Professional Documents
Culture Documents
هذا الكتاب
يحاول هذا الكتاب بمقاالته المتنوعة أن يوضح للقراء الكرام ذلك
التط$$رف الجدي$$د ال$$ذي لبس لب$$اس التن$$وير ،وراح ال يكتفي بمواجه$$ة
التطرف الديني ،وإنما يقابله بتطرف ال يقل عنه خطرا ،وه$$و التط$$رف
التن$$ويري ،ال$$ذي يه$$دف إلى تفري$$غ اإلس$$الم من جمي$$ع محتويات$$ه ،وق$$د
قسمته إلى أربعة أقسام:
القسم األول :التنويريون ..والمؤامرات العالمية :وقد تناولت فيه
بعض الحجج وال$$براهين والوث$$ائق الدال$$ة على عناي$$ة بعض ال$$دوائر
العالمية بتشجيع هذا النوع من التن$$وير ،لبث الش$$به والفتن والتش$$كيكات
بين المسلمين ،حتى ال يبقى لهم من اإلسالم إال ذلك الشعار المف$$رغ من
كل معنى.
القسم الثاني :شخصيات ..ومشاريع تنويرية :وق$$د تن$$اولت في$$ه
نماذج عن شخصيات مختلف$$ة من الح$$داثيين والقرآن$$يين وك$$ل من تعل$$ق
بهم ممن يدعون التنوير.
القسم الثالث :التنويريون ..وه**دم القيم :وق$$د تن$$اولت في$$ه بعض
مظاهر اله$$دم للقيم اإلس$$المية ،واألس$$س ال$$تي تق$$وم عليه$$ا ،وأول ذل$$ك
اإلسالم نفسه ،والذي حوله ه$$ؤالء التنويري$$ون إلى مع$$نى هالمي يمكن
أن يتحقق من دون رعاية لشرائع وعقائده وأخالقه.
القسم الرابع :التنويريون ..وتمجيد المالح**دة :وقد تن$$اولت في$$ه
ما دفعني إلى كتابته ،وهو ذلك التمجيد الذي ارتب$$ط بهوكين$$غ ،وال$$ترحم
عليه ،على الرغم من إلحاده الذي صرح به ،بل دعا إليه.
1
الدين ..والدجل
()19
الطبعة األولى
1439ـ 2018
3
القسم الرابع :التنويريون ..وتمجيد المالحدة
186 تمجيد المالحدة وأثره في نشر اإللحاد
189 اإلمام الحسين ..وتشي غيفارا
192 فليكن لكم في المسيح أسوة
195 المالحدة ..والخنازير البرية
198 ما خطورة طروحات هوكينغ اإللحادية؟
209 الغرب ..والتالعب بالعواطف*
211 وأخيرا ..صار هوكينغ شهيدا
214 عالم األفكار وعالم األشخاص
216 أخبروني عن خدمات هوكينغ لإلنسانية
218 الرحمة والترحم ..والمصادرة على المطلوب
220 دعوا هلل جنته وناره ..ورحمته ونقمته
222 سؤال للذين ترحموا على هوكينغ
223 هوكينغ والدعاية اإلعالمية
225 هل من دموع على الفيزيائيين الذين اغتالهم الغرب؟
228 هذا الكتاب
4
المقدمة
بدأت قصة هذا الكتاب بعد وفاة الفيزيائي[ $ستيفن هو كينغ] ،وما ص$$حبها
من حمل$$ة كب$$يرة على ص$$فحات التواص$$ل االجتم$$اعي ،ب$$ل ح$$تى في الص$$حف
والمنابر $المختلفة من الثناء عليه ،والبكاء على فقده ،باعتب$$ار الخ$$دمات الكث$$يرة
التي قدمها للعلم ،وللبشرية.
ولم يكن ذل$$ك كل$$ه ليس$$تفزني ،ول$$و أني أعلم أن [س$$تيفن ه$$و كين$$غ] ليس
سوى فرد $من آالف العلماء والباحثين الذين قاموا بما قام به ،ب$$ل ك$$انت خ$$دمات
غيره أكبر بكثير ،وألصق $بحاجات أفراد الناس من الخدمات التي قدمها إن صح
اعتب$$ار م$$ا قدم$$ه خ$$دمات لإلنس$$انية ذل$$ك أن تخصص$$ه في الفيزي$$اء النظري$$ة ال
عالقة له بتلك الحاجات.
ولكن الذي استفزني أكثر هو إدخال ال$$دين عن$$د الح$$ديث عن$$ه ،س$$واء من
المتطرفين الذين راحوا يزج$ون ب$ه في جهنم ،ويش$متون $بموت$ه ،ويض$$منون ل$ه
النيران ،وما معها من أصناف الع$$ذاب ،أو أولئ$$ك ال$$ذين يزعم$$ون ألنفس$$هم أنهم
متنورون ،ولذلك راح$$وا يض$$ادون تط$$رف $من س$$بقهم ب$$الترحم علي$$ه ،وإس$$كانه
الفسيح األعلى من الجنان ،بل إن بعض$هم $ـ مث$ل ش$حرور $ـ جعل$ه م$ع األنبي$اء
والمرسلين واألولياء $والصالحين.
والذي آلمني في ك$$ل ه$$ذا ،وخصوص$$ا من أولئ$$ك ال$$ذين يتص$$ورون أنهم
متنورون هو تلك الجرأة الكبيرة على هللا ،وهم يرون رجال يستغله اإلعالم أبشع
اس$$تغالل لنش$$ر اإللح$$اد باس$$م العلم ..واعتب$$ار هللا خراف$$ة ..واعتب$$ار ك$$ل حق$$ائق
الوجود $وهما ..ثم يعتبرون كل هذا ،وكأنه ال شيء.
وقد رأيت أنهم يفعلون ذلك من باب رد الفع$$ل على المتط$$رفين الس$$ابقين،
م$$ع أنهم لم يق$$رؤوا $ل$$ه ..ولم يعرف$$وا $م$$دى ت$$أثيره ..ولم يعرف$$وا في نفس ال$$وقت
أولئ$$ك العلم$$اء الكب$$ار ممن هم أك$$ثر من$$ه علم$$ا في مج$$ال تخصص$$ه ،وال$$ذين
تج$$اهلهم االعالم المنح$از $بس$بب إيم$انهم أو بس$بب علميتهم ال$$تي لم ت$دخلهم في
متاهات المالحدة.
وقد جعلني ه$$ذا أغ$$وص أك$$ثر في أعم$$اق األفك$$ار $ال$$تي يطرحه$ا $ه$$ؤالء
التنويريون ،فاكتشفت العجب العجاب ..فقد رأيت أنهم من خالل طروح$$اتهم ،ال
يكتف$$ون فق$$ط بنق$$د ال$$تراث ،وال التنبي$$ه إلى عيوب$$ه لتص$$حيحها ،وإنم$$ا ينتق$$دون
المقدس أيضا ،بل يفرغون اإلسالم جميعا من محت$$واه ،ليتح$$ول إلى دين هالمي
مميع ال ضوابط $تحكمه ،وال شرائع تضبط المنتسبين إليه.
وفوق $ذلك كله رأيت أن رعاية خاصة ت$$دعمهم ،ومن نفس الجه$$ات ال$$تي
5
دعمت قبلهم المتطرفين واإلرهابيين ..لتبدل التطرف السابق بتطرف $جدي$$د ..أو
لتضيف $للتطرف القديم تطرفا جديدا.
وكان ذلك داعية لي ،أن أنتق$$د ه$$ذا المنهج ،واألطروح$$ات $المرتبط$$ة ب$$ه،
مثلما انتقدت قبله ذلك التطرف القديم ..ألنه ال يصح أن نكيل بمكاييل مزدوج$$ة،
فنرمي $طرفا ،ونسكت عن آخر.
***
وبناء على طبيعة هذه المقاالت واألغراض التي تهدف إليها ،فقد قس$$متها
إلى أربع$$ة أقس$$ام على ال$$رغم من كونه$$ا متداخل$$ة فيم$$ا بينه$$ا ،ألن اله$$دف منه$$ا
جميعا هو تنوير القراء ،وتوضيح ما يحدث في الواقع بدقة ،حتى نعود لالعتدال
والوسطية والقيم الرفيعة ال$$تي ج$$اء به$$ا دينن$$ا كم$$ا هي من غ$$ير أي ت$$دخل من$$ا،
وهذه األقسام هي:
القسم األول :التنويريون ..والمؤامرات العالمية :وق $د $تن$$اولت فيه بعض
الحجج والبراهين والوثائق $الدالة على عناية بعض الدوائر $العالمية بتشجيع ه$$ذا
النوع من التنوير ،لتفريغ اإلس$$الم من محت$$واه ،وبث الش$$به والفتن والتش$$كيكات
بين المس$$لمين ،ح$$تى ال يبقى لهم من اإلس$$الم إال ذل$$ك الش$$عار المف$$رغ من ك$$ل
معنى.
القسم الثاني :شخص**يات ..ومش**اريع تنويرية :وق$$د تن$$اولت في$$ه نم$$اذج
عن شخصيات $مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وك$$ل من تعل$$ق بهم ممن ي$$دعون
التنوير.$
القسم الثالث :التنويريون ..وه**دم القيم :وق$د تن$اولت في$ه بعض مظ$اهر
الهدم للقيم اإلسالمية ،واألسس التي تقوم عليها ،وأول ذلك اإلسالم نفسه ،والذي
حول$$ه ه$$ؤالء التنويري$$ون إلى مع$$نى هالمي يمكن أن يتحق$$ق من دون رعاي$$ة
لشرائع وعقائده وأخالقه.
القسم الرابع :التنويريون ..وتمجيد المالحدة :وقد تناولت فيه ما دفع$$ني
إلى كتابته ،وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ ،وال$$ترحم علي$$ه ،على ال$$رغم
من إلحاده الذي صرح به ،بل دعا إليه.
وأحب أن أق$$$ول لل$$$ذين ع$$$اتبوني كث$$$يرا عن$$$د نش$$$ري له$$$ذه المق$$$االت،
وتص$$وروا $أني ب$$الغت كث$$يرا في التح$$ذير $من ذل$$ك الموق$$ف من هوكين$$غ ،ب$$أن
أصحاب النظرة البسيطة يذكرون هذا ،ويتمنون مني ومن أمث$$الي أن نث$$ني على
الرجل ،ونقدر $جهوده وتحديه ،ونصوره بصورة العالم العبق$$ري الق$$دير ..ليت$$أثر
الع$$وام ومن ليس لدي$$ه الحص$$انة الكافي$$ة بالرج$$ل ..ثم ي$$ذهب ليبحث في كتب$$ه
وأفكاره ،بعد أن يصير $متخما بالتقدير $الزائف له ..وحينها يج$$د المس$$تثمرون في
هوكينغ فيه القابلية لكل م$$ا يملون$$ه علي$$ه ..وحينه$ا $تب$$ذر في عقل$$ه ب$$ذرة اإللح$$اد
6
والخروج $من كل القيم النبيلة.
لذلك فإن في هذه المقاالت القصيرة أنواع$$ا من التحص$$ينات والتح$$ذيرات$
التي لم اكتبها اال لوجه هللا ..وق$$د كتبت قبله$$ا ـ بحم$$د هللا ـ س$$بعة كتب في ال$$رد
على االلحاد الجديد ،بما فيها طروح$$ات هوكين$$غ نفس$$ها ـ ..ولك$$ني أعلم أن تل$$ك
الكتب لن يس$$مع به$$ا أمث$$ال ه$$ؤالء ال$$ذين ال يهتم$$ون باإليم$$ان ،ب$$ل يحتقرون$$ه،
ويعتبرون اخ$$تراع مص$$باح كهرب$$ائي أفض$$ل من غ$$رس اإليم$$ان في القل$$وب أو
القيم الرفيعة في السلوك..
وفي األخير أق$$ول ألولئ$$ك ال$$ذين غض$$بوا م$$ني بع$$د أن ك$$انوا يعتبرون$$ني$
تنويريا مثلهم بس$بب م$واقفي $من التط$$رف ال$$ديني ،وله$$ذا تص$وروا أني س$أفعل
مثلما فعلوا :أنا أؤدي واجبي $الشرعي ..وسأظل $أكتب حتى يجف قلمي ..وأع$$ذر
الى هللا بأني قد أديت ما علي من واجب$$ات ..وال يهم$$ني من يرض$$ى أو يس$$خط..
ألن كل من فوق التراب تراب.
ورحم هللا اإلمام علي عندما قال( :ما ترك لي الحق من صديق)
7
القسم األول
8
هؤالء هم التنويريون الجدد ..فاحذروهم
لم أتعود أن أحذر من جهة من الجهات ،حتى من المتش$$ددين والمتط$$رفين
والمالحدة والحداثيين ..بل كنت أكتفي فق$$ط بع$$رض أطروح$$اتهم $ومناقش$$تها ،ثم
أدع للقارئ بعد ذلك أن يتخذ الموقف المناسب رفضا $أو قبوال..
لك$ني رأيت أن التعام$ل م$$ع ه$ؤالء التن$ويريين الج$$دد يختل$ف م$$ع أولئ$ك
جميعا ..ذلك أنهم ال ينطلقون من حقائق ثابت$$ة ،وال من مع$$ايير دقيق$$ة يتح$$اكمون
إليه$$ا ،وإنم$$ا ينطلق$$ون من ه$$وى مج$$رد يمكن أن يطل$$ق علي$$ه لقب [النق$$د ألج$$ل
النقد] ،أو [الرفض ألجل الرفض] ،فهم يرفضون كل شيء ،ويتمردون على كل
شيء ،حتى لو دلت كل األدلة عليه ،فإذا ما ناقشتهم $لم تجد الجه$$ة ال$$تي تناقش$$هم$
من خاللها ،ألنه ليس لديهم معايير ثابتة ،وال مصادر محددة مضبوطة ،وال قيما
معقولة ،ولذلك فإن النقاش معهم جدل ،والحديث معهم لغو.
هم يعرفون$$$ك ويحترمون$$$ك $فق$$$ط إذا م$$$ا رفض$$$ت وانتق$$$دت وتم$$$ردت..
ويرفضونك بمجرد أن تب$$دي أي لين أو قب$$ول $..وك$$أن ال$$رفض مقص$$ود لذات$$ه..
وكأن النقد هو األصل وغيره تبع ..وكأننا $لم نؤمر بالعدل والحكمة ..العدل الذي
يأمرنا $أن نشهد بالحقيقة لنا أو علينا ..والحكمة التي تجعلنا نأخذ الحقيقة ول$$و من
أفواه أعدائنا.
ومن خالل متابعتي $لبعض هؤالء يمكنني أن أضع بعض األمارات الدال$$ة
عليهم:
وأولها احتقار علماء الدين والسخرية منهم في نفس الوقت الذي يته$$افتون
على غ$$يرهم ،ب$$ل ح$$تى على المالح$$دة منهم ..فيلعن$$ون المؤم$$نين ،ويس$$خرون
منهم ..وفي نفس ال$$وقت ي$$ترحمون على غ$$يرهم ممن لم ي$$ؤمن باهلل ..ب$$ل ممن
عاش حياته كلها محذرا من هللا ..ومضلال الخلق عنه وعن سبيله.
ومن األمثلة على ذلك تلك الص$$لوات واألدعي$$ة الكث$$يرة ال$$تي أقيمت على
أكبر دعاة اإللحاد في العصر الحديث ..بل أك$$بر فيزي$$ائي في الت$$اريخ ح$$اول أن
يستثمر $تخصصه في الدعوة لإللحاد ،وه$$و [س$$تيفن هوكين$$غ] وال$$ذي ال يختل$$ف
عن كل الفيزيائيين ق$$ديما $أو ح$$ديثا في مج$$ال تخصص$$ه ،ب$$ل إن من الفيزي$$ائيين
المعاصرين من هم أكثر منه علما ،وم$ع ذل$ك ال يس$مع بهم أح$د ،لس$بب بس$يط،
وهو أنهم لم يصرحوا بإلحادهم ،أو لم يقوموا بالدعوة إليه ،ولو فعل$$وا الس$$تقبلهم
هؤالء التنويريون باألحضان.
ومن أمثل$$ة تل$$ك ال$$دعوات ق$$ول بعض$$هم في تأبين$$ه( :اللهم ارحم الع$$الم
الفيزيائي الكبير ستيفن هوكينغ ،واغفر له وادخله جنتك الواسعة) ،وق$$ول $آخ$$ر ـ
9
وهو عدنان إبراهيم كم$$ا في موقع$$ه اإللك$$تروني( $:افتق$$دت البش$$رية ه$$ذا الي$$وم..
وحظي $تاريخ الخالدين بعالم ف$$ذ ،ال يج$$ود الزم$$ان بمثل$$ه إال قليالً ،ع$$الم ض$$رب
أروع مثال على طموح العالم الح$$ق وش$$غفه بكش$$ف أس$$رار الع$$الم وف$$ك مغ$$الق
الطبيعة ،كما في المثابرة والنضال $ضد الم$$رض وص$$ور $المعان$$اة الناجم$$ة عن$$ه
على مستويات $شتىُ ،مبر ِهن$ا ً على أن ال$روح اإلنس$انية ال تُقهَ$ر ..ونحن إذ نُعلِن
مع العالم عن هذا النبأ األسيف بوفاة ستيفن هوكينغ ندعو هللا الرحمن ال$$رحيم أن
يتواله برحمته ومغفرته ،وإنّا هلل وإنّا إليه راجعون)
وقد خصصته بالعتاب ألنه يعلم تماما أن كل أطروح$$ات هوكين$$غ العلمي$$ة
ال تخدم سوى $اإللحاد ،وأنها مج$$رد نم$$اذج لله$$روب من اإليم$$ان ،وال ت$$دل على
عالم فذ ،وال عبقرية ،وإال كانت العبقرية في اإللحاد نفسه (..)1
ومثل ذل$$ك ق$$ول آخ$$ر عن بعض المخ$$ترعين( :رحم هللا [ويليس هافيالن$$د
كارير] ،وغفر له وجزاه خ$$ير الج$$زاء ،ه$$ذا الرج$$ل العبق$$ري ال$$ذي اخ$$ترع لن$$ا
المكيف الهوائي ،الذي نستعمله ونس$تمتع $ب$ه أيم$ا اس$تمتاع في بيوتن$ا وس$ياراتنا
الفاخرة في ح$$ر الص$$يف ،كم$$ا يس$$تمتع ب$$ه حجيجن$$ا المي$$اميم في حجهم ،ول$$واله
ألصبح ذلك الحج جحيم ال يط$$اق $..وأن$$ا أنص$$ح ك$$ل من يحتج على ه$$ذا ال$$ترحم
على هذا الرجل المخترع الكببر ،أن يستحي من نفسه ويتوق$$ف على الف$$ور على
استعمال المكيف الهوائي بكل أنواعه ،في منزله وسيارته ،وأن يقدم اعت$$ذار عن
كل لحظة قضاها $بجانب المكيف في كل مكان)
ولس$$ت أدري م$$ا عالق$$ة اس$$تعمال المكي$$ف الكهرب$$ائي $بال$$دعوة لص$$احبه
بالرحمة ،أو بضمان الجن$ة ..فاهلل تع$الى وض$$ع لرحمت$ه وللجن$ة ش$$روطا ،وه$$و
صاحب كليهما ،واألدب مع هللا يقتضي اح$$ترام م$راد هللا ،ق$ال تع$الىَ ﴿ :عَ $ذابِي
ت ُكَّ $ل َشْ $ي ٍء فَ َس$أ َ ْكتُبُهَا لِلَّ ِذينَ يَتَّقُ$$ونَ َوي ُْؤتُ$$ونَ أُ ِ
صيبُ بِ ِه َم ْن أَ َشا ُء َو َرحْ َمتِي َو ِسَ $ع ْ
)(1بل أنه هو نفسه اعتبره مخادعا ،فقد قال في خطبت$ه ال$تي خصص$ها لهوكين$غ $قب$ل وفات$ه( :كم$ا $قلت
$راوغ ،وه$$ذا أم$$ر عجيب ،م$$ع أن طبع$ا ً إعاقت$$ه الجس$$مية ال ُكلي$$ة الش$$املة – ُمص$$اب بم$$رض وبدأت – الرجل ُمِ $
األعصاب الح$$ركي ،جعلت الن$$اس يتع$$اطفون مع$$ه بال ش$$ك وربم$$ا ه$$ذا يُ$$وحي بالنزاه$ة التام$$ة وال ُمطلَق$$ة ،لكن
النزاهة التامة وال ُمطلَق$$ة مس$ألة أخالقي$$ة ُمختلِف$ة عن النش$$اط العلمي ،لم$اذا؟ ألن في كتاب$ه الش$$هير ج$داً [ت$اريخ
موجز للزمن] قال في الفصل الثامن منه دُعيت سنة 1981إلى ُمؤت َمر $نظَّمه الكاثوليك بالفاتيك$$ان ،والباب$$ا نفس$$ه
كان حاضراً ،والكنيسة الكاثوليكية أخطأت في حق العلم والعلماء بالذات من أيام جاليليو ،وجاءت اآلن بعد أكثر
من 300سنة لتعتذر ،جاءت تدعو علماء الكوني$ات $الكوزمولوج$$يين لكي تستش$$يرهم في القض$$ايا الكوني$ة وه$ذا
شاركون باللقاء م$$ع باب$$ا الفاتيك$$ان ،ثم ق$$ال الباب$$ا لن$$ا أو
الشيئ الطيب ،وبعد أن قدَّمنا أوراقنا وأعمالنا تشرَّف ال ُم ِ
شاركين :جيد ،أن$ه من الح$ق أن نبحث في ال$بيج ب$انج في االنفج$ار العظيم ال$ذي ك$وَّن الك$ون لكن من حيثي$ة لل ُم ِ
تطوّ ر الكون بعد البيج بانج ،أما أن نبحث $في لحظة البيج بانج لحظ$ة االنفج$ار العظيم فه$ذا ال يج$وز ألنن$ا به$ذا
نبحث في شيئ من عمل هللا هذا عمل هلل ،وصعب أن يستوعب الذهن ه$$ذا ،ثم يق$$ول س$$تيفن ه$$وكينج ُمعلِّق$ا ً مم$$ا
سرني يعني أن البابا لم يفهم كلمتي – أي أن البابا لم يفهم الورق$ة ال$تي ألقيته$ا ألن$ه ليس عن$ده معلوم$ات علمي$ة
دقيقة ،طبعا ً ما عالقة البابا بهذا العلم – ألنني ذكرت في كلمتي أن الكون وإن ك$$ان ُمتناهي$ا ً إال أن$$ه ليس ُمح$دَّداً،
ليس عنده حدود)
10
ي الَّ ِذي ي اأْل ُ ِّم َّ
ول النَّبِ َّ
َّسَ $$ال َّز َكاةَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم بِآيَاتِنَا $ي ُْؤ ِمنُونَ ( )156الَّ ِذينَ يَتَّبِعُونَ الر ُ
ُوف َويَ ْنهَ$$اهُْ$م ع َِن $ال َم ْعر ِ يَ ِجدُونَ $هُ َم ْكتُوبً$$ا ِع ْنَ $دهُ ْم فِي التَّوْ َرا ِة َواإْل ِ ْن ِجي ِ $ل يَ$$أْ ُم ُرهُ ْم بِْ $
ض ُع َع ْنهُ ْم إِصْ َرهُْ$م َواأْل َ ْغاَل َل ث َويَ َ ت َوي َُح ِّر ُ$م َعلَ ْي ِه ُم ْالخَ بَائِ َ
ْال ُم ْن َك ِر َويُ ِحلُّ لَهُ ُم الطَّيِّبَا ِ
ُ
َص$رُوهُ َواتَّبَ ُع$$وا $النُّو َر الَّ ِذي أ ْنِ $
$ز َل َت َعلَ ْي ِه ْم فَالَّ ِذينَ آ َمنُوا بِِ $ه َو َعَّ $زرُوهُ َون َ الَّتِي َكان ْ
َم َعهُ أُولَئِكَ هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ ﴾ [األعراف]157 ،156 :
فاهلل تعالى حصر الفالح فيمن توفر في$$ه تل$$ك الش$$روط $،فكي$$ف نعقب على
هللا ،ونتدخل فيما ال حق لنا في التدخل فيه.
والمشكلة ليست في الدعاء ،وإنما في التهوين من أم$$ر اإليم$$ان باهلل والقيم
الدينية ،حيث يصبح المعيار ه$$و خدم$$ة البش$$ر خدم$$ة مادي$$ة ،ال تحقي$$ق أم$$ر هللا
بااللتزام $بدينه ..وهذا معيار خطير جدا ،ومخالف لكل األديان ،وأولها اإلسالم.
وثانيها احتق$$ار المص$$ادر $المقدس$$ة وخصوص$$ا الق$$رآن الك$$ريم ..ف$$إذا م$$ا
ذكرت لهم آية من القرآن الكريم تنهى عن االستغفار للمشركين ،وهم أقل خطرا
من المالح$$$دة ..واالس$$$تغفار $أق$$$ل قيم$$$ة من ال$$$ترحم ..ذل$$$ك أن ال$$$ترحم $نتيج$$$ة
لالستغفار ..واالستغفار مقدمة له ..قامت قيامتهم $وذكروا $لك أنك ال تفهم الق$$رآن
وال تستوعبه ..وأن في معانيه من الرموز $ما ال طاقة لك بفكه.
فإذا طلبت منهم آليات يفسرون بها قوله تعالى ـ مخاطبا نوحا عليه السالم
ك إِنَّهُ ْس ِم ْن أَ ْهلَِ $ وناهيا له عن الدعاء البنه بس$$بب ع$$دم إيمان$$ه ـ ﴿ :يَ$$انُو ُح إِنَّهُ لَي َ
ك أَ ْن تَ ُكونَ ِمنَ ْال َج$$ا ِهلِينَ ك بِ ِه ِع ْل ٌم إِنِّي أَ ِعظُ َ ْس لَ َ ح فَاَل تَسْأ َ ْل ِن َما لَي َصالِ ٍَع َم ٌل َغ ْي ُر َ
﴾ [هود]46 :
﴿ربِّ إِنِّي أَعُوذُ وقوله ـ على لسان نوح عليه السالم خضوعا ألمر ربه ـَ :
خَاسِ $رينَ ﴾ ْس لِي بِِ $ه ِع ْل ٌم َوإِاَّل تَ ْغفِ$رْ لِي َوتَ$$رْ َح ْمنِي $أَ ُك ْن ِمنَ ال ِ
ْ ك َم$ا لَي َ بِ$$كَ أَ ْن أَ ْس$أَلَ َ
[هود]47 :
وكيف أن هذه النصوص واضحة ال تحتمل الج$$دل ..وبلغ$$ة واض$$حة ليس
فيه$$ا كناي$$ة وال اس$$تعارة وال مج$$ازة ..تجهم$$وا $في وجه$$ك ،واكتف$$وا ب$$التجهم..
وتصوروا $أنهم بتجهمهم يمكنهم أن يقنع$$وك ب$$أن هوكين$$غ أفض$$ل من ابن ن$$وح..
وأنه يمكننا أن نركبه في السفينة التي لم يركب فيها ابن نوح عليه السالم.
وهكذا إذا ذكرت لهم أن قصة آدم عليه السالم في القرآن الك$$ريم تتن$$اقض
مع نظرية التطور $..ذكروا لك ـ خالفا لكل ما ت$دل علي$ه المص$ادر $العلمي$ة ـ أن
نظرية التطور حقيقة علمي$ة ،وأن على الق$رآن أن يقبله$ا ،ول$و بتحري$ف $معاني$ه
وألفاظه ،وإال لُفظ القرآن من أجلها.
وهك$$ذا ت$$راهم يحتق$$رون الس$$نة المطه$$رة ،فيص$$فون كتب الح$$ديث بم$$ا ال
يتناس$$ب م$$ع جالل$$ة ق$$درها ،ح$$تى أني رأيت بعض$$هم يطل$$ق على بعض كتب
الح$$ديث وص$$ف [األس$$طورة] ..ولس$$ت أدري مص$$در ه$$ذه الج$$رأة لكت$$اب ض$$م
11
الكثير من أحاديث رسول هللا المتفق عليها عن$$د األم$$ة جميع$$ا ..وخالفن$ا $م$$ع
بعض األحاديث ال يعني طرح الكتاب وال غيره من الكتب ،فك$ل كتب الس$نة في
أي مدسة من المدارس اإلسالمية محترمة ال يجوز إهانتها وال تحقيرها ،ويكتفى
معه$$ا بالمناقش$$ة العلمي$$ة الهادئ$$ة ال$$تي تنطل$$ق من التحقي$$ق العلمي ال ال$$رفض
المزاجي ،والهوى $المتبع.
وثالثها رفض ال$$تراث جمل$$ة وتفص$$يال ..وه$$ذا وهم ك$$ذلك ..ف$$التراث ال
يرفض لذاته ،وإنما يُرفض من$ه م$ا يس$تحق ال$رفض بن$اء على منهجي$ة علمي$ة،
ومعايير ثابتة ،ال على الهوى المجرد.
ففي تراثن$$ا بحم$$د هللا الكث$$ير من المع$$اني الطيب$$ة المس$$تفادة من المص$$ادر
المقدسة ،وفيه الكثير من التجارب البشرية النافعة ..وفيه فوق ذل$$ك كل$$ه خ$$برات
أسالفنا $واحتكاكهم باألمم األخرى ..فكيف $نلغي كل ذلك ،ونحتقره.
والمنهج الس$$ليم والعقالني الب$$ديل ل$$ذلك ه$$و وزن ال$$تراث في م$$وازين
الشريعة المقدسة ،فنقبل ما تقبله ونرفض ما ترفض$$ه ..أم$$ا أن نحكم على جه$$ود
عشرات آالف العلماء باإللغ$$اء واإلع$$دام واإلقص$$اء ..وتحقيره$ا $ونبزه$ا $بأبش$$ع
الصفات ..فهو مما ال يتناسب مع الحكمة والعدالة.
وهو ال يختلف عن ذلك ال$$ذي يقبله$$ا قب$$وال كلي$$ا بحلوه$$ا ومره$ا $وخيره$$ا
وشرها $..فالعاقل هو الذي يميز الطيب من الخ$$بيث ..ال ال$$ذي ي$$رمي الطيب م$$ع
الخبيث.
ورابعها ..رفض التاريخ اإلسالمي $جملة وتفصيال $..واالهتمام بجلد الذات
في نفس الوقت الذي يُلمع فيه تاريخ اآلخر ويُزين رغم جرائمه الكث$$يرة ..وك$$أن
المسلمين لم يكونوا $بشرا ،ولم يكن فيهم الصالحون ،وال األولي$$اء ،وال العلم$$اء..
وكل هذا غير صحيح ..فتاريخ األمة ك$$ان أس$$ود $في الناحي$$ة السياس$$ية فق$$ط كم$$ا
أخبر رسول هللا ..لكنه كان مملوءا ببياض كثير وأن$$وار $كث$$يرة في الج$$وانب
العلمية واالجتماعية والحضارية والدينية ..بل ك$انت األم$ة اإلس$المية وال زالت
خير أمة أخرجت للناس ..فالتخلف ال يخرجها من هذه الخيرية ..فنحن بحم$$د هللا
ال نزال نحتف$$ظ ب$$الكثير من القيم ال$$تي فق$$دت في الغ$$رب ،والقيم هي األس$$اس ال
التقدم المادي والحضاري $الذي بنته جميع األمم وشاركت فيه.
12
التنويريون ..وصفقة القرن
قد ال يكون ما سأذكره اآلن هو الحقيقة المطلقة ،ذل$ك أن$ه من الص$عب أن
يدعي أي إنسان ال يستند لسند غيبي معصوم أنه يصف المستقبل كم$$ا سيحص$$ل
بالضبط $..ولكني أحاول استشرافه من خالل معطي$$ات كث$$يرة ،أص$$بحت بالنس$$بة
لي على األق$$ل واض$$حة جلي$$ة ،ول$$ذلك أذكره$$ا من ب$$اب الثب$$وب ال من ب$$اب
اإلثب$$ات ..ومن ب$$اب النص$$ح ال من ب$$اب التحقي$$ق العلمي الم$$تين المؤي$$د باألدل$$ة
القطعية.
وخالص$$$ة ه$$$ذا االستش$$$راف تكمن في أن الساس$$$ة ال$$$ذين اس$$$تعملوا $في
الماضي ما يسمونه باإلسالم السلفي والح$$ركي لتحقي$$ق بعض م$$آربهم $السياس$$ية
ال$$تي تخ$$دمهم أو تخ$$دم الص$$راع $السياس$$ي الع$$المي بين األقط$$اب الك$$برى ،ق$$د
اكتشفوا أن هذا الخيار قد حقق أغراضه ،وانتهى دوره ،واحترقت أوراقه ..له$$ذا
بدأت تصريحاتهم $تنطلق من كل جهة تتبرأ منه ،بعد أن اعترفت أنها هي نفس$$ها
من دعمه لخدمة أمريكا وحربها الباردة مع االتحاد السوفيتي$.
والبديل لذلك ـ كما يراه المت$$آمرون ـ ه$$و إس$$الم آخ$$ر أك$$ثر انفتاح$$ا على
الغرب ،وعلى أمريكا خصوصا ،بل ح$$تى على إس$رائيل ..ح$$تى يه$$يئ األج$واء
لم$$ا يس$$مونه [ص$$فقة الق$$رن] ،وهي ص$$فقة ال تش$$مل السياس$$ة وال االقتص$$اد$
وحدهما ،بل تشمل اإلنسان أيضا ..فاإلنسان هو األس$$اس في ك$$ل مش$$روع ي$$راد
تنفيذه صالحا كان ذلك المشروع أو فاسدا.
وصفقة القرن تقتضي االنفت$$اح الكلي على الغ$$رب وإس$$رائيل وزوال ك$$ل
الحواجز $النفسية واالجتماعية والثقافية بحيث يص$$بح المس$$لم إنس$$انا م$$دنيا يفك$$ر
بنفس الطريقة التي يفكر بها األمريكي $واألوروبي والصهيوني.
وهي تقتض$$ي زوال ك$$ل الخصوص$$يات ..فاإلس$$الم $ب$$المفهوم الجدي$$د ه$$و
تحقي$$ق القيم الحض$$ارية ..وال يهم الش$$ريعة ال$$تي نل$$تزم به$$ا أو الطق$$وس ال$$تي
نؤديه$$$ا $..فيمكنن$$$ا اعتب$$$ار المس$$$يحي واليه$$$ودي $مس$$$لما إن حق$$$ق قيم التنمي$$$ة
الحضارية ..وقدم $خدمات للبشرية ..بل هو أكثر قيمة من المسلم الصوام $الق$$وام،
ألن هللا تع$$الى ـ بحس$$ب ه$$ذا المفه$$وم الجدي$$د ـ لم يخلقن$$ا لنتع$$رف علي$$ه ،ونقيم
الصالت بيننا وبين$$ه ،وإنم$$ا خلقن$$ا لنخ$$ترع الكهرب$$اء والمواص$$الت ،ون$$وفر من
الصحة ألجساده ما لم يوفر لنا الجهاز البيولوجي الذي خلقنا عليه.
وهي صفقة تقتضي أن ينظر لألمم باعتبار تطورها $االقتصادي $،وإنتاجها
العلمي ..ولذلك فإن العاق$$ل ه$$و ال$$ذي يقيم الص$$الت والتحالف$$ات والعالق$$ات م$$ع
أمثال هذه الدول ..ولذلك ال حرج في إقامة الصالت مع إسرائيل ..ذلك أنه يمكن
13
اعتبار اليهود مسلمين في حال اعترافهم $فقط بأن محمد رسول من هللا ..دون
أن يكلفوا أنفسهم بعد ذلك باتباعه ..باإلضافة إلى أننا يمكننا أن نستفيد من العق$$ل
اليهودي $في السياسة واالقتص$$اد والعل$$وم $المختلف$$ة ..باإلض$$افة إلى أن$$ه يمكن أن
نتحالف معهم عسكريا لنواجه المشروع $اإليراني [القذر] كم$$ا ع$$بر عن$$ه ع$$دنان
إبراهيم.
وفي س$$بيل تحقي$$ق ه$$ذا المش$$روع احت$$اج الق$$ائمون علي$$ه عن البحث عن
الشخصيات ال$$تي تمثل$$ه ،وال$$تي له$$ا من الجاذبي$$ة م$$ا يمكن أن تنف$$ذه في الواق$$ع،
وبأقل $تكلفة.
وحسب رؤيتي $البسيطة القاصرة ،فقد رأيت أن األنظار موجهة خصوصا
لعدنان إبراهيم ومحمد شحرور $وغيرهما من الذين وفر لهم اإلعالم ك$$ل وس$$ائل
الشهرة ،ولست أدري هل يع$$ون ذل$$ك أم ال ..ألن الكث$$ير لألس$$ف من األدوات ال
يعرف$$ون أنهم أدوات ،ح$$تى ينته$$وا من أداء أدوراهم بك$$ل دق$$ة ،ثم يلفظ$$ون في
األخير كما تلفظ كل األوراق $المحروقة.
وأول األسباب التي جعلتهم يختارون هذه األدوات هو أنه$$ا اس$$تطاعت أن
تجت$$ذب جم$$اهير كث$$يرة لشخص$$ها $ال لمش$$روعها ،ح$$تى تص$$ور $الكث$$ير أن م$$ا
يطرحونه هو من بنات أفكارهم $واجتهاداتهم$.
وثانيهم$$ا $ه$$و أن طروح$$اتهم اتس$$مت ب$$ذلك االنفع$$ال ال$$ذي تم$$يزت ب$$ه
الطروح$$$ات $الس$$$لفية والحركي$$$ة ..والمت$$$آمرون يعجبهم المنفعل$$$ون ،ذل$$$ك أنهم
يهدمون أكثر مما يبنون ،ويفس$$دون أك$$ثر مم$$ا يص$$لحون ..ول$$ذلك لم ن$$ر لع$$دنان
إبراهيم ـ مثال ـ كتابات علمية وبحوثا $رصينة موثقة ،بل كل ما طرحه خطاب$$ات
وتصريحات تحاول جذب العامة أكثر من جذب المثقفين والمفكرين والباحثين.
وخطورتها ليست في ذواتها $..ذلك أن الكثير مما طرحه كان قد كتب في$$ه
المؤلفات الكثيرة ،وك$$ان دور ع$$دنان في$$ه ه$$و حف$$ظ لبعض م$$ا ورد ،ثم عرض$$ه
على الناس بطريقته الخاصة.
وخطورة هذه الطريق$$ة هي تولي$$د الج$$رأة في النق$$د اله$$دام لع$$وام الن$$اس..
حتى أصبح الكل ينتقد كل شيء من دون بحث وال نظر وال أسس علمي$ة ..ح$تى
أن البعض صار يرد األحاديث الصحيحة المتواترة من غير أي حجة وال دليل..
وكما اتسمت الظاهرة السلفية والحركية بذلك االنفعال مع كل ما يختلف$$ون
معه حصل مثله مع هذه الظاهرة الجديدة التي ال أستطيع $أن أجزم بأن عدنان أو
إسالم البحيري أو غيرهما قصدها$.
لق$$د ص$$ار الكث$$ير يس$$خر من ص$$حيح البخ$$اري أو كت$$اب الك$$افي أو كتب
الصحاح والمسانيد $والسنن في المدارس المختلفة ..وكأن كل ما فيها دجل مع أن
األح$$اديث الم$$ردودة فيه$$ا أح$$اديث مح$$دودة ،ولم يرده$$ا العلم$$اء إال بن$$اء على
14
معطيات كثيرة ..وليس على مجرد نزوة الرد.
لكن عدنان إبراهيم وزمالءه من التن$$ويريين ك$$انوا يخت$$ارون $نموذج$$ا من
النماذج ،ثم يرمون كل شيء ،ويهدمون كل شيء ،مثلما كان يفع$$ل الس$$لفية حين
يختارون شيخا منحرف$$ا من مش$$ايخ الط$$رق الص$وفية ل$$يرموا ب$ه جمي$$ع الط$$رق
الصوفية ،بل جميع الصوفية في جميع فترات التاريخ.
وكل هذا سببه الكسل عن التحقيق العلمي ،وعدم ال$$ورع عن التق$$ول على
هللا ،أو على المسلمين بما لم يثبت.
وقد ذكرت في كت$اب [التنويري$$ون ..والص$$راع م$$ع المق$دس] الكث$$ير من
األمثلة على تلك الجرأة على نصوص مقدسة عليها نور النبوة ،ولكنهم يردونه$$ا
لكونها تصطدم مع مزاجهم$.
وفي نفس الوقت نرى ذلك االنبهار بكلمات أي فيلسوف أو ع$$الم غ$$ربي..
حتى أنه أصبح من الموضة عندهم أنهم في كل درس أو خطبة أو مقالة يزين$$ون
كلماتهم بما قاله فالن أو فالن من الغربيين مع الثناء عليه ،واعتباره عمالق$$ا من
عمالقة الفكر.
ال يمكنني في هذا المقال المختصر $أن أورد أدلتي على م$$ا أخ$$اف أن يق$$ع
في المستقبل ،لكني أذكر بأن ه$$ذا الط$$رح الجدي$$د ه$$و ته$$ديم $لإلس$$الم ابت$$داء من
مص$$ادره المقدس$$ة ..ف$$القرآن عن$$دهم م$$ؤول ،والس$$نة عن$$دهم مكذوب$$ة ،والعلم$$اء
عن$$دهم دج$$الون ،والغ$$رب عن$$دهم عب$$ارة عن مجتم$$ع من المفك$$رين والفالس$$فة
والعباقرة ،والمسافة بين األديان غير موجودة ،فكل األديان يمكن أن ن$$دين به$$ا..
وال خوف من العذاب والعقاب ذلك أن رحم$$ة هللا وس$$عت ك$$ل ش$$يء ..ب$$ل ح$$تى
المالحدة سيكونون أول أهل الجنة ..ومثل ذلك األخالق ..فاألخالق $تقتص$ر $على
األخالق االجتماعية ..أما غض البصر والبعد عن الفواحش ..فذلك ت$$راث ق$$ديم،
ومفاهيم خاطئ$$ة ،والعالق$$ة بين الرج$$ل والم$$رأة يمكن أن تنفتح مثلم$$ا حص$$ل في
الغرب.
وهكذا يصبح اإلسالم بهذه النظرة إسالما آخر ..بعيدا عن كل م$$ا ورد في
النصوص المقدسة ..وبذلك م$$ا الم$$انع أن نتواص$$ل م$$ع أمريك$$ا ،ونقيم ص$$داقات
معها ،ونب$$ني له$$ا الكن$$ائس في مك$$ة والمدين$$ة ..وم$$ا الم$$انع أن نبكي على حائ$$ط
البراق مع اليهود ،ونبحث معهم عن البقرة الحمراء أو الصفراء ..وما الم$$انع أن
نقيم عالقات استراتيجية معهم لنقضي على اليد اإليرانية في اليمن وسوريا وكل
البالد.
هذه رؤيتي التي أتمنى أال أكون صادقا فيها ..ولكن كل الواقع يدل عليها.
ونصيحتي $هي أن نعرف أن هذا األم$$ر دين ..فل$$ذ نبحث عن أه$$ل ال$$ورع
من الصادقين الذين ال يطلبون ماال وال جاها ،لنأخذ عنهم ديننا ..فأولئك $وح$$دهم
15
المؤتمنون $عليه.
أما الذين وضعوا $أيديهم في أيدي قتلة أطف$$ال اليمن ،أولئ$$ك ال$$ذين خرب$$وا$
سوريا $وليبيا ،وأعطوا بالمج$$ان آب$$ار الب$$ترول ألع$$داء األم$$ة ،ف$$إن أي$$ديهم ق$$ذرة
وهي أنجس من أن تفهم المع$$اني المقدس$$ة لكلم$$ات هللا ،فكالم هللا ﴿اَل يَ َم ُّس$$هُ إِاَّل
ْال ُمطَهَّرُونَ ﴾ [الواقعة]79 :
16
التنويريون ..والمصافحات اآلثمة
عندما نقرأ التاريخ ق$$راءة اعتب$$ار وت$$دبر نج$$د أن أك$$ثر م$$ا ح$$دث في$$ه من
مآس وآالم هو نتيجة مصافحات $آثمة بين رجال العلم والدين والثقافة م$$ع رج$$ال
السياسة والسلطة ،أو مع رجال المال واالقتصاد ،أو مع رجال الجاه والشهرة.
فتلك المصافحات ال تمتد لليد فقط ،بل تمتد قبل ذلك وبعده للقلب والعق$$ل؛
فينغلق$$ان انغالق$$ا كلي$$ا عن الحق$$ائق والقيم ،وينفتح$$ان انفتاح$$ا كلي$$ا على األه$$واء
واألغراض والشهوات؛ فيص$$بح عق$$ل المفك$$ر خادم$$ا له$$واه ،وه$$واه خادم$$ا لمن
يوفر $له رغباته.
وقد أخبر القرآن الكريم عن النموذج الممثل لذلك ببلعم بن باعوراء ،ذل$$ك
ض َواتَّبَ َع َه واهُ﴾ [األع راف]176 :؛ ف$$ترك موس$$ى
َ َخلَ َد إِىَل اأْل َْر ِ
الذي ﴿أ ْ
عليه السالم ،وراح إلى صف أعدائه ،ألنه ال يرضي $أه$$واءه وطمع$$ه وش$$هواته
إال كنوز $أعدائه.
وال يمكنن$$ا هن$$ا أن نع$$دد المص$$افحات $اآلثم$$ة ال$$تي حص$$لت في الت$$اريخ،
وتأثيراتها على عالم األفكار $واألديان والقيم؛ فذلك مما ال يعد وال يحصى ،ولكنا
سنقتصر $على هذه األيدي الممدودة من التنويريين لجهات كثيرة مشبوهة ،لم ن$$ر
منها خ$يرا في الماض$ي ،ولن ن$رى منه$ا خ$يرا في المس$تقبل ،ذل$ك أن ك$ل تل$ك
الكنوز $التي وهبت لها لم تستفد منها إال عتوا وغلظة وضاللة.
تلك الجهات التي صافحت في عقود سابقة أي$دي المتط$رفين واإلره$ابيين
لتحول منهم أداة لخدمة المشروع األم$$ريكي والغ$$ربي ،ومواجه$$ة القطب الث$$اني
ليبقى المجال فسيحا أمام القطب األول ليمارس كبرياءه كما يشتهي$.
وعن$$دما اس$$تنفذت أغراض$$ها من المتط$$رفين واإلره$$ابيين راحت تت$$برأ
منهم ،وتمد يدها للمتطرفين الجدد ،أولئك الذين يعتبرون أنفس$$هم متن$$ورين ..وال
ح$$ظ لهم من التن$$وير $إال حجب الحق$$ائق والتالعب به$$ا ،وإتاح$$ة المج$$ال لك$$ل
رويبضة أو صعلوك أو جاهل ليتحدث في الدين كما يش$$تهي ،ب$$ل يض$$ع في$$ه من
االجتهادات ما لم يسبقه إليه أحد ،ومن غير أي دليل أو حجة.
ليس من عادتي أن أذكر األس$$ماء ..ولكنه$$ا واض$$حة ج$$دا ،فك$$ل ي$$د تمت$$د
لمصافحة قرن الشيطان يمكننا أن نخاف منها ،أو نحسب لها ألف حساب.
ولهذا يمكننا في هذا الوقت بالذات أن نخاف من اليد التي يمدها هذا القرن
المشؤوم ألولئك التن$$ويريين ،ليعطيهم $من الف$$رص م$$ا أعط$$اه س$$ابقا للمتط$$رفين
واإلرهابيين ..ليقضي هؤالء المتطرفون الجدد على ما بقي لدينا من قيم وحقائق
جميلة ..ويجعلوا $من الدين كرة تتداولها األي$$دي واألرج$$ل ،ويتف$$رج الن$$اس على
17
العبث بها ،وهم في قمة السعادة والسرور.
18
التنويريون ..وجرائم فرنسا
ال شك أننا سمعنا جميعا هذه األيام بالدور $القذر ال$$ذي تق$$وم ب$$ه فرنس$ا $في
اليمن ،حيث أنه$$ا أرس$$لت قواته$$ا بع$$دتهم وعت$$ادهم ،ليح$$اربوا ذل$$ك الش$$عب
المستضعف الفقير الذي ابتلي بأسوأ $جوار عرفه التاريخ.
وال شك أننا س$$معنا قب$$ل ذل$$ك بتل$$ك اإلم$$دادات الكث$$يرة من األس$$لحة ال$$تي
بيعت لدول العدوان ،مع علم فرنسا أن تلك الدول دول مس$$تبدة ج$$ائرة ال تع$$رف
الديمقراطي$$ة وال تس$$مع به$$ا ،وال ت$ؤمن به$ا ،وم$$ع ذل$ك أرس$$لت له$ا ك$$ل أن$واع
األس$$لحة ،لتنش$$ر الديمقراطي$$ة ،وتم$$ارس من خالل نش$$رها هوايته$$ا في القت$$ل
والجريم$$ة ،ولت$$نزل تل$$ك األس$$لحة الفرنس$$ية مط$$را من الن$$يران على رؤوس
األطفال والشيوخ والنساء.
وال شك أننا سمعنا ،ورأينا $دور فرنسا القذر قب$$ل ف$$ترة قص$$يرة في ليبي$$ا،
وكيف $أنها خ$انت عه$دها م$ع ال$رئيس الس$ابق ،بع$د أن ن$الت من$ه م$ا ن$الت من
الرش$$اوى ،ثم راحت ألعدائ$$ه ت$$تزلف إليهم ،وتن$$ال من عن$$دهم رش$$اوى $جدي$$دة،
لتمارس دورها $اإلجرامي الذي تعودت عليه ،وال تستطيع العيش من دونه.
وال شك أننا نسمع كل حين عن االض$$طرابات واالنقالب$$ات ال$$تي تحص$$ل
في إفريقيا ،وعندما ندقق في البحث ،وعبر وسائل $اإلعالم الدولية المعتبرة نج$$د
أن لفرنسا يدها طولى $في كل ما يحصل.
وقب$$ل عق$$ود قليل$$ة ك$$انت فرنس$ا $تس$$تعمر دوال كث$$يرة في الع$$الم ،وك$$انت
تسرق $خيراتها ،وتستعبد ش$$عوبها ،وتم$$ارس $معه$$ا ك$$ل أن$$واع الظلم واالس$$تبداد
والعدوان.
وقبل عقود قليلة أيضا كانت فرنسا $في الجزائر ،والتي اس$تمر ظلمه$$ا له$ا
أكثر من قرن من الزمان ،وقتل بشر كثير ،وس$$رقت خ$$يرات كث$$يرة ،ولم ت$$ترك
جريم$$ة في ال$$دنيا إال ارتكبته$$ا $،ح$$تى أنه$$ا ك$$انت تج$$ري تجاربه $ا $النووي$$ة في
الصحراء الجزائرية ،وال يزال تأثير إشعاعاتها مستمرا إلى اليوم.
ومن شاء أن يستمع للذين عاشوا فترة االستعمار الفرنسي؛ فسيحدثوه عما
رأوا بأعينهم من قسوة الجندي الفرنسي ،وطمع المس$$توطن ال$$ذي ك$$ان يغتص$$ب
األرض ،ثم يح$$$ول أص$$$حابها عبي$$$دا يحرثونه$$$ا $ويزرعونه$$$ا رغم أن$$$وفهم..
ويحدثونه عن ألوان التعذيب التي قاساها الشعب الجزائري المظل$$وم ،حيث ك$$ان
المساجين يستنطقون من خالل الكي بالتيار $الكهربائي ،أو يح$$رق ك$$ل ج$$زء من
أجسامهم $في الوقت الذي يجد فيه الضباط والمشرفون على التعذيب متعة كبيرة،
وهم يضحكون ويسخرون..
19
هذه نقطة من بح$$ر ج$$رائم فرنس$$ا ال$$تي ال يمكن إحص$$اؤها ،وم$ع ذل$$ك لم
نسمع منها اعت$$ذارا ،ولم ن$$ر له$$ا توب$$ة ،ب$$ل هي تتبجح بجرائمه$$ا ،وتفتخ$$ر به$$ا،
وتستمر في ممارستها$.
وكيف ال تفعل ذلك ،وكل ما حصل لها من تط$$ور ورف$$اه لم يكن ليحص$$ل
لوال ع$رق ودم$اء أولئ$ك المستض$عفين ال$ذين ب$ذلوا دم$اءهم في س$بيل نهض$تها
وتطوره$$ا ،ب$$ل ك$$انوا جن$$ودا إب$$ان الح$$رب المفروض$$ة عليه$$ا ..وبع$$د أن انتهت
الحرب ،وطالبوها ب$$أن تعي$د لهم ح$$ريتهم ال$$تي س$$لبتها راحت تبي$$د خض$راءهم،
وتذيقهم $من ألوان النكال ما يذيق$$ه المخ$$ادعون الم$$ارقون ال$$ذي ال يعرف$$ون ش$$يئا
عن اإلنسانية والرحمة واألخالق.
ونحن ال نل$$وم فرنس$$ا $،كم$$ا ال نل$$وم ال$$ذئاب والثع$$الب وك$$ل الحيوان$$ات
المتوحشة ،فهي تمارس ما تمليه عليه$$ا طبيعته$ا $ال$$تي اختارته$$ا بنفس$$ها ..ولكن$$ا
نلوم أولئك التنويريين الذين ال يزالون يضربون لن$$ا النم$$وذج بفرنس$$ا ،ويتغن$$ون
بها ،ويسمونها $بالد الجن والمالئكة ،ويريدون منا أن نغمض أعيننا لنسير خلفها
حتى نكسب ودها ،ونتطور في سلم الرقي الحضاري$.
واألخطر من ذلك هو مطالبتهم $لنا بالتمرد على مصادرنا المقدسة ،والقيم
النبيلة التي جاءت بها ،لنستبدلها بالمقدسات الفرنسية والقيم الفرنس$ية ..وه$ذا م$ا
ينقضي منه العجب ..فمنذ متى كانت لفرنسا أي قيم أخالقية أو تنويرية ،وهي أم
المجرمين ،ومنطلق اإلجرام في القديم والحديث ،واليمن خير شاهد على ذلك.
لكن مع ذلك نرى التنويريين ال يزالون يسجدون ويركعون له$$ا ،ويجث$$ون
على أقدامهم $كل م$$ا ذك$$رت ،ويك$$ادون يس$$بحون بحم$$دها ..وح$$ق لهم أن يفعل$$وا
ذلك ،فهم ليسوا س$$وى نت$$اج للح$$رب الفرنس$$ية الثقافي$$ة على اإلس$$الم ومص$$ادره
والقيم النبيلة التي جاء بها.
فجرائم فرنسا $ال تقتصر على تلك الحروب ال$$تي مارس$$تها على الش$$عوب
المستضعفة ،وال على سياسة األرض المحروق$$ة ،وال على اإلب$$ادات الجماعي$$ة،
وال على كل الجرائم العنصرية ،وإنما لها جرائم أخرى ال تق$$ل خط$$را ،وهي ال
تزال ترسل إلينا عبر مندوبيها من التنويريين ،وعبر تل$$ك الثكن$$ة الجامعي$$ة ال$$تي
كانت مدرسة نهل منها التنويريون كل المناهج التي يضربون بها اإلسالم ..ثكنة
[السربون] ال$$تي يتص$$ور $الكث$$ير من المغفلين أنه$$ا جامع$$ة للبحث العلمي ،بينم$$ا
هي في حقيقتها ليست سوى وسيلة من الوسائل التي استعملتها ق$$ديما ،وال ت$$زال
تستعملها $حديثها في حروبها المختلفة.
ومن العجائب أن تفتح جامعة السربون فرعا لها قب$$ل ف$$ترة في اإلم$$ارات
العربية المتحدة ،عاصمة الحداثة العربية ،تلك التي تمون ك$ل مش$اريع الحداث$ة،
ويسكن فيها كبار الحداثيين ،ويظهر $من قنواته$$ا ك$$ل الخطاب$$ات ال$$تي ت$$دعو إلى
20
إلغاء المقدس ومناقشته والتالعب به ،ابتداء من شحرور وانتهاء بعدنان إبراهيم
الذي أشاد بحاكمها ،واعتبره نموذجا للحكم الراشد.
ومن العجيب أن فرنسا $التي تحرص على الدعوة للغتها تساهلت مع طلبة
فرع جامعة السربون في اإلمارات العربية المتح$$دة ،وق$د $ورد في خ$$بر بعن$$وان
[الفرنسية ليست شرطا ً للقب$$ول ودورات $التقوي$$ة عام$$ل مس$$اعد للطلب$$ة]( )1ه$$ذا
النص الذي يمكننا من خالله أن نفهم الدور اإلجرامي $الجديد الذي تقوم به فرنسا
في منطقتنا( :توقع الدكتور دانيال أوليف$$ير م$$دير جامع$$ة الس$$وربون أبوظ$$بي $أن
يلتحق بالجامعة مئات الطلبة من داخل الدولة وخارجها ومن مختلف الجنسيات،
لكونها أول فرع لجامعة ب$$اريس الس$$وربون $خ$$ارج فرنس$$ا ،وتحدي$$دا $في منطق$$ة
الشرق األوسط $،حيث توفر التعليم العالي باللغة الفرنسية ،مش$$يرا إلى أن الف$$رع
الجدي$$د س$$يتبع نفس طريق$$ة ومفه$$وم $الت$$دريس ال$$تي تم$$يزت به$$ا الجامع$$ة األم،
وموض$$حا ً أن اللغ$$ة الفرنس$$ية لن تك$$ون ش$$رطا ً للتس$$جيل حيث س$$توفر الجامع$$ة
دورات تعليم له$$ذه اللغ$$ة م$$دتها ابت$$داء من 6ش$$هور ،كم$$ا س$$تمنح الجامع$$ة ك$$ل
الشهادات بدرجاتها $العلمية المختلفة البكالوريوس $والماجستير $والدكتوراه .وأك$$د
أن توافر الش$$روط $األكاديمي$$ة المطلوب$$ة ل$$دى الط$$الب من أهم ش$$روط االلتح$$اق
بالجامعة ،الفتا إلى أن الجامعة ستركز على نوعية الطلب$$ة بغض النظ$$ر عن أي
اعتبارات تتعلق بالجنسية أو الدين طالما توفرت فيهم ش$$روط التم$$يز األكاديمي$$ة
التي حددت ..وأوضح مدير الجامعة أن إنشاء فرع شامل ومتكام$$ل في أبوظ$$بي$
ج$$اء بع$$د اس$$تكمال مفاوض$$ات ناجح$$ة اس$$تمرت قراب$$ة الع$$ام أجراه$$ا الج$$انب
اإلماراتي $م$$ع وزارة الخارجي$$ة الفرنس$$ية بغ$$رض إنش$$اء ح$$رم ج$$امعي له$$ا في
اإلمارة ،يكون مطابق$$ا للح$$رم الج$$امعي الفرنس$$ي ،الفت$$ا إلى ان ذل$$ك ي$$أتي وفق$$ا
لرؤية صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدول$$ة ـ حفظ$$ه هللا ـ
بضرورة وضع استراتيجية للنهوض بالتعليم $بجميع مراحله)
ولس$$ت أدري ه$$ل أمتن$$ا بحاج$$ة إلى الجامع$$ات المتخصص$$ة في العل$$وم
الكوني$$$ة والتقني$$$ة ،وال$$تي هي األس$$اس ال$$ذي ينطل$$ق من$$$ه التق$$دم الص$$ناعي
واالقتصادي $،أم أننا بحاجة إلى هذه الجامعات ال$$تي تعلمن$$ا المن$$اهج الغربي$$ة في
التعامل مع المقدس والقيم المرتبطة به.
ولم يقتصر دور السربون على ه$$ذا االخ$$تراق الخط$$ير لبالدن$$ا ،وال على
ه$ذه الف$ترة ،ب$ل إن$ه اخترقن$ا $في ك$ل العق$ود الس$ابقة ..فه$و $ال$ذي ك$ان يس$تخدم
شهاداته العلي$ا المع$ترف $به$ا عالمي$$ا ليم$$رر من خالل أطروحاته$ا $م$ا يش$اء من
)(1انظر مقاال بعنوان :فرع السوربون بأبوظبي $يعزز مكانة التعليم في اإلمارات ،البي$$ان ،الت$اريخ12 :
يوليو .2006
21
مشاريع$.
فقبل فترة طويلة تبنى [طه حسين] الذي أطلق عليه فيما بعد [عميد األدب
العربى] ،ال لكونه كذلك من حيث مهارات$$ه األدبي$$ة واللغوي$$ة فق$$ط؛ فق$$د ك$$ان ل$$ه
منافسون كثيرون في ذلك ،وكانوا يفوقونه في قدراتهم ومنجزاتهم $،وإنما أعطوه
ذلك اللقب وبوؤوه المناصب الرفيعة ،لمواقف$$ه التش$$كيكية في المقدس$$ات ،وال$$تي
تجلت في كتاب$$ه المش$$هور ح$$ول الش$$عر الج$$اهلي ،وال$$ذي نش$$ره س$$نة 1926م،
والذي ذكر فيه أن الش$$عر الج$$اهلي كتب بع$$د اإلس$$الم ،ونُس$$ب لش$$عراء م$$ا قب$$ل
اإلسالم من الشعراء الجاهليين ،وأنه ل$$ذلك ال يص$$ور $الحي$$اة الجاهلي$$ة كم$$ا هي،
وهو بذلك ال يش$كك في الش$عر الج$اهلي فق$ط ،وإنم$ا يش$كك في قيم$ة المص$ادر
المقدسة نفسها ،ألنه يوحي $ب$ذلك التش$كيك ب$أن الش$عر الج$اهلي ك$ان على نس$ق
القرآن الكريم وهيئته ونظمه ..وهو بذلك أتاح الفرصة للتنويريين ليستمروا على
هذا المنهج ،فيشككوا في المصادر المقدسة نفسها.
وقد كان قبل نشره للكتاب قد حصل ع$$ام 1919على ال$$دكتوراه بدراس$$ته
حول ابن خلدون فى جامعة السوربون ،والتقى فيها بزوجته المستقبلية [س$$وزان
برسوا] ،وقد كان من آثار ذلك ال$$زواج ،وآث$$ار $تل$$ك الش$$هادة العلي$$ا م$$ا كتب$$ه في
كتابه التنويري الخطير [مستقبل الثقافة في مصر] ،والذي دعا فيه بكل صراحة
إلى (أن نسير سيرة األوروبيين ونسلك طريقهم لنك$$ون لهم أن$$دادا ،و لنك$$ون لهم
شركاء في الحض$$ارة خيره$$ا و ش$$رها ،حلوه$$ا و مره$$ا ،و م$$ا يحب منه$$ا و م$$ا
يكره ،و ما يحمد منها و ما يعاب)1()..
وهي نفس الصيحة التي ال يزال التنويريون يرددونها ،غافلين عن جرائم
االستعمار $الفرنسي ،ومآسيه التي جرها على البشرية.
وعلى خطى طه حس$$ين ق$ام الس$$ربون ،ومن رائ$ه المعس$$كرات الفرنس$ية
بتربية الكثير من الجنود الذي أدوا أدوارهم بدقة في التشكيك في كل المقدس$$ات،
والدعوة إلى الحضارة الغربية والقيم الغربي$ة ،واعتب$ار اإلس$الم والعق$ل المس$لم
هو الحجاب األكبر الذي حال بين المس$$لمين وبين التط$$ور ،من غ$$ير إش$$ارة إلى
أن ما قام به اإلجرام الغربي في حق الشعوب اإلس$$المية ه$$و الس$$بب األك$$بر في
تخلفها ،ال اإلسالم ،وال قيمه ،وال مصادره المقدسة.
ومن أبرز هؤالء [محمد أركون] ذلك الذي رباه االستعمار الفرنسي على
عينه( ،)2وأتاح له أن يدرس في السربون ،ثم يتخرج منها ،كمفك$$ر إس$$المي في
22
الظ$$اهر ،وكمستش$$رق تن$$ويري في الحقيق$$ة والب$$اطن ،لي$$ؤدي دوره في تط$$بيق
المناهج الغربية على المصادر المقدسة للمسلمين ،وخصوصا القرآن الكريم.
ومن العجيب أن يفعل ذلك ،وهو يذكر أنه ال يعرف اللغ$$ة العربي$$ة جي$$دا،
ولذلك كتب كل كتبه باللغ$$ة الفرنس$$ية ،وق$$د ق$$ال عن نفس$$ه( :ك$$ل من اس$$تمع إلى
كالمي ألح علي أن تقدم كتبي بالعربي$$ة ،ب$$ل أن أكتبه$$ا مباش$$رة بالعربي$$ة لتك$$ون
الفائ$$دة أتم للغ$$ة العربي$$ة والن$$اطقين به$$ا .لم يتس$$ع لي ال$$وقت م$$ع األس$$ف ألق$$وم
بعملين مهمين مجهدين في وقت واحد وهما :متابع$$ة التي$$ارات العلمي$$ة المختلف$$ة
في العل$$وم اإلنس$$انية واالجتماعي$$ة ب$$االطالع على جمي$$ع م$$ا يص$$در من كتب
باللغات الغربية؛ ثم إيجاد المصطلحات الالزمة لنقل أجهزة المفهومات المتجددة
والمتحول$$ة من ك$ل لغ$ة من اللغ$$ات األص$لية (اإلنجليزي$ة والفرنس$$ية واأللماني$ة
خاصة) إلى العربية)()1
وهكذا كان عند زيارته ألمريكا يتكلم باإلنجليزية ،ويكتب بها ،وفي إقامته
بفرنس$$ا يكتب بالفرنس$$ية ،ويتح$$دث به$$ا ،أم$$ا عن$$د زيارت$$ه لموطن$$ه في المغ$$رب
العربي ،فقد كان يحاضر ويفضل الحوار والتكلم مع اآلخرين باللغة الفرنسية.
وليته كان يفعل ذلك لنفسه ويكتفي به ،بل كان ينشر في ك$$ل مح$$ل ي$$ذهب
إليه قيم الغرب ومناهج الغ$$رب وطريق$$ة تفك$$ير الغ$$رب ،ويعت$$بر العربي$$ة تخلف$$ا
ورجعية ،ويق$$ول عنه$ا( :يس$$تطيع الق$اريء أن ي$درك أس$$باب الفوض$$ى الداللي$ة
السائدة الي$$وم في اللغ$ة العربي$$ة فيم$$ا يخص التعب$$ير عن الحداث$$ة الفكري$$ة ..له$$ذا
السبب لم نوفق بعد إلى إيجاد مص$$طلحات وافي$ة س$ليمة للدالل$ة الفكري$ة الكامل$ة
على مفهوم$$ات ..وال يع$$ني ذل$$ك أب$$دا أن اللغ$$ة العربي$$ة غ$$ير ق$$ادرة على تأدي$$ة
المعاني التابعة لتلك المفهوم$$ات؛ وإنم$$ا يع$$ني أنه$$ا كس$$ائر اللغ$$ات له$$ا تاريخه$$ا
الفك$$$ري الخ$$$اص ،أي منظومته$$$ا الخاص$$$ة من ال$$$دالالت الحاف$$$ة المرتبط$$$ة
بالنزاعات االيديولوجية بين القوى االجتماعية وأنها بحاجة إلى تطوير وتجديد..
وال يعود ه$ذا إلى أن اللغ$ة العربي$ة قاص$رة عن ذل$ك ...لق$د ق$ام ال$دكتور هاش$$م
صالح باجتهاد مثمر في هذا الميدان وساهم مسامة جدية في إثراء اللغ$$ة العربي$$ة
والفكر اإلسالمي بتلك األجهزة من المفهومات واالصطالحات التي أشرت إليها
كأجهزة الزم$ة لمن يري$د التع$رف النق$دي على الفك$ر اإلس$المي ال في مراحل$ه
التاريخية فحسب ،بل أيضا في الممارسات المعاصرة المتع$$ددة بتع$$دد الحرك$$ات
االجتماعية والسياس$$ية ال$$تي تق$دم نفس$ها في مع$اجم وتص$$ورات إس$المية ...لق$$د
ألححت على هاش$$م ص$$الح ح$$تى يك$$ثر من الش$$روح والتعليق$$ات في ه$$وامش
الصفحات لكي يساعد القاريء على الفهم الدقيق وينقذه من سوء الفهم والت$$ورط
23
المعرفة)()1 في أحكام سريعة على أشياء لم يعرفها حق
وليت موقفه اكتفى بالعربية كوس$$يلة من وس$$ائل االتص$$ال ،ب$$ل إن موقف$$ه
راح للمصادر المقدسة نفسها ،يطب$$ق عليه$$ا ك$$ل المن$$اهج الغربي$$ة ،ليفرغه$$ا من
مضمونها.
بل إن$ه راح يس$$خر من الفرنس$يين ال$ذين درس$$وا الق$رآن الك$$ريم بص$$دق،
وراحوا يذكرون شهادتهم في ذل$$ك ،ومنهم الط$$بيبُ الفرنس$ي [م$وريس بوك$اي]
صاحب كتاب [القرآن والكتاب المق َّدس والعلم] ،والذي ألفه في أواخر سبعينيَّات
القرْ ن العشرين ،والذي عرض فيه الكتُب السماوية على الحق$$ائق العلميَّة وال$$ذي
ق أن التحريف طال التوراةَ واإلنجيل ،بينم$$ا تتواف$$ق الحق$$ائ ُ وصل من خالله إلى َّ
القرآنية مع المنتجات العلمية وال تتعارض معها.
وكان الموقف األصلي الذي يتخذه كل باحث صادق ،هو أن ي$$ذهب إلي$$ه،
ويستفسره عن هذا الموقف ،لكن أركون لم يفع$$ل ذل$$ك ،وإنم$$ا راح يس$$خر من$$ه،
على ال$$رغم من الش$$هرة الكب$$يرة ال$$تي ناله$$ا الكت$$اب وص$$احبه ،وال$$تي لم تعجب
(إن بوكاي ألَّف هذا الكتاب تزلُّفًا للمسلمين) أركون ،بل علق عليها بقولهَّ :
ولم ينس أنه هو من يؤلف كتبه تزلفا للفرنسيين ،بل قد صرح بذلك مرات
كث$$يرة في كتب$$ه ،فق$$د ق$$ال يتح$$دث عن نفس$$ه في س$$يرته الذاتي$$ة( :يقول$$ون ـ أي
الغرب$$يين ـ لي مس$$تغربين أو مدهوش$$ين :كي$$ف يمكن لش$$خص مس$$لم مثل$$ك أن
$ع وب$$اعث لألم$$ل؛ أن نس$$مع مس$$لما ً يتح$$دث به$$ذه الطريق$$ة؟ يال$$ه من ش$$ي ٍء رائٍ $
ليبراليّا ً أو متحرراً مثلك ..ولكن ال يمكن أن تحظى بصفة تمثيلية في بالدك ،أو
بين أبناء دينك ،فخطابك يمشي على عكس التيار ،أو عكس اإلسالم)()2
وقد كان جزاؤه من الدوائر التي استنبتته ،تلك الشهرة العظيمة التي نالها،
والتي لم تجعل منه مثلما جعلت من طه حسين عمي$$دا لألدب فق$$ط ،وإنم$$ا جعلت$$ه
مجددا ومفكرا إسالميا عريقا ،مع كون كتاباته ،وخاص$$ة بلغته$$ا األص$$لية تحم$$ل
كل ألوان اإللحاد والتبرؤ من الدين ومقدساته(.)3
ومن العجيب أن نجد في بعض الصحافة السعودية بع$$د وفات$$ه أمث$$ال ه$$ذه
التعقيبات التي أوردتها كبرى الجرائد الس$$عودية جري$$دة [الش$$رق األوس$$ط](، )4
)(1تاريخية الفكر العربي اإلسالمي،ص.9-8:
)(2قضايا في نقد العقل الديني؛ لمحمد أركون ( ،)22ترجم$$ة :هاش$$م ص$$الح ،دار الطليع$$ة ،ب$$يروت ،ط
أولى1998 ،م.
)(3من األمثلة على تالعب المترجمين له بالعربية وفي (قراءات للقرآن) بالفرنس$ية ج$اء عن$وان الفص$ل
الثاني كالتالي [ ،]le problème de l authenticité divine du Coran" ; p27لكن عربه هاشم صالح بـ
[موق$$ف المش$$ركين من ظ$$اهرة ال$$وحي] [الق$$رآن من التفس$$ير الم$$وروث...ص ،]93م$$ع أن الترجم$$ة العربي$$ة
األقرب للعنوان الفرنسي هي ( :معضلة توثيق نسبة القرآن الى هللا)
)(4الشرق األوسط 17 ،16 ،أيلول .2010
24
وال$$تي ج$$اء فيه$$ا ق$$ول بعض$$هم( :أعتق$$د دون مبالغ$$ة أن أرك$$ون المج$$دد األك$$بر
لإلسالم في عصرنا الراهن ..وأن أركون أحد حكماء المسلمين الكبار)
وفي جريد [ال$$وطن]( :أرك$$ون من الكب$$ار ال$$ذين ك$$انوا يجاه$$دون في بث
النور ،وإحالله محل الظلمة الكالحة في عالمنا العربي)()1
وفي جري$$دة [الري$$اض]( :أرك$$ون أول من ق$$دم نق$$دا للتفك$$ير الخ$$رافي
المعارض للمعرفة ،وبدد هيمنة األسطورة في العقل العربي-اإلسالمي)()2
وفي جريدة [الحياة ]( :عمل محمد أرك$$ون ط$$وال أك$$ثر من نص$$ف ق$$رن
على تقديم قراءة جديدة لإلسالم ،قراءة تستند إلى مرجعيات ومناهج علمية)()3
وهك$$ذا ال ت$$زال الجرائ$$د والمجالت والم$$ؤتمرات واإلعالم الع$$ربي يث$$ني
عليه ،في نفس الوقت الذي يصب ج$ام غض$$به على ض$$حايا اإلج$رام الفرنس$$ي،
سواء من أولئك المستضعفين المظل$$ومين ،أو من أولئ$ك المحتق$$رين من المثقفين
والذين ال يهتم بهم أحد إال إذا خلطوا كالمهم بلغة المستعمر ،وطريقة تفكيره.
25
احذروا القنابل الصوتية
يتص$$$ور $الكث$$$ير أن القناب$$$ل الخط$$$يرة هي تل$$$ك القنابل$$$ة النووي$$$ة أو
الهيدروجينية أو الذكية ،تلك التي تمتلكها إسرائيل وأمريكا $وجميع محور الشر..
وينسون $أن هناك قنابل أخرى أكثر خط$$را ،ت$$دخل ك$$ل بيت ،وتح$اول $الوص$ول$
إلى كل عقل ،لتفعل فيه ما ال تفعله القنابل النووي$$ة نفس$$ها ،ألنه$$ا ال تقت$$ل الجس$$د
فقط ،وإنما تقتل الروح أيضا.
ومصادر $تلك القنابل هي نفس الدول التي تشن حملتها على المستض$$عفين
في اليمن وسورية وكل بالد هللا ..وهي نفس$$ها ال$$تي تنعت المقاوم$$ة في فلس$$طين
ولبنان والعراق واليمن بكونها مليشيات إرهابية ..وهي نفسها التي تصدر $لنا كل
ألوان العهر والفج$$ور والمج$$ون ،لتقض$$ي على أخالق ش$$باببنا $كم$$ا تقض$$ي على
عقولهم.
وخطرها يتجاوز بكثير خط$$ر تل$$ك القناب$$ل الص$$وتية البدائي$$ة ال$$تي ك$$انت
تص$$در $لن$$ا التط$$رف والعن $ف $واإلره$$اب ..ذل$$ك أن تل$$ك القناب$$ل أمكن تفكيكه$$ا
ومواجهتها ،وهي اآلن خردة قديمة أمام هذه القنابل الجديدة.
فالقنابل الجديدة ال تستعمل الدين مطية للتط$$رف والعن$$ف وقض مض$$اجع
األنظمة ،وإنما تُستعمل لتخريب ال$$دين نفس$$ه ..ووس$يلتها إلى ذل$ك بس$يطة ج$دا،
فهي تغازل بلطف أنانية اإلنسان وكبري$$اءه ومحبت$$ه للتم$$يز والظه$$ور ،لترض$$ي
كل ألوان غروره.
فهي تجع$$ل من ك$$ل من هب ودب مجته$$دين وفقه$$اء ومفس$$رين ولغ$$ويين
ومحدثين وما شئت من األلق$$اب ،من غ$$ير ممارس$$ة ق$$راءة ،وال تعب تأم$$ل ،وال
بحث وال اجتهاد وال نظر..
بل يكفي فق$$ط أن يض$$ع عقل$$ه عن$$د محم$$د ش$$حرور $أو ع$$دنان إب$$راهيم أو
إسالم البحيري أو غيرهم كثير من ال$$ذين لم ي$$تركوا $ش$$يئا إال انتق$$دوه وناقش$$وه..
ليخرج بعد ذلك ،ومن غير بحث وال عناء وال تأم$$ل أس$$تاذا في فن النق$$د واله$$دم
والتدمير$.
لتفاجأ به يناقش كل شيء ،ويحشر $أنفه في كل مسألة؛ فإذا ما قيل له :ه$$ل
قرأت شيئا؟ ..أو كيف وصلت إلى هذه الفكرة؟ ..أو كيف اقتنعت بهذه القناعة؟..
أخرج لك تسجيال صوتيا ،أو قنبلة من قنابل اليوتيوب $الكثيرة ،ويذكر لك أن هذا
هو مصدر أفكاره.
ف$إذا م$ا قلت ل$ه :األم$ر أخط$ر مم$ا تتص$ور ،ف$البت في القض$ايا العلمي$ة
الكبرى ال يمكن أن يك$$ون به$$ذه الطريق$$ة ،وال ب$$د أن تم$$ر بمراح$$ل كث$$يرة ح$$تى
26
تخرج لنا برأيك واجتهادك ،أما أن تناقش بما وصل إليه غيرك ،فليس ل$$ك ذل$$ك،
وليس ذلك من العلم.
إذا قلت له هذا أعرض عن$$ك ،واتهم$ك $بم$$ا ش$$اءت ل$$ه أه$$واؤه من التهم..
وهو يتصور نفسه فوق ذل$$ك تنويري$$ا ،وه$$و ليس إال متطرف$$ا جدي$$دا ال يق$$ل عن
المتطرف $الذي ينتقده ،أو يحرض عليه ،أو يتصور نفسه بمنجاة منه.
اس َّ
وقد حذر القرآن الك$$ريم من ه$$ذا الص$$نف من القناب$$ل ،فق$$الَ ﴿ :و ِمنَ الن ِ
صِ $ام ( $و أَلَُّ $د ْال ِخ َ
ك قَوْ لُهُ فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َويُ ْش ِه ُد هَّللا َ َعلَى َما فِي قَ ْلبِِ $ه َوهَُ $ َم ْن يُع ِ
ْجبُ َ
ث َوالنَّ ْسَ $ل َوهَّللا ُ اَل ض لِيُ ْف ِسَ $د فِيهَ$$ا َويُ ْهلِ$$كَ ْال َح$$رْ َ َ )204وإِ َذا تََ $ولَّى َسَ $عى فِي اأْل َرْ ِ
سق هَّللا َ أَ َخ َذ ْتهُ ْال ِعَّ $زةُ بِ $اإْل ِ ْث ِم فَ َح ْس $بُهُ َجهَنَّ ُم َولَبِ ْئ َ يُ ِحبُّ ْالفَ َسا َد (َ )205وإِ َذا قِ َ
يل لَهُ اتَّ ِ
ْال ِمهَادُ﴾ [البقرة]206 - 204 :
فهذه اآليات الكريمة تنطبق تماما على هذه القنابل الص$وتية ،ومن يؤي$دها
وينصرها ،وينشر أفكارها $الهدامة ،ألنها تعلم اللدد في الخصومة ،ثم تنش$$ر بع$$د
ذلك كل القيم التي تتسبب في هالك الحرث والنسل.
فهي تنش$$ر قيم التالعب باأللف$$اظ القرآني$$ة ،وال$$تي هي المقدم$$ة الك$$برى
لتحريف $معانيه ..وهي تنشر احتقار السنة المطهرة ،وتنشر معها احتقار رس$$ول
هللا ، والتحكم في تصرفاته وأقواله وتأويلها بكل ما تقتضيه األهواء.
وال تكتفي ب$$ذلك ،ب$$ل ت$$ذهب إلى ك$$ل القيم والعقائ$$د ال$$تي تع$$ارف $عليهم
المسلمون لتناقشها ،وتلغيها $بجرة قلم ،وتتصور أنها وصلت إلى ما لم يصل إليه
األوائل واألواخر$.
وهكذا كان تأثير ه$$ذه القناب$$ل في مجتمعاتن$$ا $،وبين ش$$بابنا ،وال$$ذين لبس$$وا
تطرفا $جديدا ،بدل التطرف القديم.
وقد يقال هنا :ليس لنا بد من االستماع ..فنحن ال نملك الق$$درة على البحث
والمطالع$$ة ،ول$$ذلك نكتفي بم$$ا تج$$ود علين$$ا ب$$ه القن$$وات أو المواق$ع $من أش$$رطة
سمعية وبصرية؟
والج$$واب عن ه$$ذا بس$$يط ج$$دا ،ومنطقي $ج$$دا ،فالعاق$$ل ال$$ذي يتقي هللا،
ويحرص على مصيره في اآلخرة ،يكتفي بمن يذكره بربه ،وب$$القيم النبيل$$ة ال$$تي
ج$$اء به$ا دين$ه ،ويمل$$ؤه مخاف$$ة على مص$$يره ،وحرص$ا $علي$ه ح$$تى ال يعبث ب$ه
العابثون ..مثلما كان يفعل العلماء والربانيون ،والذين ال ي$زال لهم وج$$ود كب$$ير،
ولكن الناس أعرض$$وا $عنهم ،وراح$$وا إلى تل$$ك القناب$$ل الص$$وتية ،ح$$تى يتح$$ول
الجميع إلى علماء من غير معاناة بحث وال نظر.
ومن أول عالمات أولئ$$ك العلم$$اء أنهم ال يلق$$ون للعام$$ة إال م$$ا يفي$$دهم في
دينهم ،فهم يكتف$$ون بق$$راءة الق$$رآن الك$$ريم وتفس$$يره ،أو ش$$رح الح$$ديث النب$$وي
الش$$ريف $ومأل القل$$وب والعق$$ول من خالل$$ه محب$$ة لرس$$ول هللا ..أو ذك$$ر
27
الصالحين وجعلهم أسوة للمهتدين..
أما غيرهم ،أصحاب القنابل الصوتية ،فهم الذين حولوا المنابر ال$تي تت$اح
لهم لنشر الهداية ،إلى ماحل لتمجيد المالح$$دة ،وإنك$$ار ع$$ذاب الق$$بر ،وال$$ترغيب
وال$$دفاع $عن نظري$$ة التط$$ور ،واحتق$$ار ك$$ل علم$$اء األم$$ة وص$$الحيها ،وب$$ذلك
أصبحت تلك المنابر منابر هدم ،ال منابر بناء ،وأصبحت منصة إلنت$$اج الغ$$رور
والمغترين ،ال إلنتاج المتدينين المتأدبين المتواضعين.
نحن ال نق$$ول ه$$ذا لنلغي البحث والفك$$ر والنظ$$ر $..ولكن لنق$$ول ألولئ$$ك
المغترين الذين تصوروا أنهم ـ باستماعهم لبعض السالسل الصوتية ،أو البرامج
اإلذاعية والتلفزيونية قد صاروا $باحثين ومجته$$دين وعلم$$اء ـ :كف$$وا عن ذل$$ك،
فالعلم يحتاج إلى جهد كبير ،وتأمل عظيم ،وقراءة كثيرة ،وليس هو لك$$ل كس$$ول
يتصور أنه يمكن أن يفهم كل شيء من غير بحث وال دراسة وال نظر.
أم$$$ا االس$$$تماع ،فخصص$$$وه للعلم$$$اء الرب$$$انيين لتس$$$فيدوا منهم التق$$$وى
والص$$الح ،واألخالق واألدب ،وإن ش$$ئتم أن تتعلم$$وا المع$$ارف $العلمي$$ة ،فهن$$اك$
أش$$رطة علمي$$ة وثائقي$$ة كث$$يرة يمكنه$$ا أن تنمي معلوم$$اتكم وثق$$افتكم ،وفي نفس
الوقت تعرفكم $بخلق هللا وعظمته ..وهي أجدى لكم من أولئك الذين ينعق$$ون فيكم
بما ال تطيقونه ،وال تطيقه عقولكم.
ورحم هللا الشيخ محمد أبا زه$$رة ذل$$ك الع$$الم الجلي$$ل ص$$احب المص$$نفات
الكثيرة الممتلئة بالعلم الن$افع ،وال$ذي ك$ان في غاي$ة التواض$ع ،وال$ذي لم يص$دم
األم$$ة ب$$أي ش$$يء يه$$ز ثوابته$$ا إال أن$$ه ـ وفي م$$ؤتمر $علمي ـ وبين العلم$$اء
والمختصين ،ال بين عامة الناس ،وال في أي قناة فضائية ـ راح يقول لهم ،وبكل
تواضع وأدب(( :)1إني كتمت رأيًا فقهيًّا في نفسي من عش$$رين س$$نة ،وكنت ق$$د
بحت ب$$ه لل$$دكتور $عب$$د العزي$$ز ع$$امر) ،ثم راح يخاطب$$ه ق$$ائال( :أليس ك$$ذلك ي$$ا
دكتور $عبد العزيز؟) ،قال :بلى ..ثم قال الشيخ ،هو ممتلئ حي$$اء وتواض$$عا( :آن
لي أن أبوح بما كتمته ،قبل أن ألقى هللا تعالى ،ويسألني :لماذا كتمت ما لديك من
علم ،ولم تبينه للناس)
ثم راح ي$ذكر القض$ية ال$تي كتمه$ا عش$رين س$نة ،ولم يقله$ا إال بع$د بحث
طويل ،ونظر عميق ،وأمام $كبار العلماء والمختصين ..وهي قضية بس$$يطة ج$$دا
مقارنة بالقضايا $التي تط$رح الي$وم ،فق$د ذك$ر موقف$ه من رجم المحص$ن في ح$د
ال$$زنى ،حيث رأى أن ال$رجم ك$$ان ش$ريعة يهودي$ة ،أقره$ا الرس$$ول في أول
األمر ،ثم نسخت بحد الجلد في سورة النور.
ثم راح ي$$ذكر أدلت$$ه العلمي$$ة عليه$$ا بالتفص$$يل ،وأم$$ام المختص$$ين ،وبك$$ل
تواضع.
)(1وذلك في مؤتمر $ندوة التشريع اإلسالمي المنعقدة $في مدينة البيضاء في ليبيا عام (.)1972
28
قارنوا $هذا الموقف بأولئك $الذين يخرجون علينا كل يوم بمقول$$ة جدي$$دة ال
تتعلق بفروع الدين فقط ،وإنما تتعلق بأصوله أيضا ..بل تتعلق بأصول أصوله..
ثم ال يذكر لها أي دليل ،وال يستدل لها ب$$أي حج$$ة إال برأي$$ه المج$$رد ال$$ذي يلقي$$ه
بك$$ل غ$$رور وكبري$$اء ،ثم يق$$ول للن$$اس :ال ش$$ك أن المتط$$رفين س$$يكفرونني..
ويتب$$اهى $ب$$ذلك ،وال يخش$$ى أن تك$$ون الش$$ريعة نفس$$ها هي ال$$تي تكف$$ره ..ال
المتطرفون فقط..
ألن دين هللا أعظم من أن يكون شرعة لك$$ل وارد ،ولعب$$ة لك$$ل أف$$اك أثيم،
يستمع لوحي الشياطين ،ثم يذهب لدين األمة يخربه ،ويهدم $أصوله وفروعه.
29
التنويريون ..وتأليه اإلنسان
القاس$$م المش$$ترك $بين التن$$ويريين جميع$$ا ه$$و ذل$$ك التض$$خيم لإلنس$$ان،
واعتباره مركزا للكون كله ،بل مركزا للوجود بحد ذات$$ه ،بحيث يك$$ادون يلغ$$ون
هللا نفسه من أجل اإلنسان.
وهم في ذل$$ك ي$$رددون بطريق$$ة غ$$ير مباش$$رة م$$ا ردده قبلهم [ج$$ان ب$$ول
سارتر] زعيم الوجودية األكبر الذي ع$$بر عن نف$$وره من مزاحم$$ة هللا لوج$$وده،
كما يعتقد ،فق$$ال( :م$$رة واح$$دة ش$$عرت ب$$أن هللا موج$$ود $حين كنت ألعب بعي$$دان
الكبريت ،وأحرقت $سجادة صغيرة ،وفيما كنت أخفي جرمي أبصرني $هللا فجأة..
لقد شعرت بنظراته داخل رأسي ..أحسُ أنني مرئي منه بش$$كل فظي$$ع ،وش$$عرت$
بأنني هدف حي للرماية ،ولكن اإلستنكار أنقذني ،فقد اغتظت لفض$$وله المبت$$ذل،
ي أبدًا فيما بعد)()1لهذا رفضته وجدفت عليه فلم ينظر إل َّ
وقال معبرا عن هذه النظرة بصيغة أشد جزما( :إذا انفجرت الحربة م$$رة
أخرى في روح اإلنسان ،لم يبق لآللهة على هذا اإلنسان أي سلطة) ،وق$$ال( :إذا
ك$$ان هللا موج$$و ًدا $فاإلنس$$ان ع$$دم) ،وق$$ال( :إن وج$$ود $هللا يعط$$ل وج$$ودي أن$$ا،
فاألفضل أن ال يكون هللا موجو ًدا $حتى أوجد أنا)
وقال في مسرحية [الش$$يطان واإلل$$ه الطيب]( :لم يكن هن$$اك غ$$يري ،لق$$د
قررت وحدي $الشر ،ووحدي $اخترعت الخير ،أن$$ا ال$$ذي عش$$ت ،أن$$ا ال$$ذي أفع$$ل
المعجزات ،أنا الذين أتهم نفس$ي ،وأن$ا وح$دي من أس$تطيع الغف$ران لنفس$ي ،أن$ا
اإلنسان ،إذا كان هللا موجودًا فإن اإلنسان هو العدم)()2
ونفس التعب$$ير ذك$$ره رائ$$د التن$$وير $األوروبي[ $فويرب$$اخ] ال$$ذي ق$$ال( :إن
نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون في اللحظة التي سيعنى $فيها اإلنسان إن
اإلله الوحيد هو اإلنسان نفسه) ،وقال( :اإلنسان الذي يؤمن باهلل ال يؤمن بنفس$$ه،
فاهلل هو اإلنسانية ال أكثر وال أقل ،وال$$دين يجب أن يم$$وت ،فيق$$وم على أنقاض$$ه
عالم على مقاييس اإلنسان ،الذي يلزمه أن يكون إله نفسه)()3
ومثلهما قال [ميخائيل باكونين] ص$$احب الفك$$ر المتم$$رد على ك$$ل ش$$يء:
(إذا كان هللا موجو ًدا $فلست بحر ،أنا ح$$ر فاهلل إذا غ$$ير موج$ود) ،وق$$ال( :تت$ألف
حرية اإلنسان من ُمجرد التالي :أن يُطيع قوانين الطبيعة ألنه أدركها بنفسه على
هذا النحو ،وليس ألنها فُرضت $عليه بواسطة سلطة خارجي$$ة ،بش$$رية أو إلهي$$ة،
)(1نقال عن :القس أنجيلوس جرجس ،وجود هللا وصور اإللحاد .85
)(2الشيطان واإلله الطيب ص .131
)(3انظر :رحلة في قلب اإللحاد.
30
جماعية أو فردية) ،وقال( :تتضمن فكرة اإلل$ه التخلي عن العق$ل والعدال$ة ،إنه$ا
النفي األك$$ثر حس$$ما ً للحري$$ة اإلنس$$انية .وتنتهي $بالض$$رورة إلى إس$$تعباد الجنس
البشري $في كل من النظرية والتطبيق)()1
هؤالء بعض الذين صرحوا $بإلحادهم من أج$$ل الحف$$اظ على وج$$ودهم في
مقابل هللا الذي يتصورون أن اعتقادهم بوج$$وده يلغي وج$$ودهم ..ولع$$ل فرع$$ون
كان منهم ومعهم حين راح يزعم لنفسه أنه هو هللا ،ويصيح في المصريين قائال:
ْس لِي ُم ْلُ $$
ك ِم ْ
صَ $$ر َوهَِ $$ذ ِه ﴿أَنَ$$ا َربُّ ُك ُم اأْل َ ْعلَى ﴾ [النازع$$ات ،]24 :وق$$ائال ﴿ :أَلَي َ
ْصرُونَ ﴾ [الزخرف]51 $: اأْل َ ْنهَا ُر تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِي أَفَاَل تُب ِ
وقد كان هؤالء مع إلحادهم الشديد أكثر ص$$دقا $وص$$راحة م$$ع أنفس$$هم من
الكث$$ير من التن$$ويريين والح$$داثيين ال$$ذين راح$$وا يس$$تعملون المص$$ادر $المقدس$$ة
نفس$$ها ،ليجعلوه$$ا رغم$$ا عنه$$ا ت$$ردد م$$ا ردده ج$$ان ب$$ول س$$ارتر ،وفويرب$$اخ،
وميخائيل $باكونين.
فق$$$د حول$$$وا المركزي$$$ة في الك$$$ون والوج$$$ود $من [هللا] إلى [اإلنس$$$ان]..
فاإلنسان عندهم هو الهدف ،وهو الغاية ،وهو المبتدأ ،وهو الخ$$بر ،وه$$و البداي$$ة
وهو النهاية ..أما هللا عندهم فهو مجرد ظل لإلنسان ..وليس عليه أن يملي ش$$يئا،
وإن أملى علي$$ه ش$$يئا؛ فيمكن لإلنس$$ان أن يتم$$رد علي$$ه إن رأى أن ذل$$ك ليس
لصالحه.
وبه$$ذا المفت$$اح يمكنن$$ا أن نفتح جمي$$ع أب$$واب التن$$ويريين ،وأن نفهم جمي$$ع
مشاريعهم ..فمشاريع $حسن حنفي كله$$ا مهم$$ا اختلفت عناوينه$ا $تص$$ب في ن$$زع
مركزية الكون والوجود عن هللا ،لوضعها $في يد اإلنسان.
فه$$و في مش$$روعه [من العقي$$دة إلى الث$$ورة] يق$$ول( :إذن عب$$ارات ؛ هللا
عالم ،هللا قادر ،هللا حي ،هللا سميع ،هللا بص$$ير ،هللا متكلم ،هللا مري$$د ،إنم$$ا تعكس
مجتمع$$ا ج$$اهالً ع$$اجزاً ميت$$ا ال يس$$مع وال يبص$$ر وال يتكلم ،مس$$لوب اإلرادة،
وبالتالي $يكشف الفكر الديني الذي يجعل هللا موضوعا $في قض$$ايا من ه$$ذا الن$$وع
عن الظروف اإلجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع الذي تطل$$ق في أمث$$ال
هذه القضايا ،فاهلل كموضوع $في قضية خير مشجب ألماني البشر ،وأصقل مرآة
تعكس أحالمهم وأحباطاتهم)$
وهذه العب$$ارة تع$$ني أن ذل$$ك االهتم$$ام ال$$ذي يولي$$ه المؤمن$$ون ل$$ربهم ،ب$$ل
يجتهدون في إفناء أفعالهم وصفاتهم $وإراداتهم بل حتى ذواتهم $في س$$بيل التق$$رب
إلى ربهم ..ليست معان روحية سامية ،وليست ذوقا إنسانيا رفيعا ،وليست حقيقة
وجودي$ة مطلق$ة ..وإنم$ا هي عن$د حس$ن حنفي كم$ا عن$د التن$ويريين ه$روب من
اإلنسان والظروف $التي تحيط ب$$ه ،وال$$تي علي$$ه أن يس$$يطر عليه$$ا ،وال يمكن أن
)(1انظر هذه النصوص وغيرها كثير $في كتاب [ما قاله المالحدة ولم يسجله التاريخ]
31
يحصل ذلك عندهم إال بعد أن يفني اإلنس$$ان ذات$$ه في ذات$$ه ألج$$ل ذات$$ه ،من دون
اعتبار لربه ،فهو رب نفسه ،كما يقول الوجوديون.
واإلشكال الذي ذكرناه ،والذي جعل من التنويريين ومن تعل$$ق بهم أخط$$ر
من المالحدة أنفسهم هو ذلك التأويل للمقدس لينسجم مع هذه األهواء.
وكمثال على ذلك أن ما ي$$ردده حس$$ن حنفي كث$$يرا في كتب$$ه ومحاض$$راته
من قوله( :ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم ،بل كتاب فكر ..وليس الغرض منه
تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك اإلنس$اني $بقواع$د ب$ل مس$اعدة الطبيع$ة على
االزده$$ار والحي$$اة على النم$$اء ..وم$$ا أس$$هل أن يول$$د ال$$دفاع عن ح$$ق هللا دفاع$$ا
مضاداً عن حق اإلنسان)
ونجد نفس الدعوة عند زعيم الحداثيين األكبر [محمد أركون] الذي جع$$ل
كل همه إزاحه هللا من الدين ،ليحل اإلنسان بدله ،وتصبح المركزية لإلنسان بدل
هللا ..وق$$د ك$$ان من أوائ$$ل م$$ا كتب$$ه في ه$$ذا رس$$الته في ال$$دكتوراه من جامع$$ة
السوربون عام 1969م ،والتي تحمل عنوان [ نزعة األنسنة في الفك$$ر الع$$ربي،
جيل مسكويه والتوحيدي]
وقد راح هو اآلخر يستعمل القرآن الكريم لتحويله من كت$$اب إلهي مق$$دس
يجب التسليم له ،والخضوع ألوامره إلى كتاب إنس$$اني ،ونت$$اج بش$$ري ،خاض$$ع
للمناقشة ،ويمكن للزمن والبيئة أن تؤثر في$$ه ،وفي ك$$ل المف$$اهيم ال$$تي ج$$اء به$$ا،
وق$$د ق$$ال مع$$برا عن ذل$$ك بك$$ل ص$$راحة( :إن الق$$رآن ليس إال نص $ا ً من جمل$$ة
ص أخرى ،تحتوي على نفس مستوى التعقيد ،والمع$$اني $الف$وّارة الغزي$$رة: نصو ٍ
ِّس $ة للبوذي$$ة أو الهندوس$$ية ،وك$$لُّ نصٍّ
ك$$التوراة واإلنجي$$ل ،والنص$$وص المؤس َ
ت تاريخي ٍة معينة ،وقد $يحظى تأسيسي $من هذه النصوص الكبرى؛ َح ِظ َي بتوسعا ٍ
ت أخرى في المستقبل)()1 بتوسعا ٍ$
وه$$و له$$ذا ي$$دعو إلى ق$$راءة الق$$رآن الك$$ريم ق$$راءة جدي$$دة بعي$$دة عن ك$$ل
المفاهيم التي تعلق بها المسلمون في جمي$$ع عص$$ورهم ،وال$$تي جعلتهم ـ حس$$ب
تصوره ـ يتخلفون عن ركب األمم ،فيقول متأسفا( :وهذا الت$$أخر يعكس التف$$اوت
التاريخي ،بين المجتمعات اإلسالمية ،والمجتمعات $األوربية أو الغربية .فالقرآن
ال يزال يلعب دور المرجعية العليا المطلقة ،في المجتمعات العربية واإلس$المية.
ولم تح َّل محلّه أيّة مرجعيّة أخرى حتى اآلن ..إنه المرجعية المطلقة ،التي تحدد
للناس ما هو الصَّح ،وما هو الخطأ ،ما هو الح$$ق ،وم$$ا ه$$و الش$$رعي ،وم$$ا ه$$و
القانوني ،وما هي القيمة)()2
ولهذا فإن القراءة الصحيحة عن$$ده للق$$رآن ،وال$$تي تعي$$د مركزي$$ة اإلنس$$ان
)(1الفكر األصولي؛ لمحمد أركون ()36
)(2الفكر األصولي؛ لمحمد أركون ()22
32
هي أن (ننظر إلى القرآن من خالل مقارنته مع الكتب المش$$ابهة ل$$ه في الثقاف$$ات
األخرى ـ أي التوراة واإلنجيل ـ ،فالمقارنة هي أساس النظر والفهم) ()1
وهكذا نجد كل التنويريين يشيدون باإلنسان باعتبار المركز ،ال باعتب$$اره
مجرد كائن من الكائنات التي خلقه$ا هللا تع$الى لت$ؤدي $وظائفه$ا في ه$ذا الوج$ود
مثل سائر الكائنات ،وأول وظائفها تعرفها $على ربها ،وعبوديتها $له.
ومن الكتابات التي كتبت أخيرا في ه$$ذا م$$ا كتب$$ه التونس$$ي [عب$$د الوه$$اب
بوحديبة] في كتاب له بالفرنسة بعنوان [اإلنسان في اإلسالم] ،والذي انطلق في$$ه
أن (المش$$روع $اإلس$$المي ق$$ائم على نظ$$رة إنس$$يّة إض$$افة إلى التع$$الي أو من ّ
المفارقة اإللهيّة ،وأن هللا أمام اإلنسان ال في تقابليّة ضديّة أو في عالق$$ة عبوديّ$$ة
بس$$يطة ب$$ل في اس$$تخالف حقيقي لب$$ني آدم ،اس$$تخالف قوام$$ه الحريّ$$ة األص$$ليّة
لإلنسان ،وأن$$ه ال يمكن الفص$$ل بين اإلس$$الم ك$$دين واإلس$$الم كثقاف$$ة وحض$$ارة،
فاالعتقاد قد تجلّى في التاريخ وبتجليه يمتزج ضرورة بالثقافة فال عقي$$دة خ$$ارج
الثقافة أي اإلنتاج المعنوي $لإلنسان وال ثقافة في تاريخ اإلس$$الم دون استحض$$ار$
وتأوي$$ل للنصّ ال$$ديني ،ف$$اهت ّم بوحديب$$ة ببعض النم$$اذج لم$$ا يس$$ميه بالمش$$روع$
اإلنسي في اإلسالم من خالل نصوص القرآن والس$نّة واجته$$اد $الفقه$$اء وظ$$رف$
األدب$$اء ونظ$$ر الفالس$$فة وتأ ّم$$ل المتص$وّفة ...فيم$$ا يعت$$بره أمثل$$ة عن المش$$روع$
اإلنس$$$اني $الكب$$$ير ،وك$$$أن الكت$$$اب يح$$$اول أن يض$$$ع اإلس$$$الم في دور وظيفي
للمشروع $اإلنساني بغض النظر عن الموقف العقدي المدعى من ال$$دين ،وت$$ؤول$
نصوص اإلسالم وتراثه من زاوية اإلنسان المحور) ()2
هذه مجرد أمثلة عن بعض كتابات الحداثيين حول هذا المعنى ،وه$$و ليس
سوى ترديد $لتلك الص$$يحات ال$$تي ردده$$ا المالح$$دة ،ولكن بص$$يغة أخ$$رى أك$$ثر
تهذيبا ،وأقل تشنيجا للمخالفين ،ولو أن النتيجة في كليهما واحدة.
وتل$$ك النتيج$$ة خط$$يرة ج$$دا ،ألنه$$ا تس$$لب عن اإلنس$$ان حقيقت$$ه وكماالت$$ه
وتجعله ممتلئا بأنانية مقيتة يغض الطرف خالله$ا عن ك$ل م$ا حول$ه من كائن$ات
ليحصر $همته في النظر إلى مرآة نفسه ،أو كم$$ا ذك$$ر ملهمهم س$$ارتر أن$$ه عن$$دما
توفي $والده هنأ نفسه بموته ،لشعوره بتحرره منه ،وقد قال في ذلك( :لو كان أبي
ي بملء قامته وس$$حقني ،ولحس$$ن حظي م$$ات أبي عن$$دما كنت حيًا لكان تم َّدد عل َّ
صغيرًا $..إن موت جان باتسيت (والده) كان الح$$دث األهم في حي$$اتي ،لق$$د أع$$اد
ي حريتي)()3 إل َّ
)(1الفكر األصولي؛ لمحمد أركون ()22
)(2انظر مقاال بعنوان :مقاربات $اإلنسان في اإلسالم :بين هموم األيديولوجي$$ة والمعرف$$ة ،عب$$د ال$$رحمن
حللي ،مجلة الملتقى..
)(3اإللحاد ..نشأته وتطوُّ ره ج 1ص .169
33
وهكذا كان ينظر بعين الريبة للذين يبدون ل$$ه م$$ودتهم $ومحبتهم ،فق$$د ك$$ان
يقول عنهم( :إننا منذ اآلونة التي نش$$عر فيه$$ا ب$$أن إنس$$انًا آخ$$ر ينظ$$ر إلين$$ا ،إنم$$ا
نشعر أيضًا بأن اآلخر يسلبنا عالمنا على نحو من األنحاء ،هذا الع$$الم ال$$ذي كن$$ا
نمتلكه وحدنا $حتى هذه اللحظة) ،وقال( :إنني ابتدا ًء من اآلونة ال$$تي أش$$عر فيه$$ا
أن أحدًا ينظر إل ّي ،أشعر أنني سلبت عن طري$$ق نظ$$ر اآلخ$$ر الموج$$ه إل ّي وإلى
إن العالقة بيننا وبين اآلخرين هي التي تخلق شقاءنا) العالمّ ،
والمالحدة والحداثيون يتص$$ورون أنهم به$$ذا الط$$رح يح$$رررون اإلنس$$ان
من أي س$$لطة خارجي$$ة تتحكم في$$ه ،لكنهم ينس$$ون أنهم به$$ذا الس$$لوك يخرج$$ون
اإلنس$$$ان من دائ$$$رة الس$$$لطة والحكم اإللهي إلى دائ$$$رة حكم اله$$$وى ،وس$$$لطة
الشياطين.
وهم بذلك لن يكسبوا $اإلنسان ،وإنما سيخسرونه ،ألنه يستحيل لإلنسان أن
يكون إنسانا ويتحقق بمعاني إنس$$انيته م$$ا لم يكن مس$$لما تس$$ليما مطلق$$ا هلل ،مثلم$$ا
يسلم الخليفة للمستخلف.
باإلضافة إلى كونهم $ـ بذلك ـ يقصرون اإلنس$$ان على ه$$ذا الجس$$د الف$$اني،
وتلك النفس األمارة ..أما المعاني الروحية السامية ،فال وجود $لها في قواميسهم$،
ألنه ال يعرفها $إلى من أف$$نى ذات$$ه في ذات هللا ،وف$ر $إلى هللا من نفس$$ه ،كم$$ا ق$$ال
$رين (َ )50واَل تَجْ َعلُوا َم َع هَّللا ِ إِلَهً$$ا آخََ $ تعالى﴿ :فَفِرُّ وا إِلَى هَّللا ِ إِنِّي لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ
ين﴾ [الذاريات]51 ،50 : إِنِّي لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَ ِذي ٌر ُمبِ ٌ
ولن يفهم اإلنس$$ان إال من ت$$رك ذات$$ه وه$$اجر $إلى هللا ورس$$وله ،وردد $م$$ع
$و ْال َع ِزيُ $ز ْال َح ِكي ُم﴾ [العنكب$$وت: إبراهيم عليه السالم﴿ :إِنِّي ُمهَا ِج ٌ$ر إِلَى َربِّي إِنَّهُ هَُ $
]26
ولن يفهم اإلنسان إال من عجل بالرحل$$ة إلى هللا ،لين$$ال الم$$واهب الحقيقي$$ة
التي تجعل روحه تسمو إلى عليين ،كما قال موسى عليه السالمَ ﴿ :وع َِج ْل ُ
ت إِلَ ْيكَ
ضى ﴾ [طه]84 : َربِّ لِتَرْ َ
وله$$ذا ،ف$$إن أول م$$ا يخس$$ره ه$$ؤالء الح$$داثيون ه$$و أنفس$$هم وحقيقتهم
﴿والَّ ِذينَ َكفَ$رُوا ووج$$ودهم ،ألن$$ه ال وج$$ود لهم من دون وج$$ود $هللا ،ق$$ال تع$$الىَ :
ب بِقِي َع ٍة يَحْ َسبُهُ الظَّ ْمآنُ َما ًء َحتَّى إِ َذا َجا َءهُ لَ ْم يَ ِج ْدهُ َش ْ $يئًا َو َو َجَ $د َ
هَّللا أَ ْع َمالُهُ ْم َك َس َرا ٍ
ت فِي بَحٍْ $ر لُ ِّج ٍّي يَ ْغ َش$اهُ ب ( )39أَوْ َكظُلُ َم$$ا ٍ ِع ْن َدهُ فَ َوفَّاهُ ِح َسابَهُ َوهَّللا ُ َسِ $ري ُع ْال ِح َس $ا ِ
ْض إِ َذا أَ ْخ َر َج يَ َ $دهُ لَ ْم
ق بَع ٍ ضهَا فَوْ َ ات بَ ْع ُ َموْ ٌج ِم ْن فَوْ قِ ِه َموْ ٌج ِم ْن فَوْ قِ ِه َس َحابٌ ظُلُ َم ٌ
ور﴾ [النور]40 ،39 : يَ َك ْد يَ َراهَا َو َم ْن لَ ْم يَجْ َع ِل هَّللا ُ لَهُ نُورًا فَ َما لَهُ ِم ْن نُ ٍ
وأعظم ما يخسره هؤالء التنويريون الذين جعلوا كل همهم عش$$ق أنفس$$هم
ومحبتها $والوله بها ،ذلك المعنى الذي ذكره هللا تعالى عن عباده المؤمنين ،فقال:
ُون هَّللا ِ أَ ْندَادًا ي ُِحبُّونَهُ ْم َكحُبِّ هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ َش ُّد ُحبًّ$$ا
اس َم ْن يَتَّ ِخ ُذ ِم ْن د ِ
﴿ َو ِمنَ النَّ ِ
34
هَّلِل ِ﴾ [البقرة]165 :
ولذلك لن يتذقوا $أبدا من ذلك الش$$راب ال$$ذي ش$$ربه المؤمن$$ون بع$$د فن$$ائهم
عن أنفسهم ،وسباحتهم $في بحار المحبة اإللهية مخاطبين هللا تعالى بقوله:
إال وحبّ$$$ك مق$$$رون بأنفاسي وهللا م$$$$$ا طلعت ش$$$$$مسٌ وال
غ$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$ربت
إال وأنت حديثي $بين جالسي ُ
خل$$وت إلى ق$$وم أحّ $$دثهم وال
إال وأنت بقل$$$$$$$$$$$$$$$بي بين وال ذكرتك محزوناً $وال فَ ِرح$$ا
وسواسي$
ْت خي$$$$$االً من$$$$$ك في إال َرأَي ُ وال هممت بش$$$رب الم$$$اء من
الك$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$اس عطش
ولذلك تظل الكآبة واإلحب$$اط $وك$$ل اآلالم النفس$$ية تالحقهم ،ألن في (القلب
ش$$عث ،ال يلم$$ه إال اإلقب$$ال على هللا .وفي$$ه وحش$$ة ،ال يزيله$$ا إال األنس ب$$ه في
خلوته ،وفيه حزن ال يذهبه إال السرور بمعرفته وص$$دق $معاملت$$ه ،وفي$$ه قل$$ق ال
يسكنه إال االجتماع عليه ،والفرار منه إليه ،وفيه ن$$يران حس$$رات :ال يطفئه$$ا إال
الرضا بأمره ونهيه وقض$$ائه ،ومعانق$$ة الص$$بر على ذل$$ك إلى وقت لقائ$$ه ،وفي$$ه
طلب شديد :ال يقف دون أن يكون ه$$و وح$$ده مطلوب$$ه ،وفي$$ه فاق$$ة :ال يس$$دها إال
محبته ،واإلنابة إليه ،ودوام $ذكره ،وصدق اإلخالص له .ول$$و أعطي ال$$دنيا وم$$ا
فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا)()1
)(1مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ()156 /3
35
القسم الثاني
36
أركون ..وفزاعة المناهج الغربية
يعتبر المفكر الجزائري $الكب$$ير محم$$د أرك$$ون ( )2010-1927من أك$$ثر
التنويريين شهرة على المستويات العربية والعالمي$$ة ،وال يمكن ألح$$د من الن$$اس
أن يقلل من شأنه ،وشأن الجديد الكثير الذي ج$$اء ب$$ه ،وال$$ذي جعل$$ه يجلس على
عرش الحداثة والفكر الحداثي ،بل جعل الكثير من كب$$ار الح$$داثيين والتن$$ويريين$
يجثون أمامه ،وأمام المنابع التي نهل منه$$ا ،كم$ا يجلس الحواري$$ون أم$$ام الن$$بي،
يسلمون لكل ما يقول ،ويخضعون لكل ما يقرر.
وقد ألفوا حوله الكتب الكثيرة ()1وأحاطوه بهالة إعالمية عظيمة ،وأق$$اموا
حول كل فكرة من أفكاره المؤتمرات التي تبشر بها ،وتدعو إليها.
وفي حيات$$ه أت$$احوا ل$$ه أن يحاض $ر $في عش$$رات الجامع$$ات األوروبي$$ة،
واألمريكية ،والعربية واإلسالمية ..وحتى في اليابان والهند ..ب$$ل إن$$ه درّس في
الواليات المتحدة األمريكي$$ة ،كم$$ا ش$$غل منص$$ب أس$$تاذ ت$$اريخ الفك$$ر اإلس$$المي
بجامعة (السوربون) ..كما كان مديرا لقسم الدراسات العربي$ة واالس$المية فيه$ا،
وكان مديرا لمجلة أرابيكا (مجلة دراسات عربية واسالمية)
وق$$د أث$$نى علي$$ه جمي$$ع الح$$داثيين والتن$$ويريين واعت$$بروه من العق$$ول
العمالقة ،كما عبر عن ذلك علي حرب بقوله( :إننا نجد أنفس$$نا م$$ع نص أرك$$ون
إزاء سيل ال يتوقف $من اإلحاالت إلى مختل$$ف المراج$$ع والمن$$اهج ،واالستش$$هاد
بمعظم $أعالم الفكر المعاصر واالحتجاج بمختلف $مجاالته)()2
ومن خالل هذه الكلمات التي تعبر عن حقيقة الجديد الذي جاء ب$$ه أرك$$ون
نريد أن نناقش أطروحاته ،وأطروحات كل من تبعه وتأثر به.
فالجديد الذي جاء به أركون هو محاكمة المقدس للمن$$اهج الغربي$$ة ،وذل$$ك
ع$$بر االحتي$$ال على الق$$راء ح$$تى ال يص$$طدمهم $بموقف$$ه الحقيقي من المق$$دس
بتصويره أنه ينتقد العقل المس$لم ،ح$تى يت$وهم الق$ارئ البس$يط أن$ه يقص$د العق$ل
الذي يستند للتراث بينما هو في حقيقة األمر يقصد به العقل الذي يس$$تند للمق$$دس
الذي يبدأ من القرآن الكريم..
وأول من يستند $إليهم أركون في هذا النقد [إيمانويل كانط] ذلك الفيلس$$وف
)(1منها على سبيل المثال [نقد العقل اإلسالمي عند محم$د أرك$$ون] ،لمحم$$د الفج$$ار ..و[الق$رآن الك$$ريم
والقراءة الحداثية – دارسة تحليلية نقدية إلشكالية النص عند محمد أركون] ،لحسن العباقي ..و[ال$$تراث والمنهج
بين أركون والجابري] ،لنايلة أبي ن$$ادر ..و[العق$$ل اإلس$$المي أم$$ام ت$$راث عص$$ر األن$$وار في الغ$$رب -الجه$$ود
الفلسفية عند محمد أركون] ،لرون هاليبر ..و[الحداثة في فك$$ر محم$$د أرك$$ون] ،لف$$ارح مس$$رحي ..و[العق$$ل بين
التاريخ والوحي – حول العدمية النظرية في إسالميات محمد أركون] ،لمحمد المزوغي ..وغيرها كثير.
)(2علي حرب ،نقد النص ص .83
37
األلماني الذي ولد عام 1724م ،وكان من ألمع فالس$$فة عص$$رالتنويراألوروبي،
[ول ديورانت] في كتابه ( قص$$ة الفلس$$فة) ب$$أن فلس$$فته ك$$انت له$$ا والذي شهد له ِ
الس$$يادة والنف$$وذ في عص$$ر التن$$وير ،بحيث اس$$تطاعت أن تتف$$وق على كاف$$ة
األفك$$$ارفي الق$$$رن التاس$$$ع عش$$$ر ،ذل$$$ك أنه$$$ا قض$$$ت على التط$$$ورالمنعزل
للفكرالعقالني المتجرد المؤمن بسيادة العقل ،لتعيد إلى اإليمان بالعقائ$$د واألدي$$ان
اعتباره بشكل مستقل ،ومجرد عن العقل النظري$.
وبعد انتقاده للعقل الخالص ،اعتبر أن األديان ال تستند لحقائق مطلقة ،ب$$ل
العقل ال يدل عليها ،وإنما تستند لمجرد اإليمان الذي هو اختيار نابع من اإلرادة،
وليس نابعا من التفكير.
وهذه نفس أطروحة أرك$$ون ،وال$$تي ينطل$$ق منه$$ا بع$$د ذل$$ك لنق$$د المق$$دس
والعقل الذي يستند إليه ،ذلك أن نقد العقل يعني نقد كل البنيان الفكري الذي ب$$ني
عليه.
ومن هنا كانت صعوبة محاورة أمث$$ال ه$$ؤالء ،ألنهم ـ عن$$د الح$$وار ـ ال
يلتفتون لألفكار؛ فيناقش$$ونها وف$ق $مع$$ايير مح$$ددة ثابت$$ة ،وإنم$$ا هم ينظ$$رون من
أبراجهم $العاجية إلى المحاور لهم ،ويسخرون من طريقة حواره وتفكيره نفسها.
وهم في ذلك يشبهون الحوار مع المحل$$ل النفس$ي ال$ذي ال يس$$مع للكلم$$ات
واألفك$$ار $المطروح$$ة ،بق$$در م$$ا يلتفت لحرك$$ات جس$$د محدث$$ه ،ومالمح وجه$$ه،
ليصنفه بعد ذلك في أي خانة من خانات األمراض النفسية.
وقد ع$بر علي ح$رب عن ه$ذا المع$نى عن$د ذك$ره ل$دور فلس$فة كان$ط في
توجيه الحداثيين إلى مناقشة العقول ،بدل مناقشة األفكار ،فقال( :ال جدال في أن
ما أتى به كانط هو عمل غير مسبوق $يمتاز بالج ّدة واألص$$الة ،وتتجلى $األص$$الة
أول ما تتجلى في النقلة التي أحدثها كانظ في مفهومه للنق$$د نفس$$ه وفي $ممارس$$ته
له بطريق$$ة جدي$$دة ومغ$$ايرة ،ذل$$ك أن$$ه م$$ع النق$$د الك$$انطي ننتق$$ل من نق$$د (الكتب
والمذاهب) إلى نقد (العقل نفسه) أي نتخطى نقد المعارف إلى نقد اآللة التي به$$ا
نعرف)
ولهذا وجد الحداثيون بمختلف $مدارس$$هم الفرص$$ة لنق$$د المق$$دس ع$$بر نق$$د
العقل الذي ي$$ؤمن ب$$ه ،وب$$ذلك ينه$$ار المق$$دس ،ال من خالل مناقش$$ة أطروحات$$ه،
وإنما من خالل مناقشة العقول التي تؤمن به ،وتستند إليه.
ولهذا يمكن للمقدس ـ بحس$ب ه$ؤالء ـ أن يتح$ول إلى أي ش$$يء ،بحس$ب
الطريقة التي يفكر بها الناق$$د ،وله$$ذا نج$$د مش$$اريع $مختلف$ة لنق$$د العق$$ل ،ألن ك$$ل
واحد منها يستند لطريقة تفكير خاصة ،أو لمدرسة نقدية خاصة.
وطبعا ،فإن كل المدارس النقدية ،أو المناهج النقدي$ة ،هي من$$اهج غربي$ة،
س$$$واء ك$$$انت ذات توج$$$ه ماركس$$$ي ،أو وج$$$ودي ،أوظ$$$اهراتي ،أو ب$$$نيوي،
38
أوتفكيكي $..وغيرها.
وله$$ذا س$$مينا ك$$ل ه$$ذه الطروح$$ات [فزاع$$ة] ،ألن أص$$حابها يطرحونه$$ا
باعتباره$$ا من$$اهج مقدس$$ة ،ب$$ل هي أك$$ثر قداس$$ة من المق$$دس ال$$ذي ي$$ؤمن ب$$ه
المؤمنون ،وسبب ذلك عندهم هو كونها مناهج غربية ،وبم$$ا أن الغ$$رب متط$$ور
ومتحضر ـ بسبب اعتماده في نقد المقدس على هذه المناهج ـ فنحن كذلك ـ كم$$ا
يصورون ـ ال يمكن أن نتقدم أو نتطور $من دون اعتمادها.
ه$$ذه خالص$$ة الطريق$$ة ال$$تي يفك$$ر به$$ا أرك$$ون ،ومن تتلم$$ذ علي$$ه من
الحداثيين ،ومن لم يتتلمذ ،وقد عبر عن هذا المعنى بعض الباحثين أحسن تعبير،
فق$$ال ..( :من هن$$ا ك$$ان مش$$روع $الج$$ابري وأرك$$ون في نق$$د العق$$ل الع$$ربي
اإلسالمي ،حيث تحول نقد التراث عبر مشروعهما ،من نقد المسائل والمق$$والت
التراثية إلى فحص وتحليل النظام المعرفي الذي أنتج تل$$ك المس$$ائل والمق$$والت،
ومن مناقشة التصورات $الدينية في التراث إلى مناقش$$ة النظ$$ام $الفك$$ري العمي$$ق،
أو األنظمة الفكرية المنتجة للتصورات $الدينية في التراث اإلسالمي ..وهذا ه$$و
االنعطاف $النقدي الجديد الذي حص$$ل م$$ع الج$$ابري $وأرك$$ون .وحين نق$$ول نق$$د
النظام أو األنظمة ،فهذا يعني أن الهدف هو دراسة المنهج ،أي بنية العقل الديني
وطريق$$ة اش$$تغال آليات$$ه وليس مض$$امين الش$$ريعة والعقي$$دة بحّ $د ذاته$$ا ،فمس$$ائل
الشريعة والعقيدة كما يقول أركون (قد تختلف ،ولكن الجذور المعرفي$$ة واح$$دة)،
أو بتعبير $آخر؛ (ليس االهتمام باألفكار ذاتها ،وإنما باألداة المنتجة لهذه األفكار)
()1
وأركون يذكر في مواضع كثيرة من كتبه تلك المناهج الغربية التي طبقها
على اإلسالم بمصادره المقدس$$ة ،وبفخ$$ر عجيب ،وك$$أن اإلس$$الم س$يبقى متخلف$ا
حتى يفهم على ضوء النظارات الغربية ،والفهم الغربي ،وكأن الغرب ه$$و رم$$ز
الحضارة والقيم الممثلة لها ،وهذا ما يدل على االنبه$$ار والتقلي$$د ال$$ذي يتم$$يز ب$$ه
الحداثيون الذين يص$$ورون أنفس$$هم مج$$ددين ،م$$ع أنهم في الحقيق$$ة ليس$$وا س$$وى
مقلدين ومستهلكين للبضاعة الغربية.
ومن األمثلة على ذلك قوله في بعض كتبه( :إن كل المسائل الحارقة ال$$تي
د ّشنها االستشراق في بداية القرن العش$رين ينبغي أن تُس$تعاد من جدي$د وتُ$درس
علي ضوء التعاليم المستحدثة للعلوم اإلنسانية :كعلم األلسنيات الض$$روري $ج$$داً
لدراسة النصوص المقدسة أو التراثي$$ة ،وكعلم الس$$يميائيات $أو ال$$دالالت اللغوي$$ة
وغير اللغوية ،وكعلم النفس التاريخي الذي ازدهر كثيراً في فرنسا داخ$$ل إط$$ار
مدرس$$$ة الحولي$$$ات الش$$$هيرة ،وكالنق$$$د ال$$$ديني ،وكعلم االجتم$$$اع الح$$$ديث،
)(1انظر مقاال بعنوان :بين أركون والجابري ..في نقد العقل العربي /اإلسالمي :قراءة تحليلي$$ة لألبع$$اد
الفلسفية ،عبد هللا المالي.
39
وكاألنتروبولوجيا ...كل هذه العلوم ينبغي أن تُجيّش بمناهجها ومص$$طلحاتها $من
أجل تشخيص مشاكل التراث اإلسالمي .بالطبع فإن المس$$لمين التقلي$$ديين س$$وف
يحتج$$ون ويغض$$بون مثلم$$ا احتج$$وا وغض$$بوا $ض$$د االستش$$راق الكالس$$يكي
ومنهجيته الفيلولجية -التاريخية التي تعود إلي القرن التاسع عشر)()1
ومن العجيب أنه يصور $غضب المس$$لمين ،وكأن$$ه ليس ش$$يئا طبيع$$ا ،م$$ع
كون$$ه ال يفع$$ل إال مثلم$$ا يفع$$ل ذل$$ك األحم$$ق ال$$ذي تطلب من$$ه أن يض$$يف $بعض
الديكور $على بيتك ،فيذهب ،ويهدمه جميعا ،بحجة أن ديكوره ال يتناس$$ب إال م$$ع
بناء خاص.
وهكذا يفعل هؤالء الذين يغ$$الطون أنفس$$هم ،والع$$الم ب$$أن القيم الحض$$ارية
والتنوير ال يمكن أن يناله سوى من تخلص من دينه ومقدساته ،وه$$دمها ،ليبنيه$$ا
على أس$$س الفك$$ر الغ$$ربي ،مثلم$$ا حص$$ل للمس$$يحية ال$$تي تخلت عن الكث$$ير من
مبادئها $إرضاء للعقل الروماني $،كما قال شيخنا محمد الغزالي( :لست أدري هل
ترومت المسيحية ،أم تمسحت روما)
والمشكلة التي جعلتنا نعتبر التنوير الجديد م$$ؤامرة على اإلس$$الم ،هي أن
ه$$ؤالء التنويري$$ون ال ي$$دلون ب$$آرائهم فق$$ط ،باعتباره$$ا آراء مج$$ردة يمكن أن
تناقش ،وإنما هم يتعاملون معها باعتبارها حقيقة مطلقة ،يستعملون كل الوس$$ائل
للدعوة إليها.
وهم يستثمرون في تل$ك ال$دول العربي$ة التابع$ة للغ$رب ،ليفرض$وا عليه$ا
تعديل مناهجها التعليمية حتى تتناسب مع هذا الطرح التدميري لإلسالم.
ولهذا نجد أركون يدعو إلى اعتبار التعليم بمراك$$زه المختلف$$ة الن$$واة ال$$تي
ينشر من خاللها هذا الن$$وع من التفك$$ير ..وق$$د ق$$ال في بعض تص$$ريحاته لمجل$$ة
[االكس$$بريس] الفرنس$$ية(( :)2ال يمكن للع$$الم الع$$ربي أو اإلس$$المي أن ينطل$$ق
حضاريا $إال إذا انخرط في عملية تفكيكية نقدية شاملة ألنظمة الفكر الديني القديم
المسيطر $والراسخ الجذور ..وكذلك ينبغي تفكيك ك$$ل األي$$ديولوجيات $الغوغائي$$ة
التي سيطرت علينا بعد االستقالل وأدت الي كل هذا الفشل ال$$ذريع ال$$ذي نش$$هده
حاليا كالقومجية الشوفينية والماركسوية الكاريكاتورية وس$$واهما $..ولكن نالح$$ظ
حاليا أن أي عمل نقدي هادف لتحريرنا $من الرواس$$ب التراثي$$ة يتع$$رض لرقاب$$ة
مزدوجة :إما من طرف السلطة ،وإما من طرف معارضاتها األصولية ..الجميع
يزاود $على االس$$الم ب$$المعنى $التقلي$$دي للكلم$$ة لكي يكس$$ب المش$$روعية ورض$$ي
الجم$$اهير .وفي $كلت$$ا الح$$التين نج$$د أن الفك$$ر الح$$ديث بك$$ل مكتس$$باته العلمي$$ة
)(1نقال عن :نقد العقل التقليدي لإلسالم ..المشروع الفلس$$في الكب$$ير لمحم$$د أرك$$ون:بقلم :هاش$$م ص$$الح،
الفجر نيوز ،نشر في الفجر نيوز يوم .2008 - 02 - 03
)(2مجلة االكسبريس $الفرنسية بتاريخ .2003-3-27
40
مرفوض $أو مهمش في أحسن األحوال)
ثم ي$$ذكر بعض اقتراحات$$ه في ه$$ذا المج$$ال؛ فيق$$ول( :نالح$$ظ مثال أنهم
اليعلمون في المدارس بل وحتى الجامعات إال اإلسالم ،ويستبعدون دراس$$ة ك$$ل
األديان األخرى ..وهذا يعني أن مادة تاريخ األديان المقارن$$ة ممنوع$$ة في الع$$الم
العربي واإلسالمي $كله ..واألسوأ من ذلك هو أن تعليم اإلسالم نفسه يتم بطريق$$ة
قروسطية عتيقة عفى عليها الزمن..وهو علي أي حال خاضع كليا لألرثوذكسية
األصولية الصارمة سنية كانت ام شيعية ..انظر حالة ايران)
وه$$و به$$ذا ي$$دعو إلى ع$$رض اإلس$$الم باعتب$$اره نموذج$$ا من النم$$اذج
التاريخية للفكر الديني ،وليس باعتب$$اره هداي$$ة هللا لعب$$اده ..وه$$و يق$$ول ذل$$ك م$$ع
كونه يعلم أنه في كل الجامعات اإلسالمية توجد فروع $خاص$$ة بمقارن$$ة األدي$$ان،
لكنه ال يريدها كذلك ،بل يريد تعميمها حتى في المدارس ،أي أن يدرس للتالميذ
في المدرسة االبتدائية واإلعدادية اليهودية والمسيحية جنبا إلى جنب ،وبالطريقة
التي تجعلهم يعتبرون اإلسالم مجرد مرحلة من مراحل الفكر الديني ،وليس دين
هللا الثابت المستقر الذي يمثل الحقيقة المطلقة.
وق$$د $ص$$رح بأهداف$$ه الرس$$الية ال$$تي آتت ثماره$$ا $في الكث$$ير من البالد
لألسف ،ومن بينها اإلمارات العربي$$ة المتح$$دة ،ال$$تي فتحت فرع$$ا للس$$ربون في
بالدها ،وقد ق$ال مع$برا عن ذل$ك( :أن$ا شخص$يا أناض$ل من أج$ل تغي$ير ب$رامج
التعليم في ك$$ل ال$$دول العربي$$ة واإلس$$المية ..وينبغي $على االتح$$اد االوروبي أن
يتفاوض مع بلداننا لتغيير هذه البرامج ،وبخاصة فيما يتعل$ق بتعليم م$ادة التربي$ة
الدينية ..أقول ذلك ألن تعليم الدين بطريق$$ة ظالمي$$ة أص$$ولية وص$$ل م$$ؤخرا إلى
أوروب$$ا ذاته$$ا وانتش$$ر في جالياته$$ا المغترب$$ة من عربي$$ة واس$$المية .وبالت$$الي$
فالخطر $أصبح على أبواب الغرب نفس$$ه ،وله$$ذا الس$$بب أق$$ول ينبغي على الع$$الم
اإلسالمي أن يتوصل إلى الحداثة بأقصي سرعة ممكنة وبدون تحفظ)
ثم يملي ما على العالم اإلسالم أن يفعل حتى يتوصل إلى ه$$ذه الحداث$$ة في
أقرب وقت؛ فيقول( :ينبغي عليه أن يتعرف على المكتسبات التحريري$$ة للحداث$$ة
من علمية وفلسفية ،ثم يهض$$مها ويس$$توعبها ،وإال فإن$$ه س$$يظل رهين$$ة في أي$$دي
االصوليين المتزمتين)
وهذا التصريح يشبه تصريح الساسة أكثر من شبهه بتصريحات المثقفين
ال$$ذين يع$$الجون القض$$ايا وف$$ق ال$$رؤى المختلف$$ة ،ووف $ق $الح$$وار اله$$ادئ ،وال
يعتمدون فرض أفكارهم ،وال تهييج المخالفين لها ،أو ترهيبهم.
وهو يحرص كل حين على التهكم والسخرية من الذين يعت$$برون اإلس$$الم
حقيقة مطلقة ثابتة مستقرة مقدسة ،بكونهم منغلقين فكريا $..أي أن المتحرر $عن$$ده
هو الذي يضع أدوات الجراحة على تلك المصادر $المقدسة ،بع$$د ن$$زع قدس$$يتها،
41
ثم يعمل فيها مبضعه ليشرحها بالطريقة التي يشتهي.
وقد قال في بعض تصريحاته في ه$$ذا المج$$ال( :إن إط$$ار الفك$$ر الخ$$اص
باالعتقاد األرثوذكسي ،وكذلك معجمه اللفظي القديم يقفان كعقبة ك$$أداء في وج$$ه
استقبال أي فكر نقدي تحريري عن االس$$الم في الع$$الم الع$$ربي ..إنهم$$ا يش$$كالن
عقبة في وجه التحليالت التفكيكية للعلوم االنسانية الحديث$$ة ،وله$$ذا الس$$بب ف$$إنهم
يمنع$$ون األبح$$اث التاريخي$$ة الج$$ادة عن الق$$رآن ،والح$$ديث النب$$وي،والش$$ريعة،
والفقه ،والتفسير ،ومختلف $ج$$وانب ال$$تراث الق$$ديم .إنهم يحرم$$ون ك$$ل ذل$$ك عن
طري$$ق فت$$اوي الهيب$$ة العلي$$ا لرج$$ال ال$$دين الكب$$ار وعن طري $ق $خطب الجمع$$ة
والمواعظ التي تعتبر نفسها مقدسة أو معصومة .كل الفك$$ر النق$$دي الح$$ديث عن
التراث اإلسالمي ممنوع في كلي$$ات الش$$ريعة والمعاه$$د التقليدي$$ة ب$$ل وح$$تى في
الم$$دارس والجامع$$ات الحديث$$ة .وبالت$$الي فهن$$اك ه$$وة س$$حيقة تفص$$ل بين الفك$$ر
الديني التقليدي السائد حاليا في كل أنحاء الع$$الم الع$$ربي اإلس$$المي ،وبين الفك$$ر
العلمي الحديث المتشكل عن االس$الم وك$ل األدي$ان .نحن في واد ،والمش$ايخ في
واد آخر .واللقاء شبه مستحيل بين الطرفين)()1
وطبعا ،نحن وإن كنا نوافقه في ضرورة توف$$ير المزي$$د من البحث العلمي
في مناقشة التراث ،لكنا نختلف معه اختالفا جذريا $في المناهج ال$$تي تس$$تند إليه$$ا
تل$$ك البح$$وث ،ذل$$ك أن$$ه ي$$دعو إلى محاكم$$ة ال$$تراث ،ابت$$داء بالمق$$دس من$$ه إلى
المن$$اهج الغربي$$ة ،ونحن ن$$رى أن يح$$اكم ال$$تراث المق$$دس إلى ال$$تراث المق$$دس
نفسه ،فالمتشابه يرد إلى المحكم ،وفي المقدس نفس$$ه م$$ا يكفي من األدوات ال$$تي
تصحح ما ران عليه من فهم العصور $المختلفة.
وأرك$$ون كغ$$يره من الح$$داثيين المقل$$دين ،ينطلق$$ون من تش$$بيه اإلس$$الم
بالمسيحية من غير مراع$$اة لالختالف الش$$ديد بينهم$ا ،وله$ذا يط$$البون بمحاكم$ة
المصادر $المقدسة للمسلمين ،بما حوكمت ب$$ه المص$$ادر المقدس$$ة للمس$$يحيين م$$ع
الب$$ون الش$$ديد بين كال المص$$درين ..المص$$در الممتلئ ب$$التحريف $ال$$ذي ال يمكن
ألي عقل تجاهله ،والمصدر $الممتلئ بالقيم الثابت$ة ،ب$$ل ب$دالئل اإلعج$از ال$$تي ال
يمكن ألي صادق في البحث أن يمر عليها من دون أن يتأثر بها.
ولهذا نراه دائما يتأسف للتأخر الهائ$$ل ال$$ذي يع$$اني من$$ه الفك$$ر اإلس$$المي
قياسا $إلى الفكر المسيحي في أوروبا ..وهو يتأسف كذلك لكونه من أكبر األدي$$ان
في تاريخ البشرية ،وقد $يصبح أكبرها من حيث العدد عما قريب( ..لكنه مع ذلك
توق$$ف $عن التط$$ور $والتج$$دد بع$$د إغالق ب$$اب االجته$$اد وال$$دخول في عص$$ر
االنحطاط $:أي عصر الجمود والتكرار واالج$$ترار .ه$$ذا في حين ان المس$$يحية،
في أوروب$ا $الغربي$$ة على األق$$ل ،اض$$طرت $إلى تجدي$$د رس$$التها الديني$$ة وإع$$ادة
)(1ألقى هذا التصريح في الدار البيضاء بتاريخ .2006-11-14
42
تأويل نصوصها المقدسة بسبب الصعود ال$$ذي ال يق$$اوم للعق$$ل العلمي والفلس$$في
من$ذ الق$رن الس$ابع عش$ر ..وبالت$الي فأوروب$ا $ليس$ت متفوق$ة علين$ا بالتكنولوجي$ا$
والعلوم $الفيزيائية والرياضية فقط وانم$ا هي متفوق$ة أيض$ا في العل$وم الديني$ة أو
فلسفة الدين .وهذا شيء نجهله تماما ..أوروبا دخلت اآلن الهوت ما بعد الحداث$$ة
في حين أنن$$ا ال ن$$زال نتخب$$ط في اله$$وت م$$ا قب$$ل الحداث$$ة :أي اله$$وت الق$$رون
الوسطي $وفقهها القديم)
وهكذا ال يكتفي أركون وغيره من الحداثيين بدعوتنا إلى اعتم$$اد المن$$اهج
الغربية ،وإنما يدعونا إلى التأس$$ي بالمس$$يحية وتطوره$$ا ،وه$$و ال يعلم أن بعض
المدارس المسيحية لم تتطور $إال بعد أن تخلصت من القيم المسيحية نفسها.
وقد ذكر بعضهم ذلك التطور الذي حصل للكنيسة والمسيحية ،مع$$برا عن
مشاهداته الشخصية؛ فقال( :وإذا كانت الكنيسة مكانا ً للعبادة فى العالم المس$$يحى
كله ،فإنها فى أمريكا مكان لكل شيء إال العبادة ،وإن$$ه ليص$$عب علي$$ك أن تف$$رق
بينها وبين أى مك$ان آخ$$ر ،مع$$د للّه$$و والتس$$لية ..ومعظم قص$$ادها إنم$$ا يع$$دونها
تقليداً اجتماعيا ً ضرورياً ،ومكانا ً للقاء واألنس ،ولتمضية وقت طيب ،وليس هذه
شعور $الجمهور وح$$ده ،ولكن$$ه ك$$ذلك ش$$عور $س$$دنة الكنيس$$ة ورعاته$$ا ..ولمعظم
الكنائس ناد يتألف من الجنس$$ين ،ويجته$د $راعى ك$$ل كنيس$$ة أن يلتح$$ق بالكنيس$$ة
أكبر عدد ممكن ،وبخاصة أن هناك تنافسا ً كبيراً بين الكنائس المختلفة المذاهب،
وله$$ذا تتس$$ابق $جميع$$ا ً فى اإلعالن عن نفس$$ها بالنش$$رات المكتوب$$ة ،وب$$األنوار
الملونة على األبواب والجدران ،للفت األنظار ،وبتقديم $البرامج اللذيذة ،المشوقة
لجلب الجماهير ،بنفس الطريق$ة ال$تى تتبعه$ا المت$اجر ودور $الع$رض والتمثي$ل،
وليس هناك من بأس فى استخدام $أجمل فتيات المدين$$ة وأرش$$قهن ،وأب$$رعهن فى
الغناء والرقص والترويح)
ثم ذكر نموذجا $من نماذج مشاهداته ،فقال( :كنت ليلة فى إحدى الكن$$ائس،
ببلدة جريلى بوالية كولورادوـ فقد كنت عضواً فى ناديه$$ا ،كم$$ا كنت عض$$واً فى
عدة نواد كنسية ،فى كل جهة عشت فيها ،إذ كانت هذه ناحية هام$$ة ،من ن$$واحى$
المجتمع ،تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل ـ وبعد أن انتهت الخدمة الديني$$ة
فى الكنيسة ،واشترك $فى التراتي$$ل فتي$$ة وفتي$$ات $من األعض$$اء ،وأدى اآلخ$$رون
الصالة ،دلفنا من باب جانبى س$$احة ال$$رقص ،المالص$$قة لقاع$$ة الص$$الة ،يص$$ل
بينهما الباب ؛ وصعد( $األب) إلى مكتبه ،وأخذ كل ف$تى بي$$د فت$$اة ،وبينهم وبينهن
أولئ$$ك ال$$ذين والل$$واتى ،ك$$انوا وكن ،يقوم$$ون بالترتي$$ل ويقمن ..وك$$انت س$$احة
الرقص مضاءة ب$األنوار $الحم$راء والص$فراء والزرق$$اء ،وبقلي$ل من المص$ابيح
البيض)..
إلى آخر تصويراته لمشاهد المجون في الكنيسة ،والتي يري$$د من$$ا أرك$$ون
43
وغيره من الحداثين أن نطور $مساجدنا ومعابدنا $وفقهنا وعقائدنا لتتناسب معها.
وقد ذكر هاشم ص$$الح ..ذل$$ك التلمي$$ذ النجيب ألرك$$ون ،والناش$ر $ألفك$$اره
والمترجم لها ،الهدف األكبر الذي يسعى إليه أرك$$ون بك$$ل ص$$راحة ،وه$$و نفس
الهدف الذي سعى إليه كل المصارعين للكنيسة ،بل للمسيحية نفسها؛ فق$$ال( :في
الواقع إن هدف أركون األخير هو التوفيق بين اإلسالم والحداث$$ة مثلم$$ا فع$$ل ابن
رشد في وقته عندما وفق $بين اإلسالم والفلس$$فة االرسطوطاليس$$ية ،ومثلم$ا $فع$$ل
فالسفة التن$$وير $في أوروب$$ا عن$$دما أج$$بروا المس$$يحية ورج$$ال ال$$دين علي تق$$ديم
تنازالت كبيرة للعقل والحداثة العلمية الصاعدة)
ثم بين أن المنهج المعتم$$د ل$$ذلك ليس مج$$رد نق$$د ال$$تراث ،وال$$دعوة إلى
تحديثه ليتناسب م$$ع العص$$ر ،وإنم$$ا ال$$دعوة إلى تح$$ديث المق$$دس نفس$$ه بك$$ل م$$ا
يحمل$$ه من عقائ$$د وش$$رائع وس$$لوكات ،لينض$$بط بم$$ا يقتض$$ه ،ويص$$بح خاض$$عا
إلمالءاته ،فقال متح$$دثا عن الغ$$رب وكي$ف $اس$$تطاع أن يتحق$$ق ب$$التنوير ..( :لم
يستطيعوا التوصل إلى هذا المكتسب الكبير إال بعد أن فككوا الالهوت المس$$يحي
القديم ،وكشفوا $عن تاريخيته ومشروطيته البشرية ،ومعلوم $أنه كان يق$$دم نفس$$ه،
وكأنه الهي معصوم $تماما كالفقه القديم في اإلسالم ،ومعل$$وم أيض$$ا أن الاله$$وت
القديم يزعم امتالك الحقيقة المطلقة ،المقدسة المتعالية ،التي ال تناقش وال تمس،
وبالتالي $فكل شخص يقع خارجها أو ال يعتنقها هو شخص مدان ومص$$يره جهنم
وبئس المصير)
وه$$و به$$ذا الط$$رح ينظ$$ر إلى اإلس$$الم مثلم$$ا ينظ$$ر إلى س$$ائر األدي$$ان،
ويخضعه لنفس المناهج التي أخضعت لها ،وال يرى فيه أي مزية تم$يزه عنه$ا،
ولهذا يدعو إلى تفكيكه تفكيكا تاما ،وذلك بع$$د تخليص$$ه من القداس$$ة ،أي أن ك$$ل
شيء يصبح في مباحا للمبضع الحداثي ليزيله بحجة وقوفه في وجه التنوير$.
يقول هاشم صالح معبرا عن أفكار $أرك$ون في ه$ذا المع$نى الخط$ير..( :
فك$$ل دين ي$$زعم امتالك الحقيق$$ة االلهي$$ة المقدس$$ة دون غ$$يره ،وعلى ه$$ذا النح$$و
تش$$كلت األنظم$$ة الالهوتي$$ة الثالث$$ة ،وس$$يطرت على العق$$ول طيل$$ة العص$$ور$
الوس$$طي ،أقص$$د االنظم$$ة الالهوتي$$ة اليهودي$$ة ،فالمس$$يحية ،فاإلس$$المية ..وق$$د
مارست دورها $ـ كما يق$ول أرك$ون في اح$دي أطروحات$$ه الش$هيرة ـ على هيئ$$ة
أنظمة للنبذ واالستبعاد المتب$$ادل ،فك$$ل دين يتهم االدي$$ان األخ$$ري بأنه$$ا خ$$رجت
على الصراط $المس$تقيم ،أي األرثوذكس$$ية باللغ$$ات االجنبي$$ة..وبالت$الي $فهي تنب$ذ
بعضها بعضا ،ثم تستبعد بعضها بعض$$ا من جن$$ة هللا والنج$$اة في ال$$دار اآلخ$$رة،
كل واحد يكفر أتباع األديان األخ$$رى ،وك$$ل طائف$$ة تعتق$$د اعتق$$ادا جازم$$ا أن هللا
اصطفاها وحدها دون سواها)
وهذا الطرح كله مب$$ني على فلس$$فة كان$$ط ال$$تي اس$$تند إليه$$ا أرك$$ون وك$$ل
44
الح$$داثيين ،وهي ع$دم امتالك أي دين ألي مص$داقية في ذات$$ه ،أو ب$راهين ثابت$ة
تدل عليه ،وأن األديان مجرد اختيارات بشرية ،وال يستطيع أي دين من األدي$$ان
أن يزعم أنه يملك الحقيقة أو األدلة على ثبوته وكونه من هللا تعالى.
وبذلك ال يمكن ألي شخص أن يحاور $أمثال ه$$ؤالء ..ألن$$ه إن قي$$ل ل$$ه م$$ا
ذك$$ره الق$$رآن الك$$ريم في حوارات$$ه م$$ع المخ$$الفين ﴿ :هَ$$اتُوا بُرْ هَ$$انَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم
ص$$ا ِدقِينَ ﴾ [البق$$رة ،]111 :أعرض$$وا ون$$أوا واكتف$$وا ب$$ذكر أطروح$$اتهم $بك$$ل َ
استعالء ،ألن كل البراهين الدينية عندهم ليست عقلية ،وال علمية ،لس$$بب بس$$يط
وهو أن كانط في ذلك الزمان أن الدين يستند للعقل العملي ،واالختي$$ار $البش$$ري،
واإليمان المجرد ،وال يستند ألي براهين تثبته أوتدل عليه.
وبناء على هذه القاعدة يضع التنويريون شروطهم $لقب$$ول ال$$دين ،وهي أن
يتحول الدين إلى مزاجهم وأفك$ارهم $،ال أن يتحول$وا $هم إلى م$ا يطلب$ه ال$دين من
عقائد وقيم $وأفكار.
وق$$د ذك$$ر هاش$$م ص$$الح الم$$دى ال$$ذي بلغ$$ه أرك$$ون في طرح$$ه الح$$داثي،
وتقدمه على غيره فيه ،فقال( :أركون يقول لنا ب$$أن الح$$ل إم$$ا أن يك$$ون ج$$ذريا،
راديكاليا ،أو أنه لن يكون ..فآخر ال$$دواء الكي كم$$ا تق$$ول الع$$رب ..إن$$ه ينص$$حنا
بتفكيك كل األنظمة الفقهية والالهوتي$$ة الموروث$$ة عن العص$$ور الوس$$طي ..فك$$ر
أركون يتجاوز $كل هؤالء بطبيعة الحال ألنه يعيش في عصر الحداثة أو م$ا بع$د
الحداثة ،ويحاض$$ر في كبري$$ات جامع$$ات الع$$الم ،ول$$ذا فه$و $ينظ$$ر إلى الظ$$اهرة
الديني$$ة من كاف$$ة جوانبه$$ا ،ويع$$رف كي$$ف يفك$$ك ببراع$$ة منقطع$$ة النظ$$ير ك$$ل
االنغالقات التراثية في كل األديان)
ويذكر كيف كان يتعامل مع األجي$ال التنويري$$ة ال$تي خرجه$ا ،فق$ال( :في
دروسه األسبوعية الرائعة في السوربون كثيرا ما ك$$ان ينفع$$ل ،وي$$دعونا $إلى أن
نخرج من أقفاصنا وسجوننا $التراثية لكي نتنفس الهواء الطلق في الخارج)
وأحب أن أذكر هنا أن الكثير من المغترين بفك$$ر أرك$$ون يتص$$ورون أن$$ه
يكتفي بمجرد $نقد التراث ،متناسين أن ذلك مجرد مرحلة من مراحله الفكرية ،أو
هي معركة من المعارك التي يشنها على ال$$دين نفس$$ه ..وله$$ذا ن$$راه في مواض$$ع
يشن حربه على طائفة من الطوائف ،فيتصور $البعض أنه ينتصر لغيرها ،ولكنه
في الحقيقة ال يفعل ذل$$ك ،وإنم$$ا ينف$$رد بك$$ل واح$$دة منه$$ا ،ليقض$$ي عليه$$ا بع$$دها
جميعا ،ال يفرق في ذلك بين أقوالها الصحيحة المعتبرة التي تستند إلى المصادر$
المقدسة ،وبين رؤاها المجردة عن تلك المصادر$.
وقد ذكر هاش$$م ص$$الح في مق$$ال ل$ه نش$$رته بعض الجرائ$$د الس$$عودية ،أن
محمد أركون م$$ع تش$$دده م$$ع المق$$دس في ك$$ل مراح$$ل حيات$$ه إال أن حدت$$ه علي$$ه
زادت بعد أحداث 11من سبتمبر ،والتي كانت فرص$$ة لظه$$ور اإللح$$اد الجدي$$د،
45
كما كانت فرصة لتغول الحداثة ،وانتشار التنوير ،وتبنيه من طرف ممالك النفط
العربية خصوصا$.
فقد ذكر في مقاله المعن$ون بـ [ه$ل تغ$$ير محم$د أرك$ون!؟] كت$$اب محم$$د
أركون عن [النزع$ة االنس$$انية واإلس$$الم ..مع$$ارك $فكري$$ة ومقترح$$ات من أج$$ل
الخ$$روج من األزم$$ة] ،وطروح$$ات أرك$$ون الجدي$$دة في$$ه ،فق$$ال( :واآلن م$$اذا
ي أن نعم.. حصل؟ هل غ$$ير موقف$$ه في كتاب$$ه األخ$$ير؟ ه$$ل ع$$دل من$$ه؟ يخي$$ل إل َّ
صحيح انه كان يق$$ول في الس$$ابق $بض$$رورة تط$$بيق المنهج العلمي أو الت$$اريخي$
على التراث العربي اإلسالمي بكل صرامة ودقة موضوعية ،وصحيح أن$$ه ك$$ان
يمارس هذا التطبيق $عمليا ً من خالل مشروع عمره الطويل العريض :نقد العق$$ل
اإلسالمي ..ولكنه كان يمر م$$رور الك$$رام على ذك$$ر التن$$وير ويتحاش$$ى التوق$$ف
عنده طويالً ،أو قل إنه بعد ان يتوقف عنده كان كث$يراً م$ا يح$ذر من س$لبياته من
دون أن ينكر ايجابياته بالطبع ..أما اآلن ،وفي هذا الكتاب ،فإنه يعترف صراحة
بضرورة أن تمر الشعوب العربية واإلسالمية بالمرحلة التنويرية ،مثلم$ا حص$ل
للشعوب االوروبية بدءاً من القرن الثامن عشر)
ي أنه بعد ضربة ( )11سبتمبر ثم باالخص بعد ض$ربة ( ويقول( :يخيل إل َّ
)11مارس في مدريد $راح يغ$ير مواقف$ه النقدي$ة ،أو ق$ل راح يجعله$ا راديكالي$ة
أكثر ..لم يعد يراعي التيار التقليدي ،ويجامل$ه أك$ثر مم$$ا ينبغي ،كم$ا ك$ان يفع$$ل
س$$ابقاً .لق$$د أجبرت$$ه ه$$ذه التفج$$يرات التاريخي$$ة والمأس$$اوية على استش$$عار حجم
المرض العضال بع$$د أن اس$$تفحل في أحش$$اء المجتمع$$ات العربي$$ة واإلس$$المية،
ووصل $الى ذروته القصوى)
ه$$ذه خالص$$ة مبس$$طة لطروح$$ات أرك$$ون وأه$$دافها ال$$تي ال تختل$$ف عن
أهداف سائر التنويريين ،وهي هدم اإلسالم ع$$بر تمري$$ره على المن$$اهج الغربي$$ة
التي مورست مع الكتاب المقدس ،ومن شاء أن يطلع عليها من خالل كتب$$ه ،فل$$ه
ذلك ،ولكن بشرط أن يقرأها قراءة كلية ،ال جزئية ،فذكاء الرجل يجعل$$ه يتح$$رك
بهدوء ،من غ$ير أن يث$ير أي حساس$ية ..ول$ذلك ال يفهم$$ه إال من عرف$$ه وع$رف
مقاصده ،وخرج من ع$$الم األلف$$اظ المج$$ردة إلى المع$$اني الك$$برى ال$$تي تنط$$وي
عليها.
فهو مثال قد يشيد بابن رشد أو غيره ،فيتص$$ور الق$$ارئ أن$$ه ي$$دعو إلى أن
نلتزم نفس منهج ابن رشد في التوفيق $بين الشريعة والفلسفة والعقل ..لكن$$ه يع$$ود
بعد ذلك ،ويذكر أن طروحات $ابن رشد طروحات $هزيل$$ة ج$$دا أم$$ام م$$ا يقتض$$يه
التنوير $..فإذا سألته عن ذلك أجابك وبطرق $ملتوية كث$$يرة بأن$$ه إع$$ادة النظ$$ر في
المقدس نفسه أو معالجته ليصبح متناسبا $مع الحداثة والعصر $..أي تع$$اد خياطت$$ه
وتفصيله ليتناسب مع المزاج الذي تفرضه العقول المعاصرة ..العق$$ول الممتلئ$$ة
46
بالقيم الغربية ،ال العقول المممتلئة باإليمان باهلل ورسوله.
47
أركون ..وابن نبي
أركون وابن نبي كالهما من الجزائر ،وكالهم$$ا ول$$د في عه$$د االس$$تعمار$
الفرنسي ،وكالهما درس في فرنسا ،وتعلم اللغة الفرنسية ،وأتقنها وكتب بها..
وكالهما اهتم بالحض$$ارة والنهض$ة ،ودع$ا إليه$ا ..وكالهم$ا $اهتم ب$$القرآن
الكريم وكتب فيه ..ولكيلهما $جمهور عريض في المشرق والمغرب..
وإلى هنا تنتهي القواسم المشتركة ،لتبدأ المفارقات العجيبة ..وال$$تي أش$$ار
إليها رسول هللا حين قالَ ( :مثَ ُل المؤمن ال$$ذي يق$$رأُ الق$$رآن ويعمُ $ل ب$ه ك َمثَ$$ل
األُ ْت ُرجَّة؛ ريحُها طيِّب ،وطع ُمها طيِّب ،و َمثَ ُل المؤمن الذي ال يقرأ الق$$رآن ك َمثَ$$ل
التَّمرة؛ ال ريح لها ،وطع ُمها حل ٌو ،و َمثَل المنافق $الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيحانة؛
ريحها طيِّب ،وطعمها مر ،و َمثَل المن$$افق ال$ذي ال يق$$رأ الق$رآن ك َمثَ$$ل الحنظل$$ة؛
ر)()1ليس لها ريح ،وطعمها م ٌّ
فأحدهما ،يمثل ذلك المؤمن الذي ربي في الكت$$اتيب القرآني$$ة ،وحبب إلي$$ه
القرآن الكريم في صغره الباكر ،وعندما ذهب إلى فرنسا $،ذهب إليها وهو يحمل
ثقافته وهويته ودينه ،ولذلك ك$$ان يق$$رأ الق$$رآن الك$$ريم ،ويعيش معاني$$ه ،وينفع$$ل
لها ،ويعتقد أنها الترياق الذي يحل كل أزمة وقعت فيها أمته ،وأن تخلفها وح$$تى
االس$$تعمار $ال$$ذي ابتليت ب$ه ،لم يكن إال ولي$$د ابتعاده$ا $عن مص$$ادرها المقدس$$ة..
ولذلك استطاع من خالل تدبره أن يستنبط $شروط $النهضة وأسبابها $ووسائلها.. $
وهو في ذلك كله ،ومع كونه بين أساطين التنوير الغربي ،إال أنه لم ينبهر
بحضارة الغرب ،وال ماديتها ،ولذلك حُفظ له كالم ربه الذي لم ينحرف $عنه قي$$د
أنملة.
ولذلك لم ي$$ذهب لجامع$$ة الس$$ربون ليتلقى الفلس$$فة الغربي$$ة ،وال أفكاره$$ا،
فعن$$ده م$$ا يكفي من الفلس$$فة واألفك$$ار ،وإنم$$ا ذهب إليه$$ا ليتعلم التقني$$ات ال$$تي
تحتاجها أمته ..فاألمة تحت$اج إلى تقني$ات الغ$رب ،وتط$وره الم$ادي ،وال تحت$اج
إلى فلسفته وأفكاره..
وقد كان ابن نبي يدرك جي$$دا أن تل$$ك الفلس$فة واألفك$ار الغربي$$ة ل$$و نفعت
أحدا من الناس النتفع بها الغرب نفسه ،وكيف $ينتفع بها ،وه$$و يم$$د أس$$اطيله في
ع$$رض المحيط$$ات والبح$$ار ،ويم$$د طائرات$$ه الحربي$$ة في أج$$واء المستض$$عفين
ليمألهم رعب$$ا ،وليف$$رض عليهم همينت$$ه وكبري$$اءه وس$$طوته ،وليب$$تز منهم آخ$$ر
قطرة من دمائهم وعرقهم $والثروات التي أتاحها هللا لهم.
ولذلك يمكن اعتباره مصداقا لما ورد في الحديث الشريف من كون$$ه مث$$ل
)(1رواه البخاري ،)5111( 2070 /5ومسلم )797( 549 /1
48
األترج$$ة ،ذات الرائح$$ة الطيب$$ة ،والطعم اللذي$$ذ ،باإلض$$افة إلى اس$$تعمالها في
المداواة ،وكونها $ـ كما يذكر األطباء القدامى ـ من األدوية المفرحة ،والمؤثر $في
نفسية آكليها.
وهكذا هو مالك بن نبي رحمه هللا ،فقد كان أترجة انتفع الن$$اس برائحته$$ا،
وبتلك الوصفات الربانية التي وصفها لنهضة األمة ورقيها ،ولم يستعن في ذلك،
ال بمناهج الشرق ،وال مناهج الغرب ،وإنما استفادها من القرآن الكريم ..وص$$فة
الهداية اإللهية ،والتنوير $الرباني..
وقد ذكر في كتابه العظيم [الظاهرة القرآنية] أنه لم ينطلق في هذه النت$$ائج
التي وصل إليها من تقليد اآلباء وال األج$$داد ،وإنم$$ا وص$$ل إليه$$ا ع$$بر ال$$براهين
العقلية التي جعلته يرى أن مصدر القرآن الكريم ه$$و الحقيق$$ة المطلق$$ة ،الممتلئ$$ة
بالثب$$ات واالس$$تقرار ،ال منتوج$$ا هالمي$$ا ثقافي$$ا ولي$$د بيئ$$ة معين$$ة وزم$$ان معين
وأحوال نفسية معينة.
ثم من خالل القرآن الكريم ،ومنابع عظمته ذك$$ر كي$$ف ع$$رف رس$$ول هللا
،وكي$$ف راح يش$$يد ب$$ه ،باعتب$$اره المث$$ال األعلى ،والنم$$وذج $األكم$$ل ،وأن$$ه
اصطفاء رباني لتلك الوظيفة الخط$$يرة ،ال$$تي تمث$$ل التن$$وير الحقيقي ،ال التن$$وير
المزيف ،كم$$ا ق$$ال تع$$الى في وص$$ف رس$$ول هللا ﴿ :يَاأَيُّهَ$$ا النَّبِ ُّي إِنَّا أَرْ َسْ $لنَاكَ
َشا ِهدًا َو ُمبَ ِّش ًراَ $ونَِ $ذي ًراَ )45( $ودَا ِعيً$$ا إِلَى هَّللا ِ بِإِ ْذنِِ $ه َو ِسَ $راجًا ُمنِ$$يرًا﴾ [األح$$زاب:
]46 ،45
ومن خالل ه$$$ذين المص$$$درين :الكت$$$اب والنب$$$وة ..راح ابن ن$$$بي يفن$$$د
الحضارة الغربية ،ومعها الفلسفة المادية التي قامت عليها ،ليدعو إلى الحض$$ارة
اإليمانية التي تنطلق من المقدس باعتباره يمث$$ل الحقيق$$ة المطلق$$ة ،ال$$تي ال يمكن
التعرف على القيم الثابتة للكون إال من خاللها.
ومن خالل تلك المناقشات للفكر المادي ،والحضارة التي قام عليها ط$$رح
لنا ابن نبي البديل الحضاري والتنويري ..وال$ذي ينس$جم $تمام$ا م$ع هوي$ة األم$ة
وشخصيتها ،بل يجعلها ـ إن هي التزمت بمقدساتها ـ في مرتبة أسمى بكث$$ير $من
تلك المرتبة التي دعانا إليها أركون وغيره من التنويريين.
هذا هو مالك بن نبي مصداق $األترجة التي وردت في الحديث الش$$ريف..
أما الثاني ،فال يهمنا ماذا ينطبق على شخصه ..هل ينطبق علي$$ه وص $ف $التَّم$$رة
التي ال ريح لها ،وطع ُمها $حل ٌو ،أو وصف الرَّيحانة؛ التي ريحها طيِّب ،وطعمه$$ا
مر ،أو وصف الحنظلة؛ التي ليس لها ريح ،وطعمه$$ا م$$رٌّ ..ولكن يهمن$$ا وص$ف$
أفكاره التي ال شك في كونه$$ا ال تختل$ف أب$$دا عن الحنظل$$ة ..فهي م$$رة ،وال ريح
لها ،وإن كان لها ريح فهي ريح منتنة.
وهكذا كان أركون الذي لم ي$$رب في كت$$اتيب الق$$رآن الك$$ريم ..وإنم$$ا ربي
49
بأيدي اآلباء ال$بيض ،وعن$دما ذهب إلى فرنس$ا لم يتعلم الكهرب$اء ،وال الهندس$ة،
وإنم$$ا ذهب لتعلم فك$ر الغ$$رب وفلس$$فته ،ليتح$ول إلى مستش$رق فرنس$$ي ،ال إلى
مهندس عربي أومسلم.
ولذلك راح ينظر إلى أمته وشعبه وبلده كما ينظر المستشرقون الحاقدون،
مع كونه يعلم أن بلده عاش فترة طويلة ضحية بين جالدي فرنسا $المجرمة ،وأن
الكثير من أسباب تخلف بلده تعود إلى ذلك االستعمار $البغيض..
لكن ذلك لم يمنع أركون من أن يشيد بفرنسا ،وي$$دعو إلى قيمه$$ا ،وينس$ى$
أن قيمها هي التي دفعتها الستعمار $بالده ،ونهب ثرواتها$.
وهكذا راح أرك$$ون ـ على عكس مال$$ك بن ن$$بي ـ يش$$يد بأولئ$$ك الم$$اديين
الذين احتقروا المقدس ،وتصورو $أن اإلنسان هو رب نفسه ،وسيد مصيره ،وأنه
ال مقدس في الوجود $،بل ال حقيقة ثابتة في الوجود ،إال الهوى المجرد.
ول$$ذلك ك$$انت قراءت$$ه للق$$رآن الك$$ريم كق$$راءة المن$$افق ال$$ذي يبحث عن
الثغرات ،ال المؤمن الذي يبحث عن الحقائق..
ولذلك سول لنفس$ه أن يق$ترح على رب$ه ،وأن يق$دم رأي$ه بين ي$دي كتاب$ه،
وأن يخضعه لتلك المقاييس البش$$رية ال$$تي يحل$$ل به$$ا أي كالم ،وتحل$$ل معه$$ا أي
نفسية.
وقد كان في موقفه هذا يشبه ذلك الموقف الذي ذكره القرآن الكريم؛ فقال:
ورةٌ فَ ِم ْنهُ ْم َم ْن يَقُ$$و ُل أَيُّ ُك ْم زَا َد ْت$هُ هَِ $ذ ِه إِي َمانً$$ا فَأ َ َّما الَّ ِذينَ آ َمنُ$$وا $زلَ ْ ُ
ت ُسَ $ ﴿ َوإِ َذا َم$$ا أ ْنِ $
فَ$$زَا َد ْتهُْ$م إِي َمانً$$ا َوهُ ْم يَ ْستَب ِْش $رُونَ (َ )124وأَ َّما الَّ ِذينَ فِي قُلُ$$وبِ ِه ْم َمَ $رضٌ فَ$$زَا َد ْتهُ ْم
ِرجْ سًا إِلَى ِرجْ ِس ِه ْم َو َماتُواَ $وهُ ْم َكافِرُونَ ﴾ [التوبة]125 ،124 :
وهكذا كان ابن نبي كلما سمع آية من القرآن الكريم اهتز واستبشر ،وراح
يبحث فيه$$ا باعتباره$$ا ترياق $ا $رباني$$ا ،ووص$$فة إلهي$$ة أنعم هللا به$$ا على عب$$اده،
ليخرجهم $من الظلمات إلى النور.
أما أرك$ون ،فكلم$ا س$مع آي$ة راح يطب$ق عليه$ا مقاييس$ه ال$تي تعلمه$ا من
أساتذته ،ليبحث في الحالة النفسية التي أفرزتها ،أو في الظاهرة االجتماعية التي
ول$$دتها ،أو في البيئ$$ة الزماني$$ة ال$$تي أنتجته$$ا ،أو في الظ$$روف المختلف$$ة ال$$تي
رعتها..
ليخ$$رج بع$$د ك$$ل ذل$$ك الت$$دبر من الق$$رآن الك$$ريم $بم$$ا خ$$رج ب$$ه الولي$$د بن
ت المغيرة الذي وصف $هللا تعالى قراءته للق$$رآن الك$$ريم؛ فق$$الَ ﴿ :ذرْ نِي َو َم ْن خَ لَ ْق ُ
ت لَهُ تَ ْم ِهيدًا ت لَهُ َمااًل َم ْمدُودًا (َ )12وبَنِينَ ُشهُو ًداَ )13( $و َمهَّ ْد ُ َو ِحيدًا (َ )11و َج َع ْل ُ
ص$$عُودًا ( ُ
ط َم ُع أَ ْن أَ ِزي َد (َ )15كاَّل إِنَّهُ َكانَ آِل يَاتِنَا َعنِيدًا (َ )16سأرْ ِهقُهُ َ ( )14ثُ َّم يَ ْ
$ر )17إِنَّهُ فَ َّك َر َوقَ َّد َر (﴿ )18فَقُتِ َل َك ْيفَ قَ َّد َر ( )19ثُ َّم قُتِ َل َك ْيفَ قَ َّ $د َر ( )20ثُ َّم نَظََ $
ال إِ ْن هَ َذا إِاَّل ِسحْ ٌر يُ$ْ $ؤثَ ُر ( س َوبَ َس َر ( )22ثُ َّم أَ ْدبَ َر َوا ْستَ ْكبَ َر ( )23فَقَ َ ( )21ثُ َّم َعبَ َ
50
)24إِ ْن هَ َذا إِاَّل قَوْ ُل ْالبَ َش ِر﴾ [المدثر]25 - 11 :
وهكذا فعل أمثاله من الحداثيين الذين انشغلوا بالمال والبنين وزينة الحي$$اة
الدنيا ..فبعد تفكرهم وت$$دبرهم وتق$$ديهم ،راح$$وا يقول$$ون عن الق$$رآن :إن$$ه مج$$رد
سحر أثر في بيئة معينة ،وزمن معينة ..وأن سحره قد زال بزوال تلك العصور$.
هذا هو الفرق بين مالك بن نبي ذلك العمالق الكبير في الفكر اإلس$$المي..
وبين أركون ذلك القزم الحقير الذي وضع نفسه عبدا من عبيد الغ$$رب ،وألجلهم
باع دينه ،ولم يظفر بدنياه.
51
هاشم صالح ..والتنوير األوروبي
من الشخصيات التنويرية التي صدرها $لنا السربون ،وأخرجه$ا $لن$$ا أس$$تاذ
الحداثة األكبر [محمد أركون] ،وكانت من أكثر الشخصيات مس$$اهمة في ش$$رح
أفكاره ،ونشرها ،والدعوة إليها شخصية [هاشم ص$$الح]( ، )1ال$$ذي نس$$تطيع من
خالل كلماته الصريحة والجريئة أن نفهم األهداف الكبرى من التنوير والحداثة،
وكونها $ال تعدو تقلي$دا حرفي$ا للتن$وير األوروبي ،واعتب$اره نموذج$ا مثالي$ا يمكن
تطبيقه ،بل يجب تطبيقه على واقعنا $اإلسالمي بمصادره المقدسة.
وهم يفعل$$$ون ه$$$ذا من غ$$$ير نظ$$$ر إلى الف$$$وارق الكب$$$يرة بين اإلس$$$الم
والمسيحية ،وال بين الق$$رآن الك$$ريم والكت$$اب المق$$دس ،وال بين رؤي$$ة المس$$لمين
لإلس$$الم ،ورؤي$$ة المس$$يحيين ل$ه ..فهم يعت$$برون الك$$ل واح$$دا ،ول$$ذلك ي$$رون أن
التجربة التي نجحت في أوروبا ستنجح إن طبقت حرفيا $في بالد المسلمين..
وك$$ل ذل$$ك مغالط$$ات ..فاإلس$$الم يختل$$ف عن المس$$يحية ،والق$$رآن الك$$ريم
يختلف عن الكتاب المقدس ،والمؤسس$$ات الديني$$ة اإلس$$المية تختل$$ف ج$$ذريا عن
المؤسسات $الدينية المسيحية ..وكون أوروبا $تخلصت من الكنيسة ،لم يضعها في
التنوير $الحقيقي ،بل إن جرائمها بعد فترة التنوير كانت أكبر بكثير من جرائمه$$ا
في الفترة التي حكمت فيها الكنيس$$ة ،فاالس$$تعمار والح$$روب العالمي$$ة واإلب$$ادات
الجماعية كلها ممارسات وجرائم حصلت في عصر التن$$وير وابت$$داء من الث$$ورة
الفرنسية ،ولم تقع الكنيسة في كل ذلك.
لكن التنويريين ال يلتفون لكل هذا ،بل يتصورون أن الغ$$رب يمث$$ل الغاي$$ة
الكبرى ،ونهاية التاريخ ،ولذلك يجب أن نضحي بكل مقدساتنا للتحقق ما وص$$ل
إليه.
وقد كتب هاشم صالح لنشر ه$$ذه األطروح$$ة التنويري$$ة الكث$$ير من الكتب،
وترجم $أعماال كثيرة ،وخصوصا لمحمد أركون الذي أعجب ب$$ه إعجاب$$ا ش$$ديدا،
ومن مؤلفاته كتاب [معضلة األصولية اإلسالمية] ،وكتاب [االنسداد التاريخي]،
وكتاب [مدخل إلى التنوير األوروبي]
والكتاب األخير يمث$$ل ج$$وهر م$$ا ي$$دعو إلي$$ه هاش$$م ص$$الح ،وال$$ذي ذك$$ر
)(1مفكر وكاتب ومترجم سوري متخص$ص في قض$ايا التجدي$د ال$ديني ونق$د األص$ولية ونق$اش قض$ايا
الحداثة وما بعدها .حاصل على ال$دكتوراه في النق$د األدبي الح$ديث من جامع$ة الس$وربون .1982وعلى دبل$وم
الدراسات العليا من جامعة دمشق .1975يكتب بأهم الصحف والمجالت الدولي$$ة ،نق$$ل هاش$$م ص$الح العدي$$د من
مؤلفات محمد أركون إلى اللغة العربية ،انظر :حوار مع الكاتب والمفكر السوري هاشم صالح :س$$وف تحص$$ل
في اإلسالم ثورة معرفية كتلك التي حصلت في المسيحية الغربي$$ة ،م$$والي أحم$$د ص$$ابر ،مؤسس$$ة مؤمن$$ون بال
حدود.
52
مصادره الفكرية فيه في مقال له بعنوان [نقد العقل التقليدي لإلسالم ..المش$$روع
الفلسفي الكبير لمحمد أركون]( ، )1والذي ذكر فيه أثر محمد أركون في تش$$كيل
عقله وطريقة تفكيره ،فقال( :كل ما كتبه أرك$$ون من$$ذ أربعين س$$نة وح$$تى الي$$وم
يندرج تحت العنوان العريض التالي[ :نقد العقل اإلسالمي] إن$$ه مش$$روع العم$$ر
وخالصة الفكر)
وحتى يزيل االلتباس المرتبط $بهذا النوع من النقد ،وع$$دم توجه$$ه لل$$تراث
فقط ،وإنما للمصادر المقدسة أيض$$ا ،عقب على ذل$$ك بقول$$ه ..( :وانم$$ا تع$$ني م$$ا
يلي ،وبحسب ما أفهم فكر أركون بع$$د أن عاش$$رته أو ب$$األحري عاش$$رت فك$$ره
طيلة أكثر من ربع قرن :كل التراث العربي اإلسالمي $من$$ذ البداي$$ة وح$$تى الي$$وم
ينبغي أن يتعرض لغربلة عامة شاملة ،من أجل معرفة بنيت$$ه الداخلي$$ة ،أو كيفي$$ة
تش ّكله التاريخي $طيلة القرون الستة األولى بشكل خاص ،فما جف من$$ه وتخش$$ب
ومات نطرح$$ه ،ونبقي فق$$ط على الج$$وهر ال$$روحي واألخالقي لرس$$الة االس$$الم
العظيم)
وه$$و طبع$$ا ،كس$$ائر التن$$ويريين يس$$تعملون $مث$$ل ه$$ذه األلف$$اظ [الج$$وهر
الروحي $واألخالقي لرسالة االسالم العظيم] ،ليوهموا القارئ أن نق$$دهم وه$$دمهم$
ال يمس اإلسالم ،وإنما يمس ما تخشب منه ،وهم ال يعلمون أنهم يقص$$دون به$$ذا
التخشب كل الحقائق اإلسالمية ابتداء من العقائد األساسية القطعية ال$$تي ال يمكن
أن يقوم الدين من دونها$.
وقد عبر هاشم صالح عن ذلك بص$$راحة بقول$$ه( :فالمعرف$$ة ال$$تي نمتلكه$$ا
عن الفترة التأسيسية للتراث اإلسالمي ال تزال الهوتية ،أس$$طورية تض$$عه ف$$وق$
التاريخ ،أو فوق المشروطية االجتماعية التاريخية)
وهذه العبارة هي التي تلخص ج$$وهر أك$ثر الح$$داثيين والتن$$ويريين ،وهي
اعتبار اإلس$$الم ومقدس$$اته ولي$$د ف$$ترة تاريخي$$ة مح$$ددة ،ول$$ذلك ال يمكن اعتب$$اره
عندهم معبرا عن الحقيقة المطلقة ،أو رس$$الة إلهي$$ة ع$$ابرة للزم$$ان ،وإنم$$ا ه$$و ـ
بحسبهم $ـ يعبر عن الفكر الذي ساد في تلك البيئة الزمنية ،والذي يمكن تط$$ويره،
بل تحويره ليتحول إلى أي بيئة جديدة بما يتناسب معها.
ولذلك كان جوهر رسالة جميع الحداثيين هو تحويل اإلس$$الم من مرحلت$$ه
التاريخية التأسيسية إلى مرحلة حديثة ،ولو بتفريغ$$ه من محت$واه تمام$ا ،باعتب$ار
أن ذل$$ك المحت$$وى $المق$$دس لم يع$$د نافع$$ا وال ص$$الحا في ه$$ذا الزم$$ان ..فالنفعي$$ة
البراغامتي$$ة هي المح$$دد عن$دهم لص$الحية الش$يء ،ال الحقيق$ة ال$$تي ت$$دل عليه$ا
األدلة أو البراهين.
)(1نقد العقل التقليدي لإلسالم ..المشروع الفلسفي الكبير لمحمد أركون:بقلم :هاشم صالح ،الفجر ني$$وز،
نشر في الفجر نيوز يوم .2008 - 02 - 03
53
وقد ذكر هاشم صالح هذا المعنى عن$$د إجابت$$ه على س$$ؤال طرح$$ه بقول$$ه:
(لماذا يشكل ذلك حاجة تاريخية ال بد منها ،أو ال مندوحة عنها؟)
ثم أج$$اب على ذل$$ك بقول$$ه( :ألن المس$$لمين ،ك$$ل المس$$لمين وليس فق$$ط
الع$$رب ،وص$$لوا $اآلن إلى مف$$ترق ط$$رق :فإم$$ا أن ينخرط$$وا في ه$$ذه العملي$$ة
الجراحية الخطيرة الضرورية لمصالحة االسالم مع الحداثة ،وإما أن يستس$$لموا
للمقادير ،وينقطعوا $عن حركة التاريخ كليا ً في عصر العولمة الكونية ويص$$بحوا
مهمشين وواقعين في مؤخرة كل األمم)
وهو يشبه هذه العملية الجراحية الخط$$يرة ال$$تي يري$$د إجراءه$$ا للمص$$ادر$
العميقة لإلس$$الم بم$$ا حص$$ل ألوروب$ا $عن$$دما راحت تس$$خر من الكنيس$$ة وال$$دين
وتستبدله بالمذاهب والفلسفات المادية ،فيقول( :ويراهن كاتب هذه السطور $علي
$ف حس$$اباتها الحقيقة التالية :لو لم تخض أوروبا معركتها $م$$ع نفس$$ها ،ل$$و لم تصّ $
م$$ع ذاته$ا التاريخي$$ة -أي م$$ع تراثه$$ا المس$يحي الق$$ديم -لم$ا اس$تطاعت أن تقل$$ع
حضارياً $وأن تسيطر على الع$$الم .فأزم$$ة ال$$وعي األوروبي $م$$ع نفس$$ه ك$$انت ق$$د
وصلت إلي حد التفاقم األقصي الذي يهدد باالنفجار أو باالنهيار)$
ثم يحدد بدقة نوع النقد الذي يجب أن يوجه للعقل المسلم ،حتى ينسجم م$$ع
الحداثة؛ فيقول( :مشروع المستقبل ليس نقد العقل العربي كما يتوهم$$ه الج$$ابري
على الرغم من تقديرنا لجهد المحاولة لديه ولبعض النقاط االيجابية أيضا ،وإنم$ا
هو مشروع نقد العقل اإلسالمي التقليدي .لماذا نق$$ول ذل$$ك؟ ألن$$ه ال يوج$$د ش$$يء
اسمه عقل عربي أو تركي أو إيراني وإنما يوجد عقل إسالمي أو ديني باألحري
مثلم$$ا يوج$$د عق$$ل علمي أو فلس$$في أو وض$$عي $س$$مه م$$ا ش$$ئت .وبينهم$ا $قطيع$$ة
الحداثة)
وبذلك ،فإن النقد الحداثي للعقل عن$$ده ه$$و نق$$د لطريق$$ة تفك$$ير المس$$لم ،أي
مس$$لم ،وفي أي مرحل$$ة من مراح$$ل الت$$اريخ ،م$$ا دام ي$$ؤمن ب$$الغيب ،ويعتق$$د أن
مصادره المقدسة ،تحوي قيما عقدية وسلوكية ثابتة ،وق$$د ع$$بر عن ه$$ذا المع$$نى
بقوله( :وبالتالي فالعقل البشري واح$د عن$$د جمي$ع الش$عوب .فق$$ط هن$$اك ش$$عوب
تحررت من العقل الالهوتي الغيبي الطائفي القديم كشعوب أوروبا $الغربية مثال،
وشعوب $لم تتحرر بعد ..وهذه هي حالتنا نحن)
وليؤكد هذا المعنى ،يعود كسائر الحداثيين إلى أوغس$$ت ك$$ونت ،وفلس$$فته
الوضعية ،باعتب$ار أن ك$ل التق$$دم والتط$$ور( $ال$$ذي نش$$هده أم$$ام أعينن$$ا الي$$وم في
مختلف مجتمعات الغرب هو ثمرة الفلسفة الوضعية التي ازده$$رت في النص$$ف
الثاني من القرن التاسع عشر ،فهذه الفلسفة كانت تعتقد اعتقاداً جازما ً بأن العق$$ل
والعلم هم$$ا الل$$ذان ينبغي أن يق$$ودا البش$$رية نح$$و الحض$$ارة والتق$$دم وال$$رق ّي،
وبالتالي $فينبغي أن يحالّ محل الالهوت المسيحي التقليدي ال$$ذي أدى إلى مح$$اكم
54
والمستويات)()1 التفتيش ،والتواكل ،وتأخر $المجتمع على كافة األصعدة
ووضح ذلك في محل آخر بصراحة ،فقال( :وبالتالي فالشعوب تم$$ر بع$$دة
مراحل من التط$ور $العقلي والفك$ري؛ فهن$$اك أوال المرحل$ة األس$$طورية البدائي$$ة
للعقل ،تليها المرحلة الدينية األكثر تطورا ،ثم أخ$$يرا المرحل$$ة العلمي$$ة الفلس$$فية،
وهي أعلى درجات العقل أو العقالنية)
وهو ينتقد الجابري $وأمثاله ممن لم يتجرؤوا على اقتحام المقدس$$ات خالف$$ا
ألستاذه أركون؛ فقال( :قناعتي هي أن الجابري لم يتجرأ على مواجه$$ة المش$$كلة
الالهوتي$$ة وجه$$ا لوج$$ه؛ فق$$رر خ$$وض المعرك$$ة م$$ع العق$$ل الع$$ربي $ال العق$$ل
اإلسالمي)
لكنه يعود فيعتذر ل$ه ،وألمثال$$ه ب$$أن الس$بب ليس ع$دم قن$$اعتهم بض$رورة
مواجهة المقدسات ،وإنم$$ا لك$$ونهم يمارس$$ون بعض التقي$$ة م$$ع المجتمع$$ات ال$$تي
يعيش$$ون فيه$$ا ح$$تى ال يص$$طدموا معه$$ا ،يق$$ول في ذل$$ك ..( :وه$$ذا تحاي$$ل على
الموضوع في نهاية المطاف أو تهرب من المواجهة ،ولكنه مفهوم ألن للتقليديين
سطوة في الشارع ،ويستطيعون تهديد أي مثقف وتخويفه)
ليس ذلك فقط ،وإنما لكونهم أيضا ـ بحسبه ـ يفتق$$رون لتل$$ك المن$اهج ال$$تي
يملكها أستاذه أركون ..ذلك أنه وحده من (يمتلك التكوين المنهجي الكافي والع$$دة
المفهومية والمصطلحية للقيام بنقد العقل الديني في اإلسالم ..ووحده من بين ك$$ل
المثقفين العرب من يمتلك ذل$$ك اآلن ..وك$$ل من يفهم في ش$$ؤون الفك$$ر وش$$جونه
يع$$رف ذل$$ك ..وك$$ل مطل$$ع على الفك$$ر الح$$ديث وتاريخ$$ه ومناهج$$ه العويص$$ة
ومصطلحاته يعرف م$$ا ال$$ذي أقص$$ده هن$$ا ..ول$$ذلك راهنت علي ه$$ذا الفك$$ر من$$ذ
ثالثين عاما وال أزال)
)(1أوغست كونت :الفلسفة الوضعية ومفهوم التقدم ،هاشم صالح ،مجلة األوان ،ديسمبر .2013
55
شحرور ..المهندس األفاك
ال يظنن أحد أن في هذا العنوان نوعا من الشتيمة أو البذاء أو الفحش؛ فقد
نهينا عن ذلك كله ،وإنما هو وصف للواقع كم$$ا ه$$و ،ذل$$ك أن$$ا إن س$$مينا الحم$$ار
حمارا ،والكلب كلبا ،والخنزير خنزيرا ،لم نكت شاتمين ،وال طاعنين ،ألن تل$$ك
األسماء هي األسماء التي ال تعرف $الحمير وال الكالب وال الخنازير إال بها.
ومن هنا كان وصفنا لمحم$$د ش$حرور $بكون$ه مهندس$ا $وأفاك$ا ،ليس س$وى
أوصاف $دقيقة وعلمية تختصر حقيقة هذا الرجل ومش$$روعه الفك$$ري ،ورس$$الته
التي ندب نفسه لها ،والتي وجدت تجاوبا من جهات كثيرة تريد أن تستأص$$ل $من
خاللها الدين من أساسه.
أما كونه مهندسا ،فال نريد منها كونه دارسا للهندسة المدني$$ة ،ذل$$ك أنن$$ا ال
نجد له فيها أي نتاج علمي ،ب$ل ه$$و فيه$$ا ت$ابع مج$رد ،لم يتج$$رأ أن يض$$يف إلى
البني$$ان الهندس$$ي أي لبن$$ة واح$$دة ،وال أن ينتق$$د أي نظري$$ة ،وال أن يؤس$$س أي
نموذج ،ولذلك فإننا نريد بالمهندس هن$$ا كون$$ه مهندس$$ا في ال$$دين ،ال مهندس$$ا في
البني$$ان ،فه$و ق$$د طب$ق هندس$$ته المدني$$ة في المص$ادر $المقدس$ة ،ولم يطبقه$ا م$ع
اإلسمنت والرمل والخرسانة المسلحة.
وكل عمله من هذا القبيل ،فهو ـ بع$$د أن ط$$رح الس$$نة المطه$$رة ،وط$$رح
معها كل أقوال المفسرين واللغويين والفقهاء ـ راح إلى األلف$$اظ القرآني$$ة يتعم$$ل
معها كما يتعامل مع اللبنات ،يضعها $في المحل الذي يشاء ،وينزعها من المح$$ل
ال$ذي يش$اء ،مس$تعمال ك$ل قدرات$ه الهندس$ية ال$تي تعلم منه$ا فن االحتم$ال ،وفن
المراوغة ،ليؤس$$س القص$$ور الكب$$يرة من اللبن$$ات القليل$$ة ،كم$$ا يؤس$$س األك$$واخ
الحقيرة من اللبنات الكثيرة.
وكمثال على ذلك أنه عندما اص$$طدم $موقف$$ه الهندس$$ي م$$ع موق$$ف الق$$رآن
الكريم من الصالة ،حيث أنها وردت في القرآن الكريم في مواض$$ع كث$$يرة ج$$دا،
واعتبر غير المصلي مجرما ،وتوعده هللا تعالى بالويل والع$$ذاب الش$$ديد ،وذل$$ك
كله يتنافى مع رؤيته للدين ،وأن الصالة فيه اختي$$ار ال واجب ،راح يفك$$ك كلم$$ة
الصالة في القرآن الكريم ،معتمدا حيلة لم يفطن لها األولون ،وال اآلخ$$رون ،وال
تعتمد على أي أساس علمي.
وقد عبر عن الدافع الذي دفعه إلى تلك الحيلة الهندس$$ية ،فق$$ال( :ق$$د رأين$$ا
أن من الضروري $توضيح معنى الصالة ،جري$ا ً وراء التوفي$ق $ورف$ع $اللبس بين
قول$$ه تع$$الى في س$$ورة الم$$اعون﴿ :فَ َو ْي ٌ $ل لِ ْل ُم َ
ص $لِّينَ ( )4الَّ ِذينَ هُ ْم ع َْن َ
ص $اَل تِ ِه ْ$م
َس$اهُونَ ﴾ [الم$$اعون ،]5 $،4 :واعتب$$ار ه$$ذا الق$$ول موجه$اً $للمتق$$اعس عن أداء
56
الصالة بأوقاتها ،كما ترى كتب التفسير ،وبين قوله تعالى في سورة المرسالت:
$رينَ ()17 $ك اأْل َ َّولِينَ ( )16ثُ َّم نُ ْتبِ ُعهُ ُم اآْل ِخِ $
﴿ َو ْيٌ $ل يَوْ َمئِ ٍ $ذ لِ ْل ُم َكِّ $ذبِينَ ( )15أَلَ ْم نُ ْهلِِ $
$ال ُمجْ ِر ِمينَ ﴾ [المرس$الت ،]18 $- 15 :واللبس يتلخص في أن هللا ك نَ ْف َعُ $ل بِ ْ َكَ $ذلِ َ
سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصالة بالويل (وهو واد سحيق من ودي$$ان
جهنم) ،ويتوع$$د ب$$ه في ذات ال$$وقت المج$$رمين المك$$ذبين ،ومن المس$$تحيل أن
يستوي $في عدل هللا سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الش$$عائر ،والمك$$ذب
المجرم الكافر $بوجود هللا والمنكر $للبعث ولليوم اآلخر)
ثم راح يت$$درج بالق$$ارئ ليص$$ل ب$$ه إلى الح$$ل ال$$ذي يرف$$ع الوي$$ل عن
المصلين ،ال بحثهم على إقامة الصالة واالهتمام بها ،وال باعتبارهم مجرمين ما
داموا مقصرين في حق الصالة ،وإنم$$ا بتفري$$غ كلم$$ة [المص$$لين] من محتواه$$ا،
لتصبح مجرد دعاء يقال في أي حانة أو مرقص أو مقهي ،من دون وض$$وء وال
غسل وال قبلة.
وق$$د ع$$بر عن تل$$ك الحيل$$ة ال$$تي أف$$رغ به$$ا الص$$الة من محتواه$ا $بقول$$ه:
(والحل في رأينا يكمن في مفهوم الصالة ذاتها؛ فق$$د وردت الص$$الة في التنزي$$ل
الحكيم بمعنيين محددين يختلف أح$$دهما عن اآلخ$$ر في الش$$كل ،ويلتقي مع$$ه في
المضمون ،فالصالة في الحالتين صلة بين العبد وربه أساسها الدعاء .ولكن ه$$ذه
الصلة أخذت منذ ابراهيم شكلين :أولهم$$ا ص$$لة بين العبد وربه قالبها ال$$دعاء ،ال
تحتاج إلى إقامة وطقوس ،يؤديها كل إنسان له باهلل صلة على طريقته الخاص$$ة،
(وقد وردت في التنزيل الحكيم الصالة باأللف) ،وثانيهما صلة بين العبد ورب$$ه،
لها طقوس وحركات $محددة خاصة به$$ا ،كالقي$$ام والرك$$وع والس$$جود $والق$$راءة،
وتحتاج إلى إقامة ،أي على اإلنسان أن يق$وم ليؤديه$ا ( ،وق$د $وردت في التنزي$ل
الحكيم [الصلوة] بالواو) .وهي من شعائر اإليمان)
والحيلة التي اعتمدها عجيبة جدا ،فهي ال تتعل$$ق بمع$$اني الكلم$$ة اللغوي$$ة،
ذلك أنها واحدة ،وال بالسياق الذي وردت فيه ،وإنما باعتماد الرس$م $الق$$رآني م$$ع
العلم أنه رسم $اجتهادي كتب$$ه الص$$حابة ،ولم يكتب$$ه رس$$ول هللا ، ولم ي$$رد أي
دليل على اعتماده في المعاني ..وربما $يكون السبب في كتاب$$ة الص$$الة ب$$الواو أو
باأللف خاضعا للكتبة ،فبعضهم $يرسم حرف المد ألفا ،وبعضهم $يرسمها واوا..
لكن شحرورا ـ ليفرغ الكلمة من محتواها $ـ استعمل هذه الحيلة ..والطريق$
إليها بسيط جدا ،وخاصة مع التقنيات الحديثة ،فهو لن يحتاج ـ كما يتوهم القارئ
البسيط ـ أن يرجع للمصحف كل مرة ،ويقوم بالتحقيق ،بل يكفي أن يس$$تعمل أي
برنامج ليضع له كلمة الصالة باشتقاقاتها $ورسمها $ومواقعها $اإلعرابية ،ليتعام$$ل
معها هو بعد ذلك كما يتعامل مع رقعة الشطرنج ،وليوهم $المستمعين أو القارئين
له أنه نقب وحقق وتدبر $إلى أن وصل إلى تلك النتيج$$ة العظيم$$ة ال$$تي لم تخط$ر$
57
على بال أحد.
وبعد أن وضع تل$$ك المق$$دمات ال$$تي على أساس$$ها ف$رق $بين الص$$الة ال$$تي
يدعو إليها ،والتي هي مجرد دعاء ،والصالة التي جاءت بها الش$$ريعة ،وج$$اءت
معها التحذيرات من التهاون فيها ،راح يعطي النتيجة للقارئ ،وهي نتيجة تجعل
من البشر جميعا مصلين ..مسلمهم وكافرهم ..ذلك أن المس$$لم عن$$ده ه$$و ك$$ل من
آمن باهلل ..والمصلي عن$ده ه$$و ك$$ل من دع$$ا هللا ..وه$و متحق$$ق في جمي$$ع المل$$ل
والنحل ،وبين جميع الشعوب ..فال أح$$د منهم إال ويق$$ول :ي$$ا هللا ..في أي مناس$$بة
من المناسبات.
وهكذا راح يحتال على الصوم $ليحول منه إلى إطعام المساكين ،مس$$تثمرا
كلمة من كلمات القرآن الكريم هي كلمة [يطيقونه] مفسرا لها بحسب مزاج$$ه ،ال
بحسب ما اتفقت عليه أقوال اللغويين والمفسرين.
وهكذا راح إلى كلمة اإلسالم نفس$ها ،يحوله$ا عن م$دلولها الواض$ح ال$ذي
ضبطه القرآن الكريم ،وضبطته السنة المطهرة ،إلى مفهوم مطاط م$$رن ،يش$$مل
ك$$ل األدي$$ان ..ليص$$بح اإلس$$الم ال$$ذي نعرف$$ه مج$$رد اختي$$ار شخص$$ي ،يمكن أن
يستبدله المرء متى شاء ،وكيف شاء من غير أي حرج.
ولذلك لم نكتف في وصفه بكونه مهندسا فقط ،وإنم$$ا بكون$$ه أفاك$$ا أيض$$ا..
فاألفاك $ه$و الك$اذب ال$ذي يس$تعمل ك$$ل الحي$ل ليص$رف $األس$ماع والقل$$وب عن
الحقيقة إلى الب$$دائل ال$$تي يض$$عها $له$$ا ..ول$$ذلك ح$$ذر هللا من$$ه ،وتوع$$ده بالع$$ذاب
اك أَثِ ٍيم ( )7يَ ْسَ $$م ُع آيَ$$ا ِ
ت هَّللا ِ تُ ْتلَى َعلَيِْ $$ه ثُ َّم ي ِ
ُص$$رُّ الش$$ديد ،فق$$الَ ﴿ :ويٌْ $$ل لِ ُك$$لِّ أَفَّ ٍ
ب أَلِ ٍيم (َ )8وإِ َذا َعلِ َم ِم ْن آيَاتِنَ$$ا َش ْ $يئًا اتَّ َخَ $ذهَا
ُم ْستَ ْكبِ ًراَ $كأ َ ْن لَ ْم يَ ْس َم ْعهَا فَبَ ِّشرْ هُ بِ َعَ $ذا ٍ
ين﴾ [الجاثية]9 - 7 : هُ ُز ًوا أُولَئِكَ لَهُ ْم َع َذابٌ ُم ِه ٌ
وهذه اآلي$$ات الكريم$$ة ال تنطب$$ق على أح$$د كم$$ا تنطب$$ق على م$$ا يق$$وم ب$$ه
شحرور وأبناء مدرسته ،ذلك أنهم ـ مع إقرارهم بكونهم $يسمعون آي$$ات هللا ـ إال
أنهم يصرون على أنهم لم يسمعوها ،ذلك أنهم ال يسمعون منه$$ا إال م$$ا يرغب$$ون
ويشتهون ،ويفسرونها $كما يحبون ،متخذين منها مطية ألهوائهم ،ال يبحثون فيها
عن الحق$$$ائق ليلتزموه$$$ا ،وإنم$$$ا يجعل$$$ون منه$$$ا مطي$$$ة ألم$$$زجتهم وأفك$$$ارهم$
ورغباتهم$.
وهو م$$ا يجعلهم محال لت$$نزالت الش$$ياطين كم$$ا ذك$$ر هللا تع$$الى ذل$$ك عن$$د
وص$$فه الس$$تعداد األف$$اكين لتقب$$ل وحي الش$$ياطين ،ذل$$ك ال$$وحي ال$$ذي يس$$ميه
المغفل$$ون [مش$$اريع فكري$$ة] أو [اجته$$ادات تجديدي$$ة] ،بينم$$ا ه$$و في المص$$طلح
القرآن [اإلفك اآلثم]
اطينُ ()221 الش$يَ ِ ُ
قال تعالى يذكر ذل$$ك كل$$ه ﴿ :هَ$$لْ أنَبِّئُ ُك ْم َعلَى َم ْن تَنََّ $ز ُل َّ
اك أَثِ ٍيم ( )222ي ُْلقُونَ ال َّس ْم َع َوأَ ْكثَ ُرهُْ$م َكا ِذبُونَ (َ )223وال ُّش َع َرا ُء تَنَ َّز ُل َعلَى ُك ِّل أَفَّ ٍ
58
يَتَّبِ ُعهُ ُم ْالغَاوُونَ ( )224أَلَ ْم تَ َر أَنَّهُ ْم فِي ُكلِّ َوا ٍد يَ ِهي ُمونَ (َ )225وأَنَّهُْ$م يَقُولُ$$ونَ َم$$ا
اَل يَ ْف َعلُونَ ﴾ [الشعراء]226 - 221 :
ول$$ذلك ،ف$$إن المش$$روع $الحقيقي لش$$حرور ه$$و تحري$$ف الق$$رآن الك$$ريم،
وتفريغه من محتواه ،وتحويله إلى كتاب آخر ،ال عالق$$ة ل$ه بالش$$ريعة وال ب$$القيم
التي أجمعت عليها األمة بمدارسها $المختلفة.
وق$$د ط$$رح مالمح مش$$روعه في تل$$ك الحص$$ة الخط$$يرة المس$$ماة [النب$$أ
العظيم] ،والتي تذيعها قن$اة [روتان$ا خليجي$ة] ،وهي قن$اة من تل$ك القن$وات ال$تي
تستهدف $تمييع المجتمع المسلم ،ونشر االنحرافات األخالقي$$ة والفكري$$ة ،ليخ$$رج
المسلمون من إسالمهم وقيمهم $بكل سالسة.
فق$$د ذك$$ر في الحص$$ة األولى من ذل$$ك البرن$$امج منهج$$ه في فهم الق$$رآن،
والذي انطلق فيه من مفهوم شرعي متفق عليه ،وهو كون القرآن رسالة عالمية،
أي أن البشر جميعا مطالبون بالتعرف على القرآن الكريم وااللتزام $بتعاليمه..
لكن ش$$حرورا لم يفهم ه$$ذا ،وإنم$$ا ط$$الب الق$$رآن الك$$ريم ب$$أن ي$$نزل إلى
مستوى $العالم بشعوبه المختلف$$ة ،أي أن$$ه (يجب أن يالئم ك$$ل الش$$عوب كالياب$$اني
واألم$$ريكي) ..وب$$ذلك يجب أن يص$$بح تابع$$ا للقيم العلماني$$ة المعاص$$رة ،ح$$تى
ترضى $عنه تلك الشعوب ،ويصبح تابعا لها ،ال تابعة له.
وألج$$ل ه$$ذا راح يل$$وي أعن$$اق النص$$وص بالحي$$ل المختلف$$ة ،ليس$$تخرج
المفاهيم التي تتالءم مع هذه القيم ،وهو لن يحتاج أي شيء لتحقي$$ق ه$$ذا ،فيكفي$$ه
أن يبحث عن الجذر اللغوي للكلمات القرآنية ،ثم يلجأ إلى الق$$واميس يبحث فيه$$ا
عن معنى يجده أكثر توافقا مع القيم العلمانية المعاصرة ليطبقه عليها.
ومن األمثلة التي ذكرها لذلك ،ما فس$ر $ب$$ه قول$$ه تع$$الىُ ﴿ :زيِّنَ لِلنَّ ِ
اس حُبُّ
$لضِ $ة َو ْالخَ ْيِ $ب َو ْالفِ َّ$ذهَ ِ ير ْال ُمقَ ْنطََ $
$ر ِة ِمنَ الَّ $ ت ِمنَ النِّ َس$ا ِء َو ْالبَنِينَ َو ْالقَنَِ $
$اط ِ$ َّ
الش$هَ َوا ِ
ب ﴾ [آل ْ
ُس $نُ ال َم$$آ ِ هَّللا ْ
ع ال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َو ُ ِع ْنَ $دهُ ح ْ ك َمتَا ُ ْال ُم َس َّو َم ِة َوا ْن َع ِام َوال َحرْ ِ
ث َذلِ َ ْ َ أْل
عمران]14 :
فمع ك$$ون اآلي$$ة الكريم$$ة واض$$حة في داللته$$ا إال أن ش$$حرورا $ح$$اول أن
يرضي $به$$ا أه$$واء معين$$ة ،ف$$راح ينك$$ر ك$$ون الم$$راد بالنس$$اء في اآلي$$ة المفه$$وم
المعروف $المتداول ،وإنم$$ا جع$$ل من النس$$اء ـ بحس$$ب الق$$اموس ال$$ذي اعتم$$ده ـ
مشتقة من [النس$يء] ،أو هي جم$ع كلم$ة [نس$يء] ال$تي تع$ني الت$أخير ،ومن ث ّم
يص$$بح المع$$نى :األش$$ياء الم$$ؤ ّخرة ،أي األش$$ياء الجدي$$دة المحبوب$$ة للن$$اس ،أي
بالتعبير $المعاصر [الموض$$ة] ،أي أن اآلي$$ة الك$$ريم ت$$ذكر أن الن$$اس حببت إليهم
الموضة ،ال النساء المعروفات.
(إن اآلي$$ة فيه$$ا خ$$بر عن جمي$$ع الن$$اس ،وليس وقد ق$$ال مع$$برا عن ذل$$كّ :
العرب خاصة ،ويجب أن يكون خبر هللا ص$$ادقًا ،ومن ثم يجب أن يتط$$ابق ق$$ول
59
هللا مع حال العالم اليوم ،والشيء الجديد محبوبٌ من قب$$ل ك$$ل الش$$عوب ،ومن ثم
يكون معنى [النساء] جمع نسيء ،أي األشياء المؤ َّخرة ،أي األشياء الجديدة)
ولست أدري هل حب النساء خ$اص ب$العرب فق$ط ..ومن أوحى ل$ه به$ذا،
ونحن ن$$رى أن قص$$ص العش$$ق والغ$$رام مرتبط$$ة بك$$ل الش$$عوب ،ب$$ل إن ك$$ل
الشعوب اليوم ال تستثمر $في ش$$يء كم$$ا تس$$تثمر في النس$$اء باعتب$$ارهن الوس$$يلة
األكثر قبوال من لدن البشر جميعا.
وهو ألجل هذا ال يتعامل مع القرآن الكريم باعتباره جملة ،وإنما باعتباره
مفردات متراصة ،يمكنه أن يتحكم فيها كم$ا يتحكم المهن$دس في البني$ان ،فيزي$ل
ما يشاء من الجدران ،ويضيف $ما شاء منها.
ولهذا نراه يعزل السياق $متى شاء ،ويثبته متى شاء ،ونزاه يع$$ود ألس$$باب
النزول ،ثم سرعان ما ينكرها إن لم تتس$$اير م$$ع رغبت$$ه ..وهك$$ذا في تعامل$$ه م$$ع
األحاديث المطهرة ،أو مع أق$وال المفس$رين أو اللغ$ويين ،فه$و ينطل$ق دائم$ا من
النتيجة ،ثم يبحث بعد ذلك عن األدلة التي تخدمها.
ولذلك كان أحسن وص$$ف ل$$ه ه$$و كون$$ه مهندس$ا $أفاك$$ا ..فه$$و ق$$د اس$$تعمل
الهندسة والتفكيك وإعادة البناء ،ألجل تمرير اإلفك على المغفلين ال$$ذين يبحث$$ون
عن الجديد من غير أن يتأكدوا من سالمته ..فيكفي عندهم أن يكون جديدا.
60
حسن حنفي ..والثورة على الدين
بعد االنتكس$ات الكث$يرة ال$تي م$ر به$ا واقعن$ا $الع$ربي واإلس$المي ،وعن$د
ظهور $المدارس الثوري$$ة المختلف$$ة ،خاص$$ة اليس$$ارية منه$$ا ،ب$$رز في مجتمعاتن$$ا
اإلسالمية صنفان من الثورة ،ومعهما صنفان من الثوار:
ص$$نف رأى أن س$$بب التخل$$ف ه$$و البع$$د عن اإلس$$الم وقيم$$ه الحض$$ارية
النبيلة ،وأننا نحتاج إلى العودة إلى اإلس$$الم األص$$يل ،بمفهوم$$ه الص$$حيح ،ونقيم
ث$$ورة على التخل$$ف ال$$ذي اس$$تثمر بعض مف$$اهيم ال$$دين ليش$$وه ال$$دين وال$$دنيا من
خاللها.
وصنف رأى أن س$$بب التخل$$ف ه$$و ال$$دين نفس$$ه ،فل$$ذلك راح يحم$$ل على
الدين ،وي$$دعو إلى البع$$د عن$$ه ،ويتص$$ور أن$$ه أفي$$ون الش$$عوب ،ومن ه$$ؤالء من
جاهر بذلك ،ومنهم $من اس$$تعمل التقي$$ة والحيل$$ة وأص$$ناف $الخ$$دع لتمري$ر $ذل$$ك،
وك$$$ان منهم ص$$$احب المش$$$اريع الكث$$$يرة [حس$$$ن حنفي] ال$$$ذي يمكن تلخيص
مشاريعه جميعا في العبارة التي ذكرناها في العنوان ،وهي [الثورة على الدين]
والميزة التي تميز بها على الكث$$ير من الث$وار على ال$$دين أن$ه يمل$ك ذك$اء
حادا ،جعله ال يقع فيما وقع فيه أولئك المغفلون األغبياء الذين جاهروا بإلحادهم،
وص$$رحوا ب$$ه ،وادع$$وا ص$$راحة تب$$نيهم للفك$$ر اليس$$اري بمنظومت$$ة العقدي$$ة
واالجتماعية ،ألنه يعلم أن أولئك سيرمون في النفايات ،ولن يلتفت لهم أحد.
ولذلك راح يستعمل مصطلحات الدين نفس$$ها ليض$$رب ال$$دين؛ ف$$زعم أن$$ه
متكلم وأصولي $وفقي$$ه ..وراح يتح$$دث عن القض$$ايا المختلف$$ة كم$$ا يتح$$دث عنه$$ا
رجال الدين أنفسهم ،ويستعمل $نفس تعبيراتهم ..حتى أن الكثير جلس للتلم$$ذة بين
يديه كما يجلس بين يدي المشايخ.
لكن الحقيق$$$ة ال يمكن أب$$$دا أن تطمس$$$ها $األلف$$$اظ ،كم$$$ا ق$$$ال تع$$$الى عن
ك لَ َرسُو ُل هَّللا ِ َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم إِنَّكَ لَ َر ُس $ولُهُالمنافقين﴿ :إِ َذا َجا َءكَ ْال ُمنَافِقُونَ قَالُوا نَ ْشهَ ُد إِنَّ َ
يل هَّللا ِ
صُّ $دوا $ع َْن َس$بِ ِ َوهَّللا ُ يَ ْشهَ ُد إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ لَ َك$$ا ِذبُونَ ( )1اتَّ َخُ $ذوا أَ ْي َم$$انَهُْ$م ُجنَّةً فَ َ
إِنَّهُ ْم َسا َء َما َكانُوا يَ ْع َملُونَ ﴾ [المنافقون]2 ،1 :
وهاتان اآليتان الكريمتان تعبران عن المشروع $ال$$ذي يحمل$$ه حس$$ن حنفي
ويدعو إليه أحسن تعبير ،فه$$و في ظ$$اهره وبدايت$$ه ومقدمات$$ه ينطل$$ق من العقي$$دة
والش$$ريعة اإلس$$المية ،لكن$$ه في باطن$$ه ث$$ورة عليهم$$ا ،ودع$$وة للتملص منهم$$ا،
والعبرة عند العقالء بالنتائج ال بالمقدمات ،وبالنهايات ال بالبدايات.
وتبدأ ثورته على اإلسالم من ذلك المنهج البراغماتي الذي اعتمده ،ودع$$ا
إلى اس$$تعماله ،واس$$تطاع $أن يم$$رر مش$$روعه من خالل$$ه ..وه$$و أن يُنظ $ر $إلى
61
اإلس$$الم ،ال باعتب$$اره دين هللا ،وأن$$ه حقيق$$ة مطلق$$ة دلت عليه$$ا األدل$$ة العقلي$$ة،
وأثبتتها $أصناف الحجج ،وإنما من كونه م$$ادة يمكن اس$$تثمارها واالس$$تفادة منه$$ا
في تغيير المجتمع وتوجيهه.
وليته اكتفى بذلك ،بل راح يدعو إلى استثمار التوجه ال$$ديني ،ال بتعميق$$ه،
وتصحيحه ،وإنما بتحريفه عن مساره تحريفا كامال ،لتتح$ول العقي$دة إلى ث$ورة،
ويتحول $اإلله إلى إنسان ،ويتحول كل شيء في ال$دين إلى وس$يلة لتحقي$ق الع$دل
االجتم$$اعي والرف$$اه االقتص$$ادي $باعتب$$اره الغاي$$ة الك$$برى ،ال رض$$وان هللا ،وال
جنته ،وال تحقيق السعادة األبدية التي تحن إليها ك$$ل النف$$وس ،وال ترقي$$ة ال$$روح
لتتصل بالمأل األعلى ،وتتحقق $بما يتطلبه ذلك المحل الرفيع من سمو وروحانية.
ول$$ذلك ف$$إن أق$$رب المفك$$رين إلي$$ه ه$$و [وليم جيمس] ذل$$ك الفيلس$$وف
البراغماتي األمريكي ،صاحب [إرادة االعتقاد] ،والقائل( :إن االكتشاف $األعظم
الذي شهده جيلي وال$$ذي يق$$ارن ب$$الثورة الحديث$$ة في الطب كث$$ورة البنس$$لين ه$$و
معرفة البشر أن بمقدورهم تغيير حي$$اتهم ع$بر تغي$ير م$$واقفهم الذهني$$ة) ،وال$ذي
قال في كتابه [البراغماتية]( :إن الحقيقي فى أوجز عبارة ليس اال النافع الموافق
للمطلوب فى سبيل تفكيرنا تمام$$ا ،كم$$ا أن الص$$واب ليس س$$وى المواف$$ق الن$$افع
المطلوب فى سبيل مسلكنا ،وحيازة الحقيقة بعيدة كل البعد على أان تك$$ون غاي$$ة
فى ذاته$$ا ،فهى التزي$$د عن كونه$ا $مج$$رد وس$$يلة أو إرادة أولي$$ة لبل$$وغ اإلش$$باع
والرضا $والسرور ..كما أن الحقيقة نفسها فى حالة تغير وتبديل وانتقال)
وهكذا ،وبنفس األسلوب ع$$بر حس$$ن حنفي عن مش$$روعه التجدي$$دي حين
قال( :مهمة التراث والتجديد إذن هي إعادة كل االحتماالت القديمة ،ب$$ل ووض $ع$
احتماالت جديدة ،واختيار $أنسبها لحاج$$ات العص$$ر ،إذ ال يوج$$د ص$$واب وخط$$أ
نظ$$ري $للحكم عليه$$ا ،ب$$ل ال يوج$$د إال مقي$$اس عملي ،فاالختي$$ار المنتج الفع$$ال
المجيب لمط$$الب العص$$ر ه$$و االختي$$ار المطل$$وب ،وال يع$$نى ذل$$ك أن ب$$اقي
االختب$$ارات خاطئ$$ة ،ب$$ل يع$$نى أنه$$ا تظ$$ل تفس$$يرات محتمل$$ة لظ$$روف أخ$$رى
وعصور $أخرى ولت أو مازالت قادمة)()1
وبناء على هذا راح يصيغ أفك$$اره ح$$ول العقي$$دة والش$$ريعة ،والتفس$$يرات
الجديدة لهما ،والتي يرى أنها تتناسب مع هذا العص $ر $الجدي$$د ،وهي بمجموعه$$ا
ليس$$ت س$$وى تفري$$غ لإلس$$الم من محت$$واه ،بحيث ال يبقى من$$ه إال األس$$ماء ،أم$$ا
المسميات ،فتتغير تغيرا تاما.
ومن األمثلة على هذا التفري$$غ ،أو على ه$$ذه الث$$ورة على حق$$ائق اإلس$$الم
قوله( :فاهلل الواحد الذي ليس كمثله شيء ،والذي اليرى ويرى $ك$$ل ش$$ىء ،ليس
هو بالضرورة التصور الوحيد هلل كما نعلم من تاريخ العقائد ،فهن$$اك $هللا الحس$$ي
)(1التراث والتجديد ،حسن حنفي.
62
المجس$$م ،مح$$ل الح$$وادث ،عن$$د الكرامي$$ة والمش$$به على اختالف ف$$رقهم ،وليس
بالضرورة أن يكون التصور $األول صحيحا والثانى $باطال ،إذ يعكس التصوران
صراعا قويا ،وقوة السلطان الذى ليس كمثله شىء وقوة المعارضة ال$$تي تجع$$ل
حركة الت$اريخ ج$زءا من األلوهي$$ة ،أم$ا الص$$فات ال$$تى تجع$$ل هللا يس$$مع وي$$رى
ويبصر كل شيء ،فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسى خ$$الص للس$$لطة،
والتى هى بدورها ترى وتسمع وتبصر $كل شيء) ()1
وهكذا يعبر عن القرآن الكريم والوحي اإللهي ،فهو $عنده مجرد اف$$تراض
ال يمكن التحقق منه إال بم$$دى خدمت$$ه للواق$$ع ،فيق$$ول( :أم$$ا ال$$وحي بالنس$$بة لي،
فإنني $آخذه على سبيل االفتراض .أنا في رأيي؛ ال$$وحي ه$$و اف$$تراض في البحث
العلمي ،يق$$وم ب$$دور $االف$$تراض في البحث العلمي .فه$$ل يتحق$$ق؟ والتحق$$ق من
صرفًا وليس صوريًا ،ال اتفاق نتائج مع مقدمات، الصدق .أقصد التحقق تجريبيًا ِ
ولكن التحق$$ق من ص$$حة ه$$ذا الف$$رض في الواق$$ع االجتم$$اعي .ومن ثم ف$$أهاًل
وسهاًل ،أنا أتقبل كل النبوات وك$$ل ال$$وحي وك$$ل اآلراء .وعل ّي أن امتحنه$$ا على
محك الواقع)()2
ويؤكد هذا المعنى بقوله( :نصوص الوحي ليست كتابًا أُن$$زل م$$رة واح$$دة
ضا $من عقل إلهي! ليتقبل$$ه جمي$$ع البش$$ر .ب$$ل مجموع$$ة من الحل$$ول لبعض مفرو ً
المشكالت اليومية التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة)()3
وهو بهذه الطريقة من التفكير يردد نفس ما ردده [وليم جيمس] حين قال:
(إنن$ا ب$دال من أن نتس$ائل عم$ا يس$ير األش$ياء ،وه$ل هي الم$ادة أم هللا؟ يجب أن
يكون تساؤلنا كالت$$الي :م$$اهو الف$$رق العملي ال$$ذي يمكن أن يح$$دث اآلن إذا ق$$در
للعالم أن تسير دفته بواسطة الم$$ادة أو بواس$$طة هللا ؟ إنن$$ا في مق$$دورنا أن نتمت$$ع
بإلهنا إذا كان لدينا إله)
وله$$ذا ك$$انت مش$$اريعه جميع$$ا مش$$اريع $ثوري$$ة تح$$اول أن تحاف $ظ $على
األسماء مع تغيير المسميات ،بناء على تصورها $أن ال$$دين وال$تراث ليس$$ا س$$وى
نتيجة للواقع السياسي $واالجتماعي الذي مرت به األمة في مراحلها المختلفة.
ولهذا نجد هذه العن$$اوين في كتب$$ه ومش$اريعه( :ال$$تراث والتجدي$د) ،و(من
العقي$$دة الى الث$$ورة) ،و(من النص الى االب$$داع) ،و(ال$$تراث والعصر والحداثة)،
وهي كلها مشاريع ال تريد التجدي$$د أو اإلب$$داع بمفهوم$$ة المع$$روف ،وإنم$$ا تري$$د
إلغاء القديم وإحالل مفاهيم جديدة بدلها ال عالقة لها بها.
63
فمهمة المفكر في التعامل مع التراث ـ على حس$ب م$ا يص$ور $ـ ه$و (أن
يعيد قراءته بحيث يعيد إليه تعدد االختيار بين بدائله حتى يستقر على وج$ه آخ$$ر
أصلح للناس وأنفع لهم)
ولذلك ف$إن المنطل$$ق عن$ده في التعام$ل م$$ع ال$تراث ليس البحث في ذات$ه،
والتحقي$$ق في$$ه ،وفي $م$$دى عقالنيت$$ه وعلميت$$ه ،على أس$$س علمي$$ة وموض$$وعية
بحتة ،وإنما في االنطالق من الواقع والمجتمع ،لتخير ما يتناسب معهما ،ف$$إن لم
﴿و ِمنَ نجد نبتدع ما يتناسب مع المجتمع ،وه$$و نفس م$$ا ع$$بر عن$$ه قول$$ه تع$$الىَ :
صابَ ْتهُ فِ ْتنَ$ةٌ ا ْنقل َ
ب َ َ صابَهُ خَ ْي ٌر ْ
اط َمأ َ َّن بِ ِه َوإِ ْن أَ َ ف فَإِ ْن أَ َاس َم ْن يَ ْعبُ ُد هَّللا َ َعلَى َحرْ ٍ النَّ ِ
ك ه َُو ْال ُخس َْرانُ ْال ُمبِينُ ﴾ [الحج]11 : َعلَى َوجْ ِه ِه خَ ِس َر ال ُّد ْنيَا َواآْل ِخ َرةَ َذلِ َ
فه$$ذا الص$$نف ال$$ذي ذك$$ره الق$$رآن الك$$ريم $ه$$و ال$$ذي ينظ$$ر إلى ال$$دين ،ال
باعتب$$اره حق$$ائق واقعي$$ة ،وإنم$$ا باعتب$$اره وس$$ائل نفعي$$ة ،يمكن االس$$تفادة منه$$ا،
واستثمارها في الدنيا وللدنيا ،فإن تحقق االس$$تثمار ،فبه$$ا ،وإال رمي كم$$ا ي$$رمى
كل شيء ال منفعة فيه.
وهك$$ذا ي$$دعو حس$$ن حنفي إلى تط$$وير $ال$$دين ،بحيث يتح$$ول إلى وس$$يلة
للدنيا ،وللرفاه ،ال وسيلة للتعرف على الحقائق ،والسلوك وفق مقتضياتها$.
ولهذا ،فإنه بعد بحثه في التراث والتاريخ ،وج$$د أن (المعتزل$$ة أفض$$ل من
األشاعرة بالنسبة للعص$$ر ،فحاجتن$$ا إلى العق$$ل والحري$$ة ..وال$$دفاع $عن الفلس$$فة
القديمة وحكمتها $المنطقية والطبيعة واإللهية أفضل من رفضها)
وهو يذكر ذلك ليوهم القارئ أن$$ه يفض$$ل المعتزل$$ة على األش$$اعرة ،ولكن
الحقيقة غير ذلك ،فهو يرفضهما جميع$ا ،ألن$ه يص$ور أن الواق$ع الح$الي يحت$اج
تطورا $أكثر ،وجرأة أكثر في التعامل مع الحق$$ائق الديني$$ة ،ول$$ذلك ط$$رح الب$$ديل
عن علم الكالم المعروف $بما سماه :الهوت الثورة ،والهوت التحرير ،واله$$وت
التنمية ،واله$$وت التق$$دم ،وال$$تي ي$$رى أنه$$ا جميع$$ا (ال تق$$ل ش$$رعية عن نظري$$ة
الذات والصفات عند االشاعرة ،أو عن أصلى التوحيد $والعدل عن المعتزلة)
أو كما عبر عن ذلك في كتابه [الحداثة والمعاصرة] بقول$$ه( :والحقيق$$ة أن
الطبيعات وااللهيات علم واحد مرة مقلوب$$ا إلى أس$$فل فتص$$بح الطبيع$$ات ،وم$$رة
مقلوبا إلى أعلى فتصبح اإللهيات)
وله$$ذا ،ف$$إن هللا عن$$ده (ه$$و الث$$ابت فى الك$$ون ،والع$$الم ه$$و الحرك$$ة في$$ه
واجهتان لشىء واحد ..ال يوج$$د إال الع$$الم ،وهللا ه$$و دوام$$ه وبق$$اءه واس$$تمراره
وقوانينه وسنته الثابتة ،وإذا كان الطريق إلى الفوز والنجاة والس$عادة األبدي$ة فى
نظرية الخلق هو تطبيق الشريعة وممارسة الشعائر ..فإنه فى نظرية قدم الع$$الم
العلم بقوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها وتسخيرها)
وبناء على ذل$$ك ،ف$$إن االعتب$$ار األساس$ي $عن$$ده ليس هلل ،وال لوحي$$ه ،وال
64
لشريعة ،وإنما للمجتمع ،فـ (المجتم$$ع أوالً وال$$وحي $ثاني$اً .والن$$اس أوالً والق$$رآن
ثانياً)()1
أو كما ع$$بر عن ذل$$ك تحت عن$$وان [أنس$$اق العقائ$$د والنظم االجتماعي$$ة ]
بقول$$ه( :يمكن إف$$راز أنس$$اق عقائدي$$ة جدي$$دة تل$$بى مط$$الب الظ$$روف الحالي$$ة
وتطلعات $أجيالن$$ا الى التح$$رر والحري$$ة والعدال$$ة االجتماعي$$ة والوح$$دة والتنمي$$ة
وتأصيل $الهوية وحش$$د الجم$$اهير .هم (الق$$دماء) رج$$ال ونحن رج$$ال نتعلم منهم
والنقتدى $بهم .يمكن أن يك$ون هللا ه$و األرض حرص$ا ً من على تحري$ر األرض
$و الَّ ِذي فِي َّ
الس َ $ما ِء إِلَ$هٌ َوفِي$ ﴿وهَُ $ وربطها باأللوهية وكما هو وارد بنص الق$$رآن َ
ض إِلَهٌ ﴾ [الزخرف ، ]84 $:ويمكن أن يكون هللا هو الخ$$بز والحري$$ة تعب$$يرا اأْل َرْ ِ
ت ()3 عن حاجتنا إلى الغذاء واألمان طبقا لنص الق$$رآن ﴿فَ ْليَ ْعبُ $دُوا َربَّ هَ َ $ذا ْالبَ ْي ِ
ف﴾ [قريش)2( )]4 ،3 : ُوع َوآ َمنَهُ ْم ِم ْن خَ وْ ٍ الَّ ِذي أَ ْ
ط َع َمهُ ْم ِم ْن ج ٍ
وبناء على ه$$ذا كل$$ه ،ف$$إن ال$$دين عن$$ده ليس س$$وى منتج حض$$اري ،يمكن
تطويره بحسب الظروف $المختلفة ،بل يمكن هدمه من جذوره ،وبن$$اء دين جدي$$د
على أساسه ،لتتحقق المنفعة التي هي الهدف األكبر من الدين.
وقد ق$$ال بص$$راحة مع$$برا عن ذل$ك( :نش$أ التص$ور $الواح$دى فى مجتم$$ع
جاهلى قبلى تتناحر فيه القبائل تعبيرا عن حاجة وتلبية لمطلب لدى مجتمع محدد
فى لحظة تاريخية معينة)()3
وقال في كتابه [دراس$$ات إس$$المية]( :علم العقائ$$د إذن اختي$$ارات سياس$$ية
محض$$ة ،وليس علم$$ا مقدس$$ا ،وك$$ل ظ$$روف $تف$$رض اختياراته$$ا ،وق$$د تتم تحت
ظروفنا الحالية اختبارات أخرى .قد يكون من ص$$الح األم$$ة اآلن ال$$دفاع عن هللا
وتصوره باعتباره أرضا درءا لالحتالل وتحريرا $لألرض)
وهك$$$ذا يتح$$$ول ال$$$دين عن$$$ده من دين يبحث عن هللا ،وإقام$$$ة الص$$$الت
الروحي$ة ب$ه إلى دين يبحث في اإلنس$ان ال$ذي يعت$بره ص$انعا هلل ،وليس هللا ه$و
الصانع لإلنسان.
ونحب أن نبين هنا أن حديثه عن التراث ال يعني ب$$ه م$$ا أنتج$$ه المس$$لمون
طيلة تاريخهم من أبحاث في الفقه والعقائد والتفسير $وغيرها فقط ،وإنما يعني به
القرآن الكريم والس$$نة المطه$$رة أيض$$ا ،فهي عن$$ده من ال$$تراث ال$$ذي يحت$$اج إلى
انتقاء وإعادة قراءة ،ال على أسس علمية ،وإنما على أسس براغماتية.
وبناء على هذا المنهج البراغماتي ،يتحدث عن النب$$وة ق$$ائال( :وه$$ل تجب
النبوة لحاجات عملية أي للتنفيذ والتحقيق $وأداء الرسالة مادام اإلنسان غير ق$$ادر
)(1الحداثة والمعاصرة ،حسن حنفي.
)(2الحداثة والمعاصرة ،حسن حنفي.
)(3الحداثة والمعاصرة ،حسن حنفي.
65
على سن القوانين وتأس$يس $الش$رائع وإقام$ة ال$دول أو تجني$د الجم$اهير $وتوجي$ه
األمم وفتح البلدان ،أال يمكن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة اإلم$$ام له$$ا ،هن$$اك
أيضا العقل االجتماعي والعقل السياسي والعقل التاريخي لوض$$ع الق$$وانين وس$$ن
الشرائع ..إن العقل ليس بحاجة إلى عون ،وليس هن$$اك م$$ا ين$$د عن العق$$ل .ه$$ل
استطاعت النبوة أن تخفف من نقائص اإلنسان وهي أول من يعترف $بها؟)
وبناء على ذلك ينكر أن يكون في القرآن أي شريعة ،فيقول( :ليس القرآن
كتاب تحليل وتحريم ،بل كت$اب فك$$ر وليس الغ$رض من$$ه تغلي$ف الع$$الم بق$$وانين
وتقييد السلوك اإلنساني $بقواعد ،بل مساعدة الطبيعة على االزدهار والحياة على
النماء)
وبناء عليه أيضا يتحدث عن رسول $هللا باعتباره زعيم$$ا براغماتي$$ا ال
رسوال يحمل الحقائق والقيم المطلقة؛ فيقول( :النبي محمداً كان يحمل هم الوحدة
الوطنية للقبائل العربية وتكوين دولة في الجزيرة العربية ،وكانت له مشاكل م$$ع
اليهود والنصارى ومع المش$$ركين أيض$$ا ،فج$$اء المش$$ركون إلي$$ه بع$$رض جي$$د،
وقالوا $له :نعم أيها األخ ،ما الم$$انع أن ت$$ذكر الالت والع$$زى لم$$دة س$$نة واح$$دة،
وقل أنهم ليسوا آلهة ..فقال بينه وبين نفس$$ه :إن ه$$ذا الع$$رض يش$$كل بالنس$$بة لي
كزعيم سياسي شيئا جيد ،ألنه يحقق لي مصالحة مؤقتة م$$ع الع$$دو ،وم$$اذا يع$ني
لو أنني ذكرت الالت والعزى لمدة سنة واحدة ثم أغير بعدئذ؟)
أما أحاديثه عن هللا ،فهي ال تختلف كثيرا عن مقوالت اليساريين ،ولو أنه
يحاول كل حين تهذيبها حتى ال تصطدم $بأولئك ال$$ذين يقدس$$ونه دون أن ي$$دركوا
أهداف$$ه ،فه$$و يتح$$دث عن علم$$اء الكالم وح$$ديثهم $عن هللا ق$$ائال( :م$$ع أن علم$$اء
أصول الدين يتحدثون عن هللا ذاته وصفاته وأفعاله ،ف$$إنهم في الحقيق$$ة يتح$$دثون
عن اإلنسان الكامل ؛ فك$$ل م$$ا وص$$فوه على أن$$ه هللا إن ه$$و إال إنس$$ان م َكبَّر إلى
أقصى $حدوده )
ويقول( :إن لفظ ( هللا ) يحتوي على تناقض داخلي في استعماله باعتب$$اره
مادة لغوية لتحديد المعاني أو التصورات ،مطلقا ً يراد التعبير عنه بلفظ محدود)
ويق$$ول( :فك$$ل م$$ا نعتق$$ده ثم نعظم$$ه تعويض$اً $عن فق$$د ،يك$$ون في الحس
الشعبي هو هللا )
ويقول( :ومن ثم فتوحي$$دنا ه$$و اله$$وت األرض ،وال ه$$وت الث$$ورة ،وال
هوت التنمية ،وال هوت النظام ، $وال هوت التقدم ،كما هو الحال في العدي$د من
الثقافات المعاصرة في البالد النامية التي نحن جزء منها)
وبناء على ذل$$ك كل$$ه؛ ف$$إن النتيج$$ة ال$$تي ي$$رمي إليه$$ا من خالل مش$$اريعه
جميعا ،وهي نفس النتيجة التي ينطلق منها جميع التنويريين الج$$دد ،هي إقص$$اء
الدين إقصاء كليا من الحياة ،وفي جمي$$ع مس$$توياتها $،وق$$د ع$$بر عن ذل$$ك بقول$$ه:
66
(فإن قيل إن ال$$تراث والتجدي$$د س$$يؤدي $حتم$ا ً إلى حرك$$ة علماني$$ة وفي العلماني$$ة
قض$$اء على تراثن$$ا الق$$ديم ومورثاتن$$ا الروحي$$ة وآثارن$$ا الديني$$ة ،قي$$ل ق$$د نش$$أت
العلماني$$ة في الغ$$رب اس$$تجابة ل$$دعوة طبيعي$$ة تق$$وم على أس$$اس رفض الص$$ور
الخارجي$$ة وقس$$مة الحي$$اة إلى قس$$مين واس$$تغالل $المؤسس$$ات الديني$$ة للجم$$اهير
وتوطينها $مع السلطة وحفاظه$$ا على األنظم$$ة القائم$$ة نش$$أت العلماني$$ة اس$$ترداداً$
لإلنسان لحريته في السلوك والتعب$$ير $وحريت$$ه في الفهم واإلدراك $ورفض$$ه لك$$ل
أشكال الوصاية عليه وألي سلطة فوقه إال من سلطة العقل والض$$مير ،العلماني$$ة
إذن رج$$$وع إلى المض$$$مون دون الش$$$كل وإلى الج$$$وهر دون الع$$$رض ،وإلى
الص$$دق دون النف$$اق ،وإلى وح$$دة اإلنس$$ان دون ازدواجيت$$ه وإلى اإلنس$$ان دون
غيره ..العلمانية إذن هي أساس الوحي ،ف$$الوحي علم$$اني في ج$$وهره والدوني$$ة
طارئة عليه من صنع التاريخ ،تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها $عن
التطور ،وما شأننا بالكهنوت والعلمانية ما هي إال رفض له؟ العلمانية في تراثن$$ا
وواقعن $ا $هي األس$$اس واتهامه$$ا بالالدوني$$ة تبعي$$ة لفك$$ر غ$$ريب وت$$راث مغ$$اير
وحضارة أخرى)
وهو بهذا يردد نفس ما ردده الماركسيون والوجودي$$ون وجمي$$ع المالح$$دة
حين يعت$$برون وج$$ود $هللا إلغ$$اء لوج$$ود اإلنس$$ان ،ويعت$$برون ش$$ريعة هللا كبت$$ا
واغتصابا $لحرية لحرية اإلنسان ،ول$$ذلك ف$$إن أحس$$ن تعب$$ير عن مش$$روع $حس$$ن
حنفي هو [الثورة على الدين]
67
القبانجي ..والعمامة المدنسة
من المظ$$الم العظيم$$ة ال$$تي تس$$لط على الش$$يعة خصوص$$ا دون غ$$يرهم
إلصاق كل من لبس العمامة الس$$وداء أو البيض$$اء بهم ،وحمل$$ه عليهم ،واته$$امهم$
جميعا به ،فإن ظهر راقصا في حفلة ،فعلماء الشيعية ومالليهم جميعا راقصون،
وإن سب الص$حابة وأمه$ات المؤم$نين ،فه$و عن$دهم ن$اطق رس$مي باس$م جمي$ع
علماء الشيعية وفقهائهم ،ولو تبرأ من قول$$ه جمي$$ع المراج$$ع ،وظه$$رت البيان$$ات
الموقعة من جميع العلماء ترد ذلك ،وتكذبه.
وال نجد هذه التهمة في المدرسة السنية ،حيث أنه إن ظهرت فض$$يحة من
أي جهة؛ ف$$إن المدرس$$ة جميع$$ا ،تنس$$ب األم$$ر ألص$$حابه فق$$ط دون من ع$$داهم،
فاإلرهابيون ـ مع كونهم $من المدرسة السلفية خصوصا $كما تص$$رح ب$$ذلك كتبهم
وأحاديثهم ـ إال أنهم ال يحملون على السلفية ،وال على المدرسة السنية جميعا..
وهكذا فإن حداثيي المدرسة السنية وتنويرييه $ا $ال يحمل$$ون على المدرس$$ة
الس$$نية ،ب$$ل يُعت$$برون من المنح$$رفين عنه$$ا ،ولم يوج$$ه أح$$د من الن$$اس التهم$$ة
للمدرسة السنية بكونها تتبنى أطروحات ش$$حرور $وال أرك$$ون وال الج$$ابري وال
غيرهم.
إال القبانجي ،ذلك المعمم التنويري الح$$داثي ال$$ذي ه$$و أق$$رب إلى اإللح$$اد
منه إلى اإلسالم؛ فإنهم يعتبرونه بسبب تل$$ك العمام$$ة ال$$تي وض$$عها $على رأس$$ه،
وبسبب البيئة التي ولد وعاش فيها مفكرا شيعيا ..ولست أدري هل يمكن لمتش$$يع
أن ينكر الجنة والنار ،وأن يقول بكل تلك الطروحات التي لم يقل به$$ا ش$$يعي في
الت$$اريخ جميع$$ا ..وم$$ع ذل$$ك يحم$$ل على الش$$يعة رغم أن$$وفهم $كم$$ا حم$$ل ياس$$ر
الحبيب ،واللهياري وكل دجال وأفاك ،ألن الح$$اكم ليس العق$$ل وال المنط$$ق ،وال
العدل ،وإنما الحقد الذي نهانا هللا عنه؛ فقال ﴿ :يَاأَيُّهَ$$ا الَّ ِذينَ آ َمنُ$$وا ُكونُ$$وا $قََّ $وا ِمينَ
$ربُ $و أَ ْقَ $
هَّلِل ِ ُش $هَدَا َء بِ ْالقِ ْس ِ $ط َواَل يَجْ ِ $ر َمنَّ ُك ْم َش $نَآنُ قَ$$وْ ٍ$م َعلَى أَاَّل تَ ْعِ $دلُوا ا ْعِ $دلُوا هَُ $
لِلتَّ ْق َوى َواتَّقُوا هَّللا َ إِ َّن هَّللا َ َخبِي ٌر بِ َما تَ ْع َملُونَ ﴾ [المائدة]8 :
ولذلك ،فإن خط$$ور القب$$انجي ال تكمن في األفك$$ار ال$$تي يطرحه$$ا؛ فمثله$$ا
كثير في البيئة السنية ،وإنما في تلك العمامة السوداء ال$$تي يلبس$$ها ،وال$$تي يخي$$ل
لكل من رآها أنه أم$ام مفك$ر ومرج$ع وداعي$ة ش$يعي ،فل$ذلك يحم$ل ك$ل كلمات$ه
عليهم ظلما وزوروا $وبهتانا.
لذلك آثرنا أن نتحدث عنه هنا ،لنطرح فكره من جهة ـ باعتب$$اره نموذج$ا$
للمدرس$$ة التنويري$ة ـ ولننفي المظلم$$ة عن المدرس$$ة الش$يعية ال$$تي يض$$ع عليه$$ا
الحاقدون كل النفايات ،وينسون أن ينسبوا إليها أي مكرمة ،ألنها في نظرهم شر
68
محض.
وأحب أن أبين قبل أن أتحدث عنه ،بأن النظام الذي رعاه ،وقدره ،وساهم
في نشر فكره هو النظ$$ام الع$$ربي الخليجي المتمث$$ل في دول$$ة اإلم$$ارات العربي$$ة
المتحدة ،بينم$$ا النظ$$ام ال$$ذي واجه$$ه ،وانتق$$ده ،ب$$ل أدخل$$ه الس$$جن بس$$بب أفك$$اره
الخطيرة التي كان ينشرها $هو النظام اإليراني( .. )1ثم ي$$أتي بع$$د ذل$$ك الن$$اعقون
ليذكروا $أن أفكاره التي يطرحها هي أفكار $إيران ،ال أفكار اإلمارات.
فقد كان أول ما بزغ نجم هذا القب$$انجي في دول$$ة اإلم$$ارات ع$$ام 2010م،
حينما استدعي من طرف ولي عهد أبي ظ$$بي ليلقي محاض$$رة بعن$$وان [اإلس$$الم
األصولي $واإلسالم الحداثي] ،والتي انتقد فيها األح$$زاب والجماع$$ات اإلس$$المية
ذات التوجهات السياسية ،حيث اعتبرها مسؤولة عن أفك$ار االس$تبداد واالنغالق$
المعرفي $الذي تعاني منه الشعوب العربية.
وق$د $أعلن عن$$ه حينه$$ا بأن$$ه المفك$$ر والب$$احث الكب$$ير ،وك$$ان ذل$$ك مقدم$$ة
إلشهار $أفكاره في أبي ظبي وغيرها ،مثلما كانت منطلقا إلشهار كل تلك األفكار$
التي ال تهدم الجماعات اإلسالمية فقط ،بل تهدم معها اإلسالم أيضا.
وبغض النظر عن المصدر الذي نش$$ر أفك$$اره ،وس$$اهم في ال$$دعوة إليه$$ا،
فإنه السهولة ألي عقل ناضج أن يقرأ أو يستمع لتلك الطروحات التي يطرحه$$ا،
ثم يقارنه$$ا بموق$ف $علم$$اء الش$$يعة ليت$$بين الحقيق$$ة ،ويعلم أن تل$$ك العمام$$ة ال$$تي
يلبسها ذل$$ك القب$$انجي ليس$$ت س$$وى عمام$$ة مدنس$$ة ب$$التنوير $الم$$زور ،واأله$$واء
المجردة.
فهل وجدتم $ـ يا من تحملون هذا القبانجي على الشيعة ـ أح$$دا من علم$$ائهم
ومراجعهم يقول( :إن الجنة والن$$ارهي $خالف العق$$ل وال وج$$ود له$$ا ،وإن ورود
جهنم في القرآن هو لتخويف $االنسان فقط ،والوعد بالجنة هو ل$$ترغيب االنس$$ان
كي ينجذب الى الدين وااليمان باالسالم $وبرسوله وكتابه) ()2
أو يق$$ول( :في الجن$$ة اليوج$$د ك$$رم أو إيث$$ار أو مواس$$اة أو التن$$افس على
العم$$ل وال إب$$داع او عم$$ل الخ$$ير ،فالن$$اس في الجن$$ة ال ش$$غل لهم س$$وى نك$$اح
الحوريات $وشرب الخمر والعس$$ل واللبن من االنه$$ار ،حيث ال وج$$ود $للص$$فات
االنسانية هناك وهذه حياة حيوانية)
أو يذكر بأن$ه إذا عرض$ت علي$ه الجن$ة ،فسيرفض$ها ،وس$يكون س$عيدا إذا
)(1في 2013م ،اعتقلته السلطات اإليرانية ،إلشهاره لطروحاته بين طلبة العلم ،ولتشكيكه في أساسيات
الدين ،لكن المظاهرات المؤيدة له والتي اندلعت في البصرة وبغداد ،كان لها دور كبير في اإلفراج عنه وإطالق
سراحه.
)(2انظر هذه النص وغيره في مقال بعنوان :االس$$الم العقالني واللي$$برالي عن$$د الش$$يخ احم$$د القب$$انجي،
صباح إبراهيم ،الحوار المتمدن-العدد ،08:35 - 8 / 12 / 2011 - 3569 :وهي موجودة في محاضراته على
اليوتيوب$.
69
ذهب إلى جهنم.
وه$ل رأيتم عالم$ا أو مرجع$ا ش$يعيا ي$ردد ب$أن األحك$ام الش$رعية (ك$انت
صالحة في زمان النبي وبدء ظهور $االسالم ،وهي التصلح لك$$ل زم$$ان ومك$$ان،
فاآلي$$ات ج$$اءت لظ$$روف $مح$$دودة ول$$زمن معين) ،وه$$و نفس م$$ا ي$$ردده أك$$ثر
التنويريين الموجودين في البيئة السنية.
وهل سمعتم عالما شيعيا يردد $ما يقوله هذا القبانجي( :إن ماجاء به محم$$د
ليس كالم$$ا إلهي$$ا وليس من هللا ،ب$$ل كالم ن$$اتج عن عم$$ق اتص$$اله م$$ع هللا وم$$ع
الناس؛ فأخذ يصوغ $للناس كالما نورانيا من ذهنه ،وليس$$ت نصوص$$ا مبلغ$$ا به$$ا
من هللا)
وهل سمعتم أحدا منهم ـ وهم الذين يقولون بالعص$$مة المطلق$$ة لرس$$ول $هللا
،ولألنبياء جميعا ،بل يضيفون إليهم حتى أئمة أهل البيت ـ ي$$ذكر أن رس$$ول
هللا كانت له أخطاء علمية كثيرة ،وأن من أخطائه (اعتبار االرض مسطحة،
ق ليك$$ون م$$واقيت للن$$اس فق$$ط ،حيث اليس$$تعمل اآلن وك$$ان يعتق$$د أن القم$$ر ُخلَ $
للتوقيت لوجود $التقاويم الحديثة والساعات وغيرها من األجهزة ،وأخط$$أ الق$$رآن
في أسباب خلق الجب$$ال ،فاعتبره$$ا رواس$$ي لألرض العتق$$اده أن األرض تطف$$و
على سطح المياه وبحاج$$ة للرواس$ي $كي ال تمي$$د وت$$نزلق ، $وه$$ذا م$$ا ينفي$$ه العلم
الحديث)
وهل سمعتم أحدا منهم يردد قوله( :قال الن$$بي محم$$د[ :إن هللا ه$$و الض$$ال
والهادي] ،فكيف يدعو هللا الى الخير والشر ،وهذا محال أن يناقض هللا نفسه)
أو يقول( :إن ثقافة محمد ومعارفه استقاها من القس النص$$راني $ورق$$ة بن
نوفل واألحبار $اليهود وقسس النصارى $الذين كانوا يلتقون به خالل أربعين س$$نة
قبل البدء بدعوته ،وأنه تزوج النصرانية خديجة بنت خويلد ابنة عم القس ورق$$ة
بن نوفل على الطقوس النص$$رانية ،حيث أن$$ه لم يطلقه$$ا ولم ي$$تزوج عليه$$ا كم$$ا
توصي $تعاليم الدين المسيحي حيث عقد القس ورق$$ة بن نوف$$ل بنفس$$ه عق$$د قِ$$ران
محمد على خديجة بحضور $عمه أبي طالب ولي أمر محمد)
أو يقول( :نحن النحتاج الى هللا خالق السماء واألرض ،بل نبحث عن هللا
الخير نبحث عن الرب)
أو يق$$$ول( :ثبت أن الق$$$رآن ليس من هللا لوج$$$ود الكث$$$ير من األخط$$$اء
والتناقضات والالبالغية والالأخالقية والالعلمية في$$ه ..ويص$$ف الق$$رآنُ هللاَ بأن$$ه
جبار وماكر $وغضوب وأن محمد يجسد هللا ويجلسه على ع$$رش وكرس$$ي ،وأن
هللا يعذب ويظلم ويستهزئ ويمكر $ويأمر بالفسق والقتل وينتقم ويضل من يشاء،
وهذه كلها صفات بشرية يتنزه هللا عنها ،ثم يناقض محمد نفسه ويصف ربه انه
ليس كمثله شئ ..لذلك فإن الق$$رآن ه$$و تفس$$ير محم$$د لكالم هللا ،وليس ه$$و كالم
70
هللا ..فاآليات القرآنية هي صياغة بشرية لما يراه الن$$بي من تفس$$يرات وجداني$$ة..
والق$$رآن كت$$اب خط$$ابي وليس فلس$$في ..وه$$و كالم موج$$ه للهمج من الع$$رب،
وأدلت$$ه ض$$عيفة ..وك$$ل ماج$$اء ب$$ه من األحك$$ام والش$$رائع وقص$$ص األنبي$$اء
مستوحى $من التوراة واالنجيل والتراث المكتوب ما قبل االسالم وليس في$$ه ش$$ئ
جديد)
أو يقول( :إن محمدا هو من ابتدع فكرة أن يكون خاتم االنبياء وقد $انتظ$$ر
18سنة كاملة حتى أتى بسورة االح$$زاب ﴿ َم$$ا َك$$انَ ُم َح َّم ٌد أَبَ$$ا أَ َحٍ $د ِم ْن ِر َج$$الِ ُك ْم
ُول هَّللا ِ َو َخ$$اتَ َم النَّبِيِّينَ ﴾ [األح$$زاب $]40 :ألنه ك$$ان يعتقد أن$ه س$$يرزق َولَ ِك ْن َرس َ
بولد ليك$$ون خليفته ونبيا من بعده ،ولم$$ا يئس من أن ي$$رزق $بول$$د ذك$$ر ،ق$$ال :
(الن$$بي من بع$$دي) لخوف$$ه من ظه$$ور $أنبي$$اء ج$$دد منافس$$ين $كمس$$يلمة وس$$جاح
ويغيروا من دينه وينكروا $نبوته من بعده)
أو يقول( :إن ختم النبوة بمحمد يتن$$افى $م$$ع الحكم$$ة اإللهي$$ة ..وأن الق$$رآن
ذكر أن هللا سيرسل رسال لهداي$ة البش$ر بع$د محم$د ..وه$ذا ي$دل على اس$تمرار$
ارس$$ال رس$$ل آخ$$رين قب$$ل وبع$$د محم$$د ،حيث ال يعق$$ل أن ينقط$$ع اتص$$ال هللا
بالبشرية حتى قيام الساعة)
أو يقول( :كان االسالم كامال في زمان محمد ،واآلن يعتبر اإلسالم ناقصا$
لتطور $المجتمعات والحضارة والق$$وانين ال$$تي ال تنطب$ق $عليه$$ا أحك$$ام وش$$ريعة
االسالم الغابرة ،فال يجوز أن تُعتبر الي$$وم الم$$راءة مس$$اوية لنص$ف $الرج$$ل في
االرث والش$$هادة ،وهي ت$$دير حكوم$$ات ووزارات $وأبح$$اث علمي$$ة ،وت$$ذهب في
رحالت للفضاء الخارجي ،وال يجوز اليوم معاقبة إنسان ما بقط$$ع ي$$ده أو عنق$$ه
بالسيف)
أو يقول( :لو كان القرآن هو المحرك للعقل البشري للتطور والتقدم لك$$ان
المس$$لمون أرقى ش$$عوب األرض حض$$ارة ورقي$$ا $،ولكن العكس ه$$و الص$$حيح؛
فالحضارة ظهرت في أوربا $ب$$أبهى أش$$كالها وأفض$ل $قوانينه$$ا $،وبقى المس$$لمون
متخلفين لحد اآلن بسبب اتباعهم ألوامر القرآن والشريعة)
وغيرها من المقوالت الكث$$يرة ال$$تي يحمله$$ا بعض الحاق$$دين على الش$$يعة
مصورا $أنها مقوالتهم ،لسبب بسيط ،وهو أن قائل كل تل$$ك الهرطق$$ات رج$$ل ق$$د
لبس العمامة التي تعود طلبة العلم في البيئة الشيعية أن يلبسوها ،كما تعود طلب$$ة
األزهر والزيتونة والقرويين وغيرها أن يتميزوا $بلباسهم الخاص.
71
ما الذي أنكره على عدنان إبراهيم؟
يتصور $البعض أننا عندما ننتقد شخصا ،أو ننكر على جهة ،أننا ننكر ك$$ل
شيء فيها ،وننتقد كل ما يصدر منها ،وهذا وهم كبير ،فليس هناك باطل مج$$رد،
بل الحق يختلط مع الباط$$ل ،ونحن نحت$$اج إلى التمي$$يز بينهم$$ا ،وق$د $نض$$طر في
بعض األحي$$ان إلى ذك$$ر األس$$ماء ح$$تى يحص$$ل ذل$$ك التمي$$يز ،وح$$تى ي$$زول
االلتباس.
وقد فعلنا ذلك مع عدنان إبراهيم في الفترة الحالية بعد أن كن$$ا ننك$$ر علي$$ه
تلميحا ال تصريحا $..لكن بعد تحوله إلى قيادة اجتماعية ،أو ـ يتعبير مالك بن نبي
ـ [صنم فكري] ،أصبح من الضرورة ذكر اسمه ،للتنبي$$ه والنص$$ح إلى أن يؤخ$$ذ
كالمه في المسائل العلمية أو السياسية باحتراز شديد ،حتى ال يقع محبوه ضحية
التقديس لشخصه ..وح$$تى ال يكون$$وا $كال$$ذين هرب$$وا من وثني$$ة قديم$$ة إلى وثني$$ة
جديدة.
بناء على هذا ،فإن الذي أنكره على عدنان إبراهيم أربعة أمور:
أولها ـ الجرأة على الحديث على مسائل كب$$يرة في العلم وال$$دين من غ$$ير
تحقيق كبير ،ب$ل ن$راه يلقي رأي$ه أم$ام وس$ائل اإلعالم ،ثم يدعم$ه ببعض األدل$ة
الخطابية ،ال العلمية ،وال العقلية ،ألنه يعلم أن جمهوره سيقبل منه ذلك بس$$هولة،
بل سيبني $عليه أحكام$$ا كث$$يرة ،ألن$$ه يري$$د أن يس$$مع ك$$ل م$$رة جدي$$دا ،وال يهم$$ه
البحث المفصل فيه ،وال في أدلته.
وهذا منهج غير صحيح في طرح القضايا العلمية ،ذلك أنها تحتاج طرح$$ا
مفصال لألدلة ،ومناقشة علمية هادئة ألدلة المخالفين ،وكل ذل$$ك بطريق$$ة علمي$$ة
ممتلئة بالهدوء.
والمشكلة األكبر ليس في تل$ك الطروح$ات ،وإنم$ا في إث$ارة عام$ة الن$اس
ممن لم تكتمل لهم أدوات االجتهاد والبحث ليتحدثوا في كل شيء ،ويناقش$$وا $ك$$ل
شيء من غير بذل جهد في البحث والمراجع ،ومطالعة المطوالت ..فقد ع$$ودهم
على الوجبات السريعة ،والحديث في القضايا الكبرى في أقل وقت ممكن.
ثانيها ـ أن$$ه يعيش في أوروب$$ا ،ويخطب من على منابره$$ا ،ولدي$$ه الكث$$ير
من الف$$رص اإلعالمي$$ة ال$$تي ت$$تيح ل$$ه الح$$ديث عن قض$$ايا $األم$$ة ال$$تي ال ينبغي
السكوت عليها ،لكنه لم يفعل ..وقد ذكرنا أنه في الوقت الذي حصل فيه الع$$دوان
الثالثي على سورية ،كانت خطبته حول الترحم على هوكينغ ،بل كانت ص$$فحته
كلها دعاية لهوكينغ$..
ومثل ذلك موقفه من اليمن الذي يُقت$$ل أطفال$$ه ،وتُ$$دمر $بيوت$$ه ومؤسس$$اته،
72
ويلقى من الظلم ما لم يلقه بلد في التاريخ ..ومع ذل$$ك لم نج$$ده يتكلم كلم$$ة واح$$دة
في نصرة ذلك الشعب المظلوم $،مع أن مؤسس$$ات حقوقي$$ة ك$$برى تح$$دثت عن$$ه،
ومع أنه في بلد يتيح له أن يتكلم في كل شيء بحرية كبيرة.
ثالثها ـ أنه مع عدم كالمه في السياسة ـ كما يقول أتباعه ـ ال$$ذين يري$$دون
تبرير $مواقفه من السكوت عن االعتداءات على سورية واليمن نراه يمج$$د كاذب$$ا
السعودية ،ويزعم أنها تسير اآلن في الطريق الصحيح ..ويثني ثناء عط$$را على
أمرائها.
ولسنا ندري سر هذا ..وال مدى علميته ..وهل يك$ون دف$$ع مئ$ات المالي$ير
من ال$$دوالرات ألمريك$$ا وفرنس$$ا وغيرهم$$ا تحض$$را؟ ..وه$$ل جلب المط$$ربين
والممثلين والمهرجين ،وفتح دور السينما هي الحداثة التي يريد أن نسير عليها؟
ومثل ذلك موقفه من حكام آخرين للخليج هو يعلم تمام$$ا أنهم لم يق$$دموا ال
لشعوبهم $،وال ألمتهم شيئا ،بل لم يقدموا لها إال الخراب ..ومع ذلك يث$$ني عليهم،
ويذم $أعداءهم ال اإلسرائيليين ،وإنما أعداءهم من المسلمين.
ولهذا صرت أخاف أن يخرج علينا في يوم من األيام بخرجة جديدة يقول
فيها( :بعد البحث الطويل تبين لي أن عداوتنا إلسرائيل $ال مبرر لها ..ب$$ل يمكنن$$ا
أن نتحول إلى أصدقاء ،فنستفيد من خبرتها وتجربتها ..واألدل$$ة على ذل$$ك ،)..ثم
يسوق $من األدلة ما تعود أن يسوقه.
وال أقول هذا مجازفة ..ولكن كل شيء يدل عليه ،ألن األرضية أص$$بحت
مهيأة من الناحية النفسية ،كما ذكرت ذلك بتفصيل في المقاالت الكثيرة التي ترد
على تلك الس$$ماحة الزائ$$دة ال$$تي خ$$رجت عن ح$$دودها الش$$رعية ،وال$$تي أص$$بح
أتباعه فيه$ا ي$$ترحمون ،ويثن$ون ويقدس$$ون مالح$دة الع$الم في نفس ال$$وقت ال$ذي
يلعنون فيه علماءهم وتراثهم $وكل شيء ينتمون إليه.
رابعها ـ أن االهتمام الزائد به ،والذي يوليه جمهوره ل$$ه حجبهم عن كث$$ير
من الشخص$$يات العلمي$$ة ،وه$$و م$$ا يح$$رمهم $من العلم والتحقي$$ق وفهم $اإلس$$الم
بصورته الشاملة ..ذلك أن اإلسالم أعظم من أن يحيط به شخص واحد.
وله$$ذا عن$$دما كنت أكتب أي ش$$يء في ال$$رد على بعض أطروحات$$ه تق$$وم
قيامة أتباعه ،مع أنهم يعلمون أني باحث ال أقل عنه ،بل أن$$ا متخص$$ص ،وأك$$ثر
تفرغا ودراسة ومطالعة بحكم ظروفي ،ولكنهم يتصورون أن اإلعالم ه$$و ال$$ذي
يصنع األعالم ،وهو الذي يقرر من يكون باحثا ومجددا $وعالما.
وعندما ضربت المثال بشخصي الضعيف ،لم أقصد شخص $ي $الض$$عيف،
فهناك الكثير من العلماء المحققين المجهولين ال$$ذين لم يص$$لوا إلى الن$$اس ،ألنهم
لم يمدوا يدهم لمصافحة الوليد بن طالل ،وال غيره من مجرمي $العالم ..ولذلك لم
تكن هن$$اك ك$$اميرات تس$$لط الض$$وء عليهم ،أو جه$$ات تتبن$$اهم ،فهُج$$روا ال لقل$$ة
73
علمهم ،وإنما ألن العيون ال تهفو إال لمن يظهرون على وسائل اإلعالم.
74
القسم الثالث
75
التنوير ..والتفسير المزاجي لإلسالم
من مظاهر التن$$وير الجدي$$د ،وال$$تي ال تتناس$$ب تمام$$ا م$$ع مفه$$وم اإلس$$الم
والتس$$ليم المطل$$ق هلل ،ذل$$ك التفس$$ير الم$$زاجي $لإلس$$الم ،وال$$ذي ينطل$$ق من األن$$ا
والمزاج وتأثيرات $البيئة قبل أن ينطلق من مصادر اإلس$$الم المقدس$$ة ال$$تي ت$$بين
حقيقته ،وتوضح مراد هللا منه.
فلهذا ال نتعجب من التنويري $إن خالف النصوص القطعي$$ة الص$$ريحة من
القرآن الك$$ريم ،أو الس$$نة المطه$$رة ،وفس$$رها $بحس$$ب مزاج$$ه ،ال بحس$$ب حقيق$$ة
األمر ..ألنه ال ينطلق من الموضوع $وإنما ينطلق من الذات ،ويس$$تحيل على من
امتأل بأهواء الذات أن يكون موضوعيا ،أو أن يصف الحقيقة كما هي.
وحتى يتخلص التنويري $من هذه األهواء عليه أن يقرأ المصادر $المقدس$$ة
بعي$$دا عن نفس$$ه ،وعن بيئت$$ه ،وعن الظ$$روف $ال$$تي يعيش فيه$$ا ،ليفهم المق$$دس
بطهارته وصفائه وسموه ،وال يخلطه بأي شيء ،وال يملي عليه شيئا.
وليفع$$ل ه$$ذا علي$$ه أن يفهم اإلس$$الم باللغ$$ة ال$$تي فهمه$$ا ب$$ه إب$$راهيم علي$$ه
السالم ،والذي ذكر هللا تعالى أنه هو ال$$ذي اخت$$ار ه$$ذا االس$$م ،ق$$ال تع$$الىِ ﴿ :ملَّةَ
أَبِي ُك ْم إِ ْب َرا ِهي َم هُ َو َس َّما ُك ُم ْال ُم ْسلِ ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل ﴾ [الحج]78 :
بل ذك$$ر هللا تع$$الى أن$$ه ه$$و ال$$ذي ع$رّف ه$$ذا االس$$م تعريف$$ا فعلي$$ا واقعي$ا$
واضحا ،وذلك عندما أمر بذبح ابنه في رؤيا منامية ..حينها كان يمكن ـ ل$$و ك$$ان
إبراهيم عليه السالم تنويريا $ـ أن يصيح بملء فيه( :يستحيل أن يصدر هذا األمر
من هللا الرحمن الرحيم) ..ثم يستعيذ من تلك الرؤيا ،ويعتبرها $وساوس ش$$يطانية
أنشأها شياطين الدجل في عقله الباطن.
أو ربما يتنازل ،فيعتبرها $رؤيا ملكوتية ،لكنه يؤولها $بما يفعل$$ه الكث$$ير من
التنويريين؛ فيفسر الذبح بذبح التخلف والفقر والسلبية ونحوها $..أو يفسرها ب$$ذبح
ك$$ل تحكم أو توجي$$ه البن$$ه ليترك$$ه يعيش حيات$$ه الطبيعي$$ة ،وكأن$$ه من غ$$ير أب،
وكأن األب من غير ابن..
ويمكنه أن يفسرها بما تعود التنويريون أن يفسروا به الحقائق؛ فيغيروه$$ا
عن مسارها $الذي تدل علي$$ه؛ ف$$إن عج$$ز عن ذل$$ك دل$$ه التنويري$$ون على تجاه$$ل
الرؤيا ،وعدم اعتبارها ،بل إقناع نفسه أنه لم يرها أصال..
لكن إبراهيم عليه السالم ،والذي يعلم أنه عبد هللا ،وأنه ال يمل$$ك من أم$$ره
ش$يئا لم يفهم من تل$ك الرؤي$ا إال أنه$ا أم$ر إلهي ب$ذبح ابن$ه ..فهم ذل$ك م$ع علم$ه
اليقيني القاطع برحمة هللا ورأفته بعباده ..ولكنه يعلم في نفس الوقت أن هللا حكيم
ولطي$$ف ،وأن$$ه لحكمت$$ه ولطف$$ه ي$$دبر من الت$$دابير لعب$$اده م$$ا تتحق$$ق ب$$ه الرحم$$ة
76
والرأفة في أجلى مراتبها.
لقد كان يعلم أن الذي أوحى إليه ب$$ذلك األم$$ر إل$$ه عظيم خل$$ق ه$$ذا الك$$ون
جميعا ،وقدراته ال حد لها ،وعلمه ال حد ل$$ه ..فل$$ذلك راح يلغي العق$$ل المح$$دود،
والذوق $القاصر ،ويس$$لم نفس$$ه تس$$ليما مطلق$$ا لص$$احب العلم المطل$$ق ،والرحم$$ة
الواسعة.
وهذا هو اإلسالم ..فاإلسالم $هو أن نسلم وجوهنا $إلى هللا ..وال ندبر مع$$ه..
وال نقترح عليه ..بل نعلم أن أمره ال يكون إال لخير أو مصلحة حتى لو جهلناه$$ا
نحن ،ولم تتناسب مع مزاجنا ،كما ال يتناسب الذبح مع مزاج أي أب في ال$$دنيا..
فالمزاج يتناقض مع التسليم.
وهذا ما فهمه إسماعيل علي$$ه الس$$الم أيض$$ا ،وه$$و الش$$اب الي$$افع ال$$ذي لم
يتردد $ولم يحتل على أمر هللا ..بل بمجرد $أن طرح علي$$ه أب$$وه القض$$ية راح ي$$رد
عليه من غير تفك$$ير وال تلك$$ؤ ،وال طلب إقن$$اع ،فيكفي أن يك$$ون هللا ه$$و اآلم$$ر
حتى يكون ذلك مبررا لقناعتنا ،لقد ق$ال ل$ه بك$ل ه$دوء﴿ :يَ$$اأَبَ ِ
ت ا ْف َع$$لْ َم$$ا تُ ْ$ؤ َم ُ$ر
َست َِج ُدنِي $إِ ْن َشا َء هَّللا ُ ِمنَ الصَّابِ ِرينَ ﴾ [الصافات]102 :
ولهذا عقب هللا تعالى على تصرف األب وابنه تجاه أم$$ره بكون$$ه إس$$الما،
فقال﴿ :فَلَ َّما أَ ْسلَ َما َوتَلَّهُ لِ ْل َجبِي ِن﴾ [الصافات]103 :
وهذا ال$ذي فعل$ه إب$راهيم علي$ه الس$الم ،وال$ذي يس$تحيي من ذك$ره بعض
المتنورين ،هو أقوى ابتالء واجهه إبراهيم $عليه الس$$الم ،ب$$ل ه$$و أق$$وى من تل$$ك
النار التي أوقدت له ..ذلك أن النار فرضت عليه ..أما ذبح ابن$$ه فلم يُف$$رض ،ب$$ل
تُرك له الخيار.
وقد نجح إبراهيم عليه السالم في االختبار ..لكونه لم يعمل عقله القاص$$ر،
وال مزاجه المحدود ،وال رأيه الضعيف ،وال بيئته الجاهلة ،وال أي شيء آخ$$ر..
أعمل فقط ما أمره به ربه حتى لو كان ذلك الوحي رؤيا $منامية.
هذا المعنى هو الذي ينبغي أن نفهم من خالله اإلسالم ..فاإلس$$الم ه$$و دين
هللا المعبر عن مرضاته ..وهللا خالق ك$ل ش$$يء ..وه$$و ﴿اَل ي ُْس$أ َ ُل َع َّما يَ ْف َعُ $ل َوهُ ْم
يُسْأَلُونَ ﴾ [األنبياء ..]23 :فلذلك كان األدب مع هللا هو التسليم المطل$$ق ل$$ه ،مثلم$$ا
نسلم أنفسنا للطبيب الجراح ثقة منا فيه وفي علمه المحدود $وقدراته القاصرة.
وحين يتحقق منا التسليم المطلق هلل تأتين$$ا ه$$دايا هللا ،ون$$رى جمي$$ل لطف$ه،
مثلما حصل تماما مع إبراهيم عليه السالم ،فبمجرد أن تله للجبين ناداه هللا ﴿ :أَ ْن
ك نَجِْ $زي ْال ُمحْ ِس$نِينَ ( )105إِ َّن هََ $ذا صَّ $د ْقتَ الرُّ ْؤيَ$$ا إِنَّا َكَ $ذلِ َ
يَاإِب َْرا ِهي ُ$م ( )104قَ ْد َ
$رينَ ( َظ ٍيم (َ )107وت ََر ْكنَاَ $علَ ْي ِه فِي اآْل ِخِ $ْح ع ِ لَه َُو ْالبَاَل ُء ْال ُمبِينُ (َ )106وفَ َد ْينَاهُ بِ ِذب ٍ
َ )108ساَل ٌم َعلَى إِب َْرا ِهي َم (َ )109ك َذلِكَ نَجْ ِزيْ $ال ُمحْ ِس $نِينَ ( )110إِنَّهُ ِم ْن ِعبَا ِدنَ$$ا
ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [الصافات]111 - 104 :
77
ومن يبتغ غير اإلسالم دينا ..فسيقبل منه !
من أخطر الطروحات التي يطرحها بعض التنويريين الجدد ،وال$تي يمكن
أن تقضي على اإلسالم ـ كدين يحمل عقيدة وشريعة ـ قضاء نهائيا ،ذلك التم$$ييع
لمفهومه ،أو تط$$بيق معن$$اه الع$$ام على معن$$اه الخ$$اص ،وذل$$ك مم$$ا يفق$$ده حقيقت$$ه
ولوازمه.
وهؤالء يفعل$$ون مثلم$$ا يفع$$ل ذل$$ك الكس$$ول ال$$ذي ت$$دعوه للتس$$بيح وال$$ذكر$
والسجود ،فيقول لك :أوليس كل شيء يسبح هللا وي$$ذكره ويس$$جد ل$$ه؟ ..ف$$إن قلت
له :أجل ..قال :فأنا من تلك األشياء ،وكل أعضائي وخالي$$اي وذراتي ت$$ذكر هللا،
وتسبح بحمده ،وتسجد له.
وهكذا مفهوم اإلسالم ..ف$$المفهوم $الع$$ام لإلس$$الم يتن$$اول ك$$ل ش$$يء ..فك$$ل
ش$$يء ط$$وع إلرادة هللا ،ومل$$ك لمش$$يئته ،من ش$$اء ذل$$ك ،أو من ك$$ره ،كم$$ا ق$$ال
ض طَوْ عً$$ا ت َواأْل َرْ ِ اوا ِ ين هَّللا ِ يَ ْب ُغ$$ونَ َولَ$$هُ أَ ْس$$لَ َم َم ْن فِي َّ
السَ $$م َ تع$$الى ﴿ :أَفَ َغيَْ $$ر ِد ِ
َوكَرْ هًاَ $وإِلَ ْي ِه يُرْ َجعُونَ ﴾ [آل عمران]83 :
والذي يزعم أنه مسلم بهذا االعتبار مع التقصير في حق هللا ،وفي $اإليمان
بما يقتضيه اإلس$$الم الخ$$اص ،ال يمكن أن نطل$ق علي$ه لقب [المس$لم] ،ول$ذلك ال
$ر اإْل ِ ْس$اَل ِم ِدينً$$ا فَلَ ْن يُ ْقبََ $
$ل ِم ْن$هُ َوهَُ $و فِي ﴿و َم ْن يَ ْبتَِ $
$غ َغ ْيَ $ يصدق $في$$ه قول$$ه تع$$الىَ :
َاس ِرينَ ﴾ [آل عمران]85 : اآْل ِخ َر ِة ِمنَ ْالخ ِ
ذلك أن هذا النوع من اإلسالم مرتبط بعقائد وشرائع تضبطه ،وتحميه من
أن يصبح مجرد دعاوى ال دليل يدل عليها ..فإذا ما جاء أحد من الن$$اس إلى تل$$ك
الض$$وابط ال$$تي تحمي حمى اإلس$الم ،ف$راح يتس$$اهل فيه$$ا أو يتالعب به$$ا؛ فإن$ه
ب$$ذلك لن يبقي من اإلس$$الم إال اس$$مه ،أم$$ا حقيقت$ه ،وال$$تي تش$$كلها المع$$اني ال$$تي
يتكون منها ،فإنها تزول بزوالها$.
فهل يمكن أن يكون هناك إسالم من دون أن يك$$ون في$$ه ص$$الة وال ص$$يام
وال حج وال تالوة وال ذك$$ر؟ ..وه$$ل يمكن أن يك$$ون هن$$اك إس$$الم ال تح$$رم في$$ه
الخم$$ر وال الخ$$نزير وال القم$$ار وال الرب$$ا ،وال الف$$واحش ،وال ك$$ل م$$ا ورد في
الشريعة تحريمه؟ ..وهل يمكن أن يكون هناك إسالم لمن يعتقد في هللا ومالئكت$$ه
وكتبه ورسله واليوم اآلخر خالف ما ورد في القرآن الك$ريم من عقائ$د واض$حة
صريحة ،تثبت الكفر لمن جحدها وعاندها بعد أن سمع بها؟
ه$$ذه أم$$ور واض$$حة ج$$دا ،والنص$$وص المقدس$$ة كله$$ا من الق$$رآن الك$$ريم
والسنة المطهرة المتفق عليها عند المدارس اإلسالمية جميعا تدل عليها ،لكن مع
ذلك يأتي من التنويريين من يشكك في ذلك كل$$ه ،وي$$زعم أن$$ه يمكن للمس$$يحي أو
78
اليهودي $أو البوذي أو على أي دين ش$$اء أن يحتف$$ظ بدين$$ه ،وبش$$عائره وش$$رائعة
وعقائده حتى لو كانت مناقضة لإلسالم بشرط واحد ،وهو أن ي$$ؤمن برس$$ول $هللا
إيمانا علميا ذهنيا ال عالقة له بسلوك وال بعقائد.
ولست أدري ما الذي دعاه إلى هذا؟ ..وهل آلم$$ه أن ي$$دخل الن$$اس في دين
هللا أفواج$$ا ،ح$$تى راح يق$$ول لهم :ال داعي ألن تس$$لموا ..ف$$أنتم $مس$$لمون أص$$ال،
يكفي فقط أن يصدر منكم اعتراف ب$$أن محم$$د ال يختل$$ف عن إرمي$$ا وإش$$عيا
وبوذا $..وأن اإليمان به وح$$ده يكفي ،كم$$ا أن اإليم$$ان بالمس$$يح وح$$ده يكفي ..فال
حاجة ألن ترهقوا أنفسكم بالتكاليف الشرعية ،التي هي خاص$$ة فق$$ط بتل$$ك األم$$ة
التي لم ترفع عنها األغالل التي رفعت عنكم.
وهذا الذي أقوله هو الذي راح ينشره ـ لألسف ـ من سمي رئيس$$ا لجمعي$$ة
لقاء الحضارات في النَّمسا ،وهو عدنان إبراهيم ،الذي قدم $له$ذا الفك$ر التن$ويري
المشِ $كلة جًّ $دا،
ْ الجديد والخطير $بقوله( :ما انتهى إليه اجته$$ادي في ه$$ذه المس$$ألة
وطبع$$ا أع$$رف أن ه$$ذا االجته$$اد حقي$$ق أن أكف$$ر علي$$ه ،وبس$$ببه من كث$$ير من
المسلمين الذين ينتظرون فرصة كهذه)
ولس$$ت أدري لم يحص$$ر مخ$$اطر المس$$ألة في شخص$$ه ،وكون$$ه سيص$$ير$
محال للتفكير ..لم ال ينظر ألولئك المسلمين الذين يعبدون هللا على حرف ،وكيف
سيستقبلون مثل هذه الفتوى ،والتي تتيح لهم أن يصبحوا مسيحيين أو يه$$ودا ،في
نفس ال$$وقت ال$$ذي يح$$افظون في$$ه على مزاي$$ا اإلس$$الم ،وامتيازات$$ه؛ فليس عليهم
سوى أن يعترفوا $بأن محمدا رسول هللا ..أما اتباعه؛ فليس ضروريا.
ولم ال ينظر كذلك إلى تلك االنحرافات $ال$$تي مألت األدي$$ان؛ فأبع$$دتها $عن
كل القيم العقدية والسلوكية ،لتتحول إلى أدي$$ان بش$$رية محض$$ة ..ثم ي$$أتي س$$عادة
األس$$تاذ ليض$$يف $إليه$$ا ش$$يئا بس$$يطا ،وه$$و االعتق$$اد بنب$$وة محم$$د ، لتتح$$ول
مباشرة إلى دين هلل ،وليس دينا من صنع البشر ..وليس على أصحابها إن أرادوا
الهداية أن يتحولوا إلى اإلسالم؛ فهم مسلمون أصال.
واألمر األعجب من كل ذلك هو زعم$ه أن المس$$لمين ينتظ$$رون من$ه ه$$ذه
الفرصة ليكفروه ،ولست أدري ما الذي ينفعهم تكفيرهم له ..وهو الذي راح يميع
اسم اإلسالم أصال ليحول منه مجاال رحبا ال ضوابط تحكمه ،وال شرائع يع$$رف
بها ،وال عقائد ثابتة يمكن اعتقادها.
هو ال يعلم أنه بموقفه هذا ال تختلف عن ذلك الذي[ :يب$$ني قص$$را ،ويه$$دم$
مصرا]؛ فهو يريد أن يرضي $سائر األمم ،وينسى $أنه يحطم اإلس$$الم ب$$ذلك ..ب$$ل
ينسى أنه يض$$ع الحجب بين األمم واإلس$$الم؟ $..ب$$ل يض$$ع الحجب بين المس$$لمين
واإلسالم؛ فالمس$لم $ال$ذي ي$رى أن$ه يمكن أن يتحق$ق بإس$المه من غ$ير أن يل$تزم
بشرائعه ،يكون قد ترك اإلسالم من حيث ال يشعر.
79
لقد قال عدنان معبرا عن هذه الفكرة الخطيرة ،والتي عبر عنها في مح$$ال
كثيرة ،وراح يستعمل كل الوسائل للدعاية لها( :لكن باختصار :الذي ب$$ان لي أن
الكتابي ـ يهوديا $أو نصرانيا $ـ ليس ملزما بأكثر من أن يق$$ر بنب$$وة محم$$د ،يق$$ول:
نعم هذا نبي .لكنه ليس ملزما بأن يتبعه ،وأن يتدين بشرعه)
بناء على هذا كل$$ه ،وجب ال$$رد على ه$$ذه الش$$بهة الخط$$يرة بك$$ل ص$$نوف
الرد ،والتحذير $منها؛ فهي تتدحرج كل حين كما تتدحرج كرة الثلج ،خاصة وأن
الذي يتولى أمرها قوم مراهقون فكريا ،يبحثون عن كل جدي$$د غ$$ريب ،من دون
عرضه على األمة ،أو على مصادرها $المقدسة.
ويوشك ـ لو استمر الوضع على ما هو علي$$ه اآلن ـ أن ي$$أتي الي$$وم ال$$ذي
يدعى فيه غير المسلمين إلى البقاء على أديانهم ،باعتبارها أفض$$ل عن$$د هللا لهم..
وما أسهل أن تُركب بعض النص$$وص ،أو توض$$ع بعض المف$$اهيم والتص$$ورات$
والهلوسات $لتحول من ذلك كله حقيقة ملموسة.
بناء على هذا سنذكر $هنا ـ باختص$$ار $ـ مج$$امع األدل$$ة على ه$$ذه الش$$بهة،
وهي األدلة الخمسة التالية:
1ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة.
.2تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول هللا.
3ـ تعارض المعاني التي فهموها مع األمر باتباع الرسول $مطلقا.
4ـ تع$ارض المع$اني ال$$تي فهموه$$ا بالنص$$وص الدال$ة على ض$$الل أه$$ل
الكتاب.
5ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع األمة.
وسنتحدث عن كل واحد منها هنا ،وقبل ذل$$ك نحب أن ننب$$ه إلى أن تمنين$$ا
لو كان ما يذكره عدنان إبراهيم مكتوبا $في كتب أو مقاالت علمية ،حتى نس$تطيع
توثيقه ،وحتى نرى وجوه االستدالل التي يعتمدونها.
لكن هؤالء لألسف ليس لديهم الوقت الك$$افي للكتاب$$ة ،وال البحث المرتب$$ط
بها ،بل يدلون بتص$$ريحات $فق$$ط ،كتص$$ريحات $الساس$$ة ،وإال ف$$إن دع$$وى كون$$ه
اجتهد في المسألة اجتهادا لم يسبق إليه ،أو يخاف على نفسه أن يكفر بسببه ك$$ان
يدعوه إلى وضع كتاب فيها ،يجمع فيه األدلة ،ويناقش فيه االحتماالت المختلفة،
ولكنه لم يفعل ..ألن التصريح أيسر من الكتابة ،واإلث$$ارة أهم من األن$$اة والبحث
العلمي الدقيق والموضوعي.
1ـ احتمالية النصوص التي أوردوها لمعان متعددة:
فقد تعلق هؤالء كما تعلق المجس$$مة وغ$$يرهم بنص$$وص متش$$ابهة تحتم$$ل
مع$$اني متع$$دد ،وراح$$وا يفرض$$ون عليه$$ا المع$$نى ال$$ذي يري$$دون ،من دون أن
يحاولوا $الجمع بين النصوص كما هي العادة المعمول بها عند التعارض.
80
ومن خالل استقراء اس$$تداللتهم $في ه$$ذا الج$$انب يمكن أن نج$$د موض$$عين
من القرآن الكريم ،كانا محل شبهة لديهم:
أ ـ م$$ا ورد في الق$$رآن الك$$ريم من النص$$وص الدال$$ة على ال$$دعوة إلقام$$ة
ب لَ ْستُ ْم َعلَى َش ْ $ي ٍء َحتَّى تُقِي ُم$$وا التوراة واإلنجيل ،كقوله تعالى ﴿ :قُلْ يَاأَ ْه َل ْال ِكتَا ِ
ُ
$ز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن َربِّ ُك ْم ﴾ [المائ$$دة ،]68 :وال$$تي عل$$ق عليه$$ا التَّوْ َراةَ َواإْل ِ ْن ِجي َل َو َما أ ْنِ $
عدنان إبراهيم بقوله( :ال تقل :لي القرآن .هللا قال﴿ :ما أنزل إليكم﴾ انتبه)
وقد غفل ه$$ذا األس$$تاذ وغ$$يره ممن اتبع$$ه فيه$$ا أو قل$$ده عن أن تل$$ك اآلي$$ة
الكريمة قد عقبت مباشرة بما يزيل الفهم السيء ال$$ذي ق$$د يفهم منه$$ا؛ فاهلل تع$$الى
عقب ذلك بقولهَ ﴿ :ولَيَ ِزيد ََّن َكثِيرًا ِم ْنهُ ْم َما أُ ْن ِز َل إِلَ ْي$$كَ ِم ْن َربِّكَ طُ ْغيَانً$$ا َو ُك ْف$رًا فَاَل
س َعلَى ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [المائدة ،]68 :حيث اعتبرهم كافرين إلعراضهم عما تَأْ َ
أنزل من القرآن الكريم.
وب$$ذلك ف$$إن ال$$ذي يقيم الت$$وراة واإلنجي$$ل مض$$طر معهم$$ا إلقام$$ة الق$$رآن
ْض ْال ِكتَ$$ا ِ
ب الكريم ،حتى ال يكون من ال$$ذين ق$$ال هللا تع$$الى فيهم﴿ :أَفَتُ ْؤ ِمنُ$$ونَ بِبَع ِ
ي فِي ْال َحيَ$$ا ِة الُّ $د ْنيَا َويَ$$وْ َ$م $ز ٌ ْض فَ َما َج َزا ُء َم ْن يَ ْف َع ُل َذلِ$$كَ ِم ْن ُك ْم إِاَّل ِخْ $ َوتَ ْكفُرُونَ بِبَع ٍ
ب﴾ [البقرة]85 : ْالقِيَا َم ِة يُ َر ُّدونَ إِلَى أَ َش ِّد ْال َع َذا ِ
ف$$إذا فعل$$وا ذل$$ك ،وأق$$اموا $الق$$رآن الك$$ريم نتيج$$ة إيم$$انهم ب$$ه مث$$ل إيم$$انهم
بكتبهم ،ونتيجة إيمانهم برسول $هللا ، ذلك أنه ال يمكن اإليمان برسول هللا
دون اإليمان بما أنزل علي$$ه ..حينه$$ا يص$$بح اإليم$$ان المج$$رد عن االتب$$اع لغ$$وا،
وهو ما ينقض أصل األطروحة التي طرحوها.
باإلضافة إلى ذلك ،فقد أخبر الق$$رآن الك$$ريم في مواض$$ع كث$$يرة عن ن$$وع
اإلقامة التي طلبها منهم ،ومنها ما ورد في الكتاب المقدس من البشارات به ،
ووجوب $اتباعه ،وهي كثيرة جدا ،وقد $أشار إليها القرآن الكريم في مواضع منه،
ي الَّ ِذي يَ ِجدُونَ$هُ َم ْكتُوبً$اِ $ع ْنَ $دهُ ْم ي اأْل ُ ِّم َّ كقوله تعالى ﴿ :الَّ ِذينَ يَتَّبِعُ$ونَ الر ُ
َّس$و َ$ل النَّبِ َّ
تُوف َويَ ْنهَاهُْ$م َع ِن ْال ُم ْن َك ِر َوي ُِح $لُّ لَهُ ُم الطَّيِّبَ$$ا ِ فِي التَّوْ َرا ِة َواإْل ِ ْن ِجي ِل يَأْ ُم ُرهُ ْم بِ ْال َم ْعر ِ
صَ $رهُ ْم َواأْل َ ْغاَل َل الَّتِي َك$$ان ْ
َت َعلَ ْي ِه ْم فَالَّ ِذينَ ضُ $ع َع ْنهُ ْم إِ ْث َويَ َ َويُ َح ِّر ُ$م َعلَ ْي ِه ُم ْال َخبَائِ َ
ك هُ ُم ْال ُم ْفلِ ُح$$ونَ ﴾ ور الَّ ِذي أُ ْن ِز َل َم َع $هُ أُولَئِ َ $ صرُوهُ َواتَّبَعُوا $النُّ َ آ َمنُوا بِ ِه َو َع َّزرُوهُ َونَ َ
[األعراف]157 :
بل أخبر أنه قد ورد في الكتاب المقدس من التفاصيل المرتبطة ب$$ه م$$ا
$اب يجعلهم موق$$نين ب$$ه ،غ$$ير ش$$اكين في$$ه ،كم$$ا ق$$ال تع$$الى﴿ :الَّ ِذينَ آتَ ْينَ$$اهُ ُم ْال ِكتََ $
ق َوهُ ْم يَ ْعلَ ُم$$ونَ ﴾ ْرفُ$$ونَ أَ ْبنَ$$ا َءهُ ْم َوإِ َّن فَ ِريقً$$ا ِم ْنهُ ْم لَيَ ْكتُ ُم$$ونَ ْال َحَّ $ْرفُونَ$هُ َك َم$$ا يَع ِ يَع ِ
[البقرة]146 :
ومنه$ا م$$ا ورد فيه$$ا من الوص$ايا $األخالقي$ة كالوص$ايا العش$$ر ،ونحوه$$ا،
والتي وردت جميعا في القرآن الكريم ال$$ذي ه$$و المهيمن على الكتب ،والح$$اوي$
81
لكل ما فيها من قيم نبيلة ،ومعارف $سامية.
باإلضافة إلى هذا ،فقد أخبر القرآن الكريم أن هناك تحريفات حص$$لت في
هذه الكتب ،وأن أهل الكتاب كانوا يش$$ترون بتحريفه$ا $ثمن$$ا قليال ،فه$$ل يعق$$ل أن
َط َم ُع$$ونَ أَ ْن يأمر هللا تع$$الى أه$$ل الكت$$اب ب$$أن يقيم$$وا م$$ا ح$$رف من كت$$ابهم﴿ :أَفَت ْ
ق ِم ْنهُ ْم يَ ْس َمعُونَ كَاَل َم هَّللا ِ ثُ َّم ي َُح ِّرفُونَهُ ِم ْن بَ ْعِ $د َم$$ا َعقَلُ$$وهُ ي ُْؤ ِمنُوا $لَ ُك ْم َوقَ ْ$د َكانَ فَ ِري ٌ$
َوهُ ْم يَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [البقرة]75 :
فإذا كان ذلك حقيقة مقررة ،فكي$$ف نج$$يز ألح$$د من أه$$ل الكت$$اب أن يظ$$ل
على دينه ،بل يعتق$$د بم$$ا ورد في$$ه من تجس$$يمات وخراف$$ات $وأباطي$$ل ..ونعت$$بره
مسلما بسبب ذلك.
ال يقول ذلك إال من ال يعرف الكتاب المقدس ،وما يحتوي عليه من أنواع
الضاللة واالنحراف والدجل ،والتي كانت سببا في ظهور اإللحاد وغ$$يره ..فه$$ل
يمكن أن نعتبر هذه المصادر بع$$د ذل$$ك ،ثم نطلب من أه$$ل الكت$$اب إقامته$$ا ،وأن
يضيفوا إليها فقط االعتراف بكون محمد مجرد رسول ال يجب اتباعه؟
والخالصة ال$$تي ننتهي إليه$$ا من مفه$$وم اآلي$$ة هي أن ه$$ذه اآلي$$ة الكريم$$ة
تدعو أهل الكت$$اب للع$$ودة لكت$$ابهم المق$$دس ليتمثل$$وا القيم النبيل$$ة الموج$$ودة في$$ه،
ويتمثل$$وا $م$$ا ورد في$$ه من أوام$$ر باتب$$اع الرس$$ول $الخ$$اتم ال$$ذي تك$$اد الكث$$ير من
األسفار تصرح به ..وهي ال تع$$ني ب$$ذلك اكتف$$اءهم بم$$ا فيه$$ا عن اتب$$اع الرس$$ول
.
بل إن مثل ذلك مثل من يخ$$اطب سياس$$يا ي$$راه ق$$د انح$$رف عن مش$$روعه
السياسي $الذي طرحه ،بالعودة إلى مشروعه والعمل بما فيه ،مم$$ا ك$$ان ق$$د وع$$د
به ،وذلك ال يعني أن مشروعه معصوم ،أو أنه كاف ،وإنما هو ن$$وع من الت$$نزل
في مخاطبة اآلخر.
وهو منهج قرآني في الحوار ،فقد قال تعالى في مخاطبة المش$$ركين﴿ :قُ$$لْ
اَل تُسْأَلُونَ َع َّما أَجْ َر ْمنَا َواَل نُسْأ َ ُل َع َّما تَ ْع َملُونَ ﴾ [سبأ ،]25 :فهل يمكن االس$$تدالل
بهذه اآلية الكريمة على أن المسلمين كانوا مجرمين.
ب ـ م$$ا ورد في الق$$رآن الك$$ريم من النص$$وص الدال$$ة على نج$$اة غ$$ير
ارىَ $والصَّابِئِينَ َم ْن ص َ المسلمين ،كقوله تعالى﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُوا َوالَّ ِذينَ هَادُوا َوالنَّ َ
ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل صالِحًا فَلَهُ ْم أَجْ ُرهُ ْم ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َواَل َخوْ ٌ
آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر َو َع ِم َل َ
الص$ابِئُونَ هُ ْم يَحْ زَ نُ$$ونَ ﴾ [البق$$رة ،]62 :وقول$$ه﴿ :إِ َّن الَّ ِذينَ آ َمنُ$$وا َوالَّ ِذينَ هَ$$ادُوا َو َّ
ف َعلَ ْي ِه ْم َواَل هُ ْم ص$الِحًا فَاَل خَ$$وْ ٌ$ $ل َ ص$ا َرى َم ْن آ َمنَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَ$$وْ ِ$م اآْل ِخِ $
$ر َو َع ِمَ $ َوالنَّ َ
يَحْ َزنُونَ ﴾ [المائدة]69 :
فهذه اآلي$$ات الكريم$$ة ال يمكن أن تفهم إال في ض$$وء النص$$وص األخ$$رى
الكثيرة الدالة على كفر من أشرك باهلل من اليهود والنصارى $كقوله تعالى ﴿ :لَقَْ $$د
82
$رَكفَ َر الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ هُ َو ْال َم ِسي ُح ابْنُ َمرْ يَ َم ﴾ [المائ$$دة ،]17 :وقول$$ه ﴿ :لَقَْ $د َكفََ $
ال ْال َم ِس$ي ُح يَ$$ابَنِي إِ ْسَ $رائِي َل ا ْعبُ$دُوا هَّللا َ الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ هُ َو ْال َم ِسي ُح ابْنُ َمرْ يَ َم َوقَ َ
ْ
َربِّي َو َربَّ ُك ْ$م إِنَّهُ َم ْن ي ُْشِ $$$ر ْك بِاهَّلل ِ فَقَْ $$$د َحَّ $$$ر َم هَّللا ُ َعلَيِْ $$$ه ْال َجنَّةَ َو َم$$$أ َواهُ النَّا ُر َو َم$$$ا
ث ار ﴾ [المائدة ،]72 :وقوله ﴿ :لَقَ ْد َكفَ َ $ر الَّ ِذينَ قَ$$الُوا $إِ َّن هَّللا َ ثَ$$الِ ُ ص ٍ لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن أَ ْن َ
احٌ $د َوإِ ْن لَ ْم يَ ْنتَهُ$$وا َع َّما يَقُولُ$$ونَ لَيَ َم َّسَّ $ن الَّ ِذينَ َكفَ$رُوا ثَاَل ثَ ٍة َو َما ِم ْن إِلٍَ $ه إِاَّل إِلَ$هٌ َو ِ
ِم ْنهُ ْم عََ $ذابٌ أَلِي ٌم﴾ [المائ$$دة ،]73 :وغيره$$ا من اآلي$$ات الكريم$ة ال$تي تنص على
كفر من أشرك باهلل تعالى ،أو لم يتبع الرسول أو كذبه ،كما سنرى في الدليل
الثالث.
واإليم$$ان بجمي$$ع اآلي$$ات ي$$دعونا إلى التس$$اؤل عن الفهم الص$$حيح لتل$$ك
اآليات التي يوردونها ،وهو بسيط جدا لمن يعرف $لغة الق$$رآن الك$$ريم ..ف$$القرآن
الك$$ريم ال يتح$$دث عمن رأوا رس$$ول هللا وس$$معوا ب$$ه ،فأولئ$$ك يجب عليهم
اإليمان به واتباع$$ه ،وإنم$$ا يتح$$دث عمن لم ي$$روه ،ولم يس$$معوا $ب$$ه إم$$ا ألس$$باب
زمانية أو مكانية.
أما الزمانية؛ فلكونهم في أزمنة سبقت اإلس$$الم ،ولم يعرف$$وا $دين$$ا إال تل$$ك
الديانات ،فهم غير مكلفين إال بها ،وأما المكانية؛ فهو كونهم في أقصى األرض،
ولم يتهيأ لهم أن يسمعوا باإلسالم ،فهم غير مؤاخذين بسبب ذلك.
ومما يدل على هذا األسلوب القرآني في التعبير قوله تعالى ـ عند الح$ديث
ق َوبِ ِه يَ ْع ِدلُونَ ﴾ [األعراف: عن بني إسرائيل ـَ ﴿ :و ِم ْن قَوْ ِم ُمو َسى $أُ َّمةٌ يَ ْه ُدونَ بِ ْال َح ِّ
،]159فهو ال يقصد وجودهم في كل األزمنة ،وإنما يقصد وجودهم $في األزمنة
السابقة قبل رس$$الة رس$$ول هللا ،ألن$$ه بع$$د إرس$$ال هللا ل$$ه ص$$ار على الجمي$$ع
وجوب اتباعه كما سنرى$.
وإن شاء هؤالء التنويريون أن يجادلونا؛ فيذكروا أن تلك اآلي$$ات الكريم$$ة
ذك$$$رت نج$$$اة غ$$$ير المس$$$لمين ممن عاص$$$روا اإلس$$$الم ولم يتبع$$$وه ،حينه$$$ا
سيعترضون على آيات كثيرة جدا في القرآن الكريم ،وال$$تي تنص على كف$$ر من
لم يتبع رسول هللا ولم يؤمن بما جاء به.
بل حينها تعتبر دع$$وة رس$$ول هللا لليه$$ود والنص$$ارى $لغ$$وا ،وإرس$$اله
الكتب لملوك النصارى $وتحذيره لهم مجرد تصرف ال معنى له.
وكي$$ف يس$$تقيم ذل$$ك ،وق$$د ورد في الق$$رآن الك$$ريم في نص$$ارى $نج$$ران
المسالمين الذي تعامل معهم رسول هللا بكل سماحة ولطف ،ولكن مع ذلك لم
يسكت عن كفرهم وجحودهم $عن اتباعه ،ب$$ل دع$$اهم إلى المباهل$$ة ،فق$$ال ﴿ :فَ َم ْن
ع أَ ْبنَا َءنَ$$ا َوأَ ْبنَ$$ا َء ُك ْم َونِ َس$ا َءنَاك ِمنَ ْال ِع ْل ِم فَقُلْ تَ َع$$الَوْ ا نَْ $د َُحا َّجكَ فِي ِه ِم ْن بَ ْع ِد َما َجا َء َ
َونِ َسا َء ُك ْ$م َوأَ ْنفُ َسنَا َوأَ ْنفُ َس ُك ْم ثُ َّم نَ ْبتَ ِهلْ فَنَجْ َعلْ لَ ْعنَتَ هَّللا ِ َعلَى ْال َكا ِذبِينَ ﴾ [آل عمران:
]61
83
ت هَّللا ِ َوأَ ْنتُ ْم ت َْش$$هَ ُدونَ ﴾ [آل ب لِ َم تَ ْكفُ$$رُونَ بِآيَ$$ا ِ $$ل ْال ِكتَ$$ا ِ وق$$ال لهم ﴿ :يَاأَ ْه َ
اط ِل َوتَ ْكتُ ُمونَ ْال َح َّ
ق ق بِ ْالبَ ِ ب لِ َم ت َْلبِسُونَ ْال َح َّ عمران ،]70 :وقال لهم﴿ :يَاأَ ْه َل ْال ِكتَا ِ
َوأَ ْنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ ﴾ [آل عمران]71 :
وهك$$ذا ورد في الق$$رآن الك$$ريم $اآلي$$ات الكث$$يرة ال$$تي تخ$$بر عن الموق$$ف
الحقيقي من أهل الكتاب ،وهو الموقف $الذي ي$$بين ض$$اللهم عن الح$$ق ،وكف$$رهم
بسبب عدم اتباعهم له ،وفي نفس الوقت يأمر بالسماحة معهم ،وتأليف قلوبهم$.
وال تع$$ارض بين األم$$رين ،ذل$$ك أن البعض يتص$$ور أن الق$$ول بكف$$رهم
وجحودهم للحق ،يقتضي المعاملة الس$$يئة ،وه$$ذا غ$$ير ص$$حيح ،فرس$$ول هللا
تعامل مع وفد نجران بكل سماحة وأدب ،ولكن$$ه في نفس ال$$وقت لم ي$$داهنهم ولم
يج$$املهم ،ولم ي$$نزل إلى رغب$$اتهم ،ب$$ل بين لهم حقيق$$ة ض$$اللهم ،ودع$$اهم إلى
المباهلة عند جحودهم $لها.
ُ ُ َ َ َّ هَّللا ُ ْ
وهذا ما ينص عليه قوله تع$$الى ﴿ :اَل يَنهَ$$اك ُم ُ َع ِن ال ِذينَ ل ْم يُق$$اتِلوك ْم فِي
$$$$ار ُك ْم أَ ْن تَبَ$$$$رُّ وهُ ْم َوتُ ْق ِس$$$$طُوا إِلَ ْي ِه ْم إِ َّن هَّللا َ ي ُِحبُّ
ال$$$$دِّي ِن َولَ ْم ي ُْخ ِرجُ$$$$و ُك ْم ِم ْن ِديَ ِ
ْال ُم ْق ِس ِطينَ ﴾ [الممتحنة]8 :
2ـ تعارض المعاني التي فهموها مع عالمية رسالة رسول هللا :
ذلك أن أول مقتضيات قولهم بعدم شرطية اتباع رسول هللا ،واالكتفاء
بمجرد اإلقرار $بكونه رس$$وال من هللا تع$$الى ،دون ال$$تزام م$$ا ج$$اء ب$$ه من عقائ$$د
وشرائع ،هو عدم عالمية رسالة رسول هللا .
ذلك أن أول مستلزمات العالمية وجوب االتباع الكامل لما جاء ب$ه رس$ول
هللا من لدن جميع األمم ،كما ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه( :وال$$ذي
نفسي بيده ،ال يس$$مع بي رجٌ $ل من ه$$ذه األم$$ة ،وال يه$$ودي $وال نص$$راني ،ثم لم
يؤمن بي ،إال كان من أهل النار)()1
وفي حديث آخر ،ق$ال ( :أعطيت خمس$ا لم يعطهن أح$د قبلي[ ..وذك$ر
منها] :وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ،وبعثت إلى الناس عامة)()2
بل هذا الذي دل عليه القرآن الكريم في مواضع كث$$يرة ،فاهلل تع$$الى أخ$$بر
أن رسالة رس$$ول هللا إلى كاف$$ة الن$$اس بخالف رس$$ائل س$$ائر الرس$$ل ،وال$$تي
ذكر أنها ألقوامهم خاصة ،ومن تلك النصوص قول$$ه تع$$الىَ ﴿ :و َم$$ا أَرْ َسْ $لنَاكَ إِاَّل
اس اَل يَ ْعلَ ُمون ﴾ [سبأ ،]28 :وقوله ﴿ :قُلْ اس بَ ِشيرًا َونَ ِذي ًراَ $ولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ َِكافَّةً لِلنَّ ِ
ض ال إِلَ$$هَ َ
ت َواأْل رْ ِ اوا ِ ك ال َّس َم َ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي َرسُو ُل هَّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم َج ِميعا ً الَّ ِذي لَهُ ُمل ُ
ْ
يت فَ$$آ ِمنُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس$ولِ ِه النَّبِ ِّي اأْل ُ ِّم ِّي الَّ ِذي يُ$ْ $ؤ ِمنُ بِاهَّلل ِ َو َكلِ َماتِِ $ه إِاَّل هَُ $و يُحْ يِي َويُ ِم ُ
$اركَ الَّ ِذي نََّ $ز َل ْالفُرْ قَ$$انَ َواتَّبِ ُع$$وهُ لَ َعلَّ ُك ْم تَ ْهتَُ $دونَ ﴾ (ألع$$راف ،)158:وقول$$ه ﴿ :تَبََ $
)(1رواه مسلم :ج ،١ص ،134ح .240
)(2رواه البخاري 369 / 1و ، 370ومسلم رقم ()521
84
$رى َعلَى َع ْب ِ $د ِه لِيَ ُك$$ونَ لِ ْل َع$$الَ ِمينَ نَ ِ $ذيراً﴾ (الفرق$$ان ،)1:وقول$$ه ﴿ :إِ ْن هَُ $
$و إِاَّل ِذ ْكَ $
لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ (األنعام ،)90 :وقولهَ ﴿ :و َما ه َُو إِاَّل ِذ ْك ٌر لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ (القلم ،)52:وقوله:
﴿ َو َما أَرْ َس ْلنَاكَ إِاَّل َرحْ َمةً لِ ْل َعالَ ِمينَ ﴾ [األنبياء]107:
وغيرها من اآليات الكريمة التي ال يفهم منها إال ك$$ون رس$$الة رس$$ول هللا
شاملة للعالمين جميعا ..وكيف يتحقق ذلك إذا قلن$$ا بمقول$$ة أولئ$$ك التن$$ويريين
ال$$ذين ي$$ذكرون أن$$ه يمكن أن يحاف$$ظ ك$$ل ش$$خص على دين$$ه ،وأن$$ه ليس ملزم$$ا
باالتباع الكامل لرسول هللا ،وأنه يكفيه أن يعترف $به فقط؟
مع أنه لو عدنا للكتاب المقدس ،فإننا $نجد كل البشارات التي تبشر برسول
هللا تخبر أن رسالته للعالمين ،وأن على اليهود والنصارى وغ$$يرهم وج$$وب
اتباعه ،ذلك أن كل الشرائع تنسخ بشريعته ،كما ورد في [م$$تى ( :]18-5/17ال
تظنوا $أني جئت ألنقض الناموس أو األنبياء ،م$ا جئت ألنقض ب$ل ألكم$ل ،ف$إني
الحق أقول لكم :إلى أن تزول الس$$ماء واألرض ال ي$$زول ح$$رف واح$$د أو نقط$$ة
واحدة من الناموس حتى يكون الكل) ،فهذا المبشر به ه$$و الك$$ل ال$$ذي ل$$ه الك$$ل،
وهو رسول هللا .
في نفس الوقت الذي يقول فيه المسيح عليه السالم عن نفسه كم$$ا ج$$اء في
[متى ( :]24 / 15لم أرسل إال إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)؟
وهك$$ذا ورد في نب$$وة الن$$بي حزقي$$ال علي$$ه الس$$الم ،كم$$ا في [حزقي$$ال
( :]21/27يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه)
ولهذا ج$اء اليه$ود إلى المدين$ة المن$ورة ،ألنهم ك$انوا ي$ترقبون مجيئ$ه
إليها بحسب ما تدل عليه كتبهم ،والتي تأمرهم بوج$وب اتباع$ه ،كم$ا ق$ال تع$الى
ق لِ َم$$ا َم َعهُ ْم َو َك$$انُواِ $م ْن مخبرا عن ذلكَ ﴿ :ولَ َّما َجا َءهُ ْم ِكتَ$$ابٌ ِم ْن ِع ْنِ $د هَّللا ِ ُم َ
صِّ $د ٌ
قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َما ع ََرفُوا َكفَ $رُوا بِ ِ $ه فَلَ ْعنَ $ةُ هَّللا ِ َعلَى
ْال َكافِ ِرينَ ﴾ (البقرة)89:
فهذه اآلية الكريمة تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء هذا الرسول
بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ،وقد نقل
لنا المؤرخون ـ باألسانيد $الصحيحة ـ أقوالهم $الدالة على ذلك ..فقد كانوا يقولون:
إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقد نقل بعضهم شهادة عن$ه في ذل$$ك ،فق$ال :فين$ا وهللا ،وفيهم $ـ يع$$ني في
األنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم $ـ نزلت هذه اآلية ـ يقصد االية السابقة ـ
كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلي$$ة ،ونحن أه$$ل ش$$رك ،وهم أه$$ل كت$$اب ،فك$$انوا$
يقولون( :إن نبيًا من األنبياء يبعث اآلن نتبعه ،ق$$د أظ$$ل زمان$$ه ،نقتلكم مع$$ه قت$$ل
عاد وإرم) ،فلما بعث هللا رسوله من قريش واتبعناه كفروا به ..فذلك قوله تعالى:
﴿ فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َما َع َرفُوا َكفَرُوا بِ ِه فَلَ ْعنَةُ هَّللا ِ َعلَى ْال َكافِ ِرينَ ﴾(النساء)155 :
85
وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم$
من اليه$$ود ،ف$$ذكروا $أن مع$$اذ بن جب$$ل ،وبش$$ر بن ال$$براء بن َمعْ $$رُور ،ق$$اال:
(يامعشر يهود ،اتق$وا هللا وأس$لموا $،فق$د كنتم تس$تفتحون علين$ا بمحم$د ونحن
أهل شرك ،وتخبروننا بأنه مبعوث ،وتصفُونه لنا بصفته) ،فقال َس$الم بن ِم ْش$كم
أخو بني النضير( :ما جاءنا بشيء نعرفه ،وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل هللا
ق لِ َم$$ا َم َعهُ ْم َو َك$$انُواِ $م ْن في ذلك من قولهمَ ﴿$:ولَ َّما َجا َءهُ ْم ِكتَابٌ ِم ْن ِع ْن ِد هَّللا ِ ُم َ
صِّ $د ٌ
قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفتِحُونَ َعلَى الَّ ِذينَ َكفَرُوا فَلَ َّما َجا َءهُ ْم َما ع ََرفُوا َكفَ $رُوا بِ ِ $ه فَلَ ْعنَ $ةُ هَّللا ِ َعلَى
( )
ْال َكافِ ِرينَ ﴾(البقرة1 )89:
وبه$$ذا الوج$$ه أيض$$ا يفس$$ر ذل$$ك النص ال$$ذي فهم من$$ه التنويري$$ون خالف
مقصوده؛ فإقامة الكتاب في هذه الناحي$$ة ه$$و ل$$زوم اتب$$اع الرس$$ول الجدي$$د ال$$ذي
تنسخ برسالته جميع الشرائع.
وهذا ما فعله النصارى $أيضا؛ فعندما $جاء وفد نج$$ران طولب$$وا $باإلس$$الم،
ولم يطالبوا $ب$$االعتراف المج$$رد برس$$ول هللا دون اتباع$$ه ،وق$$د ن$$زلت آي$$ات
كثيرة في ذلك ،ومنها آية المباهلة المعروفة.
باإلضافة إلى ذلك كله ،ف$$إن ك$$ل النص$$وص ال$$واردة في الكت$$اب المق$$دس
لدى اليهود والنصارى ،تخبر أن كل أنبيائهم $بما فيهم المسيح عليه السالم خاص
ببني إسرائيل ،وهم شعب محدود العدد جدا ،فكيف نج$$يز له$ؤالء ال$ذين يتبعون$$ه
في أص$$$قاع األرض ،وهم ليس$$$وا من ب$$$ني إس$$$رائيل في نفس ال$$$وقت ال$$$ذي ال
نطالبهم $فيه باتباع الرسول الذي أرسل للناس كافة.
فقد ورد في [متى( :]6 $:2:وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى$
بين رؤساء يهوذا ،ألن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل)
بل حدث المسيح عليه السالم عن نفسه ،فقال ،كما في متى ( (:)24 :15لم
أرسل إال إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)
وعندما جاءت$$ه الم$$رأة الكنعاني$$ة أع$$رض عنه$$ا ،لكونه$ا $ليس$$ت من الق$$وم
الذين كلف بهم ،كما في [متى 23 $:15ـ ( :]27ثم غ$$ادر يس$$وع تل$$ك المنطق$$ة،
وذهب إلى نواحي صور $وصيدا ،فإذا امرأة كنعانية من تلك النواحي ،قد تق$دمت
إليه صارخة( :ارحمني ياسيد ،ياابن داود! ابن$$تي معذب$$ة ج$$دا ،يس$$كنها ش$$يطان)
لكنه لم يجبها بكلمة ،فجاء تالميذه يلحون عليه ق$$ائلين( :اقض له$$ا حاجته$$ا .فهي
تص$$رخ في إثرن$$ا!) ،فأج$$اب( :م$$ا أرس$$لت إال إلى الخ$$راف الض$$الة ،إلى بيت
إسرائيل!) ،ولكن الم$$رأة اق$$تربت $إلي$$ه ،وس$$جدت ل$$ه ،وق$$الت( :أع$$ني ياس$$يد!)،
فأج$$اب( :ليس من الص$$واب أن يؤخ $ذ $خ$$بز الب$$نين ويط$$رح لج$$راء الكالب!)،
86
فق$$الت( :ص$$حيح ياس$$يد؛ ولكن ج$$راء الكالب تأك$$ل من الفت$$ات ال$$ذي يس$$قط من
موائد أصحابها!)
وفي مقابل هذا نجد النصوص القرآنية باإلضافة إلى ما ورد من بش$$ارات
في الكتاب المقدس تنص على وج$$وب اتب$$اع رس$$ول هللا ،ب$$ل فيه$$ا م$$ا ينص
ق على وجوب اتباع األنبياء أنفسهم له ،كما في قول$$ه تع$$الىَ ﴿ :وإِ ْذ أَخََ $ذ هَّللا ُ ِميثَ$$ا َ
ق لِ َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤ ِمنُ َّن بِِ $$ه
ص ِّد ٌب َو ِح ْك َم ٍة ثُ َّم َجا َء ُك ْم َرسُو ٌل ُم َالنَّبِيِّينَ لَ َما آتَ ْيتُ ُك ْم ِم ْن ِكتَا ٍ
اش $هَدُوا َوأَنَ$$ا ال فَ ْ خَذتُْ$م َعلَى َذلِ ُك ْم إِصْ ِري قَالُوا $أَ ْق َررْ نَا قَ َ ال أَأَ ْق َررْ تُ ْم َوأَ ْ
ص ُرنَّهُ قَ ََولَتَ ْن ُ
َم َع ُك ْم ِمنَ ال َّشا ِه ِدينَ ﴾ [آل عمران]81 :
وفي الح$$ديث الص$$حيح المع$$روف $:أن عم$$ر بن الخط$$اب أتى الن$$بي
بكت$$$اب أص$$$ابه من بعض أه$$$ل الكتب ،فق$$$رأه فغض$$$ب الن$$$بي ،ثم ق$$$ال:
(أمتهوكون فيها يا بن الخطاب ،والذي $نفسي بيده لقد جئتكم بها بيض$$اء نقي$$ة ،ال
تسألوهم $عن شيء فيخ$$بروكم بح$$ق فتك$$ذبوا $ب$$ه أو بباط$$ل فتص$$دقوا $ب$$ه ،وال$$ذي
نفسي بيده لو أن موسى صلى هللا عليه وسلم $كان حي$$ا م$$ا وس$$عه إال أن يتبع$$ني)
()1
فكيف يطالب األنبياء عليهم السالم بوجوب اتباعه ،ثم ال ت$$ؤمر أممهم
بذلك؟
3ـ تعارض المعاني التي فهموها مع األمر باتباع الرسول :
فقد وردت النصوص المقدسة الكث$$يرة ت$$أمر باتب$$اع رس$$ول هللا اتباع$$ا
مطلق$$ا ،وتعت$$بر ذل$$ك االتب$$اع عالم$$ة على ص$$دق اإليم$$ان؛ فال قيم$$ة إليم$$ان ال
يتجاوز $حدود الذهن ،وكيف يمكن لعقل أن يقبل بأن شخصا م$$ا ه$$و رس$$ول رب
العالمين ،وهو خاتم الرسل ،وأن رسالته هي المهيمنة والناسخة لجمي$$ع الش$$رائع
واألدي$$ان ،ثم بع$$د ذل$$ك يكتفي به$$ذه المعرف$$ة دون أن يك$$ون له$$ا أي مفاعي$$ل في
الواقع.
إن من يق$$ول ه$$ذا يش$$به ذل$$ك الم$$ريض ال$$ذي يكتفي بمعرف$$ة اس$$م طبيب$$ه
والشهادة له بكونه طبيبا ،وطبيبا $كبيرا ،ومختصا $في مجاله ،ثم بعد ذل$$ك ال يأب$$ه
للدواء الذي يصفه له ،وال يقر به ،وال يذعن له ..فهل يمكن اعتبار هذا المريض
صادقا $فيما يزعمه؟
وهذا ليس خاصا برسول هللا ،بل ه$$و ع$$ام لك$$ل الرس$$ل ،فك$$ل الرس$$ل
ول إِاَّل لِيُطَ$$ا َع بِ $إِ ْذ ِن هَّللا ِ ﴾أطب$$اء ،وله$$ذا ق$$ال هللا تع$$الىَ ﴿ :و َم$$ا أَرْ َس ْ $لنَا ِم ْن َر ُس ٍ $
[النساء]64 :
ولهذا نجد في القرآن الكريم ربط االتباع باإليمان ،فأول عالمات اإليم$$ان
برسول $هللا هو ذلك الخضوع المطلق لكل ما ي$$أمر ب$$ه أو ي$$دعو ل$$ه؛ فكالم$$ه
)(1رواه أحمد (.)3/387
87
وح$$ده حج$$ة ،وال يحت$$اج الم$$ؤمن بع$$ده أي دلي$$ل ،وكي$$ف يحت$$اج إلى دلي$$ل،
ق ﴿و َم$$ا يَ ْن ِطُ $ ورسول هللا هو الناطق باسم الحقيقة المطلق$$ة ،كم$$ا ق$$ال تع$$الىَ :
ي يُو َحى﴾ [النجم]4 ،3 : ع َِن ْالهَ َوى ( )3إِ ْن ه َُو إِاَّل َوحْ ٌ
$ؤ ِم ٍن َواَل
ومن اآليات الواردة في ه$$ذا المج$$ال قول$$ه تع$$الىَ ﴿ :و َم$$ا َك$$انَ لِ ُمْ $
ْص هَّللا َ ضى هَّللا ُ َو َرسُولُهُ أَ ْمرًا أَ ْن يَ ُكونَ لَهُ ُم ْال ِخيَ َرةُ ِم ْن أَ ْم ِر ِه ْم َو َم ْن يَع ِ ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِ َذا قَ َ
ضاَل اًل ُمبِينًا﴾ [األحزاب]36 : ض َّل َ َو َرسُولَهُ فَقَ ْد َ
فهذه اآلية الكريم$$ة تخ$بر عن موق$ف $المؤم$نين من ك$ل حكم يحكم ب$ه هللا
ورسوله ،وهو اإلذعان المطلق الذي ال مجال فيه ألي تفكير أو تدبر أو اختيار$.
وك$$ل النص$$وص المقدس$$ة ال$$تي ت$$أمر بطاع$$ة هللا ورس$$وله ترب$$ط ذل$$ك
باإليمان ،وهو عالمة على أن تلك الطاعة من مس$$تلزمات اإليم$$ان ،ق$$ال تع$$الى:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا أَ ِطيعُوا هَّللا َ َو َرسُولَهُ َواَل ت ََولَّوْ ا َع ْنهُ َوأَ ْنتُ ْم ت َْس َ $معُونَ ﴾ [األنف$$ال:
]20
هَّللا َ ُ
بل إن هللا تع$الى رب$ط بين ع$دم الطاع$ة والكف$ر ،فق$ال ﴿ :ق$لْ أ ِطيعُ$وا َ
ُول فَإِ ْن تَ َولَّوْ ا فَإِ َّن هَّللا َ اَل يُ ِحبُّ ْال َكافِ ِرينَ ﴾ [آل عمران]32 : َوال َّرس َ
َ
ُول َواحْ $ذرُوا َ هَّللا
﴿وأ ِطيعُواَ َ $وأ ِطيعُوا $ال َّرس َ َ واعتبر عدم الطاعة توليا ،فقالَ :
فَ$$إِ ْن تََ $$ولَّ ْيتُ ْم فَ$$ا ْعلَ ُموا أَنَّ َم$$ا َعلَى َر ُس$$ولِنَا $البَاَل غ ال ُمبِينُ ﴾ [المائ$$دة ،]92 :وق$$ال:
ْ ُ ْ
غ ْال ُمبِينُ ﴾ $ولَّ ْيتُ ْم فَإِنَّ َم$$ا َعلَى َر ُس $ولِنَاْ $البَاَل ُ
ول فَ $إِ ْن تََ $ ﴿ َوأَ ِطي ُع$$وا $هَّللا َ َوأَ ِطي ُع$$وا الر ُ
َّس $َ $
[التغابن]12 :
ُ َّ ْ
وحذر َمن يخالف أمره بالفتن$$ة والع$$ذاب ،فق$$ال ﴿ :فَليَحَْ $ذ ِ$ر ال ِذينَ يُخَ$$الِفونَ
صيبَهُْ$م َع َذابٌ أَلِي ٌم ﴾ [النور]63 : صيبَهُْ$م فِ ْتنَةٌ أَوْ يُ ِ
ع َْن أَ ْم ِر ِه أَ ْن تُ ِ
واعتبر اتباعه المطلقة عالمة على محبة هللا وش$$رطا $له$$ا؛ فق$$ال﴿ :قُ$$لْ إِ ْن
ُك ْنتُ ْم تُ ِحبُّونَ هَّللا َ فَ$$اتَّبِعُونِي $يُحْ بِ ْب ُك ُم هَّللا ُ َويَ ْغفِ$$رْ لَ ُك ْم ُذنُ$$وبَ ُك ْم َوهَّللا ُ َغفُ$$و ٌر َر ِحي ٌم﴾ [آل
عمران]31 :
وهكذا ورد في األحاديث الكثيرة الص$$حيحة الص$$ريحة المتف$$ق عليه$$ا بين
المدارس اإلسالمية جميع$$ا ،ومنه$$ا قول$$ه ( :ك$$لُّ أم$$تي يَْ $دخلون الجن$$ة إالَّ من
دخ$$ل الجنَّة ،ومن َ أبى) ،قي$$ل :و َمن ي$$أبى ي$$ا رس$$ول هللا؟! ق$$ال( :من أط$$اعني
عصاني فقد أبَى)()1
فقد اعتبر طاعته شرطا $لإليمان ،وليس مجرد المعرفة الذهنية أو اإليم$$ان
العقلي الخالي من أي ارتباط $أو تبعية أو تبعة عملية.
4ـ تعارض فهومهم مع النصوص الدالة على ضالل أهل الكتاب:
وهي كثيرة جدا ،فقد ذكر القرآن الكريم ما فعله بنو إسرائيل في كتبهم من
تحريف ،وما أضافوه من إضافات ما أنزل هللا بها من سلطان ،سواء في العقائد،
)(1البخاري،ح.6737
88
أو في األحكام ،أو في القيم وغيرها؛ فكيف $يمكن بعد ذل$$ك أن ن$$ذكر ب$$أن الق$$رآن
الك$$ريم نفس$$ه يج$$يز لهم أن يعتق$$دوا بم$$ا في كتبهم من ض$$اللة ،ويمارس$$وا م$$ا
ابتدعوه من بدع ،ويكتفوا $من إسالمهم $باالعتراف برس$$الة رس$$ول هللا ..ذل$$ك
االعتراف الخالي من أي مضمون عملي.
ال يمكننا هنا ذكر كل ما ورد في النصوص المقدسة للداللة على ذلك؛ فقد
ذكرنا بتفصيل في سلسلة [حقائق ورقائق]؛ فل$$ذلك نكتفي هن$$ا ببعض$$ها من ب$$اب
اإلشارة.
َّ َ
فمنها ما ورد فيه من تح$$ريفهم لكتبهم ،كم$ا في قول$ه تع$الى ﴿:ف َو ْيٌ $ل لِل ِذينَ
َاب بِأ َ ْي ِدي ِه ْ$م ثُ َّم يَقُولُونَ هَ َذا ِم ْن ِع ْن ِد هَّللا ِ لِيَ ْشتَرُوا بِ ِه ثَ َمنا ً قَلِيالً فَ َويْ$ٌ $$ل لَهُ ْم
يَ ْكتُبُونَ ْال ِكت َ
ت أَ ْيِ $دي ِه ْم َو َو ْيٌ $ل لَهُ ْم ِم َّما يَ ْك ِس$بُونَ ﴾(البق$$رة ،)79 :وقول$$ه :لق$$د ورد في$$ه: ِم َّما َكتَبَ ْ
اضِ $ع ِه اس$يَةً ي َُحرِّ فُ$$ونَ ْال َكلِ َم عَن َّم َو ِ ض ِهم ِّميثَاقَهُْ$م لَعنَّاهُ ْم َو َج َع ْلنَا $قُلُ$$وبَهُ ْم قَ ِ ﴿ فَبِ َما نَ ْق ِ
ُوا بِ ِه َوالَ تَ َزا ُل تَطَّلُِ $ع َعلَ َى خَآئِنٍَ $ة ِّم ْنهُ ْم إِالَّ قَلِيالً ِّم ْنهُ ُم فَ$$اعْفُ ُوا َحظًّا ِّم َّما ُذ ِّكر ْ َونَس ْ$
َع ْنهُ ْم َواصْ فَحْ إِ َّن هّللا َ يُ ِحبُّ ْال ُمحْ ِسنِينَ ﴾ (المائدة)13 :
وما نص عليه القرآن الكريم هو نفسه ما نص عليه الكتاب المقدس ،حيث
نجد األنبياء عليهم السالم الم$$ذكورين في$$ه ،ينص$$ون على وق$$وع التحري$$ف ،ففي
(إرميا 31/ 23 :ـ (:)32وأقاوم $األنبياء الذين يس$$خرون ألس$$نتهم ق$$ائلين :ال$$رب
يقول هذا .ها أنا أقاوم $المتنبئين بأحالم كاذبة ويقصونها $مضلين شعبي بأك$$اذيبهم
واستخفافهم)
وفي المزامير ،في (مزمور(:)5 $/56:اليوم كله يحرفون كالمي.عل ّي كل
افكارهم $بالشر)
وفي (حزقيال(:)26 $/ 7:ستاتي مصيبة على مص$$يبة.ويك$$ون خ$$بر على
خ$$بر ..فيطلب$$ون رؤي$$ا من الن$$بي ..والش$$ريعة تب$$اد عن الك$$اهن والمش$$ورة عن
الشيوخ)
وفي (إشعياء(:)2-1/ 10:ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين
يسجلون جورا ليصدوا $الض$$عفاء عن الحكم ويس$$لبوا ح$$ق بائس$$ي ش$$عبي لتك$$ون
االرامل غنيمتهم وينهبوا االيتام)؛ فإشعيا ـ في هذا النص ـ يتح$$دث عن المط$$امع
التي جرت القضاة والكتبة إلى التحريف ..وه$$و يتح$دث عن بي$$ع كت$اب هللا بثمن
بخس ،بل هو يصرح بذلك قطعا $لكل تأويل ،فيقول(:ويل للذين يتعمقون ليكتم$$وا
رأيهم عن الرب فتصير اعمالهم في الظلمة ويقولون من يبصرنا $ومن يعرفنا $.يا
لتح$$ريفكم .ه$$ل يحس$$ب الجاب$$ل ك$$الطين ح$$تى يق$$ول المص$$نوع عن ص$$انعه لم
يصنعني $.أو تقول الجبل$$ة عن جابله$$ا لم يفهم)(إش$$عياء ،)16-15/ 29 :ويق$$ول:
(ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى انهم يجرون رأيا وليس م$$ني ويس$$كبون
سكيبا وليس بروحي $ليزيدوا خطيئة على خطيئة) (إشعياء)1/ 30 :
89
وهكذا نجد القرآن الكريم يصف ما ذكروه في كتبهم من عقائد ال تتناس$$ب
ت أَ ْيِ $دي ِه ْم
ت ْاليَهُ$$و ُد يَُ $د هَّللا ِ َم ْغلُولَ$ةٌ ُغلَّ ْ
مع جالل هللا وجماله ،كقوله تع$$الىَ ﴿ :وقَ$$الَ ِ
َولُ ِعنُوا $بِ َما قَالُوا ﴾ [المائدة]64 :
وما أشار إليه القرآن الكريم من هذه العقائد الفاسدة ال يزال يوجد م$$ا ي$$دل
عليها في الكتاب المقدس ،فهل يمكن أن نقب$$ل ذل$$ك منهم؟ ..وه$$ل يمكن أن يس$$لم
شخص يتصور هللا بتل$$ك الص$$ورة البش$عة ال$$تي يرس$$مها الكت$$اب المق$$دس ،ثم ال
يكتفى من إيمانه إال باالعتراف برسول هللا ؟
وه$$ل يط$$الب التنويري$$ون اليه$$ود $والنص$$ارى $ب$$أن يقيم$$وا أمث$$ال ه$$ذه
النصوص التي ال تزال توجد في كتبهم المقدسة المشتركة ( ،)1والتي تص$$ف هللا
ككائن يتصف بص$$فات البش$$ر ،فه$$و يأك$$ل ويش$$رب ويتعب ويس$$تريح ويض$$حك$
ويبكي ،غضوب متعطش للدماء ،يحب ويبغض ،متقلب األطوار ،يُلحق الع$$ذاب
بكل من ارتكب ذنبا ً س$واء ارتكب$ه عن قص$د أو ارتكب$ه عن غ$ير قص$د ،ويأخ$ذ
األبناء واألحفاد بذنوب اآلباء ،بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10ـ
،)14وينسى ويتذكر( $خروج 2/23ـ ،)24وه$$و ليس عالم$ا ً بك$$ل ش$$يء ،ول$$ذا
فهو يطلب من أعضاء جماعة إسرائيل أن يرشدوه ب$$أن يص$$بغوا أب$$واب بي$$وتهم
بال$$دم ح$$تى ال يهلكهم م$$ع أع$$دائهم من المص$$ريين عن طري$$ق الخط$$أ (خ$$روج
12/13ـ ..)14
ً
وهو إله متج ِّرد ،ولكنه في الوقت نفسه يأخ$$ذ أش$$كاال حس$$ية مح$$ددة ،فه$$و
يطلب إلى اليه$$ود (جماع$$ة يس$$رائيل) أن يص$$نعوا ل$$ه مكان $ا ً مق َّدس $ا ً ليس$$كن في
وسطهم (خروج ،)25/8كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخ$$ان
في النهار كي يه$$ديهم الطري$$ق ،أم$$ا في اللي$$ل فك$$ان يتح$$ول إلى عم$$ود ن$$ار كي
يضيء لهم (خروج .)13/21/22
ِّ
وه$$و إل$$ه الح$$روب (خ$$روج 15/3ـ )4يعلم ي$$دي داود القت$$ال (ص$$مويل
ثاني 22/30ـ ،)35يأمر اليهود $بقتل الذكور ،بل األطفال والنساء (ع$$دد 31/1
ـ ،)12وهو إله قوي الذراع ي$$أمر ش$$عبه ب$$أال ي$$رحم أح$$داً (تثني$$ة 7/16ـ ،)18
وهو يعرف أن األرض ال تُنال إال بحد السيف .ول$$ذا ،فه$$و ي$$أمر ش$$عبه المخت$$ار
بقت$$ل جمي$$ع ال$$ذكور $في الم$$دن البعي$$دة عن أرض الميع$$اد( ،أم$$ا س$$كان األرض
نفسها فمص$$يرهم اإلب$$ادة ذك$$وراً ك$$انوا أم إناث$ا ً أم أطف$$االً) (تثني$$ة 20/10ـ )18
وذلك ألسباب سكانية عملية مفهومة.
والمقاييس األخالقية لهذا اإلل$$ه تختل$$ف ب$$اختالف الزم$$ان والمك$$ان ،ول$$ذا
فهي تتغيَّر بتغ$$ير االعتب$$ارات العملي$$ة ،فه$$و ي$$أمر اليه$$ود (جماع$$ة يس$$رائيل)
بالس$$رقة ،ويطلب من ك$$ل ام$$رأة يهودي$$ة في مص$$ر أن تطلب من جارته $ا $ومن
)(1انظر :موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ،للمسيري.
90
نزيل$$ة بيته$$ا (أمتع$$ة فض$$ة وأمتع$$ة ذهب وثياب$ا ً وتض$$عونها $على ب$$نيكم وبن$$اتكم
فتسلبون $المصريين) (خروج )3/22
ماذا يفعل التنويريون بعد هذه النصوص وغيرها كثير ج$$دا ،وهي تش$$مل
العقائد والعبادات والمعامالت والقيم وكل مناحي الحياة ..فهل يرضون من أه$$ل
الكتاب أن يقيموا كتابهم ،ويلتزموا $بما فيه ..ويكتف$$ون منهم باإليم$$ان برس$$ول هللا
..ليصبحوا $من خالل ذل$ك اإليم$ان المج$رد من ك$ل مقتض$يات مس$لمين ،ق$د
صبغوا $اإلسالم صبغة كاملة.
5ـ تعارض المعاني التي فهموها مع إجماع األمة:
ال نقصد هنا ذلك اإلجماع المختلف فيه ،والذي ق$$ال في$$ه أحم$$د بن حنب$$ل:
(ما يَ َّدعي فيه الرج ُل اإلجما َع فه$$و ك$$ذب ،من ادعى اإلجم$$اع فه$$و ك$$اذب ،لع$$ل
الناس اختلفوا)()1
وهو إجماع المدرس والطائف$$ة والفرق$$ة دون س$$ائر المس$$لمين ،ب$$ل نقص$$د
إجماع المسلمين جميع$$ا بف$رقهم $المختلف$ة ،وه$$و إجم$اع معت$$بر؛ فاألم$$ة ال يمكن
عقال أو نقال أن تجمع على ضاللة.
وهذا اإلجماع يمكنن$$ا أن نج$$ده بس$$هولة في كتب العقائ$$د والفق$$ه والتفس$$ير
والحديث وغيرها ،وعند جميع المدارس اإلسالمية؛ فهي جميعا تنص على كف$$ر
من اس$$تحل ع$$دم اتب$$اع رس$$ول $هللا ،أو أح$$ل حرام$$ا قطعي$$ا $،أو ح$$رم حالال
قطعيا ،أو قال بشريعة لم تنزل في كتاب هللا وال سنة رسوله .
ولهذا فإن اليهودي أو النصراني الذي يكتفي باالعتراف المج$$رد برس$$ول
هللا دون االتباع؛ فإنه يكون قد أحسن بذلك االعتراف ،وهو أحس$$ن ح$$اال من
الجاحد ،ولكن ال يمكن اعتباره مسلما ،وال يمكن إق$$راره على ذل$ك ..ب$ل يط$$الب
باالتباع الكام$ل ،كم$ا نص$ت على ذل$ك النص$وص المقدس$ة ال$تي س$بق ذكره$ا،
والتي اتفق علماء األمة بمدارسهم $جميعا على القول بمقتضياتها.
ب$$ل إن الق$$رآن الك$$ريم اعت$$بر اليقين المج$$رد عن االتب$$اع جح$$ودا ،فق$$ال:
﴿ َو َج َحدُوا $بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا $أَ ْنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا فَا ْنظُرْ َك ْي$$فَ َك$$انَ عَاقِبَ$ةُ ْال ُم ْف ِسِ $دينَ ﴾
[النمل]14 :
وممن نقل إجماع األمة في المسألة ابن ح$$زم فق$$د ق$$ال في كتاب$$ه [م$$راتب
اإلجماع]( :واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً)()2
وقال( :وال يختلف اثنان من أهل األرض ـ ال نقول :من المسلمين ،بل من
أن رسول $هللا قطع بالكفر على أهل كلِّ مل ٍة غير اإلس$$الم ال$$ذين ك ِّل مل ٍة ـ في َّ
91
فقط)()1 تبَّرأ أهلُه من كل مل ٍة حاشى التي أتاهم بها عليه السالم
ي كم$$ا وق$$ال( :وق$$د نصَّ هللا عَّ $ز وجَّ $ل على أن اليه$$ود يعرف$$ون الن$$ب َّ
يعرفون أبنا َءهم ،وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة واإلنجيل ،وقال تعالى:
ت هَّللا ِ يَجْ َحُ $دونَ ﴾ [األنع$$ام ،]33 :وأخ$$بر ﴿فَ$إِنَّهُ ْم اَل يُ َكِّ $ذبُونَكَ َولَ ِك َّن الظَّالِ ِمينَ بِآيَ$$ا ِ
[الزخ $رُف،]87: ﴿ولَئِ ْن َس $أ َ ْلتَهُ ْم َم ْن خَ لَقَهُ ْم لَيَقُ$$ولُ َّن هَّللا ُ﴾ ُّ
تع$$الى عن الكف$$ار فق$$الَ :
ص$دقه وال يكذبون$$ه ،وهم اليه$$ود والنص$$ارى ،وهم ِّ ْ ف$$أخبر $تع$$الى أنهم يعرف$$ونِ $
خالف من أح$$د من األم$$ة ،ومن أنك$$ر كف$$رهم فال خالف من أح ٍ $د من ٍ كف$$ار بال
كفره وخروجه عن اإلسالم)()2 األمة في ُ
وق$$ال( :ذ َكَ $ر بعضُ من جم$$ع مق$$االت المنتمين إلى اإلس$$الم أن فرق$$ة من
اإلباضية رئيسهم رجل يدعى يزيد بن أبي أنيسة ـ وهو غير المحدث المشهور $ـ
إن من كان من اليهود $والنصارى $يقول« :ال إله إال هللا محمد رس$$ول كان يقولَّ :
هللا إلى العرب ال إلين$$ا»؛ كم$$ا تق$$ول العيس$$وية من اليه$$ود؛ ق$$ال :ف$$إنهم مؤمن$$ون
أولي$$اء هللا تع$$الى ،وإن م$$اتوا على ه$$ذا العق$$د ،وعلى ال$$تزام ش$$رائع اليه$$ود
أن جميع اإلباض$$ية يكفِّرون من ق$$ال والنصارى… قال أبو محمد [ابن ح$$زم] :إال َّ
رؤون منه ،ويستحلُّون دمه وماله)()3 بشيء من هذه المقاالت ،وي ْب َ
وقد علق النووي $على قوله ( :والذي نفس محمد بيده ال يسمع بي أح$$د
من هذه األمة يهودي وال نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إال ك$$ان
من أصحاب النار) ( ،)4فقال( :أما الح$$ديث ففي$$ه نس$$خ المل$$ل كله$$ا برس$$الة نبين$$ا
..وقول$$ه ( :ال يس$$مع بي أح$$د من ه$$ذه األم$$ة) :أي ممن ه$$و موج$$ود في
زمني وبعدي $إلى ي$وم القيام$ة فكلهم يجب علي$ه ال$دخول في طاعت$ه وإنم$ا ذك$ر
اليهودي $والنصراني $تنبيها على من سواهما ،وذل$$ك ألن اليه$$ود والنص$$ارى $لهم
كتاب ؛ فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا ،فغيرهم $ممن ال كتاب له أولى .وهللا
أعلم)()5
وقال القاضي عياض( :ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من المل$$ل،
أو وقف فيهم ،أو شك ،أو صحح مذهبهم ،وإن أظهر مع ذلك اإلسالم ،واعتق$$ده،
واعتقد إبطال كل مذهب سواه :فهو كافر بإظهار $ما أظهره من خالف ذلك)()6
92
وقال الباقالني ،وهو من كبار أئمة األشاعرة( :باب الكالم على العيس$$وية
منهم الذين يزعمون أن محمدا وعيسى عليهما السالم إنما بعث$$ا إلى قومهم$ا $،ولم
يبعث$$ا بنس$$خ ش$$ريعة موس$$ى علي$$ه الس$$الم .يق$$ال لهم :إذا أوجبتم تص$$ديق $محم$$د
وعيسى عليهما السالم في قولهما $إنهما نبيان من عند هللا؛ فما أنكرتم من وجوب
تصديقهما $في قولهما $:إنهما قد بعثا إلى كل أسود وأبيض ،وأنثى وذك$$ر ،وبنس$$خ
شريعة موسى وكل صاحب شرع قبلهما؟! فإن كان ق$$د ك$$ذبا في ه$$ذا الق$$ول م$$ع
ظهور $المعجزات على أيديهما $فما أنكرتم $أن يكونا ك$$اذبين في س$$ائر أخبارهم$$ا،
وهذا يبطل النبوة جملة ،فإن قالوا :نحن ال نكذب محمدًا وعيس$$ى عليهم$$ا الس$$الم
في هذا القول لو قااله ،ألنهما لو كذبا في بعض ما يخبران به عن هللا س$$بحانه لم
يكونا نبيين ،ولكننا $نكذب النصارى $والمسلمين في ادعائهم ذلك عليهما ،فالك$$ذب
واق$$ع من ناحي$$ة أمتيهم$$ا ،ولم يق$$ع من جهتهم$$ا! يق$$ال لهم :إذا ج$$از الك$$ذب على
النصارى $والمسلمين في ه$ذا الخ$$بر ال$ذي يدعون$ه على محم$$د وعيس$ى عليهم$ا
السالم فلم ال يجوز عليهم الكذب في جميع ما نقلوه عنهما ،وفي $نقلهم أعالمهما،
ولم ال يجوز $مثل ذلك على اليهود أيضًا؟! ونقله البلدان والسير $،وه$$ذا يع$$ود إلى
إبطال القول باألخبار $جملة ،وفي إطباقنا $وإياهم على فساد ما أدى إلى ذلك دلي$ل
على فساد قولهم $،وصحة قول المسلمين والنصارى $في هذا الباب)()1
وقال أبو حام$د الغ$زالي في كتاب$$ه( :االقتص$$اد في االعتق$اد)( :العيس$وية:
حيث ذهب$$وا إلى أنَّه رس$$و ٌل إلى الع$$رب فق$$ط ال إلى غ$$يرهم ،وه$$ذا ظ$$اهر
أن الرس$ول ال يك$ذب ،وق$د$ البطالن فإنَّهم اعترفوا بكون$ه رس$والً حقًّ$ا ،ومعل$و ٌم َّ
ُس$$لَه إلى كس$$رى وقيص $ر$ ادعى ه$$و أن$$ه رس$$ول مبع$$وث إلى الثقلين ،وبعث ر ُ
وسائر $ملوك العجم ،وتواتر $ذلك منه ،فما قالوه محال متناقض)()2
وقال فخر الدين الرازي في [التفسير الكبير] في تفسير قول$ه تع$الى﴿ :قُ$لْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي َرسُو ُل هَّللا ِ إِلَ ْي ُك ْم َج ِمي ًع$$ا﴾ [األع$$راف( :]158 :وق$$ال طائف$$ة من
اليهود ـ يقال لهم العيسوية ،وهم أتب$اع عيس$ى األص$فهاني $ـ :إن محم$دًا رس$ول
صادق $مبعوث إلى العرب ،وغير مبعوث إلى بني إسرائيل .ودليلن$ا $على إبط$$ال
ألن قوله﴿ :يا أيه$ا الن$اس﴾ خط$$اب يتن$$اول ك$ل الن$$اس ،ثم ق$$ال: قولهم $هذه اآليةَُّ .
﴿إني رس$$ول هللا إليكم جمي ًع$$ا﴾ ،وه$$ذا يقتض$$ي كون$$ه مبعوثً $ا $إلى جمي$$ع الن$$اس،
وأيضًا $:فما يعلم بالتواتر $من دينه أنه كان ي$$دعي أن$$ه مبع$$وث إلى ك$$ل الع$$المين.
فإما أن يقال :إنه كان رسوالً $حقًّا أو ما كان كذلك ،فإن ك$$ان رس$واًل حقًّ$$ا ،امتن$$ع
الكذب عليه .ووجب الجزم بكونه ص$$ادقًا $في ك$$ل م$$ا يدعي$$ه ،فلم$$ا ثبت ب$$التواتر$
وبظاهر $هذه اآلية أنه ك$$ان ي$$دعي كون$$ه مبعوثً$$ا إلى جمي$$ع الخل$$ق؛ وجب كون$$ه
)(1التمهيد ،ص .218
)(2االقتصاد في االعتقاد للغزالي (ص)111 :
93
صادقًا $في هذا القول ،وذلك يبط$ل ق$ول من يق$ول :إن$ه ك$ان مبعوثً$$ا إلى الع$رب
فقط ،ال إلى بني إسرائيل)()1
وقال اآلمدي األشعري الش$$افعي في كتاب$$ه [غاي$ة الم$$رام في علم الكالم]:
(وأما العيسوية فيمتنع عليهم ـ بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعوته ـ إال
اإلذعان لكلمته ،إذ ال سبيل إلى القول بتخصيص بعثت$ه إلى الع$رب دون غيره$ا
من األمم ،مع ما اشتهر عنه ،وعُلم بالض$$رورة والنق$$ل المت$$واتر من دعوت$$ه إلى
كلمته طوائف $الجبابرة وغيرهم من األكاسرة ،وتنفيذه إلى أقاصي $البالد ومل$$وك
العباد ،وقت$$ال من عان$$ده ،ون$$زال من جاح$$ده ،ثم ذل$$ك معتم$$د على س$$ند الص$$در
األول من المسلمين ،م$$ع علمن$$ا ب$$أن ذل$$ك الجم الغف$$ير ،والجم$$ع الكث$$ير ،ممن ال
يتص َّور عليهم التواطؤ $على الباطل عادةً ،ال سيما لما كانوا عليه من شدة اليقين،
ومراعاة الدين ،فلو لم يعلموا من$$ه ض$$رورةً أن$$ه مبع$$وث إلى الن$$اس كاف$$ة ،وإلى
األمم عامة ،من األسود واألبيض ،وإال لما نقلوا ذلك ،رعاية للدين ،مع أنه ترك
الدين ،وكذلك أيضًا :من جاء من بعدهم على سنتهم ،وهلم جًّ $را إلى زمنن$$ا ه$$ذا،
ولو لم يكن نبيًّا على العموم لزم أن يكون قد كذب في دعواه ،وأبط$$ل فيم$$ا أت$$اه،
ق من ثبت عص$$متهم ب$$المعجزات وقواط$$ع وذل$$ك مح$$ال في ح$$ق األنبي$$اء ،وح ِّ $
اآليات)()2
هذه مجرد نماذج عن بعض مقوالتهم في المسألة ،وإال فإن النصوص في
ذلك أكثر من أن تحصر ،وهي موجودة في كل أبواب الفق$$ه ال$$تي ت$$بين كف$$ر من
جحد معلوما من الدين بالضرورة ،أو تكفر من اس$$تحل حرام$$ا ،أو ح$$رم حالال،
وغيرها.
94
التنويريون ..والدنيا
ربم$$ا يك$$ون أحس$$ن لقب للتن$$ويريين بمختل$$ف اتجاه$$اتهم $ومن$$اهجهم $ه$$و
[الدنيويون] ،فهم مستغرقون في حب الحياة الدنيا ،والتعلق بها ،وال$$دعوة إليه$$ا،
واعتبارها البداية والنهاية ،وأن إليها المنتهى ،ال إلى هللا ،وال إلى حقائق الوجود
المطلقة ،التي ال تساوي $الدنيا أمامها جناح بعوضة.
ولذلك يتفقون على أن الدين ـ بصورته الموروثة ـ عقبة دون التحق$$ق بم$$ا
تتطلب$$ه الحي$$اة ال$$دنيا من مقتض$$يات ،ثم يختلف$$ون بع$$د ذل$$ك ،فمنهم من يص$$رح
بإلحاده ،مثلما فعل القس [جان مسلييه] الذي كان رج$$ل دين مس$$يحي ،لكن$$ه آث$$ر
اإللحاد ،ومات عليه ،أو مثلما فعل عبد هللا القصيمي ،ذل$$ك ال$$ذي كتب الكتب في
نصرة االتجاه السلفي ،وتكفير الصوفية والشيعة وغيرهما ،ثم راح يكف$$ر بال$$دين
نفسه ،ويكتب الكتب في الرد عليه باعتباره عقبة كبرى دون التطور$.
ومنهم من ال تكون له جرأة ماسلييه وال القصيمي ،فلذلك ينهج منهجا آخر
ه$$و أخط$$ر على ال$$دين من اإللح$$اد المج$$رد الواض$$ح ،وه$$و تفص$$يل ال$$دين على
مزاجه ،باستعمال مناهج وأساليب مختلفة ليصبح الدين نفسه دنيويا $،والغاية منه
دنيوية محضة.
وأول عالم$$ات ه$$ؤالء ه$$و نف$$ورهم $من الغيب ،وترك$$يزهم $على ع$$الم
الشهادة ،واعتبارهم $أن الغيب يحول دون الشهادة ،فلذلك إذا ما ذكر الغيب بينهم
راح$$وا يس$$خرون ،وي$$ذكرون الزمتهم ال$$تي تع$$ودوا تردي$$دها ،وهي أن الغ$$رب
يتطور $،ويصنعون الصواريخ ،ونحن ال زلنا نبحث في عالم الغيب..
ولكنهم ـ وهم يقولون هذا الكالم بتثاؤب وكس$ل ـ ال يق$دمون ش$يئا ،وإنم$ا
ينتقدون فقط اإليمان بالغيب ،ويسخرون من أولئك الطيبين الذين تعيش أجسادهم
في ع$$الم الش$$هادة بينم$$ا تحل$$ق أرواحهم $في ع$$الم الغيب ،وهم ال$$ذين م$$دحهم هللا
ْبك ْال ِكتَابُ اَل َري َ تعالى في أول كتابه ،بل اعتبر الهداية قاصرة عليهم؛ فقالَ ﴿ :ذلِ َ
الص $اَل ةَ َو ِم َّما َرزَ ْقنَ$$اهُْ$م
َّ فِي ِ $ه هُ $دًى لِ ْل ُمتَّقِينَ ( )2الَّ ِذينَ ي ُْؤ ِمنُ$$ونَ بِْ $
$ال َغ ْي ِ
ب َويُقِي ُم$$ونَ
يُ ْنفِقُونَ ﴾ [البقرة]3 ،2 :
وهكذا أثنى على الذين يخشون ربهم بالغيب ،واعتبرهم من المتقين ،ألن$$ه
ال تحصل التقوى إال لمن آمن ب$$الغيب ،وجعل$$ه ك$$ل لحظ$$ة بين عيني$$ه ،كم$$ا ق$$ال
ض$يَا ًء َو ِذ ْك $رًا لِ ْل ُمتَّقِينَ ( )48الَّ ِذينَوس$ى َوهَ$$ارُونَ ْالفُرْ قَ$$انَ َو ِ ﴿ولَقَ ْد آتَ ْينَا ُم َ تعالىَ :
ب َوهُ ْم ِمنَ السَّا َع ِة ُم ْشفِقُونَ ﴾ [األنبياء]49 ،48 : يَ ْخ َشوْ نَ َربَّهُ ْم بِ ْال َغ ْي ِ
وهكذا اعتبرهم من األوابين الحافظين للعهود ،بسبب إيمانهم بالغيب ،كما
ت ْال َجنَّةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ َغيَْ $ر بَ ِعيٍ $د ( )31هََ $ذا َم$ا تُوعَُ $دونَ لِ ُك$لِّ أَ َّوا ٍ
ب قال تع$الىَ ﴿:وأُ ْزلِفَ ِ
95
ب﴾ [ق]33 - 31 : ب ُمنِي ٍ ب َو َجا َء بِقَ ْل ٍَش َي الرَّحْ َمنَ بِ ْال َغ ْي ِ َحفِي ٍظ (َ )32م ْن خ ِ
بل إنه أخ$$بر أن اإلن$$ذار ال$$ذي كل$$ف ب$$ه رس$$ول هللا ال يس$$تفيد من$$ه إال
﴿و َس َ $وا ٌء َعلَ ْي ِه ْم أَأَ ْن َ $ذرْ تَهُ ْم أَ ْم لَ ْم تُ ْن ِ $ذرْ هُ ْم اَل المؤمن$$ون ب$$الغيب ،كم$$ا ق$$ال تع$$الىَ :
$ر ٍة ْ
ب فبَش$رْ هُ بِ َمغفَِ $ِّ َ َ ْ
خَشَ $ي ال$رَّحْ َمنَ بِ$$الغ ْي ِ ي ُْؤ ِمنُونَ ( )10إِنَّ َما تُ ْن ِذ ُر َم ِن اتَّبَ َع ال ِّذ ْك َر َو ِ
َوأَجْ ٍر َك ِر ٍيم﴾ [يس]11 ،10 :
وهذه اآلية الكريمة تعبر بدقة عن ذلك السلوك الذي يمارسه التنويري$$ون،
ويكادون يتفق$$ون علي$$ه من إزاح$$ة اإلن$$ذار من وظ$$ائف $النب$$وة وال$$دعوة إلى هللا،
واعتبار الدعوة فقط تبشيرا ال إنذارا ،ولذلك يتص$$ورون أن ك$$ل من يتح$$دث عن
عذاب القبر أو عذاب جهنم منحرفا $،وبعيدا عن فهم الدين.
ولست أدري من أين لهم هذا ،والق$$رآن الك$$ريم كل$$ه إن$$ذار وتخوي$$ف ،وال
يمكن لمن يق$$رؤه ص$$ادقا إال أن يمتلئ بتل$$ك الخش$$ية من هللا ،وال$$تي تول$$د في$$ه ال
محالة حوافز $التقوى ،وروادعها$.
بل إن القرآن الك$$ريم ،وفي $ذك$$ره لل$$ذنوب ال$$تي نحتقره$$ا ،يش$$دد ويتوع$$د
ويه$$دد ،ثم ي$$أتي ه$$ؤالء التنويري$$ون بم$$ا أوت$$وا من س$$ماحة لينس$$خوا $ك$$ل ذل$$ك،
ويعقب$$وا على هللا في حكم$$ه ،ليرض$$وا أه$$واءهم أو جم$$اهيرهم ،وال يعلم$$ون أن
البشر الذين خاطبهم $رسول هللا هم نفسهم البشر الذين يقومون بخطابهم.
ومن عالم$$اتهم تحق$$ير العب$$ادات واالس$$تهانة به$$ا ،ألن ال$$دين عن$$دهم ليس
س$$وى عالق$$ة لإلنس$$ان م$$ع اإلنس$$ان أو الك$$ون؛ فاإلنس$$ان هب$$ط إلى ال$$دنيا في
تصورهم ليعمرها ،ويمأله$ا $ب$$األبراج والط$$ائرات والص$$واريخ ،ويس$$يطر على
مناخها وتضاريسها $،أما ترقية نفسه بممارسة العبادة وكثرة ال$$ذكر والرياض$$ات
الروحية ،فهي عندهم تشدد وتطرف $وبالدة.
ولذلك يستهينون بالشعائر $التعبدية ،ويحقرونها ،ويحاولون تأوي$$ل ك$$ل م$$ا
ورد فيها من النصوص تأويالت مختلفة ،حتى تصبح الصالة أحقر األعم$$ال ،ال
أشرفها $،ويصبح الذكر هو ذكر الدنيا ،وال ذكر هللا ،وال الشوق إليه.
ومن عالماتهم احتقار الصالحين واألولياء الذين أمرن$$ا هللا تع$$الى بس$$لوك$
سبيلهم ،وبأن نكون معهم ،فالصالحون عن$$دهم هم المخ$$ترعون والمكتش$$فون ،ال
أولئك الذين أفنوا أعمارهم في ذكر ربهم والدعوة إليه..
وهم ال يتوقف$$ون عن$$د أف$$راد الص$$الحين ،وإنم$$ا يض$$مون إليهم األنبي$$اء
والمرسلين ،وخصوصا سيدنا $رسول هللا ،ولذلك يحتقرون سنته ،وال يب$$الون
بها ،بل يعقبون عليه بما تمليه أهواؤهم.
والعالمة األكبر لهؤالء هو نفورهم من كل تلك النص$$وص المقدس$$ة ال$$تي
تحقر الحي$$اة ال$$دنيا ،وتعت$$بر $حبه$$ا أم الخطاي$$ا ،وتعت$$بر ك$$ل ض$$اللة حص$$لت في
األرض ناتجة عنها ،كما قال تعالىُ ﴿ :زيِّنَ لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا ْال َحيَاةُ الُّ $د ْنيَا َويَ ْسَ $خرُونَ
96
ق َم ْن يَ َش$$ا ُء بِ َغي ِ
ْ$$ر ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُ$$وا َوالَّ ِذينَ اتَّقَ$$وْ ا فَ$$وْ قَهُْ$م يَ$$وْ َم ْالقِيَا َمِ $$ة َوهَّللا ُ يَ$$رْ ُز ُ
ب ﴾ [البقرة]212 : ِح َسا ٍ
وهذه اآلية الكريمة تح$$وي وص$$فا دقيق$$ا له$$ؤالء ال$$دنيويين ال$$ذين يس$$مون
أنفس$$هم تن$$ويريين ،ذل$$ك أن ال$$دنيا ق$$د زينت في أعينهم ،فاس$$تحلوها ،ثم راح$$وا
يسخرون من الذين آمنوا ،وال$$ذين اتق$$وا ،م$$ع أنهم ف$$وقهم ي$$وم القيام$$ة ،كم$$ا أنهم
فوقهم في الحياة الدنيا.
ول$$ذلك ال نج$$د تنويري$$ا $إال وه$$و يس$$خر من العلم$$اء واألولي$$اء والعب$$اد
والزهاد ،ويعتبرهم جميعا متخلفين لم يفهموا الدين كما فهمه..
ولهذا نراهم يحتقرون الوعاظ الذين يمارسون ما كان يمارس$ه رس$ول $هللا
من التحذير من االستغراق $والتثاقل إلى الحي$$اة ال$$دنيا ،باعتب$$ارهم أخط$$ر م$$ا
يهدد حقيقة اإلنس$$ان نفس$$ها ،وال$$تي ق$د تتح$ول إلى كلب يلهث ،كم$$ا ق$$ال تع$الى:
﴿ َوا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّ ِذي آتَ ْينَاهُ آيَاتِنَا فَا ْن َسلَ َخ ِم ْنهَا فَأ َ ْتبَ َعهُ ال َّش ْيطَانُ فَ َك$$انَ ِمنَ ْال َغِ $
$اوينَ
$ل$واهُ فَ َمثَلُ$هُ َك َمثَِ $
ض َواتَّبََ $ع هََ $ (َ )175ولَوْ ِش ْئنَا لَ َرفَ ْعنَ$$اهُ بِهَ$$ا َولَ ِكنَّهُ أَ ْخلََ $د إِلَى اأْل َرْ ِ
ث َذلِ$$كَ َمثَُ $ل ْالقَ$$وْ ِم الَّ ِذينَ َكَّ $ذبُوا بِآيَاتِنَ$$ا ث أَوْ تَ ْت ُر ْك $هُ يَ ْلهَ ْ
ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْيِ $ه يَ ْلهَ ْ ْال َك ْل ِ
ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [األعراف]176 ،175 : ص َ ُص ْالقَ َ فَا ْقص ِ$
وبناء على هذا كل$ه ،ف$إن ك$ل النص$وص المقدس$ة ال$تي تح$ذر من الحي$اة
الدنيا ،وتبين حقيقتها هي في الحقيقة رد على الفكر التنويري ،ال$$ذي يب$$الغ فيه$$ا،
ويعتبرها أصال وغاية ومقصدا.
وهو عندما يفعل ذلك ال يقدم شيئا جديدا ،ألنه عقل يهدم وال يب$$ني ،وله$$ذا
نرى الكثير من التنويريين يملكون شهادات علمية في الطب والفيزياء والهندس$$ة
وغيره$$ا ،ثم يتركونه$$ا ،وال يق$$دمون في تخصص$$اتهم $أي ش$$يء جدي$$د ،بينم$$ا
يذهبون إلى القرآن الكريم يتالعبون بألفاظه ومعانيه ،ليحولوها $إلى المسار الذي
تريده أهواؤهم.
ولهذا ذكرنا أن العقل التنويري أخطر من العق$$ل الملح$$د ،وأك$$ثر بع$$دا من
الدين عنه ،ألن الملحد قد يقتنع في يوم من األي$$ام ،ويع$$ود إلى هللا بتواض$$ع ،أم$$ا
التنويري ،فهو يتصور $أنه على شيء ،بينما ه$$و ال يمل$$ك من ال$$دين إال الس$$راب
ف اس َم ْن يَ ْعبُ ُد هَّللا َ َعلَى َح$$رْ ٍ ﴿و ِمنَ النَّ ِ واألهواء والتقول على هللا ،كما قال تعالىَ :
خَسَ $ر الُّ $د ْنيَا
ب َعلَى َوجْ ِهِ $ه ِ اط َم$$أ َ َّن بِِ $ه َوإِ ْن أَ َ
ص $ابَ ْتهُ فِ ْتنَ $ةٌ ا ْنقَلَ َ ص $ابَهُ َخ ْيٌ $ر ْ فَ $إِ ْن أَ َ
ك هُ َو ْال ُخ ْس َرانُ ْال ُمبِينُ ﴾ [الحج]11 : َواآْل ِخ َرةَ َذلِ َ
والعقل الملح$$د يكتفي بنق$$د ال$$دين من دون أن يت$$دخل في تحريف$$ه وتبديل$$ه
والتالعب به ،بينما العقل التنويري يفعل ذلك ،ويفتري $على هللا الك$$ذب ،وي$$زعم
﴿و َم ْن أنه يفهم من الوحي ما لم يفهمه كل العلماء والص$$الحين ،كم$$ا ق$$ال تع$$الىَ :
$وح إِلَ ْيِ $ه َشْ $ي ٌء َو َم ْن قَ$$ا َل
ي َولَ ْم يَُ $ وح َي إِلَ َّ$ال أُ ِ ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفت ََرى َعلَى هَّللا ِ َك ِذبًا أَوْ قََ $ أَ ْ
97
َسأ ُ ْن ِز ُل ِم ْث َل َما أَ ْنزَ َل هَّللا ُ﴾ [األنعام]93 :
98
فكرة لم يسبقني إليها أحد
م$$ع ك$$ثرة النص$$وص المقدس$$ة المح$$ذرة من الري$$اء وحب الج$$اه وطلب
السمعة ،والداعية إلى التواضع $والعبودية وطلب خمول الذكر ،نجد ألسنة كث$$يرة
تتح$$دث عن ال$$دين ،وكأن$$ه س$$لعة من الس$$لع ،أو اخ$$تراع من االختراع$$ات ،أو
مضمار $من المضامير التي يتنافس فيها أهل الدنيا ويتقاتلون.
ومظاهر ذلك كثيرة جدا ،ولعل أحسن وصف له$$ا م$$ا وص$$فه أولي$$اء ه$$ذه
األمة عند تسميتهم $لهؤالء بكونهم[ $علماء الدنيا] ،حتى لو كانوا يعلّمون الق$$رآن،
أو يد ّرسون الفقه ،أو يكتبون في العلوم الشرعية.
وأبشع تلك المظاهر هو تلك العبارة التي نس$$معها كث$$يرا ،وكأنه$ا $أدب من
اآلداب الشرعية ،أو سنة من السنن النبوية ،وهي قول بعضهم $عندما يكش$$ف هللا
له فهما من الفهوم ،أو معرفة من المعارف( $:وهذه فكرة لم أر من سبقني إليها)،
أو (لم يسبقني إليها أحد)
فإذا وجدها بعد ذل$$ك عن$$د بعض$$هم ،وق$$د ذكره$$ا من غ$$ير أن ينس$$بها إلي$$ه
قامت قيامته ،وراح يه$$دد ويتوع$$د ،م$$ع العلم أن تل$$ك الفك$$رة ق$$د تك$$ون مرتبط$$ة
باإلخالص ودرجاته ،والورع ومراتبه ..وقد يكون لها عالقة بالش$$رك وخفاي$$اه،
أو الرياء ومظاهره ..وقد $تكون تفسيرا آلية قرآنية ،أو شرحا لحديث نبوي.
وهو يفعل ذلك بكل تبجح ،بل ربما يكتب في ذلك المقاالت ..وك$$أن ال$$دين
ش$$يء ،والح$$ديث عن$$ه ش$$يء آخ$$ر ..م$$ع أن العلم بال$$دين يقتض$$ي أوال أن يت$$دين
المتعلم له ،والمتحدث به ،وإال كان مغرورا $مخادعا ،أو مفتون$$ا مض$$لال{ ،أَ ْخلَ َ $د
ث} ث أَوْ تَ ْت ُر ْك $هُ يَ ْلهَ ْ
ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْي ِه يَ ْلهَ ْ
ض َواتَّبَ َع ه ََواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمثَ ِل ْال َك ْل ِ
إِلَى اأْل َرْ ِ
[األعراف]176 :
كما ورد ذلك الوصف في األثر عن هللا تعالى خطابا ل$$داود علي$$ه الس$$الم:
(يا داود! ال تجعل بيني وبينك عالما ً مفتونا بالدنيا ،فيصدك $عن طري$$ق محب$$تي،
فان أولئك قطاع $طريق عبادي المري$$دين ،إن أدنى م$$ا أن$$ا ص$$انع بهم ،أن أن$$زع
حالوة مناجاتي من قلوبهم)
وقال المسيح عليه الس$$الم( :ال$$دنيا داء ال$$دين ،والع$الم ط$$بيب ال$$دين ،ف$$اذا
رأيتم الطبيب يج ّر الداء إلى نفسه فاتهموه ،واعلموا انه غير ناصح لغيره)
وفي الحديث عن رسول هللا ق$$ال( :إي$$اكم وثالث$$ة :زل$$ة ع$$الم ،وج$$دال
منافق $بالقرآن ،ودنيا $تقطع أعناقكم ; فأما زلة عالم فإن اهت$$دى فال تقل$$دوه دينكم،
وأن يزل فال تقطعوا عنه آمالكم .وأم$$ا ج$$دال من$$افق $ب$$القرآن ف$$إن للق$$رآن من$$ارا
كمنار الطريق ،فما عرفتم فخذوه ،وما أنكرتم فردوه إلى عالمه .وأما دنيا تقط$$ع
99
غني)()1 أعناقكم ،فمن جعل هللا في قلبه غنى فهو$
وقال( :إني ال أتخوف على أمتي مؤمنا وال مشركا ،فأما المؤمن فيحج$$زه
إيمانه ،وأما المشرك فيقمعه كفره ،ولكن أتخوف عليكم منافقا عالم اللسان ،يقول
ما تعرفون ،ويعمل ما تنكرون)()2
وقد ورد في اآلثار عن اإلمام الصادق وصفا رائعا ألمثال هؤالء العلماء،
وسلوكاتهم $المتناقضة مع مقتضيات الدين ،وال$$دركات $ال$$تي تنتظ$$رهم $في جهنم،
وهو مما ال يقال بالرأي ،وإنما تلق$$اه عن آبائ$$ه وأج$$داده إلى رس$$ول $هللا ،فق$$د
قال( :إن من العلماء من يحب أن يخ$$زن علم$$ه وال يؤخ$$ذ عن$$ه ف$$ذاك في ال$$درك
األس$$فل من الن$$ار ،ومن العلم$$اء من إذا وع$$ظ أن$$ف وإذا وع$$ظ عن$$ف ف$$ذاك في
الدرك الثاني من النار ،ومن العلم$$اء من ي$$رى أن يض$$ع العلم عن$$د ذوي ال$$ثروة
وال يرى له في المس$$اكين ،ف$$ذاك في ال$$درك الث$$الث من الن$$ار ،ومن العلم$$اء من
يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسالطين ،فإن رد عليه شئ من قوله أو قص$$ر
في ش$$ئ من أم$$ره غض$$ب ف$$ذاك في ال$$درك الراب$$ع من الن$$ار ،ومن العلم$$اء من
يطلب أح$اديث اليه$ود والنص$$ارى $ليغ$زر $ب$ه علم$$ه ويك$ثر ب$$ه حديث$ه ف$$ذاك في
الدرك الخامس من النار ،ومن العلماء من يضع نفسه للفتيا ويقول :سلوني $ولعله
ال يصيب حرفا واحدا وهللا ال يحب المتكلفين فذاك في الدرك السادس من الن$$ار،
ومن العلماء من يتخذ علمه مروة وعقال فذاك في الدرك السابع من النار)()3
تمنيت لو أن هذه الروايات والنصوص $المقدسة علقت على باب كل كلي$$ة
إسالمية ،ونش$$رت م$$ع ك$$ل كت$$اب ،ووض$$عت في ب$$اب ك$$ل مجلس علمي ،ح$$تى
نجرد الدين من ذواتنا وأهوائنا $ونتركه هلل وحده ،ونتعامل بك$$ل عبودي$$ة م$$ع ك$$ل
معرفة تتاح لنا ،أو فهم ينزله هللا علينا.
)(1رواه الطبراني في األوسط ،انظر :مجمع الزوائد ومنبع $الفوائد (.)186 /1
)(2رواه الطبراني في األوسط والصغير ،انظر :مجمع الزوائد ومنبع $الفوائد ()187 /1
)(3بحار األنوار ،ج ،8ص.310
100
هل اقترب عصر الدجال
مما دلت عليه النصوص المتواترة من السنة المطهرة ،بل مم$$ا دلت علي$$ه
أديان الشعوب المختلفة ظهور الدجال ،الذي تجتمع فيه كل أنواع الفتن ،ما ظهر
منه$$ا وم$$ا بطن ..ب$$ل إن التحلي$$ل البس$$يط لحرك$$ة الت$$اريخ ي$$دل علي$$ه ..ذل$$ك أن
المشروع $الشيطاني يكتمل عنده ،فعنده يجمع الشيطان كل م$$ا تعلم$$ه في تاريخ$$ه
الطويل من إغراءات ووساوس $وتضليالت..
ولهذا ورد في النصوص المقدسة أنه يستطيع ،وبحركات بسيطة أن يوفر
لمن يتبعه كل المرافق $ال$$تي يحتاجه$$ا ،ب$$ل ح$$تى تل$$ك ال$$تي لم يكن يحلم ب$ه ،ففي
الح$$$ديث عن رس$$$ول هللا ( :في$$$أتي على الق$$$وم في$$$دعوهم ،فيؤمن$$$ون ب$$$ه،
ويستجيبون له ،فيأمر $السماء فتمطر ،واألرض فتنبت ،ف$$تروح عليهم س$$ارحتهم
أطول ما كانت ذراً ،وأسبغه ضروعاً ،وأمده خواصر $.ثم يأتي الق$$و َم في$$دعوهم،
فيردون عليه قوله ،فينص$$رف $عنهم ،فيص$$بحون ممحلين ليس بأي$$دهم ش$$يء من
أموالهم .ويمر $بالخربة فيقول له$$ا :أخ$$رجي كن$$وزك $،فتتبع$$ه كنوزه$ا $كيعاس$$يب
النحل)()1
وهذا الحديث بهذا الوصف الذي ذكره رس$$ول $هللا ،وال$$ذي راعى في$$ه
قدرات البيئة ال$$تي ك$$ان فيه$$ا ،وال$$تي لم تكن ت$$رى من فتن ال$$دنيا إال ذل$$ك الغيث
البسيط الذي ينزل من سمائها ،أو ذل$$ك العش$$ب األخض$ر $ال$$ذي يكس$$و أرض$$ها$..
وهو يشير بلسان حاله إلى أم$$ور أك$$بر وأخط$$ر ..وهي تل$$ك الكن$$ور $ال$$تي تتبع$$ه
وتسير $خلفه وتسخر $له.
وبذلك فإن الدجال ـ بحس$$ب م$$ا تش$$ير $إلي$ه تل$$ك النص$$وص ـ ه$$و الزب$$دة
والعصارة والخالصة التي تجتمع فيها كل المغري$$ات ال$$تي عرفته$$ا البش$$رية في
جميع عهودها ..وذلك يستدعي أن تجتمع لديه جميع العلوم والتقنيات ..ليس ذلك
فقط ..بل تجتمع لديه جميع وساوس $األبالسة وفلسفاتهم$..
ولو كان األمر قاصرا على توفر $تلك المرافق والخدمات والمغريات لكان
األمر سهال ..لكن الدجال ال يكتفي بذلك ،بل هو يجعل من كل ذلك أحبولة ل$$نزع
اإليمان من قل$وب ..ن$زع اإليم$ان باهلل من القل$وب ،وإحالل اإليم$ان ب$ه وبدجل$ه
ومغرياته بدلها.
وكمقدم$$ة ل$$ذلك ينش$$ر الش$$يطان اآلن بأدوات$$ه المختلف$$ة من جمي$$ع أقط$$اب
الش$$ر ،ومن يتبع$$ه من األذن$$اب أن$$ه ال أهمي$$ة لإليم$$ان أو الكف$$ر ،أو الطاع$$ة أو
العصيان ..بل األهمية لنمو االقتصاد $..وتطور $التكنولوجي$$ا $..وت$$وفر $الخ$$دمات..
)(1مسلم ( ،)198-8/197وأبو داود()2/213
101
أما اإليمان والطاعة فهي مجرد أفكار نسبية ال قيمة لها.
وب$$ذلك أص$$بحت م$$وازين البش$$ر هي م$$وازين ال$$دجال نفس$$ها ..فالبش$$ر ال
يملك$$ون قيمتهم $بس$$بب اإليم$$ان ال$$ذي يعم$$ر قل$$وبهم ،وال ب$$األخالق ال$$تي تكس$$و
سلوكهم ،وإنما بما س$$ماه هللا تع$$الى [ظ$$اهر الحي$$اة ال$$دنيا] ،وهي تل$$ك المع$$ارف$
البس$$يطة ال$$تي تهتم بخدم$$ة الش$$هوات واأله$$واء والغرائ$$ز $..ثم تختص $ر $الحي$$اة
والكون فيما تراه من ظواهر..
وقد اعتبر هللا تعالى كل ذلك جهال ال تساوي $نشوة إيمان م$$ؤمن ح$$تى ل$$و
﴿ولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ
اس اَل يَ ْعلَ ُمونَ ( كان راع في جبل أو حمال في سوق ،قال تعالىَ :
)6يَ ْعلَ ُمونَ ظَا ِهرًا ِمنَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم ع َِن اآْل ِخ َر ِة هُ ْم غَافِلونَ ﴾ [الروم]7 ،6 :
ُ
هذه اآلية الكريمة كافية لمن تأملها في أن يعي$$د ض$$بط بوص$$لته ..ح$$تى ال
يك$$ون من أنص$$ار $ال$$دجال عن$$د خروج$$ه أو قب$$ل خروج$$ه ..وح$$تى ال يك$$ون من
الممه$$دين لل$$دجال ال$$ذين يحتق$$رون اإليم$$ان ،والمع$$ارف $اإللهي$$ة ،ويختص$$رون
الحياة في الحياة الدنيا ،ويختصرون $القيم فيما تمليه األهواء والغرائز$.
102
المرجئة الجدد ..والتألي على هللا
من أخطر الظواهر التي أصابت كل األديان ،وانحرفت بها عن القيم التي
جاء بها األنبياء عليهم الصالة والسالم [ظ$$اهرة اإلرج$$اء] ،وهي الظ$$اهرة ال$$تي
تعبر عن تلك الرغبات النفس$ية ال$تي تري$د أن تتج$اوز م$وازين العدال$ة اإللهي$ة،
لتستبدلها $بموازين جديدة ،ال يدل عليها إال الهوى ،والتفك$$ير الرغب$$وي المج$$رد،
والمعتمد $على العاطفة ،أو بعض المصادرات على المطلوب.
وقد أشار هللا تع$$الى إلى ه$$ذا اإلرج$$اء عن$$د اليه$$ود ،وزعمهم أن الن$$ار لن
تمسهم إال أيام$$ا مع$$دودة ،لس$$بب بس$$يط ،وه$$و أنهم يه$$ود ،وش$$عب هللا المخت$$ار،
وا لَن تَ َم َّسنَا النَّا ُر إِالَّ أَيَّاما ً َّم ْعدُو َدةً قُلْ أَتَّخ َْذتُ ْم ِعن َد هّللا ِ َع ْهدًا فَلَن ي ُْخلِ$$فَ
﴿وقَالُ ْ
فقالَ :
ك بِأَنَّهُ ْم قَ$$الُواْهّللا ُ َع ْه َدهُ أ ْم تَقولونَ َعلى ِ َما الَ تَ ْعل ُمون﴾ [البقرة ،]80:وقال﴿ :ذلِ َ
َ َ هّللا َ ُ ُ َ
وا يَ ْفتَ$$رُون﴾ [آل ت َوغََّ $$رهُ ْم فِي ِدينِ ِهم َّما َك$$انُ ْ لَن تَ َم َّس$$نَا النَّا ُر إِالَّ أَيَّا ًم$$ا َّمعْ $$دُودَا ٍ
عمران.]24:
واآلية الكريم$$ة تش$$ير إلى م$$ا أطلقن$$ا علي$$ه [التفك$$ير الرغب$$وي] ،أو [دين
وا يَ ْفتَ$رُون﴾، البشر] ،والذي $ع$$بر عن$$ه قول$$ه تع$$الىَ ﴿ :و َغَّ $رهُ ْم فِي ِدينِ ِهم َّما َك$$انُ ْ
ف$$دين البش$$ر يعتم$$د على تل$$ك األك$$اذيب ال$$تي يك$$ذبون به$$ا على أنفس$$هم ،ثم
يفرض$$ونها $على ربهم ،ويت$$ألون علي$$ه ،ويتص$$ورون أن الجن$$ة والن$$ار ص$$ارت
بيدهم ،ال بيد ربهم.
وما ذكره القرآن الكريم عن اليهود ،هو نفسه ما وقع في$$ه النص$$ارى ،فق$$د
ورد في [رسالة يوحنا الرسول $األولى ( :])1 $:2يا أوالدي أكتب إليكم ه$$ذا لكي
التخطئوا $وإن أخطأ أح ٌد فلنا شفيع عند األب ،يسوع المس$$يح الب$$ار ،وه$$و كف$$ارة
لخطايانا $.ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً)
وبناء على هذه المقولة وغيرها ذهبت كل تعاليم المسيح والقيم النبيلة التي
جاء بها أدراج الرياح ،ذلك أن السوط الذي جعله هللا لتأديب عباده ،وه$$و جهنم،
وعذابها الشديد ،صار ملغيا بفعل تلك المفاهيم اإلرجائية.
ونفس الشيء حصل للمسلمين في عهدهم األول ،حيث تحول الكث$$ير منهم
إلى ف$$رق إطف$$اء لجهنم ،وس$$عيرها ،ب$$ل إلغائه$$ا أص$$ال ،واعتب$$ار أن ك$$ل تل$$ك
التهديدات التي وردت في القرآن الك$$ريم ،وألبس$ط $التج$$اوزات وال$$ذنوب مج$$رد
تهديدات لفظية ال قيمة لها..
وانتشر بينهم أن رحمة هللا واس$$عة ..ولطف$$ه بعب$$اده عظيم ..وأن$$ه يكفي أن
يتحقق اإليمان باهلل ورسوله ،لتتنزل بعده السعادة المطلقة ،وال يهم بعد ذلك ،هل
كان ذلك اإليمان مجرد أق$$وال تق$$ال ،أو حرك$$ات ت$$ؤدى ،أو ك$$انت قيم$$ا يعيش$$ها$
103
صاحبها ،ويضحي $بكل شيء من أجلها.
انتشر في ذلك الحين مثل تل$$ك األح$$اديث ال$$تي ال تعطي أي قيم$$ة للعم$$ل،
وال للسلوك األخالقي مثل حديث( :أتانى جبريل فبشرنى $أنه من م$$ات من أمت$$ك
ال يشرك $باهلل شيئا دخ$$ل الجن$$ة فقلت :وإن زنى وإن س$$رق؟ ق$$ال :وإن زنى وإن
سرق)()1
وهكذا انتشرت مثل هذه النصوص اإلرجائية ،لتح$$ول من الزن$$ا والس$$رقة
وشهادة الزور $وكل الجرائم اإلنسانية بما فيها القتل نفس$$ه ش$$يئا بس$$يطا $ال أهمي$$ة
له ،مع أن هللا تعالى في القرآن الكريم يتوعد بالعذاب الشديد ألجل قضايا $بسيطة
جدا ،ال تساوي أمامها تلك الجرائم شيئا.
هذا حال المرجئة القدامى مع التعاليم القرآنية والنبوية ،ومع القيم الشريفة
التي وردت فيهما ،أم$$ا المرجئ$$ة المح$$دثين ،فح$$دث وال ح$$رج ..فق$$د راح$$وا إلى
اإليمان نفسه يحذفونه ،فال يشترط عن$$دهم اإليم$$ان ل$$دخول الجن$$ة ..ب$$ل يكفي أن
يكون اإلنسان طيبا ،وخلوقا $..أما اإليمان فهو مسألة فرعية ال قيمة لها.
سوأما قوله تعالى ﴿ :قُلْ لِلَّ ِذينَ َكفَ$رُوا َس$تُ ْغلَبُونَ َوتُحْ َش$رُونَ إِلَى َجهَن َم َوبِئ َ
ْ َّ
ْال ِمهَادُ﴾ [آل عمران ،]12 :فه$$و عن$$دهم منس$$وخ ،وم$$ؤول $بص$$نوف $الت$$أويالت..
فالكافر عندهم ال وجود له إال في النصوص المقدسة ،وأما في الواقع ،فال وجود$
له ..حتى ذلك ال$$ذي ينفي هللا ،ويعيش عم$$ره داعي$$ة إلى اإللح$$اد ،أو س$$اخرا من
هللا ،ال قيمة لكل ذلك عندهم ،فهو ما دام يؤمن بالجاذبية أو بالطبيع$$ة ..فيمكن أن
نعتبره مؤمنا باهلل بوجه من الوجوه..
وهم ال يكتفون فقط برج$اء أن تش$مله رحم$ة هللا الواس$عة ،ولكنهم يت$ألون
على هللا ،فيدعون ألولئك الذين كان في إمكانهم أن يؤمنوا $،ولكنهم لم يفعلوا ..ال
يدعون لهم بالهداية فقط ،وإنما يدعون لهم بالرحمة والمغف$$رة والجن$$ة الواس$$عة..
بل بالفردوس $األعلى.
ويتناسون أن رسول هللا أخبر عن العذاب الش$$ديد ال$$ذي يحي$$ق بأمت$$ه،
مع إيمانها ،بسبب بعض التقصير الذي قد تمارسه تجاه أوام$$ر هللا ،ففي الح$$ديث
الصحيح المع$$روف ،ال$$ذي يوص$$ي في$$ه رس$$ول هللا أمت$$ه( :أال وإنى ف$$رطكم$
على الح$$وض ،وإني مك$$اثر بكم األمم ،فال تس$$ودوا وجهي أال وق$$د رأيتم$$وني$
وسمعتم $مني وستسألون عني ،فمن كذب علي فليتب$$وأ $مقع$$ده من الن$$ار ،أال وإني
مستنقذ رجاال -أو أناسا -ومستنقذ مني آخرون فأقول $:يا رب ،أص$$حابي $.فيق$$ال:
إنك ال تدري ما أحدثوا بعدك)()2
104
فهذا الحديث وأمثاله من األحاديث المروية في جميع الص$$حاح والمس$$انيد$
والسنن ،والتي يخبر فيها رسول $هللا أنه حُرم من الشفاعة في أص$$حابه ال$$ذي
عرفهم ،وقد كانوا يصلون ويصومون ويتوض$$أون ويحج$$ون ويمرض$$ون..وم$ع$
ذلك لم يخرجوا من ذنوبهم $كيوم ولدتهم أمهاتهم$.
ومثله ما ورد $في القرآن الكريم من أنه ال مجال للتالعب ب$$القيم ،وأن ك$$ل
من تالعب به$$ا ف$$إن مص$$يره إلى جهنم ،وأول القيم قيم اإليم$$ان باهلل ،كم$$ا ق$$ال
تين ( )39فِي َجنَّا ٍ اب ْاليَ ِم ِ
صَ $ح َ ت َر ِهينَ$ةٌ ( )38إِاَّل أَ ْ س بِ َم$$ا َك َس$بَ ْتع$$الىُ ﴿ :ك$$لُّ نَ ْف ٍ
ك ِمنَ يَتَ َسا َءلُونَ (َ )40ع ِن ْال ُمجْ ِر ِمينَ (َ )41ما َس$لَ َك ُك ْم فِي َس$قَ َر ( )42قَ$$الُوا لَ ْم نَُ $
ض $ينَ ()45 ط ِع ُم ْال ِم ْس ِكينَ (َ )44و ُكنَّا نَ ُخوضُ َمَ $ع ْالخَائِ ِ ك نُ ْ صلِّينَ (َ )43ولَ ْم نَ ُ ْال ُم َ
َو ُكنَّا نُ َك ِّذبُ بِيَوْ ِم الدِّي ِن (َ )46حتَّى أَتَانَا ْاليَقِينُ ( )47فَ َما تَ ْنفَ ُعهُ ْم َشفَا َعةُ ال َّشافِ ِعينَ (
[ ﴾)48المدثر]48 - 38 :
فاآلي$$ات الكريم$$ة أخ$$برت أن ال$$ذين ال يص$$لون ..أي ليس لهم تواص$$ل
روحي $باهلل ..وال$$ذين ال يطعم$$ون المس$$كين ..أي ليس لهم أي تواص$$ل ورحم$$ة
بالمجتمع ..هؤالء وغيرهم ال تنفعهم شفاعة الش$$افعين ح$$تى ل$$و تق$$دموا للش$$فاعة
لهم.
وهكذا نجد القرآن الكريم يصرح بغضب هللا ولعنت$$ه وعقاب$$ه الش$$ديد على
ذن$$وب كث$$يرة نراه$$ا هين$$ة س$$هلة عن$$د أولئ$$ك ال$$ذين ض$$ربوا الق$$رآن بالح$$ديث..
وضربوا الدين وقيمه بما شرعوه ألنفسهم من شرائع الهوى.
ُ
﴿و ْي ٌل لِ ُكلِّ هُ َم َز ٍة ل َم َز ٍة (
فاهلل تعالى أخبر عن الهمز واللمز وعقوبته ،فقالَ :
)1الَّ ِذي َج َم َع َمااًل َو َع َّد َدهُ ( )2يَحْ َسبُ أَ َّن َمالَهُ أَ ْخلَ َدهُ (َ )3كاَّل لَيُ ْنبَ َذ َّن فِي ال ُحطَ َمِ $$ة
ْ
(َ )4و َما أَ ْد َراكَ َما ْال ُحطَ َمةُ ( )5نَا ُر هللا ْال ُموقَ َدةُ ( )6الَّتِي تَطَّلِ ُ $ع َعلَى اأْل َ ْفئِ َ $د ِة ()7
ص َدةٌ ( )8فِي َع َم ٍد ُم َم َّد َد ٍة ([ ﴾)9الهمزة]9 - 1 : إِنَّهَا َعلَ ْي ِه ْم ُم ْؤ َ
ْ
﴿و َم ْن يَقتُ$$لْ
وأخبر عن عقوبة القتل العمد ،وأنه$$ا الخل$$ود في جهنم ،فق$$الَ :
ب هللا َعلَ ْيِ $ه َولَ َعنَ$هُ َوأَ َعَّ $د لَ$هُ َعَ $ذابًا َضَ $ُم ْؤ ِمنًا ُمتَ َع ِّمدًا فَ َجزَا ُؤهُ َجهَنَّ ُم خَالِدًا فِيهَا َوغ ِ
َع ِظي ًما ([ ﴾)93النساء ]93 :وغيرها من النصوص الكثيرة..
وفي الحديث الصحيح الش$$هير عن عائش$$ة ق$$الت :قلت للن$$بي :حس$$بك
من صفية كذا وكذا ،فقال :لقد قلت كلمة لو مزجت بم$$اء البح$$ر لمزجت$$ه .ق$$الت:
وحكيت له إنسانا ،فقال :ما أحب أنى حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا (.)1
وعندما نسأل هؤالء المرجئة الجدد عن الدافع ال$$ذي جعلهم يفك$$رون مث$$ل
هذا التفكير ،ويلغون كل تلك النصوص المقدسة ،يقولون لك :إننا عندما نذكر ما
ورد في الق$$رآن الك$$ريم من الوعي$$د الش$$ديد ينف$$ر الن$$اس من ال$$دين ،ونجعلهم
)(1رواه الترمذي رقم ( )2503و ( ،)2504وأبو داود رقم ( ، )4875وقال الترمذي :هذا حديث حسن
صحيح.
105
يعرضون عنه ،ويتصورون أن هللا ما خلق الخلق إال ليعذبهم.
ولست أدري ما يجاب به هؤالء ،فهل هم أعلم أم هللا؟
وهل ل$$ديهم من ص$$كوك الغف$$ران م$$ا يمكنهم $أن يس$$لموها لمن ش$$اءت لهم
أهواؤهم $تسليمها لهم؟
وكي $ف $ح$$ال أولئ$$ك األع$$راب البس$$طاء ال$$ذين أخ$$بر الق$$رآن الك$$ريم عن
العذاب الشديد الذي سيلحق بهم ،ألجل أخطاء وقعوا $فيه$$ا ،وح$$دود تجاوزوه$$ا..
أم أن األعراب يعذبون ،وأهل المدنية المعاصرة يُتجاوز $عنهم؟
ثم م$$ا يقول$$ون في تل$$ك النص$$وص المقدس$$ة ال$$تي ح$$وت تل$$ك التهدي$$دات
الشديدة ..مع العلم أن هللا قد أمرنا بتالوتها ،والت$$دبر فيه$$ا لتبقى دائم$$ا بين أعينن$$ا
نرتدع من خاللها ،لنتخلص من أسر األهواء ،والتثاقل $إلى األرض؟
ثم ما يقول$$ون في اعتب$$ار هللا تع$$الى رس$$وله ن$$ذيرا بين ي$$دي الس$$اعة،
واعتباره محذرا للبشرية من العذاب الش$$ديد ال$$ذي س$$يلحق به$$ا إن لم تتبع$$ه ،ولم
تؤمن به؟
ال يمكنهم اإلجاب$$ة عن ه$$ذه التس$$اؤالت إال بش$$يء واح$$د ،وه$$و مح$$و ك$$ل
التهديدات ال$واردة في النص$وص المقدس$ة ،أو اعتباره$ا منس$وخة بآي$ة الرحم$ة
الواسعة ،مثلما نسخ المتشددون كل آيات الرحمة والص$$فح بآي$$ة الس$$يف ..ويق$$رأ
ْض ﴾ ْض ْال ِكتَ$ا ِ
ب َوتَ ْكفُ$رُونَ بِبَع ٍ عليهم في هذه الحالة قوله تع$$الى﴿ :أَفَتُ ْؤ ِمنُ$$ونَ بِبَع ِ
[البقرة]85 :
قد يقال :بأن هناك ناسا لم يسمعوا باإلس$$الم ،وال بأدل$$ة اإليم$$ان ..ول$$ذلك،
فإنهم $معذورون من هذه الناحية.
ونحن ال ننكر هذا ،ولكن هذا يصدق على العوام ال على الخواص ،وعلى
األم$$يين ال على العلم$$اء ..وح$$تى $ل$$و ص$$دق على الع$$وام ،ف$$إن الش$$ريعة تأمرن$$ا
بالتوقف في إصدار األحك$$ام في ش$$أنهم ،فال نحكم لهم بجن$$ة وال ن$$ار ،وال ن$$دعو
لهم بأحدهما ،ألن األمر هلل تعالى من قبل ومن بعد.
أما أن نصيح في المأل ،ونخطب على المن$$ابر ،داعين بالرحم$$ة والمغف$$رة
والجنة لمن قضى $حياته يدعو إلى اإللحاد ،ويبرره ،ويصبغه بالص$$بغة العلمي$$ة،
وبسببه صار لإللحاد سوق ..فهذا عجيب وإرج$$اء لم يحص$$ل مثل$$ه في الت$$اريخ..
حتى في تاريخ اليهودية والمسيحية.
م$$ع العلم أنن$$ا ل$$و طبقن$$ا على ه$$ذا الش$$خص وغ$$يره م$$ا ورد في ح$$ديث
المفلس ،والذي قال في$$ه (:إن المفلس من أم$$تي من ي$$أتي ي$$وم القيام$$ة بص$$يام
وصالة وزكاة ،ويأتي $قد شتم عرض ه$$ذا ،وق$$ذف $ه$$ذا ،وأك$$ل م$$ال ه$$ذا ،فيقع$$د
فيقتص هذا من حسناته ،وهذا من حسناته ،فإن فنيت حسناته قب$$ل أن يقض$$ي م$$ا
106
الن$$ار)()1 علي$$ه من الخطاي$$ا ،أخ$$ذ من خطاي$$اهم $فط$$رحت علي$$ه ،ثم ط$$رح في
فسنرى ما هو أخطر من كل ما ذكره رسول $هللا من أمثلة ..ذلك أن الملحد لم
يش$$تم الن$$اس ،ولم يق$$ذفهم فق$$ط ،وإنم$$ا راح يس$$رق منهم أغلى ج$$وهرة ،ج$$وهرة
اإليمان..
فكيف يمكن أن يتعامل هذا الملحد يوم القيام$$ة م$$ع ك$$ل ال$$ذين يخاص$$مونه
باعتب$$$اره الحج$$$اب ال$$$ذي حجبهم عن اإليم$$$ان ،والقنط$$$رة ال$$$تي أدت بهم إلى
اإللحاد ..وقد قال (:من كانت له مظلمة ألحد من عرض$$ه أو ش$$يء ،فليتحلل$$ه
منه اليوم قبل أال يكون دينار وال درهم ،إن كان له عم$$ل ص$$الح أخ$$ذ من$$ه بق$$در
مظلمته ،وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)()2
ال يمكننا أن نشبه الدور الخطير ال$$ذي يق$$وم ب$$ه ه$ؤالء إال ب$ذلك الص$ديق$
األحمق الذي أراد أن يذب الذباب عن صاحبه ،فقتله ..وهك$ذا يفع$$ل ه$ؤالء ،فهم
بتعظيمهم المالحدة ،وبدعائهم لهم ،ينشرون $اإللحاد من حيث ال يشعرون ،ألنهم
يعتبرون$$ه قيم$$ة من القيم المحترم$$ة ،في نفس ال$$وقت ال$$ذي يجل$$دون في$$ه ال$$ذات،
ويحتقرون $القيم اإليمانية والدينية.
َّ َ َ َ
وهم في ذلك ال يختلفون عمن وصفهم هللا تعالى بقوله ﴿ :أل ْم تَ َ $ر إِلى ال ِذينَ
ت َوالطَّا ُغو ِ
ت َويَقُولُونَ لِلَّ ِذينَ َكفَرُوا هَؤُاَل ِء ب ي ُْؤ ِمنُونَ بِ ْال ِج ْب ِ أُوتُوا نَ ِ
صيبًاِ $منَ ْال ِكتَا ِ
أَ ْهدَى ِمنَ الَّ ِذينَ آ َمنُوا َسبِياًل ﴾ [النساء ،]51 :فهذه اآلية الكريمة تكاد تنطب$$ق على
هؤالء انطباقا تاما ،فهم يؤمنون بآيات الرجاء ،وال يؤمنون بآي$$ات الخ$$وف ،وال
يق$$درونها $ح$$ق ق$$درها $..وهم ي$$رددون ك$$ل حين ب$$أن س$$بيل المنح$$رفين عن هللا،
والمنفرين عنه ،أهدى من سبيل المؤمنين ..وهو ما يفعله التنويري$$ون والمرجئ$$ة
الجدد كل حين عند تعظيمهم $لغير المؤمنين ،وتحقيرهم للمؤمنين.
باإلضافة إلى ذلك كله فإن تلك ال$دعوات ،ال ترتب$ط بالت$دخل في الش$ؤون
اإللهية فقط ،وال ترتبط $بالدعوة غير المباش$$رة لإللح$$اد فق$$ط ..وإنم$$ا له$$ا آثاره$$ا
الخطيرة على الس$$لوك والقيم جميع$$ا ،ذل$$ك أن$$ه من الب$$ديهيات أن القيم الس$$لوكية
الرفيعة تحتاج إلى حوافز ،تدفع إلى العمل به$$ا ،وعقوب$$ات تنف$$ر من الوق$$وع في
أض$$دادها ..ف$$إذا م$$ا رفعت العقوب$$ات ..ولم تب$$ق إال الح$$وافز $ال$$تي يس$$توي $فيه$$ا
العاملون والمقصرون ..لن تبقى أي قيمة ..بل لن يبقى أي دين.
فهل يمكن أن يستقيم أمر دولة تضع الق$$وانين المش$$ددة للج$$رائم ..ثم ي$$أتي
أئمتها وخطباؤها ومفكروها $ليقولوا لعامة الناس :ال تخافوا $..فكل تل$$ك العقوب$$ات
المسطرة لن تحصل ..فالحاكم $رحيم وصاحب قلب طيب ..وقد وسع برحمته كل
رعيته صالحهم ومجرمهم ..برهم وفاجرهم.
)(1رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
)(2رواه البخاري.
107
ه$$ل يمكن أن تبقى في ه$$ذه المدين$$ة أي قيم رفيع$$ة ،أو أخالق عالي$$ة ،أو
نظام محكم؟
108
حينما يتجاوز التسامح حدوده
التسامح خلق نبيل دال على رؤية سليمة لحق$$ائق الوج$$ود ،ودور اإلنس$$ان
فيه ،وكون األمر هلل في خلقه من قب$$ل ومن بع$$د ..ول$$ذلك ك$$ان رس$$ل هللا وورث$$ة
األنبياء عليهم السالم أكثر الناس تحققا بهذا الخلق؛ فهم أكثر الناس س$$عة ص$$در،
ولين طباع.
ولكن مع ذلك ،فإن التسامح له ح$$دوده ال$تي ال يص$ح أن يتجاوزه$$ا ،مثل$ه
مثل سائر األخالق المحصنة بجداري العدل والحكمة..
فمن التس$$$$امح أال ن$$$$ؤذي أص$$$$حاب أي دين ك$$$$ان ،وال أن نت$$$$دخل في
خصوصياتهم $،وال أن نهدم معابدهم ،أو نتكبر عليهم بأي لون من ألوان التكبر..
بل نحن مطالبون عكس ذلك بتأليف $قلوبهم ومراعاة مشاعرهم ،وعدم التع$$رض
لمقدساتهم $بالشتم أو السب أو اإلساءة.
َّ
﴿واَل تَ ُسبُّوا ال ِذينَ يَ ْد ُعونَ ِم ْن وقد علمنا هللا ذلك مع أشد الناس كفرا ،فقالَ :
دُو ِن هَّللا ِ فَيَ ُسبُّوا هَّللا َ َع ْد ًوا بِ َغي ِْر ِع ْل ٍم ﴾ [األنعام ،]108 :فاهلل تعالى لم يكتف بالنهي
عن سبهم ،وإنما راح يبرر $سبهم في حال حصوله بكون$$ه اس$$تفزازا ،وعن غ$$ير
علم.
هذا هو التسامح المشروع ،والذي مثله رسول هللا أحسن تمثيل ،سواء
مع من جاوره من اليهود ،أو مع أولئك النصارى $الذين وفدوا إلي$$ه من نج$$ران..
فقد أنزلهم في المسجد ،ولما ح$$انت وقت ص$$التهم $ت$$ركهم يص$$لون في المس$$جد،
فكانوا $يصلون في جانب منه( ،)1وعندما حاورهم $طبق في حواره لهم ما أمرن$$ا
ب إِاَّل بِ$$الَّتِي ِه َي أَحْ َس$نُ إِاَّل الَّ ِذينَ $ل ْال ِكتَ$$ا ِ﴿واَل تُ َج$$ا ِدلُوا $أَ ْهَ $
هللا تعالى به في قول$$هَ :
ُ ُ َّ
ظَلَ ُموا ِم ْنهُ ْم َوقُولُوا آ َمنَّا بِال ِذي أ ْن ِز َل إِلَ ْينَا َوأ ْنِ $
$ز َل إِلَ ْي ُك ْم َوإِلَهُنَ$$ا َوإِلَهُ ُك ْم َوا ِحٌ $د َونَحْ نُ
لَهُ ُم ْسلِ ُمونَ ﴾ [العنكبوت ،]46 :ولم يكرههم على الدخول في اإلسالم ،ب$$ل ت$$رك
لهم الحرية في االختيار ،وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران(.)2
ومثّله حين كان يوصي $بأهل الذمة والمس$$تأمنين وس$$ائر $المعاه$$دين،
ويدعو إلى مراع$$اة حق$$وقهم $،واإلحس$$ان إليهم ،وينهى $عن إي$$ذائهم؛ فيق$$ول( :أال
من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ من$ه ش$يئا ً بغ$ير طيب نف ٍ
س
فأنا حجيجه ـ أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه ـ يوم القيامة)( ،)3ويق$$ول( :من قت$$ل
109
معاهدا لم يرح رائحة الجنة ،وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما)()4
لكن م$$ع ذل$$ك ،ف$$إن التس$$امح ل$$ه ح$$دوده المش$$روعة ال$$تي ال يص$$ح أن
نتجاوزها ،ومن تجاوزها $وقع في الظلم والبخس الذي نهينا عنه.
ومن تلك الحدود $أال نسكت عن النصيحة والتوجي$$ه ،فاحترامن$$ا لمقدس$$ات
اآلخر ال تعني سكوتنا $عليها ،أو اعتبارها وجه$$ة نظ$$ر ،ب$$ل علين$$ا أن ن$$دعو إلى
تصحيحها ،ونستعمل $كل الحجج ألجل ذلك ،كما علمنا ربنا عند حديثه عن الذين
ضلوا من أهل الكتاب وأسباب ضاللهم ،والردود $العقلية القوية على ذلك.
فمن الخداع لهم أن نعتبر ما يقعون فيه من الضاللة هداية ،أو نقرهم على
ذلك ،مع أن هللا تعالى أخ$بر ب$أنهم انحرف$وا ب$ذلك انحراف$ا خط$يرا ،ق$ال تع$الى:
﴿ لَقَ ْد َكفَ َر الَّ ِذينَ قَالُوا إِ َّن هَّللا َ ثَالِ ُ
ث ثَاَل ثٍَ $ة َو َم$$ا ِم ْن إِلٍَ $ه إِاَّل إِلَ$هٌ َو ِ
احٌ $د َوإِ ْن لَ ْم يَ ْنتَهُ$$وا
َع َّما يَقُولُ$$ونَ لَيَ َم َّس َّ $ن الَّ ِذينَ َكفَ $رُوا ِم ْنهُ ْم َعَ $ذابٌ أَلِي ٌم﴾ [المائ$$دة ،]73 :فاهلل تع$$الى
اعتبر القائلين بذلك كفارا ،وتوعدهم $بالعذب الشديد ،ومن احترامن$$ا لكالم هللا أن
نردد ما قاله ،ال أن نناقض$$ه ،ونخالف$$ه ،ونخ$$دع $ب$$ذلك أنفس$$نا ،ونخ$$دع قب$$ل ذل$$ك
أولئك الذين كان علينا أن ننصحهم ،ال أن نجاملهم.
ومن تلك الحدود $أال تنسجم نفوسنا مع الباطل ،وتقره ،وت$$ذعن ل$$ه ،بحج$$ة
التسامح وحرية الفكر والرأي ..فمن العجب أن نرى مسلما يس$$مع ملح$$دا يس$$خر
باهلل أو يستهزئ $ب$$ه ،ثم ال يتح$$رك ل$$ه جفن ،وال يه$$تز ل$$ه ع$$رق ،وك$$أن ش$$يئا لم
يحصل ،مع أنه لو تعرض أحد ألبسط شيئ يتعلق به لق$$امت قيامت$$ه ،وتخلى عن
كل ألوان التسامح والعفو وسعة الصدر.
وهذا المعنى هو الذي يشير $إليه قوله تعالى مخ$$برا عن بعض عقائ$$د أه$$ل
﴿وقَالُوا اتَّخَ َذ ال $رَّحْ َمنُ َولَ $دًا ﴾ [م$$ريم ،]88 :ثم بين الكتاب أو غيرهم من األديان َ
تأثير هذه الكلمة العظيمة على الكون جميعا ،وكيف ينفعل لها ،فق$$ال ﴿ :لَقَْ $د ِج ْئتُ ْم
ق اأْل َرْ ضُ َوت َِخ$$رُّ ْال ِجبَ$$ا ُل هًَّ $دا ( ات يَتَفَطَّرْ نَ ِم ْنهُ َوتَ ْن َشُّ $
َش ْيئًا إِ ًّدا ( )89تَ َكا ُد ال َّس َما َو ُ
)90أَ ْن َدعَوْ ا لِلرَّحْ َم ِن َولَدًا (َ )91و َما يَ ْنبَ ِغي لِلرَّحْ َم ِن أَ ْن يَتَّ ِخ َذ َولَدًا ﴾ [م$$ريم89 :
ـ ]92
ولهذا فإن عدم اهتزاز قلب المؤمن لما يقال في حق هللا مما ال يتناسب مع
جالله وعظمته وقدره هو ضعف في اإليمان ،وقصور في$$ه؛ وله$$ذا ك$$ان رس$$ول
هللا يتأثر كثيرا بسبب ما يقع فيه المشركون وغيرهم من أنواع الضاللة ،كما
قال تعالى﴿ :لَ َعلَّكَ بَا ِخ ٌع نَ ْف َسكَ أَاَّل يَ ُكونُوا ُم ْؤ ِمنِينَ ﴾ [الشعراء]3 :
لكنا لألسف صرنا نرى من ال يكتفي بعدم ت$$أثره لكف$$ر الكف$$رة ،وال إلح$$اد
الملحدين ،بل نراه يبرر $لهم ،ويدافع عنهم ،ب$$ل هن$$اك من ي$$ترحم $عليهم ،ويس$$أل
هللا لهم الفردوس األعلى ،ومجاورة النبيين والص$$ديقين والش$$هداء والص$$الحين..
)(4رواه أحمد )6592( 2/171
110
إلى الدرجة التي يتصور فيها عوام الناس أن ذلك الذي عاش ملح$$دا أو ك$$افرا $أو
ساخرا من هللا سيستقبل من طرف المقربين ليدخل الجنات التي أعدها له ه$$ؤالء
المتسامحون$.
ويغفل هؤالء أن مثل هذه المواقف $تؤثر في نش$$ر مث$$ل تل$$ك األفك$$ار $..ب$$ل
هي أكبر أداة من أدوات نشرها $..فهؤالء المتسامحون قد يدعو أحدهم على جاره
المؤمن بدخول جهنم ،وبتلقي كل أنواع العذاب فيها ،بسبب دين$$ار $أخ$$ذه من$ه ،أو
مقولة قالها له ..لكنه إن ك$$ان األم$$ر م$$ع هللا وم$$ع حق$$ائق اإليم$$ان الك$$برى تج$$ده
متهاونا $متسامحا حليما كريما.
111
الحق ..والخلق
من أعظم االبتالءات التي وضعت لتمييز المتجرد للحق من المتب$$ع له$$واه
ذلك االبتالء المرتبط بكون الباطل ال يكاد يخلو من الحق ،وك$$ون الح$$ق مس$تعدا
للتبلس ب$$أي باط$$ل ..ذل$$ك أن الش$$ر المج$$رد ال يك$$اد يوج$$د ،وهن$$ا يق$$ع التمحيص
واالبتالء ..لنرى أنفسنا هل نتبع الحق لكونه حقا ،أم لكون هوانا هو ال$$ذي جرن$$ا
إليه؟
واألمثل$$ة على ذل$$ك أك$$ثر من أن تحص$$ى ..فنحن مثال ق$$د نختل$$ف م$$ع
المتطرفين في كونهم يتشددون ويتنطع$$ون ،وربم$ا $يج$$رهم التش$$دد إلى العن$$ف..
ولكنا مع ذلك إن ع$$دنا إلى دينهم $وج$$دناهم $مؤم$$نين باهلل ورس$$له ،ويعظم$$ون هللا
ورس$$له ..ويعظم$$ون $الش$$ريعة ،ويحترمونه$$ا ..ونحن مط$$البون في ه$$ذا ب$$أن
نحترمهم $ألجل هذه السلوكات الصحيحة الش$$رعية ،وأن نقبله$$ا منهم ،ونش$$جعهم$
عليها ،ومطالبون $في نفس الوقت باإلنكار $على تشددهم $وتنطعهم $وعنفهم.
وهنا يحصل االمتح$$ان ..فمن الن$$اس من ينظ$$ر إلى تعظيمهم هلل ولرس$$وله
ولما يرتبط بهما من أحكام وش$رائع ،فيتص$$ور أنهم على الح$ق المج$رد ال$$ذي ال
يجوز $خالفه ،فيقع معهم في شراك التشدد والتطرف..
ومن الن$اس من يخ$الفهم في تش$ددهم وتط$رفهم ،ولكن خالف$ه ي$ذهب ب$ه؛
بعيدا فيجعل هم$$ه ال الح$$ق المج$$رد ،وإنم$$ا مخ$$الفتهم ،فيق$$ع عن$$د فعل$$ه ل$$ذلك في
مخالفة الشريعة ،بل في مخالفة قض$ايا قطعي$ة من ال$دين ،فيظلمهم ب$ذلك ،ويظلم
نفس$$ه ،ويظلم الحقيق$$ة ..وك$$ل ذل$$ك بس$$بب كون$$ه جع$$ل خالفهم ه$$دفا ومص$$درا$
للحقيقة ،ولم يجعل الحقيقة نفسها مصدره.
وه$$ذا يص$$دق على ك$$ل الطوائ$$ف ..ففي الص$$وفية ن$$واح كث$$يرة ممتلئ$$ة
بالجم$$ال والس$$مو $والطيب$$ة ..ففي$$ه الس$$لوك الطيب ،وال$$ذوق $الرفي$$ع ،والمعرف$$ة
الس$$امية ..لكن الش$يطان ال$$ذي لم ي$$ترك للمتش$ددين دينهم راح إليهم أيض$$ا يش$وه
طرائقهم $بالبدع والخرافات وأسرار $الحروف والطلس$$مات والكش$$وفات $ال$$تي م$$ا
أنزل هللا بها من سلطان ..وهنا نقع في الحيرة ..هل ننكر كل شيء ..أم نقبل ك$$ل
شيء ..أم يكون هدفنا $الحق المجرد؟
ونفس الشيء يصدق على الحركات اإلسالمية ..حيث نجد البعض يش$$كك
في نياته$ا ويربطه$$ا بالماس$ونية وب$المؤامرات العالمي$ة ..لكن الحقيق$ة ال$تي ي$دل
عليها ظاهر األمر ال تدل على ذلك ..هم صادقون في نياتهم ،ولكن ق$$د يخطئ$$ون
في بعض ممارساتهم ومواقفهم ،والحكمة تدعونا إلى التمييز بين الحق والباطل،
والخبيث والطيب ،ال رمي الجميع في سلة واحدة.
112
وهك$$ذا األم$$ر م$$ع العلم$$اء والمكتش$$فين والمخ$$ترعين ..ففيهم من ق$$دموا$
خدمات كبيرة لإلنسانية يحترمون عليها ،ولكنهم في نفس الوقت ق$$د أس$$اءوا إلى
اإلنس$$انية بم$$ا نش$$روه من أفك$$ار خط$$يرة ،أو م$$ا ادع$$وه من دع$$اوى عريض$$ة..
والحق الذي يدعونا إلى االعتراف باألول ،يدعونا إلى التحذير من الثاني ..حتى
ال يصبح األول مطية للثاني ،وحتى ال نصبح وس$$ائل وأدوات لنش$$ر الباط$$ل من
حيث ال نشعر.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى﴿ :لِيَ ِميزَ هَّللا ُ ْالخَ بِيثَ
ْض فَيَرْ ُك َم $هُ َج ِمي ًع$$ا فَيَجْ َعلَ$هُ فِي َجهَنَّ َم
ْض$هُ َعلَى بَع ٍ $ل ْالخَ بِ َ
يث بَع َ ِمنَ الطَّيِّ ِ
ب َويَجْ َعَ $
خَاس$رُونَ ﴾ [األنف$ال ..]37 :فاهلل تع$الى أخ$بر أن$ه يم$يز الخ$بيث من ك هُ ُم ْال ِ أُولَئِ َ
الطيب قبل أن يرميه في جهنم ..فجهنم مأوى الخبيث ال الطيب.
ب أُ َّمةٌ ْ َ
ومثل ذلك قوله تعالى عن أهل الكتاب ﴿ :لَ ْيسُوا َس َوا ًء ِم ْن أ ْه ِل ال ِكتَ$$ا ِ
ت هَّللا ِ آنَا َء اللَّي ِْل َوهُ ْم يَ ْس ُج ُدونَ ﴾ [آل عمران]113 :
قَائِ َمةٌ يَ ْتلُونَ آيَا ِ
وهكذا يكون العاقل الحكيم متثبتا من كل موق$ف $يقف$ه ..ه$$ل أراد ب$$ه وج$ه
هللا ،أم أراد به مخالفة قوم $من الن$$اس ..ف$$إن ك$$ان األول فه$$و المتج$$رد المخلص،
وإن كان الثاني ،فهو صاحب هوى ال صاحب حق ..فصاحب الحق ال يهم$$ه من
يقف معه ،أو من يقف ضده.
113
الغزالي ..ورحمة هللا الواسعة
من المغالط$$ات ال$$تي يمارس$$ها $التنويري$$ون الج$$دد في مناس$$بات كث$$يرة
ادعاؤهم الرجوع للعلماء ،وخاصة الكبار منهم ،أو المقبولين لدى عام$$ة الن$$اس؛
وه$$و تص$$رف $ال يتناس$$ب م$$ع دع$$وتهم لالجته$$اد ،والبحث عن ال$$دليل ،ذل$$ك أن
االجتهاد يقتضي النظر في المسألة وحججها $من غير اهتم$$ام بمن ق$$ال ب$$ذلك ،أو
لم يقل.
وقد كان يمكن أن يقب$$ل منهم ذل$$ك ،ل$$و أن رج$$وعهم للعلم$$اء ك$$ان س$$ليما،
وكان مبنيا على دراس$$ة وتحقي$$ق ،وليس عن ته$$ور وعجل$$ة ..ذل$$ك أن العجل$ة ال
تتناسب مع التحقيق ،وال مع البحث العلمي ،القائم على التدقيق $واألناة للوص$$ول
إلى الحقيقة.
ومن األمثل$$ة على ذل$$ك أنهم ي$$رددون جميع$$ا مقول$$ة الغ$$زالي في [فيص$$ل
التفرقة بين اإلس$الم والزندق$ة] في س$عة الرحم$ة اإللهي$ة ،وفي إمكاني$ة ش$مولها
لألمم جميعا؛ وهو قوله( :وأنا أقول :إن الرحمة تش$$مل كث$$يراً من األمم الس$$الفة،
وإن كان أكثرهم يعرضون على النار إما عرضة خفيفة ،حتى في لحظ$ة ،أو في
س$$اعة ،وإم$$ا في م$$دة ،ح$$تى يطل$$ق عليهم اس$$م بعث الن$$ار ،ب$$ل أق$$ول :إن أك$$ثر
نصارى $الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء هللا تع$$الى :أع$$ني
الذين هم في أقاصي $الروم والترك ،ولم تبلغهم الدعوة) ()1
ثم ذكر أن هؤالء ثالثة أصناف( :صنف :لم يبلغهم اس$$م محمد أص $الً،
فهم معذورون ..وصنف :بلغهم اس$$مه ونعت$$ه ،وم$$ا ظه$$ر علي$$ه من المعج$$زات،
وهم المج$$$اورون لبالد اإلس$$$الم ،والمخ$$$الطون لهم ،وهم الكف$$$ار الملح$$$دون..
وصنف $:ثالث بين الدرجتين ،بلغهم اسم محمد ،ولم يبلغهم نعته وصفته ،ب$$ل
س$معوا أيض$ا ً من$ذ الص$با أن ك$ذابا ً ملبس$ا ً اس$مه محم$د ادعى النب$وة ،كم$ا س$مع
صبياننا $أن كذابا ً يقال له المقفع ،ادعى أن هللا بعثه وتحدى بالنبوة كاذباً ..فه$ؤالء
عن$$دي في مع$$نى الص$$نف األول ،ف$$إنهم م$$ع أنهم س$$معوا اس$$مه ،س$$معوا ض$$د
أوصافه ،وهذا ال يحرك داعية النظر في الطلب) ()2
فهذا النص الذي تعلقوا به ،وراحوا $ينشرونه في كل محل ،وكأن$$ه من آي$$ة
من القرآن الكريم ،ال يدل على ما يقصدونه من الترحم على الكف$$رة والملح$$دين،
فالغزالي $ذكر فيه سعة الرحمة اإللهية العامة ،وهو أم$$ر متف$$ق علي$$ه عن$$د جمي$$ع
المؤمنين ،بل عند جميع العقالء ،ولم يذكر فيه الترحم الذي ال يختل$$ف عن طلب
)(1فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.85
)(2فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.86
114
الشفاعة واالستغفار وصالة الجنازة ..فكل هذه أحكام شرعية لم يشر إليها النص
الذي اعتمدوا $عليه.
باإلضافة إلى ذلك ،فإن ذلك النص مقيد بنصوص كثيرة أورده$$ا الغ$$زالي
في نفس كتابه هذا ،أو في غيره من الكتب وال يفهم ذلك النص إال ضوئها.
فقد ذكر في محل قريب من هذا النص م$$ا ين$$اقض ك$$ل المس$$تلزمات ال$$تي
استلزموها من النص السابق ،فق$$د ق$$ال( :وأم$$ا من س$$ائر األمم فمن كذب$$ه بع$$دما
قرع س$$معه ب$$التواتر عن خروج$$ه ،وص$$فته ،ومعجزات$$ه الخارق$$ة للع$$ادة ،كش$$ق
القمر ،وتسبيح الحصا ،ونبع الماء من بين أصابعه ،والقرآن المعجز الذي تحدى
به أهل الفصاحة وعجزوا عنه فإذا قرع ذلك سمعه ،ف$$أعرض عن$$ه ،وت$$ولى ولم
ينظر فيه وال يتأمل ،ولم يب$$ادر إلى التص$$ديق ،فه$$ذا ه$$و الجاح$$د الك$$اذب ،وه$$و
الك$$افر ،وال ي$$دخل في ه$$ذا أك$$ثر ال$$روم وال$$ترك $ال$$ذين بع$$دت بالدهم عن بالد
المسلمين) ()1
وهو به$$ذا يخ$$رج من تل$$ك الرحم$$ة ال$$تي ذكره$$ا في النص األول ك$$ل من
سمع برسول هللا وأعرض عنه ،ولم ينظر ،ولم يتأمل ،ولم يبحث ،ولم يب$ادر
إلى التصديق ..بل اعتبره جاحدا كاذبا ..وه$$ذا الوص$ف $يص$$دق على الكث$$ير من
عوام هذا العصر ،فكيف بعلمائهم الذين ك$$انت لهم عالق$$ة بالمس$$لمين ،واحتك$$اك$
شديد بهم ،باإلضافة إلى سماعهم عن اإلس$$الم ..س$$واء المش$$وه والمح$$رف $من$$ه،
وغير المشوه والمحرف ..وكان ذلك في األص$ل ـ كم$$ا ي$$ذكر الغ$زالي ـ داعي$ة
للبحث والطلب ،كما حصل للكثير من الذين أسلموا بعد البحث والطلب؛ خاص$$ة
وأن كل الوسائل $متوفرة للتحقيق والنظر$.
بل إن الغزالي ـ ال$$ذي اس$$تعملوه مطي$$ة لإلرج$$اء ـ زاد على ذل$$ك التش$$دد
بقوله ـ تتمة للنص السابق ـ( :بل أقول :من قرع سمعه هذا ،فال بد أن تنبعث فيه
داعية الطلب ليس$$تبين حقيق$$ة األم$$ر إن ك$$ان من أه$$ل ال$$دين ،ولم يكن من ال$$ذين
استحبوا $الحياة الدنيا على اآلخرة؛ فإن لم تنبعث فيه هذه الداعي$$ة ،ف$$ذلك لركون$$ه
إلى الدنيا ،وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين ،وذلك كفر وإن انبعثت الداعية،
فقصر عن الطلب ،فهو أيضا ً كفر) ()2
وهو قول أخطر من الس$$ابق ،فال يكفي عن$$د الغ$$زالي مج$$رد الس$$ماع ،ب$$ل
ينبغي أن يسرع في البحث والتحقيق والنظر ،فإن منعه ذلك أي م$$انع من موان$$ع
الدنيا ،فقد اعتبره كافرا مثله مثل من سبق.
وهو لم يعذر إال من كان عاميا بسيطا ال قدرة له على البحث والنظ$$ر $،أو
ذلك الذي (اشتغل بالنظر والطلب ،ولم يقصر ،فأدركه الموت قبل تمام التحقيق،
)(1فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.86
)(2فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.87
115
الواسعة) ()1 فهو أيضا ً مغفور له ثم له الرحمة
فالغزالي لم يعف إال من اجتهد ،وبحث ،ولكن الموت أدركه قبل أن يصل
إلى الحقيقة ..ال الذي عاش عم$ره جميع$ا جاح$دا له$ا ،متبرئ$ا منه$ا ،س$اخرا من
أصحابها$.
وهكذا قال قبل ذلك النص الذي اعتمدوا عليه( :فأبشر برحمة هللا وبالنجاة
المطلق$$ة إن جمعت بين اإليم$$ان والعم$$ل الص$$الح ،وب$الهالك $المطل$ق إذا خل$$وت
عنهم$$ا جمي$$ع ..وإن كنت ص$$احب يقين في أه$$ل التص$$ديق ،وص$$احب خط$$إ في
بعض التأويل ،أو صاحب شك فيهما ،أو صاحب خلط في األعمال فال تطمع في
النجاة المطلقة ..واعلم أن$$ك بين أن تع$$ذب م$$دة ثم تخ$$ل ،وبين أن يُش$فَ َع في$$ك من
تيق ْنتَ ص$$دقه في جمي$$ع م$$ا ج$$اء ب$$ه أو غِ $
$ير ِه.فاجته$$د أن يغني$$ك هللا بفض$$له عن
خطرٌ) ()2
شفاعة الشفعاء ،فإن األمر في ذلك ُم ِ
وقبلها ،وفي أول الكتاب ذكر ما هو أخطر من ذلك؛ فقد ق$ال ـ عن$د بيان$ه
لحد الكفر ـ( :لعلك تشتهي أن تع$$رف ح$$د الكف$$ر ،بع$$د أن تتن$$اقض علي$$ك ح$$دود
أصناف $المقلدين ،فاعلم :أن شرح ذلك طويل ،ومدركه غامض ،ولكني أعطي$$ك
عالمة صحيحة فتطردها وتعكسها ،لتتخذ مطمح نظ$$رك ،وترع$$وي $بس$$ببها عن
تكفير الف$$رق ،وتطوي$ل $اللس$$ان في أه$$ل اإلس$$الم ،وإن اختلفت ط$$رقهم م$$اداموا
متمسكين بقول :ال إله إال هللا ،محم$$د رس$$ول هللا ،ص$$ادقين به$$ا ،غ$$ير مناقض$$ين
لها؛ فأقول $:الكف$ر :ه$و تك$ذيب الرس$ول في ش$يء مم$ا ج$اء ب$ه ،واإليم$ان:
تصديقه في جميع ما جاء به) ()3
ثم راح ي$$بين مص$$اديق ذل$$ك ،فق$$ال( :ف$$اليهودي $والنص$$راني :ك$$افران ؛
لتكذيبهما $للرسول ..والبرهمي $:كافر بالطريق $األولى ؛ ألنه أنكر مع رسولنا$
س$$ائر المرس$$لين ..وال$$دهري :ك$$افر $ب$$الطريق $األولى ،ألن$$ه أنك$$ر م$$ع رس$$ولنا$
المرسل ،سائر الرسل ،وهذا ألن الكف$$ر حكم ش$$رعي :ك$$الرق والحري$$ة مثالً ،إذ
معناه ..الحكم بالخلود في النار ،ومدركه شرعي ،فيدرك $:إما بنص ،وإما بقياس
على منص$$وص :وق$$د وردت النص$$وص في اليه$$ود والنص$$ارى $،والتح$$ق بهم
ب$$الطريق $األولى :البراهم$$ة ،والثنوي$$ة ،والزنادق$$ة ،والدهري$$ة .وكلهم مش$$ركون
مكذبون للرسل.فكل كافر $مكذب للرسل.وكل مكذب للرسل فه $و $ك$$افر.فه$$ذه هي
العالمة المطردة المنعكسة)()4
وهذا النص واضح ال لبس فيه ،وقد قاله في نفس الكتاب الذي تعلق$$وا ب$$ه،
)(1فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.87
)(2فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.88
)(3فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.25
)(4فيصل التفرقة بين اإلسالم والزندقة ،ص.25
116
ولو أنهم قرأوه بأناة لفهموا أغراض مؤلفه ،ولم يخرجوا كالمه عن حده.
مع أن الغزالي لم يذكر أبدا الدعاء بالرحم$$ة وال ب$$المغفرة ألعي$$ان ه$$ؤالء
الكف$$رة وغ$$يرهم ،ب$$ل ذك$$ر إمكاني$$ة أن تس$$عهم رحم$$ة هللا تع$$الى ،م$$ا دام$$وا لم
يقصروا $في البحث والنظر والتحقيق.
أما إذا عدنا إلى كتب الغزالي األخرى ،والتي خصصها للتربية والسلوك،
فنجد األمر أبعد مما تص$وروا ،فق$د ذك$ر الغ$زالي عن نفس$ه ـ م$ع كون$ه مؤمن$ا
مسلما ،بل عالم$$ا من علم$$اء المس$$لمين ـ كي$$ف أح$$اطت ب$$ه المخ$$اوف من الن$$ار
وعذابها ،خشية أن يكون كل ما هو في$$ه ري$$اء وس$$معة ،فق$$د ق$$ال في [المنق$$ذ من
الضالل]( :ثم الحظت أحوالي ،فإذا أنا منغمس في العالئق ،وقد أح$$دقت بي من
الجوانب ،والحظت أعم$الي -وأحس$نها الت$دريس والتعليم -ف$إذا أن$ا فيه$ا مقب$ل
على عل$$وم غ$$ير مهم$$ة ،وال نافع$$ة في طري$$ق اآلخ$$رة ،ثم تفك$$رت في ني$$تي في
التدريس ،فإذا هي غير خالصة لوجه هللا تعالى ،بل باعثها ومحركها $طلب الجاه
وانتشار الصيت ،فتيقنت أني على شفا جرف هار ،وأني ق$$د أش$$فيت على الن$$ار،
إن لم أش$$تغل بتالفي األح$$وال .فلم أزل أتفك$$ر في$$ه م$$دة ،وأن$$ا بع$$د على مق$$ام
االختي$$ار ،أص$مم الع$$زم على الخ$روج من بغ$داد ومفارق$$ة تل$ك األح$$وال يوم$اً،
وأحل العزم يوماً ،وأقدم فيه رجال وأؤخر عن$$ه أخ$$رى .ال تص$$دق $لي رغب$$ة في
طلب اآلخرة بكرة ،إال ويحمل عليها جلد الشهوة حملة فيفترها عش$$ية ،فص$$ارت
شهوات ال$دنيا تج$اذبني بسالس$لها $إلى المق$ام ،ومن$ادي $اإليم$ان ين$ادي :الرحي$ل
الرحيل! فلم يبق من العمر إال قليل ،وبين يديك الس$$فر الطوي$$ل ،وجمي$$ع م$$ا أنت
فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد اآلن لآلخرة ،فمتى تستعد؟)()1
وهكذا ذكر في كتابه [أصناف المغ$$رورين] الكث$$ير من مظ$$اهر الغ$$رور،
والتي تتأسس جميعا على االعتق$$اد برحم$$ة هللا الواس$$عة م$$ع التقص$$ير في العم$$ل
الصالح ،وقد عقد فيه فصال خاصا بعصاة المؤمنين ،وعرفهم $بأنهم (من يتكل$$ون
على عفو هللا ويهملون العمل)
ومما جاء فيه قوله( :وأما غرور العصاة باهلل من المؤمنين فقولهم :غف$$ور
رحيم ،وإنما يرجى عفوه فاتكلوا $على ذلك وأهملوا األعمال وذلك من قبل الرجا
فإنه مقام محمود في الدنيا .وأن رحمة هللا واسعة ونعمته وش$$املة وكرم$$ه عميم،
وأنا موحدون نرجوه بوسيلة اإليمان والكرم واإلحسان)()2
ِ ِ
وعندما ذكر منشأ غرور الكفار ومن ش$$ابههم $من العص$$اة ،ق$$ال( :ومنش$$أ
هذا الغرور الجهل باهلل تعالى ..وبصفاته ..فإن من عرف هللا تعالى فال ي$$أمن من
مكر هللا ..وينظرون إلى فرعون وهامان وثمود $وماذا حل بهم ..مع أن هللا تعالى
)(1المنقذ من الضالل (ص.)173 :
)(2أصناف المغرورين (ص)29 :
117
أعطاهم من المال ..وقد حذر هللا تعالى مكره فقال تعالى﴿ :فَاَل يَ$$أْ َمنُ َم ْكَ $
$ر هَّللا ِ إِاَّل
ْالقَوْ ُم ْالخَا ِسرُونَ ﴾ [األعراف ..]99 :وقال تعالىَ :
﴿و َم َكرُواَ $و َم َك َر هَّللا ُ َوهَّللا ُ خَ يُْ $$ر
ْال َم$$ا ِك ِرينَ ﴾ [آل عم$$ران ..]54 :وق$$ال تع$$الى ﴿ :فَ َمه ِِّل ْال َك$$افِ ِرينَ أَ ْم ِه ْلهُ ْم ر َُو ْيً $دا﴾ $
[الطارق ..]17 :فمن أولى نعمة يحذر أن تكون نقمة)()1
أما في [إحياء علوم الدين] ،فقد ذكر فيه ما هو أعظم من ذل$$ك كل$$ه ،فك$$ل
اإلحياء دعوة إلى الورع ،ومحاسبة النفس ،وتفقد النقير والقطم$ير $من األعم$ال،
مع ربط ذلك كله بمحاسبة هللا لعباده ،واعتبار األمل في رحمة هللا الواسعة بعيدا
عن العمل مجرد أماني كاذبة.
وق $د $ذك$$ر في ب$$اب الخ$$وف والرج$$اء ،خط$$ورة اس$$تعمال أدوي$$ة الرج$$اء
واألم$$ل في رحم$$ة هللا الواس$$عة م$$ع من غلبت$$ه المعاص$$ي ،فق$$ال( :اعلم أن ه$$ذا
الدواء يحتاج إليه أح$د رجلين إم$$ا رج$$ل غلب علي$ه الي$$أس ف$$ترك العب$ادة ،وإم$$ا
رجل غلب عليه الخ$$وف $فأس$$رف في المواظب$$ة على العب$$ادة ح$$تى أض$$ر بنفس$$ه
وأهل$$ه ..وه$$ذان رجالن م$$ائالن عن االعت$$دال إلى ط$$رفي اإلف$$راط $والتفري$$ط
فيحتاجان إلى عالج يردهما إلى االعتدال ..فأما العاصي المغرور $المتم$$ني على
هللا مع اإلعراض عن العبادة واقتح$$ام المعاص$$ي؛ فأدوي$$ة الرج$$اء تنقلب س$$موما
مهلكة في حقه ،وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب علي$$ه ال$$برد ،وه$$و
سم مهلك لمن غلب عليه الح$$رارة ،ب$$ل المغ$$رور $ال يس$$تعمل في حق$$ه إال أدوي$$ة
الخوف واألسباب $المهيجة له)()2
وذكر في ب$$اب التوب$$ة درج$$ات البش$$ر م$$ع الج$$زاء اإللهي ،وكله$$ا ترتب$$ط
باإليمان باهلل ،والعمل الص$الح ال$ذي يري$د في$ه ص$احبه وج$ه هللا ،وأعطى ل$ذلك
تش$$بيها ب$$ديعا ،فق$$ال( :الن$$اس في اآلخ$$رة ينقس$$مون أص$$نافا ً وتتف$$اوت درج$$اتهم
ودركاتهم في الس$$عادة والش$$قاوة تفاوت$ا ً ال ي$$دخل تحت الحص$$ر كم$$ا تف$$اوتوا في
سعادة الدنيا وشقاوتها ،وال تفارق اآلخرة في هذا المعنى أصالً البتة؛ ف$$إن م$$دبر
الملك والملكوت واحد ال شريك له وسنته الصادرة عن إرادته األزلية مطردة ال
تبديل لها إال أنا إن عجزن$$ا عن إحص$$اء آح$$اد ال$$درجات فال نعج$$ز عن إحص$$اء
األجناس)()3
ثم راح يحصي هذه األجناس الكبرى ،فذكر أنهم (أربع$$ة أقس$$ام :ه$$الكين،
ومعذبين ،وناجين ،وفائزين) ..وضرب $مثال لذلك بأن (يستولي $ملك من المل$$وك
على إقليم فيقت$$ل بعض$$هم فهم اله$$الكون ،ويع$$ذب بعض$$هم $م$$دة وال يقتلهم فهم
المعذبون ،ويخلى بعضهم فهم الناجون ،ويخلع على بعضهم $فهم الفائزون)
)(1أصناف المغرورين (ص)28 :
)(2إحياء علوم الدين ()146 /4
)(3إحياء علوم الدين ()24 /4
118
ثم بين سبب ما يفعله الملك بهذه األقسام؛ فقال( :فإن ك$$ان المل$$ك ع$$ادالً لم
يقسمهم كذلك إال باس$$تحقاق $فال يقت$$ل إال جاح$$داً الس$$تحقاق المل$$ك معان$$داً ل$$ه في
أصل الدول$$ة ..وال يع$$ذب إال من قص$$ر في خدمت$$ه م$$ع االع$$تراف بملك$$ه وعل$$و
درجته ..وال يخلي إال معترفاً $له برتب$ة المل$ك لكن$ه لم يقص$ر ليع$ذب ،ولم يخ$دم
ليخلع عليه ..وال يخلع إال على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة)
المعذبين ،ذكر أنها رتبة (من تحلّى بأص$$ل اإليم$$ان ّ وعند حديثه عن رتبة
ّ
ولكن قصّر في الوفاء بمقتضاه ،فإن رأس اإليمان ه$$و التوحي$$د وه$$و أن ال يعب$$د
إاّل هّللا ،ومن اتّبع هواه فقد اتّخ$$ذ إله$$ه ه$$واه فه$و $مو ّح$$د بلس$$انه ال بالحقيق$$ة ،ب$$ل
معنى قولك« :ال إله إاّل هّللا » معنى قوله تعالى« :قُ ِل هَّللا ُ ثُ َّم َذرْ هُ ْم» وه$$و أن ت$$ذر
بالكلّي$$ة غ$$ير هّللا ومع$$نى قول$$ه «الَّ ِذينَ ق$$الُواَ $ربُّنَ$$ا هَّللا ُ ثُ َّم ْ
اس $تَقا ُموا» ول ّم$$ا ك$$ان
ق من الشعر وأح ّد الصراط $المستقيم الّذي ال يكمل التوحيد إاّل باالستقامة عليه أد ّ
ك بش$$ر عن مي$$ل عن من الس$$يف مث$$ل الص$$راط $الموص$$وف $في اآلخ$$رة فال ينفّ $
االستقامة ولو في أم$$ر يس$$ير ،إذا ال يخل$$و عن اتّب$$اع اله$$وى ول$$و في فع$$ل قلي$$ل
وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميل$ه عن الص$راط المس$$تقيم ف$ذلك يقتض$$ي ال
محالة نقصانا في درجة القرب ومع ك ّل نقصان ناران ن$$ار الف$$راق ل$$ذلك الكم$$ال
الفائت بالنقصان ،ونار $جهنّم كما وصفها القرآن فيك$$ون كّ $ل مائ$$ل عن الص$$راط$
معذبا مرّتين من وجهين ولكن ش ّدة ذلك العذاب وخفّته وتفاوت$$ه بحس$$ب المستقيم ّ
طول الم ّدة إنّما يكون بسبب أمرين أحدهما قوّة اإليم$$ان وض$$عفه ،والث$$اني ك$$ثرة
اتّباع الهوى وقلّته)()1
هذا بعض ما ذكره في [إحياء علوم الدين] من م$$راتب الن$$اس ،وخط$$ورة
ما ينتظرهم إن قصروا $في اإليمان باهلل ،أو في سلوك سبيله ،أو تجاوز حدوده.
وهكذا نجده في سائر مواقفه؛ حيث نرى موقفه من الفالسفة منس$$جما م$$ع
ما ذكره في كتبه جميعا؛ فهو يكفر الكثير منهم ،مع كونهم موحدين ،ويمارس$$ون
كل ما يمارسه المسلمون من شعائر وعبادات ،وذلك ألسباب بسيطة جدا مقارنة
بما يقوله هؤالء الفالسفة المالحدة الذين اتخذ الغزالي مطي$$ة لل$$ترحم $عليهم؛ فق$$د
قال في [المنقذ من الضالل] ،وهو من أواخ$$ر كتب$$ه( :ثم رد أرس$$طاطاليس على
أفالطون وسقراط $ومن كان قبلهم من اإللهيين ،رداً لم يقصر فيه ح$$تى ت$$برأ عن
جميعهم ،إال أنه استبقى من رذاذ كفرهم ،وبدعتهم ،بقايا لم يوفق $لل$$نزوع $عنه$$ا،
فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم $من المتفلسفة اإلس$$الميين .ك$$ابن س$ينا والف$$ارابي
وأمثالهما)()2
119
وقال عند الحديث عن قس$م $اإللهي$$ات في الفلس$$فة اإلس$$المية المقتبس$$ة من
الفلسفة اليونانية( :وأما اإللهيات :ففيها أك$$ثر أغ$$اليطهم ،فم$$ا ق$$دروا $على الوف$$اء
ب$$البراهين على م$$ا ش$$رطوه في المنط$ق ،ول$$ذلك ك$$ثر االختالف بينهم في$ه ولق$$د
قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من م$$ذاهب اإلس$$الميين ،على م$$ا نقل$$ه الف$$ارابي
وابن سينا ،ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصالً ،يجب تكفيرهم
في ثالثة منها ،وتبديعهم في سبعة عشر)()1
وتلك المسائل الفرعية التي رأى الغزالي وجوب تكفيرهم فيها ،ولم ي$$برر
خطأهم فيها بكونهم $مجتهدين ،هي ـ كما يذكر في المنقذ من الضالل ـ( :ق$$ولهم:
إن األجساد ال تحشر ،وإنما المثاب والمعاقب $هي األرواح المجردة ،والمثوب$$ات
والعقوب$$ات روحاني$$ة ال جس$$مانية ..وق$$ولهم :إن هللا تع$$الى يعلم الكلي$$ات دون
الجزئيات ،فهو أيضا ً كفر صريح ،بل الحق أن$$ه﴿ :اَل يَ ْعُ $زبُ َع ْن$هُ ِم ْثقَ$$ا ُل َذ َّر ٍة فِي
ض َواَل أَصْ َغ ُر ِم ْن َذلِ$$كَ َواَل أَ ْكبَ$رُ﴾ [س$$بأ ..]3 :ومن ذل$$ك ت َواَل فِي اأْل َرْ ِ ال َّس َم َ
اوا ِ
ق$$ولهم $:يق$$دم الع$$الم وأزليت$$ه ،ولم ي$$ذهب أح$$د من المس$$لمين إلى ش$$يء من ه$$ذه
المسائل)()2
فكيف يستدل بكالم من يقول هذا في جواز الترحم على من ال ينك$$ر النعيم
الجسدي فقط ،بل ينكر اآلخرة أيضا ،وينك $ر $معه$$ا هللا رب الع$$المين ،وال يكتفي
باإلنكار $المجرد ،بل يستعمل العلم وسيلة للدعوة لذلك اإلنكار؟
ولم يكتف الغزالي بكبار $الفالسفة كابن سينا والفارابي ،بل راح للمت$$ابعين
لهم على أقوالهم يشن عليهم حملته الكبرى في كتاب$$ه [ته$$افت الفالس$$فة] ،وال$$ذي
ق$$ال في مقدمت$$ه( :أم$$ا بع$$د ،ف$$إني رأيت طائف$$ة يعتق$$دون في أنفس$$هم التم$$يز عن
األتراب والنظراء $بمزيد الفطنة والذكاء قد رفضوا $وظائف $اإلسالم ،واستحقروا
شعائر $الدين ،بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون يتبعون فيه$$ا رهط$$ا
يصدون عن سبيل هللا ،ويبغونها $عوجا)()3
ونحن ،وإن كنا ننكر علي$$ه ه$$ذا التكف$$ير ،ولكن$$ا أردن$$ا من خالل ذك$$ره أن
ننبه هؤالء الذين ق$$رأوا $نص الغ$$زالي مقلوب$$ا ،ولم يفهم$$وا مقص$$وده ،فنقل$$وه من
الرحمة إلى الترحم ،ومن المجتهدين في البحث عن الحقيقة إلى المقصرين فيها،
ومن العامة البسطاء إلى العلماء الكبار الب$$احثين ،ومن الس$$اكتين الال أدري$$ة إلى
المصرحين بإلحادهم$.
وهذا كله كيل بالمكايي$ل $المزدوج$$ة ،وتالعب ب$$العواطف ،ب$$ل عبث به$$ا،
والبحث العلمي يأبى ذلك كله.
)(1المنقذ من الضالل (ص.)143 :
)(2المنقذ من الضالل (ص)148 :
)(3تهافت الفالسفة ص..38
120
الرحمة ..والعدالة
يطرح الكثير من التنويريين الجدد مس$$ألة الرحم$$ة اإللهي$$ة الخاص$$ة بغ$$ير
المسلمين بطريقة وكأنها من القضايا المجمع عليها ،وأن كل من مات في أوروبا$
وأمريكا $وغيرهما ،حتى لو ك$$ان ملح$$دا عني$$دا ،وفاس$$قا عربي$$دا ،س$$يدخل الجن$$ة
مباش$$رة ،وستش$$مله رحم$$ة هللا الواس$$عة ،وأن$$ه كم$$ا تنعم في ال$$دنيا ،س$$يتنعم في
اآلخرة ،ولن يحاسب على شيء ،ذلك أن$$ه لم تبلغ$$ه الرس$$الة ،أو بلغت$$ه مش$$وهة،
ولذلك ليس هناك حجة لمن سيسأله عن ربه ونبيه ودينه.
وهذا ما يجعل من المسلمين في بالد اإلسالم ،وال$$ذين يعيش أك$ثرهم في ظالل
الفقر والبؤس ،أو ظالل االستبداد والظلم ،في ح$$يرة من أم$$رهم ..فهم يحاس$$بون على
الصغير والكبير في الدنيا واآلخرة؛ فقد وردت النصوص المقدسة الكثيرة التي تخ$$بر
بالعذاب الشديد المرتبط بما يفعلونه من ذنوب ،والتي تص$$ف ذل$$ك بدق$$ة ..فالمس$$لم إن
شرب الخمر سيسقى من طينة الخبال ،كما ورد في الح$ديث عن رس$ول هللا ( :إن
على هللا عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ،ق$$الوا وم$$ا طين$$ة الخب$$ال
قال :عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)( ،)1وفوق ذلك ،فلن يشربها في اآلخ$$رة،
كما ورد في الحديث( :من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في اآلخرة)()2
أما الذي عاش في أوروبا وأمريكا $يشرب الخم$$ر ،وي$$دمن عليه$$ا ،ويظ$$ل
مترددا $بين المالهي ،ال يعرف إلها وال دين$$ا ..فه$$و عن$$د ه$$ؤالء المرجئ$$ة الج$$دد
ممن تشملهم رحمة هللا الواسعة ،ولذلك لن يحاسب على معاقرته الخم$$ر ،لكون$$ه
غير مكلف؛ وبذلك فلن يصاب بأي عقوبة ،ولن يحرم من أي مزية.
وهذا ما يجعل اللبيب حيرانا $في الجمع بين العدالة والرحمة اإللهية ..ف$$إن
كانت الرحمة اإللهية واسعة إلى ذلك الحد ،فلماذا كان أشقى الناس بها المؤمنون$
الذين بلغتهم الدعوة ..والذين يتمنون لو أنهم عاشوا في أوروبا وأمريكا صعاليك
مالح$$دة؛ ف$$ذلك خ$$ير لهم من أن يعيش$$وا في بالد اإلس$$الم ليش$$قوا في ال$$دنيا ،ثم
يشقوا في اآلخرة.
وقد ذكرت الجواب المفصل عن هذه الشبهة في كتابي [أس$$رار األق$$دار]،
عند حديثي عن العدالة اإللهية ،وطرحت فيه اآلراء المختلفة في المسألة ،وبينت
مدى صلتها بالرحمة والعدالة اإللهية ،ولذلك سأكتفي هن$$ا ب$$القول ال$$ذي يتناس$$ب
مع العدالة والرحمة اإللهية ،وهو قول ينسجم مع العقل والحكمة ،كما ينسجم مع
الرحم$$ة والعدال$$ة ،كم$$ا ينس$$جم م$$ع النص$$وص الكث$$يرة المتعارض$$ة ،ويلغي
)(1رواه مسلم.
)(2رواه البخاري ومسلم.
121
التعارض بينها.
وهذا القول هو أن كل ه$ؤالء ال$ذين لم تتح لهم فرص$ة التكلي$ف في ال$دنيا
ب$$أي س$$بب من األس$$باب كالمج$$انين والص$$بيان $ومن لم تبلغهم ال$$دعوة أو بلغتهم
مشوهة ،يجرى $عليهم امتحان جديد في اآلخرة ،وذل$$ك ب$$أن يوض$$عوا في مح$$ال
معينة ،ويرسل إليهم هللا تعالى رسوال ـ كما ورد تفصيل ذلك في الح$$ديث ـ فمن
أط$$اع الرس$$ول دخ$$ل الجن$$ة ،ومن عص$$اه دخ$$ل الن$$ار ،وبن$$اء على ذل$$ك يك$$ون
بعضهم $في الجنة ،وبعضهم $في النار ..وبذلك تجتمع النص$$وص المتعارض$$ة في
المسألة.
وهذا القول ينسجم مع العقل بادئ ال$$رأي ذل$$ك أنن$$ا إن قلن$$ا ب$$أنهم ي$$دخلون
النار ،فبأي جناية جنوها؟ ..وإن قلنا :إن أمرهم للمشيئة ،أو لعلم هللا فيهم ،فلم$$اذا
لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة ،فلم تقم محكمة القيامة ،ولم يكن هن$$اك حس$$اب
وال كتب وال موازين؟
وإن قلنا ـ بما يقول ب$$ه المرجئ$$ة الج$$دد ـ :إن أم$$رهم للرحم$$ة ،فق$$د يق$$ول
الب$$الغ :لم$$اذا ي$$ارب لم تتوف$$ني $ص$$بيا لتش$$ملني رحمت$$ك ال$$تي ش$$ملت الص$$بي؟..
ويق$$$ول العاق$$$ل :لم ي$$$ارب لم ت$$$ذهب عقلي ألبص$$$ر $من الرحم$$$ة م$$$ا يبص$$$ره
المجن$$ون؟ ..ويق$$ول الفيلس$$وف :لم ي$$ا رب لم تجعل$$ني في غي$$اهب الجه$$ل ال$$تي
حميت بها ذلك الفالح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟.
وهو ينسجم أيضا م$ع م$ا نمارس$ه في ال$دنيا ،وال$دنيا $ص$نو اآلخ$رة ،كم$ا
يقال؛ فإنه إذا تقدم قوم لالمتحان ،وغاب آخرون عن$$ه لس$$بب من األس$$باب ،ف$$إن
قوانين العالم كلها تحكم بأن ال يوزع $النجاح للغائبين هك$$ذا مجان$$ا ،ب$$ل يمتحن$$ون
مثلما امتحن غيرهم ،لتتحقق العدالة بذلك ،ألننا إذا رحمنا هؤالء الغ$$ائبين نك$$ون
قد ظلمنا أولئك الممتح$$نين ،وال$$ذين ق$$د يك$$ون س$$بب رس$$وبهم $ه$$و اجته$$ادهم $في
الحضور $لالمتحان.
وبناء على هذا ،فقد ورد في النصوص المقدسة ما ي$$دل على ذل$$ك ،س$$واء
في المدرسة السنية أو في المدرسة الشيعية:
أما في المدرسة السنية ،ففي الحديث ال$$ذي روي من ط$$رق متع$$ددة ،ق$$ال
(:أربعة يمتحنون يوم القيامة :رج$$ل أص$$م ال يس$$مع ،ورج$$ل أحم$$ق ،ورج$$ل
هرم ،ورجل مات في الفترة ،أم$$ا األص$$م فيق$$ول(:ي$$ا رب ق$$د ج$$اء اإلس$$الم وم$$ا
أسمع شيئا) وأما األحمق فيق$$ول(:ي$$ا رب ق$$د ج$$اء اإلس$$الم والص$$بيان يرمون$$ني
بالبعر) وأما الهرم فيقول(:يا رب قد ج$$اء اإلس$$الم وم$$ا أعق$ل ش$$يئا) وأم$$ا ال$$ذي
مات في الفترة فيقول(:ما أتاني ل$$ك رس$$ول) ،فيأخ$$ذ م$$واثيقهم $ليطيعن$$ه ،فيرس$$ل
إليهم رسوال أن ادخلوا النار) ،ق$$ال (:فوال$$ذي نفس$$ي بي$$ده ل$$و دخلوه$$ا لك$$انت
122
إليها)()1 عليهم بردا وسالما ،ومن لم يدخلها سحب
وفي حديث آخر قال (:يؤتى يوم القيام$$ة بالممس$$وخ $عقال وبالهال$$ك في
الفترة وبالهالك صغيرا ،فيقول الممسوخ عقال :يا رب لو آتيتني عقال ما كان م$$ا
آتيته عقال بأسعد بعقله مني ،ويقول الهالك في الفترة :لو أتاني منك عهد ما ك$$ان
من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ،ويقول الهال$$ك ص$$غيرا :ي$$ا رب ل$$و آتيت$$ني
عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني ،فيقول الرب سبحانه :إني آمركم$
ب$$أمر أفتطيع$$وني؟ $فيقول$$ون :نعم وعزت$$ك فيق$$ول :اذهب$$وا ف$$ادخلوا $الن$$ار ،ول$$و
دخلوها ما ضرهم ،فتخرج عليهم قوابس ( )2يظنون أنها ق$$د أهلكت م$$ا خل$$ق هللا
عز وجل من شيء ،فيأمرهم فيرجعون سراعا يقولون :خرجن$$ا ي$$ا رب وعزت$$ك
نريد دخولها ،فخرجت علينا قوابس $ظننا أنها ق$$د أهلكت م$$ا خل$$ق هللا ع$$ز وج$$ل
من شيء ،فيأمرهم $الثانية ،فيرجعون ك$ذلك فيقول$ون مث$ل ق$ولهم $فيق$ول هللا ع$ز
وجل س$$بحانه :قب$$ل أن تخلق$$وا علمت م$$ا أنتم ع$$املون وعلى علمي خلقتكم وإلى
علمي تصيرون ضميهم ،فتأخذهم النار)
ومنها قوله (:إذا كان يوم القيام$ة ج$اء أه$ل الجاهلي$ة يحمل$ون أوث$انهم$
على ظهورهم ،فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون :لم ترسل إلينا رس$$وال ولم يأتن$$ا
لك أمر ،ول$$و أرس$$لت إلين$$ا رس$$وال لكن$$ا أط$$وع عب$$ادك ،فيق$$ول ربهم :أرايتم إن
أم$$رتكم $ب$$أمر تطيعون$$ه؟ فيقول$$ون :نعم ،في$$أمرهم أن يع$$بروا جهنم في$$دخلونها
فينطلق$$ون ح$$تى إذا دن$$وا منه$$ا س$$معوا $له$$ا تغيظ$$ا وزف$$يرا ف$$يرجعون إلى ربهم
فيقولون :ربنا أخرجنا منها ،فيقول :ألم تزعموا أني إن أم$رتكم ب$أمر تطيع$وني،
فيأخذ $على ذلك من مواثيقهم فيقول :اعمدوا لها فينطلقون $حتى إذا رأوه $ا $فرق$$وا
فرجع$$وا فق$$الوا :ربن$$ا! فرقن$$ا منه$$ا وال نس$$تطيع $أن ن$$دخلها ،فيق$$ول :ادخلوه$$ا
داخرين) ،قال رسول هللا (:فلو دخلوها أول مرة ك$$انت عليهم ب$$ردا وس$$الما)
()3
وفي المدرس$$ة الش$$يعية ،ورد في ص$$حيحة هش$$ام عن أبي عب$$د هللا ،ق$$ال:
(ثالثة يحت َّج عليهم :األبكم ،والطفل ،ومن مات في الفترة ،ف$$ترفع $لهم ن$$ار فيق$$ال
لهم :ادخلوها ،فمن دخلها كانت عليه برداً وسالماً ،ومن أبى قال تبارك وتعالى:
ه$$ذا ق$$د أم$$رتكم فعص$$يتموني)( ،)4ومثل$$ه روي $في ص$$حيحة زرارة عن أبي
جعفر ،وغيرها من الروايات(.)5
)(1رواه النسائي والحاكم وابن مردويه.
)(2قوابس :القبس :الشعلة من النار .النهاية .4/4
)(3رواه البزار بإسنادين ضعيفين.
)(4الكافي.3/249
)(5انظر :بحار األنوار.5/290:
123
وهذه األح$$اديث ال تع$$ني أن الك$$ل سيس$قط في االمتح$$ان ،وإنم$ا تع$$ني أن
هناك ناسا سيسقطون فيه مثلما حصل في الدنيا.
وقد قبلنا هذه األحاديث بطرقها المختلفة ،بناء على اتفاق األم$$ة عليه$$ا من
جهة ،وعلى انسجامها $مع العدالة والرحمة اإللهية من جهة أخرى.
وقد ذهب كبار المح$$دثين من المدرس$$تين إلى ص$$حتها ،وق$$د رد ابن كث$$ير
على من شككوا فيها بقوله(:إن أحاديث هذا الب$$اب منه$$ا م$$ا ه$$و ص$$حيح كم$$ا ق$$د
نص على ذلك كثير من أئمة العلماء ،ومنها ما هو حسن ،ومنها ما ه$$و ض$$عيف
يتقوى بالصحيح والحسن ،وإذا ك$$انت أح$$اديث الب$$اب الواح$$د متص$$لة متعاض$$دة
على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها)()1
أما ابن القيم فقد أيدها بجملة وجوه ،ال بأس من إيراد بعضها هنا(:)2
.1منها أن هذه األحاديث كثرت بحيث يشد بعضها بعض$ا ،وقد ص$حح الحف$اظ
بعضها.
.2ومنها أن غاية ما يق$$در فيه أنه موق$$وف $على الص$$حابي ،ومثل ه$$ذا ال يق$$دم
عليه الصحابي بالرأي واالجتهاد $،بل يجزم بأن ذلك توقيف ال عن رأي.
.3ومنها أن هذه األحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها $،واختلفت
مخارجه$$ا ،فيبعد $كل البعد أن تك$$ون باطلة على رس$$ول هللا ،زي$$ادة على
أنه قد رواها أئمة اإلسالم ودونوها $ولم يطعنوا فيها.
.4ومنها أنه وإن أنكرها بعض المح$$دثين ،فقد قبلها األك$$ثرون ،وال$$ذين قبلوها$
أكثر من الذين أنكروها $وأعلم بالسنة والحديث.
ويضاف $إلى هذا التأييد الروائي ،ما يدل على توافقها مع العدالة والرحمة
اإللهية ،وم$$ا يجم$$ع على أساس$$ه ك$$ل النص$$وص الس$$ابقة ،وك$$ل األق$$وال المبني$$ة
عليها.
أما اتفاقها مع العدال$$ة ،فح$$تى ال يتأس$$ف العاق$ل على أن$ه لم يكن مجنون$$ا،
أويتأسف البالغ على انه لم يمت صبيا ،وه$$ذا م$$ا نط$$ق ب$$ه الق$$رآن الك$$ريم ودلت
عليه قواعد الشرع ،قال ابن القيم(:فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أن$$ه ال يع$$ذب
أحد إال بعد قيام $الحجة عليه ،وهؤالء لم تقم عليهم حجة هللا في ال$$دنيا ،فال ب$$د أن
يقيم حجته عليهم ،وأحق المواطن أن تقام فيه الحج$$ة ي$$وم يق$$وم األش$$هاد وتس$$مع
الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين ي$دي ال$رب وينط$ق ك$ل أح$د بحجت$ه
ومعذرته فال تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم)()3
أما اتفاقها مع الرحم$$ة ،ف$$إن هللا تع$$الى يكل$$ف ه$$ؤالء بع$$د مع$$اينتهم ألم$$ر
)(1تفسير ابن كثير.5/58 :
)(2أحكام أهل الذمة.2/1147 :
)(3أحكام أهل الذمة.2/1149 :
124
اآلخرة ،ويكون التكليف حينها مع شدته هينا.
أما اجتماع النصوص على أساسها ،فألن من هؤالء من يطيع هللا ،فيدخل
الجنة ،ومنهم من يعصيه ،فيدخل النار ،وب$$ذلك $كل$ه وردت النص$$وص ،ق$$ال ابن
كثير(:وهذا القول يجمع بين األدل$$ة كله$$ا .وق$$د ص$$رحت ب$$ه األح$$اديث المتقدم$$ة
المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض)()1
واالعتراض الثاني الذي قد يوجه لهذا الق$$ول ه$$و م$$ا س$$اد اعتق$$اده من أن
الدار اآلخرة دار الجزاء ال دار التكليف ،فكيف يكلف هؤالء بالعمل؟
ومع أن لهؤالء أحوالهم الخاصة التي ق$$د ال يش$$اركهم فيه$$ا غ$$يرهم إال أن
األدلة متظافرة على أن هذا االعتقاد السائد ليس على عمومه ،وق$$د ق$$ال تع$$الى﴿:
يَوْ َم يُ ْكشَفُ ع َْن َسا ٍ
ق َويُ ْدعَوْ نَ إِلَى ال ُّسجُو ِ$د فَال يَ ْست َِطيعُونَ ﴾ (القلم ،)42:وق$$د ثبت
في الحديث أن المؤمنين يسجدون هّلل ي$$وم القيام$$ة ،وأن المن$$افق ال يس$$تطيع ذل$$ك
ويعود $ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا ً واحداً ،كلما أراد السجود $خر لقفاه(.)2
وفي الحديث اآلخر في الرجل الذي يكون آخر أه$$ل الن$$ار خروج$ا ً منه$$ا،
أن هّللا يأخذ عهوده ومواثيقه أن ال يسأل غير ما ه$$و في$$ه ،ويتك$$رر ذل$$ك م$$راراً،
ويقول هّللا تعالى(:يا ابن آدم ما أغدرك!) ثم يأذن له في دخول الجنة(.)3
زيادة على ذلك م$$ا ثبت في النص$$وص الكث$$يرة من االمتحان$$ات واألس$$ئلة
التي يتعرض لها أهل القبور$.
ً
وق$$ال نق$$ل المجلس$$ي عن الص$$دوق $قول$$ه( :إن قوم $ا من أص$$حاب الكالم
ينكرون ذل$$ك ،ويقول$ون :إن$ه ال يج$وز أن يك$ون في دار الج$$زاء ،تكلي$ف .ودار
الجزاء للمؤمنين إنم$$ا هي الجن$$ة .ودار الج$$زاء للك$$افرين إنم$$ا هي الن$$ار .وإنم$$ا
يكون هذا التكليف من هللا عز وج$ل في غ$ير الجن$ة والن$ار ،فال يك$ون كلفهم في
دار الجزاء ،ثم يصيِّرهم إلى الدار ال$$تي يس$$تحقونها بط$$اعتهم أو معص$$يتهم ،فال
وجه إلنكار $ذلك)()4
أما االعتراض الث$الث ،فه$و تص$ور $اس$تحالة أن يكلفهم هّللا دخ$ول الن$ار،
ألن ذلك ليس في وسعهم؛ $فغير صحيح ألن ذلك في وسعهم $من جه$$ة ،وه$$و م$$ع
مشقته ال يختل$ف كث$يرا عن الكث$ير من التك$اليف ال$تي يطلب به$ا الف$وز بس$عادة
األبد:
ومنها أن هللا تعالى يأمر العباد يوم القيام$$ة ب$$الجواز على الص$$راط ،وه$$و
جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة ،ويمر المؤمنون عليه بحس$$ب
)(1تفسير ابن كثير.5/58 :
)(2رواه البخاري.
)(3الحديث طويل رواه البخاري ومسلم.
)(4بحار األنوار ،ج 5ص..290
125
أعمالهم كالبرق ،وكالريح ،وكأجاوي$$د الخي$$ل ،والرك$$اب ،ومنهم الس$$اعي ومنهم
الماشي ،ومنهم من يحبو حبواً ،ومنهم المكدوش على وجهه في النار ،وليس م$$ا
ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
ومنها ما ثبت في السنّة بأن الدجال يك$$ون مع$$ه جن$$ة ون$$ار ،وق$$د أم$$ر
المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون علي$$ه
برداً وسالما ً( ،)1وهذا يشبه إلى حد كبير هذا االمتحان الذي تعرض له هؤالء.
ومنها أن هللا تعالى أمر بني إسرئيل أن يقتلوا أنفسهم ،فقتل بعضهم بعضا ً
حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً ،يقت$$ل الرج$$ل أب$$اه وأخ$$اه وهم في
عماية غمامة أرسلها $هّللا عليهم ،وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ( ،)2وه$$و
ال يقل مشقة على النفوس مما تعرض له هؤالء.
ومنها أن الكثير من األوامر التي أمر هللا تعالى بها في الدنيا نظ$$ير $األم$$ر
بدخول النار (فإن األمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم $وتعريضهم
ألسرهم $لهم وتعذيبهم $واسترقاقهم لعله أعظم من األمر بدخول النار)()3
زيادة على ذلك كله ،فإن أن أمرهم بدخول الن$$ار ليس عقوب$$ة لهم ،وكي$$ف
يعاقبهم $على غير ذنب؟ (وإنما هو امتحان واختبار $لهم هل يطيعونه أو يعصونه
فل$$و أط$$اعوه ودخلوه $ا $لم تض$$رهم $وك$$انت عليهم ب$$ردا وس$$الما ،فلم$$ا عص$$وه
وامتنع$$وا $من دخوله$$ا اس$$توجبوا $عقوب$$ة مخالف$$ة أم$$ره ،والمل$$وك ق$$د تمتحن من
يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظ$$اهر،
هل يوطن نفسه عليه أم ال؟فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه ،وإن
امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه)()4
ومن ه$$ذا الب$$اب أم$$ر هللا تع$$الى الخلي$$ل ب$$ذبح ول$$ده ،ولم يكن م$$راده
تعالى من ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتس$$ليمه وتقديم$$ه محب$$ة هللا على
محبة الولد ،فلما فعل ذلك رفع عنه األمر بالذبح.
بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلق$$ون أنفس$$هم فيه$$ا طاع$$ة
للشيطان ،وال يقول$$ون :ليس ذل$$ك في وس$$عنا م$$ع ت$$ألمهم به$$ا غاي$$ة األلم( ،فعب$$اد
الرحمن إذا أمرهم أرحم ال$$راحمين بطاعت$$ه باقتح$$امهم الن$$ار كي$$ف ال يك$$ون في
وسعهم $وهو إنما يأمرهم $بذلك لمصلحتهم $ومنفعتهم)()5
)(1الحديث طويل ،وهو مروي في أكثر أصول السنة ،وبهذا اللفظ راه أبو داود وابن ماجه.
ال ُمو َسى لِقَوْ ِم ِه يَ$$ا قَ$$وْ ِم ِإنَّ ُك ْم ظَلَ ْمتُ ْم أَ ْنفُ َسُ $ك ْم ِباتِّخَ $ا ِذ ُك ُم ْال ِعجَْ $ل فَتُوبُ$$وا ِإلَى بَِ $
$ارئِ ُك ْم )(2كما قال تعالىَ ﴿:وإِ ْذ قَ َ
َّحي ُم ﴾ (البقرة)54: ِ ر ال َّابُ وَّ تال ُو
َ ه ُ هَّ نِ إ م
ْ ُ
ك ْ
ي َ لعَ َاب
َ تَ ف م
ْ ُ
ك فَا ْقتُلُوا أَ ْنفُ َس ُك ْم َذ ِل ُك ْم خَ ْي ٌر لَ ُك ْم ِع ْن َد بَ ِ ِ
ئ ار
)(3أحكام أهل الذمة.2/1154:
)(4أحكام أهل الذمة.2/1152:
)(5أحكام أهل الذمة.2/1155:
126
بل إن اقتح$امهم الن$ار المفض$ية بهم إلى النج$اة ال تختل$ف عن الكي ال$ذي
يحسم الداء ،أو هي بمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية.
فليس أم$$رهم ب$$دخول الن$$ار من ب$$اب العقوب$$ة في ش$$يء ،ألن (هللا تع$$الى
اقتض$$ت حكمت$$ه وحم$$ده وغن$$اه ورحمت$$ه أال يع$$ذب من ال ذنب ل$$ه ،ب$$ل يتع$$الى
ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عم$$ا ين$$اقض ص$$فات كمال$$ه ،ف$$األمر $باقتح$$ام $الن$$ار
للخالص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة ،ح$تى ل$و أنهم ب$ادروا إليه$ا
طوعا واختيارا $ورض$$ي حيث علم$$وا أن مرض$$اته في ذل$$ك قب$$ل أن ي$$أمرهم ب$$ه
لكان ذلك عين صالحهم وسبب نجاتهم ،فلم يفعل$$وا ذل$$ك ولم يمتثل$$وا أم$$ره ،وق$د$
تيقن$$وا وعلم$$وا أن في$$ه رض$$اه وص$$الحهم $،ب$$ل ه$$ان عليهم أم$$ره وع$$زت عليهم
أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا ال عقوبة)()1
ازينَ $و َِض$ُ $ع ْال َمَ $ وبهذه الوجوه جميعا يمكننا أن نفهم جيدا قول$$ه تع$$الىَ ﴿:ون َ
َ
$ال َحبَّ ٍة ِم ْن خَ$$رْ َد ٍل أتَ ْينَ$$ا بِهَ$$ا ْالقِ ْسطَ لِيَوْ ِم ْالقِيَا َم ِة فَال تُ ْ
ظلَ ُم نَ ْفسٌ َشيْئا ً َوإِ ْن َك$$انَ ِم ْثقََ $
َو َكفَى بِنَا َحا ِسبِينَ ﴾ (االنبياء)47:
$روْ ا ً ْ َ َّ
صُ $د ُر الناسُ أش$تَاتا لِيَُ $ وقوله عند ذكر دقة الموازين اإللهية ﴿:يَوْ َمئٍِ $ذ يَ ْ
$$رهُ ً
ال ذ َّر ٍة َش ّرا يَ َ َ أَ ْع َمالَهُ ْم ( )6فَ َم ْن يَ ْع َملْ ِم ْثقَا َل َذ َّر ٍة َخ ْيرًا يَ َرهُ (َ )7و َم ْن يَ ْع َملْ ِمثقَ َ
ْ
(( ﴾)8الزلزلة)
وال نملك بعد كل هذا إال أن نكل األم$ر هلل من قب$$ل ومن بع$$د ،فه$$و الع$دل
$وب َعلَ ْي ِه ْم$ر َش ْ $ي ٌء أَوْ يَتَُ $ ك ِمنَ اأْل َ ْمِ $ ْس لَ َ
الرحيم ،وقد قال مخاطبا رسوله ﴿:لَي َ
أَوْ يُ َع ِّذبَهُ ْم فَإِنَّهُ ْم ظَالِ ُمونَ ﴾ (آل عمران)128:
127
القسم الرابع
128
تمجيد المالحدة وأثره في نشر اإللحاد
يتصور $البعض أننا نبالغ عندما نتحدث عن هوكينغ أو غيره من المالحدة
ال$ذين لم يكتف$وا بإلح$ادهم ،وإنم$ا راح$وا يس$اهمون في نش$ره ،وبث المغالط$ات
العلمية لطرحه ،فهم يتصورون أن تمجيد هؤالء بسبب مواقف وقفوها ،أو علوم
نشروها $،أو خدمات قدموها ،لن يتسبب في نشر أفكارهم الخط$$يرة ..وه$$ذا غ$$ير
صحيح ،والواقع $ال يدل عليه.
ومن األمثلة القريبة على ذلك أن طروح$$ات الفيلس$$وف $الكب$$ير المع$$روف
[الل$$ورد برتران $د $راس$$ل] لم تكن لتنش$$ر ،وت$$ؤدي $دوره$$ا في نش$$ر اإللح$$اد بين
الطبقات العامة والمثقفة لوال مساهمة الكثير من البله$$اء الطي$$بين في الدعاي$$ة ل$$ه
بسبب بعض مواقفه اإلنسانية ،مثل رفضه التجني$$د في الح$$رب العالمي$$ة األولى،
ومثل تحريضه المواط$$نين اإلنجل$$يز على العص$$يان ،وق$$د تحم$$ل الس$$جن نتيج$$ة
لذلك ،إضافة إلى تأليفه قراب$$ة س$$بعين كتاب$ا ً في الفلس$$فة والرياض$$يات $والسياس$$ة
واألخالق $واالجتماعيات ،إضافة لتكريمه بجائزة نوبل في األدب..
فقد كان لكل تلك الصفات والمواقف $والتكريمات $أثره$$ا الكب$$ير على ذل$$ك
الجيل ،وعلى األجيال األخرى إلى عصرنا الحاضر$.
ومثله تلك الدعايات المجانية ال$$تي ق$$ام به$$ا الكث$$ير نح$$و داعي$$ة الوجودي$$ة
واإللحاد $األكبر جان بول سارتر ( )1980- 1905الفيلسوف $والروائي $والكاتب
المسرحي ،بحجة مدافعت$$ه عن الث$$ورة الجزائري$$ة في الكث$$ير من كتابات$$ه ،ونق$$ده
السياس$$ة االس$$تعمارية الفرنس$$ية ب$$الجزائر $في العدي$$د من مقاالت$$ه ومس$$رحياته،
وبخاصة في The Condemned of Altonaوالتي ع$$بر فيه$$ا عن الس$$خط األخالقي
ض$$$د اض$$$طهاد $الس$$$كان المس$$$لمين ،وتع$$$ذيب األس$$$رى منهم على ي$$$د الجيش
الفرنس$$ي ،وعن رفض$$ه للفظ$$ائع ال$$تي ارتكبه$$ا الن$$ازيون في الجبه$$ة الش$$رقية..
باإلضافة إلى العديد من المقابالت المهمة مع قادة ومناض$$لين سياس$$يين ب$$ارزين
مثل :جيفارا ،وجمال عبد الناصر ..باإلضافة إلى رفضه تسلم جائزة نوب$$ل ع$$ام
،1964وتعليله سبب رفضه الج$$ائزة ق$$ائالً( :ه$$ؤالء ال$$ذين يق$$دمون التش$$ريفات
سواء كانت وسام $شرف أو جائزة نوبل ال يملكون في الحقيقة تقديمها) ،ووصفه
الج$$ائزة بأنه$$ا (سياس$$ية ،مثله$$ا مث$$ل ج$$ائزة لي$$نين -ج$$ائزة عالمي$$ة اس$$تحدثها$
السوفيت $لتكريم المفكرين -ولو عرضت علي جائزة لينين أيضا سأرفضها)
لكنهم لم يعلموا أن تلك الدعاية المجانية لم تكن لتلك المواقف فق$$ط ،وإنم$$ا
ك$انت أيض$ا لتل$ك األفك$ار الوجودي$ة الخط$يرة ال$تي رك$زت عليه$ا ك$ل كتابات$ه
ومواقفه ،والتي عبر عنها بقوله( :إن وجود $هللا يعطل وجودي $أن$ا ،فاألفض$ل $أن
129
ال يكون هللا موجودًا حتى أُوجد أنا) ،وقوله عن الذين يعتقدون بوج$$ود $هللا( :إنهم
المؤمنون الجبناء القذرون)
ودعواته المختلفة إلى إجابة كل ما تمليه الشهوات على اإلنسان ..ونبذ كل
التقاليد والتعاليم االجتماعية ..وما تواطأ عليه البشر من أخالق..
ومن عباراته المشهورة ال$$تي ال ت$$زال تت$$داول قول$$ه( :اركب رأس$$ك أيه$$ا
اإلنس$$ان إلى حيث تش$$اء س$$اعة تش$$اء ،وكم$$ا تش$$اء ..ألن الض$$مير واألخالق$
والتقاليد ليست سوى ستار صفيق يحجب عنك حقيقة وجودك)
وقوله( :انطلق :أيها األحمق الغبي في عمل م$ا تري$د أو تش$تهي وته$وى،
مهما كان ذلك في اعتبار الناس شرًا ،دون أن يكون ألح$$د علي$$ك س$$لطان ،ف$$أنت
الذي تصنع فكرة الخير بحسب مزاج$$ك ،وأنت ال$$ذي تص$$نع فك$$رة الش$$ر ،وأنت
الذي تخلق فكرة الح$$ق وفك$$رة الباط$ل ،وأنت ال$$ذي تخل$$ق فك$رة الحس$ن وفك$$رة
القبيح)()1
ه$$ذان مج$$رد نم$$وذجين ..والنم$$اذج على ذل$$ك أك$$ثر من أن تحص$$ى..
فتحضير القيادات االجتماعية أول خطوة يبدؤها $من يريد أن ينشر أي فك$$رة ،أو
يدعو إلى أي ضاللة.
ولهذا ..فإن العاقل هو الذي يدرس جي$$دا ك$$ل موق$ف $يري$$د أن يقف$$ه ،وك$$ل
شخص يريد أن يشهد له ،أو يدعو إليه ..وال تكفي في ذلك مواقفه السياس$ية ،وال
خدماته االجتماعية ..فالقضية أخطر من ذلك.
لكن لألس$$$ف بعض الن$$$اس ينظ$$$رون إلى األم$$$ور $من زاوي$$$ة واح$$$دة،
ويتصورون أن أعداء هذه األمة يشتغلون في جهة واحدة ..وه$$ذا خط$$أ منهجي..
فهم يشتغلون في كل الجهات ،وعلى كل الصعد.
ولهذا لم نكن نناقش ما يقول ،وإنما نسعى بكل جهدنا أن نفهم ما يق$$ول ،ثم
نعتقد رغما عنا ،وإال اعتبرنا من حولنا من زم$$رة المتخلفين الرجع$$يين ال$$ذين لم
يرتقوا في سلم التطور اإلنساني $إلى مداه األعلى.
130
اإلمام الحسين ..وتشي غيفارا
لس$$ت أدري الس$$بب ال$$ذي يجعل$$ني أش$$عر بكث$$ير من األس$$ف والح$$زن
واالش$$مئزار عن$$د رؤي$$تي لص$$ور [تش$$ي غيف$$ارا] ،وهي معلق$$ة على الص$$دور
والجدران ووسائل $النقل وفي كل محل ..وعندما أستمع إلى تل$$ك الحن$$اجر ،وهي
تتحدث عنه بكل احترام وتعظيم وتقديس.
وه$$ذا ليس لك$$وني من المع$$ادين له$$ذه الشخص$$ية ،فأن$$ا ال أع$$رف عنه$$ا
الكثير ،ال أعرف إال أنه شخصية ثورية كان لها دورها $في خدمة بلدها وشعبها،
وأنها أصبحت بسبب ذلك أيقونة ورمزا للثورة..وهذا $ما آلمني..
فقد كان يمكنني أن أقبل تحول [تشي غيفارا] إلى رمز للث$$ورة في أي بل$$د
من بالد الع$$الم ،وبين أي ش$$عب من ش$$عوبها $..وك$$ان يمكن أن أقب$$ل ب$$أن تعل$$ق
صوره ويقدس في كل تل$$ك البالد إال بالدن$$ا اإلس$$المية ..ألنن$$ا بتعليقن$$ا لص$$وره،
وتمجي$$دنا $ل$$ه ،واعتبارن$$ا إي$$اه رم$$زا كب$$يرا ،نلغي الكث$$ير من الص$$ور $والرم$$وز
واألبطال $..ألن للنفس اإلنسانية مساحة محدودة في تقب$$ل األبط$$ال ..فال تس$$تطيع
أن تجمع بين الكثير منهم ..بل إنها كلما تأثرت ببطل راحت تمحو غيره.
والمش$$كلة األك$$بر أنه$$ا عن$$دما تت$$أثر ببط$$ل من األبط$$ال ،ال تت$$أثر ب$$ه في
الناحية التي برزت فيها بطولته فقط ،بل تتأثر بنواحيه األخرى ،والتي قد تك$$ون
انحرافا $أو ضاللة أو فسادا ..بل إنها قد تضيف $إلى تأثرها كل شيء حتى طريقة
تصفيف البطل لشعره ،وطريقة مشيته وحديثه وكل شيء يرتبط به.
وهذا ما جعل من الح$$املين لمش$$عل الث$$ورة في بالدن$$ا اإلس$$المية ،ولف$$ترة
طويلة ،من أكثر الناس بعدا عن الدين ،ب$ل ك$ان منهم من يعتق$د أن ال$دين أفي$ون
الشعوب ..لسبب بسيط ،وهو أنه تأثر بأولئك الثوار الشيوعيين أو غيرهم ،فراح
ال يكتفي بتقلي$$دهم في ث$$ورتهم فق$$ط ،وإنم$$ا يض$$يف إليه$$ا تقلي$$دهم في إلح$$ادهم
وكفرهم بكل القيم الدينية.
ولو كنا نعدم أبطاال وثوارا $لك$$ان في ذل$$ك الع$$ذر لك$$ل أولئ$$ك المت$$أثرين..
لكن المش$$كلة هي أن لن$$ا من الث$$وار واألبط$$ال $م$$ا يق$$ف ك$$ل ث$$وار ال$$دنيا أم$$امهم
موقف $التلميذ من أستاذه ،بل موقف الس$$فح من الجب$$ل ،والف$$أر من األس$$د ..ف$$أين
أبطالنا العظام ،وأين أولئك األقزام؟$
لكن تجاهلن$$ا لهم ،وتكبرن$$ا عليهم ،وانش$$غالنا $بم$$ذاهبنا وطوائفن $ا $ص$$رفنا
عنهم ،ليهيئ األرضية ألولئ$$ك ال$$ذين وإن قبلن$$ا ث$$وريتهم ،فلن نقب$$ل أخالقهم وال
دينهم وال سلوكهم$.
ومن أقوى األمثلة على ذلك ..والذي تمنيت لو عل$ق اس$مه في ك$ل مح$ل،
131
ووضع $على كل راية ،وثبت في كل صدر ..وأنش$$دت ل$$ه األناش$$يد $..ومثلت في$$ه
األفالم ..وس$$ميت باس$$مه الس$$احات ..إمامن$$ا العظيم ،زعيم ك$$ل ث$$وار ال$$دنيا،
وأستاذهم األكبر [اإلمام الحسين] الذي هو مدرسة في الثورة ،ومدرس$$ة في ك$$ل
القيم الرفيعة..
فالتعلق به وحده كاف ألن يحق$$ق ك$$ل األغ$$راض ..أغ$$راض الث$$ورة على
الظلم ..وأغراض الثورة على النفس ..وأغراض الترقي إلى المأل األعلى..
ف$$الثوري $ال$$ذي ينطل$$ق $من اإلم$$ام الحس$$ين يختل$$ف اختالف$$ا ج$$ذريا $عن
الثوري $الذي ينطلق من [تشي غيفارا] ..ف$$األول ينطل$$ق باس$$م الح$$ق ..وبوس$$ائل$
الحق ..لتحقيق الحق ..كما ع$بر اإلم$$ام الحس$$ين عن ذل$$ك بقول$$ه( :إني لم أخ$$رج
أشراً ،وال بطراً وال مفسداً ،وال ظالم$اً ،وإنم$ا خ$رجت لطلب االص$الح في أم$ة
جدي ،أريد أن آم$$ر ب$$المعروف $وأنهي عن المنك$$ر فمن قبل$$ني بقب$$ول الح$$ق فاهلل
أولى بالحق ،ومن رد علي هذا أصبر حتى يقض$ي هللا بي$ني وبين الق$وم ب$الحق،
وهو خير الحاكمين)
وأما الثاني ،فيخلط الح$$ق بالباط$$ل ..ويص$$عب التفري$$ق بينهم$$ا ..وه$$ذا م$$ا
حصل لثوراتنا التي اختلط فيها الحق والباطل ،والحرية واالستبداد ،فلم نل منه$$ا
شيئا ..ألن وجهتها لم تكن صحيحة ،وأبطالها لم يكونوا حقيقيين.
ف$$إن ش$$ئنا أن نب$$دأ ث$$ورة حيقيقي$$ة على أنفس$$نا األم$$ارة بالس$$وء األول..
فلن$$ذهب ..ولنتتلم$$ذ على اإلم$$ام الحس$$ين ..فه$$و الحقي$$ق ب$$أن تمتلئ بحب$$ه قلوبن$ا$
ومشاعرنا $وعواطفنا ..وكيف ال نفعل ذلك ،وقد $ق$$ال رس$$ول هللا في الح$$ديث
الصحيح الذي اتفقت عليه األمة جميعا(:حسين مني وأنا من$$ه ،أحب هللا من أحب
حسينا)( ،)1وقال فيه ،وهو يشير إليه( :من أحب هذا فقد أحبني)()2
لكن الطائفي$$ة المقيت$$ة جعلتن$$ا نق$$دم [تش$$ي غيف$$ارا] وغ$$يره على اإلم$$ام
الحسين ..ولهذا ال يعتب أحد على من يعلق صوره ،أو يصيح بحبه ،أو ينشد فيه
األشعار $..لكن الدنيا تقام لو فعل ذلك أحد من الناس م$$ع اإلم$$ام الحس$$ين ..وله$$ذا
كله أتأسف ..وأدعوكم أن تتأسفوا معي.
132
فليكن لكم في المسيح أسوة
من المشاهد العظيمة ال$$واردة في الق$$رآن الك$$ريم ،وال$$تي يمكن أن نس$$تفيد
منها ـ بشرط التدبر والتأمل المتجرد من كل ذاتية ـ الموقف $الذي أخبر هللا تعالى
فيه عن حديث المسيح عليه السالم مع هللا تعالى في شأن ال$$ذين اتخ$$ذوه إله$$ا من
دون هللا ،أو مع هللا.
وتظهر قيمة ذلك المشهد عند مقارنت$$ه بتل$$ك المش$$اهد الم$$زورة ال$$تي راح
يرس$$مها بعض$$هم لس$$ؤال هللا لعب$$اده في اآلخ$$رة ،وال$$تي يت$$ألون فيه$$ا على هللا،
ويسيئون األدب معه ،ويطالبونه بلهج$$ة حازم$ة ش$$ديدة ب$$أن يطب$ق $م$ا ذك$$ره من
رحمته التي وسعت كل ش$$يء ..وك$$أن هللا تع$$الى م$$ؤتمر ب$$أوامرهم $،وليس$$وا هم
المؤتمرين بأوامره..
في ذلك المشهد يظهر المسيح عليه السالم بمثل صورته التي عرفن$$اه به$$ا
في الدنيا ..صورة العبد المتواضع $الع$$ارف الرقي$$ق الممتلئ بك$$ل أل$$وان األدب..
والذي يعرف $قدره ،فال يجاوزه ،ويعرف $قدر ربه ،فيحفظه ،ويوقره ،ويقدسه.
عن$$دما س$$أله هللا عن أولئ$$ك ال$$ذين عب$$دوه من دون هللا ..تنص$$ل بك$$ل أدب
منهم ،بل تبرأ إلى هللا من فعلهم ..ثم بين أن ش$$هادته عليهم ك$$انت في ال$$دنيا ،أم$$ا
بعد توفيه ،فقد خرج األمر من يده ،وبقي بيد هللا.
وبعد أن بين عذره ،راح ينطق بهذه الحكمة العرفانية التي تحت$$اج من$$ا أن
نتأملها ،لنتأدب مع هللا ،ونترك $له الدينونة المطلقة ،وال نجاوز $حدودنا وم$$ا أتيح
ت فِي ِه ْم فَلَ َّما ت َعلَ ْي ِه ْم َشِ $هيدًا َم$$ا ُد ْم ُ ـ﴿:و ُك ْن َُ لنا ..لقد قال ـ كما ذكر الق$$رآن الك$$ريم
يب َعلَ ْي ِه ْم َوأَ ْنتَ َعلَى ُك$$لِّ َش ْ $ي ٍء َش ِ $هي ٌد ( )117إِ ْن تُ َعِّ $ذ ْبهُْ$م ت ََوفَّ ْيتَنِي ُك ْنتَ أَ ْنتَ ال َّرقِ َ
فَإِنَّهُْ$م ِعبَا ُدكَ َوإِ ْن تَ ْغفِرْ لَهُ ْم فَإِنَّكَ أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [المائدة]118 ،117 :
هك$ذا بك$ل أدب خ$اطب رب$ه س$بحانه وتع$الى ،فق$د ت$رك األم$ر إلي$ه ،فلم
يقترح عليه شيئا ..بل قال بكل أدب﴿ :إِ ْن تُ َع ِّذ ْبهُ ْم فَإِنَّهُ ْم ِعبَا ُدكَ َوإِ ْن تَ ْغفِ$$رْ لَهُ ْم فَإِنَّكَ
أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ [المائدة]118 :
حتى أنه عند ذكر المغفرة لم يقل( :فإنك أنت الغفور الرحيم) ..وإنما ق$$ال:
ك أَ ْنتَ ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم﴾ ،أي (إن تعذب ـ يا إلهى ـ قومي ،فإنك تع$$ذب عب$$ادك ﴿فَإِنَّ َ
ال$$ذين خلقتهم بق$$درتك ،وال$$ذين تملكهم ملك$$ا تام$$ا ،وال اع$$تراض على المال$$ك
المطلق فيما يفعل بمملوكه .وإن تغفر لهم ،وتس$$تر $س$$يئاتهم $وتص$$فح عنهم ف$$ذلك
إليك وحدك ،ألن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح الق$$وى الق$$اهر الغ$$الب
ال$$ذي ال يعج$$زه ش$$يء .وال$$ذي يض$$ع األم$$ور في مواض$$عها بمقتض$$ى حكمت$$ه
133
السامية)()1
هكذا خاطب هللا تعالى بكل أدب ورقة وتواضع $وعبودية ،ول$$و أن ه$$ؤالء
المتألين على هللا تُرك لهم الخطاب ،وقد فعلوا من حيث ال يشعرون ،لق$$الوا( :ي$$ا
رب ارحمهم ..فقد كانوا جهلة ..وكانوا يحبونني كثيرا ..وقد رأوا من المعجزات
التي حصلت على يدي ما جعلهم ينبهرون ،ويتصورون أني إله ..فلذلك اعذرهم
يا رب العالمين ،فأنت أرحم الراحمين ..ورحمتك وسعت كل شيء)
أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه العرفان ـ( :يا رب ه$$ؤالء
لم يشركوا $..وإنما رأوا تجلي صفات كرمك في فراحوا يعبدونني $..فلذلك لم يكن
يعبدونني أنا ،بل كانوا يعبدونك $أنت)
أو يقولون له ـ كما يقول بعض من يزعم لنفسه التنوير $ـ( :ي$$ا رب ه$$ؤالء
طيب$$ون ج$$دا ،وق$$د مألوا حي$$اة البش$$رية بالخ$$دمات الجليل$$ة ..فهم ال$$ذين اكتش$$فوا
الكهرب$$اء والغ$$از ..وهم ال$$ذين وف$$روا للبش$$رية ال$$تي خلقته$$ا ك$$ل وس$$ائل الرف$$اه
والراحة ..فل$$ذلك اع$$ف عنهم ..ب$$ل ارحمهم ..ب$$ل أدخلهم الجن$$ة ..ب$$ل ض$$عهم في
جواري $في الفردوس األعلى)
أو يقول$$ون ل$$ه ـ كم$$ا يق$$ول ش$$حرور $،وبعض من يزعم$$ون لنفس$$هم أنهم
قرآنيون ـ( :يا رب المسألة بسيطة جدا ..فاإليمان مجرد قض$$ايا $فرعي$$ة جزئي$$ة..
وأن$$ا ك$$ان همي في رس$$التي $إليهم ه$$و نش$$ر قيم الس$$ماحة واالعت$$دال والبع$$د عن
التطرف $..وقد طبقوا الكثير من ذلك ..فارحمهم)
أو يقولون له ـ كما يقول ذلك الخطيب األلمعي الذي يري$$د أن يحاف$ظ $على
جمال صورة هللا في الغرب ـ( :ي$$ا رب ارحمهم ..وارحم $ح$$تى المالح$$دة ..فإن$$ك
إن فعلت ذلك سيحبونك ..وسيقدس$$ونك ..فم$$ا الفائ$$دة في أن تلقي بهم في جهنم أو
تعذبهم؟ ..أليس من األفضل ل$$ك أن ت$$دخلهم جنت$$ك ..فهي ال تكلف$$ك ش$$يئا ..وأنت
أرحم الراحمين)
هذه نماذج افتراضية عن سوء أدبنا م$$ع هللا ..ونحن نس$$معها $ك$$ل حين من
هؤالء الذين ال يملكون ذرة أدب مع ربهم ..ولو عقلوا ،وعادوا إلى كت$$اب ربهم،
وتعلم$$$وا $من األنبي$$$اء عليهم الص$$$الة والس$$$الم $األدب والتواض$$$ع $وتوق$$$ير $هللا
وتعظيمه ..لكفوا عن كل ذلك.
134
المالحدة ..والخنازير البرية
عاتبني بعض القراء الكرام على تش$$بيهي لهوكين$$غ وبعض المالح$$دة ممن
صنفتهم ضمن [المالحدة الطب$$ائعيين] في كت$$ابي [م$$ا قال$$ه المالح$$دة ولم يس$$جله
التاريخ] بالخنازير البرية ،ورأى أن ذلك نوع من السباب والشتائم ال$$تي ال تلي$$ق
بمثلي ،وال ب$$أي م$$ؤمن ،م$$ع أني ذك$$رت في مقدم$$ة الكت$$اب أن$$ه رواي$$ة رمزي$$ة
تحاول أن تصور الحقائق بلغة علمية ورمزية في نفس الوقت.
وقد عبرت عن سر اختياري للخنازير $البرية لهؤالء الط$$ائعيين المالح$$دة
على لس$$ان [ديم$$وقريطس] اليون$$اني ..الفيلس$$وف ،ص$$احب [الم$$ذهب ال$$ذري]..
بقوله( :ه$ذا م$ا كنت أعتق$$ده ،وم$ا كنت أمليت$$ه ..وم$ا حول$$ني إلى ه$$ذه الص$ورة
الخنزيرية وطباعها القذرة ..فأنا في حياتي لم أمارس سوى ما تمارسه الخنازير$
من الفت$$ك ب$$المزارع ،وإفس$$اد $الحق$$ول ،وتخ$$ريب العق$$ول ..لق$$د أعط$$اني هللا من
الفرص ،وأرسل لي من الحجج ،ما ك$$ان يمكن أن يحاف$$ظ على إنس$انيتي $..لك$ني
ص$$رفت نظ$$ري عن ذل$$ك كل$$ه ،ورحت إلى ثي$$اب الخن$$ازير $أتقمص$$ها ..وإلى
وظائفها $أؤديها)
وهكذا وضعت رموزا مختلفة لكل ص$$نف من أص$$ناف المالح$$دة ،مقت$$ديا
في ذلك بما ورد في القرآن الكريم من تشبيهات ورم$$وز ،كقول$$ه تع$$الى في ذل$$ك
$لالذي أوتي العلم لكن$$ه لم يعم$$ل ب$$ه ،وخالف$$ه ،وأخل$$د إلى األرض ﴿ :فَ َمثَلُ$هُ َك َمثَِ $
ث َذلِ$$كَ َمثَُ $ل ْالقَ$$وْ ِم الَّ ِذينَ َكَّ $ذبُوا بِآيَاتِنَ$$ا ث أَوْ تَ ْت ُر ْك $هُ يَ ْلهَ ْ
ب إِ ْن تَحْ ِملْ َعلَ ْيِ $ه يَ ْلهَ ْ ْال َك ْل ِ
ص لَ َعلَّهُ ْم يَتَفَ َّكرُونَ ﴾ [األعراف]176 : ص َ ُص ْالقَ َ
فَا ْقص ِ$
وقوله في الذين يحملون الكتب ويحفظونها ،وال يعمل$$ون بم$$ا فيه$$اَ ﴿ :مثَ ُ $ل
س َمثَُ $ل ْالقَ$وْ ِم $ار يَحْ ِمُ $ل أَ ْس$فَارًا بِ ْئ َ $ل ْال ِح َم ِالَّ ِذينَ ُح ِّملُوا التَّوْ َراةَ ثُ َّم لَ ْم يَحْ ِملُوهَا َك َمثَ ِ
ت هَّللا ِ َوهَّللا ُ اَل يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم الظَّالِ ِمينَ ﴾ [الجمعة]5 : الَّ ِذينَ َك َّذبُوا بِآيَا ِ
وقوله في غيرهم من الذين ال يسمعون وال يبصرون الحق$$ائق الواض$$حة:
$$ام بَ$$لْ هُ ْم أَ َ
ض$$لُّ ﴿أَ ْم تَحْ َس$$بُ أَ َّن أَ ْكثََ $$رهُ ْم يَ ْسَ $$معُونَ أَوْ يَ ْعقِلُ$$ونَ إِ ْن هُ ْم إِاَّل َكاأْل َ ْن َع ِ
َسبِياًل ﴾ [الفرقان ،]44 :فقد اعتبرهم أضل من األنعام.
ولذلك فإن ذلك التشبيه الرمزي المتناسب مع واقع علماء المالح$$دة ال$$ذين
أبص$$روا التص$$ميم العظيم للك$$ون ،وم$$ع ذل$$ك غض$$وا أبص$$ارهم $عن$$ه ،وراح$$وا
يشوهون الحقائق ،ويصرفون الناس عنها ،هو [الخ$$نزير ال$$بري] لكون$$ه ال يهتم
بأن يأكل ما يحتاج إلي$$ه من ثم$$ار ،وإنم$$ا يخ$$رب الحق$$ول والم$$زارع ..فال ينتف$$ع
هو ،وال ينتفع غيره ،كما ق$ال ق$ال تع$الىَ ﴿ :وهُ ْم يَ ْنهَ$وْ نَ َع ْن$هُ َويَ ْن$أَوْ َ$ن َع ْن$هُ َوإِ ْن
يُ ْهلِ ُكونَ إِاَّل أَ ْنفُ َسهُ ْم َو َما يَ ْش ُعرُونَ ﴾ [األنعام ..]26 :كما يفعل المالحدة تماما.
135
لكن الفرق كبير بينهما ،فالخنزير $حي$$وان غ$$ير مكل$$ف ،وال يحاس$$ب على
تصرفاته ،بل هو يفعل ما تملي$$ه علي$$ه طبيعت$$ه ال$$تي خل$$ق عليه$$ا ،ول$$ذلك ال ل$$وم
عليه ..وفوق $ذلك؛ فإن هذا الخنزير عارف بربه مؤمن له مسبح بحمده ،كما قال
﴿وإِ ْن ِم ْن َشْ $ي ٍء إِاَّل ي َُس$بِّ ُح بِ َح ْمِ $د ِه َولَ ِك ْن اَل تَ ْفقَهُ$$ونَ ت َْس$بِ َ
يحهُ ْم﴾ [اإلس$$راء: تع$$الىَ :
]44
وقد روي عن اإلمام زين العابدين أنه كان يق$$ول( :م$$ا بهمت البه$$ائم عن$$ه
فلم تبهم عن أربع$$$ة :معرفته$$$ا ب$$$الرب تب$$$ارك وتع$$$الى ،ومعرفته$$$ا $ب$$$الموت،
ومعرفته $ا $ب$$األنثى من ال$$ذكر ،ومعرفته$$ا ب$$المرعى الخص$$ب)( ،)1ب$$ل ورد في
الحديث الشريف النهي عن اتخاذ الدواب منابر ،وعلل رسول هللا ذلك بقوله:
(فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا هلل تعالى من راكبها)()2
لذلك ،فإنه إن جاز لي أن أعتذر عن ذلك التش$$بيه ،ف$$إني $أعت$$ذر للخن$$ازير$
البرية العارفة بربها ،والتي لم تم$$ارس إال م$$ا تملي$$ه عليه$$ا طبائعه$ا $ال$$تي خلقت
عليها.
وهي ف$$وق $ذل$$ك ال ذنب له$$ا ،ولم تتس$$بب في كف$$ر أح$$د من الن$$اس ،وال
إلح$اده ،وال ن$زع ن$ور $اإليم$ان عن$ه ،ولم يكن ل$ديها من الق$وى العقلي$ة م$ا ك$ان
ألولئك المالحدة الذين غضوا أبصارهم $عن الحقائق ،وراح$$وا يعبث$$ون به$$ا بك$$ل
استعالء وكبرياء.
136
ما خطورة طروحات هوكينغ اإللحادية؟
م$$ع اهتم$$امي الش$$ديد بطروح$$ات $المالح$$دة ع$$بر الت$$اريخ ،وخصوص$$ا
المختص$$ين منهم في عل$$وم الم$$ادة ،لم أج$$د أطروح$$ة أك$$ثر ج$$رأة ودجال وتعنت$ا$
وكبرا $من الطروحات $التي تبناها أو أخرجها هوكينغ ..ولعل ذلك كان السبب في
الشهرة الكبيرة التي نالها ..وس$$أحاول $إثب$ات ذل$$ك اآلن ..وأرج$$و من التن$ويريين
الجدد أن يصبروا ،ويتأكدوا $قبل أن يحكموا ،فلعل ذل$$ك يخف$$ف عنهم ذل$$ك الغل$$و
في تقديس شخص لم ينل شهرته إال بسبب مقوالته الخادمة لإللحاد.
س ،ذل ك ولبي$$ان ذل$$ك أذك$$ر أن المق$$والت اإللحادي$$ة من$$ذ عه د دميوقريطَ ْ
ذري إلى الوقت ال$ذي اكتش$$ف في$ه
الفيلس وف اليون اين املادي ص احب املذهب ال ّ
االنبثاق $الكوني ـ إم$$ا بس$$بب نظري$$ة االنفج$$ار العظيم ،أو بس$$بب الق$$انون الث$$اني
للديناميكا $الحرارية ـ ومالحدة الفيزيائيين يستندون للحالة الثابث$ة للك$$ون ،وكون$ه
قديما $ال يحتاج إلى موجد يوجده من عدم.
ولذلك كان المؤمن$$ون منهم يش$$عرون بح$$رج عظيم ،وهم يناقش$$ون حاج$$ة
الكون إلى خالق ،خاصة مع قول أكثر الفالسفة بقدم العالم..
ولهذا نجد صدمة كبيرة أص$$ابت الكث$$ير من الفيزي$$ائيين بع$$د ورود األدل$$ة
الكثيرة على نظرية االنفجار العظيم..
ومن ذل$$ك موق$$ف بعض$$هم( ،)1وه$$و ع$$الم الكوس$$مولوجيا $والرياض$$يات
البريطاني المادي (أرثر إدنجتن) (ت1944م) الذي اهت ّز لهذا الكشف ،وذكر ّ
أن
أن البداية تق ّدم ص$$عوبات $ال تُقهرأصل الكون هو (فسلفيًا أمر بغيض ..وأنّه يبدو ّ
إاّل إذا اتفقنا أن ننظر إليها بصراحة تامة كأمر فوق طبيعي)
وهكذا ك$$ان موق$$ف (روب$$رت ويلس$$ن) مكتش$ف( $إش$$عاع الخلفي$$ة الكوني$$ة
الميكروي) مع (بنزياس) ،والذي كان من أنصار $الح$$ال الثابت$$ة عن أث$$ر نظري$$ة
االنفجار العظيم على قناعاته وعقائده( :لقد أحببت فلس$$فيًا نظرية الح$$ال الثابت$$ة،
وعل ّي بوضوح أن أتراجع عن ذلك)
وق$$$ال (أالن س$$$نداج) (ت2010.م) ال$$$ذي لُقِّب ب$$$أبي (الكوس$$$مولوجيا
ق من ق ّدموا $تقديرًا علميًا لعمر الكون ـ ([ب$$دء الرصديّة المعاصرة) ،وهو من أد ّ
الكون بانفجار] نتيجة غريبة ..ال يمكن أن تكون صحيحة) ،لكنه بعد ثبوب األدلة
)(1انظر هذه النصوص والتوثيقات $المرتبطة بها في كتاب :فمن خلق هللا؟ :نقد الشبهة اإللحادية [إذا كان
لكل شيء خالق ،فمن خلق هللا؟] في ض$وء التحقي$ق الفلس$في والنق$د الكوس$مولوجي ،د .س$امي ع$امري ،مرك$ز
تكوين للدراسات واألبحاث.2016 ،
137
لم يجد إال إلى أن يتحوّل في آخر حياته إلى اإليمان باهلل.
أما (هويل) ،فق$$د ع$$بر بص$$راحة عم$$ا يحمل$$ه ثب$$وت االنبث$$اق الك$$وني من
انتص$$ارات $للمؤم$$نين ،فق$$ال في كت$$اب مدرس $ي $ألّف$$ه س$$نة 1975م( :الكث$$يرون
مس$$رورون بقب$$ول ه$$ذا الموق$ف $دون البحث عن تفس$$ير فيزي$$ائي $للبداية الح$$ادة
للجس$$يمات ..يُنظر إلى البداية الح$$ادة عم$دًا على أنّها ف$$وق $فيزيائي$$ة ،أي خ$$ارج
ألن [ش$$يئًا ما] من الفيزياء ..يبدو هذا النمط من التفكير ُمرْ ض للكثير من الن$$اس ّ
خارج الفيزياء باإلمكان إضافته إلى بداية الزمن ..لقد وضعت كلم$$ة [إله] مك$$ان
ي [شيء ما] بمخادعة لفظية ..ال أعتقد أنّنا بحاجة إلى استدعاء الميتافيزيقا $لح ّل أ ّ
مشكلة بإمكاننا $أن نف ّكر فيها)
أما (دنيس شياما) (ت 1999م) ،وهو أستاذ (هوكنغ) في الفيزي$$اء ،وأح$$د
كبار المناصرين لـ (نظرية الح$$ال الثابت$$ة) م$$ع زميل$$ه (هوي$$ل) ،فق$$د تح$وّل عن
مذهبه بعد اكتشاف (إشعاع الخلفية الكونية الميكروي) ليصبح من أهم المنافحين
عن (نظرية االنفجار العظيم)
وقد أق ّر أنّه قد لعب دو ًرا في الدفاع عن (نظرية الحال الثابتة) ألنّها كانت
جذاب$$ة بص$$ورة كب$$يرة لدرج$$ة أن$$ه تمنّى أن تك$$ون ص$$حيحة( ،لكن لما ت$$راكمت
أن اللعبة قد انتهت ،وأنه يجب التخلّص من نظرية الح$$$ال األدل$$$ة؛ اتّضح بجالء ّ
الثابتة)
وهكذا نرى الكثير من مالحدة الفيزيائيين يقعون في مواقف $حرجة بسبب
ثبوب االنبثاق الكوني إما بسبب نظرية االنفجار العظيم أو بسبب القانون الث$$اني
للديناميكا $الحرارية ..ولهذا اضطر $بعضهم لإليمان وال$$تراجع عن الحال$ة الثابت$$ة
للكون ،واضطر آخرون للبحث عن نم$$اذج أخ$$رى بديل$$ة تح$$اول أن تس$$د حاج$$ة
الكون إلى موجد خارجي.
كما عبر عن ذلك عالم الفيزي$$اء الفلكي$$ة (كريس$$توفر إش$$ام) ،فق$$ال( :ربّما
إن (االنفج$$ار العظيم) يؤيّ$$د اإليم$$ان باهلل ه$$و أفضل حجة لصالح الط$$رح القائ$$ل ّ
التململ الواضح الذي قوبل به من ط$$رف بعض الفيزي$ائيين المالح$$دة .وق$$د أ ّدى
ذلك إلى ظهور $أفكار علمية ،مثل (الخلق ال$$دائم) أو (الك$$ون المتذب$ذب) ،وق$د ت ّم
تقديمها بحماسة تفوق بكث$ير $قيمته$ا الحقيقي$ة م ّم$ا يل$زم الم$رء ب$أن ي$رى دواف$ع
نفسيّة أعمق بكثير من الرغبة المألوفة للمنظّر لدعم نظريّته)
وورد في مق$$$$ال نش$$$$ر في مجلّ$$$$ة [( $$$$:]New Scientistاعتقد علم$$$$اء
أن عليهم االلتفاف وراء المشكلة ..لقد ح$$اولوا على مّ $ر الس$$نوات الكوسمولوجياّ $
الماض$$$ية إثب$$$ات ع$$$دة نم$$$اذج مختلفة للك$$$ون تتف$$$ادى الحاجة إلى بداي$$$ة ،مع
أن الك$$ون ك$$انت ل$$ه االستمرار $في اشتراط انفجار عظيم .يب$$دو اآلن من المؤ ّك$$د ّ
138
بداية)
بعد ه$ذا الع$رض الم$وجز لمواق$ف $علم$اء الفيزي$اء والك$ون من االنبث$اق$
الكوني نتساءل عن موقف $هوكينغ ،أو ما الذي فعله هوكينغ ح$$تى ينق$$ذ الموق $ف$
اإللحادي؟
وقبل أن نجيب عن ذلك نحب أن نذكر هنا مقول$$ة للكوس$$مولوجي الش$$هير
الالأدري (ألكس$$ندر $فلنكن) س$$نه 2012م في عي$$د ميالد [ه$$وكينج] الس$$بعين،
والذي ناقش فيه العلماء أهم نظريات نشأة الكون ،حيث قال( :لقد قيل إن الحج$$ة
هي التي تقنع العقالء والدليل هو الذي يقن$$ع ح$$تى غ$$ير العقالء ..لم يع$$د بإمك$$ان
علماء الكون ،بع$$د أن ق$$امت اآلن األدل$$ة ،أن يتخف$$وا وراء إمكاني$$ة وج$$ود $ك$$ون
أزلي .لم يعد هناك مهرب ،عليهم أن يواجهوا مشكلة البداية الكونية)
والدور الذي قام به هوكين$$غ إلنق$$اذ الموق$ف $اإللح$$ادي يتمث$$ل في أم$$رين،
أحدهما شاركه فيه غيره ،والثاني انفرد به لوحده.
أما األمر األول ،فهو أنه مثلما حاول داروين باس$$تماتة أن يس$$تبدل تفس$$ير
(الخالق) بخراف$$ة التط$$ور الص$$دفي والعش$$وائي في الكائن$$ات الحي$ة ،فق$$د ح$$اول
هوكينج استبدال تفسير (الخالق) بخرافة األكوان المتع$$ددة الص$$دفية والعش$$وائية
لكي يبرر ظهور كوننا $الغاية في الدقة من بينها.
ولذلك افترض في كتابه [التصميم العظيم] بحسابات رياضية معقدة ـ كما
توصف $ـ ليهرب من االعتراف بالخ$الق $إلى وج$ود 10 $أس 500ك$ون ..وذك$ر
أن هذا العدد الضخم يتناس$$ب م$$ع نظريت$$ه Mال$$تي س$$تجمع ك$$ل ق$$وانين الوج$$ود$
لتمكننا من فهم كل شيء بعيدا عن الخالق.
وهذا العدد الض$$خم لألك$$وان ..أي 10وأمامه$ا 500 $ص$$فر ..لم يخترع$$ه
أحد سواه ..ولألسف صار شعارا $من شعارات المالح$$دة ،أو كم$$ا ع$بر عن ذل$ك
[ريتش$$ارد $داوك$$نز] في ح$$واره م$$ع [س$$تيفن واين$$برج] مبين$$ا س$$بب اعتم$$اد ه$$ذه
النظرية واالهتمام بها ،وهو كونها وسيلة لنفي اإلله ،وق$د $ق$$ال مع$$برا عن ذل$$ك:
(إذا اكتشفت هذا الكون المدهش المع$$د فعلي$$ا بعناي$$ة ..أعتق$$د أن$$ه ليس أمام$$ك إال
تفسيرين اثنين ..إما خالق عظيم ،أو أكوان متعددة)
ونحب أن ننبه إلى أن هوكينج نفسه كان ق$$د أق$$ر في كتاب$$ه األول [م$$وجز
لتاريخ الزمن] بحقيقة الضبط الدقيق للكون ،وخصوصا $الث$$ابت الك$$وني وض$$بط
مقدار الجاذبية الرهيب ،ولم يبق أمامه لتبرير اإللحاد إال اختراع فك$$رة األك$$وان
المتعددة الكثيرة جدا والعشوائية ليكون كونن$ا $ه$$و الوحي$$د من بينه$$ا ال$$ذي خ$$رج
بهذه الصورة.
وأما األمر الثاني ،وهو أخط$$ر من األول ،وه$$و محاول$$ة هوكين$$غ تج$$اوز
نظرية االنبثاق الكوني ،ببيان أن الكون حتى لو كان له بداية فإنه لن يحت$$اج إلى
139
الخالق ،ذلك أن الق$$وانين الكوني$$ة وح$$دها كفيل$$ة بخل$$ق الك$$ون ،وه$$ذا م$$ا لم يقل$$ه
غيره.
وق$$د ع$$بر عن ذل$$ك بقول$$ه( :تمام$$ا مثلم$$ا فس$$ر دارون وواالس كي$$ف أن
التصاميم $المعجزة المظهر في الكائنات الحية من الممكن أن تظهر ب$$دون ت$$دخل
قوة عظمى ،فمبدأ األكوان المتعددة من الممكن أن يفسر دق$$ة الق$$وانين الفيزيائي$$ة
بدون الحاج$ة لوج$$ود خ$$الق س$$خر لن$ا الك$ون ..فبس$$بب ق$انون الجاذبي$$ة ف$$الكون
يستطيع $ويمكنه أن ينشيء نفسه من الالشيء ..فالخلق الذاتي هو سبب أن هن$$اك
شيء بدال من ال شيء ،ويفسر لنا لماذا الكون موجود ،وكذلك نحن) ()1
)(1المرجع سابق.
)(2نقال عن العلم في منظوره الجديد لروبرت م .أغروس و جورج ن .ستانسيو ،ترجمة كم$$ال خ$$االيلي،
طبع سلسلة عالم المعرفة ،ورقمه في السلسلة ( ،)134ص.54
)( 3وهو من الكتب المهمة التي ترد على اإللحاد ،وتذكر مواقف العلماء في المجاالت المختلف$$ة ،وذاك فى
شكل موازنة بين مقوالت $النظرة العلمية القديمة والنظرة العلمية الجديدة ،ويعرض المؤلفان روبرت م .أغروس
وجورج ن..
140
إبداع اإلرادة اإللهية للكون من العدم)
ومثله الفيزيائي ادوارد $ميلن الذي انتهى بعد تفكره في الكون المتم$$دد إلى
هذه النتيجة( :أم$$ا العل$$ة األولى للك$$ون في س$$باق التم$$دد ف$$أمر إض$$افتها $م$$تروك
للقارئ ،ولكن الصورة التي لدينا ال تكتمل من غير هللا)
وهكذا صرح كب$ار أعالم الفيزي$اء الحديث$ة من أمث$ال [ف$يرنر هيزن$برج]
ص$$احب مب$$دأ الالحتمي$$ة أو االرتي$$اب ال$$ذي ع$$بر عن ذل$$ك بقول$$ه( :كنت ط$$وال
حياتى مدفوعا الى تأمل العالقة بين العلم والدين ولم أجد فى أى وقت مهربا من
االقرار $بداللة العلم على وجود $االله)
وق$$ال( :م$$ا ال$$ذى يحكم حرك$$ة االب$$رة المغناطيس$$ية لتس$$تقر تج$$اه الش$$مال
والجنوب ،إنه نظام مبهر تحكمه قوة حكيم$$ة ق$$ادرة ،ق$$وة ل$$و اختفت من الوج$$ود
الجتاحت الجنس البشرى $مصائب رهيبة مصائب أسوأ من االنفج$$ارات النووي$$ة
وحروب $اإلبادة)
ومثل$$ه ق$$ال [اروين ش$$رودنجر] مؤس$$س علم [ميكانيك$$ا الموج$$ات]( :إن
الص$$ورة ال$$تى يرس$$مها $العلم للوج$$ود من حولن$$ا قاص$$رة للغاي$$ة ،فب$$الرغم من
الحقائق الكثيرة التى يقدمها لن$$ا ويص$$يغها $فى الق$$وانين ال$$تى تحكم الوج$$ود يق$$ف
العلم كاألبكم أمام األمور القريبة من قلوبنا والتى تهمنا حقيقة)
ويقول [ماكس بالنك] العالم األلم$$اني ص$$نو أنش$$تاين والح$$ائز $على نوب$$ل
1918م ومؤسس فيزياء الكم( :ال يمكن أن نجد تعارضا حقيق$$ا بين العلم وال$$دين
فكالهما يكم$$ل اآلخ$$ر ،إن كال من ال$$دين والعلم يح$$ارب فى مع$$ارك مش$$تركة ال
تكل ضد االدعاء والشك والتسلط $وااللحاد من أجل الوصول الى معرفة اإلله)
(العلم الطبيعي ال يستطيع حل اللغز ال ُمطلق للطبيعة ،وذل$$ك ألن$$ه ويقولِ :
في التحليل األخير نكون نحن أنفسنا جزء ِمن الطبيعة ،وبالتالي ج$$زء من اللغ$$ز
الذي نحاول حله)
ويقول [بول ديراك] ،وهو من كبار مؤسسى فيزياء $الكم( :إن االله خ$$الق
حسيب استخدم أرقى مستويات $الرياضيات فى تصميم الكون ووضع $قوانينه)
وله$$ذا ن$$رى كب$$ار الفيزي$$ائيين المعاص$$رين ،ومنهم زمالء لهوك$$نيغ نفس$$ه
ينحون عليه بالالئمة بسبب استعماله الفيزياء إلرضاء النزوات اإللحادي$$ة ،فه$$ذا
الفيزي$$ائي الش$$هير[ $راس$$ل س$$تانارد] يق$$ول في مقال$$ه في الجاردي$$ان( :إن فلس$$فة
هوكنج هو تحدي$$دا م$$ا أعارض$$ه فهي كم$$ا وص$$لتني $مث$$ال واض$$ح على التع$$الم ـ
ساينتزم -فطرح أن العلم هو مصدر $المعلومات الوحيد وأننا لدينا فهم كامل لك$$ل
شيء هو هراء بل وهراء خطير أيضا فهو يشعر العلماء بالكبر والغرور $بش$$كل
مبالغ فيه)
ويقول البروفسور جون بولكنجهورن $من أشهر علماء الفيزي$$اء النظري$$ة:
141
(إنه$$ا -يقص$$د األك$$وان المتع$$ددة ـ ليست فيزي$$اء إنها في أحسن األح$$وال فك$$رة
ميتافيزيقيه وال يوجد س$$$$$$$بب علمي واحد لإليم$$$$$$$ان بمجوعة من األك$$$$$$$وان
المتع$$ددة...إن ماعليه الع$$الم اآلن هو نتيجة إلرادة خ$$الق يح$$دد كي$$ف يجب أن
يكون)
ويقول الفيزيائي $الشهير [روجرز ب$$نروز] ،وه$$و ال$$ذي أثبت م$$ع ه$$وكنج
حدوث اإلنفجار الكبير ُمعلقا على كتاب هوكينج [التصميم $العظيم]( :على عكس
ميكانيكا $الكم فإن النظرية Mالتملك أي إثبات مادي إطالقا)
ويقول البروفيسور $بول ديفيز الفيزيائي اإلنجل$$يزي $في الجاردي$$ان منتق$$دا
هوكنج بشدة( :تبقى الق$$وانين المطروح$$ة غ$$ير قابل$$ة للتفس$$ير ..ه$ل نقبله$$ا هك$$ذا
كمعطى $خالد؟ فلماذا النقبل هللا؟ حسنا وأين كانت القوانين وقت اإلنفجار الكبير؟
إننا عند هذه النقطة نكون في المياه الموحلة)
ويق$$ول الفيزي$$ائي $وع$$الم الفض$$اء [مارس$$يلو $جليس$$ر]( :ادع$$اء الوص$$ول
لنظرية نهائية يتنافى $مع أساسيات وأبجديات الفيزي$$اء والعلم التجري$$بي وتجمي$$ع
البيانات ،فنحن ليس لدينا األدوات لقياس الطبيعة كك$$ل فال يمكنن$$ا اب$$دا أن نك$$ون
متاكدين من وصولنا $لنظرية نهائية وس$$تظل هن$$اك دائم$$ا فرص$$ة للمفاج$$آت كم$$ا
تعلمنا من تاريخ الفيزياء مرات ومرات .وأراها إدعاء باطل أن نتخيل أن البشر
يمكن ان يصلوا لشيء كهذا..أعتقد ان على هوكنج أن يدع هللا وشأنه)
ويقول الفيزيائي $بيتر ويت من جامعة كولومبيا( $:لست من أنصار $إدخ$$ال
الحديث عن هللا في الفيزياء لكن إذا كان هوكنج مصرا على دخول معركة الدين
والعلم فما يحيرني $هو إستخدامه لسالح مش$$كوك في ص$$الحيته أو فاعليت$$ه مث$$ل
النظرية )M
ويقول ويليام كريج الفيلسوف األمريكي $ساخرا( :ال شيء جديد علمي$$ا في
ه$$ذا الكت$$اب ب$$المره ولكن نق$$اش فلس$$في بحت خصوص$ا $في الثلث األول ،وه$$و
شيء غريب إذا علمنا أن هوكنج في أول صفحة من كتاب$$ه يق$$ول إن الفلس$$فة ق$$د
ماتت)
ويقول فيلسوف $الفيزي$$اء [ك$$ريج كالن$$در] في جامع$$ة كاليفورني$ا $س$$اخرا:
(منذ ثالثين عاما صرح هوكنج بأننا على أعتاب نظرية كل شيء ،وبحلول ع$$ام
2000وحتى اآلن في عام 2010الشيء ..لكن اليهم فهوكنج رغم ذلك قرر $أن
يفسر سبب الوج$$ود $ب$$الرغم من ع$$دم وج$$ود $النظري$$ة ..إن م$$ا يتح$$دث عن$$ه ه$$و
مجرد حدس غير قابل لالختار أبدا)
ويقول الدكتور [هاميش جونستون] مح$$رر موق$ع $ع$$الم الفيزي$$اء( :توج$$د
فق$$ط مش$$كلة ص$$غيرة وهي ض$$حالة ال$$دليل التجري$$بي $للنظري$$ة ..Mبمع$$نى آخ$$ر
فهناك عالم كبير يخرج بتصريح للعامة يتح$$دث في$$ه عن وج$$ود الخ$$الق إعتم$$ادا
142
على إيمانه بنظرية غير مثبت$$ه ..إن الفيزي$$اء بحاج$$ة ل$$دعم العام$$ة ح$$تى التت$$أثر
بتخفيض النفقات وهذا سيكون صعبا جدا إذا ظنوا أن معظم الفيزيائيين يقض$$ون
وقتهم $في الجدال عن ما تقوله نظريات غير مثبته عن وجود $الخالق)
وأم$$ا الص$$حفي العلمي ج$$ون هورج$$ان كتب مق$$اال بعن$$وان [البهلواني$$ة
الكونية] صف النظرية Mال$$تي يعتم$$د عليه$$ا ه$$وكنج بالحثال$$ة ،وق$$ال( :ه$$وكنج
نفس$ه ق$ال باس$تحالة اختب$ار نظريت$ه ..أن تض$ع نظري$ة لك$ل ش$يء ف$أنت ل$ديك
الشيء ..أن يكون خالصة بحثه هو النظرية Mغير القابلة لإلثبات ..إنن$$ا نخ$$دع
انفسنا إن صدقناه)
ويق$ول بروفيسورالرياض$$يات [ج$ون لين$وكس]( :إن ق$ول أن الفلس$فة ق$د
ماتت خطير جدا خصوصا عن$$دما ال تتوق$$ف أنت نفس$$ك عن اس$$تخدامها...وألن$
هوكنج لدي$ه فهم مغل$$وط لك$ل من الفلس$فة وال$$دين فه$$و يري$دنا $أن نخت$$ار بين هللا
وق$$وانين الفيزي$$اء ..إن الق$$وانين الفيزيائي$$ة اليمكن أن تخل$$ق ش$$يئا فهي مج$$رد
الوص$$ف الرياض$$ي للظ$$واهر الطبيعي$$ة ..فق$$وانين ني$$وتن للحرك$$ة لن ت$$دفع ك$$رة
البلياردو $على الطاولة بدون العب يض$$ربها ،ف$$القوانين لن تح$$رك الك$$رة فض$$ال
عن خلقها ..إن ما يقوله ه$$و خي$$ال علمي بحت ..من أين ج$$اءت الخط$$ة الكوني$$ة
ال$تي تح$دث عنه$ا ه$وكنج؟ إنه$ا ليس$ت من الك$ون فمن جعله$ا تعم$ل إن لم يكن
هللا؟ ..إن محاول$$ة العلم$$اء الملح$$دين اله$$روب من فك$$رة الخ$$الق يجعلهم يع$$زون
الوجود $ألشياء أقل مصداقية كالطاق$$ة والق$$وانين أوالكت$$ل ..بالنس$$بة لي كلم$$ا زاد
فهمي للعلم كلما زاد إيماني باهلل لتعجبي من اتساع وتعقيد وتكامل خلقه)
ثم ضرب األمثلة على إيمان كبار العلم$$اء ع$$بر الت$$اريخ بوج$$ود الخ$$الق،
فقال( :إسحق ني$$وتن بع$$دما إكتش$$ف ق$$انون الجاذبي$$ة وأل$$ف أهم كت$$اب علمي في
التاريخ (برينسيبا ماثيماتيك$$ا) ق$$ال إن$$ه يأم$$ل أن يس$$اعد أص$$حاب العق$$ول (أولى
األلباب) أن يؤمنوا باهلل ..وكانت قوانين آينشتين الرياضية مث$$ار اندهاش$$ه ال$$دائم
وإيمانه بوجود $قوة حكيمة جب$$ارة خل$$ف ه$$ذا الك$$ون (وإن لم ي$$ؤمن بإل$$ه الكت$$اب
المقدس) ...وآالن سانداج المعروف $ب$$األب ال$$روحي لعلم الفل$$ك الح$$ديث الح$$ائز
على أرفع الجوائز قال :إن هللا هو التفسير لمعجزة الخلق)
هذه اقتباسات من أكبر علماء العص$$ر في المج$$االت ال$$تي تخص$$ص فيه$$ا
هوكينغ ،ولألسف ال يعرفهم هؤالء التنويريون ،وال يهتمون بهم ،وال ي$$ترحمون
عليهم إذا ماتوا ،لسبب بسيط وهو أن اإلعالم الملحد لم يتبناهم ،ولم يقم بالدعاي$$ة
لهم..
143
الغرب ..والتالعب بالعواطف
من المه$$ارات الك$$برى ال$$تي يتقنه$$ا اإلنس$$ان الغ$$ربي عموم$$ا ،وساس$$ته
ومثقفوه خصوصا قدرة التالعب على أوت$$ار العواط$$ف ..وتب$$ادل $األدوار فيه$$ا..
وهي تضاهي بنفس القيمة والمق$$دار مهارتن$$ا في اس$$تعمال عواطفن$$ا والخض$$وع$
لها ،وتحييد $العقل بأنواعه عند التعارض معها.
ويحضرني في هذا ما ذكره لي بعضهم أن االستعمار $الفرنسي $كان يدخل
القرية ،فيعتقل شبابها ،ويصادر ثرواته$$ا ..وقب$$ل انص$$رافه ي$$وزع جن$$وده بعض
الحلوى على أوالد القرية ،فيصيح عجائزها قائلين :ما ش$$اء هللا ..كم هم لطيف$$ون
هؤالء الفرنسيون.
وهذا ما يحصل لنا اآلن بالضبط ..لكن الذي يصيح ليس عجائزن$$ا ،وإنم$$ا
مفكرونا $ومثقفونا والنخبة منا ..فأمريكا $تفعل ما تفعل ..تدمر األخضر واليابس..
وتزرع $فينا وفي أرضنا $كل ألوان السموم ..ثم تذهب إلى ك$$ل قط$رة من بترولن$ا$
وخيراتنا لتستلبها رغم أنوفنا ..ثم إذا ما رأت األحقاد بدأت تتس$$رب إلين$$ا بس$$ببها
أرسلت لنا ممثل$$ة رقيق$$ة ،أو ص$$وتا حاني$$ا ،أو دبلومس$$يا $ذكي$$ا ليمس$$ح عن قلوبن$$ا
مشاعر الكراهية ،ويعيد بوصلتنا $إلى قبلة البيت األبيض من جديد.
وهذا ما يفعلونه هذه األي$ام م$$ع هوكين$غ ..فم$$ع أن ل$$ديهم الكث$ير من دع$اة
اإللحاد بأنواعه المختلفة إال أنهم اختاروا شخصية هوكينغ خصوص$$ا ،ولمعوه $ا$
تلميعا عظيما ،وأعطوها بع$$دا إنس$انيا رفيع$$ا ..وص$$وروه بص$ورة الجب$$ار ال$ذي
تحدى كل اإلعاقات ..ليص$يح بق$وة بمث$ل م$ا ص$اح ب$ه نيتش$ة عن م$وت اإلل$ه..
وص$$وروه بص$$ورة المس$$اند للش$$عب الفلس$$طيني $،ب$$ل بص$$ورة المق$$اوم للكي$$ان
الصهيوني ..وكل ذلك ليمرروا $لنا مش$$روعهم $الت$$دميري من خالل$$ه ،ومن خالل
الكوفية المزورة التي ألبسوه إياها.
واإللحاد هو المشروع الغربي الجديد ألمتنا ..وهو خطير جدا ،ألن$$ه يري$$د
أن يستل الجوهرة التي تنبع منها ك$ل فض$ائل ..ج$وهرة اإليم$ان باهلل ..ذل$ك أنهم
رأوا أنهم مهما فعلوا بنا نعود من جديد بس$$بب تل$$ك الج$$وهرة الثمين$$ة إلى وعين$$ا
وحقيقتنا ،فلذلك راحوا يهونون من شأنها ..ويساوون بين الملح$$د والم$$ؤمن ..ب$$ل
يجعلون الملحد أفضل من المؤمن.
وبما أننا قد عطلنا عقلنا المجرد الذي يعتبر اإليمان هو قمة قمم المعرفة..
ومن لم يؤمن باهلل ،فإن علومه ال تس$$اوي $ش$$يئا ..ب$$ل إن أبس$$ط م$$ؤمن باهلل أك$$ثر
علما وأكبر عقال من كل مالحدة الدنيا ..وبما أننا عطلنا عقلن$$ا المؤي$$د والمس$$دد،
والذي دلنا من خالله الوحي المقدس على أن الجاهل باهلل والمنكر له جاهل مهما
144
أوتي من العلم ..ذلك أن علومه جميعا ال تساوي $ش$يئا أم$ام إنك$اره له$ذه الحقيق$ة
العظيمة.
وقد قال تعالى عن أولئك المشركين المتباهين بعلومهم أمام الرس$$ل عليهم
ت فَ ِر ُح$$وا بِ َم$$ا ِع ْنَ $دهُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم
ُس $لُهُ ْم بِ ْالبَيِّنَ$$ا ِ
الص$$الة والس$$الم ﴿ $:فَلَ َّما َج $ا َء ْتهُ ْم ر ُ
ق بِ ِه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْستَه ِْزئُونَ ﴾ [غافر]83 : َو َحا َ$
والف$$رح هن$$ا بمع$$نى التك$$بر والخيالء والبط$$ر ..وه$$و متحق$$ق في واقعن $ا$
لألسف مع المسلمين المستلبين حضاريا $وفكريا $..حتى أنه إذا قرئت على أحدهم
اآلية من القرآن الكريم ،والحاوية لكل المعج$$زات ،وك$$ل حق$$ائق الوج$$ود ،تج$$ده
ينفر منها ،ويؤولها ويعطلها ،ف$إذا م$ا ق$رئت علي$ه كلم$ات أعجمي$ة ،راح ينبه$ر
بها ،ويلغي $بها ما بقي له من عقل ..وكل ذلك تفكير عاطفي ال حظ له من العق$$ل
المجرد ،وال المسدد ،وال المؤيد.
145
وأخيرا ..صار هوكينغ شهيدا
لم يكتف التنويريون الجدد ..أولئك المستلبون فكري$$ا وحض$$اريا $وإيماني$$ا$..
بالترحم $على هوكينغ ،وسكب الدموع عليه وإقامة الم$$آتم والتابيني$$ات $عن$$ه وعن
روحه ..وإنما راح بعضهم يحوله شهيدا ..بل يحوله آية من آيات هللا التي يب$$اهي
هللا به$$ا عب$$اده ..وولي$$ا $من أوليائ$$ه القديس$$ين ..ويوش$$ك $أن ي$$أتي بعض رج$$ال
األعم$$ال ليب$$ني ل$$ه قب$$ة ،ويؤس $س $ل$$ه م$$زار ..وق $د $تتح$$ول بس$$ببه واش$$نطن أو
نيويورك أو أي مدينة تحظى $بجسده ،أو ببعض آثاره إلى مدينة مقدسة.
هذا الكالم ليس مبالغ$$ة ،ب$$ل ه$$و حقيق$$ة ..وق$$د أفرزه$$ا ـ لألس$$ف ـ من لم
نتوقع $منه إال ذلك ..وهو [محمد شحرور] ذلك الذي يزعم أنه تنويري $وق$$رآني،
وهو يخرج لنا كل حين ما يثبت المس$$افات $الهائل$$ة بين$$ه وبين كليهم$$ا ..فالحق$$ائق
القرآنية واضحة جدا ،وال تحتاج إلى كل تلك التالعب$$ات اللفظي$$ة ال$$تي يمارس$$ها$
هو وأمثاله ،وهي ما جعلتهم يلوون أعناق النصوص المقدسة لتنسجم مع كل م$$ا
يريدونه ،أو ما تفرزه أهواؤهم$.
كتب محم$$د ش$$حرور $في مق$$ال ل$$ه تحت عن$$وان [إني جاع$$ل في األرض
خليفة] ..وهو مقال يغزو $الش$بكات االجتماعي$ة ،وينتش$$ر بينه$$ا انتش$ار الن$$ار في
الهشيم ..يقول( :رغم أني كمؤمن موقن بوجود $هللا ،أختلف م$$ع هوكين$$غ في ه$$ذه
الجزئية تحديداً ،إال أنه بنظري $شهيد ،بغض النظر عن إيمانه أو عدمه ،فالهدف$
من وجودنا $يحققه أمثاله ،وبدونهم $سنبقى غافلين)
ونالحظ شحرور $من خالل هذه الكلمات كيف يهون من [وجود هللا] الذي
هو أساس العقائد ،حيث أصبح عنده مجرد جزئية بس$$يطة يمكن التن$$ازل عنه$$ا..
وذلك يعني ـ حسبما يصور $ـ أن اإلنسان يمكن أن يم$$ارس دوره في الخالف$$ة من
غير أن يعتقد وجود هللا ..ومن غير أن يؤمن به طبعا ..فالوجود هو األساس لكل
العقائد.
بل إنه رفعه إلى رتبة الشهادة ،وهي ليست شهادة التضحية ـ بحسب قصد$
ش$$حرور $ـ وإنم$$ا هي تل$$ك الش$$هادة ال$$تي وص$ف $هللا به$$ا رس$$له عليهم الص$$الة
والسالم $فقال عن المسيحَ ﴿ :وإِ ْن ِم ْن أَ ْه ِل ْال ِكتَا ِ
ب إِاَّل لَيُ$ْ $ؤ ِمن ََّن بِِ $ه قَ ْبَ $ل َموْ تِِ $ه َويَ$$وْ َم
ْالقِيَا َم ِة يَ ُكونُ َعلَ ْي ِه ْم َش ِهيدًا ﴾ [النس$$اء ،]159 :وق$$ال عن رس$$ول هللا ﴿ :فَ َك ْي$$فَ
ك َعلَى هَؤُاَل ِء َش ِهيدًا ﴾ [النساء]41 : إِ َذا ِج ْئنَا ِم ْن ُك ِّل أُ َّم ٍة بِ َش ِهي ٍد َو ِج ْئنَا بِ َ
وبذلك تحول هوكينغ ـ عند شحرور ـ إلى ما يشبه األنبي$$اء عليهم الس$$الم،
ذلك أنه ال فرق بينه وبينهم سوى $في تلك الجزئية البسيطة ال$$تي ال قيم$$ة له$$ا في
موازين الحياة ..جزئية اإليمان باهلل.
146
ثم يترقى $شحرور $في الرفع من مكانة هوكينغ ليذكر أن$$ه غاي$$ة الغاي$$ات..
وأنه لواله ما خلقت األفالك( ..فالهدف من وجودنا ـ كم$$ا يق$$ول ـ يحقق$$ه أمثال$$ه،
وبدونهم سنبقى غافلين)
ثم يورد $ـ للتالعب بمشاعر القراء ـ مقارنة بين إبراهيم عليه الس$$الم ذل$$ك
األواه المنيب ،وهوكينغ $..فكالهما في نظره واحد ..وليس من فرق بينهما س$$وى
في جزئية اإليمان..
والدليل على ذلك ـ كما يصوره ه$$و أن (اإلنس$$ان ه$$و وج$$ود $ف$$يزيولوجي
(بشر) مضافاً $له كم معرفي (ال$$روح) ،وه$$ذه ال$$روح هي ال$$تي ميزت$$ه عن ب$$اقي$
المخلوقات ،فكلما زاد الكم المعرفي زادت إنس$$انية اإلنس$$ان وابتع$$د عن المملك$$ة
الحيوانية) ،وبما أن هوكينغ له كم معرفي كبير ـ كم$$ا ي$$ذكر ش$$حرور $ـ مقارن$$ة
بغ$$يره ،فه$و $ص$$احب روحاني$$ة أك$$بر ،ووظيفت$$ه في الك$$ون تابع$$ة للم$$دى ال$$ذي
وصلت إليه روحانيته.
هذه مجرد قصاصات من الغثاء الذي وقع فيه المستلبون فكريا وحضاريا
وإيمانيا $..أولئك الذين يتالعبون بالقرآن الكريم ،وبكل المقدس$$ات ألج$$ل إرض$$اء
نزوات الهوى التي ينفخها الشيطان فيهم.
وأنا شخصيا أفضل الملحد الجاد ،أو الالديني الواضح على أمث$$ال ه$$ؤالء
المتالعبين الذين ال يختلفون عن أولئك الشعراء الذين يتبعهم $الغاوون ،وفي ك$$ل
واد يهيمون..
فالوض$$وح $عالم$$ة الص$$دق ..والص$$دق $ق$$د يك$$ون مركب$$ا للوص$$ول $إلى
الحقيقة ..أما الغموض ،فهو وسيلة النفاق والخداع ..وهما في الدرك األس$$فل من
النار.
147
عالم األفكار وعالم األشخاص
من خالل مساجالتي الس$$ابقة ح$$ول هوكين$$غ رأيت أك$$ثر المنبه$$رين ب$$ه ال
ينطلق$$ون من حق$$ائق علمي$$ة ،وال من دراس$$ة متأني$$ة ألطروحات$$ه وأفك$$اره ،ب$$ل
بعضهم $ال يعرفها أصال ،ولم يسمع بها أب$$دا ..وربم$$ا لم يع$$رف الش$$خص إال من
خالل ذلك التهويل اإلعالمي المرتبط به.
وعندما أتيحت له الفرصة للنظر إليه اكتفي بالنظر إلى شخصه وإعاقت$$ه،
وانشغل بمشاعره األليمة نحو إعاقته الجسدية عن األلم على إعاقته الفكرية التي
هي أحوج إلى الحزن منها من اإلعاقة الجسدية.
وهذا ما يبين مدى التخلف الذي نعيش في$$ه ..فنحن ننبه$$ر باألش$$خاص ،ال
باألفكار ،ونعيش عالم األجساد ،ال عالم األرواح ..ولذلك يس$$تعمل الغ$$رب معن$$ا
وسائل اإلثار الجسدية أكثر مما يستعمل وسائل اإلقن$$اع $الفك$$ري ..ألنن$$ا ببس$$اطة
نستعمل مشاعرنا أكثر مما نستعمل عقولنا.
ولهذا راح يعزف بواسطة شخص هوكينغ على الكثير من األوتار..
أوله$$ا ه$$و انبهارن$ا $ب$$الغرب وخصوص$ا $أمريك$$ا وتطوره$ا $العلمي ال$$ذي
جعله$$ا تح$$ول من إنس$$ان مع$$اق ال ق$$درة ل$$ه على الكالم وال الحرك$$ة إلى ب$$احث
وكاتب وفيزيائي $ورياضي $وفليسوف ..وعبقري زمانه ..واالنبه$ار $بأمريك$ا ه$و
المقدمة للسقوط في مشاريعها ،والتحول $إلى أداة من أدواتها$.
وثانيها هو االنبهار بالشخص نفسه ..بإعاقته وعبقريته وتحدي$$ه ..والغفل$$ة
عن أفكاره الخطيرة جدا ..فلذلك يقدمون ل$ه الدعاي$ة المجاني$ة ..ال$تي هي مقدم$ة
للدعاية ألفكاره.
وثالثها ..وهو أخطر الجميع هو تهوين أمر اإليمان باهلل ..واعتباره قض$$ية
ثانوية ال قيمة لها ..فاإلنسان عندهم هو الذي يلبي شهواتهم $ويقدم لهم الكث$$ير من
اللعب التي ينشغلون بها ،حتى لو حطم إيمان الماليين من الناس.
فمشكلة هوكينغ ليس في كونه ملحدا ..وإنما في استغالله لمجال تخصصه
للدعوة لإللحاد ..فقد كان يخاطب الجماهير المعجبة بشخصة قائال :ال حاج$$ة لكم
لإليمان باهلل ..فقد دل العلم على أنه يمكن وعن طريق قوى بسيطة كالجاذبي$$ة أن
تتخلق األشياء من غير حاجة إلى خالق ..وهذا ما خالفه فيه كل الفيزيائيين الذين
لم تتح لهم فرصة اإلعاقة حتى يسمع الناس أفكارهم ،ويقتنعوا بها.
وهو في ذلك يشبه الطبيب ال$$ذي يغ$$ري المرض$$ى بالس$$موم $ال$$تي تقتلهم..
والمرض$$ى $ال يملك$$ون إال طاعت$$ه ..لكون$$ه طبيب$$ا ومتخصص$$ا $..وال يتكلم في
الظاهر إال على ضوء تخصصه.
148
هذه هي مشكلتنا ..ولذلك استطاع الغ$$رب أن يملي علين$$ا حرب$$ه الناعم$$ة..
التي ال تشمل فقط تخريب البنيان ،بل تتعداه إلى تخريب اإلنسان.
أرج$$و من الص$$ادقين ال$$ذين جرب$$وا ع$$واطفهم أن يجرب$$وا $عق$$ولهم ..وأن
ينظروا $إلى المسألة من زاوية أعمق ..فأنا ال أتحدث عن هوكينغ المعاق ..وإنم$$ا
أتحدث عن هوكينغ الذي تحدى هللا ..وراح يلغيه من الوجود ..واتبع$$ه على ذل$$ك
الجماهير الكثيرة من الناس.
149
أخبروني عن خدمات هوكينغ لإلنسانية
كل ال$ذين ج$$ادلوا في هوك$نيغ بعلم أو بغ$$ير علم راح$وا ي$$ذكرون خدمات$ه
الجليلة لإلنسانية ..ولست أدري هل يعون ما يقولون أم أنهم مج$رد مغ$$ردين لم$$ا
يق$$ال ..ال يفهم$$ون معن$$اه وال فح$$واه ..وإنم$$ا يكتف$$ون فق$$ط بتل$$ك األلف$$اظ المنمق$$ة
والجمل المزخرفة التي ال معنى لها لديهم.
وأنا أسألهم هنا عن المرض الذي شخصه ،والدواء ال$$ذي اكتش$$فه ،وال$$ذي
حفظ صحة البشرية ،وطور طبها ،وقاوم $األدواء التي تفتك بها ،مثلما فعل آالف
األطباء المجاهيل الذين جعلهم هللا وسائل لحفظ الصحة ،وحفظ الحياة ،وجمالها.
فكم من طبيب اخترع كبس$ولة دواء ك$انت س$ببا في حف$ظ ص$حة الماليين
من البشر ..ومع ذلك لم يسمع به أحد ..وال ترحم عند وفاته أحد ..وال بكت عليه
عين.
ف$إن لم يكن ل$ه اكتش$افات $من ه$$ذا الن$$وع ،فليخ$$بروني عن التقني$$ات ال$تي
طورها $..وهل ساهم في خدمة اإلعالم اآللي أو الذكاء الصناعي؟ ..وه$$ل ص$$مم
البرامج النافعة؟ ..أو وضع النظريات العلمية المفيدة لتطوير التقانات؟
فإن لم يفعل ذلك ..فهل كان مهندسا $حفظ البني$$ان من ال$$زالزل والبالي$$ا؟..
أو كان عالم بيئة وضع الخطط لحمايتها؟ ..أو ك$$ان فلكي$$ا عرفن$$ا بأس$$رار $الك$$ون
وجماله؟
فإن لم يفعل كل ذلك فليخ$بروني عن الخدم$ة ال$تي ق$دمها ..فأن$ا من خالل
مطالعتي $الواعية والدقيقة لكتبه وأفكاره وطروحاته ال أرى إال أن كل ما طرحه
ال يساوي $كبسولة دواء ،أو تخطيط $معماري ،أو اختراع مهندس.
فإن كنت مخطئ$$ا ..وق$د $أك$$ون ك$$ذلك ..ف$$أخبروني أنتم عن ه$$ذه الخ$$دمات
اإلنسانية التي تمجدونها ،وتلغون اآلخرين بسببها ،ول$$و ك$$انوا من طينتكم وأه$$ل
بلدكم ،وتذكرونه.
وأنا أجزم أنه لو كان في بالدن$$ا العربي$$ة أو اإلس$$المية رج$$ل مثل$$ه ..وأتى
بما أتى ..وكتب ما كتب ..فلن يلتفت ل$$ه أح$$د ..ولن يس$$مع ب$$ه ..ب$$ل ق$$د ين$$ال من$$ا
السخرية.
وأنا أعرف الكثير من الفيزيائيين الع$$رب والمس$$لمين ال$$ذين لم يس$$مع بهم
أحد ..وعندما ماتوا لم يترحم عليهم أحد ..لكون ذلك اإلعالم الم$$ؤدلج لم يتح$$دث
عنهم ،ولم يشد بهم.
فهؤالء الذين يزعمون ك$$ل ذل$$ك ال يعرف$$ون المطالع$$ة وال البحث العلمي،
وإنما هم ضحايا اإلعالم الذي يسيرهم كما يشاء ،ويحدد لقلوبهم مواضع المحب$$ة
150
والبغض ،ومواضع الرضا والغضب.
151
الرحمة والترحم ..والمصادرة على المطلوب
تحض$$رني ـ وأن$$ا أق$$رأ الكث$$ير من ال$$ردود اللين$$ة على [ولي هللا الص$$الح
هوكينغ!؟] ،والقاسية علي وعلى أمثالي من المتط$$رفين ـ ق$$ول الش$$اعر متهكم$$ا
من بعض العقول التي يحاورها:
أقول له زيداً ،فيسم ُع خالدا ويكتبهُ ع ْمرا ،ويقرأه سـعدا
ً ً
وقول الشاعر اآلخر:
ُ ْ
َوعَاهُ َويَق َرأ َغ ْي َر َما هُ َو َكاتِبُ يَ ِعي َغ ْي َر َما قُ ْلنَا َويَكتبُ َغي َْر َما
ُ ْ
وهكذا حال هؤالء ..وهذا حال مصادرتهم على المطلوب ..فبعضهم يذكر
لي أن رحمة هللا واسعة ..وأنها يمكن أن تسعه ..وأننا نحجر على هللا حين نمنعه
من أن يلقي رحمته على من يشاء ..ولست أدري هل خالفته أنا في ه$$ذا ،أو قلت
شيء يضاد هذا.
كل الذي قلته أن الترحم والترض$$ي واالس$$تغفار $وغيره$$ا مع$$ان ش$$رعية،
ونحن نحتاج إلى النصوص المقدسة التي تبين لنا الموقف $السليم منه$$ا ،م$$ا دمن$$ا
نؤمن بهذه النصوص ،وال نعطيها ظهرن$$ا ،فهي كالم هللا المق$$دس ال$$ذي ال يأتي$$ه
الباطل من بين يديه وال من خلفه ..وهي تعبر عن مراد هللا منا.
وقد نصت هذه النصوص صراحة ،وبطرق قطعية على حرمة ذلك ..فاهلل
تعالى ذكر عن إب$$راهيم علي$ه الس$$الم توقف$$ه عن االس$$تغفار لقريب$$ه بس$$بب كون$$ه
صار عدوا هلل ،بشركه به ،والشرك أدنى مرتب$$ة من اإللح$$اد ،ق$$ال تع$$الىَ ﴿ :و َم$$ا
َكانَ ا ْستِ ْغفَا ُر إِ ْبَ $را ِهي َم أِل َبِيِ $ه إِاَّل ع َْن َموْ ِعَ $د ٍة َو َعَ $دهَا إِيَّاهُ فَلَ َّما تَبَيَّنَ لَ$هُ أَنَّهُ َعُ $د ٌّو هَّلِل ِ
تَبَرَّأَ ِم ْنهُ إِ َّن إِ ْب َرا ِهي َ$م أَل َ َّواهٌ َحلِي ٌم ﴾ [التوبة]114 :
وهكذا نرى نهي هللا تعالى للمؤمنين عن االستغفار للمشركين مع ق$$رابتهم
الشديدة ،فقالَ ﴿ :م$ا َك$انَ لِلنَّبِ ِّي َوالَّ ِذينَ آ َمنُ$وا أَ ْن يَ ْس$تَ ْغفِرُوا $لِ ْل ُم ْشِ $ر ِكينَ َولَ$وْ َك$انُوا
أُولِي قُرْ بَىِ $م ْن بَ ْع ِد َما تَبَيَّنَ لَهُ ْم أَنَّهُ ْم أَصْ َحابُ ْال َج ِح ِيم﴾ [التوبة]113 :
﴿اس$تَ ْغفِرْوهكذا نرى نهي هللا تعالى عن االستغفار للمنافقين ،ق$$ال تع$$الىْ :
ك بِ$$أَنَّهُ ْم لَهُ ْم أَوْ اَل ت َْس$تَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِ ْن ت َْس$تَ ْغفِرْ لَهُ ْم َس$ب ِْعينَ َمَّ $رةً فَلَ ْن يَ ْغفَِ $ر هَّللا ُ لَهُ ْم َذلَِ $
اس$$قِينَ ﴾ [التوب$$ة ،]80 :ونهى عن َكفَ$$رُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس$$ولِ ِه َوهَّللا ُ اَل يَهِْ $$دي ْالقَ$$وْ َم ْالفَ ِ
ص$لِّ َعلَى أَ َحٍ $د ِم ْنهُ ْم َم$$اتَ أَبَ$دًا ﴿واَل تُ َ الصالة عليهم أو القيام عند قبورهم ،فقالَ :
َواَل تَقُ ْم َعلَى قَب ِْر ِه إِنَّهُ ْم َكفَرُوا بِاهَّلل ِ َو َرسُولِ ِه َو َماتُواَ $وهُ ْم فَا ِسقُونَ ﴾ [التوبة]84 :
وفي كل هذه اآليات الكريمة تعلي$$ل للنهي بع$$دم اإليم$$ان أو الكف$$ر ..وفيه$ا$
بيان للعذاب الشديد الذي يحيق بهؤالء..
أفنحن أعلم أم هللا؟ ..أم أننا أكثر تس$$امحا من هللا ،وأرحم بعب$$اده من$$ه؟ ..أم
152
أننا نعقب على هللا وننتقده؟
أنتم أيه$$ا المتس$$امحون ج$$دا بالخي$$ار بين أن تلغ$$وا حق$$ائق الق$$رآن ..أو
تعتبروها نصوصا $تاريخية ..أو أن تطبقوا م$$ا ورد فيه$$ا من مع$$ان ..وهي مح$$ل
اتفاق بين األم$$ة جميع$$ا ..وبدع$$ة ال$$ترحم على غ$$ير المس$$لمين لم تحص$$ل إال في
عصرنا.
أم$$ا رحم$$ة هللا فمس$$ألة أخ$$رى ..وال دخ$$ل لن$$ا فيه$$ا ..والرحم$$ة ليس$$ت
كالترحم $..وعند مناظرة من ينهى عن الترحم ال يص$$ح أن ن$$رد علي$$ه بالرحم$$ة..
وإال تحققنا بما يقال عن أولئك الذين يفهمون ما يحلو لهم ،ال ما يسمعون.
153
دعوا هلل جنته وناره ..ورحمته ونقمته
تص$ور $البعض إنك$اري $لل$ترحم على هوكين$$غ أن$ني أطلب منهم أن ي$دعو
علي$ه أو على غ$يره ..وأن$ا لم اق$ل ه$ذا ،ولم أدع إلي$ه ..ولك$ني ذك$رت أن الجن$ة
والنار $هلل ..والرحمة والنقمة حقه ومن صالحياته التي ال يجوز لنا التدخل فيها..
بل إن هللا تع$$الى ،وفي $ص$$ريح الق$$رآن الك$$ريم ينهى عن ذل$$ك ..فق$$د ق$$ال:
$ر ِه إِنَّهُ ْم َكفَ$رُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس$ولِ ِه ص ِّل َعلَى أَ َح ٍد ِم ْنهُ ْم َماتَ أَبَ$دًا َواَل تَقُ ْم َعلَى قَ ْبِ $ ﴿ َواَل تُ َ
﴿اس $تَ ْغفِرْ لَهُ ْم أَوْ اَل ت َْس $تَ ْغفِرْ لَهُ ْم إِ ْن اس $قُونَ ﴾ [التوب$$ة ،]84 :وق$$الْ : َو َم$$اتُوا َوهُ ْم فَ ِ
تَ ْستَ ْغفِرْ لَهُ ْم َس ْب ِعينَ َم َّرةً فَلَ ْن يَ ْغفِ َر هَّللا ُ لَهُ ْم َذلِكَ بِ$$أَنَّهُ ْم َكفَ $رُوا بِاهَّلل ِ َو َر ُس $ولِ ِه َوهَّللا ُ اَل
يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم ْالفَا ِسقِينَ ﴾ [التوبة]80 :
وقال عن رحمته وكونها مختصة بمن ت$$وفرت فيهم ش$$روط $معين$$ة أهمه$$ا
ت ُك َّ $ل َش ْ $ي ٍء ص $يبُ بِ ِ $ه َم ْن أَ َش $ا ُء َو َرحْ َمتِي َو ِس َ $ع ْ وأساس$$ها اإليم$$انَ ﴿ :عَ $ذابِي أُ ِ
فَ َس$أ َ ْكتُبُهَا $لِلَّ ِذينَ يَتَّقُ$$ونَ َوي ُْؤتُ$$ونَ ال َّز َك$$اةَ َوالَّ ِذينَ هُ ْم بِآيَاتِنَ$$ا ي ُْؤ ِمنُ$$ونَ ﴾ [األع$$راف:
]156
فهل من األدب بع$$د ه$$ذا أن نف$$رض إرادتن$$ا على هللا ،ونلزم$$ه ب$$أن ي$$رحم
أحدا لم يأذن برحمته ،أو يدخل الجنة من لم يتوافق مع سننه؟
ه$$ذه أحك$$ام هللا ال$$تي وض$$حها في كتاب$$ه المق$$دس ..وهي ليس$$ت أح$$اديث
يمكنكم أن تجادلوا فيها ..واألدب مع هللا يقتضي منا مراعاة مراداته.
والمشكلة األكبر ليس في ه$$ذا ..وإنم$$ا في خ$$داع البس$$طاء ب$$أن رحم$$ة هللا
التي ذكر أنه كتبها لمن توفرت في$$ه ش$$روط معين$$ة ..يمكنه$$ا ان تش$$مل غ$$يرهم..
وأن كالم هللا تعالى بذلك لغو ال قيمة له.
عودوا إلى القرآن الكريم ..وت$دبروه ..وإن ش$ئتم أن تتح$رروا $..فتح$رروا$
وف $ق $ض$$وابطه ال وف$$ق أه$$وائكم $..وإن ش$$ئتم أن تعط$$وا ش$$يئا ألح$$د من الن$$اس
ف$$اعطوه م$$ا تملك$$ون ال م$$ا ال تملك$$ون ..وأنتم ال تملك$$ون رحم$$ة هللا وال جنت$$ه..
فلذلك ال تكذبوا $على الناس وال على أنفسكم.
154
سؤال للذين ترحموا على هوكينغ
رأيت من خالل بعض المنشورات $تلك العواطف الجياشة والرقة العجيب$$ة
نح$$و هوكين$$غ س$$واء من بعض الس$$نة أو الش$$يعة ..وخصوص $ا $المتح$$ررين من
كليهما ..وأنا أدعو كال الطرفين ،ألن يجلسوا مع أنفسهم ،ثم يضعوا $أمامهم ه$$ذه
التساؤالت:
لو أن هوكينغ ـ يا معشر السنة المتحررين ـ سخر من الص$$حابة واس$$تهزأ
بهم ..هل ترى موقفكم منه سيكون نفس الموقف؟
وأنتم كذلك ـ أيها المتحررون من الشيعة ـ لو ان هوكينغ سخر من اإلم$$ام
علي أو الحسين أو غيرهم من األئمة ..هل سيكون موقفهم $منه نفس الموقف؟
لألسف صار [هللا] عندنا آخر شيئ ،فهو أه$$ون عن$$دنا من الص$$حابة ومن
األئمة ومن كل المقدسات التي لم تنل قدسيتها $اال بسبب نسبتها هلل..
بل صارت جنة هللا ال$$تي كتبه$$ا لعب$$اده الص$$الحين مرتع$$ا خص$$با لك$$ل من
يحلو لنا إدخاله إليها ..وصارت رحمته التي كتبه$$ا للمحس$$نين من عب$$اده مش$$اعا
نوزعه لمن نحب منهم.
ال تجيبوني $عن سؤالي ..واسألوا أنفسكم فقط ..وأجيبوا أنفسكم فق$$ط ..فاهلل
هو الديان ..ولست انا وال غيري.
155
هوكينغ والدعاية اإلعالمية
يردد الكثير هذه األيام بوعي أو بغير وعي أصداء تل$$ك الدعاي$$ة المجاني$$ة
لهوكنيغ بحجة أنه خدم اإلنسانية ..وكأن$ه الوحي$د ال$ذي خ$دمها ..وك$أن ك$ل تل$ك
الجحافل من الجنود المجهولين من األطباء والمهندسين $والبيولوج$$يين والتقن$$يين
والمعماريين واألدباء والفنانين وغيرهم كثير لم يفعلوا شيئا ..وهم لم يلتفت$$وا لهم
أصال ،وكأنهم غير موجودين $..لسبب بسيط ،وهو أن القنوات اإلعالمية الغربية
لم تتبناهم ،ولم تبثت دعايتها اإلعالمية لإلشهار بهم.
ولنسلم ج$$دال ب$$ذلك ..ول$$و أني شخص$$يا ال أس$$لم ب$$ذلك ..ف$أكثر م$$ا طرح$$ه
هوكينغ يدخل ضمن الفيزياء النظرية البحتة ..بل يدخل ضمن الميتافيزي$$اء ..فال
يمكن التثبت مما قاله ،وال تأكيده علمي$$ا ،وله$$ذا ـ م$$ع حرص$$ه الش$$ديد على ني$$ل
جائزة نوبل في الفيزياء ـ لم ينلها بسبب بسيط ،وه$$و أن أفك$$اره لم تثبت علمي$$ا..
وحتى نظرية [إم] هي مجرد طرح خيالي ال حظ له من المصداقية العلمية..
ال ب$$أس ..فلن$$دع ه$$ذا ..ولنعت$$بر هوكين$$غ خادم$$ا ص$$حيحا ،وليس مزيف$$ا..
وأطروحاته علمية ال خيالية ..لكن لننظر لألم$$ر من زاوي$$ة أخ$$رى ..وهي س$$بب
الشهرة التي نالها بين عوام الن$$اس ..وم$$ا أس$$هل أن نع$$رف $ذل$$ك ..يكفي فق$$ط أن
نكتب اسمه على النت ليبرز لنا كأكبر شخصية فيزيائية حديثة تصرح باإللح$$اد،
وتضع المبررات له ..ب$ل تتص$ور $أن$ه بإمك$ان ق$انون الجاذبي$$ة لوح$$ده أن يغ$ني
الخلق عن الخالق ..ولذلك نال حظه واهتمام$$ه من المالح$$دة الج$$دد ،فه$$و أيقون$$ة
من أيقوناتهم الكبرى ،وهم يجادلون به ،ويحاجون المؤمنين بأطروحاته.
وأنا ال يهمني إلحاده أو إيمانه ،فكثير $من العلم$$اء مالح$$دة ،ولكن إلح$$ادهم
بقي حبيس نفوسهم ..لكن هذا الرجل كان يصرح به في ك$$ل المناس$$بات ،وي$$دعو
ل$$ه ،ول$$ذلك ف$$إن الدعاي$$ة ل$$ه هي دعاي$$ة ألفك$$اره ،والع$$وام $ال$$ذين يت$$أثرون ب$$ه،
سيسرعون ال محالة لكتبه يقرؤونها ،وللمواقع $التي تش$$يد ب$$ه يطالعونه$$ا ،وب$ذلك
نقدم لهم وله تلك الدعاية المجانية الخطيرة.
بقي موقفه من القضية الفلسطينية أو غيرها ،وهذه مس$$ألة أخ$$رى ..هن$$اك
آالف من المجاهيل الذين اهتموا بهذه القض$$ية ،وال$$ذين مزج$$وا بينه$$ا وبين ع$$دم
دع$$وتهم لإللح$$اد أو االنح$$راف عن القيم اإلنس$$انية ،وهم أولى من$$ا ب$$أن ن$$ؤدي
أدوارنا $الدعائية لهم.
ثم لو أننا لو تأملنا الكث$$ير من أعالم اإللح$$اد كبرتران$د $رس$$ل وج$$ول $ب$$ول
سارتر $وغيرهم ،نجد لهم مواقف إنسانية محترمة ..فهل نقوم بالدعاية لهم ك$$ذلك
بسبب تلك المواقف؟$
156
لست أدري ما أقول لهؤالء المتط$$وعين من اإلعالم$$يين ال$$ذين تخل$$وا عن
مبائدهم $من كون أمريكا هي الشيطان األكبر ..وهي حقيقة شيطان أكبر ال بسبب
تصديرها $للعنف والحرب الناعمة والصلبة للعالم فقط ،وإنما بسبب نشرها لتل$$ك
القيم المنحرفة واألفكار الض$$الة وك$$ل من يمثله$$ا ..ولع$$ل ه$$ذه أخط$$ر بكث$$ير من
تلك ..فتلك تهدم البنيان ،وهذه تهدم اإلنسان.
157
هل من دموع على الفيزيائيين الذين اغتالهم الغرب؟
أدعو الذين سالت دموعهم البارحة على ستيفن هو كينغ باعتباره فيزيائي$$ا
كبيرا ـ كما يذكرون ـ أال ينسوا أولئك العلماء الفيزي$ائيين الكب$$ار ال$ذين ال يقل$$ون
عنه شأنا ،بل قد يفوقونه ،أولئك الذين أمضوا $أعماهم في أبح$$اث ال$$ذرة والطاق$$ة
النووية السلمية ،وراحوا $يستثمرونها $بطرق علمية منهجية تفيد بالدهم والبشرية
جميعا.
أولئك العلماء الذين جمعوا بين البحث العلمي ،واليقين العقائ$$دي ..وال$$ذين
تج$$اهلهم اإلعالم ال$$ذي راح يعطي ك$$ل وقت$$ه وجه$$ده لتلمي$$ع ص$$ورة مالح$$دة
الفيزيائيين ،وتحقير المؤمنين منهم.
وأحب في هذه المناسبة أن أذكر بعضهم لعل الدموع التي س$$الت البارح$$ة
من أجل هوكينغ تسيل أيضا على هؤالء العلماء الذين لم يكتف الغرب بتج$$اهلهم
وال تحقيرهم وال غض الطرف عنهم ،وإنما راح يغت$$الهم $وهم في زه$$رة ق$$وتهم
العلمية.
ومن هؤالء مجيد شهرياري ،أحد المسؤولين $عن برنامج إي$$ران الن$$ووي،
الذي قتل في يوم وقع فيه تفج$$يران ،أح$$دهما ك$$ان يس$$تهدف $رئيس هيئ$$ة الطاق$$ة
الذرية السابق فريدون عباسي الذي نجا بحياته ،واآلخر أودى بحي$$اة ش$$هرياري
شمالي العاصمة.
ومنهم أس$$تاذ الفيزي$$اء وخ$$ريج جامع$$ة ش$$ريف $اإليراني$$ة مس$$عود $علي
محمدي الذي اغتيل عام 2010إثر انفجار وقع بالقرب من منزل$$ه في العاص$$مة
طهران.
ومنهم مصطفى أحمدي روشن آخر العلماء المس$$تهدفين وأص$$غرهم ،فق$$د
اغتيل عن عمر يناهز اثنين وثالثين عاما ،وهو أحد المسؤولين $عن موقع نت$$انز
لتخص$$يب اليوراني$$وم والواق$$ع ب$$القرب من أص$$فهان وس$$ط البالد ،إذ ألص$$ق
مجهولون عبوة ناسفة على سيارته أودت بحيات$ه وبحي$اة الس$ائق ال$ذي ك$ان إلى
جانبه.
وغ$$يرهم كث$$ير من اإليران$$يين واللبن$$انيين والمص$$ريين ..ومنهم س$$مير
نجيب ..وهو عالم ذرة مصري ،وأستاذ في جامعة ديترويت بالواليات المتح$$دة،
والذي اغتيل عن$$دما ق$$رر الع$$ودة إلى بالده بع$$د ح$$رب ،1967وفي ليل$$ة س$$فره
وأثناء قيادته سيارته اصطدمت شاحنة كبيرة به$$ا فتحطمت $ولقي مص$$رعه على
الفور ،وانطلقت سيارة النقل بسائقها واختفت ،وقيد الحادث ضد مجهول.
ومنهم رمال حسن رمال ..وه$$و ع$$الم لبن$$اني ،ال$$ذي قت$$ل ع$$ام 1991في
158
مختبر لألبحاث في فرنسا ،والذي وصفته مجلة [لو ب$$وان] الفرنس$$ية بأن$$ه (أح$$د
أهم علماء العصر في مجال الفيزياء) ،وق$د $تع$$رض للتهدي$$د حين ح$$اول الف$$رار
إلى بلده األصلي ،ولم توجد آثار عضوية على جثته.
ومنهم نبي$$ل فليف$$ل ..وه$$و ع$$الم فلس$$طيني $من مخيم األمع$$ري $بالض$$فة
الغربية ،درس الطبيعة النووي$$ة ولم يتج$$اوز $ثالثين س$$نة من عم$$ره ،رفض ك$$ل
العروض التي انهالت عليه للعمل في الخارج ،وفج$$أة اختفى ثم ع$$ثر على جثت$$ه
في منطقة بيت عور غربي رام هللا سنة .1984
ومنهم إبراهيم الظاهر ..وهو عالم ذرة ع$$راقي حاص$$ل على دكت$$وراه في
هذا االختصاص من إحدى الجامعات الكندية.
ومنهم س$$$ميرة موس$$$ى ،المول$$$ودة س$$$نة ،1917وهي أول عالم$$$ة ذرة
مصرية ولقبت باسم «ميس ك$$وري الش$$رق» ،وهي أول معي$$دة في كلي$$ة العل$$وم
بجامعة فؤاد األول ،جامعة القاهرة حاليا ..والتي حصلت على شهادة الماجس$$تير
في موض$$وع التواص$$ل الح$$راري للغ$$ازات ،وس$$افرت في بعث$$ة إلى بريطاني $ا$
درس$$ت فيه$$ا اإلش$$عاع الن$$ووي ،وحص$$لت على ال$$دكتوراة في األش$$عة الس$$ينية
وتأثيرها على المواد المختلفة ..وق$$د دعيت بع$$د ش$$هرتها $العلمي$$ة إلى الس$$فر إلى
أمريكا في عام ،1952حيث أتيحت لها فرصة إجراء بحوث في معامل جامع$$ة
سان ل$$ويس بوالي$$ة ميس$$وري $األمريكي$$ة ،وتلقت عروض$ا ً لكي تبقي في أمريك$$ا
لكنه$$ا رفض$$ت وقب$$ل عودته$$ا بأي$$ام اس$$تجابت ل$$دعوة لزي$$ارة معام$$ل نووي$$ة في
ضواحي $كاليفورنيا ،وفي طريق $كاليفورنيا $الوعر المرتف$$ع ظه$$رت س$$يارة نق$$ل
فجأة؛ لتصطدم $بسيارتها $بقوة وتلقي بها في وادي عميق.
ومنهم [مصطفى مشرفة] عالم الفيزي$$اء المص$$ري ،وأول عمي$$د مص$$ري
لكلية العلوم ،وقد دارت أبحاثه حول تطبيقه الشروط الكمية بصورة معدلة تسمح
بإيجاد تفسير لظاهرتي $شتارك وزيمان .كذلك ،كان أول من ق$$ام ببح$$وث علمي$$ة
ح$$ول إيج$$اد مقي$$اس للف$$راغ ،حيث ك$$انت هندس$$ة الف$$راغ المبني$$ة على نظري$$ة
«أينشين» تتعرض فقط لحركة الجسيم المتحرك في مجال الجاذبية ،كما أض$اف
نظري$$ات جدي$$دة في تفس$$ير اإلش$$عاع الص$$ادر $من الش$$مس ،وال$$تي تُع$$د من أهم
نظرياته وسبباً $في شهرته وعالميته؛ حيث أثبت د .مش$$رفة أن الم$$ادة إش$$عاع في
أصلها ،ويمكن اعتبارهما صورتين $لشيء واح$$د يتح$$ول إح$$داهما لآلخ$$ر ..وق$$د
قتل مسموما سنة ،1950ويقال بأنها أحدى عمليات جهاز الموساد اإلسرائيلي$.
ليت الذين تباكوا على هوكينع أيقونة اإللح$اد األك$بر في الفيزي$اء الحديث$ة
أن يذرفوا $بعض الدموع على هؤالء ،وأال يكونوا ضحايا اإلعالم الذي يزين م$$ا
يشاء ،ويشوه ما يشاء ،ويغفل عمن يشاء.
159
هذا الكتاب
يح$$اول ه$$ذا الكت$$اب بمقاالت$$ه المتنوع$$ة أن يوض$$ح للق$$راء الك$$رام ذل$$ك
التط$$رف $الجدي$$د ال$$ذي لبس لب$$اس التن$$وير ،وراح ال يكتفي بمواجه$$ة التط$$رف
الديني ،وإنما يقابله بتطرف ال يقل عنه خطرا ،وه$$و التط$$رف $التن$$ويري ،ال$$ذي
يهدف إلى تفريغ اإلسالم من جميع محتوياته ،وقد قسمته إلى أربعة أقسام$:
القسم األول :التنويريون ..والمؤامرات العالمية :وق $د $تن$$اولت فيه بعض
الحجج والبراهين والوثائق $الدالة على عناية بعض الدوائر $العالمية بتشجيع ه$$ذا
النوع من التن$$وير ،لبث الش$$به والفتن والتش$$كيكات بين المس$$لمين ،ح$$تى ال يبقى
لهم من اإلسالم إال ذلك الشعار المفرغ من كل معنى.
القسم الثاني :شخص**يات ..ومش**اريع تنويرية :وق$$د تن$$اولت في$$ه نم$$اذج
عن شخصيات $مختلفة من الحداثيين والقرآنيين وك$$ل من تعل$$ق بهم ممن ي$$دعون
التنوير.$
القسم الثالث :التنويريون ..وه**دم القيم :وق$د تن$اولت في$ه بعض مظ$اهر
الهدم للقيم اإلسالمية ،واألسس التي تقوم عليها ،وأول ذلك اإلسالم نفسه ،والذي
حول$$ه ه$$ؤالء التنويري$$ون إلى مع$$نى هالمي يمكن أن يتحق$$ق من دون رعاي$$ة
لشرائع وعقائده وأخالقه.
القسم الرابع :التنويريون ..وتمجيد المالحدة :وقد تناولت فيه ما دفع$$ني
إلى كتابته ،وهو ذلك التمجيد الذي ارتبط بهوكينغ ،وال$$ترحم علي$$ه ،على ال$$رغم
من إلحاده الذي صرح به ،بل دعا إليه.
160