،‬وال على اإلب‪$$‬ادات الجماعي‪$$‬ة‪،‬‬
‫وال على كل الجرائم العنصرية‪ ،‬وإنما لها جرائم أخرى ال تق‪$$‬ل خط‪$$‬را‪ ،‬وهي ال‬
‫تزال ترسل إلينا عبر مندوبيها من التنويريين‪ ،‬وعبر تل‪$$‬ك الثكن‪$$‬ة الجامعي‪$$‬ة ال‪$$‬تي‬
‫كانت مدرسة نهل منها التنويريون كل المناهج التي يضربون بها اإلسالم‪ ..‬ثكنة‬
‫[السربون] ال‪$$‬تي يتص‪$$‬ور‪ $‬الكث‪$$‬ير من المغفلين أنه‪$$‬ا جامع‪$$‬ة للبحث العلمي‪ ،‬بينم‪$$‬ا‬
‫هي في حقيقتها ليست سوى وسيلة من الوسائل التي استعملتها ق‪$$‬ديما‪ ،‬وال ت‪$$‬زال‬
‫تستعملها‪ $‬حديثها في حروبها المختلفة‪.‬‬
‫ومن العجائب أن تفتح جامعة السربون فرعا لها قب‪$$‬ل ف‪$$‬ترة في اإلم‪$$‬ارات‬
‫العربية المتحدة‪ ،‬عاصمة الحداثة العربية‪ ،‬تلك التي تمون ك‪$‬ل مش‪$‬اريع الحداث‪$‬ة‪،‬‬
‫ويسكن فيها كبار الحداثيين‪ ،‬ويظهر‪ $‬من قنواته‪$$‬ا ك‪$$‬ل الخطاب‪$$‬ات ال‪$$‬تي ت‪$$‬دعو إلى‬

‫‪20‬‬
‫إلغاء المقدس ومناقشته والتالعب به‪ ،‬ابتداء من شحرور وانتهاء بعدنان إبراهيم‬
‫الذي أشاد بحاكمها‪ ،‬واعتبره نموذجا للحكم الراشد‪.‬‬
‫ومن العجيب أن فرنسا‪ $‬التي تحرص على الدعوة للغتها تساهلت مع طلبة‬
‫فرع جامعة السربون في اإلمارات العربية المتح‪$$‬دة‪ ،‬وق‪$‬د‪ $‬ورد في خ‪$$‬بر بعن‪$$‬وان‬
‫[الفرنسية ليست شرطا ً للقب‪$$‬ول ودورات‪ $‬التقوي‪$$‬ة عام‪$$‬ل مس‪$$‬اعد للطلب‪$$‬ة](‪ )1‬ه‪$$‬ذا‬
‫النص الذي يمكننا من خالله أن نفهم الدور اإلجرامي‪ $‬الجديد الذي تقوم به فرنسا‬
‫في منطقتنا‪( :‬توقع الدكتور دانيال أوليف‪$$‬ير م‪$$‬دير جامع‪$$‬ة الس‪$$‬وربون أبوظ‪$$‬بي‪ $‬أن‬
‫يلتحق بالجامعة مئات الطلبة من داخل الدولة وخارجها ومن مختلف الجنسيات‪،‬‬
‫لكونها أول فرع لجامعة ب‪$$‬اريس الس‪$$‬وربون‪ $‬خ‪$$‬ارج فرنس‪$$‬ا‪ ،‬وتحدي‪$$‬دا‪ $‬في منطق‪$$‬ة‬
‫الشرق األوسط‪ $،‬حيث توفر التعليم العالي باللغة الفرنسية‪ ،‬مش‪$$‬يرا إلى أن الف‪$$‬رع‬
‫الجدي‪$$‬د س‪$$‬يتبع نفس طريق‪$$‬ة ومفه‪$$‬وم‪ $‬الت‪$$‬دريس ال‪$$‬تي تم‪$$‬يزت به‪$$‬ا الجامع‪$$‬ة األم‪،‬‬
‫وموض‪$$‬حا ً أن اللغ‪$$‬ة الفرنس‪$$‬ية لن تك‪$$‬ون ش‪$$‬رطا ً للتس‪$$‬جيل حيث س‪$$‬توفر الجامع‪$$‬ة‬
‫دورات تعليم له‪$$‬ذه اللغ‪$$‬ة م‪$$‬دتها ابت‪$$‬داء من ‪ 6‬ش‪$$‬هور‪ ،‬كم‪$$‬ا س‪$$‬تمنح الجامع‪$$‬ة ك‪$$‬ل‬
‫الشهادات بدرجاتها‪ $‬العلمية المختلفة البكالوريوس‪ $‬والماجستير‪ $‬والدكتوراه‪ .‬وأك‪$$‬د‬
‫أن توافر الش‪$$‬روط‪ $‬األكاديمي‪$$‬ة المطلوب‪$$‬ة ل‪$$‬دى الط‪$$‬الب من أهم ش‪$$‬روط االلتح‪$$‬اق‬
‫بالجامعة‪ ،‬الفتا إلى أن الجامعة ستركز على نوعية الطلب‪$$‬ة بغض النظ‪$$‬ر عن أي‬
‫اعتبارات تتعلق بالجنسية أو الدين طالما توفرت فيهم ش‪$$‬روط التم‪$$‬يز األكاديمي‪$$‬ة‬
‫التي حددت‪ ..‬وأوضح مدير الجامعة أن إنشاء فرع شامل ومتكام‪$$‬ل في أبوظ‪$$‬بي‪$‬‬
‫ج‪$$‬اء بع‪$$‬د اس‪$$‬تكمال مفاوض‪$$‬ات ناجح‪$$‬ة اس‪$$‬تمرت قراب‪$$‬ة الع‪$$‬ام أجراه‪$$‬ا الج‪$$‬انب‬
‫اإلماراتي‪ $‬م‪$$‬ع وزارة الخارجي‪$$‬ة الفرنس‪$$‬ية بغ‪$$‬رض إنش‪$$‬اء ح‪$$‬رم ج‪$$‬امعي له‪$$‬ا في‬
‫اإلمارة‪ ،‬يكون مطابق‪$$‬ا للح‪$$‬رم الج‪$$‬امعي الفرنس‪$$‬ي‪ ،‬الفت‪$$‬ا إلى ان ذل‪$$‬ك ي‪$$‬أتي وفق‪$$‬ا‬
‫لرؤية صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدول‪$$‬ة ـ حفظ‪$$‬ه هللا ـ‬
‫بضرورة وضع استراتيجية للنهوض بالتعليم‪ $‬بجميع مراحله)‬
‫ولس‪$$‬ت أدري ه‪$$‬ل أمتن‪$$‬ا بحاج‪$$‬ة إلى الجامع‪$$‬ات المتخصص‪$$‬ة في العل‪$$‬وم‬
‫الكوني‪$$$‬ة والتقني‪$$$‬ة‪ ،‬وال‪$$‬تي هي األس‪$$‬اس ال‪$$‬ذي ينطل‪$$‬ق من‪$$$‬ه التق‪$$‬دم الص‪$$‬ناعي‬
‫واالقتصادي‪ $،‬أم أننا بحاجة إلى هذه الجامعات ال‪$$‬تي تعلمن‪$$‬ا المن‪$$‬اهج الغربي‪$$‬ة في‬
‫التعامل مع المقدس والقيم المرتبطة به‪.‬‬
‫ولم يقتصر دور السربون على ه‪$$‬ذا االخ‪$$‬تراق الخط‪$$‬ير لبالدن‪$$‬ا‪ ،‬وال على‬
‫ه‪$‬ذه الف‪$‬ترة‪ ،‬ب‪$‬ل إن‪$‬ه اخترقن‪$‬ا‪ $‬في ك‪$‬ل العق‪$‬ود الس‪$‬ابقة‪ ..‬فه‪$‬و‪ $‬ال‪$‬ذي ك‪$‬ان يس‪$‬تخدم‬
‫شهاداته العلي‪$‬ا المع‪$‬ترف‪ $‬به‪$‬ا عالمي‪$$‬ا ليم‪$$‬رر من خالل أطروحاته‪$‬ا‪ $‬م‪$‬ا يش‪$‬اء من‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬فرع السوربون بأبوظبي‪ $‬يعزز مكانة التعليم في اإلمارات‪ ،‬البي‪$$‬ان‪ ،‬الت‪$‬اريخ‪12 :‬‬
‫يوليو ‪.2006‬‬

‫‪21‬‬
‫مشاريع‪$.‬‬
‫فقبل فترة طويلة تبنى [طه حسين] الذي أطلق عليه فيما بعد [عميد األدب‬
‫العربى]‪ ،‬ال لكونه كذلك من حيث مهارات‪$$‬ه األدبي‪$$‬ة واللغوي‪$$‬ة فق‪$$‬ط؛ فق‪$$‬د ك‪$$‬ان ل‪$$‬ه‬
‫منافسون كثيرون في ذلك‪ ،‬وكانوا يفوقونه في قدراتهم ومنجزاتهم‪ $،‬وإنما أعطوه‬
‫ذلك اللقب وبوؤوه المناصب الرفيعة‪ ،‬لمواقف‪$$‬ه التش‪$$‬كيكية في المقدس‪$$‬ات‪ ،‬وال‪$$‬تي‬
‫تجلت في كتاب‪$$‬ه المش‪$$‬هور ح‪$$‬ول الش‪$$‬عر الج‪$$‬اهلي‪ ،‬وال‪$$‬ذي نش‪$$‬ره س‪$$‬نة ‪1926‬م‪،‬‬
‫والذي ذكر فيه أن الش‪$$‬عر الج‪$$‬اهلي كتب بع‪$$‬د اإلس‪$$‬الم‪ ،‬ونُس‪$$‬ب لش‪$$‬عراء م‪$$‬ا قب‪$$‬ل‬
‫اإلسالم من الشعراء الجاهليين‪ ،‬وأنه ل‪$$‬ذلك ال يص‪$$‬ور‪ $‬الحي‪$$‬اة الجاهلي‪$$‬ة كم‪$$‬ا هي‪،‬‬
‫وهو بذلك ال يش‪$‬كك في الش‪$‬عر الج‪$‬اهلي فق‪$‬ط‪ ،‬وإنم‪$‬ا يش‪$‬كك في قيم‪$‬ة المص‪$‬ادر‬
‫المقدسة نفسها‪ ،‬ألنه يوحي‪ $‬ب‪$‬ذلك التش‪$‬كيك ب‪$‬أن الش‪$‬عر الج‪$‬اهلي ك‪$‬ان على نس‪$‬ق‬
‫القرآن الكريم وهيئته ونظمه‪ ..‬وهو بذلك أتاح الفرصة للتنويريين ليستمروا على‬
‫هذا المنهج‪ ،‬فيشككوا في المصادر المقدسة نفسها‪.‬‬
‫وقد كان قبل نشره للكتاب قد حصل ع‪$$‬ام ‪ 1919‬على ال‪$$‬دكتوراه بدراس‪$$‬ته‬
‫حول ابن خلدون فى جامعة السوربون‪ ،‬والتقى فيها بزوجته المستقبلية [س‪$$‬وزان‬
‫برسوا]‪ ،‬وقد كان من آثار ذلك ال‪$$‬زواج‪ ،‬وآث‪$$‬ار‪ $‬تل‪$$‬ك الش‪$$‬هادة العلي‪$$‬ا م‪$$‬ا كتب‪$$‬ه في‬
‫كتابه التنويري الخطير [مستقبل الثقافة في مصر]‪ ،‬والذي دعا فيه بكل صراحة‬
‫إلى (أن نسير سيرة األوروبيين ونسلك طريقهم لنك‪$$‬ون لهم أن‪$$‬دادا‪ ،‬و لنك‪$$‬ون لهم‬
‫شركاء في الحض‪$$‬ارة خيره‪$$‬ا و ش‪$$‬رها‪ ،‬حلوه‪$$‬ا و مره‪$$‬ا‪ ،‬و م‪$$‬ا يحب منه‪$$‬ا و م‪$$‬ا‬
‫يكره‪ ،‬و ما يحمد منها و ما يعاب‪)1()..‬‬
‫وهي نفس الصيحة التي ال يزال التنويريون يرددونها‪ ،‬غافلين عن جرائم‬
‫االستعمار‪ $‬الفرنسي‪ ،‬ومآسيه التي جرها على البشرية‪.‬‬
‫وعلى خطى طه حس‪$$‬ين ق‪$‬ام الس‪$$‬ربون‪ ،‬ومن رائ‪$‬ه المعس‪$$‬كرات الفرنس‪$‬ية‬
‫بتربية الكثير من الجنود الذي أدوا أدوارهم بدقة في التشكيك في كل المقدس‪$$‬ات‪،‬‬
‫والدعوة إلى الحضارة الغربية والقيم الغربي‪$‬ة‪ ،‬واعتب‪$‬ار اإلس‪$‬الم والعق‪$‬ل المس‪$‬لم‬
‫هو الحجاب األكبر الذي حال بين المس‪$$‬لمين وبين التط‪$$‬ور‪ ،‬من غ‪$$‬ير إش‪$$‬ارة إلى‬
‫أن ما قام به اإلجرام الغربي في حق الشعوب اإلس‪$$‬المية ه‪$$‬و الس‪$$‬بب األك‪$$‬بر في‬
‫تخلفها‪ ،‬ال اإلسالم‪ ،‬وال قيمه‪ ،‬وال مصادره المقدسة‪.‬‬
‫ومن أبرز هؤالء [محمد أركون] ذلك الذي رباه االستعمار الفرنسي على‬
‫عينه(‪ ،)2‬وأتاح له أن يدرس في السربون‪ ،‬ثم يتخرج منها‪ ،‬كمفك‪$$‬ر إس‪$$‬المي في‬

‫‪ )(1‬مستقبل الثقافة في مصر‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪ )(2‬ورد في سيرته الذاتية أنه عند [اآلباء البيض]‪ ،‬وهم كما هو معلوم تنظيم تنص‪$‬يري م َّكن ْ‪$‬‬
‫َت ل‪$‬ه فرنس‪$‬ا‬
‫نشاطه في منطقة القبائ‪$‬ل ال‪$‬تي ُو ِل‪$‬د فيه‪$‬ا أرك‪$‬ون‪ ،‬وق‪$‬د ر َّكزت ه‪$‬ذه‬
‫ِ‬ ‫بع َد احتالل الجزائر في ‪ ،1830‬وكان أغلب‬
‫ت اإلسالم واللغة العربيَّة بضراو ٍة‪..‬‬
‫اإلرساليَّة على تلك المنطقة وحارب ِ‬

‫‪22‬‬
‫الظ‪$$‬اهر‪ ،‬وكمستش‪$$‬رق تن‪$$‬ويري في الحقيق‪$$‬ة والب‪$$‬اطن‪ ،‬لي‪$$‬ؤدي دوره في تط‪$$‬بيق‬
‫المناهج الغربية على المصادر المقدسة للمسلمين‪ ،‬وخصوصا القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن العجيب أن يفعل ذلك‪ ،‬وهو يذكر أنه ال يعرف اللغ‪$$‬ة العربي‪$$‬ة جي‪$$‬دا‪،‬‬
‫ولذلك كتب كل كتبه باللغ‪$$‬ة الفرنس‪$$‬ية‪ ،‬وق‪$$‬د ق‪$$‬ال عن نفس‪$$‬ه‪( :‬ك‪$$‬ل من اس‪$$‬تمع إلى‬
‫كالمي ألح علي أن تقدم كتبي بالعربي‪$$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬ل أن أكتبه‪$$‬ا مباش‪$$‬رة بالعربي‪$$‬ة لتك‪$$‬ون‬
‫الفائ‪$$‬دة أتم للغ‪$$‬ة العربي‪$$‬ة والن‪$$‬اطقين به‪$$‬ا‪ .‬لم يتس‪$$‬ع لي ال‪$$‬وقت م‪$$‬ع األس‪$$‬ف ألق‪$$‬وم‬
‫بعملين مهمين مجهدين في وقت واحد وهما‪ :‬متابع‪$$‬ة التي‪$$‬ارات العلمي‪$$‬ة المختلف‪$$‬ة‬
‫في العل‪$$‬وم اإلنس‪$$‬انية واالجتماعي‪$$‬ة ب‪$$‬االطالع على جمي‪$$‬ع م‪$$‬ا يص‪$$‬در من كتب‬
‫باللغات الغربية؛ ثم إيجاد المصطلحات الالزمة لنقل أجهزة المفهومات المتجددة‬
‫والمتحول‪$$‬ة من ك‪$‬ل لغ‪$‬ة من اللغ‪$$‬ات األص‪$‬لية (اإلنجليزي‪$‬ة والفرنس‪$$‬ية واأللماني‪$‬ة‬
‫خاصة) إلى العربية)(‪)1‬‬
‫وهكذا كان عند زيارته ألمريكا يتكلم باإلنجليزية‪ ،‬ويكتب بها‪ ،‬وفي إقامته‬
‫بفرنس‪$$‬ا يكتب بالفرنس‪$$‬ية‪ ،‬ويتح‪$$‬دث به‪$$‬ا‪ ،‬أم‪$$‬ا عن‪$$‬د زيارت‪$$‬ه لموطن‪$$‬ه في المغ‪$$‬رب‬
‫العربي‪ ،‬فقد كان يحاضر ويفضل الحوار والتكلم مع اآلخرين باللغة الفرنسية‪.‬‬
‫وليته كان يفعل ذلك لنفسه ويكتفي به‪ ،‬بل كان ينشر في ك‪$$‬ل مح‪$$‬ل ي‪$$‬ذهب‬
‫إليه قيم الغرب ومناهج الغ‪$$‬رب وطريق‪$$‬ة تفك‪$$‬ير الغ‪$$‬رب‪ ،‬ويعت‪$$‬بر العربي‪$$‬ة تخلف‪$$‬ا‬
‫ورجعية‪ ،‬ويق‪$$‬ول عنه‪$‬ا‪( :‬يس‪$$‬تطيع الق‪$‬اريء أن ي‪$‬درك أس‪$$‬باب الفوض‪$$‬ى الداللي‪$‬ة‬
‫السائدة الي‪$$‬وم في اللغ‪$‬ة العربي‪$$‬ة فيم‪$$‬ا يخص التعب‪$$‬ير عن الحداث‪$$‬ة الفكري‪$$‬ة‪ ..‬له‪$$‬ذا‬
‫السبب لم نوفق بعد إلى إيجاد مص‪$$‬طلحات وافي‪$‬ة س‪$‬ليمة للدالل‪$‬ة الفكري‪$‬ة الكامل‪$‬ة‬
‫على مفهوم‪$$‬ات‪ ..‬وال يع‪$$‬ني ذل‪$$‬ك أب‪$$‬دا أن اللغ‪$$‬ة العربي‪$$‬ة غ‪$$‬ير ق‪$$‬ادرة على تأدي‪$$‬ة‬
‫المعاني التابعة لتلك المفهوم‪$$‬ات؛ وإنم‪$$‬ا يع‪$$‬ني أنه‪$$‬ا كس‪$$‬ائر اللغ‪$$‬ات له‪$$‬ا تاريخه‪$$‬ا‬
‫الفك‪$$$‬ري الخ‪$$$‬اص‪ ،‬أي منظومته‪$$$‬ا الخاص‪$$$‬ة من ال‪$$$‬دالالت الحاف‪$$$‬ة المرتبط‪$$$‬ة‬
‫بالنزاعات االيديولوجية بين القوى االجتماعية وأنها بحاجة إلى تطوير وتجديد‪..‬‬
‫وال يعود ه‪$‬ذا إلى أن اللغ‪$‬ة العربي‪$‬ة قاص‪$‬رة عن ذل‪$‬ك‪ ...‬لق‪$‬د ق‪$‬ام ال‪$‬دكتور هاش‪$$‬م‬
‫صالح باجتهاد مثمر في هذا الميدان وساهم مسامة جدية في إثراء اللغ‪$$‬ة العربي‪$$‬ة‬
‫والفكر اإلسالمي بتلك األجهزة من المفهومات واالصطالحات التي أشرت إليها‬
‫كأجهزة الزم‪$‬ة لمن يري‪$‬د التع‪$‬رف النق‪$‬دي على الفك‪$‬ر اإلس‪$‬المي ال في مراحل‪$‬ه‬
‫التاريخية فحسب‪ ،‬بل أيضا في الممارسات المعاصرة المتع‪$$‬ددة بتع‪$$‬دد الحرك‪$$‬ات‬
‫االجتماعية والسياس‪$$‬ية ال‪$$‬تي تق‪$‬دم نفس‪$‬ها في مع‪$‬اجم وتص‪$$‬ورات إس‪$‬المية‪ ...‬لق‪$$‬د‬
‫ألححت على هاش‪$$‬م ص‪$$‬الح ح‪$$‬تى يك‪$$‬ثر من الش‪$$‬روح والتعليق‪$$‬ات في ه‪$$‬وامش‬
‫الصفحات لكي يساعد القاريء على الفهم الدقيق وينقذه من سوء الفهم والت‪$$‬ورط‬

‫‪ )(1‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي لمحمد أركون‪ ،‬ص‪..7 :‬‬

‫‪23‬‬
‫المعرفة)(‪)1‬‬ ‫في أحكام سريعة على أشياء لم يعرفها حق‬
‫وليت موقفه اكتفى بالعربية كوس‪$$‬يلة من وس‪$$‬ائل االتص‪$$‬ال‪ ،‬ب‪$$‬ل إن موقف‪$$‬ه‬
‫راح للمصادر المقدسة نفسها‪ ،‬يطب‪$$‬ق عليه‪$$‬ا ك‪$$‬ل المن‪$$‬اهج الغربي‪$$‬ة‪ ،‬ليفرغه‪$$‬ا من‬
‫مضمونها‪.‬‬
‫بل إن‪$‬ه راح يس‪$$‬خر من الفرنس‪$‬يين ال‪$‬ذين درس‪$$‬وا الق‪$‬رآن الك‪$$‬ريم بص‪$$‬دق‪،‬‬
‫وراحوا يذكرون شهادتهم في ذل‪$$‬ك‪ ،‬ومنهم الط‪$$‬بيبُ الفرنس‪$‬ي [م‪$‬وريس بوك‪$‬اي]‬
‫صاحب كتاب [القرآن والكتاب المق َّدس والعلم]‪ ،‬والذي ألفه في أواخر سبعينيَّات‬
‫القرْ ن العشرين‪ ،‬والذي عرض فيه الكتُب السماوية على الحق‪$$‬ائق العلميَّة وال‪$$‬ذي‬
‫ق‬ ‫أن التحريف طال التوراةَ واإلنجيل‪ ،‬بينم‪$$‬ا تتواف‪$$‬ق الحق‪$$‬ائ ُ‬ ‫وصل من خالله إلى َّ‬
‫القرآنية مع المنتجات العلمية وال تتعارض معها‪.‬‬
‫وكان الموقف األصلي الذي يتخذه كل باحث صادق‪ ،‬هو أن ي‪$$‬ذهب إلي‪$$‬ه‪،‬‬
‫ويستفسره عن هذا الموقف‪ ،‬لكن أركون لم يفع‪$$‬ل ذل‪$$‬ك‪ ،‬وإنم‪$$‬ا راح يس‪$$‬خر من‪$$‬ه‪،‬‬
‫على ال‪$$‬رغم من الش‪$$‬هرة الكب‪$$‬يرة ال‪$$‬تي ناله‪$$‬ا الكت‪$$‬اب وص‪$$‬احبه‪ ،‬وال‪$$‬تي لم تعجب‬
‫(إن بوكاي ألَّف هذا الكتاب تزلُّفًا للمسلمين)‬ ‫أركون‪ ،‬بل علق عليها بقوله‪َّ :‬‬
‫ولم ينس أنه هو من يؤلف كتبه تزلفا للفرنسيين‪ ،‬بل قد صرح بذلك مرات‬
‫كث‪$$‬يرة في كتب‪$$‬ه‪ ،‬فق‪$$‬د ق‪$$‬ال يتح‪$$‬دث عن نفس‪$$‬ه في س‪$$‬يرته الذاتي‪$$‬ة‪( :‬يقول‪$$‬ون ـ أي‬
‫الغرب‪$$‬يين ـ لي مس‪$$‬تغربين أو مدهوش‪$$‬ين‪ :‬كي‪$$‬ف يمكن لش‪$$‬خص مس‪$$‬لم مثل‪$$‬ك أن‬
‫‪$‬ع وب‪$$‬اعث لألم‪$$‬ل؛ أن نس‪$$‬مع مس‪$$‬لما ً‬ ‫يتح‪$$‬دث به‪$$‬ذه الطريق‪$$‬ة؟ يال‪$$‬ه من ش‪$$‬ي ٍء رائ‪ٍ $‬‬
‫ليبراليّا ً أو متحرراً مثلك ‪ ..‬ولكن ال يمكن أن تحظى بصفة تمثيلية في بالدك‪ ،‬أو‬
‫بين أبناء دينك‪ ،‬فخطابك يمشي على عكس التيار‪ ،‬أو عكس اإلسالم)(‪)2‬‬
‫وقد كان جزاؤه من الدوائر التي استنبتته‪ ،‬تلك الشهرة العظيمة التي نالها‪،‬‬
‫والتي لم تجعل منه مثلما جعلت من طه حسين عمي‪$$‬دا لألدب فق‪$$‬ط‪ ،‬وإنم‪$$‬ا جعلت‪$$‬ه‬
‫مجددا ومفكرا إسالميا عريقا‪ ،‬مع كون كتاباته‪ ،‬وخاص‪$$‬ة بلغته‪$$‬ا األص‪$$‬لية تحم‪$$‬ل‬
‫كل ألوان اإللحاد والتبرؤ من الدين ومقدساته(‪.)3‬‬
‫ومن العجيب أن نجد في بعض الصحافة السعودية بع‪$$‬د وفات‪$$‬ه أمث‪$$‬ال ه‪$$‬ذه‬
‫التعقيبات التي أوردتها كبرى الجرائد الس‪$$‬عودية جري‪$$‬دة [الش‪$$‬رق األوس‪$$‬ط](‪، )4‬‬
‫‪ )(1‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي‪،‬ص‪.9-8:‬‬
‫‪ )(2‬قضايا في نقد العقل الديني؛ لمحمد أركون (‪ ،)22‬ترجم‪$$‬ة‪ :‬هاش‪$$‬م ص‪$$‬الح‪ ،‬دار الطليع‪$$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬يروت‪ ،‬ط‬
‫أولى‪1998 ،‬م‪.‬‬
‫‪ )(3‬من األمثلة على تالعب المترجمين له بالعربية وفي (قراءات للقرآن) بالفرنس‪$‬ية ج‪$‬اء عن‪$‬وان الفص‪$‬ل‬
‫الثاني كالتالي [ ‪ ،]le problème de l authenticité divine du Coran" ; p27‬لكن عربه هاشم صالح بـ‬
‫[موق‪$$‬ف المش‪$$‬ركين من ظ‪$$‬اهرة ال‪$$‬وحي] [الق‪$$‬رآن من التفس‪$$‬ير الم‪$$‬وروث‪...‬ص ‪ ،]93‬م‪$$‬ع أن الترجم‪$$‬ة العربي‪$$‬ة‬
‫األقرب للعنوان الفرنسي هي ‪ ( :‬معضلة توثيق نسبة القرآن الى هللا)‬
‫‪ )(4‬الشرق األوسط‪ 17 ،16 ،‬أيلول ‪.2010‬‬

‫‪24‬‬
‫وال‪$$‬تي ج‪$$‬اء فيه‪$$‬ا ق‪$$‬ول بعض‪$$‬هم‪( :‬أعتق‪$$‬د دون مبالغ‪$$‬ة أن أرك‪$$‬ون المج‪$$‬دد األك‪$$‬بر‬
‫لإلسالم في عصرنا الراهن‪ ..‬وأن أركون أحد حكماء المسلمين الكبار)‬
‫وفي جريد [ال‪$$‬وطن]‪( :‬أرك‪$$‬ون من الكب‪$$‬ار ال‪$$‬ذين ك‪$$‬انوا يجاه‪$$‬دون في بث‬
‫النور‪ ،‬وإحالله محل الظلمة الكالحة في عالمنا العربي)(‪)1‬‬
‫وفي جري‪$$‬دة [الري‪$$‬اض]‪( :‬أرك‪$$‬ون أول من ق‪$$‬دم نق‪$$‬دا للتفك‪$$‬ير الخ‪$$‬رافي‬
‫المعارض للمعرفة‪ ،‬وبدد هيمنة األسطورة في العقل العربي‪-‬اإلسالمي)(‪)2‬‬
‫وفي جريدة [الحياة ]‪( :‬عمل محمد أرك‪$$‬ون ط‪$$‬وال أك‪$$‬ثر من نص‪$$‬ف ق‪$$‬رن‬
‫على تقديم قراءة جديدة لإلسالم‪ ،‬قراءة تستند إلى مرجعيات ومناهج علمية)(‪)3‬‬
‫وهك‪$$‬ذا ال ت‪$$‬زال الجرائ‪$$‬د والمجالت والم‪$$‬ؤتمرات واإلعالم الع‪$$‬ربي يث‪$$‬ني‬
‫عليه‪ ،‬في نفس الوقت الذي يصب ج‪$‬ام غض‪$$‬به على ض‪$$‬حايا اإلج‪$‬رام الفرنس‪$$‬ي‪،‬‬
‫سواء من أولئك المستضعفين المظل‪$$‬ومين‪ ،‬أو من أولئ‪$‬ك المحتق‪$$‬رين من المثقفين‬
‫والذين ال يهتم بهم أحد إال إذا خلطوا كالمهم بلغة المستعمر‪ ،‬وطريقة تفكيره‪.‬‬

‫‪ )(1‬الوطن‪ 18 ،‬أيلول ‪.2010‬‬


‫‪ )(2‬الرياض‪ 16 ،‬أيلول ‪.2010‬‬
‫‪ )(3‬الحياة ‪ 16‬أيلول ‪.2010‬‬

‫‪25‬‬
‫احذروا القنابل الصوتية‬
‫يتص‪$$$‬ور‪ $‬الكث‪$$$‬ير أن القناب‪$$$‬ل الخط‪$$$‬يرة هي تل‪$$$‬ك القنابل‪$$$‬ة النووي‪$$$‬ة أو‬
‫الهيدروجينية أو الذكية‪ ،‬تلك التي تمتلكها إسرائيل وأمريكا‪ $‬وجميع محور الشر‪..‬‬
‫وينسون‪ $‬أن هناك قنابل أخرى أكثر خط‪$$‬را‪ ،‬ت‪$$‬دخل ك‪$$‬ل بيت‪ ،‬وتح‪$‬اول‪ $‬الوص‪$‬ول‪$‬‬
‫إلى كل عقل‪ ،‬لتفعل فيه ما ال تفعله القنابل النووي‪$$‬ة نفس‪$$‬ها‪ ،‬ألنه‪$$‬ا ال تقت‪$$‬ل الجس‪$$‬د‬
‫فقط‪ ،‬وإنما تقتل الروح أيضا‪.‬‬
‫ومصادر‪ $‬تلك القنابل هي نفس الدول التي تشن حملتها على المستض‪$$‬عفين‬
‫في اليمن وسورية وكل بالد هللا‪ ..‬وهي نفس‪$$‬ها ال‪$$‬تي تنعت المقاوم‪$$‬ة في فلس‪$$‬طين‬
‫ولبنان والعراق واليمن بكونها مليشيات إرهابية‪ ..‬وهي نفسها التي تصدر‪ $‬لنا كل‬
‫ألوان العهر والفج‪$$‬ور والمج‪$$‬ون‪ ،‬لتقض‪$$‬ي على أخالق ش‪$$‬باببنا‪ $‬كم‪$$‬ا تقض‪$$‬ي على‬
‫عقولهم‪.‬‬
‫وخطرها يتجاوز بكثير خط‪$$‬ر تل‪$$‬ك القناب‪$$‬ل الص‪$$‬وتية البدائي‪$$‬ة ال‪$$‬تي ك‪$$‬انت‬
‫تص‪$$‬در‪ $‬لن‪$$‬ا التط‪$$‬رف والعن ‪$‬ف‪ $‬واإلره‪$$‬اب‪ ..‬ذل‪$$‬ك أن تل‪$$‬ك القناب‪$$‬ل أمكن تفكيكه‪$$‬ا‬
‫ومواجهتها‪ ،‬وهي اآلن خردة قديمة أمام هذه القنابل الجديدة‪.‬‬
‫فالقنابل الجديدة ال تستعمل الدين مطية للتط‪$$‬رف والعن‪$$‬ف وقض مض‪$$‬اجع‬
‫األنظمة‪ ،‬وإنما تُستعمل لتخريب ال‪$$‬دين نفس‪$$‬ه‪ ..‬ووس‪$‬يلتها إلى ذل‪$‬ك بس‪$‬يطة ج‪$‬دا‪،‬‬
‫فهي تغازل بلطف أنانية اإلنسان وكبري‪$$‬اءه ومحبت‪$$‬ه للتم‪$$‬يز والظه‪$$‬ور‪ ،‬لترض‪$$‬ي‬
‫كل ألوان غروره‪.‬‬
‫فهي تجع‪$$‬ل من ك‪$$‬ل من هب ودب مجته‪$$‬دين وفقه‪$$‬اء ومفس‪$$‬رين ولغ‪$$‬ويين‬
‫ومحدثين وما شئت من األلق‪$$‬اب‪ ،‬من غ‪$$‬ير ممارس‪$$‬ة ق‪$$‬راءة‪ ،‬وال تعب تأم‪$$‬ل‪ ،‬وال‬
‫بحث وال اجتهاد وال نظر‪..‬‬
‫بل يكفي فق‪$$‬ط أن يض‪$$‬ع عقل‪$$‬ه عن‪$$‬د محم‪$$‬د ش‪$$‬حرور‪ $‬أو ع‪$$‬دنان إب‪$$‬راهيم أو‬
‫إسالم البحيري أو غيرهم كثير من ال‪$$‬ذين لم ي‪$$‬تركوا‪ $‬ش‪$$‬يئا إال انتق‪$$‬دوه وناقش‪$$‬وه‪..‬‬
‫ليخرج بعد ذلك‪ ،‬ومن غير بحث وال عناء وال تأم‪$$‬ل أس‪$$‬تاذا في فن النق‪$$‬د واله‪$$‬دم‬
‫والتدمير‪$.‬‬
‫لتفاجأ به يناقش كل شيء‪ ،‬ويحشر‪ $‬أنفه في كل مسألة؛ فإذا ما قيل له‪ :‬ه‪$$‬ل‬
‫قرأت شيئا؟‪ ..‬أو كيف وصلت إلى هذه الفكرة؟‪ ..‬أو كيف اقتنعت بهذه القناعة؟‪..‬‬
‫أخرج لك تسجيال صوتيا‪ ،‬أو قنبلة من قنابل اليوتيوب‪ $‬الكثيرة‪ ،‬ويذكر لك أن هذا‬
‫هو مصدر أفكاره‪.‬‬
‫ف‪$‬إذا م‪$‬ا قلت ل‪$‬ه‪ :‬األم‪$‬ر أخط‪$‬ر مم‪$‬ا تتص‪$‬ور‪ ،‬ف‪$‬البت في القض‪$‬ايا العلمي‪$‬ة‬
‫الكبرى ال يمكن أن يك‪$$‬ون به‪$$‬ذه الطريق‪$$‬ة‪ ،‬وال ب‪$$‬د أن تم‪$$‬ر بمراح‪$$‬ل كث‪$$‬يرة ح‪$$‬تى‬

‫‪26‬‬
‫تخرج لنا برأيك واجتهادك‪ ،‬أما أن تناقش بما وصل إليه غيرك‪ ،‬فليس ل‪$$‬ك ذل‪$$‬ك‪،‬‬
‫وليس ذلك من العلم‪.‬‬
‫إذا قلت له هذا أعرض عن‪$$‬ك‪ ،‬واتهم‪$‬ك‪ $‬بم‪$$‬ا ش‪$$‬اءت ل‪$$‬ه أه‪$$‬واؤه من التهم‪..‬‬
‫وهو يتصور نفسه فوق ذل‪$$‬ك تنويري‪$$‬ا‪ ،‬وه‪$$‬و ليس إال متطرف‪$$‬ا جدي‪$$‬دا ال يق‪$$‬ل عن‬
‫المتطرف‪ $‬الذي ينتقده‪ ،‬أو يحرض عليه‪ ،‬أو يتصور نفسه بمنجاة منه‪.‬‬
‫اس‬ ‫َّ‬
‫وقد حذر القرآن الك‪$$‬ريم من ه‪$$‬ذا الص‪$$‬نف من القناب‪$$‬ل‪ ،‬فق‪$$‬ال‪َ ﴿ :‬و ِمنَ الن ِ‬
‫ص‪ِ $‬ام (‬ ‫‪$‬و أَلَ‪ُّ $‬د ْال ِخ َ‬
‫ك قَوْ لُهُ فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َويُ ْش ِه ُد هَّللا َ َعلَى َما فِي قَ ْلبِ‪ِ $‬ه َوهُ‪َ $‬‬ ‫َم ْن يُع ِ‬
‫ْجبُ َ‬
‫ث َوالنَّ ْس‪َ $‬ل َوهَّللا ُ اَل‬ ‫ض لِيُ ْف ِس‪َ $‬د فِيهَ‪$$‬ا َويُ ْهلِ‪$$‬كَ ْال َح‪$$‬رْ َ‬ ‫‪َ )204‬وإِ َذا تَ‪َ $‬ولَّى َس‪َ $‬عى فِي اأْل َرْ ِ‬
‫س‬‫ق هَّللا َ أَ َخ َذ ْتهُ ْال ِع‪َّ $‬زةُ بِ ‪$‬اإْل ِ ْث ِم فَ َح ْس ‪$‬بُهُ َجهَنَّ ُم َولَبِ ْئ َ‬ ‫يُ ِحبُّ ْالفَ َسا َد (‪َ )205‬وإِ َذا قِ َ‬
‫يل لَهُ اتَّ ِ‬
‫ْال ِمهَادُ﴾ [البقرة‪]206 - 204 :‬‬
‫فهذه اآليات الكريمة تنطبق تماما على هذه القنابل الص‪$‬وتية‪ ،‬ومن يؤي‪$‬دها‬
‫وينصرها‪ ،‬وينشر أفكارها‪ $‬الهدامة‪ ،‬ألنها تعلم اللدد في الخصومة‪ ،‬ثم تنش‪$$‬ر بع‪$$‬د‬
‫ذلك كل القيم التي تتسبب في هالك الحرث والنسل‪.‬‬
‫فهي تنش‪$$‬ر قيم التالعب باأللف‪$$‬اظ القرآني‪$$‬ة‪ ،‬وال‪$$‬تي هي المقدم‪$$‬ة الك‪$$‬برى‬
‫لتحريف‪ $‬معانيه‪ ..‬وهي تنشر احتقار السنة المطهرة‪ ،‬وتنشر معها احتقار رس‪$$‬ول‬
‫هللا ‪ ، ‬والتحكم في تصرفاته وأقواله وتأويلها بكل ما تقتضيه األهواء‪.‬‬
‫وال تكتفي ب‪$$‬ذلك‪ ،‬ب‪$$‬ل ت‪$$‬ذهب إلى ك‪$$‬ل القيم والعقائ‪$$‬د ال‪$$‬تي تع‪$$‬ارف‪ $‬عليهم‬
‫المسلمون لتناقشها‪ ،‬وتلغيها‪ $‬بجرة قلم‪ ،‬وتتصور أنها وصلت إلى ما لم يصل إليه‬
‫األوائل واألواخر‪$.‬‬
‫وهكذا كان تأثير ه‪$$‬ذه القناب‪$$‬ل في مجتمعاتن‪$$‬ا‪ $،‬وبين ش‪$$‬بابنا‪ ،‬وال‪$$‬ذين لبس‪$$‬وا‬
‫تطرفا‪ $‬جديدا‪ ،‬بدل التطرف القديم‪.‬‬
‫وقد يقال هنا‪ :‬ليس لنا بد من االستماع‪ ..‬فنحن ال نملك الق‪$$‬درة على البحث‬
‫والمطالع‪$$‬ة‪ ،‬ول‪$$‬ذلك نكتفي بم‪$$‬ا تج‪$$‬ود علين‪$$‬ا ب‪$$‬ه القن‪$$‬وات أو المواق‪$‬ع‪ $‬من أش‪$$‬رطة‬
‫سمعية وبصرية؟‬
‫والج‪$$‬واب عن ه‪$$‬ذا بس‪$$‬يط ج‪$$‬دا‪ ،‬ومنطقي‪ $‬ج‪$$‬دا‪ ،‬فالعاق‪$$‬ل ال‪$$‬ذي يتقي هللا‪،‬‬
‫ويحرص على مصيره في اآلخرة‪ ،‬يكتفي بمن يذكره بربه‪ ،‬وب‪$$‬القيم النبيل‪$$‬ة ال‪$$‬تي‬
‫ج‪$$‬اء به‪$‬ا دين‪$‬ه‪ ،‬ويمل‪$$‬ؤه مخاف‪$$‬ة على مص‪$$‬يره‪ ،‬وحرص‪$‬ا‪ $‬علي‪$‬ه ح‪$$‬تى ال يعبث ب‪$‬ه‬
‫العابثون‪ ..‬مثلما كان يفعل العلماء والربانيون‪ ،‬والذين ال ي‪$‬زال لهم وج‪$$‬ود كب‪$$‬ير‪،‬‬
‫ولكن الناس أعرض‪$$‬وا‪ $‬عنهم‪ ،‬وراح‪$$‬وا إلى تل‪$$‬ك القناب‪$$‬ل الص‪$$‬وتية‪ ،‬ح‪$$‬تى يتح‪$$‬ول‬
‫الجميع إلى علماء من غير معاناة بحث وال نظر‪.‬‬
‫ومن أول عالمات أولئ‪$$‬ك العلم‪$$‬اء أنهم ال يلق‪$$‬ون للعام‪$$‬ة إال م‪$$‬ا يفي‪$$‬دهم في‬
‫دينهم‪ ،‬فهم يكتف‪$$‬ون بق‪$$‬راءة الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم وتفس‪$$‬يره‪ ،‬أو ش‪$$‬رح الح‪$$‬ديث النب‪$$‬وي‬
‫الش‪$$‬ريف‪ $‬ومأل القل‪$$‬وب والعق‪$$‬ول من خالل‪$$‬ه محب‪$$‬ة لرس‪$$‬ول هللا ‪ ..‬أو ذك‪$$‬ر‬

‫‪27‬‬
‫الصالحين وجعلهم أسوة للمهتدين‪..‬‬
‫أما غيرهم‪ ،‬أصحاب القنابل الصوتية‪ ،‬فهم الذين حولوا المنابر ال‪$‬تي تت‪$‬اح‬
‫لهم لنشر الهداية‪ ،‬إلى ماحل لتمجيد المالح‪$$‬دة‪ ،‬وإنك‪$$‬ار ع‪$$‬ذاب الق‪$$‬بر‪ ،‬وال‪$$‬ترغيب‬
‫وال‪$$‬دفاع‪ $‬عن نظري‪$$‬ة التط‪$$‬ور‪ ،‬واحتق‪$$‬ار ك‪$$‬ل علم‪$$‬اء األم‪$$‬ة وص‪$$‬الحيها‪ ،‬وب‪$$‬ذلك‬
‫أصبحت تلك المنابر منابر هدم‪ ،‬ال منابر بناء‪ ،‬وأصبحت منصة إلنت‪$$‬اج الغ‪$$‬رور‬
‫والمغترين‪ ،‬ال إلنتاج المتدينين المتأدبين المتواضعين‪.‬‬
‫نحن ال نق‪$$‬ول ه‪$$‬ذا لنلغي البحث والفك‪$$‬ر والنظ‪$$‬ر‪ $..‬ولكن لنق‪$$‬ول ألولئ‪$$‬ك‬
‫المغترين الذين تصوروا أنهم ـ باستماعهم لبعض السالسل الصوتية‪ ،‬أو البرامج‬
‫اإلذاعية والتلفزيونية قد صاروا‪ $‬باحثين ومجته‪$$‬دين وعلم‪$$‬اء ـ ‪ :‬كف‪$$‬وا عن ذل‪$$‬ك‪،‬‬
‫فالعلم يحتاج إلى جهد كبير‪ ،‬وتأمل عظيم‪ ،‬وقراءة كثيرة‪ ،‬وليس هو لك‪$$‬ل كس‪$$‬ول‬
‫يتصور أنه يمكن أن يفهم كل شيء من غير بحث وال دراسة وال نظر‪.‬‬
‫أم‪$$$‬ا االس‪$$$‬تماع‪ ،‬فخصص‪$$$‬وه للعلم‪$$$‬اء الرب‪$$$‬انيين لتس‪$$$‬فيدوا منهم التق‪$$$‬وى‬
‫والص‪$$‬الح‪ ،‬واألخالق واألدب‪ ،‬وإن ش‪$$‬ئتم أن تتعلم‪$$‬وا المع‪$$‬ارف‪ $‬العلمي‪$$‬ة‪ ،‬فهن‪$$‬اك‪$‬‬
‫أش‪$$‬رطة علمي‪$$‬ة وثائقي‪$$‬ة كث‪$$‬يرة يمكنه‪$$‬ا أن تنمي معلوم‪$$‬اتكم وثق‪$$‬افتكم‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت تعرفكم‪ $‬بخلق هللا وعظمته‪ ..‬وهي أجدى لكم من أولئك الذين ينعق‪$$‬ون فيكم‬
‫بما ال تطيقونه‪ ،‬وال تطيقه عقولكم‪.‬‬
‫ورحم هللا الشيخ محمد أبا زه‪$$‬رة ذل‪$$‬ك الع‪$$‬الم الجلي‪$$‬ل ص‪$$‬احب المص‪$$‬نفات‬
‫الكثيرة الممتلئة بالعلم الن‪$‬افع‪ ،‬وال‪$‬ذي ك‪$‬ان في غاي‪$‬ة التواض‪$‬ع‪ ،‬وال‪$‬ذي لم يص‪$‬دم‬
‫األم‪$$‬ة ب‪$$‬أي ش‪$$‬يء يه‪$$‬ز ثوابته‪$$‬ا إال أن‪$$‬ه ـ وفي م‪$$‬ؤتمر‪ $‬علمي ـ وبين العلم‪$$‬اء‬
‫والمختصين‪ ،‬ال بين عامة الناس‪ ،‬وال في أي قناة فضائية ـ راح يقول لهم‪ ،‬وبكل‬
‫تواضع وأدب(‪( :)1‬إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عش‪$$‬رين س‪$$‬نة‪ ،‬وكنت ق‪$$‬د‬
‫بحت ب‪$$‬ه لل‪$$‬دكتور‪ $‬عب‪$$‬د العزي‪$$‬ز ع‪$$‬امر)‪ ،‬ثم راح يخاطب‪$$‬ه ق‪$$‬ائال‪( :‬أليس ك‪$$‬ذلك ي‪$$‬ا‬
‫دكتور‪ $‬عبد العزيز؟)‪ ،‬قال‪ :‬بلى‪ ..‬ثم قال الشيخ‪ ،‬هو ممتلئ حي‪$$‬اء وتواض‪$$‬عا‪( :‬آن‬
‫لي أن أبوح بما كتمته‪ ،‬قبل أن ألقى هللا تعالى‪ ،‬ويسألني‪ :‬لماذا كتمت ما لديك من‬
‫علم‪ ،‬ولم تبينه للناس)‬
‫ثم راح ي‪$‬ذكر القض‪$‬ية ال‪$‬تي كتمه‪$‬ا عش‪$‬رين س‪$‬نة‪ ،‬ولم يقله‪$‬ا إال بع‪$‬د بحث‬
‫طويل‪ ،‬ونظر عميق‪ ،‬وأمام‪ $‬كبار العلماء والمختصين‪ ..‬وهي قضية بس‪$$‬يطة ج‪$$‬دا‬
‫مقارنة بالقضايا‪ $‬التي تط‪$‬رح الي‪$‬وم‪ ،‬فق‪$‬د ذك‪$‬ر موقف‪$‬ه من رجم المحص‪$‬ن في ح‪$‬د‬
‫ال‪$$‬زنى‪ ،‬حيث رأى أن ال‪$‬رجم ك‪$$‬ان ش‪$‬ريعة يهودي‪$‬ة‪ ،‬أقره‪$‬ا الرس‪$$‬ول ‪ ‬في أول‬
‫األمر‪ ،‬ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور‪.‬‬
‫ثم راح ي‪$$‬ذكر أدلت‪$$‬ه العلمي‪$$‬ة عليه‪$$‬ا بالتفص‪$$‬يل‪ ،‬وأم‪$$‬ام المختص‪$$‬ين‪ ،‬وبك‪$$‬ل‬
‫تواضع‪.‬‬
‫‪ )(1‬وذلك في مؤتمر‪ $‬ندوة التشريع اإلسالمي المنعقدة‪ $‬في مدينة البيضاء في ليبيا عام (‪.)1972‬‬

‫‪28‬‬
‫قارنوا‪ $‬هذا الموقف بأولئك‪ $‬الذين يخرجون علينا كل يوم بمقول‪$$‬ة جدي‪$$‬دة ال‬
‫تتعلق بفروع الدين فقط‪ ،‬وإنما تتعلق بأصوله أيضا‪ ..‬بل تتعلق بأصول أصوله‪..‬‬
‫ثم ال يذكر لها أي دليل‪ ،‬وال يستدل لها ب‪$$‬أي حج‪$$‬ة إال برأي‪$$‬ه المج‪$$‬رد ال‪$$‬ذي يلقي‪$$‬ه‬
‫بك‪$$‬ل غ‪$$‬رور وكبري‪$$‬اء‪ ،‬ثم يق‪$$‬ول للن‪$$‬اس‪ :‬ال ش‪$$‬ك أن المتط‪$$‬رفين س‪$$‬يكفرونني‪..‬‬
‫ويتب‪$$‬اهى‪ $‬ب‪$$‬ذلك‪ ،‬وال يخش‪$$‬ى أن تك‪$$‬ون الش‪$$‬ريعة نفس‪$$‬ها هي ال‪$$‬تي تكف‪$$‬ره‪ ..‬ال‬
‫المتطرفون فقط‪..‬‬
‫ألن دين هللا أعظم من أن يكون شرعة لك‪$$‬ل وارد‪ ،‬ولعب‪$$‬ة لك‪$$‬ل أف‪$$‬اك أثيم‪،‬‬
‫يستمع لوحي الشياطين‪ ،‬ثم يذهب لدين األمة يخربه‪ ،‬ويهدم‪ $‬أصوله وفروعه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫التنويريون ‪ ..‬وتأليه اإلنسان‬
‫القاس‪$$‬م المش‪$$‬ترك‪ $‬بين التن‪$$‬ويريين جميع‪$$‬ا ه‪$$‬و ذل‪$$‬ك التض‪$$‬خيم لإلنس‪$$‬ان‪،‬‬
‫واعتباره مركزا للكون كله‪ ،‬بل مركزا للوجود بحد ذات‪$$‬ه‪ ،‬بحيث يك‪$$‬ادون يلغ‪$$‬ون‬
‫هللا نفسه من أجل اإلنسان‪.‬‬
‫وهم في ذل‪$$‬ك ي‪$$‬رددون بطريق‪$$‬ة غ‪$$‬ير مباش‪$$‬رة م‪$$‬ا ردده قبلهم [ج‪$$‬ان ب‪$$‬ول‬
‫سارتر] زعيم الوجودية األكبر الذي ع‪$$‬بر عن نف‪$$‬وره من مزاحم‪$$‬ة هللا لوج‪$$‬وده‪،‬‬
‫كما يعتقد‪ ،‬فق‪$$‬ال‪( :‬م‪$$‬رة واح‪$$‬دة ش‪$$‬عرت ب‪$$‬أن هللا موج‪$$‬ود‪ $‬حين كنت ألعب بعي‪$$‬دان‬
‫الكبريت‪ ،‬وأحرقت‪ $‬سجادة صغيرة‪ ،‬وفيما كنت أخفي جرمي أبصرني‪ $‬هللا فجأة‪..‬‬
‫لقد شعرت بنظراته داخل رأسي‪ ..‬أحسُ أنني مرئي منه بش‪$$‬كل فظي‪$$‬ع‪ ،‬وش‪$$‬عرت‪$‬‬
‫بأنني هدف حي للرماية‪ ،‬ولكن اإلستنكار أنقذني‪ ،‬فقد اغتظت لفض‪$$‬وله المبت‪$$‬ذل‪،‬‬
‫ي أبدًا فيما بعد)(‪)1‬‬‫لهذا رفضته وجدفت عليه فلم ينظر إل َّ‬
‫وقال معبرا عن هذه النظرة بصيغة أشد جزما‪( :‬إذا انفجرت الحربة م‪$$‬رة‬
‫أخرى في روح اإلنسان‪ ،‬لم يبق لآللهة على هذا اإلنسان أي سلطة)‪ ،‬وق‪$$‬ال‪( :‬إذا‬
‫ك‪$$‬ان هللا موج‪$$‬و ًدا‪ $‬فاإلنس‪$$‬ان ع‪$$‬دم)‪ ،‬وق‪$$‬ال‪( :‬إن وج‪$$‬ود‪ $‬هللا يعط‪$$‬ل وج‪$$‬ودي أن‪$$‬ا‪،‬‬
‫فاألفضل أن ال يكون هللا موجو ًدا‪ $‬حتى أوجد أنا)‬
‫وقال في مسرحية [الش‪$$‬يطان واإلل‪$$‬ه الطيب]‪( :‬لم يكن هن‪$$‬اك غ‪$$‬يري‪ ،‬لق‪$$‬د‬
‫قررت وحدي‪ $‬الشر‪ ،‬ووحدي‪ $‬اخترعت الخير‪ ،‬أن‪$$‬ا ال‪$$‬ذي عش‪$$‬ت‪ ،‬أن‪$$‬ا ال‪$$‬ذي أفع‪$$‬ل‬
‫المعجزات‪ ،‬أنا الذين أتهم نفس‪$‬ي‪ ،‬وأن‪$‬ا وح‪$‬دي من أس‪$‬تطيع الغف‪$‬ران لنفس‪$‬ي‪ ،‬أن‪$‬ا‬
‫اإلنسان‪ ،‬إذا كان هللا موجودًا فإن اإلنسان هو العدم)(‪)2‬‬
‫ونفس التعب‪$$‬ير ذك‪$$‬ره رائ‪$$‬د التن‪$$‬وير‪ $‬األوروبي‪[ $‬فويرب‪$$‬اخ] ال‪$$‬ذي ق‪$$‬ال‪( :‬إن‬
‫نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون في اللحظة التي سيعنى‪ $‬فيها اإلنسان إن‬
‫اإلله الوحيد هو اإلنسان نفسه)‪ ،‬وقال‪( :‬اإلنسان الذي يؤمن باهلل ال يؤمن بنفس‪$$‬ه‪،‬‬
‫فاهلل هو اإلنسانية ال أكثر وال أقل‪ ،‬وال‪$$‬دين يجب أن يم‪$$‬وت‪ ،‬فيق‪$$‬وم على أنقاض‪$$‬ه‬
‫عالم على مقاييس اإلنسان‪ ،‬الذي يلزمه أن يكون إله نفسه)(‪)3‬‬
‫ومثلهما قال [ميخائيل باكونين] ص‪$$‬احب الفك‪$$‬ر المتم‪$$‬رد على ك‪$$‬ل ش‪$$‬يء‪:‬‬
‫(إذا كان هللا موجو ًدا‪ $‬فلست بحر‪ ،‬أنا ح‪$$‬ر فاهلل إذا غ‪$$‬ير موج‪$‬ود)‪ ،‬وق‪$$‬ال‪( :‬تت‪$‬ألف‬
‫حرية اإلنسان من ُمجرد التالي‪ :‬أن يُطيع قوانين الطبيعة ألنه أدركها بنفسه على‬
‫هذا النحو‪ ،‬وليس ألنها فُرضت‪ $‬عليه بواسطة سلطة خارجي‪$$‬ة‪ ،‬بش‪$$‬رية أو إلهي‪$$‬ة‪،‬‬
‫‪ )(1‬نقال عن‪ :‬القس أنجيلوس جرجس‪ ،‬وجود هللا وصور اإللحاد ‪.85‬‬
‫‪ )(2‬الشيطان واإلله الطيب ص ‪.131‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬رحلة في قلب اإللحاد‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫جماعية أو فردية)‪ ،‬وقال‪( :‬تتضمن فكرة اإلل‪$‬ه التخلي عن العق‪$‬ل والعدال‪$‬ة‪ ،‬إنه‪$‬ا‬
‫النفي األك‪$$‬ثر حس‪$$‬ما ً للحري‪$$‬ة اإلنس‪$$‬انية‪ .‬وتنتهي‪ $‬بالض‪$$‬رورة إلى إس‪$$‬تعباد الجنس‬
‫البشري‪ $‬في كل من النظرية والتطبيق)(‪)1‬‬
‫هؤالء بعض الذين صرحوا‪ $‬بإلحادهم من أج‪$$‬ل الحف‪$$‬اظ على وج‪$$‬ودهم في‬
‫مقابل هللا الذي يتصورون أن اعتقادهم بوج‪$$‬وده يلغي وج‪$$‬ودهم‪ ..‬ولع‪$$‬ل فرع‪$$‬ون‬
‫كان منهم ومعهم حين راح يزعم لنفسه أنه هو هللا‪ ،‬ويصيح في المصريين قائال‪:‬‬
‫ْس لِي ُم ْل‪ُ $$‬‬
‫ك ِم ْ‬
‫ص‪َ $$‬ر َوهَ‪ِ $$‬ذ ِه‬ ‫﴿أَنَ‪$$‬ا َربُّ ُك ُم اأْل َ ْعلَى ﴾ [النازع‪$$‬ات‪ ،]24 :‬وق‪$$‬ائال‪ ﴿ :‬أَلَي َ‬
‫ْصرُونَ ﴾ [الزخرف‪]51 $:‬‬ ‫اأْل َ ْنهَا ُر تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِي أَفَاَل تُب ِ‬
‫وقد كان هؤالء مع إلحادهم الشديد أكثر ص‪$$‬دقا‪ $‬وص‪$$‬راحة م‪$$‬ع أنفس‪$$‬هم من‬
‫الكث‪$$‬ير من التن‪$$‬ويريين والح‪$$‬داثيين ال‪$$‬ذين راح‪$$‬وا يس‪$$‬تعملون المص‪$$‬ادر‪ $‬المقدس‪$$‬ة‬
‫نفس‪$$‬ها‪ ،‬ليجعلوه‪$$‬ا رغم‪$$‬ا عنه‪$$‬ا ت‪$$‬ردد م‪$$‬ا ردده ج‪$$‬ان ب‪$$‬ول س‪$$‬ارتر‪ ،‬وفويرب‪$$‬اخ‪،‬‬
‫وميخائيل‪ $‬باكونين‪.‬‬
‫فق‪$$$‬د حول‪$$$‬وا المركزي‪$$$‬ة في الك‪$$$‬ون والوج‪$$$‬ود‪ $‬من [هللا] إلى [اإلنس‪$$$‬ان]‪..‬‬
‫فاإلنسان عندهم هو الهدف‪ ،‬وهو الغاية‪ ،‬وهو المبتدأ‪ ،‬وهو الخ‪$$‬بر‪ ،‬وه‪$$‬و البداي‪$$‬ة‬
‫وهو النهاية‪ ..‬أما هللا عندهم فهو مجرد ظل لإلنسان‪ ..‬وليس عليه أن يملي ش‪$$‬يئا‪،‬‬
‫وإن أملى علي‪$$‬ه ش‪$$‬يئا؛ فيمكن لإلنس‪$$‬ان أن يتم‪$$‬رد علي‪$$‬ه إن رأى أن ذل‪$$‬ك ليس‬
‫لصالحه‪.‬‬
‫وبه‪$$‬ذا المفت‪$$‬اح يمكنن‪$$‬ا أن نفتح جمي‪$$‬ع أب‪$$‬واب التن‪$$‬ويريين‪ ،‬وأن نفهم جمي‪$$‬ع‬
‫مشاريعهم‪ ..‬فمشاريع‪ $‬حسن حنفي كله‪$$‬ا مهم‪$$‬ا اختلفت عناوينه‪$‬ا‪ $‬تص‪$$‬ب في ن‪$$‬زع‬
‫مركزية الكون والوجود عن هللا‪ ،‬لوضعها‪ $‬في يد اإلنسان‪.‬‬
‫فه‪$$‬و في مش‪$$‬روعه [من العقي‪$$‬دة إلى الث‪$$‬ورة] يق‪$$‬ول‪( :‬إذن عب‪$$‬ارات ؛ هللا‬
‫عالم‪ ،‬هللا قادر‪ ،‬هللا حي‪ ،‬هللا سميع‪ ،‬هللا بص‪$$‬ير‪ ،‬هللا متكلم‪ ،‬هللا مري‪$$‬د‪ ،‬إنم‪$$‬ا تعكس‬
‫مجتمع‪$$‬ا ج‪$$‬اهالً ع‪$$‬اجزاً ميت‪$$‬ا ال يس‪$$‬مع وال يبص‪$$‬ر وال يتكلم‪ ،‬مس‪$$‬لوب اإلرادة‪،‬‬
‫وبالتالي‪ $‬يكشف الفكر الديني الذي يجعل هللا موضوعا‪ $‬في قض‪$$‬ايا من ه‪$$‬ذا الن‪$$‬وع‬
‫عن الظروف اإلجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع الذي تطل‪$$‬ق في أمث‪$$‬ال‬
‫هذه القضايا‪ ،‬فاهلل كموضوع‪ $‬في قضية خير مشجب ألماني البشر‪ ،‬وأصقل مرآة‬
‫تعكس أحالمهم وأحباطاتهم)‪$‬‬
‫وهذه العب‪$$‬ارة تع‪$$‬ني أن ذل‪$$‬ك االهتم‪$$‬ام ال‪$$‬ذي يولي‪$$‬ه المؤمن‪$$‬ون ل‪$$‬ربهم‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫يجتهدون في إفناء أفعالهم وصفاتهم‪ $‬وإراداتهم بل حتى ذواتهم‪ $‬في س‪$$‬بيل التق‪$$‬رب‬
‫إلى ربهم‪ ..‬ليست معان روحية سامية‪ ،‬وليست ذوقا إنسانيا رفيعا‪ ،‬وليست حقيقة‬
‫وجودي‪$‬ة مطلق‪$‬ة‪ ..‬وإنم‪$‬ا هي عن‪$‬د حس‪$‬ن حنفي كم‪$‬ا عن‪$‬د التن‪$‬ويريين ه‪$‬روب من‬
‫اإلنسان والظروف‪ $‬التي تحيط ب‪$$‬ه‪ ،‬وال‪$$‬تي علي‪$$‬ه أن يس‪$$‬يطر عليه‪$$‬ا‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫‪ )(1‬انظر هذه النصوص وغيرها كثير‪ $‬في كتاب [ما قاله المالحدة ولم يسجله التاريخ]‬

‫‪31‬‬
‫يحصل ذلك عندهم إال بعد أن يفني اإلنس‪$$‬ان ذات‪$$‬ه في ذات‪$$‬ه ألج‪$$‬ل ذات‪$$‬ه‪ ،‬من دون‬
‫اعتبار لربه‪ ،‬فهو رب نفسه‪ ،‬كما يقول الوجوديون‪.‬‬
‫واإلشكال الذي ذكرناه‪ ،‬والذي جعل من التنويريين ومن تعل‪$$‬ق بهم أخط‪$$‬ر‬
‫من المالحدة أنفسهم هو ذلك التأويل للمقدس لينسجم مع هذه األهواء‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك أن ما ي‪$$‬ردده حس‪$$‬ن حنفي كث‪$$‬يرا في كتب‪$$‬ه ومحاض‪$$‬راته‬
‫من قوله‪( :‬ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم‪ ،‬بل كتاب فكر ‪ ..‬وليس الغرض منه‬
‫تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك اإلنس‪$‬اني‪ $‬بقواع‪$‬د ب‪$‬ل مس‪$‬اعدة الطبيع‪$‬ة على‬
‫االزده‪$$‬ار والحي‪$$‬اة على النم‪$$‬اء‪ ..‬وم‪$$‬ا أس‪$$‬هل أن يول‪$$‬د ال‪$$‬دفاع عن ح‪$$‬ق هللا دفاع‪$$‬ا‬
‫مضاداً عن حق اإلنسان)‬
‫ونجد نفس الدعوة عند زعيم الحداثيين األكبر [محمد أركون] الذي جع‪$$‬ل‬
‫كل همه إزاحه هللا من الدين‪ ،‬ليحل اإلنسان بدله‪ ،‬وتصبح المركزية لإلنسان بدل‬
‫هللا‪ ..‬وق‪$$‬د ك‪$$‬ان من أوائ‪$$‬ل م‪$$‬ا كتب‪$$‬ه في ه‪$$‬ذا رس‪$$‬الته في ال‪$$‬دكتوراه من جامع‪$$‬ة‬
‫السوربون عام ‪1969‬م‪ ،‬والتي تحمل عنوان [ نزعة األنسنة في الفك‪$$‬ر الع‪$$‬ربي‪،‬‬
‫جيل مسكويه والتوحيدي]‬
‫وقد راح هو اآلخر يستعمل القرآن الكريم لتحويله من كت‪$$‬اب إلهي مق‪$$‬دس‬
‫يجب التسليم له‪ ،‬والخضوع ألوامره إلى كتاب إنس‪$$‬اني‪ ،‬ونت‪$$‬اج بش‪$$‬ري‪ ،‬خاض‪$$‬ع‬
‫للمناقشة‪ ،‬ويمكن للزمن والبيئة أن تؤثر في‪$$‬ه‪ ،‬وفي ك‪$$‬ل المف‪$$‬اهيم ال‪$$‬تي ج‪$$‬اء به‪$$‬ا‪،‬‬
‫وق‪$$‬د ق‪$$‬ال مع‪$$‬برا عن ذل‪$$‬ك بك‪$$‬ل ص‪$$‬راحة‪( :‬إن الق‪$$‬رآن ليس إال نص ‪$‬ا ً من جمل‪$$‬ة‬
‫ص أخرى‪ ،‬تحتوي على نفس مستوى التعقيد‪ ،‬والمع‪$$‬اني‪ $‬الف‪$‬وّارة الغزي‪$$‬رة‪:‬‬ ‫نصو ٍ‬
‫ِّس ‪$‬ة للبوذي‪$$‬ة أو الهندوس‪$$‬ية‪ ،‬وك‪$$‬لُّ نصٍّ‬
‫ك‪$$‬التوراة واإلنجي‪$$‬ل‪ ،‬والنص‪$$‬وص المؤس َ‬
‫ت تاريخي ٍة معينة‪ ،‬وقد‪ $‬يحظى‬ ‫تأسيسي‪ $‬من هذه النصوص الكبرى؛ َح ِظ َي بتوسعا ٍ‬
‫ت أخرى في المستقبل)(‪)1‬‬ ‫بتوسعا ٍ‪$‬‬
‫وه‪$$‬و له‪$$‬ذا ي‪$$‬دعو إلى ق‪$$‬راءة الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم ق‪$$‬راءة جدي‪$$‬دة بعي‪$$‬دة عن ك‪$$‬ل‬
‫المفاهيم التي تعلق بها المسلمون في جمي‪$$‬ع عص‪$$‬ورهم‪ ،‬وال‪$$‬تي جعلتهم ـ حس‪$$‬ب‬
‫تصوره ـ يتخلفون عن ركب األمم‪ ،‬فيقول متأسفا‪( :‬وهذا الت‪$$‬أخر يعكس التف‪$$‬اوت‬
‫التاريخي‪ ،‬بين المجتمعات اإلسالمية‪ ،‬والمجتمعات‪ $‬األوربية أو الغربية‪ .‬فالقرآن‬
‫ال يزال يلعب دور المرجعية العليا المطلقة‪ ،‬في المجتمعات العربية واإلس‪$‬المية‪.‬‬
‫ولم تح َّل محلّه أيّة مرجعيّة أخرى حتى اآلن ‪ ..‬إنه المرجعية المطلقة‪ ،‬التي تحدد‬
‫للناس ما هو الصَّح‪ ،‬وما هو الخطأ‪ ،‬ما هو الح‪$$‬ق‪ ،‬وم‪$$‬ا ه‪$$‬و الش‪$$‬رعي‪ ،‬وم‪$$‬ا ه‪$$‬و‬
‫القانوني‪ ،‬وما هي القيمة)(‪)2‬‬
‫ولهذا فإن القراءة الصحيحة عن‪$$‬ده للق‪$$‬رآن‪ ،‬وال‪$$‬تي تعي‪$$‬د مركزي‪$$‬ة اإلنس‪$$‬ان‬
‫‪ )(1‬الفكر األصولي؛ لمحمد أركون (‪)36‬‬
‫‪ )(2‬الفكر األصولي؛ لمحمد أركون (‪)22‬‬

‫‪32‬‬
‫هي أن (ننظر إلى القرآن من خالل مقارنته مع الكتب المش‪$$‬ابهة ل‪$$‬ه في الثقاف‪$$‬ات‬
‫األخرى ـ أي التوراة واإلنجيل ـ‪ ،‬فالمقارنة هي أساس النظر والفهم) (‪)1‬‬
‫وهكذا نجد كل التنويريين يشيدون باإلنسان باعتبار المركز ‪ ،‬ال باعتب‪$$‬اره‬
‫مجرد كائن من الكائنات التي خلقه‪$‬ا هللا تع‪$‬الى لت‪$‬ؤدي‪ $‬وظائفه‪$‬ا في ه‪$‬ذا الوج‪$‬ود‬
‫مثل سائر الكائنات‪ ،‬وأول وظائفها تعرفها‪ $‬على ربها‪ ،‬وعبوديتها‪ $‬له‪.‬‬
‫ومن الكتابات التي كتبت أخيرا في ه‪$$‬ذا م‪$$‬ا كتب‪$$‬ه التونس‪$$‬ي [عب‪$$‬د الوه‪$$‬اب‬
‫بوحديبة] في كتاب له بالفرنسة بعنوان [اإلنسان في اإلسالم]‪ ،‬والذي انطلق في‪$$‬ه‬
‫أن (المش‪$$‬روع‪ $‬اإلس‪$$‬المي ق‪$$‬ائم على نظ‪$$‬رة إنس‪$$‬يّة إض‪$$‬افة إلى التع‪$$‬الي أو‬ ‫من ّ‬
‫المفارقة اإللهيّة‪ ،‬وأن هللا أمام اإلنسان ال في تقابليّة ضديّة أو في عالق‪$$‬ة عبوديّ‪$$‬ة‬
‫بس‪$$‬يطة ب‪$$‬ل في اس‪$$‬تخالف حقيقي لب‪$$‬ني آدم‪ ،‬اس‪$$‬تخالف قوام‪$$‬ه الحريّ‪$$‬ة األص‪$$‬ليّة‬
‫لإلنسان‪ ،‬وأن‪$$‬ه ال يمكن الفص‪$$‬ل بين اإلس‪$$‬الم ك‪$$‬دين واإلس‪$$‬الم كثقاف‪$$‬ة وحض‪$$‬ارة‪،‬‬
‫فاالعتقاد قد تجلّى في التاريخ وبتجليه يمتزج ضرورة بالثقافة فال عقي‪$$‬دة خ‪$$‬ارج‬
‫الثقافة أي اإلنتاج المعنوي‪ $‬لإلنسان وال ثقافة في تاريخ اإلس‪$$‬الم دون استحض‪$$‬ار‪$‬‬
‫وتأوي‪$$‬ل للنصّ ال‪$$‬ديني‪ ،‬ف‪$$‬اهت ّم بوحديب‪$$‬ة ببعض النم‪$$‬اذج لم‪$$‬ا يس‪$$‬ميه بالمش‪$$‬روع‪$‬‬
‫اإلنسي في اإلسالم من خالل نصوص القرآن والس‪$‬نّة واجته‪$$‬اد‪ $‬الفقه‪$$‬اء وظ‪$$‬رف‪$‬‬
‫األدب‪$$‬اء ونظ‪$$‬ر الفالس‪$$‬فة وتأ ّم‪$$‬ل المتص‪$‬وّفة‪ ...‬فيم‪$$‬ا يعت‪$$‬بره أمثل‪$$‬ة عن المش‪$$‬روع‪$‬‬
‫اإلنس‪$$$‬اني‪ $‬الكب‪$$$‬ير‪ ،‬وك‪$$$‬أن الكت‪$$$‬اب يح‪$$$‬اول أن يض‪$$$‬ع اإلس‪$$$‬الم في دور وظيفي‬
‫للمشروع‪ $‬اإلنساني بغض النظر عن الموقف العقدي المدعى من ال‪$$‬دين‪ ،‬وت‪$$‬ؤول‪$‬‬
‫نصوص اإلسالم وتراثه من زاوية اإلنسان المحور) (‪)2‬‬
‫هذه مجرد أمثلة عن بعض كتابات الحداثيين حول هذا المعنى‪ ،‬وه‪$$‬و ليس‬
‫سوى ترديد‪ $‬لتلك الص‪$$‬يحات ال‪$$‬تي ردده‪$$‬ا المالح‪$$‬دة‪ ،‬ولكن بص‪$$‬يغة أخ‪$$‬رى أك‪$$‬ثر‬
‫تهذيبا‪ ،‬وأقل تشنيجا للمخالفين‪ ،‬ولو أن النتيجة في كليهما واحدة‪.‬‬
‫وتل‪$$‬ك النتيج‪$$‬ة خط‪$$‬يرة ج‪$$‬دا‪ ،‬ألنه‪$$‬ا تس‪$$‬لب عن اإلنس‪$$‬ان حقيقت‪$$‬ه وكماالت‪$$‬ه‬
‫وتجعله ممتلئا بأنانية مقيتة يغض الطرف خالله‪$‬ا عن ك‪$‬ل م‪$‬ا حول‪$‬ه من كائن‪$‬ات‬
‫ليحصر‪ $‬همته في النظر إلى مرآة نفسه‪ ،‬أو كم‪$$‬ا ذك‪$$‬ر ملهمهم س‪$$‬ارتر أن‪$$‬ه عن‪$$‬دما‬
‫توفي‪ $‬والده هنأ نفسه بموته‪ ،‬لشعوره بتحرره منه‪ ،‬وقد قال في ذلك‪( :‬لو كان أبي‬
‫ي بملء قامته وس‪$$‬حقني‪ ،‬ولحس‪$$‬ن حظي م‪$$‬ات أبي عن‪$$‬دما كنت‬ ‫حيًا لكان تم َّدد عل َّ‬
‫صغيرًا‪ $..‬إن موت جان باتسيت (والده) كان الح‪$$‬دث األهم في حي‪$$‬اتي‪ ،‬لق‪$$‬د أع‪$$‬اد‬
‫ي حريتي)(‪)3‬‬ ‫إل َّ‬
‫‪ )(1‬الفكر األصولي؛ لمحمد أركون (‪)22‬‬
‫‪ )(2‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬مقاربات‪ $‬اإلنسان في اإلسالم‪ :‬بين هموم األيديولوجي‪$$‬ة والمعرف‪$$‬ة‪ ،‬عب‪$$‬د ال‪$$‬رحمن‬
‫حللي‪ ،‬مجلة الملتقى‪..‬‬
‫‪ )(3‬اإللحاد‪ ..‬نشأته وتطوُّ ره ج ‪ 1‬ص ‪.169‬‬

‫‪33‬‬
‫وهكذا كان ينظر بعين الريبة للذين يبدون ل‪$$‬ه م‪$$‬ودتهم‪ $‬ومحبتهم‪ ،‬فق‪$$‬د ك‪$$‬ان‬
‫يقول عنهم‪( :‬إننا منذ اآلونة التي نش‪$$‬عر فيه‪$$‬ا ب‪$$‬أن إنس‪$$‬انًا آخ‪$$‬ر ينظ‪$$‬ر إلين‪$$‬ا‪ ،‬إنم‪$$‬ا‬
‫نشعر أيضًا بأن اآلخر يسلبنا عالمنا على نحو من األنحاء‪ ،‬هذا الع‪$$‬الم ال‪$$‬ذي كن‪$$‬ا‬
‫نمتلكه وحدنا‪ $‬حتى هذه اللحظة)‪ ،‬وقال‪( :‬إنني ابتدا ًء من اآلونة ال‪$$‬تي أش‪$$‬عر فيه‪$$‬ا‬
‫أن أحدًا ينظر إل ّي‪ ،‬أشعر أنني سلبت عن طري‪$$‬ق نظ‪$$‬ر اآلخ‪$$‬ر الموج‪$$‬ه إل ّي وإلى‬
‫إن العالقة بيننا وبين اآلخرين هي التي تخلق شقاءنا)‬ ‫العالم‪ّ ،‬‬
‫والمالحدة والحداثيون يتص‪$$‬ورون أنهم به‪$$‬ذا الط‪$$‬رح يح‪$$‬رررون اإلنس‪$$‬ان‬
‫من أي س‪$$‬لطة خارجي‪$$‬ة تتحكم في‪$$‬ه‪ ،‬لكنهم ينس‪$$‬ون أنهم به‪$$‬ذا الس‪$$‬لوك يخرج‪$$‬ون‬
‫اإلنس‪$$$‬ان من دائ‪$$$‬رة الس‪$$$‬لطة والحكم اإللهي إلى دائ‪$$$‬رة حكم اله‪$$$‬وى‪ ،‬وس‪$$$‬لطة‬
‫الشياطين‪.‬‬
‫وهم بذلك لن يكسبوا‪ $‬اإلنسان‪ ،‬وإنما سيخسرونه‪ ،‬ألنه يستحيل لإلنسان أن‬
‫يكون إنسانا ويتحقق بمعاني إنس‪$$‬انيته م‪$$‬ا لم يكن مس‪$$‬لما تس‪$$‬ليما مطلق‪$$‬ا هلل‪ ،‬مثلم‪$$‬ا‬
‫يسلم الخليفة للمستخلف‪.‬‬
‫باإلضافة إلى كونهم‪ $‬ـ بذلك ـ يقصرون اإلنس‪$$‬ان على ه‪$$‬ذا الجس‪$$‬د الف‪$$‬اني‪،‬‬
‫وتلك النفس األمارة‪ ..‬أما المعاني الروحية السامية‪ ،‬فال وجود‪ $‬لها في قواميسهم‪$،‬‬
‫ألنه ال يعرفها‪ $‬إلى من أف‪$$‬نى ذات‪$$‬ه في ذات هللا‪ ،‬وف‪$‬ر‪ $‬إلى هللا من نفس‪$$‬ه‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال‬
‫‪$‬ر‬‫ين (‪َ )50‬واَل تَجْ َعلُوا َم َع هَّللا ِ إِلَهً‪$$‬ا آخَ‪َ $‬‬ ‫تعالى‪﴿ :‬فَفِرُّ وا إِلَى هَّللا ِ إِنِّي لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬
‫ين﴾ [الذاريات‪]51 ،50 :‬‬ ‫إِنِّي لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ‬
‫ولن يفهم اإلنس‪$$‬ان إال من ت‪$$‬رك ذات‪$$‬ه وه‪$$‬اجر‪ $‬إلى هللا ورس‪$$‬وله‪ ،‬وردد‪ $‬م‪$$‬ع‬
‫‪$‬و ْال َع ِزي‪ُ $‬ز ْال َح ِكي ُم﴾ [العنكب‪$$‬وت‪:‬‬ ‫إبراهيم عليه السالم‪﴿ :‬إِنِّي ُمهَا ِج ٌ‪$‬ر إِلَى َربِّي إِنَّهُ هُ‪َ $‬‬
‫‪]26‬‬
‫ولن يفهم اإلنسان إال من عجل بالرحل‪$$‬ة إلى هللا‪ ،‬لين‪$$‬ال الم‪$$‬واهب الحقيقي‪$$‬ة‬
‫التي تجعل روحه تسمو إلى عليين‪ ،‬كما قال موسى عليه السالم‪َ ﴿ :‬وع َِج ْل ُ‬
‫ت إِلَ ْيكَ‬
‫ضى ﴾ [طه‪]84 :‬‬ ‫َربِّ لِتَرْ َ‬
‫وله‪$$‬ذا‪ ،‬ف‪$$‬إن أول م‪$$‬ا يخس‪$$‬ره ه‪$$‬ؤالء الح‪$$‬داثيون ه‪$$‬و أنفس‪$$‬هم وحقيقتهم‬
‫﴿والَّ ِذينَ َكفَ‪$‬رُوا‬ ‫ووج‪$$‬ودهم‪ ،‬ألن‪$$‬ه ال وج‪$$‬ود لهم من دون وج‪$$‬ود‪ $‬هللا‪ ،‬ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪َ :‬‬
‫ب بِقِي َع ٍة يَحْ َسبُهُ الظَّ ْمآنُ َما ًء َحتَّى إِ َذا َجا َءهُ لَ ْم يَ ِج ْدهُ َش ‪ْ $‬يئًا َو َو َج‪َ $‬د َ‬
‫هَّللا‬ ‫أَ ْع َمالُهُ ْم َك َس َرا ٍ‬
‫ت فِي بَحْ‪ٍ $‬ر لُ ِّج ٍّي يَ ْغ َش‪$‬اهُ‬ ‫ب (‪ )39‬أَوْ َكظُلُ َم‪$$‬ا ٍ‬ ‫ِع ْن َدهُ فَ َوفَّاهُ ِح َسابَهُ َوهَّللا ُ َس‪ِ $‬ري ُع ْال ِح َس ‪$‬ا ِ‬
‫ْض إِ َذا أَ ْخ َر َج يَ ‪َ $‬دهُ لَ ْم‬
‫ق بَع ٍ‬ ‫ضهَا فَوْ َ‬ ‫ات بَ ْع ُ‬ ‫َموْ ٌج ِم ْن فَوْ قِ ِه َموْ ٌج ِم ْن فَوْ قِ ِه َس َحابٌ ظُلُ َم ٌ‬
‫ور﴾ [النور‪]40 ،39 :‬‬ ‫يَ َك ْد يَ َراهَا َو َم ْن لَ ْم يَجْ َع ِل هَّللا ُ لَهُ نُورًا فَ َما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫وأعظم ما يخسره هؤالء التنويريون الذين جعلوا كل همهم عش‪$$‬ق أنفس‪$$‬هم‬
‫ومحبتها‪ $‬والوله بها‪ ،‬ذلك المعنى الذي ذكره هللا تعالى عن عباده المؤمنين‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ُون هَّللا ِ أَ ْندَادًا ي ُِحبُّونَهُ ْم َكحُبِّ هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ َش ُّد ُحبًّ‪$$‬ا‬
‫اس َم ْن يَتَّ ِخ ُذ ِم ْن د ِ‬
‫﴿ َو ِمنَ النَّ ِ‬

‫‪34‬‬
‫هَّلِل ِ﴾ [البقرة‪]165 :‬‬
‫ولذلك لن يتذقوا‪ $‬أبدا من ذلك الش‪$$‬راب ال‪$$‬ذي ش‪$$‬ربه المؤمن‪$$‬ون بع‪$$‬د فن‪$$‬ائهم‬
‫عن أنفسهم‪ ،‬وسباحتهم‪ $‬في بحار المحبة اإللهية مخاطبين هللا تعالى بقوله‪:‬‬
‫إال وحبّ‪$$$‬ك مق‪$$$‬رون بأنفاسي‬ ‫وهللا م‪$$$$$‬ا طلعت ش‪$$$$$‬مسٌ وال‬
‫غ‪$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$‬ربت‬
‫إال وأنت حديثي‪ $‬بين جالسي‬ ‫ُ‬
‫خل‪$$‬وت إلى ق‪$$‬وم أح‪ّ $$‬دثهم‬ ‫وال‬
‫إال وأنت بقل‪$$$$$$$$$$$$$$$‬بي بين‬ ‫وال ذكرتك محزوناً‪ $‬وال فَ ِرح‪$$‬ا‬
‫وسواسي‪$‬‬
‫ْت خي‪$$$$$‬االً من‪$$$$$‬ك في‬ ‫إال َرأَي ُ‬ ‫وال هممت بش‪$$$‬رب الم‪$$$‬اء من‬
‫الك‪$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$‬اس‬ ‫عطش‬
‫ولذلك تظل الكآبة واإلحب‪$$‬اط‪ $‬وك‪$$‬ل اآلالم النفس‪$$‬ية تالحقهم‪ ،‬ألن في (القلب‬
‫ش‪$$‬عث‪ ،‬ال يلم‪$$‬ه إال اإلقب‪$$‬ال على هللا‪ .‬وفي‪$$‬ه وحش‪$$‬ة‪ ،‬ال يزيله‪$$‬ا إال األنس ب‪$$‬ه في‬
‫خلوته‪ ،‬وفيه حزن ال يذهبه إال السرور بمعرفته وص‪$$‬دق‪ $‬معاملت‪$$‬ه‪ ،‬وفي‪$$‬ه قل‪$$‬ق ال‬
‫يسكنه إال االجتماع عليه‪ ،‬والفرار منه إليه‪ ،‬وفيه ن‪$$‬يران حس‪$$‬رات‪ :‬ال يطفئه‪$$‬ا إال‬
‫الرضا بأمره ونهيه وقض‪$$‬ائه‪ ،‬ومعانق‪$$‬ة الص‪$$‬بر على ذل‪$$‬ك إلى وقت لقائ‪$$‬ه‪ ،‬وفي‪$$‬ه‬
‫طلب شديد‪ :‬ال يقف دون أن يكون ه‪$$‬و وح‪$$‬ده مطلوب‪$$‬ه‪ ،‬وفي‪$$‬ه فاق‪$$‬ة‪ :‬ال يس‪$$‬دها إال‬
‫محبته‪ ،‬واإلنابة إليه‪ ،‬ودوام‪ $‬ذكره‪ ،‬وصدق اإلخالص له‪ .‬ول‪$$‬و أعطي ال‪$$‬دنيا وم‪$$‬ا‬
‫فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا)(‪)1‬‬

‫‪ )(1‬مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (‪)156 /3‬‬

‫‪35‬‬
‫القسم الثاني‬

‫شخصيات ‪ ..‬ومشاريع تنويرية‬

‫‪36‬‬
‫أركون ‪ ..‬وفزاعة المناهج الغربية‬
‫يعتبر المفكر الجزائري‪ $‬الكب‪$$‬ير محم‪$$‬د أرك‪$$‬ون (‪ )2010-1927‬من أك‪$$‬ثر‬
‫التنويريين شهرة على المستويات العربية والعالمي‪$$‬ة‪ ،‬وال يمكن ألح‪$$‬د من الن‪$$‬اس‬
‫أن يقلل من شأنه‪ ،‬وشأن الجديد الكثير الذي ج‪$$‬اء ب‪$$‬ه‪ ،‬وال‪$$‬ذي جعل‪$$‬ه يجلس على‬
‫عرش الحداثة والفكر الحداثي‪ ،‬بل جعل الكثير من كب‪$$‬ار الح‪$$‬داثيين والتن‪$$‬ويريين‪$‬‬
‫يجثون أمامه‪ ،‬وأمام المنابع التي نهل منه‪$$‬ا‪ ،‬كم‪$‬ا يجلس الحواري‪$$‬ون أم‪$$‬ام الن‪$$‬بي‪،‬‬
‫يسلمون لكل ما يقول‪ ،‬ويخضعون لكل ما يقرر‪.‬‬
‫وقد ألفوا حوله الكتب الكثيرة (‪)1‬وأحاطوه بهالة إعالمية عظيمة‪ ،‬وأق‪$$‬اموا‬
‫حول كل فكرة من أفكاره المؤتمرات التي تبشر بها‪ ،‬وتدعو إليها‪.‬‬
‫وفي حيات‪$$‬ه أت‪$$‬احوا ل‪$$‬ه أن يحاض ‪$‬ر‪ $‬في عش‪$$‬رات الجامع‪$$‬ات األوروبي‪$$‬ة‪،‬‬
‫واألمريكية‪ ،‬والعربية واإلسالمية ‪ ..‬وحتى في اليابان والهند‪ ..‬ب‪$$‬ل إن‪$$‬ه درّس في‬
‫الواليات المتحدة األمريكي‪$$‬ة‪ ،‬كم‪$$‬ا ش‪$$‬غل منص‪$$‬ب أس‪$$‬تاذ ت‪$$‬اريخ الفك‪$$‬ر اإلس‪$$‬المي‬
‫بجامعة (السوربون)‪ ..‬كما كان مديرا لقسم الدراسات العربي‪$‬ة واالس‪$‬المية فيه‪$‬ا‪،‬‬
‫وكان مديرا لمجلة أرابيكا (مجلة دراسات عربية واسالمية)‬
‫وق‪$$‬د أث‪$$‬نى علي‪$$‬ه جمي‪$$‬ع الح‪$$‬داثيين والتن‪$$‬ويريين واعت‪$$‬بروه من العق‪$$‬ول‬
‫العمالقة‪ ،‬كما عبر عن ذلك علي حرب بقوله‪( :‬إننا نجد أنفس‪$$‬نا م‪$$‬ع نص أرك‪$$‬ون‬
‫إزاء سيل ال يتوقف‪ $‬من اإلحاالت إلى مختل‪$$‬ف المراج‪$$‬ع والمن‪$$‬اهج‪ ،‬واالستش‪$$‬هاد‬
‫بمعظم‪ $‬أعالم الفكر المعاصر واالحتجاج بمختلف‪ $‬مجاالته)(‪)2‬‬
‫ومن خالل هذه الكلمات التي تعبر عن حقيقة الجديد الذي جاء ب‪$$‬ه أرك‪$$‬ون‬
‫نريد أن نناقش أطروحاته‪ ،‬وأطروحات كل من تبعه وتأثر به‪.‬‬
‫فالجديد الذي جاء به أركون هو محاكمة المقدس للمن‪$$‬اهج الغربي‪$$‬ة‪ ،‬وذل‪$$‬ك‬
‫ع‪$$‬بر االحتي‪$$‬ال على الق‪$$‬راء ح‪$$‬تى ال يص‪$$‬طدمهم‪ $‬بموقف‪$$‬ه الحقيقي من المق‪$$‬دس‬
‫بتصويره أنه ينتقد العقل المس‪$‬لم‪ ،‬ح‪$‬تى يت‪$‬وهم الق‪$‬ارئ البس‪$‬يط أن‪$‬ه يقص‪$‬د العق‪$‬ل‬
‫الذي يستند للتراث بينما هو في حقيقة األمر يقصد به العقل الذي يس‪$$‬تند للمق‪$$‬دس‬
‫الذي يبدأ من القرآن الكريم‪..‬‬
‫وأول من يستند‪ $‬إليهم أركون في هذا النقد [إيمانويل كانط] ذلك الفيلس‪$$‬وف‬
‫‪ )(1‬منها على سبيل المثال [نقد العقل اإلسالمي عند محم‪$‬د أرك‪$$‬ون]‪ ،‬لمحم‪$$‬د الفج‪$$‬ار‪ ..‬و[الق‪$‬رآن الك‪$$‬ريم‬
‫والقراءة الحداثية – دارسة تحليلية نقدية إلشكالية النص عند محمد أركون]‪ ،‬لحسن العباقي‪ ..‬و[ال‪$$‬تراث والمنهج‬
‫بين أركون والجابري]‪ ،‬لنايلة أبي ن‪$$‬ادر‪ ..‬و[العق‪$$‬ل اإلس‪$$‬المي أم‪$$‬ام ت‪$$‬راث عص‪$$‬ر األن‪$$‬وار في الغ‪$$‬رب ‪ -‬الجه‪$$‬ود‬
‫الفلسفية عند محمد أركون]‪ ،‬لرون هاليبر‪ ..‬و[الحداثة في فك‪$$‬ر محم‪$$‬د أرك‪$$‬ون]‪ ،‬لف‪$$‬ارح مس‪$$‬رحي‪ ..‬و[العق‪$$‬ل بين‬
‫التاريخ والوحي – حول العدمية النظرية في إسالميات محمد أركون]‪ ،‬لمحمد المزوغي‪ ..‬وغيرها كثير‪.‬‬
‫‪ )(2‬علي حرب‪ ،‬نقد النص ص ‪.83‬‬

‫‪37‬‬
‫األلماني الذي ولد عام ‪1724‬م‪ ،‬وكان من ألمع فالس‪$$‬فة عص‪$$‬رالتنويراألوروبي‪،‬‬
‫[ول ديورانت] في كتابه ( قص‪$$‬ة الفلس‪$$‬فة) ب‪$$‬أن فلس‪$$‬فته ك‪$$‬انت له‪$$‬ا‬ ‫والذي شهد له ِ‬
‫الس‪$$‬يادة والنف‪$$‬وذ في عص‪$$‬ر التن‪$$‬وير‪ ،‬بحيث اس‪$$‬تطاعت أن تتف‪$$‬وق على كاف‪$$‬ة‬
‫األفك‪$$$‬ارفي الق‪$$$‬رن التاس‪$$$‬ع عش‪$$$‬ر‪ ،‬ذل‪$$$‬ك أنه‪$$$‬ا قض‪$$$‬ت على التط‪$$$‬ورالمنعزل‬
‫للفكرالعقالني المتجرد المؤمن بسيادة العقل‪ ،‬لتعيد إلى اإليمان بالعقائ‪$$‬د واألدي‪$$‬ان‬
‫اعتباره بشكل مستقل‪ ،‬ومجرد عن العقل النظري‪$.‬‬
‫وبعد انتقاده للعقل الخالص‪ ،‬اعتبر أن األديان ال تستند لحقائق مطلقة‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫العقل ال يدل عليها‪ ،‬وإنما تستند لمجرد اإليمان الذي هو اختيار نابع من اإلرادة‪،‬‬
‫وليس نابعا من التفكير‪.‬‬
‫وهذه نفس أطروحة أرك‪$$‬ون‪ ،‬وال‪$$‬تي ينطل‪$$‬ق منه‪$$‬ا بع‪$$‬د ذل‪$$‬ك لنق‪$$‬د المق‪$$‬دس‬
‫والعقل الذي يستند إليه‪ ،‬ذلك أن نقد العقل يعني نقد كل البنيان الفكري الذي ب‪$$‬ني‬
‫عليه‪.‬‬
‫ومن هنا كانت صعوبة محاورة أمث‪$$‬ال ه‪$$‬ؤالء‪ ،‬ألنهم ـ عن‪$$‬د الح‪$$‬وار ـ ال‬
‫يلتفتون لألفكار؛ فيناقش‪$$‬ونها وف‪$‬ق‪ $‬مع‪$$‬ايير مح‪$$‬ددة ثابت‪$$‬ة‪ ،‬وإنم‪$$‬ا هم ينظ‪$$‬رون من‬
‫أبراجهم‪ $‬العاجية إلى المحاور لهم‪ ،‬ويسخرون من طريقة حواره وتفكيره نفسها‪.‬‬
‫وهم في ذلك يشبهون الحوار مع المحل‪$$‬ل النفس‪$‬ي ال‪$‬ذي ال يس‪$$‬مع للكلم‪$$‬ات‬
‫واألفك‪$$‬ار‪ $‬المطروح‪$$‬ة‪ ،‬بق‪$$‬در م‪$$‬ا يلتفت لحرك‪$$‬ات جس‪$$‬د محدث‪$$‬ه‪ ،‬ومالمح وجه‪$$‬ه‪،‬‬
‫ليصنفه بعد ذلك في أي خانة من خانات األمراض النفسية‪.‬‬
‫وقد ع‪$‬بر علي ح‪$‬رب عن ه‪$‬ذا المع‪$‬نى عن‪$‬د ذك‪$‬ره ل‪$‬دور فلس‪$‬فة كان‪$‬ط في‬
‫توجيه الحداثيين إلى مناقشة العقول‪ ،‬بدل مناقشة األفكار‪ ،‬فقال‪( :‬ال جدال في أن‬
‫ما أتى به كانط هو عمل غير مسبوق‪ $‬يمتاز بالج ّدة واألص‪$$‬الة‪ ،‬وتتجلى‪ $‬األص‪$$‬الة‬
‫أول ما تتجلى في النقلة التي أحدثها كانظ في مفهومه للنق‪$$‬د نفس‪$$‬ه وفي‪ $‬ممارس‪$$‬ته‬
‫له بطريق‪$$‬ة جدي‪$$‬دة ومغ‪$$‬ايرة‪ ،‬ذل‪$$‬ك أن‪$$‬ه م‪$$‬ع النق‪$$‬د الك‪$$‬انطي ننتق‪$$‬ل من نق‪$$‬د (الكتب‬
‫والمذاهب) إلى نقد (العقل نفسه) أي نتخطى نقد المعارف إلى نقد اآللة التي به‪$$‬ا‬
‫نعرف)‬
‫ولهذا وجد الحداثيون بمختلف‪ $‬مدارس‪$$‬هم الفرص‪$$‬ة لنق‪$$‬د المق‪$$‬دس ع‪$$‬بر نق‪$$‬د‬
‫العقل الذي ي‪$$‬ؤمن ب‪$$‬ه‪ ،‬وب‪$$‬ذلك ينه‪$$‬ار المق‪$$‬دس‪ ،‬ال من خالل مناقش‪$$‬ة أطروحات‪$$‬ه‪،‬‬
‫وإنما من خالل مناقشة العقول التي تؤمن به‪ ،‬وتستند إليه‪.‬‬
‫ولهذا يمكن للمقدس ـ بحس‪$‬ب ه‪$‬ؤالء ـ أن يتح‪$‬ول إلى أي ش‪$$‬يء‪ ،‬بحس‪$‬ب‬
‫الطريقة التي يفكر بها الناق‪$$‬د‪ ،‬وله‪$$‬ذا نج‪$$‬د مش‪$$‬اريع‪ $‬مختلف‪$‬ة لنق‪$$‬د العق‪$$‬ل‪ ،‬ألن ك‪$$‬ل‬
‫واحد منها يستند لطريقة تفكير خاصة‪ ،‬أو لمدرسة نقدية خاصة‪.‬‬
‫وطبعا‪ ،‬فإن كل المدارس النقدية‪ ،‬أو المناهج النقدي‪$‬ة‪ ،‬هي من‪$$‬اهج غربي‪$‬ة‪،‬‬
‫س‪$$$‬واء ك‪$$$‬انت ذات توج‪$$$‬ه ماركس‪$$$‬ي‪ ،‬أو وج‪$$$‬ودي‪ ،‬أوظ‪$$$‬اهراتي‪ ،‬أو ب‪$$$‬نيوي‪،‬‬

‫‪38‬‬
‫أوتفكيكي‪ $..‬وغيرها‪.‬‬
‫وله‪$$‬ذا س‪$$‬مينا ك‪$$‬ل ه‪$$‬ذه الطروح‪$$‬ات [فزاع‪$$‬ة]‪ ،‬ألن أص‪$$‬حابها يطرحونه‪$$‬ا‬
‫باعتباره‪$$‬ا من‪$$‬اهج مقدس‪$$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬ل هي أك‪$$‬ثر قداس‪$$‬ة من المق‪$$‬دس ال‪$$‬ذي ي‪$$‬ؤمن ب‪$$‬ه‬
‫المؤمنون‪ ،‬وسبب ذلك عندهم هو كونها مناهج غربية‪ ،‬وبم‪$$‬ا أن الغ‪$$‬رب متط‪$$‬ور‬
‫ومتحضر ـ بسبب اعتماده في نقد المقدس على هذه المناهج ـ فنحن كذلك ـ كم‪$$‬ا‬
‫يصورون ـ ال يمكن أن نتقدم أو نتطور‪ $‬من دون اعتمادها‪.‬‬
‫ه‪$$‬ذه خالص‪$$‬ة الطريق‪$$‬ة ال‪$$‬تي يفك‪$$‬ر به‪$$‬ا أرك‪$$‬ون‪ ،‬ومن تتلم‪$$‬ذ علي‪$$‬ه من‬
‫الحداثيين‪ ،‬ومن لم يتتلمذ‪ ،‬وقد عبر عن هذا المعنى بعض الباحثين أحسن تعبير‪،‬‬
‫فق‪$$‬ال‪ ..( :‬من هن‪$$‬ا ك‪$$‬ان مش‪$$‬روع‪ $‬الج‪$$‬ابري وأرك‪$$‬ون في نق‪$$‬د العق‪$$‬ل الع‪$$‬ربي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬حيث تحول نقد التراث عبر مشروعهما‪ ،‬من نقد المسائل والمق‪$$‬والت‬
‫التراثية إلى فحص وتحليل النظام المعرفي الذي أنتج تل‪$$‬ك المس‪$$‬ائل والمق‪$$‬والت‪،‬‬
‫ومن مناقشة التصورات‪ $‬الدينية في التراث إلى مناقش‪$$‬ة النظ‪$$‬ام‪ $‬الفك‪$$‬ري العمي‪$$‬ق‪،‬‬
‫أو األنظمة الفكرية المنتجة للتصورات‪ $‬الدينية في التراث اإلسالمي ‪ ..‬وهذا ه‪$$‬و‬
‫االنعطاف‪ $‬النقدي الجديد الذي حص‪$$‬ل م‪$$‬ع الج‪$$‬ابري‪ $‬وأرك‪$$‬ون ‪ .‬وحين نق‪$$‬ول نق‪$$‬د‬
‫النظام أو األنظمة‪ ،‬فهذا يعني أن الهدف هو دراسة المنهج‪ ،‬أي بنية العقل الديني‬
‫وطريق‪$$‬ة اش‪$$‬تغال آليات‪$$‬ه وليس مض‪$$‬امين الش‪$$‬ريعة والعقي‪$$‬دة بح‪ّ $‬د ذاته‪$$‬ا‪ ،‬فمس‪$$‬ائل‬
‫الشريعة والعقيدة كما يقول أركون (قد تختلف‪ ،‬ولكن الجذور المعرفي‪$$‬ة واح‪$$‬دة)‪،‬‬
‫أو بتعبير‪ $‬آخر؛ (ليس االهتمام باألفكار ذاتها‪ ،‬وإنما باألداة المنتجة لهذه األفكار)‬
‫(‪)1‬‬
‫وأركون يذكر في مواضع كثيرة من كتبه تلك المناهج الغربية التي طبقها‬
‫على اإلسالم بمصادره المقدس‪$$‬ة‪ ،‬وبفخ‪$$‬ر عجيب‪ ،‬وك‪$$‬أن اإلس‪$$‬الم س‪$‬يبقى متخلف‪$‬ا‬
‫حتى يفهم على ضوء النظارات الغربية‪ ،‬والفهم الغربي‪ ،‬وكأن الغرب ه‪$$‬و رم‪$$‬ز‬
‫الحضارة والقيم الممثلة لها‪ ،‬وهذا ما يدل على االنبه‪$$‬ار والتقلي‪$$‬د ال‪$$‬ذي يتم‪$$‬يز ب‪$$‬ه‬
‫الحداثيون الذين يص‪$$‬ورون أنفس‪$$‬هم مج‪$$‬ددين‪ ،‬م‪$$‬ع أنهم في الحقيق‪$$‬ة ليس‪$$‬وا س‪$$‬وى‬
‫مقلدين ومستهلكين للبضاعة الغربية‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله في بعض كتبه‪( :‬إن كل المسائل الحارقة ال‪$$‬تي‬
‫د ّشنها االستشراق في بداية القرن العش‪$‬رين ينبغي أن تُس‪$‬تعاد من جدي‪$‬د وتُ‪$‬درس‬
‫علي ضوء التعاليم المستحدثة للعلوم اإلنسانية‪ :‬كعلم األلسنيات الض‪$$‬روري‪ $‬ج‪$$‬داً‬
‫لدراسة النصوص المقدسة أو التراثي‪$$‬ة‪ ،‬وكعلم الس‪$$‬يميائيات‪ $‬أو ال‪$$‬دالالت اللغوي‪$$‬ة‬
‫وغير اللغوية‪ ،‬وكعلم النفس التاريخي الذي ازدهر كثيراً في فرنسا داخ‪$$‬ل إط‪$$‬ار‬
‫مدرس‪$$$‬ة الحولي‪$$$‬ات الش‪$$$‬هيرة‪ ،‬وكالنق‪$$$‬د ال‪$$$‬ديني‪ ،‬وكعلم االجتم‪$$$‬اع الح‪$$$‬ديث‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر مقاال بعنوان‪ :‬بين أركون والجابري ‪ ..‬في نقد العقل العربي‪ /‬اإلسالمي‪ :‬قراءة تحليلي‪$$‬ة لألبع‪$$‬اد‬
‫الفلسفية‪ ،‬عبد هللا المالي‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وكاألنتروبولوجيا‪ ...‬كل هذه العلوم ينبغي أن تُجيّش بمناهجها ومص‪$$‬طلحاتها‪ $‬من‬
‫أجل تشخيص مشاكل التراث اإلسالمي‪ .‬بالطبع فإن المس‪$$‬لمين التقلي‪$$‬ديين س‪$$‬وف‬
‫يحتج‪$$‬ون ويغض‪$$‬بون مثلم‪$$‬ا احتج‪$$‬وا وغض‪$$‬بوا‪ $‬ض‪$$‬د االستش‪$$‬راق الكالس‪$$‬يكي‬
‫ومنهجيته الفيلولجية ‪ -‬التاريخية التي تعود إلي القرن التاسع عشر)(‪)1‬‬
‫ومن العجيب أنه يصور‪ $‬غضب المس‪$$‬لمين‪ ،‬وكأن‪$$‬ه ليس ش‪$$‬يئا طبيع‪$$‬ا‪ ،‬م‪$$‬ع‬
‫كون‪$$‬ه ال يفع‪$$‬ل إال مثلم‪$$‬ا يفع‪$$‬ل ذل‪$$‬ك األحم‪$$‬ق ال‪$$‬ذي تطلب من‪$$‬ه أن يض‪$$‬يف‪ $‬بعض‬
‫الديكور‪ $‬على بيتك‪ ،‬فيذهب‪ ،‬ويهدمه جميعا‪ ،‬بحجة أن ديكوره ال يتناس‪$$‬ب إال م‪$$‬ع‬
‫بناء خاص‪.‬‬
‫وهكذا يفعل هؤالء الذين يغ‪$$‬الطون أنفس‪$$‬هم‪ ،‬والع‪$$‬الم ب‪$$‬أن القيم الحض‪$$‬ارية‬
‫والتنوير ال يمكن أن يناله سوى من تخلص من دينه ومقدساته‪ ،‬وه‪$$‬دمها‪ ،‬ليبنيه‪$$‬ا‬
‫على أس‪$$‬س الفك‪$$‬ر الغ‪$$‬ربي‪ ،‬مثلم‪$$‬ا حص‪$$‬ل للمس‪$$‬يحية ال‪$$‬تي تخلت عن الكث‪$$‬ير من‬
‫مبادئها‪ $‬إرضاء للعقل الروماني‪ $،‬كما قال شيخنا محمد الغزالي‪( :‬لست أدري هل‬
‫ترومت المسيحية‪ ،‬أم تمسحت روما)‬
‫والمشكلة التي جعلتنا نعتبر التنوير الجديد م‪$$‬ؤامرة على اإلس‪$$‬الم‪ ،‬هي أن‬
‫ه‪$$‬ؤالء التنويري‪$$‬ون ال ي‪$$‬دلون ب‪$$‬آرائهم فق‪$$‬ط‪ ،‬باعتباره‪$$‬ا آراء مج‪$$‬ردة يمكن أن‬
‫تناقش‪ ،‬وإنما هم يتعاملون معها باعتبارها حقيقة مطلقة‪ ،‬يستعملون كل الوس‪$$‬ائل‬
‫للدعوة إليها‪.‬‬
‫وهم يستثمرون في تل‪$‬ك ال‪$‬دول العربي‪$‬ة التابع‪$‬ة للغ‪$‬رب‪ ،‬ليفرض‪$‬وا عليه‪$‬ا‬
‫تعديل مناهجها التعليمية حتى تتناسب مع هذا الطرح التدميري لإلسالم‪.‬‬
‫ولهذا نجد أركون يدعو إلى اعتبار التعليم بمراك‪$$‬زه المختلف‪$$‬ة الن‪$$‬واة ال‪$$‬تي‬
‫ينشر من خاللها هذا الن‪$$‬وع من التفك‪$$‬ير‪ ..‬وق‪$$‬د ق‪$$‬ال في بعض تص‪$$‬ريحاته لمجل‪$$‬ة‬
‫[االكس‪$$‬بريس] الفرنس‪$$‬ية(‪( :)2‬ال يمكن للع‪$$‬الم الع‪$$‬ربي أو اإلس‪$$‬المي أن ينطل‪$$‬ق‬
‫حضاريا‪ $‬إال إذا انخرط في عملية تفكيكية نقدية شاملة ألنظمة الفكر الديني القديم‬
‫المسيطر‪ $‬والراسخ الجذور‪ ..‬وكذلك ينبغي تفكيك ك‪$$‬ل األي‪$$‬ديولوجيات‪ $‬الغوغائي‪$$‬ة‬
‫التي سيطرت علينا بعد االستقالل وأدت الي كل هذا الفشل ال‪$$‬ذريع ال‪$$‬ذي نش‪$$‬هده‬
‫حاليا كالقومجية الشوفينية والماركسوية الكاريكاتورية وس‪$$‬واهما‪ $..‬ولكن نالح‪$$‬ظ‬
‫حاليا أن أي عمل نقدي هادف لتحريرنا‪ $‬من الرواس‪$$‬ب التراثي‪$$‬ة يتع‪$$‬رض لرقاب‪$$‬ة‬
‫مزدوجة‪ :‬إما من طرف السلطة‪ ،‬وإما من طرف معارضاتها األصولية‪ ..‬الجميع‬
‫يزاود‪ $‬على االس‪$$‬الم ب‪$$‬المعنى‪ $‬التقلي‪$$‬دي للكلم‪$$‬ة لكي يكس‪$$‬ب المش‪$$‬روعية ورض‪$$‬ي‬
‫الجم‪$$‬اهير‪ .‬وفي‪ $‬كلت‪$$‬ا الح‪$$‬التين نج‪$$‬د أن الفك‪$$‬ر الح‪$$‬ديث بك‪$$‬ل مكتس‪$$‬باته العلمي‪$$‬ة‬

‫‪ )(1‬نقال عن‪ :‬نقد العقل التقليدي لإلسالم‪ ..‬المشروع الفلس‪$$‬في الكب‪$$‬ير لمحم‪$$‬د أرك‪$$‬ون‪:‬بقلم‪ :‬هاش‪$$‬م ص‪$$‬الح‪،‬‬
‫الفجر نيوز‪ ،‬نشر في الفجر نيوز يوم ‪.2008 - 02 - 03‬‬
‫‪ )(2‬مجلة االكسبريس‪ $‬الفرنسية بتاريخ ‪.2003-3-27‬‬

‫‪40‬‬
‫مرفوض‪ $‬أو مهمش في أحسن األحوال)‬
‫ثم ي‪$$‬ذكر بعض اقتراحات‪$$‬ه في ه‪$$‬ذا المج‪$$‬ال؛ فيق‪$$‬ول‪( :‬نالح‪$$‬ظ مثال أنهم‬
‫اليعلمون في المدارس بل وحتى الجامعات إال اإلسالم‪ ،‬ويستبعدون دراس‪$$‬ة ك‪$$‬ل‬
‫األديان األخرى‪ ..‬وهذا يعني أن مادة تاريخ األديان المقارن‪$$‬ة ممنوع‪$$‬ة في الع‪$$‬الم‬
‫العربي واإلسالمي‪ $‬كله‪ ..‬واألسوأ من ذلك هو أن تعليم اإلسالم نفسه يتم بطريق‪$$‬ة‬
‫قروسطية عتيقة عفى عليها الزمن‪..‬وهو علي أي حال خاضع كليا لألرثوذكسية‬
‫األصولية الصارمة سنية كانت ام شيعية ‪ ..‬انظر حالة ايران)‬
‫وه‪$$‬و به‪$$‬ذا ي‪$$‬دعو إلى ع‪$$‬رض اإلس‪$$‬الم باعتب‪$$‬اره نموذج‪$$‬ا من النم‪$$‬اذج‬
‫التاريخية للفكر الديني‪ ،‬وليس باعتب‪$$‬اره هداي‪$$‬ة هللا لعب‪$$‬اده‪ ..‬وه‪$$‬و يق‪$$‬ول ذل‪$$‬ك م‪$$‬ع‬
‫كونه يعلم أنه في كل الجامعات اإلسالمية توجد فروع‪ $‬خاص‪$$‬ة بمقارن‪$$‬ة األدي‪$$‬ان‪،‬‬
‫لكنه ال يريدها كذلك‪ ،‬بل يريد تعميمها حتى في المدارس‪ ،‬أي أن يدرس للتالميذ‬
‫في المدرسة االبتدائية واإلعدادية اليهودية والمسيحية جنبا إلى جنب‪ ،‬وبالطريقة‬
‫التي تجعلهم يعتبرون اإلسالم مجرد مرحلة من مراحل الفكر الديني‪ ،‬وليس دين‬
‫هللا الثابت المستقر الذي يمثل الحقيقة المطلقة‪.‬‬
‫وق‪$$‬د‪ $‬ص‪$$‬رح بأهداف‪$$‬ه الرس‪$$‬الية ال‪$$‬تي آتت ثماره‪$$‬ا‪ $‬في الكث‪$$‬ير من البالد‬
‫لألسف‪ ،‬ومن بينها اإلمارات العربي‪$$‬ة المتح‪$$‬دة‪ ،‬ال‪$$‬تي فتحت فرع‪$$‬ا للس‪$$‬ربون في‬
‫بالدها‪ ،‬وقد ق‪$‬ال مع‪$‬برا عن ذل‪$‬ك‪( :‬أن‪$‬ا شخص‪$‬يا أناض‪$‬ل من أج‪$‬ل تغي‪$‬ير ب‪$‬رامج‬
‫التعليم في ك‪$$‬ل ال‪$$‬دول العربي‪$$‬ة واإلس‪$$‬المية‪ ..‬وينبغي‪ $‬على االتح‪$$‬اد االوروبي أن‬
‫يتفاوض مع بلداننا لتغيير هذه البرامج‪ ،‬وبخاصة فيما يتعل‪$‬ق بتعليم م‪$‬ادة التربي‪$‬ة‬
‫الدينية‪ ..‬أقول ذلك ألن تعليم الدين بطريق‪$$‬ة ظالمي‪$$‬ة أص‪$$‬ولية وص‪$$‬ل م‪$$‬ؤخرا إلى‬
‫أوروب‪$$‬ا ذاته‪$$‬ا وانتش‪$$‬ر في جالياته‪$$‬ا المغترب‪$$‬ة من عربي‪$$‬ة واس‪$$‬المية‪ .‬وبالت‪$$‬الي‪$‬‬
‫فالخطر‪ $‬أصبح على أبواب الغرب نفس‪$$‬ه‪ ،‬وله‪$$‬ذا الس‪$$‬بب أق‪$$‬ول ينبغي على الع‪$$‬الم‬
‫اإلسالمي أن يتوصل إلى الحداثة بأقصي سرعة ممكنة وبدون تحفظ)‬
‫ثم يملي ما على العالم اإلسالم أن يفعل حتى يتوصل إلى ه‪$$‬ذه الحداث‪$$‬ة في‬
‫أقرب وقت؛ فيقول‪( :‬ينبغي عليه أن يتعرف على المكتسبات التحريري‪$$‬ة للحداث‪$$‬ة‬
‫من علمية وفلسفية‪ ،‬ثم يهض‪$$‬مها ويس‪$$‬توعبها‪ ،‬وإال فإن‪$$‬ه س‪$$‬يظل رهين‪$$‬ة في أي‪$$‬دي‬
‫االصوليين المتزمتين)‬
‫وهذا التصريح يشبه تصريح الساسة أكثر من شبهه بتصريحات المثقفين‬
‫ال‪$$‬ذين يع‪$$‬الجون القض‪$$‬ايا وف‪$$‬ق ال‪$$‬رؤى المختلف‪$$‬ة‪ ،‬ووف ‪$‬ق‪ $‬الح‪$$‬وار اله‪$$‬ادئ‪ ،‬وال‬
‫يعتمدون فرض أفكارهم‪ ،‬وال تهييج المخالفين لها‪ ،‬أو ترهيبهم‪.‬‬
‫وهو يحرص كل حين على التهكم والسخرية من الذين يعت‪$$‬برون اإلس‪$$‬الم‬
‫حقيقة مطلقة ثابتة مستقرة مقدسة‪ ،‬بكونهم منغلقين فكريا‪ $..‬أي أن المتحرر‪ $‬عن‪$$‬ده‬
‫هو الذي يضع أدوات الجراحة على تلك المصادر‪ $‬المقدسة‪ ،‬بع‪$$‬د ن‪$$‬زع قدس‪$$‬يتها‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫ثم يعمل فيها مبضعه ليشرحها بالطريقة التي يشتهي‪.‬‬
‫وقد قال في بعض تصريحاته في ه‪$$‬ذا المج‪$$‬ال‪( :‬إن إط‪$$‬ار الفك‪$$‬ر الخ‪$$‬اص‬
‫باالعتقاد األرثوذكسي‪ ،‬وكذلك معجمه اللفظي القديم يقفان كعقبة ك‪$$‬أداء في وج‪$$‬ه‬
‫استقبال أي فكر نقدي تحريري عن االس‪$$‬الم في الع‪$$‬الم الع‪$$‬ربي‪ ..‬إنهم‪$$‬ا يش‪$$‬كالن‬
‫عقبة في وجه التحليالت التفكيكية للعلوم االنسانية الحديث‪$$‬ة‪ ،‬وله‪$$‬ذا الس‪$$‬بب ف‪$$‬إنهم‬
‫يمنع‪$$‬ون األبح‪$$‬اث التاريخي‪$$‬ة الج‪$$‬ادة عن الق‪$$‬رآن‪ ،‬والح‪$$‬ديث النب‪$$‬وي‪،‬والش‪$$‬ريعة‪،‬‬
‫والفقه‪ ،‬والتفسير‪ ،‬ومختلف‪ $‬ج‪$$‬وانب ال‪$$‬تراث الق‪$$‬ديم‪ .‬إنهم يحرم‪$$‬ون ك‪$$‬ل ذل‪$$‬ك عن‬
‫طري‪$$‬ق فت‪$$‬اوي الهيب‪$$‬ة العلي‪$$‬ا لرج‪$$‬ال ال‪$$‬دين الكب‪$$‬ار وعن طري ‪$‬ق‪ $‬خطب الجمع‪$$‬ة‬
‫والمواعظ التي تعتبر نفسها مقدسة أو معصومة‪ .‬كل الفك‪$$‬ر النق‪$$‬دي الح‪$$‬ديث عن‬
‫التراث اإلسالمي ممنوع في كلي‪$$‬ات الش‪$$‬ريعة والمعاه‪$$‬د التقليدي‪$$‬ة ب‪$$‬ل وح‪$$‬تى في‬
‫الم‪$$‬دارس والجامع‪$$‬ات الحديث‪$$‬ة‪ .‬وبالت‪$$‬الي فهن‪$$‬اك ه‪$$‬وة س‪$$‬حيقة تفص‪$$‬ل بين الفك‪$$‬ر‬
‫الديني التقليدي السائد حاليا في كل أنحاء الع‪$$‬الم الع‪$$‬ربي اإلس‪$$‬المي‪ ،‬وبين الفك‪$$‬ر‬
‫العلمي الحديث المتشكل عن االس‪$‬الم وك‪$‬ل األدي‪$‬ان‪ .‬نحن في واد‪ ،‬والمش‪$‬ايخ في‬
‫واد آخر‪ .‬واللقاء شبه مستحيل بين الطرفين)(‪)1‬‬
‫وطبعا‪ ،‬نحن وإن كنا نوافقه في ضرورة توف‪$$‬ير المزي‪$$‬د من البحث العلمي‬
‫في مناقشة التراث‪ ،‬لكنا نختلف معه اختالفا جذريا‪ $‬في المناهج ال‪$$‬تي تس‪$$‬تند إليه‪$$‬ا‬
‫تل‪$$‬ك البح‪$$‬وث‪ ،‬ذل‪$$‬ك أن‪$$‬ه ي‪$$‬دعو إلى محاكم‪$$‬ة ال‪$$‬تراث‪ ،‬ابت‪$$‬داء بالمق‪$$‬دس من‪$$‬ه إلى‬
‫المن‪$$‬اهج الغربي‪$$‬ة‪ ،‬ونحن ن‪$$‬رى أن يح‪$$‬اكم ال‪$$‬تراث المق‪$$‬دس إلى ال‪$$‬تراث المق‪$$‬دس‬
‫نفسه‪ ،‬فالمتشابه يرد إلى المحكم‪ ،‬وفي المقدس نفس‪$$‬ه م‪$$‬ا يكفي من األدوات ال‪$$‬تي‬
‫تصحح ما ران عليه من فهم العصور‪ $‬المختلفة‪.‬‬
‫وأرك‪$$‬ون كغ‪$$‬يره من الح‪$$‬داثيين المقل‪$$‬دين‪ ،‬ينطلق‪$$‬ون من تش‪$$‬بيه اإلس‪$$‬الم‬
‫بالمسيحية من غير مراع‪$$‬اة لالختالف الش‪$$‬ديد بينهم‪$‬ا‪ ،‬وله‪$‬ذا يط‪$$‬البون بمحاكم‪$‬ة‬
‫المصادر‪ $‬المقدسة للمسلمين‪ ،‬بما حوكمت ب‪$$‬ه المص‪$$‬ادر المقدس‪$$‬ة للمس‪$$‬يحيين م‪$$‬ع‬
‫الب‪$$‬ون الش‪$$‬ديد بين كال المص‪$$‬درين‪ ..‬المص‪$$‬در الممتلئ ب‪$$‬التحريف‪ $‬ال‪$$‬ذي ال يمكن‬
‫ألي عقل تجاهله‪ ،‬والمصدر‪ $‬الممتلئ بالقيم الثابت‪$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬ل ب‪$‬دالئل اإلعج‪$‬از ال‪$$‬تي ال‬
‫يمكن ألي صادق في البحث أن يمر عليها من دون أن يتأثر بها‪.‬‬
‫ولهذا نراه دائما يتأسف للتأخر الهائ‪$$‬ل ال‪$$‬ذي يع‪$$‬اني من‪$$‬ه الفك‪$$‬ر اإلس‪$$‬المي‬
‫قياسا‪ $‬إلى الفكر المسيحي في أوروبا‪ ..‬وهو يتأسف كذلك لكونه من أكبر األدي‪$$‬ان‬
‫في تاريخ البشرية‪ ،‬وقد‪ $‬يصبح أكبرها من حيث العدد عما قريب‪( ..‬لكنه مع ذلك‬
‫توق‪$$‬ف‪ $‬عن التط‪$$‬ور‪ $‬والتج‪$$‬دد بع‪$$‬د إغالق ب‪$$‬اب االجته‪$$‬اد وال‪$$‬دخول في عص‪$$‬ر‬
‫االنحطاط‪ $:‬أي عصر الجمود والتكرار واالج‪$$‬ترار‪ .‬ه‪$$‬ذا في حين ان المس‪$$‬يحية‪،‬‬
‫في أوروب‪$‬ا‪ $‬الغربي‪$$‬ة على األق‪$$‬ل‪ ،‬اض‪$$‬طرت‪ $‬إلى تجدي‪$$‬د رس‪$$‬التها الديني‪$$‬ة وإع‪$$‬ادة‬
‫‪ )(1‬ألقى هذا التصريح في الدار البيضاء بتاريخ ‪.2006-11-14‬‬

‫‪42‬‬
‫تأويل نصوصها المقدسة بسبب الصعود ال‪$$‬ذي ال يق‪$$‬اوم للعق‪$$‬ل العلمي والفلس‪$$‬في‬
‫من‪$‬ذ الق‪$‬رن الس‪$‬ابع عش‪$‬ر‪ ..‬وبالت‪$‬الي فأوروب‪$‬ا‪ $‬ليس‪$‬ت متفوق‪$‬ة علين‪$‬ا بالتكنولوجي‪$‬ا‪$‬‬
‫والعلوم‪ $‬الفيزيائية والرياضية فقط وانم‪$‬ا هي متفوق‪$‬ة أيض‪$‬ا في العل‪$‬وم الديني‪$‬ة أو‬
‫فلسفة الدين‪ .‬وهذا شيء نجهله تماما‪ ..‬أوروبا دخلت اآلن الهوت ما بعد الحداث‪$$‬ة‬
‫في حين أنن‪$$‬ا ال ن‪$$‬زال نتخب‪$$‬ط في اله‪$$‬وت م‪$$‬ا قب‪$$‬ل الحداث‪$$‬ة‪ :‬أي اله‪$$‬وت الق‪$$‬رون‬
‫الوسطي‪ $‬وفقهها القديم)‬
‫وهكذا ال يكتفي أركون وغيره من الحداثيين بدعوتنا إلى اعتم‪$$‬اد المن‪$$‬اهج‬
‫الغربية‪ ،‬وإنما يدعونا إلى التأس‪$$‬ي بالمس‪$$‬يحية وتطوره‪$$‬ا‪ ،‬وه‪$$‬و ال يعلم أن بعض‬
‫المدارس المسيحية لم تتطور‪ $‬إال بعد أن تخلصت من القيم المسيحية نفسها‪.‬‬
‫وقد ذكر بعضهم ذلك التطور الذي حصل للكنيسة والمسيحية‪ ،‬مع‪$$‬برا عن‬
‫مشاهداته الشخصية؛ فقال‪( :‬وإذا كانت الكنيسة مكانا ً للعبادة فى العالم المس‪$$‬يحى‬
‫كله‪ ،‬فإنها فى أمريكا مكان لكل شيء إال العبادة‪ ،‬وإن‪$$‬ه ليص‪$$‬عب علي‪$$‬ك أن تف‪$$‬رق‬
‫بينها وبين أى مك‪$‬ان آخ‪$$‬ر‪ ،‬مع‪$$‬د للّه‪$$‬و والتس‪$$‬لية‪ ..‬ومعظم قص‪$$‬ادها إنم‪$$‬ا يع‪$$‬دونها‬
‫تقليداً اجتماعيا ً ضرورياً‪ ،‬ومكانا ً للقاء واألنس‪ ،‬ولتمضية وقت طيب‪ ،‬وليس هذه‬
‫شعور‪ $‬الجمهور وح‪$$‬ده‪ ،‬ولكن‪$$‬ه ك‪$$‬ذلك ش‪$$‬عور‪ $‬س‪$$‬دنة الكنيس‪$$‬ة ورعاته‪$$‬ا‪ ..‬ولمعظم‬
‫الكنائس ناد يتألف من الجنس‪$$‬ين‪ ،‬ويجته‪$‬د‪ $‬راعى ك‪$$‬ل كنيس‪$$‬ة أن يلتح‪$$‬ق بالكنيس‪$$‬ة‬
‫أكبر عدد ممكن‪ ،‬وبخاصة أن هناك تنافسا ً كبيراً بين الكنائس المختلفة المذاهب‪،‬‬
‫وله‪$$‬ذا تتس‪$$‬ابق‪ $‬جميع‪$$‬ا ً فى اإلعالن عن نفس‪$$‬ها بالنش‪$$‬رات المكتوب‪$$‬ة‪ ،‬وب‪$$‬األنوار‬
‫الملونة على األبواب والجدران‪ ،‬للفت األنظار‪ ،‬وبتقديم‪ $‬البرامج اللذيذة‪ ،‬المشوقة‬
‫لجلب الجماهير‪ ،‬بنفس الطريق‪$‬ة ال‪$‬تى تتبعه‪$‬ا المت‪$‬اجر ودور‪ $‬الع‪$‬رض والتمثي‪$‬ل‪،‬‬
‫وليس هناك من بأس فى استخدام‪ $‬أجمل فتيات المدين‪$$‬ة وأرش‪$$‬قهن‪ ،‬وأب‪$$‬رعهن فى‬
‫الغناء والرقص والترويح)‬
‫ثم ذكر نموذجا‪ $‬من نماذج مشاهداته‪ ،‬فقال‪( :‬كنت ليلة فى إحدى الكن‪$$‬ائس‪،‬‬
‫ببلدة جريلى بوالية كولورادوـ فقد كنت عضواً فى ناديه‪$$‬ا‪ ،‬كم‪$$‬ا كنت عض‪$$‬واً فى‬
‫عدة نواد كنسية‪ ،‬فى كل جهة عشت فيها‪ ،‬إذ كانت هذه ناحية هام‪$$‬ة‪ ،‬من ن‪$$‬واحى‪$‬‬
‫المجتمع‪ ،‬تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل ـ وبعد أن انتهت الخدمة الديني‪$$‬ة‬
‫فى الكنيسة‪ ،‬واشترك‪ $‬فى التراتي‪$$‬ل فتي‪$$‬ة وفتي‪$$‬ات‪ $‬من األعض‪$$‬اء‪ ،‬وأدى اآلخ‪$$‬رون‬
‫الصالة‪ ،‬دلفنا من باب جانبى س‪$$‬احة ال‪$$‬رقص‪ ،‬المالص‪$$‬قة لقاع‪$$‬ة الص‪$$‬الة‪ ،‬يص‪$$‬ل‬
‫بينهما الباب ؛ وصعد‪( $‬األب) إلى مكتبه‪ ،‬وأخذ كل ف‪$‬تى بي‪$$‬د فت‪$$‬اة‪ ،‬وبينهم وبينهن‬
‫أولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين والل‪$$‬واتى‪ ،‬ك‪$$‬انوا وكن‪ ،‬يقوم‪$$‬ون بالترتي‪$$‬ل ويقمن‪ ..‬وك‪$$‬انت س‪$$‬احة‬
‫الرقص مضاءة ب‪$‬األنوار‪ $‬الحم‪$‬راء والص‪$‬فراء والزرق‪$$‬اء‪ ،‬وبقلي‪$‬ل من المص‪$‬ابيح‬
‫البيض‪)..‬‬
‫إلى آخر تصويراته لمشاهد المجون في الكنيسة‪ ،‬والتي يري‪$$‬د من‪$$‬ا أرك‪$$‬ون‬

‫‪43‬‬
‫وغيره من الحداثين أن نطور‪ $‬مساجدنا ومعابدنا‪ $‬وفقهنا وعقائدنا لتتناسب معها‪.‬‬
‫وقد ذكر هاشم ص‪$$‬الح ‪ ..‬ذل‪$$‬ك التلمي‪$$‬ذ النجيب ألرك‪$$‬ون‪ ،‬والناش‪$‬ر‪ $‬ألفك‪$$‬اره‬
‫والمترجم لها‪ ،‬الهدف األكبر الذي يسعى إليه أرك‪$$‬ون بك‪$$‬ل ص‪$$‬راحة‪ ،‬وه‪$$‬و نفس‬
‫الهدف الذي سعى إليه كل المصارعين للكنيسة‪ ،‬بل للمسيحية نفسها؛ فق‪$$‬ال‪( :‬في‬
‫الواقع إن هدف أركون األخير هو التوفيق بين اإلسالم والحداث‪$$‬ة مثلم‪$$‬ا فع‪$$‬ل ابن‬
‫رشد في وقته عندما وفق‪ $‬بين اإلسالم والفلس‪$$‬فة االرسطوطاليس‪$$‬ية‪ ،‬ومثلم‪$‬ا‪ $‬فع‪$$‬ل‬
‫فالسفة التن‪$$‬وير‪ $‬في أوروب‪$$‬ا عن‪$$‬دما أج‪$$‬بروا المس‪$$‬يحية ورج‪$$‬ال ال‪$$‬دين علي تق‪$$‬ديم‬
‫تنازالت كبيرة للعقل والحداثة العلمية الصاعدة)‬
‫ثم بين أن المنهج المعتم‪$$‬د ل‪$$‬ذلك ليس مج‪$$‬رد نق‪$$‬د ال‪$$‬تراث‪ ،‬وال‪$$‬دعوة إلى‬
‫تحديثه ليتناسب م‪$$‬ع العص‪$$‬ر‪ ،‬وإنم‪$$‬ا ال‪$$‬دعوة إلى تح‪$$‬ديث المق‪$$‬دس نفس‪$$‬ه بك‪$$‬ل م‪$$‬ا‬
‫يحمل‪$$‬ه من عقائ‪$$‬د وش‪$$‬رائع وس‪$$‬لوكات‪ ،‬لينض‪$$‬بط بم‪$$‬ا يقتض‪$$‬ه‪ ،‬ويص‪$$‬بح خاض‪$$‬عا‬
‫إلمالءاته‪ ،‬فقال متح‪$$‬دثا عن الغ‪$$‬رب وكي‪$‬ف‪ $‬اس‪$$‬تطاع أن يتحق‪$$‬ق ب‪$$‬التنوير‪ ..( :‬لم‬
‫يستطيعوا التوصل إلى هذا المكتسب الكبير إال بعد أن فككوا الالهوت المس‪$$‬يحي‬
‫القديم‪ ،‬وكشفوا‪ $‬عن تاريخيته ومشروطيته البشرية‪ ،‬ومعلوم‪ $‬أنه كان يق‪$$‬دم نفس‪$$‬ه‪،‬‬
‫وكأنه الهي معصوم‪ $‬تماما كالفقه القديم في اإلسالم‪ ،‬ومعل‪$$‬وم أيض‪$$‬ا أن الاله‪$$‬وت‬
‫القديم يزعم امتالك الحقيقة المطلقة‪ ،‬المقدسة المتعالية‪ ،‬التي ال تناقش وال تمس‪،‬‬
‫وبالتالي‪ $‬فكل شخص يقع خارجها أو ال يعتنقها هو شخص مدان ومص‪$$‬يره جهنم‬
‫وبئس المصير)‬
‫وه‪$$‬و به‪$$‬ذا الط‪$$‬رح ينظ‪$$‬ر إلى اإلس‪$$‬الم مثلم‪$$‬ا ينظ‪$$‬ر إلى س‪$$‬ائر األدي‪$$‬ان‪،‬‬
‫ويخضعه لنفس المناهج التي أخضعت لها‪ ،‬وال يرى فيه أي مزية تم‪$‬يزه عنه‪$‬ا‪،‬‬
‫ولهذا يدعو إلى تفكيكه تفكيكا تاما‪ ،‬وذلك بع‪$$‬د تخليص‪$$‬ه من القداس‪$$‬ة‪ ،‬أي أن ك‪$$‬ل‬
‫شيء يصبح في مباحا للمبضع الحداثي ليزيله بحجة وقوفه في وجه التنوير‪$.‬‬
‫يقول هاشم صالح معبرا عن أفكار‪ $‬أرك‪$‬ون في ه‪$‬ذا المع‪$‬نى الخط‪$‬ير‪..( :‬‬
‫فك‪$$‬ل دين ي‪$$‬زعم امتالك الحقيق‪$$‬ة االلهي‪$$‬ة المقدس‪$$‬ة دون غ‪$$‬يره‪ ،‬وعلى ه‪$$‬ذا النح‪$$‬و‬
‫تش‪$$‬كلت األنظم‪$$‬ة الالهوتي‪$$‬ة الثالث‪$$‬ة‪ ،‬وس‪$$‬يطرت على العق‪$$‬ول طيل‪$$‬ة العص‪$$‬ور‪$‬‬
‫الوس‪$$‬طي‪ ،‬أقص‪$$‬د االنظم‪$$‬ة الالهوتي‪$$‬ة اليهودي‪$$‬ة‪ ،‬فالمس‪$$‬يحية‪ ،‬فاإلس‪$$‬المية‪ ..‬وق‪$$‬د‬
‫مارست دورها‪ $‬ـ كما يق‪$‬ول أرك‪$‬ون في اح‪$‬دي أطروحات‪$$‬ه الش‪$‬هيرة ـ على هيئ‪$$‬ة‬
‫أنظمة للنبذ واالستبعاد المتب‪$$‬ادل‪ ،‬فك‪$$‬ل دين يتهم االدي‪$$‬ان األخ‪$$‬ري بأنه‪$$‬ا خ‪$$‬رجت‬
‫على الصراط‪ $‬المس‪$‬تقيم‪ ،‬أي األرثوذكس‪$$‬ية باللغ‪$$‬ات االجنبي‪$$‬ة‪..‬وبالت‪$‬الي‪ $‬فهي تنب‪$‬ذ‬
‫بعضها بعضا‪ ،‬ثم تستبعد بعضها بعض‪$$‬ا من جن‪$$‬ة هللا والنج‪$$‬اة في ال‪$$‬دار اآلخ‪$$‬رة‪،‬‬
‫كل واحد يكفر أتباع األديان األخ‪$$‬رى‪ ،‬وك‪$$‬ل طائف‪$$‬ة تعتق‪$$‬د اعتق‪$$‬ادا جازم‪$$‬ا أن هللا‬
‫اصطفاها وحدها دون سواها)‬
‫وهذا الطرح كله مب‪$$‬ني على فلس‪$$‬فة كان‪$$‬ط ال‪$$‬تي اس‪$$‬تند إليه‪$$‬ا أرك‪$$‬ون وك‪$$‬ل‬

‫‪44‬‬
‫الح‪$$‬داثيين‪ ،‬وهي ع‪$‬دم امتالك أي دين ألي مص‪$‬داقية في ذات‪$$‬ه‪ ،‬أو ب‪$‬راهين ثابت‪$‬ة‬
‫تدل عليه‪ ،‬وأن األديان مجرد اختيارات بشرية‪ ،‬وال يستطيع أي دين من األدي‪$$‬ان‬
‫أن يزعم أنه يملك الحقيقة أو األدلة على ثبوته وكونه من هللا تعالى‪.‬‬
‫وبذلك ال يمكن ألي شخص أن يحاور‪ $‬أمثال ه‪$$‬ؤالء‪ ..‬ألن‪$$‬ه إن قي‪$$‬ل ل‪$$‬ه م‪$$‬ا‬
‫ذك‪$$‬ره الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم في حوارات‪$$‬ه م‪$$‬ع المخ‪$$‬الفين‪ ﴿ :‬هَ‪$$‬اتُوا بُرْ هَ‪$$‬انَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم‬
‫ص‪$$‬ا ِدقِينَ ﴾ [البق‪$$‬رة‪ ،]111 :‬أعرض‪$$‬وا ون‪$$‬أوا واكتف‪$$‬وا ب‪$$‬ذكر أطروح‪$$‬اتهم‪ $‬بك‪$$‬ل‬ ‫َ‬
‫استعالء‪ ،‬ألن كل البراهين الدينية عندهم ليست عقلية‪ ،‬وال علمية‪ ،‬لس‪$$‬بب بس‪$$‬يط‬
‫وهو أن كانط في ذلك الزمان أن الدين يستند للعقل العملي‪ ،‬واالختي‪$$‬ار‪ $‬البش‪$$‬ري‪،‬‬
‫واإليمان المجرد‪ ،‬وال يستند ألي براهين تثبته أوتدل عليه‪.‬‬
‫وبناء على هذه القاعدة يضع التنويريون شروطهم‪ $‬لقب‪$$‬ول ال‪$$‬دين‪ ،‬وهي أن‬
‫يتحول الدين إلى مزاجهم وأفك‪$‬ارهم‪ $،‬ال أن يتحول‪$‬وا‪ $‬هم إلى م‪$‬ا يطلب‪$‬ه ال‪$‬دين من‬
‫عقائد وقيم‪ $‬وأفكار‪.‬‬
‫وق‪$$‬د ذك‪$$‬ر هاش‪$$‬م ص‪$$‬الح الم‪$$‬دى ال‪$$‬ذي بلغ‪$$‬ه أرك‪$$‬ون في طرح‪$$‬ه الح‪$$‬داثي‪،‬‬
‫وتقدمه على غيره فيه‪ ،‬فقال‪( :‬أركون يقول لنا ب‪$$‬أن الح‪$$‬ل إم‪$$‬ا أن يك‪$$‬ون ج‪$$‬ذريا‪،‬‬
‫راديكاليا‪ ،‬أو أنه لن يكون‪ ..‬فآخر ال‪$$‬دواء الكي كم‪$$‬ا تق‪$$‬ول الع‪$$‬رب‪ ..‬إن‪$$‬ه ينص‪$$‬حنا‬
‫بتفكيك كل األنظمة الفقهية والالهوتي‪$$‬ة الموروث‪$$‬ة عن العص‪$$‬ور الوس‪$$‬طي‪ ..‬فك‪$$‬ر‬
‫أركون يتجاوز‪ $‬كل هؤالء بطبيعة الحال ألنه يعيش في عصر الحداثة أو م‪$‬ا بع‪$‬د‬
‫الحداثة‪ ،‬ويحاض‪$$‬ر في كبري‪$$‬ات جامع‪$$‬ات الع‪$$‬الم‪ ،‬ول‪$$‬ذا فه‪$‬و‪ $‬ينظ‪$$‬ر إلى الظ‪$$‬اهرة‬
‫الديني‪$$‬ة من كاف‪$$‬ة جوانبه‪$$‬ا‪ ،‬ويع‪$$‬رف كي‪$$‬ف يفك‪$$‬ك ببراع‪$$‬ة منقطع‪$$‬ة النظ‪$$‬ير ك‪$$‬ل‬
‫االنغالقات التراثية في كل األديان)‬
‫ويذكر كيف كان يتعامل مع األجي‪$‬ال التنويري‪$$‬ة ال‪$‬تي خرجه‪$‬ا‪ ،‬فق‪$‬ال‪( :‬في‬
‫دروسه األسبوعية الرائعة في السوربون كثيرا ما ك‪$$‬ان ينفع‪$$‬ل‪ ،‬وي‪$$‬دعونا‪ $‬إلى أن‬
‫نخرج من أقفاصنا وسجوننا‪ $‬التراثية لكي نتنفس الهواء الطلق في الخارج)‬
‫وأحب أن أذكر هنا أن الكثير من المغترين بفك‪$$‬ر أرك‪$$‬ون يتص‪$$‬ورون أن‪$$‬ه‬
‫يكتفي بمجرد‪ $‬نقد التراث‪ ،‬متناسين أن ذلك مجرد مرحلة من مراحله الفكرية‪ ،‬أو‬
‫هي معركة من المعارك التي يشنها على ال‪$$‬دين نفس‪$$‬ه‪ ..‬وله‪$$‬ذا ن‪$$‬راه في مواض‪$$‬ع‬
‫يشن حربه على طائفة من الطوائف‪ ،‬فيتصور‪ $‬البعض أنه ينتصر لغيرها‪ ،‬ولكنه‬
‫في الحقيقة ال يفعل ذل‪$$‬ك‪ ،‬وإنم‪$$‬ا ينف‪$$‬رد بك‪$$‬ل واح‪$$‬دة منه‪$$‬ا‪ ،‬ليقض‪$$‬ي عليه‪$$‬ا بع‪$$‬دها‬
‫جميعا‪ ،‬ال يفرق في ذلك بين أقوالها الصحيحة المعتبرة التي تستند إلى المصادر‪$‬‬
‫المقدسة‪ ،‬وبين رؤاها المجردة عن تلك المصادر‪$.‬‬
‫وقد ذكر هاش‪$$‬م ص‪$$‬الح في مق‪$$‬ال ل‪$‬ه نش‪$$‬رته بعض الجرائ‪$$‬د الس‪$$‬عودية‪ ،‬أن‬
‫محمد أركون م‪$$‬ع تش‪$$‬دده م‪$$‬ع المق‪$$‬دس في ك‪$$‬ل مراح‪$$‬ل حيات‪$$‬ه إال أن حدت‪$$‬ه علي‪$$‬ه‬
‫زادت بعد أحداث ‪ 11‬من سبتمبر‪ ،‬والتي كانت فرص‪$$‬ة لظه‪$$‬ور اإللح‪$$‬اد الجدي‪$$‬د‪،‬‬

‫‪45‬‬
‫كما كانت فرصة لتغول الحداثة‪ ،‬وانتشار التنوير‪ ،‬وتبنيه من طرف ممالك النفط‬
‫العربية خصوصا‪$.‬‬
‫فقد ذكر في مقاله المعن‪$‬ون بـ [ه‪$‬ل تغ‪$$‬ير محم‪$‬د أرك‪$‬ون!؟] كت‪$$‬اب محم‪$$‬د‬
‫أركون عن [النزع‪$‬ة االنس‪$$‬انية واإلس‪$$‬الم‪ ..‬مع‪$$‬ارك‪ $‬فكري‪$$‬ة ومقترح‪$$‬ات من أج‪$$‬ل‬
‫الخ‪$$‬روج من األزم‪$$‬ة]‪ ،‬وطروح‪$$‬ات أرك‪$$‬ون الجدي‪$$‬دة في‪$$‬ه‪ ،‬فق‪$$‬ال‪( :‬واآلن م‪$$‬اذا‬
‫ي أن نعم‪..‬‬ ‫حصل؟ هل غ‪$$‬ير موقف‪$$‬ه في كتاب‪$$‬ه األخ‪$$‬ير؟ ه‪$$‬ل ع‪$$‬دل من‪$$‬ه؟ يخي‪$$‬ل إل َّ‬
‫صحيح انه كان يق‪$$‬ول في الس‪$$‬ابق‪ $‬بض‪$$‬رورة تط‪$$‬بيق المنهج العلمي أو الت‪$$‬اريخي‪$‬‬
‫على التراث العربي اإلسالمي بكل صرامة ودقة موضوعية‪ ،‬وصحيح أن‪$$‬ه ك‪$$‬ان‬
‫يمارس هذا التطبيق‪ $‬عمليا ً من خالل مشروع عمره الطويل العريض‪ :‬نقد العق‪$$‬ل‬
‫اإلسالمي‪ ..‬ولكنه كان يمر م‪$$‬رور الك‪$$‬رام على ذك‪$$‬ر التن‪$$‬وير ويتحاش‪$$‬ى التوق‪$$‬ف‬
‫عنده طويالً‪ ،‬أو قل إنه بعد ان يتوقف عنده كان كث‪$‬يراً م‪$‬ا يح‪$‬ذر من س‪$‬لبياته من‬
‫دون أن ينكر ايجابياته بالطبع‪ ..‬أما اآلن‪ ،‬وفي هذا الكتاب‪ ،‬فإنه يعترف صراحة‬
‫بضرورة أن تمر الشعوب العربية واإلسالمية بالمرحلة التنويرية‪ ،‬مثلم‪$‬ا حص‪$‬ل‬
‫للشعوب االوروبية بدءاً من القرن الثامن عشر)‬
‫ي أنه بعد ضربة (‪ )11‬سبتمبر ثم باالخص بعد ض‪$‬ربة (‬ ‫ويقول‪( :‬يخيل إل َّ‬
‫‪ )11‬مارس في مدريد‪ $‬راح يغ‪$‬ير مواقف‪$‬ه النقدي‪$‬ة‪ ،‬أو ق‪$‬ل راح يجعله‪$‬ا راديكالي‪$‬ة‬
‫أكثر‪ ..‬لم يعد يراعي التيار التقليدي‪ ،‬ويجامل‪$‬ه أك‪$‬ثر مم‪$$‬ا ينبغي‪ ،‬كم‪$‬ا ك‪$‬ان يفع‪$$‬ل‬
‫س‪$$‬ابقاً‪ .‬لق‪$$‬د أجبرت‪$$‬ه ه‪$$‬ذه التفج‪$$‬يرات التاريخي‪$$‬ة والمأس‪$$‬اوية على استش‪$$‬عار حجم‬
‫المرض العضال بع‪$$‬د أن اس‪$$‬تفحل في أحش‪$$‬اء المجتمع‪$$‬ات العربي‪$$‬ة واإلس‪$$‬المية‪،‬‬
‫ووصل‪ $‬الى ذروته القصوى)‬
‫ه‪$$‬ذه خالص‪$$‬ة مبس‪$$‬طة لطروح‪$$‬ات أرك‪$$‬ون وأه‪$$‬دافها ال‪$$‬تي ال تختل‪$$‬ف عن‬
‫أهداف سائر التنويريين‪ ،‬وهي هدم اإلسالم ع‪$$‬بر تمري‪$$‬ره على المن‪$$‬اهج الغربي‪$$‬ة‬
‫التي مورست مع الكتاب المقدس‪ ،‬ومن شاء أن يطلع عليها من خالل كتب‪$$‬ه‪ ،‬فل‪$$‬ه‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن بشرط أن يقرأها قراءة كلية‪ ،‬ال جزئية‪ ،‬فذكاء الرجل يجعل‪$$‬ه يتح‪$$‬رك‬
‫بهدوء‪ ،‬من غ‪$‬ير أن يث‪$‬ير أي حساس‪$‬ية‪ ..‬ول‪$‬ذلك ال يفهم‪$$‬ه إال من عرف‪$$‬ه وع‪$‬رف‬
‫مقاصده‪ ،‬وخرج من ع‪$$‬الم األلف‪$$‬اظ المج‪$$‬ردة إلى المع‪$$‬اني الك‪$$‬برى ال‪$$‬تي تنط‪$$‬وي‬
‫عليها‪.‬‬
‫فهو مثال قد يشيد بابن رشد أو غيره‪ ،‬فيتص‪$$‬ور الق‪$$‬ارئ أن‪$$‬ه ي‪$$‬دعو إلى أن‬
‫نلتزم نفس منهج ابن رشد في التوفيق‪ $‬بين الشريعة والفلسفة والعقل‪ ..‬لكن‪$$‬ه يع‪$$‬ود‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ويذكر أن طروحات‪ $‬ابن رشد طروحات‪ $‬هزيل‪$$‬ة ج‪$$‬دا أم‪$$‬ام م‪$$‬ا يقتض‪$$‬يه‬
‫التنوير‪ $..‬فإذا سألته عن ذلك أجابك وبطرق‪ $‬ملتوية كث‪$$‬يرة بأن‪$$‬ه إع‪$$‬ادة النظ‪$$‬ر في‬
‫المقدس نفسه أو معالجته ليصبح متناسبا‪ $‬مع الحداثة والعصر‪ $..‬أي تع‪$$‬اد خياطت‪$$‬ه‬
‫وتفصيله ليتناسب مع المزاج الذي تفرضه العقول المعاصرة‪ ..‬العق‪$$‬ول الممتلئ‪$$‬ة‬

‫‪46‬‬
‫بالقيم الغربية‪ ،‬ال العقول المممتلئة باإليمان باهلل ورسوله‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫أركون ‪ ..‬وابن نبي‬
‫أركون وابن نبي كالهما من الجزائر‪ ،‬وكالهم‪$$‬ا ول‪$$‬د في عه‪$$‬د االس‪$$‬تعمار‪$‬‬
‫الفرنسي‪ ،‬وكالهما درس في فرنسا‪ ،‬وتعلم اللغة الفرنسية‪ ،‬وأتقنها وكتب بها‪..‬‬
‫وكالهما اهتم بالحض‪$$‬ارة والنهض‪$‬ة‪ ،‬ودع‪$‬ا إليه‪$‬ا‪ ..‬وكالهم‪$‬ا‪ $‬اهتم ب‪$$‬القرآن‬
‫الكريم وكتب فيه‪ ..‬ولكيلهما‪ $‬جمهور عريض في المشرق والمغرب‪..‬‬
‫وإلى هنا تنتهي القواسم المشتركة‪ ،‬لتبدأ المفارقات العجيبة‪ ..‬وال‪$$‬تي أش‪$$‬ار‬
‫إليها رسول هللا ‪ ‬حين قال‪َ ( :‬مثَ ُل المؤمن ال‪$$‬ذي يق‪$$‬رأُ الق‪$$‬رآن ويعم‪ُ $‬ل ب‪$‬ه ك َمثَ‪$$‬ل‬
‫األُ ْت ُرجَّة؛ ريحُها طيِّب‪ ،‬وطع ُمها طيِّب‪ ،‬و َمثَ ُل المؤمن الذي ال يقرأ الق‪$$‬رآن ك َمثَ‪$$‬ل‬
‫التَّمرة؛ ال ريح لها‪ ،‬وطع ُمها حل ٌو‪ ،‬و َمثَل المنافق‪ $‬الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحانة؛‬
‫ريحها طيِّب‪ ،‬وطعمها مر‪ ،‬و َمثَل المن‪$$‬افق ال‪$‬ذي ال يق‪$$‬رأ الق‪$‬رآن ك َمثَ‪$$‬ل الحنظل‪$$‬ة؛‬
‫ر)(‪)1‬‬‫ليس لها ريح‪ ،‬وطعمها م ٌّ‬
‫فأحدهما‪ ،‬يمثل ذلك المؤمن الذي ربي في الكت‪$$‬اتيب القرآني‪$$‬ة‪ ،‬وحبب إلي‪$$‬ه‬
‫القرآن الكريم في صغره الباكر‪ ،‬وعندما ذهب إلى فرنسا‪ $،‬ذهب إليها وهو يحمل‬
‫ثقافته وهويته ودينه‪ ،‬ولذلك ك‪$$‬ان يق‪$$‬رأ الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ ،‬ويعيش معاني‪$$‬ه‪ ،‬وينفع‪$$‬ل‬
‫لها‪ ،‬ويعتقد أنها الترياق الذي يحل كل أزمة وقعت فيها أمته‪ ،‬وأن تخلفها وح‪$$‬تى‬
‫االس‪$$‬تعمار‪ $‬ال‪$$‬ذي ابتليت ب‪$‬ه‪ ،‬لم يكن إال ولي‪$$‬د ابتعاده‪$‬ا‪ $‬عن مص‪$$‬ادرها المقدس‪$$‬ة‪..‬‬
‫ولذلك استطاع من خالل تدبره أن يستنبط‪ $‬شروط‪ $‬النهضة وأسبابها‪ $‬ووسائلها‪.. $‬‬
‫وهو في ذلك كله‪ ،‬ومع كونه بين أساطين التنوير الغربي‪ ،‬إال أنه لم ينبهر‬
‫بحضارة الغرب‪ ،‬وال ماديتها‪ ،‬ولذلك حُفظ له كالم ربه الذي لم ينحرف‪ $‬عنه قي‪$$‬د‬
‫أنملة‪.‬‬
‫ولذلك لم ي‪$$‬ذهب لجامع‪$$‬ة الس‪$$‬ربون ليتلقى الفلس‪$$‬فة الغربي‪$$‬ة‪ ،‬وال أفكاره‪$$‬ا‪،‬‬
‫فعن‪$$‬ده م‪$$‬ا يكفي من الفلس‪$$‬فة واألفك‪$$‬ار‪ ،‬وإنم‪$$‬ا ذهب إليه‪$$‬ا ليتعلم التقني‪$$‬ات ال‪$$‬تي‬
‫تحتاجها أمته‪ ..‬فاألمة تحت‪$‬اج إلى تقني‪$‬ات الغ‪$‬رب‪ ،‬وتط‪$‬وره الم‪$‬ادي‪ ،‬وال تحت‪$‬اج‬
‫إلى فلسفته وأفكاره‪..‬‬
‫وقد كان ابن نبي يدرك جي‪$$‬دا أن تل‪$$‬ك الفلس‪$‬فة واألفك‪$‬ار الغربي‪$$‬ة ل‪$$‬و نفعت‬
‫أحدا من الناس النتفع بها الغرب نفسه‪ ،‬وكيف‪ $‬ينتفع بها‪ ،‬وه‪$$‬و يم‪$$‬د أس‪$$‬اطيله في‬
‫ع‪$$‬رض المحيط‪$$‬ات والبح‪$$‬ار‪ ،‬ويم‪$$‬د طائرات‪$$‬ه الحربي‪$$‬ة في أج‪$$‬واء المستض‪$$‬عفين‬
‫ليمألهم رعب‪$$‬ا‪ ،‬وليف‪$$‬رض عليهم همينت‪$$‬ه وكبري‪$$‬اءه وس‪$$‬طوته‪ ،‬وليب‪$$‬تز منهم آخ‪$$‬ر‬
‫قطرة من دمائهم وعرقهم‪ $‬والثروات التي أتاحها هللا لهم‪.‬‬
‫ولذلك يمكن اعتباره مصداقا لما ورد في الحديث الشريف من كون‪$$‬ه مث‪$$‬ل‬
‫‪ )(1‬رواه البخاري ‪ ،)5111( 2070 /5‬ومسلم ‪)797( 549 /1‬‬

‫‪48‬‬
‫األترج‪$$‬ة‪ ،‬ذات الرائح‪$$‬ة الطيب‪$$‬ة‪ ،‬والطعم اللذي‪$$‬ذ‪ ،‬باإلض‪$$‬افة إلى اس‪$$‬تعمالها في‬
‫المداواة‪ ،‬وكونها‪ $‬ـ كما يذكر األطباء القدامى ـ من األدوية المفرحة‪ ،‬والمؤثر‪ $‬في‬
‫نفسية آكليها‪.‬‬
‫وهكذا هو مالك بن نبي رحمه هللا‪ ،‬فقد كان أترجة انتفع الن‪$$‬اس برائحته‪$$‬ا‪،‬‬
‫وبتلك الوصفات الربانية التي وصفها لنهضة األمة ورقيها‪ ،‬ولم يستعن في ذلك‪،‬‬
‫ال بمناهج الشرق‪ ،‬وال مناهج الغرب‪ ،‬وإنما استفادها من القرآن الكريم‪ ..‬وص‪$$‬فة‬
‫الهداية اإللهية‪ ،‬والتنوير‪ $‬الرباني‪..‬‬
‫وقد ذكر في كتابه العظيم [الظاهرة القرآنية] أنه لم ينطلق في هذه النت‪$$‬ائج‬
‫التي وصل إليها من تقليد اآلباء وال األج‪$$‬داد‪ ،‬وإنم‪$$‬ا وص‪$$‬ل إليه‪$$‬ا ع‪$$‬بر ال‪$$‬براهين‬
‫العقلية التي جعلته يرى أن مصدر القرآن الكريم ه‪$$‬و الحقيق‪$$‬ة المطلق‪$$‬ة‪ ،‬الممتلئ‪$$‬ة‬
‫بالثب‪$$‬ات واالس‪$$‬تقرار‪ ،‬ال منتوج‪$$‬ا هالمي‪$$‬ا ثقافي‪$$‬ا ولي‪$$‬د بيئ‪$$‬ة معين‪$$‬ة وزم‪$$‬ان معين‬
‫وأحوال نفسية معينة‪.‬‬
‫ثم من خالل القرآن الكريم‪ ،‬ومنابع عظمته ذك‪$$‬ر كي‪$$‬ف ع‪$$‬رف رس‪$$‬ول هللا‬
‫‪ ،‬وكي‪$$‬ف راح يش‪$$‬يد ب‪$$‬ه‪ ،‬باعتب‪$$‬اره المث‪$$‬ال األعلى‪ ،‬والنم‪$$‬وذج‪ $‬األكم‪$$‬ل‪ ،‬وأن‪$$‬ه‬
‫اصطفاء رباني لتلك الوظيفة الخط‪$$‬يرة‪ ،‬ال‪$$‬تي تمث‪$$‬ل التن‪$$‬وير الحقيقي‪ ،‬ال التن‪$$‬وير‬
‫المزيف‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى في وص‪$$‬ف رس‪$$‬ول هللا ‪﴿ :‬يَاأَيُّهَ‪$$‬ا النَّبِ ُّي إِنَّا أَرْ َس‪ْ $‬لنَاكَ‬
‫َشا ِهدًا َو ُمبَ ِّش ًرا‪َ $‬ونَ‪ِ $‬ذي ًرا‪َ )45( $‬ودَا ِعيً‪$$‬ا إِلَى هَّللا ِ بِإِ ْذنِ‪ِ $‬ه َو ِس‪َ $‬راجًا ُمنِ‪$$‬يرًا﴾ [األح‪$$‬زاب‪:‬‬
‫‪]46 ،45‬‬
‫ومن خالل ه‪$$$‬ذين المص‪$$$‬درين‪ :‬الكت‪$$$‬اب والنب‪$$$‬وة‪ ..‬راح ابن ن‪$$$‬بي يفن‪$$$‬د‬
‫الحضارة الغربية‪ ،‬ومعها الفلسفة المادية التي قامت عليها‪ ،‬ليدعو إلى الحض‪$$‬ارة‬
‫اإليمانية التي تنطلق من المقدس باعتباره يمث‪$$‬ل الحقيق‪$$‬ة المطلق‪$$‬ة‪ ،‬ال‪$$‬تي ال يمكن‬
‫التعرف على القيم الثابتة للكون إال من خاللها‪.‬‬
‫ومن خالل تلك المناقشات للفكر المادي‪ ،‬والحضارة التي قام عليها ط‪$$‬رح‬
‫لنا ابن نبي البديل الحضاري والتنويري‪ ..‬وال‪$‬ذي ينس‪$‬جم‪ $‬تمام‪$‬ا م‪$‬ع هوي‪$‬ة األم‪$‬ة‬
‫وشخصيتها‪ ،‬بل يجعلها ـ إن هي التزمت بمقدساتها ـ في مرتبة أسمى بكث‪$$‬ير‪ $‬من‬
‫تلك المرتبة التي دعانا إليها أركون وغيره من التنويريين‪.‬‬
‫هذا هو مالك بن نبي مصداق‪ $‬األترجة التي وردت في الحديث الش‪$$‬ريف‪..‬‬
‫أما الثاني‪ ،‬فال يهمنا ماذا ينطبق على شخصه‪ ..‬هل ينطبق علي‪$$‬ه وص ‪$‬ف‪ $‬التَّم‪$$‬رة‬
‫التي ال ريح لها‪ ،‬وطع ُمها‪ $‬حل ٌو‪ ،‬أو وصف الرَّيحانة؛ التي ريحها طيِّب‪ ،‬وطعمه‪$$‬ا‬
‫مر‪ ،‬أو وصف الحنظلة؛ التي ليس لها ريح‪ ،‬وطعمه‪$$‬ا م‪$$‬رٌّ‪ ..‬ولكن يهمن‪$$‬ا وص‪$‬ف‪$‬‬
‫أفكاره التي ال شك في كونه‪$$‬ا ال تختل‪$‬ف أب‪$$‬دا عن الحنظل‪$$‬ة‪ ..‬فهي م‪$$‬رة‪ ،‬وال ريح‬
‫لها‪ ،‬وإن كان لها ريح فهي ريح منتنة‪.‬‬
‫وهكذا كان أركون الذي لم ي‪$$‬رب في كت‪$$‬اتيب الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ ..‬وإنم‪$$‬ا ربي‬

‫‪49‬‬
‫بأيدي اآلباء ال‪$‬بيض‪ ،‬وعن‪$‬دما ذهب إلى فرنس‪$‬ا لم يتعلم الكهرب‪$‬اء‪ ،‬وال الهندس‪$‬ة‪،‬‬
‫وإنم‪$$‬ا ذهب لتعلم فك‪$‬ر الغ‪$$‬رب وفلس‪$$‬فته‪ ،‬ليتح‪$‬ول إلى مستش‪$‬رق فرنس‪$$‬ي‪ ،‬ال إلى‬
‫مهندس عربي أومسلم‪.‬‬
‫ولذلك راح ينظر إلى أمته وشعبه وبلده كما ينظر المستشرقون الحاقدون‪،‬‬
‫مع كونه يعلم أن بلده عاش فترة طويلة ضحية بين جالدي فرنسا‪ $‬المجرمة‪ ،‬وأن‬
‫الكثير من أسباب تخلف بلده تعود إلى ذلك االستعمار‪ $‬البغيض‪..‬‬
‫لكن ذلك لم يمنع أركون من أن يشيد بفرنسا‪ ،‬وي‪$$‬دعو إلى قيمه‪$$‬ا‪ ،‬وينس‪$‬ى‪$‬‬
‫أن قيمها هي التي دفعتها الستعمار‪ $‬بالده‪ ،‬ونهب ثرواتها‪$.‬‬
‫وهكذا راح أرك‪$$‬ون ـ على عكس مال‪$$‬ك بن ن‪$$‬بي ـ يش‪$$‬يد بأولئ‪$$‬ك الم‪$$‬اديين‬
‫الذين احتقروا المقدس‪ ،‬وتصورو‪ $‬أن اإلنسان هو رب نفسه‪ ،‬وسيد مصيره‪ ،‬وأنه‬
‫ال مقدس في الوجود‪ $،‬بل ال حقيقة ثابتة في الوجود‪ ،‬إال الهوى المجرد‪.‬‬
‫ول‪$$‬ذلك ك‪$$‬انت قراءت‪$$‬ه للق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم كق‪$$‬راءة المن‪$$‬افق ال‪$$‬ذي يبحث عن‬
‫الثغرات‪ ،‬ال المؤمن الذي يبحث عن الحقائق‪..‬‬
‫ولذلك سول لنفس‪$‬ه أن يق‪$‬ترح على رب‪$‬ه‪ ،‬وأن يق‪$‬دم رأي‪$‬ه بين ي‪$‬دي كتاب‪$‬ه‪،‬‬
‫وأن يخضعه لتلك المقاييس البش‪$$‬رية ال‪$$‬تي يحل‪$$‬ل به‪$$‬ا أي كالم‪ ،‬وتحل‪$$‬ل معه‪$$‬ا أي‬
‫نفسية‪.‬‬
‫وقد كان في موقفه هذا يشبه ذلك الموقف الذي ذكره القرآن الكريم؛ فقال‪:‬‬
‫ورةٌ فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن يَقُ‪$$‬و ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْت‪$‬هُ هَ‪ِ $‬ذ ِه إِي َمانً‪$$‬ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ‪$$‬وا‬ ‫‪$‬زلَ ْ‬ ‫ُ‬
‫ت ُس‪َ $‬‬ ‫﴿ َوإِ َذا َم‪$$‬ا أ ْن‪ِ $‬‬
‫فَ‪$$‬زَا َد ْتهُْ‪$‬م إِي َمانً‪$$‬ا َوهُ ْم يَ ْستَب ِْش ‪$‬رُونَ (‪َ )124‬وأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ‪$$‬وبِ ِه ْم َم‪َ $‬رضٌ فَ‪$$‬زَا َد ْتهُ ْم‬
‫ِرجْ سًا إِلَى ِرجْ ِس ِه ْم َو َماتُوا‪َ $‬وهُ ْم َكافِرُونَ ﴾ [التوبة‪]125 ،124 :‬‬
‫وهكذا كان ابن نبي كلما سمع آية من القرآن الكريم اهتز واستبشر‪ ،‬وراح‬
‫يبحث فيه‪$$‬ا باعتباره‪$$‬ا ترياق ‪$‬ا‪ $‬رباني‪$$‬ا‪ ،‬ووص‪$$‬فة إلهي‪$$‬ة أنعم هللا به‪$$‬ا على عب‪$$‬اده‪،‬‬
‫ليخرجهم‪ $‬من الظلمات إلى النور‪.‬‬
‫أما أرك‪$‬ون‪ ،‬فكلم‪$‬ا س‪$‬مع آي‪$‬ة راح يطب‪$‬ق عليه‪$‬ا مقاييس‪$‬ه ال‪$‬تي تعلمه‪$‬ا من‬
‫أساتذته‪ ،‬ليبحث في الحالة النفسية التي أفرزتها‪ ،‬أو في الظاهرة االجتماعية التي‬
‫ول‪$$‬دتها‪ ،‬أو في البيئ‪$$‬ة الزماني‪$$‬ة ال‪$$‬تي أنتجته‪$$‬ا‪ ،‬أو في الظ‪$$‬روف المختلف‪$$‬ة ال‪$$‬تي‬
‫رعتها‪..‬‬
‫ليخ‪$$‬رج بع‪$$‬د ك‪$$‬ل ذل‪$$‬ك الت‪$$‬دبر من الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ $‬بم‪$$‬ا خ‪$$‬رج ب‪$$‬ه الولي‪$$‬د بن‬
‫ت‬ ‫المغيرة الذي وصف‪ $‬هللا تعالى قراءته للق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم؛ فق‪$$‬ال‪َ ﴿ :‬ذرْ نِي َو َم ْن خَ لَ ْق ُ‬
‫ت لَهُ تَ ْم ِهيدًا‬ ‫ت لَهُ َمااًل َم ْمدُودًا (‪َ )12‬وبَنِينَ ُشهُو ًدا‪َ )13( $‬و َمهَّ ْد ُ‬ ‫َو ِحيدًا (‪َ )11‬و َج َع ْل ُ‬
‫ص‪$$‬عُودًا (‬ ‫ُ‬
‫ط َم ُع أَ ْن أَ ِزي َد (‪َ )15‬كاَّل إِنَّهُ َكانَ آِل يَاتِنَا َعنِيدًا (‪َ )16‬سأرْ ِهقُهُ َ‬ ‫(‪ )14‬ثُ َّم يَ ْ‬
‫‪$‬ر‬ ‫‪ )17‬إِنَّهُ فَ َّك َر َوقَ َّد َر (‪﴿ )18‬فَقُتِ َل َك ْيفَ قَ َّد َر (‪ )19‬ثُ َّم قُتِ َل َك ْيفَ قَ ‪َّ $‬د َر (‪ )20‬ثُ َّم نَظَ‪َ $‬‬
‫ال إِ ْن هَ َذا إِاَّل ِسحْ ٌر يُ‪$ْ $‬ؤثَ ُر (‬ ‫س َوبَ َس َر (‪ )22‬ثُ َّم أَ ْدبَ َر َوا ْستَ ْكبَ َر (‪ )23‬فَقَ َ‬ ‫(‪ )21‬ثُ َّم َعبَ َ‬

‫‪50‬‬
‫‪ )24‬إِ ْن هَ َذا إِاَّل قَوْ ُل ْالبَ َش ِر﴾ [المدثر‪]25 - 11 :‬‬
‫وهكذا فعل أمثاله من الحداثيين الذين انشغلوا بالمال والبنين وزينة الحي‪$$‬اة‬
‫الدنيا‪ ..‬فبعد تفكرهم وت‪$$‬دبرهم وتق‪$$‬ديهم‪ ،‬راح‪$$‬وا يقول‪$$‬ون عن الق‪$$‬رآن‪ :‬إن‪$$‬ه مج‪$$‬رد‬
‫سحر أثر في بيئة معينة‪ ،‬وزمن معينة‪ ..‬وأن سحره قد زال بزوال تلك العصور‪$.‬‬
‫هذا هو الفرق بين مالك بن نبي ذلك العمالق الكبير في الفكر اإلس‪$$‬المي‪..‬‬
‫وبين أركون ذلك القزم الحقير الذي وضع نفسه عبدا من عبيد الغ‪$$‬رب‪ ،‬وألجلهم‬
‫باع دينه‪ ،‬ولم يظفر بدنياه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫هاشم صالح‪ ..‬والتنوير األوروبي‬
‫من الشخصيات التنويرية التي صدرها‪ $‬لنا السربون‪ ،‬وأخرجه‪$‬ا‪ $‬لن‪$$‬ا أس‪$$‬تاذ‬
‫الحداثة األكبر [محمد أركون]‪ ،‬وكانت من أكثر الشخصيات مس‪$$‬اهمة في ش‪$$‬رح‬
‫أفكاره‪ ،‬ونشرها‪ ،‬والدعوة إليها شخصية [هاشم ص‪$$‬الح](‪ ، )1‬ال‪$$‬ذي نس‪$$‬تطيع من‬
‫خالل كلماته الصريحة والجريئة أن نفهم األهداف الكبرى من التنوير والحداثة‪،‬‬
‫وكونها‪ $‬ال تعدو تقلي‪$‬دا حرفي‪$‬ا للتن‪$‬وير األوروبي‪ ،‬واعتب‪$‬اره نموذج‪$‬ا مثالي‪$‬ا يمكن‬
‫تطبيقه‪ ،‬بل يجب تطبيقه على واقعنا‪ $‬اإلسالمي بمصادره المقدسة‪.‬‬
‫وهم يفعل‪$$$‬ون ه‪$$$‬ذا من غ‪$$$‬ير نظ‪$$$‬ر إلى الف‪$$$‬وارق الكب‪$$$‬يرة بين اإلس‪$$$‬الم‬
‫والمسيحية‪ ،‬وال بين الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم والكت‪$$‬اب المق‪$$‬دس‪ ،‬وال بين رؤي‪$$‬ة المس‪$$‬لمين‬
‫لإلس‪$$‬الم‪ ،‬ورؤي‪$$‬ة المس‪$$‬يحيين ل‪$‬ه‪ ..‬فهم يعت‪$$‬برون الك‪$$‬ل واح‪$$‬دا‪ ،‬ول‪$$‬ذلك ي‪$$‬رون أن‬
‫التجربة التي نجحت في أوروبا ستنجح إن طبقت حرفيا‪ $‬في بالد المسلمين‪..‬‬
‫وك‪$$‬ل ذل‪$$‬ك مغالط‪$$‬ات‪ ..‬فاإلس‪$$‬الم يختل‪$$‬ف عن المس‪$$‬يحية‪ ،‬والق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‬
‫يختلف عن الكتاب المقدس‪ ،‬والمؤسس‪$$‬ات الديني‪$$‬ة اإلس‪$$‬المية تختل‪$$‬ف ج‪$$‬ذريا عن‬
‫المؤسسات‪ $‬الدينية المسيحية‪ ..‬وكون أوروبا‪ $‬تخلصت من الكنيسة‪ ،‬لم يضعها في‬
‫التنوير‪ $‬الحقيقي‪ ،‬بل إن جرائمها بعد فترة التنوير كانت أكبر بكثير من جرائمه‪$$‬ا‬
‫في الفترة التي حكمت فيها الكنيس‪$$‬ة‪ ،‬فاالس‪$$‬تعمار والح‪$$‬روب العالمي‪$$‬ة واإلب‪$$‬ادات‬
‫الجماعية كلها ممارسات وجرائم حصلت في عصر التن‪$$‬وير وابت‪$$‬داء من الث‪$$‬ورة‬
‫الفرنسية‪ ،‬ولم تقع الكنيسة في كل ذلك‪.‬‬
‫لكن التنويريين ال يلتفون لكل هذا‪ ،‬بل يتصورون أن الغ‪$$‬رب يمث‪$$‬ل الغاي‪$$‬ة‬
‫الكبرى‪ ،‬ونهاية التاريخ‪ ،‬ولذلك يجب أن نضحي بكل مقدساتنا للتحقق ما وص‪$$‬ل‬
‫إليه‪.‬‬
‫وقد كتب هاشم صالح لنشر ه‪$$‬ذه األطروح‪$$‬ة التنويري‪$$‬ة الكث‪$$‬ير من الكتب‪،‬‬
‫وترجم‪ $‬أعماال كثيرة‪ ،‬وخصوصا لمحمد أركون الذي أعجب ب‪$$‬ه إعجاب‪$$‬ا ش‪$$‬ديدا‪،‬‬
‫ومن مؤلفاته كتاب [معضلة األصولية اإلسالمية]‪ ،‬وكتاب [االنسداد التاريخي]‪،‬‬
‫وكتاب [مدخل إلى التنوير األوروبي]‬
‫والكتاب األخير يمث‪$$‬ل ج‪$$‬وهر م‪$$‬ا ي‪$$‬دعو إلي‪$$‬ه هاش‪$$‬م ص‪$$‬الح‪ ،‬وال‪$$‬ذي ذك‪$$‬ر‬

‫‪ )(1‬مفكر وكاتب ومترجم سوري متخص‪$‬ص في قض‪$‬ايا التجدي‪$‬د ال‪$‬ديني ونق‪$‬د األص‪$‬ولية ونق‪$‬اش قض‪$‬ايا‬
‫الحداثة وما بعدها‪ .‬حاصل على ال‪$‬دكتوراه في النق‪$‬د األدبي الح‪$‬ديث من جامع‪$‬ة الس‪$‬وربون ‪ .1982‬وعلى دبل‪$‬وم‬
‫الدراسات العليا من جامعة دمشق ‪ .1975‬يكتب بأهم الصحف والمجالت الدولي‪$$‬ة‪ ،‬نق‪$$‬ل هاش‪$$‬م ص‪$‬الح العدي‪$$‬د من‬
‫مؤلفات محمد أركون إلى اللغة العربية‪ ،‬انظر‪ :‬حوار مع الكاتب والمفكر السوري هاشم صالح ‪ :‬س‪$$‬وف تحص‪$$‬ل‬
‫في اإلسالم ثورة معرفية كتلك التي حصلت في المسيحية الغربي‪$$‬ة‪ ،‬م‪$$‬والي أحم‪$$‬د ص‪$$‬ابر‪ ،‬مؤسس‪$$‬ة مؤمن‪$$‬ون بال‬
‫حدود‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫مصادره الفكرية فيه في مقال له بعنوان [نقد العقل التقليدي لإلسالم‪ ..‬المش‪$$‬روع‬
‫الفلسفي الكبير لمحمد أركون](‪ ، )1‬والذي ذكر فيه أثر محمد أركون في تش‪$$‬كيل‬
‫عقله وطريقة تفكيره‪ ،‬فقال‪( :‬كل ما كتبه أرك‪$$‬ون من‪$$‬ذ أربعين س‪$$‬نة وح‪$$‬تى الي‪$$‬وم‬
‫يندرج تحت العنوان العريض التالي‪[ :‬نقد العقل اإلسالمي] إن‪$$‬ه مش‪$$‬روع العم‪$$‬ر‬
‫وخالصة الفكر)‬
‫وحتى يزيل االلتباس المرتبط‪ $‬بهذا النوع من النقد‪ ،‬وع‪$$‬دم توجه‪$$‬ه لل‪$$‬تراث‬
‫فقط‪ ،‬وإنما للمصادر المقدسة أيض‪$$‬ا‪ ،‬عقب على ذل‪$$‬ك بقول‪$$‬ه‪ ..( :‬وانم‪$$‬ا تع‪$$‬ني م‪$$‬ا‬
‫يلي‪ ،‬وبحسب ما أفهم فكر أركون بع‪$$‬د أن عاش‪$$‬رته أو ب‪$$‬األحري عاش‪$$‬رت فك‪$$‬ره‬
‫طيلة أكثر من ربع قرن‪ :‬كل التراث العربي اإلسالمي‪ $‬من‪$$‬ذ البداي‪$$‬ة وح‪$$‬تى الي‪$$‬وم‬
‫ينبغي أن يتعرض لغربلة عامة شاملة‪ ،‬من أجل معرفة بنيت‪$$‬ه الداخلي‪$$‬ة‪ ،‬أو كيفي‪$$‬ة‬
‫تش ّكله التاريخي‪ $‬طيلة القرون الستة األولى بشكل خاص‪ ،‬فما جف من‪$$‬ه وتخش‪$$‬ب‬
‫ومات نطرح‪$$‬ه‪ ،‬ونبقي فق‪$$‬ط على الج‪$$‬وهر ال‪$$‬روحي واألخالقي لرس‪$$‬الة االس‪$$‬الم‬
‫العظيم)‬
‫وه‪$$‬و طبع‪$$‬ا‪ ،‬كس‪$$‬ائر التن‪$$‬ويريين يس‪$$‬تعملون‪ $‬مث‪$$‬ل ه‪$$‬ذه األلف‪$$‬اظ [الج‪$$‬وهر‬
‫الروحي‪ $‬واألخالقي لرسالة االسالم العظيم]‪ ،‬ليوهموا القارئ أن نق‪$$‬دهم وه‪$$‬دمهم‪$‬‬
‫ال يمس اإلسالم‪ ،‬وإنما يمس ما تخشب منه‪ ،‬وهم ال يعلمون أنهم يقص‪$$‬دون به‪$$‬ذا‬
‫التخشب كل الحقائق اإلسالمية ابتداء من العقائد األساسية القطعية ال‪$$‬تي ال يمكن‬
‫أن يقوم الدين من دونها‪$.‬‬
‫وقد عبر هاشم صالح عن ذلك بص‪$$‬راحة بقول‪$$‬ه‪( :‬فالمعرف‪$$‬ة ال‪$$‬تي نمتلكه‪$$‬ا‬
‫عن الفترة التأسيسية للتراث اإلسالمي ال تزال الهوتية‪ ،‬أس‪$$‬طورية تض‪$$‬عه ف‪$$‬وق‪$‬‬
‫التاريخ‪ ،‬أو فوق المشروطية االجتماعية التاريخية)‬
‫وهذه العبارة هي التي تلخص ج‪$$‬وهر أك‪$‬ثر الح‪$$‬داثيين والتن‪$$‬ويريين‪ ،‬وهي‬
‫اعتبار اإلس‪$$‬الم ومقدس‪$$‬اته ولي‪$$‬د ف‪$$‬ترة تاريخي‪$$‬ة مح‪$$‬ددة‪ ،‬ول‪$$‬ذلك ال يمكن اعتب‪$$‬اره‬
‫عندهم معبرا عن الحقيقة المطلقة‪ ،‬أو رس‪$$‬الة إلهي‪$$‬ة ع‪$$‬ابرة للزم‪$$‬ان‪ ،‬وإنم‪$$‬ا ه‪$$‬و ـ‬
‫بحسبهم‪ $‬ـ يعبر عن الفكر الذي ساد في تلك البيئة الزمنية‪ ،‬والذي يمكن تط‪$$‬ويره‪،‬‬
‫بل تحويره ليتحول إلى أي بيئة جديدة بما يتناسب معها‪.‬‬
‫ولذلك كان جوهر رسالة جميع الحداثيين هو تحويل اإلس‪$$‬الم من مرحلت‪$$‬ه‬
‫التاريخية التأسيسية إلى مرحلة حديثة‪ ،‬ولو بتفريغ‪$$‬ه من محت‪$‬واه تمام‪$‬ا‪ ،‬باعتب‪$‬ار‬
‫أن ذل‪$$‬ك المحت‪$$‬وى‪ $‬المق‪$$‬دس لم يع‪$$‬د نافع‪$$‬ا وال ص‪$$‬الحا في ه‪$$‬ذا الزم‪$$‬ان‪ ..‬فالنفعي‪$$‬ة‬
‫البراغامتي‪$$‬ة هي المح‪$$‬دد عن‪$‬دهم لص‪$‬الحية الش‪$‬يء‪ ،‬ال الحقيق‪$‬ة ال‪$$‬تي ت‪$$‬دل عليه‪$‬ا‬
‫األدلة أو البراهين‪.‬‬

‫‪ )(1‬نقد العقل التقليدي لإلسالم‪ ..‬المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون‪:‬بقلم‪ :‬هاشم صالح‪ ،‬الفجر ني‪$$‬وز‪،‬‬
‫نشر في الفجر نيوز يوم ‪.2008 - 02 - 03‬‬

‫‪53‬‬
‫وقد ذكر هاشم صالح هذا المعنى عن‪$$‬د إجابت‪$$‬ه على س‪$$‬ؤال طرح‪$$‬ه بقول‪$$‬ه‪:‬‬
‫(لماذا يشكل ذلك حاجة تاريخية ال بد منها‪ ،‬أو ال مندوحة عنها؟)‬
‫ثم أج‪$$‬اب على ذل‪$$‬ك بقول‪$$‬ه‪( :‬ألن المس‪$$‬لمين‪ ،‬ك‪$$‬ل المس‪$$‬لمين وليس فق‪$$‬ط‬
‫الع‪$$‬رب‪ ،‬وص‪$$‬لوا‪ $‬اآلن إلى مف‪$$‬ترق ط‪$$‬رق‪ :‬فإم‪$$‬ا أن ينخرط‪$$‬وا في ه‪$$‬ذه العملي‪$$‬ة‬
‫الجراحية الخطيرة الضرورية لمصالحة االسالم مع الحداثة‪ ،‬وإما أن يستس‪$$‬لموا‬
‫للمقادير‪ ،‬وينقطعوا‪ $‬عن حركة التاريخ كليا ً في عصر العولمة الكونية ويص‪$$‬بحوا‬
‫مهمشين وواقعين في مؤخرة كل األمم)‬
‫وهو يشبه هذه العملية الجراحية الخط‪$$‬يرة ال‪$$‬تي يري‪$$‬د إجراءه‪$$‬ا للمص‪$$‬ادر‪$‬‬
‫العميقة لإلس‪$$‬الم بم‪$$‬ا حص‪$$‬ل ألوروب‪$‬ا‪ $‬عن‪$$‬دما راحت تس‪$$‬خر من الكنيس‪$$‬ة وال‪$$‬دين‬
‫وتستبدله بالمذاهب والفلسفات المادية‪ ،‬فيقول‪( :‬ويراهن كاتب هذه السطور‪ $‬علي‬
‫‪$‬ف حس‪$$‬اباتها‬ ‫الحقيقة التالية‪ :‬لو لم تخض أوروبا معركتها‪ $‬م‪$$‬ع نفس‪$$‬ها‪ ،‬ل‪$$‬و لم تص‪ّ $‬‬
‫م‪$$‬ع ذاته‪$‬ا التاريخي‪$$‬ة ‪ -‬أي م‪$$‬ع تراثه‪$$‬ا المس‪$‬يحي الق‪$$‬ديم‪ -‬لم‪$‬ا اس‪$‬تطاعت أن تقل‪$$‬ع‬
‫حضارياً‪ $‬وأن تسيطر على الع‪$$‬الم‪ .‬فأزم‪$$‬ة ال‪$$‬وعي األوروبي‪ $‬م‪$$‬ع نفس‪$$‬ه ك‪$$‬انت ق‪$$‬د‬
‫وصلت إلي حد التفاقم األقصي الذي يهدد باالنفجار أو باالنهيار)‪$‬‬
‫ثم يحدد بدقة نوع النقد الذي يجب أن يوجه للعقل المسلم‪ ،‬حتى ينسجم م‪$$‬ع‬
‫الحداثة؛ فيقول‪( :‬مشروع المستقبل ليس نقد العقل العربي كما يتوهم‪$$‬ه الج‪$$‬ابري‬
‫على الرغم من تقديرنا لجهد المحاولة لديه ولبعض النقاط االيجابية أيضا‪ ،‬وإنم‪$‬ا‬
‫هو مشروع نقد العقل اإلسالمي التقليدي‪ .‬لماذا نق‪$$‬ول ذل‪$$‬ك؟ ألن‪$$‬ه ال يوج‪$$‬د ش‪$$‬يء‬
‫اسمه عقل عربي أو تركي أو إيراني وإنما يوجد عقل إسالمي أو ديني باألحري‬
‫مثلم‪$$‬ا يوج‪$$‬د عق‪$$‬ل علمي أو فلس‪$$‬في أو وض‪$$‬عي‪ $‬س‪$$‬مه م‪$$‬ا ش‪$$‬ئت‪ .‬وبينهم‪$‬ا‪ $‬قطيع‪$$‬ة‬
‫الحداثة)‬
‫وبذلك‪ ،‬فإن النقد الحداثي للعقل عن‪$$‬ده ه‪$$‬و نق‪$$‬د لطريق‪$$‬ة تفك‪$$‬ير المس‪$$‬لم‪ ،‬أي‬
‫مس‪$$‬لم‪ ،‬وفي أي مرحل‪$$‬ة من مراح‪$$‬ل الت‪$$‬اريخ‪ ،‬م‪$$‬ا دام ي‪$$‬ؤمن ب‪$$‬الغيب‪ ،‬ويعتق‪$$‬د أن‬
‫مصادره المقدسة‪ ،‬تحوي قيما عقدية وسلوكية ثابتة‪ ،‬وق‪$$‬د ع‪$$‬بر عن ه‪$$‬ذا المع‪$$‬نى‬
‫بقوله‪( :‬وبالتالي فالعقل البشري واح‪$‬د عن‪$$‬د جمي‪$‬ع الش‪$‬عوب‪ .‬فق‪$$‬ط هن‪$$‬اك ش‪$$‬عوب‬
‫تحررت من العقل الالهوتي الغيبي الطائفي القديم كشعوب أوروبا‪ $‬الغربية مثال‪،‬‬
‫وشعوب‪ $‬لم تتحرر بعد‪ ..‬وهذه هي حالتنا نحن)‬
‫وليؤكد هذا المعنى‪ ،‬يعود كسائر الحداثيين إلى أوغس‪$$‬ت ك‪$$‬ونت‪ ،‬وفلس‪$$‬فته‬
‫الوضعية‪ ،‬باعتب‪$‬ار أن ك‪$‬ل التق‪$$‬دم والتط‪$$‬ور‪( $‬ال‪$$‬ذي نش‪$$‬هده أم‪$$‬ام أعينن‪$$‬ا الي‪$$‬وم في‬
‫مختلف مجتمعات الغرب هو ثمرة الفلسفة الوضعية التي ازده‪$$‬رت في النص‪$$‬ف‬
‫الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬فهذه الفلسفة كانت تعتقد اعتقاداً جازما ً بأن العق‪$$‬ل‬
‫والعلم هم‪$$‬ا الل‪$$‬ذان ينبغي أن يق‪$$‬ودا البش‪$$‬رية نح‪$$‬و الحض‪$$‬ارة والتق‪$$‬دم وال‪$$‬رق ّي‪،‬‬
‫وبالتالي‪ $‬فينبغي أن يحالّ محل الالهوت المسيحي التقليدي ال‪$$‬ذي أدى إلى مح‪$$‬اكم‬

‫‪54‬‬
‫والمستويات)(‪)1‬‬ ‫التفتيش‪ ،‬والتواكل‪ ،‬وتأخر‪ $‬المجتمع على كافة األصعدة‬
‫ووضح ذلك في محل آخر بصراحة‪ ،‬فقال‪( :‬وبالتالي فالشعوب تم‪$$‬ر بع‪$$‬دة‬
‫مراحل من التط‪$‬ور‪ $‬العقلي والفك‪$‬ري؛ فهن‪$$‬اك أوال المرحل‪$‬ة األس‪$$‬طورية البدائي‪$$‬ة‬
‫للعقل‪ ،‬تليها المرحلة الدينية األكثر تطورا‪ ،‬ثم أخ‪$$‬يرا المرحل‪$$‬ة العلمي‪$$‬ة الفلس‪$$‬فية‪،‬‬
‫وهي أعلى درجات العقل أو العقالنية)‬
‫وهو ينتقد الجابري‪ $‬وأمثاله ممن لم يتجرؤوا على اقتحام المقدس‪$$‬ات خالف‪$$‬ا‬
‫ألستاذه أركون؛ فقال‪( :‬قناعتي هي أن الجابري لم يتجرأ على مواجه‪$$‬ة المش‪$$‬كلة‬
‫الالهوتي‪$$‬ة وجه‪$$‬ا لوج‪$$‬ه؛ فق‪$$‬رر خ‪$$‬وض المعرك‪$$‬ة م‪$$‬ع العق‪$$‬ل الع‪$$‬ربي‪ $‬ال العق‪$$‬ل‬
‫اإلسالمي)‬
‫لكنه يعود فيعتذر ل‪$‬ه‪ ،‬وألمثال‪$$‬ه ب‪$$‬أن الس‪$‬بب ليس ع‪$‬دم قن‪$$‬اعتهم بض‪$‬رورة‬
‫مواجهة المقدسات‪ ،‬وإنم‪$$‬ا لك‪$$‬ونهم يمارس‪$$‬ون بعض التقي‪$$‬ة م‪$$‬ع المجتمع‪$$‬ات ال‪$$‬تي‬
‫يعيش‪$$‬ون فيه‪$$‬ا ح‪$$‬تى ال يص‪$$‬طدموا معه‪$$‬ا‪ ،‬يق‪$$‬ول في ذل‪$$‬ك‪ ..( :‬وه‪$$‬ذا تحاي‪$$‬ل على‬
‫الموضوع في نهاية المطاف أو تهرب من المواجهة‪ ،‬ولكنه مفهوم ألن للتقليديين‬
‫سطوة في الشارع‪ ،‬ويستطيعون تهديد أي مثقف وتخويفه)‬
‫ليس ذلك فقط‪ ،‬وإنما لكونهم أيضا ـ بحسبه ـ يفتق‪$$‬رون لتل‪$$‬ك المن‪$‬اهج ال‪$$‬تي‬
‫يملكها أستاذه أركون‪ ..‬ذلك أنه وحده من (يمتلك التكوين المنهجي الكافي والع‪$$‬دة‬
‫المفهومية والمصطلحية للقيام بنقد العقل الديني في اإلسالم‪ ..‬ووحده من بين ك‪$$‬ل‬
‫المثقفين العرب من يمتلك ذل‪$$‬ك اآلن‪ ..‬وك‪$$‬ل من يفهم في ش‪$$‬ؤون الفك‪$$‬ر وش‪$$‬جونه‬
‫يع‪$$‬رف ذل‪$$‬ك‪ ..‬وك‪$$‬ل مطل‪$$‬ع على الفك‪$$‬ر الح‪$$‬ديث وتاريخ‪$$‬ه ومناهج‪$$‬ه العويص‪$$‬ة‬
‫ومصطلحاته يعرف م‪$$‬ا ال‪$$‬ذي أقص‪$$‬ده هن‪$$‬ا‪ ..‬ول‪$$‬ذلك راهنت علي ه‪$$‬ذا الفك‪$$‬ر من‪$$‬ذ‬
‫ثالثين عاما وال أزال)‬

‫‪ )(1‬أوغست كونت‪ :‬الفلسفة الوضعية ومفهوم التقدم‪ ،‬هاشم صالح‪ ،‬مجلة األوان‪ ،‬ديسمبر ‪.2013‬‬

‫‪55‬‬
‫شحرور ‪ ..‬المهندس األفاك‬
‫ال يظنن أحد أن في هذا العنوان نوعا من الشتيمة أو البذاء أو الفحش؛ فقد‬
‫نهينا عن ذلك كله‪ ،‬وإنما هو وصف للواقع كم‪$$‬ا ه‪$$‬و‪ ،‬ذل‪$$‬ك أن‪$$‬ا إن س‪$$‬مينا الحم‪$$‬ار‬
‫حمارا‪ ،‬والكلب كلبا‪ ،‬والخنزير خنزيرا‪ ،‬لم نكت شاتمين‪ ،‬وال طاعنين‪ ،‬ألن تل‪$$‬ك‬
‫األسماء هي األسماء التي ال تعرف‪ $‬الحمير وال الكالب وال الخنازير إال بها‪.‬‬
‫ومن هنا كان وصفنا لمحم‪$$‬د ش‪$‬حرور‪ $‬بكون‪$‬ه مهندس‪$‬ا‪ $‬وأفاك‪$‬ا‪ ،‬ليس س‪$‬وى‬
‫أوصاف‪ $‬دقيقة وعلمية تختصر حقيقة هذا الرجل ومش‪$$‬روعه الفك‪$$‬ري‪ ،‬ورس‪$$‬الته‬
‫التي ندب نفسه لها‪ ،‬والتي وجدت تجاوبا من جهات كثيرة تريد أن تستأص‪$$‬ل‪ $‬من‬
‫خاللها الدين من أساسه‪.‬‬
‫أما كونه مهندسا‪ ،‬فال نريد منها كونه دارسا للهندسة المدني‪$$‬ة‪ ،‬ذل‪$$‬ك أنن‪$$‬ا ال‬
‫نجد له فيها أي نتاج علمي‪ ،‬ب‪$‬ل ه‪$$‬و فيه‪$$‬ا ت‪$‬ابع مج‪$‬رد‪ ،‬لم يتج‪$$‬رأ أن يض‪$$‬يف إلى‬
‫البني‪$$‬ان الهندس‪$$‬ي أي لبن‪$$‬ة واح‪$$‬دة‪ ،‬وال أن ينتق‪$$‬د أي نظري‪$$‬ة‪ ،‬وال أن يؤس‪$$‬س أي‬
‫نموذج‪ ،‬ولذلك فإننا نريد بالمهندس هن‪$$‬ا كون‪$$‬ه مهندس‪$$‬ا في ال‪$$‬دين‪ ،‬ال مهندس‪$$‬ا في‬
‫البني‪$$‬ان‪ ،‬فه‪$‬و ق‪$$‬د طب‪$‬ق هندس‪$$‬ته المدني‪$$‬ة في المص‪$‬ادر‪ $‬المقدس‪$‬ة‪ ،‬ولم يطبقه‪$‬ا م‪$‬ع‬
‫اإلسمنت والرمل والخرسانة المسلحة‪.‬‬
‫وكل عمله من هذا القبيل‪ ،‬فهو ـ بع‪$$‬د أن ط‪$$‬رح الس‪$$‬نة المطه‪$$‬رة‪ ،‬وط‪$$‬رح‬
‫معها كل أقوال المفسرين واللغويين والفقهاء ـ راح إلى األلف‪$$‬اظ القرآني‪$$‬ة يتعم‪$$‬ل‬
‫معها كما يتعامل مع اللبنات‪ ،‬يضعها‪ $‬في المحل الذي يشاء‪ ،‬وينزعها من المح‪$$‬ل‬
‫ال‪$‬ذي يش‪$‬اء‪ ،‬مس‪$‬تعمال ك‪$‬ل قدرات‪$‬ه الهندس‪$‬ية ال‪$‬تي تعلم منه‪$‬ا فن االحتم‪$‬ال‪ ،‬وفن‬
‫المراوغة‪ ،‬ليؤس‪$$‬س القص‪$$‬ور الكب‪$$‬يرة من اللبن‪$$‬ات القليل‪$$‬ة‪ ،‬كم‪$$‬ا يؤس‪$$‬س األك‪$$‬واخ‬
‫الحقيرة من اللبنات الكثيرة‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك أنه عندما اص‪$$‬طدم‪ $‬موقف‪$$‬ه الهندس‪$$‬ي م‪$$‬ع موق‪$$‬ف الق‪$$‬رآن‬
‫الكريم من الصالة‪ ،‬حيث أنها وردت في القرآن الكريم في مواض‪$$‬ع كث‪$$‬يرة ج‪$$‬دا‪،‬‬
‫واعتبر غير المصلي مجرما‪ ،‬وتوعده هللا تعالى بالويل والع‪$$‬ذاب الش‪$$‬ديد‪ ،‬وذل‪$$‬ك‬
‫كله يتنافى مع رؤيته للدين‪ ،‬وأن الصالة فيه اختي‪$$‬ار ال واجب‪ ،‬راح يفك‪$$‬ك كلم‪$$‬ة‬
‫الصالة في القرآن الكريم‪ ،‬معتمدا حيلة لم يفطن لها األولون‪ ،‬وال اآلخ‪$$‬رون‪ ،‬وال‬
‫تعتمد على أي أساس علمي‪.‬‬
‫وقد عبر عن الدافع الذي دفعه إلى تلك الحيلة الهندس‪$$‬ية‪ ،‬فق‪$$‬ال‪( :‬ق‪$$‬د رأين‪$$‬ا‬
‫أن من الضروري‪ $‬توضيح معنى الصالة‪ ،‬جري‪$‬ا ً وراء التوفي‪$‬ق‪ $‬ورف‪$‬ع‪ $‬اللبس بين‬
‫قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى في س‪$$‬ورة الم‪$$‬اعون‪﴿ :‬فَ َو ْي ‪ٌ $‬ل لِ ْل ُم َ‬
‫ص ‪$‬لِّينَ (‪ )4‬الَّ ِذينَ هُ ْم ع َْن َ‬
‫ص ‪$‬اَل تِ ِه ْ‪$‬م‬
‫َس‪$‬اهُونَ ﴾ [الم‪$$‬اعون‪ ،]5 $،4 :‬واعتب‪$$‬ار ه‪$$‬ذا الق‪$$‬ول موجه‪$‬اً‪ $‬للمتق‪$$‬اعس عن أداء‬

‫‪56‬‬
‫الصالة بأوقاتها‪ ،‬كما ترى كتب التفسير‪ ،‬وبين قوله تعالى في سورة المرسالت‪:‬‬
‫‪$‬رينَ (‪)17‬‬ ‫‪$‬ك اأْل َ َّولِينَ (‪ )16‬ثُ َّم نُ ْتبِ ُعهُ ُم اآْل ِخ‪ِ $‬‬
‫﴿ َو ْي‪ٌ $‬ل يَوْ َمئِ ‪ٍ $‬ذ لِ ْل ُم َك‪ِّ $‬ذبِينَ (‪ )15‬أَلَ ْم نُ ْهلِ‪ِ $‬‬
‫‪$‬ال ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ [المرس‪$‬الت‪ ،]18 $- 15 :‬واللبس يتلخص في أن هللا‬ ‫ك نَ ْف َع‪ُ $‬ل بِ ْ‬ ‫َك‪َ $‬ذلِ َ‬
‫سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصالة بالويل (وهو واد سحيق من ودي‪$$‬ان‬
‫جهنم)‪ ،‬ويتوع‪$$‬د ب‪$$‬ه في ذات ال‪$$‬وقت المج‪$$‬رمين المك‪$$‬ذبين‪ ،‬ومن المس‪$$‬تحيل أن‬
‫يستوي‪ $‬في عدل هللا سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الش‪$$‬عائر‪ ،‬والمك‪$$‬ذب‬
‫المجرم الكافر‪ $‬بوجود هللا والمنكر‪ $‬للبعث ولليوم اآلخر)‬
‫ثم راح يت‪$$‬درج بالق‪$$‬ارئ ليص‪$$‬ل ب‪$$‬ه إلى الح‪$$‬ل ال‪$$‬ذي يرف‪$$‬ع الوي‪$$‬ل عن‬
‫المصلين‪ ،‬ال بحثهم على إقامة الصالة واالهتمام بها‪ ،‬وال باعتبارهم مجرمين ما‬
‫داموا مقصرين في حق الصالة‪ ،‬وإنم‪$$‬ا بتفري‪$$‬غ كلم‪$$‬ة [المص‪$$‬لين] من محتواه‪$$‬ا‪،‬‬
‫لتصبح مجرد دعاء يقال في أي حانة أو مرقص أو مقهي‪ ،‬من دون وض‪$$‬وء وال‬
‫غسل وال قبلة‪.‬‬
‫وق‪$$‬د ع‪$$‬بر عن تل‪$$‬ك الحيل‪$$‬ة ال‪$$‬تي أف‪$$‬رغ به‪$$‬ا الص‪$$‬الة من محتواه‪$‬ا‪ $‬بقول‪$$‬ه‪:‬‬
‫(والحل في رأينا يكمن في مفهوم الصالة ذاتها؛ فق‪$$‬د وردت الص‪$$‬الة في التنزي‪$$‬ل‬
‫الحكيم بمعنيين محددين يختلف أح‪$$‬دهما عن اآلخ‪$$‬ر في الش‪$$‬كل‪ ،‬ويلتقي مع‪$$‬ه في‬
‫المضمون‪ ،‬فالصالة في الحالتين صلة بين العبد وربه أساسها الدعاء‪ .‬ولكن ه‪$$‬ذه‬
‫الصلة أخذت منذ ابراهيم شكلين‪ :‬أولهم‪$$‬ا ص‪$$‬لة بين العبد وربه قالبها ال‪$$‬دعاء‪ ،‬ال‬
‫تحتاج إلى إقامة وطقوس‪ ،‬يؤديها كل إنسان له باهلل صلة على طريقته الخاص‪$$‬ة‪،‬‬
‫(وقد وردت في التنزيل الحكيم الصالة باأللف)‪ ،‬وثانيهما صلة بين العبد ورب‪$$‬ه‪،‬‬
‫لها طقوس وحركات‪ $‬محددة خاصة به‪$$‬ا‪ ،‬كالقي‪$$‬ام والرك‪$$‬وع والس‪$$‬جود‪ $‬والق‪$$‬راءة‪،‬‬
‫وتحتاج إلى إقامة‪ ،‬أي على اإلنسان أن يق‪$‬وم ليؤديه‪$‬ا‪ ( ،‬وق‪$‬د‪ $‬وردت في التنزي‪$‬ل‬
‫الحكيم [الصلوة] بالواو)‪ .‬وهي من شعائر اإليمان)‬
‫والحيلة التي اعتمدها عجيبة جدا‪ ،‬فهي ال تتعل‪$$‬ق بمع‪$$‬اني الكلم‪$$‬ة اللغوي‪$$‬ة‪،‬‬
‫ذلك أنها واحدة‪ ،‬وال بالسياق الذي وردت فيه‪ ،‬وإنما باعتماد الرس‪$‬م‪ $‬الق‪$$‬رآني م‪$$‬ع‬
‫العلم أنه رسم‪ $‬اجتهادي كتب‪$$‬ه الص‪$$‬حابة‪ ،‬ولم يكتب‪$$‬ه رس‪$$‬ول هللا ‪ ، ‬ولم ي‪$$‬رد أي‬
‫دليل على اعتماده في المعاني‪ ..‬وربما‪ $‬يكون السبب في كتاب‪$$‬ة الص‪$$‬الة ب‪$$‬الواو أو‬
‫باأللف خاضعا للكتبة‪ ،‬فبعضهم‪ $‬يرسم حرف المد ألفا‪ ،‬وبعضهم‪ $‬يرسمها واوا‪..‬‬
‫لكن شحرورا ـ ليفرغ الكلمة من محتواها‪ $‬ـ استعمل هذه الحيلة‪ ..‬والطريق‪$‬‬
‫إليها بسيط جدا‪ ،‬وخاصة مع التقنيات الحديثة‪ ،‬فهو لن يحتاج ـ كما يتوهم القارئ‬
‫البسيط ـ أن يرجع للمصحف كل مرة‪ ،‬ويقوم بالتحقيق‪ ،‬بل يكفي أن يس‪$$‬تعمل أي‬
‫برنامج ليضع له كلمة الصالة باشتقاقاتها‪ $‬ورسمها‪ $‬ومواقعها‪ $‬اإلعرابية‪ ،‬ليتعام‪$$‬ل‬
‫معها هو بعد ذلك كما يتعامل مع رقعة الشطرنج‪ ،‬وليوهم‪ $‬المستمعين أو القارئين‬
‫له أنه نقب وحقق وتدبر‪ $‬إلى أن وصل إلى تلك النتيج‪$$‬ة العظيم‪$$‬ة ال‪$$‬تي لم تخط‪$‬ر‪$‬‬

‫‪57‬‬
‫على بال أحد‪.‬‬
‫وبعد أن وضع تل‪$$‬ك المق‪$$‬دمات ال‪$$‬تي على أساس‪$$‬ها ف‪$‬رق‪ $‬بين الص‪$$‬الة ال‪$$‬تي‬
‫يدعو إليها‪ ،‬والتي هي مجرد دعاء‪ ،‬والصالة التي جاءت بها الش‪$$‬ريعة‪ ،‬وج‪$$‬اءت‬
‫معها التحذيرات من التهاون فيها‪ ،‬راح يعطي النتيجة للقارئ‪ ،‬وهي نتيجة تجعل‬
‫من البشر جميعا مصلين‪ ..‬مسلمهم وكافرهم‪ ..‬ذلك أن المس‪$$‬لم عن‪$$‬ده ه‪$$‬و ك‪$$‬ل من‬
‫آمن باهلل‪ ..‬والمصلي عن‪$‬ده ه‪$$‬و ك‪$$‬ل من دع‪$$‬ا هللا‪ ..‬وه‪$‬و متحق‪$$‬ق في جمي‪$$‬ع المل‪$$‬ل‬
‫والنحل‪ ،‬وبين جميع الشعوب‪ ..‬فال أح‪$$‬د منهم إال ويق‪$$‬ول‪ :‬ي‪$$‬ا هللا‪ ..‬في أي مناس‪$$‬بة‬
‫من المناسبات‪.‬‬
‫وهكذا راح يحتال على الصوم‪ $‬ليحول منه إلى إطعام المساكين‪ ،‬مس‪$$‬تثمرا‬
‫كلمة من كلمات القرآن الكريم هي كلمة [يطيقونه] مفسرا لها بحسب مزاج‪$$‬ه‪ ،‬ال‬
‫بحسب ما اتفقت عليه أقوال اللغويين والمفسرين‪.‬‬
‫وهكذا راح إلى كلمة اإلسالم نفس‪$‬ها‪ ،‬يحوله‪$‬ا عن م‪$‬دلولها الواض‪$‬ح ال‪$‬ذي‬
‫ضبطه القرآن الكريم‪ ،‬وضبطته السنة المطهرة‪ ،‬إلى مفهوم مطاط م‪$$‬رن‪ ،‬يش‪$$‬مل‬
‫ك‪$$‬ل األدي‪$$‬ان‪ ..‬ليص‪$$‬بح اإلس‪$$‬الم ال‪$$‬ذي نعرف‪$$‬ه مج‪$$‬رد اختي‪$$‬ار شخص‪$$‬ي‪ ،‬يمكن أن‬
‫يستبدله المرء متى شاء‪ ،‬وكيف شاء من غير أي حرج‪.‬‬
‫ولذلك لم نكتف في وصفه بكونه مهندسا فقط‪ ،‬وإنم‪$$‬ا بكون‪$$‬ه أفاك‪$$‬ا أيض‪$$‬ا‪..‬‬
‫فاألفاك‪ $‬ه‪$‬و الك‪$‬اذب ال‪$‬ذي يس‪$‬تعمل ك‪$$‬ل الحي‪$‬ل ليص‪$‬رف‪ $‬األس‪$‬ماع والقل‪$$‬وب عن‬
‫الحقيقة إلى الب‪$$‬دائل ال‪$$‬تي يض‪$$‬عها‪ $‬له‪$$‬ا‪ ..‬ول‪$$‬ذلك ح‪$$‬ذر هللا من‪$$‬ه‪ ،‬وتوع‪$$‬ده بالع‪$$‬ذاب‬
‫اك أَثِ ٍيم (‪ )7‬يَ ْس‪َ $$‬م ُع آيَ‪$$‬ا ِ‬
‫ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَيْ‪ِ $$‬ه ثُ َّم ي ِ‬
‫ُص‪$$‬رُّ‬ ‫الش‪$$‬ديد‪ ،‬فق‪$$‬ال‪َ ﴿ :‬ويْ‪ٌ $$‬ل لِ ُك‪$$‬لِّ أَفَّ ٍ‬
‫ب أَلِ ٍيم (‪َ )8‬وإِ َذا َعلِ َم ِم ْن آيَاتِنَ‪$$‬ا َش ‪ْ $‬يئًا اتَّ َخ‪َ $‬ذهَا‬
‫ُم ْستَ ْكبِ ًرا‪َ $‬كأ َ ْن لَ ْم يَ ْس َم ْعهَا فَبَ ِّشرْ هُ بِ َع‪َ $‬ذا ٍ‬
‫ين﴾ [الجاثية‪]9 - 7 :‬‬ ‫هُ ُز ًوا أُولَئِكَ لَهُ ْم َع َذابٌ ُم ِه ٌ‬
‫وهذه اآلي‪$$‬ات الكريم‪$$‬ة ال تنطب‪$$‬ق على أح‪$$‬د كم‪$$‬ا تنطب‪$$‬ق على م‪$$‬ا يق‪$$‬وم ب‪$$‬ه‬
‫شحرور وأبناء مدرسته‪ ،‬ذلك أنهم ـ مع إقرارهم بكونهم‪ $‬يسمعون آي‪$$‬ات هللا ـ إال‬
‫أنهم يصرون على أنهم لم يسمعوها‪ ،‬ذلك أنهم ال يسمعون منه‪$$‬ا إال م‪$$‬ا يرغب‪$$‬ون‬
‫ويشتهون‪ ،‬ويفسرونها‪ $‬كما يحبون‪ ،‬متخذين منها مطية ألهوائهم‪ ،‬ال يبحثون فيها‬
‫عن الحق‪$$$‬ائق ليلتزموه‪$$$‬ا‪ ،‬وإنم‪$$$‬ا يجعل‪$$$‬ون منه‪$$$‬ا مطي‪$$$‬ة ألم‪$$$‬زجتهم وأفك‪$$$‬ارهم‪$‬‬
‫ورغباتهم‪$.‬‬
‫وهو م‪$$‬ا يجعلهم محال لت‪$$‬نزالت الش‪$$‬ياطين كم‪$$‬ا ذك‪$$‬ر هللا تع‪$$‬الى ذل‪$$‬ك عن‪$$‬د‬
‫وص‪$$‬فه الس‪$$‬تعداد األف‪$$‬اكين لتقب‪$$‬ل وحي الش‪$$‬ياطين‪ ،‬ذل‪$$‬ك ال‪$$‬وحي ال‪$$‬ذي يس‪$$‬ميه‬
‫المغفل‪$$‬ون [مش‪$$‬اريع فكري‪$$‬ة] أو [اجته‪$$‬ادات تجديدي‪$$‬ة]‪ ،‬بينم‪$$‬ا ه‪$$‬و في المص‪$$‬طلح‬
‫القرآن [اإلفك اآلثم]‬
‫اطينُ (‪)221‬‬ ‫الش‪$‬يَ ِ‬ ‫ُ‬
‫قال تعالى يذكر ذل‪$$‬ك كل‪$$‬ه‪ ﴿ :‬هَ‪$$‬لْ أنَبِّئُ ُك ْم َعلَى َم ْن تَنَ‪َّ $‬ز ُل َّ‬
‫اك أَثِ ٍيم (‪ )222‬ي ُْلقُونَ ال َّس ْم َع َوأَ ْكثَ ُرهُْ‪$‬م َكا ِذبُونَ (‪َ )223‬وال ُّش َع َرا ُء‬ ‫تَنَ َّز ُل َعلَى ُك ِّل أَفَّ ٍ‬

‫‪58‬‬
‫يَتَّبِ ُعهُ ُم ْالغَاوُونَ (‪ )224‬أَلَ ْم تَ َر أَنَّهُ ْم فِي ُكلِّ َوا ٍد يَ ِهي ُمونَ (‪َ )225‬وأَنَّهُْ‪$‬م يَقُولُ‪$$‬ونَ َم‪$$‬ا‬
‫اَل يَ ْف َعلُونَ ﴾ [الشعراء‪]226 - 221 :‬‬
‫ول‪$$‬ذلك‪ ،‬ف‪$$‬إن المش‪$$‬روع‪ $‬الحقيقي لش‪$$‬حرور ه‪$$‬و تحري‪$$‬ف الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪،‬‬
‫وتفريغه من محتواه‪ ،‬وتحويله إلى كتاب آخر‪ ،‬ال عالق‪$$‬ة ل‪$‬ه بالش‪$$‬ريعة وال ب‪$$‬القيم‬
‫التي أجمعت عليها األمة بمدارسها‪ $‬المختلفة‪.‬‬
‫وق‪$$‬د ط‪$$‬رح مالمح مش‪$$‬روعه في تل‪$$‬ك الحص‪$$‬ة الخط‪$$‬يرة المس‪$$‬ماة [النب‪$$‬أ‬
‫العظيم]‪ ،‬والتي تذيعها قن‪$‬اة [روتان‪$‬ا خليجي‪$‬ة]‪ ،‬وهي قن‪$‬اة من تل‪$‬ك القن‪$‬وات ال‪$‬تي‬
‫تستهدف‪ $‬تمييع المجتمع المسلم‪ ،‬ونشر االنحرافات األخالقي‪$$‬ة والفكري‪$$‬ة‪ ،‬ليخ‪$$‬رج‬
‫المسلمون من إسالمهم وقيمهم‪ $‬بكل سالسة‪.‬‬
‫فق‪$$‬د ذك‪$$‬ر في الحص‪$$‬ة األولى من ذل‪$$‬ك البرن‪$$‬امج منهج‪$$‬ه في فهم الق‪$$‬رآن‪،‬‬
‫والذي انطلق فيه من مفهوم شرعي متفق عليه‪ ،‬وهو كون القرآن رسالة عالمية‪،‬‬
‫أي أن البشر جميعا مطالبون بالتعرف على القرآن الكريم وااللتزام‪ $‬بتعاليمه‪..‬‬
‫لكن ش‪$$‬حرورا لم يفهم ه‪$$‬ذا‪ ،‬وإنم‪$$‬ا ط‪$$‬الب الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم ب‪$$‬أن ي‪$$‬نزل إلى‬
‫مستوى‪ $‬العالم بشعوبه المختلف‪$$‬ة‪ ،‬أي أن‪$$‬ه (يجب أن يالئم ك‪$$‬ل الش‪$$‬عوب كالياب‪$$‬اني‬
‫واألم‪$$‬ريكي)‪ ..‬وب‪$$‬ذلك يجب أن يص‪$$‬بح تابع‪$$‬ا للقيم العلماني‪$$‬ة المعاص‪$$‬رة‪ ،‬ح‪$$‬تى‬
‫ترضى‪ $‬عنه تلك الشعوب‪ ،‬ويصبح تابعا لها‪ ،‬ال تابعة له‪.‬‬
‫وألج‪$$‬ل ه‪$$‬ذا راح يل‪$$‬وي أعن‪$$‬اق النص‪$$‬وص بالحي‪$$‬ل المختلف‪$$‬ة‪ ،‬ليس‪$$‬تخرج‬
‫المفاهيم التي تتالءم مع هذه القيم‪ ،‬وهو لن يحتاج أي شيء لتحقي‪$$‬ق ه‪$$‬ذا‪ ،‬فيكفي‪$$‬ه‬
‫أن يبحث عن الجذر اللغوي للكلمات القرآنية‪ ،‬ثم يلجأ إلى الق‪$$‬واميس يبحث فيه‪$$‬ا‬
‫عن معنى يجده أكثر توافقا مع القيم العلمانية المعاصرة ليطبقه عليها‪.‬‬
‫ومن األمثلة التي ذكرها لذلك‪ ،‬ما فس‪$‬ر‪ $‬ب‪$$‬ه قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪ُ ﴿ :‬زيِّنَ لِلنَّ ِ‬
‫اس حُبُّ‬
‫‪$‬ل‬‫ض‪ِ $‬ة َو ْالخَ ْي‪ِ $‬‬‫ب َو ْالفِ َّ‬‫‪$‬ذهَ ِ‬ ‫ير ْال ُمقَ ْنطَ‪َ $‬‬
‫‪$‬ر ِة ِمنَ ال‪َّ $‬‬ ‫ت ِمنَ النِّ َس‪$‬ا ِء َو ْالبَنِينَ َو ْالقَنَ‪ِ $‬‬
‫‪$‬اط ِ‪$‬‬ ‫َّ‬
‫الش‪$‬هَ َوا ِ‬
‫ب ﴾ [آل‬ ‫ْ‬
‫ُس ‪$‬نُ ال َم‪$$‬آ ِ‬ ‫هَّللا‬ ‫ْ‬
‫ع ال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َو ُ ِع ْن‪َ $‬دهُ ح ْ‬ ‫ك َمتَا ُ‬ ‫ْال ُم َس َّو َم ِة َوا ْن َع ِام َوال َحرْ ِ‬
‫ث َذلِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أْل‬
‫عمران‪]14 :‬‬
‫فمع ك‪$$‬ون اآلي‪$$‬ة الكريم‪$$‬ة واض‪$$‬حة في داللته‪$$‬ا إال أن ش‪$$‬حرورا‪ $‬ح‪$$‬اول أن‬
‫يرضي‪ $‬به‪$$‬ا أه‪$$‬واء معين‪$$‬ة‪ ،‬ف‪$$‬راح ينك‪$$‬ر ك‪$$‬ون الم‪$$‬راد بالنس‪$$‬اء في اآلي‪$$‬ة المفه‪$$‬وم‬
‫المعروف‪ $‬المتداول‪ ،‬وإنم‪$$‬ا جع‪$$‬ل من النس‪$$‬اء ـ بحس‪$$‬ب الق‪$$‬اموس ال‪$$‬ذي اعتم‪$$‬ده ـ‬
‫مشتقة من [النس‪$‬يء]‪ ،‬أو هي جم‪$‬ع كلم‪$‬ة [نس‪$‬يء] ال‪$‬تي تع‪$‬ني الت‪$‬أخير‪ ،‬ومن ث ّم‬
‫يص‪$$‬بح المع‪$$‬نى‪ :‬األش‪$$‬ياء الم‪$$‬ؤ ّخرة‪ ،‬أي األش‪$$‬ياء الجدي‪$$‬دة المحبوب‪$$‬ة للن‪$$‬اس‪ ،‬أي‬
‫بالتعبير‪ $‬المعاصر [الموض‪$$‬ة]‪ ،‬أي أن اآلي‪$$‬ة الك‪$$‬ريم ت‪$$‬ذكر أن الن‪$$‬اس حببت إليهم‬
‫الموضة‪ ،‬ال النساء المعروفات‪.‬‬
‫(إن اآلي‪$$‬ة فيه‪$$‬ا خ‪$$‬بر عن جمي‪$$‬ع الن‪$$‬اس‪ ،‬وليس‬ ‫وقد ق‪$$‬ال مع‪$$‬برا عن ذل‪$$‬ك‪ّ :‬‬
‫العرب خاصة‪ ،‬ويجب أن يكون خبر هللا ص‪$$‬ادقًا‪ ،‬ومن ثم يجب أن يتط‪$$‬ابق ق‪$$‬ول‬

‫‪59‬‬
‫هللا مع حال العالم اليوم‪ ،‬والشيء الجديد محبوبٌ من قب‪$$‬ل ك‪$$‬ل الش‪$$‬عوب‪ ،‬ومن ثم‬
‫يكون معنى [النساء] جمع نسيء‪ ،‬أي األشياء المؤ َّخرة‪ ،‬أي األشياء الجديدة)‬
‫ولست أدري هل حب النساء خ‪$‬اص ب‪$‬العرب فق‪$‬ط‪ ..‬ومن أوحى ل‪$‬ه به‪$‬ذا‪،‬‬
‫ونحن ن‪$$‬رى أن قص‪$$‬ص العش‪$$‬ق والغ‪$$‬رام مرتبط‪$$‬ة بك‪$$‬ل الش‪$$‬عوب‪ ،‬ب‪$$‬ل إن ك‪$$‬ل‬
‫الشعوب اليوم ال تستثمر‪ $‬في ش‪$$‬يء كم‪$$‬ا تس‪$$‬تثمر في النس‪$$‬اء باعتب‪$$‬ارهن الوس‪$$‬يلة‬
‫األكثر قبوال من لدن البشر جميعا‪.‬‬
‫وهو ألجل هذا ال يتعامل مع القرآن الكريم باعتباره جملة‪ ،‬وإنما باعتباره‬
‫مفردات متراصة‪ ،‬يمكنه أن يتحكم فيها كم‪$‬ا يتحكم المهن‪$‬دس في البني‪$‬ان‪ ،‬فيزي‪$‬ل‬
‫ما يشاء من الجدران‪ ،‬ويضيف‪ $‬ما شاء منها‪.‬‬
‫ولهذا نراه يعزل السياق‪ $‬متى شاء‪ ،‬ويثبته متى شاء‪ ،‬ونزاه يع‪$$‬ود ألس‪$$‬باب‬
‫النزول‪ ،‬ثم سرعان ما ينكرها إن لم تتس‪$$‬اير م‪$$‬ع رغبت‪$$‬ه‪ ..‬وهك‪$$‬ذا في تعامل‪$$‬ه م‪$$‬ع‬
‫األحاديث المطهرة‪ ،‬أو مع أق‪$‬وال المفس‪$‬رين أو اللغ‪$‬ويين‪ ،‬فه‪$‬و ينطل‪$‬ق دائم‪$‬ا من‬
‫النتيجة‪ ،‬ثم يبحث بعد ذلك عن األدلة التي تخدمها‪.‬‬
‫ولذلك كان أحسن وص‪$$‬ف ل‪$$‬ه ه‪$$‬و كون‪$$‬ه مهندس‪$‬ا‪ $‬أفاك‪$$‬ا‪ ..‬فه‪$$‬و ق‪$$‬د اس‪$$‬تعمل‬
‫الهندسة والتفكيك وإعادة البناء‪ ،‬ألجل تمرير اإلفك على المغفلين ال‪$$‬ذين يبحث‪$$‬ون‬
‫عن الجديد من غير أن يتأكدوا من سالمته‪ ..‬فيكفي عندهم أن يكون جديدا‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫حسن حنفي ‪ ..‬والثورة على الدين‬
‫بعد االنتكس‪$‬ات الكث‪$‬يرة ال‪$‬تي م‪$‬ر به‪$‬ا واقعن‪$‬ا‪ $‬الع‪$‬ربي واإلس‪$‬المي‪ ،‬وعن‪$‬د‬
‫ظهور‪ $‬المدارس الثوري‪$$‬ة المختلف‪$$‬ة‪ ،‬خاص‪$$‬ة اليس‪$$‬ارية منه‪$$‬ا‪ ،‬ب‪$$‬رز في مجتمعاتن‪$$‬ا‬
‫اإلسالمية صنفان من الثورة‪ ،‬ومعهما صنفان من الثوار‪:‬‬
‫ص‪$$‬نف رأى أن س‪$$‬بب التخل‪$$‬ف ه‪$$‬و البع‪$$‬د عن اإلس‪$$‬الم وقيم‪$$‬ه الحض‪$$‬ارية‬
‫النبيلة‪ ،‬وأننا نحتاج إلى العودة إلى اإلس‪$$‬الم األص‪$$‬يل‪ ،‬بمفهوم‪$$‬ه الص‪$$‬حيح‪ ،‬ونقيم‬
‫ث‪$$‬ورة على التخل‪$$‬ف ال‪$$‬ذي اس‪$$‬تثمر بعض مف‪$$‬اهيم ال‪$$‬دين ليش‪$$‬وه ال‪$$‬دين وال‪$$‬دنيا من‬
‫خاللها‪.‬‬
‫وصنف رأى أن س‪$$‬بب التخل‪$$‬ف ه‪$$‬و ال‪$$‬دين نفس‪$$‬ه‪ ،‬فل‪$$‬ذلك راح يحم‪$$‬ل على‬
‫الدين‪ ،‬وي‪$$‬دعو إلى البع‪$$‬د عن‪$$‬ه‪ ،‬ويتص‪$$‬ور أن‪$$‬ه أفي‪$$‬ون الش‪$$‬عوب‪ ،‬ومن ه‪$$‬ؤالء من‬
‫جاهر بذلك‪ ،‬ومنهم‪ $‬من اس‪$$‬تعمل التقي‪$$‬ة والحيل‪$$‬ة وأص‪$$‬ناف‪ $‬الخ‪$$‬دع لتمري‪$‬ر‪ $‬ذل‪$$‬ك‪،‬‬
‫وك‪$$$‬ان منهم ص‪$$$‬احب المش‪$$$‬اريع الكث‪$$$‬يرة [حس‪$$$‬ن حنفي] ال‪$$$‬ذي يمكن تلخيص‬
‫مشاريعه جميعا في العبارة التي ذكرناها في العنوان‪ ،‬وهي [الثورة على الدين]‬
‫والميزة التي تميز بها على الكث‪$$‬ير من الث‪$‬وار على ال‪$$‬دين أن‪$‬ه يمل‪$‬ك ذك‪$‬اء‬
‫حادا‪ ،‬جعله ال يقع فيما وقع فيه أولئك المغفلون األغبياء الذين جاهروا بإلحادهم‪،‬‬
‫وص‪$$‬رحوا ب‪$$‬ه‪ ،‬وادع‪$$‬وا ص‪$$‬راحة تب‪$$‬نيهم للفك‪$$‬ر اليس‪$$‬اري بمنظومت‪$$‬ة العقدي‪$$‬ة‬
‫واالجتماعية‪ ،‬ألنه يعلم أن أولئك سيرمون في النفايات‪ ،‬ولن يلتفت لهم أحد‪.‬‬
‫ولذلك راح يستعمل مصطلحات الدين نفس‪$$‬ها ليض‪$$‬رب ال‪$$‬دين؛ ف‪$$‬زعم أن‪$$‬ه‬
‫متكلم وأصولي‪ $‬وفقي‪$$‬ه‪ ..‬وراح يتح‪$$‬دث عن القض‪$$‬ايا المختلف‪$$‬ة كم‪$$‬ا يتح‪$$‬دث عنه‪$$‬ا‬
‫رجال الدين أنفسهم‪ ،‬ويستعمل‪ $‬نفس تعبيراتهم‪ ..‬حتى أن الكثير جلس للتلم‪$$‬ذة بين‬
‫يديه كما يجلس بين يدي المشايخ‪.‬‬
‫لكن الحقيق‪$$$‬ة ال يمكن أب‪$$$‬دا أن تطمس‪$$$‬ها‪ $‬األلف‪$$$‬اظ‪ ،‬كم‪$$$‬ا ق‪$$$‬ال تع‪$$$‬الى عن‬
‫ك لَ َرسُو ُل هَّللا ِ َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم إِنَّكَ لَ َر ُس ‪$‬ولُهُ‬‫المنافقين‪﴿ :‬إِ َذا َجا َءكَ ْال ُمنَافِقُونَ قَالُوا نَ ْشهَ ُد إِنَّ َ‬
‫يل هَّللا ِ‬
‫ص‪ُّ $‬دوا‪ $‬ع َْن َس‪$‬بِ ِ‬ ‫َوهَّللا ُ يَ ْشهَ ُد إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ لَ َك‪$$‬ا ِذبُونَ (‪ )1‬اتَّ َخ‪ُ $‬ذوا أَ ْي َم‪$$‬انَهُْ‪$‬م ُجنَّةً فَ َ‬
‫إِنَّهُ ْم َسا َء َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [المنافقون‪]2 ،1 :‬‬
‫وهاتان اآليتان الكريمتان تعبران عن المشروع‪ $‬ال‪$$‬ذي يحمل‪$$‬ه حس‪$$‬ن حنفي‬
‫ويدعو إليه أحسن تعبير‪ ،‬فه‪$$‬و في ظ‪$$‬اهره وبدايت‪$$‬ه ومقدمات‪$$‬ه ينطل‪$$‬ق من العقي‪$$‬دة‬
‫والش‪$$‬ريعة اإلس‪$$‬المية‪ ،‬لكن‪$$‬ه في باطن‪$$‬ه ث‪$$‬ورة عليهم‪$$‬ا‪ ،‬ودع‪$$‬وة للتملص منهم‪$$‬ا‪،‬‬
‫والعبرة عند العقالء بالنتائج ال بالمقدمات‪ ،‬وبالنهايات ال بالبدايات‪.‬‬
‫وتبدأ ثورته على اإلسالم من ذلك المنهج البراغماتي الذي اعتمده‪ ،‬ودع‪$$‬ا‬
‫إلى اس‪$$‬تعماله‪ ،‬واس‪$$‬تطاع‪ $‬أن يم‪$$‬رر مش‪$$‬روعه من خالل‪$$‬ه‪ ..‬وه‪$$‬و أن يُنظ ‪$‬ر‪ $‬إلى‬

‫‪61‬‬
‫اإلس‪$$‬الم‪ ،‬ال باعتب‪$$‬اره دين هللا‪ ،‬وأن‪$$‬ه حقيق‪$$‬ة مطلق‪$$‬ة دلت عليه‪$$‬ا األدل‪$$‬ة العقلي‪$$‬ة‪،‬‬
‫وأثبتتها‪ $‬أصناف الحجج‪ ،‬وإنما من كونه م‪$$‬ادة يمكن اس‪$$‬تثمارها واالس‪$$‬تفادة منه‪$$‬ا‬
‫في تغيير المجتمع وتوجيهه‪.‬‬
‫وليته اكتفى بذلك‪ ،‬بل راح يدعو إلى استثمار التوجه ال‪$$‬ديني‪ ،‬ال بتعميق‪$$‬ه‪،‬‬
‫وتصحيحه‪ ،‬وإنما بتحريفه عن مساره تحريفا كامال‪ ،‬لتتح‪$‬ول العقي‪$‬دة إلى ث‪$‬ورة‪،‬‬
‫ويتحول‪ $‬اإلله إلى إنسان‪ ،‬ويتحول كل شيء في ال‪$‬دين إلى وس‪$‬يلة لتحقي‪$‬ق الع‪$‬دل‬
‫االجتم‪$$‬اعي والرف‪$$‬اه االقتص‪$$‬ادي‪ $‬باعتب‪$$‬اره الغاي‪$$‬ة الك‪$$‬برى‪ ،‬ال رض‪$$‬وان هللا‪ ،‬وال‬
‫جنته‪ ،‬وال تحقيق السعادة األبدية التي تحن إليها ك‪$$‬ل النف‪$$‬وس‪ ،‬وال ترقي‪$$‬ة ال‪$$‬روح‬
‫لتتصل بالمأل األعلى‪ ،‬وتتحقق‪ $‬بما يتطلبه ذلك المحل الرفيع من سمو وروحانية‪.‬‬
‫ول‪$$‬ذلك ف‪$$‬إن أق‪$$‬رب المفك‪$$‬رين إلي‪$$‬ه ه‪$$‬و [وليم جيمس] ذل‪$$‬ك الفيلس‪$$‬وف‬
‫البراغماتي األمريكي‪ ،‬صاحب [إرادة االعتقاد]‪ ،‬والقائل‪( :‬إن االكتشاف‪ $‬األعظم‬
‫الذي شهده جيلي وال‪$$‬ذي يق‪$$‬ارن ب‪$$‬الثورة الحديث‪$$‬ة في الطب كث‪$$‬ورة البنس‪$$‬لين ه‪$$‬و‬
‫معرفة البشر أن بمقدورهم تغيير حي‪$$‬اتهم ع‪$‬بر تغي‪$‬ير م‪$$‬واقفهم الذهني‪$$‬ة)‪ ،‬وال‪$‬ذي‬
‫قال في كتابه [البراغماتية]‪( :‬إن الحقيقي فى أوجز عبارة ليس اال النافع الموافق‬
‫للمطلوب فى سبيل تفكيرنا تمام‪$$‬ا‪ ،‬كم‪$$‬ا أن الص‪$$‬واب ليس س‪$$‬وى المواف‪$$‬ق الن‪$$‬افع‬
‫المطلوب فى سبيل مسلكنا‪ ،‬وحيازة الحقيقة بعيدة كل البعد على أان تك‪$$‬ون غاي‪$$‬ة‬
‫فى ذاته‪$$‬ا‪ ،‬فهى التزي‪$$‬د عن كونه‪$‬ا‪ $‬مج‪$$‬رد وس‪$$‬يلة أو إرادة أولي‪$$‬ة لبل‪$$‬وغ اإلش‪$$‬باع‬
‫والرضا‪ $‬والسرور ‪ ..‬كما أن الحقيقة نفسها فى حالة تغير وتبديل وانتقال)‬
‫وهكذا‪ ،‬وبنفس األسلوب ع‪$$‬بر حس‪$$‬ن حنفي عن مش‪$$‬روعه التجدي‪$$‬دي حين‬
‫قال‪( :‬مهمة التراث والتجديد إذن هي إعادة كل االحتماالت القديمة‪ ،‬ب‪$$‬ل ووض ‪$‬ع‪$‬‬
‫احتماالت جديدة‪ ،‬واختيار‪ $‬أنسبها لحاج‪$$‬ات العص‪$$‬ر‪ ،‬إذ ال يوج‪$$‬د ص‪$$‬واب وخط‪$$‬أ‬
‫نظ‪$$‬ري‪ $‬للحكم عليه‪$$‬ا‪ ،‬ب‪$$‬ل ال يوج‪$$‬د إال مقي‪$$‬اس عملي‪ ،‬فاالختي‪$$‬ار المنتج الفع‪$$‬ال‬
‫المجيب لمط‪$$‬الب العص‪$$‬ر ه‪$$‬و االختي‪$$‬ار المطل‪$$‬وب‪ ،‬وال يع‪$$‬نى ذل‪$$‬ك أن ب‪$$‬اقي‬
‫االختب‪$$‬ارات خاطئ‪$$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬ل يع‪$$‬نى أنه‪$$‬ا تظ‪$$‬ل تفس‪$$‬يرات محتمل‪$$‬ة لظ‪$$‬روف أخ‪$$‬رى‬
‫وعصور‪ $‬أخرى ولت أو مازالت قادمة)(‪)1‬‬
‫وبناء على هذا راح يصيغ أفك‪$$‬اره ح‪$$‬ول العقي‪$$‬دة والش‪$$‬ريعة‪ ،‬والتفس‪$$‬يرات‬
‫الجديدة لهما‪ ،‬والتي يرى أنها تتناسب مع هذا العص ‪$‬ر‪ $‬الجدي‪$$‬د‪ ،‬وهي بمجموعه‪$$‬ا‬
‫ليس‪$$‬ت س‪$$‬وى تفري‪$$‬غ لإلس‪$$‬الم من محت‪$$‬واه‪ ،‬بحيث ال يبقى من‪$$‬ه إال األس‪$$‬ماء‪ ،‬أم‪$$‬ا‬
‫المسميات‪ ،‬فتتغير تغيرا تاما‪.‬‬
‫ومن األمثلة على هذا التفري‪$$‬غ‪ ،‬أو على ه‪$$‬ذه الث‪$$‬ورة على حق‪$$‬ائق اإلس‪$$‬الم‬
‫قوله‪( :‬فاهلل الواحد الذي ليس كمثله شيء‪ ،‬والذي اليرى ويرى‪ $‬ك‪$$‬ل ش‪$$‬ىء ‪ ،‬ليس‬
‫هو بالضرورة التصور الوحيد هلل كما نعلم من تاريخ العقائد‪ ،‬فهن‪$$‬اك‪ $‬هللا الحس‪$$‬ي‬
‫‪ )(1‬التراث والتجديد‪ ،‬حسن حنفي‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫المجس‪$$‬م‪ ،‬مح‪$$‬ل الح‪$$‬وادث‪ ،‬عن‪$$‬د الكرامي‪$$‬ة والمش‪$$‬به على اختالف ف‪$$‬رقهم‪ ،‬وليس‬
‫بالضرورة أن يكون التصور‪ $‬األول صحيحا والثانى‪ $‬باطال‪ ،‬إذ يعكس التصوران‬
‫صراعا قويا‪ ،‬وقوة السلطان الذى ليس كمثله شىء وقوة المعارضة ال‪$$‬تي تجع‪$$‬ل‬
‫حركة الت‪$‬اريخ ج‪$‬زءا من األلوهي‪$$‬ة‪ ،‬أم‪$‬ا الص‪$$‬فات ال‪$$‬تى تجع‪$$‬ل هللا يس‪$$‬مع وي‪$$‬رى‬
‫ويبصر كل شيء‪ ،‬فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسى خ‪$$‬الص للس‪$$‬لطة‪،‬‬
‫والتى هى بدورها ترى وتسمع وتبصر‪ $‬كل شيء) (‪)1‬‬
‫وهكذا يعبر عن القرآن الكريم والوحي اإللهي‪ ،‬فهو‪ $‬عنده مجرد اف‪$$‬تراض‬
‫ال يمكن التحقق منه إال بم‪$$‬دى خدمت‪$$‬ه للواق‪$$‬ع‪ ،‬فيق‪$$‬ول‪( :‬أم‪$$‬ا ال‪$$‬وحي بالنس‪$$‬بة لي‪،‬‬
‫فإنني‪ $‬آخذه على سبيل االفتراض‪ .‬أنا في رأيي؛ ال‪$$‬وحي ه‪$$‬و اف‪$$‬تراض في البحث‬
‫العلمي‪ ،‬يق‪$$‬وم ب‪$$‬دور‪ $‬االف‪$$‬تراض في البحث العلمي‪ .‬فه‪$$‬ل يتحق‪$$‬ق؟ والتحق‪$$‬ق من‬
‫صرفًا وليس صوريًا‪ ،‬ال اتفاق نتائج مع مقدمات‪،‬‬ ‫الصدق‪ .‬أقصد التحقق تجريبيًا ِ‬
‫ولكن التحق‪$$‬ق من ص‪$$‬حة ه‪$$‬ذا الف‪$$‬رض في الواق‪$$‬ع االجتم‪$$‬اعي‪ .‬ومن ثم ف‪$$‬أهاًل‬
‫وسهاًل ‪ ،‬أنا أتقبل كل النبوات وك‪$$‬ل ال‪$$‬وحي وك‪$$‬ل اآلراء‪ .‬وعل ّي أن امتحنه‪$$‬ا على‬
‫محك الواقع)(‪)2‬‬
‫ويؤكد هذا المعنى بقوله‪( :‬نصوص الوحي ليست كتابًا أُن‪$$‬زل م‪$$‬رة واح‪$$‬دة‬
‫ضا‪ $‬من عقل إلهي! ليتقبل‪$$‬ه جمي‪$$‬ع البش‪$$‬ر‪ .‬ب‪$$‬ل مجموع‪$$‬ة من الحل‪$$‬ول لبعض‬ ‫مفرو ً‬
‫المشكالت اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة)(‪)3‬‬
‫وهو بهذه الطريقة من التفكير يردد نفس ما ردده [وليم جيمس] حين قال‪:‬‬
‫(إنن‪$‬ا ب‪$‬دال من أن نتس‪$‬ائل عم‪$‬ا يس‪$‬ير األش‪$‬ياء‪ ،‬وه‪$‬ل هي الم‪$‬ادة أم هللا؟ يجب أن‬
‫يكون تساؤلنا كالت‪$$‬الي‪ :‬م‪$$‬اهو الف‪$$‬رق العملي ال‪$$‬ذي يمكن أن يح‪$$‬دث اآلن إذا ق‪$$‬در‬
‫للعالم أن تسير دفته بواسطة الم‪$$‬ادة أو بواس‪$$‬طة هللا ؟ إنن‪$$‬ا في مق‪$$‬دورنا أن نتمت‪$$‬ع‬
‫بإلهنا إذا كان لدينا إله)‬
‫وله‪$$‬ذا ك‪$$‬انت مش‪$$‬اريعه جميع‪$$‬ا مش‪$$‬اريع‪ $‬ثوري‪$$‬ة تح‪$$‬اول أن تحاف ‪$‬ظ‪ $‬على‬
‫األسماء مع تغيير المسميات‪ ،‬بناء على تصورها‪ $‬أن ال‪$$‬دين وال‪$‬تراث ليس‪$$‬ا س‪$$‬وى‬
‫نتيجة للواقع السياسي‪ $‬واالجتماعي الذي مرت به األمة في مراحلها المختلفة‪.‬‬
‫ولهذا نجد هذه العن‪$$‬اوين في كتب‪$$‬ه ومش‪$‬اريعه‪( :‬ال‪$$‬تراث والتجدي‪$‬د)‪ ،‬و(من‬
‫العقي‪$$‬دة الى الث‪$$‬ورة)‪ ،‬و(من النص الى االب‪$$‬داع)‪ ،‬و(ال‪$$‬تراث والعصر والحداثة)‪،‬‬
‫وهي كلها مشاريع ال تريد التجدي‪$$‬د أو اإلب‪$$‬داع بمفهوم‪$$‬ة المع‪$$‬روف‪ ،‬وإنم‪$$‬ا تري‪$$‬د‬
‫إلغاء القديم وإحالل مفاهيم جديدة بدلها ال عالقة لها بها‪.‬‬

‫‪ )(1‬التراث والتجديد‪ ،‬حسن حنفي‪.‬‬


‫‪ )(2‬اإلسالم والحداثة (ص‪)220،219‬‬
‫‪ )(3‬التراث والتجديد (‪)135‬‬

‫‪63‬‬
‫فمهمة المفكر في التعامل مع التراث ـ على حس‪$‬ب م‪$‬ا يص‪$‬ور‪ $‬ـ ه‪$‬و (أن‬
‫يعيد قراءته بحيث يعيد إليه تعدد االختيار بين بدائله حتى يستقر على وج‪$‬ه آخ‪$$‬ر‬
‫أصلح للناس وأنفع لهم)‬
‫ولذلك ف‪$‬إن المنطل‪$$‬ق عن‪$‬ده في التعام‪$‬ل م‪$$‬ع ال‪$‬تراث ليس البحث في ذات‪$‬ه‪،‬‬
‫والتحقي‪$$‬ق في‪$$‬ه‪ ،‬وفي‪ $‬م‪$$‬دى عقالنيت‪$$‬ه وعلميت‪$$‬ه‪ ،‬على أس‪$$‬س علمي‪$$‬ة وموض‪$$‬وعية‬
‫بحتة‪ ،‬وإنما في االنطالق من الواقع والمجتمع‪ ،‬لتخير ما يتناسب معهما‪ ،‬ف‪$$‬إن لم‬
‫﴿و ِمنَ‬ ‫نجد نبتدع ما يتناسب مع المجتمع‪ ،‬وه‪$$‬و نفس م‪$$‬ا ع‪$$‬بر عن‪$$‬ه قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪َ :‬‬
‫صابَ ْتهُ فِ ْتنَ‪$‬ةٌ ا ْنقل َ‬
‫ب‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صابَهُ خَ ْي ٌر ْ‬
‫اط َمأ َ َّن بِ ِه َوإِ ْن أَ َ‬ ‫ف فَإِ ْن أَ َ‬‫اس َم ْن يَ ْعبُ ُد هَّللا َ َعلَى َحرْ ٍ‬ ‫النَّ ِ‬
‫ك ه َُو ْال ُخس َْرانُ ْال ُمبِينُ ﴾ [الحج‪]11 :‬‬ ‫َعلَى َوجْ ِه ِه خَ ِس َر ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َرةَ َذلِ َ‬
‫فه‪$$‬ذا الص‪$$‬نف ال‪$$‬ذي ذك‪$$‬ره الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ $‬ه‪$$‬و ال‪$$‬ذي ينظ‪$$‬ر إلى ال‪$$‬دين‪ ،‬ال‬
‫باعتب‪$$‬اره حق‪$$‬ائق واقعي‪$$‬ة‪ ،‬وإنم‪$$‬ا باعتب‪$$‬اره وس‪$$‬ائل نفعي‪$$‬ة‪ ،‬يمكن االس‪$$‬تفادة منه‪$$‬ا‪،‬‬
‫واستثمارها في الدنيا وللدنيا‪ ،‬فإن تحقق االس‪$$‬تثمار‪ ،‬فبه‪$$‬ا‪ ،‬وإال رمي كم‪$$‬ا ي‪$$‬رمى‬
‫كل شيء ال منفعة فيه‪.‬‬
‫وهك‪$$‬ذا ي‪$$‬دعو حس‪$$‬ن حنفي إلى تط‪$$‬وير‪ $‬ال‪$$‬دين‪ ،‬بحيث يتح‪$$‬ول إلى وس‪$$‬يلة‬
‫للدنيا‪ ،‬وللرفاه‪ ،‬ال وسيلة للتعرف على الحقائق‪ ،‬والسلوك وفق مقتضياتها‪$.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإنه بعد بحثه في التراث والتاريخ‪ ،‬وج‪$$‬د أن (المعتزل‪$$‬ة أفض‪$$‬ل من‬
‫األشاعرة بالنسبة للعص‪$$‬ر‪ ،‬فحاجتن‪$$‬ا إلى العق‪$$‬ل والحري‪$$‬ة ‪ ..‬وال‪$$‬دفاع‪ $‬عن الفلس‪$$‬فة‬
‫القديمة وحكمتها‪ $‬المنطقية والطبيعة واإللهية أفضل من رفضها)‬
‫وهو يذكر ذلك ليوهم القارئ أن‪$$‬ه يفض‪$$‬ل المعتزل‪$$‬ة على األش‪$$‬اعرة‪ ،‬ولكن‬
‫الحقيقة غير ذلك‪ ،‬فهو يرفضهما جميع‪$‬ا‪ ،‬ألن‪$‬ه يص‪$‬ور أن الواق‪$‬ع الح‪$‬الي يحت‪$‬اج‬
‫تطورا‪ $‬أكثر‪ ،‬وجرأة أكثر في التعامل مع الحق‪$$‬ائق الديني‪$$‬ة‪ ،‬ول‪$$‬ذلك ط‪$$‬رح الب‪$$‬ديل‬
‫عن علم الكالم المعروف‪ $‬بما سماه‪ :‬الهوت الثورة‪ ،‬والهوت التحرير‪ ،‬واله‪$$‬وت‬
‫التنمية‪ ،‬واله‪$$‬وت التق‪$$‬دم‪ ،‬وال‪$$‬تي ي‪$$‬رى أنه‪$$‬ا جميع‪$$‬ا (ال تق‪$$‬ل ش‪$$‬رعية عن نظري‪$$‬ة‬
‫الذات والصفات عند االشاعرة‪ ،‬أو عن أصلى التوحيد‪ $‬والعدل عن المعتزلة)‬
‫أو كما عبر عن ذلك في كتابه [الحداثة والمعاصرة] بقول‪$$‬ه‪( :‬والحقيق‪$$‬ة أن‬
‫الطبيعات وااللهيات علم واحد مرة مقلوب‪$$‬ا إلى أس‪$$‬فل فتص‪$$‬بح الطبيع‪$$‬ات‪ ،‬وم‪$$‬رة‬
‫مقلوبا إلى أعلى فتصبح اإللهيات)‬
‫وله‪$$‬ذا‪ ،‬ف‪$$‬إن هللا عن‪$$‬ده (ه‪$$‬و الث‪$$‬ابت فى الك‪$$‬ون‪ ،‬والع‪$$‬الم ه‪$$‬و الحرك‪$$‬ة في‪$$‬ه‬
‫واجهتان لشىء واحد ‪ ..‬ال يوج‪$$‬د إال الع‪$$‬الم‪ ،‬وهللا ه‪$$‬و دوام‪$$‬ه وبق‪$$‬اءه واس‪$$‬تمراره‬
‫وقوانينه وسنته الثابتة‪ ،‬وإذا كان الطريق إلى الفوز والنجاة والس‪$‬عادة األبدي‪$‬ة فى‬
‫نظرية الخلق هو تطبيق الشريعة وممارسة الشعائر ‪ ..‬فإنه فى نظرية قدم الع‪$$‬الم‬
‫العلم بقوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها وتسخيرها)‬
‫وبناء على ذل‪$$‬ك‪ ،‬ف‪$$‬إن االعتب‪$$‬ار األساس‪$‬ي‪ $‬عن‪$$‬ده ليس هلل‪ ،‬وال لوحي‪$$‬ه‪ ،‬وال‬

‫‪64‬‬
‫لشريعة‪ ،‬وإنما للمجتمع‪ ،‬فـ (المجتم‪$$‬ع أوالً وال‪$$‬وحي‪ $‬ثاني‪$‬اً‪ .‬والن‪$$‬اس أوالً والق‪$$‬رآن‬
‫ثانياً)(‪)1‬‬
‫أو كما ع‪$$‬بر عن ذل‪$$‬ك تحت عن‪$$‬وان [أنس‪$$‬اق العقائ‪$$‬د والنظم االجتماعي‪$$‬ة ]‬
‫بقول‪$$‬ه‪( :‬يمكن إف‪$$‬راز أنس‪$$‬اق عقائدي‪$$‬ة جدي‪$$‬دة تل‪$$‬بى مط‪$$‬الب الظ‪$$‬روف الحالي‪$$‬ة‬
‫وتطلعات‪ $‬أجيالن‪$$‬ا الى التح‪$$‬رر والحري‪$$‬ة والعدال‪$$‬ة االجتماعي‪$$‬ة والوح‪$$‬دة والتنمي‪$$‬ة‬
‫وتأصيل‪ $‬الهوية وحش‪$$‬د الجم‪$$‬اهير‪ .‬هم (الق‪$$‬دماء) رج‪$$‬ال ونحن رج‪$$‬ال نتعلم منهم‬
‫والنقتدى‪ $‬بهم‪ .‬يمكن أن يك‪$‬ون هللا ه‪$‬و األرض حرص‪$‬ا ً من على تحري‪$‬ر األرض‬
‫‪$‬و الَّ ِذي فِي َّ‬
‫الس ‪َ $‬ما ِء إِلَ‪$‬هٌ َوفِي‪$‬‬ ‫﴿وهُ‪َ $‬‬ ‫وربطها باأللوهية وكما هو وارد بنص الق‪$$‬رآن َ‬
‫ض إِلَهٌ ﴾ [الزخرف‪ ، ]84 $:‬ويمكن أن يكون هللا هو الخ‪$$‬بز والحري‪$$‬ة تعب‪$$‬يرا‬ ‫اأْل َرْ ِ‬
‫ت (‪)3‬‬ ‫عن حاجتنا إلى الغذاء واألمان طبقا لنص الق‪$$‬رآن ﴿فَ ْليَ ْعبُ ‪$‬دُوا َربَّ هَ ‪َ $‬ذا ْالبَ ْي ِ‬
‫ف﴾ [قريش‪)2( )]4 ،3 :‬‬ ‫ُوع َوآ َمنَهُ ْم ِم ْن خَ وْ ٍ‬ ‫الَّ ِذي أَ ْ‬
‫ط َع َمهُ ْم ِم ْن ج ٍ‬
‫وبناء على ه‪$$‬ذا كل‪$$‬ه‪ ،‬ف‪$$‬إن ال‪$$‬دين عن‪$$‬ده ليس س‪$$‬وى منتج حض‪$$‬اري‪ ،‬يمكن‬
‫تطويره بحسب الظروف‪ $‬المختلفة‪ ،‬بل يمكن هدمه من جذوره‪ ،‬وبن‪$$‬اء دين جدي‪$$‬د‬
‫على أساسه‪ ،‬لتتحقق المنفعة التي هي الهدف األكبر من الدين‪.‬‬
‫وقد ق‪$$‬ال بص‪$$‬راحة مع‪$$‬برا عن ذل‪$‬ك‪( :‬نش‪$‬أ التص‪$‬ور‪ $‬الواح‪$‬دى فى مجتم‪$$‬ع‬
‫جاهلى قبلى تتناحر فيه القبائل تعبيرا عن حاجة وتلبية لمطلب لدى مجتمع محدد‬
‫فى لحظة تاريخية معينة)(‪)3‬‬
‫وقال في كتابه [دراس‪$$‬ات إس‪$$‬المية]‪( :‬علم العقائ‪$$‬د إذن اختي‪$$‬ارات سياس‪$$‬ية‬
‫محض‪$$‬ة‪ ،‬وليس علم‪$$‬ا مقدس‪$$‬ا‪ ،‬وك‪$$‬ل ظ‪$$‬روف‪ $‬تف‪$$‬رض اختياراته‪$$‬ا‪ ،‬وق‪$$‬د تتم تحت‬
‫ظروفنا الحالية اختبارات أخرى‪ .‬قد يكون من ص‪$$‬الح األم‪$$‬ة اآلن ال‪$$‬دفاع عن هللا‬
‫وتصوره باعتباره أرضا درءا لالحتالل وتحريرا‪ $‬لألرض)‬
‫وهك‪$$$‬ذا يتح‪$$$‬ول ال‪$$$‬دين عن‪$$$‬ده من دين يبحث عن هللا‪ ،‬وإقام‪$$$‬ة الص‪$$$‬الت‬
‫الروحي‪$‬ة ب‪$‬ه إلى دين يبحث في اإلنس‪$‬ان ال‪$‬ذي يعت‪$‬بره ص‪$‬انعا هلل‪ ،‬وليس هللا ه‪$‬و‬
‫الصانع لإلنسان‪.‬‬
‫ونحب أن نبين هنا أن حديثه عن التراث ال يعني ب‪$$‬ه م‪$$‬ا أنتج‪$$‬ه المس‪$$‬لمون‬
‫طيلة تاريخهم من أبحاث في الفقه والعقائد والتفسير‪ $‬وغيرها فقط‪ ،‬وإنما يعني به‬
‫القرآن الكريم والس‪$$‬نة المطه‪$$‬رة أيض‪$$‬ا‪ ،‬فهي عن‪$$‬ده من ال‪$$‬تراث ال‪$$‬ذي يحت‪$$‬اج إلى‬
‫انتقاء وإعادة قراءة‪ ،‬ال على أسس علمية‪ ،‬وإنما على أسس براغماتية‪.‬‬
‫وبناء على هذا المنهج البراغماتي‪ ،‬يتحدث عن النب‪$$‬وة ق‪$$‬ائال‪( :‬وه‪$$‬ل تجب‬
‫النبوة لحاجات عملية أي للتنفيذ والتحقيق‪ $‬وأداء الرسالة مادام اإلنسان غير ق‪$$‬ادر‬
‫‪ )(1‬الحداثة والمعاصرة‪ ،‬حسن حنفي‪.‬‬
‫‪ )(2‬الحداثة والمعاصرة‪ ،‬حسن حنفي‪.‬‬
‫‪ )(3‬الحداثة والمعاصرة‪ ،‬حسن حنفي‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫على سن القوانين وتأس‪$‬يس‪ $‬الش‪$‬رائع وإقام‪$‬ة ال‪$‬دول أو تجني‪$‬د الجم‪$‬اهير‪ $‬وتوجي‪$‬ه‬
‫األمم وفتح البلدان‪ ،‬أال يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة اإلم‪$$‬ام له‪$$‬ا‪ ،‬هن‪$$‬اك‬
‫أيضا العقل االجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوض‪$$‬ع الق‪$$‬وانين وس‪$$‬ن‬
‫الشرائع‪ ..‬إن العقل ليس بحاجة إلى عون‪ ،‬وليس هن‪$$‬اك م‪$$‬ا ين‪$$‬د عن العق‪$$‬ل ‪ .‬ه‪$$‬ل‬
‫استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص اإلنسان وهي أول من يعترف‪ $‬بها؟)‬
‫وبناء على ذلك ينكر أن يكون في القرآن أي شريعة‪ ،‬فيقول‪( :‬ليس القرآن‬
‫كتاب تحليل وتحريم‪ ،‬بل كت‪$‬اب فك‪$$‬ر وليس الغ‪$‬رض من‪$$‬ه تغلي‪$‬ف الع‪$$‬الم بق‪$$‬وانين‬
‫وتقييد السلوك اإلنساني‪ $‬بقواعد‪ ،‬بل مساعدة الطبيعة على االزدهار والحياة على‬
‫النماء)‬
‫وبناء عليه أيضا يتحدث عن رسول‪ $‬هللا ‪ ‬باعتباره زعيم‪$$‬ا براغماتي‪$$‬ا ال‬
‫رسوال يحمل الحقائق والقيم المطلقة؛ فيقول‪( :‬النبي محمداً كان يحمل هم الوحدة‬
‫الوطنية للقبائل العربية وتكوين دولة في الجزيرة العربية‪ ،‬وكانت له مشاكل م‪$$‬ع‬
‫اليهود والنصارى ومع المش‪$$‬ركين أيض‪$$‬ا‪ ،‬فج‪$$‬اء المش‪$$‬ركون إلي‪$$‬ه بع‪$$‬رض جي‪$$‬د‪،‬‬
‫وقالوا‪ $‬له‪ :‬نعم أيها األخ ‪ ،‬ما الم‪$$‬انع أن ت‪$$‬ذكر الالت والع‪$$‬زى لم‪$$‬دة س‪$$‬نة واح‪$$‬دة‪،‬‬
‫وقل أنهم ليسوا آلهة‪ ..‬فقال بينه وبين نفس‪$$‬ه‪ :‬إن ه‪$$‬ذا الع‪$$‬رض يش‪$$‬كل بالنس‪$$‬بة لي‬
‫كزعيم سياسي شيئا جيد‪ ،‬ألنه يحقق لي مصالحة مؤقتة م‪$$‬ع الع‪$$‬دو‪ ،‬وم‪$$‬اذا يع‪$‬ني‬
‫لو أنني ذكرت الالت والعزى لمدة سنة واحدة ثم أغير بعدئذ؟)‬
‫أما أحاديثه عن هللا‪ ،‬فهي ال تختلف كثيرا عن مقوالت اليساريين‪ ،‬ولو أنه‬
‫يحاول كل حين تهذيبها حتى ال تصطدم‪ $‬بأولئك ال‪$$‬ذين يقدس‪$$‬ونه دون أن ي‪$$‬دركوا‬
‫أهداف‪$$‬ه‪ ،‬فه‪$$‬و يتح‪$$‬دث عن علم‪$$‬اء الكالم وح‪$$‬ديثهم‪ $‬عن هللا ق‪$$‬ائال‪( :‬م‪$$‬ع أن علم‪$$‬اء‬
‫أصول الدين يتحدثون عن هللا ذاته وصفاته وأفعاله‪ ،‬ف‪$$‬إنهم في الحقيق‪$$‬ة يتح‪$$‬دثون‬
‫عن اإلنسان الكامل ؛ فك‪$$‬ل م‪$$‬ا وص‪$$‬فوه على أن‪$$‬ه هللا إن ه‪$$‬و إال إنس‪$$‬ان م َكبَّر إلى‬
‫أقصى‪ $‬حدوده )‬
‫ويقول‪( :‬إن لفظ ( هللا ) يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتب‪$$‬اره‬
‫مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات‪ ،‬مطلقا ً يراد التعبير عنه بلفظ محدود)‬
‫ويق‪$$‬ول‪( :‬فك‪$$‬ل م‪$$‬ا نعتق‪$$‬ده ثم نعظم‪$$‬ه تعويض‪$‬اً‪ $‬عن فق‪$$‬د ‪ ،‬يك‪$$‬ون في الحس‬
‫الشعبي هو هللا )‬
‫ويقول‪( :‬ومن ثم فتوحي‪$$‬دنا ه‪$$‬و اله‪$$‬وت األرض‪ ،‬وال ه‪$$‬وت الث‪$$‬ورة ‪ ،‬وال‬
‫هوت التنمية ‪ ،‬وال هوت النظام‪ ، $‬وال هوت التقدم ‪ ،‬كما هو الحال في العدي‪$‬د من‬
‫الثقافات المعاصرة في البالد النامية التي نحن جزء منها)‬
‫وبناء على ذل‪$$‬ك كل‪$$‬ه؛ ف‪$$‬إن النتيج‪$$‬ة ال‪$$‬تي ي‪$$‬رمي إليه‪$$‬ا من خالل مش‪$$‬اريعه‬
‫جميعا‪ ،‬وهي نفس النتيجة التي ينطلق منها جميع التنويريين الج‪$$‬دد‪ ،‬هي إقص‪$$‬اء‬
‫الدين إقصاء كليا من الحياة‪ ،‬وفي جمي‪$$‬ع مس‪$$‬توياتها‪ $،‬وق‪$$‬د ع‪$$‬بر عن ذل‪$$‬ك بقول‪$$‬ه‪:‬‬

‫‪66‬‬
‫(فإن قيل إن ال‪$$‬تراث والتجدي‪$$‬د س‪$$‬يؤدي‪ $‬حتم‪$‬ا ً إلى حرك‪$$‬ة علماني‪$$‬ة وفي العلماني‪$$‬ة‬
‫قض‪$$‬اء على تراثن‪$$‬ا الق‪$$‬ديم ومورثاتن‪$$‬ا الروحي‪$$‬ة وآثارن‪$$‬ا الديني‪$$‬ة‪ ،‬قي‪$$‬ل ق‪$$‬د نش‪$$‬أت‬
‫العلماني‪$$‬ة في الغ‪$$‬رب اس‪$$‬تجابة ل‪$$‬دعوة طبيعي‪$$‬ة تق‪$$‬وم على أس‪$$‬اس رفض الص‪$$‬ور‬
‫الخارجي‪$$‬ة وقس‪$$‬مة الحي‪$$‬اة إلى قس‪$$‬مين واس‪$$‬تغالل‪ $‬المؤسس‪$$‬ات الديني‪$$‬ة للجم‪$$‬اهير‬
‫وتوطينها‪ $‬مع السلطة وحفاظه‪$$‬ا على األنظم‪$$‬ة القائم‪$$‬ة نش‪$$‬أت العلماني‪$$‬ة اس‪$$‬تردادا‪ً$‬‬
‫لإلنسان لحريته في السلوك والتعب‪$$‬ير‪ $‬وحريت‪$$‬ه في الفهم واإلدراك‪ $‬ورفض‪$$‬ه لك‪$$‬ل‬
‫أشكال الوصاية عليه وألي سلطة فوقه إال من سلطة العقل والض‪$$‬مير‪ ،‬العلماني‪$$‬ة‬
‫إذن رج‪$$$‬وع إلى المض‪$$$‬مون دون الش‪$$$‬كل وإلى الج‪$$$‬وهر دون الع‪$$$‬رض‪ ،‬وإلى‬
‫الص‪$$‬دق دون النف‪$$‬اق‪ ،‬وإلى وح‪$$‬دة اإلنس‪$$‬ان دون ازدواجيت‪$$‬ه وإلى اإلنس‪$$‬ان دون‬
‫غيره ‪ ..‬العلمانية إذن هي أساس الوحي‪ ،‬ف‪$$‬الوحي علم‪$$‬اني في ج‪$$‬وهره والدوني‪$$‬ة‬
‫طارئة عليه من صنع التاريخ‪ ،‬تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها‪ $‬عن‬
‫التطور‪ ،‬وما شأننا بالكهنوت والعلمانية ما هي إال رفض له؟ العلمانية في تراثن‪$$‬ا‬
‫وواقعن ‪$‬ا‪ $‬هي األس‪$$‬اس واتهامه‪$$‬ا بالالدوني‪$$‬ة تبعي‪$$‬ة لفك‪$$‬ر غ‪$$‬ريب وت‪$$‬راث مغ‪$$‬اير‬
‫وحضارة أخرى)‬
‫وهو بهذا يردد نفس ما ردده الماركسيون والوجودي‪$$‬ون وجمي‪$$‬ع المالح‪$$‬دة‬
‫حين يعت‪$$‬برون وج‪$$‬ود‪ $‬هللا إلغ‪$$‬اء لوج‪$$‬ود اإلنس‪$$‬ان‪ ،‬ويعت‪$$‬برون ش‪$$‬ريعة هللا كبت‪$$‬ا‬
‫واغتصابا‪ $‬لحرية لحرية اإلنسان‪ ،‬ول‪$$‬ذلك ف‪$$‬إن أحس‪$$‬ن تعب‪$$‬ير عن مش‪$$‬روع‪ $‬حس‪$$‬ن‬
‫حنفي هو [الثورة على الدين]‬

‫‪67‬‬
‫القبانجي ‪ ..‬والعمامة المدنسة‬
‫من المظ‪$$‬الم العظيم‪$$‬ة ال‪$$‬تي تس‪$$‬لط على الش‪$$‬يعة خصوص‪$$‬ا دون غ‪$$‬يرهم‬
‫إلصاق كل من لبس العمامة الس‪$$‬وداء أو البيض‪$$‬اء بهم‪ ،‬وحمل‪$$‬ه عليهم‪ ،‬واته‪$$‬امهم‪$‬‬
‫جميعا به‪ ،‬فإن ظهر راقصا في حفلة‪ ،‬فعلماء الشيعية ومالليهم جميعا راقصون‪،‬‬
‫وإن سب الص‪$‬حابة وأمه‪$‬ات المؤم‪$‬نين‪ ،‬فه‪$‬و عن‪$‬دهم ن‪$‬اطق رس‪$‬مي باس‪$‬م جمي‪$‬ع‬
‫علماء الشيعية وفقهائهم‪ ،‬ولو تبرأ من قول‪$$‬ه جمي‪$$‬ع المراج‪$$‬ع‪ ،‬وظه‪$$‬رت البيان‪$$‬ات‬
‫الموقعة من جميع العلماء ترد ذلك‪ ،‬وتكذبه‪.‬‬
‫وال نجد هذه التهمة في المدرسة السنية‪ ،‬حيث أنه إن ظهرت فض‪$$‬يحة من‬
‫أي جهة؛ ف‪$$‬إن المدرس‪$$‬ة جميع‪$$‬ا‪ ،‬تنس‪$$‬ب األم‪$$‬ر ألص‪$$‬حابه فق‪$$‬ط دون من ع‪$$‬داهم‪،‬‬
‫فاإلرهابيون ـ مع كونهم‪ $‬من المدرسة السلفية خصوصا‪ $‬كما تص‪$$‬رح ب‪$$‬ذلك كتبهم‬
‫وأحاديثهم ـ إال أنهم ال يحملون على السلفية‪ ،‬وال على المدرسة السنية جميعا‪..‬‬
‫وهكذا فإن حداثيي المدرسة السنية وتنويرييه ‪$‬ا‪ $‬ال يحمل‪$$‬ون على المدرس‪$$‬ة‬
‫الس‪$$‬نية‪ ،‬ب‪$$‬ل يُعت‪$$‬برون من المنح‪$$‬رفين عنه‪$$‬ا‪ ،‬ولم يوج‪$$‬ه أح‪$$‬د من الن‪$$‬اس التهم‪$$‬ة‬
‫للمدرسة السنية بكونها تتبنى أطروحات ش‪$$‬حرور‪ $‬وال أرك‪$$‬ون وال الج‪$$‬ابري وال‬
‫غيرهم‪.‬‬
‫إال القبانجي‪ ،‬ذلك المعمم التنويري الح‪$$‬داثي ال‪$$‬ذي ه‪$$‬و أق‪$$‬رب إلى اإللح‪$$‬اد‬
‫منه إلى اإلسالم؛ فإنهم يعتبرونه بسبب تل‪$$‬ك العمام‪$$‬ة ال‪$$‬تي وض‪$$‬عها‪ $‬على رأس‪$$‬ه‪،‬‬
‫وبسبب البيئة التي ولد وعاش فيها مفكرا شيعيا‪ ..‬ولست أدري هل يمكن لمتش‪$$‬يع‬
‫أن ينكر الجنة والنار‪ ،‬وأن يقول بكل تلك الطروحات التي لم يقل به‪$$‬ا ش‪$$‬يعي في‬
‫الت‪$$‬اريخ جميع‪$$‬ا‪ ..‬وم‪$$‬ع ذل‪$$‬ك يحم‪$$‬ل على الش‪$$‬يعة رغم أن‪$$‬وفهم‪ $‬كم‪$$‬ا حم‪$$‬ل ياس‪$$‬ر‬
‫الحبيب‪ ،‬واللهياري وكل دجال وأفاك‪ ،‬ألن الح‪$$‬اكم ليس العق‪$$‬ل وال المنط‪$$‬ق‪ ،‬وال‬
‫العدل‪ ،‬وإنما الحقد الذي نهانا هللا عنه؛ فقال‪ ﴿ :‬يَاأَيُّهَ‪$$‬ا الَّ ِذينَ آ َمنُ‪$$‬وا ُكونُ‪$$‬وا‪ $‬قَ‪َّ $‬وا ِمينَ‬
‫‪$‬ربُ‬ ‫‪$‬و أَ ْق‪َ $‬‬
‫هَّلِل ِ ُش ‪$‬هَدَا َء بِ ْالقِ ْس ‪ِ $‬ط َواَل يَجْ ‪ِ $‬ر َمنَّ ُك ْم َش ‪$‬نَآنُ قَ‪$$‬وْ ٍ‪$‬م َعلَى أَاَّل تَ ْع‪ِ $‬دلُوا ا ْع‪ِ $‬دلُوا هُ‪َ $‬‬
‫لِلتَّ ْق َوى َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ َخبِي ٌر بِ َما تَ ْع َملُونَ ﴾ [المائدة‪]8 :‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن خط‪$$‬ور القب‪$$‬انجي ال تكمن في األفك‪$$‬ار ال‪$$‬تي يطرحه‪$$‬ا؛ فمثله‪$$‬ا‬
‫كثير في البيئة السنية‪ ،‬وإنما في تلك العمامة السوداء ال‪$$‬تي يلبس‪$$‬ها‪ ،‬وال‪$$‬تي يخي‪$$‬ل‬
‫لكل من رآها أنه أم‪$‬ام مفك‪$‬ر ومرج‪$‬ع وداعي‪$‬ة ش‪$‬يعي‪ ،‬فل‪$‬ذلك يحم‪$‬ل ك‪$‬ل كلمات‪$‬ه‬
‫عليهم ظلما وزوروا‪ $‬وبهتانا‪.‬‬
‫لذلك آثرنا أن نتحدث عنه هنا‪ ،‬لنطرح فكره من جهة ـ باعتب‪$$‬اره نموذج‪$‬ا‪$‬‬
‫للمدرس‪$$‬ة التنويري‪$‬ة ـ ولننفي المظلم‪$$‬ة عن المدرس‪$$‬ة الش‪$‬يعية ال‪$$‬تي يض‪$$‬ع عليه‪$$‬ا‬
‫الحاقدون كل النفايات‪ ،‬وينسون أن ينسبوا إليها أي مكرمة‪ ،‬ألنها في نظرهم شر‬

‫‪68‬‬
‫محض‪.‬‬
‫وأحب أن أبين قبل أن أتحدث عنه‪ ،‬بأن النظام الذي رعاه‪ ،‬وقدره‪ ،‬وساهم‬
‫في نشر فكره هو النظ‪$$‬ام الع‪$$‬ربي الخليجي المتمث‪$$‬ل في دول‪$$‬ة اإلم‪$$‬ارات العربي‪$$‬ة‬
‫المتحدة‪ ،‬بينم‪$$‬ا النظ‪$$‬ام ال‪$$‬ذي واجه‪$$‬ه‪ ،‬وانتق‪$$‬ده‪ ،‬ب‪$$‬ل أدخل‪$$‬ه الس‪$$‬جن بس‪$$‬بب أفك‪$$‬اره‬
‫الخطيرة التي كان ينشرها‪ $‬هو النظام اإليراني(‪ .. )1‬ثم ي‪$$‬أتي بع‪$$‬د ذل‪$$‬ك الن‪$$‬اعقون‬
‫ليذكروا‪ $‬أن أفكاره التي يطرحها هي أفكار‪ $‬إيران‪ ،‬ال أفكار اإلمارات‪.‬‬
‫فقد كان أول ما بزغ نجم هذا القب‪$$‬انجي في دول‪$$‬ة اإلم‪$$‬ارات ع‪$$‬ام ‪2010‬م‪،‬‬
‫حينما استدعي من طرف ولي عهد أبي ظ‪$$‬بي ليلقي محاض‪$$‬رة بعن‪$$‬وان [اإلس‪$$‬الم‬
‫األصولي‪ $‬واإلسالم الحداثي]‪ ،‬والتي انتقد فيها األح‪$$‬زاب والجماع‪$$‬ات اإلس‪$$‬المية‬
‫ذات التوجهات السياسية‪ ،‬حيث اعتبرها مسؤولة عن أفك‪$‬ار االس‪$‬تبداد واالنغالق‪$‬‬
‫المعرفي‪ $‬الذي تعاني منه الشعوب العربية‪.‬‬
‫وق‪$‬د‪ $‬أعلن عن‪$$‬ه حينه‪$$‬ا بأن‪$$‬ه المفك‪$$‬ر والب‪$$‬احث الكب‪$$‬ير‪ ،‬وك‪$$‬ان ذل‪$$‬ك مقدم‪$$‬ة‬
‫إلشهار‪ $‬أفكاره في أبي ظبي وغيرها‪ ،‬مثلما كانت منطلقا إلشهار كل تلك األفكار‪$‬‬
‫التي ال تهدم الجماعات اإلسالمية فقط‪ ،‬بل تهدم معها اإلسالم أيضا‪.‬‬
‫وبغض النظر عن المصدر الذي نش‪$$‬ر أفك‪$$‬اره‪ ،‬وس‪$$‬اهم في ال‪$$‬دعوة إليه‪$$‬ا‪،‬‬
‫فإنه السهولة ألي عقل ناضج أن يقرأ أو يستمع لتلك الطروحات التي يطرحه‪$$‬ا‪،‬‬
‫ثم يقارنه‪$$‬ا بموق‪$‬ف‪ $‬علم‪$$‬اء الش‪$$‬يعة ليت‪$$‬بين الحقيق‪$$‬ة‪ ،‬ويعلم أن تل‪$$‬ك العمام‪$$‬ة ال‪$$‬تي‬
‫يلبسها ذل‪$$‬ك القب‪$$‬انجي ليس‪$$‬ت س‪$$‬وى عمام‪$$‬ة مدنس‪$$‬ة ب‪$$‬التنوير‪ $‬الم‪$$‬زور‪ ،‬واأله‪$$‬واء‬
‫المجردة‪.‬‬
‫فهل وجدتم‪ $‬ـ يا من تحملون هذا القبانجي على الشيعة ـ أح‪$$‬دا من علم‪$$‬ائهم‬
‫ومراجعهم يقول‪( :‬إن الجنة والن‪$$‬ارهي‪ $‬خالف العق‪$$‬ل وال وج‪$$‬ود له‪$$‬ا‪ ،‬وإن ورود‬
‫جهنم في القرآن هو لتخويف‪ $‬االنسان فقط ‪ ،‬والوعد بالجنة هو ل‪$$‬ترغيب االنس‪$$‬ان‬
‫كي ينجذب الى الدين وااليمان باالسالم‪ $‬وبرسوله وكتابه) (‪)2‬‬
‫أو يق‪$$‬ول‪( :‬في الجن‪$$‬ة اليوج‪$$‬د ك‪$$‬رم أو إيث‪$$‬ار أو مواس‪$$‬اة أو التن‪$$‬افس على‬
‫العم‪$$‬ل وال إب‪$$‬داع او عم‪$$‬ل الخ‪$$‬ير‪ ،‬فالن‪$$‬اس في الجن‪$$‬ة ال ش‪$$‬غل لهم س‪$$‬وى نك‪$$‬اح‬
‫الحوريات‪ $‬وشرب الخمر والعس‪$$‬ل واللبن من االنه‪$$‬ار ‪ ،‬حيث ال وج‪$$‬ود‪ $‬للص‪$$‬فات‬
‫االنسانية هناك وهذه حياة حيوانية)‬
‫أو يذكر بأن‪$‬ه إذا عرض‪$‬ت علي‪$‬ه الجن‪$‬ة‪ ،‬فسيرفض‪$‬ها‪ ،‬وس‪$‬يكون س‪$‬عيدا إذا‬
‫‪ )(1‬في ‪ 2013‬م‪ ،‬اعتقلته السلطات اإليرانية‪ ،‬إلشهاره لطروحاته بين طلبة العلم‪ ،‬ولتشكيكه في أساسيات‬
‫الدين‪ ،‬لكن المظاهرات المؤيدة له والتي اندلعت في البصرة وبغداد‪ ،‬كان لها دور كبير في اإلفراج عنه وإطالق‬
‫سراحه‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر هذه النص وغيره في مقال بعنوان‪ :‬االس‪$$‬الم العقالني واللي‪$$‬برالي عن‪$$‬د الش‪$$‬يخ احم‪$$‬د القب‪$$‬انجي‪،‬‬
‫صباح إبراهيم‪ ،‬الحوار المتمدن‪-‬العدد‪ ،08:35 - 8 / 12 / 2011 - 3569 :‬وهي موجودة في محاضراته على‬
‫اليوتيوب‪$.‬‬

‫‪69‬‬
‫ذهب إلى جهنم‪.‬‬
‫وه‪$‬ل رأيتم عالم‪$‬ا أو مرجع‪$‬ا ش‪$‬يعيا ي‪$‬ردد ب‪$‬أن األحك‪$‬ام الش‪$‬رعية (ك‪$‬انت‬
‫صالحة في زمان النبي وبدء ظهور‪ $‬االسالم‪ ،‬وهي التصلح لك‪$$‬ل زم‪$$‬ان ومك‪$$‬ان‪،‬‬
‫فاآلي‪$$‬ات ج‪$$‬اءت لظ‪$$‬روف‪ $‬مح‪$$‬دودة ول‪$$‬زمن معين)‪ ،‬وه‪$$‬و نفس م‪$$‬ا ي‪$$‬ردده أك‪$$‬ثر‬
‫التنويريين الموجودين في البيئة السنية‪.‬‬
‫وهل سمعتم عالما شيعيا يردد‪ $‬ما يقوله هذا القبانجي‪( :‬إن ماجاء به محم‪$$‬د‬
‫ليس كالم‪$$‬ا إلهي‪$$‬ا وليس من هللا ‪ ،‬ب‪$$‬ل كالم ن‪$$‬اتج عن عم‪$$‬ق اتص‪$$‬اله م‪$$‬ع هللا وم‪$$‬ع‬
‫الناس؛ فأخذ يصوغ‪ $‬للناس كالما نورانيا من ذهنه‪ ،‬وليس‪$$‬ت نصوص‪$$‬ا مبلغ‪$$‬ا به‪$$‬ا‬
‫من هللا)‬
‫وهل سمعتم أحدا منهم ـ وهم الذين يقولون بالعص‪$$‬مة المطلق‪$$‬ة لرس‪$$‬ول‪ $‬هللا‬
‫‪ ،‬ولألنبياء جميعا‪ ،‬بل يضيفون إليهم حتى أئمة أهل البيت ـ ي‪$$‬ذكر أن رس‪$$‬ول‬
‫هللا ‪ ‬كانت له أخطاء علمية كثيرة‪ ،‬وأن من أخطائه (اعتبار االرض مسطحة‪،‬‬
‫ق ليك‪$$‬ون م‪$$‬واقيت للن‪$$‬اس فق‪$$‬ط‪ ،‬حيث اليس‪$$‬تعمل اآلن‬ ‫وك‪$$‬ان يعتق‪$$‬د أن القم‪$$‬ر ُخل‪َ $‬‬
‫للتوقيت لوجود‪ $‬التقاويم الحديثة والساعات وغيرها من األجهزة‪ ،‬وأخط‪$$‬أ الق‪$$‬رآن‬
‫في أسباب خلق الجب‪$$‬ال‪ ،‬فاعتبره‪$$‬ا رواس‪$$‬ي لألرض العتق‪$$‬اده أن األرض تطف‪$$‬و‬
‫على سطح المياه وبحاج‪$$‬ة للرواس‪$‬ي‪ $‬كي ال تمي‪$$‬د وت‪$$‬نزلق‪ ، $‬وه‪$$‬ذا م‪$$‬ا ينفي‪$$‬ه العلم‬
‫الحديث)‬
‫وهل سمعتم أحدا منهم يردد قوله‪( :‬قال الن‪$$‬بي محم‪$$‬د‪[ :‬إن هللا ه‪$$‬و الض‪$$‬ال‬
‫والهادي]‪ ،‬فكيف يدعو هللا الى الخير والشر‪ ،‬وهذا محال أن يناقض هللا نفسه)‬
‫أو يقول‪( :‬إن ثقافة محمد ومعارفه استقاها من القس النص‪$$‬راني‪ $‬ورق‪$$‬ة بن‬
‫نوفل واألحبار‪ $‬اليهود وقسس النصارى‪ $‬الذين كانوا يلتقون به خالل أربعين س‪$$‬نة‬
‫قبل البدء بدعوته‪ ،‬وأنه تزوج النصرانية خديجة بنت خويلد ابنة عم القس ورق‪$$‬ة‬
‫بن نوفل على الطقوس النص‪$$‬رانية ‪ ،‬حيث أن‪$$‬ه لم يطلقه‪$$‬ا ولم ي‪$$‬تزوج عليه‪$$‬ا كم‪$$‬ا‬
‫توصي‪ $‬تعاليم الدين المسيحي حيث عقد القس ورق‪$$‬ة بن نوف‪$$‬ل بنفس‪$$‬ه عق‪$$‬د قِ‪$$‬ران‬
‫محمد على خديجة بحضور‪ $‬عمه أبي طالب ولي أمر محمد)‬
‫أو يقول‪( :‬نحن النحتاج الى هللا خالق السماء واألرض‪ ،‬بل نبحث عن هللا‬
‫الخير نبحث عن الرب)‬
‫أو يق‪$$$‬ول‪( :‬ثبت أن الق‪$$$‬رآن ليس من هللا لوج‪$$$‬ود الكث‪$$$‬ير من األخط‪$$$‬اء‬
‫والتناقضات والالبالغية والالأخالقية والالعلمية في‪$$‬ه‪ ..‬ويص‪$$‬ف الق‪$$‬رآنُ هللاَ بأن‪$$‬ه‬
‫جبار وماكر‪ $‬وغضوب وأن محمد يجسد هللا ويجلسه على ع‪$$‬رش وكرس‪$$‬ي‪ ،‬وأن‬
‫هللا يعذب ويظلم ويستهزئ ويمكر‪ $‬ويأمر بالفسق والقتل وينتقم ويضل من يشاء‪،‬‬
‫وهذه كلها صفات بشرية يتنزه هللا عنها ‪ ،‬ثم يناقض محمد نفسه ويصف ربه انه‬
‫ليس كمثله شئ ‪ ..‬لذلك فإن الق‪$$‬رآن ه‪$$‬و تفس‪$$‬ير محم‪$$‬د لكالم هللا‪ ،‬وليس ه‪$$‬و كالم‬

‫‪70‬‬
‫هللا‪ ..‬فاآليات القرآنية هي صياغة بشرية لما يراه الن‪$$‬بي من تفس‪$$‬يرات وجداني‪$$‬ة‪..‬‬
‫والق‪$$‬رآن كت‪$$‬اب خط‪$$‬ابي وليس فلس‪$$‬في ‪ ..‬وه‪$$‬و كالم موج‪$$‬ه للهمج من الع‪$$‬رب‪،‬‬
‫وأدلت‪$$‬ه ض‪$$‬عيفة ‪ ..‬وك‪$$‬ل ماج‪$$‬اء ب‪$$‬ه من األحك‪$$‬ام والش‪$$‬رائع وقص‪$$‬ص األنبي‪$$‬اء‬
‫مستوحى‪ $‬من التوراة واالنجيل والتراث المكتوب ما قبل االسالم وليس في‪$$‬ه ش‪$$‬ئ‬
‫جديد)‬
‫أو يقول‪( :‬إن محمدا هو من ابتدع فكرة أن يكون خاتم االنبياء وقد‪ $‬انتظ‪$$‬ر‬
‫‪ 18‬سنة كاملة حتى أتى بسورة االح‪$$‬زاب ﴿ َم‪$$‬ا َك‪$$‬انَ ُم َح َّم ٌد أَبَ‪$$‬ا أَ َح‪ٍ $‬د ِم ْن ِر َج‪$$‬الِ ُك ْم‬
‫ُول هَّللا ِ َو َخ‪$$‬اتَ َم النَّبِيِّينَ ﴾ [األح‪$$‬زاب‪ $]40 :‬ألنه ك‪$$‬ان يعتقد أن‪$‬ه س‪$$‬يرزق‬ ‫َولَ ِك ْن َرس َ‬
‫بولد ليك‪$$‬ون خليفته ونبيا من بعده ‪ ،‬ولم‪$$‬ا يئس من أن ي‪$$‬رزق‪ $‬بول‪$$‬د ذك‪$$‬ر‪ ،‬ق‪$$‬ال ‪:‬‬
‫(الن‪$$‬بي من بع‪$$‬دي) لخوف‪$$‬ه من ظه‪$$‬ور‪ $‬أنبي‪$$‬اء ج‪$$‬دد منافس‪$$‬ين‪ $‬كمس‪$$‬يلمة وس‪$$‬جاح‬
‫ويغيروا من دينه وينكروا‪ $‬نبوته من بعده)‬
‫أو يقول‪( :‬إن ختم النبوة بمحمد يتن‪$$‬افى‪ $‬م‪$$‬ع الحكم‪$$‬ة اإللهي‪$$‬ة‪ ..‬وأن الق‪$$‬رآن‬
‫ذكر أن هللا سيرسل رسال لهداي‪$‬ة البش‪$‬ر بع‪$‬د محم‪$‬د ‪ ..‬وه‪$‬ذا ي‪$‬دل على اس‪$‬تمرار‪$‬‬
‫ارس‪$$‬ال رس‪$$‬ل آخ‪$$‬رين قب‪$$‬ل وبع‪$$‬د محم‪$$‬د ‪ ،‬حيث ال يعق‪$$‬ل أن ينقط‪$$‬ع اتص‪$$‬ال هللا‬
‫بالبشرية حتى قيام الساعة)‬
‫أو يقول‪( :‬كان االسالم كامال في زمان محمد‪ ،‬واآلن يعتبر اإلسالم ناقصا‪$‬‬
‫لتطور‪ $‬المجتمعات والحضارة والق‪$$‬وانين ال‪$$‬تي ال تنطب‪$‬ق‪ $‬عليه‪$$‬ا أحك‪$$‬ام وش‪$$‬ريعة‬
‫االسالم الغابرة ‪ ،‬فال يجوز أن تُعتبر الي‪$$‬وم الم‪$$‬راءة مس‪$$‬اوية لنص‪$‬ف‪ $‬الرج‪$$‬ل في‬
‫االرث والش‪$$‬هادة‪ ،‬وهي ت‪$$‬دير حكوم‪$$‬ات ووزارات‪ $‬وأبح‪$$‬اث علمي‪$$‬ة‪ ،‬وت‪$$‬ذهب في‬
‫رحالت للفضاء الخارجي ‪ ،‬وال يجوز اليوم معاقبة إنسان ما بقط‪$$‬ع ي‪$$‬ده أو عنق‪$$‬ه‬
‫بالسيف)‬
‫أو يقول‪( :‬لو كان القرآن هو المحرك للعقل البشري للتطور والتقدم لك‪$$‬ان‬
‫المس‪$$‬لمون أرقى ش‪$$‬عوب األرض حض‪$$‬ارة ورقي‪$$‬ا‪ $،‬ولكن العكس ه‪$$‬و الص‪$$‬حيح؛‬
‫فالحضارة ظهرت في أوربا‪ $‬ب‪$$‬أبهى أش‪$$‬كالها وأفض‪$‬ل‪ $‬قوانينه‪$$‬ا‪ $،‬وبقى المس‪$$‬لمون‬
‫متخلفين لحد اآلن بسبب اتباعهم ألوامر القرآن والشريعة)‬
‫وغيرها من المقوالت الكث‪$$‬يرة ال‪$$‬تي يحمله‪$$‬ا بعض الحاق‪$$‬دين على الش‪$$‬يعة‬
‫مصورا‪ $‬أنها مقوالتهم‪ ،‬لسبب بسيط‪ ،‬وهو أن قائل كل تل‪$$‬ك الهرطق‪$$‬ات رج‪$$‬ل ق‪$$‬د‬
‫لبس العمامة التي تعود طلبة العلم في البيئة الشيعية أن يلبسوها‪ ،‬كما تعود طلب‪$$‬ة‬
‫األزهر والزيتونة والقرويين وغيرها أن يتميزوا‪ $‬بلباسهم الخاص‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ما الذي أنكره على عدنان إبراهيم؟‬
‫يتصور‪ $‬البعض أننا عندما ننتقد شخصا‪ ،‬أو ننكر على جهة‪ ،‬أننا ننكر ك‪$$‬ل‬
‫شيء فيها‪ ،‬وننتقد كل ما يصدر منها‪ ،‬وهذا وهم كبير‪ ،‬فليس هناك باطل مج‪$$‬رد‪،‬‬
‫بل الحق يختلط مع الباط‪$$‬ل‪ ،‬ونحن نحت‪$$‬اج إلى التمي‪$$‬يز بينهم‪$$‬ا‪ ،‬وق‪$‬د‪ $‬نض‪$$‬طر في‬
‫بعض األحي‪$$‬ان إلى ذك‪$$‬ر األس‪$$‬ماء ح‪$$‬تى يحص‪$$‬ل ذل‪$$‬ك التمي‪$$‬يز‪ ،‬وح‪$$‬تى ي‪$$‬زول‬
‫االلتباس‪.‬‬
‫وقد فعلنا ذلك مع عدنان إبراهيم في الفترة الحالية بعد أن كن‪$$‬ا ننك‪$$‬ر علي‪$$‬ه‬
‫تلميحا ال تصريحا‪ $..‬لكن بعد تحوله إلى قيادة اجتماعية‪ ،‬أو ـ يتعبير مالك بن نبي‬
‫ـ [صنم فكري]‪ ،‬أصبح من الضرورة ذكر اسمه‪ ،‬للتنبي‪$$‬ه والنص‪$$‬ح إلى أن يؤخ‪$$‬ذ‬
‫كالمه في المسائل العلمية أو السياسية باحتراز شديد‪ ،‬حتى ال يقع محبوه ضحية‬
‫التقديس لشخصه‪ ..‬وح‪$$‬تى ال يكون‪$$‬وا‪ $‬كال‪$$‬ذين هرب‪$$‬وا من وثني‪$$‬ة قديم‪$$‬ة إلى وثني‪$$‬ة‬
‫جديدة‪.‬‬
‫بناء على هذا‪ ،‬فإن الذي أنكره على عدنان إبراهيم أربعة أمور‪:‬‬
‫أولها ـ الجرأة على الحديث على مسائل كب‪$$‬يرة في العلم وال‪$$‬دين من غ‪$$‬ير‬
‫تحقيق كبير‪ ،‬ب‪$‬ل ن‪$‬راه يلقي رأي‪$‬ه أم‪$‬ام وس‪$‬ائل اإلعالم‪ ،‬ثم يدعم‪$‬ه ببعض األدل‪$‬ة‬
‫الخطابية‪ ،‬ال العلمية‪ ،‬وال العقلية‪ ،‬ألنه يعلم أن جمهوره سيقبل منه ذلك بس‪$$‬هولة‪،‬‬
‫بل سيبني‪ $‬عليه أحكام‪$$‬ا كث‪$$‬يرة‪ ،‬ألن‪$$‬ه يري‪$$‬د أن يس‪$$‬مع ك‪$$‬ل م‪$$‬رة جدي‪$$‬دا‪ ،‬وال يهم‪$$‬ه‬
‫البحث المفصل فيه‪ ،‬وال في أدلته‪.‬‬
‫وهذا منهج غير صحيح في طرح القضايا العلمية‪ ،‬ذلك أنها تحتاج طرح‪$$‬ا‬
‫مفصال لألدلة‪ ،‬ومناقشة علمية هادئة ألدلة المخالفين‪ ،‬وكل ذل‪$$‬ك بطريق‪$$‬ة علمي‪$$‬ة‬
‫ممتلئة بالهدوء‪.‬‬
‫والمشكلة األكبر ليس في تل‪$‬ك الطروح‪$‬ات‪ ،‬وإنم‪$‬ا في إث‪$‬ارة عام‪$‬ة الن‪$‬اس‬
‫ممن لم تكتمل لهم أدوات االجتهاد والبحث ليتحدثوا في كل شيء‪ ،‬ويناقش‪$$‬وا‪ $‬ك‪$$‬ل‬
‫شيء من غير بذل جهد في البحث والمراجع‪ ،‬ومطالعة المطوالت‪ ..‬فقد ع‪$$‬ودهم‬
‫على الوجبات السريعة‪ ،‬والحديث في القضايا الكبرى في أقل وقت ممكن‪.‬‬
‫ثانيها ـ أن‪$$‬ه يعيش في أوروب‪$$‬ا‪ ،‬ويخطب من على منابره‪$$‬ا‪ ،‬ولدي‪$$‬ه الكث‪$$‬ير‬
‫من الف‪$$‬رص اإلعالمي‪$$‬ة ال‪$$‬تي ت‪$$‬تيح ل‪$$‬ه الح‪$$‬ديث عن قض‪$$‬ايا‪ $‬األم‪$$‬ة ال‪$$‬تي ال ينبغي‬
‫السكوت عليها‪ ،‬لكنه لم يفعل‪ ..‬وقد ذكرنا أنه في الوقت الذي حصل فيه الع‪$$‬دوان‬
‫الثالثي على سورية‪ ،‬كانت خطبته حول الترحم على هوكينغ‪ ،‬بل كانت ص‪$$‬فحته‬
‫كلها دعاية لهوكينغ‪$..‬‬
‫ومثل ذلك موقفه من اليمن الذي يُقت‪$$‬ل أطفال‪$$‬ه‪ ،‬وتُ‪$$‬دمر‪ $‬بيوت‪$$‬ه ومؤسس‪$$‬اته‪،‬‬

‫‪72‬‬
‫ويلقى من الظلم ما لم يلقه بلد في التاريخ‪ ..‬ومع ذل‪$$‬ك لم نج‪$$‬ده يتكلم كلم‪$$‬ة واح‪$$‬دة‬
‫في نصرة ذلك الشعب المظلوم‪ $،‬مع أن مؤسس‪$$‬ات حقوقي‪$$‬ة ك‪$$‬برى تح‪$$‬دثت عن‪$$‬ه‪،‬‬
‫ومع أنه في بلد يتيح له أن يتكلم في كل شيء بحرية كبيرة‪.‬‬
‫ثالثها ـ أنه مع عدم كالمه في السياسة ـ كما يقول أتباعه ـ ال‪$$‬ذين يري‪$$‬دون‬
‫تبرير‪ $‬مواقفه من السكوت عن االعتداءات على سورية واليمن نراه يمج‪$$‬د كاذب‪$$‬ا‬
‫السعودية‪ ،‬ويزعم أنها تسير اآلن في الطريق الصحيح‪ ..‬ويثني ثناء عط‪$$‬را على‬
‫أمرائها‪.‬‬
‫ولسنا ندري سر هذا‪ ..‬وال مدى علميته‪ ..‬وهل يك‪$‬ون دف‪$$‬ع مئ‪$‬ات المالي‪$‬ير‬
‫من ال‪$$‬دوالرات ألمريك‪$$‬ا وفرنس‪$$‬ا وغيرهم‪$$‬ا تحض‪$$‬را؟‪ ..‬وه‪$$‬ل جلب المط‪$$‬ربين‬
‫والممثلين والمهرجين‪ ،‬وفتح دور السينما هي الحداثة التي يريد أن نسير عليها؟‬
‫ومثل ذلك موقفه من حكام آخرين للخليج هو يعلم تمام‪$$‬ا أنهم لم يق‪$$‬دموا ال‬
‫لشعوبهم‪ $،‬وال ألمتهم شيئا‪ ،‬بل لم يقدموا لها إال الخراب‪ ..‬ومع ذلك يث‪$$‬ني عليهم‪،‬‬
‫ويذم‪ $‬أعداءهم ال اإلسرائيليين‪ ،‬وإنما أعداءهم من المسلمين‪.‬‬
‫ولهذا صرت أخاف أن يخرج علينا في يوم من األيام بخرجة جديدة يقول‬
‫فيها‪( :‬بعد البحث الطويل تبين لي أن عداوتنا إلسرائيل‪ $‬ال مبرر لها‪ ..‬ب‪$$‬ل يمكنن‪$$‬ا‬
‫أن نتحول إلى أصدقاء‪ ،‬فنستفيد من خبرتها وتجربتها‪ ..‬واألدل‪$$‬ة على ذل‪$$‬ك‪ ،)..‬ثم‬
‫يسوق‪ $‬من األدلة ما تعود أن يسوقه‪.‬‬
‫وال أقول هذا مجازفة‪ ..‬ولكن كل شيء يدل عليه‪ ،‬ألن األرضية أص‪$$‬بحت‬
‫مهيأة من الناحية النفسية‪ ،‬كما ذكرت ذلك بتفصيل في المقاالت الكثيرة التي ترد‬
‫على تلك الس‪$$‬ماحة الزائ‪$$‬دة ال‪$$‬تي خ‪$$‬رجت عن ح‪$$‬دودها الش‪$$‬رعية‪ ،‬وال‪$$‬تي أص‪$$‬بح‬
‫أتباعه فيه‪$‬ا ي‪$$‬ترحمون‪ ،‬ويثن‪$‬ون ويقدس‪$$‬ون مالح‪$‬دة الع‪$‬الم في نفس ال‪$$‬وقت ال‪$‬ذي‬
‫يلعنون فيه علماءهم وتراثهم‪ $‬وكل شيء ينتمون إليه‪.‬‬
‫رابعها ـ أن االهتمام الزائد به‪ ،‬والذي يوليه جمهوره ل‪$$‬ه حجبهم عن كث‪$$‬ير‬
‫من الشخص‪$$‬يات العلمي‪$$‬ة‪ ،‬وه‪$$‬و م‪$$‬ا يح‪$$‬رمهم‪ $‬من العلم والتحقي‪$$‬ق وفهم‪ $‬اإلس‪$$‬الم‬
‫بصورته الشاملة‪ ..‬ذلك أن اإلسالم أعظم من أن يحيط به شخص واحد‪.‬‬
‫وله‪$$‬ذا عن‪$$‬دما كنت أكتب أي ش‪$$‬يء في ال‪$$‬رد على بعض أطروحات‪$$‬ه تق‪$$‬وم‬
‫قيامة أتباعه‪ ،‬مع أنهم يعلمون أني باحث ال أقل عنه‪ ،‬بل أن‪$$‬ا متخص‪$$‬ص‪ ،‬وأك‪$$‬ثر‬
‫تفرغا ودراسة ومطالعة بحكم ظروفي‪ ،‬ولكنهم يتصورون أن اإلعالم ه‪$$‬و ال‪$$‬ذي‬
‫يصنع األعالم‪ ،‬وهو الذي يقرر من يكون باحثا ومجددا‪ $‬وعالما‪.‬‬
‫وعندما ضربت المثال بشخصي الضعيف‪ ،‬لم أقصد شخص ‪$‬ي‪ $‬الض‪$$‬عيف‪،‬‬
‫فهناك الكثير من العلماء المحققين المجهولين ال‪$$‬ذين لم يص‪$$‬لوا إلى الن‪$$‬اس‪ ،‬ألنهم‬
‫لم يمدوا يدهم لمصافحة الوليد بن طالل‪ ،‬وال غيره من مجرمي‪ $‬العالم‪ ..‬ولذلك لم‬
‫تكن هن‪$$‬اك ك‪$$‬اميرات تس‪$$‬لط الض‪$$‬وء عليهم‪ ،‬أو جه‪$$‬ات تتبن‪$$‬اهم‪ ،‬فهُج‪$$‬روا ال لقل‪$$‬ة‬

‫‪73‬‬
‫علمهم‪ ،‬وإنما ألن العيون ال تهفو إال لمن يظهرون على وسائل اإلعالم‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫القسم الثالث‬

‫التنويريون‪ ..‬وهدم القيم‬

‫‪75‬‬
‫التنوير‪ ..‬والتفسير المزاجي لإلسالم‬
‫من مظاهر التن‪$$‬وير الجدي‪$$‬د‪ ،‬وال‪$$‬تي ال تتناس‪$$‬ب تمام‪$$‬ا م‪$$‬ع مفه‪$$‬وم اإلس‪$$‬الم‬
‫والتس‪$$‬ليم المطل‪$$‬ق هلل‪ ،‬ذل‪$$‬ك التفس‪$$‬ير الم‪$$‬زاجي‪ $‬لإلس‪$$‬الم‪ ،‬وال‪$$‬ذي ينطل‪$$‬ق من األن‪$$‬ا‬
‫والمزاج وتأثيرات‪ $‬البيئة قبل أن ينطلق من مصادر اإلس‪$$‬الم المقدس‪$$‬ة ال‪$$‬تي ت‪$$‬بين‬
‫حقيقته‪ ،‬وتوضح مراد هللا منه‪.‬‬
‫فلهذا ال نتعجب من التنويري‪ $‬إن خالف النصوص القطعي‪$$‬ة الص‪$$‬ريحة من‬
‫القرآن الك‪$$‬ريم‪ ،‬أو الس‪$$‬نة المطه‪$$‬رة‪ ،‬وفس‪$$‬رها‪ $‬بحس‪$$‬ب مزاج‪$$‬ه‪ ،‬ال بحس‪$$‬ب حقيق‪$$‬ة‬
‫األمر‪ ..‬ألنه ال ينطلق من الموضوع‪ $‬وإنما ينطلق من الذات‪ ،‬ويس‪$$‬تحيل على من‬
‫امتأل بأهواء الذات أن يكون موضوعيا‪ ،‬أو أن يصف الحقيقة كما هي‪.‬‬
‫وحتى يتخلص التنويري‪ $‬من هذه األهواء عليه أن يقرأ المصادر‪ $‬المقدس‪$$‬ة‬
‫بعي‪$$‬دا عن نفس‪$$‬ه‪ ،‬وعن بيئت‪$$‬ه‪ ،‬وعن الظ‪$$‬روف‪ $‬ال‪$$‬تي يعيش فيه‪$$‬ا‪ ،‬ليفهم المق‪$$‬دس‬
‫بطهارته وصفائه وسموه‪ ،‬وال يخلطه بأي شيء‪ ،‬وال يملي عليه شيئا‪.‬‬
‫وليفع‪$$‬ل ه‪$$‬ذا علي‪$$‬ه أن يفهم اإلس‪$$‬الم باللغ‪$$‬ة ال‪$$‬تي فهمه‪$$‬ا ب‪$$‬ه إب‪$$‬راهيم علي‪$$‬ه‬
‫السالم‪ ،‬والذي ذكر هللا تعالى أنه هو ال‪$$‬ذي اخت‪$$‬ار ه‪$$‬ذا االس‪$$‬م‪ ،‬ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪ِ ﴿ :‬ملَّةَ‬
‫أَبِي ُك ْم إِ ْب َرا ِهي َم هُ َو َس َّما ُك ُم ْال ُم ْسلِ ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل ﴾ [الحج‪]78 :‬‬
‫بل ذك‪$$‬ر هللا تع‪$$‬الى أن‪$$‬ه ه‪$$‬و ال‪$$‬ذي ع‪$‬رّف ه‪$$‬ذا االس‪$$‬م تعريف‪$$‬ا فعلي‪$$‬ا واقعي‪$‬ا‪$‬‬
‫واضحا‪ ،‬وذلك عندما أمر بذبح ابنه في رؤيا منامية‪ ..‬حينها كان يمكن ـ ل‪$$‬و ك‪$$‬ان‬
‫إبراهيم عليه السالم تنويريا‪ $‬ـ أن يصيح بملء فيه‪( :‬يستحيل أن يصدر هذا األمر‬
‫من هللا الرحمن الرحيم)‪ ..‬ثم يستعيذ من تلك الرؤيا‪ ،‬ويعتبرها‪ $‬وساوس ش‪$$‬يطانية‬
‫أنشأها شياطين الدجل في عقله الباطن‪.‬‬
‫أو ربما يتنازل‪ ،‬فيعتبرها‪ $‬رؤيا ملكوتية‪ ،‬لكنه يؤولها‪ $‬بما يفعل‪$$‬ه الكث‪$$‬ير من‬
‫التنويريين؛ فيفسر الذبح بذبح التخلف والفقر والسلبية ونحوها‪ $..‬أو يفسرها ب‪$$‬ذبح‬
‫ك‪$$‬ل تحكم أو توجي‪$$‬ه البن‪$$‬ه ليترك‪$$‬ه يعيش حيات‪$$‬ه الطبيعي‪$$‬ة‪ ،‬وكأن‪$$‬ه من غ‪$$‬ير أب‪،‬‬
‫وكأن األب من غير ابن‪..‬‬
‫ويمكنه أن يفسرها بما تعود التنويريون أن يفسروا به الحقائق؛ فيغيروه‪$$‬ا‬
‫عن مسارها‪ $‬الذي تدل علي‪$$‬ه؛ ف‪$$‬إن عج‪$$‬ز عن ذل‪$$‬ك دل‪$$‬ه التنويري‪$$‬ون على تجاه‪$$‬ل‬
‫الرؤيا‪ ،‬وعدم اعتبارها‪ ،‬بل إقناع نفسه أنه لم يرها أصال‪..‬‬
‫لكن إبراهيم عليه السالم‪ ،‬والذي يعلم أنه عبد هللا‪ ،‬وأنه ال يمل‪$$‬ك من أم‪$$‬ره‬
‫ش‪$‬يئا لم يفهم من تل‪$‬ك الرؤي‪$‬ا إال أنه‪$‬ا أم‪$‬ر إلهي ب‪$‬ذبح ابن‪$‬ه‪ ..‬فهم ذل‪$‬ك م‪$‬ع علم‪$‬ه‬
‫اليقيني القاطع برحمة هللا ورأفته بعباده‪ ..‬ولكنه يعلم في نفس الوقت أن هللا حكيم‬
‫ولطي‪$$‬ف‪ ،‬وأن‪$$‬ه لحكمت‪$$‬ه ولطف‪$$‬ه ي‪$$‬دبر من الت‪$$‬دابير لعب‪$$‬اده م‪$$‬ا تتحق‪$$‬ق ب‪$$‬ه الرحم‪$$‬ة‬

‫‪76‬‬
‫والرأفة في أجلى مراتبها‪.‬‬
‫لقد كان يعلم أن الذي أوحى إليه ب‪$$‬ذلك األم‪$$‬ر إل‪$$‬ه عظيم خل‪$$‬ق ه‪$$‬ذا الك‪$$‬ون‬
‫جميعا‪ ،‬وقدراته ال حد لها‪ ،‬وعلمه ال حد ل‪$$‬ه‪ ..‬فل‪$$‬ذلك راح يلغي العق‪$$‬ل المح‪$$‬دود‪،‬‬
‫والذوق‪ $‬القاصر‪ ،‬ويس‪$$‬لم نفس‪$$‬ه تس‪$$‬ليما مطلق‪$$‬ا لص‪$$‬احب العلم المطل‪$$‬ق‪ ،‬والرحم‪$$‬ة‬
‫الواسعة‪.‬‬
‫وهذا هو اإلسالم‪ ..‬فاإلسالم‪ $‬هو أن نسلم وجوهنا‪ $‬إلى هللا‪ ..‬وال ندبر مع‪$$‬ه‪..‬‬
‫وال نقترح عليه‪ ..‬بل نعلم أن أمره ال يكون إال لخير أو مصلحة حتى لو جهلناه‪$$‬ا‬
‫نحن‪ ،‬ولم تتناسب مع مزاجنا‪ ،‬كما ال يتناسب الذبح مع مزاج أي أب في ال‪$$‬دنيا‪..‬‬
‫فالمزاج يتناقض مع التسليم‪.‬‬
‫وهذا ما فهمه إسماعيل علي‪$$‬ه الس‪$$‬الم أيض‪$$‬ا‪ ،‬وه‪$$‬و الش‪$$‬اب الي‪$$‬افع ال‪$$‬ذي لم‬
‫يتردد‪ $‬ولم يحتل على أمر هللا‪ ..‬بل بمجرد‪ $‬أن طرح علي‪$$‬ه أب‪$$‬وه القض‪$$‬ية راح ي‪$$‬رد‬
‫عليه من غير تفك‪$$‬ير وال تلك‪$$‬ؤ‪ ،‬وال طلب إقن‪$$‬اع‪ ،‬فيكفي أن يك‪$$‬ون هللا ه‪$$‬و اآلم‪$$‬ر‬
‫حتى يكون ذلك مبررا لقناعتنا‪ ،‬لقد ق‪$‬ال ل‪$‬ه بك‪$‬ل ه‪$‬دوء‪﴿ :‬يَ‪$$‬اأَبَ ِ‬
‫ت ا ْف َع‪$$‬لْ َم‪$$‬ا تُ ْ‪$‬ؤ َم ُ‪$‬ر‬
‫َست َِج ُدنِي‪ $‬إِ ْن َشا َء هَّللا ُ ِمنَ الصَّابِ ِرينَ ﴾ [الصافات‪]102 :‬‬
‫ولهذا عقب هللا تعالى على تصرف األب وابنه تجاه أم‪$$‬ره بكون‪$$‬ه إس‪$$‬الما‪،‬‬
‫فقال‪﴿ :‬فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِي ِن﴾ [الصافات‪]103 :‬‬
‫وهذا ال‪$‬ذي فعل‪$‬ه إب‪$‬راهيم علي‪$‬ه الس‪$‬الم‪ ،‬وال‪$‬ذي يس‪$‬تحيي من ذك‪$‬ره بعض‬
‫المتنورين‪ ،‬هو أقوى ابتالء واجهه إبراهيم‪ $‬عليه الس‪$$‬الم‪ ،‬ب‪$$‬ل ه‪$$‬و أق‪$$‬وى من تل‪$$‬ك‬
‫النار التي أوقدت له‪ ..‬ذلك أن النار فرضت عليه‪ ..‬أما ذبح ابن‪$$‬ه فلم يُف‪$$‬رض‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫تُرك له الخيار‪.‬‬
‫وقد نجح إبراهيم عليه السالم في االختبار‪ ..‬لكونه لم يعمل عقله القاص‪$$‬ر‪،‬‬
‫وال مزاجه المحدود‪ ،‬وال رأيه الضعيف‪ ،‬وال بيئته الجاهلة‪ ،‬وال أي شيء آخ‪$$‬ر‪..‬‬
‫أعمل فقط ما أمره به ربه حتى لو كان ذلك الوحي رؤيا‪ $‬منامية‪.‬‬
‫هذا المعنى هو الذي ينبغي أن نفهم من خالله اإلسالم‪ ..‬فاإلس‪$$‬الم ه‪$$‬و دين‬
‫هللا المعبر عن مرضاته‪ ..‬وهللا خالق ك‪$‬ل ش‪$$‬يء‪ ..‬وه‪$$‬و ﴿اَل ي ُْس‪$‬أ َ ُل َع َّما يَ ْف َع‪ُ $‬ل َوهُ ْم‬
‫يُسْأَلُونَ ﴾ [األنبياء‪ ..]23 :‬فلذلك كان األدب مع هللا هو التسليم المطل‪$$‬ق ل‪$$‬ه‪ ،‬مثلم‪$$‬ا‬
‫نسلم أنفسنا للطبيب الجراح ثقة منا فيه وفي علمه المحدود‪ $‬وقدراته القاصرة‪.‬‬
‫وحين يتحقق منا التسليم المطلق هلل تأتين‪$$‬ا ه‪$$‬دايا هللا‪ ،‬ون‪$$‬رى جمي‪$$‬ل لطف‪$‬ه‪،‬‬
‫مثلما حصل تماما مع إبراهيم عليه السالم‪ ،‬فبمجرد أن تله للجبين ناداه هللا‪ ﴿ :‬أَ ْن‬
‫ك نَجْ‪ِ $‬زي ْال ُمحْ ِس‪$‬نِينَ (‪ )105‬إِ َّن هَ‪َ $‬ذا‬ ‫ص‪َّ $‬د ْقتَ الرُّ ْؤيَ‪$$‬ا إِنَّا َك‪َ $‬ذلِ َ‬
‫يَاإِب َْرا ِهي ُ‪$‬م (‪ )104‬قَ ْد َ‬
‫‪$‬رينَ (‬ ‫َظ ٍيم (‪َ )107‬وت ََر ْكنَا‪َ $‬علَ ْي ِه فِي اآْل ِخ‪ِ $‬‬‫ْح ع ِ‬ ‫لَه َُو ْالبَاَل ُء ْال ُمبِينُ (‪َ )106‬وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ‬
‫‪َ )108‬ساَل ٌم َعلَى إِب َْرا ِهي َم (‪َ )109‬ك َذلِكَ نَجْ ِزي‪ْ $‬ال ُمحْ ِس ‪$‬نِينَ (‪ )110‬إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَ‪$$‬ا‬
‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [الصافات‪]111 - 104 :‬‬

‫‪77‬‬
‫ومن يبتغ غير اإلسالم دينا‪ ..‬فسيقبل منه !‬
‫من أخطر الطروحات التي يطرحها بعض التنويريين الجدد‪ ،‬وال‪$‬تي يمكن‬
‫أن تقضي على اإلسالم ـ كدين يحمل عقيدة وشريعة ـ قضاء نهائيا‪ ،‬ذلك التم‪$$‬ييع‬
‫لمفهومه‪ ،‬أو تط‪$$‬بيق معن‪$$‬اه الع‪$$‬ام على معن‪$$‬اه الخ‪$$‬اص‪ ،‬وذل‪$$‬ك مم‪$$‬ا يفق‪$$‬ده حقيقت‪$$‬ه‬
‫ولوازمه‪.‬‬
‫وهؤالء يفعل‪$$‬ون مثلم‪$$‬ا يفع‪$$‬ل ذل‪$$‬ك الكس‪$$‬ول ال‪$$‬ذي ت‪$$‬دعوه للتس‪$$‬بيح وال‪$$‬ذكر‪$‬‬
‫والسجود‪ ،‬فيقول لك‪ :‬أوليس كل شيء يسبح هللا وي‪$$‬ذكره ويس‪$$‬جد ل‪$$‬ه؟‪ ..‬ف‪$$‬إن قلت‬
‫له‪ :‬أجل‪ ..‬قال‪ :‬فأنا من تلك األشياء‪ ،‬وكل أعضائي وخالي‪$$‬اي وذراتي ت‪$$‬ذكر هللا‪،‬‬
‫وتسبح بحمده‪ ،‬وتسجد له‪.‬‬
‫وهكذا مفهوم اإلسالم‪ ..‬ف‪$$‬المفهوم‪ $‬الع‪$$‬ام لإلس‪$$‬الم يتن‪$$‬اول ك‪$$‬ل ش‪$$‬يء‪ ..‬فك‪$$‬ل‬
‫ش‪$$‬يء ط‪$$‬وع إلرادة هللا‪ ،‬ومل‪$$‬ك لمش‪$$‬يئته‪ ،‬من ش‪$$‬اء ذل‪$$‬ك‪ ،‬أو من ك‪$$‬ره‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال‬
‫ض طَوْ عً‪$$‬ا‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ين هَّللا ِ يَ ْب ُغ‪$$‬ونَ َولَ‪$$‬هُ أَ ْس‪$$‬لَ َم َم ْن فِي َّ‬
‫الس‪َ $$‬م َ‬ ‫تع‪$$‬الى‪ ﴿ :‬أَفَ َغيْ‪َ $$‬ر ِد ِ‬
‫َوكَرْ هًا‪َ $‬وإِلَ ْي ِه يُرْ َجعُونَ ﴾ [آل عمران‪]83 :‬‬
‫والذي يزعم أنه مسلم بهذا االعتبار مع التقصير في حق هللا‪ ،‬وفي‪ $‬اإليمان‬
‫بما يقتضيه اإلس‪$$‬الم الخ‪$$‬اص‪ ،‬ال يمكن أن نطل‪$‬ق علي‪$‬ه لقب [المس‪$‬لم]‪ ،‬ول‪$‬ذلك ال‬
‫‪$‬ر اإْل ِ ْس‪$‬اَل ِم ِدينً‪$$‬ا فَلَ ْن يُ ْقبَ‪َ $‬‬
‫‪$‬ل ِم ْن‪$‬هُ َوهُ‪َ $‬و فِي‬ ‫﴿و َم ْن يَ ْبتَ‪ِ $‬‬
‫‪$‬غ َغ ْي‪َ $‬‬ ‫يصدق‪ $‬في‪$$‬ه قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪َ :‬‬
‫َاس ِرينَ ﴾ [آل عمران‪]85 :‬‬ ‫اآْل ِخ َر ِة ِمنَ ْالخ ِ‬
‫ذلك أن هذا النوع من اإلسالم مرتبط بعقائد وشرائع تضبطه‪ ،‬وتحميه من‬
‫أن يصبح مجرد دعاوى ال دليل يدل عليها‪ ..‬فإذا ما جاء أحد من الن‪$$‬اس إلى تل‪$$‬ك‬
‫الض‪$$‬وابط ال‪$$‬تي تحمي حمى اإلس‪$‬الم‪ ،‬ف‪$‬راح يتس‪$$‬اهل فيه‪$$‬ا أو يتالعب به‪$$‬ا؛ فإن‪$‬ه‬
‫ب‪$$‬ذلك لن يبقي من اإلس‪$$‬الم إال اس‪$$‬مه‪ ،‬أم‪$$‬ا حقيقت‪$‬ه‪ ،‬وال‪$$‬تي تش‪$$‬كلها المع‪$$‬اني ال‪$$‬تي‬
‫يتكون منها‪ ،‬فإنها تزول بزوالها‪$.‬‬
‫فهل يمكن أن يكون هناك إسالم من دون أن يك‪$$‬ون في‪$$‬ه ص‪$$‬الة وال ص‪$$‬يام‬
‫وال حج وال تالوة وال ذك‪$$‬ر؟‪ ..‬وه‪$$‬ل يمكن أن يك‪$$‬ون هن‪$$‬اك إس‪$$‬الم ال تح‪$$‬رم في‪$$‬ه‬
‫الخم‪$$‬ر وال الخ‪$$‬نزير وال القم‪$$‬ار وال الرب‪$$‬ا‪ ،‬وال الف‪$$‬واحش‪ ،‬وال ك‪$$‬ل م‪$$‬ا ورد في‬
‫الشريعة تحريمه؟‪ ..‬وهل يمكن أن يكون هناك إسالم لمن يعتقد في هللا ومالئكت‪$$‬ه‬
‫وكتبه ورسله واليوم اآلخر خالف ما ورد في القرآن الك‪$‬ريم من عقائ‪$‬د واض‪$‬حة‬
‫صريحة‪ ،‬تثبت الكفر لمن جحدها وعاندها بعد أن سمع بها؟‬
‫ه‪$$‬ذه أم‪$$‬ور واض‪$$‬حة ج‪$$‬دا‪ ،‬والنص‪$$‬وص المقدس‪$$‬ة كله‪$$‬ا من الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‬
‫والسنة المطهرة المتفق عليها عند المدارس اإلسالمية جميعا تدل عليها‪ ،‬لكن مع‬
‫ذلك يأتي من التنويريين من يشكك في ذلك كل‪$$‬ه‪ ،‬وي‪$$‬زعم أن‪$$‬ه يمكن للمس‪$$‬يحي أو‬

‫‪78‬‬
‫اليهودي‪ $‬أو البوذي أو على أي دين ش‪$$‬اء أن يحتف‪$$‬ظ بدين‪$$‬ه‪ ،‬وبش‪$$‬عائره وش‪$$‬رائعة‬
‫وعقائده حتى لو كانت مناقضة لإلسالم بشرط واحد‪ ،‬وهو أن ي‪$$‬ؤمن برس‪$$‬ول‪ $‬هللا‬
‫‪ ‬إيمانا علميا ذهنيا ال عالقة له بسلوك وال بعقائد‪.‬‬
‫ولست أدري ما الذي دعاه إلى هذا؟‪ ..‬وهل آلم‪$$‬ه أن ي‪$$‬دخل الن‪$$‬اس في دين‬
‫هللا أفواج‪$$‬ا‪ ،‬ح‪$$‬تى راح يق‪$$‬ول لهم‪ :‬ال داعي ألن تس‪$$‬لموا‪ ..‬ف‪$$‬أنتم‪ $‬مس‪$$‬لمون أص‪$$‬ال‪،‬‬
‫يكفي فقط أن يصدر منكم اعتراف ب‪$$‬أن محم‪$$‬د ‪ ‬ال يختل‪$$‬ف عن إرمي‪$$‬ا وإش‪$$‬عيا‬
‫وبوذا‪ $..‬وأن اإليمان به وح‪$$‬ده يكفي‪ ،‬كم‪$$‬ا أن اإليم‪$$‬ان بالمس‪$$‬يح وح‪$$‬ده يكفي‪ ..‬فال‬
‫حاجة ألن ترهقوا أنفسكم بالتكاليف الشرعية‪ ،‬التي هي خاص‪$$‬ة فق‪$$‬ط بتل‪$$‬ك األم‪$$‬ة‬
‫التي لم ترفع عنها األغالل التي رفعت عنكم‪.‬‬
‫وهذا الذي أقوله هو الذي راح ينشره ـ لألسف ـ من سمي رئيس‪$$‬ا لجمعي‪$$‬ة‬
‫لقاء الحضارات في النَّمسا‪ ،‬وهو عدنان إبراهيم‪ ،‬الذي قدم‪ $‬له‪$‬ذا الفك‪$‬ر التن‪$‬ويري‬
‫المش‪ِ $‬كلة ج‪ًّ $‬دا‪،‬‬
‫ْ‬ ‫الجديد والخطير‪ $‬بقوله‪( :‬ما انتهى إليه اجته‪$$‬ادي في ه‪$$‬ذه المس‪$$‬ألة‬
‫وطبع‪$$‬ا أع‪$$‬رف أن ه‪$$‬ذا االجته‪$$‬اد حقي‪$$‬ق أن أكف‪$$‬ر علي‪$$‬ه‪ ،‬وبس‪$$‬ببه من كث‪$$‬ير من‬
‫المسلمين الذين ينتظرون فرصة كهذه)‬
‫ولس‪$$‬ت أدري لم يحص‪$$‬ر مخ‪$$‬اطر المس‪$$‬ألة في شخص‪$$‬ه‪ ،‬وكون‪$$‬ه سيص‪$$‬ير‪$‬‬
‫محال للتفكير‪ ..‬لم ال ينظر ألولئك المسلمين الذين يعبدون هللا على حرف‪ ،‬وكيف‬
‫سيستقبلون مثل هذه الفتوى‪ ،‬والتي تتيح لهم أن يصبحوا مسيحيين أو يه‪$$‬ودا‪ ،‬في‬
‫نفس ال‪$$‬وقت ال‪$$‬ذي يح‪$$‬افظون في‪$$‬ه على مزاي‪$$‬ا اإلس‪$$‬الم‪ ،‬وامتيازات‪$$‬ه؛ فليس عليهم‬
‫سوى أن يعترفوا‪ $‬بأن محمدا رسول هللا‪ ..‬أما اتباعه؛ فليس ضروريا‪.‬‬
‫ولم ال ينظر كذلك إلى تلك االنحرافات‪ $‬ال‪$$‬تي مألت األدي‪$$‬ان؛ فأبع‪$$‬دتها‪ $‬عن‬
‫كل القيم العقدية والسلوكية‪ ،‬لتتحول إلى أدي‪$$‬ان بش‪$$‬رية محض‪$$‬ة‪ ..‬ثم ي‪$$‬أتي س‪$$‬عادة‬
‫األس‪$$‬تاذ ليض‪$$‬يف‪ $‬إليه‪$$‬ا ش‪$$‬يئا بس‪$$‬يطا‪ ،‬وه‪$$‬و االعتق‪$$‬اد بنب‪$$‬وة محم‪$$‬د ‪ ، ‬لتتح‪$$‬ول‬
‫مباشرة إلى دين هلل‪ ،‬وليس دينا من صنع البشر‪ ..‬وليس على أصحابها إن أرادوا‬
‫الهداية أن يتحولوا إلى اإلسالم؛ فهم مسلمون أصال‪.‬‬
‫واألمر األعجب من كل ذلك هو زعم‪$‬ه أن المس‪$$‬لمين ينتظ‪$$‬رون من‪$‬ه ه‪$$‬ذه‬
‫الفرصة ليكفروه‪ ،‬ولست أدري ما الذي ينفعهم تكفيرهم له‪ ..‬وهو الذي راح يميع‬
‫اسم اإلسالم أصال ليحول منه مجاال رحبا ال ضوابط تحكمه‪ ،‬وال شرائع يع‪$$‬رف‬
‫بها‪ ،‬وال عقائد ثابتة يمكن اعتقادها‪.‬‬
‫هو ال يعلم أنه بموقفه هذا ال تختلف عن ذلك الذي‪[ :‬يب‪$$‬ني قص‪$$‬را‪ ،‬ويه‪$$‬دم‪$‬‬
‫مصرا]؛ فهو يريد أن يرضي‪ $‬سائر األمم‪ ،‬وينسى‪ $‬أنه يحطم اإلس‪$$‬الم ب‪$$‬ذلك‪ ..‬ب‪$$‬ل‬
‫ينسى أنه يض‪$$‬ع الحجب بين األمم واإلس‪$$‬الم؟‪ $..‬ب‪$$‬ل يض‪$$‬ع الحجب بين المس‪$$‬لمين‬
‫واإلسالم؛ فالمس‪$‬لم‪ $‬ال‪$‬ذي ي‪$‬رى أن‪$‬ه يمكن أن يتحق‪$‬ق بإس‪$‬المه من غ‪$‬ير أن يل‪$‬تزم‬
‫بشرائعه‪ ،‬يكون قد ترك اإلسالم من حيث ال يشعر‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫لقد قال عدنان معبرا عن هذه الفكرة الخطيرة‪ ،‬والتي عبر عنها في مح‪$$‬ال‬
‫كثيرة‪ ،‬وراح يستعمل كل الوسائل للدعاية لها‪( :‬لكن باختصار‪ :‬الذي ب‪$$‬ان لي أن‬
‫الكتابي ـ يهوديا‪ $‬أو نصرانيا‪ $‬ـ ليس ملزما بأكثر من أن يق‪$$‬ر بنب‪$$‬وة محم‪$$‬د‪ ،‬يق‪$$‬ول‪:‬‬
‫نعم هذا نبي‪ .‬لكنه ليس ملزما بأن يتبعه‪ ،‬وأن يتدين بشرعه)‬
‫بناء على هذا كل‪$$‬ه‪ ،‬وجب ال‪$$‬رد على ه‪$$‬ذه الش‪$$‬بهة الخط‪$$‬يرة بك‪$$‬ل ص‪$$‬نوف‬
‫الرد‪ ،‬والتحذير‪ $‬منها؛ فهي تتدحرج كل حين كما تتدحرج كرة الثلج‪ ،‬خاصة وأن‬
‫الذي يتولى أمرها قوم مراهقون فكريا‪ ،‬يبحثون عن كل جدي‪$$‬د غ‪$$‬ريب‪ ،‬من دون‬
‫عرضه على األمة‪ ،‬أو على مصادرها‪ $‬المقدسة‪.‬‬
‫ويوشك ـ لو استمر الوضع على ما هو علي‪$$‬ه اآلن ـ أن ي‪$$‬أتي الي‪$$‬وم ال‪$$‬ذي‬
‫يدعى فيه غير المسلمين إلى البقاء على أديانهم‪ ،‬باعتبارها أفض‪$$‬ل عن‪$$‬د هللا لهم‪..‬‬
‫وما أسهل أن تُركب بعض النص‪$$‬وص‪ ،‬أو توض‪$$‬ع بعض المف‪$$‬اهيم والتص‪$$‬ورات‪$‬‬
‫والهلوسات‪ $‬لتحول من ذلك كله حقيقة ملموسة‪.‬‬
‫بناء على هذا سنذكر‪ $‬هنا ـ باختص‪$$‬ار‪ $‬ـ مج‪$$‬امع األدل‪$$‬ة على ه‪$$‬ذه الش‪$$‬بهة‪،‬‬
‫وهي األدلة الخمسة التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة‪.‬‬
‫‪ .2‬تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول هللا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع األمر باتباع الرسول‪  $‬مطلقا‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تع‪$‬ارض المع‪$‬اني ال‪$$‬تي فهموه‪$$‬ا بالنص‪$$‬وص الدال‪$‬ة على ض‪$$‬الل أه‪$$‬ل‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع األمة‪.‬‬
‫وسنتحدث عن كل واحد منها هنا‪ ،‬وقبل ذل‪$$‬ك نحب أن ننب‪$$‬ه إلى أن تمنين‪$$‬ا‬
‫لو كان ما يذكره عدنان إبراهيم مكتوبا‪ $‬في كتب أو مقاالت علمية‪ ،‬حتى نس‪$‬تطيع‬
‫توثيقه‪ ،‬وحتى نرى وجوه االستدالل التي يعتمدونها‪.‬‬
‫لكن هؤالء لألسف ليس لديهم الوقت الك‪$$‬افي للكتاب‪$$‬ة‪ ،‬وال البحث المرتب‪$$‬ط‬
‫بها‪ ،‬بل يدلون بتص‪$$‬ريحات‪ $‬فق‪$$‬ط‪ ،‬كتص‪$$‬ريحات‪ $‬الساس‪$$‬ة‪ ،‬وإال ف‪$$‬إن دع‪$$‬وى كون‪$$‬ه‬
‫اجتهد في المسألة اجتهادا لم يسبق إليه‪ ،‬أو يخاف على نفسه أن يكفر بسببه ك‪$$‬ان‬
‫يدعوه إلى وضع كتاب فيها‪ ،‬يجمع فيه األدلة‪ ،‬ويناقش فيه االحتماالت المختلفة‪،‬‬
‫ولكنه لم يفعل‪ ..‬ألن التصريح أيسر من الكتابة‪ ،‬واإلث‪$$‬ارة أهم من األن‪$$‬اة والبحث‬
‫العلمي الدقيق والموضوعي‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة‪:‬‬
‫فقد تعلق هؤالء كما تعلق المجس‪$$‬مة وغ‪$$‬يرهم بنص‪$$‬وص متش‪$$‬ابهة تحتم‪$$‬ل‬
‫مع‪$$‬اني متع‪$$‬دد‪ ،‬وراح‪$$‬وا يفرض‪$$‬ون عليه‪$$‬ا المع‪$$‬نى ال‪$$‬ذي يري‪$$‬دون‪ ،‬من دون أن‬
‫يحاولوا‪ $‬الجمع بين النصوص كما هي العادة المعمول بها عند التعارض‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫ومن خالل استقراء اس‪$$‬تداللتهم‪ $‬في ه‪$$‬ذا الج‪$$‬انب يمكن أن نج‪$$‬د موض‪$$‬عين‬
‫من القرآن الكريم‪ ،‬كانا محل شبهة لديهم‪:‬‬
‫أ ـ م‪$$‬ا ورد في الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم من النص‪$$‬وص الدال‪$$‬ة على ال‪$$‬دعوة إلقام‪$$‬ة‬
‫ب لَ ْستُ ْم َعلَى َش ‪ْ $‬ي ٍء َحتَّى تُقِي ُم‪$$‬وا‬ ‫التوراة واإلنجيل‪ ،‬كقوله تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ يَاأَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ُ‬
‫‪$‬ز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن َربِّ ُك ْم ﴾ [المائ‪$$‬دة‪ ،]68 :‬وال‪$$‬تي عل‪$$‬ق عليه‪$$‬ا‬ ‫التَّوْ َراةَ َواإْل ِ ْن ِجي َل َو َما أ ْن‪ِ $‬‬
‫عدنان إبراهيم بقوله‪( :‬ال تقل‪ :‬لي القرآن‪ .‬هللا قال‪﴿ :‬ما أنزل إليكم﴾ انتبه)‬
‫وقد غفل ه‪$$‬ذا األس‪$$‬تاذ وغ‪$$‬يره ممن اتبع‪$$‬ه فيه‪$$‬ا أو قل‪$$‬ده عن أن تل‪$$‬ك اآلي‪$$‬ة‬
‫الكريمة قد عقبت مباشرة بما يزيل الفهم السيء ال‪$$‬ذي ق‪$$‬د يفهم منه‪$$‬ا؛ فاهلل تع‪$$‬الى‬
‫عقب ذلك بقوله‪َ ﴿ :‬ولَيَ ِزيد ََّن َكثِيرًا ِم ْنهُ ْم َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي‪$$‬كَ ِم ْن َربِّكَ طُ ْغيَانً‪$$‬ا َو ُك ْف‪$‬رًا فَاَل‬
‫س َعلَى ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [المائدة‪ ،]68 :‬حيث اعتبرهم كافرين إلعراضهم عما‬ ‫تَأْ َ‬
‫أنزل من القرآن الكريم‪.‬‬
‫وب‪$$‬ذلك ف‪$$‬إن ال‪$$‬ذي يقيم الت‪$$‬وراة واإلنجي‪$$‬ل مض‪$$‬طر معهم‪$$‬ا إلقام‪$$‬ة الق‪$$‬رآن‬
‫ْض ْال ِكتَ‪$$‬ا ِ‬
‫ب‬ ‫الكريم‪ ،‬حتى ال يكون من ال‪$$‬ذين ق‪$$‬ال هللا تع‪$$‬الى فيهم‪﴿ :‬أَفَتُ ْؤ ِمنُ‪$$‬ونَ بِبَع ِ‬
‫ي فِي ْال َحيَ‪$$‬ا ِة ال‪ُّ $‬د ْنيَا َويَ‪$$‬وْ َ‪$‬م‬ ‫‪$‬ز ٌ‬ ‫ْض فَ َما َج َزا ُء َم ْن يَ ْف َع ُل َذلِ‪$$‬كَ ِم ْن ُك ْم إِاَّل ِخ‪ْ $‬‬ ‫َوتَ ْكفُرُونَ بِبَع ٍ‬
‫ب﴾ [البقرة‪]85 :‬‬ ‫ْالقِيَا َم ِة يُ َر ُّدونَ إِلَى أَ َش ِّد ْال َع َذا ِ‬
‫ف‪$$‬إذا فعل‪$$‬وا ذل‪$$‬ك‪ ،‬وأق‪$$‬اموا‪ $‬الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم نتيج‪$$‬ة إيم‪$$‬انهم ب‪$$‬ه مث‪$$‬ل إيم‪$$‬انهم‬
‫بكتبهم‪ ،‬ونتيجة إيمانهم برسول‪ $‬هللا ‪ ، ‬ذلك أنه ال يمكن اإليمان برسول هللا ‪‬‬
‫دون اإليمان بما أنزل علي‪$$‬ه‪ ..‬حينه‪$$‬ا يص‪$$‬بح اإليم‪$$‬ان المج‪$$‬رد عن االتب‪$$‬اع لغ‪$$‬وا‪،‬‬
‫وهو ما ينقض أصل األطروحة التي طرحوها‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فقد أخبر الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم في مواض‪$$‬ع كث‪$$‬يرة عن ن‪$$‬وع‬
‫اإلقامة التي طلبها منهم‪ ،‬ومنها ما ورد في الكتاب المقدس من البشارات به ‪،‬‬
‫ووجوب‪ $‬اتباعه‪ ،‬وهي كثيرة جدا‪ ،‬وقد‪ $‬أشار إليها القرآن الكريم في مواضع منه‪،‬‬
‫ي الَّ ِذي يَ ِجدُونَ‪$‬هُ َم ْكتُوبً‪$‬ا‪ِ $‬ع ْن‪َ $‬دهُ ْم‬ ‫ي اأْل ُ ِّم َّ‬ ‫كقوله تعالى‪ ﴿ :‬الَّ ِذينَ يَتَّبِعُ‪$‬ونَ الر ُ‬
‫َّس‪$‬و َ‪$‬ل النَّبِ َّ‬
‫ت‬‫ُوف َويَ ْنهَاهُْ‪$‬م َع ِن ْال ُم ْن َك ِر َوي ُِح‪ $‬لُّ لَهُ ُم الطَّيِّبَ‪$$‬ا ِ‬ ‫فِي التَّوْ َرا ِة َواإْل ِ ْن ِجي ِل يَأْ ُم ُرهُ ْم بِ ْال َم ْعر ِ‬
‫ص‪َ $‬رهُ ْم َواأْل َ ْغاَل َل الَّتِي َك‪$$‬ان ْ‬
‫َت َعلَ ْي ِه ْم فَالَّ ِذينَ‬ ‫ض‪ُ $‬ع َع ْنهُ ْم إِ ْ‬‫ث َويَ َ‬ ‫َويُ َح ِّر ُ‪$‬م َعلَ ْي ِه ُم ْال َخبَائِ َ‬
‫ك هُ ُم ْال ُم ْفلِ ُح‪$$‬ونَ ﴾‬ ‫ور الَّ ِذي أُ ْن ِز َل َم َع‪ $‬هُ أُولَئِ ‪َ $‬‬ ‫صرُوهُ َواتَّبَعُوا‪ $‬النُّ َ‬ ‫آ َمنُوا بِ ِه َو َع َّزرُوهُ َونَ َ‬
‫[األعراف‪]157 :‬‬
‫بل أخبر أنه قد ورد في الكتاب المقدس من التفاصيل المرتبطة ب‪$$‬ه ‪ ‬م‪$$‬ا‬
‫‪$‬اب‬ ‫يجعلهم موق‪$$‬نين ب‪$$‬ه‪ ،‬غ‪$$‬ير ش‪$$‬اكين في‪$$‬ه‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪﴿ :‬الَّ ِذينَ آتَ ْينَ‪$$‬اهُ ُم ْال ِكتَ‪َ $‬‬
‫ق َوهُ ْم يَ ْعلَ ُم‪$$‬ونَ ﴾‬ ‫ْرفُ‪$$‬ونَ أَ ْبنَ‪$$‬ا َءهُ ْم َوإِ َّن فَ ِريقً‪$$‬ا ِم ْنهُ ْم لَيَ ْكتُ ُم‪$$‬ونَ ْال َح‪َّ $‬‬‫ْرفُونَ‪$‬هُ َك َم‪$$‬ا يَع ِ‬ ‫يَع ِ‬
‫[البقرة‪]146 :‬‬
‫ومنه‪$‬ا م‪$$‬ا ورد فيه‪$$‬ا من الوص‪$‬ايا‪ $‬األخالقي‪$‬ة كالوص‪$‬ايا العش‪$$‬ر‪ ،‬ونحوه‪$$‬ا‪،‬‬
‫والتي وردت جميعا في القرآن الكريم ال‪$$‬ذي ه‪$$‬و المهيمن على الكتب‪ ،‬والح‪$$‬اوي‪$‬‬

‫‪81‬‬
‫لكل ما فيها من قيم نبيلة‪ ،‬ومعارف‪ $‬سامية‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذا‪ ،‬فقد أخبر القرآن الكريم أن هناك تحريفات حص‪$$‬لت في‬
‫هذه الكتب‪ ،‬وأن أهل الكتاب كانوا يش‪$$‬ترون بتحريفه‪$‬ا‪ $‬ثمن‪$$‬ا قليال‪ ،‬فه‪$$‬ل يعق‪$$‬ل أن‬
‫َط َم ُع‪$$‬ونَ أَ ْن‬ ‫يأمر هللا تع‪$$‬الى أه‪$$‬ل الكت‪$$‬اب ب‪$$‬أن يقيم‪$$‬وا م‪$$‬ا ح‪$$‬رف من كت‪$$‬ابهم‪﴿ :‬أَفَت ْ‬
‫ق ِم ْنهُ ْم يَ ْس َمعُونَ كَاَل َم هَّللا ِ ثُ َّم ي َُح ِّرفُونَهُ ِم ْن بَ ْع‪ِ $‬د َم‪$$‬ا َعقَلُ‪$$‬وهُ‬ ‫ي ُْؤ ِمنُوا‪ $‬لَ ُك ْم َوقَ ْ‪$‬د َكانَ فَ ِري ٌ‪$‬‬
‫َوهُ ْم يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [البقرة‪]75 :‬‬
‫فإذا كان ذلك حقيقة مقررة‪ ،‬فكي‪$$‬ف نج‪$$‬يز ألح‪$$‬د من أه‪$$‬ل الكت‪$$‬اب أن يظ‪$$‬ل‬
‫على دينه‪ ،‬بل يعتق‪$$‬د بم‪$$‬ا ورد في‪$$‬ه من تجس‪$$‬يمات وخراف‪$$‬ات‪ $‬وأباطي‪$$‬ل‪ ..‬ونعت‪$$‬بره‬
‫مسلما بسبب ذلك‪.‬‬
‫ال يقول ذلك إال من ال يعرف الكتاب المقدس‪ ،‬وما يحتوي عليه من أنواع‬
‫الضاللة واالنحراف والدجل‪ ،‬والتي كانت سببا في ظهور اإللحاد وغ‪$$‬يره‪ ..‬فه‪$$‬ل‬
‫يمكن أن نعتبر هذه المصادر بع‪$$‬د ذل‪$$‬ك‪ ،‬ثم نطلب من أه‪$$‬ل الكت‪$$‬اب إقامته‪$$‬ا‪ ،‬وأن‬
‫يضيفوا إليها فقط االعتراف بكون محمد ‪ ‬مجرد رسول ال يجب اتباعه؟‬
‫والخالصة ال‪$$‬تي ننتهي إليه‪$$‬ا من مفه‪$$‬وم اآلي‪$$‬ة هي أن ه‪$$‬ذه اآلي‪$$‬ة الكريم‪$$‬ة‬
‫تدعو أهل الكت‪$$‬اب للع‪$$‬ودة لكت‪$$‬ابهم المق‪$$‬دس ليتمثل‪$$‬وا القيم النبيل‪$$‬ة الموج‪$$‬ودة في‪$$‬ه‪،‬‬
‫ويتمثل‪$$‬وا‪ $‬م‪$$‬ا ورد في‪$$‬ه من أوام‪$$‬ر باتب‪$$‬اع الرس‪$$‬ول‪ $‬الخ‪$$‬اتم ال‪$$‬ذي تك‪$$‬اد الكث‪$$‬ير من‬
‫األسفار تصرح به‪ ..‬وهي ال تع‪$$‬ني ب‪$$‬ذلك اكتف‪$$‬اءهم بم‪$$‬ا فيه‪$$‬ا عن اتب‪$$‬اع الرس‪$$‬ول‬
‫‪.‬‬
‫بل إن مثل ذلك مثل من يخ‪$$‬اطب سياس‪$$‬يا ي‪$$‬راه ق‪$$‬د انح‪$$‬رف عن مش‪$$‬روعه‬
‫السياسي‪ $‬الذي طرحه‪ ،‬بالعودة إلى مشروعه والعمل بما فيه‪ ،‬مم‪$$‬ا ك‪$$‬ان ق‪$$‬د وع‪$$‬د‬
‫به‪ ،‬وذلك ال يعني أن مشروعه معصوم‪ ،‬أو أنه كاف‪ ،‬وإنما هو ن‪$$‬وع من الت‪$$‬نزل‬
‫في مخاطبة اآلخر‪.‬‬
‫وهو منهج قرآني في الحوار‪ ،‬فقد قال تعالى في مخاطبة المش‪$$‬ركين‪﴿ :‬قُ‪$$‬لْ‬
‫اَل تُسْأَلُونَ َع َّما أَجْ َر ْمنَا َواَل نُسْأ َ ُل َع َّما تَ ْع َملُونَ ﴾ [سبأ‪ ،]25 :‬فهل يمكن االس‪$$‬تدالل‬
‫بهذه اآلية الكريمة على أن المسلمين كانوا مجرمين‪.‬‬
‫ب ـ م‪$$‬ا ورد في الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم من النص‪$$‬وص الدال‪$$‬ة على نج‪$$‬اة غ‪$$‬ير‬
‫ارى‪َ $‬والصَّابِئِينَ َم ْن‬ ‫ص َ‬ ‫المسلمين‪ ،‬كقوله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوالَّ ِذينَ هَادُوا َوالنَّ َ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل‬ ‫صالِحًا فَلَهُ ْم أَجْ ُرهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َواَل َخوْ ٌ‬
‫آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َو َع ِم َل َ‬
‫الص‪$‬ابِئُونَ‬ ‫هُ ْم يَحْ زَ نُ‪$$‬ونَ ﴾ [البق‪$$‬رة‪ ،]62 :‬وقول‪$$‬ه‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ‪$$‬وا َوالَّ ِذينَ هَ‪$$‬ادُوا َو َّ‬
‫ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم‬ ‫ص‪$‬الِحًا فَاَل خَ‪$$‬وْ ٌ‪$‬‬ ‫‪$‬ل َ‬ ‫ص‪$‬ا َرى َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ‪$$‬وْ ِ‪$‬م اآْل ِخ‪ِ $‬‬
‫‪$‬ر َو َع ِم‪َ $‬‬ ‫َوالنَّ َ‬
‫يَحْ َزنُونَ ﴾ [المائدة‪]69 :‬‬
‫فهذه اآلي‪$$‬ات الكريم‪$$‬ة ال يمكن أن تفهم إال في ض‪$$‬وء النص‪$$‬وص األخ‪$$‬رى‬
‫الكثيرة الدالة على كفر من أشرك باهلل من اليهود والنصارى‪ $‬كقوله تعالى‪ ﴿ :‬لَقَ‪ْ $$‬د‬

‫‪82‬‬
‫‪$‬ر‬‫َكفَ َر الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ هُ َو ْال َم ِسي ُح ابْنُ َمرْ يَ َم ﴾ [المائ‪$$‬دة‪ ،]17 :‬وقول‪$$‬ه‪ ﴿ :‬لَقَ‪ْ $‬د َكفَ‪َ $‬‬
‫ال ْال َم ِس‪$‬ي ُح يَ‪$$‬ابَنِي إِ ْس‪َ $‬رائِي َل ا ْعبُ‪$‬دُوا هَّللا َ‬ ‫الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ هُ َو ْال َم ِسي ُح ابْنُ َمرْ يَ َم َوقَ َ‬
‫ْ‬
‫َربِّي َو َربَّ ُك ْ‪$‬م إِنَّهُ َم ْن ي ُْش‪ِ $$$‬ر ْك بِاهَّلل ِ فَقَ‪ْ $$$‬د َح‪َّ $$$‬ر َم هَّللا ُ َعلَيْ‪ِ $$$‬ه ْال َجنَّةَ َو َم‪$$$‬أ َواهُ النَّا ُر َو َم‪$$$‬ا‬
‫ث‬ ‫ار ﴾ [المائدة‪ ،]72 :‬وقوله‪ ﴿ :‬لَقَ ْد َكفَ ‪َ $‬ر الَّ ِذينَ قَ‪$$‬الُوا‪ $‬إِ َّن هَّللا َ ثَ‪$$‬الِ ُ‬ ‫ص ٍ‬ ‫لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن أَ ْن َ‬
‫اح‪ٌ $‬د َوإِ ْن لَ ْم يَ ْنتَهُ‪$$‬وا َع َّما يَقُولُ‪$$‬ونَ لَيَ َم َّس‪َّ $‬ن الَّ ِذينَ َكفَ‪$‬رُوا‬ ‫ثَاَل ثَ ٍة َو َما ِم ْن إِلَ‪ٍ $‬ه إِاَّل إِلَ‪$‬هٌ َو ِ‬
‫ِم ْنهُ ْم عَ‪َ $‬ذابٌ أَلِي ٌم﴾ [المائ‪$$‬دة‪ ،]73 :‬وغيره‪$$‬ا من اآلي‪$$‬ات الكريم‪$‬ة ال‪$‬تي تنص على‬
‫كفر من أشرك باهلل تعالى‪ ،‬أو لم يتبع الرسول ‪ ‬أو كذبه‪ ،‬كما سنرى في الدليل‬
‫الثالث‪.‬‬
‫واإليم‪$$‬ان بجمي‪$$‬ع اآلي‪$$‬ات ي‪$$‬دعونا إلى التس‪$$‬اؤل عن الفهم الص‪$$‬حيح لتل‪$$‬ك‬
‫اآليات التي يوردونها‪ ،‬وهو بسيط جدا لمن يعرف‪ $‬لغة الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ ..‬ف‪$$‬القرآن‬
‫الك‪$$‬ريم ال يتح‪$$‬دث عمن رأوا رس‪$$‬ول هللا ‪ ‬وس‪$$‬معوا ب‪$$‬ه‪ ،‬فأولئ‪$$‬ك يجب عليهم‬
‫اإليمان به واتباع‪$$‬ه‪ ،‬وإنم‪$$‬ا يتح‪$$‬دث عمن لم ي‪$$‬روه‪ ،‬ولم يس‪$$‬معوا‪ $‬ب‪$$‬ه إم‪$$‬ا ألس‪$$‬باب‬
‫زمانية أو مكانية‪.‬‬
‫أما الزمانية؛ فلكونهم في أزمنة سبقت اإلس‪$$‬الم‪ ،‬ولم يعرف‪$$‬وا‪ $‬دين‪$$‬ا إال تل‪$$‬ك‬
‫الديانات‪ ،‬فهم غير مكلفين إال بها‪ ،‬وأما المكانية؛ فهو كونهم في أقصى األرض‪،‬‬
‫ولم يتهيأ لهم أن يسمعوا باإلسالم‪ ،‬فهم غير مؤاخذين بسبب ذلك‪.‬‬
‫ومما يدل على هذا األسلوب القرآني في التعبير قوله تعالى ـ عند الح‪$‬ديث‬
‫ق َوبِ ِه يَ ْع ِدلُونَ ﴾ [األعراف‪:‬‬ ‫عن بني إسرائيل ـ‪َ ﴿ :‬و ِم ْن قَوْ ِم ُمو َسى‪ $‬أُ َّمةٌ يَ ْه ُدونَ بِ ْال َح ِّ‬
‫‪ ،]159‬فهو ال يقصد وجودهم في كل األزمنة‪ ،‬وإنما يقصد وجودهم‪ $‬في األزمنة‬
‫السابقة قبل رس‪$$‬الة رس‪$$‬ول هللا ‪ ،‬ألن‪$$‬ه بع‪$$‬د إرس‪$$‬ال هللا ل‪$$‬ه ص‪$$‬ار على الجمي‪$$‬ع‬
‫وجوب اتباعه كما سنرى‪$.‬‬
‫وإن شاء هؤالء التنويريون أن يجادلونا؛ فيذكروا أن تلك اآلي‪$$‬ات الكريم‪$$‬ة‬
‫ذك‪$$$‬رت نج‪$$$‬اة غ‪$$$‬ير المس‪$$$‬لمين ممن عاص‪$$$‬روا اإلس‪$$$‬الم ولم يتبع‪$$$‬وه‪ ،‬حينه‪$$$‬ا‬
‫سيعترضون على آيات كثيرة جدا في القرآن الكريم‪ ،‬وال‪$$‬تي تنص على كف‪$$‬ر من‬
‫لم يتبع رسول هللا ‪ ‬ولم يؤمن بما جاء به‪.‬‬
‫بل حينها تعتبر دع‪$$‬وة رس‪$$‬ول هللا ‪ ‬لليه‪$$‬ود والنص‪$$‬ارى‪ $‬لغ‪$$‬وا‪ ،‬وإرس‪$$‬اله‬
‫الكتب لملوك النصارى‪ $‬وتحذيره لهم مجرد تصرف ال معنى له‪.‬‬
‫وكي‪$$‬ف يس‪$$‬تقيم ذل‪$$‬ك‪ ،‬وق‪$$‬د ورد في الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم في نص‪$$‬ارى‪ $‬نج‪$$‬ران‬
‫المسالمين الذي تعامل معهم رسول هللا ‪ ‬بكل سماحة ولطف‪ ،‬ولكن مع ذلك لم‬
‫يسكت عن كفرهم وجحودهم‪ $‬عن اتباعه‪ ،‬ب‪$$‬ل دع‪$$‬اهم إلى المباهل‪$$‬ة‪ ،‬فق‪$$‬ال‪ ﴿ :‬فَ َم ْن‬
‫ع أَ ْبنَا َءنَ‪$$‬ا َوأَ ْبنَ‪$$‬ا َء ُك ْم َونِ َس‪$‬ا َءنَا‬‫ك ِمنَ ْال ِع ْل ِم فَقُلْ تَ َع‪$$‬الَوْ ا نَ‪ْ $‬د ُ‬‫َحا َّجكَ فِي ِه ِم ْن بَ ْع ِد َما َجا َء َ‬
‫َونِ َسا َء ُك ْ‪$‬م َوأَ ْنفُ َسنَا َوأَ ْنفُ َس ُك ْم ثُ َّم نَ ْبتَ ِهلْ فَنَجْ َعلْ لَ ْعنَتَ هَّللا ِ َعلَى ْال َكا ِذبِينَ ﴾ [آل عمران‪:‬‬
‫‪]61‬‬

‫‪83‬‬
‫ت هَّللا ِ َوأَ ْنتُ ْم ت َْش‪$$‬هَ ُدونَ ﴾ [آل‬ ‫ب لِ َم تَ ْكفُ‪$$‬رُونَ بِآيَ‪$$‬ا ِ‬ ‫‪$$‬ل ْال ِكتَ‪$$‬ا ِ‬ ‫وق‪$$‬ال لهم‪ ﴿ :‬يَاأَ ْه َ‬
‫اط ِل َوتَ ْكتُ ُمونَ ْال َح َّ‬
‫ق‬ ‫ق بِ ْالبَ ِ‬ ‫ب لِ َم ت َْلبِسُونَ ْال َح َّ‬ ‫عمران‪ ،]70 :‬وقال لهم‪﴿ :‬يَاأَ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫َوأَ ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [آل عمران‪]71 :‬‬
‫وهك‪$$‬ذا ورد في الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ $‬اآلي‪$$‬ات الكث‪$$‬يرة ال‪$$‬تي تخ‪$$‬بر عن الموق‪$$‬ف‬
‫الحقيقي من أهل الكتاب‪ ،‬وهو الموقف‪ $‬الذي ي‪$$‬بين ض‪$$‬اللهم عن الح‪$$‬ق‪ ،‬وكف‪$$‬رهم‬
‫بسبب عدم اتباعهم له‪ ،‬وفي نفس الوقت يأمر بالسماحة معهم‪ ،‬وتأليف قلوبهم‪$.‬‬
‫وال تع‪$$‬ارض بين األم‪$$‬رين‪ ،‬ذل‪$$‬ك أن البعض يتص‪$$‬ور أن الق‪$$‬ول بكف‪$$‬رهم‬
‫وجحودهم للحق‪ ،‬يقتضي المعاملة الس‪$$‬يئة‪ ،‬وه‪$$‬ذا غ‪$$‬ير ص‪$$‬حيح‪ ،‬فرس‪$$‬ول هللا ‪‬‬
‫تعامل مع وفد نجران بكل سماحة وأدب‪ ،‬ولكن‪$$‬ه في نفس ال‪$$‬وقت لم ي‪$$‬داهنهم ولم‬
‫يج‪$$‬املهم‪ ،‬ولم ي‪$$‬نزل إلى رغب‪$$‬اتهم‪ ،‬ب‪$$‬ل بين لهم حقيق‪$$‬ة ض‪$$‬اللهم‪ ،‬ودع‪$$‬اهم إلى‬
‫المباهلة عند جحودهم‪ $‬لها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وهذا ما ينص عليه قوله تع‪$$‬الى‪ ﴿ :‬اَل يَنهَ‪$$‬اك ُم ُ َع ِن ال ِذينَ ل ْم يُق‪$$‬اتِلوك ْم فِي‬
‫‪$$$$‬ار ُك ْم أَ ْن تَبَ‪$$$$‬رُّ وهُ ْم َوتُ ْق ِس‪$$$$‬طُوا إِلَ ْي ِه ْم إِ َّن هَّللا َ ي ُِحبُّ‬
‫ال‪$$$$‬دِّي ِن َولَ ْم ي ُْخ ِرجُ‪$$$$‬و ُك ْم ِم ْن ِديَ ِ‬
‫ْال ُم ْق ِس ِطينَ ﴾ [الممتحنة‪]8 :‬‬
‫‪ 2‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول هللا ‪:‬‬
‫ذلك أن أول مقتضيات قولهم بعدم شرطية اتباع رسول هللا ‪ ،‬واالكتفاء‬
‫بمجرد اإلقرار‪ $‬بكونه رس‪$$‬وال من هللا تع‪$$‬الى‪ ،‬دون ال‪$$‬تزام م‪$$‬ا ج‪$$‬اء ب‪$$‬ه من عقائ‪$$‬د‬
‫وشرائع‪ ،‬هو عدم عالمية رسالة رسول هللا ‪.‬‬
‫ذلك أن أول مستلزمات العالمية وجوب االتباع الكامل لما جاء ب‪$‬ه رس‪$‬ول‬
‫هللا ‪ ‬من لدن جميع األمم‪ ،‬كما ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه‪( :‬وال‪$$‬ذي‬
‫نفسي بيده‪ ،‬ال يس‪$$‬مع بي رج‪ٌ $‬ل من ه‪$$‬ذه األم‪$$‬ة‪ ،‬وال يه‪$$‬ودي‪ $‬وال نص‪$$‬راني‪ ،‬ثم لم‬
‫يؤمن بي‪ ،‬إال كان من أهل النار)(‪)1‬‬
‫وفي حديث آخر‪ ،‬ق‪$‬ال ‪( :‬أعطيت خمس‪$‬ا لم يعطهن أح‪$‬د قبلي‪[ ..‬وذك‪$‬ر‬
‫منها]‪ :‬وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة‪ ،‬وبعثت إلى الناس عامة)(‪)2‬‬
‫بل هذا الذي دل عليه القرآن الكريم في مواضع كث‪$$‬يرة‪ ،‬فاهلل تع‪$$‬الى أخ‪$$‬بر‬
‫أن رسالة رس‪$$‬ول هللا ‪ ‬إلى كاف‪$$‬ة الن‪$$‬اس بخالف رس‪$$‬ائل س‪$$‬ائر الرس‪$$‬ل‪ ،‬وال‪$$‬تي‬
‫ذكر أنها ألقوامهم خاصة‪ ،‬ومن تلك النصوص قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪َ ﴿ :‬و َم‪$$‬ا أَرْ َس‪ْ $‬لنَاكَ إِاَّل‬
‫اس اَل يَ ْعلَ ُمون ﴾ [سبأ‪ ،]28 :‬وقوله‪ ﴿ :‬قُلْ‬ ‫اس بَ ِشيرًا َونَ ِذي ًرا‪َ $‬ولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬‫َكافَّةً لِلنَّ ِ‬
‫ض ال إِلَ‪$$‬هَ‬ ‫َ‬
‫ت َواأْل رْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ك ال َّس َم َ‬ ‫يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي َرسُو ُل هَّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم َج ِميعا ً الَّ ِذي لَهُ ُمل ُ‬
‫ْ‬
‫يت فَ‪$$‬آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس‪$‬ولِ ِه النَّبِ ِّي اأْل ُ ِّم ِّي الَّ ِذي يُ‪$ْ $‬ؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َو َكلِ َماتِ‪ِ $‬ه‬ ‫إِاَّل هُ‪َ $‬و يُحْ يِي َويُ ِم ُ‬
‫‪$‬اركَ الَّ ِذي نَ‪َّ $‬ز َل ْالفُرْ قَ‪$$‬انَ‬ ‫َواتَّبِ ُع‪$$‬وهُ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَ‪ُ $‬دونَ ﴾ (ألع‪$$‬راف‪ ،)158:‬وقول‪$$‬ه‪ ﴿ :‬تَبَ‪َ $‬‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم‪ :‬ج ‪ ،١‬ص ‪ ،134‬ح ‪.240‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ‪ 369 / 1‬و ‪ ، 370‬ومسلم رقم (‪)521‬‬

‫‪84‬‬
‫‪$‬رى‬ ‫َعلَى َع ْب ‪ِ $‬د ِه لِيَ ُك‪$$‬ونَ لِ ْل َع‪$$‬الَ ِمينَ نَ ‪ِ $‬ذيراً﴾ (الفرق‪$$‬ان‪ ،)1:‬وقول‪$$‬ه‪ ﴿ :‬إِ ْن هُ‪َ $‬‬
‫‪$‬و إِاَّل ِذ ْك‪َ $‬‬
‫لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ (األنعام‪ ،)90 :‬وقوله‪َ ﴿ :‬و َما ه َُو إِاَّل ِذ ْك ٌر لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ (القلم‪ ،)52:‬وقوله‪:‬‬
‫﴿ َو َما أَرْ َس ْلنَاكَ إِاَّل َرحْ َمةً لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ [األنبياء‪]107:‬‬
‫وغيرها من اآليات الكريمة التي ال يفهم منها إال ك‪$$‬ون رس‪$$‬الة رس‪$$‬ول هللا‬
‫‪ ‬شاملة للعالمين جميعا‪ ..‬وكيف يتحقق ذلك إذا قلن‪$$‬ا بمقول‪$$‬ة أولئ‪$$‬ك التن‪$$‬ويريين‬
‫ال‪$$‬ذين ي‪$$‬ذكرون أن‪$$‬ه يمكن أن يحاف‪$$‬ظ ك‪$$‬ل ش‪$$‬خص على دين‪$$‬ه‪ ،‬وأن‪$$‬ه ليس ملزم‪$$‬ا‬
‫باالتباع الكامل لرسول هللا ‪ ،‬وأنه يكفيه أن يعترف‪ $‬به فقط؟‬
‫مع أنه لو عدنا للكتاب المقدس‪ ،‬فإننا‪ $‬نجد كل البشارات التي تبشر برسول‬
‫هللا ‪ ‬تخبر أن رسالته للعالمين‪ ،‬وأن على اليهود والنصارى وغ‪$$‬يرهم وج‪$$‬وب‬
‫اتباعه‪ ،‬ذلك أن كل الشرائع تنسخ بشريعته‪ ،‬كما ورد في [م‪$$‬تى ‪( :]18-5/17‬ال‬
‫تظنوا‪ $‬أني جئت ألنقض الناموس أو األنبياء‪ ،‬م‪$‬ا جئت ألنقض ب‪$‬ل ألكم‪$‬ل‪ ،‬ف‪$‬إني‬
‫الحق أقول لكم‪ :‬إلى أن تزول الس‪$$‬ماء واألرض ال ي‪$$‬زول ح‪$$‬رف واح‪$$‬د أو نقط‪$$‬ة‬
‫واحدة من الناموس حتى يكون الكل)‪ ،‬فهذا المبشر به ه‪$$‬و الك‪$$‬ل ال‪$$‬ذي ل‪$$‬ه الك‪$$‬ل‪،‬‬
‫وهو رسول هللا ‪.‬‬
‫في نفس الوقت الذي يقول فيه المسيح عليه السالم عن نفسه كم‪$$‬ا ج‪$$‬اء في‬
‫[متى ‪( :]24 / 15‬لم أرسل إال إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)؟‬
‫وهك‪$$‬ذا ورد في نب‪$$‬وة الن‪$$‬بي حزقي‪$$‬ال علي‪$$‬ه الس‪$$‬الم‪ ،‬كم‪$$‬ا في [حزقي‪$$‬ال‬
‫‪( :]21/27‬يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه)‬
‫ولهذا ج‪$‬اء اليه‪$‬ود إلى المدين‪$‬ة المن‪$‬ورة‪ ،‬ألنهم ك‪$‬انوا ي‪$‬ترقبون مجيئ‪$‬ه ‪‬‬
‫إليها بحسب ما تدل عليه كتبهم‪ ،‬والتي تأمرهم بوج‪$‬وب اتباع‪$‬ه‪ ،‬كم‪$‬ا ق‪$‬ال تع‪$‬الى‬
‫ق لِ َم‪$$‬ا َم َعهُ ْم َو َك‪$$‬انُوا‪ِ $‬م ْن‬ ‫مخبرا عن ذلك‪َ ﴿ :‬ولَ َّما َجا َءهُ ْم ِكتَ‪$$‬ابٌ ِم ْن ِع ْن‪ِ $‬د هَّللا ِ ُم َ‬
‫ص‪ِّ $‬د ٌ‬
‫قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َما ع ََرفُوا َكفَ ‪$‬رُوا بِ ‪ِ $‬ه فَلَ ْعنَ ‪$‬ةُ هَّللا ِ َعلَى‬
‫ْال َكافِ ِرينَ ﴾ (البقرة‪)89:‬‬
‫فهذه اآلية الكريمة تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء هذا الرسول‬
‫بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم‪ ،‬وقد نقل‬
‫لنا المؤرخون ـ باألسانيد‪ $‬الصحيحة ـ أقوالهم‪ $‬الدالة على ذلك‪ ..‬فقد كانوا يقولون‪:‬‬
‫إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم‪.‬‬
‫وقد نقل بعضهم شهادة عن‪$‬ه في ذل‪$$‬ك‪ ،‬فق‪$‬ال‪ :‬فين‪$‬ا وهللا‪ ،‬وفيهم‪ $‬ـ يع‪$$‬ني في‬
‫األنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم‪ $‬ـ نزلت هذه اآلية ـ يقصد االية السابقة ـ‬
‫كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلي‪$$‬ة‪ ،‬ونحن أه‪$$‬ل ش‪$$‬رك‪ ،‬وهم أه‪$$‬ل كت‪$$‬اب‪ ،‬فك‪$$‬انوا‪$‬‬
‫يقولون‪( :‬إن نبيًا من األنبياء يبعث اآلن نتبعه‪ ،‬ق‪$$‬د أظ‪$$‬ل زمان‪$$‬ه‪ ،‬نقتلكم مع‪$$‬ه قت‪$$‬ل‬
‫عاد وإرم)‪ ،‬فلما بعث هللا رسوله من قريش واتبعناه كفروا به‪ ..‬فذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫﴿ فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َما َع َرفُوا َكفَرُوا بِ ِه فَلَ ْعنَةُ هَّللا ِ َعلَى ْال َكافِ ِرينَ ﴾(النساء‪)155 :‬‬

‫‪85‬‬
‫وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم‪$‬‬
‫من اليه‪$$‬ود‪ ،‬ف‪$$‬ذكروا‪ $‬أن مع‪$$‬اذ بن جب‪$$‬ل‪ ،‬وبش‪$$‬ر بن ال‪$$‬براء بن َمعْ‪ $$‬رُور‪ ،‬ق‪$$‬اال‪:‬‬
‫(يامعشر يهود‪ ،‬اتق‪$‬وا هللا وأس‪$‬لموا‪ $،‬فق‪$‬د كنتم تس‪$‬تفتحون علين‪$‬ا بمحم‪$‬د ‪ ‬ونحن‬
‫أهل شرك‪ ،‬وتخبروننا بأنه مبعوث‪ ،‬وتصفُونه لنا بصفته)‪ ،‬فقال َس‪$‬الم بن ِم ْش‪$‬كم‬
‫أخو بني النضير‪( :‬ما جاءنا بشيء نعرفه‪ ،‬وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل هللا‬
‫ق لِ َم‪$$‬ا َم َعهُ ْم َو َك‪$$‬انُوا‪ِ $‬م ْن‬ ‫في ذلك من قولهم‪َ ﴿$:‬ولَ َّما َجا َءهُ ْم ِكتَابٌ ِم ْن ِع ْن ِد هَّللا ِ ُم َ‬
‫ص‪ِّ $‬د ٌ‬
‫قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َما ع ََرفُوا َكفَ ‪$‬رُوا بِ ‪ِ $‬ه فَلَ ْعنَ ‪$‬ةُ هَّللا ِ َعلَى‬
‫( )‬
‫ْال َكافِ ِرينَ ﴾(البقرة‪1 )89:‬‬
‫وبه‪$$‬ذا الوج‪$$‬ه أيض‪$$‬ا يفس‪$$‬ر ذل‪$$‬ك النص ال‪$$‬ذي فهم من‪$$‬ه التنويري‪$$‬ون خالف‬
‫مقصوده؛ فإقامة الكتاب في هذه الناحي‪$$‬ة ه‪$$‬و ل‪$$‬زوم اتب‪$$‬اع الرس‪$$‬ول الجدي‪$$‬د ال‪$$‬ذي‬
‫تنسخ برسالته جميع الشرائع‪.‬‬
‫وهذا ما فعله النصارى‪ $‬أيضا؛ فعندما‪ $‬جاء وفد نج‪$$‬ران طولب‪$$‬وا‪ $‬باإلس‪$$‬الم‪،‬‬
‫ولم يطالبوا‪ $‬ب‪$$‬االعتراف المج‪$$‬رد برس‪$$‬ول هللا ‪ ‬دون اتباع‪$$‬ه‪ ،‬وق‪$$‬د ن‪$$‬زلت آي‪$$‬ات‬
‫كثيرة في ذلك‪ ،‬ومنها آية المباهلة المعروفة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله‪ ،‬ف‪$$‬إن ك‪$$‬ل النص‪$$‬وص ال‪$$‬واردة في الكت‪$$‬اب المق‪$$‬دس‬
‫لدى اليهود والنصارى‪ ،‬تخبر أن كل أنبيائهم‪ $‬بما فيهم المسيح عليه السالم خاص‬
‫ببني إسرائيل‪ ،‬وهم شعب محدود العدد جدا‪ ،‬فكيف نج‪$$‬يز له‪$‬ؤالء ال‪$‬ذين يتبعون‪$$‬ه‬
‫في أص‪$$$‬قاع األرض‪ ،‬وهم ليس‪$$$‬وا من ب‪$$$‬ني إس‪$$$‬رائيل في نفس ال‪$$$‬وقت ال‪$$$‬ذي ال‬
‫نطالبهم‪ $‬فيه باتباع الرسول الذي أرسل للناس كافة‪.‬‬
‫فقد ورد في [متى‪( :]6 $:2:‬وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى‪$‬‬
‫بين رؤساء يهوذا‪ ،‬ألن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل)‬
‫بل حدث المسيح عليه السالم عن نفسه‪ ،‬فقال‪ ،‬كما في متى ( ‪(:)24 :15‬لم‬
‫أرسل إال إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)‬
‫وعندما جاءت‪$$‬ه الم‪$$‬رأة الكنعاني‪$$‬ة أع‪$$‬رض عنه‪$$‬ا‪ ،‬لكونه‪$‬ا‪ $‬ليس‪$$‬ت من الق‪$$‬وم‬
‫الذين كلف بهم‪ ،‬كما في [متى ‪ 23 $:15‬ـ ‪( :]27‬ثم غ‪$$‬ادر يس‪$$‬وع تل‪$$‬ك المنطق‪$$‬ة‪،‬‬
‫وذهب إلى نواحي صور‪ $‬وصيدا‪ ،‬فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي‪ ،‬قد تق‪$‬دمت‬
‫إليه صارخة‪( :‬ارحمني ياسيد‪ ،‬ياابن داود! ابن‪$$‬تي معذب‪$$‬ة ج‪$$‬دا‪ ،‬يس‪$$‬كنها ش‪$$‬يطان)‬
‫لكنه لم يجبها بكلمة‪ ،‬فجاء تالميذه يلحون عليه ق‪$$‬ائلين‪( :‬اقض له‪$$‬ا حاجته‪$$‬ا‪ .‬فهي‬
‫تص‪$$‬رخ في إثرن‪$$‬ا!)‪ ،‬فأج‪$$‬اب‪( :‬م‪$$‬ا أرس‪$$‬لت إال إلى الخ‪$$‬راف الض‪$$‬الة‪ ،‬إلى بيت‬
‫إسرائيل!)‪ ،‬ولكن الم‪$$‬رأة اق‪$$‬تربت‪ $‬إلي‪$$‬ه‪ ،‬وس‪$$‬جدت ل‪$$‬ه‪ ،‬وق‪$$‬الت‪( :‬أع‪$$‬ني ياس‪$$‬يد!)‪،‬‬
‫فأج‪$$‬اب‪( :‬ليس من الص‪$$‬واب أن يؤخ ‪$‬ذ‪ $‬خ‪$$‬بز الب‪$$‬نين ويط‪$$‬رح لج‪$$‬راء الكالب!)‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السيرة النبوية البن هشام (‪ )1/547‬وتفسير الطبري (‪.)2/233‬‬

‫‪86‬‬
‫فق‪$$‬الت‪( :‬ص‪$$‬حيح ياس‪$$‬يد؛ ولكن ج‪$$‬راء الكالب تأك‪$$‬ل من الفت‪$$‬ات ال‪$$‬ذي يس‪$$‬قط من‬
‫موائد أصحابها!)‬
‫وفي مقابل هذا نجد النصوص القرآنية باإلضافة إلى ما ورد من بش‪$$‬ارات‬
‫في الكتاب المقدس تنص على وج‪$$‬وب اتب‪$$‬اع رس‪$$‬ول هللا ‪ ،‬ب‪$$‬ل فيه‪$$‬ا م‪$$‬ا ينص‬
‫ق‬ ‫على وجوب اتباع األنبياء أنفسهم له‪ ،‬كما في قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أَخَ‪َ $‬ذ هَّللا ُ ِميثَ‪$$‬ا َ‬
‫ق لِ َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤ ِمنُ َّن بِ‪ِ $$‬ه‬
‫ص ِّد ٌ‬‫ب َو ِح ْك َم ٍة ثُ َّم َجا َء ُك ْم َرسُو ٌل ُم َ‬‫النَّبِيِّينَ لَ َما آتَ ْيتُ ُك ْم ِم ْن ِكتَا ٍ‬
‫اش ‪$‬هَدُوا َوأَنَ‪$$‬ا‬ ‫ال فَ ْ‬ ‫خَذتُْ‪$‬م َعلَى َذلِ ُك ْم إِصْ ِري قَالُوا‪ $‬أَ ْق َررْ نَا قَ َ‬ ‫ال أَأَ ْق َررْ تُ ْم َوأَ ْ‬
‫ص ُرنَّهُ قَ َ‬‫َولَتَ ْن ُ‬
‫َم َع ُك ْم ِمنَ ال َّشا ِه ِدينَ ﴾ [آل عمران‪]81 :‬‬
‫وفي الح‪$$‬ديث الص‪$$‬حيح المع‪$$‬روف‪ $:‬أن عم‪$$‬ر بن الخط‪$$‬اب أتى الن‪$$‬بي ‪‬‬
‫بكت‪$$$‬اب أص‪$$$‬ابه من بعض أه‪$$$‬ل الكتب‪ ،‬فق‪$$$‬رأه فغض‪$$$‬ب الن‪$$$‬بي ‪ ،‬ثم ق‪$$$‬ال‪:‬‬
‫(أمتهوكون فيها يا بن الخطاب‪ ،‬والذي‪ $‬نفسي بيده لقد جئتكم بها بيض‪$$‬اء نقي‪$$‬ة‪ ،‬ال‬
‫تسألوهم‪ $‬عن شيء فيخ‪$$‬بروكم بح‪$$‬ق فتك‪$$‬ذبوا‪ $‬ب‪$$‬ه أو بباط‪$$‬ل فتص‪$$‬دقوا‪ $‬ب‪$$‬ه‪ ،‬وال‪$$‬ذي‬
‫نفسي بيده لو أن موسى صلى هللا عليه وسلم‪ $‬كان حي‪$$‬ا م‪$$‬ا وس‪$$‬عه إال أن يتبع‪$$‬ني)‬
‫(‪)1‬‬
‫فكيف يطالب األنبياء عليهم السالم بوجوب اتباعه ‪ ،‬ثم ال ت‪$$‬ؤمر أممهم‬
‫بذلك؟‬
‫‪ 3‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع األمر باتباع الرسول ‪: ‬‬
‫فقد وردت النصوص المقدسة الكث‪$$‬يرة ت‪$$‬أمر باتب‪$$‬اع رس‪$$‬ول هللا ‪ ‬اتباع‪$$‬ا‬
‫مطلق‪$$‬ا‪ ،‬وتعت‪$$‬بر ذل‪$$‬ك االتب‪$$‬اع عالم‪$$‬ة على ص‪$$‬دق اإليم‪$$‬ان؛ فال قيم‪$$‬ة إليم‪$$‬ان ال‬
‫يتجاوز‪ $‬حدود الذهن‪ ،‬وكيف يمكن لعقل أن يقبل بأن شخصا م‪$$‬ا ه‪$$‬و رس‪$$‬ول رب‬
‫العالمين‪ ،‬وهو خاتم الرسل‪ ،‬وأن رسالته هي المهيمنة والناسخة لجمي‪$$‬ع الش‪$$‬رائع‬
‫واألدي‪$$‬ان‪ ،‬ثم بع‪$$‬د ذل‪$$‬ك يكتفي به‪$$‬ذه المعرف‪$$‬ة دون أن يك‪$$‬ون له‪$$‬ا أي مفاعي‪$$‬ل في‬
‫الواقع‪.‬‬
‫إن من يق‪$$‬ول ه‪$$‬ذا يش‪$$‬به ذل‪$$‬ك الم‪$$‬ريض ال‪$$‬ذي يكتفي بمعرف‪$$‬ة اس‪$$‬م طبيب‪$$‬ه‬
‫والشهادة له بكونه طبيبا‪ ،‬وطبيبا‪ $‬كبيرا‪ ،‬ومختصا‪ $‬في مجاله‪ ،‬ثم بعد ذل‪$$‬ك ال يأب‪$$‬ه‬
‫للدواء الذي يصفه له‪ ،‬وال يقر به‪ ،‬وال يذعن له‪ ..‬فهل يمكن اعتبار هذا المريض‬
‫صادقا‪ $‬فيما يزعمه؟‬
‫وهذا ليس خاصا برسول هللا ‪ ،‬بل ه‪$$‬و ع‪$$‬ام لك‪$$‬ل الرس‪$$‬ل‪ ،‬فك‪$$‬ل الرس‪$$‬ل‬
‫ول إِاَّل لِيُطَ‪$$‬ا َع بِ ‪$‬إِ ْذ ِن هَّللا ِ ﴾‬‫أطب‪$$‬اء‪ ،‬وله‪$$‬ذا ق‪$$‬ال هللا تع‪$$‬الى‪َ ﴿ :‬و َم‪$$‬ا أَرْ َس ‪ْ $‬لنَا ِم ْن َر ُس ‪ٍ $‬‬
‫[النساء‪]64 :‬‬
‫ولهذا نجد في القرآن الكريم ربط االتباع باإليمان‪ ،‬فأول عالمات اإليم‪$$‬ان‬
‫برسول‪ $‬هللا ‪ ‬هو ذلك الخضوع المطلق لكل ما ي‪$$‬أمر ب‪$$‬ه أو ي‪$$‬دعو ل‪$$‬ه؛ فكالم‪$$‬ه‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد (‪.)3/387‬‬

‫‪87‬‬
‫‪ ‬وح‪$$‬ده حج‪$$‬ة‪ ،‬وال يحت‪$$‬اج الم‪$$‬ؤمن بع‪$$‬ده أي دلي‪$$‬ل‪ ،‬وكي‪$$‬ف يحت‪$$‬اج إلى دلي‪$$‬ل‪،‬‬
‫ق‬ ‫﴿و َم‪$$‬ا يَ ْن ِط‪ُ $‬‬ ‫ورسول هللا ‪ ‬هو الناطق باسم الحقيقة المطلق‪$$‬ة‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪َ :‬‬
‫ي يُو َحى﴾ [النجم‪]4 ،3 :‬‬ ‫ع َِن ْالهَ َوى (‪ )3‬إِ ْن ه َُو إِاَّل َوحْ ٌ‬
‫‪$‬ؤ ِم ٍن َواَل‬
‫ومن اآليات الواردة في ه‪$$‬ذا المج‪$$‬ال قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪َ ﴿ :‬و َم‪$$‬ا َك‪$$‬انَ لِ ُم‪ْ $‬‬
‫ْص هَّللا َ‬ ‫ضى هَّللا ُ َو َرسُولُهُ أَ ْمرًا أَ ْن يَ ُكونَ لَهُ ُم ْال ِخيَ َرةُ ِم ْن أَ ْم ِر ِه ْم َو َم ْن يَع ِ‬ ‫ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ‬
‫ضاَل اًل ُمبِينًا﴾ [األحزاب‪]36 :‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫َو َرسُولَهُ فَقَ ْد َ‬
‫فهذه اآلية الكريم‪$$‬ة تخ‪$‬بر عن موق‪$‬ف‪ $‬المؤم‪$‬نين من ك‪$‬ل حكم يحكم ب‪$‬ه هللا‬
‫ورسوله‪ ،‬وهو اإلذعان المطلق الذي ال مجال فيه ألي تفكير أو تدبر أو اختيار‪$.‬‬
‫وك‪$$‬ل النص‪$$‬وص المقدس‪$$‬ة ال‪$$‬تي ت‪$$‬أمر بطاع‪$$‬ة هللا ورس‪$$‬وله ترب‪$$‬ط ذل‪$$‬ك‬
‫باإليمان‪ ،‬وهو عالمة على أن تلك الطاعة من مس‪$$‬تلزمات اإليم‪$$‬ان‪ ،‬ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪:‬‬
‫﴿ يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ ِطيعُوا هَّللا َ َو َرسُولَهُ َواَل ت ََولَّوْ ا َع ْنهُ َوأَ ْنتُ ْم ت َْس ‪َ $‬معُونَ ﴾ [األنف‪$$‬ال‪:‬‬
‫‪]20‬‬
‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بل إن هللا تع‪$‬الى رب‪$‬ط بين ع‪$‬دم الطاع‪$‬ة والكف‪$‬ر‪ ،‬فق‪$‬ال‪ ﴿ :‬ق‪$‬لْ أ ِطيعُ‪$‬وا َ‬
‫ُول فَإِ ْن تَ َولَّوْ ا فَإِ َّن هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [آل عمران‪]32 :‬‬ ‫َوال َّرس َ‬
‫َ‬
‫ُول َواحْ‪ $‬ذرُوا‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬
‫﴿وأ ِطيعُوا‪َ َ $‬وأ ِطيعُوا‪ $‬ال َّرس َ‬ ‫َ‬ ‫واعتبر عدم الطاعة توليا‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫فَ‪$$‬إِ ْن تَ‪َ $$‬ولَّ ْيتُ ْم فَ‪$$‬ا ْعلَ ُموا أَنَّ َم‪$$‬ا َعلَى َر ُس‪$$‬ولِنَا‪ $‬البَاَل غ ال ُمبِينُ ﴾ [المائ‪$$‬دة‪ ،]92 :‬وق‪$$‬ال‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫غ ْال ُمبِينُ ﴾‬ ‫‪$‬ولَّ ْيتُ ْم فَإِنَّ َم‪$$‬ا َعلَى َر ُس ‪$‬ولِنَا‪ْ $‬البَاَل ُ‬
‫ول فَ ‪$‬إِ ْن تَ‪َ $‬‬ ‫﴿ َوأَ ِطي ُع‪$$‬وا‪ $‬هَّللا َ َوأَ ِطي ُع‪$$‬وا الر ُ‬
‫َّس ‪$َ $‬‬
‫[التغابن‪]12 :‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫وحذر َمن يخالف أمره بالفتن‪$$‬ة والع‪$$‬ذاب‪ ،‬فق‪$$‬ال‪ ﴿ :‬فَليَحْ‪َ $‬ذ ِ‪$‬ر ال ِذينَ يُخَ‪$$‬الِفونَ‬
‫صيبَهُْ‪$‬م َع َذابٌ أَلِي ٌم ﴾ [النور‪]63 :‬‬ ‫صيبَهُْ‪$‬م فِ ْتنَةٌ أَوْ يُ ِ‬
‫ع َْن أَ ْم ِر ِه أَ ْن تُ ِ‬
‫واعتبر اتباعه المطلقة عالمة على محبة هللا وش‪$$‬رطا‪ $‬له‪$$‬ا؛ فق‪$$‬ال‪﴿ :‬قُ‪$$‬لْ إِ ْن‬
‫ُك ْنتُ ْم تُ ِحبُّونَ هَّللا َ فَ‪$$‬اتَّبِعُونِي‪ $‬يُحْ بِ ْب ُك ُم هَّللا ُ َويَ ْغفِ‪$$‬رْ لَ ُك ْم ُذنُ‪$$‬وبَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُ‪$$‬و ٌر َر ِحي ٌم﴾ [آل‬
‫عمران‪]31 :‬‬
‫وهكذا ورد في األحاديث الكثيرة الص‪$$‬حيحة الص‪$$‬ريحة المتف‪$$‬ق عليه‪$$‬ا بين‬
‫المدارس اإلسالمية جميع‪$$‬ا‪ ،‬ومنه‪$$‬ا قول‪$$‬ه ‪( :‬ك‪$$‬لُّ أم‪$$‬تي يَ‪ْ $‬دخلون الجن‪$$‬ة إالَّ من‬
‫دخ‪$$‬ل الجنَّة‪ ،‬ومن‬ ‫َ‬ ‫أبى)‪ ،‬قي‪$$‬ل‪ :‬و َمن ي‪$$‬أبى ي‪$$‬ا رس‪$$‬ول هللا؟! ق‪$$‬ال‪( :‬من أط‪$$‬اعني‬
‫عصاني فقد أبَى)(‪)1‬‬
‫فقد اعتبر طاعته شرطا‪ $‬لإليمان‪ ،‬وليس مجرد المعرفة الذهنية أو اإليم‪$$‬ان‬
‫العقلي الخالي من أي ارتباط‪ $‬أو تبعية أو تبعة عملية‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تعارض فهومهم مع النصوص الدالة على ضالل أهل الكتاب‪:‬‬
‫وهي كثيرة جدا‪ ،‬فقد ذكر القرآن الكريم ما فعله بنو إسرائيل في كتبهم من‬
‫تحريف‪ ،‬وما أضافوه من إضافات ما أنزل هللا بها من سلطان‪ ،‬سواء في العقائد‪،‬‬
‫‪ )(1‬البخاري‪،‬ح‪.6737‬‬

‫‪88‬‬
‫أو في األحكام‪ ،‬أو في القيم وغيرها؛ فكيف‪ $‬يمكن بعد ذل‪$$‬ك أن ن‪$$‬ذكر ب‪$$‬أن الق‪$$‬رآن‬
‫الك‪$$‬ريم نفس‪$$‬ه يج‪$$‬يز لهم أن يعتق‪$$‬دوا بم‪$$‬ا في كتبهم من ض‪$$‬اللة‪ ،‬ويمارس‪$$‬وا م‪$$‬ا‬
‫ابتدعوه من بدع‪ ،‬ويكتفوا‪ $‬من إسالمهم‪ $‬باالعتراف برس‪$$‬الة رس‪$$‬ول هللا ‪ ..‬ذل‪$$‬ك‬
‫االعتراف الخالي من أي مضمون عملي‪.‬‬
‫ال يمكننا هنا ذكر كل ما ورد في النصوص المقدسة للداللة على ذلك؛ فقد‬
‫ذكرنا بتفصيل في سلسلة [حقائق ورقائق]؛ فل‪$$‬ذلك نكتفي هن‪$$‬ا ببعض‪$$‬ها من ب‪$$‬اب‬
‫اإلشارة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫فمنها ما ورد فيه من تح‪$$‬ريفهم لكتبهم‪ ،‬كم‪$‬ا في قول‪$‬ه تع‪$‬الى‪ ﴿:‬ف َو ْي‪ٌ $‬ل لِل ِذينَ‬
‫َاب بِأ َ ْي ِدي ِه ْ‪$‬م ثُ َّم يَقُولُونَ هَ َذا ِم ْن ِع ْن ِد هَّللا ِ لِيَ ْشتَرُوا بِ ِه ثَ َمنا ً قَلِيالً فَ َويْ‪$ٌ $$‬ل لَهُ ْم‬
‫يَ ْكتُبُونَ ْال ِكت َ‬
‫ت أَ ْي‪ِ $‬دي ِه ْم َو َو ْي‪ٌ $‬ل لَهُ ْم ِم َّما يَ ْك ِس‪$‬بُونَ ﴾(البق‪$$‬رة‪ ،)79 :‬وقول‪$$‬ه‪ :‬لق‪$$‬د ورد في‪$$‬ه‪:‬‬ ‫ِم َّما َكتَبَ ْ‬
‫اض‪ِ $‬ع ِه‬ ‫اس‪$‬يَةً ي َُحرِّ فُ‪$$‬ونَ ْال َكلِ َم عَن َّم َو ِ‬ ‫ض ِهم ِّميثَاقَهُْ‪$‬م لَعنَّاهُ ْم َو َج َع ْلنَا‪ $‬قُلُ‪$$‬وبَهُ ْم قَ ِ‬ ‫﴿ فَبِ َما نَ ْق ِ‬
‫ُوا بِ ِه َوالَ تَ َزا ُل تَطَّلِ‪ُ $‬ع َعلَ َى خَآئِنَ‪ٍ $‬ة ِّم ْنهُ ْم إِالَّ قَلِيالً ِّم ْنهُ ُم فَ‪$$‬اعْفُ‬ ‫ُوا َحظًّا ِّم َّما ُذ ِّكر ْ‬ ‫َونَس ْ‪$‬‬
‫َع ْنهُ ْم َواصْ فَحْ إِ َّن هّللا َ يُ ِحبُّ ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ (المائدة‪)13 :‬‬
‫وما نص عليه القرآن الكريم هو نفسه ما نص عليه الكتاب المقدس‪ ،‬حيث‬
‫نجد األنبياء عليهم السالم الم‪$$‬ذكورين في‪$$‬ه‪ ،‬ينص‪$$‬ون على وق‪$$‬وع التحري‪$$‬ف‪ ،‬ففي‬
‫(إرميا‪ 31/ 23 :‬ـ ‪(:)32‬وأقاوم‪ $‬األنبياء الذين يس‪$$‬خرون ألس‪$$‬نتهم ق‪$$‬ائلين‪ :‬ال‪$$‬رب‬
‫يقول هذا‪ .‬ها أنا أقاوم‪ $‬المتنبئين بأحالم كاذبة ويقصونها‪ $‬مضلين شعبي بأك‪$$‬اذيبهم‬
‫واستخفافهم)‬
‫وفي المزامير‪ ،‬في (مزمور‪(:)5 $/56:‬اليوم كله يحرفون كالمي‪.‬عل ّي كل‬
‫افكارهم‪ $‬بالشر)‬
‫وفي (حزقيال‪(:)26 $/ 7:‬ستاتي مصيبة على مص‪$$‬يبة‪.‬ويك‪$$‬ون خ‪$$‬بر على‬
‫خ‪$$‬بر‪ ..‬فيطلب‪$$‬ون رؤي‪$$‬ا من الن‪$$‬بي‪ ..‬والش‪$$‬ريعة تب‪$$‬اد عن الك‪$$‬اهن والمش‪$$‬ورة عن‬
‫الشيوخ)‬
‫وفي (إشعياء‪(:)2-1/ 10:‬ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين‬
‫يسجلون جورا ليصدوا‪ $‬الض‪$$‬عفاء عن الحكم ويس‪$$‬لبوا ح‪$$‬ق بائس‪$$‬ي ش‪$$‬عبي لتك‪$$‬ون‬
‫االرامل غنيمتهم وينهبوا االيتام)؛ فإشعيا ـ في هذا النص ـ يتح‪$$‬دث عن المط‪$$‬امع‬
‫التي جرت القضاة والكتبة إلى التحريف‪ ..‬وه‪$$‬و يتح‪$‬دث عن بي‪$$‬ع كت‪$‬اب هللا بثمن‬
‫بخس‪ ،‬بل هو يصرح بذلك قطعا‪ $‬لكل تأويل‪ ،‬فيقول‪(:‬ويل للذين يتعمقون ليكتم‪$$‬وا‬
‫رأيهم عن الرب فتصير اعمالهم في الظلمة ويقولون من يبصرنا‪ $‬ومن يعرفنا‪ $.‬يا‬
‫لتح‪$$‬ريفكم‪ .‬ه‪$$‬ل يحس‪$$‬ب الجاب‪$$‬ل ك‪$$‬الطين ح‪$$‬تى يق‪$$‬ول المص‪$$‬نوع عن ص‪$$‬انعه لم‬
‫يصنعني‪ $.‬أو تقول الجبل‪$$‬ة عن جابله‪$$‬ا لم يفهم)(إش‪$$‬عياء‪ ،)16-15/ 29 :‬ويق‪$$‬ول‪:‬‬
‫(ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى انهم يجرون رأيا وليس م‪$$‬ني ويس‪$$‬كبون‬
‫سكيبا وليس بروحي‪ $‬ليزيدوا خطيئة على خطيئة) (إشعياء‪)1/ 30 :‬‬

‫‪89‬‬
‫وهكذا نجد القرآن الكريم يصف ما ذكروه في كتبهم من عقائد ال تتناس‪$$‬ب‬
‫ت أَ ْي‪ِ $‬دي ِه ْم‬
‫ت ْاليَهُ‪$$‬و ُد يَ‪ُ $‬د هَّللا ِ َم ْغلُولَ‪$‬ةٌ ُغلَّ ْ‬
‫مع جالل هللا وجماله‪ ،‬كقوله تع‪$$‬الى‪َ ﴿ :‬وقَ‪$$‬الَ ِ‬
‫َولُ ِعنُوا‪ $‬بِ َما قَالُوا ﴾ [المائدة‪]64 :‬‬
‫وما أشار إليه القرآن الكريم من هذه العقائد الفاسدة ال يزال يوجد م‪$$‬ا ي‪$$‬دل‬
‫عليها في الكتاب المقدس‪ ،‬فهل يمكن أن نقب‪$$‬ل ذل‪$$‬ك منهم؟‪ ..‬وه‪$$‬ل يمكن أن يس‪$$‬لم‬
‫شخص يتصور هللا بتل‪$$‬ك الص‪$$‬ورة البش‪$‬عة ال‪$$‬تي يرس‪$$‬مها الكت‪$$‬اب المق‪$$‬دس‪ ،‬ثم ال‬
‫يكتفى من إيمانه إال باالعتراف برسول هللا ‪‬؟‬
‫وه‪$$‬ل يط‪$$‬الب التنويري‪$$‬ون اليه‪$$‬ود‪ $‬والنص‪$$‬ارى‪ $‬ب‪$$‬أن يقيم‪$$‬وا أمث‪$$‬ال ه‪$$‬ذه‬
‫النصوص التي ال تزال توجد في كتبهم المقدسة المشتركة (‪ ،)1‬والتي تص‪$$‬ف هللا‬
‫ككائن يتصف بص‪$$‬فات البش‪$$‬ر‪ ،‬فه‪$$‬و يأك‪$$‬ل ويش‪$$‬رب ويتعب ويس‪$$‬تريح ويض‪$$‬حك‪$‬‬
‫ويبكي‪ ،‬غضوب متعطش للدماء‪ ،‬يحب ويبغض‪ ،‬متقلب األطوار‪ ،‬يُلحق الع‪$$‬ذاب‬
‫بكل من ارتكب ذنبا ً س‪$‬واء ارتكب‪$‬ه عن قص‪$‬د أو ارتكب‪$‬ه عن غ‪$‬ير قص‪$‬د‪ ،‬ويأخ‪$‬ذ‬
‫األبناء واألحفاد بذنوب اآلباء‪ ،‬بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج ‪ 32/10‬ـ‬
‫‪ ،)14‬وينسى ويتذكر‪( $‬خروج ‪ 2/23‬ـ ‪ ،)24‬وه‪$$‬و ليس عالم‪$‬ا ً بك‪$$‬ل ش‪$$‬يء‪ ،‬ول‪$$‬ذا‬
‫فهو يطلب من أعضاء جماعة إسرائيل أن يرشدوه ب‪$$‬أن يص‪$$‬بغوا أب‪$$‬واب بي‪$$‬وتهم‬
‫بال‪$$‬دم ح‪$$‬تى ال يهلكهم م‪$$‬ع أع‪$$‬دائهم من المص‪$$‬ريين عن طري‪$$‬ق الخط‪$$‬أ (خ‪$$‬روج‬
‫‪ 12/13‬ـ ‪..)14‬‬
‫ً‬
‫وهو إله متج ِّرد‪ ،‬ولكنه في الوقت نفسه يأخ‪$$‬ذ أش‪$$‬كاال حس‪$$‬ية مح‪$$‬ددة‪ ،‬فه‪$$‬و‬
‫يطلب إلى اليه‪$$‬ود (جماع‪$$‬ة يس‪$$‬رائيل) أن يص‪$$‬نعوا ل‪$$‬ه مكان ‪$‬ا ً مق َّدس ‪$‬ا ً ليس‪$$‬كن في‬
‫وسطهم (خروج ‪ ،)25/8‬كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخ‪$$‬ان‬
‫في النهار كي يه‪$$‬ديهم الطري‪$$‬ق‪ ،‬أم‪$$‬ا في اللي‪$$‬ل فك‪$$‬ان يتح‪$$‬ول إلى عم‪$$‬ود ن‪$$‬ار كي‬
‫يضيء لهم (خروج ‪.)13/21/22‬‬
‫ِّ‬
‫وه‪$$‬و إل‪$$‬ه الح‪$$‬روب (خ‪$$‬روج ‪ 15/3‬ـ ‪ )4‬يعلم ي‪$$‬دي داود القت‪$$‬ال (ص‪$$‬مويل‬
‫ثاني ‪ 22/30‬ـ ‪ ،)35‬يأمر اليهود‪ $‬بقتل الذكور‪ ،‬بل األطفال والنساء (ع‪$$‬دد ‪31/1‬‬
‫ـ ‪ ،)12‬وهو إله قوي الذراع ي‪$$‬أمر ش‪$$‬عبه ب‪$$‬أال ي‪$$‬رحم أح‪$$‬داً (تثني‪$$‬ة ‪ 7/16‬ـ ‪،)18‬‬
‫وهو يعرف أن األرض ال تُنال إال بحد السيف‪ .‬ول‪$$‬ذا‪ ،‬فه‪$$‬و ي‪$$‬أمر ش‪$$‬عبه المخت‪$$‬ار‬
‫بقت‪$$‬ل جمي‪$$‬ع ال‪$$‬ذكور‪ $‬في الم‪$$‬دن البعي‪$$‬دة عن أرض الميع‪$$‬اد‪( ،‬أم‪$$‬ا س‪$$‬كان األرض‬
‫نفسها فمص‪$$‬يرهم اإلب‪$$‬ادة ذك‪$$‬وراً ك‪$$‬انوا أم إناث‪$‬ا ً أم أطف‪$$‬االً) (تثني‪$$‬ة ‪ 20/10‬ـ ‪)18‬‬
‫وذلك ألسباب سكانية عملية مفهومة‪.‬‬
‫والمقاييس األخالقية لهذا اإلل‪$$‬ه تختل‪$$‬ف ب‪$$‬اختالف الزم‪$$‬ان والمك‪$$‬ان‪ ،‬ول‪$$‬ذا‬
‫فهي تتغيَّر بتغ‪$$‬ير االعتب‪$$‬ارات العملي‪$$‬ة‪ ،‬فه‪$$‬و ي‪$$‬أمر اليه‪$$‬ود (جماع‪$$‬ة يس‪$$‬رائيل)‬
‫بالس‪$$‬رقة‪ ،‬ويطلب من ك‪$$‬ل ام‪$$‬رأة يهودي‪$$‬ة في مص‪$$‬ر أن تطلب من جارته ‪$‬ا‪ $‬ومن‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية‪ ،‬للمسيري‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫نزيل‪$$‬ة بيته‪$$‬ا (أمتع‪$$‬ة فض‪$$‬ة وأمتع‪$$‬ة ذهب وثياب‪$‬ا ً وتض‪$$‬عونها‪ $‬على ب‪$$‬نيكم وبن‪$$‬اتكم‬
‫فتسلبون‪ $‬المصريين) (خروج ‪)3/22‬‬
‫ماذا يفعل التنويريون بعد هذه النصوص وغيرها كثير ج‪$$‬دا‪ ،‬وهي تش‪$$‬مل‬
‫العقائد والعبادات والمعامالت والقيم وكل مناحي الحياة‪ ..‬فهل يرضون من أه‪$$‬ل‬
‫الكتاب أن يقيموا كتابهم‪ ،‬ويلتزموا‪ $‬بما فيه‪ ..‬ويكتف‪$$‬ون منهم باإليم‪$$‬ان برس‪$$‬ول هللا‬
‫‪ ..‬ليصبحوا‪ $‬من خالل ذل‪$‬ك اإليم‪$‬ان المج‪$‬رد من ك‪$‬ل مقتض‪$‬يات مس‪$‬لمين‪ ،‬ق‪$‬د‬
‫صبغوا‪ $‬اإلسالم صبغة كاملة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع األمة‪:‬‬
‫ال نقصد هنا ذلك اإلجماع المختلف فيه‪ ،‬والذي ق‪$$‬ال في‪$$‬ه أحم‪$$‬د بن حنب‪$$‬ل‪:‬‬
‫(ما يَ َّدعي فيه الرج ُل اإلجما َع فه‪$$‬و ك‪$$‬ذب‪ ،‬من ادعى اإلجم‪$$‬اع فه‪$$‬و ك‪$$‬اذب‪ ،‬لع‪$$‬ل‬
‫الناس اختلفوا)(‪)1‬‬
‫وهو إجماع المدرس والطائف‪$$‬ة والفرق‪$$‬ة دون س‪$$‬ائر المس‪$$‬لمين‪ ،‬ب‪$$‬ل نقص‪$$‬د‬
‫إجماع المسلمين جميع‪$$‬ا بف‪$‬رقهم‪ $‬المختلف‪$‬ة‪ ،‬وه‪$$‬و إجم‪$‬اع معت‪$$‬بر؛ فاألم‪$$‬ة ال يمكن‬
‫عقال أو نقال أن تجمع على ضاللة‪.‬‬
‫وهذا اإلجماع يمكنن‪$$‬ا أن نج‪$$‬ده بس‪$$‬هولة في كتب العقائ‪$$‬د والفق‪$$‬ه والتفس‪$$‬ير‬
‫والحديث وغيرها‪ ،‬وعند جميع المدارس اإلسالمية؛ فهي جميعا تنص على كف‪$$‬ر‬
‫من اس‪$$‬تحل ع‪$$‬دم اتب‪$$‬اع رس‪$$‬ول‪ $‬هللا ‪ ،‬أو أح‪$$‬ل حرام‪$$‬ا قطعي‪$$‬ا‪ $،‬أو ح‪$$‬رم حالال‬
‫قطعيا‪ ،‬أو قال بشريعة لم تنزل في كتاب هللا وال سنة رسوله ‪.‬‬
‫ولهذا فإن اليهودي أو النصراني الذي يكتفي باالعتراف المج‪$$‬رد برس‪$$‬ول‬
‫هللا ‪ ‬دون االتباع؛ فإنه يكون قد أحسن بذلك االعتراف‪ ،‬وهو أحس‪$$‬ن ح‪$$‬اال من‬
‫الجاحد‪ ،‬ولكن ال يمكن اعتباره مسلما‪ ،‬وال يمكن إق‪$$‬راره على ذل‪$‬ك‪ ..‬ب‪$‬ل يط‪$$‬الب‬
‫باالتباع الكام‪$‬ل‪ ،‬كم‪$‬ا نص‪$‬ت على ذل‪$‬ك النص‪$‬وص المقدس‪$‬ة ال‪$‬تي س‪$‬بق ذكره‪$‬ا‪،‬‬
‫والتي اتفق علماء األمة بمدارسهم‪ $‬جميعا على القول بمقتضياتها‪.‬‬
‫ب‪$$‬ل إن الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم اعت‪$$‬بر اليقين المج‪$$‬رد عن االتب‪$$‬اع جح‪$$‬ودا‪ ،‬فق‪$$‬ال‪:‬‬
‫﴿ َو َج َحدُوا‪ $‬بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا‪ $‬أَ ْنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا فَا ْنظُرْ َك ْي‪$$‬فَ َك‪$$‬انَ عَاقِبَ‪$‬ةُ ْال ُم ْف ِس‪ِ $‬دينَ ﴾‬
‫[النمل‪]14 :‬‬
‫وممن نقل إجماع األمة في المسألة ابن ح‪$$‬زم فق‪$$‬د ق‪$$‬ال في كتاب‪$$‬ه [م‪$$‬راتب‬
‫اإلجماع]‪( :‬واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً)(‪)2‬‬
‫وقال‪( :‬وال يختلف اثنان من أهل األرض ـ ال نقول‪ :‬من المسلمين‪ ،‬بل من‬
‫أن رسول‪ $‬هللا ‪ ‬قطع بالكفر على أهل كلِّ مل ٍة غير اإلس‪$$‬الم ال‪$$‬ذين‬ ‫ك ِّل مل ٍة ـ في َّ‬

‫‪ )(1‬إعالم الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (‪.)54 /2‬‬


‫‪ )(2‬مراتب اإلجماع ( ص ‪) 119‬‬

‫‪91‬‬
‫فقط)(‪)1‬‬ ‫تبَّرأ أهلُه من كل مل ٍة حاشى التي أتاهم بها عليه السالم‬
‫ي ‪ ‬كم‪$$‬ا‬ ‫وق‪$$‬ال‪( :‬وق‪$$‬د نصَّ هللا ع‪َّ $‬ز وج‪َّ $‬ل على أن اليه‪$$‬ود يعرف‪$$‬ون الن‪$$‬ب َّ‬
‫يعرفون أبنا َءهم‪ ،‬وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة واإلنجيل‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ت هَّللا ِ يَجْ َح‪ُ $‬دونَ ﴾ [األنع‪$$‬ام‪ ،]33 :‬وأخ‪$$‬بر‬ ‫﴿فَ‪$‬إِنَّهُ ْم اَل يُ َك‪ِّ $‬ذبُونَكَ َولَ ِك َّن الظَّالِ ِمينَ بِآيَ‪$$‬ا ِ‬
‫[الزخ ‪$‬رُف‪،]87:‬‬ ‫﴿ولَئِ ْن َس ‪$‬أ َ ْلتَهُ ْم َم ْن خَ لَقَهُ ْم لَيَقُ‪$$‬ولُ َّن هَّللا ُ﴾ ُّ‬
‫تع‪$$‬الى عن الكف‪$$‬ار فق‪$$‬ال‪َ :‬‬
‫ص‪$‬دقه وال يكذبون‪$$‬ه‪ ،‬وهم اليه‪$$‬ود والنص‪$$‬ارى‪ ،‬وهم‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ف‪$$‬أخبر‪ $‬تع‪$$‬الى أنهم يعرف‪$$‬ون‪ِ $‬‬
‫خالف من أح‪$$‬د من األم‪$$‬ة‪ ،‬ومن أنك‪$$‬ر كف‪$$‬رهم فال خالف من أح ‪ٍ $‬د من‬ ‫ٍ‬ ‫كف‪$$‬ار بال‬
‫كفره وخروجه عن اإلسالم)(‪)2‬‬ ‫األمة في ُ‬
‫وق‪$$‬ال‪( :‬ذ َك‪َ $‬ر بعضُ من جم‪$$‬ع مق‪$$‬االت المنتمين إلى اإلس‪$$‬الم أن فرق‪$$‬ة من‬
‫اإلباضية رئيسهم رجل يدعى يزيد بن أبي أنيسة ـ وهو غير المحدث المشهور‪ $‬ـ‬
‫إن من كان من اليهود‪ $‬والنصارى‪ $‬يقول‪« :‬ال إله إال هللا محمد رس‪$$‬ول‬ ‫كان يقول‪َّ :‬‬
‫هللا إلى العرب ال إلين‪$$‬ا»؛ كم‪$$‬ا تق‪$$‬ول العيس‪$$‬وية من اليه‪$$‬ود؛ ق‪$$‬ال‪ :‬ف‪$$‬إنهم مؤمن‪$$‬ون‬
‫أولي‪$$‬اء هللا تع‪$$‬الى‪ ،‬وإن م‪$$‬اتوا على ه‪$$‬ذا العق‪$$‬د‪ ،‬وعلى ال‪$$‬تزام ش‪$$‬رائع اليه‪$$‬ود‬
‫أن جميع اإلباض‪$$‬ية يكفِّرون من ق‪$$‬ال‬ ‫والنصارى… قال أبو محمد [ابن ح‪$$‬زم]‪ :‬إال َّ‬
‫رؤون منه‪ ،‬ويستحلُّون دمه وماله)(‪)3‬‬ ‫بشيء من هذه المقاالت‪ ،‬وي ْب َ‬
‫وقد علق النووي‪ $‬على قوله ‪( :‬والذي نفس محمد بيده ال يسمع بي أح‪$$‬د‬
‫من هذه األمة يهودي وال نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إال ك‪$$‬ان‬
‫من أصحاب النار) (‪ ،)4‬فقال‪( :‬أما الح‪$$‬ديث ففي‪$$‬ه نس‪$$‬خ المل‪$$‬ل كله‪$$‬ا برس‪$$‬الة نبين‪$$‬ا‬
‫‪ ..‬وقول‪$$‬ه ‪( :‬ال يس‪$$‬مع بي أح‪$$‬د من ه‪$$‬ذه األم‪$$‬ة)‪ :‬أي ممن ه‪$$‬و موج‪$$‬ود في‬
‫زمني وبعدي‪ $‬إلى ي‪$‬وم القيام‪$‬ة فكلهم يجب علي‪$‬ه ال‪$‬دخول في طاعت‪$‬ه وإنم‪$‬ا ذك‪$‬ر‬
‫اليهودي‪ $‬والنصراني‪ $‬تنبيها على من سواهما‪ ،‬وذل‪$$‬ك ألن اليه‪$$‬ود والنص‪$$‬ارى‪ $‬لهم‬
‫كتاب ؛ فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا‪ ،‬فغيرهم‪ $‬ممن ال كتاب له أولى‪ .‬وهللا‬
‫أعلم)(‪)5‬‬
‫وقال القاضي عياض‪( :‬ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من المل‪$$‬ل‪،‬‬
‫أو وقف فيهم‪ ،‬أو شك‪ ،‬أو صحح مذهبهم‪ ،‬وإن أظهر مع ذلك اإلسالم‪ ،‬واعتق‪$$‬ده‪،‬‬
‫واعتقد إبطال كل مذهب سواه‪ :‬فهو كافر بإظهار‪ $‬ما أظهره من خالف ذلك)(‪)6‬‬

‫‪ )(1‬الفصل في الملل واألهواء والنحل‪.3/142 :‬‬


‫‪ )(2‬المرجع السابق‪.3/237 ،‬‬
‫‪)(3‬المرجع السابق‪.4/144 ،‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد (‪ ،)2/350‬ومسلم (‪.)1/93‬‬
‫‪ )(5‬شرح النووي على مسلم (‪)188 /2‬‬
‫‪ )(6‬الشفا في أحوال المصطفى ( ‪.. ) 610 / 2‬‬

‫‪92‬‬
‫وقال الباقالني‪ ،‬وهو من كبار أئمة األشاعرة‪( :‬باب الكالم على العيس‪$$‬وية‬
‫منهم الذين يزعمون أن محمدا وعيسى عليهما السالم إنما بعث‪$$‬ا إلى قومهم‪$‬ا‪ $،‬ولم‬
‫يبعث‪$$‬ا بنس‪$$‬خ ش‪$$‬ريعة موس‪$$‬ى علي‪$$‬ه الس‪$$‬الم‪ .‬يق‪$$‬ال لهم‪ :‬إذا أوجبتم تص‪$$‬ديق‪ $‬محم‪$$‬د‬
‫وعيسى عليهما السالم في قولهما‪ $‬إنهما نبيان من عند هللا؛ فما أنكرتم من وجوب‬
‫تصديقهما‪ $‬في قولهما‪ $:‬إنهما قد بعثا إلى كل أسود وأبيض‪ ،‬وأنثى وذك‪$$‬ر‪ ،‬وبنس‪$$‬خ‬
‫شريعة موسى وكل صاحب شرع قبلهما؟! فإن كان ق‪$$‬د ك‪$$‬ذبا في ه‪$$‬ذا الق‪$$‬ول م‪$$‬ع‬
‫ظهور‪ $‬المعجزات على أيديهما‪ $‬فما أنكرتم‪ $‬أن يكونا ك‪$$‬اذبين في س‪$$‬ائر أخبارهم‪$$‬ا‪،‬‬
‫وهذا يبطل النبوة جملة‪ ،‬فإن قالوا‪ :‬نحن ال نكذب محمدًا وعيس‪$$‬ى عليهم‪$$‬ا الس‪$$‬الم‬
‫في هذا القول لو قااله‪ ،‬ألنهما لو كذبا في بعض ما يخبران به عن هللا س‪$$‬بحانه لم‬
‫يكونا نبيين‪ ،‬ولكننا‪ $‬نكذب النصارى‪ $‬والمسلمين في ادعائهم ذلك عليهما‪ ،‬فالك‪$$‬ذب‬
‫واق‪$$‬ع من ناحي‪$$‬ة أمتيهم‪$$‬ا‪ ،‬ولم يق‪$$‬ع من جهتهم‪$$‬ا! يق‪$$‬ال لهم‪ :‬إذا ج‪$$‬از الك‪$$‬ذب على‬
‫النصارى‪ $‬والمسلمين في ه‪$‬ذا الخ‪$$‬بر ال‪$‬ذي يدعون‪$‬ه على محم‪$$‬د وعيس‪$‬ى عليهم‪$‬ا‬
‫السالم فلم ال يجوز عليهم الكذب في جميع ما نقلوه عنهما‪ ،‬وفي‪ $‬نقلهم أعالمهما‪،‬‬
‫ولم ال يجوز‪ $‬مثل ذلك على اليهود أيضًا؟! ونقله البلدان والسير‪ $،‬وه‪$$‬ذا يع‪$$‬ود إلى‬
‫إبطال القول باألخبار‪ $‬جملة‪ ،‬وفي إطباقنا‪ $‬وإياهم على فساد ما أدى إلى ذلك دلي‪$‬ل‬
‫على فساد قولهم‪ $،‬وصحة قول المسلمين والنصارى‪ $‬في هذا الباب)(‪)1‬‬
‫وقال أبو حام‪$‬د الغ‪$‬زالي في كتاب‪$$‬ه‪( :‬االقتص‪$$‬اد في االعتق‪$‬اد)‪( :‬العيس‪$‬وية‪:‬‬
‫حيث ذهب‪$$‬وا إلى أنَّه ‪ ‬رس‪$$‬و ٌل إلى الع‪$$‬رب فق‪$$‬ط ال إلى غ‪$$‬يرهم‪ ،‬وه‪$$‬ذا ظ‪$$‬اهر‬
‫أن الرس‪$‬ول ال يك‪$‬ذب‪ ،‬وق‪$‬د‪$‬‬ ‫البطالن فإنَّهم اعترفوا بكون‪$‬ه رس‪$‬والً حقًّ‪$‬ا‪ ،‬ومعل‪$‬و ٌم َّ‬
‫ُس‪$$‬لَه إلى كس‪$$‬رى وقيص ‪$‬ر‪$‬‬ ‫ادعى ه‪$$‬و أن‪$$‬ه رس‪$$‬ول مبع‪$$‬وث إلى الثقلين‪ ،‬وبعث ر ُ‬
‫وسائر‪ $‬ملوك العجم‪ ،‬وتواتر‪ $‬ذلك منه‪ ،‬فما قالوه محال متناقض)(‪)2‬‬
‫وقال فخر الدين الرازي في [التفسير الكبير] في تفسير قول‪$‬ه تع‪$‬الى‪﴿ :‬قُ‪$‬لْ‬
‫يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي َرسُو ُل هَّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم َج ِمي ًع‪$$‬ا﴾ [األع‪$$‬راف‪( :]158 :‬وق‪$$‬ال طائف‪$$‬ة من‬
‫اليهود ـ يقال لهم العيسوية‪ ،‬وهم أتب‪$‬اع عيس‪$‬ى األص‪$‬فهاني‪ $‬ـ‪ :‬إن محم‪$‬دًا رس‪$‬ول‬
‫صادق‪ $‬مبعوث إلى العرب‪ ،‬وغير مبعوث إلى بني إسرائيل‪ .‬ودليلن‪$‬ا‪ $‬على إبط‪$$‬ال‬
‫ألن قوله‪﴿ :‬يا أيه‪$‬ا الن‪$‬اس﴾ خط‪$$‬اب يتن‪$$‬اول ك‪$‬ل الن‪$$‬اس‪ ،‬ثم ق‪$$‬ال‪:‬‬ ‫قولهم‪ $‬هذه اآليةُ‪َّ .‬‬
‫﴿إني رس‪$$‬ول هللا إليكم جمي ًع‪$$‬ا﴾‪ ،‬وه‪$$‬ذا يقتض‪$$‬ي كون‪$$‬ه مبعوثً ‪$‬ا‪ $‬إلى جمي‪$$‬ع الن‪$$‬اس‪،‬‬
‫وأيضًا‪ $:‬فما يعلم بالتواتر‪ $‬من دينه أنه كان ي‪$$‬دعي أن‪$$‬ه مبع‪$$‬وث إلى ك‪$$‬ل الع‪$$‬المين‪.‬‬
‫فإما أن يقال‪ :‬إنه كان رسوالً‪ $‬حقًّا أو ما كان كذلك‪ ،‬فإن ك‪$$‬ان رس‪$‬واًل حقًّ‪$$‬ا‪ ،‬امتن‪$$‬ع‬
‫الكذب عليه‪ .‬ووجب الجزم بكونه ص‪$$‬ادقًا‪ $‬في ك‪$$‬ل م‪$$‬ا يدعي‪$$‬ه‪ ،‬فلم‪$$‬ا ثبت ب‪$$‬التواتر‪$‬‬
‫وبظاهر‪ $‬هذه اآلية أنه ك‪$$‬ان ي‪$$‬دعي كون‪$$‬ه مبعوثً‪$$‬ا إلى جمي‪$$‬ع الخل‪$$‬ق؛ وجب كون‪$$‬ه‬
‫‪ )(1‬التمهيد‪ ،‬ص ‪.218‬‬
‫‪ )(2‬االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص‪)111 :‬‬

‫‪93‬‬
‫صادقًا‪ $‬في هذا القول‪ ،‬وذلك يبط‪$‬ل ق‪$‬ول من يق‪$‬ول‪ :‬إن‪$‬ه ك‪$‬ان مبعوثً‪$$‬ا إلى الع‪$‬رب‬
‫فقط‪ ،‬ال إلى بني إسرائيل)(‪)1‬‬
‫وقال اآلمدي األشعري الش‪$$‬افعي في كتاب‪$$‬ه [غاي‪$‬ة الم‪$$‬رام في علم الكالم]‪:‬‬
‫(وأما العيسوية فيمتنع عليهم ـ بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعوته ـ إال‬
‫اإلذعان لكلمته‪ ،‬إذ ال سبيل إلى القول بتخصيص بعثت‪$‬ه إلى الع‪$‬رب دون غيره‪$‬ا‬
‫من األمم‪ ،‬مع ما اشتهر عنه‪ ،‬وعُلم بالض‪$$‬رورة والنق‪$$‬ل المت‪$$‬واتر من دعوت‪$$‬ه إلى‬
‫كلمته طوائف‪ $‬الجبابرة وغيرهم من األكاسرة‪ ،‬وتنفيذه إلى أقاصي‪ $‬البالد ومل‪$$‬وك‬
‫العباد‪ ،‬وقت‪$$‬ال من عان‪$$‬ده‪ ،‬ون‪$$‬زال من جاح‪$$‬ده‪ ،‬ثم ذل‪$$‬ك معتم‪$$‬د على س‪$$‬ند الص‪$$‬در‬
‫األول من المسلمين‪ ،‬م‪$$‬ع علمن‪$$‬ا ب‪$$‬أن ذل‪$$‬ك الجم الغف‪$$‬ير‪ ،‬والجم‪$$‬ع الكث‪$$‬ير‪ ،‬ممن ال‬
‫يتص َّور عليهم التواطؤ‪ $‬على الباطل عادةً‪ ،‬ال سيما لما كانوا عليه من شدة اليقين‪،‬‬
‫ومراعاة الدين‪ ،‬فلو لم يعلموا من‪$$‬ه ض‪$$‬رورةً أن‪$$‬ه مبع‪$$‬وث إلى الن‪$$‬اس كاف‪$$‬ة‪ ،‬وإلى‬
‫األمم عامة‪ ،‬من األسود واألبيض‪ ،‬وإال لما نقلوا ذلك‪ ،‬رعاية للدين‪ ،‬مع أنه ترك‬
‫الدين‪ ،‬وكذلك أيضًا‪ :‬من جاء من بعدهم على سنتهم‪ ،‬وهلم ج‪ًّ $‬را إلى زمنن‪$$‬ا ه‪$$‬ذا‪،‬‬
‫ولو لم يكن نبيًّا على العموم لزم أن يكون قد كذب في دعواه‪ ،‬وأبط‪$$‬ل فيم‪$$‬ا أت‪$$‬اه‪،‬‬
‫ق من ثبت عص‪$$‬متهم ب‪$$‬المعجزات وقواط‪$$‬ع‬ ‫وذل‪$$‬ك مح‪$$‬ال في ح‪$$‬ق األنبي‪$$‬اء‪ ،‬وح ‪ِّ $‬‬
‫اآليات)(‪)2‬‬
‫هذه مجرد نماذج عن بعض مقوالتهم في المسألة‪ ،‬وإال فإن النصوص في‬
‫ذلك أكثر من أن تحصر‪ ،‬وهي موجودة في كل أبواب الفق‪$$‬ه ال‪$$‬تي ت‪$$‬بين كف‪$$‬ر من‬
‫جحد معلوما من الدين بالضرورة‪ ،‬أو تكفر من اس‪$$‬تحل حرام‪$$‬ا‪ ،‬أو ح‪$$‬رم حالال‪،‬‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫‪ )(1‬مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪)383 /15‬‬


‫‪ )(2‬غاية المرام في علم الكالم (ص‪)359 :‬‬

‫‪94‬‬
‫التنويريون ‪ ..‬والدنيا‬
‫ربم‪$$‬ا يك‪$$‬ون أحس‪$$‬ن لقب للتن‪$$‬ويريين بمختل‪$$‬ف اتجاه‪$$‬اتهم‪ $‬ومن‪$$‬اهجهم‪ $‬ه‪$$‬و‬
‫[الدنيويون]‪ ،‬فهم مستغرقون في حب الحياة الدنيا‪ ،‬والتعلق بها‪ ،‬وال‪$$‬دعوة إليه‪$$‬ا‪،‬‬
‫واعتبارها البداية والنهاية‪ ،‬وأن إليها المنتهى‪ ،‬ال إلى هللا‪ ،‬وال إلى حقائق الوجود‬
‫المطلقة‪ ،‬التي ال تساوي‪ $‬الدنيا أمامها جناح بعوضة‪.‬‬
‫ولذلك يتفقون على أن الدين ـ بصورته الموروثة ـ عقبة دون التحق‪$$‬ق بم‪$$‬ا‬
‫تتطلب‪$$‬ه الحي‪$$‬اة ال‪$$‬دنيا من مقتض‪$$‬يات‪ ،‬ثم يختلف‪$$‬ون بع‪$$‬د ذل‪$$‬ك‪ ،‬فمنهم من يص‪$$‬رح‬
‫بإلحاده‪ ،‬مثلما فعل القس [جان مسلييه] الذي كان رج‪$$‬ل دين مس‪$$‬يحي‪ ،‬لكن‪$$‬ه آث‪$$‬ر‬
‫اإللحاد‪ ،‬ومات عليه‪ ،‬أو مثلما فعل عبد هللا القصيمي‪ ،‬ذل‪$$‬ك ال‪$$‬ذي كتب الكتب في‬
‫نصرة االتجاه السلفي‪ ،‬وتكفير الصوفية والشيعة وغيرهما‪ ،‬ثم راح يكف‪$$‬ر بال‪$$‬دين‬
‫نفسه‪ ،‬ويكتب الكتب في الرد عليه باعتباره عقبة كبرى دون التطور‪$.‬‬
‫ومنهم من ال تكون له جرأة ماسلييه وال القصيمي‪ ،‬فلذلك ينهج منهجا آخر‬
‫ه‪$$‬و أخط‪$$‬ر على ال‪$$‬دين من اإللح‪$$‬اد المج‪$$‬رد الواض‪$$‬ح‪ ،‬وه‪$$‬و تفص‪$$‬يل ال‪$$‬دين على‬
‫مزاجه‪ ،‬باستعمال مناهج وأساليب مختلفة ليصبح الدين نفسه دنيويا‪ $،‬والغاية منه‬
‫دنيوية محضة‪.‬‬
‫وأول عالم‪$$‬ات ه‪$$‬ؤالء ه‪$$‬و نف‪$$‬ورهم‪ $‬من الغيب‪ ،‬وترك‪$$‬يزهم‪ $‬على ع‪$$‬الم‬
‫الشهادة‪ ،‬واعتبارهم‪ $‬أن الغيب يحول دون الشهادة‪ ،‬فلذلك إذا ما ذكر الغيب بينهم‬
‫راح‪$$‬وا يس‪$$‬خرون‪ ،‬وي‪$$‬ذكرون الزمتهم ال‪$$‬تي تع‪$$‬ودوا تردي‪$$‬دها‪ ،‬وهي أن الغ‪$$‬رب‬
‫يتطور‪ $،‬ويصنعون الصواريخ‪ ،‬ونحن ال زلنا نبحث في عالم الغيب‪..‬‬
‫ولكنهم ـ وهم يقولون هذا الكالم بتثاؤب وكس‪$‬ل ـ ال يق‪$‬دمون ش‪$‬يئا‪ ،‬وإنم‪$‬ا‬
‫ينتقدون فقط اإليمان بالغيب‪ ،‬ويسخرون من أولئك الطيبين الذين تعيش أجسادهم‬
‫في ع‪$$‬الم الش‪$$‬هادة بينم‪$$‬ا تحل‪$$‬ق أرواحهم‪ $‬في ع‪$$‬الم الغيب‪ ،‬وهم ال‪$$‬ذين م‪$$‬دحهم هللا‬
‫ْب‬‫ك ْال ِكتَابُ اَل َري َ‬ ‫تعالى في أول كتابه‪ ،‬بل اعتبر الهداية قاصرة عليهم؛ فقال‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫الص ‪$‬اَل ةَ َو ِم َّما َرزَ ْقنَ‪$$‬اهُْ‪$‬م‬
‫َّ‬ ‫فِي ‪ِ $‬ه هُ ‪$‬دًى لِ ْل ُمتَّقِينَ (‪ )2‬الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُ‪$$‬ونَ بِ‪ْ $‬‬
‫‪$‬ال َغ ْي ِ‬
‫ب َويُقِي ُم‪$$‬ونَ‬
‫يُ ْنفِقُونَ ﴾ [البقرة‪]3 ،2 :‬‬
‫وهكذا أثنى على الذين يخشون ربهم بالغيب‪ ،‬واعتبرهم من المتقين‪ ،‬ألن‪$$‬ه‬
‫ال تحصل التقوى إال لمن آمن ب‪$$‬الغيب‪ ،‬وجعل‪$$‬ه ك‪$$‬ل لحظ‪$$‬ة بين عيني‪$$‬ه‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال‬
‫ض‪$‬يَا ًء َو ِذ ْك‪ $‬رًا لِ ْل ُمتَّقِينَ (‪ )48‬الَّ ِذينَ‬‫وس‪$‬ى َوهَ‪$$‬ارُونَ ْالفُرْ قَ‪$$‬انَ َو ِ‬ ‫﴿ولَقَ ْد آتَ ْينَا ُم َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫ب َوهُ ْم ِمنَ السَّا َع ِة ُم ْشفِقُونَ ﴾ [األنبياء‪]49 ،48 :‬‬ ‫يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغ ْي ِ‬
‫وهكذا اعتبرهم من األوابين الحافظين للعهود‪ ،‬بسبب إيمانهم بالغيب‪ ،‬كما‬
‫ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغيْ‪َ $‬ر بَ ِعي‪ٍ $‬د (‪ )31‬هَ‪َ $‬ذا َم‪$‬ا تُوعَ‪ُ $‬دونَ لِ ُك‪$‬لِّ أَ َّوا ٍ‬
‫ب‬ ‫قال تع‪$‬الى‪َ ﴿:‬وأُ ْزلِفَ ِ‬

‫‪95‬‬
‫ب﴾ [ق‪]33 - 31 :‬‬ ‫ب ُمنِي ٍ‬ ‫ب َو َجا َء بِقَ ْل ٍ‬‫َش َي الرَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ‬ ‫َحفِي ٍظ (‪َ )32‬م ْن خ ِ‬
‫بل إنه أخ‪$$‬بر أن اإلن‪$$‬ذار ال‪$$‬ذي كل‪$$‬ف ب‪$$‬ه رس‪$$‬ول هللا ‪ ‬ال يس‪$$‬تفيد من‪$$‬ه إال‬
‫﴿و َس ‪َ $‬وا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أَأَ ْن ‪َ $‬ذرْ تَهُ ْم أَ ْم لَ ْم تُ ْن ‪ِ $‬ذرْ هُ ْم اَل‬ ‫المؤمن‪$$‬ون ب‪$$‬الغيب‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪َ :‬‬
‫‪$‬ر ٍة‬ ‫ْ‬
‫ب فبَش‪$‬رْ هُ بِ َمغفِ‪َ $‬‬‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫خَش‪َ $‬ي ال‪$‬رَّحْ َمنَ بِ‪$$‬الغ ْي ِ‬ ‫ي ُْؤ ِمنُونَ (‪ )10‬إِنَّ َما تُ ْن ِذ ُر َم ِن اتَّبَ َع ال ِّذ ْك َر َو ِ‬
‫َوأَجْ ٍر َك ِر ٍيم﴾ [يس‪]11 ،10 :‬‬
‫وهذه اآلية الكريمة تعبر بدقة عن ذلك السلوك الذي يمارسه التنويري‪$$‬ون‪،‬‬
‫ويكادون يتفق‪$$‬ون علي‪$$‬ه من إزاح‪$$‬ة اإلن‪$$‬ذار من وظ‪$$‬ائف‪ $‬النب‪$$‬وة وال‪$$‬دعوة إلى هللا‪،‬‬
‫واعتبار الدعوة فقط تبشيرا ال إنذارا‪ ،‬ولذلك يتص‪$$‬ورون أن ك‪$$‬ل من يتح‪$$‬دث عن‬
‫عذاب القبر أو عذاب جهنم منحرفا‪ $،‬وبعيدا عن فهم الدين‪.‬‬
‫ولست أدري من أين لهم هذا‪ ،‬والق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم كل‪$$‬ه إن‪$$‬ذار وتخوي‪$$‬ف‪ ،‬وال‬
‫يمكن لمن يق‪$$‬رؤه ص‪$$‬ادقا إال أن يمتلئ بتل‪$$‬ك الخش‪$$‬ية من هللا‪ ،‬وال‪$$‬تي تول‪$$‬د في‪$$‬ه ال‬
‫محالة حوافز‪ $‬التقوى‪ ،‬وروادعها‪$.‬‬
‫بل إن القرآن الك‪$$‬ريم‪ ،‬وفي‪ $‬ذك‪$$‬ره لل‪$$‬ذنوب ال‪$$‬تي نحتقره‪$$‬ا‪ ،‬يش‪$$‬دد ويتوع‪$$‬د‬
‫ويه‪$$‬دد‪ ،‬ثم ي‪$$‬أتي ه‪$$‬ؤالء التنويري‪$$‬ون بم‪$$‬ا أوت‪$$‬وا من س‪$$‬ماحة لينس‪$$‬خوا‪ $‬ك‪$$‬ل ذل‪$$‬ك‪،‬‬
‫ويعقب‪$$‬وا على هللا في حكم‪$$‬ه‪ ،‬ليرض‪$$‬وا أه‪$$‬واءهم أو جم‪$$‬اهيرهم‪ ،‬وال يعلم‪$$‬ون أن‬
‫البشر الذين خاطبهم‪ $‬رسول هللا ‪ ‬هم نفسهم البشر الذين يقومون بخطابهم‪.‬‬
‫ومن عالم‪$$‬اتهم تحق‪$$‬ير العب‪$$‬ادات واالس‪$$‬تهانة به‪$$‬ا‪ ،‬ألن ال‪$$‬دين عن‪$$‬دهم ليس‬
‫س‪$$‬وى عالق‪$$‬ة لإلنس‪$$‬ان م‪$$‬ع اإلنس‪$$‬ان أو الك‪$$‬ون؛ فاإلنس‪$$‬ان هب‪$$‬ط إلى ال‪$$‬دنيا في‬
‫تصورهم ليعمرها‪ ،‬ويمأله‪$‬ا‪ $‬ب‪$$‬األبراج والط‪$$‬ائرات والص‪$$‬واريخ‪ ،‬ويس‪$$‬يطر على‬
‫مناخها وتضاريسها‪ $،‬أما ترقية نفسه بممارسة العبادة وكثرة ال‪$$‬ذكر والرياض‪$$‬ات‬
‫الروحية‪ ،‬فهي عندهم تشدد وتطرف‪ $‬وبالدة‪.‬‬
‫ولذلك يستهينون بالشعائر‪ $‬التعبدية‪ ،‬ويحقرونها‪ ،‬ويحاولون تأوي‪$$‬ل ك‪$$‬ل م‪$$‬ا‬
‫ورد فيها من النصوص تأويالت مختلفة‪ ،‬حتى تصبح الصالة أحقر األعم‪$$‬ال‪ ،‬ال‬
‫أشرفها‪ $،‬ويصبح الذكر هو ذكر الدنيا‪ ،‬وال ذكر هللا‪ ،‬وال الشوق إليه‪.‬‬
‫ومن عالماتهم احتقار الصالحين واألولياء الذين أمرن‪$$‬ا هللا تع‪$$‬الى بس‪$$‬لوك‪$‬‬
‫سبيلهم‪ ،‬وبأن نكون معهم‪ ،‬فالصالحون عن‪$$‬دهم هم المخ‪$$‬ترعون والمكتش‪$$‬فون‪ ،‬ال‬
‫أولئك الذين أفنوا أعمارهم في ذكر ربهم والدعوة إليه‪..‬‬
‫وهم ال يتوقف‪$$‬ون عن‪$$‬د أف‪$$‬راد الص‪$$‬الحين‪ ،‬وإنم‪$$‬ا يض‪$$‬مون إليهم األنبي‪$$‬اء‬
‫والمرسلين‪ ،‬وخصوصا سيدنا‪ $‬رسول هللا ‪ ،‬ولذلك يحتقرون سنته‪ ،‬وال يب‪$$‬الون‬
‫بها‪ ،‬بل يعقبون عليه بما تمليه أهواؤهم‪.‬‬
‫والعالمة األكبر لهؤالء هو نفورهم من كل تلك النص‪$$‬وص المقدس‪$$‬ة ال‪$$‬تي‬
‫تحقر الحي‪$$‬اة ال‪$$‬دنيا‪ ،‬وتعت‪$$‬بر‪ $‬حبه‪$$‬ا أم الخطاي‪$$‬ا‪ ،‬وتعت‪$$‬بر ك‪$$‬ل ض‪$$‬اللة حص‪$$‬لت في‬
‫األرض ناتجة عنها‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ ﴿ :‬زيِّنَ لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا ْال َحيَاةُ ال‪ُّ $‬د ْنيَا َويَ ْس‪َ $‬خرُونَ‬

‫‪96‬‬
‫ق َم ْن يَ َش‪$$‬ا ُء بِ َغي ِ‬
‫ْ‪$$‬ر‬ ‫ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ‪$$‬وا َوالَّ ِذينَ اتَّقَ‪$$‬وْ ا فَ‪$$‬وْ قَهُْ‪$‬م يَ‪$$‬وْ َم ْالقِيَا َم‪ِ $$‬ة َوهَّللا ُ يَ‪$$‬رْ ُز ُ‬
‫ب ﴾ [البقرة‪]212 :‬‬ ‫ِح َسا ٍ‬
‫وهذه اآلية الكريمة تح‪$$‬وي وص‪$$‬فا دقيق‪$$‬ا له‪$$‬ؤالء ال‪$$‬دنيويين ال‪$$‬ذين يس‪$$‬مون‬
‫أنفس‪$$‬هم تن‪$$‬ويريين‪ ،‬ذل‪$$‬ك أن ال‪$$‬دنيا ق‪$$‬د زينت في أعينهم‪ ،‬فاس‪$$‬تحلوها‪ ،‬ثم راح‪$$‬وا‬
‫يسخرون من الذين آمنوا‪ ،‬وال‪$$‬ذين اتق‪$$‬وا‪ ،‬م‪$$‬ع أنهم ف‪$$‬وقهم ي‪$$‬وم القيام‪$$‬ة‪ ،‬كم‪$$‬ا أنهم‬
‫فوقهم في الحياة الدنيا‪.‬‬
‫ول‪$$‬ذلك ال نج‪$$‬د تنويري‪$$‬ا‪ $‬إال وه‪$$‬و يس‪$$‬خر من العلم‪$$‬اء واألولي‪$$‬اء والعب‪$$‬اد‬
‫والزهاد‪ ،‬ويعتبرهم جميعا متخلفين لم يفهموا الدين كما فهمه‪..‬‬
‫ولهذا نراهم يحتقرون الوعاظ الذين يمارسون ما كان يمارس‪$‬ه رس‪$‬ول‪ $‬هللا‬
‫‪ ‬من التحذير من االستغراق‪ $‬والتثاقل إلى الحي‪$$‬اة ال‪$$‬دنيا‪ ،‬باعتب‪$$‬ارهم أخط‪$$‬ر م‪$$‬ا‬
‫يهدد حقيقة اإلنس‪$$‬ان نفس‪$$‬ها‪ ،‬وال‪$$‬تي ق‪$‬د تتح‪$‬ول إلى كلب يلهث‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال تع‪$‬الى‪:‬‬
‫﴿ َوا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَا ْن َسلَ َخ ِم ْنهَا فَأ َ ْتبَ َعهُ ال َّش ْيطَانُ فَ َك‪$$‬انَ ِمنَ ْال َغ‪ِ $‬‬
‫‪$‬اوينَ‬
‫‪$‬ل‬‫‪$‬واهُ فَ َمثَلُ‪$‬هُ َك َمثَ‪ِ $‬‬
‫ض َواتَّبَ‪َ $‬ع هَ‪َ $‬‬ ‫(‪َ )175‬ولَوْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَ‪$$‬اهُ بِهَ‪$$‬ا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلَ‪َ $‬د إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫ث َذلِ‪$$‬كَ َمثَ‪ُ $‬ل ْالقَ‪$$‬وْ ِم الَّ ِذينَ َك‪َّ $‬ذبُوا بِآيَاتِنَ‪$$‬ا‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْك‪ $‬هُ يَ ْلهَ ْ‬
‫ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي‪ِ $‬ه يَ ْلهَ ْ‬ ‫ْال َك ْل ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [األعراف‪]176 ،175 :‬‬ ‫ص َ‬ ‫ُص ْالقَ َ‬ ‫فَا ْقص ِ‪$‬‬
‫وبناء على هذا كل‪$‬ه‪ ،‬ف‪$‬إن ك‪$‬ل النص‪$‬وص المقدس‪$‬ة ال‪$‬تي تح‪$‬ذر من الحي‪$‬اة‬
‫الدنيا‪ ،‬وتبين حقيقتها هي في الحقيقة رد على الفكر التنويري‪ ،‬ال‪$$‬ذي يب‪$$‬الغ فيه‪$$‬ا‪،‬‬
‫ويعتبرها أصال وغاية ومقصدا‪.‬‬
‫وهو عندما يفعل ذلك ال يقدم شيئا جديدا‪ ،‬ألنه عقل يهدم وال يب‪$$‬ني‪ ،‬وله‪$$‬ذا‬
‫نرى الكثير من التنويريين يملكون شهادات علمية في الطب والفيزياء والهندس‪$$‬ة‬
‫وغيره‪$$‬ا‪ ،‬ثم يتركونه‪$$‬ا‪ ،‬وال يق‪$$‬دمون في تخصص‪$$‬اتهم‪ $‬أي ش‪$$‬يء جدي‪$$‬د‪ ،‬بينم‪$$‬ا‬
‫يذهبون إلى القرآن الكريم يتالعبون بألفاظه ومعانيه‪ ،‬ليحولوها‪ $‬إلى المسار الذي‬
‫تريده أهواؤهم‪.‬‬
‫ولهذا ذكرنا أن العقل التنويري أخطر من العق‪$$‬ل الملح‪$$‬د‪ ،‬وأك‪$$‬ثر بع‪$$‬دا من‬
‫الدين عنه‪ ،‬ألن الملحد قد يقتنع في يوم من األي‪$$‬ام‪ ،‬ويع‪$$‬ود إلى هللا بتواض‪$$‬ع‪ ،‬أم‪$$‬ا‬
‫التنويري‪ ،‬فهو يتصور‪ $‬أنه على شيء‪ ،‬بينما ه‪$$‬و ال يمل‪$$‬ك من ال‪$$‬دين إال الس‪$$‬راب‬
‫ف‬ ‫اس َم ْن يَ ْعبُ ُد هَّللا َ َعلَى َح‪$$‬رْ ٍ‬ ‫﴿و ِمنَ النَّ ِ‬ ‫واألهواء والتقول على هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫خَس‪َ $‬ر ال‪ُّ $‬د ْنيَا‬
‫ب َعلَى َوجْ ِه‪ِ $‬ه ِ‬ ‫اط َم‪$$‬أ َ َّن بِ‪ِ $‬ه َوإِ ْن أَ َ‬
‫ص ‪$‬ابَ ْتهُ فِ ْتنَ ‪$‬ةٌ ا ْنقَلَ َ‬ ‫ص ‪$‬ابَهُ َخ ْي‪ٌ $‬ر ْ‬ ‫فَ ‪$‬إِ ْن أَ َ‬
‫ك هُ َو ْال ُخ ْس َرانُ ْال ُمبِينُ ﴾ [الحج‪]11 :‬‬ ‫َواآْل ِخ َرةَ َذلِ َ‬
‫والعقل الملح‪$$‬د يكتفي بنق‪$$‬د ال‪$$‬دين من دون أن يت‪$$‬دخل في تحريف‪$$‬ه وتبديل‪$$‬ه‬
‫والتالعب به‪ ،‬بينما العقل التنويري يفعل ذلك‪ ،‬ويفتري‪ $‬على هللا الك‪$$‬ذب‪ ،‬وي‪$$‬زعم‬
‫﴿و َم ْن‬ ‫أنه يفهم من الوحي ما لم يفهمه كل العلماء والص‪$$‬الحين‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪َ :‬‬
‫‪$‬وح إِلَ ْي‪ِ $‬ه َش‪ْ $‬ي ٌء َو َم ْن قَ‪$$‬ا َل‬
‫ي َولَ ْم يُ‪َ $‬‬ ‫وح َي إِلَ َّ‬‫‪$‬ال أُ ِ‬ ‫ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفت ََرى َعلَى هَّللا ِ َك ِذبًا أَوْ قَ‪َ $‬‬ ‫أَ ْ‬

‫‪97‬‬
‫َسأ ُ ْن ِز ُل ِم ْث َل َما أَ ْنزَ َل هَّللا ُ﴾ [األنعام‪]93 :‬‬

‫‪98‬‬
‫فكرة لم يسبقني إليها أحد‬
‫م‪$$‬ع ك‪$$‬ثرة النص‪$$‬وص المقدس‪$$‬ة المح‪$$‬ذرة من الري‪$$‬اء وحب الج‪$$‬اه وطلب‬
‫السمعة‪ ،‬والداعية إلى التواضع‪ $‬والعبودية وطلب خمول الذكر‪ ،‬نجد ألسنة كث‪$$‬يرة‬
‫تتح‪$$‬دث عن ال‪$$‬دين‪ ،‬وكأن‪$$‬ه س‪$$‬لعة من الس‪$$‬لع‪ ،‬أو اخ‪$$‬تراع من االختراع‪$$‬ات‪ ،‬أو‬
‫مضمار‪ $‬من المضامير التي يتنافس فيها أهل الدنيا ويتقاتلون‪.‬‬
‫ومظاهر ذلك كثيرة جدا‪ ،‬ولعل أحسن وصف له‪$$‬ا م‪$$‬ا وص‪$$‬فه أولي‪$$‬اء ه‪$$‬ذه‬
‫األمة عند تسميتهم‪ $‬لهؤالء بكونهم‪[ $‬علماء الدنيا]‪ ،‬حتى لو كانوا يعلّمون الق‪$$‬رآن‪،‬‬
‫أو يد ّرسون الفقه‪ ،‬أو يكتبون في العلوم الشرعية‪.‬‬
‫وأبشع تلك المظاهر هو تلك العبارة التي نس‪$$‬معها كث‪$$‬يرا‪ ،‬وكأنه‪$‬ا‪ $‬أدب من‬
‫اآلداب الشرعية‪ ،‬أو سنة من السنن النبوية‪ ،‬وهي قول بعضهم‪ $‬عندما يكش‪$$‬ف هللا‬
‫له فهما من الفهوم‪ ،‬أو معرفة من المعارف‪( $:‬وهذه فكرة لم أر من سبقني إليها)‪،‬‬
‫أو (لم يسبقني إليها أحد)‬
‫فإذا وجدها بعد ذل‪$$‬ك عن‪$$‬د بعض‪$$‬هم‪ ،‬وق‪$$‬د ذكره‪$$‬ا من غ‪$$‬ير أن ينس‪$$‬بها إلي‪$$‬ه‬
‫قامت قيامته‪ ،‬وراح يه‪$$‬دد ويتوع‪$$‬د‪ ،‬م‪$$‬ع العلم أن تل‪$$‬ك الفك‪$$‬رة ق‪$$‬د تك‪$$‬ون مرتبط‪$$‬ة‬
‫باإلخالص ودرجاته‪ ،‬والورع ومراتبه‪ ..‬وقد يكون لها عالقة بالش‪$$‬رك وخفاي‪$$‬اه‪،‬‬
‫أو الرياء ومظاهره‪ ..‬وقد‪ $‬تكون تفسيرا آلية قرآنية‪ ،‬أو شرحا لحديث نبوي‪.‬‬
‫وهو يفعل ذلك بكل تبجح‪ ،‬بل ربما يكتب في ذلك المقاالت‪ ..‬وك‪$$‬أن ال‪$$‬دين‬
‫ش‪$$‬يء‪ ،‬والح‪$$‬ديث عن‪$$‬ه ش‪$$‬يء آخ‪$$‬ر‪ ..‬م‪$$‬ع أن العلم بال‪$$‬دين يقتض‪$$‬ي أوال أن يت‪$$‬دين‬
‫المتعلم له‪ ،‬والمتحدث به‪ ،‬وإال كان مغرورا‪ $‬مخادعا‪ ،‬أو مفتون‪$$‬ا مض‪$$‬لال‪{ ،‬أَ ْخلَ ‪َ $‬د‬
‫ث}‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْك‪ $‬هُ يَ ْلهَ ْ‬
‫ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ‬
‫ض َواتَّبَ َع ه ََواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ‬
‫إِلَى اأْل َرْ ِ‬
‫[األعراف‪]176 :‬‬
‫كما ورد ذلك الوصف في األثر عن هللا تعالى خطابا ل‪$$‬داود علي‪$$‬ه الس‪$$‬الم‪:‬‬
‫(يا داود! ال تجعل بيني وبينك عالما ً مفتونا بالدنيا‪ ،‬فيصدك‪ $‬عن طري‪$$‬ق محب‪$$‬تي‪،‬‬
‫فان أولئك قطاع‪ $‬طريق عبادي المري‪$$‬دين‪ ،‬إن أدنى م‪$$‬ا أن‪$$‬ا ص‪$$‬انع بهم‪ ،‬أن أن‪$$‬زع‬
‫حالوة مناجاتي من قلوبهم)‬
‫وقال المسيح عليه الس‪$$‬الم‪( :‬ال‪$$‬دنيا داء ال‪$$‬دين‪ ،‬والع‪$‬الم ط‪$$‬بيب ال‪$$‬دين‪ ،‬ف‪$$‬اذا‬
‫رأيتم الطبيب يج ّر الداء إلى نفسه فاتهموه‪ ،‬واعلموا انه غير ناصح لغيره)‬
‫وفي الحديث عن رسول هللا ‪ ‬ق‪$$‬ال‪( :‬إي‪$$‬اكم وثالث‪$$‬ة‪ :‬زل‪$$‬ة ع‪$$‬الم‪ ،‬وج‪$$‬دال‬
‫منافق‪ $‬بالقرآن‪ ،‬ودنيا‪ $‬تقطع أعناقكم ; فأما زلة عالم فإن اهت‪$$‬دى فال تقل‪$$‬دوه دينكم‪،‬‬
‫وأن يزل فال تقطعوا عنه آمالكم‪ .‬وأم‪$$‬ا ج‪$$‬دال من‪$$‬افق‪ $‬ب‪$$‬القرآن ف‪$$‬إن للق‪$$‬رآن من‪$$‬ارا‬
‫كمنار الطريق‪ ،‬فما عرفتم فخذوه‪ ،‬وما أنكرتم فردوه إلى عالمه‪ .‬وأما دنيا تقط‪$$‬ع‬

‫‪99‬‬
‫غني)(‪)1‬‬ ‫أعناقكم‪ ،‬فمن جعل هللا في قلبه غنى فهو‪$‬‬
‫وقال‪( :‬إني ال أتخوف على أمتي مؤمنا وال مشركا‪ ،‬فأما المؤمن فيحج‪$$‬زه‬
‫إيمانه‪ ،‬وأما المشرك فيقمعه كفره‪ ،‬ولكن أتخوف عليكم منافقا عالم اللسان‪ ،‬يقول‬
‫ما تعرفون‪ ،‬ويعمل ما تنكرون)(‪)2‬‬
‫وقد ورد في اآلثار عن اإلمام الصادق وصفا رائعا ألمثال هؤالء العلماء‪،‬‬
‫وسلوكاتهم‪ $‬المتناقضة مع مقتضيات الدين‪ ،‬وال‪$$‬دركات‪ $‬ال‪$$‬تي تنتظ‪$$‬رهم‪ $‬في جهنم‪،‬‬
‫وهو مما ال يقال بالرأي‪ ،‬وإنما تلق‪$$‬اه عن آبائ‪$$‬ه وأج‪$$‬داده إلى رس‪$$‬ول‪ $‬هللا ‪ ،‬فق‪$$‬د‬
‫قال‪( :‬إن من العلماء من يحب أن يخ‪$$‬زن علم‪$$‬ه وال يؤخ‪$$‬ذ عن‪$$‬ه ف‪$$‬ذاك في ال‪$$‬درك‬
‫األس‪$$‬فل من الن‪$$‬ار‪ ،‬ومن العلم‪$$‬اء من إذا وع‪$$‬ظ أن‪$$‬ف وإذا وع‪$$‬ظ عن‪$$‬ف ف‪$$‬ذاك في‬
‫الدرك الثاني من النار‪ ،‬ومن العلم‪$$‬اء من ي‪$$‬رى أن يض‪$$‬ع العلم عن‪$$‬د ذوي ال‪$$‬ثروة‬
‫وال يرى له في المس‪$$‬اكين‪ ،‬ف‪$$‬ذاك في ال‪$$‬درك الث‪$$‬الث من الن‪$$‬ار‪ ،‬ومن العلم‪$$‬اء من‬
‫يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسالطين‪ ،‬فإن رد عليه شئ من قوله أو قص‪$$‬ر‬
‫في ش‪$$‬ئ من أم‪$$‬ره غض‪$$‬ب ف‪$$‬ذاك في ال‪$$‬درك الراب‪$$‬ع من الن‪$$‬ار‪ ،‬ومن العلم‪$$‬اء من‬
‫يطلب أح‪$‬اديث اليه‪$‬ود والنص‪$$‬ارى‪ $‬ليغ‪$‬زر‪ $‬ب‪$‬ه علم‪$$‬ه ويك‪$‬ثر ب‪$$‬ه حديث‪$‬ه ف‪$$‬ذاك في‬
‫الدرك الخامس من النار‪ ،‬ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول‪ :‬سلوني‪ $‬ولعله‬
‫ال يصيب حرفا واحدا وهللا ال يحب المتكلفين فذاك في الدرك السادس من الن‪$$‬ار‪،‬‬
‫ومن العلماء من يتخذ علمه مروة وعقال فذاك في الدرك السابع من النار)(‪)3‬‬
‫تمنيت لو أن هذه الروايات والنصوص‪ $‬المقدسة علقت على باب كل كلي‪$$‬ة‬
‫إسالمية‪ ،‬ونش‪$$‬رت م‪$$‬ع ك‪$$‬ل كت‪$$‬اب‪ ،‬ووض‪$$‬عت في ب‪$$‬اب ك‪$$‬ل مجلس علمي‪ ،‬ح‪$$‬تى‬
‫نجرد الدين من ذواتنا وأهوائنا‪ $‬ونتركه هلل وحده‪ ،‬ونتعامل بك‪$$‬ل عبودي‪$$‬ة م‪$$‬ع ك‪$$‬ل‬
‫معرفة تتاح لنا‪ ،‬أو فهم ينزله هللا علينا‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الطبراني في األوسط‪ ،‬انظر‪ :‬مجمع الزوائد ومنبع‪ $‬الفوائد (‪.)186 /1‬‬
‫‪ )(2‬رواه الطبراني في األوسط والصغير‪ ،‬انظر‪ :‬مجمع الزوائد ومنبع‪ $‬الفوائد (‪)187 /1‬‬
‫‪ )(3‬بحار األنوار‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.310‬‬

‫‪100‬‬
‫هل اقترب عصر الدجال‬
‫مما دلت عليه النصوص المتواترة من السنة المطهرة‪ ،‬بل مم‪$$‬ا دلت علي‪$$‬ه‬
‫أديان الشعوب المختلفة ظهور الدجال‪ ،‬الذي تجتمع فيه كل أنواع الفتن‪ ،‬ما ظهر‬
‫منه‪$$‬ا وم‪$$‬ا بطن‪ ..‬ب‪$$‬ل إن التحلي‪$$‬ل البس‪$$‬يط لحرك‪$$‬ة الت‪$$‬اريخ ي‪$$‬دل علي‪$$‬ه‪ ..‬ذل‪$$‬ك أن‬
‫المشروع‪ $‬الشيطاني يكتمل عنده‪ ،‬فعنده يجمع الشيطان كل م‪$$‬ا تعلم‪$$‬ه في تاريخ‪$$‬ه‬
‫الطويل من إغراءات ووساوس‪ $‬وتضليالت‪..‬‬
‫ولهذا ورد في النصوص المقدسة أنه يستطيع‪ ،‬وبحركات بسيطة أن يوفر‬
‫لمن يتبعه كل المرافق‪ $‬ال‪$$‬تي يحتاجه‪$$‬ا‪ ،‬ب‪$$‬ل ح‪$$‬تى تل‪$$‬ك ال‪$$‬تي لم يكن يحلم ب‪$‬ه‪ ،‬ففي‬
‫الح‪$$$‬ديث عن رس‪$$$‬ول هللا ‪( :‬في‪$$$‬أتي على الق‪$$$‬وم في‪$$$‬دعوهم‪ ،‬فيؤمن‪$$$‬ون ب‪$$$‬ه‪،‬‬
‫ويستجيبون له‪ ،‬فيأمر‪ $‬السماء فتمطر‪ ،‬واألرض فتنبت‪ ،‬ف‪$$‬تروح عليهم س‪$$‬ارحتهم‬
‫أطول ما كانت ذراً‪ ،‬وأسبغه ضروعاً‪ ،‬وأمده خواصر‪ $.‬ثم يأتي الق‪$$‬و َم في‪$$‬دعوهم‪،‬‬
‫فيردون عليه قوله‪ ،‬فينص‪$$‬رف‪ $‬عنهم‪ ،‬فيص‪$$‬بحون ممحلين ليس بأي‪$$‬دهم ش‪$$‬يء من‬
‫أموالهم‪ .‬ويمر‪ $‬بالخربة فيقول له‪$$‬ا‪ :‬أخ‪$$‬رجي كن‪$$‬وزك‪ $،‬فتتبع‪$$‬ه كنوزه‪$‬ا‪ $‬كيعاس‪$$‬يب‬
‫النحل)(‪)1‬‬
‫وهذا الحديث بهذا الوصف الذي ذكره رس‪$$‬ول‪ $‬هللا ‪ ،‬وال‪$$‬ذي راعى في‪$$‬ه‬
‫قدرات البيئة ال‪$$‬تي ك‪$$‬ان فيه‪$$‬ا‪ ،‬وال‪$$‬تي لم تكن ت‪$$‬رى من فتن ال‪$$‬دنيا إال ذل‪$$‬ك الغيث‬
‫البسيط الذي ينزل من سمائها‪ ،‬أو ذل‪$$‬ك العش‪$$‬ب األخض‪$‬ر‪ $‬ال‪$$‬ذي يكس‪$$‬و أرض‪$$‬ها‪$..‬‬
‫وهو يشير بلسان حاله إلى أم‪$$‬ور أك‪$$‬بر وأخط‪$$‬ر‪ ..‬وهي تل‪$$‬ك الكن‪$$‬ور‪ $‬ال‪$$‬تي تتبع‪$$‬ه‬
‫وتسير‪ $‬خلفه وتسخر‪ $‬له‪.‬‬
‫وبذلك فإن الدجال ـ بحس‪$$‬ب م‪$$‬ا تش‪$$‬ير‪ $‬إلي‪$‬ه تل‪$$‬ك النص‪$$‬وص ـ ه‪$$‬و الزب‪$$‬دة‬
‫والعصارة والخالصة التي تجتمع فيها كل المغري‪$$‬ات ال‪$$‬تي عرفته‪$$‬ا البش‪$$‬رية في‬
‫جميع عهودها‪ ..‬وذلك يستدعي أن تجتمع لديه جميع العلوم والتقنيات‪ ..‬ليس ذلك‬
‫فقط‪ ..‬بل تجتمع لديه جميع وساوس‪ $‬األبالسة وفلسفاتهم‪$..‬‬
‫ولو كان األمر قاصرا على توفر‪ $‬تلك المرافق والخدمات والمغريات لكان‬
‫األمر سهال‪ ..‬لكن الدجال ال يكتفي بذلك‪ ،‬بل هو يجعل من كل ذلك أحبولة ل‪$$‬نزع‬
‫اإليمان من قل‪$‬وب‪ ..‬ن‪$‬زع اإليم‪$‬ان باهلل من القل‪$‬وب‪ ،‬وإحالل اإليم‪$‬ان ب‪$‬ه وبدجل‪$‬ه‬
‫ومغرياته بدلها‪.‬‬
‫وكمقدم‪$$‬ة ل‪$$‬ذلك ينش‪$$‬ر الش‪$$‬يطان اآلن بأدوات‪$$‬ه المختلف‪$$‬ة من جمي‪$$‬ع أقط‪$$‬اب‬
‫الش‪$$‬ر‪ ،‬ومن يتبع‪$$‬ه من األذن‪$$‬اب أن‪$$‬ه ال أهمي‪$$‬ة لإليم‪$$‬ان أو الكف‪$$‬ر‪ ،‬أو الطاع‪$$‬ة أو‬
‫العصيان‪ ..‬بل األهمية لنمو االقتصاد‪ $..‬وتطور‪ $‬التكنولوجي‪$$‬ا‪ $..‬وت‪$$‬وفر‪ $‬الخ‪$$‬دمات‪..‬‬
‫‪ )(1‬مسلم (‪ ،)198-8/197‬وأبو داود(‪)2/213‬‬

‫‪101‬‬
‫أما اإليمان والطاعة فهي مجرد أفكار نسبية ال قيمة لها‪.‬‬
‫وب‪$$‬ذلك أص‪$$‬بحت م‪$$‬وازين البش‪$$‬ر هي م‪$$‬وازين ال‪$$‬دجال نفس‪$$‬ها‪ ..‬فالبش‪$$‬ر ال‬
‫يملك‪$$‬ون قيمتهم‪ $‬بس‪$$‬بب اإليم‪$$‬ان ال‪$$‬ذي يعم‪$$‬ر قل‪$$‬وبهم‪ ،‬وال ب‪$$‬األخالق ال‪$$‬تي تكس‪$$‬و‬
‫سلوكهم‪ ،‬وإنما بما س‪$$‬ماه هللا تع‪$$‬الى [ظ‪$$‬اهر الحي‪$$‬اة ال‪$$‬دنيا]‪ ،‬وهي تل‪$$‬ك المع‪$$‬ارف‪$‬‬
‫البس‪$$‬يطة ال‪$$‬تي تهتم بخدم‪$$‬ة الش‪$$‬هوات واأله‪$$‬واء والغرائ‪$$‬ز‪ $..‬ثم تختص ‪$‬ر‪ $‬الحي‪$$‬اة‬
‫والكون فيما تراه من ظواهر‪..‬‬
‫وقد اعتبر هللا تعالى كل ذلك جهال ال تساوي‪ $‬نشوة إيمان م‪$$‬ؤمن ح‪$$‬تى ل‪$$‬و‬
‫﴿ولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫اس اَل يَ ْعلَ ُمونَ (‬ ‫كان راع في جبل أو حمال في سوق‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫‪ )6‬يَ ْعلَ ُمونَ ظَا ِهرًا ِمنَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم ع َِن اآْل ِخ َر ِة هُ ْم غَافِلونَ ﴾ [الروم‪]7 ،6 :‬‬
‫ُ‬
‫هذه اآلية الكريمة كافية لمن تأملها في أن يعي‪$$‬د ض‪$$‬بط بوص‪$$‬لته‪ ..‬ح‪$$‬تى ال‬
‫يك‪$$‬ون من أنص‪$$‬ار‪ $‬ال‪$$‬دجال عن‪$$‬د خروج‪$$‬ه أو قب‪$$‬ل خروج‪$$‬ه‪ ..‬وح‪$$‬تى ال يك‪$$‬ون من‬
‫الممه‪$$‬دين لل‪$$‬دجال ال‪$$‬ذين يحتق‪$$‬رون اإليم‪$$‬ان‪ ،‬والمع‪$$‬ارف‪ $‬اإللهي‪$$‬ة‪ ،‬ويختص‪$$‬رون‬
‫الحياة في الحياة الدنيا‪ ،‬ويختصرون‪ $‬القيم فيما تمليه األهواء والغرائز‪$.‬‬

‫‪102‬‬
‫المرجئة الجدد‪ ..‬والتألي على هللا‬
‫من أخطر الظواهر التي أصابت كل األديان‪ ،‬وانحرفت بها عن القيم التي‬
‫جاء بها األنبياء عليهم الصالة والسالم [ظ‪$$‬اهرة اإلرج‪$$‬اء]‪ ،‬وهي الظ‪$$‬اهرة ال‪$$‬تي‬
‫تعبر عن تلك الرغبات النفس‪$‬ية ال‪$‬تي تري‪$‬د أن تتج‪$‬اوز م‪$‬وازين العدال‪$‬ة اإللهي‪$‬ة‪،‬‬
‫لتستبدلها‪ $‬بموازين جديدة‪ ،‬ال يدل عليها إال الهوى‪ ،‬والتفك‪$$‬ير الرغب‪$$‬وي المج‪$$‬رد‪،‬‬
‫والمعتمد‪ $‬على العاطفة‪ ،‬أو بعض المصادرات على المطلوب‪.‬‬
‫وقد أشار هللا تع‪$$‬الى إلى ه‪$$‬ذا اإلرج‪$$‬اء عن‪$$‬د اليه‪$$‬ود‪ ،‬وزعمهم أن الن‪$$‬ار لن‬
‫تمسهم إال أيام‪$$‬ا مع‪$$‬دودة‪ ،‬لس‪$$‬بب بس‪$$‬يط‪ ،‬وه‪$$‬و أنهم يه‪$$‬ود‪ ،‬وش‪$$‬عب هللا المخت‪$$‬ار‪،‬‬
‫وا لَن تَ َم َّسنَا النَّا ُر إِالَّ أَيَّاما ً َّم ْعدُو َدةً قُلْ أَتَّخ َْذتُ ْم ِعن َد هّللا ِ َع ْهدًا فَلَن ي ُْخلِ‪$$‬فَ‬
‫﴿وقَالُ ْ‬
‫فقال‪َ :‬‬
‫ك بِأَنَّهُ ْم قَ‪$$‬الُواْ‬‫هّللا ُ َع ْه َدهُ أ ْم تَقولونَ َعلى ِ َما الَ تَ ْعل ُمون﴾ [البقرة‪ ،]80:‬وقال‪﴿ :‬ذلِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫هّللا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وا يَ ْفتَ‪$$‬رُون﴾ [آل‬ ‫ت َوغَ‪َّ $$‬رهُ ْم فِي ِدينِ ِهم َّما َك‪$$‬انُ ْ‬ ‫لَن تَ َم َّس‪$$‬نَا النَّا ُر إِالَّ أَيَّا ًم‪$$‬ا َّمعْ‪ $$‬دُودَا ٍ‬
‫عمران‪.]24:‬‬
‫واآلية الكريم‪$$‬ة تش‪$$‬ير إلى م‪$$‬ا أطلقن‪$$‬ا علي‪$$‬ه [التفك‪$$‬ير الرغب‪$$‬وي]‪ ،‬أو [دين‬
‫وا يَ ْفتَ‪$‬رُون﴾‪،‬‬ ‫البشر]‪ ،‬والذي‪ $‬ع‪$$‬بر عن‪$$‬ه قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪َ ﴿ :‬و َغ‪َّ $‬رهُ ْم فِي ِدينِ ِهم َّما َك‪$$‬انُ ْ‬
‫ف‪$$‬دين البش‪$$‬ر يعتم‪$$‬د على تل‪$$‬ك األك‪$$‬اذيب ال‪$$‬تي يك‪$$‬ذبون به‪$$‬ا على أنفس‪$$‬هم‪ ،‬ثم‬
‫يفرض‪$$‬ونها‪ $‬على ربهم‪ ،‬ويت‪$$‬ألون علي‪$$‬ه‪ ،‬ويتص‪$$‬ورون أن الجن‪$$‬ة والن‪$$‬ار ص‪$$‬ارت‬
‫بيدهم‪ ،‬ال بيد ربهم‪.‬‬
‫وما ذكره القرآن الكريم عن اليهود‪ ،‬هو نفسه ما وقع في‪$$‬ه النص‪$$‬ارى‪ ،‬فق‪$$‬د‬
‫ورد في [رسالة يوحنا الرسول‪ $‬األولى ‪( :])1 $:2‬يا أوالدي أكتب إليكم ه‪$$‬ذا لكي‬
‫التخطئوا‪ $‬وإن أخطأ أح ٌد فلنا شفيع عند األب‪ ،‬يسوع المس‪$$‬يح الب‪$$‬ار‪ ،‬وه‪$$‬و كف‪$$‬ارة‬
‫لخطايانا‪ $.‬ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً)‬
‫وبناء على هذه المقولة وغيرها ذهبت كل تعاليم المسيح والقيم النبيلة التي‬
‫جاء بها أدراج الرياح‪ ،‬ذلك أن السوط الذي جعله هللا لتأديب عباده‪ ،‬وه‪$$‬و جهنم‪،‬‬
‫وعذابها الشديد‪ ،‬صار ملغيا بفعل تلك المفاهيم اإلرجائية‪.‬‬
‫ونفس الشيء حصل للمسلمين في عهدهم األول‪ ،‬حيث تحول الكث‪$$‬ير منهم‬
‫إلى ف‪$$‬رق إطف‪$$‬اء لجهنم‪ ،‬وس‪$$‬عيرها‪ ،‬ب‪$$‬ل إلغائه‪$$‬ا أص‪$$‬ال‪ ،‬واعتب‪$$‬ار أن ك‪$$‬ل تل‪$$‬ك‬
‫التهديدات التي وردت في القرآن الك‪$$‬ريم‪ ،‬وألبس‪$‬ط‪ $‬التج‪$$‬اوزات وال‪$$‬ذنوب مج‪$$‬رد‬
‫تهديدات لفظية ال قيمة لها‪..‬‬
‫وانتشر بينهم أن رحمة هللا واس‪$$‬عة‪ ..‬ولطف‪$$‬ه بعب‪$$‬اده عظيم‪ ..‬وأن‪$$‬ه يكفي أن‬
‫يتحقق اإليمان باهلل ورسوله‪ ،‬لتتنزل بعده السعادة المطلقة‪ ،‬وال يهم بعد ذلك‪ ،‬هل‬
‫كان ذلك اإليمان مجرد أق‪$$‬وال تق‪$$‬ال‪ ،‬أو حرك‪$$‬ات ت‪$$‬ؤدى‪ ،‬أو ك‪$$‬انت قيم‪$$‬ا يعيش‪$$‬ها‪$‬‬

‫‪103‬‬
‫صاحبها‪ ،‬ويضحي‪ $‬بكل شيء من أجلها‪.‬‬
‫انتشر في ذلك الحين مثل تل‪$$‬ك األح‪$$‬اديث ال‪$$‬تي ال تعطي أي قيم‪$$‬ة للعم‪$$‬ل‪،‬‬
‫وال للسلوك األخالقي مثل حديث‪( :‬أتانى جبريل فبشرنى‪ $‬أنه من م‪$$‬ات من أمت‪$$‬ك‬
‫ال يشرك‪ $‬باهلل شيئا دخ‪$$‬ل الجن‪$$‬ة فقلت‪ :‬وإن زنى وإن س‪$$‬رق؟ ق‪$$‬ال‪ :‬وإن زنى وإن‬
‫سرق)(‪)1‬‬
‫وهكذا انتشرت مثل هذه النصوص اإلرجائية‪ ،‬لتح‪$$‬ول من الزن‪$$‬ا والس‪$$‬رقة‬
‫وشهادة الزور‪ $‬وكل الجرائم اإلنسانية بما فيها القتل نفس‪$$‬ه ش‪$$‬يئا بس‪$$‬يطا‪ $‬ال أهمي‪$$‬ة‬
‫له‪ ،‬مع أن هللا تعالى في القرآن الكريم يتوعد بالعذاب الشديد ألجل قضايا‪ $‬بسيطة‬
‫جدا‪ ،‬ال تساوي أمامها تلك الجرائم شيئا‪.‬‬
‫هذا حال المرجئة القدامى مع التعاليم القرآنية والنبوية‪ ،‬ومع القيم الشريفة‬
‫التي وردت فيهما‪ ،‬أم‪$$‬ا المرجئ‪$$‬ة المح‪$$‬دثين‪ ،‬فح‪$$‬دث وال ح‪$$‬رج‪ ..‬فق‪$$‬د راح‪$$‬وا إلى‬
‫اإليمان نفسه يحذفونه‪ ،‬فال يشترط عن‪$$‬دهم اإليم‪$$‬ان ل‪$$‬دخول الجن‪$$‬ة‪ ..‬ب‪$$‬ل يكفي أن‬
‫يكون اإلنسان طيبا‪ ،‬وخلوقا‪ $..‬أما اإليمان فهو مسألة فرعية ال قيمة لها‪.‬‬
‫س‬‫وأما قوله تعالى‪ ﴿ :‬قُلْ لِلَّ ِذينَ َكفَ‪$‬رُوا َس‪$‬تُ ْغلَبُونَ َوتُحْ َش‪$‬رُونَ إِلَى َجهَن َم َوبِئ َ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ْال ِمهَادُ﴾ [آل عمران‪ ،]12 :‬فه‪$$‬و عن‪$$‬دهم منس‪$$‬وخ‪ ،‬وم‪$$‬ؤول‪ $‬بص‪$$‬نوف‪ $‬الت‪$$‬أويالت‪..‬‬
‫فالكافر عندهم ال وجود له إال في النصوص المقدسة‪ ،‬وأما في الواقع‪ ،‬فال وجود‪$‬‬
‫له‪ ..‬حتى ذلك ال‪$$‬ذي ينفي هللا‪ ،‬ويعيش عم‪$$‬ره داعي‪$$‬ة إلى اإللح‪$$‬اد‪ ،‬أو س‪$$‬اخرا من‬
‫هللا‪ ،‬ال قيمة لكل ذلك عندهم‪ ،‬فهو ما دام يؤمن بالجاذبية أو بالطبيع‪$$‬ة‪ ..‬فيمكن أن‬
‫نعتبره مؤمنا باهلل بوجه من الوجوه‪..‬‬
‫وهم ال يكتفون فقط برج‪$‬اء أن تش‪$‬مله رحم‪$‬ة هللا الواس‪$‬عة‪ ،‬ولكنهم يت‪$‬ألون‬
‫على هللا‪ ،‬فيدعون ألولئك الذين كان في إمكانهم أن يؤمنوا‪ $،‬ولكنهم لم يفعلوا‪ ..‬ال‬
‫يدعون لهم بالهداية فقط‪ ،‬وإنما يدعون لهم بالرحمة والمغف‪$$‬رة والجن‪$$‬ة الواس‪$$‬عة‪..‬‬
‫بل بالفردوس‪ $‬األعلى‪.‬‬
‫ويتناسون أن رسول هللا ‪ ‬أخبر عن العذاب الش‪$$‬ديد ال‪$$‬ذي يحي‪$$‬ق بأمت‪$$‬ه‪،‬‬
‫مع إيمانها‪ ،‬بسبب بعض التقصير الذي قد تمارسه تجاه أوام‪$$‬ر هللا‪ ،‬ففي الح‪$$‬ديث‬
‫الصحيح المع‪$$‬روف‪ ،‬ال‪$$‬ذي يوص‪$$‬ي في‪$$‬ه رس‪$$‬ول هللا ‪ ‬أمت‪$$‬ه‪( :‬أال وإنى ف‪$$‬رطكم‪$‬‬
‫على الح‪$$‬وض‪ ،‬وإني مك‪$$‬اثر بكم األمم‪ ،‬فال تس‪$$‬ودوا وجهي أال وق‪$$‬د رأيتم‪$$‬وني‪$‬‬
‫وسمعتم‪ $‬مني وستسألون عني‪ ،‬فمن كذب علي فليتب‪$$‬وأ‪ $‬مقع‪$$‬ده من الن‪$$‬ار‪ ،‬أال وإني‬
‫مستنقذ رجاال‪ -‬أو أناسا‪ -‬ومستنقذ مني آخرون فأقول‪ $:‬يا رب‪ ،‬أص‪$$‬حابي‪ $.‬فيق‪$$‬ال‪:‬‬
‫إنك ال تدري ما أحدثوا بعدك)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬رواه البخارى (‪ ،6/2721‬رقم ‪ ، )7049‬ومسلم (‪ ،1/94‬رقم ‪)94‬‬


‫‪ )(2‬رواه أحم‪$$‬د (‪ ،5/412‬رقم ‪ ،5/393( $)23544‬رقم ‪ ، )23385‬والبخ‪$$‬ارى (‪ ،5/2404‬رقم ‪،)6205‬‬
‫والنسائى فى الكبرى (‪ ،2/444‬رقم ‪.)4099‬‬

‫‪104‬‬
‫فهذا الحديث وأمثاله من األحاديث المروية في جميع الص‪$$‬حاح والمس‪$$‬انيد‪$‬‬
‫والسنن‪ ،‬والتي يخبر فيها رسول‪ $‬هللا ‪ ‬أنه حُرم من الشفاعة في أص‪$$‬حابه ال‪$$‬ذي‬
‫عرفهم‪ ،‬وقد كانوا يصلون ويصومون ويتوض‪$$‬أون ويحج‪$$‬ون ويمرض‪$$‬ون‪..‬وم‪$‬ع‪$‬‬
‫ذلك لم يخرجوا من ذنوبهم‪ $‬كيوم ولدتهم أمهاتهم‪$.‬‬
‫ومثله ما ورد‪ $‬في القرآن الكريم من أنه ال مجال للتالعب ب‪$$‬القيم‪ ،‬وأن ك‪$$‬ل‬
‫من تالعب به‪$$‬ا ف‪$$‬إن مص‪$$‬يره إلى جهنم‪ ،‬وأول القيم قيم اإليم‪$$‬ان باهلل‪ ،‬كم‪$$‬ا ق‪$$‬ال‬
‫ت‬‫ين (‪ )39‬فِي َجنَّا ٍ‬ ‫اب ْاليَ ِم ِ‬
‫ص‪َ $‬ح َ‬ ‫ت َر ِهينَ‪$‬ةٌ (‪ )38‬إِاَّل أَ ْ‬ ‫س بِ َم‪$$‬ا َك َس‪$‬بَ ْ‬‫تع‪$$‬الى‪ُ ﴿ :‬ك‪$$‬لُّ نَ ْف ٍ‬
‫ك ِمنَ‬ ‫يَتَ َسا َءلُونَ (‪َ )40‬ع ِن ْال ُمجْ ِر ِمينَ (‪َ )41‬ما َس‪$‬لَ َك ُك ْم فِي َس‪$‬قَ َر (‪ )42‬قَ‪$$‬الُوا لَ ْم نَ‪ُ $‬‬
‫ض ‪$‬ينَ (‪)45‬‬ ‫ط ِع ُم ْال ِم ْس ِكينَ (‪َ )44‬و ُكنَّا نَ ُخوضُ َم‪َ $‬ع ْالخَائِ ِ‬ ‫ك نُ ْ‬ ‫صلِّينَ (‪َ )43‬ولَ ْم نَ ُ‬ ‫ْال ُم َ‬
‫َو ُكنَّا نُ َك ِّذبُ بِيَوْ ِم الدِّي ِن (‪َ )46‬حتَّى أَتَانَا ْاليَقِينُ (‪ )47‬فَ َما تَ ْنفَ ُعهُ ْم َشفَا َعةُ ال َّشافِ ِعينَ (‬
‫‪[ ﴾)48‬المدثر‪]48 - 38 :‬‬
‫فاآلي‪$$‬ات الكريم‪$$‬ة أخ‪$$‬برت أن ال‪$$‬ذين ال يص‪$$‬لون‪ ..‬أي ليس لهم تواص‪$$‬ل‬
‫روحي‪ $‬باهلل‪ ..‬وال‪$$‬ذين ال يطعم‪$$‬ون المس‪$$‬كين‪ ..‬أي ليس لهم أي تواص‪$$‬ل ورحم‪$$‬ة‬
‫بالمجتمع‪ ..‬هؤالء وغيرهم ال تنفعهم شفاعة الش‪$$‬افعين ح‪$$‬تى ل‪$$‬و تق‪$$‬دموا للش‪$$‬فاعة‬
‫لهم‪.‬‬
‫وهكذا نجد القرآن الكريم يصرح بغضب هللا ولعنت‪$$‬ه وعقاب‪$$‬ه الش‪$$‬ديد على‬
‫ذن‪$$‬وب كث‪$$‬يرة نراه‪$$‬ا هين‪$$‬ة س‪$$‬هلة عن‪$$‬د أولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين ض‪$$‬ربوا الق‪$$‬رآن بالح‪$$‬ديث‪..‬‬
‫وضربوا الدين وقيمه بما شرعوه ألنفسهم من شرائع الهوى‪.‬‬
‫ُ‬
‫﴿و ْي ٌل لِ ُكلِّ هُ َم َز ٍة ل َم َز ٍة (‬
‫فاهلل تعالى أخبر عن الهمز واللمز وعقوبته‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫‪ )1‬الَّ ِذي َج َم َع َمااًل َو َع َّد َدهُ (‪ )2‬يَحْ َسبُ أَ َّن َمالَهُ أَ ْخلَ َدهُ (‪َ )3‬كاَّل لَيُ ْنبَ َذ َّن فِي ال ُحطَ َم‪ِ $$‬ة‬
‫ْ‬
‫(‪َ )4‬و َما أَ ْد َراكَ َما ْال ُحطَ َمةُ (‪ )5‬نَا ُر هللا ْال ُموقَ َدةُ (‪ )6‬الَّتِي تَطَّلِ ‪ُ $‬ع َعلَى اأْل َ ْفئِ ‪َ $‬د ِة (‪)7‬‬
‫ص َدةٌ (‪ )8‬فِي َع َم ٍد ُم َم َّد َد ٍة (‪[ ﴾)9‬الهمزة‪]9 - 1 :‬‬ ‫إِنَّهَا َعلَ ْي ِه ْم ُم ْؤ َ‬
‫ْ‬
‫﴿و َم ْن يَقتُ‪$$‬لْ‬
‫وأخبر عن عقوبة القتل العمد‪ ،‬وأنه‪$$‬ا الخل‪$$‬ود في جهنم‪ ،‬فق‪$$‬ال‪َ :‬‬
‫ب هللا َعلَ ْي‪ِ $‬ه َولَ َعنَ‪$‬هُ َوأَ َع‪َّ $‬د لَ‪$‬هُ َع‪َ $‬ذابًا‬ ‫َض‪َ $‬‬‫ُم ْؤ ِمنًا ُمتَ َع ِّمدًا فَ َجزَا ُؤهُ َجهَنَّ ُم خَالِدًا فِيهَا َوغ ِ‬
‫َع ِظي ًما (‪[ ﴾)93‬النساء‪ ]93 :‬وغيرها من النصوص الكثيرة‪..‬‬
‫وفي الحديث الصحيح الش‪$$‬هير عن عائش‪$$‬ة ق‪$$‬الت‪ :‬قلت للن‪$$‬بي ‪ :‬حس‪$$‬بك‬
‫من صفية كذا وكذا‪ ،‬فقال‪ :‬لقد قلت كلمة لو مزجت بم‪$$‬اء البح‪$$‬ر لمزجت‪$$‬ه‪ .‬ق‪$$‬الت‪:‬‬
‫وحكيت له إنسانا‪ ،‬فقال‪ :‬ما أحب أنى حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا (‪.)1‬‬
‫وعندما نسأل هؤالء المرجئة الجدد عن الدافع ال‪$$‬ذي جعلهم يفك‪$$‬رون مث‪$$‬ل‬
‫هذا التفكير‪ ،‬ويلغون كل تلك النصوص المقدسة‪ ،‬يقولون لك‪ :‬إننا عندما نذكر ما‬
‫ورد في الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم من الوعي‪$$‬د الش‪$$‬ديد ينف‪$$‬ر الن‪$$‬اس من ال‪$$‬دين‪ ،‬ونجعلهم‬

‫‪ )(1‬رواه الترمذي رقم (‪ )2503‬و (‪ ،)2504‬وأبو داود رقم (‪ ، )4875‬وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن‬
‫صحيح‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫يعرضون عنه‪ ،‬ويتصورون أن هللا ما خلق الخلق إال ليعذبهم‪.‬‬
‫ولست أدري ما يجاب به هؤالء‪ ،‬فهل هم أعلم أم هللا؟‬
‫وهل ل‪$$‬ديهم من ص‪$$‬كوك الغف‪$$‬ران م‪$$‬ا يمكنهم‪ $‬أن يس‪$$‬لموها لمن ش‪$$‬اءت لهم‬
‫أهواؤهم‪ $‬تسليمها لهم؟‬
‫وكي ‪$‬ف‪ $‬ح‪$$‬ال أولئ‪$$‬ك األع‪$$‬راب البس‪$$‬طاء ال‪$$‬ذين أخ‪$$‬بر الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم عن‬
‫العذاب الشديد الذي سيلحق بهم‪ ،‬ألجل أخطاء وقعوا‪ $‬فيه‪$$‬ا‪ ،‬وح‪$$‬دود تجاوزوه‪$$‬ا‪..‬‬
‫أم أن األعراب يعذبون‪ ،‬وأهل المدنية المعاصرة يُتجاوز‪ $‬عنهم؟‬
‫ثم م‪$$‬ا يقول‪$$‬ون في تل‪$$‬ك النص‪$$‬وص المقدس‪$$‬ة ال‪$$‬تي ح‪$$‬وت تل‪$$‬ك التهدي‪$$‬دات‬
‫الشديدة‪ ..‬مع العلم أن هللا قد أمرنا بتالوتها‪ ،‬والت‪$$‬دبر فيه‪$$‬ا لتبقى دائم‪$$‬ا بين أعينن‪$$‬ا‬
‫نرتدع من خاللها‪ ،‬لنتخلص من أسر األهواء‪ ،‬والتثاقل‪ $‬إلى األرض؟‬
‫ثم ما يقول‪$$‬ون في اعتب‪$$‬ار هللا تع‪$$‬الى رس‪$$‬وله ‪ ‬ن‪$$‬ذيرا بين ي‪$$‬دي الس‪$$‬اعة‪،‬‬
‫واعتباره محذرا للبشرية من العذاب الش‪$$‬ديد ال‪$$‬ذي س‪$$‬يلحق به‪$$‬ا إن لم تتبع‪$$‬ه‪ ،‬ولم‬
‫تؤمن به؟‬
‫ال يمكنهم اإلجاب‪$$‬ة عن ه‪$$‬ذه التس‪$$‬اؤالت إال بش‪$$‬يء واح‪$$‬د‪ ،‬وه‪$$‬و مح‪$$‬و ك‪$$‬ل‬
‫التهديدات ال‪$‬واردة في النص‪$‬وص المقدس‪$‬ة‪ ،‬أو اعتباره‪$‬ا منس‪$‬وخة بآي‪$‬ة الرحم‪$‬ة‬
‫الواسعة‪ ،‬مثلما نسخ المتشددون كل آيات الرحمة والص‪$$‬فح بآي‪$$‬ة الس‪$$‬يف‪ ..‬ويق‪$$‬رأ‬
‫ْض ﴾‬ ‫ْض ْال ِكتَ‪$‬ا ِ‬
‫ب َوتَ ْكفُ‪$‬رُونَ بِبَع ٍ‬ ‫عليهم في هذه الحالة قوله تع‪$$‬الى‪﴿ :‬أَفَتُ ْؤ ِمنُ‪$$‬ونَ بِبَع ِ‬
‫[البقرة‪]85 :‬‬
‫قد يقال‪ :‬بأن هناك ناسا لم يسمعوا باإلس‪$$‬الم‪ ،‬وال بأدل‪$$‬ة اإليم‪$$‬ان‪ ..‬ول‪$$‬ذلك‪،‬‬
‫فإنهم‪ $‬معذورون من هذه الناحية‪.‬‬
‫ونحن ال ننكر هذا‪ ،‬ولكن هذا يصدق على العوام ال على الخواص‪ ،‬وعلى‬
‫األم‪$$‬يين ال على العلم‪$$‬اء‪ ..‬وح‪$$‬تى‪ $‬ل‪$$‬و ص‪$$‬دق على الع‪$$‬وام‪ ،‬ف‪$$‬إن الش‪$$‬ريعة تأمرن‪$$‬ا‬
‫بالتوقف في إصدار األحك‪$$‬ام في ش‪$$‬أنهم‪ ،‬فال نحكم لهم بجن‪$$‬ة وال ن‪$$‬ار‪ ،‬وال ن‪$$‬دعو‬
‫لهم بأحدهما‪ ،‬ألن األمر هلل تعالى من قبل ومن بعد‪.‬‬
‫أما أن نصيح في المأل‪ ،‬ونخطب على المن‪$$‬ابر‪ ،‬داعين بالرحم‪$$‬ة والمغف‪$$‬رة‬
‫والجنة لمن قضى‪ $‬حياته يدعو إلى اإللحاد‪ ،‬ويبرره‪ ،‬ويصبغه بالص‪$$‬بغة العلمي‪$$‬ة‪،‬‬
‫وبسببه صار لإللحاد سوق‪ ..‬فهذا عجيب وإرج‪$$‬اء لم يحص‪$$‬ل مثل‪$$‬ه في الت‪$$‬اريخ‪..‬‬
‫حتى في تاريخ اليهودية والمسيحية‪.‬‬
‫م‪$$‬ع العلم أنن‪$$‬ا ل‪$$‬و طبقن‪$$‬ا على ه‪$$‬ذا الش‪$$‬خص وغ‪$$‬يره م‪$$‬ا ورد في ح‪$$‬ديث‬
‫المفلس‪ ،‬والذي قال في‪$$‬ه ‪(:‬إن المفلس من أم‪$$‬تي من ي‪$$‬أتي ي‪$$‬وم القيام‪$$‬ة بص‪$$‬يام‬
‫وصالة وزكاة‪ ،‬ويأتي‪ $‬قد شتم عرض ه‪$$‬ذا‪ ،‬وق‪$$‬ذف‪ $‬ه‪$$‬ذا‪ ،‬وأك‪$$‬ل م‪$$‬ال ه‪$$‬ذا‪ ،‬فيقع‪$$‬د‬
‫فيقتص هذا من حسناته‪ ،‬وهذا من حسناته‪ ،‬فإن فنيت حسناته قب‪$$‬ل أن يقض‪$$‬ي م‪$$‬ا‬

‫‪106‬‬
‫الن‪$$‬ار)(‪)1‬‬ ‫علي‪$$‬ه من الخطاي‪$$‬ا‪ ،‬أخ‪$$‬ذ من خطاي‪$$‬اهم‪ $‬فط‪$$‬رحت علي‪$$‬ه‪ ،‬ثم ط‪$$‬رح في‬
‫فسنرى ما هو أخطر من كل ما ذكره رسول‪ $‬هللا ‪ ‬من أمثلة‪ ..‬ذلك أن الملحد لم‬
‫يش‪$$‬تم الن‪$$‬اس‪ ،‬ولم يق‪$$‬ذفهم فق‪$$‬ط‪ ،‬وإنم‪$$‬ا راح يس‪$$‬رق منهم أغلى ج‪$$‬وهرة‪ ،‬ج‪$$‬وهرة‬
‫اإليمان‪..‬‬
‫فكيف يمكن أن يتعامل هذا الملحد يوم القيام‪$$‬ة م‪$$‬ع ك‪$$‬ل ال‪$$‬ذين يخاص‪$$‬مونه‬
‫باعتب‪$$$‬اره الحج‪$$$‬اب ال‪$$$‬ذي حجبهم عن اإليم‪$$$‬ان‪ ،‬والقنط‪$$$‬رة ال‪$$$‬تي أدت بهم إلى‬
‫اإللحاد‪ ..‬وقد قال ‪(:‬من كانت له مظلمة ألحد من عرض‪$$‬ه أو ش‪$$‬يء‪ ،‬فليتحلل‪$$‬ه‬
‫منه اليوم قبل أال يكون دينار وال درهم‪ ،‬إن كان له عم‪$$‬ل ص‪$$‬الح أخ‪$$‬ذ من‪$$‬ه بق‪$$‬در‬
‫مظلمته‪ ،‬وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)(‪)2‬‬
‫ال يمكننا أن نشبه الدور الخطير ال‪$$‬ذي يق‪$$‬وم ب‪$$‬ه ه‪$‬ؤالء إال ب‪$‬ذلك الص‪$‬ديق‪$‬‬
‫األحمق الذي أراد أن يذب الذباب عن صاحبه‪ ،‬فقتله‪ ..‬وهك‪$‬ذا يفع‪$$‬ل ه‪$‬ؤالء‪ ،‬فهم‬
‫بتعظيمهم المالحدة‪ ،‬وبدعائهم لهم‪ ،‬ينشرون‪ $‬اإللحاد من حيث ال يشعرون‪ ،‬ألنهم‬
‫يعتبرون‪$$‬ه قيم‪$$‬ة من القيم المحترم‪$$‬ة‪ ،‬في نفس ال‪$$‬وقت ال‪$$‬ذي يجل‪$$‬دون في‪$$‬ه ال‪$$‬ذات‪،‬‬
‫ويحتقرون‪ $‬القيم اإليمانية والدينية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وهم في ذلك ال يختلفون عمن وصفهم هللا تعالى بقوله‪ ﴿ :‬أل ْم تَ ‪َ $‬ر إِلى ال ِذينَ‬
‫ت َوالطَّا ُغو ِ‬
‫ت َويَقُولُونَ لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا هَؤُاَل ِء‬ ‫ب ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ْال ِج ْب ِ‬ ‫أُوتُوا نَ ِ‬
‫صيبًا‪ِ $‬منَ ْال ِكتَا ِ‬
‫أَ ْهدَى ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُوا َسبِياًل ﴾ [النساء‪ ،]51 :‬فهذه اآلية الكريمة تكاد تنطب‪$$‬ق على‬
‫هؤالء انطباقا تاما‪ ،‬فهم يؤمنون بآيات الرجاء‪ ،‬وال يؤمنون بآي‪$$‬ات الخ‪$$‬وف‪ ،‬وال‬
‫يق‪$$‬درونها‪ $‬ح‪$$‬ق ق‪$$‬درها‪ $..‬وهم ي‪$$‬رددون ك‪$$‬ل حين ب‪$$‬أن س‪$$‬بيل المنح‪$$‬رفين عن هللا‪،‬‬
‫والمنفرين عنه‪ ،‬أهدى من سبيل المؤمنين‪ ..‬وهو ما يفعله التنويري‪$$‬ون والمرجئ‪$$‬ة‬
‫الجدد كل حين عند تعظيمهم‪ $‬لغير المؤمنين‪ ،‬وتحقيرهم للمؤمنين‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك كله فإن تلك ال‪$‬دعوات‪ ،‬ال ترتب‪$‬ط بالت‪$‬دخل في الش‪$‬ؤون‬
‫اإللهية فقط‪ ،‬وال ترتبط‪ $‬بالدعوة غير المباش‪$$‬رة لإللح‪$$‬اد فق‪$$‬ط‪ ..‬وإنم‪$$‬ا له‪$$‬ا آثاره‪$$‬ا‬
‫الخطيرة على الس‪$$‬لوك والقيم جميع‪$$‬ا‪ ،‬ذل‪$$‬ك أن‪$$‬ه من الب‪$$‬ديهيات أن القيم الس‪$$‬لوكية‬
‫الرفيعة تحتاج إلى حوافز‪ ،‬تدفع إلى العمل به‪$$‬ا‪ ،‬وعقوب‪$$‬ات تنف‪$$‬ر من الوق‪$$‬وع في‬
‫أض‪$$‬دادها‪ ..‬ف‪$$‬إذا م‪$$‬ا رفعت العقوب‪$$‬ات‪ ..‬ولم تب‪$$‬ق إال الح‪$$‬وافز‪ $‬ال‪$$‬تي يس‪$$‬توي‪ $‬فيه‪$$‬ا‬
‫العاملون والمقصرون‪ ..‬لن تبقى أي قيمة‪ ..‬بل لن يبقى أي دين‪.‬‬
‫فهل يمكن أن يستقيم أمر دولة تضع الق‪$$‬وانين المش‪$$‬ددة للج‪$$‬رائم‪ ..‬ثم ي‪$$‬أتي‬
‫أئمتها وخطباؤها ومفكروها‪ $‬ليقولوا لعامة الناس‪ :‬ال تخافوا‪ $..‬فكل تل‪$$‬ك العقوب‪$$‬ات‬
‫المسطرة لن تحصل‪ ..‬فالحاكم‪ $‬رحيم وصاحب قلب طيب‪ ..‬وقد وسع برحمته كل‬
‫رعيته صالحهم ومجرمهم‪ ..‬برهم وفاجرهم‪.‬‬
‫‪ )(1‬رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ه‪$$‬ل يمكن أن تبقى في ه‪$$‬ذه المدين‪$$‬ة أي قيم رفيع‪$$‬ة‪ ،‬أو أخالق عالي‪$$‬ة‪ ،‬أو‬
‫نظام محكم؟‬

‫‪108‬‬
‫حينما يتجاوز التسامح حدوده‬
‫التسامح خلق نبيل دال على رؤية سليمة لحق‪$$‬ائق الوج‪$$‬ود‪ ،‬ودور اإلنس‪$$‬ان‬
‫فيه‪ ،‬وكون األمر هلل في خلقه من قب‪$$‬ل ومن بع‪$$‬د‪ ..‬ول‪$$‬ذلك ك‪$$‬ان رس‪$$‬ل هللا وورث‪$$‬ة‬
‫األنبياء عليهم السالم أكثر الناس تحققا بهذا الخلق؛ فهم أكثر الناس س‪$$‬عة ص‪$$‬در‪،‬‬
‫ولين طباع‪.‬‬
‫ولكن مع ذلك‪ ،‬فإن التسامح له ح‪$$‬دوده ال‪$‬تي ال يص‪$‬ح أن يتجاوزه‪$$‬ا‪ ،‬مثل‪$‬ه‬
‫مثل سائر األخالق المحصنة بجداري العدل والحكمة‪..‬‬
‫فمن التس‪$$$$‬امح أال ن‪$$$$‬ؤذي أص‪$$$$‬حاب أي دين ك‪$$$$‬ان‪ ،‬وال أن نت‪$$$$‬دخل في‬
‫خصوصياتهم‪ $،‬وال أن نهدم معابدهم‪ ،‬أو نتكبر عليهم بأي لون من ألوان التكبر‪..‬‬
‫بل نحن مطالبون عكس ذلك بتأليف‪ $‬قلوبهم ومراعاة مشاعرهم‪ ،‬وعدم التع‪$$‬رض‬
‫لمقدساتهم‪ $‬بالشتم أو السب أو اإلساءة‪.‬‬
‫َّ‬
‫﴿واَل تَ ُسبُّوا ال ِذينَ يَ ْد ُعونَ ِم ْن‬ ‫وقد علمنا هللا ذلك مع أشد الناس كفرا‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫دُو ِن هَّللا ِ فَيَ ُسبُّوا هَّللا َ َع ْد ًوا بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم ﴾ [األنعام‪ ،]108 :‬فاهلل تعالى لم يكتف بالنهي‬
‫عن سبهم‪ ،‬وإنما راح يبرر‪ $‬سبهم في حال حصوله بكون‪$$‬ه اس‪$$‬تفزازا‪ ،‬وعن غ‪$$‬ير‬
‫علم‪.‬‬
‫هذا هو التسامح المشروع‪ ،‬والذي مثله رسول هللا ‪ ‬أحسن تمثيل‪ ،‬سواء‬
‫مع من جاوره من اليهود‪ ،‬أو مع أولئك النصارى‪ $‬الذين وفدوا إلي‪$$‬ه من نج‪$$‬ران‪..‬‬
‫فقد أنزلهم في المسجد‪ ،‬ولما ح‪$$‬انت وقت ص‪$$‬التهم‪ $‬ت‪$$‬ركهم يص‪$$‬لون في المس‪$$‬جد‪،‬‬
‫فكانوا‪ $‬يصلون في جانب منه(‪ ،)1‬وعندما حاورهم‪ $‬طبق في حواره لهم ما أمرن‪$$‬ا‬
‫ب إِاَّل بِ‪$$‬الَّتِي ِه َي أَحْ َس‪$‬نُ إِاَّل الَّ ِذينَ‬ ‫‪$‬ل ْال ِكتَ‪$$‬ا ِ‬‫﴿واَل تُ َج‪$$‬ا ِدلُوا‪ $‬أَ ْه‪َ $‬‬
‫هللا تعالى به في قول‪$$‬ه‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ظَلَ ُموا ِم ْنهُ ْم َوقُولُوا آ َمنَّا بِال ِذي أ ْن ِز َل إِلَ ْينَا َوأ ْن‪ِ $‬‬
‫‪$‬ز َل إِلَ ْي ُك ْم َوإِلَهُنَ‪$$‬ا َوإِلَهُ ُك ْم َوا ِح‪ٌ $‬د َونَحْ نُ‬
‫لَهُ ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ [العنكبوت‪ ،]46 :‬ولم يكرههم على الدخول في اإلسالم‪ ،‬ب‪$$‬ل ت‪$$‬رك‬
‫لهم الحرية في االختيار‪ ،‬وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران(‪.)2‬‬
‫ومثّله ‪ ‬حين كان يوصي‪ $‬بأهل الذمة والمس‪$$‬تأمنين وس‪$$‬ائر‪ $‬المعاه‪$$‬دين‪،‬‬
‫ويدعو إلى مراع‪$$‬اة حق‪$$‬وقهم‪ $،‬واإلحس‪$$‬ان إليهم‪ ،‬وينهى‪ $‬عن إي‪$$‬ذائهم؛ فيق‪$$‬ول‪( :‬أال‬
‫من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ من‪$‬ه ش‪$‬يئا ً بغ‪$‬ير طيب نف ٍ‬
‫س‬
‫فأنا حجيجه ـ أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه ـ يوم القيامة)(‪ ،)3‬ويق‪$$‬ول‪( :‬من قت‪$$‬ل‬

‫‪ )(1‬زاد المعاد في هدي خير العباد (‪)549 /3‬‬


‫‪ )(2‬المرجع المرجع السابق (‪)549 /3‬‬
‫‪ )(3‬رواه أبو داود (‪)3052‬‬

‫‪109‬‬
‫معاهدا لم يرح رائحة الجنة‪ ،‬وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما)(‪)4‬‬
‫لكن م‪$$‬ع ذل‪$$‬ك‪ ،‬ف‪$$‬إن التس‪$$‬امح ل‪$$‬ه ح‪$$‬دوده المش‪$$‬روعة ال‪$$‬تي ال يص‪$$‬ح أن‬
‫نتجاوزها‪ ،‬ومن تجاوزها‪ $‬وقع في الظلم والبخس الذي نهينا عنه‪.‬‬
‫ومن تلك الحدود‪ $‬أال نسكت عن النصيحة والتوجي‪$$‬ه‪ ،‬فاحترامن‪$$‬ا لمقدس‪$$‬ات‬
‫اآلخر ال تعني سكوتنا‪ $‬عليها‪ ،‬أو اعتبارها وجه‪$$‬ة نظ‪$$‬ر‪ ،‬ب‪$$‬ل علين‪$$‬ا أن ن‪$$‬دعو إلى‬
‫تصحيحها‪ ،‬ونستعمل‪ $‬كل الحجج ألجل ذلك‪ ،‬كما علمنا ربنا عند حديثه عن الذين‬
‫ضلوا من أهل الكتاب وأسباب ضاللهم‪ ،‬والردود‪ $‬العقلية القوية على ذلك‪.‬‬
‫فمن الخداع لهم أن نعتبر ما يقعون فيه من الضاللة هداية‪ ،‬أو نقرهم على‬
‫ذلك‪ ،‬مع أن هللا تعالى أخ‪$‬بر ب‪$‬أنهم انحرف‪$‬وا ب‪$‬ذلك انحراف‪$‬ا خط‪$‬يرا‪ ،‬ق‪$‬ال تع‪$‬الى‪:‬‬
‫﴿ لَقَ ْد َكفَ َر الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ ثَالِ ُ‬
‫ث ثَاَل ثَ‪ٍ $‬ة َو َم‪$$‬ا ِم ْن إِلَ‪ٍ $‬ه إِاَّل إِلَ‪$‬هٌ َو ِ‬
‫اح‪ٌ $‬د َوإِ ْن لَ ْم يَ ْنتَهُ‪$$‬وا‬
‫َع َّما يَقُولُ‪$$‬ونَ لَيَ َم َّس ‪َّ $‬ن الَّ ِذينَ َكفَ ‪$‬رُوا ِم ْنهُ ْم َع‪َ $‬ذابٌ أَلِي ٌم﴾ [المائ‪$$‬دة‪ ،]73 :‬فاهلل تع‪$$‬الى‬
‫اعتبر القائلين بذلك كفارا‪ ،‬وتوعدهم‪ $‬بالعذب الشديد‪ ،‬ومن احترامن‪$$‬ا لكالم هللا أن‬
‫نردد ما قاله‪ ،‬ال أن نناقض‪$$‬ه‪ ،‬ونخالف‪$$‬ه‪ ،‬ونخ‪$$‬دع‪ $‬ب‪$$‬ذلك أنفس‪$$‬نا‪ ،‬ونخ‪$$‬دع قب‪$$‬ل ذل‪$$‬ك‬
‫أولئك الذين كان علينا أن ننصحهم‪ ،‬ال أن نجاملهم‪.‬‬
‫ومن تلك الحدود‪ $‬أال تنسجم نفوسنا مع الباطل‪ ،‬وتقره‪ ،‬وت‪$$‬ذعن ل‪$$‬ه‪ ،‬بحج‪$$‬ة‬
‫التسامح وحرية الفكر والرأي‪ ..‬فمن العجب أن نرى مسلما يس‪$$‬مع ملح‪$$‬دا يس‪$$‬خر‬
‫باهلل أو يستهزئ‪ $‬ب‪$$‬ه‪ ،‬ثم ال يتح‪$$‬رك ل‪$$‬ه جفن‪ ،‬وال يه‪$$‬تز ل‪$$‬ه ع‪$$‬رق‪ ،‬وك‪$$‬أن ش‪$$‬يئا لم‬
‫يحصل‪ ،‬مع أنه لو تعرض أحد ألبسط شيئ يتعلق به لق‪$$‬امت قيامت‪$$‬ه‪ ،‬وتخلى عن‬
‫كل ألوان التسامح والعفو وسعة الصدر‪.‬‬
‫وهذا المعنى هو الذي يشير‪ $‬إليه قوله تعالى مخ‪$$‬برا عن بعض عقائ‪$$‬د أه‪$$‬ل‬
‫﴿وقَالُوا اتَّخَ َذ ال ‪$‬رَّحْ َمنُ َولَ ‪$‬دًا ﴾ [م‪$$‬ريم‪ ،]88 :‬ثم بين‬ ‫الكتاب أو غيرهم من األديان َ‬
‫تأثير هذه الكلمة العظيمة على الكون جميعا‪ ،‬وكيف ينفعل لها‪ ،‬فق‪$$‬ال‪ ﴿ :‬لَقَ‪ْ $‬د ِج ْئتُ ْم‬
‫ق اأْل َرْ ضُ َوت َِخ‪$$‬رُّ ْال ِجبَ‪$$‬ا ُل هَ‪ًّ $‬دا (‬ ‫ات يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْنهُ َوتَ ْن َش‪ُّ $‬‬
‫َش ْيئًا إِ ًّدا (‪ )89‬تَ َكا ُد ال َّس َما َو ُ‬
‫‪ )90‬أَ ْن َدعَوْ ا لِلرَّحْ َم ِن َولَدًا (‪َ )91‬و َما يَ ْنبَ ِغي لِلرَّحْ َم ِن أَ ْن يَتَّ ِخ َذ َولَدًا ﴾ [م‪$$‬ريم‪89 :‬‬
‫ـ ‪]92‬‬
‫ولهذا فإن عدم اهتزاز قلب المؤمن لما يقال في حق هللا مما ال يتناسب مع‬
‫جالله وعظمته وقدره هو ضعف في اإليمان‪ ،‬وقصور في‪$$‬ه؛ وله‪$$‬ذا ك‪$$‬ان رس‪$$‬ول‬
‫هللا ‪ ‬يتأثر كثيرا بسبب ما يقع فيه المشركون وغيرهم من أنواع الضاللة‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬لَ َعلَّكَ بَا ِخ ٌع نَ ْف َسكَ أَاَّل يَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [الشعراء‪]3 :‬‬
‫لكنا لألسف صرنا نرى من ال يكتفي بعدم ت‪$$‬أثره لكف‪$$‬ر الكف‪$$‬رة‪ ،‬وال إلح‪$$‬اد‬
‫الملحدين‪ ،‬بل نراه يبرر‪ $‬لهم‪ ،‬ويدافع عنهم‪ ،‬ب‪$$‬ل هن‪$$‬اك من ي‪$$‬ترحم‪ $‬عليهم‪ ،‬ويس‪$$‬أل‬
‫هللا لهم الفردوس األعلى‪ ،‬ومجاورة النبيين والص‪$$‬ديقين والش‪$$‬هداء والص‪$$‬الحين‪..‬‬
‫‪ )(4‬رواه أحمد ‪)6592( 2/171‬‬

‫‪110‬‬
‫إلى الدرجة التي يتصور فيها عوام الناس أن ذلك الذي عاش ملح‪$$‬دا أو ك‪$$‬افرا‪ $‬أو‬
‫ساخرا من هللا سيستقبل من طرف المقربين ليدخل الجنات التي أعدها له ه‪$$‬ؤالء‬
‫المتسامحون‪$.‬‬
‫ويغفل هؤالء أن مثل هذه المواقف‪ $‬تؤثر في نش‪$$‬ر مث‪$$‬ل تل‪$$‬ك األفك‪$$‬ار‪ $..‬ب‪$$‬ل‬
‫هي أكبر أداة من أدوات نشرها‪ $..‬فهؤالء المتسامحون قد يدعو أحدهم على جاره‬
‫المؤمن بدخول جهنم‪ ،‬وبتلقي كل أنواع العذاب فيها‪ ،‬بسبب دين‪$$‬ار‪ $‬أخ‪$$‬ذه من‪$‬ه‪ ،‬أو‬
‫مقولة قالها له‪ ..‬لكنه إن ك‪$$‬ان األم‪$$‬ر م‪$$‬ع هللا وم‪$$‬ع حق‪$$‬ائق اإليم‪$$‬ان الك‪$$‬برى تج‪$$‬ده‬
‫متهاونا‪ $‬متسامحا حليما كريما‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الحق‪ ..‬والخلق‬
‫من أعظم االبتالءات التي وضعت لتمييز المتجرد للحق من المتب‪$$‬ع له‪$$‬واه‬
‫ذلك االبتالء المرتبط بكون الباطل ال يكاد يخلو من الحق‪ ،‬وك‪$$‬ون الح‪$$‬ق مس‪$‬تعدا‬
‫للتبلس ب‪$$‬أي باط‪$$‬ل‪ ..‬ذل‪$$‬ك أن الش‪$$‬ر المج‪$$‬رد ال يك‪$$‬اد يوج‪$$‬د‪ ،‬وهن‪$$‬ا يق‪$$‬ع التمحيص‬
‫واالبتالء‪ ..‬لنرى أنفسنا هل نتبع الحق لكونه حقا‪ ،‬أم لكون هوانا هو ال‪$$‬ذي جرن‪$$‬ا‬
‫إليه؟‬
‫واألمثل‪$$‬ة على ذل‪$$‬ك أك‪$$‬ثر من أن تحص‪$$‬ى‪ ..‬فنحن مثال ق‪$$‬د نختل‪$$‬ف م‪$$‬ع‬
‫المتطرفين في كونهم يتشددون ويتنطع‪$$‬ون‪ ،‬وربم‪$‬ا‪ $‬يج‪$$‬رهم التش‪$$‬دد إلى العن‪$$‬ف‪..‬‬
‫ولكنا مع ذلك إن ع‪$$‬دنا إلى دينهم‪ $‬وج‪$$‬دناهم‪ $‬مؤم‪$$‬نين باهلل ورس‪$$‬له‪ ،‬ويعظم‪$$‬ون هللا‬
‫ورس‪$$‬له‪ ..‬ويعظم‪$$‬ون‪ $‬الش‪$$‬ريعة‪ ،‬ويحترمونه‪$$‬ا‪ ..‬ونحن مط‪$$‬البون في ه‪$$‬ذا ب‪$$‬أن‬
‫نحترمهم‪ $‬ألجل هذه السلوكات الصحيحة الش‪$$‬رعية‪ ،‬وأن نقبله‪$$‬ا منهم‪ ،‬ونش‪$$‬جعهم‪$‬‬
‫عليها‪ ،‬ومطالبون‪ $‬في نفس الوقت باإلنكار‪ $‬على تشددهم‪ $‬وتنطعهم‪ $‬وعنفهم‪.‬‬
‫وهنا يحصل االمتح‪$$‬ان‪ ..‬فمن الن‪$$‬اس من ينظ‪$$‬ر إلى تعظيمهم هلل ولرس‪$$‬وله‬
‫ولما يرتبط بهما من أحكام وش‪$‬رائع‪ ،‬فيتص‪$$‬ور أنهم على الح‪$‬ق المج‪$‬رد ال‪$$‬ذي ال‬
‫يجوز‪ $‬خالفه‪ ،‬فيقع معهم في شراك التشدد والتطرف‪..‬‬
‫ومن الن‪$‬اس من يخ‪$‬الفهم في تش‪$‬ددهم وتط‪$‬رفهم‪ ،‬ولكن خالف‪$‬ه ي‪$‬ذهب ب‪$‬ه؛‬
‫بعيدا فيجعل هم‪$$‬ه ال الح‪$$‬ق المج‪$$‬رد‪ ،‬وإنم‪$$‬ا مخ‪$$‬الفتهم‪ ،‬فيق‪$$‬ع عن‪$$‬د فعل‪$$‬ه ل‪$$‬ذلك في‬
‫مخالفة الشريعة‪ ،‬بل في مخالفة قض‪$‬ايا قطعي‪$‬ة من ال‪$‬دين‪ ،‬فيظلمهم ب‪$‬ذلك‪ ،‬ويظلم‬
‫نفس‪$$‬ه‪ ،‬ويظلم الحقيق‪$$‬ة‪ ..‬وك‪$$‬ل ذل‪$$‬ك بس‪$$‬بب كون‪$$‬ه جع‪$$‬ل خالفهم ه‪$$‬دفا ومص‪$$‬درا‪$‬‬
‫للحقيقة‪ ،‬ولم يجعل الحقيقة نفسها مصدره‪.‬‬
‫وه‪$$‬ذا يص‪$$‬دق على ك‪$$‬ل الطوائ‪$$‬ف‪ ..‬ففي الص‪$$‬وفية ن‪$$‬واح كث‪$$‬يرة ممتلئ‪$$‬ة‬
‫بالجم‪$$‬ال والس‪$$‬مو‪ $‬والطيب‪$$‬ة‪ ..‬ففي‪$$‬ه الس‪$$‬لوك الطيب‪ ،‬وال‪$$‬ذوق‪ $‬الرفي‪$$‬ع‪ ،‬والمعرف‪$$‬ة‬
‫الس‪$$‬امية‪ ..‬لكن الش‪$‬يطان ال‪$$‬ذي لم ي‪$$‬ترك للمتش‪$‬ددين دينهم راح إليهم أيض‪$$‬ا يش‪$‬وه‬
‫طرائقهم‪ $‬بالبدع والخرافات وأسرار‪ $‬الحروف والطلس‪$$‬مات والكش‪$$‬وفات‪ $‬ال‪$$‬تي م‪$$‬ا‬
‫أنزل هللا بها من سلطان‪ ..‬وهنا نقع في الحيرة‪ ..‬هل ننكر كل شيء‪ ..‬أم نقبل ك‪$$‬ل‬
‫شيء‪ ..‬أم يكون هدفنا‪ $‬الحق المجرد؟‬
‫ونفس الشيء يصدق على الحركات اإلسالمية‪ ..‬حيث نجد البعض يش‪$$‬كك‬
‫في نياته‪$‬ا ويربطه‪$$‬ا بالماس‪$‬ونية وب‪$‬المؤامرات العالمي‪$‬ة‪ ..‬لكن الحقيق‪$‬ة ال‪$‬تي ي‪$‬دل‬
‫عليها ظاهر األمر ال تدل على ذلك‪ ..‬هم صادقون في نياتهم‪ ،‬ولكن ق‪$$‬د يخطئ‪$$‬ون‬
‫في بعض ممارساتهم ومواقفهم‪ ،‬والحكمة تدعونا إلى التمييز بين الحق والباطل‪،‬‬
‫والخبيث والطيب‪ ،‬ال رمي الجميع في سلة واحدة‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫وهك‪$$‬ذا األم‪$$‬ر م‪$$‬ع العلم‪$$‬اء والمكتش‪$$‬فين والمخ‪$$‬ترعين‪ ..‬ففيهم من ق‪$$‬دموا‪$‬‬
‫خدمات كبيرة لإلنسانية يحترمون عليها‪ ،‬ولكنهم في نفس الوقت ق‪$$‬د أس‪$$‬اءوا إلى‬
‫اإلنس‪$$‬انية بم‪$$‬ا نش‪$$‬روه من أفك‪$$‬ار خط‪$$‬يرة‪ ،‬أو م‪$$‬ا ادع‪$$‬وه من دع‪$$‬اوى عريض‪$$‬ة‪..‬‬
‫والحق الذي يدعونا إلى االعتراف باألول‪ ،‬يدعونا إلى التحذير من الثاني‪ ..‬حتى‬
‫ال يصبح األول مطية للثاني‪ ،‬وحتى ال نصبح وس‪$$‬ائل وأدوات لنش‪$$‬ر الباط‪$$‬ل من‬
‫حيث ال نشعر‪.‬‬
‫وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى‪﴿ :‬لِيَ ِميزَ هَّللا ُ ْالخَ بِيثَ‬
‫ْض فَيَرْ ُك َم‪ $‬هُ َج ِمي ًع‪$$‬ا فَيَجْ َعلَ‪$‬هُ فِي َجهَنَّ َم‬
‫ْض‪$‬هُ َعلَى بَع ٍ‬ ‫‪$‬ل ْالخَ بِ َ‬
‫يث بَع َ‬ ‫ِمنَ الطَّيِّ ِ‬
‫ب َويَجْ َع‪َ $‬‬
‫خَاس‪$‬رُونَ ﴾ [األنف‪$‬ال‪ ..]37 :‬فاهلل تع‪$‬الى أخ‪$‬بر أن‪$‬ه يم‪$‬يز الخ‪$‬بيث من‬ ‫ك هُ ُم ْال ِ‬ ‫أُولَئِ َ‬
‫الطيب قبل أن يرميه في جهنم‪ ..‬فجهنم مأوى الخبيث ال الطيب‪.‬‬
‫ب أُ َّمةٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ومثل ذلك قوله تعالى عن أهل الكتاب‪ ﴿ :‬لَ ْيسُوا َس َوا ًء ِم ْن أ ْه ِل ال ِكتَ‪$$‬ا ِ‬
‫ت هَّللا ِ آنَا َء اللَّي ِْل َوهُ ْم يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ [آل عمران‪]113 :‬‬
‫قَائِ َمةٌ يَ ْتلُونَ آيَا ِ‬
‫وهكذا يكون العاقل الحكيم متثبتا من كل موق‪$‬ف‪ $‬يقف‪$‬ه‪ ..‬ه‪$$‬ل أراد ب‪$$‬ه وج‪$‬ه‬
‫هللا‪ ،‬أم أراد به مخالفة قوم‪ $‬من الن‪$$‬اس‪ ..‬ف‪$$‬إن ك‪$$‬ان األول فه‪$$‬و المتج‪$$‬رد المخلص‪،‬‬
‫وإن كان الثاني‪ ،‬فهو صاحب هوى ال صاحب حق‪ ..‬فصاحب الحق ال يهم‪$$‬ه من‬
‫يقف معه‪ ،‬أو من يقف ضده‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫الغزالي‪ ..‬ورحمة هللا الواسعة‬
‫من المغالط‪$$‬ات ال‪$$‬تي يمارس‪$$‬ها‪ $‬التنويري‪$$‬ون الج‪$$‬دد في مناس‪$$‬بات كث‪$$‬يرة‬
‫ادعاؤهم الرجوع للعلماء‪ ،‬وخاصة الكبار منهم‪ ،‬أو المقبولين لدى عام‪$$‬ة الن‪$$‬اس؛‬
‫وه‪$$‬و تص‪$$‬رف‪ $‬ال يتناس‪$$‬ب م‪$$‬ع دع‪$$‬وتهم لالجته‪$$‬اد‪ ،‬والبحث عن ال‪$$‬دليل‪ ،‬ذل‪$$‬ك أن‬
‫االجتهاد يقتضي النظر في المسألة وحججها‪ $‬من غير اهتم‪$$‬ام بمن ق‪$$‬ال ب‪$$‬ذلك‪ ،‬أو‬
‫لم يقل‪.‬‬
‫وقد كان يمكن أن يقب‪$$‬ل منهم ذل‪$$‬ك‪ ،‬ل‪$$‬و أن رج‪$$‬وعهم للعلم‪$$‬اء ك‪$$‬ان س‪$$‬ليما‪،‬‬
‫وكان مبنيا على دراس‪$$‬ة وتحقي‪$$‬ق‪ ،‬وليس عن ته‪$$‬ور وعجل‪$$‬ة‪ ..‬ذل‪$$‬ك أن العجل‪$‬ة ال‬
‫تتناسب مع التحقيق‪ ،‬وال مع البحث العلمي‪ ،‬القائم على التدقيق‪ $‬واألناة للوص‪$$‬ول‬
‫إلى الحقيقة‪.‬‬
‫ومن األمثل‪$$‬ة على ذل‪$$‬ك أنهم ي‪$$‬رددون جميع‪$$‬ا مقول‪$$‬ة الغ‪$$‬زالي في [فيص‪$$‬ل‬
‫التفرقة بين اإلس‪$‬الم والزندق‪$‬ة] في س‪$‬عة الرحم‪$‬ة اإللهي‪$‬ة‪ ،‬وفي إمكاني‪$‬ة ش‪$‬مولها‬
‫لألمم جميعا؛ وهو قوله‪( :‬وأنا أقول‪ :‬إن الرحمة تش‪$$‬مل كث‪$$‬يراً من األمم الس‪$$‬الفة‪،‬‬
‫وإن كان أكثرهم يعرضون على النار إما عرضة خفيفة‪ ،‬حتى في لحظ‪$‬ة‪ ،‬أو في‬
‫س‪$$‬اعة‪ ،‬وإم‪$$‬ا في م‪$$‬دة‪ ،‬ح‪$$‬تى يطل‪$$‬ق عليهم اس‪$$‬م بعث الن‪$$‬ار‪ ،‬ب‪$$‬ل أق‪$$‬ول‪ :‬إن أك‪$$‬ثر‬
‫نصارى‪ $‬الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء هللا تع‪$$‬الى‪ :‬أع‪$$‬ني‬
‫الذين هم في أقاصي‪ $‬الروم والترك‪ ،‬ولم تبلغهم الدعوة) (‪)1‬‬
‫ثم ذكر أن هؤالء ثالثة أصناف‪( :‬صنف‪ :‬لم يبلغهم اس‪$$‬م محمد‪ ‬أص ‪$‬الً‪،‬‬
‫فهم معذورون‪ ..‬وصنف‪ :‬بلغهم اس‪$$‬مه ونعت‪$$‬ه‪ ،‬وم‪$$‬ا ظه‪$$‬ر علي‪$$‬ه من المعج‪$$‬زات‪،‬‬
‫وهم المج‪$$$‬اورون لبالد اإلس‪$$$‬الم‪ ،‬والمخ‪$$$‬الطون لهم‪ ،‬وهم الكف‪$$$‬ار الملح‪$$$‬دون‪..‬‬
‫وصنف‪ $:‬ثالث بين الدرجتين‪ ،‬بلغهم اسم محمد ‪ ،‬ولم يبلغهم نعته وصفته‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫س‪$‬معوا أيض‪$‬ا ً من‪$‬ذ الص‪$‬با أن ك‪$‬ذابا ً ملبس‪$‬ا ً اس‪$‬مه محم‪$‬د ادعى النب‪$‬وة‪ ،‬كم‪$‬ا س‪$‬مع‬
‫صبياننا‪ $‬أن كذابا ً يقال له المقفع‪ ،‬ادعى أن هللا بعثه وتحدى بالنبوة كاذباً‪ ..‬فه‪$‬ؤالء‬
‫عن‪$$‬دي في مع‪$$‬نى الص‪$$‬نف األول‪ ،‬ف‪$$‬إنهم م‪$$‬ع أنهم س‪$$‬معوا اس‪$$‬مه‪ ،‬س‪$$‬معوا ض‪$$‬د‬
‫أوصافه‪ ،‬وهذا ال يحرك داعية النظر في الطلب) (‪)2‬‬
‫فهذا النص الذي تعلقوا به‪ ،‬وراحوا‪ $‬ينشرونه في كل محل‪ ،‬وكأن‪$$‬ه من آي‪$$‬ة‬
‫من القرآن الكريم‪ ،‬ال يدل على ما يقصدونه من الترحم على الكف‪$$‬رة والملح‪$$‬دين‪،‬‬
‫فالغزالي‪ $‬ذكر فيه سعة الرحمة اإللهية العامة‪ ،‬وهو أم‪$$‬ر متف‪$$‬ق علي‪$$‬ه عن‪$$‬د جمي‪$$‬ع‬
‫المؤمنين‪ ،‬بل عند جميع العقالء‪ ،‬ولم يذكر فيه الترحم الذي ال يختل‪$$‬ف عن طلب‬
‫‪ )(1‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫‪ )(2‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.86‬‬

‫‪114‬‬
‫الشفاعة واالستغفار وصالة الجنازة‪ ..‬فكل هذه أحكام شرعية لم يشر إليها النص‬
‫الذي اعتمدوا‪ $‬عليه‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن ذلك النص مقيد بنصوص كثيرة أورده‪$$‬ا الغ‪$$‬زالي‬
‫في نفس كتابه هذا‪ ،‬أو في غيره من الكتب وال يفهم ذلك النص إال ضوئها‪.‬‬
‫فقد ذكر في محل قريب من هذا النص م‪$$‬ا ين‪$$‬اقض ك‪$$‬ل المس‪$$‬تلزمات ال‪$$‬تي‬
‫استلزموها من النص السابق‪ ،‬فق‪$$‬د ق‪$$‬ال‪( :‬وأم‪$$‬ا من س‪$$‬ائر األمم فمن كذب‪$$‬ه بع‪$$‬دما‬
‫قرع س‪$$‬معه ب‪$$‬التواتر عن خروج‪$$‬ه‪ ،‬وص‪$$‬فته‪ ،‬ومعجزات‪$$‬ه الخارق‪$$‬ة للع‪$$‬ادة‪ ،‬كش‪$$‬ق‬
‫القمر‪ ،‬وتسبيح الحصا‪ ،‬ونبع الماء من بين أصابعه‪ ،‬والقرآن المعجز الذي تحدى‬
‫به أهل الفصاحة وعجزوا عنه فإذا قرع ذلك سمعه‪ ،‬ف‪$$‬أعرض عن‪$$‬ه‪ ،‬وت‪$$‬ولى ولم‬
‫ينظر فيه وال يتأمل‪ ،‬ولم يب‪$$‬ادر إلى التص‪$$‬ديق‪ ،‬فه‪$$‬ذا ه‪$$‬و الجاح‪$$‬د الك‪$$‬اذب‪ ،‬وه‪$$‬و‬
‫الك‪$$‬افر‪ ،‬وال ي‪$$‬دخل في ه‪$$‬ذا أك‪$$‬ثر ال‪$$‬روم وال‪$$‬ترك‪ $‬ال‪$$‬ذين بع‪$$‬دت بالدهم عن بالد‬
‫المسلمين) (‪)1‬‬
‫وهو به‪$$‬ذا يخ‪$$‬رج من تل‪$$‬ك الرحم‪$$‬ة ال‪$$‬تي ذكره‪$$‬ا في النص األول ك‪$$‬ل من‬
‫سمع برسول هللا ‪ ‬وأعرض عنه‪ ،‬ولم ينظر‪ ،‬ولم يتأمل‪ ،‬ولم يبحث‪ ،‬ولم يب‪$‬ادر‬
‫إلى التصديق‪ ..‬بل اعتبره جاحدا كاذبا‪ ..‬وه‪$$‬ذا الوص‪$‬ف‪ $‬يص‪$$‬دق على الكث‪$$‬ير من‬
‫عوام هذا العصر‪ ،‬فكيف بعلمائهم الذين ك‪$$‬انت لهم عالق‪$$‬ة بالمس‪$$‬لمين‪ ،‬واحتك‪$$‬اك‪$‬‬
‫شديد بهم‪ ،‬باإلضافة إلى سماعهم عن اإلس‪$$‬الم‪ ..‬س‪$$‬واء المش‪$$‬وه والمح‪$$‬رف‪ $‬من‪$$‬ه‪،‬‬
‫وغير المشوه والمحرف‪ ..‬وكان ذلك في األص‪$‬ل ـ كم‪$$‬ا ي‪$$‬ذكر الغ‪$‬زالي ـ داعي‪$‬ة‬
‫للبحث والطلب‪ ،‬كما حصل للكثير من الذين أسلموا بعد البحث والطلب؛ خاص‪$$‬ة‬
‫وأن كل الوسائل‪ $‬متوفرة للتحقيق والنظر‪$.‬‬
‫بل إن الغزالي ـ ال‪$$‬ذي اس‪$$‬تعملوه مطي‪$$‬ة لإلرج‪$$‬اء ـ زاد على ذل‪$$‬ك التش‪$$‬دد‬
‫بقوله ـ تتمة للنص السابق ـ‪( :‬بل أقول‪ :‬من قرع سمعه هذا‪ ،‬فال بد أن تنبعث فيه‬
‫داعية الطلب ليس‪$$‬تبين حقيق‪$$‬ة األم‪$$‬ر إن ك‪$$‬ان من أه‪$$‬ل ال‪$$‬دين‪ ،‬ولم يكن من ال‪$$‬ذين‬
‫استحبوا‪ $‬الحياة الدنيا على اآلخرة؛ فإن لم تنبعث فيه هذه الداعي‪$$‬ة‪ ،‬ف‪$$‬ذلك لركون‪$$‬ه‬
‫إلى الدنيا‪ ،‬وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين‪ ،‬وذلك كفر وإن انبعثت الداعية‪،‬‬
‫فقصر عن الطلب‪ ،‬فهو أيضا ً كفر) (‪)2‬‬
‫وهو قول أخطر من الس‪$$‬ابق‪ ،‬فال يكفي عن‪$$‬د الغ‪$$‬زالي مج‪$$‬رد الس‪$$‬ماع‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫ينبغي أن يسرع في البحث والتحقيق والنظر‪ ،‬فإن منعه ذلك أي م‪$$‬انع من موان‪$$‬ع‬
‫الدنيا‪ ،‬فقد اعتبره كافرا مثله مثل من سبق‪.‬‬
‫وهو لم يعذر إال من كان عاميا بسيطا ال قدرة له على البحث والنظ‪$$‬ر‪ $،‬أو‬
‫ذلك الذي (اشتغل بالنظر والطلب‪ ،‬ولم يقصر‪ ،‬فأدركه الموت قبل تمام التحقيق‪،‬‬
‫‪ )(1‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.86‬‬
‫‪ )(2‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.87‬‬

‫‪115‬‬
‫الواسعة) (‪)1‬‬ ‫فهو أيضا ً مغفور له ثم له الرحمة‬
‫فالغزالي لم يعف إال من اجتهد‪ ،‬وبحث‪ ،‬ولكن الموت أدركه قبل أن يصل‬
‫إلى الحقيقة‪ ..‬ال الذي عاش عم‪$‬ره جميع‪$‬ا جاح‪$‬دا له‪$‬ا‪ ،‬متبرئ‪$‬ا منه‪$‬ا‪ ،‬س‪$‬اخرا من‬
‫أصحابها‪$.‬‬
‫وهكذا قال قبل ذلك النص الذي اعتمدوا عليه‪( :‬فأبشر برحمة هللا وبالنجاة‬
‫المطلق‪$$‬ة إن جمعت بين اإليم‪$$‬ان والعم‪$$‬ل الص‪$$‬الح‪ ،‬وب‪$‬الهالك‪ $‬المطل‪$‬ق إذا خل‪$$‬وت‬
‫عنهم‪$$‬ا جمي‪$$‬ع‪ ..‬وإن كنت ص‪$$‬احب يقين في أه‪$$‬ل التص‪$$‬ديق‪ ،‬وص‪$$‬احب خط‪$$‬إ في‬
‫بعض التأويل‪ ،‬أو صاحب شك فيهما‪ ،‬أو صاحب خلط في األعمال فال تطمع في‬
‫النجاة المطلقة‪ ..‬واعلم أن‪$$‬ك بين أن تع‪$$‬ذب م‪$$‬دة ثم تخ‪$$‬ل‪ ،‬وبين أن يُش‪$‬فَ َع في‪$$‬ك من‬
‫تيق ْنتَ ص‪$$‬دقه في جمي‪$$‬ع م‪$$‬ا ج‪$$‬اء ب‪$$‬ه أو غ‪ِ $‬‬
‫‪$‬ير ِه‪.‬فاجته‪$$‬د أن يغني‪$$‬ك هللا بفض‪$$‬له عن‬
‫خطرٌ) (‪)2‬‬
‫شفاعة الشفعاء‪ ،‬فإن األمر في ذلك ُم ِ‬
‫وقبلها‪ ،‬وفي أول الكتاب ذكر ما هو أخطر من ذلك؛ فقد ق‪$‬ال ـ عن‪$‬د بيان‪$‬ه‬
‫لحد الكفر ـ‪( :‬لعلك تشتهي أن تع‪$$‬رف ح‪$$‬د الكف‪$$‬ر‪ ،‬بع‪$$‬د أن تتن‪$$‬اقض علي‪$$‬ك ح‪$$‬دود‬
‫أصناف‪ $‬المقلدين‪ ،‬فاعلم‪ :‬أن شرح ذلك طويل‪ ،‬ومدركه غامض‪ ،‬ولكني أعطي‪$$‬ك‬
‫عالمة صحيحة فتطردها وتعكسها‪ ،‬لتتخذ مطمح نظ‪$$‬رك‪ ،‬وترع‪$$‬وي‪ $‬بس‪$$‬ببها عن‬
‫تكفير الف‪$$‬رق‪ ،‬وتطوي‪$‬ل‪ $‬اللس‪$$‬ان في أه‪$$‬ل اإلس‪$$‬الم‪ ،‬وإن اختلفت ط‪$$‬رقهم م‪$$‬اداموا‬
‫متمسكين بقول‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬محم‪$$‬د رس‪$$‬ول هللا‪ ،‬ص‪$$‬ادقين به‪$$‬ا‪ ،‬غ‪$$‬ير مناقض‪$$‬ين‬
‫لها؛ فأقول‪ $:‬الكف‪$‬ر‪ :‬ه‪$‬و تك‪$‬ذيب الرس‪$‬ول ‪ ‬في ش‪$‬يء مم‪$‬ا ج‪$‬اء ب‪$‬ه‪ ،‬واإليم‪$‬ان‪:‬‬
‫تصديقه في جميع ما جاء به) (‪)3‬‬
‫ثم راح ي‪$$‬بين مص‪$$‬اديق ذل‪$$‬ك‪ ،‬فق‪$$‬ال‪( :‬ف‪$$‬اليهودي‪ $‬والنص‪$$‬راني‪ :‬ك‪$$‬افران ؛‬
‫لتكذيبهما‪ $‬للرسول ‪ ..‬والبرهمي‪ $:‬كافر بالطريق‪ $‬األولى ؛ ألنه أنكر مع رسولنا‪$‬‬
‫س‪$$‬ائر المرس‪$$‬لين‪ ..‬وال‪$$‬دهري‪ :‬ك‪$$‬افر‪ $‬ب‪$$‬الطريق‪ $‬األولى‪ ،‬ألن‪$$‬ه أنك‪$$‬ر م‪$$‬ع رس‪$$‬ولنا‪$‬‬
‫المرسل‪ ،‬سائر الرسل‪ ،‬وهذا ألن الكف‪$$‬ر حكم ش‪$$‬رعي‪ :‬ك‪$$‬الرق والحري‪$$‬ة مثالً‪ ،‬إذ‬
‫معناه‪ ..‬الحكم بالخلود في النار‪ ،‬ومدركه شرعي‪ ،‬فيدرك‪ $:‬إما بنص‪ ،‬وإما بقياس‬
‫على منص‪$$‬وص‪ :‬وق‪$$‬د وردت النص‪$$‬وص في اليه‪$$‬ود والنص‪$$‬ارى‪ $،‬والتح‪$$‬ق بهم‬
‫ب‪$$‬الطريق‪ $‬األولى‪ :‬البراهم‪$$‬ة‪ ،‬والثنوي‪$$‬ة‪ ،‬والزنادق‪$$‬ة‪ ،‬والدهري‪$$‬ة‪ .‬وكلهم مش‪$$‬ركون‬
‫مكذبون للرسل‪.‬فكل كافر‪ $‬مكذب للرسل‪.‬وكل مكذب للرسل فه ‪$‬و‪ $‬ك‪$$‬افر‪.‬فه‪$$‬ذه هي‬
‫العالمة المطردة المنعكسة)(‪)4‬‬
‫وهذا النص واضح ال لبس فيه‪ ،‬وقد قاله في نفس الكتاب الذي تعلق‪$$‬وا ب‪$$‬ه‪،‬‬
‫‪ )(1‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫‪ )(2‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.88‬‬
‫‪ )(3‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ )(4‬فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة‪ ،‬ص‪.25‬‬

‫‪116‬‬
‫ولو أنهم قرأوه بأناة لفهموا أغراض مؤلفه‪ ،‬ولم يخرجوا كالمه عن حده‪.‬‬
‫مع أن الغزالي لم يذكر أبدا الدعاء بالرحم‪$$‬ة وال ب‪$$‬المغفرة ألعي‪$$‬ان ه‪$$‬ؤالء‬
‫الكف‪$$‬رة وغ‪$$‬يرهم‪ ،‬ب‪$$‬ل ذك‪$$‬ر إمكاني‪$$‬ة أن تس‪$$‬عهم رحم‪$$‬ة هللا تع‪$$‬الى‪ ،‬م‪$$‬ا دام‪$$‬وا لم‬
‫يقصروا‪ $‬في البحث والنظر والتحقيق‪.‬‬
‫أما إذا عدنا إلى كتب الغزالي األخرى‪ ،‬والتي خصصها للتربية والسلوك‪،‬‬
‫فنجد األمر أبعد مما تص‪$‬وروا‪ ،‬فق‪$‬د ذك‪$‬ر الغ‪$‬زالي عن نفس‪$‬ه ـ م‪$‬ع كون‪$‬ه مؤمن‪$‬ا‬
‫مسلما‪ ،‬بل عالم‪$$‬ا من علم‪$$‬اء المس‪$$‬لمين ـ كي‪$$‬ف أح‪$$‬اطت ب‪$$‬ه المخ‪$$‬اوف من الن‪$$‬ار‬
‫وعذابها‪ ،‬خشية أن يكون كل ما هو في‪$$‬ه ري‪$$‬اء وس‪$$‬معة‪ ،‬فق‪$$‬د ق‪$$‬ال في [المنق‪$$‬ذ من‬
‫الضالل]‪( :‬ثم الحظت أحوالي‪ ،‬فإذا أنا منغمس في العالئق‪ ،‬وقد أح‪$$‬دقت بي من‬
‫الجوانب‪ ،‬والحظت أعم‪$‬الي ‪ -‬وأحس‪$‬نها الت‪$‬دريس والتعليم ‪ -‬ف‪$‬إذا أن‪$‬ا فيه‪$‬ا مقب‪$‬ل‬
‫على عل‪$$‬وم غ‪$$‬ير مهم‪$$‬ة‪ ،‬وال نافع‪$$‬ة في طري‪$$‬ق اآلخ‪$$‬رة‪ ،‬ثم تفك‪$$‬رت في ني‪$$‬تي في‬
‫التدريس‪ ،‬فإذا هي غير خالصة لوجه هللا تعالى‪ ،‬بل باعثها ومحركها‪ $‬طلب الجاه‬
‫وانتشار الصيت‪ ،‬فتيقنت أني على شفا جرف هار‪ ،‬وأني ق‪$$‬د أش‪$$‬فيت على الن‪$$‬ار‪،‬‬
‫إن لم أش‪$$‬تغل بتالفي األح‪$$‬وال‪ .‬فلم أزل أتفك‪$$‬ر في‪$$‬ه م‪$$‬دة‪ ،‬وأن‪$$‬ا بع‪$$‬د على مق‪$$‬ام‬
‫االختي‪$$‬ار‪ ،‬أص‪$‬مم الع‪$$‬زم على الخ‪$‬روج من بغ‪$‬داد ومفارق‪$$‬ة تل‪$‬ك األح‪$$‬وال يوم‪$‬اً‪،‬‬
‫وأحل العزم يوماً‪ ،‬وأقدم فيه رجال وأؤخر عن‪$$‬ه أخ‪$$‬رى‪ .‬ال تص‪$$‬دق‪ $‬لي رغب‪$$‬ة في‬
‫طلب اآلخرة بكرة‪ ،‬إال ويحمل عليها جلد الشهوة حملة فيفترها عش‪$$‬ية‪ ،‬فص‪$$‬ارت‬
‫شهوات ال‪$‬دنيا تج‪$‬اذبني بسالس‪$‬لها‪ $‬إلى المق‪$‬ام‪ ،‬ومن‪$‬ادي‪ $‬اإليم‪$‬ان ين‪$‬ادي‪ :‬الرحي‪$‬ل‬
‫الرحيل! فلم يبق من العمر إال قليل‪ ،‬وبين يديك الس‪$$‬فر الطوي‪$$‬ل‪ ،‬وجمي‪$$‬ع م‪$$‬ا أنت‬
‫فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد اآلن لآلخرة‪ ،‬فمتى تستعد؟)(‪)1‬‬
‫وهكذا ذكر في كتابه [أصناف المغ‪$$‬رورين] الكث‪$$‬ير من مظ‪$$‬اهر الغ‪$$‬رور‪،‬‬
‫والتي تتأسس جميعا على االعتق‪$$‬اد برحم‪$$‬ة هللا الواس‪$$‬عة م‪$$‬ع التقص‪$$‬ير في العم‪$$‬ل‬
‫الصالح‪ ،‬وقد عقد فيه فصال خاصا بعصاة المؤمنين‪ ،‬وعرفهم‪ $‬بأنهم (من يتكل‪$$‬ون‬
‫على عفو هللا ويهملون العمل)‬
‫ومما جاء فيه قوله‪( :‬وأما غرور العصاة باهلل من المؤمنين فقولهم‪ :‬غف‪$$‬ور‬
‫رحيم‪ ،‬وإنما يرجى عفوه فاتكلوا‪ $‬على ذلك وأهملوا األعمال وذلك من قبل الرجا‬
‫فإنه مقام محمود في الدنيا‪ .‬وأن رحمة هللا واسعة ونعمته وش‪$$‬املة وكرم‪$$‬ه عميم‪،‬‬
‫وأنا موحدون نرجوه بوسيلة اإليمان والكرم واإلحسان)(‪)2‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وعندما ذكر منشأ غرور الكفار ومن ش‪$$‬ابههم‪ $‬من العص‪$$‬اة‪ ،‬ق‪$$‬ال‪( :‬ومنش‪$$‬أ‬
‫هذا الغرور الجهل باهلل تعالى‪ ..‬وبصفاته‪ ..‬فإن من عرف هللا تعالى فال ي‪$$‬أمن من‬
‫مكر هللا‪ ..‬وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود‪ $‬وماذا حل بهم‪ ..‬مع أن هللا تعالى‬
‫‪ )(1‬المنقذ من الضالل (ص‪.)173 :‬‬
‫‪ )(2‬أصناف المغرورين (ص‪)29 :‬‬

‫‪117‬‬
‫أعطاهم من المال‪ ..‬وقد حذر هللا تعالى مكره فقال تعالى‪﴿ :‬فَاَل يَ‪$$‬أْ َمنُ َم ْك‪َ $‬‬
‫‪$‬ر هَّللا ِ إِاَّل‬
‫ْالقَوْ ُم ْالخَا ِسرُونَ ﴾ [األعراف‪ ..]99 :‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫﴿و َم َكرُوا‪َ $‬و َم َك َر هَّللا ُ َوهَّللا ُ خَ يْ‪ُ $$‬ر‬
‫ْال َم‪$$‬ا ِك ِرينَ ﴾ [آل عم‪$$‬ران‪ ..]54 :‬وق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪ ﴿ :‬فَ َمه ِِّل ْال َك‪$$‬افِ ِرينَ أَ ْم ِه ْلهُ ْم ر َُو ْي‪ً $‬دا‪﴾ $‬‬
‫[الطارق‪ ..]17 :‬فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة)(‪)1‬‬
‫أما في [إحياء علوم الدين]‪ ،‬فقد ذكر فيه ما هو أعظم من ذل‪$$‬ك كل‪$$‬ه‪ ،‬فك‪$$‬ل‬
‫اإلحياء دعوة إلى الورع‪ ،‬ومحاسبة النفس‪ ،‬وتفقد النقير والقطم‪$‬ير‪ $‬من األعم‪$‬ال‪،‬‬
‫مع ربط ذلك كله بمحاسبة هللا لعباده‪ ،‬واعتبار األمل في رحمة هللا الواسعة بعيدا‬
‫عن العمل مجرد أماني كاذبة‪.‬‬
‫وق ‪$‬د‪ $‬ذك‪$$‬ر في ب‪$$‬اب الخ‪$$‬وف والرج‪$$‬اء‪ ،‬خط‪$$‬ورة اس‪$$‬تعمال أدوي‪$$‬ة الرج‪$$‬اء‬
‫واألم‪$$‬ل في رحم‪$$‬ة هللا الواس‪$$‬عة م‪$$‬ع من غلبت‪$$‬ه المعاص‪$$‬ي‪ ،‬فق‪$$‬ال‪( :‬اعلم أن ه‪$$‬ذا‬
‫الدواء يحتاج إليه أح‪$‬د رجلين إم‪$$‬ا رج‪$$‬ل غلب علي‪$‬ه الي‪$$‬أس ف‪$$‬ترك العب‪$‬ادة‪ ،‬وإم‪$$‬ا‬
‫رجل غلب عليه الخ‪$$‬وف‪ $‬فأس‪$$‬رف في المواظب‪$$‬ة على العب‪$$‬ادة ح‪$$‬تى أض‪$$‬ر بنفس‪$$‬ه‬
‫وأهل‪$$‬ه‪ ..‬وه‪$$‬ذان رجالن م‪$$‬ائالن عن االعت‪$$‬دال إلى ط‪$$‬رفي اإلف‪$$‬راط‪ $‬والتفري‪$$‬ط‬
‫فيحتاجان إلى عالج يردهما إلى االعتدال‪ ..‬فأما العاصي المغرور‪ $‬المتم‪$$‬ني على‬
‫هللا مع اإلعراض عن العبادة واقتح‪$$‬ام المعاص‪$$‬ي؛ فأدوي‪$$‬ة الرج‪$$‬اء تنقلب س‪$$‬موما‬
‫مهلكة في حقه‪ ،‬وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب علي‪$$‬ه ال‪$$‬برد‪ ،‬وه‪$$‬و‬
‫سم مهلك لمن غلب عليه الح‪$$‬رارة‪ ،‬ب‪$$‬ل المغ‪$$‬رور‪ $‬ال يس‪$$‬تعمل في حق‪$$‬ه إال أدوي‪$$‬ة‬
‫الخوف واألسباب‪ $‬المهيجة له)(‪)2‬‬
‫وذكر في ب‪$$‬اب التوب‪$$‬ة درج‪$$‬ات البش‪$$‬ر م‪$$‬ع الج‪$$‬زاء اإللهي‪ ،‬وكله‪$$‬ا ترتب‪$$‬ط‬
‫باإليمان باهلل‪ ،‬والعمل الص‪$‬الح ال‪$‬ذي يري‪$‬د في‪$‬ه ص‪$‬احبه وج‪$‬ه هللا‪ ،‬وأعطى ل‪$‬ذلك‬
‫تش‪$$‬بيها ب‪$$‬ديعا‪ ،‬فق‪$$‬ال‪( :‬الن‪$$‬اس في اآلخ‪$$‬رة ينقس‪$$‬مون أص‪$$‬نافا ً وتتف‪$$‬اوت درج‪$$‬اتهم‬
‫ودركاتهم في الس‪$$‬عادة والش‪$$‬قاوة تفاوت‪$‬ا ً ال ي‪$$‬دخل تحت الحص‪$$‬ر كم‪$$‬ا تف‪$$‬اوتوا في‬
‫سعادة الدنيا وشقاوتها‪ ،‬وال تفارق اآلخرة في هذا المعنى أصالً البتة؛ ف‪$$‬إن م‪$$‬دبر‬
‫الملك والملكوت واحد ال شريك له وسنته الصادرة عن إرادته األزلية مطردة ال‬
‫تبديل لها إال أنا إن عجزن‪$$‬ا عن إحص‪$$‬اء آح‪$$‬اد ال‪$$‬درجات فال نعج‪$$‬ز عن إحص‪$$‬اء‬
‫األجناس)(‪)3‬‬
‫ثم راح يحصي هذه األجناس الكبرى‪ ،‬فذكر أنهم (أربع‪$$‬ة أقس‪$$‬ام‪ :‬ه‪$$‬الكين‪،‬‬
‫ومعذبين‪ ،‬وناجين‪ ،‬وفائزين)‪ ..‬وضرب‪ $‬مثال لذلك بأن (يستولي‪ $‬ملك من المل‪$$‬وك‬
‫على إقليم فيقت‪$$‬ل بعض‪$$‬هم فهم اله‪$$‬الكون‪ ،‬ويع‪$$‬ذب بعض‪$$‬هم‪ $‬م‪$$‬دة وال يقتلهم فهم‬
‫المعذبون‪ ،‬ويخلى بعضهم فهم الناجون‪ ،‬ويخلع على بعضهم‪ $‬فهم الفائزون)‬
‫‪ )(1‬أصناف المغرورين (ص‪)28 :‬‬
‫‪ )(2‬إحياء علوم الدين (‪)146 /4‬‬
‫‪ )(3‬إحياء علوم الدين (‪)24 /4‬‬

‫‪118‬‬
‫ثم بين سبب ما يفعله الملك بهذه األقسام؛ فقال‪( :‬فإن ك‪$$‬ان المل‪$$‬ك ع‪$$‬ادالً لم‬
‫يقسمهم كذلك إال باس‪$$‬تحقاق‪ $‬فال يقت‪$$‬ل إال جاح‪$$‬داً الس‪$$‬تحقاق المل‪$$‬ك معان‪$$‬داً ل‪$$‬ه في‬
‫أصل الدول‪$$‬ة‪ ..‬وال يع‪$$‬ذب إال من قص‪$$‬ر في خدمت‪$$‬ه م‪$$‬ع االع‪$$‬تراف بملك‪$$‬ه وعل‪$$‬و‬
‫درجته‪ ..‬وال يخلي إال معترفاً‪ $‬له برتب‪$‬ة المل‪$‬ك لكن‪$‬ه لم يقص‪$‬ر ليع‪$‬ذب‪ ،‬ولم يخ‪$‬دم‬
‫ليخلع عليه‪ ..‬وال يخلع إال على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة)‬
‫المعذبين‪ ،‬ذكر أنها رتبة (من تحلّى بأص‪$$‬ل اإليم‪$$‬ان‬ ‫ّ‬ ‫وعند حديثه عن رتبة‬
‫ّ‬
‫ولكن قصّر في الوفاء بمقتضاه‪ ،‬فإن رأس اإليمان ه‪$$‬و التوحي‪$$‬د وه‪$$‬و أن ال يعب‪$$‬د‬
‫إاّل هّللا ‪ ،‬ومن اتّبع هواه فقد اتّخ‪$$‬ذ إله‪$$‬ه ه‪$$‬واه فه‪$‬و‪ $‬مو ّح‪$$‬د بلس‪$$‬انه ال بالحقيق‪$$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫معنى قولك‪« :‬ال إله إاّل هّللا » معنى قوله تعالى‪« :‬قُ ِل هَّللا ُ ثُ َّم َذرْ هُ ْم» وه‪$$‬و أن ت‪$$‬ذر‬
‫بالكلّي‪$$‬ة غ‪$$‬ير هّللا ومع‪$$‬نى قول‪$$‬ه «الَّ ِذينَ ق‪$$‬الُوا‪َ $‬ربُّنَ‪$$‬ا هَّللا ُ ثُ َّم ْ‬
‫اس ‪$‬تَقا ُموا» ول ّم‪$$‬ا ك‪$$‬ان‬
‫ق من الشعر وأح ّد‬ ‫الصراط‪ $‬المستقيم الّذي ال يكمل التوحيد إاّل باالستقامة عليه أد ّ‬
‫ك بش‪$$‬ر عن مي‪$$‬ل عن‬ ‫من الس‪$$‬يف مث‪$$‬ل الص‪$$‬راط‪ $‬الموص‪$$‬وف‪ $‬في اآلخ‪$$‬رة فال ينف‪ّ $‬‬
‫االستقامة ولو في أم‪$$‬ر يس‪$$‬ير‪ ،‬إذا ال يخل‪$$‬و عن اتّب‪$$‬اع اله‪$$‬وى ول‪$$‬و في فع‪$$‬ل قلي‪$$‬ل‬
‫وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميل‪$‬ه عن الص‪$‬راط المس‪$$‬تقيم ف‪$‬ذلك يقتض‪$$‬ي ال‬
‫محالة نقصانا في درجة القرب ومع ك ّل نقصان ناران ن‪$$‬ار الف‪$$‬راق ل‪$$‬ذلك الكم‪$$‬ال‬
‫الفائت بالنقصان‪ ،‬ونار‪ $‬جهنّم كما وصفها القرآن فيك‪$$‬ون ك‪ّ $‬ل مائ‪$$‬ل عن الص‪$$‬راط‪$‬‬
‫معذبا مرّتين من وجهين ولكن ش ّدة ذلك العذاب وخفّته وتفاوت‪$$‬ه بحس‪$$‬ب‬ ‫المستقيم ّ‬
‫طول الم ّدة إنّما يكون بسبب أمرين أحدهما قوّة اإليم‪$$‬ان وض‪$$‬عفه‪ ،‬والث‪$$‬اني ك‪$$‬ثرة‬
‫اتّباع الهوى وقلّته)(‪)1‬‬
‫هذا بعض ما ذكره في [إحياء علوم الدين] من م‪$$‬راتب الن‪$$‬اس‪ ،‬وخط‪$$‬ورة‬
‫ما ينتظرهم إن قصروا‪ $‬في اإليمان باهلل‪ ،‬أو في سلوك سبيله‪ ،‬أو تجاوز حدوده‪.‬‬
‫وهكذا نجده في سائر مواقفه؛ حيث نرى موقفه من الفالسفة منس‪$$‬جما م‪$$‬ع‬
‫ما ذكره في كتبه جميعا؛ فهو يكفر الكثير منهم‪ ،‬مع كونهم موحدين‪ ،‬ويمارس‪$$‬ون‬
‫كل ما يمارسه المسلمون من شعائر وعبادات‪ ،‬وذلك ألسباب بسيطة جدا مقارنة‬
‫بما يقوله هؤالء الفالسفة المالحدة الذين اتخذ الغزالي مطي‪$$‬ة لل‪$$‬ترحم‪ $‬عليهم؛ فق‪$$‬د‬
‫قال في [المنقذ من الضالل]‪ ،‬وهو من أواخ‪$$‬ر كتب‪$$‬ه‪( :‬ثم رد أرس‪$$‬طاطاليس على‬
‫أفالطون وسقراط‪ $‬ومن كان قبلهم من اإللهيين‪ ،‬رداً لم يقصر فيه ح‪$$‬تى ت‪$$‬برأ عن‬
‫جميعهم‪ ،‬إال أنه استبقى من رذاذ كفرهم‪ ،‬وبدعتهم‪ ،‬بقايا لم يوفق‪ $‬لل‪$$‬نزوع‪ $‬عنه‪$$‬ا‪،‬‬
‫فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم‪ $‬من المتفلسفة اإلس‪$$‬الميين‪ .‬ك‪$$‬ابن س‪$‬ينا والف‪$$‬ارابي‬
‫وأمثالهما)(‪)2‬‬

‫‪ )(1‬إحياء علوم الدين (‪)24 /4‬‬


‫‪.‬‬
‫‪ )(2‬المنقذ من الضالل (ص‪.)137 :‬‬

‫‪119‬‬
‫وقال عند الحديث عن قس‪$‬م‪ $‬اإللهي‪$$‬ات في الفلس‪$$‬فة اإلس‪$$‬المية المقتبس‪$$‬ة من‬
‫الفلسفة اليونانية‪( :‬وأما اإللهيات‪ :‬ففيها أك‪$$‬ثر أغ‪$$‬اليطهم‪ ،‬فم‪$$‬ا ق‪$$‬دروا‪ $‬على الوف‪$$‬اء‬
‫ب‪$$‬البراهين على م‪$$‬ا ش‪$$‬رطوه في المنط‪$‬ق‪ ،‬ول‪$$‬ذلك ك‪$$‬ثر االختالف بينهم في‪$‬ه ولق‪$$‬د‬
‫قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من م‪$$‬ذاهب اإلس‪$$‬الميين‪ ،‬على م‪$$‬ا نقل‪$$‬ه الف‪$$‬ارابي‬
‫وابن سينا‪ ،‬ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصالً‪ ،‬يجب تكفيرهم‬
‫في ثالثة منها‪ ،‬وتبديعهم في سبعة عشر)(‪)1‬‬
‫وتلك المسائل الفرعية التي رأى الغزالي وجوب تكفيرهم فيها‪ ،‬ولم ي‪$$‬برر‬
‫خطأهم فيها بكونهم‪ $‬مجتهدين‪ ،‬هي ـ كما يذكر في المنقذ من الضالل ـ‪( :‬ق‪$$‬ولهم‪:‬‬
‫إن األجساد ال تحشر‪ ،‬وإنما المثاب والمعاقب‪ $‬هي األرواح المجردة‪ ،‬والمثوب‪$$‬ات‬
‫والعقوب‪$$‬ات روحاني‪$$‬ة ال جس‪$$‬مانية‪ ..‬وق‪$$‬ولهم‪ :‬إن هللا تع‪$$‬الى يعلم الكلي‪$$‬ات دون‬
‫الجزئيات‪ ،‬فهو أيضا ً كفر صريح‪ ،‬بل الحق أن‪$$‬ه‪﴿ :‬اَل يَ ْع‪ُ $‬زبُ َع ْن‪$‬هُ ِم ْثقَ‪$$‬ا ُل َذ َّر ٍة فِي‬
‫ض َواَل أَصْ َغ ُر ِم ْن َذلِ‪$$‬كَ َواَل أَ ْكبَ‪$‬رُ﴾ [س‪$$‬بأ‪ ..]3 :‬ومن ذل‪$$‬ك‬ ‫ت َواَل فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ق‪$$‬ولهم‪ $:‬يق‪$$‬دم الع‪$$‬الم وأزليت‪$$‬ه‪ ،‬ولم ي‪$$‬ذهب أح‪$$‬د من المس‪$$‬لمين إلى ش‪$$‬يء من ه‪$$‬ذه‬
‫المسائل)(‪)2‬‬
‫فكيف يستدل بكالم من يقول هذا في جواز الترحم على من ال ينك‪$$‬ر النعيم‬
‫الجسدي فقط‪ ،‬بل ينكر اآلخرة أيضا‪ ،‬وينك ‪$‬ر‪ $‬معه‪$$‬ا هللا رب الع‪$$‬المين‪ ،‬وال يكتفي‬
‫باإلنكار‪ $‬المجرد‪ ،‬بل يستعمل العلم وسيلة للدعوة لذلك اإلنكار؟‬
‫ولم يكتف الغزالي بكبار‪ $‬الفالسفة كابن سينا والفارابي‪ ،‬بل راح للمت‪$$‬ابعين‬
‫لهم على أقوالهم يشن عليهم حملته الكبرى في كتاب‪$$‬ه [ته‪$$‬افت الفالس‪$$‬فة]‪ ،‬وال‪$$‬ذي‬
‫ق‪$$‬ال في مقدمت‪$$‬ه‪( :‬أم‪$$‬ا بع‪$$‬د‪ ،‬ف‪$$‬إني رأيت طائف‪$$‬ة يعتق‪$$‬دون في أنفس‪$$‬هم التم‪$$‬يز عن‬
‫األتراب والنظراء‪ $‬بمزيد الفطنة والذكاء قد رفضوا‪ $‬وظائف‪ $‬اإلسالم‪ ،‬واستحقروا‬
‫شعائر‪ $‬الدين‪ ،‬بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيه‪$$‬ا رهط‪$$‬ا‬
‫يصدون عن سبيل هللا‪ ،‬ويبغونها‪ $‬عوجا)(‪)3‬‬
‫ونحن‪ ،‬وإن كنا ننكر علي‪$$‬ه ه‪$$‬ذا التكف‪$$‬ير‪ ،‬ولكن‪$$‬ا أردن‪$$‬ا من خالل ذك‪$$‬ره أن‬
‫ننبه هؤالء الذين ق‪$$‬رأوا‪ $‬نص الغ‪$$‬زالي مقلوب‪$$‬ا‪ ،‬ولم يفهم‪$$‬وا مقص‪$$‬وده‪ ،‬فنقل‪$$‬وه من‬
‫الرحمة إلى الترحم‪ ،‬ومن المجتهدين في البحث عن الحقيقة إلى المقصرين فيها‪،‬‬
‫ومن العامة البسطاء إلى العلماء الكبار الب‪$$‬احثين‪ ،‬ومن الس‪$$‬اكتين الال أدري‪$$‬ة إلى‬
‫المصرحين بإلحادهم‪$.‬‬
‫وهذا كله كيل بالمكايي‪$‬ل‪ $‬المزدوج‪$$‬ة‪ ،‬وتالعب ب‪$$‬العواطف‪ ،‬ب‪$$‬ل عبث به‪$$‬ا‪،‬‬
‫والبحث العلمي يأبى ذلك كله‪.‬‬
‫‪ )(1‬المنقذ من الضالل (ص‪.)143 :‬‬
‫‪ )(2‬المنقذ من الضالل (ص‪)148 :‬‬
‫‪ )(3‬تهافت الفالسفة ص‪..38‬‬

‫‪120‬‬
‫الرحمة‪ ..‬والعدالة‬
‫يطرح الكثير من التنويريين الجدد مس‪$$‬ألة الرحم‪$$‬ة اإللهي‪$$‬ة الخاص‪$$‬ة بغ‪$$‬ير‬
‫المسلمين بطريقة وكأنها من القضايا المجمع عليها‪ ،‬وأن كل من مات في أوروبا‪$‬‬
‫وأمريكا‪ $‬وغيرهما‪ ،‬حتى لو ك‪$$‬ان ملح‪$$‬دا عني‪$$‬دا‪ ،‬وفاس‪$$‬قا عربي‪$$‬دا‪ ،‬س‪$$‬يدخل الجن‪$$‬ة‬
‫مباش‪$$‬رة‪ ،‬وستش‪$$‬مله رحم‪$$‬ة هللا الواس‪$$‬عة‪ ،‬وأن‪$$‬ه كم‪$$‬ا تنعم في ال‪$$‬دنيا‪ ،‬س‪$$‬يتنعم في‬
‫اآلخرة‪ ،‬ولن يحاسب على شيء‪ ،‬ذلك أن‪$$‬ه لم تبلغ‪$$‬ه الرس‪$$‬الة‪ ،‬أو بلغت‪$$‬ه مش‪$$‬وهة‪،‬‬
‫ولذلك ليس هناك حجة لمن سيسأله عن ربه ونبيه ودينه‪.‬‬
‫وهذا ما يجعل من المسلمين في بالد اإلسالم‪ ،‬وال‪$$‬ذين يعيش أك‪$‬ثرهم في ظالل‬
‫الفقر والبؤس‪ ،‬أو ظالل االستبداد والظلم‪ ،‬في ح‪$$‬يرة من أم‪$$‬رهم‪ ..‬فهم يحاس‪$$‬بون على‬
‫الصغير والكبير في الدنيا واآلخرة؛ فقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة التي تخ‪$$‬بر‬
‫بالعذاب الشديد المرتبط بما يفعلونه من ذنوب‪ ،‬والتي تص‪$$‬ف ذل‪$$‬ك بدق‪$$‬ة‪ ..‬فالمس‪$$‬لم إن‬
‫شرب الخمر سيسقى من طينة الخبال‪ ،‬كما ورد في الح‪$‬ديث عن رس‪$‬ول هللا ‪( :‬إن‬
‫على هللا عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‪ ،‬ق‪$$‬الوا وم‪$$‬ا طين‪$$‬ة الخب‪$$‬ال‬
‫قال‪ :‬عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)(‪ ،)1‬وفوق ذلك‪ ،‬فلن يشربها في اآلخ‪$$‬رة‪،‬‬
‫كما ورد في الحديث‪( :‬من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في اآلخرة)(‪)2‬‬
‫أما الذي عاش في أوروبا وأمريكا‪ $‬يشرب الخم‪$$‬ر‪ ،‬وي‪$$‬دمن عليه‪$$‬ا‪ ،‬ويظ‪$$‬ل‬
‫مترددا‪ $‬بين المالهي‪ ،‬ال يعرف إلها وال دين‪$$‬ا‪ ..‬فه‪$$‬و عن‪$$‬د ه‪$$‬ؤالء المرجئ‪$$‬ة الج‪$$‬دد‬
‫ممن تشملهم رحمة هللا الواسعة‪ ،‬ولذلك لن يحاسب على معاقرته الخم‪$$‬ر‪ ،‬لكون‪$$‬ه‬
‫غير مكلف؛ وبذلك فلن يصاب بأي عقوبة‪ ،‬ولن يحرم من أي مزية‪.‬‬
‫وهذا ما يجعل اللبيب حيرانا‪ $‬في الجمع بين العدالة والرحمة اإللهية‪ ..‬ف‪$$‬إن‬
‫كانت الرحمة اإللهية واسعة إلى ذلك الحد‪ ،‬فلماذا كان أشقى الناس بها المؤمنون‪$‬‬
‫الذين بلغتهم الدعوة‪ ..‬والذين يتمنون لو أنهم عاشوا في أوروبا وأمريكا صعاليك‬
‫مالح‪$$‬دة؛ ف‪$$‬ذلك خ‪$$‬ير لهم من أن يعيش‪$$‬وا في بالد اإلس‪$$‬الم ليش‪$$‬قوا في ال‪$$‬دنيا‪ ،‬ثم‬
‫يشقوا في اآلخرة‪.‬‬
‫وقد ذكرت الجواب المفصل عن هذه الشبهة في كتابي [أس‪$$‬رار األق‪$$‬دار]‪،‬‬
‫عند حديثي عن العدالة اإللهية‪ ،‬وطرحت فيه اآلراء المختلفة في المسألة‪ ،‬وبينت‬
‫مدى صلتها بالرحمة والعدالة اإللهية‪ ،‬ولذلك سأكتفي هن‪$$‬ا ب‪$$‬القول ال‪$$‬ذي يتناس‪$$‬ب‬
‫مع العدالة والرحمة اإللهية‪ ،‬وهو قول ينسجم مع العقل والحكمة‪ ،‬كما ينسجم مع‬
‫الرحم‪$$‬ة والعدال‪$$‬ة‪ ،‬كم‪$$‬ا ينس‪$$‬جم م‪$$‬ع النص‪$$‬وص الكث‪$$‬يرة المتعارض‪$$‬ة‪ ،‬ويلغي‬
‫‪ )(1‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫التعارض بينها‪.‬‬
‫وهذا القول هو أن كل ه‪$‬ؤالء ال‪$‬ذين لم تتح لهم فرص‪$‬ة التكلي‪$‬ف في ال‪$‬دنيا‬
‫ب‪$$‬أي س‪$$‬بب من األس‪$$‬باب كالمج‪$$‬انين والص‪$$‬بيان‪ $‬ومن لم تبلغهم ال‪$$‬دعوة أو بلغتهم‬
‫مشوهة‪ ،‬يجرى‪ $‬عليهم امتحان جديد في اآلخرة‪ ،‬وذل‪$$‬ك ب‪$$‬أن يوض‪$$‬عوا في مح‪$$‬ال‬
‫معينة‪ ،‬ويرسل إليهم هللا تعالى رسوال ـ كما ورد تفصيل ذلك في الح‪$$‬ديث ـ فمن‬
‫أط‪$$‬اع الرس‪$$‬ول دخ‪$$‬ل الجن‪$$‬ة‪ ،‬ومن عص‪$$‬اه دخ‪$$‬ل الن‪$$‬ار‪ ،‬وبن‪$$‬اء على ذل‪$$‬ك يك‪$$‬ون‬
‫بعضهم‪ $‬في الجنة‪ ،‬وبعضهم‪ $‬في النار‪ ..‬وبذلك تجتمع النص‪$$‬وص المتعارض‪$$‬ة في‬
‫المسألة‪.‬‬
‫وهذا القول ينسجم مع العقل بادئ ال‪$$‬رأي ذل‪$$‬ك أنن‪$$‬ا إن قلن‪$$‬ا ب‪$$‬أنهم ي‪$$‬دخلون‬
‫النار‪ ،‬فبأي جناية جنوها؟‪ ..‬وإن قلنا‪ :‬إن أمرهم للمشيئة‪ ،‬أو لعلم هللا فيهم‪ ،‬فلم‪$$‬اذا‬
‫لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة‪ ،‬فلم تقم محكمة القيامة‪ ،‬ولم يكن هن‪$$‬اك حس‪$$‬اب‬
‫وال كتب وال موازين؟‬
‫وإن قلنا ـ بما يقول ب‪$$‬ه المرجئ‪$$‬ة الج‪$$‬دد ـ‪ :‬إن أم‪$$‬رهم للرحم‪$$‬ة‪ ،‬فق‪$$‬د يق‪$$‬ول‬
‫الب‪$$‬الغ‪ :‬لم‪$$‬اذا ي‪$$‬ارب لم تتوف‪$$‬ني‪ $‬ص‪$$‬بيا لتش‪$$‬ملني رحمت‪$$‬ك ال‪$$‬تي ش‪$$‬ملت الص‪$$‬بي؟‪..‬‬
‫ويق‪$$$‬ول العاق‪$$$‬ل‪ :‬لم ي‪$$$‬ارب لم ت‪$$$‬ذهب عقلي ألبص‪$$$‬ر‪ $‬من الرحم‪$$$‬ة م‪$$$‬ا يبص‪$$$‬ره‬
‫المجن‪$$‬ون؟‪ ..‬ويق‪$$‬ول الفيلس‪$$‬وف‪ :‬لم ي‪$$‬ا رب لم تجعل‪$$‬ني في غي‪$$‬اهب الجه‪$$‬ل ال‪$$‬تي‬
‫حميت بها ذلك الفالح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟‪.‬‬
‫وهو ينسجم أيضا م‪$‬ع م‪$‬ا نمارس‪$‬ه في ال‪$‬دنيا‪ ،‬وال‪$‬دنيا‪ $‬ص‪$‬نو اآلخ‪$‬رة‪ ،‬كم‪$‬ا‬
‫يقال؛ فإنه إذا تقدم قوم لالمتحان‪ ،‬وغاب آخرون عن‪$$‬ه لس‪$$‬بب من األس‪$$‬باب‪ ،‬ف‪$$‬إن‬
‫قوانين العالم كلها تحكم بأن ال يوزع‪ $‬النجاح للغائبين هك‪$$‬ذا مجان‪$$‬ا‪ ،‬ب‪$$‬ل يمتحن‪$$‬ون‬
‫مثلما امتحن غيرهم‪ ،‬لتتحقق العدالة بذلك‪ ،‬ألننا إذا رحمنا هؤالء الغ‪$$‬ائبين نك‪$$‬ون‬
‫قد ظلمنا أولئك الممتح‪$$‬نين‪ ،‬وال‪$$‬ذين ق‪$$‬د يك‪$$‬ون س‪$$‬بب رس‪$$‬وبهم‪ $‬ه‪$$‬و اجته‪$$‬ادهم‪ $‬في‬
‫الحضور‪ $‬لالمتحان‪.‬‬
‫وبناء على هذا‪ ،‬فقد ورد في النصوص المقدسة ما ي‪$$‬دل على ذل‪$$‬ك‪ ،‬س‪$$‬واء‬
‫في المدرسة السنية أو في المدرسة الشيعية‪:‬‬
‫أما في المدرسة السنية‪ ،‬ففي الحديث ال‪$$‬ذي روي من ط‪$$‬رق متع‪$$‬ددة‪ ،‬ق‪$$‬ال‬
‫‪(:‬أربعة يمتحنون يوم القيامة‪ :‬رج‪$$‬ل أص‪$$‬م ال يس‪$$‬مع‪ ،‬ورج‪$$‬ل أحم‪$$‬ق‪ ،‬ورج‪$$‬ل‬
‫هرم‪ ،‬ورجل مات في الفترة‪ ،‬أم‪$$‬ا األص‪$$‬م فيق‪$$‬ول‪(:‬ي‪$$‬ا رب ق‪$$‬د ج‪$$‬اء اإلس‪$$‬الم وم‪$$‬ا‬
‫أسمع شيئا) وأما األحمق فيق‪$$‬ول‪(:‬ي‪$$‬ا رب ق‪$$‬د ج‪$$‬اء اإلس‪$$‬الم والص‪$$‬بيان يرمون‪$$‬ني‬
‫بالبعر) وأما الهرم فيقول‪(:‬يا رب قد ج‪$$‬اء اإلس‪$$‬الم وم‪$$‬ا أعق‪$‬ل ش‪$$‬يئا) وأم‪$$‬ا ال‪$$‬ذي‬
‫مات في الفترة فيقول‪(:‬ما أتاني ل‪$$‬ك رس‪$$‬ول)‪ ،‬فيأخ‪$$‬ذ م‪$$‬واثيقهم‪ $‬ليطيعن‪$$‬ه‪ ،‬فيرس‪$$‬ل‬
‫إليهم رسوال أن ادخلوا النار)‪ ،‬ق‪$$‬ال ‪(:‬فوال‪$$‬ذي نفس‪$$‬ي بي‪$$‬ده ل‪$$‬و دخلوه‪$$‬ا لك‪$$‬انت‬

‫‪122‬‬
‫إليها)(‪)1‬‬ ‫عليهم بردا وسالما‪ ،‬ومن لم يدخلها سحب‬
‫وفي حديث آخر قال ‪(:‬يؤتى يوم القيام‪$$‬ة بالممس‪$$‬وخ‪ $‬عقال وبالهال‪$$‬ك في‬
‫الفترة وبالهالك صغيرا‪ ،‬فيقول الممسوخ عقال‪ :‬يا رب لو آتيتني عقال ما كان م‪$$‬ا‬
‫آتيته عقال بأسعد بعقله مني‪ ،‬ويقول الهالك في الفترة‪ :‬لو أتاني منك عهد ما ك‪$$‬ان‬
‫من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني‪ ،‬ويقول الهال‪$$‬ك ص‪$$‬غيرا‪ :‬ي‪$$‬ا رب ل‪$$‬و آتيت‪$$‬ني‬
‫عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني‪ ،‬فيقول الرب سبحانه‪ :‬إني آمركم‪$‬‬
‫ب‪$$‬أمر أفتطيع‪$$‬وني؟‪ $‬فيقول‪$$‬ون‪ :‬نعم وعزت‪$$‬ك فيق‪$$‬ول‪ :‬اذهب‪$$‬وا ف‪$$‬ادخلوا‪ $‬الن‪$$‬ار‪ ،‬ول‪$$‬و‬
‫دخلوها ما ضرهم‪ ،‬فتخرج عليهم قوابس (‪ )2‬يظنون أنها ق‪$$‬د أهلكت م‪$$‬ا خل‪$$‬ق هللا‬
‫عز وجل من شيء‪ ،‬فيأمرهم فيرجعون سراعا يقولون‪ :‬خرجن‪$$‬ا ي‪$$‬ا رب وعزت‪$$‬ك‬
‫نريد دخولها‪ ،‬فخرجت علينا قوابس‪ $‬ظننا أنها ق‪$$‬د أهلكت م‪$$‬ا خل‪$$‬ق هللا ع‪$$‬ز وج‪$$‬ل‬
‫من شيء‪ ،‬فيأمرهم‪ $‬الثانية‪ ،‬فيرجعون ك‪$‬ذلك فيقول‪$‬ون مث‪$‬ل ق‪$‬ولهم‪ $‬فيق‪$‬ول هللا ع‪$‬ز‬
‫وجل س‪$$‬بحانه‪ :‬قب‪$$‬ل أن تخلق‪$$‬وا علمت م‪$$‬ا أنتم ع‪$$‬املون وعلى علمي خلقتكم وإلى‬
‫علمي تصيرون ضميهم‪ ،‬فتأخذهم النار)‬
‫ومنها قوله ‪(:‬إذا كان يوم القيام‪$‬ة ج‪$‬اء أه‪$‬ل الجاهلي‪$‬ة يحمل‪$‬ون أوث‪$‬انهم‪$‬‬
‫على ظهورهم‪ ،‬فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون‪ :‬لم ترسل إلينا رس‪$$‬وال ولم يأتن‪$$‬ا‬
‫لك أمر‪ ،‬ول‪$$‬و أرس‪$$‬لت إلين‪$$‬ا رس‪$$‬وال لكن‪$$‬ا أط‪$$‬وع عب‪$$‬ادك‪ ،‬فيق‪$$‬ول ربهم‪ :‬أرايتم إن‬
‫أم‪$$‬رتكم‪ $‬ب‪$$‬أمر تطيعون‪$$‬ه؟ فيقول‪$$‬ون‪ :‬نعم‪ ،‬في‪$$‬أمرهم أن يع‪$$‬بروا جهنم في‪$$‬دخلونها‬
‫فينطلق‪$$‬ون ح‪$$‬تى إذا دن‪$$‬وا منه‪$$‬ا س‪$$‬معوا‪ $‬له‪$$‬ا تغيظ‪$$‬ا وزف‪$$‬يرا ف‪$$‬يرجعون إلى ربهم‬
‫فيقولون‪ :‬ربنا أخرجنا منها‪ ،‬فيقول‪ :‬ألم تزعموا أني إن أم‪$‬رتكم ب‪$‬أمر تطيع‪$‬وني‪،‬‬
‫فيأخذ‪ $‬على ذلك من مواثيقهم فيقول‪ :‬اعمدوا لها فينطلقون‪ $‬حتى إذا رأوه ‪$‬ا‪ $‬فرق‪$$‬وا‬
‫فرجع‪$$‬وا فق‪$$‬الوا‪ :‬ربن‪$$‬ا! فرقن‪$$‬ا منه‪$$‬ا وال نس‪$$‬تطيع‪ $‬أن ن‪$$‬دخلها‪ ،‬فيق‪$$‬ول‪ :‬ادخلوه‪$$‬ا‬
‫داخرين)‪ ،‬قال رسول هللا ‪(:‬فلو دخلوها أول مرة ك‪$$‬انت عليهم ب‪$$‬ردا وس‪$$‬الما)‬
‫(‪)3‬‬
‫وفي المدرس‪$$‬ة الش‪$$‬يعية‪ ،‬ورد في ص‪$$‬حيحة هش‪$$‬ام عن أبي عب‪$$‬د هللا‪ ،‬ق‪$$‬ال‪:‬‬
‫(ثالثة يحت َّج عليهم‪ :‬األبكم‪ ،‬والطفل‪ ،‬ومن مات في الفترة‪ ،‬ف‪$$‬ترفع‪ $‬لهم ن‪$$‬ار فيق‪$$‬ال‬
‫لهم‪ :‬ادخلوها‪ ،‬فمن دخلها كانت عليه برداً وسالماً‪ ،‬ومن أبى قال تبارك وتعالى‪:‬‬
‫ه‪$$‬ذا ق‪$$‬د أم‪$$‬رتكم فعص‪$$‬يتموني)(‪ ،)4‬ومثل‪$$‬ه روي‪ $‬في ص‪$$‬حيحة زرارة عن أبي‬
‫جعفر‪ ،‬وغيرها من الروايات(‪.)5‬‬
‫‪ )(1‬رواه النسائي والحاكم وابن مردويه‪.‬‬
‫‪ )(2‬قوابس‪ :‬القبس‪ :‬الشعلة من النار‪ .‬النهاية ‪.4/4‬‬
‫‪ )(3‬رواه البزار بإسنادين ضعيفين‪.‬‬
‫‪ )(4‬الكافي‪.3/249‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬بحار األنوار‪.5/290:‬‬

‫‪123‬‬
‫وهذه األح‪$$‬اديث ال تع‪$$‬ني أن الك‪$$‬ل سيس‪$‬قط في االمتح‪$$‬ان‪ ،‬وإنم‪$‬ا تع‪$$‬ني أن‬
‫هناك ناسا سيسقطون فيه مثلما حصل في الدنيا‪.‬‬
‫وقد قبلنا هذه األحاديث بطرقها المختلفة‪ ،‬بناء على اتفاق األم‪$$‬ة عليه‪$$‬ا من‬
‫جهة‪ ،‬وعلى انسجامها‪ $‬مع العدالة والرحمة اإللهية من جهة أخرى‪.‬‬
‫وقد ذهب كبار المح‪$$‬دثين من المدرس‪$$‬تين إلى ص‪$$‬حتها‪ ،‬وق‪$$‬د رد ابن كث‪$$‬ير‬
‫على من شككوا فيها بقوله‪(:‬إن أحاديث هذا الب‪$$‬اب منه‪$$‬ا م‪$$‬ا ه‪$$‬و ص‪$$‬حيح كم‪$$‬ا ق‪$$‬د‬
‫نص على ذلك كثير من أئمة العلماء‪ ،‬ومنها ما هو حسن‪ ،‬ومنها ما ه‪$$‬و ض‪$$‬عيف‬
‫يتقوى بالصحيح والحسن‪ ،‬وإذا ك‪$$‬انت أح‪$$‬اديث الب‪$$‬اب الواح‪$$‬د متص‪$$‬لة متعاض‪$$‬دة‬
‫على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها)(‪)1‬‬
‫أما ابن القيم فقد أيدها بجملة وجوه‪ ،‬ال بأس من إيراد بعضها هنا(‪:)2‬‬
‫‪ .1‬منها أن هذه األحاديث كثرت بحيث يشد بعضها بعض‪$‬ا‪ ،‬وقد ص‪$‬حح الحف‪$‬اظ‬
‫بعضها‪.‬‬
‫‪ .2‬ومنها أن غاية ما يق‪$$‬در فيه أنه موق‪$$‬وف‪ $‬على الص‪$$‬حابي‪ ،‬ومثل ه‪$$‬ذا ال يق‪$$‬دم‬
‫عليه الصحابي بالرأي واالجتهاد‪ $،‬بل يجزم بأن ذلك توقيف ال عن رأي‪.‬‬
‫‪ .3‬ومنها أن هذه األحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها‪ $،‬واختلفت‬
‫مخارجه‪$$‬ا‪ ،‬فيبعد‪ $‬كل البعد أن تك‪$$‬ون باطلة على رس‪$$‬ول هللا ‪ ،‬زي‪$$‬ادة على‬
‫أنه قد رواها أئمة اإلسالم ودونوها‪ $‬ولم يطعنوا فيها‪.‬‬
‫‪ .4‬ومنها أنه وإن أنكرها بعض المح‪$$‬دثين‪ ،‬فقد قبلها األك‪$$‬ثرون‪ ،‬وال‪$$‬ذين قبلوها‪$‬‬
‫أكثر من الذين أنكروها‪ $‬وأعلم بالسنة والحديث‪.‬‬
‫ويضاف‪ $‬إلى هذا التأييد الروائي‪ ،‬ما يدل على توافقها مع العدالة والرحمة‬
‫اإللهية‪ ،‬وم‪$$‬ا يجم‪$$‬ع على أساس‪$$‬ه ك‪$$‬ل النص‪$$‬وص الس‪$$‬ابقة‪ ،‬وك‪$$‬ل األق‪$$‬وال المبني‪$$‬ة‬
‫عليها‪.‬‬
‫أما اتفاقها مع العدال‪$$‬ة‪ ،‬فح‪$$‬تى ال يتأس‪$$‬ف العاق‪$‬ل على أن‪$‬ه لم يكن مجنون‪$$‬ا‪،‬‬
‫أويتأسف البالغ على انه لم يمت صبيا‪ ،‬وه‪$$‬ذا م‪$$‬ا نط‪$$‬ق ب‪$$‬ه الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم ودلت‬
‫عليه قواعد الشرع‪ ،‬قال ابن القيم‪(:‬فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أن‪$$‬ه ال يع‪$$‬ذب‬
‫أحد إال بعد قيام‪ $‬الحجة عليه‪ ،‬وهؤالء لم تقم عليهم حجة هللا في ال‪$$‬دنيا‪ ،‬فال ب‪$$‬د أن‬
‫يقيم حجته عليهم‪ ،‬وأحق المواطن أن تقام فيه الحج‪$$‬ة ي‪$$‬وم يق‪$$‬وم األش‪$$‬هاد وتس‪$$‬مع‬
‫الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين ي‪$‬دي ال‪$‬رب وينط‪$‬ق ك‪$‬ل أح‪$‬د بحجت‪$‬ه‬
‫ومعذرته فال تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم)(‪)3‬‬
‫أما اتفاقها مع الرحم‪$$‬ة‪ ،‬ف‪$$‬إن هللا تع‪$$‬الى يكل‪$$‬ف ه‪$$‬ؤالء بع‪$$‬د مع‪$$‬اينتهم ألم‪$$‬ر‬
‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير‪.5/58 :‬‬
‫‪ )(2‬أحكام أهل الذمة‪.2/1147 :‬‬
‫‪ )(3‬أحكام أهل الذمة‪.2/1149 :‬‬

‫‪124‬‬
‫اآلخرة‪ ،‬ويكون التكليف حينها مع شدته هينا‪.‬‬
‫أما اجتماع النصوص على أساسها‪ ،‬فألن من هؤالء من يطيع هللا‪ ،‬فيدخل‬
‫الجنة‪ ،‬ومنهم من يعصيه‪ ،‬فيدخل النار‪ ،‬وب‪$$‬ذلك‪ $‬كل‪$‬ه وردت النص‪$$‬وص‪ ،‬ق‪$$‬ال ابن‬
‫كثير‪(:‬وهذا القول يجمع بين األدل‪$$‬ة كله‪$$‬ا‪ .‬وق‪$$‬د ص‪$$‬رحت ب‪$$‬ه األح‪$$‬اديث المتقدم‪$$‬ة‬
‫المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض)(‪)1‬‬
‫واالعتراض الثاني الذي قد يوجه لهذا الق‪$$‬ول ه‪$$‬و م‪$$‬ا س‪$$‬اد اعتق‪$$‬اده من أن‬
‫الدار اآلخرة دار الجزاء ال دار التكليف‪ ،‬فكيف يكلف هؤالء بالعمل؟‬
‫ومع أن لهؤالء أحوالهم الخاصة التي ق‪$$‬د ال يش‪$$‬اركهم فيه‪$$‬ا غ‪$$‬يرهم إال أن‬
‫األدلة متظافرة على أن هذا االعتقاد السائد ليس على عمومه‪ ،‬وق‪$$‬د ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪﴿:‬‬
‫يَوْ َم يُ ْكشَفُ ع َْن َسا ٍ‬
‫ق َويُ ْدعَوْ نَ إِلَى ال ُّسجُو ِ‪$‬د فَال يَ ْست َِطيعُونَ ﴾ (القلم‪ ،)42:‬وق‪$$‬د ثبت‬
‫في الحديث أن المؤمنين يسجدون هّلل ي‪$$‬وم القيام‪$$‬ة‪ ،‬وأن المن‪$$‬افق ال يس‪$$‬تطيع ذل‪$$‬ك‬
‫ويعود‪ $‬ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا ً واحداً‪ ،‬كلما أراد السجود‪ $‬خر لقفاه(‪.)2‬‬
‫وفي الحديث اآلخر في الرجل الذي يكون آخر أه‪$$‬ل الن‪$$‬ار خروج‪$‬ا ً منه‪$$‬ا‪،‬‬
‫أن هّللا يأخذ عهوده ومواثيقه أن ال يسأل غير ما ه‪$$‬و في‪$$‬ه‪ ،‬ويتك‪$$‬رر ذل‪$$‬ك م‪$$‬راراً‪،‬‬
‫ويقول هّللا تعالى‪(:‬يا ابن آدم ما أغدرك!) ثم يأذن له في دخول الجنة(‪.)3‬‬
‫زيادة على ذلك م‪$$‬ا ثبت في النص‪$$‬وص الكث‪$$‬يرة من االمتحان‪$$‬ات واألس‪$$‬ئلة‬
‫التي يتعرض لها أهل القبور‪$.‬‬
‫ً‬
‫وق‪$$‬ال نق‪$$‬ل المجلس‪$$‬ي عن الص‪$$‬دوق‪ $‬قول‪$$‬ه‪( :‬إن قوم ‪$‬ا من أص‪$$‬حاب الكالم‬
‫ينكرون ذل‪$$‬ك‪ ،‬ويقول‪$‬ون‪ :‬إن‪$‬ه ال يج‪$‬وز أن يك‪$‬ون في دار الج‪$$‬زاء‪ ،‬تكلي‪$‬ف‪ .‬ودار‬
‫الجزاء للمؤمنين إنم‪$$‬ا هي الجن‪$$‬ة‪ .‬ودار الج‪$$‬زاء للك‪$$‬افرين إنم‪$$‬ا هي الن‪$$‬ار‪ .‬وإنم‪$$‬ا‬
‫يكون هذا التكليف من هللا عز وج‪$‬ل في غ‪$‬ير الجن‪$‬ة والن‪$‬ار‪ ،‬فال يك‪$‬ون كلفهم في‬
‫دار الجزاء‪ ،‬ثم يصيِّرهم إلى الدار ال‪$$‬تي يس‪$$‬تحقونها بط‪$$‬اعتهم أو معص‪$$‬يتهم‪ ،‬فال‬
‫وجه إلنكار‪ $‬ذلك)(‪)4‬‬
‫أما االعتراض الث‪$‬الث‪ ،‬فه‪$‬و تص‪$‬ور‪ $‬اس‪$‬تحالة أن يكلفهم هّللا دخ‪$‬ول الن‪$‬ار‪،‬‬
‫ألن ذلك ليس في وسعهم؛‪ $‬فغير صحيح ألن ذلك في وسعهم‪ $‬من جه‪$$‬ة‪ ،‬وه‪$$‬و م‪$$‬ع‬
‫مشقته ال يختل‪$‬ف كث‪$‬يرا عن الكث‪$‬ير من التك‪$‬اليف ال‪$‬تي يطلب به‪$‬ا الف‪$‬وز بس‪$‬عادة‬
‫األبد‪:‬‬
‫ومنها أن هللا تعالى يأمر العباد يوم القيام‪$$‬ة ب‪$$‬الجواز على الص‪$$‬راط‪ ،‬وه‪$$‬و‬
‫جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة‪ ،‬ويمر المؤمنون عليه بحس‪$$‬ب‬
‫‪ )(1‬تفسير ابن كثير‪.5/58 :‬‬
‫‪ )(2‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ )(3‬الحديث طويل رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ )(4‬بحار األنوار‪ ،‬ج‪ 5‬ص‪..290‬‬

‫‪125‬‬
‫أعمالهم كالبرق‪ ،‬وكالريح‪ ،‬وكأجاوي‪$$‬د الخي‪$$‬ل‪ ،‬والرك‪$$‬اب‪ ،‬ومنهم الس‪$$‬اعي ومنهم‬
‫الماشي‪ ،‬ومنهم من يحبو حبواً‪ ،‬ومنهم المكدوش على وجهه في النار‪ ،‬وليس م‪$$‬ا‬
‫ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم‪.‬‬
‫ومنها ما ثبت في السنّة بأن الدجال يك‪$$‬ون مع‪$$‬ه جن‪$$‬ة ون‪$$‬ار‪ ،‬وق‪$$‬د أم‪$$‬ر ‪‬‬
‫المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون علي‪$$‬ه‬
‫برداً وسالما ً(‪ ،)1‬وهذا يشبه إلى حد كبير هذا االمتحان الذي تعرض له هؤالء‪.‬‬
‫ومنها أن هللا تعالى أمر بني إسرئيل أن يقتلوا أنفسهم‪ ،‬فقتل بعضهم بعضا ً‬
‫حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً‪ ،‬يقت‪$$‬ل الرج‪$$‬ل أب‪$$‬اه وأخ‪$$‬اه وهم في‬
‫عماية غمامة أرسلها‪ $‬هّللا عليهم‪ ،‬وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل (‪ ،)2‬وه‪$$‬و‬
‫ال يقل مشقة على النفوس مما تعرض له هؤالء‪.‬‬
‫ومنها أن الكثير من األوامر التي أمر هللا تعالى بها في الدنيا نظ‪$$‬ير‪ $‬األم‪$$‬ر‬
‫بدخول النار (فإن األمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم‪ $‬وتعريضهم‬
‫ألسرهم‪ $‬لهم وتعذيبهم‪ $‬واسترقاقهم لعله أعظم من األمر بدخول النار)(‪)3‬‬
‫زيادة على ذلك كله‪ ،‬فإن أن أمرهم بدخول الن‪$$‬ار ليس عقوب‪$$‬ة لهم‪ ،‬وكي‪$$‬ف‬
‫يعاقبهم‪ $‬على غير ذنب؟ (وإنما هو امتحان واختبار‪ $‬لهم هل يطيعونه أو يعصونه‬
‫فل‪$$‬و أط‪$$‬اعوه ودخلوه ‪$‬ا‪ $‬لم تض‪$$‬رهم‪ $‬وك‪$$‬انت عليهم ب‪$$‬ردا وس‪$$‬الما‪ ،‬فلم‪$$‬ا عص‪$$‬وه‬
‫وامتنع‪$$‬وا‪ $‬من دخوله‪$$‬ا اس‪$$‬توجبوا‪ $‬عقوب‪$$‬ة مخالف‪$$‬ة أم‪$$‬ره‪ ،‬والمل‪$$‬وك ق‪$$‬د تمتحن من‬
‫يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظ‪$$‬اهر‪،‬‬
‫هل يوطن نفسه عليه أم ال؟فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه‪ ،‬وإن‬
‫امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه)(‪)4‬‬
‫ومن ه‪$$‬ذا الب‪$$‬اب أم‪$$‬ر هللا تع‪$$‬الى الخلي‪$$‬ل ‪ ‬ب‪$$‬ذبح ول‪$$‬ده‪ ،‬ولم يكن م‪$$‬راده‬
‫تعالى من ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتس‪$$‬ليمه وتقديم‪$$‬ه محب‪$$‬ة هللا على‬
‫محبة الولد‪ ،‬فلما فعل ذلك رفع عنه األمر بالذبح‪.‬‬
‫بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلق‪$$‬ون أنفس‪$$‬هم فيه‪$$‬ا طاع‪$$‬ة‬
‫للشيطان‪ ،‬وال يقول‪$$‬ون‪ :‬ليس ذل‪$$‬ك في وس‪$$‬عنا م‪$$‬ع ت‪$$‬ألمهم به‪$$‬ا غاي‪$$‬ة األلم‪( ،‬فعب‪$$‬اد‬
‫الرحمن إذا أمرهم أرحم ال‪$$‬راحمين بطاعت‪$$‬ه باقتح‪$$‬امهم الن‪$$‬ار كي‪$$‬ف ال يك‪$$‬ون في‬
‫وسعهم‪ $‬وهو إنما يأمرهم‪ $‬بذلك لمصلحتهم‪ $‬ومنفعتهم)(‪)5‬‬

‫‪ )(1‬الحديث طويل‪ ،‬وهو مروي في أكثر أصول السنة‪ ،‬وبهذا اللفظ راه أبو داود وابن ماجه‪.‬‬
‫ال ُمو َسى لِقَوْ ِم ِه يَ‪$$‬ا قَ‪$$‬وْ ِم ِإنَّ ُك ْم ظَلَ ْمتُ ْم أَ ْنفُ َس‪ُ $‬ك ْم ِباتِّخَ‪ $‬ا ِذ ُك ُم ْال ِعجْ‪َ $‬ل فَتُوبُ‪$$‬وا ِإلَى بَ‪ِ $‬‬
‫‪$‬ارئِ ُك ْم‬ ‫‪ )(2‬كما قال تعالى‪َ ﴿:‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫َّحي ُم ﴾ (البقرة‪)54:‬‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫َّابُ‬ ‫و‬‫َّ‬ ‫ت‬‫ال‬ ‫ُو‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫َّ‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ْ‬
‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫َاب‬
‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫فَا ْقتُلُوا أَ ْنفُ َس ُك ْم َذ ِل ُك ْم خَ ْي ٌر لَ ُك ْم ِع ْن َد بَ ِ ِ‬
‫ئ‬ ‫ار‬
‫‪ )(3‬أحكام أهل الذمة‪.2/1154:‬‬
‫‪ )(4‬أحكام أهل الذمة‪.2/1152:‬‬
‫‪ )(5‬أحكام أهل الذمة‪.2/1155:‬‬

‫‪126‬‬
‫بل إن اقتح‪$‬امهم الن‪$‬ار المفض‪$‬ية بهم إلى النج‪$‬اة ال تختل‪$‬ف عن الكي ال‪$‬ذي‬
‫يحسم الداء‪ ،‬أو هي بمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية‪.‬‬
‫فليس أم‪$$‬رهم ب‪$$‬دخول الن‪$$‬ار من ب‪$$‬اب العقوب‪$$‬ة في ش‪$$‬يء‪ ،‬ألن (هللا تع‪$$‬الى‬
‫اقتض‪$$‬ت حكمت‪$$‬ه وحم‪$$‬ده وغن‪$$‬اه ورحمت‪$$‬ه أال يع‪$$‬ذب من ال ذنب ل‪$$‬ه‪ ،‬ب‪$$‬ل يتع‪$$‬الى‬
‫ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عم‪$$‬ا ين‪$$‬اقض ص‪$$‬فات كمال‪$$‬ه‪ ،‬ف‪$$‬األمر‪ $‬باقتح‪$$‬ام‪ $‬الن‪$$‬ار‬
‫للخالص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة‪ ،‬ح‪$‬تى ل‪$‬و أنهم ب‪$‬ادروا إليه‪$‬ا‬
‫طوعا واختيارا‪ $‬ورض‪$$‬ي حيث علم‪$$‬وا أن مرض‪$$‬اته في ذل‪$$‬ك قب‪$$‬ل أن ي‪$$‬أمرهم ب‪$$‬ه‬
‫لكان ذلك عين صالحهم وسبب نجاتهم‪ ،‬فلم يفعل‪$$‬وا ذل‪$$‬ك ولم يمتثل‪$$‬وا أم‪$$‬ره‪ ،‬وق‪$‬د‪$‬‬
‫تيقن‪$$‬وا وعلم‪$$‬وا أن في‪$$‬ه رض‪$$‬اه وص‪$$‬الحهم‪ $،‬ب‪$$‬ل ه‪$$‬ان عليهم أم‪$$‬ره وع‪$$‬زت عليهم‬
‫أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا ال عقوبة)(‪)1‬‬
‫ازينَ‬ ‫‪$‬و ِ‬‫َض‪$ُ $‬ع ْال َم‪َ $‬‬ ‫وبهذه الوجوه جميعا يمكننا أن نفهم جيدا قول‪$$‬ه تع‪$$‬الى‪َ ﴿:‬ون َ‬
‫َ‬
‫‪$‬ال َحبَّ ٍة ِم ْن خَ‪$$‬رْ َد ٍل أتَ ْينَ‪$$‬ا بِهَ‪$$‬ا‬ ‫ْالقِ ْسطَ لِيَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة فَال تُ ْ‬
‫ظلَ ُم نَ ْفسٌ َشيْئا ً َوإِ ْن َك‪$$‬انَ ِم ْثقَ‪َ $‬‬
‫َو َكفَى بِنَا َحا ِسبِينَ ﴾ (االنبياء‪)47:‬‬
‫‪$‬روْ ا‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ص‪ُ $‬د ُر الناسُ أش‪$‬تَاتا لِيُ‪َ $‬‬ ‫وقوله عند ذكر دقة الموازين اإللهية‪ ﴿:‬يَوْ َمئِ‪ٍ $‬ذ يَ ْ‬
‫‪$$‬رهُ‬ ‫ً‬
‫ال ذ َّر ٍة َش ّرا يَ َ‬ ‫َ‬ ‫أَ ْع َمالَهُ ْم (‪ )6‬فَ َم ْن يَ ْع َملْ ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َخ ْيرًا يَ َرهُ (‪َ )7‬و َم ْن يَ ْع َملْ ِمثقَ َ‬
‫ْ‬
‫(‪( ﴾)8‬الزلزلة)‬
‫وال نملك بعد كل هذا إال أن نكل األم‪$‬ر هلل من قب‪$$‬ل ومن بع‪$$‬د‪ ،‬فه‪$$‬و الع‪$‬دل‬
‫‪$‬وب َعلَ ْي ِه ْم‬‫‪$‬ر َش ‪ْ $‬ي ٌء أَوْ يَتُ‪َ $‬‬ ‫ك ِمنَ اأْل َ ْم‪ِ $‬‬ ‫ْس لَ َ‬
‫الرحيم‪ ،‬وقد قال مخاطبا رسوله ‪ ﴿:‬لَي َ‬
‫أَوْ يُ َع ِّذبَهُ ْم فَإِنَّهُ ْم ظَالِ ُمونَ ﴾ (آل عمران‪)128:‬‬

‫‪ )(1‬أحكام أهل الذمة‪.2/1156:‬‬

‫‪127‬‬
‫القسم الرابع‬

‫التنويريون ‪ ..‬وتمجيد المالحدة‬

‫‪128‬‬
‫تمجيد المالحدة وأثره في نشر اإللحاد‬
‫يتصور‪ $‬البعض أننا نبالغ عندما نتحدث عن هوكينغ أو غيره من المالحدة‬
‫ال‪$‬ذين لم يكتف‪$‬وا بإلح‪$‬ادهم‪ ،‬وإنم‪$‬ا راح‪$‬وا يس‪$‬اهمون في نش‪$‬ره‪ ،‬وبث المغالط‪$‬ات‬
‫العلمية لطرحه‪ ،‬فهم يتصورون أن تمجيد هؤالء بسبب مواقف وقفوها‪ ،‬أو علوم‬
‫نشروها‪ $،‬أو خدمات قدموها‪ ،‬لن يتسبب في نشر أفكارهم الخط‪$$‬يرة‪ ..‬وه‪$$‬ذا غ‪$$‬ير‬
‫صحيح‪ ،‬والواقع‪ $‬ال يدل عليه‪.‬‬
‫ومن األمثلة القريبة على ذلك أن طروح‪$$‬ات الفيلس‪$$‬وف‪ $‬الكب‪$$‬ير المع‪$$‬روف‬
‫[الل‪$$‬ورد برتران ‪$‬د‪ $‬راس‪$$‬ل] لم تكن لتنش‪$$‬ر‪ ،‬وت‪$$‬ؤدي‪ $‬دوره‪$$‬ا في نش‪$$‬ر اإللح‪$$‬اد بين‬
‫الطبقات العامة والمثقفة لوال مساهمة الكثير من البله‪$$‬اء الطي‪$$‬بين في الدعاي‪$$‬ة ل‪$$‬ه‬
‫بسبب بعض مواقفه اإلنسانية‪ ،‬مثل رفضه التجني‪$$‬د في الح‪$$‬رب العالمي‪$$‬ة األولى‪،‬‬
‫ومثل تحريضه المواط‪$$‬نين اإلنجل‪$$‬يز على العص‪$$‬يان‪ ،‬وق‪$$‬د تحم‪$$‬ل الس‪$$‬جن نتيج‪$$‬ة‬
‫لذلك‪ ،‬إضافة إلى تأليفه قراب‪$$‬ة س‪$$‬بعين كتاب‪$‬ا ً في الفلس‪$$‬فة والرياض‪$$‬يات‪ $‬والسياس‪$$‬ة‬
‫واألخالق‪ $‬واالجتماعيات‪ ،‬إضافة لتكريمه بجائزة نوبل في األدب‪..‬‬
‫فقد كان لكل تلك الصفات والمواقف‪ $‬والتكريمات‪ $‬أثره‪$$‬ا الكب‪$$‬ير على ذل‪$$‬ك‬
‫الجيل‪ ،‬وعلى األجيال األخرى إلى عصرنا الحاضر‪$.‬‬
‫ومثله تلك الدعايات المجانية ال‪$$‬تي ق‪$$‬ام به‪$$‬ا الكث‪$$‬ير نح‪$$‬و داعي‪$$‬ة الوجودي‪$$‬ة‬
‫واإللحاد‪ $‬األكبر جان بول سارتر (‪ )1980- 1905‬الفيلسوف‪ $‬والروائي‪ $‬والكاتب‬
‫المسرحي‪ ،‬بحجة مدافعت‪$$‬ه عن الث‪$$‬ورة الجزائري‪$$‬ة في الكث‪$$‬ير من كتابات‪$$‬ه‪ ،‬ونق‪$$‬ده‬
‫السياس‪$$‬ة االس‪$$‬تعمارية الفرنس‪$$‬ية ب‪$$‬الجزائر‪ $‬في العدي‪$$‬د من مقاالت‪$$‬ه ومس‪$$‬رحياته‪،‬‬
‫وبخاصة في ‪ The Condemned of Altona‬والتي ع‪$$‬بر فيه‪$$‬ا عن الس‪$$‬خط األخالقي‬
‫ض‪$$$‬د اض‪$$$‬طهاد‪ $‬الس‪$$$‬كان المس‪$$$‬لمين‪ ،‬وتع‪$$$‬ذيب األس‪$$$‬رى منهم على ي‪$$$‬د الجيش‬
‫الفرنس‪$$‬ي‪ ،‬وعن رفض‪$$‬ه للفظ‪$$‬ائع ال‪$$‬تي ارتكبه‪$$‬ا الن‪$$‬ازيون في الجبه‪$$‬ة الش‪$$‬رقية‪..‬‬
‫باإلضافة إلى العديد من المقابالت المهمة مع قادة ومناض‪$$‬لين سياس‪$$‬يين ب‪$$‬ارزين‬
‫مثل‪ :‬جيفارا‪ ،‬وجمال عبد الناصر‪ ..‬باإلضافة إلى رفضه تسلم جائزة نوب‪$$‬ل ع‪$$‬ام‬
‫‪ ،1964‬وتعليله سبب رفضه الج‪$$‬ائزة ق‪$$‬ائالً‪( :‬ه‪$$‬ؤالء ال‪$$‬ذين يق‪$$‬دمون التش‪$$‬ريفات‬
‫سواء كانت وسام‪ $‬شرف أو جائزة نوبل ال يملكون في الحقيقة تقديمها)‪ ،‬ووصفه‬
‫الج‪$$‬ائزة بأنه‪$$‬ا (سياس‪$$‬ية‪ ،‬مثله‪$$‬ا مث‪$$‬ل ج‪$$‬ائزة لي‪$$‬نين ‪ -‬ج‪$$‬ائزة عالمي‪$$‬ة اس‪$$‬تحدثها‪$‬‬
‫السوفيت‪ $‬لتكريم المفكرين ‪ -‬ولو عرضت علي جائزة لينين أيضا سأرفضها)‬
‫لكنهم لم يعلموا أن تلك الدعاية المجانية لم تكن لتلك المواقف فق‪$$‬ط‪ ،‬وإنم‪$$‬ا‬
‫ك‪$‬انت أيض‪$‬ا لتل‪$‬ك األفك‪$‬ار الوجودي‪$‬ة الخط‪$‬يرة ال‪$‬تي رك‪$‬زت عليه‪$‬ا ك‪$‬ل كتابات‪$‬ه‬
‫ومواقفه‪ ،‬والتي عبر عنها بقوله‪( :‬إن وجود‪ $‬هللا يعطل وجودي‪ $‬أن‪$‬ا‪ ،‬فاألفض‪$‬ل‪ $‬أن‬

‫‪129‬‬
‫ال يكون هللا موجودًا حتى أُوجد أنا)‪ ،‬وقوله عن الذين يعتقدون بوج‪$$‬ود‪ $‬هللا‪( :‬إنهم‬
‫المؤمنون الجبناء القذرون)‬
‫ودعواته المختلفة إلى إجابة كل ما تمليه الشهوات على اإلنسان‪ ..‬ونبذ كل‬
‫التقاليد والتعاليم االجتماعية‪ ..‬وما تواطأ عليه البشر من أخالق‪..‬‬
‫ومن عباراته المشهورة ال‪$$‬تي ال ت‪$$‬زال تت‪$$‬داول قول‪$$‬ه‪( :‬اركب رأس‪$$‬ك أيه‪$$‬ا‬
‫اإلنس‪$$‬ان إلى حيث تش‪$$‬اء س‪$$‬اعة تش‪$$‬اء‪ ،‬وكم‪$$‬ا تش‪$$‬اء‪ ..‬ألن الض‪$$‬مير واألخالق‪$‬‬
‫والتقاليد ليست سوى ستار صفيق يحجب عنك حقيقة وجودك)‬
‫وقوله‪( :‬انطلق‪ :‬أيها األحمق الغبي في عمل م‪$‬ا تري‪$‬د أو تش‪$‬تهي وته‪$‬وى‪،‬‬
‫مهما كان ذلك في اعتبار الناس شرًا‪ ،‬دون أن يكون ألح‪$$‬د علي‪$$‬ك س‪$$‬لطان‪ ،‬ف‪$$‬أنت‬
‫الذي تصنع فكرة الخير بحسب مزاج‪$$‬ك‪ ،‬وأنت ال‪$$‬ذي تص‪$$‬نع فك‪$$‬رة الش‪$$‬ر‪ ،‬وأنت‬
‫الذي تخلق فكرة الح‪$$‬ق وفك‪$$‬رة الباط‪$‬ل‪ ،‬وأنت ال‪$$‬ذي تخل‪$$‬ق فك‪$‬رة الحس‪$‬ن وفك‪$$‬رة‬
‫القبيح)(‪)1‬‬
‫ه‪$$‬ذان مج‪$$‬رد نم‪$$‬وذجين‪ ..‬والنم‪$$‬اذج على ذل‪$$‬ك أك‪$$‬ثر من أن تحص‪$$‬ى‪..‬‬
‫فتحضير القيادات االجتماعية أول خطوة يبدؤها‪ $‬من يريد أن ينشر أي فك‪$$‬رة‪ ،‬أو‬
‫يدعو إلى أي ضاللة‪.‬‬
‫ولهذا‪ ..‬فإن العاقل هو الذي يدرس جي‪$$‬دا ك‪$$‬ل موق‪$‬ف‪ $‬يري‪$$‬د أن يقف‪$$‬ه‪ ،‬وك‪$$‬ل‬
‫شخص يريد أن يشهد له‪ ،‬أو يدعو إليه‪ ..‬وال تكفي في ذلك مواقفه السياس‪$‬ية‪ ،‬وال‬
‫خدماته االجتماعية‪ ..‬فالقضية أخطر من ذلك‪.‬‬
‫لكن لألس‪$$$‬ف بعض الن‪$$$‬اس ينظ‪$$$‬رون إلى األم‪$$$‬ور‪ $‬من زاوي‪$$$‬ة واح‪$$$‬دة‪،‬‬
‫ويتصورون أن أعداء هذه األمة يشتغلون في جهة واحدة‪ ..‬وه‪$$‬ذا خط‪$$‬أ منهجي‪..‬‬
‫فهم يشتغلون في كل الجهات‪ ،‬وعلى كل الصعد‪.‬‬
‫ولهذا لم نكن نناقش ما يقول‪ ،‬وإنما نسعى بكل جهدنا أن نفهم ما يق‪$$‬ول‪ ،‬ثم‬
‫نعتقد رغما عنا‪ ،‬وإال اعتبرنا من حولنا من زم‪$$‬رة المتخلفين الرجع‪$$‬يين ال‪$$‬ذين لم‬
‫يرتقوا في سلم التطور اإلنساني‪ $‬إلى مداه األعلى‪.‬‬

‫‪ )(1‬نقال عن‪ :‬كواشف زيوف‪ ،‬عبدالرحمن الميداني‪ ،‬ص ‪)377-359‬‬

‫‪130‬‬
‫اإلمام الحسين‪ ..‬وتشي غيفارا‬
‫لس‪$$‬ت أدري الس‪$$‬بب ال‪$$‬ذي يجعل‪$$‬ني أش‪$$‬عر بكث‪$$‬ير من األس‪$$‬ف والح‪$$‬زن‬
‫واالش‪$$‬مئزار عن‪$$‬د رؤي‪$$‬تي لص‪$$‬ور [تش‪$$‬ي غيف‪$$‬ارا]‪ ،‬وهي معلق‪$$‬ة على الص‪$$‬دور‬
‫والجدران ووسائل‪ $‬النقل وفي كل محل‪ ..‬وعندما أستمع إلى تل‪$$‬ك الحن‪$$‬اجر‪ ،‬وهي‬
‫تتحدث عنه بكل احترام وتعظيم وتقديس‪.‬‬
‫وه‪$$‬ذا ليس لك‪$$‬وني من المع‪$$‬ادين له‪$$‬ذه الشخص‪$$‬ية‪ ،‬فأن‪$$‬ا ال أع‪$$‬رف عنه‪$$‬ا‬
‫الكثير‪ ،‬ال أعرف إال أنه شخصية ثورية كان لها دورها‪ $‬في خدمة بلدها وشعبها‪،‬‬
‫وأنها أصبحت بسبب ذلك أيقونة ورمزا للثورة‪..‬وهذا‪ $‬ما آلمني‪..‬‬
‫فقد كان يمكنني أن أقبل تحول [تشي غيفارا] إلى رمز للث‪$$‬ورة في أي بل‪$$‬د‬
‫من بالد الع‪$$‬الم‪ ،‬وبين أي ش‪$$‬عب من ش‪$$‬عوبها‪ $..‬وك‪$$‬ان يمكن أن أقب‪$$‬ل ب‪$$‬أن تعل‪$$‬ق‬
‫صوره ويقدس في كل تل‪$$‬ك البالد إال بالدن‪$$‬ا اإلس‪$$‬المية‪ ..‬ألنن‪$$‬ا بتعليقن‪$$‬ا لص‪$$‬وره‪،‬‬
‫وتمجي‪$$‬دنا‪ $‬ل‪$$‬ه‪ ،‬واعتبارن‪$$‬ا إي‪$$‬اه رم‪$$‬زا كب‪$$‬يرا‪ ،‬نلغي الكث‪$$‬ير من الص‪$$‬ور‪ $‬والرم‪$$‬وز‬
‫واألبطال‪ $..‬ألن للنفس اإلنسانية مساحة محدودة في تقب‪$$‬ل األبط‪$$‬ال‪ ..‬فال تس‪$$‬تطيع‬
‫أن تجمع بين الكثير منهم‪ ..‬بل إنها كلما تأثرت ببطل راحت تمحو غيره‪.‬‬
‫والمش‪$$‬كلة األك‪$$‬بر أنه‪$$‬ا عن‪$$‬دما تت‪$$‬أثر ببط‪$$‬ل من األبط‪$$‬ال‪ ،‬ال تت‪$$‬أثر ب‪$$‬ه في‬
‫الناحية التي برزت فيها بطولته فقط‪ ،‬بل تتأثر بنواحيه األخرى‪ ،‬والتي قد تك‪$$‬ون‬
‫انحرافا‪ $‬أو ضاللة أو فسادا‪ ..‬بل إنها قد تضيف‪ $‬إلى تأثرها كل شيء حتى طريقة‬
‫تصفيف البطل لشعره‪ ،‬وطريقة مشيته وحديثه وكل شيء يرتبط به‪.‬‬
‫وهذا ما جعل من الح‪$$‬املين لمش‪$$‬عل الث‪$$‬ورة في بالدن‪$$‬ا اإلس‪$$‬المية‪ ،‬ولف‪$$‬ترة‬
‫طويلة‪ ،‬من أكثر الناس بعدا عن الدين‪ ،‬ب‪$‬ل ك‪$‬ان منهم من يعتق‪$‬د أن ال‪$‬دين أفي‪$‬ون‬
‫الشعوب‪ ..‬لسبب بسيط‪ ،‬وهو أنه تأثر بأولئك الثوار الشيوعيين أو غيرهم‪ ،‬فراح‬
‫ال يكتفي بتقلي‪$$‬دهم في ث‪$$‬ورتهم فق‪$$‬ط‪ ،‬وإنم‪$$‬ا يض‪$$‬يف إليه‪$$‬ا تقلي‪$$‬دهم في إلح‪$$‬ادهم‬
‫وكفرهم بكل القيم الدينية‪.‬‬
‫ولو كنا نعدم أبطاال وثوارا‪ $‬لك‪$$‬ان في ذل‪$$‬ك الع‪$$‬ذر لك‪$$‬ل أولئ‪$$‬ك المت‪$$‬أثرين‪..‬‬
‫لكن المش‪$$‬كلة هي أن لن‪$$‬ا من الث‪$$‬وار واألبط‪$$‬ال‪ $‬م‪$$‬ا يق‪$$‬ف ك‪$$‬ل ث‪$$‬وار ال‪$$‬دنيا أم‪$$‬امهم‬
‫موقف‪ $‬التلميذ من أستاذه‪ ،‬بل موقف الس‪$$‬فح من الجب‪$$‬ل‪ ،‬والف‪$$‬أر من األس‪$$‬د‪ ..‬ف‪$$‬أين‬
‫أبطالنا العظام‪ ،‬وأين أولئك األقزام؟‪$‬‬
‫لكن تجاهلن‪$$‬ا لهم‪ ،‬وتكبرن‪$$‬ا عليهم‪ ،‬وانش‪$$‬غالنا‪ $‬بم‪$$‬ذاهبنا وطوائفن ‪$‬ا‪ $‬ص‪$$‬رفنا‬
‫عنهم‪ ،‬ليهيئ األرضية ألولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين وإن قبلن‪$$‬ا ث‪$$‬وريتهم‪ ،‬فلن نقب‪$$‬ل أخالقهم وال‬
‫دينهم وال سلوكهم‪$.‬‬
‫ومن أقوى األمثلة على ذلك‪ ..‬والذي تمنيت لو عل‪$‬ق اس‪$‬مه في ك‪$‬ل مح‪$‬ل‪،‬‬

‫‪131‬‬
‫ووضع‪ $‬على كل راية‪ ،‬وثبت في كل صدر‪ ..‬وأنش‪$$‬دت ل‪$$‬ه األناش‪$$‬يد‪ $..‬ومثلت في‪$$‬ه‬
‫األفالم‪ ..‬وس‪$$‬ميت باس‪$$‬مه الس‪$$‬احات‪ ..‬إمامن‪$$‬ا العظيم‪ ،‬زعيم ك‪$$‬ل ث‪$$‬وار ال‪$$‬دنيا‪،‬‬
‫وأستاذهم األكبر [اإلمام الحسين] الذي هو مدرسة في الثورة‪ ،‬ومدرس‪$$‬ة في ك‪$$‬ل‬
‫القيم الرفيعة‪..‬‬
‫فالتعلق به وحده كاف ألن يحق‪$$‬ق ك‪$$‬ل األغ‪$$‬راض‪ ..‬أغ‪$$‬راض الث‪$$‬ورة على‬
‫الظلم‪ ..‬وأغراض الثورة على النفس‪ ..‬وأغراض الترقي إلى المأل األعلى‪..‬‬
‫ف‪$$‬الثوري‪ $‬ال‪$$‬ذي ينطل‪$$‬ق‪ $‬من اإلم‪$$‬ام الحس‪$$‬ين يختل‪$$‬ف اختالف‪$$‬ا ج‪$$‬ذريا‪ $‬عن‬
‫الثوري‪ $‬الذي ينطلق من [تشي غيفارا]‪ ..‬ف‪$$‬األول ينطل‪$$‬ق باس‪$$‬م الح‪$$‬ق‪ ..‬وبوس‪$$‬ائل‪$‬‬
‫الحق‪ ..‬لتحقيق الحق‪ ..‬كما ع‪$‬بر اإلم‪$$‬ام الحس‪$$‬ين عن ذل‪$$‬ك بقول‪$$‬ه‪( :‬إني لم أخ‪$$‬رج‬
‫أشراً‪ ،‬وال بطراً وال مفسداً‪ ،‬وال ظالم‪$‬اً‪ ،‬وإنم‪$‬ا خ‪$‬رجت لطلب االص‪$‬الح في أم‪$‬ة‬
‫جدي‪ ،‬أريد أن آم‪$$‬ر ب‪$$‬المعروف‪ $‬وأنهي عن المنك‪$$‬ر فمن قبل‪$$‬ني بقب‪$$‬ول الح‪$$‬ق فاهلل‬
‫أولى بالحق‪ ،‬ومن رد علي هذا أصبر حتى يقض‪$‬ي هللا بي‪$‬ني وبين الق‪$‬وم ب‪$‬الحق‪،‬‬
‫وهو خير الحاكمين)‬
‫وأما الثاني‪ ،‬فيخلط الح‪$$‬ق بالباط‪$$‬ل‪ ..‬ويص‪$$‬عب التفري‪$$‬ق بينهم‪$$‬ا‪ ..‬وه‪$$‬ذا م‪$$‬ا‬
‫حصل لثوراتنا التي اختلط فيها الحق والباطل‪ ،‬والحرية واالستبداد‪ ،‬فلم نل منه‪$$‬ا‬
‫شيئا‪ ..‬ألن وجهتها لم تكن صحيحة‪ ،‬وأبطالها لم يكونوا حقيقيين‪.‬‬
‫ف‪$$‬إن ش‪$$‬ئنا أن نب‪$$‬دأ ث‪$$‬ورة حيقيقي‪$$‬ة على أنفس‪$$‬نا األم‪$$‬ارة بالس‪$$‬وء األول‪..‬‬
‫فلن‪$$‬ذهب‪ ..‬ولنتتلم‪$$‬ذ على اإلم‪$$‬ام الحس‪$$‬ين‪ ..‬فه‪$$‬و الحقي‪$$‬ق ب‪$$‬أن تمتلئ بحب‪$$‬ه قلوبن‪$‬ا‪$‬‬
‫ومشاعرنا‪ $‬وعواطفنا‪ ..‬وكيف ال نفعل ذلك‪ ،‬وقد‪ $‬ق‪$$‬ال رس‪$$‬ول هللا ‪ ‬في الح‪$$‬ديث‬
‫الصحيح الذي اتفقت عليه األمة جميعا‪(:‬حسين مني وأنا من‪$$‬ه‪ ،‬أحب هللا من أحب‬
‫حسينا)(‪ ،)1‬وقال فيه‪ ،‬وهو يشير إليه‪( :‬من أحب هذا فقد أحبني)(‪)2‬‬
‫لكن الطائفي‪$$‬ة المقيت‪$$‬ة جعلتن‪$$‬ا نق‪$$‬دم [تش‪$$‬ي غيف‪$$‬ارا] وغ‪$$‬يره على اإلم‪$$‬ام‬
‫الحسين‪ ..‬ولهذا ال يعتب أحد على من يعلق صوره‪ ،‬أو يصيح بحبه‪ ،‬أو ينشد فيه‬
‫األشعار‪ $..‬لكن الدنيا تقام لو فعل ذلك أحد من الناس م‪$$‬ع اإلم‪$$‬ام الحس‪$$‬ين‪ ..‬وله‪$$‬ذا‬
‫كله أتأسف‪ ..‬وأدعوكم أن تتأسفوا معي‪.‬‬

‫‪ )(1‬رواه الحاكم في المستدرك‪.‬‬


‫‪ )(2‬رواه الطبراني‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫فليكن لكم في المسيح أسوة‬
‫من المشاهد العظيمة ال‪$$‬واردة في الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‪ ،‬وال‪$$‬تي يمكن أن نس‪$$‬تفيد‬
‫منها ـ بشرط التدبر والتأمل المتجرد من كل ذاتية ـ الموقف‪ $‬الذي أخبر هللا تعالى‬
‫فيه عن حديث المسيح عليه السالم مع هللا تعالى في شأن ال‪$$‬ذين اتخ‪$$‬ذوه إله‪$$‬ا من‬
‫دون هللا‪ ،‬أو مع هللا‪.‬‬
‫وتظهر قيمة ذلك المشهد عند مقارنت‪$$‬ه بتل‪$$‬ك المش‪$$‬اهد الم‪$$‬زورة ال‪$$‬تي راح‬
‫يرس‪$$‬مها بعض‪$$‬هم لس‪$$‬ؤال هللا لعب‪$$‬اده في اآلخ‪$$‬رة‪ ،‬وال‪$$‬تي يت‪$$‬ألون فيه‪$$‬ا على هللا‪،‬‬
‫ويسيئون األدب معه‪ ،‬ويطالبونه بلهج‪$$‬ة حازم‪$‬ة ش‪$$‬ديدة ب‪$$‬أن يطب‪$‬ق‪ $‬م‪$‬ا ذك‪$$‬ره من‬
‫رحمته التي وسعت كل ش‪$$‬يء‪ ..‬وك‪$$‬أن هللا تع‪$$‬الى م‪$$‬ؤتمر ب‪$$‬أوامرهم‪ $،‬وليس‪$$‬وا هم‬
‫المؤتمرين بأوامره‪..‬‬
‫في ذلك المشهد يظهر المسيح عليه السالم بمثل صورته التي عرفن‪$$‬اه به‪$$‬ا‬
‫في الدنيا‪ ..‬صورة العبد المتواضع‪ $‬الع‪$$‬ارف الرقي‪$$‬ق الممتلئ بك‪$$‬ل أل‪$$‬وان األدب‪..‬‬
‫والذي يعرف‪ $‬قدره‪ ،‬فال يجاوزه‪ ،‬ويعرف‪ $‬قدر ربه‪ ،‬فيحفظه‪ ،‬ويوقره‪ ،‬ويقدسه‪.‬‬
‫عن‪$$‬دما س‪$$‬أله هللا عن أولئ‪$$‬ك ال‪$$‬ذين عب‪$$‬دوه من دون هللا‪ ..‬تنص‪$$‬ل بك‪$$‬ل أدب‬
‫منهم‪ ،‬بل تبرأ إلى هللا من فعلهم‪ ..‬ثم بين أن ش‪$$‬هادته عليهم ك‪$$‬انت في ال‪$$‬دنيا‪ ،‬أم‪$$‬ا‬
‫بعد توفيه‪ ،‬فقد خرج األمر من يده‪ ،‬وبقي بيد هللا‪.‬‬
‫وبعد أن بين عذره‪ ،‬راح ينطق بهذه الحكمة العرفانية التي تحت‪$$‬اج من‪$$‬ا أن‬
‫نتأملها‪ ،‬لنتأدب مع هللا‪ ،‬ونترك‪ $‬له الدينونة المطلقة‪ ،‬وال نجاوز‪ $‬حدودنا وم‪$$‬ا أتيح‬
‫ت فِي ِه ْم فَلَ َّما‬ ‫ت َعلَ ْي ِه ْم َش‪ِ $‬هيدًا َم‪$$‬ا ُد ْم ُ‬ ‫ـ‪﴿:‬و ُك ْن ُ‬‫َ‬ ‫لنا‪ ..‬لقد قال ـ كما ذكر الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم‬
‫يب َعلَ ْي ِه ْم َوأَ ْنتَ َعلَى ُك‪$$‬لِّ َش ‪ْ $‬ي ٍء َش ‪ِ $‬هي ٌد (‪ )117‬إِ ْن تُ َع‪ِّ $‬ذ ْبهُْ‪$‬م‬ ‫ت ََوفَّ ْيتَنِي ُك ْنتَ أَ ْنتَ ال َّرقِ َ‬
‫فَإِنَّهُْ‪$‬م ِعبَا ُدكَ َوإِ ْن تَ ْغفِرْ لَهُ ْم فَإِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [المائدة‪]118 ،117 :‬‬
‫هك‪$‬ذا بك‪$‬ل أدب خ‪$‬اطب رب‪$‬ه س‪$‬بحانه وتع‪$‬الى‪ ،‬فق‪$‬د ت‪$‬رك األم‪$‬ر إلي‪$‬ه‪ ،‬فلم‬
‫يقترح عليه شيئا‪ ..‬بل قال بكل أدب‪﴿ :‬إِ ْن تُ َع ِّذ ْبهُ ْم فَإِنَّهُ ْم ِعبَا ُدكَ َوإِ ْن تَ ْغفِ‪$$‬رْ لَهُ ْم فَإِنَّكَ‬
‫أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [المائدة‪]118 :‬‬
‫حتى أنه عند ذكر المغفرة لم يقل‪( :‬فإنك أنت الغفور الرحيم)‪ ..‬وإنما ق‪$$‬ال‪:‬‬
‫ك أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾‪ ،‬أي (إن تعذب ـ يا إلهى ـ قومي‪ ،‬فإنك تع‪$$‬ذب عب‪$$‬ادك‬ ‫﴿فَإِنَّ َ‬
‫ال‪$$‬ذين خلقتهم بق‪$$‬درتك‪ ،‬وال‪$$‬ذين تملكهم ملك‪$$‬ا تام‪$$‬ا‪ ،‬وال اع‪$$‬تراض على المال‪$$‬ك‬
‫المطلق فيما يفعل بمملوكه‪ .‬وإن تغفر لهم‪ ،‬وتس‪$$‬تر‪ $‬س‪$$‬يئاتهم‪ $‬وتص‪$$‬فح عنهم ف‪$$‬ذلك‬
‫إليك وحدك‪ ،‬ألن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح الق‪$$‬وى الق‪$$‬اهر الغ‪$$‬الب‬
‫ال‪$$‬ذي ال يعج‪$$‬زه ش‪$$‬يء‪ .‬وال‪$$‬ذي يض‪$$‬ع األم‪$$‬ور في مواض‪$$‬عها بمقتض‪$$‬ى حكمت‪$$‬ه‬

‫‪133‬‬
‫السامية)(‪)1‬‬
‫هكذا خاطب هللا تعالى بكل أدب ورقة وتواضع‪ $‬وعبودية‪ ،‬ول‪$$‬و أن ه‪$$‬ؤالء‬
‫المتألين على هللا تُرك لهم الخطاب‪ ،‬وقد فعلوا من حيث ال يشعرون‪ ،‬لق‪$$‬الوا‪( :‬ي‪$$‬ا‬
‫رب ارحمهم‪ ..‬فقد كانوا جهلة‪ ..‬وكانوا يحبونني كثيرا‪ ..‬وقد رأوا من المعجزات‬
‫التي حصلت على يدي ما جعلهم ينبهرون‪ ،‬ويتصورون أني إله‪ ..‬فلذلك اعذرهم‬
‫يا رب العالمين‪ ،‬فأنت أرحم الراحمين‪ ..‬ورحمتك وسعت كل شيء)‬
‫أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه العرفان ـ‪( :‬يا رب ه‪$$‬ؤالء‬
‫لم يشركوا‪ $..‬وإنما رأوا تجلي صفات كرمك في فراحوا يعبدونني‪ $..‬فلذلك لم يكن‬
‫يعبدونني أنا‪ ،‬بل كانوا يعبدونك‪ $‬أنت)‬
‫أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه التنوير‪ $‬ـ‪( :‬ي‪$$‬ا رب ه‪$$‬ؤالء‬
‫طيب‪$$‬ون ج‪$$‬دا‪ ،‬وق‪$$‬د مألوا حي‪$$‬اة البش‪$$‬رية بالخ‪$$‬دمات الجليل‪$$‬ة‪ ..‬فهم ال‪$$‬ذين اكتش‪$$‬فوا‬
‫الكهرب‪$$‬اء والغ‪$$‬از‪ ..‬وهم ال‪$$‬ذين وف‪$$‬روا للبش‪$$‬رية ال‪$$‬تي خلقته‪$$‬ا ك‪$$‬ل وس‪$$‬ائل الرف‪$$‬اه‬
‫والراحة‪ ..‬فل‪$$‬ذلك اع‪$$‬ف عنهم‪ ..‬ب‪$$‬ل ارحمهم‪ ..‬ب‪$$‬ل أدخلهم الجن‪$$‬ة‪ ..‬ب‪$$‬ل ض‪$$‬عهم في‬
‫جواري‪ $‬في الفردوس األعلى)‬
‫أو يقول‪$$‬ون ل‪$$‬ه ـ كم‪$$‬ا يق‪$$‬ول ش‪$$‬حرور‪ $،‬وبعض من يزعم‪$$‬ون لنفس‪$$‬هم أنهم‬
‫قرآنيون ـ‪( :‬يا رب المسألة بسيطة جدا‪ ..‬فاإليمان مجرد قض‪$$‬ايا‪ $‬فرعي‪$$‬ة جزئي‪$$‬ة‪..‬‬
‫وأن‪$$‬ا ك‪$$‬ان همي في رس‪$$‬التي‪ $‬إليهم ه‪$$‬و نش‪$$‬ر قيم الس‪$$‬ماحة واالعت‪$$‬دال والبع‪$$‬د عن‬
‫التطرف‪ $..‬وقد طبقوا الكثير من ذلك‪ ..‬فارحمهم)‬
‫أو يقولون له ـ كما يقول ذلك الخطيب األلمعي الذي يري‪$$‬د أن يحاف‪$‬ظ‪ $‬على‬
‫جمال صورة هللا في الغرب ـ‪( :‬ي‪$$‬ا رب ارحمهم‪ ..‬وارحم‪ $‬ح‪$$‬تى المالح‪$$‬دة‪ ..‬فإن‪$$‬ك‬
‫إن فعلت ذلك سيحبونك‪ ..‬وسيقدس‪$$‬ونك‪ ..‬فم‪$$‬ا الفائ‪$$‬دة في أن تلقي بهم في جهنم أو‬
‫تعذبهم؟‪ ..‬أليس من األفضل ل‪$$‬ك أن ت‪$$‬دخلهم جنت‪$$‬ك‪ ..‬فهي ال تكلف‪$$‬ك ش‪$$‬يئا‪ ..‬وأنت‬
‫أرحم الراحمين)‬
‫هذه نماذج افتراضية عن سوء أدبنا م‪$$‬ع هللا‪ ..‬ونحن نس‪$$‬معها‪ $‬ك‪$$‬ل حين من‬
‫هؤالء الذين ال يملكون ذرة أدب مع ربهم‪ ..‬ولو عقلوا‪ ،‬وعادوا إلى كت‪$$‬اب ربهم‪،‬‬
‫وتعلم‪$$$‬وا‪ $‬من األنبي‪$$$‬اء عليهم الص‪$$$‬الة والس‪$$$‬الم‪ $‬األدب والتواض‪$$$‬ع‪ $‬وتوق‪$$$‬ير‪ $‬هللا‬
‫وتعظيمه‪ ..‬لكفوا عن كل ذلك‪.‬‬

‫‪ )(1‬التفسير الوسيط لطنطاوي (‪)351 /4‬‬

‫‪134‬‬
‫المالحدة‪ ..‬والخنازير البرية‬
‫عاتبني بعض القراء الكرام على تش‪$$‬بيهي لهوكين‪$$‬غ وبعض المالح‪$$‬دة ممن‬
‫صنفتهم ضمن [المالحدة الطب‪$$‬ائعيين] في كت‪$$‬ابي [م‪$$‬ا قال‪$$‬ه المالح‪$$‬دة ولم يس‪$$‬جله‬
‫التاريخ] بالخنازير البرية‪ ،‬ورأى أن ذلك نوع من السباب والشتائم ال‪$$‬تي ال تلي‪$$‬ق‬
‫بمثلي‪ ،‬وال ب‪$$‬أي م‪$$‬ؤمن‪ ،‬م‪$$‬ع أني ذك‪$$‬رت في مقدم‪$$‬ة الكت‪$$‬اب أن‪$$‬ه رواي‪$$‬ة رمزي‪$$‬ة‬
‫تحاول أن تصور الحقائق بلغة علمية ورمزية في نفس الوقت‪.‬‬
‫وقد عبرت عن سر اختياري للخنازير‪ $‬البرية لهؤالء الط‪$$‬ائعيين المالح‪$$‬دة‬
‫على لس‪$$‬ان [ديم‪$$‬وقريطس] اليون‪$$‬اني‪ ..‬الفيلس‪$$‬وف‪ ،‬ص‪$$‬احب [الم‪$$‬ذهب ال‪$$‬ذري]‪..‬‬
‫بقوله‪( :‬ه‪$‬ذا م‪$‬ا كنت أعتق‪$$‬ده‪ ،‬وم‪$‬ا كنت أمليت‪$$‬ه‪ ..‬وم‪$‬ا حول‪$$‬ني إلى ه‪$$‬ذه الص‪$‬ورة‬
‫الخنزيرية وطباعها القذرة‪ ..‬فأنا في حياتي لم أمارس سوى ما تمارسه الخنازير‪$‬‬
‫من الفت‪$$‬ك ب‪$$‬المزارع‪ ،‬وإفس‪$$‬اد‪ $‬الحق‪$$‬ول‪ ،‬وتخ‪$$‬ريب العق‪$$‬ول‪ ..‬لق‪$$‬د أعط‪$$‬اني هللا من‬
‫الفرص‪ ،‬وأرسل لي من الحجج‪ ،‬ما ك‪$$‬ان يمكن أن يحاف‪$$‬ظ على إنس‪$‬انيتي‪ $..‬لك‪$‬ني‬
‫ص‪$$‬رفت نظ‪$$‬ري عن ذل‪$$‬ك كل‪$$‬ه‪ ،‬ورحت إلى ثي‪$$‬اب الخن‪$$‬ازير‪ $‬أتقمص‪$$‬ها‪ ..‬وإلى‬
‫وظائفها‪ $‬أؤديها)‬
‫وهكذا وضعت رموزا مختلفة لكل ص‪$$‬نف من أص‪$$‬ناف المالح‪$$‬دة‪ ،‬مقت‪$$‬ديا‬
‫في ذلك بما ورد في القرآن الكريم من تشبيهات ورم‪$$‬وز‪ ،‬كقول‪$$‬ه تع‪$$‬الى في ذل‪$$‬ك‬
‫‪$‬ل‬‫الذي أوتي العلم لكن‪$$‬ه لم يعم‪$$‬ل ب‪$$‬ه‪ ،‬وخالف‪$$‬ه‪ ،‬وأخل‪$$‬د إلى األرض‪ ﴿ :‬فَ َمثَلُ‪$‬هُ َك َمثَ‪ِ $‬‬
‫ث َذلِ‪$$‬كَ َمثَ‪ُ $‬ل ْالقَ‪$$‬وْ ِم الَّ ِذينَ َك‪َّ $‬ذبُوا بِآيَاتِنَ‪$$‬ا‬ ‫ث أَوْ تَ ْت ُر ْك‪ $‬هُ يَ ْلهَ ْ‬
‫ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي‪ِ $‬ه يَ ْلهَ ْ‬ ‫ْال َك ْل ِ‬
‫ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [األعراف‪]176 :‬‬ ‫ص َ‬ ‫ُص ْالقَ َ‬
‫فَا ْقص ِ‪$‬‬
‫وقوله في الذين يحملون الكتب ويحفظونها‪ ،‬وال يعمل‪$$‬ون بم‪$$‬ا فيه‪$$‬ا‪َ ﴿ :‬مثَ ‪ُ $‬ل‬
‫س َمثَ‪ُ $‬ل ْالقَ‪$‬وْ ِم‬ ‫‪$‬ار يَحْ ِم‪ُ $‬ل أَ ْس‪$‬فَارًا بِ ْئ َ‬ ‫‪$‬ل ْال ِح َم ِ‬‫الَّ ِذينَ ُح ِّملُوا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَا َك َمثَ ِ‬
‫ت هَّللا ِ َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ [الجمعة‪]5 :‬‬ ‫الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَا ِ‬
‫وقوله في غيرهم من الذين ال يسمعون وال يبصرون الحق‪$$‬ائق الواض‪$$‬حة‪:‬‬
‫‪$$‬ام بَ‪$$‬لْ هُ ْم أَ َ‬
‫ض‪$$‬لُّ‬ ‫﴿أَ ْم تَحْ َس‪$$‬بُ أَ َّن أَ ْكثَ‪َ $$‬رهُ ْم يَ ْس‪َ $$‬معُونَ أَوْ يَ ْعقِلُ‪$$‬ونَ إِ ْن هُ ْم إِاَّل َكاأْل َ ْن َع ِ‬
‫َسبِياًل ﴾ [الفرقان‪ ،]44 :‬فقد اعتبرهم أضل من األنعام‪.‬‬
‫ولذلك فإن ذلك التشبيه الرمزي المتناسب مع واقع علماء المالح‪$$‬دة ال‪$$‬ذين‬
‫أبص‪$$‬روا التص‪$$‬ميم العظيم للك‪$$‬ون‪ ،‬وم‪$$‬ع ذل‪$$‬ك غض‪$$‬وا أبص‪$$‬ارهم‪ $‬عن‪$$‬ه‪ ،‬وراح‪$$‬وا‬
‫يشوهون الحقائق‪ ،‬ويصرفون الناس عنها‪ ،‬هو [الخ‪$$‬نزير ال‪$$‬بري] لكون‪$$‬ه ال يهتم‬
‫بأن يأكل ما يحتاج إلي‪$$‬ه من ثم‪$$‬ار‪ ،‬وإنم‪$$‬ا يخ‪$$‬رب الحق‪$$‬ول والم‪$$‬زارع‪ ..‬فال ينتف‪$$‬ع‬
‫هو‪ ،‬وال ينتفع غيره‪ ،‬كما ق‪$‬ال ق‪$‬ال تع‪$‬الى‪َ ﴿ :‬وهُ ْم يَ ْنهَ‪$‬وْ نَ َع ْن‪$‬هُ َويَ ْن‪$‬أَوْ َ‪$‬ن َع ْن‪$‬هُ َوإِ ْن‬
‫يُ ْهلِ ُكونَ إِاَّل أَ ْنفُ َسهُ ْم َو َما يَ ْش ُعرُونَ ﴾ [األنعام‪ ..]26 :‬كما يفعل المالحدة تماما‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫لكن الفرق كبير بينهما‪ ،‬فالخنزير‪ $‬حي‪$$‬وان غ‪$$‬ير مكل‪$$‬ف‪ ،‬وال يحاس‪$$‬ب على‬
‫تصرفاته‪ ،‬بل هو يفعل ما تملي‪$$‬ه علي‪$$‬ه طبيعت‪$$‬ه ال‪$$‬تي خل‪$$‬ق عليه‪$$‬ا‪ ،‬ول‪$$‬ذلك ال ل‪$$‬وم‬
‫عليه‪ ..‬وفوق‪ $‬ذلك؛ فإن هذا الخنزير عارف بربه مؤمن له مسبح بحمده‪ ،‬كما قال‬
‫﴿وإِ ْن ِم ْن َش‪ْ $‬ي ٍء إِاَّل ي َُس‪$‬بِّ ُح بِ َح ْم‪ِ $‬د ِه َولَ ِك ْن اَل تَ ْفقَهُ‪$$‬ونَ ت َْس‪$‬بِ َ‬
‫يحهُ ْم﴾ [اإلس‪$$‬راء‪:‬‬ ‫تع‪$$‬الى‪َ :‬‬
‫‪]44‬‬
‫وقد روي عن اإلمام زين العابدين أنه كان يق‪$$‬ول‪( :‬م‪$$‬ا بهمت البه‪$$‬ائم عن‪$$‬ه‬
‫فلم تبهم عن أربع‪$$$‬ة‪ :‬معرفته‪$$$‬ا ب‪$$$‬الرب تب‪$$$‬ارك وتع‪$$$‬الى‪ ،‬ومعرفته‪$$$‬ا‪ $‬ب‪$$$‬الموت‪،‬‬
‫ومعرفته ‪$‬ا‪ $‬ب‪$$‬األنثى من ال‪$$‬ذكر‪ ،‬ومعرفته‪$$‬ا ب‪$$‬المرعى الخص‪$$‬ب)(‪ ،)1‬ب‪$$‬ل ورد في‬
‫الحديث الشريف النهي عن اتخاذ الدواب منابر‪ ،‬وعلل رسول هللا ‪ ‬ذلك بقوله‪:‬‬
‫(فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا هلل تعالى من راكبها)(‪)2‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإنه إن جاز لي أن أعتذر عن ذلك التش‪$$‬بيه‪ ،‬ف‪$$‬إني‪ $‬أعت‪$$‬ذر للخن‪$$‬ازير‪$‬‬
‫البرية العارفة بربها‪ ،‬والتي لم تم‪$$‬ارس إال م‪$$‬ا تملي‪$$‬ه عليه‪$$‬ا طبائعه‪$‬ا‪ $‬ال‪$$‬تي خلقت‬
‫عليها‪.‬‬
‫وهي ف‪$$‬وق‪ $‬ذل‪$$‬ك ال ذنب له‪$$‬ا‪ ،‬ولم تتس‪$$‬بب في كف‪$$‬ر أح‪$$‬د من الن‪$$‬اس‪ ،‬وال‬
‫إلح‪$‬اده‪ ،‬وال ن‪$‬زع ن‪$‬ور‪ $‬اإليم‪$‬ان عن‪$‬ه‪ ،‬ولم يكن ل‪$‬ديها من الق‪$‬وى العقلي‪$‬ة م‪$‬ا ك‪$‬ان‬
‫ألولئك المالحدة الذين غضوا أبصارهم‪ $‬عن الحقائق‪ ،‬وراح‪$$‬وا يعبث‪$$‬ون به‪$$‬ا بك‪$$‬ل‬
‫استعالء وكبرياء‪.‬‬

‫‪ )(1‬الخصال‪ ،‬الشيخ الصدوق‪ ،‬ص‪.260‬‬


‫رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه‪.‬‬ ‫‪)(2‬‬

‫‪136‬‬
‫ما خطورة طروحات هوكينغ اإللحادية؟‬
‫م‪$$‬ع اهتم‪$$‬امي الش‪$$‬ديد بطروح‪$$‬ات‪ $‬المالح‪$$‬دة ع‪$$‬بر الت‪$$‬اريخ‪ ،‬وخصوص‪$$‬ا‬
‫المختص‪$$‬ين منهم في عل‪$$‬وم الم‪$$‬ادة‪ ،‬لم أج‪$$‬د أطروح‪$$‬ة أك‪$$‬ثر ج‪$$‬رأة ودجال وتعنت‪$‬ا‪$‬‬
‫وكبرا‪ $‬من الطروحات‪ $‬التي تبناها أو أخرجها هوكينغ‪ ..‬ولعل ذلك كان السبب في‬
‫الشهرة الكبيرة التي نالها‪ ..‬وس‪$$‬أحاول‪ $‬إثب‪$‬ات ذل‪$$‬ك اآلن‪ ..‬وأرج‪$$‬و من التن‪$‬ويريين‬
‫الجدد أن يصبروا‪ ،‬ويتأكدوا‪ $‬قبل أن يحكموا‪ ،‬فلعل ذل‪$$‬ك يخف‪$$‬ف عنهم ذل‪$$‬ك الغل‪$$‬و‬
‫في تقديس شخص لم ينل شهرته إال بسبب مقوالته الخادمة لإللحاد‪.‬‬
‫س‪ ،‬ذل ك‬ ‫ولبي‪$$‬ان ذل‪$$‬ك أذك‪$$‬ر أن المق‪$$‬والت اإللحادي‪$$‬ة من‪$$‬ذ عه د دميوقريطَ ْ‬
‫ذري إلى الوقت ال‪$‬ذي اكتش‪$$‬ف في‪$‬ه‬
‫الفيلس وف اليون اين املادي ص احب املذهب ال ّ‬
‫االنبثاق‪ $‬الكوني ـ إم‪$$‬ا بس‪$$‬بب نظري‪$$‬ة االنفج‪$$‬ار العظيم‪ ،‬أو بس‪$$‬بب الق‪$$‬انون الث‪$$‬اني‬
‫للديناميكا‪ $‬الحرارية ـ ومالحدة الفيزيائيين يستندون للحالة الثابث‪$‬ة للك‪$$‬ون‪ ،‬وكون‪$‬ه‬
‫قديما‪ $‬ال يحتاج إلى موجد يوجده من عدم‪.‬‬
‫ولذلك كان المؤمن‪$$‬ون منهم يش‪$$‬عرون بح‪$$‬رج عظيم‪ ،‬وهم يناقش‪$$‬ون حاج‪$$‬ة‬
‫الكون إلى خالق‪ ،‬خاصة مع قول أكثر الفالسفة بقدم العالم‪..‬‬
‫ولهذا نجد صدمة كبيرة أص‪$$‬ابت الكث‪$$‬ير من الفيزي‪$$‬ائيين بع‪$$‬د ورود األدل‪$$‬ة‬
‫الكثيرة على نظرية االنفجار العظيم‪..‬‬
‫ومن ذل‪$$‬ك موق‪$$‬ف بعض‪$$‬هم(‪ ،)1‬وه‪$$‬و ع‪$$‬الم الكوس‪$$‬مولوجيا‪ $‬والرياض‪$$‬يات‬
‫البريطاني المادي (أرثر إدنجتن) (ت‪1944‬م) الذي اهت ّز لهذا الكشف‪ ،‬وذكر ّ‬
‫أن‬
‫أن البداية تق ّدم ص‪$$‬عوبات‪ $‬ال تُقهر‬‫أصل الكون هو (فسلفيًا أمر بغيض‪ ..‬وأنّه يبدو ّ‬
‫إاّل إذا اتفقنا أن ننظر إليها بصراحة تامة كأمر فوق طبيعي)‬
‫وهكذا ك‪$$‬ان موق‪$$‬ف (روب‪$$‬رت ويلس‪$$‬ن) مكتش‪$‬ف‪( $‬إش‪$$‬عاع الخلفي‪$$‬ة الكوني‪$$‬ة‬
‫الميكروي) مع (بنزياس)‪ ،‬والذي كان من أنصار‪ $‬الح‪$$‬ال الثابت‪$$‬ة عن أث‪$$‬ر نظري‪$$‬ة‬
‫االنفجار العظيم على قناعاته وعقائده‪( :‬لقد أحببت فلس‪$$‬فيًا نظرية الح‪$$‬ال الثابت‪$$‬ة‪،‬‬
‫وعل ّي بوضوح أن أتراجع عن ذلك)‬
‫وق‪$$$‬ال (أالن س‪$$$‬نداج) (ت‪2010.‬م) ال‪$$$‬ذي لُقِّب ب‪$$$‬أبي (الكوس‪$$$‬مولوجيا‬
‫ق من ق ّدموا‪ $‬تقديرًا علميًا لعمر الكون ـ ([ب‪$$‬دء‬ ‫الرصديّة المعاصرة)‪ ،‬وهو من أد ّ‬
‫الكون بانفجار] نتيجة غريبة‪ ..‬ال يمكن أن تكون صحيحة)‪ ،‬لكنه بعد ثبوب األدلة‬

‫‪ )(1‬انظر هذه النصوص والتوثيقات‪ $‬المرتبطة بها في كتاب‪ :‬فمن خلق هللا؟‪ :‬نقد الشبهة اإللحادية [إذا كان‬
‫لكل شيء خالق‪ ،‬فمن خلق هللا؟] في ض‪$‬وء التحقي‪$‬ق الفلس‪$‬في والنق‪$‬د الكوس‪$‬مولوجي‪ ،‬د‪ .‬س‪$‬امي ع‪$‬امري‪ ،‬مرك‪$‬ز‬
‫تكوين للدراسات واألبحاث‪.2016 ،‬‬

‫‪137‬‬
‫لم يجد إال إلى أن يتحوّل في آخر حياته إلى اإليمان باهلل‪.‬‬
‫أما (هويل)‪ ،‬فق‪$$‬د ع‪$$‬بر بص‪$$‬راحة عم‪$$‬ا يحمل‪$$‬ه ثب‪$$‬وت االنبث‪$$‬اق الك‪$$‬وني من‬
‫انتص‪$$‬ارات‪ $‬للمؤم‪$$‬نين‪ ،‬فق‪$$‬ال في كت‪$$‬اب مدرس ‪$‬ي‪ $‬ألّف‪$$‬ه س‪$$‬نة ‪1975‬م‪( :‬الكث‪$$‬يرون‬
‫مس‪$$‬رورون بقب‪$$‬ول ه‪$$‬ذا الموق‪$‬ف‪ $‬دون البحث عن تفس‪$$‬ير فيزي‪$$‬ائي‪ $‬للبداية الح‪$$‬ادة‬
‫للجس‪$$‬يمات‪ ..‬يُنظر إلى البداية الح‪$$‬ادة عم‪$‬دًا على أنّها ف‪$$‬وق‪ $‬فيزيائي‪$$‬ة‪ ،‬أي خ‪$$‬ارج‬
‫ألن [ش‪$$‬يئًا ما] من‬ ‫الفيزياء‪ ..‬يبدو هذا النمط من التفكير ُمرْ ض للكثير من الن‪$$‬اس ّ‬
‫خارج الفيزياء باإلمكان إضافته إلى بداية الزمن‪ ..‬لقد وضعت كلم‪$$‬ة [إله] مك‪$$‬ان‬
‫ي‬ ‫[شيء ما] بمخادعة لفظية‪ ..‬ال أعتقد أنّنا بحاجة إلى استدعاء الميتافيزيقا‪ $‬لح ّل أ ّ‬
‫مشكلة بإمكاننا‪ $‬أن نف ّكر فيها)‬
‫أما (دنيس شياما) (ت ‪1999‬م)‪ ،‬وهو أستاذ (هوكنغ) في الفيزي‪$$‬اء‪ ،‬وأح‪$$‬د‬
‫كبار المناصرين لـ (نظرية الح‪$$‬ال الثابت‪$$‬ة) م‪$$‬ع زميل‪$$‬ه (هوي‪$$‬ل)‪ ،‬فق‪$$‬د تح‪$‬وّل عن‬
‫مذهبه بعد اكتشاف (إشعاع الخلفية الكونية الميكروي) ليصبح من أهم المنافحين‬
‫عن (نظرية االنفجار العظيم)‬
‫وقد أق ّر أنّه قد لعب دو ًرا في الدفاع عن (نظرية الحال الثابتة) ألنّها كانت‬
‫جذاب‪$$‬ة بص‪$$‬ورة كب‪$$‬يرة لدرج‪$$‬ة أن‪$$‬ه تمنّى أن تك‪$$‬ون ص‪$$‬حيحة‪( ،‬لكن لما ت‪$$‬راكمت‬
‫أن اللعبة قد انتهت‪ ،‬وأنه يجب التخلّص من نظرية الح‪$$$‬ال‬ ‫األدل‪$$$‬ة؛ اتّضح بجالء ّ‬
‫الثابتة)‬
‫وهكذا نرى الكثير من مالحدة الفيزيائيين يقعون في مواقف‪ $‬حرجة بسبب‬
‫ثبوب االنبثاق الكوني إما بسبب نظرية االنفجار العظيم أو بسبب القانون الث‪$$‬اني‬
‫للديناميكا‪ $‬الحرارية‪ ..‬ولهذا اضطر‪ $‬بعضهم لإليمان وال‪$$‬تراجع عن الحال‪$‬ة الثابت‪$$‬ة‬
‫للكون‪ ،‬واضطر آخرون للبحث عن نم‪$$‬اذج أخ‪$$‬رى بديل‪$$‬ة تح‪$$‬اول أن تس‪$$‬د حاج‪$$‬ة‬
‫الكون إلى موجد خارجي‪.‬‬
‫كما عبر عن ذلك عالم الفيزي‪$$‬اء الفلكي‪$$‬ة (كريس‪$$‬توفر إش‪$$‬ام)‪ ،‬فق‪$$‬ال‪( :‬ربّما‬
‫إن (االنفج‪$$‬ار العظيم) يؤيّ‪$$‬د اإليم‪$$‬ان باهلل ه‪$$‬و‬ ‫أفضل حجة لصالح الط‪$$‬رح القائ‪$$‬ل ّ‬
‫التململ الواضح الذي قوبل به من ط‪$$‬رف بعض الفيزي‪$‬ائيين المالح‪$$‬دة‪ .‬وق‪$$‬د أ ّدى‬
‫ذلك إلى ظهور‪ $‬أفكار علمية‪ ،‬مثل (الخلق ال‪$$‬دائم) أو (الك‪$$‬ون المتذب‪$‬ذب)‪ ،‬وق‪$‬د ت ّم‬
‫تقديمها بحماسة تفوق بكث‪$‬ير‪ $‬قيمته‪$‬ا الحقيقي‪$‬ة م ّم‪$‬ا يل‪$‬زم الم‪$‬رء ب‪$‬أن ي‪$‬رى دواف‪$‬ع‬
‫نفسيّة أعمق بكثير من الرغبة المألوفة للمنظّر لدعم نظريّته)‬
‫وورد في مق‪$$$$‬ال نش‪$$$$‬ر في مجلّ‪$$$$‬ة [‪( $$$$:]New Scientist‬اعتقد علم‪$$$$‬اء‬
‫أن عليهم االلتفاف وراء المشكلة‪ ..‬لقد ح‪$$‬اولوا على م‪ّ $‬ر الس‪$$‬نوات‬ ‫الكوسمولوجيا‪ّ $‬‬
‫الماض‪$$$‬ية إثب‪$$$‬ات ع‪$$$‬دة نم‪$$$‬اذج مختلفة للك‪$$$‬ون تتف‪$$$‬ادى الحاجة إلى بداي‪$$$‬ة‪ ،‬مع‬
‫أن الك‪$$‬ون ك‪$$‬انت ل‪$$‬ه‬ ‫االستمرار‪ $‬في اشتراط انفجار عظيم‪ .‬يب‪$$‬دو اآلن من المؤ ّك‪$$‬د ّ‬

‫‪138‬‬
‫بداية)‬
‫بعد ه‪$‬ذا الع‪$‬رض الم‪$‬وجز لمواق‪$‬ف‪ $‬علم‪$‬اء الفيزي‪$‬اء والك‪$‬ون من االنبث‪$‬اق‪$‬‬
‫الكوني نتساءل عن موقف‪ $‬هوكينغ‪ ،‬أو ما الذي فعله هوكينغ ح‪$$‬تى ينق‪$$‬ذ الموق ‪$‬ف‪$‬‬
‫اإللحادي؟‬
‫وقبل أن نجيب عن ذلك نحب أن نذكر هنا مقول‪$$‬ة للكوس‪$$‬مولوجي الش‪$$‬هير‬
‫الالأدري (ألكس‪$$‬ندر‪ $‬فلنكن) س‪$$‬نه ‪2012‬م في عي‪$$‬د ميالد [ه‪$$‬وكينج] الس‪$$‬بعين‪،‬‬
‫والذي ناقش فيه العلماء أهم نظريات نشأة الكون‪ ،‬حيث قال‪( :‬لقد قيل إن الحج‪$$‬ة‬
‫هي التي تقنع العقالء والدليل هو الذي يقن‪$$‬ع ح‪$$‬تى غ‪$$‬ير العقالء‪ ..‬لم يع‪$$‬د بإمك‪$$‬ان‬
‫علماء الكون‪ ،‬بع‪$$‬د أن ق‪$$‬امت اآلن األدل‪$$‬ة‪ ،‬أن يتخف‪$$‬وا وراء إمكاني‪$$‬ة وج‪$$‬ود‪ $‬ك‪$$‬ون‬
‫أزلي‪ .‬لم يعد هناك مهرب‪ ،‬عليهم أن يواجهوا مشكلة البداية الكونية)‬
‫والدور الذي قام به هوكين‪$$‬غ إلنق‪$$‬اذ الموق‪$‬ف‪ $‬اإللح‪$$‬ادي يتمث‪$$‬ل في أم‪$$‬رين‪،‬‬
‫أحدهما شاركه فيه غيره‪ ،‬والثاني انفرد به لوحده‪.‬‬
‫أما األمر األول‪ ،‬فهو أنه مثلما حاول داروين باس‪$$‬تماتة أن يس‪$$‬تبدل تفس‪$$‬ير‬
‫(الخالق) بخراف‪$$‬ة التط‪$$‬ور الص‪$$‬دفي والعش‪$$‬وائي في الكائن‪$$‬ات الحي‪$‬ة‪ ،‬فق‪$$‬د ح‪$$‬اول‬
‫هوكينج استبدال تفسير (الخالق) بخرافة األكوان المتع‪$$‬ددة الص‪$$‬دفية والعش‪$$‬وائية‬
‫لكي يبرر ظهور كوننا‪ $‬الغاية في الدقة من بينها‪.‬‬
‫ولذلك افترض في كتابه [التصميم العظيم] بحسابات رياضية معقدة ـ كما‬
‫توصف‪ $‬ـ ليهرب من االعتراف بالخ‪$‬الق‪ $‬إلى وج‪$‬ود‪ 10 $‬أس ‪ 500‬ك‪$‬ون‪ ..‬وذك‪$‬ر‬
‫أن هذا العدد الضخم يتناس‪$$‬ب م‪$$‬ع نظريت‪$$‬ه ‪ M‬ال‪$$‬تي س‪$$‬تجمع ك‪$$‬ل ق‪$$‬وانين الوج‪$$‬ود‪$‬‬
‫لتمكننا من فهم كل شيء بعيدا عن الخالق‪.‬‬
‫وهذا العدد الض‪$$‬خم لألك‪$$‬وان‪ ..‬أي ‪ 10‬وأمامه‪$‬ا‪ 500 $‬ص‪$$‬فر‪ ..‬لم يخترع‪$$‬ه‬
‫أحد سواه‪ ..‬ولألسف صار شعارا‪ $‬من شعارات المالح‪$$‬دة‪ ،‬أو كم‪$$‬ا ع‪$‬بر عن ذل‪$‬ك‬
‫[ريتش‪$$‬ارد‪ $‬داوك‪$$‬نز] في ح‪$$‬واره م‪$$‬ع [س‪$$‬تيفن واين‪$$‬برج] مبين‪$$‬ا س‪$$‬بب اعتم‪$$‬اد ه‪$$‬ذه‬
‫النظرية واالهتمام بها‪ ،‬وهو كونها وسيلة لنفي اإلله‪ ،‬وق‪$‬د‪ $‬ق‪$$‬ال مع‪$$‬برا عن ذل‪$$‬ك‪:‬‬
‫(إذا اكتشفت هذا الكون المدهش المع‪$$‬د فعلي‪$$‬ا بعناي‪$$‬ة‪ ..‬أعتق‪$$‬د أن‪$$‬ه ليس أمام‪$$‬ك إال‬
‫تفسيرين اثنين‪ ..‬إما خالق عظيم‪ ،‬أو أكوان متعددة)‬
‫ونحب أن ننبه إلى أن هوكينج نفسه كان ق‪$$‬د أق‪$$‬ر في كتاب‪$$‬ه األول [م‪$$‬وجز‬
‫لتاريخ الزمن] بحقيقة الضبط الدقيق للكون‪ ،‬وخصوصا‪ $‬الث‪$$‬ابت الك‪$$‬وني وض‪$$‬بط‬
‫مقدار الجاذبية الرهيب‪ ،‬ولم يبق أمامه لتبرير اإللحاد إال اختراع فك‪$$‬رة األك‪$$‬وان‬
‫المتعددة الكثيرة جدا والعشوائية ليكون كونن‪$‬ا‪ $‬ه‪$$‬و الوحي‪$$‬د من بينه‪$$‬ا ال‪$$‬ذي خ‪$$‬رج‬
‫بهذه الصورة‪.‬‬
‫وأما األمر الثاني‪ ،‬وهو أخط‪$$‬ر من األول‪ ،‬وه‪$$‬و محاول‪$$‬ة هوكين‪$$‬غ تج‪$$‬اوز‬
‫نظرية االنبثاق الكوني‪ ،‬ببيان أن الكون حتى لو كان له بداية فإنه لن يحت‪$$‬اج إلى‬

‫‪139‬‬
‫الخالق‪ ،‬ذلك أن الق‪$$‬وانين الكوني‪$$‬ة وح‪$$‬دها كفيل‪$$‬ة بخل‪$$‬ق الك‪$$‬ون‪ ،‬وه‪$$‬ذا م‪$$‬ا لم يقل‪$$‬ه‬
‫غيره‪.‬‬
‫وق‪$$‬د ع‪$$‬بر عن ذل‪$$‬ك بقول‪$$‬ه‪( :‬تمام‪$$‬ا مثلم‪$$‬ا فس‪$$‬ر دارون وواالس كي‪$$‬ف أن‬
‫التصاميم‪ $‬المعجزة المظهر في الكائنات الحية من الممكن أن تظهر ب‪$$‬دون ت‪$$‬دخل‬
‫قوة عظمى‪ ،‬فمبدأ األكوان المتعددة من الممكن أن يفسر دق‪$$‬ة الق‪$$‬وانين الفيزيائي‪$$‬ة‬
‫بدون الحاج‪$‬ة لوج‪$$‬ود خ‪$$‬الق س‪$$‬خر لن‪$‬ا الك‪$‬ون‪ ..‬فبس‪$$‬بب ق‪$‬انون الجاذبي‪$$‬ة ف‪$$‬الكون‬
‫يستطيع‪ $‬ويمكنه أن ينشيء نفسه من الالشيء‪ ..‬فالخلق الذاتي هو سبب أن هن‪$$‬اك‬
‫شيء بدال من ال شيء‪ ،‬ويفسر لنا لماذا الكون موجود‪ ،‬وكذلك نحن) (‪)1‬‬

‫ونحب أن نش‪$$‬ير هن‪$$‬ا إلى أن ق‪$$‬ول الرياض‪$$‬ي‪ $‬والفلكي المع‪$$‬روف‪[ $‬بي‪$$‬ير‬


‫سيمون البالس] حين سأله نابليون عن مكان هللا في نظام‪$$‬ه الميك‪$$‬انيكي‪ $‬الخ‪$$‬اص‬
‫باألجرام‪ $‬السماوية‪ ،‬فقال له بكل ثقة‪( :‬يا سيدي لست بحاجة إلى هذا االف‪$$‬تراض)‬
‫(‪ )2‬كان مبنيا على الحالة الثابتة للكون‪ ،‬أي أنه قال ذلك قبل االنفجار العظيم‪..‬‬
‫وهكذا حين نقارن بين نيوتن ـ وهو رائد العلماء في عصور النهضة‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫ربما في كل العصور‪ ،‬ومع كونه عاش في الزمن ال‪$$‬ذي ك‪$$‬ان يعتق‪$$‬د في‪$$‬ه بالحال‪$$‬ة‬
‫الثابتة للكون ـ مع هوكينغ نجد الفرق الكبير بينهما‪ ،‬فق‪$$‬د ق‪$$‬ال ني‪$$‬وتن متح‪$$‬دثا عن‬
‫كتابه [برينسيبا ماثيماتيكا] الذي يعد من أعظم الكتب العلمية‪ ،‬وأكثرها تأثيرا في‬
‫مسار التطور‪ $‬العلمي‪ ،‬وال سيما في الفيزياء‪( :‬لق‪$$‬د كتبت ه‪$$‬ذا الكت‪$$‬اب وأن‪$‬ا أض‪$$‬ع‬
‫نصب عيني أن يك‪$$‬ون س‪$$‬بيال إلى مس‪$$‬اعدة الن‪$$‬اس على أن يؤمن‪$$‬وا باهلل المعب‪$$‬ود‪،‬‬
‫ولن يسعدني‪ $‬شيء أكثر من تحقيق هذه الغاية)‪ ،‬ومن أقوال‪$‬ه الم‪$‬أثورة‪( :‬يكفي أن‬
‫أنظر إلبهامي حتى أكون مؤمنا‪ $‬باهلل)‬
‫أما أعالم الفيزياء المت‪$‬أخرون‪ ،‬فق‪$‬د ذك‪$‬ر مؤلف‪$$‬ا كت‪$$‬اب [العلم في منظ‪$$‬وره‬
‫الجديد] (‪ )3‬الكثير من النماذج الدالة على تحولهم إلى اإليمان مقارنة بالفيزيائيين‬
‫الكالسيكيين‪.‬‬
‫ومن أمثلتهم ـ كما يذكر الكاتبان ‪ -‬الفيزيائي ادموند ويتيكر‪ $‬ال‪$$‬ذي نقال عن‪$$‬ه‬
‫قوله‪( :‬ليس هناك ما ي‪$‬دعو إلى أن نف‪$‬ترض أن الم‪$‬ادة والطاق‪$‬ة كانت‪$‬ا موج‪$‬ودتين‬
‫قبل االنفجار العظيم‪ ،‬وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي‪ $.‬فما الذي يميز تلك اللحظ‪$$‬ة‬
‫عن غيرها من اللحظات في األزلي‪$$‬ة‪ ،‬واألبس‪$$‬ط أن نف‪$$‬ترض خلق‪$$‬ا من الع‪$$‬دم‪ ،‬أي‬

‫‪ )(1‬المرجع سابق‪.‬‬
‫‪ )(2‬نقال عن العلم في منظوره الجديد لروبرت م ‪.‬أغروس و جورج ن‪ .‬ستانسيو‪ ،‬ترجمة كم‪$$‬ال خ‪$$‬االيلي‪،‬‬
‫طبع سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬ورقمه في السلسلة (‪ ،)134‬ص‪.54‬‬
‫‪ )( 3‬وهو من الكتب المهمة التي ترد على اإللحاد‪ ،‬وتذكر مواقف العلماء في المجاالت المختلف‪$$‬ة‪ ،‬وذاك فى‬
‫شكل موازنة بين مقوالت‪ $‬النظرة العلمية القديمة والنظرة العلمية الجديدة‪ ،‬ويعرض المؤلفان روبرت م‪ .‬أغروس‬
‫وجورج ن‪..‬‬

‫‪140‬‬
‫إبداع اإلرادة اإللهية للكون من العدم)‬
‫ومثله الفيزيائي ادوارد‪ $‬ميلن الذي انتهى بعد تفكره في الكون المتم‪$$‬دد إلى‬
‫هذه النتيجة‪( :‬أم‪$$‬ا العل‪$$‬ة األولى للك‪$$‬ون في س‪$$‬باق التم‪$$‬دد ف‪$$‬أمر إض‪$$‬افتها‪ $‬م‪$$‬تروك‬
‫للقارئ‪ ،‬ولكن الصورة التي لدينا ال تكتمل من غير هللا)‬
‫وهكذا صرح كب‪$‬ار أعالم الفيزي‪$‬اء الحديث‪$‬ة من أمث‪$‬ال [ف‪$‬يرنر هيزن‪$‬برج]‬
‫ص‪$$‬احب مب‪$$‬دأ الالحتمي‪$$‬ة أو االرتي‪$$‬اب ال‪$$‬ذي ع‪$$‬بر عن ذل‪$$‬ك بقول‪$$‬ه‪( :‬كنت ط‪$$‬وال‬
‫حياتى مدفوعا الى تأمل العالقة بين العلم والدين ولم أجد فى أى وقت مهربا من‬
‫االقرار‪ $‬بداللة العلم على وجود‪ $‬االله)‬
‫وق‪$$‬ال‪( :‬م‪$$‬ا ال‪$$‬ذى يحكم حرك‪$$‬ة االب‪$$‬رة المغناطيس‪$$‬ية لتس‪$$‬تقر تج‪$$‬اه الش‪$$‬مال‬
‫والجنوب‪ ،‬إنه نظام مبهر تحكمه قوة حكيم‪$$‬ة ق‪$$‬ادرة‪ ،‬ق‪$$‬وة ل‪$$‬و اختفت من الوج‪$$‬ود‬
‫الجتاحت الجنس البشرى‪ $‬مصائب رهيبة مصائب أسوأ من االنفج‪$$‬ارات النووي‪$$‬ة‬
‫وحروب‪ $‬اإلبادة)‬
‫ومثل‪$$‬ه ق‪$$‬ال [اروين ش‪$$‬رودنجر] مؤس‪$$‬س علم [ميكانيك‪$$‬ا الموج‪$$‬ات]‪( :‬إن‬
‫الص‪$$‬ورة ال‪$$‬تى يرس‪$$‬مها‪ $‬العلم للوج‪$$‬ود من حولن‪$$‬ا قاص‪$$‬رة للغاي‪$$‬ة‪ ،‬فب‪$$‬الرغم من‬
‫الحقائق الكثيرة التى يقدمها لن‪$$‬ا ويص‪$$‬يغها‪ $‬فى الق‪$$‬وانين ال‪$$‬تى تحكم الوج‪$$‬ود يق‪$$‬ف‬
‫العلم كاألبكم أمام األمور القريبة من قلوبنا والتى تهمنا حقيقة)‬
‫ويقول [ماكس بالنك] العالم األلم‪$$‬اني ص‪$$‬نو أنش‪$$‬تاين والح‪$$‬ائز‪ $‬على نوب‪$$‬ل‬
‫‪1918‬م ومؤسس فيزياء الكم‪( :‬ال يمكن أن نجد تعارضا حقيق‪$$‬ا بين العلم وال‪$$‬دين‬
‫فكالهما يكم‪$$‬ل اآلخ‪$$‬ر‪ ،‬إن كال من ال‪$$‬دين والعلم يح‪$$‬ارب فى مع‪$$‬ارك مش‪$$‬تركة ال‬
‫تكل ضد االدعاء والشك والتسلط‪ $‬وااللحاد من أجل الوصول الى معرفة اإلله)‬
‫(العلم الطبيعي ال يستطيع حل اللغز ال ُمطلق للطبيعة‪ ،‬وذل‪$$‬ك ألن‪$$‬ه‬ ‫ويقول‪ِ :‬‬
‫في التحليل األخير نكون نحن أنفسنا جزء ِمن الطبيعة‪ ،‬وبالتالي ج‪$$‬زء من اللغ‪$$‬ز‬
‫الذي نحاول حله)‬
‫ويقول [بول ديراك]‪ ،‬وهو من كبار مؤسسى فيزياء‪ $‬الكم‪( :‬إن االله خ‪$$‬الق‬
‫حسيب استخدم أرقى مستويات‪ $‬الرياضيات فى تصميم الكون ووضع‪ $‬قوانينه)‬
‫وله‪$$‬ذا ن‪$$‬رى كب‪$$‬ار الفيزي‪$$‬ائيين المعاص‪$$‬رين‪ ،‬ومنهم زمالء لهوك‪$$‬نيغ نفس‪$$‬ه‬
‫ينحون عليه بالالئمة بسبب استعماله الفيزياء إلرضاء النزوات اإللحادي‪$$‬ة‪ ،‬فه‪$$‬ذا‬
‫الفيزي‪$$‬ائي الش‪$$‬هير‪[ $‬راس‪$$‬ل س‪$$‬تانارد] يق‪$$‬ول في مقال‪$$‬ه في الجاردي‪$$‬ان‪( :‬إن فلس‪$$‬فة‬
‫هوكنج هو تحدي‪$$‬دا م‪$$‬ا أعارض‪$$‬ه فهي كم‪$$‬ا وص‪$$‬لتني‪ $‬مث‪$$‬ال واض‪$$‬ح على التع‪$$‬الم ـ‬
‫ساينتزم‪ -‬فطرح أن العلم هو مصدر‪ $‬المعلومات الوحيد وأننا لدينا فهم كامل لك‪$$‬ل‬
‫شيء هو هراء بل وهراء خطير أيضا فهو يشعر العلماء بالكبر والغرور‪ $‬بش‪$$‬كل‬
‫مبالغ فيه)‬
‫ويقول البروفسور جون بولكنجهورن‪ $‬من أشهر علماء الفيزي‪$$‬اء النظري‪$$‬ة‪:‬‬

‫‪141‬‬
‫(إنه‪$$‬ا ‪ -‬يقص‪$$‬د األك‪$$‬وان المتع‪$$‬ددة ـ ليست فيزي‪$$‬اء إنها في أحسن األح‪$$‬وال فك‪$$‬رة‬
‫ميتافيزيقيه وال يوجد س‪$$$$$$$‬بب علمي واحد لإليم‪$$$$$$$‬ان بمجوعة من األك‪$$$$$$$‬وان‬
‫المتع‪$$‬ددة‪...‬إن ماعليه الع‪$$‬الم اآلن هو نتيجة إلرادة خ‪$$‬الق يح‪$$‬دد كي‪$$‬ف يجب أن‬
‫يكون)‬
‫ويقول الفيزيائي‪ $‬الشهير [روجرز ب‪$$‬نروز]‪ ،‬وه‪$$‬و ال‪$$‬ذي أثبت م‪$$‬ع ه‪$$‬وكنج‬
‫حدوث اإلنفجار الكبير ُمعلقا على كتاب هوكينج [التصميم‪ $‬العظيم]‪( :‬على عكس‬
‫ميكانيكا‪ $‬الكم فإن النظرية ‪ M‬التملك أي إثبات مادي إطالقا)‬
‫ويقول البروفيسور‪ $‬بول ديفيز الفيزيائي اإلنجل‪$$‬يزي‪ $‬في الجاردي‪$$‬ان منتق‪$$‬دا‬
‫هوكنج بشدة‪( :‬تبقى الق‪$$‬وانين المطروح‪$$‬ة غ‪$$‬ير قابل‪$$‬ة للتفس‪$$‬ير‪ ..‬ه‪$‬ل نقبله‪$$‬ا هك‪$$‬ذا‬
‫كمعطى‪ $‬خالد؟ فلماذا النقبل هللا؟ حسنا وأين كانت القوانين وقت اإلنفجار الكبير؟‬
‫إننا عند هذه النقطة نكون في المياه الموحلة)‬
‫ويق‪$$‬ول الفيزي‪$$‬ائي‪ $‬وع‪$$‬الم الفض‪$$‬اء [مارس‪$$‬يلو‪ $‬جليس‪$$‬ر]‪( :‬ادع‪$$‬اء الوص‪$$‬ول‬
‫لنظرية نهائية يتنافى‪ $‬مع أساسيات وأبجديات الفيزي‪$$‬اء والعلم التجري‪$$‬بي وتجمي‪$$‬ع‬
‫البيانات‪ ،‬فنحن ليس لدينا األدوات لقياس الطبيعة كك‪$$‬ل فال يمكنن‪$$‬ا اب‪$$‬دا أن نك‪$$‬ون‬
‫متاكدين من وصولنا‪ $‬لنظرية نهائية وس‪$$‬تظل هن‪$$‬اك دائم‪$$‬ا فرص‪$$‬ة للمفاج‪$$‬آت كم‪$$‬ا‬
‫تعلمنا من تاريخ الفيزياء مرات ومرات‪ .‬وأراها إدعاء باطل أن نتخيل أن البشر‬
‫يمكن ان يصلوا لشيء كهذا‪..‬أعتقد ان على هوكنج أن يدع هللا وشأنه)‬
‫ويقول الفيزيائي‪ $‬بيتر ويت من جامعة كولومبيا‪( $:‬لست من أنصار‪ $‬إدخ‪$$‬ال‬
‫الحديث عن هللا في الفيزياء لكن إذا كان هوكنج مصرا على دخول معركة الدين‬
‫والعلم فما يحيرني‪ $‬هو إستخدامه لسالح مش‪$$‬كوك في ص‪$$‬الحيته أو فاعليت‪$$‬ه مث‪$$‬ل‬
‫النظرية ‪)M‬‬
‫ويقول ويليام كريج الفيلسوف األمريكي‪ $‬ساخرا‪( :‬ال شيء جديد علمي‪$$‬ا في‬
‫ه‪$$‬ذا الكت‪$$‬اب ب‪$$‬المره ولكن نق‪$$‬اش فلس‪$$‬في بحت خصوص‪$‬ا‪ $‬في الثلث األول‪ ،‬وه‪$$‬و‬
‫شيء غريب إذا علمنا أن هوكنج في أول صفحة من كتاب‪$$‬ه يق‪$$‬ول إن الفلس‪$$‬فة ق‪$$‬د‬
‫ماتت)‬
‫ويقول فيلسوف‪ $‬الفيزي‪$$‬اء [ك‪$$‬ريج كالن‪$$‬در] في جامع‪$$‬ة كاليفورني‪$‬ا‪ $‬س‪$$‬اخرا‪:‬‬
‫(منذ ثالثين عاما صرح هوكنج بأننا على أعتاب نظرية كل شيء‪ ،‬وبحلول ع‪$$‬ام‬
‫‪ 2000‬وحتى اآلن في عام ‪ 2010‬الشيء‪ ..‬لكن اليهم فهوكنج رغم ذلك قرر‪ $‬أن‬
‫يفسر سبب الوج‪$$‬ود‪ $‬ب‪$$‬الرغم من ع‪$$‬دم وج‪$$‬ود‪ $‬النظري‪$$‬ة‪ ..‬إن م‪$$‬ا يتح‪$$‬دث عن‪$$‬ه ه‪$$‬و‬
‫مجرد حدس غير قابل لالختار أبدا)‬
‫ويقول الدكتور [هاميش جونستون] مح‪$$‬رر موق‪$‬ع‪ $‬ع‪$$‬الم الفيزي‪$$‬اء‪( :‬توج‪$$‬د‬
‫فق‪$$‬ط مش‪$$‬كلة ص‪$$‬غيرة وهي ض‪$$‬حالة ال‪$$‬دليل التجري‪$$‬بي‪ $‬للنظري‪$$‬ة ‪ ..M‬بمع‪$$‬نى آخ‪$$‬ر‬
‫فهناك عالم كبير يخرج بتصريح للعامة يتح‪$$‬دث في‪$$‬ه عن وج‪$$‬ود الخ‪$$‬الق إعتم‪$$‬ادا‬

‫‪142‬‬
‫على إيمانه بنظرية غير مثبت‪$$‬ه‪ ..‬إن الفيزي‪$$‬اء بحاج‪$$‬ة ل‪$$‬دعم العام‪$$‬ة ح‪$$‬تى التت‪$$‬أثر‬
‫بتخفيض النفقات وهذا سيكون صعبا جدا إذا ظنوا أن معظم الفيزيائيين يقض‪$$‬ون‬
‫وقتهم‪ $‬في الجدال عن ما تقوله نظريات غير مثبته عن وجود‪ $‬الخالق)‬
‫وأم‪$$‬ا الص‪$$‬حفي العلمي ج‪$$‬ون هورج‪$$‬ان كتب مق‪$$‬اال بعن‪$$‬وان [البهلواني‪$$‬ة‬
‫الكونية] صف النظرية ‪ M‬ال‪$$‬تي يعتم‪$$‬د عليه‪$$‬ا ه‪$$‬وكنج بالحثال‪$$‬ة‪ ،‬وق‪$$‬ال‪( :‬ه‪$$‬وكنج‬
‫نفس‪$‬ه ق‪$‬ال باس‪$‬تحالة اختب‪$‬ار نظريت‪$‬ه‪ ..‬أن تض‪$‬ع نظري‪$‬ة لك‪$‬ل ش‪$‬يء ف‪$‬أنت ل‪$‬ديك‬
‫الشيء‪ ..‬أن يكون خالصة بحثه هو النظرية ‪ M‬غير القابلة لإلثبات‪ ..‬إنن‪$$‬ا نخ‪$$‬دع‬
‫انفسنا إن صدقناه)‬
‫ويق‪$‬ول بروفيسورالرياض‪$$‬يات [ج‪$‬ون لين‪$‬وكس]‪( :‬إن ق‪$‬ول أن الفلس‪$‬فة ق‪$‬د‬
‫ماتت خطير جدا خصوصا عن‪$$‬دما ال تتوق‪$$‬ف أنت نفس‪$$‬ك عن اس‪$$‬تخدامها‪...‬وألن‪$‬‬
‫هوكنج لدي‪$‬ه فهم مغل‪$$‬وط لك‪$‬ل من الفلس‪$‬فة وال‪$$‬دين فه‪$$‬و يري‪$‬دنا‪ $‬أن نخت‪$$‬ار بين هللا‬
‫وق‪$$‬وانين الفيزي‪$$‬اء‪ ..‬إن الق‪$$‬وانين الفيزيائي‪$$‬ة اليمكن أن تخل‪$$‬ق ش‪$$‬يئا فهي مج‪$$‬رد‬
‫الوص‪$$‬ف الرياض‪$$‬ي للظ‪$$‬واهر الطبيعي‪$$‬ة‪ ..‬فق‪$$‬وانين ني‪$$‬وتن للحرك‪$$‬ة لن ت‪$$‬دفع ك‪$$‬رة‬
‫البلياردو‪ $‬على الطاولة بدون العب يض‪$$‬ربها‪ ،‬ف‪$$‬القوانين لن تح‪$$‬رك الك‪$$‬رة فض‪$$‬ال‬
‫عن خلقها‪ ..‬إن ما يقوله ه‪$$‬و خي‪$$‬ال علمي بحت‪ ..‬من أين ج‪$$‬اءت الخط‪$$‬ة الكوني‪$$‬ة‬
‫ال‪$‬تي تح‪$‬دث عنه‪$‬ا ه‪$‬وكنج؟ إنه‪$‬ا ليس‪$‬ت من الك‪$‬ون فمن جعله‪$‬ا تعم‪$‬ل إن لم يكن‬
‫هللا؟‪ ..‬إن محاول‪$$‬ة العلم‪$$‬اء الملح‪$$‬دين اله‪$$‬روب من فك‪$$‬رة الخ‪$$‬الق يجعلهم يع‪$$‬زون‬
‫الوجود‪ $‬ألشياء أقل مصداقية كالطاق‪$$‬ة والق‪$$‬وانين أوالكت‪$$‬ل‪ ..‬بالنس‪$$‬بة لي كلم‪$$‬ا زاد‬
‫فهمي للعلم كلما زاد إيماني باهلل لتعجبي من اتساع وتعقيد وتكامل خلقه)‬
‫ثم ضرب األمثلة على إيمان كبار العلم‪$$‬اء ع‪$$‬بر الت‪$$‬اريخ بوج‪$$‬ود الخ‪$$‬الق‪،‬‬
‫فقال‪( :‬إسحق ني‪$$‬وتن بع‪$$‬دما إكتش‪$$‬ف ق‪$$‬انون الجاذبي‪$$‬ة وأل‪$$‬ف أهم كت‪$$‬اب علمي في‬
‫التاريخ (برينسيبا ماثيماتيك‪$$‬ا) ق‪$$‬ال إن‪$$‬ه يأم‪$$‬ل أن يس‪$$‬اعد أص‪$$‬حاب العق‪$$‬ول (أولى‬
‫األلباب) أن يؤمنوا باهلل‪ ..‬وكانت قوانين آينشتين الرياضية مث‪$$‬ار اندهاش‪$$‬ه ال‪$$‬دائم‬
‫وإيمانه بوجود‪ $‬قوة حكيمة جب‪$$‬ارة خل‪$$‬ف ه‪$$‬ذا الك‪$$‬ون (وإن لم ي‪$$‬ؤمن بإل‪$$‬ه الكت‪$$‬اب‬
‫المقدس)‪ ...‬وآالن سانداج المعروف‪ $‬ب‪$$‬األب ال‪$$‬روحي لعلم الفل‪$$‬ك الح‪$$‬ديث الح‪$$‬ائز‬
‫على أرفع الجوائز قال‪ :‬إن هللا هو التفسير لمعجزة الخلق)‬
‫هذه اقتباسات من أكبر علماء العص‪$$‬ر في المج‪$$‬االت ال‪$$‬تي تخص‪$$‬ص فيه‪$$‬ا‬
‫هوكينغ‪ ،‬ولألسف ال يعرفهم هؤالء التنويريون‪ ،‬وال يهتمون بهم‪ ،‬وال ي‪$$‬ترحمون‬
‫عليهم إذا ماتوا‪ ،‬لسبب بسيط وهو أن اإلعالم الملحد لم يتبناهم‪ ،‬ولم يقم بالدعاي‪$$‬ة‬
‫لهم‪..‬‬

‫‪143‬‬
‫الغرب‪ ..‬والتالعب بالعواطف‬
‫من المه‪$$‬ارات الك‪$$‬برى ال‪$$‬تي يتقنه‪$$‬ا اإلنس‪$$‬ان الغ‪$$‬ربي عموم‪$$‬ا‪ ،‬وساس‪$$‬ته‬
‫ومثقفوه خصوصا قدرة التالعب على أوت‪$$‬ار العواط‪$$‬ف‪ ..‬وتب‪$$‬ادل‪ $‬األدوار فيه‪$$‬ا‪..‬‬
‫وهي تضاهي بنفس القيمة والمق‪$$‬دار مهارتن‪$$‬ا في اس‪$$‬تعمال عواطفن‪$$‬ا والخض‪$$‬وع‪$‬‬
‫لها‪ ،‬وتحييد‪ $‬العقل بأنواعه عند التعارض معها‪.‬‬
‫ويحضرني في هذا ما ذكره لي بعضهم أن االستعمار‪ $‬الفرنسي‪ $‬كان يدخل‬
‫القرية‪ ،‬فيعتقل شبابها‪ ،‬ويصادر ثرواته‪$$‬ا‪ ..‬وقب‪$$‬ل انص‪$$‬رافه ي‪$$‬وزع جن‪$$‬وده بعض‬
‫الحلوى على أوالد القرية‪ ،‬فيصيح عجائزها قائلين‪ :‬ما ش‪$$‬اء هللا‪ ..‬كم هم لطيف‪$$‬ون‬
‫هؤالء الفرنسيون‪.‬‬
‫وهذا ما يحصل لنا اآلن بالضبط‪ ..‬لكن الذي يصيح ليس عجائزن‪$$‬ا‪ ،‬وإنم‪$$‬ا‬
‫مفكرونا‪ $‬ومثقفونا والنخبة منا‪ ..‬فأمريكا‪ $‬تفعل ما تفعل‪ ..‬تدمر األخضر واليابس‪..‬‬
‫وتزرع‪ $‬فينا وفي أرضنا‪ $‬كل ألوان السموم‪ ..‬ثم تذهب إلى ك‪$$‬ل قط‪$‬رة من بترولن‪$‬ا‪$‬‬
‫وخيراتنا لتستلبها رغم أنوفنا‪ ..‬ثم إذا ما رأت األحقاد بدأت تتس‪$$‬رب إلين‪$$‬ا بس‪$$‬ببها‬
‫أرسلت لنا ممثل‪$$‬ة رقيق‪$$‬ة‪ ،‬أو ص‪$$‬وتا حاني‪$$‬ا‪ ،‬أو دبلومس‪$$‬يا‪ $‬ذكي‪$$‬ا ليمس‪$$‬ح عن قلوبن‪$$‬ا‬
‫مشاعر الكراهية‪ ،‬ويعيد بوصلتنا‪ $‬إلى قبلة البيت األبيض من جديد‪.‬‬
‫وهذا ما يفعلونه هذه األي‪$‬ام م‪$$‬ع هوكين‪$‬غ‪ ..‬فم‪$$‬ع أن ل‪$$‬ديهم الكث‪$‬ير من دع‪$‬اة‬
‫اإللحاد بأنواعه المختلفة إال أنهم اختاروا شخصية هوكينغ خصوص‪$$‬ا‪ ،‬ولمعوه ‪$‬ا‪$‬‬
‫تلميعا عظيما‪ ،‬وأعطوها بع‪$$‬دا إنس‪$‬انيا رفيع‪$$‬ا‪ ..‬وص‪$$‬وروه بص‪$‬ورة الجب‪$$‬ار ال‪$‬ذي‬
‫تحدى كل اإلعاقات‪ ..‬ليص‪$‬يح بق‪$‬وة بمث‪$‬ل م‪$‬ا ص‪$‬اح ب‪$‬ه نيتش‪$‬ة عن م‪$‬وت اإلل‪$‬ه‪..‬‬
‫وص‪$$‬وروه بص‪$$‬ورة المس‪$$‬اند للش‪$$‬عب الفلس‪$$‬طيني‪ $،‬ب‪$$‬ل بص‪$$‬ورة المق‪$$‬اوم للكي‪$$‬ان‬
‫الصهيوني‪ ..‬وكل ذلك ليمرروا‪ $‬لنا مش‪$$‬روعهم‪ $‬الت‪$$‬دميري من خالل‪$$‬ه‪ ،‬ومن خالل‬
‫الكوفية المزورة التي ألبسوه إياها‪.‬‬
‫واإللحاد هو المشروع الغربي الجديد ألمتنا‪ ..‬وهو خطير جدا‪ ،‬ألن‪$$‬ه يري‪$$‬د‬
‫أن يستل الجوهرة التي تنبع منها ك‪$‬ل فض‪$‬ائل‪ ..‬ج‪$‬وهرة اإليم‪$‬ان باهلل‪ ..‬ذل‪$‬ك أنهم‬
‫رأوا أنهم مهما فعلوا بنا نعود من جديد بس‪$$‬بب تل‪$$‬ك الج‪$$‬وهرة الثمين‪$$‬ة إلى وعين‪$$‬ا‬
‫وحقيقتنا‪ ،‬فلذلك راحوا يهونون من شأنها‪ ..‬ويساوون بين الملح‪$$‬د والم‪$$‬ؤمن‪ ..‬ب‪$$‬ل‬
‫يجعلون الملحد أفضل من المؤمن‪.‬‬
‫وبما أننا قد عطلنا عقلنا المجرد الذي يعتبر اإليمان هو قمة قمم المعرفة‪..‬‬
‫ومن لم يؤمن باهلل‪ ،‬فإن علومه ال تس‪$$‬اوي‪ $‬ش‪$$‬يئا‪ ..‬ب‪$$‬ل إن أبس‪$$‬ط م‪$$‬ؤمن باهلل أك‪$$‬ثر‬
‫علما وأكبر عقال من كل مالحدة الدنيا‪ ..‬وبما أننا عطلنا عقلن‪$$‬ا المؤي‪$$‬د والمس‪$$‬دد‪،‬‬
‫والذي دلنا من خالله الوحي المقدس على أن الجاهل باهلل والمنكر له جاهل مهما‬

‫‪144‬‬
‫أوتي من العلم‪ ..‬ذلك أن علومه جميعا ال تساوي‪ $‬ش‪$‬يئا أم‪$‬ام إنك‪$‬اره له‪$‬ذه الحقيق‪$‬ة‬
‫العظيمة‪.‬‬
‫وقد قال تعالى عن أولئك المشركين المتباهين بعلومهم أمام الرس‪$$‬ل عليهم‬
‫ت فَ ِر ُح‪$$‬وا بِ َم‪$$‬ا ِع ْن‪َ $‬دهُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم‬
‫ُس ‪$‬لُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَ‪$$‬ا ِ‬
‫الص‪$$‬الة والس‪$$‬الم‪ ﴿ $:‬فَلَ َّما َج‪ $‬ا َء ْتهُ ْم ر ُ‬
‫ق بِ ِه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَه ِْزئُونَ ﴾ [غافر‪]83 :‬‬ ‫َو َحا َ‪$‬‬
‫والف‪$$‬رح هن‪$$‬ا بمع‪$$‬نى التك‪$$‬بر والخيالء والبط‪$$‬ر‪ ..‬وه‪$$‬و متحق‪$$‬ق في واقعن ‪$‬ا‪$‬‬
‫لألسف مع المسلمين المستلبين حضاريا‪ $‬وفكريا‪ $..‬حتى أنه إذا قرئت على أحدهم‬
‫اآلية من القرآن الكريم‪ ،‬والحاوية لكل المعج‪$$‬زات‪ ،‬وك‪$$‬ل حق‪$$‬ائق الوج‪$$‬ود‪ ،‬تج‪$$‬ده‬
‫ينفر منها‪ ،‬ويؤولها ويعطلها‪ ،‬ف‪$‬إذا م‪$‬ا ق‪$‬رئت علي‪$‬ه كلم‪$‬ات أعجمي‪$‬ة‪ ،‬راح ينبه‪$‬ر‬
‫بها‪ ،‬ويلغي‪ $‬بها ما بقي له من عقل‪ ..‬وكل ذلك تفكير عاطفي ال حظ له من العق‪$$‬ل‬
‫المجرد‪ ،‬وال المسدد‪ ،‬وال المؤيد‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫وأخيرا‪ ..‬صار هوكينغ شهيدا‬
‫لم يكتف التنويريون الجدد‪ ..‬أولئك المستلبون فكري‪$$‬ا وحض‪$$‬اريا‪ $‬وإيماني‪$$‬ا‪$..‬‬
‫بالترحم‪ $‬على هوكينغ‪ ،‬وسكب الدموع عليه وإقامة الم‪$$‬آتم والتابيني‪$$‬ات‪ $‬عن‪$$‬ه وعن‬
‫روحه‪ ..‬وإنما راح بعضهم يحوله شهيدا‪ ..‬بل يحوله آية من آيات هللا التي يب‪$$‬اهي‬
‫هللا به‪$$‬ا عب‪$$‬اده‪ ..‬وولي‪$$‬ا‪ $‬من أوليائ‪$$‬ه القديس‪$$‬ين‪ ..‬ويوش‪$$‬ك‪ $‬أن ي‪$$‬أتي بعض رج‪$$‬ال‬
‫األعم‪$$‬ال ليب‪$$‬ني ل‪$$‬ه قب‪$$‬ة‪ ،‬ويؤس ‪$‬س‪ $‬ل‪$$‬ه م‪$$‬زار‪ ..‬وق ‪$‬د‪ $‬تتح‪$$‬ول بس‪$$‬ببه واش‪$$‬نطن أو‬
‫نيويورك أو أي مدينة تحظى‪ $‬بجسده‪ ،‬أو ببعض آثاره إلى مدينة مقدسة‪.‬‬
‫هذا الكالم ليس مبالغ‪$$‬ة‪ ،‬ب‪$$‬ل ه‪$$‬و حقيق‪$$‬ة‪ ..‬وق‪$$‬د أفرزه‪$$‬ا ـ لألس‪$$‬ف ـ من لم‬
‫نتوقع‪ $‬منه إال ذلك‪ ..‬وهو [محمد شحرور] ذلك الذي يزعم أنه تنويري‪ $‬وق‪$$‬رآني‪،‬‬
‫وهو يخرج لنا كل حين ما يثبت المس‪$$‬افات‪ $‬الهائل‪$$‬ة بين‪$$‬ه وبين كليهم‪$$‬ا‪ ..‬فالحق‪$$‬ائق‬
‫القرآنية واضحة جدا‪ ،‬وال تحتاج إلى كل تلك التالعب‪$$‬ات اللفظي‪$$‬ة ال‪$$‬تي يمارس‪$$‬ها‪$‬‬
‫هو وأمثاله‪ ،‬وهي ما جعلتهم يلوون أعناق النصوص المقدسة لتنسجم مع كل م‪$$‬ا‬
‫يريدونه‪ ،‬أو ما تفرزه أهواؤهم‪$.‬‬
‫كتب محم‪$$‬د ش‪$$‬حرور‪ $‬في مق‪$$‬ال ل‪$$‬ه تحت عن‪$$‬وان [إني جاع‪$$‬ل في األرض‬
‫خليفة]‪ ..‬وهو مقال يغزو‪ $‬الش‪$‬بكات االجتماعي‪$‬ة‪ ،‬وينتش‪$$‬ر بينه‪$$‬ا انتش‪$‬ار الن‪$$‬ار في‬
‫الهشيم‪ ..‬يقول‪( :‬رغم أني كمؤمن موقن بوجود‪ $‬هللا‪ ،‬أختلف م‪$$‬ع هوكين‪$$‬غ في ه‪$$‬ذه‬
‫الجزئية تحديداً‪ ،‬إال أنه بنظري‪ $‬شهيد‪ ،‬بغض النظر عن إيمانه أو عدمه‪ ،‬فالهدف‪$‬‬
‫من وجودنا‪ $‬يحققه أمثاله‪ ،‬وبدونهم‪ $‬سنبقى غافلين)‬
‫ونالحظ شحرور‪ $‬من خالل هذه الكلمات كيف يهون من [وجود هللا] الذي‬
‫هو أساس العقائد‪ ،‬حيث أصبح عنده مجرد جزئية بس‪$$‬يطة يمكن التن‪$$‬ازل عنه‪$$‬ا‪..‬‬
‫وذلك يعني ـ حسبما يصور‪ $‬ـ أن اإلنسان يمكن أن يم‪$$‬ارس دوره في الخالف‪$$‬ة من‬
‫غير أن يعتقد وجود هللا‪ ..‬ومن غير أن يؤمن به طبعا‪ ..‬فالوجود هو األساس لكل‬
‫العقائد‪.‬‬
‫بل إنه رفعه إلى رتبة الشهادة‪ ،‬وهي ليست شهادة التضحية ـ بحسب قصد‪$‬‬
‫ش‪$$‬حرور‪ $‬ـ وإنم‪$$‬ا هي تل‪$$‬ك الش‪$$‬هادة ال‪$$‬تي وص‪$‬ف‪ $‬هللا به‪$$‬ا رس‪$$‬له عليهم الص‪$$‬الة‬
‫والسالم‪ $‬فقال عن المسيح‪َ ﴿ :‬وإِ ْن ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب إِاَّل لَيُ‪$ْ $‬ؤ ِمن ََّن بِ‪ِ $‬ه قَ ْب‪َ $‬ل َموْ تِ‪ِ $‬ه َويَ‪$$‬وْ َم‬
‫ْالقِيَا َم ِة يَ ُكونُ َعلَ ْي ِه ْم َش ِهيدًا ﴾ [النس‪$$‬اء‪ ،]159 :‬وق‪$$‬ال عن رس‪$$‬ول هللا ‪﴿ :‬فَ َك ْي‪$$‬فَ‬
‫ك َعلَى هَؤُاَل ِء َش ِهيدًا ﴾ [النساء‪]41 :‬‬ ‫إِ َذا ِج ْئنَا ِم ْن ُك ِّل أُ َّم ٍة بِ َش ِهي ٍد َو ِج ْئنَا بِ َ‬
‫وبذلك تحول هوكينغ ـ عند شحرور ـ إلى ما يشبه األنبي‪$$‬اء عليهم الس‪$$‬الم‪،‬‬
‫ذلك أنه ال فرق بينه وبينهم سوى‪ $‬في تلك الجزئية البسيطة ال‪$$‬تي ال قيم‪$$‬ة له‪$$‬ا في‬
‫موازين الحياة‪ ..‬جزئية اإليمان باهلل‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫ثم يترقى‪ $‬شحرور‪ $‬في الرفع من مكانة هوكينغ ليذكر أن‪$$‬ه غاي‪$$‬ة الغاي‪$$‬ات‪..‬‬
‫وأنه لواله ما خلقت األفالك‪( ..‬فالهدف من وجودنا ـ كم‪$$‬ا يق‪$$‬ول ـ يحقق‪$$‬ه أمثال‪$$‬ه‪،‬‬
‫وبدونهم سنبقى غافلين)‬
‫ثم يورد‪ $‬ـ للتالعب بمشاعر القراء ـ مقارنة بين إبراهيم عليه الس‪$$‬الم ذل‪$$‬ك‬
‫األواه المنيب‪ ،‬وهوكينغ‪ $..‬فكالهما في نظره واحد‪ ..‬وليس من فرق بينهما س‪$$‬وى‬
‫في جزئية اإليمان‪..‬‬
‫والدليل على ذلك ـ كما يصوره ه‪$$‬و أن (اإلنس‪$$‬ان ه‪$$‬و وج‪$$‬ود‪ $‬ف‪$$‬يزيولوجي‬
‫(بشر) مضافاً‪ $‬له كم معرفي (ال‪$$‬روح)‪ ،‬وه‪$$‬ذه ال‪$$‬روح هي ال‪$$‬تي ميزت‪$$‬ه عن ب‪$$‬اقي‪$‬‬
‫المخلوقات‪ ،‬فكلما زاد الكم المعرفي زادت إنس‪$$‬انية اإلنس‪$$‬ان وابتع‪$$‬د عن المملك‪$$‬ة‬
‫الحيوانية)‪ ،‬وبما أن هوكينغ له كم معرفي كبير ـ كم‪$$‬ا ي‪$$‬ذكر ش‪$$‬حرور‪ $‬ـ مقارن‪$$‬ة‬
‫بغ‪$$‬يره‪ ،‬فه‪$‬و‪ $‬ص‪$$‬احب روحاني‪$$‬ة أك‪$$‬بر‪ ،‬ووظيفت‪$$‬ه في الك‪$$‬ون تابع‪$$‬ة للم‪$$‬دى ال‪$$‬ذي‬
‫وصلت إليه روحانيته‪.‬‬
‫هذه مجرد قصاصات من الغثاء الذي وقع فيه المستلبون فكريا وحضاريا‬
‫وإيمانيا‪ $..‬أولئك الذين يتالعبون بالقرآن الكريم‪ ،‬وبكل المقدس‪$$‬ات ألج‪$$‬ل إرض‪$$‬اء‬
‫نزوات الهوى التي ينفخها الشيطان فيهم‪.‬‬
‫وأنا شخصيا أفضل الملحد الجاد‪ ،‬أو الالديني الواضح على أمث‪$$‬ال ه‪$$‬ؤالء‬
‫المتالعبين الذين ال يختلفون عن أولئك الشعراء الذين يتبعهم‪ $‬الغاوون‪ ،‬وفي ك‪$$‬ل‬
‫واد يهيمون‪..‬‬
‫فالوض‪$$‬وح‪ $‬عالم‪$$‬ة الص‪$$‬دق‪ ..‬والص‪$$‬دق‪ $‬ق‪$$‬د يك‪$$‬ون مركب‪$$‬ا للوص‪$$‬ول‪ $‬إلى‬
‫الحقيقة‪ ..‬أما الغموض‪ ،‬فهو وسيلة النفاق والخداع‪ ..‬وهما في الدرك األس‪$$‬فل من‬
‫النار‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫عالم األفكار وعالم األشخاص‬
‫من خالل مساجالتي الس‪$$‬ابقة ح‪$$‬ول هوكين‪$$‬غ رأيت أك‪$$‬ثر المنبه‪$$‬رين ب‪$$‬ه ال‬
‫ينطلق‪$$‬ون من حق‪$$‬ائق علمي‪$$‬ة‪ ،‬وال من دراس‪$$‬ة متأني‪$$‬ة ألطروحات‪$$‬ه وأفك‪$$‬اره‪ ،‬ب‪$$‬ل‬
‫بعضهم‪ $‬ال يعرفها أصال‪ ،‬ولم يسمع بها أب‪$$‬دا‪ ..‬وربم‪$$‬ا لم يع‪$$‬رف الش‪$$‬خص إال من‬
‫خالل ذلك التهويل اإلعالمي المرتبط به‪.‬‬
‫وعندما أتيحت له الفرصة للنظر إليه اكتفي بالنظر إلى شخصه وإعاقت‪$$‬ه‪،‬‬
‫وانشغل بمشاعره األليمة نحو إعاقته الجسدية عن األلم على إعاقته الفكرية التي‬
‫هي أحوج إلى الحزن منها من اإلعاقة الجسدية‪.‬‬
‫وهذا ما يبين مدى التخلف الذي نعيش في‪$$‬ه‪ ..‬فنحن ننبه‪$$‬ر باألش‪$$‬خاص‪ ،‬ال‬
‫باألفكار‪ ،‬ونعيش عالم األجساد‪ ،‬ال عالم األرواح‪ ..‬ولذلك يس‪$$‬تعمل الغ‪$$‬رب معن‪$$‬ا‬
‫وسائل اإلثار الجسدية أكثر مما يستعمل وسائل اإلقن‪$$‬اع‪ $‬الفك‪$$‬ري‪ ..‬ألنن‪$$‬ا ببس‪$$‬اطة‬
‫نستعمل مشاعرنا أكثر مما نستعمل عقولنا‪.‬‬
‫ولهذا راح يعزف بواسطة شخص هوكينغ على الكثير من األوتار‪..‬‬
‫أوله‪$$‬ا ه‪$$‬و انبهارن‪$‬ا‪ $‬ب‪$$‬الغرب وخصوص‪$‬ا‪ $‬أمريك‪$$‬ا وتطوره‪$‬ا‪ $‬العلمي ال‪$$‬ذي‬
‫جعله‪$$‬ا تح‪$$‬ول من إنس‪$$‬ان مع‪$$‬اق ال ق‪$$‬درة ل‪$$‬ه على الكالم وال الحرك‪$$‬ة إلى ب‪$$‬احث‬
‫وكاتب وفيزيائي‪ $‬ورياضي‪ $‬وفليسوف‪ ..‬وعبقري زمانه‪ ..‬واالنبه‪$‬ار‪ $‬بأمريك‪$‬ا ه‪$‬و‬
‫المقدمة للسقوط في مشاريعها‪ ،‬والتحول‪ $‬إلى أداة من أدواتها‪$.‬‬
‫وثانيها هو االنبهار بالشخص نفسه‪ ..‬بإعاقته وعبقريته وتحدي‪$$‬ه‪ ..‬والغفل‪$$‬ة‬
‫عن أفكاره الخطيرة جدا‪ ..‬فلذلك يقدمون ل‪$‬ه الدعاي‪$‬ة المجاني‪$‬ة‪ ..‬ال‪$‬تي هي مقدم‪$‬ة‬
‫للدعاية ألفكاره‪.‬‬
‫وثالثها‪ ..‬وهو أخطر الجميع هو تهوين أمر اإليمان باهلل‪ ..‬واعتباره قض‪$$‬ية‬
‫ثانوية ال قيمة لها‪ ..‬فاإلنسان عندهم هو الذي يلبي شهواتهم‪ $‬ويقدم لهم الكث‪$$‬ير من‬
‫اللعب التي ينشغلون بها‪ ،‬حتى لو حطم إيمان الماليين من الناس‪.‬‬
‫فمشكلة هوكينغ ليس في كونه ملحدا‪ ..‬وإنما في استغالله لمجال تخصصه‬
‫للدعوة لإللحاد‪ ..‬فقد كان يخاطب الجماهير المعجبة بشخصة قائال‪ :‬ال حاج‪$$‬ة لكم‬
‫لإليمان باهلل‪ ..‬فقد دل العلم على أنه يمكن وعن طريق قوى بسيطة كالجاذبي‪$$‬ة أن‬
‫تتخلق األشياء من غير حاجة إلى خالق‪ ..‬وهذا ما خالفه فيه كل الفيزيائيين الذين‬
‫لم تتح لهم فرصة اإلعاقة حتى يسمع الناس أفكارهم‪ ،‬ويقتنعوا بها‪.‬‬
‫وهو في ذلك يشبه الطبيب ال‪$$‬ذي يغ‪$$‬ري المرض‪$$‬ى بالس‪$$‬موم‪ $‬ال‪$$‬تي تقتلهم‪..‬‬
‫والمرض‪$$‬ى‪ $‬ال يملك‪$$‬ون إال طاعت‪$$‬ه‪ ..‬لكون‪$$‬ه طبيب‪$$‬ا ومتخصص‪$$‬ا‪ $..‬وال يتكلم في‬
‫الظاهر إال على ضوء تخصصه‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫هذه هي مشكلتنا‪ ..‬ولذلك استطاع الغ‪$$‬رب أن يملي علين‪$$‬ا حرب‪$$‬ه الناعم‪$$‬ة‪..‬‬
‫التي ال تشمل فقط تخريب البنيان‪ ،‬بل تتعداه إلى تخريب اإلنسان‪.‬‬
‫أرج‪$$‬و من الص‪$$‬ادقين ال‪$$‬ذين جرب‪$$‬وا ع‪$$‬واطفهم أن يجرب‪$$‬وا‪ $‬عق‪$$‬ولهم‪ ..‬وأن‬
‫ينظروا‪ $‬إلى المسألة من زاوية أعمق‪ ..‬فأنا ال أتحدث عن هوكينغ المعاق‪ ..‬وإنم‪$$‬ا‬
‫أتحدث عن هوكينغ الذي تحدى هللا‪ ..‬وراح يلغيه من الوجود‪ ..‬واتبع‪$$‬ه على ذل‪$$‬ك‬
‫الجماهير الكثيرة من الناس‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫أخبروني عن خدمات هوكينغ لإلنسانية‬
‫كل ال‪$‬ذين ج‪$$‬ادلوا في هوك‪$‬نيغ بعلم أو بغ‪$$‬ير علم راح‪$‬وا ي‪$$‬ذكرون خدمات‪$‬ه‬
‫الجليلة لإلنسانية‪ ..‬ولست أدري هل يعون ما يقولون أم أنهم مج‪$‬رد مغ‪$$‬ردين لم‪$$‬ا‬
‫يق‪$$‬ال‪ ..‬ال يفهم‪$$‬ون معن‪$$‬اه وال فح‪$$‬واه‪ ..‬وإنم‪$$‬ا يكتف‪$$‬ون فق‪$$‬ط بتل‪$$‬ك األلف‪$$‬اظ المنمق‪$$‬ة‬
‫والجمل المزخرفة التي ال معنى لها لديهم‪.‬‬
‫وأنا أسألهم هنا عن المرض الذي شخصه‪ ،‬والدواء ال‪$$‬ذي اكتش‪$$‬فه‪ ،‬وال‪$$‬ذي‬
‫حفظ صحة البشرية‪ ،‬وطور طبها‪ ،‬وقاوم‪ $‬األدواء التي تفتك بها‪ ،‬مثلما فعل آالف‬
‫األطباء المجاهيل الذين جعلهم هللا وسائل لحفظ الصحة‪ ،‬وحفظ الحياة‪ ،‬وجمالها‪.‬‬
‫فكم من طبيب اخترع كبس‪$‬ولة دواء ك‪$‬انت س‪$‬ببا في حف‪$‬ظ ص‪$‬حة الماليين‬
‫من البشر‪ ..‬ومع ذلك لم يسمع به أحد‪ ..‬وال ترحم عند وفاته أحد‪ ..‬وال بكت عليه‬
‫عين‪.‬‬
‫ف‪$‬إن لم يكن ل‪$‬ه اكتش‪$‬افات‪ $‬من ه‪$$‬ذا الن‪$$‬وع‪ ،‬فليخ‪$$‬بروني عن التقني‪$$‬ات ال‪$‬تي‬
‫طورها‪ $..‬وهل ساهم في خدمة اإلعالم اآللي أو الذكاء الصناعي؟‪ ..‬وه‪$$‬ل ص‪$$‬مم‬
‫البرامج النافعة؟‪ ..‬أو وضع النظريات العلمية المفيدة لتطوير التقانات؟‬
‫فإن لم يفعل ذلك‪ ..‬فهل كان مهندسا‪ $‬حفظ البني‪$$‬ان من ال‪$$‬زالزل والبالي‪$$‬ا؟‪..‬‬
‫أو كان عالم بيئة وضع الخطط لحمايتها؟‪ ..‬أو ك‪$$‬ان فلكي‪$$‬ا عرفن‪$$‬ا بأس‪$$‬رار‪ $‬الك‪$$‬ون‬
‫وجماله؟‬
‫فإن لم يفعل كل ذلك فليخ‪$‬بروني عن الخدم‪$‬ة ال‪$‬تي ق‪$‬دمها‪ ..‬فأن‪$‬ا من خالل‬
‫مطالعتي‪ $‬الواعية والدقيقة لكتبه وأفكاره وطروحاته ال أرى إال أن كل ما طرحه‬
‫ال يساوي‪ $‬كبسولة دواء‪ ،‬أو تخطيط‪ $‬معماري‪ ،‬أو اختراع مهندس‪.‬‬
‫فإن كنت مخطئ‪$$‬ا‪ ..‬وق‪$‬د‪ $‬أك‪$$‬ون ك‪$$‬ذلك‪ ..‬ف‪$$‬أخبروني أنتم عن ه‪$$‬ذه الخ‪$$‬دمات‬
‫اإلنسانية التي تمجدونها‪ ،‬وتلغون اآلخرين بسببها‪ ،‬ول‪$$‬و ك‪$$‬انوا من طينتكم وأه‪$$‬ل‬
‫بلدكم‪ ،‬وتذكرونه‪.‬‬
‫وأنا أجزم أنه لو كان في بالدن‪$$‬ا العربي‪$$‬ة أو اإلس‪$$‬المية رج‪$$‬ل مثل‪$$‬ه‪ ..‬وأتى‬
‫بما أتى‪ ..‬وكتب ما كتب‪ ..‬فلن يلتفت ل‪$$‬ه أح‪$$‬د‪ ..‬ولن يس‪$$‬مع ب‪$$‬ه‪ ..‬ب‪$$‬ل ق‪$$‬د ين‪$$‬ال من‪$$‬ا‬
‫السخرية‪.‬‬
‫وأنا أعرف الكثير من الفيزيائيين الع‪$$‬رب والمس‪$$‬لمين ال‪$$‬ذين لم يس‪$$‬مع بهم‬
‫أحد‪ ..‬وعندما ماتوا لم يترحم عليهم أحد‪ ..‬لكون ذلك اإلعالم الم‪$$‬ؤدلج لم يتح‪$$‬دث‬
‫عنهم‪ ،‬ولم يشد بهم‪.‬‬
‫فهؤالء الذين يزعمون ك‪$$‬ل ذل‪$$‬ك ال يعرف‪$$‬ون المطالع‪$$‬ة وال البحث العلمي‪،‬‬
‫وإنما هم ضحايا اإلعالم الذي يسيرهم كما يشاء‪ ،‬ويحدد لقلوبهم مواضع المحب‪$$‬ة‬

‫‪150‬‬
‫والبغض‪ ،‬ومواضع الرضا والغضب‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫الرحمة والترحم‪ ..‬والمصادرة على المطلوب‬
‫تحض‪$$‬رني ـ وأن‪$$‬ا أق‪$$‬رأ الكث‪$$‬ير من ال‪$$‬ردود اللين‪$$‬ة على [ولي هللا الص‪$$‬الح‬
‫هوكينغ!؟]‪ ،‬والقاسية علي وعلى أمثالي من المتط‪$$‬رفين ـ ق‪$$‬ول الش‪$$‬اعر متهكم‪$$‬ا‬
‫من بعض العقول التي يحاورها‪:‬‬
‫أقول له زيداً‪ ،‬فيسم ُع خالدا ويكتبهُ ع ْمرا‪ ،‬ويقرأه سـعدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقول الشاعر اآلخر‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َوعَاهُ َويَق َرأ َغ ْي َر َما هُ َو َكاتِبُ‬ ‫يَ ِعي َغ ْي َر َما قُ ْلنَا َويَكتبُ َغي َْر َما‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وهكذا حال هؤالء‪ ..‬وهذا حال مصادرتهم على المطلوب‪ ..‬فبعضهم يذكر‬
‫لي أن رحمة هللا واسعة‪ ..‬وأنها يمكن أن تسعه‪ ..‬وأننا نحجر على هللا حين نمنعه‬
‫من أن يلقي رحمته على من يشاء‪ ..‬ولست أدري هل خالفته أنا في ه‪$$‬ذا‪ ،‬أو قلت‬
‫شيء يضاد هذا‪.‬‬
‫كل الذي قلته أن الترحم والترض‪$$‬ي واالس‪$$‬تغفار‪ $‬وغيره‪$$‬ا مع‪$$‬ان ش‪$$‬رعية‪،‬‬
‫ونحن نحتاج إلى النصوص المقدسة التي تبين لنا الموقف‪ $‬السليم منه‪$$‬ا‪ ،‬م‪$$‬ا دمن‪$$‬ا‬
‫نؤمن بهذه النصوص‪ ،‬وال نعطيها ظهرن‪$$‬ا‪ ،‬فهي كالم هللا المق‪$$‬دس ال‪$$‬ذي ال يأتي‪$$‬ه‬
‫الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ..‬وهي تعبر عن مراد هللا منا‪.‬‬
‫وقد نصت هذه النصوص صراحة‪ ،‬وبطرق قطعية على حرمة ذلك‪ ..‬فاهلل‬
‫تعالى ذكر عن إب‪$$‬راهيم علي‪$‬ه الس‪$$‬الم توقف‪$$‬ه عن االس‪$$‬تغفار لقريب‪$$‬ه بس‪$$‬بب كون‪$$‬ه‬
‫صار عدوا هلل‪ ،‬بشركه به‪ ،‬والشرك أدنى مرتب‪$$‬ة من اإللح‪$$‬اد‪ ،‬ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪َ ﴿ :‬و َم‪$$‬ا‬
‫َكانَ ا ْستِ ْغفَا ُر إِ ْب‪َ $‬را ِهي َم أِل َبِي‪ِ $‬ه إِاَّل ع َْن َموْ ِع‪َ $‬د ٍة َو َع‪َ $‬دهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما تَبَيَّنَ لَ‪$‬هُ أَنَّهُ َع‪ُ $‬د ٌّو هَّلِل ِ‬
‫تَبَرَّأَ ِم ْنهُ إِ َّن إِ ْب َرا ِهي َ‪$‬م أَل َ َّواهٌ َحلِي ٌم ﴾ [التوبة‪]114 :‬‬
‫وهكذا نرى نهي هللا تعالى للمؤمنين عن االستغفار للمشركين مع ق‪$$‬رابتهم‬
‫الشديدة‪ ،‬فقال‪َ ﴿ :‬م‪$‬ا َك‪$‬انَ لِلنَّبِ ِّي َوالَّ ِذينَ آ َمنُ‪$‬وا أَ ْن يَ ْس‪$‬تَ ْغفِرُوا‪ $‬لِ ْل ُم ْش‪ِ $‬ر ِكينَ َولَ‪$‬وْ َك‪$‬انُوا‬
‫أُولِي قُرْ بَى‪ِ $‬م ْن بَ ْع ِد َما تَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْم أَصْ َحابُ ْال َج ِح ِيم﴾ [التوبة‪]113 :‬‬
‫﴿اس‪$‬تَ ْغفِرْ‬‫وهكذا نرى نهي هللا تعالى عن االستغفار للمنافقين‪ ،‬ق‪$$‬ال تع‪$$‬الى‪ْ :‬‬
‫ك بِ‪$$‬أَنَّهُ ْم‬ ‫لَهُ ْم أَوْ اَل ت َْس‪$‬تَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِ ْن ت َْس‪$‬تَ ْغفِرْ لَهُ ْم َس‪$‬ب ِْعينَ َم‪َّ $‬رةً فَلَ ْن يَ ْغفِ‪َ $‬ر هَّللا ُ لَهُ ْم َذلِ‪َ $‬‬
‫اس‪$$‬قِينَ ﴾ [التوب‪$$‬ة‪ ،]80 :‬ونهى عن‬ ‫َكفَ‪$$‬رُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس‪$$‬ولِ ِه َوهَّللا ُ اَل يَهْ‪ِ $$‬دي ْالقَ‪$$‬وْ َم ْالفَ ِ‬
‫ص‪$‬لِّ َعلَى أَ َح‪ٍ $‬د ِم ْنهُ ْم َم‪$$‬اتَ أَبَ‪$‬دًا‬ ‫﴿واَل تُ َ‬ ‫الصالة عليهم أو القيام عند قبورهم‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫َواَل تَقُ ْم َعلَى قَب ِْر ِه إِنَّهُ ْم َكفَرُوا بِاهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َو َماتُوا‪َ $‬وهُ ْم فَا ِسقُونَ ﴾ [التوبة‪]84 :‬‬
‫وفي كل هذه اآليات الكريمة تعلي‪$$‬ل للنهي بع‪$$‬دم اإليم‪$$‬ان أو الكف‪$$‬ر‪ ..‬وفيه‪$‬ا‪$‬‬
‫بيان للعذاب الشديد الذي يحيق بهؤالء‪..‬‬
‫أفنحن أعلم أم هللا؟‪ ..‬أم أننا أكثر تس‪$$‬امحا من هللا‪ ،‬وأرحم بعب‪$$‬اده من‪$$‬ه؟‪ ..‬أم‬

‫‪152‬‬
‫أننا نعقب على هللا وننتقده؟‬
‫أنتم أيه‪$$‬ا المتس‪$$‬امحون ج‪$$‬دا بالخي‪$$‬ار بين أن تلغ‪$$‬وا حق‪$$‬ائق الق‪$$‬رآن‪ ..‬أو‬
‫تعتبروها نصوصا‪ $‬تاريخية‪ ..‬أو أن تطبقوا م‪$$‬ا ورد فيه‪$$‬ا من مع‪$$‬ان‪ ..‬وهي مح‪$$‬ل‬
‫اتفاق بين األم‪$$‬ة جميع‪$$‬ا‪ ..‬وبدع‪$$‬ة ال‪$$‬ترحم على غ‪$$‬ير المس‪$$‬لمين لم تحص‪$$‬ل إال في‬
‫عصرنا‪.‬‬
‫أم‪$$‬ا رحم‪$$‬ة هللا فمس‪$$‬ألة أخ‪$$‬رى‪ ..‬وال دخ‪$$‬ل لن‪$$‬ا فيه‪$$‬ا‪ ..‬والرحم‪$$‬ة ليس‪$$‬ت‬
‫كالترحم‪ $..‬وعند مناظرة من ينهى عن الترحم ال يص‪$$‬ح أن ن‪$$‬رد علي‪$$‬ه بالرحم‪$$‬ة‪..‬‬
‫وإال تحققنا بما يقال عن أولئك الذين يفهمون ما يحلو لهم‪ ،‬ال ما يسمعون‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫دعوا هلل جنته وناره‪ ..‬ورحمته ونقمته‬
‫تص‪$‬ور‪ $‬البعض إنك‪$‬اري‪ $‬لل‪$‬ترحم على هوكين‪$$‬غ أن‪$‬ني أطلب منهم أن ي‪$‬دعو‬
‫علي‪$‬ه أو على غ‪$‬يره‪ ..‬وأن‪$‬ا لم اق‪$‬ل ه‪$‬ذا‪ ،‬ولم أدع إلي‪$‬ه‪ ..‬ولك‪$‬ني ذك‪$‬رت أن الجن‪$‬ة‬
‫والنار‪ $‬هلل‪ ..‬والرحمة والنقمة حقه ومن صالحياته التي ال يجوز لنا التدخل فيها‪..‬‬
‫بل إن هللا تع‪$$‬الى‪ ،‬وفي‪ $‬ص‪$$‬ريح الق‪$$‬رآن الك‪$$‬ريم ينهى عن ذل‪$$‬ك‪ ..‬فق‪$$‬د ق‪$$‬ال‪:‬‬
‫‪$‬ر ِه إِنَّهُ ْم َكفَ‪$‬رُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس‪$‬ولِ ِه‬ ‫ص ِّل َعلَى أَ َح ٍد ِم ْنهُ ْم َماتَ أَبَ‪$‬دًا َواَل تَقُ ْم َعلَى قَ ْب‪ِ $‬‬ ‫﴿ َواَل تُ َ‬
‫﴿اس ‪$‬تَ ْغفِرْ لَهُ ْم أَوْ اَل ت َْس ‪$‬تَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِ ْن‬ ‫اس ‪$‬قُونَ ﴾ [التوب‪$$‬ة‪ ،]84 :‬وق‪$$‬ال‪ْ :‬‬ ‫َو َم‪$$‬اتُوا َوهُ ْم فَ ِ‬
‫تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َس ْب ِعينَ َم َّرةً فَلَ ْن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَهُ ْم َذلِكَ بِ‪$$‬أَنَّهُ ْم َكفَ ‪$‬رُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس ‪$‬ولِ ِه َوهَّللا ُ اَل‬
‫يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ ﴾ [التوبة‪]80 :‬‬
‫وقال عن رحمته وكونها مختصة بمن ت‪$$‬وفرت فيهم ش‪$$‬روط‪ $‬معين‪$$‬ة أهمه‪$$‬ا‬
‫ت ُك ‪َّ $‬ل َش ‪ْ $‬ي ٍء‬ ‫ص ‪$‬يبُ بِ ‪ِ $‬ه َم ْن أَ َش ‪$‬ا ُء َو َرحْ َمتِي َو ِس ‪َ $‬ع ْ‬ ‫وأساس‪$$‬ها اإليم‪$$‬ان‪َ ﴿ :‬ع‪َ $‬ذابِي أُ ِ‬
‫فَ َس‪$‬أ َ ْكتُبُهَا‪ $‬لِلَّ ِذينَ يَتَّقُ‪$$‬ونَ َوي ُْؤتُ‪$$‬ونَ ال َّز َك‪$$‬اةَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم بِآيَاتِنَ‪$$‬ا ي ُْؤ ِمنُ‪$$‬ونَ ﴾ [األع‪$$‬راف‪:‬‬
‫‪]156‬‬
‫فهل من األدب بع‪$$‬د ه‪$$‬ذا أن نف‪$$‬رض إرادتن‪$$‬ا على هللا‪ ،‬ونلزم‪$$‬ه ب‪$$‬أن ي‪$$‬رحم‬
‫أحدا لم يأذن برحمته‪ ،‬أو يدخل الجنة من لم يتوافق مع سننه؟‬
‫ه‪$$‬ذه أحك‪$$‬ام هللا ال‪$$‬تي وض‪$$‬حها في كتاب‪$$‬ه المق‪$$‬دس‪ ..‬وهي ليس‪$$‬ت أح‪$$‬اديث‬
‫يمكنكم أن تجادلوا فيها‪ ..‬واألدب مع هللا يقتضي منا مراعاة مراداته‪.‬‬
‫والمشكلة األكبر ليس في ه‪$$‬ذا‪ ..‬وإنم‪$$‬ا في خ‪$$‬داع البس‪$$‬طاء ب‪$$‬أن رحم‪$$‬ة هللا‬
‫التي ذكر أنه كتبها لمن توفرت في‪$$‬ه ش‪$$‬روط معين‪$$‬ة‪ ..‬يمكنه‪$$‬ا ان تش‪$$‬مل غ‪$$‬يرهم‪..‬‬
‫وأن كالم هللا تعالى بذلك لغو ال قيمة له‪.‬‬
‫عودوا إلى القرآن الكريم‪ ..‬وت‪$‬دبروه‪ ..‬وإن ش‪$‬ئتم أن تتح‪$‬رروا‪ $..‬فتح‪$‬رروا‪$‬‬
‫وف ‪$‬ق‪ $‬ض‪$$‬وابطه ال وف‪$$‬ق أه‪$$‬وائكم‪ $..‬وإن ش‪$$‬ئتم أن تعط‪$$‬وا ش‪$$‬يئا ألح‪$$‬د من الن‪$$‬اس‬
‫ف‪$$‬اعطوه م‪$$‬ا تملك‪$$‬ون ال م‪$$‬ا ال تملك‪$$‬ون‪ ..‬وأنتم ال تملك‪$$‬ون رحم‪$$‬ة هللا وال جنت‪$$‬ه‪..‬‬
‫فلذلك ال تكذبوا‪ $‬على الناس وال على أنفسكم‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫سؤال للذين ترحموا على هوكينغ‬
‫رأيت من خالل بعض المنشورات‪ $‬تلك العواطف الجياشة والرقة العجيب‪$$‬ة‬
‫نح‪$$‬و هوكين‪$$‬غ س‪$$‬واء من بعض الس‪$$‬نة أو الش‪$$‬يعة‪ ..‬وخصوص ‪$‬ا‪ $‬المتح‪$$‬ررين من‬
‫كليهما‪ ..‬وأنا أدعو كال الطرفين‪ ،‬ألن يجلسوا مع أنفسهم‪ ،‬ثم يضعوا‪ $‬أمامهم ه‪$$‬ذه‬
‫التساؤالت‪:‬‬
‫لو أن هوكينغ ـ يا معشر السنة المتحررين ـ سخر من الص‪$$‬حابة واس‪$$‬تهزأ‬
‫بهم‪ ..‬هل ترى موقفكم منه سيكون نفس الموقف؟‬
‫وأنتم كذلك ـ أيها المتحررون من الشيعة ـ لو ان هوكينغ سخر من اإلم‪$$‬ام‬
‫علي أو الحسين أو غيرهم من األئمة‪ ..‬هل سيكون موقفهم‪ $‬منه نفس الموقف؟‬
‫لألسف صار [هللا] عندنا آخر شيئ‪ ،‬فهو أه‪$$‬ون عن‪$$‬دنا من الص‪$$‬حابة ومن‬
‫األئمة ومن كل المقدسات التي لم تنل قدسيتها‪ $‬اال بسبب نسبتها هلل‪..‬‬
‫بل صارت جنة هللا ال‪$$‬تي كتبه‪$$‬ا لعب‪$$‬اده الص‪$$‬الحين مرتع‪$$‬ا خص‪$$‬با لك‪$$‬ل من‬
‫يحلو لنا إدخاله إليها‪ ..‬وصارت رحمته التي كتبه‪$$‬ا للمحس‪$$‬نين من عب‪$$‬اده مش‪$$‬اعا‬
‫نوزعه لمن نحب منهم‪.‬‬
‫ال تجيبوني‪ $‬عن سؤالي‪ ..‬واسألوا أنفسكم فقط‪ ..‬وأجيبوا أنفسكم فق‪$$‬ط‪ ..‬فاهلل‬
‫هو الديان‪ ..‬ولست انا وال غيري‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫هوكينغ والدعاية اإلعالمية‬
‫يردد الكثير هذه األيام بوعي أو بغير وعي أصداء تل‪$$‬ك الدعاي‪$$‬ة المجاني‪$$‬ة‬
‫لهوكنيغ بحجة أنه خدم اإلنسانية‪ ..‬وكأن‪$‬ه الوحي‪$‬د ال‪$‬ذي خ‪$‬دمها‪ ..‬وك‪$‬أن ك‪$‬ل تل‪$‬ك‬
‫الجحافل من الجنود المجهولين من األطباء والمهندسين‪ $‬والبيولوج‪$$‬يين والتقن‪$$‬يين‬
‫والمعماريين واألدباء والفنانين وغيرهم كثير لم يفعلوا شيئا‪ ..‬وهم لم يلتفت‪$$‬وا لهم‬
‫أصال‪ ،‬وكأنهم غير موجودين‪ $..‬لسبب بسيط‪ ،‬وهو أن القنوات اإلعالمية الغربية‬
‫لم تتبناهم‪ ،‬ولم تبثت دعايتها اإلعالمية لإلشهار بهم‪.‬‬
‫ولنسلم ج‪$$‬دال ب‪$$‬ذلك‪ ..‬ول‪$$‬و أني شخص‪$$‬يا ال أس‪$$‬لم ب‪$$‬ذلك‪ ..‬ف‪$‬أكثر م‪$$‬ا طرح‪$$‬ه‬
‫هوكينغ يدخل ضمن الفيزياء النظرية البحتة‪ ..‬بل يدخل ضمن الميتافيزي‪$$‬اء‪ ..‬فال‬
‫يمكن التثبت مما قاله‪ ،‬وال تأكيده علمي‪$$‬ا‪ ،‬وله‪$$‬ذا ـ م‪$$‬ع حرص‪$$‬ه الش‪$$‬ديد على ني‪$$‬ل‬
‫جائزة نوبل في الفيزياء ـ لم ينلها بسبب بسيط‪ ،‬وه‪$$‬و أن أفك‪$$‬اره لم تثبت علمي‪$$‬ا‪..‬‬
‫وحتى نظرية [إم] هي مجرد طرح خيالي ال حظ له من المصداقية العلمية‪..‬‬
‫ال ب‪$$‬أس‪ ..‬فلن‪$$‬دع ه‪$$‬ذا‪ ..‬ولنعت‪$$‬بر هوكين‪$$‬غ خادم‪$$‬ا ص‪$$‬حيحا‪ ،‬وليس مزيف‪$$‬ا‪..‬‬
‫وأطروحاته علمية ال خيالية‪ ..‬لكن لننظر لألم‪$$‬ر من زاوي‪$$‬ة أخ‪$$‬رى‪ ..‬وهي س‪$$‬بب‬
‫الشهرة التي نالها بين عوام الن‪$$‬اس‪ ..‬وم‪$$‬ا أس‪$$‬هل أن نع‪$$‬رف‪ $‬ذل‪$$‬ك‪ ..‬يكفي فق‪$$‬ط أن‬
‫نكتب اسمه على النت ليبرز لنا كأكبر شخصية فيزيائية حديثة تصرح باإللح‪$$‬اد‪،‬‬
‫وتضع المبررات له‪ ..‬ب‪$‬ل تتص‪$‬ور‪ $‬أن‪$‬ه بإمك‪$‬ان ق‪$‬انون الجاذبي‪$$‬ة لوح‪$$‬ده أن يغ‪$‬ني‬
‫الخلق عن الخالق‪ ..‬ولذلك نال حظه واهتمام‪$$‬ه من المالح‪$$‬دة الج‪$$‬دد‪ ،‬فه‪$$‬و أيقون‪$$‬ة‬
‫من أيقوناتهم الكبرى‪ ،‬وهم يجادلون به‪ ،‬ويحاجون المؤمنين بأطروحاته‪.‬‬
‫وأنا ال يهمني إلحاده أو إيمانه‪ ،‬فكثير‪ $‬من العلم‪$$‬اء مالح‪$$‬دة‪ ،‬ولكن إلح‪$$‬ادهم‬
‫بقي حبيس نفوسهم‪ ..‬لكن هذا الرجل كان يصرح به في ك‪$$‬ل المناس‪$$‬بات‪ ،‬وي‪$$‬دعو‬
‫ل‪$$‬ه‪ ،‬ول‪$$‬ذلك ف‪$$‬إن الدعاي‪$$‬ة ل‪$$‬ه هي دعاي‪$$‬ة ألفك‪$$‬اره‪ ،‬والع‪$$‬وام‪ $‬ال‪$$‬ذين يت‪$$‬أثرون ب‪$$‬ه‪،‬‬
‫سيسرعون ال محالة لكتبه يقرؤونها‪ ،‬وللمواقع‪ $‬التي تش‪$$‬يد ب‪$$‬ه يطالعونه‪$$‬ا‪ ،‬وب‪$‬ذلك‬
‫نقدم لهم وله تلك الدعاية المجانية الخطيرة‪.‬‬
‫بقي موقفه من القضية الفلسطينية أو غيرها‪ ،‬وهذه مس‪$$‬ألة أخ‪$$‬رى‪ ..‬هن‪$$‬اك‬
‫آالف من المجاهيل الذين اهتموا بهذه القض‪$$‬ية‪ ،‬وال‪$$‬ذين مزج‪$$‬وا بينه‪$$‬ا وبين ع‪$$‬دم‬
‫دع‪$$‬وتهم لإللح‪$$‬اد أو االنح‪$$‬راف عن القيم اإلنس‪$$‬انية‪ ،‬وهم أولى من‪$$‬ا ب‪$$‬أن ن‪$$‬ؤدي‬
‫أدوارنا‪ $‬الدعائية لهم‪.‬‬
‫ثم لو أننا لو تأملنا الكث‪$$‬ير من أعالم اإللح‪$$‬اد كبرتران‪$‬د‪ $‬رس‪$$‬ل وج‪$$‬ول‪ $‬ب‪$$‬ول‬
‫سارتر‪ $‬وغيرهم‪ ،‬نجد لهم مواقف إنسانية محترمة‪ ..‬فهل نقوم بالدعاية لهم ك‪$$‬ذلك‬
‫بسبب تلك المواقف؟‪$‬‬

‫‪156‬‬
‫لست أدري ما أقول لهؤالء المتط‪$$‬وعين من اإلعالم‪$$‬يين ال‪$$‬ذين تخل‪$$‬وا عن‬
‫مبائدهم‪ $‬من كون أمريكا هي الشيطان األكبر‪ ..‬وهي حقيقة شيطان أكبر ال بسبب‬
‫تصديرها‪ $‬للعنف والحرب الناعمة والصلبة للعالم فقط‪ ،‬وإنما بسبب نشرها لتل‪$$‬ك‬
‫القيم المنحرفة واألفكار الض‪$$‬الة وك‪$$‬ل من يمثله‪$$‬ا‪ ..‬ولع‪$$‬ل ه‪$$‬ذه أخط‪$$‬ر بكث‪$$‬ير من‬
‫تلك‪ ..‬فتلك تهدم البنيان‪ ،‬وهذه تهدم اإلنسان‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫هل من دموع على الفيزيائيين الذين اغتالهم الغرب؟‬
‫أدعو الذين سالت دموعهم البارحة على ستيفن هو كينغ باعتباره فيزيائي‪$$‬ا‬
‫كبيرا ـ كما يذكرون ـ أال ينسوا أولئك العلماء الفيزي‪$‬ائيين الكب‪$$‬ار ال‪$‬ذين ال يقل‪$$‬ون‬
‫عنه شأنا‪ ،‬بل قد يفوقونه‪ ،‬أولئك الذين أمضوا‪ $‬أعماهم في أبح‪$$‬اث ال‪$$‬ذرة والطاق‪$$‬ة‬
‫النووية السلمية‪ ،‬وراحوا‪ $‬يستثمرونها‪ $‬بطرق علمية منهجية تفيد بالدهم والبشرية‬
‫جميعا‪.‬‬
‫أولئك العلماء الذين جمعوا بين البحث العلمي‪ ،‬واليقين العقائ‪$$‬دي‪ ..‬وال‪$$‬ذين‬
‫تج‪$$‬اهلهم اإلعالم ال‪$$‬ذي راح يعطي ك‪$$‬ل وقت‪$$‬ه وجه‪$$‬ده لتلمي‪$$‬ع ص‪$$‬ورة مالح‪$$‬دة‬
‫الفيزيائيين‪ ،‬وتحقير المؤمنين منهم‪.‬‬
‫وأحب في هذه المناسبة أن أذكر بعضهم لعل الدموع التي س‪$$‬الت البارح‪$$‬ة‬
‫من أجل هوكينغ تسيل أيضا على هؤالء العلماء الذين لم يكتف الغرب بتج‪$$‬اهلهم‬
‫وال تحقيرهم وال غض الطرف عنهم‪ ،‬وإنما راح يغت‪$$‬الهم‪ $‬وهم في زه‪$$‬رة ق‪$$‬وتهم‬
‫العلمية‪.‬‬
‫ومن هؤالء مجيد شهرياري‪ ،‬أحد المسؤولين‪ $‬عن برنامج إي‪$$‬ران الن‪$$‬ووي‪،‬‬
‫الذي قتل في يوم وقع فيه تفج‪$$‬يران‪ ،‬أح‪$$‬دهما ك‪$$‬ان يس‪$$‬تهدف‪ $‬رئيس هيئ‪$$‬ة الطاق‪$$‬ة‬
‫الذرية السابق فريدون عباسي الذي نجا بحياته‪ ،‬واآلخر أودى بحي‪$$‬اة ش‪$$‬هرياري‬
‫شمالي العاصمة‪.‬‬
‫ومنهم أس‪$$‬تاذ الفيزي‪$$‬اء وخ‪$$‬ريج جامع‪$$‬ة ش‪$$‬ريف‪ $‬اإليراني‪$$‬ة مس‪$$‬عود‪ $‬علي‬
‫محمدي الذي اغتيل عام ‪ 2010‬إثر انفجار وقع بالقرب من منزل‪$$‬ه في العاص‪$$‬مة‬
‫طهران‪.‬‬
‫ومنهم مصطفى أحمدي روشن آخر العلماء المس‪$$‬تهدفين وأص‪$$‬غرهم‪ ،‬فق‪$$‬د‬
‫اغتيل عن عمر يناهز اثنين وثالثين عاما‪ ،‬وهو أحد المسؤولين‪ $‬عن موقع نت‪$$‬انز‬
‫لتخص‪$$‬يب اليوراني‪$$‬وم والواق‪$$‬ع ب‪$$‬القرب من أص‪$$‬فهان وس‪$$‬ط البالد‪ ،‬إذ ألص‪$$‬ق‬
‫مجهولون عبوة ناسفة على سيارته أودت بحيات‪$‬ه وبحي‪$‬اة الس‪$‬ائق ال‪$‬ذي ك‪$‬ان إلى‬
‫جانبه‪.‬‬
‫وغ‪$$‬يرهم كث‪$$‬ير من اإليران‪$$‬يين واللبن‪$$‬انيين والمص‪$$‬ريين‪ ..‬ومنهم س‪$$‬مير‬
‫نجيب‪ ..‬وهو عالم ذرة مصري‪ ،‬وأستاذ في جامعة ديترويت بالواليات المتح‪$$‬دة‪،‬‬
‫والذي اغتيل عن‪$$‬دما ق‪$$‬رر الع‪$$‬ودة إلى بالده بع‪$$‬د ح‪$$‬رب ‪ ،1967‬وفي ليل‪$$‬ة س‪$$‬فره‬
‫وأثناء قيادته سيارته اصطدمت شاحنة كبيرة به‪$$‬ا فتحطمت‪ $‬ولقي مص‪$$‬رعه على‬
‫الفور‪ ،‬وانطلقت سيارة النقل بسائقها واختفت‪ ،‬وقيد الحادث ضد مجهول‪.‬‬
‫ومنهم رمال حسن رمال‪ ..‬وه‪$$‬و ع‪$$‬الم لبن‪$$‬اني‪ ،‬ال‪$$‬ذي قت‪$$‬ل ع‪$$‬ام ‪ 1991‬في‬

‫‪158‬‬
‫مختبر لألبحاث في فرنسا‪ ،‬والذي وصفته مجلة [لو ب‪$$‬وان] الفرنس‪$$‬ية بأن‪$$‬ه (أح‪$$‬د‬
‫أهم علماء العصر في مجال الفيزياء)‪ ،‬وق‪$‬د‪ $‬تع‪$$‬رض للتهدي‪$$‬د حين ح‪$$‬اول الف‪$$‬رار‬
‫إلى بلده األصلي‪ ،‬ولم توجد آثار عضوية على جثته‪.‬‬
‫ومنهم نبي‪$$‬ل فليف‪$$‬ل‪ ..‬وه‪$$‬و ع‪$$‬الم فلس‪$$‬طيني‪ $‬من مخيم األمع‪$$‬ري‪ $‬بالض‪$$‬فة‬
‫الغربية‪ ،‬درس الطبيعة النووي‪$$‬ة ولم يتج‪$$‬اوز‪ $‬ثالثين س‪$$‬نة من عم‪$$‬ره‪ ،‬رفض ك‪$$‬ل‬
‫العروض التي انهالت عليه للعمل في الخارج‪ ،‬وفج‪$$‬أة اختفى ثم ع‪$$‬ثر على جثت‪$$‬ه‬
‫في منطقة بيت عور غربي رام هللا سنة ‪.1984‬‬
‫ومنهم إبراهيم الظاهر‪ ..‬وهو عالم ذرة ع‪$$‬راقي حاص‪$$‬ل على دكت‪$$‬وراه في‬
‫هذا االختصاص من إحدى الجامعات الكندية‪.‬‬
‫ومنهم س‪$$$‬ميرة موس‪$$$‬ى‪ ،‬المول‪$$$‬ودة س‪$$$‬نة ‪ ،1917‬وهي أول عالم‪$$$‬ة ذرة‬
‫مصرية ولقبت باسم «ميس ك‪$$‬وري الش‪$$‬رق»‪ ،‬وهي أول معي‪$$‬دة في كلي‪$$‬ة العل‪$$‬وم‬
‫بجامعة فؤاد األول‪ ،‬جامعة القاهرة حاليا‪ ..‬والتي حصلت على شهادة الماجس‪$$‬تير‬
‫في موض‪$$‬وع التواص‪$$‬ل الح‪$$‬راري للغ‪$$‬ازات‪ ،‬وس‪$$‬افرت في بعث‪$$‬ة إلى بريطاني ‪$‬ا‪$‬‬
‫درس‪$$‬ت فيه‪$$‬ا اإلش‪$$‬عاع الن‪$$‬ووي‪ ،‬وحص‪$$‬لت على ال‪$$‬دكتوراة في األش‪$$‬عة الس‪$$‬ينية‬
‫وتأثيرها على المواد المختلفة‪ ..‬وق‪$$‬د دعيت بع‪$$‬د ش‪$$‬هرتها‪ $‬العلمي‪$$‬ة إلى الس‪$$‬فر إلى‬
‫أمريكا في عام ‪ ،1952‬حيث أتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامع‪$$‬ة‬
‫سان ل‪$$‬ويس بوالي‪$$‬ة ميس‪$$‬وري‪ $‬األمريكي‪$$‬ة‪ ،‬وتلقت عروض‪$‬ا ً لكي تبقي في أمريك‪$$‬ا‬
‫لكنه‪$$‬ا رفض‪$$‬ت وقب‪$$‬ل عودته‪$$‬ا بأي‪$$‬ام اس‪$$‬تجابت ل‪$$‬دعوة لزي‪$$‬ارة معام‪$$‬ل نووي‪$$‬ة في‬
‫ضواحي‪ $‬كاليفورنيا‪ ،‬وفي طريق‪ $‬كاليفورنيا‪ $‬الوعر المرتف‪$$‬ع ظه‪$$‬رت س‪$$‬يارة نق‪$$‬ل‬
‫فجأة؛ لتصطدم‪ $‬بسيارتها‪ $‬بقوة وتلقي بها في وادي عميق‪.‬‬
‫ومنهم [مصطفى مشرفة] عالم الفيزي‪$$‬اء المص‪$$‬ري‪ ،‬وأول عمي‪$$‬د مص‪$$‬ري‬
‫لكلية العلوم‪ ،‬وقد دارت أبحاثه حول تطبيقه الشروط الكمية بصورة معدلة تسمح‬
‫بإيجاد تفسير لظاهرتي‪ $‬شتارك وزيمان‪ .‬كذلك‪ ،‬كان أول من ق‪$$‬ام ببح‪$$‬وث علمي‪$$‬ة‬
‫ح‪$$‬ول إيج‪$$‬اد مقي‪$$‬اس للف‪$$‬راغ‪ ،‬حيث ك‪$$‬انت هندس‪$$‬ة الف‪$$‬راغ المبني‪$$‬ة على نظري‪$$‬ة‬
‫«أينشين» تتعرض فقط لحركة الجسيم المتحرك في مجال الجاذبية‪ ،‬كما أض‪$‬اف‬
‫نظري‪$$‬ات جدي‪$$‬دة في تفس‪$$‬ير اإلش‪$$‬عاع الص‪$$‬ادر‪ $‬من الش‪$$‬مس‪ ،‬وال‪$$‬تي تُع‪$$‬د من أهم‬
‫نظرياته وسبباً‪ $‬في شهرته وعالميته؛ حيث أثبت د‪ .‬مش‪$$‬رفة أن الم‪$$‬ادة إش‪$$‬عاع في‬
‫أصلها‪ ،‬ويمكن اعتبارهما صورتين‪ $‬لشيء واح‪$$‬د يتح‪$$‬ول إح‪$$‬داهما لآلخ‪$$‬ر‪ ..‬وق‪$$‬د‬
‫قتل مسموما سنة ‪ ،1950‬ويقال بأنها أحدى عمليات جهاز الموساد اإلسرائيلي‪$.‬‬
‫ليت الذين تباكوا على هوكينع أيقونة اإللح‪$‬اد األك‪$‬بر في الفيزي‪$‬اء الحديث‪$‬ة‬
‫أن يذرفوا‪ $‬بعض الدموع على هؤالء‪ ،‬وأال يكونوا ضحايا اإلعالم الذي يزين م‪$$‬ا‬
‫يشاء‪ ،‬ويشوه ما يشاء‪ ،‬ويغفل عمن يشاء‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫يح‪$$‬اول ه‪$$‬ذا الكت‪$$‬اب بمقاالت‪$$‬ه المتنوع‪$$‬ة أن يوض‪$$‬ح للق‪$$‬راء الك‪$$‬رام ذل‪$$‬ك‬
‫التط‪$$‬رف‪ $‬الجدي‪$$‬د ال‪$$‬ذي لبس لب‪$$‬اس التن‪$$‬وير‪ ،‬وراح ال يكتفي بمواجه‪$$‬ة التط‪$$‬رف‬
‫الديني‪ ،‬وإنما يقابله بتطرف ال يقل عنه خطرا‪ ،‬وه‪$$‬و التط‪$$‬رف‪ $‬التن‪$$‬ويري‪ ،‬ال‪$$‬ذي‬
‫يهدف إلى تفريغ اإلسالم من جميع محتوياته‪ ،‬وقد قسمته إلى أربعة أقسام‪$:‬‬
‫القسم األول‪ :‬التنويريون‪ ..‬والمؤامرات العالمية‪ :‬وق ‪$‬د‪ $‬تن‪$$‬اولت فيه بعض‬
‫الحجج والبراهين والوثائق‪ $‬الدالة على عناية بعض الدوائر‪ $‬العالمية بتشجيع ه‪$$‬ذا‬
‫النوع من التن‪$$‬وير‪ ،‬لبث الش‪$$‬به والفتن والتش‪$$‬كيكات بين المس‪$$‬لمين‪ ،‬ح‪$$‬تى ال يبقى‬
‫لهم من اإلسالم إال ذلك الشعار المفرغ من كل معنى‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬شخص**يات ‪ ..‬ومش**اريع تنويرية‪ :‬وق‪$$‬د تن‪$$‬اولت في‪$$‬ه نم‪$$‬اذج‬
‫عن شخصيات‪ $‬مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وك‪$$‬ل من تعل‪$$‬ق بهم ممن ي‪$$‬دعون‬
‫التنوير‪.$‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬التنويريون‪ ..‬وه**دم القيم‪ :‬وق‪$‬د تن‪$‬اولت في‪$‬ه بعض مظ‪$‬اهر‬
‫الهدم للقيم اإلسالمية‪ ،‬واألسس التي تقوم عليها‪ ،‬وأول ذلك اإلسالم نفسه‪ ،‬والذي‬
‫حول‪$$‬ه ه‪$$‬ؤالء التنويري‪$$‬ون إلى مع‪$$‬نى هالمي يمكن أن يتحق‪$$‬ق من دون رعاي‪$$‬ة‬
‫لشرائع وعقائده وأخالقه‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬التنويريون ‪ ..‬وتمجيد المالحدة‪ :‬وقد تناولت فيه ما دفع‪$$‬ني‬
‫إلى كتابته‪ ،‬وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ‪ ،‬وال‪$$‬ترحم علي‪$$‬ه‪ ،‬على ال‪$$‬رغم‬
‫من إلحاده الذي صرح به‪ ،‬بل دعا إليه‪.‬‬

‫‪160‬‬

You might also like