You are on page 1of 304

‫‪N I Z W A‬‬

‫ف�صلية ثقافية‬
‫ت�صـــدر عــن‪:‬‬
‫م�ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة‬
‫والن�شر واالعالن‬
‫الرئي�س التنفيذي‬
‫د‪�.‬إبراهيم بن �أحمد الكندي‬
‫رئي�س التحرير‬
‫�ســـــيف الرحـــبي‬
‫مدير التحـرير‬
‫طــالب املعمـري‬
‫من�سق التحـرير‬
‫يحيى الناعبي‬
‫اال�شراف الفني واالخراج‬
‫خلف العربي‬

‫العــدد الرابع وال�سـبعـون‬ ‫الأ�ســـعار‪:‬‬


‫ابريل ‪ 2013‬م ‪ -‬جمادى الأوىل ‪ 1434‬هـ‬ ‫�سلطنة عُمان ريال واحـد ‪ -‬الإمــارات ‪ 10‬دراهم ‪ -‬قطــر ‪ 15‬رياال ‪ -‬البحـرين ‪ 1.5‬دينــار ‪ -‬الكويت‬
‫‪ 1.5‬دين ــار ‪ -‬ال�سـعودية ‪ 15‬ريــاال ‪ -‬الأردن ‪ 1.5‬دينار ‪� -‬سوريا ‪ 75‬لرية ‪ -‬لبنان ‪ 3000‬لرية ‪-‬‬
‫عنوان املرا�سلة‪:‬‬ ‫م�ص ـ ــر ‪ 4‬جنيهات ‪ -‬ال�ســودان ‪ 125‬جنيهـا ‪ -‬تونــ�س دينــاران ‪ -‬اجلــزائـر ‪ 125‬دين ـ ــارا ‪ -‬ليبي ــا‬
‫‪ 1.5‬دينار ‪ -‬املغرب ‪ 20‬درهما ‪ -‬اليمن ‪ 90‬رياال ‪ -‬اململكة املتحدة جنيهان ‪ -‬امريكا ‪ 3‬دوالرات ‪-‬‬
‫�ص‪.‬ب ‪ 855‬الرمز الربيدي‪117 :‬‬ ‫فرن�سا وايطـ ــاليـا ‪ 4‬يورر‪.‬‬

‫الوادي الكبري‪ ،‬م�سقط ‪� -‬سـلطنة عُمان‬ ‫اال�شرتاكات ال�سنوية‪:‬‬


‫هاتف‪)00968 ( 24601608 :‬‬ ‫للأفراد‪ 5 :‬رياالت عُمانية‪ ،‬للم�ؤ�س�سات‪ 10 :‬رياالت عمانية‪ -‬تراجع ق�سيمة اال�شرتاك‪.‬‬
‫وميكن للراغبني يف اال�شرتاك خماطبة �إدارة التوزيـع ملجلــة «نزوى» عــلى العنوان التايل‪:‬‬
‫فاك�س‪)00968( 24694254 :‬‬ ‫م�ؤ�س�سة عُمان لل�صحافة والن�شـر واالعالن �ص‪.‬ب‪ - 3002 :‬الرمز الربيدي ‪ 112‬روي ‪� -‬سلطنة عُمان‪.‬‬
‫‪Email: nizwa99@nizwa.com‬‬
‫املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل � إىل � أية جهة � أخرى للن�رش‬
‫‪nizwa99@omantel.net.om‬‬ ‫و� إال �سنـــوقـف ‪ � -‬آ�سـفـــيـن ‪ -‬التعـــامــل مــع � أ�صحــابهـا‬
‫املحتويــات‬
‫‪4‬‬ ‫‪� - v‬صوت الفكر ‪ ،‬الراهـــن والتاريــخ‪� :‬سيف الرحبي ‬

‫‪12‬‬ ‫‪ v‬كتابــات‪:‬‬
‫‪ -‬دولة بني وجيه‪ :‬عبدالرحمن ال�ساملي‪.‬‬

‫‪22‬‬ ‫‪ v‬ملـــــــف‪:‬‬
‫‪ -‬فاروق عبدالقادر‪ :‬نفق معتم وم�صابيح قليلة‬
‫امل�شاركون‪ :‬بهاء طاهر‪� -‬صــربي حــافـظ‪ -‬عبداملنعم رم�ضان ‪-‬‬
‫ماهر �شفيق فريد‪ -‬جرج�س �شكري‪ -‬ي�رسي عبداللـه‪.‬‬

‫‪24‬‬ ‫‪ v‬درا�ســات‪:‬‬
‫‪� -‬إزرا باوند يف �إيطاليا‪ :‬لو�سيانو ماجنيافيكو ترجمة‪� :‬أحمد‬
‫�شافعي‪� -‬رسكون بول�ص‪ :‬حممد �آيت لعميم‪ -‬الآ�شوريون وغزو‬
‫اليمن‪ :‬فا�ضل الربيعي ‪ -‬املجتمع بو�صفه حقال لل�رصاع عند‬
‫مي�شال دو �سارتو ‪ :‬حممد �شوقي الزين ‪ -‬حتوالت املجتمع والدراما‬
‫املحتملة يف امل�رسح العربي‪ :‬عبدالواحد ابن يا�رس ‪� -‬إدمون عمران‬
‫املليح هجرة احلكاية واالختالف الثقايف‪ :‬حممد بوعزة‪.‬‬

‫‪126‬‬ ‫‪ v‬ملـــــــف‪:‬‬
‫الر َوا َية ال َي َم ِن َية‪:‬‬
‫‪ -‬حول ّ‬
‫‪ -‬امل�شاركون‪ْ � :‬إبراهِ ْيم �أبو طَ الِب‪ -‬حممد احلوثي‪َ -‬ع ْب َد الَع ِزي ِز‬
‫املَقالِح ‪� -‬إبراهيم الهمداين‪-‬نبيلة خبزان‪� -‬أحمد زين ‪ -‬علي‬
‫املقري ‪ -‬حبيب ال�رسوري ‪ -‬وجدي الأهدل ‪ -‬نادية الكوكباين ‪-‬‬
‫الغربي عمران ‪ -‬ملياء الإرياين ‪� -‬صالح باعامر ‪ -‬رمزية عبا�س‪-‬‬
‫�سامي ال�شاطبي‪.‬‬

‫‪168‬‬ ‫‪ v‬حـــوارات‪:‬‬
‫‪ -‬فا�ضل العزاوي‪ :‬ماجدة حميد‪.‬‬
‫‪ -‬حممد �شم�س الدين‪� :‬سهى �صباغ‪.‬‬

‫^‬ ‫^ تر�سل املقاالت با�سم رئيـ�س التحريــر‪ ..‬و�أن ال تكون قد ن�رشت ورقي ًا �أو �إلكرتوني ًا‬
‫‪182‬‬ ‫‪ v‬مــعــمــــار‪:‬‬
‫‪ -‬حممد مكية خطاب م�ؤثر‪ ،‬ومنجز �شاخ�ص ‪ :‬علي ثويني‪.‬‬

‫‪194‬‬ ‫‪ v‬م�ســــــــرح‪:‬‬
‫‪ -‬الكر�سي �أو الفرمانات ال�سبعة‪ :‬نور الدين الها�شمي‪.‬‬
‫‪ -‬طرق يون�س جبار يا�سني‪.‬‬

‫‪208‬‬ ‫‪� v‬ســــــــينما‪:‬‬

‫‪( -‬حنة واخواتها) �سيناريو وودي الن ‪ -‬ترجمة‪ :‬مها لطفي‪.‬‬

‫‪226‬‬ ‫‪� v‬شعـــــــــــر‪:‬‬

‫‪ -‬يعود لي�رصخ يف الغيابة‪� :‬إدريـــ�س عيـــ�سى ‪ -‬عا�شق وحاكم‬


‫ودنيا‪ :‬علي ن�رس ‪ -‬يف بهجة ق�صوى ‪ ..‬و يف �سياق �أحلى‪ :‬رباح‬
‫نوري ‪ -‬ورقتان على كتف �شجرة امليالد‪ :‬عبدالرزاق الربيعي‬
‫‪� -‬أعينوا هال‪ ..‬هالي!!‪ :‬حممد ابو دومه ‪ -‬خيول حمنطة‪ :‬هو�شنك‬
‫�أو�سي ‪ -‬ق�صيدتان‪ :‬يحيى الناعبي ‪� -‬ضجر‪ :‬طالب املعمري‪.‬‬

‫‪244‬‬ ‫‪ v‬ن�صـــــو�ص‪:‬‬

‫‪ -‬ر�سالة من �سجن روزا لوك�سمربغ ‪ :‬ترجمة‪ :‬ن�شوان حم�سن‬


‫دماج ‪� -‬إطار �صورة‪� :‬رشبل داغر ‪ -‬انتهاك‪ :‬ب�رشى خلفان ‪-‬‬
‫الثالثة فجرا‪ :‬هيفاء بيطار ‪� -‬شيطانيات‪ :‬ليلى البلو�شي ‪ -‬بركة‬
‫ماء‪ :‬م ج حمادي ‪ -‬هذيان‪ :‬ح�سن علي البطران‪.‬‬

‫‪264‬‬ ‫‪ v‬متابعات ور�ؤى‪:‬‬

‫‪�« -‬ألبوم اخل�سارة» لعبا�س بي�ضون‪ :‬خالد البقايل القا�سمي‪-‬‬


‫«نادي ال�صنوبر» لربيعة جلطي‪ :‬اليامني بن تومي ‪ -‬كتاب «يف‬
‫الرتجمة» لعبدال�سالم بنعبد العايل‪ :‬علي الب ّزاز ‪-‬نوري اجلراح يف‬
‫«االيام ال�سبعة»‪ :‬مفيد جنم‪ -‬النقد املوريتاين احلديث‪ :‬حممد احل�سن‬
‫ولد حممد امل�صطفى‪ -‬م�ستقبل الكتب‪ :‬امربتو �إيكو ترجمة‪ :‬علي‬
‫عبدالأمري �صالح‪« -‬بيت الديب» لعزت القمحاوي‪ :‬لنا عبدالرحمن‪-‬‬
‫«االق�صى واالدنى» ل�شاكر لعيبي‪� :‬شاكر جميد �سيفو‪ -‬يون�س‬
‫البو�سعيدي‪� :‬ضياء خ�ضري‪ -‬ال�شعر ‪� ...‬أكرب‪ :‬عادل الكلباين ‪ -‬يف‬
‫ذكرى رحيل علي املعمري‪.‬‬

‫�آراء ^‬ ‫^ املقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها‪ ،‬واملجلة لي�ست بال�رضورة م�س�ؤولة عما يرد بها من‬
‫اجلبل الأخ�رض ‪ -‬ال�صورة نقال عن موقع «�ضوء ُعمان»‬

‫‪4‬‬
‫�صوت الفكر ‪،‬‬
‫‪j‬‬
‫الراه ــن والتاريـ ـ ـ ــخ‬
‫ذلك الأ�سبوع �أ�شبه مبجزرة موت طبيعي‪� ،‬أي من‬ ‫تتعدد‬
‫ّ‬ ‫يغيبهم املوت واحداً‪ ،‬بعد �آخر‬ ‫تباع ًا ّ‬
‫اخللفية‬
‫ّ‬ ‫غري فعل قتل ب�رشي مبا�رش‪ ،‬و�إن كمن يف‬ ‫وامل�سببات كما يقول ال�شاعر‪ ،‬لكن‬
‫ِّ‬ ‫الأ�سباب‬
‫امل�أ�ساوية حلياة امل�رصيني والعرب ال�ساحقة‬ ‫الغياب النهائي واحد‪ ،‬واملوت واحد‪.‬‬
‫على كل الأ�صعدة وامل�ستويات ‪ .‬لدرجة �أن‬ ‫والأمل الذي يعي�شه امليت يف حياته‪ ،‬وما ينتج‬
‫الأحياء‪ ،‬حني يتلون �سورة احلزن والأ�سى على‬ ‫عن غيابه ملحبيه وعائلته‪� ،‬إن كانت لديه عائلة‪،‬‬
‫يعرجوا على مفردات (ارتاح‪،‬‬ ‫الفقيد‪ ،‬ال بد �أن ّ‬ ‫و�إال فالأ�صدقاء هم عائلته ومالذه �إن بقي �شيء‬
‫ارتاحوا من هذا املوت البطيء‪ ،‬من هذه الكارثة‬ ‫من تلك القيم النبيلة على قلتها وا�ضمحاللها‬
‫التي نعي�ش) ‪� .‬صار االحتفاء باملوت يناف�س‬ ‫امل�ستمرين‪..‬‬
‫احلزن والأمل اللذين يخلفهما الفقيد ‪� .‬صار يغطي‬ ‫فاروق عبدالقادر‪ ،‬مل تكن له عائلة مبعنى زوجة‬
‫على االحتفاء باحلياة وحلظات �أن�سها الزائل‪.‬‬ ‫و�أطفال‪ ،‬كان يعي�ش مع �أخته التي �سبقته �إىل‬
‫وهي مع�ضلة‪ ،‬فهذه النزعة التي ال ت�أتي من مقام‬ ‫حتمية امل�صري ‪ .‬وعا�ش جراح غيابها ب�شكل‬ ‫ّ‬
‫الزهد باحلياة‪،‬والت�صوف‪ ،‬و�إمنا من باب القرف‬ ‫م�أ�ساوي‪..‬‬
‫وفقدان الأمل وطعم احلياة ولذتها التي ينتزعها‬ ‫احلميدية) بباب‬
‫ّ‬ ‫كان يجل�س يف مقهى (�سوق‬
‫الكائن من براثن الواقع والزمن ‪ .‬هذه النزعة‬ ‫اللوق‪ ،‬و�سط البلد يف القاهرة‪ .‬ي�أتيه الأ�صدقاء‪،‬‬
‫املازو�شية‪ ،‬لها ما يربرها يقين ًا يف الربهة‬
‫ّ‬ ‫�شبه‬ ‫�شعراء وروائيون‪ ،‬ممثلون و�سينمائيون يتحلقون‬
‫العربية التي و�صلت �أق�صى‬ ‫ّ‬ ‫الراهنة للحياة‬ ‫حوله يف املقهى امل�ستطيل ال�ضيق ‪ .‬فاروق‬
‫ف�سادها وانحاللها قيم ًا وجمتمعات‪ُ ،‬نخب ًا‬ ‫مبزاجه احلاد ونقده الالذع الذي ال ي�ساوم وال‬
‫و�أحالم ًا‪ ،‬وقبل ذلك كله طبيعة ال�سلطات الفا�سدة‬ ‫مكر�س ًا يف الثقافة‬
‫يبغي حظوة من �أحد ‪ .‬كان ّ‬
‫واحلروب التي ترب�ض على جممل عنا�رص هذه‬ ‫ق�صيا وهام�شي ًا‪ ،‬وتلك حالة‬
‫ّ‬ ‫امل�رصية كما كان‬
‫ّ‬
‫احلياة املهددة دوم ًا حتت هواج�س الرعب والقلق‬ ‫من حاالت الكثريين يف الثقافة امل�رصية‬
‫واجلمالية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االن�سانية‬
‫ّ‬ ‫الهوية‬
‫ّ‬ ‫حد التال�شي وفقدان‬
‫َّ‬ ‫والعربية‪..‬‬
‫ّ‬
‫بالأم�س حملت الأخبار وفاة الروائي اجلزائري‬ ‫غيب املوت ن�رص حامد �أبو‬ ‫يف الأ�سبوع نف�سه ّ‬
‫الطاهر وطار ‪ ..‬هناك من ال حتمل الأنباء �إ�شارة‬ ‫زيد ‪ .‬حممد عفيفي مطر وحممد العمري‪ ،‬فكان‬
‫‪5‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�صـوت الفكـر‪ ،‬الراهـن والتاريخ‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫افالطون الذي يرتك العامل احل�سي‪ ،‬الذي يحب�س‬ ‫�إىل رحيلهم نحو العامل الآخر‪ ،‬فال نعرف عنهم‬
‫الذكاء يف حدود �ضيقة جداً فانه �سيجازف‬ ‫�إال بعد فرتة من الزمن‪ ،‬وهناك من يتعفن داخل‬
‫ب�أجنحة الأفكار يف الف�ضاءات الفارغة من الفهم‬ ‫بيته وعزلته يف حالة كمال �سبتي و�آخرون‪.‬‬
‫املح�ض»‪.‬‬ ‫وتبقى اخلال�صة واحدة الغياب والفقد والأ�سى‬
‫و(كافكا) «كيف ميكننا العثور على ال�سعادة يف‬ ‫العربية قامتة ومدلهمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مهما كانت احلياة‬
‫هذا العامل �إن مل تكن جمرد متويه»‪..‬‬ ‫‪jhj‬‬
‫(جالل الدين الرومي) «الأفالك التي تدور يف‬
‫�أ�سرتخي يف رابية هذا اخلالء املظلم‪� ،‬أنظر �إىل‬
‫�سماواتها‪� ،‬إمنا حتركها �أمواج احلب‪ ،‬ولوال احلب‬
‫املرتحلة‬
‫ّ‬ ‫ال�سماء ترعى قطعانها يف تخوم الأجنم‬
‫تتجمد»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لكانت كاجلليد‬
‫الأ�ضواء وامل�سافات‪ ،‬ثمة مياه جتري بن�شاط‬
‫ال�سحب املتدافعة يف الطبيعة‬
‫ُ‬ ‫وهكذا‪ ..‬تتكاثف‬
‫واندفاع يف الأخاديد والتخوم‪..‬‬
‫والأفكار واخلياالت على حافة‪ ،‬ويف �أعماق‬
‫�أ�ستح�رض «عندما يقرتب القطب ال�شمايل‬
‫النجود والهاويات‪..‬‬
‫حد التالم�س تقريب ًا‪،‬‬‫من القطب اجلنوبي �إىل ِّ‬
‫‪jhj‬‬
‫ف�سيختفي الكوكب حينئذ و�سيجد الإن�سان‬
‫�أ�صغي �إىل �صوت الأفكار ي�رسي مهما �شطت‬ ‫مدوخ مما يجعله ي�ست�سلم لإغواء‬‫نف�سه يف فراغ ّ‬
‫الأماكن والأزمان‪ ،‬واىل التاريخ عبث التاريخ‬ ‫ال�سقوط»‪..‬‬
‫املتدافع يف الذاكرة واخليال‪ ..‬الأحداث‬ ‫(كونديرا) ي�سوق هذا املقطع (الكوزمولوجي)‬
‫املدلهمة وال�شخ�صيات التي �صنعت املفا�صل‬
‫ّ‬ ‫الب�رشية (احلياة‬
‫ّ‬ ‫يف �سياق جتاور املتناق�ضات‬
‫والعالمات‪ ،‬منها تلك التي اتخذت من مدينة‬ ‫واملوت)‪( ،‬ال�سعادة‪ ،‬ال�شقاء)‪( ،‬اللعنة ‪ ،‬الرحمة)‬
‫(نزوى) التي تقبع يف �سهل اجلبل �أ�سطورة‬ ‫حد حمو الفروق واالندغام والتوحد يف �أعماق‬ ‫َّ‬
‫ومع َتقد يجعل من‬
‫قائمة بذاتها ‪ ،‬عا�صمة حكم ْ‬ ‫الكائن والوجود‪( ..‬اميانويل كانت)‪.‬‬
‫متبنيه حامل ر�سالة �صعبة و�شاقة‪ ،‬و�سط هيمنة‬ ‫وهذه العبارة الآ�رسة �إىل درجة الدوار‪ ،‬و�أنت‬
‫االمرباطوريات املتعاقبة على حكم العامل‪،‬‬ ‫ت�رسح النظر يف ف�ضاء الأفكار وامل ُثل التي حتلق‬
‫ّ‬
‫العربي والإ�سالمي خا�صة‪ .‬ذلك املعتقد الذي‬ ‫بخيال الفل�سفة وال�شعر‪� ،‬إىل �سماوات من اليمام‬
‫يرى يف ا�ستقالل البالد عن احلوا�رض الكربى‬ ‫والأثري‪ ،‬ال حتدها �أي �أحزمة �أو تخوم‪« ...‬اليمامة‬
‫(دم�شق‪ -‬بغداد) تلك التي تربطه بهما روابط‬ ‫اخلفيفة يف حتليقها احلر ت�شق الهواء الذي حت�س‬
‫جوهرية يف اللغة والدين والتاريخ‪ ،‬يرى يف‬‫ّ‬ ‫مبقاومته‪ ،‬ميكننا �أن نتخيل ب�أنها حتلق بالفعل‬
‫وهوية روحية‬
‫ّ‬ ‫اال�ستقالل التام م�س�ألة عقيدة‬ ‫�أف�ضل �أي�ضا يف الفراغ‪ ..‬على هذا النحو ف�إن‬
‫‪6‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�صـوت الفكـر‪ ،‬الراهـن والتاريخ‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫العربيتني‬
‫ّ‬ ‫�إحلاقها ب�إحدى االمرباطوريتني‬ ‫يجب الدفاع والت�ضحية يف �سبيلهما‪ ..‬فقد كان‬
‫اللتني �سادتا الو�ضع والعامل حقبة من الزمن‪..‬‬ ‫االبا�ضيون يرون يف ال�شورى (الدميقراطية)‬
‫�أما احلروب مع الفر�س‪ ،‬فلم تكن غالبا تتجاوز‬ ‫أهلية‪ ،‬بغ�ض النظر عن الن�سب حتى‬ ‫والكفاءة وال ّ‬
‫االحتالل املتبادل ل�سواحل البلدين‪ ..‬كل املناطق‬ ‫لو كان ها�شمي ًا �أو قر�شيا من �آل البيت‪ ،‬عنا�رص‬
‫العمانية ب�سواحلها و�سهولها‪ ،‬كانت م�رسح ًا‬ ‫�صارمة يف وجه توريث اخلالفة واال�ستئثار بها‬
‫للمعارك وال�صدامات‪ ،‬ومل يعرف التاريخ‬ ‫على طريقة الأمويني والعبا�سيني‪ ،‬وعلى خالف‬
‫با�ستثناء (حرب اجلبل) الأخرية ذات ال�رشوط‬ ‫بالطبع مع املذاهب الأخرى‪..‬‬
‫التاريخية والتقنية اخلا�صة‪ ،‬مل يعرف �أن اجلبل‬ ‫�إ�ضافة �إىل �رصاعات تقليدية مع اجلار الفار�سي‪،‬‬
‫الأخ�رض كان حلبة حلرب �أو �رصاع م�سلح مع‬ ‫وقرا�صنة املحيط الهندي‪� ،‬أولئك الذين ق�ضى‬
‫القادمني من اخلارج‪ ،‬الذين جتتاح قواتهم كل‬ ‫على تهديدهم الإمام غ�سان بن عبداهلل‪ ،‬كما‬
‫عمان «ما عدا املعقل اجلبلي‪ ،‬حيث كانوا يف‬ ‫ق�ضى الإمامان نا�رص بن مر�شد وقيد الأر�ض‬
‫�أ�سفله يكافحون ويندفعون مثل موج غا�ضب‬ ‫اليعربيان على النفوذ الربتغايل و�سحقاه يف‬
‫�صخرية من دون جدوى»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ي�رضب جزيرة‬ ‫العماين �إىل خارج‬ ‫ومدا النفوذ ُ‬ ‫املنطقة ب�أكملها‪ّ ،‬‬
‫ا�ستع�صى اجلبل الأخ�رض على الغزاة ب�سبب‬ ‫احلدود وما وراء البحار‪..‬‬
‫تكوينه اجليولوجي وبط�ش طبيعته‪ ،‬ا�ستع�صى‬ ‫العمانيون‬ ‫من هذه املنطقة الوعرة النائية‪ ،‬كان ُ‬
‫حتى على الغزاة الأكرث �رضاوة وبط�ش ًا مثل تلك‬ ‫بح�سم يف �أحداث العامل و�ش�ؤونه‬ ‫ْ‬ ‫ي�شاركون‬
‫الفرتة املت�أخرة من �إمامة (ال�صلت اخلرو�صي)‬ ‫والثقافية املختلفة‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وال�سيا�سية‬
‫ّ‬ ‫التجارية‬
‫ّ‬
‫حيث‪� ،‬ضعفت قب�ضته على الدولة وبد�أت‬ ‫املركزية‪ ،‬ت�ستيقظ‬
‫ّ‬ ‫ويف فرتات �ضعف الدولة‬
‫تدب يف �أو�صالها‪ ،‬حتى ا�ستعان نفر من‬ ‫الفنت ّ‬ ‫الداخلية‪ ،‬بني مين ونزار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفنت والع�صبيات‬
‫العمانيني بعد مقتل (مو�سى بن مو�سى) بوايل‬ ‫ُ‬ ‫والحقا الأكرث كارثية‪ ،‬ومتزيق ًا‪ ،‬تلك احلروب‬
‫اخلليفة على البحرين (حممد نور) الذي �سماه‬ ‫(الهناوية‬
‫ّ‬ ‫التي ُعرفت با�صطفافاتها الثنائية بني‬
‫العمانيون (حممد بور) ملا �أحلقه من خراب‬ ‫ُ‬ ‫والغافرية) والتي �أ�ضعفت لحُ مة البالد وهويتها‬ ‫ّ‬
‫وتدمري‪..‬‬ ‫اجلامعة �إىل حد كبري‪ ،‬وجعلتها �سهلة الك�سرْ �أمام‬
‫بعد مباركة اخلليفة يف بغداد‪ ،‬احلملة على ُعمان‪،‬‬ ‫الغزاة من كل امل�شارب والأقوام‪..‬‬
‫وجناحها �إثر حروب بالغة الق�سوة يف �أماكن‬ ‫اخلارجية‪� ،‬سجا ًال بني‬
‫ّ‬ ‫العمانية‪،‬‬
‫كانت احلروب ُ‬
‫مانية‪ ،‬حتى �أن هذا الوايل‬
‫الع ّ‬
‫كثرية على الأر�ض ُ‬ ‫املتحاربني‪ ،‬فرتات تنعم فيها البالد بتحقيق‬
‫‪ ،‬قائد جي�ش اخلالفة‪ ،‬مل يكتف بهزمية �أعدائه‬ ‫حلمها يف اال�ستقالل وال�سيادة‪ ،‬و�أخرى يتم‬
‫‪7‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�صـوت الفكـر‪ ،‬الراهـن والتاريخ‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أ�شالء ومناطق نفوذ‪ ،‬بني قادة اجلند وامللل من‬ ‫والتنكيل بهم‪ ،‬بل عمد على �إتالف معامل احلياة‬
‫�شذاد الآفاق و�أمراء الأقاليم‪ .‬يف الفرتة احلالكة‬ ‫وردم‬‫يف تدمري املزارع والواحات والقرى‪ْ ،‬‬
‫�إياها‪ ،‬ظهر (البويهيون) م�ستحوذين على اجلزء‬ ‫الأفالج‪ ،‬والعيون التي ت�سقي الب�رش والأر�ض‪..‬‬
‫الرئي�سي‪ ،‬من قوة الدولة ال�ضاربة وبحكم قربهم‬ ‫فكانت ملحمة يف الهالك وال�ضغينة‪� ،‬أبعد من‬
‫من اخلليفة الذي ينخره ال�ضعف والت�شظي‪.‬‬ ‫رغبة الهزمية وال�سيطرة والنفوذ‪.‬‬
‫ا�ستولوا على بغداد التي حتولت من حا�رضة‬ ‫حتى دخلت هذه احلملة طور (الت�سحري) واخلرافة‬
‫العامل مبا لهذه العبارة من معاين القوة واجلمال‬ ‫كيفية ردم (عني‬
‫فريوى �أن (بور) حني احتار يف ّ‬
‫واملعرفة والنفوذ‪� ،‬إىل «م�رسح للفنت وتتابعت‬ ‫الك�سفة) يف الر�ستاق من فرط تدفقها وقوتها‪،‬‬ ‫ْ‬
‫على �أهلها املحن‪ ،‬فخرب عمرانها وانتقل‬ ‫كانت راعية بغنمها تقف على مقربة‪ ،‬ف�أ�شارت‬
‫قطانها»‪ ..‬ح�سب �أحد �أبنائها وم�ؤرخيها اخلطيب‬ ‫عليه كي تنجو ب�أن يلجم مياهها وي�سدها‪،‬‬
‫البغدادي‪ ،‬الذي كان يرى عز مدينته بغداد ينهار‬ ‫ب�صوف الأغنام‪ ،‬فما كان من القائد (حممد نور)‬
‫�إذ ت�رسب �سلطانها احلقيقي �إىل الأعاجم الذين‬ ‫�إال �أن بد أ� بقطيعها يف ردم املنابع والعيون‬
‫تولوا الكثري من �أمرها‪ ،‬ف�آلت �إىل ما �آلت �إليه من‬ ‫املتفجرة من باطن الأر�ض الواقعة على ال�سهل‬
‫تراجع ح�ضاري و�أفول‪..‬‬ ‫ال�شمايل للجبل الأخ�رض‪ ،‬ومت�ضي احلكاية ب�أنه‬
‫(البويهيون) جهزوا حملة مل ي�سبق لها مثيل على‬ ‫احلية‪ ،‬ولي�س ب�صوفها‬
‫كان يردم املياه بالأغنام ّ‬
‫ُعمان‪ ،‬م�ستفيدين من قوة اخلالفة املنهارة‪،‬‬ ‫فح�سب‪.‬‬
‫وكانت ُعمان يف تلك الفرتة يف واحدة من حلقات‬ ‫ا�ستع�صى اجلبل الأخ�رض حتى على مثل هذه‬
‫العمانيون حتت قيادة‬ ‫�ضعفها‪ ،‬ورغم ذلك واجه ُ‬ ‫ووح�شية‪ ،‬والتي مل‬
‫ّ‬ ‫احلمالت الأكرث ب�شاعة‬
‫الإمام املنتخب (ورد بن زياد ونائبه حف�ص‬ ‫يكتب لها النجاح‪� ،‬إال فرتات الوهن واالنق�سام‬
‫بن را�شد)‪ ،‬الغزاة يف مواقع ومناطق كثرية يف‬ ‫والت�رشذم ولي�س يف فرتة اليعاربة الأقوياء‬
‫العمانية‬
‫ال�سهول والبلدات وقبلها على ال�سواحل ُ‬ ‫وما قبلهم من اجللندى بن م�سعود‪� ،‬أو فرتة‬
‫لكن غلبة العدد والعتاد للجي�ش الغازي كانا‬ ‫البحرية‬
‫ّ‬ ‫الإمام �أحمد بن �سعيد الذي بلغت قوته‬
‫حا�سمني يف �إنهاء املعركة ل�صاحله‪ ،‬و�أي�ضا ذلك‬ ‫�إىل �شواطئ الب�رصة يف العراق‪ ،‬وفك ح�صارها‬
‫احلقد الدفني املرتاكم عرب التاريخ يجد فر�صته‬ ‫املتمادي من الأعداء و�إنهائه‪..‬‬
‫ال�سانحة التي �ستمحو الذكريات امل�ؤملة للهزائم‬ ‫احلدث النوعي والرهيب الذي ي�سجل يف‬
‫ال�سابقة‪..‬‬ ‫هذا ال�سياق‪ ،‬ذلك املنبثق من فرتة انحدار‬
‫لأول مرة ي�سجل التاريخ بعد املواجهات الكثرية‪،‬‬ ‫العبا�سية وبدء �أفولها‪� ،‬إذ متزقت‬
‫ّ‬ ‫الإمرباطورية‬
‫‪8‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�صـوت الفكـر‪ ،‬الراهـن والتاريخ‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫هذه رواية القن�صل االجنليزي والرحالة (مايلز)‬ ‫وجلوء العمانيني �إىل اجلبل الأخ�رض‪ ،‬كح�صن‬
‫العمانيني‬ ‫‪ ،‬لكن هناك من امل�ؤرخني والفقهاء ُ‬ ‫منيع على الغزاة‪� ،‬صعود ه�ؤالء �إىل قمم اجلبل‪،‬‬
‫التب�ست‬
‫ْ‬ ‫من ينكر هذه الرواية‪ ،‬ويذهب �إىل انها‬ ‫ووقوع املواجهة احلا�سمة هناك‪ ،‬والتي خا�ضها‬
‫احلقيقية للمعركة التي دارت‬‫ّ‬ ‫مع رواية الواقع‬ ‫العمانيون‪ ،‬على �ضعفهم بب�سالة ق ّل نظريها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫العماين بقيادة الإمام‬ ‫رحاها فعال بني اجلي�ش ُ‬ ‫لكن الن�رص مل يكن حليفهم فوقعت تلك املذبحة‬
‫العمانيني ال�شيخ مهنا‬ ‫الآنف ذكره‪ ،‬من ه�ؤالء ُ‬ ‫التي ي�صفها (مايلز) كالتايل‪�« :‬أبحر الأ�سطول‬
‫بن خلفان اخلرو�صي‪ ،‬الذي يقول �إن تلك املعركة‬ ‫�أوال �إىل �صحار وبعد ذلك �إىل قريات حيث ح�شد‬
‫احلا�سمة‪ ،‬دارت مع (البويهيني) يف جبال‬ ‫العربية‪ ،‬هناك على ال�سهل‬‫ّ‬ ‫الإمام ورد القبائل‬
‫قريات و�صور‪،‬‬ ‫(احلرفان) الواقعة بني بلدتي ّ‬ ‫بني البحر وهوة ال�شيطان‪ ،‬ن�شبت معركة عظيمة‪،‬‬
‫ولي�س يف اجلبل الأخ�رض‪ ،‬والهزمية كانت من‬ ‫والعرب رغم �سوء حالهم مل يقهروا وتراجعوا‬
‫ن�صيب البويهيني الغزاة‪ .‬وان الإمام ورد مل يقتل‬ ‫�إىل وادي الطائيني والحقهم العدو �إىل نزوى‬
‫يف املعركة‪ ،‬و�إمنا انتهت �إمامته بانتهائها وفق‬ ‫حيث �صمدوا ثانية‪ ،‬وكان القتال هذه املرة‬
‫املبد أ� الإبا�ضي حول حكم الأئمة ال�رشاة‪ ،‬و�صار‬ ‫دموية من ال�سابق مما �أدى �إىل دمار القوة‬
‫ّ‬ ‫�أكرث‬
‫بعده الإمام اخلليل بن �شاذان‪.‬‬ ‫العمانية‪ُ ..‬ذبح الإمام ورد يف ميدان املعركة‬ ‫ُ‬
‫�أي �أن ال�شيخ مهنا يذهب على نقي�ض (مايلز) يف‬ ‫و�سقطت البالد حتت �أقدام املنت�رصين‪ ،‬بقي‬
‫الوقائع والأماكن والأحداث‪� .‬إنها حماولة �أخرى‬ ‫اجلبل الأخ�رض وحده منيع ًا‪ ،‬و�إىل املعقل اجلبلي‪،‬‬
‫لل�صعود �إىل اجلبل الأخ�رض‪ ،‬يختلف عليها الروا ُة‬ ‫�أوى الناجون من املعركة‪ ،‬مل يخاطر �أي م�ستعمر‬
‫والرحالة‪ ،‬تنتهي على هذا املنعطف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وامل�ؤرخون‬ ‫�سابق يف مهاجمة هذه املرتفعات اخلطرة‬
‫ملتب�سة مرتبكة حتت الغبار الكثيف لزوابع‬ ‫املتعذرة الو�صول‪ ،‬تراجع العرب م�ستب�سلني يف‬
‫التاريخ واحلَجر‪.‬‬ ‫قتالهم لعدة �أيام ثم بلغوا القمة �أخرياً‪ ..‬وكادت‬
‫ال يوازي حجم اجلبل الأخ�رض يف ارتفاعه‬ ‫املعركة �أن ت�أخذ �آخر مراحلها يف ميدان مفتوح‪،‬‬
‫وكثافته ورعبه (لكن بحطة ونذالة على عك�س‬ ‫كان الكفاح طويال وم�ستميت ًا‪ ،‬لكن ب�شجاعة‬
‫علوه النبيل)‪� ،‬إال حقد ه�ؤالء الغزاة‪ ،‬غزاة الداخل‬ ‫العمانيني اليائ�سة مل ت�ستطع �أن تتغلب على‬ ‫ُ‬
‫يف فرتات االنحطاط‪ ،‬وغزاة اخلارج الذين‬ ‫�أ�سلحة خ�صومهم املتفوقة وتدريبهم العايل‬
‫�أتاحت لهم غفلة التاريخ العربي وانحداره مثل‬ ‫حيث قهروهم يف جمزرة رهيبة‪� ..‬صار ن�ساء‬
‫هذه الفر�صة‪ ..‬ويبدو �أن الأيام يف م�سارها‬ ‫العرب و�أطفالهم بالطبع غنائم للمنت�رصين من‬
‫(م�شرتك) و�أثر مثلما ُتبقي‬ ‫الكا�سح ال ُتبقي على ُ‬ ‫الديلم �أو الفر�س»‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�صـوت الفكـر‪ ،‬الراهـن والتاريخ‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وهم يوغلون يف جوف ال�صحراء وليل اجلبال‪.‬‬ ‫على روا�سب العداء ورغبات االنتقام يف ال وعي‬
‫‪jhj‬‬
‫الب�رشية النائمة‪ ،‬مهما �شطت هذه‬
‫ّ‬ ‫اجلماعات‬
‫الأيام يف التقادم وامل�سار‪..‬‬
‫ذكريات املحارب حماو ًال �أن ي�ستعيد الوقائع‬
‫متد خمالبها �إىل‬
‫«الفتنة نائمة» لكن ها هي ُ‬
‫الع�صية‪ ،‬وهي تهرب منه يف �أعماق الأخاديد‬ ‫ّ‬ ‫الأمام وتتثاءب ‪ ،‬لت�ستيقظ من بني الأنقا�ض‬
‫املليئة بالظلمة و�أزيز الزواحف واحل�رشات‪..‬‬
‫عنقاء الع�صور‪..‬‬
‫ُ‬ ‫والأ�شجار الهرِمة‪،‬‬
‫حني كان يهرب من هول ال َق�صف‪ ،‬من �أخدود‬
‫�إىل كهف‪ .‬يق�ضي الأيام والليايل مع رفاقه‪ ،‬من‬
‫‪jhj‬‬

‫غري معونة وال �إمداد‪ ،‬ي�أكل الأع�شاب والثعابني‬ ‫تتوغل يف‬


‫حاولت فيها �أن ّ‬ ‫َ‬ ‫بعد جولة امل�ساء التي‬
‫ال�صغرية‪..‬‬ ‫�شقوق الأودية اخلالية من املياه‪ ،‬لكن املليئة‬
‫أعداء‬ ‫باخل�رضة‪ ،‬و�أريجها امل�سرت�سل حتى املحيط‪...‬‬
‫لكن املاء‪ ،‬عيون املاء التي �سممها ال ُ‬ ‫ّ‬
‫املدججون‪ ،‬فيجري من نبع �إىل عني عرفها يف‬ ‫برية حمدودة ال تكاد‬ ‫وما كان يرتاءى م�ساحة ّ‬
‫ّ‬
‫طفولته‪ ،‬جميعها ُ�س ِّممت وهو ببندقيته وحمزمه‬ ‫فعم بعزلة‬ ‫ُترى ‪ ،‬تتك�شف عن كون ف�سيح ُم َ‬
‫املليء منت�صفه بالطلقات‪ ،‬يتهاوى �أمام عدو‬ ‫احليوان وال�شجر والإن�سان‪.‬‬
‫متفوق وال مرئي‪.‬‬ ‫تي�س القطيع امل�سرتخي بعذوبة امل�ساء و�سط‬
‫ّ‬
‫البنيتني بالمباالة‬
‫�إناثه اجلميالت‪ ،‬يفتح عينيه ِّ‬
‫‪jhj‬‬
‫ليدلف �آخر �أكرث‬
‫َ‬ ‫ن�شوى كمن يخرج من حلم‬
‫الطائر يحلق فوق الأكمات واله�ضاب‪ ،‬يتبعه‬ ‫رهاف ًة وجماالً‪ ...‬الليل بد أ� يف النزول التدريجي‬
‫ال�سرِ ب بعيونه التي تكاد تخرتق ُحجب الغيب‬ ‫حتى ي�ستوي على عر�ش املكان‪..‬‬
‫باحثة هي الأخرى عن عني ماء‪ ،‬عن غدير ترتاح‬ ‫ويف جوف هذا الليل ميكنك �أن ترى خملوقات‬
‫يف واحته وتروي ظم�أ الأ�سفار الطويلة‪ ،‬متقلبة‬ ‫الوادي ال�سابحة يف ظاللها و�أحالمها‪ ،‬بو�ضوح‬
‫حرها وبردها‪..‬‬
‫بني ِّ‬ ‫�أعمق‪ ،‬ك�أمنا �ستائر الليل تك�شف �أكرث مما تحَ ْ جب‪،‬‬
‫ال�رسب دورات متعاقبة‪ ،‬ت�سقط نظرة الطائر‬
‫ُ‬ ‫يدور‬ ‫وت�شف عن جوهر خبيئ حتت جنح النهار الكا�رس‬ ‫ُّ‬
‫على جثة املحارب الذي ق�ضى عط�ش ًا يف هذه‬ ‫هجعة الليل �ضوء عاطفة‬ ‫و�صخبه‪ْ .‬‬‫َ‬ ‫ب�سطوعه‬
‫امل�سغبة التي تع�شي �رسابات �صخورها �أعني‬ ‫ْ‬ ‫داخلية تخو�ض غمارها كائنات الوادي‬ ‫ّ‬ ‫وحياة‬
‫الطري والب�رش‪ ...‬يدور يف اجتاهات �شتى‪ ،‬يلملم‬ ‫وخملوقات الوجود‪.‬‬
‫احلجري يف نظرة تنق�ض على‬
‫ّ‬ ‫�أطراف الكوكب‬ ‫يلم �شتات امل�شهد‬ ‫�صوت ُج ْد ُجد الليل وح�رشاته‪ُّ ،‬‬
‫النبع املختبئ خلف احلُجب والظالل‪.‬‬ ‫وحداة اجلِمال‬‫�شجن الرعيان ُ‬ ‫يف لحُ مة غنا ٍء ي�شبه َ‬
‫‪10‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�صـوت الفكـر‪ ،‬الراهـن والتاريخ‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والروحية الأخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احل�ضارية‬
‫ّ‬ ‫املكت�سبات‬ ‫‪jhj‬‬

‫�أ�ستح�رض مقولة �أحد علماء البيولوجيا‪ ،‬كون‬ ‫�شعوب احلجر والنبات والأ�شباح‪ ،‬ت�سوق قطعانها‬
‫الإن�سان �أكرث الطفيليات املعدية خطراً على‬ ‫املحملة‬
‫ّ‬ ‫ال�سحب‬
‫دنو ُ‬
‫يف ظالم الظهرية‪ ،‬يف ِّ‬
‫الأر�ض‪..‬‬ ‫بالهواج�س وال�سيول‪.‬‬
‫كان االنتقال من «الطبيعة» لي�س �إال حتطيما لها‬ ‫َحرك ُة الهواء العا�صف فوق �أ�شجار ال�صنوبر‬
‫من غري الو�صول �إىل «احل�ضارة»‪..‬‬ ‫رفيف �أجنحة ل�صقور تخطف الب�رص‬ ‫ُ‬ ‫والبوت‪،‬‬
‫ي�ضمخ الآفاق بندى‬‫ّ‬ ‫يعد ذلك ال�رشوق الذي‬ ‫مل ْ‬ ‫والب�صرية‪ ،‬وهي تنقذف نحو الفري�سة‪.‬‬
‫بكاراته الأوىل‪..‬‬
‫‪jhj‬‬
‫تعد طيور الروح من حتليقها امل�ضني يف‬ ‫مل ْ‬
‫�سماء منافيها و�أ�شجارها العالية‪..‬‬ ‫�أ�سمع مو�سيقى م�ستوحاة من ق�صائد (طاغور)‬
‫جبلية‪ :‬ذلك‬
‫ّ‬ ‫مع حلظة االحتدام لغروب �شم�س‬
‫‪jhj‬‬
‫الورع واالبتهال �أمام الطبيعة والآلهة‪ .‬غابات‬‫َ‬
‫�أيها اجلبل اخل�رض‬ ‫البنغال بنمورها املر ّقطة‪ ،‬ت�سفح دموع ًا‪� ،‬شالل‬
‫يا جبل الكور وجبل �شم�س‬ ‫نقية فوق تالل اجلبل الأخ�رض‬ ‫دموع خال�صة ّ‬
‫ال�شماء‬
‫ويا جبال ظفار ّ‬ ‫الالمعة يف حفل املغيب‪.‬‬
‫التي تتنا�سل يف �أح�شائها النمور‬
‫‪jhj‬‬
‫العمانية‬‫�أيتها اجلبال ُ‬
‫توائم الأحقاب‬ ‫مل تعد اجلبال وال الغابات وال�صحارى‪ ،‬تخبئ‬
‫أزلية‬
‫وقرة عني ال ّ‬ ‫الوح�شية‪ ،‬بهاء القيم الإن�سانية‬
‫ّ‬ ‫خلف ُحجبها‬
‫ّ‬
‫منذ �أزمان و�أزمان‬ ‫واجلمالية الأوىل‪ ،‬تلك التي مل تتلوث مبكت�سبات‬
‫ّ‬
‫ونحن ن�صعد �إليك‬ ‫الوعي الب�رشي كما كان يحلم �أدباء وفال�سفة‪..‬‬
‫لكننا ال ن�صل!‬ ‫(املعومل) يف جوانبه‬
‫ْ‬ ‫بل غزتها قيم ذلك الوعي‬
‫النقية والقلب ‪.‬‬
‫الأكرث تدمرياً لنزوعات الفطرة ّ‬
‫�سيف الرحبي‬ ‫غزتها نفايات وغازات حارقة‪ ،‬من غري تلك‬

‫‪ j‬املقاطع الأخرية من ‪« :‬ال�صعود �إىل اجلبل الأخ�رض»‪.‬‬

‫‪11‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫كتابات‬

‫والية �أدم‪/‬ال�صورة للم�صور �سيف الهنائي‬

‫الأبحاث الأركيولوجية خا�ص ًة �أبحاث امل�صكوكات الإ�سالمية املكت�شفة حديث ًا عن تلك‬


‫احلقبة �أعطت بعداً تاريخيا مادي ًا مغايراً يف درا�سة التاريخ ال ُعماين فحاول كثري من‬
‫الباحثني �إبراز درا�ساتهم بر�ؤية ت�سل�سلية تاريخية ت�سد الفجوات التي كانت غام�ضة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫دولة بني وجيه يف ُعمان‬
‫وعالقات املهادنة والتوتر‬
‫بني املكونني الداخلي واخلارجي‬
‫عبدالرحمن ال�ساملي‬
‫باحث متخ�ص�ص يف الدرا�سات ال ُعمانية‬

‫عما نحن ب�صدد البحث عنه يف هذه الدرا�سة ف إ� ّنا �سن�سلط‬


‫لإعطاء �صورة مبدئية ّ‬
‫ال�ضوء على الأحداث التاريخية التي تلت �سقوط الإمامة ال ُعمانية الثانية على‬
‫يد العبا�سيني بقيادة حممد بن نور ‪ ،893/280‬مما �أحدث �إ�شكاال يف فهم‬
‫الت�سل�سل التاريخي يف كتابة التاريخ العماين والذي نتج عنه ت�شظ يف التدوين‬
‫التاريخي لتلك املرحلة‪ ،‬حيث توزعت درا�سات الباحثني للتاريخ ال ُعماين بعد‬
‫عام ‪� 893/280‬إىل اجتاهات خمتلفة يف م�صادرهم التاريخية‪:‬‬
‫�أ – اعتماد امل�صادر املحلية ُ‬
‫العمانية ‪.‬‬
‫ب – اعتماد امل�صادر غري ُ‬
‫العمانية ‪.‬‬
‫ج – اعتماد الأبحاث الأثرية (الأركيولوجية) ‪.‬‬

‫املدونــة ال ُعمانيـــة تعانــي �إ�شكاليــــة‬


‫الفراغـــات التاريخيـــة وت�سل�سلهــــــا‪..‬‬

‫‪13‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ي�شري ابن خلدون ويتوافق معه امل�ؤرخون‬ ‫العمانية �أنها‬


‫الإ�شكالية يف امل�صادر التاريخية ُ‬
‫ال ُعمانيون ب�أن حممد بن نور بعد هزمية ال ُعمانيني‬ ‫جاءت مت�أخرة وكانت تقاليد التدوين التاريخي‬
‫‪ ،893/280‬يف معركة دماء �آل احلكم �إىل حممد‬ ‫يف تلك املرحلة مب�سطة ال متلأ الفراغ التاريخي‬
‫بن قا�سم ال�سامي‪ ،‬من بني �سامة بن ل�ؤي بن غالب‪،‬‬
‫ولعل ابن خلدون يف كتابته املوجزة يف تاريخه‬ ‫وت�سل�سله‪ ،‬بيد �أن الرجوع �إىل الكتابات الفقهية‬
‫عن ُعمان تف�صح الكثري من املعلومات التي اعتمد‬ ‫العمانية من جهة �أخرى‬ ‫ال�سي ُ‬
‫من جهة وكتابات رّ‬
‫عليها امل�ؤرخون الذين جاءوا من بعده‪ ،‬بيد �أن‬ ‫ك�شفت لنا بع�ض هذا الغمو�ض خالل تلك احلقبة‪،‬‬
‫�أهم االكت�شافات الأركيولوجية التي ف�صحت عن‬ ‫العمانية تربز هذه املرحلة‬ ‫امل�صادر غري ُ‬
‫َ‬ ‫كما � َّأن‬
‫تلك الفرتة كانت م�صكوكات نقدية لبني ال�ص ّفار‪،‬‬
‫وهي �أربع قطع نقدية م�رضوبة يف ُعمان‪ .‬وترجع‬ ‫بداية من القرن ‪4‬هـ‪10/‬م على �أنها �أكرث املراحل‬
‫تواريخها �إىل الأعوام ‪،298 ،295 ،294 ،290‬‬ ‫ن�ضجاً وازدهاراً اقت�صادياً وعمرانياً يف ُعمان‬
‫و�أقدمها �صكت با�سم طاهر بن حممد بن عمر بن‬ ‫وبذا تتداخل الكتابات التاريخية يف مرجعياتها‬
‫الليث و�أحدثها با�سم ال�سبكري وهو غالم ال�ص ّفارين‪.‬‬ ‫وم�صادرها التاريخية ما بني الطربي �أو مع ابن‬
‫وبالربط بني احلدثني يبدو �أن ال�صفارين متكنوا من‬
‫احتالل الأجزاء ال�شمالية من عمان يف تلك الفرتة‬
‫الأثري �أو تعليقات ابن خلدون �أو مع مدونات‬
‫حيث كانت �سرياف متثل امليناء البحري لبالد‬ ‫الكتب اجلغرافية الكال�سيكية العربية عن املدن‬
‫فار�س‪� ،‬أو لعلهم ت�صاحلوا مع حكامها من بني‬ ‫العمانية‪.‬‬
‫ال�ساحلية ُ‬
‫�سامة والة العبا�سيني‪ ،‬وال �شك �أن ال�رصاع الأهم‬ ‫ً‬
‫خا�صة �أبحاث‬ ‫�أما الأبحاث الأركيولوجية‬
‫كان يتمحور حول ال�سيطرة على �صحار ومينائها‬
‫امل�صكوكات الإ�سالمية املكت�شفة حديثاً عن تلك‬
‫الذي و�ضعها يف تناف�س مع ميناء �سرياف يف‬
‫ا�ستقطاب جتارة املحيط الهندي فتذكر امل�صادر‬ ‫احلقبة فقد �أعطت بعداً تاريخيا مادياً مغايراً يف‬
‫اجلغرافية الكال�سيكية �أن �أبناء اجللندى بن كركر‬ ‫العماين فحاول كثري من الباحثني‬ ‫درا�سة التاريخ ُ‬
‫كانوا ي�سيطرون على تلك الأجزاء‪ ،‬وكانوا ي�أخذون‬ ‫�إبراز درا�ساتهم بر�ؤية ت�سل�سلية تاريخية ت�سد‬
‫الع�شور من ال�سفن املارة يف م�ضيق هرمز ومركزهم‬ ‫الفجوات التي كانت غام�ضة ‪.‬‬
‫كان جزيرة ابن كاوان ‪.‬‬
‫�إن هذا الك�شف يكاد ميلي فجو َة عق ٍد من الزمن‬ ‫ومبدئيا يف هذه الدرا�سة �سنحاول اجلمع بني هذه‬
‫�سقط ذكرها يف امل�صادر ال ُعمانية‪ ،‬وبذا تغطي‬ ‫الأوجه الثالثة لإعطاء �صورة ٍ متقاربة للملمت‬
‫املكت�شفات الأثرية للم�صكوكات حموراً مهم ًا عن‬ ‫هذه الت�شظي‪ ،‬لأن الإ�شكالية التاريخية تكمن‬
‫العالقات ال ُعمانية الفار�سية خ�صو�ص ًا � َّأن �سج�ستان‬ ‫يف كيفية الف�صل بني القوى الأربع املتناف�سة‬
‫مركز الدولة ال�صفارية كانت احدى �أهم املواقع‬
‫للثورات اخلارجية هنالك‪ ،‬وكانت باعث ًا لالنف�صال‬ ‫حول ال�سيطرة على عمان‪ ،‬فهنالك مركزية الدولة‬
‫عن العبا�سيني‪ ،‬ومل تو�ضح امل�صادر التاريخية مدى‬ ‫العبا�سية ببغداد‪ ،‬وثانيها القوة البارزة يف �رشق‬
‫هذه العالقة لل�ص ّفارين مع ال ُعمانيني و الذين �أنهيت‬ ‫اجلزيرة العربية للقرامطة‪ ،‬ومن ثم الإمارات‬
‫�إمارتهم يف فار�س مع مطلع القرن ‪4‬هـ‪10/‬م‪.‬‬ ‫ال�ساحلية يف جنوب فار�س املطلة على اخلليج‬
‫�أما التداخـــل الآخر وهو الأهم كان مع القرامطة‬
‫َّ‬
‫ال�صفار‪ ،‬و�أخرياً ال�رصاع‬ ‫وكانت �آنذاك بيد بني‬
‫فامل�صادر ال ُعمانية تذكر ب�أن �أول �صدام كان بفتوى‬
‫من العالمة القيادي �أبو امل�ؤثر ال�صلت بن خمي�س‬ ‫القبلي والعلماء الإبا�ضيون‪.‬‬
‫‪14‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إىل بني �سامة ف�إذا كان االحتمال �صحيح ًا ف�إنه‬ ‫(ت‪.‬ق‪ )287 .‬عندما �أ�صــدر �أوامره بــحــــــرق بيوت‬
‫كان عليه تقوية مركزه يف مدينة �إزكي حيث موطن‬ ‫الـقـــرامطـة �أو ممن تعاون معهم لئال يرجعوا �إليها‬
‫هذه القبيلة‪ .‬و�أما االحتمال الآخر فهو �أنه كان من‬ ‫مت يف ما بني‬ ‫أمر من املحتملِ �أنه َّ‬‫ثانية‪ ،‬وهذا ال ُ‬
‫العتيك حيث بداية ظهور العتيك بها‪ ،‬ولذا جعل من‬ ‫‪283-280‬هـ‪ ،‬لكن حمالت القرامطة مل تتوقف بل‬
‫بهال مركزاً مناف�س ًا لنزوى‪ ،‬وهذا ما ظل اال�ستمرار‬ ‫بدءا من �أبي �سعيد اجلنابي (‪-886/273‬‬ ‫تتابعت ً‬
‫عليه حتى فيما بعد عند النباهنة‪ ،‬ويزيد هذا‬ ‫‪ )913/301‬ومن ثم �أبي القا�سم �سعيد بن �أبي �سعيد‬
‫االحتمال ب�أن �أحمد بن هالل كان من ال ُعمانيني‬ ‫اجلنابي (‪ ،)917/305-913/301‬تبعتها احلملة‬
‫الأزد يف الب�رصة �أو على �صلة بهم وهم يف الأغلب‬ ‫الكربى يف زمن �أبي طاهر �سليمان بن �أبي �سعيد‬
‫من العتيك‪ ،‬حيث عمل يف بالط املقتدر باهلل كاتباً‪،‬‬ ‫(‪ )944/332-917/305‬الذي ا�ستطاع احتالل‬
‫�أو على �صلة به حيث مت تعيينه من قبل‬ ‫معزل‬
‫ٍ‬ ‫�أجزاء وا�سعة يف ُعمان بيد �أن �صحار ظلَّت يف‬
‫املقتدر ليكون نائب ًا عنه يف ُعمان‪ ،‬ولذا �أهم االكت�شافات‬ ‫التو�سع القرمطي حيث ظ َّل واليها �أحمد بن هالل‬‫ِ‬ ‫عن‬
‫ف�إن هذه الإ�شكالية �أدت �إىل اخللط فيما االركيولوجية‬ ‫الذي ذكرته امل�صادر التاريخية كـ«امل�سعودي»‬
‫بني امل�صادر ال ُعمانية وابن خلدون يف‬ ‫يف مروج الذهب‪ ،‬وبزرك بن �شهريار يف «عجائب‬
‫�إي�ضاح مدى متكن عائلة بني �سامة يف �أف�صحت عن‬ ‫الهند» ب�أنه وايل �صحار الأ�شهر �آنذاك‪.‬‬
‫�سيطرتهم على الو�ضع الداخلي بعمان‬
‫وبني �أحمد بن هالل واجلمع بني ُ هذه وجود م�صكوكات‬ ‫�أما ال�صدام الواقع بني القبائل النزارية واليمانية‬
‫ا�ستفادت منه القوى الغازية امل�صادمة فقد �أح�ست‬
‫امل�صادر ي�ؤدي �إىل اال�ستنتاج ب�أن �أحمد نقدية لبني‬ ‫القبائل النزارية دوم ًا ب�إجحاف القبائل اليمانية‪,‬‬
‫بن هالل متت له ال�سيطرة على ُعمان من‬ ‫بينما كانت القبائل اليمانية داعي ًة للثوران �ض َّدهم‬
‫خالل القيادة القبلية حتت �سيطرة بني ال�صفار �ضربت‬
‫وذلك بدعم من الغزاة‪ ،‬و�شكلت القبائل بقيادة الأزد‬
‫�سامة‪ ،‬و�أن �أحمد بن خليل كان والي ًا على يف عمان ما بني‬ ‫ترابط ًا يف �إبقا ِء ُعمان موحد ًة ومتت لهم القيادة‬
‫متكن‬
‫ّ‬ ‫املناطق ال�شمالية من ُعمان بعدما‬ ‫بدعم من العلماء الإبا�ضية‪.‬‬
‫من طرد بني ال�ص ّفار ف�صك العملة با�سمه‪298 - 290( .‬هـ)‬ ‫ٍ‬
‫‪II‬‬
‫لكن ازدهار �صحار رفع من مركز �أحمد‬
‫بن هالل ال�سيا�سي وقوته يف �صدامه‬ ‫بهال‪/‬العتيك و�شخ�صية �أحمد بن هالل ‪.‬‬
‫مع القرامطة الذين كانوا يبحثون عن �أحد املواين‬ ‫اكت�شفت قطع نقدية يف ُعمان �صكت يف �سنة‬
‫التجارية يف ن�شوة �صعودهم ال�سيا�سي‪� ،‬أما‬ ‫‪300‬هـ و�سنة ‪ 305‬با�سم املقتدر باهلل (حكم‬
‫�رصاعهم يف داخلية ُعمان فكان ال يعدو عن بحثهم‬ ‫‪ )932-907/320-295‬يف وجه ويف الوجه‬
‫من الدخل واخلراج كم�صدر‪ ،‬لكنها تواجهت مع‬ ‫الآخر حملت �أ�سم �أحمد بن خليل والأخرى حتمل‬
‫القوة الإبا�ضية التي �شكلت �صدام ًا عنيف ًا وحتدي ًا‬ ‫ا�سم عبداحلامت بن �إبراهيم ‪ .‬بينما ت�شري امل�صادر‬
‫معهم يف مللمة �رشذمة القبائل‪ ،‬وهذا الف�ضل يعو ُد‬ ‫ال ُعمانية ب�أن حممد بن نور عينّ احمد بن هالل من‬
‫فاعل يف �ص ِّدهم‪ .‬بي َد‬
‫ٍ‬ ‫للعلما ِء الذين عملوا كمحركٍ‬ ‫بعده والذي اتخذ مركزه يف �صحار �أو بهال‪ ،‬وكان‬
‫ني � َّأن القرامط َة مل ي�ستطيعوا �أن ُيقيموا‬
‫�أن احلقيق َة ُتب ِّ‬ ‫واليه على نزوى �شخ�ص يدعى «بحرية �أو بجرية»‬
‫مركزاً �سيا�سي ًا لهم يف ُعمان ب�شكل دائم‪ ،‬حيث كانت‬ ‫الذي �رسعان ما قامت ثورة عليه وقتل يف �سنة‬
‫آخر للح�صول على املال‬ ‫حني ل َ‬
‫حمالتهم ت�أتي من ٍ‬ ‫‪ ،895/282‬وا�ستطاع العلماء الإبا�ضية من ن�صب‬
‫حيث اتخذوا من مدينة توام الربميي مركز �إقامة‬ ‫حممد بن احل�سن اخلرو�صي ك�إمام لكنه اعتزل‬
‫لهم يف �شن تلك احلمالت ومن ثم يتحالفون مع‬ ‫وتوالت �أئمة عدة يف ُعمان ‪ .‬وهذا االحتمال يجعلنا‬
‫بع�ض القبائل خالل جبيهم لل�رضائب‪ ،‬وقد �أوجد‬ ‫يف حرية ما �إذا كان �أحمد بن هالل ممن ينت�سبون‬
‫‪15‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ملرحلة جديدة يف الت�ضامن لي�س بني العلماء فقط‬ ‫هذا ال�صدام حتالفا قبليا �سيا�سيا لزعماء القبائل‬
‫بل حتى بني القبائل املتناحرة من بعد �رصاع امتد‬ ‫مع علماء الإبا�ضية يف �ص ِّد القرامطة مع نهاية‬
‫ملا يقارب ‪ 40‬عاماً‪.‬‬ ‫العقد الثاين للقرن ‪ ،10/4‬وهكذا‪ ،‬فقد كانت �آنذاك‬
‫يف الوقت نف�سه مع نهاية العقد الثاين للقرن‬ ‫ثالث قوى بارزة يف ُعمان؛ الأوىل املتمركزة يف‬
‫الرابع الهجري برزت �شخ�صية مهمة تكاد �أن تكون‬ ‫�صحار وال�ساحل واملمتدة من جلفار وحتى قلهات‪،‬‬
‫ال�شخ�صية املحورية يف ُعمان �آنذاك وهو يو�سف بن‬ ‫والأخرى هي العلماء الإبا�ضية يف الداخل وخا�صة‬
‫وجيه‪ ،‬وهو ال�شخ�صية التي ال تزال تثري الكثري من‬ ‫بني مدن �سل�سلة جبال احلجر الغربي‪ ،‬والثالثة‬
‫الت�سا�ؤل حتى الآن‪ ،‬من هو؟ و�إىل �أي جهة ينتمي؟‬ ‫القرامطة الذين اتخذوا من توام مركزاً لهم‪.‬‬
‫و ملن ترجع �أ�صوله؟ ولعل هذه الإ�شكاليات هو ما‬ ‫خالل فرتة �أبي �سعيد اجلنابي يبدو �أن القرامطة‬
‫�أثار �شغف امل�ست�رشقني خالل قراءاتهم يف ا�ستق�صاء‬ ‫اجتاحوا املناطق الداخلية وو�صلوا �إىل نزوى لكنهم‬
‫تاريخ تلك املرحلة البحث عنه و �إثارة الفر�ضيات‬ ‫�رسعان ما تراجعوا عن ذلك نتيجة الثورات الداخلية‪،‬‬
‫حوله‪ ،‬و لذا حاول مايلز بداية التخمني ب�أنه من‬ ‫وكانت حمالتهم �شبه ال�سنوية ال متلك ر�ؤية حمددة‬
‫جنود الرتك املبعوثني من قبل العبا�سيني‪ ،‬بينما‬ ‫يف مطالبها ال�سيا�سية غري جباية الغرم (ال�رضائب)‪،‬‬
‫يعتقد ويلكن�سون ب�أنه له جذور مت�صلة بالقرامطة‬ ‫لكن اعقابه من بعده �أبو القا�سم و�أبو طاهر غريوا‬
‫وهذه التخمينات حثت الباحثني على حماولة‬ ‫نظرتهم اال�سرتاتيجية نحو التطلع �إىل جتارة اخلليج‬
‫ا�ستك�شاف هذه ال�شخ�صية وذلك ل�سببني ‪:‬‬ ‫بال�سماح للقرامطة من قبل العبا�سيني با�ستخدام‬
‫‪ – 1‬القطع النقدية الأثرية امل�ستك�شفة حديث ًا عنه‬ ‫ميناء �سرياف عام ‪ ،304‬ب�إ�رشاف الوزير علي‬
‫والتي �أثارت ف�ضولهم ‪.‬‬ ‫بن عي�سى‪ ،‬لكن ما �أن عزل الوزير علي بن عي�سى‬
‫‪ – 2‬ما �أ�شار �إليه امل�ؤرخون الكال�سيكيون بـو�صفه‬ ‫باتهامه مبهادنة القرامطة حتى هاجم القرامطة‬
‫ونعوت �أخرى ودونت �أخباره‬ ‫ٌ‬ ‫«�صاحب ُعمان»‬
‫ُ‬ ‫الب�رصة عام‪ 311/307‬و�أدعى �أبو طاهر �أن‬
‫الكتب الكال�سيكية‪ ،‬ولذا ُيع ّد ال�شخ�صية الأبرز يف‬ ‫الب�رصة والأهواز ملك ًا له وتو�سعا لنفوذه الإقليمي‪.‬‬
‫التاريخ ال ُعماين خالل القرن ‪.10/4‬‬ ‫ومن جانب �آخر جنح �أحمد بن هالل يف �إحكام‬
‫فالتنوخي يف «ن�شوار املحا�رضة» يروي عن عالقة‬ ‫ال�سيطرة على �صحار وحتويلها �إىل ميناء‬
‫مهمة بني يو�سف بن وجيه و�أحمد بن هالل‪ ،‬ويذكر‬ ‫الإمرباطورية الإ�سالمية و�إبعاده للقرامطة عنها وقد‬
‫ب�أن �أحمد بن هالل هو خال يو�سف بن وجيه‪،‬‬ ‫ا�ستمر هذا النجاح متوا�ص ًال �إىل عام ‪،927/315‬‬
‫وهذه الإ�شارة مهم ٌة يف تفنيد �شخ�صيته‪ ،‬ولذا يغلب‬ ‫وهو العام الذي ميكن �أن نخمن فيه وفاة �أحمد بن‬
‫الظن ب�أن يو�سف بن وجيه كان من قبائل احل ّدان‬ ‫هالل حيث ال يذكر ا�سمه يف امل�صادر التاريخية‪،‬‬
‫ثم خلف‬ ‫املتحالفة مع النزارية‪ ،‬وقد ن� أش� ببهال‪ ،‬ومِ ن َّ‬ ‫وخل َف ُه من بعده عبداحلامت بن �إبراهيم‪ ،‬ب�أمر من‬‫َ‬
‫�أحمد بن هالل يف �صحار‪ ،‬والإثباتات الأثرية للقطع‬ ‫املقتدر باهلل العبا�سي بح�سب القطع النقدية التي‬
‫ابتداء من �سنة ‪317‬هـ حينما‬ ‫ً‬ ‫ري �إىل ذلك‬
‫النقدية ت�ش ُ‬ ‫اكت�شفت حتى الآن‪ ،‬وبهذا العام ‪315‬هـ نهاية حقبة‬
‫�ساعدته جذوره القبلية و�سطوتها يف اال�ستيالء على‬ ‫بني �سامة �أو والية �أحمد بن هالل على ُعمان ‪.‬‬
‫�صحار ‪.‬‬ ‫�أما يف الداخل العماين فقد م َّثل النجاح للعلماء‬
‫فبح�سب ما و�صلنا من العمالت النقدية الأثرية الآتي ‪:‬‬ ‫الإبا�ضيني والت�صالح بعد ال�رصاع ال�شديد بني‬
‫�أحمد بن خليل ‪912/300‬‬ ‫علماء املدر�ستني الر�ستاقية والنزوانية برعاية‬
‫عبداحلامت بن �إبراهيم‪917/316‬‬ ‫العامل املحايد نبهان بن عثمان بعد �أن عقد‬
‫و�أغلب الظن �أنهما كانا واليني للعبا�سيني على‬ ‫الإمامة لأبي القا�سم �سعيد بن عبداهلل الرحيلي عام‬
‫املناطق ال�شمالية بها‪ ،‬ولعل مركزهم كان يف دبا �أو‬ ‫‪ ،932/320‬والذي ذكره نورالدين ال�ساملي كبداية‬
‫‪16‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على �صحار تعني احلكم املطلق على عمان �أم على‬ ‫جلفار‪� .‬أما اال�ستنتاج الآخر الذي كان يعتمد �سابق ًا‬
‫�صحار وما حولها‪ ،‬لقد ظلت حماوالت العلماء‬ ‫بح�سب امل�صكوكات ب�أن الرتتيب الزمني حلكم‬
‫الإبا�ضيني يف جعل املنطقة اجلبلية الداخلية ذات‬ ‫ُعمان هو كالآتي ‪:‬‬
‫ا�ستقالل كلي ومبحاوالت متعددة وب�شكل متقطع‬ ‫�أحمد بن خليل ‪305-290‬‬
‫يف ال�سنوات ما بني ‪ 295-282‬ومل ي�ستطع العلماء‬ ‫�أحمد بن هالل‪316-306‬‬
‫خالل تلك الفرتة مللمة الت�شظي يف البالد ب�صورة‬ ‫عبد احلامت بن �إبراهيم‪317-316‬‬
‫كلية‪ ،‬خ�صو�ص ًا عندما كانت املواجهة مع طرفني‬ ‫فامل�ؤرخون الذين حاولوا �س َّد الفجو ِة الزمنية يف‬
‫�صعبني‪ ،‬فوالة العبا�سيني كانوا على ال�سواحل‪،‬‬ ‫الت�سل�سلِ التاريخي العماين اعتقدوا ب�أن �أحمد بن‬
‫وحمالت القرامطة ت�شن على الداخل من جهه توام‪،‬‬ ‫خليل هو �أحمد بن هالل ولكن هذا م�ستبعد‪ ،‬ف�أحمد‬
‫و ال ميكن الإنكار �أن الذي جنح يف توحيد �صف‬ ‫بن خليل �أدرج يف هذا الت�سل�سل بح�سب امل�صكوكات‬
‫العمانيني �آنذاك هي االيديولوجيا الإبا�ضية من‬ ‫الأثرية املكت�شفة بينما �أحمد بن هالل ذكر يف‬
‫خالل العلماء‪ ،‬فقد ظل جتمعهم وحتالفهم متوا�صال‬ ‫امل�صادر التاريخية‪ ،‬وهو ما يحيلنا �إىل كيفية‬
‫نحو هدف واحد ي�صبون �إليه وهو اال�ستقالل‪ ،‬ولذا‬ ‫�إمكان اجلمع بني هذين االجتاهني املت�ضادين‪،‬‬
‫فقد ظل العلماء �أ�شبه باملحرك الرئي�سي يف هذا‬ ‫فيمكن القول �أنه من املحتمل ب�أن كل حاكم‬
‫النهو�ض بالرغم من االنتكا�سات التي ح�صلت لديهم‪،‬‬ ‫منطقة يف عمان كان ي�صكُّ العملة با�سمه مما‬
‫حتى حني اعتنقت بع�ض القبائل الفكر القرمطي‪� ،‬أو‬ ‫�أحدث تنوع ًا يف امل�صكوكات املكت�شفة ‪ .‬وحاليا‬
‫�ساندت القرامطة يف حمالتهم �أو حني اعتنق �أحد‬ ‫مت الك�شف عن قطعـة نقديـة تـم �صكها يف ُعمان‬
‫الأئمة فكرهم وهو انت�ساب الإمام �أبو �سعيد احلداين‪،‬‬ ‫عـام ‪299‬هـ‪ 912-911/‬حتمـل فـي وجههـا الأول‬
‫والذي عرف بعد ذلك ب�أبي �سعيد القرمطي مل يثنهم‬ ‫�أحمـد بن هـالل وفـي الوجـه الأخـر اخلليفـة العبا�سي‬
‫املقتـدر باهلل ‪ ،895/282‬وهذا الدرهم موجود يف‬
‫عن النهو�ض‪ ،‬وحتالفوا مع زعماء القبائل ليحدثوا‬
‫املتحف الوطني بالدوحة‪/‬دولة قطر‪ ،‬وهذه القطعة‬
‫رابط ًا وثيق ًا طوال التاريخ العماين‪.‬‬
‫تو�ضح � ًّأن الوال َة العبا�سيني يف ُعمان كانوا من بني‬
‫بيد �أن ظهور يو�سف بن وجيه �صاحبه عق ُد الإمام ِة‬
‫�سامة‪ ،‬و كانوا ميثلون الدعامة القبلية يف التعاون‬
‫على �أبي القا�سم �سعيد بن عبداهلل بن حممد بن حمبوب‬
‫مع العبا�سيني �أي بني النزاريني �ضد اليمانيني‪.‬‬
‫الرحيلي‪ ،‬حفيد �آخر قادة الإبا�ضية يف الب�رصة‪،‬‬ ‫فمبدئي ًا لفهم الت�سل�سل التاريخي لدولة بني وجيه‬
‫وكان عقد الإمامة عليه عام ‪320‬هـ‪ 932/‬بح�سب‬ ‫من خالل امل�صكوكات الأثرية املكت�شفة ت�شري على‬
‫ا�ستنتاج نور الدين ال�ساملي‪ ،‬وقد جنحت �إمامته‬ ‫النحو الآتي ‪:‬‬
‫مل االفرتاق العماين يف الداخل و�إخراج الإمامة‬ ‫يف ّ‬ ‫اوال ‪ :‬يو�سف بن وجيه متتد الفرتة بني ‪� 317‬إىل‬
‫‪ 332‬قطع متعددة ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬حممد بن يو�سف‪333‬هـ و ‪335‬هـ قطعتني ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬عمر بن يو�سف‪� 341‬إىل ‪ 350‬قطع متعددة ‪.‬‬
‫هذه القطع النقدية بح�سب مدلولها يف الت�سل�سل‬
‫الأركيولوجي متكننا من تعيني بداية دولة بني‬
‫وجي َه يف عمان وهو عام ‪ ،929/317‬او قبلها حيث‬
‫متكن يو�سف بن وجيه من ا�ستالم ال�سلطة ب�صحار‬
‫بعدوفاة خاله �أحمد بن هالل‪ ،‬والذي يثري االهتمام‬
‫والت�سا�ؤل عن تلك الفرتة �آنذاك‪ ،‬هل كانت ال�سلطة‬
‫‪17‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اجلبلية‪ ،‬ومل متتد �إىل ال�سواحل البحرية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املناطق‬ ‫من النفوذ القبلي لأول مرة‪ ،‬وكانت �أهمية الإمام‬
‫على �أثر ذلك حدثت مرا�سالت بني �أهل بهال ويو�سف‬ ‫�أبي القا�سم يف �إعادة �رشعية الإمامة و�سلطاتها‬
‫بن وجيه �ضد الإمام على الرغم من حماوالت‬ ‫وت�أثريها على ُعمان‪ ،‬ولذا ي�ؤكد نور الدين ال�ساملي‬
‫الإمام �إثناء �أهلها عن ذلك �إال �أن �أهلها عزموا على‬ ‫�أن �أوىل ال�صدامات التي متت بني الطرفني بد�أت‬
‫التحالف مع يو�سف بن وجيه وقد ان�ضموا �إىل جي�ش‬ ‫من نزوى ولكن �رسعان ما امتدت �سلطات الإمام‬
‫يو�سف بن وجيه الذي انتقل من �صحار �إىل عربي‬ ‫لت�شمل مناطق جبال احلجر الغربي حيث ا�ستوىل‬
‫ثم اجته اجلي�شان �إىل نزوى‬ ‫ومنطقة الظاهرة ومن َّ‬ ‫على الر�ستاق واملناطق املحيطة بها و�أزاح يو�سف‬
‫وتذكر‬
‫ُ‬ ‫وفر الإمام بعد انهزام ُه‬
‫ومتكنوا من احتاللها َّ‬ ‫بن وجيه من �صحار‪ ،‬لكن العالقة بقيت مهادنة بني‬
‫امل�صادر ب� َّأن يو�سف بن وجيه �أعطاه الأمان‪ ،‬ولعل‬
‫ُ‬ ‫الطرفني‪ ،‬وكما �أنها �أوجدت ر�ؤي ًة م�شرتك ًة ا�ستطاعت‬
‫ني زعما ِء القبائل مع يو�سف بن‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫التحالف‬ ‫هذا‬ ‫�إزاحة القرامطة و�أبعدتهم �إىل املناطق احلدودية يف‬
‫�ضجت البال ُد من‬
‫مت ب�إرادة موحدة بعد �أن َّ‬ ‫وجيه‪َّ ،‬‬ ‫احلي ّز ال�صحراوي‪ ،‬و�أوجدوا �صيغ ًة للتعاون امل�شرتك‬
‫التدخل القرمطي فر�أوا يف �شخ�صية ابن وجيه زعام ًة‬ ‫بينهما‪ ،‬ف�أبو مالك غ�سان بن اخل�رض ال�صالين‪ ،‬كان‬
‫موحد ًة لهم‪ .‬وب�سقوط �إمامة را�شد بن الوليد و�صفت‬ ‫قا�ضي الإمام على �صحار‪ ،‬ومن بعده توىل تالميذه‬
‫امل�صادر ال ُعمانية والعربية الكال�سيكية بنعت �سلطة‬ ‫الق�ضاء يف �صحار ودما يف واليتي �أحمد بن هالل‬
‫يو�سف بن وجيه �أنها املطلقة على ُعمان بل و�صف‬ ‫ثم يو�سف بن وجيه‪ ،‬وهذا يدل على �أن كليهما من‬
‫�صاحب «ك�شف الغم ًة ب�أن البالد دانت له من (هجر)‬ ‫الو�سط العماين خالف ًا ملا يعتقده البع�ض‪ ،‬ومن جهة‬
‫ما بعد (الأح�ساء) وحتى (جبال عوان) يف اجلنوب‬ ‫�أخرى �شهدت تلك الفرتة نهو�ض ًا علمي ًا بارزاً يف‬
‫من اجلزيرة العربية حتت �إمرته‪.‬‬ ‫عمان مع القطبني �أبي حممد عبداهلل بن بركة و�أبو‬
‫و�إذا ما �أردنا تعيني الأمر بدقة يف بداية نفوذ يو�سف‬ ‫�سعيد بن �سعيد الكدمي‪ ،‬وكالهما كانا من منطقة‬
‫العثور حالي ًا على دره ِم ف�ضة يحمل‬ ‫ُ‬ ‫مت‬
‫بن وجيه َّ‬ ‫بهال‪ .‬و�إن كان بح�سب ما يذكر نور الدين ال�ساملي � َّأن‬
‫مت �صكه عام ‪314‬هـ‪،926/‬‬ ‫ا�سم يو�سف بن وجيه َّ‬ ‫كال الإمامني �أبو القا�سم ومن بعده را�شد بن الوليد‬
‫وهي يف جمموعة خا�صة يف �سوي�رسا‪ ،‬وتتميز هذه‬ ‫كانا �إمامي دفاع ومل ي�صال �إىل �إمامة الظهور �أو‬
‫العملة بت�صميمها غري امل�ألوف ووزنها امل�ضاعف‬ ‫ال�رشاء‪ .‬وكما �أ�رشنا �سابقا يبدو �أن العالقة بقيت‬
‫يجعلها متميزة عن العمالت امل�ألوفة يف ذلك احلني‪،‬‬ ‫مهادنة بني الإمام �أبي القا�سم ويو�سف بن وجيه‬
‫وتزيد يف فرتة حكمه املمتدة وزيادة على ما وجد‬ ‫ومل يذكر �أن معارك ذات �أهمية حدثت بني الطرفني‬
‫يف اال�ستك�شافات ال�سابقة توجد عمالت متعددة‬ ‫حتى نهاية �إمامة الإمام �أبي القا�سم يف معارك‬
‫ليو�سف بن وجيه يف فرتات خمتلفة ممتدة من‬ ‫قبلية لأجل �س ّد الفتنة يف الر�ستاق ا�ست�شهد فيها‬
‫عام‪ 929/317‬وحتى ‪ 943/332‬وهذه العمالت‬ ‫الإمام عام ‪.939/328‬‬
‫يف واقع الأمر توثق االمتداد الزمني للفرتة الوجيهية‬ ‫مت عق ُد الإمام ِة لرا�شد بن الوليد الكندي‬ ‫ومن ثم َّ‬
‫يف ُعمان‪ .‬و�إن تكرار القطع النقدية يف فرتات زمنية‬ ‫والذي يبدو � َّأن املدر�سة الر�ستاقية كان لها الأثر‬
‫متداخلة يحدث �إرباكا يف التمييز بني فرتات احلكم‬ ‫الكبري يف دعمه‪ ،‬لكن �رسعان ما حدث ال�صدام‬
‫ك ٌل على ح َدة‪ ،‬وحدود نفوذه‪ ،‬فقد ظهرت خالل فرتة‬ ‫بينه وبني يو�سف بن وجيه حينها‪ ،‬و�أقام اجلمعات‬
‫يو�سف بن وجيه قطع نقدية البنيه حممد وعمر‪.‬‬ ‫حتت رايته يف نزوى‪ ،‬وحاول الإمام بعد ذلك‬
‫فالأول ُوجدت له قطع نقدية �صكت با�سمه ابتداء‬ ‫اال�ستيالء على مدن �شمال احلجر الغربي وجنح يف‬
‫من �سنة ‪ .937/326‬وهذه القطع النقدية عبارة عن‬ ‫ذلك‪ ،‬وتويف على �أثرها وزيره �أبو حممد عبداهلل بن‬
‫دراهم ف�ضة �صكت يف ُعمان كتب عليها‪« :‬يو�سف‬ ‫حممد بن �أبي امل�ؤثر بالر�ستاق يف معركة الغ�شب‬
‫بن وجيه‪/‬حممد بن يو�سف مع عبارة «الرا�ضي‬ ‫ورغم متكنه من ذلك لكن بقيت �سلطاته حمدودة يف‬
‫‪18‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إ�شكاليات ال�صدام مع العلماء يف الداخل‪ ،‬والتوجه‬ ‫باهلل» «اخلليفة العبا�سي حكم ‪ ،»933/322‬ثم‬
‫نحو ال�سيطرة التجارية يف املنطقة وحتى الآن مل‬ ‫وجدت بعد ذلك قطع نقدية �صكت يف الأعوام الآتية‬
‫يعب عن تلك احلقبة‪،‬‬
‫جند �أي �أثر تاريخي �أركيولوجي ِرّ‬ ‫‪ 943-942-941/332-331-330‬وظهرت‬
‫والتدوين التاريخي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�إال العمالت التي �صكَّت يف زمنه‬ ‫تلك الأ�سماء مع ا�سم اخلليفة العبا�سي «املتقي باهلل‬
‫وقد كانت هنالك عالقتان متميزتان يف‬ ‫«‪.»944-940/333-329‬‬
‫فرتة حكمه‪ ،‬الأوىل عالقته مع العبا�سيني �شهدت فرتة‬ ‫�أما عمر بن يو�سف فوجدت له قطع نقدية �صكت‬
‫و الأخرى مع القرامطة‪ .‬و�سنو�ضح عالقته‬ ‫با�سمه ويظهر على الظهر الآخر ا�سم اخلليفة العبا�سي‬
‫يو�سف بن‬ ‫مع كال الطرفني‪:‬‬ ‫«املطيع باهلل» (حكم ‪ ،)945 /334‬وهذه القطع‬
‫وجيه يف‬ ‫النقدية من الدراهم �صكت يف ال�سنوات الآتية ‪-341‬‬
‫‪ -1‬العالقة الوجيهية مع القرامطة‪:‬‬ ‫دينار‬ ‫‪ ،961-954-952/350-343‬كما اُكت�شف‬
‫لقد �أدرك ابن وجيه القوة املجاورة له ُعمان ازدهاراً‬ ‫ٌ‬
‫ُ�ص َّك عام ‪ 956/345‬حمفوظ لدى اجلمعية الأمريكية‬
‫وهي القرامطة‪ ،‬وبد�أ مبرحلة التعاون اقت�صادي ًا‬ ‫للقطع النقدية‪ ،‬لذلك يعتقد نور الدين ال�ساملي �أن‬
‫الوجيهي – القرمطي‪ ،‬فيو�سف بن وجيه‬ ‫�إمامة را�شد بن الوليد انتهت يف عام ‪953/342‬‬
‫كان متوج�س ًا من خطر القرامطة‪� ،‬إذا وجتارياً‬ ‫بنا ًء على ما ذكر يف بيان ال�رشع �أن ُعمان �صارت‬
‫ما ا�ستولوا على �صحار وعلى املنطقة‬ ‫�إىل ُحكَّام اجلور‪ ،‬وي�شري �إىل ذلك التاريخ بنهاية‬
‫ال�ساحلية‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن فرتة نهو�ض ابن خ�صو�صا‬
‫الإمامة‪ ،‬ويف اعتقادي �أن �إمامة الإمام را�شد بن‬
‫وجيه تزامنت مع �أوج النهو�ض القرمطي يف التجارة‬ ‫الوليد مل ت�ستمر طوي ًال بل يحتمل �أنها مل تتجاوز‬
‫يف عهد �أبي طاهر القرمطي (‪-917/305‬‬ ‫ب�ضع �سنوات‪ ،‬حيث �أنه �رسعان ما �أ�صيبت الإمامة‬
‫‪ ،)944/332‬وهذه امل�صاحلة مكنت ابن البحرية‬
‫بت�ضع�ضع مل ت�ستطع مقاومته بل ومن املحتمل �أنها‬
‫وجيه من ال�سيطرة على التجارة البحرية يف املحيط‬ ‫مل تتجاوز العام ‪332‬هـ‪ ،943/‬حني متكن يو�سف‬
‫و�إزاحة القرامطة عنها بطريقة �سلمية‪،‬‬ ‫بن وجيه من �إنهاء الإمامة‪� ،‬أما العام ‪342‬هـ‪953/‬‬
‫حينها كانت جتارة اخلليج متقا�سمة بني الهندي مما‬ ‫فهو يف الواقع وفاة يو�سف بن وجيه‪ ،‬ومث َلّت هذه‬
‫القرامطة يف �ضفتي اخلليج فالغربية وكان مكنه من‬ ‫النهاية فراغُ احلكم يف الدولة الوجيهية وبداية‬
‫ي�سيطر عليها جتار �سرياف يف فار�س ومن‬ ‫التدخل البويهي و�رصاعهم مع القرامطة‪ ،‬وال�صدام‬
‫اجلانب ال�رشقي �صحار يف ُعمان‪ ،‬وهذا ال�سيطرة‬ ‫مع القبائل ال ُعمانية‪ ،‬و�سي�أتي ذكره الحقا‪.‬‬
‫التناف�س يف التجارة البحرية �آنذاك بني على ال�سواحل‬ ‫‪III‬‬
‫مدينتي �صحار و�سرياف �أحكم ال�سيطرة‬ ‫لقد �شهدت فرتة يو�سف بن وجيه يف ُعمان ازدهاراً‬
‫العمانية‬ ‫يف �إبقاء خطوط التجارة البحرية مبعدة ُ‬ ‫اقت�صادي ًا وجتاري ًا بل كانت تعبرّ عن مرحلة ازدهار‬
‫عن نفوذ القرامطة وهو ما �أ�ضعف القوة‬ ‫التجارة البحرية يف املحيط الهندي �آنذاك وقد‬
‫القرمطية بحيث بقيت قوة قبلية بدوية‬ ‫جعل متكنه من �صحار تقوية ل�سلطاته و�سيطرته‬
‫يف �صحارى اجلزيرة العربية مل ت�ستطع النفوذ �إىل‬ ‫على ال�سواحل ال ُعمانية‪� ،‬إ�ضافة �إىل م�ساندة القبائل‬
‫خارجها‪ ،‬كما �أن �صدامهم مع الفاطميني �أبعدهم‬ ‫النزارية له‪ ،‬امتداد لنفوذه بني جبال احل ّدان ال�شمالية‬
‫عن �أعوانهم الإ�سماعيليني من جهة �أخرى‪ ،‬كما �أن‬ ‫وحتى واحات توام الربميي مما جعل املناطق‬
‫النهو�ض ال�شيعي يف فار�س على يد البويهيني �سحب‬ ‫الداخلية حم�صورة و�شبه معزولة لكنها كانت يف‬
‫ال�شطر الأخر من هذا ال�رصاع‪ .‬فتمكن ابن وجيه من‬ ‫قب�ضته و�سلطته وبالرغم من ت�صدع القبائل اليمانية‬
‫ال�سيطرة على جبال ُعمان وو�سطها وا�ستطاع بحنكته‬ ‫وحتالفها مع العلماء يف الداخل �ضده من حني‬
‫ال�سيا�سية منع التدخل القرمطي‪ ،‬كما �ساعده ذلك يف‬ ‫لآخر‪ ،‬وكان ان�سحاب ًا �سيا�سي ًا ذكيا يف االبتعاد عن‬
‫‪19‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫نفوذهم من اجلنوب العراقي حيث بقوا حم�صورين‬ ‫ا�ستقرار ال�ش�أن الداخلي فقويت �شوكته للم�صادمة‬
‫يف منطقة الأح�ساء‪.‬‬ ‫معهم وقد كان متمنع ًا يف كثري من الأحيان نتيجة‬
‫‪IV‬‬ ‫قوى العلماء املتحالفة مع زعماء القبائل وكانت‬
‫دائمة ال�صدام مع القرامطة‪.‬‬
‫�أما درا�سة العائلة الوجيهية بعد يو�سف بن وجيه‬
‫يف ت�سل�سلها التاريخي فمعرفة ذلك تكمن من خالل‬ ‫ب‪ -‬العالقة مع العبا�سيني‬
‫امل�صكوكات النقدية التي مكنتنا من تتبع الت�سل�سل‬ ‫�أما عالقته مع العبا�سيني فيمكن اجلزم الأويل بح�سب‬
‫العائلي‪ ،‬فمحمد بن يو�سف كان نائب ًا لوالده وقائم ًا‬ ‫فح�ص امل�صكوكات ال�سابقة ب�أن ابن وجيه ظ َّل حمتفظ ًا‬
‫على �أعماله يف حياته و�سمح له ب�صك العملة‬ ‫�صحيح ف�شهر ُته يف‬ ‫بوالئه للعبا�سيني‪ ،‬بيد � َّأن العك�س‬
‫ٌ‬
‫ب�إ�سمه‪� ،‬إال �أنه فيما يبدو تويف ووالده ال يزال على‬ ‫امل�صادر التاريخية عرفت �أو ًال ببدء ال�صدام بينه وبني‬
‫قيد احلياة‪ ،‬فلم ُيعرث ملحمد بن يو�سف بن وجيه �أية‬ ‫فهم‬‫الوزير العبا�سي علي بن مقلة حيث �أ َّدت �إىل �سو ِء ٍ‬
‫قطع نقديةٍ ُ�ص َكّت با�سمه بعد العام ‪.946/335‬‬‫ٍ‬ ‫يف العالقة بينهما �إىل �أن تطو َّرت ب�شدة‪ ،‬وبعدها رف�ض‬
‫ولذا توىل عمر بن يو�سف احلكم بعد والده حيث ظهر‬ ‫ابن وجيه االن�صياع للدول ِة املركزية واال�ستقالل التام‪،‬‬
‫ذلك يف امل�صكوكات بد ًءا من عام‪ 952/341‬وهو‬ ‫ومن ث َّم ا�شتهر �أكرث من خالل احلادثني ال�شهريين‬ ‫ِ‬
‫عام وفاة يو�سف بن وجيه‪ ،‬وقد �أ�شار �إىل ذلك �صاحب‬ ‫الأول يف حماولته الحتالل الب�رصة عام ‪942/331‬‬
‫بيان ال�رشع ب�أنه العام الذي بد أ� فيه اال�ضطراب يف‬ ‫حينما حاول الربيديون يف الب�رصة ا�ستغالل نفوذهم‬
‫ُعمان‪ .‬فقد حدثت حتوالت �أثر وفاة يو�سف بن وجيه‬ ‫يف احتكار جتارة اخلليج فرفعوا الر�سوم وال�رضائب‬
‫حينما توىل عمر بن يو�سف ‪ 952/341‬وبد�أت �صفحة‬ ‫ف�شن عليهم ابن وجيه حرب ًا كادت تتكلل‬ ‫على ال�سلع‪َّ ،‬‬
‫�أخرى يف العالقة ال ُعمانية مع الدولة املركزية يف‬ ‫وح ِرقَ �أ�سطوله‪.‬‬
‫بالنجاح �إال �أنها ف�شلت يف النهاية ُ‬
‫بغداد‪ ،‬فقد عني عمر بن يو�سف نافع ًا موال ُه وزيراً‬ ‫�أما الثاين فجاء بتحالفه مع القرامطة م�ضاد ًة‬
‫وقائداً جلي�شه‪ ،‬وعلى �إثر ذلك ف�سخ عمر حتالفه مع‬ ‫فار�س وموانيها‬ ‫َ‬ ‫للبويهيني الذين ا�ستولوا على‬
‫القرامطة و�أعلن ان�ضمامه للبويهيني لكن ذلك مل يدم‬ ‫التجارية وبالأخ�ص �سرياف ف�سيطروا على جتارة‬
‫طوي ًال حيث �أن القرامطة حاولوا �س ّد الفراغ اثر وفاة‬ ‫اخلليج البحرية من جهة كما �أ�صبحت لهم ال�سيطرة‬
‫يو�سف بن وجيه وا�ستطاعوا احتالل عمان‪ ،‬ويبدو �أن‬ ‫الأوىل يف مركز اخلالفة بغداد‪ ،‬وكان ذلك يف‬
‫عمر بن يو�سف اغتاله خادمه نافع عام ‪962/352‬‬ ‫عام‪ ،952/341‬حيث اجته هو بالأ�سطول البحري‬
‫حيث مل يعرث على م�صكوكات له بعد عام‪.961/350‬‬ ‫ولكن وزير ع�ضد الدولة‬ ‫َّ‬ ‫واجته القرامطة من الرب‪،‬‬
‫وعلى اثر ذلك �أر�سل معز الدولة وزيره �أبا حممد‬ ‫املعروف (�أبي حممد املهلبي) ا�ستوىل على الب�رصة‬
‫لكن الوزير‬
‫املهلبي عام ‪ 963/352‬الحتالل عمان َّ‬ ‫و�ص ّدهم عنها‪.‬وهذان احلادثان مهمان يف معرفة‬
‫الرابط التاريخي للتجارة البحرية الإ�سالمية‬
‫املبكرة املمتدة بني �صحار وحتى الب�رصة وامل�ؤث ِّر‬
‫االقت�صادي بني املوانئ البحرية والأ�سواق يف‬
‫املدن الكربى يف العامل الإ�سالمي‪.‬‬
‫وكان هذا احلادث هو النهاية ال�سيا�سية ليو�سف بن‬
‫وجيه وحلفائه القرامطة معاً‪ ،‬حيث تويف يو�سف‬
‫بن وجيه على اثرها يف ُعمان‪� .‬أما القرامطة فكان‬
‫ظهور البويهيني يف فار�س كا�سح ًا لهم يف نهايتهم‬
‫التجارية يف اخلليج‪ ،‬وفقدوا �سيطرتهم وتقل�ص‬
‫‪20‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫كتابات‪ ..‬كتابات‪ ..‬كتابات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مت �صكه يف ُعمان با�سم «علي بن �أحمد» ويف‬ ‫مر�ض يف البحر وتويف ومل تنجح احلملة‪ .‬بيد �أن معز‬
‫الوجه الآخر «املطيع هلل‪/‬ال�سيد»‪ ،‬وا�ستوىل �أحمد‬ ‫الدولة مل ينثن ف�أعاد احلملة بقيادة كردك النقيب‬
‫بن علي على البالد بالرغم من حماولة �أحد العلماء‬ ‫‪ 965/354‬ومتكن خاللها من احتالل �صحار‪ ،‬ومت‬
‫ال ُعمانيني مل ُيذكر ا�سمه يف دعم البويهيني وتعيني‬ ‫تعيني نافع نائب ًا و�أقام اخلطبة لهم‪ ،‬ويذكر ابن الأثري‬
‫ثم انتخب ال ُعمانيون من بعده‬‫ابن طغان �إال �أنه ُقتِل َّ‬ ‫�صك العملة ب ُعمان با�سم معز الدولة منذ ذلك‬ ‫�أن نافع َّ‬
‫عبدالوهاب بن �أحمد بن مروان الذي حاول �إر�ساء‬ ‫احلني‪ ،‬وبد�أ تداولها بالدرهم والدينار‪.‬‬
‫م�صاحلة بني الأطراف وعني علي بن �أحمد مندوب‬ ‫وهكذا ميكن تعيني عام ‪ 965/354‬ب�أنه �ش َكّل نهاية‬
‫القرامطة ليكون نائب ًا عنه �إال �أن علي بن �أحمد‬ ‫الدولة الوجيهية يف ُعمان وبداية ال�سيطرة البويهية‬
‫انقلب عليه باجلي�ش املكون من «الزجن» املدعمني‬ ‫على البالد‪ ،‬بيد �أن ال�سيطرة البويهية مل تدم طوي ًال‬
‫من القرامطة‪� .‬إال �أن هذه التطورات ال�سيا�سية مل تدم‬ ‫حيث ثار النا�س على نافع وطردوه‪ ،‬وتكللت هذه‬
‫طوي ًال و�رسعان ما تدخل معز الدولة حل�سم املوقف‬ ‫الثورة يف �صحار بالنجاح‪ ،‬ويذكر ابن الأثري �إمنا مت‬
‫النهائي للدولة البويهية عام ‪ 965/355‬ب�إر�سال‬ ‫ذلك مب�ساعدة القرامطة الذين بقوا خارج املدينة‪ ،‬ومت‬
‫أ�سطول بقيادة �أبو الفرج حممد بن عبا�س ومب�ساعدة‬ ‫ٍ‬ ‫�‬ ‫على �إثر ذلك تن�صيب �أحد التجار يف �صحار من ذوي‬
‫ع�ضد الدولة‪ .‬ومتكن �أبو الفرج من اال�ستيالء عليها‬ ‫الغنى وكان ي�سمى النوكاين ملك ًا عليهم‪ ،‬لكن الأمر‬
‫وبقي بها حتى وفاة معز الدولة (ت‪،)966/356‬‬ ‫مل ي�ستمر طوي ًال حينما ه َّدد معز الدولة النوكاين ومل‬
‫عي نائب ًا عنه عمر بن نبهان الطائي‪� ،‬إال‬ ‫وفر‬
‫يلبث ال ُعمانيون �أن ثاروا عليه‪ ،‬فخاف النوكاين ّ‬
‫حيث َنّ‬
‫هارب ًا من ُعمان �إىل بغداد فالقاه كردك النقيب يف‬
‫�أنه مل ي�ستمر طوي ًال حيث مت َكّن القرامطة من قتله‬
‫البحر و�أمر ب�إغراقه وا�ستوىل على �أمواله‪.‬‬
‫و�أعادوا �صحار حتت �سيطرتهم مبعونة جندهم من‬
‫مت‬
‫ويبدو �أن النوكاين كان متلكه على البالد َّ‬
‫«الزجن»‪ ،‬وجعلوا لهم �أمرياً يعرف بابن حالج‪� .‬أما‬
‫مب�ساعدة القرامطة وحينما �أرادوا م�ساعدته بعثوا‬
‫ال ُعمانيون يف الداخل فقد جنحوا يف ن�صب الإمام‬ ‫ب�رسية‪ ،‬لكن ال ُعمانيني اجتمعوا و�صدوهم ومتكنوا‬
‫حف�ص بن را�شد وبت�أييد من املدر�سة الر�ستاقية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫من قتلِ الكثري من القرامطة و�أتباعهم ومن ثم‬
‫وكان عقد الإمامة عليه بالدفاع لأجل ا�ستقالل‬ ‫�أدى ذلك �إىل انك�سارهم‪ .‬وهذه الفرتة كانت ميزة‬
‫الداخل‪� ،‬إال �أن ع�ضد الدولة �أمر جي�ش ًا من كرمان‬ ‫تاريخية لل ُعمانيني يف حتالفهم وبقاء وحدتهم‬
‫وق�سم‬
‫بقيادة �أبي حرب بن طغان عام ‪ّ 972/362‬‬ ‫ف�صادموا البويهيني من جهة والقرامطة من جهة‬
‫جي�شه ق�سمني فنزل ابن طغان بجلفار �أما �أ�سطوله‬ ‫فعا ًال بني علماء الدين‬ ‫�أخرى وهذا �شكّل تالحم ًا ّ‬
‫فلحقه �إىل �صحار وهزم القرامطة ثم الحقهم يف‬ ‫وقيادات القبائل و�شكلت �إحدى �أهم الدعائم يف‬
‫الربميي وهي �أهم معاقلهم وحمطة الربط بني‬ ‫الهوية ال ُعمانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حراك التاريخ ال ُعماين وبلورة‬
‫وعمان‪ ،‬ومتكن من الق�ضاء املطلق عليهم‬ ‫الإح�ساء ُ‬ ‫�أما ابن الأثري فيتتبع الق�ضية بتف�صيل �أكرث دقة عن‬
‫من ُعمان نهائيا‪ .‬فال ُعمانيون يبدو �أنهم متكنوا بعد‬ ‫حوادث ‪ ،965/355‬حيث يبد أ� بذكر هروب نافع �إىل‬
‫ذلك من دحر البويهيني واال�ستيالء على ال�سواحل‬ ‫معز الدولة بينما يبدو �أن �صحار كانت يف �رصاع‬
‫كلها‪ .‬ف�أر�سل ع�ضد الدولة جي�ش ًا بقيادة املطهر بن‬ ‫بني ال ُعمانيني الذين ان�شقوا بني م�ؤيد للقرامطة‪،‬‬
‫عبداهلل عام ‪ ،973/363‬مت َكّن من هزميتهم مما‬ ‫والقبائل الثائرة يف الداخل �ضدهم‪ ،‬وبقايا اجلي�ش‬
‫ا�ضطر الإمام حف�ص اىل الهرب �إىل اليمن‪ ،‬وبد�أت‬ ‫دعموا �أحد‬‫البويهي‪ .‬لكن الظفر كان للقرامطة حيث ّ‬
‫بعد مرحلة �أخرى يف ُعمان دامت ما يقارب القرن‬ ‫�أعوانهم من ذوي اجلاه وكانت �أمرة اجلي�ش بيده‬
‫وهي الفرتة البويهية واملكرمية‪.‬‬ ‫دينار قرمطي‬‫ٍ‬ ‫ويعرف بـ علي بن �أحمد وقد ُعرث على‬

‫‪21‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬

‫فاروق عبدالقادر الذي عا�ش وحيدا ومات وحيدا‬


‫نفق معتم وم�صابيح قليلة‬
‫‪ n‬امل�شاركون فـي امللـف‪:‬‬
‫‪ -‬بهاء طاهر‪� -‬صــربي حــافـظ‪ -‬عبداملنعم رم�ضان‬ ‫ ‬
‫‪ -‬ماهر �شفيق فريد‪ -‬ي�سري عبداللـه‬ ‫ ‬
‫مللَفَ و�شارك فيه‪ :‬جرجـ�س �شكــري‬
‫‪َ � n‬أع ّد ا ِ‬

‫‪22‬‬
‫فاروق‬
‫الذي قال ال ‪...‬‬
‫بهاء طاهر‬
‫روائي من م�رص‬

‫تلك هي خال�صة حياته املعذبة‪ :‬ال للقبح يف احلياة وال القبح يف الفن‪ ،‬وال للم�ساومة على‬
‫املبادئ‪ :‬مبادئه هو‪ ،‬وال حتى ملا يعتربه البع�ض مرونة ال �رضر منها‪ ،‬مل يقبل قا�ضيا‬
‫�إال نف�سه فظل ما �أ�صدره �ضمريه من الأحكام فريداً يف �صدقه وجماله ويف عنفه �أي�ضاً‪،‬‬
‫ولهذا فقد عا�ش غريبا ومات غريبا مثل كل �أ�سالفه الذين مل يقبلوا لغري �ضمريهم حكما‪.‬‬
‫فاروق عبدالقادر الذي مل يقدم يف حياته تنازال واحدا هو فخر جيلنا من الكتاب لتم�سكه‬
‫باملبد�أ‪ ،‬ولنزاهة قلمه وهو �أي�ضا عارنا لأن غالبنا �آثر �أال يقب�ض مثله على جمر احلقيقة‬
‫طول الوقت ويف كل الظروف ولأننا تركناه وحيدا تع�صف به �أنواء احلياة حتى �آخر‬
‫العمر‪ ،‬بل ملناه‪� ،‬أو المه بع�ضنا‪ ،‬لأنه يف بع�ض الأحيان مل يكن يتحمل كل ما يعانيه‬
‫في�ست�سلم ل�ضعف �إن�ساين ال ي�رض �أحدا �سواه‪.‬‬
‫فاروق عبدالقادر �إن�سان فريد ولهذا فهو ناقد فريد �أي�ضا كتب �صفحات قليلة عن �سرية حياته يف مقدمة‬

‫‪ u‬كان هو املبادر دائما �إىل تقدمي �أعمال الك ّتاب ‪ ،‬فهو الذي كان يتابع‬
‫�أوال ب�أول �أعمال حممد الب�ساطي و�إبراهيم �أ�صالن وعالء الديب‬
‫وجميل عطية �إبراهيم ويحيى الطاهر عبداللـه وحممد ناجي وكاتب‬
‫هذه ال�سطور وغرينا من الروائيني ‪u‬‬

‫‪23‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ ،19‬وت�رشب االبن منذ ال�صغري ذلك الهو�س الوطني‬ ‫لأحد كتبه (نفق معتم وم�صابيح قليلة) حدثنا فيها عن‬
‫ف�شارك مقاتال يف معركة ال�سوي�س على �ضفاف القتال‬ ‫تكوينه الفكري يف مرحلة الدرا�سة‪ ،‬وكيف تعر�ض لأهم‬
‫يف عام ‪ 56‬وكان الأب م�سلما متدينا يرتل القر�آن‬ ‫التيارات الفكرية يف ع�رصنا‪ ،‬ف�أخذ منها �أقنعة ورف�ض‬
‫ترتيال ب�صوت جميل يف �صالة الفجر وقبل الغروب‬ ‫ما �أقلقه‪ ،‬لكنه على �أي حال در�س الفرويدية واملارك�سية‬
‫بالذات فيتابعه الإبن ويحفظ عنه ويقول يف �صفحات‬ ‫والوجودية‪ ،‬وعلى �أهمية تلك املرحلة من عمره وما‬
‫�سريته الذاتية الثقافية امنا عن ترتيله هذا ب�شكل �أ�سا�سي‬ ‫�أفاد منها فما يعنيني من هذه ال�صفحات �أن �أ�ستخل�ص‬
‫وقر يف قلبي بالفعل‪ ،‬ف�إين‬
‫حفظت معظم القر�آن والفقه ّ‬ ‫منها منهجه يف النقد الذي عرف به فيما بعد‪ .‬يفيدنا‬
‫كثريا ما كنت �أقول له عن يقني �أنه رغم كل �شيء �صويف‬ ‫يف ذلك �أن نعرف �شيئا عن تكوينه قبل مرحلة الدرا�سة‬
‫متنكر‪ .‬وتتجلى ثقافة فاروق الرتاثية العميقة فيما كتبه‬ ‫اجلامعية ‪ ،‬هي زودته مبفاتيح الثقافة الع�رصية‪ .‬فهناك‬
‫عن الدرا�سات وال�شخ�صيات الإ�سالمية �ضمن ما كتب‪.‬‬ ‫منذ طفولته ما يجوز ت�سميته حجارة الأ�سا�س‪ .‬من ذلك‬
‫تلك اللمحات عن خطى التكوين متهد لنا �أن نتعرف‬ ‫�أن ن�ش�أته كانت يف قرية هي على نحو من القاهرة‬
‫على امل�ؤثرات واملنهج يف عامل فاروق النقدي وهو‬ ‫وهي جزء منها يف الوقت نف�سه وكان التلميذ ال�صغري‬
‫يي�رس لنا معرفة هذا املنهج يف مقدمة كتابه (�أوراق‬ ‫ي�سري من القرية ال�صغرية �إىل قلب املدينة يف �شارع‬
‫�أخرى من الرماد واجلمر) حني يكتب عما يحبه وعما‬ ‫�شربا ليلحق مبدر�سته مع رفاقه من �أبناء الريف‪ .‬كان‬
‫ويرف�ضه يف النقد املعا�رص‪ .‬فهو ميقت الطنطنة‬ ‫ذلك نهاية الثالثينيات ويف الأربعينيات‪ ،‬وذلك قبل‬
‫مب�صطلحات نقدية م�ستعارة من الغرب �أي من �سياق‬ ‫�أن تتعملق القاهرة وتت�شعب بعد ذلك فتبتلع القرى‬
‫ثقايف وتاريخي يختلف عن واقعنا‪ ،‬يرى عن حق �أنه‬ ‫ال�صغرية من حولها يف جوف ما يعرف بالقاهرة‬
‫على الناقد �أن ي�ستعني ب�شتى الأدوات واملناهج التي‬ ‫الكربى في�صبح الريف ح�رضا وتفقد القاهرة حميطها‬
‫تقوم عليها العلوم االن�سانية ‪ ،‬و�إمنا ذلك كتمهيد ليقر�أ‬ ‫الأخ�رض‪ ،‬ما يعني فاروق من ذلك وهو يتذكر ن�ش�أته �أنه‬
‫العمل ويتو�صل �إىل الر�سالة التي �أراد املبدع نقلها من‬ ‫عا�ش حياة �أهل القرية و�أهل املدينة على ال�سواء‪ ،‬ومل‬
‫خالل عمله ‪،‬وعليه �أن يحكم على مدلول هذة الر�سالة‬ ‫ي�شعر بالغربة بني ه�ؤالء و�أولئك‪ ،‬و�أ�ضيف �أنا �أنه كان‬
‫هل توحي �إىل �سبيل لتخطى الواقع نحو واقع �آخر �أكرث‬ ‫يكتب عن العاملني معا بنقد اخلبري العارف واملعاي�ش‬
‫عدال و�صدقا وجماال؟ وهل تتوافر يف العمل املتعة‬ ‫ال القارئ املتفرج‪ ،‬وبعد هذا �أعزو حمبته للكتاب الذين‬
‫الفنية التي تغذى القارئ �أو املتلقي مبتابعة هذا العمل‬ ‫نفذوا �إىل جوهر احلياة الريفية (وحياة املدينة �أي�ضا)‬
‫وا�ستيعاب الر�سالة‪ ،‬هل ترثي وجدان املتلقى �أم ت�أخذ‬ ‫مثل يو�سف �إدري�س القدير الذي خ�ص�ص له فاروق‬
‫عينة للحظة �أو حلظات ثم مت�ضي بغري �أثر؟ ثم �إن لغة‬ ‫واحدا من كتبه والرائد امل�رسحي الكبري حممود دياب‬
‫النقد يجب �أن تكون وا�ضحة ال حتتمل اللب�س الذي ي�شي‬ ‫والروائي املبدع عبداحلكيم قا�سم وغريهم ممن �أبدعوا‬
‫بعك�س �أفكار الناقد نف�سه ويجب �أن تكون اللغة مقت�صدة‬ ‫عن املخبوء من ريف م�رص وح�رضها‪.‬‬
‫ومركزة حتى اليتوه املعنى الذي يتبناه الناقد ب�سبب‬ ‫ويبدو �أننا يف تتبع �سرية فاروق نتجه با�ستمرار �إىل‬
‫التطويل والرثثرة ثم �إن هذه اللغة النقدية يجب �أن تكون‬ ‫اخللف للبحث عن جذور تكوينه‪ ،‬فقبل املرحلة اجلامعية‬
‫جميلة الأ�سلوب وال�صياغة متتع القارئ للنقد �إذ ماالذي‬ ‫التي تفتح فيها وعيه الثقايف‪ ،‬وقبل ال�صبا الذي تفتح‬
‫يغري �أي قارئ حكيم بقراءة نقد ثقيل الظل؟‬ ‫فيه وجدانه على بيئة وطنه فا�ستوعبها يف تكاملها‬
‫ذلك كله وقبله جميعا اال�ستقامة والإخال�ص لأن الناقد‬ ‫‪ ،‬هناك مرحلة الطفولة التي �شكلت فيها الأ�رسة �أهم‬
‫كما يقول فاروق ناقد للف�ساد والق�صور و�سوء النوايا‬ ‫الروافد فقد كان الأب وطنيا م�رصيا ينتمي جليل ثورة‬
‫‪24‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على قدم امل�ساواة مع ما حققاه من ال�شهرة يف بلديهما‬ ‫وك�شف جتليات ذلك كله لأنه يطمح كمبدع �ش�أن �سائر‬
‫�إن مل يكن �أكرث‪.‬‬ ‫املبدعني �إىل �إ�صالح العامل‪.‬‬
‫يرادف ذلك جهده يف التعريف يف م�رص نف�سها‬ ‫�إقر�أ �إذن �أي كتاب لفاروق عبدالقادر‪� ،‬أو حتى �أي‬
‫بكتابها البعيدين عن الأ�ضواء‪ .‬و�أظن �أنني مع جيلي‬ ‫مقال له‪ ،‬ف�ستجد كيف اجتهد بكل �إخال�ص لتطبيق تلك‬
‫مدينون لفاروق عبدالقادر وق ّل وجود له من النقاد يف‬ ‫املعايري ال�صارمة فيما كتب‪ ،‬فنقده وا�ضح جلي‪ ،‬ولغته‬
‫ك�رسطوق التهمي�ش والإبعاد الذي كان معرو�ضا على‬ ‫عذبة �سل�سة بليغة تغريك بقراءة املقال �أو الكتاب كمتعة‬
‫كتابتنا فقد كان هو املبادر دائما �إىل تقدمي �أعمالنا‬ ‫�أدبية يف ذاتها‪ ،‬وثقافتة الغزيرة تتبدى يف كل �سطور‬
‫بحما�س ‪ ،‬فهو الذي كان يتابع �أوال ب�أول �أعمال حممد‬ ‫كلماته‪ ،‬وهو يجاهر ب�آرائه بكل ج�سارة غري مبال‬
‫الب�ساطي و�إبراهيم �أ�صالن وعالء الديب وجميل عطية‬ ‫ب�سخط البع�ض �أو بعداء �آخرين من ذوي النفوذ‪.‬‬
‫�إبراهيم ويحيى الطاهر عبداللـه وحممد ناجي‬ ‫ناقد مثل هذا كان جديرا ب�أن يحتل مكانا بارزا يف‬
‫وكاتب هذه ال�سطور وغرينا من الروائيني فاروق بني‬ ‫�صدارة امل�شهد الأدبي منذ البدء‪ ،‬غري �أن ما لقيه منذ‬
‫الذين عرفوا بجيل ال�ستينيات يف النقد قلة من‬ ‫البدء كان اجلحود والإنكار‪ ،‬منذ حرم من حقه يف‬
‫وال�شعر (وبالذات �أمل دنقل) و�أنا مدين له‬ ‫من�صب اكادميي كان ي�ستحقه بعد تخرجه يف اجلامعة‬
‫النقاد مل‬
‫ب�شكل خا�ص لأنه مل يرتك تقريبا �أي جمموعة‬ ‫بتقدير متفوق جدا‪ ،‬وكانت حينها ميوله ال�سيا�سية‬
‫ق�ص�صية �أو روائية يل �إال وكتب عنها فور يعترب م�صر‬ ‫املتطرفة ‪ ،‬غري �أن حجج ًا �أخرى كانت جاهزة دوما‬
‫�صدورها‪ .‬وقد كرمني و�رشفني كثريا حني هي م�ساحة‬ ‫ملطاردته و�إبعاده عن كل موقع ثقايف �أو �صحفي عمل‬
‫اختار يف ا�ستطالع �صحفي روايتي «احلب يف‬ ‫به‪ ،‬حيث كان م�صريه يف كل مرة الإبعاد عن العمل فال‬
‫عمله النقدي‬
‫املنفى» واحدة من �أف�ضل ع�رش روايات عربية‬ ‫يجد له مالذا �إال �شوارع القاهرة مثلما كتب‪.‬‬
‫الوحيدة فهو‬ ‫يف القرن الع�رشين‪.‬‬ ‫ويف مواجهة هذا امل�صري كان من الطبيعي �أن يدفعه‬
‫و�أنا مدين بهذا الف�ضل لفاروق عبدالقادر كاتب عروبي‬ ‫االحباط والنكران �إىل العزوف عن العمل والتقوقع على‬
‫ومدين له ب�أنه تذكرين حني ن�سيني النا�س بامتياز‬ ‫الذات‪ ،‬لكن رد فعل فاروق كان عك�س ذلك بال�ضبط‪ ،‬فقد‬
‫وكتب عني يف �سنوات غربتي التي كدت �أ�صبح‬ ‫انغم�س يف العمل‪ ،‬وخلف تراثا نقديا غزيرا من الكتب‬
‫فيها جمهوال يف م�رص فعل ذلك معي وفعله‬ ‫امل�ؤلفة واملرتجمة‪� ،‬أح�سبها �ستظل مرجعا لكل مهتم‬
‫مع غريي يف �سنوات ال�شتات ال�صعبة التي تعر�ض لها‬ ‫بدرا�سة الأدب العربي �إبداعا ونقدا مما �أثرى به فاروق‬
‫كتاب م�رص يف ال�سبعينيات والثمانينيات‪.‬‬ ‫املكتبة العربية على مدى ن�صف قرن من العمل الد�ؤب‬
‫وكم حز يف نف�سي بعد ذلك �أن الكثريين حتى ممن وقف‬ ‫و املثمر‪.‬‬
‫بجانبهم يف �أ�صعب الظروف قد جحدوه حيا وميتا ال‬ ‫وفاروق بني قلة من النقاد مل يعترب م�رص هي م�ساحة‬
‫�أظنه كان يريد من �أحد جزاء وال �شكورا وهو الذي اختار‬ ‫عمله النقدي الوحيدة فهو كاتب عروبي بامتياز‪ ،‬وكان‬
‫كما قلت �أن يعي�ش وحيدا وميوت وحيدا ولكن العزاء �أن‬ ‫�سفري النقد امل�رصي لدى وطنه العربي‪ ،‬فقدم بحما�سة‬
‫�أذكر كلمات �صديقه و�شاعره االثري �صالح عبدال�صبور‬ ‫واجتهاده املعروفني �أهم �أعالم الأدب العربي ويكفي‬
‫عن �أن للكلمات حياة‪ ،‬و�أنها تعي�ش بعد �أن نفنى وما‬ ‫هنا �أن �أ�شري �إىل دوره البارز يف عر�ض �إنتاج الكاتب‬
‫�أجدر كلمات فاروق عبدالقادر ب�أن تعي�ش طويال وب�أن‬ ‫العربي الكبري عبدالرحمن منيف ومتابعة �أعمال‬
‫ت�ساعدنا كثريا‪.‬‬ ‫امل�رسحي ال�سوري البارز �سعد اللـه ونو�س اللذين‬
‫�أ�صبحا بنقل كتاباته جنمني يف �سماء الأدب يف م�رص‬
‫‪25‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر ‪..‬‬
‫�شهادة من قريب‪ /‬بعيد‬
‫�صــربي حــافـظ‬
‫ناقد و�أكادميي من م�رص‬

‫عرفت فاروق عبد القادر (‪ 24‬يناير ‪ 23 - 1938‬يونيو ‪ )2010‬منذ بد�أنا الكتابة‬


‫يف النقد الأدبي يف مطالع �ستينيات القرن املا�ضي‪ .‬و�أ�صبحنا هو‪ ،‬و�سامي خ�شبة‬
‫الذي ان�ضم �إلينا عقب خروجه من املعتقل عام ‪ ،1964‬و�أنا‪ ،‬طوال هذا العقد �أبرز‬
‫نقاد اجليل الذي �أ�صبح عقد ال�ستينيات �شارة عليه‪ .‬ومع �أنه كان يكربين ب�سنوات‬
‫قالئل‪ ،‬ف�إنني �أظن‪� ،‬إن مل تخني الذاكرة‪� ،‬أننا قد بد�أنا الكتابة يف م�رص معا‪ ،‬ورمبا‬
‫بد�أت �أنا قبله الكتابة بقليل يف املنابر الثقافية العربية‪ ،‬ويف بريوت خا�صة‪،‬‬
‫�إبان الزمن اجلميل الذي تناءى‪ .‬ورمبا كانت بدايتي قبله هي التي �أزالت فارق‬
‫العمر بيننا‪ ،‬حينما كنا نعترب وقتها‪ ،‬ونحن يف �رشخ ال�شباب و�شطط عنفوانه‪ ،‬من‬
‫ي�صغرنا بثالثة �أو �أربعة �أعوام حدثا ال ي�ستحق منا التنازل للحديث معه‪ ،‬ناهيك‬
‫عن التب�سط معه �أو م�صاحبته‪.‬‬

‫‪ u‬طوال حياته مل يهادن الف�ساد القائم مهما ت�سلح ب�سطوة ال�سلطة �أو‬
‫ال�شهرة الزائفة �أو بهما معا‪ ،‬كما هو احلال يف �أغلب معاركه ‪u‬‬

‫‪26‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كربيات املجالت ال�شهرية امل�رصية من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫وكانت القاهرة يف تلك الأيام عامرة باملنابر الثقافية‬
‫ومل يكن بهاء طاهر قد بد�أ يكتب وقتها ق�ص�صه الق�صرية‬ ‫املختلفة �سواء �أكانت ن��دوات �أ�سبوعية �أو جمالت �أو‬
‫الالمعة التي جمعها مع مطلع عقد ال�سبعينيات اللعني‬ ‫جل�سات درد�شة �أدبية يف املقاهي (مقاهي �إيزافيت�ش‪،‬‬
‫يف جمموعته الأوىل الالفتة (اخلطوبة)‪ ،‬والتي �أظن �أن‬ ‫وري�ش‪ ،‬و�إنديانا)‪ ،‬وكنت �أت��ردد عليها ب�شكل منتظم‪،‬‬
‫اال�ستقبال النقدي املتحم�س لها‪ ،‬مع ت�صاريف حياتية‬ ‫و�ألتقي به يف بع�ضها ملاما‪ .‬وكان للحركة الثقافية‬
‫�أخرى حرمته يف عقد ال�سبعينيات احلزين من �أن يبقى‬ ‫امل�رصية‪ ،‬والعربية من ورائها‪ ،‬حراكها اخل�صب الذي‬
‫يف برناجمه الثاين �أو بالقرب من امل�رسح الذي حر�ص‬ ‫يفرز �إىل جانب املبدعني يف خمتلف الأجنا�س الأدبية‬
‫على متابعته‪ ،‬و�شتتت الكثريين يف املنايف العربية‬ ‫نقاده‪ .‬وكانت بطبيعتها تركز على الراهن الأدب��ي‬
‫والأوروبية‪� ،‬شجعه على االن�رصاف عن النقد امل�رسحي‪،‬‬ ‫والثقايف وتتابع �أحدث ما ي�صدر عنهما من ن�صو�ص‬
‫وتكري�س جهده للق�صة الق�صرية وال��رواي��ة ف�أحتفنا‬ ‫و�أعمال و�إجنازات‪.‬‬
‫فيهما بالكثري من الأعمال املرموقة والباقية‪.‬‬
‫وكانت ال�صفحة الأدبية جلريدة (امل�ساء) والتي كان‬
‫لكن فاروق عبدالقادر‪ ،‬ومعه �سامي خ�شبة �إىل حد ما‪،‬‬ ‫ي�رشف عليها الراحل الكبري عبدالفتاح اجلمل‪ ،‬وهو‬
‫ا�ستمرا يف الرتكيز على امل�رسح نقدا وترجمة‪ ،‬بينما‬ ‫باملنا�سبة كاتب موهوب كبري ذو ح�سا�سية مده�شة‬
‫وجهت �أنا اهتمامي للق�صة والرواية وال�شعر‪ ،‬بالرغم‬ ‫للغة‪ ،‬تتجلى يف �أعماله القليلة التي خلفها لنا‪ ،‬وخا�صة‬
‫من درا�ستي للم�رسح و�إ�صدار �أول كتاب يل فيه (م�رسح‬ ‫(اخل��وف) و(حم��ب)‪ ،‬لكنه كر�س معظم عقد ال�ستينيات‬
‫ت�شيخوف) عام ‪ .1973‬فقد كان عقد ال�ستينيات هو‬ ‫الكت�شاف مواهب الآخرين الأدب��ي��ة‪ ،‬وال�شباب منهم‬
‫عقد ازده��ار امل�رسح امل�رصي قبل �سقوطه املمنهج‬ ‫خا�صة‪ ،‬والدفع بها �إىل قلب احلياة الثقافية‪ .‬وكانت‬
‫يف العقد التايل‪ ،‬وهي امل�س�ألة التي �ست�صبح مع نهاية‬
‫ح�سا�سيته الأدب��ي��ة وق��درات��ه اال�ست�رشافية هي التي‬
‫هذا العقد ال�سبعيني التعي�س عنوانا لأول كتاب نقدي‬
‫مكنته من �أن يفتح �أبواب تلك ال�صفحة ملواهب ن�رش لها‬
‫له‪( :‬ازدهار و�سقوط امل�رسح امل�رصي) ‪ .1979‬وحاول‬
‫لأول مرة‪ ،‬و�أ�صبح لها �ش�أن كبري فيما بعد‪ ،‬من �أمثال‬
‫وقتها �أن يجد له موطئ قدم دائم‪ ،‬لأنه كان قد تخلى‬
‫حممد الب�ساطي و�إبراهيم ا�صالن و�أمل دنقل وحممد‬
‫مبكرا عن الوظيفة احلكومية امل�ضمونة‪ ،‬يف �أي من‬
‫عفيفي مطر ويحيى الطاهر عبداللـه وحممد حافظ‬
‫املنابر ال�صحفية التي كانت حتتفي بالنقد امل�رسحي‬
‫رجب وعبداحلكيم قا�سم وجميد طوبيا وجميل عطية‬
‫وقتها؛ حينما كان كل مو�سم م�رسحي ي�شهد عددا من‬
‫�إبراهيم وغريهم‪ .‬و�أذك��ر‪� ،‬إن مل تخني الذاكرة وهي‬
‫الأعمال اجلديدة ملن �أ�صبحوا بعد ذلك عمد امل�رسح‬
‫بطبعها خ�ؤون‪� ،‬أن فاروق عبدالقادر بد�أ يف ن�رش بع�ض‬
‫امل�رصي‪ :‬من يو�سف �إدري�س �إىل نعمان عا�شور و�ألفريد‬
‫فرج وعبدالرحمن ال�رشقاوي ولطفي اخلويل و�سعدالدين‬ ‫الرتجمات الق�صرية يف �صفحة «امل�ساء» الثقافية تلك‪،‬‬
‫وهبة‪ ،‬ف�ضال عن �أعمال رائده الكبري توفيق احلكيم‪ .‬ثم‬ ‫مع ناقد �آخر كان يجيد الرتجمة من �أبناء جيلنا رحل‬
‫بزغت فيه �أي�ضا �أعمال اجليل التايل الذي كان �أبرز‬ ‫مبكرا هو حممد عبداللـه ال�شفقي‪.‬‬
‫كتابه و�أكرثهم موهبة و�أعمقهم �إ�سهاما حممود دياب‬ ‫ثم بد�أ يكتب فيها عن امل�رسح امل�رصي يف وقت كان‬
‫وجنيب �رسور وميخائيل رومان و�صالح عبدال�صبور‪.‬‬ ‫جنم النقد امل�رسحي وقتها هو بهاء طاهر‪ ،‬الذي كان‬
‫لكن فاروق عبدالقادر فيما يبدو مل ي�ستطع �أن يوفر‬ ‫يكرب فاروق بثالثة �أعوام‪ ،‬وقد ر�سخ قبله قدمه كمخرج‬
‫لنف�سه هذه الوظيفة الدائمة‪ ،‬وظل يتنقل من منرب لآخر‪.‬‬ ‫م�رسحي موهوب للم�رسحيات العاملية يف الربنامج‬
‫برغم حر�صه على الكتابة ال�صحفية اجلادة‪ ،‬ولي�س على‬ ‫الثاين الذي كان من �أرقى املنابر الثقافية يف هذا العقد‪،‬‬
‫كتابة الدرا�سات الطويلة التي ت�صلح للمجالت ال�شهرية‬ ‫وكمقدم لربناجمه الأ�سبوعي عن امل�رسح وال�سينما من‬
‫�أكرث منها لل�صحف والدوريات الأ�سبوعية‪ ،‬والتي ركزت‬ ‫ناحية‪ ،‬وكناقد متميز للم�رسح امل�رصي يكتب عنه يف‬
‫‪27‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الأدبية املختلفة من م�رسح وق�صة و�شعر ورواية تفرز‬ ‫منذ بداياتنا الباكرة ن�رشي فيها‪ .‬وكان هناك فرق �آخر‪،‬‬
‫كتابها جيال بعد جيل‪ ،‬كان كل جيل من هذه الأجيال‬ ‫�أدرك الآن و�أنا �أ�ستدعي الذكريات‪ ،‬بيني وبينهما هو‬
‫يفرز هو الآخر نقاده‪ ،‬الذين يواكبون �أعمال جمايليهم‬ ‫االهتمام بق�ضايا املنهج النقدي منذ �أن ن�رشت درا�سة‬
‫من الكتاب بح�سا�سية طالعة من نف�س البوتقة الثقافية‬ ‫طويلة بعنوان «البحث عن منهج يف نقد ال�شعر احلديث»‬
‫التي تبلورت فيها ح�سا�سيتهم‪ ،‬و�صدرت عنها الأعمال‬ ‫يف ملحق جملة (الطليعة) الأدبي‪ .‬ورمبا هذا االهتمام‬
‫التي ينقدونها‪.‬‬ ‫باملنهج هو الذي قادين للعمل باجلامعة بينما بقيا‬
‫و�أ�ستطيع القول وقد �أم�ضيت زهرة العمر ناقدا فاعال‬ ‫معا حتى رحيلهما يف وقت متقارب يعمالن يف احلياة‬
‫يف هذا احلراك الثقايف يف م�رص ويف ال�ساحة العربية‬ ‫الثقافية‪ ،‬وين�أيان بنف�سيهما عن �أو�ساخها‪ ،‬ويحر�صان‬
‫الوا�سعة من ورائها‪ ،‬وتكونت ثقافيا يف �سياقهما‪ ،‬قبل‬ ‫على البقاء بعيدا �إىل حد ما عن امل�ؤ�س�سة الثقافية‬
‫�أن تق�ضي ت�صاريف عقد ال�سبعينيات اللعني ب�أن �أم�ضي‬ ‫الر�سمية التي كانت ت�سوخ �أقدامها بوتائر مت�سارعة يف‬
‫بقيته يف قاعات الدر�س باجلامعة (وهي حل�سن احلظ‬ ‫وهاد الف�ساد والتبعية والرتدي والهوان‪.‬‬
‫اجلامعة الغربية يف �أبهى �صورها‪ ،‬ولي�ست اجلامعة‬
‫امل�رصية يف ع�صور انحطاطها) �أن احلركة الأدبية‬ ‫احلركة الأدبية ‪ ..‬وركود اجلامعة وعقمها‪:‬‬
‫والثقافية �أكرث حيوية و�أ��سرع تفاعال مع الن�صو�ص‬ ‫�إذن فقد كنا ثالثتنا‪ ،‬ف��اروق و�سامي و أ�ن��ا‪ ،‬من نقاد‬
‫اجلديدة من احلركة اجلامعية‪ .‬و�أنها �أحر�ص منها‬ ‫ه��ذا اجليل ال��ذي��ن خ��رج��وا م��ن ح��راك��ه الثقايف ومن‬
‫على التجديد والتجريب‪ ،‬و�أ�شد منها عزوفا عن التكرار‬ ‫معمعة حركته الأدبية وهي تتخلق وتبلور ر�ؤاها‪ ،‬ومل‬
‫والتلقني‪� .‬صحيح �أن الفجوة بني احلركتني �أقل منها‬ ‫يهبطوا عليه من قاعات الدر�س باجلامعة بقفازات‬
‫يف الغرب عما هي عندنا يف عاملنا العربي‪ ،‬و�أن‬ ‫منهجية معقمة وعقيمة‪ .‬وق��د ك��ان يف م�رص على‬
‫ا�ستقرار التقاليد يف الواقع الغربي‪ ،‬وتعزز قيم احلرية‬ ‫مد م�سرية حراكها الثقايف احلديث فرق �شا�سع بني‬
‫فيه‪ ،‬وا�ستقالل امل�ؤ�س�ستني الثقافية واجلامعية معا عن‬ ‫احلركة الثقافية التي تت�سم بحرية �أكرب‪ ،‬و�إيقاع �أ�رسع‬
‫ال�سلطة‪ ،‬يجعل احلراك فيهما متقاربا ومتناظرا‪ ،‬على‬ ‫يف اال�ستجابة للن�صو�ص والأعمال اجلديدة‪ ،‬وب�سقف‬
‫العك�س مما هو عليه يف عاملنا العربي‪ ،‬الذي ت�سيطر فيه‬ ‫مطامح �أعلى‪ ،‬وبني الدر�س اجلامعي للأدب والثقافة‬
‫امل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية كلية على اجلامعة‪ ،‬وت�سعى لفر�ض‬ ‫يف قاعات املحا�رضات وال��ذي ك��ان مت�أخرا عنها‬
‫�سيطرتها على احلركة الثقافية بال�رشاء واالحتواء‬ ‫بعقود‪ .‬فطوال عقد ال�ستينيات وال�سبعينيات مثال كانت‬
‫و�إدخ���ال املثقفني احل��ظ�يرة‪� .‬إال �أن غياب ا�ستقالل‬ ‫اجلامعة امل�رصية ال ت�سمح بدرا�سة �أعمال �أي كاتب �إال‬
‫اجلامعة يف م�رص‪ ،‬ويف العامل العربي من ورائها‪ ،‬هو‬ ‫بعد �أن يواريه الرثى‪ .‬وكان اجليل ال�سابق علينا‪ ،‬والذي‬
‫ما يربز الفارق الكبري بني احلركتني ويو�سع الهوة‬ ‫ميكن جمازا ت�سميته بجيل اخلم�سينيات قد �أفرز نقاده‬
‫بينهما؛ كما �أنه يتيح الفر�صة ملحدودي املوهبة للعمل‬ ‫هو الآخر‪ ،‬وكان �أبرزهم رجاء النقا�ش‪ ،‬وحمي الدين‬
‫يف اجلامعة‪ ،‬بينما ال ي�ستطيع �أغلبهم ال�صمود لآليات‬ ‫حممد‪ ،‬وف�ؤاد دوارة‪ .‬وهو اجليل الذي ت�سلم الراية من‬
‫الفرز احليوية يف احلركة الثقافية‪ .‬ولي�س �أدل على ذلك‬ ‫حممد مندور و�أنور املعداوي بعد �أن �أجربتهما الظروف‬
‫من �أنه بينما حتفل اجلامعات امل�رصية بالع�رشات من‬ ‫على ال�صمت والرحيل املبكر‪ ،‬وعلي الراعي الذي �سافر‬
‫الذين يدر�سون الآداب املختلفة فيها‪ ،‬ف�إن من ي�ستطيع‬ ‫للعمل يف اخلليج‪ ،‬وحممود �أمني العامل وعبدالعظيم‬
‫منهم دخول معرتك احلياة الأدبية �أو الثقافية‪ ،‬و�إثبات‬ ‫�أني�س اللذين اعتقال يف نهاية عقد اخلم�سينيات‪ ،‬و�أم�ضيا‬
‫نف�سه فيها‪� ،‬أقل من القليل النادر‪ .‬وهذا على عك�س ما‬ ‫يف املعتقل �سنوات غري قليلة‪ .‬فقد كان للحركة النقدية‬
‫ن�شهده يف اجلامعات مثال‪ ،‬ب�سبب متتعها با�ستقالل‬ ‫عنفوانها الذي ال يقل عن عنفوان احلركة الأدبية نف�سها‪،‬‬
‫ن�سبي من ناحية‪ ،‬و�رصامة �آليات الفرز العلمي والبحثي‬ ‫باعتبارها جزءا ع�ضويا منها‪ .‬فكما كانت الأجنا�س‬
‫‪28‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الناقد الأدبي امل�رصي الوحيد‪ ،‬من بني نقاد جيلي‪ ،‬الذي‬ ‫فيها من ناحية �أخرى‪.‬‬
‫عا�ش طوال حياته من قلمه وحده‪ ،‬ومل يعمل معه عمال‬ ‫ف�إذا كان ممكنا �أن يحافظ مثقف يف احلركة الأدبية‬
‫�آخر‪� ،‬سواء �أكان عمال حكوميا �أو �صحفيا منتظما كما‬ ‫على ا�ستقالله‪ ،‬ب�شق الأنف�س كما فعل فاروق عبدالقادر‪،‬‬
‫كان احلال مع �سامي خ�شبة‪ .‬كما �أنه كحفنة قليلة من‬ ‫و�أن ين�أى بنف�سه عن �أدرانها‪ ،‬ويقاوم �إغراءات ال�رشاء‬
‫�أبناء هذا اجليل (مثل �صنع اللـه �إبراهيم وحممد الب�ساطي‪،‬‬ ‫واالحتواء‪ ،‬ف�إن هذا ا ألم��ر يو�شك �أن يكون م�ستحيال‬
‫و�أمل دنقل وحممد عفيفي مطر) حافظ على ا�ستقالله عن‬ ‫يف اجلامعة‪ .‬ولنا يف مثال العامل الكبري جمال حمدان‬
‫امل�ؤ�س�سة التي كانت تزداد مع مر الأيام رداءة وترديا‪،‬‬ ‫دليال على ا�ستحالة اجلمع بني االثنني‪ :‬ا�ستقالل الفكر‬
‫وحر�ص على االبتعاد عنها‪ .‬ب�صورة �أ�صبح معها ممثال‬ ‫والر�أي والعمل يف اجلامعة‪ ،‬حيث ا�ضطر العامل الكبري‬
‫ل�ضمري احلركة الثقافية والأدب��ي��ة‪ .‬يراكم با�ستقالله‬ ‫�إىل ت��رك اجلامعة‪ ،‬وه��و يف �أوج العطاء‪ ،‬كي يبدع‬
‫ومواقفه احلادة من تردي امل�ؤ�س�سة الثقافية‬ ‫ويحافظ على ا�ستقالله الفكري واملنهجي‪ .‬هذا ف�ضال‬
‫حر�صه على‬
‫الر�سمية خا�صة‪ ،‬ر�أ�سماله الرمزي‪ ،‬ويكر�س‬ ‫عن �أن دوافع احلراك الثقايف واملهني تت�سم يف احلركة‬
‫مكانته يف الواقع الأدبي امل�رصي الذي كان ا�ستقالله‬ ‫الأدبية بقدر �أكرب من ال�صحية‪ .‬فال جمال فيها للبحث‬
‫يزداد تهمي�شا وحما�رصة‪� ،‬أمام ت�صاعد معدالت الثقايف مكنه‬ ‫عن الرتقي باال�ستجابة ل�رشوط امل�ؤ�س�سة العقيمة‪ ،‬و�إمنا‬
‫االحتواء‪ .‬وخا�صة يف العقدين الأخريين من‬ ‫املجال مفتوح فيها للموهوبني القادرين على الإبداع‬
‫حياته حينما �أ�صبح جابر ع�صفور �أداة احتواء من �أن ي�صبح‬
‫والت�أثري‪ ،‬والذين حتركهم دواف��ع حب ما يقومون به‬
‫املثقفني الفعالة‪ ،‬و�إدخالهم كال�سوائم �إىل �أحد �أبرز‬ ‫و�إخال�صهم له ولأفكارهم ور�ؤاه��م حوله‪ ،‬ولي�س فقط‬
‫رموز مقاومة‬ ‫حظرية وزيره فاروق ح�سني‪.‬‬ ‫دوافع العمل والرتقي‪ .‬وال يعني هذا �أن احلركة الثقافية‬
‫وقد مكنه حر�صه على ا�ستقالله الثقايف من �أن‬ ‫تفتقر لآليات الفرز ومتحي�ص املكانات‪ ،‬لأن حيازة‬
‫الف�ساد الثقايف‬ ‫ر�أ�س املال الثقايف‪� ،‬أو ر�أ�س املال الرمزي كما ي�سميه‬
‫ي�صبح �أحد �أبرز رموز مقاومة الف�ساد الثقايف‬
‫يف م�رص يف العقدين الأخ�يري��ن من حياته يف م�صر‬ ‫عامل االجتماع الفرن�سي الكبري ببري بورديو‪ ،‬تخ�ضع‬
‫خا�صة‪ ،‬و�أن يحقق مكانته الفريدة يف الواقع‬ ‫فيها ملعايري احلكم الثقايف املفتوح‪ ،‬ولأحكام القراء‬
‫الثقايف امل�رصي‪ ،‬ويف ال�ساحة العربية الوا�سعة‬ ‫والكتاب املتحققني منهم واملحتملني‪ ،‬وهي قواعد �أكرث‬
‫من ورائ��ه‪ ،‬فقد كان كجل �أبناء جيلي عربي الثقافة‬ ‫تعقيدا و�رصامة من قواعد الرتقي يف اجلامعة‪ ،‬والتي‬
‫ولي�س م�رصيها فح�سب‪ .‬يعي وح��دة الثقافة العربية‬ ‫تت�سم يف جل اجلامعات امل�رصية خا�صة بالكثري من‬
‫ويعزز تلك الوحدة بكتاباته واهتماماته‪ .‬وقد ا�ستمر‬ ‫التخلف والف�ساد‪.‬‬
‫هذا الوعي واكت�سب �أبعادا �أعمق يف عقدي ال�سبعينيات‬ ‫�إذن ففاروق عبدالقادر ابن هذه احلركة الثقافية التي‬
‫والثمانينيات‪ ،‬وبعد �أن باع ال�سادات الق�ضية العربية لقاء‬ ‫ق�ضى فيها عمره الأدب��ي‪ ،‬ومل يغادرها �أو ي��زاوج بني‬
‫�سالمه املغ�شو�ش مع العدو ال�صهيوين‪ ،‬والذي انتهك به‬ ‫العمل فيها والعمل يف امل�ؤ�س�سة ال�صحفية كما فعل‬
‫�سيادة م�رص على �أر�ضها‪ .‬وقاطع العرب م�رص الر�سمية‪،‬‬ ‫�سامي خ�شبة �أو اجلامعية كما ح��دث يل‪ .‬وال��واق��ع �أن‬
‫فكانت كتابات فاروق عبدالقادر العربية عن �سعداللـه‬ ‫بقاء فاروق عبدالقادر ناقدا �أدبيا فاعال يف م�رص طوال‬
‫ونو�س وعبدالرحمن منيف وحيدر حيدر وف�ؤاد التكريل‬ ‫حياته‪ ،‬مل يخرج منها كما خرج كثري من املثقفني منها‬
‫وغريهم‪ ،‬والتي ت�صدر من قلب م�رص وقت مقاطعة العرب‬ ‫�إبان املناخ الطارد‪ ،‬جعله من �أهم الذين ميكن �أن نر�صد‬
‫لها‪ ،‬ورف�ضهم لتوجهاتها اخلرقاء نحو �أعدائها‪ ،‬عالمة‬ ‫من خالل �أعمالهم حراكها‪ .‬حيث يو�شك �إنتاجه النقدي‪،‬‬
‫بارزة على �سالمة الثقافة امل�رصية‪ ،‬حينما ينتاب اخللل‬ ‫�صعودا وهبوطا‪� ،‬أن يكون ترمومرت تلك احلركة‪ ،‬ودليال‬
‫ال�سا�سة وال�سيا�سة‪.‬‬ ‫دامغا على الكثري مما جرى فيها‪� .‬إذ يو�شك �أن يكون‬
‫‪29‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�أذكر �أنني يف مطلع ال�سبعينيات‪ ،‬وبعد جرمية �سهري‬ ‫فاروق عبدالقادر ‪ ..‬وبداية دور منتظم‪:‬‬
‫القلماوي يف �إزاحة الراحل الكبري يحيى حقي بطريقة‬ ‫قلت ان ف���اروق عبدالقادر ب��د�أ حياته النقدية يف‬
‫خ�سي�سة من جملة (املجلة) التي كنت �أعمل فيها معه‪،‬‬ ‫�ستينيات القرن املا�ضي بالرتكيز على النقد امل�رسحي‪،‬‬
‫و�إغ�ل�اق كل املجالت الأدب��ي��ة (الر�سالة‪ ،‬والثقافة‪،‬‬ ‫يف واحدة من �أزهى فرتاته‪ .‬وقد �ساعده يف الرتكيز على‬
‫والق�صة‪ ،‬وال�شعر‪ ،‬والفنون ال�شعبية‪ ،‬وعامل الفكر‪ ،‬وعامل‬ ‫النقد امل�رسحي �أمران‪� :‬أولهما �أن جملة (امل�رسح) التي‬
‫الكتب‪ ،‬وامل����سرح‪ ،‬وال�سينما)‪� ،‬أن طلبتني �أ�ستاذتي‬ ‫�أ�س�سها ر�شاد ر�شدي‪ ،‬وبنى جمدها الأول على �أكتاف‬
‫الراحلة الكبرية لطيفة الزيات للعمل معها يف حترير‬ ‫تالميذه غري املوهوبني ممن كنا ندعوهم يف الواقع‬
‫امللحق الأدبي ملجلة (الطليعة) ال�شهرية الذي اقرتحته‬ ‫الثقايف امل�رصي وقتها بحملة حقيبة ر�شاد ر�شدي‪،‬‬
‫هي على لطفي اخلويل كي ي�سد الفراغ الذي �أحدثته تلك‬ ‫كانت قد �أُغ ِلقت‪ ،‬قبيل �أو بعد �صدمة هزمية‬
‫الهجمة الظالمية‪ ،‬وكانت ت�صدر عن م�ؤ�س�سة (الأهرام)‪،‬‬
‫يعرف اجلميع ‪ 1967‬امل�صمية التي �أ�صابت الواقع الثقايف‬
‫الأمر الذي حماها من خمططات الإ�سالميني بزعامة‬
‫كم كان عقد امل�رصي والعقل العربي من ورائه بالدوار‪.‬‬
‫حممد عثمان ا�سماعيل ال�ستئ�صال الثقافة والع�صف‬
‫وحينما �أعيد �إ�صدارها بعد النك�سة بعام �أو‬
‫باملثقفني‪ .‬وبعد �أن عملت بهذا امللحق‪ ،‬ال��ذي لعب‬
‫ال�سبعينيات عامني‪ ،‬وتوىل رئا�سة حتريرها كل من �صالح‬
‫دورا مهما يف �إب��راز جيل ال�ستينيات اجلديد وقتها‬
‫يف م�صر رديئا عبدال�صبور و�سعدالدين وهبة‪ ،‬اختارا فاروق‬
‫وت�سليط ال�ضوء على �أعماله‪ ،‬ملدة عامني‪� ،‬أخذ املناخ‬
‫عبدالقادر �سكرتريا لتحريرها‪ .‬مما وفر له‬
‫الطارد وقتها يع�صف تدريجيا ب�أع�ضاء جلنة حتريره‪،‬‬ ‫وع�صيبا على‬
‫فيغادرون م�رص واحدا بعد الآخر‪ .‬حتى مل يبق منهم‬ ‫منربا ودورا يف متابعة ال��واق��ع امل�رسحي‬
‫�سواي‪ .‬وفج�أة جاءتني فر�صة غري متوقعة لل�سفر �إىل‬ ‫الثقافة ب�شكل �شهري ا�ستمر لعامني �أو ثالثة‪ .‬لكن‬
‫بريطانيا‪ ،‬بف�ضل مبادرة كرمية من علم الدرا�سات‬ ‫الأمر مل يطل‪ ،‬ف�رسعان ما ع�صفت بها �أوىل‬
‫العربية احلديثة فيها الدكتور حممد م�صطفي بدوي‪.‬‬ ‫�رضبات ال�سادات املبكرة للمثقفني‪ ،‬بعد مظاهرات‬
‫وطلب مني لطفي اخلويل �أن �أر�شح له من يحل مكاين يف‬ ‫الطلبة ال�شهرية عام ‪ ،1972‬والتي خلدها �أمل دنقل يف‬
‫هذا امللحق‪ ،‬وفاحتت فاروق عبدالقادر يف الأمر فرحب‬ ‫ق�صيدته ال�شهرية «الكعكة احلجرية»‪ .‬وهي ال�رضبات‬
‫به‪ ،‬ور�شحته للطفي اخلويل‪ .‬وا�ستلم فاروق العمل يف‬ ‫التي هند�سها الإخواين البارز‪ ،‬حممد عثمان ا�سماعيل‪،‬‬
‫ملحق الطليعة الأدبي مني يف مار�س عام ‪ ،1973‬وهو‬ ‫وبد�أت بها عملية تخليق مناخ طارد لكل ما هو عقالين‬
‫ال�شهر الذي غادرت م�رص يف نهايته‪ ،‬ومل �أعد لها �إال‬ ‫وعلماين وي�ساري‪ .‬جتلى يف ف�صل الكثري من املثقفني‬
‫بعد �ست �سنوات (عام ‪ )1979‬جرت خاللها مياه �آ�سنة‬ ‫من �أعمالهم‪ ،‬وفتح املجال �أم��ام �أ�ساتذة اجلامعة‬
‫كثرية حتت اجل�رس‪ .‬وكان هذا العمل الذي ا�ستمر لنحو‬ ‫العقالنيني‪ ،‬والي�ساريني منهم خا�صة‪ ،‬للخروج والعمل‬
‫ثالث �سنوات �أخرى‪ ،‬بعد عمله يف حترير جملة (امل�رسح)‬ ‫يف اخلارج‪ ،‬وا�ستخدام الإخوان واملت�أ�سلمني يف الق�ضاء‬
‫قبل �إغالقها‪ ،‬هو �آخر عمل منتظم يقوم به فيما �أظن‪.‬‬ ‫على �أن ن�شاط طالبي عقالين �أو علماين يف اجلامعة‪،‬‬
‫خا�صة و�أن الأمر مل يدم لـ(الطليعة) �إال ل�سنوات قالئل‬ ‫وطرد املثقفني وكل النا�شطني ذوي امليول العقالنية‬
‫حيث ع�صف بها راح��ل �آخ��ر كان له مل��رارة املفارقة‬ ‫�أو القومية ناهيك عن الي�سارية‪ ،‬و�إح�لال الإخ��وان‬
‫دور بارز يف الثقافة امل�رصية �إبان ازدهارها الكبري‬ ‫واملت�أ�سلمني حملهم يف ال�صحافة والثقافة واجلامعة‪.‬‬
‫يف �ستينيات القرن املا�ضي‪ ،‬لكنه لعب دورا بارزا‪ ،‬دفع‬ ‫وهي الإجراءات التي �أدت �إىل �إغالق ت�سع جمالت �أدبية‬
‫ثمنه حياته‪ ،‬يف التحول الرديء لها يف الن�صف الثاين‬ ‫غبي واح��د‪ ،‬و�إيقاف الن�رش يف هيئة‬ ‫وثقافية بقرار ّ‬
‫من �سبعينياته‪ ،‬هو يو�سف ال�سباعي‪.‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬وحتويلها على يدي مديرها حممود ال�شنيطي‬
‫ويعرف اجلميع كم ك��ان عقد ال�سبعينيات يف م�رص‬ ‫�إىل مطابع جتارية‪.‬‬
‫‪30‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أواخر الثمانينيات‪ .‬و�صاحب ذلك عامل �آخر هو ازدياد‬ ‫رديئا وع�صيبا على الثقافة‪ ،‬مبعناها ال�ضيق الذي‬
‫معدالت الت�ضخم وارتفاع �أ�سعار كل �شيء‪ ،‬وانخفا�ض‬ ‫ي�شمل كل الأن�شطة الأدبية والفنية وامل�رسحية (كان‬
‫م��ردود العمل الثقايف وت�ضا�ؤله امل�ستمر يف الوقت‬ ‫هذا هو عقد حرق امل�سارح يف ليلة افتتاح عرو�ضها‬
‫نف�سه‪ .‬ب�صورة بدا معها وك���أن هناك عملية جهنمية‬ ‫اخلالفية)‪ ،‬ومبعناها الوا�سع الذي ميتد �إىل منظومة‬
‫لتهمي�ش املثقف امل�ستقل والثقافة امل�ستقلة‪ ،‬على‬ ‫القيم االجتماعية والأخالقية والفكرية‪ .‬فقد كان العقد‬
‫ال�صعيدين االجتماعي واالقت�صادي معا‪ .‬وهو الأمر‬ ‫الذي تنامى فيه زحف الظالم على م�رص‪ ،‬وبد�أت فيه‬
‫الذي تزامن مع الهجمة ال�رش�سة على الطبقة الو�سطى‬ ‫عملية �إ���س��دال احلجاب املنظمة على وج��وه الن�ساء‪،‬‬
‫وقيمها التحديثية‪ ،‬ل�صالح «�سعودة» م�رص والهجمة‬ ‫وعلى عقول الرجال معا‪ .‬وهي العملية التي كان ر�أ�س‬
‫الظالمية الوهابية عليها‪ .‬كما تزامن هذا الرتدي ثقافيا‬ ‫حربة عملية �سعودة‪� ،‬أو بالأحرى �سعدنة م�رص‪ ،‬فيها‬
‫مع ا�ضطالع الهوام�ش النفطية بدور ثقايف حتل فيه‬ ‫هو حممد متويل ال�شعراوي بعطاياه ال�سخية لتحجيب‬
‫مكان املركز مبجالت �صقيلة خاوية‪ ،‬رف�ض فاروق‬ ‫الفنانات‪ .‬وما �صاحبها من ع�صف بدور م�رص كمركز‬
‫عبدالقادر �إغ��راءات اال�ستدراج للكتابة فيها‪ ،‬بنف�س‬ ‫�أ�سا�سي للثقافة العربية‪ ،‬ولقوة م�رص الناعمة‪ .‬يف هذا‬
‫ال�رصامة التي رف�ض بها عمليات امل�ؤ�س�سة الثقافية‬ ‫العقد الع�صيب‪ ،‬وخا�صة يف ن�صفه الأخري‪ ،‬بد�أت م�شاكل‬
‫امل�رصية الحتوائه كالكثريين‪ .‬و�إن در أ� عن نف�سه عوادي‬ ‫فاروق عبدالقادر يف التفاقم‪ .‬فبعد �أن كان ي�سريا على‬
‫الزمن الرديء بالرتجمة‪.‬‬ ‫مثقف م�ستقل يف واقع ي�سود فيه مناخ يت�سم باحلد‬
‫وقد انفقت الق�سم الأكرب من عقد الثمانينيات بني م�رص‬ ‫الأدنى من العقالنية‪ ،‬فلم يكن املناخ الثقايف يف عقد‬
‫واملنايف الغربية‪ ،‬قبل �أن ي�ستقر بي املقام كلية يف‬ ‫ال�ستينيات مثاليا �إذ �شهد اعتقال الكثري من مثقفي‬
‫لندن ابتداء من عام ‪ .1987‬وكان ف��اروق يطلب مني‬ ‫م�رص ومبدعيها‪� ،‬أن يعي�ش حياة كرمية يقب�ض فيها‬
‫كلما �سافرت �أن �أجلب له كتبا ت�صلح للرتجمة‪ ،‬وتتفق‬ ‫على ا�ستقالله ونزاهته كالقاب�ض على اجلمر‪� .‬أ�صبح هذا‬
‫مع توجهاته النقدية والفكرية‪ .‬وقد ترجم بالفعل من‬ ‫الأمر �أ�شد �صعوبة يف الن�صف الثاين من ال�سبعينيات‬
‫بني ما جلبت له من كتب كثرية كتابي بيرت بروك (نقطة‬ ‫والن�صف الأول من الثمانينيات‪ ،‬وقبل وفود فاروق‬
‫التحول‪� :‬أربعون عاما من ا�ستك�شاف امل�رسح) ‪،1990‬‬ ‫ح�سني �إىل امل�شهد الثقايف وبداية عمله الن�شيط‪ ،‬هو‬
‫ورميوند وليامز (�سيا�سات احلداثة) ‪ .1996‬ومع ذلك‬ ‫وتابعه الهمام جابر ع�صفور‪ ،‬يف �إخ�صاء الثقافة‬
‫كان يعاين كثريا من احل�صار االقت�صادي اخلانق‪ ،‬فهو‬ ‫و�إدخال املثقفني للحظرية‪ ،‬ح�سب تعبري �شهري له‪.‬‬
‫مل يهتم باحل�صار الثقايف‪ ،‬بل حارب معركته مع الف�ساد‬ ‫ومما زاد الأم��ر �صعوبة �أن هجرة املثقف بقلمه �إىل‬
‫الثقايف بب�سالة منقطعة النظري‪ ،‬لكنني كنت �أدرك �أن‬ ‫الف�ضاء البريوتي احل��ر ال��ذي �شكل على مد �سنوات‬
‫احل�صار االقت�صادي �صعب‪ .‬ولذلك ما �أن �أتيحت يل فر�صة‬ ‫ال�ستينيات‪ ،‬وط��وال الن�صف الأول من ال�سبعينيات‬
‫للتحكيم يف جائزة �سلطان العوي�س‪ ،‬وكان قد تقدم لها‪،‬‬ ‫متنف�سا للكثريين‪ ،‬انتفت �أو �أ�صبحت �شبه م�ستحيلة‬
‫حتى حر�صت على �أن مينح هذه اجلائزة‪ .‬فح�صل على‬ ‫بعد الع�صف ببريوت‪ ،‬كمركز ث��انٍ للثقافة العربية‬
‫جائزة النقد منا�صفة مع الناقدة اللبنانية الكبرية مينى‬ ‫بعد القاهرة ومعها‪ ،‬باندالع احلرب الأهلية اللبنانية‬
‫العيد عام ‪ ،1992‬لي�س فقط لأنه جدير بها ومبا تنطوي‬ ‫(‪� .)1990 – 1975‬صحيح �أن فاروق عبدالقادر هاجر‬
‫عليه من ر�أ�سمال رمزي‪ ،‬ولكن �أي�ضا لأنه كان يف حاجة‬ ‫بقلمه كثريا ط��وال الثمانينيات‪ ،‬وكتب يف ال�صحف‬
‫�إىل تعزيز ا�ستقالله االقت�صادي‪ ،‬حتى يوا�صل الذود‬ ‫واملجالت البريوتية والقرب�صية بعد اجتياح بريوت‪،‬‬
‫عن ا�ستقالله الثقايف بج�سارة �أك�بر‪ ،‬ودون �أي ح�ساب‬ ‫�إال �أن ما �ضاعف من حدة احل�صار ال��رديء حوله هو‬
‫للعائد املادي‪ .‬لأنني من الذين يعتقدون �أن اال�ستقالل‬ ‫عملية ت�ضييق اخلناق على املثقف امل�ستقل يف م�رص‪،‬‬
‫االقت�صادي للمثقف هو الأ�سا�س املتني لأي ا�ستقالل‬ ‫والتي بد�أت منذ تويل فاروق ح�سني وزارة الثقافة يف‬
‫‪31‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫منذ �إزده��ارت��ه الكبرية يف ال�ستينيات‪ ،‬وحتى �أف��ول‬ ‫فكري �أو ثقايف‪ .‬لكن فاروق عبدالقادر مل يكن من الذين‬
‫جنمه كلية مع نهاية القرن الع�رشين‪ .‬و�إذا ما �أ�ضفنا‬ ‫يقيمون العتبارات احلياة املادية �أي ح�ساب‪ .‬فبدد مال‬
‫�إليهما كتابه الثالث (نافذة على م�رسح الغرب‪ :‬درا�سات‬ ‫اجلائزة يف �أعوام قليلة‪ ،‬بدال من ا�ستثماره فيما ي�ضمن‬
‫وجتارب) ‪ ،1987‬وكتابه ال�صغري عن م�رسح �سعداللـه‬ ‫له عائدا ي�سد احتياجاته املادية املتفاقمة مع ارتفاع‬
‫ونو�س (من �أوراق الت�سعينيات‪ :‬كرا�سة �سعداللـه ونو�س‬ ‫الأ�سعار وت�ضا�ؤل مردود العمل الثقايف اجلاد‪.‬‬
‫و�أعمال أ�خ��رى) ‪ ،2000‬ف�ضال عن عدد من الف�صول‪،‬‬ ‫الناقد امل�رسحي ب�ين امل����سرح امل����صري والغربي‪:‬‬
‫�أو بالأحرى املقاالت عنه‪ ،‬يف كتبه التالية‪� ،‬سنجد‬ ‫هم ف��اورق وغرامه النقدي كان بامل�رسح الذي‬ ‫لكن ّ‬
‫�أننا ب�إزاء �أعمال ناقد ر�صد حتوالت امل�رسح امل�رصي‬ ‫وجد فيه حتققه حينما بد أ� ممار�سة العمل النقدي‪ .‬وكما‬
‫والعربي بح�سا�سية نقدية فائقة‪ .‬تعي �أن امل�رسح ن�ص‬ ‫كان العامل يتهاوى من حوله يف ثمانينيات القرن‬
‫درام��ي يف الأ�سا�س‪ ،‬ولكنها ال تهتم مع ذلك بالن�ص‬ ‫وي�ضيق اخلناق عليه‪ ،‬كان امل�رسح امل�رصي‬‫ّ‬ ‫املا�ضي‬
‫وحده‪ ،‬بل توجه الكثري من عنايتها جلماليات العر�ض‬ ‫�أي�ضا يتداعى‪ .‬بعدما �أ�صيب يف عقدي الثمانينيات‬
‫امل�رسحي ومكوناته املختلفة من ت�صميم للم�شهد‬ ‫والت�سعينيات بال�سكتة الأكادميية على يد كتاب غري‬
‫ومتثيل و�إخراج‪.‬‬ ‫موهوبني مثل �سمري �رسحان وف��وزي فهمي وحممد‬
‫فقد كان النقد امل�رسحي م�رشوعه الأ�سا�سي‪� ،‬إذا ما‬ ‫عناين وغريهم‪ .‬در�سوا امل�رسح‪ ،‬وح�صلوا على �شهادات‬
‫�أردنا �أن نتحدث عن م�رشوع نقدي له‪ .‬اهتم بتحوالته‬ ‫فيه‪ ،‬ولكنهم �أخفقوا يف تقدمي درام��ا واح��دة �سيبقى‬
‫يف م�رص �أ�سا�سا‪ ،‬ورفدها ببع�ض اال�ستق�صاءات عن‬ ‫لها �أثر يف امل�رسح امل�رصي‪ .‬وكانت خدماتهم اجلليلة‬
‫امل�رسح العربي‪ ،‬وعن �أكرث كتابه موهبة‪ ،‬وهو �سعداللـه‬ ‫للم�ؤ�س�سة الثقافية الر�سمية وال�سيا�سية معا هي �سبيل‬
‫ونو�س‪ .‬ب�صورة ال يكاد يفلت منها �شيء ذا بال‪ ،‬حيث‬ ‫ن�صو�صهم الركيكة خل�شبة «امل�رسح القومي»‪� ،‬أعرق‬
‫يكتب عن بدايته عند �أبو نظارة يعقوب �صنوع (‪1839‬‬ ‫م�سارح م�رص‪ .‬وكانت جوقة من نقاد امل�ؤ�س�سة اجلدد‬
‫– ‪ ،)1912‬وعند جنيب الريحاين‪ ،‬وجتلياته اجلديدة‬ ‫تروج �أعمالهم‪ ،‬ولكن فاروق كان‬ ‫ومنافقيها قد �أخذت ّ‬
‫عند حممد �صبحي‪ ،‬وعن بع�ض �شخ�صياته املن�سية لدي‬ ‫لهم باملر�صاد‪ .‬وك�شف عن تدين م�رسحهم وركاكته‪،‬‬
‫منا�ضلة م�رسحية �سيا�سية مثل �سناء امل�رصي (‪1958‬‬ ‫كما ك�شف من قبل عن تردي م�رسح كبريهم الذي علمهم‬
‫– ‪ .)2000‬كما يكتب عن مهرجان امل�رسح التجريبي‬ ‫ال�سحر‪ ،‬ر�شاد ر�شدي‪ .‬ومن يقر�أ كتابته‪ ،‬وكتابات ف�ؤاد‬
‫يف م�رص‪ ،‬ومهرجان بغداد امل�رسحي‪ ،‬وغريهما من‬ ‫دوارة عن امل�رسح امل�رصي التي زاملتها‪ ،‬يجد فيهما‬
‫املهرجانات‪.‬‬ ‫متابعة دقيقة لآليات �سقوط امل�رسح وترديه‪ .‬وللعالقة‬
‫ثم عزز هذا كله بعدد من الرتجمات لبع�ض الدرا�سات‬ ‫اجلدلية امل�ضمرة بني تردي الواقع الثقايف وال�سيا�سي‬
‫النقدية يف امل�رسح الغربي املعا�رص‪ ،‬ككتاب جيم�س‬ ‫وتدهور امل�رسح الذي ي�صدر عنه‪ ،‬لأن امل�رسح من �أكرث‬
‫رو�س �إيفانز‪( ،‬امل�رسح التجريبي من �ستان�سالفي�سكي �إىل‬ ‫الفنون جمعية‪ ،‬و�أحوجها ملناخ نقدي عقلي وحر‪.‬‬
‫اليوم) ‪ .1979‬وبعدد من الرتجمات لبع�ض الن�صو�ص‬ ‫والواقع �أن �أول كتب ف��اروق عبدالقادر النقدية‪ ،‬فقد‬
‫امل�رسحية املهمة لتيني�سي وليامز (ليلة ال�سحلية‪،‬‬ ‫مار�س العمل النقدي طويال قبل �أن ي�صدر كتابه الأول‪،‬‬
‫وفرتة توافق) ‪ ،1964‬و�أنطون ت�شيخوف (بالتونوف‬ ‫(ازده��ار و�سقوط امل�رسح امل�رصي) ‪ ،1979‬وكتابه‬
‫�أو ف�ضيحة يف الريف) ‪ ،1968‬و�آرت��ور �آدام��وف (لعبة‬ ‫التايل (م�ساحة لل�ضوء ‪ ..‬م�ساحة للظل‪� :‬أعمال يف النقد‬
‫البنج – بوجن) ‪� .1969‬صحيح �أنك ال جتد خيطا يربط‬ ‫امل�رسحي ‪ ،1986 )1977 – 1967‬ير�صدان هذا‬
‫بني اختياراته لرتجمة الن�صو�ص‪ ،‬اللهم �إال الرغبة يف‬ ‫االزدهار وي�ؤرخان لل�سقوط‪ ،‬ويقدمان �إ�سهامه البارز‬
‫تو�سيع �أفق معرفته بتقنيات الكتابة امل�رسحية لدى‬ ‫يف نقد امل�رسح امل�رصي‪ ،‬وتتبع م�ساره عرب عدة عقود‪،‬‬
‫‪32‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من ف�ساد واعوجاج‪� ،‬أكرث مما يهمه التحليل الن�صي‬ ‫عدد من كتاب امل�رسح املجيدين‪� ،‬أو با�ستق�صاءات‬
‫�أو املنهجي والتنظري‪ .‬ولذلك ف���إن جل كتبه هي يف‬ ‫التجريب اجلديدة فيه لدى عدد �آخر‪� ،‬أو ببع�ض الدرا�سات‬
‫حقيقة الأم��ر جتميع لتلك املقاالت‪ .‬با�ستثناء كتاب‬ ‫النقدية فيه كما هو احلال يف كتاب �إيفانز‪.‬‬
‫وحيد‪ ،‬هو كتابه ال�صغري (البحث عن اليقني املراوغ‪:‬‬ ‫لكن �إ�ضافة فاروق عبدالقادر للنقد امل�رسحي يف جمال‬
‫قراءة يف ق�ص�ص يو�سف �إدري�س) ‪ ،1998‬وهو الكتاب‬ ‫الرتجمة‪ ،‬والتي متيز بها وح��ده‪ ،‬ورفد عربها �أدوات��ه‬
‫الوحيد الذي ميكن القول �أنه كتبه كدرا�سة مطولة عن‬ ‫النقدية املتعلقة بدرا�سة العر�ض امل�رسحي‪ ،‬و�آليات‬
‫�أحد جوانب العامل الإبداعي الرثي لعمالق الأق�صو�صة‬ ‫التفاعل بني العر�ض وامل�شاهدين‪ ،‬وق��دم بها خدمة‬
‫امل�رصية‪ ،‬يو�سف �إدري�س (‪ ،)1991 – 1927‬و�إن مل‬ ‫كبرية لنقاد امل�رسح ودار�سيه‪ ،‬تتمثل يف اهتمامه‬
‫ي�ستف�ض فيه بال�صورة التي تكفي كي ت�شغل حيز كتاب‬ ‫ب�أعمال املخرج والدراماتورج امل�رسحي االجنليزي‬
‫�صغري ن�سبيا ككتاب الهالل (‪� 150‬صفحة من كان امل�سرح‬ ‫الكبري بيرت بروك‪ .‬وهو املخرج الذي �أقام معمال لدرا�سة‬
‫القطع ال�صغري)‪� ،‬أو كي ت�ستوعب كل �إنتاجه‬ ‫�آليات العر�ض امل�رسحي وحركيته‪ ،‬والتعامل مع الف�ضاء‬
‫الق�ص�صي وحتوالت بنية الق�صة ور�ؤاها فيه‪ .‬هو مركز‬ ‫اخلايل املجرد وج�سد املمثل‪ ،‬يف باري�س منذ عقود‪ .‬فقد‬
‫ف�أ�ضطر حتى يكمله �أن ي�ضم له ع��ددا من الثقل يف‬ ‫ترجم فاروق درا�سته الرائدة والتي �شكلت فتحا نظريا‬
‫ق�ص�ص يو�سف �إدري�س يف نهايته كنماذج‬ ‫وا�ستق�صاء معرفيا ب��ارزا يف جم��ال ت�صور العر�ض‬
‫خمتارة هي (يف الليل‪ ،‬حادثة �رشف‪� ،‬صاحب �إجناز فاروق‬ ‫ً‬
‫احلركي‪ ،‬وبلورة ماهية الظاهرة امل�رسحية‪ ،‬وقدمها يف‬
‫م�رص‪ ،‬اجلرح‪ ،‬والعملية الكربى) والتي حتتل عبدالقادر‬ ‫كتابه العالمة (امل�ساحة الفارغة) عام ‪ ،1986‬ثم كتابه‬
‫النقدي‬ ‫ن�صف عدد �صفحات هذا الكتاب تقريبا‪.‬‬ ‫الكبري الذي جمع فيه الكثري من درا�ساته التايل (نقطة‬
‫وينق�سم الكتاب �إىل ثالثة ف�صول‪� :‬أولها‪:‬‬ ‫التحول‪� :‬أربعون عاما من ا�ستك�شاف امل�رسح) ‪.1990‬‬
‫«نهايات وب��داي��ات ج��دل الفرد واجلماعة»‬ ‫وكان قد ترجم قبلهما م�رسحيته الوحيدة (‪ us‬نحن �أو‬
‫وال��ث��اين «ع��ن امل���ر�أة واجلن�س يف القرية واملدينة»‬ ‫�أمريكا) عام ‪ .1971‬ب�صورة ت�شكل معها ترجماته �أكمل‬
‫والثالث «عن الواقع وحتوالته‪ :‬من واقع ما قبل ‪1952‬‬ ‫تغطية يف العربية لأعمال هذا امل�رسحي الذي يعد �أحد‬
‫�إىل واقع ما بعد ‪ .»1967‬ومع �أن الكتاب ينطلق من‬ ‫�أبرز �أعالم امل�رسح الغربي املعا�رص‪.‬‬
‫تقدير حقيقي ملوهبة يو�سف �إدري�س الإبداعية الكبرية‪،‬‬
‫وخا�صة يف فنه الأثري‪ ،‬فن الأق�صو�صة؛ وي�سعى لر�صد‬ ‫معايري التقييم وبنية الأوراق النقدية‪:‬‬
‫بع�ض الق�ضايا الأ�سا�سية التي طرحها يف �أقا�صي�صه؛‬ ‫و�إذا ك��ان امل�رسح هو مركز الثقل يف �إجن��از ف��اروق‬
‫�إال �أن الرغبة يف التقييم‪ /‬والتقومي ال تتخلى عنه‪ .‬فال‬ ‫عبدالقادر النقدي‪ ،‬ف���إن متابعة الأع��م��ال الإبداعية‬
‫ين�سى يف هذا الكتاب ال�صغري الذي يحتفي بق�ص�ص‬ ‫اجليدة‪ ،‬امل�رصية منها والعربية‪ ،‬والوقوف �ضد الف�ساد‬
‫يو�سف �إدري�س الق�صرية‪� ،‬أن يندد يف ف�صله الأول ببع�ض‬ ‫الثقايف وتعرية اال�ستهانة بالقيم الأدبية والأخالقية‬
‫�سلوكيات يو�سف �إدري�س العامة‪ ،‬ومواقفه التي تتناق�ض‬ ‫منها على ال�سواء ك��ان �شاغله الثاين‪ ،‬كناقد يطمح‬
‫مع ر�ؤيته احلقيقية امل�ضمرة يف �أعماله الإبداعية‬ ‫للعب دور يف �إر�ساء القيم النقدية والعقلية ال�سليمة‬
‫الباقية‪ .‬وهي ال��ر�ؤى التي يهتم الكتاب بالك�شف عن‬ ‫يف واقعه‪ ،‬ويدافع عن نقائها و�أخالقياتها‪ .‬ذلك لأن‬
‫تفا�صيلها �أك�ثر من اهتمامه بتحليل ا�سرتاتيجيات‬ ‫فاروق عبدالقادر كاتب مقال نقدي يف املحل الأول‪،‬‬
‫الكتابة التي بلورتها‪� ،‬أو البنى الن�صية التي تنطوي‬ ‫ومراقب ذكي خمل�ص للحركة الأدبية والفنية امل�رصية‬
‫عليها‪ .‬ف�آخر ما يهتم به فاروق عبدالقادر هو تناول‬ ‫والعربية‪ ،‬ي�سعى لأن يلعب دورا فعاال فيها‪ .‬هو دور‬
‫ال�شكل من فرط ان�شغاله بامل�ضمون‪ .‬ناهيك عن الوعي‬ ‫ال�ضمري النقدي الذي يهمه التو�صيف والتقييم‪ ،‬و�أحيانا‬
‫ب�أن لل�شكل الفني الذي يتبدل ويتغري‪ ،‬يف الأعمال اجليدة‬ ‫ميتد التقييم ك��ي ي�صبح تقوميا وتقريعا مل��ا ي��راه‬
‫‪33‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫احلري�ص على نزاهته يف واقع يهرول �صوب الرتدي‬ ‫كي يبلور امل�ضمون‪ ،‬حمتواه الفكري وامل�ضموين‪.‬‬
‫وال��ه��وان‪ ،‬كالقاب�ض على اجلمر‪ .‬ثم مرحلة «الثورة‬ ‫قلت أ�ن��ه با�ستثناء ه��ذا الكتاب ال�صغري عن يو�سف‬
‫املحا�رصة» واالختيار املر بـ«الرف�ض او القبول» حيث‬ ‫�إدري�س‪ ،‬وهو اال�ستثناء الذي ي�ؤكد القاعدة وال ينفيها‪،‬‬
‫كان الفرز قا�سيا ي�ست�أدي املثقف ثمن مواقفه‪ ،‬وقد بد�أ‬ ‫ف�إن كتب ف��اروق عبدالقادر املن�شورة هي جتميعات‬
‫الواقع ي�سفر عن �أكرث جتلياته قبحا وف�سادا‪ ،‬مع مرحلة‬ ‫خمتلفة ملقاالته ومتابعاته ملا يدور يف احلركة الأدبية‬
‫الدخول يف «نفق معتم»‪ ،‬ت�ضيئه بالكاد «م�صابيح‬ ‫والثقافية‪ .‬ابتداء بـ(�أوراق من الرماد واجلمر) ‪،1988‬‬
‫قليلة»‪ ،‬و�صوال �إىل ان�سداد الأفق كلية بعد «غروب �شم�س‬ ‫وانتهاء بـ(من �أوراق نهاية القرن‪ :‬غروب �شم�س احللم)‬
‫احللم» مع مطالع القرن اجلديد‪.‬‬ ‫‪ ،2002‬مرورا بـ(ر�ؤى الواقع وهموم الثورة املحا�رصة)‬
‫الت�صور املنهجي التقييمي املغاير‪:‬‬ ‫‪ ،1989‬و(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر‪ :‬متابعات‬
‫م�رصية وعربية ‪ ،1990 )1989 – 1986‬و(من �أوراق‬
‫ولنت�أمل معا كيف تبلور مقدمة كتاب (�أوراق �أخرى‬
‫الرف�ض والقبول‪ :‬وجوه و�أعمال) ‪ ،1992‬و(من �أوراق‬
‫من الرماد واجلمر‪ :‬متابعات م�رصية وعربية ‪1986‬‬
‫الت�سعينيات‪ :‬نفق مظلم وم�صابيح قليلة) ‪.1996‬‬
‫– ‪ ،)1989‬القاهرة‪ ،‬م�ؤ�س�سة العروبة للطباعة‪،1990 ،‬‬
‫ويالحظ من يت�أمل عناوين هذه الكتب جميعا �أنها‬
‫بع�ض مالمح �أوىل تلك املراحل‪ .‬فبعد �أن ينعي جتاهل‬
‫ت�ؤكد على كونها «�أوراقا»‪ ،‬وهي بالفعل �أوراق جتمعت‬
‫ال�صحافة الأدبية يف الزمن الرديء لكتابه ال�سابق يقول‬
‫ف�صارت كتبا‪ .‬وهي �أي�ضا �أوراق لأن فاروق و�أغلب �أبناء‬
‫«واحلقيقة �أنني ال �أرى يف املوقف كله عجبا �أو غرابة‪.‬‬
‫ذلك �أن كلمة النقد قد �أ�صبحت يف واقعنا الثقايف هذا‬ ‫جيلي كانت الكتابة عندهم بالورقة والقلم‪ ،‬ومل يدخل‬
‫املرتدي كلمة ملتب�سة املعني �أو �سيئة ال�سمعة‪ .‬اختلط‬ ‫احلا�سوب يف �أ�سلوب �أو تقاليد الكتابة عندهم‪� ،‬إال مع‬
‫النقد ب�سواه‪ ،‬وماعت احلدود‪ :‬الأخبار امل�صورة �أ�صبحت‬ ‫عدد نادر منهم‪� .‬آخر ما ا�ستخدمه من �أدوات الثورة‬
‫نقدا‪ ،‬وحم��ررو ال�صفحات الفنية �أ�صبحوا نقادا‪ .‬وكل‬ ‫التقنية هو �آلة ت�صوير الوثائق‪ ،‬حيث كان يحر�ص على‬
‫�صاحب دكتوراه يف �أي فرع من فروع املعارف الأدبية‬ ‫ت�صوير مقاالته ويحتفظ بن�سخة منها‪ ،‬قبل �أن يبعث‬
‫قد �أ�صبح �أ�ستاذا ناقدا‪ .‬و�أ�صبحنا نقر�أ يف نقد هذه‬ ‫بها �إىل منرب الن�رش‪ ،‬وبعد �أن تخلى عن ا�ستخدام «ورق‬
‫ال�سنوات الأخ�يرة عجبا‪ .‬ثمة من يعد النقد كهنوتا له‬ ‫الكاربون» القدمي‪ ،‬والذي كنا ن�ستخدمه �أثناء تبيي�ض‬
‫طقو�س خا�صة ال يتم بغريها‪ .‬ولكي يتجنب حدة الرف�ض‬ ‫املقال لالحتفاظ بن�سخة منه‪.‬‬
‫والقبول يلوذ بامل�صطلح الغربي‪ ،‬ويحاول ق�رسا تطبيقه‬ ‫لكن الأوراق �أي�ضا يف العناوين عالمة على بنية لها‬
‫على �أعمال عربية �أو م�رصية يف حيادية م�شبوهة‪ .‬وهذا‬ ‫حمتواها‪ ،‬وهي �أننا ب�إزاء �أوراق �أو بالأحرى �شهادات‬
‫يعني �أن �أ�صحاب هذا النقد ال يب�رصون غري منوذج واحد‬ ‫متفرقة يحر�ص كاتبها على �أن تلعب دورا الحقا للدور‬
‫هو النموذج الغربي‪ ،‬كما بلغهم‪ ،‬ومن ثم يعتمد جناح‬ ‫الأ�سا�سي الذي لعبته كل ورقة منها يف حينها‪ .‬وهو هنا‬
‫العمل عندهم على قدر احتذائه لهذا النموذج‪ .‬وما يفوت‬ ‫دور ال�شهادة الأ�شمل والأو�سع على مرحلة بعينها‪ .‬ولذلك‬
‫�أ�صحابنا كهان امل�صطلح �أنهم حني ينقلونه ال ينقلون‬ ‫ف�إنها تو�شك �أن تقدم تو�صيفاتها لطبيعة املراحل التي‬
‫معه ال�سياق الذي نبت فيه‪ ،‬والذي يدل عليه‪ .‬في�صبح‬ ‫مرت بها احلركة الثقافية امل�رصية يف العقود الأخرية‬
‫نبتة غريبة بغري جذور‪ .‬انقطع ما بيننا وبني م�صطلح‬ ‫والتعي�سة من القرن املا�ضي ويف ال�سنوات الأوىل من‬
‫النقد العربي القدمي �أو كاد‪ ،‬وم�صطلح النقد الغربي فقد‬ ‫هذا القرن‪ ،‬والتي �أ�سفرت عن انفجارة الثورة امل�رصية‬
‫داللته اال�صطالحية ما دام غري متفق عليه بني الأطراف‬ ‫يف ‪ 25‬يناير ‪ .2011‬مرحلة الرماد واجلمر‪ ،‬حينما‬
‫املختلفة التي ت�ستخدمه»(�أوراق �أخرى �ص‪.)6‬‬ ‫ترمدت الأح�لام وامل�شاريع الكبرية‪ ،‬وع�صفت �صدمة‬
‫فقد كان عقد الثمانينيات هو عقد ازدهار جملة (ف�صول)‬ ‫النك�سة الدامية بالكثري‪ ،‬و�أ�صبح القاب�ض على مبادئه‪،‬‬
‫‪34‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يقطعانها معا‪ ،‬ولأن الرائد ال يكذب �أهله‪ ،‬فقد وجب عليه‬ ‫وو�صول الثورة النقدية للقرن الع�رشين �إىل العامل العربي‪،‬‬
‫�أال يخدع قارئه‪� ،‬أو يدل�س عليه‪� ،‬أو يلقي �إليه بكلمات‬ ‫و�سعي عدد من نقاده لتطبيق مناهجها املتباينة من‬
‫مت�شابهات‪� ،‬أو يغرقه يف م�ستنقع مائع من التعبريات‬ ‫�أ�سلوبية وبنيوية ون�سوية و�سميولوجية وتفكيكية‬
‫والت�شبيهات وا إلح��االت دون جدوى‪� ،‬أو يتعاىل عليه‪.‬‬ ‫وغريها‪ .‬وه��و التطبيق ال��ذي �شابه الكثري من العوار‬
‫ك�أن يد الناقد �أ�صبحت هي العليا‪ ،‬ويد القارئ �أو املبدع‬ ‫والتب�سيط‪ ،‬و�أحيانا التخبط والتخليط‪ .‬ومع �أن فاروق‬
‫هي ال�سفلى! والتزام الناقد بتلك القيم لي�س �رضورة‬ ‫عبدالقادر مل يكن مغرما ب�أي من تلك املناهج‪ ،‬ف�إنه‬
‫مهنية فقط‪ ،‬لكنه التزام �أخالقي و�إن�ساين يف املقام‬ ‫مل ينكر حق الآخرين يف االهتمام بها‪� ،‬رشيطة وعيهم‬
‫الأول‪( ».‬غروب �شم�س احللم‪� :‬ص‪)6‬‬ ‫ب�رشوط بداياتها من ناحية‪ ،‬وب�آليات عمليات ارحتالها‬
‫كان �صادقا مع‬ ‫الثقايف التي قعد لها �إدوار �سعيد يف مقالتني بارزتني‬
‫و�سوف نعود يف الق�سم الأخري من هذه الدرا�سة‬
‫�إىل التزام الناقد الأخالقي والإن�ساين وجتلياته قارئه لأن ما‬ ‫من ناحية �أخرى‪ .‬لأنه يقول يف مقدمة هذا الكتاب «�إن‬
‫من حق الناقد‪ ،‬رمبا كان الأدق �أن �أقول من واجبه‪� ،‬أن‬
‫املختلفة يف �أعمال ف��اروق عبدالقادر وما يهمه هو �أن‬
‫جرته عليه من م�شاكل‪ .‬ولكن البد قبل ذلك‬ ‫ي�ستعني مبختلف املناهج التي تقوم عليها علوم املجتمع‬
‫من الك�شف عن م��دى �أهمية �شهادته على يقدم �أوراقه‬ ‫والنف�س والإن�سان لتحقيق مزيد من الفهم للعمل الذي‬
‫مراحل ثقافتنا املعا�رصة وحتوالتها يف و�شهاداته على‬ ‫يت�صدى لنقده‪ ،‬وللعالقة بينه وبني الواقع الذي �صدر‬
‫كل تلك الأوراق‪ /‬الكتب‪ .‬وتكمن �أهمية هذه‬ ‫عنه ليعود فيتوجه �إليه‪ .‬ما دام قادرا على �صياغة نهج‬
‫ما انتاب من‬ ‫مت�سق العنا�رص‪ ،‬ال يت�صادم �آخره ب�أوله‪ ،‬لكن ما لي�س من‬
‫ال�شهادة يف �أنها ت�صدر عن �ضمري نقدي حر‪،‬‬
‫ال ي�ساوم على دوره التنويري �إزاء القارئ‪� ،‬أو حتوالت يف‬ ‫حقه �أن ينقل منهجا من تلك املناهج‪ ،‬دون نقده‪ ،‬و�أن‬
‫ي�سعى �إىل تطبيقه على �أعمال تنتمي لواقع غري الواقع‬
‫على م�س�ؤوليته يف فرز الغث من الثمني‪ .‬لذلك زمن ا�ست�شرى‬
‫كان يويل عناية كبرية الختيار الن�صو�ص �أو‬ ‫الذي �صدر عنه هذا املنهج يف �أ�صله الأول‪ ،‬فمثل هذا‬
‫الكتاب الذين يكتب عنهم �أوراق��ه بال�صورة فيه التدلي�س‬ ‫التطبيق لن يبلغه �إال نتائج خاطئة �أو قا�رصة �أو م�ضللة‪.‬‬
‫التي جتد معها‪ ،‬و�أنت تقر�أ �أعماله الآن ب�أثر والتخليط‬ ‫ثم �أين هو هذا املنهج ال�صايف املتكامل كالبلورة؟»(�ص‬
‫رجعي‪ ،‬و�أدعو �أن تقوم هيئة ثقافية بطبعها‬ ‫‪� 6‬أوراق �أخرى من الرماد واجلمر)‬
‫كاملة‪� ،‬أن��ه��ا مل تفلت عمال جيدا مل تكتب‬ ‫و�إذا كان املنهج ال�صايف املتكامل كالبلورة ال وجود له‪،‬‬
‫عنه‪ .‬ومل ترتك ظاهرة �سلبية مل تتناولها بق�سوة جراح‬ ‫فال ب�أ�س من طرح كل �أ�سئلة املنهج وم�شاغلها النظرية‬
‫ي�ست�أ�صل الأورام اخلبيثة من ج�سد الواقع الثقايف‪ .‬فقد‬ ‫وراء ظهره‪ .‬وهذا ما فعله فاروق عبدالقادر؛ لأن ما يهمه‬
‫كتب عن �أبرز ما �صدر يف م�رص لكل كتابها املوهوبني‬ ‫حقيقة هو �أن يقدم �أوراق��ه �أو �شهاداته على ما انتاب‬
‫تقريبا‪ :‬من توفيق احلكيم ويحيى حقي وجنيب حمفوظ‬ ‫الواقع من حتوالت‪ .‬و�أن يكون �صادقا مع قارئه‪ ،‬يف‬
‫ولوي�س عو�ض وعبدالرحمن ب��دوي وفتحي ر�ضوان‬ ‫زمن ا�ست�رشى فيه التدلي�س والتخليط‪ ،‬و�أ�صبح القارئ‬
‫وح�سني ف��وزي وعلي الراعي وفتحي غ��امن ويو�سف‬ ‫نف�سه �ضحية هذا التدلي�س الذي تتخلق عربه مكانات‬
‫�إدري�����س و�ألفريد ف��رج وحممود العامل وعبدالعظيم‬ ‫وي�سوق فيه ر�أ�سمال رمزي مفربك وم�شبوه‪.‬‬‫ّ‬ ‫�أدبية مزيفة‪،‬‬
‫�أني�س‪ ،‬وحممد �أني�س‪� ،‬إىل بهاء طاهر وحممود دياب‬ ‫لذلك يقول يف مقدمة كتابه الأخري (غروب �شم�س احللم)‬
‫وحممد الب�ساطي و�إبراهيم �أ�صالن وعالء الديب و�صنع‬ ‫«�إنني �أفهم �أن الناقد هو دليل القارئ واملتلقي‪ ،‬هو عينه‬
‫اللـه �إبراهيم و�أب��و املعاطي �أب��و النجا‪ ،‬وحتى حممد‬ ‫املدربة املثقفة املتفح�صة‪� .‬إنه لي�س �ضيفا ثقيال بينه‬
‫املخزجني‪ ،‬وحممد املن�سي قنديل وحجاج �أدول وحممد‬ ‫وبني العمل الإبداعي‪ ،‬لكنه �أقرب لأن يكون اجل�سم الذي‬
‫ناجي وجنوى �شعبان و�سحر املوجي وعزت القمحاوي‪،‬‬ ‫تتخلله �أ�شعة ال�ضوء‪ ،‬وبقدر �شفافيته �أو عتامته تتحدد‬
‫وعبدالوهاب الأ���س��واين و�أ�سامة أ�ن��ور عكا�شة وهناء‬ ‫زوايا االنك�سار‪ .‬ومن حيث �أنه دليل القارئ يف �أر�ض‬
‫‪35‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والق�صور والعجز و�سوء الفهم‪ ،‬وتخفي �سوء النوايا وراء‬ ‫وغربيال زكي ورفعت ال�سعيد وليلى عنان‪.‬‬ ‫عطية‪ُ ،‬‬
‫املزوقة‪ ،‬طامح �إىل ك�شف �أ�شكال هذا كله‬ ‫ّ‬ ‫الواجهات‬ ‫و�إذا ما ت�أملنا قائمة الكتاب العرب الذين كتب عنهم‬
‫وجتلياته ومواجهتها‪ ،‬ذلك �أنه يحمل بني جنبيه‪ ،‬من‬ ‫�سنجد �أنها ال تقل طوال و�أهمية عن القائمة امل�رصية‪،‬‬
‫حيث هو مبدع‪ ،‬تلك ال�شهوة القدمية املتجددة لإ�صالح‬ ‫�إذ ت�ضم الطاهر وط��ار وف����ؤاد التكريل وعبدالرحمن‬
‫الكون الفا�سد»(�ص ‪� 8‬أوراق �أخ��رى)‪ .‬ثم يت�ساءل يف‬ ‫منيف وج�ب�را �إب��راه��ي��م ج�برا وزك��ري��ا ت��ام��ر وخ�يري‬
‫تقدميه لكتابه الأخ�ير (م��ن �أوراق نهاية القرن) بعد‬ ‫الذهبي وحيدر حيدر والطيب �صالح وال�سوداين مروان‬
‫تو�صيف الواقع العربي الثقايف املظلم يف نهاية القرن‬ ‫حامد الر�شيد و�شوقي بغدادي وحممد �شكري ومليكة‬
‫املا�ضي ومطلع القرن احلايل «يف مثل هذا الواقع‪ ،‬هل‬ ‫�أوفقري وحممد برادة وفاطمة املرني�سي وحممد خ�ضري‬
‫ثمة دور للعمل النقدي؟ اجلواب نعم! �رشط �أن يكون هذا‬ ‫وبثينة النا�رصي ووارد ال�سامل وغازي العبادي ولطفية‬
‫العمل مت�صديا وج�سورا‪ .‬ال يتعرث بني التخفي واملكا�شفة‪.‬‬ ‫طوال الدليمي وعلي خيون وعبداخلالق الركابي‬
‫ال يلوذ مب�صطلح غام�ض يفتقد الو�ضوح واليقني‪ .‬ال‬ ‫وعبدالوهاب البياتي‪ ،‬وفي�صل احلوراين و�سحر‬
‫ي�ستدعي �رس الوجود من ال�صمت �إىل ال�صمت‪ .‬بل يكون‬ ‫خليفة وحنان ال�شيخ‪� .‬صحيح �أنه يكتب عادة‬
‫حياته التي‬
‫العمل بينا مبينا‪ ،‬غري ملتب�س‪ ،‬ال يتحرج من الك�شف عن‬ ‫مل يهادن عن �أعمال مفردة ل��ه���ؤالء‪ ،‬ون��ادرا ما يكتب‬
‫ر�سالة العمل الذي يت�صدى له‪ ،‬وال يرتدد يف احلكم على‬ ‫فيها الف�ساد تقييما �شامال للكاتب‪� ،‬إال �إذا ما ت�صادف‬
‫ما حتمله هذه الر�سالة من فائدة و�صحة‪ .‬لي�س ثمة عمل‬ ‫رحيله؛ �إال �أن احل�صيلة الكلية التي تخرج بها‬
‫جماين‪ ،‬وقد �أ�سقطت املمار�سة كل دعاوى «العمل الفني‬ ‫القائم مهما من قراءة كتبه تقدم لك م�سحا �أدبيا �شامال ملا‬
‫هو ما هو»‪ ،‬ودعاوى «الفن من حيث هو خال�ص فردي»‬ ‫ت�سلح تناوله كتاب كل مرحلة من ق�ضايا‪ ،‬وملا يدور‬
‫وما �إليها من دع��اوٍ ‪ .‬هنا والآن‪ ،‬ال ج��دوى يف عمل ال‬ ‫يف �ضمري الواقع الثقايف واالجتماعي‪ ،‬بل‬
‫يعري قبح وف�ساد ما هو قائم‪ ،‬وال يتطلع �إىل عامل �أكرث‬ ‫ب�سطوة وال�سيا�سي‪ ،‬من هموم‪ .‬تتكون فيه ال�صورة من‬
‫عدال و�أمنا وجماال‪ .‬يفعل هذا ب�أدوات الفن‪ ،‬ال ب�أدوات �أي‬ ‫ال�سلطة خالل تلك الف�سيف�ساء التي تتجاور فيها �أعمال‬
‫ن�شاط �إن�ساين �آخر» (غروب �شم�س احللم‪� :‬ص‪.)6‬‬ ‫�أو ال�شهرة خمتلفة يف م�شارب �أ�صحابها ويف �أ�ساليب‬
‫وقد فعل ف��اروق عبدالقادر هذا طوال حياته التي مل‬ ‫كتابتها‪ ،‬ويف مناهج ال�رسد �أو الدراما فيها‪،‬‬
‫يهادن فيها الف�ساد القائم مهما ت�سلح ب�سطوة ال�سلطة‬ ‫الزائفة �أو �إال �أنها تتكامل يف قدرتها على �أن تر�سم لنا‬
‫�أو ال�شهرة الزائفة �أو بهما معا‪ ،‬كما هو احلال يف �أغلب‬ ‫بهما جدارية كبرية للمراحل املختلفة التي عا�شتها‬
‫معاركه‪ .‬ودفع لذلك الثمن‪ ،‬فما �أن كتب مثال عن حقيقة‬ ‫الثقافة العربية يف ن�صف القرن الأخري‪ ،‬ولبنية‬
‫زيف كاتب ما كان ير�أ�س حترير جريدة �أ�سبوعية للأدب‬ ‫معا امل�شاعر التي �سادت ن�صو�صها اجليدة‪.‬‬
‫حتى �أ�صدر �أوامره مبنع ن�رش �أي من مقاالته �أو حتى‬
‫�أي خرب عنه‪ .‬وله عدة معارك مع ر�شاد ر�شدي مرة‪،‬‬ ‫تقومي االعوجاج الثقايف وال�صرامة الأخالقية‪:‬‬
‫ومع تلميذه النجيب �سمري �رسحان الذي كتب فاروق‬ ‫وال يكتفي فاروق عبدالقادر يف جداريته العري�ضة تلك‬
‫عن كتابه (على مقهى احلياة) يف عنوان الفت «كل‬ ‫بتقدمي الأعمال اجليدة وحدها‪ ،‬ولكنه يهتم �أي�ضا بر�صد‬
‫هذه الأكاذيب يف كتاب واحد»‪ .‬وملا كان كل من ر�شاد‬ ‫الظواهر ال�سلبية‪ ،‬وتعرية ال�شخ�صيات التي تطفو كالطفح‬
‫ر�شدي و�سمري �رسحان قد رحال مبا لهما �أو عليهما‪،‬‬ ‫على وجه الواقع الثقايف ت�ست�أثر لف�سادها مبكان فيه‬
‫ف�سوف �أتوقف هنا عند ما كتبه عمن بقي حيا من تلك‬ ‫ال ت�ستحقه‪ ،‬وتخلق لنف�سها عرب هذا املكان مكانة ال‬
‫الفقاعات الثقافية‪� ،‬أال وهو جمال الغيطاين‪ .‬يف كتابه‬ ‫تربرها موهبتها املحدودة �أو املعدومة‪ .‬يقول فاروق‬
‫(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر) ف�صل بعنوان «ر�سالة‬ ‫عبدالقادر يف مقدمته لـ(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر)‬
‫يف ال�صبابة والوجد‪ :‬قطع الأرابي�سك والتعبري الزائف‬ ‫«�إن الناقد الذي يعي دوره ومهمته �إمنا هو ناقد للف�ساد‬
‫‪36‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الكاتب مل ي�ستكمل بعد – ورغم �آالف ال�صفحات التي‬ ‫عن التجربة» يك�شف فيها حقيقة تلك الأكذوبة امل�سماة‬
‫�سودها – معرفة �أدوات��ه‪ ،‬الأم��ر الثاين‪ ،‬ولعله �سيزيد‬ ‫بجمال الغيطاين والتي حتر�ص على ن�رش الدعاوى‬
‫و�ضوحا فيما يلي‪� ،‬أن تلك الركاكة �سمة مالزمة للغة‬ ‫الف�ضفا�ضة عن مكانها ومكانتها‪ ،‬وت�سوق مبهارة لهما‪.‬‬
‫التي ي�ستلهمها‪ .‬وال يقف الأمر‪ ،‬بطبيعة التجربة ذاتها‪،‬‬ ‫حيث يبد�أ مقاله با�ستهجان تلك الدعايات الذاتية‬
‫عند حدود الكلمات‪ ،‬بل يتجاوزها �إىل ا�ستخدام �صيغ‬ ‫املمجوجة التي يروجها الغيطاين عن نف�سه‪ ،‬وت�ساهم‬
‫وتراكيب ت�شي ببالغة رثة‪ ،‬ال جمال فيها‪ ،‬وال قدرة على‬ ‫يف ترويج ب�ضاعته الفا�سدة‪ .‬فقد ن�رشت روايته م�سل�سلة‬
‫الإف�صاح والإبانة‪�( ».‬ص ‪)116 – 115‬‬ ‫يف �صحيفة �أ�سبوعية‪ ،‬ثم �صدرت عن دار ن�رش حكومية‬
‫ثم يختم درا�سته الكا�شفة تلك عن تهافت الن�ص لغة‬ ‫بعد �شهر‪« .‬وقبل �أن تتم «روز اليو�سف» ن�رش حلقاتها‪،‬‬
‫وبنية وجتربة‪ ،‬بالقول‪« :‬لكن امل�س�ألة هي �أن الغيطاين‬ ‫�صدرت (ر�سالة يف ال�صبابة والوجد) جلمال الغيطاين‬
‫ال يعرف �سوى اللغة العربية يف ع�صور انحطاطها‬ ‫قدمتها «روايات الهالل» ب�سطور جاء فيها «تولو�ستوي‬
‫وعجمتها‪ .‬وم��ن ال��ذي��ن كتبوا بها يف تلك الع�صور‬ ‫من م�رص‪ :‬هذا هو الإ�سم الذي �أطلقته ال�صحافة الأدبية‬
‫يقوم ما بها من التواء‪،‬‬‫ي�ستوحي لغته‪ .‬وهو دون �أن ّ‬ ‫العاملية! (عالمة تعجب من عندي) على جمال الغيطاين‪،‬‬
‫فيثبتها كما هي‪ ،‬م�ستغلقا على عامة القارئني‪ ،‬موحيا‬ ‫تعبريا عن مكانته يف الرواية العربية احلديثة‪ .‬و�أرجو‬
‫لهم – يف الوقت ذاته – ب�أن وراء الأكمة ما وراءها‪.‬‬ ‫�أن توقف �سيل الأ�سئلة الذي ميكن �أن يتدافع‪ :‬وملاذا‬
‫وما وراءها غري اخلواء‪� .‬أقرب و�صف عندي لهذا العمل‬ ‫تولو�ستوي؟ ‪ ..‬وه��ل م��ن ال�ل�ازم �أن يظهر يف م�رص‬
‫و�صياغته قطع ال�صدف املل�صقة بلوحة الأرابي�سك‪،‬‬ ‫تولو�ستوي؟ و�إذا كان مقدرا له �أن يظهر يف م�رص‪� ،‬أكان‬
‫انتظر حتى تت�ساقط تلك القطع‪ ،‬فيبدو لك عري اخل�شب‬ ‫�سي�صبح هذا الذي نعرفه‪� ،‬أم �شيئا �آخر؟ �أقول لك هذه‬
‫وقبحه»‪���( .‬ص‪ )117‬وي�ضيف‪« :‬وقد ت�س�أل �أخ�يرا عن‬ ‫�أ�سئلة غري جمدية‪ ،‬والأمر كله �آفة قدمية مل نرب أ� منها‬
‫�رس احلفاوة التي يلقاها مثل هذا العمل‪ ،‬فين�رش مرتني‬ ‫بعد‪ ،‬لعلها ب��د�أت حينما و�صف اخلديوي �إ�سماعيل‬
‫خالل �شهرين اثنني هما اللذان انق�ضيا منذ فرغ منه‬ ‫يعقوب �صنوع ب�أنه موليري م�رص»(�ص‪.)115‬‬
‫�صاحبه (دع عنك الآن تلك الفكاهة عن تولو�ستوي‬ ‫ث��م ميح�ص ف���اروق عبدالقادر الن�ص ال��ذي ُو ِ�صف‬
‫م�رص) و�أن�صحك بالبحث عن الإجابة م�ستعينا بعلوم‬ ‫�صاحبه ب�أنه تول�ستوي م�رص‪ ،‬فيجد �أنه يفتقر بداءة‬
‫�أخرى‪ ،‬غري الإبداع الأدبي‪ ،‬العالقات العامة والت�سويق‬ ‫ل�سالمة اللغة‪ ،‬و�أن��ه مرتع بالأخطاء الإمالئية منها‬
‫و�إدارة الأعمال»‪�(.‬ص‪)117‬‬ ‫والنحوية‪ .‬فيقول‪�« :‬إن الأخطاء اللغوية التي يحفل‬
‫�أما يف كتابه (نفق معتم وم�صابيح قليلة) املركز امل�رصي‬ ‫بها العمل من حيث البنية والنحو وال�رصف جميعا‪،‬‬
‫العربي‪ ،1996 ،‬ف���إن فيه مقاال آ�خ��ر عن نف�س ال�شخ�ص‬ ‫تكت�سب �أهمية م�ضاعفة‪ ،‬من حيث �أن العمل كله يقوم‬
‫بعنوان «جمال الغيطاين يف (هاتف املغيب)‪ :‬عمل حمدود‬ ‫على ا�صطناع لغة مغايرة‪ ،‬بعبارة �أخ��رى لو جاز‬
‫القيمة‪ ،‬فقري اخليال» ي�ستهله قائال‪« :‬قبل خم�س �سنوات‬ ‫التغا�ضي عن مثل هذه الأخطاء يف �سياق �آخ��ر‪ ،‬فهو‬
‫كتبت عن عمل جلمال الغيطاين (انظر‪ :‬ر�سالة يف ال�صبابة‬ ‫ال يجوز هنا �أبدا‪ .‬فحني ت�صدم القارئ من ال�صفحات‬
‫والوجد – قطع الأرابي�سك والتعبري الزائف عن التجربة يف‬ ‫الأوىل �أخطاء فادحة يف �إعراب الكلمات �أو ا�ستخدامها‪،‬‬
‫(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر ‪ ،)1990‬ويف مقايل ذاك‬ ‫ف�إمنا ت�سقط ثقته يف ح�صة التجربة كلها»‪�(.‬ص ‪)115‬‬
‫ت�ساءلت عن �رس احلفاوة التي لقيها هذا العمل حتى ن�رش‬ ‫ثم يقدم لنا مناذج كثرية من هذا الأخطاء يثبت بها‬
‫مرتني يف �شهريني متتاليني على ما فيه من زيف وركاكة‪،‬‬ ‫ما يقول‪ .‬وي�ضيف «ومتابعة هذه الأخطاء �أمر م�ضجر‬
‫ون�صحت القارئ �أن يبحث عن �إجابة ال�س�ؤال يف جمال‬ ‫حقا ‪ -‬وما فات عليك منها يف ال�صفحات الأربع الأوىل‬
‫�أخر غري الإبداع الأدبي‪ ،‬جمال العالقات العامة والت�سويق‬ ‫فقط – مناذج لبقيتها‪ .‬هذا يعني �أمرين مرتبطني‪� :‬أن‬
‫‪37‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�صحيحة حل�رضموت‪ ،‬في�سميه احل�رضموتي) وطقو�س‬ ‫و�إدارة الأعمال‪ .‬واليوم �أجدين �أكرث مت�سك ًا مبا قلته �آنذاك‪،‬‬
‫توليته حاكم ًا (لإقليم الطري) هي ذات طقو�س تولية �سالطني‬ ‫مل تزدين ال�سنوات اخلم�س �إال �إ�رصاراً على �صحة هذا القول‪،‬‬
‫املماليك‪ ،‬وهم هناك ي�ستخدمون املرايا واحلمام املدرب‬ ‫و�أنا �أعر�ض لعمله الأخري (هاتف املغيب)» (نفق معتم‪� ،‬ص‬
‫لنقل الأخبار‪ ،‬والعملة التي يرد ذكرها هي (الدينار الذهب‬ ‫‪)259‬‬
‫البندقي) واملدينة التي ي�صف جمال ابن عبداللـه �أعيادها‬ ‫ذلك لأن (هاتف املغيب) عمل رديء يت�سم بفقر التجربة‬
‫و�أفراحها (�ص ‪ 177‬وما بعدها) هي القاهرة اململوكية ‪..‬‬ ‫و�إم�ل�اق اخل��ي��ال وال��رك��اك��ة اللغوية معا‪ .‬وي��ب��د�أ ف��اروق‬
‫�إلخ» ولي�ست ب�أي حال مدينة مغربية مقنعة‪.‬‬ ‫عبدالقادر مقالته عنه بحكاية ما يدور فيه من �رسد مرتبك‬
‫ثم ي�ضيف الناقد «وما دام الكاتب قد ا�ستعاد تلك الفرتة‪،‬‬ ‫للقارئ‪« :‬هذا جمال بن عبداللـه‪ ،‬كاتب الغرب‪� ،‬أق�صى حدود‬
‫فقد ا�ستعاد معها �أ�سلوب الكتابة فيها‪ ،‬لذا ت�سود يف الرواية‬ ‫الياب�سة املطلة على املحيط ي�أمره ال�سلطان بتدوين ما‬
‫الركاكة والتكرار وا�ستخدام املرتادفات وال�صيغ اجلاهزة‬ ‫ميليه عليه (الغريب) �أحمد بن عبداللـه امل�رصي‪ ،‬ال�صعيدي‪،‬‬
‫والألفاظ احلو�شية وكلي�شهات ذلك الع�رص‪ .‬خذ �أمثلة قليلة‬ ‫القاهري‪ ،‬ال��ذي خ��رج من مدينته ا�ستجابة لأم��ر هاتف‬
‫وارج��ع بقية العمل (يف ليلة دع��وت �إىل اجتماع بغر�ض‬ ‫هتف به �أن يرحل‪ ،‬ويتبع ال�شم�س �إىل مغيبها ‪ ...‬والرواية‬
‫��ضرب م�شورة‪ ،‬ه��ذا ب��رج ل��ه حت��اوي��ط وترتيب ‪ ...‬هزته‬ ‫‪ -‬بعد – هي ما �أماله �أحمد‪ ،‬وما قاطع به جمال‪ ،‬ولي�ست‬
‫املواجيد ‪� ...‬إن الوجد الإن�ساين �أكري ال�شكل دائري) ومثل‬ ‫تلك �سوى حيلة �شكلية خال�صة‪ ،‬فما يقطع به جمال بن‬
‫هذا كثري يف العمل كله‪ ».‬وال يريد الناقد �أن يزبد قارئه‬ ‫عبداللـه (يهفو الكاتب مرة فيثبت ا�سمه هو‪ :‬جمال بن �أحمد‪،‬‬
‫�إمالال فيختم مقالته‪« :‬هذا كل �شيء يف هاتف املغيب‪ .‬عمل‬ ‫�ص‪ )21‬ال يكاد ي�ضيف �شيئ ًا �سوى مزيد من �إرباك العمل‬
‫حمدود القيمة‪ ،‬فقري اخليال‪ ،‬ركيك ال�صناعة‪ ،‬يفتقد الر�سالة‬ ‫و�إجهاد قارئه‪ :‬حكايات و�أو�صاف مماثلة يف �أ�سلوب مماثل‪،‬‬
‫�أو املعني‪ ،‬ال يخلو من �أخطاء يف اللغة والتعبري‪ ،‬يطغى‬ ‫تنويعات �صغرية على ذات اللحن‪ ،‬لذا ال نفاج�أ حني ينتهي‬
‫عليه ويتخلل �صفحاته (غرائب) �ساذجة و�شبق كظيم‪�( ».‬ص‬ ‫العمل بالتماهي �أو التوحد بني االثنني‪ :‬الراوي والكاتب‪.‬‬
‫‪ )264‬ثم ي�ضيف‪« :‬قلت �أنني �أكره �أن �أرى رج ًال يتخطى‬ ‫(يف ال�سطور الأخرية يقول الكاتب عن رحيل �أحمد‪ :‬مل يكن‬
‫رقاب النا�س‪ ،‬والغيطاين يتخطى رقاب الكتاب واملبدعني‬ ‫رحيله �إال رحيلي‪ ،‬مدارجه مدارجي ‪ ...‬بعينيه �ألبى‪� ،‬أتطلع‪).‬‬
‫من جيله وغري جيله‪ ،‬ال المتياز يف �أعماله‪ ،‬ولكن لإتقانه‬ ‫ي�صبح ال�س�ؤال �إذن‪ ،‬ماذا ر�أى �أحمد بن عبداللـه يف رحلته‪،‬‬
‫عمل العالقات العامة والت�سويق وعقد ال�صفقات‪ ،‬ظاهرة‬ ‫منذ خروجه من القاهرة يف القافلة املتجهة �صوب الغرب‪،‬‬
‫وخفية‪ .‬ثم �أنني قبل هذا كله وبعده �أكره �أن �أكون �شيطان ًا‬
‫ّ‬ ‫حتى اختفى من تلك املدينة الواقعة على املحيط؟»‬
‫�أخر�س»‪�(.‬ص ‪)265‬‬ ‫واجل���واب الب�سيط على ه��ذا ال�س�ؤال هو ال �شيء ي�ستحق‬
‫و�أقول‪ :‬مل تكن �أبدا �شيطانا �أخر�س يا �صديقي العزيز‪ ،‬يف‬ ‫االهتمام به‪ ،‬اللـهم �إال ت�سويد املزيد من ال�صفحات بتلك اللغة‬
‫عامل كممت فيه امل�صالح الأف��واه‪ ،‬وه��رول فيه الكثريون‬ ‫الركيكة املنقولة عن تاريخ ابن �إيا�س بال فهم �أو ح�سا�سية‪.‬‬
‫�إىل دخول احلظرية كال�سوائم‪ ،‬وارتفعت فيه �أ�صوات الزيف‬ ‫والتي ال ت�ستطيع �أن ت�شيد عاملا ينتمي �إىل منطقة املغرب‬
‫والنفاق‪ .‬بينما اعت�صمت فيه �أنت ب�رصامتك الأخالقية‪،‬‬ ‫العربي بتواريخها املغايرة ولغاتها الو�سيطة املختلفة‪.‬‬
‫تك�شف زيف امل ّدعني واملزيفني‪ .‬ومل ت�ستوح�ش‪ ،‬كما يقول‬ ‫ويزداد العمل ركاكة وارتباكا لأن الكاتب كما يقول فاروق‬
‫الإمام علي بن �أبي طالب كرم اللـه وجهه‪ ،‬ال�سري يف طريق‬ ‫عبدالقادر‪« :‬ال يحدد زمن ًا لأح��داث روايته‪ ،‬لكن ال�شواهد‬
‫احلق لقلة �سالكيه‪ .‬لذلك �ستبقى �شهادتك النقدية ال�ساطعة‬ ‫ت�شري لأنه رجع بها �إىل ذلك الزمن الذي ال يكاد يعرف �سواه‪:‬‬
‫نربا�سا لكل من يريد �أن يعرف حقيقة هذه احلقبة املظلمة‬ ‫زمن �سالطني املماليك يف م�رص قبل الغزو العثماين‪ ،‬فهي‬
‫وجنومها املزيفني‪ ،‬والتي ثار عليها ال�شعب امل�رصي يف‬ ‫قد حدثت بعد انتهاء دولة الإ�سالم يف الأندل�س (‪1492‬م)‬
‫ثورته النبيلة يف ‪ 25‬يناير‪.‬‬ ‫وقافلة اجلمال يقودها ح�رضمي (ال يعرف الكاتب الن�سبة‬

‫‪38‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫عـ ـ ــدو‬
‫التفاه ـ ـ ــة‬
‫عبداملنعم رم�ضان‬
‫�شاعر وكاتب من م�رص‬

‫كانت �أربعون �سنة على التقريب تف�صل بني عمرى وعمر �أبي‪ ،‬وظلت هكذا �إىل �أن‬
‫مات‪ ،‬وكانت ثالثون على الأقل تف�صلني عن �أمي‪ ،‬وظلت الثالثون را�سخة كما‬
‫هي �إىل �أن ماتت‪ ،‬وبعد موتهما ات�سعت الأزمنة‪ ،‬وقبل �أن �أفتقدهما كنت قد بد�أت‬
‫ال�سري يف تلك الطرق ال�ضالة غري املو�صلة �إىل ال�شعر �إال بعد م�سافات و�أحايني‪،‬‬
‫و�أدركت �أنهما‪� ،‬أبي و�أمي‪ ،‬ال ي�صلحان لل�سري معي‪ ،‬و�أنني يف حاجة �إىل من ي�ؤيدون‬
‫خطتي‪ ،‬ف�إن كان يحق ل�شخ�ص ما ان ين�شغل بالبحث عن رفاق �سبقوه و�ساروا‬
‫على هذا الطريق‪� ،‬أعتقد �أنني هو هذا ال�شخ�ص املق�صود‪ ،‬هذا ما كان يخطر ببايل‬
‫�أيامها‪ ،‬وملا كنت قد بد�أت االنتباه �إىل عدم ا�ستعدادي للتكيف مع امل�ؤ�س�سات كلها‪،‬‬
‫م�ؤ�س�سة اللغة‪ ،‬وم�ؤ�س�سة الدين‪ ،‬وم�ؤ�س�سة احللم‪ ،‬وم�ؤ�س�سة الدولة‪ ،‬وم�ؤ�س�سة الثقافة‪،‬‬
‫فقد تعلقت بغري املتكيفني‪..‬‬

‫‪� u‬أدركت �أنه ال يحب �أن يكتب عن �شيء مل يره متاما‪ ،‬رمبا لهذا‬
‫ال�سبب مل ي�ش�أ �أن يكتب �سرية ج�سده‪ ،‬فهناك �أجزاء منه‪ ،‬من اجل�سد‪،‬‬
‫لن يتمكن �أبدا من ر�ؤيتها ‪u‬‬

‫‪39‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫زت بينها �أ�صوات م�س�ؤوىل الثقافة‬ ‫مي ُ‬


‫�أ�صوات ّ‬ ‫و�صادفت و�صادفني كثريون منهم‪ ،‬كان �ضجيج‬
‫احلكوميني‪ ،‬ال�سابقني واحلاليني‪ ،‬ك�أنها تتمتم‬ ‫بع�ضهم الفتا‪ ،‬وكان �ضجيج �آخرين منهم ي�شبه‬
‫ب�إيقاع جماعي‪ :‬هذان الرجالن‪ ،‬هذان الرجالن‪،‬‬ ‫ال����سراب‪ ،‬عبداحلميد الديب‪ ،‬وحممود ال�سعدين‪،‬‬
‫�إنهما يكرهان الآخرين‪ ،‬ويكرهان نف�سيهما‪� ،‬أذكر‬ ‫واحلطيئة‪ ،‬وحممد م�ستجاب‪ ،‬وب�شار بن برد‪،‬‬
‫�أنني ر�أيت يو�سف ال�سباعي يف املقدمة‪ ،‬ورف�ضت‬ ‫و�صالح عي�سى‪� ،‬إال �أنني اكت�شفت �أن ه�ؤالء ا�ستمروا‬
‫�أن �أنظر �إىل الذين معه‪� ،‬شممت فقط رائحة عرقهم‪،‬‬ ‫مثل ريح �صفراء يدافعون عن ذواتهم ورغباتهم‬
‫كانت تذكر برائحة عرق الأرا�ضى البور والب�رش‬ ‫وطموحاتهم �أكرث مما يدافعون عن العامل اجلميل‬
‫الأقزام‪ ،‬وكنت �أ�سمعهم يهتفون كالآخرين‪ :‬هذان‬ ‫املن�شود‪ ،‬واملي�ؤو�س كثريا يف وج��وده‪ ،‬فرتكتهم‬
‫الرجالن‪ ،‬هذان الرجالن‪ ،‬وذلك على الرغم من �أن‬ ‫�إىل �سواهم‪ ،‬وتركت �سواهم �إىل �آخرين‪ ،‬وكنت مثل‬
‫مقالة ف��اروق عن امل��ازين �آخذته على �سخريته‬ ‫الطفل ال�ضائع �أبحث عن املم�سو�سني بالعامل‬
‫الذاهبة �إىل املتعة فقط‪ ،‬وجعلته‪� ،‬أي ف��اروق‪،‬‬ ‫اجل��م��ي��ل امل��ن�����ش��ود‪ ،‬ع��ن �صوفيتهم وفنائهم‬
‫يت�أخر عنه مبقدار خطوتني‪ ،‬املازين يف املقدمة‪،‬‬ ‫وا�ستغنائهم عن املديح‪ ،‬وعندما �صادفت بع�ض‬
‫وفاروق الذي يليه‪ ،‬املازين يف املقدمة‪ ،‬والعقاد‬ ‫�أ�صدقائى يف جماعة �أ�صوات‪ ،‬كنت قد �صادفت‬
‫الذي يليه‪ ،‬ففاروق ظل طوال حياته يجري ويلهث‬ ‫�أي�ضا ابراهيم عبدالقادر املازين‪ ،‬عند ذاك اطم�أننت‬
‫وراء الفن الهادف والأدب الهادف وال�سخرية‬ ‫و�أح�س�ست �أنني اهتديت �إىل الياب�سة التي تت�سع له‬
‫الهادفة‪ ،‬بينما كان املازين ي�سري مبزاجه وراحته‬ ‫ولغريه‪ ،‬ووقفت �أمام �صحراء خيالية وبحر خيايل‬
‫و�أع�صابه وراء الفن فقط والأدب فقط وال�سخرية‬ ‫وب�رش خياليني‪ ،‬وا�ستندت بذراعي على �إفريز �رشفة‬
‫فقط‪ ،‬فاروق كان يكد ويتعب‪ ،‬واملازين كان يحب‬ ‫خيالية ت�سمح يل �أن �أرى ظل املازين‪ ،‬مي�شي ويعرج‬
‫ويلعب‪ ،‬فاروق معه بو�صلة اجتهد حتى وجدها‪،‬‬ ‫وي�ضحك ويعب�س‪ ،‬ويتذكر �أم��ه‪ ،‬وي�سمع النا�س‬
‫وكان ينظفها يوميا خ�شية �أن تتلوث‪ ،‬واملازين‬ ‫املتكيفني حوله‪ ،‬يقولون عنه‪ :‬هذا الرجل‪ ،‬هذا‬
‫ورث بو�صلة اجتهد حتى فقدها‪ ،‬وك��ان يت�أكد‬ ‫الرجل‪� ،‬إنه يكره الآخرين ويكره نف�سه‪ ،‬املازين‬
‫يوميا من عدم عودتها خ�شية �أن يتلوث‪ ،‬فاروق‬ ‫ي�سمع‪ ،‬ومي�شي ويعرج وي�ضحك ويعب�س‪ ،‬ويتذكر‬
‫ابن الواقع‪ ،‬وامل��ازين ابن الطبيعة‪ ،‬واقع فاروق‬ ‫�أمه‪ ،‬وي�ستمر يف �سريه‪ ،‬ك�أنه يعرف الطريقة‪ ،‬و�أهل‬
‫جعله ر�صينا و�صادقا يف ق�سوته ونقده للتفاهة‪،‬‬ ‫الطريقة‪ ،‬م�شيت خلفه‪ ،‬كان يقرتب من حديقة‬
‫وطبيعة املازين جعلته طفال و�صادقا يف ق�سوته‬ ‫�أ��سراره وف�ضائله‪ ،‬ق��ادين امل��ازين �إىل حمبوبيه‬
‫ونقده‪ ،‬لكن االثنني اجتمعا على نظافة اليد وعدالة‬ ‫وحمبيه‪ ،‬و�إىل خ�صومه وكارهيه‪ ،‬حتى تعرثت‬
‫الل�سان‪ ،‬اجتمعا على لذة التناق�ض بني الهدف‬ ‫م�صادفة ووقعت على مقالة كتبها عنه �شخ�ص‬
‫اخلال�ص واملجانية اخلال�صة‪ ،‬و�شقوة التفاين يف‬ ‫جعلني �أح�س وك�أنني �أو�شك �أن �أتعرف على رفيقي‬
‫�أحدهما‪� ،‬أو نعمته‪ ،‬جمانية املازين رفعته درجات‬ ‫الثاين‪ ،‬كان هذا ال�شخ�ص هو فاروق عبدالقادر‪،‬‬
‫يف �سلم الفن وفقه املبنى‪ ،‬والتزام فاروق رفعه‬ ‫وبعد �أن �أفقت من عرثتي‪ ،‬ووقفت بطول قامتي‪،‬‬
‫درجات يف �سلم الر�سالة وفقه املعنى‪ ،‬رمبا يبدو‬ ‫وقفت ك�أنني حرف الألف‪ ،‬ك�أنني �إيليف‪ ،‬ا�ستندت‬
‫للبع�ض �أن الأوىل �أبقى على مدار الأزمنة‪ ،‬رمبا‬ ‫�إىل �إفريز �رشفة خيالية‪ ،‬هي �رشفتي ال�سابقة‪،‬‬
‫يبدو للبع�ض �أن الثاين �أج��دى على م��دار الزمن‬ ‫فوجدتها ت�سمح يل �أن �أرى ظلني‪ ،‬ظل امل��ازين‪،‬‬
‫الواحد‪ ،‬الأكيد �أن بينهما برزخا‪ ،‬يف �سبعينيات‬ ‫وخلفه بخطوتني ظل الفاروق‪ ،‬ووراءهما و�شي�ش‬
‫‪40‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫انتبهت �أي�ضا �إىل �أن فاروق ال يحب �أن ي�ضع ا�سمه‬ ‫القرن املا�ضي‪� ،‬أ��شرف ف��اروق عبدالقادر على‬
‫بجوار الأ�سماء الغفل �أو �أ�سماء املبتدئني‪� ،‬إنه يحب‬ ‫ملحق الأدب والفن‪ ،‬ال��ذي كانت جملة الطليعة‬
‫الأع�لام‪ ،‬ب�رشط �أن يكونوا �أعالم التحول‪� ،‬أعالم‬ ‫القاهرية‪ ،‬طليعة لطفي اخلوىل‪ ،‬حتتويه بداخلها‪،‬‬
‫تغيري امل�سارات والإ�شارات‪ ،‬ولهذا ال�سبب بخ�سه‬ ‫وذلك بعد �أن تركه غاىل �شكري‪ ،‬فانك�شف غطاء‬
‫�أع��دا�ؤه وقالوا عنه أ�ن��ه ال يكتب �إال عن الأدب��اء‬ ‫امللحق ب�سبب اختالف العهدين‪ ،‬انك�شف عن براعة‬
‫العرب‪ ،‬ليلتم�س منهم الربكة‪ ،‬ون�سوا �أنه يكتب عن‬ ‫غ���ايل ووح�����ش��ي��ة ف����اروق‪ ،‬وكلتاهما ال�براع��ة‬
‫جنيب حمفوظ ويو�سف �إدري�����س ويحيى حقي‬ ‫والوح�شية ظلت تالزم �صاحبها‪ ،‬منذ تلك الأيام‬
‫وفتحي غامن واملازين والب�ساطي وحممود دياب‬ ‫و�أنا �أحاول �أن �أ�رسق من يد فاروق خامت العامل‬
‫وميخائيل روم���ان والفريد ف��رج وطه‬ ‫امل�صنوع من النور الأبي�ض بحواف م�صقولة‬
‫ح�سني ولوي�س عو�ض‪ ،‬يكتب عن الأعالم كان ال يحب‬ ‫ناعمة‪ ،‬اخلامت اليناله �سوى الباحثني عن النار‪،‬‬
‫امل�رصيني والعرب‪ ،‬حممو ًال على فكرة �أن �أن ي�ضع‬ ‫يف احلقيقة كانت مقاالت فاروق تكاد ت�ساعدين‬
‫اللغة هي �أر���ض اللـه الوا�سعة‪� ،‬أر�ضه ا�سمه بجوار‬ ‫على ذلك النوال‪ ،‬فيما كانت �أ�صابعي الأنحل من‬
‫اخل�صبة‪ ،‬و�أنه يكتب عن �أدب اللغة العربية‬ ‫اخلامت تت�سبب يف فقدانه‪ ،‬قر�أت يف امللحق رحالت‬
‫يف �أماكنها املختلفة‪ ،‬وان�شغاله باللغة الأ�سماء الغفل‬ ‫فاروق �إىل ال�شام و�إىل بغداد‪ ،‬ونطقت �أ�سماء �أبطاله‬
‫�رصفه �أحيان ًا �إىل مالحقة الك ّتاب الذين �أو �أ�سماء‬ ‫بطريقتي حتى تعرفت عليه فيما بعد‪ ،‬و أ�ع��دت‬
‫ال يجيدونها وي�سيئون �إليها‪ ،‬وك�أنهم املبتدئني‪� ،‬إنه‬ ‫نطقها بطريقته‪� :‬سعيد حورانية وعبدال�سالم‬
‫غربان الزرع يخد�شون عظمها ويهر�سون‬ ‫العجيلي وزكريا تامر و�شوقي بغدادي وحنا مينه‬
‫حلمها‪ ،‬كان فاروق ال يحب الغربان‪ ،‬كلنا يحب الأعالم‪،‬‬ ‫واجل��واه��ري والبياتي و�سعدي يو�سف وف���ؤاد‬
‫نذكر كيف فتح �صفحات رواي��ة وقائع ب�شرط �أن‬ ‫التكريل وغائب طعمه فرمان وحممد خ�ضري‪،‬‬
‫حارة الزعفراين جلمال الغيطاين‪� ،‬أعرتف يكونوا �أعالم‬ ‫كانت طريقة ف��اروق يف حفظ الأ�سماء ونطقها‬
‫دائما �أنني �أحبها‪ ،‬كلنا نذكر كيف �أح�صى‬ ‫ت�ستمتع باحلر�ص على متام الأ�سماء‪ ،‬ك�أن يقول‬
‫�أخطاءها دون كلل‪ ،‬حتى ظهر لنا �أن التحول‪،‬‬ ‫�أب��و ف��رات حممد مهدي اجل��واه��ري‪ ،‬حممد كامل‬
‫الكلمات ال�صواب �أقل عدداً من الكلمات �أعالم تغيري‬ ‫ال�����ش��ن��اوي‪ ،‬حممد م���أم��ون ال�����ش��ن��اوي‪ ،‬ابراهيم‬
‫اخل��ط���أ‪ ،‬مل ي��ك��ن ف����اروق �آن����ذاك يكره امل�سارات‬ ‫عبدالقوي عبداملجيد‪� ،‬سعيد �سالمة الكفراوي‪،‬‬
‫الغيطاين‪ ،‬بل كان يحب اللغة �أك�ثر من‬ ‫حممد �صالح الدين عبدال�صبور‪ ،‬الفاروق عبدالقادر‬
‫حبه للغيطاين‪ ،‬يف ملحق الطليعة‪ ،‬وا�صل والإ�شارات‬ ‫ال�سيد ح�سني‪� ،‬أدوني�س على �أحمد �سعيد �أ�سرب‪ ،‬قبل‬
‫فاروق عبدالقادر معركته مع امل�ؤ�س�سة‬ ‫تلك الأيام كنت قد اطلعت على جزء من فروة ر�أ�س‬
‫الثقافية الر�سمية يف كل �صورها‪ ،‬وزارة الثقافة‬ ‫ب�يروت‪ ،‬وب���د�أت مطاردتي املحمومة والأث�يرة‬
‫واحت��اد الكتاب وقوانني الن�رش وفوبيا اجلوائز‪،‬‬ ‫جلماعة �شعر‪ ،‬ومالحقتها يف كل مظانها‪ ،‬ويف‬
‫وترب�ص ك�أنه حمموم بكراهية امل�س�ؤول الثقايف‬ ‫ملحق فاروق‪ ،‬ملحق الطليعة‪ ،‬انتبهت �إىل ما كتبه‬
‫اخلا�ضع بال�رضورة لكتاب التعاليم‪ّ � ،‬أي م�س�ؤول‬ ‫عن �أدوني�س‪ ،‬كان يحاول تفكيك الن�سيج املت�شابك‬
‫ثقايف‪ ،‬حتى لو ك��ان قادم ًا من خ��ارج الو�سط‬ ‫يف �أحد دواوينه‪ ،‬ويرده �إىل خيوطه الأوىل‪ ،‬ك�أنه‬
‫الثقايف �أو من خارج الثقافة‪ ،‬حتى لو كان �أجوف‪،‬‬ ‫يريد لنا �أن نرى يد الن�ساج البارع‪ ،‬ك�أنه يريد لنا‬
‫حتى لو كان �أ�ستاذ تاريخ �أو �أ�ستاذ فل�سفة �أو �أ�ستاذ‬ ‫�أن من�شي معه على حافة الأخدود‪� ،‬صحيح �أنني‬
‫‪41‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ب�إبريق م��اء‪،‬و�أن تن�صت �إذا تكلم‪ ،‬و�أن تتكلم �إذا‬ ‫باجنو‪ ،‬كان �شعار الفاروق الذي التم�س منه جادة‬
‫�أن�صت‪ ،‬و�رشط �أال تكون خمادعا �أو لئيما �أو نكدا‪،‬‬ ‫الر�ؤيا وجادة ال�صواب هو‪ :‬ي�سقط امل�س�ؤول الثقايف‬
‫و�أال حت��اول تقليد �أح��د م��ن ه����ؤالء‪ ،‬يف �أواخ��ر‬ ‫القادم‪ ،‬ترب�ص بيو�سف ال�سباعي ور�شاد ر�شدي‪،‬‬
‫الثمانينيات‪ ،‬كنا‪� ،‬أق�صد جماعة �أ���ص��وات‪ ،‬قد‬ ‫و�أ�شبال ر�شاد ر�شدي الذين‪� ،‬أ�صبحوا قادة الثقافة‬
‫�أ�صدرنا العدد الأول الذي �أ�صبح العدد الوحيد من‬ ‫طوال الثمانينيات‪ ،‬ترب�ص ب�سمري �رسحان وحممد‬
‫جملة الكتابة ال�سوداء‪ ،‬ويف بهو �أتيلييه القاهرة‪،‬‬ ‫عناين وعبدالعزيز حمودة ونهاد �صليحة‪ ،‬وملا‬
‫كان فاروق يجل�س مبفرده‪ ،‬وبارتياح‪ ،‬بارتياح‬ ‫تغريت القيادة وانتقلت �إىل فاروق ح�سني وجابر‬
‫كبري يف الواقع‪ ،‬الآخرون يف البهو مل يكونوا معه‪،‬‬ ‫ع�صفور مل يتغري موقفه‪ ،‬ترب�ص بهما لأنه ر�آهما‬
‫بالتحديق �إىل وجهه مل �أ�ستطع �أن �أخمن لون‬ ‫�أكرث من مرة وهما يختبئان داخل ف�ستان الهامن‪،‬‬
‫مزاجه‪ ،‬كنا �أول الليل‪ ،‬اقرتبت منه و�أعطيته ن�سخة‬ ‫ويغ�سالن �سوتيانها‪ ،‬ويدلكان �أظافرها‪ ،‬كانوا‬
‫من جملتنا‪ ،‬وقلت له مبحبة‪ ،‬ظننت �أنها وا�ضحة‪:‬‬ ‫جميعا يحيطونه بال�شبهات التي ت�سقط عنه �سقوط‬
‫نحن نبيعها بخم�سة جنيهات‪ ،‬ولكنك �أن��ت‬ ‫ال��ورق ال��ذاب��ل‪ ،‬وك��ان يحيطهم باحلقائق التي‬
‫وبو�ضعك اخل��ا���ص �ستدعمنا ب���أك�ثر م��ن ذل��ك‪،‬‬ ‫تلت�صق بهم الت�صاق العار‪� ،‬أ�شهد �أنه ر�آهم‪ ،‬ميوتون‬
‫ففوجئت به ميط عنقه ك�أنه يقف‪ ،‬ويقول بغ�ضب‪:‬‬ ‫وهم �أحياء فدفنهم‪ ،‬و�أ�شهد �أننا ر�أيناه يحيا بعد �أن‬
‫�أنت تكلم فاروق عبدالقادر‪� ،‬أعقبتها كلمات �أخرى‬ ‫مات فجال�سناه‪ ،‬يف �أوائ��ل الثمانينيات تعرفت‬
‫غري مفهومة‪ ،‬يف تلك اللحظة �أح�س�ست وك�أنني‬ ‫عليه للمرة الأوىل‪ ،‬كنا يف مقهى زهرة الب�ستان‪،‬‬
‫دون ق�صد �أدخلته غرفة مغلقة‪� ،‬أنا �أعرف �أنه يف‬ ‫وملا �أ�صبحت بجواره �س�ألني‪� :‬أين ن�رشت ق�صائدك‪،‬‬
‫حياة معظم النا�س توجد حجرات �أُغلقت ذات مرة‬ ‫قلت ل��ه يف جم�لات الطليعة الأدب��ي��ة والبيان‬
‫وال يتم الدخول �إليها �أب��دا‪ ،‬لكنها مع ذلك تظل‬ ‫الكويتية والثقافة العراقية‪ ،‬مل يعب�أ بالأوليني‪،‬‬
‫�ضاغطة على القلب مثل ه��واء ق��دمي‪ ،‬مثل هواء‬ ‫و�س�ألني عن الأخ�يرة‪� :‬أيهما؟ قلت‪ :‬التي ير�أ�س‬
‫�ساخن‪ ،‬نظرت �إىل وجهه طويال‪ ،‬كان عنقه قد‬ ‫حتريرها �صالح خال�ص‪� ،‬صمت قلي ًال‪ ،‬ثم �أهملني‪،‬‬
‫انكم�ش وعاد �إىل طبيعته‪ ،‬وعيناه ابتعدتا عني‪،‬‬ ‫عرفت فيما بعد‪� ،‬أنه كان �سي�صبح �أكرث �أهتماما لو‬
‫ان�رصفت يف �صمت‪ ،‬فيما بعد �أر�سل يل ر�سالة‬ ‫�أنني ذكرت له املجلة الأخرى امل�سماة بالثقافة‬
‫�شفهية مع �أحدهم‪� ،‬أنه يريد �أن يقابلني ويعتذر‪،‬‬ ‫�أي�ضا‪ ،‬جملة ال�شيوعيني العراقيني‪ ،‬فهي هكذا‬
‫فقلت‪� :‬إننى �أنتظر لقاءه و�أ�ستعجله‪ ،‬ولكنني ال �أحب‬ ‫جملة �أعالم‪ ،‬ذلك اليوم بد�أت �أح�س وخزة بروحي‪،‬‬
‫لنف�سي �أن �أرى فاروق وهو يعتذر يل‪ ،‬ثم التقينا‪،‬‬ ‫يدعونها وخزة املعرفة الأوىل‪ ،‬وفطنت �إىل امل�شكلة‬
‫دع��اين �إىل كافيه ال�شاي الهندي ب�شارع طلعت‬ ‫بالن�سبة يل‪ ،‬هي �أن فاروق عبدالقادر كان يعرف‬
‫حرب‪ ،‬و�رشبنا الكابت�شينو‪ ،‬حكى يل عن �أ�ستاذه‬ ‫كيف يبد�أ‪ ،‬ثم كيف ي�سري‪ ،‬فهو بطريقة غريبة تدعو‬
‫يو�سف م��راد‪ ،‬ف�أحببت االثنني ف��اروق ويو�سف‪،‬‬ ‫�إىل الت�أمل‪ ،‬كان يحمل حتت ق�رشة قلبه‪� ،‬صورة‬
‫حكى عن �صداقة يو�سف مراد وب�رش فار�س‪ ،‬حكى‬ ‫كاملة ل�ل�آداب والفنون التي ينبغي �أن نحبها‪،‬‬
‫عن درا�سته بكلية الآداب ق�سم علم النف�س‪ ،‬وحكى‬ ‫والتي ينبغي �أن نحيا من �أجلها‪ ،‬وكان يحمل فوق‬
‫عن �شغفه املبكر مب�رسحيات تني�سي وليامز‪ ،‬عند‬ ‫ل�سانه لهجة نا�صعة للدفاع عنها‪� ،‬رشط �أن جتل�س‬
‫ذاك ارتع�شت‪ ،‬كنت ومازلت مدعوما مبحبة تني�سي‬ ‫معه مبفردك‪ ،‬و�أن ت�شاركه ال�رشاب‪ ،‬ك�أ�س نبيذ‬
‫وليامز‪ ،‬حتى �أنني �أ�شتهيت �أن �أرى �أ�صول كتبه‪،‬‬ ‫بك�أ�س نبيذ‪ ،‬وكوب برية بكوب برية‪ ،‬و�إبريق ماء‬
‫‪42‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ذاته‪ ،‬مل يكن ينفق وقتا يف الكالم عن خ�صومه‪،‬‬ ‫و�أن �أردد �أ�سماءها ب�شغف‪ ،‬قطة على �سطح من‬
‫كان مييل �أكرث �إىل هواه اخلا�ص‪� ،‬إىل هواج�سه يف‬ ‫�صفيح �ساخن‪ ،‬عربة ا�سمها اللذة‪� ،‬صيف ودخان‪،‬‬
‫الإمتاع وامل�ؤان�سة‪ ،‬لأنه ي�ؤمن بتمارين �إمتاع‬ ‫احليوانات الزجاجية‪ ،‬هبوط �أورفيو�س‪ ،‬الزوجة‬
‫احلوا�س‪ ،‬حدثني مثال عن طقو�سه يف الطعام‪،‬‬ ‫العذراء‪ ،‬فج�أة يف ال�صيف املا�ضي‪ ،‬وتذكرت ما‬
‫�سواء الطقو�س التي تعلمها من الآخرين‪� ،‬أو التي‬ ‫كتبته غادة ال�سمان‪ ،‬عن ظاهرة تني�سى الق�صرية‬
‫ابتكرها‪ ،‬وكيف كان �أخوه الأك�بر‪ ،‬الطبيب فيما‬ ‫العمر‪ ،‬الظاهرة العابرة‪ ،‬ف�أ�شاح بيده‪� ،‬س�ألته‪ :‬ملاذا‬
‫�أظ��ن‪ ،‬من أ�ج��ل بلوغ اللذة‪ ،‬يبد�أ طعامه بالأكل‬ ‫ال تكمل ترجمة �أعماله‪ ،‬قال‪ :‬ال‪� ،‬إنها كانت تالئمني‬
‫املت�أين البطيء لقطعة �أو قطعتني من الكبدة‪ ،‬واثقا‬ ‫�أيام ال�شباب‪� ،‬أيام فورة اجل�سد‪ ،‬ثم �أوقفني ك�أنه‬
‫�أنها �ست�سد جتاويف الأ�سنان‪ ،‬وتفتح ال�شهية ملا‬ ‫اكتفى من �سرية وليامز‪ ،‬وكلمني عن رواية مدن‬
‫عداها‪ ،‬كان فاروق مغرما يف كتابته بالك�شف عن‬ ‫امللح لعبد الرحمن منيف‪ ،‬كان مفتونا بالرواية‪،‬‬
‫الثقوب يف الثوب الأ�سود‪ ،‬ثوب الكتابة‪ ،‬وباحلنني‬ ‫وظل يفك �شفرتها‪ ،‬هذا في�صل الذي هو فرن يف‬
‫�إىل �سدها‪ ،‬لكنه كان يخاف من ثقوب الذاكرة‪،‬‬ ‫الرواية‪ ،‬وهذا �سعود‪ ،‬وا�ستطرد يف اجتاه قراءة‬
‫وي�سعى وراءها‪ ،‬نال فاروق جائزة العوي�س ‪ ،‬ومل‬ ‫تاريخية‪ ،‬ت�ضع الفن يف عربة يجرها ح�صانان‪،‬‬
‫يتغطى‬
‫يكن قد تقدم �إليها‪ ،‬كربيا�ؤه وخجله الذي ّ‬ ‫�أحد احل�صانني �أ�سود غطي�س مثل الواقعية‪ ،‬والآخر‬
‫بغ�ضبه‪ ،‬مينعانه من التقدم �إىل جائزة‪ ،‬ولكنه‬ ‫�أحمر غطي�س مثل اال�شرتاكية‪ ،‬والعربة تدو�س‬
‫(علي الراعي) هو الذي طلب منه �أن يفعل‪ ،‬لأن‬ ‫احل�شائ�ش بالطريقة التي تدو�س بها احل�صى‪ ،‬و�أنا‬
‫الراعي كان رئي�س جلنة التحكيم‪� ،‬أذكر �أنه بعد �أن‬ ‫�أ�سمعه �أح�س�ست �أنه يحب رائحة العرق النازف من‬
‫ح�صل على اجل��ائ��زة‪ ،‬ذه��ب ومعه جمموعة من‬ ‫ج�سد احل�صانني‪ ،‬الذي ي�شبه رائحة عرقه �شخ�صيا‪،‬‬
‫كا�سيتات عبداحلليم حافظ‪ ،‬وجل�س يف زهرة‬ ‫عموما كنت �أخالفه الر�أي‪ ،‬كنت �أخالفه ال�سبيل �إىل‬
‫الب�ستان‪ ،‬وطلب من النادل �أن ي�ضع �رشيط كا�سيت‬ ‫الإعجاب‪ ،‬ولي�س الإعجاب‪ ،‬دون �أن �أنطق بكلمة‬
‫يف جهاز الت�سجيل‪ ،‬و أ�ع��ط��اه خم�سة جنيهات‪،‬‬ ‫فاج�أين ب�إدراكه لذلك االختالف‪ ،‬كان يناديني‪:‬‬
‫وحتى عندما كانت املو�سيقى فقط ولي�س �صوت‬ ‫يامنعم‪ ،‬مثل �صديقني قدميني‪� ،‬أم��ي يف �أحيان‬
‫عبداحلليم‪ ،‬هي ما ي�صدر عن اجلهاز‪ ،‬عندما كانت‬ ‫قليلة كانت تناديني‪ :‬يااحل�سن‪ ،‬لأنها فاطمة بنت‬
‫ثورة احلنني والذكريات قادرة على رفع ر�أ�سها �إىل‬ ‫حممد‪ ،‬هذا هو ا�سمها‪� ،‬أبي كان يناديني‪ :‬يامنعم‪،‬‬
‫�أعلى‪ ،‬قادرة على فرد جناحيها وعلى الطريان‪،‬‬ ‫يف امل��رات التالية حدثني عن عمله مع �صالح‬
‫كان فاروق يهتز ويطرب‪ ،‬وبنهاية الوجه الأول‬ ‫عبدال�صبور يف جملة امل�رسح‪� ،‬أح�س�ست غرامه‬
‫لل�رشيط‪ ،‬يطلب من النادل �أن يقلبه ومينحه خم�سة‬ ‫ب�صالح‪� ،‬أح�س�ست تفاديه لذكر �أحمد عبداملعطي‬
‫جنيهات‪ ،‬وهكذا مع كل حركة تقليب‪ ،‬وكان يروقه‬ ‫حجازي‪ ،‬مل يخطر ببايل �أنه تفادى ذكر �أمل دنقل‬
‫ر�ؤية حما�سة الآخرين �إذا �شاركوه حما�سته‪ ،‬يف‬ ‫�أو عفيفي مطر‪� ،‬أظ��ن �أنهما مل ي��ردا على باله‪،‬‬
‫تلك الفرتة مل يكن فاروق عجوزا‪ ،‬بل �أنني �أكاد‬ ‫ك�أنهما يف مكان بعيد‪ ،‬يف اللقاءات التالية �أهداين‬
‫�أزعم �أنني مل �أره عجوزا قط‪ ،‬خا�صة عندما كان‬ ‫بع�ض كتبه‪ ،‬نفق معتم وم�صابيح قليلة‪ ،‬وخيوط‬
‫يكتب �آراءه من الأعماق التي ال ميكن الو�صول‬ ‫الزمن‪ ،‬الكتاب الثاين �سرية لبيرت بروك‪ ،‬والرتجمة‬
‫�إليها‪ ،‬ر أ�ي��ت أ�ب��ي وهو يبلغ ال�شيخوخة وي�صبح‬ ‫ل‬
‫بقلم فاروق‪ ،‬يف كل مرة قابلته فيها‪ ،‬ر�أيته مي أ‬
‫طفال ع��ج��وزا‪ ،‬وتعلمت منه �أن ج��زءا كبريا من‬ ‫حيزا �أكرب ف�أكرب من العامل‪ ،‬ميلأه بقدر كبريمن‬
‫‪43‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عبدالفتاح كيليطو‪ ،‬قر�أ فاروق بحثه عن الرواية ‪،‬‬ ‫احلياة‪ ،‬يعي�شه املرء وهو عجوز‪ ،‬ثم تعلمت من‬
‫قر أ� مبو�ضوعية وحياد‪ ،‬والتزم منهجه ور�ؤيته‪،‬‬ ‫ف��اروق ومن �شريين ونارميان ومها‪� ،‬أن جزءاً‬
‫هذه هي املرة الوحيدة التي �أراه فيها على من�صة‪،‬‬ ‫كبرياً من احلياة‪ ،‬يعي�شه امل��رء وهو يرف�ض �أن‬
‫وامتلأت ثقة ب�أنه �أكرث جماال عندما ي�ضع �أمامنا‬ ‫يكون عجوزاً‪ ،‬ظل ف��اروق ينتمي �إىل �أ�شخا�ص‬
‫�أوراقه املكتوبة ويختفي‪ ،‬كانت املغرب �أيامها‪،‬‬ ‫اختارهم طواعية على م ّ��ر حياته‪ ،‬لذلك كانت‬
‫وكنا مثلها‪ ،‬نعطي لتيارات ما بعد احلداثة ال�ساعية‬ ‫�أحالمه يف �أثناء وجودهم باجل�سد �أو‬
‫على قدمني فرن�سيتني يف الغالب‪ ،‬ما مل نعد نعطيه‬ ‫وجودهم بالروح‪ ،‬تطلق روائ��ح البهجة‬
‫ظل ينتمي‬
‫ل�سواها‪ ،‬لذلك عندما �رشع كيليطو يف �إن�شاد بحثه‪،‬‬ ‫�إىل �أ�شخا�ص امل�سكونة بروائح الفقدان‪� ،‬شاهدته هكذا‪،‬‬
‫ومتثيله‪� ،‬أج�برن��ا على مقاطعته �أك�ثر من مرة‬ ‫اختارهم مم�سك ًا بالقطبني‪ ،‬قطب ال�رسور وقطب‬
‫بالت�صفيق‪ ،‬كنا خمفورين ومغمورين يف كالمه‬ ‫ال�شجن‪ ،‬ال�سيما عندما كان يجل�س �إىل‬
‫طواعية على مر‬
‫اجلديد‪ ،‬خارج القاعة التففنا الكفراوي وحلمي‬ ‫ّ ج���وار ع��ب��دال��وه��اب ال��ب��ي��ات��ي و�شوقي‬
‫�سامل و�أنا حول كيليطو‪ ،‬ن�رشب ال�شاي املغربي‪،‬‬ ‫حياته‪ ،‬لذلك ب��غ��دادي‪ ،‬يف �سنة ‪ 1995‬ذهبنا �إىل‬
‫ونلتذ‪ ،‬ون�س�أله �إن كنا �سرناه ثانية‪ ،‬وكان يجيبنا‪،‬‬ ‫كانت �أحالمه يف املغرب‪� ،‬صربي حافظ ور�ضوى عا�شور‬
‫بالت�أكيد �سرتوننى مع كل وليمة ع�شاء‪ ،‬فن�ضحك‬ ‫وحلمي �سامل وابراهيم عبداملجيد و�سعيد‬
‫�أثناء وجودهم‬
‫لأن ج�سد عبدالفتاح وحليته ي�شبهان ج�سد �شيخ ال‬ ‫الكفراوي وف��اروق عبدالقادر‪ ،‬وهناك‬
‫ي�أكل �إال مكرها‪ ،‬مل نكن نعلم �أن هذه الندوة �ستكون‬ ‫باجل�سد �أو التقينا ب�آخرين بينهم البياتي وبغدادي‪،‬‬
‫ال�سبب يف تبديد متا�سك فاروق‪ ،‬يف تبديد الت�صاقه‬ ‫بالروح‪ ،‬تطلق كان ينادي البياتي بكنيته يا �أبا علي‪،‬‬
‫بنف�سه‪� ،‬أدرك��ت فيما بعد‪ ،‬عندما اكت�شفت �أننا‬ ‫وي�سيل نزيف الذكريات‪ ،‬وينادي �شوقي‬
‫روائح البهجة‬
‫نتعلق كثرياً مبا مل نره‪� ،‬أدركت �أن فاروق ال يحب‬ ‫با�سمه الظاهر‪ ،‬يا �شوقي‪ ،‬وي�سيل نزيف‬
‫�أن يكتب عن �شيء مل يره متاما‪ ،‬رمبا لهذا ال�سبب‬ ‫والفقدان‪ ،‬الذكريات‪� ،‬أما ابراهيم عبداملجيد و�سعيد‬
‫مل ي�ش�أ �أن يكتب �سرية ج�سده‪ ،‬فهناك �أجزاء منه‪،‬‬ ‫ال�سيما عندما الكفراوي فقد كان يناديهما بالغائب من‬
‫من اجل�سد‪ ،‬لن يتمكن �أبدا من ر�ؤيتها‪ ،‬ورمبا لهذا‬ ‫ا�سميهما‪ ،‬الأول يناديه يا عبدالقوي‪،‬‬
‫يجل�س �إىل جوار‬
‫ال�سبب �أي�ضا مل يحاول كما حاول اجلميع �أن يكتب‬ ‫والثاين يا�سالمة ‪ ،‬ثم يجمعهما مع ًا يف‬
‫رواية‪ ،‬قبل ندوة كيليطو وفاروق‪ ،‬كنا قد ذهبنا‬ ‫عبدالوهاب مان�شيت واحد‪ ،‬عبدالقوي و�سالمة‪ ،‬وكنا‬
‫�إىل م�سجد امللك احل�سن الثاين‪ ،‬ور�أينا املي�ض�أة‬ ‫البياتي و�شوقي نحن امل�رصيني نتذكر معها �أيام الإذاعة‬
‫على الطريقة القدمية‪ ،‬ور�أي��ن��ا ال�صحن العلوي‬ ‫بغدادي القدمية‪� ،‬أي��ام (موهوب و�سالمة)‪ ،‬وهو‬
‫للن�ساء‪ ،‬لكننا �أمام املحراب تلك�أنا‪ ،‬ووقفت �إىل‬ ‫ا�سم مل�سل�سل هزيل �ستيني �أو �سبعيني‪،‬‬
‫جوار فاروق‪ ،‬فرد �سبابته و�أ�شار �إىل �شجرة العائلة‬ ‫ونوقن �أن فاروق يلعب ويتنا�ص معها‪،‬‬
‫املالكة التي تزين املحراب‪ ،‬وقر�أ ب�صوت م�سموع‪،‬‬ ‫يف الدار البي�ضاء ظل فاروق متما�سكا‪ ،‬ميتنع عن‬
‫هو �صاحب اجلاللة �أمري امل�ؤمنني احل�سن الثاين‬ ‫ال����شراب‪ ،‬وي��ت��ع��زى‪ ،‬ب�صحبتنا‪ ،‬ومي�شي م�شية‬
‫ول��د ع��ام ‪ 1929‬وت��وىل امللك ع��ام ‪ 1961‬ابن‬ ‫امل��ح��روم‪ ،‬ويكرم�ش فمه و�شفتيه‪ ،‬حتى أ�جن��ز‬
‫�صاحب اجلاللة حممد اخلام�س ولد ‪ 1909‬وتوىل‬ ‫حما�رضته التي كانت باجلامعة‪ ،‬ذهبنا معه ‪،‬‬
‫امللك ‪ 1927‬وتويف ‪ 1961‬ابن يو�سف بن احل�سن‬ ‫وجل�سنا بني جمهور احل�ضور من الطلبة املغاربة‪،‬‬
‫الأول بن حممد بن عبدالرحمن بن ه�شام بن حممد‬ ‫على املن�صة �شاركه اخرون ال �أذكر منهم �سوى‬
‫‪44‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله‪ ،‬ذات مرة‬ ‫بن عبداللـه بن ا�سماعيل بن علي ال�رشيف دفني‬
‫يت�رشب ج�سده‬
‫ّ‬ ‫�شعرت �أن لديه رغبة �شديدة يف �أن‬ ‫باب هيالنة من مراك�ش ابن حممد بن علي بن‬
‫بع�ض لعثمة �صالح عبدال�صبور‪ ،‬التي ظهر �أولها‬ ‫يو�سف بن علي ال�رشيف دف�ين �سجلما�سة ابن‬
‫على طرف ل�سانه‪ ،‬ثم خرجت مفعمة ب�آخر حدود‬ ‫احل�سن بن حممد بن ح�سن الداخل ‪� ،‬أول داخل من‬
‫الي�أ�س‪ ،‬ك�أنها نبوءة‪� ،‬أو ك�أنها الر�شفة الأخرية من‬ ‫الأ��سرة �إىل املغرب ع��ام ‪ ،664‬اب��ن القا�سم بن‬
‫ك�أ�س نبيذ ينتظره‪ ،‬يف �أثناء ذلك مل �أره يتلجلج‪� ،‬أو‬ ‫حممد بن �أب��ي القا�سم بن حممد بن احل�سن بن‬
‫يرتدد ولو ملرة واحدة‪ ،‬كنت �آن ذاك �أتخيل �صالح‬ ‫عبداللـه بن �أبي حممد بن عرفة بن احل�سن بن �أبي‬
‫عبدال�صبور يقرنه بت�شيكوف وي�سميه عدو التفاهة‪،‬‬ ‫بكر بن على بن احل�سن بن �أحمد بن ا�سماعيل بن‬
‫�أحيانا‪ ،‬عندما �أتذكره‪� ،‬أجتا�رس و�أ�س�أل نف�سي‪ ،‬هل‬ ‫قا�سم بن حممد النف�س الزكية بن عبداللـه الكامل‬
‫من املحتمل �أن حياته كانت �ستختلف لو �أ�صبحت‬ ‫بن احل�سن املثنى بن احل�سن ال�سبط بن الإمام علي‬
‫له زوجة �أو �أبناء‪ ،‬ملاذا مل ت�سنح لنا فر�صة واحدة‬ ‫و�سيدتنا فاطمة الزهراء بنت �سيدنا حممد �صلى‬
‫لنتحدث معا حول احلقيقة الأكيدة‪ ،‬حول املوت‪،‬‬ ‫اللـه عليه و�سلم‪ ،‬عند ذاك �صمت ف��اروق و�أع��اد‬
‫عندما فقد متا�سكه يف الدار البي�ضاء‪ ،‬عكف على‬ ‫القراءة يف �رسه‪� ،‬أدركت غرامه بالأ�سماء الكاملة‪،‬‬
‫ال�رشاب‪ ،‬كنا حرا�سه‪� ،‬إال �أن �صربي حافظ كان‬ ‫�أم�سك ي��دي وغ��ادرن��ا امل��ح��راب وخرجنا جهة‬
‫حار�سه الأول‪ ،‬وملا ذهبنا �إىل مراك�ش‪� ،‬ضاع منا‪،‬‬ ‫املحيط‪ ،‬و�أمام املحيط قال‪ :‬كان عر�شه على املاء‪،‬‬
‫وظللنا ليلة كاملة وعندما وجدناه مل جنر�ؤ على‬ ‫ملوك العرب ور�ؤ�سا�ؤهم املحدثون والقدامى‪،‬‬
‫لومه‪� ،‬أحيانا �أمت��ادى و�أق��ول لنف�سي‪� ،‬إن��ه كان‬ ‫زعموا دائما مثل هذا الن�سب‪ ،‬زعمه فاروق م�رص‬
‫خائف ًا من النظر داخ��ل نف�سه‪ ،‬خ�شية �أن يراها‬ ‫و���ص��دام ال��ع��راق‪ ،‬ومل يكونا �صادقني‪ ،‬الن�سب‬
‫خاوية‪ ،‬كنت أ�ظ��ن �أن��ه ميتلئ‪ ،‬ويكتب ليفرغ ما‬ ‫املكتوب على املحراب ن�سب �صحيح ت�ؤكده �صحف‬
‫بداخله‪ ،‬ثم ميتلئ‪ ،‬ويكتب‪ ،‬وال تبقى غري الروا�سب‪،‬‬ ‫التاريخ‪ ،‬وب���أط��راف �أ�صابع يده اليمنى‪� ،‬أم�سك‬
‫ثم ميتلئ وهكذا‪ ،‬يف �سنواته الأخرية كان قد ا�ستقر‬ ‫ذراعي �أعلى الكوع‪ ،‬ثم �أ�ضاف مل �أكن �أت�صور �أنه‬
‫على ا�ستقبال �أ�صدقائه ومريديه م�ساء كل يوم‬ ‫�سي�أتي اليوم الذي �أنحاز فيه �إىل مثل هذه ال�شجرة‪،‬‬
‫�أحد بكافيرتيا �سوق احلميدية‪� ،‬صاحبها �شامى‬ ‫يق�صد �شجرة العائلة‪ ،‬كما �أنني مل �أكن �أت�صور �أنه‬
‫يتيح لفاروق ما ال يتيحه لغريه‪ ،‬والكافيرتيا‬ ‫�سياتى اليوم الذي �أعلق فيه خ�شبة خال�صي على‬
‫مال�صقة تقريبا ملقهى احلرية‪ ،‬الذي كان املازين‬ ‫�سفينة جماعة حما�س وح��زب اللـه‪ ،‬فهما الآن‬
‫ي�سرتيح فيه �أحيانا‪،‬ملا ظهرت جماعة الديوان‬ ‫البندقية واملدفع وال�سالح الأبي�ض‪ ،‬احلديث الودي‬
‫‪،‬العقاد واملازين‪ ،‬وا�شتهرت بالهجوم على �أحمد‬ ‫مع فاروق يبدو دائما وك�أنه بداية ل�شيء ما‪ ،‬كان‬
‫�شوقي وحافظ ابراهيم واملنفلوطي‪ ،‬وكان العقاد‬ ‫يحدق �إىل وجهي مبا�رشة‪ ،‬ويقوم ب�أدائه الالفت‪،‬‬
‫هو �صاحب الهراوة ال�ضخمة املخ�ص�صة ل�شوقي‪،‬‬ ‫وي�ستعر�ض قدرته على نب�ش الذاكرة‪ ،‬وا�ستعادة‬
‫�آن ذاك قال �أحدهم ل�شوقي‪ :‬يابك‪ ،‬دعك من هذا‬ ‫ال�ضائع منها‪ ،‬يف ك��ل م��رة تذكر فيها �صالح‬
‫الولد الطويل‪ ،‬يق�صد العقاد‪ ،‬فالق�صري ا ألع��رج‪،‬‬ ‫عبدال�صبور‪ ،‬ا�سرتخت ع�ضالت وجهه‪ ،‬وامتلأت‬
‫يق�صد املازين‪ ،‬هو الذي يحر�ضه‪ ،‬ميكنك �أن تدعوه‬ ‫بالب�شا�شة‪ ،‬وحاول ل�سانه ا�ستعادة كل جملة وكل‬
‫للع�شاء يف ق�رصك و�سوف ينبهر ويخجل ويكف‬ ‫كلمة‪ ،‬ف�إذا ردد الكلمة واجلملة‪ ،‬كان �صوته يزداد‬
‫ل�سانه عنك‪ ،‬ف�أجابه البك‪� :‬س�أنتظركما يوم كذا‪،‬‬ ‫عمقا بت�أثري املحبة‪ ،‬هذا زمن احلق ال�ضائع‪ ،‬ال‬
‫‪45‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أو طبق طعام‪ ،‬لعله �أي�ضا يف الأيام الأخرية كان‬ ‫ويف املوعد املحدد ذهب املازين ب�صحبة الرجل‬
‫ي�أ�سف على عجزه عن منح حممود الورداين جائزة‬ ‫الذكي �إىل م�أدبة �شوقي‪ ،‬وملا ان�رصفا معا‪ ،‬قال‬
‫الرواية عندما كان رئي�سا للجنة التحكيم‪ ،‬ولعله‬ ‫الرجل للمازنى �أر�أي��ت كيف عاملك‪� ،‬أر�أي��ت كيف‬
‫كان يبت�سم حينما يتذكر �أنه تنازل عن قراءة بيان‬ ‫وكيف وكيف‪ ،‬هل مثل ه��ذا النبيل ي�ستحق �أن‬
‫اللجنة‪ ،‬يبت�سم لأنه يعلم �أنه ال ي�ستطيع �أن يفعل‬ ‫تهاجماه‪ ،‬فقال امل��ازين‪ :‬نعم ر�أي��ت‪ ،‬ويف اليوم‬
‫خالف ذلك‪ ،‬يوم الأربعاء ‪ 2010/6/23‬توقف‬ ‫التايل خرجت ال�صحيفة مبقالة للمازين يحمل‬
‫فاروق عن �أن يكون �أجريا لأي �سيد‪ ،‬كان قبلها قد‬ ‫فيها هراوته ويحاول �أن ي�شج بها متثال �شوقي‪،‬‬
‫تنقل بني عدة م�ست�شفيات عامة وجمانية‪ ،‬ثم‬ ‫ميكننى الآن �أن �أت�لاع��ب باحلكاية و�أن �أب��دل‬
‫تويف ب�سالم يف م�ست�شفي القوات امل�سلحة‪ ،‬مر�ضه‬ ‫الأ�سماء‪� ،‬أرف��ع ا�سم امل��ازين و�أ�ضع مكانه ا�سم‬
‫مل يكن طويال بالقدر امل��زع��ج‪ ،‬وم��وت��ه مل يكن‬ ‫ف��اروق‪ ،‬و�أرف��ع الرجل الذكي و�أ�ضع قائمة من‬
‫�سبب احلزن ال�شديد‬ ‫الأ�سماء تبتدئ بالغيطاين وتنتهي بجابر ع�صفور‪،‬‬
‫مفاجئا وال منتظرا‪ ،‬ومع ذلك ّ‬
‫و�سبب ال�شماتة لطائفة ال‬ ‫و���س��وف التتغري احل��ك��اي��ة‪ ،‬ف��االث��ن��ان‪ ،‬امل��ازين‬
‫لطائفة من �أ�صدقائه‪ّ ،‬‬ ‫أح�سا‬
‫�أحب �أن �أتخيل االبت�سامات التي �أخفوها ب�أكمام‬ ‫وفاروق‪ ،‬و�ضعا �أقدامهما على ظهر العامل‪ ،‬ف� ّ‬
‫قم�صانهم‪ ،‬ثم االبت�سامات التي ملأوا بها وجوههم‬ ‫�أنه فج�أة بد�أ ي��زداد عمقا‪ ،‬ويف الوقت ذات��ه‪ ،‬بد�أ‬
‫يتغور ويتبلور ويتكور وي�صبح يف اخلامتة على‬
‫عندما �أ�رصوا على �أن مينحوه جائزة مل يقبلها يف‬
‫هيئة �سنبلة �أو بذرة من النقاء التام‪ ،‬و�أن ال�سعادة‬
‫حياته‪ ،‬ظانني �أنهم هكذا يقطفون زهوره احلمراء‬
‫�إذا جاز لها �أن حتدث‪� ،‬ستحدث هكذا‪ ،‬ب�أن تنمو‬
‫والبي�ضاء والبنف�سجية‪ ،‬تاركني له �شجرة ال�شوك‪،‬‬
‫قرب كر�سيه‪ ،‬املازين �أو فاروق‪ ،‬ونافذته وفرا�شه‬
‫ومثلما فعل ابن �أخيه الذي ب�سبب دوافعه الدينية‬
‫وعلى �أطراف يديه وحواف �شفتيه‪ ،‬و�أنها ال ميكن‬
‫�أ�رص على �أال يرقد فاروق رقدته الطويلة يف مقربة‬
‫�أن ُت�رسق �أو ُتوهب من �أواين الآخرين‪ ،‬التي قد ال‬
‫العائلة‪ ،‬و�أجرب احلا�رضين على نقله ودفنه وحيدا‬ ‫تفي�ض �إال بالأذى‪ ،‬يف اخلم�سني من عمره توقف‬
‫يف مقربة وحيدة بائ�سة‪ ،‬ثم فتح يديه وجيوبه‬ ‫�أبي عن �أن يكون من �أج��راء احلكومة‪ ،‬ويف عمر‬
‫وت�ضامن مع خ�صومه‪ ،‬خ�صوم ف���اروق‪ ،‬وقبل‬ ‫مبكر توقف املازين وفاروق عن �أن يكونا �أجريين‬
‫جائزتهم‪ ،‬ودمر خمطوطات عمه ور�سائله لأنها‬ ‫للحكومة‪ ،‬ي��وم الأرب��ع��اء ‪ 2010/6/23‬توقف‬
‫دن�س ورج�س‪ ،‬لن �أخاف �إذا ختمت حياتي وجاءت‬ ‫فاروق عن �أن يكون �أجريا لأي �أحد‪ ،‬توقف عن �أن‬
‫جنازتى مثل جنازته‪ ،‬ومل يح�رضها �سوى النفر‬ ‫يكون �أجريا للدنيا‪ ،‬كانت يده فيما قبل حتب �أن‬
‫القليل‪ ،‬لأن هذا هو التتويج امللمو�س مل�رشوع‬ ‫ت�صل ب�سهولة �إىل مو�سوعته ال�ضخمة التي يحب‬
‫حياته‪ ،‬م�رشوع �أال تهادن �أو تتواط�أ كان على �أحد‬ ‫الرجوع �إليها دائما‪ ،‬الإن�سيكلوبيديا الربيطانية‪،‬‬
‫ما �أن يتذكر �أن الفاروق عبدالقادر ال�سيد ح�سني‬ ‫وكانت على بقية الأرفف كتبه الأثرية ‪ ،‬عبدالرحمن‬
‫ولد يوم الإثنني ‪ ، 1938/1/24‬كان على �أحد ما‬ ‫منيف وجربا ابراهيم جربا و�سعداللـه ونو�س و�إميل‬
‫�أن يتذكر �أن املوت هو املوت‪ ،‬و�أن العدم للآخرين‪،‬‬ ‫حبيبي وحممود دياب والطيب �صالح وحممود‬
‫ك��ان على �أح��د ما �أن يتذكر �أن البحارة ذهبوا‬ ‫دروي�����ش‪ ،‬ويف مكان منزو كانت ليلة ال�سحلية‬
‫وت��رك��وا لنا �سفينتهم و�أن �أع��را���س الربيع يف‬ ‫وفرتة التوافق‪ ،‬لعله يف �أيامه الأخرية كان ي�ستعيد‬
‫الطرقات‪.‬‬ ‫�صوت خطوات �أخته ك�أنها حتمل اليه كوب �شاي‬
‫‪46‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫مرتجماً‬
‫ماهر �شفيق فريد‬
‫مرتجم وكاتب من م�رص‬
‫فاروق عبدالقادر (‪24‬يناير ‪23 -1938‬يناير ‪ )2010‬ناقد �أدبي وم�رسحي يف املحل‬
‫الأول ولي�س مرتجما حمرتفا‪ .‬ولكن ترجماته مكملة لنقده‪ ،‬خا�صة �أن �أغلبها قد ان�صب‬
‫على ن�صو�ص م�رسحية من الأدب الرو�سي يف القرن التا�سع ع�رش والأدب الأمريكي‬
‫يف القرن الع�رشين‪ ،‬وعلى تنظريات م�رسحية للمخرج الربيطاين املعا�رص بيرت بروك‪،‬‬
‫وبع�ض كتابات يف العلوم الإن�سانية والدرا�سات الثقافية‪ ،‬وكتاب واحد عن تاريخ العلم‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫كانت م�رسحية «فرتة التوافق» (‪ )1960‬للكاتب امل�رسحي الأمريكي تن�سى وليمز‬
‫(‪� )1983-1911‬أول ن�ص م�رسحي ينقله فاروق عبدالقادر �إىل اللغة العربية‪ .‬ومتتاز‬
‫ترجمته‪ -‬و�إن �شابها هنات قليلة يف فهم امل�صطلح العامي الأمريكي‪ -‬با�ستخدام ما‬
‫�أحب �أن �أ�سميه‪ :‬اجلملة الدرامية‪ ،‬مبعنى اجلملة املنطوية على عنا�رص التوتر واجلدل‬
‫وال�رصاع‪ ،‬ال�صاحلة لأن ت�ساق على �أل�سنة املمثلني فوق خ�شبة امل�رسح‪ .‬وقد ظل هذا‬
‫احل�س الدرامي مالزما لفاروق عبدالقادر يف كل ما كتب وترجم‪.‬‬

‫‪ u‬مل يكن فاروق مرتجما عظيما وال تارك عالمة ا�ستثنائية يف‬
‫جمال النقل من الإجنليزية �إىل العربية‪ ،‬ولكنه مرتجم جيد �أخرج‬
‫نقوال �أمينة يف جمموعها متتاز بالطالقة وتفيد القارئ املتخ�ص�ص‬
‫والعام على ال�سواء ‪u‬‬

‫‪47‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ومالية ت�صاحله مع احلياة‪ ،‬ولكن �شانون يرف�ض ذلك‬ ‫ومن خري املداخل �إىل هذه امل�رسحية مقالة للدكتورة‬
‫العر�ض بو�صفه ا�ست�سالما لف�ساد العامل‪ :‬ترى حنه يف‬ ‫هدى حبي�شة – �أ�ستاذة الأدب الإجنليزي‪ -‬عنوانها‬
‫كربيائه هذا غرور ال معنى له‪ ،‬م�رصة على �أنه ميكن‬ ‫«فرتة الت�أقلم» يف جملة «املجلة» (يناير (‪)1963‬‬
‫للإن�سان �أن ينخرط يف معمعة احلياة‪.‬‬ ‫(�أعيد طبعها يف كتابها‪ :‬على خ�شبة امل�رسح‪ ،‬الهيئة‬
‫ويف كتابه ع��ن تني�سي وليامز (تن�سي وليامز‪،‬‬ ‫امل�رصية العامة للكتاب ‪.)1987‬‬
‫النا�رش‪ :‬ماكميالن‪ ،‬لندن ‪ )1987‬ي�صف الناقد روجر‬ ‫تقول هدى حبي�شة‪ « :‬امل�رسحية تعترب خطوة جديدة‬
‫بوك�سويل امل�رسحية ب�أنها مرثية درامية يخيم عليها‬ ‫يف فن تني�سي ويليامز فهي تختلف عن كل كتبه‬
‫جو خريفي‪.‬‬ ‫من قبل‪ ،‬فهي �أوال كوميديا ولي�ست م�أ�ساة‪ ،‬ثم �إنها‬
‫�إن لورن�س �شانون مدمن للخمر م�صاب بالنور�ستانيا‬ ‫ال تعالج املو�ضوع ال��ذي ك��اد تني�سي ويليامز �أن‬
‫و�سيم‪ ،‬يف اخلام�سة والثالثني من عمره‪ ،‬فقد �إميانه‬ ‫يتخ�ص�ص فيه – وهو مو�ضوع اجلن�س من وجهة‬
‫الديني و�أ�شتهر بانحرافه �إىل ال�شهوة‪ ،‬يعمل الآن‬ ‫نظر فرويد‪ .‬ويف ر�أيى �أن «فرتة الت�أقلم» – يف حدود‬
‫مر�شدا �سياحيا يف املك�سيك حيث ت��دور �أح��داث‬ ‫مقايي�س الكوميديا االجتماعية – تعترب من �أبدع ما‬
‫امل�رسحية‪� .‬أما حنه فهي فنانة يف منت�صف العمر‬ ‫كتبه هذا امل�ؤلف الكبري املذبذب املوهبة»‪.‬‬
‫عا�شت حياة تنقل من فندق �إىل فندق مع جدها‬ ‫(‪)2‬‬
‫جوناثان كوفني (نونو)‪ .‬وثمة �سحلية عمالقة قيدها‬ ‫«ليلة ال�سحلية» (‪ )1961‬م�رسحية �أخ��رى لتن�سي‬
‫�صبية مك�سيكيون حتت �رشفة الفندق لكي يعذبونها‬ ‫وليامز ي�صفها روبرت هاربر – يف مقدمة �أميل �إىل‬
‫ويقتلوها وي�أكلوها‪ .‬وال يلبث �شانون (الذي ُرفت من‬ ‫ال�سطحية – ب�أنها «متثل �أح�سن ما كتب تني�سى وليامز‬
‫وظيقته لتورطه يف عالقات جن�سية مع مراهقات) �أن‬ ‫من م�رسحيات حتى الآن» (‪ .)1964‬وامل�رسحية يف‬
‫يطلق �رساح ال�سحلية‪ ،‬هو الواقع بني مطرقة اجل�سد‬ ‫الأ�صل ق�صة ق�صرية لكاتبها حولها �إىل م�رسحية‬
‫و�سندان الروح‪.‬‬ ‫كاملة‪ ،‬وقدمت لأول مرة يف برودواى ب�إخراج فرانك‬
‫(‪)3‬‬ ‫كور�سارو‪ .‬ثم حتولت يف ‪� 1964‬إىل فيلم من �إخراج‬
‫وم��ن الأدب الأم��ري��ك��ي ينتقل ف���اروق عبد القادر‬ ‫جون ه�ستون وبطولة رت�شارد بريتون و�أفا جاردنر‬
‫�إىل الأدب الرو�سي ينقل م�رسحية �أنطون ت�شيكوف‬ ‫وديبوراكري‪.‬‬
‫(‪« )1904 – 1860‬ف�ضيحة ريفية �أو بالتونوف»‪.‬‬ ‫يقول الناقد جريالد م‪ .‬بريكوتز يف كتابه «امل�رسحية‬
‫ويف مقدمته للم�رسحية يذكر املرتجم �أن ت�شيكوف‬ ‫الأمريكية يف القرن الع�رشين» (النا�رش‪ :‬لوجنمان‪،‬‬
‫قد كتبها ح��وايل �سنة ‪� 1881‬أي وهو يف احلادية‬ ‫لندن ونيويورك ‪ )1994‬عن م�رسحية وليامز‪� :‬إن‬
‫والع�رشين من عمره‪ .‬و�إذا كان بع�ض النقاد الرو�س‪،‬‬ ‫احلبكة يف �أ�ضيق احل��دود ترمى �إىل تقدمي مناظرة‬
‫مثل �س‪.‬دانيلوف‪ ،‬يرون �أن القيمة الوحيدة التي بقيت‬ ‫– تكاد تكون �شوئية (على ن�سق برنارد �شو) – بني‬
‫للم�رسحية هي �أنها متكننا من التعرف على �أ�صول‬ ‫ال�شخ�صيتني الرئي�سيتني‪ :‬لورن�س �شانون وهوق�س‬
‫�أفكار و�شخ�صيات بعينها تطورت تطورا �شامال �إىل‬ ‫�سابق وحنه جلز القوية القادرة على التعامل مع‬
‫م�رسح ت�شيكوف بعد ذل��ك‪ ،‬ف���إن ف��اروق عبدالقادر‬ ‫الواقع‪ .‬ومو�ضوع املناظرة هو امل�س�ألة التي ت�شغل‬
‫يرى �أن هذا احلكم « يظلم جوانب جديرة بالنظر يف‬ ‫وليمز يف كل �أعماله تقريبا‪ :‬كيف يت�سنى لل�شخ�ص‬
‫هذه امل�رسحية جتعل لها قيمتها اخلا�صة بالإ�ضافة‬ ‫احل�سا�س �أن يوا�صل البقاء يف وجه �أمل الوجود‪.‬‬
‫لقيمتها يف الك�شف عن بقية �أعمال ت�شيكوف‪ .‬فهو‬ ‫تعر�ض ماك�سني فولك على �شانون �رشاكة جن�سية‬
‫‪48‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فيتنام (ترتدد يف ت�ضاعيف امل�رسحية – مثل حلن‬ ‫يقدم فيها – للمرة الأوىل – حماولة للتعرف على‬
‫دال م�تردد (اليتموتيف)‪ -‬عبارة «اروىل �أكاذيب‬ ‫القيم االجتماعية املت�صارعة لت�شكيل وجه املجتمع‬
‫عن فيتنام» يف �إ�شارة �إىل �أكاذيب �أجهزة الدعاية‬ ‫يف رو�سيا �أثناء العقدين الأخريين من القرن املا�ضي»‬
‫الأمريكية – املوجهة �إىل املواطن الأمريكي و�إىل‬ ‫(التا�سع ع�رش)‪.‬‬
‫اخلارج على ال�سواء‪ -‬يف عهد �إدارة الرئي�س لندون‬ ‫(‪)4‬‬
‫جون�سون)‬ ‫ويرتجم فاروق عبدالقادر ف�صال عن الكاتب امل�رسحي‬
‫ويطرح بيرتبروك‪ ،‬يف تقدميه للم�رسحية‪ ،‬الإ�شكالية‬ ‫قوقازي املولد‪ ،‬فرن�سي اللغة �أرتور �أداموف (‪1908‬‬
‫التي يواجهها ه��ذا ال��ن��وع م��ن الن�صو�ص فيقول‪:‬‬ ‫– ‪ )1970‬من الكتاب العمدة ملارتن �إ�سلني «م�رسح‬
‫«كانت امل�شكلة هى‪ :‬كيف ميكن للأحداث الدائرة‬ ‫العبث» (‪ .)1964‬ويغطي الف�صل �أه��م �أعمال هذا‬
‫اليوم �أن تدخل �إىل امل�رسح؟ وراء امل�شكلة يكمن‬ ‫الكتاب الذي انتقل من العبث والع�صاب واحللم �إىل‬
‫�س�ؤال‪ :‬ملاذا يجب �أن تدخل هذه الأحداث �إىل امل�رسح؟‬ ‫االلتزام ال�شيوعي الربختي‪� :‬سريته الذاتية امل�سماة‬
‫رف�ضنا عدة �إجابات‪ :‬رف�ضنا �أن يكون امل�رسح فيلما‬ ‫«االعرتاف» وم�رسحياته‪ :‬اخلدعة – الغزو – املناورة‬
‫ت�سجيليا يعر�ضه التلفزيون‪ ،‬ورف�ضنا �أن يكون‬ ‫الكربى وال�صغرى – جتاه امل�سري – الأ�ستاذ تاران‬
‫قاعة حما�رضات‪ ،‬ورف�ضنا �أن يكون مركب دعاية‪.‬‬ ‫– اجلميع �ضد اجلميع – كما كنا – الذين يتالقون‬
‫رف�ضناها جميعا ألن��ه من الفيلم التلفزيوين حتى‬ ‫– بنج بوجن – باولو باوىل – ربيع ‪� ،71‬إىل جانب‬
‫قاعة الدرا�سة مرورا بال�صحف واملل�صقات والأغلفة‬ ‫عدد من اال�سكت�شات امل�رسحية الق�صرية ومتثيليات‬
‫كانت املهمة املطلوبة ت���ؤدى من خالل و�سائط مت‬ ‫�إذاعية‪ .‬ويختم �إ�سلن ف�صله القيم بقوله‪« :‬لدنيا �إذن‬
‫تطويعها لأدائها»‬ ‫اثنان من �أرت��ور �أدام���وف‪� :‬أدام��وف كاتب الأح�لام‬
‫وب��دوره يقول ف��اروق عبدالقادر يف ختام تقدميه‬ ‫والع�صاب والأخفاق‪ ،‬و�أدام��وف الربيختي الواقعي‬
‫للرتجمة «هذا منوذج للعر�ض‪ ،‬وهو بالتايل ال يكت�سب‬ ‫امللحمي‪ ،‬لكن االثنني لي�سا منف�صلني كما قد يبدو»‬
‫حياته �إال على امل�رسح‪ ،‬لكنه من��وذج ملا ميكن �أن‬ ‫‪ .‬وي�ضيف �إ�سلن‪« :‬امل�ستقبل فقط هو الذي ميكن �أن‬
‫ي�ؤديه امل�رسح اليوم‪ ،‬دون �أن يتخلى عن لغته اخلا�صة‬ ‫يحدد �أي الرجلني هو الأكرث قيمة‪ ،‬و�أيهما هو الذي‬
‫ودون �أن يقف عند حد الإقناع الفكر الهادئ‪� .‬إن بيرت‬ ‫�سيبقى له الأث��ر اخلالد»‪ .‬وعندى – �إذا كان يل �أن‬
‫بروك يثري من الأ�سئلة �أكرث مما ي�ضع من �إجابات‪،‬‬ ‫�أبدي ر�أيا‪� -‬أن اداموف يف مرحلته الباكرة هو الأبقى‬
‫ولعل هذه التجربة تثري بع�ض الأ�سئلة يف حياتنا‬ ‫مبثل ما �أرى �أن برخت يف مرحلته التعبريية الباكرة‬
‫امل�رسحية املتعرثة‪ ،‬الدائرة حول نف�سها يف حلقات‬ ‫– ورائعته «بعل» �أ�سطع مثال لها – �أبقى من برخت‬
‫مفرغة»‬ ‫الكاتب الي�ساري امللتزم‪.‬‬
‫وميثل عنوان امل�رسحية‪ US‬م�شكلة �صغرية ففيه‬ ‫(‪)5‬‬
‫تورية ميكن �أن تعني‪« :‬نحن» وميكن �أن تعني «‬ ‫ُفنت فاروق عبدالقادر باملخرج الربيطاين املعا�رص‬
‫ال��والي��ات املتحدة الأمريكية»‪ .‬وق��د �سعى ف��اروق‬ ‫بيرت بروك فنقل له «نحن والواليات املتحدة» وهي‬
‫عبدالقادر �إىلالتغلب على هذه امل�شكلة با�صطناع حل‬ ‫م�رسحية اعدها و�أخرجها بروك وا�شرتك يف �إعدادها‬
‫و�سط هو اجلمع بني املعنيني مع �إ�ضافة حرف عطف‬ ‫و�أدائ��ه��ا �أع�ضاء فرقة �شك�سبري امللكية‪ .‬وعر�ضت‬
‫بينهما‪ .‬ور�أي �أن هذا حل مقبول ال غبار عليه‪.‬‬ ‫لأول مرة على خ�شبة م�رسح الأولدفيك يف �شتاء عام‬
‫ويف ال�صفحة ‪ 138‬من الرتجمة خط�أ لغوى �شائع‬ ‫‪ .1966‬وهي �رصخة احتجاج على حرب �أمريكا يف‬
‫‪49‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫رواية �أولد�س هك�سلى ‪� Brave New World‬إىل‬ ‫يتكرر يف كتابات ف��اروق عبدالقادر وترجماته‬
‫«عامل جديد �شجاع» وللوهلة الأوىل يبدو ذلك نقال ال‬ ‫كما يتكرر عند كثري من الكتاب واملرتجمني‪ ،‬وذلك‬
‫غبار عليه‪� ،‬إذ �أل�سنا نعرف جميعا �أن كلمة ‪Brave‬‬ ‫حني يقول‪« :‬كلما زادت احلدة واخل�شونة التي يحتك‬
‫معناها «�شجاع»؟ لكن الأمر – وا�أ�سفا – لي�س كذلك‪.‬‬ ‫بها هذان الق�ضيبان معا‪ ،‬كلما زادت ق�سوة ال�رصاع‬
‫فالعبارة قد اقتب�سها هك�سلي من م�رسحية �شك�سبري‬ ‫بينهما‪ ،‬وال�صواب لغويا حذف «كلما» الثانية‬
‫«العا�صفة» ويف زم��ن �شك�سبري – �أواخ���ر القرن‬ ‫(‪)6‬‬
‫ال�ساد�س ع�رش ومطالع القرن ال�سابع ع�رش – كان‬ ‫«طرائق احلداثة‪� :‬ضد املتوائمني اجلدد « كتاب من‬
‫لكلمة ‪ Brave‬معان �أخرى من بينها «جميل» وهذا‬ ‫ت�أليف الروائي الناقد الربيطاين الي�ساري رميوند‬
‫هو املق�صود هنا فال�صواب ترجمة العنوان ‪ :‬عامل‬ ‫وليمز (‪� )1988 – 1921‬صاحب «الثقافة واملجتمع)‬
‫جديد جميل‪.‬‬ ‫و «امل�رسحية من �إي�سن �إىل برخت» و «الثورة الطويلة»‬
‫�ص‪ 18‬يكتب املرتجم ا�سم ال�شاعر والناقد الإجنليزى‬ ‫و«الرتاجيديا احلديثة» و«كلمات مفتاحية» و«الريف‬
‫ماثيو �أرنولد هكذا ‪Mathew Arnold‬بحرف ‪t‬‬ ‫واملدينة» و«املارك�سية والأدب» وغ�يره��ا‪� .‬صدر‬
‫واحد وال�صواب حرفا ‪. t‬‬ ‫الأ�صل الإجنليزي يف لندن ونيويورك عام ‪1989‬‬
‫����ص‪ 63‬ير�سم امل�ترج��م ا���س��م ال��ك��ات��ب الإجن��ل��ي��زى‬ ‫و�صدرت ترجمته العربية بعد ذلك بع�رش �سنوات‪.‬‬
‫‪« George Grissing‬ج��ورج جري�سنج»‪ .‬وهذا‬ ‫ي�ؤخذ على الرتجمة الهفوات التالية‪:‬‬
‫خط�أ مزدوج يف العربية والإجنليزية‪ ،‬ف�صواب اال�سم‬ ‫���ص‪« :15‬ي��رى فيها ت‪���.‬س ‪ .‬إ�ل��ي��وت (‪)T.S.Eloit‬‬
‫‪ Gissing‬ب��دون حرف ‪ r‬يف الإجنليزية وبدون‬ ‫يف ع�شاء �سكرتريه من الفول املطبوخ يف «الأر�ض‬
‫حرف الراء يف العربية‪ .‬وجورج جن�سنج (‪– 1857‬‬ ‫اخلراب» (‪�« )The waste Land‬إنه يكفن الطعام‬
‫‪ )1903‬روائ��ي بريطانى قدم �صورا واقعية للفقر‬ ‫يف علب ال�صفيح»‪� .‬أوال‪ :‬ال�شخ�صية امل�شار �إليها يف‬
‫والب�ؤ�س والف�ساد يف عامل الطبقات الدنيا ويف عامل‬ ‫ق�صيدة �إليوت لي�ست �سكرتريا ذكرا‪ ،‬و�إمنا �سكرترية‬
‫الأدب‪ ،‬وذلك يف رواياته «عمال يف الفجر» و�شارع‬ ‫أ�ن��ث��ى‪� ،‬ضاربة على ا آلل���ة الكاتبة تنتظر و�صول‬
‫جرب اجلديد» وغريها‪.‬‬ ‫ع�شيقها‪ ،‬ثانيا‪ :‬لي�س يف ابيات الق�صيدة ما ي�شري �إىل‬
‫�ص‪ 270‬يرتجم عبارة‪� The Brontes‬إىل «الأختني‬ ‫�أن الطعام املعلب «فول مطبوخ» ثالثا‪ :‬عبارة «�إنه‬
‫برونتي» وال�صواب‪ :‬ال�شقيقات برونتي‪ ،‬فهن ثالثة ال‬ ‫يكفن الطعام يف علب �صفيح» ترجمة خاطئة للعبارة‬
‫اثنتان‪� :‬إميلي (�أعظمهن) م�ؤلفة «مرتفعات وذرجن»‪،‬‬ ‫الإجنليزية ‪ lays out food in tins‬ومعني‬
‫و�شارلوت م�ؤلفة «جني اير» و�آن م�ؤلفة «�ساكن وايلد‬ ‫اجلملة‪ ،‬كما يكتب الدكتور لوي�س عو�ض يف ترجمته‬
‫هول « و «�آجن�س جراي»‬ ‫لق�صيدة �إليوت ‪« :‬ت�ضع على املائدة الطعام املعلب»‬
‫(‪)7‬‬ ‫‪،‬فلي�س يف الأمر �أكفان وال توابيت‪.‬‬
‫و�آخر ما �أخرجه فاروق عبدالقادر من ترجمات هو‬ ‫���ص‪ 17‬يكتب املرتجم «رواي��ة من�ش ‪« Munch‬‬
‫كتاب «نهاية اليوتوبيا‪ :‬ال�سيا�سة والثقافة يف زمن‬ ‫«ال�رصخة ‪ »The Scream‬و«ال�رصخة» (‪)1893‬‬
‫الالمباالة» مل�ؤلفه را�سل جاكوبي‪� ،‬أ�ستاذ التاريخ‬ ‫لي�ست زاوية و�إمنا لوحة للم�صور الرنويجي �إدوارد‬
‫بجامعة كاليفورنيا‪ ،‬وقد �صدر كتابه يف نيويورك‬ ‫مون�ش تعد منوذجا للفن التعبريى الرمزي وت�ستخدم‬
‫عام ‪ .1999‬وفيه – على قدر ما �أرى‪ -‬هفوتان ‪:‬‬ ‫�ألوانا براقة وت�صميمات منحنية على نحو معذب‪.‬‬
‫يف �ص ‪ 140‬يكتب «مارلو» وال�صواب‪ :‬مالرو الأديب‬ ‫ويف نف�س ال�صفحة يرتجم فاروق عبد القادر عنوان‬
‫‪50‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قلمه‪ .‬كتب عنه الدكتور على الراعي بعد دفاع عن‬ ‫الفرن�سي ووزير الثقافة يف عهد ديجول‪� ،‬أما مارلو‬
‫جنيب �رسور الذي ا�شتد فاروق عبدالقادر – حمقا –‬ ‫فكاتب م�رسحي �إجنليزى من الع�رص الإليزابيثي‪،‬‬
‫يف نقده‪« :‬النقد عند فاروق عبد القادر معركة وهو‬ ‫و�صاحب م�رسحية «ال��ت��اري��خ امل���أ���س��وي للدكتور‬
‫يف املعركة فار�س جوال من الطراز الذي ع ّتقه الزمن‬ ‫فاو�ست�س» ويف �ص ‪ 175‬يرتجم عنوان كتاب ‪The‬‬
‫والذي كان يذرع البالد طوال وعر�ضا كي يدفع الظلم‬ ‫‪ Great Chain of Being‬مل�ؤلفه اال�ستاذ �آرثر‬
‫وينقذ الرباءة ويحمي اجلميالت من غيالن املتعدين «‬ ‫لفجوي �إىل «القيد العظيم على الوجود» وال�صواب‬
‫(الراعي‪ ،‬بني الأدب وال�سيا�سة‪ ،‬الهيئة العامة لق�صور‬ ‫«�سل�سلة الوجود العظمى» ‘�إذ هو كتاب يف تاريخ‬
‫الثقافة ‪���2004‬ص ‪ ،233‬مقالة «ف��اروق «النقد‬ ‫الأفكار يتتبع تراتب درجات الوجود من �أدناها �إىل‬
‫عبدالقادر وث�لاث��ة كتب مهمة يف النقد‬ ‫�أعالها‪.‬‬
‫التطبيقي» وقد ن�رشت املقالة الول مرة يف عند فاروق‬ ‫ويف �ضوء الأخطاء – و�أخرى مل �أحاول ا�ستق�صاءها‬
‫عبدالقادر‬ ‫جملة «امل�صور» يونيو ‪.)1990‬‬ ‫– يبدو من قبيل الغرور �أن يقول فاروق عبدالقادر‪،‬‬
‫معركة وهو يف‬ ‫(‪)9‬‬ ‫يف �إ�شارة �إىل �أخطاء لوي�س عو�ض يف ترجمة ثالثية‬
‫مل يكن ف��اروق عبدالقادر مرتجما عظيما‬ ‫ا�سخولو�س «الأور�ستيا»‪« :‬تعلمت من ترجمات لوي�س‬
‫وال تارك عالمة ا�ستثنائية يف جمال النقل املعركة فار�س‬ ‫غري الدقيقة يف امل�رسح �رضورة التزام الدقة ومواءمة‬
‫من الإجنليزية �إىل العربية‪ ،‬ولكنه مرتجم جوال من‬ ‫الرتجمة ملقت�ضيات فن امل�رسح «(من �أوراق الرف�ض‬
‫جيد �أخرج نقوال �أمينة يف جمموعها متتاز الطراز الذي‬ ‫والقبول‪ :‬وجوه و�أعمال‪ ،‬دار �رشقيات ‪� ،1993‬ص‬
‫بالطالقة وتفيد القارئ املتخ�ص�ص والعام‬ ‫‪� .)92‬أفلح �إن �صدق‪ ،‬فلوي�س عو�ض‪ -‬مع ا إلق��راب‬
‫على ال�سواء‪ .‬ويظل �إجن��ازه الأك�بر متمثال ع ّتقه الزمن‬ ‫ب�أخطائه – يظل قمة �شاخمة ال تطال‪.‬‬
‫يف كتاباته النقدية التي منت على �شجاعة والذي كان‬ ‫(‪)8‬‬
‫�أدب��ي��ة ون��زاه��ة فكرية وذائ��ق��ة رهيفة‪ .‬لن يذرع البالد‬ ‫تتمتع كتابات فاروق عبدالقادر وترجماته مبيزة‬
‫ين�سى قارئه حمالته على م�رسح فاروق‬ ‫غري متكورة هي التمكن من اللغة العربية‪ ،‬وطالقة‬
‫جويدة ونهاد جاد وجالل ال�رشقاوي وح�سن طوال وعر�ضا‬ ‫التعبري و�سال�سته‪ .‬ويف ذلك يقول فاروق �شو�شة حتت‬
‫عابدين و�صالح ال�سقا �أو م�رسح الدكاترة كي يدفع‬ ‫عنوان «غروب �شم�س احللم» ‪« :‬اللغة عند فاروق �رس‬
‫الأرب���ع���ة‪� :‬سمري ��سرح��ان وف���وزي فهمي الظلم وينقذ‬ ‫من �أ��سراره الكربى وكنوزه اخلبيئة‪ ،‬هي بني يديه‬
‫وعبدالعزيز حمودة وحممد عناين‪ .‬وهناك‬ ‫وعلى قلمه �سل�سة طيعة ذلول حتمله على جناحيها‬
‫م�ساجالته‪ ،‬عرب ال�سنني‪ ،‬مع �صالح عي�سى‪ ،‬الرباءة‬ ‫�إىل حيث ي�شاء‪ ،‬مبدعا كتابة نقدية هي يف جوهرها‬
‫وم��ع �إداور اخل���راط (اتهمه ف���اروق ب�أنه‬ ‫الإبداع املوازي للن�ص الأدبي الذي‪ ،‬يتناوله‪ ،‬ين�سكب‬
‫كان ي�سري يف ركاب جرنال الثقافة امل�رصية يو�سف‬ ‫عليها ماء �شاعرية رقراقة تتوهج يف مناطقاحللم‬
‫ال�سباعي وهي تهمة كاذبة يف حق اخلراط الذي مل‬ ‫والأمل وال��ذك��رى وال��ت��وج��ع‪ ،‬وتنب�ض بح�س يقظ‬
‫يكتب حرفا واحد يف مدح كتابات ال�سباعي رئي�سه‬ ‫وج��ر�أة مقتحمة واق�تراب �شديد مما يخ�شاه النا�س‬
‫يف العمل مبنظمة الت�ضامن الأفرو – �أ�سيوى)‪ ،‬ومع‬ ‫ويتحا�شونه» (�شو�شة‪ ،‬الإغراء بالقراءة‪ ،‬مكتبة الأ�رسة‬
‫الدكتور �سهيل �إدري�س الذي مثل ف��اروق‪ -‬حمقا –‬ ‫‪)2003‬‬
‫مب�رسحيته الركيكة عن املقاومة الفل�سطينية «زهرة‬ ‫ميزة �أخ���رى يف كتاباته ه��ي �صالبته يف ال��ر�أي‬
‫من دم» على �صفحات جملة «امل�رسح» يف ‪1969‬‬ ‫وا�ستقالل فكره‪ ،‬وعزوفه عن املجامالت‪ ،‬و�رصامة‬
‫‪51‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ -‬و�سوء النية‪ ..‬هل هو �سمة تقدمية؟ (رد على �صالح عي�سى) جملة‬ ‫(�سعى �صالح عبدال�صبور‪ ،‬رئي�س حترير املجلة �إىل‬
‫الطليعة دي�سمرب ‪1975‬‬
‫‪ -‬ارتفاع و�سقوط امل�رسح امل�رصي‪ ،‬جملة الطليعة‪ ،‬فرباير ‪1977‬‬
‫حتقيق امل�صاحلة بني الرجلني يف عدد �أكتوبر ‪1969‬‬
‫‪ -‬الفر�سان ال�صاعدون �إىل اخل�شبة املنهارة‪ ،‬جملة الكرمل العدد‬ ‫ولكن دون جناح ملمو�س)‪ .‬هناك نقده احلاد املربر‬
‫‪ 1984/14‬كتابات عن فاروق عبد القادر ناقدا ومرتجما‬ ‫لروايات القا�ص ال�سوري حنا مينه‪ ،‬وذكرياته املمتعة‬
‫‪ -‬د‪.‬فاطمة مو�سى حممود و�سمري عو�ض‪ ،‬قامو�س امل�رسح‪ ،‬اجلزء‬
‫الثالث‪ ،‬الهيئة امل�رصية العامة للكتاب ‪1997-1996‬‬ ‫عن لوي�س عو�ض املعادي لالجتاه العروبي‪« :‬ر�أيته‬
‫‪ -‬بدون توقيع‪ ،‬فرتة التوافق‪ ،‬جملة الهالل �أكتوبر ‪1964‬‬ ‫ليلة يف بهو امل�رسح القومي (القدمي) – ومل �أكن �أحب‬
‫‪ -‬د‪� .‬سهيل �إدري�س‪ ،‬منوذج للنقد ال�سطحي املغرور‪ ،‬جملة الآداب‬ ‫�أن �أرى – وهو يفك رباط عنقه يف ع�صبية وا�ضحة‪،‬‬
‫(بريوت) �أغ�سط�س ‪.1969‬‬
‫‪ -‬د‪.‬هناء عبدالفتاح‪ ،‬فاروق عبدالقادر �آخر الفر�سان الراحلني‪،‬‬ ‫ويقول ملن حوله‪� :‬س�أحتنق ‪� ..‬إن هذا «الأرابي�سك»‬
‫جملة �إبداع �صيف ‪.2010‬‬ ‫يخنقني ! وقر�أت له ذات يوم – ومل �أكن �أحب �أن �أقر أ�‬
‫‪ -‬د‪ .‬ي�رسي خمي�س‪ ،‬مع فاروق عبدالقادر وهو يت�أهب (ق�صيدة‪/‬‬ ‫– �إح�سا�سه حني وط�أت قدماه �أر�ض �أوروبا لأول مرة‬
‫جملة �أدب ونقد‪� ،‬سبتمرب‪)2010‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬حلمي �سامل‪ ،‬ثالثة عيابات حا�رضة‪ :‬ف��اروق عبدالقادر‪:‬‬ ‫ب�أنه �إح�سا�س الذي خطفه الغجر طفال و�أبعدوه عن‬
‫معار�ضة الر�شوة يف النقد‪ ،‬جملة �أدب ونقد �أغ�سط�س ‪.2010‬‬ ‫�أهله �سنوات قبل �أن يعود �إليهم «(من �أوراق الرف�ض‬
‫‪ -‬فاروق حلمي‪ ،‬ردا على نقد (رد على مقال فاروق عبدالقادر عن‬ ‫والقبول‪� ،‬ص‪.)89‬‬
‫م�رسحية «برعي بعد التح�سينات») جملة امل�رسح مار�س ‪.1969‬‬
‫‪� -‬صالح عبدال�صبور‪ ،‬كلمة ال بد منها (حماولة للو�ساطة بني‬ ‫أقول له ال ُتن�سى من قبيل‬‫وتظل عالقة « بالذاكرة � ٌ‬
‫د‪�.‬سهيل �إدري�س وفاروق عبدالقادر) جملة امل�رسح �أكتوبر ‪.1969‬‬ ‫قوله‪�« :‬إن معرفة ال�سلم املو�سيقي ال ت�صنع م�ؤلفا و�إن‬
‫‪ -‬حلمي النمنم‪ ،‬يف وداع فاروق عبدالقادر‪ ،‬جملة الهالل �سبتمرب‬
‫‪2010‬‬
‫ارتفاع ال�صوت وطواعية الع�ضالت ال يخلقان فنا»‪� .‬أو‬
‫‪ -‬ب��دون توقيع‪� ،‬أوراق �أخ��رى من الرماد واجلمر‪ ،‬جملة الهالل‬ ‫قوله عن الروائي الفل�سطيني �إميل حبيبي‪�« :‬إن عذوبة‬
‫�أغ�سط�س ‪.1990‬‬ ‫الكتابة جديرة بعذابها»‪� .‬أو قوله يف م�ساجلته مع‬
‫‪� -‬إدواراخلراط‪ ،‬عن �إ�ضطراب الر�ؤية وجملة «جالريي ‪ ،»68‬جملة‬
‫�إبداع يناير ‪.1992‬‬ ‫الدكتور �سهيل �إدري�س‪« :‬حني يعجزك �أن جتد جدارا من‬
‫‪ -‬عالية ممدوح‪ ،‬حول احلرية والإبداع جليل ال�ستينات امل�رصي‬ ‫الفكر ت�ستند �إليه ا�ستندت �إىل �أقرب جدار‪ ..‬وعادة ما‬
‫(م�شاركة يف ندوة) جملة الفكر املعا�رص (بريوت) ابريل‪1974‬‬ ‫يكون مبنى �رشطة»‪� .‬أو قوله عن الدكتور ر�شاد ر�شدي‬
‫‪ -‬بدون توقيع ‪� ،‬أوراق من الرماد واجلمر‪ ،‬جملة الثقافة اجلديدة‬
‫يناير ‪.1991‬‬ ‫وتالمذته وذلك حني كتب الدكتور �سمري �رسحان عن‬
‫‪ -‬حممود حامد‪ ،‬نهاية اليوتوبيا‪ ،‬جملة املحيط الثقايف نوفمرب‬ ‫م�رسحية �أ�ستاذه الركيكة «حبيبتي �شامينا» مقالة‬
‫‪.2001‬‬ ‫تن�ضح بالثناء املنافق‪« :‬ه�ؤالء النا�س جميعا ‪� ..‬أما‬
‫‪ -‬د‪.‬على الراعي‪ ،‬فاروق عبدالقادر �شهيد الع�شق امل�رسحي‪ ،‬يف‬
‫كتاب‪ :‬هموم امل�رسح وهمومي‪ ،‬كتاب الهالل يونيه ‪.1994‬‬ ‫يتعففون؟»‪ .‬هذا ناقد مل يبع قلمه لأحد‪ ،‬ومن ثم كان‬
‫‪ -‬د‪.‬على الراعي‪ ،‬فاروق عبدالقادر وثالثة كتب مهمة يف النقد‬ ‫جديرا باالحرتام‪ ،‬بل هو جدير باملحبة‪.‬‬
‫التطبيقي‪ ،‬يف كتاب‪ :‬بني الأدب وال�سيا�سة‪ ،‬الهيئة العامة لق�صور‬
‫الثقافة ‪( 2004‬ن�رشت لأول مرة يف جملة امل�صور يونيو ‪.)1990‬‬ ‫ببليوجرافيا خمتارة‬
‫‪ -‬فاروق �شو�شة‪ ،‬غروب �شم�س احللم‪ ،‬يف كتاب ‪ :‬الإغراء بالقراءة‪،‬‬ ‫كتابات بقلم فاروق عبدالقادر‪:‬‬
‫مكتبة الأ�رسة ‪2003‬‬ ‫‪ -‬مع فتوح ن�شاطي‪ ،‬جملة امل�رسح مار�س ‪( 1969‬مقابلة‬
‫‪� -‬صالح عي�سى‪� ،‬أيتها التقدمية‪ :‬كم من ا آلث��ام با�سمك ترتكب‪،‬‬ ‫‪ -‬زه��رة من دم وكل الكل�شيهات املرفو�ضة عن املقاومة (عن‬
‫جريدة اجلمهورية ‪ 21‬نوفمرب ‪.1975‬‬ ‫م�رسحية د‪�.‬سهيل �إدري�س) جملة امل�رسح مايو ‪1969‬‬
‫‪ -‬جرج�س �شكري‪ ،‬مقدمة‪ :‬ازدهار و�سقوط امل�رسح امل�رصي‪ ،‬الهيئة‬ ‫‪ -‬تعقيب (رد على د‪�.‬سهيل �إدري�س) جملة امل�رسح يوليو ‪1969‬‬
‫العامة لق�صور الثقافة‪.2010 ،‬‬ ‫‪« -‬حبيبتي «�شامينا» وجه ر�شاد ر�شدي اجلديد‪ ،‬جملة الطليعة‬
‫‪ -‬حممود رم�ضان الطهطاوي‪2010 ،‬ع��ام قطاف ال��ورد‪ ،‬جملة‬ ‫فرباير ‪1974‬‬
‫الثقافة اجلديدة يناير ‪.2011‬‬ ‫‪ -‬نطرية نقدية �إىل املجل�س الأعلى للآدب والفنون‪ ،‬جملة الطليعة‬
‫‪ -‬ن�سيم جملي‪ ،‬املعلم العا�رش‪ ،‬جملة املحيط الثقايف‪ ،‬يناير ‪.2002‬‬ ‫مار�س ‪1974‬‬
‫‪52‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫مقعد يف م�سرح‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫جرج�س �شكري‬
‫�شاعر وم�رسحي من م�رص‬

‫جاء مت�أخراً يف تلك الليلة على غري عادته‪ ،‬دخل املقهى �صامت ًا‪ ،‬مل تلمع عيناه ويبت�سم يف‬
‫ثقة كما كان يفعل دائم ًا‪ ،‬تقدم ببطء وحاول �أن يكون هذه املرة ممث ًال‪ ،‬فف�شل يف �أن يوهمنا‬
‫ب�أنه على ما يرام‪ ،‬حني ت�ساقطت الكلمات من فمه غري مر ّتبة ناق�صة احلروف‪ ،‬كان وا�ضح ًا‬
‫�أنه �أ�صيب بجلطة كادت �أعرا�ضها ت�رصخ يف وجوهنا‪ :‬احملوا �صاحبكم �إىل �أقرب طبيب‪،‬‬
‫�أذكر يومها �أنه نهرنا جميع ًا بكلمات �سقطت �أغلب حروفها من فمه غري مكتملة‪ ،‬م�ؤكداً �أنه‬
‫�سليم وال يحتاج �إىل طبيب‪ ،‬غادر املقهى‪ ،‬وال �أذكر َمن حمله �إىل بيته يف تلك الليلة‪ ،‬وكانت‬
‫املرة الأخرية التي يجل�س يف لقائه الأ�سبوعي م�ساء كل �أحد ونلتف حوله يف مقهى �سوق‬
‫احلميدية يف ميدان باب اللوق‪ ،‬يف ال�صباح هاتفته ف�أمطرين بوابل من العتاب وال�شكوى من‬
‫�أ�صدقاء الأم�س الذين حاولوا �إقناعه بالذهاب �إىل الطبيب‪ ،‬وكانت كلماته مرتبكة تتعرث يف‬
‫فمه‪ ،‬وتخرج بعد �أن تفقد بع�ض احلروف‪ ،‬حاولت تهدئته‪ ،‬وجنحنا بعد ذلك يف �إقناعه بزيارة‬
‫الطبيب‪ ،‬الذي �أكد له �أنها جلطة‪ ،‬يومها �أفزعني ت�صميم فاروق عبدالقادر على �إهمال املر�ض‬
‫وال�سخرية منه‪..‬‬

‫‪ u‬رمبا توقفت خطاه عن الذهاب �إىل امل�سرح ولكنه مل يتوقف عن‬


‫م�سرحة كل تفا�صيل حياته‪ ،‬مل يتوقف عن ر�سم �صورة درامية‬
‫لل�شخ�صيات الأدبية التي يتناول �أعمالها ‪u‬‬

‫‪53‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫قبل االفتتاح‪ ،‬لأنها ال تتوافق وم�صالح امل�ؤ�س�سة‬ ‫وتدهورت حالته ب�رسعة �شديدة‪ ،‬وبد�أ رحلة ا�ستمرت‬
‫ال�سيا�سية يف تلك الفرتة‪ ،‬وال تخدم �أهدافها‪ ،‬بل تقف‬ ‫عام ًا تقريب ًا يعاين من املر�ض وه��و غائب عن‬
‫موقف ًا مناه�ض ًا لها‪ ،‬وا�ستيقظ اجلميع على احلقيقة‬ ‫الوعي خارج الزمن الذي نعي�شه حتى رحل يف ‪23‬‬
‫القا�سية‪� ،‬إذ جاءت نتائج املمار�سات ال�سابقة نه�ض ًة‬ ‫يونيو ‪ُ ،2010‬حمل فيها �إىل م�ست�شفيات جمانية‬
‫مزيف ًة جعلت من امل�رسح التجاري بكل �أ�ساليبه‬ ‫وخا�صة ودار م�سنني‪� ،‬إىل �أن لفظ �أنفا�سه الأخرية‬
‫الرخي�صة �صاحب الكلمة العليا‪ ،‬وهنا �أطلق �رصخة‬ ‫يف م�ست�شفى القوات امل�سلحة باملعادي‪ ،‬وعرفت‬
‫احتجاج مدوية من خالل هذا الكتاب‪ ،‬جوهرها الأمل‬ ‫بعد وفاته �أنه مل يلتزم بالعالج‪ ،‬بل كان م�صمم ًا‬
‫الذي يعت�رص قلبه حزن ًا على احللم املزعوم‪ ،‬ليجل�س‬ ‫على ال�سخرية من املر�ض �إىل �أن �سقط ج�سده‪ ،‬وغاب‬
‫ويعيد ق��راءة �أوراق���ه ويراجع ال�سنوات املا�ضية‬ ‫عقله عن الوعي‪ ،‬ولأنني �أعرفه جيداً منذ ت�سعينات‬
‫ويكتب هذا الكتاب دفعة واحدة كما حكي يل فيما‬ ‫القرن املا�ضي‪ ،‬و�أعرف من هو‪ ..‬كنت على يقني �أنه‬
‫بعد‪ ،‬و�أذك��ر �أنني حني قر�أته للمرة الأوىل َ�ش ُعرت‬ ‫قرر �أن يغادر عاملنا‪ ،‬ويقيني �أنه �أ�صابه ما �أ�صابه‬
‫ب�أنه دفقة �شعورية �أنتجت ق�صيدة م�أ�ساوية كتبها‬ ‫بقرار منه‪ ،‬فهو يرف�ض �أن يعي�ش يف هذا الزمن الذي‬
‫�ضمري حي م�ستيقظ دائم ًا‪ ،‬ليبد أ� باملا�ضي والآباء‬ ‫�شعر �أنه غريب عنه‪ ،‬فاختار �أن يعي�ش زمن ًا �آخر‪،‬‬
‫يف الف�صل الأول‪ ،‬ثم املولد واالزدهار‪ ،‬ويختتم هذه‬ ‫زمنه هو الذي كان و�أ�صبح جمرد ذكرى؟‬
‫ال�رصخة بالتعرث وال�سقوط‪ ،‬ثالثة ف�صول هي قراءة‬
‫بانورامية وحتليلية يف �آنٍ ‪ ،‬ليطلق جملته ال�شهرية‬ ‫‪-1-‬‬
‫يف نهاية الكتاب «كما تكونون يكون م�رسحكم‪/‬‬ ‫فاروق عبدالقادر �أحد �أهم نقاد جيل ال�ستينيات‪،‬‬
‫�إبداعكم»‪.‬‬ ‫خا�صة يف امل�رسح‪� ،‬إذ جاء كتابه الأول عام ‪1979‬‬
‫كنت يف البداية �أ�س�أل نف�سي‪ :‬ملاذا اعتزل فاروق‬ ‫«ازده��ار و�سقوط امل�رسح امل�رصي» حدث ًا مدوي ًا‬
‫عبدالقادر امل�رسح‪ ،‬ملاذا ال ي�شارك ويقول ر�أيه‪،‬‬ ‫ي�رشح �أ�سباب االزده��ار وي�ؤكد �أ�سباب ال�سقوط‪،‬‬
‫فنحن يف حاجة �إليه‪ ،‬ودائم ًا كان يقول يل‪� :‬إنها‬ ‫وللتاريخ داللة قوية‪ ،‬حيث �أ�صبحت مالمح امل�رسح‬
‫مهزلة ولن �أ�شارك فيها‪ ،‬فبالن�سبة يل ق�ضاء ليلة‬ ‫امل�رصي وا�ضحة‪ ،‬بعد �أن �سقطت الأقنعة وو ّلت‬
‫يف هذا النوع من امل�رسح احلايل خ�سارة بعد �أن‬ ‫�سنوات االزده��ار املزعومة‪� ،‬إذ بد�أ قطار امل�رسح‬
‫�سقط يف كل �آفات امل�رسح التجاري‪ ..‬وكلما حاولت‬ ‫ي�ضل طريقه وبقوة يف منت�صف ال�سبعينيات‪ ،‬وك�أن‬
‫�أن �أقنعه بالذهاب �إىل امل�رسح‪ ،‬كان ي�ؤكد يل �أنه‬ ‫�سنوات االزدهار املا�ضية مل تكن �سوى حلم �أو ُقل‬
‫ال فائدة‪ ،‬فامل�رسح �سي�ستمر يف تراجعه‪ ،‬فحتى‬ ‫«وهم»‪ ،‬وفاروق عبدالقادر �أحد �شهود العيان على‬
‫يتغري امل�رسح ال بد من تغيري الواقع بكل مفرداته‪،‬‬ ‫تلك الفرتة واملخل�صني لها‪ ،‬والتي ظن البع�ض �أنها‬
‫ال�سيا�سي والتجاري واالقت�صادي والثقايف‪ ،‬ال بد �أن‬ ‫نه�ضة م�رسحية ولكن �رسعان ما اكت�شف اجلميع‬
‫تتغري كل الظروف‪.‬‬ ‫�أن نه�ضة ال�ستينات مل تكن �سوى طاقة بقيت من‬
‫وحني �أ�صدر بعد ع�رشين عام ًا كتابه «ر�ؤى الواقع‬ ‫وهج جيل الرواد‪ ،‬وما �إن نفدت هذه الطاقة‪ ،‬حتى‬
‫وهموم الثورة املحا�رصة» مل يكن �سعيداً وهو يرى‬ ‫بد�أ االنطفاء والذبول يف حقبة ال�سبعينيات‪ ،‬بعد �أن‬
‫نبوءاته تتحقق‪ ،‬وال �أظنه ك��ان يتمنى �أن يكون‬ ‫�أدى تدخل امل�ؤ�س�سة و�إحكام قب�ضتها على امل�رسح‬
‫ترييزيا�س العراف الإغريقي الذي قا�سى كل �شيء‬ ‫�إىل �ضعف �سلطان التقاليد امل�رسحية‪ ،‬و�سادت روح‬
‫قبل �أن يحدث‪ ،‬حني وقف عند جدران طيبة يتح�س�س‬ ‫البريوقراطية‪ ،‬و�أ�صبحت الأولوية ل�سلطة الأجهزة‬
‫اجلثث وي�شاهد اخل���راب ويجني ثمرة نبوءاته‪،‬‬ ‫الإداري���ة على ح�ساب العملية الإب��داع��ي��ة‪ ،‬ف�ض ًال‬
‫ليت�أمل من �أجلها‪ ،‬ويقيني �أنه كان يتمنى �أن تخطئ‬ ‫عن م�صادرة ع��دد كبري من العرو�ض امل�رسحية‬
‫‪54‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مقعده فارغ ًا ال �أجل�س عليه �أنا �أو غريي �إذا ت�أخر‪،‬‬ ‫نبوءاته وت�ضل طريقها‪ ،‬ولكن ما حدث �أنها ت�أكدت‬
‫�سنوات وهو يداوم على هذا اللقاء‪ ،‬ودائم ًا ما كان‬ ‫يف �صورة م�ؤملة حني تناول ما حدث يف كوالي�س‬
‫اللقاء عا�صف ًا نبد�أه مبا كتب ف��اروق عبدالقادر‬ ‫امل�رسح امل�رصي يف ال�سبعينيات والثمانينيات‪،‬‬
‫هذا الأ�سبوع ومعاركه التي ال تنتهى‪ ،‬وال يخلو‬ ‫وعر�ض �صورة دقيقة لك ّتاب امل�رسح الذي دخلوا‬
‫اللقاء من حديث عن حقبة ال�ستينيات‪ ،‬كنت �أ�شعر‬ ‫حلبة املناف�سة بعد جيل ال�ستينات الأكرث �شهرة‪،‬‬
‫�أن �صالح عبدال�صبور‪ ،‬حممود دياب‪� ،‬ألفريد فرج‪،‬‬ ‫و�ضع لها عنوان ًا يحمل دالل��ة م�ؤملة «الفر�سان‬
‫جنيب �رسور‪ ،‬نعمان عا�شور من احل�ضور الدائمني‪،‬‬ ‫ال�صاعدون �إىل خ�شبة امل�رسح املنهارة» وقد عانى‬
‫و�أحيانا مير �سعد وهبة‪ ،‬وعبدالرحمن ال�رشقاوي‪،‬‬ ‫هذا الكتاب كثرياً جل��ر�أة �صاحبه يف تناول واقع‬
‫و�سعد يو�سف و�إميل حبيبي وعبدالرحمن منيف‬ ‫امل�رسح امل�رصي ب�صدق ومو�ضوعية بعيداً عن‬
‫والطيب �صالح و�سعداللـه ونو�س‪ ،‬ف�إن مل ِ‬
‫يحك فاروق‬ ‫احل�سابات وامل�صالح‪ ،‬ليغ�سل يديه �أمام اجلميع يف‬
‫عبدالقادر عن ه�ؤالء �أ�س�أل عنهم �أين ذهبوا؟ جنحت‬ ‫�إعالن �رصيح لتربئة نف�سه مما يحدث من جرائم يف‬
‫مع املخرج حممود �أبودومة يف �إقناعه بالذهاب‬ ‫حق املغفور له امل�رسح امل�رصي‪ .‬وما بني ازدهار‬
‫�إىل الإ�سكندرية مل�شاهدة عر�ض م�رسحي‪ ،‬وا�شرتط‬ ‫و�سقوط امل�رسح امل�رصي‪ ،‬ور�ؤى ال��واق��ع‪ ،‬هناك‬
‫�أن ن�سافر يف قطار الثامنة �صباح ًا وهناك قال‬ ‫عدة كتب هي «م�ساحة لل�ضوء م�ساحة للظالل»‬
‫يل‪� :‬سنعي�ش اليوم يف ال�ستينيات‪ ..‬وقادين �إىل النب‬ ‫(‪ ،)1‬بالإ�ضافة �إىل «�أوراق بني الرماد واجلمر»‪،‬‬
‫الربازيلي‪ ،‬وقال‪ :‬هنا كان ي�أتي �صالح عبدال�صبور‬ ‫والتناق�ض هو القا�سم امل�شرتك يف هذه العناوين‬
‫ويحت�سي قهوته ‪ ،‬و�أي�ض ًا لوي�س عو�ض‪� ..‬أم�شى �إىل‬ ‫وله داللة وا�ضحة تعرب عن موقف الكاتب وت�ؤكده‪،‬‬
‫جواره في�شري ويتوقف قائ ًال‪ :‬الأ�ستاذ جنيب كتب‬ ‫فاالزدهار يعقبه ال�سقوط‪ ،‬وم�ساحة لل�ضوء جتاورها‬
‫هنا مريامار‪ ،‬وينطلق يف حديث طويل عن جنيب‬ ‫م�ساحات �أخرى للظالل‪ ،‬واجلمر ال يخلو من الرماد‪،‬‬
‫حمفوظ‪ ،‬وبالفعل قادين �إىل كل الأماكن التي كان‬ ‫فالكاتب حذر والعناوين حتمل يف كلماتها القليلة‬
‫يرتادها �أدباء ال�ستينيات‪ ،‬وعدت �إىل الوراء خم�سني‬ ‫امل�ضمون والر�ؤية‪ ،‬وكان كتابه الأخري يف امل�رسح‬
‫عام ًا وكان هو �سعيداً يحكي عن املقاهي واحلانات‬ ‫«امل�رسح امل�رصي جتريب وتخريب» ثم توقف عن‬
‫و�أ�صدقائه‪ ،‬ويف القاهرة كان ي�شري �إىل املقاهي‬ ‫كتابة النقد امل�رسحي ب�شكل نهائي وظل بالن�سبة له‬
‫واحلانات وال�شوارع مبن كان يرتادها من مثقفي‬ ‫جمرد ذكريات‪ ،‬وراحت خطاه تتباعد عن امل�رسح‬
‫ال�ستينيات‪.‬‬ ‫قدر تباعد امل�رسح عن تلك الق�ضايا اجل��ادة التي‬
‫جذبته هو وغريه يف فرتة االزدهار‪.‬‬
‫‪-3-‬‬ ‫اعتزل امل�رسح‪ ،‬وعلى الرغم من �أنه مار�س الكتابة‬
‫ثم جاء كتابه الثاين «م�ساحة لل�ضوء م�ساحات‬ ‫عرب النقد الأدب��ي يف ت�سعينيات القرن املا�ضي‬
‫للظالل ‪ -‬مقاالت متنوعة عن امل�رسح امل�رصي‬ ‫والعقد الأول من الألفية الثالثة‪ ،‬ف�إن امل�رسح كان‬
‫يف القاهرة والأقاليم ‪ »1977 - 1967‬ون�رش عام‬ ‫ُغ َّ�صة مريرة يحملها �أينما ذهب‪ ،‬فاعتزل وعا�ش‬
‫‪ ،1986‬وت�لاه كتاب «�أوراق من الرماد واجلمر»‬ ‫بني الكتب يقر�أها ويكتب عنها‪.‬‬
‫منحه عنوان ًا فرعي ًا «متابعات م�رصية وعربية»‬
‫و�صدر عام ‪ ،1988‬وك��ان ف��اروق عبدالقادر بد�أ‬ ‫‪-2-‬‬
‫يفقد �إميانه بامل�رسح الذي �شغل فقط ثلث الكتاب‪،‬‬ ‫اختار مقهى يف ميدان باب اللوق وطاولة يرى‬
‫لي�أتي بعد ذلك كتابه «ر�ؤى الواقع وهموم الثورة‬ ‫منها امليدان‪ ،‬م�ساء الأحد ي�أتي يف موعده ال�ساعة‬
‫امل��ح��ا��صرة» الكتاب ال��ذي حتققت فيه نبوءاته‬ ‫ال�ساد�سة‪� ،‬أحيان ًا �أ�صل قبله بدقائق‪ ،‬كنت �أترك‬
‫‪55‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عن الكتابة للم�رسح ك�� ٌل بقدر» و�سوف تتقل�ص‬ ‫التي و�ضعها يف كتاب «ازده��ار و�سقوط امل�رسح‬
‫م�ساحة امل�رسح يف �أعمال فاروق عبدالقادر‪ ،‬وفيما‬ ‫امل�رصي»‪ ،‬حيث يتناول يف هذا الكتاب كوالي�س‬
‫عدا كتاب «امل�رسح امل�رصي جتريب وتخريب»‪،‬‬ ‫امل�رسح امل�رصي يف �سبعينيات وثمانينيات القرن‬
‫�سوف تخلو كتبه من امل�رسح �أو �ستت�ضمن جمموعة‬ ‫املا�ضي‪ ،‬ويعر�ض �صورة بانورامية دقيقة لكتاب‬
‫من املقاالت املتفرقة لأن خطواته بد�أت ترتاجع عن‬ ‫امل�رسح الذين دخلوا حلبة املناف�سة بعد جيل‬
‫الذهاب �إىل امل�رسح‪ ،‬بقدر تراجع امل�رسح عن طرح‬ ‫ال�ستينات الأكرث �شهرة‪ ،‬يف درا�سة طويلة هي حمور‬
‫�أ�سئلة الواقع‪ ،‬هكذا كان يقول دائم ًا‪.‬‬ ‫الكتاب وت�أخذ عنوان ًا فرعي ًا ال يخلو من داللة م�ؤملة‬
‫«الفر�سان ال�صاعدون �إىل خ�شبة امل�رسح املنهارة»‬
‫‪-4-‬‬ ‫مع ثالث درا�سات لثالثة من فر�سان الكلمة يف‬
‫�س�ألته قبل رحيله بعام يف ‪ :2009‬م��اذا يعني‬ ‫ال�ستينيات هم‪« :‬نعمان عا�شور‪ ،‬ميخائيل رومان‪،‬‬
‫امل�رسح بالن�سبة لك الآن وماذا تتذكر منه الآن؟ وكنا‬ ‫جنيب �رسور»‪ ،‬مع درا�ستني عن ال�شاعر وامل�رسحي‬
‫وحيدين يف املقهى قبل �أن ي�أتي رواد اللقاء‪ ،‬كان‬ ‫الفل�سطيني معني ب�سي�سو‪ ،‬و�أخ��رى يتناول فيها‬
‫كالنا ينظر �إىل امليدان‪ ،‬و�أذكر �أنني �شعرت يف تلك‬ ‫�أعمال ال�سوري �سعداللـه ونو�س‪ ،‬لي�أتي هذا الكتاب‬
‫اللحظة �أنه يجل�س يف مقعده متفرج ًا ي�شاهد امليدان‬ ‫الأكرث جر�أة يف تناول م�رسح ال�سبعينيات والذي‬
‫م�رسح ًا كبرياً‪� ،‬أ�سلم عينيه للمارة و�رسح بب�رصه‬ ‫هرب منه �أغلب النقاد وماطلوا وزيفوا �آراءه��م‪،‬‬
‫بعيداً وقال يل‪« :‬ما �أتذكره الآن املثل القائل ب�أن‬ ‫إر���ض��اء لأ�صحاب هذا‬
‫ً‬ ‫وب��اع��وا �أقالمهم خوف ًا و�‬
‫الدودة يف �أ�صل ال�شجرة‪ ،‬واخليانة من امل�رسحيني‬ ‫امل�رسح‪ ،‬وهذا ما ت�ؤكده الدرا�سة الرئي�سية يف هذا‬
‫�أنف�سهم‪ ،‬فلو �أخل�ص امل�رسحيون ملهنتهم ملا حدث‬ ‫الكتاب «الفر�سان ال�صاعدون �إىل خ�شبة امل�رسح‬
‫ذلك‪ ،‬وهنا �أتذكر و�أعني كرم مطاوع و�سعد �أرد�ش‪،‬‬ ‫املنهارة» ليمار�س عادته يف ال�سخرية املريرة مما‬
‫حني انحازا للمنا�صب وال�سلطة‪ ،‬و�أ�صبحت مغازلة‬ ‫يحدث‪ ،‬فهاهم الفر�سان ي�صعدون �إىل خ�شبة منهارة‬
‫ال�سلطة �أه��م م��ن امل����سرح‪ ،‬والأول��وي��ة للمن�صب‪،‬‬ ‫��ص�لا‪ ،‬وكيف يرت�ضي‬ ‫فكيف يكونون فر�سان ًا �أ� ً‬
‫وكانت �أمام ه�ؤالء وغريهم الفر�صة لردم الهوة بني‬ ‫الفار�س لنف�سه �أن ي�صعد على الأنقا�ض �إال �إذا كان‬
‫اجلماهري وامل�رسح‪ ،‬ولكنهم �ساعدوا على ات�ساعها‪،‬‬ ‫فار�س ًا مزيف ًا؟ والعنوان ال يحتاج �إىل تعليق‪ ،‬حيث‬
‫حيث كانت هناك �أجنة جتارب م�رسحية بدءاً من‬ ‫يق�سم الكتاب ه�ؤالء الفر�سان يف حقبة ال�سبعينيات‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬ممغاطي�س ‪ -‬نعمان عا�شور وو�صو ًال لأعمال‬ ‫والثمانينات �إىل ق�سمني‪ ،‬وكالهما من ُك ّتاب امل�رسح‬
‫حممود دي��اب‪ ،‬ولكن خيانة امل�رسحيني �أ�صحاب‬ ‫وي�ضع يف الق�سم الأول «ي�رسي اجلندي‪� ،‬أبوالعال‬
‫املنا�صب �أجهدت هذا امل�رشوع‪.‬‬ ‫ال�سالموين‪ ،‬ر�أف��ت الدويري» ويف الق�سم الثاين ما‬
‫يعمر ‪ -‬امل�رسح اجل��اد ‪ -‬طوي ًال‪ ..‬فعلى مدى‬ ‫فلم ّ‬ ‫�سماه مب�رسح الدكاترة وهم «فوزي فهمي‪� ،‬سمري‬ ‫ّ‬
‫عقدين من منت�صف اخلم�سينيات حتى منت�صف‬ ‫�رسحان‪ ،‬حممد عناين‪ ،‬عبدالعزيز حمودة» حيث‬
‫ال�سبعينيات‪ ،‬كانت هناك م�شاريع قابلة للتطور‬ ‫قر�أ �أعمالهم يف �إطار ر�ؤى الواقع وماذا طرحت من‬
‫ولكنها �أجه�ضت‪ ،‬ف�رسعان ما �سقط امل�رسح حتت‬ ‫�أ�سئلة اللحظة الراهنة‪ ،‬وخاف على الفار�سني اللذين‬
‫�ضغوط عوامل متعددة منها هزمية ‪ 67‬وحتوالت‬ ‫بد�أت بهما الدرا�سة وهما ي�رسي اجلندي وال�سالموين‬
‫ال��واق��ع وترب�ص ال��رق��اب��ة وخيانة امل�رسحيني‪،‬‬ ‫من �أن ي�ستدرجهما ما �أطلق عليه «امل�رسح الآمن»‬
‫و��سرع��ان م��ا رجحت كفة امل����سرح التجاري من‬ ‫ودوامات الثقافة املرتدية‪ ..‬ويف �أمل يقول‪�« :‬صدقت‬
‫ناحية‪ ،‬وامل�رسح الذي ميالئ ال�سلطة القائمة من‬ ‫النبوءات وحتققت التخوفات‪ ،‬فكال الكاتبني من‬
‫الناحية الأخرى‪ ،‬وفقد امل�رسح قدراته على نقد الواقع‬ ‫�أ�شهر كتاب امل�سل�سالت التليفزيونية و�إن مل يتوقفا‬
‫‪56‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كل مراحله و�أدق تفا�صيل حياته‪ ،‬ومل يكن فاروق‬ ‫وتطلعه نحو امل�ستقبل واهتمامه بجماهري النا�س‪،‬‬
‫عبدالقادر قا�سي ًا بقدر ما كان �رصيح ًا ليبد أ� من‬ ‫والعمل على رف��ع ق�ضاياهم �إىل خ�شبة امل�رسح‪،‬‬
‫عالقة امل��ازين الغريبة بالعقاد الذي كان يبدي‬ ‫و�أ�صبح ن�شاطه خا�ضع ًا لقاعدتني‪ ..‬يف امل�رسح‬
‫الر�أي ال�رصيح اجلارح يف عمل املازين‪ ،‬يف حني‬ ‫التجاري �شباك التذاكر ال يخطئ فهذا هو املعيار‪،‬‬
‫كان املازين يتناول �أعماله بالإعجاب والتقدير‬ ‫ويف م�رسح الدولة �رضب ما تبقى من احلرية با�سم‬
‫ويعامله معاملة الأ�ستاذ وك��ان يعتربه قرينه‬ ‫اجلدية‪ ..‬و�صمت قلي ًال وهبط بب�رصه من امليدان �إىل‬
‫اجل�سور‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �رسقات امل��ازين‪ ،‬خا�صة‬ ‫الطاولة وقال يل‪ :‬وهنا وجدت خطاي تتباعد عن‬
‫روايته «�إبراهيم الكاتب» و�أي�ض ًا �رسقاته ال�شعرية‬ ‫امل�رسح قدر تباعده عن تلك الق�ضايا اجلادة التي‬
‫حني كان عبدالرحمن �شكري ي�أتي له بالأ�صول‬ ‫جذبتنا نحوه من �أول ال�شباب» (‪.)2‬‬
‫الإجنليزية ل�شعره‪ ،‬و�أي�ض ًا �رسقاته امل�رسحية‪..‬‬ ‫رمبا توقفت خطاه عن الذهاب �إىل امل�رسح ولكنه‬
‫ويرى �أن املازين كان يتطلع �إىل اخللود‪ ،‬ويت�ساءل‬ ‫مل يتوقف عن م�رسحة كل تفا�صيل حياته‪ ،‬مل‬
‫يف نهاية الدرا�سة‪ :‬ماذا تبقى منه؟ ويجيب فاروق‬ ‫يتوقف ع��ن ر�سم ���ص��ورة درام��ي��ة لل�شخ�صيات‬
‫عبدالقادر على �س�ؤاله قائ ًال‪ :‬الإجابة وا�ضحة‪ ،‬ما‬ ‫الأدبية التي يتناول �أعمالها‪ ،‬ففي عام ‪1992‬‬
‫تبقى من املازين طريقته �أو �أ�سلوبه‪« ،‬حيث كانت‬ ‫�صدرت الطبعة الأوىل من كتاب «�أوراق الرف�ض‬
‫�سخريته مهرب ًا وم�لاذاً‪ ،‬ولكنها مل تكن �سالح ًا‬ ‫والقبول» والذي �ضم ثالثة �أجزاء‪« ،‬وجوه و�أعمال‪،‬‬
‫ي�شهره �ضد واقع يريد له �أن يتغري‪ .‬كانت تنفي�س ًا عن‬ ‫قا�صون ورائيون‪ ،‬م�رسحيون وم�رسحيات» ورغم‬
‫كاتبها وامتاع ًا لقارئها» ويف مو�ضوع �آخر «ل�سنا‬ ‫�أن الكتاب يتعر�ض للم�رسح يف جزء �صغري ويحتل‬
‫جند يف عامله كله من جنا من �سخريته �سوى �أمه‪،‬‬ ‫النقد الأدب��ي ال�سواد الأعظم من الكتاب‪ ،‬ف�إنني‬
‫التي �أبقاها داخل هالة مكتملة من التقدي�س‪ ،‬تكاد‬ ‫اعتربت الكتاب ينحاز �إىل امل�رسح من الألف �إىل‬
‫تعزلها عن العامل» (‪ )4‬وال يختلف الأمر كثرياً مع‬ ‫الياء‪ ،‬وعندى �أ�سبابي لذلك‪ ،‬فقد ا�ستعان كاتبه‬
‫طه ح�سني فريى �أنه كتب «الأيام» �سريته الذاتية‬ ‫بكل خرباته امل�رسحية يف قراءة الأعمال الأدبية‬
‫بعد احلملة الظاملة التي تعر�ض لها بعد ن�رش كتاب‬ ‫لري�سم «بورتريه» درامي ًا لكل �شخ�صية تناولها‬
‫ال�شعر اجلاهلي «لقد هزته احلملة هزاً عنيف ًا‪ ،‬و�أحيت‬ ‫يف هذا الكتاب‪ ،‬ليتذكر القارئ ما فعله الإيطايل‬
‫يف نف�سه احل�سا�سة كل �آالم املا�ضي ومرارته‪ ،‬فراح‬ ‫لويجي براندللو يف م�رسحه ح�ين أ�ط��ل��ق عليه‬
‫ميلي هذه الف�صول‪ ،‬ي�شفي بها جراح نف�سه‪ ،‬ويكيد‬ ‫«الأقنعة العارية» وكانت الأقنعة على مدى قرون‬
‫ملن كادوا له‪ ،‬ويبدي ر�أيه ‪ -‬من خلف �ستار �شفيف‬ ‫طويلة متثل اجلوهر الأ�سا�سي للم�رسح الرومانى‪،‬‬
‫‪ -‬يف طبيعة تلك القوى التي ناو�أته �صبي ًا‪ ،‬وتكاد‬ ‫حيث كان املمثل ي�ؤدي ال�شخ�صية من خالل قناع‪،‬‬
‫الآن ‪ -‬يف رجولته ‪� -‬أن حترمه كل �شيء» (‪،)5‬‬ ‫فهناك قناع الل�ص‪ ،‬الفار�س‪ ،‬اخل��ائ��ن‪ ..‬و�أ�سقط‬
‫وهكذا يف ال�شخ�صيات الأخرى ميار�س دوره كرجل‬ ‫براندللو هذه الأقنعة وقدم �شخ�صياته عارية‪ ،‬وهذا‬
‫م�رسح‪ ،‬حيث ي�ضع ال�شخ�صيات الأدبية على خ�شبة‬ ‫ما فعله ف��اروق عبدالقادر حني تناول جمموعة‬
‫امل�رسح من خالل بناء درامي حمكم ال من خالل‬ ‫من ال�شخ�صيات ومنهم‪ :‬املازين‪ ،‬طه ح�سني‪ ،‬ر�شاد‬
‫نظرية �أدبية‪ ،‬فال تخلو الدرا�سات لهذه ال�شخ�صيات‬ ‫ر�شدي‪ ،‬جنيب حمفوظ ويو�سف �إدري�س‪ ،‬ولنت�أمل‬
‫من ال�صفات التي تر�سم �صورة حمكمة لها‪ ،‬فها هو‬ ‫ما كتبه عن املازين على �سبيل املثال‪ ،‬حيث قدم‬
‫ي�صف لوي�س عو�ض «حليف ًا للتقدم �صديق ًا للحرية‬ ‫قراءة �شاملة يف �أعماله الأدبية وقراءة حتليلية يف‬
‫ال�سيا�سية وامل�ساواة االجتماعية‪ ،‬داعية لإ�شاعة‬ ‫�سيكولوجية هذه ال�شخ�صية‪ ،‬وبعد �أن ينتهي القارئ‬
‫الإميان بقيم العقل و�إعالء �ش�أنها»‪.‬‬ ‫من درا�سة املازين‪ ،‬ي�شعر �أنه التقى به وعا�رصه يف‬
‫‪57‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وامل�رسحيون‪ ،‬منذ �أن بد�أ حياته وهو يتلقى الهزائم‬ ‫‪-5-‬‬


‫الواحدة تلو الأخرى‪ ،‬فحني تخرج عام ‪ ،1958‬وتقدم‬ ‫«�أعود ‪ -‬يف وحدتي ‪� -‬أنرث الأيام و�أعابث الذاكرة‬
‫لنيل وظيفة يف املركز القومي للبحوث االجتماعية‬ ‫ىل �أحيان ًا �أن‬‫و�أدير منولوجات ال تنتهي ويخيل �إ ّ‬
‫واجلنائية‪ ،‬وعلى الرغم من اجتيازه لالختبارات‪،‬‬ ‫�أ�صحاب الكتب والأعمال التي تراكمت ‪ -‬دون قراءة‬
‫مت رف�ضه لعالقته بالتنظيمات ال�شيوعية‪ ،‬و�أخربوه‬ ‫‪ -‬ينظرون نحوي بلوم وعتب‪ ،‬ف�أقول لهم ولنف�سي‪:‬‬
‫يف ق�سم مكافحة ال�شيوعية‪�« :‬أال يكفيك �أن تتم�شى‬ ‫ال يكلف اللـه نف�س ًا �إال و�سعها لها ما ك�سبت وعليها‬
‫يف �شوارع املدينة وت�شم هواءها» يف �إ�شارة حلب�س‬ ‫ما اكت�سبت» (‪ )6‬هذا هو ف��اروق عبدالقادر يقيم‬
‫الآخرين‪ ،‬وخرج �إىل ال�شوارع مكتفي ًا با�ستن�شاق‬ ‫حواراً درامي ًا مع الكتب‪ ،‬مع �أ�صحابها‪ ،‬ينظر �إليها‬
‫ه��واء القاهرة‪ ،‬وفيما بعد حني عمل يف م�ؤ�س�سة‬ ‫كعرو�ض م�رسحية ترقد يف مكتبه‪ ،‬رمبا تعو�ضه‬
‫روزاليو�سف وكان على و�شك �أن يتم تعيينه‪ ،‬توىل‬ ‫غياب امل�رسح ال��ذي هجره «بالن�سبة يل ق�ضاء‬
‫عبدالرحمن ال�رشقاوي‪ ،‬رئا�سة امل�ؤ�س�سة‪ ،‬وكان‬ ‫ليلة يف هذا النوع من امل�رسح احلايل خ�سارة بعد‬
‫فاروق عبدالقادر قد كتب قبل جميئه عن م�رسحيته‬ ‫�أن �سقط يف كل �آفات امل�رسح التجاري‪� ،‬أحاول �أن‬
‫«وطني عكا»‪« :‬وطني عكا‪ :‬جي�ش الدفاع الإ�رسائيلي‬ ‫�أعو�ض امل�شاهدة بالقراءة للم�رسح وعن امل�رسح‪،‬‬
‫يف خدمة الق�ضية العربية» ما �أغ�ضب ال�رشقاوي‪،‬‬ ‫و�أع���رف �أن��ك �ستقول يل �إنها ال تكفي وال �شيء‬
‫وفقد �صاحبنا الوظيفة‪ ،‬وتكرر الأمر مع خروج حممد‬ ‫يعو�ض امل�شاهدة‪ ،‬ولكن هذا هو املتاح‪ ..‬و�أقول لك‬
‫ح�سنني هيكل من الأه��رام‪ ،‬جاء يو�سف ال�سباعي‬ ‫�إنه ال فائدة‪ ،‬فامل�رسح �سي�ستمر يف تراجعه فحتى‬
‫ليغلق ملحق الطليعة ويتعنت مع فاروق عبدالقادر‬ ‫يتغري امل�رسح ال بد من تغيري الواقع بكل مفرداته‬
‫وقرر �أن يعامله كمحرر جديد‪ ،‬فخرج من الأهرام‪،‬‬ ‫ال�سيا�سي والتجاري واالقت�صادي والثقايف‪ ،‬ال‬
‫ومن قبل كان قد خرج من هيئة الكتاب «وقد �أ�س�أل‬ ‫بد من تغيري كل الظروف» (‪ )7‬ولأن��ه كان يعرف‬
‫نف�سي بعد كل هذه ال�سنوات‪ :‬هل �أخط�أت �أم �أ�صبت‬ ‫�أن الظروف مل ولن تتغري ولأنه انتظر طوي ًال قرر‬
‫حني �أدرت ظهري لذلك املبنى مكيف الهواء» (‪)8‬‬ ‫�أن مي�رسح حياته وال يذهب �إىل هذا امل�رسح الذي‬
‫و�أجيب من غري تردد‪� :‬إننى �أ�صبت ال�صواب كله‪ ،‬فقد‬ ‫يراه مزيف ًا‪ .‬ومل يكتف بامل�رسحة من خالل الكتابة‬
‫لدى‬
‫امتلكت حريتي كاملة غري منقو�صة‪ ،‬ال رقيب ّ‬ ‫والكتب ولكن �أي�ض ًا من خالل حياته وتفا�صيله‬
‫على من اخل��ارج‪ ،‬وهل ثمة‬ ‫يف الداخل‪ ،‬وال رقيب ّ‬ ‫اليومية‪ ،‬كان يختفي عن �أو�ساط املثقفني بعد �أن‬
‫�أثمن من احلرية بالن�سبة لكاتب؟‪ ..‬كانت املرحلة‬ ‫اعتزل امل�رسح وامل�رسحيني‪ ،‬يختفي ليكتب ثم‬
‫التالية �أ�شد ه��والً‪ ،‬لكن هذا حديث آ�خ��ر» (‪ )9‬نعم‬ ‫بـ«نوة» فاروق‬ ‫ّ‬ ‫يهبط �إىل و�سط املدينة فيما يعرف‬
‫كانت الأيام �أ�شد هوالً‪ ،‬ويف تلك الفرتة قرر �أن ي�صدر‬ ‫عبدالقادر يطوف املقاهي واحلانات ومي�ل�أ ليل‬
‫كتابه الأول «ازده��ار و�سقوط امل�رسح امل�رصي»‪،‬‬ ‫القاهرة �صخب ًا وثقافة‪ ،‬بهجة و�رصاخ ًا‪ ،‬و�أحيان ًا‬
‫ولهذا جاء ق�صيدة رثاء يف امل�رسح امل�رصي‪.‬‬ ‫ي�ستمر هذا العر�ض امل�رسحي �أيام ًا وي�ستمر فاروق‬
‫عبدالقادر يف هذا الف�ضاء امل�رسحي ال يعود �إىل‬
‫‪-6-‬‬ ‫بيته‪� ،‬إال بعد �أن ينهي هذا الدور؟ توقفت كثرياً �أمام‬
‫رمبا مل يقرر �أن يكون ناقداً م�ستق ًال‪� ،‬إال �أنه انحاز‬ ‫هذه احلالة النادرة التي كان يعي�شها‪ ،‬رمبا هرب ًا‬
‫�إىل هذه الفكرة حني حتالفت كل الظروف لتجعله‬ ‫من الواقع والبحث عن زمن �آخر‪ ،‬زمنه املفقود‪ ،‬ويف‬
‫خ���ارج امل�ؤ�س�سة الثقافية‪ ،‬على ال��رغ��م م��ن �أن‬ ‫تلك اللحظات التي كان يغيب فيها عن وعيه عمداً‬
‫م�رشوعه النقدي قد ت�أ�س�س مت�أثراً مب�رشوع يوليو‬ ‫مع �سبق الإ�رصار والرت�صد كنت �أ�شعر �أنه فقد زمن ًا؟‬
‫‪ ،1952‬بل والبع�ض ر�أى �أنه خرج من رحم هذه‬ ‫أ�ح��ب ف��اروق عبدالقادر امل�رسح فخذله امل�رسح‬
‫‪58‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫غريه جائزة مبارك (‪ )12‬والتقديرية‪ ،‬وهو دون‬ ‫الثورة‪� ،‬إال �أن تلك املرحلة مل تنحز له �أو تن�صفه‪،‬‬
‫�شك �أهم من كل ه�ؤالء‪ ،‬فما قدمه للحياة الثقافية‬ ‫�صاغ م�رشوعه وفق هذا الزمن‪ ،‬فخذله‪ ،‬ومع هذا‬
‫�أك�بر من كل اجل��وائ��ز‪ ،‬ورغ��م ح��زين لفقد �صديقي‬ ‫ظل يحن �إىل �أبطاله حتى رحيله‪ ،‬مل يتخ َّل عن‬
‫و�أ�ستاذي‪ ،‬ف�إنني كنت مرتاح ًا لرحيله يف تلك‬ ‫قناعته بدور الكاتب يف املجتمع ويقظة �ضمريه‪،‬‬
‫اللحظة بالتحديد‪ ،‬وك�أنه ي�أبى �إال �أن يقول ر�أيه‬ ‫فدائم ًا ما كان يبحث عن عالقة الفنان باملجتمع‬
‫بحدة كما كان يفعل يف حياته‪ ،‬وحتى يف الغيبوبة‬ ‫يف كل الأعمال التي كتب عنها «ب�إيجاز �شديد �أقول‬
‫التي كان يعي�ش فيها منذ �شهور ظل كما هو فاروق‬ ‫�إن امل�رسح كان ميثل اهتمام ًا ثقافي ًا جاداً ومهم ًا‬
‫عبدالقادر‪ ،‬ولكن هذا لي�س غريب ًا بالن�سبة له �أو حتى‬ ‫منذ منت�صف اخلم�سينيات‪ ،‬مع �صعود تلك املوجة‬
‫بالن�سبة ل��وزارة الثقافة لأنه مل يكن يوم ًا �ضمن‬ ‫اجلديدة من امل�ؤلفني واملخرجني‪ ،‬وبدا للكثريين‬
‫رجالها �أو داخل حظريتها‪ ،‬بل كان كاتب ًا حراً بكل‬ ‫�أن هذا الفن ميكن �أن يقوم بدور يف ردم الهوة التي‬
‫ما تعنيه الكلمة‪ ،‬جل�س يف هذا املقعد وراح يت�أمل‬ ‫عمقتها مئات ال�سنني بني الثقافة اجلادة من ناحية‪،‬‬
‫هذه القطعة من ال�سماء واملارة يعربون حتتها‪ ،‬ثم‬ ‫واجلماهري من الناحية الأخرى‪ ،‬وحملت تلك املوجة‬
‫يقول ر�أيه كما ميليه عليه �ضمريه امل�ستيقظ دائم ًا‬ ‫من امل�رسحيني ر�سالة التط ّلع نحو امل�ستقبل‪ ،‬وكانت‬
‫ويف كل يوم يخو�ض املعارك ويخ�رس الكثري ولكنه‬ ‫على جر�أة وج�سارة يف طرح ق�ضايا الواقع‪ ،‬حتى‬
‫يربح نف�سه دائم ًا‪.‬‬ ‫اجلدل حول ال�ش�ؤون ال�سيا�سية املبا�رشة وجد طريقه‬
‫�إىل اخل�شبة‪ ،‬ومن ثم فقد اجتذبت �أ�ضوا�ؤه عدداً كبرياً‬
‫الهوام�ش‬
‫ومدر�سي الأدب‬
‫ّ‬ ‫والقا�صني والروائيني‬
‫ّ‬ ‫من ال�شعراء‬
‫‪ -1‬مت ن�رش هذه الكلمات يف �صورة ر�سالة من فاروق عبدالقادر �إىل‬ ‫يف اجلامعة و�سواهم» (‪.)10‬‬
‫امل�رسحيني (جملة الإذاعة والتليفزيون ‪ -16‬مايو‪)200 9‬‬
‫‪ - 2‬يف عام ‪� 1986‬صدر كتاب «م�ساحة لل�ضوء‪ ،‬م�ساحات للظالل»‬
‫وهو جمموعة املقاالت التي كتبها ما بني �أعوام ‪ ،1977 ،1967‬وهي‬ ‫‪-7-‬‬
‫املادة التي اعتمد عليها يف كتابه الأول «ازده��ار و�سقوط امل�رسح‬ ‫مات فاروق عبدالقادر‪ ،‬ويف العزاء جل�ست �أت�أمل‬
‫امل�رصي» الذي �صدر عام ‪1979‬‬
‫‪ - 3‬من �أوراق الرف�ض والقبول‬ ‫م�صدق‪ ،‬رمب��ا ع�رشة‬‫ّ‬ ‫احل�ضور ال�ضئيل و�أن��ا غري‬
‫‪ -4‬املرجع ال�سابق‬ ‫�أ�شخا�ص م��ن املثقفني‪ ،‬قاعة ال��ع��زاء ف��ارغ��ة ‪/‬‬
‫‪ -5‬املرجع ال�سابق‬ ‫كم�رسح هجره املمثلون‪ ،‬هل هذا عزاء الناقد الذي‬
‫‪ -6‬من �أوراق الت�سعينات‬
‫‪ -7‬ر�سالة فاروق عبدالقادر للم�رسحيني (جملة الإذاعة والتليفزيون)‬
‫ملأ الدنيا �صخب ًا‪ ،‬بعد العزاء عدت �إىل املقهى(‪)11‬‬
‫‪ -8‬يق�صد مبنى الأهرام‬ ‫وجل�ست على كر�سيه �أت�أمل امليدان‪ ،‬كانت قطعة‬
‫‪ -9‬نفق معتم وم�صابيح قليلة‬ ‫�صغرية من ال�سماء تلوح يف الأفق على باب املقهى‪،‬‬
‫‪ -10‬املرجع ال�سابق‬
‫وانتظرت �أن يدخل املقهى �ضاحك ًا واثق ًا �سعيداً‬
‫‪ -11‬مقهى �سوق احلميدية �سالف الذكر ‪ ،‬وكان فاروق عبد القادر‬
‫يرتاد هذا املقهى منذ ثمانينيات القرن املا�ضي مع الكاتب امل�رسحي‬ ‫با�ستقالله عن امل�ؤ�س�سة الثقافية الفا�سدة كما كان‬
‫نعمان عا�شور والناقد امل�رسحي ف�ؤاد دوارة ‪ ،‬وكان لقاء الأحد يف هذا‬ ‫ي�صفها دائم ًا‪ ،‬را�ضي ًا عن حياته‪ ،‬قبل �أن ي�صيبه‬
‫املقهي قد �أ�س�سه الناقد امل�رسحي ف�ؤاد دواره وبعد رحيله يف منت�صف‬ ‫ال�س�أم فج�أة‪ ،‬مات فاروق عبدالقادر يف نف�س اليوم‬
‫ت�سعينيات القرن املا�ضي ‪� ،‬أ�صبح لقاء الأحد ‪ ،‬لقاء فاروق عبد القادر‬
‫باملثقفني ‪.‬‬
‫الذي �أُعلن فيه عن منحه جائزة التفوق من وزارة‬
‫‪ -12‬جائزة مبارك كانت الأكرب يف جوائز وزارة الثقافة ومت تغيري‬ ‫الثقافة‪ ،‬وكان طبيعي ًا �أن ميوت �أو ُقل يحتج على‬
‫ا�سمها بعد اخلام�س‪ 2011‬والع�رشين من يناير �إىل جائزة النيل‪.‬‬ ‫من منحه جائزة من الدرجة الثالثة‪ ،‬يف حني مي َنح‬

‫‪59‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫حار�س ال�ضمري‬
‫النقدي‬
‫ي�سري عبداللـه‬
‫ناقد وكاتب من م�رص‬

‫ت�سعى هذه الدرا�سة �إىل ر�صد جتليات اخلطاب النقدي عند فاروق عبد القادر‪ ،‬حماولة‬
‫الو�صول �إىل بنياته الأ�سا�سية‪ ،‬ومالحمه املائزة التي دفعت به لأن ي�صبح ُمعربا ‪ -‬وبجالء‪-‬‬
‫عن جدارية امل�شهد الإبداعي امل�رصي‪ ،‬والعربي‪ ،‬يف حلظات دالة‪ ،‬وفارقة من مراحله‪ ،‬وحقبه‬
‫املختلفة‪ ،‬متخذة من كتابه املركزي‪ « :‬من �أوراق الت�سعينيات‪ :‬نفق معتم وم�صابيح قليلة»‬
‫منوذجا للتطبيق‪ ،‬ومو�ضوعا للدر�س النقدي‪ ،‬والدرا�سة و�إن كانت ت�ستعني ب�آليات نقد النقد‪،‬‬
‫ف�إنها ت�سعى بدءا �إىل تفكيك ااخلطاب النقدي لدى فاروق عبد القادر‪� ،‬سعيا �إىل الو�صول �إىل‬
‫متايزاته اخلا�صة من جهة‪ ،‬وو�ضعه يف �سياق امل�رشوع النقدي العربي من جهة ثانية‪ ،‬ويف‬
‫�سبيلها �إىل ذلك تركز الدرا�سة على «نقد الرواية» عند فاروق عبدالقادر من خالل كتابه‬
‫امل�شار �إليه �آنفاً‪.‬‬

‫‪ u‬فـي نقد النقد‪« :‬من �أوراق الت�سعينيات‪ :‬نفق معتم وم�صابيح‬


‫قليلة» منوذجا ‪u‬‬

‫‪60‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫متابعات‪� /‬أع��م��ال �أوىل‪ /‬غياب‪ /‬مواجهات‪ /‬نقد‬ ‫رمب��ا ي�صبح مناط اجل���دارة يف �صنيع ف��اروق عبد‬
‫ونقاد‪ /‬مطالعات‪ /‬من هناك‪ /‬ثم يتبعهم مبلحق يحوي‬ ‫القادر النقدي‪ ،‬ات�ساقه مع ذاته‪ ،‬وقدرته على القب�ض‪-‬‬
‫ثبتا باملقاالت التي نوق�شت يف منت الكتاب‪ .‬رمبا‬ ‫وبجدارة‪ -‬على ما �أ�سميه بـ «ال�رصامة النقدية»‪ ،‬التي‬
‫ينبىء الق�سم الأول (متابعات) عن اخليارات اجلمالية‬ ‫تتعاطى مع الناقد بو�صفه قا�ضيا نزيها‪ ،‬وحمايدا‪ ،‬ال‬
‫لفاروق عبد القادر‪ ،‬وجميعها‪ -‬وبال ا�ستثناء‪ -‬حتوي‬ ‫يكذب‪ ،‬وال يدل�س‪ ،‬ولذا بدا خطاب عبد القادر النقدي‬
‫نزوعا خا�صا يف التكري�س للجمايل‪ ،‬وتعبريا عن ذائقة‬ ‫حممال ب�شحنات فكرية‪ ،‬وانفعالية‪ ،‬متثلت يف لغته‪،‬‬
‫�شفيفة‪ ،‬لها قدرة التقاط اجلوهري يف الن�ص‪ ،‬والعامل‪،‬‬ ‫وطرائقه‪ ،‬واختياراته الدالة للن�صو�ص‪.‬‬
‫وهذا مبتد�أ عمل الناقد احلقيقي ‪ ،‬ومن ثم �سنجد هنا‬ ‫ُيعرب (نفق معتم وم�صابيح قليلة) عن جممل الت�صورات‬
‫ح�ضورا لروائيني وقا�صني مثل‪( :‬عبد الرحمن منيف‪/‬‬ ‫النقدية لعبد القادر‪ ،‬وفيه ميكنك االق�تراب �أكرث من‬
‫بهاء طاهر‪ /‬لطيفة الزيات‪ /‬حممد الب�ساطي‪� /‬إبراهيم‬ ‫خياراته اجلمالية‪ ،‬وعربها ميكن الك�شف عن ر�ؤية‬
‫�أ�صالن‪� /‬أبو املعاطي �أبو النجا‪ /‬ف�ؤاد التكريل‪ /‬فتحي‬ ‫العامل يف خطابه النقدي‪ ،‬تلك التي ك��ان يتحراها‬
‫غامن‪ /‬حممد �شكري‪� /‬أمني معلوف)‪.‬‬ ‫ف��اروق عبدالقادر يف ن�صه‪ ،‬دون �أن يحيل مثال �إىل‬
‫ويقدم حتت الفتة «�أعمال �أوىل» عددا من املبدعني‬ ‫املفكر لو�سيان جولدمان‪� ،‬أو ي�ؤ�صل لها نظريا‪ ،‬فلم‬
‫امل����صري�ين‪ ،‬ه��م‪« :‬حم��م��د ن��اج��ي‪ ،‬ور���ض��ا البهات‪،‬‬ ‫يكن معنيا بامل�صطلح النقدي على �أية حال‪ ،‬لكنه كان‬
‫وعبداحلكيم حيدر‪ ،‬و�إبراهيم فهمي»‪ ،‬ف�ضال عن القا�ص‬ ‫معنيا �أكرث بالك�شف عن جوهر الن�صو�ص املختارة‪،‬‬
‫ال�سوري �إبراهيم �صموئيل‪.‬‬ ‫وموقفها الر�ؤيوي من العامل‪� ،‬إنه ي�شري مثال �إىل عمل‬
‫ويعد نقد ال�شعر هام�شا يف منت امل�رشوع النقدي لفاروق‬ ‫عبدالرحمن منيف « �رشق املتو�سط» يف عبارة مفعمة‬
‫عبد القادر‪ ،‬واحلق �أن معرفته بتحوالته تكاد تن�صب‬ ‫بالتقاط البنية العميقة ‪Dominant Structure‬‬
‫على �أ�صحاب االنعطافات الفنية يف م�سريته‪ ،‬فهو‬ ‫يف العمل‪« :‬ويف كل الأح��وال‪ ،‬ف�إن البدء بخ�صو�صية‬
‫ي�شري مثال �إىل �شاعرين فقط ‪ ،‬يف ع�رش �صفحات‪� ،‬ضمن‬ ‫الواقع‪ ،‬ال عمومية الت�صورات �أو الأفكار‪ ،‬واالرتباط‬
‫منت كتابه‪ ،‬الذي يتجاوز عدد �صفحاته اخلم�سمائة‬ ‫احلميم بالنا�س‪ ،‬وممار�سة الدميقراطية‪ ،‬و�إعمال قواعد‬
‫وع�رشين �صفحة‪ ،‬فيكتب عن مهدي اجلواهري‪ ،‬ال�شاعر‬ ‫النقد‪ :‬نقد الذات‪ ،‬والآخرين‪ ،‬هي جميعا ما ميكن �أن‬
‫العراقي ابن الن�سق الكال�سيكي يف الق�صيد‪ ،‬ومثوره‪،‬‬ ‫تكون �سبل التجاوز‪ ،‬وهذا ما يهب املعني لكل ن�ضاالت‬
‫وعن ال�شاعر املجدد املائز حممود دروي�ش‪ ،‬وبدت‬ ‫املنا�ضلني» من لقي نحبه ومن ينتظر‪ ،»..‬ولكل ما‬
‫قراءة عبد القادر النقدية معنية بالأيديولوجي �أكرث‬ ‫لقوا من �أه��وال‪ ،‬وما �أ�صاب الأج�ساد والأرواح من‬
‫من الفني‪ ،‬ومل تعول كثريا على �آليات نقد ال�شعر‪ ،‬وما‬ ‫وهن وجراح» ‪ .‬ويف معر�ض حتليله لعامل حيدر حيدر‬
‫�أكرثها!!‬ ‫وروايته «مرايا النار» يثبت ذلك‪ « :‬هل انطف أ� كل �أمل‬
‫ب��دت الكتابات النقدية ح��ول امل�رسح ل��دى ف��اروق‬ ‫يف عامل حيدر حيدر‪� ،‬أال تربق يف �سمائه جنمة واحدة؟‬
‫عبد القادر هي الأكرث عمقا داخل م�رشوعه النقدي‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬لي�س الأمر كذلك‪ ،‬ثمة �أمل‪ ،‬لكنه �شعاع وانٍ يلوح يف‬
‫فامل�رسح فنه الأثري‪ ،‬وحمرابه الذي تعبد فيه‪ ،‬ف�صار‬ ‫نهاية نفق طويل معتم‪ ،‬ال بد لبلوغه عن اجتياز النفق‬
‫�أيقونة من �أيقوناته‪ ،‬ورمبا بدت نظراته عن امل�رسحي‬ ‫كله‪ ،‬وهذا الف�ساد ال�شامل الذي مي أل الليل العربي يحمل‬
‫ال�سوري �سعد اللـه ون��و���س‪ ،‬والتي �أف��رد لها كتابا‬ ‫بداخله نقي�ضه‪ ،‬فمنه �سيتخلق ن�سل �آخر‪ ،‬جديد �صلب‬
‫م�ستقال‪ -‬من بعد‪� -‬أ�سماه « من �أوراق الت�سعينيات‪:‬‬ ‫والمع»‪.‬‬
‫كرا�سة �سعد اللـه ونو�س و�أعمال �أخرى» ‪ ،‬مبثابة الدليل‬ ‫يق�سم ف��اروق عبد القادر كتابه �إىل �سبعة �أق�سام‪:‬‬
‫‪61‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عن غياب املداخل اجلديدة يف النظر �إىل الن�ص الأدبي‪.‬‬ ‫الدامغ على وعي فاروق عبد القادر ب�آليات الكتابة‬
‫‪ -2‬ثمة خ�صي�صة للنقد عند فاروق عبدالقادر‪ ،‬تت�صل‬ ‫امل�رسحية‪ ،‬وقراءة الن�ص الدرامي‪ ،‬بل بالوعي احلاد‬
‫ب�أ�صل املاهية‪ ،‬من حيث كون النقد متييزا ما بني‬ ‫بتلك ال�صيغة املفتقدة يف غالب الكتابات النقدية حول‬
‫اجليد‪ ،‬وال��رديء‪ ،‬لذا ت�شيع �أحكام القيمة يف كتابات‬ ‫امل�رسح‪ ،‬والتي تتعاطى مع زاوية واحدة من زواياه‬
‫عبد القادر‪ ،‬ورمبا قدرة ف��اروق عبد القادر على �أن‬ ‫املتعددة‪ ،‬ففاروق عبد القادر كان يتعاطى مع امل�رسح‬
‫ي�صنع م�سارات خا�صة به‪ ،‬تنطلق من قناعاته ب�أن‬ ‫بو�صفه فنا معرو�ضا‪ ،‬يلتحم فيه الن�ص الدرامي مع‬
‫النقد خيار ر�ؤيوي ‪ -‬بالأ�سا�س‪ -‬ومن ثم جنده مثال يف‬ ‫العر�ض امل�رسحي‪ ،‬وع�بر متا�سهما‪� ،‬أو افرتاقهما‪،‬‬
‫كتابه (نفق معتم وم�صابيح قليلة) ي�صنع ق�سما حتت‬ ‫يت�شكل خطاب النقد امل�رسحي لديه‪ ،‬م�سكونا بالنظر‬
‫عنوان (مواجهات) يحيل فيه �إىل جملة من معاركه‬ ‫العميق للم�رسح ن�صا‪ ،‬وعر�ضا‪.‬‬
‫الفكرية والثقافية املتكئة على ت�صورات نقدية جتاه‬ ‫يف «غياب» ي�ستعيد عبد القادر قيم الثقافة العربية‬
‫عدد من الكتاب‪ ،‬وهذا ما ميكن تلم�سه مثال يف حالة‬ ‫بتنويعاتها املختلفة‪ ،‬ويف �أ�شد جتلياتها خلقا وابتكارا‬
‫الروائي جمال الغيطاين‪ ،‬والذي يفرد له الناقد فاروق‬ ‫لدى جمال حمدان‪ ،‬ويحيى حقي‪ ،‬وعبد اللـه غيث‪،‬‬
‫عبد القادر مقالني مطولني داخل كتابه نازعا عنه‬ ‫وجربا �إبراهيم جربا‪ ،‬وحممود دياب‪ ،‬وحممد رومي�ش‪.‬‬
‫أ�ي��ة خ�صو�صية �أدبية‪ ،‬لكن ثمة �إ�شكالية منهجية‪-‬‬ ‫ويف «نقد ونقاد» يحيل عبد القادر �إىل �أربعة من �أ�شهر‬
‫بالأ�سا�س ‪� -‬إذ تبدو ت�صورات عبدالقادر بو�صفها‬ ‫النقاد امل�رصيني والعرب وهم‪� :‬شكري عياد‪ ،‬وعلي‬
‫تقيميا؛ مع �أن الكاتب‪� -‬أي كاتب‪ -‬قد‬
‫ً‬ ‫حكما �إطالقيا‬ ‫ال��راع��ي‪ ،‬وج��ورج طرابي�شي‪ ،‬وحممود �أم�ين العامل‪،‬‬
‫يعلو يف عمل‪ ،‬مثلما قد يهبط يف عمل آ�خ��ر‪ ،‬غري �أن‬ ‫على اختالف فيما بينهم يف زوايا التعاطي النقدي‬
‫ن�صاعة املوقف النقدي‪ ،‬و إ�مي��ان ف��اروق عبدالقادر‬ ‫للن�صو�ص‪� ،‬أو الت�صور النقدي عن علم النقد ذاته‪.‬‬
‫مبا يكتبه‪ ،‬وات�ساقه معه‪� ،‬أهم ما ميز عبد القادر هنا‪،‬‬
‫ماهية النقد عند فاروق عبدالقادر‪:‬‬
‫ويف الق�سم ذاته (مواجهات) يعرج �إىل مقالني كتبهما‬
‫رجاء النقا�ش‪ ،‬يحويان قدرا من «التدلي�س الثقايف»‪� ،‬إذ‬ ‫‪ -1‬رمبا ي�صبح املوقف الر�ؤيوي �أهم ما مييز عبد‬
‫يتحدث يف الأول عن �إجنازات مبارك الثقافية!!‪ ،‬ويف‬ ‫القادر يف نقده‪ ،‬ف�ضال عن �إدراك حركة ال�شخو�ص داخل‬
‫الثاين يبي�ض �صورة ال�شيخ املراغي‪ ،‬ويطرحه بو�صفه‬ ‫الن�ص‪ ،‬ووعي الكاتب ب�آليات بناء ال�شخ�صية بقواها‬
‫منوذجا للإ�سالم امل�ستنري‪ ،‬متجاهال عالقاته الوطيدة‬ ‫الثالث‪ ،‬غري �أنها تظل مع غريها من عنا�رص الزمان‬
‫بالإجنليز‪ ،‬والق�رص‪ ،‬وتفانيه يف خدمتهما!!‪ ،‬فيقول‬ ‫واملكان الروائيني‪ ،‬واحلوار ال�رسدي‪ ،‬مبثابة عنا�رص‬
‫ف��اروق عبدالقادر عن رج��اء النقا�ش موظفا �آليات‬ ‫�أولية جتاوزتها النظرية النقدية مبباحثها اجلديدة‪،‬‬
‫التحليل النف�سي يف نهاية املقال‪« :‬يخيل �إيل �أنه يدافع‬ ‫و�إن بقى لعبد القادر قدرته على �أ�رس القارئ‪ ،‬و�إ�رشاكه‬
‫دفاعا حارا لأنه ذو طابع نرج�سي‪ -‬عن منهج بعينه يف‬ ‫معه يف العملية النقدية‪ ،‬بو�صفه �أحيانا �رشيكا فاعال‬
‫الفكر وال�سلوك‪ ،‬يريد �أن ي�ؤكد – ب�شواهد التاريخ‪� -‬أنه‬ ‫يف �إكمال الفراغات الن�صية‪ .‬فالوعي النقدي لدى‬
‫الأكرث �صحة و�صوابا‪ ،‬قوامه املالينة واالعتدال‪ ،‬على‬ ‫فاروق عبدالقادر ينطلق من �أن النقد ج�رس بني الإبداع‬
‫نحو ما يفهمه‪� -‬أو على الأ�صح ي�سيء فهمه‪ -‬هو‪ ،‬ثم‬ ‫والتلقي‪ ،‬ف�ضال عن كونه حماولة لت�رشيح العمل من‬
‫مهادنة احلاكم‪ ،‬بالغا ما بلغ ف�ساده‪ ،‬وال�سعي لالقرتاب‬ ‫الداخل‪ ،‬مربزا موقف الكاتب من العامل‪ ،‬غري �أنه فيما‬
‫منه‪ ،‬بل وو�ضع الثقافة واخلربة واملعرفة واملن�صب‬ ‫يتعلق بنقد الرواية ‪ -‬مناط االهتمام يف الدرا�سة‪ -‬لن‬
‫جميعا يف خدمته» ثم يختتم مقاله بال�س�ؤال‪ /‬التحليل‬ ‫جند ح�ضورا لأدوات التحليل ال�رسدي اجلديد‪ ،‬ف�ضال‬
‫‪62‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وظيفة ت�ؤديها يف البناء الكلي للعمل‪ ،‬فماذا ت�أخذ‪،‬‬ ‫‪« :‬فهل يدافع رجاء النقا�ش‪ -‬حقا‪ -‬عن ال�شيخ حممد‬
‫وماذا ترتك؟ ولكن‪ ..‬ال بد من �إ�رشاك القارئ يف التعرف‬ ‫م�صطفى املراغي؟»‪.‬‬
‫على الأعمدة الرئي�سية التي يقوم عليها بناء احلب يف‬ ‫٭٭٭‬
‫املنفى» ‪ .‬والالفت هنا �أي�ضا توظيف عبدالقادر جلملة‬ ‫ثمة مالمح �أ�سا�سية للنقد عند فاروق عبدالقادر‪ ،‬ميكن‬
‫�رسدية وردت يف منت الرواية حمل الدر�س النقدي‪،‬‬ ‫�إجمالها فيما يلي‪:‬‬
‫وت�صدير عنوان مقاله بها‪ :‬بهاء طاهر يف «احلب يف‬
‫‪ -1‬بنية العنوان و اال�ستهالل النقدي‪:‬‬
‫املنفى»‪ :‬من يحتمل هذه الدنيا؟»‪ ،‬ورمبا بدت عناوين‬
‫عبدالقادر – يف معظمها‪ -‬ت�صدر با�سم الكاتب ون�صه‪،‬‬ ‫يبد أ� فاروق عبد القادر حتليله النقدي �أحيانا با�ست�شهاد‬
‫ثم ي�أتي العنوان داال على جوهر الن�ص واخلطاب معا‪،‬‬ ‫ن�صي من العمل الأدبي مو�ضوع الدرا�سة‪ ،‬ومبا يتيح‬
‫يف متا�س مفعم بح�سا�سية االلتقاط ملا هو جوهري‬ ‫لقارئه الدخول يف �أجواء الن�ص مبا�رشة‪ ،‬وهذا ما نراه‬
‫ودال يف الأعمال مو�ضوع النقد‪ ،‬وهذا ما ميكن تلم�سه‬ ‫مثال يف حتليله النقدي لن�ص (�رشق املتو�سط) لعبد‬
‫يف العناوين التالية‪ »:‬عبدالرحمن منيف يف «الآن‬ ‫الرحمن منيف‪� ،‬أو (احلب يف املنفى) لبهاء طاهر‪ ،‬غري‬
‫هنا �أو�رشق املتو�سط مرة �أخرى»‪ :‬ن�شيد طويل يتغنى‬ ‫�أنه �رسعان ما يبني على اال�ستهالل النقدي املتنا�ص‬
‫بعظمة الإن�سان‪�« /‬أوراق �شخ�صية»‪ :‬لطيفة الزيات‬ ‫مع العمل الأدبي ‪ ،‬مدركا �أنه ُيعبد ج�رسا ما بني الن�ص‬
‫تنظر وراءه���ا ب�صدق‪ /‬بهاء طاهر يف «احل��ب يف‬ ‫ومتلقيه‪ ،‬فبعد �أن يوردا مقطعا من رواية بهاء طاهر‬
‫ال�شهرية «احلب يف املنفى»‪« :‬من يحتمل هذه الدنيا؟‬
‫من يحتمل غطر�سة املتكربين والطغاة والأمراء و�آالم‬
‫احلب املخذول‪ ،‬واالنتظار الطويل وا�ستحالة العدل‪،‬‬
‫وهزمية الرقة �أم��ام الوح�شية‪ ،‬وك��ل تلك الأنانية‪،‬‬
‫وكل ذلك الظلم‪ ،‬من يحتمل هذه الدنيا؟» ثم يردف‬
‫عبدالقادر معلقا» هذا ما قالته بريجيت �شيفرز‪ :‬املر�أة‬
‫النم�ساوية ال�صغرية اجلميلة ل�صاحبها الكهل امل�رصي‬
‫يف لقائهما الأخري‪ .‬لكنها مل تكن البداية» ‪ ،‬ثم يدخل‬
‫�إىل جوهر خطابه النقدي م�صدرا �إياه بحكم قيمة �إزاء‬
‫الن�ص مفاده‪« :‬هي روايته الرابعة‪ ،‬و�أكرثها تكامال‬
‫و�إحكاما وات�ساع مدى و�شمول ر�ؤية»‪ ،‬ثم ي�رشع يف‬
‫الربهنة على �آرائه موظفا الدالئل الن�صية‪ ،‬ومتكئا على‬
‫معرفة عميقة بالعوامل املحكي عنها‪ .‬ومن ثم لن جند‬
‫عناء كبريا يف �أن نلمح تكرار عبارة (نوجز‪� /‬أوجز) يف‬
‫منت اخلطاب النقدي لعبد القادر‪ ،‬والذي يتعاطى مع‬
‫النقد يف �صيغه الأولية‪ ،‬بو�صفه َمعربا بني الإب��داع‪،‬‬
‫والتلقي‪ ،‬ولذا نراه يعلن �أنه «كلما زاد �إحكام العمل‬
‫زادت �صعوبة �إيجازه‪ ،‬هنا قد جتد لكل كلمة كتبت‪،‬‬
‫و�شخ�صية �أ�ضيفت‪ ،‬وحادثة وقعت �أو متت ا�ستعادتها‪،‬‬
‫‪63‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املركزية يف نتاجه‪ ،‬مثل‪ :‬االنطالق من جدل ال�سيا�سي‬ ‫املنفى»‪ :‬من يحتمل هذه الدنيا؟ ‪� /‬إبراهيم �أ�صالن‪:‬‬
‫مع الفني‪ ،‬والوعي مبحيط الن�ص االجتماعي‪ ،‬وحتليل‬ ‫املوت يف «وردي��ة ليل»‪ /‬حممد الب�ساطي يف عملني‬
‫ال�رسد وفق ت�صور ي�ستدعي كثريا من ممار�سات النقد‬ ‫جديدين‪ :‬الدمع الذي يف�ضح �صاحبه‪ /‬حيدر حيدر يف‬
‫امل�رسحي‪ ،‬واال�ستعانة با�صطالحات علم النف�س‪،‬‬ ‫«مرايا النار»‪ :‬طائر متعب‪ ،‬هارب من الع�شق والوطن‪/‬‬
‫ومناهج التحليل النف�سي يف النقد �أحيانا‪.‬‬ ‫ف�ؤاد التكريل يف «موعد النار»‪ :‬من �أين �أتت كل هذه‬
‫وبعد‪ ..‬ال من عباءة النظرية النقدية‪ ،‬وال من رحم‬ ‫ال��ن�يران؟‪� /‬أب��و املعاطي اب��و النجا يف جمموعاته‬
‫مداخالت النقد اجلديدة خرج فاروق عبدالقادر‪ ،‬كما‬ ‫الق�ص�صية‪ :‬اجلدل الدائم بني الفرد واجلماعة‪........،‬‬
‫مل يبحث عن مداخل خمتلفة للخطاب النقدي‪ ،‬وهذا‬ ‫وهكذا‪.‬‬
‫ما جعل خطابه مفتقدا الإحكام العلمي‪ ،‬وال�رصامة‬ ‫‪ -2‬الر�ؤية الكلية للإبداع ‪ :‬رمبا بدت ر�ؤي��ة فاروق‬
‫املنهجية‪ ،‬لكن ثمة ��صرام��ة �أخ���رى ق��د الح��ت يف‬ ‫عبدالقادر للكتابة امل�رصية بو�صفها �إحدى تنويعات‬
‫الأفق‪� ،‬إنها �رصامة املوقف الفكري‪ ،‬والنقدي‪ ،‬والتي‬ ‫الكتابة العربية‪ ،‬ولذا فثمة ح�ضور بارز ملبدعني من‬
‫�أبقت فاروق عبدالقادر يف الوجدان اجلمعي للثقافة‬ ‫�أقطار عربية غري م�رص يف كتابه حمل الدرا�سة ومبا‬
‫امل�رصية‪ ،‬والعربية بو�صفه �أحد حرا�س ال�ضمري النقدي‬ ‫يوازي م�ساحة تقرتب من ن�صف املنت النقدي للكتاب‪،‬‬
‫فقد كان ينظر �إىل الإبداع العربي على امتداده‪ ،‬لن�صبح‬
‫يف مراحل دالة وفارقة من عمر الكتابة الإبداعية‪.‬‬
‫– ومن ثم‪� -‬أمام ت�صور نقدي ينطلق من ر�ؤية كلية‬
‫وم��ن ال��وع��ي احل��اد بامل�شهد الإب��داع��ي امل�رصي‪،‬‬
‫للثقافة العربية‪ ،‬تتعاطى مع الإب���داع بتنويعاته‬
‫والعربي‪ ،‬وتعاطيه معه بو�صفه �سل�سلة من الرتاكمات‬
‫املختلفة‪ ،‬م�رصيا‪ ،‬وعربيا‪ ،‬ومبا يعني �أن االنت�صار‬
‫املعرفية واجلمالية‪ ،‬ومن انطالقه من» الآن‪ /‬وهنا»‬
‫للجمايل‪ ،‬والر�ؤيوي كان هاج�سا مركزيا لدى فاروق‬
‫بلغة امل�رسح الذي �أحبه �أكرث من غريه‪ ،‬من خربات‬
‫عبد القادر‪.‬‬
‫احلياة وهمومها وعراكها امل�ستمر‪ ،‬من �صخبها‪،‬‬
‫‪ -3‬مل ي�أت فاروق عبد القادر من رحم النظرية النقدية‬
‫وعنفها‪ ،‬ومكونها املحلي جاء ف��اروق عبدالقادر‪،‬‬ ‫مبداخالتها اجلديدة (الأ�سلوبية‪ /‬ال�شكالنية‪ /‬البنيوية‬
‫حامال معه ت�صورات نقدية �آتية من عالقة املارك�سية‬ ‫بتنويعاتها‪ /‬التفكيكية‪� ...‬إل��خ)‪ ،‬لكنه بدا قادما من‬
‫بالنقد الأدب��ي‪ ،‬ومبا حتوية من جدلية العالقة بني‬ ‫مزيج من املناهج والت�صورات املختلفة (الفرويدية‪،‬‬
‫الأدب وال��واق��ع‪ ،‬والتما�س ما بني ال��ذات وحميطها‬ ‫واملارك�سية)‪ ،‬وبدا واعيا بالإن�سان‪ /‬الفرد يف �سياقه‬
‫االجتماعي‪ ،‬وجدل ال�سيا�سي ‪/‬الأيديولوجي مع الفني‪/‬‬ ‫االج��ت��م��اع��ي‪ ،‬ويف عالقته باملجموع‪ ،‬وبرغباته‬
‫اجلمايل‪ ،‬من جهة‪ ،‬وح�ضور الفرويدية يف الإب��داع‬ ‫ونوازعه الداخلية يف الآن نف�سه‪.‬‬
‫ك�شفا عن النوازع والرغبات املقموعة داخل الإن�سان‪/‬‬ ‫‪ -4‬ال�رصامة النقدية‪ :‬يعول عبدالقادر كثريا على‬
‫الفرد من جهة ثانية‪ ،‬ليبقى فاروق عبدالقادرمبنجزه‬ ‫املوقف النقدي‪ ،‬وهذا ما يت�سق مع النظر �إىل الناقد‬
‫النقدي والفكري ناقدا �شاخما‪ ،‬يف خندق اال�ستقالل‪،‬‬ ‫بو�صفه رائدا ال يكذب �أهلَه‪ ،‬و�أن ح�ضور ال�ضمري النقدي‬
‫واحل��داث��ة‪ ،‬والإب���داع امل�سكون بالنا�س‪ ،‬وحيواتهم‪،‬‬ ‫القائم على املعرفة العميقة والنزاهة املطلقة هي من‬
‫و�أمانيهم‪ ،‬وهواج�سهم‪ ،‬من ال�شوق امل�ستمر �إىل احلرية‬ ‫مرتكزات العمل النقدي‪ ،‬وبدهياته الأ�سا�سية‪.‬‬
‫بو�صفها فعل حياة‪ ،‬والرف�ض املطلق للقمع‪ ،‬والرجعية‪،‬‬ ‫‪ -5‬ثمة خيط ينتظم التطبيق النقدي ل��دى ف��اروق‬
‫واال�ستبداد‪.‬‬ ‫عبدالقادر‪ ،‬ميكن تلم�س مالحمه يف عدد من ال�سمات‬

‫‪64‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫فاروق عبدالقادر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ببلوجرافيا‬
‫يف امل�سرح –درا�سات‬ ‫يف النقد امل�سرحي‬
‫ــ امل�رسح التجريبي من �ستا�سالف�سكي �إىل اليوم‪ ،‬جليم�س‬ ‫ــ ازدهار و�سقوط امل�رسح امل�رصي ‪1979‬ط‪ ، 1‬وزارة‬
‫رو�س �إيفانز (دار الفكر املعا�رص‪ ،‬القاهرة ‪)1979‬‬ ‫الثقافة ال�سورية ط‪ ، 2‬الهيئة العامة لق�صور الثقافة‬
‫ــ امل�ساحة الفارغة لبيرت بروك (كتاب الهالل‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪ 2010‬ط‪3‬‬
‫‪)1986‬‬ ‫ــ م�ساحة لل�ضوء‪ ...‬م�ساحات للظالل‪� :‬أعمال يف النقد‬
‫ــ النقطة املتحولة‪� :‬أربعون عاما يف ا�ستك�شاف امل�رسح‪،‬‬ ‫امل�رسحي ‪)1986( 1977 – 1967‬‬
‫لبيرت بروك (�سل�سلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪� ،‬أكتوبر‬ ‫ــ نافذة على م�رسح الغرب املعا�رص‪ :‬درا�سات وجتارب‬
‫‪)1991‬‬ ‫‪1987‬‬
‫ــ الأعمال الكاملة لبيرت بروك ‪ ،‬القاهرة ‪2003‬‬ ‫ــ �أوراق من الرماد واجلمر‪ :‬متابعات م�رصية وعربية‬
‫ــ خيوط الزمن ‪� ،‬سرية �شخ�صية لبيرت بروك ‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪)1988( 1987 -1985‬‬
‫‪2006‬‬ ‫ر�ؤى الواقع وهموم الثورة املحا�رصة‪ :‬درا�سات يف‬
‫امل�رسح العربي املعا�رص ‪1990‬‬
‫يف العلوم الإن�سانية والنقد‬ ‫ــ �أوراق �أخرى من الرماد واجلمر‪ :‬متابعات م�رصية‬
‫ــ درا�سة يف قيادات جماعات الأقلية و‪�.‬أ‪.‬ب دوبوا ورود‬ ‫وعربية ‪)1990( 1989 – 1986‬‬
‫فيك �إليوت (وزارة التعليم العاىل‪ ،‬القاهرة ‪،1965‬‬ ‫ــ من �أوراق الرف�ض والقبول‪ :‬وجوه و�أعمال ‪/1992‬‬
‫�سل�سلة الألف كتاب)‪.‬‬ ‫ــ من �أوراق الت�سعينيات‪ :‬نفق معتم وم�صابيح قليلة‬
‫ــ مقدمة يف نظريات الثورة لـ �أ‪�.‬س كوهن (امل�ؤ�س�سة‬ ‫‪/1996‬‬
‫العربية للدرا�سات والن�رش‪ ،‬بريوت ‪.)1979‬‬ ‫ــ يو�سف �إدري�س‪ :‬البحث عن اليقني املراوغ ‪/1998‬‬
‫ــ الفل�سفة املفتوحة واملجتمع املفتوح ملوري�س‬ ‫ــ كرا�سة �سعداللـه و�أعمال �أخرى‪2000‬‬
‫كورنفورث (دار الأدب والثقافة‪ ،‬بريوت ‪.)1979‬‬ ‫ــ من �أوراق نهاية القرن‪ :‬غروب �شم�س احللم ‪2002‬‬
‫ــ العلم يف التاريخ‪ :‬املجلد الرابع‪ ،‬لـ ج‪ .‬برنال (امل�ؤ�س�سة‬ ‫ــ يف الرواية العربية املعا�رصة ‪2003‬‬
‫العربية للدرا�سات والن�رش‪ ،‬بريوت ‪.)1982‬‬ ‫ــ يف امل�رسح امل�رصي (جتريب وتخريب) ‪2004‬‬
‫ــ طرائق احلداثة؛ �ضد املتوائمني اجلدد لرميوند وليمز‬ ‫ــ من �أوراق الزمن الرخو (وجوه و�أحداث) ج‪�( ، 1‬رشفات‬
‫(�سل�سلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬يونيو ‪ 199‬بتحرير‬ ‫ونوافذ) ج‪2006 2‬‬
‫وتقدمي توين بينكني)‪.‬‬ ‫ترجمة‬
‫ــ نهاية اليوتوبيا‪ :‬ال�سياية والثقافة يف زمن الالمباالة‬
‫لرا�سل جاكوبي (�سل�سلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬مايو‬ ‫يف امل�سرح ‪ :‬ن�صو�ص‬
‫‪.)2001‬‬ ‫ــ تني�سى وليامز‪ ،‬م�رسحيتان (فرتة التوافق – ليلة‬
‫ــ �إميانويل فليكوف�سكي ‪ :‬الإن�سانية تفقد الذاكرة‪،‬‬ ‫ال�سحلية) ‪1980‬‬
‫القاهرة ‪2002‬‬ ‫ــ لعبة البنج‪ -‬بوجن لأتور �أداموف ‪1980‬‬
‫ــ �إميانويل فليكوف�سكي املتطلعون للنجوم وحفارو‬ ‫ــ ف�ضيحة ريفية �أو بالنونوف‪ ،‬لأنطون ت�شيكوف ‪1983‬‬
‫القبور ‪ ،‬القاهرة ‪. 2003‬‬ ‫ــ نحن والواليات املتحدة لبيرت بروك (�سل�سلة روايات‬
‫الهالل‪ ،‬فريابر ‪ .)1971‬مع مقدمة للم�ؤلف و�أخرى‬
‫للمرتجم (�أعيد طبعها حتت عنوان‪ :‬بيرت بروك‪ ،‬وزارة‬
‫الثقافة‪ ،‬دم�شق ‪.)1983‬‬

‫‪65‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫درا�سات‬

‫�إزرا باوند يف ايطاليا ‪ 1971‬قبل �سنة من وفاته يف ‪1972‬‬

‫‪66‬‬
‫حياة �إزرا باوند‬
‫يف �إيطاليا وما بعدها‬
‫ترجمة‪� :‬أحمد �شافعي‬ ‫لو�سيانو ماجنيافيكو‬
‫�شاعر ومرتجم من م�رص يقيم يف ُعمان‬

‫يف الرابع والع�رشين من مايو �سنة ‪ ،1945‬وجد ال�شاعر الأمريكي املرموق «�إزرا لومي�س باوند‬
‫‪ « Ezra Loomis Pound‬نف�سه حبي�س زنزانة خا�صة بل هي قف�ص يف حقيقة الأمر يف املركز الع�سكري‬
‫الأمريكي للتدريب على االن�ضباط يف ميتاتو على بعد �أميال قليلة من بيزا يف �إيطاليا‪ ..‬كان‬
‫مركز التدريب على االن�ضباط ذلك هو الذي ت�صفه ال�صحف بـ «م�ستودع نفايات جي�شنا القذرة‬
‫يف م�رسح ال�رشق الأو�سط»‪ ،‬وكان ي�ستخدم يف احتجاز �أفراد اجلي�ش الأمريكي ممن يرتكبون‬
‫خمالفات جنائية خطرية فينتظرون فيه املحاكمة الع�سكرية �أو الرتحيل �إىل م�ؤ�س�سة عقابية‬
‫يف الواليات املتحدة‪� ،‬أو الإعدام‪ .‬كان �أغلب ال�سجناء يقيمون يف خيام‪ ،‬ولكن امل�شتبه يف ميلهم‬
‫�إىل االنتحار كانوا يعدون خطرا على غريهم‪ ،‬وكذلك امل�شكوك يف �أنهم �سوف يحاولون الهروب‪،‬‬
‫واملحكوم عليهم بالإعدام‪ ،‬فكان ه�ؤالء جميعا يو�ضعون فيما يقال له «زنازين املالحظة»‬
‫املعروفة بني ال�سجناء با�سم «زنازين املوت»‪ .‬وكانت فرقة التدريب على االن�ضباط رقم ‪7103‬‬
‫بقيادة املقدم جون ل �ستيل خريج جامعة هارفرد هي امل�س�ؤولة عن �إدارة املع�سكر‪.‬‬

‫‪ o‬كان باوند يف �أحاديثه الإذاعية يثني ب�صفة عامة على مو�سوليني‪،‬‬


‫وينا�صر نظام ال َد ْين االجتماعي النقدي ويكيل النقد لفرانكلني‬
‫روزفلت وت�شر�شل وبنك �إجنلرتا بل وامل�ؤلفني املو�سيقيني الذين‬
‫يكرههم مثل بوت�شيني وبيتهوفن‬
‫‪o‬‬

‫‪67‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يثري جاره بهذا ال�شكل‪.‬‬ ‫باوند كان املدين الوحيد هناك‪ .‬وكانت التعليمات‬
‫واحلرا�س كانوا يجهلون تفا�صيل �أ�سباب حب�س‬ ‫ال�صادرة من جهات عليا تق�ضي بالإبقاء عليه‬
‫باوند ال��ذي ك��ان يف ذل��ك الوقت على م�شارف‬ ‫حتت «رقابة دائمة وخا�صة‪ ،‬ملنعه من الهرب �أو‬
‫ال�ستني حب�س عتاة املجرمني‪ ،‬فكانوا حائرين يف‬ ‫االنتحار‪ .‬وعدم االت�صال بال�صحافة‪ .‬وعدم توفري‬
‫�أمره‪ ،‬خا�صة و�أن �سلوكه على ما فيه �أحيانا من‬ ‫�أي معاملة ا�ستثنائية»‪.‬‬
‫�شذوذ وخروج على امل�ألوف كان م�ساملا ونبيال‬ ‫كان احلرا�س امتثاال لهذه الأوام���ر‪ ،‬و�ضع باوند يف‬
‫وغري منطو على �أي خطر‪.‬‬ ‫�إحدى زنازين املوت يف املع�سكر‪ .‬وكانت‬
‫وبعد قرابة �أ�سبوعني يف هذا اجلو‪ ،‬ويف ال�سابع‬ ‫يجهلون تلك الزنازين عبارة عن �أقفا�ص من احلديد‬
‫من يونيو تقريبا‪ ،‬تعر�ض باوند فيما يبدو النهيار‬ ‫تفا�صيل ال�صلب‪ ،‬على هيئة مربع طول �ضلعه �ستة‬
‫ع�صبي‪ ،‬وال عجب وق��د تعر�ض حل��رارة النهار‬ ‫�أقدام‪ ،‬وهي مو�ضوعة يف الهواء الطلق‪،‬‬
‫�أ�سباب حب�س‬
‫وكانت بني ‪ 75‬و‪ 90‬درجة فهرنهايت يف يونيو‬ ‫ومك�شوفة من جوانبها الأربعة‪ ،‬ومغطاة‬
‫بتو�سكاين‪ ،‬وبرودة الليل الن�سبية‪ ،‬والغبار‪ ،‬وانعدام‬ ‫باوند وهو من �أعلى بلوح معدين‪ ،‬وكانت �أ�ضواء‬
‫اخل�صو�صية‪ ،‬والعزلة االجتماعية‪ .‬وبعد ب�ضع‬ ‫على م�شارف امل�صابيح تبقى م�سلطة عليها طول الليل‪،‬‬
‫�سنوات‪ ،‬ك�شف باوند عن فرتة اعتقاله يف بي�سا‪:‬‬ ‫ويبقى �سجنا�ؤها معزولني‪ ،‬حمظورا على‬
‫«نعم‪ ،‬كانوا يعتقدون �أنني �شخ�ص خطر‪ ،‬ال ميكن‬ ‫ال�ستني حرا�سهم �أن يكلموهم‪ .‬وكان قف�ص باوند‬
‫التنب�ؤ بت�رصفاته‪ ،‬وكنت �أرى فعال �أنني �أ�سبب لهم‬ ‫وبرغم مدعما بحديد من الذي ي�ستخدم يف تبليط‬
‫الرعب‪ .‬كنت �أحيانا �أالحظ �أن احلرا�س ينظرون يل‬ ‫مم���رات ال��ط��ي��ارات يف م��ي��ادي��ن احل��رب‬
‫نظرة الق�ضاة‪ .‬كنت �أفهم من نظرتهم يل �أن ’’ابق‬ ‫حريتهم من امل�ؤقتة‪ .‬وقيل فيما بعد �إن ال�سبب يف ذلك‬
‫يف مكانك �أيها الغوريال!’’ وحينما كانت تنتهي‬ ‫�سكونه اال هو منع الفا�شيني من حماولة تهريبه‪.‬‬
‫يف بده�شة‪.‬‬ ‫وردياتهم كانوا ي�أتون فيبحلقون ّ‬ ‫ول��ك��ي مينعوا ال�سجناء م��ن حماولة‬
‫وكانوا يف بع�ض الأحيان يرمون يل قطعة حلم‬ ‫�أنهم وجدوه االنتحار‪ ،‬كانوا ال ي�سمحون لهم بحزام �أو‬
‫�أو حلوى‪ ،‬متاما كاحليوان‪� .‬إز ‪ EZ‬العجوز وقد‬ ‫م�ساملا وغري برباط للحذاء �أو ب�رسير‪ ،‬فكانوا ينامون‬
‫�أ�صبح فرجة»‪.‬‬ ‫على خر�سانة الأر�ضية ال يف�صلهم عنها‬
‫منطو على‬
‫واحل��ق �أن��ه ك��ان حزينا ال خطريا‪ .‬ك��ان من بني‬ ‫�إال بطانية‪ .‬كانوا ي�أكلون مرة واحدة يف‬
‫ق�ضبان قف�صه‪ ،‬يرى يف البعيد‪ ،‬عرب الهواء ال�ساخن‬ ‫خطر اليوم‪ ،‬وي�ستعملون علبة يف �أحد �أركان‬
‫امل�ضطرب‪ ،‬تلك التالل املنخف�ضة القريبة من بيزا‪،‬‬ ‫املحب�س للتخل�ص من ف�ضالت �أج�سامهم‪.‬‬
‫وقد ك�ستها مظالت من �أ�شجار ال�صنوبر‪ .‬وكان‬ ‫وكانوا ي�سمحون لباوند باخلروج من قف�صه مرة‬
‫باوند قد ر�أى تلك التالل يف عام ‪ ،1898‬عندما‬ ‫كل ثالثة �أيام ليذهب في�ستحم‪ ،‬ويحرك ج�سمه‬
‫جاب �إيطاليا ب�صحبة �أبويه وهو يف الثالثة ع�رشة‬ ‫يف امل�سافة من حمب�سه وحتى حمام ال�سجناء‪.‬‬
‫من العمر‪ ،‬ثم إ�ن��ه يف عام ‪ 1923‬مر باملنطقة‬ ‫مل يكن م�سموحا بالكتب وال ب�أية مواد �صاحلة‬
‫�أي�ضا ب�صحبة «�إرن�ست همنجواي» وزوجته‪،‬‬ ‫للقراءة‪� ،‬إال الإجنيل‪ .‬وكان من بني جريان باوند‬
‫حيث ق�ضى الثالثة رحلة طويلة جابوا فيها �شبه‬ ‫جندي بدا �أنه حوكم و�أدين وحكم عليه بالإعدام‬ ‫ٌّ‬
‫اجلزيرة الإيطالية‪.‬‬ ‫فكان ال يكف من فرط ي�أ�سه عن اجلهر بال�سباب‬
‫غري �أن عزلته هذه املرة جعلت عينيه �أح َّد �إب�صارا‬ ‫وال�شتائم‪ .‬وبالطبع مل يكن باوند يعرف ما الذي‬
‫‪68‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫معهم برقة‪ .‬وكان يقول للأطباء �إن احلكومة لن‬ ‫للبيئة املحيطة‪ ،‬و�أفقدته تفا�ؤله وخيالءه وثقته‬
‫تقدمه مطلقا للمحاكمة بتهمة اخليانة لأن لديه‬ ‫بنف�سه‪ .‬وكذلك كتب يف �أحد �أنا�شيده ‪:Cantos‬‬
‫«الكثري على العديد من النا�س يف وا�شنطن»‪،‬‬ ‫وحينما يت�أرجح العقل على ع�شبة‬
‫وفيما كانوا ينقلونه من املع�سكر �إىل روما متهيدا‬ ‫تنقذك ب�ساقها الأمامية منل ٌة‬
‫لرتحيله �إىل وا�شنطن‪ ،‬و�ضع يديه حول عنقه‪،‬‬ ‫وتكون لورقة الرب�سيم رائحة زهرته ومذاقها‪.‬‬
‫م�شريا �إىل �أنه ذاهب �إىل الإعدام �شنقا‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬وبرغم هذه الظروف القا�سية التي كان‬
‫بقي معتقال يف املع�سكر حتى اخلام�س ع�رش من‬ ‫يعي�شها‪ ،‬بقي ال�شاعر يكتب‪ ،‬مدونا على ورق‬
‫نوفمرب‪ ،‬ويف ذلك اليوم �أقلته الطائرة من روما �إىل‬ ‫املرحا�ض بع�ض الق�صائد التي جمعت بعنوان‬
‫وا�شنطن ملواجهة تهمة اخليانة‪.‬‬ ‫«�أنا�شيد بيزا ‪.« The Pisan Cantos‬‬
‫من كان ذلك الـ �إزرا باوند املجهول‪ ،‬البعيد كل‬ ‫ظ��ل حمتجزا يف قف�صه احل��دي��دي ق��راب��ة ثالثة‬
‫البعد عن ال�شاعر املرموق الذي ن�صادفه اليوم‬ ‫�أ�سابيع �إىل �أن �أ�صبحت حالته املتدهورة وا�ضحة‬
‫يف الأنطولوجيات؟ وملاذا احتجز يف قف�ص يف‬ ‫ال �سبيل �إىل جتاهلها‪ .‬كان قد �أ�صبح ال مباليا‪،‬‬
‫تو�سكاين‪ ،‬ومل��اذا وجهت �إليه الواليات املتحدة‬ ‫ي�أكل ولكن �أقل القليل‪ ،‬وال يكاد يقوم من فوق‬
‫تهمة اخليانة العظمى؟‬ ‫البطانية‪.‬‬
‫‪jhj‬‬ ‫ويف ال��راب��ع ع�رش واخل��ام�����س ع�رش م��ن يونيو‪،‬‬
‫برغم زواجه �سنة ‪ 1914‬من دوروث��ي �شك�سبري‪،‬‬ ‫فح�صه طبيب املع�سكر النف�سي‪ ،‬فوجد دالئ��ل‬
‫ظلت عينا باوند على الن�ساء‪ ،‬وظل ال يرى فارقا‬ ‫فقدان للذاكرة‪ ،‬واالكتئاب‪ ،‬واالختالل العام يف‬
‫بني الإغ���واء والإب���داع الفني‪ .‬وكانت دوروث��ي‬ ‫التوازن‪ .‬ومل يكن باوند من قبل قد �أبدى اهتماما‬
‫ع��ل��ى ع��ل��م ب��غ��رام��ي��ات زوج��ه��ا ولكنها �آث���رت‬ ‫يذكر بالطب النف�سي‪ ،‬بل وكان يطلق على منظِّ ره‬
‫جتاهلها‪ .‬ويف خريف �سنة ‪ ،1922‬عندما كان‬ ‫الأكرب ا�سم «�سجموند الدجال» م�ضيفا يف مو�ضع‬
‫يف ال�ساد�سة والثالثني‪ ،‬وقعت عيناه على عازفة‬ ‫�آخر �أنه «بف�ضل فرويد ودو�ستويف�سكي بات لدينا‬
‫الكمان الأمريكية «�أوجل��ا رودج» لتبد أ� من ذلك‬ ‫الآن جي�ش من املخنثني‪ ،‬املتوترين‪ ،‬القلقني حلد‬
‫ق�صة حب ا�ستمرت �إىل �أن م��ات �سنة ‪.1972‬‬ ‫املر�ض على حيواتهم العاطفية التافهة ‪ .»...‬ولكنه‬
‫كانت رودج عازفة معروفة تعمل يف الغالب مع‬ ‫بف�ضل الأطباء النف�سيني نقل �إىل خيمة هرمية (من‬
‫امل�ؤلف املو�سيقي الإيطايل «�إلدبراندو بيزيتي»‬
‫النوع الذي كان يحتجز فيه ال�ضباط املتهمون‬
‫وعازفة البيانو «ريناتا بورجاتي»‪ .‬وقد كتب‬
‫باوند الذي كان يعمل ناقدا مو�سيقيا بني احلني‬ ‫بارتكاب جرائم)‪ ،‬و�سمح له بالقراءة‪ ،‬وا�ستقبال‬
‫والآخر مقالة عن �إحدى حفالتها‪ ،‬ولكن االثنني‬ ‫زيارات من زوجته‪ ،‬بل و�سمح له بني احلني والآخر‬
‫مل يلتقيا فعليا حتى عام ‪ 1923‬يف بيت الكاتبة‬ ‫با�ستخدام الآلة الكاتبة‪ .‬وهكذا وا�صل يف اخليمة‬
‫امل�رسحية والروائية «ناتايل بارين»‪ .‬وعلى الرغم‬ ‫كتابة «�أنا�شيد بيزا» وترجمة �أعمال كونف�شيو�س‬
‫من �أن باوند ورودج كانا يتحركان يف دائرتني‬ ‫من ال�صينية‪.‬‬
‫اجتماعيتني خمتلفتني‪ ،‬فقد التقيا على الفور‬ ‫�أ�صبح باوند بطريقة ما جنم املع�سكر‪� .‬صار يخرتع‬
‫ثقافيا‪ ،‬بل �إن رودج عزفت مو�سيقى �ألفها باوند‪.‬‬ ‫لنف�سه مترينات ريا�ضية‪ ،‬فيحاكي املبارزة ولعب‬
‫يف ع��ام ‪ 1924‬ي�شعر �آل باوند بالتعا�سة يف‬ ‫التن�س م�ستخدما ع�صا مق�شة قدمية‪ ،‬وكان مهذبا‬
‫باري�س فيقررون االنتقال �إىل �إيطاليا‪ .‬ويف �أواخر‬ ‫وودودا مع احلر�س الذين كانوا يبادلونه رقته‬
‫‪69‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�أخريا فا�ض بدوروثي من �سلوك زوجها فرتكته‬ ‫‪� 1924‬أو مطلع ‪ 1925‬كانوا يف �صقلية ي�سافرون‬
‫ورحلت لفرتة طويلة‪ ،‬ق�ضتها مع �أمها يف �سيينا‪،‬‬ ‫برفقة ال�شاعر الأيرلندي «دبليو بي يت�س» وزوجته‬
‫ويف م�رص التي عا�شت فيها بني دي�سمرب ‪1925‬‬ ‫«جورجي هايدلي�س» ولكنهم اجتهوا بتو�صية من‬
‫ومار�س ‪ ،1926‬وال بد �أنها كانت على عالقة يف‬ ‫همنجواي �إىل ال�شمال حيث عا�شوا يف رابالو وهي‬
‫م�رص مب�رصي جمهول‪� ،‬إذ �أنها حبلت‪ .‬ثم ذهبت �إىل‬ ‫بلدة تقع يف ريفيريا ليجواريا �إىل ال�رشق من جنوا‪.‬‬
‫باوند يف باري�س يف يونيو ‪ 1926‬حل�ضور �أوبرا‬ ‫كانت رابالو ب�سبب لطفها واعتدال جوها مق�صدا‬
‫‪ Le Testament de Villon‬التي كتبها‪،‬‬ ‫�أثريا لدى الكتاب والفنانني‪ .‬فمن بني من عا�شوا‬
‫ولكنها بقيت يف باري�س بعدما رجع باوند �إىل‬ ‫هناك يف القرن الع�رشين‪ ،‬نذكر همنجواي وييت�س‬
‫�إيطاليا‪ .‬وحينما جاءها املخا�ض‪ ،‬كان همنجواي‬ ‫و�إليوت وجريهارد هاوبتمان وماك�س بريبوم‬
‫هو الذي ا�صطحبها �إىل امل�ست�شفى الأمريكي يف‬ ‫وجام�س الفلني‪.‬‬
‫باري�س حيث �أجنبت «عمر �شك�سبري باوند» يف‬ ‫ولقد قال باوند الذي �سبق له �أن عا�ش يف �إيطاليا‬
‫�سبتمرب‪ .‬والظاهر �أن دوروثي باوند �ش�أن �أوجلا‬ ‫لأحد �أ�صحابه �إن «�إيطاليا هي مكاين الذي �أبد أ�‬
‫رودج مل يكن لديها �صرب وجلد على الأمومة‬ ‫فيه الأ�شياء»‪ .‬ب�رسعة ا�ست�أجر باوند �شقة يف �أعلى‬
‫فعهدت بالولد �إىل �أمها �أوليفيا يف اجنلرتا �إىل �أن‬ ‫باالت�سو باراتي وهي عمارة �شاهقة تطل على‬
‫بلغ من العمر ما يكفي لإحلاقه مبدر�سة داخلية‪.‬‬ ‫البحر (ك��ان املدخل �إىل �شقتهم يقع يف �شارع‬
‫يف الوقت نف�سه‪ ،‬كانت �أوجلا رودج ال تزال على‬ ‫خلفي هو �شارع فيا مار�ساال) وعا�شا هنالك حتى‬
‫عالقتها بباوند‪ ،‬وكانت تقيم يف فين�سيا يف بيت‬ ‫عام ‪ .1944‬وقد كتب ييت�س الذي انتقل �إىل رابالو‬
‫�صغري منحها �أبوها �إياه يف عام ‪ .1928‬وكان‬ ‫�سنة ‪ 1928‬يقول‪:‬‬
‫باوند يزورها هناك كلما �أمكنه ذلك‪ ،‬فقد كانت‬ ‫«�إزرا باوند ‪ ...‬رجل كان ينبغي �أن �أت�شاجر معه‬
‫الرحلة من رابالو �إىل هناك بطول ‪ 168‬ميال‪ ،‬وكان‬ ‫�أكرث مما ت�شاجرت مع �أي �شخ�ص �آخر لو مل توجد‬
‫يطلق على بيت فين�سيا ا�سم «الع�ش املخبوء»‪ .‬ويف‬ ‫بيننا عاطفة‪ ،‬ل��و مل نع�ش �سنوات يف �شقتني‬
‫عام ‪ 1930‬ا�ست�أجرت رودج �أي�ضا �شقة يف حي‬ ‫ت�شرتكان يف �سطح واحد مطل على البحر‪ .‬وكنا‬
‫�سان �أمربوجيو الواقع على تل م�رشف على رابالو‪،‬‬ ‫جنل�س يف ال�سطح وهو �أي�ضا حديقة نتناق�ش يف‬
‫وهي ال�شقة التي �سميت بـ «كا�سا ‪ »60‬ن�سبة �إىل‬ ‫الق�صيدة الهائلة التي كان قد ن�رش منها �سبعة‬
‫رق��م ال�شارع ال��ذي كانت فيه‪ .‬وهنالك عا�شت‬ ‫وع�رشين ن�شيدا»‪.‬‬
‫رودج على فرتات متقطعة فيما بني ‪ 1930‬وحتى‬ ‫حلقت �أوجلا بباوند يف رابالو وا�ستمرت عالقتهما‪،‬‬
‫‪ ،1985‬و�أ�سكنت معها �إزرا ودوروث��ي يف الفرتة‬ ‫حيث كان باوند يزورها كثريا بينما يعي�ش مع‬
‫من ‪� 1944‬إىل ‪ .1945‬كانت �شقتها يف الطابق‬ ‫زوجته دوروثي‪ .‬و�رسعان ما حبلت �أوجلا و�أجنبت‬
‫الثالث‪ ،‬وكانت يف الطابق الأول مع�رصة زيت‬ ‫يف التا�سع من يوليو �سنة ‪ 1925‬طفلة هي ماري‬
‫زيتون‪ .‬ويف حني ميكن الو�صول اليوم �إىل البيت‬ ‫باوند (التي ت�سمت بعد ذلك مباري دو را�شفيلتز)‪.‬‬
‫الذي �أ�صبح ملكية خا�صة باحلافلة العمومية‪،‬‬ ‫ولكي ت�ضع �رسا‪� ،‬سافرت �إىل بري�سانوين يف جنوب‬
‫ف�إن الو�صول �إليه �أيامها مل يكن ممكنا �إال بطلوع‬ ‫تريول وتركت الطفلة يف قرية جايي�س مع امر�أة‬
‫التل على القدمني عرب ممر �ضيق‪ ،‬يف رحلة مرهقة‬ ‫تتكلم الأملانية كان املوت قد �سلبها ابنها‪ .‬وافقت‬
‫ت�ستغرق ن�صف �ساعة من �ساحل رابالو‪ .‬وكان‬ ‫املر�أة على رعاية الطفلة ماري يف مقابل مائتي‬
‫البيت خاليا من و�سائل الرفاهية الع�رصية‪ ،‬حتى‬ ‫لرية يف ال�شهر‪ ،‬فبقيت عندها حتى بلغت العا�رشة‬
‫�أن الكهرباء مل تكن و�صلت �إليه‪ .‬وا�ستمرت �أوجلا‬ ‫تقريبا‪.‬‬
‫‪70‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املتحدة‪ .‬وملا كان كثري من ال�شخ�صيات الرئي�سية‬ ‫يف م�سريتها املو�سيقية‪.‬‬


‫يف الأ�سواق املالية ذوو �أ�صول يهودية‪ ،‬فقد حتول‬ ‫يف فرباير �سنة ‪ ،1927‬التقت �أوجلا بالدكتاتور‬
‫باوند ب�سهولة �إىل معاداة ال�سامية‪ .‬وبعد نهاية‬ ‫الإيطايل بينيتو مو�سوليني الذي كان هو الآخر‬
‫احلرب العاملية الثانية‪ ،‬زعم باوند �أنه كان يق�صد‬ ‫ع��ازف كمان ال ب�أ�س ب��ه‪ ،‬وتناق�ش االثنان يف‬
‫تعليم مو�سوليني ال�ش�ؤون االقت�صادية‪ ،‬وقال فيما‬ ‫االخ��ت�لاف��ات ب�ين مو�سيقى الكمان ومو�سيقى‬
‫بعد لل�شاعر «�ألن جن�سربج» �إن «غلطتي الكبرية‬ ‫البيانو‪ .‬واب��ت��داء م��ن ع��ام ‪ ،1931‬ك��ان��ت هي‬
‫هي معاداة ال�سامية الغبية‪ ،‬هي التي �أف�سدت كل‬ ‫وباوند ينظمان حفالت ويعزفان يف «كون�سريتي‬
‫�شيء»‪ .‬وقد �أعرب «جي�سيبي بريزوليني» الكاتب‬ ‫تيجولياين» يف رابالو‪ .‬وقد �أتاحت تلك احلفالت‬
‫الإيطايل الذي عا�ش يف �إيطاليا الفا�شية‬ ‫ل��رودج وباوند �إحياء مو�سيقى الفيني�سي �شبه‬
‫ويف الواليات املتحدة عن اعتقاده ب�أن �ألف باوند‬ ‫املن�سي يف ذلك الوقت «�أنطونيو فيفالدي»‪ ،‬وتقدمي‬
‫«العم �إز» كان يعرف عن الإيطالية �أقل مقطوعات‬ ‫رباعيات بيال باتروك الوترية للجمهور الإيطايل‪،‬‬
‫مما كان الفا�شيون يعرفون عنه ك�شاعر‪.‬‬ ‫وعزف م�ؤلفات باوند املو�سيقية جماهرييا‪.‬‬
‫كانت �آراء باوند االقت�صادية م�ستقاة من مو�سيقية‬ ‫ويف ظ��ل الأو���ض��اع االقت�صادية الع�صيبة يف‬
‫كتابات عامل االقت�صاد الأمل��اين �سلفيو وتعاون مع‬ ‫�أربعينيات القرن املا�ضي‪ ،‬عانى عازفو املو�سيقى‬
‫جيزيل ال��ذي عمل لفرتة وجيزة للغاية‬ ‫مثل غريهم‪ ،‬فعملت �أوجل��ا يف �سيينا يف عام‬
‫وزيرا للمالية يف حكومة بفاريا الي�سارية‪ ،‬امللحن ال�شهري‬ ‫‪� 1933‬سكرترية لأكادميية �شيجيانا املو�سيقية‬
‫كما كانت م�ستقاة من امليجور «كليفورد فيفالدي‬ ‫وهي مركز للدرا�سات املو�سيقية املتقدمة �أ�س�سه‬
‫�إت�ش دوجال�س» وهو رجل �إجنليزي كان‬ ‫الكونت «جيدو �شيجي �سارا�سيني» �سنة ‪.1931‬‬
‫ي�شيع �أفكار فل�سفة اقت�صادية �أطلق عليها يف تقدمي‬ ‫وب���د�أت رودج مب�ساعدة بني احل�ين والآخ���ر من‬
‫ا�سم الدين االجتماعي‪ .‬وم��ن الأرك��ان رباعيات‬ ‫باوند يف ن�سخ املخطوطات الأ�صلية ملو�سيقى‬
‫الأ�سا�سية يف هذه املعتقدات �أنه ينبغي‬ ‫فيفالدي‪ ،‬ويف ثنايا ذلك تعرفت على نحو ثالث‬
‫ف��ر���ض ��ضرائ��ب نظامية على النقود بيال باتروك‬ ‫مائة قطعة جديدة‪ ،‬و�أ�س�ست �سنة ‪ 1938‬مركز‬
‫بحيث ينتفي الدافع �إىل اكتنازها‪ .‬ومل الوترية‬ ‫الدرا�سات الفيفالدية داخل �أكادميية �شيجيانا‪.‬‬
‫يجر تطبيق �سيا�سات الدين االجتماعي‬ ‫مل يكن �إزرا باوند يف ذلك الوقت �شاعرا جليال‬
‫النقدية على نطاق وا�سع تطبيقا جزئيا‬ ‫وناقدا �أدبيا رفيعا وح�سب‪ ،‬بل باحثا يف املو�سيقى‬
‫�إال يف مقاطعة �ألربتا بكندا يف الفرتة من ‪1932‬‬ ‫وم�ؤلفا مو�سيقيا‪ ،‬وكان يعترب نف�سه متخ�ص�صا‬
‫�إىل ‪.1935‬‬ ‫يف االقت�صاد ال�سيا�سي وال�سيا�سات النقدية‪ ،‬وهي‬
‫يف كتاباته االقت�صادية مثل «�ألف باء االقت�صاد»‬ ‫قناعات �أف�ضت به �إىل �أن يرى �أن هناك م�ؤامرات‬
‫(‪ )1933‬و»ال َد ْين االجتماعي‪ ،‬ما جدوى النقود؟»‬ ‫ت�سيطر على النتاج االقت�صادي ونظم التمويل‬
‫(‪ ،)1935‬و�صف باوند م�س�ؤويل البنوك ب�أ�سماك‬ ‫يف الدول الر�أ�سمالية‪ ،‬كما �أف�ضت به �إىل فاجعة‬
‫القر�ش واتهمهم بالت�سبب يف انحدار الدميقراطية‬ ‫منا�رصة الفا�شية كنظام �سيا�سي قادر نظريا على‬
‫و�صور الرئي�س الأمريكي «فرانكلني‬ ‫َّ‬ ‫الأمريكية‪،‬‬ ‫الوقوف يف وجه �شطحات ال�سوق احلرة‪.‬‬
‫ديالنو روزف��ل��ت» ب�أنه �أ�ضحوكة وول �سرتيت‬ ‫باتت ت�سيطر عليه م�س�ألة التحكم يف املعرو�ض‬
‫و�أقرب ما يكون �إىل دكتاتور للواليات املتحدة‪.‬‬ ‫النقدي ومعدالت الفائدة واحتج على نخبة وول‬
‫و�أو�ضح باوند �أن‪:‬‬ ‫�سرتيت التي كانت تت�سبب ح�سب ما ر�أى يف الك�ساد‬
‫«التاريخ مثلما ي��راه علماء االقت�صاد النقدي‬ ‫وتقف يف وج��ه تعايف االقت�صاد يف الواليات‬
‫‪71‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ظ��ل ب��اون��د ي�ضع عينه على مو�سوليني لوقت‬ ‫��صراع م�ستمر ب�ين املنتجني وغ�ير املنتجني‬
‫طويل راجيا �أن يتخذ منه قناة لإ�شهار �أفكاره‬ ‫وم��ن يحاولون �أن يك�سبوا لقمة عي�شهم ب���أن‬
‫االقت�صادية ورمبا تبنيها‪ .‬وبعد �شهر واحد من‬ ‫يح�رشوا نظاما حما�سبيا زائفا بني املنتجني‬
‫تويل مو�سوليني ال�سلطة يف الثالث والع�رشين من‬ ‫وحقهم العادل ‪ ...‬يتحرك املرابون عرب االحتيال‬
‫ابريل �سنة ‪ ،1923‬طلب باوند مقابلة الدوت�شي‪،‬‬ ‫والتزييف والتخريف وقوة املادة وحينما ال تنجح‬
‫فلم يلق طلبه �إال التجاهل‪.‬‬ ‫كل هذه املناهج‪ ،‬يطلقون حربا‪� .‬إن كل �شيء يدور‬
‫ويف وق��ت الح��ق من فرباير �سنة ‪ 1927‬عزفت‬ ‫حول االحتكار‪ ،‬واالحتكارات بالذات تدور حول‬
‫�أوجلا رودج يف حفل �أقيم مبقر �إقامة مو�سوليني‪.‬‬ ‫االحتكار النقدي الوهمي العظيم»‪.‬‬
‫وم��ن املالحظ �أن الدوت�شي ك��ان ع��ازف كمان‬ ‫�أدان باوند التعاون بني احلكومة ورجال املال‪،‬‬
‫مناف�سا‪ ،‬وك��ان ي�ستمتع باملو�سيقى‪ .‬وق��د ذكر‬ ‫فذلك التعاون كان ي�سمح لهم فيما يرى باوند �أن‬
‫معا�رص للحدث من يوجن�ستناون ب�أوهايو التي‬ ‫يخدعوا اجلمهور‪ ،‬من خالل «االحتكار النقدي»‪.‬‬
‫ولدت فيها �أوجلا �أن «مو�سوليني �أثنى على الآن�سة‬ ‫ولي�س من املمكن �أن يوجد احتكار بغري دعم من‬
‫رودج وتكنيكها و�إح�سا�سها املو�سيقي قائال �إنه‬ ‫احلكومة‪ ،‬واالحتكارات النقدية بالذات طفيلية‬
‫من النادر �أن يرى امل��رء هذا النربة من العمق‬ ‫للغاية‪ ،‬فهي ال تنتج �سلعا ملمو�سة‪.‬‬
‫والدقة ’ال �سيما من امر�أة’»‪ .‬ويف تلك اللحظة‬ ‫يف �أوروب�����ا ال��ث�لاث��ي��ن��ي��ات م��ن ال��ق��رن‬
‫واتت باوند فكرته العظيمة ب�إمكانية ا�ستمالة‬ ‫مل يكن امل��ا���ض��ي‪ ،‬وم���ع وج���ود ط��اغ��ي��ت�ين يف‬
‫مو�سوليني لدعم الكتاب والفنانني الطليعيني‪.‬‬ ‫باوند فا�شيا �أملانيا ويف �إيطاليا‪ ،‬الح��ظ باوند �أنه‬
‫يف دي�سمرب �سنة ‪ ،1932‬ح��اول م��رة �أخ��رى �أن‬ ‫يف ظل توجيه الدولة و�سيطرتها �شبه‬
‫يطلب مقابلته‪ ،‬مرفقا مع طلب املقابلة ن�سخة‬ ‫�صريحا‪ ،‬بل املبا�رشة على العمل امل�رصيف والأن�شطة‬
‫من �سيناريو فيلم كتبه عن ن�ش�أة الفا�شية‪ ،‬فلم‬ ‫كان متعاطفا االقت�صادية‪ ،‬تراجعت م�ستويات البطالة‬
‫يلق هذا الأ�سلوب �أي�ضا �إال التجاهل‪ ،‬ولكن بعد‬ ‫والت�ضخم‪ ،‬وازداد الإن��ف��اق ال��ع��ام يف‬
‫�أيام قليلة طلب باوند املقابلة‪ ،‬منتويا �أن يعر�ض‬ ‫مع نظرياتها جم��االت التعليم وال�صحة وغريها من‬
‫على مو�سوليني مقالة كتبها ردا على �صحيفة‬ ‫اخلدمات االجتماعية‪.‬‬
‫�أمريكية انتقدت �أفكار مو�سوليني‪ ،‬وهي مب�سوطة‬ ‫وع��ل��ى ال��رغ��م م��ن �أن ب��اون��د مل يكن‬
‫يف كتاب «�إمييل لودفيج» بعنوان «حماورات مع‬ ‫فا�شيا �رصيحا‪ ،‬ك��ان متعاطفا مع نظرياتها‬
‫مو�سوليني»‪ .‬ويف ه��ذه امل��رة جنح باوند‪ ،‬ويف‬ ‫و�أغلب ممار�ساتها‪ .‬وملا كان باوند قد در�س يف‬
‫ال�ساد�س ع�رش من فرباير �سنة ‪ 1933‬التقى ال�شاعر‬ ‫ع�رشينيات القرن الع�رشين النظريات الثقافية التي‬
‫والطاغية‪.‬‬ ‫قال بها عامل الإثنيات الأملاين «ليو فوربنيو�س»‬
‫عر�ض باوند على مو�سوليني بع�ض �أنا�شيده وفرح‬ ‫والذي كان يعتقد �أن الثقافة نتاج لأعراق معينة‪،‬‬
‫عندما ر�أى مو�سوليني �أن الق�صائد «م�سلية»‪ ،‬بل‬ ‫فقد خل�ص باوند �إىل �أن مو�سوليني هو التج�سيد‬
‫�إنه يف واقع الأمر خلّد تعليق الدوت�شي العابر يف‬ ‫العبقري للثقافة الإيطالية‪ :‬فهو الذي �أطاح بكبار‬
‫الن�شيد احلادي والأربعني حيث يقول‪:‬‬ ‫املالك اجل�شعني‪ ،‬وجعل من ال�سيا�سة فنا‪ ،‬و�ساند‬
‫ق��ال ال��زع��ي��م «ول��ك��ن ه���ذا» [ما كوي�ستو ‪Ma‬‬ ‫�إحياء الثقافة‪ .‬ولقد �أكد �أن «مو�سوليني قال ل�شعبه‬
‫‪questo‬يف الأ�صل]‬ ‫�إن ال�شعر ��ضرورة من ��ضرورات الدولة‪ ،‬ف�أظهر‬
‫«هذا ظريف» [�إي ديفرتينتي ‪]é divertente‬‬ ‫بذلك ب�أن يف روما من احل�ضارة الرفيعة ما ال‬
‫هكذا التقط املغزى قبل �أن ي�صل �إليه علماء اجلمال‬ ‫يرقى �إليه ما يف لندن �أو وا�شنطن»‪.‬‬
‫‪72‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الأربعينيات �أن �شخ�صيته قد انعطفت انعطافة‬ ‫تكلم باوند �أي�ضا عن درا�ساته ال�صينية ومفهوم‬
‫ح��ادة �إىل الأ���س��و�أ‪� .‬أ�صبح ال يت�سامح م��ع من‬ ‫كونف�شيو�س الذي يرى �أنه من �أجل و�صول املرء‬
‫يخالفونه الر�أي وباتت نرج�سيته غرورا‪ ،‬فلم يعد‬ ‫�إىل ت�صحيح تعريفاته وتو�ضيح �أفكاره‪ ،‬فال بد له‬
‫يرى �أن �شعره وح�سب هو اجلدير بلفت الأنظار‪،‬‬ ‫من «�صياغة النظام كالما»‪ .‬ومل يفهم مو�سوليني‬
‫بل و�آراءه االقت�صادية وال�سيا�سية �أي�ضا‪ .‬وظن‬ ‫ما قاله باوند ف�س�أله «وملاذا تود �أن ت�ضع نظاما‬
‫«جيم�س جوي�س» وغريه �أن باوند قد يكون �أ�صيب‬ ‫يف �أفكارك؟» فر�أى باوند يف الرد دقة ولطفا‪.‬‬
‫باجلنون‪ ،‬فقد �أك��د ال�شاعر الربيطاين «روب��رت‬ ‫اقتحم الدوت�شي ب��اون��د‪ ،‬وب�ين حني و�آخ��ر كان‬
‫فيتزجريالد» الذي كان يعرف كتابات باوند متام‬ ‫باوند ير�سل �إليه ن�سخا من كتاباته م�صحوبة‬
‫املعرفة يف تلك الفرتة �أن باوند «بات يبدو �شخ�صا‬ ‫باقرتاحات بتغيريات �سيا�سية �أو اقت�صادية‪ .‬ويف‬
‫منف�صال ‪ ...‬وما كان يبدو لديه من بهجة رفيعة‬ ‫كتاب �صدر عام ‪ 1935‬بعنوان «جيفر�سن و‪�/‬أو‬
‫بل و�أوملبية بات يبدو طفوليا حائدا عن الهدف‪.‬‬ ‫مو�سوليني» قارن باوند بني الدوت�شي وتوما�س‬
‫وال ميكن �إال ملن يعمل يف عزلة متجاهال النقد‬ ‫جيفر�سن م�ؤكدا‪:‬‬
‫�أو غافال عنه �أن يعجز عن ر�ؤي��ة �ضعف احلجة‬ ‫«�إنني ال �أعتقد �أن �أي تقييم ملو�سوليني ي�صلح‬
‫وتهافتها»‪.‬‬ ‫ما مل يبد أ� من حبه للبناء‪ .‬عامِ لوه معاملة الفنان‬
‫يف ابريل من عام ‪� ،1939‬أبحر باوند من �إجنلرتا‬ ‫فحينئذ ترون كل تف�صيلة وقد ا�ستقرت يف مكانها‬
‫ال��ت��ي ذه��ب �إليها حل�ضور ج��ن��ازة حماته �إىل‬ ‫املالئم ‪ ...‬لقد كانت الغاية من الثورة الفا�شية هي‬
‫نيويورك‪ ،‬راجيا �أن يذهب �إىل وا�شنطن ويتكلم‬ ‫احلفاظ على حريات معينة‪ ،‬وعلى ثقافة ‪.»...‬‬
‫مع الرئي�س ليقتعه بالبقاء مبعزل عن التورط‬ ‫يف يوليو من عام ‪� ،1935‬أر�سل باوند �إليه ن�سخة‬
‫يف احلرب املو�شكة يف �أوروبا‪ .‬ويف وا�شنطن‪ ،‬مل‬ ‫م��ن «جيفر�سن و‪�/‬أو مو�سوليني» م��ع مقرتح‬
‫ير الرئي�س لكن التقى ببع�ض �أع�ضاء الكوجنر�س‬ ‫بت�أ�سي�س ع�صبة جديدة ل�ل�أمم‪ .‬فقام �سكرتري‬
‫وجمل�س ال�شيوخ ال��ذي��ن قابلوا �أف��ك��اره ب�شيء‬ ‫مو�سوليني برفع املقرتح �إىل الدوت�شي معلقا عليه‬
‫من ال�برود‪ .‬ويف يونيو من عام ‪ ،1939‬عاد �إىل‬ ‫بقوله «�إنه مقرتح �شاذ تفتق عنه ذهن �ضبابي‬
‫�إيطاليا ووا�صل حملته ب��اذال كل ما يف و�سعه‬ ‫منبت ال�صلة متاما بالواقع‪ .‬ومراعاة ملحبة باوند‬
‫للحيلولة دون تورط اجلي�ش الأمريكي يف ال�رصاع‬ ‫لإيطاليا‪ ،‬واحلما�سة التي تدفعه‪ ،‬يكفي �إخطاره �أن‬
‫املخيم على �أوروبا‪ ،‬ذاهبا �إىل �أن رجال املال هم‬ ‫مقرتحه املثري لالهتمام قيد الدرا�سة»‪.‬‬
‫امل�س�ؤولون عن احلرب الآتية و�أنه ال ي�ستفيد من‬ ‫�إحدى ر�ساالت باوند التي قر�أها الدوت�شي كانت‬
‫ال�رصاعات �إال امل�رصفيون الدوليون‪.‬‬ ‫م�ؤرخة يف العا�رش من مايو �سنة ‪ 1943‬وتكلمت‬
‫وبعد �شهور قليلة من دخول �إيطاليا احلرب العاملية‬ ‫عن الإ�صالحات النقدية التي كان ينا�رصها جيزيل‬
‫الثانية (يف يونيو ‪ ،)1940‬بد�أ باوند مبلء �إرادته‬ ‫ودوجال�س‪ .‬طلب الدوت�شي من م�ساعديه �إيجاز ما‬
‫يكتب للإذاعة الإيطالية املوجهة �إىل الواليات‬ ‫يتكلم عنه باوند‪ ،‬غري �أن الر�سالة مل تلق متابعة‬
‫املتحدة‪ .‬كان موظفو وزارة الثقافة اجلماهريية‬ ‫كافية يف ظل ظروف احلرب الفو�ضوية‪ .‬من الوا�ضح‬
‫الإيطالية يقر�أون كتاباته بالإجنليزية‪ .‬وابتداء‬ ‫�أن الفا�شيني مل ي��روا يف باوند م�صدرا للأفكار‬
‫من يناير �سنة ‪ ،1941‬وعلى الرغم من معار�ضة الـ‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬بل �أداة بروباجندا نافعة �ضد �أعدائهم‪.‬‬
‫�سيم ‪( SIM‬جهاز املخابرات الع�سكرية الإيطايل)‬ ‫وبرغم �أن باوند كان ط��وال الوقت خارجا عن‬
‫الذي كان يظن �أن باوند جا�سو�س �أمريكي‪� ،‬سمح‬ ‫العادي وامل�ألوف‪ ،‬الحظ �أ�صحابه القدامى الذين‬
‫لباوند بت�سجيل خطبه ب�صوته‪ ،‬و�صارت تبث‬ ‫ك��ان��وا ي�ت�رددون عليه يف راب��ال��و يف منت�صف‬
‫‪73‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الدالالت الكثري‪� .‬أما �إذا �أدى بلهجات بن�سلفانيا‬ ‫مرتني يف الأ�سبوع ابتداء من احلادي والع�رشين‬
‫الوا�ضحة فهو هنا مهني‪ ،‬وب��ذيء �إىل درج��ة ال‬ ‫من يناير �سنة ‪ 1941‬وحتى اخلام�س والع�رشين‬
‫ت�صدق من رجل يف مثل خلفيته وثقافته»‪.‬‬ ‫من يوليو �سنة ‪ ،1943‬يوم �أطاح امللك مبو�سوليني‬
‫كان باوند يف �أحاديثه الإذاعية يثني ب�صفة عامة‬ ‫فزج به يف ال�سجن‪.‬‬
‫على مو�سوليني‪ ،‬وينا�رص نظام ال َد ْين االجتماعي‬ ‫�إجماال‪� ،‬ألقى باوند مائة وخم�سة وع�رشين حديثا‬
‫النقدي ويكيل النقد لفرانكلني روزفلت وت�رش�شل‬ ‫�إذاعيا يرتاوح طول الواحد منها بني ع�رش دقائق‬
‫وبنك �إجنلرتا بل وامل�ؤلفني املو�سيقيني الذين‬ ‫وخم�س ع�رشة‪ ،‬وكان يح�صل بح�سب �أ�سعار العملة‬
‫يكرههم مثل بوت�شيني وبيتهوفن‪.‬‬ ‫ال�سائدة يف ذلك الوقت على ما بني اثني ع�رش �إىل‬
‫كانت �أحاديث باوند التي ي�ستهلها بقوله «�أوربا‬ ‫ع�رشين دوالرا عن كل حديث‪ .‬وكان ذلك هو م�صدر‬
‫تناديكم! �إزرا باوند يحدثكم!» جزءا من برنامج‬ ‫دخله الوحيد خالل تلك الفرتة �إذ تعذر �إر�سال‬
‫«ال�ساعة الأمريكية» الذي كان يخرجه املواطن‬ ‫عائدات كتبه �إليه يف �إيطاليا‪� ،‬سواء كتبه املن�شورة‬
‫الأمريكي املولود يف روم��ا «جيورجيو نيل�سن‬ ‫يف الواليات املتحدة �أو يف �إجنلرتا‪ .‬كان باوند‬
‫بيج» الذي ينحدر من �أ�رسة مرموقة يف فرجينيا‬ ‫يكتب �أحاديثه ويتدرب على �إلقائها يف رابالو �أمام‬
‫كان من بني �أبنائها �أدمريال البحرية الكونفدرالية‬ ‫�أوجلا يف «كا�سا �ستني»‪ .‬ثم ي�سافر �إىل روما مرة‬
‫«روبرت ل‪ .‬يل» والكاتب وال�سفري الأمريكي لدى‬ ‫يف ال�شهر ليقيم هناك �أ�سبوعا ي�سجل فيه �أحاديثه‬
‫�إيطاليا «توما�س نيل�سن بيج»‪ .‬كان �أبو جيورجيو‬ ‫على �أ�سطوانات يف ا�ستديوهات وزارة الثقافة‬
‫بيج موظفا كبريا يف بنك ب��روم��ا و أ�م���ه كانت‬ ‫اجلماهريية (وهي مغالطة يف الت�سمية‪ ،‬فالوزارة‬
‫�إيطالية‪� .‬أما بيج نف�سه فقد تخلى عن جن�سيته‬ ‫كانت م�س�ؤولة عن الربوباجندا ورقابة ال�صحف)‬
‫الأمريكية �سنة ‪ 1933‬و�أ�صبح �أكرث فا�شية من‬ ‫يف �شارع فيا فينيتو ‪� ،56‬أي على بعد خطوات من‬
‫الفا�شيني‪ ،‬وت���درج يف املنا�صب حتى �أ�صبح‬ ‫املقر احلايل لل�سفارة الأمريكية‪ .‬كانت �أحاديثه‬
‫امل�س�ؤول عن ال�صحفيني الأجانب يف �إيطاليا‪.‬‬ ‫تغطي العديد من املحاور‪ :‬ال�سيا�سية واالقت�صادية‬
‫كانت وزارة الثقافة اجلماهريية حتب �أ�سلوب باوند‬ ‫والثقافية والتاريخية‪ ،‬وتو�شيها جميعا ذكريات‬
‫الب�سيط الواثق الإيجابي �إذ ي�ؤكد �أن لدى الواليات‬ ‫�شخ�صية وا�ست�شهادات �شعرية‪ .‬كان �إلقا�ؤه ب�سيطا‬
‫املتحدة كفايتها من امل�شكالت الداخلية وينبغي‬ ‫وعفويا‪ ،‬ي�ستعني فيه بال�سكتات وتقليد الأ�صوات‪،‬‬
‫�أن تبقى بعيدا عن �شجارات �أوروبا‪ .‬ولكن كثريا من‬ ‫فكان عر�ضا حقيقيا وفعاال‪ ،‬على الرغم من �أن‬
‫�أ�صدقائه يف الواليات املتحدة وجدوا �أحاديثه هذه‬ ‫تدفق املوا�ضيع ك��ان كفيال ب���إرب��اك امل�ستمع‬
‫حمرية‪ ،‬خطابية‪� ،‬شديدة الفظاظة �أحيانا‪ ،‬ومقززة‬ ‫و�إ�صابته باحلرية‪.‬‬
‫بني احلني والآخ��ر‪ .‬وكان غالبا ما يلي �أحاديث‬ ‫يكتب ت�شارلز نورمن وه��و ممن ترجموا حلياة‬
‫باوند بث للمو�سيقى الكال�سيكية‪ .‬ومن املفارقات‪،‬‬ ‫باوند يقول �إن «باوند ا�ستغل موهبته يف تقليد‬
‫�أن املو�سيقى التي تلت واحدا من �أعنف �أحاديثه‬ ‫الأ����ص���وات‪ ،‬وا�ستمتع ب���دور ال�����ش��ارح الهوائي‬
‫و�أ�شدها ثناء على نظريات هتلر العرقية يف الثامن‬ ‫وفيل�سوف ال�شوارع‪ ،‬و�أدى كثريا من �أحاديثه بن�سخ‬
‫ع�رش من مايو �سنة ‪ 1942‬كانت م�أخوذة من �أوبرا‬ ‫م�رسحية من لهجات �أجزاء �أمريكا املختلفة‪ ،‬ف�إذا‬
‫مف�ستوفيلي�س لـ �أريجو بويتو‪.‬‬ ‫�أدى لهجة اليانكي خرجت الأ�صوات �أنفية ب�صورة‬
‫بعد واقعة بريل هاربر و�إعالن �إيطاليا احلرب على‬ ‫مل حتدث من قبل يف بو�سطن‪ ،‬و�إذا �أدى باللهجة‬
‫الواليات املتحدة (يف احلادي ع�رش من دي�سمرب‬ ‫الغربية فاق يف عاميته �أي �شيء �سمع يوما �إىل‬
‫�سنة ‪ )1941‬تغري و�ضع باوند القانوين بق�سوة‪ ،‬فلم‬ ‫الغرب من امل�سي�سيبي‪ ،‬وهو ما قد يكون له من‬
‫‪74‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الثانية والثمانني‪.‬‬ ‫يعد مواطنا فردا ميار�س حقه يف حرية التعبري‪ ،‬بل‬
‫ويف حني �أن قليال جدا من الأمريكيني هم الذين‬ ‫�أمريكي يعي�ش يف بلد معاد ويحتمل �أنه ميد العدو‬
‫رمب��ا ك��ان��وا يهتمون ب��درد���ش��ات ب��اون��د ن�صف‬ ‫بالعون‪ .‬وخالفا للأجانب من مواطني ال��دول‬
‫الأ�سبوعية‪ ،‬كانت الهي�أة الأمريكية ملراقبة البث‬ ‫املعادية يف �إيطاليا‪ ،‬مل يتعر�ض باوند للطرد‬
‫الأجنبي تن�صت‪ ،‬وت�سجل‪ ،‬وترتجم �أحاديثه‪،‬‬ ‫�أو االعتقال‪ ،‬بل وا�صل حياته وروتينه‪ ،‬منفقا‬
‫غري متحرية الدقة ط��ول ال��وق��ت‪ .‬ويف اخلام�س‬ ‫ثالثة �أ�سابيع من كل �شهر يف رابالو و�أ�سبوعا يف‬
‫والع�رشين من يوليو �سنة ‪ ،1945‬وجهت‬ ‫روما‪ ،‬م�سجال �أحاديثه وم�صاحبا �أمثال امل�ؤلف‬
‫هيئة املحلفني الفدرالية ال��ك�برى يف ت�شارلز نورمن‪:‬‬ ‫املو�سيقي جيانكارلو مينوتي والفيل�سوف جورج‬
‫وا�شنطن لإزرا باوند تهمة اخليانة‪ .‬و�أكد «باوند ا�ستغل‬ ‫�سنتيانا‪ ،‬و�أولفيا روزيتي �أجري�ستي ابنة ال�صحفي‬
‫االت��ه��ام على �أن باوند ق��ام «ع��ن علم‪،‬‬ ‫الإجنليزي وليم روزيتي وابنة �أخت ال�شاعر دانتي‬
‫وق�صد‪ ،‬وع��زم‪ ،‬ويف خمالفة للقانون‪ ،‬موهبته يف‬ ‫جابرييل روزيتي‪ ،‬وال�صحفي الأمريكي املتوهج‬
‫ويف خيانة �رشيرة �آثمة‪ ،‬بااللتزام جتاه تقليد الأ�صوات‪،‬‬ ‫رينولد�س باكارد‪.‬‬
‫�أعداء للواليات املتحدة‪ ،‬ونعني‪ ،‬اململكة‬ ‫ومل يطر�أ على الأحاديث الإذاعية �إال تغري واحد‬
‫وا�ستمتع بدور‬ ‫الإيطالية»‪.‬‬ ‫فيما بعد بريل هاربر‪ ،‬وهو املقدمة التي ترد على‬
‫عرف باوند ب�أمر االتهام املوجه �إليه ال�شارح الهوائي‬ ‫ل�سان املذيع‪:‬‬
‫يف غ�ضون �أيام‪ ،‬ويف الرابع من �أغ�سط�س‬ ‫«�إن الإذاعة االيطالية‪ ،‬ات�ساقا منها مع ال�سيا�سة‬
‫�سنة ‪ 1943‬وجه �إىل النائب العام يف وفيل�سوف‬ ‫الفا�شية التي تق�ضي باحرتام حرية الفكر وحرية‬
‫ال��والي��ات املتحدة ر�سالة يزعم فيها ال�شوارع‪،‬‬ ‫التعبري عن ال��ر�أي لكل اجلديرين بهما‪ ،‬واتباعا‬
‫براءته من التهمة املن�سوبة �إليه‪:‬‬ ‫لتقاليد ح�سن ال�ضيافة الإيطالية‪ ،‬تقدم للدكتور‬
‫�إنني ال �أتكلم فيما يتعلق باحلرب ‪ ...‬و�أدى كثريا‬ ‫�إزرا ب��اون��د ميكروفونها مرتني يف الأ�سبوع‪.‬‬
‫ولكني �أحتج على نظام يخلق احلرب من �أحاديثه‬ ‫وبديهي �أن �أحدا لن يطلب منه �أن يقول �أي �شيء‬
‫تلو احلرب ‪� ...‬إنني مل �أتوجه بكالمي �إىل‬ ‫يتعار�ض مع �ضمريه‪� ،‬أو �أي �شيء ال يت�سق مع‬
‫قوات اجلي�ش وال اقرتحت على القوات �أن بن�سخ م�سرحية‬ ‫واجباته بو�صفه مواطنا من مواطني الواليات‬
‫تتمرد �أو تثور‪ ،‬و�إن فكرة حرية التعبري من لهجات‬ ‫املتحدة الأمريكية»‪.‬‬
‫تغدو �أ�ضحوكة �إذا هي مل ت�شمل حق البث‬ ‫ظن باوند �أن تلك املقدمة حت�صنه من االتهام‬
‫�أجزاء �أمريكا‬ ‫الإذاعي»‪.‬‬ ‫اجلنائي يف وطنه‪ ،‬لكن خاب ظنه‪ .‬وزعم �أي�ضا �أنه‬
‫ومل تلق الر�سالة ردا من النائب العام‪ .‬املختلفة»‬ ‫حاول مرات عديدة مغادرة �إيطاليا والرجوع �إىل‬
‫يف الوقت نف�سه‪ ،‬ويف اخلام�س والع�رشين‬ ‫الواليات املتحدة ولكن خابت حماوالته �إما ب�سبب‬
‫من يوليو �سنة ‪� ،1943‬سقط مو�سوليني‬ ‫ال�سفارة الأمريكية �أو جهات �أخرى‪ ،‬ومن ال�صعب‬
‫ومت اعتقاله‪ ،‬ويف الثامن م��ن �سبتمرب غريت‬ ‫القطع مبا �إذا كانت هذه اجلهود حقيقية‪ ،‬ولكن‬
‫�إيطاليا اجلانب الذي تنا�رصه يف احلرب‪ .‬و�أقام‬ ‫رمبا بالفعل كان باوند حمموال على البقاء ب�ضغط‬
‫مو�سوليني ال��ذي ح��ررت��ه ق��وات هتلر اخلا�صة‬ ‫من وجود �أبويه امل�سنني يف رابالو وعدم قدرتهما‬
‫جمهورية ا�شرتاكية يف �شمال �إي��ط��ال��ي��ا‪ ،‬هي‬ ‫على القيام برحلة �شاقة‪ ،‬فكانا �سي�ضطران �إىل‬
‫اجلمهورية امل�شهورة بـ ريبوبليكا دي �سالو يف‬ ‫البقاء �إن هو قرر ال�سفر‪ .‬كان �أبوه البالغ من العمر‬
‫مدينة �صغرية على �سواحل بحرية ج��اردا كان‬ ‫ثالثة وثمانني عاما يعاين من ك�رس يف الفخذ‬
‫فيها مكتب للدوت�شي ال�سابق‪.‬‬ ‫�ألزمه البيت مل يغادره ملدة �سنتني‪ ،‬و�أمه كانت يف‬
‫‪75‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫غ��ادر باوند روم��ا التي ك��ان موجودا فيها يف‬
‫يف اب��ري��ل‪ ،‬نفذت ال��ق��وات الأمريكية �إن���زاال يف‬ ‫اخلام�س والع�رشين من يوليو وتوجه �إىل تريول‬
‫الريفريا الإيطالية‪ ،‬ومل ينته ال�شهر �إال وهي ت�سيطر‬ ‫حيث كانت تعي�ش ابنته ال�صغرية م��اري‪ .‬وبعد‬
‫على رابالو‪ .‬ويف الثامن والع�رشين من ابريل‪،‬‬ ‫مقام ق�صري هناك‪ ،‬رجع و�إياها �إىل رابالو وترك‬
‫حدث ملو�سوليني وحبيبته كالرا بيتات�شي وبع�ض‬ ‫هو ودوروثي �شقتهما يف املدينة وانتقال ليقيما‬
‫من خل�صائه وم��ن بينهم �صديق باوند الوزير‬ ‫مع احلبيبة �أوجلا يف كا�سا ‪ .60‬وبطبيعة احلال‪،‬‬
‫ميزا�سوما �أن لقوا م�رصعهم على �أي��دي الثوار‪،‬‬ ‫مل تن�سجم امل��ر�أت��ان‪ ،‬ال��زوج��ة واحلبيبة‪ ،‬ولكن‬
‫ويف الثاين من مايو وافق قائد القوات الأملانية‬ ‫دواعي احلرب مل ترتك لهما خيارا �إال اال�ستمرار‪.‬‬
‫يف �إيطاليا على اال�ست�سالم‪ .‬وكان على باوند �أن‬ ‫كان باوند يعترب الذين �أطاحوا مبو�سوليني خونة‪،‬‬
‫ي�أ�سى على نهاية مو�سوليني يف الن�شيد الرابع‬ ‫ف�رسعان ما التزم بق�ضية حكومة مو�سوليني‬
‫وال�سبعني‪:‬‬ ‫اجلديدة‪ ،‬ووا�صل بث �أحاديثه الإذاعية بني احلني‬
‫م�أ�ساة احللم الهائلة على كتفي الفالح‬ ‫والآخ���ر‪ .‬بل �إن��ه كتب لغريه يف الإذاع���ة‪ ،‬وكتب‬
‫املنحنيني‬ ‫مقاالت يف ال�صحف‪ ،‬ومن�شورات دعائية‪ ،‬وكان‬
‫هكذا هما بينتو وكالرا يف ميالنو‬ ‫يح�صل على راتب مقداره ثمانية �آالف لرية يف‬
‫كان باوند يعرف �أن عليه هو الآخر �أن ي�ست�سلم‪،‬‬ ‫ال�شهر‪ .‬ومن بني هذه املن�شورات من�شور �صدر‬
‫فخرج من كا�سا ‪ 60‬يف �صباح الثاين من مايو‬ ‫بالإيطالية يف الرابع والع�رشين من مار�س �سنة‬
‫متوجها �إىل وحدة اجلي�ش الأمريكي يف رابالو‬ ‫‪ 1944‬حتت عنوان «الواليات املتحدة‪ ،‬وروزفلت‪،‬‬
‫بهدف ت�سليم نف�سه‪ .‬ويف مكتب القائد‪ ،‬مل يجد ثمة‬ ‫و�أ�سباب احلرب احلالية»‪ .‬وكانت هناك ات�صاالت‬
‫من يعرفه �أو يبايل به‪ ،‬فقفل راجعا‪� ،‬صاعدا التل‬ ‫متواترة بينه وب�ين وزي��ر الثقافة اجلماهريية‬
‫�إىل كا�سا ‪.60‬‬ ‫فرناندو ميزا�سوما‪ ،‬الذي مل يكن ين�صحه فقط فيما‬
‫يف ال�صباح التايل‪ ،‬وفيما كانت �أوجل��ا خارج‬ ‫يتعلق بالربوباجندا‪ ،‬بل ويزعجه بطلب �إعادة طبع‬
‫البيت طلبا للطعام‪ ،‬ودوروثي يف زيارة حلماتها‪،‬‬ ‫الكتب التي يحبها‪ ،‬ومن بينها ترجماته اخلا�صة‬
‫�أقبل الثوار وقد ظنوا �أن هناك مكاف�أة مر�صودة‬ ‫للن�صو�ص الفل�سفية ال�صينية‪.‬‬
‫ملن يلقي القب�ض على باوند‪ ،‬فاقتحموا كا�سا ‪،60‬‬ ‫ويف الواليات املتحدة‪ ،‬يف الرابع والع�رشين من‬
‫و�أخ��ذوا ال�شاعر معهم �إىل بلدة زوج��ايل القريبة‬ ‫يناير �سنة ‪ ،1945‬رفعت �إىل وزير احلرب هرني‬
‫التي كان فيها مكتب من مكاتب قيادة الثورة‪.‬‬ ‫ل‪� .‬ستيم�سن مذكرة مفادها �أن الواليات املتحدة‬
‫وملا قال لهم أ�ح��د ال�ضباط إ�ن��ه ما من مكاف�أة‬ ‫ال تزال مهتمة باعتقال باوند والتحقيق معه يف‬
‫مر�صودة العتقال باوند‪� ،‬أطلقوا �رساحه‪ ،‬ولكنهم‬ ‫�ضوء اتهام املحلفني له‪ .‬ويف التا�سع من فرباير‪،‬‬
‫عادوا فا�صطحبوه هو و�أوجلا التي ان�ضمت �إليه‬ ‫وجه �ستيم�سن ن�سخة من الر�سالة �إىل اجلرنال‬
‫�إىل القيادة الأمريكية يف بلدة الفاجنا القريبة‪.‬‬ ‫جاكوب ل ديفرز وك��ان �إذ ذاك رئي�سا لأرك��ان‬
‫وهناك مت التعرف على باوند حينما قال «هالو‪،‬‬ ‫م�رسح العمليات يف �شمال �أفريقيا‪ .‬وبدوره وزع‬
‫�أنا �إزرا باوند‪� ،‬أعتقد �أنكم تبحثون عني»‪ ،‬ويف‬ ‫ديفرز املعلومات على مر�ؤو�سيه و�أخطر وا�شنطن‬
‫هذه املرة مت احتجازه ثم ترحيله �إىل مكتب قوات‬ ‫بذلك‪ ،‬لكن احللفاء يف ذلك الوقت كانوا يتقدمون‬
‫املخابرات الأمريكية امل�ضادة يف جنوة‪ .‬وهنالك‬ ‫ب�صعوبة يف و�سط �شمال �إيطاليا حماربني الأملان‬
‫حقق معه عميل املباحث الفدرالية الأمريكية فرانك‬ ‫الذين ين�سحبون ببطء‪ ،‬متلكئني يف كل خطوة‪،‬‬
‫ل �أمربين بعدما كلفه مدير املباحث الفدرالية‬ ‫فلم تكن م�س�ألة اعتقال باوند متثل �أولوية جلي�ش‬
‫‪76‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫باوند طبيا للمحاكمة‪ .‬ولقد انتهت تقارير الأطباء‬ ‫جيه �إدجار هوفر بجمع الأدلة النهائية الالزمة‬
‫الأربعة �إىل عدم �صالحية باوند للمحاكمة‪ ،‬فقام‬ ‫ملحاكمة باوند بتهمة اخليانة‪� .‬أما �أوجل��ا التي‬
‫القا�ضي بت�أجيل الإجراءات حموال باوند للحب�س‬ ‫مل يكن ثمة اتهام موجه �إليها فتم �إخالء �سبيلها‬
‫يف م�ست�شفى �سان �إليزابث للأمرا�ض العقلية‪.‬‬ ‫و�أعيدت �إىل كا�سا ‪ 60‬يف رابالو‪ .‬يف اخلام�س من‬
‫ال �شك �أن اتهام �شخ�ص باخليانة يف ظل قانون‬ ‫مايو طلب باوند الإذن ب�إر�سال برقية �إىل الرئي�س‬
‫الواليات املتحدة م�س�ألة بالغة ال�صعوبة‪ .‬فاخليانة‬ ‫هاري �س ترومان ليقدم له الن�صيحة وي�ساعده يف‬
‫هي اجلرمية الوحيدة امل�سجلة يف ن�ص يت�ضمنه‬ ‫مفاو�ضات ال�سالم اجلارية يف اليابان‪ .‬وبالطبع‬
‫الد�ستور الأمريكي‪ ،‬حيث ين�ص الق�سم الثالث من‬ ‫قوبل طلبه بالرف�ض‪.‬‬
‫املادة الثالثة على ما يلي‪:‬‬ ‫يف الثامن من مايو‪ ،‬ق��ال باوند ل�صحفي من‬
‫«جرمية اخليانة بحق الواليات املتحدة ال تكون‬ ‫فيالدلفيا ري��ك��ورد ا�ستطاع الو�صول �إليه يف‬
‫�إال ب�شن حرب عليها‪� ،‬أو باالن�ضمام �إىل �أعدائها‬ ‫الوحدة الع�سكرية �إن هتلر «هو جان دارك‪ ،‬هو‬
‫وتقدمي العون وامل�ساعدة لهم‪ .‬وال يدان �أحد بتهمة‬ ‫قدي�س» و�إن مو�سوليني «�شخ�ص معيب فقد عقله»‪.‬‬
‫اخليانة �إال ا�ستناداً �إىل �شهادة �شاهدين ي�شهدان‬ ‫وق��دم لأمربيني �إف���ادة م��ن �ست �صفحات عن‬
‫على وقوع نف�س العمل الوا�ضح النية‪� ،‬أو ا�ستناداً‬ ‫�أحاديثه الإذاعية خالل احلرب‪.‬‬
‫�إىل اع�تراف يف حمكمة علنية ‪ ...‬وللكوجنر�س‬ ‫يف الرابع والع�رشين من مايو‪� ،‬أقلت �سيارة جيب‬
‫�سلطة حتديد عقوبة جرمية اخليانة‪ .‬ولكن ال يجوز‬ ‫باوند من جنوة �إىل مركز التدريب على االن�ضباط‬
‫االقت�صا�ص من ن�سل املتهم �أو �أقاربه �أو جتريده‬ ‫يف ميتاتو‪ ،‬مغلل اليدين ط��وال الرحلة‪ .‬ويف‬
‫من حقوقه املدنية �أو م�صادرة �أمواله وممتلكاته‬ ‫ال�ساد�س ع�رش من نوفمرب �سنة ‪ ،1945‬نقل �إىل‬
‫�إال �أثناء حياته» ‪.‬‬ ‫روما وو�ضع على طائرة �إىل الواليات املتحدة‬
‫لقد عمد الآب��اء امل�ؤ�س�سون �إىل �أن تكون �إدان��ة‬ ‫لتبد أ� املحاكمة‪.‬‬
‫امرئ باخليانة أ�م��را يف غاية ال�صعوبة �ضمانا‬ ‫يف ال�ساد�س والع�رشين من يوليو �سنة ‪،1943‬‬
‫��ن احلكومة وت�سحق حريات املواطنني‬ ‫لئال تجُ َ َّ‬ ‫مت توجيه تهمة اخليانة لباوند و�سبعة مواطنني‬
‫وحتد من حرية التعبري من خالل �إخافة النا�س‬ ‫�آخرين كانوا يبثون من �أملانيا �أثناء احلرب‪ .‬ومل‬
‫من االتهام واملقا�ضاة‪ .‬وهذه ال�رشوط ال�صعبة‬ ‫يحدث �إال لثالثة فقط من املجموعة �أن حوكموا‬
‫�أتاحت للمحامي جوليان كورنل الذي كان يدافع‬ ‫و�أدينوا وق�ضوا عقوبة يف ال�سجن‪ .‬ولأن �أن�شطة‬
‫عن باوند خيارات عديدة يقيم عليها دفاعه‪.‬‬ ‫باوند يف الفرتة من يوليو ‪� 1943‬إىل مايو ‪1945‬‬
‫كان بو�سعه �أن يزعم �أن عبقرية باوند ال�شعرية‬ ‫اعتربت خيانة‪ ،‬ولأن االتهامات القدمية مل تعد‬
‫ال ميكن �أن حتدها القوانني العادية‪ ،‬وهو زعم ما‬ ‫منا�سبة لأن�شطته الإيطالية‪ ،‬فقد ج��ددت وزارة‬
‫لأحد تقريبا �أن يقبل به‪� ،‬أو يزعم �أن �أفكار باوند‬ ‫العدل يف ال�ساد�س والع�رشين من نوفمرب �سنة‬
‫التي �أبداها يف �أحاديثه الإذاعية كانت �صحيحة‬ ‫‪ 1945‬اتهاماتها باخليانة وجرائم �أخرى‪ .‬حيث‬
‫و�أن اخلونة احلقيقيني هم كبار امل�س�ؤولني يف‬ ‫ر�أت الوزارة �أن التهم اجلديدة التف�صيلية �أقدر على‬
‫احلكومة الأمريكية الذين ركعوا �أمام رجال البنوك‬ ‫�إنهاء الق�ضية بنجاح‪.‬‬
‫ويقا�ضي احلرب وهو بدوره زعم كان ف�شله هو‬ ‫يف ال�سابع والع�رشين من نوفمرب‪ ،‬مت ا�ستدعاء باوند‬
‫الأرجح‪ .‬غري �أنه كان �سيلج أ� �إىل خيار �أف�ضل لو‬ ‫للمحاكمة‪ ،‬ولكن مت ت�أجيل الإج��راءات �إىل حني‬
‫التزم باحلجة التي قدمها باوند نف�سه �إىل النائب‬ ‫عر�ض املتهم على �أربعة �أطباء نف�سيني و�إطالع‬
‫العام �سنة ‪ :1943‬وهي �أنه يف �أحاديثه العلنية‬ ‫القا�ضي بوليثا جيم�س لوز على مدى مالءمة‬
‫‪77‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ولديه �إح�سا�س ب�أن لديه مفتاح �سالم العامل متمثال‬ ‫مل يزد على ممار�سة حقه الد�ستوري املكفول يف‬
‫يف كتابات كونف�شيو�س ‪ ...‬يعتقد �أنه �شخ�صيا كقائد‬ ‫التعديل الأول‪ .‬وهذا قد يكون �صحيحا بالفعل‪،‬‬
‫ملجموعة من املثقفني قادر على و�ضع نظام للعامل‬ ‫ولكن حمامي باوند و�أ�صحابه خافوا �أن يغامروا‬
‫‪ ...‬وهو عقليا غري قادر على الإف��ادة الوا�ضحة �أو‬ ‫ب�أن ت�أتي جلنة حملفني وطنية متا�شيا مع احلالة‬
‫امل�شاركة ب�صورة منطقية يف الدفاع عن نف�سه‪� .‬أريد‬ ‫املزاجية ال�سائدة يف ذل��ك الوقت وت��راه مذنبا‬
‫بعبارة �أخرى �أن �أقول �إنه جمنون»‪.‬‬ ‫فتحكم عليه بعقوبة حب�س طويلة �أو حتى بالإعدام‪.‬‬
‫بعد اال�ستماع �إىل هذه ال�شهادة وغريها من الأطباء‬ ‫لذلك كان القرار ب�أن عدم ال�سالمة العقلية والعجز‬
‫النف�سيني‪ ،‬خل�صت جلنة املحلفني يف ثالث دقائق‬ ‫عن فهم �إجراءات املحاكمة ميثالن �أف�ضل دفاع‬
‫�إىل �أن باوند «غري �سليم العقل»‪.‬‬ ‫ممكن عن باوند‪.‬‬
‫ت�أجلت الق�ضية‪ ،‬و�أمر القا�ضي باحتجاز باوند يف‬ ‫ك��ان ر�أي �إرن�ست همنجواي رمب��ا دعما للدفع‬
‫م�ست�شفى �سان �إلزابث الفدرالية للأمرا�ض العقلية‬ ‫بجنون وت�أكيده �أن باوند «ينبغي �أن يو�ضع يف‬
‫يف وا�شنطن‪ .‬و�أفلت باوند من املحاكمة الفورية‬ ‫م�ست�شفى املجانني‪ ،‬وهو يقدرها‪ ،‬وبو�سعكم �أن‬
‫والعقوبة الرادعة املحتملة‪ .‬ولكن م�س�ألة ما �إذا كان‬ ‫ت�ضعوا �أيديكم يف �أنا�شيده على موا�ضع يبدي فيها‬
‫مذنبا �أم بريئا بقيت غري حم�سومة‪ ،‬وظل من املمكن‬ ‫تقديره لها ‪� ...‬إنه جدير بالعقاب والعار‪ ،‬ولكن ما‬
‫حماكمته مرة �أخ��رى �إذا انتهت ال�سلطات الطبية‬ ‫ي�ستحقه بالفعل هو ال�سخرية»‪.‬‬
‫املخولة �إىل �أنه ا�سرتد قدراته العقلية مكتملة‪.‬‬ ‫و�أ���ض��اف ال�شاعر و�أم�ي�ن مكتبة الكوجنر�س‬
‫ومنذ ذلك احلني وهناك تكهنات ب�أن الأمر كله‬ ‫�أرت�شيبولد مكلي�ش وهو لي�س من �أ�صدقاء باوند‬
‫كان خدعة من باوند‪ ،‬فهو رمبا كان �شاذا وغريبا‬ ‫املقربني �أنه «من الوا�ضح متاما �أن باوند العجوز‬
‫ونافر الطباع و�شاعرا ب�أهميته ال�شخ�صية لكنه مل‬ ‫امل�سكني �شخ�ص لطيف هادئ ‪ ...‬واخليانة جرمية‬
‫يكن مري�ضا نف�سيا‪ .‬ولكن احلكومة �أي�ضا كانت من‬ ‫�أ�رشف و�أ�شد جدية من �أن يو�صم بها رجل جعل من‬
‫جانبها غري قادرة على �إثبات �أن ما فعله باوند‬ ‫نف�سه �أ�ضحوكة‪ ،‬ومل يجن من وراء ذلك الكثري»‪.‬‬
‫يحقق ال�رشوط الد�ستورية للخيانة خا�صة و�أنه‬ ‫وق�ضى م�ست�شار الدفاع كورنيل ال��ذي كان قد‬
‫كان �أبعد ما يكون عن اخليانة الوا�ضحة بينديكت‬ ‫التقى بباوند للمرة الأوىل يف الع�رشين من‬
‫�أرنولد‪ .‬مل يكن لدى احلكومة ال�شاهدان املطلوبان‬ ‫نوفمرب وقتا ب�سيطا يف �إع��داد دفاعه اجلنوين‪.‬‬
‫لإثبات جرمية اخليانة‪ ،‬وعلى الرغم من �أن باوند‬ ‫فقد رجع الأطباء النف�سيون الأربعة بتقرير موحد‬
‫اع�ترف ب�أنه �أدىل ب�أحاديثه الإذاع��ي��ة‪� ،‬إال �أن‬ ‫يقطعون فيه ب�أن باوند يعي�ش يف الوهم‪ .‬وكانت‬
‫خطوة النيابة التالية وكان ميثلها �إي�سايا متاالك‬
‫الوثائق التي �صودرت من بيته يف رابالو كانت‬
‫هي عقد جل�سة عامة للحكم على اجلنون �أمام‬
‫قد �صودرت بدون �أي �إذن بالتفتي�ش وهو �أمر كان‬
‫املحلفني‪ .‬وعقدت اجلل�سة يف الثالث ع�رش من‬
‫�سيجعل �أي قا�ض ح�صيف يعدل عن النظر فيها‬
‫فرباير �سنة ‪ ،1946‬وا�ستمعت اللجنة �إىل �شهادة د‪.‬‬
‫من الأ�سا�س‪.‬‬ ‫وينفريد �أوفرهول�رس من هيئة الطب النف�سي‪ ،‬الذي‬
‫بقي �إزرا باوند يف �سان �إليزابث منذ بداية �سنة ‪1946‬‬ ‫قال �إن باوند‪:‬‬
‫وحتى �إطالق �رساحه يف ‪ 18‬ابريل �سنة ‪.1958‬‬ ‫«‪ ...‬يتمتع بطموح مذهل ‪ ...‬ويعتقد �أنه املختار لإنقاذ‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫د�ستور الواليات املتحدة ل�شعب الواليات املتحدة ‪...‬‬

‫‪78‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫�سركون بول�ص‪:‬‬
‫�أكتب باليد التي هجرتني‬
‫على النرث �أن ين�شب خمالبه يف رقبة ال�شعر الهزيلة‬
‫حممد �آيت لعميم‬
‫ناقد من املغرب‬

‫يعد ال�شاعر العراقي �رسكون بول�ص من اهم الأ�صوات ال�شعرية‪ ،‬التي �سعت �إىل التفرد‬
‫بال�صوت اخلا�ص‪ ،‬و�إىل التفرغ لل�شعر جتربة وكتابة‪ ،‬وانفتاحا على التجارب ال�شعرية‬
‫العاملية‪ ،‬والبحث عن �شجرة �أن�ساب متنوعة الفروع‪ .‬انه بالفعل �صاحب جتربة وا�شتغال‬
‫على اللغة وعلى ر�ؤية خا�صة مكنته مبعية جمموعة من �شعراء كركوك �أن ي�ؤ�س�سوا لق�صيدة‬
‫النرث بالعراق يف ال�ستينيات من القرن الع�رشين‪.‬‬
‫�سنقارب جتربته ال�شعرية عرب املجاميع التي كتبها منذ خروجه من العراق‪ .‬وهي على‬
‫التوايل‪ :‬الو�صول �إىل مدينة �أين (‪ )1985‬احلياة قرب الأكربول ‪ )1988‬الأول والتايل‬
‫(‪ ،)1992‬حامل الفانو�س يف ليل الذئاب (‪� .)1996‬إذا كنت نائما يف مركب نوح ‪،)1998‬‬
‫عظمة �أخرى لكلب القبيلة (‪.)2008‬‬

‫‪ o‬كانت ال�صورة املكثفة لدى �سركون بول�ص هي جواز املرور �إىل عامل‬
‫الالوعي‪ ،‬والتي تخدم احلالة �أو امل�شهد ال�شعري الداخلي‪ ،‬فكانت �أحيانا‬
‫‪o‬‬
‫تت�سربل بلم�سة �سريالية‬

‫‪79‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يخفي حقائق معينة‪ ،‬ويحاول �أن يعطي بديال ال �أجد‬ ‫ولد ال�شاعر �رسكون بول�ص ذو الأ�صول الآ�شورية عام‬
‫له �أي �أ�سا�س لتلك احلقائق‪ ،‬ومثله مثل �سامي مهدي‬ ‫‪ ،1944‬يف احلبانية املعروفة ببحريتها وباحلياة‬
‫فهو منحاز منذ البداية �إىل طريقة م�سبقة لت�صوير‬ ‫الزاخرة‪ ،‬عا�ش فيها ثالث ع�رشة �سنة‪ ،‬ثم انتقل �إىل‬
‫جيل ال�ستينيات‪� ،‬أو �إىل �شكل م�سبق كان موجودا يف‬ ‫مدينة كركوك‪ ،‬ويف هذه املدينة بد�أ كتابة ال�شعر‪ ،‬يف‬
‫ذهنه قبل �أن يراجع احلقائق‪ ،‬ويتكلم عن ال�شخ�صيات‬ ‫عام ‪ 1961‬ن�رش له يو�سف اخلال ق�صيدة يف �أحد �أعداد‬
‫التي كانت فعالة �آنذاك ب�شكل �صادق‪ .‬م�شكلة �سامي‬ ‫جملة �شعر‪ .‬ويف بريوت �سيعد ملفا ملجلة �شعر حول‬
‫مهدي �أنه منحاز كبعثي‪ ،‬وكموظف م�س�ؤول يف ت�صنيع‬ ‫�أعمال كل من ال�شاعر الأمريكي �آلن غي�سنربغ وجاك‬
‫الثقافة العراقية‪ ،‬ولكن م�شكلة فا�ضل �أنه �أنا مت�ضخمة‬ ‫كريواك‪ ،‬مرتجما �أعمالهما ال�شعرية‪ .‬ويف عام ‪1969‬‬
‫تريد �أن تهيمن على كل �شيء‪ ،‬كتابه ين�ضح بنوع‬ ‫�سريحل نحو الواليات املتحدة‪ ،‬و�سيلتقي يف‬
‫من التزييف اخلطري‪ ،‬خ�صو�صا و�أنه غمط حق الكثري‬ ‫من �أهم مدينة �سان فران�سي�سكو بجماعة «البيتنيك�س»‬
‫من ال�شخ�صيات‪ ،‬وله طريقة يف تتفيه مواقف معينة‬ ‫مميزات ويعقد معهم �صداقات‪.‬‬
‫ل�شخ�صيات معروفة �آنذاك‪ ،‬وباملقابل ف�إنه كان ي�ضخم‬ ‫كي نلج عامله ال�شعري‪ ،‬ال بد من التوقف عند‬
‫دوره ودور �شعراء غري مهمني على الإطالق لكي يغطي‬ ‫جماعة بع�ض املحطات الأ�سا�سية يف حياته‪ ،‬و�أي�ضا‬
‫على ال�شعراء الآخرين «‪ .‬ال مينع هذا النقد العميق‬ ‫كركوك يف الوقوف على �أثر الرتجمة يف �أعماله ال�شعرية‪،‬‬
‫والدقيق لكتاب الروح احلية من اال�ستفادة من بع�ض‬ ‫وانفتاحه على الإرث العراقي القدمي واملمثل‬
‫ال�ستينيات‬
‫ما جاء فيه خ�صو�صا فيما يتعلق بخ�صائ�ص الكتابة‬ ‫يف الأ�ساطري‪ ،‬ويف ال�تراث ال�شعري العربي‬
‫ال�شعرية جليل ال�ستينيات يف العراق ولت�أثره بجيل‬ ‫هو اطالعها ال��ق��دمي‪ ،‬وم��ن مت انفتاحه على جغرافيات‬
‫البتنيك�س‪ .‬ي�ؤكد فا�ضل العزاوي على القرابة الروحية‬ ‫على املنجز مغايرة خ�صو�صا التجربة الأمريكية‪.‬‬
‫بني التيار التجديدي الي�ساري داخل حركة ال�ستينيات‬ ‫�رسكون بول�ص تفرغ طيلة حياته لكتابة ال�شعر‪،‬‬
‫العراقية‪ ،‬وحركة البتنيك�س (‪ )Beatniks‬الأمريكية‬ ‫ال�شعري �إذ ق�ضى �أك�ثر من �أربعني �سنة يف كتابته‪،‬‬
‫التي مثلها كتاب و�شعراء من �أمثال جاك ك�يرواك‪،‬‬ ‫العاملي ومالزمة ه��ذا الهم اجلميل‪ .‬ي��رى �أن ال�شاعر‬
‫و�آل��ن غي�سنرباج‪ ،‬وغريغوري كور�سو وفريلنغيتي‪،‬‬ ‫كائن بدائي لديه معرفة عميقة بالأ�شياء مثله‬
‫وب��وب دي�لان‪« .‬لقد ظهرت حركة البتنيك�س لتعرب‬ ‫مثل احلكماء يف العهود ال�سالفة‪.‬‬
‫عن موقف ما �أطلق عليه ا�سم اجليل املهزوم ‪Beat‬‬ ‫‪ -1‬كركوك والتعرف على حركة البتنيك�س‪:‬‬
‫‪ ,Generation‬وهو اجليل الذي �شارك يف احلرب‬ ‫من �أهم مميزات جماعة كركوك يف ال�ستينيات هو‬
‫العاملية الثانية �أو حتمل �أوزارها التالية‪ .‬كان م�صطلح‬ ‫اطالعها على املنجز ال�شعري العاملي‪ ،‬وهي ت�ضم كال‬
‫اجليلقد ظهر �أول مرة يف عام ‪ 1952‬يف مقالة ن�رشها‬ ‫من ال�شعراء‪� :‬رسكون بول�ص‪ ،‬فا�ضل العزاوي‪ ،‬م�ؤيد‬
‫الناقد جون كللون هوملز يف جريدة «نيوروك تاميز»‪.‬‬ ‫الراوي‪ ،‬جان دمو‪� ،‬صالح فائق‪ .‬ومعظم ه�ؤالء ال�شعراء‬
‫ومع ذلك فامل�صطلح ُيعزى �إىل جاك ك�يرواك الذي‬ ‫كانت لهم معرفة جيدة باللغة االجنليزية‪.‬‬
‫يفرت�ض �أنه ابتكره يف عام ‪ 1957‬عندما قال ذات‬ ‫حتدث فا�ضل العزاوي يف كتابه «الروح احلية جيل‬
‫مرة «�أنت تعرف �أن هذا اجليل مهزوم حقا»‪ .‬قبل هذا‬ ‫ال�ستينيات يف العراق» عن هذه اجلماعة‪ ،‬فتحدث عن‬
‫اجليل �سيظهر جيل اطلقت عليه جرترود �شتاين «اجليل‬ ‫مرجعيتها الفكرية وال�شعرية وخ�صائ�ص كتابتها‪.‬‬
‫ال�ضائع»‪ ،‬وهم الكتاب االمريكيون الذين ن�شاوا او‬ ‫ورغ��م �أن �رسكون بول�ص يتحفظ على ه��ذا الكتاب‬
‫كتبوا انطالقا من جتربة احلرب العاملية االوىل‪ ،‬منهم‪:‬‬ ‫قائال يف حقه «م�شكلة كتاب فا�ضل ال��ع��زاوي �أنه‬
‫‪80‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫رف�ضوا جنة الر�أ�سمالية و�سباق فئرانها يف الو�صول‬ ‫�سكوت فتزجريالد‪،‬عزرا باوند‪،‬ت‪�.‬س اليوت‪،‬ارن�ست‬
‫�إىل الرثوة ف�إن �ستينيي العراق كانوا قد رف�ضوا جنة‬ ‫همنغواي‪.‬على عك�س «جيل البيت»‪ ،‬يذهب هوملز اىل‬
‫الديكتاتورية و�سباق جرناالتها يف �صنع الهزائم‬ ‫ان كلمة ‪ beat‬كانت ملتب�سة‪،‬كانت تعني يف اللغة‬
‫القومية‪ ،‬ومثلهم �أي�ضا فقدوا الأمل بااليديولوجيات‬ ‫ال�شفوية االمريكية ال�شخ�ص املتعب‪،‬او الرث املنبوذ‬
‫العتيقة التي مل تقدم لهم �سوى الب�ؤ�س وال�شقاء»‪.‬‬ ‫او الهام�شي‪،‬غري ان الداللة الفعلية للكلمة ال تتحقق‬
‫ويرى �رسكون بول�ص �أن االت�صال بهذه احلركة مت عرب‬ ‫اال با�ضافة املعنى امل�ضاد لل�صفات ال�سلبية‪،‬وهو»ما‬
‫بع�ض الأخبار يف ال�صحف واملجالت كانت عبارة عن‬ ‫اجن��زه جاك ك��رواك يف روايته «على الطريق»‪،‬حني‬
‫�شذرات‪ ،‬وق�صائد متفرقة هنا وهناك‪ .‬وقد قام �رسكون‬ ‫حول �شخ�صية «البيت» خ�صو�صا عرب بطل روايته‬
‫بول�ص حني ذهب �إىل بريوت برتجمة بع�ض ق�صائد‬ ‫دين موريارتي‪،‬التي يتمحور العمل حولها‪،‬اىل نوع‬
‫هذه احلركة وخ�ص�ص لها ملفا يف �أحد أ�ع��داد جملة‬ ‫من اال�سطورة اجلديدة‪ ،‬اىل حامل ر�سالة مقد�سة‪ ،‬واىل‬
‫«�شعر»‪ .‬كما �سبق الذكر‪.‬‬ ‫بطل جديد من الغرب االمريكي‪ ،‬فاحتا الطريق وا�سعة‬
‫ويبقى الن�ص القوي الذي �أنتجته احلركة‪ ،‬هو ق�صيدة‬ ‫امام جيل جديد تواق اىل التعبري عن نف�سه‪ ،‬الباحث‬
‫«ع���واء»‪ ،‬لل�شاعر �آالن غي�سنبورغ‪ ،‬ي�صف �رسكون‬ ‫عن هوية مغايرة ملا حت��اول امل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية‬
‫بول�ص هذه الق�صيدة ب�أنها ق�صيدة �صعبة وع�صية‬ ‫واالجتماعية والثقافية الر�سمية املحافظة‪ ،‬ار�ساءه‬
‫على الرتجمة‪ ،‬م�رصحا �أن��ه‪« :‬ك��ان علي �أن �أنتظر‬ ‫يف امريكا بعد احلرب العاملية الثانية وبدايات احلرب‬
‫�سنوات طوال حتى �أ�سرب �أغوارها جيدا‪ .‬وهكذا ظلت‬ ‫الباردة ‪ ...‬يف املجال االدبي حتول املفهوم من الهزمية‬
‫الق�صيدة معلقة �إىل �أن وج��دت نف�سي يف اليونان‪،‬‬ ‫اىل االجناز‪ ،‬ومن التعب اىل ال�صحوة‪ ،‬ومن الهام�شية‬
‫وا�شتغلت عليها مدة طويلة‪ ،‬فهي كما تعرف ق�صيدة‬ ‫اىل احل�ضور واالنت�شار‪ ،‬وحتول اي�ضا من اال�شارة اىل‬
‫مليئة ب�أ�سماء الأماكن‪ ،‬وال ميكن لك �أن تفهم هذه‬ ‫ال�شخ�ص املنبوذ واملحتقر اىل حال يرغب املرء ب�أن‬
‫الأ�شياء ما مل تذهب �إىل �سان فران�سي�سكو‪ ..‬الق�صيدة‬ ‫يعي�شها» انظر‪ ،‬مقدمة رواي��ة على الطريق‪ ،‬ترجمة‬
‫حمت�شدة ب�أ�سماء ال�شوارع‪ ،‬والأح��ي��اء‪ ،‬والأ�شخا�ص‬ ‫�سامر ابو هوا�ش‪� ،‬ص ‪ .)6‬لقد �أ�س�س هذا اجليل ر�ؤيته‬
‫وغريها‪ ...‬وعندما ذهبت �إىل �أمريكا وع�شت هناك‪،‬‬ ‫الفكرية وال�شعرية على �أ�سا�س «االعرتا�ض واالحتجاج‬
‫عرفت كيف �أترجم ق�صيدة عواء‪ .‬وهي ق�صيدة مهمة‬ ‫�ضد �أ�سطورة «طريقة احلياة الأمريكية» التي واجهوها‬
‫ج��دا»‪ ،‬ويت�ساءل �رسكون بول�ص حول عالقة العرب‬ ‫ب�أ�سطورة م�ضادة « وقد �أف�ضت �أفكار هذا اجليل �إىل‬
‫بهذه الق�صيدة واحلالة هذه �أنها مل ترتجم بكاملها‪،‬‬ ‫ظهور حركات متمردة من �أمثال «مالئكة اجلحيم»‪،‬‬
‫فقط التقى بها ال�شعراء من خالل �شذرات هنا وهناك‪.‬‬ ‫وظهور الهيبيني الذين كانوا مبثابة التج�سيد احلي‬
‫�إن هذه الق�صيدة «تركت ت�أثريا ذهنيا كبريا مذهال على‬ ‫للقيم الر�أ�سمالية ملجتمعاتهم ودعوا �إىل الوفاء للداخل‬
‫قرائها» ‪ .‬وهي ق�صيدة اغتنى بها نا�رشها فرلنغيتي‬ ‫الإن�ساين‪ .‬وير�صد فا�ضل العزاوي نقاط االلتقاء مع‬
‫�صاحب مكتبه «�أ�ضواء املدينة»‪ .‬فهذه الق�صيدة التي‬ ‫هذه احلركة وحركة جيل ال�ستينيات‪ ،‬م�ؤكدا على �أن‬
‫�أحدث ن�رشها دويا كبريا يف امل�شهد الثقايف الأمريكي‪،‬‬ ‫العالقة بينهما لي�ست عالقة حماكاة ولي�س عالقة‬
‫وال تزال ت�صدر يف طبعات متوا�صلة ال تنقطع ذلك �أن‬ ‫�شكلية بل هي عالقة جوهرية فكالهما جيل مهزوم‬
‫اجليل اجلديد يف �أمريكا بد أ� يقر�أ هذه الق�صيدة ويحاول‬ ‫«ف�إذا كان البتنيك�س قد خرجوا من رماد احلرب‪ ،‬ف�إن‬
‫�أن يجد فيها‪ ،‬كما وجد فيها اجليل ال�ستيني رموزا‬ ‫ال�ستينيني يف العراق قد خرجوا من رماد االنقالبات‬
‫معينة تدفعه �إىل الإميان ب�شيء ما «‪.‬‬ ‫والديكتاتوريات الع�سكرية «‪،‬اذا كان البتنيك�س قد‬
‫‪81‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الق�صيدة املثقفة التي تتكئ على مرجعيات �شعرية‬ ‫�إن ق�صيدة عواء �سحرت قراءها مب�ضمونها اجلريء‬
‫عاملية‪� ،‬أ�سهمت يف تنويع كتابة ه��ذه الق�صيدة؛‬ ‫وب�شكلها ال�صارم والغريب عن الأو�ساط الثقافية‪ ،‬وعن‬
‫وفتحها على اال�سرتفاد من جتارب ال�شعراء �سواء كانوا‬ ‫املتداول يف الكتابة ال�شعرية‪ ،‬فهي مرثية غنائية على‬
‫غربيني �أو عربا‪ ،‬و�أ�صبح التفاعل مع الن�صو�ص القوية‬ ‫الطريقة الوتيمانية تف�ضح بلغة عارية وفجة علل‬
‫يف تاريخ ال�شعر �رضوريا لكتابة ق�صيدة النرث بغية‬ ‫وعاهات املجتمع الأمريكي يف مرحلة ما بعد احلرب‬
‫تنويع �أ�شكالها ورهاناتها‪.‬‬ ‫العاملية الثانية‪« .‬ه��ي �رصخة غ�ضب من فئة من‬
‫ويف حالة �رسكون بول�ص جند مكونني اثنني وراء‬ ‫ال�شباب الأمريكي اليائ�س‪ ،‬الثائر‪� ،‬ضد جمتمع مدمر‬
‫جتربته ال�شعرية‪ ،‬املكون الأول هو الرتحال الدائم‬ ‫وانتهازي « وتتكون الق�صيدة من ثالثة �أجزاء‪:‬‬
‫وال�سفر‪ .‬واملكون الثاين‪ ،‬هو العمق املعريف امل�سنود‬ ‫‪ -1‬اجلزء الأول‪ :‬ي�شري فيه �إىل حالة الي�أ�س التي خيمت‬
‫بت�أمل كبري يف تاريخية ال�شعر‪ .‬ناهيك على �أن �رسكون‬ ‫ال�شعر يف نظر على نفو�س ال�شبان يف �أعقاب احلرب‪.‬‬
‫بول�ص يعترب ممار�سة ال�شعر ت�ضحية‪ ،‬يقول‪« :‬هناك‬ ‫‪ -2‬اجلزء الثاين‪ :‬يلفت النظر �إىل دوافع ال�سخط‬
‫�شعراء يف هذا العامل �ضحوا من �أجل ال�شعر ب�أ�شياء‬ ‫�سركون «عامل الإن�ساين والإحباط العام لدى ال�شباب‪� .‬إذ‬
‫كثرية ال ت�صدق»‪ .‬من �أمثال �سيزار فاييخو الذي مات‬ ‫له �أ�سرار ي�شخ�ص م�صادر ال�رش جميعها املتمثلة يف‬
‫يف باري�س جوعا‪ .‬ومن �أمثال ناظم حكمت‪ ،‬ونريودا‪،‬‬ ‫�إله املال العرباين «مولوخ» باعتباره حاكم‬
‫فه�ؤالء ال�شعراء «عرفوا منذ البداية حجم امل�س�ؤولية‬ ‫ال تنتهي‪ ،‬الب�رشية ال�صارم الذي يدمر املعطيات الأكرث‬
‫امللقاة على عاتقهم‪ ،‬لأن اختيار ال�شعر م�س�ألة غري‬ ‫وال�شاعر خريا و�أ�صالة يف الطبيعة الإن�سانية مالئا‬
‫هينة على الإط�لاق»‪ ،‬فال�شعر يف نظر �رسكون «عامل‬ ‫الذات مب�شاعر اخلوف والقلق‪.‬‬
‫له �أ�رسار ال تنتهي‪ ،‬ورهان خطري «؛ وال�شاعر احلقيقي‬ ‫احلقيقي الذي ‪ -3‬اجل���زء ال��ث��ال��ث‪ :‬يحتفي فيه ال�شاعر‬
‫الذي ي�ؤمن بال�شعر‪ ،‬ومل ي�أت �إليه عابثا من �أجل كتابة‬ ‫ي�ؤمن بال�شعر‪ ،‬ب��ان��ت�����ص��اره ع��ل��ى «م���ول���وخ» وحت����رره من‬
‫ب�ضع ق�صائد عابرة‪ ،‬ينبغي �أن يكر�س نف�سه وحياته‬ ‫�سيطرته‪.‬‬
‫لل�شعر‪ ،‬ومعتربا نف�سه ذا مهمة كبرية يف التاريخ»‪.‬‬ ‫ومل ي�أت �إليه لقد كان كاتب الق�صيدة غي�سنبورغ يت�سم‬
‫‪ -2‬متخيل العبور والتيه عند �رسكون بول�ص‪:‬‬ ‫بلغة عفوية‪ ،‬وبال�صعلكة يف احلياة والكتابة‪،‬‬
‫عابثا من‬
‫يحمل ال��دي��وان الأول ل�رسكون بول�ص عنوانا داال‬ ‫و�شعره «م���ر�آة ذات��ه وحميطه‪ ،‬م���ر�آة ق��د ال‬
‫يخت�رص امل�سافات �إىل عامله ال�شعري الذي ت�أ�س�س منذ‬ ‫�أجل كتابة تعك�س اجلمال دائما‪� ،.‬إمنا احلقيقة الفجة‪،‬‬
‫البداية على مو�ضوعة العبور وال�سفر والتيه‪« .‬الو�صول‬ ‫العارية‪ ،‬بال خجل �أو خزي‪ ،‬جمع غي�سنبورغ‬
‫ب�ضع ق�صائد‬
‫�إىل مدينة �أي��ن»‪ ،‬هي �أول جمموعة �شعرية ين�رشها‬ ‫بني �شعرية الذات مت�أثرا بويتمان‪ ،‬و�شعرية‬
‫�رسكون بول�ص يف اليونان عام ‪.1985‬‬ ‫عابرة» الأ���س��ط��ورة مت�أثرا بباوند‪ ،‬راف���دا �إياهما‬
‫تعك�س املجموعة احلياة البوهيمية التي عرفها ال�شاعر‬ ‫مبرجعيات جمالية وروح��ي��ة �أخ���رى‪ ،‬من‬
‫يف بداية حياته وي���ؤرخ ملنعرجات التيه يف املدن‪،‬‬ ‫كتابات وليام باليك‪ ،‬وول��ي��ام كارلو�س‪ ،‬وليامز‪،‬‬
‫والأرياف‪ ،‬وال�صحاري‪.‬‬ ‫وال�سورياليني الفرن�سيني‪� ،‬إ�ضافة �إىل تعاليم ا�ستقاها‬
‫يقول يف الق�صيدة الأوىل من املجموعة حتت عنوان‬ ‫من مدار�س دينية وفل�سفية مثل‪ ،‬الغنو�صية والبوذية‬
‫«هناك رحالت»‪.‬‬ ‫والهندو�سية وال�صوفية وال�شامانية وبع�ض �أنبياء‬
‫«�أ�صل �إىل وطني بعد �أن عربت‬ ‫اليهود «‪ .‬وقد �سخر �شعره من �أجل قيم �إن�سانية كربى‬
‫نهرا يهبط فيه املنجمون ب�آالت فلكية �صدئة‬ ‫قوامها الت�سامح واملحبة‪ ،‬وتقبل الآخر‪ ،‬والتحرر من‬
‫مفت�شني عن النجوم‪.‬‬ ‫التابوهات االجتماعية والأدبية‪.‬‬
‫أَ� ْو لاَ�أ�صل �إىل وطني‬ ‫يظهر �أن ق�صيدة النرث مع �رسكون بول�ص �ستلج عامل‬
‫‪82‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سيحكي على غرار «�ألف ليلة وليلة»‪ ،‬لكن ال�شاعر يتخذ‬ ‫بعد �أن عربت نهرا ال يهبط فيه �أحد‪.‬‬
‫من هذا العنوان ذي احلمولة الالنهائية‪ ،‬والذخرية‬ ‫هناك رحالت‬
‫ال�رسدية‪ ،‬ليفاجئ القارئ يف نهاية الق�صيدة بقوله‪:‬‬ ‫�أعود منها �ساهما‪.‬‬
‫وهكذا التقطت خيط الرحلة من الرتاب ب�أ�سناين‬ ‫نحيال كظل �إبرة»‪.‬‬
‫وا�ستغرق و�صويل �إىل بيتي �ألف ليلة‬ ‫فالعبور‪ ،‬والنهر‪ ،‬والرحالت كلها مداخل تنري الطريق‬
‫وليلة‪.‬‬ ‫�أمامنا للإيغال يف عوامل �رسكون بول�ص‪ ،‬الذي يحاول‬
‫يت�أ�س�س متخيل جتربة �رسكون يف هذه املجموعة‪ ،‬على‬ ‫�أن ير�صد عرب هذا التيه حت��والت الكائن‪ ،‬وم�صائر‬
‫الرغبة يف العودة �إىل حميمية املنزل‪ ،‬بعد حلظة تيه‪،‬‬ ‫الب�رشية يف املدن الكبرية‪:‬‬
‫ومن ثم ف�إن ح�ضور اال�سطورة يعك�س هذه العالقة‪،‬‬ ‫�ألتقي بفالح جن يف املجاعات‬
‫فخيط �أَ ْر َيان‪ ،‬املن ِق ُذ من �ضالل املتاهة‪ ،‬هو ال�ضامن‬ ‫ي�شحذ يف م�ساء املدن الكبرية‪.‬‬
‫لهذه الرغبة الدفينة يف العودة �إىل الرحم و�إىل مكان‬ ‫وامر�أة ت�سري على �ضياء �شعرها الطويل‪.‬‬
‫والدة الأوىل ولكي نعمق اال�ستدالل على هذه الرغبة‬ ‫بني اخلرائب‬
‫يف العودة �إىل رحم الوالدة يقول �رسكون يف ق�صيدة‬ ‫�أطلق �رساح عيني و�أ�سافر ‪.‬‬
‫«ال�ضيف البعيد» �ضيف امل�سافة‪.‬‬ ‫فم�صري ال�شاعر يف هذا التيه‪ ،‬ويف هذه االلتقاءات‬
‫«طيلة �سنوات‪ ،‬جترين اليقظة من ثيابي‬ ‫بكائنات منك�رسة رو�ضتها املجابهات‪ ،‬وهربتها نحو‬
‫�إىل �أماكن مل يرها �أحد‪.‬‬ ‫املدن‪� ،‬أو فعل فيها الزمن فعلته‪ ،‬ك�أن ت�ستهدي عجوز‬
‫�إال نائما �أو خممور‬ ‫ب�شعرها الطويل الذي �أبي�ض من امل�آ�سي‪ ،‬هو م�صري‬
‫�أكتب باليد التي هجرتني‬ ‫«من يحمل قطرة ماء وحيدة عرب �صحراء»‪ ،‬يتيه يف‬
‫ولكي �أرى هذا امل�صباح الذي وجدته‬ ‫�صحراء ال يقوده وال يهديه �سوى اللم�س‪ ،‬هذا التائه‬
‫مليئا بالرمل يف �إحدى �أ�صعب رحالتي‬ ‫الأعمى‪ ،‬توقظه كل �صيحة تنطلق من نافذة بعيدة‬
‫ي�ضيء حتى مرة واحدة‬ ‫فيتبعها‪.‬‬
‫علي �أن �أبني بلدة جديدة‬ ‫«كالأعمى الذي يغزو الهواء بيديه‬
‫�أعرف �أن علي �أن �أموت حيث ولدت‬ ‫نحو �أقطار عدوة‬
‫لكن قبل ذلك دعوين �أكمل والدتي‪.‬‬ ‫هربت �إليها عيناه وطولب باجلزية‪.‬‬
‫بالفا�س الراحلة خلف ثعبان‬ ‫�أ�سمع الريح ب�أظافري‬
‫بالغراب الذي يجربين‬ ‫و�أعرف �أين تختبئ عرو�سي‬
‫�أن �أطرده من ال�شجرة باحلجارة»‪.‬‬ ‫تكاد جمموعة «الو�صول �إىل مدينة اي��ن» �أن تكون‬
‫هذا املقطع من الق�صيدة ي�شكل انزياحات جمازية‬ ‫معجما لال�سفار‪ ،‬وللت�سكع يف امل���دن‪ ،‬وعلى هذه‬
‫من حيث العالقة بني العالمات اللغوية؛ ويت�أ�س�س‬ ‫املو�ضوعة ينوع �رسكون بول�ص جمله ال�شعرية التي‬
‫من خالل �شبكة ترميزية عنا�رصها ال�صحو‪ ،‬وال�ضوء‪،‬‬ ‫اعتمدت احلكي مبثابة ا�سرتاتيجية لبناء الق�صيدة‪،‬‬
‫واحل��ي��اة امل��ت��ج��ددة‪ ،‬والرغبة يف بناء ع��امل جديد‪،‬‬ ‫وتهج�س �أغلب الق�صائد بالو�صول امل�ستحيل ملدينة‬
‫فالثعبان ي�شكل مع الغراب ثنائية �ضدية‪ ،‬ف�إن كانت‬ ‫ال يعرفها‪ .‬معتمدا على تقنية ترا�سل احلوا�س يف بناء‬
‫رمزية الثعبان توحي باحلياة املتجددة‪ ،‬فالغراب‬ ‫�صوره ال�شعرية‪.‬‬
‫يهددها‪.‬‬ ‫يف ق�صيدة بعنوان «�ألف ليلة وليلة» الذي يفتح فيها‬
‫لأن رمزية الغراب املتعددة ت�شي يف بع�ض دالالتها �إىل‬ ‫ذهن القارئ على ا�سرتجاع الن�ص احلكائي ال�شهري‪،‬‬
‫«املبعوث الذي يقود الأرواح يف �سفرها الأخري»؛ وهذا‬ ‫يتالعب ال�شاعر ب�أفق التوقع‪ ،‬ويوهم ال��ق��ارئ �أنه‬
‫‪83‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بكربيت الوقائع اليومية‬ ‫احل�ضور لهذا الطائر الأ�سود اللون ي�ستدعي مبا�رشة‬
‫باحتقار الدخول �إال اقتحاما‬ ‫رمزية الطوفان التي يعتمد عليها �رسكون يف �أكرث من‬
‫من الأبواب املح�صنة»‪.‬‬ ‫مرة يف �شعريته‪ ،‬باعتبارها رمزية للوالدة الثانية‪،‬‬
‫فالعنقاء الطائر اخلرايف رمز امليالد اجلديد‪ ،‬مل تعد‬ ‫ومن ثم فهذه الرمزية االنبعاثية تعترب خلفية م�ضمرة‬
‫يف هذا املقطع كما وظفت يف �شعر التموزيني بل هي‬ ‫يف توليد الداللة ال�شعرية عند �رسكون‪ .‬فالغراب هذا‬
‫عنقاء يجددها اليومي‪ ،‬فال�شعر ال يكتب من خالل‬ ‫الطائر املبعوث من قبل نوح كي يخربه بالياب�سة‪.‬‬
‫املتعايل بل هو انغما�س وا�شتباك مع الوقائع اليومية‪،‬‬ ‫وبذلك يكت�سي رمزية خرية بدل الرمزية التي �أحلقت به‬
‫هو اقتحام للأبواب املح�صنة‪ .‬ال يعرف املهادنة‪.‬‬ ‫م�ؤخرا �أنه رمز ال�ش�ؤم‪ .‬وتتواتر رمزية ع�شبة اخللود يف‬
‫حاولنا �أن نبني �أن جتربة �رسكون بول�ص يف ديوانه‬ ‫�أماكن عديدة من �شعر �رسكون‪ ،‬يف �إحالة �إىل �أ�سطورة‬
‫الأول مرتبطة بالعبور والرتحال والتيه والو�صول‬ ‫بالد الرافدين‪� ،‬أ�سطورة جلجام�ش ال��ذي �ضيع نبتة‬
‫�إىل الالمكان‪ .‬جتربة ي�صل فيها ال�شاعر ليذهب؛ ف�إذا‬ ‫اخللود يف طريق العودة‪ ،‬والذي �رسقها هو الثعبان‬
‫ت�أملنا اجلملة الأوىل يف ال��دي��وان جندها كالتايل‪:‬‬ ‫الذي بدوره �أ�ضحى رمزية للخلود وا�ستمرارية احلياة‬
‫«�أ�صل �إىل وطني بعد �أن عربت»‪ .‬واجلملة الأخرية فيه‬ ‫وجتددها‪.‬‬
‫«�أريد �أن �أ�شكر الغبار الذي �أحمله كالإرث �أينما ذهبت‬ ‫يف ق�صيدة «التوطئة» يقول‪:‬‬
‫«‪ ،‬ن�سجل �أن ال�شاعر مل يقم بذلك اعتباطا‪ ،‬فهذا الأمر‬ ‫«وقيل �إنك ع�شت يف الغابات واملدن‪.‬‬
‫ينم على �أن ال�شاعر ال يح�شد الن�صو�ص يف ديوانه‬ ‫وخالطت الربابرة‪� ،‬أ�صبحت �ضيف امل�سافة‪� :‬أ�ضواء‬
‫كما اتفق‪ ،‬بل يهدف �إىل خلق نوع من الوحدة يف اجلو‬ ‫تدعوك‪.‬‬
‫العام للن�صو�ص‪ ،‬وليعمق داللة املو�ضوعة التي انبنى‬ ‫يف كل زاوية‪� ،‬أجنبية‪ ،‬يف مرماك‪ ،‬راغبة‪ُ ،‬تنال‪...‬هل‬
‫عليها الديوان منذ العنوان الذي يوحي بالو�صول �إىل‬ ‫وجدت نهر‬
‫الالمكان‪ .‬فبني الو�صول والذهاب –هناك حركة دائمة‪،‬‬ ‫�آبائك؟‬
‫لي�س هناك توقف‪ ،‬والديوان قد ر�صد هذه التنقالت‪.‬‬ ‫�أينما ا�ستدرت‪.‬‬
‫‪� -3‬رسكون بول�ص والإنهمام بال�شكل‪:‬‬ ‫والتقطت ع�شبة جمهولة عند �ضفافه‪.‬‬
‫من خالل تتبعنا للمجاميع ال�شعرية ل�رسكون بول�ص‬ ‫ق��دم ت�سعى‬
‫ف�أكلتها‪ ،‬ال م��اء ف��ج���أة‪ ،‬وال بيت‪� ،‬إمن��ا ُ‬
‫نالحظ‪� ،‬أنه كان من�شغال �أ�سا�سا ب�شكل ق�صيدة النرث‪،‬‬ ‫وطري ُقها؟‬
‫وكان حري�صا على تطويره من جتربة �إىل �أخرى‪ ،‬وكان‬ ‫أ�صبحت قدما ال تعرف طريقها»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫ينوع‪ ،‬من جتربة لأخرى‪ ،‬يف طرائق الكتابة ال�شعرية‪،‬‬ ‫فهذه الع�شبة التي توحي �إىل ع�شبة جلجام�ش‪� ،‬أو ع�شبة‬
‫ففي التجربة الأوىل «الو�صول �إىل مدينة �أين» مار�س‬ ‫املياه اخلالدة يراها �رسكون بول�ص بطريقة �أخرى‪،‬‬
‫نوعا من الكتابة ات�سم بال�رشا�سة والعنف التخييلي‪،‬‬ ‫حيث مل تثمر الع�شبة حياة (م��اء) وال مالذا (البيت)‬
‫واعتمد على ال�صورة ال�شعرية �أداة يف الكتابة‪ .‬وكتب‬ ‫�إمنا هي ع�شبة تعك�س بداخله ال�سفر امل�ستمر‪ ،‬والرتحال‬
‫بنرث يومئ للهدف مبا�رشة‪ ،‬بعيدا عن التهوميات‬ ‫الأبدي‪ ،‬والتيه‪.‬‬
‫وعن الرتهل فكان بذلك ي�سعى �إىل القطع مع ال�سائد‬ ‫هكذا يتعامل �رسكون مع رمزية البعث‪ ،‬فهي مل تعد‬
‫يف ال�شعر املعا�رص له وال�سابق‪ .‬وقد كان �رصيحا يف‬ ‫لديه رمزية �أ�سطورية ذات بعد متعال‪ ،‬وا�ستيهامي‪،‬‬
‫موقفه هذا معلنا ذلك يف �إحدى ق�صائده‪.‬‬ ‫و�إمنا هو بعث �أر�ضي‪ ،‬مرتبط باليومي وباحلياة يف‬
‫�أقف بجانب نف�سي‪ ،‬م�شجعا نف�سي‬ ‫جت�سيديتها‪ .‬يقول‪:‬‬
‫على امل�ضي‪ ،‬والليل والنهار‬ ‫«عندما اكت�شفوا عنقاء ال�شعر بال�صدفة‬
‫تو�أمان �سياميان‬ ‫تختبئ يف �رساديب �رسية و ُت ْ�ش ِعل نف�سها من حني حلني‬
‫‪84‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وديكا �أحمر كان ي�صيح على قبة التنور‪ ،‬عن ب�شائر‬ ‫يلعبان ال�شطرجن على �صدري‬
‫اللذة الأوىل يف‬ ‫وحتى يحركا بيدقا واحدا‬
‫عينيها الكبريتني ‪.‬‬ ‫على النرث ان ين�شب خمالبه‬
‫ويف ق�صيدة «حدود»‪ ،‬ا�ستح�ضار لقريته‪ ،‬والتحوالت‬ ‫يف رقبة ال�شعر الهزيلة‪.‬‬
‫التي �أملت بها‪:‬‬ ‫فخيار ق�صيدة النرث – رغم حتفظه على امل�صطلح‪-‬‬
‫حيث كانت ال�شم�س ترق�ص على نوافذ قرية‪ ،‬ماء يجري‬ ‫مرتبط �أ�سا�سا لديه بتجاوز الكتابة ال�سابقة؛ خ�صو�صا‬
‫يف الب�ساتني‬ ‫ما يدعوهم بجيل الرواد يف ق�صيدة التفعيلة‪ .‬لقد انحاز‬
‫مل يعد �سوى نهر من الرمال املتخمة حتى االختالج‪.‬‬ ‫مبكنته �أن يالئم‬
‫لهذا ال�شكل يف الكتابة لأنه �شكل مطواع ُ‬
‫�سلطان املتاهة‪ ،‬ال ينمو على �ضفافه‬ ‫طبيعة التجربة احلياتية التي عا�شها �رسكون بول�ص؛‬
‫�سوى الزمان‪ ،‬هنا‬ ‫فالتيه‪ ،‬والت�سكع‪ ،‬والتجربة الأمريكية‪ ،‬والرتحال؛‬
‫كان �سركون‬ ‫خلف احلدود ‪.‬‬ ‫ُي ْ�س ِع ُف ُه يف ْ‬
‫ا�س ِت ْن َفاد كل الإمكانيات التخييلية حول هذه‬
‫ث��م ي�ستح�رض ���ص��داق��ات ت��ع��ود �إىل ف�ترة‬ ‫املو�ضوعة التي تعترب النواة املركزية التي تفرعت‬
‫من�شغال ب�شكل‬
‫ال�ستينيات بالعراق‪� ،‬أ�صدقاء عرفوا جتربة‬ ‫عنها ق�صائده‪ .‬فهذه الطالقة يف تقليب املو�ضوعة‬
‫االعتقال و�أ�صبحت هذه التجربة لديهم رواية ق�صيدة النثـر‪،‬‬ ‫املركزية وتنويع تناولها برهنت عن متكن ال�شاعر من‬
‫مفتوحة يحكونها بال توقف يف املقاهي‬ ‫هذا ال�شكل املعقد‪ ،‬وعلى ا�ستيعاب �آلياته الدقيقة‪.‬‬
‫وحري�صا على‬ ‫كتعوي�ض عن �إفال�سهم‪:‬‬ ‫ويف املجموعة الثانية «احلياة قرب الأكربول» الذي‬
‫ر�أيته ينزل الدرج امل�ؤدي �إىل غرفة «�سعاد» تطويرها من‬ ‫كتبه عن جتربته يف اليونان ا�ستبدل بال�صورة ال�شعرية‬
‫املمر�ضة التي تعطف على ال�شعراء املفل�سني‬ ‫وبالت�شبيهات ال�رس َد‪ .‬فهذا الإبدال ينم عن وعي حاد‬
‫جتربة �إىل‬ ‫يف مقهاهم املتوا�ضع قريبا‬ ‫ب�صريورة التجربة ال�شعرية لديه‪ ،‬ففي كل جمموعة‬
‫�أخرى‬ ‫من غرفتها‪ ،‬حيث يجل�سون قبالة �ساقية‬ ‫يحاول �أن ي�ضيف جديدا لق�صيدة النرث‪ ،‬ويطعمها‬
‫من الوحول جتري و�سط الزقاق ‪.‬‬ ‫بتقنية مغايرة؛ فهو �إن كان �صارما جتاه التجارب‬
‫ويتذكر وجوها من احلياة العادية‪ ،‬ففي‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬ف�إن هذه ال�رصامة ميار�سها على ذاته‪ ،‬وعلى‬
‫ق�صيدة «حياة امليكانيك عبد الهادي من باب ال�شيخ‬ ‫ق�صيدته‪.‬‬
‫« رجل من ال�ستينيات ي�ضع له بورتريها ي�ؤثث عالقة‬ ‫هيمن ال�رسد يف جمموعة «احلياة قرب الأكربول»‪،‬‬
‫حميمية مع البندقية التي ال تفارقه يف الأح�لام‬ ‫و�صاحبته الذكرى كمو�ضوعة لكنها ذكرى غري مفرطة‬
‫واليقظة يف حالة ال�صحو وال�سكر‪ ،‬وي�صور الف�ضاء الذي‬ ‫يف عاطفيتها‪ ،‬فاحلنني ل��دى ال�شاعر لي�س حنينا‬
‫ي�شتغل فيه‪ ،‬ف�ضاء مقرف تفوح منه رائحة الزيوت‬ ‫رومان�سيا مغلفا بتهوميات ومبالغات وبت�ضخيم‬
‫امليتة‪ ،‬وبول اخليول العثمانية على �آالت الت�شحيم‬ ‫للحالة النف�سية �إنه احلنني كما هو؛ كما يح�سه ال�شاعر‬
‫املك�رشة يف الأركان ب�أ�سنانها البليدة‪ .‬ير�صد �رسكون‬ ‫يعرب عنه‪.‬‬
‫يف هذه الق�صيدة حياة الب�ؤ�س ملكيانيك من ال�ستينيات‬ ‫ُن ْل ِفي يف �سل�سلة من الذكريات ثبتها �رسكون بول�ص‬
‫يف العراق‪.‬‬ ‫�شعريا‪ ،‬ذكرى املع�شوقة‪:‬‬
‫«ب ْ�س َتان الآ�شوري املتقاعد» هناك �أي�ضا‬ ‫يف ق�صيدة ُ‬ ‫هناك تذكر ���س��ارة‪ .‬تذكر �سارة التيمية و�أنفا�سها‬
‫ا�ستح�ضار للحظة مريرة لقلع �رض�س بخيط مثبت‬ ‫املبهورة هناك‬
‫ب�أكرة الباب‪ .‬ولإي�صال وقع هذا الأمل الذي واجهه هذا‬ ‫يف ذلك ال�صباح املت�ألق برمله الذهبية بني فخديها‬
‫الأ�شوري املتقاعد‪ ،‬ير�سم ال�شاعر لوحة مفزعة ومقززة‬ ‫على �إحدى �ضفاف‬
‫موطئا بها مل�شهد الأمل‪:‬‬ ‫الفرات‬
‫‪85‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ب�أفواه جذىل و�صولهم ‪.‬‬ ‫«النجوم تنطفئ فوق �سقوف كركوك وتلقي‬
‫وت�ستح�رض �شخ�صيات آ����ش��وري��ة‪ ،‬م���ردوخ‪ ،‬ع�شتار‪،‬‬ ‫الأفالك برماحها العمياء‪� ،‬إىل �آبار النفط امل�شتعلة‬
‫إيرا و�أ�شياء �أثرية‪ ،‬بقايا‬
‫�سموقان‪� ،‬أنوناكي‪ .‬املحارب � َ‬ ‫يف الهواء‪� ،‬إىل كلب ينبح يف الليل‪ ،‬مقيدا �إىل املزراب‪،‬‬
‫من بوابة نركال‪ ،‬واحلجارة القدمية‪.‬‬ ‫حزنا؟‬
‫واللحظة الثانية ت�شكلت عبرْ َ �إدانة �صارخة‪ ،‬وح�رسة‬ ‫�أو رعبا �أو ندما‪ ،‬و�ضفادع جتثم على �أعرا�شها الآ�سنة‬
‫لتغريب هذه املنحوتة عن �سياقها احلقيقي‪ ،‬فهذه‬ ‫يف ب�ستان مهجور عندما‬
‫املنحوتة منزعجة ب�سبب ال�ضو�ضاء‪ ،‬مل تعد لها‬ ‫ت�شق حجاب الليل �رصخة مقهورة‪ .‬إ�ن��ه الآ���ش��وري‬
‫قيمتها احلقيقية يف بلدها الأ�صلي‪ .‬فهي قد �سلبت‬ ‫املتقاعد يقلع �رض�سه»‪.‬‬
‫دورها القد�سي‪ ،‬ولطخت بدن�س «هذه الب�رشية الغريبة‬ ‫�إن خلق احلالة ال�شعرية مل يعد مرتبطا مع �رسكون‬
‫و�آالتها»‪ .‬وانعك�ست هذه احل�رسة يف نهاية الق�صيدة‪:‬‬ ‫بول�ص‪ ،‬ومع �شعراء ق�صيدة النرث‪ ،‬بطبيعة املو�ضوع‪،‬‬
‫تبت‬
‫ماذا ر�أيت يا عيون ال�سومريني الكبرية‪� ،‬أي ل�ص ْ‬ ‫فاحلالة ال�شعرية ميكن �إحداثها لدى القارئ من خالل‬
‫يداه‬ ‫املو�ضوع املبتذل والعادي‪� .‬أو حتى من املو�ضوع‬
‫أ�ت��ى بك �إىل ه��ذه اجل��زي��رة‪ .‬من �سيخ�شع لك يف هذا‬ ‫املقزز وامل�ؤمل كما هو احلال بالن�سبة لهذا الآ�شوري‬
‫ال�رسداب؟‬ ‫املتقاعد‪.‬‬
‫�أي ل�ص يف �أي ليل بهيم‪� ،‬أتى بك �إىل هذا املكان؟‬ ‫تناول هذا املو�ضوع‪ ،‬بهذه الطريقة يخلق لدى القارئ‬
‫تعك�س هذه الق�صيدة بع�ضا من �صنعة �رسكون ال�شعرية‪،‬‬ ‫نوعا من التعاطف مع هذه احلالة الإن�سانية‪� .‬إذ �أمام‬
‫وتربز قدرته على النجوى والإح�سا�س ب�أ�شياء العامل‪،‬‬ ‫الأمل ت�صبح كل الإمكانيات واردة‪.‬‬
‫والغو�ص يف روح املادة‪ ،‬وجعل املو�ضوع يتحدث �إليه‬ ‫مل تعد ال�����ص��ورة ال�شعرية ه��ي التي حت��دث احلالة‬
‫بدل �أن نتحدث عنه‪.‬‬ ‫ال�شعرية يف املجموعة الثانية‪ ،‬و�إمنا ال�رسد هو الذي‬
‫لقد كانت معظم كتابات ��سرك��ون بول�ص منذ �أن‬ ‫�أ�صبح م�س�ؤوال على �إح��داث هذه احل��االت ال�شعرية‪،‬‬
‫غادر العراق حماولة بالغة اجلهد عرب مئات الق�صائد‬ ‫ور�سم ال�شخ�صيات‪� .‬رسد ان�سيابي يلتقط حلظات حنني‬
‫للتعامل فنيا مع مو�ضوعة احلنني‪ ،‬وما كان يخ�شاه‬ ‫�أو حلظات �أمل �أو ح�يرة‪ .‬وقد تتخذ الذكرى يف هذه‬
‫باعتباره �شاعرا هو ال�سقوط يف فخ الإ�رساف العاطفي‪،‬‬ ‫املجموعة طرقا اخرى مقنعة تف�سح املجال ال�ستح�ضار‬
‫وقد كان يحرت�س من الوقوع يف هذا البعد العاطفي‬ ‫ح�ضارة ب�أكملها من خالل حتفة فنية هربت �أو �رسقت‬
‫املبالغ فيه‪ ،‬عرب اال�شتغال على الكون ال�شعري لديه‪،‬‬ ‫من بالد الرافدين‪.‬‬
‫وقد وجد يف اللغة العربية بغيته وحبل ال�رس الذي‬ ‫هذه اللوعة واحل�رسة والإدانة للعبث بذاكرة ح�ضارة‬
‫يربطه ب�شعبه وتاريخه‪ ،‬وقد �رصح يف �أحد حواراته‬ ‫قدمية ج�سدتها ق�صيدة بعنوان «�أمام منحوتة يف ق�سم‬
‫ب�أن اللغة العربية‪« :‬هي الوطن احلقيقي الوحيد الذي‬ ‫الآ�شوريات باملتحف الربيطاين»‪.‬‬
‫� ْأم ِلك»؛ ولكي يعالج هذا املو�ضوع املركزي –املنفى‪-‬‬ ‫فال�صوغ ال�شعري يف هذه الق�صيدة التي انبنت على‬
‫طور يف التقنية ال�شعرية عرب �سنوات طوال‪ .‬فق�صائده‬ ‫خلفية فن النحت‪ ،‬ت�شكل من خالل حلظتني‪ :‬الأوىل متت‬
‫الأوىل كانت ق�صائد متفجرة‪ ،‬وق�صائد حرية‪� ،‬إذ كانت‬ ‫عرب تفريغ حمتوى املنحوتة �شعريا‪ ،‬وو�صف مكوناتها‬
‫لديه فكرة «الو�صول �إىل مدينة أ�ي��ن»‪ ،‬حمتجزة بني‬ ‫ومو�ضوعاتها‪ ،‬منحوتة تعك�س خدعة حربية‪:‬‬
‫كلمتي الو�صول والذهاب‪ ،‬فالقارئ ما �إن ي�صل يف‬ ‫جندي يدحرج برحمه الطويل �سلما َي ْن ُغل بالأعداء‬
‫بداية املجموعة حتى يفاج أ� بالذهاب يف نهايتها؛‬ ‫عن جدار القلعة البابلية‪� ،‬إىل النهر الهادئ يف الأ�سفل‬
‫وك�أن ال�شاعر ا�شتغل يف جمموعته على مقولة القدي�س‬ ‫حيث تنتظر‬
‫�أوغ�سطني «�إن��ه لي�س هناك مكان نحاول �أن نذهب‬ ‫الأ�سماك‬
‫‪86‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مد�شنا جمموعته با�ست�شهاد دال من ملحمة جلجام�ش‪:‬‬ ‫وجنيء �إليه‪ ،‬ولكن لي�س ثمة مكان»‪.‬‬
‫«�إىل �أر�ض الأحياء‪ ،‬تاق ال�سيد �إىل ال�سفر»؛ لتتنا�سل‬ ‫لقد حاول ال�شاعر �أن ي�ضم يف هذه املجموعة جوهر‬
‫امل��دن‪ ،‬والأمكنة‪ ،‬وال�����ش��وارع‪ ،‬واحل��ان��ات‪ ،‬واملواقع‬ ‫الأ�صوات املتعددة‪ ،‬كتب الق�صائد املتفجرة‪ ،‬مركزا على‬
‫التاريخية‪ ،‬وال�شخ�صيات الرمزية ذات احلمولة الفكرية‬ ‫النرث ب�صورة تامة‪ ،‬وعلى الق�صيدة ال�رش�سة‪ ،‬وال�صوت‬
‫والأدبية وال�صوفية‪ .‬واللقاءات‪ ،‬والذكريات و�أحالم‬ ‫ال��ذي يواجه املو�ضوع مبا�رشة‪ ،‬واعتمد التقطيع‪،‬‬
‫الطفولة‪ .‬فمن فندق باحلي الالتيني �إىل بار النور�س‬ ‫واجلمل الطويلة‪ ،‬وا�شتغل على الق�صيدة التوقيع مثل‬
‫يف �سان فران�سي�سكو‪ ،‬من �ساحة يف �أثينا �إىل �أملرية‬ ‫ق�صيدة اجلالد‪:‬‬
‫يف الأندل�س‪ ،‬من فا�س ذات الأ�سوار �إىل مكنا�س‪ ،‬من‬ ‫�أيها اجلالد‬
‫باري�س �إىل ليل يف نيويورك‪.‬‬ ‫ُع ْد �إىل قريتك ال�صغرية‬
‫ال بد واحلالة هاته �أن تتداعى لدى قارئ هذه املجموعة‬ ‫لقد طردناك اليوم‪ ،‬و�ألغينا هذه الوظيفة ‪.‬‬
‫�صورة ال�سندباد‪ ،‬هذا التوقع مل يخيبه ال�شاعر‪ ،‬حيث‬ ‫بهذا التكثيف والرتكيز يدين القمع‪ ،‬ويتخل�ص من‬
‫عنون �إحدى ق�صائد املجموعة «عقدة ال�سندباد»؛‬ ‫الطاغية الذي مازال �شبحه يالحق ال�ضحايا �إىل الآن‪.‬‬
‫كان ال�سندباد ي�صل دائما‬ ‫فالقرية ال�صغرية هي ب�ؤرة املفارقة يف الن�ص‪ ،‬قرية‬
‫�إىل تلك الدورة املو�سمية التي ت�أتي‬ ‫تنبت طاغية !‬
‫بتوقيت �أكيد‬ ‫كانت ال�صورة املكثفة لديه هي ج��واز امل��رور �إىل‬
‫ل َت ْج َر َ�ش دمه اخلامل من جديد‬ ‫عامل الالوعي؛ والتي تخدم احلالة �أو امل�شهد ال�شعري‬
‫ك�أن �ساحرا متحم�سا يدير عجلة امل�صائر يف اخلفاء !‪.‬‬ ‫الداخلي‪ ،‬فكانت �أحيانا تت�رسبل بلم�سة �رسيالية‪ .‬ويف‬
‫�صورة ال�سندباد تظهر يف جتربة �رسكون يف �أكرث‬ ‫التجربة الثانية‪ ،‬بد أ� يتخل�ص من ال�صورة ويعو�ضها‬
‫من مو�ضع من ق�صائده‪ .‬ففي جمموعته الرابعة يف‬ ‫بال�رسد‪ ،‬الذي �أ�سعفه يف احلديث عن مدينة كركوك تلك‬
‫ق�صيدة بعنوان «مالحظات �إىل ال�سندباد من �شيخ‬ ‫املدينة الغريبة الرتكيب من حيث الأجواء االجتماعية‪،‬‬
‫البحر»‪ .‬ي�ستوحي ق�صة ال�سندباد كما وردت يف «�ألف‬ ‫ومن حيث الأقوام التي ت�سكنها‪ ،‬هي خليط عجيب من‬
‫ليلة وليلة»؛ و�إذا كان ال�سندباد قد تخل�ص من �شيخ‬ ‫عرب و�آ�شوريني و�أكراد و�أرمن و�صابئة‪ .‬فكانت بذلك‬
‫البحر باحليلة يف احلكاية؛ ف���إن �سندباد الق�صيدة‬ ‫كركوك هي بداية الكتاب واملنبع واملكان‪ .‬لت�ستمر‬
‫�سقط يف م�صيدة ال�شيخ لتتداخل هويتهما حتى ميكن‬ ‫يف احل�ضور يف جل كتبه‪ ،‬ففي جتربته الثالثة «الأول‬
‫لأحدهما �أن يقول للآخر «يا �أنا»؛ كما جرت العادة يف‬ ‫والتايل» �سيتحدث عنها يف ق�صيدة «نهار يف كركوك»‪.‬‬
‫املخاطبات ال�صوفية؛‬ ‫ي�ستمر �رسكون يف هذه املجموعة يف تتبع بو�صلة‬
‫ال حتاول �أن تهرب مني‬ ‫التيه واالكت�شاف على طريقة يولي�س‪ .‬مكتنزا باملعرفة‬
‫وان�س البحر‪ ،‬قل وداعا للتجارة‬ ‫والتجارب احلياتية الهامة‪:‬‬
‫لقد قطعت اليوم حبل انتظاري‬ ‫ت�سبح نحو �شاطئ‬
‫ومنذ الآن يا�سندباد‬ ‫كلما اقرتبت منه‪� ،‬صار ين�أى‬
‫�سوف حتملني على ظهرك القوي كَ أَ� َن َنا واحد‬ ‫نحو �شيء ر�أيته‬
‫�أنا و�أنت‪ ،‬أَ� ْن َت َنا‪ ،‬أ� َن ْن َت‬ ‫يتقلب يف الظلمة كفانو�س َم ْركَ ب‪.‬‬
‫لن�ستك�شف هذه اجلزيرة ‪.‬‬ ‫عابر ومثري‪.‬‬
‫يف هذه التجربة‪ ،‬اعتمد �رسكون‪ ،‬من الناحية ال�شكلية‬ ‫�أو ي�شتعل مثل ثقاب‬
‫على تنويع كتابة ق�صيدة النرث ب�أ�شكال متعددة‪ ،‬فمرة‬ ‫يقاوم االنطفاء يف م�رسب الريح ‪.‬‬
‫يعتمد ق�صيدة الكتلة (�أخطاء امل�لاك)؛ وم��رة يكتب‬ ‫ي�ست�أنف ال�شاعر حديثه عن ال�سفر‪ ،‬والتيه‪ ،‬واملكان‪،‬‬
‫‪87‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ت�أ�سي�سا على ما �سبقت الإ�شارة �إليه‪ ،‬نلمح كيف �أن‬ ‫الق�صيدة على هيئة فقرات (احلافة و�أ�رسارها)‪ ،‬ومرة‬
‫ف�ضاء الق�صيدة املكثفة ي�ست�ضمر عاملا ب�أكمله‪،‬‬ ‫يكتب الق�صيدة يف هيئة الق�صيدة احلرة (مغامرة الفتى‬
‫وير�صد بلغة مكثفة تفا�صيل احلياة اليومية للرجل‬ ‫الهارب من القرية)‪ ،‬ومرة يكتب الأ�سطر مثنى مثنى‬
‫العادي‪.‬‬ ‫(طرق خمتلفة �إىل روما)‪.‬‬
‫‪� -4‬رسكون بول�ص و�أ�سالفه‪:‬‬ ‫وم��رة يكتب الق�صيدة ذات املقاطع (ال��ب��ادئ)‪ ،‬وقد‬
‫يف مقالة كتبها بورخي�س حول «كافكا و�أ�سالفه»؛‬ ‫زاوج يف جمموعته بني الق�صائد الطويلة‪ ،‬والق�صيدة‬
‫ي�ؤكد ب�أن كل كاتب يخلق �أ�سالفه؛ مبعنى �أن الكاتب‬ ‫الوم�ضة‪ .‬القريبة من ق�صائد الهايكو ومن النماذج‬
‫املعا�رص حينما ي�سلط ال�ضوء على كتاب �سابقني‪،‬‬ ‫للق�صيدة املركزة واملكثفة نورد ق�صيدته «حتوالت‬
‫ف�إنه يعيد خلقهم من جديد‪ ،‬ويثري االنتباه لبع�ض من‬ ‫الرجل العادي»‪:‬‬
‫خ�صائ�صهم التي مل تكن مدركة من قبل‪.‬‬ ‫�أنا يف النهار رجل عادي‬
‫ونلم�س ل��دى �رسكون بول�ص ه��ذا االهتمام البالغ‬ ‫ي�ؤدي واجباته العادية دون �أن ي�شتكي‬
‫ب�أ�سالفه املتنوعني‪ ،‬قدامى ومعا�رصين؛ مما يدل على‬ ‫ك�أي خروف يف القطيع‪ ،‬لكنني يف الليل‬
‫�أن ال�شاعر يعترب �أن مملكة ال�شعراء واحدة‪ ،‬و�أن لديهم‬ ‫ن�رس يعتلي اله�ضبة‬
‫دائرة جتمعهم‪ .‬فحيوات ال�شعراء متداخلة‪ ،‬وم�سرت�سلة‪،‬‬ ‫وفري�ستي ترتاح حتت خمالبي ‪.‬‬
‫وم�صائرهم مت�شابهة‪ ،‬وت�ضحياتهم من �أجل ال�شعر‬ ‫فهذا ال��ن��م��وذج‪ ،‬ه��و �إمكانية م��ن �إمكانيات كتابة‬
‫قا�سية‪� .‬إ�ضافة لهذا امللمح‪ ،‬ن�ست�شف �أي�ضا م�س�ألة هامة‬ ‫ق�صيدة النرث؛ امل�ؤ�س�سة على تكثيف ال��ع��امل‪ ،‬بلغة‬
‫لدى �رسكون بول�ص‪ ،‬وهي ارتباط ال�شعر لديه باملعرفة؛‬ ‫عارية‪ ،‬وباقت�صاد لغوي متوهج؛ فقد بنى ال�شاعر‬
‫فاكت�ساب التجارب الهامة يف احلياة لوحدها ال يكفي‬ ‫عامل الق�صيدة على تقابالت النهار ‪/‬الليل‪ ،‬اخلروف‪/‬‬
‫ما مل ت�سنده معرفة حقيقية بال�شعر وتعقداته‪ .‬و�أعتقد �أن‬ ‫الن�رس‪ .‬فزمن النهار زمن التعب و�أداء الواجب بنوع من‬
‫متيز ال�شاعر �رسكون بول�ص يكمن يف هذا التزاوج بني‬ ‫اال�ست�سالم‪ .‬زمن تهيمن فيه عقلية القطيع‪ ،‬واحل�شدي‪.‬‬
‫التجربة واملعرفة‪ .‬ولذلك فالق�صيدة لديه ا�ست�ضافة‪،‬‬ ‫وغياب ال���ذات؛ ورم��زي��ة اخل��روف ذات دالل��ة بالغة‬
‫يكتبها باليد التي هجرته؛ يكتب ن�صه ال�شعري على‬ ‫من حيث �إحالته �إىل التبعية واالن�صياع للراعي‪،‬‬
‫خلفية طر�س �شفاف‪ .‬يعيد من خالله �إع��ادة ت�شييد‬ ‫واالن�ضباط و�سط احل�شد والقطيع‪� .‬أما زمن الليل‪ ،‬فهو‬
‫ع��وامل ال�شعر‪ .‬هي ق�صيدة ت�ؤ�س�س للحوارية وتكتب‬ ‫زمن التحرر‪ ،‬والعي�ش يف الأعايل‪ ،‬وحتقيق رغبة الذات‬
‫بطريقة ا�صطفائية؛ تنم عن وعي عميق مبرياث ال�شعر؛‬ ‫واجل�سد؛ ولذلك حققت رمزية الن�رس‪ ،‬هذا التحول الذي‬
‫وذلك من خالل اقتنا�ص حلظات م�رشقة فيه؛ فال�شعراء‬ ‫يح�صل للرجل العادي بني زمنني الأول نهاري والثاين‬
‫لديه م�سكونون باالجداد والأ�شباح والأطياف ال�شعرية‬ ‫ليلي؛ فالن�رس باعتباره طائرا يتميز بال�شموخ وارتياد‬
‫والتاريخية‪ .‬وال�شعر نوع من ال�سحر‪ ،‬من املمكن �أن‬ ‫الأعايل‪ ،‬والعزلة والتوحد‪ ،‬ودقة النظر؛ والقوة الرهيبة‬
‫يغري حياة الفرد كاملة‪ .‬و�أن ال�شاعر احلقيقي هو الذي‬ ‫على االفرتا�س‪� ،‬شكل يف الق�صيدة نقطة مف�صلية للداللة‬
‫ميار�س هواية ال�صيد يف الأعايل ويف املياه العميقة‪.‬‬ ‫على التحوالت‪� .‬إذ حتوالت الرجل العادي تبد أ� من نقطة‬
‫فال�شعر بحر‪ ،‬وال�شاعر �صياد‪ .‬وال�شاعر هو الذي يعي�ش‬ ‫االلتزام بالواجبات العادية اليومية التي ينتج عنها‬
‫دميومة البداية؛ وي�ستعري �رسكون بول�ص مقولة ذات‬ ‫نوع من االن�ضباط واخلوف‪ ،‬لت�صل �إىل نقطة التحرر‪،‬‬
‫داللة فل�سفية عميقة لل�شاعر الإيطايل �سيزار بافي�س‬ ‫والتوحد‪ ،‬و�إثبات الذات‪ .‬فالإن�سان العادي امل�سحوق‬
‫من ديوانه «�سي�أتي امل��وت ويكون له عيناك»‪�« ،‬أن‬ ‫باليومي يحتاج �إىل جرعة من احلرية الليلية‪ ،‬ليتقم�ص‬
‫نبد�أ هذا كل ما هناك»‪ .‬وقد جعلها ا�ستهالال لق�صيدته‬ ‫دور الن�رس ال�شامخ‪ ،‬ويعي�ش حلظات من اال�ستعالء‬
‫«البادئ « فال�شاعر بح�سب منظور �رسكون‪ ،‬هو الذي‬ ‫واالرتفاع عن �أر�ضية الواقع‪.‬‬
‫‪88‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إىل �سافو �إىل اليونان‪� ،‬إىل ال�صني‪� ،‬إىل �شعراء الهايكو‬ ‫ما يفت�أ يبد�أ يف كل جتربة من البداية‪ ،‬وهكذا ي�ضمن‬
‫خ�صو�صا با�شو‪� ،‬إىل �شك�سبري �إىل �شيلي و�شعراء احلركة‬ ‫ل�شعره نوعا من احليوية وال��دمي��وم��ة‪ ،‬واالكت�شاف‬
‫الرومان�سية‪ .‬وكلها مناذج خمتارة بدقة‪ ،‬بحيث ي�ؤلف‬ ‫امل�ستمر‪ ،‬فكل جتربة يكون فيها ال�شاعر طفال ينده�ش‬
‫هذا الكتاب حدثا �شعريا واحدا‪ ،‬وك�أمنا ه�ؤالء ال�شعراء‬ ‫�أمام العامل‪ .‬فم�صدر قوة التجربة ال�شعرية لدى �رسكون‬
‫كانوا على اتفاق فيما بينهم على �أن يقولوا �شيئا‬ ‫تكمن يف �أنه دائم البحث والتنقيب يقول‪�« :‬أنا مازلت‬
‫كبريا جدا‪ .‬لذلك فالكتاب ‪-‬يف النهاية‪ -‬هو اهتم �سركون‬ ‫�أعرث على �أ�شياء كل يوم‪ .‬االختبارية هي كلمة ال�رس‪،‬‬
‫نوع من الق�صيدة الواحدة ب�أ�صوات مئات‬ ‫�أي �أن احلقائق الالنهائية موجودة مبطنة يف اللغة‬
‫ال�شعراء»‪ ،‬ف�رسكون مهتم ب�شعر العامل لأنه ب�أ�سالفه‬ ‫نف�سها «‪ .‬فهو يجد �أن اللغة العربية عجيبة جتعله‬
‫يعرف �أننا جميعا يف القارب نف�سه‪ .‬وهذه املتنوعني‪،‬‬ ‫مي�ضي �إىل أ�م��اك��ن جمهولة لي�ستك�شفها «نحن يف‬
‫الفكرة هي �صدى لفكرة مالرمي حول �سعي‬ ‫النهاية جمرد م�ستك�شفني‪ .‬لي�س هناك �شيء نهائي‪،‬‬
‫العامل لكتابة كتاب واح��د‪ ،‬وق��د عمق هذه قدامى‬ ‫رمبا كتبت ق�صيدة خمتلفة غدا‪� .‬أنا ال �أ�ؤمن بقوانني‬
‫الفكرة بورخي�س يف جل �أعماله حول كونية ومعا�صرين؛‬ ‫معينة‪� .‬أ�ؤمن بال�صنعة كثريا‪ ،‬ولكنني �أ�ؤمن �أي�ضا ب�أن‬
‫الأدب‪ .‬الذي يكتب يف حوارية م�ستمرة بني‬ ‫�شعر اللغة العربية له �أ�صول عتيقة جدا «‪ .‬والق�صيدة‬
‫مما يدل‬ ‫الن�صو�ص‪.‬‬ ‫لديه هي خريطة من العالئق بني الكلمات املوجودة‬
‫من ال�شعراء القالئل يف ق�صيدة النرث الذين‬ ‫على ال�صفحة‪ ،‬هذه العالئق تكون يف النهاية عاملا‬
‫على �أنه‬
‫قاموا بحوار مفتوح مع جت��ارب ال�شعراء‬ ‫يكاد يكون كامال «‪ .‬وكما �سلف ونبهنا �إىل �أن �رسكون‬
‫ال�سابقني يعد �رسكون بول�ص �أبرزهم؛ فال يعترب مملكة‬ ‫بول�ص يف ق�صيدته «حتوالت الرجل العادي» ي�ؤمن‬
‫تخلو جمموعة من جماميعه من الإ�شارة �إىل‬ ‫بقيمة الليل كمجال للحرية‪ ،‬و�إثبات الذات‪ ،‬و�إمكانية‬
‫�شاعر عربي قدمي �أو حديث �أو ن�ص �سومري ال�شعراء‬ ‫الت�أمل الهادئ يف ليل املعنى وليل الداخل‪ ،‬فهو ي�رصح‬
‫«جلجام�ش»‪� ،‬أو �شاعر �أورب��ي �أو �أمريكي واحدة‪ ،‬و�أن‬ ‫يف حواره �إىل هذا امللمح الذي ا�ستنتجناه من ق�صيدته‬
‫«بودلري»‪« ،‬بافي�س»‪ ،‬فاييغو‪ ...‬هذا امللمح‬ ‫الوم�ضة يقول‪�« :‬أنا �شخ�ص ليلي‪ ،‬ليلي باملعنى الذي‬
‫ي�ؤكد �أن ق�صيدة النرث العربية مل يكن لديها لديهم دائرة‬ ‫يكف فيه الليل عن �أن يكون وقتا فقط‪� .‬إذ ثمة �أي�ضا‬
‫هاج�س االنقطاع ع��ن امل���وروث ال�شعري جتمعهم‪.‬‬ ‫الليل الباطني الذي �أ�صطاد فيه‪ .‬وك�أي �صياد يف قارب‬
‫احلقيقي؛ فهي يف حالة �رسكون‪ ،‬تقطع مع‬ ‫�أتيه �إىل �أن �أجد‪ .‬ال�سمكة دوما توجد يف الأعماق‪ ،‬لكن‬
‫ال�شعر ال��ذي مل يكن يحمل بداخله �رشوط‬ ‫مثل �سنتياغو «ال�شيخ والبحر» لهمنغواي‪ ،‬عليك �أن‬
‫بقائه‪ .‬فهو يقطع مع ال�شعر الذي انق�ضت �صالحيته‪،‬‬ ‫ت�صطاد ال�سمكة احلقيقية‪ .‬ولي�س �أي �سمكة يف البحر‪،‬‬
‫ويحتفي بال�شعراء احلقيقيني الذين �أخل�صوا لل�شعر‬ ‫ال�سمكة التي هي جديرة باملجازفة وباملوت �أي�ضا «‪.‬‬
‫و�ضحوا من �أجله واكتووا بناره‪.‬‬ ‫�إ�ضافة لهذا املي�سم اال�ستك�شايف عند �رسكون بول�ص‪،‬‬
‫هناك العديد من الق�صائد لدى �رسكون انبنت بالأ�سا�س‬ ‫جند �أنه �أي�ضا دائم التوغل يف قراءة ال�شعر العاملي‪،‬‬
‫على حم��اورة مع �شاعر عربي ق��دمي‪ .‬وق��د ك��ان هذا‬ ‫ال�شعر العربي ال��ق��دمي وال�شعر ال�صيني والياباين‬
‫اال�ستح�ضار ينم عن عالقة �رسية مع ه�ؤالء ال�شعراء؛‬ ‫وال�سن�سكريتي‪ ،‬وقد عك�س هذه ال��روح اال�ستجماعية‬
‫ويعك�س من ثمة تلك الأوا�رص التي يعتقدها �رسكون‬ ‫لإنتاج الب�رشية لل�شعر يف كتابه «رقائم لروح الكون»‪:‬‬
‫يف �أن م�صائر ال�شعراء م�شابهة و�أن حيواتهم متداخلة‪.‬‬ ‫«يبد�أ الكتاب من مرثية بقلم �شاعر م�شهور من جيكور‬
‫و�سنبني طبيعة هذا احلوار املفتوح مع ه�ؤالء ال�شعراء‬ ‫يف العراق‪ .‬وهي عن خراب جيكور‪ ،‬مرثية اعتربها‬
‫انطالقا من جمموعة من الق�صائد وردت موزعة يف‬ ‫مازالت �سارية على و�ضعنا الآن بكل �إن�سانية‪ .‬بادئا‬
‫جماميعه‪ .‬ميكن ت�سجيل �أن ظهور هذه الأوجه ال�شعرية‬ ‫من هناك‪ ،‬مي�ضي الكتاب �شعريا �إىل الآن‪ .‬من هناك‬
‫‪89‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وحيث ترعى يف �أح�شائه باخرة �ضائعة؛ لي�صادف يف‬ ‫بد�أ منذ جمموعته الأوىل «الو�صول �إىل مدينة �أين»‪،‬‬
‫بريوت (مالب�س بودلري الداخلية يف طريقه)‪ ،‬كل هذا‬ ‫حيث عنون �إحدى ق�صائده «�آالم بودلري و�صلت»‪.‬‬
‫الأمل وال�ضياع كان يف (رحلة طويلة ال يعرف فيها �أحد‬ ‫ه��ذه الق�صيدة تعترب انعطافة حقيقية يف م�ساره‬
‫�أحدا)‪( .‬ال ي�رشب �أحد غري �أح�شاء �صديقه املخل�ص)‪.‬‬ ‫ال�شعري؛ �إذ �رصح يف �أحد حواراته‪� ،‬أن هذه الق�صيدة‬
‫�أم��ا يف جمموعته الثانية‪ ،‬ف�إنه يخ�ص�ص ق�صيدة‬ ‫هبطت عليه جملة‪ ،‬ومل يتدخل بعد يف تنقيحها‬
‫ي�ستح�رض فيها �صورة ال�شاعر �أبي متام؛ ويعقد مع‬ ‫وتنقيتها من ال�شوائب‪ ،‬على غري عادته‪ ،‬ف�رسكون ميكن‬
‫ق�صيدته امل�شهورة يف مدح املعت�صم‪:‬‬ ‫اعتباره �شاعرا يحكك ق�صيدته ويتدخل فيها قبل �أن‬
‫ال�سيف �أ�صدق �أنباء من الكتب يف حده احلد بني اجلد‬ ‫ي�صدرها؛ لكن مع هذه الق�صيدة الأمر خمتلف؛ وهي‬
‫واللعب‪.‬‬ ‫قد كتبت يف قرية جبلية لبنانية‪ ،‬قرية ال�شاعر اللبناين‬
‫ح��وارا خفيا‪ ،‬ويكون م��دار الق�صيدة على مو�ضوعة‬ ‫بع ِ�ش ن�رس فوق اجلبل‪ .‬كتبها‬
‫وديع �سعادة‪ ،‬قرية �شبيهة ُ‬
‫احتبا�س و�إبطاء جميء ال�شعر‪ .‬وحول هذه املو�ضوعة‬ ‫ليعك�س من خاللها حلظة حب حقيقي لفتاة درزية؛‬
‫تنت�سج ق�صيدة �رسكون‪ ،‬من خالل ت�شابكات وتلميحات‬ ‫وهو يف �سنة الثامنة والع�رشين‪ .‬كتبها ليتحدث عن‬
‫يكون فيها ن�ص �أبي متام بذرة انطالق لتتخذ الق�صيدة‬ ‫الأمل من و�سط الأح�شاء‪ .‬ولذلك �إذا ت�أملنا الق�صيدة منذ‬
‫عند �رسكون م�سارات �أخرى تبتعد عن احلوار املبا�رش‬ ‫عنوانها الذي يعقد �صلة مع بودلري‪� ،‬صاحب «�أزهار‬
‫مع الن�ص الغائب‪ .‬بل تذهب �إىل ممار�سة نوع من النقد‬ ‫الأمل» �سندرك �أن ح�ضور هذا ال�شاعر ح�ضور مزدوج‪،‬‬
‫املبطن لطبيعة العالقة بني ال�شعر وال�سلطة‪.‬‬ ‫فهو ال�شاعر الذي تعمق يف مو�ضوعة الأمل الداخلي؛‬
‫فال�شاعر كما �صورته الق�صيدة (بعد لأي‪� .‬أمثولة �أبي‬ ‫و�أي�ضا ه��و امل�ؤ�س�س الفعلي جلن�س ق�صيدة النرث‬
‫متام) هو ذلك الذي يبحث عن اخلامت يف بطن �سمكة‪،‬‬ ‫الفرن�سية‪ ،‬وهو املرتجم الناجح لأعمال �أدغ��ار �آالن‬
‫ويف هذا �إحالة �إىل مو�ضوعة ال�شاعر ال�صياد امل�شار‬ ‫بو‪ ،‬وقد كان ت�أثري هذه املرجعية االنكلو�سك�سونية يف‬
‫�إليها �آنفا؛ ت�أتيه الأبيات ال�شعرية بعد لأي (م�شدودة‬ ‫عوامل بودلري وا�ضحا‪ .‬يقول �رسكون يف ق�صيدته مربزا‬
‫الأعناق �إىل غيابها)‪ ،‬وحربه ال ت�شبه حرب ال�سلطان‪.‬‬ ‫احلدود الق�صوى لآالمه ومتزقات روحه‪.‬‬
‫�إنها احلرب وهو الذاهب �إليها‪.‬‬ ‫جننت من الإفال�س واملحبة‪.‬‬
‫لي�س �أقل يف �شجاعته من بطل‪� ،‬شديد احلمق انتهى‪.‬‬ ‫وذات ليلة حتول �إفال�سي �إىل طري‬
‫لتوه من �سبك �سالحه‪ ،‬لكن بال تر�س لوقايته فهذه حرب‬ ‫وحمبتي �إىل جمرة‪.‬‬
‫خفية على العني‪ ،‬وجراحها ال ميكن �أن تتقى ‪.‬‬ ‫هرب الطري‪ ،‬بقيت اجلمرة‪.‬‬
‫الكلمات لديه ال ت�ست�سيغ طعم ذلها؛ ما دام العر�ش‬ ‫يف اجلمرة دخلت �أخريا‪.‬‬
‫اخل�شبي �إذ يغرق ال يخلق �إال دوامة �ضئيلة ؛ وما دام‬ ‫نزلت �إىل �أح�شائها وحفرت جمالها‪.‬‬
‫(الرتاب ال يذكر �ألقاب اجلمجمة) ‪.‬‬ ‫�أيقنت من عزلتها و�أنا �أدخل و�أتعرث بغيمة غ�ضبي‪.‬‬
‫�إن��ه �سلطان ال�شعر ال��ذي يهزم كل �سلطة‪ .‬بعيدا عن‬ ‫لأن عزلتي كانت قوية جدا‪.‬‬
‫الل�صو�صية واال�ستجداء «كل بنك حم�صن يخلق جيال‬ ‫ودخلت ‪.‬‬
‫جديدا من الل�صو�ص «‪.‬‬ ‫هي بالفعل حلظة ا�ستبطانية لآالم الداخل‪ ،‬م�ؤثتة‬
‫فال�شاعر يف الق�صيدة‪ ،‬بال طبول‪ ،‬وال بيارق‪ ،‬وال جمد‬ ‫مبعجم ينهل من اللوعة وال�ضياع‪ ،‬واالنفالت‪ ،‬واالكتواء‬
‫طاوو�سي‪� .‬إنه �صياد‪ ،‬وداهية‬ ‫بجمرة الفقدان‪ .‬حيث املا�ضي ال ميكن �صيده‪ ،‬ينفلت‬
‫هذا ال�صياد الذي يريد �رشاكا‬ ‫با�ستمرار‪ ،‬والهبوط �إىل اجلحيم الالنهائي‪( ،‬رجل‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫يحمل جمرة يف يده حتتوي رجال يحمل جمرة يف يده)‪،‬‬
‫‪90‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الآ�شوريون‬
‫وغزو اليمن‬
‫فا�ضل الربيعي‬
‫باحث من العراق‬

‫خالل حملتني متتاليتني‪ ،‬متكن كل من امللك �سنحاريب ‪� -‬سنحريب ‪ 669-680‬ق‪.‬م)‬


‫وولده �أ�رسحدون ‪ 669-680‬ق‪.‬م‪ ،‬من فر�ض ال�سيطرة على �أجزاء وا�سعة من اجلزيرة‬
‫العربية‪ ،‬و�إخ�ضاع القبائل املتمردة هناك‪ .‬وبح�سب جواد علي؛ ف�إن نعت امل�ؤرخ‬
‫اليوناين هريودوت‪ ،‬ل�سنحاريب ب�أنه (ملك العرب والآ�شوريني) هو ت�أكيد لنجاحه‬
‫يف قمع مترد الأعراب على الإمرباطورية يف موا�ضع عدة‪ .‬ويبدو من ال�سجالت التي‬
‫و�صفت احلملة‪� ،‬أن جي�ش �أ�رسحدون واجه �أثناء اخرتاقه البادية م�صاعب و�أهواال ً‬
‫ي�صعب تخطيها‪ ،‬فعدا عن وعورة الأماكن التي كان عليهم اخرتاقها ملطاردة القبائل‬
‫املتمردة‪ ،‬كانت هناك م�صاعب وخماوف من نوع �آخر‪ ،‬فقد �شكا اجلنود لقائدهم‬
‫مبرارة من كرثة الثعابني والأفاعي التي تطري يف ال�سماء‪.‬‬

‫منحوتات �آ�شورية‬

‫‪91‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ي�رشف كثريا ً من امل�رصيني(‪.)2‬‬ ‫وكانت تهاجم املع�سكرات ليال ً ‪ ،‬وتثور عليهم‬


‫ومن الوا�ضح �أن هذا املكان ال �صلة له بفل�سطني‬ ‫وتقفز �أمامهم كما يذكر ن�ص �أ�رسحدون‪ ،‬ومن‬
‫هريودت‪ ،‬يقع يف �شبه اجلزيرة‬ ‫ُ‬ ‫وهو كما ارت�أى‬ ‫بينها ثعابني ذات ر�أ�سني �أو �أجنحة‪ .‬وعندما‬
‫العربية‪ .‬لقد وا�صل اجلي�ش زحفه برغم هذه‬ ‫�سار جي�ش �أ��سرح��دون يف �أر���ض بزو ‪،Bozu‬‬
‫امل�صاعب والأه����وال وا���س��ت��وىل على �أم��اك��ن‬ ‫�شاهد اجلنود كيف �أن الأر���ض كانت مغطاة‬
‫وموا�ضع �أخرى‪ ،‬كما �أ�رس الأمرية تب�ؤة ‪Tabua‬‬ ‫بالثعابني وال��ع��ق��ارب‪ ،‬وك��ان��ت لكرثتها مثل‬
‫ظبوة‪ .‬وقد �سقطت يف يده موا�ضع كثرية منها‬ ‫الذباب والبعو�ض‪ .‬والتوراة ت�سمي مكانا ً بعينه‬
‫�أدوم (�أدوم��و ‪ )Adumu‬التي تو�صف ب�أنها‬ ‫بزو בזו ‪�.‬إن حتقيقاتي ال�شخ�صية التي قمت بها‬
‫م�ساكن �أريبي‪� ،‬أي م�ساكن وادي العرب‪ ،‬حيث‬ ‫طوال �سنوات من العمل ال�شاق يف م�ؤلفي ال�سابق‬
‫ا�ستوىل على �أ�صنامها و�أ�رس ملكتها ا�شكاالتو‬ ‫املتخيلة) للت�أكد من �صحة الفر�ضيات‬
‫ّ‬ ‫(فل�سطني‬
‫‪ Iskallatu‬التي كانت كاهنة الإلهة دبت‬ ‫املقدمة عن خط احلملة احلربية الآ�شورية‪ ،‬ت�ؤكد‬
‫‪ . Dibat‬وهذا اال�سم هو ذاته ا�سم الوادي ال�شهري‬ ‫ما يلي‪ :‬لي�س ثمة مكان يو�صف ب�أنه من �أماكن‬
‫ا�شكول الذي و�صفه الهمداين‪ُ ،‬وير�سم يف التوراة‬ ‫الوح�ش يف البيئة ال�صحراوية التي اجتازها‬
‫يف �صورة ا�شكول אשכול‪ .‬وقد و�صف الهمداين‬ ‫اجلي�ش الآ���ش��وري �سوى املو�ضع ال��ذي و�صفه‬
‫ديار قبيلة عربية قدمية هي (بنو �شكل‪ -‬ال�شكل)‬ ‫و�سماه البزوه (خبت البزواء) يف بالد‬ ‫الهمداين ّ‬
‫ال تزال منازلها حتى اليوم يف حمافظة البي�ضاء‬ ‫بارق من ناحية غور ال�رساة‪ .‬لقد و�صف امل�ؤرخ‬
‫�شمال اليمن‪� .‬أما دبت ‪ Dibat‬التي كانت تتعبد‬ ‫هريوةدت‪ 1‬هذا املو�ضع بعد نحو ‪169‬‬‫ُ‬ ‫اليوناين‬
‫لها هذه امللكة الكاهنة فهي ا�سم الوادي (دبة –‬ ‫عام ًا من حملة �أ�رسحدون هذه(‪ 500‬ق‪ .‬م) يف‬
‫دبت) الذي و�صفه الهمداين كواد ٍ مت�صل ب�ساحل‬ ‫كتابه و�صف م�رص‪ ،‬وكتب عن الثعابني الطائرة‬
‫بني جميد (ما يعرف مبجدو يف التوراة)‪ .‬و�أريد‬ ‫يف املكان نف�سه على هذا النحو‪:‬‬
‫القراء �إىل الفكرة التالية‪ :‬ح�سب‬ ‫هنا لفت �أنظار ّ‬ ‫يوجد مكان يف (�شبه اجل��زي��رة) العربية وهو‬
‫ما نقله لنا الهمداين ف�إن كل �أ�سماء املوا�ضع‬ ‫مقابل مدينة فوتو‪ -‬بوتو تقريب ًا‪ .‬ولقد ذهبت‬
‫والأماكن يف اليمن هي �أ�سماء �آلهة �أو �آباء قدامى‪.‬‬ ‫�إىل هذا املكان ال�ستف�رس عن الثعابني املجنحة‪.‬‬
‫وهذا �أمر هام للغاية يجب االهتمام به‪ ،‬فما يبدو‬ ‫وبعد �أن و�صلت �شاهدت ُ عظام ًا �أعمدة فقرية‬
‫لنا يف ه��ذه الن�صو�ص �أ�سماء ملوك وملكات‬ ‫لثعابني ال ميكن و�صفها‪� ،‬إذ كانت توجد كتل‬
‫و�أ�صنام‪� ،‬أ�صبح يف ع�رص الهمداين �أ�سماء جبال‬ ‫من الأعمدة الفقرية الكبرية و�أخرى �أ�صغر منها‪،‬‬
‫ومياه ووديان‪.‬‬ ‫وغريها �صغرية جدا ً‪ .‬وكانت هذه الأكوام كثرية‪،‬‬
‫ولنالحظ كذلك‪� ،‬أن ا�سم �أدوم يرتبط با�سم �أريبي‬ ‫وكان املكان الذي به الأعمدة الفقرية منت�رشة‪،‬‬
‫ال��ذي ورد يف التوراة يف ال�صيغة ذاتها אדומ‬ ‫ومكد�س بع�ضها على بع�ض بهذا ال�شكل‪ ،‬مدخل‬ ‫ّ‬
‫يف موا�ضع ع���دة(‪ ،)3‬ارتباطا بال�رصاع �ضد‬ ‫�ضيق ينحدر من اجلبال �إىل �سهل كبري‪ ،‬ويت�صل‬
‫الآ�شوريني‪ .‬وق��د فهم بع�ض علماء الآث��ار من‬ ‫هذا ال�سهل بال�سهل امل�رصي‪ .‬وهناك رواية تقول‬
‫التيار التوراتي �أنه ين�رصف �إىل دومة اجلندل‪،‬‬ ‫�إنه يف الربيع تطري الثعابني املجنحة من البالد‬
‫و�أن املعارك دارت هناك‪ .‬وبر�أينا �أن هذا خط�أ‬ ‫العربية �إىل م�رص‪ .‬لكن طيور �أبي منجل تخرج‬
‫كرره جواد علي‪ ،‬لأن �أدوم جبل �شهري يف اجلزيرة‬ ‫ويجتمع بع�ضها مع بع�ض يف هذا املدخل من‬
‫العربية يف وادي العرب (�أري��ب��ي) �أي م�ساكن‬ ‫البالد‪ ،‬وال ت�سمح للثعابني بالدخول وتقتلها‪.‬‬
‫�أريبي‪ .‬كما �أن ر�سم اال�سم يف �صورة �أدوم��و ال‬ ‫ولهذا ال�سبب يقول العرب �إن طائر ابي منجل‬
‫‪92‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حمجة جند فيه ُ ثمام وهو اجلليل‪.‬‬ ‫الوح�ش على ّ‬ ‫يطابق ر�سمه يف �صورة دوم��ة‪ ،‬بينما نعلم �أن‬
‫بيد �أن الن�ص الآ�شوري ال ي�شري البتة �إىل املكان‬ ‫الواو الأخرية يف الأ�سماء حرف �صوتي ولي�ست‬
‫الذي انطلق منه �سنحاريب‪� ،‬صوب ما ُيفرت�ض‬ ‫من �أ�صل اال�سم‪ ،‬كما يف لهجات العرب من �سكان‬
‫�أنه دومة اجلندل‪� ،‬أي ما اعتقد علماء الآثار �أنه‬ ‫ال�سواحل‪ :‬مثل عبدو يف عبد‪ ،‬و�أحمدو يف �أحمد‪..‬‬
‫‪ .Adummatu -Adumu‬ويبدو �أن خط�أ‬ ‫الخ ‪.‬وا�ستنادا ً �إىل و�صف الهمداين‪ ،‬فقد عرف‬
‫يف قراءة اال�سم‪ ،‬قاد عاملا ً مرموقا ً من علماء‬ ‫العرب القدماء جبلني بهذا اال�سم‪ ،‬احدهما �أدوم‬
‫الآثار هو مو�سل �إىل االفرتا�ض �أن املق�صود بهذا‬ ‫يف منطقة اجلليل (جليل اجلزيرة العربية ولي�س‬
‫اال�سم‪ ،‬دومة اجلندل يف عمق اجلزيرة العربية‪،‬‬ ‫فل�سطني) و�أدوم �آخر يف اليمن‪.‬‬
‫بينما �سرنى تاليا �أن املق�صود به �أدم يف خمالف‬ ‫هاكم و�صف الهمداين يف �صفة جزيرة العرب(‪:)4‬‬
‫ال�سحول باليمن‪ .‬ي�ؤكد لنا كل هذا‪� ،‬أن روايات‬
‫الإخباريني العرب عن احلمالت الآ�شورية يف‬ ‫وامل�ساكن من هذا املخالف ( خمالف ال�سحول)‬
‫خم�لاف ال�سحول‪� ،‬صحيحة متاما‪ ،‬ما دامت‬ ‫جبل � ُأدم(‪ )5‬و�أري��اب(‪ )6‬مو�ضع ذي فائ�ش(‪)7‬‬
‫النقو�ش تتحدث عن ا�ستيالئهم على جبل �أدومو‬ ‫ويعلق حمقق الكتاب ما يلي ‪ :‬و�أرياب يف ر�أ�س‬
‫وم�ساكن عريبي‪ -‬العرب‪ ،‬وهذه �أماكن وموا�ضع‬ ‫العلو وهو ر�أ���س �صيد‪ -‬وادي‬ ‫ّ‬ ‫�أدم من يح�صب‬
‫يف خمالف ال�سحول‪.‬‬ ‫�صيد‪.)-‬‬
‫وم��ع ذل��ك فقد امتد نفوذ �سنحاريب بف�ضل‬ ‫لنالحظ �أن اال�سمني �أدم ووادي �صيد ‪� -‬صيدا‬
‫(�صيدون يف ال��ت��وراة وه��ذا وزن ع�بري وبناء‬
‫حملته هذه يف اجلزيرة العربية‪ ،‬لي�شمل منطقة‬
‫م���أل��وف للأ�سماء ب��زي��ادة ال��واو وال��ن��ون التي‬
‫وا�سعة متتد من قلب اجلزيرة �إىل حدود بابل‪.‬‬
‫تطورت بر�أينا �إىل �ألف ونون مثل عدن‪ -‬عدنان)‬
‫�إن الن�ص ال��ذي تركه لنا �سنحاريب‪ ،‬والقائل‬
‫هما من م�ساكن القبائل العربية‪ ،‬وير�سمان‬
‫�أن العرب يف مملكة تلخونو (تل‪ -‬هونو) كانوا‬ ‫يف �صورة �أدم وع��رب (وادي العرب) و�صيد‪-‬‬
‫�صيدا كما يف ال�سجالت الآ�شورية وامل�رصية‬
‫وعند الهمداين‪ .‬ولعل اال�سم �أريبي الذي توهم‬
‫جواد علي �أنه (عريبي) وهو بر�أينا وادي العرب‬
‫ال�شهري مبحاليفه وقبائله(‪ )8‬ي�ؤكد ان الف�ضاء‬
‫اجلغرايف املر�سوم ال ي�شري البتة �إىل فل�سطني‪.‬‬
‫�أما �أدم الآخر يف اجلزيرة العربية فهو �أدم يف‬
‫ديار بني ُمزينة يف قلب اجلزيرة العربية‪ .‬وهناك‬
‫مو�ضع آ�خ��ر بالقرب من �سائر ه��ذه املوا�ضع‬
‫يدعى �أراب ح�سب و�صف الهمنداين (�صفة جزيرة‬
‫العرب‪��� ،‬ص‪ )135 :‬يقع بال�ضبط يف الف�ضاء‬
‫اجلغرايف ملخالف ح�ضور يف وادي مور ال�شهري‪.‬‬
‫وه��ذا �أم��ر مثري بالفعل‪ ،‬ويتطابق مع مزاعم‬
‫الإخباريني العرب القدماء عن م�سار احلملة‪.‬‬
‫يقول الهمداين (�صفة ‪ :)295 :‬و�أدم بديار ُمزينة‬
‫و�أدم بال�سحول‪ ،‬جبالن‪ ،‬وذو اجلليل من موا�ضع‬
‫‪93‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ي�سكنها �ألهان بن مالك �أخو همدان وبطون من‬ ‫يبتاعون الطحني واملالب�س واملواد ال�رضورية‬
‫حمري وقراها كثرية‪ -‬وي�ضيف حمقق الكتاب‪:‬‬ ‫الأخ��رى من بابل‪ ،‬ي�ؤكد وجود رواب��ط متنوعة‬
‫وقد غلب اليوم خمالف �أن�س على ا�سم خمالف‬ ‫�سيا�سية وجتارية حقيقية‪ .‬وبح�سب ن�ص النق�ش‬
‫الهان)(‪ .) 9‬هذا يعني �أن الف�ضاء اجلغرايف الوا�سع‬ ‫فقد ا�شرتك العرب مع البابليني يف احلرب على‬
‫للوادي اخل�صب وادي العرب‪ ،‬كان يغ ّلب ت�سمية‬ ‫املقاطعات الآ�شورية يف ب�لاد ال�شام‪� .‬أي �أن‬
‫امللك با�سمه‪ ،‬فهو ملك تل‪ -‬هون وملك وادي‬ ‫روابطهم القوية والوثيقة مع البابليني‪ ،‬مكنتهم‬
‫العرب‪ .‬ويف النهاية ا�ست�سلمت مملكة تلخونو‪-‬‬ ‫من لعب �أدوار حا�سمة يف ال�رصاعات الداخلية‬
‫تل هون للآ�شوريني‪ ،‬فجرى نهب الأ�صنام واقتيد‬ ‫�ضد خ�صومهم الآ�شوريني‪ .‬لكن‪ ،‬وعندما متكن‬
‫الأعراب �أ�رسى �إىل نينوى عا�صمة الآ�شوريني‪،‬‬ ‫امللك الآ�شوري �سنحاريب من ب�سط �سلطانه على‬
‫كما �أخذت الأمرية تب�ؤة‪ -‬ظبوة ‪� Tabua‬أ�سرية‬ ‫بابل يف �سنة ‪ 689‬ق‪ .‬م‪ ،‬قام ب�أعمال انتقامية‬
‫�إىل عا�صمة �آ�شور‪ ،‬ولكن ليعاد تن�صيبها ثانية‬ ‫�ضد هذه اململكة‪ ،‬وتعقب الأع��راب يف البادية‬
‫�أمرية على �أريبي‪� -‬أي على وادي العرب‪ ،‬بعد �أن‬ ‫انتقاما ً منهم لوالئهم خل�صومه البابليني‪ ،‬ومن‬
‫خ�ضعت �سيا�سيا ً لإرادة الإمرباطورية‪� .‬أما حزا‬ ‫الوا�ضح ان حملته بلغت �أدوم��و אדומ‪ .‬ويظهر‬
‫ايلي (חזאל حزاءيل) فقد �أفلت مع �أتباعه عندما‬ ‫من الن�صو�ص الآ�شورية �أن خالفا ُ ن�شب داخل‬
‫اعت�صم يف ر�ؤو�س اجلبال(‪ ،)10‬واحلال هذه‪ ،‬فلم‬ ‫مملكة تلخونو ( تل‪ -‬هونو) بني القبائل العربية‬
‫يكن مبقدور �سنحاريب املغامرة مبطاردته يف‬ ‫البدوية وامللك حزاء يل (خزا ايلي ح�سب النقو�ش‬
‫منطقة وعرة داخل الوادي (ويف التوراة ير�سم‬ ‫الآ�شورية ويف التوراة �سفر امللوك‪ 2‬ير�سم اال�سم‬
‫اال�سم يف �صورة ها‪-‬عربة ה ערבה اي العرب)‪.‬‬ ‫يف �صورة בנ חזאל بن‪ -‬حز‪-‬ءل ) على خلفية‬
‫ثم تخربنا امل�صادر الآ�شورية �أن حزاءيل (خزا‬ ‫احلملة االنتقامية‪ .‬وبر�أينا �أن ال�سبب الأه��م‬
‫ايلي) قام فور وفاة �سنحاريب وانتقال العر�ش‬ ‫فجر اخلالف‪ ،‬جاء يف الواقع بعد �أن توىل‬ ‫الذي ّ‬
‫�إىل ابنه �أ�رسحدون‪ ،‬وبعد زوال �أ�سباب العداء‬ ‫امللك بنف�سه قيادة اجلي�ش وتنظيم خطط الدفاع‬
‫بني الطرفني‪ ،‬بزيارة العا�صمة الآ�شورية ليقدم‬ ‫فجرت الهزائم التي منيت بها‬ ‫ّ‬ ‫والهجوم‪ .‬لقد‬
‫بنف�سه فرو�ض ال��والء والطاعة للعاهل اجلديد‬ ‫اململكة غ�ضب واحتجاج القبائل‪ ،‬متهمة �إياه‬
‫ال��ذي �أع��اد �إليه الأ�صنام الأ�سرية‪ ،‬ومنها عرت‬ ‫ب�سوء القيادة‪ .‬وح�سب ن�ص النق�ش ال��ذي نقله‬
‫�سمني(‪( )11‬ع�شتار ال�سماوية) والإل��ه��ة ديه‬ ‫جواد علي عن مو�سل؛ ف�إن مملكة تل‪ -‬هونو‪-‬‬
‫‪ )12(Daja‬ونهيا(‪ Nuhaia )13‬وابرييلو (�إبر‬ ‫خونو ( غ�ضبت على ح��زا ايلي ملك ارببي ) ‪.‬‬
‫ءيل‪ -‬ابريل(‪� )14‬أي اهلل البارئ ‪ Ebirillu‬وعرث‬ ‫�سمى الآ�شوريون حزا‪ -‬ءيل ملك �أريبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فلماذا‬
‫قرمه ‪ Atar Kurumaia‬ويبدو �أن بع�ض‬ ‫وهو ملك تل‪ -‬هونو ؟‬
‫هذه الأ�صنام �أ�صيبت �أثناء وجودها يف الأ�رس‬ ‫�إن العودة �إىل و�صف الهمداين ملنطقة الهون‬
‫بالتلف‪ ،‬ف�أمر �أ�رسحدون ب�إ�صالحها و�إعادتها‬ ‫ووادي ال��ع��رب (ع��ري��ب��ي) ���س��وف تو�ضح هذا‬
‫�إىل ما كانت عليه‪ ،‬ثم تلطف ف�أمر ب�إرجاعها‬ ‫االلتبا�س‪ .‬تقع الهون‪ -‬هونو‪ -‬خونو �إىل ال�شمال‬
‫�إىل خزا ايلي بعد �أن ُ نق�شت عليها عبارة �إىل‬ ‫من حمافظة ذمار وتت�صل مبخالف ال�سحول‪،‬‬
‫ج��وار ا�سم امللك‪ ،‬تفيد بتفوق �إل��ه آ����ش��ور على‬ ‫حيث جبل �أدم ويف �أع�لاه عزلة جبلية تدعى‬
‫الأ�صنام‪ .‬فمن هو امللك حزا‪-‬ءيل ( خزا‪-‬ايلي)‬ ‫�أرياب يف الف�ضاء اجلغرايف لوادي العرب‪ .‬يقول‬
‫يتعبد للإلهة دية ونهيه وعثرت �سمني‬ ‫الذي كان ّ‬ ‫الهمداين (خم�لاف الهون‪� -‬أي مملكة الهون‪-‬‬
‫وابرا‪-‬ءيل ( �إبريللو) ؟ تزودنا الرواية التوراتية‬ ‫خم�لاف وا���س��ع‪ .‬وال��ه��ان يف ذات��ه��ا بلد وا�سع‬
‫‪94‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�سلطان �آ�شور على �أه��م خماليف اليمن القدمي‬ ‫مبعلومات رائعة وتف�صيلية عن هذه احلملة‪ ،‬مل‬
‫يف وادي العرب‪ .‬وهو حلم حتقق‪ ،‬ولكنه مل يدم‬ ‫تدونها ال�سجالت الآ�شورية‪ ،‬من بينها التفا�صيل‬
‫طويال ً ‪ ،‬لأن العداء بني الآ�شوريني والقبائل‬ ‫اخلا�صة ب����صراع ح��زا‪-‬ءي��ل م��ع الآ���ش��وري�ين‪.‬‬
‫العربية كان عميقا ً‪ ،‬وكانت طبيعة التناق�ضات‬ ‫و�سوف نبد�أ من ا�سم الإلهة نهيه ‪ .Nuhaia‬لقد‬
‫واخلالفات �شائكة ومرتاكبة‪ ،‬دينيا و�سيا�سيا‬ ‫تركت هذه الإلهة ا�سمها يف واد عظيم من وديان‬
‫ً‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فلم يكن �أمام �أ�رسحدون �سوى هذا‬ ‫اليمن وبال�صورة ذاتها‪ ،‬متاما كما يف التوراة‬
‫الإج���راء لتثبيت �أ�س�س النفوذ الآ���ش��وري على‬ ‫נהיה‪ .‬ولأن �أ�سماء الأ�صنام‪ ،‬ترتبط مبنظومة‬
‫القبائل املتمردة‪ .‬كما اعرتف �أ�رسحدون بحزا‬ ‫معتقدات دينية (طوطمية) و�أمناط حياة كذلك‪،‬‬
‫ايلي امللك املتمرد‪ ،‬ملكا ً على قبيلة قيدار‪،‬‬ ‫فقد �أ�صبحت �ضمن �شجرة الأن�ساب الب�رشية‪،‬‬
‫ولكن مقابل �إتاوة قدرها خم�سة و�ستون جمال‬ ‫وبحيث �صار الإله ( املعبود) والطوطم جزء من‬
‫ً‪ .‬فلما تويف حزا ايلي �سنة ‪ 675‬ق‪.‬م اعرتف‬ ‫�شجرة ن�سب الإن�سان‪ ،‬وذلك ما ت�شهد عليه ظاهرة‬
‫ا�رسحدون بوريثه يف العر�ش وويل عهده ابنه‬ ‫الأن�ساب عند العرب القدماء‪ ،‬حيث ي�صبح الإله‬
‫يتع‪ -‬يثع ‪ Uaite‬ملكا ً جديدا ً على القيداريني‪،‬‬ ‫�أدد ( هـ‪-‬ءدد �أو هدد‪ ،‬حدد הדד) مثال ً‪� ،‬أبا ً �أعلى‬
‫�رشط �أن يدفع �إتاوة �سنوية كبرية مقدارها �ألف‬ ‫لعدنان‪ .‬يف هذا الإطار �سوف يبدو �أن ال�سم الإلهة‬
‫َمن‪ )16( Minae‬من الذهب‪ ،‬وامل��ن البابلي‬ ‫ْ‬ ‫نهيه �صلة با�سم مكان (مو�ضع) بعينه‪� ،‬أو بطوطم‬
‫وحدة وزن ت�ساوي ن�صف كيلو غرام‪ .‬كما فر�ض‬ ‫جت�سد يف �صورة �صنم معبود‪ ،‬وبحيث �أ�صبح داال‬
‫عليه �أن يدفع خلزانة الإمرباطورية جزية �سنوية‬ ‫ً على مكان �أو طعام والعك�س‪ .‬ولأن الإخباريني‬
‫مقدارها �ألف حجر كرمي‪ .‬والن�صو�ص الآ�شورية‬ ‫القدماء �سجلوا يف رواياتهم �أخبار حملة نبوخذ‬
‫تر�سم ا�سم قبيلة قيدار يف �صورة ِقدرو‪. Kidru‬‬ ‫ن�رص‪ ،‬ومل يتحدثوا عن �أي حملة �أخرى لأي ملك‬
‫وهذا اال�سم ورد يف ن�صو�ص التوراة يف ال�صورة‬ ‫بابلي �أو �آ�شوري �آخر‪ ،‬بينما ن�سبوا كل ما جرى‬
‫ذاتها קידר– قيدار‪ .‬وهي قبيلة عربية قدمية‬ ‫من دمار وخراب خالل ت�سع حمالت جرت يف‬
‫عرفها اليونانيون و�سموها باال�سم نف�سه‬ ‫ع�صور خمتلفة �إىل ملك واح��د‪ ،‬فقد بات علينا‬
‫م�ؤكدين على �أنها عربية‪� ،‬أي متاما ً ً كما يف‬ ‫القيام بعملية تفكيك �شاقة‪ ،‬بهدف �إعادة بناء‬
‫التوراة – ق�صيدة حزقيال‪ -‬و�أنها كانت تقيم يف‬ ‫الرواية التاريخية لكل حملة من هذه احلمالت‪،‬‬
‫الف�ضاء اجلغرايف نف�سه ململكة‪ -‬خمالف ح�ضور‬ ‫باالعتماد على ال�سجالت والن�صو�ص الإخبارية‪.‬‬
‫(ح�صور يف التوراة חצור) التي هاجمها نبوخذ‬ ‫من الوا�ضح �أن حملة �سنحاريب (ت��ويف عام‬
‫ن�رص ودمرها‪ ،‬وا�ستوىل على ممتلكاتها‪ .‬واملثري‬ ‫‪ 689‬ق‪.‬م) ا�ستهدفت القبائل املتمردة التي‬
‫لالهتمام �أن �سفر �أرميا ي�شري �إىل هذه احلادثة‬ ‫ج��رى مطاردتها يف عمق البادية‪ ،‬و�أن ا�سم‬
‫التاريخية‪ ،‬وي�سجلها بدقة‪ .‬واملالحظ �أن اجلزية‬ ‫اململكة تل‪ -‬هونو التي هاجمها تدعى بال�ضبط‬
‫الثقيلة التي ا�ضطر امللك �إىل تقدميها‪ ،‬ت�ضمنت‬ ‫العربي تل‪ -‬هون ( هان) مبا �أن الواو الأخرية‬
‫نحو خم�سني جمال ً �سنويا ً حمملة بكميات‬ ‫حرف �صوتي‪ .‬ويف هذه احلالة يجب ان تكون‬
‫كبرية من البخور‪ .‬وه��ذا دليل على �أن م�رسح‬ ‫من ممالك تهامة اليمن(‪� .)15‬أراد �أ�رسحدون‬
‫املعارك كان اليمن القدمي ال��ذي ي�شتهر حتى‬ ‫من وراء عملية �إعادة تن�صيب الأمرية الأ�سرية‬
‫اليوم بانتاج البخور‪ ،‬بينما ال يوجد لدى الأعراب‬ ‫ظبوت‪ -‬ظبوة‪ -‬تب�ؤة ‪ Tabua‬التي تربت �آنئذ‬
‫يف البادية ممتلكات �ضخمة من البخور كما‬ ‫ٍ تربية مدنية �آ�شورية‪ ،‬ومن جديد �أم�يرة على‬
‫يف ن�ص النق�ش‪ .‬وقد وافق امللك اجلديد ب�سبب‬ ‫�أريبي‪� ،‬أن ي�ضمن و�إىل �أق�صى حد ممكن فر�ض‬
‫‪95‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�صف الهمداين م�ساكن �أكيل هذه على النحو‬ ‫ظروف تن�صيبه ال�صعبة‪� ،‬أن يدفع للآ�شوريني‬
‫التايل( �صفة ‪:)225‬‬ ‫ا�ضعاف ما كان يدفعه والده‪ .‬غري �أن تقديراته‬
‫حقل �صعدة‪ :‬وجتتمع مياه هذه الأودية من �أ�سفل‬ ‫للأز�ضاع الداخلية مل تكن دقيقة‪ ،‬فقد ثارت‬
‫البطنة ثم �إىل همدان ثم �إىل جن��ران‪ .‬و�صعدة‬ ‫عليه القبائل‪ ،‬وق��ام زعيم قبلي �ساخط يدعى‬
‫�سكانها الأكيليون من �آل ربيعة �سعد الأكرب‪.‬‬ ‫�أوبو ‪ Uabo‬بثورة عارمة عامة للتخل�ص منه‬
‫ي�ؤكد لنا هذا التطابق بني النقو�ش الآ�شورية‬ ‫ومن �سلطان الآ�شوريني‪ .‬وحيال هذه التطورات‪،‬‬
‫ون�صو�ص التوراة وو�صف الهمداين لليمن‪� ،‬أن‬ ‫�أ�رسع الآ�شوريون �إىل �إر�سال جي�ش �ضخم لإخماد‬
‫املعارك كانت تدور يف �صعدة‪.‬ولأن الآ�شوريني‬ ‫الثورة‪ ،‬فتم �أ�رس �أوبو ‪ Uabo‬و�أخذ �إىل نينوى‪.‬‬
‫متكنوا من �أ�رس �أحد ملوك هذه القبائل ويدعى‬ ‫بيد �أن ظ��روف ال�رصاع وحالة الإمرباطورية‬
‫ملك بتع ‪ Buda‬و�آخ��ر يدعى ملك جب�أ‪ ،‬فمن‬ ‫املنهكة يف ت�سيري احلمالت الع�سكرية �إىل �أ�صقاع‬
‫الهام للغاية مالحظة ما يلي‪� :‬أن بتع ‪Buda‬‬ ‫بعيدة ومناطق وعرة و�صعبة‪ ،‬والقتال ال�رش�س‬
‫هذا لي�س �شخ�صية من ن�سج خيال الآ�شوريني‪.‬‬ ‫الذي كان على القوات خو�ضه‪� ،‬أدى �إىل �إ�ضعاف‬
‫وال��ه��م��داين يعطي ن�سبه وا���س��م��ه على النحو‬ ‫قدرتها على �إخماد �أي مترد او ثورة داخلية من‬
‫التايل(‪ :)18‬و�أوالد بتع امللك ابن زيد‪ ،‬علهان‬ ‫هذا النوع‪ .‬ولذلك‪ ،‬قاد يثع ‪ Uaite‬الثورة هذه‬
‫ال�صوار‬
‫ونهقان امللكني‪ ،‬و�أمهما جميلة بنت ّ‬ ‫املرة بنف�سه �ضد الآ�شوريني وراح هو و�أتباعه‪،‬‬
‫بن عبد �شم�س‪ .‬ويف �أخبار اليمن القدمية‪� ،‬أنه‬ ‫يطرقون �أبواب االمرباطورية ويهددون حدودها‬
‫ملا قحط القطر يف زمان يو�سف‪ -‬ع‪ -‬و�أحلت‬ ‫املحاذية للبادية‪ ،‬فا�ضطر الآ�شوريون �إىل جتهيز‬
‫اجل��راد و���س��اءت أ�ح���وال اليمن واحل��ج��از لأنها‬ ‫حملة جديدة هاجمت م�ضاربه‪ ،‬وا�ستولت على‬
‫�أر�ض مغلقة‪ -‬مرتفعة‪ -‬ال ي�سوح فيها‪� ،‬أمر بتع‬ ‫ممتلكاته مبا فيها الأ�صنام التي �أخ��ذت مع‬
‫ابنيه علهان ونهقان �أن يكتبا للنا�س �إىل خزنة‬ ‫الأ�رسى مرة �أخرى‪� .‬أما يثع فقد وجد نف�سه يف‬
‫امللك)‪ .‬ويبدو �أن الهمداين قر�أ نق�شا ً بخط امل�سند‬ ‫خ�ضم املعركة وقد �أ�صبح مبفرده دون �أن�صار‪،‬‬
‫عرث عليه يف �صنعاء (‪ )9-269‬ما يلي‪ :‬ويف‬ ‫ليفر �صوب البادية كما ورد يف الن�ص‪� .‬إثر ذلك‪،‬‬
‫م�سند ب�صنعاء على بع�ض احلجارة التي نقلت‬ ‫قام �أ�رسحدون عام ‪ 676‬ق‪.‬م بحملة �أخرى على‬
‫من ق�صور حمري وهمدان ‪ :‬علهان ونهقان �إبنا‬ ‫قبائل عربية تنزل �أر�ض بزو ‪ Bazu‬قتل خاللها‬
‫بتع لهم امللك قدميا ً كان‪ .‬وزيادة يف التوثيق‪،‬‬ ‫كما يقول الن�ص‪ ،‬ثمانية ملوك‪ ،‬من بينهم ملك‬
‫ي�ؤكد الهمداين نقال ً عن حديث حممد بن �أحمد‬ ‫يدعى حازو‪ -‬حزو ويف التوراة ءحاز‪ .‬كما متكن‬
‫الأو�ساين (الإكليل ‪� : 14-268‬أن الأخري قر�أ –‬ ‫العاهل الآ�شوري من �أ�رس ملكة يف�أ‪ -‬يافع وملكة‬
‫بدوره‪ -‬نق�شا ً بخط امل�سند يف منطقة عمران من‬ ‫با –ايلو ( باهلة) ‪ Ba›ilu‬وملكة اخيلو‪� -‬أكيل‪-‬‬
‫البون دار همدان ما يلي‪ :‬علهن ونهقن �إبنا بتع‬ ‫‪ Ihilu‬و�أ�رس زعيما ً يدعى هابن عمرو‪ -17‬بن‬
‫بن همدان �صحح‪ -‬رمم‪ -‬ح�صن وق�رص حدقان‬ ‫عمرو ‪. Habanamru‬كما �أ�رس ملكا ً يدعى‬
‫بن زيد بن بنينا)‪ .‬وكل هذه الإ�شارات ت�ؤكد �أن‬ ‫ملك بتع وملك جب�أ‪.‬‬
‫بتع كان من ملوك همدان بالفعل‪ ،‬وكما و�صفته‬ ‫و�أري��د التوقف هنا أ�م��ام �أ�سماء هذه القبائل‬
‫النقو�ش الآ�شورية‪ .‬واملثري لالهتمام �أن الهمداين‬ ‫القدمية‪� .‬إن قبيلة �أكيل ‪ - Ikilu‬من بطون‬
‫ير�سم �صورة دقيقة لن�سب (قد يبدو لنا �أ�سطوري ًا)‪.‬‬ ‫همدان العظيمة التي تقيم يف حقل �صعدة‪ ،‬ومتتد‬
‫يقول ‪ .‬و�أولد بتع بن حا�شد ذي مرهب ءل‪ .‬ف�أولد‬ ‫م�ضاربها حتى وادي بطنة (ال��ذي حري �أ�سمه‬
‫مرهب ءل ينوفا ً ذا باع القيل‪ -‬امللك‪ -‬وهو �أج ّل‬ ‫علماء الآثار‪ ،‬وزعموا �أنه بدنة‪ -‬مدنة �إلخ)‪ .‬وقد‬
‫‪96‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪� Idai‬أفلت من الأ�رس‪ ،‬و�سوف ن�أتي على ذكر هذا‬ ‫من وفد على �سليمان – ع‪ -‬من قيول‪� -‬أقيال‪-‬‬
‫الوادي تاليا ً‪ ،‬علما ً �أننا حتدثنا عنه مطوال ً يف‬ ‫اليمن مع بلقي�س)‪.‬‬
‫فل�سطني املتخيلة‪ ،‬فهو الوادي ال�شهري الذي ورد‬ ‫كما ورد ا�سم بتع هذا يف ال�شعر اجلاهلي‪ .‬قال‬
‫ذكره يف التوراة وال�شعر اجلاهلي ويف و�صف‬ ‫علقمة‪:‬‬
‫الهمداين بال�صيغة نف�سها‪ .‬وللتدليل على منط‬ ‫قد مات يو�سف ذو نوا�س‬
‫الت�أويل اال�ست�رشاقي‪ -‬التوراتي ال�سائد يف علم‬ ‫ومات ذو بتع ينوف‬ ‫ ‬
‫الآث��ار‪� ،‬سوف �أ�سوق املثال التايل عن النقا�ش‬ ‫ولذلك‪ ،‬ن�ستنتج من كل هذه الإ�شارات‪� ،‬أن ا�سم‬
‫الذي جرى بني العلماء حول حتديد مو�ضع بزو‬ ‫بتع هو ينوف‪ ،‬وان بتع لقبه‪ .‬لكن ن�شوان بن‬
‫وحزو‪ :‬ارت�أى كال�رس يف ت�أويله ال�سم بوز‪ -‬بزو‬ ‫�سعيد احلمريي(‪ )19‬يفاجئنا باملزاعم التالية ‪:‬‬
‫الوارد يف ن�ص �سنحاريب‪� ،‬أنه مو�ضع يف العربية‬ ‫ويقال �أن بتع ا�سمه الأ�صلي بري ءل‪� ،‬أي �صنعة‬
‫ال�شمالية‪� .‬أي يف احلجاز‪� .‬أما مو�سل‪ ،‬فارت�أى �أن‬ ‫اهلل‪ -‬خلق اهلل ‪ .‬وذو بتع هذا زوج بلقي�س‪ -‬زوجه‬
‫الو�صف ي�شري �إىل �أنها تقع يف بادية جمدبة لي�س‬ ‫ال�سد‪� ،‬سد بتع)‪ .‬نخل�ص‬ ‫�سليمان وهو �صاحب ّ‬
‫فيها غري ال�شوك ونوع من حجر يعرف بـ (حجر فم‬ ‫م��ن ذل��ك �أن بتع ال��ذي ا�صطدم بالآ�شوريني‬
‫الغزال)‪ ،‬و�أن هذه البادية وطبقا ً للن�ص الآ�شوري‬ ‫ح�سب النقو�ش‪ ،‬وا�ستنادا ً �إىل طريقة ر�سم ا�سمه‬
‫تت�صل ب�سهل فيه الأفاعي والعقارب و�أنواع من‬ ‫بالإجنليزية من جانب علماء الآث��ار هو تبع‬
‫اجلراد مثل الزربابو‪ .‬بينما ت�صور مو�سل مو�ضع‬ ‫‪ (dbua‬بتقدمي وت�أخري الباء) وهو لقب ميني‬
‫حزو ك�أر�ض جبلية‪ .‬لكنه‪ ،‬وبرغم هذا التحديد‬ ‫�شهري‪ .‬ولعل نطقه يف �صورة بتع ناجم عن تقاليد‬
‫الدقيق ن�سبي ًا من حيث التو�صيف‪ ،‬قام بو�ضع‬ ‫الإب���دال يف احل��روف عند القبائل التي كانت‬
‫بزو يف غرب ويف جنوب «تدمر ال�سورية‪ ،‬ويف‬ ‫ت�ساعد الآ�شوريني يف ت�سجيل ونطق الأ�سماء‪.‬‬
‫وادي ال�رسحان على وجه التحديد‪ ،‬و�أن امللوك‬ ‫واملثري �أن احلمريي يخربنا �أنه هو نف�سه �أبر‪-‬‬
‫الثمانية الذين قتلهم ا�رسحدون كانوا يقيمون‬ ‫ءل ( �إبريل) الذي �أ�رس الآ�شوريون �صنمه‪ .‬وما‬
‫يف وادي ال�رسحان عند احلدود ال�رشقية حلوران‪،‬‬ ‫يدلل على ذلك‪� ،‬أن التباعيني – من تبع هم من‬
‫ويف الرحبة وقطة �إىل وادي القطامي ‪.‬‬ ‫بطون همدان املقيمة يف �صعدة‪ .‬وذلك ما ي�ؤكده‬
‫وه��ذا غري منطقي وغري مقبول جغرافي ًا‪ ،‬لأن‬ ‫لنا الهمداين الذي يقول (�صفة ‪ )187‬يف و�صف‬
‫احلملة يف هذه احلالة تكون قد اجتهت �صوب‬ ‫خم�لاف ال�سحول‪ :‬خم�لاف ال�سحول‪ :‬و�ساكنه‬
‫ال�صحراء ال�سورية ولي�س �إىل �شمال اجلزيرة‬ ‫بطون من الكالع وهي بطون من حمري منها‬
‫العربية‪ .‬وبكل يقني �سوف ت�صبح فل�سطني بعيدة‬ ‫ال�سحول وجب أ� ال��ذي ين�سب �إليه جب أ� املعافر‬
‫متاما ً ‪ .‬ومع �أن وادي ال�رسحان هذا ال يعرف‬ ‫والتباعيون من همدان‪.‬‬
‫بازو‪ -‬بزوه وال حازو‪ -‬حزوى‪ ،‬وال توجد قطة‬ ‫ويف هذا الن�ص ما ي�ؤكد‪� ،‬أنه من همدان‪ ،‬كما‬
‫وال الرحبة وال ال�رسحان‪ ،‬فقد وا�صل العاملان‬ ‫يف امل�ساند التي عر�ضها الهمداين ك�أدلة قاطعة‬
‫الأث��ري��ان و�ضع الأم��اك��ن ال���واردة يف الن�ص‬ ‫على وجوده ملكا ً على التباعيني‪ .‬وب�صدد ا�سم‬
‫الآ�شوري �ضمن خريطة فل�سطني‪ ،‬بينما نرى‪،‬‬ ‫جب�أ‪ ،‬ميكن اجلزم �أنه من اال�سماء ال�شهرية التي‬
‫وبخالف هذا التخبط‪� ،‬أن خط �سري احلملة احلربية‬ ‫تدل على خمالف وا�سع وخ�صب يف املعافر هو‬ ‫ّ‬
‫ي�شري �إىل اجلزيرة العربية‪ ،‬ولي�س ثمة مو�ضع له‬ ‫خمالف جب�أ‪ .‬فهل ميكن االفرتا�ض �أن ال�سبي‬
‫مثل هذه التو�صيفات املوح�شة �سوى مو�ضع‬ ‫البابلي ح��دث يف فل�سطني؟ يف ه��ذا ال�سياق‪،‬‬
‫حزوى �أ�سفل جنران‪ .‬وهذا ما ي�ؤكده الهمداين يف‬ ‫ت�شري النقو�ش �إىل �أن �أحد ملوك وادي يد‪ -‬يدي‬
‫‪97‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اليمن(‪)21‬؟ بكالم �آخر‪ ،‬وقع العاملان يف تناق�ض‬ ‫و�صف هذه البادية(‪� -267 -266‬صفة) بقوله‬
‫�صارخ‪ ،‬لأن بزو يف �أر�ض ال�شام‪ ،‬بينما حازو يف‬ ‫(ومن �أ�سفل جنران ُحزوى كثيب منقطع وحده‬
‫البادية؟ ف�إىل �أين اجتهت احلملة �إىل ال�شمال �أم‬ ‫طويل)‪ .‬وللدقة �أكرث يحدده الهمداين يف اليمامة‬
‫حده الأق�صى‪ ،‬حني‬ ‫�إىل اجلنوب؟ ويبلغ التناق�ض ّ‬ ‫‪ .‬قال ال�شاعر‪:‬‬
‫ي�ضطر كال�رس ومو�سل �إىل االعرتاف �أن املراد بـ‬ ‫عدية ُم�رشف ٍ‬
‫لقد ج�ش�أت نف�سي ّ‬
‫�أ�سي�س ‪ Aisetai‬قد يكون اي�سايتاي‪-‬اي�سايته‪،‬‬ ‫ويوم لوى ُحزوى فقلت لها �صربا‬ ‫ ‬
‫وهو ا�سم مو�ضع ذكره اجلغرايف بطلميو�س يف‬ ‫والغريب‪� ،‬أن وادي يد‪ -‬يدي هو يف الف�ضاء‬
‫بادية بالد العرب‪ .‬وهذا �أمر غري مفهوم؛ ف�إذا‬ ‫اجلغرايف الذي و�صفته احلملة الآ�شورية‪ .‬ولكن‬
‫كانت احلملة تتجه نحو تدمر‪ ،‬فكيف ت�سنى لها‬ ‫املخيال اال�ست�رشاقي التوراتي ذهب �أبعد مما‬
‫الو�صول �إىل عمق اجلزيرة العربية؟‬ ‫نت�صور‪ ،‬فالكلمة ب��ر�أي مو�سل تعني اجلاف �أو‬
‫لقد ان�ساق جواد علي وهو ينقل ت�صورات كال�رس‬ ‫(الودي) وذلك ب�إبدال احلرف الأول من كلمة –‬
‫ومو�سل‪ ،‬وراء هذه الأخطاء‪ ،‬وهذا �أمر م�ؤ�سف‬ ‫يدي‪ -‬بحرف الواو (ودي)؟ وامل�ؤ�سف �أن العامل‬
‫بالفعل‪ .‬ولأن النقا�ش حول ب��زو‪ -‬ب��ازو اتخذ‬ ‫اجلليل ج��واد علي ان�ساق خلف ه��ذه املزاعم‪،‬‬
‫طابع املطابقة مع ما ورد يف التوراة‪ ،‬فقد عاد‬ ‫ور�أى احتمال �أن يكون مو�ضع الودي هو يدي‬
‫كل من كال�رس ومو�سل �إىل القول �أن بزو هي‬ ‫�أو يدىء �شمال تدمر ال�سورية‪ .‬و�سوف نربهن �أن‬
‫جند؟ و�أن البادية التي حتدث عنها �أ�رسحدون‬ ‫وادي يدي هذا لي�س �سوى وادي �أيد الذي و�صفه‬
‫هي منطقة النفود‪ .‬و�أما حازو ف�إنها الأح�ساء ‪.‬‬ ‫الهمداين بدقة يف �أر���ض ال�رساة اليمنية على‬
‫والحظ جواد علي يف هذا ال�سياق‪� ،‬أن رولن�سن‬ ‫مقربة من بالد بارق‪� ،‬أي يف املكان نف�سه الذي‬
‫ذهب �إىل احتمال كون هذه املنطقة هي �أر�ض‬ ‫وقعت فيه الأحداث(‪ )20‬وحيث توجد يف الف�ضاء‬
‫ملكة احل�يرة‪ ،‬وم��ا يت�صل بها �إىل جبل �شمر‪،‬‬ ‫اجلغرايف الأماكن ذاتها التي ذكرها النق�ش؟‬
‫لأن الو�صف املذكور ينطبق‪ -‬يف ر�أي��ه‪ -‬على‬ ‫وح�سب مزاعم امل�ست�رشقني‪ ،‬فقد �سلك اجلي�ش‬
‫هذا املكان؟ �أم��ا كال�رس فاقرتح مكانا ً �آخر‪،‬‬ ‫الآ�شوري الطريق التجارية املارة من احلافات‬
‫هو الأق�سام ال�رشقية واجلنوبية من اليمامة‬ ‫ال�رشقية حلوران �إىل دم�شق؟ وهكذا ت�صبح �أر�ض‬
‫(�ضواحي الريا�ض اليوم) ‪ .‬وهذا ر�أي هو االقرب‬ ‫بزو يف بالد ال�شام ال يف اجلزيرة العربية؟ �إن‬
‫�إىل ال�صواب من بني كل الآراء واملقرتحات ‪.‬‬ ‫هذا اخللط اجلغرايف‪ ،‬يبينّ على �أكمل وجه كيف‬
‫كما اقرتح �أن تعترب حاز هي ذاتها حزوى التي‬ ‫تالعب امل�ست�رشقون وعلماء الآث��ار من التيار‬
‫ت�سمى ال�سدو�سية لبني �سعد يف اليمامة‪ ،‬لأن هذه‬ ‫التوراتي بحادث ال�سبي البابلي؟ لكن الأغرب‬
‫اللفظة قريبة جدا ً من حزو التوراة ومن خازو‬ ‫من كل هذا �أن العاملني كال�رس ومو�سل‪ ،‬اتفقا‬
‫الن�ص الآ���ش��وري‪ .‬وه��ذا ما نتفق معه متاما ً ‪.‬‬ ‫تقريبا ً على �أن مو�ضع �أ�سي�س �أو �أر�ض �أو�سيت�س‬
‫ولكننا‪ ،‬بف�ضل هذا الر�أي العلمي الر�صني‪� ،‬سنجد‬ ‫ال���وارد يف الن�ص الآ���ش��وري يف تو�صيف خط‬
‫�أنف�سنا من جديد يف قلب التناق�ض اجلغرايف‪� ،‬إذ‬ ‫احلملة احلربية‪،‬هو ا�سم يرد يف التوراة يف �صورة‬
‫على هذا الأ�سا�س �سوف ننتقل من تدمر ووادي‬ ‫אשיש‪. Ausitis -‬وهذا �صحيح‪ ،‬ولكن �أ�سي�س‬
‫ال�رسحان �إىل جند‪ ،‬بينما ت�صبح بزو يف اليمامة‪،‬‬ ‫هذه التي و�صفها ام��ر�ؤ القي�س يف �شعره‪ ،‬هي‬
‫وهي �أر�ض ذات �آثار قدمية وعاديات وخرائب‬ ‫مو�ضع ميني‪ ،‬وقد �أوردن��ا يف م�ساهمة �سابقة‬
‫تقع بني وادي ملهم ووادي حنيفة‪ .‬ور�أى �آخرون‬ ‫ما يكفي من الأدلة التي ت�ؤكد ب�شكل قاطع �أنها‬
‫على خطى ت�صورات امل�ست�رشقني هذه‪� ،‬إن �أر�ض‬ ‫وردت يف �شعر ام��ر ؤ� القي�س يف و�صفه لأر�ض‬
‫‪98‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من بدو حمري‪ .‬ويف احلقيقة ال ُتعرف باهل اليوم‬ ‫ب��ازو هي ال�ساحل املقابل جلزر البحرين‪� ،‬أي‬
‫�إال با�سم باهلة‪ ،‬وهما بر�أي الإيرياين‪ ،‬باهلتان‪-‬‬ ‫جزيرة تلمون كما كانت تعرف عند القدامى‪.‬‬
‫مفرد باهلة �إحداهما مينية من �سعد الع�شرية‬ ‫و�أما حازو‪ ،‬فهي الأح�ساء ‪ .‬وهكذا‪ ،‬خرج جواد‬
‫وتقيم يف ال�رساة واخرى عدنانية‪ .‬وهذا يعني‬ ‫علي باال�ستنتاج التايل‪ :‬مبا �أننا نالحظ وجود‬
‫�أن النق�ش الآ�شوري �سجل واقعة �صحيحة تتعلق‬ ‫تقارب يف مبنى اللفظتني حازو و�أح�ساء‪ ،‬فهذا‬
‫بال�صدام مع بدو اليمن‪.‬ولهذا‪ ،‬ال يبدو �أن كال�رس‬ ‫يعني �أن املق�صود منها منطقة الأح�ساء؟‬
‫ومو�سل(وعلى خطاهما م�ؤرخون عرب) قر�أوا‬ ‫يف هذا الإط��ار طرح علماء الآث��ار وهم يقر�أون‬
‫النقو�ش بطريقة دقيقة‪.‬‬ ‫ال�����س��ج�لات‪ ،‬ال�����س���ؤال ال��ت��ايل‪� :‬أي ط��ري��ق �سلك‬
‫فكيف ميكن لنا‪ ،‬القيام بعملية تفكيك مثمرة‬ ‫�أ�رسحدون عند عودته من احلملة على الأح�ساء؟‬
‫وفعالة لهذه الفو�ضى اجلغرافية؟ �س�أعطي هذا‬ ‫اق�ترح البع�ض فكرة ان��ه �سلك طريقا ً موازيا‬
‫النموذج لغر�ض درا�سة منط التلفيق يف القراءة‬ ‫ً ل�ساحل اخلليج‪ ،‬و�أنه يف هذه احلالة يكون قد‬
‫اال�ست�رشاقية حلملة �سنحاريب‪ .‬ينقل جواد علي‪-‬‬ ‫اخرتق �أر�ض بازو و حازو‪ -‬خا�سو �أي االح�ساء‪،‬‬
‫وهو يف حالة ا�ست�سالم تام لت�أويالت علماء‬ ‫ثم �سار �شماال ً �إىل بابل‪ .‬وكان �أ�رسحدون قد �سلك‬
‫الآثار من التيار التوراتي‪ -‬ما يلي‪:‬‬ ‫يف حملته الأوىل طريق ًا اخرتق منطقة النجد‪،‬‬
‫�سار‪� -‬سنحاريب‪� -‬إىل بالد ال�شام لإخ�ضاع‬ ‫فلما قرر العودة �سلك الطريق الثانية املوازية ‪.‬‬
‫العمونيني وامل���ؤاب��ي�ين والأدوم��ي�ين والعرب‬ ‫لكن كال�رس انتهى يف ا�ستنتاجاته �إىل احتمال‬
‫والعربانيني‪ ،‬فقد كان ه�ؤالء قد انتهزوا فر�صة‬ ‫وج��ود عالقة بني باهلة ‪ Bi-i-lu‬وهو ا�سم‬
‫قيام البابليني وقبائل �إرم والعرب والعيالميني‬ ‫امللكة‪ ،‬وبني ا�سم باهل القبيلة املعروفة التي‬
‫على الآ�شوريني للتخل�ص منهم‪ ،‬ف�ألفوا حلفا ً‬ ‫تقع منازلها يف هذه املنطقة‪ .‬وعنده �أن حملة‬
‫بينهم يف جنوب بالد ال�شام‪� ،‬أي يف فل�سطني‬ ‫�أ�رسحدون ا�ستهدفت اليمامة‪ .‬وقد وجدت ُ يف‬
‫والأردن‪ ،‬وانحدروا ملحاربة �سنحاريب ‪ .‬فلما‬ ‫امل�ساند احلمريية‪ -‬اليمنية (نقو�ش جام(‪)22‬‬
‫و�صل �إىل �ساحل البحر املتو�سط‪ ،‬أ�خ��ذ جي�شه‬ ‫مث ًال) والتي �أعاد قراءتها مطهر الإرياين ما يلي‪:‬‬
‫ي�ستويل على امل��دن‪ ،‬الفينيقية والفل�سطينية‪،‬‬ ‫�سعد ت�ألب‪-‬يتلف‪-‬بن‪-‬جدمن‪-‬كرب‪ -‬أ�ع��رب‪-‬‬
‫وي��ت��ق��دم ن��ح��و اجل��ن��وب ح��ت��ى ب��ل��غ ع�سقالن‬ ‫ملك‪�-‬سب�أ‪-‬وكدت‪-‬ومذحجم‪-‬وحرمم‪-‬وبهلم‪-‬‬
‫‪ Ashkelon‬ومل��ا و�صل �إىل مو�ضع التقه‬ ‫وزدال‪ -‬وكل‪� -‬أعرب‪� -‬سب�أ‬
‫‪ ،Eltenkeh Altenkeh-‬ا�صطدم بالعرب‬ ‫وهو ما يعني ‪:‬‬
‫وبامل�رصيني‪ ،‬غري انه تغلب عليهم وا�ستوىل على‬ ‫القائد‪� -‬سعد تالب بن يتلف اجلدين كبري �أعراب‬
‫التقه وعلى متنة‪ -‬متنت‪-‬متنة ‪Timnath‬‬ ‫ملك �سب�أ وكبري كندة ومذحج وحرام وباهل وزيد‬
‫وعقرون‪ -‬عاقر ‪.Ekron‬‬ ‫�إيل وكل اعراب �سب أ�‬
‫هذا الن�ص الذي ي�صدر عن عامل جليل مثل جواد‬ ‫ويف هذا النق�ش كما ُيالحظ‪ ،‬انه �سجل احلمرييون‬
‫علي‪ ،‬ي�ضاعف من درجة الفو�ضى يف اجلغرافيا‪.‬‬ ‫ا�سم القبيلة باهل باعتبارها من البدو (�أعراب‬
‫�إن حتديد املوا�ضع الواردة يف هذا الن�ص‪ ،‬وبهذه‬ ‫�سب�أ) متام ًا كما يف ال�سجالت والنقو�ش الآ�شورية‪،‬‬
‫الطريقة التع�سفية التي يجري فيها ت�أويل‬ ‫وهو ما ي�ؤكد وجودها التاريخي ويدعم ت�صورنا‬
‫وتطويع اجلغرافيا ب�أكرب قدر من التالعب‪ ،‬لت�صبح‬ ‫حلالتها‪ ،‬فهي من اجلماعات البدوية التي كانت‬
‫موا�ضع يف فل�سطني والأردن‪� ،‬سوف ي���ؤدي ال‬ ‫جزءا من حتالف تقوده �سب�أ‪ .‬كما ورد ا�سم باهل‬
‫حمالة �إىل فو�ضى عارمة‪ .‬وهذا ما �سوف نبينه‪.‬‬ ‫يف النق�ش رقم ‪ 39‬بو�صفهم من �أعراب حمري‪� ،‬أي‬
‫‪99‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫لدينا يف الن�ص �أ�سماء موا�ضع معروفة ذكرها‬


‫‪ : 1‬ه�ي�رودوت‪� ،‬أعظم م�ؤرخي الإغ��ري��ق ورحلته �إىل م�رص ه��ذه غنية‬ ‫ال�شعر اجلاهلي‪ ،‬كما �سجلها جغرافيو العرب‬
‫باالنطباعات الدقيقة‬ ‫القدامى وهي على التوايل‪ :‬متنه‪ ،‬وعقر‪ -‬عقرون‪،‬‬
‫‪ : 2‬ه�يرودوت‪ ،‬و�صف م�رص‪ ،‬نقله �إىل العربية الدكتور حممد املربوك‬
‫الدويب‪ ،‬ط‪ /‬جامعة قار يون�س‪ ،‬ليبيا‪� 2006 ،‬ص‪49 ،‬‬
‫والتقه‪ ،‬وهذه �أ�سماء ال وجود لها يف فل�سطني قط‪،‬‬
‫‪� : 3‬أنظر مثال ً منازل الأ�سباط عندنا يف فل�سطني املتخيلة‪ -‬م�صدر مذكور‬ ‫بينما يخربنا الن�ص �أن احلملة كانت يف اجلزيرة‬
‫‪� : 4‬أنظر �صفة جزيرة العرب‪ -‬م�صدر مذكور‬ ‫العربية واليمن؟ وما ي�ؤكد ذلك‪� ،‬أن علماء الآثار‬
‫‪ : 5‬جبل �أدم‪ :‬وهو ي�سمى اليوم قيظان‪� ،‬ضبطه الأكوع بفتح الهمزة وك�رس‬ ‫الذين و�ضعوا هذه اال�سماء يف فل�سطني‪ ،‬مل يعرثوا‬
‫الدال‪ .‬وهذا يو�ضح الكيفية التي حتدث فيها التغيرّ ات الفونيطيقية على‬ ‫عليها هناك‪ .‬ي�صف لنا الهمداين موا�ضع متنه‪-‬‬
‫الأ�سماء‪ ،‬فهو تغيرّ طفيف ال يطاول �سوى احلركات الإعرابية ال �أكرث‪ .‬وعند‬
‫متنيه‪ ،‬وعقر‪ -‬عقرون‪ ،‬والتقى‪ -‬التقه وبال�صيغ‬
‫ياقوت احلموي ( معجم البلدان) ‪� :‬أدم من قرى اليمن ثم من �أعمال �صنعاء‪.‬‬
‫‪� : 6‬أرياب‪ :‬عزلة جبلية يف جبل �أدم ‪ .‬و�أريب‪� -‬أريبي بزيادة الياء الال�صقة‬
‫نف�سها والتو�صيف نف�سه‪ .‬هاكم �أوال ً ما كتبه عن‬
‫الأخرية هي النطق الآ�شوري لعريب‪ -‬عرب واملق�صود منه وادي‪ -‬العرب‪-‬‬ ‫متنة‪ -‬متنية (�صفة ‪ :)231‬والذي ي�صايل جنب‬
‫‪ : 7‬فائ�ش‪ -‬فائ�س وير�سم يف العربية‪� -‬سفر التكوين يف �صورة �أليفاز‬ ‫(�أي يجاور �رساة جنب) من عنز والرفيد والعو�ص‬
‫אליףז‬ ‫و�أداي وعنقة والراك�س والعني عني الرفيد‪ ،‬متنية‪.‬‬
‫‪ : 8‬قال الأع�شى يف و�صف �أرياب ( �صفة جزيرة العرب ‪)198 :‬‬ ‫ومتنية ي�سكنها بنو مالك‪.‬‬
‫بت ليلة‬
‫وبالق�رص من �أرياب لو َّ‬ ‫وح�سب هذا الو�صف؛ ف�إن متنية تقع بال�ضبط يف‬
‫جلاءك مثلوج من املاء جامد‬
‫‪ : 9‬خمالف الهان عند الهمداين‪� -‬أنظر �صفة جزيرة العرب‪ -‬م�صدر مذكور‬
‫�أوطان بلحارث من منطقة اجلوف اليمني‪ .‬ويف‬
‫‪� : 10‬أنظر حديث ابن عبا�س كما �أورده الهمداين (�صفة)‪ -‬م�صدر مذكور‪،‬‬ ‫التوراة وردت هذه الأ�سماء يف ال�صورة التالية‪:‬‬
‫فهو يتحدث عن اعت�صام بع�ض القبائل يف ر�ؤو���س اجلبال هربا ً من‬ ‫תמניה‪ -‬متنية‪ -‬متنية‪ ،‬עקרונ‪ -‬عقرون אלתקונ‬
‫الأ�شوريني‬ ‫ءلتقون‪.‬وقد وردت هذه املوا�ضع يف �سفر ي�شوع‬
‫‪ : 11‬عثرت �سمني ‪ :‬ع�شتار ال�سماء �إلهة اخل�صب عند اليمنيني‬ ‫(‪� )23‬ضمن منازل دان وع�شائرها وبالت�سل�سل‬
‫‪ : 12‬ديه‪ -‬ديت �أنظر دوة عند الهمداين‬
‫نف�سه الوارد يف النقو�ش الآ�شورية‪ .‬وهذا مده�ش‬
‫‪ : 13‬نهيا‪ -‬نهيه‪ ،‬انظر ما كتبناه عن وادي نهية يف فل�سطني املتخيلة‬
‫‪� : 14‬إبريل‪ ،‬ا�سم الإله العربي القدمي �إبرئ �إيل ‪ :‬اهلل البارئ والذي �صار من‬
‫حقا ً‪� .‬إليكم ن�ص ال�سفر باللغة العربية‪:‬‬
‫�أ�سماء اهلل احل�سنى‬ ‫למטה דנ למשףחת ויצא הגבול השביע ויה גבול‬
‫‪� : 15‬أنظر ما كتبه الهمداين عن خمالف الهان‬ ‫נחלתמ צרעה ואשתאל ועיר שמש ושעלבינ וילונ‬
‫‪ : 16‬املن ‪ :‬ما يعادل ن�صف كيلو غرام‬ ‫ויתלת ואילונ ותמנה ועקרונ ואלתקה‬
‫‪ : 17‬الحظ �أن اال�سم كان ينطق ب�أداة التعريف العربية والعربية القدمية‬ ‫وهذا الن�ص يقول بال�ضبط ما يلي ‪:‬‬
‫الهاء( ها‪ -‬بن)‬
‫‪ : 18‬الهمداين ‪ :‬الإكليل‪ :‬ط‪7-269 /‬‬
‫ول�سبط دان ولع�شائرهم ي��خ��رج �سهمهم‪-‬‬
‫‪ : 19‬احلمريي ‪ :‬خال�صة ال�سري اجلامعة‪ ،‬ط‪� /‬ص ‪96-328‬‬ ‫ن�صيبهم‪ -‬ال�سابع‪ ،‬مرتفعاتهم و�أغوارهم‪� :‬رصعة‬
‫‪� : 20‬أنظر ما يقوله الهمداين عن وادي �أيد ( �ص ‪� 233‬صفة )‬ ‫وال�شتيل وق��رى �شم�س وثعلبني و�إيلون و�أيلة‬
‫‪� :21‬أنظر �أ�سي�س يف كتابنا فل�سطني املتخيلة‪ -‬م�صدر مذكور‬ ‫ومتنية وعقرون والتقه‪.‬‬
‫‪ : 22‬مطهر علي الإيرياين‪ ،‬نقو�ش م�سندية وتعليقات‪ - -‬مركز الدرا�سات‬ ‫يعني ه��ذا �أن النق�ش الآ���ش��وري �سجل بدقة‬
‫والبحوث اليمني‪ 1990‬النق�ش رقم ‪32‬‬ ‫تاريخية متناهية �أ�سماء املوا�ضع التي احتلها‬
‫‪ : 23‬ي�شوع الن�ص العربي ‪37:20:19 :19 :‬‬
‫اجلي�ش‪ ،‬وهي لي�ست بكل ت�أكيد يف فل�سطني؛ بل‬
‫يف عمق اجلزيرة العربية وعلى مقربة من تخوم‬
‫وجر�ش‬ ‫اليمن (احلايل) حيث تثليث قرب جنران ُ‬
‫�أي يف منطقة اجلوف اليمني‪.‬‬
‫‪100‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫املجتمع بو�صفه حقال لل�صراع‬
‫عند مي�شال دو �سارتو‬
‫حممد �شوقي الزين‬
‫باحث و�أكادميي من اجلزائر‬

‫�أحد الإبتكارات الأ�صيلة عند مي�شال دو �سارتو (مفكر وم� ّؤرخ فرن�سي ‪-1925‬‬
‫‪ )1986‬هو بلورته املفهومية لثنائية «الإ�سرتاتيجية» و«التكتيكية» يف قراءة‬
‫املجتمع املعا�رص‪ .‬هذه الثنائية لي�ست جديدة لأ ّنها تركّ ب املعجم التقني للعمليات‬
‫احلربية واملناورات الع�سكرية‪ .‬لكن الأ�صالة املفهومية التي حتلّى بها دو �سارتو‬
‫هي �إزاحة امل�صطلح من نظرة «حربية» �إىل نظرية «�إجتماعية» و«�سيا�سية» دون‬
‫التخلّي عن الداللة ال�رصاعية التي تنطوي عليها‪.‬‬
‫تت�ض ّمن الإ�سرتاتيجية يف بعدها اال�شتقاقي ما ي�س ّميه الإغريق «بوليمو�س» (‪)polemos‬‬
‫مبعنى ال�رصاع والذي كان يرى فيه هريقليط�س «�أب الأ�شياء جميع ًا» (‪polemos‬‬
‫‪ )pantôn mèn pater‬ومنه انحدر م�صطلح ال�سجال �أو اجلدال (‪)polémique‬‬
‫ملا يحتمله من �أخذ ور ّد‪ ،‬الفعل ور ّد الفعل‪ ،‬املناظرة‪� ،‬إلخ‪ .‬فهو ال ينفكّ عن منط �رصاعي‬
‫يف التعامل �أو التداول‪.‬‬

‫‪ o‬اللحظات التي ت�سود فيها الإ�سرتاتيجية هي اللحظات‬


‫التاريخية الكربى وحلظات الفوران التي ت�ضفي املعنى على‬
‫اجلماعات وعلى حياتهم ‪o‬‬

‫‪101‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف املجتمع يواجهون �صعوبات �أو عوائق و� ّأن م�صريهم‬ ‫الر�صيد وال�صفقات‪ :‬بني الن�سق وا�ستعماالته‪.‬‬
‫�أو م�ستقبلهم غري حم ّدد املعامل‪ .‬في ّتخذون التدابري‬ ‫ي�شتمل البعد ال�رصاعي على الإ�سرتاتيجية والتكتيكية‪،‬‬
‫�أو الإجراءات املواتية ق�صد جت ّنب هذه املع�ضالت �أو‬ ‫الأوىل تنتظم ُوفق خمطّ طات �أو بيانات �أو قرارات هي‬
‫التقلّبات‪ .‬فهم يختارون �أف�ضل الو�سائل من �أجل �أح�سن‬ ‫نتاج التخمني �أو التدبري �أو املداولة بني �أ�صحاب القرار‬
‫النتائج‪ ،‬ويف االختيار تكمن ح�صافتهم �أو براعتهم يف‬ ‫تتدخل يف امليدان ح�سب الفر�ص‬ ‫؛ والثانية ّ‬
‫تفادي العوائق والظفر بالنجاحات‪ .‬فهم ميلكون الر�صيد‬ ‫الأفراد يف املتاحة والعمليات املعقّدة التي يت ّم �إدارتها‪.‬‬
‫(الطابع الإ�سرتاتيجي)‪ ،‬أ� ّي ًا كانت طبيعته‪ ،‬فكري �أو يدوي‬ ‫فالإ�سرتاتيجية هي نوع ًا ما «نخبوية» لأنها‬
‫�أو جمايل‪ ،‬وميلكون ال�صفقات (الطابع التكتيكي) وهي‬ ‫املجتمع تتطلّب امل�شاورة والتفكري الدقيق واملداولة‬
‫اخلا�صة‪ .‬بهذا املعنى‬
‫ّ‬ ‫العمليات التي يقودونها برباعتهم‬ ‫يواجهون وغريها من املمار�سات الفكرية التي تدوم‬
‫يختزل لوفيفر الفعل الب�رشي �إىل هذه الثنائية‪ ،‬بني‬ ‫يف الزمن وتتطلّب الر�ؤية املع ّمقة ومعاجلة‬
‫ر�صيد و�صفقات‪� ،‬أو بني ر�أ�سمال ومعامالت‪� ،‬أو بني �إرث‬ ‫�صعوبات �أو كل ال�سيناريوهات املمكنة‪ .‬بينما التكتيكية‬
‫وا�ستعماالت‪� ،‬أي بني �إ�سرتاتيجيات وتكتيكات‪ .‬فهو ي�ضع‬ ‫جمرد تدابري ينبغي‬ ‫عوائق و�أنّ هي «�آنية» �أو عابرة لأ ّنها ّ‬
‫الإ�سرتاتيجية �إىل جانب التق ّدم �أو التح�ضرّ �أو العقالنية‬ ‫�أخذها يف امليدان‪ ،‬خ�صو�ص ًا يف اللحظات‬
‫�أو الثورة‪ ،‬بينما يعزو التكتيكية �إىل االنعزال �أو التقهقر �أو‬ ‫م�صريهم �أو املعقّدة وغري املتوقّعة مثل املعارك‪ .‬ال �شكّ � ّأن‬
‫الأفول �أو الإغرتاب ‪:‬‬ ‫ومف�صل كل‬‫ّ‬ ‫م�ستقبلهم غري غا�ستون بوثول عالج ب�شكل دقيق‬
‫«� ّإن اللحظات التي ت�سود فيها الإ�سرتاتيجية هي‬ ‫هذه العمليات يف كتابه ر�سالة يف الدرا�سات‬
‫اللحظات التاريخية الكربى وحلظات الفوران‪ .‬ت�ضفي‬ ‫حمدّ د املعامل‪ .‬احلربية(‪ )1‬وهو �أ ّول كتاب يعالج احلرب‬
‫الإ�سرتاتيجية املعنى على اجلماعات وعلى حياتهم‪.‬‬ ‫في ّتخذون كظاهرة معرفية ُتد َر�س ب�أدوات علمية‪ .‬فهو‬
‫توجه �أو �إر�شاد �أو تعبري �أو هدف ولي�س تك ّهن ًا‬
‫املعنى هو ّ‬ ‫يعترب الدرا�سات احلربية كعلم يف ال�رصاع‬
‫املتخ�ص�ص‬
‫ّ‬ ‫هادئ ًا ينبغي احل�صول عليه فل�سفي ًا بف�ضل‬ ‫التدابري ق�صد حتديد الآليات والعمليات واملقا�صد‬
‫�أو الفيل�سوف‪ .‬املعنى هو دراما ت� ّؤ�س�سه �إ�سرتاتيجية‬ ‫املواتية ق�صد والنتائج والآثار‪� ،‬أي �سريورة متما�سكة‬
‫اجلماعات �أو تبتكره‪.)3(» ‬‬ ‫ومنطقية مبعزل عن القراءات الأخالقية �أو‬
‫والتكتيكية من هذا املنظور هي انغما�س الأفراد �أو‬ ‫جت ّنب هذه ال�سيا�سية التي ترى يف احلروب �أو العداءات‬
‫اجلماعات يف ما ي�س ّميه «تفاهات احلياة اليومية»‪ .‬ال �شكّ‬ ‫املع�ضالت �أو ظواهر غري �إن�سانية وغري �أخالقية‪ .‬ال �شكّ � ّأن‬
‫توجه ب�شكل ال �شعوري �أفكار لوفيفر‬ ‫� ّأن �أطياف مارك�س ّ‬ ‫الأمر هو كذلك‪ ،‬خ�صو�صا يف النتائج املر ّوعة‬
‫عندما يجعل من الإ�سرتاتيجية حلظة الدراما �أو االحتدام‬ ‫التق ّلبات التي تعود بالوبال على الأفراد �أو اجلماعات �أو‬
‫�أي اللحظات الثورية‪ ،‬بينما التكتيكية هي اللحظات‬ ‫املمتلكات‪ .‬لكن م�س ّوغ الدرا�سات احلربية التي‬
‫الروتينية واالبتذالية حيث ميثّل املجتمع الإ�ستهالكي‬ ‫عمل غا�ستون بوثول على بلورتها وتنظريها لي�س هو‬
‫�إحدى جتل ّياتها‪ .‬لكن ال يعزل لوفيفر الإ�سرتاتيجية عن‬ ‫نتائج ال�رصاع و�إنمّ ا مق ّدماته مبعنى دوافعه �أو حيثياته‬
‫التكتيكية ل ّأن الوعي الفردي �أو اجلماعي ال ينفكّ عن‬ ‫�أو �سلوكاته الواعية �أو غري الواعية‪� ،‬إلخ‪.‬‬
‫التح ّول واالرتقاء كما ت�ؤمن به املادية اجلدلية واملادية‬ ‫ينطلق دو �سارتو بال �شكّ من هذه الفكرة يف �إثراء‬
‫التاريخية يف اخلطاب املارك�سي‪ .‬غري � ّأن لوفيفر ي�شكّ يف‬ ‫هذه الثنائية وقراءة املجتمع مبوجبها‪ .‬واملالحظ‬
‫الغايات ال�رسمدية كما تبديها ك ّل فل�سفة جدلية بنفي‬ ‫� ّأن ال�سو�سيولوجي والفيل�سوف هرني لوفيفر كان قد‬
‫النقي�ض‪ .‬فهو يتح ّدث عن حت ّوالت رجعية (�أو «رجئية» �إذا‬ ‫التوجه‬
‫ّ‬ ‫ا�ستثمر هذه الثنائية يف م�رشوعه ال�ضخم‪ ،‬ذي‬
‫ا�ستعملنا م�صطلح ًا تفكيكي ًا) ال تنفكّ عن ال َع َود واالرتقاء‬ ‫املارك�سي‪ ،‬نقد احلياة اليومية(‪ )2‬وكان دو �سارتو قد‬
‫دون �إلغاء التناق�ضات‪ .‬بني الإ�سرتاتيجية والتكتيكية‬ ‫ا�ستفاد من �أفكار لوفيفر‪ .‬فهذا الأخري يعترب � ّأن الأفراد‬
‫‪102‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اجلي�ش جتاه العد ّو‪ ،‬احلا�رضة �أمام البادية‪ ،‬امل�ؤ�س�سة‬ ‫هناك تناوب‪ :‬بني �رضورة و�إمكان‪ ،‬بني �رصامة وه�شا�شة‪،‬‬
‫العلمية مقارن ًة مع موا�ضيعها امل�ستع�صية (كما عالج ذلك‬ ‫بني ج ّد وهزل‪ ،‬بني دراما وكوميديا‪� ،‬إلخ‪.‬‬
‫مي�شال فوكو‪ :‬اجلنون‪ ،‬املوت‪ ،‬الآخر‪� ،‬إلخ)‪ .‬يتعلّق الأمر �إذاً‬ ‫ي�ستثمر مي�شال دو �سارتو بذكاء هذه الثنائية كما‬
‫بهو ّية �أمام غريية ينبغي تطويعها �أو قهرها ق�صد التحكّم‬ ‫توجهه املارك�سي‪ .‬فهو ي�ضفي‬ ‫عاجلها لوفيفر يف نطاق ّ‬
‫اخلا�ص هو‬
‫ّ‬ ‫فيها �أو درا�سة �أغوارها ومكامنها‪ .‬فاملح ّل‬ ‫داللة �أخرى مغايرة متام ًا عن الت�ص ّور املارك�سي‬
‫املكان الذي تت�ضافر فيه القوى وتتو ّزع املها ّم و تن� أش�‬ ‫للوفيفر‪ .‬لي�ست الإ�سرتاتيجية عنده جملة الأحداث الثورية‬
‫التداوالت ق�صد بناء خطاب “حقيقي” (عقالين �أو علمي‬ ‫الالمعة ولكن جت�سيداتها امل� ّؤ�س�ساتية يف ال�سيا�سة‬
‫�أو �سيا�سي �أو �إيديولوجي) حول موا�ضيع التي هي عر�ضة‬ ‫والدين واملعرفة العلمية‪ .‬بتعبري �آخر‪ ،‬الإ�سرتاتيجية هي‬
‫للإق�صاء �أو احلجز‪� .‬إ ّنه حم ّل التداول و �صناعة القرارات‪.‬‬ ‫«اجل�سد» امل� ّؤ�س�ساتي (منظومة‪ ،‬ن�سق‪ ،‬قالب) ل�سيا�سة �أو‬
‫اخلا�ص كمح ّل للعقالنية‬ ‫ّ‬ ‫ثالث ًا‪ ،‬بالإ�شارة �إىل املكان‬ ‫�إيديولوجيا �أو خمترب علمي ملا ينطوي عليه من عالقات‬
‫والقرار العلمي �أو ال�سيا�سي‪ ،‬يعترب دو �سارتو � ّأن‬ ‫يف الق ّوة وتعابري يف الت�صنيف والتقييد وتدابري يف‬
‫الإ�سرتاتيجية هي انت�صار املكان على الزمان‪ .‬ل ّأن يف‬ ‫العزل والإق�صاء‪ .‬ولي�ست التكتيكية اللحظات الهزلية �أو‬
‫املكان �أي يف امل� ّؤ�س�سة االن�ضباطية‪ ،‬ال�سيا�سية منها‬ ‫اال�ستهالكية �أو الإبتذالية و�إنمّ ا القوى املبعرثة لأفراد �أو‬
‫والإقت�صادية والعلمية‪ ،‬ميكن توزيع القوى واحلفاظ‬ ‫جماعات وهي قوى جتوب حقل الإ�سرتاتيجية النتهاز‬
‫عليها‪ .‬وميكن �أي�ض ًا‪ ،‬كما ذهب �إىل ذلك فوكو يف قراءته‬ ‫بح َيل �أو براعات ق�صد حتقيق هدف �أو مرمى‪.‬‬ ‫الفر�ص ِ‬
‫جلريميي بنثام‪� ،‬إن�شاء «البانوبتيكون» (�أو «العني‬ ‫«�أ�س ّمي �إ�سرتاتيجية ح�ساب العالقات يف الق ّوة الذي‬
‫احللولية»‪� ،‬أو املراقبة املع ّممة) ق�صد العزل �أو الرقابة‪.‬‬ ‫ي�صبح ممكن ًا عندما ُت ْع َزل «ذات لها �إرادة» عن بيئتها‬
‫يتعلّق الأمر �إذاً مبعرفة (منظومة �سيا�سية �أو علمية �أو‬ ‫(مهما كان �شكل هذه الذات‪� :‬رشكة �أو حا�رضة �أو م� ّؤ�س�سة‬
‫اقت�صادية) ذات غاية �سلطوية‪.‬‬ ‫خا�ص ت ّت�صل من خالله‬ ‫ّ‬ ‫علمية)‪ .‬نح�صل �إذن على حم ّل‬
‫هذا ب�شكل موجز اخلا�ص ّيات الأ�سا�سية للإ�سرتاتيجية‪،‬‬ ‫القوى املح�سوبة باخلارج‪ :‬يتعلّق الأمر باملوديل‬
‫فماذا عن التكتيكية؟‬ ‫املكيافيلي الذي مي ّيز املكان عن الفعل‪ .‬بنا ًء على هذا‬
‫«�أ�س ّمي باملقابل تكتيكية ح�ساب القوى التي تفتقر �إىل‬ ‫النمط الإ�سرتاتيجي �شُ ِّيدت العقالنية الر�سمية‪ ،‬ال�سيا�سية‬
‫خا�ص و�إىل ح ّد مي ّيز الآخر ككل ّية مرئية �أو جل ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حم ّل‬ ‫والعلمية واالقت�صادية»(‪.)4‬‬
‫فلي�س للتكتيكية من مكان �سوى مكان الآخر‪ .‬فهي‬ ‫يتطلّب هذا التعريف بع�ض الإي�ضاحات والتفكريات‪:‬‬
‫ت ؤ� ّدي �أدوارها داخل ن�ص �أو ن�سق الآخر‪ .‬فهي تت�سلّل فيه‬ ‫�أ ّو ًال‪ ،‬يف الإ�سرتاتيجية ي�ؤكّ د دو �سارتو على �أه ّمية‬
‫ب�شكل مت�شظّ دون �أن تقب�ض عليه متام ًا‪ ،‬مبعنى دون �أن‬ ‫«احل�ساب» ل ّأن العقل هو �أ�سا�سا احل�ساب كما يوحيه �أحد‬
‫ت�ستبعده‪ .‬فلي�س لها قواعد ميكن من خاللها �أن مت ّول‬ ‫ا�شتقاقاته‪� ،‬أي قدرته على �إدارة العمليات املعقّدة �أو‬
‫فوائدها‪ .‬فهي تنح�رص يف اللحظة‪ ،‬بينما الإ�سرتاتيجية‬ ‫ا�ستنباط النتائج من املق ّدمات ؛ وهو �أي�ض ًا عقل ت�صنيفي‬
‫هي دوم ًا انت�صار املكان على الزمان »(‪.)5‬‬ ‫ب�إن�شاء اجلداول واملراتب وال�شبكات‪ .‬هذه التقنيات‬
‫�أو ًال‪ ،‬نفهم من هذا التحديد � ّأن التكتيكية تفتقر �إىل مكان‬ ‫(احل�ساب والت�صنيف) هي �إرادة يف الق ّوة �أو �سلطة‪ ،‬تت�سلّح‬
‫خا�ص‪ ،‬فلي�س لها مو�ضوع معزول ميكنها الإحاطة‬ ‫ّ‬ ‫بها الذات ق�صد عزل �أو ترتيب موا�ضيعها‪ .‬والذات هنا هي‬
‫به ب�أدوات معرفية ذات غايات �سلطوية‪ .‬فالتكتيكية‬ ‫«ذات جمعية» مبعنى م� ّؤ�س�سة �أو منظومة‪ .‬يتعلّق الأمر‬
‫تخ�ضع �إىل القانون الذي يحكم الإ�سرتاتيجية‪ .‬هي مبثابة‬ ‫ب�رشكة �أو جي�ش �أو مخُ ترب‪.‬‬
‫«الدخيل» �أو «املتطفّل» الذي يح ّل يف مكان لي�س مكانه‪،‬‬ ‫اخلا�ص»‬
‫ّ‬ ‫ثاني ًا‪ ،‬يراهن دو �سارتو على �أهم ّية «املحل‬
‫ولكن ي�ستملكه �أو يجوبه على �سبيل التج ُّول دون الإقامة‬ ‫�أو املكان اخل�صو�صي الذي يجعل بينه وبني مو�ضوعه‬
‫فيه‪.‬‬ ‫اخلارجي م�سافة �رضورية لك ّل تعقّل �أوفهم �أو عزل‪ :‬مث ًال‬
‫‪103‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫متنح لهذا اجل�سد متا�سكه الع�ضوي وبنيته ال�سلطوية‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ ،‬يف التكتيكية تنعدم الر�ؤية البانوبتيكية ذات‬
‫لكن دو �سارتو يقوم مبقاربة �صورية بني ن�سق اللغة‬ ‫الأبعاد الرقابية وال�سلطوية‪ .‬فهي حركة د�ؤوبة وخف ّية‪.‬‬
‫ون�سق الإ�سرتاتيجية ليبينّ كيف � ّأن اللغة هي ف�ضاء من‬ ‫ت�شتغل يف مواقع الظ ّل �أو الغياب‪ .‬جتوب الأمكنة والأروقة‪.‬‬
‫العالمات ترت ّد �إىل خطاب بوجود عوامل مو�ضوعية‬ ‫ثالث ًا‪ ،‬خالف ًا للإ�سرتاتيجية التي تنبني على املكان‪،‬‬
‫مثل املتكلّم (‪ )locuteur‬وال�سياق (‪)contexte‬‬ ‫تتحفّز التكتيكية بالزمان‪ ،‬الزمان الهريقليطي الذي هو‬
‫والإ�ستعمال (‪ ،)usage‬والإ�سرتاتيجية هي �أي�ض ًا هيكل‬ ‫�سيالن دائم �أو حركة متم ّوجة‪ .‬فهي تربط عالقة وثيقة‬
‫خم�ص�صة لال�ستعمال والتداول‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫من القوانني والقواعد‬ ‫بالفر�صة‪� ،‬أو «الكا ْيرو�س» (‪ )kaïros‬كما ي�س ّميها‬
‫ففي الإ�ستعمال (‪ )usage, use‬يكمن الوجه العملي‬ ‫الإغريق‪ .‬التكتيكية هي انتهاز الفر�ص املتاحة يف‬
‫للغة‪ ،‬والبعد التكتيكي للإ�سرتاتيجية‪ .‬ل ّأن الإ�ستعمال هو‬ ‫اللحظات املالئمة‪.‬‬
‫ا�ستعمال فردي يف �سياق معينّ ‪ ،‬مبعنى �سلوك فرداين‬ ‫الإ�سرتاتيجية الن�سق اللغوي ك َمثَل �إ�سرتاتيجي و تكتيكي‬
‫منعزل عن غريه من ال�سلوكات‪ .‬وجملة ال�سلوكات داخل‬ ‫من املالحظ � ّأن هذه الثنائية لها عالقة وطيدة‬
‫وموجهة نحو �أغرا�ض �أو �أهداف ت� ّؤ�س�س‬ ‫َّ‬ ‫م� ّؤ�س�سة مع ّينة‬ ‫هامة على �صعيد‬ ‫ّ‬ ‫هي ن�سق واقعي بثنائيات لعبت �أدوارا‬
‫الإ�سرتاتيجية يف بعدها املعريف وال�سلطوي‪ .‬ولكن‬ ‫لأ ّنها ج�سد العلوم الإن�سانية‪ ،‬وخ�صو�ص ًا يف الأل�سنية‪،‬‬
‫�إذا كانت التكتيكية ت�شتغل ُخفي ًة يف املكان املر َّبع‬ ‫مثل املنطوق‪/‬فعل التعبري( (�‪énoncé/énon‬‬
‫واملراقَب للإ�سرتاتيجية‪ ،‬كيف ميكن التفريق بني ما هو‬ ‫م� ّؤ�س�ساتي هو ‪ ،)ciation‬اللغة‪/‬الكالم (‪ .)langue/parole‬مثلما‬
‫«�إ�سرتاتيجي» ونتاج �سلطة �أو عالقات يف الق ّوة‪ ،‬وبني‬ ‫جملة القوانني � ّأن املنطوق هو ن�سق من العبارات‪ ،‬ف� ّإن فعل‬
‫ما هو «تكتيكي» ح�صيلة �أفعال فردية برباعاتها الذاتية‬ ‫التعبري (�أو ما ي�س ّميه التداوليون يف اللغة‬
‫وا�شتغاالتها الآنية؟‬ ‫والعالقات ‪ )speech act‬هو ممار�سة فعلية للمنطوق‪.‬‬
‫�إذا كان دو �سارتو ال يعزل الإ�سرتاتيجية عن التكتيكية‪،‬‬ ‫�أي�ض ًا اللغة هي ن�سق من العالمات‪ ،‬والكالم‬
‫القوة التي‬
‫يف ّ‬
‫خا�ص �سوى املكان‬ ‫ّ‬ ‫ل ّأن هذه الأخرية لي�س لها من حم ّل‬ ‫هو ا�ستعمال فعلي �أو ممار�سة ف ّعالة للغة كما‬
‫الإ�سرتاتيجي‪ ،‬فهو يعترب � ّأن الأفراد الذين َي ْن�ض ّمون �إىل‬ ‫متنح لهذا ذهب �إىل ذلك �إميل بنفوني�ست (‪)E. Benveniste‬‬
‫م� ّؤ�س�سة مع ّينة (�سيا�سية‪ ،‬علمية‪ ،‬اقت�صادية‪� ،‬أو املجتمع‬ ‫على خطى دو �سو�سري (‪.)F. De Saussure‬‬
‫اجل�سد متا�سكه‬
‫باخت�صار) ال يخ�ضعون بال�رضورة �إىل القوانني القهرية‬ ‫بالقيا�س‪ ،‬الإ�سرتاتيجية هي �أي�ض ًا ن�سق من‬
‫لهذه امل� ّؤ�س�سة �سوى على �سبيل الإلتزام الظاهر‪ .‬فهم‬ ‫الع�ضوي الأعراف �أو القواعد والتكتيكية هي ا�ستعمال‬
‫ي�شتغلون يف اخلفاء ل�صناعة �أمناط يف ال�سلوك مرنة‬ ‫فعلي من �ش�أنه �أن يزيح هذا الن�سق عن مرماه‬
‫وبنيته‬
‫ومفتوحة‪� ،‬أو لإزاحة هيكل الأعراف با�ستعماالتهم الذاتية‪.‬‬ ‫الأ�صلي‪ .‬اللغة مث ًال هي قواعد �صورية �أو‬
‫ل ّأن الإ�ستعمال يف �سياق م� ّؤ�س�سة �أو جمتمع هو على غرار‬ ‫ال�سلطوية منظومة من الت�شكيالت اخلطابية ت ّتخذ داللتها‬
‫لن�ص معينّ (فل�سفي �أو ديني �أو �أدبي)‪ ،‬مبعنى‬ ‫الت�أويل ّ‬ ‫يتدخل‬
‫ّ‬ ‫احلقيقية عندما ُت�ستع َمل �أي عندما‬
‫للن�ص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫«داللة» فردية مبعزل عن «املعنى» املفرت�ض‬ ‫املتكلّم (�أو الذات الناطقة) يف التعبري عن �شيء‬
‫للن�ص معنى ثابت تدلّ عليه ماد ّيته اللغوية �أو «�شيئيته‬ ‫ّ‬ ‫ما‪ .‬فال ت�صبح اللغة فعلية �سوى عندما ي�ستعملها الفرد‬
‫الن�ص ّية» كما ي�س ّميها بول ريكور‪ ،‬والدالالت املتع ّددة‬ ‫يف مبادالته اليومية من �أقوال �أو �أفعال �أو �إجراءات �أو‬
‫�أو املت�ضاربة �أو املتناق�ضة هي نتاج ت�أويالت فردية‬ ‫�أداءات‪.‬‬
‫�أو ر�ؤى ذاتية مرتبطة بكل فرد على ِحده‪� ،‬أي بتاريخه‬ ‫لكن من املالحظ � ّأن ن�سق اللغة هو ن�سق افرتا�ضي �أو‬
‫ال�شخ�صي وب�سياقه التاريخي والثقايف وبحدو�سه �أو‬ ‫اعتباري (‪ )virtuel‬وال ي�صبح فعلي ًا �سوى عندما‬
‫للن�ص‪� ،‬أو ما �أ�س ّميه «الفاعل‬
‫�إدراكاته‪ .‬فال يخ�ضع القارئ ّ‬ ‫يمُ ا َر�س‪ .‬بينما الإ�سرتاتيجية هي ن�سق واقعي لأ ّنها ج�سد‬
‫الت�أويلي»‪ ،‬و�إنمّ ا يزيحه تبع ًا لل�سياق والغر�ض والظرف‪.‬‬ ‫م� ّؤ�س�ساتي هو جملة القوانني والعالقات يف الق ّوة التي‬
‫‪104‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وتتب ّدى هذه التجاويف �أو الرت�شّ حات �أو الت� ّرسبات‬ ‫فال تتطابق دالالته مع «املراد الداليل» للن�ص‪ ،‬الختالف‬
‫التكتيكية يف طريقة «الإ�ستعمال»‪� ،‬أي يف �أمناط التعبري‬ ‫املعطيات وال�سياقات والأزمنة والإرادات‪.‬‬
‫�أو �أ�شكال التدبري التي هي لي�ست «تطبيقات» لقواعد و�إنمّ ا‬ ‫يتعامل دو �سارتو مع امل� ّؤ�س�سات املعرفية وال�سلطوية‬
‫ذكي �أو عمل‬‫وموجهة‪ ،‬نتاج مرا�س ّ‬ ‫َّ‬ ‫«�إ�ستعماالت» وجيهة‬ ‫باملنطق نف�سه‪ .‬التكتيكية هي �إرادات الأفراد داخل‬
‫نبيه‪ .‬فالأمر �إذاً هو �رصاع بني الإ�سرتاتيجيات املق َّننة‬ ‫الإ�سرتاتيجية وهي‪ ،‬بال �شكّ ‪� ،‬إرادات متع ّددة ومتناق�ضة‪،‬‬
‫وا ُمل َم�أْ�س�سة والتي تتب ّدى يف العقالنيات املعا�رصة‪،‬‬ ‫لها �سلوكات تختلف ح�سب الظروف �أو املعطيات‬
‫ال�سيا�سية منها والعلمية والإيديولوجية‪ ،‬وبني التكتيكات‬ ‫�أو القرائن‪ .‬وعلى غرار «الت�أويل» يف اللغة‪ ،‬ي�صبح‬
‫املتوارية وال�شبيهة بدبيب النمل‪ ،‬والتي ترتاءى يف‬ ‫«الإ�ستعمال» هو املعيار الأ�سا�سي يف الأفعال �أو‬
‫اال�ستعماالت اليومية ذات البعد اجلمايل �أو اخلالّق ك�سالح‬ ‫الأداءات الفردية‪ .‬لكن �إذا كانت التكتيكية هي الإرادات‬
‫للمقاومة‪ .‬فال �شكّ � ّأن ال�رصاع‪ ،‬يف املعادلة الإجتماعية‬ ‫�أو الرغبات الفردية‪ ،‬ف� ّإن دو �سارتو ال يختزل املجتمع‬
‫«الإ�سرتاتيجية‪-‬التكتيكية»‪ ،‬هو القالب اجلوهري لك ّل‬ ‫�إىل جملة هذه الإرادات‪ ،‬لأ ّنه َي ْعتَبرِ ‪ ،‬على غرار الدرا�سات‬
‫جمتمع معقّد ت�سوده م� ّؤ�س�سات معقّدة وعالقات مركّ بة‬ ‫الإجتماعية التي تعطي الأولوية للك ّل على اجلزء �أو الفرد‬
‫ومرتبكة‪ .‬هذا ما ي�ؤكّ د عليه دو �سارتو يف جوابه على‬ ‫(‪ّ � ،)holisme‬أن العالقات هي يف جوهرها عالقات‬
‫�أ�سئلة لوي كريي‪:‬‬ ‫«�إجتماعية»‪ ،‬فال ميكن الإعتداد مبا ُي�س ّمى «بالذر ّية‬
‫«‪ ‬ينبغي علينا �أن نعيد الإعتبار للمظهر «ال�رصاعي»‬ ‫الإجتماعية» (‪ .)atomisme social‬فالعالقات‬
‫يف ك ّل حتليل ثقايف‪ .‬عندما نعر�ض م�س�ألة املمار�سة‬ ‫الإجتماعية حت ّدد الأفراد‪ ،‬ويف ك ّل فرد هناك عالقات �أو‬
‫– مبعنى العمليات – ف�إ ّننا ن�سلّط ال�ضوء على م�شكل‬ ‫تع ّدديات مت ّيزه والتي تربطه بهذه العالقات الإجتماعية‪.‬‬
‫ال�رصاع‪ .‬هذا ما تب ّينه مثال الإب�ستمولوجيا يف نهاية‬ ‫فلي�ست امل�س�ألة ق�ض ّية «ذات» منعزلة �أو �شظ ّية فردانية‪،‬‬
‫القرن التا�سع ع�رش وبداية القرن الع�رشين مع مارك�س‬ ‫و�إنمّ ا �أمناط الفعل �أو �أ�شكال الأداء التي حت ّددها‪ .‬وال ريب‬
‫بغ�ض‬
‫وفرو ْيد‪ .‬فال ميكن �إقامة � ّأي حتليل (علمي �أو نقدي) ّ‬ ‫� ّأن هذه التحديدات تعك�س املجتمع بو�صفه حق ًال لل�رصاع‬
‫النظر عن ال�رصاع‪ .‬فال�رصاع هو �أمر �أ�سا�سي مثل ال ُبعد‬ ‫�أو حلبة للنزاع‪ ،‬ويف هذه اخلا�ص ّية «البوليمو�سية»‬
‫الإقت�صادي والأخالقي واجلمايل للممار�سات اليومية‬ ‫تكمن هوية ك ّل جمتمع‪ ،‬مبعزل عن هو ّياته الثقافية‬
‫»(‪.)6‬‬ ‫�أو التاريخية‪ .‬فالأفراد يف �رصاع دائم لي�س فقط �ض ّد‬
‫طبع ًا ال يفهم دو �سارتو «ال�رصاع» يف داللته ال�ض ّيقة ذات‬ ‫بع�ضهم البع�ض تبع ًا للخيارات �أو الفوائد التي ي�سعى‬
‫احلكم الأخالقي والتي ترى فيه ال� ّرش �أو ال�شكل الال�إن�ساين‬ ‫كل فرد للذود عنها‪ ،‬و�إنمّ ا �أي�ض ًا �ض ّد الن�سق الإ�سرتاتيجي‬
‫جمرد �صنف حم�صور‬ ‫للنزاع والنبذ‪ .‬هذه الداللة هي ّ‬ ‫يتحرك فيه ه�ؤالء الأفراد‪ .‬حركتهم هي‬ ‫ّ‬ ‫الذي ي�شتغل �أو‬
‫من نوع �أكرث �شمولية �أو كونية‪ ،‬وهو �صنف ركّ ز عليه‬ ‫مبثابة ال�سلوك التكتيكي‪ ،‬اخلفي �أو املتواري‪ ،‬داخل‬
‫قرر «بحرب الك ّل �ض ّد‬ ‫توما�س هوب�س يف الت ّنني عندما ّ‬ ‫الرتبيع الرقابي للإ�سرتاتيجية‪.‬‬
‫الكلّ» (‪.)Bellum omnium contra omnes‬‬ ‫�أولوية ال�رصاع‪ :‬هذا «الذكاء» الذي «يذكي» املمار�سات‪.‬‬
‫ال�رصاع الذي يعنيه دو �سارتو هو ما �أ�شارت �إليه‬ ‫�إذا كان دو �سارتو يوافق فوكو على الطابع «ا َ‬
‫جلبرَ وتي»‬
‫الفل�سفات ال�سابقة على �سقراط‪� ،‬أي ال�رصاع ك�إرادة �أو نار‬ ‫لتقنيات االن�ضباط واملعاقبة يف ك ّل جمتمع ت�سوده‬
‫ح ّية تن�ساب يف ك ّل كائن �أو تت�سلّل يف ك ّل حقيقة كونية‪:‬‬ ‫امل� ّؤ�س�سات البريوقراطية املعقّدة‪ ،‬ف إ� ّنه ال يوافقه على‬
‫فال�رصاع‪� ،‬أب الأ�شياء كلّها‪ ،‬مي ّيز �أي�ض ًا العامل احليواين‬ ‫رمته �إىل «�سجن» ُمغ َلق ومراقَب‪.‬‬ ‫اختزال املجتمع يف ّ‬
‫واملعدين والنباتي‪ ،‬و�أي�ض ًا عامل الأفكار والت�ص ّورات‬ ‫ل ّأن هناك مداخل �أو خمارج �أو معارج ميكن للأفراد‬
‫والتمثّالت‪ .‬يذهب اخلطاب العرفاين �إىل �أبعد من ذلك‬ ‫(ال ُبعد التكتيكي) ا ّتخاذها �أو العبور بها دون مغادرة‬
‫عندما يع ّمم ال�رصاع �أي�ض ًا على عامل الألوهية‪ ،‬عندما‬ ‫حقل الإن�ضباط �أو اال�ستحكام (ال ُبعد الإ�سرتاتيجي)‪.‬‬
‫‪105‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دو �سارتو �إىل �أبعد من ذلك عندما يجعل من التكتيكية‬ ‫يتح ّدث ابن عربي عن «اخت�صام امللأ الأعلى»‪ ،‬وعندما‬
‫القبلي ال�صوري للإ�سرتاتيجية‪ ،‬مع � ّأن هذه الأخرية هي‬ ‫اخلراز ب أ� ّنه عرف احلقّ بجمعه بني ال�ض ّدين‬‫قال �سعيد ّ‬
‫حل َيل اخلالّقة‬
‫القبلي الواقعي �أو التاريخي للتكتيكية‪ .‬ل ّأن ا ِ‬ ‫عندما تال الآية «هو الأ ّول والآخر‪ ،‬والظاهر والباطن»‬
‫�أو الذكاءات �أو املهارات التي تت�سلّح بها الإ�سرتاتيجيات‬ ‫(احلديد‪ ،‬الآية ‪ ،)3‬وهو ما قاله �أي�ض ًا القدي�س يوح ّنا‬
‫هي عريقة وكونية‪ ،‬توجد يف ك ّل كائن تدفعه احلاجة �إىل‬ ‫ال�صليبي (‪ .)Saint Jean de la Croix‬فال�رصاع هو‬
‫الدفاع عن وجوده �أو الذود عن حياته‪ .‬فهي تكتيكات‬ ‫�أ�صل الأ�شياء �أو البحر اجلامع الذي ت�سبح فيه احلقائق‬
‫دفينة يف كيفية تفادي املخاطر �أو الوقوع يف الأفخاخ‪.‬‬ ‫مهما تع ّددت �أو اختلفت �أو تخالفت‪.‬‬
‫هذه التكتيكات لها خا�ص ّية احليلة (‪ )ruse‬يف �إحباط‬ ‫ولكن دو �سارتو ال يبقى على �صعيد الت�ص ّور امليتافيزيقي‬
‫خماطر الوجود �أو اخلروج من عتمته مب�صابيح الذكاء‪.‬‬ ‫يتفح�ص جتل ّياته الإجتماعية كما تعبرّ‬ ‫لل�رصاع‪ ،‬ولكن ّ‬
‫ل ّأن التكتيكية هي يف جوهرها حيلة �أو خديعة لي�س‬ ‫عنه الثنائية «الإ�سرتاتيجية‪-‬التفكيكية»‪،‬‬
‫باملعنى الأخالقي (ل ّأن هذا املعنى يحجب الداللة‬ ‫ويبحث عن �آثاره �أو ب�صماته يف االبتكارات‬
‫ال�صراع هو‬
‫الإب�ستمولوجية والنقدية) ولكن باملعنى الوجودي يف‬ ‫تق�صاه‬ ‫�أ�صل الأ�شياء اليومية �أو الإبداعات اجلمالية‪ ،‬مثلما ّ‬
‫تفادي املخاطر �أو الأهوال‪� ،‬أو التفاين يف االبتكارات‬ ‫فرو ْيد يف الأغوار الال�شعورية‪ :‬الرغبات‬
‫اجلمالية �أو ال�صناعات الفن ّية‪ .‬فاحليلة تل ّبي حاجيات‬ ‫�أو البحر والهواج�س وال�ضغائن والأحالم والأوهام‪ .‬بهذا‬
‫الكائن يف ال�رضورات الق�صوى التي تتطلّب القرار العاجل‬ ‫اجلامع الذي املعنى عمل دو �سارتو على ا�ستق�صاء �أوجه‬
‫واالنتباه الفوري‪ ،‬خالف ًا للتعقّل الإ�سرتاتيجي الذي يتطلّب‬ ‫ال�رصاع يف احلقل الإجتماعي بنا ًء على هذه‬
‫التم ّعن الهادئ �أو التد ّبر الدقيق‪ .‬ل ّأن هذا التعقّل ي�شتغل‬ ‫ت�سبح فيه الثنائية ويرى � ّأن هذه الأوجه تتجلّى يف طرائق‬
‫يف الفرتات ال�ساكنة �أو الهادئة‪ ،‬بينما احليلة التكتيكية‬ ‫العي�ش التي تفلت من التنميطات الإ�شهارية‬
‫تفر من الزواجر‬ ‫احلقائق مهما‬
‫متا َر�س يف اللحظات امل�ضطربة �أو الهائجة‪ .‬ال �شكّ � ّأن‬ ‫�أو يف الأذواق اجلمالية التي ّ‬
‫هذه الثنائية التي عمل دو �سارتو على تطويرها و�إعادة‬ ‫تعدّ دت �أو الإيديولوجية‪ .‬فاملمار�سات اليومية تنطوي‬
‫فهمها تتطلّب قراءات مع ّمقة وتفكريات متع ّددة‪ ،‬لأ ّنها‬ ‫على طاقة فاعلة �س ّماها الإغريق «امليتي�س»‬
‫ترتبط باملفاهيم الكربى التي ت�شكّل اليوم لحُ مة التفكري‬ ‫تخالفت (‪� )mètis‬أو احليلة اخلالّقة والدفينة(‪ ،)7‬وهي‬
‫الغربي �سواء تعلّق الأمر بالل�سانيات (اللغة‪-‬اخلطاب) �أو‬ ‫نار فن ّية (‪ ،)pûr teknikon‬ذهنية‪� ،‬أو‬
‫الأنرثوبولوجيا (الطبيعة‪-‬الثقافة) �أو الفل�سفة (العقل‪-‬‬ ‫ذكاء‪« ،‬يذكيها» الفاعل الإجتماعي لريى بها‬
‫الهوى) �أو النف�سانيات (ال�شعور‪-‬الال�شعور) وغريها من‬ ‫ويتفح�ص بف�ضلها‪ ،‬على غرار امل�صباح يف العتمة احلالكة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫املعارف �أو الفنون‪.‬‬ ‫وهذه النار الفن ّية والذك ّية التي نذكيها يف معامالتنا‬
‫و�سلوكاتنا هي ذات بعد تكتيكي يف مواجهة العقالنيات‬
‫الهوام�ش‬ ‫املركّبة والبريوقراطية ذات حمتوى �إ�سرتاتيجي‪.‬‬
‫‪.Gaston Bouthoul, Traité de polémologie, Payot, 1972 -1‬‬ ‫�إذا كان دو �سارتو يع ّمم ال�رصاع ليجعل منه حقيقة كونية‬
‫‪Henri Lefebvre, Critique de la vie quotidienne, 1947 : -2‬‬
‫‪Critique de la vie quotidienne, II- Fondements d›une soc -‬‬ ‫قبل �أن يكون ظاهرة �إن�سانية‪ ،‬فال �شكّ � ّأن الإ�سرتاتيجيات‬
‫‪ologie de la quotidienneté, 1961. Critique de la vie quotid -‬‬ ‫العقالنية ت�صبح بدورها تكتيكات ذك ّية يف مواجهة‬
‫‪.enne, III- De la modernité au modernisme, 1981‬‬
‫‪ -3‬هرني لوفيفر‪ ،‬نقد احلياة اليومية‪� -2 ،‬أ�س�س يف �سو�سيولوجيا ال َي ْومانية‪� ،‬ص‪138.‬‬ ‫�أعرا�ض الطبيعة �أو خماطر الوجود مثل الأمرا�ض والأوبئة‬
‫‪ -4‬مي�شال دو �سارتو‪« ،‬ممار�سات يومية»‪ ،‬الثقافات ال�شعبية‪ ،‬حتت �إ�رشاف ج‪ .‬بوجول‬
‫و ر‪ .‬البوري‪ ،‬تولوز‪� ،1979 ،‬ص‪ 13 .‬؛ �إبتكار احلياة اليومية‪ -1 ،‬فنون الأداء‪ ،‬باري�س‪،‬‬
‫والت�صحر والعوامل املناخية وغريها من الظواهر‬ ‫ّ‬ ‫والفقر‬
‫غاليمار‪� ،‬ص‪59.‬‬ ‫التي ال نتحكّم فيها ولكن نتوقّى منها بتقنيات �أو ابتكارات‬
‫‪ -5‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪60 .‬‬
‫‪ -6‬لوي كريي‪« ،‬العلوم الإجتماعية �أمام عقالنية املمار�سات اليومية‪� :‬أ�سئلة �إىل‬
‫�أو �سلوكات‪ .‬فال ب ّد �إذاً من طوارئ �أو عوار�ض ق�صوى‪،‬‬
‫مي�شال دو �سارتو»‪ ،‬امل�شكالت الإب�ستمولوجية للعلوم الإجتماعية‪ ،‬باري�س‪ ،‬من�شورات‬ ‫م�ستقلّة عن الإرادة الإن�سانية‪ ،‬لكي تتح ّول الإ�سرتاتيجية‬
‫املركز الوطني للبحث العلمي‪� ،1983 ،‬ص‪86 .‬‬
‫‪� -7‬أنظر املق ّدمات من كتابنا‪ :‬الإزاحة والإحتمال‪ ،‬اجلزائر‪-‬بريوت‪ ،‬من�شورات‬
‫�إىل تكتيكية‪� ،‬أو لنقل � ّأن املمار�سات املعرفية �أو ال�سلطوية‬
‫الإختالف والدار العربية للعلوم‪.2008 ،‬‬ ‫يف الأمكنة الإ�سرتاتيجية ت�صبح ذات نزوع تكتيكي‪ .‬يذهب‬
‫‪106‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حتوالت املجتمع والدراما‬
‫املحتملة والغام�ضة‬
‫يف امل�سرح العربي‬
‫يا�ســر‬ ‫عبد الواحد ُ‬
‫ابن ِ‬
‫باحث و�أكادميي من املغرب‬

‫�صار متداوال‪ ،‬اليوم‪ ،‬ب�سبب هيمنة خطاب الإعالم والو�سائط اجلماهريية‪،‬‬


‫ا�ستخدام عبارة «الثورة» لتو�صيف ما حدث ويحدث يف العامل العربي منذ‬
‫ال�سنة املا�ضية‪ .‬فما الذي يعنيه مفهوم الثورة؟ وهل ما حدث يف الربيع العربي‬
‫ُيعترب ثورة فعال؟ و�إذ �سلمنا بذلك جتاوزا‪ ،‬فهل ينبغي �أن تتطابق حتوالت‬
‫الإبداع الدرامي مع حتوالت املجتمعات العربية؟ وهل من الالزم �أن ينعك�س‬
‫زمن امل�رسح عن زمن التاريخ؟‬
‫تجُ مع النظريات ال�سو�سيولوجية املعا�رصة على التمييز الداليل والإجرائي بني‬
‫التمرد والتغري االجتماعي والثورة‪ ،‬ونقدم هنا تركيبا نظريا مركزا بخ�صو�ص‬
‫املفاهيم الثالثة‪.‬‬

‫‪ o‬يت�أثر الفن امل�سرحي‪ ،‬الرتباطه بالتجربة اجلمعية‪ ،‬بالتحوالت‬


‫االجتماعية والغليان اجلمعي‪ ،‬وهذا ما تدل عليه حتوالت امل�سرح‬
‫فـي التاريخ‪.‬‬
‫‪o‬‬

‫‪107‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لكن قبل ذلك‪ ،‬البد من الت�شديد هنا على �أن زمن‬ ‫* ي�أتي التمرد (‪ )révolte‬نتيجة الحتدام الوعي‬
‫الإبداع عموما وزمن امل�رسح حتديدا‪ ،‬يختلف كثريا‬ ‫بالظلم واال�ضطهاد والالم�ساواة داخل جمتمع معني‪،‬‬
‫ع��ن زم��ن ال��ت��اري��خ‪ ،‬لأن امل����سرح ه��و ف��ن القطائع‬ ‫وميكن �أن ي�ؤدي �إىل االنتفا�ضة �ضد النظام القائم‪،‬‬
‫(‪ )ruptures‬واملـدد الطويلـة (‪les longues‬‬ ‫لكن فاعليته قد تكون �ضعيفة �إذا افتقد للتنظيم‬
‫‪ ،)durées‬وال���ذي ارت��ب��ط��ت من��اذج��ه العظيمة‬ ‫وللم�رشوع ال�سيا�سي الوا�ضح واملحدد‪.‬وينبغي هنا‬
‫بتجارب اجتماعية وتاريخية ات�سمت بــ الغليان‬ ‫ا�ستبعاد النظرة الدونية للتمرد ‪ -‬كما يجري االعتقاد‬
‫اجلمعي وبا�ضطراب املعايري والقواعد االجتماعية‬ ‫�أحيانا – وع��دم خلطه بالتمرد مبعناه الفل�سفي‬
‫والتمثالت اجلمعيـة‪� ،‬أو ما ي�سميه عـامل االجتمـاع‬ ‫الوجودي كما هو الأمر عند (�ألبــرت كامــو) مثـال )‬
‫الفـرنـ�سي (دوركهـايـم) بـ «‪ »L’anomie‬التـــي‬ ‫(‪A. Camus « je me révolte donc nous‬‬
‫ال تعني الفو�ضى املبتذلة والغوغائية‪ .‬و�إذا كان‬ ‫‪» sommes‬‬
‫تاريخ �أب الفنون ميتد على �أكرث من خم�سة وع�رشين‬ ‫* �أما الثورة (‪ )révolution‬فهي تغيري جذري‬
‫قرنا من الزمن‪ ،‬ف�إن ع�صور ازدهار امل�رسح وفرتات‬ ‫وع��م��ي��ق وع��ن��ي��ف‪ ،‬يف �أغ��ل��ب الأح���ي���ان‪ ،‬للنظام‬
‫تواتر الكتابات الدرامية العظيمة حمدودة كثريا يف‬ ‫االجتماعي القائم‪ .‬وحت��دث عندما يتنامى وعي‬
‫هذا التاريخ الطويل‪ :‬امل�رسح اليوناين والإليزابيتي‬ ‫الطبقات امل�ضطهدة باال�ستغالل ال��ذي تعانيه‪،‬‬
‫والدراما ال�شك�سبريية والقرن ال�سابع ع�رش الفرن�سي‬ ‫وتنظم نف�سها لال�ستيالء على ال�سلطة وحتقيق �أهداف‬
‫والإ�سباين ومع امل�رسح اجلديد يف �أوروبا‪� .‬أما على‬ ‫ومثل جديدة‪ .‬وب�صفة عامة‪ ،‬هناك الثورة ال�صناعية‬
‫م�ستوى امل�رسحيني الأف��راد‪ ،‬فنجد ظاهرة مكرورة‬ ‫والثورة الثقافية والثورة الوطنية والثورة الدائمة‬
‫تتمثل يف �أن حلظات الت�ألق الإبداعي يف حياة ه�ؤالء‪،‬‬ ‫والثورة اجلن�سية‪...‬ويتقاطع مفهوم الثورة مبفهوم‬
‫تكون حمدودة وحمددة يف الزمن (�أمثلة �شك�سبري‪،‬‬ ‫التمرد دون �أن يت�ساوى معه �أو ي�ستنفد الثاين الأول‪.‬‬
‫را�سني وموليري)‪.‬‬ ‫* و�أما التغري االجتماعي ‪ -‬الذي هو �أي�ضا مرادف‬
‫�أما بالن�سبة للعامل العربي‪ ،‬ف�إن القطائع يف الوعي‬ ‫للتحول ‪ - mutation , changement :‬فيقوم‬
‫والوجدان ارتبطت دائما بالهزائم واالنتكا�سات‪،‬‬ ‫على �أربعة �أ�س�س‪ ،‬وهي‪� :‬أ‪� -‬أنه ي�ؤدي �إىل خلق �أ�شكال‬
‫وميكن ا�ستح�ضارها كالتايل‪� :‬سقوط الأندل�س‪،‬‬ ‫تنظيم جديدة ؛ ب‪� -‬أن��ه يتحدد بعامل الزمن‪� ،‬أي‬
‫احلروب ال�صليبية والهجمة املغولية‪ .‬ثالث هزائم‬ ‫بالنظر �إىل و�ضع �سابق عليه‪ ،‬يف �شكل حتول يكون‬
‫توازيها ثالثة �أ�شكال فنية �أدبية‪ ،‬ال مبعنى العالقة �أو‬ ‫ق�صري �أو متو�سط املدى؛ ج‪� -‬أنه م�ستمر ودائم؛ د‪-‬‬
‫التعالق االنعكا�سي‪ ،‬و�إمنا من منظور عالقة الأ�شكال‬ ‫�أنه �أي�ضا و�أخريا ظاهرة اجتماعية‪.‬‬
‫بالتاريخ‪� ،‬أو باملعنى الهيكلي ‪ /‬اللوكات�شي الــذي‬ ‫لنرتك التحديد النظري �أو املفهومي واجلدال الذي‬
‫يــربط الأ�شكال بالروح (‪L’âme et les formes‬‬ ‫قد يثريه‪ ،‬ال �سيما �أن الأحداث والوقائع وتداعياتها‬
‫) ‪ .‬وهذه الأ�شكال الفنية هي ‪ :‬املقــامة وخيـال الظـل‬ ‫الكثرية واملتنوعة ال تزال قيد الفعل والت�شكل‪ ،‬كما‬
‫والأ�شكـال الب�سيطـة لـلأدب ال�شعـبـي (‪les formes‬‬ ‫�أنها ال تزال ت�صطبغ بطابع احلرارة والتوتر ال�شديدين‪،‬‬
‫‪ :)simples‬احلكاية ال�شعبية‪ ،‬امل��داح‪ ،‬امللحون‪،‬‬ ‫وننتقل �إىل النظر يف عالئق التحول االجتماعي‬
‫امللوف‪...‬‬ ‫بتحوالت الإب��داع وامل�رسحي منه على اخل�صو�ص‪،‬‬
‫وت�شكل الظاهرة الكولونيالية حلظة تاريخية �شهدت‬ ‫ومدى وحقيقة انعكا�سات �أحداث «الربيع العربي»‬
‫ميالد امل�رسح العربي �ضمن ال�رشطية اال�ستعمارية‬ ‫على امل�رسح العربي وعلى مكوناته اجلمالية والفنية‪.‬‬
‫‪108‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫االجتماعية‪ ،‬بروز م�سافة وتباعد بني القدمي واجلديد‪،‬‬ ‫التي �أدت �إىل ان�شطار ومتزق عميقني يف البنيات‬
‫دينيا وقانونيا و�أخالقيا ووجدانيا‪ .‬وينبثق احل�س‬ ‫الثقافية والوجدانية ويف الوجود اجلمعي الأ�صلي‬
‫الدرامي – الرتاجيدي – بامل�س�ؤولية حني ينقطع‬ ‫للمجتمعات العربية ‪.‬‬
‫املقد�س عن الدنيوي‪ ،‬وي�صبحان متعار�ضني دون �أن‬ ‫وتعترب هزمية حزيران ‪� 1967‬أهم حتول وارجتاج‬
‫ينف�صال متاما ونهائيا‪ .‬ويحتد هذا الوعي يف اللحظة‬ ‫يف تاريخ الوطن العربي ما بعد الكولونيايل‪ .‬حتول‬
‫التي ي�صبح فيها الفعل الإن�ساين مو�ضوعا �شكلت الظاهرة‬ ‫�أرخى بظالله على التفكري والوجدان‪ ،‬بل لقد بلغت‬
‫للتفكري واحلوار‪ ،‬لكن دون �أن يتخذ �أ�سا�سا‬ ‫�آثاره احلادة الإح�سا�س بالهوية نف�سها وزحزحتها‪،‬‬
‫م�ستقال‪ ،‬ودون �أن يكتفي بذاته ب�شكل تام الكولونيالية‬ ‫باعتبارها البعد الأنطولوجي الأك�ث�ر �صميمية‬
‫حلظة تاريخية‬ ‫(‪.)3‬‬ ‫وعمقا بالن�سبة للكائن العربي يف جوهره‪ .‬و�إذا‬
‫ومن هذا املنظور‪ ،‬ف�إن قوة اجلذب التي‬ ‫كانت الهزمية جمرد حدث �سيا�سي عر�ضي بالن�سبة‬
‫�شهدت ميالد‬
‫ميار�سها امل�رسح‪ ،‬تن�ش�أ عن كونه يقدم لنا‬ ‫للأنظمة العربية‪ ،‬طاملا �أنها مل ت�شكل تهديدا فعليا‬
‫حتديدا‪� ،‬شخو�صا غري مطابقني للقواعد امل�سرح العربي‬ ‫مل�صاحلها‪ ،‬اللهم ما كان من هزمية �شنعاء وفقدان‬
‫املقبولة وللتجربة امل�شرتكة‪ .‬وميكن القول �ضمن ال�شرطية‬ ‫نهائي مل�صداقيتها‪ ،‬ف�إنها �شكلت حتوال كبريا يف‬
‫ب�أن العنا�رص املكونة للم�رسح يف ع�رص‬ ‫املنظور ال�سيا�سي اجلماهريي‪ ،‬انعك�ست �آثاره العميقة‬
‫من ع�صور االنتقال‪� ،‬إمنا ت�ستجيب للظواهر اال�ستعمارية‬ ‫على كل �أ�شكال التعبري الفكري والفني والإبداعي‬
‫املت�صلة بالقطيعة التي حتدث يف التوازن التي �أدت �إىل‬ ‫ب�صفة عامة ‪.‬وهكذا جاءت الأعمال الفنية والأدبية‬
‫االجتماعي (‪.)4‬‬ ‫الكبرية يف جماالت الرواية وال�شعر والق�صة وامل�رسح‬
‫يت�أثر الفن امل�رسحي‪ ،‬الرتباطه بالتجربة ان�شطار ومتزيق‬ ‫وال�سينما والت�شكيل واملقالة‪ ،‬والتي تعترب اليوم‬
‫اجلمعية‪ ،‬بالتحوالت االجتماعية والغليان يف البنيات‬ ‫روائع �إبداعية ت�ؤ�رش على الفرتة الذهبية للإبداع يف‬
‫اجلمعي‪ ،‬وهذا ما تدل عليه حتوالت امل�رسح‬ ‫العامل العربي يف الع�رص احلديث‪.‬‬
‫الثقافية‬
‫مع الثورة الفرن�سية‪ .‬فقد عرفت هذه الفرتة‬ ‫�إن ارتباط امل�رسح بالقطيعة التي ترادف بدورها‬
‫(‪ )1789‬زخما م�رسحيا ا�ستثنائيا‪ ،‬وظهرت والوجدانية‬ ‫اال�ضطراب وغياب القواعد وانهيارها‪ ،‬يدل على‬
‫امل�رسحيات باملئات و�أي�ضا ما يعادلها من للمجتمعات‬ ‫�أن الإن�سان يف هذه املراحل واللحظات التاريخية‪،‬‬
‫امل�سارح‪ ،‬وانعك�س هذا بو�ضوح يف الأعمال‬ ‫يعي�ش وفق قيم مل تعد �صاحلة‪ ،‬يف حني يكون نظام‬
‫الدرامية ويف م�سار رجال امل�رسح �أنف�سهم العربية‬ ‫اجتماعي جديد قيد التكون بعيدا عن الأنظار (‪.)1‬‬
‫لهذه احلقبة ‪ .‬وقد قدم (مارفن كارل�سون‬ ‫وال يقت�رص اال�ضطراب وانهيار القواعد على اجلماعة‬
‫) درا�سة هامة عن م�رسح الثورة الفرن�سية‪ ،‬ير�صد‬ ‫االجتماعية‪ ،‬ب��ل يتعداه لينعك�س على الأف���راد‪.‬‬
‫فيها ب�شكل م�ستفي�ض �أبرز جتارب هذا امل�رسح �ضمن‬ ‫ولذلك ميكن اال�ستنتاج ب�أن االنتقال من التاريخ‬
‫التحوالت التاريخية واالجتماعية التي �أحدثتها‬ ‫�إىل امل�رسح‪ ،‬يحدد فردية غري نظامية وم�ضطربة‬
‫الثورة (‪ .)5‬ولي�س غريبا �أن يكون (كارل�سون) نف�سه‬ ‫«‪� .)2( »anomique‬إن ارتباط امل�رسح بالقطيعة‬
‫هو �أحد منظري م�رسح ما بعد احلداثة‪� ،‬أي امل�رسح‬ ‫ت��دل عليه الأع��م��ال الدرامية الكبرية‪ ،‬منذ قدماء‬
‫القائم على �أدوات وتقنيات وو�سائل ادائية جديدة‪،‬‬ ‫الإغريق �إلـــى م�شــارف الع�رص احلديث‪ .‬لأن اللحظة‬
‫بو�صفه فرجة (‪� )Performance‬أو فنا �أدائـيا‬ ‫الدرامية ‪ -‬ومن��وذج الرتاجيديا مثال �ساطع على‬
‫(‪ ) art de performance‬باملعنى امل�ستحدث‬ ‫ذلك – هي اللحظة التي يتم فيها‪ ،‬يف قلب التجربة‬
‫‪109‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�شكل �آخر‪ ،‬وب�أن امل�رسح هو املكان الوحيد يف العامل‬ ‫يف الكتابات النظرية الأملانية والأجنلو�ساك�سونية‬
‫الذي ال تتكرر فيه احلركة مرتني (‪.)7‬‬ ‫اجلديدة‪.‬‬
‫ي��ق��دم لنا م��ا ا�صطلحنا على ت�سميته مب�رسح‬ ‫غري �أنه �إذا كان امل�رسح يف جوهره ويف تاريخيته‬
‫التحوالت االجتماعية يف الغرب‪� ،‬أمثلة قوية على‬ ‫امل�سرح يف يرتبط بالقطائع والتوترات الناجتة عنها‪،‬‬
‫وظيفة امل�رسح اجلديدة وتغري �آليات ا�شتغاله يف‬ ‫وبالتمزق واالن�شطار يف الوعي اجلمعي‬
‫هذه الفرتات‪ .‬وجند من تلك النماذج جتربة مـا ُ�سمي‬ ‫والفردي‪ ،‬ف�إنه ال بد من الت�أكيد على �أن‬
‫تاريخه‬
‫بـــاالرجتال البـروليتاري فـي ثـالثينيات القـرن‬ ‫يرتبط اجلمهور املعا�رص مل يعد يدرك امل�رسح كما‬
‫املــا�ضي فــــي �أملانـيـا‬ ‫كان يفعل منذ مائة �سنة‪� ،‬أو كما ال يزال‬
‫بالقطائع‬
‫« ‪،»L’improvisation prolétarienne‬‬ ‫يفعل يف بع�ض التظاهرات التي جتامل‬
‫والـتي تنـدرج �ضـمن م�رسح ‪،L’Agit–Prop‬‬ ‫والتوترات الأذواق التقليدية (‪.)6‬‬
‫ويعود الف�ضل يف ظهورها مل�ؤ�س�سها (‪Maxim‬‬ ‫واالن�شطار يف وهنا ميكن �أن ن�ستح�رض �صيحة امل�رسحي‬
‫‪� )VALLENTIN‬سنة ‪ ،1927‬وا�ستمرت �إىل‬ ‫الرائد (انتونان �أرطو) ‪ « :‬فلننته من الروائع»‬
‫غاية ‪ ،1934‬وك��ان من املمكن �أن حتتل مكانا‬ ‫الوعي اجلمعي كما لو �أنها �صدرت عنه للتو‪ ،‬ولي�س قبل‬
‫مركزيا يف امل�رسح املعا�رص ‪.‬‬ ‫والفردي‪� ،‬أك�ثر من �سبعة عقود من ال��زم��ن‪ ،‬وبذلك‬
‫لقد �أحدثت هذه التجربة تغيريا يف طـُـرق الإنتاج‬ ‫يكون �أح��د �أك�بر منظري ما بعد احلداثة‬
‫امل�رسحي ال�سائدة يف تلك ال��ف�ترة‪ ،‬وات��خ��ذ فيها‬ ‫ولكن اجلمهور الدرامية وما بعد الدرامية‪ .‬يقول �أرطو يف‬
‫االرجتال موقعا مركزيا‪ .‬وهكذا انقلبت مراحل الإنتاج‬ ‫املعا�صر مل يعد هذا الن�ص الباذخ ‪ :‬يجب �أن ننتهي من فكرة‬
‫ال��درام��ي من الن�ص �إىل الركح‪� ،‬أي من املخطوط‬ ‫الواقع املخ�ص�صة ل�صفوة مزعومة والتي‬
‫يدرك امل�سرح‬
‫�إىل العر�ض الأول؛ �إىل خمطط معكو�س يقت�ضي‬ ‫ال تفهمها اجلماهري العري�ضة ‪ .‬فروائع‬
‫االنتقال من االرجتال �إىل ت�سجيل الن�ص‪ .‬وال يعني‬ ‫كما كان يفعل املا�ضي‪ ،‬ت�صلح للما�ضي‪ ،‬لكنها ال ت�صلح‬
‫هذا غياب ت�صميم حمدد‪ ،‬فاالرجتال هنا يقوم على‬ ‫منذ مائة لنا‪ .‬ومن حقنا �أن نقول ما قيل وحتى مامل‬
‫حم��اوالت الت�شخي�ص املراقبة من قبل املجموعة‪،‬‬ ‫ٌيـقل بطريقة خا�صة بنا‪ ،‬طريقة مبا�رشة‪،‬‬
‫لكن هذه املنهجية مل يتم تقعيدها �أو توثيقها يف‬ ‫عام‪ ،‬وال يزال تتفق مع طرق الإح�سا�س احلالية‪ ،‬تلك التي‬
‫�أثر مدون‪،‬با�ستثناء بع�ض املقاالت املتفرقة يف عدد‬ ‫يفعل يف بع�ض ميكن �أن يفهمها اجلميع ‪ .‬ومن احلماقة‬
‫حمدود من املجالت‪ ،‬ويظل العمل الأهم هو الدرا�سات‬ ‫�أن نعيب على اجلماهري ع��دم �إح�سا�سها‬
‫التي �أعدها املركز الوطني للبحث العلمي بفرن�سا‬ ‫التظاهرات بال�سمو‪ ،‬عندما نخلط بني ال�سمو و أ�ح��د‬
‫عن م�رسح (‪ ) L’Agit-Prop‬وجتربتـه مــا بـني‬ ‫التي جتامل مظاهره ال�شكلية‪ ،‬وهي ميتة دائما‪ .‬وعلى‬
‫‪ 1918‬و‪.)8( 1932‬‬ ‫�سبيل املثال‪� ،‬إذا كانت اجلماهري احلالية‬
‫الأذواق‬
‫يعتمد االرجت��ال امل�رسحي يف هذه التجربة على‬ ‫ال تفهم « �أودي��ب ملكا»‪ ،‬ف�أنا �أقول الذنب‬
‫«الأ�شكال ال�صغرية» كاخل�شبة ال�صغرية مثال‪� ،‬أو‬ ‫التقليدية ذن��ب تلك امل�رسحية ال ذن��ب اجلماهري ‪.‬‬
‫امل�رسحية الثورية الق�صرية‪ ،‬وهذه الأ�شكال قابلة‬ ‫لنعرتف ب�أن التعبري ال ُي�ستخدم مرتني‪ ،‬وال‬
‫بطبيعتها للتداول من قبل اجلماهري‪ ،‬بعيدا عن‬ ‫يحيا مرتني‪ ،‬وب�أن كل كلمة منطوقة كلمة ميتة ال‬
‫منظومة امل�رسح امل�ؤ�س�س‪ ،‬وق��ادرة على التكيف‬ ‫ت�ؤثر �إال يف اللحظة التي يتم النطق بها‪ ،‬وب�أن ال�شكل‬
‫بح�سب رواجها ومتكنها من التعبري على خمتلف‬ ‫امل�ستخدم ال ُي�ستخدم وال يدعونا �إال �إىل البحث عن‬
‫‪110‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫من�سجمة مع مقاربتنا‪ ،‬هذا الغليان اجلمعي الذي‬ ‫الن�ضاالت‪.‬‬


‫غابت فيه كل �أدوات و�آليات املمار�سة ال�سيا�سية‬ ‫هل ا�ستطاع امل�رسح العربي‪ ،‬م�رسح ال�شباب يف‬
‫التقليدية (الأحزاب‪ ،‬النقابات‪ ،‬الت�شكيالت اجلماهرية‬ ‫ميدان التحرير �أو يف تون�س ‪ -‬وهو م�رسح معي�ش‬
‫القدمية ‪ ،)...‬وكان فيه املرجع والأداة هو التوا�صل‬ ‫‪� -‬أن يبتكر جتارب من هذا النوع ؟ هل ا�ستطاع �أن‬
‫االلكرتوين‪� ،‬إذ حتققت فيه كاملة مقولــــة (مار�شال‬ ‫يحول �أجزاء من �ساحات االنتفا�ضات �إىل نوع من‬
‫ماك لوهان)‪ :‬الـر�سالة هـي الـو�سيط‪� ،‬أو الـر�سائل‬ ‫يحاكَ ُم – رمزيا و�أدائيا –‬ ‫امل�سارح ال�صغرية‪ ،‬حيث َ‬
‫و�سـائـل» ‪.« le message c›est le medium‬‬ ‫الطغاة الدكتاتوريون واملف�سدون مثلما وجدنا يف‬
‫ففي الواقع واملمار�سة تظل الر�سالة احلقيقية هي‬ ‫االرجتال الربوليتاري يف ثالثينيات القرن املا�ضي‪،‬‬
‫الو�سيط نف�سه‪� ،‬أي �أن �آثار الو�سيط على الفرد �أو على‬ ‫ويف فنون الأداء الأمريكية با�ستثمارها ملو�ضوعات‬
‫املجتمع تخ�ضع للتغري يف امل�ستوى الذي تنتجه كل‬ ‫تخ�ص ن�ضال احلركات الن�سائية وحركة املثليني‬
‫تقنية جديدة يف حياتنا (‪ .)10‬وهذا ما حدث فعال‬ ‫التي تناولها (كارل�سون) فـي كتابـه الرتكيبي‬
‫ب�سبب التيار اجلارف للتوا�صل بوا�سطة الفي�سبوك‬ ‫عن فنون الأداء؟ (‪ . )9‬هل حتقق �إبداع جتارب من‬
‫�أو هيمنة «الفي�سبوكية» يف �أو�ساط ال�شباب العربي‪،‬‬ ‫هذا النوع‪ ،‬على الرغم من املفاج�آت التي �أحدثها‬
‫بو�صفها ظاهرة ثقافية جديدة‪ ،‬فريدة وغري م�سبوقة‬ ‫التوا�صل االلكرتوين يف تون�س �أوال‪ ،‬ثم يف م�رص‪،‬‬
‫‪.‬وال ميكن ت�أمل هذه الظاهرة دون ربطها بتفكري‬ ‫حتى �أن النظام قام مبنع وجتميد �إمكانيات التوا�صل‬
‫نظري معمق‪ ،‬ور�صد ميداين حتليلي ال نتوفر على‬ ‫االل��ك�تروين‪ ،‬ل��وال ال�ضغوط اخلارجية ول��وال حذق‬
‫�أكرث عنا�رصه الآن‪ ،‬جلدة الظاهرة وطابعها الطارئ‬ ‫ال�شباب ونباهتهم وخربتهم يف هذا الباب ؟‪...‬‬
‫وراهنيتها‪.‬‬ ‫ه��ذه �أ�سئلة ج��دي��دة تن�ضاف �إىل �أ�سئلة ال��درام��ا‬
‫لقد �أبرزت �سو�سيولوجيا التوا�صل احلديثة منذ �أربعة‬ ‫والدرامية التي ما ت��زال قائمة يف عمق الأ�سئلة‬
‫عقود م��ن ال��زم��ن‪�� ،‬شروط حلول ح�ضارة ال�سمعي‬ ‫الكربى التي مل جتد حلها يف حقل امل�رسح العربي‬
‫الب�رصي حمل ح�ضارة الكتابة والكتاب‪ ،‬بعد �أن �صار‬ ‫من الناحية اجلمالية والأجنا�سية‪ ،‬يف الوقت الذي‬
‫من البديهي املقابلة بني «ثقافة اجلماهري» التي‬ ‫بد�أ فيه هذا امل�رسح – من خالل التجارب اجلديدة‬
‫تدين بتناميها للو�سائل ال�سمعية الب�رصية‪ ،‬وبني‬ ‫يف العقد الأخري – ي�ست�رشف �آفاق امل�رسح ما بعد‬
‫«ثقافة النخبة» – �أو الثقافة التقليدية – التي يجري‬ ‫الدرامي واالت�صال مع فنون الأداء الطارئة على‬
‫حفظها ون�رشها بوا�سطة الكتابة ‪ .‬وقد كان لأعمال‬ ‫امل�رسح العربي يف مطلع الألفية الثالثة‪ .‬كما تن�ضاف‬
‫(م��اك لوهان) الأث��ر الكبري يف انت�شار هذا املنظور‬ ‫�إىل �أ�سئلة ال�شكل الدرامي املن�شود‪ ،‬و�أ�سئلة هوية‬
‫اجلديد للتوا�صل عرب الو�سائطية‪ ،‬و�أثر هذه الأخرية‬ ‫هذا امل�رسح نف�سه‪ ،‬وق�ضايا الت�أ�صيل واال�ستنبات‬
‫يف التحوالت الثقافية الراهنة‪� .‬إذ جند �أن الفكرة‬ ‫وغريها ‪ .‬وكلها �إ�شكاالت ال ندعي الإجابة عليها هنا‪،‬‬
‫الرئي�سية لـ�صاحب «جمرة كوتنربغ» تتمثل يف انتقال‬ ‫و�إمنا نكتفي ب�إثارتها وعر�ضها للمناق�شة وامل�ساءلة‬
‫احل�ضارات عرب مراحل متتالية‪ ،‬يتحكم فيها ويحددها‬ ‫واال�ست�شكال ‪..‬‬
‫النمط التقني للتعبري والتوا�صل وانت�شار املعلومات‬ ‫ال بد هنا من ت�أمل التحوالت االجتماعية والثقافية‬
‫وامل��ع��ارف‪ .‬فتـكون احل�ضارات قد قطعت مراحل‬ ‫والقيمية اجل��دي��دة وانعكا�ساتها ال�سيا�سية التي‬
‫متتالية من الأمية �إىل ح�ضارة القراءة والكتابة التي‬ ‫�أدت �إىل �إفرازات مل تعرفها املجتمعات العربية من‬
‫تقوت بالطباعة‪ ،‬و�أخريا انت�شار التقنيات الإلكرتونية‪.‬‬ ‫قبل‪ .‬ويتعلق الأمر بهذا «احلراك» �أو لن�سميه ت�سمية‬
‫‪111‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املعا�رص‪ ،‬فهو املت�صل باملُخرج الذي ظل يهيمن‬ ‫وتتلخ�ص �أط��روح��ة (م��اك ل��وه��ان) يف �أن الأمن��اط‬
‫على �صناعة الفرجة امل�رسحية �إىل غاية �سبعينيات‬ ‫التوا�صلية املتتابعة (الكلمة‪ ،‬الكتابة‪ ،‬الو�سائط‬
‫القرن املا�ضي‪ ،‬قبل �أن َيحتل مكانه ويجرفه فاعل‬ ‫اجلماهريية) ت�ؤدي �إىل هيمنة �أحد احلوا�س (ال�سمع �أو‬
‫م�رسحي �آخر هو الدراماتورج‪ .‬وما ي�سمى اليوم بــ‬ ‫الب�رص مثال)‪ ،‬ومن ثم تن�ش�أ �أمناط خمتلفة من الثقافة‬
‫«امل�رسح ما بعد الدرامي» ي�ؤ�س�س لإ�ستيطيقا درامية‬ ‫واملجتمع‪ .‬ويهمنا من كل ذلك ما يت�صل باملرحلة‬
‫جديدة‪ ،‬وي�ؤ�رش على �أ�سلوب متكامل يف ممار�سة‬ ‫الإلكرتونية حيث تهيمن ك��ل احل��وا���س امل��ذك��ورة‪،‬‬
‫وم�ساءلة‬‫امل�رسح وتوجهاته‪ ،‬وي�ضع مو�ضع نقا�ش ُ‬ ‫واعتبار (ماك لوهان) التلفزيون (ال�سمعي الب�رصي)‬
‫الأ�ساليب ال�سابقة (‪.)14‬‬ ‫منط الو�سائطية الباردة التي ت���ؤدي �إىل االندماج‬
‫ومهما كان النمط امل�رسحي دراميا كال�سيكيا �أو‬ ‫ال�شخ�صي وامل�شاركة الكاملة (‪ .)11‬لن�ستح�رض هنا‬
‫حداثيا �أو م�رسحا ما بعد دراميا ‪ -‬ف�إنه توجد دائما‬ ‫ما فعلته الف�ضائيات بالأنظمة العربية وزعاماتها‬
‫عالقة متناق�ضة (تناق�ضية ) متوترة مع احلا�رض‪.‬‬ ‫املخلوعة حتى ك��ادت �أن تتحول �إىل �أداة حا�سمة‬
‫فامل�رسح لي�س فقط فنا حيا‪ ،‬فنا ينتمي �إىل احلا�رض‪،‬‬ ‫يف �إ�شعاع هذه الأح��داث الكبرية‪ ،‬بل ويف توجيهها‬
‫ترهينا لن�ص‪ ،‬بل ميكن �أن يكون‪ ،‬ولو بعد حني‪ ،‬زبدة‬ ‫والت�أثري القوي على م�آلها‪ .‬و�إىل جانب التلفزيون‬
‫هذا الن�ص وهالته‪ .‬فامل�رسح هو‪ ،‬يف الآن نف�سه‪ ،‬دائم‬ ‫وبعده‪ ،‬فقد ا�ستطاعت ال�سينما �أن متت�ص وت�ستوعب‬
‫وم�ؤقت‪ ،‬دائم لأنه يبحث يف الن�ص ويف زمنه (ع�رصه)‬ ‫احلاجة �إىل االن�صهار والتماهي لدى امل�شاهد‪ ،‬لأن‬
‫عن نقط التقاط ؛ وم�ؤقت لأنه لي�س هناك عر�ض �أو‬ ‫�سحر ال�سينما �أقوى و�أكرث �أثراً مبا ال يقا�س مع �سحر‬
‫�إخراج‪ ،‬مهما كان غنيا ومتعدد املعنى‪ ،‬ي�ستطيع �أن‬ ‫امل�رسح‪ ،‬كما �أبرز ذلك (�إدغار موران ) (‪.)12‬‬
‫ي�ستنفذ الن�ص الدرامي‪ .‬امل�رسح هو‪ ،‬جوهريا‪ ،‬عمل‬ ‫�إن احل�ضارة الإلكرتونية قد ت�ضعنا يف حالة من‬
‫تفكيكي (باملعنى الذي و�ضعه جاك دريدا)‪ُ ،‬م�ساءلة‬ ‫الفو�ضى �إذا مل نت�أقلم مع متطلباتها اجلديدة‪ .‬و�إذا‬
‫وت���أزمي‪ ،‬و�أي�ضا ت�أزمي حلا�رضه اخلا�ص‪ .‬و�إذا كان‬ ‫كانت تدعونا �إىل الت�شكك يف الثقافة الكتابية الورقية‪،‬‬
‫للحا�رض م�ستقبل‪ ،‬ف�إن للم�رسح م�ستقبال (‪.)15‬‬ ‫فلأنها �أنتجت ثقافة �أخرى تفر�ض تبعية قوية �إزاء‬
‫ولأن امل�رسح يبدو اليوم عتيقا و�سط التكنولوجيا‬ ‫�أمناطها التعبريية‪ .‬وهنا ال بد من الإ�شارة �إىل �أن هذا‬
‫احلديثة‪ ،‬ولأن���ه ف��ن عتيق وغ�ير قابل لالحتواء‬ ‫التطور قد ي�ؤدي �إىل اخللط بني الواقعي والفرجوي‪،‬‬
‫واالختزال واال�ستن�ساخ‪ ،‬ف�إن امل�رسح تنتظره �أيام‬ ‫و�إىل اختزال الفكر الذي ين�شد الكونية وال�شمولية �إىل‬
‫جميلة‪ .‬لذلك يذهب (ج��اك �أت��ايل) �إىل �أن امل�رسح‬ ‫امللمو�س واملبا�رش‪ .‬ومن ثمة تكون الإن�سانية مطالبة‬
‫و�إن كان ن�شاطية قدمية طقو�سية‪ ،‬ف�إن التكنولوجيا‬ ‫ب�إيجاد و�سائل �إنقاذ القيم اجلوهرية ودجمها يف‬
‫اجلديدة �ستمكن من انت�شاره �أكرث‪ ،‬بف�ضل و�سائل‬ ‫�إطار العالئق اجلديدة مع الواقع (‪.)13‬‬
‫البث والإر�سال املتوا�صلني للأعمال امل�رسحية‪ ،‬عرب‬ ‫يكرث احل��دي��ث‪ ،‬ال��ي��وم‪ ،‬ع��ن �أزم���ة امل����سرح الغربي‬
‫قنوات خا�صة جتعل الأعمال الدرامية الكبرية يف‬ ‫(والعربي �أي�ضا)‪ ،‬وكما هو معلوم فهي لي�ست �أزمة‬
‫متناول اجلمهور العري�ض (‪. )16‬‬ ‫جديدة �أو طارئة‪ ،‬بل �إن حياة امل�رسح نف�سها ال‬
‫باالرتباط مبا تقدم‪ ،‬ن�شري �إىل �أهمية خلق انفتاحات‬ ‫تنف�صل عن حالة الأزمة هذه‪� .‬أما �أ�سباب ذلك‪ ،‬فهي‬
‫جديدة يف م�سار امل�رسح العربي‪ ،‬وم�ساءلة هويته‬ ‫اليوم ع��دي��دة‪ ،‬وال يت�سع املقام هنا للخو�ض يف‬
‫الفنية التي �صارت عتيقة بفعل التقادم وتكرار‬ ‫جتلياتها‪ .‬و�أما �أحد مظاهرها اجلديدة والتي ميكن‬
‫التجارب الدرامية نف�سها منذ عقود من الزمن‪ .‬ومن‬ ‫اعتبارها م ؤ��شرِّ ً ا على هــ ّزة عميقة يف �رصح امل�رسح‬
‫‪112‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يكون على التوايل م�ؤديا لن�ص ور�ساما وراق�صا‪.‬‬ ‫هذه االنفتاحات املمكنة‪ ،‬ا�ست�رشاف الآف��اق التي‬
‫وبفعل الرتكيز على ح�ضوره اجل�سدي‪ ،‬يظهر كراوٍ‬ ‫ميكن �أن تخلقها فنون الأداء �أمام امل�رسح العربي‪،‬‬
‫ل�سرية ذاتية على الركح ميتلك عالقة مبا�رشة مع‬ ‫خ�صو�صا �أنها تتنا�سب فنيا و�سيا�سيا مع التحوالت‬
‫الأ�شياء ومع و�ضعية التلفظ‪ .‬وال يعتني فنان الأداء‬ ‫الراهنة التي يعي�شها العامل العربي‪ .‬وهنا ال ب�أ�س‬
‫بو�ضع تعريف دقيق لعمله‪ ،‬وال يهتم كثريا مبعنى‬ ‫من تقدمي فكرة ول��و خمت�رصة عن ه��ذه التجربة‬
‫امل�رسح وداللته املتداولتني‪ ،‬و�إمنا يركز �أ�سا�سا على‬ ‫امل�رسحية يف �أ�صولها الغربية‪.‬‬
‫حيوية الفرجة و�أثرها‪� ،‬أكرث من التحديد النظري ملا‬ ‫ظـهـرت فنـون الأداء (‪la Performance, le‬‬
‫ينجزه وي�ؤديه (‪. )17‬‬ ‫‪ – ) Performance Art‬وترجمتها الفرن�سية‬
‫�إن جت��ارب امل�رسح العربي ال��ق��ادم واملفرت�ض‬ ‫«م�رسح الفنون الب�رصية» (‪Théâtre des arts‬‬
‫مطالبة ب�أن تكون �أكرث ات�صاال – على حد تعبري‬ ‫‪ – )visuels‬خالل �ستينيات القرن املا�ضي‪ ،‬ومل‬
‫دوفينيو بخ�صو�ص �سياق ثقايف مغاير – بالتجارب‬ ‫تكن تختلف كثريا عن م�رسح (‪)Happening‬‬
‫الراهنة منها بالت�أثريات العتيقة التي تنحدر من‬ ‫�أو م�رسح الواقعة ‪ /‬الوقائع التمثيلية الذي يقدم‬
‫ما�ضي �أ�سطوري بعيد‪ .‬وعلينا �أن نطلب من حا�رض‬ ‫عرو�ضا متثيلية جماهريية حتكمها جمموعة من‬
‫املجتمعات العربية‪ ،‬وهو حا�رض يتجدد اليوم تبعا‬ ‫الأحداث غري املميزة ال�شكل‪ ،‬والتي تهدف �إىل مزج‬
‫للأطر والبنيات‪� ،‬أن يو�ضح لنا القوى احلالية التي‬ ‫الدراما باحلياة‪ ،‬لأن كل �أح��داث احلياة اليومية‬
‫ت�ؤثر يف اخللق الدرامي (‪. )18‬‬ ‫يف ر�أي �أ�صحاب هذا امل�رسح‪ ،‬ت�شكل مادة �صاحلة‬
‫وم���ع ذل���ك‪ ،‬ن�ستطيع ال��ق��ول ب����أن �إره��ا���ص��ات‬ ‫للتمثيل تبحث عن �شكل يوائم بينها ويمُ �رسحها‪.‬‬
‫الدراماتورجيا اجلديدة يف امل�رسح العربي قد ظهرت‬ ‫وقد ت�أثرت هذه التجربة بالأعمال الفنية للمو�سيقار‬
‫منذ العقد الأخ�ير من القرن املا�ضي‪ .‬وقد جاءت‬ ‫(‪ ،)John CAGE‬وف��ن��ان ال��رق�����ص والتعبري‬
‫مت�أثرة ب�شدة ب�آثار الثقافة الرقمية والو�سائطية‬ ‫اجل�سدي (‪ ،)Merce CUNNINGHAM‬والنحات‬
‫التي انعك�ست يف كل م�ستويات العمل امل�رسحي‪،‬‬ ‫(‪ )Allan KAPROW‬الذي �أبدع الت�سمية يف‬
‫و�أدت �إىل جت��اوز مفهوم ال�رسد ال��درام��ي وبنــاء‬ ‫عر�ض م�رسحي كتبه و�أخرجه �سنة ‪ 1959‬بنيويورك‬
‫احلدث والفعل الدرامي ومفهـوم التمثيل التقليــدي‬ ‫حتت عنوان « ثماين ع�رشة واقعة يف �ستة �أجزاء»‬
‫ومتثــل العــر�ض ذاتــه (‪،)représentation‬‬ ‫‪ .‬و�رسعان ما انتقل م�رسح الواقعة من �أمريكا �إىل‬
‫واال���س��ت��ن��اد �إىل الكتابة الركحية (‪écriture‬‬ ‫�إجنلرتا و�أملانيا وغريهما من بلدان �أوروب��ا‪ .‬وقد‬
‫‪ ،) scénique‬واعتماد �سينوغرافيا ب�سيطة �أو‬ ‫تبلورت �صيغة فنون الأداء وبلغت قمة ن�ضجها يف‬
‫�أدن��وي��ة (‪ ،)minimaliste‬والبحث عن لغات‬ ‫ثمانينات القرن الع�رشين‪.‬‬
‫درامية جديدة ومنظور جديد جل�سد املمثل بو�صفه‬ ‫متزج فنون الأداء‪ ،‬دون فكرة �أو ت�صور قبلي‪ ،‬الفنون‬
‫عالمـة (‪ ،)signe‬ولي�س جمرد دال (‪.)signifiant‬‬ ‫الب�رصية وامل�رسح واملو�سيقى والرق�ص وال�سينما‬
‫ومن املعلوم �أن هذا املنظور يذكرنا بخطابات‬ ‫وال�شعر؛ ولي�س مكان عر�ضها هو امل�سارح‪� ،‬إمنا‬
‫(�أرطو) املذكورة �آنفا‪ .‬ين�ضاف �إىل ذلك اللجوء �إىل‬ ‫املتاحف والأروقة ‪ .‬وهي تركز على الطابع العر�ضي‬
‫ا�ستخدام الو�سائط كال�سينما والت�شكيل والــفيديو‬ ‫وغ�ير الناجز (‪ )inachevé‬للإنتاج‪� ،‬أك�ثر من‬
‫وال�سمعي الب�رصي والربامج احلا�سوبية‪.‬‬ ‫اهتمامها بالعمل الفني املكتمل والنهائي‪ .‬وامل�ؤدي‬
‫من بني التجارب امل�رسحية التي �أره�صت بهذه‬ ‫هنا (‪ )Performer‬لي�س ممثال يلعب دورا‪ ،‬و�إمنا‬
‫‪113‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف امل�رسح املغربي مند ما يقارب الآن العقدين‬ ‫التحوالت يف امل�رسح العربي‪ ،‬جند يف لبنان جتربة‬
‫من الزمن‪ ،‬ومن الأمثلة البارزة على ذالك �أعمال‬ ‫الفنان (رب��ي��ع م���روة) م��ع رفيقته (لينا �صانع)‪،‬‬
‫(�إبراهيم الهنائي) التي ترتكز على الكتابة الركحيـــة‬ ‫وال��ت��ي �صنفت كـم�رسح م�ضاد يقطع حتى مع‬
‫وعلى اال�شتغال الن�سقي والر�صني بغاية ا�ستنبات‬ ‫تراكمات امل�رسح التجريبي نف�سه عندما حتول‬
‫كتابة درامية جديدة من خالل ن�صو�ص (كولتي�س)‬ ‫�إىل تقليد �سلطوي‪ .‬وجند من عطاءات هذه التجربة‪:‬‬
‫و(جمال الغيطاين) و(?زينييك) وغريهم‪.‬‬ ‫«بيوغرافيا» (‪ )2002‬وه��ي عمل ي�ستع�صي على‬
‫ت�ستند الكتابة الدرامية عند (الهنائي) �إىل ا�سرتاجتية‬ ‫الت�صنيف‪ ،‬وكذلك» ثالث مل�صقات»(‪ )2004‬الذي هو‬
‫كتابية تو�ضح االنتقال من م�ستوى الن�ص �إىل‬ ‫عمل تركيبـي ت�سجيلي كان قــد و�ضعه (ربيع مروة)‬
‫م�ستوى الإخراج‪ ،‬وهذا االنتقال ي�ؤدي بال�رضورة‬ ‫مب�شـاركة (�إليا�س خوري) �سنة ‪ ،2000‬وتتداخل فيه‬
‫�إىل �إح��داث ن��وع من االن��زي��اح عن دالالت الن�ص‬ ‫الفرجة باملحا�رضة‪ .‬ين�ضاف �إىل ذلك عمالن �آخران‬
‫«الأ�صلية»‪،‬ال مبعنى حتويل خطابه عن ق�صديته �أو‬ ‫‪« :‬وجه أ� وجه ب» (‪ )2001‬و«من يخاف التمثيل ؟»‬
‫غايته‪ ،‬و�إمنا توجيه خ�صائ�صه و�سماته يف اجتاه‬ ‫(‪ ،)2005‬وهي �أبرز املنارات يف هذه التجربة ‪.‬‬
‫�إبرازها بح�سب التلقي املق�صود �أو امل�ستهدف‪ .‬هكذا‬ ‫وي�شكل امل�رسح التون�سي اجلديد منوذجا للكتابة‬
‫حتدد القراءة الدراماتورجية اختيارات الإخ��راج‬ ‫الركحية – وللتذكري تعود الرتجمة �إىل امل�رسحيني‬
‫وتوجهاته‪� ،‬أي �أن التحليل الدراماتورجي يكون‬ ‫التون�سيني – وق��د كانت ال��ري��ادة يف ه��ذا الباب‬
‫جوابا على ال�س�ؤال‪/‬الأ�سئلة التي يثريها الن�ص‬ ‫�إىل امل�رسحي التون�سي (توفيق اجلبايل) وم�رسح‬
‫يف �سياق معني‪ .‬ما ال��ذي يرويه الن�ص عن واقع‬ ‫((‪El Theatro‬امل�ستقل الذي يرجع ت�أ�سي�سه �إىل‬
‫املتلقي‪ ،‬وما الذي يتلقاه هذا الأخري من احلكاية‬ ‫‪ .1987‬ويعترب عمل « كالم الليل‪ :‬ل�صو�ص بغداد «‬
‫املعرو�ضة ؟ والأه��م من كل ذلك ما هو اخلطاب‬ ‫جتربة متميزة يف م�سار (اجلبايل) امل�رسحي‪ .‬وقد‬
‫الذي ير�سله الإخراج انطالقا من الن�ص ؟‪ ...‬هذا ما‬ ‫�أ�صاب بع�ض الدار�سني يف اعتبار الكتابة الركحية‬
‫تربزه �أعمـــاله امل�رسحية – دراماتورجي ًا وخمرج ًا‬ ‫تراثا مرتاكما يف امل�رسح التون�سي‪ ،‬بـد�أ مـع فرقة‬
‫– التي متتد على �أكرث من عقدين من الزمن‪� « :‬أخبار‬ ‫(الكاف) لـ (املن�صف ال�سوي�سـي) و(رجاء فرحات)‪،‬‬
‫بنوزبيبة»‪« ،‬ت�شيكو ي��ات»‪« ،‬فاطما»‪« ،‬املفت�ش»‪،‬‬ ‫ثم فرقة (امل�رسح اجلديد) يف بداية �سبعينيات القرن‬
‫«يف عزلة حقول القطن» وغريها‪.‬‬ ‫املا�ضي ‪ .‬وال يـزال (فا�ضل اجلعايبي) و(جليلة‬
‫�إن هذا اال�شتغال الر�صني والهادئ والعميق على‬ ‫بكار) يوا�صالن جهودهما يف الكتابة الركحية –‬
‫امل�سافات اجلامعة واملائزة يف نف�س االن‪ ،‬بني‬ ‫ون�ضيف هنا امل�شهدية ‪ /‬الب�رصية ‪ /‬الت�شكيلية ‪/‬‬
‫ن�ص امل���ؤل��ف ون�ص امل��خ��رج (ال��درام��ات��ورج��ي��ا)‪،‬‬ ‫املو�سيقية – �إىل اليوم‪ .‬ثم �رسعان ما تربعمت تلك‬
‫وهذا الت�صور اجلديد الذي ي�ستند �إىل قراءة عا�شقة‬ ‫البدايات وتفرعت �إىل فرق متعددة خرج من رحمها‬
‫للن�صو�ص الدرامية اجلديدة املندرجة يف �سياق‬ ‫(امل�رسح الوطني التون�سي) بقيادة (حممد �إدري�س)‬
‫احلداثة الدرامية وما بعدها؛ هما ما يجعل من‬ ‫و(م�سـرح التياترو) املـذكـور و(م�رسح فـو) لـ(رجاء‬
‫جتربة (الهنائي) امل�رسحية جتربة متميزة يف م�سار‬ ‫بن عمار) و(م�رسح الأر�ض) لــ (نور الدين الورغي )‬
‫امل�رسح املغربي يف العقدين الأخريين‪ ،‬يف توا�ضع‬ ‫وفرقة (امل�رسح الع�ضـوي) لـ (عز الدين قنون) (‪.)19‬‬
‫وبعيدا عن البهرجة واجلعجعة والنجومية اخلاوية‬ ‫كما تنبغي الإ�شارة‪ ،‬هنا‪� ،‬إىل احل�سا�سية اجلديدة‬
‫التي يعج بها م�شهدنا امل�رسحي اليوم ‪...‬‬ ‫التي تتجلى يف الأعمال امل�رسحية جليل ال�شباب‬
‫‪114‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واليوم يولد تيار جديد من امل�رسحيني ال�شباب‬ ‫كما جند (ف��وزي بن�سعيدي) يف م�رسحية «�إثني‬
‫الذين ي�صنعون اللحظة امل�رسحية اجلديدة‪ ،‬حتت‬ ‫ع�رشة �أغنية وثالث وجبات وقبلة واحدة»‪ ،‬و(يو�سف‬
‫�سطح احلياة الراكدة التي يعاين منها امل�رسح العربي‬ ‫الريحاين ) يف «عدوى بيكيت»‪ ،‬وجتربة امل�رسحي‬
‫منذ فرتة‪ .‬وي�شكل م�رسح ال�شباب يف م�رص مثال‪،‬‬ ‫ال�شاب (بو�سلهام ال�ضعيف)‪ ،‬وجت��رب��ة املخرج‬
‫ف�صيال من ف�صائل �شباب املجتمع امل�رصي الذي‬ ‫وال�سينوغراف املبدع (عبداملجيد الهوا�س) وعلى‬
‫�أ�سقط النظام و�سعى �إىل تغيري الأو�ضاع الفا�سدة‪.‬‬ ‫ر�أ�سها م�رسحية (?يولون �سني)؛ وجتربة املمثلة‬
‫واملثري هنا بالن�سبة للمتتبع لهذا التيار‪ ،‬ان االنفتاحات‬ ‫(لطيفة �أح���رار) يف �إخ��راج و�إع���ادة ق��راءة ركحية‬
‫�أنه ال يقت�رص على الكتاب واملخرجني‪ ،‬بل‬ ‫لن�صو�ص (يا�سني عدنان)‪ ،‬والتي �أثارت زوبعة من‬
‫وي�شمل جيال جديدا من النقاد النا�شئني‪ .‬والإرها�صات‬ ‫اجلدال لفرتة بعد عر�ضها‪.‬‬
‫ُ‬
‫يحبل‬ ‫مترداً على كتابات التي كان‬ ‫ثم �إن هذا التيار ي�شكل َ‬ ‫تندرج �ضمن التوجه اجلديد الذي �سار فيه م�رسح‬
‫الأج��ي��ال ال�سابقة‪ ،‬وي���ؤ��شر على نهاية‬ ‫ال�شباب العربي يف ظ��ل التحوالت االجتماعية‬
‫بها ج�سد‬ ‫ٍ‬
‫م�رسحية مبوا�صفاتها وتقاليدها‪،‬‬ ‫مرحلة‬ ‫وال�سيا�سية الـراهنة‪ ،‬التـجربة اجلـديدة لفرقة (�إناء‬
‫مطلقة امل�سرح العربي‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قطيعة‬ ‫لكن دون �أن ي�ؤدي ذلك �إىل‬ ‫ال�سماء) مب�رص‪ ،‬من خالل م�رسحية «�أنا كارمن»‪،‬‬
‫ونهائية معها‪ .‬وهذه مناذج من الن�صو�ص اجلديد منذ‬ ‫وهي مونودراما تربز �أن هذه ال�صيغة الدرامية‬
‫اجل��دي��دة التي �أف��رزت��ه��ا حت��والت الربيع‬ ‫ما ت��زال ق��ادرة على ا�ستثمار الإمكانات الفنية‬
‫فرتة‪ ،‬ازدادت‬ ‫العربي مب�رص ‪:‬‬ ‫واجلمالية للم�رسح اجلديد يف جم��ال ا�شتغالها‪،‬‬
‫قوة وانت�شارا‬ ‫«حكاية �ضحى»‪ :‬حامت حافظ‪.‬‬ ‫والتي تتجلى هنا يف توظيف فن الأوب��را توظيفا‬
‫«م�أ�ساة ديك اجلن» ‪� :‬صفاء البيلي‪.‬‬ ‫حداثيا رائعا‪ .‬ي�صور هذا العمل امل�رسحي املتميز‬
‫ب�سبب تفكك‬ ‫« �أر�ض امليعاد «‪:‬عي�سى جمال‪.‬‬ ‫حلظات �أو �أ�شطرا من احلياة اليومية للفتاة (كارمن)‬
‫مفهوم الدراما‬ ‫« املفروكة « ‪ :‬يا�رس عالم‪.‬‬ ‫يف حاالت ع�شقها و�آالمها و�إح�سا�سها الأليم بالهوية‬
‫« �شباك مك�سور» ‪ :‬ر�شا عبد املنعم‪.‬‬ ‫واالنتماء‪ ،‬ومعاناتها ال�سيا�سية والوجودية‪ .‬كما‬
‫نف�سه ومتثالته‬ ‫« قول يا مغنواتي»‪ :‬بكري عبد احلميد‪.‬‬ ‫ت�شتغل امل�رسحية ب�إبداعية عالية على �صيغة‬
‫التقليدية‪،‬‬ ‫« الوردو�س»‪� :‬رشيف �صالح الدين‪.‬‬ ‫«امل�رسح داخل امل�رسح»‪ ،‬وعلى اللغة التي جاءت‪،‬‬
‫«يف �صالون مدام �إميان»‪ :‬ي�رسا ال�رشقاوي‪ .‬وظهور منظورات‬ ‫ب�صورها و�إيحاءاتها وا�ستعاراتها‪ ،‬لغة �شعرية‬
‫«وليمة عيد» ‪ :‬يو�سف م�سلم (‪)20‬‬ ‫باذخة يف �شاعريتها الب�سيطة ‪.‬‬
‫و�إىل جانب ذلك ما تزال الن�صو�ص القدمية يف جمال �صناعة‬ ‫غري �أن تلك االنفتاحات والإرها�صات التي كان‬
‫‪ -‬عربية ت��راث��ي��ة وغ��رب��ي��ة ‪ -‬ت�ستهوي الفرجة‬ ‫يحبل بها ج�سد امل�رسح العربي اجلديد منذ فرتة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫امل�رسحيني ال�شباب مب�رص‪ ،‬لكن ب��ر�ؤى‬ ‫ازدادت قوة وانت�شارا ب�سبب تفكك مفهوم الدراما‬
‫�إخراجية جديدة وق��راءات خمتلفة تتالئم‬ ‫نف�سه ومت��ث�لات��ه التقليدية‪ ،‬وظ��ه��ور منظورات‬
‫مع طبيعة التحوالت االجتماعية وحتوالت‬ ‫وممار�سات جديدة يف جمال �صناعة الفرجة‪ .‬لكن‬
‫ال��درام��ا‪ .‬وعلى �سبيل املثال نذكر م�رسحية «�أنا‬ ‫العامل احلا�سم يف هذه التحوالت يتحدد بتحوالت‬
‫الثورة» عن «مارا �صاد» لـبيرت فاي�س من �إخراج‬ ‫املجتمعات العربية نف�سها‪ ،‬ال باملعنى االنعكا�سي‬
‫�أحمد ثابت ال�رشيف‪ ،‬نادي م�رسح �أ�سيوط؛ و«جان‬ ‫الآيل‪ ،‬ولكن يف �إطار ارتباط زمن امل�رسح بـزمن‬
‫دارك» لـربتولد بري�شت و�إخراج حممد فتح اهلل‪ ،‬نادي‬ ‫التاريخ كما �أ�رشنا �إىل ذلك‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫على البداية والو�سط والنهاية‪ ،‬على الرغم من وجود‬ ‫م�رسح طنطا‪.‬‬


‫نفحات وبذور جديدة حتاول �أن تفتح �أفقا لكتابة‬ ‫ومن مناذج الأعمال امل�رسحية امل�رصية اجلديدة‬
‫درامية حديثة وجتريبية‪� ،‬إذا ما ت�ضافرت لها جهود‬ ‫خالل (‪: )2011‬‬
‫اجليل اجلديد من كتاب الدراما الإماراتيني‪.‬‬ ‫«مامي �شو» ‪:‬‬
‫�أما بخ�صو�ص لغة احلوار‪ ،‬ف�إن هذا امل�رسح يواجه‬ ‫�إخراج روان حممد‪ ،‬املعهد العايل للفنون امل�رسحية‪.‬‬
‫�إ�شكالية هامة تت�صل بالعامية املحلية وهيمنتها‬ ‫« البيع باملزاد العلني»‪:‬‬
‫القوية التي حتول دون االنت�شار املطلوب للإبداع‬ ‫ت�أليف و�إخراج حممد امل�رصي‪ ،‬فرع ثقافة دمياط‪.‬‬
‫امل�رسحي الإماراتي على الأقل عربيا‪ .‬ففي �أغلب‬ ‫« �إحنا وظروفنا «‪:‬‬
‫الأحيان نكون �أمام لهجة غري مفهومة خارج منطقة‬ ‫ور�شة ارجتالية‪� ،‬إخراج ح�سام عطا‪.‬‬
‫اخلليج‪ ،‬وه��ذا يطرح �إ�شكاال كبريا على م�ستوى‬ ‫«القناع»‪:‬‬
‫التوا�صل والتلقي امل�رسحيني املن�شودين‪.‬‬ ‫دراماتورجيا و�إخ��راج حممد عالم‪ ،‬املعهد العايل‬
‫ومن حيث العر�ض والإخ��راج فال بد من الإ�شارة‬ ‫للفنون امل�رسحية‪..‬‬
‫هنا �إىل �أننا ب��د�أن��ا نالحظ تطورا كبريا ورائعا‬ ‫كما جند امل�رسح الإماراتي يد�شن مرحلة �إعادة‬
‫يف جمال البحث ال�سينوغرايف الذي يكاد يهيمن‬ ‫ت�أ�سي�س واع��دة بف�ضل جهود جيل ال�شباب الذي‬
‫على بقية مكونات العمل امل�رسحي الأخ��رى‪ ،‬بل‬ ‫نراه اليوم قادما بقوة‪ ،‬وي�شي بالكثري من الوعود‬
‫وحتى على الإخراج نف�سه‪� ،‬إذ يتم اختزال العملية‬ ‫على م�ستوى الكتابة الدرامية والبحث واال�ستنبات‬
‫الإخراجية يف البحث ال�سينوغرايف الذي غالبا ما‬ ‫يف جم��ايل الإخ����راج وال��ع��ر���ض بكل م�ستوياته‬
‫يدعو اىل التنويه الكبري‪ .‬وال �شك �أن ذلك يعود �إىل‬ ‫ال�سينوغرافية و�أداء املمثل وغريها‪ .‬وميكن القول‬
‫ت�أثري الإبداع الت�شكيلي الإماراتي احلديث‪ ،‬ولي�س‬ ‫ب�أنه بعد جيل الت�أ�سي�س يف امل�رسح الإم��ارات��ي‬
‫هذا غريبا لأن بع�ض املخرجني �أنف�سهم هم �أي�ضا‬ ‫الذي �أر�سى دعائم احلركة امل�رسحية و�أقام �أ�س�سها‬
‫فنانون ت�شكيليون‪.‬‬ ‫يف �رشوط مل يكن ممُ كن ًا فيها ت�صور قيام ممار�سة‬
‫ويحق للم�رسح الإماراتي �أن يعتز بهذا اجليل اجلديد‬ ‫م�رسحية بهذا ال��رب��ع م��ن ال��وط��ن ال��ع��رب��ي‪ ،‬نحن‬
‫من الكتاب واملخرجني ال�شباب القادمني بقوة‬ ‫اليوم نالم�س ظهور جيل م�رسحي جديد يريد �أن‬
‫و�صرب وبتحد �إىل �ساحة امل�رسح العربي‪ ،‬على الرغم‬ ‫ينتقل بهذه احلركة �إىل طور جديد بحثا عن �آفاق‬
‫من كل �آليات املقاومة واملمانعة على امل�ستوى‬ ‫م�رسحية ج��دي��دة‪ .‬يتجلى ذل��ك يف كل م�ستويات‬
‫الثقايف والالوعي اجلمعي‪..‬‬ ‫الفرجة امل�رسحية من خالل العرو�ض التي ت�شهدها‬
‫يف مقابل ذلك‪ ،‬ن�سجل تراجعا ملمو�سا يف امل�رسحني‬ ‫ودبي وغريها‪.‬‬ ‫مهرجانات ال�شارقة وال ُفجرية ُ‬
‫اللبناين وال�سوري‪ ،‬وكذلك بالن�سبة للم�رسح املغاربي‪،‬‬ ‫غري �أن هذا الأفق يبقى مثقال على م�ستوى املوا�ضيع‬
‫عما ك��ان��ت عليه ه��ذه امل�����س��ارح يف �سبعينيات‬ ‫الدرامية املطروقة‪ ،‬بنف�س الق�ضايا والإ�شكاالت‬
‫وثمانينيات القرن املا�ضي‪ .‬وهو ال�شك تراجع م�ؤقت‬ ‫االجتماعية مثل موا�ضيع الأ�رسة‪ ،‬الع�شرية‪� ،‬رصاع‬
‫يعود للظرفية التي تعي�شها بع�ض ه��ذه البلدان‪.‬‬ ‫القيم يف �رشوط وم�ستلزمات التحديث ومنو جمتمع‬
‫وميكن ا�ستثناء امل�سارح اجلامعية وبع�ض التجارب‬ ‫ا�ستهالكي نا�شىء‪ .‬وتبقى جل الأعمال الدرامية‬
‫امل�رسحية ذات النزعة الطليعية يف هذه الأقطار‪،‬‬ ‫مرهونة ببنية احلكاية االجتماعية ذات القيمة‬
‫والتي تظل ِقالع ًا لل�صمود يف وجه الرتاجع والركود‬ ‫والدالالت الأخالقية امل�ستندة �إىل بناء درامي يقوم‬
‫‪116‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واحتلت الن�صو�ص ال�ضعيفة خ�شبة امل�رسح العربي‪.‬‬ ‫امل�رسحيني‪ ،‬واج�ترار التقاليد والأ�ساليب الدرامية‬
‫ونتيجة ذلك غلبت ال�شكالنية الباهظة على العرو�ض‬ ‫العتيقة‪ ،‬ملا َتكتنزه امل�سارح اجلامعية وال�شبابية من‬
‫امل�رسحية‪ .‬و�إذا بال�سينوغرافيا ت�صبح املطلب‬ ‫طاقات و�إمكانات حية متجددة يف العطاء واالبتكار‪،‬‬
‫ت�ضعنا‬ ‫الرئي�سي للعرو�ض امل�رسحية (‪. )22‬‬ ‫وقدرة دائمة على النقد واملراجعة والتخطي ‪..‬‬
‫و�أخ�يرا‪ ،‬نريد �أن ن�سجل اال�ستخال�صات‬ ‫�إن هذه التجارب امل�رسحية العربية جليل ال�شباب‬
‫التحوالت‬ ‫الأولية التالية ‪:‬‬ ‫– وهذه جمرد عينة حمدودة جدا من مناذجها –‬
‫* ينبغي �أن ي���أت��ي م����سرح ال��ت��ح��والت الراهنة �أو‬ ‫ت�ستحق درا�سات حتليلية دقيقة وعميقة ومت�أنية‪،‬‬
‫االجتماعية وال�سيا�سية الراهنة معربا عنها‬ ‫وب�إجرائيات منهجية خم�صو�صة‪ ،‬يف �ضوء قراءة‬
‫ما ي�سمى‬
‫ومرتبطا بها وخارجا من رحمها‪،‬ولي�س‬ ‫وا�ستح�ضار ر�صينني ملنجز نظرية الدراما اجلديدة‪،‬‬
‫متهافتا الهثا وراء �آخر التقليعات النظرية بالربيع‬ ‫يف �إطار ما �أ�صبح ي�صطلح عليه منذ �سنوات‪ ،‬يف‬
‫العربي‪� ،‬أمام‬ ‫والفنية الغربية‪.‬‬ ‫العاملني االملاين والأجنلو�ساك�سوين بـامل�رسح ما‬
‫* م���ن امل���ف���رو����ض �أن مت�����س حت���والت‬ ‫بعد الدرامي (‪Le théâtre postdramatique‬‬
‫امل����سرح ال��ع��رب��ي امل��م��ك��ن وامل��ف�تر���ض الآفاق املمكنة‬ ‫(‪ ،‬وال��ذي جند تو�صيفا نظريا لبع�ض �أ�س�سه يف‬
‫ك��ل م�ستويات الفرجة امل�رسحية‪ ،‬ب���أن والغام�ضة‬ ‫كتابات (‪ )Richard Schechner‬و(‪Erika‬‬
‫يتحول العر�ض نف�سه �إىل نوع من الأداء‬ ‫‪ )Fischer-Lichte‬وغريهما (‪. )21‬‬
‫(‪ ،)Performance‬ي�ستلهم بوعي عميق �سيا�سيا‬ ‫ت�ضعنا التحوالت الراهنة التي تعرفها املجتمعات‬
‫وتـــمثل من�سجم مع �رشطية اخل�صو�صيات واجتماعيا‬ ‫العربية‪� ،‬أو ما ي�سمى بالربيع العربي‪� ،‬أمام الآفاق‬
‫الثقافية – ولي�س اخل�صو�صانية – �إجنازات‬ ‫املمكنة والغام�ضة �سيا�سيا واجتماعيا وح�ضاريا‬
‫وح�ضاريا‬
‫ال�صيغ والأ�شكال امل�رسحية اجلديدة‪ ،‬و�أن‬ ‫بالن�سبة لهذه املجتمعات‪ ،‬وهي نف�س �آفاق امل�رسح‬
‫تنعك�س تلك التحوالت على الن�ص والإخراج لهذه‬ ‫يف اللحظة الراهنة‪ .‬لكن ال ينبغي �أن تتجه بنا‬
‫وال�سينوغرافيا و�أداء املمثل‪ ،‬وكلها �صارت املجتمعات‪،‬‬ ‫هذه االنفتاحات واالنزياحات يف م�سار امل�رسح‬
‫مفاهيم ذات حمولة تقليدية‪...‬‬ ‫العربي ويف �آفاقه املمكنة واالفرتا�ضية‪� ،‬إىل نوع‬
‫* وج���وب �إح���داث ث��غ��رات �أو ��ش�روخ يف وهي نف�س‬ ‫من التقهقر �أو العدمية جت��اه ال�تراث امل�رسحي‬
‫عالقتنا وت�صوراتنا للأ�ساليب الفنية �آفاق امل�سرح‬ ‫الكوين العريق �إبداعا وتنظريا‪ ،‬وال��ذي يجعل من‬
‫التقليدية حتى يف �شكلها ال��ذي يظهر‬ ‫امل�رسح �أب الفنون؛ وحتى ال ننتهي �إىل اال�ستنتاج‬
‫ع�رصيا �أحيانا‪ ،‬وذلك على م�ستوى الإخراج الراهنة‬ ‫املرير الذي انتهى �إليه‪ ،‬يف زخم حتوالت امل�رسح‬
‫والتمثيل �أو الت�شخي�ص وال�سينوغرافيا‬ ‫العربي الراهنة‪ ،‬واحد من كبار امل�رسحيني العرب‬
‫وغريها من مكونات العر�ض امل�رسحي‪.‬‬ ‫(فرحان بلبل )‪ ،‬قائال ‪ :‬مع ظهور امل�رسح التجريبي‬
‫* ��ضرورة �إع���ادة النظر يف كيفية تعاطينا مع‬ ‫احلديث يف بداية العقد الأخري من القرن الع�رشين‪،‬‬
‫الن�صو�ص الدرامية ذات الطابع الكال�سيكي �أو‬ ‫هجر املخرجون واملمثلون الن�ص امل�رسحي القوي‬
‫حتى ما بعد الكال�سيكي واحل��داث��ي‪ ،‬و�إب��داع ن�ص‬ ‫ب�أركانه الدرامية‪ .‬ومت هذا الهجران دفعة واحدة‬
‫درام���ي يت�شكل ب��امل��وازاة م��ع من��ط النــــ�صو�ص‬ ‫يف جميع �أنحاء العامل ويف الوطن العربي على‬
‫ال�رسدية وال�شعرية اجلديدة التي بد�أت يف الظهور‬ ‫اخل�صو�ص ‪ ..‬متزقت الن�صو�ص امل�رسحية القوية‬
‫(الكتابة ال�شذرية واملت�شظية‪ ،‬تفجري �شكل ال�رسد‬ ‫التي ورثتها الب�رشية‪ ،‬فلم يعد يظهر منها �إال ا�سمها‪،‬‬
‫‪117‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪� )9‬أنظر ‪ :‬مارفن كارل�سون ‪ :‬فن الأداء (مقدمة نظرية )‪ ،‬ترجمـة منى‬ ‫اخلطي‪،‬ا�ستثمار الن�ص الرقمي‪.)...‬‬
‫�ســالم‪ ،‬ال�شارقة‪ ،‬دائرة‬
‫الثقافة والإعالم‪ ،‬د‪.‬ت ‪ .‬وهو ترجمة لكتاب ‪:‬‬ ‫* البحث عن �شكل م�رسحي ‪ /‬فرجوي ‪�/‬أدائ��ي‬
‫‪Performance . A critical introduction , London ,‬‬ ‫جديد (وهي رحلة طويلة مكرورة عا�شها امل�رسح‬
‫‪1996,Routledge‬‬
‫(‪Mc LUHAN , Marchall : Pour comprendre 10‬‬ ‫العربي منذ بداياته الأوىل !)‪ ،‬ي�صنع العر�ض من كل‬
‫‪,les médias, Ed . Mame / Seuil‬‬ ‫املعطيات املتوافرة‪ ،‬ومن �أب�سط العنا�رص املادية‬
‫‪25,p ,1968‬‬
‫(‪COLLECTIF : Sociologie des mutations ; 11‬‬ ‫والدرامية والواقعية الدنيا (‪ )minimaliste‬التي‬
‫‪sous la direction de Georges‬‬ ‫تتيحها احلياة اليومية املبا�رشة‪ ،‬مبا يعني العودة‬
‫‪J ,1970 ,Balandier , Paris, Ed . Anthropos‬‬
‫‪.Cazeneuve :« communication‬‬
‫�إىل امل�رسح املعي�ش‪.‬‬
‫‪182– 173 : de masse et mutations culturelles », pp‬‬ ‫* القطع مع امل�رسح الأدبي القائم على الإن�شائية‬
‫‪ )12.‬دوفينيو ‪ :‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪ 549‬و‪ . 550‬وينظر �أي�ضا ‪:‬‬ ‫اللفظية‪ ،‬وعلى فخامة العبارة وتقعرها‪� ،‬أي بكلمة‬
‫‪MORIN,E : Le cinéma ou l’homme imaginaire,‬‬
‫‪1958,Paris .Ed. de Minuit‬‬ ‫واح���دة ال�ثرث��رة الكالمية التي كانت م��ن �آف��ات‬
‫(‪.13CAZENEUVE :Ibid‬‬ ‫امل�رسح الغربي من قبل‪ ،‬والتي واجهت نقدا عنيفا‬
‫) ينظر يف املو�ضوع العدد الأخري من جملة ‪14 :‬‬
‫‪La mise en « .2011 novembre , 774 °Critique , n‬‬ ‫منذ كتابات �أرطو الرائدة ‪.‬‬
‫‪» scène  : mort ou mutation‬‬ ‫هذه ت�أمالت نعتربها جمرد �أفكار �أولية ت�ستلزم‬
‫‪,ATTALI , J : Le sens des choses ,Ed .R . Laffont)15‬‬
‫‪avec Stephanie( , 2009‬‬ ‫التفكري العميق وامل��ت���أين وال��ه��ادئ يف �أو���ض��اع‬
‫‪166 . Bonvicini ), p‬‬ ‫امل�رسح العربي و�آفاقه‪ ،‬يف ظل التحوالت العامة‬
‫‪( 16‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪. 171 :‬‬
‫‪PAVIS , P. :Dictionnaire du théâtre , Paris, )17‬‬ ‫التي ي�شهدها العامل العربي يف اللحظة الراهنة‪...‬‬
‫‪Ed.Sociales‬‬
‫‪ ) 18‬دوفينيو ‪ :‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.41‬‬ ‫هوام ـ ــ�ش‬
‫‪� )19‬أنظر مثال ‪� :‬صربي حافظ‪ « :‬امل�رسح التون�سي بني البوليفـــونية‬ ‫‪DUVIGNAUD , J : Les ombres collectives , )1‬‬
‫والكتابة الركحية ‪ :‬جتربة توفيق اجلبالـي‬ ‫‪, sociologie du théâtre‬‬
‫منوذجا‪� « ،‬ضمن امللتقى الفكري ‪ :‬امل�رسح العربي بني عقدين ؟‪،‬‬ ‫‪. 192 p ,1973 et 1965 , Paris , P.U.F‬‬
‫ال�شارقة‪ ،‬دائرة الثقافة‬ ‫‪(2‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪. 186‬‬
‫والإعالم‪� ،2011 ،‬ص ‪ 36‬وما بعدها‬ ‫‪( 3‬عبد الواحد ابن يا�رس ‪ :‬حياة الرتاجيديا‪ ،‬يف فل�سفة اجلن�س الرتاجيدي‬
‫‪� ) 20.‬أبو العال ال�سالموين ‪ « :‬تيار جديد يف امل�رسح امل�رصي»‪� ،‬أ�سبوعية‬ ‫و�شعريته‪ ،‬بريوت‪ ،‬الدار‬
‫(م�رسحنا )‪،‬‬ ‫العربية للعلوم نا�رشون‪� ،2011 ،‬ص ‪ 49‬وما بعدها‪.‬‬
‫الهيئة العامة لق�صور الثقافة‪ ،‬العدد ‪� 224،31‬أكتوبر ‪. 2011‬‬ ‫‪ )4‬جان دوفينيو ‪ :‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪. 179‬‬
‫‪� ) 21‬أنظر يف املو�ضوع ‪:‬‬ ‫‪CARLSON , M : Le théâtre de la révolution )5‬‬
‫‪SCHECHNER, Richard : - Essays‬‬ ‫‪on‬‬ ‫‪. 1970 , française , Paris , Gallimard‬‬
‫‪New ,1976 – 1970 , Performance Theory‬‬ ‫‪ )6‬جان دوفينيو‪ ،‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.549‬‬
‫‪1977 ,York, Drama Book Specialist / Publishers‬‬ ‫‪ARTAUD , A : Le théâtre et son double , Ed. )7‬‬
‫‪La représentation postmoderne . La fin de « -‬‬ ‫‪, 1964 ,Gallimard‬‬
‫‪» l’humanisme‬‬ ‫‪» coll . « Idées », « En finir avec les chefs – d’œuvre‬‬
‫‪51-35. pp , 1981 , )3( 20°Jeu, revue de théâtre n‬‬ ‫�أو ترجمته العربية ‪ :‬امل�رسح وقرينه‪� ،‬سامية �أ�سعد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النه�ضة‬
‫‪LEHMANN , Hans – Thies : Le théâtre‬‬ ‫العربية‪ « ،1973،‬فلننته من الروائع «‬
‫‪.2002 ,postdramatique, Paris, L’Arche‬‬ ‫‪COLLECTIF : l’envers du théâtre , Revue )8‬‬
‫‪ ) 22‬فرحان بلبل ‪ « :‬الت�أليف امل�رسحي العربي املعا�رص ‪ ..‬كما �صار‬ ‫‪2-1/1977 , d’Esthétique‬‬
‫�إليه «‪ ،‬جملة (كوالي�س)‪،‬‬ ‫‪l’improvisation: 1930 « ; 1977 ; 18/10 ,Paris , UGE ,‬‬
‫يناير ‪ ،2010‬العدد ‪� ،1‬ص ‪ 37‬و‪. 39‬‬ ‫‪.Prolétarienne » par Philippe IVERNEL‬‬

‫‪118‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫�إدمون عمران املليح‪:‬‬
‫هجرة احلكاية واالختالف الثقايف‬
‫حممد بوعزة‬
‫باحث و�أكادميي من املغرب‬

‫�إدمون عمران املليح كاتب مغربي �أ�صيل (‪ )2010 -1917‬من �أ�صول �أمازيغية‪،‬‬
‫تعود �إىل منطقة ايت عمران‪ ،‬جنوب الأطل�س املغربي‪ ،‬على الرغم من كتابته‬
‫بالفرن�سية له مواقف �ضد الفرنكوفونية‪ .‬هو اليهودي املن�شق على غرار «نعوم‬
‫ت�شوم�سكي» و«نورمان فنكل�ستني»‪ ،‬عرف بعدائه لل�صهيونية‪ ،‬مدافعا عن الق�ضية‬
‫الفل�سطينية‪ ،‬انخرط يف م�سار الكفاح الوطني من �أجل ا�ستقالل املغرب‪ ،‬وتعر�ض‬
‫لقمع قوى اال�ستعمار الفرن�سي‪� .‬سنة ‪ 1965‬يف ظروف �سيا�سية عنيفة‪ ،‬يف �سياق ما‬
‫ي�سمى يف اخلطاب ال�سيا�سي املغربي ب�سنوات الر�صا�ص واجلمر‪� ،‬سيغادر املغرب‬
‫مهاجرا �إىل فرن�سا‪ ،‬وي�شتغل بالتعليم وال�صحافة‪.‬‬

‫‪ o‬ت�شتغل الذاكرة الهذيانية يف ن�ص (�أيالن �أو �إدمون عمران ليل‬


‫احلكي) يف اجتاه �شعرية احلكي وتغريب املتخيل بتك�سري �إطار ال�صورة‪،‬‬
‫حيث تت�شظى احلكاية �إىل �أ�صوات و�أ�صداء متداخلة يف بوتقة زمن‬
‫‪o‬‬
‫داخلي جواين ا�ستبطاين يجرد احلكاية من مركزيتها‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الدارجة‪ ،‬العربية‪ ،‬لهجات البحارة املختلطة برطانات‬ ‫ا�شتهر بكتاباته املتميزة‪ ،‬فقد و�صفته �صحيفة‬
‫مغربية‪ ،‬برتغالية‪ ،‬ا�سبانية‪ ،‬ته�شم عرب هذا االختالط‬ ‫الإندبنداتت الربيطانية ب�أنه «جيم�س جوي�س املغرب»‪.‬‬
‫البارودي مركزية الذات لفائدة مواقع �رسدية متعددة‪.‬‬ ‫ر�سخ �إدمون عمران املليح مكانته �أوال ككاتب متميز‪،‬‬
‫يف ه��ذا املجرى ال����سردي احلفري تك�شف رواي��ات‬ ‫وثانيا كمثقف من�شق‪ ،‬يجهر مبواقفه االن�شقاقية �ضد‬
‫�إدم���ون املليح ع��ن �صور االخ��ت�لاف ال��ث��ق��ايف‪ ،‬من‬ ‫ال�سلطة‪ .‬من �أهم �أعماله ال�رسدية والروائية‪� :‬سريته‬
‫قبيل حمكيات الهوية والبدايات‪ ،‬وا�ستلهام املا�ضي‬ ‫الذاتية (املجرى الثابت ‪ ،)1980‬رواية (�أيالن �أو ليل‬
‫وتواريخ الكولونيالية (احلماية الفرن�سية والكفاح �ضد‬ ‫احلكي ‪ )1983‬ورواية (�ألف عام بيوم واحد ‪)1986‬‬
‫اال�ستعمار) وما بعد الكولونيالية (�سنوات الر�صا�ص‬ ‫ورواي��ة (ع��ودة أ�ب��و احلكي ‪ )1990‬ورواي��ة (املقهى‬
‫واجلمر)‪ ،‬ولذك يح�رض التخييل م�شتبكا ب�صور القوة‪،‬‬ ‫الأزرق ‪ .)1998‬بالإ�ضافة �إىل �أعمال فكرية وفل�سفية‬
‫التي تطبعه ب�صور االزدواج والهجنة الثقافية‬ ‫ونقدية حول جان جنيه والت�شكيل املغربي املعا�رص‪.‬‬
‫وجدليات القوة‪ ،‬وديناميات الرغبة والوعي املهجري‬ ‫يف جممل هذه الأعمال ال�رسدية ير�سخ �إدمون عمران‬
‫و�شتات املنفى‪.‬‬ ‫املليح منظورا �رسديا ب�أ�صوات متعددة‪ .‬فعلى الرغم‬
‫هذا التجاذب بني التخييل والقوة ي�سهم يف ته�شيم‬ ‫من هجرته احلقيقية واملجازية يف اللغة الفرن�سية‪ ،‬مل‬
‫إ�ط���ار احلكاية‪ ،‬ع�بر امل��زج العنيف ب�ين الأ���ص��وات‬ ‫يتنكر لأ�صوله املغربية‪� .‬إال �أنه مل يحول هذه الأ�صول‬
‫والأ�صداء واللغات واللهجات‪ ،‬ت�سندها نربة تهكمية‬ ‫�إىل �أ�ساطري م�ؤ�س�سة لهوية مغلقة‪ ،‬بل تعامل معها من‬
‫نقدية تفكيكية ل�صور القوة وال�سلطة ‪.‬‬ ‫منظور تخيلي‪ ،‬ميزج بني الذاكرة والتخيل‪ ،‬ال�شعري‬
‫واملرجعي‪ ،‬التذويت والتاريخ‪.‬‬
‫الكتابة �ضد الن�سيان‬ ‫يف �صريورة هذه ال�شفرة املزدوجة التي متيز اخلطاب‬
‫تت�شكل �إ�سرتاتيجية احلكي لدى �إدمون عمران املليح‬ ‫الروائي عند �إدمون املليح‪ ،‬تنبثق من داخل طبقات‬
‫يف رواية (�آيالن �أو ليل احلكي‪ )1‬كبحث حفري يف بقايا‬ ‫احلكاية �صور ذاك��رة ن�صية متجذرة يف اجلغرافية‬
‫تخييل من�سي‪ ،‬لكن مفاعيله وندوبه ال تزال مرت�سبة‬ ‫الرمزية املغربية‪ ،‬مبا مييزها من ف�سيف�ساء تعدد‬
‫وفاعلة يف ذاكرة ن�شطة (كان يحدث له �أن يكتب لأن‬ ‫و�أيقونات االختالف واالنزياحات‪.‬‬
‫دمه ينزف ب�شدة‪،‬لأن اجلرح الذي كان يحمله يف جنبه‬ ‫ذاكرة منقو�شة ب�سحر الطفولة ومكر التاريخ و�إغواء‬
‫ال يكف عن الإيعاز) (�ص‪.)48‬‬ ‫الأ�سطورة‪ ،‬منفتحة على ثقافات وتراثات متعددة‪،‬‬
‫ذاك��رة مو�شومة بحكايات ج��رح و�أمل ال تكف عن‬ ‫متحيزة لنب�ض الهام�ش املقموع و أ����ص��داء ال�صوت‬
‫ا�ستنزافها‪ ،‬تظل خمرتقة ب�أ�صداء و�أ�صوات تهب من‬ ‫الآخ����ر‪� .‬سفر �إىل ال��داخ��ل‪� ،‬إىل ح��ك��اي��ات الأ���ص��ول‬
‫جهات املا�ضي البعيد‪ .‬ويف �إط��ار ت�صور �أنطلوجي‬ ‫والبدايات‪،‬وهجرة �إىل اخلارج‪� ،‬إىل حكايات املنفى‬
‫للكتابة كفعل م��واج��ه��ة للموت ب�����ص��وره امل��ادي��ة‬ ‫واالختالف الثقايف‪ ،‬حيث تت�شظى احلكاية بني عنف‬
‫والرمزية التي حتيل على جمازات الغياب وال�صمت‬ ‫الكتابة وعنف املتخيل يف �سريورة ازدواج بني الداخل‬
‫والن�سيان‪ ،‬يتجه ال�رسد نحو ا�ستعادة هذا التخييل‬ ‫واخلارج‪ ،‬بني الذات والآخر‪ ،‬بني املا�ضي واحلا�رض‪.‬‬
‫املن�سي عرب خرائطية هجينة متعددة يف مرجعياتها‬ ‫وهذا ما يفر�ض على بالغة الن�ص حالة هجنة ن�صية‬
‫الثقافية والرمزية والتاريخية‪.‬‬ ‫وثقافية فاعلة يف دينامية ال�رسد‪ ،‬تعرب عن نف�سها‬
‫تت�أ�س�س ا�ستعادة املحكي املن�سي على وعي ثقايف‬ ‫يف خطاب �رسدي تعددي‪ ،‬منقو�ش ب�أل�سنة متناف�سة‬
‫ب����ضرورة �إع���ادة بنائه ومتثيله‪ ،‬من منظور ذوات‬ ‫ولغات متعددة‪ ،‬الفرن�سية‪ ،‬العربية‪ ،‬الأمازيغية‪،‬‬
‫‪120‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫هذه املواجهة الطباقية‪ ،‬على �سيا�سات التمثيل �رصاع‬ ‫و�أ�صوات الهام�ش‪ ،‬خارج �سيا�سات قانون القوة الذي‬
‫ب�ش�أن ما يقال ومن الذي يقول ما يقال‪ ،‬ومن ميثل‬ ‫فر�ض ويفر�ض حالة التهمي�ش والكبت على �أ�صوات‬
‫من‪.)3(.‬‬ ‫ال�ضحايا‪( .‬الكفاح م��ن �أج��ل اال�ستقالل‪ ،‬التاريخ‬
‫تنطلق دينامية ال�رسد �إذن من القوة االنتهاكية‬ ‫يختلط ب�أيام احلماية‪ ،‬تلك الأي��ام من الأمل الناعم‬
‫الرمزية للتخييل املوازية لقانون القوة‪ .‬قوة �سلطة‬ ‫ال�شفاف‪ ،‬من الوعود امل�ستقبلية‪ ،‬من ال�شدة القا�سية‪،‬‬
‫تعمل على حمو �آثار عنفها‪ ،‬حيث ينه�ض ال�رسد على‬ ‫من الت�ضحيات‪ ،‬من احلياة املطالبة بحرارة‪ ،‬ذلك‬
‫مواجهة هذا املحو‪ /‬الن�سيان عرب الغو�ص عميقا يف‬ ‫التاريخ‪ ،‬على غرار التاريخ مبفهومه املطلق‪ ،‬انطوى‬
‫التاريخ املن�سي لل�ضحايا املهم�شني‪ .‬وعرب هذا ال�رسد‬ ‫على التجريد‪ ،‬على الغائية املبتذلة‪ ،‬على الالمباالة‬
‫احلفري يتم حترير الذاكرة من �إطار القوة‪ ،‬وهذا ما‬ ‫املعدنية‪ ،‬وتبقى حمنة ذلك الرجل‪ ،‬الفرق ال�صغري‬
‫يتيح لل�رسد ا�ستح�ضار امل�سكوت عنه يف �رسد ال�سلطة‪.‬‬ ‫الذي ال يخلف �أي طية‪ ،‬رجال ماتوا من ذلك اليوم‬
‫ا�ستح�ضار تخيلي ين� أش� عنه انبثاق حكايات ال�ضحايا‬ ‫يف الأحياء ال�شعبية‪ ،‬من يتذكرهم‪ ،‬من �سيتذكرهم)‬
‫من الغياب �إىل الوجود‪ ،‬ومن الن�سيان �إىل الذاكرة‪،‬‬ ‫(�ص‪)109‬‬
‫ومن املا�ضي �إىل احلا�رض‪ ،‬ومن املوت �إىل احلياة‪.‬‬ ‫�ضمن هذا الت�صور لفعل ال�رسد كقوة رمزية مقاومة‬
‫وميزة هذا ال�رسد احلفري �أنه يت�شكل داخل دينامية‬ ‫لقوة التاريخ‪ ،‬تنفتح احلكاية على ذاك��رة النا�س‬
‫اخلطاب ال��روائ��ي ك�إ�سرتاتيجية خطابية م�ضادة‬ ‫الب�سطاء املهم�شني‪� ،‬ضحايا تاريخ القوة‪ ،‬كنوع من‬
‫خل��ط��اب ال�سلطة ب��ه��دف تقوي�ض ه��ال��ة احلقيقة‬ ‫التحرير لهذه الذاكرة كي ال متوت يف املا�ضي (كان‬
‫املزعومة التي ت�سوغ بها �إ�سرتاتيجيتها يف العنف‪،‬‬ ‫بعيدا وراء ح��دود الغياب‪ ،‬متحركا يف اللحظات‬
‫يقول عز الدين الناطق با�سم ال�سلطة يف ا�ستقباله‬ ‫املتباعدة‪ ،‬النادرة التي يعود فيها �إىل نف�سه بوخز‬
‫لوفد ال�صحافة الأجنبية (�شوهت ال�صحافة الأجنبية‬ ‫رغبة‪� :‬أال ميوت مع ما�ضيه) (�ص‪)42‬‬
‫احلقيقة‪ ،‬بالغت يف الأمور‪� ،‬ألي�س كذلك يا م�سرت جون‬ ‫احلكي من �أجل تفادي املوت‪ ،‬موت الذاكرة‪ ،‬ذاكرة‬
‫هاري�سون‪�...‬إننا ل�سنا وحو�شا‪ ،‬بالدنا لي�ست دكتاتورية‬ ‫ال�ضحايا‪ ،‬ذلك ما ي�شكل �سيا�سات ال�رسد يف الرواية‪.‬‬
‫من ديكتاتوريات �أمريكا اجلنوبية‪ ،‬القانون والنظام‬ ‫و�أب��رز �صور موت الذاكرة يف الن�ص‪� ،‬صور ال�صمت‬
‫البد �أن يحرتما‪...‬ال ميكن �أن نرتك جماال للفو�ضى‪،‬‬ ‫والن�سيان والت�ضليل التي يفر�ضها قانون القوة على‬
‫للن�شاز‪ ،،،‬عز الدين مزهو بوقع كالمه‪� ...‬أقولها لكم‬ ‫تاريخ من�سي للأ�صوات واجلماعات واخلطابات التي‬
‫ال تفرحوا لأع��داء الوطن‪ ...‬ان�صتوا ب�رصاحة �إنكم ال‬ ‫تنتهك «نظام حقيقته» وخطوطه احلمراء‪.‬‬
‫تفهمون �شيئا يف و�ضع البالد‪� ،‬إنكم كلكم �أجانب‪ ،‬ل�ستم‬ ‫يف حفرياته احلكائية يتجه ال����سرد �إىل �أب��ع��د من‬
‫على اطالع بخبايا الأمور‪ ،‬عز الدين يختنق يف نقيقه‪،‬‬ ‫ت�شخي�ص املا�ضي‪ ،‬حني ي�ستعيد حمكي ال�ضحايا‬
‫ا�سمعوا �إين �شخ�ص ي�ساري االجتاه‪ ،‬يف �شبابي كنت‬ ‫طباقيا(‪ )2‬يف مواجهة حكاية ال�سلطة‪ ،‬بحيث يورط‬
‫�شيوعيا منا�ضال �أنظروا �إذن‪� ،‬أجل هناك دائما بع�ض‬ ‫حكاية ال�سلطة يف م�أزق مواجهة �ضحاياها‪ ،‬يفر�ض‬
‫االن��زالق��ات كما يقال عندكم‪� ..‬إننا بلد دميقراطي‪،‬‬ ‫على �رسد ال�سلطة �أن يواجه تاريخه الأ�سود‪ ،‬تاريخ‬
‫�شاهدوا البلد العربي الوحيد الذي ميلك حزبا �شيوعيا‬ ‫الر�صا�ص وال���دم كما ت��روي��ه �أ���ص��وات ال�ضحايا‪،‬‬
‫م�سموحا به �رشعيا‪..‬الناطق الر�سمي املحرتم‪ ،‬املتنكر‬ ‫بو�صفه �رسدا بديال مت�شككا‪ ،‬ولي�س كما ترويه الرواية‬
‫التائه يف دروب الطموح‪ ،‬يطفو حائرا على �سطح‬ ‫الر�سمية‪ ،‬التاريخ الأوحد احلقيقي‪ .‬وبالتايل تكت�سب‬
‫�أقواله‪�( ).‬ص‪)25‬‬ ‫�إ�سرتاتيجية ال�رسد ديناميتها يف خ�ضم �رصاع قوى‬
‫‪121‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كلمات تندفع‪ ،‬تت�صادم‪ ،‬مل يكن يعرف �إن كانت ت�صدر‬ ‫عرب �إ�سرتاتيجية البارودية يتم هدم خطاب ال�سلطة‪،‬‬
‫عن ذاكرته �أم كان يتلفظ بها الآن لتوه)(�ص‪)31‬‬ ‫بت�شخي�ص املفارقة ال�ساخرة بني اخلطاب وعنف‬
‫�أ���ص��داء و�أ���ص��وات جمهولة امل�����ص��در‪ ،‬على �إي��ق��اع‬ ‫الواقع ورعبه‪ ،‬بحيث يحلق اخلطاب مزهوا ب�أكاذيبه‬
‫الالمتوقع تقتحم الذاكرة‪ ،‬فتتدفق �سيول احلكايات‬ ‫يف واق��ع ال يوجد �سوى يف خياالت الناطق با�سم‬
‫وال�صور‪ ،‬متجاوزة حدود الأزمنة والأمكنة‪ .‬ب�سبب‬ ‫ال�سلطة‪ ،‬يف حالة �إنكار �ساخرة‪ .‬ويف الوقت الذي ت�سعى‬
‫ذلك‪ ،‬ال حت�رض الذاكرة يف الن�ص كمجرد م�صدر للحكي‬ ‫فيه حكاية ال�سلطة �إىل �إنكار روايات متعددة للتاريخ‬
‫بل كرافد للتخييل‪ ،،‬ذلك �أن �شكل ا�شتغال الذاكرة يف‬ ‫و اال�ستحواذ بحق متثيل احلقيقة‪ ،‬وتفعل ذلك من �أجل‬
‫الن�ص يخلق تخييال من درجة ثانية‪ ،‬حيث تعتمد هذه‬ ‫ال�سلطة الهوياتية بتعبري �أدورنو(‪ )4‬كالنظام والقانون‬
‫الذاكرة على خطاب الهذيان يف ت�شكيل �صورها‪ ،‬وهذا‬ ‫وال��وط��ن‪ ،‬ف���إن اال�ستنطاقات والتفكيكات‬
‫ما يجعل ال�رسد يت�شظى يف عنف اخلطاب الهذياين‪،‬‬ ‫يف خ�ضم اجلديدة املنبثقة يف حكايات ال�ضحايا‪،‬‬
‫ويتلون بال�سمات ال�شعرية االنتهاكية التدمريية‬ ‫املواجهة تخ�ضع هذه املزاعم واالفرتا�ضات جلدلية‬
‫خلطاب الهذيان‪ ،‬وبذلك تتحول الذاكرة الهذيانية �إىل‬ ‫�سلبية تهكمية تقوم بتهجينها و�أ�سلبتها‪.‬‬
‫�آلية ا�ستطيقية خللخلة ن�سق احلكاية وتعتيم مرجعيتها‬ ‫ميكن قراءة يف خ�ضم هذه املواجهة ميكن قراءة حكايات‬
‫وتذويت اخلطاب‪.‬‬ ‫حكايات ال�ضحايا على �أنها ترخي�ص(‪ )5‬لل�ضحايا‬
‫يف �سياق احلكي الهذياين يتدفق �إطار احلكاية �إىل‬ ‫ب�رسد تواريخها املن�سية‪� ،‬آن لها �أن تتكلم و�أن‬
‫ال�ضحايا‬
‫�أجزاء مت�شظية من ال�صور والأ�صوات تتدافع يف �إيقاع‬ ‫ت�سمع �أ�صواتها‪ .‬وعرب هذا الرتخي�ص ين�شئ‬
‫عنيف‪ ،‬منفلتة من قيود اخلطية‪ .‬وبذلك يقوم اخلطاب‬ ‫على �أنها التخييل ذاكرة م�ضادة للذاكرة الر�سمية‪ ،‬هي‬
‫ال��ه��ذي��اين بوظيفة تفكيك ن�سق احلكاية وتغريب‬ ‫ترخي�ص ذاكرة ال�ضحايا املهم�شني‪ ،‬يف مقابل ذاكرة‬
‫�صورها‪ ،‬حيث تتدفق على �إيقاع ارت��دادات داخلية‬ ‫اجلالد‪.‬‬
‫يخلخل �صالبتها (ارتدادات على �شكل �أ�صداء بعيدة)‬ ‫لل�ضحايا ذاكرة منبثقة من الهام�ش ت�ؤ�س�س تواريخ‬
‫(�ص‪.)38‬‬ ‫ب�سرد جديدة‪ ،‬بديلة لتاريخ القوة املنت�رصة‪ ،‬هي‬
‫ال متثل الذاكرة الهذيانية‪� ،‬إذن‪ ،‬مبد�أ منظما لوحدة‬ ‫تواريخ العدالة واحلقوق‪ .‬ي�ؤ�س�س �إذن‪ ،‬هذا‬
‫احلكاية‪ ،‬بل �أداة تفكيك للإطار‪ ،‬تقطع اخلطية ب�إحداث‬ ‫ال�صوت ال�صادر عن جماعة منبثقة على‬
‫تواريخها‬
‫انعطافات وفجوات المتوقعة يف م�سار احلكي‪ .‬وهذا‬ ‫املن�سية هام�ش نظام القوة‪ ،‬قوته االنتهاكية الرمزية‬
‫ما ينزع عن احلدث طابعه املرجعي‪ ،‬بت�شظيته �إىل‬ ‫م��ن �إع���ادة بناء خطاب م�ضاد انتهاكي‬
‫�صور �شعرية ازدواجية دينامية (يتوقف احلكي على‬ ‫مت�شكك تهكمي يقو�ض مزاعم نظام احلقيقة‬
‫حافة الالمتوقع‪ ،‬قريبا بعيدا‪ ،‬م�سافة بال قيا�س‪ ،‬عقد‬ ‫الذي حتتمي به ال�سلطة يف ت�سويغ عنفها‪.‬‬
‫خيوط مت�شابكة‪ ،‬توافقات بال �آثار‪ ،‬كريات مغلقة على‬
‫حفيف احلياة واملوت على املائدة) (�ص‪.)61‬‬ ‫تفجري الذاكرة‪:‬‬
‫وبذلك ت�شتغل الذاكرة الهذيانية يف ن�ص (�أيالن �أو‬ ‫ت�رسد حكايات ال�ضحايا‪ ،‬عرب حفريات ذاكرة مقتحمة‬
‫ليل احلكي) يف اجتاه �شعرية احلكي وتغريب املتخيل‬ ‫ب�أ�صوات و�أ�صداء الآخرين‪� .‬أ�صداء موغلة يف املجهول‪،‬‬
‫بتك�سري �إط��ار ال�صورة‪ ،‬حيث تت�شظى احلكاية �إىل‬ ‫تنبثق من �أعماق الالوعي املجهول (ر�أ���س��ه يطن‪،‬‬
‫�أ�صوات و�أ�صداء متداخلة يف بوتقة زمن داخلي جواين‬ ‫مل يكن يعرف �إن كان حلما‪� ،‬أم ال‪� ،‬أ�صوات تتحدث‬
‫ا�ستبطاين يجرد احلكاية من مركزيتها‪�( .‬أ�صوات‬ ‫ب�صوت خفي�ض‪ ..‬هل كان يحلم‪ ،‬هو �أم �شخ�ص �آخر‪...،‬‬
‫‪122‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫(يفتح حقيبته بت�أن ويخرج منها كنا�شه ال�صيني‪،‬‬ ‫متداخلة من هنا وهناك‪ ،‬تتمازج خارج �أي مركز‪).‬‬
‫يفتحه على ال�صفحة التي كانت الفو�ضى‪ ،‬والغليان‪،‬‬ ‫(�ص‪)13‬‬
‫واال�ضطرابات‪ ،‬والتواءات الكتابة قد زعزعت بيا�ضها‬ ‫�إن ت�شكيل الذاكرة بهذا املنحى التخييلي يف �سياق‬
‫الهادئ‪ .‬كان قد اخرتع كتابة املنحول‪ ،‬كان يعتقد‬ ‫ا�ستطيقي ين�صهر فيه ال����سرد بالهذيان واحللم‬
‫هذا‪ ،‬ما يتمناه‪ ،‬كان يريد حمو الآثار‪ ،‬قلب الثوابت‪،‬‬ ‫واال�ستيهام‪ ،‬يخلق �صورا حكائية دينامية ملتب�سة‪،‬‬
‫التلذذ بقلب امل�سافر الغريب‪ ،‬ال�ضياع و�سط ذلك التيه‬ ‫حتتفي با�ستعارات ال�سدمي والتيه‪ ،‬وتنزاح بال�رسد‬
‫الهائل‪ ،‬ال�ضخم الالمتوقع‪� ،‬سيالن غريب حلكي ال‬ ‫نحو التبا�سات الغرابة‪ ،‬بحيث يرتتب عنه على م�ستوى‬
‫ت�ستوعبه الذاكرة‪�( ).‬ص‪)138‬‬ ‫الرتكيب ال�رسدي هيمنة ال�صورة ال�رسدية املت�شظية‬
‫ما من ن�سق ي�ستوعب تدفق الهذيان‪ .‬يتعلق الأمر �إذن‬ ‫التفكيكية على اخلطية ال�رسدية الكرونولوجية‪ .‬وال‬
‫بذاكرة هذيانية يف حالة (انفجار من الداخل) تتحرك‬ ‫ميكن �أن يف�رس هذا الت�شكيل �إال يف �إطار ت�صور ملفهوم‬
‫يف اجتاه �أفق الالمتوقع‪ ،‬ال متلك حنكة امل���ؤرخ يف‬ ‫الكتابة لدى امل�ؤلف عمران املليح يعترب (التخريب‬
‫التوثيق ‪ .‬فاخلطاب الهذياين يف الن�ص‪ ،‬على نقي�ض‬ ‫يكمن يف حركة الكتابة ذاتها‪ ،‬حركة املوت‪ .‬لي�ست‬
‫�أوه��ام «املو�ضوعية التاريخانية» التي يتقنع بها‬ ‫الكتابة م��ر�آة‪� .‬إنها مواجهة وج��ه جمهول)‪ .‬وميثل‬
‫امل����ؤرخ‪ ،‬يه�شم وح��دة احلكاية‪ ،‬ويخلخل �إط��اره��ا‬ ‫الهذيان حالة ق�صوى لفعل التخريب‪ ،‬ذلك �أنه يورط‬
‫املرجعي‪ ،‬لأنه ي�ستبدل الت�أريخ باال�ستبطان الذي‬ ‫الذاكرة يف حالة انفجار من الداخل‪ .‬وت�أكيدا على‬
‫يعمل على جتريد احلكاية من زمنيتها اخلارجية‪ ،‬عرب‬ ‫املنحى الكارثي لفعل الكتابة‪ ،‬يفتتح امل�ؤلف الن�ص‬
‫اال�ستغراق يف جوانية ال�شخو�ص‪ ،‬وي�شظيها �إىل �صور‬ ‫بعتبة حتتفي بجماليات الهذيان (الهذيان هو املك�سب‬
‫�شعرية م�ضيئة للكينونة ولي�ست «عالمات للواقع»‬ ‫امل�شرتك لكل الب�رش‪ ،‬كل ميكنه �أن ينهل منه بدون �إكراه‬
‫(حكي يتخذ �شكله يف جمال مل�ؤه الق�سوة وامل�أ�ساة‪.‬‬ ‫جلميع ما يعتربه مفيدا‪ .‬وال ينبغي لنا �أن ن�أ�سف على‬
‫كان يلم به توتر كبري وهو ير�سم كتابته املت�شنجة‬ ‫انعدام وحدة ظاهرة يف عمل من هذا القبيل‪ :‬فالوحدة‬
‫على �صفحات دفرته الأحمر‪ ،‬وحده اال�ستبطان قادر‬ ‫العميقة حلياة ما تبقى دوما م�ستع�صية على الإدراك‪،‬‬
‫على جتريد ما يعتربه املرء عالمات للواقع‪ ،‬م�ؤ�رشات‬ ‫وهي يف الواقع �أجنع كلما بدت حمتجبة‪�( ).‬ص‪)7‬‬
‫ظاهرية للبداهة واحلقيقة‪ ،‬م�سعى فريد‪ :‬الكتابة موت‬ ‫توظف الرواية �إذن‪ ،‬اخلطاب الهذياين ك�إ�سرتاتيجية‬
‫مطلق وتام لكل �شيء خارجها‪ ،‬موجة تنطفئ على‬ ‫تخريب ملنطق الوحدة و�شعرية امل��ر�آة‪ ،‬يتيح لل�رسد‬
‫حافة احلياة عندما يدفع بها اليم العاتي املقبل من‬ ‫االن��زي��اح ع��ن �سطوة الوثائقي والأت��وب��ي��وغ��رايف‪،‬‬
‫الأفق‪ ،‬نور ال يفنى‪�()....‬ص‪)14‬‬ ‫والت�شكل كتوليف (كوالج) ل�شبكة من ال�صور ال�شذرية‬
‫هكذا ما �إن يقتحم الهذيان الذاكرة‪ ،‬حتى يتفكك �إطار‬ ‫والأ�صوات الدينامية خارج �أي مركز‪ ،‬تقتحم �إطار‬
‫احلكاية‪ ،‬وتتال�شى عالمتها املرجعية يف �سيل ال�صور‬ ‫ال�رسد مه�شمة له �إىل �صور مت�شظية‪ ،‬يتداخل فيها‬
‫املت�شظية للحكي الهذياين‪ ،‬بحيث ميكن �أن نقرر ب�أن‬ ‫التخييلي ب��ال��واق��ع��ي‪ ،‬وال��ت��اري��خ��ي ب��الأ���س��ط��وري‪،‬‬
‫ما مييز احلكي يف �سياق اخلطاب الهذياين هو «ذوبان‬ ‫واحلكائي بال�شعري‪.‬‬
‫ال�صالبة(‪ .»)6‬الن�سق يتفكك‪ ،‬واحلدود تتال�شى‪ .‬كل ما‬ ‫يحقق اخلطاب الهذياين هذه االرجتاجات والت�صدعات‬
‫هو �صلب يذوب (نراك تطلق العنان لهذيان غريب‪،‬‬ ‫يف ن�سق ال�رسد عرب نظام انزياحات‪ ،‬تفجري احلكاية من‬
‫تهيم يف هالة القدرة على الر�ؤيا و�أنت وحدك الذي‬ ‫الداخل لتحل الالخطية حمل اخلطية‪ ،‬وال�شذري حمل‬
‫تن�سب هذه القدرة لذاتك‪ ،‬فالأفكار ال تعني مثل �صخور‬ ‫املت�صل‪ ،‬والغرابة حمل الألفة‪ ،‬والكاو�س حمل النظام‬
‫‪123‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫مع كل �شخ�صية تظل احلكاية عر�ضة الحتماالت غري‬ ‫جرانتيكية‪� ،‬أنهار‪ ،‬جبال‪ ،‬نباتات‪� ،‬أو م�آثر متوارية‬
‫متوقعة يف الت�شعب �إىل م�سارات متداخلة‪ ،‬تنبثق عنها‬ ‫حتت الرمال‪ ،‬ثم تتعمد خلط كل �شيء‪ ،‬كما تفعل‪ ،‬حبة‬
‫م�سارات �أخرى‪ ،‬وهكذا �ضمن دوامة دائرية ت�ستنزف‬ ‫حقيقية‪� ،‬أو تت�سبب علم النباتات واحلفريات يف �أكرب‬
‫الذاكرة‪ .‬ت�شعب ال�صريورة �إذن هو ما مييز احلكي يف‬ ‫فو�ضى ذهنية)(�ص‪.)48‬‬
‫«�أيالن �أو ليل احلكي» ولي�س وحدة النموذج وانغالق‬
‫الن�سق‪ .‬وكما و�ضحنا‪ ،‬متثل الذاكرة يف الن�ص ب�ؤرة‬ ‫�شعاب احلكاية‪:‬‬
‫تفكيك‪ ،‬ولي�ست نقطة �إر���س��اء مرجعي‪ ،‬بحكم �أنها‬ ‫بفعل الطبيعة الالخطية لذاكرة الن�ص التي تخلخل‬
‫ت�شخ�ص يف حالة انفجار ي�ستدعيها اخلطاب الهذياين‪.‬‬ ‫وح���دة احل��ك��اي��ة وجتان�سها‪ ،‬ال ينمو احل��ك��ي وفق‬
‫يف �سياق ه��ذه املتاهة كل �شخ�صية هي م�رشوع‬ ‫من���وذج ع�ضوي‪ ،‬متمحور ح��ول حكاية مركزية‪.‬‬
‫حكاية مت�شعبة‪ ،‬لأن كل حكاية ت�شخ�ص يف �سياق‬ ‫ففي تدفق �صور الذاكرة تنطلق احلكاية‪ ،‬ثم تت�شعب‬
‫الهذيان تتفكك �إىل �أ�صوات و�أ�صداء متداخلة خارج‬ ‫بفعل االنزياحات احلكائية املفاجئة التي يتيحها‬
‫�أي مركز‪ ،‬تتقاطع وتفرتق بانبثاق حكايات �أخرى‬ ‫االنبثاق الالمتوقع للهذيان‪ ،‬حيث ينتقل ال�رسد من‬
‫يف دوامة الهذيان ‪ .‬وبذلك يحول الت�شعب املفرط حد‬ ‫�شخ�صية �إىل �أخرى‪ ،‬مد�شنة حكاية جديدة منبثقة من‬
‫املتاهة الهذيانية‪ ،‬دون �إقامة �أي مركز ن�صي‬ ‫�سياق احلكاية الأوىل‪ .‬وينتقل املنظور من �شخ�صية‬
‫(يتكلم‪ ،‬يكلمه‪� ،‬صوته يتمدد �أ�صداء �سيول‪ ،‬هاويات‬ ‫�إىل �أخ��رى‪ ،‬ومن زمن �إىل آ�خ��ر‪ ،‬وغالبا ما تتداخل‬
‫تنفرج فج�أة‪...‬يتفكك الإط��ار‪ ،‬تفلت اللوحة طليقة‪،‬‬ ‫الأ�صوات‪ ،‬تتقاطع ثم تنف�صل‪ ،‬يف �صريورة ت�شعبات‬
‫تت�ضاعف‪ ،‬تتعدد‪ ،‬لعبة مرايا تتفرق‪� ،‬صور تهوي مثل‬ ‫متولدة �ضمن حركة دائرية ال تنتهي (�أ�صوات‪ .‬حياة‬
‫�أ�سهم يف ليل الأزمنة‪ ،‬ليل �صور جنمية‪ ،‬نقطة التما�س‪،‬‬ ‫حتكي ذاتها‪ ،‬وترددها‪ .‬ت�ستدير الأحداث مثل حماجر‬
‫الك�رس‪�( ).‬ص‪. )61‬‬ ‫العمي‪ .‬ال �شيء ينتهي‪ ،‬ال �شيء يتوقف �أبدا‪�().‬ص‪.)38‬‬
‫والنتيجة �إطالق �صريورة حكائية دينامية تتزاحم‬ ‫ب�سبب هذه الدوامة الدائرية‪ ،‬غالبا ما تتعقد بنية‬
‫فيها احلكايات وتنتهك احل��دود‪ ،‬متقاطعة‪ ،‬مولدة‬ ‫الت�شعب �إىل حدود التيه وال�سدمي‪ ..‬يف الف�صل الأول‬
‫ف�ضاء بينيا‪ ،‬هو الف�ضاء الثالث بتعبري هومي‪ ،‬ف�ضاء‬ ‫يبد أ� احلكي ب�رسد حكاية عبد الكرمي حول مغامرة بناء‬
‫حدودي يتمف�صل فيما بني ال�شفرات والتخوم‪ ،‬ي�صبح‬ ‫مركب ‪ .‬ثم تت�شعب عن حكايته حكاية امللقب (�سبع‬
‫�سريورة من التفاعل الرمزي بني الهويات‪ ،‬والتواريخ‪،‬‬ ‫�صولدي)‪ .‬ثم يتولد عن هذا الت�شعب الأول ت�شعب ثان‬
‫بني الذاكرة واحلا�رض ‪ .‬وميزة هذا الف�ضاء الثالث‪،‬‬ ‫تنبثق عنه حكاية البحار (دون فريناندو)‪ ،‬وتت�شعب‬
‫أ�ن��ه يرتجم جغرافية تخييلية منفتحة على تالقح‬ ‫عن هذه احلكاية املنبثقة حكاية �أخرى هي حكاية‬
‫العوامل والهويات املختلطة‪ ،‬تر�سخها �صريورة الرحيل‬ ‫�أحمد الريفي‪ ،‬وت�ستمر مطرقة الت�شعب يف احلفر لتنبثق‬
‫والهجرة التي حتكم م�صائر ال�شخ�صيات‪ ،‬وهو ما‬ ‫حكاية مغايرة متاما‪ ،‬هي حكاية القرد �شيتا‪ ،‬ثم ينتقل‬
‫ي�سمح بتفادي جغرافيات الهويات القاتلة‪ ،‬لفائدة‬ ‫احلكي �إىل حكاية احلاج امل�شعوذ‪� .‬صريورة ت�شعبات‬
‫هويات خمتلطة وتواريخ متوا�شجة‪.‬‬ ‫حكائية م�صحوبة بانبثاقات وانتقاالت فجائية‬
‫هذا املجاز اخلا�ص ب�صور االختالف الثقايف جت�سده‬ ‫حتطم �إطار احلكاية وتفتح ال�رسد على منعطفات غري‬
‫يف الن�ص ���ص��ور اجل��م��اع��ات االن��زي��اح��ي��ة‪�،‬أي تلك‬ ‫متوقعة‪ ،‬والتواءات عر�ضية حتطم قانون اخلطية‪.‬‬
‫اجلماعات التي تت�شكل هويتها «بينيا»على احلدود‬ ‫هذه ال�صريورة املعقدة‪،‬هي ما ي�سوغ لنا القول ب�أن‬
‫ويف طرق الهجرة ويف زمنية الهجنة الثقافية‪ ،‬ولي�س‬ ‫املتاهة ال�رسدية يف الن�ص هي نتاج الت�شعب املفرط ‪.‬‬
‫‪124‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫درا�سات‪ ..‬درا�سات‪ ..‬درا�سات‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫هكذا ينق�ش الن�ص عند عمران املليح عالماته يف‬ ‫يف ب�ؤر الأ�صول الثابتة‪ ،‬تتكلم لغة خليطة‪( ،‬عبدالكرمي‬
‫الذاكرة ويف ال�سياق الثقايف عرب ت�شفري مزدوج‪ ،‬بحيث‬ ‫ك��ان يتكلم لغة خليطة) هي مزيج من اال�سبانية‬
‫ال يكتفي با�ستعادة املرجعيات‪ ،‬بل يتدخل عرب هذه‬ ‫ولهجة البحارة (�ص‪ ،)9‬تنتهك اللغة املعيار (اللكنة‪،‬‬
‫اللعبة املزدوجة‪ ،‬ليفر�ض �إ�سرتاتيجية ال�رسد ك�أ�سا�س‬ ‫النطق املعدي‪ ،‬العربية تنطق من خالل تلك الفرن�سية‬
‫ال�شتغال املتخيل‪ .‬وميزة هذه الإ�سرتاتيجية �أنها تقوم‬ ‫امل�ستعارة‪ ،‬تعريها بنربات ال تقلد‪،‬من العامل الآخر)‪.‬‬
‫على تقوي�ض خطية ال�رسد‪ ،‬حيث يبنى ال�رسد على خط‬ ‫هذه اجلماعات االنزياحية ت�شخ�صها �أي�ضا �صورة‬
‫املواجهة مع ذات ا�ستيهامية‪ ،‬تنت�شي بفعل التخريب‬ ‫املهاجر الغريب يف الن�ص‪ ،‬و�صور البحارة العابرين‬
‫باملعنى التفكيكي‪ ،‬حني جتعل من حمكي الهذيان‬ ‫للحدود‪ ،‬يف حياة م�ؤقتة على املوانئ‪ ،‬متحررة من‬
‫�إ�سرتاتيجية خطابية لتقوي�ض منطق احلكاية‪،‬‬ ‫ثقل الإقامة الدائمة الذي تفر�ضه حياة اال�ستقرار‪،‬‬
‫والتعتيم على �أ�صولها‪ .‬فالأمر يتعلق يف ن�ص « �أيالن‬ ‫وجغرافيات الهجنة الثقافية التي تتعاي�ش فيها‬
‫�أول ليل احلكي» ب�صريورة حكائية مه�شمة‪،‬تتدفق من‬ ‫ال�سالالت والأعراق (مغاربة‪ ،‬ا�سبانيون‪ ،‬برتغاليون‪،‬‬
‫ذاكرة هذيانية متفجرة بالأ�صداء والأ�صوات املرت�سبة‬ ‫فرن�سيون‪ ،‬م�سلمون‪ ،‬م�سيحيون‪ ،‬ي��ه��ود) ‪.‬هويات‬
‫من ما�ض بعيد ومن �أعماق جمهولة‪ .‬ولذلك ي�سم فعل‬ ‫منفتحة ومتفاعلة يف زمنية العي�ش امل�شرتك‬
‫الت�شوي�ش ذاكرة ال�رسد بانزياحاته وفجواته‪ .‬فما من‬ ‫والتواريخ امل�شرتكة‪ ،‬تتعاي�ش بطقو�سها وتراثاتها‬
‫حدث ي�ستعاد يف خطيته �أو �شفافيته‪ ،‬يف �سياق �صورة‬ ‫وثقافاتها و�أ�ساطريها (��شرج��ام��وج‪ ،‬غورديو�س‪،‬‬
‫الكاو�س املطلقة التي ت�شظي زمنية ال�رسد‪.‬‬ ‫مردو�شي‪ ،‬املجذوب‪ ،‬احلالج) ون�صو�صها الت�أ�سي�سية‬
‫(ال��ق��ر�آن‪ ،‬الن�ص املقد�س) وعاداتها و�أعيادها يف‬
‫الهوام�ش‬ ‫زمنية االختالف‪ ،‬حيث تخترب الذات الزمن كـ«حلظة‬
‫‪� - 1‬إدمون عمران املليح‪� :‬آيالن �أو ليل احلكي‪ ،‬ترجمة علي تيزلكاد‪،‬‬
‫مونادية» بتعبري فالرت بنيامني (منتزعة من م�سار‬
‫دار توبقال للن�رش‪.1987 ،‬‬
‫‪ -2‬نحيل هنا على مفهوم القراءة الطباقية عند �إدوار �سعيد‪ ،‬الثاقفة‬ ‫التاريخ املتجان�س‪ ،‬و«�إقامة ت�صور للزمن على �أنه‬
‫والإمربيالية‪ ،‬ترجمة كمال �أبو ديب‪ ،‬دار الآداب‪� ،1997،‬ص‪.101:‬‬ ‫زم��ن «الآن»(‪( ))7‬الأ�شخا�ص‪ ،‬الأ�شياء هم اللحظة‪،‬‬
‫‪ -3‬هومي‪.‬ك‪ .‬بابا‪ :‬موقع الثقافة‪ ،‬ترجمة ثائر ديب‪ ،‬املركز الثقايف‬ ‫وال�شيء غري هذا‪�( ).‬ص‪.)9‬‬
‫العربي‪� ،2006 ،‬ص‪.41:‬‬
‫‪� -4‬إدوارد �سعيد‪ :‬الثقافة والإمربيالية‪� ،‬ص‪.319:‬‬
‫بقوة االنتهاك الرمزي لفعل ال�رسد‪ ،‬تهاجر احلكاية‬
‫ن�ص املداخلة التي قدمت يف الندوة الدولية (�أدب الديا�سبورا املغربي)‬ ‫يف زمنية االختالف الثقايف‪ ،‬عابرة للحدود بني‬
‫�ضمن مهرجان فا�س املتو�سطي للكتاب ‪.2012/04/24‬‬ ‫الثقافات وامل��رج��ع��ي��ات‪ ،‬لتعي�ش حياة م��زدوج��ة‪،‬‬
‫‪Gyatri Chakravorty Sspivak: Can the Subaltern Speak, -5‬‬
‫ولتخترب انزياحات ا�ستطيقية وثقافية‪ ،‬من الذاكرة‬
‫‪in The postcolonial studiers reader,Routledge,1995, Lo -‬‬
‫‪.don and New York, p:25‬‬ ‫�إىل الكتابة‪ ،‬ومن الأ�صل �إىل الهجنة‪ ،‬ومن الإقامة �إىل‬
‫‪ -6‬مارجريت روز‪ :‬ما بعد احلداثة‪ ،‬ترجمة �أحمد ال�شامي‪ ،‬الهيئة‬ ‫الهجرة‪ .‬ويف �صريورة هذه االنزياحات عرب الثقافية‬
‫امل�رصية العامة للكتاب‪� ،1994،‬ص‪.103:‬‬ ‫تخلخل �سلطة املركز‪ ،‬وتتحرر من �سيا�سات الهويات‬
‫‪ -7‬هومي ‪ .‬ك‪ .‬بابا‪ :‬موقع الثقافة‪ ،‬ترجمة ثائر ديب‪ ،‬املركز الثقايف‬
‫العربي‪ ،‬الطبعة الأوىل‪� ،2006 ،‬ص‪.43:‬‬
‫القاتلة (يعرب الن�ص حيث كان يحاول حب�سه‪ ،‬انف�ساخ‬
‫التمركز‪ ،‬هجرة �إىل �أجواء �أخرى) (�ص‪)46‬‬

‫‪125‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫ملف الرواية اليمنية‬

‫من �أعمال الفنانة �آمنة الن�صريي ‪ -‬اليمن‬


‫‪ h‬املحــــــــاور‪:‬‬
‫‪ n‬التجارب وال�شهادات‪:‬‬ ‫‪ n‬الدرا�سات‪:‬‬
‫‪� -‬أحمد زين ‪ -‬علي املقري ‪ -‬حبيب ال�رسوري ‪ -‬وجدي‬
‫الأهدل ‪ -‬نادية الكوكباين ‪ -‬الغربي عمران ‪ -‬ملياء الإرياين‬ ‫راه ْيم �أبو َطا ِلب‪.‬‬ ‫الي َم ِن َية و�إ�ش َكا ِليا ِت َها ‪ْ � :‬إب ِ‬
‫الر َو َاية َ‬
‫‪ّ -‬‬
‫‪� -‬صالح باعامر ‪ -‬رمزية عبا�س‪.‬‬ ‫‪ -‬م�سار الرواية اليمنية احلديثة‪ :‬حممد احلوثي‪.‬‬
‫‪ n‬ق�صة روائي‪:‬‬ ‫‪ n‬قراءات وحتليل‪:‬‬
‫‪ -‬حممد عبدالويل «الق�صة الكاملة لأ�شهر روائي ميني»‪.‬‬
‫«م ْ�ص َحف � ْأح َم َر» جَت رِت ُح الأُ�سطُ َو َرة‪َ :‬ع ْب َد ا َلعزِي ِز املَقا ِلح‪.‬‬ ‫‪ُ -‬‬
‫‪ n‬الببلوجرافيا‪:‬‬
‫‪« -‬بالد بال �سماء»‪ :‬مفارقات التعدد �إبراهيم الهمداين‪.‬‬
‫‪ -‬ببلوجرافيا بالإ�صدارات الروائية اليمنية‪.‬‬
‫‪« -‬حرب اخل�شب» الثنائيات املتناق�ضة‪ :‬نبيلة خبزان‪.‬‬
‫‪j‬‬
‫مللَفَ و�شارك فيه‪� :‬سامي ال�شاطبي‬
‫� َأع ّد ا ِ‬

‫‪ j‬كاتب وروائي من اليمن‬


‫‪126‬‬
‫حول ال ّر َوا َية ال َي َم ِن َية‬
‫‪ 86‬عَاماً مِ ن ال ِكتَا َبةِ‪..‬وال ُع ْز َل ِة‬
‫فماذا عن الرواية اليمنية‪ ..‬تلك‬ ‫من دون معركة ولدت �أول رواية مينية‬
‫املجهولة خارجي ًا �إ ّال من ا�سماء قليلة‪..‬‬ ‫ت�ستند جدي ًا ملعنى ومفهوم �أوروبا‬
‫املعروفة حملي ًا وامل�شهود بقدرتها على‬ ‫احلديث للأدب يف عام ‪1927‬م‪ ..‬قد‬
‫مواكبة تطلعات ال�شارع اليمني و�آماله‬ ‫تكون املفاج�أة مهمة بالن�سبة للقارئ‬
‫و�أحالمه؟‪.‬‬ ‫عدة من‬‫العربي‪ ،‬لأنها حتمل دالالت ّ‬
‫يتناول هذا امللف الذي �شارك يف �إعداد‬ ‫�أبرزها �أن اليمن رائدة من رواد الرواية‪،‬‬
‫مواده نخبة من ابرز النقاد والدار�سني‬ ‫لي�س يف اجلزيرة العربية فح�سب‪ ،‬بل يف‬
‫يف اليمن‪ ..‬تاريخ الرواية اليمنية‬ ‫البالد العربية‪ ،‬ولكن ال يزيد من هم على‬
‫وحمطاتها ومراحلها ودرا�سات‬ ‫اطالع بتلك املعلومة عن �أ�صابع اليد‬
‫عن �أبرز الروايات احلديثة واملر�أة‬ ‫الواحدة!!‬
‫الروائية‪ ..‬و�أي�ض ًا يحمل الإجابة ل�س�ؤال‬ ‫‪jjj‬‬

‫عن جتربة الروائيني والروائيات يف‬ ‫ي�صادف هذا العام ‪2013‬م مرور (‪)86‬‬
‫كتابة الرواية‪ ،‬وارحتال يف ق�صة حياة‬ ‫عام ًا على �إ�صدار �أول نتاج �رسدي‬
‫الروائي اليمني ال�شهري حممد عبد الويل‬ ‫يتمثل يف رواية «فتاة قاروت» عام‬
‫بني ثالث دول وتفا�صيل مل تن�رش‬ ‫‪1927‬م للكاتب �أحمد ال�سقاف‪ ...‬وخالل‬
‫�سابق ًا عن حياته ورواياته‪ ،‬و�أخرياً‬ ‫الـ‪ 86‬عام ًا املا�ضية �صدرت العديد من‬
‫ببلوجرافيا بالإ�صدارات الروائية‪� ،‬إىل‬ ‫الروايات اليمنية حتى تعدت �سقف‬
‫ت�ضاري�س و�أروقة هذا امللف‪:‬‬ ‫الـ(‪ )136‬رواية‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫ال ّت َب ِا�ش ُري الأَ ْو َ‬
‫ىل‬
‫زَخَ ُم ال ّروَايَة ال َي َم ِنيَة و�إ�شكَالِياتهَا‬
‫راه ْيم �أبو َط ِالب‬
‫�إ ْب ِ‬
‫�شاعر واكادميي من اليمن‬

‫تت�صدر الرواية يف امل�شهد العربي اهتمامات الك َّتاب والباحثني ملا لها من ح�ضور‬
‫يتفق مع تغريات املجتمع العربي وما مير به من حتوالت كربى على امل�ستوى‬
‫ال�سيا�سي والثقايف واليومي‪ ،‬وتغدو الرواية �أكرث الأ�شكال الإبداعية مقدر ًة على‬
‫ذلك الر�صد واملتابعة والتمثيل ملا لها من �إمكانات وا�سعة يف ا�ستيعاب العنا�رص‬
‫ال�رسدية والر�ؤى الفكرية ومرونة التعامل مع اللغة بكافة م�ستوياتها الداللية‬
‫زخم حادث ومتحقق ير�صده‬ ‫واملعجمية وال�شعرية‪ ،‬ومن هنا ف�إن احلديث عن ٍ‬
‫هذا اجلن�س الأدبي يف ركن من �أركان الوطن العربي‪ ،‬وهو اليمن‪ ،‬وما يعتمل ذلك‬
‫الزخم من �إ�شكاالت و�أ�سئلة جوهرية وعميقة هو ما ت�سعى �إىل تقدميه هذه القراءة‬
‫املوجزة وال�رسيعة‪ ،‬ولك َّنها ت�سعى �إىل التكثيف والإملاح �أكرث من حر�صها على‬
‫التف�صيل والإطناب ملا قد يقت�ضيه املقام ويدل عليه هذا العر�ض‪..‬‬

‫‪ u‬جاءت الروايات ذات امل�ضمون العاطفي عر�ضاً فـي اهتمام‬


‫الروائي اليمني‪..‬‬
‫‪ u‬عاجلت رواية «لقمان» ‪1939‬م احلياة الربجوازية لطبقة‬
‫التجار فـي عدن فيما رواية «يوميات مرب�شت» ‪1948‬م لوحة‬
‫�صادقة حلياة عدن فرتة االربعينيات‪..‬‬

‫‪128‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والو�ضوح‪.‬‬ ‫ا�ستقرت الر�ؤية الفنية للرواية اليمنية وتثبتت‬


‫ثم ت�أتي رواية « يوميات مرب�شت «(‪1948 ،)2‬م‬ ‫كجن�س �أدبي قائم فرتة ال�سبعينيات والثمانينيات‪.‬‬
‫لعبد اهلل حممد الطيب �أر�سالن‪ ،‬وقد طبعت يف عدن‬ ‫وذلك لأن احلديث عن اخلطاب الروائي اليمني كجن�س‬
‫يف مطبعة �صحيفة «فتاة اجلزيرة»(‪ )3‬ورواية‬ ‫�أدبي جديد ميتد من حيث الزمان �إىل ‪ 73‬عام ًا‪ ،‬هو‬
‫«يوميات مرب�شت» لوحة �صادقة للحياة التي‬ ‫عمر الرواية اليمنية حتى يوم النا�س هذا‪ ،‬حيث ُيعد‬
‫عا�شـتها عدن يف فرتة الأربعينيات‪ ،‬وهي فرتة احلرب‬ ‫عام ‪1939‬م هو عام ميالد الرواية اليمنية‪ ،‬وهو‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬وما �سبقتها من حالة متدهورة‬ ‫العام الذي �صدرت فيه رواية «�سعيد»(‪ )1‬للمثقف‬
‫لالقت�صاد العاملي ب�شكل عام‪ ،‬ولعدن حتت ال�سيطرة‬ ‫اليمني الرائد «حممد علي لقمان»‪ ،‬وهي �أول رواية‬
‫الربيطانية ب�شكل خا�ص‪ ،‬هذه الرواية ت�صور يف‬ ‫مينية ت�صدر يف عدن عن املطبعة العربية‪ .‬ثم‬
‫مو�ضوعها حياة عامل من الطبقة املتو�سطة ت�أخذه‬ ‫يتتابع وينمو ر�صيد الرواية اليمنية ليبلغ من حيث‬
‫موجة ال�سعي يف تيار �أثرياء احلرب ليتحول �إىل‬ ‫عدد املدونة الرواية قرابة الـ ‪ 150‬رواية تقريب ًا‪،‬‬
‫«مرب�شت» والرب�شته م�صطلح يعني التهريب(‪.)4‬‬ ‫هي جممل ما كتب يف هذا النوع الأدبي املهم‪،‬‬
‫و ُتعر�ض الرواية على �شكل مذكرات يومية (تبد�أ من‬ ‫وللتدليل على ذلك الزخم الوا�سع �سنقف عند ر�صد‬
‫‪ 1‬يناير وتنتهي بـ �أول يوليو من ال�سنة الثانية)‪،‬‬ ‫مرت بها الرواية عرب تاريخها يف‬ ‫للمراحل التي َّ‬
‫واملدة الزمنية بني �أول رواية وثاين رواية تبلغ ت�سع‬ ‫اجتهاد حتقيبها الزمني وكذلك الوقوف على �أبرز‬
‫�سنوات‪ ،‬ثم ننتظر �أحد ع�رش عام ًا �أخرى حتى ت�أتي‬ ‫م�ضامينها يف ت�صنيف مو�ضوعاتي عام ال يعتمد‬
‫رواية «ح�صان العربة»(‪1959 )5‬م لعلي حممد‬ ‫�أي معيار �سوى املو�ضوع يف ذاته‪.‬‬
‫�أو ً‬
‫ال‪ :‬حمطات م�سرية اخلطاب الروائي اليمني‪:‬‬
‫عند النظر يف م�سرية الرواية اليمنية ميكن الوقوف‬
‫عند (‪ )4‬حمطات هي‪:‬‬
‫الريادة‪:‬‬
‫وهي حمطة البدايات مبا حتمله من حماوالت‬
‫ٍ‬
‫ريادة وح�ضور‬ ‫وق�صور من ناحية‪ ،‬وما ت�سجله من‬
‫من ناحيـة �أخرى‪ ،‬وتتمثل هذه الريادة يف رواية‬
‫«�سعيد» ‪1939‬م‪ ،‬ملحمد علي لقمان‪ ،‬وهي رواية‬
‫تعالج يف مو�ضوعها احلياة الربجوازية يف تلك‬
‫املرحلة لطبقة التجار الذين ميثلهم والد �سعيد‪،‬‬
‫وي�صور حياتهم ومعارفهم‪ ،‬و�سعيد يبدو يف الرواية‬
‫كبطل قومي منفتح على ق�ضايا جمتمعه اخلا�صة‬
‫وق�ضايا العامل الإ�سالمي بوجه عام‪ ،‬ومما ي�ؤخذ‬
‫على هذه الرواية الرائدة طرحها الكثري من ال�شعارات‬
‫بخطابية �صارخة يف لغتها وبنائها الفني �ش�أن �أي‬
‫بداية مل ي�ستقر بنا�ؤها وجتربتها على وجه الدقة‬
‫‪129‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اهتمام الك َّتاب‪ ،‬ولكنها متثل مرحلة مهمة يف طريق‬ ‫عبده‪ ،‬وهي ُمدد زمنية متفاوتة – كما تالحظ –‬
‫الت�أ�سي�س لهذا الفن الروائي‪ ،‬والذي تبدو خطوة حممد‬ ‫ـقد ُم هذا الفن على فتور وتباعد‪ ،‬وتعالج من حيث‬
‫ُت ِّ‬
‫عبد الويل وجتربته الروائية هي الأكرث قدرة ومت ّكن ًا‬ ‫امل�ضمون ق�ضايا �إ�صالحية‪ ،‬واجتماعية عالية‬
‫يف هذه املرحلة ملا ميتلكه هذا القا�ص من �أدوات‬ ‫النربة من حيث املبا�رشة وال�سطحية‪.‬‬
‫خا�صة وموهبة حقيقية جعلته يعالج مو�ضوع ًا‬
‫الت�أ�سي�س‪:‬‬
‫اجتماعيا يف غاية اخلطورة يف حياة اليمني هو‬
‫مو�ضوع الهجرة واملو َّلدين – الذين يكونون من‬ ‫تبد أ� هذه املحطة زمني ًا مع بداية ‪1960‬م‪ ،‬ومتتد‬
‫�أب ميني و�أم حب�شية حتديداً ‪ -‬يف روايته « ميوتون‬ ‫حتى �أوائل ال�سبعينيات‪ ،‬وهي حمطة مهمة جداً‬
‫غرباء «(‪1971،)11‬م‪ ،‬ويقدم روايته يف �شكل فني‬ ‫مر‬
‫على امل�ستوى الوطني‪ ،‬ملا احتوته من �أحداث َّ‬
‫حمكم ور�صني‪ ،‬ميثل بالفعل ال�شكل وامل�ستوى الأكرث‬ ‫بها ال�شعب اليمني �أبرزها قيام الثورة املجيدة‬
‫ن�ضـجا وت�أ�سي�س ًا للخطاب الروائي يف هذه املرحلة‪.‬‬ ‫يف ال�شمال ‪1962‬م‪ ،‬واال�ستقالل عن امل�ستعمر‬
‫يف اجلنوب ‪1967‬م‪ ،‬وتثبيت قواعد ولبنات‬
‫التجني�س‪:‬‬ ‫اجلمهورية‪ ،‬وهذه املحطة على م�ستوى اخلطاب‬
‫امتدت خالل الفرتة(‪1970‬م‪1980-‬م) حيث‬ ‫الروائي كان فيها حماولة الت�أ�سي�س لهذا الفن‬
‫ا�ستقرت فيها الر�ؤية الفنية – نوعا ما – وثبتت‬ ‫الأدبي املهم‪ ،‬و�إن كانت ثمرة ذلك مل ت� َؤت ب�شكل‬
‫كجن�س �أدبي قائم بذاته يف وعي ك ّتاب املرحلة‬ ‫وا�ضح �إال يف ال�سبعينيات‪ .‬لكن تظل حماولة حممد‬
‫القا�صني من هذا الفن الروائي‬
‫ّ‬ ‫وممار�ستهم‪ ،‬ومتكن‬ ‫حممود الزبريي (�أبو الأحرار‪� ،‬شـاعر الثورة الكبري‪،‬‬
‫من خالل تكرار التجربة‪ ،‬والقراءات‪ ،‬واملعارف‬ ‫تويف ‪1965‬م) يف روايته «م�أ�ساة واق الواق»(‪)6‬‬
‫العامة‪ ،‬واملتابعة‪ ،‬واالنفتاح على الرواية العربية‬ ‫‪1960‬م ذات �أثر وا�ضح يف �إيجاد فن روائي‪ ،‬و�إن‬
‫والعاملية‪ ،‬وظهرت �أ�سماء �أخل�صت لهذا الفن‬ ‫كان ال يزال مت�أثراً – �إىل حد كـبري – باملوروث‬
‫وطورته نذكر من ذلك مثال‪ :‬حممد عبدالويل‪ ،‬عبد‬ ‫العربي الديني‪ ،‬وبخا�صة ق�صة الإ�رساء واملعراج‪،‬‬
‫الكرمي املرت�ضى‪ ،‬حممد حنيرب‪ ،‬ح�سني م�سيبلي‪ ،‬عبد‬ ‫ور�سالة الغفران للمعري‪ ،‬وحمم ًال بالق�ضية الوطنية‬
‫الوهاب ال�ضوراين‪ ،‬ح�سني �سامل با�صديق‪ ،‬حممود‬ ‫ورموزها وم�شكالتها‪ ،‬ويربز فيها امل�ضمون‬
‫�صغريي‪ ،‬عبد اهلل �سامل باوزير‪ ،‬زيد مطيع دماج‬ ‫ال�سيا�سي بنربة �صارخة يغلب �أحيـان ًا كثرية على‬
‫(وروايته الرهينة منوذج نا�ضج للرواية اليمنية‪،‬‬ ‫الفن والبناء الروائي لكنها تظل حماولة للت�أ�سي�س‪.‬‬
‫وقد قدمت �ضمن �أف�ضل مائة رواية عربية‪ ،‬ون�رشت‬ ‫تتبعها رواية «مذكرات عامل»(‪1966 )7‬م لعلي‬
‫يف م�رشوع «كتاب يف جريدة» الذي �أ�رشفت عليه‬ ‫حممد عبده مبا حتمله هذه الرواية من م�ضمون‬
‫اليون�سكو)‪ ،‬حممد مثنى‪� ،‬سلوى ال�رصحي‪ ،‬عبد‬ ‫الطبقة العاملة وهـمومها‪ ،‬وا�ستغالل الأغنياء‬
‫املجيد قا�ضي‪ ،‬يحيى على الإرياين‪� ،‬سعيد عولقي‬ ‫جلهود الكادحني‪ ،‬وي�أتي امل�ضمون االجتماعي �أكرث‬
‫وغريهم‪ ،‬ا�ستمر بع�ضهم وتوقف البع�ض الآخر مما‬ ‫و�ضوح ًا يف روايتي‪ « :‬القات يقـتلنا «(‪1969 )8‬م‪،‬‬
‫خ�رس ب�سببه امل�شهد الروائي �أقالم ًا كانت قد بد�أت‬ ‫و»�ضحية اجل�شع «(‪1970 )9‬م لرمزية عبا�س‬
‫يف الطريق ال�صحيح فني ًا‪.‬‬ ‫الإرياين‪ ،‬ورواية «م�صارعة املوت»(‪1970)10‬م‬
‫لعبد الرحيم ال�سبالين‪ ،‬وتبدو فيها �صورة املجتمع‬
‫التجديد‪:‬‬ ‫وق�ضايا املر�أة امل�ستلبة‪ ،‬والزواج غري املتكافئ‪،‬‬
‫وهي حمطة الت�سعينيات وما بعدها حتى نهاية‬ ‫والث�أر وغريها من امل�ضامني �أغلب من حيث‬
‫‪130‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لدى كتاب ميتد ح�ضورهم ‪ -‬عي�ش ًا وكتاب ًة – �إىل‬ ‫العقد الأول من القرن احلادي والع�رشين‪ ،‬و�إن‬
‫�أجيال �سابقة لكن ق�ص�صهم مل تخرج �إال يف هذه‬ ‫كان التجديد‪ -‬يف هذه املحطة – حم�سوب ًا‬
‫املرحلة‪.‬‬ ‫وحمدوداً يف بع�ض حماوالت القا�صني ال�شباب‪،‬‬
‫ومل يتحول �إىل ظاهرة غالبة – حتى نكون �أكرث‬
‫ثاني ًا‪ :‬امل�ضامني العامة للخطاب الروائي‪:‬‬
‫دقة يف هذا الت�صنيف‪ ،‬وذلك فيما تربزه بع�ض‬
‫امل�ضامني الإ�صالحية‪:‬‬ ‫كتابات نبيلة الزبري يف روايتها «�إنه ج�سدي»(‪)12‬‬
‫ذات �أداء مبا�رش ونربة خطابية عالية كما يف‬ ‫‪2000‬م‪ ،‬ووجـدي الأهدل يف «قوارب جبلية‬
‫رواية»�سعيد» للقمان‪ ،‬ورواية «م�صارعة املوت»‬ ‫«(‪ ،)13‬و«الوم�ضات الأخرية يف �سب�أ»(‪)14‬‬
‫لل�سبالين‪ ،‬ورواية «�ضحية اجل�شع» لرمزية عبا�س‬ ‫‪2002‬م‪ ،‬و«فيل�سوف الكرنتينة»‪2007‬م‪ ،‬و«بالد‬
‫الإرياين – كما �سبقت الإ�شارة‪.‬‬ ‫بال �سماء»‪2008،‬م‪ ،‬وحبيب عبد الرب �رسوري‬
‫يف رواياته‪« :‬امللكة املغدورة»(‪1999)15‬م‪،‬‬
‫امل�ضمون ال�سيا�سي‬ ‫و«دمالن»(‪2002)16‬م‪ ،‬و«طائر اخلراب» ‪2005‬م‪،‬‬
‫تزامن بع�ضـه مع حركة التحرر الوطني من الإمامة‬ ‫وهند هيثم يف « ملوك ل�سماء الأحالم والأماين‬
‫يف ال�شمال‪ ،‬كما يف رواية م�أ�ساة واق الواق ‪1960‬م‬ ‫«(‪ )17‬و«حرب اخل�شب»(‪2003 )18‬م‪ ،‬وعبد النا�رص‬
‫للزبريي‪� ،‬أو تلك الروايات التي كتبت فيما بعد لكنها‬ ‫جملي يف «رجال الثلج»(‪2000 )19‬م‪ ،‬و�سامي‬
‫تعالج نف�س امل�ضمون ال�سيا�سي كما يف رواية‬ ‫ال�شاطبي يف «كائنات خربة»(‪ ،)20‬و«للأمل موا�سم‬
‫«�صنعاء مدينة مفتوحة»(‪1978 )22‬م ملحمد‬ ‫�أخرى»(‪2003 )21‬م‪ ،‬وكذلك �أعمال �أحمد زين يف‬
‫عبد الويل‪ ،‬و« قرية البـتول «(‪1979 )23‬م ملحمـد‬ ‫«ت�صحيح و�ضع»‪2004‬م‪ ،‬و«قهوة �أمريكية»‪ ،‬ونادية‬
‫حنيـرب‪ ،‬و«الرهينة»(‪1984 )24‬م لزيد مطيع دماج‪،‬‬ ‫«حب لي�س �إال»‪ ،‬و«عقيالت»‪ ،‬وب�سام‬
‫الكوكباين‪ ،‬يف ٌّ‬
‫ورواية «زهرة النب»(‪1998 )25‬م لعلي حممد‬ ‫�شم�س الدين‪ ،‬يف «الدائرة املقد�سة» و«هفوة»‪ ،‬وعلي‬
‫زيد‪ ،‬ورواية «�صنعاء الوجه الآخر»(‪ )26‬لإبراهيم‬ ‫املقري‪ ،‬يف «طعم �أ�سود‪ ..‬رائحة �سوداء»‪ ،‬و«اليهودي‬
‫�إ�سحاق‪ ،‬وكذلك ما كان منها يعالج ق�ضية اال�ستقالل‬ ‫احلايل»‪ ،‬وحممد الغربي عمران يف «�صحف �أحمر»‪،‬‬
‫من اال�ستعمار الربيطاين و�سطوة ال�سالطني يف‬ ‫و«ظلمة يائيل»‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫جنوب اليمن‪ ،‬كما يف رواية «مرتفعات ردفان»(‪)27‬‬ ‫وجاءت حماوالت التجديد هذه على م�ستوى اللغة‪،‬‬
‫‪1976‬م حل�سني �صالح م�سيبلي‪ ،‬ورواية «طريق‬ ‫واالن�شغاالت بال�شكل وامل�ضمون يف حماولة‬
‫الغيوم»(‪1977 )28‬م حل�سني �سامل با�صديق‬ ‫اخلروج عن الرتاتبية املوروثة من بداية وو�سط‬
‫وغريها‪ ،‬وتظهر املرحلة الفا�صلة يف حياة اليمنيني‬ ‫ونهاية‪ ،‬ومن عقدة وحل‪ ...‬الخ من تلك التقنيات‪،‬‬
‫�أثناء ح�صار ال�سبعني يوم ًا على �صنعاء يف عدد من‬ ‫وت�أتي حماوالتهم يف التجريب على ال�رسد والر�ؤيا‬
‫الروايات‪ ،‬ولكنها ت�أخذ طابع ًا مركزاً وجوهري ًا يف‬ ‫والت�شكيل اللغوي لهذا اجلن�س الأدبي العميق‪ .‬ومع‬
‫رواية «نهايات قمحية»(‪2003 )29‬م ملحمد عبد‬ ‫ذلك فثمة كتابات كثرية يف هذه املحطة متعلقة‬
‫الوكيل جازم‪ ،‬وي�أتي الرتميز والفن يف عناقهما‬ ‫باملحطة ال�سابقة «حمطة التجني�س» �إن مل نقل‬
‫حول املو�ضوع ال�سيا�سي يف �أعمال الروائي وجدي‬ ‫بردها �إىل حمطات تقليدية موغلة‪ ،‬من خالل عدم‬
‫الأهدل‪ ،‬كما راوية «قوارب جبلية»(‪2002 )30‬م‬ ‫تطوير البع�ض لكتاباتهم و�آلياتهم‪ ،‬وجنوح البع�ض‬
‫الرواية التي ُمنعت وجعلته مطارداً خارج الوطن‬ ‫الأخر �إىل الكتابة املال�صقة للواقع مال�صقة مر�آوية‬
‫لفرتة‪ ،‬ورواية «حمار بني الأغاين»(‪2004 )31‬م‪،‬‬ ‫بعيدة عن الفن‪� ،‬أو اللجوء �إىل الكتابة ال�سريذاتية‬
‫‪131‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وزهر»(‪1988 )40‬م ليحيى علي الإرياين تبني‬ ‫ورواية «فيل�سوف الكرنتينة»(‪2007 ،)32‬م‪،‬‬
‫�رصاع القيم بني املدينة والريف‪ ،‬كما يتجلى فيها‬ ‫ورواية «بالد بال �سماء»(‪2008 )33‬م‪ ،‬وجميعها‬
‫�صعود مناذج من الطبقة الو�سطى وتبلورها‪ ،‬ويف‬ ‫تتعامل بذكاء �شديد‪ ،‬وبتقنيات عالية مع املو�ضوع‬
‫«هموم اجلد قو�سم»(‪1988 )41‬م لأحمد مثنى‬ ‫ال�سيا�سي مبا ي�صل به �إىل الرمز ولكن لي�س على‬
‫�رصاع القدمي واجلديد وبيان الثوابت اجلميلة لدى‬ ‫ح�ساب الفنية التي تبدو عالي ًة يف كتاباته‪.‬‬
‫املجتمع التهامي حتديداً‪ ،‬ويف «ال�صم�صام»(‪)42‬‬
‫امل�ضمون االجتماعي‬
‫‪1993‬م ل�صالح باعامر تت�ضح خ�صو�صية‬
‫جمتمع ال�صيادين وهمومهم و�أفكارهم‪ ،‬ويف‬ ‫عاجلت فرتات خمتلفة من الزمن يف اليمن احلديث‬
‫روايات‪�« :‬أحالم‪ ..‬نبيلة»(‪1997 )43‬م‪ ،‬و«�أركنها‬ ‫وق�ضايا �أبنائه وهمومهم‪ ،‬وقد ظهرت هذه الروايات‬
‫الفقيه»(‪1998 )44‬م‪ ،‬و«طيف والية»(‪1998 )45‬م‬ ‫حني ا�ستقرت الق�ضية الوطنية وثبتت قواعد الدولة‬
‫لعزيزة عبد اهلل معاجلات مل�شاكل املر�أة وعذاباتها‬ ‫احلديثة‪ ،‬وبد�أ الإن�سان اليمني يبني حياته على‬
‫وهي تبدو ك�ضحية للحاجة واملجتمع القا�سي يف‬ ‫طريق اال�ستقرار وال�سالم‪ ،‬ومن ذلك مث ًال عدد من‬
‫الأوىل‪ ،‬وللجهل والتغرير بها من الرجل يف الثانية‪،‬‬ ‫الروايات التي تهتم ب�رشائح معينة من املجتمع‬
‫وت�أتي رواية «جمعة»(‪ )46‬ليا�سني �سعيد نعمان‪،‬‬ ‫وتلتفت �إىل ق�ضاياهم امل�صريية كرواية «جممع‬
‫التي تتكون من ف�صلني اثنني حتكي ق�صة امر�أة‬ ‫ال�شحاذين»(‪1976 )34‬م لعبد الوهاب ال�ضوراين‪،‬‬
‫ا�سمها هو عنوان الرواية يف واقع اجتماعي ي�سوده‬ ‫وق�ضية الطبقة املثقفة‪ ،‬والبحث عن فر�ص العمل‬
‫التخلف والنظرة الدونية للمر�أة‪.‬‬ ‫كـرواية «�سفيـنة نوح»(‪1981)35‬م لعبد اهلل باوزير‪،‬‬
‫وهموم جمتمع القرية كرواية «الإبحار على منت‬
‫امل�ضمون التاريخي‬ ‫ح�سناء»(‪1984 )36‬م حل�سني با�صديق‪ ،‬وق�ضية‬
‫للرواية ذات امل�ضمون التاريخي ح�ضور �أي�ض ًا يف‬ ‫الهجرة وغربة اليمني على اختالف الزمن كروايات‪:‬‬
‫ثالث روايات هي‪« :‬ليلة ظهور �أ�سعد الكامل»(‪)47‬‬ ‫«ميوتون غرباء» ملحمد عبد الويل‪(-،‬وتعالج‬
‫‪1992‬م لأحمد قائد بركات‪( ،‬حوارية بني الراوي‬ ‫الغربة يف احلب�شة‪ ،‬وق�ضية املولدين يف فرتة ما‬
‫و�أحد ملوك ِحمري القدماء بوحي من املكان حني‬ ‫قبل الثورة‪ ،‬ومتثل عند جيل ال�شباب هذه الق�ضية‬
‫يزور الكاتب م�أرب‪ ،‬ويقف �أمام �سدها ال�شهري‪،‬‬ ‫ملمح ًا ملح ًا يتناولها �سامي ال�شاطبي بر�ؤية نف�سية‬
‫وفيها ربط بني املا�ضي واحلا�رض)‪ ،‬ورواية «ر�ؤيا‬ ‫تركز على الداخل لل�شخ�صية واملحيط االجتماعي‬
‫�شمر يرع�ش»(‪1997 )48‬م لأنور حممد خالد‬ ‫يف روايته «مذكرات مو َّلد طيب» ‪2006‬م‪)37(،‬‬
‫(وهي الرواية التاريخية التي تعالج تلك الفرتة‬ ‫ورواية «نحو ال�شم�س �رشق ًا»(‪1998 )38‬م ليحيى‬
‫ال�سحـيقة من تاريخ اليمن)‪ ،‬ومثلها رواية «طريق‬ ‫علي الإرياين (وتعالج الغربة ال�سيا�سية مع ق�ضايا‬
‫البخور»( ‪ )49‬ملنري طالل‪( ،‬وهي تتحدث عن احلملة‬ ‫حديثة ملا بعد الوحدة)‪ ،‬ورواية «رجال الثلج»‬
‫الرومانية على اليمن)‪ ،‬ورواية «دار ال�سلطنة»(‪)50‬‬ ‫‪2000‬م لعبد النا�رص جملي (وتعالج غربة اليمني‬
‫‪1998‬م لرمزية عبا�س الإرياين‪( ،‬وهي تقدم تاريخ‬ ‫احلديثة يف �أمريكا من وجهة نظر عملية‪ ،‬وجتربة‬
‫ال�سيدة بنت �أحمد ال�صليحي ملكة اليمن يف التاريخ‬ ‫كاتبها الفعلية)‪.‬‬
‫الو�سيط و�إن كانت تخاطب النا�شئة)‪ ،‬وت�أتي روايات‬ ‫و�أما رواية «�شارع ال�شاحنات»(‪1985 )39‬م‬
‫متعلقة بتاريخ اليمن يف حقباته القريبة‪ ،‬وحياة‬ ‫ملحمد �سعيد �سيف فهي ت�صور �ضغوط املدينة‬
‫النا�س فيه يف روايات عبد اهلل عبا�س الإرياين الذي‬ ‫على املثقف وجفافها يف وجهه‪ ،‬ورواية «ركام‬
‫‪132‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املجتمع وتغرياته‪ ،‬وي�صور حركة الفرد وعامله‬ ‫ي�شتغل على تيمة �إبراز التاريخ يف الفن والفن يف‬
‫الداخلي واخلارجي يف �إطار ذلك املجتمع املتحرك‪،‬‬ ‫التاريخ كما يف رواية «ال�صعود �إىل نافع»(‪)51‬‬
‫وبنظرة ببليوجرافية(‪�)55‬رسيعة للإنتاج الروائي‬ ‫‪2007‬م املعربة عن مرحلة حكم الإمام ون�ضال‬
‫خالل هذه الفرتة يت�أكد للناظر ما نذهب �إليه ب�أن‬ ‫الأحرار‪ ،‬ورواية «الغرم»(‪2008 )52‬م‪ ،‬ورواية‬
‫الرواية تعي�ش يف الت�سعينيات وما تالها حتى‬ ‫«مائة عام من الفو�ضى»(‪2009 )53‬م‪ ،‬ورواية‬
‫اليوم �أخ�صب ع�صورها من حيث الكم والكيف مع ًا‪،‬‬ ‫«�سم الأتراك(‪2012 »)54‬م‪ ،‬والتي يق�صد بال�سم‬
‫ونختلف مع ما يذهب �إليه بع�ض الدار�سني(‪ )56‬ب�أن‬ ‫فيها (اجلنبية) اخلنجر اليماين الذي كان �سالح‬
‫الرواية يف هذه الفرتة نائمة بالقيا�س �إىل جن�س‬ ‫اليمنيني يف مواجهة هذه الدولة الكربى ويف ق�ض‬
‫�أدبي �آخر – له خ�صو�صيته ن�رشاً و�إبداعا من حيث‬ ‫م�ضاجعها عرب تواجدها القلق يف اليمن والذي‬
‫ال�سهولة والقدرة على الن�رش ال�رسيع والتعبري عن‬ ‫تناولته الرواية عرب �شخ�صيات الوالة وتناوبهم‬
‫روح الفرد �أكرث من روح املجتمع – ونعني به الق�صة‬ ‫يف �إدارة اليمن واحلمالت التي و�صلت �إليها وهي‬
‫الق�صرية‪ ،‬والدليل على ما نذهب �إليه يت�ضح يف �أن‬ ‫وثيقة تاريخية مهمة حتتوي على قدر من الر�صد‬
‫�أكرث من ن�صف الإنتاج الروائي اليمني خالل عقد‬ ‫التاريخي والأحداث املعتمدة على �أر�ضية تاريخية‬
‫الت�سعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة قد بلغ‬ ‫واقعية‪.‬‬
‫�أكرث من (‪ )115‬رواية‪ ،‬وهذا العدد ي�سجل ك ّفة راجحة‬
‫مت �إنتاجه خالل ن�صف قرن �أو يزيد‪ .‬وفيها �إىل‬ ‫امل�ضمون العاطفي‬
‫ملا ّ‬
‫جوار ا�ستمرار امل�ضامني ال�سابقة من اجتماعية‬ ‫جاءت الروايات ذات امل�ضمون العاطفي عر�ض ًا يف‬
‫وعاطفية وغريها –كما �أ�سلفنا‪ -‬يربز م�ضمون مهم‬ ‫اهتمام الروائي اليمني‪ ،‬وقد نلمح الكثري من تلك‬
‫يتعلق بالتعاي�ش بني الأديان والثقافات‪ ،‬و�إعادة‬ ‫امل�ضامني العاطفية تدور يف بناء عدد من الروايات‪،‬‬
‫النظر يف قراءة التاريخ وا�ستنطاق ق�ضاياه الأكرث‬ ‫لكن نادراً ما جند رواي ًة حتمل ذلك امل�ضمون عن‬
‫غرائبية كما يف رواية‪« :‬اليهودي احلايل»(‪)57‬‬ ‫كر ُ�س من �أجله بحيث يقوم بنا�ؤها وفكرتها‬
‫ق�صد �أو ُت ّ‬
‫‪2009‬م‪ -‬احلائزة على جائزة البوكر العربية‪-‬‬ ‫وغايتها وقف ًا على امل�ضمون العاطفي‪ ،‬ولعل ذلك‬
‫لعلي املقري‪ ،‬ورواية «هفوة»(‪2011)58‬م لب�سام‬ ‫يرجع �إىل ت�صور لدى الكتاب –وذلك بال �شك ت�صور‬
‫�شم�س الدين‪ ،‬والتي كانت �أكرث تركيزاً على مو�ضوع‬ ‫خاطئ– مفاده �أن َّ‬
‫احلب هو �آخر ما ميكن �أن يقف‬
‫العالقة بني م�سلمي اليمن ويهودها‪ ،‬و�أدق �إ�شباع ًا‬ ‫لديه الإن�سان يف �سلم ال�رضوريات‪.‬‬
‫لتفا�صيله ال�صغرية يف ربط بني املخيال والتاريخ‬
‫ثالث ًا‪ :‬عقود اخل�صوبة‪:‬‬
‫القريب‪ ،‬وروايتي‪« :‬م�صحف �أحمر» ‪2009‬م(‪،)59‬‬
‫و»ظلمة يائيل»(‪2012 )60‬م – احلائزة على جائزة‬ ‫بعد قيام الوحدة اليمنية عام ‪1990‬م توافر للأدب‬
‫الطيب �صالح العاملية‪ -‬ملحمد الغربي عمران‪ ،‬ويف‬ ‫مناخ �إبداعي له خ�صو�صية متميزة من حيث احلرية‪،‬‬‫ٌ‬
‫هذه الروايات تعدد يف تناول مو�ضوع اليهود يف‬ ‫واالنت�شار‪ ،‬و�إمكانية الن�رش ب�شكل �أو�سع‪ ،‬وتنامي‬
‫اليمن ك�أقلية دينية‪ ،‬وق�ضايا التعامل معهم‪ ،‬ونظرة‬ ‫امل�ؤ�س�سات الثقافية املهتمة باحلراك الثقايف‬
‫املجتمع �إليهم‪ ،‬وفيها يتحاور املخيال التاريخي‬ ‫والإبداعي‪ ،‬هذا بالإ�ضافة �إىل املناخ ال�سيا�سي‬
‫والروائي �أكرث من الواقع‪ ،‬ولع ّل هذا امللمح يف نظر‬ ‫واالجتماعي احلافل بالأحداث واملتغريات املختلفة‬
‫كتاب الرواية الأحدث يف اليمن يتعلق مبا �شاع يف‬ ‫والذي حتتاج �إليه الرواية ‪ -‬عاد ًة – لر�صد �أبعاده‬
‫ع�رص العوملة من مفاهيم حوار احل�ضارات‪ ،‬وق�ضايا‬ ‫فن ير�صد �أزمات‬‫ور�ؤاه‪ ،‬فهي من حيث طبيعتها ٌّ‬
‫‪133‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف حتقيق كتابة �سريية بطريقة روائية ولكنها غدت‬ ‫التعاي�ش والتقارب بني الديانات –الأقليات منها‬
‫�أكرث عمق ًا وا�شتغاال على اللغة واملمنوع واملده�ش‬ ‫حتديداً‪ -‬وحماولة اخلروج بهذه الق�ضية �إىل �أفق‬
‫بال قي ٍد �سوى قيد املوهبة وبال حدود �سوى حدود‬ ‫العاملية وبخا�صة فيما يتعلق ب�رشيحة كانت تعي�ش‬
‫الأفق املفتوح‪ ،‬حيث غدت �شغال �شاغال لك َّتابها‬ ‫يف اليمن وما زالت‪ ،‬ولها احرتامها يف ممار�سة‬
‫وا�شتغا ًال حقيقي ًا بتفرغ وا�سع لتحقيق املناف�سة‬ ‫حياتها وطقو�سها ب�شكل حمدد‪ ،‬ولع ّل �أهم ملمح‬
‫احلقيقية للنماذج العاملية والعربية بتقنياتها‬ ‫عاجلته تلك الروايات هو املتمثل بق�ضية الزواج من‬
‫للو�صول بها �إىل ف�ضاءات �أعلى من حيث احل�ضور‬ ‫يهودية والعك�س‪ ،‬وكيف رف�ضته العادات‪ ،‬القبلية‬
‫والتم ّثل واملعاجلات الروائية ال�رسدية والفنية‬ ‫والدينية‪ ،‬وكذلك يف املقابل العادات الدينية عند‬
‫واللغوية ناجتة عن الكثري من املثاقفة ووعي‬ ‫اليهود اليمنيني‪ ،‬التي حترمه وجتعله يف حكم الزنا‪،‬‬
‫امل�شاركات اخلارجية والقراءات الوا�سعة يف املدونة‬ ‫كما تناولته روايات‪« :‬اليهودي احلايل»‪ ،‬و«هفوة»‪،‬‬
‫الروائية برتاثها القدمي والقريب‪ ،‬ومن هنا قد تتمثل‬ ‫و«ظلمة يائيل» والأخرية تتميز �إ�ضافة �إىل ذلك‬
‫�إ�شكاالتها هنا يف �أبرز مالحمها الآنية التي تتمثل‬ ‫ب�أنها تعالج فرتة مهمة من تاريخ جمتمع جنوب‬
‫يف �إ�شكالية �س�ؤال احلداثة ور�ؤية العامل وفق زمن‬ ‫�شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬منت�صف القرن اخلام�س‬
‫احل�ضارات املت�صارعة والثقافات املت�سارعة‪،‬‬ ‫الهجري‪ ،‬حيث ا�ستدعى كاتبها التاريخ‪ ،‬مركزا على‬
‫و�إ�شكالية التداخل بني ال�سرية الذاتية والعمل‬ ‫ال�رصاع الديني بني املذاهب‪ ،‬ليدور �رصاع عنيف‬
‫املو�ضوعي الفني اخلال�ص واملقرتب �إىل ح ٍد ما من‬ ‫لل�سيطرة على املجتمع بني ثالثة مذاهب �إ�سالمية‬
‫الفنية املطلقة �أو املجردة‪ ،‬وثنائية اجلدل بني طرائق‬ ‫هي‪ :‬املذهب الإ�سماعيلي‪ ،‬ومركزه حراز‪ ،‬وكان‬
‫العر�ض يف �أ�شكالها التقليدية وطرائق ا�ستخدامات‬ ‫امتدادا للدولة الفاطمية يف القاهرة‪ ،‬واملذهب ال�سني‬
‫التقنيات احلداثية ب�ضمائرها ال�رسدية ومزجها‪،‬‬ ‫االمتداد ملذهب العبا�سيني يف بغداد‪ ،‬واملذهب‬
‫وتك�سريات الزمن وخطيته‪ ،‬وعنا�رص ال�شخ�صية‬ ‫الثالث هو املذهب الزيدي املنت�رش يف �أكرث مناطق‬
‫بني �سيطرتها املطلقة وبطولتها وجتاهلها التام‬ ‫اليمن‪.‬‬
‫وحتويلها ملجرد �ضمري فقط‪.‬‬
‫رابع ًا‪� :‬إ�شكاليات الرواية اليمنية‪:‬‬
‫اخرياً‬ ‫ٍ‬
‫خال�صة حول �إ�شكاليات الرواية‬ ‫وهنا نقف عند‬
‫تلك هي �أبرز حمددات زخم الرواية اليمنية اليوم‬ ‫اليمنية التي ينبثق بع�ضها عما ف�صلناه يف‬
‫يظهر ُه واقعها الآين عند �أجيالها‬
‫ُ‬ ‫و�إ�شكالياتها كما‬ ‫حتقيبها الزمني وم�ضموناتها‪ ،‬وي�أتي الآخر من‬
‫املتعاقبة وعند جيلها الأحدث الذي ي�سعى بها‬ ‫�س�ؤال احلداثة الذي ي�سعى �إليه جيلها الأحدث يف‬
‫�إىل م�صاف التح ُّققِ املنتج‪ ،‬واملناف�سة الوا�سعة‬ ‫اليمن والأقدر على متثيلها بوعي وحر�ص �شديدين‬
‫لتمثيل ح�ضور ميني فاعل يف م�شهد الرواية العربية‬ ‫لأنها بالن�سبة �إليهم عمل مق�صود ومدرو�س مل تعد‬
‫احلديثة‪.‬‬ ‫قائمة على الهواية �أو الفكرة العابرة �أو حتى الرغبة‬

‫‪134‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫م�س ــار‬
‫الرواية اليمنية احلديثة‬
‫حممد احلوثي‬
‫باحث وكاتب من اليمن‬

‫متى بد�أت الرواية اليمنية يف الظهور؟‬


‫انق�سم النقاد والبحاث للنتاج الأدبي يف اليمن حول البدايات الأوىل لظهور الرواية‬
‫اليمنية احلديثة �إىل ق�سمني‪ ،‬والبد من الوقوف عندها لأن التواريخ �ستت�ضارب يف‬
‫الدرا�سات‬
‫(‪ )1‬القائلون ب�أن رواية ‪« :‬فتاة قاروت» �أو «جمهولة الن�سب» للكاتب الأديب‪� /‬أحمد‬
‫ال�سقاف هي �أول رواية مينية‪ :‬و�أن�صار هذا االجتاه ال يفرقون بني النتاج يف املهجر‬
‫وبني النتاج يف الداخل‪ ،‬واعتمدوا اجلذور الأ�صلية للكاتب كمعيار‪ ،‬كما هو يف م�ؤلف‬
‫رواية «فتاة قاروت» ن�شري �إىل مناذج من ر�ؤى �أن�صار هذا االجتاه‪:‬‬
‫الدكتور‪ /‬عبداحلكيم حممد �صالح باقي�س يعترب م�ؤلفها‪� /‬أحمد عبداهلل ال�سقاف رائداً‬
‫ميني ًا يف النه�ضة الثقافية والأدبية يف املهجر الآ�سيوي‪ ،‬وريادته يف الكتابة الروائية‬
‫اليمنية‪ ،‬وله درا�سات حول الرواية املذكورة‪ ،‬من �ضمن ما ورد فيها «�أنها �صدرت‬
‫يف �إندوني�سيا باللغة العربية ثم ترجمت اىل اللغة الإندوني�سية غري �أنها ت�سبق روايته‬
‫الثانية «ال�صرب والثبات» التي �صدرت عام ‪1929‬م بعام �أو عامني‪.‬‬

‫‪ u‬معظم النتاج الروائي الت�سعيني يوظف لل�سرية الذاتية‬


‫ب�شكل مبا�شر من خالل �شخو�ص الروايات‪� ،‬أو من خالل‬
‫الراوي‪ /‬ال�سارد نف�سه ‪u‬‬

‫‪135‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الأدبية اليمنية‪.‬‬ ‫كما �أ�شار �إىل �أنها تناولت مو�ضوعني رئي�سيني‪،‬‬


‫‪-‬االعتبار الثاين‪� :‬أن هذه الكتابة الق�ص�صية قد وجدت‬ ‫الأول نقد املجتمع العربي املهاجر وعالقته بال�سكان‬
‫يف بيئة غري مينية و�إن كان امل�ؤلف مينياً‪ ،‬واعتربته‬ ‫الأ�صليني وق�ضية التعليم‪ ،‬والثاين‪ :‬العالقة بالآخر‪،‬‬
‫من الأ�سباب الكافية حتى ال يت�صل ظهورها بتوافر‬ ‫و�أعدها من الروايات املبكرة التي تناولت ال�رصاع‬
‫�أ�سباب حملية لظهور الكتابة الق�ص�صية‪ ،‬ولهذه‬ ‫احل�ضاري‪ ،‬وم�س�ألة الهوية من خالل م�ستويني من‬
‫االعتبارات ا�ستبعدتهما من البدايات الأوىل لل�رسد‬ ‫العالقة بالآخر هما ‪ :‬العالقة بالآخر الغربي‪ ،‬والعالقة‬
‫اليمني‪ ،‬واعتربت �أن �أول عمل ق�ص�صي روائي ميني‬ ‫بالآخر ال�رشقي(‪.)1‬‬
‫رواية «�سعيد» للكاتب‪ /‬حممد علي لقمان‪ ،‬و�أرجعت‬ ‫الدكتور‪ /‬م�سعود عم�شو�ش له درا�سة حتت عنوان‬
‫ذلك �إىل مار�س‪1940‬م‪ ،‬معتمدة على درا�سة امل�ست�رشق‬ ‫املهاجرون احل�ضارم يف «فتاة قاروت» «قراءة يف‬
‫الأملاين‪ /‬جونرت �أورت «ن�ش�أة فن الق�صة احلديثة يف‬ ‫�أول رواية مينية» و�أرخ لها ب�سنة ‪1928‬م‪.‬‬
‫اليمن» ‪1996‬م‪ ،‬الذي رجح تاريخ �صدورها على �إعالن‬ ‫الكاتب الروائي ‪� /‬سامي ال�شاطبي �أرجع اختيار عام‬
‫ن�رش يف �صحيفة فتاة اجلزيرة العدنية الأ�سبوعية يف‬ ‫‪1927‬م لأنه �شهد �صدور �أول رواية مينية بعنوان‬
‫عدد مار�س من ال�سنة املذكورة(‪.)3‬‬ ‫«فتاة قاروت» للكاتب الأديب‪� /‬أحمد ال�سقاف‪ ،‬واعتربه‬
‫الكاتب الأديب ‪ /‬حممد ال�شيباين‪� ،‬أ�شار يف درا�سة له‬ ‫مهاجراً يف �إندوني�سيا و�أ�شار �إىل �أن الرواية اعتربت‬
‫عن ال�رسد اليمني اىل رواية «فتارة قاروت» وو�ضع‬ ‫يف حكم املفقود‪ ،‬ولكنه �أ�شار يف نف�س اللحظة �إىل‬
‫عليها عدة اعتبارات منها‪:‬‬ ‫�أنه يحتفظ بن�سخة منها‪ ،‬و�سبق �أن ن�رش ف�صو ًال منها‬
‫‪� -‬أنها يف حكم املفقود‪ - ،‬لأن كتابتها وظهورها يف‬ ‫يف «�صحيفة الثقافية»‪ ،‬خالل الفرتة مايو ويونيو‬
‫املهجر ف�إن العالقة بينها وبني املجتمع الذي تعرب‬ ‫‪2008‬م(‪.)2‬‬
‫عنه ال ميثل املجتمع اليمني ولهذا اعتمد الر�ؤية التي‬ ‫(‪ )2‬القائلون ب�أن رواية «�سعيد» للكاتب والأديب‪/‬‬
‫ت�ؤرخ لرواية «�سعيد» ‪1939‬م �أول عمل �رسدي يف‬ ‫حممد علي لقمان هي �أول رواية مينية‪ :‬و�أن�صار هذا‬
‫اليمن(‪.)4‬‬ ‫االجتاه ال ينكرون وجود رواية «فتاة قاروت» ال�سابق‬
‫الكاتب والناقد‪ /‬حممد نا�رص �رشاء يتفق مع هذا‬ ‫ذكرها ولكنهم و�ضعوا بع�ض املعايري التي يلتقون‬
‫االجتاه و�أكد عليه يف كتاباته ومنها «ولقد اتخذ‬ ‫يف بع�ضها ويربرون وجهة نظرهم بعدد من احلجج‬
‫جن�س الإبداع الروائي يف اليمن له م�ساراً متوا�ضع ًا‬ ‫والرباهني‪.‬‬
‫منذ بدايته يف العام ‪1939‬م وحتى الآن �إذا اعتربنا‬ ‫فالدكتورة‪ /‬ابت�سام املتوكل �أ�شارت يف درا�سة لها �أن‬
‫رواية «�سعيد» للمرحوم‪ /‬حممد علي لقمان بداية‬ ‫عام ‪1929‬م يعد تاريخ ظهور �أول الآثار الق�ص�صية‬
‫امل�ضمار(‪.)5‬‬ ‫املكتوبة‪ ،‬بقلم ميني يف مدينة جاوة ب�إندوني�سيا‪ ،‬حيث‬
‫نختم بر�ؤية الدكتور‪� /‬إبراهيم �أبو طالب واالعتبارات‬ ‫�صدرت يف العام املذكور ق�صتان طويلتان للأديب‬
‫واملعايري التي طرحها العتباره رواية «�سعيد» حممد‬ ‫امل�ؤرخ ال�صحفي �أحمد بن عبداهلل ال�سقاف‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫علي لقمان‪1939 ،‬م �أول رواية مينية وهي‪-:‬‬ ‫من �أن هذين الإ�صدارين الق�ص�صيني هما �أول الآثار‬
‫‪� -‬أن روايتي �أحمد عبداهلل ال�سقاف «فتاة قاروت»‬ ‫ال�رسدية املعروفة لكاتب ميني �إال �أنها مل تعتمدهما‬
‫‪1927‬م‪« ،‬ال�صرب والثبات» ‪1929‬م‪ ،‬يف حكم‬ ‫يف احلديث عن ن�ش�أة الق�صة اليمنية الق�صرية لعدة‬
‫املفقودين �إال من تو�صيف وعر�ض للأخرية يف كتاب‪/‬‬ ‫اعتبارات منها‪:‬‬
‫عبدهلل احلب�شي» والرواية بح�سب احلب�شي «وعظية‪،‬‬ ‫ــ �أن العملني ــ ح�سب الدكتورة املتوكل‪ -‬يرتددان يف‬
‫غرامية‪ ،‬فكاهية‪ ،‬انتقادية»‪.‬‬ ‫التجني�س بني الق�صة الطويلة والرواية كما هو يف م�ؤلف‬
‫‪� -‬أنها كتبت ون�رشت خارج اليمن‪ ،‬وتدور �أحداثها يف‬ ‫«احلب�شي» �أوليات مينية يف الأدب والتاريخ‪1991 ،‬م»‬
‫املهجر‪ ،‬ولي�س لها من ارتباط باليمن �إال كون كاتبها‬ ‫الذي �أ�شار �إليها‪ ،‬رغم �أنهما يف حكم املجهولني يف‬
‫�أديبا مينيا هاجر �إىل جزيرة جاوة ب�إندوني�سيا‪،‬‬ ‫الأدب والق�ص�ص اليمني‪ ،‬و�أنهما مل يتداوال يف ال�ساحة‬
‫‪136‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�إن كان �صادق ًا �أو فيه تهكم جتاه الآخر الذي مل يعد‬ ‫وي�ضيف‪ ،‬ولو اعتمدنا ما ذهب �إليه ‪ -‬بع�ض الباحثني‬
‫فرداً بل انعكا�س ذلك �أو �إ�سقاطه على اجلمعي‪ ،‬وبوعي‬ ‫– يف هذا املقيا�س لكان �أوىل �أن تعد روايات ‪ /‬علي‬
‫و�إدراك‪ ،‬ورغم وجود بع�ض الروايات والرواة مثل‬ ‫�أحمد باكثري من الروايات اليمنية(‪.)6‬‬
‫(�صوت من املا�ضي ‪� /‬أبو �أمنار‪ ،‬العودة �إىل النهاية‬ ‫‪ -‬ولكي ال يتم اخللط بني الرواية والق�صة اليمنية‬
‫‪ /‬عبدالرحمن بجا�ش‪ ،‬جممع ال�شحاذين‪ /‬عبدالوهاب‬ ‫احلديثة من جانب‪ ،‬وبني امل�سميات من جانب �آخر‪،‬‬
‫ال�ضوراين‪ ،‬غرباء يف �أوطانهم‪� /‬أحمد حممد العليمي‪،‬‬ ‫ي�ستح�سن الإ�شارة اىل وجود ق�صتني يتم اللب�س بينهما‬
‫اخلامت املجهول‪ /‬عبدالكرمي املرت�ضى‪ ،‬مرتفعات‬ ‫وبني رواية «�سعيد» ال�سابق ذكرها وهما ‪:‬‬
‫ردفان ‪ /‬ح�سني �صالح م�سيبلي‪ ،‬طريق الغيوم‪ /‬ح�سني‬ ‫«�أنا �سعيد» للكاتب‪� /‬أحمد الرباق‪� ،‬صحيفة الإميان‪،‬‬
‫�سامل با�صديق‪ ،‬امليناء القدمي‪ /‬حممود �صغريي‪ ،‬قرية‬ ‫نوفمرب‪1940‬م‪�« .‬سعيد املدر�س» للكاتب‪ /‬حممد �سعيد‬
‫البتول‪ /‬حممد حنيرب) �إال �أن رواية «ميوتون غرباء»‬ ‫م�سواط‪� ،‬صحيفة النه�ضة‪� ،‬سبتمرب ‪1950‬م‪،‬‬
‫ال�صادرة عام ‪1971‬م للكاتب الأديب‪ /‬حممد �أحمد‬ ‫عقد ال�سبعينيات واملتغري التحويل يف م�سار الرواية‬
‫عبدالويل ت�صدرت امل�شهد الثقايف اليمني‪ ،‬وما زالت‬ ‫اليمنية مو�ضوع ًا و�أ�سلوباً‪:‬‬
‫حا�رضة من خالل الدرا�سات واالحتفاء بال�رسد اليمني‬ ‫منذ �صدور �أول رواية حتى مطلع ال�سبعينيات من‬
‫اىل جوار ما �أنتجه من ق�ص�ص وروايات‪ ،‬ملا فيها من‬ ‫القرن املن�رصم كان ر�صيد اليمن مل يتجاوز ع�رش‬
‫الن�ضوج من حيث املو�ضوعات والأ�ساليب الفنية التي‬ ‫روايات‪ ،‬وكانت تربز مو�ضوعات الوعظ‪ ،‬واحلكمية‪،‬‬
‫تنتمي اىل الواقعية‪ ،‬ويرجع ذلك �إىل ثقافته وتنوع‬ ‫والتقريرية ب�أ�سلوب مبا�رش وتلج�أ �أحيان ًا اىل اخلطابة‪،‬‬
‫جتربته وموهبته الغنية التي �صقلها بدرا�سة فن‬ ‫وت�ستخدم الأ�ساطري ال�سحرية‪ ،‬واعتمدت على البنية‬
‫الق�صة‪ ،‬م�ستفيداً ومت�أثراً ب�أدب «جوركي‪ ،‬وت�شيخوف»‬ ‫احلبكية القدمية (البداية‪ ،‬الو�سط‪ ،‬النهاية) واحلدث‬
‫وهما ميثالن املذهب الواقعي‪ ،‬واقت�رص منهج‪ /‬حممد‬ ‫اخلارجي املبا�رش‪ ،‬وميكن ا�ستخال�ص ذلك من خالل‬
‫مقابلة ال�شكل باملو�ضوع واملحتوى‪ ،‬ومتثيل الواقع‬
‫االجتماعي لتلك الروايات‪.‬‬
‫وبح�سب درا�سات الباحثني املتخ�ص�صني يف جمال‬
‫ال�رسد ب�أ�شكاله املختلفة يوجد �شبه �إجماع �أن عقد‬
‫ال�سبعينيات �شهد تغرياً حتولي ًا يف امل�سار ال�رسدي‬
‫عامة‪ ،‬والرواية خا�صة‪ ،‬وتزامن هذا التغري مع التغريات‬
‫احلديثة يف املجاالت الأخرى‪ ،‬ال�سيا�سي واالجتماعي‬
‫واالقت�صادي‪ ،‬وانتقل الأدب – الرواية‪ -‬اىل و�ضع‬
‫غري م�ألوف ويف نف�س اللحظة االنتماء �إىل الواقعية‪،‬‬
‫وا�ستفاد الأدباء من الكتابات اخلارجية واالحتكاك‬
‫بها واعتمدوا التقنيات اجلديدة املغايرة ل�سابقتها‪،‬‬
‫و�أهمها حتطيم البنية احلبكية ال�سابقة‪ ،‬واال�شتغال‬
‫على ن�سقها الداخلي و�إدخال الرمز عليها بد ًال من‬
‫املبا�رشة‪ ،‬واالبتعاد عن النهايات املغلقة‪ ،‬ومن جانب‬
‫�آخر يت�ضح التغري باالجتاه نحو اجلزئيات والهام�ش‬
‫عند كتاب هذا اجليل‪ ،‬وبروز اال�شتغال على امل�سكوت‬
‫عنه (اجلن�س‪ ،‬ال�سيا�سة‪ ،‬الأيديولوجيا) واملهاجر‬
‫ويومياته‪ ،‬والغربة واالغرتاب و�إخراج الأعمال‬
‫ال�رسدية يف �أ�شكال �أدبية تربط بني الواقع واملتخيل‪،‬‬
‫‪137‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املنظومة اال�شرتاكية وتفكك الكتلة ال�رشقية‪ ،‬واجتياح‬ ‫عبدالويل على ت�صوير الأ�شياء مبا يعني التحري�ض‬
‫الدميقراطية يف موجتها الثالثة لكثري من الدول‪،‬‬ ‫�ضدها‪ ،‬وهو نقده للواقع وتعريته وافتقاره للميزة‬
‫و�سيادة قيمها ب�صورها املتعددة وبن�سب خمتلفة‪.‬‬ ‫الأخرى وهي التب�شري بامل�ستقبل‪ ..‬الخ‪ ،‬وتتميز جتربته‬
‫التغري التكنولوجي ال�سيما يف قطاع االت�صاالت‬ ‫باملواكبة الفعلية للق�صة العربية والعاملية من حيث‬
‫ف�أ�صبح العامل �شبه قرية من حيث التوا�صل مع الآخر‬ ‫ال�شكل وامل�ضمون(‪.)7‬‬
‫وان�سياب املعلومات �صوت ًا و�صورة �إ�ضافة اىل التغري‬ ‫ويح�سب لهذا العقد الزمني ظهور �أول رواية بقلم ن�سائي‬
‫يف البنية االقت�صادية‪ ،‬وتوجه كثري من الدول نحو‬ ‫�إذ �أنه �شهد �صدور روايتني للكاتبة الأديبة‪ /‬رمزية‬
‫حرية ال�سوق‪ ،‬الذي انعك�س على البنية االجتماعية‪.‬‬ ‫عبا�س الإرياين هما (القات يقتلنا ‪1969‬م‪� ،‬ضحية‬
‫فتبدلت العالقات و�أ�ساليب التفكري‪ ،‬فان�شغلت‬ ‫اجل�شع ‪1970‬م‪ .‬و�سينقطع القلم الن�سائي حتى اجليل‬
‫مو�ضوعات الن�ص الت�سعيني– �شعراً و�رسداً – على‬ ‫الت�سعيني‪� ،‬إال من وم�ضات ثمانينية حمدودة‪ ،‬كروايات‬
‫الهام�ش واليومي‪ ،‬وبكل جراءة فجر مكبوتات احل�سي‬ ‫الكاتبة الأديبة‪� /‬سلوى حممد ال�رصحي «و�أ�رشقت‬
‫وال�سيا�سي والديني دون احلاجة اىل تغليف خطابه‬ ‫ال�شم�س‪� ،‬رصاع مع احلياة‪ ،‬ويبقى الأمل»‪.‬‬
‫باملحموالت الرمزية ال�صارخة‪ ،‬و�أ�صبحت الروايات‬ ‫وامتد �أدب ال�سبعينيات اىل عقد الثمانينيات م�ؤثراً فيه‬
‫حتتفي باملعريف �أكرث من الواقعي‪ ،‬مبعنى �أنها‬ ‫وم�ضيف ًا �إليه جتربة جديدة‪ ،‬فات�سم باملزاج ال�صاخب‬
‫حاولت العمل على ت�أ�سي�س قول جديد مغامر ومعاير‪،‬‬ ‫لبع�ض مغايرات ال�سبعينيني والبناء على خال�صاته‬
‫بالرتكيز على جتارب الذات و�أزماتها‪ ،‬لأن ما �أحدثته‬ ‫النا�ضجة‪ ] ...[ ،‬ويبد أ� ال�رسد يف �إدخال عنا�رص احلداثة‬
‫التغريات ال�سابق ذكرها �أثرت على الكاتب الأديب الذي‬ ‫مثل التكثيف لل�صور واملعاين والأحداث‪ ،‬وخلق حالة‬
‫وجد نف�سه دون اختياره يعي�ش يف �أزمة ذاتية وغربة‬ ‫توازي باللغة ال�شعرية ال�سل�سة‪ ،‬واالقرتاب من الذات‬
‫داخلية رغم امليدان املتاح له للتعبري عن كل ما يريده‪،‬‬ ‫باعتبارها حمور الكتابة(‪ ،)8‬ورغم وجود �أ�صوات‬
‫ور�أى د‪/‬ال�شجاع �أن اجلن�س هو املحرك الرئي�سي عند‬ ‫متعددة �إال �أن ظاهرة ال�صوت الواحد �ستظل م�سيطرة‬
‫جميع الكتاب الت�سعينيني‪ .‬لذلك فقد اقت�رص ال�رسد على‬ ‫على امل�شهد الروائي‪ ،‬ك�صوت الكاتب‪ /‬زيد مطيع دماج‬
‫اجلن�س الذي يظهر من خالل املفاهيم ال�شائعة والتي‬ ‫وحتديداً يف روايته «الرهينة» التي ت�صنف �ضمن‬
‫تعرب عن نف�سها ب�شكل وا�ضح(‪ ،)9‬كما هو يف رواية»�إنه‬ ‫رواية ال�سرية الذاتية والتهكم ال�سيا�سي واالجتماعي‪.‬‬
‫ج�سدي» للكاتبة‪ /‬نبيلة الزبري‪ ،‬روايات‪ /‬علي املقري‬ ‫ومن حيث عدد الروايات فلم يبتعد كثرياً عن عقد‬
‫–و�إن جاءت مت�أخرة‪ -‬اليهودي احلايل‪ ،‬حرمة‪ .‬كذلك‪/‬‬ ‫ال�سبعينيات �إذ مل يتجاوز الع�رشين �إ�صداراً‪ ،‬منها‬
‫رواية عقيالت للكاتبة‪ /‬نادية الكوكباين‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫«�سفينة نوح‪ ،‬وعذراء اجلبل‪/‬عبد اهلل �سامل باوزير‪،‬‬
‫ومعظم النتاج الروائي الت�سعيني يوظف لل�سرية الذاتية‬ ‫ربيع اخليال‪ ،‬ومدينة ال�صعود‪/‬حممد مثنى‪ ،‬الإبحار‬
‫ب�شكل مبا�رش من خالل �شخو�ص الروايات‪� ،‬أو من خالل‬ ‫على منت ح�سناء‪/‬ح�سن �سامل با�صديق‪ ،‬روايات‪/‬‬
‫الراوي‪ /‬ال�سارد نف�سه‪ .‬ونتيجة الت�سام العقد الت�سعيني‬ ‫�سلوى ال�رصحي ال�سابق ذكرها‪ ،‬هموم اجلد قو�سم‪/‬‬
‫بالفو�ضى والت�شظي والتناق�ض والالتناغم‪ ،‬فقد جاءت‬ ‫�أحمد مثنى‪ ،‬القرية التي حتلم‪�/‬أحمد عبد اهلل فدعق‪،‬‬
‫الروايات معربة عن هذه الفو�ضى والالتناغم واالنفالت‬ ‫ال�سمار الثالثة‪�/‬سعيد عولقي‪ ،‬ركام وزهر‪/‬يحي علي‬
‫من الواقع‪ ،‬والعالقة غري املرتابطة كعالقات النفي‬ ‫الإرياين‪ ..‬الخ»‪.‬‬
‫واالنف�صال‪ ،‬والتداخل يف م�ستويات التقنية ال�رسدية‬
‫ارتفاع ًا وانخفا�ضاً‪ ،‬وهو تعبري عن ال�سياق املجتمعي‬ ‫الت�سعينيون ذوات متجاورة‪:‬‬
‫وال�سيا�سي واالقت�صادي الذي يعاي�شه الراوي‪ ،‬وللبحث‬ ‫�شهد عقد الت�سعينيات تغرياً حتولي ًا �إ�ضافة اىل �إجناز‬
‫عن الهوية ن�صيب يف امل�شهد الت�سعيني‪.‬‬ ‫العقود ال�سابقة يف م�سار الرواية اليمنية احلديثة‪،‬‬
‫وقد �أثار امل�سمى «اجليل الت�سعيني» ب�أ�شكاله و�أنواعه‪،‬‬ ‫على امل�ستويني الكمي والنوعي‪ ،‬ويرجع ذلك اىل‬
‫و�أ�صنافه‪ ،‬و�أجنا�سه جد ًال وا�سعاً‪ ،‬وخالف ًا كبرياً بني‬ ‫عدد من العوامل والتغريات الأخرى‪� ،‬أهمها انهيار‬
‫‪138‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جغرافية املاء‪2004‬م‬ ‫املبدعني والكتاب (النقاد)‪ ،‬لأنهم حاولوا التجاوز‪-‬‬


‫ومثل هذا الت�ضارب ي�ستدعي املراجعة وبذل املزيد من‬ ‫يف ال�شعر خا�صة‪ -‬رغم اخلالف الذي مل ي�صل �إىل‬
‫اجلهد واالهتمام بالنتاج الأدبي‪ ،‬والتوثيق ال�سليم‪ ،‬من‬ ‫حد ال�رصاع كما هو م�ألوف بني اجلماعات والتيارات‬
‫قبل الباحثني واملهتمني وامل�ؤ�س�سات واملراكز املعنية‬ ‫الأدبية‪ ،‬وميكن طرح �أربع �صفات من امل�سميات التي‬
‫بهذا ال�ش�أن‪ ،‬الأمر الآخر الذي ي�ستح�سن تو�ضيحه �أن‬ ‫ل�صقت باجليل الت�سعيني»‪ ،‬ر�ؤية الكاتب الأديب‪� /‬أحمد‬
‫اجليل الت�سعيني مل يكن خال�صا ب�أدباء يف �أعمار‬ ‫ال�سالمي الذي بد�أ ب�إطالق �صفة التجاوز ثم تراجع‬
‫مت�ساوية‪ ،‬فهو متداخل من ال�سبعينيني والثمانينيني‬ ‫الحق ًا �إىل �صفة التجاور‪ ،‬ال�شاعرة‪ /‬هدى �أبالن «نائب‬
‫و�سيمتد �إىل �أدباء الألفية اجلديدة‪ ،‬ومن �أهم �سماتهم‬ ‫وزير الثقافة حاليا» �أكدت على التعاي�ش‪� ،‬أما ال�شاعر‬
‫التمرد على الآباء واختفاء ظاهرة ال�صوت الواحد‪،‬‬ ‫الكاتب‪ /‬حممد ال�شيباين فجاء ر�أيه م�ؤكداً للتعدد‪،‬‬
‫وحلول املجموعات كبديل يعرب عن املرحلة‪.‬‬ ‫ال�شاعر الناقد‪/‬حممد املن�صور قال بالتجاور وعدم‬
‫وبح�سب التحقيب الزمني ‪/‬العقدي (التجييل) ميكن‬ ‫التخا�صم مع الآخرين والرتاث‪ ،‬ومن واقع هذه الر�ؤى‬
‫و�ضع النتاج الروائي اليمني على النحو التايل‪)12(:‬‬ ‫جاءت ر�ؤية ال�شاعر الناقد‪ /‬علوان مهدي اجليالين‬
‫الفرتة الزمنية عدد الروايات‬ ‫بالت�أكيد على التجاور‪ ،‬وتعترب كتاباته النقدية‬
‫‪2‬‬ ‫‪1 950 -1939‬‬ ‫حول �أدب الت�سعينيني من �أن�ضج الكتابات‪ ،‬و�أكرثها‬
‫‪2‬‬ ‫‪1 960 – 1951‬‬ ‫ويعرف جيل الت�سعينيات‬ ‫مالم�سة للم�شهد الت�سعيني‪ِّ ،‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪1 970 -1961‬‬ ‫ب�أنهم «ي�شكلون جمموعة �أ�صوات متجاورة‪ ،‬ولغر�ض‬
‫‪11‬‬ ‫‪1 980-1971‬‬ ‫من التجييل هو التوثيق مبا يفيد الأديب (املختلف‬
‫‪16‬‬ ‫‪1 990 – 1981‬‬ ‫وامل�ؤتلف) وبروزه يف عقد معني‪ ،‬ويتفق بهذا مع ر�ؤية‬
‫‪21‬‬ ‫‪2 000 -1991‬‬ ‫الدكتور ال�شاعر‪/‬عبد ال�سالم الكب�سي �أن الت�سميات ما‬
‫‪86‬‬ ‫‪2 009 – 2001‬‬ ‫هي �إال و�سيلة �أكادميية للتحقيب والت�صنيف ودرا�سة‬
‫‪142‬‬ ‫ ‬
‫الإجمايل‬ ‫ال�سمات‪)10( .‬‬
‫ومت ا�ستبعاد رواية «�أبو جنزير» للكاتب الأديب ‪/‬‬ ‫ومن املعلومات التي ينبغي الإ�شارة �إليها وال�سبق‬
‫احل�سن حممد �سعيد‪ ،‬لأنها تعرب عن مرحلة من تاريخ‬ ‫لأول رواية ظهرت للجيل الت�سعيني‪ ،‬ومن خالل امل�سح‬
‫ال�سودان ال�شقيق وحركة املجتمع‪ ،‬و�إن طبعت يف‬ ‫الأويل وردت رواية «الفرزة «للدكتور‪ /‬عبدامللك‬
‫اليمن‪.‬‬ ‫املقرمي ك�أول �إ�صدار يف مطلع الت�سعينيات من القرن‬
‫وكما يالحظ من اجلدول �أن الرواية �صدرت ب�شكل‬ ‫املن�رصم‪ ،‬علم ًا �أنه امتداد للجيل ال�سابق‪ ،‬بينما اعترب‬
‫ت�صاعدي من عقد �إىل عقد‪ ،‬وبد�أ الن�رش يت�ضاعف من‬ ‫ال�شاعر الأديب‪ /‬عبدالنا�رص جملي – نف�سه – �أول من‬
‫العقد ال�سبعيني‪� ،‬أما يف العقد الت�سعيني فت�ضاعف‬ ‫�أ�صدر عم ًال روائي ًا من اجليل الت�سعيني‪ ،‬ممثلة –ح�سب‬
‫الن�رش الروائي �أربع مرات‪ ،‬بن�سب متقاربة لإ�صدارات‬ ‫قوله‪ -‬برواية «احل�صن» (‪.)11‬‬
‫كل عام يف نف�س العقد‪ ،‬وهو م�ؤ�رش على خ�صب وتغري‬ ‫وبالعودة �إىل الببليوجرافيا املتوفرة بني �أيدينا مل‬
‫وحظَّ �أدباء اجليل الت�سعيني الذي ت�أثر باملتغريات‬ ‫جند الرواية �ضمنها ومل تذكر ال من قريب وال من‬
‫الداخلية واخلارجية اىل حد مل ي�سبق له مثيل‪.‬‬ ‫بعيد‪ ،‬الأمر الذي دعاين لالت�صال بالدكتور‪� /‬أبو طالب‬
‫و�أهمها ما مت الرتويج له من القيم ال�سيا�سية والثقافية‬ ‫م�ستف�رساً عن رواية احل�صن‪ ،‬ف�أجاب «�أنها مل تكن‬
‫والتنظري لل�رصاع على الأ�سا�س الثقايف كما هو يف‬ ‫مطبوعة ومل يعرف �أن رواية �صدرت بهذا العنوان»‪،‬‬
‫م�ؤلفات الأ�ساتذة ودوائر البحث الغريبة‪ ،‬ومنها م�ؤلف‬ ‫رمبا تكون مكتوبة‪-‬خمطوطة‪ -‬وهذا ال يعتد به لأن‬
‫�صامويل هنتنجون» ال�رصاع بني احل�ضارات‪ -‬الثقافات»‬ ‫لكثري من الأدباء والكتاب روايات وجمموعات مكتوبة‬
‫‪1991‬م‪ ،‬تاله عدد من امل�ؤلفات كم�ؤلف فران�سي�س‬ ‫ولكنها مل تر النور من حيث الطباعة والتوزيع‪ ،‬وما‬
‫فوكوياما « نهاية التاريخ وخامت الب�رش» وغريها‪.‬‬ ‫�صدر للكاتب‪/‬جملي من روايات» رجال الثلج‪2000‬م‪،‬‬
‫‪139‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الهوام�ش‬ ‫ال�سرد الألفيني‪ .‬درو�س معرفية‪:‬‬


‫‪1‬ــ د‪/‬عبداحلكيم حممد �صالح باقي�س‪« ،‬فتاة قاروت» والريادة‬
‫الروائية املهم�شة»‪ ،‬بحث يف‪ :‬نادي الق�صة –�إملقه [معداً] «النقاد‬
‫و�إذا �أ�ضفنا ما مت �إ�صداره من روايات خالل الفرتة‬
‫ي�صنعون موجة للبحر (�صنعاء‪ :‬احتاد الأدباء والكتاب اليمنيني‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫(‪2010‬م – حتى كتابة هذه املقالة‪ ،‬وبحدود (‪)16‬‬
‫‪2008‬م)‪�،‬ص�ص‪.478-470‬‬ ‫رواية تقريباً‪� ،‬سيكون �إجمايل ما �أجنز من روايات مينية‬
‫‪2‬ــ �سامي ال�شاطبي‪ 178« ،‬جمموعة ق�ص�صية مينية ‪ :‬خال�صة ق�صة‬ ‫(‪ )160‬رواية تقريباً‪ ،‬ا�شتغلت على املجال االجتماعي بكل‬
‫مل تكتب!!‪ :‬ببليوجرافيا �أجد للمجاميع الق�ص�صية اليمنية ‪-1957‬‬ ‫تفرعاته ومقرتباته (�سيا�سية واقت�صاداً و�أيديولوجية‪،‬‬
‫‪2007‬م)‪ ،‬بحث يف‪ :‬نادي الق�صة –�إملقه «مرجع �سابق» �ص‪.144‬‬ ‫وجن�ساً‪ ..،‬الخ)‪.‬‬
‫‪3‬ــ د‪/‬ابت�سام املتوكل؛ «البدايات الت�أ�سي�سية للق�صة الق�صرية يف‬ ‫وتت�سم كتابات الت�سعينيني وما يت�ساوق يف امل�شهد‬
‫اليمن» بحث يف‪ :‬نادي الق�صة –�إملقه– «مرجع �سابق»‪� ،‬ص �ص‪-82‬‬ ‫الثقايف من تداول م�صطلح «اجليل الألفيني» الذي يعترب‬
‫‪.89‬‬ ‫امتداداً للت�سعينيني بالإيجاز والتكثيف‪ ،‬وهتك املحظور‪،‬‬
‫‪4‬ــ حممد عبدالوهاب ال�شيباين» الكتابة الق�ص�صية يف اليمن خالل‬ ‫والتمرد والتذمر من �أ�ساليب احلياة التي يعي�شها املجتمع‬
‫�سبعة عقود‪ :‬مقرتبات اخلطاب ومتظهرات التجييل» ورقة يف‪ :‬نادي‬
‫وم�ؤ�س�ساته املختلفة‪ ،‬حتى ي�صعب على القارئ التمييز‬
‫الق�صة‪� -‬إملقه– «مرجع �سابق»‪� ،‬ص‪.258‬‬
‫‪5‬ــ حممد نا�رص �رشاء‪« ،‬الإبحار يف حميط ال�صم�صام» ورقة يف‪ :‬نادي‬
‫بني رواية و�أخرى‪ ،‬و�أين يتم ت�صنيفها لتعدد املو�ضوعات‬
‫الق�صة –�إملقه‪« -‬مرجع �سابق»‪� ،‬ص‪.441‬‬
‫التي ا�شتغلت عليها‪ ،‬ورغم ذلك ن�ستطيع القول �أن منجز‬
‫‪6‬ــ د‪�/‬إبراهيم �أبو طالب؛ «ببليوجرافيا ال�رسد يف اليمن (‪-1939‬‬ ‫الرواية ا�شتمل على كثري من املو�ضوعات املتنوعة‪� ،‬أي‬
‫‪2009‬م)‪ :‬الق�صة الق�صرية‪ ،‬الرواية‪� ،‬أدب الطفل»‪�( ،‬صنعاء ‪ :‬وزارة‬ ‫تعدد املهام املو�ضوعية يف الرواية الواحدة‪ ،‬والقدرة‬
‫الثقافة‪2010 ،‬م) �ص‪.200‬‬ ‫على املزج بني احلقيقية واخليال حتى �أ�صبح البناء‬
‫‪7‬ــ للمزيد من التفا�صيل ميكن الرجوع اىل ‪:‬‬ ‫الفني عبارة عن �أجزاء تتداخل فيما بينها مثل تيمات‬
‫‪� -‬سامي ال�شاطبي‪« ،‬مرجع �سابق ذكره» �ص‪ ،262‬كذلك‪:‬‬ ‫ال�سيمفونية‪ ،‬ويت�شابك فيها املا�ضي باحلا�رض وامل�ستقبل‬
‫‪� -‬سامي ال�شاطبي‪[ ،‬معداً]‪ ،‬حممد عبدالويل �سرية موجعة وكتابة‬ ‫يف بناء حمكم ودقيق‪.‬‬
‫مغلفة بالأمل‪ :‬الق�صة الكاملة «احلكمة‪�( ،‬صنعاء‪ :‬احتاد الأدباء والكتاب‬ ‫ف�أ�صبحت الروايات �أو معظمها عبارة عن درو�س يف‬
‫اليمنيني‪ ،‬العددان ‪� ،240 ،239‬أبريل‪/‬مايو‪2006‬م) �ص �ص ‪-249‬‬ ‫التاريخ �أو املجتمع‪ ،‬وب�إمكاننا القول �أن «رواية ظلمة‬
‫‪.236‬‬
‫يائيل‪ /‬حممد الغربي عمران‪ ،‬رواية هفوة ‪ /‬ب�سام �شم�س‬
‫‪8‬ــ �سامي ال�شاطبي؛ «املرجع ال�سابق»‪� ،‬ص‪.263‬‬
‫‪9‬ــ د‪ /‬عادل ال�شجاع‪�« ،‬أزمة الذات يف الرواية اجلديدة»‪ ،‬بحث يف ‪:‬‬
‫الدين تندرج حتت ما ي�سمى بالتاريخ الف�ضائحي‪،‬‬
‫نادي الق�صة –�إملقه– «مرجع �سابق»‪� ،‬ص �ص ‪.382 – 381‬‬ ‫ومالم�ستها ملو�ضوعات �أخرى كو�ضع الأقليات‪ ،‬والعالقة‬
‫‪10‬ــ للمزيد من التفا�صيل حول التجاور والتجييل ميكن الرجوع اىل ‪:‬‬ ‫بني ال�سلطة واملجتمع‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫‪ -‬علوان مهدي اجليالين‪« ،‬ا�صوات متجاورة‪ :‬قراءات يف الإبداع‬ ‫والروايات ‪ :‬البدية‪� /‬أحمد حممد الأ�صبحي‪�ِ ،‬س ّم الأتراك‪/‬‬
‫ال�شعري جليل الت�سعينيات يف اليمن»‪�( ،‬صنعاء ‪ :‬وزارة الثقافة‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫عبداهلل عبا�س الإرياين‪ ،‬ت�صنفان �ضمن الرواية التاريخية‪،‬‬
‫‪2010‬م)‪.‬‬ ‫وتندرج بع�ض روايات ‪ /‬وجدي الأهدل‪ ،‬و�سمري عبدالفتاح‬
‫دمون (�صنعاء‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ألفينيون»‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ال�شعراء‬ ‫أيها‬
‫�‬ ‫«‬ ‫الكب�سي؛‬ ‫ال�سالم‬ ‫عبد‬ ‫‪ -‬د‪/‬‬ ‫حتت م�سمى الرواية املقنعة‪-‬متعددة ال�صفات‪ ،‬وتندرج‬
‫بيت ال�شعر‪ ،‬العدد‪ ،13‬ربيع‪2012‬م)‪� ،‬ص�ص‪ .4 ،3‬اجلدير ذكره �أن‬ ‫رواية» رجل احلوت» للأديب‪ /‬عبداهلل ح�سني ال�سقاف حتت‬
‫للكب�سي‪-‬وغريه‪ -‬قراءات مبكرة حول �أدب الت�سعينيني‪ ،‬وهي من�شورة‬ ‫م�صطلح الرواية الأيديولوجية (حوار الأديان) وت�صنف‬
‫يف ال�صحف الثقافية‪ ،‬مل ي�سعفنا الوقت للبحث عنها‪ ،‬لهذا لزم التنويه‪.‬‬ ‫بع�ض الروايات حتت ما يطلق عليه الرواية الق�صرية �سواء‬
‫‪11‬ــ عبدالنا�رص جملي [مقابلة]‪« ،‬الإبداع يف بالدنا مهمل وحما�رص‪،‬‬
‫كانت واقعية �أو رمزية �أو تخيلية �أو �ساخرة كما هو يف‬
‫وروايتي «احل�صن» د�شنت ع�رص رواية اجليل الت�سعيني» حاوره‪ ،‬حممد‬
‫القعود‪( ،‬الثورة الثقايف‪ ،‬الإثنني ‪2010/3/1‬م)‪.‬‬
‫رواية م�رشوع ابت�سامة‪� /‬سامي ال�شاطبي‪.‬‬
‫‪12‬ــ للمزيد من التفا�صيل حول الببليوجرافيا اخلا�صة بالرواية‬ ‫ومن الروايات مايندرج حتت م�صطلحات الرواية الرعوية‪،‬‬
‫اليمنية ميكن الرجوع �إىل ‪ :‬د‪� /‬إبراهيم �أبو طالب‪« ،‬مرجع �سبق ذكره»‪،‬‬ ‫الرواية الر�سائلية‪ ،‬رواية ال�سرية الذاتية‪ ،‬الرواية العاطفية‪،‬‬
‫�ص �ص ‪.215 -199‬‬ ‫وغريها من امل�صطلحات والأ�صناف‪.‬‬
‫واخريا ن�ستطيع القول �أن الرواية اليمنية احتلت مكانتها‪،‬‬
‫حد ما‪.‬‬
‫وت�سري بخطى �رسيعة وثابتة �إىل ّ‬
‫‪140‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫«م�صحف �أحمر»‬
‫جترتح الأ�سطورة‬
‫عبد العزيز املقالح‬
‫�شاعر وكاتب واكادميي من اليمن‬

‫ا�ست�أثر ال�شعر فيها بامل�شهد الإبداعي كام ًال‪،‬وجعل‬ ‫«م�صحف �أحمر»‪ ،‬هو العمل الأول للكاتب حممد‬
‫من كل كتابة �أخرى �أقل اهتمام ًا ومتابعة‪ .‬ولي�س‬ ‫الغربي عمران يف جمال الرواية‪ .‬ويف وقت ق�صري‬
‫غريب ًا �أن يحدث ذلك يف بالدنا‪ ،‬فقد �أحدث مثله‬ ‫�أخذت لنف�سها مكان ًا متقدم ًا يف قائمة الروايات‬
‫يف عدد من الأقطار العربية‪ ،‬قبل �أن جترتح الرواية‬ ‫العربية التي �صدرت يف العام املن�رصم‪ ،‬وكان‬
‫مالحمها الكاملة‪ ،‬وتتحدد عالماتها الفارقة‪ .‬ففي‬ ‫مو�ضوعها‪ ،‬كما هو �أ�سلوبها �أي�ض ًا؛ حمل اهتمام‬
‫م�رص ‪ -‬على �سبيل املثل ‪ -‬كان الروائيون يف بداية‬ ‫القراء والنقاد الذين �أمطروها ب�سيل من الإعجاب‪،‬‬
‫ظهوره ما يو�صفون باحلكواتيني‪ ،‬وهو الأمر الذي‬ ‫و�أرى �أنها جديرة به‪ .‬وكما انطلق كبار ك َّتاب‬
‫جعل واحداً من �أهم رواد ك َّتاب الرواية‪ ،‬وهو الدكتور‬ ‫الرواية يف الوطن العربي من الق�صة الق�صرية‪،‬‬
‫حممد ح�سني هيكل‪ ،‬يرتدد يف و�ضع ا�سمه على‬ ‫كذلك فعل �صاحب «م�صحف �أحمر»‪ ،‬و�إن كان قد‬
‫روايته الأوىل «زينب»‪ ،‬فو�ضع بد ًال منه ا�سم ًا �آخر‬ ‫�أطال الإقامة يف �أح�ضان امل�رسودات الق�صرية (‪5‬‬
‫هو «فالح م�رصي»‪ .‬وكان من الوا�ضح بالن�سبة الينا‬ ‫جماميع ق�ص�صية)‪ ،‬حتى لقد بدا ل�سنوات‪ ،‬وك�أنه‬
‫يف هذه البالد �أن كتابة الق�صة الق�صرية �أو الرواية‬ ‫غري معني بالكتابة الروائية‪ ،‬مع �أن مناذج من‬
‫غري مرغوب بها‪� ،‬أو على الأقل ال جتد لها قراء من �أي‬ ‫ق�ص�صه تتحرك يف اجتاه الرواية‪ ،‬وبع�ضها ي�شكّل‬
‫نوع؛ يف بلد يتغلب فيه ال�شعر على كل ما عداه من‬ ‫مادة لروايات �أجه�ضها اال�ستعجال واالكتفاء‬
‫الكتابات‪ .‬وعندما بد�أ القا�ص والروائي زيد مطيع‬ ‫بكتابة الق�صة الق�صرية مبوا�صفاتها احلديثة‪.‬‬
‫دماج يكتب �أول �أعماله الق�ص�صية‪ ،‬وكنت وقتذاك‬ ‫حتول‬
‫ومن هنا‪ ،‬فقد جاءت الرواية الأوىل مبثابة ِّ‬
‫يف القاهرة‪ ،‬حدثني �أنه ي�شعر باالرتباك جتاه والده‬ ‫كبري يف تاريخ هذا املبدع‪ ،‬الذي كابد كثرياً‪ ،‬وعانى‬
‫الذي يحب ال�شعر‪ ،‬ويحفظ الكثري منه‪ ،‬و�أنه يخ�شى �أن‬ ‫�إىل �أن و�صل �إىل مثل هذا احل�ضور‪ ،‬لي�س على ال�ساحة‬
‫يفاجئه باختياره كتابة الق�صة‪ ،‬لكنه على رغم ذلك‬ ‫اليمنية فح�سب‪ ،‬و�إمنا يف رحاب ال�ساحة العربية‬
‫ذهب يف م�رشوعه الق�ص�صي والروائي �إىل �أق�صى‬ ‫�أي�ضاً‪ ،‬والرواية تعك�س يف بنيتها الداللية والفنية‬
‫حدود طاقته‪ ،‬غري مبالٍ مبا يقال‪ ،‬وكذلك كان حال‬ ‫حالة متميزة يف الكتابة الروائية يف هذه البالد التي‬
‫‪141‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يحدث يف الواقع املحلي والواقع العربي‪،‬وقد جتلى‬ ‫حممد عبد الويل‪ ،‬وغريه من رواد هذا الفن ال�رسدي‪.‬‬
‫الواقع الأخري من خالل ر�سائل الأم �إىل ابنها‪ ،‬بعد �أن‬ ‫ويعد القا�ص والروائي حممد الغربي عمران‪ ،‬من‬
‫ذهب للدرا�سة يف بغداد‪ ،‬و�شهد بعينيه فظائع الغزو‬ ‫اجليل الثالث يف م�سرية الكتابة ال�رسدية يف اليمن‪،‬‬
‫الأمريكي‪ ،‬وما رافق ذلك الغزو من دمار وموبقات‪.‬‬ ‫وقد �أفاد كثرياً من كتابة الق�صة الق�صرية‪ ،‬قبل �أن‬
‫�إذا كان يف و�سعنا �أن نختزل وقائع رواية «م�صحف‬ ‫يتجه �إىل كتابة الرواية‪ ،‬ويف جتويد لغته والإم�ساك‬
‫�أحمر»‪ ،‬وما تعك�سه من �أحداث حقيقية على امل�ستوى‬ ‫بخيوط مو�ضوعاته‪،‬و�إدراك �أبعاد امل�سافة بني‬
‫املحلي والعربي‪ ،‬ف�إننا �سنعجز حتم ًا �إذا ما حاولنا‬ ‫الواقع واخليال‪ .‬و�إذا كان الواقع هو امل�صدر الأ�سا�س‬
‫اختزال اجلانب املهم فيها‪ ،‬وهو ذلك الذي يعتمد على‬ ‫الذي ينهل منه الروائيون مادة �أعمالهم ال�رسدية‪،‬‬
‫�أ�سطورة البحث عن «امل�صحف الأحمر»‪ ،‬وما فر�ضه‬ ‫ف�إن عدداً منهم ال يعدم م�صادر خيالية �أخرى‪،‬‬
‫ذلك البحث امل�ضني على بطلة الرواية‪ ،‬وما تعر�ضت له‬ ‫ت�أخذ الروائي والقا�ص �أي�ض ًا �إىل �أفق جديد؛ بعيداً‬
‫من حماوالت موت حمتم‪ ،‬على رغم كل االحتياطات‬ ‫من الواقع �أو بالقرب منه‪ ،‬كما هو احلال مع الغربي‬
‫والتخفي واخلروج ب�أعجوبة من م�أزق بعد الآخر‪.‬‬ ‫عمران‪ ،‬الذي قدم يف «م�صحف �أحمر» الأ�سطورة‬
‫ولعل هذا اجلانب‪ ،‬هو الذي حرك وجدان القارئ‬ ‫التي �صنعها بخياله‪ ،‬لكي تتوازى مع الواقع الذي‬
‫ب�أحداثه ال�سحرية ومتاهيه بني الرتاثي واملقد�س‪،‬‬ ‫مل يكن �أقل غرائبية عن �أ�سطورته‪ .‬وبقدر ما اعتمدت‬
‫والدور الذي يقوم به من تخفيف وط�أة املتابعة‬ ‫روايته على وقائع وحكايات ال يزال بع�ضها يرتدد‬
‫ل�سل�سلة الأحداث التي تقع يف الريف‪ ،‬امل�شحونة‬ ‫يف �أو�ساط ال�شعب‪ ،‬ويف عدد من املناطق التي �شهدت‬
‫بالتحدي والرتقب ملن يفوز يف معركة متكافئة‬ ‫�أحداثها‪ ،‬وكانت م�رسح ًا ل�رصاع ع�سكري‪ ،‬دارت‬
‫القوى‪ ،‬والتي كانت يف كثري من احلاالت ت�أخذ‬ ‫معاركه على مدى �سنوات بني (الأخوة الأعداء)‪،‬‬
‫�شكل حرب الع�صابات القائمة على قاعدة (الهجوم‬ ‫فقد اعتمدت يف �شكل �أعمق على �أ�سطورية امل�صحف‬
‫والتخفي)‪ .‬ومبا �أنه قد �أ�صبح للفن الروائي �أ�سلوبه‬ ‫الأحمر‪ ،‬ذلك امل�صحف الذي ا�ستوعب‪ ،‬يف زمن ما‪،‬‬
‫وقواعده‪ ،‬ورمبا لغته وطريقة التعامل مع �شخو�صه‬ ‫جوهر الديانات ال�سماوية الثالث يف ر�ؤية ال يخفى‬
‫الرئي�سة منها والثانوية‪ ،‬ف�إننا قد نت�ساءل عن‬ ‫هدفها الإن�ساين‪ .‬ويف وقت يتعاىل �رصاع املتطرفني‬
‫�شخو�ص هذه الرواية‪ ،‬و�أيهما الرئي�س والثانوي فيها‪،‬‬ ‫من �أبناء هذه الديانات‪ ،‬ترافقه نظريات م�سمومة عن‬
‫وهل ميكن القول ب�أن ال�شخ�صيات الأربع املمثلة يف‬ ‫�رصاع الثقافات و�رصاع الأديان‪ ،‬يف حماولة لإعادة‬
‫«العطوي» اجلد‪ ،‬و«تبعه» االبن‪ ،‬و«�سمربية» الزوجة‪،‬‬ ‫�أجواء احلروب ال�صليبية بكل ما حفلت به ‪-‬يومذاك‬
‫و«حنظلة» احلفيد‪ ،‬هي الرئي�سي وبقية ال�شخ�صيات‬ ‫‪ -‬من �إزهاق للأرواح و�إ�سالة �أنهار من الدماء‪ .‬وجتدر‬
‫ثانوية‪ ،‬على رغم ح�ضورها و�أهميتها يف ال�سياق‬ ‫الإ�شارة هنا‪� ،‬إىل �أن رواية «م�صحف �أحمر» لي�ست‬
‫الروائي؟ وهل كان من باب الإن�صاف للمر�أة و�ضع‬ ‫تعبرياً عن رغبة قا�ص متمر�س يف كتابة الق�صة‬
‫«�سمربية» يف مركز احلدث الرئي�س ك�شخ�صية‬ ‫الق�صرية‪� ،‬إىل االنتقال �إىل العامل الروائي فح�سب‪،‬‬
‫حمورية‪� ،‬أو �أن ذلك كان دورها املحوري الواقعي‬ ‫و�إمنا هي تعبري عن ر�ؤية وموقف‪ ،‬ينبعان يف الظاهر‬
‫والرمزي‪ ،‬و�أقول الرمزي لأنني ال �أ�ستبعد �أن تكون‬ ‫من حدث جمتمعي‪� ،‬شغل املواطنني اليمنيني �أكرث من‬
‫رمزاً للثورة ال�سبتمربية‪ ،‬و�أن ا�سمها القريب من ا�سم‬ ‫ثالثة عقود‪ ،‬ودفع خالله كثري من ال�شباب �أرواحهم‪،‬‬
‫الثورة يوحي بذلك‪ ،‬بل يكاد ي�ؤكده‪ ،‬وي�أتي «تبعه»‬ ‫كما هي نابعة كذلك من رغبة يف ابتداع �أ�سطورة‬
‫ك�شخ�صية روائية يف امل�ستوى الثاين نتيجة لن�شاطه‬ ‫غاية يف الإمتاع والت�شويق واالرحتال يف هذا‬
‫ال�سيا�سي‪ ،‬ودوره يف حتريك الأحداث يف املناطق‬ ‫املدى اخليايل‪ ،‬الذي تقطعه بني حني و�آخر �أحداث‬
‫امل�شتعلة بالثورة‪ ،‬ويف العا�صمة حيث كان ينظم‬ ‫ا�ستجد يف‬
‫ّ‬ ‫الواقع‪ ،‬ومتابعة م�سرية �أبطال الرواية وما‬
‫اخلاليا ويتابع ما يجري �أو ًال ب�أول؟ الأ�سئلة كثرية‬ ‫حياتهم‪ ،‬ثم ما ت�صوراتهم �أو مواقفهم من هذا الذي‬
‫‪142‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�س�ؤال‪ ...‬ال يوجد لدى خيار‪� - .‬أعلم �أن بالدنا م�شطرة‪.‬‬ ‫وحمرية‪ ،‬تلك التي تطرحها فكرة ت�صنيف ال�شخو�ص‬
‫‪ -‬كيف؟ ‪ -‬اليمن ق�سمان‪ ...‬ق�سم عا�صمته عدن‪ ،‬والآخر‬ ‫الروائية‪ ،‬وو�ضعها يف مكانها ال�صحيح من املناق�شة‬
‫�صنعاء ‪ -‬ملاذا؟ ‪ -‬لإ�ضعافها‪ ...‬وعلينا �أن ننا�ضل‬ ‫والتف�سري‪ ،‬و�أية �إجابة ‪ -‬من وجهة نظري ‪� -‬ستظل غري‬
‫من �أجل �إعادة قوتها‪ .‬ومن �سخرية القدر �أن ن�ضال‬ ‫وا�ضحة‪ ،‬وال مقنعة لوجود �شخو�ص غام�ضة تلعب‬
‫الأم�س حتول اليوم لدى البع�ض �إىل ن�ضال معكو�س‬ ‫�أدوراً ال تقل �أهمية عن �شخ�صية اجلد واالبن واحلفيد‪.‬‬
‫من �أجل �إعادة الت�شطري‪ ،‬ال من �أجل الت�صحيح وبناء‬ ‫يف بع�ض الروايات ومنها هذه الرواية‪ ،‬ميكننا �أن‬
‫الدولة احلديثة الواحدة‪ .‬وبهذا تكون الرواية يف اليمن‬ ‫نكت�شف �أكرث من �شخ�صية ثانوية جديرة ب�أن تكون‬
‫قد متكنت من اخلروج عن �إطار حمليتها‪ ،‬وحققت قدراً‬ ‫�ضمن ال�شخ�صيات املحورية‪� ،‬أو جديرة ب�أن تن�ضم‬
‫وا�ضح ًا من االنت�شار يف حميطها العربي من خالل‬ ‫على الأقل �إىل م�ستوى ال�شخ�صيات الرئي�سة‪ ،‬ومنها‬
‫«�صنعاء مدينة مفتوحة»للروائي حممد عبدالويل‪،‬‬ ‫�شخ�صية «موالنا» الذي قام على رغم غرابة �أطواره‬
‫و«الرهينة» للروائي زيد مطيع دماج‪ ،‬ومن خالل‬ ‫بدور املر�شد الثوري‪ ،‬وهو الذي يقول عنه «تبعه»‪« :‬مل‬
‫الروائي حبيب �رسوري‪ ،‬والأعمال الإبداعية للدكتور‬ ‫�أعد �أمامه جمرد ولد‪ ...‬غيرَّ ت تعاملي معه‪� ...‬أ�ضحى‬
‫�أحمد ال�صياد‪ ،‬وعلي حممد زيد‪ ،‬وحممد عبدالوكيل‬ ‫يتحدث باقت�ضاب يعرفني ب�أ�سماء القرى املحيطة‪...‬‬
‫جازم و�آخرين‪ ...‬ولن مير وقت طويل قبل �أن يحقق‬ ‫ي�ستعر�ض يل �أ�سماء رجال ا�شتهروا مبقارعة الت�سلط‬
‫اجليل اجلديد من الروائيني يف هذا البلد؛ طموحهم‬ ‫يقرب‬‫والظلم‪ ...‬ي�رشح يل مبادئ احلرية والن�ضال‪ِّ ...‬‬
‫�إىل ذهني �أ�س�س حتقيق العدالة وامل�ساواة‪� ...‬شارح ًا‬
‫امل�رشوع يف االنت�شار الأو�سع‪ .‬و�إذا كنت قد �أ�رشت‬
‫ماهية قوى ال�رش وماهية قوى اخلري والتقدم‪.‬‬
‫�سابق ًا يف هذه القراءة �إىل �أن الغربي عمران قد �أفاد‬
‫عرفت منه خالل �أيامي الأخرية معه �أ�س�س املبادئ‬
‫من ممار�سته الطويلة يف كتابة الق�صة الق�صرية‪ ،‬يف‬
‫وعرفني كيف �أواجه احلياة» (�ص‪.)116‬‬ ‫الوطنية‪ّ ...‬‬
‫تكوين لغة روائية بعيدة من الرتهل والإطناب‪ ،‬ف�إنني‬ ‫و�إىل موالنا هذا يعود الف�ضل يف الإعداد الفكري‬
‫ال بد من �أن �أ�شري هنا �إىل �أن جتربته تلك‪� ،‬أفادته‬ ‫والتنظيمي للتمردات ال�سيا�سية التي �شهدتها بع�ض‬
‫�أي�ض ًا يف ر�سم مالمح ال�شخ�صيات وا�ستنطاقها‪ ،‬ويف‬ ‫املناطق يف �شمال الوطن‪ ،‬ال �سيما املنطقة الو�سطى‪،‬‬
‫�ضبط ر�سم الأمكنة والأزمنة‪ ،‬ريفية كانت �أو مدينية‪.‬‬ ‫والتي قدمتها لنا الرواية بو�صفها مقاومة للأو�ضاع‬
‫ومن ح�سن حظه �أنه مل يبد�أ كتابة الرواية �إ َّال بعد �أن‬ ‫االجتماعية املقلوبة �أكرث منها مقاومة �سيا�سية‪ ،‬فقد‬
‫تخل�صت من �إغراءات الت�شويق الرومان�سي‪ ،‬و�سيطرة‬ ‫متادى الإقطاع يف ظلم الفالحني ونهب �أرا�ضيهم‪،‬‬
‫البعد احلكائي‪ ،‬ودخلت يف جمال املو�ضوعات ذات‬ ‫وحتويلهم �إىل �أجراء‪ ،‬فكان ال بد ملثل هذه الأو�ضاع‬
‫امل�ضمون الفكري‪ ،‬التي تحُ دث بالرواية حتو ًال جذرياً‪،‬‬ ‫من تنفجر حاالت التمرد يف �أو�ساط ال�شباب‪ ،‬و�أن‬
‫من منطق احلكاية �إىل ق�ضايا ذات �صلة باحلياة‬ ‫ي�ستمدوا العون من النظام ال�سيا�سي املناف�س الذي‬
‫والنا�س‪ ،‬لي�س يف حماولة لتوثيق ما جرى ويجرى‪،‬‬ ‫يحكم �شطراً من البالد‪ ،‬وبذلك فقد �أحرزت هذه‬
‫و�إمنا لتف�سري هذا الذي جرى ويجري تعليله‪� .‬أخرياً‪ ،‬ال‬ ‫الرواية ق�صب ال�سبق يف تناولها تلك الأحداث‪ ،‬من‬
‫�أن�سى الإ�شارة �إىل �أن بالدنا‪ ،‬هذا البلد العربي العامر‬ ‫منظور �أدبي وبقدر كبري من اجلر�أة واملو�ضوعية‪.‬‬
‫ب�أغنى ما يختزنه املكنون الب�رشي من ميثولوجيا‪،‬‬ ‫وموالنا كما حددت الرواية مهمته جتهيز ال�شباب‬
‫تنتظر من يجيد ا�ستثمار هذا املخزون‪ ،‬وفك رموزه‪،‬‬ ‫و�إعدادهم للتدريب‪،‬واال�ستعداد للعمل الوحدوي‬
‫يف �أعمال �إبداعية �أكرث �إدها�ش ًا وبهاء‪.‬‬ ‫العظيم‪ - :‬هل �س�ألت نف�سك ملاذا تتدرب؟ ‪ -‬دون‬

‫‪143‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫«بالد بال �سماء»‬
‫مفارقات التعدد وجماليات تفكيكها‪..‬‬
‫�إبراهيم حممد الهمداين‬
‫باحث وناقد من اليمن‬

‫يتكون عنوان هذه القراءة من �شقني‪ ،‬لكل منهما ُبعد يحكم ويحدد م�سارها؛ فال�شق الأول‪:‬‬
‫التعدد يعنى بجانب املمار�سة الن�صية القرائية‪ ،‬الهادفة �إىل النظر يف مكوناته ومتظهراته‪،‬‬
‫ابتداء من الر�ؤية‪ /‬الراوي وانتهاء باللغة‪ ،‬وهذا البعد ميثل م�سار‬
‫املاثلة يف عنا�رص ال�رسد‪ً ،‬‬
‫القراءة وخط توجهها بو�ضوح‪.‬‬
‫�أما ال�شق الثاين‪ :‬جماليات التفكيك‪ ،‬فيعنى باجلانب النظري �أو املنهج املتبع يف هذه القراءة‬
‫– املنهج التفكيكي – بو�صفه و�سيلة ن�ستطيع بوا�سطة �آلياته اكت�شاف �أبعاد املفارقات‬
‫التعددية‪ ،‬وتو�ضيح العالقات القائمة بينها‪ ،‬و�إ�ضفاء �سمة املو�ضوعية والدقة – �أو االقرتاب‬
‫منها – على القراءة يف ُبعديها الن�صي واملنهجي‪ ،‬بعيدا عن التبجيل املطلق والآراء العابرة‪،‬‬
‫�إذ ال يخدم �أي منهما الن�ص الإبداعي يف �شيء‪.‬‬

‫‪( u‬بالد بال �سماء) تدخل يف �إطار الرواية اجلديدة‪ /‬رواية‬


‫الأ�صوات‪ ،‬التي تهدف �إىل التمرد على امل�ألوف والنظم‬
‫ال�سائدة‪ ،‬واالختالف واجلنوح �إىل املغايرة‪ ،‬وتفتيت ال ُبنى‬
‫املنتظمة ‪u‬‬

‫‪144‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ضد التعقيد والتقنني �أوالً‪ ،‬والختالف النزعات باختالف‬ ‫بقيت جزئية من العنوان ال بد من النظر فيها‪ ،‬وهي‬
‫كل �أديب وباختالف كل عمل �أدبي»( )‪.‬‬ ‫املفارقة‪ ،‬التي تعني يف �أب�سط و�أقرب معانيها �إىل الذهن‪،‬‬
‫وقد ن�ش�أت يف ظل اهتزاز الثوابت وتفتت القيم‪« ،‬ومتزق‬ ‫«توتر الأ�ضداد»‪� ،‬أو «تباين بني احلقيقة واملظهر»‪ ،‬مع‬
‫املبادئ واملقوالت‪ ،‬وت�شتت الذات اجلماعية‪ ،‬وحرية الذات‬ ‫الت�أكيد �أن العالقة بينهما لي�ست عالقة ت�شابه �أو ال ت�شابه‪،‬‬
‫الفردية‪ ،‬وغمو�ض الزمن الراهن والآتي‪ ،‬وت�شظي املنطق‬ ‫�أو ت�ساوي‪ /‬متاثل‪ ،‬بل هي عالقة «ت�ضاد �أو تعار�ض �أو‬
‫امل�ألوف واملعتاد»‪ ،‬وميكن تلخي�ص الأ�س�س واملرتكزات‬ ‫تناق�ض �أو تنافر �أو عدم ات�ساق»‪ ،‬مما يعني �أن للمفارقة‬
‫الفل�سفية واحل�ضارية وال�سيا�سية‪ ،‬التي قامت عليها رواية‬ ‫�صورة مزدوجة مركبة‪ ،‬وهي من ناحية �أ�سلوبية نوع من‬
‫الأ�صوات‪ ،‬يف النقاط الآتية‪-:‬‬ ‫الت�أنق‪ ،‬تهدف �إىل «�إحداث الأثر ب�أقل الو�سائل تبذيرا»‪،‬‬
‫‪-1‬امل�ؤثرات الأجنبية واالنفتاح على الرتاث الق�ص�صي‬ ‫خا�ضعة ملبد�أي االقت�صاد والتكثيف‪ ،‬ومبد أ� ثالث هو عدم‬
‫القدمي‪.‬‬ ‫التوقع و�إثارة الده�شة والت�أمل‪ ،‬وهذا اجلانب �أكرث ارتباطا‬
‫‪-2‬هزمية حزيران ‪1967‬م‪ ،‬التي كانت – وال تزال –‬ ‫بطبيعة القراءة‪� ،‬أما املفارقة من الناحية الفل�سفية‪ ،‬فهي‬
‫حجر زاوية يف كل ما جرى ويجري حتى الآن‪.‬‬ ‫«جتاور املتنافرات الذي ُيعد جزءاً من بنية الوجود»‪،‬‬
‫‪-3‬اهتزاز الثوابت الوطنية والتاريخية بعد انكفاء جتربة‬ ‫�إذ ال توجد حياة ب�رشية حقيقية ممكنة‪ ،‬دون �أن تكون‬
‫الكفاح امل�سلح‪.‬‬ ‫املفارقة عماد ُبناها‪.‬‬
‫‪-4‬تف�سخ الأحزاب وترهل العمل اجلماعي املنظم‪.‬‬ ‫وبهذا تت�ضح الر�ؤية يف طبيعة العالقة بني مفردات‬
‫‪-5‬تفتت الأيديولوجيات وتراجعها وتخبطها‪ ،‬وا�ستفحال‬ ‫العنوان (املفارقة والتعدد والتفكيك)‪ ،‬وم�ستوى الربط‬
‫�أزمة الدميقراطية‪ ،‬وغياب املثل وفقدان النموذج القيادي‪.‬‬ ‫بينهما‪ ،‬القائم على رف�ض الواحدية مطلقا‪ ،‬وانتهاج‬
‫‪-6‬ات�ساع هوة التفاوت االقت�صادي وما يولده من‬ ‫البنى ذات املكونات‬ ‫التعدد واالختالف‪ ،‬وتفكيك ُ‬
‫حرمان و�أمل‪.‬‬ ‫املزدوجة املركبة‪ ،‬ومهما ا�ستمرت عملية تفكيكها‪،‬‬
‫وقد قام بناء الرواية اجلديدة على مبد�أ الرف�ض لقانون‬ ‫فلن تق�ضي على مفارقاتها املتعددة‪ ،‬فهاتان ال�سمتان‬
‫العلية �أو ال�سببية املتحكمة يف بناء الأحداث‪ ،‬وعدم‬ ‫متالزمتان للوجود وكامنتان فيه‪.‬‬
‫الربط بني الظواهر‪ ،‬والتمرد عل جماليات وحدة املعنى‬ ‫رواية الأ�صوات‪-:‬‬
‫والتما�سك الداليل والنمو الع�ضوي‪ ،‬جت�سيداً لفو�ضى العامل‬ ‫مييز النقاد بني ثالث مراحل �أو حمطات تاريخية مرت‬
‫وغمو�ضه وارتباكه‪« ،‬لأن ظواهره املتجاورة واملتباعدة‬ ‫بها التجربة الروائية العربية‪ ،‬نتج عنها ثالثة �أنواع‬
‫ع�صية على الفهم �أو التعليل» ‪،‬‬‫َّ‬ ‫واملتنافرة واملتوازية‪،‬‬ ‫للرواية هي‪ :‬التقليدية واحلديثة واجلديدة‪ ،‬وبعد ذكر‬
‫�إذن فالرواية اجلديدة �صورة من التمرد الدائم‪ ،‬الذي ي�صل‬ ‫�سمات ومرتكزات التي قامت عليها كل منها‪ ،‬تبينَّ �أن‬
‫�إىل مترد الذات على نف�سها‪ ،‬وب�ؤرتها املتمثلة يف التعدد‬ ‫رواية (بالد بال �سماء) تدخل يف �إطار الرواية اجلديدة‪/‬‬
‫والتنوع‪ ،‬وتهدف �إىل �إثارة الأ�سئلة الفنية وال�شكوك‪ ،‬التي‬ ‫رواية الأ�صوات‪ ،‬التي تهدف �إىل التمرد على امل�ألوف‬
‫وتولد يف نف�سه‬
‫ت�صدم املتلقي �أكرث مما جتذبه‪ ،‬وتهزه ّ‬ ‫والنظم ال�سائدة‪ ،‬واالختالف واجلنوح �إىل املغايرة‪،‬‬
‫اال�ضطراب وال�شك‪ ،‬وتزعزع يقينه‪ ،‬ومتلأ عينيه ب�صورة‬ ‫البنى املنتظمة‪ ،‬وتعرية االختالالت يف كافة‬ ‫وتفتيت ُ‬
‫الفو�ضى وتفكك هذا العامل‪ ،‬مما يعك�س ت�شظي الأبنية‬ ‫مناحي احلياة املعي�شة‪ ،‬وهذه الر�ؤية تتداخل ومتتزج‬
‫املجتمعية‪ ،‬وفقدان الإن�سان وحدته مع ذاته‪ ،‬وعند‬ ‫كثريا مع فل�سفة التفكيك‪.‬‬
‫ذلك احلال ي�ستند الفرد «�إىل جماليات التفكك‪ ،‬بد ًال من‬ ‫هناك ت�سميات كثرية أُ�طلقت على هذا اللون من الفن‬
‫جماليات الوحدة والتناغم»‪ ،‬لأن ِح َّدة الأزمات امل�صريية‬ ‫الروائي‪ ،‬الذي جاء مغايراً للرواية احلديثة معنى ومبنى‪،‬‬
‫التي يواجهها الإن�سان‪� ،‬إ�ضافة �إىل الغمو�ض الذي يعرتي‬ ‫ومن تلك الت�سميات‪ :‬رواية الالرواية‪ ،‬والرواية الطليعية‪،‬‬
‫حركة الواقع وجمرى احلياة‪ ،‬يو ّلدان يف الذات الإن�سانية‬ ‫وال�شيئية‪ ،‬واجلديدة‪ ،‬والتجريبية‪ ،‬ورواية الأ�صوات‪،‬‬
‫�شعوراً بال�ضياع احلاد‪ ،‬والذوبان والتال�شي يف جماهيل‬ ‫وغريها‪ .‬وذلك ناجت عن «طبيعتها البنائية وفل�سفتها‬
‫العامل‪ ،‬لت�صبح الرواية اجلديدة – يف �صورتها الأخرية‬ ‫وهدفها يف [التمرد] �ضد التحديد �أو الت�صنيف [‪ .....‬وهي]‬
‫‪145‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫امل�ستويات‪ ،‬الأيديولوجية والثقافية واالجتماعية‬ ‫– «بنية فنية دالة على االحتجاج العنيف والرف�ض‬
‫وال�سيا�سية وغريها‪� ،‬ضمن �سياقاته املتعددة‪.‬‬ ‫لكل ما هو متداول وم�ألوف‪ ،‬وهي جت�سيد لر�ؤية ال‬
‫يقينية للعامل»‪ ،‬وهي بطبيعتها تهدف �إىل بلبلة القارئ‪،‬‬
‫الر�ؤية العامة يف رواية «بالد بال �سماء»‪.‬‬ ‫ودفعه عن االندماج بعامل الرواية‪� ،‬إىل التفكري يف كل‬
‫يقوم العمل الروائي يف (بالد بال �سماء) بهدم الأن�ساق‬ ‫ما يقر�أ‪« ،‬والت�أمل يف مغزى التجاور والتنافر والتوازي‬
‫االجتماعية والفكرية والثقافية واملعرفية‪ ،‬ويقوم �أي�ض ًا‬ ‫واالنحرافات»‪ ،‬من خالل تقنيات وانزياحات �رسدية‪،‬‬
‫بهدم املركز القائم يف عامل الن�ص الروائي‪ ،‬لكنه ال يقدم‬ ‫تظهر ب�شكل متكرر يف بنية الرواية‪ ،‬وهي عماد بنائها‪،‬‬
‫متركزاً �أو متركزات و�أن�ساق بديلة‪� ،‬إذ يلج�أ �إىل تو�سيع‬ ‫كاالنتقال من حدث �إىل حدث �أو من مكان �إىل �آخر �أومن‬
‫مدار الفانتازيا الن�صية‪ ،‬وخلخلة االتزان الداليل‪ ،‬تارك ًا‬ ‫�شخ�صية لأخرى‪ ،‬وغاية هذه االنزياحات ك�رس وخلخلة‬
‫ف�ضاءات الن�ص تعج بالهدم والهدم الآخر (هدم الهدم)‪،‬‬ ‫الت�سل�سل الزمني‪ ،‬فتتداخل الأزمنة ويمُ َّوه املكان �أو يتعدد‪.‬‬
‫وبالتعدد الداليل الالنهائي‪.‬‬ ‫�إن هذا البناء الروائي الذي يتجلى يف الرواية اجلديدة‬
‫هذا يقود �إىل حقيقة �أن هذا الن�ص الروائي قام �أ�سا�س ًا‬ ‫عامة – ورواية (بالد بال �سماء) مو�ضوع هذه القراءة على‬
‫على فكر ما بعد احلداثة‪ ،‬متبني ًا م�رشوع ًا فل�سفي ًا غاية يف‬ ‫وجه اخل�صو�ص – قائم على اال�ضطراب وال�شك والتمرد‪،‬‬
‫اخلطورة‪ ،‬نظراً لتعقيده و�إ�شكاليات مفاهيمه وغمو�ض‬ ‫واالنفتاح الدائم على الأ�سئلة الالنهائية‪ ،‬وهذا هو ذات‬
‫وت�شتت م�صطلحاته ودالالته‪ ،‬واملالحظ من خالل ما �سبق‬ ‫املنهل الذي تنهل منه فل�سفة التفكيك‪ ،‬التي ثارت على‬
‫�أن جمتمعاتنا بكل مكوناتها‪ ،‬تت�صارع فيما بينها على‬ ‫الواقع‪ ،‬و�أطلقت العبثية والفو�ضى‪ ،‬ومتردت على كل القيم‬
‫�أ�سا�س من ذلك الفكر‪ ،‬بو�صفها جت�سيداً منطقي ًا جلدلية تلك‬ ‫واملبادئ ال�سائدة‪ ،‬نظراً الختالل املنظومة املجتمعية‬
‫الفل�سفة – �أو جزءا منها – القائمة على العبثية وال�رصاع‬ ‫والقيمية والأيديولوجية وال�سيا�سية وغريها‪ ،‬وحاولت‬
‫الثنائي امل�ستمر‪ ،‬وحماوالت الإق�صاء والتهمي�ش املتبادل‬ ‫�أن تخلق من الفو�ضى‪ ،‬حالة م�ستمرة من الهدم والبناء‬
‫بالتناوب بني الثنائيات ال�ضدية‪ ،‬التي حتيلنا بقوة �إىل‬ ‫املتكرر‪ ،‬وجتدر الإ�شارة �إىل �أن املنهج التفكيكي – املُتبع‬
‫ال�رصاع الدائم والعنف والعنف امل�ضاد‪ ،‬و�صو ًال �إىل نهاية‬ ‫– لي�س منهج ًا �صارماً‪ ،‬كالإح�صائي الأ�سلوبي �أو غريه‪،‬‬
‫التاريخ والعودة �إىل نقطة البداية‪ ،‬ورغم قيام الفل�سفة‬ ‫و�إمنا يتمتع مبرونة عالية �إذ تت�سع �آلياته و�إجراءاته‬
‫والفكر املابعد حداثي‪ ،‬على ن�سف املركز وتغييبه‪ ،‬مقابل‬ ‫وتتقل�ص ح�سب ما يقت�ضيه الن�ص وتفر�ضه طبيعته‪.‬‬
‫َمركزة �أو التمركز حول الهام�ش‪ ،‬والإعالء من �ش�أنه‪،‬‬
‫�إ َّال �أن ذلك مل ي� ِؤت ثماره‪ ،‬كما هو م�أمول على ال�صعيد‬ ‫التفكيك واللغة‪-:‬‬
‫احلياتي املعي�ش‪ ،‬فمحاوالت ن�سف املركز (الرجل)‬ ‫يحاول التفكيك التمرد على جمموعة القواعد والقوانني‬
‫املتمثل يف الت�سلط الذكوري اجتماعياً‪ ،‬وهيمنة القطب‬ ‫والنظم املجتمعية واملعرفية‪ ،‬و�إثبات فاعلية �سلطته من‬
‫الواحد �سيا�سيا‪ ،‬مل ترتك �سوى العديد من االختالالت‬ ‫خالل حتطيم اللغة‪ ،‬ولذلك ي�ضع تريي �إيغلتون «التفكيك‬
‫والفجوات والفراغات‪ ،‬التي تنتظر البديل املفقود‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫يف عداد التعابري الناجتة من مزيج االبتهاج وخيبة‬
‫�إىل �ضعف الهام�ش‪ ،‬وعجزه عن القيام بدور املركز �أو‬ ‫الأمل والتحرر والتبدد والكرنفال والكارثة‪ ،‬يف �إثر حركة‬
‫التمركز‪ ،‬و�إذا �سلمنا بقيام متركزات عدة على �أنقا�ض‬ ‫الطالب الفرن�سية (مايو ‪1968‬م)»‪ ،‬وهو يرى �أن حتطيم‬
‫مركز ما‪ ،‬وقد جنحت – �إىل حد ما – لكنها ما لبثت �أن‬ ‫بنيات اللغة‪� ،‬إمنا م َّثل تعوي�ض ًا رمزي ًا عن العجز‪ ،‬الذي‬
‫حتولت �إىل مراكز �صغرى متعددة‪ ،‬قابلة للتفتيت والهدم‪،‬‬ ‫حال دون حتطيم بنيات �سلطة الدولة‪ ،‬لأن «الكتابة‪� ،‬أو‬
‫لتن�ش أ� على �أنقا�ضها مثيالتها تكوين ًا وم�صرياً‪ ،‬ومن‬ ‫القراءة – بو�صفها كتابة – هي �آخر مالذ غري م�ستعمر‪،‬‬
‫ذلك ت�ستمد عملية الهدم الالنهائية ا�ستمراريتها‪ ،‬وتبقى‬ ‫ومغ ِف ًال‬
‫ميكن للمثقف �أن يلعب فيه‪ ،‬متذوق ًا ترف الدال‪ُ ،‬‬
‫جدلية �رصاع الثنائيات املتناق�ضة يف تنا�سلها امل�ستمر‬ ‫متام ًا ما قد يجري يف ق�رص الإليزيه‪� ،‬أو م�صانع �رشكة‬
‫وحركتها الدائمة‪ ،‬وكل ما قيل �سابق ًا ينعك�س بحذافريه‬ ‫رينو»‪� .‬إذن التفكيك لي�س اغت�صاب ًا �أو انتهاك ًا للن�ص‪،‬‬
‫على الن�ص الروائي مو�ضوع البحث‪ ،‬الذي يتمثل تنا�سل‬ ‫�إمنا هو �إقامة عالقات حوارية مفتوحة معه على كافة‬
‫‪146‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪-2‬ثنائية اال�ستبدال بني حريف الـ (ب) والـ (ال)‬ ‫الهدم والتعدد الداليل والتالعب املتبادل بني �ضدي‬
‫املعنى يف حقل االختالف وغري ذلك‪ ،‬بطريقة فنية تتميز‬
‫مبغايرتها للواقع‪ ،‬وابتعادها عن اخليال‪ُ ،‬م َ�ش ِّكلَة عامل ًا‬
‫خا�صاً‪ ،‬تكت�سب مكوناته الن�صية دميومتها وحيويتها‪،‬‬
‫من خالل ال�رصاع الالمتناهي بني ثنائيتها وجزئياتها‬
‫املتعددة‪ ،‬و�صو ًال �إىل جزئيات احلذف الداليل والكتابي‪،‬‬
‫وا�ستنطاق الغائب الن�صي‪ ،‬وتهمي�ش احلا�رض فيه‪ ،‬وتفعيل‬
‫عامل يف الرتكيب‬ ‫�سلطة القارئ‪ ،‬و�إلغاء �سلطة الن�ص ومرجعياته‪.‬‬
‫على حمور التوا�صلعامل يف املعنى‬ ‫مفارقات العنوان‪-:‬‬
‫زائد يف املعنى�أ�صلي يف الرتكيب واملعنى‬
‫ت�سا�ؤالت العنوان‪.‬‬
‫وتربط عالقة التزامن التخالفي‪ /‬املتخالف بني طريف هذه‬ ‫من الت�سا�ؤالت التي يلقيها هذا العنوان‪ :‬ملاذا وقع االختيار‬
‫امن (مبعنى ترافق) ت�صنيفهما احلريف مع‬ ‫الثنائية‪� ،‬إذ َت َز َ‬ ‫على كلمة (بالد)‪ ،‬دون غريها من مثيالتها كوطن �أو �أر�ض‬
‫حماولة ا�ستبدال معنى وعمل �أحدهما بالآخر‪� ،‬أو دجمهما‬ ‫�أو مكان �أو ما �شابه؟ وما داللة كلمة «بالد» التي توحي‬
‫للح�صول على معنى واحد – وهذا ما مت تبع ًا لال�ستعمال‬ ‫باجلمع العام املبهم؟‪ ،‬وملاذا مل تكن «بلدان» مثالً؟ ما‬
‫التداويل – وعمل واحد‪ ،‬وهذا فيه نظر لأن كليهما عامالن �أو‬ ‫داللة التناظر‪ /‬التجان�س الكتابي وال�صوتي يف «بالد‪،‬‬
‫يجب �أن يعمال‪ ،‬وقد قامت تلك العالقة على حمور التوا�صل‪،‬‬ ‫بال»؟‪ ،‬هل توحي داللة القطع ال�صوتي والكتابي يف «بال»‬
‫بهدف خلق �أن�ساق لغوية وتركيبية جديدة‪ ،‬وفتح �آفاق‬ ‫بثبوت النفي وقطعيته؟ وما داللة اجتماع‪ /‬اقرتان حرفني‬
‫اال�ستعمال اللغوي‪.‬‬ ‫(باء اجلر‪ ،‬وال النفي) يف مركب نطقي واحد؟ ماذا لو كانت‬
‫«�سماء بال بالد»‪ ،‬و�أيهما �أ�شد افتقاراً للأخرى؟ و�إذا كانت‬
‫العنوان‪ :‬عبثية الرتكيب ومراوغة الداللة‪.‬‬ ‫ومعرفة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫(�سماء) – بو�صفها حيزاً ف�ضائي ًا – متعينة‬
‫يقوم العنوان على �أ�سا�س تفكيكي متمثل يف وجهني‪:‬‬ ‫لداللة معناها العام وتداولها عليها‪ ،‬فكيف يت�سنى لنا‬
‫الوجه الأول‪ :‬التمرد على الداللة وا�ستحالة القب�ض على معنى‬ ‫معرفة (بالد)؟ �أال يعد اجلمع بني النكرة واملعرفة – يف‬
‫معني‪ ،‬وحتقيق ذلك عرب االنتقال الداليل‪� ،‬إذ ينتقل الدال �إىل‬ ‫هذا الرتكيب – اخرتاق ًا �إ�ضافي ًا لقواعد اللغة؟‬
‫دالٍ �آخر‪ ،‬با�ستمرار دون الوقوف على �صورة واحدة لدال معني‬ ‫ميكن القول �إن الرتكيب‪ /‬جملة العنوان قائم على‬
‫يحيلنا �إىل مدلوله الأخري‪ ،‬ويتمثل هذا التمرد الداليل على‬ ‫ثنائيتني تربط كل منها عالقة خا�صة‪ ،‬ميكن تو�ضيحها‬
‫حمورين‪:‬‬ ‫يف الرت�سيمة الآتية‪:‬‬
‫‪-1‬حمور الرغبة بني مراوغة املعنى ولعب الدالالت‪ ،‬عرب‬ ‫‪-1‬ثنائية الت�ضاد‪ /‬التقابل بني (بالد‪� ،‬سماء)‬
‫عالقة التوازي‪ ،‬التي جتمع بينهما وي�سري كل منهما يف خط‬
‫مواز للآخر‪ ،‬دون �أن يلتقيا �أو ي�صال �إىل نقطة نهائية‪ ،‬نتيجة‬
‫لال�ستبدال امل�ستمر للدوال‪.‬‬
‫‪ -2‬حمور ال�رصاع بني �سلطة احل�ضور (الدال) وثورة الغياب‬
‫(الدال امل�ضاد)‪ ،‬نظراً لعالقة التجاور النقي�ض‪ /‬املتعار�ض‪،‬‬
‫�إذ �أن وجود الدال �أ يقت�ضي بال�رضورة وجود الدال �أَ وذلك ما‬
‫تو�ضحه الرت�سيمتان التاليتان‪:‬‬ ‫يرتبط طريف هذه الثنائية بعالقة التوازي املتنافر‪،‬‬
‫املتمثلة يف حماولة ك�رس م�ألوف وخرق القاعدة اللغوية‪،‬‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫وانتهاك الرتكيب‪ ،‬على حمور الرغبة يف توليف قاعدة‬
‫جديدة‪ ،‬و�إعادة �إنتاج اال�ستعمال اللغوي مرة �أخرى �أو �أكرث‪.‬‬
‫‪147‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫«حرب اخل�شب»‬
‫وجدلية الثنائيات املتناق�ضة‬
‫نبيلة خبزان‬
‫كاتبة وباحثة من اليمن‬

‫ميكن القول �إن هذه الرواية تنتمي �إىل املرحلة الواقعية‪ ،‬التي م َّثلتها الروايات التقليدية‬
‫الهادفة �إىل التعليم والوعظ والإر�شاد‪ ،‬ونقل �صورة املجتمع �إىل القارئ بكل �سلبياتها‬
‫ومظاهرها‪ ،‬وهذا النوع من الروايات هام بدالالته رغم فقر بنائه وحمتواه‪ ،‬والروايات‬
‫التقليدية عموم ًا – وهذه الرواية خ�صو�ص ًا ‪ً -‬تعد جت�سيداً لقي ٍم فني ٍة تنقل ر�ؤية الإن�سان‬
‫والفن والعامل‪ ،‬وهذه الرواية مهيمنة بر�ؤيتها و�أ�سلوبها ووظيفتها االجتماعية والتاريخية‪،‬‬
‫�أو اعرتا�ضها املنزاح فني ًا �إىل التاريخ‪ ،‬وكذلك تهيمن الفكرة فيها على �صوت التجربة‬
‫املتكاملة‪ ،‬وتتميز ب�أحداثها املرتاكمة التي ترتبط فيما بينها بو�سائل عدة‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫امل�صادفات �أو الق�ضاء والقدر �أو تدخالت ال�سارد املبا�رشة‪،‬‬

‫‪( u‬حرب اخل�شب) عنوان يجمع بني نقي�ضني متغايرين‪،‬‬


‫فاحلرب تدل على التدمري واخلراب والهدم‪ ،‬بينما يدل‬
‫اخل�شب على احلياة ‪u‬‬

‫‪148‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف �صورتها العميقة طبيعة ال�رصاع بني الآباء والأبناء‪� ،‬أو‬ ‫وت�أتي تلك الو�سائل والتدخالت‪ ،‬نتيجة كرثة اال�ستطرادات‬
‫ما ي�سمى (�رصاع الأجيال) يف �صورته العامة؛ هذا ال�رصاع‬ ‫واالنحرافات ال�رسدية والقفزات املتكررة عرب الأزمنة‬
‫الذي ين�شب بني طرفني غري متكافئني‪ ،‬ي�ستخدم فيه الطرف‬ ‫املختلفة‪� ،‬إ�ضافة �إىل تويل الراوي العليم بكل �شيء مهمة‬
‫الأول �أب�شع الو�سائل و�أقذرها �ضد الطرف الثاين‪ ،‬فالآباء‬ ‫�رسد الأحداث‪ ،‬ونتيجة لتدخالته املتكررة بالتعليق وال�رشح‬
‫حني يقودون �أبناءهم خلو�ض معارك الث�أر تلك‪ ،‬ينتقمون من‬ ‫والتف�سري وغريه‪ ،‬ف�إنه يقع يف مزالق عدة يف بنية ال�رسد‬
‫�أبنائهم – بتعري�ضهم للقتل – قبل �أن ينتقموا من �أعدائهم‪،‬‬ ‫عامة؛ كما يتجلى يف بنائها – �أي�ض ًا – االهتمام بالرتاث‬
‫مما ي�صيب املجتمع بالعقم الفكري والثقايف‪ ،‬ويفقد االنتماء‬ ‫ال�شعبي واحلر�ص على ت�ضمني خمتارات معينة منه يف‬
‫معناه‪ ،‬وتتولد رغبة عميقة يف النفو�س باالنتقام ال�شامل‬ ‫الرواية‪ ،‬وخا�صة الأمثال ال�شعبية‪ ،‬ليدل ذلك على �صدق‬
‫والتدمري‪.‬‬ ‫التجربة وعمقها من جانب‪ ،‬وجعلها �أكرث الت�صاقا بالواقع‬
‫الذي انطلقت منه‪ ،‬و�أكرث قدرة على التعبري عنه من جانب‬
‫الراوي ( الر�ؤية)‪ :‬بناء الر�ؤية �أو اجلهة (‪)Aspect‬‬ ‫�آخر‪.‬‬
‫ميكن من خالل درا�سة الر�ؤية وحتديدها‪ ،‬معرفة الطريقة‬ ‫و�سنكتفي يف هذه امل�ساحة بن�رش املبحث الأول من الدرا�سة‪،‬‬
‫التي يتمثل من خاللها الراوي احلكاية‪ ،‬ونالحظ �أن الر�ؤية‬ ‫الذي يتناول حتت عنوان «الراوي‪ ،‬الر�ؤية» داللة العنوان‬
‫يف رواية ( حرب اخل�شب) لي�ست واحدة‪ ،‬و�إمنا هي مزيج‬ ‫على م�ضمون الرواية‪ ،‬ثم �أمناط الراوي املتعدد يف الرواية‪،‬‬
‫من الر�ؤية الداخلية واخلارجية ‪ -‬ح�سب ثنائية �ستيفان‬ ‫وتعدد الر�ؤية �أو زاوية الر�ؤية‪ ،‬ومدى داللة كل ذلك على جدلية‬
‫تودوروف ‪ -‬وبذلك ميتزج �أ�سلوب ال�رسد الذاتي واملو�ضوعي‪،‬‬ ‫الثنائيات املتناق�ضة‪ ،‬وطبيعة ال�رصاع الكائن فيما بينها‪ ،‬وقد‬
‫وميكن القول‪ -‬وفقا لذلك‪� -‬إن الر�ؤية هنا هي ر�ؤية مزدوجة‪،‬‬ ‫تبني �أن الراوي مت َّثل يف ثالثة �أمناط‪ :‬راو عليم‪ ،‬وراو م�شارك‪،‬‬
‫«متتزج بها الر�ؤيتان‪ :‬الداخلية واخلارجية يف بنية الرواية‬ ‫وراو �شاهد‪ ،‬وهو يف كل منط ينظر من زاوية خمتلفة‪.‬‬
‫الواحدة»‪ ،‬ففي الر�ؤية اخلارجية‪« :‬يظهر الراوي العليم بكل‬
‫�شيء‪ ،‬منطلقا من �أ�سلوب ال�رسد املو�ضوعي‪ ،‬ويف الر�ؤية‬ ‫العنوان‪:‬‬
‫الداخلية يظهر الراوي حمدود العلم �أو الراوي امل�شارك الذي‬ ‫�إن العنوان (حرب اخل�شب) يجمع بني نقي�ضني متغايرين‪،‬‬
‫تت�ساوى معرفته مبعرفة ال�شخ�صيات الروائية»‪ ،‬وهذه الرواية‬ ‫فاحلرب تدل على التدمري واخلراب والهدم‪ ،‬بينما يدل اخل�شب‬
‫تنطلق من �أ�سلوب ال�رسد املو�ضوعي املنفتح على جميع‬ ‫بالنظر �إىل م�صدره – الأ�شجار – على احلياة‪ ،‬وبالنظر �إىل‬
‫ال�ضمائر‪ ،‬فريوي مرة ب�ضمري املتكلم (الأنا)‪ ،‬و�أخرى ب�ضمري‬ ‫حالته الراهنة ‪ -‬بو�صفه خ�شبا ‪ -‬ي�ستفاد منه يف �أغرا�ض‬
‫الغائب (الهو)‪ ،‬وثالثة يلج أ� �إىل احلوار‪ ،‬وهكذا ينتقل بني جميع‬ ‫حياتية خمتلفة‪ ،‬ليدل على البناء والتعمري‪ ،‬وهنا يتجلى‬
‫ال�ضمائر و�أنواع ال�رسود‪ ،‬والراوي ‪� -‬ش�أنه �ش�أن ال�شخ�صيات‬ ‫امل�ستوى الأول لل�رصاع بني البناء والهدم‪ ،‬و�إذا كانت احلرب‬
‫الروائية‪ -‬لي�س �إ َال �شخ�صية من ورق ‪ -‬ح�سب بارت ‪ -‬ميكن‬ ‫تدل على القوة‪ ،‬ف�إن اخل�شب مما ال ي�صمد �أمامها‪ ،‬فهو يحمل‬
‫النظر �إليه بو�صفه «و�سيلة �أو �أداة تقنية ي�ستخدمها الروائي‬ ‫بني جنباته ال�ضعف واالحرتاق واال�ست�سالم لنريانها‪ ،‬دون‬
‫ليك�شف بها عن عامل روايته»‪ ،‬وهو املُختار لتقدمي الأحداث‬ ‫�أي مقاومة تذكر‪� ،‬إذن فاخل�شب رمز اله�شا�شة وال�ضعف‪،‬‬
‫وال�شخ�صيات وعامل الرواية ب�أكمله‪ ،‬ويف هذه الرواية‬ ‫واحلرب رمز القوة والبط�ش والتدمري حتى بنف�سها‪« ،‬فالنار‬
‫(حرب اخل�شب) جند راويا واحدا هو الذي يهيمن على عامل‬ ‫ت�أكل نف�سها‪� ...‬إن مل جتد ما ت�أكله»‪ ،‬و�إذا قمنا ب�إ�سقاط‬
‫الرواية‪ /‬ال�رسد‪ ،‬في�صف وي�رسد ويقدم وي�ؤخر‪ ،‬ويعلق ويربر‬ ‫العنوان داللي ًا على م�ضمون الرواية‪ ،‬وجدنا احلرب تطابق‬
‫وينقل نقال حمايدا وغري ذلك‪ ،‬متنقال بني الر�ؤيتني الداخلية‬ ‫ق�ضية الث�أر واالنتقام ونزعة ال�سيطرة والبط�ش‪ ،‬املتمثلة يف‬
‫واخلارجية‪ ،‬و�أمناط الراوي املختلفة‪� ،‬إذ جنده يبد أ� الرواية‬ ‫عملية ال�رسد املتتايل للأحداث والوقائع امل�أ�ساوية الدامية‪،‬‬
‫من ر�ؤية داخلية‪ ،‬يكون فيها راويا م�شاركا يف �صنع الأحداث‬ ‫�أما اخل�شب فيمثل �أولئك ال�ضحايا الأبرياء الذين ُيزج بهم يف‬
‫وحا�رضا فيها‪« ،‬دفعت �أمي بي وب�أختي زهرة �إىل ال�سيارة‬ ‫�أتون املعركة‪ ،‬فُيقتلون دون �أن يعلموا ملاذا ُقتلوا �أو ما الذنب‬
‫ال�صغرية ب�رسعة»‪ ،‬ثم يتخذ موقعا �آخر‪ ،‬وزاوية ر�ؤية جديدة‪،‬‬ ‫الذي ارتكبوه؟ وملاذا يقاتلون؟ ومن هنا جند �أن احلرب تقابل‬
‫فينطلق من الر�ؤية اخلارجية لي�صبح راويا عليما‪« ،‬مل �ألتفت‬ ‫الث�أر‪ ،‬واخل�شب يقابل ال�ضحايا (الأبناء)‪ ،‬وهذه احلرب متثل‬
‫‪149‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ت�رسيحة على املو�ضة‪ ،‬مل يعجبه ال�شكل‪ ،‬عاد �إىل امل�شط وفرق‬ ‫�إىل الوراء �أبدا لكنني �أعرف �أن �أمي بقيت ت�شيع ال�سيارة‬
‫�شعره من الو�سط ثم من اجلانبني‪ ،‬مل ي�ستقر على الت�رسيحة‬ ‫بنظراتها‪� ،‬إىل �أن غابت متاما يف الطريق الطويلة �إىل عدن‪،‬‬
‫التي �سيظهر بها اليوم‪ ،‬كان يتباهى ب�شعره اجلميل الأ�سود‪،‬‬ ‫بعد �أن غاب ولداها عن عينيها‪ ،‬دخلت البيت و�أغلقت الباب‬
‫وبو�سامته‪ ،‬لكنه كان يتباهى �أكرث بذكائه ال�شديد واجتهاده‪،‬‬ ‫وراءها‪ ،‬انهارت على الأر�ض تبكي ب�صمت»‪ ،‬الراوي هنا‬
‫وبكونه الولد الأثري لدى كل �أفراد عائلته الكبرية»‪ ،‬وبافرتا�ض‬ ‫ي�رسد لنا �أحداث ًا ومواقف وقعت خارج نطاق ر�ؤيته وحتكمه‪،‬‬
‫�أن هذا امل�شهد ُيعر�ض �أمامنا على �شا�شة ال�سينما‪ ،‬فنحن‪-‬‬ ‫ولكن ميكن القول �إنه رمبا تخيلها �أو اعتربها نتيجة طبيعية‬
‫حينئذ‪� -‬سرنى و�سامة ال�شخ�صية (عبداهلل) و�شعره اجلميل‪،‬‬ ‫معتادة ملوقف كهذا‪ ،‬ومن موقع �آخر نرى الراوي العليم‬
‫وقد نعرف من خالل تدليله ل�شعره وعنايته الفائقة به‪،‬‬ ‫يروي لل�شخ�صيات الأخرى‪ ،‬بينما هو خارج تلك الأحداث‪،‬‬
‫�أنه مكمن زهوه وافتخاره وتباهيه على من حوله‪ ،‬لكننا‬ ‫وال ي�شارك يف �صنعها �أو تعيني م�سارها‪ ،‬وبذلك يتحول �إىل‬
‫مل نكن لنعلم �أو حتى نت�صور‪ -‬جمرد ت�صور‪� -‬أنه «كان‬ ‫راو �شاهد‪ ،‬وذلك ما جنده‪ -‬يف الف�صل الثاين‪ -‬حني يتحدث‬ ‫ٍ‬
‫يتباهي �أكرث بذكائه ال�شديد واجتهاده‪ ،‬وبكونه الولد الأثري‬ ‫الراوي ال�شاهد عن ال�شخ�صية (عبداهلل)‪ ،‬منطلقا من �أ�سلوب‬
‫لدى كل �أفراد عائلته الكبرية»‪ ،‬لوال وجود الراوي ال�شاهد‪،‬‬ ‫ال�رسد املو�ضوعي‪ ،‬ويكون الراوي هنا «مبثابة الكامريا‬
‫الذي �أ�ضاف لنا هذه املعلومة التي انفرد مبعرفتها من‬ ‫ال�سينمائية التي تلتقط ال�صور والأ�شياء التقاطا حمايدا‪،‬‬
‫خالل معاي�شته لل�شخ�صية (عبداهلل) ومعرفته به‪ ،‬ورمبا قد‬ ‫�آليا‪ ،‬خارجيا‪ ،‬حمايدا‪ ،» ...‬تنقل الأحداث واملواقف وت�صور‬
‫يكون م�صدرها غري ذلك‪ ،‬وال يقف الراوي ال�شاهد عند الأمور‬ ‫ال�شخ�صيات دون تدخل ٌيذكر‪ ،‬من خالل الر�ؤية اخلارجية‪،‬‬
‫اخلارجية املتعلقة بال�شخ�صية (عبداهلل)‪ ،‬والتي قد يعرفها‬ ‫وا�ستخدام �ضمري (الــ هو) للمروي عنه‪ ،‬ويبد�أ الراوي ال�شاهد‬
‫هو‪� -‬أي الراوي ال�شاهد‪� -‬أو غريه ممن لهم ات�صال مبا�رش‬ ‫�رسده من �صباح ذات يوم عندما «وقف عبداهلل �أمام املر�آة‬
‫�أو غري مبا�رش بحياة تلك ال�شخ�صية‪ ،‬بل يعمد �إىل ا�ستبطان‬ ‫مي�شط �شعره‪ ،‬ابت�سم لنف�سه م�ستعر�ضا �أ�سنانه البي�ضاء‬
‫املنتظمة‪ ،‬هذا دليل �صحة جيدة»‪ ،‬بعد حدث الوقوف وما‬
‫ال�شخ�صية‪ ،‬م�ستعر�ضا �أحوالها وم�شاعرها الداخلية‪ ،‬كالقلق‬
‫�صاحبه‪ ،‬يتنحى الراوي ال�شاهد مف�سحا املجال لل�صورة‬
‫واخلوف واالرتباك‪ ،‬الناجت عن الفرحة الزائدة بتحقيق حلم‬
‫التي تظهر �أمامنا وبداخلها ال�شخ�صية (عبداهلل) مت�سائال‪:‬‬
‫ما‪� ،‬أو الو�صول �إىل غاية معينة‪ ،‬ويتو�صل الراوي ال�شاهد‬
‫«والآن ماذا يا عبداهلل الو�سيم؟»‪ ،‬يف حوار داخلي (منولوج)‬
‫�إىل كل ذلك من خالل حركات ال�شخ�صية (عبداهلل)‪ ،‬الذي «مل‬
‫هو مبثابة التمهيد لبداية امل�شهد املليء بحركات ومواقف‬
‫ي�ستقر على ت�رسيحة معينة‪ ،‬اليوم مميز‪ ،‬وينبغي �أن يظهر فيه‬
‫ال�شخ�صية (عبداهلل)‪ ،‬وتعليقات و�رشوحات الراوي ال�شاهد‪،‬‬
‫ب�شكل خمتلف‪ ،‬و�ضع امل�شط على حافة املر�آة‪ ،‬وذهب ليفت�ش‬
‫وك�أنه م�شهد �صامت يقوم املتلقي برتجمته ونقل احلركة‬
‫يف دوالبه عن �شيء ما‪ ،‬عاد يحمل م�ش َّدة و�أمام املر�آة وقف‬ ‫ال�صامتة �إىل كالم و�ألفاظ‪ ،‬م�ستندا على تعابري و�إمياءات‬
‫يلفها حول ر�أ�سه كما ر�أى �أباه و�أعمامه يلفونها من قبل»‪،‬‬ ‫ال�شخ�صية الأوىل وما توحي به‪ ،‬وقد قام الراوي ال�شاهد بهذا‬
‫وبينما هو‪� -‬أي ال�شخ�صية (عبداهلل) ‪ -‬يقوم بذلك العمل‬ ‫العمل وك�أنه يعلًق على (ريبورتاج)‪ ،‬تقوم فيه ال�شخ�صية‬
‫�أمام املر�آة‪ ،‬ي�ستغل الراوي ال�شاهد املدة الزمنية – املطلوبة‬ ‫(عبداهلل) مبختلف احلركات واملواقف ال�صامتة‪ ،‬بينما الراوي‬
‫الجناز ذلك – ب�إيراد �أ�سباب ومربرات عدم ارتداء ال�شخ�صية‬ ‫ال�شاهد يتدخل بالتعليق وال�رشح حني يتطلب الأمر ذلك‪،‬‬
‫(عبداهلل) امل�ش ّدة �أبداً‪ ،‬ويف املقابل مربرات ارتدائه الآن لها‪،‬‬ ‫خا�صة ما يتعلق ب�إي�ضاح الأحا�سي�س الداخلية واجلانب‬
‫ورغبته الغام�ضة – التي ال يعلمها هو وال الراوي – يف ذلك‪،‬‬ ‫ال�شعوري (�إعجاب‪ ،‬ده�شة‪ ،‬قلق‪ ...‬الخ)‪ ،‬وربطه باملوقف �أو‬
‫ويعلل الراوي ال�شاهد تلك الرغبة الغام�ضة‪ ،‬بكون امل�ش ّدة‬ ‫ُ‬ ‫احلركة املنا�سبة‪ ،‬لتحقيق �أكرب قدر من الإبانة والإي�ضاح‪،‬‬
‫هدية من عم ال�شخ�صية (عبداهلل) – فهي مرتبطة �إىل حد ما‬ ‫وهذا ما �سنالحظه يف امل�شهد الآتي الذي يبد�أ‪ -‬باحلركات‬
‫مبهديها – و�إ�ضافة �إىل �إعجاب ال�شخ�صية (عبداهلل) ب�ألوانها‬ ‫ال�صامتة التي تظهر يف ثناياها تعليقات الراوي ال�شاهد‬
‫«الأحمر والأبي�ض‪ ،‬خطوطها ممتازة‪� ،‬شماغ �إجنليزي من‬ ‫من حني الآخر‪ -‬دون �أن يكون هناك انف�صال بينهما‪ ،‬بل‬
‫ال�صنف املمتاز كما يقول اخلليجيون‪...‬‬ ‫يبدو الأمر برمته ك�أنه ك ٌّل متكامل‪ ،‬فبعد وقوف ال�شخ�صية‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫(عبداهلل) وما �صاحبه من حركات‪ ..« ،‬نك�ش �شعره قليال‪،‬‬

‫‪150‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫جتارب و�شهادات‬
‫التعبري‪ ،‬التي ت�رص امل�ؤ�س�سة الر�سمية‪� ،‬أنها من نتائج‬ ‫• �أحمد زين‬
‫الوحدة «املباركة»‪� .‬إذ مبعاينة ب�سيطة لهذه احلرية‪،‬‬
‫�سنجد �أنها جمرد خطاب واحد �إمنا بتلويناته عدة‪ ،‬وكلها‬ ‫رهان الرواية‬
‫ت�صب يف م�صلحة امل�ؤ�س�سة الر�سمية‪ ،‬التي �شجعت ودفعت‬ ‫لعله ي�صعب الكالم حول جتربة مل تكتمل‪ ،‬وال تزال تبحث‬
‫عن اكتمالها‪ ،‬الذي �سيبقى ناق�صا‪ ،‬بيد �أن يف هذا النق�صان‬
‫ال�صحفيني للتعبري عن �آرائهم عرب ال�شتم وال�سب‪ ،‬خالقة‬
‫ما يحفز على امل�ضي‪ ،‬والكتابة تلو الكتابة‪ .‬لعل واحدا من‬
‫ما ي�شبه الفو�ضى‪� .‬إن كثريا من ممتهني ال�صحافة يف‬
‫م�شاغلي الروائية االن�شغال بالتاريخ اليومي‪ ،‬ليمن ما بعد‬
‫اليمن ينجرفون �إىل ممار�سة ما يحاربونه علناً‪ ،‬يف�ضحون‬
‫الوحدة‪ ،‬تلك الوحدة التي حتققت يف الورق‪ ،‬وظلت الطريق‬
‫ظواهر اجتماعية و�سيا�سية �سلبية‪ ،‬ويف املقابل يقب�ضون‬
‫�إىل الواقع‪ .‬يف رواياتي الثالث «ت�صحيح و�ضع» و«قهوة‬
‫ثمن متويل �صحفهم من �شخ�صيات فا�سدة‪� .‬أو جتد �أن‬
‫�أمريكية» و«حرب حتت اجللد» يل رهاين اجلمايل والفني‪.‬‬
‫ال�صحفي يغري من انتمائه ويبدل والءاته با�ستمرار‪ .‬كان‬
‫�إذ �أفيد من التحقيق ال�صحفي‪ ،‬وال�سيناريو وكذلك تقنية‬
‫على قي�س‪ ،‬ال�شخ�صية الرئي�سية يف «حرب حتت اجللد»‬ ‫الرواية داخل الرواية‪� .‬أي حماولة يف �أن يتحقق املو�ضوع‬
‫�أن يكون �صحفي ًا لنقف على ال�صعوبة يف التحرر من‬ ‫يف �أ�شكال عدة‪ .‬وكل ذلك جزء من ا�سرتاتيجية ن�صية‪،‬‬
‫ا�ستحواذ امل�ؤ�س�سة الر�سمية ومنط تفكريها‪ ،‬وكيف تغذي‬ ‫�أحاول التعبري من خاللها‪ ،‬ومتثل طريقتي يف ر�ؤية الواقع‬
‫يف �أفرادها وتنمي طريقة معينة يف النظر �إىل الأمور‬ ‫والعامل وكيف �أتعاطى معهما‪.‬‬
‫وال�سبيل �إىل التعاطي معها‪.‬‬ ‫كيف �أكتب روايتي؟ �س�ؤال �أ�سا�سي ي�شغلني با�ستمرار‪،‬‬
‫لعل امل�سافة التي �أتاحتها يل �إقامتي خارج اليمن‪،‬‬ ‫قبل بد�أ العمل وخالل الكتابة وعقب االنتهاء منه‪ .‬وكان‬
‫مكنتني من ر�ؤية الواقع من زوايا خمتلفة‪ ،‬وبعني �أخرى‪،‬‬ ‫�أمرا مهم جدا بالن�سبة يل �أن تلفت م�شاغلي الفنية نقاد‬
‫ما جعلني �أتوغل يف تفا�صيل الن�سيج االجتماعي‪ ،‬و�أب�رص‬ ‫كبار يف الوطن العربي واليمن‪ .‬من ناحية �أخرى الرواية‬
‫غري املرئي يف املرئي من وجوه املجتمع ومالحمه‪ ،‬ويف‬ ‫يف اليمن يف حاجة ما�سة �إىل مقرتحات �رسدية جديدة‪،‬‬
‫عالقات النا�س يف ما بينها‪ .‬كل هذه الأمور كانت تقرتح‬ ‫نظرا �إىل �أن غالبية ما �أجنز من روايات‪ ،‬منذ الأربعينيات‬
‫علي مقاربة فنية جديدة‪.‬‬ ‫امليالدية و�إىل الآن‪ ،‬ال يزال بعيد عن متثل عنا�رص الرواية‬
‫ال تزال الرواية اليمنية يف بداياتها الفعلية‪ ،‬على رغم‬ ‫احلديثة �أو احلداثية‪ .‬كما حتتاج الرواية لدينا �إىل �صيغ‬
‫�أن �أول رواية ي�ؤرخ لها بعام ‪ .1939‬فالروائيون الذين‬ ‫فنية خمتلفة‪ ،‬تنطلق من �آخر ما حتقق للرواية يف الوطن‬
‫�أ�صدروا روايات يف ال�ستينات وال�سبعينيات ورمبا‬ ‫العربي‪ ،‬وت�أخذ يف االعتبار التطورات والطفرات التي‬
‫الثمانينيات كفوا عن الكتابة‪ ،‬مل يعد �أحد من �أولئك‪،‬‬ ‫عا�شتها وتعي�شها الرواية يف العامل‪.‬‬
‫�أق�صد الأحياء منهم‪ ،‬يكتب الرواية‪ .‬فقط جمموعة قليلة‬ ‫�أحب الرواية التي تعالج مو�ضوعها من خالل بنية مركبة‬
‫من الأ�سماء تنتمي �إىل جيلي الثمانينيات والت�سعينيات‪،‬‬ ‫وذات م�ستويات وطبقات‪ ،‬انطالق ًا من موقف جمايل‪،‬‬
‫هي من حتاول الكتابة اليوم‪ .‬هذا يعني �أن هناك‬ ‫و�أكره �أن تتحول �إىل عمل منفلت بال معايري ت�ضبط �سيولة‬
‫حتوالت حدثت‪ ،‬وهناك �أي�ضا كثرياً من املوا�ضيع املهمة‬ ‫ال�رسد وحتكم ت�شعب الأحداث‪ ،‬وت�ؤ�رش �إىل غياب الر�ؤية‪.‬‬
‫واحل�سا�سة‪ ،‬تفر�ض نف�سها �أكرث من �سواها‪ ،‬ويف حاجة �إىل‬ ‫تبدو الرواية لدى وهي ت�سلك هذا الطريق‪ ،‬ك�أمنا تت�أمل‬
‫تناولها روائياً‪.‬‬ ‫جمتمع �أحادي وراكد‪ ،‬من منظور متعدد امل�ستويات‪ .‬وهي‬
‫لذلك �أرى �أن الذهاب �إىل هموم خا�صة جداً �أو ذاتية‪ ،‬يف‬ ‫تنطوي على حماولة الكتابة يف �أن تتقدم على �رشوطها‬
‫املعنى ال�ضيق للذاتية‪ ،‬بعيداً من الق�ضايا املف�صلية التي‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وال تبقى �أ�سرية ملجتمع طاملا �أخفق يف‬
‫يعانيها املجتمع يف حلظته الراهنة‪ ،‬ومت�س ع�صب احلياة‬ ‫توليد �رشوط الكتابة الروائية‪.‬‬
‫وتربك �أحوال النا�س �سيبدو‪ ،‬لي�س �صعب ًا فح�سب‪� ،‬إمنا‬ ‫حاولت يف «حرب حتت اجللد» �آخر رواياتي‪� ،‬ضمن ما‬
‫�أي�ض ًا نوع من الرتف‪ ،‬يف حال ح�صل‪ .‬لكن من جانب �آخر‪،‬‬ ‫حاولته من �أمور‪ ،‬الت�شكيك و�إثارة الأ�سئلة حول حرية‬
‫‪151‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وال�رسدية‪ ،‬و�إيقاعها اللغوي‪ ،‬ف�إ ّنه �سيم�ضي �إىل التبينّ‬ ‫لعل يف مقاربة «العام» فر�صة لك�شف ما تعي�شه الذات‬
‫والك�شف بد ًال من الت�صنيف واحلكم‪.‬‬ ‫من هواج�س داخلية و�شكوك وخماوف يف مقابل هيمنة‬
‫يف «طعم �أ�سود رائحة �سوداء» مل �أهتم ب�شكل الكتاب‬ ‫رجال القبيلة وامل�ؤ�س�سة الر�سمية يف كل ما تعنيه من‬
‫وتو�صيفه‪ ،‬حني بد�أت �أكتب �سطوره الأوىل‪� .‬أردته كعامل‬ ‫مزيف‬
‫�سلطة ومنطية يف التفكري‪ ،‬تدفعها �إىل ابتكار واقع ّ‬
‫الأخدام‪ ،‬يتنا�سل من �رسديات �شتى‪ ،‬تاريخية واجتماعية‬ ‫و�إحالله بدي ًال عن الواقع احلقيقي‪ .‬الأمر الذي يف غاية‬
‫ليكون �إيقاعه اخلا�ص‪ .‬مل �أ�سمح‬ ‫ّ‬ ‫ومتخيلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وواقعية‬ ‫يل كيف جتري مقاربة هذه الهموم؟‬ ‫الأهمية بالن�سبة إ� ّ‬
‫مبرجعيات النظم ال�رسدية التعليمية �أن تتدخل يف حتديد‬ ‫�أي انطالق ًا من ر�ؤية روائية حتتكم �إىل �رشوط جمالية‬
‫م�سار الكتابة‪ ،‬ف�إذ �أردت �أن يقرتب الكتاب من هذا العامل‬ ‫وا�سرتاتيجية فنية‪� .‬أي لئن هيمن العام على كل �شيء‪،‬‬
‫املتمرد ف�إنني مل �أعب�أ بتفا�صيل م�شهدية يظ ّنها الن ّقاد‬ ‫ف�إنه يف مقدور الروائي �أن يقرتح «خا�صة»‪ ،‬عرب ر�ؤية‬
‫�رضورية‪ ،‬و�أعتربها زائدة‪ .‬حاولت �أن �أكون �أقرب �إىل‬ ‫جديدة‪ ،‬تعبرّ عن نف�سها من خالل التقنيات وزاويا النظر‬
‫عامل الأخدام معاينة ومعاي�شة‪ ،‬فر�أيت �أن ال�شخ�صيات‬ ‫�إىل الأحداث وت�شابكاتها‪.‬‬
‫امل�رسودة ال ميكن لها �أن تتطور �أو تنمو يف �أحداث‬
‫متتالية‪ ،‬و�إ ّال لكانت بعيدة عن هذا العامل الذي يعي�ش فيه‬ ‫• علي املقري‬
‫(حمويني) م�ؤقتني‪ ،‬ولي�سوا �س ّكان ًا م�ستقرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الأخدام كـ‬ ‫التجريب كبناء يف الن�ص‬
‫ال�شخ�صيات امل�رسودة عابرة‪ ،‬تظهر فج�أة‬ ‫ّ‬ ‫ولهذا تبدو‬ ‫مل يبتعد هاج�س التجريب لدي عن منحى الكتابة بكل‬
‫حيناً‪ ،‬وتختفي وتغيب فج�أة‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬يف �أحايني كثرية‪ ،‬بل‬ ‫متف�صالتها ال�رسدية‪ ،‬ابتداء من ا�ستخدام املفردة �إىل‬
‫�إن املحتوى نف�سه يف ع�ش�شه وتاريخيته الهام�شية يواجه‬ ‫تركيب العبارة ون�سق الفقرة‪ ،‬ومل يخرج هذا الهاج�س عن‬
‫يف النهاية �س�ؤال االختفاء املفاجئ‪ ،‬بل واالنقرا�ض‪ ،‬حيث‬ ‫تخوفات �شتى‪ ،‬ال �سيما �أثناء ا�ستعرا�ض القراءات النقدية‬
‫اجلرافات تزحف نحوه‪ ،‬خم ّلفة ال �شيء‪.‬‬ ‫م�ضت ّ‬ ‫التي ال ت�ستطيع �أن تقوم بعمل متفح�ص للن�ص‪ ،‬على كل‬
‫هكذا‪ ،‬اكت�شفت و�أنا �أم�ضي مع التدفق ال�رسدي غري‬ ‫امل�ستويات‪ ،‬وو�صوال �إىل م�شتغل الرتجمة ونا�رشها الذي‬
‫املحدود‪ ،‬يف جمل و�صفية خاطفة وتقريرية ت�ستدعي‬ ‫يحبذ مغامرة فنية تتجاوز امل�ستقر وامل�ألوف‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫التوثيق والتاريخ‪ ،‬دون �أن ت�ؤكدهما‪� ،‬أنني �أتكئ على‬ ‫�أ�ستذكر هنا ر�أيا لروجر �ألن �أحد �أبرز مرتجمي الأدب‬
‫مرجعتني يف ال�رسد ي�شكالن �أبرز قراءتي‪ :‬طريقة �أو‬ ‫العربي �إىل الإجنليزية‪ ،‬يـت�أ�سف فيه على �أن قراء الن�صو�ص‬
‫احلوليات يف التاريخ العربي‪ ،‬بحيث يبد أ�‬ ‫ّ‬ ‫�أ�سلوب كتابة‬ ‫العربية «املن�شورة يف اللغة الإجنليزية يف�ضلون كثرياً‬
‫احلديث عن ال�شخو�ص وحياتهم انطالق ًا من خرب وفاتهم‬ ‫قراءة الن�صو�ص املرتجمة التي ت�ؤكد توقعاتهم فيما‬
‫الوفيات‪ ،‬وهو ما‬ ‫ّ‬ ‫يف ال�سنة امل�ؤطِّ رة للأحداث و�أخبار‬ ‫يخ�ص القيم الثقافية والبيئية»‪ .‬ويف املنطق نف�سه «ال‬
‫ميكن مالحظته يف حتديد ال�سنوات امل�رسودة (‪-1975‬‬ ‫يريد ه�ؤالء القراء �أن يقر�أوا ن�صو�صا تعر�ض لهم �أمثلة‬
‫‪ )1982‬مع عدم تراتبية الزمن اململ‪� ،‬إذ ي�صبح يف م�ساره‬ ‫الختالفات عنيفة عن قيمه الثقافية وتتحدى و�سائله‬
‫الظاهر هكذا‪:‬‬ ‫العادية يف قراءة الن�ص ال�رسدي اخليايل‪ .‬ف�أحب القراء‬
‫(‪-1979-1978-1977-1976-1975-1981‬‬ ‫للغة الإجنليزية (ثالثية) حمفوظ مثال لأنها مل تتطلب منه‬
‫‪ )1982-1980‬مع تداخل �أزمنة �أخرى‪ ،‬يف الزمان‬ ‫مواجهة غري املعلوم وغري القابل للفهم يف جمال الت�سل�سل‬
‫املحدد‪ ،‬بع�ضها قدمية‪ ،‬وبع�ضها معا�شة ‪ّ � .‬أما املرجعية‬ ‫التاريخي لل�رسد وت�صوير ال�شخ�صيات الخ»‪.‬‬
‫الثانية‪ ،‬التي �أظن �أنني قد ا�ستفدت منها كثرياً‪ ،‬فهي �أ�سلوب‬ ‫مع هذا القول لآلن‪ ،‬ال يبدو يل �أن قراءة مبعايري م�سبقة‬
‫ال�رسد احلديث مبا يتيحه من لعب يف بناء الفقرة وتركيب‬ ‫ميكن �أن تنفذ للن�ص‪ ،‬ف�إذا كان املحرر الأدبي يف دور‬
‫اجلملة‪ ،‬بل ويف منطوق املفردة اللغوية وموقعها و�شكل‬ ‫الن�رش [الناقد‪� ،‬أي�ضاً] يقوم‪ ،‬عادة‪ ،‬مبهام مراجعة الن�ص‬
‫كتابتها‪� .‬إىل جانب امل�شهدية الرابطة ل�سياق الأحداث‬ ‫وفق قوانني ومقت�ضيات فنية‪ ،‬ف�إنه �سيبدو له‪ ،‬كما �أظن‪،‬‬
‫مقيدة يف �إطار‬ ‫وال�شخو�ص يف حركة مفتوحة غري ّ‬ ‫� ّأن رواياتي ال تلبي‪� ،‬رشوط ال�رسدية التقليدية �أو احلديثة‬
‫ن�صي مغلق‪ ،‬حيث ي�صري من املمكن ا�ستدعاء التاريخي‬ ‫ّ‬ ‫[املكر�سة]‪ ،‬املتعارف عليها‪ ،‬يف كتابة الرواية‪ّ � .‬أما �إذا‬
‫ّ‬
‫املتخيل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬ ‫داخل‬ ‫إدراجهما‬ ‫�‬‫و‬ ‫ال�سيا�سي‬ ‫والتوثيقي‬ ‫قر�أ الن�صو�ص من منطلق �أن لها خ�صو�صيتها الثقافية‬
‫‪152‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الن�ص وتتنبه �إىل تعامله بحذر وقلق مع كلمات وحروف‪:‬‬ ‫ال للتوكيد على م�صداقيتهما‪ ،‬و�إنمّ ا لتفكيك مرجعيتهما‪.‬‬
‫قال‪� ،‬أ�ضاف‪ ،‬الذي‪ ،‬التي‪ ،‬لكن‪ ،‬لن‪ ،‬مل‪� ،‬إن‪� ،‬أن‪ ،‬ذلك‪� ،‬آل‬ ‫فبدا الأ�شخا�ص مت�شابهني حيناً‪ ،‬وخمتلفني حينا �آخر؛‬
‫التعريف‪� ،‬إلخ‪ ..‬فال يوجد ح�شو �أو تو�ضيح‪ ،‬و�أحيان ًا‬ ‫بل تتعدد ذواتهم نف�سها‪ ،‬حتى ي�صري من ال�صعب القول‬
‫يتطلب البناء ال�رسدي من القارئ �أن يقوم هو برتتيب‬ ‫مبحمول �أيديولوجي ما‪ .‬فزمن ال�رسد امل�ستذكر يف‬
‫البناء‪� ،‬أو اكت�شاف الغواية‪ .‬الأمر نف�سه يف جوانب الرتقيم‪،‬‬ ‫�صفحات قليلة منه لزمن احلراك ال�سيا�سي الذي حاول‬
‫وبناء الفقرة‪[ .‬يف �ص ‪102‬مثالً] �ستجد فقرتني‪ ،‬الأوىل‬ ‫االلتفات �إىل الأخدام يعطي لعباراتهم �شبه الفكرية مربراً‬
‫مقت�ضبة بعبارات متقطعة وق�صرية‪ ،‬والثانية تبدو طويلة‪،‬‬ ‫متمردة وغري حمددة‬ ‫ّ‬ ‫يف ال�رسد‪ ،‬لكنها عبارات تبقى‬
‫يف �سياق مت�صل‪ ،‬يتالءم ما �سياق البناء ككل‪ .‬هذا البناء‬ ‫�أيديولوجيا‪ ،‬فالأيديولوجية ترد كمتناول �رسدي‪ ،‬ولي�س‬
‫�صار حم ّفزا على االبتعاد عن �رسد التفا�صيل املعتادة‬ ‫منطلق ًا وغاية‪� ،‬إذ �أن �أي هدف �أيديولوجي لبناء �رسدي‬
‫وامل�ضي عرب �آلية �رسد مقت�ضبة كحال �شخ�صية رواية‬ ‫لن يتوافق مع عامل الأخدام الاليقيني غري املحدود ثقافة‬
‫مرتبة‬
‫تتذكر حياتها املعا�شة يف �أزمنة غري ّ‬‫«حرمة» وهي ّ‬ ‫وحياة‪.‬‬
‫وتبع ًا لإيقاع الأغنية التي ت�سمعها‪.‬‬ ‫يف هذا املنحى من احل�سا�سية‪ ،‬كان التعامل مع خمتلف‬
‫مقت�ضيات ال�رسد الأخرى‪.‬‬
‫• حبيب عبدالرب �سروري‬ ‫وقد ت�ساءلت‪ ،‬و�أنا �أتلقى عرو�ض ترجمة رواية «اليهودي‬
‫جتربتي الكتابية‬ ‫كيف �سيبدو حال (و)‪ّ � ،‬أول حرف يف الن�ص بعد �أن ُينقل �أو‬
‫املراحل الهامة لتجربتي الأدبية‪:‬‬ ‫ُيرتجم �إىل لغات خمتلفة؟‬
‫‪ )1‬مرحلة الطفولة حتى �سن الرابعة ع�رش‪ ،‬عام ‪1970‬‬ ‫«ودخلت �سنة‪ ، »....‬يبد أ� الن�ص هكذا يف بنائية ت�ستذكر‬
‫(� َّأود �أن �أ�سميها‪ :‬مرحلة ال�شغف اجلذري!)‪:‬‬ ‫أحتدث هنا كقارئ]‪ ،‬من خالل �سارد‬ ‫�إ�شارات �شتى [� ّ‬
‫امل�رسح العام لهذه ال�سنوات‪ :‬عدن عا�صمة جنوب اليمن‬ ‫(�سامل‪ /‬اليهودي احلايل)‪ ،‬له خلفيات زمنية ومكانية يف‬
‫ين‬
‫�آنذاك‪ .‬مدينة كو�سموبوليتية ج ّذابة‪ .‬مركز �إ�شعاع مد ّ‬ ‫معينة (يهودية‪� /‬إ�سالمية‪-‬عربية‪ /‬عربية)‪،‬‬ ‫�أجواء ثقافية ّ‬
‫يف املنطقة‪ .‬م�ستعمرة �إجنليزية‪ .‬ثورة م�سلحة‪ .‬ا�ستقالل‪،‬‬ ‫مقيدة‪ ،‬ت�ش ّكلت مع‬
‫�إىل جانب خلفيات �أخرى مفتوحة وغري ّ‬
‫تلت ُه حربان �أهليتان‪ .‬و�صول «الي�سار اال�شرتاكي العلمي»‬ ‫الن�ص‪ ،‬من هواج�س الكتابة‪ .‬التي و�إن م�ضت يف اكت�شاف‬
‫لل�سلطة يف ‪...1969‬‬ ‫مزايا �رسدية عربية‪ /‬عربية يف املرجعيات الثقافية‬
‫ثمة �إن�سان (بكل �إ�رشاقاته و«قتامته») ملأ حياتي‬ ‫القدمية امل�شرتكة‪ ،‬ف�إنها حاولت‪ ،‬يف م�ستوى من الن�ص‪،‬‬
‫الثقافية خالل هذه املرحلة‪� :‬أبي!‬ ‫مقيد �أو ملزم ملحددات‬‫ن�ص‪ ،‬غري ّ‬ ‫�أن مت�ضي �إىل ت�شكيل ّ‬
‫وبف�ضل والدي جت َّذ َر ْت عالقتي باللغة العربية وبالأدب‬ ‫تقاليد اللغة القدمية يف بالغيتها التعبريية وبنائيتها‬
‫مي�سم يف الأح�شاء‪...‬‬
‫ٍ‬ ‫حتول َْت �إىل‬
‫العربي ب�شكل مب ّكر‪َّ ،‬‬ ‫الداللية‪ ،‬الظاهرة يف �صياغة املفردة‪ ،‬ك�أن ي�ستغنى عن‬
‫‪ )2‬مرحلة ال�سبعينات اليمنية‪ ،‬من �سن الرابعة ع�رشة‪،‬‬ ‫(و) الف�ضفا�ضة امل�ستخدمة بكرثة‪ ،‬يف الكتابة العربية‪:‬‬
‫عام ‪ ،1970‬حتى ال�سفر للدرا�سة يف فرن�سا عام ‪1976‬‬ ‫الأدب وال�صحافة‪.‬‬
‫التمرد الهادئ والكامل على ثقافة الطفولة)‪:‬‬ ‫(مرحلة ّ‬ ‫أحتدث عن (واوين)‪( :‬و) لها خلفيتها‬ ‫يت�ضح هنا �أنني � ّ‬
‫«مد‬
‫الظروف العامة‪� :‬سنوات غريبة‪ ،‬مثرية‪ ،‬عا�صفة‪ّ :‬‬ ‫ال�رسدية [ل�ست هنا يف جمال لأحتدث عن مكانة (و) يف‬
‫ريفيون ذووا‬
‫يوجهه يف الغالب ّ‬ ‫متخلف ّ‬‫ٍ‬ ‫ثوري» يف بلد‬ ‫الثقافة اليهودية‪ ،‬التي هي جزء من مكونات ال�سارد‪� ،‬أو‬
‫كثري منهم �أن�صاف �أميني‪ ...‬اجلو الثقايف‬ ‫ثقافة قبلية‪ٌ ،‬‬ ‫عن جمالية بنائيتها يف �رسديات كتب احلوليات العربية‬
‫مملوء ب�شعارات وممار�سات ال عهد لأحد بها‪:‬‬ ‫القدمية] وتت�شكل يف الن�ص �ضمن �سياقات جمالية‪،‬‬
‫حتدد م�سار احلياة يف‬ ‫العبارة‪-‬املفتاح التي كانت ِّ‬ ‫و(و) حمذوفة‪ ،‬بتق�صد يحاول جتاوز الت�شكل الكتابي‬
‫جنوب اليمن‪« :‬اال�شرتاكية العلمية» (�صيغة «�سوفت»‬ ‫الف�ضفا�ض يف �صياغة اجلملة العربية‪� ،‬إىل مقاربة ال تبدو‬
‫خمتارة بعناية كبديل للعبارات ال�صادمة‪ :‬املارك�سية‬ ‫فيها الـ (و) �إ ّال ‪� ...‬إذا تطلب موقعها ال�صوتي من ال�سارد �أو‬
‫اللينينة‪ ،‬ال�شيوعية‪)...‬‬ ‫القائل يف الن�ص‪.‬‬
‫لتلك العبارة تبعات واختيارات �سيا�سية وثقافية‬ ‫يف هذا امل�ستوى‪ ،‬من البنائية‪ ،‬ميكن لقراءة �أن تتفح�ص‬
‫‪153‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يف معهد لغة راق‪ :‬الكافيالم‪� .‬ضمن برامج درا�سته‬ ‫حا�سمة منها‪ :‬ت�سمية املرحلة ال�سيا�سية ب«مرحلة الثورة‬
‫زيارات ترفيهية وثقافية �أ�سبوعية لذيذة ملدنٍ ومعامل‬ ‫الوطنية الدميقراطية» واعتبارها ج�رساً نحو اال�شرتاكية‪،‬‬
‫�شيقة‪ .‬يتجدد طالبه الآتون من كل �أنحاء العامل‬ ‫ٍ‬
‫باهرة ِّ‬ ‫يقودها حزب ثوري‪ ،‬حزب العمال والفالحينّ ‪ ،‬ير�سي‬
‫متجددة‪ .‬تعتقد �أنك‬ ‫ِّ‬ ‫غنية ممتعة‬ ‫يوميا‪ .‬تعي�ش �صداقات ّ‬ ‫«ثقافة جديدة» (عبار ٌة كثيف ٌة هي الأخرى‪ ،‬حتمل نتائج‬
‫يف حلم!‪...‬‬ ‫وتبعات كثرية‪)...‬‬
‫تكت�شف لغ ًة وثقاف ًة جديدة‪ .‬تنده�ش‪ :‬ال�صحف (مبا فيها‬ ‫لن �أدخل يف جدل حول جتربة «املد الثوري اليمني»‬
‫حرة بدون �صيغ �سيا�سية‬ ‫اللومانيتيه) ت�ستخدم لغة ّ‬ ‫بكل �إيجابياتها و�سلبياتها‪ .‬هي يف ك ِّل الأحوال هامة‬
‫خ�شبية �أو دينية عتيقة‪ ...‬اجلو مرتع باحلرية الفردية‪.‬‬ ‫داخلي ًا يف �سنوات الدرا�سة‬
‫ّ‬ ‫جداً لأنها جعلتني �أعي�ش جد ًال‬
‫كوكب �أعي�ش؟‪...‬‬
‫ٍ‬ ‫تت�ساءل‪ :‬يف �أي‬ ‫الثانوية‪� :‬أفكار جديدة تت�صارع مع ثوابت �أفكار الطفولة‬
‫كتيار كهربائي‪،‬‬ ‫بع�ض جتارب احلياة اليومية تعربك ّ‬ ‫يف‬‫واقع ثقا ٍّ‬
‫(امل�أ�ساة تكمن عندما ال يعي�ش الإن�سان يف ٍ‬
‫ُتغيرِّ نظرتك للحياة‪ .‬االندها�ش وال�صدمات ال تتوقف‪.‬‬ ‫يتحجر‬ ‫ّ‬ ‫تعددي‪ ،‬وال ت�صل ُه �إال ر�ؤية �أحادية للكون واحلياة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫تع�شق الريا�ضيات‬ ‫ُ‬ ‫لي�ست �أق ّلها ال�صدمة الدرا�سية‪� :‬أنت‬ ‫الدماغ حينها‪ ،‬يتقوقع يف ق�ضبان الثقافة املكت�سبة‪،‬‬
‫لكنك مل تدر�س (مثل الطلبة املغاربة) الريا�ضيات‬ ‫أحادي ِة اجلانب‪ ،‬بال�رضورة‪)...‬‬
‫ثقافة «القبيل ِة» ال ّ‬
‫احلديثة يف منهجك الدرا�سي اليمني الذي عفى عليه‬ ‫خا�ص ًة تركَ ْت هذه ال�سنوات‬
‫على ال�صعيد الثقايف والأدبي ّ‬
‫الزمن‪ .‬عليك �أن تتع ّلم �أ�شياء كثرية �إذن لتواكب هذا العامل‬ ‫�آثاراً رئي�سة يف تكويني‪.‬‬
‫اجلديد‪...‬‬ ‫وثقافي ًا‬
‫ّ‬ ‫(لغوي ًا‬
‫ّ‬ ‫كخال�صة‪� ،‬أحتفظ جلديد هذه املرحلة‬
‫ثم تبد�أ من التمكن‬ ‫تدر�س‪ ،‬تناق�ش‪ ،‬تتفاعل مع اجلميع‪ّ ...‬‬ ‫وفكرياً) بامتنان خال�ص‪.‬‬
‫ّ‬
‫من اللغة الفرن�سية‪ .‬تدغدغك حينها الرغبة يف القراءة‬
‫الأدبية‪.‬‬ ‫كتاباتي يف هذه املرحلة‪:‬‬
‫أدبي �شبه‬ ‫�صنف � ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫تبحث عن الق�صة الق�صرية‪ .‬ال جتدها!‬ ‫ن�رشت � ّأول ق�صيدة يف جملة «احلكمة» اليمنية و�أنا يف‬ ‫ُ‬
‫ت�سائل �أ�صدقاءك‪« :‬ملاذا‬ ‫ُ‬ ‫غري معروف‪ ...‬ت�ستغرب كثرياً!‪...‬‬ ‫الرابعة ع�رشة من العمر‪ ...‬جل� ُأت‪ ،‬مثل مو�ضة تلك الأيام‪،‬‬
‫ال يقر أ� النا�س هنا ال�شعر �أو الق�صة الق�صرية؟»‪...‬‬ ‫نوع من الغمو�ض‪.‬‬ ‫الت�شبث بالرمز واالجنراف نحو ٍ‬ ‫ّ‬ ‫�إىل‬
‫التجدد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كلي النهائي‬ ‫مل ٌّ‬ ‫باخت�صار �شديد‪ ،‬الرواية عا ٌ‬ ‫الق�صائد �صعب َة الفهم قرب ال�سابعة ع�رشة‪ ،‬لأن‬ ‫َ‬ ‫مللت‬
‫ثم ُ‬ ‫ّ‬
‫تلتقي فيه ك ّل الأمزجة‪ ،‬ك ّل التيارات القدمية واحلديثة‪،‬‬ ‫هب‬‫ّ‬ ‫من‬ ‫لذلك‬ ‫أ‬ ‫�‬‫يلج‬ ‫مفهوم‪.‬‬ ‫غري‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫�شعر‬ ‫يكتب‬ ‫�صار‬ ‫اجلميع‬
‫دون قوانني �أو تر�سيمات وحدود‪...‬‬ ‫ودب‪ ،‬ومل تعد هناك �إمكانية لتمييز ق�صائد هذا عن ذاك‪...‬‬
‫تالحظ �أن اجلن�س الروائي الأنبل والأكرث �أهمية هو دون‬ ‫يلهث وراء �صناعة ال�صيغ‬ ‫حاولت كتاب َة �شع ٍر ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫بعد ذلك‬
‫التخيل»! هو الأ�صعب بال�رضورة‪ ،‬ال�سيما‬ ‫ّ‬ ‫�شك‪« :‬جن�س‬ ‫وجدت‬‫ُ‬ ‫املعنى‪.‬‬ ‫وغمو�ض‬ ‫ف‬ ‫ث‬‫ّ‬ ‫املك‬ ‫والرمز‬ ‫دة‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫املع‬ ‫اللغوية‬
‫تف�ضل املحاكاة‬ ‫�شخ�ص �ص َن َع ْت ُه ثقاف ُة طفولتك التي ّ‬ ‫ِل ٍ‬ ‫ن�ص بهذه املوا�صفة! َق َّل ْت ب�شكلٍ‬ ‫�صعوب ًة يف كتابة ٍّ‬
‫والتقليد على االخرتاع واحلرية‪ ...‬يبدو لك بعد تفك ٍري‬ ‫�رصت قادراً على كتابتها!‬ ‫ُ‬ ‫خميف عدد الق�صائد التي‬
‫جتارب‬
‫َ‬ ‫خرتع من اجلذر‬ ‫رواية َت ُ‬ ‫ٍ‬ ‫طويل �أن م�رشوع كتابة‬ ‫أتذك ُر منها ق�صيدة يف الثامنة ع�رشة بعنوان‪« :‬لأمي‬ ‫� َّ‬
‫جتارب ب� ِرش الواقع‬ ‫َ‬ ‫�إن�سانية وعوامل تخيلية جديدة ُت�ش ِب ُه‬ ‫وهي متحو �أميتها» من وحي جتربتي يف تعليم � ّأمي‬
‫إبداعي �شدي ُد‬‫ٌّ‬ ‫فكرية رهيبة‪ ،‬عم ٌل �‬ ‫ّ‬ ‫وعوامله‪ ،‬مغامر ٌة‬ ‫أمية‬ ‫خ�ضم حملة حمو ال ّ‬ ‫ِّ‬ ‫القراءة والكتابة يف املنزل يف‬
‫ال�صعوبة والإعجاز‪...‬‬ ‫يف منت�صف �سبعينات جنوب اليمن‪.‬‬
‫تقدم قراءاتك �أن الرواية احلديثة معم ٌل‬ ‫يت�أكد لك مع ُّ‬ ‫‪ )3‬مرحلة فرن�سا‪ ،‬منذ ‪ 1976‬حتى ‪( 1992‬مرحلة‬
‫تفج ِر الذات‪ ،‬لإعادة‬ ‫ف�ضاء ِل ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ين للخيال قبل كل �شيء‪،‬‬ ‫كو ٌّ‬ ‫الده�شة والوالدة اجلديدة)‪.‬‬
‫خلق و�صياغة التجربة الإن�سانية‪.‬‬ ‫عندما ت�صل من ال�شيخ عثمان �إىل فرن�سا‪ ،‬ل ّأول مرة يف‬
‫أهم‬
‫ال�سنوات الع�رش‪ ،‬من ‪ 1983‬حتى ‪ُ ،1992‬ت�ش ِّك ُل � َّ‬ ‫ب�صدمة ح�ضارية‪ .‬التاك�سي يعرب‬ ‫ٍ‬ ‫ت�صاب‬
‫ُ‬ ‫عام ‪،1976‬‬
‫وتنوع ًا وده�شة‪.‬‬ ‫�سنوات حياتك العلمية و�أكرثها كثاف ًة ّ‬ ‫معامل باري�س �صوب «حمطة قطارات ليون» باجتاه‬
‫بد� َأت فيها بدرا�سة املاج�ستري يف جامعة باري�س ‪،6‬‬ ‫في�شي‪ .‬مدينة �أر�ستقراطية هادئة‪ .‬تدر�س اللغة الفرن�سية‬
‫‪154‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫دو ٍ‬
‫امة‬ ‫تراوح يف َّ‬
‫ُ‬ ‫أم�ست‬
‫بها والت�أثري يف �سريورتها التي � ْ‬ ‫بحث دقيقٍ ملا ين�سجم مع رغباتك العلمية‪ّ .‬‬
‫ثم‬ ‫بعد ٍ‬
‫�صنع التخلف والعجز عن مواكبة‬
‫ِ‬ ‫من اجلمود و�إعادة‬ ‫الدكتوراه يف ‪ 1987‬و�أطروحة الت�أهيل ِلقيادة الأبحاث‬
‫الع�رص‪...‬‬ ‫جامعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالتحولِ �إىل بروفي�سورٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ت�سمح‬
‫ُ‬ ‫يف ‪ 1992‬التي‬
‫ع�شت فيها اللحظات التكوينية‬ ‫َ‬ ‫جداً‬‫�سنوات كثيفة ّ‬
‫• وجدي الأهدل‬ ‫عت خاللها بظروف رغدة‬ ‫لثورة الكمبيوتر و�أنرتنت‪ ،‬مت ّت َ‬
‫قررت ان �أبيع نف�سي للأدب‪..‬‬ ‫خمترب علوم الكمبيوتر‬ ‫ُ‬ ‫و�إمكانيات كبرية وهبها لأبحاثكَ‬
‫يف �سنوات املراهقة‪� ،‬أحببت فتاة يف مثل عمري‪ .‬وهذا‬ ‫النظرية والتطبيقية (يف جامعة باري�س ‪ 6‬و ‪ ،7‬الذي‬
‫احلب العذري‪ ،‬بدل حياتي تبديال‪ ،‬و�أثر على �شخ�صيتي‪،‬‬ ‫ي�ضم فريق جامعة روان)‪� ،‬أكرب و�أهم خمتربات �أبحاث‬ ‫ُّ‬
‫فتحولت من ولد اله ٍ عابث‪� ،‬إىل �شاب جاد يفكر ويت�أمل‬ ‫فرن�سا يف علوم الكمبيوتر‪.‬‬
‫يف م�ستقبله‪ ،‬ويخطط لتحقيق حياة م�ستقرة‪ .‬وبالطبع‬ ‫‪ )4‬فرن�سا‪ ،‬منذ ‪:1992‬‬
‫كانت تلك احلبيبة‪ ،‬ت�شغل حجر الزاوية يف جميع‬ ‫يومي تلك العطلة خام ًال ممُ ّدداً على الفرا�ش‪ ،‬ك�أنك‬ ‫يت َ‬ ‫ق�ض َ‬‫َّ‬
‫الأحالم الوردية التي ر�سمتها يف خميلتي‪.‬‬ ‫وحيد كان مي أل‬ ‫ٌ‬ ‫ؤال‬‫ٌ‬ ‫س�‬ ‫�‬ ‫أ�شهر!‬ ‫�‬ ‫وب�ضعة‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫عام‬ ‫‪35‬‬ ‫منذ‬ ‫تنم‬ ‫مل‬
‫كنت �أمام خيارين ‪:‬‬ ‫جديد‪ ،‬غري‬ ‫َ‬ ‫علمياً‪ :‬ال‬
‫دماغك‪« :‬ماذا �أري ُد عمل ُه الآن؟»‪ّ ...‬‬
‫الأول العمل يف التجارة‪ ،‬والثاين �إنفاق الوقت يف كتابة‬ ‫موا�صلة م�شاريع الأبحاث وقيادة �أطروحات الدكتوراه‬
‫الأدب‪.‬‬ ‫اجلامعي‪� .‬أدبياً‪ :‬كل �شيء‬ ‫ّ‬ ‫يف املخترب وا�ستمرار التدري�س‬
‫لقد كان نداء الأدب ي�صعد من روحي قوي ًا وا�ضح ًا‪،‬‬ ‫لتحرر من قمقمها‬ ‫ثمة موا�ضيع �سجينة ترنو ِل ّ‬ ‫تقريباً! ّ‬
‫لكنني مدرك �أي�ض ًا �أن الأدب ال يجلب ماالً‪ ،‬وال يحقق‬ ‫والرق�ص على الورق‪ ...‬ال ح َّل �إذن �إال احلياة املزدوجة‪،‬‬
‫للمرء حياة رغيدة‪ .‬تفكريي �آنذاك كان من�صب ًا على‬ ‫تعامدين‪� ،‬إن�شطار الكينونة‪ :‬ممار�سة‬ ‫الت�س ُّكع يف ُبعدين ُم ِ‬
‫توفري املال‪ ،‬لأمتكن من االقرتان بن�صفي الآخر‪ ،‬قبل‬ ‫�شغ َفني‪ ،‬زم ٌن لهذا وزم ٌن لذاك‪...‬‬
‫اب �آخرون كانوا يحومون حولها‪ .‬كنت‬ ‫�أن يخطفها ُخ ّط ٌ‬ ‫اليوم املوعود وت�سا�ؤالته‬ ‫ِ‬ ‫بد� َأت بعد �شهرين من ذلك‬
‫�أعرف �أن بنت ًا يف مثل جمالها الطاغي لن تتخطاها‬ ‫االن�شطارية‪ ،‬بكتابة � ّأول رواياتك‪« :‬امللكة‬ ‫ّ‬ ‫الوجودية‬
‫ّ‬
‫العيون‪ ،‬و�أنني ل�ست وحدي املتيم املفتون‪ .‬هكذا غ ّلبت‬ ‫املغدورة» بالفرن�سية التي كانت لغة قراءتك الوحيدة‬
‫�صوت القلب على نداء الروح‪ ،‬فدخلت يف م�شاريع جتارية‬ ‫خالل �سنوات‪ ...‬ما �إن �أكملتها وقر� َأت ترجم َتها بالعربية‬
‫دون خربة تذكر‪ ،‬ففتحت مكتبة لبيع الكتب والقرطا�سية‬ ‫الذي كتبها الأ�ستاذ الروائي البديع املبدع علي حممد‬
‫وخ�رست‪ ،‬وفتحت بقالة �أكلت روحي و�أحلقت بي خ�سارة‬ ‫�شغف القراءة والكتابة بالعربية‪ ،‬لغة‬ ‫ُ‬ ‫زيد حتى ا�ستيقظ‬
‫فادحة‪ ،‬واجتهت �إىل �أعمال �أخرى بق�صد الك�سب ال�رسيع‪،‬‬ ‫ثقافتك الأوىل‪ ،‬بجانب الفرن�سية‪ ،‬وعادت مئات الكلمات‬
‫كبيع ال�ساعات وقطع غيارها‪ ،‬ولكنها جميع ًا انتهت‬ ‫كتبت بعدها بالعربية‪:‬‬ ‫َ‬ ‫املن�سي ِة دفع ًة واحدة‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫العربية‬
‫بي �إىل الف�شل الذريع والإفال�س التام‪� .‬أي عمل جتاري‬ ‫احلب»‪ ،‬املجموعة الق�ص�صية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«�شيء ما ي�شبه‬ ‫ٌ‬ ‫ديوان‬
‫كنت �أدخل فيه ي�صاب بالنح�س‪ ،‬ويت�سلط عليه الك�ساد‪،‬‬ ‫�شعرت بعد ذلك‬ ‫َ‬ ‫حرى من مملكة املوتى»‪.‬‬ ‫«هم�سات ّ‬
‫فال �أجنو من الديون واجلرجرة �إىل ال�سجون �إال بالكاد‪.‬‬ ‫ب�إمكانية الدخول يف مغامرة كتاب ِة رواي ِة بالعربي ِة التي‬
‫وعقب كل مغامرة جتارية فا�شلة‪ ،‬كنت �أجد نف�سي �أعود‬ ‫كتبت ثالثيتك الروائية‬ ‫َ‬ ‫عادت الآن كلماتها ال�ضائعة‪.‬‬
‫�صاغراً ذلي ًال �إىل بالط الأدب وخ�صو�صا الرواية‪ ،‬ولي�س‬ ‫ي�ضم جمموعة‬ ‫ُّ‬ ‫كتاب‬ ‫ٌ‬ ‫الأوىل بالعربية‪« :‬دمالن»‪ .‬تالها‬
‫لدي ما ي�سرت عورتي �سوى الورقة والقلم‪ .‬ت�سببت هذه‬ ‫ظهر منها وما‬ ‫مقاالت حديثة‪ ،‬بعنوان «عن اليمن‪ ،‬ما َ‬
‫اخل�سائر املالية املروعة يف �إ�صابتي بالي�أ�س من الفوز‬ ‫ثم رواية «طائر اخلراب»‪ ،‬و�أخرياً اجلزء الأول من‬ ‫بطَ ن»‪ّ ،‬‬
‫باحلبيبة ودفع مهرها‪ ،‬و�شعرت ب�أنني كائن فائ�ض‬ ‫«عرق الآلهة»‪...‬‬ ‫رواية َ‬
‫عن حاجة الوجود‪ ،‬وفكرت جدي ًا يف التخل�ص من‬ ‫مل تتو َّقف طوال هذه ال�سنوات من االن�صهار بهموم‬
‫عار البقاء حي ًا و�أنا مثقل بكل هذا الكم من الهزائم‪..‬‬ ‫اليومي مع �أهلها‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫احلياة يف اليمن‪ ،‬من التوا�صل‬
‫يف الليلة التي اتخذت فيها القرار بوعي كامل‪ ،‬فكرت‬ ‫ال�شوق وال�سفر �إليها و�إىل كثري من الدول العربية‪...‬‬
‫�أن �أقوم بجولة �أخرية �أودع فيها العامل‪ .‬خرجت �إىل‬ ‫ت�شدكَ للت�أ ُّثر‬
‫ثقاف ُتك العربية الأوىل ت�سكنكَ حيث ما كنت‪ُّ .‬‬
‫‪155‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واقع‬
‫وبينك ال تكفي‪ .‬ما حتتاجينه هو حتويل الإجابة �إىل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ال�شارع بعد منت�صف الليل‪ ،‬وكانت املدينة كلها نائمة‪،‬‬
‫حياتك بني‬ ‫ِ‬ ‫ير�ضيك ويحقق التوازن الذي تن�شدينه يف‬ ‫ِ‬ ‫وعندما نظرت �إىل ال�سماء وت�أملت النجوم‪ ،‬انفتح �شيء‬
‫ألت نف�سك يف‬‫ِ‬ ‫التخ�ص�ص العلمي والهواية الأدبية!‪� ...‬س� ِ‬ ‫يف داخلي‪ ،‬فراغ ي�شبه البئر‪� ،‬أو مغارة �رسية تغري‬
‫املرة الأوىل بعد االنتهاء من درا�سة الهند�سة املعمارية‪:‬‬ ‫بدخولها‪ ..‬وهكذا تو�صلت �إىل ت�سوية معقولة‪ ،‬فقررت‬
‫�سرت�ضيك الإجابة ب�رضورة العودة للكتابة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ماذا بعد؟‬ ‫بد ًال من م�صافحة املوت‪� ،‬أن �أبيع نف�سي للأدب‪ .‬منذ تلك‬
‫ِ‬
‫ل�شغفك الوحيد الذي جتدين فيه ذاتك‪ .‬للبوح مبكنونات‬ ‫ِ‬ ‫الليلة احلا�سمة يف حياتي‪� ،‬أ�صبحت مدين ًا بحياتي لقوة‬
‫حولك‪� .‬ستفعلني و�ستقررين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وبتفاعلك مع من‬ ‫ِ‬
‫ذاتك‬ ‫غري مرئية ا�سمها «الأدب»‪ .‬وخا�صة الرواية‪ ..‬لقد �أخذت‬
‫ا�سمك يف‬ ‫ِ‬ ‫ن�رش ما تكتبني بقوة العودة وب�إ�رصار نحت‬ ‫عهداً على نف�سي برتك العمل التجاري نهائي ًا‪ ،‬و�أن‬
‫أ�سمك الذي ف�ضلتيه يف ال�سابق‬ ‫عامل الق�صة الق�صرية‪ِ � .‬‬ ‫�أهب عمري كله للكتابة‪� .‬أعتقد �أن هذا كان �أ�صعب قرار‬
‫م�ستعاراً‪ ،‬ال بد �أن يجاهر بحقه يف الظهور وبقوة هذه‬ ‫اتخذته يف حياتي‪ ،‬لأنه كان يعني �أي�ض ًا التخلي عن‬
‫طريقك م�ؤ�رشات تقول ان اال�ستمرار‬ ‫ِ‬ ‫املرة‪� .‬ستوم�ض يف‬ ‫احلبيبة‪ ،‬وتركها مل�صريها‪ .‬بعد �سنوات قليلة‪ ،‬تزوجت‬
‫يحتاج �إخال�ص ًا �أكرث‪ ،‬فجائزة عربية «�سعاد ال�صباح‬ ‫فتاة �أحالمي‪ ،‬و�صار لها بيت وذرية‪ ،‬وعلمت �أنها حتيا‬
‫ثم جائزة حملية «رئي�س اجلمهورية‬ ‫حياة عائلية �سعيدة‪ .‬و�أما �أنا فكنت ما �أزال �أتخبط‬
‫‪ »2001‬ومن َّ‬ ‫يف بداياتي الأدبية‪ ،‬ومل �أمتكن من ن�رش �أية ق�صة‪ .‬منذ‬
‫‪ »2002‬ت�شجعان على التفاين لال�ستمرار وحتقيق جناح‬
‫ِ‬ ‫البداية �أدركت �أن الإخال�ص التام للأدب وتكري�س حياة‬
‫�ستحا�رصك بعد �إثبات الذات الءات كثرية‬ ‫�أكرث و�أكرث‪...‬‬
‫ب�أكملها لأجله‪ ،‬يعني ال�صرب على الفاقة‪ ،‬وجترع مرارة‬
‫روحك‬‫ِ‬ ‫من حولك‪ ،‬وحماذير جمتمعية قبلية دينية‪ ،‬تقيد‬
‫الفقر‪ .‬ولذلك اتخذت �أ�سلوب ًا متق�شف ًا يف احلياة‪ ،‬ي�ساعدين‬
‫املنطلقة للأدب‪ ،‬و�شغفك الالمتناهي لال�ستمرار‪ .‬بعد‬ ‫يف احلفاظ على ا�ستقالليتي قدر الإمكان‪� .‬إن �أ�سو�أ �شيء‬
‫معارك �إثبات الذات‪� ،‬ستبد أ� معارك تثبيت الذات يف هذا‬ ‫يتعر�ض له الكاتب �أينما كان‪ ،‬هو ا�ضطراره حتت �ضغط‬
‫حولك‪� .‬ستجدين �أن احلل ال يتطلب‬ ‫ِ‬ ‫الثالوث املخيف من‬ ‫احلاجة �إىل بيع روحه‪..‬‬
‫وحتمل تبعات هذا احلل‬ ‫ّ‬ ‫�أكرث من �إ�رصارٍ على اال�ستمرار‪،‬‬ ‫لقد جربت كتابة الق�صة الق�صرية والن�ص امل�رسحي‬
‫من �أمل وحزن و�شعور قاتل بالوحدة والظلم‪.‬‬ ‫وال�سيناريو الأدبي‪ ،‬والحظت �أن كتابة الرواية ت�ساعدين‬
‫عليك ال�س�ؤال بعد ثالث جمموعات ق�ص�صية‬ ‫ِ‬ ‫�سيلح‬ ‫على �أن �أقدم �أف�ضل ما عندي‪ .‬فن الرواية ي�سمح للكاتب‬
‫«زفرة يا�سمني ‪« »2000‬دحرجات ‪« »2002‬تق�رش‬ ‫ب�أن ي�رسد ب�صورة ر�أ�سية ويحفر عميق ًا للبحث عن‬
‫غيم ‪ ،»2004‬ورغبة ملحة يف الغو�ص يف �أعماق الذات‬ ‫اجلذور‪ .‬الذين يكتبون الرواية ب�صورة م�سطحة هم الذين‬
‫فيك �ساكنٍ‬ ‫و�أعماق املجتمع‪ .‬يف نب�ش كل ما يحرك ِ‬ ‫يح�سبون �أن الفارق بني الق�صة الق�صرية والرواية يكمن‬
‫ويتما�س �أو يتقاطع مع كل من حولك‪ ،‬يف ا�سرت�سال‬ ‫يف عدد ال�صفحات‪ :‬التمدد الأفقي على الورق!‬
‫حلمت به‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫البوح ويف مزج الواقع بالتخييل الذي‬ ‫اليوم وبعد مرور ع�رشين عام ًا على قبويل عبوديتي‬
‫ولتطلقي لروحك العنان للتحليق يف كل اجتاه‪.‬‬ ‫املختارة لل�سيد امل�سمى «الأدب»‪� ،‬أرى �أن قراري كان‬
‫ماذا بعد الق�صة الق�صرية؟ كلمة رواية كانت مرعبة‬ ‫�صائب ًا‪ ،‬كما �أنني ل�ست نادم ًا على تركي عامل التجارة‬
‫ج�سدك مراراً! كيف‬ ‫ِ‬ ‫وخميفة‪� ،‬أرجتف ملرور كتابتها‬ ‫املتوح�ش‪ .‬رفاقي الذين اختاروا طريق التجارة‪ ،‬رمبا‬
‫نف�سك يف‬ ‫ِ‬ ‫�ستلجني هذا العامل املده�ش؟ وكيف �ستثبتني‬ ‫حققوا مكا�سب مالية‪ ،‬لكنهم يعي�شون حياتهم يف قلق‪،‬‬
‫زمن �أ�صبح هو بالفعل زمن الرواية؟ تتجلى يف �أعماقك‬ ‫لأن املال ذو طبيعة فانية‪ ،‬من املمكن �أن يتبخر يف‬
‫أنك عا ٍمل‬ ‫عبارة «�أو�سكار وايلد‪ :‬كن نف�سك! لتوقني �أكرث ب� ِ‬ ‫�أية حلظة م�ش�ؤومة‪ .‬لكن بالن�سبة للأدب‪ ،‬ف�إن الو�ضع‬
‫مبحيط بكر‪ ،‬وما يحتاجه هو رغبة حقيقية‬ ‫ٍ‬ ‫ملي ٍء وزاخ ٍر‬ ‫خمتلف جداً‪ ،‬لأن ر�أ�سماله املعنوي ينمو بهدوء يف خط‬
‫يف االكت�شاف! و�أن مواده اخلام ثروة �أدبية تبحث عن‬ ‫�صاعد‪ ،‬حمقق ًا ل�صاحبه ال�سرت واحلظوة واخللود‪.‬‬
‫�إدراك حقيقي لقيمتها‪ .‬ماذا تكتبني؟ �س�ؤال كان البد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫• نادية الكوكباين‬
‫بذاتك فال ميكن‬ ‫لك من الإجابة عليه ب�صدق‪� .‬ستبدئني‬
‫أنت بحاجة للتخل�ص من تراكمات‬ ‫لك �أن تتخطيها‪ِ � .‬‬ ‫ِ‬ ‫كلمة رواية مرعبة وخميفة!‬
‫طفولة نقية ومراهقة ملوعة باالكت�شاف‪ ،‬واحلاجة �أي�ض ًا‬ ‫حياتك! الإجابة عليه ِ‬
‫بينك‬ ‫ِ‬ ‫يتكرر مرور ذات ال�س�ؤال يف‬
‫‪156‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يقولون عنها او اللغة التي ابهرتهم او املوا�ضيع التي‬ ‫للتخل�ص من ممار�سات ثقافية وجمتمعية منطية‪ ،‬مل‬
‫مت تناولها بطريقة خمتلفة‪.‬‬ ‫ترتك لك واحديتها حرية االختيار �أو البحث عن التعدد‬
‫لت�أتي التجربة الروائية الثالثة («�صنعائي» حتت‬ ‫الذي �ستكت�شفينه الحقا يف العامل ويف الذوات الب�رشية‪.‬‬
‫الطبع ‪ )»2013‬لت�شعري � ِ‬
‫أنك تكتبني بوعي �أكرب ومبزاج‬ ‫�ستبدئني الكتابة بخوف البداية وخجل االرتباك‪...‬‬
‫عالٍ يف ان تكوين النموذج الأوحد لذاتك فقط ذاتك يف‬ ‫�سيظهر يف حياتك من ي�شجعك متاما كما �سيظهر من‬
‫الكتابة ويف احلياة‪.‬‬ ‫يثبط من عزميتك ويح ّقر بدايتك‪ ...‬ال يهم �ستكونني نف�سك‬ ‫ّ‬
‫كما قال او�سكار وايلد‪� .‬ستفعلني ما ترينه �صحيح ًا وما‬
‫• الغربي عمران‬ ‫أنك تتفاعلني مع‬ ‫يقنع ذاتك‪ .‬يوم ًا عن يوم �ستوقنني ب� ِ‬
‫بناء العمل الروائي‪.‬‬ ‫أعماقك ومع حميطك بقدر تفاعل الآخرين من حولك مع‬ ‫ِ‬ ‫�‬
‫مل �أكن �أعلم ب�أين �أمام عمل له روح مراوغة‪� ..‬أو هكذا‬ ‫أنت عليه يف الواقع‬ ‫ن�صو�صك‪� ...‬ستجدين ان التميز هو ما � ِ‬
‫�أح�س�ست ب�أين �أمام كائن له روح متمردة‪ .‬تلك هي‬ ‫متيزك ولتعتربي‬‫ِ‬ ‫�أو يف عامل التخييل الذي تن�شديه لترثي‬
‫يدي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نف�سك النموذج الأوحد الذي لن يتكرر‪.‬‬
‫الرواية التي ما زالت بني َّ‬
‫فبعد �أن فرغت من رواية (ظلمة اهلل) �أو كما عدلت �أ�سمها‬ ‫�ستمر التجربة الأوىل يف رواية «حب لي�س �إال ‪.»2006‬‬
‫بـ (ظلمة يائيل)‪ ..‬فكرت بكتابة عمل جديد‪ ..‬عمل كانت‬ ‫نف�سك يف نهايتها‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجدت‬ ‫مل تكن �سهلة ومل تكن �صعبة‪.‬‬
‫علي �أثناء ان�شغايل بكتابة الظلمة‪ ،‬حني‬ ‫أنت كتبت الرواية‬ ‫فعلت؟ من كتب من؟ � ِ‬ ‫غري مدركة ماذا ِ‬
‫فكرته قد طر�أت َّ‬ ‫ذاتك كما فعل‬ ‫كتبتك؟ �ستتل�ص�صني على ِ‬ ‫ِ‬ ‫�أم هي التي‬
‫تبادر �إىل ذهني �س�ؤال ( من هم الذين قاموا بالثورة �ضد‬
‫الإمامة الزيدية يف اليمن عام ‪1962‬؟) كنت قد قر�أت‬ ‫ال ُقراء! �س ُتحا�رصين بالأ�سئلة من كل جانب‪� .‬سيكررون‬
‫�سابق ًا بع�ض الكتب التي ت�شري �إىل جمموعة من الطلبة‬ ‫ما يرتدد يف �أعماقك بطرق خمتلفة‪ :‬من كتب من؟‬
‫من عدة مدار�س للجي�ش هم من خططوا ونفذوا الثورة‪،‬‬ ‫�ستهربني وتقولني �أنا من كتبت لكن ما ُكتب ل�ست �أنا!!!‬
‫لكن طلبة مدار�س الأيتام كانوا �أ�سا�س تلك املجموعة‪..‬‬ ‫�ستجدين نف�سك بني مطرقة املجتمع و�سندان الذات‬
‫�أخذت �أبحث يف نظام تلك املدار�س‪ ..‬وركزت �أكرث على‬ ‫الراغبة يف اال�ستمرار والغري قادرة على املواجهة �أو‬
‫مدر�سة الأيتام حيث تتم تن�شئة الطلبة يف نظامها‬ ‫الإجابة على كل تلك الت�سا�ؤالت �أو حل كل تلك امل�شاكل‪.‬‬
‫الداخلي‪ ..‬وكذلك ذهبت للبحث يف نظام الرهائن الذي‬ ‫�آ�آ�آ�آ�آه من تلك امل�شاكل!!!‬
‫كان يتبع الأئمة يف اليمن‪ ..‬كتب �أ�شارت �إىل دور �أولئك‬ ‫�ستمر التجربة الثانية رواية «عقيالت ‪ »2009‬بردود فعل‬
‫الرهائن يف الثورة الذين ي�أخذهم الإمام وهم �صبيان‬ ‫خمتلفة‪� ،‬صادمة وحمرية يف بع�ضها‪ ،‬لكنها مر�ضية يف‬
‫من �آبائهم م�شايخ القبائل ل�ضمان والئهم‪ ..‬حيث‬ ‫جانبها الآخر ويف تفاعل املتلقني واملتذوقني للعمل‪...‬‬
‫ي�ستخدم �صغار ال�سن منهم كخدم يف الق�صور‪ ..‬ومن‬ ‫لكنك بها �ستتحررين من �شعور ان ينال العمل ر�ضا‬
‫جتاوز �سن البلوغ ير�سل لل�سجون‪.‬‬ ‫وا�ستح�سان كل من قر�أه و�أي�ضا التحرر الأكرب من واجب‬
‫وما �شغلني يف الأمر هي طبيعة تكوين �أولئك الثوار‬ ‫الكتابة يف مو�ضوع �سبب لك امل ًا غائراً لن يخبو مع الزمن‪.‬‬
‫�سواء يف مدار�س الأيتام �أو يف ق�صور الإمام و�سيوف‬ ‫لك الن�شوة‬ ‫و�صول الروايتني للطبعة الثالثة ي�سبب ِ‬
‫الإ�سالم �أو يف ال�سجون‪.‬‬ ‫ويحفزك على اال�ستمرار‪ .‬وخالل تلك الفرتة تلتقطني‬
‫قر�أت عدة مذكرات لبع�ض �أولئك الثوار‪ ..‬وكتب ًا �أخرى‬ ‫ق�صة هنا وق�صة هناك‪ .‬تتفاعلني مع ما يدور حولك‬
‫فتكتبني م�سودة لق�صة �أو فكرة ت�ستحق االجناز‪ .‬تكت�شفي‬
‫حول حياة الق�صور‪ ..‬ونظام ال�سجون‪ ..‬لأكت�شف ب�أن‬
‫يخب يف داخلك رغم متعة‬ ‫ان حب الق�صة وكتابتها مل ُ‬
‫اجلميع كانوا قد ن�ش�أوا يف و�سط مت�شابه‪ ..‬حيث ال�سكن‬ ‫كتابة الرواية لتكون املجموعة الق�ص�صية الرابعة‬
‫الداخلي وال�سجن الداخلي‪ ..‬ال يوجد �سوى ذكور ويف‬ ‫«عادة لي�ست �رسية ‪ »2012‬عمال مغايراً ومتقدما‬
‫الق�صور لهم حياة مرتفة ت�سودها حياة الغلمان‪ ..‬وهنا‬ ‫على م�ستوى اللغة واملو�ضوع وهذا ما �سمعتيه من‬
‫ا�ستنتجت �أن معظمهم قد يتعر�ضون لالعتداء اجلن�سي‪..‬‬ ‫الآخرين وما انتابهم من �شعور اثناء القراءة اما انت‬
‫�سواء يف الق�صور امللكية‪� ..‬أو ال�سجون‪� ..‬أو يف حياة‬ ‫فهي املمار�سة والرتاكم الذي احدث تلك النقلة التي‬
‫‪157‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫خ�صائ�ص ال�شخ�صية يقود �إىل تغيري �شامل يف بناء‬ ‫ال�سكن الداخلي ملدار�س الأيتام ثم مدار�س اجلي�ش‪ ،‬التي‬
‫م�رشوع العمل الروائي‪.‬‬ ‫كان بها �سكن داخلي للطلبة‪ ..‬و�أجزم يف كل احلاالت �أن‬
‫كنت قد بد�أت �أ�شك يف �أن لهذا العمل غمو�ضه‪� ..‬إذ �أن‬ ‫�أولئك الطلبة مبجرد �أن يتحولوا �إىل معلمني وموظفني‬
‫�أعادة ال�صياغة من جديد �أخذت مني وقتا وجهدا‬ ‫يتحولوا من مفعول به �إىل فاعل وقد ي�ستمر بني بني‪..‬‬
‫م�ضاعفني عن ال�صياغة الأوىل‪� ..‬سهرت عدة �أ�شهر حتى‬ ‫بحثت حول معرفة الأئمة مبا يدور خلف تلك اجلدران‪..‬‬
‫�أجنزت مائة وثمانني �صفحة‪ ..‬احلقيقة كنت �سعيدا‬ ‫وهل تلك كانت �سيا�سة �أم �أنها جاءت بظروفها كون تلك‬
‫ورا�ضي ًا مبا �أجنزت‪ ..‬فقد جاءت �إعادة �صياغة امل�رشوع‬ ‫الفئة من الطلبة والرهائن يف �أعمار �صغرية؟ �إ�ضافة‬
‫بعمل �أكرث متا�سكا كما تعددت فيه املعاجلات‪� ..‬إ�ضافة‬ ‫�إىل وجودهم مع �أقران لهم يف مكان هو الأقرب �إىل‬
‫�إىل ا�ستخدامي لأ�ساليب فنية فيها نوع من الت�شويق‬ ‫نظام ال�سجون‪ ..‬مل �أجد جواب ًا‪.‬‬
‫والإغواء‪ ..‬وكنت قد حددت فرتة زمنية لإجناز بقية‬ ‫هذه م�س�ألة �شغلتني‪ ..‬وظل �س�ؤال يرتدد بداخلي (ما‬
‫الرواية حتى نهايتها ب�ستة �أ�شهر لتدخل يف مرحلة‬ ‫طبيعة تكوين من قاموا بالثورة‪ ..‬وما هي خلفيتهم‬
‫املراجعة والتنقيح عدة �أ�شهر �أخرى‪� ..‬إذ �أين �أف�ضل بعد‬ ‫الرتبوية؟) لتقودين مطالعاتي يف عدة كتب �إىل معرفة‬
‫�إجناز �أي عمل ان �أ�ست�شري بعد �أكرث من قارئ جيد قبل‬ ‫�أكرث ات�ساعا ب�أو�ضاع املجتمع يف ذلك الوقت‪ ..‬من‬
‫�إر�سالها للطبع‪.‬‬ ‫الناحية الدينية واالجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية‪..‬‬
‫لكن طارئ ًا جديداً حدث وفقدت هذه املرة ما مت كتابته‬ ‫ليرت�سخ يف ذهني مو�ضوع �أ�شمل لكتابة عمل روائي‬
‫بالكامل‪ ..‬فحني كنت وال�صديق الروائي وامل�رسحي‬ ‫جديد حموره الثورة اليمنية‪ .‬وظروف املجتمع �آنذاك‬
‫منري طالل نقوم بواجب العزاء لوزير الثقافة يف �صنعاء‬ ‫وحياة الق�صور‪ ..‬وطبيعة الثورة‪� ..‬إ�ضافة �إىل �أثر‬
‫د‪ .‬عبداهلل عوبل بوفاة والده‪ ..‬تركت حقيبتي يف ال�سيارة‬ ‫ال�رصاع العربي العربي عليها وكذلك ال�رصاع العاملي‬
‫ودخلنا قاعة العزاء لنعود بعد ن�صف �ساعة وقد تبخرت‬ ‫بني الكتلتني الر�أ�س مالية واال�شرتاكية‪.‬‬
‫احلقيبة من داخل ال�سيارة‪ ..‬كان جهاز احلا�سوب‬ ‫كنت �سعيدا بتبلور ذلك املو�ضوع يف ذهني‪ ..‬وبعد �أن‬
‫الـمحمول الذي �أجمع فيه الرواية بداخل احلقيبة‪ ..‬مل‬ ‫فرغت من قراءاتي‪ ..‬بد�أت بو�ضع خمطط زمني للعمل‬
‫�أحزن على فقدان رخ�صة ال�سيارة �أو بطاقتي ال�شخ�صية‬ ‫الروائي‪ ..‬كتبت ت�صورا للبداية ثم �سري الأحداث‪ ..‬طبيعة‬
‫وبطائق ع�ضوية لعدة منظمات‪ ..‬وال على �صور كثرية‬ ‫�شخ�صيات العمل عالقاتهم‪ ..‬ثقافاتهم‪ ..‬امل�ساحة‬
‫وموا�ضيع �أخزنها بداخله‪ ..‬كل ذلك ال يهم‪ ..‬فقط ما جعل‬ ‫اجلغرافية للأحداث‪ ..‬ثم بد�أت بال�صياغة الروائية‪..‬‬
‫ج�سدي يتعرق ب�شكل غريب وكدت (�أبرجل) �إح�سا�سي‬ ‫كان يف ذهني �أن ي�صل العمل �إىل الـ(‪� )400‬صفحة‪ ..‬ما‬
‫بفقد ما �أجنزته للمرة الثانية من م�رشوع الرواية‪..‬‬ ‫يقارب عقد ما قبل الثورة وعقد بعد الثورة‪.‬‬
‫جل�ست �أ�ستجمع قواي‪� ..‬أفكر و�أمتنى �أن يكون الل�ص ذكيا‬ ‫خالل ع�رشة �أ�شهر من بدء الكتابة اليومية امل�ستمرة‬
‫ويتوا�صل معي ليفاو�ضني على قيمة ن�سخة الكرتونية‬ ‫�أجنزت ما يقارب املائتني �صفحة‪� ..‬شعور ب�سال�سة‬
‫من م�رشوع الرواية لدفعت له ما �أ�ستطيع دفعه‪ ..‬على‬ ‫و�سهولة ال�صياغة رافقني‪ ..‬لكني فج�أة توقفت‪� ..‬أخذت‬
‫�أن ي�أخذ بقية غنيمته‪ ..‬فقط ي�سحب يل املادة يف فال�ش‬ ‫�أبحث عن �أ�سباب تلك ال�سهولة‪ ..‬ويف حلظة اكت�شفت �أن‬
‫تكرمه بذلك‪ ..‬ظل الأمل يراودين‪ ..‬ن�رشت‬ ‫و�أدفع ثمن ّ‬ ‫قلة �شخ�صيات الرواية هي ال�سبب‪ ..‬وفكرت يف ا�ضيف‬
‫اخلرب على �صفحتي (الفي�سبوك) وعلى بع�ض ال�صحف‬ ‫�شخ�صيات حيوية‪ ..‬وكذلك تغيري بع�ض خ�صائ�ص‬
‫ع ّله يقر أ� ذلك‪ ..‬لكني اكت�شفت �أن الل�صو�ص دوما �أغبياء‪..‬‬ ‫ال�شخ�صية الرئي�سية كتيمة معينة‪ ..‬مثله مثل �أبطال‬
‫ابتعت حا�سوبا �آخر واحتطت ب�رشاء فال�شني �أحدهم‬ ‫رواياتي ال�سابقات‪ ..‬حيث �أل�صق بال�شخ�صية خ�صي�صة‬
‫ب�سعة كبرية حتى �أخزن فيه ما �أكتب �أوال ب�أول‪..‬‬ ‫غريبة يتميز بها‪ ..‬وكانت الرائحة‪ ..‬نعم الرائحة التي‬
‫جل�ست �إىل نف�سي و�أنا �أرى �أن �أمامي �أكرث من �سنة‬ ‫تنبعث من ج�سده يف حلظات اخلوف والفرح هي‬
‫�س�أق�ضيها يف �إعادة جمع مادة الرواية‪ ..‬كدت �أمتزق‬ ‫اخل�صي�صة‪ ..‬ا�ستح�سنت الفكرة لأعود من بداية العمل‬
‫غيظ ًا‪ ..‬ما كان ي�رض الل�ص لو قام ب�سحب املادة‬ ‫باملراجعة‪ ..‬وهناك مل �أجد منا�ص ًا من �إعادة كتابة‬
‫وتوا�صل معي برقم هاتفي امل�سجل على �أجندة كانت‬ ‫الرواية من �أول �سطر‪ ..‬اذ �أن �أي تغيري يف حدث �أو‬
‫‪158‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�أن الن�سيان �أ�صعب من احلفظ‪ ..‬بل وم�ستحيل �أن يح�صل‬ ‫بداخل احلقيبة امل�رسوقة‪� ..‬أو �أن يبعث بر�سالة على‬
‫�إال ب�شكل ن�سبي وبدون �إرادة‪� .‬أو �أن �أترك كتابتها عدة‬ ‫�صفحتي بـ (الفي�سبوك) �أو يبعث بر�سالة على عنواين‪ ..‬كل‬
‫�سنوات‪ ..‬عندها قد �أن�سى وقد‪....‬‬ ‫تلك املواقع والعناوين مفتوحة يف جهازي امل�رسوق‪..‬‬
‫جت�سدت يل هذه الرواية ك�صخرة �سيزيف‪ ..‬و�أنا ذلك‬ ‫يخربين ب�أنه و�ضع املادة على عنوان (‪� )...‬أو يبعث بها‬
‫ال�شقي الذي يحملها بني كفيه ليعيدها �إىل قمة اجلبل‬ ‫على �إمييلي‪ ..‬ما �رضه لو �أنه تخل�ص من غبائه و�أ�سدى‬
‫مرارا‪.‬‬ ‫لل�صو�ص تغيري مكرمة و�صفهم بالأغبياء؟‬
‫كنت متهيبا‪ ..‬وكنت م�صمما على �إعادة كتابتها لو‬ ‫بالفعل ما كان �أق�ساها من حلظات و�أنا �أجل�س �أمام‬
‫�أ�ستدعى الأمر �أن �أكرر �سنوات عمري‪� ..‬أ�س�أل نف�سي ماذا‬ ‫اجلهاز اجلديد كطالب �ألزمه املدر�س �أن يكرر كتابة‬
‫لو انتهيت منها يف �صياغتها الأوىل؟ �ألن �أبد أ� ب�صياغة‬ ‫الكلمات عدة مرات‪ ..‬عدت من نقطة ال�صفر‪ .‬يف البدء‬
‫فكرة جديدة ومغايرة؟ �إذا علي �أن �أجنزها‪.‬‬ ‫حمدت ذاكرتي حني �أخذت �أ�ستعر�ض خط �سري ما كنت‬
‫�أخذت �أكتب ما ا�ستطعت‪ ..‬لأتقدم يوما بعد يوم وك�أين‬ ‫قد �أجنزته‪ ..‬فوجدته حمفوظ ًا‪ ..‬دونت ذلك على الورق‬
‫�أكتب رواية لأول مرة‪ ..‬كنت فرحا‪ ..‬حتى اكت�شفت �أين‬ ‫على �شكل خط �سري للأحداث‪.‬‬
‫و�صلت ال�صفحة اخلم�سني‪ ..‬حينها �شعرت بال�سعادة‬ ‫بد�أت ال�صياغة من �أول كلمة‪ ..‬كنت �أعتقد �أين �س�أدون‬
‫كوين جتاوزت ال�صياغة ال�سابقة‪ ،‬لكنه خوف ي�سكنني‪..‬‬ ‫الرواية كما �صغتها �آخر مرة‪� ..‬أخذت �أتذكر تلك اجلمل‬
‫خوف �أن �أفقد ب�شكل �أو ب�آخر ما مت �صياغته للمرة‬ ‫التي كنت قد �أجنزتها حتى ي�سهل علي الأمر‪ ..‬حاولت �أن‬
‫الثالثة‪ ..‬عقلي يتوقع �أن تختفي تلك ال�صفحات يف �أي‬ ‫�أجد ما �أن�سخه مما حتفظه ذاكرتي‪ ..‬مل �أجد ف�صوال وال‬
‫وطنت‬ ‫حلظة‪� ..‬أن حتدث م�شكلة و�أفقد ما كتبت‪ ..‬كنت قد ّ‬ ‫�صفحات �أو فقرات‪ ..‬مل �أجد اجلمل التي كنت قد �صغتها‬
‫نف�سي على �إن �أظل �أعيد كتابتها كلما فقدتها �أو طر�أ‬ ‫وال املفردات‪ ..‬فقط هي خطوط عري�ضة للمو�ضوع‬
‫طارئ‪.‬‬ ‫حتتفظ بها ذاكرتي‪� ..‬شبيهة بتلك اخليوط املعلقة على‬
‫ان�شغل بالتفكري يف �صياغة التفا�صيل ال�صغرية وعقلي‬ ‫فروع �شجرة حتركها الريح‪ ..‬خيوط باهتة‪ ..‬ما �أ�سو أ� ما‬
‫يفكر هناك يف البعيد‪ ..‬يف م�سار الرواية بعد ال�صفحة‬ ‫�أنا فيه‪ ..‬وعليه تركت ذاكرتي وما ع�شمتني به‪ ..‬و�أخذت‬
‫املائة وما بعد املائة يف �أت�ساق الأحداث وترابطها‪.‬‬ ‫�أ�صيغ جملي معتمدا على نف�سي‪ ..‬جملة تلو الأخرى‪.‬‬
‫يف العالقة بني ما �أ�صيغه من تفا�صيل يف ال�صفحات‬ ‫عدت �أبحث عن مفرداتي‪ ..‬ومل يكن ما بداخل دماغي‬
‫الأوىل وما �س�أكتبه يف ال�صفحات التالية من �أحداث‪.‬‬ ‫من ال�صياغة ال�سابقة �إىل �صدى �صوت يربكني فتارة‬
‫وهكذا هي ال�شخ�صيات املتعددة و�أثرها على الأحداث‬ ‫�أعتقد �أن تلك الفقرة قد �أجنزت يف ال�صفحات ال�سابقة‬
‫علي‬
‫وعالقة كل �شخ�صية بال�شخ�صيات الأخرى‪ ..‬كان ّ‬ ‫من �صياغتي اجلديدة‪ ..‬لأقلب بني ال�سطور حتى �أت�أكد‬
‫�أثناء كتابة كل كلمة وجملة وفقرة �أن �أفكر بكل �شيء‪.‬‬ ‫لأكت�شف ب�أنها غري موجودة‪ ..‬وتارة �أعتقد �أن تلك‬
‫يف تفا�صيل ما �أجنزته وفيما تبقى علي من مراحل‬ ‫الفكرة مل تدون ف�أ�صوغها لأكت�شف ب�أين �أكرر تدوينها‬
‫الراوية‪ ..‬وعالقاته ببع�ضها البع�ض‪ ..‬ولذلك من ال�صعب‬ ‫و�أن ذاكرتي تخلط بني ما كان وما �أجنزه الآن‪.‬‬
‫�إجناز عمل مقبول �إن مل يظل الكاتب على �صلة قوية‬ ‫وكان علي �أن �أحاول طم�س ما علق بذاكرتي‪� ..‬أن �أن�سى‬
‫ب�شكل يومي‪ ..‬يفكر ويكتب وي�ضع املالحظات‪ ..‬كنا�سج‬ ‫الفقرات واجلمل ال�سابقة التي ترتدد بداخلي‪ ..‬و�أن ال‬
‫�سجادة بر�سوم متداخلة‪.‬‬ ‫�أتركها خمزنة حتى ال تهطل علي يف غري مواقعها‪..‬‬
‫تتبا�سط وت�سهل علي الكتابة بع�ض الأوقات‪� ..‬أ�سارع‬ ‫وكان ذلك الأمر ع�صي ًا‪ ..‬تذكرت �أبا نوا�س حني جاءه‬
‫مغتنما لتلك ال�سانحة منكبا على �أزرار اجلهاز �أ�ضغط‬ ‫�أحدهم طالبا منه �أن يعلمه كيف يكون �شاعراً‪ ..‬فقال له‬
‫واحدا بعد الأخر‪� ..‬أجنز اجلمل تلو الفقرات‪ .‬لأكت�شف بعد‬ ‫اذهب فاحفظ �ألف بيت ثم عد �إيل‪ ..‬وحني عاد‪ ..‬قال له‬
‫�صفحات باين و�صلت �إىل زاوية دون منفذ‪ ..‬كمن �أغراه‬ ‫اذهب و�أن�س ما حفظت‪ ..‬وبعدها �ستكون �شاعرا‪ .‬لكنه مل‬
‫ال�سري يف �شارع �أو زقاق �أ�سري و�أ�سري حتى اكت�شف نف�سي‬ ‫ي�ستطع طم�س ما حفظ‪.‬‬
‫يف نفق م�سدود وال �أملك �إال �أن �أعود �أدراجي لأبحث عن‬ ‫وبدوري حاولت مراراً �أن �أطم�س ذاكرتي حتى ال‬
‫منفذ �أوا�صل ال�سري منه‪.‬‬ ‫يلتب�س علي الأمر بالتكرار‪ ..‬لكني ف�شلت فقد اكت�شفت‬
‫‪159‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بع�ض ال�شخ�صيات‪ ..‬فال�شخ�صية الرئي�سية والذي‬ ‫تتكرر ال�شوارع امل�سدودة لأقف مفكرا ومت�أمال تلك‬
‫ا�ستمرت دون ا�سم و�إن ا�ستعرت لها �صفات كامللثم‪..‬‬ ‫ال�صياغات التي �أو�صلتني �إىل ذلك‪ ..‬لأكت�شف ب�أن‬
‫ظل ب�سذاجة الريفي‪ ..‬والدويدار حاولت �أن يظل بتلك‬ ‫الكتابة دون تفكري م�سبق ودون ت�صور ملا يلي كل حدث‬
‫الطبيعة املراوغة‪ ..‬ولذلك‪ ..‬كنت �أتوقف كثريا لأعمل‬ ‫قبل كتابته ت�ؤدي �إىل تلك النتائج‪ ..‬و�أن التفكري يف �سري‬
‫اخليال يف البحث عن �أالعيب تخ�ص الدويدار‪ ..‬حتى يظل‬ ‫وتطور الأحداث وتنامي ال�شخ�صيات �شيء مهم لكتابة‬
‫بتخابثه املعتاد و�أ�ساليبه امللتوية‪ ..‬ولذلك اكت�شفت �أن‬ ‫عمل مرتابط ومتما�سك و�شيق‪.‬‬
‫علي قبل الإقدام بكتابة �أي حدث �أن �أر�سم خط ال�سري‬ ‫ان اعتماد الكاتب على الو�صف والإكثار منه يجعل من‬
‫للكتابة مرحليا‪ ..‬وهكذا وجدت نف�سي �أتبع �أ�سلوب جديد‬ ‫العمل الروائي عمال ممال‪ ..‬و�أن احلوارات �إذا ما جاءت‬
‫فحواه �أن �أفكر كثريا و�أر�سم كثريا �أحاجي ذهنية‪ .‬فرتاين‬ ‫مقت�ضبة ومركزة قد تن ّفر القارئ‪ .‬ولذلك حني اقرتبت‬
‫م�شغوال دوما مبا �ستقدم عليه تلك ال�شخ�صية‪ .‬وب�صياغة‬ ‫يف الكتابة الثالثة من ال�صفحة املائة كنت قد ركنت‬
‫احلوارات‪ ..‬واختيار الأحداث ون�سجها ذهنيا‪ ..‬و�أم�سيت‬ ‫والتخيل كثرياً‪� ..‬أدون ما �أتو�صل �إليه يف‬
‫ّ‬ ‫�إىل التفكري‬
‫�أعي�ش ب�شكل متوا�صل مع عامل ال يراه �أحد غريي‪ ..‬يف‬ ‫مذكرة �شخ�صية وال �أوا�صل الكتابة �إال بعد �أن تكون عدة‬
‫الوقت الذي كنت �أرى ب�أين ال �أجنز ما هو مطلوب‪ ..‬فقد‬ ‫�أحداث قد تخيلت العالقة فيما بينها وتلك ال�شخ�صيات‬
‫مير �شهر دون �أن �أجنز ع�رش �صفحات‪ ..‬وقد �أجنز عدة‬ ‫و�أدوارها‪ ..‬حتى ال �أ�صل �إىل طريق م�سدود �أ�ضطر �إىل‬
‫�صفحات ثم �أعيد النظر لألغي تلك ال�صفحات و�أبد�أ من‬ ‫�إلغاء ما كتبته بحثا عن منفذ ملا يلي‪.‬‬
‫جديد‪ .‬لكن ال�صفحات املائة ال �أعود �أبدا لنق�ض �أي �شيء‬ ‫�أعاود قراءة ما كتبت‪� ..‬أكت�شف �أن هناك خيطا �أفلت‬
‫مما غزلت فيهن‪ ..‬فقط هو هام�ش ما بعد املائة �صفحة‪.‬‬ ‫مني‪ ..‬مل تعد تلك املتاهات �أو بالأ�صح الأحاجي‬
‫كان علي قبل �أن �أكتب �أن �أفكر متخيال �سري الأحداث‬ ‫أتوه بها القارئ‪ ..‬تنق�ص كتابتي الروح‪..‬‬ ‫ال�صغرية التي � ّ‬
‫وعالقتها مبا علي فعله بعد ذلك و�أي حدث منا�سب‬ ‫�أعود لأفكر بابتكار لعبات حمدودة �أطعم بها الف�صول‬
‫لأحداث م�ستقبليه‪ ..‬العمل الفكري والتخييل كان �أكرث‬ ‫و�أجزاء الرواية‪ ..‬هي �أ�شياء حت�س�س القارئ ب�رضورة‬
‫�شغلي‪ ..‬ال يروق يل �أن �أكتب دون تخييل م�سبق ور�سم‬ ‫امل�شاركة يف البحث عن خمارج وحلول‪ ..‬وامل�شاركة‬
‫م�سار وتطور الأحداث وتنامي ال�شخ�صيات‪ .‬ولذلك كنت‬ ‫يف التفكري مع �شخ�صية من �شخ�صيات العمل فيما هو‬
‫�أتخيل ما �سيحدث بعد ع�رشين �صفحة و�صلتها مبا‬ ‫فيه‪� ..‬أو قد يتخيل �أ�شاء م�ستقبلية وقد يجد نقي�ضها‪..‬‬
‫بعدها‪.‬‬ ‫متاهات و�أحاجي تن�شط قدرات القارئ‪ ..‬وتدخل الكاتب‬
‫بعد جتاوزي املائة �صفحة �أخذت �أكتب و�أطم�س لدرجة‬ ‫مع ُقراءة يف حلظات ا�ستغماية لطيفة‪.‬‬
‫�أين اكت�شفت �أين �أطم�س �أكرث مما اكتب ‪ ,‬ما بعث يف‬ ‫وهذا �أنا �أقرتب من ال�صفحة املائة للمرة الثالثة‪..‬‬
‫القلق‪� ..‬أريد �أن �أتقدم �أن �أجنز‪ ..‬ال �أريد �أن �أرى نف�سي‬ ‫و�س�أو�صل بعد �أن فقدت الأمل يف ذكاء ذلك الل�ص‬
‫�أعود القهقري‪ .‬جل�ست �أفكر‪ ..‬فوجدت �أن العودة �إىل‬ ‫الظريف الذي �رسق حقيبتي وبداخلها جهاز الالب تب‬
‫الوراء �إجناز‪ ..‬و�أن الهرولة يف الكتابة هرجلة‪ ..‬و�أن‬ ‫وبداخله رواياتي التي جمعتها به للمرة الثانية‪� .‬إ�ضافة‬
‫الرواية هي �أن تكتب لتتوقف وترى �صلة ما كتبت مبا‬ ‫�إىل دفرت مذكرتي وبطائقي ودفرت ال�سيارة‪ ..‬و�أ�شياء‬
‫قبله‪ ..‬و�صلة ما هو مكتوب مبا �سي�أتي وما قبله هي‬ ‫ال يهم لدي �ضياعها �أخرى‪ ..‬وكان الأمل قائما �أن‬
‫روح الرواية‪� ..‬أي �أن ت�صنع روحا غري جمز�أة‪.‬‬ ‫يتوا�صل معي ب�شكل وب�آخر ليفاو�ضني على دفع مبلغ‬
‫وما �أعاود طم�سه وكتابته يف العادة تكون تلك الكتابة‬ ‫مقابل ا�ستعادة ما جمعته من روايتي بداخل اجلهاز‪..‬‬
‫التي ت�أتي دون تفكري وترتيب م�سبق‪ ..‬فالإجناز الروائي‬ ‫وا�ستعادة البطاقات التي قد ال ي�ستفيد منها �أما اجلهاز‬
‫لي�س اجللو�س والكتابة دون تفكري م�سبقز‪ ..‬بل هو تفكري‬ ‫وبقية الأ�شياء فلن �أطالبه بهن‪.‬‬
‫م�سبق وتخيل لأحداث وو�صف �أمكنة‪ ..‬وحوارات‪ ..‬هو �أن‬ ‫حني جتاوزت ال�صفحة املائة‪ ..‬احتفيت بنف�سي‪ .‬وتركت‬
‫تفكر و�أنت وا�ضعا ر�أ�سك على خمدة النوم ما �ستكتبة‬ ‫الكتابة ل�سبعة �أيام‪ ..‬كنت قد و�صلت يف �أحداث الرواية‬
‫عندما ت�ستيق�ض‪� ..‬أن تتخيل م�شاعر ال�شخ�صيات وت�أثري‬ ‫�إىل مرحلة مل يعد بعدها �إىل ن�سج ال�صالت احلا�رض‬
‫كل ما يجري على مزاجها‪� ..‬أن تفكر يف العالقة مبا‬ ‫باملا�ضي‪ ..‬ولذلك كان علي �أن �أحافظ على �سمات‬
‫‪160‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ومغازلة احلروف لتتبلور يف جماز نبتغيه لي�صور ما‬ ‫�ستكتبه الحقا مبجريات عام الرواية �أو بعمودها‬
‫يدور يف الذات‪ ،‬والرواية هي الفن الأحدث يف مد ج�سور‬ ‫الفقري‪� ..‬أو بالر�سالة التي تقدمها‪ ..‬او بالق�ضية التي من‬
‫التوا�صل الإن�ساين مع الآخرين عرب اللغة الإن�سانية‬ ‫�أجلها تكتب تلك الرواية‪� ..‬إذا يجب �أن ي�سبق �أي كتابة‬
‫اجلميلة والغنية‪.‬‬ ‫تفكري وتفكري‪ ..‬و�أعني بالتفكري الذي لي�س �أثناء الكتابة‬
‫كتابة الرواية بالن�سبة يل كانت نوعا من املغامرة التي‬ ‫بل‪� ..‬أن تفرد من نهارك وليلك م�ساحة و�أنت بعيد عن‬
‫�شعرت �أين بحاجة �إىل خو�ضها يف جتربتي الأدبية‬ ‫الكتابة‪ ..‬بعيد عن �أزرار اجلهز‪ ..‬او الورق والقلم لتفكر‬
‫الق�صرية وغري االحرتافية كنوع من التحدي للذات‬ ‫وترتب‪ .‬ويف�ضل �أن يكون وقت التفكري قبيل النوم �أو بعد‬
‫وكنتاج لإحلاح داخلي يفر�ض نف�سه‪ ،‬مغامرة اخلو�ض‬ ‫ال�صحيان منه بعيدا عن �أي م�شاغل‪.‬‬
‫يف حقل جديد كان دائما يخيفني ويلوح يل براية‬ ‫�إذن كتابة الرواية حياة ومتعة‪ ..‬حني اقرتبت من‬
‫خطر االقرتاب‪ ،‬خا�صة يف ظل وجود �أقالم مينية رائعة‬ ‫ال�صفحة ع�رشين ومائة‪ ..‬حينها كنت �أترك التلفزيون‪.‬‬
‫ومبدعة ومده�شة فعال‪..‬‬ ‫�أترك ما حويل‪ .‬القراءة‪ .‬و�أذهب حامال جهازي املحمول‬
‫ولكن لكتابة الرواية لذة ا�ستثنائية تغريك باالقرتاب‪،‬‬ ‫لأ�ضعه يف ح�ضني و�أعي�ش‪ ..‬نعم �أ�ستمتع بالكتابة‪..‬‬
‫فهي مليئة بالعاطفة ومعارك مواجهة الكلمات‪،‬‬ ‫�أخلق عواملي‪ ..‬ال �أحد جواري يقول �أفعل وال تفعل‪..‬‬
‫واخلو�ض يف تفا�صيل وعوامل حياة قد ال تكون لك‬ ‫وال �أحد يرى ما �أ�صنعه ب�شخو�صي‪ ..‬هو عقلي الذي‬
‫بها �أي �صلة �أو ت�شابه يف رحلة هي الأجمل يف تاريخ‬ ‫يقودين جانبا لأت�أمل �إىل �أين و�صلت �شخ�صياتي‬
‫اللغات‪ ..‬وهي �إعادة �أن�سنة الأفكار واخلواطر والقيم‬ ‫ب�أعمارها وم�شاعرها وبعالقاتها‪ .‬ثم فج�أة �أتوقف عن‬
‫واجلمال‪.‬‬ ‫الكتابة‪� ..‬أجدين عاجزا �أمام حدث وعالقاته بامل�ستقبل‬
‫وقد ت�سكعت يف روايتي الأوىل (امر�أة ولكن‪ ) ..‬يف‬ ‫وبالأحداث القادمة وبعمود �أو تيمة الرواية‪ ..‬وكان‬
‫دهاليز و�أروقة بعيدة و�شاقة على مدار عامني ون�صف‪،‬‬ ‫ذلك م�ؤملا بالن�سبة يل �أن �أتوقف عن الكتابة يف الوقت‬
‫كنت كلما �شعرت ب�أين �أ�ضعت امل�سار و�أنه قد يكون من‬ ‫الذي عندي رغبة ملحة ومتعة ما بعدها متعة‪ ..‬لأ�س�أل‬
‫الأ�سلم يل �أن ال �أتعمق �أكرث يف ثرثرة قد تقودين �إىل‬ ‫من الذي يوقفني عن الكتابة‪ ..‬ومن الذي يطالبني‬
‫نهايات م�سدودة توجعني ب�أمل الف�شل يف حماولتي‬ ‫با�ستمرارية الكتابة‪ ..‬بل ويطلب �أن �أمنحه متعته‪.‬‬
‫الأوىل اخلجولة‪ ،‬كنت حينها �أ�ستح�رض مالمح �أبي‬ ‫كان ذلك حني قفز تخل�صا من مطارديه‪ ..‬قفز من �شفة‬
‫(رحمه اهلل) يف كل مرة ينتهي فيها من قراءة ن�ص يل‪...‬‬ ‫هاوية �إىل املجهول ليجد نف�سه يف بركة جتمع مياه‬
‫بديييييع‪ ،‬ف�أتقدم خطوة �أخرى – على ذمة كلمته تلك ‪-‬‬ ‫ال�شالل‪ ..‬و�أن ما يحيطه �أر�ض منب�سطة ال جبال عدا ذلك‬
‫لت�صبح كلماتي �رصخة نيابة عن حناجر املتعبني من‬ ‫احليد الذي قفز منه وال طريق للعودة �إىل �أعاليه‪ ..‬هنا‬
‫وجع الإعاقة‪ ..‬كل �أنواع الإعاقة �سوى اجل�سدية منها �أو‬ ‫وجدت نف�سي �أبحث عن خمارج لهذه ال�شخ�صية‪� ..‬أو �أين‬
‫االجتماعية �أو االقت�صادية �أو الثقافية‪ ..‬وبالت�أكيد ف�إن‬ ‫�أفكر بعقله يف الطريق التي �سي�سلكها‪ ..‬و�أفكر بعقلي يف‬
‫املر�أة لها احل�صة الأكرب من كل تلك الإعاقات‪.‬‬ ‫عالقة ما �سي�أتي ب�أحداث الرواية ب�شكل عام‪ ..‬وعالقته‬
‫اللحظة الأ�صعب هي حال �أ�ضع قلمي على احلرف‬ ‫بروح الرواية‪ .‬ال�شخو�ص الذين �سيظهرون من جديد‪..‬‬
‫الأخري يف �صفحتي الأخرية من روايتي‪ ،‬فهنا يبد�أ‬ ‫كنت منطقة مهمة ومل �أف�ضل العودة �إىل الوراء كنت‬
‫التحدي‪ ،‬وعلى هذه ال�سطور �أن ترى النور الذي كتب‬ ‫�أرى ب�أن ال�شخ�صية و�صلت �إىل منطقة جاذبة وعلي‬
‫لها‪ ..‬و�أعرتف باين كنت مرهقة من �شدة القلق‪ ،‬وكانت‬ ‫م�ساعدته يف �إجناز �أحداث العودة �إىل �صنعاء‪.‬‬
‫امل�سافة من بيتي �إىل مكتب الدكتور القدير ‪ /‬عبد العزيز‬ ‫ال زلت �أوا�صل الكتابة وخوف ي�سكنني من �أن �أفقد ما‬
‫�سيقيم روايتي هي الأطول هذه املرة‪..‬‬ ‫املقالح الذي‬ ‫�أجنزته للمرة الثالثة‪.‬‬
‫ّ‬
‫هذا الرجل الذي يجربك على االنحناء �أمام كل حرف‬
‫يكتبه و�أنت مبهور ومنده�ش لروعة ما ميلك من موهبة‬
‫• ملياء الإرياين‬
‫وثقافة‪ ،‬فهو الهرم الرابع يف تاريخ الب�رشية‪ ،‬هرم‬ ‫الكتابة مغامرة‬
‫الأدب والثقافة‪.‬‬ ‫عندما نكتب فنحن نبذل جهدا يف نحت الكلمات‬
‫‪161‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ومع مرور الوقت قر�أت لغري ه�ؤالء الكثري ثم تنقلت‬ ‫كانت روايتي (امر�أة ولكن‪ ) ..‬هي جتربتي الأوىل‪ ،‬وقد‬
‫بني يو�سف �أدري�س وفتحي غامن‪ .‬وعند عودتي �إىل‬ ‫ح�صدت جائزة الدكتور عبد العزيز املقالح للرواية‬
‫الوطن تعرفت على حممد عبدالويل وعبداهلل �سامل‬ ‫يف العام ‪2011‬م‪ ،‬و�سط زوبعة من ده�شتي وفرحتي‬
‫باوزير وحنا مينه والطيب �صالح وجمال الغيطاين‬ ‫وحما�ستي واعتزازي‪ ..‬كانت هي الزوبعة الأجمل‬
‫وح�سني با�صديق‪ .‬كل هذه القراءات نقلتني �إىل طور‬ ‫والأروع بالن�سبة يل‪ ،‬و�إن كان توقيتها يف وقت‬
‫�آخر يف نظري كان هو الأعلى وهو حماولة كتابة‬ ‫ا�ستثنائي يف تاريخ الوطن فقد زاد ذلك من قيمتها‬
‫بدء بكتابة احلكاية واخلاطرة‪ .‬و�أول‬‫الق�صة الق�صرية ً‬ ‫بالن�سبة يل‪.‬‬
‫حماولة ق�ص�صية تن�رش يل هي ق�صة انتظار يف‬ ‫و�أنا منعكفة اليوم يف كتابة روايتي الثانية التي �أمتنى‬
‫�صحيفة (ال�رشارة) احل�رضمية تلتها عدة حماوالت �إىل‬ ‫لها ن�صيبا من النجاح البكر الذي يبقى يف الذاكرة يف‬
‫�أن متكنت من �إ�صدار �أول جمموعة ق�ص�صية هي (حلم‬ ‫الرف الذي ي�ستحقه‪.‬‬
‫الأم ميني) عن وزارة الثقافة بعدن ‪1983‬م ثم (دهوم‬
‫امل�شقا�صي) عام ‪1993‬م عن وزارة الثقافة ب�صنعاء‪،‬‬ ‫• �صالح باعامر‬
‫دفعني ذلك �إىل �أن �أهج�س بكتابة الرواية وبعد‬ ‫ت�شكلت �رسديا بني البحر واجلبل‪..‬‬
‫حماوالت �شطب ومتزيق �أ�صدرت رواية (ال�صم�صام)‬ ‫قراءاتي للق�صة الق�صرية والرواية منذ البدء كانت حجر‬
‫بعمان‪.‬‬
‫‪1993‬م عن دار الكوبرا َّ‬ ‫الأ�سا�س الذي ابتنيت فوقه ثقافتي الأدبية عموم ًا‬
‫�صارت الرواية فيما بعد هي الأقرب �إىل نف�سي و�إن مل‬ ‫وال�رسدية خ�صو�ص ًا‪ .‬فلقد �شغفت حب ًا بهما‪ .‬منذ �أن‬
‫�أهجر الق�صة الق�صرية التي �أخذت تالحقني‪ .‬ويف الوقت‬ ‫وقعت يدي على رواية احلرب وال�سالم للكاتب الرو�سي‬
‫الذي كنت فيه �أكتب رواية جديدة كنت �أعد جمموعة‬ ‫تول�ستوى عن دار الهالل يف �أواخر اخلم�سينيات من‬
‫ق�ص�صية جديدة (احتماالت املغايرة) ق�ص�ص عن نادي‬ ‫القرن الع�رشين جلبها يل والدي من املكتبة الوطنية‬
‫الق�صة (املقه) ‪ 2002‬ويف ‪� 2004‬إبان �إعالن �صنعاء‬ ‫ل�صاحبها �أحمد �سعيد حداد باملكال لكن عالقتي‬
‫عا�صمة للثقافة العربية �أ�صدرت رواية املكال عن احتاد‬ ‫بالرواية مل تتوطد وتتطور �إال يف الكويت عندما كنت‬
‫الأدباء والكتاب اليمنيني‪ .‬ثم جمموعتني ق�ص�صيتني‬ ‫�أعمل فيها متنق ًال بني �أعما ًال خمتلفة ويف الوقت نف�سه‬
‫هما (حني نطق الق�رص) و(بعيداً عن الربوتوكول ) ُ�ضمت‬ ‫�أدر�س ال�صحافة باملرا�سلة يف معهد ال�صحافة بالقاهرة‬
‫�ضمن �أعمايل الكاملة ‪� 2005‬آخر �أعمايل هي رواية (‬ ‫والتي توجت بالعمل يف جملة الطليعة الكويتية بعد‬
‫�إنه البحر) ال�صادرة عن (طوى) للثقافة والن�رش بلندن‬ ‫نيلي دبلوم ًا يف ال�صحافة ‪1962‬م‪.‬‬
‫والتي يديرها الروائي عادل حو�شان‪.‬‬ ‫كانت الكويت �أنذاك مبثابة العا�صمة الثقافية العربية‬
‫مل �أد ِر كيف كتبت الرواية‪� ،‬إذ �أن حلمي كان ال يتعدى‬ ‫�إذ �أنها كانت منفتحة على كل الأفكار والثقافات‬
‫كتابه الق�صة الق�صيدة بالرغم من �أنني يف وقت ما‬ ‫والأطياف‪ ..‬وقد �أ�ستفدت �أنا وبع�ض الزمالء من �أبناء‬
‫وجدت �أن الق�صة الق�صرية مل تعد تت�سع لكل هواج�سي‬ ‫وطني من الأجواء القومية والليربالية �إذ �أين انكببت‬
‫ودون ان ادري كيف حدث هذا حني وجدتني �ألوذ �إىل‬ ‫على كل ما ين�رش يف ال�صحف واملجالت وعلى كل‬
‫الإ�سهاب يف الكتابة �إىل �أن ترا�صت �أمامي الع�رشات من‬ ‫الأجنا�س الأدبية ال�سيما ال�رسديات باللغة العربية‬
‫ال�صفحات‪.‬‬ ‫كانت �أو مرتجمة‪ .‬ومن الدوريات التي اهتممت بها هي‬
‫جملة الق�صة التي كان يديرها نادي الق�صة يف القاهرة‬
‫رواية ال�صم�صام ‪-:‬‬ ‫والتي يتوىل م�سئوليتها الكاتب يحيى حقى‪.‬‬
‫ففي ليلة من ليايل املكال البهيجة احتد فيه البحر‬ ‫من �أوىل الروايات التي اطلعت عليها يف الكويت هي‬
‫واجلبل و�ضوء القمر غادرت مرقدي م�ست�شعراً الأرق‬ ‫رواية ( الأم ) ملك�سيم حوركي وبداية ونهاية لنجيب‬
‫بعد �أن انتابتني الهواج�س وغمرين القلق والتوتر �أ�ض�أت‬ ‫حمفوظ وال �أنام لإح�سان عبد القدو�س‪ .‬مت تعرفت على‬
‫م�صباح غرفة نومي وانتحيت جانب ًا و�أم�سكت القلم‬ ‫الكاتب اليوناين كانتزاكي من خالل روايته ال�شهرية‬
‫والورقة وكتبت �إىل �أن �شع�شع �ضوء اليوم التايل ف�إذا‬ ‫الأخوة الأعداء وال�شيخ والبحر لآرن�ست همنجواي‬
‫‪162‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املكال لأن ابن اجلنوب ال�سيما ابن ح�رضموت وعدن ال‬ ‫بتلك الأوراق ت�ضاحكني تركتها وا�ست�أنفت نومي‪ .‬يف‬
‫ي�ستطيعا �أن يواكبا ما يحدث لأن القبلية امنحت متام ًا‪،‬‬ ‫م�ساء اليوم التايل ويف نف�س الوقت الذي غادرت فيه‬
‫فاالعتماد كان على الدولة والقانون والنظام الذي هو‬ ‫مرقدي م�ساء اليوم املن�رصم اجتهت �إىل نف�س املكان‬
‫ال�سند الوحيد للمواطن كبرياً كان �أو �صغرياً‪ .‬اترك دكانك‬ ‫الذي ترقد فيه تلك الأوراق‪ ..‬تفقدت ما كتبت ف�أ�شار يل‬
‫مفتوح ًا و�أذهب لل�صالة وعد ف�ستجده كما كان ال �أحد‬ ‫ال�سحيم وح�سناء مت�ضاحكني وغمزت يل الزين و�سويلم‬
‫يعبث ب�أي �شيء فيه‪� ،‬أترك �سيارتك مفتوحة فال �أحد‬ ‫وك�رش يف وجهي ال�ساري وغري ذلك من �شخ�صيات‬
‫ي�ستطيع ال�سطو عليها‪.‬‬ ‫ال�صم�صام التي تتخا�صم تارة وتت�صالح تارة �أخرى ثم‬
‫يف ظل هذه الأجواء التي ال تقرها الوحدة وال‬ ‫يتباعدون ويتقاربون يبت�سمون ويعب�سون‪.‬‬
‫الدميقراطية وال التعددية وال �رشع وال قانون افتحمتني‬ ‫عدت من جديد �أدقق يف الوجوه ويف ال�سحنات و�أ�سرب‬
‫رواية املكال التي �أعتنت بف�ضاءات اجلنوب الذي عانى‬ ‫�أغوار الطباع فوجدت �أن ما كتبته م�رشوع رواية بعد‬
‫من ال�رصاعات ال�سيا�سية التي مل تنتج �شيئ ًا �سوى‬ ‫�أن ر�أيت �سفينة (الفرج) تتنطر من يدفع بها �إىل البحر‬
‫التعجيل بالوحدة دون و�ضع ال�رشوط املو�ضوعية التي‬ ‫ملعانقة عوامل ومدن وموانئ وحيوات �أكرث حيوية‬
‫تكفل جناحها وا�ستمرارها �سيا�سي ًا واجتماعيا‪.‬‬ ‫وانطالق تلك احليوات التي �ستنقل عدواها �إىل بر‬
‫رواية املكال هي عبارة عن مقاربة بني احلالة‬ ‫العرب‪ ،‬فباخلربات التي �سي�أتي بها البحارة من �أفريقيا‬
‫ال�سيا�سية والأمنية التي �شهدها اجلنوب قبل الوحدة‬ ‫�ستنتع�ش احلياة مادي ًا وروحي ًا و�سيحدث تالقح ًا ثقافي ًا‬
‫‪1990‬م ومعاناة مرحلة االنفالت والتوق �إىل الإم�ساك‬ ‫وفكري ًا و�سيا�سي ًا و�ستنت�رش رياح التغري‪.‬‬
‫بزمن ال�ضوء املفقود تختلف تقني ًا عن رواية ال�صم�صام‬ ‫للمكال املدينة ف�ضل كبري يف خلق ف�ضاءات �أمامي‬
‫التي جنحت من حيث تطويع تقنية اال�سرتجاع «الفال�ش‬ ‫�ألهمتني �إبداع ًا �رسدي ًا جتلى يف �إ�صدار املجاميع‬
‫باك» �أما رواية املكال اتخذت الفال�ش باك املجز�أ بني‬ ‫الق�ص�صية الأنفة الذكر ورواية ال�صم�صام والتعرف على‬
‫الأحداث و�سيلة لذكر ال�شيء بال�شيء �إذ �أنها تالعبت‬ ‫بع�ض �أ�رسار وخباي ًا ال�رسد واحليل الفنية ال�رضورية‬
‫بالزمن واملونتاج واملقاربات وتوظيف الغناء وال�شعر‬ ‫التي من ال�سمات الأ�سا�سية لأي كاتب وان كانت‬
‫كتقنية نادراً ما ت�ستخدم يف ال�رسد العربي‪.‬‬ ‫هذه اخلبايا واحليل تختلف من كاتب لآخر فرواية‬
‫تبتدي رواية املكال بو�صف البحر وهو ينح�رس �أمام‬ ‫ال�صم�صام تبتدي ب�إعداد ال�سفن للإبحار �إذ �أن الياب�سة‬
‫الردم الذي يتم دون رحمة فوق ال�شاطئ حتت �شعار‬ ‫ت�شهد حركت ن�شطة تتمحور يف جتديد ال�سفن وترميمها‬
‫تو�سعه ال�شوارع مما افقد املدينة الكثري من �سماتها‬ ‫حتى ت�صبح مكتملة ال�رشوط التي ت�ؤهلها للإيجار‬
‫اجلمالية‪ .‬ف�سامل ال�شخ�صية الرئي�سية يف الرواية اعتاد‬ ‫ومواجهة الأمواج والرياح وم�صارعة كبار الأ�سماك‬
‫الذهاب �إىل ال�شاطىء ال�صطياد ال�سمكات القريبة‪ ،‬يبكر‬ ‫وما �أن يتم الإبحار تنتهي مرحلة لتبد أ� مرحلة تدور‬
‫�صباح ًا لريتقي كعادته ال�صخرة التي اعتاد الوقوف‬ ‫�أحداثها فوق البحر‪.‬‬
‫فوقها لريمي �صنارته يف البحر فيجد �أن �صخرته قد‬
‫غمرتها الرمال والأحجار املجلوبة في�صاب باخليبة‬ ‫رواية املكال ‪:‬‬
‫في�شكو حاله‪ ،‬فيعاتب البحر على خ�ضوعه وللجبل‬ ‫بعد الوحدة ‪1990‬م برزت حياة جديدة ف�إذا كانت‬
‫الذي مل يزل �شاخم ًا رغم �أن هناك من ينخر حتته‬ ‫احلياة يف اجلنوب قبل عام ‪1990‬م منغلقة �إال �أن‬
‫لي�أخذ الأحجار الكبرية وينقلها �إىل ال�شاطئ ل�صنع‬ ‫حياة اال�ستقرار كانت نعمة ال ي�شعر بها �إال من افتقدها‪،‬‬
‫جبل م�صطنع جبل بال �أرجل‪ ،‬بال �أقدام‪ ،‬بال �أ�سنان‪..‬‬ ‫فبعد الوحدة ويف �أجواء الدميقراطية التي مل تفهم فهم ًا‬
‫تتغري معامل املكال وتظهر عالقات غريبة بني النا�س‬ ‫حقيقي ًا ويف ظل التعددية �أ�سيء ا�ستخدام هذه الأجواء‪..‬‬
‫في�ست�رشي �أ�سلوب نهب الأرا�ضي واختطاف �أ�صحاب‬ ‫فالدميقراطية مور�ست بع�شوائية فاملرء من حقه �أن‬
‫الر�أي من �أجل االبتزاز‪ ،‬يهرب �سامل من املكان الذي‬ ‫يعمل كل �شيء دون رادع يطلق النار يقتل الأبرياء‬
‫�أودع فيه بعد اختطافه ليهاجر لكنه يفاج أ� بحب النا�س‬ ‫يخطف ينهب‪ .‬ميتلك ال�سالح الذي ال ت�ستطيع �أن متتلكه‬
‫له فيعدل عن ال�سفر‪.‬‬ ‫الدولة لذا وجدتني �أعرب عن هذه الأ�شياء يف رواية‬
‫‪163‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫معها �إىل العامل الأخر وان يع�شن جميعا هناك حيث‬ ‫رواية انه البحر‪:‬‬
‫احلرية من حتكم الآباء والأمهات بل وي�ستف�رسن هل‬ ‫( �إنه البحر) ال�صادرة قبل �أ�سابيع عن م�ؤ�س�سة ( طوى )‬
‫هناك بنات �صغريات فقط ام ان العامل االخر ي�شمل �آباء‬ ‫للثقافة والن�رش والإعالم بلندن التي يديرها الروائي عادل‬
‫و�أمهات وترد بفخر هناك عاملنا وال يوجد �إ ّال فتيات‬ ‫حو�شان تتوا�صل مع رواية ال�صم�صام من حيث اعتنائها‬
‫حولهن �أ�شجار مزهرة و�أ�شجار حممله بفواكه ن�أكل‬ ‫بالبحارة وال�سفينة والبحر وان اختلفت عنها تقني ًا‬
‫منها ما ن�شاء دون ان يعرت�ضنا احد ثم ت�ستدرك بان‬ ‫ولغوي ًا وف�ضائياً‪� ،‬إنها حتكي معاناة البحارة فوق البحر‬
‫�أبوابها قد �أغلقت ولن ي�سمح باجتيازها وتوعدهن بان‬ ‫ومواجهتهم الأمواج والرياح العاتية والأ�سماك العمالقة‬
‫ت�أخذهن عندما تفتح الأبواب‪ ...‬وت�ستمر على هذا احلال‬ ‫والغو�ص يف مدن �أكرب و�أحدث كاملكال وعدن وزجنبار‬
‫كل يوم تروي لهن حكايتها مع العامل الآخر وبدون ملل‬ ‫والطواف مبوانئ عمانية وافريقية وانغما�س ال�شباب يف‬
‫وبنف�س الوقت توعدهن وتخلف وعدها‪...‬‬ ‫مدينة زجنبار و�إبراز دور العرب يف هذه املدينة ال�سيما‬
‫وي�أتي ال�صيف بطقو�سه البديعة ففي ال�صباح تذهب‬ ‫احل�ضارم والعمانيني كون العرب يحكمون زجنبار من‬
‫�إىل الوادي مع رفيقاتها لتجني الفول وتقطف �أزهار‬ ‫خالل حاكمها ال�سلطان العماين �آنذاك‪.‬‬
‫الربية وما �أكرثها وتغرد فتيات القرية من الروابي‬
‫واملدرجات ب�أغاين «العالن» و«اخلري» والتي ال ي�شدين‬ ‫• رمزية عبا�س‬
‫بها ا ّال يف ذلك املو�سم‪ ..‬وقد ير�سل الغداء لهن �إىل الوادي‬ ‫اعتربوين خارجه عن الأعراف االجتماعية‪.‬‬
‫فيجل�سن حتت ال�شجرة الوارفة وتتخيل �أنهن ي�سكن بيت ًا‬ ‫يف قريتها املرتبعة على ربوة يخالها امل�شاهد على بعد‬
‫من البيوت التي بنتها بخيالها وتخرج الدمى التي‬ ‫بانها زهرة لعباد ال�شم�س عند �رشوقها تطل القرية على‬
‫�أح�رضتها معها وتر�صهن بجانبها لي�شاركنها القيلولة‬ ‫مدرجات زراعية منت على �أطرافها نباتات �شيطانيه‬
‫وك�أنهن من �سكان ذلك العامل‪ ..‬ويف امل�ساء ت�أتي عجوز‬ ‫و�أغ�صان «عرثب» �أحاطتها من كل جانب يف تلك القرية‬
‫من القرية لت�سمر وتت�سامر مع والدتها ومعها ورفيقاتها‬ ‫بد�أت طفولتها‪ ..‬كانت قبل الأ�صيل ترتقي ال�سطح لرتقب‬
‫ويحلقن حولها لي�سمعن روايتها عن اجلن وال�شياطني‬ ‫مغيب ال�شم�س وامتزاج ال�شفق الأرجواين الرائع مع بداية‬
‫و�صياد الذي لديها رجل حمار ورجل �إن�سان‪.‬‬ ‫حلول الظالم علها تعرث على املالئكة التي حتكي لها‬
‫وعن بنت ال�سلطان التي اختطفها ابن �أمري اجلن و‪...‬‬ ‫والدتها ب�أنهم ي�سكنون ال�سموات العلياء‪ ...‬ويت�أملون ما‬
‫الخ تلك الروايات مل تكن تفزعها بقدر ما تنمي خيالها‬ ‫يعمله الب�رش على الأر�ض‪.‬‬
‫فكانت تعيد روايتها بطريقة اخرى لرفيقاتها‪ ...‬تلك‬ ‫تر ى متازج ال�سحب وتراكمها وت�شكيالتها ال�ضبابية‬
‫كانت بدايتها مع الق�صة والأق�صو�صة‪.‬‬ ‫املتعددة وتخالها �شعوب ًا و�أمم ًا ت�سكن كواكب �أخرى‬
‫علمتها والدتها يف �سن اخلام�سة‪ ...‬القر�آن ثم قراءة‬ ‫فتغم�ض عينيها لرتحل عرب خيالها �إىل عاملها لتعي�ش‬
‫الق�ص�ص امل�صورة و�أجربتها ان جتل�س يف مكتبة‬ ‫مع �أفراحهم‪ ..‬و�أتراحهم ومتد يديها علها تالم�سها‬
‫والدها وتقر�أ وتكتب �صفحات من ق�ص�ص العرب ومن‬ ‫وتتمتم بنداءات طفولية لدعوتهم للهبوط �إىل عاملها‬
‫كتب جرجي زيدان وكتب اخرى دون فهمها وتكتب‬ ‫لتلعب معهم الروابي وليحكوا لها ما يدور بعاملهم‬
‫بخط غري مفهوم لرت�ضي والدتها‪.‬‬ ‫ولت�س�ألهم عن �أنواع اللعب التي يلعبون بها‪ ...‬ثم تغم�ض‬
‫ويف ال�سابعة من عمرها انتقلت مع �أ�رستها �إىل تعز‬ ‫عينيها لتتعمق وت�رسح �إىل عاملهم وك�أنها تعاي�شهم‪..‬‬
‫ودخلت املدر�سة لت�سجل يف ال�صف الثالث بعد امتحانها‬ ‫وما يلبث خيالها ان يعود �إىل واقعها‪ ...‬وترحل �أحالمها‬
‫بالعملية احل�سابية الب�سيطة وبالقراءة التي در�ستها‬ ‫بتبديد ال�سحب وان�سحاب اخليوط الذهبية لأ�شعة ال�شم�س‬
‫والدتها‪.‬‬ ‫خلف اجلبال املحيطة بالقرية باجتاه املجهول‪..‬‬
‫�أح�ست بالتغريب النف�سي وبانها يف عامل غري عاملها‬ ‫وبحلول الظالم تعود �إىل زاويتها املف�ضلة وتن�سج ق�صة‬
‫احلامل وال�ساحر وافتقدت رفيقات طفوالتها‪ ..‬و�أول ما‬ ‫خيالية م�ستوحاة من ما ر�سمته من �سحر تراكمات‬
‫بد�أت �أناملها مت�سك القلم لتخط على دفاترها املدر�سية‬ ‫ال�سحب‪ ...‬لتحكيها يف �صباح اليوم التايل لأترابها‪..‬‬
‫كانت حتاول ان تر�سم روايتها اخليالية وعند ما و�صلت‬ ‫كن ي�ستمعن بده�شة و�إعجاب وي�س�ألنها ان ت�أخذهن‬
‫‪164‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫عند الأطفال ومن ثم كتاب رائدات مينيات خالدات‬ ‫�إىل ال�صف ال�ساد�س االبتدائي بد�أت تكتب خواطر‬
‫طبعتها منظمة الرتبية والثقافة والعلوم �أما املجموعة‬ ‫ب�سيطة ركيكة وتعر�ضها على مدر�سة اللغة العربية التي‬
‫الق�ص�صية ال�سماء متطر قطنا فهي املجموعة الوحيدة‬ ‫�شجعتها على الكتابة وت�رص عليها ان تقرا تلك الأ�سطر‬
‫التي كتبتها وهي خارج اليمن فمن الغريب �أنها ال‬ ‫على زميالتها يف الف�صل‪ .‬عندما تخطت االبتدائية‬
‫ت�ستطيع �أن تكتب وهي خارج الوطن قد يكون اح�سا�سها‬ ‫بد�أت تن�رش ق�ص�ص ًا ق�صرية يف ال�صحف ومقاالت‬
‫الذاتي بانها غريبة عن بيئتها االجتماعي وباختالف‬ ‫متنوعة‪ ...‬هاجمها الكثري من القراء واعتربوها خارجة‬
‫النمط احلياتي والبيئي وال�شعور بالغربة لكل ما يحيط‬ ‫عن الأعراف االجتماعية وخا�صة عندما كتبت بان‬
‫بها فكتابة الق�صة لي�ست ككتابة املقالة قد جتربي‬ ‫ال�رش�شف عثماين ولي�س من الإ�سالم ب�شيء‬
‫القلم ليجري على الورق ليخرج ما يريد‪ّ � ..‬أما الق�صة‬ ‫وعن �رضورة دخول البنات املدر�سة‪ ..‬الخ فهددوها‬
‫فتبد أ� مبوقف وبفكره و�أحا�سي�س داخلية جترب القلم‬ ‫بال�رضب بل وبالقتل‪ ..‬ومل يتخيل احد بانها الزالت‬
‫على الكتابة الال �إرادية وتولد �شعوراً �آني ًا خارج نطاق‬ ‫تعترب طفله مل تتجاوز الثانية ع�رش‪.‬‬
‫الزمان واملكان‪.‬‬ ‫يف زمن �شيخوخة الطفولة‪ ..‬تطوعت مع زميالتها بعد‬
‫عندما حتط رحالها يف �صنعاء وتطل على حاراتها‬ ‫االبتدائية يف جمعية املر�أة اليمنية النا�شئة ملحو �أمية‬
‫ومنازلها تتخيل ما يدور يف داخلها من �أحداث‬ ‫الفتيات والأمهات‪ ...‬و�رسدت من الدار�سات حكايات‬
‫وحكايات‪ ..‬عندما تتنامى على طاولة حياتها اليومية‬ ‫م�ؤملة وم�شاكل اجتماعية عديدة ت�أثرت بها وحرمت‬
‫واقعة اجتماعية تتفاعل معها وتر�صد نتائجها‬ ‫عليها �أحالم طفولتها‪� ،‬أ�ضافة �إىل �أن والدها كان رئي�س‬
‫و�أولياتها على الرغم من مرور حلظات بالإح�سا�س‬ ‫حمكمة وكان بيتهم مفتوح ًا لكل �شاكية مما حتم عليها‬
‫باالغرتاب وهناك فرق بني الغربة واالغرتاب‪ ...‬يف‬ ‫اال�ستماع �إىل �شكوى العديد من الن�ساء املغلوب على‬
‫خارج الوطن ال�صدمة بالإح�سا�س بال�صمت واال�صطدام‬ ‫�أمرهن وت�أثرت بق�ضاياهن العديدة وامل�ؤملة وكان‬
‫بجدار الغربة عن كل �شيء ويجلد ومي�سح اخليال‬ ‫جلها من الزواج املبكر والقات وتعدد الزوجات وغريها‬
‫ويتوقف القلم عن الكتابة‪.‬‬ ‫من امل�شاكل االجتماعية فكتبت م�رسحيات مت عر�ضها‬
‫اختريت �ضمن �أف�ضل كتاب الق�صة الق�صرية يف‬ ‫يف مدر�ستها ون�رشت رواية بعنوان القات ي�سمم حياتنا‬
‫اخلليج واجلزيرة العربية يف كتاب ن�رشته جامعة‬ ‫وهي يف بداية املرحلة الإعدادية ثم رواية �ضحية‬
‫وار�سو للدرا�سات ال�رشقية يف بولندا اختريت ق�ص�صها‬ ‫اجل�شع‪..‬‬
‫( الزفه‪ -‬وحادثه يف زقاق – وويل العهد ) ملادة‬ ‫يف جامعة القاهرة كانت تكتب ق�ص�صا ق�صرية وتن�رشها‬
‫بحثيه يف جامعة نيويورك لدرا�سة املجتمع العربي‬ ‫يف �صحيفة اجلامعة بعد عر�ضها على الدكتورة �سهري‬
‫من خاللها كانت ق�صتها الرهينة وق�ص�ص �آخرى بحث‬ ‫القلماوي والتي كانت تدر�س الأدب العربي حينذاك‪.‬‬
‫ر�سالة الدكتورة للدكتورة ابت�سام املتوكل‪ ..‬وقيل عند‬ ‫وبعد عودتها من جامعة القاهرة كتبت مواقف‬
‫�إ�صدار رواية «الرهينة» لزيد مطيع دماج بعد رهينتها‬ ‫ق�ص�صية للإذاعة قدمت يف برنامج مع ربات البيوت‬
‫بعام بان التالقي الفكري جعل رهينة كاتبتنا البداية‬ ‫يف عام ‪ 1979‬وم�رسحيات مثلتها طالبات معهد �سامل‬
‫ورهينة دماج مكملة لها‪.‬‬ ‫ال�صباح على م�رسح اجلامعة‪.‬‬
‫كرمت كقا�صة عربية متميزة من مكتبة الكوجنر�س يف‬ ‫يف �صنعاء �سكنت يف منزل يقع على ركن حارة بني‬
‫وا�شنطن ومن جامعة وار�سو يف بولندا ومن جامعة‬ ‫بيوتها زقاق �ضيق تتناجي الن�ساء من نوافذ منازلهن‬
‫نيويورك ق�سم الدرا�سات ال�رشقية وجائزة الإبداع الأدبي‬ ‫ليحكني م�شاكلهن لبع�ضهن البع�ض فت�أثرت وكتبت‬
‫من بيت ال�شعر ومن منتدى الق�صة و�شهادة تكرمي �أدبي‬ ‫حادثه يف زقاق وخيال بعد القات والزفة وق�ص�ص ًا‬
‫من م�ؤ�س�سة العفيف ومن احتاد الكتاب يف تون�س عن‬ ‫�أخرى �ضمنتهن يف جمموعتها الق�ص�صية عله يعود‬
‫ق�صتها ابني يلب�س خامتا ف�ضي ًا‪.‬‬ ‫وقد فازت بطباعتها وزارة الثقافة عام ‪ 1980‬ثم‬
‫لها كتاب املر�أة يف ظل ال�رشيعة والقانون‪.‬‬ ‫جمموعة ق�ص�صية بعنوان القانون عرو�س تلتهما رواية‬
‫جمموعة ق�ص�ص للأطفال بعنوان «تبارك الذي بيده‬ ‫بعنوان دار ال�سلطنة‪ ،‬وكتيب بعنوان اخليال الإبداعي‬
‫‪165‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الهجرة واالغرتاب كعادة كاتبها املهاجر والذي عانى‬ ‫امللك» جمموعة املاجل امل�سحور وجمموعة �أخرى‬
‫الأمرين من متييز املجتمع له وو�صفه بـ«املو ّلد» برغم‬ ‫بعنوان �شجرة التولق‪.‬‬
‫ان هذا الو�صف ناجت عن خط أ� لغوي‪.‬‬ ‫�سل�سلة �أفالم كرتون بعنوان( العدالة خارج قريتنا )‬
‫لقد �سعيت لإيجاد مقاربة بني �أعمال عبد الويل ال�رسدية‬ ‫•ق�ص�ص مل تن�رش ‪:‬‬
‫و�سريته الذاتية التي كتبها بخط يده‪ ،‬واخلروج بخال�صة‬ ‫•احلب حمرم يف مدينتنا‬
‫�أرجو ان ال تقودنا �إىل فخ‪ ،‬وذلك من خالل اال�ستفادة‬ ‫•والع�صافري متوت يف �أع�شا�شها‬
‫من الآتي‪:‬‬ ‫•وجمموعة ق�ص�صية بعنوان �سلمى تنتظر املعجزة‬
‫‪-1‬نتاجاته ال�رسدية‪( .‬روايات‪ ،‬ق�ص�ص)‬ ‫عندما تفتح نافذة واحتها الأدبية وتعود �إىل قلمها‬
‫‪-2‬زياراتي املتكررة لبلد مولده (�أثيوبيا) واملدر�سة‬ ‫�ستن�رش ما مل تن�رشه‬
‫التي در�س بها و�أي�ض ًا الأماكن واجلهات التي عا�ش‬ ‫�رسدت ما متكنت ان تعرث عليه يف ذاكرة الكاتبة رمزية‬
‫فيها يف كل من القاهرة واليمن‪.‬‬ ‫عبا�س‬
‫‪�-3‬شهادات و�أ�شتات من �شهادات‪ ..‬مقابالت �صحفية‬
‫من �أدي�س �أبابا �إىل القاهرة �إىل �صنعاء النهاية‬
‫له‪.‬‬
‫‪-4‬وثائق خا�صة مبحمد عبد الويل‪.‬‬ ‫�س‪ .‬ال�شاطبي‬ ‫ ‬
‫فكيف ت�ش ّكلت ال�سرية الكاملة لعبد الويل من خالل‬
‫حتليل كل �أعماله ال�رسدية وايجاد املقاربة بني �سرية‬ ‫ال�سرية والرواية ‪:‬‬
‫حياته املقت�ضبة؟ وما اجلدوى من جتميع �سرية م�شتته‬ ‫(اليمن‪ ..‬لقد ن�سيتها‪ ،‬انني انتظر املوت فقط‪ ..‬لن يعرفني‬
‫بني ال�صفحات والأماكن؟ ونتاجه ال�رسدي يقدم حلو ًال‬ ‫�أحد هناك �إذا عدت‪ ..‬ال �أحد بقي معي هناك‪ ..‬لن �أعود‪..‬‬
‫لق�ضايا جمتمعية �شائكة هو �أول من عانى منها مثل‬ ‫قد يعود �أبنائي يوم ًا ما �إذا ما عرفوا ان �أباهم كان‬
‫االغرتاب والتمييز وال�سجن‪ ..‬وهل حق ًا يوجد من�صب‬ ‫غريب ًا‪ ..‬وقد ال يعودون‪ ..‬قد يظلون مثلي غرباء )‬
‫�رشيف ا�سمه نائب لكاتب ال�سرية؟!‬ ‫مقتطف من رواية «ميوتون غرباء» ملحمد عبد الويل‬
‫�أ�سئلة م�شتتة لكني �س�أحاول الإجابة عنها بتلقائية ال‬ ‫رائد الرواية اليمنية ذي العمر الق�صري حممد عبد‬
‫تخلو من احلذاقة التي امقتها!‬ ‫�ضمن بع�ض �أعماله �صوراً‬ ‫الويل مل يكتب �سريته‪ ،‬لكنه ّ‬
‫وخطوط ًا عامة ا�ستطيع ت�سميتها بالإر�شادية ل�سريته‬
‫بدايات‪:‬‬ ‫الذاتية‪ ،‬وال�سبب من عدم متكن كاتب موهوب ومبدع‬
‫لقد ُكتب الكثري عن نتاج الأ�ستاذ عبد الويل كاتب‬ ‫مثل حممد �أحمد عبد الويل العب�سي من كتابة �سريته‬
‫«ميوتون غرباء» و»�شيء ا�سمه احلنني» و»�صنعاء‬ ‫الذاتية ون�رشها يف كتاب م�ستقل حادثة �سقوط الطائرة‬
‫مدينة مفتوحة» و�أعمال �أخرى كثري منها ترجم لعدد‬ ‫النفاثة التي ا�ستقلها مع جمموعة من الدبلوما�سيني‬
‫من اللغات‪ ،‬لكن قراءتي لنتاج هذا الأديب والتي قابلتها‬ ‫�صبيحة يوم ‪ /4/30‬من العام ‪1973‬م والتي �أدت �إىل‬
‫زيارتي للحي الذي ولد فيه يف �أر�ض املهجر �أثيوبيا‬ ‫اغتياله قاطعة بذلك اخليط الرفيع الذي كان من املمكن‬
‫واملدر�سة التي در�س فيها يف �أدي�س �أبابا واحلي الذي‬ ‫ان يربط الفائدة الأدبية العظيمة التي كانت �سترتكها‬
‫تلقى يف مدر�سته تعليمه الثانوي يف القاهرة والأماكن‬ ‫�سرية عبد الويل يف الأجيال القادم ّة!!‬
‫التي ارتادها وزارها هنا يف اليمن و�سريته املقت�ضبة‬ ‫احلادثة مل متكنه من كتابة ون�رش �سريته‪ ،‬لكن عدة‬
‫التي كتبها بخط يده فتحت يل الباب لأنهل من هذه‬ ‫�أعمال له‪� ،‬أكرث من رائعة و�سرية م�شتتة �أنتجت ولو‬
‫املعاي�شات وامل�شاهدات والقراءات ما �ش ّكل �صورة‬ ‫بطريقة مده�شة �سرية كاملة له‪ ..‬ك�أن عبد الويل �شخ�صي ًا‬
‫�أو�ضح لي�س عن �سرية هذا املبدع املوجعة وكتاباته‬ ‫قد ا�ست�شعر بانه �سيق�ضي نحبه مبكراً وعلى غري عادة‬
‫امل ّغلفة بالأمل فقط بل‪ ،‬عن �سرية وطن ا�سمه اليمن‪..‬‬ ‫�ضمن رواياته وق�ص�صه‬ ‫الب�رش ولن يكتب �سريته‪ ،‬لذلك ّ‬
‫وطن جترع نا�سه الكثري من االحداث �سواء ال�سيا�سية او‬ ‫نفحات من �سريته املغ ّلفة باحلزن‪� ..‬أعمال عبد الويل‬
‫االجتماعية وخا�صة خالل الفرتة التي عا�ش فيها عبد‬ ‫لي�ست �سرية لكنها ق�ص�ص وروايات م�سكونة بهم‬
‫‪166‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الرواية اليمنية‪ ..‬الرواية اليمنية‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تدهور بناها االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية‬ ‫الويل‪ ..‬وطن �شهد هجرة مئات االالف من ابناءه هربا‬
‫و�أوجدت احللول‪ ..‬ملاذا بب�ساطة لكي ال يتغرب اليمني‬ ‫من الفقر والظلم يف خال�صة ال ي�سعني امامها �سوى‬
‫كرواية «�صنعاء مدينة مفتوحة»‬ ‫البدء‪-:‬‬
‫االنتقال �إىل �أدي�س �أبابا‬ ‫�أوال امليالد‪:‬‬
‫مل تذكر ال�سرية مالب�سات و�أ�سباب انتقاله من مدينة‬
‫«دبربرهان» هو ووالده و�أمه �إىل العا�صمة �أدي�س �أبابا‪،‬‬ ‫ذكرت ال�سرية التي كتبها بخط يده انه‪:‬‬
‫�أو حتى احلي الذي ن�ش أ� فيه وتو�ضيحا عا�ش عبد الويل‬ ‫‪-‬من مواليد ‪ 12‬نوفمرب ‪1939‬م مبدينة دبربرهان‬
‫طفولته يف منطقة (�سد�س كيلو) وهي كلمتان �أمهريتان‬ ‫(�أثيوبيا ) والده ميني و�أمه �أثيوبية)‬
‫تعني (كيلو �ستة) وهو حي �شهري تقع ال�سفارة اليمنية‬ ‫ما عدا ذلك لي�س ثمة ما ي�ضع الأ�صبع على اجلرح‬
‫حاليا بقربه‪.‬‬ ‫ويت�ساءل‪ ..‬ماذا يعني ان يولد الإن�سان يف غري موطنه؟‬
‫لقد و�صف عبد الويل احلي وال�شارع يف بداية روايته‬ ‫وان يكون �أبوه من بلد و�أمه من بلد يف جمتمع بع�ضه‬
‫«ميوتون غرباء» كما ر�أيتها �إذ جاء (كان كل ما يعرفه‬ ‫يجيد لغة التمييز واملناطقية؟‪ ..‬يعني ان يعي�ش متذبذب ًا‬
‫– �سكان « �سد�ست كيلو» عنه هو �أنه –يق�صد عبده �سعيد‬ ‫يعاين يف حياته بني انتماء مت�أ�صل يف دواخله للوطن‬
‫اليمني املغرتب وبطل الرواية‪-‬قد فتح دكانه ال�صغري‬ ‫الذي دفع بوالده لهجره حتت وط�أة اجلوع والفقر‬
‫منذ �أكرث من ع�رشة �أعوام‪� .‬أما هو فقد كان يعرف كل‬ ‫ال�شديدين وبني وطن �آخر ولد فيه‪.‬‬
‫�شيء عن �أهايل احلي الذي ي�سكنه‪ .‬خا�صة عن ذلك‬ ‫بالن�سبة للإن�سان العادي اليمني املهاجر جتلت حالة‬
‫اجلانب من احلي حيث املنازل ال�صغرية واحلارات التي‬ ‫ال�شعور الفظيعة بالالوطن والرغبة يف م�ساعدة املجتمع‬
‫متتلئ �شوارعها بالطني دائم ًا �أثر ت�ساقط الأمطار ) فهل‬ ‫ب�أهمية الإح�سا�س برتبة الوطن وفوائد االنتماء �إليه‬
‫خطاء‬ ‫كان عبد الويل يتحدث عن نف�سه كهجني ينعت‬ ‫على �شكل ت�أوهات وحنني وجروح ونتوء كارثتها‬
‫ً‬
‫بـ(املو ّلد) �أم عن كل الهجناء!؟ �س�ؤال �أجاب عنه الأ�ستاذ‬ ‫افتقارها وب�شدة �إىل عن�رص توظفيها كر�سالة �إن�سانية‪..‬‬
‫عمر اجلاوي بالقول‪« :‬متثل طفولة حممد �رصاع ًا حاداً‬ ‫لقد خ�رست اليمن الآالف نتيجة متييز البع�ض لأبناء‬
‫�سيا�سي ًا واجتماعي ًا وخلقي ًا بني ما هو قائم يف اليمن‬ ‫املهاجرين (الأب ميني والأم �أجنبية) خ�رست طاقات‬
‫من التزمت احلاد وبني ما ميثله املجتمع احلب�شي من‬ ‫كبرية كانت �ست�ساهم وبقوة يف �إجناح حركات التحرر‬
‫انفتاح �أخالقي‪ ،‬خا�صة بني الذكر والأنثى»‪.‬‬ ‫وخا�صة حركة ‪48‬م والنهو�ض بالوطن‪.‬‬
‫تفتحت عيناه على تزمت ديني يف البيت وف�ساد ودعارة‬ ‫بالن�سبة ملحمد عبد الويل ذلك الكاتب الرائع الرائق‬
‫ال حدود لها يف �أقرب ال�شوارع والأحياء �إىل �سكنه‪ ،‬ومل‬ ‫املت�شكك من �أرقى �صنف كانت على غري عادة املهاجر‬
‫ي�ستطع يف طفولته �أن ي�ستوعب هذا التناق�ض احلاد‪.‬‬ ‫اليمني املولود يف �أر�ض املهجر‪ ..‬كانت ن�صو�ص ًا‪..‬‬
‫ولكنه حفظ الكثري من امل�شاهد واختزنها يف ذاكرته‬ ‫ق�ص�ص ًا‪ ..‬روايات‪ ..‬حت�س�ست مو�ضع الأمل الذي ت�سببه‬
‫لتكون ق�ص�صه الأوىل عن الهجرة واملهاجرين‪ .‬و�ش ّكلت‬ ‫الهجرة واالغرتاب كق�ص�ص ( الأر�ض يا �سلمى) و(�شيء‬
‫فرتة ميالده و�صباه يف ذاكرته كنزاً هائ ًال من اخلياالت‬ ‫ا�سمه احلنني )‪ ..‬ك�شفت عن الكثري من االختالالت‬
‫وال�صور االجتماعية وال�سيا�سية‪ .‬ذلك لأن �أباه كان‬ ‫الناجتة عن هجرة الإن�سان لأر�ضه ووطنه واغرتابه‬
‫من حركة الأحرار اليمنيني‪ ،‬طليعة املعار�ضة للحكم‬ ‫كق�ص�ص (ليته مل يعد)‪ ..‬قدمت �صورة دقيقة حلالة‬
‫الأمامي خارج الوطن»‪.‬‬ ‫الغربة الداخلية �إىل جانب الغربة املتعارف عليها التي‬
‫�شخ�صت‬ ‫يعي�شها �أبناء املغرتبني كق�ص�ص (�أبو ريبة)‪ّ .‬‬
‫(بقية امللف مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫وب�صدقية تبعث على الده�شة واقع البالد وف ّندت �أ�سباب‬

‫‪167‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫حوارات‬

‫نحن منلك فر�صة واحدة للحياة ال تتكرر �أبدا وعلينا‬ ‫‪v‬‬


‫ا�ستثمارها مهما كانت مريرة ‪.‬‬
‫كثري من ق�صائد احلداثة تقوم على ال�سيالن اللغوي‬ ‫‪v‬‬
‫الف�ضفا�ض وتفتقر يف الأغلب اىل �أي فكرة جوهرية‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫فا�ضل العزاوي ي�شعل النار فـي‬
‫ثياب الدينا�صورات ال�شعرية‬
‫حاورته‪ :‬ماجدة حميد‬
‫كاتبة من العراق‬

‫منذ ال�ستينيات يجوب يف فيايف الن�ص غائرا يف �أعماقه باحث ًا يف خلجات النف�س‬
‫عن جذوة الق�صيدة للولوج اىل �أ�رسارها وخمابئها واخلروج ب�رسياليتها ملواجهة‬
‫�رسيالية الواقع وتناق�ضاته‪ ..‬رغم ان�شغاالته يف الكثري من احلقول املعرفية كال�شعر‬
‫والرواية والق�صة والنقد واملقال والرتجمة والن�صو�ص النرثية‪ ،‬لكن ال�شعر يبقى‬
‫واملعب احلقيقي عن اجلانب الروحي امل�ضيء �إذ جند ان ذلك‬‫رّ‬ ‫هو الأل�صق به واليه‪،‬‬
‫الوهج ال�شعري ينبثق من بني كل نتاجاته االخرى‪ ،‬بخ�صو�صية متفردة يف الر�ؤية‬
‫والر�ؤى‪ ..‬كان �ضمن جماعة كركوك ومن �أبرزهم و�أغزرهم نتاج ًا �ساهم يف �أغناء‬
‫احلركة الثقافية يف العراق منذ ال�ستينيات وال يزال �ضاج ًا بعطاءاته‪.‬‬
‫يف منفاه االوروبي يتطلع العزاوي من خالل نافذته باجتاه الوطن البعيد القريب‪،‬‬
‫�ساكب ًا همومه وتطلعاته و�أفكاره على �أدمي الورق حامل ًا بالفجر واحلرية وبعامل‬
‫م�سكون بال�شعر‪.‬‬

‫‪ v‬لو جمعتُ ما ن�شرته يف ال�صحافة ل�ش ّكل جملدات‬


‫�أناف�س بها الأعمال الكاملة ملارك�س واجنلز‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫كعرب �أننا ال نكاد ن�شعر بذلك‪.‬‬ ‫�شاعر مثل فا�ضل العزاوي كيف ميكنني ان �أب��د�أ‬
‫حماولة التفرد؟ ماذا يعني ذلك؟ كل كاتب حقيقي‬ ‫احلوار معه وثمة تاريخ جيل كامل يتالطم ب�أمواجه‬
‫هو متفرد بطريقة ما والكاتب الذي يعجز عن ان‬ ‫على الطاولة التي يجل�س �أمامها‪ .‬ثمة بروق من‬
‫يكون متفرداً ي�صبح جزءاً من الركام امل�ضاف اىل‬ ‫علي‬
‫الكتب واملنايف واملعارك الأدبية والأ�صدقاء‪ّ ،‬‬
‫ركام التاريخ الكثري‪ .‬التفرد هو �صنو الأ�صالة‪� ،‬أي‬ ‫ان �أخت�رصها �أمامكم بب�ضعة �أ�سئلة بد�أتها هكذا‪:‬‬
‫ان يكون املرء نف�سه و�أن يحمل تلك الدمغة التي‬ ‫‪ r‬عرف عن فا�ضل العزاوي م�شاك�ساته داخل الن�ص‬
‫متيزه عن �سواه‪ ،‬من امل�ؤكد اننا نحمل داخلنا تراث‬ ‫بدءا من خملوقاته على �صعيد املنجز ال�شعري وحتى‬
‫الب�رشية كلها ونت�أثر ببع�ضنا ونعر�ض �أفكارنا‬ ‫«الروح احلية» على �صعيد الكتابة عن التجربة‪ .‬هل‬
‫ومفاهيمنا لوهج �أفكار الآخرين ومفاهيمهم بيد‬ ‫هذه امل�شاك�سة حماولة للتفرد و�سط ركام الن�صو�ص‬
‫�أن كل واحد منا يظل يحمل وجها خا�صا به و�شك ًال‬ ‫�أم انها ثورة الروح داخل قوالب احلداثة؟‬
‫ال يتكرر قط رغ��م كل ه��ذه املليارات من الب�رش‪،‬‬
‫‪ n‬ال �أع��رف ما ميكن �أن تعنيه امل�شاك�سة داخل‬
‫�إنها حكمة الطبيعة التي �أهدتنا هذا التفرد‪� ،‬صانع‬
‫الن�ص‪ .‬رمبا كنت تق�صدين بها �أمراً �آخر‪ .‬فامل�شاك�سة‬
‫الأ�صالة‪ ،‬الذي به وحده تعزف احلياة �سيمفونية‬
‫أنت تعرفني به‪ ،‬ومع‬ ‫تعني �أن ثمة من هو على حق و� ِ‬
‫�أ�صواتها املتعددة الهائلة فندرك كرمها وغناها‪.‬‬
‫ذلك تعار�ضينه �أو تدخلني يف �رصاع معه بدون‬
‫‪ r‬من املالحظ �أنك ع�شت فرتة من ال�صمت بعد مغادرتك‬ ‫اهتمام باحلقيقة‪ ،‬رمبا للتفرد �أو لأي غاية �أنانية‬
‫العراق‪ ،‬فما بني العام ‪ 1976‬الذي ن�رشت فيه عمليك‬ ‫�أخرى‪ ،‬وهو �أمر ال ينتمي اىل الأدب على �أي حال‪,‬‬
‫ال�شعريني «ال�شجرة ال�رشقية» و«�أ�سفار» والعام‬ ‫�أما �إذا كنت تق�صدين بامل�شاك�سة‪� ،‬أن ميزق الكاتب‬
‫‪ 1989‬الذي ن�رشت فيه جمموعتك الق�ص�صية «الهبوط‬ ‫�أو ال�شاعر بن�صه اجل��دي��د الأك��اذي��ب واخل��راف��ات‬
‫اىل الأبدية بحبل» وروايتك «مدينة من رماد» مل ي�صدر‬ ‫والأ���س��اط�ير الأدب��ي��ة املن�سوجة يف ظ��ل تخلف‬
‫لك �سوى عمل واحد هو «الدينا�صور الأخري» يف عام‬ ‫املجتمعات العربية‪� ،‬سيا�سي ًا واقت�صادي ًا وفكري ًا‬
‫‪ 1980‬ملاذا هذا التوقف وهذا الإنقطاع؟‬ ‫وجمالي ًا‪ ،‬حول هذه الق�ضية �أو تلك‪� ،‬أن يهدم جمد‬
‫‪� n‬أنني �أ�ستمتع بالعمل يف احلقيقة وحينما ال يكون‬ ‫الأوثان اجلاهلية التي حتر�س باب املعبد‪� ،‬أن مي�س‬
‫ثمة ما �أفعله �أ�شعر ب�أنني معلق من ر�أ�سي يف الفراغ‬ ‫الن�سغ احلقيقي ال��ذي ي�رسي داخ��ل �شجرة احلياة‬
‫و�أقلق كثرياً‪� ،‬شاعراً بدنو �أجلي‪ ،‬مثل هذا الأمر حدث‬ ‫و�أن يجعلنا نواجه م�صرينا ب�أ�سئلة زماننا فهذا هو‬
‫يل يف املا�ضي‪ ،‬لكنه انتهى منذ �سنوات‪� ،‬إنني اعي�ش‬ ‫بالذات ما مينح الكتابة تلك اللم�سة ال�سحرية التي‬
‫الآن يف احلقيقة من �أجل كتابتي وحدها‪ ،‬بدون‬ ‫تربر لنا عبء عر�ض �أنف�سنا على الآخرين‪.‬‬
‫ذلك ال �أجد معنى حلياتي بعد �أن ع�شت فيما م�ضى‬ ‫هناك كتابة ميتة‪ ،‬هي ركام من الن�صو�ص بالفعل‬
‫لغري الكتابة �أي�ض ًا‪ ،‬حيث �أهدرت �سنوات من عمري‬ ‫أنت‪ .‬كل ن�ص ي�شبه �أباه وحواء تنحدر‬ ‫كما ا�سميتها � ِ‬
‫حتت وط�أة الأمل مبا ال �أمل فيه حينا والي�أ�س من‬ ‫دائم ًا من �ضلع �آدم‪ .‬هو ذا العقل العربي الذي ال ي�ؤمن‬
‫الأمل حين ًا �آخر‪ ،‬مثلما كدحت طوال حياتي لأظل‬ ‫اال بالأحادية ويكرر نف�سه اىل الأبد يقف هاتف ًا يف‬
‫على قيد احلياة‪ ،‬بدون عون من �أي كائن يف العامل‪.‬‬ ‫الربية «�أنا ال�شم�س وال جديد حتتي»‪� .‬صورة �أخرى‪،‬‬
‫فحينما �إنهار الو�ضع ال�سيا�سي يف العراق يف نهاية‬ ‫يف الأدب هذه املرة‪ ،‬لطابور الدكتاتوريني العرب‬
‫ال�سبعينات وك�شفت الدكتاتورية عن وجهها الدموي‬ ‫الذين ال يقبل الواحد منهم �أن يكون �أقل من �إله‪.‬‬
‫ال�سافر يف حماولة منها لفر�ض ثقافتها الأحادية‬ ‫حالة �سايكولوجية ت�ستحق الرثاء‪ ،‬ومن �سوء حظنا‬
‫‪170‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الكتابة وانتهيت‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬ ‫البدائية على املجتمع و�صياغته على �شاكلتها فقدت‬
‫يف عام ‪ 1987‬ا�ستعدت نف�سي ثانية وبد�أت كتابة‬ ‫كل �أمل يف جناة العراق من الكارثة التي تنتظره‬
‫رواية «�آخر املالئكة» التي رمبا كانت �أف�ضل �أعمايل‬ ‫وتنب�أت بها يف العديد من ن�صو�صي‪ ،‬وبالفعل‬
‫مثلما كتبت جمموعتي ال�شعرية «رجل يرمي �أحجاراً‬ ‫مل يطل الأم��ر كثرياً حتى ن�شبت احل��رب العراقية‬
‫يف بئر» ون�رشت العديد من الدرا�سات واملقاالت‬ ‫االيرانية التي ا�ستمرت ثمانية �أعوام‪ ،‬وبعد �أقل من‬
‫التي �أعتز بها يف جملة «الناقد»‪ ،‬لقد عملت طوي ًال‬ ‫عامني غزت �إ�رسائيل لبنان وحا�رصت بريوت‪ .‬لقد‬
‫فيما م�ضى يف ال�صحافة التي مل تكن بالن�سبة‬ ‫�شلني الأمل يف منفاي الأملاين و�أنا �أ�شهد موت �أجمل‬
‫يل �سوى و�سيلة للعي�ش‪ .‬ولو جمعت ما ن�رشته يف‬ ‫�أحالمنا و�آمالنا التي عك�سناها دائم ًا يف كتاباتنا‪.‬‬
‫ال�صحافة يف حياتي ل�شكل جملدات ميكن �أن �أناف�س‬ ‫حينذاك فقدت الثقة حتى بجدوى الكتابة‪ ،‬ماذا‬
‫بها جملدات الأع��م��ال الكاملة ملارك�س‬ ‫يعني �أن تكتب ق�صيدة حيث الآالف يقتلون‬
‫واجنلز‪ ،‬وهو �أمر قد �أفعله ذات يوم �إذا ما ق�صيدة‬ ‫وي�ستباحون كل ي��وم؟ م��اذا يعني �أن تتحدث عن‬
‫ا�سعفني الوقت‪ .‬ثم تخليت منذ ما يقرب من النثـر هي‬ ‫احلداثة واحلرية واحلقيقة يف عامل يحكمه املوت‬
‫والكذب والغباء؟ فقدت القدرة على الأمل والكتابة‬
‫ع�رشة �أعوام عن �أي عمل �صحفي‪ ،‬مكر�سا الأ�سهل منا ً‬
‫ال‬ ‫معا‪ ،‬وج��دت انني �أه�ين ال�ضحايا حينما �أم�سك‬
‫حياتي كلها للكتابة الإبداعية والثقافية‬
‫وحدها‪ ،‬حيث ن�رشت خالل هذه الأع��وام و�شخ�صانية‬ ‫القلم بيدي‪ ،‬ط��وال اكرث من ع�رشة �أع��وام مل ان�رش‬
‫الع�رشة وح��ده��ا ‪ 15‬كتاب ًا يف ال��رواي��ة‬ ‫�سوى كتاب واح��د «الدينا�صور االخ�ير» ال��ذي هو‬
‫من كل‬ ‫يف احلقيقة اع���ادة كتابة لـ«خملوقات فا�ضل‬
‫وال�شعر والنقد والدرا�سة والرتجمة‪ .‬كما‬
‫�أنني �أو�شك على االنتهاء من كتابة رواية الأجنا�س‬ ‫ال��ع��زاوي اجلميلة» وانتابتني رغبة جارفة ب�أن‬
‫ين�ساين اجلميع يف العراق‪ .‬مل يكن م�سموح ًا بذكر‬
‫كبرية جديدة وثمة ديوان جديد قد ين�رش الأدبية‬ ‫�إ�سمي ولو �ضمن �شتيمة‪ ،‬حلذيف من الذاكرة نهائي ًا‪،‬‬
‫هذا العام‪ ،‬ف�ض ًال عن الكثري من الدرا�سات‬
‫الأخرى‬ ‫التي ميكن �أن تظهر يف كتب �أي�ض ًا‪.‬‬ ‫ويف الوطن العربي ك��ان معظم النا�رشين الذين‬
‫لقد تعلمت من جتربة الثمانينات املريرة‬ ‫يقب�ضون �أرزاقهم من خزانة الدكتاتورية يتطريون‬
‫من �أي ا�سم خارج قافلة البالبل املغردة‪ .‬وكانت‬
‫�إن على الكاتب‪� ،‬إذ يكون �شاهداً على زمنه‬
‫كل ال�صحف واملجالت العربية تقريب ًا‪ ،‬وهي يف‬
‫�أن يرتك لنف�سه م�سافة �شخ�صية تف�صله عن �أحداثه‬
‫حم�أة حما�ساتها لبطل القاد�سية وحامي البوابة‬
‫و�أن يتعلم �أن يكتب من �أجل نف�سه قبل �أن يكتب‬
‫ال�رشقية قد �سجلت منذ البداية �أ�سماءنا يف قائمة‬
‫من �أجل �أي �أحد �آخر يف العامل‪ ،‬فنحن منلك فر�صة‬
‫ال�شيطان‪ ،‬حينذاك �أي�ض ًا رمبا كتعوي�ض عن خ�سائر‬
‫واحدة للحياة‪ ،‬ال تتكرر �أب��داً‪ ،‬وعلينا ا�ستثمارها‪،‬‬
‫ثقافتي القومية‪ ،‬وجدت الكثري من ال�سلوى يف قراءة‬
‫مهما كانت مريرة‪ ،‬حتى حافتها الق�صوى‪.‬‬
‫الفل�سفة والأدب باللغة الأملانية وبد�أت حماوالتي‬
‫‪ r‬تنوعت �أعمالك الإبداعية بني ال�شعر والق�صة والرواية‬ ‫الأوىل للكتابة بها‪ ،‬ومهما بدا الأمر فكاهي ًا يل الآن‬
‫والكتابة النرثية وال�صحافة والرتجمة والكتابة باللغة‬ ‫فانني كنت غا�ضب ًا على الأمة العربية كلها‪ :‬كال‪،‬‬
‫الأملانية التي ا�صدرت بها الآن ديوان ًا كبرياً (‪ 90‬ق�صيدة)‬ ‫لن �أكتب ملثل ه�ؤالء الأغبياء! و�شعرت ب�سعادة �أن‬
‫بعنوان «يف حفلة �سحرية»‪� ،‬أين يجد العزاوي ذاته �أكرث‬ ‫�أكون غائب ًا عن حفلة اجلهلة والدجالني‪� ،‬أذكر �أنني‬
‫يف زحمة كل هذه الفنون الأدبية وكيف �أمكن لك حتقيق‬ ‫التقيت ال�صديق ال�شاعر ممدوح عدوان يف تلك الأيام‬
‫كل هذا التداخل؟ وما دام لكل �شاعر م�رشوعه ال�شعري‬ ‫فقال يل مداعب ًا‪ ،‬وهو يكاد ي�صدق نف�سه‪ :‬لقد تركت‬
‫‪171‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫زمن مثل زمننا‪ .‬وهو ال ميكن �أن يعني بالت�أكيد‬ ‫املغاير‪ ،‬فما هي مميزات م�رشوع العزاوي ال�شعري؟‬
‫الدعوة لقتل ال�شعر و�إمنا لبعث الروح فيه وتخلي�صه‬ ‫‪� n‬إنني �شاعر قبل كل �شيء‪ ،‬ولكنني �أفهم ذلك‬
‫من ثقل الدم الذي يعاين منه ليكون �أكرث جاذبية‬ ‫مبعنى جديد يخيل ايل �إنه �سي�شكل ب�ؤرة تطور الأدب‬
‫و�إمتاع ًا �ضمن فهم جديد لل�شعرية‪ ،‬هذا الفهم هو‬ ‫يف امل�ستقبل‪ ،‬ال�شاعر مبعناه القدمي‪� ،‬أي ذلك يولد‬
‫الذي جعلني �أكتب منذ البداية الق�صيدة بكل حرية‬ ‫فطري ًا ك�شاعر وال يجيد �سوى �صناعة ال�شعر‪ ،‬يو�شك‬
‫الكتابة وبدون �أي و�صفة م�سبقة لها‪ ،‬كما لو انني‬ ‫على االنقرا�ض‪ ،‬كان ذلك مقبو ًال يف املا�ضي‪ ،‬قبل‬
‫�أبتكر ال�شعر لأول مرة‪ ،‬لذلك ميكن لبع�ض ق�صائدي‬ ‫�أزمنة احل��داث��ة‪ ،‬حيث تت�ضمن الق�صيدة معارف‬
‫ان يقرتب من الق�صة الق�صرية �أو �أن يت�ضمنها‪ ،‬مثلما‬ ‫القوم وتعك�س ع�صبيتهم بدون الإخالل بوظيفتها‬
‫ميكن تلم�س اخلط الروائي يف جمموعتي ال�شعرية‬ ‫الإجتماعية �أو اجلمالية‪� ،‬أم��ا الآن فقد انح�رست‬
‫«ال�شجرة ال�رشقية» مث ًال‪ .‬كما ميكن للمرء �أن يقر�أ‬ ‫وظيفة الق�صيدة اىل احلد الذي ي�صعب فيه التعرف‬
‫«خملوقات فا�ضل العزاوي اجلميلة» و«الدينا�صور‬ ‫عليها‪ ،‬و�إذا كانت ال ت��زال ثمة ق�صائد تتو�سل‬
‫الأخري» و«كوميديا الأ�شباح» مرة كرواية و�أخرى‬ ‫عواطفنا اله�شة فانها تعتا�ش يف الأغلب على بقايا‬
‫ك�شعر‪ .‬ويف ال��وق��ت ذات��ه ق��د �أدم���ج يف الق�صيدة‬ ‫فهمنا الرومان�سي للعامل الذي نعي�ش فيه وت�ستغل‬
‫الواحدة ال�شعر املوزون بالنرث مثلما ا�ستخدم بحورا‬ ‫ذلك بكل ج�شع‪� .‬أم��ا ق�صائد ال��ر�أي الآيديولوجية‬
‫عدة‪ ،‬بل ورمبا جل�أت يف بع�ض �أجزائها اىل الق�صيدة‬ ‫فغالبا ما تت�صنع املعرفة النبوية يف زمن مل يعد‬
‫العمودية �أي�ض ًا �أو حتى اىل الر�سم‪.‬‬ ‫فيه مكان للأنبياء‪ .‬ولذلك راح ال�شعر منذ نهاية‬
‫�إنني ال �أريد بذلك بالطبع �إلغاء الأجنا�س الأدبية‪.‬‬ ‫ال�ستينيات ب�صورة خا�صة – �إنني �أحتدث هنا عن‬
‫فالق�صيدة تظل عندي ق�صيدة وال��رواي��ة رواي��ة‬ ‫حركة ال�شعر يف العامل – مييل اىل �أن يكون �شعرا‬
‫والق�صة الق�صرية ق�صة ق�صرية واملقالة مقالة‪،‬‬ ‫م�شاع ًا‪ ،‬يكاد ميار�سه اجلميع‪ ،‬كل تالميذ املدار�س‬
‫ولكن حيلتها تقوم على �أن تكون نف�سها‪ ،‬كجن�س‬ ‫مث ًال يتدربون على كتابة ال�شعر‪ ،‬وهم يكتبونه بنف�س‬
‫�أدب���ي‪ ،‬و�أك�ثر من نف�سها يف �آن‪ ،‬مثل كائن حي‬ ‫الطريقة التي يكتبون بها مذكراتهم وخواطرهم‬
‫ي�صعب حت��دي��ده يف بعد واح���د �أو معنى حم��دد‪.‬‬ ‫للتعبري عن انف�سهم وعواطفهم‪ ،‬وال �شك �أن الق�صيدة‪،‬‬
‫ويف الطريق اىل ذلك ال �أهتم بال�شعر وحده و�إمنا‬ ‫وخا�صة ما �رصنا نطلق عليه يف اللغة العربية ا�سم‬
‫�أي�ض ًا بالرواية والنقد والق�صة الق�صرية وامل�رسح‬ ‫ق�صيدة النرث‪ ،‬هي الأ�سهل منا ًال و�شخ�صانية من‬
‫وال�سينما والفل�سفة والإقت�صاد والتاريخ وال�سيا�سة‬ ‫كل الأجنا�س الأدبية الأخرى‪ .‬ويف مقابل ذلك يقل‬
‫وعلم اجلمال وعلم النف�س والر�سم وال�صحافة‪ ..‬الخ‪،..‬‬ ‫اليوم بعد الآخ��ر عدد الذين يقر�أون ال�شعر‪� ،‬ضمن‬
‫ولكن �أي�ض ًا بالعلوم الطبيعية‪ ،‬وب�صورة خا�صة‬ ‫ال�شعور املتزايد لي�س بعدم جدواه وفائدته ولعجزه‬
‫الفيزياء الفلكية التي تبهرين ب�أ�سئلتها التي تقرتب‬ ‫عن ال�صعود اىل م�ستوى الأجنا�س الأدبية الأخرى‬
‫من �أ�سئلة ال�شعر‪ .‬كل املعرفة الب�رشية هي منطادي‬ ‫الأك�ثر �إث��ارة وجاذبية‪ ،‬ولكن �أي�ض ًا الفتقاره يف‬
‫الذي ا�صعد به اىل ال�شعر‪� .‬إنني �أنظر اىل نف�سي يف‬ ‫الأغلب اىل ال�سحرية التي ميزته يف املا�ضي‪.‬‬
‫ال�ضوء املنبثق من كل ذلك و�أ�شعر مبتعة وغنى‬ ‫لي�س هذا يف احلقيقة حجة �ضد ال�شعر‪ ،‬و�إمنا �ضد‬
‫املادة التي �أتعامل معها يف كتاباتي‪.‬‬ ‫التكرار النمطي الذي ا�ستهلك نف�سه يف اعتيادية‬
‫ي�صعب علي هنا �أن �أحتدث عن م�رشوعي ال�شعري‬ ‫�أقواله وموا�ضيعه و�أ�شكاله املكررة‪, ،‬و�إ�شارة يف‬
‫الذي هو يف الوقت ذاته جزء من م�رشوعي الأدبي‬ ‫الوقت ذاته اىل �رضورة اخلروج من مفهوم ال�شعر‬
‫واحلياتي‪ ،‬لكي ال �أبدو مبت�رساً ولكن ميكن ملن يهمه‬ ‫ب�شكله ال�سائد اىل �شكل جديد قادر على احلياة يف‬
‫‪172‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حتى الآن‪� .‬إن ما ن�رشته من دواوين وروايات وكتب‬ ‫ذلك �أن يعود اىل قراءة «البيان ال�شعري» ال�صادر‬
‫نقدية ي�شكل جزءاً من م�شهد روحي‪ ،‬ال امل�شهد كله‬ ‫كتابي النقديني «بعيداً داخل‬
‫ّ‬ ‫يف عام ‪ 1969‬واىل‬
‫�ضمن جتربتي التي تقوم �أ�سا�س ًا على تعدد الأ�شكال‬ ‫الغابة – البيان النقدي للحداثة العربية» و»الروح‬
‫والر�ؤى‪ .‬هناك الكثري الذي مل �أقله بعد‪ .‬و�إذا ما حالفني‬ ‫احلية ‪ -‬جيل ال�ستينات يف العراق»‪.‬‬
‫احلظ وع�شت ب�ضع �سنوات �أخرى ف�سوف �أن�رش العديد‬ ‫‪ r‬كيف تتفتح زهرة الق�صيدة يف حديقة العزاوي؟‬
‫من الكتب اجلديدة التي �أ�ستكمل بها امل�شهد كله‪.‬‬ ‫كيف تنمو وتكرب؟ ما هي ركيزتك الروحية يف بناء‬
‫‪ r‬بد�أ م�شهد اجليل ال�ستيني وا�سع ًا ومت�شعب ًا ومل تبق‬ ‫ن�صو�صك؟ هل ترتكها للعفوية �أم تخ�ضعها لتحليالت‬
‫منه اليوم اال �أ�صوات معدودة‪ .‬ترى كيف تنظر الآن اىل‬ ‫خمتربك النقدي؟‬
‫عموم امل�شهد‪ ،‬وجذوره و�أ�شجاره و�شتاته؟ ومن هي‬ ‫‪ n‬هناك ق�صائد ميتة وق�صائد حية‪ ،‬كثري من ق�صائد‬
‫الأ�سماء الإبداعية التي ت�ستوقفك جتاربها؟ حاولت يف‬ ‫احل��داث��ة تقوم على ال�سيالن اللغوي الف�ضفا�ض‬
‫‪ n‬ق��ب��ل ك��ل ���ش��يء ان��ن��ي �أك����ره ال��ف��ك��رة‬ ‫�أو املناجيات العاطفية الرومان�سية وتفتقر يف‬
‫ال�صبيانية ال�شائعة يف الأدب العربي ن�صو�صي �أن‬ ‫الأغلب اىل �أي فكرة جوهرية وتعجز عن التما�س مع‬
‫عن الأج��ي��ال التي تتبع التقومي العقدي �أ�ضع يدي على‬ ‫احلقيقي يف احلياة‪� ،‬أننا قد جند فيها جملة جيدة‬
‫امليالدي‪ .‬و�إذا كنت �أنا نف�سي قد �أ�صدرت‬ ‫هنا و�أخرى هناك‪ ،‬ولكن �أبياتها �أو �سطورها تتكد�س‬
‫كتاب ًا عن جيل ال�ستينات يف العراق فذلك نب�ض احلياة‬ ‫فوق بع�ضها يف الأغلب‪ ،‬بحيث لن ي�صعب علينا �أن‬
‫لكي �أ�شري به اىل ظاهرة �إ�ستثنائية خا�صة احلقيقية و�أن‬ ‫ننقل مقاطع من هذه الق�صيدة لن�ضيفها �إىل تلك‬
‫ج��داً على امل�ستويات العاملية والعربية‬ ‫فال يتغري الأمر كثرياً‪ ،‬متام ًا كما هو عليه الأمر يف‬
‫والعراقية‪ ،‬وبالت�أكيد لي�س �ضمن املفهوم �أعك�س روح‬ ‫الق�صيدة العمودية التقليدية التي ميكنك �أن حت�شوها‬
‫العقدي ال�سائد‪ ،‬فال�ستينات العراقية متتد زمني ك�شاهد‬ ‫بكل �شيء مثل جراب ال�شحاذ‪ ،‬كما قلت ذات مرة‪.‬‬
‫يف نظري من العام ‪ 1964‬وحتى العام‬ ‫ركيزة كل �شاعر بالت�أكيد هي ر�ؤي���اه الداخلية‬
‫عليه‬ ‫الروحية وخم��زون وعيه للعامل ال��ذي يعي�ش فيه‬
‫‪ ،1973‬وقد �أو�ضحت معنى ذلك يف كتابي‬
‫«ال��روح احلية» لقد انتهت ال�ستينات منذ‬ ‫وح�سا�سيته ومعارفه وجتاربه ال�شخ�صية‪ .‬وهنا‬
‫فرتة طويلة‪ ،‬ولكن الكتاب وال�شعراء الذين �أ�سهموا‬ ‫يدخل احل�س النقدي يف اختيار مادته التي يتعامل‬
‫يف �إغناء تلك التجربة الطليعية ووا�صلوا �إبداعهم‬ ‫معها و�أه��م��ي��ة قولها‪ .‬طريقة كتابة الق�صيدة‬
‫بعدها هم حتى اليوم الأكرث ح�ضوراً و�إبداع ًا‪ .‬ال �أريد‬ ‫وتنفيذها على الورق تختلف من �شاعر اىل �آخر وثمة‬
‫هنا �أن �أذكر �أي �أ�سم لأن ذلك قد يلحق احليف مبن‬ ‫تقنيات قد يحتفظ ال�شاعر ب�أ�رسارها لنف�سه‪ .‬يف ما‬
‫ميكن �أن �أن�ساهم ويثري احل�سا�سية والبغ�ضاء يف‬ ‫يتعلق بي تفر�ض الق�صيدة نف�سها طريقة تنفيذها‪،‬‬
‫جو م�شحون �أ�سا�س ًا بالتوتر واالنتقا�ص من قيمة‬ ‫وهي تخ�ضع دائم ًا اىل مراجعات نقدية �صارمة جداً‬
‫الآخ��ري��ن‪ ،‬وهو �أم��ر م�ألوف على �أي حال يف كل‬ ‫ومتكررة‪ ،‬حتى الفارزة �أو النقطة تكون مدرو�سة‪.‬‬
‫جتارب املنفى الأخرى �أي�ض ًا‪ ،‬فحينما يفقد املرء‬ ‫�إنني �أخ�ضع كل �شيء يف الق�صيدة حل�ساب ع�سري‪،‬‬
‫الأمل ويجد نف�سه وحيداً ومعزو ًال ال معني له‪ ،‬ورمبا‬ ‫ويف النهاية يهمني �أن �أجعل كل ذلك يبدو عفوي ًا‪.‬‬
‫خائب ًا �أي�ض ًا يدافع عن حياته باللجوء �إىل الوهم‬ ‫‪ r‬كيف ترى الآن جتربتك بعد ما يقارب �أكرث من ربع‬
‫ويفقد احل�س بالواقع واحلقيقة‪.‬‬ ‫قرن على �صدور جمموعتك ال�شعرية الأوىل؟‬
‫‪� r‬إن جيلك‪ ،‬و�أنت �أبرزهم‪ ،‬عانى �أكرث من �أي جيل �آخر‬ ‫‪� n‬أ�شعر �أنني مل �أ�ستكمل جتربتي ال�شعرية والأدبية‬
‫‪173‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يعني الكثري يف النهاية هو‪� :‬أن يكون �شعراً حقيقي ًا‪.‬‬ ‫ال�سجن واملنفى والت�رشد‪ ،‬كيف �أثر كل ذلك على ن�صك؟‬
‫فعندما يكون ال�شعر حقيقي ًا مينحنا تلك احل�سا�سية‬ ‫‪ n‬لقد حاولت يف ن�صو�صي دائم ًا �أن �أ�ضع يدي‬
‫التي ت�صعد بنا اىل م�ستوى �آخر من الإن�سانية التي‬ ‫على نب�ض احلياة احلقيقية التي ع�شتها و�أن �أعك�س‬
‫تتحد فيها غايات ال�شعر النهائية مع م�سعى كل‬ ‫روح زمني‪ ،‬ك�شاهد عليه‪ ،‬و�إذا ما كان علي هنا �أن‬
‫الفنون والعلوم الأخرى التي تريد �أن جتعل كوكبنا‬ ‫�أعرتف بف�ضل القمع علي ككاتب و�شاعر فانه قدم‬
‫الأر�ضي �آمنا وجميال وقادراً على موا�صلة احلياة‪.‬‬ ‫يل يف فرتة مبكرة من حياتي معرفة هائلة بال�رشط‬
‫‪ r‬هل تعتقد �أن النقد ا�ستطاع �أن يتوغل يف عامل‬ ‫الإن�ساين يف التاريخ و�أ�ضفى على ن�صي ح�سا�سيته‬
‫العزاوي و�أ�ضاء خفاياه ورموزه �أم �أن هناك م�ساحات‬ ‫اخلا�صة به‪ .‬كل ما تعلمته يف حياتي تالي ًا كان‬
‫مل تكت�شف بعد؟‬ ‫تعميق ًا لهذه اخلربات الأوىل مع الب�رش‪ ،‬مع ال�ضحايا‬
‫‪ n‬النقد؟ ال �أعرف �إن كان ثمة ما ميكن ت�سميته بالنقد‬ ‫واجلالدين �سوية‪ ،‬وهو تق�سيم �سيظل ي�شطر املجتمع‬
‫يف الأدب العربي‪ ،‬هناك كتاب مقاالت �صحفية عابرة‬ ‫الب�رشي طوي ًال‪ ،‬لي�س يف ال�سيا�سة وحدها‪.‬‬
‫يعر�ضون فيها الكتب �أحيان ًا ويبدون �آراءه��م فيها‬ ‫‪ r‬حيث ترزح الب�رشية الآن يف �أغاللها حتت وط�أة الظلم‬
‫بالقليل من الثقافة التي ميلكونها‪ ،‬ال �أعتقد �أن ثمة‬ ‫والدكتاتوريات وتناق�ضات احلياة و�أحداثها املت�سارعة‬
‫�أحدا در�س �أعمايل بطريقة جادة‪ ،‬والكثري من النقاد‬ ‫ما الذي ي�ستطيع �أن يفعله ال�شعر �إزاء كل هذا؟‬
‫يتجنبونني‪ ،‬رمبا لأنهم ال يعرفون كيف يدخلون اىل‬ ‫‪ n‬ال متلك الق�صيدة التي تنتمي �إىل ال�شعر احلقيقي‬
‫عاملي املغلق �أمامهم‪ ،‬ب�أدواتهم النقدية العتيقة‪،‬‬ ‫بندقية تقاتل بها‪ ،‬وحتى �إذا امتلكتها ف�إنها �سرتمي‬
‫�أو رمبا لأنهم كما قال يل ال�صديق ال�شاعر حممود‬ ‫بها يف النار �أو النهر‪ ،‬لأنها �ضد بربرية التاريخ‬
‫دروي�ش ذات مرة ممازحاً‪�« :‬إنهم يخ�شونك فيتجنبون‬ ‫دائم ًا‪ .‬لكن ثمة ق�صائد رديئة تفعل ذلك‪ .‬ال�س�ؤال‬
‫�رشك» ومع ذلك �أود �أن �أ�شري هنا �إىل درا�سة جادة‬ ‫الأهم هو‪� :‬أي �شعر يحتاجه زماننا؟ ذات مرة قر�أت‬
‫ومثرية قدمها عن �شعري مع �شعراء �آخرين د‪� .‬رسور‬ ‫على ج��دار معتقل ما يف العراق بيت ًا من ال�شعر‬
‫عبد الرحمن �ضمن ر�سالة دكتوراه‪� ،‬سوف تن�رش قريباً‪،‬‬ ‫جعلني �أفكر كيف ميكن لل�شعر نف�سه �أن يكون و�سيلة‬
‫داف��ع عنها يف جامعة بغداد يف العام ‪( 1996‬يا‬ ‫للحقد والدمار‪:‬‬
‫للعجب!) بعنوان «املحاوالت الرائدة يف ق�صيدة النرث‬ ‫ ‬ ‫�أنا بعث �إن م�سني جنح �ضيم‬
‫العربية» ور�سالة ماج�ستري قدمت يف ال�سبعينيات‬ ‫ �أحرق الأر�ض وال�سما والوجودا‬
‫اىل جامعة القاهرة عن رواية «القلعة اخلام�سة» مع‬ ‫حينما �أتذكر الآن كل تلك الق�صائد التي ن�رشت‬
‫روايتني �آخريني‪� ،‬أعد الأ�ستاذ �أحمد خري�س يف جامعة‬ ‫يف العراق وغري العراق لتمجيد الدكتاتورية تارة‬
‫الريموك يف الأردن ر�سالة دكتوراه عن مفهوم امليتا‬
‫واحلرب تارة �أخرى �أدرك كيف ميكن لل�شعر نف�سه �أن‬
‫– ق�ص ‪ Metafiction‬يف رواياتي‪.‬‬
‫يكون خائن ًا للحلم الإن�ساين‪ ،‬رمبا �سيقول �أحد ما �إن‬
‫‪ r‬بني احلداثة والرتاث‪ ،‬بني قراءة ال�شعر العربي‬ ‫هذا لي�س �شعراً‪ .‬كال‪� ،‬أنه �شعر �أي�ض ًا ن�رش عنه النقاد‬
‫والعاملي �أين يقف العزاوي؟‬ ‫العباقرة الكتب ومنحت لر�سله اجلوائز التقديرية‬
‫‪� n‬أقف على �أر�ضي اخلا�صة بي و�أنظر مبر�صادي‬ ‫لي�س يف العراق وحده‪ ،‬وبع�ضهم ال يخجل حتى من‬
‫�إىل ال�سماء فوقي‪� .‬إنني ال �أ�ضع فا�ص ًال بني احلداثة‬ ‫التطاول على ال�شعراء الذين �ضحوا بكل �شيء من‬
‫والرتاث‪ ،‬لإنني �أفهم الرتاث بعني احلداثة مثلما �أفهم‬ ‫�أجل �أن يظلوا �أوفياء ل�شعرهم‪.‬‬
‫احلداثة كتتويج للرتاث الإن�ساين كله‪� .‬إن خ�صو�صية‬ ‫ومع ذلك ي�ستطيع ال�شعر �أن يفعل �شيئ ًا واحداً �سوف‬
‫‪174‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪ r‬احتاد الأدباء يف العراق؟‬ ‫ثقافتي العربية ال متنعني من �أن �أرى �أفق احل�ضارة‬
‫‪ n‬ال بد �إنه ي�شعر بيتم عميق‪� .‬أعتقد �إنه ينتظرنا‬ ‫الإن�سانية املوحدة اجلديدة التي �أنتمي �إليها �أي�ض ًا‪.‬‬
‫جميع ًا ليكون جديراً با�سمه‪.‬‬ ‫لقد انتهى الزمن الذي كانت فيه الثقافات القومية‬
‫مغلقة على نف�سها ومتناثرة مثل جزر يف بحر‪ .‬كلنا‬
‫‪� r‬ساملة �صالح؟‬
‫ننتمي الآن اىل كوكب واحد انهدمت فيه احلدود‬
‫‪� n‬صبية كانت ترتدي ثوب ًا مقلم ًا عندما التقيتها‬ ‫بني ال�شعوب والنا�س ونعي�ش يف الأ�سا�س امل�شاكل‬
‫لأول مرة يف جملة القنديل يف العام ‪ 1965‬وتقول‬ ‫ذاتها‪� ،‬ساعني اىل �إلغاء الفجوات احل�ضارية التي ال‬
‫«�أي نعم!» كلما وجدت الآخر �صامت ًا‪ ،‬لتحثه �أو حتث‬ ‫تزال قائمة بني القارات وال�شعوب‪.‬‬
‫نف�سها على الكالم‪.‬‬
‫‪ r‬و�أنت تقف على برج كتابك الع�رشين كيف تنظر �إىل‪:‬‬
‫‪� r‬أدوني�س؟‬
‫‪� n‬إنه �أحد ال�شعراء العرب املهمني الذين �أ�سهموا يف‬ ‫‪ r‬بغداد؟‬
‫�إغناء حركة ال�شعر العربي احلديث‪.‬‬ ‫‪ n‬بعيدة وقريبة‪ ،‬حا�رضة ومن�سية‪ ،‬لكنها معي‬
‫دائم ًا كخنجر يف اجلرح‪.‬‬
‫‪ r‬ق�صيدة �ضاعت؟‬
‫‪ n‬مل ت�ضع مني ق�صيدة واحدة فح�سب و�إمنا ق�صائد‬ ‫‪ r‬كتاب الأغاين؟‬
‫كثرية �أتلفت بع�ضها بنف�سي وبع�ض منها اختفى يف‬ ‫‪ n‬ذاكرة عربية للإبداع‬
‫ا�ضابري مديرية الأمن العامة التي �صادرتها مني‪.‬‬ ‫‪ r‬مقهى يف برلني؟‬
‫ويف العام ‪� 1963‬ضاع مني ديوان كامل كبري‪ ،‬كنت‬ ‫‪ n‬مقهى ال��ـ ‪ Reisebüro‬يف �ساحة �ألك�سندر‬
‫قد �أودعته عند �أحد الأ�صدقاء ليحتفظ يل به يف بيته‪.‬‬ ‫بالرتز‪ ،‬لكنه انتهى وحتول �إىل مكتب لل�سفريات‬
‫‪ r‬و�أخرى مل ت�ستطع كتابتها؟‬ ‫مثلما انتهيت �أن��ا �أي�ض ًا من �إدم��ان اجللو�س يف‬
‫‪ n‬ق�صائد ون�صو�ص كثرية مل ا�ستطع كتابتها يف‬ ‫املقاهي و�إن مل �أفقد احلنني �إليها‪.‬‬
‫البداية‪ ،‬ثم كتبتها فيما بعد او اهملتها نهائياً‪� .‬أذكر‬ ‫‪ r‬مقهى الربملان يف بغداد؟‬
‫انني حاولت ان اكتب رواية «�آخر املالئكة» قبل ع�رشين‬ ‫‪ n‬كنت �ألعب فيه ال�شطرجن �أحيان ًا‪ ،‬و�أنا �أتلفت ميين ًا‬
‫عام ًا من كتابتها فعجزت‪ ،‬كانت تنق�صني حينذاك‬ ‫وي�ساراً‪ ،‬باحث ًا عن الر�صايف �أو الزهاوي اللذين‬
‫عاطفة و�شفافية احل�س الذي ين� أش� من العالقة املتوترة‬ ‫كانا من رواده الثابتني‪ .‬ذات مرة حتديت فيه �أحد‬
‫بني الغياب عن املكان وذكراه‪ ،‬بني حنني الروح �إىل‬ ‫العبي ال�شطرجن اجليدين مقامراً فخ�رست ع�رشين‬
‫البدايات وا�ستحالة العودة اىل ما ال عودة اليه‪ ،‬وهو‬ ‫ديناراً‪ ،‬وهو مبلغ كان يعني ثروة حينذاك‪.‬‬
‫�أمر ما كان ممكن ًا بدون جتربة املنفى الطويلة‪.‬‬
‫‪� r‬سوق ال�رساي؟‬
‫‪ r‬و�أخرى ندمت عليها؟‬
‫‪ n‬كنت ال �أزال يف الإبتدائية عندما دخلته �صدفة‬
‫‪ n‬ملاذا ينبغي علي ان �أندم على �أي ق�صيدة؟ كل ما‬ ‫لأول م��رة خ�لال زي��ارة يل مع وال��دي �إىل بغداد‬
‫كتبته ينتمي ايل وميثلني وا�شعر ب�سعادة انني كنت‬ ‫فا�شرتيت م��ن بائع كتب على الأر����ض ق�صيدة‬
‫نف�سي دائم ًا يف كل كلمة كلمة دونتها على الورق‪.‬‬ ‫الأ�سلحة والأطفال لل�سياب بخم�سني فل�س ًا‪.‬‬

‫‪175‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫حممّد �شم�س الدّين‪:‬‬
‫�أعي�ش الفن فـي تفا�صيل حياتي‬
‫حاورته‪� :‬سهى �ص ّباغ‬
‫فنانة ت�شكيلية من لبنان‬

‫وخطه ٍ‬
‫بخط‬ ‫ّ‬ ‫و�شعرية �أدخل ال�شعر �إىل الألوان والأ�شكال‬ ‫ّ‬ ‫أدبية‬
‫خلفية � ّ‬‫ّ‬ ‫هو �آت من‬
‫لي�شد �إىل لوحته بذكاء جمهور ثقافته الكلمة‪ ،‬فيتعبه بالبحث عنها يف‬ ‫غري مفهوم ّ‬
‫الت�شكيلية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�شعرية غري مقروءة ليهرب منها �إىل ف�ضاء ا ّللوحة‬ ‫ّ‬ ‫�أبيات‬
‫الدين مي�شي يف �شارع احلمرا متخ ّفي ًا وراء حليته وعينيه احلاملتني‬ ‫حممد �شم�س ّ‬
‫باملعري ودانتي ليقر�أهما وي�صل �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ي�شك املرء ب�أ ّنه هادئ ُك ّل ّي ًا‪ .‬يلتقي‬
‫وهدوء ّ‬
‫اجلنوبية اخل�رضاء‬
‫ّ‬ ‫ماراً بالرباق‪ ،‬عاد �إىل قريته‬
‫العامل الآخر م�شاهداً اجل ّنة والنار ّ‬
‫املائية على الكرتون‬ ‫ّ‬ ‫ومير ب�ألوانه‬
‫ّ‬ ‫ليط ّل من حمرتفه على املدى و�شجرة الغار‬
‫جلية ونور بعيد وبذاكرته تلك اجل ّنة وتلك ال ّنار‪.‬‬ ‫القطني مب�ساحات وا�سعة ّ‬

‫‪176‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الفن التجريدي ب�شكل كبري وكنت خمطئ ًا والأ�سباب‬ ‫عن ّ‬ ‫«مائيات يف عني ال�شم�س» الّذي �أرفقه‬ ‫ّ‬ ‫يقول يف كتابه‬
‫واالنطباعية ورف�ض كل ما‬
‫ّ‬ ‫الواقعية‬
‫ّ‬ ‫هي الهروب من‬ ‫مع معر�ضه الأخ�ير‪ ،‬كنت �أرنو عزلة طويلة بعيداً عن‬
‫التجريدية الّتي �أو�صلتني �إىل مكان‬
‫ّ‬ ‫هو واقع فاخرتت‬ ‫املعري ودانتي رفيقي‬ ‫�ضجيج العامل و�إذ بي �صدفة بني ّ‬
‫م�سدود يف عملي‪� .‬أح�س�ست ب�أ ّنني �أريد التعبري واخلروج‬ ‫املعري ‪� :‬أوتظ ّنني‬
‫ّ‬ ‫يف تلك العزلة الّتي فقدت عزلتها‪.‬‬
‫ال�ضيق الذي و�ضعت نف�سي به‪.‬‬‫من ذلك املكان ّ‬ ‫�أعمى وال �أب�رص‬
‫‪ r‬ما كانت النتيجة ؟‬ ‫�صحيح �أ ّنني مل �أر الأر�ض ولك ّنني‬
‫ر�أيت كفايتي يف الأعايل‪. .‬‬
‫بالفن بل بامل�رشوع فقد‬
‫ّ‬ ‫‪� n‬أ�صبت ببع�ض الف�شل لي�س‬
‫دانتي ‪� :‬أجل قر�أتك ولكن ا�ستعرت « �آلة ال�شكّ » لأ�صعد‬
‫عربية منها الأردن والكويت و�سوريا‬ ‫عر�ضت بع ّدة بلدان ّ‬ ‫�إىل حيث �صعدت �أنت و�أرى ما ر�أيته‪ .‬لك ّنني ما التقيتك‬
‫وفل�سطني وطبع ًا لبنان الّذي هو الأ�سهل‪� .‬أح�س�ست ب�أن‬
‫ال يف اجلحيم وال يف الفردو�س‪ .‬ربمّ ا ما زلت يف املطهر‬
‫علي‪.‬‬
‫الفكرة مل ت�صل مل يفهموا ّ‬ ‫أل ّنك االلتبا�س بح ّد عينه‪� .‬ساحمك اهلل‪. . .‬‬
‫‪ r‬ماذا تق�صد بـ مل يفهموا عليك‪ ،‬رغم أ� ّن الفن التجريدي‬ ‫�شم�س ال ّدين ‪ :‬بعد انتظاري املم ّل ملو�سم املطر‪ ،‬تركتهما‬
‫مرغوب يف الثقافة اخلليج ّية والعرب ّية �أكرث من غريه‬ ‫مع ًا يف ظ ّل �شجرة الغار ودخلت حمرتيف لأنظر يف �أمري‬
‫من االتجّ اهات الفن ّية ؟‬ ‫القطنية البي�ضاء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ر�سمت يداي على امل�سطّ حات‬ ‫وما ّ‬
‫‪ n‬نعم لكن ف ّني التجريدي �أدخلت عليه الكتابة والكتابة‬ ‫حممد‬ ‫ونحن بدورنا دخلنا �إىل حمرتف الف ّنان الت�شكيلي ّ‬
‫مبعنى ال�شكل الكتابي كت�شكيل ولي�س كتخطيط ففُهم‬ ‫�شم�س ال ّدين لندرد�ش يف الفن و�أم��وره الغائبة �أغلب‬
‫على �أ ّن��ه خ��طّ ‪ .‬مل �أح� ّ�ب ذل��ك ف�أنا �أكتب ب�شكل عفوي‬ ‫ونتعمق مبا �آلت �إليه ظروف الفن‬ ‫ّ‬ ‫الأحيان عن النا�س‬
‫وع�شوائي‪� .‬أحب اخلرب�شة و�إدخالها على لوحتي كما‬ ‫والف ّنان بعاملنا العربي والعامل‪.‬‬
‫هي بطفولتها وهذه رغبة وعادة لدي منذ الطفولة ح ّتى‬ ‫دمر العامل ويعيد �صياغته‬ ‫اختار الر�سم التجريدي ُلي ّ‬
‫�أن �أحد الأ�ساتذة يل حني كنت �أتابع درا�ستي يف فرن�سا‬ ‫ف ُهزم هو وجيله الداعي للتغيري وعاد �أدراجه للواقع ف ّن ًا‬
‫وقد �شاهدين �أكتب‪ ،‬قال يل �أنت تظن نف�سك تكتب لكن‬ ‫املرة فدار بلوحته ي�شحذ لقمة العي�ش‬ ‫علّه ي�صيب هذه ّ‬
‫ولك ّنه �أ�صبح �أ�ستاذ‪.‬‬
‫‪ r‬الفنّان حممد �شم�س ال ّدين‪� ،‬أين �أنت من الفو�ضى‬
‫العارمة املخ ّيمة على الف ّن بالعامل فكل املدار�س‬
‫والت ّيارات الفن ّية �أ�صبحت متداخلة بع�ضها البع�ض؟‬
‫فن بت�رصّ فاتي و�أكلي‬ ‫‪ n‬الفن �أنا �أعي�شه فحياتي كلّها ّ‬
‫وم�رشبي‪ ،‬عالقاتي مع الآخرين من زوجتي و�أوالدي‬
‫أكادميي ًا‬
‫ّ‬ ‫و�أ�صدقائي ومن حويل وكل �شيء‪� .‬أنا ل�ست رج ًال �‬
‫تيار ف ّني وح ّتى �سيا�سي ف�أنا‬ ‫وال �أ�ستطيع االرتباط ب� ّأي ّ‬
‫بحياتي مل �أنتم �إىل حزب �سيا�سي على �سبيل املثال مع‬
‫يحجمني‬ ‫متطرف‪ .‬مل �أرتبط لأن االرتباط ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أ ّنني ي�ساري‬
‫أيدولوجية‬
‫ّ‬ ‫ويجعلني جم�براً على ال� ّدف��اع عن �أفكار �‬
‫بالفن مل �أ�ستطع ذلك فقد �سبق ودافعت‬ ‫ّ‬ ‫حم ّددة‪ ،‬ح ّتى‬
‫‪177‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املر�أة �أر�سمها بطريقة وك أ� ّنني �أكتبها‪� ،‬أر�سم ك�أ ّنني �أكتب‬ ‫باحلقيقة �أن تر�سم من خالل احلرف ون�صحني �أن �أتابع‬
‫فتاريخي ًا عائلتي‬
‫ّ‬ ‫جملة �أو ق�صيدة‪ ،‬هذه هي ثقافتي‬ ‫ذلك‪.‬‬
‫�شم�س ال ّدين هي عائلة �شعراء‪ .‬منذ طفولتي وعيت على‬ ‫‪ r‬ت�أكيداً على أ�نّك ت�ستعمل الكتابة كعن�رص من عنا�رص‬
‫مكتبتنا الّتي هي مكتبة �أدب و�شعر وتاريخ وفقه‪ ،‬هذا‬ ‫لوحتك‪ ،‬ف�أنت تكتب �أحيان ًا �أ�شياء غري مفهومة وتعطيها‬
‫ما هي عليه مكتبة الأب واجل� ّد والعائلة ب�أكملها‪ .‬ال‬ ‫مكانها املك ّمل للعمل الت�شكيلي وهذا ما بدا وا�ضح �أكرث‬
‫هويتي ثقافتي وكما قلت‬ ‫�أ�ستطيع اخلروج منها هي ّ‬ ‫يف معر�ضك الأخري‪� .‬ألي�س كذلك ؟‬
‫لك �سابق ّا هذا ما ن�صحني به �أ�ستاذي الفرن�سي الّذي ال‬
‫‪ n‬بال�ضبط هذا ما �أري��ده هو �شكل اخلطّ ولي�س معنى‬
‫العربية فحني ر�أى خطّ ي ر�آه ر�سما ولي�س كتابة‬ ‫ّ‬ ‫ي ّتقن‬
‫ون�صحني �أن �أر�سم بهذه الطريقة‪.‬‬ ‫العاملية‬
‫ّ‬ ‫الكلمات وهذا �شيء موجود الآن يف الّلوحة‬
‫�أبحث عن مفتاح لأجذب املتل ّقي‬ ‫فهناك من يدخل الكتابة واخلرب�شات يف عمله وال‬
‫يل‬
‫وب�صمة ت�شري �إ ّ‬ ‫يطلقوا عليها فن التخطيط �أو الكتابة‪ ،‬بينما يف عاملنا‬
‫ي�رصون على تلك الت�سمية ويخطر على‬ ‫ّ‬ ‫العربي ال يزالون‬
‫‪ r‬ط ّيب «حم ّمد �شم�س ال ّدين» بكل الأحوال حني تر�سم‬ ‫العراقية الّتي �أُدخل �إليها‬ ‫بالهم مقارنة لوحتي بالّلوحة‬
‫ّ‬
‫وت�ضع بع�ض الكتابات بلوحتك ب�شكلها الت�شكيلي‬ ‫اخلطّ ب�شكل �أ�سا�سي ويعتربون لوحة اخلطّ قد انتهت‬
‫ورغم �أنّك تن�سبها ل�شاعر �أو كاتب معينّ فاملُ�شاهد‬ ‫و�أ�صبحت مو�ضة قدمية وهم يريدون ما هو حديث ومن‬
‫ربا‬
‫ال يفهم هذه الكتابة فلم الإ�شارة �إىل الكاتب �أو مّ‬ ‫يتكلّم بهذا ال�شكل ال يفهم من احلداثة �شيئاً‪.‬‬
‫الق�صيدة غري املفهومة ؟‬
‫علي و�ضع مفتاح ما كي �أجذب‬ ‫‪� n‬أ�شعر حني �أر�سم �أن ّ‬
‫املخزون �أدب و�شعر‬
‫املتل ّقي واملفتاح هو الكتابة‪ .‬يقف امل�شاهد �أمام الّلوحة‬ ‫‪ r‬حممد �شم�س ال ّدين �أنت �آت من خلف ّية ثقاف ّية �أدب ّية‬
‫ويحاول قراءة ما كُ تب فال يفلح بذلك كونها ُجمل غري‬ ‫ُ‬ ‫�أال جتد ح ّبك وتعلّقك بالكتابة � ٍآت من هذا املكان‪ .‬كيف‬
‫ُربع املكتوب فال يفهم �شيئ ًا وذلك‬ ‫وا�ضحة ينظر �إىل امل ّ‬ ‫توظّ ف �أو تربّر ذلك ت�شكيل ّي ًا ؟‬
‫عما �أق�صده‪ ،‬حني ال يجد جواب يلج أ� �إىل‬‫يجعله يت�ساءل ّ‬
‫الّلوحة باحث ًا عنه‪( .‬يبت�سم) إ� ّنه مفتاح ذكي لأ�ش ّد من‬ ‫‪ n‬طبع ًا �أنا �آت من املكان الأدبي و إ� ّنني �أي�ض ًا قارئ‬
‫خالله امل�شاهد املتعلّق بالّلغة فيدخل حينها �إىل الّلون‬ ‫ج� ّ�ي��د‪ .‬ت�شغلني الفكرة وال �أع���رف الر�سم دون فكرة‬
‫وال�رشقية هي ثقافة‬ ‫العربية‬ ‫ونحن كلّنا نعلم �أن الثقافة‬ ‫حتركني وجتعلني �أدخل �إىل الّلوحة‪ .‬يف معر�ضي الأخري‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لغة ولي�ست ثقافة عني ولون‪.‬‬ ‫املعري ودانتي ودخلت بحالتهما‪.‬‬ ‫ركّزت بقراءاتي على ّ‬
‫‪ r‬هل هي ب�صمتك الف ّن ّية‪ ،‬يعرفها املتلقّي يف لوحتك‬ ‫‪� r‬أين وب�أي معنى دخلت بحالة املعرّي ودانتي ؟‬
‫قبل �أن يقر�أ توقيعك ؟‬ ‫‪ n‬يف ال ّنهاية هناك ن�صّ جميل ي��أث��رك‪ ،‬مث ًال حني‬
‫‪ n‬نعم هي كذلك‪.‬‬ ‫�أدخلوين �إىل العامل الآخ��ر‪ ،‬اجل ّنة واجلحيم واملطهر‪.‬‬
‫متخيل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هناك من �رشح جميل لعامل‬
‫�أحالم انك�سرت وامر�أة عارية‬ ‫‪ r‬لكن هذا الكالم هو كتابة وتخ ّيل‪ .‬كيف يط ّبق‬
‫‪� r‬أنت بعد �أن كنت جتريد ّي َا جئت �إىل الو�ضوح بلوحتك‬ ‫ت�شكيلي ًا؟‬
‫فر�سمت الطبيعة بواقع ّية‪ .‬ما الّذي خطر ببالك ؟‬ ‫تتحول ر�سم ًا �إىل‬
‫ت�شكيلي ًا ربمّ ا و�أنا �أكتب كلمة الرب ّ‬
‫ّ‬ ‫‪n‬‬
‫‪ n‬ع��دت �إىل الو�ضوح لأ ّن��ن��ي تخلّ�صت من قناعاتي‬ ‫�شجرة �إىل ع�صفور‪ .‬وغري ذلك ح ّتى حينما �أقوم بر�سم‬
‫‪178‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫نر�سم لوحة متح ّفية ولي�س هناك من‬ ‫ال�سيا�سية القدمية الّتي انهزمت‪ .‬انهزمنا و�ضاعت‬ ‫ّ‬
‫متحف‬ ‫الي�ساريني �أت��ب��اع تروت�سكي‬
‫ّ‬ ‫�أح�لام��ن��ا نحن جيل‬
‫عما هو تقني‪ ،‬كيف تختار املا ّدة الّتي‬ ‫وال�رسيالية الّتي مت ّثلت بال�شاعر بروتون وغريه‪ . .‬كان‬
‫ّ‬
‫‪-‬لنتكلّم قليال ّ‬
‫الزيتية ومن ثم‬ ‫ت�ستعملها فبعد �أن ر�سمت بالألوان‬ ‫حلمنا هو تدمري العامل مبعنى تدمري التقليد وما هو‬
‫ّ‬
‫املائية ؟‬ ‫الأكريليك انتقلت �إىل الألوان‬ ‫متحفي‪ .‬كل ه�ؤالء الثوريني ما عاد لهم من مكان بهذا‬
‫ّ‬
‫‪ n‬املا ّدة نختارها ح�سب حاجتنا �إليها فال�شعور ربمّ ا‬ ‫العامل‪ّ � ،‬أما �أنا فكنت �أعتقد ب�أن التجريد جزء من هذه‬
‫يكون بالر�سم على القما�ش �أو الكرتون القطني �أو غريه‬ ‫الأفكار‪.‬‬
‫كما �أن رائحة الألوان املعتاد عليها تلعب دور‪ ،‬وهناك‬ ‫‪-‬لكن هناك ر�أي مخُ الف يقول ب�أن الفن التجريدي هو‬
‫�صحي ًا كما ّدة الزيت فامتنعت‬ ‫بع�ض املواد التي ت�ؤذي‬ ‫ملن ال يريد �أن يقول �شيء �أ�ص ًال ؟‬
‫ّ‬
‫من قبل الطبيب عن ا�ستعمالها ال �أعرف �أختار ما ي�ش ّدين‪.‬‬ ‫‪ n‬قلت لك انهزمنا والآن بع�رص الإنرتنت �أ�صبح العامل‬
‫مفتوحا على بع�ضه و�أ�صبحت الكلمة الّتي نكتبها ت�صل‬
‫‪ r‬الطاغي على الفن حال ّي ًا هو التقن ّيات �أكرث من الفكرة‬ ‫�رسيع ًا مل يعد هناك من �أفكار مغلقة ومل نعد بالفن‬
‫�أو حتّى الت�أليف ب�شكل عام‪ .‬ما ر�أيك ؟‬ ‫املهم �إي�صال‬ ‫ن�ستطيع االنتماء �إىل مدر�سة حم � ّددة‪،‬‬
‫ّ‬
‫متحفية بالعمل الف ّني ف�أي لوحة‬ ‫ّ‬ ‫‪ n‬مل يعد هناك من‬ ‫الفكرة ب�شكل �أو ب�آخر ربمّ ا باملنظر الطبيعي �أو باخلطّ‬
‫ت�ستطيعني �إجنازها وطبعها ون�رشها �أينما كان‪ .‬هناك‬ ‫أعب عن الثورة ب�أن‬‫�أو ب� ّأي �شيء �آخر‪� .‬أنا عرب الإنرتنت � رّ‬
‫تقنيات كثرية ممكن �أن تخرب بعد � ّأيام �أم‬ ‫من ي�ستعمل ّ‬ ‫�أر�سم‬
‫ب�ضع �سنوات �أو �أ�شهر مل يعد ذلك مهما ‪.‬‬ ‫�إمر�أة عارية‪.‬‬
‫‪ r‬ح�سن ًا ما �أهم ّية ذلك ؟‬ ‫‪-‬ما دخل العري بالثورة ؟‬
‫بامل�شهدية املبا�رشة‪ ،‬مثل العمل ال�سينوغرايف‬ ‫أهميتها‬ ‫واحلرية بال�سيا�سة‪ .‬ما هي �إ ّال خدعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪� n‬أربط العري‬
‫ّ‬ ‫‪ّ �n‬‬
‫امل�رسحي ا ّل��ذي كان يل جتربة معه‪ ،‬فهو ينتهي مع‬ ‫لعبة‪.‬‬
‫انتهاء العمل امل�رسحي وال يبقى �سوى ال�صور‪ .‬هو عمل‬ ‫‪-‬لكن �أ�صبح ذلك ُي�شبه املو�ضة فكل من �أراد التعبري عن‬
‫ف ّني �أي�ضاً‪.‬‬ ‫�أي موقف فال يجد بطريقه �إ ّال العري واملر�أة‪ .‬هذا �شيء‬
‫لي�س مقنع ًا كربط ؟‬
‫‪� n‬أنا �أقدم العري دون جن�س‪.‬‬
‫‪-‬وهل �أنت مت�أكّد ب�أن هذه هي الثورة ؟‬
‫‪ n‬ال‪ ،‬ولكن �أحيان ًا لي�س بامكانك قول �شيء �آخر ولك ّنني‬
‫ال �أكتفي بذلك‪ ،‬ربمّ ا �أر�سم ع�صفورا �أو رجال �أو �أي �شيء‪.‬‬
‫الواقعية يف التعبري‪. .‬‬
‫ّ‬ ‫‪� .‬أق�صد‬
‫‪�-‬أال جتد ذلك‪� ،‬إفراطا يف املبا�رشة والتف�سري وح ّتى‬
‫االبتذال؟‬
‫‪ n‬هذا فقط يف الأنرتنت كطريقة يف تقريب الأمور مث ًال‬
‫كق�ص�ص كليلة و ُدمنة �أو �ألف ليلة وليلة‪� . .‬أنت ت�ستعني‬
‫ب�أفكار �أخرى لتمرير موقف �سيا�سي �أو حتى جمايل‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫لدى بع�ض املافيات من �أ�صحاب �صاالت العر�ض الّذين‬ ‫‪� r‬أنت يف حوايل �آخر خم�سة معار�ض لك تُدخل يف‬
‫ي�شرتون جمموعة �أعمال لف ّنانني مبتدئني ب�أ�سعار‬ ‫معر�ضك �إىل جانب الّلوحة عم ًال تركيب ّي ًا والآن يف‬
‫بخ�سة ويعملون على ت�سويقها ويرفعون �أ�سعارها‬ ‫العامل �أ�صبح هذا الفن هو الطّاغي‪ ،‬ما ر�أيك بذلك ؟‬
‫يبخ�سون‬
‫فريبحون الأموال الطائلة‪ ،‬ويف الوقت نف�سه ّ‬ ‫متحفية‪ ،‬انتهت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ n‬قلت مل يعد هناك من لوحة‬
‫ب�أعمالنا الّتي لو بيعت ب�أ�سعار مرتفعة فالفائدة لن‬
‫‪ r‬ولكن هناك �آراء تقول العك�س وب�أن الّلوحة لن متوت‬
‫لنيتهم‬
‫تعود عليهم بل على �آخرين وهكذا‪ .‬بالإ�ضافة ّ‬ ‫وما يجري الآن ما هو �إالّ �رصعة و�ستنتهي ؟‬
‫الفنية‪ ،‬فالّلوحة تعترب وثيقة للبلد‬
‫ّ‬ ‫بتخريب الوثائق‬
‫‪ n‬كيف ذلك قويل يل ويف بلدي لبنان لي�س هناك من‬
‫معينة‪،‬‬
‫فنية يف فرتة ّ‬
‫طلُعت يف وقت معينّ حتكي مرحلة ّ‬ ‫طيب �أنا‬
‫العربية �أي�ضاً‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫متحف واحد للفن ومعظم الدول‬
‫يريدون تخريب الوثائق‪.‬‬
‫�أر�سم الّلوحة �أين �سيكون م�صريها يف فرن�سا �أو اليابان‬
‫‪ r‬من يحمي الف ّن والفنّان ؟‬ ‫مث ًال ؟‬
‫‪ n‬نحن غري حمميني‪ ،‬مث ًال حني جاء الرئي�س احلريري‬
‫‪ r‬ولكن العمل الرتكيبي زائل �أي�ضاّ ؟‬
‫�إىل لبنان وبعيداً عن املوقف ال�سيا�سي‪� ،‬ض ّد �أو مع‪ ،‬لكن‬
‫‪ n‬نعم و�أنا ل�ست �ض ّد الّلوحة ولكن ربمّ ا �سيكون م�صريها‬
‫حني �أعاد �إعمار و�سط املدينة مل ُين�شئ �أي �رصح ثقايف‬
‫كم�صري باقي الفنون كامل�رسح وال�سينما ال ي��زاالن‬
‫�أو ح ّتى �صالة عر�ض واحدة مع العلم �أنه قبل ذلك كان‬
‫موجودان لكن ما هي ن�سبة امل�شاهدين الّذين ُيتابعون‬
‫هناك ع ّدة �صاالت عر�ض ن�شيطة ت�شرتي الأعمال من‬
‫ويهتمون بهذه الفنون ومنهم الفن الت�شكيلي‪.‬‬‫ّ‬
‫الف ّنانني‪.‬‬
‫لوحتي يف متحف بريطاين لغر�ض خبيث‬
‫‪ r‬ولكن بع�ض هذه ال�صاالت ما زالت موجودة ؟‬ ‫يريدون تخريب الوثائق‬
‫تغي ومل يعد با�ستطاعتهم �رشاء �سوى‬ ‫‪ n‬لكن الو�ضع رّ‬ ‫الفنية من �أقا�صي‬
‫ّ‬ ‫�سيا�سيو بالدنا ي�شرتون الأعمال‬
‫عدد حمدود ج ّداً من الأعمال ومل �أعد �أ�ستطيع الدخول ال‬ ‫العامل با�ستثناء بالدنا‬
‫�أنا وال غريي من الف ّنانني‪ ،‬بينما حني ُر مّم فندق فيني�سيا‬ ‫‪ r‬ماذا تقول عن البور�صة العامل ّية والأموال الّتي ما‬
‫ا�شرتى رئي�س احلكومة نف�سه لوحات من �إيطاليا بخم�سة‬ ‫زالت تدفع على �رشاء الّلوحة ؟‬
‫ماليني دوالر ومل ي�شرت لوحة واحدة من ف ّنان لبناين �أو‬
‫‪ n‬كل هذا هدفه تبيي�ض الأموال طاملا هناك �رضائب‬
‫ح ّتى عربي‪ ،‬وال لوحة واحدة‪.‬‬
‫مفرو�ضة على �أ�صحاب الأموال فهم ُيف ضّ� لون �رشاء عمل‬
‫�سيا�سي ًا‬
‫ّ‬ ‫فيما بعد �أتى �إىل لبنان من هو �ض ّد ذاك الرئي�س‬
‫ف ّني ت�ستثمر فيه �أموالهم بد ًال من دفعها على ال�رضائب‪.‬‬
‫وافتتح فندق �آخر ( املوفن بيك) فا�شرتى من ال�صّ ني‬
‫تب ًا لهم فلي�شرتوا �إن �أرادوا جزءا‬
‫لوحات مبليوين دوالر‪ّ . .‬‬ ‫‪ r‬كيف تُ�صنّف الأعمال الّتي تنزل بالبور�صة علم ًا �أن‬
‫من اخلارج وليخ�صّ �صوا اجلزء الآخر من املبلغ ل�رشاء‬ ‫خا�صة حني تكون‬ ‫هناك �أحيان ًا تقديرات غري منطق ّية ّ‬
‫�أعمال من فنانني حملّيني‪� .‬أهذا �صعب �إىل هذه الدرجة‬ ‫الأعمال للمبتدئني باملجال الفنّي ؟‬
‫؟!‪. .‬‬ ‫‪� n‬س�أقول لك حادثة جرت معي منذ فرتة‪ .‬علمت �أن‬
‫‪ n‬بكل الأحوال هو قانون متعارف عليه ببالد العامل‪،‬‬ ‫هناك لوحتني يل موجودتان يف �أحد املتاحف يف لندن‪،‬‬
‫� ّأي دعم الف ّنانني املحلّيني بالفر�ض على امل� ّؤ�س�سات‬ ‫فرحت لذلك ولكن بعد فرتة من البحث والتدقيق ع ِلمت‬
‫واحلكومية �رشاء الأعمال الف ّن ّية لدعم الف ّنان‬
‫ّ‬ ‫الكبرية‬ ‫ب�أ ّنها ال ُتباع فقد ُعر�ضت مببلغ رخي�ص ج ّداً وب�أق ّل‬
‫وللإعالء من �ش�أن الفن يف البالد‪ .‬كذلك بال ّن�سبة للفنون‬ ‫من �سعري املعروف وذلك ل�رضب لوحتي غري املتو ّفرة‬
‫‪180‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حـــوار‪ ..‬حـــوار‪ ..‬حـــوار‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫‪� n‬أنا �أتوا�صل مع ف ّنانني كرث يف العامل ومع �أ�صدقاء‪.‬‬ ‫وامل�رسحيات وغريه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الأخرى ك�إنتاج الأفالم‬
‫�أق��وم بعر�ض �أعمايل وبعت البع�ض منها من خالل‬ ‫‪� n‬أتعلمي‪� ،‬أنا �ض ّد النظام ال�سوري لكن ما من ف ّنان‬
‫جيدة لالنت�شار‪� .‬أحيان ًا �أعيد‬
‫االنرتنت وهي طريقة ّ‬ ‫مادية �إ ّال و�أخذ لوحتني من‬ ‫�سوري كان ُيعاين من �أزمة ّ‬
‫�صياغة بع�ض �أعمايل بطريقة خمتلفة بالفوتو �شوب‬ ‫�أعماله �إىل نقابة الف ّنانني ُليخربهم بو�ضعه في ّت�صل‬
‫أحب‬
‫كما �أين �آتي ب�صور �أركّبها و�ألعب بها كما �أرغب‪ّ � .‬‬ ‫ويعلمهم �أ ّنه‬
‫النقيب بدوره �إىل � ّأية وزارة من الوزارات ُ‬
‫تو�صيل �أفكاري عن طريق (الفاي�س بوك) ولكن لي�س‬ ‫�سيبعث لهم بلوحتني لي�شرتوهما‪ ،‬وه��ذا ما يتح ّقق‪،‬‬
‫حرية‪.‬‬
‫بطريقة مبا�رشة �أقول ما �أنا عليه بكل ّ‬ ‫�أر�أيت رغم �أ ّننا ننتقده كنظام وكذلك نه�ض بالدراما‬
‫‪ r‬يف النّهاية‪ ،‬هناك فنّانون كبار يف لبنان حني رحلوا‬ ‫ال�سورية وغريها من �أمور‪.‬‬
‫ّ‬
‫اندثرت �أعمالهم واختفت طبع ًا بغياب املتحف‪ ،‬كيف‬ ‫‪ r‬هل هذا الو�ضع له عالقة بحجم الّلوحة ؟‬
‫�ستحفظ لوحتك من االندثار ؟‬ ‫‪ n‬طبع ًا ففي �سوريا والعراق ُعرف ف ّنانيها بر�سم الّلوحة‬
‫‪ n‬يف كتاب وهذا ما بد�أ يقوم به عدد من الف ّنانني يف‬ ‫تتحمل �رشاءها‪ّ � .‬أما يف‬ ‫ّ‬ ‫كبرية احلجم لأن امل� ّؤ�س�سات‬
‫لبنان‪ ،‬حفظ �أعمالهم بالكتب والكتالوجات وكما قلت‬ ‫لبنان فالّلوحة �صغرية �إ ّنها لوحة ال�صالون يقتنيها من‬
‫لك عن طريق الإنرتنت‪ ،‬ولتندثر الأعمال ف�أنا �أمتتع‬ ‫ي�ستطيع �رشاءها � ّأما لوحة الف ّنان العراقي «جواد �سليم «‬
‫بالر�سم الآن‪.‬‬ ‫فكان قيا�سها يرتاوح بني الع�رشة والع�رشين مرتا‪ .‬ملاذا‪،‬‬
‫‪ r‬ما ر�أيك بالناقد الفنّي يف لبنان هل ُي�ساعد بتقريب‬ ‫تتحمله ال ّدولة وامل� ّؤ�س�سات الكبرية‪.‬‬
‫لأن هذا القيا�س ّ‬
‫الفنّان من املتلقّي ؟‬ ‫يف لبنان هناك �سعر حم � ّدد ومتوا�ضع ل�رشاء لوحة‬
‫من قبل الدولة وعلى الف ّنان دفع ال�رضيبة‪ .‬وهناك‬
‫‪ n‬الناقد الت�شكيلي يف لبنان غري موجود ف��إن كان‬
‫�شيء خطري يجري يف لبنان‪ ،‬فالّلوحات الّتي بحوزة‬
‫بالفن ي�رشح ما يراه للف ّنان وحني يكتب‪ ،‬يكتب‬ ‫ّ‬ ‫يعرف‬
‫الدولة �أ�صبح ن�صفها مفقودا وم�رسوقا والباقي يف‬
‫أحب‬
‫وي�شخ�صن الأمور‪� ،‬إن � ّ‬ ‫متجرد ُ‬
‫ّ‬ ‫ما ينا�سبه فهو غري‬
‫امل�ستودعات ُمه ّدد بال ّتلف‪.‬‬
‫حبه ي�شتمه وهناك �آخر مي أل فراغا‬ ‫الف ّنان ميدحه و�إن مل ّي ّ‬
‫مهنيا ويف �أبعد تقدير يقت�رص دوره بتغطية املعر�ض وال‬ ‫الفن متعة ول�ست نادماً‬
‫ّ‬
‫الت�شكيلية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التعمق بال�رشح الفتقاره �إىل الثقافة‬‫يعرف ّ‬
‫‪ r‬حم ّمد �شم�س ال ّدين‪ ،‬كيف تد ّبر �أمورك وهل �أنت نادم‬
‫الختيارك الف ّن ؟‬
‫‪ n‬ال ل�ست بنادم‪ ،‬حياتي هي الفن ّ‪ .‬كنت �أعي�ش ب�ضيق‬
‫كال�شحاذ كي‬
‫ّ‬ ‫�شديد لدرجة �أن �أحمل لوحتي و�أدور بها‬
‫�أبيعها لأعي�ش كما �أ ّنني ا�شتغلت بت�صميم الكتب‪ ،‬لكن‬
‫منذ �سنتني مت تفريغي ك�أ�ستاذ جامعي فارحتت من هذه‬
‫م�ضطراً ب�أن �أبيع لوحتي‪ .‬الآن �أنا �أر�سم‬
‫ّ‬ ‫املعاناة ومل �أعد‬
‫مبتعة مطلقة وبقناعة‪.‬‬
‫‪ r‬نحن نعلم ب�أنّك ن�شيط على موقع التوا�صل االجتماعي‬
‫(الفاي�س بوك) تعر�ض �أعمالك و�أحيان ًا تعيد �صياغتها‬
‫عن طريق الرتكيب والتل�صيق و�أ�شياء �أخرى‪� .‬أخربنا ؟‬
‫‪181‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‬

‫جامع ال�سلطان قابو�س الأكرب ‪ -‬م�سقط‬

‫‪182‬‬
‫حممد مكية‬
‫خطاب م�ؤثر‪ ،‬ومنجز �شاخ�ص‬
‫علـــي ثوينــي‬
‫معماري عراقي مقيم يف �ستوكهومل‬

‫نقرتب هذا العام من قرن على عمر‬


‫الدكتور حممد مكية ‪ ،‬وهو يعي�ش مغرتب‬
‫الروح والوطن‪ .‬حيث ولد يف بغداد عام‬
‫‪ 1914‬و�شهد �أفول �أربعة قرون عجاف‬
‫من الهيمنة العثمانية‪ ،‬وتلم�س ن�شوء‬
‫العراق اجلديد على يد الإجنليز عام‬
‫‪ ، 1921‬فعا�ش وعاي�ش انتقال احلياة‬
‫من حال اىل حال‪ ،‬مبا جعله يردد يف‬
‫جمال�سه ب�أنه مل يع�ش قرنا بل ع�رشة‬
‫قرون‪ ،‬بح�سب كم وكيف املتغريات التي‬
‫عاي�شها منذ بغداد القرون الو�سطى حتى‬
‫�أزمنة االت�صال واالنرتنت‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تتداخل مع م�صلحة مدينتهم‪ .‬ومن هنا جاءت فكرة‬ ‫فبعد رحلة طويلة من احلل والرتحال ‪ ،‬عاد مكية‬
‫ن�رش كتاب توعوي مت توزيعه على جميع بيوت املنطقة‬ ‫�أدراجه اىل لندن التي كانت قد ا�ستقبلته �أول مرة‬
‫املراد �إعادة ت�أهيلها‪ .‬وذلك ( ليعرف كل منهم حدوده‬ ‫العام ‪ ،1935‬حينما كان مبعوثا للدرا�سة يف �أول‬
‫وما ينبغي �أن يعمله يف داره وما قيمة االلتزام لهذا‬ ‫بعثة مو�سعة للدولة العراقية لربيطانيا‪.‬ثم عودته‬
‫الربنامج الذاتي الذي مت �ضبط �آلياته مبجموعة من‬ ‫منها عام ‪ ،1946‬حيث عمل يف دوائر الدولة‬
‫الت�رشيعات التي �ألزمت التقيد بها)‪ ..‬وهذا يفيد يف‬ ‫العراقية‪ ،‬ثم �أ�س�س كلية العمارة يف جامعة بغداد عام‬
‫الف�صل بني العام واخلا�ص ور�سم احلدود بينهما‬ ‫‪ ،1959‬و�شارك يف �إر�ساء خطاب عمراين ومعماري‬
‫من خالل �آلية ت�رشيعية‪ .‬وقد تكون لتلك الت�رشيعات‬ ‫حملي واقعي‪� ،‬أحبط تباعا ‪ ،‬حينما تقاذفته �رصاعات‬
‫نتائج باهرة عندما توفر بالنتيجة �أرا�ضي يف�ضل يف‬ ‫االنقالبات وهم�شته مناخات ال�سيا�سة‪ ،‬فا�ضطر‬
‫عدم الإ�ستثمار بها‪ ،‬ووجد ذلك يف بع�ض مدن اخلليج‬ ‫مكره ًا اىل ترك العمل الأكادميي ب�سبب الت�سيي�س‬
‫واجلزيرة التي ميكن ا�ستثمارها ب�إر�ساء م�شاريع البنية‬ ‫لهذا املجال احليوي عام ‪� ، 1971‬ضمن نخبه كبرية‬
‫التحتية كامل�ساحات اخل�رضاء واملتاحف واملراكز‬ ‫من الفاعلني امل�ؤثرين يف الثقافة العراقية‪ .‬فهاجر‬
‫الثقافية واملكتبات وامل�شاريع النفعية التي ت�صب‬ ‫اىل اخلليج وبريوت ثم لندن‪.‬‬
‫بالنتيجة يف ال�صالح العام بعد ما يتم احلث على‬ ‫و�أهم حمطات مكية وجتاربه اخلارجية ‪،‬كانت مدينة‬
‫ذلك ب�إلغاء ال�رضيبة عليها و�إعطاء بع�ض االمتيازات‬ ‫م�سقط التي عمل فيها م�ست�شارا جلاللة ال�سلطان‬
‫لأ�صحابها‪ .‬ويلعب الإعالم دوراً جوهري ًا يف حيثيات‬ ‫قابو�س بن �سعيد املعظم يف بداية عقد ال�سبعينات‪،‬‬
‫مل ّكيه جتربة غنية يف م�سقط حينما �شهد‬ ‫ذلك امل�سعى‪ .‬و َ‬ ‫بعدما كانت املفا�ضلة حم�صورة بينة وبني امل�رصي‬
‫التح�ضري لثالثة جتمعات �سكنية �شعبية التقى خاللها‬ ‫املرحوم ح�سن فتحي(‪ ،)1989-1899‬ويبدو �أن لذلك‬
‫ب�أهايل املدينة ومت خاللها حث اجلميع وت�شجيعهم‬ ‫الأمر دالالته يف املنحى الرتاثي الذي خطته ال�سلطنة‬
‫على التفكري بحا�رض وم�ستقبل مدينتهم التي تهمهم‬ ‫منذ بدايات م�رشوعها املر�سوم بعناية ومبنظور‬
‫وتهم �أجيالهم ال�صاعدة ‪ .‬وتلك الظاهرة تعك�س احل�س‬ ‫واقعي وخطى را�سخة‪ ،‬كون كال املر�شحني نحيا‬
‫احل�ضاري حينما يتداخل فيها احل�س اجلماعي وت�سخر‬ ‫نحو املحافظة و�آثرا الرتاث على احلداثة (ب�سماتها‬
‫معطيات الدرا�سات النف�سية التي جتعل اجلميع يفكر‬ ‫الغربية)‪ .‬وهكذا �شارك يف �أ�س�س تلك النه�ضة التي‬
‫يف اجلميع‪ ،‬وتتداخل م�صلحة الفرد مع اجلماعة ‪.‬‬ ‫�أثمرت تباعا‪،‬وجعلت من امل�رشوع العمراين واملعماري‬
‫وبالرغم من النجاح العام و�أحيانا ال�شكلي لبع�ض‬ ‫العماين دالة للكيا�سة واحلكمة‪�.‬أما احلداثة املنفلته‬
‫امل�شاريع العمرانية واملعمارية‪ ،‬ف�إن َم ّكيه ي�شكو دائما‬ ‫التي توج�ست ال�سلطنة منها ‪ ،‬هي ما دعيت (النموذج‬
‫من عدم حتقيقه لكل ما متناه (رمبا ب�سبب طبيعته‬ ‫ال�سنغافوري) اخلال�سي‪ ،‬الذي جت�سد يف مدائن اخلليج‬
‫احلدية �أو موقف بع�ض الإداريني)‪ ،‬ففي م�سقط مثال‬ ‫عموما ‪،‬وال�سيما يف منوذج مدينة دبي‪ .‬ورغم تنائي‬
‫يقول ب�أنه ا�ستطاع ان ينقذ بع�ض االبنية التي كانت‬ ‫ال�سنني و�سطوة ال�شيخوخة والعزلة‪ ،‬لكن الدكتور مكية‬
‫�آيلة للزوال يف املدينة‪ .‬وي�رصح‪�( :‬إن املعماري مل يكن‬ ‫مازال متوقد الذاكرة واحل�س النقدي‪ ،‬ويحتفظ بالكثري‬
‫حراً فيما يعمله ب�صورة كاملة‪ ،‬ومل تكن لديه احلرية‬ ‫من الذكريات والأفكار وال�صور عن م�سقط وال�سلطنة‬
‫بالقرار‪ ،‬وهكذا مل يكن لدي �إمكانية حتقيق م�رشوع‬ ‫�إبان بواكري نه�ضتها‪.‬‬
‫كامل)‪ .‬وعادة ما يكرر مكية ب�أن املعماري يجب‬ ‫مل ّكيه خالل م�شاركته يف م�رشوع تنظيم مدينة‬‫ت�سنى َ‬
‫�أن يكون متوا�شجا مع جمتمعه والوعي مبتطلبات‬ ‫م�سقط يف بواكريه‪� ،‬أن يطبق فكرة البناء الذاتي التي‬
‫الإن�سان واملجتمع �إحدى متممات الدرا�سة الأكادميية‬ ‫تقوم على �أكتاف �أهل املدينة ممن يجدون م�صلحتهم‬
‫‪184‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫و�إنتمائه الكوين وتفاعله وم�ساهمته املتميزة يف‬ ‫والتقنية‪ ،‬وهذه الآ�رصة ت�شكل جوهر ت�سيري الت�صميم‪،‬‬
‫(املعمورة) كما �أوردها الفارابي‪.‬وب�سبب تقارب �أن�ساق‬ ‫وتتحكم يف واقعيته بتكري�س القيم‪ .‬وهذا يعني �أن‬
‫التوا�صل و�إنتقال املعلومة ال�رسيع و�سال�سة الإقتبا�س‬ ‫انعزال املعمار يف «�صومعة» املكتب هي مثلبة عليه‪،‬‬
‫والإقتناء‪ ،‬جعل من مدنيتنا احلديثة تقت�ضي تفهم لكل‬ ‫ولن�أخذ العربة من (�أ�ساطني‪�-‬أ�سطوات) حرفة البناء يف‬
‫تلك املعطيات من �أجل �إن�شاء مدينة حديثة مبميزات‬ ‫البد للمعمار‬
‫الرتاث وكيا�ستهم االجتماعية‪ .‬وغري ذلك ّ‬
‫حركية (دينامية) متماهية مع الإن�سان واملكان‪.‬‬ ‫من حجة علمية مقنعة ول�سان حق عند احلوارات‬
‫�إن القيم الزمانية موجودة فينا ونتح�س�سها بعواطفنا‬ ‫للدفاع عن �سال�سة الفكرة و �سالمة التنفيذ‪ ،‬ناهيكم عن‬
‫ورمبا نرف�ضها تارة او نتقبلها تار ًة �أخرى‪ ،‬و�إن تهذيب‬ ‫رقة يف التعامل ورف�ض الأنانية والرنج�سية واملزاجية‬
‫هذه العواطف هو �رس كيان احل�ضارة امل�ستمرة املنبعثة‬ ‫والف�ضا�ضة والغال�ضة والطمع والتع�سف‪.‬والبد من‬
‫من وحي الزمان واملكان‪� .‬إن من اخلط�أ االقت�صار على‬ ‫تطوير احل�س النقدي لدى املعمار من �أجل ان يكون‬
‫ر�ؤية الدنيا من خالل ما نراه يف احلداثة‪ ،‬مبا يلغي‬ ‫�شاهد حق على الزوغان والتزوير الذي يقرتفه الأفراد‬
‫«ب�صفاقة» اخلو�ض يف غمار الت�أريخ والرتاث‪ ،‬الذي‬ ‫واجلماعات يف العملية املعمارية‪.‬‬
‫يعده «املتفذلكون» م�ضيعة للوقت واجلهد‪ ،‬وهذا‬ ‫وال بد للمعماري ان يكون مطلع ًا ومرتبط ًا بالبيئة‬
‫ق�رص نظر �رصيح‪� .‬إن درا�سة الرتاث لي�س الإطالع على‬ ‫الطبيعية لي�ؤكد جتذره يف املكان‪ ،‬وهو ما يكر�س‬
‫ق�ص�ص وحكايا (كان ياماكان)‪� ،‬إمنا تنمية وتعزيز‬ ‫متاهيه يف ت�صميماته مع معطياتها‪ ،‬والذي يتداعى اىل‬
‫وت�أكيد لبنى الإن�سان وطاقته‪ ،‬ناهيكم عن �إظهاره‬ ‫نتائج ح�ضارية مق�صودة بكل م�ساعي الب�رش لالرتقاء‬
‫مدى مقا�صده للخري‪ .‬وبذلك فان الرتاث ميثل �سمات‬ ‫باحلياة‪ ،‬وهذا هو �رس بناء احل�ضارات املحلية وما‬
‫الأخالق يف كنف الت�أريخ‪ .‬و�إن التعلم والتثاقف و�سعة‬ ‫التفا�ضل بينها �إال من خالل قربها من التفهم واملواءمة‬
‫الأفق حرية يكت�سبها الإن�سان وحري الت�شبث بها‪،‬‬ ‫مع البيئة الطبيعية ‪ ،‬التي تعد امل�رسح الواقعي ملحك‬
‫العمارة‪ ،‬فبقاء امل�رسح ثابت ًا‬
‫َ‬
‫مع تغري العرو�ض والروايات‬
‫املعرو�ضة ‪ ،‬ي�ؤكد على ر�صانة‬
‫وجوده وحقيقتها‪ .‬فاحل�ضارة‬
‫لي�ست مدعاة للخيالء والتباهي‪،‬‬
‫و�إمنا فل�سفة تتعلق بالقيم‬
‫الإن�سانية ومقا�صد لت�سهيل‬
‫حياة الإن�سان و�إ�ضفاء ال�سعادة‬
‫عليها‪ ،‬وهي لي�ست كيانا ثابتا‬
‫و�رسمديا‪ ،‬حتى لو بقي امل�رسح‬
‫الطبيعي نف�سه‪ ،‬لكن خطها‬
‫التطوري وقابليتها يف املواءمة‬
‫مع امل�ستجدات ب�شكل ع�ضوي‬
‫ي�ضمن لها البقاء حلقب �أطول‪.‬‬
‫وهكذا فق�صة احل�ضارة هي ق�صة‬
‫الإن�سان ذاته‪ ،‬بفطنته وموهبته‬
‫‪185‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫العمارة‬‫�إن التخلف احلقيقي هو ذلك الذي ن�شاهده يف َ‬ ‫وهي تعاك�س احلب�س الذي يفر�ضه اجلهل عليه‪ .‬وهكذا‬
‫العربية املعا�رصة ب�صورة عامة‪ ،‬وال�سيما الأبنية‬ ‫ف�إن التح�ضري حلرية الإن�سان تقت�ضي تثقيفه وتعليمه‬
‫«ال�شعبوية»‪ ،‬وخا�صة يف منطقة اخلليج ب�سبب وجود‬ ‫وتو�سيع مداركه و�إطالعه على الثقافات وحركة الفكر‬
‫جموع العمالة الأجنبية الرخي�صة والوفرية‪� .‬إن اخلليج‬ ‫يف العامل‪،‬كما قال الإمام علي (كرم اهلل وجهه)‪( :‬املرء‬
‫باعتباره ي�شكل �أطراف اجلزيرة العربية والبيئة‬ ‫عدو مايجهل)‪.‬‬
‫ال�ساحلية‪ ،‬قد ن�ش�أت فيه كيانات وقرى لها طابعها‬ ‫ال بد ان تكون هواج�س املعماري مت�صلة باحلدث‬
‫وهويتها‪ ،‬برغم ب�ساطتها‪،‬لكنها نابعة من تقاليد وتراث‬ ‫العاملي ومبجريات احلياة يف بيئته التي ت�ضم يف‬
‫قدمي من�سجم مع الطبيعة وح�س املناخ واالو�ضاع‬ ‫جنباتها ال�سمات الروحية والرتاكمات الت�أريخية‪.‬‬
‫الإجتماعية ب�صورة فذة‪ .‬وهذا هو «كما يعتقد َم ّكيه»‪،‬‬ ‫فتداخل الرتاث واحلداثة الميكن ان يبنى من فراغ‪،‬‬
‫الأ�سا�س للمقومات اال�صيلة لهذا التعاطف بالن�سبة‬ ‫�أو على �أ�س�س مقتب�سة من ثقافات �أخرى خمتلفة يف‬
‫للأبنية و�إ�ستعمال موادها وارتباطها العقائدي «ان‬ ‫بيئاتها طبيعي ًا وب�رشياً‪ ،‬و�سبق لها �أن جربت حتى‬
‫�صح التعبري» ‪ ،‬ذلك لأن الرتاث اال�سالمي قدم وجهة‬ ‫و�صلت اىل احلالة املثلى‪ .‬والميكن اال�ستغراب ب�أن‬
‫نظر عميقة‪ ،‬ومل يفر�ض �شك ًال معيناً‪ .‬فالرتاث اال�سالمي‬ ‫النتائج من ذلك امل�سعى �ستكون �سطحية وهام�شية‪،‬‬
‫حركي (ديناميكي) وتوا�ؤمي‪ ،‬لذا نرى �إختالف‬ ‫دون ريب‪� .‬إن �أي تغيري يف ال�شكل للمدينة الإ�سالمية‬
‫االبنية ب�إختالف مواقعها‪ :‬يف جدة‪ ،‬و�صنعاء‪ ،‬وجند‪،‬‬ ‫التي هي �آخر منتج لعاملنا الوارث لرثاء ال�رشق القدمي‬
‫والبحرين‪ ،‬ويف دبي‪ ..‬حيث نرى اختالفات‪ ،‬ولكن‬ ‫‪ ،‬الميكن ان يكون دون امل�سا�س بامل�ضمون املديني‬
‫�ضمن ايقاعية موحدة‪� .‬صحيح انها �إختالفات‪  ‬مهمة‪،‬‬ ‫بجانبيه الروحي واملادي‪ ،‬وهكذا فان �صنع اال�شكال‬
‫ولكنها ال تخرج على وحدتها املتكاملة(‪.)1‬‬ ‫لغر�ض الإبهار و�إظهار ال�شكالنية ‪� ،‬سوف ميكث بعيدا‬
‫يقول مكية‪�« :‬إن العمران هو قبل كل �شيء انتماء اىل‬ ‫عن حقيقة املبتغى لالرتقاء باحل�س املديني‪.‬‬
‫املكان‪ .‬والواقع اجلغرايف هو امل�رسح الطبيعي للبيئة‪،‬‬ ‫�صحيح ان املدينة جلبت الكثري من اخلريات‪ ،‬ولكن‬
‫وهو �أهم من التاريخ‪ ،‬فالتاريخ ت�صنعه اجلغرافيا‬ ‫الثمن كان باهظ ًا جداً يف بع�ض االحيان‪ ،‬وان املكا�سب‬
‫واملعمار يحدد ت�ضاري�س بيئته‪ .‬لقد �أخرتت لدرا�ستي‬ ‫كانت دون اخل�سارة‪ .‬فاملدينة مل ت�ؤد اىل نه�ضة‬
‫ح�ضارة البحر املتو�سط لأننا نقع جنوبه يف خط‬ ‫ح�ضارية على النطاق املعماري‪ ،‬ومل تتعد امل�س�ألة �أكرث‬
‫اال�ستواء الأفقي من �أطل�س العامل‪ ،‬خلفيتنا حتدها‬ ‫من كونها غزواً فكرياً‪ .‬الذنب «طبعاً» ذنبنا‪ ،‬ولي�س ذنب‬
‫ال�صحراء والبوادي‪ ،‬يف حني حتدنا اجلبال يف ال�شمال‬ ‫امل�ست�شارين العامليني الذين يبيعون لنا الب�ضاعة التي‬
‫وال�رشق‪ .‬وهذا النوع من الت�ضاد والتفاعل �أثرا على‬ ‫يجيدون �صنعها‪� ،‬إنك ال ت�ستطيع �أن تطلب من م�ست�شار‬
‫نوع ال�سلطة يف احل�ضارات القدمية منذ ال�سومريني‬ ‫عاملي �أن يعطيك �أح�سن ما لديه‪ ،‬و ال ت�ستطيع �أن تطلب‬
‫والبابليني والآ�شوريني‪ ،‬فهناك مركزية لنوع هذا‬ ‫من معماري تخرج من معهد معماري �أجنبي ‪ ،‬اال ان‬
‫النظام وعقيدته‪ ،‬بعدما اتخذت �أبعاداً جديدة تختلف‬ ‫يعطيك الفكرة التي تعلمها يف املعهد املذكور‪ .‬لال�سف‪،‬‬
‫عن ا�ستخدام اخلطوط والتزيني عند ال�سومريني‪ ،‬و�إن‬ ‫مل تتح الفر�صة �أمام االخت�صا�صي املحلي �أن ين�ش أ�‬
‫كانت قريبة منها (‪.)2‬‬ ‫على معطيات بيئته ويه�ضم عنا�رصها يف ذات الوقت‬
‫يذهب َم ّكيه اىل �أن العمران يعني التمكن من املوازنة‬ ‫الذي يعرف كيف ي�ستفيد من التكنولوجيا العاملية‬
‫واملالقحة الفذة بني �أربعة معطيات وحاجات هي‬ ‫املعا�رصة التي يف متناول يده‪ .‬لو حدث ذلك لكان‬
‫البيئية والروحية واالجتماعية واالقت�صادية‪ ،‬والميكن‬ ‫لنا �إنتاجنا املت�سم بخ�صائ�ص ومميزات م�ستوحاة من‬
‫الت�ضحية بواحدة من �أجل �أخرى ‪ ،‬التخطيط العمراين‬ ‫البيئة‪.‬‬
‫‪186‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ويطالب َم ّكيه دائما بو�ضع مقايي�س وخطط تنظيمية‬ ‫هو حاجة �إن�سانية وهدف �سعت له الأديان والفل�سفات‬
‫للحفاظ على هوية املدينة دون تعنيف �أو ت�شويه‬ ‫الأخالقية‪ ،‬فهو اليخ�ص قوما بعينهم بقدر كونه‬
‫لفطرتها الأوىل‪ ،‬وذلك من خالل �آليات قانونية‪ .‬ونادى‬ ‫نتاجا �إن�سانيا عاما وع�ضويا‪ .‬وبالرغم من �شموليته‬
‫َم ّكيه بعدم بناء ناطحات �سحاب يف و�سط مدينة جدة‬ ‫فان لذلك حدود تتعلق بالذاتية الثقافية‪ ،‬و�إن ما‬
‫ال�سعودية مثال‪ ،‬لت�شويه جماليات بيوتها القدمية‪ ،‬ويف‬ ‫يوائم جتمع ب�رشيا وبيئيا بعينه الينا�سب �أخرى‪،‬‬
‫مدينة م�سقط حاول َم ّكيه جاهداً �أن الت�شيد مبان �شاهقة‬ ‫فهو جمع لتحليالت مو�ضعية �إجتماعية و�إقت�صادية‬
‫ت�شوه طبيعتها اجلبلية الوادعة‪ ،‬وان ال تتعدى املباين‬ ‫وبيئية و�سيا�سية‪ .‬لذا ت�ستوجب الواقعية يف الطرق‬
‫امل�شادة فيها عن الثالثة طوابق‪ .‬بيد �أن تلك الإقرتاحات‬ ‫وحتا�شى التطور امل�صطنع (التورم) للمدن ‪ ،‬ور�سم‬
‫كان ت�أثريها حمدودا ورمبا �آنيا‪ ،‬حيث يلعب املعماري‬ ‫خطى واقعية وع�ضوية مرتاتبة‪ ،‬تتعلق بطرائق العي�ش‬
‫املنظم والإداري دورا جوهريا يف اتخاذ القرار بح�سب‬ ‫والرزق امل�ستقطب للب�رش‪ .‬ويتج�سد ذلك يف العمليات‬
‫قناعات ‪ ،‬وجند الكثري من املواقف ال�سلبية التي تقرتف‬ ‫اال�ستمالكية بغر�ض االحتفاظ مبنطقة معينة من‬
‫تن�أى عن احل�س الرتاثي والثقايف‪ ،‬حينما يت�رصف‬ ‫املدينة‪ ،‬وعدم اخرتاق التطور احلداثي جلنباتها‬
‫‪،‬وهذا يدعو اىل خلق حمفزات وحالة جذب جتعل‬
‫املعمار كم�أجور �أو رمبا مرتزق ل�صاحب العقار او‬
‫من الإن�سان ي�ستغني عن �أماكن بعينها لالنتقال �إىل‬
‫الأر�ض‪ ،‬في�صمم مباين �ضخمة و�شاهقة على رقعة‬
‫�أخرى ‪ ،‬وت�ضحيته هذه التكون �إال مبقابل وامتياز �أن‬
‫�أر�ض �صغرية مثال‪ ،‬وذلك تبع ًا المالء وقرار مالكها ‪،‬‬
‫يقوم املخطط العمراين باكت�شافها وتكري�سها‪ .‬وهذا‬
‫مبا ميكن ان يعود ت�شويها للبنية العمرانية‪ ،‬التي تبقى‬
‫يتطلب تنظيما جماعيا اقت�صاديا و�إداريا يتنا�سب مع‬
‫�أمانة بعنق املعماري يف الن�صح والتربير والتوجيه‪.‬‬ ‫اهدافها‪ ،‬ومن �ضمنها امل�ؤ�س�سات املالية وامل�صارف‬
‫لدرء الإ�ستغالل االحتكاري الذي يرد طبيعي ًا من �أنانية‬
‫البع�ض‪ ،‬والذي ميكن ان يقو�ض االهداف املرجتاة‪.‬وها‬
‫نحن اليوم غارقون يف هذا امل�ستنقع‪ ،‬حينما غابت‬
‫الآليات العلمية ال�ضابطة‪ ،‬والنا�س امل�ؤهلني �أخالقيا‬
‫ووظيفياً‪.‬‬
‫لقد دعا َم ّكيه اىل ما ا�سماه (التوافق احل�رضي) الذي‬
‫اليعك�س عاطفة للمكان الرتاثي فح�سب‪ ،‬بل ي�أتي‬
‫من خالل التطوير العقالين الذي يرتق الفجوة التي‬
‫اوجدتها التطورات الأخرية يف و�سائل الإنتاج‪ ،‬والتي‬
‫غريت �سجية املدن امل�سرت�سلة منذ االزمنة الت�أريخية‪.‬‬
‫وهذا التوافق الي�ؤمن بطراز بعينه ‪ ،‬بل ي�ستجمع اخلزين‬
‫الرتاثي وي�صبه يف قالب متماه مع ع�رصه‪ .‬وهذا‬
‫يقودنا اىل �رضورة املحافظة على الن�سيج العمراين‬
‫الرتاثي الذي يختلف عن احلفاظ على الآثار‪ ،‬بحيث‬
‫يبقى نب�ض احلياة يدب يف جنباتها‪ ،‬وال ن�صنع منها‬
‫متحف ًا جامداً حمنطا ً يخدم ال�سياحة‪ ،‬بل جعلها جزءا‬
‫من ن�سيج املدينة الأو�سع‪.‬‬
‫‪187‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ربوة‪ ،‬توحي لنا وك�أنها عرو�س قابعة تر�صد البحر‬ ‫وجند الت�شويه قد �شاع و�أ�صبح قاعدة حينما جند مبنى‬
‫املفتوح على الأفق‪ .‬وهذا �أهم ما متناه مكية‪ ،‬حينما‬ ‫ت�أريخي ًا وادعاً‪ ،‬وبجانبه عمارة عالية ملت�صقه الغية‬
‫وجد تلك املمار�سة البيئية التي تهاجنت مع اجلمال‬ ‫ملقيا�سه امل�ألوف وم�رشفة عليه‪ ،‬بل خانقة جلمالياته‪،‬‬
‫يف مدائن البحر املتو�سط الذي اخت�ص به‪ .‬فالأبي�ض‬ ‫كما يف م�سجد جديد ي�شاد على ربوة يف اخلوير‪ ،‬حيث‬
‫عاك�س للحرارة وموح بالنقاء ومن�سجم مع زرقة البحر‬ ‫�سمح ببناء عمارات عالية متنع عنه الر�ؤية وتقلل من‬
‫من جهة �أو داكن اجلبال التي ت�شكل خلفيته وهندامه‪.‬‬ ‫قيمة كونه �شاخ�صا ح�رضيا ‪ land mark‬وهنا‬
‫وهكذا �أم�ست تلك �سمة وتفردا مل�سقط عن مدائن اخلليج‬ ‫يطفح اىل ال�سطح الذوق غري اجلمايل‪ ،‬وي�شيع الإبتذال‪،‬‬
‫التي متادت بزوارقها‪ ،‬و�أم�ست تعاين اليوم من تلوث‬ ‫وهو ما ينعك�س تباعا على �سلوك النا�س كمنتج منهم‬
‫ب�رصي حاد‪ ،‬يتعلق باالن�سجام والتماه اللوين مع‬ ‫يعود وبا ًال عليهم‪.‬‬
‫البيئة ال�سماوية واجلغرافية‪.‬‬ ‫ن�رضب مثال‪ :‬جتربة �شهدنا عليها ‪،‬وطبقت يف �ضواحي‬
‫يتذكر مكية النقا�شات التي دارت ب�صدد م�رشوع‬ ‫�شمال لندن الكربى‪ ،‬يف (لوتن ‪ ، )Luton‬حيث‬
‫تو�سعة مدينة م�سقط خالل عقد ال�سبعينات‪،‬حينما‬ ‫اختريت �أماكن خربة ي�ؤمها الكحوليون واملدمنون‬
‫احتدم اخلالف فيه ‪،‬حيث كان يف نية بع�ض امل�س�ؤولني‬ ‫ومتعاطو املخدرات والدعارة يف ثنايا املدينة‪ ،‬ومت‬
‫العمانيني �أن يخططوا لطريق حموري ميكن ت�سميته‬ ‫تنفيذ خطة لتهيئتها عمرانيا بحيث ي�ضفى عليها‬
‫«وريدي ‪ )arterial‬ي�صل مدينة م�سقط ب�شمالها حتى‬ ‫العمارة‬
‫تنظيم ونظافة وجمالية من خالل مفردات َ‬
‫الإمارات العربية ‪،‬وذلك بعر�ض ‪ 60‬مرتا على كنف‬ ‫احلدائقية (‪ )landscape‬وت�شجر بعناية وت�شذب‬
‫�شاطئ البحر الذي ينح�رص ويت�سع بينه وبني �سل�سلة‬ ‫وتزود بالنافورات والأرائك والأثاث املديني‬
‫اجلبل املتاخمة‪ .‬وقد كان اعرتا�ض مكية بان هذا‬ ‫والإ�ضاءة‪ ،‬مبا يغري جممل معاملها‪ .‬وبعد الإفتتاح عاد‬
‫الطريق �سيكون حمل انتحار مثايل ملن يروم الو�صول‬ ‫�إليها روادها الأوائل من ال�سكريين‪ ،‬فوجدوا �أن ب�ؤرتهم‬
‫اىل ال�شاطئ و�سوف يقتل الر�ؤية واالمتداد الب�رصي‬ ‫ومكان عبثهم ‪ ،‬قد �أم�سى ح�ضاري ًا ونظيفاً‪ ،‬ومل يعد‬
‫والتوا�صل الطبيعي املتناغم بني اجلبل والبحر الذي‬ ‫ينا�سب �صعلكتهم وعربدتهم ويحوي �أزبالهم ‪ ،‬وهكذا‬
‫ميكن �أن يكون م�صدر خ�صو�صية جمالية ترفد منظور‬ ‫خف تواردهم �إىل �أن تواروا عن الأنظار تدريجياً‪،‬‬
‫اجلذب ال�سياحي للمنطقة ‪.‬ورمبا حدث الأمر عينه‬ ‫ليجدوا لهم مكانا مت�سخا �آخر ي�ؤمهم‪ .‬وك�أنهم يطبقوا‬
‫عندما �أن�شئ كورني�ش القرم‪ ،‬الذي قطع �أو�صال ال�شاطئ‬ ‫الهاج�س الفطري ب�أن (ال�شيطان ي�سكن يف اخلرائب)‪،‬‬
‫مع الغابة الطبيعية املتاخمة‪.‬‬ ‫كما كنا ن�سمعها ونحن �صغارا‪ ،‬و�إن الفراغ مدعاة‬
‫لقد اقرتح مكية حينها �أن يق�سم الطريق اىل �شعبتني‬ ‫�سكن ال�شيطان‪ ،‬مبا جعلهم يرتعوا البيبان زخرفا‪،‬‬
‫�إحداهما ترد اىل املدينة والأخرى تخرج منها بحيث‬ ‫خ�شية من �أن يكون الفراغ يف ملم�سها مدعاة ل�سكن‬
‫تكون �إحداهما متاخمة لل�شاطئ والأخرى ظهريا‬ ‫ال�شيطان يف عتبة وموئل الزرق وباب الرحمة وح�سن‬
‫ل�سل�سلة اجلبل املحاذي لها بحيث ي�ستغنى عن العر�ض‬ ‫الطالع‪ .‬وهكذا ميكن تطبيق هذا املبد أ� الوارد من كنف‬
‫املفرط لل�شارع ويتم بذلك تكري�س حالة من اجلمالية‬ ‫الرتاث ال�شعبي يف حداثة املدن‪ ،‬ويبدو �إن احل�ضارة‬
‫بعدم قتل العالقة بني ال�شاطئ واجلبل وكذلك تنويع‬ ‫تفتح ر�أ�س الإن�سان على تلقف اخلري مثلما الغابة التي‬
‫املناظر الطبيعية لرواد الطريق من خالل اخرتاقهم‬ ‫جتتذب الغيوم يف عنان ال�سماء‪ ،‬على عك�س التخلف‬
‫ل�شارعني يكتنفان بيئتني جماليتني خمتلفتني‪ .‬وقد‬ ‫واخلراب واملكان املجدب الذي ينفره الغيم اجلالب‬
‫رام مكية ربط جامع ال�سلطان قابو�س الذي كان من‬ ‫للغيث‪ ،‬ويجور ثم يبور‪.‬‬
‫�ضمن تخطيط املدينة التو�سعي ب�شاطئ البحر وذلك‬ ‫ميكن �أن يكون لون م�سقط الأبي�ض الذي ن�شاهده من‬
‫‪188‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يجعل الكل يح�س ويعي بالكل‪ .‬وهكذا رام دمج �أق�سام‬ ‫بت�سقيف جزئي لبع�ض الأجزاء و�إن�شاء ر�صيف بحري‬
‫الهند�سة املختلفة فال ي�شرتط مبهند�س الطرق �أن‬ ‫م�سطح (‪، )Deck‬وتوازي ًا مع ذلك يخف�ض م�ستوى‬
‫ين�شئ طرق م�ستقيمة لت�سهيل مرور ال�سيارات متوخي ًا‬ ‫ال�شارع وي�ستعمل حل «امل�ستوى الن�صفي» الذي‬
‫�رسعة و�صولها‪ .‬وعندما يلتقي �شارعان لديه ي�ضع‬ ‫يجعل الإت�صال يخرتق ب�ساتني النخيل التي تطرز هذا‬
‫يف تقاطعها دوار (فلكة) يف العادة‪ ،‬وملاذا ال ي�شكالن‬ ‫الفراغ من الأر�ض‪ ،‬ويهب املكان �سحر وجمالية‪ .‬ويتم‬
‫�ساحة لها بوابة وامتداد مثال‪ ،‬وحتف بها الأ�شجار‬ ‫�إ�ستغالل امل�ساحات املح�صورة بني اجتاهات ال�شوارع‬
‫والنخيل ‪ .‬لقد �أهتم مكية مبداخل املدن وكان راغبا‬ ‫الذاهبة والآيبة لتكون م�ساحات خ�رضاء مو�شحه‬
‫ب�أن تكون مل�سقط بواباتها التي جت�سدت بعد حني‬ ‫بالنخيل ت�ستقبل زائر املدينة باخل�رضة النظرة‬
‫من على بعد ‪ 20‬كلم قبل الدخول اىل املدينة الذي‬
‫وهي اليوم �سمة لها‪ .‬ويقودنا الأمر اىل حتليل ال�سبب‬
‫يلجها تباعا اىل منطقة ال�رشايني التي تتوزع مو�صلة‬
‫واجلدوى يف ح�ضور كل عن�رص معماري وكل مفردة‪،‬‬
‫اىل املدينة ‪.‬وميكن ت�سمية اخلطوط تلك باحلمراء‬
‫و�إنتفا�ؤه حينما تتغري الأ�سباب واملعطيات‪ ،‬لذا حاول‬
‫واخل�رضاء وجعل العالقة بينهما وتعاملها ب�شكل‬
‫َم ّكيه تفكيك «�إن �صح التعبري» العنا�رص من �سياقاتها‬
‫ع�ضوي بحت(‪. )Organic‬‬
‫املولدة وتداولها كمفردات ميكن توظيفها جمالي ًا‬ ‫يذهب مكية �إىل �أن الن�سيج احل�رضي للمدن القدمية بديع‬
‫يف عمائر حداثية مثل العقد (القو�س) ‪ ،‬بعد ان حلت‬ ‫وميكن تطويره ب�إيجاد �أماكن فارغة تهيئ اىل �ساحات‬
‫اخلر�سانة حمل الطني والآجر امل�ؤ�س�س لهذا العن�رص‪،‬‬ ‫يف هذا الن�سيج لغر�ض التطوير و�إعطائها روحية‬
‫وحرر هذا العن�رص من اجلدار الذي تعامل معه ككتلة‬ ‫جديدة‪� .‬أما البناية الرتاثية فيمكن �إ�ضفاء جمالية‬
‫عليها من خالل ت�سقيفها و�إرفاق بوابة لها‪ ،‬وخلق‬
‫ر�ؤية جمالية الغر�ض منها تطوير احل�س الب�رصي‪ ،‬دون‬
‫الإ�رضار بعني الناظر وجت�سيد التنا�زش‪ .‬ف�إعطاء قيمة‬
‫الف�ضاءات املعمارية والب�رصية والت�أثريات املناخية‬
‫وتوفري لعبة ال�ضوء والظالل ‪ ،‬تلعب كلها الدور املبا�رش‬
‫يف �إظهار تلك اجلمالية وتكري�سها‪� ،‬إميان ًا ب�أن احل�س‬
‫اجلمايل لدى الإن�سان را�سخ خام يف منجم خواجلة‪،‬‬
‫يتطور مع تطوره القابل للتهذيب والت�شذيب‪.‬‬
‫مقت مكية ال�شوارع العري�ضة (ال�رسيعة)‪ ،‬ويبدو �أنه‬
‫حمل قراءة م�ستقبلية للأمر‪ ،‬حيث بد�أت مدن �أوروبية‬
‫تلغي تلك الطرق اليوم ومنها باري�س مثال‪ ،‬كونها مل‬
‫حتل م�شكلة ال�سري‪ ،‬بل فاقمت م�شاكل البيئات‪ .‬فقد حبذ‬
‫مكية �أن تكون ال�شوارع املدينية مب�رسبني ‪� ،‬أحدهما‬
‫للذهاب والآخر للإياب‪ ،‬دون تعنيف ملعطياتها‬
‫الأوىل وطبيعتها الت�ضاري�سية‪ .‬ويف هذا ال�سياق رف�ض‬
‫َم ّكيه حدود االخت�صا�ص الهند�سي‪ ،‬حيث ان مهند�س‬
‫والعمارة يجهل الفن واجلمال‬ ‫العمارة َ‬
‫الطرق يجهل َ‬
‫والأدب‪..‬الخ‪ .‬فهو يدعو �إىل انفتاح �أن�ساق املعرفة‪ ،‬مبا‬
‫‪189‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ومواد البناء ال�صاعدة‪ ،‬دون �أن يلغي تداوله للخامة‬ ‫وج�سم ولي�س كخط فا�صل ‪ ،‬وهو ما جت�سد يف م�سجد‬
‫املتوفرة يف كل �إقليم معماري‪ ،‬فثمة بون يف امللكات‬ ‫اخللفاء ببغداد �أو جامع ال�سلطان قابو�س مب�سقط �أو‬
‫بني الآجر يف بغداد واحلجر يف م�سقط‪ .‬وقد �أكد هذا‬ ‫جامع الدولة الكبري يف الكويت ب�شكل مثايل حينما‬
‫التوجه ولده املعماري كنعان َم ّكيه يف كتابه عن‬ ‫حرر ال�سقف من اجلدار‪ ،‬و تداول عن�رص البوابة‪ ،‬الذي‬
‫�أبيه(مابعد الكال�سيكية الإ�سالمية) ذاكراً‪� :‬إن امل�صدر‬ ‫�أم�ست عرفا ت�صميميا (‪.)3‬‬
‫الأ�صيل الذي ا�ستلهم منه حممد َم ّكيه فنه هو طراز‬ ‫ومن تداعيات تلك اجلدليات الفكرية ‪ ،‬نلم�س يف مباين‬
‫الريازة العبا�سية التي اتخذت �سماتها التقليدية يف‬ ‫َم ّكيه خا�صية ال�رصاحة الوظيفية والو�ضوح الإن�شائي‬
‫القرن الثامن الهجري (الرابع ع�رش امليالدي)‪ .‬ولو �أن‬ ‫واملعماري ‪ ،‬والتجلي الفني ‪ ،‬وميكن قراءتها من‬
‫كنعان قد خلط التواريخ هنا‪ ،‬رمبا ب�سبب عدم �إطالعه‬ ‫اخلارج ب�سهولة كما هو جامع ال�سلطان قابو�س الذي‬
‫العميق على حيثيات الت�أريخ املعماري الإ�سالمي‪،‬من‬ ‫ين�ساب مع الطريق ال�رسيع يف منطقة العذيبة‪ ،‬متهاديا‬
‫جراء �سطوة الت�صانيف الغربية على تنظرياته‪.‬وهذا‬ ‫مع طبيعة ال�سهل ال�ساحلي املحيط‪ ،‬دون تعقيد �أو‬
‫ما وقع به حتى بع�ض العمانيني نا�سبني الطراز اىل‬ ‫افتعال ومتظهر يف �رصحية واختيال �أو اختيار �أ�شكال‬
‫(الإيراين) لعدم اطالعهم على اال�صل العبا�سي الذي‬ ‫مبهرة وجمردة من املربر‪.‬حتى �أنه �إقرتح مثال عدم‬
‫�سبق املنتج الإيراين وال�سيما ال�صفوي املت�أخر(القرن‬ ‫رفع اجلامع على من�صة (م�صطبة)‪ ،‬كي الينحى نحو‬
‫ال�ساد�س ع�رش امليالدي)‪.‬‬ ‫ال�رصحية املفتعلة‪ ،‬بالرغم من �أن ثمة �رضورة لذلك‬
‫لقد حاول َم ّكيه �إحياء بع�ض العنا�رص املعمارية‬ ‫واد متاخم له‪ ،‬و�شكل جارف املاء خطرا‬ ‫ب�سبب وجود ٍ‬
‫الإ�سالمية وفق ًا ملوهبته ال�شخ�صية بت�أثري من �إدراك‬ ‫داهما ودائما عليه‪ .‬وباملقارنة ف�إن هذا احلل الفكري‬
‫جمايل فطري مرتاكب مع الت�أثري الب�رصي للمدر�سة‬ ‫جترد منه جامع ال�سلطان قابو�س يف روي حيث‬
‫الإجنليزية ‪ ،‬التي تعتني يف العادة باخلطوط املتعامدة‪،‬‬ ‫التنا�رش ال�رصيح بني تقبيل اجلامع و�إ�سقاطه مع هيئة‬
‫وتكاد �أن تظهر من خالله �رصامة الهيكل املتكون من‬ ‫ال�ساحة العمومية التي خططت قبله‪ ،‬وعلى العموم‬
‫�أعمدة �أو �أكتاف �أو حيطان حاملة �أو مزجهما من خالل‬ ‫تبقى حلول امل�ساجد عر�ضة للنقد ب�سبب مواقعها‪،‬‬
‫عوار�ض وا�صله بينها بتق�سيمات حتددها احلبكة‬ ‫حينما حتجزها ال�شوارع عن التوا�صل مع احلي ال�سكني‬
‫الوظيفية وي�أخذ باحل�سبان عملها الإن�شائي ليفر�ض‬ ‫املحيط‪ ،‬الذي ير�سم مالمح التوا�صل املفرت�ض والقيمة‬
‫عليها �شكلها امل�ستطيل باجتاه البحور الأو�سع يف‬ ‫الوظيفية املتعارف عليها يف الرتاث‪.‬‬
‫حبكة الهياكل‪ .‬ويف العادة ف�إن َم ّكيه يتداول هياكل‬ ‫وهنا نلم�س �أن مكية مل يبتعد يف ت�صميمه املعماري‬
‫الأطر (عمود‪-‬ا�سكفه او ج�رس) �أكرث من احليطان احلاملة‬ ‫جلامع ال�سلطان قابو�س عن مفهوم امل�سجد العراقي‬
‫(‪ )bearing walls‬التي هي �سنة �إن�شائية عراقية‪،‬‬ ‫وال�سيما على الطراز العبا�سي ‪ ،‬من خالل �إ�ضفائه‬
‫متا�شيا مع احلداثة التي اقتن�صت فكرة (ليكوربوزييه‬ ‫عنا�رص هيكلية ومعمارية متتد حتى الريازة ‪ ،‬وال�سيما‬
‫‪ )1965-1887‬مبفهوم املبنى املقام على �أعمدة‪،‬‬ ‫القباب والعقود واللم�سات الفنية الزخرفية التي متت‬
‫و�أثر يف كل التوجهات املعمارية العاملية‪ .‬بيد �أن ثمة‬ ‫لذلك الطراز ‪ .‬ورمبا تكون جتربة مكية قد ن�ضجت من‬
‫مل ّكيه كان يرغب يف جل مبانيه �أن يظهر من‬ ‫ممار�سة َ‬ ‫جتاربه ال�سابقة يف بغداد(اخللفاء والدولة الكبري) ثم‬
‫خاللها هيبة الهيكل الإن�شائي للعيان ‪،‬موحيا بقوة‬ ‫الكويت و�إ�سالم �آباد وغريها‪ .‬ويف اجلانب الفني ن�ضج‬
‫املبنى كما يف املباين ال�سكنية احلكومية يف املنامة‬ ‫لديه منذ بواكري �ستينات القرن الع�رشين منحى �إحياء‬
‫عام ‪ .1971‬وخامة الإن�شاء هنا اخلر�سانة امل�سلحة‬ ‫تداول اخلط العربي‪،‬مبلكات وخامات جديدة ‪ ،‬حينما‬
‫امل�صبوبة يف املوقع يف �أكرث احلاالت وح�سب امل�رشوع‬ ‫جعل غر�ضه اال�ستفادة الق�صوى من التقنيات احلديثة‬
‫‪190‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بك�شف تلك اخلر�سانة �أحيانا‪ ،‬و�أخرى يغطيها بلبا�س‬ ‫(�أو �سابقة ال�صب �أو اجلاهز ‪ ، ))prefabricated‬وقد‬
‫وق�رشة طابوقية‪ ،‬وال�سيما (اجلف قيم �أكرث من الدرز)‬ ‫تن�أى تلك اخلامة عن �سياقات الرتاث املحلي‪،‬ولكنها‬
‫�أو يغ�شيها ببالط ج�صي �أو �إ�سمنتي‪ ،‬حمو ًال املعادلة‬ ‫متكث احلل الهيكلي الأمثل‪ ،‬وال�سيما �أنه جلب �أعرافها‬
‫يف احل�س امللم�سي ‪ ،‬مبا يدلل على اتزان ذوقي بعيدا‬ ‫من �أهلها خمرتعي اال�سمنت البورتالندي‪.‬وهنا ن�شري‬
‫عن املغامرة‪ .‬وقد حاول جاهداً �أن يترب�أ من الت�أثري‬ ‫اىل �أن ت�صميم العمود عند مكية متكرر �سواء الذي طبقه‬
‫الأكادميي املفرط ‪�،‬ضمن �سياقات مترده على كثري‬ ‫من اخل�شب يف ال�سدة التي بناها داخل ديوان الكوفة‪،‬‬
‫من املفاهيم الفكرية واجلمالية من خلفيته التعليمية‬ ‫�أو اعمدة جامع ال�سلطان قابو�س يف م�سقط‪ ،‬والتي‬
‫الإجنليزية‪.‬‬ ‫يبقيها مربعة ال�شكل بالرغم من �أن الهيئة املدورة‪،‬‬
‫وقد بث مكية بع�ض اال�شكال احلداثية يف �سياقات‬ ‫�أجدى و�أكرث ان�سجاما نف�سيا ووظيفيا مع مايحيطها‬
‫العمارة‬ ‫من فراغ‪ ،‬ومعاجلته تكون من خالل �إظهار زواياه‬
‫تقا�سيمه‪ ،‬وهي�أ لها �سياقا مع �أ�ساليب َ‬
‫التقليدية مثل البوائك وكا�رسات ال�شم�س ‪ ،‬مبا ميكن �أن‬ ‫و�ضمور و�سطه الذي ي�شكل كما ال�ساقية‪ ،‬الذي يعالج‬
‫ينا�سب جماليات الع�رص وين�سجم مع النزعة اىل �إيجاد‬ ‫بخامة وملم�س و�شكل ولون �آخر يف العادة ‪،‬ينرب من‬
‫مل�سات تفرتق عن الرتاث‪،‬ورمبا جاءت من �سماتها‬ ‫هيئة العمود و�سط الفراغ‪.‬‬
‫ت�صميم طابق علوي ‪ ،‬ي�شبه القبعة فوق املبنى‪.‬ويبدو‬ ‫وحاول َم ّكيه �أن يلتزم معيارية (نورم) موحد مل�ساقطه‪،‬‬
‫�أنها �سنة اتبعها جل جيل َم ّكيه ‪،‬وبثت يف �أكرث العمائر‬ ‫رمبا ب�سبب جمايل و�إيقاعي ناظم وارد من عقلية مرتبة‬
‫وال�سيما (الر�سمية منها)‪ ،‬و�أم�ست عرفا (‪proto‬‬ ‫ومنظمة‪� ،‬أو من خربته يف املقاوالت التي حتبذ توحيد‬
‫‪ ، )type‬مبا يوحي مبجملها وك�أن املبنى كله يحاكي‬ ‫املقا�سات التي ت�سهل التكرار يف التنفيذ‪ .‬والي�شرتط يف‬
‫كل املقا�سات والتق�سيمات امل�سقطية �أو الواجهات �أن‬
‫العمود و�أم�ست القبعة تاجا له ‪ ،‬ومور�ست بالعراق‬
‫تخ�ضع ل�ضوابط ون�سب (املقطع الذهبي) التي اقتفاها‬
‫الغربيون وجعلوا منها معيارية «مقد�سة»‪ ،‬من خالل‬
‫�إيجاد ن�سب مقبولة ب�رصيا‪ .‬لقد حاول مكية �إ�ضفاء‬
‫بع�ض املعاجلات البيئية على ت�صاميمه‪ ،‬ك�أن تطغى‬
‫على الواجهات ال�رشقية والغربية عنا�رص �شاقولية‬
‫�أطول من عر�ضها وحمفوفة بعنا�رص ناتئة �أكرث من‬
‫التقا�سيم الأفقية‪�،‬أو حتى من خالل (دخالت وخرجات)‬
‫العمارة‬‫‪ ،))Recesses & Buttresses‬كما يف َ‬
‫العراقية القدمية التي جاءت لأغرا�ض �إن�شائية ملقاومة‬
‫ُ‬
‫احليطان ال�صفيقة ‪،‬وخ�شية من ظاهرة الإنبعاج‪.‬‬
‫وحدث العك�س يف عالجه للواجهات اجلنوبية‪ ،‬التي‬
‫تعاين من فرط الت�شمي�س ‪ ،‬ف�أ�ضفى ما ميكن ان يكون‬
‫بوائك �أو �رشفات مظالت �أفقية‪.‬وهذه النتوءات من‬
‫جبهة البناء التي دعيت (كا�رسات ال�شم�س) �شاعت بعد‬
‫اخلم�سينات‪ ،‬وقلدها القوم بعد م�رشوع جامعة بغداد‬
‫للأملاين (الباوهاو�سي) فالرت كروبيو�س‪ ،‬التي مار�سها‬
‫مكية يف ت�صميمه جلامعة الكوفة‪ .‬ومل يتورع َم ّكيه‬
‫‪191‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واملرافق الآخرى مثل مكتبة وقاعة املحا�رضات‬ ‫بكرثة لكننا مل جندها منت�رشة يف مدار�س معمارية‬
‫واملرافق الإدارية ‪،‬وهي تطوق بالأروقة وتنعت �أركان‬ ‫�أخرى‪ .‬والأ�شكال هنا تغلف حمتوى وظيفيا يكون‬
‫املبنى‪ ،‬وذلك من خالل �أربع منائر �إرتفاع الواحدة‬ ‫�أقرب للحداثة ‪ ،‬ويف الغالب يت�ضمن نظام املمرات �أو‬
‫منها ‪45,5‬م‪ .‬ومن �أجل �إ�ضفاء حمور ثان يخرتق‬ ‫املجاز (كوليدور ‪، )Corridors‬وتوزيع احلجرات‬
‫الكتلتني الوظيفيتني ‪،‬وخلق مداخل مرتادفة ومتمحورة‬ ‫على جنبيها‪.‬وهذا احلل كر�س الكتلة املت�ضامة للمبنى‪،‬‬
‫و�رصحية ‪ ،‬فقد مثلت املنارة اخلام�سة والرئي�سية‬ ‫و�ألغى عن�رص احلو�ش واملناور التي تلعب دور الرئة‬
‫نهايتها ونعتت نهاية منظورها بارتفاع ‪90‬م ‪ .‬وهي‬ ‫يف تنف�س املبنى وتدوير الهواء يف �أرجائه‪ ،‬بينما‬
‫ألعراقية مع بع�ض التطوير‬ ‫على العموم حتاكي املنائر � ُ‬ ‫احلل احلداثي اعتمد على تربيد الهواء الآيل يف موا�سم‬
‫الت�صميمي ‪ ،‬وتعد من ال�شواخ�ص الب�رصية املميزة‬ ‫القي�ض‪.‬‬
‫للعا�صمة‪ .‬وهنا جدير �أن ن�شري اىل �أن الرتاث العماين‬ ‫عاد مكية بعد عقدين اىل م�سقط لرياها وقد تبدلت‬
‫خال من عن�رص املنارة‪.‬‬ ‫و�أم�ست من اجمل العوا�صم‪ ،‬بل رمبا �أجمل عا�صمة‬
‫وامل�صلى الرئي�سي مربع ال�شكل طول �ضلعه ‪ 74.4‬مرت‬ ‫عربية قاطبة(‪ .)4‬وكانت بوابته هذه املرة م�رشوع‬
‫ويمُ ْ ِك ُنه ا�ستيعاب �أكرث من ‪ُ 6,500‬م�ص ّل بينما م�ص ّلى‬ ‫جامع ال�سلطان قابو�س عام ‪ ، 1992‬الذي بد أ� العمل‬
‫ال ِن�ساء يمُ ْ ِك ُن �أَ ْن يحتمل ‪ُ 750‬م�ص ّل‪ .‬والأر�ض امل َُع ّبدة‬ ‫يف ور�شته عام ‪ 1995‬وا�ستمر بناءه �ست �سنوات‪،‬‬
‫اخلارجية يمُ ْ ِك ُن �أَ ْن ت�ستوعب ‪ُ 8،000‬م�ص ّل وهناك‬ ‫فتتح يف الرابع من �شهر مايو عام‬ ‫حتى اكتمل ثم �أُ َ‬
‫ات َج ْعل‬ ‫واملمر ِ‬
‫َّ‬ ‫الداخلي‬
‫ِ‬ ‫ف�ضاء �إ�ضايف متوف ِر يف الفنا ِء‬ ‫‪.2001‬و�إ�شرتك فيه مكتب حممد �صالح َم ّكيه مع كواد‬
‫الكلية تط أ� حدود ‪ُ 20,000‬م�ص ّل ‪ .‬وم�صلى‬ ‫ّ‬ ‫القدرة‬ ‫ديزين ‪ Quad Design‬ومركزهم لندن وم�سقط‪.،‬‬
‫للن�ساء يقع خلف امل�صلى الرئي�س عرب ال�صحن الداخلي‬ ‫ويعد هذا املعلم من �أكرث �شواخ�ص العا�صمة ‪،‬حيث‬
‫وي�شكل امتدداً له‪ ،‬وهو جمهز ب�شا�شة عر�ض مل�شاهدة‬ ‫مرب َع وميتد‬
‫رت ّ‬ ‫حتل ‪ 416‬الف م َ‬‫ُب ِنى على موقع َي ُّ‬
‫خطبة اجلمعة واملحا�رضات املنقولة من امل�صلى‬ ‫البناء ل َت ْغطية منطق َة ِم ْن ‪ 40‬الف م ِرت ّ‬
‫مرب ِع‪ .‬وهو‬
‫الرئي�سي‪.‬‬ ‫جممع �رصحي متعدد الوظائف ‪ ،‬وميكن �أن يكون هذا‬
‫وهيكل امل�صلى الرئي�سي �أطر خر�سانية حميطة ت�شكل‬ ‫امل�رشوع الأكرث جناحا للدكتور َم ّكيه لقيمته ورمزيته‬
‫عنا�رص �شاقولية جمالية‪ ،‬مع معاجلة جميلة لزوايا‬ ‫وموقعه وو�سعه‪،‬وبذخ ملكاته من خالل تداول نفي�س‬
‫الكتلة‪ ،‬وذلك من خالل كوة مرهفة املعاجلة‪ .‬ويرتفع‬ ‫املواد والتجهيزات مثل الرثيات وال�سجاد و�أعمال‬
‫�سقف امل�صلى على �أربعة �أعمدة �ضخمة (قوائم‬ ‫الزخرفة املنفذة على خامات احلجر واخل�شب واخلزف‬
‫الفيل) تتو�سط الف�ضاء وترفع فوقها قبة مركزية �إىل‬ ‫الكربالئي‪ .‬ومل ي�شذ عن تربيعات وحمورية وجتديد‬
‫خم�سني م ِرتاً فوق الأر�ضية‪ ،‬وبذلك فهو مل يبتعد عن‬ ‫تراثي �ضمن ت�صاميم َم ّكيه املنمقة واملعتنى مبلكاتها‬
‫ت�صاميمه الآخرى يف الكويت وبغداد و�إ�سالم �أباد‪.‬‬ ‫‪ ،‬والتي ان�سجمت مع توجه ر�سمي عماين يف اقتفاء‬
‫ماعدا �أن القبة جاءت هنا ب�شكل مغاير ورمبا م�رشئبة‬ ‫الو�سطية واملحافظة العاقلة دون مغامرات حداثية‪،‬‬
‫اىل الرتاث من خالل تكونها من مزدوج �إن�شائي‬ ‫حتى ليبدو املجمع مع حدائقه ‪ landscape‬وك�أنه‬
‫�أي من طبقتني �إحداهما داخلية ‪،‬تتبع املقيا�س‬ ‫جممع تاج حمل‪ ،‬لكنه تابع للقرن الواحد والع�رشين‪.‬‬
‫الإن�ساين والثاين خارجية‪ ،‬تنفع للمقيا�س ال�رصحي‬ ‫�إن حمور البناء الرئي�س باجتاه القبلة املوازي ملحور‬
‫ألعراقية ‪،‬‬ ‫العمارة � ُ‬
‫املديني‪ ،‬وهذه املعاجلة طبقت يف َ‬ ‫الطريق ال�رسيع املتاخم‪،‬وهذا املحور ينعت يف نهايته‬
‫وجت�سدت يف العتبات املقد�سة‪ ،‬والغر�ض منها �إن�شائي‬ ‫الأبعد كتلة البناء الأثقل والأهم وهي امل�صلى الكبري‪.‬‬
‫ووظيفي‪ ،‬حينما تداول خامة الطابوق و�سياقاتها‪،‬‬ ‫ويف املحور الرئي�سي املدبر للقبلة تتوزع الباحات‬
‫‪192‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫معمار‪ ..‬معمار‪ ..‬معمار‪..‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫واحلجر امل�رصي‪ ،‬و�إ�ستخدمت يف بناءه خمتلف‬ ‫لتكون م�سارات العزوم املن�سابة من الداخلية‬
‫و�أرقى اخلامات من اخل�شب والرخام والزجاج املع�شق‬ ‫واخلارجية تلتقي وتتعادل وتن�ساب برفق يف الرقبة‬
‫والنحا�س واملعادن‪ ,‬وتوج ذروة البناء �رشفات‬ ‫ثم اىل العنا�رص ال�شاقولية ‪ ،‬وذلك من جراء دوران‬
‫وم�سننات توحي وك�أنها مزاغل القالع‪ ،‬مبا يوحي‬ ‫العزوم حول الإنتفاخة الب�صلية التي تكتنف الق�رشة‬
‫ب�أنها م�ستلهمة من هيئة القالع العمانية‪ .‬ومت �إ�ستيحاء‬ ‫اخلارجية‪ .‬بيد �أن الأمر هنا خمتلف حيث �أن الهيكل‬
‫العمارة العمانية يف العنا�رص الزخرفية‬ ‫�أ�شكال َ‬ ‫اخلر�ساين امل�سلح غيرّ ذلك املفهوم‪ ،‬وو ّفر على البناء‬
‫والهند�سية امل�ستخدمة يف ت�صميم اجلدران وال�سقوف‬ ‫حيلة الإنتقالة املرهفة باحلنايا واملثلثات الكروية‬
‫وال�شم�سيات املغ�شاة بالزجاج امللون‪ .‬ومنها �أُ�سلوب‬ ‫‪ ، Sequences and pendative‬و�ألغى التحول‬
‫الزخارف اجل�صية التقليدية واملحفورة يف كوات �سقف‬ ‫ال�شكلي من مربع الأكتاف اىل مثمن رقبة القبة‪ .‬ويكمن‬
‫قاعة املحا�رضات‪ .‬وكان امليل اىل تركيز الزخارف‬ ‫الإ�ستثناء والفذلكة يف تلك التفا�صيل‪ ،‬هو تقطيع القبة‬
‫الهند�سية يف املكتبة‪ ،‬والنباتية او املورقة يف قاعة‬ ‫اخلارجية وجعلها بهيئة خمرمة مت�شابكة بعروق‬
‫املحا�رضات‪ .‬و�صنعت الأبواب وال�سواتر املتحركة من‬ ‫�أ�سا�سية للهيكل ‪،‬حيث ت�ضاء من داخلها يف امل�ساء ‪،‬‬
‫خ�شب �شجرة القبقب ال�صلد‪ ،‬املغلف بق�رشة تزيينية‪.‬‬ ‫لتكت�سي جمالية حاملة‪ .‬ولذلك التخرمي ت�شابك منمق‬
‫وي�ضفي لون اخل�شب املائل اىل الع�سلي ت�أثريا جماليا‬ ‫تتخلله خطوط ذهبية وتتجلى من خالل �شفافية هيكل‬
‫على ن�صاعة اجلدران البي�ضاء‪ .‬وهنا ن�شري اىل �أن‬ ‫القبة الثانية املك�سوة بق�رشة من �أحجار الف�سيف�ساء‬
‫َم ّكيه جنح يف �إ�ضفاء �صفة حملية على البناء وكذلك‬ ‫الذهبية‪ .‬والقبة من الداخل حماطة بت�صميمات جم�سمة‬
‫يف �إختيار الألوان الباهتة بنوعيها الأبي�ض والبني‬ ‫لها �شكل مثلثات هند�سية �ضمن هيكل من الأ�ضالع‬
‫الفاحت‪ ،‬التي تن�سجم �أميا �إن�سجام مع اخللفية الطبيعية‬ ‫والأعمدة الرخامية املتقاطعة ب�أقوا�س مدببة مر�صعة‬
‫التي متثلها اجلبال الداكنة يف ظهري مدينة م�سقط‪.‬‬ ‫بجميع عنا�رصها ‪،‬ب�ألواح من اخلزف امل�صقول وت�أخذ‬
‫وميكن �أن تكون تلك امل�ساهمة امل�سقطية ملعمار‬ ‫الأ�ضالع الرخامية املقو�سة واملعقودة هيكل القبة‬
‫مكية‪،‬منا�سبة لالحتفاء بقرن على والدة هذا املعماري‬ ‫الكروي املزينة بالزجاج امللون ويلف القبة �رشيط‬
‫املخل�ص لثقافته و�إن�سانيته وحرفته‪.‬‬ ‫من الزخارف الكتابية يت�ضمن �آيات قر�آنية بخط الثلث‬
‫وب�ألوان جذابة‪.‬‬
‫الهوام�ش‬
‫واملعاجلات الفنية جاءت منوعة وثرية والتنتمي اىل‬
‫‪ 1‬كامران قرداغي‪ -‬مقال‪ :‬حممد مكية يتحدث عن اال�س�س االخالقية‬ ‫مدر�سة معمارية بذاتها‪ ،‬ورمبا هذا ما �أغا�ض َم ّكيه‪،‬‬
‫للعمارة العربية‪ -‬جريدة املدى بغداد –العدد ‪ -1559‬ال�سنة‬ ‫الذي كان يروم الإ�رشاف على املعاجلات التي تنا�سب‬
‫ال�ساد�سة‪-‬اخلمي�س ‪ 16‬متوز ‪.2009‬‬ ‫الطراز «بر�أيه»‪ ،‬ولكن التوجه الر�سمي كان مربره �أن‬
‫‪ 2‬فاطمة املح�سن‪ :‬مقابلة مع مكية – جريدة الريا�ض الريا�ض‪-‬‬
‫يكون املعلم �سجال لكل فنون الإ�سالم وطرزها يف‬
‫اخلمي�س ‪ 07‬ربيع الثاين ‪ 1422‬العدد ‪ 12057‬ال�سنة ‪.37‬‬
‫مدار�سه الإقليمية املحلية والإقليمية واملتنائية‪،‬‬
‫‪ 3‬جاء ذلك يف لقاء مع جريدة ال�رشق الأو�سط‪-‬لندن‪ ،‬حتاور معه معد‬
‫ولي�س حكرا على �إحداها‪ .‬فنجد جداريات وكوات‬
‫فيا�ض‪-‬العدد ‪ 7555‬اخلمي�س ‪.1999\8\5‬‬
‫وحنايا مفعمة بفنون الزليج املغربي واجلداريات‬
‫‪ 4‬كان ذلك راي ال�شاعر العراقي املغرتب يف لندن فوزي كرمي وكتب‬
‫العراقي‬ ‫املغولية والهندية والفار�سية والكربالئي ُ‬
‫عنها بعد �أن زار م�سقط يف بداية العام ‪.2013‬‬

‫‪193‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫م�رسح‬

‫من �أعمال خلود العربية ‪ُ -‬عمان‬

‫‪ v‬ال�شخ�صيات‪:‬‬
‫‪ .19‬فرحان‪ :‬جر�سون‬ ‫‪ .10‬بر�شان‪ :‬رئي�س الأطباء‬ ‫‪ .1‬الزعيم‪� :‬شماخ‬
‫‪ .20‬ابو عدنان‪:‬عجوز فقد ولديه يف احلرب‬ ‫‪ .11‬فرهود‪ :‬قائد الفروع الع�رشة‬ ‫‪ .2‬بلبول‪�:‬شبح مهرج الزعيم‬
‫واالختطاف‬ ‫‪ .12‬لقمان‪ :‬م�رشف الإعالم‬ ‫‪ .3‬خطّ ار‪ :‬ابن الزعيم‬
‫‪ .21‬ابنة ابو عدنان‪� :‬صبية تعمل يف الق�رص‪..‬‬ ‫‪ .13‬ح ّداف‪ :‬اجللاّ د‬ ‫‪ .4‬زبرجد‪ :‬زوجة الزعيم الأخرية‬
‫‪ .22‬هاين‪ :‬و�صياد‪..‬‬ ‫‪ .14‬زهران‪:‬فلكي وم� ّؤرخ‬ ‫‪ .5‬مع�صوم‪ :‬ابن زبرجد‬
‫ع�ساف‪ :‬رقيب يف الأمن من زمل فرهود‬ ‫‪ّ .23‬‬ ‫‪ .15‬ابراهيم ال�سكران‪..‬‬ ‫‪ .6‬ني�شان‪ :‬قائد جي�ش امليمنة‬
‫‪ .24‬مِ قدام‪ :‬عريف يف الأمن من زمل فرهود‬ ‫‪ .16‬املهرج بلبول‪( ..‬ال يراه �إال الزعيم)‬ ‫‪� .7‬شجاع‪ :‬قائد جي�ش املي�رسة‬
‫‪ .25‬م�صباح‪� :‬أ�ستاذ مدر�سة‬ ‫‪ .17‬عزرون‪ :‬ملك املوت‬ ‫‪ .8‬الآن�سة �أفراح‪ :‬مديرة الت�رشيفات‪..‬‬
‫‪� .18‬أبو جميل‪� :‬صاحب مقهى �شعبي‬ ‫‪ .9‬ابو الذهب‪ :‬مدير اخلزينة‬

‫‪194‬‬
‫الكر�سي‬
‫�أو‬
‫الفرمانات ال�سبعة‬
‫نور الدين الها�شمي‬
‫كاتب م�رسحي وتلفزيوين من �سورية‬

‫الذهب رئي�س اخلزينة و�أمام النافذة الي�رسى‬ ‫امل�شهد الأول‬


‫يقف ني�شان قائد جي�ش امليمنة و�شجاع قائد‬ ‫(ق��اع��ة ق�رص الزعيم ���ش� ّ�م��اخ‪ ..‬لي�ست قاعة‬
‫جي�ش املي�رسة وفرهود رئي�س الفروع الع�رشة‪.‬‬ ‫تقليدية بل ميكن �أن يكون هناك متازج بني‬
‫اجلميع يرقب غياب ال�شم�س‪ ..‬الزعيم قلق‬ ‫القدمي واحلديث ج��دا‪ ..‬كتعبري عن الفو�ضى‬
‫ومكتئب لأنه �سيبلغ ال�ستني عند غروب ال�شم�س‪.‬‬ ‫الفكرية التي تعي�شها الأنظمة‪ ..‬هناك كر�سي‬
‫الزعيم‪( :‬باكتئاب) ماهي �أخبار ال�شم�س؟‬ ‫�صمم على‬‫فخم يف �صدر املكان وميكن �أن ُي ّ‬
‫زهران‪ :‬مل تغب بعد يازعيم‬ ‫�شكل كر�سي �إن�سان ٌمق َعد �أو عربة �أطفال �أو‬
‫�سيارة �صغرية فخمة لها �أنتينات وهاتف‬
‫الزعيم‪ :‬وكم بقي على غيابها‪..‬؟‬
‫وزمور‪..‬‬
‫زه��ران‪( :‬يت�أمل باملنظار ويجيب) و�إح��دى‬
‫الزعيم �شماخ يف ال�ستني‪ ..‬لي�س هناك لبا�س‬
‫وثالثون دقيقة‪..‬‬
‫حمدد له‪ ..‬ميكن �أن يظهر ببدلة �أنيقة‪ ..‬ثياب‬
‫ني�شان‪( :‬يعاند) ال ع�رشون دقيقة‪..‬‬ ‫تقليدية‪ ..‬بيجامة ريا�ضية‪ ..‬جالبية وعباءة‪..‬‬
‫زهران‪ :‬يا جرنال ني�شان‪ ..‬ال�شم�س ما زالت يف‬ ‫لكنه دائم ًا حري�ص على �صوجلان امللك الذي‬
‫برج الثور‪..‬‬ ‫ميكن �أن يتحول �إىل �أ�شياء كثرية‪.‬‬
‫ني�شان‪ :‬ال‪ ..‬العقرب‪. ..‬‬ ‫�أنتني‪ ..‬هاتف‪ ..‬ع�ضو تنا�سلي‪� ..‬سوط‪.‬‬
‫زهران‪ :‬هذا الكالم ال يقال يل يا�سيد ني�شان ‪..‬‬ ‫للقاعة عدة خمارج للدخول واخل��روج‪ ..‬لكن‬
‫�أنا الذي �أ�ضعت عمري باملرا�صد وكتب الفلك‬ ‫الزعيم له باب خا�ص يربز �ضخامته وهيبته‪..‬‬
‫ومراقبة النجوم‪..‬‬ ‫�أما �أف��راد احلا�شية فيدخلون ويخرجون من‬
‫ني�شان‪ :‬وهذا الكالم اليقال يل �أنا ني�شان قائد‬ ‫باب منخف�ض يجربهم على االنحناء حتت‬
‫جي�ش امليمنة ال��ذي �أحبط �إح��دى وع�رشين‬ ‫متثال الزعيم‪. ..‬‬
‫م�ؤامرة‪..‬‬ ‫ه��ن��اك ن��اف��ذت��ان واح����دة �إىل ال��ي��م�ين يقف‬
‫زهران وال يقال يل �أنا الفلكي زهران مكت�شف‬ ‫عندها الفلكي وامل�ؤرخ زهران و�أفراح مديرة‬
‫مذنب ذيل ال�سنجاب‪..‬‬ ‫الت�رشيفات ولقمان م�ست�شار الإع�لام و�أب��و‬
‫‪195‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ني�شان‪..‬‬ ‫م�رص على �أن ال�شم�س مازالت يف برج‬ ‫ٌّ‬ ‫ني�شان‪� :‬أنا‬
‫ني�شان‪( :‬يرك�ض نحوه) �أنا يف خدمتكم يا زعيم‪. ..‬‬ ‫العقرب‪..‬‬
‫(يتو�سل) �أت�ستطيع منع ال�شم�س من الغروب‬ ‫ّ‬ ‫الزعيم‪:‬‬ ‫زهران‪ :‬الال‪ ..‬يف برج الثور‪..‬‬
‫يا ني�شان‪..‬؟‬ ‫الزعيم‪( :‬ي�رصخ) �أخ كم �أمتنى �أن يلدغك ويلدغه‬
‫ني�شان‪( :‬يتلعثم)‪ ..‬منع ال�شم�س من ال��غ��روب؟!‪..‬‬ ‫�سامة ‪ ..‬اخر�سوا و�أفهموين ‪,‬كم‬ ‫عقرب بع�رش �إبر ّ‬
‫ميكن �صعب‪. ..‬‬ ‫بقي الآن على غروب ال�شم�س؟‬
‫مرة قلت يل‪� ..‬أنا م�ستعد‬‫الزعيم‪� :‬صعب !‪� ..‬أخ كم ّ‬ ‫زهران‪ :‬ثالثون دقيقة‪..‬‬
‫�أن افعل امل�ستحيل من �أجلك يا موالي‪ ..‬اقرتب ‪. ..‬‬ ‫ني�شان‪ :‬ال‪ ..‬ت�سع ع�رشة دقيقة ون�صف‬
‫اقرتب (ينتزع له ني�شانا من على �صدره)‪.‬‬ ‫بلبول‪�( :‬ساخراً) ثالثون �أوت�سع ع�رشة دقيقة ‪..‬‬
‫أتو�سل �إليك يا زعيم‪..‬‬
‫ني�شان‪( :‬يكاد يبكي حزنا ً) � ّ‬ ‫املهم � ّأن ال�شم�س �ستغيب و�سوف ي�صبح عمرك‬
‫�شي �إ ّال النيا�شني روح��ي معلقة بهم‬ ‫خ��ذ � َّأي ْ‬ ‫ياموالنا �ستني �سنة بالتمام والكمال‪( ..‬يغني) ‪..‬‬
‫ياموالي‪..‬‬ ‫وابن ال�سنني �صار جاهزاً لل�سكني‪ ..‬وابن ال�سنني‬
‫الزعيم‪� :‬آخ لو �أنني �أع��رف مباذا �أخ��ذت كل هذه‬ ‫�صار جاهزاً لل�سكني‪ ..‬وابن ال�سنني �صار جاهزاً‬
‫النيا�شني؟ (يلتفت �إىل �شجاع) و�أن��ت يا جرنال‬ ‫لل�سكني‪..‬‬
‫�شجاع‪ ..‬هل ت�ستطيع �أن متنع ال�شم�س من الغروب‪..‬‬ ‫الزعيم (بغ�ضب وخوف) اخر�س ‪..‬‬
‫‪.‬؟‬
‫بلبول‪ :‬ملن هذه الإخر�س؟ تكلَّم‪..‬‬
‫�شجاع‪( :‬يرتبك) ماذا تقول يا�سيدي‪� ..‬أمنعها من‬
‫(خالل حماورة الزعيم مع بلبول الذي ال يراه �سوى‬
‫الغروب؟!‪ . ..‬ه�أ‪ ..‬ه�أ‪ ..‬ه�أ‪..‬‬
‫الزعيم‪ ..‬ينظر اجلميع بده�شة �إىل الزعيم)‪.‬‬
‫الزعيم‪ :‬ولكني ر�أيتك ال�شهر املا�ضي من �رشفة‬
‫الزعيم‪ :‬لك‪ . ..‬نعم لك يا بلبول‪. ..‬‬
‫الق�رص �أثناء امل�سرية‪ .‬كنت تهتف وت�رصخ ب�أعلى‬
‫�صوتك وت��ق��ول‪ :‬ي��ا زعيمنا وي��ا غ��ايل �شو بدك‬ ‫زه��ران‪ :‬هل ن�ستطيع �أن نعرف مع من تتكلَّمون‬
‫ل�ساوي‪� . ..‬صح �أم ال‪..‬؟‬ ‫يازعيم؟‬
‫�شجاع‪� :‬صح �سيدي‪..‬‬ ‫جتر�أ وقل لهم �إنك تتكلّم معي‪ ..‬لعلّهم‬ ‫هيا ّ‬ ‫بلبول‪ّ :‬‬
‫هيا �أوقف‬ ‫يحرونك �إىل م�ست�شفى املجانني مثل جدك ال�سلطان‬ ‫ُّ‬
‫الزعيم‪� :‬إذن ال��ذي يب�صق اليلح�س ‪َّ ..‬‬
‫هيا‬ ‫عندماجن يف �سن ال�ستني‬‫َّ‬ ‫(ممدوح)‬
‫ال�شم�س عن الغروب‪ّ ..‬‬
‫�شجاع‪ :‬لكن هذا �أمر �صعب ياموالي‪..‬‬ ‫الزعيم‪ :‬ك ّذاب‪..‬‬
‫الزعيم‪� :‬صعب‪ ..‬تعال �إىل هنا تعال ‪( ..‬يقرتب‬ ‫بلبول‪� :‬أحت ّداك‪..‬‬
‫�شجاع وهو يحمي نيا�شينه) اقرتب‪ ..‬اقرتب‪..‬‬ ‫ال��زع��ي��م‪ :‬ب�سيطة‪� ..‬أن���ا م�شغول الآن (يخاطب‬
‫أتو�سل �إليك يا�سيدي‪ ..‬خذ روحي وال ت�أخذ‬ ‫�شجاع‪ّ � :‬‬ ‫احلا�شية)‪� ..‬أ ف ّهموين كم بقي على مغيب ال�شم�س؟‬
‫ني�شان ًا واحد�أ‪..‬‬ ‫�أفراح كم تريدون يازعيم؟‬
‫الزعيم (ينتزع منه ني�شانا ً) حتى ال تتفل�سف مرة‬ ‫الزعيم‪� :‬أنا ال �أريدها �أن تغيب �أبداً ‪( ..‬ينادي) يا‬
‫‪196‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫زبرجد‪ :‬م�ساء اخلري حبيبي‪..‬‬ ‫ثانية وتقول‪ .‬يازعيمنا يا غايل �شو بدك لن�ساوي‪..‬‬
‫الزعيم‪ :‬م�ساء اخلري‪� ..‬أين �أنت؟‬ ‫(ي�رصخ يف البقية) من ي�ستطيع منكم �أن مينع‬
‫زبرجد‪� :‬أنا يف جزر الكناري حبيبي‪ ..‬يا لطيف ما‬ ‫ال�شم�س عن املغيب ‪..‬؟ �أخ �سوف ي�صبح عمري‬
‫�أحالها‪ ..‬وما �أحلى هواها‪� ..‬أنا م�رسورة جداً‬ ‫�ستني‪� ..‬ستني‪� . ..‬أين زهران؟‬
‫الزعيم ‪( :‬ب�شك)من معك؟‬ ‫بلبول‪( :‬ي�شري �إىل حيث توارى زهران) هاهو‪ ..‬ها‬
‫هو‬
‫زبرجد‪ :‬ابنكم (مع�صوم) فقط‪ ..‬وهوبي�سلم عليك‬
‫الزعيم‪ :‬تعال يازهران يا حبيبي‪ ..‬تعال‪( ..‬يقرتب‬
‫كثرياً حبيبي‪� ..‬سلّم على البابا يا مع�صوم‪..‬‬
‫زهران مرتبكاً) تعال‪� ..‬أت�ستطيع منع ال�شم�س من‬
‫مع�صوم‪( :‬يظهر على ال�شا�شة طفل مدلّل و�سمني)‬ ‫املغيب؟‪..‬‬
‫�شماخ‪� ..‬أنا �أحبك وم�شتاق �إليك‬ ‫م�ساء اخلري بابا ّ‬ ‫تدور الأر�ض ُدور ًة حول‬
‫زهران‪( :‬يرتبك ويت ّهرب) ُ‬
‫كثري‪ ..‬كثري‪ ..‬يا بابا‬
‫نف�سها ك َّل �أربع وع�رشين �ساعة‪ ..‬كما تدور حول‬
‫يحبك؟‬
‫زبرجد‪� :‬أر�أيت كم ّ‬ ‫ال�شم�س مر ًة واحدة كل �سنة � ْأي يف ثالثمائة و�أربعة‬
‫الزعيم‪( :‬غري مقتنع) ر�أيت‪..‬‬ ‫القمر حول الأر�ض‪..‬‬
‫و�ستني يوما ً وربع‪ ..‬كما يدور ُ‬
‫زبرجد‪ :‬مربوك حبيبي على بلوغك ال�ستني وعقبال‬ ‫دوخك �إبلي�س‪� ..‬أت�ستطيع �أم ال؟‬‫الزعيم‪ :‬دوختني‪ّ . ..‬‬
‫مية �سنة �إن �شاء اهلل‪..‬‬ ‫احتب �أن �أقر أ� لك برجك يا موالي؟‬‫)يتهرب) ُّ‬ ‫ّ‬ ‫زهران‬
‫الزعيم‪� :‬شكراً (يح ّدث نف�سه)‪� ..‬أن��ا مت�أكّ د �أنها‬ ‫‪..‬‬
‫�شمتانة بي‪..‬‬ ‫الزعيم‪ :‬قر�أته‪..‬‬
‫زبرجد‪ :‬هل غابت ال�شم�س عندكم حبيبي؟‬ ‫زهران‬
‫الزعيم‪ :‬ال مل تغب بعد‪..‬‬ ‫الزعيم‬
‫زبرجد‪ :‬لقد غابت ع ّنا هنا منذ �ساعتني‪ ..‬يالطيف‬ ‫زهران‪ :‬برج الغد؟‬
‫ك��م ك��ان منظرها جمي ًال �آه ليتك كنت معي‬ ‫قر�أته‬
‫ياحبيبي‪� ..‬آه ن�سيت �أن �أ�س�ألكم متى �ستقيم حفلة‬ ‫بعد غد؟‬
‫عيد امليالد يا روحي؟‪..‬‬
‫الزعيم‪ :‬اخر�س‪ . ..‬كم �أمت َّنى �أن تقر أ� ال�شياطني على‬
‫الزعيم‪ :‬ال �أع��رف ال �أع��رف‪ ..‬ورمب��ا لن �أقيم �أية‬ ‫احليات الزرق‬
‫قربك‪ ..‬الأف�ضل �أن �أرميك يف بري ّ‬
‫حفلة‪.. ..‬‬ ‫و�أتخلّ�ص من ثرثرتك‬
‫زبرجد‪ :‬ال يجوز ياحبيبي ال يجوز‪ .‬يجب �أن نفرح‬ ‫زهران‪:‬ال‪� ..‬أرجوك يا �سيدي‪..‬‬
‫بك ‪( ..‬ت�سال �أفراد احلا�شية) �صح �أم ال‪� ..‬أجيبوا؟‬ ‫(يرن جر�س الهاتف‪ ..‬يرد على املكاملة فرهود‬
‫�شجاع‪ :‬طبعا ً �صح يا مدام زبرجد ‪..‬‬ ‫رئي�س فروع الأمن)‪.‬‬
‫�أفراح الرعية حتب �أن تفرح بزعيمها �أي�ضاً‪..‬‬ ‫فرهود‪� :‬ألو‪� . ..‬أهال مدام‪( ..‬للزعيم) املدام زبرجد‬
‫زبرجد‪ :‬ربمّ ا لن �أ�ستطيع املجيء‪ ..‬لك ِّني �س�أر�سل‬ ‫على الهاتف (تظهر على ال�شا�شة �أو يف �إطار الزوجة‬
‫حتبون �أن �أر�سل لكم حبيبي‬ ‫هدية ظريفة‪ .‬ماذا ّ‬ ‫لكم ّ‬ ‫الأخرية اجلميلة(زبرجد) وقربها طفل �صغري)‪.‬‬
‫‪197‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫اطمئن‬ ‫مبنا�سبة عيد ميالدكم ال�ستيني؟‪.‬‬


‫أحتبون �أن �آتي �إليكم و�أحتفل معكم بهذه‬ ‫خطّ ار‪ّ � :‬‬ ‫الزعيم‪.. :‬‬
‫املنا�سبة‪..‬؟‬ ‫وجمربة‪ ..‬تعيد‬
‫ّ‬ ‫زبرجد‪ :‬يوجد هنا ع�شبة ظريفة ج ّداً‬
‫الزعيم‪ :‬ال‪ .‬ال ابق يف قلعتك‬ ‫الرجل �إىل �سن الع�رشين و�أ�صغر (ت�ضحك بدلع)‪..‬‬
‫قررمت من �أجل والية العهد‪..‬؟‬ ‫خطّ ار‪ :‬بابا‪ ..‬ماذا ّ‬ ‫�أحتبون �أن �أجلب لكم قلي ًال منها عندما �أع��ود؟‬
‫الزعيم‪ :‬وهل وقت هذا الكالم الآن؟!‪..‬‬ ‫(ت�ضحك)‪.‬‬
‫حتبون �أن �أر�سل �إليكم يف عيد ميالدكم‬ ‫الزعيم‬
‫خطّ ار ماذا ّ‬
‫ال�ستيني‪..‬؟‬ ‫زبرجد‪ :‬ال ال‪� . ..‬شكراً ياروحي �أنا مازلت �شاب ًا كما‬
‫الزعيم‪ :‬ال �أريد �أي �شيء‪..‬‬ ‫تعلمني‪� .. ..‬أعرف‪� ..‬أعرف‬
‫هدية‬ ‫زبرجد‪� :‬أورفوار حبيبي‪ ..‬و�ألف مربوك‪..‬‬
‫خطّ ار‪ :‬م�ستحيل‪ .‬يجب �أن �أر�سل لكم ّ‬
‫الزعيم‪( :‬ي�رصخ) �أي �شيء‪� ..‬أي �شيء‪ ..‬مع ال�سالمة‪..‬‬ ‫(تغادر)‪.‬‬
‫‪( ..‬يغلق ال�سماعة‪ ..‬يختفي خطار)‪.‬‬ ‫(ي��رن جر�س الهاتف من قبل االب��ن خطّ ار‪ ..‬يرد‬
‫الزعيم‪� :‬أخ‪ .‬يالك من وقح ماكر !‬ ‫فرهود)‪.‬‬
‫بلبول‪� :‬صدقت‪َ ..‬من ْ �شابه �أباه فما ظلم‪ ..‬انتبه‬ ‫فرهود‪ :‬ابنكم خطّ ار على الهاتف‬
‫طمع وغدار وثقيل دم مثلك‪. ..‬‬ ‫جيدا لنف�سك‪ .‬ابنك ّ‬ ‫(يظهر خطّ ار على ال�شا�شة)‪.‬‬
‫الزعيم‪ :‬من؟ ابني خطّ ار‪� ..‬أعرف �أع��رف‪ .‬التخف‬ ‫خطّ ار‪ :‬مرحبا ً بابا‪. ..‬‬
‫علي!‪� ..‬أنا �ألعب على �ألف مثله‪ .‬ي�ستحيل �أن يجل�س‬ ‫الزعيم‪.. :‬‬
‫مكاين و�أنا على قبد احلياة‪( . ..‬يعود �إليه اكتئابه‬ ‫خطّ ار‪� :‬أنا �أحكي معكم من القلعة العالية‪ ..‬مربوك‬
‫من جديد‪ ..‬يلتفت �إىل �أفراد احلا�شية‪ ..‬ي�س�أل من‬ ‫على بلوغكم ال�ستني ل�ستني‪..‬‬
‫جديد‪ )..‬غابت ال�شم�س‪..‬؟‬ ‫الزعيم‪( :‬مع نف�سه) على ماذا تبارك يل �أيها اللئيم‬
‫زهران (يت�أمل باملنظار) بقي �سبع دقائق ون�صف‬ ‫املخادع؟ ‪..‬‬
‫و�أربع ثوان‪. ..‬‬ ‫خطّ ار‪ :‬ماهي �أحوال �صحتكم بابا؟‬
‫الزعيم‪( :‬يكاد يبكي) �أل��ن ي�ستطيع �أح��د منكم‬
‫(الزعيم ال يرد)‪.‬‬
‫�إيقافها �أبدا‪. ..‬؟!‬
‫بلبول‪ :‬ابنك خطّ ار ي�س�ألك عن �صحتك ملاذا ال ترد؟‬
‫بلبول‪ :‬يكفي‪ .‬توقف عن هذه الأالعيب واعرتف‬
‫(ي�ضحك) �إ ّنه خائف عليك ‪� ..‬أنا مت�أكِّد �أنه يتم ّنى‬
‫�صار عمرك �ستني‬ ‫لكم �أن ترفعوا الأربعة ح ّتى يجل�س مكانك على هذا‬
‫و�آه يا م�سكني‬ ‫الكر�سي‪( ..‬ي�ضحك)‬
‫وهاتوا ال�سكاكني ‪.‬‬ ‫خطّ ار‪ :‬بابا ملاذا الترد؟! �أنا �أ�س�ألك عن �صحتك‪..‬‬
‫الزعيم‪( :‬ي�رصخ) اقطعوا ر�أ�سه‪..‬‬ ‫هل تعاين من مر�ض ال �سمح اهلل؟‬
‫ال�سياف ح� ّداف �شاهرا �سيفه‪ ..‬يتوارى‬ ‫ّ‬ ‫(يرك�ض‬ ‫الزعيم‪( :‬بحزم) ال‪ ..‬ال‪� .‬أنا ال �أعاين من �أي �شيء‪..‬‬
‫‪198‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�ستني‪. ..‬‬ ‫اجلميع ما عدا بلبول)‪.‬‬


‫�أفراد احلا�شية‪( :‬يقاطعون الزعيم ويرفعون ايديهم‬ ‫ال�سياف‪� :‬أي ر�أ����س ت��ري��دين �أن �أق��ط��ع زع��ي��م‪..‬؟‬
‫ّ‬
‫بالدعاء) رحمهم اهلل و�أ�سكنهم ف�سيح جناته‪..‬‬ ‫(مت�شوقاً)‪.‬‬
‫الزعيم‪( :‬يعيد) �أبي وجدودي حني و�صلوا‪.‬‬ ‫الزعيم‪ :‬ر�أ�س هذا (ي�شري �إىل املهرج)‪.‬‬
‫�أفراد احلا�شية‪( :‬يكررون الأمر ويرفعون ايديهم‬ ‫ال�سياف‪( :‬يلتفت حوله) ولك ّني ال �أرى �أحد�أ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫بالدعاء) رحمهم اهلل وا�سكنهم ف�سيح جناته‪..‬‬ ‫املرة‪ .‬هل ن�سيت‬ ‫بلبول‪ :‬لقد خرفت بالت�أكيد هذه ّ‬
‫الزعيم‪( :‬وقد بد أ� �صربه ينفد) �أبي وجدودي‪.‬‬ ‫�أنك قطعت ر�أ�سي منذ ثالثة �أ�شهر‪ ..‬معك حق‪ ..‬الكرب‬
‫�أفراد احلا�شية‪( :‬يكررون) رحمهم اهلل‪..‬‬ ‫عرب‪..‬‬
‫الزعيم‪( :‬ي����صرخ) يكفي يكفي‪ ..‬العمى ي�صيب‬ ‫ال�سياف‪ :‬ماذا يا زعيم ! ر�أ�س من تريدين �أن �أقطع‪..‬؟‬ ‫ّ‬
‫عيونكم وعقولكم ‪ .‬هل �أنتم جتل�سون يف عزاء �أو‬ ‫قل يل ب�رسعة‪..‬‬
‫مقربة‪..‬؟! (يعيد ال�س�ؤال على زهران) �أبي وجدودي‬ ‫الزعيم‪ :‬انتظر قليال و�أبعد هذا ال�سيف عن وجهي‪..‬‬
‫(ينظر بغ�صب �إىل بع�ض �أفراد احلا�شية الذين رفعوا‬ ‫ا�سمعني جيداً‪ .‬هل طلبت منك �أنا �أن تقطع ر�أ�س‬
‫�أيديهم بالدعاء‪ ..‬يكملون الدعاء هم�سا ً) ملا و�صلوا‬ ‫مهرجي بلبول‪..‬؟‬
‫�إىل ال�ستني ماذا حدث لهم‪..‬؟‬ ‫ال�سياف‪ :‬طبع ًا يا زعيم‪ ..‬وق��د �أط��رت لك ر�أ�سه‬ ‫ّ‬
‫�شماخ العا�رش – اهلل يرحمه – ملا‬ ‫زهران‪ :‬جدك ّ‬ ‫ب�رضبة‪ ..‬و�أنا واثق ب�أنه مل ي�شعر ب�أي �أمل ‪..‬‬
‫و�صل �إىل ال�ستني هبط عليه نور احلكمة و�صار‬ ‫بلبول‪� :‬أ�أنا مل �أ �شعر ب�أي �أمل؟!! �ش ّل اهلل يدك بل يديك‬
‫فيل�سوف ًا عاملياً‪..‬‬ ‫يا كاذب‪ .‬مازالت رقبتي ت�ؤملني �إىل الآن ‪..‬‬
‫الزعيم‪ :‬يا�سالم‪� . ..‬أكمل‪� ..‬أكمل‪. ..‬‬ ‫الزعيم‪( :‬للمهرج) ذكّ رين ملاذا قطعت ر�أ�سك؟‬
‫زهران‪ :‬و�ألّف كتاب ًا ا�سمه (فن احلكم لل ُبكم)‪..‬‬ ‫بلبول‪ :‬ال يوجد �سبب‪� ..‬سوى �أ ّنني جل�ست مكانك‬
‫بلبول‪( :‬يقاطع) هذا الكالم غري �صحيح‪. ..‬‬ ‫على هذا الكر�سي خم�س دقائق فقط‪ ..‬وطلبت منك‬
‫الزعيم‪( :‬ال ي�أبه للمهرج) وجدي الذي جاء بعده‪..‬‬ ‫�أن تلعب دور املهرج مكاين‪.‬‬
‫زه���ران‪ :‬جدكم �شماخ التا�سع – رحمه اهلل –‬ ‫الزعيم‪ :‬ال‪ .‬الهذه من �أكرب الكبائر‪ ..‬كان علي �أن‬
‫و�أ�سكنه ف�سيح جناته‪ ..‬ملا و�صل �إىل ال�ستني‬ ‫�شماخ الأول لو‬ ‫�أخوزقك �أي�ضاٍ‪� ..‬أق�سم بلحية جدي َّ‬
‫و�شن حرباًعلى الأعداء‬ ‫ا�شتعلت احلما�سة يف ر�أ�سه ّ‬ ‫�أن ابني فعلها خلوزقته‪ ..‬نعم خوزقته وال �أبايل‪.‬‬
‫وحقق انت�صارات تاريخية وجلب الغنائم ومائة‬ ‫لقمان‪:‬هل ت�سمحون لنا يازعيم مبعرفة ال�شخ�ص‬
‫�ألف �أ�سري و�أ�سرية‪..‬‬ ‫الذي تتكلمون معه؟!‪..‬‬
‫بلبول‪ :‬وهذا كذب �أي�ضاً‪. ..‬‬ ‫الزعيم‪� :‬أنا �أتكلّم مع نف�سي‪ ..‬ما بك كلّما تكلّمت‬
‫الزعيم‪( :‬منت�شيا ب�أخبار �أجداده) يا �سالم‪ ..‬وجدي‬ ‫وتتدخل فيما‬ ‫ّ‬ ‫قليال مع نف�سي ترك�ض كالأبله‬
‫الذي جاء بعده‪..‬‬ ‫تدخلت ثانية �س�أجعلك‬ ‫اليعنيك‪ .‬ق�سما ً باهلل �إذ ّ‬
‫زهران‪ :‬جدكم �شماخ الثامن – رحمه اهلل و�أ�سكنه‬ ‫طبيبا على ن�ساني�س حديقة احليوان‪ ..‬تعال يا‬
‫ف�سيح جناته ‪ -‬ملا �صار يف ال�ستني تنازل عن‬ ‫زهران واحك يل عن �أبي وجدودي حني و�صلوا �إىل‬
‫‪199‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يرفع الأربعة‪ .‬يعني يديه ورجليه �إىل ال�سماء قبل‬ ‫امللك لإبنه يعني جلدكم �شماخ ال�سابع‪ ..‬وان�رصف‬
‫�أن يكمل زبدية الرز بحليب‪ ..‬وجدكم �شماخ ال�سابع‬ ‫للعبادة و�أعمال الرب والتقوى‪..‬‬
‫�أي�ض ًا حني و�صل �إىل ال�ستني ُج َّن متام ًا و�صار‬ ‫الزعيم‪ :‬ال‪ ..‬الهذه مل تعجبني �أب��د�أً‪ ..‬قال تنازل‬
‫ينام ك َّل ليلة يف خزانة املال ويبقى يع ّد النقود �إىل‬ ‫قال‪ ..‬وهل هناك �إن�سان يف الدنيا يتخلّى عن هذا‬
‫الذهبية‪ .‬ويف �إحدى‬ ‫ّ‬ ‫ويتمرغ فوق اللريات‬ ‫ّ‬ ‫ال�صباح‬ ‫الكر�سي بعد �أن ي�صل �إليه؟!! ‪( ..‬يعانقه) �أي جمنون‬
‫الليايل وقعت فوقه �أكيا�س اليورو والنب وقتلوه‪..‬‬ ‫�أحمق يفارق ه��ذا احلبيب؟!‪� ..‬أري��دك �أن حتذف‬
‫بالعربي الف�صيح عيلتكم �أعوذ باهلل عندها لعنة‬ ‫م�س�ألة هذا التنازل من كتب التاريخ يف احلال‪.‬‬
‫ا�سمها لعنة ال�ستني‪..‬‬ ‫بلبول‪ :‬نحذفها‪ ..‬هذا �أمر ب�سيط ‪ّ � ..‬إن كل �شيء ت�سمع‬
‫الزعيم‪( :‬ي�رصخ خائفا ً ) يكفي‪ .‬يكفي‪� .‬أنت مثل‬ ‫يف الأ�سا�س هوكذب يف كذب ‪..‬‬
‫البومة الأرملة لي�س لديك �سوى �أخبار النح�س‪..‬‬ ‫(يغلق الزعيم فم بلبول)‪.‬‬
‫(ال�شم�س الآن تغيب وتختفي متاما ً من النافذتني‪..‬‬ ‫زهران‪� :‬سنغيرّ ما ت�شا�ؤون ياموالي‪� ..‬أوامركم هي‬
‫يبدو احلزن والقلق على الزعيم‪ُ ..‬تنزل �أفراح �ستائر‬ ‫التاريخ احلقيقي ‪..‬‬
‫تغطي النوافذ وعليها �صورة �شم�س)‪.‬‬
‫الزعيم‪� :‬أكمل‪� ..‬أكمل‪ ..‬و أ� �سمعني تاريخ �أ�ساليف‪. ..‬‬
‫�أفراد احلا�شية‪( :‬يغنون مع رق�ص تعبريي)‪.‬‬
‫�شماخ ال�سابع‪ ..‬ملا �صار عمره‬ ‫زه��ران‪ :‬وجدكم ّ‬
‫�شم�سك �شم�سك مابتغيب يا زعيمنا يا حبيب‬ ‫�ستني �سنة و ّزع خزينة املال كلها عالفقراء‪ ..‬ومل‬
‫�شم�سك �شم�سك بالعايل يا زعيمنا يا غايل‬ ‫يبق فقري واحد بالبلد‪ .‬ومل تعد مهمة املخابرات‬
‫�شم�سك �شم�سك �شع�شاعة وجي�ش الأعدا ف ّزاع ْة‬ ‫البحث عن امل�شاغبني و�أعداء احلكم الذين هم �أعداء‬
‫�شم�سك �شم�سك ���ص��ارت ف���وق وم��ل��ك الأع����داء‬ ‫الوطن‪ .‬بل �صارت مهمة رجال الأمن الأ�شاو�س‬
‫عاخلازوق‬ ‫البحث عن الفقراء والأيتام وامل�ساكني والقب�ض‬
‫(ينه�ض الزعيم)‪.‬‬ ‫عليهم وجلبهم �إىل جدكم ح ّتى يكرمهم ولو كانوا‬
‫حتت �سابع �أر�ض‪.‬‬
‫فرهود‪� :‬إىل �أين �أيها الزعيم‪. ..‬؟‬
‫الزعيم‪( :‬منت�شيا)‪ ..‬يا�سالم‪..‬‬
‫الزعيم‪� :‬أنا نع�سان‪� ..‬أريد �أن انام‪..‬‬
‫بلبول‪( :‬ي�رصخ) يكفي ‪ ..‬يكفي‪� ..‬س�أموت ثانية‬
‫�أف��راح‪ :‬مازال الوقت باكراً يازعيم‪ .‬جئنا لن�سهر‬
‫من هذا الكذب والبهتان‪ .‬ا�سمع احلقيقة �إذن يا‬
‫معك‬
‫�شماخ‪ :‬جدك العا�رش حني و�صل ال�ستني خرف‬ ‫َّ‬
‫الزعيم‪�:‬أنا �أ�شعربال�ضيق وامللل‪( ..‬يتجه نحو باب‬ ‫متام ًا و�صار ي�أكل �ستائر الق�رص و�أ�رشطة الأحذية‪.‬‬
‫اخلروج‪ ..‬يلحق به بلبول) �إىل �أين تتبعني؟‬ ‫و�شن حرب على‬ ‫وجدكم �شماخ التا�سع ُج َّن �أي�ض ًا ّ‬
‫بلبول‪�:‬أنا وراءك �أينما ذهبت (يغ ِّني) وراك وراك‬ ‫ال�سلطان �أبو جراد‪ ..‬وانهزم �رش هزمية وخ�رسنا‬
‫مطرح ما تروح‪..‬‬ ‫اجلزر ال�سبع و�أ�رسوا �ستك مرجانة‪ ..‬وجدك �شماخ‬
‫(يغادرالزعيم واملهرج يلحق به كظلّه)‪.‬‬ ‫د�س له ابنه‬
‫الثامن حني �صار عمره �ستني �سنة ّ‬
‫(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫– يعني جدكم – ال�سم ب�صحن الرز بحليب وجعله‬

‫‪200‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫طرق يون�س‬
‫م�سرحية يف خم�سة م�شاهد‬
‫جبار يا�سني‬
‫كاتب وقا�ص من العراق‬

‫مدخـــــــــــل‬

‫(وفقا الخباري التوراة فان ق�صة يون�س كتبت‪ ،‬على اكرث تقدير‪ ،‬بحدود القرن‬
‫اخلام�س �أو الرابع قبل امليالد ‪� .‬سفر يون�س واحد من �أق�رص اال�سفار التوراتية‬
‫والأكرثها غرابة ‪ .‬يحكي ال�سفر كيف �أن يون�س تلقى �أمر الرب بامل�ضي لهداية‬
‫النا�س يف نينوى‪ ،‬الذين و�صلت اخبار معا�صيهم عنان ال�سماء ‪.‬لكن يون�س يرف�ض‬
‫لأنه يعرف ان اهل نينوى تائبون ال حمالة‪ ،‬لبع�ض الوقت‪ ،‬و�أن الرب �سيغفر لهم‬
‫خطاياهم ‪ .‬ولكي يهرب من االمر الرباين فان يون�س يركب اول �سفينة ت�صادفه‬
‫ما�ضية �إىل مدينة تر�شي�ش ‪ .‬يف البحر تهب عا�صفة هوجاء وي�أخذ اخلوف بتالبيب‬
‫البحارة لكن يون�س يعرف يف قرارة نف�سه‪� ،‬أن هذه العا�صفة تهب عليهم ب�سببه‪،‬‬
‫لأنه ع�صى �أمر الرب بالذهاب اىل نينوى‪.‬حينئذ يلتم�س من البحارة �أن يرموه يف‬
‫البحر لكي تهد�أ العا�صفة ‪ .‬يطيعه البحارة ويقذفون به يف جلة املوج في�سكن البحر‬
‫‪ .‬لكن حوتا‪� ،‬أر�سله الرب‪ ،‬يبتلع يون�س ‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يوجا ‪ .‬يبقى حلظات هكذا ثم ‪ .‬فج�أة يتوقف عن‬ ‫ال�شخ�صيات‬


‫الت�أمل‪ ،‬ي�ضع ر�أ�سه بني يديه ثم ينه�ض ‪ ..‬يلملم‬ ‫البحار‬ ‫يون�س‬
‫وزرته ومي�ضي اىل ميني امل�رسح يلتقط ري�شة‬ ‫ال�رشطي‬ ‫جربائييل‬
‫بي�ضاء كبرية‪ ،‬يت�أملها ثم يرميها بعنف ‪ .‬يعود اىل‬
‫ي�سار امل�رسح‪».‬‬ ‫ميكث يون�س ثالثة ايام بلياليها يف قرارة احلوت‪.‬‬
‫يون�س «بغ�ضب»‪ :‬ححح‪ ،‬هم‪�،‬ش�ش‪،‬زز‪،‬كنوزير‪ ،‬ججج‬ ‫يف اليوم الرابع‪ ،‬ي�أمر الرب احلوت بلفظ يون�س على‬
‫«�صارخا» كل هذه الريا�ضة التفيد ‪ .‬اللعنة‪ ،‬اللعنة‬ ‫االر�ض الياب�سة ‪ .‬ومن جديد يطلب الرب من يون�س‬
‫«�صمت» انها اللعنة ال اكرث وال اقل «�صمت» انا‬ ‫ان مي�ضي اىل نينوى ويخطب يف اهلها ‪ .‬هذه املرة‬
‫ملعون‪ .‬ملعون منذ والدتي و�إال ملاذا يحدث يل كل‬ ‫ميتثل يون�س للأمر ‪.‬لكن خالل ذلك كان ملك نينوى‬
‫هذا بينما النا�س يتجولون يف اال�سواق ب�سعادة‪،‬‬ ‫قد �سمع وعيد الرب فطلب املغفرة والعفو وكذلك اهل‬
‫يتب�ضعون الرتهات‪،‬يبنون بيوتهم‪ ،‬يتزوجون‪،‬‬ ‫املدينة‪ ،‬فلم يهلكهم‪ .‬غري ان يون�س كان غا�ضبا لأنه‬
‫ينجبون اطفاال‪ ،‬يجمعون الرثوة‪ ،‬وال ميوتون اال بعد‬ ‫ورطه يف هذا االمر‪ ،‬فيم�ضي حا�رسا اىل ال�صحراء‬
‫ان يتعبوا من احلياة‪ ،‬بينما انا اتلقى حماقات من‬ ‫�رشق املدينة‪ ،‬حيث يبتني له كوخا من الق�ش‬
‫كومة ري�ش تدعي �صداقتي ‪...‬؟‬ ‫وينتظر هناك ما�سيحدث للمدينة التائبة‪ .‬ينبت‬
‫«ا�صوات النوار�س تعلو كما لو انها تنق�ض على‬ ‫الرب هناك �شجرة خروع لتظلل يون�س من �شعاع‬
‫�سمكة»‬ ‫وحرارة ال�شم�س ‪ .‬ي�شعر يون�س باالمتنان للرب على‬
‫يون�س مي�سح ر�أ�سه كما لو انه تلقى ذرقا ‪ .‬قرفا‪ ،‬ينظر‬ ‫هديته القد�سية لكن يف اليوم الثاين ف�أن الرب يهلك‬
‫اىل ال�سماء‪« .‬ب�صوت عال» حتى الطيور ت�ضحك يف‬ ‫ال�شجرة ‪ .‬ال�شم�س والريح يتعبان يون�س ويزرعان‬
‫ال�سماء‪،‬تتهام�س علي‪ ،‬ت�شتمني‪ .‬تزرب يف طريانها‬ ‫الي�أ�س يف نف�سه فيطلب من الرب ان مييته ‪ .‬حينئذ‬
‫الهادئ هنا «ي�ضع يده على هامته» ولي�س يف مكان‬ ‫يخاطبه الرب ويقول له‪ :‬انت حزين الين اهلكت‬
‫�آخر ‪ .‬الطيور ترتك هذه ال�سماء ال�صافية وهذا االفق‬
‫�شجرة �صغرية بينما تريد مني ان �أهلك اهل نينوى‬
‫البعيد‪ ،‬هذا النور الذي ي�أتي من الف م�شعل لتزرب‬
‫‪ .‬هل علي ان انقذ �شجرة وال انقذ اهل هذه املدينة‬
‫فوق ر�أ�سي ‪...‬‬
‫الذين المييزون بني ي�سارهم وميينهم وان اهلك‬
‫« مي�ضي ويجل�س على ال�صخرة يف اجلانب الأي�رس»‬
‫دوابهم ‪.‬؟ لكن بعد حني ف�أن اهل نينوى يعودون اىل‬
‫�صوت املالك جربائيل «برخامة وبطء»‪ :‬انه�ض‬
‫فجورهم فيهلكهم الرب ويدمر نينوى)‪.‬‬
‫وام�ض اىل حيث ما امرت ‪.‬‬
‫«يبدو غري مكرتث»‬ ‫طرق يون�س‬
‫�صوت املالك‪ :‬انه�ض الآن وام�ض اىل نينوى ‪.‬‬
‫امل�شهد االول‬
‫يون�س «بحدة ومترد ناظرا اىل ال�سلم» ال لن انه�ض ‪.‬‬
‫�صوت جربائيل «بحيادية»‪ :‬ارجوك ان تنه�ض‬ ‫«�سماء زرقاء �صافية ‪� .‬ساحل رملي م�ضاء بنور‬
‫يون�س «بتحدي»‪ :‬ال لن انه�ض هذه املرة‪ ،‬لقد مللت‬ ‫منت�صف نهار �صيفي‪�.‬سلم مزدوج على ميني‬
‫من اوامرك «ينه�ض وي�سري قليال‪ ،‬مقلدا املالك‬ ‫امل�رسح‪ ،‬م�ضاء حتى منت�صفه ‪ ..‬ا�صوات نوار�س‪.‬‬
‫«انه�ض‪ ،‬انه�ض‪ ،‬اذهب هنا‪ ،‬اذهب هناك‪ ،‬ومل اعد‬ ‫يون�س رجل طويل ونحيل ب�شعر ا�شعث‪ ،‬يرتدي وزرة‬
‫ادري اىل اين ينبغي ان اذهب» بحدة «كال �س�أبقى‬ ‫بي�ضاء مهلهلة تلف اغلب ج�سده‪ .‬يتحرك ميينا‬
‫هنا يف مكاين حتى انفق على هذا الرمل و�أتعفن‬ ‫و�شماال‪ ،‬يتطلع مرة اىل االفق ومرة اخرى اىل اعلى‬
‫مثل �سمكة لفظها البحر قبل ان جتففها �شم�س‬ ‫ال�سلم ثم يعود ليجل�س �شابكا �ساقيه كما يف جل�سة‬
‫‪202‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يون�س‪ :‬ا�ستالم االوامر من االقوياء واعطاء االوامر‬ ‫اجلحيم هذه ‪.‬‬


‫للم�ساكني مثلي‪.‬‬ ‫«يهبط جربائيل على ال�سلم جهة امل�رسح اليمنى‬
‫جربائيل «رافعا يده احتجاجا»‪ :‬انت تبالغ يف كل‬ ‫مو�شحا بالبيا�ض‪ ،‬بجناحيني �صغريين يف اعلى‬
‫�شيء‪ ،‬انت حدي دائما‬ ‫ظهره وتاج ابي�ض ي�شبه طربو�شا ‪ .‬يقف بعيدا»‬
‫يون�س‪ :‬وهل ميكن يل ان اكون غري ذلك يف هذه‬ ‫جربائيل‪« :‬بنربة لوم»‪ :‬يون�س‪ ،‬يون�س‪ ،‬ال جتدف ‪.‬‬
‫املدينة التي المييز النا�س فيها بني اليمني والي�سار؟‬ ‫انت مازلت يف احلياة الدنيا‪ ،‬هذه �شم�س احلياة‬
‫جربائيل‪� :‬أي مدينة؟‬ ‫«ي�ضحك» �أي �شم�س يف اجلحيم هذه التي تتحدث‬
‫يون�س‪ :‬وهل هناك غريها‪ ،‬مدينتنا‪.‬‬ ‫عنها‪ ،‬ا نه الظلمة وال�صمت ‪ .‬كن �سعيدا هنا وا�سمعني‬
‫جربائيل «حمتجا»‪ :‬نينوى‪ ،‬مدينتك انت ‪ .‬قدرك ‪.‬‬ ‫جيدا ‪�« .‬صمت» �آه لو عرفت ‪.‬‬
‫التتحدث ب�صيغة اجلمع وال تخلط النا�س ببع�ضهم‪»،‬‬ ‫يون�س‪ :‬اين هو القارب لكي اجدف؟‬
‫يو�رش لل�سماء بحركة ن�صف دائرية « انا مدينتي يف‬ ‫جربائيل «فاحتا ذراعيه» هل �سنبد�أ اللعب بالكلمات‬
‫كل مكان هناك ‪.‬‬ ‫من جديد؟ لي�س لدينا وقت للعب بالكالم «يقرتب‬
‫يون�س‪ :‬حمظوظ انت ‪ .‬لي�س مثلي من مدينة اىل‬ ‫منه خطوات» ماذا اقول لك؟ لقد ان�سيتني الكلمات ‪.‬‬
‫مدينة ومن عراء اىل �آخر‪ ،‬من بلد ة ترميك بق�سوة‬ ‫«مفكرا» ها وجدتها ‪ .‬التكفر هل تفهمني الآن؟‬
‫على الكثبان اىل �آخرى تقيدك ب�أغالل العبودية اىل‬ ‫يون�س «يعود ليجل�س فوق ال�صخرة»‪ :‬فهمتك لكن‬
‫نينوى الغبية‪.‬نينوى امللوك والعبيد‪.‬‬ ‫حينما ت�شتد حمنة املرء ف�أن اللعب بالكالم �سلوى‪،‬‬
‫جربائيل « يقرتب من يون�س ويهم�س»‪ :‬الحتكم‬ ‫حل م�ؤقت للمع�ضلة ‪.‬‬
‫�رسيعا ‪ .‬من يدري؟ لنا م�شاكلنا هناك ‪� « .‬صمت «‬ ‫جربائيل‪ :‬هل تعتقد؟‬
‫امل�شاكل يف كل مكان مادامت هناك �سماء ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬ق�ضيت ن�صف حياتي اجرب الكلمات‪ ،‬ا�ضعها‬
‫يون�س‪ :‬اذن البد من العي�ش يف البحر‪ ،‬يف االعماق‪،‬‬ ‫يف كي�س واخلطها «ي�ؤدي حركة الكي�س وو�ضع‬
‫فهناك ال �سماء‪� ،‬صمت مطلق ونزهة بني ال�صخور‬ ‫الكلمات فيه ورجه» ثم ا�سحبها ك�أرقام اليان�صيب‬
‫املرجانية ‪.‬ملاذا مل اخلق �سمكة؟‬ ‫كلمة كلمة‪..‬‬
‫جربائيل‪ :‬لكن اال�سماك الكبرية ت�أكل ال�صغرية‪ ،‬انه‬ ‫جربائيل‪ :‬وهل ربحت يان�صيبك؟‬
‫قانون البحر‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬حتى الآن مل اربح يان�صيبا غريك‪ ،‬وياله من‬
‫يون�س «بع�صبية» اكون �سمكة كبرية‪� ،‬سمكة قر�ش‬ ‫يان�صيب ‪ .‬ثم ملاذا ال ترتكني اكمل عبارتي ‪.‬‬
‫مثال‪».‬جربائيل �ضاحكا» ملاذا ت�ضحك؟‬ ‫جربائيل «بلهجة اعتذار» عفوا‪ ،‬عفوا‪ ،‬اكمل عبارتك ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬اتخيلك �سمكة قر�ش حائرة ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬كما ترى ن�سيت «مفكرا ثم بحدة» ماذا كنت‬
‫يون�س‪ :‬ومل ال ‪� .‬سمكة قر�ش وال هذه احلياة يف‬ ‫اقول؟‬
‫انتظار ما ال ادري‪.‬‬ ‫جربائيل‪ :‬كنت تلعب بالكلمات التي يف الكي�س ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬القر�ش ال ينطق وال يلعب بالكلمات‪�،‬أي‬ ‫يون�س‪ :‬نعم‪ ،‬ا�سحب الكلمات ال على التعيني وا�صنع‬
‫متعة �ستفقد حينما ت�صري قر�شا‪ ،‬هل فكرت بهذا؟‬ ‫منها جملة هكذا‪« .‬يغني متمايال» وردة �صفراء‬
‫يون�س‪ :‬لهم لغتهم‪ ،‬انا مت�أكد‪.‬‬ ‫حقل يف ال�شم�س بعيد امل�صباح قمة جبل‪« .‬يتوقف‬
‫جربائيل «متهكما»‪ :‬نعم‪ ،‬لغة تك�سري العظام ومتزيق‬ ‫كما لو انه ن�سي �شيئا جربائيل «�ضاحكا»‪ :‬مل افهم‬
‫اللحم حينما يلتهمون اال�سماك االخرى‪ ،‬اال�صغر‬ ‫�شيئا‪ ،‬اق�سم لك مل افهم �شيئا ‪.‬‬
‫واال�ضعف ومن اليجيد العوم « بعد تردد « مثلك ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬طبيعي‪ ،‬ال تفهم يف ال�شعر‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬ومن قال لك اين ال اجيد العوم؟‬ ‫جربائيل‪ :‬مباذا تفهم اذاً؟‬
‫‪203‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يون�س‪ :‬ملاذا؟‬ ‫جربائيل « م�ستديرا على نف�سه‪ ،‬منت�رصا «‪ :‬هه‬


‫جربائيل‪ :‬كي ي�ستعجلوا خروجك من املدينة‪ ،‬كي‬ ‫يون�س « مقلدا املالك» ‪ :‬هه ‪« ..‬مبتعدا نحو ي�سار‬
‫تقع بني اح�ضان قدر �آخر‪ ،‬احيانا تكفي ثانية واحدة‬ ‫امل�رسح‪ .‬بغ�ضب» املالك جربائيل يعرف كل �شيء ‪.‬‬
‫لكي ينجو االن�سان من قدر او يقع بني فكي قدر �آخر‬ ‫جربائيل «مالحقا يون�س»‪ :‬ال تغ�ضب ب�رسعة‪ ،‬ف�أنا‬
‫‪ .‬لو كنا امام البحر ف�أن حديثنا نحن االثنني �سيكون‬ ‫اعرف ا�شياء قليلة مثال «يتوقف» انك جتيد العوم‬
‫حديثا �آخر ‪.‬‬ ‫يف الكلمات‪ ،‬نعم‪�« ،‬صمت» لكنك تغرق فيها دائما‪.‬‬
‫يون�س «خائبا»‪ :‬كل هذه الرحلة وهذه الكلمات التي‬ ‫يون�س‪ :‬ما الذ ذلك ‪ .‬احلياة كلمات نرتبها ح�سب‬
‫رافقتني عرب ليايل وحدتي ومازلت بعيدا عن البحر‪.‬‬ ‫�سعادتنا او �شقائنا ولنغرق بعد ذلك‪،‬فلي�أت‬
‫كذبوا علي‬ ‫الطوفان‪ ،‬الي�س لكل �شيء نهاية‪ ،‬الي�س املوت ما‬
‫جربائيل‪ :‬نحن دائما بعيدون عن البحر حتى لو كنا‬ ‫ينتظرنا‪ ،‬فليكن موتا �سهال‪ ،‬جميال‪ ،‬مباركا «يرتفع‬
‫يف عبابه‬ ‫�صوته» بال ارث وال دوي وال امل وال ملعان ذهب‬
‫يون�س‪ :‬كيف؟‬ ‫نرتكه يلمع خلفنا ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬لأن البحر بال و�سط‪ ،‬بعيد من اجلهات‬ ‫جربائيل‪ :‬اهد�أ‪ ،‬اهد�أ‬
‫كلها‪ ،‬كيف اقول لك‪ ،‬هل تعرف الهند�سة؟‬ ‫يون�س «بتهكم»‪ :‬وهل يهد�أ البحر؟‬
‫يون�س‪ :‬مررت على بابل‬ ‫جربائيل‪ :‬ما زال البحر هادئا‪ ،‬انت مل تر العا�صفة‬
‫جربائيل‪ :‬البحر بال مركز فهو ال�شكل منتظما له مثل‬ ‫بعد ‪..‬حينما يهيج البحر ف�أن‪...‬‬
‫الغيم‪،‬‬ ‫يون�س‪ :‬وماذا تظن؟ «ي�ؤ�رش امامه» ر�أيت هذا البحر‬
‫يون�س‪ :‬او الكلمات‬ ‫هائجا‪ ،‬جارفا مبوجه‪ ،‬الذي ي�شبه ال�سنة النار‪،‬‬
‫جربائيل «�ضاحكا»‪ :‬تقريبا‬ ‫الب�رش والبقر وا�شجار ال�صف�صاف والبيوت ‪.‬فوقه‬
‫يون�س‪ :‬او ال�شعر‬ ‫ال�سماء بلون الرماد والريح تعول ك�أبواق احلرب ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬رمبا‪ ،‬كنت تقول اين ال اعرف يف ال�شعر‪.‬‬ ‫ر�أيت ن�ساء تتقاذفهن االمواج والرجال يرك�ضون‬
‫«ي�شتد �صوت النوار�س وتنطبع خياالتها على‬ ‫مذعورين وقد فقدوا كرم الرجولة ال يلوون على‬
‫الرمل»‪.‬‬ ‫�شيء ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬مالذي ا�صابهم؟‬ ‫جربائيل «هادئا»‪ :‬يون�س هذا دجلة ‪.‬نهر دجلة‪،‬‬
‫جربائيل‪ :‬ال بد ان احدهم قن�ص �سمكة‪� ،‬سيتقا�سمونها‬ ‫قارورة �صغرية من بحر‬
‫بعد ان ميزقوها اربا ‪ .‬ال�سماء يف كل مكان حتى يف‬ ‫يون�س‪ :‬اعرف انه دجلة‪ ،‬لكنه البحر‬
‫اعماق البحر‪.‬‬ ‫جربائيل «واثقا من نف�سه»‪ :‬البحر بعيد وهذا النهر‬
‫يون�س «يائ�سا»‪ :‬امل�سكينة ‪ .‬بعد �ساعات �ست�صري‬ ‫الذي امامك مي�ضي حتى البحر الكبري «ي�ؤ�رش بعيدا»‬
‫ن�سيا من�سيا‪� ،‬سيلف�ضونها ذرقا على الرمل او املاء‬ ‫هناك يف اجلنوب خلف غابات النخيل‪ ،‬خلف اطالل‬
‫او على ر�أ�سي‬ ‫املدن القدمية وتالل الذهب والف�ضة‪ ،‬البحر �شيء‬
‫جربائيل «متقم�صا �صورة‪� »...‬أي نعم‪ ،‬هذا هو‬ ‫�آخر‪ ،‬رهيب الت�ستطيع عني ان تلم به ‪ .‬انت مل تره‬
‫القانون‬ ‫بعد‬
‫يون�س‪ :‬ان يذرقوها على ر�أ�سي؟‬ ‫يون�س‪ :‬قالوا يل منذ ان و�صلت ان دجلة هو البحر‬
‫كال‪ ،‬ان ت�صري اال�شياء هباء‪ ،‬ن�سيا من�سيا‬ ‫جربائيل‪ :‬من قال ذلك؟‬
‫«يون�س مفكرا ‪� .‬صمت‪ .‬جربائيل ينظر اليه وا�ضعا‬ ‫يون�س «م�ست�سلما»‪ :‬اهل نينوى‬
‫ذراعيه على �صدره»‪.‬‬ ‫جربائيل‪ :‬خدعوك‬
‫‪204‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الليل‪ ،‬فتحت هذه ال�شم�س الميكن لأحد ان يرى نور‬ ‫يون�س‪ :‬اين كنا قبل هذه احلرب؟‬
‫امل�صباح حتى لو كان مالكا ‪.‬‬ ‫جربائيل‪� :‬أي حرب؟‬
‫جربائيل‪� :‬أت�سلي نف�سك برتهات مثل هذه وترف�ض‬ ‫يون�س‪ :‬حرب النوار�س وال�سمكة ‪.‬‬
‫العودة لنينوى من اجلها ‪.‬‬ ‫جربائيل‪ :‬افزعتني‪ ،‬انت تبالغ دائما ‪ .‬هذه لي�ست‬
‫يون�س «�صارخا»‪ :‬وماذا تريدين ان افعل؟ لن‬ ‫حرب‪ ،‬انها طريقة العي�ش ‪.‬لكي يكون هناك اقوياء‬
‫ي�سمعني احد هناك ‪.‬‬ ‫البد من �ضعفاء‪.‬غني فقري‪ ،‬ذكي غبي‪ ،‬كل هذا لكي‬
‫جربائيل‪ :‬اذا ذهبت لهم ب�شعرك هذا فبالت�أكيد لن‬ ‫ن�ستطيع ان نقارن و نكت�شف انف�سنا‬
‫ي�سمعك احد‪� ،‬سي�ضحكون عليك «جانبيا» حتى لو‬ ‫يون�س‪ :‬والعدالة؟ اين مكانها؟ونحن اين كنا؟‬
‫كان امل�صباح يف ليل الذئاب عنوان ق�صيدتك ‪.‬‬ ‫جربائيل‪ :‬يف مكاننا هذا ‪.‬مل نغري مكاننا منذ �ساعات‬
‫يون�س‪ :‬هذا مافعلوه معي رغم اين كنت احتدث معهم‬ ‫وانت هنا مل تغري مكانك منذ ان هربت من نينوى ‪.‬‬
‫بكلماتك‪ ،‬بالعبارات التي لقنتني اياها طوال ذلك‬ ‫يون�س‪ :‬انت اي�ضا �رصت تلعب بالكلمات «يتوقف»‬
‫الفجر‪.‬‬ ‫نعم اتذكر الآن ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬كان عليك ان ت�صرب‪ ،‬ان تكرر مالقنته لك ‪.‬‬ ‫جربائيل‪ :‬احلمد هلل‬
‫التكرار يعلم احلمار‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬كنا عند ال�شعر‪.‬‬
‫يون�س «حمتجا»‪ :‬وهل تريدين ان اق�ضي حياتي بني‬ ‫جربائيل‪ :‬اذا احببت ذلك‪ .‬انت حر‪.‬‬
‫احلمري؟‬ ‫يون�س «�زشرا»‪ :‬حر؟ مل اعد ادري‬
‫جربائيل‪ :‬كال ‪ .‬انه مثل ‪ .‬لقد �رضبت لك مثال‪.‬‬ ‫جربائيل‪ :‬كال�شعر الذي كنت تغنيه ‪ .‬حر لكن بال‬
‫يون�س‪ :‬كان االف�ضل لك ان ت�رضبني بدل �رضب‬ ‫معنى ‪.‬‬
‫املثل ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬مل ترتكني اوا�صل حديثي‪ ،‬انتم تتقنون فن‬
‫جربائيل‪ :‬امل�شكلة‪ ،‬ال حلول و�سطية معك ‪.‬‬ ‫املراوغة وتغيري جمرى الكالم ‪.‬انها موهبة ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬واين انا الآن‪ ،‬ال�ست يف الو�سط‪ ،‬بني البحر‬ ‫جربائيل‪ :‬وماذا بعد؟‬
‫ونينوى‪ ،‬اتلظى حتت هذه ال�شم�س وال اعرف اين‬ ‫يون�س‪ :‬ال �شيء ‪.‬‬
‫�س�أم�ضي؟‬ ‫جربائيل‪ :‬كل هذا وال�شيء ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬انه ذنبك فقد تركت الطريق املر�سوم لك‬ ‫«مي�ضي يون�س وينطرح على ظهره فوق الرمل و�سط‬
‫عند اول عرثة ‪ .‬لكل واحد منا طريقه وعليك ال�سري‬ ‫امل�رسح‪ ،‬م�سندا جذعه على �ساعديه»‬
‫فيه حتى النهاية ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬تتذكر يا ن�صيب الكلمات‪ .‬تلك العبارة‬
‫يون�س‪� :‬أي طريق واي نهاية؟ يف املا�ضي‪ ،‬يف ايام‬ ‫اتذكرها ‪...‬‬
‫الطفولة وال�شباب كان يل طريق واحالم‪ ،‬كان يل‬ ‫جربائيل «مقاطعا»‪ :‬وردة �صفراء حقل يف ال�شم�س‬
‫بيت وام واخوة وجريان و مروج من الذهب وبالبل‬ ‫بعيد امل�صباح قمة جبل‪.‬‬
‫تغرد يف ال�صباح ‪ .‬كان عليك ان جتئ وجتربين‬ ‫يون�س‪ :‬متاما «ميط �شفته بقوة ويهز ر�أ�سه» ذاكرتك‬
‫على النهو�ض لأقول احلقيقة املدوخة لأهل نينوى‬ ‫قوية‬
‫لريموين‪ ،‬كجيفة‪ ،‬خارج ا�سوار مدينتهم ‪ .‬ا�سمع لقد‬ ‫جربائيل‪ :‬ذاكرة مالك عنيد‪ ،‬ت�ؤدي مهمتها فح�سب‬
‫تعبت ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬اترك االمر «بطريقة �شعرية»‪ :‬وردة �صفراء‬
‫جربائيل‪ :‬من منا مل يذق التعب؟‬ ‫يف حقل بعيد ا�سفل قمة جبل ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬انت ‪.‬‬ ‫جربائيل ‪ :.‬رائع‪ ،‬رائع‪ ،‬وامل�صباح؟‬
‫جربائيل‪ :‬تظلمني بكلمة واحدة ‪.‬‬ ‫يون�س «�ضاحكا»‪ :‬نرتكه لبيت �شعري �آخر يف‬
‫‪205‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫امل�شهد الثاين‬ ‫يون�س‪ :‬وانت ظلمتني بكلمات و�أفعال حينما‬


‫«نف�س املنظر حتت نور �صباحي ‪ .‬يون�س نائما على‬ ‫اجربتني على الذهاب اىل نينوى ‪ .‬انظر اين انا الآن‬
‫الرمل ‪ .‬يهبط جربائيل حامال �سندانة فيها �شجرة‬ ‫جربائيل‪ :‬لكنك ذهبت و كربيا�ؤك مي�شي امامك ‪.‬‬
‫ب�أوراق كبرية وغ�صن ممتد اكرث من بقية االغ�صان‪،‬‬ ‫يون�س‪ :‬ماذ افعل انه ال�صق بجلدي‪ ،‬حينما تغرم‬
‫ي�ضعها عند ر�أ�س يون�س بحيث يغمر الظل ج�سد‬ ‫بالكالم يلت�صق بك الكربياء ‪ .‬انه و�شم ان�سانيتي‬
‫يون�س‪ ،‬ثم مي�ضي ليجل�س على �صخرة ميني امل�رسح‪.‬‬ ‫انا وال احد �آخر يف مدينة يو�شم على جلود النا�س‬
‫ينظر اىل يون�س «جربائيل» يحدث نف�سه‪ :‬له احلق‬ ‫فيها كاملوا�شي‪ ،‬بعالمة املالك ‪ .‬امللك او الراهب او‬
‫يف ان ينام حتى ال�ضحى ‪ .‬مل تكن ليلته �سعيدة فلم‬ ‫ال�صرييف‪.‬‬
‫يتمن له احد ليلة �سعيدة ‪ .‬هذه م�شكلة الوحدة‪ ،‬ال احد‬ ‫جربائيل‪ :‬وانت و�ضعت نف�سك يف الو�سط‪ ،‬وحيدا ‪.‬‬
‫يون�س «طاقا ا�صابعه «‪ :‬ها انك تفهمني الآن ‪.‬‬
‫ينتظر يقظتك «ينه�ض ويتجه نحو يون�س‪ ،‬ينحني‬
‫جربائيل‪ :‬فهمتك منذ البداية لكني ‪� »....‬صمت»‬
‫عليه ويحملق يف عينيه ‪ .‬يتحرك ج�سد يون�س يدور‬
‫يون�س‪ :‬لكنك؟‬
‫على نف�سه‪ ،‬ي�سحب غطاءا مفرت�ضا بال جدوى ويبد�أ‬
‫جربائيل «ب�رسعة»‪ :‬ل�ست �سوى �ساعي بريد‪.‬‬
‫يف اال�ستيقاظ ‪ .‬يفرك عينيه وينظر لل�شجرة اعاله ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬لكن ر�سائلك مثل بالغات حمكمة‪ ،‬واجبة‬
‫يبدو مذعورا»‬
‫التنفيذ على الفور واال فالعقاب‪ ،‬على هذا الرمل‬
‫يون�س‪ :‬ما هذه؟‬
‫وحتت هذه ال�شم�س‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬املعجزة‬ ‫جربائيل‪ :‬االمر لي�س بيدي‪� ،‬ساعي الربيد ي�رضب‬
‫يون�س «ينه�ض ويدور حول ال�شجرة ثم ينظر‬ ‫الباب مرتني ثم ين�رصف ‪.‬‬
‫حوله نحو االفق ويعود بب�رصه اىل ال�شجرة ‪ .‬مي�س‬ ‫يون�س‪ :‬وكم مرة �رضبت بابي حتى الآن ‪.‬‬
‫اوراقها»‪ :‬خروع ام ياقطني؟‬ ‫جربائيل‪ :‬مرة واحدة‪ ،‬من ح�سن حظك ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬لي�س مهما‪ ،‬انها املعجزة‬ ‫يون�س‪ :‬مازال هناك امل يف ان ت�رضب بابي مرة‬
‫يون�س «مدلكا اوراق ال�شجرة‪ ،‬ي�شم االوراق بطريقة‬ ‫ثانية؟‪.‬‬
‫كلبية»‪ :‬رائحتها غريبة‬ ‫جربائيل‪ :‬حل�سن احلظ‪« .‬يهم باالن�رصاف‪ ،‬مي�ضي‬
‫جربائيل‪ :‬رائحة املعجرة التي تت�ضوع طوال الع�صور‬ ‫اىل جهة امل�رسح اليمنى ثم يتوقف و يلتفت» �س�أرى‬
‫يون�س‪ :‬ما ا�سمها؟‬ ‫كيف ا�ساعدك‪،‬‬
‫جربائيل «بعد �صمت يزم �شفتيه ويهز كتفه»‪� :‬شجرة‬ ‫ف�ساعي الربيد‪ ،‬كما تعلم يعرف اال�رسار كلها لكنه‬
‫املعجزة «�صمت» ال�ست �سعيدا بها‪ ،‬انها �شجرة على‬ ‫طيب «ي�ضع يده حول فمه «ولن يف�شي �رسا» يتوقف‬
‫مقا�سك ‪.‬‬ ‫ويرفع �سبابته انها املهنة ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬منت طويال‪ ،‬الي�س كذلك؟ انا ان�سان متعب‬ ‫«يتجه نحو ال�سلم»‪.‬‬
‫حتى العظم وبحاجة اىل الراحة ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬اف�ضل م�ساعدة ان ترتكني حرا «�صمت» ان‬
‫جربائيل‪ :‬مل تنم اكرث من العادة‪ ،‬رمبا ن�صف ليلة او‬ ‫ال تعود‬
‫اكرث قليال اذا اخذنا بنظر االعتبار ال�ساعة اال�ضافية‬ ‫«ي�صعد جربائيل ال�سلم ويتوقف عند منت�صفه»‬
‫التي وفرتها لك املعجزة‪ ،‬فاملعجرة تغري الزمن‬ ‫جربائيل‪ :‬هذا لي�س اكيدا «ي�صعد ويختفي»‬
‫يون�س‪ :‬هل تريد ان تقول ان هذه ال�شجرة منت»‬ ‫يون�س يرك�ض نحو وال�سلم‪�،‬صارخا‪ :‬جربائيل ‪ .‬اىل‬
‫يحرك �سبابته بطريقة دائرية « خالل ن�صف ليلة؟‬ ‫اين نحن ذاهبون؟‬
‫جربائيل‪ :‬اقل من هذا بكثري‬ ‫«ظالم»‬
‫‪206‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‪ ..‬م�ســرح‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بد�أت تذبل‪.‬‬ ‫يون�س‪:‬لكنها �شجرة و‪...‬‬


‫جربائيل‪« :‬يتقدم نحو ال�شجرة يتملى بها‪ .‬م�ست�سلما»‪:‬‬ ‫جربائيل‪� :‬شجرة معجزة ‪ .‬انها تختلف عن كل‬
‫غدا �س�آتيك ب�أخرى مثمرة‪� ،‬شجرة افوكاتو ‪ .‬هل‬ ‫اال�شجار التي تعرفها ‪ .‬تنمو يف اقل من ليلة وتذبل‬
‫تعرف االوفوكاتو؟‬ ‫يف �ساعة وت�صري رمادا يف رم�شة عني ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬ال ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬وماذا تريدين ان افعل ب�شجرة �ستموت امام‬
‫جربائيل‪ :‬انها �شجرة جميلة تعي�ش خلف البحر‪،‬‬ ‫عيني؟اال يكفي هذا العامل الذي ميوت؟‬
‫مظللة وثمرها طيب ‪.‬‬ ‫جربائيل‪ :‬التكن ناكرا للجميل‪ ،‬لقد منت �ساعة‬
‫يون�س‪ :‬انام حتتها و�آكل من ثمارها‪ ،‬يالها من‬ ‫ا�ضافية هذا ال�صباح حتت ظل هذه ال�شجرة وكان‬
‫معجزة قادمة ‪.‬‬ ‫ممكنا ان تبقى نائما حتى انت�صاف النهار‬
‫جربائيل‪ :‬ماذا تريد اكرث من هذا؟‬ ‫يون�س «حمتدا»‪ :‬وملاذا ايقظتني؟‬
‫يون�س‪ :‬ان افهم اىل اين نحن ما�ضون مبعجزات او‬ ‫جربائيل‪ :‬مل افعل �شيئا‪ ،‬ا�ستيقظت لوحدك ‪..‬تغري‬
‫بدون معجزات ‪.‬‬ ‫عليك املكان ب�سبب الظل الذي ن�سيته فذعرت ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬بب�ساطة‪ ،‬اىل حيث ينبغي ان من�ضي مثل‬ ‫حينما تتغري عاداتنا ن�صاب بالذعر ‪ .‬الب�أ�س انها‬
‫جميع النا�س‪ ،‬لن تغري �شيئا يف هذه ال�سل�سلة التي‬ ‫املرة االوىل‪ ،‬غدا‪..‬‬
‫ا�سمها احلياة حتى لو رف�ضت العودة اىل نينوى ‪.‬‬ ‫يون�س‪ :‬ماذا غدا؟ هل �ست�أتي يل ب�شجرة اخرى‬
‫يون�س‪ :‬على االقل �س�أغري من قدري‪� ،‬أمل تقل يل ان‬ ‫وتوقظني؟‬
‫االمر يعتمد على ثانية واحدة لكي يغري االن�سان‬ ‫جربائيل‪ :‬ال‪ ،‬نف�س ال�شجرة ‪.‬‬
‫قدره؟ العودة اىل نينوى حتتاج �ساعات و�ساعات‪،‬‬ ‫يون�س‪ :‬ما الفائدة اذا كانت �ستموت‬
‫�سيكون يل وقت لكي اغري اقداري جميعا‪ ،‬قدرا بعد‬ ‫جربائيل‪ :‬من اجل املعجزة ‪.‬البد من معجزة كي‬
‫�آخر والعب ب�ألف كلمة ‪ .‬واعود القهقرى قبل ان ا�صل‪،‬‬ ‫ترتاح‪ ،‬كي تنام �ساعات حمميا من ال�شم�س‪ ،‬من‬
‫من يدري لعلي التقي بقدر جنمة تائهة مثلي؟‪.‬‬ ‫اجل ان تعود لنينوى �صاحيا‪ ،‬قويا‪ ،‬لكلماتك و�ضوح‬
‫جرائييل‪ :‬انت حتلم ‪.‬‬ ‫ال�شم�س ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬اعرف ‪ .‬بدون احالمي لن اكون �إال حمارا‬ ‫يون�س‪ :‬لن اعود لنينوى مبعجزة �شجرة او مبعجزة‬
‫يحمل بر�سيمه‪.‬‬ ‫غابة �صنوبر على �ساحل دجلة ‪.‬‬
‫جربائيل‪ :‬حامل وجمنون‬ ‫جربائيل‪ :‬البد ان ترتاح اوال‪ ،‬ان يهد أ� فكرك‪،‬ان‬
‫يون�س‪ :‬حامل وجمنون‪ ،‬نعم ‪.‬‬ ‫متلأ معدتك‪ ،‬ان ينطفئ غ�ضبك‪ ،‬ان تبتعد عن لعبك‬
‫جربائيل «مبكر»‪ :‬حامل وجمنون وحاقد‬ ‫بالكالم ثم بعد ذلك مت�ضي اىل نينوى ‪.‬‬
‫يون�س‪ :‬ال‪ ،‬ارجوك‪ ،‬ل�ست حاقدا على احد ‪ .‬على من‬ ‫يون�س‪:‬يعني ان اموت ‪.‬‬
‫�س�أحقد؟‬ ‫جربائيل‪ :‬لن متوت لأنك البد ان مت�ضي اىل نينوى‬
‫جربائيل‪ :‬على اهل نينوى‪ ،‬لأنهم مل ي�سمعوك‬ ‫يون�س‪ :‬البد ان تكف اوال عن احلديث عن نينوى‪،‬‬
‫يون�س‪ :‬انهم بال �آذان‬ ‫انها ما�ض بالن�سبة يل ‪.‬‬
‫جربائيل‪� :‬أمل تنعتهم باحلمري؟‬ ‫جربائيل‪ :‬لكنها مهمتك ومن اجل هذا انت هنا‪.‬‬
‫يون�س «�ضاحكا»‪ :‬ب�آذان ديكة ال ت�سمع اال نقنقة‬ ‫يون�س «�ساخرا»‪ :‬مهمة الب�ؤ�س هذه ‪ .‬ان اعلم احلمري‬
‫الدجاج‪.‬‬ ‫القراءة والكتابة ‪ .‬اتركهم يتنا�سلون يف الليل‬
‫جربائيل‪ :‬انهم ب�رش مثلك‪.‬‬ ‫وي�سريون يف اال�سواق يف النهار‪ ».‬ينتبه يون�س‬
‫(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫لل�شجرة ويقرتب منها مي�سك احد اوراقها « معجزتك‬
‫‪207‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�سينما‬

‫‪208‬‬
‫حنة و�أخواتها‬
‫(تتمة العدد ال�سابق)‬

‫ترجمة‪ :‬مهـــا لطفـــي‬ ‫ ‬


‫�سيناريو‪ :‬وودي �آلن‬
‫مرتجمة من لبنان‬

‫قال �أحد النقاد «حنة و�أخواتها» (‪ )1986‬بعد كل ما قيل وح�صل هو فيلم «وودي �آلن»‬
‫املف�ضل لدي‪ .‬وهو حتم ًا �أحد الأمثلة القائلة ب�أن املجموع �أهم من الأجزاء‪ .‬فاللقطات‬
‫الرائعة ملدينة نيويورك (خا�صة معمار املدينة)‪ ،‬واملواقف العظيمة واحلفالت الغنية‬
‫واملو�سيقى الرائعة‪ ،‬كل هذا �أجزاء تتما�سك يف عمل فني رائع‪.‬‬
‫ومن بني ال�شخ�صيات التي تقطن مانهاتن‪ ،‬مايكل كاين‪ ،‬املتزوج من حنة (ميافارو)‬
‫ولكنه �شبق مبالحقته ل�شقيقتها (باربار هري�شي) التي ت�سكن مع فنان معذب (ماك�س‬
‫فان �سيدو)‪ .‬وزوج حنة ال�سابق (وودي �آلن) يبد�أ يف مواعدة �شقيقتها الأخرى (ديان‬
‫وي�ست) التي تريد بدورها مواعدة �سام واتر�سون بالرغم من �أنه يف�ضل مواعدة �صديقتها‬
‫(كاري في�رش)‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ال�سيناريو‪:‬‬ ‫هذا الفيلم لي�س كوميديا مائة باملائة بل هو دراما‪.‬‬


‫تتحرك الكامريا �إىل اخللف نحو ميكي وحنة املتجمدان‬ ‫الكوميديا املوجودة يف تركيبته متنا�سبة وجيدة‬
‫وهما يالحقان دكتور �سميث ب�أعينهما‪.‬‬ ‫ولكن الدراما �أف�ضل بكثري‪ .‬عالقة �أليوت الغرامية‬
‫ميكي (ي�شري بيديه‪ ،‬وينظر �إىل اعلى نحو دكتور �سميث‬ ‫ال�رسية مع يل معاجلة بطريقة رومانتيكية‪.‬‬
‫خارج الإطار) الي�س هنالك ما ا�ستطيع القيام به؟ من�شطات‬ ‫ولكن عدم اخال�صهما وخداعهما يبدوان‬
‫�أو هرمونات؟‬ ‫خط�أً وا�ضح ًَا‪ .‬وب�إمكاننا الإح�سا�س بخطيئتهم‬
‫دكتور �سميث (خارج الإطار) �أخ�شى �أن ال يكون هنالك‬ ‫وا�ضطرابهم الداخلي‪.‬‬
‫�شيء‪.‬‬ ‫يعتقد ميكي �أن لديه ورما يف املخ‪ ،‬ولكنه يجد �أن‬
‫علي �أن �آخذ ر�أي ًا �آخر‪.‬‬
‫ميكي‪ :‬ح�سناً‪ّ ،‬‬ ‫ذلك غري حقيقي ولكنه ي�شعر ا�سو�أ مما كان ويبد�أ‬
‫حنة (ت�ستدير نحو ميكي) هذا هو الر�أي الثاين‪.‬‬ ‫يف البحث‪ ،‬دون جدوى‪ ،‬عن �سبب يعي�ش من �أجله‪.‬‬
‫ميكي (يرفع اكتافه) ح�سناً‪� ،‬إذا ر�أي ثالث‪.‬‬ ‫مت�ساو‬
‫ٍ‬ ‫جميع الق�ص�ص الأخرى دراماتيكية ب�شكل‬
‫ي�سري دكتور �سميث عائداً �إىل كر�سيه اجللد العايل الظهر‬ ‫مع �شيء من الكوميديا يتناثر هنا وهناك‪.‬‬
‫خلف املكتب ويجل�س‪ .‬وبينما هو يتكلم‪ ،‬ت�سري الكامريا‬ ‫التمثيل جيد �إىل حد ما‪ ،‬فكل منهم يقوم بدوره‬
‫�أقرب ف�أقرب نحو وجهه‪.‬‬ ‫على �أح�سن ما يكون‪� ،‬سواء كان هذا الدور �صغرياً‬
‫دكتور �سميث‪� :‬أنا �أدرك �أن هذه �صدمة‪.‬‬ ‫�أم كبرياً‪� .‬أف�ضل ادوار هذا الفيلم ما قدمه �آلن (فهو‬
‫من جتربتي ان العديد من الزيجات احل�سنة ت�صبح غري‬ ‫من �أح�سن �أدواره) وديان وي�ست قامت بدور ال�شقيقة‬
‫ثابته وتتحطّ م بعدم القدرة على التعامل مع مثل هذه‬ ‫ال�صغرى الفاقدة للثقة بالنف�س و�شاركت �آلن ب�أجزاء‬
‫امل�شكلة‪� .‬أرجو ان ال تت�ضايقان كثرياً ب�سببها‪ .‬ممكن‬ ‫يف الفيلم من �أف�ضل اجزائه‪ ،‬وقام اجلميع ب�أدوار‬
‫للإن�سان �أن يتبنى طفالً‪ ،‬وهنالك و�سائل عديدة غري‬ ‫متم ّيزة خا�صة ماك�س فون �سيدو وكذلك مايكل‬
‫طبيعية للتخ�صيب‪.‬‬
‫كاين الذي نال الأو�سكار بجدارة عن هذا الفيلم‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬
‫اما اخراج وودي �آلن فقد كان يف قمة �شكله متام ًا‬
‫خارجي‪� .‬شارع جروف يف قرية جرينتي�ش‪-‬نهاراً‬
‫مثل «�آين هول» وافالمه الرائعة الأخرى‪.‬‬
‫ي�سري ميكي وحنة على جانب الطريق غري عابئني بامل�شاة‬
‫ا�ستخدام الكامريا وال�صوت اخلارجي ممتازان‪ .‬مث ًال‬
‫املارين‪ .‬حنة تبكي وتنفخ �أنفها‪.‬‬
‫ميكي (ي�شري بيديه مو�ضحاً) �أنا �أ�شعر باملهانة‪ .‬وال �أدري‬
‫هنالك م�شهد بالغ الرتكيز درامي ًا حيث تتناول‬
‫ما �أقول‪� .‬أعني ‪...‬‬ ‫ال�شقيقات الثالث الغذاء مع ًا وطوال امل�شهد تدور‬
‫حنة (مقاطعة‪ ،‬مت�سح عينيها مبنديل ورقي) هل من‬ ‫الكامريا حول املائدة واملتكلمة لي�ست يف الإطار‪.‬‬
‫خربت نف�سك بطريقة ما؟‬ ‫واما ال�سيناريو فهو رائع �أي�ض ًا من حيث قدرته على‬
‫املحتمل ان تكون قد ّ‬
‫ميكي (ينفعل م�شرياً) كيف يل �أن اه ّدم نف�سي؟ ماذا تعنني‪،‬‬ ‫االنتقال بني الدرامي والكوميدي ومتى يجمع بينهما‪.‬‬
‫بخربت نف�سي؟‬ ‫كوميديا م�ضحكة جداً حتتوي على �أح�سن اختيارات‬
‫حنة (مقاطعة‪ ،‬تنظر نحو ميكي) ال �أدري‪ .‬رمبا ممار�سة‬ ‫�آلن للأدوار‪ .‬ديان وي�ست �أف�ضلهم‪ :‬م�ش ّعة‪ ،‬ع�صبية‪،‬‬
‫العادة ال�رسية بكرثه؟‬ ‫مزعجة ومتقلبة امل�شاعر يف دقيقة واحدة‪ .‬مايكل‬
‫ميكي‪ :‬هيي هل �ستبدئني يف الطرق على هواياتي؟ يا الهي‬ ‫كاين �أكرثهم ت�أثرياً‪ ،‬وميافارو كما هي دائم ًا تدنو‬
‫تت�أوه حنة وقد ام�سكت مبنديلها وغطت به وجهها‪.‬‬ ‫من تقطيع قلب امل�شاهد‪ .‬واعتقد �أن �صوتها هو الذي‬
‫ميكي‪ ،‬رمبا‪ ،‬رمبا ن�ستطيع �أن نتبنى طفالً‪ .‬قال انه‬ ‫يفعل ذلك‪.‬‬
‫‪210‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫نورمان (خماطب ًا كارول‪ ،‬وم�شرياً بفنجانه) لقد اتتنا هذه‬ ‫ب�إمكانك تب ّني واحد‪...‬‬
‫الفكرة اثناء رحلتنا �إىل باري�س‪.‬‬ ‫حنة (مقاطعة) ح�سناً‪ ،‬ما ر�أيك يف التخ�صيب ال�صناعي؟‬
‫كارول (تط�أطئ ر�أ�سها) �صحيح‪.‬‬ ‫(يعب باحلركة) عن ماذا تتكلمني؟‬ ‫ميكي رّ‬
‫نورمان (يبت�سم) هممم؟‬ ‫أخ�صب عن طريق‬ ‫حنة (مقاطعة) هل تعلم‪ ،‬حيث �أنا – �أنا � ّ‬
‫كارول (خماطب ًا حنة خارج الإطار) هل تذكرين ذلك‬ ‫متربع‪.‬‬
‫ال�صيف يف فرن�سا؟ حنة‪ ،‬لقد ا�صبت بدوار الطائرة ملدة‬ ‫ميكي (بردة فعل) ماذا‪ ،‬من قبل غـ ‪ ..‬غريب؟‬
‫�ستة �أ�سابيع‪.‬‬ ‫اثناء انهماكهما باملحادثة يقطعان �شارع ًا حت ّده الأ�شجار‬
‫ي�ضحك نورمان بخفية‪.‬‬ ‫على اجلانبني‪ .‬ميران مبنزل خ�شبي �أ�صفر حماطٌ ب�سياج‬
‫ميكي (يتنهد‪ ،‬ويكاد يتمتم) نعم‪ ،‬ولكنه كان‪ ،‬كما تعلم‪،‬‬ ‫من احلديد امل�شغول‪.‬‬
‫اعتقد �أننا كنا �سعداء عندما كنا هناك وكما تعلمني‪ ،‬انه‬ ‫حنة (ت�شري بيديها) جمـ ‪..‬؟ تريد طف ًال مج‪ ..‬جممداً هل هذه‬
‫فقط‪� ،‬أنا ‪...‬‬ ‫هي فكرتك؟‬
‫نورمان (مقاطع ًا ‪ ،‬ومط�أطئا ر�أ�سه) ممم همم‪.‬‬ ‫حنة (مقاطعة‪ ،‬تنفخ من �أنفها) فكر به فقط‪ .‬هذا كل ما‬
‫ت�سري حنة باجتاه املجموعة وهي حتمل ابريق ًا من القهوة‪.‬‬ ‫�أطلبه‪.‬‬
‫وبو�ضح تتجاوز ميكي لت�سكب قهوة �إىل نورمان وكارول‪.‬‬ ‫ي�سريان خارج الإطار ويقطع الفيلم نحو غرفة معي�شة‬
‫حنة (خماطبة ميكي) �آ�سفة‪( .‬خماطبة نورمان وكارول)‬ ‫حنة وميكي‪ .‬الغرفة م�ضاءة ب�شكل م�شع؛ مليئة بالطناف�س‬
‫قهوة؟ ا�سمعوا‪� ،‬أيها االخوان‪ ،‬لقد كنا ‪ ...‬هل تريدان املزيد؟‬ ‫والنباتات‪ .‬نورمان وزوجته كارول يجل�سان على الكنبة‬
‫نورمان (يحمل فنجانه عالياً) مممم‪.‬‬ ‫ي�رشبان القهوة‪.‬‬
‫حنة (تعيد ملء فنجان نورمان) نحن ‪ ..‬نحن ‪ ..‬ح�صل لنا‬ ‫كارول (ت�ضع فنجانها جانباً) اوه‪ ،‬لقد كان ذلك عر�ض ًا‬
‫رائعاً‪ .‬اعتقد انه اف�ضل عر�ض كتبتموه‪.‬‬
‫�شيء نحن ‪ ..‬نحن حقيقة نريد بحثه معكم‪.‬‬
‫نورمان (يحمل فنجانه‪ ،‬وي�شري مو�ضحاً) كال �إن اكرث‬
‫ميكي (مقاطعاً‪ ،‬ي�سعل) نعم ‪...‬‬
‫عر�ض م�ضحك كتبته انا وميكي كان ذلك الذي فزنا به‬
‫تعيد حنة ملء فنجان كارول‪ .‬ت�ضع وعاء القهوة على‬
‫بجائزة �إميي‪.‬‬
‫طاولة القهوة وجتل�س مبحاذاة ميكي‪.‬‬
‫ي�سري ميكي من املطبخ نحو غرفة املعي�شة‪ ،‬يحمل الن�صف‬
‫ميكي (يقف وي�شري بيديه) جيز‪ ،‬هذا �شيء‪ ،‬هذا �شيء‪ ،‬هذا‬
‫املتبقي من كعكة ال�شوكوالته على طبق ال�ضيافة‪ .‬تتدفق‬
‫�شيء دقيق جداً و – و انا اتكلم عنه بني اال�صدقاء فقط‪،‬‬
‫ال�شم�س خالل النوافذ التي مير بها‪ .‬ترى حنة لفرتة وجيزة‬
‫كما تعلمون‪.‬‬
‫يف اخللفية وهي حت�رض املزيد من القهوة يف املطبخ‪.‬‬
‫ميكي‪ :‬نعم ‪ ...‬انا – �أنا اعتقد �أنه‪� ،‬أنا اعتقد انه بالن�سبة‬
‫لل�ضحك‪ ،‬كما تعلم‪ ،‬فقد كان هذا رمبا اف�ضل �شيء قمنا به‪.‬‬
‫ي�ضع ميكي الكعكة على طاولة القهوة‪ ،‬والتي هي مزدحمة‬
‫بالنباتات و�صينية من الق�صب عليها �أوعية ونورمان‬
‫(موافق ًا ) مم‪ ..‬هم‪.‬‬
‫كارول (مقاطعة‪ ،‬يديها على ركبها املتعاك�سة وتط�أطئ‬
‫ر�أ�سها) نعم‪ ،‬كانت م�ضحكة‪ ،‬كانت م�ضحكة جداً‪ .‬ولكن العر�ض‬
‫كان حول الرجلني الفرن�سيني‪ ،‬والآن هذا م�ضحكا ودافئ‪.‬‬
‫يتنهد ميكي ويرمي نف�سه على مقعد جماور‪ .‬ويفرك‬
‫جبهته‪.‬‬
‫‪211‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ح�سناً‪ ...‬ردة فعلي بعد ال�صدمة الأوىل هي‪� ،‬أوه‪� ،‬إعتزاز‬ ‫يبد�أ يف ال�سري ب�ضع خطوات‪ .‬تنظر حنة ويداها على‬
‫بالنف�س لطلبكم مني ذلك‪( .‬ي�ضحك بخفية وع�صبية)‬ ‫وجنتيها نظرة �رسيعة �إىل كارول‪..‬‬
‫حتدق كارول بنورمان‪.‬‬ ‫ميكي (ي�ستدير نحو املجموعة وهو يخطو خلف الكنبة) انا‬
‫ميكي (م�شرياً �إىل نف�سه) نعم‪ .‬ح�سناً‪� ،‬سوف �أكون �أنا الأب ‪.‬‬ ‫�أعني (مزجمراً) ‪� ،‬أوه‪ ..‬هذا ال يجوز ان يتخطى هذه الغرفة‪.‬‬
‫(م�شرياً �إىل نورمان) مطلوب منك فقط �أن تقذف يف فنجان‬ ‫نورمان (ير�شف قهوته) كلي �آذان �صاغية‪.‬‬
‫�صغري‪.‬‬ ‫تتنهد حنة‪ .‬يتوقف ميكي لربهة من الزمن‪ ،‬ي�ستجمع‬
‫نورمان (يرفع كتفيه) با�ستطاعتي ت�أمني ذلك‪.‬‬ ‫افكاره‪.‬‬
‫حنة (تقرتب �أكرث من كارول ونورمان على الكنبة‪ ،‬م�شرية‬ ‫ميكي (ي�شري بيديه ويخطو) حنة و�أنا ‪ ...‬ال ميكن �أن يكون‬
‫بيديها) ومن الوا�ضح �أننا لن نقوم باجلماع‪.‬‬ ‫لنا �أطفال من �صلبنا‪ .‬والآن �أنا – �أنا – �أنا ال �أريد ان ابحث‬
‫ت�ضحك بع�صبية‪.‬‬ ‫يف خط�أ من هذا ‪( ..‬م�شرياً بيديه) انه خطئي �أننا ال ن�ستطيع‬
‫كارول (خماطبة حنة‪� ،‬ضاحكة بع�صبية �ضحكة مقت�ضبة)‬ ‫و‪ ..‬و‪ ..‬و التفا�صيل �شديدة االحراج لكي ‪......‬‬
‫(حتف منخارها) يجب ان اخربك باحلقيقة‬ ‫ّ‬ ‫جو�ش ا�سمعي‪.‬‬ ‫حنة (مقاطعة وت�شد ا�صابعها بع�صبية) نحن ‪ ..‬نحن قررنا‬
‫هنا‪.‬‬ ‫بعد مناق�شات اننا �سوف جنرب التخ�صيب ال�صناعي‪.‬‬
‫انا ل�ست مرتاحة لهذا‪.‬‬ ‫يتوقف ميكي عن امل�شي وينظر نحو املجموعة‪.‬‬
‫حنة (ت�ضع يدها على كتف كارول) كارول‪ ،‬هذا �شيء كثري‬ ‫ميكي (ي�ضع يديه على خا�رصتيه) نعم‪ ،‬انت ل�ست واثق ًا‬
‫لأطلبه منك‪.‬‬ ‫من �أنني‪ ،‬من �أنني �أحب تلك الفكرة �أنا نف�سي‪ ،‬على �أي حال‬
‫(تعب باحلركة) ح�سنا ‪� ...‬أ�شعر معك �أنا فع ًال كذلك‬ ‫كارول رّ‬ ‫‪...‬‬
‫‪� .‬أنا ‪� ...‬أنا �سوف ابكي‪ ،‬تريدين �أن يكون لزوجي ولد منك؟‬ ‫يبد�أ يف اخلطو خلف الكنبة جمدداً‪.‬‬
‫حنة (م�شرية) نعم‪ ...‬ال ال ال جتيبي الآن‪ .‬فقط كما تعلمني‬ ‫حنة (مقاطعة) �أوم‪� ،‬أنا – �أنا مل �أكن حق ًا �أرغب‪ ،‬كما تعلم‪،‬‬
‫خذي املو�ضوع �إىل البيت فكري به لفرتة من الزمن‪.‬‬ ‫�أن �أذهب �إىل م�رصف احليوانات املنوية �أو �شيء من هذا‬
‫نورمان (يحمل فنجان قهوته ويفكر) لقد اعطيت دم ًا قبل‬ ‫القبيل‪� ،‬أح�صل على بع�ض جمهويل الهوية من الواهبني‪.‬‬
‫الآن ‪ ،‬و �أوه ثياب للفقراء‪.‬‬ ‫(ت�شري �إىل نورمان وكارول) انا – �أنا فقط كما تعلمان‪،‬‬
‫كارول (خماطبة نورمان‪ ،‬وهي حتك �أذنها)‬ ‫انا – انا – انا مل �أكن لأريد ذلك‪.‬‬
‫ح�سن ًا يا نورمان‪� ،‬أ�سمع‪ ،‬يف احلقيقة �أريد �أن اتكلم عن هذا‬ ‫ميكي (يخطو) حقاً‪ .‬لقد �شعرنا انه فيما �إذا قررنا اتخاذ‬
‫يف املنزل (تهز ر�أ�سها بينما تنظر حنة نظرة خاطفة خارج‬ ‫هذا الإجراء‪ ،‬ف�إننا نحب �أن يكون ال�شخ�ص من نعرفه ومن‬
‫الإطار نحو ميكي) اعتقد �أن هذا مو�ضوع لطبيبك النف�سي‬ ‫نحبه ومن كان دافئ ًا وذكي ًا و‪...‬‬
‫‪ ...‬وكذلك طبيبي‪.‬‬ ‫نورمان وكارول يلزمان ال�صمت‪.‬‬
‫نورمان (م�ؤكداً) ورمبا حمامي‪.‬‬ ‫حنة‪ :‬وب�إمكانكما ان تقوال ال‪ ..‬كما تعلمان‪.‬‬
‫ي�أخذ ر�شفة من القهوة‪.‬‬ ‫ا�شعرا بحرية قول ال ‪ ..‬ن‪ ..‬نحره ندرك �أن املو�ضوع له‬
‫حنة (ت�شري بيديها) كما تعلم‪ ،‬نحن – نحن نفهم متام ًا‬ ‫العديد من الإيحاءات‪.‬‬
‫�إذا‪ ،‬كما تعلم‪� ،‬إذا كنت ت�شعر �أنك تف�ضل �أن ال تفعل ذلك‪.‬‬ ‫يتوقف ميكي عن ال�سري وينحني على املد خلف نورمان‪.‬‬
‫أخرب هذه الأم�سية (تفرك‬ ‫(ت�ضحك بع�صبية) مل �أق�صد �أن � ّ‬ ‫ميكي‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن النقطة التي‪ ،‬اوه‪ ،‬التي نثريها هنا هي‬
‫يديها)‬ ‫اننا نحتاج بع�ض احليوانات املنوية‪.‬‬
‫والآن دعونا ننتقل �إىل مو�ضوع �آخر‪.‬‬ ‫يحك ميكي يديه على ركبه‪ ،‬ويحني ظهره �إىل اخللف على‬
‫تقرتب حنة من الكعكة بينما يتبادل نورمان وكارول‬ ‫احلائط‪ ..‬تعود نورمان وكارول �إىل بع�ضهما البع�ض‪ ،‬بردة‬
‫النظرات كردة فعل لذلك‪.‬‬ ‫فعل نورمان (متنهداً) جيي‪( .‬ي�ضحك �ضحكة خفية)‪.‬‬
‫‪212‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يل (تهز يد دو�ستي) مرحباً‪ ،‬دو�ستي‪.‬‬ ‫تنتهي العودة �إىل املا�ضي‪ .‬يعود ميكي �إىل احلا�رض يف‬
‫دو�ستي‪ :‬مرحباً‪.‬‬ ‫غرفة معي�شته املظلمة‪ ،‬وقد �أ�ضيئت بربيق من النافذة‬
‫ت�ضحك يل �ضحكة خفيفة وهي تنظر �إليه‪� ،‬إنه يلب�س نظارة‬ ‫خلف الكنبة‪ .‬طاولة قهوة قابعة �أمام الكنبة‪� .‬أوراق مبعرثة‬
‫�شم�س وقمي�صا �أحمر مطبوع‪ ،‬ومعطفا وا�سع ت�ستدير وت�سري‬ ‫على الأر�ض‪ .‬ينه�ض ميكي من على الكنبة حيث كان‬
‫مع فريدريك واليوت‪ ،‬ودو�ستي الأبعد �إىل ال�رشفة‪ ،‬ويداها‬ ‫يجل�س يخطو ذهاب ًا و�إياب ًا وهو يتكلم على ال�شا�شة‪.‬‬
‫مقفلتان خلف ظهرها‪.‬‬ ‫ميكي (�صوت خارجي) وهكذا ح�صلت على التو�أمني‬
‫�إليوت (وهو ي�سري)‪ :‬لقد ا�شرتى دو�ستي بيت ًا يف �سوثمبتون‬ ‫من �رشيكي ال�سابق‪ .‬رمبا �سبب هذا بع�ض امل�شاكل ولكن‬
‫وهو على �أهبة تن�سيقه‪.‬‬ ‫(يتنهد)‪.‬‬
‫دو�ستي‪ :‬نعم‪� .‬إنه نوع من الأماكن الغريبة يف الواقع‬ ‫اعتقد اننا كنا نبتعد عن بع�ض تدريجي ًا على �أي حال‬
‫م�ساحات من احليطان (ي�ضحك خفية)‪.‬‬ ‫والآن بد ًال من رجل وزوجته �أ�صبحنا �أ�صدقاء طيبني ‪ .‬يا‬
‫يل‪ :‬اوه‪.‬‬ ‫�أخي‪ ،‬احلب �شي ٌء ال ميكن التلهي به‪.‬‬
‫ي�سريان نحو غرفة املعي�شة يف ال�رشفة حيث يقف فريدريك‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫ويداه يف جيوبه ‪ ،‬يلب�س �صدرية �صوفية وقمي�صا �أبي�ض‬ ‫داخلي – اوبرا مرتوبوليتان – لي ًال‬
‫ويقف منتظراً‪.‬‬ ‫«قانون لي�سكوت» تعر�ض على امل�رسح وعلى خ�شبة‬
‫دو�ستي (خماطب ًا فردريك وم�صافح ًا له وهو يحرك �أردافه)‬ ‫امل�رسح تغني ال�سوبرانو يف الدور الرئي�سي اغنية حزينة‬
‫كيف �أحوالك‪ ،‬يا رجل؟‬ ‫وهي تركع �أمام بقايا عربة حمطمة‪ .‬اخللفية مظلمة‪.‬‬
‫اليوت (خماطب ًا فردريك الذي ال يبدو متحم�ساً) اخربته‬ ‫والفيلم يتحرك نحو علب اللوج اخلا�صة يف اللوج العايل‪.‬‬
‫عن عملك‪ ،‬وهو متحم�س جداً‪.‬‬ ‫ن�ستطيع �أن نرى عن بعد دايفيد وهويل يجل�سان يف �إحدى‬
‫العلب‪ .‬يرمقها دايفيد بنظراته ويتناول زجاجة من النبيذ‪.‬‬
‫عمل من �أعمال �أندي وارهول‪.‬‬‫دو�ستي‪ :‬نعم‪ ،‬ح�صلت على ٍ‬
‫يقطع الفيلم ب�رسعة عائداً �إىل خ�شبة امل�رسح‪ .‬املغنية‬
‫وكذلك واحد لفرانك �ستيال‪� ،‬أي�ض ًا اوه انه جميل جداً‪.‬‬
‫ال�سوبرانو تنحني على دوالب عربة؛ و�صوتها يحلق‪ .‬ثم‬
‫(ي�شري بيديه) كبري‪ ،‬غريب ‪ ..‬كما تعلم‪.‬‬
‫يعود �إىل نظرة مقربة من هويل ودايفيد يف العلبة‪ .‬تتابع‬
‫(ي�ضحك وهو ي�صلّب يديه على �صدره) �إذا ما ح ّدقت طوي ًال‬
‫الأغنية بينما يناول دايفيد ك�أ�س ًا لهويل املبت�سمة‪ .‬ينزع‬
‫يف لوحة �ستيال‪ ،‬ترى الألوان تطفو‪� .‬إنه �شيء غريب‪.‬‬
‫الفلينة عن النبيذ وي�سكب بع�ضه يف ك�أ�سيهما‪ .‬تر�سل‬
‫يغطي فريدريك وجهه يخفي �إزدراءه‪.‬‬
‫هويل بفمها عبارة �شك ٍر له‪ ،‬وهي تنظر حولها‪ .‬ينظران �إىل‬
‫يل (ت�ضحك بخبث وذراعاها م�صلبتان) هل �أنت متحم�س‬
‫بع�ضهما البع�ض ويرفعان ك�أ�سيهما بنخب‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬
‫ا�شرتى دو�ستي هذا البيت الكبري يف �سوثامبتون‪.‬‬
‫ت�سمع �صوت جمهور الأوبرا حميياً‪ ،‬مهل ًال و�صارخ ًا‬
‫«برافو»‪.‬‬
‫يتوقف الت�صفيق بينما يقطع الفيلم نحو �رشفة فريدريك‪.‬‬
‫�إنه النهار‪ .‬تلب�س يل جينزو قمي�صا وا�سعا تفتح الباب‬
‫لأيليوت وزبونه جنم الروك الغني دو�ستي فراي‪.‬‬
‫اليوت (يقود الطريق نحو ال�رشفة وهو ي�شري بيديه)‪ :‬يل‪،‬‬
‫فريدريك ‪ ...‬قولو مرحب ًا لدو�ستي فراي‪.‬‬
‫تغلق يل الباب خلف الرجال وت�سري نحو دو�ستي‪.‬‬
‫‪213‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫باللوحة العارية بينما ت�سمع �أ�صوات خطوات فردريك‬ ‫كونك �ست�صبح من جامعي اللوحات؟‬
‫ودو�ستي وهما يغادران ال�رشفة‪ .‬ي�ستدير ويبت�سم ب�رسعة‬ ‫دو�ستي‪ :‬نعم‪.‬‬
‫�إىل يل املوجودة خارج الإطار‪.‬‬ ‫يل‪( :‬تومىء بر�أ�سها) �ألي�س كذلك؟‬
‫اليوت (ي�ضحك ب�سال�سة) كيف حال كل �شيء؟‬ ‫دو�ستي‪( :‬يرفع �أكتافه) ومع ذلك علي �أن �أتعلم الكثري ‪ .‬يف‬
‫يل ‪( :‬تتحرك داخل الإطار باجتاه اليوت)‪.‬‬ ‫الواقع مل �أكن قد دخلت عامل الفن عندما كنت غالماً‪.‬‬
‫�أوه‪ ،‬ملعلوماتك فقد تكلمت مع حنة هذا ال�صباح على‬ ‫يل (تط�أطئ ر�أ�سها) �أوه – هوه‪.‬‬
‫الهاتف وقد �أخربتني �أنكما �أنتما االثنان �ستذهبان �إىل‬ ‫فريدريك (يخاطب دو�ستي ولكنه ال ينظر �إليه) هل تق ّدر‬
‫الريف يف عطلة نهاية الأ�سبوع‪.‬‬ ‫اللوحات؟‬
‫اليوت‪ :‬نعم‪ ،‬انها حتب االنطالق يف الغابات‪.‬‬ ‫دو�ستي (يرفع �أكتافه) نعم‪.‬‬
‫يل (تومئ بر�أ�سها وذراعيها مت�شابكتني حول �صدرها)‬ ‫(ي�ضحك بخفية – وهو يالحظ وي�شري �إىل بع�ض اللوحات‪،‬‬
‫اوه‪ ،‬نعم‪.‬‬ ‫خارج الإطار والتي قد و�ضعها فريدريك) اوه! هيي! واو!‬
‫اليوت (ي�ضحك خفية) ولكنني �أ�صاب – باحلنان – �إنها‬ ‫(ي�شري �إىل لوحة عارية خارج الإطار) �إنها جميلة‪ .‬ولكن‬
‫حبكة من االختالفات‪.‬‬ ‫اوه ‪ ،‬حق ًا ‪ ،‬انا – انا انا – انا بحاجة �إىل �شيء‪ ...‬انا ابحث‬
‫ت�ضحك يل‪ ،‬مرتبكة‪ ،‬وتنظر �إىل �أ�سفل‪.‬‬ ‫عن �شيء كبري‪.‬‬
‫يل‪ :‬على �أن �أقوم بتنظيف �أ�سناين هذا الأ�سبوع‪.‬‬ ‫وبينا يتكلم دو�ستي‪ ،‬تتبع الكامريا �إليوت‪ ،‬الذي ي�سري‬
‫اليوت‪� :‬أوه‪ ،‬هذا �شيء لطيف‪.‬‬ ‫متقدم ًا الآخرين ليتفح�ص اللوحات عن قرب �أكرث ‪.‬‬
‫متر برهة من ال�سكون الغريب‪.‬‬ ‫لوحتان مو�ضوعتان ب�إطارين تقفان على �أحد الأعمدة‬
‫اليوت (يقطع ال�سكون وي�شري باجتاه الباب) تخيلت انني‬ ‫يحدق �إليوت معجب ًا باللوحتني ثم ينظر بخفية �إىل يل‬
‫�س�أجمع فردريك بدو�ستي‪.‬‬ ‫معجب ًا بج�سدها وهي تتحدث خارج الإطار مع دو�ستي‬
‫معبة باحلركة) �أوه‪ ،‬حقاً‪ ،‬هذا‬ ‫يل (تنظر بنف�س الإجتاه رّ‬ ‫وفريدريك‪.‬‬
‫�شيء لطيف منك‪.‬‬ ‫يل (تنظر �إىل فريدريك خارج الإطار وهي ت�شري بيديها)‬
‫اليوت‪ :‬نعم‪ .‬هذا ال�شاب قد ربح تريليون دوالراً‪.‬‬ ‫كبرية يا فريدريك دعه يرى الزيتيات‪.‬‬
‫يل (تط�أطئ ر�أ�سها‪ ،‬وتلف ذراعيها حول �صدرها مرة‬ ‫فردريك (خارج الإطار) �إنها يف الطابق ال�سفلي‪.‬‬
‫ثانية) �أوه‪.‬‬ ‫ترتك الكامريا �إليوت لتتبع يل املتحم�سة وهي تقود‬
‫اليوت‪ :‬لقد حاز على ما يقارب ال�ستة �أرقام قيا�سية ذهبية‪.‬‬ ‫دو�ستي من ذراعه وتبد�أ تقوده نحو الباب‪ .‬فردريك يتبع‬
‫يل (ت�شري بيديها وقد ارتاحت لأنها وجدت ما تقوله)‬ ‫عن بعد‪.‬‬
‫�أوه! �إذا ما تكلمنا عن الأرقام القيا�سية‪ ...‬لقد ا�شرتيت‬ ‫يل (خماطبة دو�ستي) لقد قام فردريك بر�سم هذه املجموعة‬
‫علي ب�رشائها‪.‬‬
‫ثالثية موزارت التي �أ�رشت ّ‬ ‫اجلديدة والتي انا مت�أكدة �أنك �سوف حتبها‪.‬‬
‫تتبع الكامريا يل وهي ت�سري ب�رسعة نحو ال�سرتيو وتخرج‬ ‫دو�ستي (مقاطعاً‪ ،‬يدمدم) ح�سناً‪ ،‬هل هي‪ ...‬كبرية؟‬
‫ا�سطوانة من على الرف‪.‬‬ ‫يل‪ ..‬نعم‪ .‬بع�ضها‪ ...‬نعم‪ ..‬بع�ضها كبري جداً‪.‬‬
‫يل (متابعاً) ‪ ...‬وقد عر�ض علي الرجل الذي يعمل يف‬ ‫دو�ستي‪ :‬لأنه لدي م�ساحات كبرية هناك‪.‬‬
‫خمزن اال�سطوانات واحدة �أخرى اعتقد �أنك �ستحبها‪� .‬إنها ‪..‬‬ ‫(ي�ضحك خفية)‬
‫واحدة �أخرى لباخ‪ ،‬احلركة الثانية‪.‬‬ ‫فردريك (يقف بغ�ضب يف وجه م�سريته) انا ال �أبيع �أعمايل‬
‫تخرج الأ�سطوانة من كي�سها وت�ضعها على قاعدة الدوران‪.‬‬ ‫باليارده!‬
‫اليوت (خارج الإطار) �أوه‪ ،‬هل �أنت – �أنت متلكني هذه‬ ‫يل (ت�ضحك بخبث‪ ،‬متفاعلة) اوه‪ ،‬يا فريدريك!‬
‫الأ�سطوانة؟‬ ‫تتحرك الكامريا الآن عائدة �إىل �إليوت وهو ما زال يح ّدق‬
‫‪214‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�إليوت (�صوت خارجي) �أرغب ب�ش ّدة ان �أق ّبلها‪ .‬لي�س هنا‪،‬‬ ‫يل (تقوم بالعمل �أمام ال�سرتيو‪ ،‬وتدير ر�أ�سها نحو اليوت)‬
‫�أيها الغبي‪ .‬عليك �أن تقابلها لوحدها يف مكان ما‪.‬‬ ‫نعم‪.‬‬
‫وبينما ت�سمع افكار اليوت فوق امل�شهد‪ ،‬حتدق يل مبا يف‬ ‫اليوت (خارج الإطار) �أوه‪� ،‬أحب كثرياً �أن �أ�سمعها‪.‬‬
‫ال�رشفة‪ ،‬ثم تبد�أ يف ال�سري بعيداً‪ ،‬تتبعها الكامريا وهي‬ ‫ميلأ كون�رشتو باخ للهارب�سيكورد الغرفة‪.‬‬
‫تتجه مارة باللوحات العارية‪ ،‬التي ت�صبح مركز الإهتمام‬ ‫يل‪( :‬ت�ضع غطاء قاعدة الدوران يف مكانة ) �أوه‪ ،‬وهويل‬
‫بينما ت�سري يل خارج الإطار‪.‬‬ ‫تعرفت على رجل رائع يحب الأوبرا‪ .‬مهند�س معماري‪.‬‬
‫اليوت (�صوت خارجي) ولكن على االبتداء بحذر‪ .‬هذا‬ ‫اليوت (خارج الإطار) �أوه‪ ،‬هذا �شيء لطيف‪ .‬امتنى �أن اراها‬
‫موقف دقيق جداً‪ .‬ح�سناً‪� ،‬آه ‪ ..‬لأ�س�ألها �إذا ما كنت ا�ستطيع‬ ‫قد ا�ستقرت �أخرياً‪� .‬إنها �إن�سانة متوترة (ي�ضحك خفية)‪.‬‬
‫ر�ؤيتها على الغذاء �أو لتناول ال�رشاب غداً‪.‬‬ ‫الأ�سطوانة يف مكانها‪ .‬ت�ستدير يل وت�سند ظهرها �إىل‬
‫تعود يل لل�سري �إىل داخل ال�شا�شة نحو رف الكتب خلف‬ ‫وحدة ال�سترييو‪ .‬ت�سمع املو�سيقى وعيناها مغم�ضتان‪.‬‬
‫اللوحات ‪ .‬تتناول كتاب �إي �إي كومينجز من على الرف‬ ‫تعزف الأ�سطوانة ب�ضع دقائق يف الغرفة الهادئة بينما‬
‫وتت�صفحه وهي ت�سري عائدة نحو �إليوت الذي ما زال‬ ‫ي�سري �إليوت باجتاه يل وينحني م�ستنداً �إىل الرف الذي‬
‫منحني ًا عند ال�سرتيو وما زال يت�أمل‪.‬‬ ‫مبحاذاتها‪.‬‬
‫اليوت (�صوت خارجي) و�أ�ستعد لت�ستخف مبا تقرتحه �إذا‬ ‫يل (م�ؤكدة) �ألي�س هذا �شيء جميل؟‬
‫ما وجدتها غري متجاوبة‪ .‬هذا يجب �أن ميار�س مبهارة‬ ‫�إليوت (ينظر نحو يل ويداه م�شبوكتان �أمامه) اعرف هذه‬
‫ودبلوما�سية‪.‬‬ ‫باخ‪ .‬كون�رشتو المينور‪� .‬إنه من اال�شياء التي �أحبها‬
‫يل (تعر�ض على اليوت ق�صيدة من كتابها) هل قر�أت هذه‬ ‫تبت�سم يل وتتابع اال�ستماع �إىل املو�سيقى‪ ،‬ر�أ�سها �إىل‬
‫�سابقاً؟‬ ‫ا�سفل؛ و�إليوت يح ّدق بها‪.‬‬
‫�إليوت (بعد توقف) �أوه ‪ ..‬هل اطلعت على �إي �إي كومينجز؟‬
‫يقفز �إليوت ومي�سك بلي ويقبلها ب�شغف‪ .‬تفاجئ يل وتدفعه‬
‫يل (تطوي ذراعيها على �صدرها وتنظر بعيداً عن �أليوت‬
‫بعيداً‪.‬‬
‫لربهة من الزمن) نعم‪� ،‬أنه �شديد الروعة‪.‬‬
‫يل‪� :‬إليوت! ال تفعل ذلك!‬
‫يهز �إليوت ر�أ�سه‪.‬‬
‫اليوت‪ :‬يل! يل! يل �أنا �أحبك‪.‬‬
‫يل (بو�ضوح) لديهم زبائن كثريون مثليون‪ ،‬كما تعلم‪ ،‬يف‬
‫يقبل يل مرة ثانية‪ .‬ي�ستدير بغباء؛ فتتجم ّد هي عند ال�سرتيو‬
‫املكان الذي انظف به �أ�سناين ‪ .. ,‬جميع العاملني يف جمال‬
‫وبينما تندفع يل بعيداً ت�صطدم بالقاعدة املتحركة‪ .‬حيث‬
‫ال�صحة الآن يلب�سون الأكف لأنهم يخافون من مر�ض‬
‫عال فت�ضطرب يل وتلهث‪ .‬وتتحرك‬ ‫تخد�ش الأبرة ب�صوت ٍ‬ ‫الإيدز‪.‬‬
‫�إليوت (ي�أخذ نف�ساً) �أوه‪� ،‬صحيح‪.‬‬
‫دقيقة �أخرى من ال�صمت‪ .‬يح ّدق �إليوت بلي التي‬
‫تتابع النظر �إىل �أ�سفل وذراعاها حول �صدرها‪ .‬يتابع‬
‫الهارب�سيكورد العزف‪.‬‬
‫اليوت (بنعومة) هل �صدف �أن مررت بالق�صيدة على‬
‫�صفحة مائة و�أثني ع�رشة؟‬
‫يل‪ :‬نعم‪ ،‬لقد �أبكتني (تنظر �إىل �إليوت نظرة حائرة) لقد‬
‫كانت جميلة جداً ‪ ...‬ورومانتيكية جداً‪.‬‬
‫تنظر يل مرة ثانية �إىل ا�سفل‪ ،‬املو�سيقى تعزف بلطف‪ ،‬و‬
‫يتابع اليوت التحديق بها‪ ،‬وهو يفكر‪.‬‬
‫‪215‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وي�سريان نحو �سيارة دو�ستي الليموزين‪ .‬يحك اليوت‬ ‫اال�سطوانة نحو جزء �آخر من الكون�رشتو‪ ،‬والآن تعزف‬
‫جبهته مكروباً‪.‬‬ ‫«فوج» الأكرث تعقيداً والأ�رسع‪.‬‬
‫دو�ستي (يدخل غا�ضب ًا �إىل ال�سيارة) يا له من �شخ�ص‬ ‫�إليوت (يتنف�س ب�صعوبة) �أوه !‬
‫غريب هذا الرجل �إ �إنه م�صاب بجنون العظمة (يالحظ وجه‬ ‫يل (تلهث) ماذا تفعل؟‬
‫اليوت املكروب) ما بالك؟‬ ‫اليوت (بع�صبية) �أنا ‪� ...‬أنا – انا – انا �آ�سف‪ .‬يجب �أن‬
‫اليوت (يعرب بحركة يديه) انظر انا – انا – �أنا �سوف‬ ‫�أكلمك لأن لدي الكثري �أريد البوح به‪.‬‬
‫�أ�صبح جيداً ‪� .‬سوف ا�صبح جيداً‪.‬‬ ‫حتملق يل باليوت من هول ال�صدمة‪.‬‬
‫دو�ستي (مقاطعاً) �إنها لي�ست م�س�ألة كبرية‪ .‬فقط مل ت�صب‬ ‫يل (ما زالت تلهث) �إليوت!‬
‫ما نريد‪.‬‬ ‫اليوت (يعرب بالإ�شارة عن ي�أ�سه) لقد احببتك لفرتة طويلة‪.‬‬
‫اليوت (معرباً باحلركة) الآن �أنظر‪ ،‬انت – انت – انت تابع‬ ‫ا�صوات فردريك ودو�ستي غري الوا�ضحة ترتفع باجلدل‬
‫م�سريتك‪.‬‬ ‫وت�سمع فج�أة‪ .‬ي�ستدير �إليوت ب�رسعة بعيداً عن يل‪ .‬حتاول‬
‫تتعرق‪.‬‬
‫دو�ستي‪ :‬هل انت بخري؟ تبدو ‪ ...‬انت ّ‬ ‫هي �أن ت�ستجمع نف�سها ويقطع الفيلم نحو مدخل ممر‬
‫اليوت (مقاطعاً‪ ،‬بع�صبية) نعم‪ .‬نعم‪ ،‬انا فقط – فقط احتاج‬ ‫ال�رشفة‪.‬‬
‫�إىل قليل – قليل من الهواء النقي‪ .‬قد يكون ب�سبب �شيء‬ ‫يدخل فردريك �إىل ال�رشفة �أو ًال يتبعه دو�ستي امل�ضطرب‬
‫�أكلته‪ .‬انا �سوف – انا �سوف �أ�سري‪ .‬و�أنت تابع �سريك‪.‬‬ ‫يخطوان على ال�رشفة متجاوزين يل التي تقف بالقرب من‬
‫ي�ستقر دو�ستي يف املقعد اخللفي ويغلق الباب‪ .‬ينحني‬ ‫ال�سرتيو‪.‬‬
‫اليوت على �شباك ال�سائق م�شرياً له ان يبد�أ يف الإنطالق‪.‬‬ ‫اليوت يقف بجانب اللوحات العارية ‪ .‬ويقلّب �صفحات‬
‫اليوت (متابعاً‪ ،‬وم�شرياً بع�صبية)‪ :‬انت اذهب‪ ،‬تق ّدم �إذهب‪.‬‬ ‫كتاب‪.‬‬
‫تنطلق �سيارة الليموزين �إىل الأمام‪ .‬يرك�ض �إليوت نحو‬ ‫فردريك (غا�ضباً) رجا ًء ان�س ذلك! لي�س لدي �أية رغبة يف‬
‫ك�شك هاتف عرب ال�شارع‪ .‬يلتقط الهاتف ويطلب النمرة‪.‬‬ ‫بيع �أي �شيء!‬
‫يقطع الفيلم نحو فردريك يف �رشفته‪ ،‬يقف بالقرب من‬ ‫دو�ستي (يعرب باحلركة) �أنا اطلب منك �إذا ماكان لديك‬
‫الهاتف‪.‬‬ ‫�شيء به �أحمر داكن‪ ،‬عليك �أن تطري بعيداً عن امل�ألوف‪.‬‬
‫يرن جر�س الهاتف‪ .‬يلتقطه فردريك‪.‬‬ ‫يل (ب�صوت �أعلى نربة من ال�سابق) ما امل�شكلة؟‬
‫فردريك (متكلم ًا يف الهاتف) هللو؟ هللو؟ هللو؟‬ ‫فردريك (يرفع لوحاته العارية عن العامود بغ�ضب) �أنا‬
‫عندما ال يجيب �أحد ينفعل فردريك ويعلق الهاتف‪ .‬يتحرك‬ ‫غري مهتم مبا تفكر به مهند�سة الديكور التي تعمل معها‪،‬‬
‫الفيلم نحو اخلارج �إىل ك�شك الهاتف حيث يكون �إليوت‬ ‫ح�سناً؟!‬
‫و�سماعة الهاتف على �أذنه‪ ،‬ي�ستمع برهة من الزمن‪ ،‬ثم‬ ‫دو�ستي (مقاطع ًا وم�شرياً) ح�سن ًا ال �أ�ستطيع االلتزام ب�أي‬
‫يعلق الهاتف‪ .‬ي�سري �إىل خارج الك�شك‪ ،‬منف�ص ًال ثم يخطو‬ ‫�شيء ما مل ا�ست�رشها �أو ًال‪ .‬لذلك �أنا �أعمل معها‪ .‬ح�سناً؟‬
‫نحو املمر اجلانبي حيث ي�صطدم بلي الع�صبية وهي تدور‬ ‫فردريك (يحمل اللوحات بعيداً) هذا �شيء مهني!‬
‫حول الزاوية‪.‬‬ ‫انت ال ت�شرتي اللوحات لتتنا�سب مع كنبتك!‬
‫يل (ت�شري بيديها وقد ا�سرتاحت) �أوه‪ ،‬ها �أنت هنا!‬ ‫ينظر �إىل فريدريك) �إنها لي�ست كنبة انها مقعد عثماين!‬
‫يتمتم �إليوت‪ ،‬م�سرتيح ًا وم�ضطرباً‪.‬‬ ‫(يلم�س جبهته وي�ستدير نحو �إليوت) يا الهي ان�س‬
‫يل ‪ :‬كنت �أبحث عنك‪.‬‬ ‫املو�ضوع!‬
‫اليوت (م�شرياً بيديه) انا‪ ،‬يجب ان اعتذر‪ .‬انا – �أنا – �أنا‬ ‫دعنا نخرج من هنا‪ ،‬يا �إليوت‪.‬‬
‫�آ�سف‪ .‬انا م�شو�ش جداً‪.‬‬ ‫�إليوت (ي�ضع الكتاب جانباً) �سوف نذهب‪.‬‬
‫يل (م�شرية بيديها) ح�سناً‪ ،‬كيف تتوقع �أن تكون ردة فعلي‬ ‫يتحرك الفيلم خارج بناية ال�رشفة‪ .‬يخرج دو�ستي و�إليوت‬
‫‪216‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫بالن�سبة لك؟‬ ‫جتاه �أمر كهذا؟‬


‫يل (بردة فعل غري مريحة) ال �أ�ستطيع قول �شيء!‬ ‫اليوت‪ ،‬م�شدوداً‪ ،‬يح ّدق �إىل �أعلى باجتاه �رشفة فردريك‪.‬‬
‫اليوت‪ :‬حـ ‪ -‬ح�سناً‪ ،‬رجا ًء كوين �رصيحة‪ .‬انا – انا – �أنا ال‬ ‫يقود يل ب�ضعة ياردات �أعلى ال�شارع‪ ،‬بعيداً عن �أية عيون‬
‫�أريدك �أن ت�صابي ب�شعور �سيء‪.‬‬ ‫ف�ضولية‪.‬‬
‫يل (ت�ضع يدها على ر�أ�سها) نعم! ولكنني ‪� ..‬أنا اكن لك‬ ‫اليوت (مي�سك بذراع يل) هو ‪ ،...‬اوه‪ ،‬اعرف‪ .‬اعرف‪ ،‬ولكن‪،‬‬
‫بع�ض امل�شاعر‪ ،‬ولكن ال تدعني �أقول �شيئ ًا زيادة‪.‬‬ ‫�أنا �أحبك‪.‬‬
‫اتفقنا؟‬ ‫يل‪� :‬أوه‪ ،‬ال تقل هذه الكلمات!‬
‫تنظر يل نحوه‪.‬‬ ‫اليوت (مقاطعاً‪ ،‬هازاً ر�أ�سه) �أنا – �أنا‪� ،‬أنا �آ�سف‪.‬‬
‫اليوت (م�شرياً بيديه) حـ ‪ -‬حـ ‪ -‬ح�سناً‪ ،‬يا يل‪ .‬موافق‪.‬‬ ‫اعلم �أنه �شيء رهيب‪.‬‬
‫موافق انت‪ ،‬انت‪ ،‬قلت ما يكفي ‪� ..‬إنها م�س�ؤوليتي الآن‪.‬‬ ‫يل (تدفع �شعرها �إىل اخللف‪ ،‬تهز ر�أ�سها‪ .‬تعبرياً عن الي�أ�س)‬
‫�سوف ا�ضع الأمور يف ن�صابها‪.‬‬ ‫تتنهد‪.‬‬ ‫ ‬ ‫انك لتدرك املوقف متام ًا‪.‬‬
‫يل‪� :‬أنظر‪ ،‬ال تفعل �شيئ ًا عني (تهز ر�أ�سها) �أنا اعي�ش مع‬ ‫اليوت (ينظر بعيداً لربهة من الزمن) �أعرف! انا – انا –‬
‫فردريك وحنة و�أنا متال�صقتان‪.‬‬ ‫�أنا – �أنا �أنا �أدرك‪.‬‬
‫اليوت‪ :‬نعم‪ ،‬ولكنك‪ ،‬انت تهتمني بي‪.‬‬ ‫يل‪ :‬ماذا تتوقع �أن �أقول؟‬
‫يل (بردة فعل) �أوه‪ ،‬اليوت‪ ،‬من ف�ضلك ! ال �أ�ستطيع �أن �أكون‬ ‫اليوت‪ :‬حنة و�أنا يف املراحل الأخرية‪.‬‬
‫جزءاً من هذا! �أنا حتطمت فج�أة ل�شعوري بالذنب ملجرد‬ ‫يل (تهز ر�أ�سها) هي – مل تقل يل �شيئ ًا �أبداً‪ ،‬ونحن قريبتان‬
‫�أنني واقفة هنا اكلمك على ال�شارع!‬ ‫من بع�ضنا البع�ض‪ .‬كانت لتقول يل مثل هذا الأمر‪.‬‬
‫تتنهد‪.‬‬ ‫اليوت‪ :‬هو ‪ .....‬انه – انه – انه ل�شيء حمزن‪� .‬إنها جمنونة‬
‫بي‪ .‬ولكن يف فرتة ما �أثناء العالقة‪� ،‬سقطت خارج عالقة‬
‫اليوت (م�ؤكداً) �إن غلطتك �سببها �شعورك املتبادل يل (بردة‬
‫حبي لها‪.‬‬
‫علي ان �أنظف �أ�سناين‪.‬‬ ‫علي ان �أذهب‪ّ .‬‬‫فعل) �أوه‪ ،‬من ف�ضلك‪ّ ،‬‬ ‫يل‪� :‬آمل �أن ال يكون ذلك ب�سبب‪.‬‬
‫ت�سري بعيداً‪ .‬يح ّدق �إليوت وراءها وهو يك ّز �أ�سنانه‪.‬‬
‫اليوت‪� :‬أوه‪ ،‬كال‪ ،‬كال (يط�أطئ ر�أ�سه) ح�سناً‪ ،‬نعم!‬
‫اليوت (ب�سعادة) ح�صلت على �إجابتي‪ .‬ح�صلت على‬
‫انا �أحبك‪.‬‬
‫�إجابتي �أنا �أ�سري على الهواء!‬
‫يل‪� .‬أوه‪ ،‬ال �أ�ستطيع �أن �أكون �سبب ًا لأي �شيء بينك وبني‬
‫ي�ضحك‪.‬‬
‫حنة ‪ .‬انا ‪ ،‬جمر‪...‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬
‫اليوت (مقاطعاً‪ ،‬يهز ر�أ�سه) اوه‪ ،‬كال‪ ،‬كال‪ ،‬كال‪.‬‬
‫انها‪� ،‬أوه‪ ،‬انها – انها – �إنها �إنها كانت حتمية عملية‬
‫فراقنا انا وحنة على �أي حال‪.‬‬
‫يل‪ :‬ملاذا؟‬
‫اليوت‪ :‬ت�ش‪ ،‬حـ ح�سناً‪ ،‬ملليون �سبب و�سبب‪.‬‬
‫يل (ت�شري بيديها ) ولكن لي�س ب�سببي؟‬
‫اليوت‪ :‬ت�ش‪ ،‬كال ! لقد كنا‪ ،‬لقد كنا نحن االثنني نتجه �إىل‬
‫اجتاهات خمتلفة‪.‬‬
‫يل (تنظر �إىل ا�سفل) م�سكينة حنة‪.‬‬
‫اليوت‪ :‬ولكن – لكن ماذا عنك؟ هل ت�شاركينني يف ٍ‬
‫بع�ض‬
‫من م�شاعري؟ �أم هل هذه فقط م�صدر للخجل الكئيب‬
‫‪217‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حنة قد �أدارت ظهرها‪ .‬كانت منهمكة يف اعمال املطبخ‬ ‫خارجي ‪ .‬زاوية �شارع خارج مبنى حيث �شقة �أيفان‬
‫بينما كان ايفان يتكلم‪� .‬أخذت بع�ض احلبوب من اخلزانة‬ ‫ونورما – نهاراً‬
‫واعطتها لوالدتها مع ك�أ�س من املاء‪.‬‬ ‫يدور تاك�سي حول زاوية �شارع احلي الغربي ويقف امام‬
‫ايفان (متابعاً) ‪ ...‬وكانت والدتك ترمي نف�سها عليه‬ ‫مبنى ايفان ونورما املزخرف بظلة من املعدن‪� .‬إنه يوم‬
‫بطريقة مقرفة وعندما وجدت انها كبرية جداً على �إغوائه‪،‬‬ ‫مل ّب ٌد بالغيوم‪.‬‬
‫وانه كان خج ًال من ت�رصفاتها‪...‬‬ ‫�سيارة �ستاي�شن على اجلانب املقابل من ال�شارع تنطلق‬
‫نورما (تقاطع بغ�ضب وتدير ر�أ�سها) كذاب ! كذاب !‬ ‫بعيداً بينما تخرج حنة من التاك�سي وقد تطاير و�شاحها‬
‫تتحرك الكامريا نحو �إيفان‪ ،‬الذي يتابع رواية ق�صته‪،‬‬ ‫احلريري االبي�ض من على اكتافها‪ .‬ترك�ض نحو البناية‬
‫متجاه ًال انفجار زوجته بينما ي�سري بعيداً عن ممر املطبخ‬ ‫بينما يبتعد التاك�سي‪.‬‬
‫نحو حجرته‪.‬‬ ‫تعزف البيانو «امل�أخوذ» على ال�شا�شة‪.‬‬
‫ايفان‪ :‬ثم عند الع�شاء ا�صبحت اكرث �سكراً (ت�رصخ من على‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫كتفه) واخريا ا�صبحت جوان كولينز !‬ ‫داخلي �شقة �إيفان ونورما – نهاراً‪.‬‬
‫ي�سري ايفان نحو البيانو حيث ت�ستقر جمموعة من �صور‬ ‫ي�سري �إيفان وظهره نحو الكامريا نحو الباب الأمامي‬
‫العائلة امل�ؤطرة مو�ضوعة يف �صف واحد على ظهرها‬ ‫ويفتحه لتدخل حنة‪.‬‬
‫يلتقط واحدة من ال�صور بينما تتكلم نورما خارج الإطار‬ ‫حنة (م�ضطربة) مرحباً‪ .‬كيف حالها؟‬
‫يف املطبخ‪.‬‬ ‫ايفان (مقاطعاً) انا �سعيد لر�ؤيتك‪.‬‬
‫نورما (خارج الإطار) لقد ق�ضيت كل حياتي اتقبل‬ ‫تنزع حنة عنها �شنطة الكتب ومعطفها بينما يتجاوزها‬
‫الإهانات ‪...‬‬ ‫والدها الغا�ضب باجتاه املطبخ‪ .‬مير �أمام حائط عليه مر�آه‬
‫تتحرك الكامريا عائدة �إىل املطبخ بينما تتكلم نورما‪ .‬ما‬ ‫مزخرفة وبع�ض ال�صور امل�ؤطرة‪.‬‬
‫زالت تتحلق نحو املمر خارج الإطار حيث وقف ايفان منذ‬ ‫ايفان‪� :‬إنها يف املطبخ هناك‪� .‬إنه نف�س ال�شيء‪ .‬نف�س‬
‫برهة من الزمن‪ .‬حتمل ك�أ�س املاء وحبوب الدواء‪.‬‬ ‫ال�شيء‪ .‬تعد وتعد (ي�شري بيديه) ولكنه اكاذيب برمته‪.‬‬
‫نورما (متابعة‪ ،‬ب�أ�سلوب م�رسحي ‪ ...‬من هذا الالان�سان ‪،‬‬ ‫نرى نورا عرب املمر جتل�س على كر�سي يف املطبخ‪ .‬تلب�س‬
‫هذا هـ ‪ -‬هـ ‪ -‬هذا املق�صو�ص ال�شعر الذي ميكن �أن نعتربه‬ ‫ثوب ًا فوق مالب�س داخلية خفيفة وكل�سات‪ ،‬انها ت�رشب‪.‬‬
‫رجالً‪( ،‬ت�ستدير لتنظر �إىل حنة خارج الإطار) مل يتمكن من‬ ‫يقف �إيفان يف املمر ينظر �إليها‪ ،‬وال يدخل‪.‬‬
‫�إعالتنا ‪ ...‬من نعم اهلل �أن ابنتنا كانت موهوبة!‬ ‫حنة (خارج الإطار‪ ،‬ب�صرب) ال تزيد الأمور �سوءاً‪ ،‬يا والدي‪.‬‬
‫عاد �إيفان �إىل املمر‪ ،‬ي�ستمع �إىل نورما‪ ،‬يزداد غ�ضب ًا �شيئ ًا‬ ‫ايفان (مقاطعاً) دائماً‪.‬‬
‫ف�شيئاً‪ ،‬وبينما يجيب بنف�س احلدة‪ ،‬يبد�أ بال�سري عائداً �إىل‬ ‫تتجاوز حنة والدها ب�رسعة وتدخل �إىل املطبخ‪ ،‬تر�شف‬
‫غرفته والبيانو اخلا�ص به‪.‬‬ ‫والدتها ر�شفة من �رشابها‪.‬‬
‫�إيفان‪ :‬كنت �أمتنى �أن تكون مني‪ .‬يف الوقت الذي انت فيه‬ ‫حنة‪ :‬مرحباً‪ ،‬والدتي‪ .‬كيف حالك؟ ا�سمعيني‪ ،‬دعيني‬
‫�أمها (ي�شري باحلركة غا�ضباً‪ ،‬و�صوته يعلو) والدها ميكن‬ ‫�أعطيك بع�ض القهوة‪ .‬يكفي ما ت�رشبينه من هذا‪.‬‬
‫ان يكون اي واحد من جمموعة املمثلني!‬ ‫فجر‬
‫(ت�أخذ م�رشوب �أمها‪ ،‬خماطبة �إيفان) ما الذي ّ‬
‫نورما‪� :‬إنها موهوبة ‪ ..‬ولذلك فمن امل�ستبعد ان تكون منك!‬ ‫املو�ضوع‬
‫(ت�رشب ر�شفة من املاء)‪.‬‬ ‫ايفان (معرباً باحلركة بينما تدير نورما ر�أ�سها وتراقبه)‪.‬‬
‫حنة (ت�سري نحو املمر لتخاطب �إيفان‪ ،‬الذي �أخذ يدخن يف‬ ‫كنا نقوم بربنامج جتارى عند مكتب املحافظ وكان‬
‫غرفته) والدي‪ ،‬هل ب�إمكانك من ف�ضلك �أن تبقى يف الغرفة‬ ‫هناك بائع‪� ،‬شاب ح�سن املظهر‪...‬‬
‫الأخرى ودعني �أعتني بها؟‬ ‫تنفعل نورما وت�ستدير نحو ابنتها‪ .‬على �أي حال كانت‬
‫‪218‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫والآمال التي مل تتحقق‪.‬‬ ‫تعود حنة لنورما‪ ،‬ت�أخذ ك�أ�س املاء بعيداً‪.‬‬
‫ترتك الكامريا وجه حنة وهي تتابع ت�أمالتها‪ ،‬تتحرك‬ ‫�إيفان (خارج الإطار وقد اختار اهمال اقرتاح حنة)‪:‬‬
‫نحو الغرفة ال�صغرية‪ ،‬و�إىل �صف ال�صور العائلية امل�صفوف‬ ‫لي�س ب�إمكانك ان تعلمي ابدا متى �ستقع من العربة وتهني‬
‫على البيانو‪ .‬واحدة حديثة لإيفان ونورما و�صوراً �أخرى‬ ‫اجلميع‪.‬‬
‫حيث كانت نورما و�إيفان يف �شبابهما‪ ،‬جميالن وكلهما‬ ‫حنة‪ ،‬وقد قررت اهمال تعليقات ايفان‪ ،‬تعطي والدتها‬
‫�أمل‪ ،‬تتابع املو�سيقى العزف‪.‬‬ ‫فنجان ًا من القهوة‪ ،‬وت�ضع يدي والدتها على القدح‪.‬‬
‫حنة (�صوت خارجي) وال�شجار واخليانات املتبادلة‬ ‫حنة‪� :‬إليك‪ ،‬يا �أماه ا�رشبي هذا (منحنية على �أحد ن�ضد‬
‫لإثبات نف�سهما‪ ...‬ولوم بع�ضهما البع�ض كان �شيئ ًا حـ ‪-‬‬ ‫املطبخ) هل تعلمني‪ ،‬انت رهيبة‪ .‬رمبا كنت تعبثني‪.‬‬
‫حزيناً‪ .‬اعجبهما فكرة ان يكون لهما �أوالد‪ .‬ولكن تن�شئة‬ ‫نورما (تر�شف قهوتها) كال ! �أنا احب املزاح مع من حويل‬
‫ه�ؤالء الأوالد مل تهمهما كثرياً‪ .‬ولكن من امل�ستحيل �أن‬ ‫وا�ستمتع‪ ،‬وهو يغ�ضب لأنني اكون مركز االهتمام‪ .‬لقد‬
‫تعتربها موقف ًا �ضدهم‪ .‬مل يكونوا ليعرفوا �شيئ ًا �آخر ‪.‬‬ ‫�أ�صبح اكرث مرارة كلما ا�صبح �أكرب‪ ،‬وقد حاولت �أن �أحافظ‬
‫يقطع الفيلم عائداً �إىل املطبخ ‪ .‬تقف نورما؛ ت�أخذ حنة‬ ‫على �شبابي‪� ...‬شباب القلب‪.‬‬
‫فنجان القهوة اخلا�ص بها وت�ضعه على الن�ضد‪.‬‬ ‫حنة‪ :‬لقد وعدتي ان تبقى على العربة‪.‬‬
‫نورما‪ :‬هل تعرفني‪ ،‬من بيننا جميع ًا يف العائلة‪ ،‬كنت �أنت‬ ‫نورما (تهز ر�أ�سها) الت�ضحيات التي قمت بها من �أجل هذا‬
‫املباركة باملوهبة احلقيقية‪.‬‬ ‫الرجل‪( ،‬ت�أخذ نف�س ًا عميقاً) لقد حطمني ب�أنانيتة وبـ ‪...‬‬
‫ت�ضع ذراعها حول كتف حنة‪ .‬ت�سري الأم والإبنة خارج‬ ‫ت�شري بيديها) بـ ‪ ..‬بـ ‪ ..‬ب�ض�آلة موهبته!‬
‫املطبخ‪.‬‬ ‫حنة‪ :‬ح�سناً‪ ،‬توقفي عن متثيلك‪.‬‬
‫حنة (مت�سك باليد التي و�ضعتها والدتها على كتفها) �أووه‪،‬‬ ‫نورما (ت�رصخ نحو �إيفان املوجود خارج الإطار) �إنه هو‬
‫الذي جعل من كل فتاة �ساذجة �شيئ ًا عدمي القيمة‪.‬‬
‫موهبتي احلقيقية هي احلظ‪ ،‬يا والدتي‪.‬‬
‫حنة (بهدوء) ح�سناً‪ ،‬ح�سناً‪.‬‬
‫ت�ضحك نورما �ضحكة خافتة‪.‬‬
‫نورما (مت�سك بذراع حنة متنهدة) انـ ‪ ..‬انهم كانوا‬
‫حنة (مقاطعة) �إن حظي كان وفرياً فقط‪ .‬منذ ا�ستعرا�ضي‬
‫يريدونني �أن �أقوم بتجربة �سينمائية‪.‬‬
‫الأول كما تعرفني؟ لقد كنت دائم ًا اعتقد ان يل كان مق ّدرا‬
‫حنة (ب�صرب) نعم‪� ،‬أعرف‪ ،‬يا �أمي‪.‬‬
‫لها �أن حت�صل على الأ�شياء العظيمة‪.‬‬
‫نورما (ت�شري بيديها) ولكنني كنت اعلم انه �سوف يذهب‬
‫نورما‪ :‬نعم‪ ،‬انها رائعة‪ ،‬ولكنها ال متلك بريقك (ت�شري‬
‫�إىل هناك وي�سري متعرثاً بق�صة �شعره املكلفة وت�رسيحة‬
‫بيديها وت�ضحك �ضحكة خافتة) هي تعرف ذلك انها‬
‫�شعره وثيابه‪� .‬أنه حمب للمظاهر!‬
‫(مت�سك بذراع حنة مرة ثانية ثم مت�سك ب�صدرها)‬
‫والآن كيف ميكنك �أن متثلني عندما ال يكون لديك �شيئ ًا يف‬
‫الداخل ليخرج �إىل اخلارج؟!‬
‫تر�شف نورما قهوتها وهي تت�أوه برقة ‪ ..‬تنفعل حنة‬
‫وت�سري بعيداً عن الن�ضد و‪ ،‬تغلق زجاجة احلبوب‪ ،‬وت�ضعها‬
‫يف اخلزانة‪ .‬يعزف �إيفان على البيانو خارج الإطار‪ .‬تتحرك‬
‫الكامريا �إىل الداخل على وجه حنة وهي تفكر و�صوتها‬
‫م�سموع على ال�شا�شة‪.‬‬
‫حنة (�صوت خارجي) لقد كانت جميلة جداً يف يوم من‬
‫الأيام‪ .‬وكانه هو حمطم للآمال‪ .‬كالهما ملئ بالوعود‬
‫‪219‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الآخر يقف قريب ًا ينظر من ميكي �إىل �شا�شة احلا�سوب‪.‬‬ ‫تعبدك‪ .‬ال تتجر�أ ان ت�صعد �إىل خ�شبة امل�رسح‪.‬‬
‫ثم يقطع الفيلم ب�رسعة نحو �شا�شة احلا�سوب‪ .‬تظهر �صورة‬ ‫حنة (تنظر �إىل والدتها) الآن‪ ،‬هويل لي�ست خجولة‬
‫جلمجمة ميكي‪ .‬ت�ضيء اخليوط ال�شعاعية فوق اجلمجمة‪.‬‬ ‫يقفان على مدخل الغرفة ال�صغرية‪ .‬نرى ايفان يعزف‬
‫تتحرك الكامريا �إىل �أعلى من على ال�شا�شة لتظهر ميكي‬ ‫البيانو بينما يتابعان هما حمادثتهما‪.‬‬
‫مرة ثانية‪ ،‬كما نراه عرب ال�شباك‪� ،‬ساكناً‪� ،‬صارم ًا حتت‬ ‫نورما‪ :‬كال هويل تريد �أن جترب �أي �شيء‪ .‬هويل مثلي‪.‬‬
‫وحدة القيا�س‪.‬‬ ‫حنة‪ :‬حقاً‪.‬‬
‫يتحرك الفيلم من ميكي الذي ي�ستلقي على �صدره �إىل‬ ‫نورما (تهز ر�أ�سها) كنت �س�أ�صبح مدمنة خمدرات‪.‬‬
‫التقنيان كما نراهما عرب النافذة يف غرفة الت�صوير‬ ‫ت�ضحك نورما جذلة‪ .‬حنة ت�ضحك وتلم�س والدتها‬
‫املحوري يتفح�صان �شا�شة احلا�سوب ويتكلمان كالم ًا‬ ‫ي�سريان �سوي ًا نحو ايفان اجلال�س �إىل البيانو‪.‬‬
‫غري وا�ضح مع بع�ضهما‪ .‬احد الرجلني يهز ر�أ�سه وي�ضع‬ ‫ايفان (ينظر �إىل �أعلى) تذكري هذا يا حنة؟‬
‫معلومات اكرث يف احلا�سوب‪.‬‬ ‫يعزف ايفان ب�ضعة �أجزاء من «انت جميلة �إىل درجة‬
‫وبينما هما يدر�سان �صورة اجلهاز تقطع الكامريا �إىل‬ ‫كبرية»‬
‫م�شهد خلفي مليكي حتت وحدة القيا�س‪.‬‬ ‫بينما تدير الأم واالبنة ظهريهما �إىل الكامريا وهما‬
‫هذا امل�شهد يعطيني اح�سا�س ًا وك�أنه م�شهد من رواية‬ ‫ت�ستمعان‪.‬‬
‫علمية‪ ،‬وك�أن ميكي ي�ستلقي يف منت�صف دائرة م�ستقبلية‬ ‫تنحني نورما فوق البيانو‪ ،‬وحنة تنظر بعيداً وهي‬
‫كبرية وبي�ضاء‪.‬‬ ‫م�أخوذة يف التفكري‪.‬‬
‫تتحرك النقالة التي حتمل ميكي ببطء خارج وحدة‬ ‫ت�ستمر مو�سيقى البيانو يف اخللفية بينما يقطع الفيلم �إىل‪:‬‬
‫القيا�س‪.‬‬ ‫يل وهي ت�سري على ر�صيف املرف�أ‪ .‬الهواء يطيرّ �شعرها؟‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫تعانق كتاب �أ‪�.‬أ‪.‬كومينجز‪ .‬وهي �أي�ض ًا غارقة يف افكارها‪.‬‬
‫داخلي ‪ .‬مكتب دكتور بروك – نهاراً‬ ‫تقف على حافة الر�صيف؛ تتابع الكامريا حتركها‪ ،‬مارة‬
‫يحمل دكتور بروك �صور الأ�شعة اخلا�صة مبيكي وي�سري‬ ‫مبجموعة �أكوام من الأخ�شاب بالقرب منها؟‪ .‬ترتطم بها‬
‫ماراً ب�صف من ارفف الكتب متجه ًا نحو لوحة الإ�ضاءة‬ ‫املياه برفق‪.‬‬
‫اخلا�صة به‪ .‬ي�ضع �صور الأ�شعة �إىل داخلها‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫دكتور بروك�س‪� :‬سيد �ساك�س (يتنهد) انا خائف من �أن‬ ‫الهاوية‬
‫تكون الأنباء غري جيدة‪.‬‬ ‫تنتهي معزوفة البيانو وي�سكن الفيلم‪.‬‬
‫ي�ستدير دكتور بروك�س نحو ميكي البعيد عن ال�شا�شة‪.‬‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫دكتور بروك�س (متابعاً‪ ،‬خمرج ًا قلم ر�صا�ص من جيبه) لو‬ ‫داخلي‪ .‬م�ست�شفى – غرفة ال�شعاع املقطعي – نهاراً‬
‫كنت �أ�ستطيع �أن �أريك �أين يوجد الورم متام ًا وملاذا ن�شعر‬ ‫ي�ستمر ال�سكون بينما يقطع الفيلم للقطة مقربة لغرفة‬
‫ان اجلراحة لن جتدي نفعاً‪.‬‬ ‫دائرية كبرية حيث جهاز وحدة قيا�س ال�شعاع املقطعي‬
‫مقربة لوجه ميكي‪ .‬وقد‬ ‫يقطع الفيلم مبا�رشة �إىل لقطة ّ‬ ‫يف غرفة معقمة يف امل�ست�شفى‪ .‬تتحرك النقالة ببطء حتمل‬
‫ظهرت عليه ردة فعل يائ�سة‪ .‬يغلق عينيه‪ ،‬ويغطي وجهة‬ ‫فوقها ج�سد ميكي العاري املنبطح وتبد�أ يف الدخول �إىل‬
‫بيديه‪.‬‬ ‫الفتحة الدائرية لنفق وحدة القيا�س‪.‬‬
‫ميكي (�صوت خارجي) لقد انتهى الأمر‪ .‬وانا وجه ًا لوجه‬ ‫بينما تبتعد الكامريا �إىل الوراء بعيداً عن ميكي ور�أ�سه‬
‫مع الأبديه‪.‬‬ ‫الداخل يف جهاز القيا�س‪ ،‬نرى عامالن تقنيان من خالل‬
‫دكتور بروك�س (خارج الإطار)‪ ...‬كربت كثرياً دون �أن‬ ‫النافذة التي تف�صل جهاز الت�صوير عن غرفة التحكم‪ .‬واحد‬
‫نكت�شفها‪...‬‬ ‫منهما يجل�س لينقل املعلومات �إىل حا�سوب بينما التقني‬
‫‪220‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يقف ميكي خلف مكتبة‪ ،‬ظهره نحو الكامريا‪ ،‬وما زال‬ ‫(يتحرك بعيداً بال هدف بينما يتابع ميكي تعليقاته‬
‫يلب�س معطفه‪ ،‬ينظر �إىل اخلارج نحو خط ال�سماء يف‬ ‫امل�ضطربة)‬
‫مانهاتن‪.‬‬ ‫ميكي (�صوت خارجي) لي�س فيما بعد‪ ،‬ولكن الآن‪� ..‬أنا‬
‫ميكي‪ :‬هل تدركني �أي خيط نحن معلقون به؟‬ ‫خائف جداً ال �أ�ستطيع احلراك �أو الكالم �أو التنف�س‪.‬‬
‫جايل (خارج الإطار) ميكي‪ ،‬لقد خرجت من ال�سنارة‪.‬‬ ‫وعندما ينتهي ميكي من خطابه‪ ،‬يظهر دكتور بروك�س‬
‫واجب عليك �أن حتتفل؟‬ ‫احلقيقي ي�سري نحو املكتب‪ .‬امل�شهد ال�سابق كان عبارة عن‬
‫ميكي (ي�سري حول املكان متجه ًا �إىل مكتبة‪ ،‬معرباً‬
‫جزء من تخيالت ميكي‪ .‬كوابي�س وتهيئات لي�س �إالّ‪.‬‬
‫بالإ�شارات)‬
‫ي�سري دكتور بروك�س وهو يحمل �صور �أ�شعة ميكي ويتجه‬
‫هل تفهمني كم ان كل �شيء بال معنى؟ كل �شيء!‬
‫انا �أتكلم عن حـ حـ حـ‪ . .‬ياتنا‪ ،‬العر�ض‪ . .‬العامل كله‪،‬‬ ‫ماراً بنف�س �صفوف الكتب نحو لوحة الإ�ضاءة‪.‬‬
‫انه بال معنى؟‬ ‫دكتور بروك�س‪ :‬ح�سناً‪� ،‬أنت جيد فعالً‪ .‬لي�س هنالك هنا‬
‫جايل (تعرب بيديها) نعم‪ ..‬ولكنك لن متوت الآن!‬ ‫�شيئ على الإطالق‪ .‬وكافة فحو�صك ممتازة‪.‬‬
‫ميكي‪ :‬كال‪� ،‬أنا لن �أموت الآن‪ ،‬ولكن‪ ،‬لكن (ي�شري بيديه)‬ ‫(ي�ضيء اللوحة وي�ضع ال�صور ال�شعاعية) يجب �أن‬
‫كما تعلمني‪ ،‬عندما خرجت راك�ض ًا من امل�ست�شفى‪ ،‬كنت‬ ‫�أعرتف لقد كنت م�شغول البال ب�سبب الأعرا�ض التي‬
‫�شديد البهجة لأنهم قالوا يل انني �سوف �أكون بحالة‬ ‫عانيتها (ي�ستدير لينظر �إىل ميكي خارج ال�شا�شة) ما‬
‫جيدة‪ .‬وبينما كنت �أرك�ض يف ال�شارع‪ ،‬فج�أة توقفت‪،‬‬ ‫الذي ت�سبب يف فقدان ال�سمع يف �أذن واحدة‪ .‬اعتقد �أننا‬
‫لأن فكرة ما طر�أت على بايل‪ ،‬ح�سناً‪ ،‬كما تعلمني‪ ،‬لن‬ ‫لن نعرف ال�سبب ب�شكل م�ؤكد‪ .‬ولكن مهما كان ال�سبب‬
‫�أغادر اليوم‪ .‬انا بحالة جيدة‪ .‬لن �أغادر غداً‪.‬‬ ‫ف�إنه حتم ًا لي�س �شيئ ًا ج ّدي ًا �إطالقاً‪.‬‬
‫(م�شرياً)‬ ‫(يهز ر�أ�سه)‬
‫ولكن البد و�أن �أكون يف هذا الو�ضع‪.‬‬ ‫انا مرتاح متاماً‪.‬‬
‫تنه�ض جايل من على كر�سيها‪ .‬ت�سري متجاوزة ميكي‬ ‫قطع �إىل‪:‬‬
‫نحو خزانة قريبة تفتح �أحد الأودراج باحثة عن �شيء‬ ‫خارجي – م�ست�شفى جيل �سيناء – نهاراً‬
‫ما‪ .‬تتبعها الكامريا تاركة ميكي لفرتة ق�صرية‪.‬‬ ‫يظهر ميكي مرة ثانية وهو يرتك املبنى‪ ،‬ولكن هذه‬
‫لتوك؟‬
‫جايل‪� :‬أنت ادركت هذا الآن ّ‬ ‫املرة يقفز على ال�سالم من فرط ال�سعادة‪.‬‬
‫ميكي (خارج الإطار) ح�سناً‪ ،‬انا مل �أدركه الآن‪ ،‬انا‬ ‫يرك�ض مرتاق�ص ًا على ال�شارع‪ ،‬ي�صفق بيديه‪� ،‬سعيداً‬
‫اعرفه كل الوقت‪ ،‬ولكن‪ .‬ا�ستطعت ان ال�صقه يف خلفية‬ ‫بهدوء باله – �رضبات عالية �رسيعة ومو�سيقى جاز يف‬
‫عقلى‪ ..‬بينما يتابع ميكي الكالم خارج الإطار‪ ،‬تغلق‬ ‫اخللفية‪.‬‬
‫متر �سيارات عديدة بينما يرك�ض ميكي ب�سعادة‪ .‬فج�أة‬
‫يتوقف‪ ،‬يده على فمه‪ ،‬يفكر‪.‬‬
‫قطع �إىل ‪:‬‬
‫داخلي‪ .‬مكتب ميكي – نهاراً‬
‫جتل�س جايل على كر�سي �أمام رف من الكتب‪� ،‬أريكة‬
‫وطاولة قهوة عليها دوريات‪ .‬ومن�ضدة ملت�صقة‬
‫باحلائط عليها �ضوء جانبي مما يكمل اللوحة‪ .‬يدا‬
‫جايل معقودتني على حجرها‪.‬‬
‫جايل‪ :‬ماذا تعني ب�أنك �سترتك؟‬
‫ملاذا؟ الأخبار جيدة! انت ل�ست م�صاب ًا بالـ‪. .‬‬
‫ال�شيء‪.‬‬
‫‪221‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫تذهب �إىل بيت للموم�سات! كال؟‬ ‫جايل الأدراك وت�سري �إىل خزانة ملفات خلف مكتب‬
‫ميكي (يهز ر�أ�سه ويده على �صدره) ال ا�ستطيع البقاء يف‬ ‫ميكي‪.‬‬
‫هذا العر�ض‪ .‬يجب ان اح�صل على �إجابات‪ .‬و�إال (يتوقف‬ ‫ميكي‪ ..-:‬لأن هذا �شيء مريع ان‪ ..‬تفكري به!‬
‫وي�سند ر�أ�سه) انا اقول لك‪� ،‬سوف �أقوم ب�شيء �سيء‪.‬‬ ‫تفتح جايل خزانة امللفات وتتناول منها علبة لبان‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫تغلقها بعنف وهي م�شتتة الأفكار فتقفل‪.‬‬
‫املدخل �إىل فندق �سان ريجيه‪ ،‬انيق وم�ضاء ا�ضاءة‬ ‫جايل (تتمتم) نعم‪ .‬ماذا؟‬
‫دافئة‪ .‬ليالً‪ .‬مير امل�شاة‪ .‬مو�سيقى البيانو الوتري‬ ‫ميكي (ي�ستدير نحو جايل) هل ا�ستطيع ان اخربك �شيئاً؟‬
‫الباروك تعزف كخلفية للم�شهد ترتفع الكامريا �إىل �أعلى‬ ‫هل ا�ستطيع �أن �أخربك �رساً؟‬
‫نحو واجهة املبنى مارة بالأعالم املرحبة والنوافذ‬ ‫جايل (ت�أط أ� ر�أ�سها متململ بينما ت�سري حول املكتب)‬
‫املزخرفة لب�ضعة طوابق وبينما يتابع البيان الوتري‬ ‫نعم‪ .‬من ف�ضلك‪.‬‬
‫العزف‪ ،‬يتحرك الفيلم �إىل الداخل‪� ،‬إىل �أحد غرف الفندق‪.‬‬ ‫ميكي (م�شرياً) منذ ا�سبوع ا�شرتيت بندقية‪.‬‬
‫يفتح �إليوت الباب �إىل يل وظهره �إىل الكامريا‪ .‬يغلق‬ ‫جايل (جتل�س على ذراع الكر�سي بالقرب من ميكي)‬
‫�إليوت خلفها وهي تدخل‪ .‬يقفان متقاربني جداً‪ .‬يحيط‬ ‫كال‪.‬‬
‫بهما كالإطار الباب والعف�ش القليل وغطاء احلائط من‬ ‫ميكي (مقاطعاً‪ ،‬مط�أطئا ر�أ�سه وم�شرياً بيديه) ذهبت‬
‫الورق املقلم‪.‬‬ ‫�إىل �أحد املخازن‪ .‬ا�شرتيت بندقية‪ .‬كنت اريد �أن‪ . .‬كما‬
‫�إليوت (ينظر برتكيز �إىل يل‪ ،‬ويداه يف جيوبه) ظننت‬ ‫تعلمني‪�،‬إذا ما قالوا يل انه لديك ورم‪ .‬كنت على و�شك‬
‫انك لن ت�أتني‪.‬‬ ‫�أن اقتل نف�سي‪ . .‬ال�شيء الوحيد الذي كان ميكن ان يقف‬
‫يل‪ :‬كدت �أن ال �آتي‪.‬‬ ‫يدمروا‪ .‬كنت م�ضطراً‬ ‫يف وجهي‪ ،‬هو اهلي‪ ،‬الذين قد ّ‬
‫اليوت (وا�ضع ًا يديه على �أكتافها يريد تقبيلها) يل‪..‬‬ ‫لأن اطلق النار عليهم �أي�ض ًا قبل ذلك‪ .‬واي�ض ًا لدي عمة‬
‫�أوه‪..‬‬ ‫وعم كان علي ان‪ ..‬كما تعرفني‪ ،‬كان �سيف�ضي الأمر �إىل‬
‫يل‪ :‬مل امن طوال الليل‪.‬‬ ‫حمام دم جايل‪( .‬ترفع �أكتافها‪ ،‬وتفتح عامود لبان)‬
‫اليوت (يرفع يده بعيداً‪ ،‬م�شرياً �إىل الغرفة) كال‪ ،‬كال –‬ ‫ت�شى‪ ،‬ح�سن ًا كما تعلم يف النهاية‪ ،‬انها �ستحدث لنا‬
‫كال – كال‪ ،‬انا مت�أكد‪.‬‬ ‫جميعاً‪.‬‬
‫ي�سريان باجتاه الكامريا مبتعدين �إىل داخل الغرفة‪.‬‬ ‫يخرب هذا كل �شيء لك؟‬ ‫ميكي‪ :‬نعم‪ ،‬ولكن اال ّ‬
‫ي�ضع اليوت ذراعه حول يل‪.‬‬ ‫هذا يفعل كل �شيء‪..‬‬
‫يل‪ :‬ماذا نحن نفعل‪ ،‬نلتقي بغرفة فندق؟ هذا �شيء‬ ‫تتنهد جايل‪ .‬تدخل قطعة لبان يف فمها بينما يتابع‬
‫مريع‪ ،‬الي�س كذلك؟‬ ‫ميكي الكالم‪.‬‬
‫تتوقف املو�سيقى‪ .‬تتبع الكامريا يل وهي ت�سري باجتاه‬ ‫ميكي (متابعاً)‪ ..‬تعرفينها‪� ،‬إنها تقتلع امل�رسة من كل‬
‫النوافذ املغطاة بال�ستائر‪ ،‬عابرة من امام مدف�أة ومر�آة‪،‬‬ ‫�شيء (معرباً بيديه وم�شرياً)‪.‬‬
‫بع�ض ال�صور العادية ومن�ضدة رقيقة حتمل �ضوء‪� ،‬ساق‬ ‫اعني‪ ،‬انك �ستموتني وانا �س�أموت‪ ،‬اجلمهور �سوف ميوت‬
‫ال�رسير‪.‬‬ ‫ال�شبكة �سوف متوت‪ . .‬الراعي‪ .‬كل �شيء!‬
‫اليوت (خارج الإطار) انا – �أنا ال ا�ستطيع التفكري �أين‬ ‫جايل (مت�ضع) �أعرف‪ ،‬اعرف وكذلك جرذك‪.‬‬
‫�أدعوك دون �أن �أتعر�ض للمخاطر‪.‬‬ ‫ميكي (يط�أط�أ ر�أ�سه م�ؤكداً) نعم !‬
‫يل‪ :‬لقد وعدت نف�سي �أن ال �أترك هذا يحدث حتى ت�صبح‬ ‫جايل (مت�ضغ وت�شري �إىل ميكي) ا�سمع‪ ،‬يا بني‪ ،‬اعتقد‬
‫مقيم ًا مبفردك‪ .‬مت ّزقت �إىل حد كبري عندما ات�صلت‪.‬‬ ‫�أنك فقدت عقلك‪.‬‬
‫تفتح جزءاً من ال�ستائر‪ ،‬وتنظر خارج النافذة‪ ،‬وت�ستدير‬ ‫يتنهد ميكي‪.‬‬
‫عندما يتكلم اليوت‪.‬‬ ‫عال) رمبا حتتاج �إىل‬ ‫جايل (تتابع امل�ضغ ب�صوت ٍ‬
‫اليوت (خارج الإطار) �أردت �أن ات�صل بك كل يوم منذ‬ ‫ب�ضعة �أ�سابيع يف برمودا‪ ،‬او �شيء من هذا القبيل‪� .‬أو �أن‬
‫‪222‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الر�أ�س‪ .‬ال�شوارع مظلمة‪ ،‬متر �سيارة بقربها ومير �أحد‬ ‫اللحظة التي اخربتك بها عن �شعوري‪.‬‬
‫امل�شاة يحمل مظلة‪ ،‬متر يل �أمام مطعم ح�سن الإ�ضاءة‬ ‫ي�سري نحو يل امام النوافذ املغطاة بال�ستائر‪.‬‬
‫من الداخل حيث توجد ملبات معلقة‪ .‬تتابع مو�سيقى‬ ‫اليوت‪ :‬قاومت مراراً (يتوقف) ال تفكري انني �سيء‪.‬‬
‫الباروك وهي تدخل �إىل ال�رشفة وقد تبلل ر�أ�سها‪ .‬تغلق‬ ‫ي�أخذ يل بني ذراعيه‪.‬‬
‫الباب وهي مت�سك ب�شعرها املبلل‪.‬‬ ‫اليوت‪ :‬هذا لي�س موقف ًا �سهالً‪.‬‬
‫فردريك (خارج الإطار) انت مت�أخرة‪.‬‬ ‫يل( ب�صوت خافت) اعرف انه لي�س كذلك‪.‬‬
‫ت�سري يل عرب غرفة املعي�شة وهي تفك حزام معطفها‪،‬‬ ‫يقبالن بع�ضهما‪ ،‬يظهر �شكالهما ب�صورة ظلية يف‬
‫متجهة �إىل احلمام‪ .‬متر من امام فردريك الذي يجل�س‬ ‫اللمعان الدافئ للغرفة‪ .‬يخلع �إليوت املعطف عن يل‬
‫�إىل مائدة يف منطقة املطبخ‪ ،‬ي�رشب فنجان ًا من القهوة‬ ‫دون �أن يحطم القبلة‪ .‬يتعانقان‪ .‬يقبالن بع�ضهما بخفة‪،‬‬
‫ويقر�أ ال�صحيفة امامه طبق به ن�صف �شطرية مل ت�ؤكل‬ ‫ثم بقوة واكرث هيام ًا وعناقهما اكرث الت�صاقاً‪ .‬وبعد‬
‫بعد‪ .‬تتوقف املو�سيقى‪.‬‬ ‫�ساعات من نف�س الليلة تبد�أ مو�سيقى البيان الوتري‬
‫يل (تفتح باب احلمام) تكلمت انا ولو�سي كثرياً ومل‬ ‫يف العزف مرة ثانية بينما تتحرك الكامريا فوق غطاء‬
‫ادرك كم ا�صبح الوقت مت�أخراً‪.‬‬ ‫ال�رسير لتظهر يل‪ ،‬م�ستلقية ب�سعادة حتت املالءات‪.‬‬
‫فردريك (بالكاد ينظر �إىل �أعلى من �صحيفته) لقد فاتك‬ ‫�شعرها مفرو�ش ًا كاملروحة على املخدة وذراع بالقرب‬
‫برنامج بليد عن او�شويتز‪ .‬واجزاء رهيبة من افالم‪. ..‬‬ ‫من ر�أ�سها‪.‬‬
‫ومفكرين يعرتفون مبدى �إرتباكهم حول القتل اجلماعي‬ ‫يل‪ :‬كان هذا رائعاً‪ .‬لقد دمرتني فلم اعد ا�صلح لأحد‬
‫املنظم للماليني‪.‬‬ ‫�آخر‪.‬‬
‫وبينما هو يتكلم نرى يل وقد ا�شعلت نور احلمام‪.‬‬ ‫اليوت (خارج الإطار) ال اريد ان ي�أخذك �أي واحد �آخر‬
‫تخلع معطفها وتعلقه على �شماعة ثم تبد�أ بتجفيف‬ ‫اطالقاً‪.‬‬
‫�شعرها بالفوطة‪.‬‬ ‫يل (متنهدة) كنت م�ضطربة ان ال �أقارن بحنة‪.‬‬
‫فردريك (يدير ر�أ�سه قلي ًال باجتاه يل م�شرياً بيديه)‬ ‫اليوت (خارج الإطار‪ ،‬ي�ضحك) اوه‪ ،‬يا الهي‪.‬‬
‫ال�سبب وراء عدم ا�ستطاعتهم الإجابة على �س�ؤال «كيف‬ ‫يدخل �إىل الإطار‪ ،‬ويجل�س على حافة ال�رسير بالقرب‬
‫ميكن ان يحدث هذا؟» هو لأنه ال�س�ؤال اخلط�أ‪.‬‬ ‫من يل‪ .‬يحمل �سيجارة‪.‬‬
‫فلو �أخذنا ما هم النا�س عليه كفر�ضية لوجدنا (بلع‬ ‫اليوت‪ :‬انت حق ًا لديك مثل هذه الأفكار الي�س كذلك؟‬
‫ريقه) «ملاذا ال يحدث هذا اكرث؟» طبع ًا انه يحدث‬ ‫يل (ت�ضحك ومت�سك ذراع اليوت) اوه‪ ،‬كل الوقت‪ .‬ي�ضحك‬
‫با�شكال �أقوى من ذلك‪.‬‬ ‫اليوت ومي�سكان يديهما‪.‬‬
‫ي�أخذ فريدريك ق�ضمه من �شطريته ور�شفة �أخرى من‬ ‫يل‪� :‬أعرف انها �إن�سانة عاطفية حقاً‪.‬‬
‫اليوت (ينظر �إىل يديهما امل�شتبكتان) نعم‪ ،‬انها‪ ،‬انها‬
‫دافئة جداً‪ ،‬ولكن‪ ،‬ولكن انه انه انا الذي يريد ان يعطيك‬
‫انا – انا – انا اريد ان افعل ا�شياء من �أجلك‪ . .‬حنة ال‬
‫حتتاجني بنف�س القوة‪( .‬يقهقه بينما ت�ضحك يل) انا‬
‫افرت�ض هذا ولي�س لأنك بحاجة �إىل‪.‬‬
‫يل (تهز ر�أ�سها) اريدك �أن تهتم بي‪ ..‬و�أحب اللحظة التي‬
‫تفعل بها �شيئ ًا يل‪.‬‬
‫ينحني اليوت نحو يل‪ ،‬يبد�أن يف تبادل القبل ب�شغف‪.‬‬
‫قطع �إىل‪:‬‬
‫خارجي‪� .‬شارع خارج �رشفة فريدريك‪ .‬لي ًال‬
‫ت�سري يل على املمر اجلانبي حتت املطر‪� ،‬إنها عارية‬
‫‪223‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فردريك (يجل�س �إىل جانب ال�رسير) عندما ترتكني‬ ‫قهوته بينما ت�سري يل خارج احلمام‪ ،‬ناف�ضة املن�شفة‬
‫الع�ش فعليك ان تكوين م�ستعدة ملواجهة العامل احلقيقي‪.‬‬ ‫�إىل ا�سفل على الن�ضد‪ .‬يل (حترك ا�صابعها عرب �شعرها‬
‫ي�شد يل �إىل �أ�سفل بجانبه على ال�رسير‪.‬‬ ‫املبلل) انا م�صابة ب�أمل يف الر�أ�س ب�سبب هذا الطق�س‪.‬‬
‫يل (ت�ضع يدها على �ساق فردريك) فردريك‪ ،‬علينا ان‬ ‫ت�أخذ �إبريق ًا ومتلأه باملاء‪.‬‬
‫جنري بع�ض التغريات‪.‬‬ ‫فردريك (يخرج �صوت ًا من �أنفه وير�شف قهوته) لقد‬
‫تتنهد‬ ‫مرت ع�صور منذ ان جل�ست �أمام التلفزيون‪ . .‬اب ّدل واغري‬ ‫ّ‬
‫فردريك (ينظر ب�رسعة نحو يل‪ ،‬مذعوراً) مثل ماذا؟‬ ‫يف الأقنية لأجد �شيئ ًا ما‪.‬‬
‫يل‪ :‬اوه‪ ،‬تعرف ماذا‪ .‬انا خمتنقة!‬ ‫بينما يتابع فردريك حديثه‪ ،‬تبدو يل م�شغولة يف‬
‫فردريك (يبتعد ويداه م�شبوكتان �أمامه)‬ ‫اخللفية‪ ،‬ت�شعل عود الثقاب وت�ضئ �أحد �شعالت املوقد‬
‫اوه ! هل �سنعيد هذه املحادثة مرة �أخرى؟‬ ‫من �أجل الأبريق‪ ،‬تتناول ك�أ�س ًا من اخلزانة وت�سري نحو‬
‫يل‪ :‬نعم‪� ،‬سوف نعيد هذه املحادثة مرة ثانية‪ .‬انا‪� . .‬أنا‬ ‫احلمام لتناول بع�ض احلبوب‪ ،‬متلأ الك�أ�س باملاء من‬
‫يجب ان �أترك‪ .‬انا يجب �أن �أترك املكان‪.‬‬ ‫املطبخ وتتناول حبوبها‪.‬‬
‫فردريك (يهز يديه املت�شابكتني بعنف) ملاذا؟‬ ‫فردريك‪ :‬تتابعني كل ما يف الثقافة‪ ..‬النازيون‪ ،‬مزيل‬
‫يل (تتنهد) لأنني يجب �أن �أفعل!‬ ‫العرق‪ ،‬البائع املتجول‪ ،‬امل�صارعون‪ . .‬مباريات اجلمال‪،‬‬
‫فردريك (بعاطفية) ماذا �ستفعلني جلني املال؟‬ ‫برامج احلوار‪.‬‬
‫يل‪ :‬ال �أدري‪ .‬فكرت رمبا �س�أ�سكن مع �أهلي لفرتة من‬ ‫هل تتخيلني م�ستوى العقل الذي ي�شاهد امل�صارعة؟‬
‫الزمن‪.‬‬ ‫(يعب باحلركة)‬
‫رّ‬
‫فردريك‪ :‬ت�ش‪ ،‬اوه‪ .‬دائم ًا كنت اقول لك انك �سترتكينني‬ ‫همم؟ ولكن الأ�سو�أ هم الأ�صوليون من املب�رشين‪..‬‬
‫(ينظر �إىل يل) ولكن‪ . .‬هل من ال�رضوري ان يكون الآن؟‬ ‫رجال خ ّداعون من الدرجة الثالثة‪ .‬يخاطبون م�صا�صي‬
‫يل‪( :‬حت�ضن ذراعها بيدها الأخرى) ح�سناً‪ ،‬رمبا يكون‬ ‫الفقراء الذين ي�شاهدونهم بانهم ناطقون با�سم امل�سيح‪..‬‬
‫هذا ترتيب ًا م�ؤقتاً‪ ،‬ولكن انا علـ‪� ..‬أنا علي �أن �أحاول‬ ‫و�أن ير�سلوا لهم الأموال‪.‬‬
‫فردريك (ي�أخذ ر�أ�س يل بني يديه وينظر �إليها) اوه‪ ..‬يل‪،‬‬ ‫(يلتقط �شطريته) املال‪ ،‬املال‪ ،‬املال ! لو عاد امل�سيح‬
‫انت كل عاملي (يتوقف) يا الهي الرحيم! هل قبلك �أحد‬ ‫ور�أى ما الذي يجري با�سمه فلن يتوقف عن التقي�ؤ‪.‬‬
‫الليلة؟!‬ ‫يقطع لقمة من �شطريته وير�شف قهوة‪ .‬ت�ضع يل ك�أ�سها‬
‫يل (تنفعل‪ ،‬تدفع يدا فردريك من على وجهها) كال‪.‬‬ ‫على ن�ضد املطبخ وت�سري باجتاه منطقة غرفة النوم‪.‬‬
‫فردريك (منفعالً) اوه‪ ،‬نعم لقد فعلت !‬ ‫يل (ناقدة �صربه ويداها يف �شعرها) اوه‪ ،‬يا الهي‬
‫يل (تنه�ض ب�رسعة‪ ،‬مدافعة عن نف�سها) كال‪.‬‬ ‫فريدريك هل ب�إمكانك التخفيف من هذا؟ ! �أنا ل�ست‬
‫فردريك (يرفع �صوته) كنت مع �أحدهم!‬ ‫بحالة نف�سية لأ�ستمع �إىل ن�رشة عن املجتمع املعا�رص‬
‫يل (مقاطعة‪ ،‬راك�ضة بعيداً عن ال�رسير) توقف عن‬ ‫مرة ثانية‪.‬‬
‫توجيه الإتهامات يل!‬ ‫تبد�أ يف خلع ثيابها املبتلة بالقرب من ال�رسير‪.‬‬
‫ترك�ض يل نحو املطبخ ويداها مطبقتان على �صدرها‪.‬‬ ‫يخلع فردريك نظارته‪ .‬ي�ستدير وينظر �إىل يل فتفاجئ‬
‫فردريك (خارج الإطار) انا ذكي جداً يا يل لن ت�ستطيع‬ ‫فريدريك (يقف من على املائدة) هل تعلمني‪ ،‬لقد كنت‬
‫خداعي‪ .‬لقد �أ�صبحت حمراء اللون!‬ ‫ع�صبية جداً يف الفرتة الأخرية‪.‬‬
‫و�ضعت يل املمتلئة عاطفة يديها املمدودتني على باب‬ ‫يل (تتنهد) مل �أعد ا�ستحمل هذا بتاتاً‪.‬‬
‫الثالثجة‪ ،‬ثم ا�ستدارت حولها وا�ستندت �إليها‪ ،‬معانقة‬ ‫فريدريك (ي�سري نحو ال�رسير) انا فقط احاول متابعة‬
‫نف�سها وقمي�صها ما زال غري مزرر‪ ،‬و�شعرها ما زال‬ ‫تعليم كنت قد بد�أت ممار�سته عليك منذ خم�س �سنوات‪.‬‬
‫مبل ًال ومو�سخ ًا بالوحل‪.‬‬ ‫يل (تفك ازرار قمي�صها) انا ل�ست تلميذتك‪( .‬متنهدة‪،‬‬
‫يل‪ :‬اتركني لوحدي!‬ ‫ويداها على جنباها) كنت‪ ،‬ولكنني مل �أعد‪.‬‬
‫‪224‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�ســينما‪� ..‬ســينما‪� ..‬ســينما‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ي�ضع يده على جبينه‪ ،‬ثم ي�ستدير نحو يل خارج الإطار‪.‬‬ ‫يدخل فردريك املطبخ ويتكئ على الن�ضد‪.‬‬
‫علي �أن اتزوجك منذ �سنوات‬ ‫فريدريك‪ :‬يا الهي! كان ّ‬ ‫فردريك (غا�ضباً) �أوه‪ ،‬يا الهي! ما بالك؟!‬
‫علي �أن �أوافق‪.‬‬
‫عندما كنت تريدين ذلك! كان ّ‬ ‫يل (متك�أة على الثالجة‪ ،‬تتنهد) انا �آ�سفة‪.‬‬
‫ي�سري باجتاه يل يف منطقة �أخرى من املطبخ‪.‬‬ ‫فردريك‪� :‬أوه‪ ،‬اال ت�ستطيعني قول �شيء؟‬
‫يل (تتنهد) اوه‪ ،‬يا الهي‪ ،‬امل تكن تعرف ان هذا مل يكن‬ ‫هل كان عليك ان تت�سللي خلف ظهري!‬
‫لينجح؟‬ ‫يل (مقاطعة‪ ،‬و�صوتها مرتفع عاطفياً) انا اقولها الآن!‬
‫ي�ستدير فريدريك بعيداً عن يل‪ .‬يبد�أ يف اخلطو بالقرب‬ ‫فردريك‪� :‬إذا قابلت �شخ�ص ًا �آخر؟‬
‫من الن�ضد‪.‬‬ ‫يل (تتنهد‪ ،‬مط�أطئة ر�أ�سها) نعم‪.‬‬
‫فريدريك‪ :‬قلت لك‪ ،‬يوما ما �سترتكينني‪..‬‬ ‫ينفعل فريدريك ويتملق‪ .‬ي�ضع يده على جبهته‪ :‬يتنهد‪.‬‬
‫(يتكئ على الن�ضد) من �أجل رجل �أ�صغر �سناً‪ .‬انا‪..‬‬ ‫يل (ت�سري نحو احلمام)‪ :‬ولكن انت‪ ،‬يا الهي كنت تدرك‬
‫يبد�أ ب�رضب قب�ضته على الن�ضد يائ�س ًا ومكبوتاً‪ .‬ثم‬ ‫ان هذا كان �سيحدث �رسيع ًا ام بعد حني‪ .‬انا ال ا�ستطيع‬
‫يغطي عينيه بيديه حزيناً‪.‬‬ ‫العي�ش هكذا!‬
‫قطع �إىل‪:‬‬ ‫فردريك (ي�ستدير ليواجه يل يف احلمام وذراعاه‬
‫داخلي‪ .‬غرفة نوم حنة – لي ًال‬ ‫م�شبوكتان) من هو؟‬
‫جتل�س حنة يف ال�رسير وهي تلب�س قمي�ص ًا مربع النق�ش‪،‬‬ ‫يل (ت�ضع حاجياتها بع�صبية يف حمفظتها وحت ّدق يف‬
‫وكتاب مو�ضوع على ركبتيها‪ .‬وخزانة بها حتف �صغرية‬ ‫فريدريك)‬
‫ترتفع خلف من�ضدة النوم‪ ،‬التي حتمل �ضوءاً �صغرياً‪،‬‬ ‫ما الفرق ؟! �أنه واحد التقيته!‬
‫اي�ض ًا دافئ الإ�شعاع وبع�ض ال�صور الفوتوغرافية‪ .‬تقلب‬ ‫فردريك‪ :‬ولكن من هو؟ �أين التقيته؟‬
‫ال�صفحة بينما يدخل اليوت يلب�س بيجاما ورداء حمام‬ ‫علي �أن �أغادر!‬‫يل‪ :‬هذا ال ي�شكل فرقاً؟ ّ‬
‫حريري‪ .‬تتابع قراءة كتابها بينما يجل�س هو على حافة‬ ‫فردريك‪ :‬انت‪ ،‬انت �صلة و�صلي الوحيدة �إىل العامل!‬
‫ال�رسير ي�أخذه التفكري‪� .‬صوته م�سموع فوق ال�شا�شة‪.‬‬ ‫ي�ستدير يل وتواجه فردريك يف ممر احلمام‪.‬‬
‫اليوت (�صوت خارجي) – يا لها من عاطفة حارة مع‬ ‫(تعب بحركة يديها بعاطفية) اوه‪ ،‬يا الهي‪ ،‬هذه‬ ‫يل رّ‬
‫يل‪� .‬إنها بركان‪ .‬لقد كانت جتربة ممتلئة غنية‪ ..‬متام ًا‬ ‫علي‪ .‬هذا لي�س عدالً‪� .‬أريد حياة اقل‬ ‫م�س�ؤولية كبرية ّ‬
‫كما حلمت ب�أنها �ستكون (يط�أطئ ر�أ�سه قلي ًال وهو يخلع‬ ‫تعقيداً‪ ،‬يا فردريك‪ .‬اريد زوج ًا ورمبا طف ًال قبل ان يفوت‬
‫خفة) هذا ما كانت عليه‪ .‬كانت كمن عا�ش حلماً‪ . .‬حلم ًا‬ ‫الوقت‪.‬‬
‫عظيماً‪( .‬يخلع رداء احلمام)‪.‬‬ ‫فردريك (كردة فعل يغطي وجهة بيديه) يا الهي‪ ..‬يا‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫الهي!‬
‫يل (حترك بيديها وتتحرك مقرتبة من فردريك) اوه‪ ،‬يا‬
‫الهي‪ ،‬انا حتى ال �أعرف ماذا �أريد‪.‬‬
‫فريدريك (يتنهد من اعماقه‪ ،‬متجاوباً) �أوه‪..‬‬
‫يل (حتك كتف فردريك بحنو) ت�ش‪� ،‬أوه‪ ،‬ما الذي حت�صل‬
‫عليه مني‪ ،‬على اي حال؟ �أعنى‪..‬‬
‫(تلقي ر�أ�سها على كتفه‪ .‬تنهد بعمق) مل يعد جن�س ًا بعد‬
‫تتميز‬
‫الآن‪ .‬وهو حتم ًا لي�س ق�ضية فكرية‪� .‬أعني‪� ،‬أنت ّ‬
‫عني بكل الطرق حتى‪. .‬‬
‫يدفع فردريك يل بعيد�أً بغ�ضب‪ .‬ي�رضب قب�ضته يف �أحد‬
‫اخلزن‪ .‬تتنهد يل‪ ،‬تتحرك بعيداً‪.‬‬
‫فردريك‪ :‬من ف�ضلك‪ ،‬ال تعامليني ك�سيد!‬
‫‪225‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�شعـر‬

‫من �أعمال الفنان عبدالر�سول �سلمان ‪ -‬الكويت‬

‫‪226‬‬
‫(‪)j‬‬
‫يعود لي�صرخ يف الغيابة‬
‫�إدريـــ�س عيـــ�سى‬
‫‪� ‬شاعر من املغرب‬

‫تركتها قبل خم�س ع�رشة �سنة‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ خروج‬


‫بعيدا‪ ،‬ترددت يف احلديقة �رصخات العقعق‪ .‬قوارير‬ ‫برد‪� .‬إنه الربد‪� .‬رضبة نوفمرب ب�سوط باكر‪ .‬ال�صباح‬
‫انترثت يف عبورها الرامح �إىل ال�صحو‪ .‬ال�صباح‬ ‫يعكم العقعق ب�شبكة �صغرية ال مرئية من �شا�ش‪،‬‬
‫خامل ينفخ يف القطن‪ .‬وال �أحد يف هذا ال�ضباب‬ ‫ويحزمها �رصة منفو�شة كئيبة من احلذر وال�صحو‪.‬‬
‫�سيعجل مبكن�سة كي بجمع النثار احلي الذي ي�رسي‬ ‫ي�ضع �أعالها زهرة �أوركيد تتربعم‪ ،‬و ُيذ ِّيلها بخم�س‬
‫�صدى يف ال�سبل‪.‬‬ ‫ري�شات‪ ،‬ويرتكها يل فوق �سور احلديقة كي �أرى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قرب يف ق�صيدة‬ ‫�أحيي ال�صباح فاحت البوابات‪.‬‬
‫ق�صيدة كتبتها بالفرن�سية قبل �سبعة وع�رشين‬ ‫يل خارجا �إىل املحطة‪ .‬و�شاحي ما‬ ‫العقعق تنظر إ� َّ‬
‫عاما‪ .‬فتحت يف مطلعها وخامتتها قربا‪ .‬البنت‬ ‫تبقى من فلتة الفجر بني الأ�شجار �إىل البحر‪ .‬كفَّاي‬
‫التي قر أ� ْتها من بع ُد يف اجلريدة ائتلقت يف عينيها‬ ‫عجلة‪ .‬وقلبي ينب�ض‬ ‫يف جي َب ْي �سرتتي‪ .‬خطوتي ِ‬
‫دمعتان؛ �أفقان من الدموع ومن ذهاب الإن�سان‬ ‫�أدنى قليال من الرف الزجاج الذي ت�ضع عليه‬
‫هادئا وخفيفا وظله معقود بظل القرين‪ .‬البنت‬ ‫قواريرها العافية‪� .‬أتلقى اخلارج كله �سماء قريرة‬
‫آمنت �أين‪ ،‬بجناح واحد‪� ،‬أجدل ال�رساب‬ ‫ـ مثلما � ُ‬ ‫مندوفة فيما ي�شبه قطنا �شفيفا يعبث به �أطفال يف‬
‫و�أ�صنع منه �رسير «هاماك» يليق بحالتي التي‬ ‫�رشفة ‪ ،‬و�أ�سري‪.‬‬
‫هي ن�صف طريان‪ ،‬و�أترجح به يف الظهائرـ ُج َّنت‬ ‫خفيف �أنا‪ .‬والطريق التي بد�أتها تذهب معي‪.‬‬
‫بعت جنمها يف جهة �أخرى‬ ‫بجناحها بعدئذ‪ .‬ا َّت ْ‬ ‫والعقعق؛ متثال ال�صباح املرفوع على ال�سور‪ ،‬خلفي‪،‬‬
‫بظل واحد‪ ،‬وخطوة لي�س فيها ندم‪ ،‬بينما ابتدعت‬ ‫تتدبر قفزة يف ال�صحو‪ ،‬و�رصخ ًة متزق ال�شا�ش‪،‬‬
‫�سماء كاملة وجمرة من القازارات‪ ،‬وطريقا كنت‬ ‫رجع ظلها و�صداها املعروفني بني الطري‪� .‬أعود‬ ‫و ُت ِّ‬
‫�أحموه من خلفي كي ال يتبعني �أحد‪ .‬ترك كل منا‬ ‫اليوم �إىل هناك‪� .‬إىل املدينة التي‪ ،‬بني ال�سواري‬
‫يف لهاة القرين �ضغثا من الري�ش‪ ،‬كما يحدث يف‬ ‫وحتت الأروقة‪ ،‬يف �رصحها القدمي الذي يدخله‬
‫كل الق�ص�ص املرة التافهة التي ي�صعد يف حوافها‬ ‫البحر كي يلم�س اجلدر والإرها�ص‪ ،‬ما زالت مترح‬
‫و�سنديان حمروق‪ ،‬ويخجل الرواة �أن‬
‫ٌ‬ ‫عار‬
‫�صف�صاف ٍ‬
‫ٌ‬ ‫�أطياف غزاة برتغاليني‪ ،‬لأتدىل بقامتي على مدماك‬
‫يغووا بها �أحدا من بعد‪ ،‬والتي تنتهي �إىل موقد بارد‪،‬‬ ‫حم َّزز من حجر الكذَّان‪ ،‬و�أ�رصخ يف ظلمة البئر التي‬

‫‪227‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ودف‪� ،‬أتانا يف حفيف‬


‫املوت �إذا مد جناحيه �صوبنا َّ‬ ‫ودبال حمروق متل ِّزز يف‬‫ٍ‬ ‫و�سخام على �إفريز املوقد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ريح حديقة �صغرية مهملة مهجورة‬ ‫جناحيه دائما ُ‬ ‫جل ُدر تذكّ ر بكف‬ ‫ولطخات على ا ُ‬
‫ٍ‬ ‫نقرة ال�شمعدان‪،‬‬
‫عن ع ْمد‪ ،‬كنا نتوهم �أنها الفردو�س‪ ،‬وال نريد �أن نرى‬ ‫يال يتدىل من ال�سقف‪ .‬ورمبا ذ ُِك َر خوان‬ ‫وه ٍ‬‫معزولة‪ُ ،‬‬
‫ما خلف �سياجها‪.‬‬ ‫عليه جرائد وكتب ومرمدة ملآى بالعذاب والوح�شة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ التميمة‬ ‫البنت ذاتها‪ ،‬التي �صارت امر�أة مت�شي يف الن�سيان‪،‬‬
‫ما زالت تدفع عربة �أطفال‪ .‬على فمها فرا�شة حمراء‬
‫تتقرى‬
‫كفها على جبهته‪� .‬أمنلة �سبابتها ‪َ ،‬خدِرة‪ّ ،‬‬ ‫جريئة فوق قناع من تطرية يكاد ي�شبه �أقنعة‬
‫الأخاديد الثالثة‪ .‬الزمن يعلم اجلميع قراءة « براي»‬
‫الغاي�شا‪ .‬كذا ر�أيتها منذ اثني ع�رش عاما بعدما‬
‫على املرايا والوجوه والأثاث القدمي الذي ُيحفظ يف‬
‫اقت�سمنا الطائر ودفنا ما تبقى من �سمائه حتت‬
‫العليات والغرف‪ ،‬وعلى جذوع الأ�شجار املحفورة‬
‫جناحيه‪ ،‬وكالنا �أخذ عينا واحدة ون�صف منقار‪،‬‬
‫وا ُ‬
‫جل ُدر‪ .‬يكفي �أن ي�صريوا عميانا‪.‬‬
‫ومل نوزعه على اجلبال‪ ،‬ومل ن ْد ُعه كي يجيء جمتمعا‬
‫تر ُّد كفَّها م�ضمومة �إىل �صدرها وتتنهد‪.‬‬
‫�إلينا فنعرف �أننا يف املعجزة‪ .‬وكنا ن�سوي الرتاب‬
‫هو؛ الرجل امل�ستلقي على الأريكة‪ ،‬الذي تلقّى‬
‫ب�أقدام ت�رسف يف النكران والق�سوة‪ ،‬وتخلط ال�سبل‬
‫باجلبهة ذاتها‪ ،‬قبل �سنتني‪ ،‬رف�سة ال�صاعقة‪ ،‬يحب�س‬
‫كلها هناك يف القرب اخلفي كي ال ينه�ض الطائر من‬
‫اللم�سة عميقا وي ّدخرها حتت اجللد‪ ،‬ويهد�أ‪ .‬متيم ُته‬
‫بعد‪ .‬حتت ال�صيف‪ ،‬تدلت ا َمل ْوزات وجنبات الإبيكيا‬
‫التي يجتاز بها �صحراءه املزمنة َتكْرب وتتدلىَّ يف‬
‫ب�أوراق من معدن‪ ،‬يف امليدان ال�ضيق‪ ،‬حيث تتهتك‬
‫ل َّبته‪.‬‬
‫الف�سيف�ساء يف حو�ض ي�شبه جفنة مهملة �أر�سل فيها‬
‫‪ 4‬ـ تاج‬ ‫املاعز حوافره منذ دهر يف حقل م�شاع‪ .‬النافورة‬
‫�أنا قاتل الطيور يف غابة ال�سنديان املنك�سفة‪ .‬ر�أيت‬ ‫كانت يومئذ تهذي باملاء‪ ،‬وال تزين امليدان‪ ،‬وال‬
‫املر�أة الفرن�سية املت�رشدة تطعم الدوري واحلمام يف‬ ‫حتاكي انهمار املوزات يف معدنها ‪ .‬ر�أيت املر�أة‬
‫احلديقة التي حتد ميدان « البي�ضة‪ « ’uf - œL‬يف‬ ‫هناك‪ ،‬يف ظل املوزات املزدحمة‪ ،‬قبل �أن تدفع‬
‫وري‬
‫مونبوليي‪ .‬كنا على طريف املقعد‪ .‬وكان ذكر ُد ّ‬ ‫العربة‪ .‬كان لها جناحان‪ ،‬فكرت �أنها تخاف �أن‬
‫يرتدد قافزا على �ساعدها بني املرفق والر�سغ‪ ،‬وهي‬ ‫تبقى وحدها مع مر�آتها‪ ،‬و�أنها تتعلق بفرا�شتها كي‬
‫قاب�ضة على فتات خبز �أو ُب ٍّر‪ .‬الطائر‪ ،‬حذرا من‬ ‫تختبئ‪ .‬ومل تتكور يف لهاتي ندف الري�ش‪ .‬ومل تُثرِ‬
‫الكف املقبو�ضة وم�سعورا‪ ،‬يديل ر�أ�سا تزدحم فيه‬ ‫م�ضيت‪ ،‬غربة يف احلنني‪� .‬أدركت حينئذ‬ ‫ُ‬ ‫قدمي‪� ،‬إذ‬
‫الألغاز والعامل‪ ،‬وينقر الأ�صابع التي حتفظ الرزق‬ ‫�أين ن�سيت الطائر الدفني يف م�شتبك ال�سبل‪.‬‬
‫يف القب�ضة‪� .‬أحيانا كان ُيعمل منقاره اللجوج بني‬ ‫�أردت التفكري يف القرب الذي يف �أول الق�صيدة‬
‫فروج الأ�صابع املنطبقة ويتوىل‪ ،‬وكنت �أ�ضحك‪.‬‬ ‫و�آخرها‪ .‬فكرت يف املر�أة التي ما زالت تدفع العربة‬
‫يرف كندفة كبرية من �صوف �أغرب‪ ،‬ويقع على قبعة‬ ‫يف امليدان‪ُ ،‬م ْه ِطع ًة وظلها ي�سقط على العربة‪ .‬ويف‬
‫املر�أة املجدولة من �ألياف البو�ص‪ .‬تب�سط كفها‬ ‫فمها فرا�شة كبرية‪.‬‬
‫‪228‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫فوقنا‪� .‬أكانت ُم ّرانة �أم �أُلمْ َ ة �أم روبانية؟ فلذ ُْت من‬ ‫كي ينزل‪ ،‬ثم تقب�ضها‪« .‬مفتاح عاج للطائر‪ .‬امر�أة‬
‫«كامبري» كانت معي فلذة و�أعطيت املر�أة‬ ‫ُجبنة مَ ْ‬ ‫حاملة‪� .‬إغواء غرميني‪ .‬مباهاة الكائن بال�ضوء الذي‬
‫�إياها‪� .‬شكرت ممتنة ببحتها التائهة وو�ضعتها‬ ‫اختزنه‪ .‬الأر�ض �أ�ضيق من الأطياف‪ ،‬والظهرية يل‪.‬‬
‫بيني وبينها حيث بقي ل�سان من الفراغ‪ .‬بع�ض‬ ‫الظهرية مائدتي‪ ،‬والروح �ضيفي»‪ .‬ـ فكرت‪.‬‬
‫الطيور حتم�ست وحطت على قبعتها املطوية‬ ‫_ «‪Ooh! L’voyou! Oooh! L’malin! T’va c’q’ fait? Reyarde‬‬

‫احلافة‪ ،‬ال َود َِكة‪ ،‬و�صار لها تاج من الطيور والري�ش‪.‬‬ ‫» ! ‪- le. Reyarde‬‬ ‫‪jj‬‬

‫ُدهِ �شْ ُت من امللكة التي ال يراها �أحد على الركح‪،‬‬ ‫ت�أكل لغتها‪ .‬ل�سانها كان ف�أرة النجار تق�رش بها‬
‫هنا‪ .‬مملكتها �ش�ساعة قلبها وفقر يديها‪ ،‬و�سريها مع‬ ‫�سطح العبارات فتتطاير من فمها نُ�شَ ارة لغوية‪.‬‬
‫ظلها يف اجلهات الأخرى؛ حيث يكرب الظل‪ ،‬ويقدر‬ ‫�أن�صت و�أبت�سم‪� .‬آخذ املر�أة ملفوفة يف لغتها املنتهكة‪.‬‬
‫ال�سائر �أن يكلم نف�سه جهرا �إن �شاء‪ ،‬وال يخاف �أن‬ ‫ِا�س َت ْد َن ْتني بقولها فتدانيت‪ .‬وكانت تغويني بالطائر‬
‫يتكلم‪.‬‬ ‫الذي هو طائرها‪ ،‬وباملرح يف �صوتها‪ ،‬وبالبحة‬
‫جل ْت يدا يف جراب بني قدميها‪ ،‬وح َفنَت‬ ‫انحنت‪� .‬أو َ‬ ‫الطفيفة التائهة التي هي �أثر من الكحول والتبغ‬
‫منه ُب ّرا ق�سمته بني الكفني‪ .‬ومن فوقنا ر�أيت �سحابة‬ ‫وال�سري ـ يف كمال الوحدة‪ ،‬وحدها ـ يف اجلهات‬
‫الطيور تهب على املر�أة‪ .‬احلمام والدوري ماجا فوق‬ ‫املنك�شفة‪ .‬دنوت �أكرث وحاذيتها حتى �شممت رائحة‬
‫�شخ�صها �إذ ب�سطت كفيها كلتيهما فوق ركبتيها‬ ‫الوح�شة يف لبا�سها م�ضفورة يف حبل من رائحة مع‬
‫و�أغم�ضت عينيها ك�أمنا ُت�ش ِّيع بهما وتبارك �رشاعا‬ ‫بقايا ثمل بنبيذ �أحمر‪ .‬نقرتان مت�سارعتان‪ .‬ثالثة‬
‫مير بعيدا يف مدى‪ ،‬ثم ازدحمت الطيور تتنازع هِ بة‬ ‫ذكية غائرة‪ .‬والطائر ينب�ض فوق الر�سغ حمتفزا‬
‫يديها‪ .‬وكنت �أغبطها على الفعل‪ ،‬وعلى ذهابها‬ ‫ونار يف ج�سمه املقذوف من نار‪ .‬وكنت �أنظر �إىل‬
‫بعينيها �إىل عزلة يولد فيها ال�ضوء‪ ،‬و�أ�ضحك من‬ ‫عينيه‪ ،‬و�إىل عيني املر�أة وفمها الأهتم‪.‬‬
‫�سحابتها ؛ �صني ِعها الذي تدبره وحدها بقلب �صاف‪،‬‬ ‫خفي�ض ُخ َّل ٌب‬
‫ٌ‬ ‫ثم َت َن َّزل احلمام‪ .‬عند �أقدامنا هدر �أفق‬
‫الط ْعم‪.‬‬ ‫وفم �أهتم‪ ،‬وكف مقبو�ضة على ُّ‬ ‫من اجلوع واملباهاة والري�ش‪ .‬ذكور احلمام مل تكن‬
‫�أنا قاتل الطيور يف الغابة املنك�سفة‪� ،‬سحابة املر�أة‬ ‫تكرتث للمكيدة يف كف املر�أة‪ .‬كانت زواب َع �صغري َة‬
‫�صارت �سحابتي منذئذ‪ .‬متنيت لو�أن يل احلجر‬ ‫تتهي�أ يف الري�ش‪� .‬رصت يف زاوية من مثلث الإغواء‬
‫اخلفي الذي متلكه‪ ،‬وتقدر مبغناطي�سه �أن جتذب‬ ‫الذي كان أ� َلق ًا ُم ْعديا يرتدد جارفا بني عيني املر�أة‬
‫الطيور‪ .‬فكرت حينما ا�ست�أذنت وان�رصفت‪« :‬كم �أنا‬ ‫عيني‪.‬‬
‫وعيني الدوري‪ ،‬و�أ�صاب ّ‬
‫فقري‪ ،‬يا اهلل ! �أي طريق �أ�سلكه ف�أ�صري الطريق؟»‪.‬‬ ‫ركْ ٌح م ِر ٌح عليه ثالثة �أطياف يف ظهرية‪ .‬والظهرية‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ‬ ‫يل‪ .‬كنت �أبع َد من رحابة امليدان‪.‬‬
‫‪ j‬من جمموعة ‪�« :‬أرى‪ ،‬كل ما هناك يراين»‪.‬‬ ‫حينما خل�س الطائر الغنيمة من نقرة الكف املقعرة‬
‫‪ j j‬عبارة فرن�سية م�صحفة وم�شوهة تعني‪� :‬أوه ! يا للداعر ! �أوه ! يا للئيم !‬
‫�أترى ما يفعله؟ انظر �إليه‪ .‬انظر !‬ ‫التي انفتحت له‪ ،‬فز �إىل �أعلى ع�سلوج من ال�شجرة‬

‫‪229‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫من �أعمال تركية الهادي‪ُ -‬عمان‬

‫عا�شق‪ ...‬وحاكم‪ ...‬ودنيا‪...‬‬


‫علــي ن�ســـر‬
‫‪� ‬شاعر من لبنان‬
‫وتهرب �سنبل ٌة من ح�صار البيادر‬ ‫عا�شق‪ ...‬وحاكم‪ ...‬ودنيا‪...‬‬
‫حتت مغيب ال�ضفائر‬ ‫تنام على راحتيها الأقاحي‬
‫يحلو لقاء احلبيب‬ ‫زهور‬
‫ٌ‬ ‫وت�صحو‬
‫ومن يف الرباري ينادي‬ ‫ويف عنقٍ كالربيع تدلّت من الورد‬
‫�أنا والنجوم �رشي ٌد‬ ‫�سل�سل ٌة وعقو ُد‬
‫وحي ُد‬ ‫وعند تخوم الأعا�صري يف �صدرها‬
‫�أيا امر�أ ًة‪ ،‬افتحي يل منافيك‬ ‫يتكوم ما قد جثا‬ ‫ّ‬
‫كي ي�سرتيح جوادي املري�ض‬ ‫ال�شتوي‬
‫ِّ‬ ‫غمام على ركبة املغرب‬ ‫من ٍ‬
‫امل�سافات‬
‫ُ‬ ‫فكم �أنهكته‬ ‫وتن�أى احلدو ُد‬
‫وانتظريني على مقعد املوعد‬ ‫وتروي ثنايا التاللِ حكاي َتنا‬
‫ال�صبح مني‬
‫َ‬ ‫املتهاوي �أما و�صل‬ ‫يف ليايل ال�سهارى‬
‫بري ُد؟‬ ‫ويحدو اليمام لرنج�سةٍ تنزوي‬
‫�أنا امللك امل�ستهام املطارد‬ ‫يف زوايا اجلبالِ‬
‫�سيفي يعاندين يف حروبي الطوال‬ ‫وينتظر املنحنى حلن �ساقيةٍ‬
‫وعن حِ �صن مملكتي وهيامي الأخري‬ ‫دوزنته اجلرو ُد‬
‫تخلّى اجلنو ُد‬ ‫�أيا امر�أ ًة يهد أ� الليلُ‬
‫وروحي تعاتب باكي ًة ج�سدي‬ ‫يف مقلتيها‬
‫‪230‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ري‬
‫وطن ود�سات َ‬ ‫�صارت حدودا بال ٍ‬ ‫بحلم‬
‫وجناين يبوح ٍ‬ ‫َ‬
‫ليت دمائي ت�صري ح�ساما‬ ‫يراودين من زمان ال�صحارى‬
‫بروق‬
‫ٌ‬ ‫وليت جناحي املهي�ض امل�صاب‬ ‫يوم‬
‫عباءة جلدي �ستخذلني ذات ٍ‬
‫وليت �رصاخي احلزين رعو ُد‬ ‫و�أ�صبح وحدي طريح الندى‬
‫م�شيت اىل حلمي فوجدت‬ ‫ُ‬ ‫�أيا امر�أ ًة كم‬ ‫من �شمو�س العراء �أ�شي ُد‬
‫اخلناجر عند حدود الرمو�ش‬ ‫مغاين للفقراء ومن يولدون‬
‫�أو ال�شوك يف م�شتل الغيم منزرعا‬ ‫خما�ض‬‫ِ‬ ‫بال طلقةٍ �أو‬
‫ال�سماء وتخ�شى الورو ُد‬ ‫ُ‬ ‫فتخاف لقائي‬ ‫ومن يقهرون ل ُ‬
‫أنهم‬
‫�رصاخ ي�سامرين‬‫ٍ‬ ‫ففي ج�سدي جدولٌ من‬ ‫قد �أحبوا بال َد ُ‬
‫هم‬
‫ال�رسمدي تكاثر من ي�شمتون‬ ‫ّ‬ ‫وعلى جرحي‬ ‫خل�س ًة �أو بعيدا من ال�سلطات‬
‫ك� ّأن ذبابا يف ّت�ش عن مو�سم قبل �أن يدهم الربد‬ ‫خيام‬
‫ٍ‬ ‫على كتفي كم�ش ٌة من‬
‫خيمته‬ ‫مم ّزقة و�رصاخي �شتيت ال�صدى‬
‫تلعق الريح �أ�رشعتي قبل �أن ت�شتهي املخر �أو‬ ‫كعويل الرياح‬
‫متعب‬
‫ٌ‬ ‫مركب‬
‫ٌ‬ ‫�أن يغادر فر�ضته‬ ‫على ق�سوة ال�صخر‬
‫ر�سو قدمي‬ ‫من ّ‬ ‫كئ‬
‫م ّت ٌ‬
‫فم ّل البقاء كف ّزاعة احلقل ال‬ ‫أ�سي امل�ستباح‬ ‫ر� َ‬
‫خوف منها وال له�شا�شتها‬ ‫ل�سيدة الق� ِرص‬
‫قيم ٌة ووجو ُد‬ ‫ال قوت يف جعبتي ال �سالح‬
‫�أيا امر�أ ًة كيف ف ّتت قلبي و�شظيت الروح‬ ‫وال لنخيلي مدى وجري ُد‬
‫م�صاب‬
‫ٍ‬ ‫ر�ضيع‬
‫ٍ‬ ‫�صارت مرايا مبعرثة �أو �شفاه‬ ‫�أنا نهدة ال�صبح غنوة ط ٍري‬
‫بحرقة جوع ك� ّأن �إناء احلليب ا�ستحال‬ ‫�شعب‬
‫حكايا بطوالت ٍ‬
‫�صيف‬
‫ٍ‬ ‫بعيدا كغيمة‬ ‫رواها اجلدو ُد‬
‫تفر من البحر حني �أتاه الفِطام‬ ‫ّ‬ ‫حاكم ال يعي غري قتلي‬ ‫ٌ‬ ‫فكيف يجردين‬
‫وجف الوري ُد‬ ‫ّ‬ ‫من االنتماء ويجعلني عاريا‬
‫�شياطني �ساومت �آلهتها عند‬ ‫يف بالدي ويجعلني �ساغبا‬
‫تخوم �صالتي احلزين ْه‬ ‫يف بالد احلقول وعند جماري دموعي‬
‫ق�صور‬
‫ٌ‬ ‫خرائب روحي‬ ‫َ‬ ‫ك�أن‬ ‫يقام احتفالٌ وعي ُد‬
‫�شوارع مهجورة‬ ‫َ‬ ‫مه�شم ٌة �أو بقايا‬‫ّ‬ ‫ري و�ساما‬ ‫دمي يف الق�صور ي�ص ُ‬
‫�أو مدين ْه‪..‬‬ ‫لكر�سيه لعرو�ش اجلماجم‬ ‫ّ‬
‫غديري يغادر ينبوعه مرغما‬ ‫ري‬
‫قدح يف مواخ َ‬
‫للنفط ين�ساب نخبا يف ٍ‬

‫‪231‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ليال �شهي ُد‬ ‫من ٍ‬ ‫في�ضيع ويبحث عن � ّأمه البح ِر‬


‫حرب منكّ�سةٍ‬ ‫�أنا املتهاوي كراية ٍ‬ ‫يحن اىل اخلبز يف‬ ‫بني الوهاد ّ‬
‫فجيو�شي فلولٌ ممزق ٌة‬ ‫�صدرها املرتامي في�سمع �صوتا غريبا‬
‫ه�ضاب م�رشذم ٌة‬‫ٌ‬ ‫�سنواتي‬ ‫كوحي ينادي من الغيم‬ ‫ٍ‬
‫�أو قالع تدلّت من احلزن فيها‬ ‫تلتفت للورا ِء‬
‫ْ‬ ‫�أكمل م�سيال وال‬
‫البنو ُد‬ ‫ملح وكي ال‬ ‫جم�س َم ٍ‬ ‫لكي ال ت�صري ّ‬
‫ري هادئةٍ‬ ‫�سنيني تو ّدعني‪�..‬سفني غ ُ‬ ‫ري مثاال ملن كفروا يا �صغريي ال�رشيد‬ ‫ت�ص َ‬
‫نو خفيف مبجذافها‬ ‫يتالعب ّ‬ ‫فمن راح لي�س يعو ُد‬
‫ما تب ّقى ليومي �سوى جرعةٍ‬ ‫�أنا املتفلّت من ج�سدي‬
‫يتيم‬
‫ناي ٍ‬ ‫من حكايا مبعرثةٍ كمواويل ٍ‬ ‫�أنكر الظ ّل خطوي و�أنكرين‬
‫ق�صب عند �ساقية من دموع‬ ‫ٍ‬ ‫يحن اىل‬ ‫من ي�صادقني كي ت�صيح الديوك‬
‫حداء على تلة‬ ‫الوهاد فيبكي ً‬ ‫فجر جدي ُد‬
‫ويطلع ٌ‬
‫و�صداه بعي ُد‬ ‫على الأنبياء‬
‫�رسا بال ٍ‬
‫كفن‬ ‫�أموت وحيدا و�أرحل ًّ‬ ‫الريح‬
‫ُ‬ ‫�أنا يا فتاة الليايل ت�سابقني‬
‫�رسيع‬
‫ٍ‬ ‫�سحاب‬
‫ٍ‬ ‫يف‬ ‫نحو ذراعيك فا�ستقبليني‪...‬‬
‫يف‬
‫ك� ّأن خيوطا من ال�شم�س جتمع ّ‬ ‫لهاثي يف ّت�ش عن ن�سمةٍ‬
‫ال�شتات كبح ٍر �أجولُ ولي�س معي‬ ‫َ‬ ‫الذكريات‬
‫ِ‬ ‫أر�سم‬
‫بني نهديك كي � َ‬
‫ري تنهيدة املوج حني يهاجر‬ ‫غ ُ‬ ‫على �صفحةٍ من �سدمي عتيق‬
‫الريح‬
‫ُ‬ ‫يرتك �شيبا حزينا تبعرثه‬ ‫تزور العنادل فيها الكروم‬
‫بني �أيادي ال�صخور وعند الرمال‬ ‫فبني طيوري وبني الكروم‬
‫ت�سيل دموع غروب ‪..‬ويف غ�سقٍ‬ ‫عهو ُد‬
‫ك�رسير من امل�ستحيل‬ ‫تفر �سنيني‬ ‫وخلف الغيوم ّ‬
‫ال�شم�س‬
‫ُ‬ ‫و�سادته‬ ‫ويرك�ض عمري وراء �شمو�س‬
‫كطفل يخاف على لعبةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫�أغفو‬ ‫مراكب من ورقٍ‬ ‫َ‬ ‫الطفولة يبني‬
‫�أن ت�ضيع‬ ‫كي تقيني‬
‫يبق يل �أو لدمعي م�آقٍ‬ ‫فلم َ‬ ‫خريف العوا�صف‬ ‫َ‬ ‫وحتمي‬
‫رش ع ّني‬ ‫ف�أين الذي يدفع ال� َ‬ ‫يف بدين‪�..‬أنحني لتجاعي َد حطّ ت رحاال �رسيعا‬
‫و�أين الذي عن بقائي‬ ‫فانك�رس ُت‬
‫ْ‬ ‫على جبهتي‬
‫يذو ُد‪....‬‬ ‫�أ�سري وعكّازة الليل تهدي خطاي‬
‫بال �أجرة و�ضجيج ال�سكوت على ما م�ضى‬
‫‪232‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫من �أعمال هند الريامي‪ُ -‬عمان‬

‫يف بهجة ق�صوى‪ ..‬و يف �سياق �أحلى‬


‫رباح نوري‬
‫‪� ‬شاعر من العراق‬

‫فهنالك رف من اليا�سمني ‪ ..‬و�صف من الأقحوان‬ ‫أكتب ‪ ..‬دون �أن �أذكرك‬‫‪ -‬هكذا ‪� ..‬س� ُ‬
‫وهنالك ‪ ..‬يف خ�صالت �شعرك املرتامية الألوان ‪..‬‬ ‫عن الآ�س ‪ ..‬لأن دموعك مل تعد ملونة‬
‫نرج�س عالق بني عطره و�ألوانه‬ ‫تذرف انت�سابها للأنامل‬ ‫ُ‬ ‫عن الوردة ‪ ..‬وهي‬
‫وقد �أغمي على الن�سائم‬ ‫يعاتب الأفالك ‪ ..‬واملجرات ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫عن الليل ‪ ..‬حني‬
‫حتى التعبث به‬ ‫والنجوم ‪ ..‬وامل�شاهري‬
‫هنالك ‪� -‬أي�ضا – يف �سياق �أحلى – دموع فوق‬ ‫وتراق�ص‬
‫ُ‬ ‫تراقب ا�ستف�سارها ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫عن الأ�سئلة ‪ ..‬وهي‬
‫قمر �شفتيك‬ ‫عالمات الإ�ستفهام‬
‫و�أنت مطرزة يف روحي مثل وردة‬ ‫عن ده�شة قمر بات بعيدا عن متناول البهجة‬
‫تنفرط النجوم فوقها‬ ‫وتر�سم‬
‫ُ‬ ‫هناك ‪ ..‬حيث تطرز النجوم معامل القمر ‪..‬‬
‫عرب مدى معطر ب�أمنية‬ ‫الغيوم �أوقاتا ملونة‬
‫يقرتح �شذا �آخر‬
‫ُ‬ ‫و�رشيط الندى الهيمان‬ ‫على لوحة ع�شب ممطر‬
‫لدروب وحدائق �شتى حدائق يبتكرها ع�شاق �أبديون‬ ‫بري�شة م�صنوعة من وعد مبلل ‪.‬‬
‫ع�شاق عاهدوا املحبة على الو�صال‬ ‫‪jhj‬‬
‫وعاهدوا اخل�صام على الإندحار‬ ‫ري كالنجوم ‪ ..‬يف بهجة ق�صوى‬ ‫‪� -‬أنا الآن ‪� ..‬أط ُ‬
‫وعاهدوا املواعيد الغرامية على م�ساء بهيج ‪.‬‬ ‫رب ‪ ..‬كذلك ‪ ..‬م�ساء ك�سوال‬
‫�أعرب نهرا من العطر ‪ ..‬و�أع ُ‬
‫‪jhj‬‬ ‫يجر وراء ُه النجوم والأ�شجار والأحالم‬ ‫و�شعرك ُ‬‫ُ‬
‫‪ -‬يف الليل ‪..‬‬ ‫حيث يتعرى الليلُ فيه‬

‫‪233‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫جنوم �أعياد ممتازة ‪.‬‬ ‫هنالك ‪ -‬دائما – �صوت ملون‬
‫‪jhj‬‬ ‫ويف جنومه هم�سات دافئة‬
‫‪ -‬من كوة الهم�سة‬ ‫ويف �أقماره �شوق ل�شعراء و�صفوه كثريا يف‬
‫�أطلُ على �شذاك‬ ‫كلمات الورقة‬
‫بعطر فادح ووردة �شفيفة‬ ‫يف الليل �صوت �أبدي‬
‫تاركا على خارطتها لونا ما‬ ‫يتابع ما تناثر من ن�سائمه‬
‫ُ‬
‫ري �إىل �شاطئك املبلل بالأعا�صري‬ ‫ُي�ش ُ‬ ‫يف موا�سم متعددة اللهجات‬
‫وقد هربت �سواح ُل ُه �إىل �سفن جديرة ببحار فتانة‬ ‫علم النجوم كيف تهتدي ب�آثار التائهني‬‫موا�سم ُت ُ‬
‫الرياح عن بحر جيد ‪ ..‬و�شاطئ ممتاز‬‫ُ‬ ‫لتن�سحب‬ ‫و�صوال �إىل غروب �أعزل‬
‫‪jhj‬‬ ‫وم�ساء غريق‬
‫‪ -‬ها �أنذا ‪� ..‬أطلُ على عبريك ال�شاطر ‪ ..‬بوعد مهمل‬ ‫تعلم النجوم والأقمار كيف تتهجى ظل امر�أة‬ ‫ُ‬
‫أنظر �إىل عطرك الفاتر ‪ ..‬بعينني مبللتني‬ ‫و� ُ‬ ‫ن�سيت ا�سمها فوق ال�صحراء‬
‫بالفرا�شات‬ ‫الآن ‪ ..‬بد�أت املتاهة ‪ :‬هنالك جنوم �ضلت طريقها‬
‫أتطلع �إىل ن�سيمك اخلافت ‪ ..‬بفجر قبلي‬
‫وكذلك ‪ُ � :‬‬ ‫لقد ن�سيت �آثار �أقدام القمر فوق جمرات �سحيقة‬
‫يخرج الليلُ العاطل ‪ ..‬تتخلل ُه �سماء باهتة‬
‫ُ‬ ‫حيث‬ ‫وهنالك م�ساءات غريقة‬
‫و�أقمار خاملة ‪ ..‬وجنوم ك�سالنة‬ ‫تعلمت قبل حلظات‬
‫‪jhj‬‬ ‫�صناعة قارب لنجاة الليل من متاهة النجوم ‪.‬‬
‫‪� -‬إذن ‪ ..‬عيناك همجيتان‬ ‫‪jhj‬‬
‫حيث ال تريان �سوى ‪:‬‬ ‫‪ -‬باحتمال مبحوح ‪ ..‬واعتقاد ك�سري‬
‫قلوب طارئة ‪ ..‬ونب�ضات قدمية ‪ ..‬ومواعيد‬ ‫أرمم مداك ‪ ..‬على �أمل ثري‬ ‫� ُ‬
‫مت�أخرة ‪ ..‬وع�شاق متخلفني ‪ ..‬ير�سمون على‬ ‫الوقت ‪ ..‬فيمر على �سنواتك اخلالدة‬ ‫ُ‬ ‫�أن يجازف‬
‫�صفحات مع�شوقاتهم ‪:‬‬ ‫لتتك�رس �أمواج عابثة ‪ ..‬يف زمن طفل ووقت‬
‫خيف درجات اخل�صام‬ ‫عواطف ملونة ُت ُ‬ ‫قيا�سي �أحمق‬
‫وجتعلُ ال ُبعد خرافة ‪..‬‬ ‫علن م�سا ًء جديداً �آخر‬
‫أ�سمع ‪ ..‬الآن ‪� ..‬صياح ُه ‪ ..‬وهو ُي ُ‬
‫� ُ‬
‫و�أنا �أر�سمك – حاليا – بالأحا�سي�س‬ ‫مغرورقا بنافذة ‪ُ ..‬تطلُ على م�شهد �شا�سع ذريع‬
‫والكالم حمبة‬
‫ُ‬ ‫عا�صفة من الكالم ‪..‬‬ ‫ي�ستغرق يف اللوعة من �صباح مبتل ‪ :‬ندا ُه غيوم‬ ‫ُ‬
‫أر�سم �أيامك خارطة لقبلة‬ ‫� ُ‬ ‫أزهار ُه �أمطار‬
‫‪ ..‬و� ُ‬
‫يع�شق الأمطار‬
‫ُ‬ ‫و�أنحت لقاءاتنا موعدا‬ ‫تغتنم‬
‫ُ‬ ‫يرك�ض اليا�سمني �إىل �أرجوحة ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وفيه‬
‫احتفاء‬
‫ً‬ ‫أقطف اليا�سمني ‪..‬‬‫ف�أنا ‪ :‬منذ القرنفل ‪ُ � ..‬‬ ‫برهة حاملة‬
‫لون الأقحوان ‪..‬‬
‫بالرنج�س ‪ ..‬فعلى جفون كالمي ُ‬ ‫حتتفي ب�أطفال مزودين بالبهجة ‪ ..‬بهجة ترتدي‬
‫و�شكلُ الوردة ‪.‬‬ ‫جدرانا مطرزة بقم�صان‬
‫وب�أراجيح با�سمة ‪ ..‬فرط القمر ‪ ..‬الذي ارتدى‬
‫‪234‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ورقتان على كتف �شجرة امليالد‬
‫عبدالرزاق الربيعي‬
‫‪� ‬شاعر من العراق يقيم يف ُعمان‬

‫مل يرم �أمام ال�سحرة‬ ‫‪ -1‬عبور «وادي العق»‬


‫ع�صاه مو�سى‬ ‫حني طاردته الرباري‬
‫لتلقف ما ي�أفكون‬ ‫مل مي�ش على املاء مو�سى‬
‫بل و�ضع وردة‬ ‫ك�سائر الأنبياء‬
‫مقلمة الأظافر‬ ‫وال�شهداء‬
‫وخريطة بال جتاويف‬ ‫والق ّدي�سني‬
‫ف�إذا هي �شم�س تتوهج‬ ‫بل نزع يدا من غري �سوء‬
‫لتنري دهاليز وادٍ ما‬ ‫وارتدى حذاء العا�صفة‬
‫يف بطن ريح ما‬ ‫وهو يعرب «وادي العق»‬
‫ف�أ�ضاء‪. . .‬‬ ‫مهروال‬
‫م�شى �صوبه‬ ‫ك�سيل عرم‬
‫ف�أ�صاب الطريق‬ ‫بني ال�صخور املتجهمة‬
‫وذاب‬ ‫والليايل التي كانت‬
‫�أخذ الألواح والكلمات‬ ‫بال �إقامة‬
‫فم�شى خلفه الفقراء‬ ‫متو�سدا ظل جنمة‬
‫ّ‬ ‫ف�أقام‬
‫«بي�ضاء ت�رس الناظرين»‬
‫وحني تعب من الع�شق‬
‫تغطّ ى بالربوق‬
‫و�أغ�صان املطر‬
‫‪jhj‬‬

‫مل ي�ضع اخل�شبة على ظهره مو�سى‬


‫بل كان يقطع طريق اجللجلة‬
‫مكوما على كتفيه قبيلتني‬‫ّ‬
‫من الآالم‬
‫والأورام‬
‫والأحالم النيئة‬
‫‪jhj‬‬
‫من �أعمال �سناء احلميدي‪ُ -‬عمان‬ ‫وحني رجع �إىل قومه‬
‫‪235‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫حياتي التي منحتني‬ ‫وال�شعراء‬
‫عفة الغيم‬ ‫والعا�شقون املنك�رسون‬
‫وعناوين الأ�شجار اخل�رضاء‬ ‫ف�إذا‬
‫يف غابة احلياة‬ ‫بالغبار‬
‫ملاذا‬ ‫ينحي «عقوقه»‬‫ّ‬
‫عادت‬ ‫ويقف معتدال‬
‫لت�سحب‬ ‫ك�رصاط م�ستقيم‬
‫�أوراق اعتمادها‬ ‫‪jhj‬‬

‫من ر�صيد الأيام‬ ‫لذلك مل يلق مو�سى‬


‫لترتكني‬ ‫من �سفره ن�صبا‬
‫مثل ورقة �صفراء‬ ‫حني �سار يف البحر �رسبا‬
‫�شاحبة‬ ‫بل �ألقم الوادي حوتا‬
‫فلم تن�سه املالئكة‬
‫تتقاذفها‬
‫وهي ت�سعى‬
‫�أر�صفة احلياة؟‬
‫‪jhj‬‬ ‫يف طريانها‬
‫ياترى‪. . .‬‬ ‫�إىل اهلل‬
‫هل ميكن حلياتي‬ ‫‪ -2‬حياة �شاحبة‬
‫بحكم فو�ضى حركة املرور‬
‫حياتي‬
‫يف �شوارع املحبة‬
‫التي كانت حياتي‬
‫�أن تتحول �إىل م�شنقة‬
‫كيف �أ�صبحت‬
‫لأجد نف�سي‬
‫حياة �سواي؟‬
‫م�صلوبا على خ�شبة الهام�ش‬ ‫‪jhj‬‬
‫بال حياة‬ ‫حياتي التي تت�أبطتني �شعرا‬
‫متاما‬ ‫يف مناماتي املك�سرّ ة‬
‫مثل بيانو قدمي‬ ‫حني م�شينا‬
‫حطّ م �أ�ضالعه‬ ‫وم�شت خلفنا‬
‫خفق �أجنحة فرا�شات الأنامل‬ ‫مواكب النجوم والع�صافري‬
‫و�أكدا�س النغمات؟‬ ‫ابتهاجا‬
‫�أم �أن حياتي‬ ‫هل هي حياتي‬
‫يف لعبة ممجوجة كهذه‬ ‫نف�سها‬
‫تك�شف يل‬ ‫التي زرعت حياتي‬
‫بكل كيا�سة‬ ‫فوق ثغر بركان؟‬
‫�رس احلياة؟‬ ‫‪jhj‬‬

‫‪236‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫‪j‬‬

‫�أعينوا هال‪ ..‬هالي!!‬


‫حممد �أبو دومه‬

‫‪� ‬شاعر و�أكادميي من م�رص‬

‫ب�ساتني ورد جليد «هال»‪!..‬‬ ‫مدخل‪:‬‬


‫كل �آت نفت�ش نور عينيه‪ ...‬ال‪،...‬‬ ‫ريح‪ ..‬يا ريح‪!!..‬‬
‫نفت�ش ‪ -‬عن لهفة ‪ -‬نور عينيه‪،..‬‬ ‫وحق ال�صبايات يا نا�شئات ال�صبا‬
‫لعل به خربا عن «هال»‪!..‬‬ ‫قد عمهت‪،‬‬
‫غري �أن الردود ‪ ...‬دواجي �سكوت‪..‬‬ ‫‪ ..‬وحرت‪،...‬‬
‫فيا نهكة املرتجي‬ ‫ومايل ‪ -‬واهلل ‪ -‬على ن�أيها عرجة‪!!..‬‬
‫ب�صي�ص جنيمه‪..‬‬ ‫َذريف ذعر �شوقي على ن�أيها ذريف ‪..‬‬
‫ويا علل الغائبني‪،...‬‬ ‫و�صفى ما بنا من �ضنى‪ ..‬و�صفي‪..‬‬
‫�أ�رسيف‪� ..‬أ�رسيف‪..‬‬
‫قويل لها �إن حططت هناك‪ ..‬هناك‪..‬‬
‫هناك‪..‬‬
‫وقفت بباب التي غربتنا بها‪..‬‬
‫�أ�سكنتنا على جرف‬
‫و�صل بال حلم و�صل‬
‫وكوت كيها‪،..‬‬
‫كي تربد حرقاتنا بلظى االقرتاب‪..‬‬
‫�أوحت مبهجتنا �شجرا قد تطلل‬
‫ال نفحة لأريج وال �شدو ظل‪..‬‬
‫قويل لها‪:‬‬
‫�إننا عنكموا ما كففنا ال�س�ؤال!!‬
‫كل غاد نحمله‬
‫فوق ماال يطيق‪،‬‬
‫من �أعمال �صالح العلوي‪ُ -‬عمان‬ ‫عناقيد ورد‪ ... ...‬ال‪... ، ....‬‬
‫‪237‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫* �إيه!‬ ‫وبعد ابتعاد �أنني البيوت!!‬
‫�أربع ومررن ثقيالت علينا «هال»‬ ‫�أنني البيوت‪!!..‬‬
‫بعدما �أقر�أت‪،‬‬ ‫* كف الوله‬
‫مهجتي �صمتها مهجتك‪.. ..‬‬ ‫فليت البالد التي ولهتك توله‬
‫�أربع ومررن ثقيالت!!‬ ‫�أو تيمتك تتيم‪...‬‬
‫�أربع �شوه‪..‬‬ ‫وليت االعزة ظلوا �أعزة‪!..‬‬
‫�أربع �شوه ‪ ..‬ومررن‪،‬‬ ‫وليت الأحبة‪..‬‬
‫كحزن التواريخ ‪ .. ..‬مذ عرب باملغارب‪...‬‬ ‫وليت الذي �صار ما �صار ‪ -‬يا عم‪-!...‬‬
‫هي�ضوا‪،‬‬ ‫وليت ال�صدور التي حب�ست دمعها‪،‬‬
‫ب�ضيم فخلوا وراحوا‪...‬‬ ‫‪ ..‬مل تف�ض به‪..‬‬
‫�إىل عرب بامل�شارق �شدوا‪،‬‬ ‫لكنها الريح‪!..‬‬
‫بعزم �أبي رواحلهم القرتاب‬ ‫�أبدا لن تريح‪..‬‬
‫الغروب الو�شيك‪ ،‬وطافوا طواف الإفا�ضة‬ ‫ولن يتف�صد جرح جريح‬
‫مقرتنا بالوداع‪،..‬‬ ‫بغري قيوح الت�أمل‪..‬‬
‫‪ ..‬الوداع ‪ ...‬الوداع‪!!..‬‬ ‫�صه‪ ..‬يا متيم‪..‬‬
‫�أربع ومررن ‪ -‬يا «هال» الورد ‪-‬‬ ‫�صه‪..‬‬
‫مرور البالء‪،‬‬ ‫�صه يا متيم ‪ ..‬والو‪..‬‬
‫‪ ..‬العيني ‪ ..‬على �شوقنا امل�ستبد وبالنف�س غ�صتها‪..‬‬ ‫وال يوئ�سنك‪ ..‬ال تنتبه‪!!..‬‬
‫ومررن مرور الرتقب يف قلب حب تباعد ما بينه‪،‬‬ ‫�إنه االثم‪،..‬‬
‫والأحبة حتى تنو�سي �أو ظن منه التنا�سي‪!..‬‬ ‫والإثم‪ ..‬وامل�أثمة‪..‬‬
‫�أربع والطريق يكاد يغادر خطوى‪..‬‬ ‫فا�رصف ترجيك عنك‬
‫تكهلت‪،...‬‬ ‫وال تتداكك عليها‪..‬‬
‫و�شاع بر�أ�سي رماد الوقار املنفر‪..‬‬ ‫تعقل‪..!...‬‬
‫�أر‪.. ..‬بع مل �أعبق بر�ؤيتها وهي �ساكنة بجفون‬ ‫وزنها بغري ا�صطكاك �رضو�س املوازين واهدا‪..‬‬
‫الف�ؤاد‬ ‫حمال لذيل �سحابة �صيف‬
‫مع اهلل ‪ -‬هال ‪ -‬ال �رشكة ‪، .. .. .. ، .. ...‬‬ ‫يعيد التطهر‪،‬‬
‫�إمنا قب�س من فيو�ض بهاه‪..‬‬ ‫‪ ..‬للزمن الغر واحلقب القا�صمة‪..‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪... ...‬‬
‫جزء من ن�ص طويل‬
‫‪238‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫خيول حمنّطة‬
‫هو�شنك �أو�سي‬

‫‪� ‬شاعر وكاتب من �سورية‬

‫�ضيقتم على اخليالِ و�أو�صدمت‬‫مذ ّ‬ ‫ات ت�صهلُ باملطر‪.‬‬ ‫وغر ٌ‬‫الظّ ُّن عليلٌ‪ّ ،‬‬
‫املدافن على القلق‪� ،‬ضاقت بكم �أ�سئلتي‪.‬‬
‫َ‬ ‫�صميم الكاهن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�صميم الليلِ ‪،‬‬
‫ُ‬
‫�أعو ُذ بكم من تيجانكم والأقنعة‪،‬‬ ‫واجلثث املط َّل ُة على‬‫ُ‬
‫وهذر اخلرافة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ال�شمع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يا �أباطرة‬ ‫ال�س�ؤال‪ ،‬جثثي‪.‬‬
‫م�رضج ٌة بالوحلِ ‪،‬‬ ‫اخليول يف الوادي‪،‬‬ ‫رث تخميناتي‬ ‫منكوب ًا بكم‪ ،‬ان ُ‬
‫ّ‬
‫وما من جمزرةٍ تطوي انتظارها املديد‪.‬‬ ‫على �أ�رضحتكم يا �أويل‬
‫الريح‪،‬‬ ‫الوجع العميم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اخليول يف الوادي‪ ،‬ح ّنطتها ّ‬
‫كاو يكوي حوافرها‪،‬‬
‫وما من ٍ‬
‫�ض‬ ‫مرو ُ‬ ‫�سالفكم‪َ ،‬خ َلفَي‪ ،‬و�سائ�سكم ِّ‬
‫�أخيل َة �أنيني‪.‬‬
‫عدمياً‪� ،‬أه ُّد ال�سواتر على �سدنتها‪،‬‬
‫قرار �أكي ِد املنتهى‪.‬‬ ‫نا�شداً َ‬
‫عبدين حريتي �إليكم‪ ،‬ويك�رسين‬ ‫ُت ّ‬
‫قلقي الذي يع ُبدين‪.‬‬
‫�أ�شجاري النامي ُة يف‬
‫�صدوركم‪ ،‬ت�رس ُد‬
‫�سري َة غيبتي‪.‬‬
‫ها انا ذا‪� ،‬ألقي �رسوجي وجلامي‬
‫وا�شق خلوتي جاري ًا‬ ‫ُّ‬ ‫يف نا ِر املعبدِ‪،‬‬
‫كنه ٍر ي�صهلُ بالفناء‪.‬‬
‫أحن عليك ِم ب�شذ ِر احلكايةِ‪،‬‬ ‫� ُّ‬
‫�إذ يرويني الوادي �رصاخ ًا قادح ًا‬
‫يزكم الأفق بالعويل‪.‬‬ ‫مريراً‪ُ ،‬‬
‫حمن ُة النه ِر �أنه ال ميكنه العود ُة‬
‫من �أعمال دليلة احلارثية‪ُ -‬عمان‬
‫بي و�آالمي‪.‬‬ ‫ملنبعهِ‪ ،‬وحمنتي جهلكم ّ‬
‫‪239‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫العم�ش املرتاكم‬‫ِ‬ ‫ي�ست�رشف �رضاو َة‬


‫ُ‬ ‫غراتها واجلدائل‪.‬‬ ‫رس ّ‬ ‫ويفكّ �أ� َ‬
‫على �أفئدتكم‪.‬‬ ‫خذر �أحالمها‪،‬‬ ‫اخليول يف الوادي‪� ،‬أعماها ُ‬
‫املغذور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫النازف‪� ،‬صوت ُه‬
‫ُ‬ ‫كبدي‬ ‫أم�س‪ ،‬وما من �شاع ٍر ينهي‬ ‫ترثي مطر ال ِ‬
‫املوت �أنين ُه‪.‬‬
‫َ‬ ‫كيا�س ُة البددِ‪� ،‬أعيا‬ ‫بقب�س من ق�صيد احلجر‪.‬‬ ‫جنائزها ٍ‬
‫قيعان الوهم على‬ ‫ِ‬ ‫دبوا من‬
‫ّ‬ ‫اخليول يف الوادي‪ ،‬و�أرحامها مكتظّ ة‬
‫ا�سطح الفكرةِ‪ ،‬لرتوا ما اقرتفتمو ُه‬ ‫بالأوطان والثورات واحلروب واملجازر‪.‬‬
‫من نح ٍر وغدر‪.‬‬ ‫الن�صو�ص‬
‫ُ‬ ‫�أهي اخليولُ يف الوادي؟ �أم‬
‫املوت‪،‬‬
‫َ‬ ‫ت�سو�س‬
‫ُ‬ ‫فاخليولُ يف الوادي‪،‬‬ ‫املهدور ُة جمازاتها؟‪.‬‬
‫�أكيدها �أكي ُد اليباب‪ ،‬وتخمينها‬ ‫الر ّمان �إذ تفتقت براعم ُه‬ ‫َد َن�سي‪َ ،‬د َن ُ�س ّ‬
‫متون الهالك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ات‬
‫حلمات ج ّن ّي ِ‬ ‫ِ‬ ‫لهيب‬
‫على ِ‬
‫جن والبنف�سج‪.‬‬ ‫البابو ِ‬
‫‪jhj‬‬
‫الثلج‪� ،‬إذ �أداري الليلَ‬ ‫يك�سوين ُ‬
‫تردم الأغني ُة جراحها‪،‬‬ ‫بال�ضباب‪ُ ،‬‬ ‫عن �أوجاعه‪.‬‬
‫وبه�شي ِم الوقتِ تو�ص ُد يقظتها‪.‬‬ ‫فظائع‬
‫َ‬ ‫اب‬‫ُيك�سيني الترُّ َ‬
‫مبا يكفي الفاجعة‪ ،‬وال يكفي اخلراب‪،‬‬ ‫ترجمات ِه لنك ِد املاء‪.‬‬
‫ال�شاعر �أتراب ُه من الأبابيل‬
‫ُ‬ ‫ي�ستنج ُد‬ ‫واخليولُ يف الوادي‪ ،‬وعوا ُء النهاي ِة‬
‫والغربان والبوم‪ ،‬موقداً‬
‫ِ‬ ‫واحلباري‬ ‫ي�ساور البداية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ملّا يزل‪،‬‬
‫حتت ل�سان ِه جمر َة احلالّج ولوع َة اجلزيري‪.‬‬ ‫الوح�ش‪ ،‬ين ِّق ُب التي ُه‬‫ِ‬ ‫من‬‫برياع ال َز ِ‬
‫ِ‬
‫ال�شاعر كن ُز اخليب ِة و�صوجلانها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الثورات العميا ِء عن فاجعتي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫م�صاحف‬
‫ِ‬ ‫يف‬
‫جرح عني ٌد‪ ،‬مت� ّأم ًال اخليولَ‬
‫ال�شاعر؛ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫بل�سان ال ّنحلِ ‪ ،‬يزفني الق�صي ُد‬ ‫ِ‬
‫غبار الأقاويلِ البائدةِ‪.‬‬ ‫يف الوادي‪� ،‬أعماها ُ‬ ‫فتح الأحم ِر‬
‫الكالم ال�صرّ � ِرص‪ ،‬بادئ ًا َ‬ ‫ِ‬ ‫مت‬
‫اىل خوا ِ‬
‫فواني�س جمونهِ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تلكم‬
‫ُ‬ ‫على الأخ�رض‪.‬‬
‫كثبان هذيانه‪.‬‬‫ُ‬ ‫وهذي‬ ‫الذبيح‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ليلي‬
‫ا�ستبيحكم‪ ،‬وعلى كتفي َ‬
‫بالنياب ِة عنكم وبالأ�صال ِة‬ ‫ت�ستبيحونني وعلى �أ�س ّنة‬
‫عن حزنهِ‪ ،‬هو ذا يث�أر لكم‬ ‫رماحكم كبدي الذي يردد‪:‬‬
‫من خوفكم‪.‬‬ ‫خيولٌ يف الوادي‪...‬‬
‫�رضيح �سنينهِ‪،‬‬
‫َ‬ ‫ال حت�سبو ُه‬ ‫�أعيدوها اىل عرائها‪ ،‬قبل ان تغتالها‬
‫بل هو ندمكم املكنون‬ ‫كون بقايا ظاللها‪.‬‬ ‫ال�س ُ‬ ‫وينهب ّ‬ ‫ُ‬ ‫وح�شتها‪،‬‬
‫نب�ض الوادي‪.‬‬ ‫يف ِ‬ ‫و�سماق‪،‬‬ ‫أغان من جم ٍر ّ‬ ‫النازف � ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كبِدي‬
‫‪240‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ق�صـــيدتان‬
‫يحيى الناعبي‬

‫غيرّ ي من نغمة وترك احلزينة‬ ‫بالد‬


‫فنخيلك �أ�صبحت �شوكا للفالحني‬ ‫�أي بالد‬
‫وبحارك مقربة ال�صيادين‪.‬‬ ‫يا غيمة �شتتتها �آلهة الأعا�صري‬
‫�أي بالد‬ ‫�شم�سك تلهب ب�سياطها‬
‫�أفيقي قليال‬ ‫قلبك امل�سكني‬
‫حتى ال يغ�شى عليك‪.‬‬ ‫الفالحني والب�سطاء‬
‫حتت �أهدابك ماتت الفرا�شات‬ ‫دوابك‬
‫وهوام ّ‬
‫حمملة بغبار املجهول‪.‬‬
‫والرياح ّ‬ ‫ترق�ص على جماجم‬
‫�ضحايا بط�شك‪.‬‬
‫�أفيقي قليال‬
‫�أيتها الغافلة‬
‫و�أنت على �رسيرك الأثريي‬
‫�إنها اجلوارح‬
‫التي تنه�ش بطنك ‪.‬‬
‫�أفيقي قليال‬
‫جبالك ته�شمت �أ�ضالعها‬
‫وبكاء املالئكة �آالم الأ�سالف‬
‫فلم تعد ق�صيدة رومان�سية‬
‫يتغنى بها ال�شعراء‪.‬‬
‫ناحت ال�سماء‬
‫ترثي م�آل‬
‫الأبناء امل�صلوبني‬
‫يف ف�ضاء احللم‬
‫من �أعمال خلود ال�شعيبي‪ُ -‬عمان‬
‫بني جدران �سجونك ‪.‬‬
‫‪241‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�شعـــر‪� ..‬شعـــر‪� ..‬شعـــر‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ج�سدي املنذور يف خرقة االغرتاب‬ ‫الطريق �إىل قلبك �أ�صبح وعرا‬


‫ب�صمت‬ ‫�سفنك غرق ن�صفها‬
‫ابت�سم لل�سماء‬ ‫يف مياه امل�ستنقع الآ�سن‬
‫التي تدور على رغيف ال�شم�س‬ ‫والآخر يبحث عن مرف أ� �آمن‬
‫يف تالويح ال�شط�آن‬
‫�أخربتها عن �شائعة النجوم‬
‫واملرايا خالية الآثام ‪.‬‬
‫التي ت�ساقطت ليلة البارحة‬
‫الأ�سطورة تبددت ذكرياتها‬
‫وعن القابلة التي اعتذرت يوم والدتي‬
‫و�أحالمها‬
‫عن �شذرات اجلمل‬ ‫خلف خطى الي�أ�س‪.‬‬
‫امل�صنوعة لربكان امل�ستقبل‬ ‫�أراك ثم �أراك‬
‫والدم الذي غرغر يف عا�صفة‬ ‫مكلال بال�شوك ديباجك‬
‫م�رسحيته لظهريات الأيام‪.‬‬ ‫ومطعونة ب�سهام املغتابني‬
‫كنت كاجلدار الذي ته�شمت �أركانه‬ ‫يف حديقة اجل�سد املنهار‬
‫ومن الوح�شة‬ ‫والأيام ماء ودماء‪.‬‬
‫احت�ضنت �رصاخ ال�سنوات‬ ‫عانقي �أطفالك �أيتها الأم‬
‫لأجل ميزانك الروحي‬
‫املبتلة بالفاح�شة واحلنني‪.‬‬
‫افتحي نوافذ احلياة‬
‫ليت ال�شجرة التي هجرتها‬
‫قبل �أن ي�ست�رشي ناقو�س‬
‫قوافل النمائم الراحلة مع‬ ‫الظالم حجراتك‪.‬‬
‫رياح الغيب‬
‫�أ�سكنتني زوادة ظلها‪.‬‬
‫�أكرث من نهار‬
‫لن �أ�سالها عن جغرافيا احلا�رض‬
‫هذا ال�صباح‬
‫عيني نحو الأفالك‬‫ّ‬ ‫و�س�أ�صوب‬
‫تطرق بابي حلظة عدمية‬
‫البعيدة‬
‫مل �أوقظ الع�صافري النائمة‬
‫�أو حتى الأمواج التي‬ ‫مثل مالك نافق‬
‫انك�رست يف نواحها‬ ‫يف �رشفة �أحالمي‬
‫�أيامي ‪.‬‬ ‫حتى ال ت�سقط عن �أغ�صانها‬
‫مقلتي‬
‫ّ‬ ‫ويزهر ري�شها ال�شوكي يف‬

‫‪242‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫من �أعمال حممد الرا�شدي ‪ُ -‬عمان‬

‫�ضـجـــر‬
‫طالب املعمري‬
‫ت�سمعون‬ ‫�ضجر‬
‫اقر أ� اخلوف‬ ‫هل اليباب قدر‬
‫يف الفرات والأطل�س‬ ‫ملن القفار‬
‫اقر�أ خمالب ال�ضجر‬ ‫وال�سماوات‬
‫يف الب�رش‬ ‫مت�سرْ ح احلياة‬
‫�أحمل الوقت‬
‫كل العبارات التي يقذفها‬
‫جمرة يف يدي‬
‫مالك املوت ‪ -‬هنا ‪-‬‬
‫وكلمات ال�صحراء‬
‫م�شجب حياة‬
‫تع ّفر دربي‬
‫افر�شوا الطريق‬ ‫هل‪ ،‬يتنكر‬
‫بالعواء‬ ‫الرتاب جللدي‬
‫هل لكم‪� ،‬أن تروا‬ ‫�أنا منه وهو مني‬
‫املكان‬ ‫هل «الليلة الظلماء»‬
‫ككنز �أو قمامة‬ ‫لن تنجلي‬
‫ولكي ن�ألف‬ ‫بنور م�صباح‬
‫�ضجرنا‬ ‫وجنم �سهيل‬
‫كعلة ومعلول‬ ‫جنم متلألئ بحريته‬
‫«�سن�ست�أن�س ب�صوت الذئب‬ ‫ميزق ال�صمت‬
‫اذا عوى»‪..‬‬ ‫و�أنتم يف الكهف‬
‫‪243‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‬

‫نحت لروزا لوك�سمربغ‬

‫‪244‬‬
‫ر�سالة من �سجن‬
‫روزا لوك�سمربغ‬
‫الرتجمة عن الأملانية‪ :‬ن�شوان حم�سن دماج‬
‫قا�ص ومرتجم من اليمن‬

‫حني و�صلت تلك احليوانات كانت قد �أو�سعت‬ ‫عاي�شت �آالم ًا رهيب ًة هنا!‬
‫ُ‬ ‫�آه زونت�شكا! َلك َْم‬
‫�رضب ًا وب�شكل همجي‪ .‬وها هي ذي قد ح�صلت‬ ‫عاد ًة ما كانت تتقاطر على احلديقة‪ ،‬التي ي�سمح‬
‫على ع�شب بائ�س وزهيد‪.‬‬ ‫عربات‬ ‫يل بالتجول فيها كل يوم ملدة �ساعة‪،‬‬
‫ُ‬
‫كب ًة على‬
‫كانت ت�ستغل بال هوادة وال رحمة‪ ،‬م ْن ّ‬ ‫اجلند حممل ًة باملِخال �أو ببزات اجلند املهرتئة‬
‫وجهها‪ ،‬حاملة �أثقالها‪ ،‬وذاهبة معها حثيث ًا نحو‬ ‫وقم�صانهم‪ ،‬التي كثرياً ما يكون عليها بقع من‬
‫الهاوية‪.‬‬ ‫دم‪ .‬تو�ضع هذه الأ�شياء هنا‪ ،‬توزع �إىل الزنازن‪،‬‬
‫ِمت واحد ٌة من تلك العربات‬ ‫قبل عدة �أيام قد ْ‬ ‫ُتخاط‪ ،‬ومن ثم حُتمل ثانية ل ُت�سلّم للجند‪.‬‬
‫حمملة باملخال ومتجهة نحو الداخل‪ .‬كانت‬ ‫ومنذ وقت قريب جاءت �إحدى تلك العربات‬
‫احلمولة متكد�سة ب�شكل كبري نحو الأعلى‪ ،‬بحيث‬ ‫جترها جوامي�س ذات بنية �أقوى و�أ�ضخم من‬
‫مل تتمكن اجلوامي�س من اجتياز مدخل البوابة‬ ‫�أبقارنا‪ .‬كانت تلك هي املرة الأوىل التي �أرى‬
‫�إال بالكاد‪ ،‬فانهال عليها اجلندي املناوب‪ ،‬وهو‬ ‫حيوانات كتلك‪ .‬لقد كان �أ�صلها‬
‫ٍ‬ ‫فيها عن قرب‬
‫�شخ�ص مل�ؤه الدموية‪� ،‬رضب ًا بامل�ؤخرة الغليظة‬ ‫يعود �إىل رومانيا‪ ،‬ولذا فهي هنا رمز االنت�صار‬
‫لبندقيته‪ ،‬لدرجة �أن امل�رشفة نهرته بكالم حانق‪،‬‬ ‫يف احلرب‪.‬‬
‫فرد عليها مبت�سماً‪:‬‬
‫يقول اجلنود‪ ،‬الذين كانوا يقودون العربة‪� ،‬إن‬
‫‪-‬الن�سبة لنا‪ -‬بني الب�رش‪ -‬لي�س ثمة بيننا من‬ ‫ا�صطياد هذا النوع من احليوانات الربية �أمر‬
‫يرحم‪.‬‬ ‫غاية يف ال�صعوبة‪ .‬غري �أن ال�صعوبة الأكرب هي‬
‫وراح ي�رضب وي�رضب ب�شكل �أقوى‪ ،‬فتململت‬ ‫تروي�ض تلك اجلوامي�س‪ ،‬التي اعتادت احلرية‪،‬‬
‫احليوانات وا�ستطاعت �أخرياً �أن تلج البوابة‪.‬‬ ‫على حمل الأثقال‪.‬‬
‫‪245‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الرحمة‪.‬‬ ‫غري �أن واحداً منها كان َيدمي‪� .‬آه زونت�شكا! كان‬
‫هنا‪ :‬ال�رضبات املنهالة‪ ،‬الدم ال�صاعد من �آهٍ‬ ‫و�س ْمكه بح�سب‬
‫جلد اجلامو�س‪ ،‬بالرغم من َجلَده ُ‬
‫للتو‪ ،‬جامو�سي امل�سكني‪� ،‬أخي احلبيب‪.‬‬ ‫املثل‪ ،‬قد متزق‪.‬‬
‫منبعثةٍ ّ‬
‫هنا‪ ،‬ها نحن‪ ،‬االثنان معاً‪ ،‬نقف متبل َد ْين ال‬ ‫وقفت تلك احليوانات يف مكان التفريغ‪ ،‬يف جو‬
‫حول لنا! اثنان نعم؛ لكننا واحد يف العذاب‪ ،‬يف‬ ‫مل�ؤه ال�صمت‪ ،‬منهكة القوى‪ .‬وراح ذلك احليوان‬
‫الغ�شيان ويف ال�شوق‪.‬‬ ‫املُدمى يتطلع �إىل نف�سه‪ ،‬ويف عينيه تعبري ما؛‬
‫طفل باكٍ عوقب عقاب ًا �شديداً‪ ،‬ال يدري‬ ‫ري ٍ‬ ‫تعب ُ‬
‫كان ال�سجناء خاللها يجيئون ويروحون بحيوية‬
‫ملاذا وال يف �سبيل �أي �شيء‪.‬‬
‫تامة من و�إىل العربة‪ُ ،‬ينزلون الأكيا�س الثقيلة‬
‫ويحملونها �إىل مبنى ال�سجن‪ .‬بينما ذلك اجلندي‬ ‫كنت واقفة �أمامه وهو يحنو علي بنظراته‪،‬‬
‫يتجول بخطى وا�سعة حول احلديقة‪ ،‬خمفي ًا يديه‬ ‫فراحت الدموع تت�ساقط مني �أنا‪� ،‬إمنا مل تكن‬
‫ي�صف ُِر برتنيمته‬
‫يف جي َب ْي بنطاله‪ ،‬ومبت�سم ًا ْ‬ ‫�سوى دموعه هو‪.‬‬
‫الهادئة‪:‬‬ ‫لي�س بو�سع �أحد �أن يت�أمل لأخيه الأقرب �إىل قلبه‬
‫‪ -‬و�أتت على كل �شيء هذه احلرب ال�شعواء!‬ ‫�آالم ًا �أكرب من �آالمي‪ ،‬و�أنا عاجزة عن فعل �أي‬
‫�شيء لهذا احليوان‪.‬‬
‫اكتبي يل �رسيع ًا‬
‫َلك َْم هي بعيد ٌة وم�ستحيل ُة املنال ومفقود ٌة �شجر ُة‬
‫روزا لوك�سمربغ‬
‫ال�صف�صاف احلرة املثمرة هناك‪ ،‬يف رومانيا!‬
‫‪..‬‬
‫والرياح‬
‫ُ‬ ‫ال�شم�س هناك حني ت�رشق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كم هي �أخرى‬
‫زونيوتا حبيبتي‪:‬‬ ‫ألوان ري�ش الطيور‬
‫حني تهب! لكم هي �أخرى � ُ‬
‫كوين هادئة البال ومن�رشح ًة رغم كل �شيء!‬ ‫و�أنا�شي ُد الرعاة!‬
‫فبقدر ما تكون عليه احلياة‪ ،‬بقدر ما يتوجب‬ ‫�أما هنا‪ ،‬يف هذه املدينة الغريبة الراعبة‪ ،‬هذه‬
‫على املرء �أن يتلقاها بب�سالة ورباطة ج�أ�ش‪،‬‬ ‫احلظرية الرطبة‪ ،‬هذا الع�شب الذاوي املتعفن‬
‫و�ضاحك ًا رغم كل �شيء!‬ ‫الذي يثري التقزز والقرف‪ ،‬ه�ؤالء الغرباء عدميي‬

‫‪246‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫من �أعمال �إلهام الكندية ‪ُ -‬عمان‬

‫�إطار �صورة‬
‫�شربل داغر‬
‫�شاعر واكادميي من لبنان‬

‫متكلمة ‪ : 3‬ماذا نفعل بالإطار الفارغ؟‬ ‫(الف�سحة بي�ضاء‪ ،‬م�ضاءة بكاملها‪ ،‬يح ُّدها من اجلهة‬
‫�صوت (يف العتمة) ‪ :‬متكلمون بالت�ساوي‪ ...‬هذه‬ ‫اخللفية جدار �أبي�ض بدوره‪ ،‬ما خال بقعة يف و�سطه‬
‫�إ�شارة �أوىل‪.‬‬ ‫م�ستطيلة طولياً‪ ،‬ما ي�شبه احليز الذي كانت ت�شغله‬
‫متكلم ‪( 2‬مرتداً �إىل اخللف) ‪ :‬من يكون؟‬ ‫�صورة �أو لوحة‪ ،‬معلقة منذ زمن بعيد‪.‬‬
‫متكلم ‪ : 1‬لعله يعمل يف امل�ستودع‪.‬‬ ‫متكلمون خمتلفون‪ ،‬بني رجال ون�ساء‪ ،‬من دون‬
‫متكلم ‪ : 2‬لعله عامل تنظيفات‪.‬‬ ‫متييز بينهم‪ :‬ينهمكون – ما �أن ت�ضاء الف�سحة –‬
‫متكلمة ‪ : 3‬كلنا عمال تنظيفات‪...‬‬ ‫بالعودة من جديد �إىل �أمام الإطار ال�شاغر‪ ،‬بعد �أن‬
‫متكلمة ‪( 1‬مقاطعة) ‪ ... :‬لإعداد منظر‪...‬‬ ‫قاموا – على ما ميكن ترجيحه – بنزع ال�صورة �أو‬
‫متكلمة ‪( 3‬مقاطعة) ‪ ... :‬لإعداد جملة‪.‬‬ ‫اللوحة من مكانها)‪:‬‬
‫(متكلم ‪ 1‬ي�شد �ساعد املتكلم ‪ ،3‬ويتهام�سان فيما‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أووف! �أووف!‬
‫يخرجان من احللقة)‪.‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬هذه لي�ست من الف�صحى!‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫متكلم ‪ : 3‬قلْ‪ :‬تنف�سوا ال�صعداء‪� ،‬أخرياً!‬
‫�صوت (يف العتمة) ‪� :‬إطار ال�صورة �شاغر‪.‬‬ ‫متكلمة ‪( 1‬متوجهة �إىل املتكلمة ‪ : )2‬قلْ‪ .‬ال تقلْ‪...‬‬
‫�صوت �آخر (يف العتمة) ‪ :‬ال‪� ،‬إطار ال�صورة فاغر‪.‬‬ ‫يلتهون باملناكفة كالعادة‪� ،‬أال ترين؟‬
‫�صوت ثالث (يف العتمة) ‪ :‬ال‪� ،‬إطار ال�صورة �شاعر‪.‬‬ ‫متكلمة ‪( 2‬وهي تن�سحب) ‪ :‬على حالهم! على حالهم!‬
‫‪247‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫متكلمة ‪ : 1‬هذا يذكرين مبا كان يفعله البع�ض يف‬ ‫(ت�ضاء الف�سحة �إذ يدخل �إليها متكلمون ومتكلمات‪،‬‬
‫املتاحف‪...‬‬ ‫كما لو �أنهم يبحثون عن م�صدر الأ�صوات‪ ...‬ثم‬
‫عم تتحدثني؟‬
‫متكلم ‪َّ : 1‬‬ ‫يخرجون خائبني)‪.‬‬
‫متكلمة ‪ : 1‬يف املتاحف مقاعد جلدية مثل هذه‪،‬‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫يجل�س عليها الزوار امل�سنون طلب ًا لال�سرتاحة‪� ،‬أو‬ ‫(عتمة ما خال البقعة التي َتظهر فيها �شا�شة‬
‫غريهم للت�أمل املزيد يف لوحة‪.‬‬ ‫�إلكرتونية‪ ،‬تتواىل فوق �صفحتها امل�ضيئة اجلمل‬
‫عرفت عما تتحدثني عنه‪ ...‬قويل يل‪ :‬ملاذا‬ ‫ُ‬ ‫متكلم ‪: 1‬‬ ‫التالية)‪:‬‬
‫يختار خمرجون وروائيون عديدون هذه املتاحف‪،‬‬ ‫القطار بعد �ص ّفارته‬
‫َ‬ ‫�أيجوز �أن ت�ستقل الق�صيد ُة‬
‫وهذه املقاعد‪ ،‬لكي يجمعوا بني �شخ�صيات تخطط‬ ‫الثالثة؟‬
‫لعملية قتل؟‬ ‫�أيجوز �أن تمُ �سك اجلملة عن الطريان لكي تتمهل يف‬
‫متكلم ‪� : 1‬أال يكون مثرياً اجلمع بني املوت والفن؟‬ ‫م�شيها وراء طابور نحل‪ ...‬لكي تعاين ما يقع بني‬
‫متكلمة ‪� : 1‬أهذا ما يجمعنا؟‬ ‫الغبار وحافته‪ ،‬بني ال�صوت واملتكلم؟‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫�أيجوز �أن ت�ستعري احلروف عكازات وم�سامري‬
‫متكلمة ‪( 3‬واقفة �أمام البقعة ال�شاغرة‪ ،‬مم�سكة‬ ‫وف�سحات لكي ت�ستقيم خطواتها �صوب ال�رشفة‪،‬‬
‫مبم�سحة تنظيف) ‪ :‬حل�سن احلظ مل ي�ؤنبني �أحد‪...‬‬ ‫�صوب اللقاء؟‬
‫مل ي�ؤنبني بعد! ما كنت �أنظفه كل يوم من الغبار‬ ‫�أيجوز �أن ت�ستعري الكلمات حركات و�أفعا ًال وتعبريات‬
‫ك�شف الو�سخ‬
‫َ‬ ‫طار من مكانه‪ ،‬وما بقي على احلائط‬ ‫وجه لكي تزدهي يف حلتها قبل احتفاالت؟‬
‫الرا�سخ‪.‬‬ ‫�أيجوز �أن َتظهر كلماتي من دون هيئتي؟ و�صفحتي‬
‫(وهي تخف�ض ر�أ�سها) هذا ما مل �أكن �أح�سن االنتباه‬ ‫املرئية من دون �أ�صابعي؟‬
‫�إليه‪.‬‬ ‫�أيجوز تدبري املواعيد يف العلن ملن كان يرود يف‬
‫(وهي تن�سحب �إىل العتمة) يبدو �أن ما كانت جتلوه‬ ‫العتمة؟‬
‫ال�صورة مل يبدد ما كان يرتاكم حولها‪.‬‬ ‫�أيجوز‪� ،‬أيجوز‪� ،‬أيجوز‪ ...‬فيما ت�ستوي اجلمل مثل‬
‫متكلم ‪( 1‬داخالً‪ ،‬رافع ًا ع�صا التهديد) ‪� :‬إطار ال�صورة‬ ‫من�صة كالم‪ ،‬مثل تدافع �أرجل ور�ؤو�س بني ال�ضيق‬
‫مل يذهب معها‪ :‬بقي يف اجلدار‪.‬‬ ‫واخليبة؟‬
‫متكلم ‪( 2‬داخالً‪ ،‬رافع ًا معو ًال ورف�شاً) ‪ :‬لو نحطم‬ ‫بلى‪ ،‬يجوز يل ما ال يجوز لغريي‪ .‬ب�رضبة من‬
‫اجلدار‪ ...‬لو نبني جداراً جديداً‪.‬‬ ‫�إ�صبعي‪� ،‬أنهي جوق ًا عن الإن�شاد‪� ،‬أو �أطلقه فوق‬
‫متكلم ‪� : 1‬ألن نحتاج حينها �إىل �صورة �أخرى؟‬ ‫منحدرات الوح�شة‪...‬‬
‫متكلمة ‪( 3‬تعود من جديد‪ ،‬مم�سكة مبم�سحة تنظيف‪،‬‬ ‫(متكلمون ومتكلمات َيظهرون تباع ًا يف عتمة‬
‫وترفعها مثل علم ُت ِّلوح به‪ ،‬ثم تقفل عائدة �إىل‬ ‫خفيفة‪ ،‬فتختفي ال�شا�شة الإلكرتونية‪ ،‬وين�سحبون‬
‫العتمة)‪.‬‬ ‫خائبني)‪.‬‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫(�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة‪ ،‬والتي تخلو‬ ‫(مقعد جلدي ي�صلح لثالثة جال�سني‪ ،‬من دون‬
‫له وحده)‪.‬‬ ‫م�ساند جانبية وال خلفية‪ :‬متكلم ومتكلمة جال�سان‬
‫�صوت (يف العتمة) ‪ :‬له ال�صدى واملدى‪.‬‬ ‫وينظران �إىل البقعة اخلالية)‪:‬‬
‫‪248‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫وكلما قتلوا �أو اعتقلوا �أحدهم �شطبوه بالقلم‪.‬‬ ‫�صوت (يف العتمة) ‪ :‬له الهواء والهباء‪.‬‬
‫متكلم ‪ : 2‬هل قتلت �أحدهم؟‬ ‫علقت معطفاً‪...‬‬
‫علقت لوحةً‪ُ ،‬‬ ‫�صوت (يف العتمة) ‪ُ :‬‬
‫با�رشت به؛ �شطبت �أكرث من واحد‬ ‫ُ‬ ‫متكلم ‪ : 3‬هذا ما‬ ‫تركت لغريي‪ ،‬وخلفي‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫علقت‪� ،‬أي‪:‬‬
‫ُ‬
‫منهم‪ ،‬ا�سم ًا ا�سماً‪ ،‬كلمة بعد كلمة‪.‬‬ ‫تخليت عما كان يل‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫علقت‪� ،‬أي‬
‫ُ‬
‫(عتمة)‬ ‫خ�رست بر�ضاي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫علقت‪� ،‬أي‪:‬‬ ‫ُ‬
‫(متكلمان مي�شيان يف اجتاهني خمتلفني)‪.‬‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫متكلم ‪� : 2‬أتعرف؟ احلفيد ي�صنع اجلد‪.‬‬ ‫متكلم ‪( 1‬متحدث ًا �أمام البقعة مع �إحدى املتكلمات)‬
‫متكلم ‪( 1‬ي�ستمر يف امل�شي)‪.‬‬ ‫‪� :‬أتالحظني �أن البقعة خالية‪ ،‬بي�ضاء‪ ،‬نظيفة‪ ،‬فيما‬
‫متكلم ‪� : 2‬أتعرف؟ املتفرج ي�صنع ال�صورة‪.‬‬ ‫يحيط بها الو�سخ؟‬
‫متكلم ‪( 1‬ي�ستمر يف امل�شي)‪.‬‬ ‫متكلمة ‪( 1‬تقرتب ب�أنفها من البقعة‪ ،‬وتبتعد) ‪... :‬‬
‫متكلم ‪� : 2‬أتعرف؟ اخلطوة ت�صنع احلذاء‪.‬‬ ‫ف�ض ًال عن العفونة‪.‬‬
‫متكلم ‪� : 1‬أتعرف؟ �إذ �أم�شي‪� ،‬أخط �سطراً‪� .‬إذ �أت�رسى‬ ‫متكلم ‪ : 1‬مثلنا متاماً‪� .‬أما كنا نحيط بها فيما �سبق؟‬
‫يف الهواء‪� ،‬أفتح غيمة ذات دفتني‪ ،‬و�أقل ُِّب وردة من‬ ‫(مي�سك بذراعها ويخرجان �سوي ًا �صوب العتمة)‪.‬‬
‫�صفحات مطوية‪...‬‬ ‫متكلم ‪( 1‬يتقدم من �أحدهم‪ ،‬املط�أطىء الر�أ�س) ‪ :‬ما‬
‫�أتعرف؟ �إذ �أم�شي‪ ،‬ال �أفكر �إال يف الطريان‪.‬‬ ‫لك؟‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫متكلم ‪( 2‬يرفع ر�أ�سه‪ ،‬ف�إذا به يبكي)‪.‬‬
‫متكلم ‪( 1‬يخاطب �أحدهم من دون �أن يكون ظاهراً) ‪:‬‬ ‫متكلم ‪ : 1‬ما لك؟‬
‫حم َلَه‬
‫احلمال‪ ،‬الذي َّ‬ ‫�أتعرف؟ �أنت جتعلني يف مو�ضع َّ‬ ‫متكلم ‪� : 2‬أبكي‪.‬‬
‫�أحدهم الكثري‪ ،‬من دون �أن ي�س�أله عن طاقته على‬ ‫متكلم ‪ : 1‬ملاذا؟‬
‫احلمالن‪ ،‬وملا وقع �أر�ضاً‪� ،‬س�أله‪ :‬ما جرى؟ ف�أجابه‪:‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬كنت �أبكي �سابق ًا يف �صمتي‪� ،‬أما الآن‬
‫حملني‪ ...‬ال تكرتث للأمر‪ ...‬من قال لك‬ ‫ال يهم الآن‪ِّ ،‬‬ ‫ف�أبكي علناً‪.‬‬
‫ب�أنني �س�أنه�ض؟‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أهو الفارق؟‬
‫متكلمة (تنزع حجابها من �أن جتل�س على كر�سيها‪،‬‬ ‫�شئت‬
‫متكلم ‪ : 2‬ميكنك �أن تقي�س على هذه احلالة‪� ،‬إن َ‬
‫وتخاطب �أحدهم من دون �أن يكون ظاهراً) ‪ :‬هذا كلُّ‬ ‫�أن تفهم‪� ....‬أنا يعنيني �أن �أبكي لي�س �إال‪.‬‬
‫علي!‬
‫جنحت فيه‪� :‬أن ت�ستقوي َّ‬ ‫َ‬ ‫ما‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫(متكلمان متقابالن على كر�سيني)‪.‬‬
‫وعدت نف�سي بكثري من الآمال‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أتع ِر ُف؟‬ ‫متكلم ‪ : 3‬ال يكفي نزع ال�صورة‪ ...‬ال يكفي تبديل‬
‫(متوقفاً)‪.‬‬ ‫ال َعلم‪ ...‬ال يكفي ا�ستعمال الكالم نف�سه يف وجهات‬
‫متكلم ‪ : 2‬والآن؟‬ ‫جديدة‪...‬‬
‫متكلم ‪� : 1‬أمتنى النجاة بنف�سي‪.‬‬ ‫متكلم ‪( 2‬ينظر �إليه ب�شيء من الده�شة من دون �أن‬
‫متكلم ‪ : 2‬والآمال؟‬ ‫ي�شارك يف احلوار)‪.‬‬
‫متكلم ‪ : 1‬ترك ُتها لغريي‪.‬‬ ‫جمعت �صورهم واحداً واحداً يف غرفتي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫متكلم ‪: 3‬‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫علقتهم على احلائط بدبابي�س‪ ،‬كما يفعل حمققو‬
‫(�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة‪ ،‬و التي‬ ‫ال�رشطة يف الأفالم‪ ،‬يف مكاتبهم‪ ،‬لتعقب املجرمني‪...‬‬
‫‪249‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�ألن ت�ضجرا �إن �أخربتكم مبا ح�صل يل عند زيارة‬ ‫تخلو له وحده)‪.‬‬
‫�إهرامات اجليزة؟‬ ‫انتهيت �إىل فهم ما يجري!‬
‫ُ‬ ‫متكلم ‪ : 1‬و�أخرياً‪ :‬لقد‬
‫(ي�أتي متكلم ومتكلمة بكر�سيني‪ ،‬ويتابعان ما‬ ‫ا�ستيقظت من كابو�س‪ ...‬وها �أنت‬ ‫َ‬ ‫متكلم ‪ : 2‬ال‪ ،‬لقد‬
‫يجري‪ .‬ينتظر املتكلم ‪� 1‬إجابة من دون �أن ت�أتي‪.‬‬ ‫تتح�س�س ما �أ�صابك‪.‬‬
‫ُ‬
‫يتابع) ‪:‬‬ ‫متكلم ‪ : 1‬وهذه الفرحة التي تغمرين؟‬
‫�أخربنا الدليل‪ ،‬بعد الدخول �إىل جوف الهرم الكبري‪،‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬حبة زيتون فوق مائدة فارغة‪.‬‬
‫عن وجود تابوت الفرعون يف العايل‪...‬‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫(ي�أتي متكلم ومتكلمة بكر�سيني‪ ،‬ويتابعان ما‬ ‫(الف�سحة معتمة متاماً‪ ،‬يف البقعة اخلالية �صور‬
‫يجري)‪.‬‬ ‫تلفزيونية متتابعة عن م�شاهد احتفاالت وتظاهرات‬
‫مل نرتدد يف التوجه �صوب التابوت‪ ،‬ال �أنا وال‬ ‫َتظهر م�شاركات احل�شود فيها)‪.‬‬
‫جمموعة من ال�سياح‪ ،‬فيما اجته غرينا �صوب‬ ‫�صوت (يف العتمة) ‪� :‬أهم �أنف�سهم؟‪ ...‬لعلهم �أنف�سهم‪.‬‬
‫الغرف ذات الر�سوم احلائطية‪ .‬وجدتني �أرتقي فوق‬ ‫�صوت �آخر (يف العتمة) ‪ :‬لعلهم غريهم‪ ،‬ولكن‬
‫مو�ضوع لهذه الغاية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫�سلم‬
‫درجات �سلم معدين‪ٍّ ،‬‬ ‫بالطريقة نف�سها‪.‬‬
‫كانت الدع�سات �ضيقة‪ ،‬وال ت�سع الواحدة منها غري‬ ‫�صوت ثالث (يف العتمة) ‪ :‬ما يزعجك يف الأمر؟‬
‫�صاعد واحد‪ ،‬فيما كنا نت�شوف �إىل ر�ؤية الفرعون‬ ‫�صوت رابع (يف العتمة) ‪ :‬ال�شهيد يقود التظاهرة‪.‬‬
‫الذي كان يقع تابوته يف منتهى ال�سلم‪ ،‬على ما كنا‬ ‫�صوت خام�س (يف العتمة) ‪ :‬ال�شهيد بدل عن �ضائع‪...‬‬
‫نخمن‪ .‬طال �صعودنا‪ ،‬كما زادت الدع�سات‪ ،‬على ما‬ ‫�صوت �ساد�س (يف العتمة‪ ،‬مقاطعاً) ‪ ... :‬ال‪ ،‬عن‬
‫قال جاري الذي �أمامي ل�صديقه الذي ي�صعد خلفي‪.‬‬ ‫موجود‪.‬‬
‫�شئت –‬
‫بركبتيي ت�ؤملانني‪ ،‬وال �أقوى – لو ُ‬ ‫َّ‬ ‫و�إذا‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫العودة �إىل اخللف‪ ...‬كفاين �أنني نظرت �إىل خلف‪،‬‬ ‫(متكلمون ومتكلمات �أمام البقعة امل�ضاءة وحدها)‪.‬‬
‫و�إذا بنظرات تزجرين كما لو كنت �أعيق تقدمها‪� ،‬أو‬ ‫متكلم ‪ : 1‬ال يجوز �أن تبقى �شاغرة‪.‬‬
‫�أ�ؤخر و�صولها‪.‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬هي �صفحة بي�ضاء‪...‬‬
‫تنف�ست ال�صعداء‪ ،‬وقد بلغت مع‬ ‫ُ‬ ‫عند و�صويل‪،‬‬ ‫متكلمة ‪( 1‬مقاطعة) ‪ :‬ال‪� ،‬شا�شة عر�ض‪...‬‬
‫الوا�صلني ف�سحة ت�سع لأكرث من ع�رشين �شخ�صاً‪،‬‬ ‫متكلمة ‪( 2‬مقاطعة) ‪ :‬ال‪ ،‬جدار �شعارات‪...‬‬
‫أ�رسعت بعد جاري �إىل التابوت‪� .‬ألقيت نظري على‬ ‫ُ‬ ‫و�‬ ‫متكلم ‪( 3‬مقاطعاً)‪ :‬ال‪ ،‬ف�سحة انتظار‪.‬‬
‫داخل التابوت املفتوح مثل من يرجو ر�ؤية وجه‬ ‫متكلمة ‪( 3‬مقاطعة) ‪ :‬ال‪ ،‬هي ما نفعله بها‪ ،‬ولنا‪.‬‬
‫نفرتيتي نف�سها‪� ،‬أو �أجنيلينا جويل‪ ،‬وجه ًا لوجه‪،‬‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫و�إذا بي �أجد التابوت فارغ ًا �إال من عتمة فراغه‪.‬‬ ‫(متكلمان على كر�سيني متقابلني)‪:‬‬
‫متكلمة ‪ : 1‬فراغ مثل هذا (وهي تدل �إىل البقعة‬ ‫متكلم ‪ : 1‬مل جند ح ًَال بعد؛ و�أ�صابني امللل‪.‬‬
‫الفارغة �أمامهم)؟‬ ‫مل وخيبة‪.‬‬‫متكلم ‪ : 2‬هو �أكرث من ملل‪ :‬أ� ٌ‬
‫متكلمة ‪ : 3‬لعله رمى �إىل �أكرث من ذلك‪ ،‬وهو �أن‬ ‫(متكلم ثالث ي�أتي بكر�سيه ويتو�سطهما) ‪ :‬نزعنا‬
‫ال�سيا�سة هي الفراغ‪...‬‬ ‫ال�صورة‪ ،‬ووجدنا الفراغ املحيط بها‪.‬‬
‫متكلم ‪( 2‬مقاطعاً) ‪ ... :‬البكاء �صامتني يف الزنزانات‪...‬‬ ‫متكلم ‪( 1‬مقاطعاً) ‪ :‬ال‪ ،‬لقد وجدنا الفراغ الذي انبنت‬
‫حتى املوتى ما كان َيحق لنا البكاء عليهم �إال يف‬ ‫عليه‪.‬‬
‫‪250‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫متكلم ‪ : 2‬فعالً‪ .‬لكن �أمل تقر أ� مثلي على ال�شا�شة‬ ‫ال�صمت! ما كان ن�أمل حتى بزيارة مقابرهم‪ ،‬عدا‬
‫الإلكرتونية �أن اجلمل حتتاج �إىل التجول بدورها؟‬ ‫�أنهم قربوا يف مقابر جماعية �أو خفية‪.‬‬
‫متكلم ‪ : 1‬ال‪ ،‬مل �أقر�أ‪ .‬ماذا قر� َأت �أي�ضاً؟‬ ‫الفراغ رمبا‪� ،‬أي من دوننا!‬
‫متكلم ‪ : 2‬قر� ُأت �أن الداخل ال يعرف طرق ًا متعرجة‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أحتدث عن فراغ �آخر‪ ...‬عن التوهم بوجود‬
‫وال معبدة للو�صول �إىل الق�صيدة‪ ...‬لها نوافذ وح�سب‪،‬‬ ‫قوة‪.‬‬
‫قد يحتاج الداخل �إليها �إىل فتحها‪.‬‬ ‫متكلم ‪� : 3‬أهي الهيبة؟‬
‫متكلم ‪ : 1‬هل تعرف؟ �أنت ال تكتفي بالأ�سئلة‪ ،‬كما‬ ‫متكلم ‪ : 2‬هي خوفنا منه‪ ...‬الهيبة هي �سحره البادي‬
‫قلت‪.‬‬
‫َ‬ ‫يف عيوننا‪.‬‬
‫متكلم ‪� : 2‬أحياناً‪.‬‬ ‫متكلم ‪� : 3‬سبق �أن قر� ُأت عن اخلنجر الذي يرهب‬
‫متكلم ‪ : 1‬كيف ذلك؟‬ ‫النا�س‪ ،‬من دون �أن نرى ال مقب�ضه‪ ،‬وال ن�صله‪.‬‬
‫متكلم ‪� : 2‬أنا مثله �أعدو‪ ...‬فالكالم ال ي�صل بل ي�سري؛‬ ‫متكلم ‪� : 2‬أهو ملعان اخلفي؟‬
‫ال يتقدم‪ ،‬بل مييل‪...‬‬ ‫متكلم ‪� : 3‬أهو ملعان ب�سمة عبلة فوق �سيف عنرتة‬
‫متكلم ‪� : 1‬سبق �أن قر� ُأت هذا‪.‬‬ ‫يف العراك؟‬
‫متكلم ‪ : 2‬ها �أنت تعرتف ب�أنك قارىء‪ ،‬ولك ذاكرة‪.‬‬ ‫متكلم ‪( 1‬رافع ًا اليدين �إىل �أعلى يف نوع من التذمر)‬
‫متكلم ‪ : 1‬يحلو يل �أن �أعي�ش يف كتاب‪� :‬أكرث حرية‬ ‫‪� :‬أوه! �أوه! كنت �أود التخفيف عنكم‪ ،‬لي�س �إال‪.‬‬
‫ومتعة وطم�أنينة‪.‬‬ ‫(ين�سحب املتكلمون مع كرا�سيهم‪ ،‬فيما يقف املتكلم‬
‫متكلم ‪ : 2‬لكنها عابرة‪ ...‬ما تفعل �إذ تنق�ضي اللحظة‬ ‫‪ 1‬مت�سائ ًَال بحركاته عما ح�صل له معهم)‪.‬‬
‫هذه؟‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫متكلم ‪� : 1‬أعود �إىل كتاب �آخر‪ ...‬يف انتظار �أن �أم�شي‬ ‫(�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة‪ ،‬فيما يراقبه‬
‫من دون عيون مذعورة من جاري قبل البعيد عني‪.‬‬ ‫متكلمان واقفان على مبعدة منه)‪.‬‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أراه للمرة الثالثة يف �أقل من حلظة‪� .‬أتعرف‬
‫(متكلمون �أمام البقعة امل�ضاءة وحدها)‪.‬‬ ‫من هو؟ �أتعرف ماذا يريد؟‬
‫وجدت حالً‪.‬‬‫ُ‬ ‫متكلمة ‪: 1‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬لعله يتمرن‪...‬‬
‫(املتكلمون الآخرون ينظرون �إليها واجمني)‪.‬‬ ‫متكلم ‪( 1‬ال يجيب)‪.‬‬
‫متكلمة ‪( 1‬متذمرة) ‪ :‬مل �أق ْل بع ُد �شيئاً‪.‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬لعله يهرب من‪ ...‬لعله يتعقب �أحدهم‪...‬‬
‫(املتكلمون الآخرون واجمون)‪.‬‬ ‫متكلم ‪( 1‬ال يجيب)‪.‬‬
‫لندعها بي�ضاء‪ ...‬خالية‪ ...‬مثل �أمل‬ ‫ْ‬ ‫متكلمة ‪: 1‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬لعله يبحث عن ملج�أ‪ ...‬عن طائرة‪ ...‬عن‬
‫مفتوح‪ ...‬مثل �رشفة‪.‬‬ ‫م�صور «بث مبا�رش»‪...‬‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫أنت‬
‫(ينتظر �إجابة ال ت�أتي) ‪ :‬ق ْل يل‪ .‬ماذا جرى؟ � َ‬
‫(الف�سحة م�ضاءة بالكامل‪� .‬أحدهم يجر ولداً حام ًال‬ ‫�س�ألتني عنه! ماذا جرى!؟‬
‫�شنطة مدر�سية على ظهره‪ ،‬و�أخرى ت�سوي حجابها‬ ‫متكلم ‪ : 1‬يكفيني ال�س�ؤال‪.‬‬
‫وتتعجل يف و�ضع �أحمر �شفاهها‪ ،‬وثالث يراق�ص‬ ‫متكلم ‪ : 2‬كيف ذلك؟‬
‫حا�سوبه على �أنغام «تانغو»‪ ،‬ورابع ينتقل مع‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أال ترى �أن الف�سحة متاحة لأكرث من عابر‬
‫نارجيلته وينفث دخانها مبتعة بادية‪.)...‬‬ ‫�سبيل؟‬
‫‪251‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يتظاهر ب�أن له عكازين‪ ،‬فيما يعدو‪ ،‬ويعدو‪ ،‬ويعدو‪...‬‬ ‫�صوت (يف العتمة) ‪ :‬ما �أطلقوا عليه‪« :‬الربيع» بد�أ يف‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫ال�شتاء واقعاً‪.‬‬
‫(عتمة ما خال البقعة‪ ،‬التي َتظهر فيها �شا�شة‬ ‫(يختفون على عجل‪ ،‬يف اجتاهات خمتلفة)‪.‬‬
‫�إلكرتونية‪ ،‬تتواىل فوق �صفحتها امل�ضيئة اجلمل‬ ‫�صوت (يف العتمة) ‪ :‬مرة ثانية‪� ،‬أتكفل وحدي مبا‬
‫التالية)‪:‬‬ ‫يقال‪ ،‬وما ال يقال‪ ،‬مبا يظهر يف ال�شارع‪ ،‬وما ال‬
‫ال ي�سع الق�صيدة ال�سكوت‪.‬‬ ‫يظهر خ�صو�صاً‪...‬‬
‫ال ي�سع الق�صيدة ال�رصاخ‪ ،‬طاملا �أن بكاء ال�صابرة‬ ‫متكلم ‪( 3‬يتعقب ما ال يجده يف الف�سحة امل�ضاءة) ‪:‬‬
‫يبقى �أ�شد بالغة من اخلن�ساء‪.‬‬ ‫لعله ت�سجيل قدمي‪.‬‬
‫�صوت (يف العتمة) ‪� :‬ألهذا ا�ستعانت الق�صيدة‬ ‫�صوت (يف العتمة) ‪ :‬مرة ثانية‪ ،‬ينفرد �صوتي مثل‬
‫بوجوههم وحركاتهم؟‬ ‫نبتة ت�رشئب وحدها من �صقيعها‪ ،‬مع �أنني ل�ست‬
‫(فوق ال�شا�شة) الدمعة تنق�ضي‪ ،‬لكن ندى الألفاظ ال‬ ‫مواطناً‪ ،‬وال متفرجاً‪� .‬أنا �صوت وح�سب‪� ...‬صوت‬
‫يجف‪.‬‬ ‫منفرد‪� .‬صوت �ضاج و�صامت يف الوقت عينه‪.‬‬
‫الق�صيدة – كما املدف�أة امل�شتعلة – تنتظر من يرمي‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫فيها احلطب لكي تبقى منرية‪ ،‬مثل دمعة �سقطت‬ ‫(متكلمان مي�شيان يف اجتاهني خمتلفني)‪.‬‬
‫للتو فوق خد قارئة‪.‬‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أتعرف؟ ما نقول‪ ،‬هو واقع ًا ما ن�ستعيد‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫قوله‪.‬‬
‫(متكلمون ومتكلمات �أمام البقعة اخلالية‪ ،‬املنارة‬ ‫متكلم ‪( 2‬ي�ستمر يف امل�شي)‪.‬‬
‫وحدها)‪:‬‬ ‫نتحاب �أو نتنابذ‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أتعرف؟ حني نتحاور‪:‬‬
‫متكلم ‪ : 1‬ما العمل؟‬ ‫متكلم ‪( 2‬ي�ستمر يف امل�شي)‪.‬‬
‫امل�صور اللتقاط‬
‫ِّ‬ ‫متكلمة ‪ : 1‬ملاذا ال نقف �أمام‬ ‫متكلم ‪� : 1‬أتعرف‪ ،‬القارىء هو الذي ي�صنع الكتاب؟‬
‫�صورة لنا؟‬ ‫�أتعرف‪� ،‬إذ يتهالك الكاتب ينام يف الكتاب؟‬
‫متكلم ‪ : 2‬وماذا نفعل بالإطار؟‬ ‫(عتمة)‪.‬‬
‫ري كل �شيء‪ :‬تغري الإطار؛‬ ‫متكلمة ‪( 2‬من�رصفة) ‪ :‬تغ َ‬ ‫(�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة‪ ،‬فيما يراقبه‬
‫تغريت ال�صورة‪.‬‬ ‫متكلم ومتكلمة واقفان على مبعدة منه)‪.‬‬
‫متكلم ‪( 3‬من�رصفاً) ‪ :‬املهم �أن نرى ب�شكل خمتلف‪.‬‬ ‫متكلمة ‪ : 2‬ر�أيته للتو‪...‬‬
‫كنت عليه‪.‬‬ ‫متكلمة ‪� : 3‬أي ًا كان الأمر‪ ،‬لن �أعود �إىل ما ُ‬ ‫متكلم ‪ :2‬ر�أيتِ غريه‪.‬‬
‫متكلم ‪( 1‬من�رصفاً) ‪ :‬ملاذا �أنتِ متفائلة �إىل هذا احلد؟‬ ‫متكلمة ‪ : 2‬ال‪ ،‬ال‪ .‬هو‪ ،‬هو‪.‬‬
‫متكلمة ‪( 3‬من�رصفة) ‪ :‬ال‪� ،‬أنا م�صممة فقط‪.‬‬ ‫متكلم ‪ : 2‬حتى حني نرى قد ال نعرف ماذا يجري‪.‬‬
‫متكلم ‪( 2‬من�رصفاً) ‪ :‬يجب �أن نخرج من اجلدار‪.‬‬ ‫متكلمة ‪ : 2‬لكنه قال لنا ب�أنه يحتاج �إىل ال�صورة‬
‫متكلمة ‪( 1‬من�رصفة) ‪� :‬أنا ترك ُتها فارغة لغريي‪...‬‬ ‫لكي يعو�ض عما ال تقوله الكلمات‪.‬‬
‫متكلم ‪( 2‬مقاطِ عة‪ ،‬وهي تن�رصف) ‪ ... :‬يف عهدة‬ ‫متكلم ‪� : 2‬أت�صدقني فع ًال ما يقوله لنا؟‬
‫الغائب‪.‬‬ ‫متكلمة ‪( 2‬تن�سحب �إىل العتمة)‪.‬‬
‫(عتمة)‪.‬‬ ‫متكلم ‪( 2‬وهو يلحق بها) ‪� :‬إنه يلعب‪� .‬إنه يلعب‪...‬‬

‫‪252‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫من �أعمال �سعيد احلارثي ‪ُ -‬عمان‬

‫انتهاك‬
‫ب�شرى خلفان‬
‫قا�صة من ُعمان‬

‫ال�شبحية ذاتها‪ ،‬مل يكن الباب يحدث �ضجة وهو‬ ‫ب�رسعة يقفز الأرنب ويختبىء‪...‬‬
‫يغلقه خلفه‪ ،‬ومل تكن الظلمة ت�شي به‪ ،‬يغادرها‬ ‫مغم�ضة العينني‪ ،‬ت�ستمع بحذر �شديد للخطوات‬
‫وك�أنه مل يكن‪ ،‬يغادرها وك�أن �شيئا ما مل يحدث‪.‬‬
‫الباهتة التي تباغت ظلمة غرفتها‪.‬‬
‫بعد رجوعه من �صالة الع�شاء يف امل�سجد املجاور‬
‫تت�ساءل �أحيانا من �أين يدخل‪ ،‬وكيف يفتح الباب‬
‫لبيتهم كان �أبوها يغلق باب احلو�ش ‪ ،‬ثم يتناولون‬
‫دون �أن يحدث الباب �ضجة‪ ،‬كيف حل�ضوره �أن‬
‫الع�شاء وي�رشبون �شاي الزهورات وي�شاهدون‬
‫يكون �شبحيا ومباغتا هكذا يف كل مرة‪.‬‬
‫الأخبار معا‪ .‬ي�س�ألها عن الدرا�سة واملدر�سة‪،‬‬
‫ت�ستعر�ض يومها معه ‪ ،‬تريه دفاترها وعالماتها‬ ‫كانت ت�شحذ �أذنيها يف ظلمة الغرفة‪،‬لكنه كان‬
‫الكاملة‪ ،‬يفرحه تفوقها ومي�سح على ر�أ�سها بحنان‪.‬‬ ‫يباغتها وي�أخذها دائما قبل �أن تفتح عينيها‪.‬‬
‫بعد �شاي الزهورات كان �أبوها يحكم �إغالق باب‬ ‫مت�شبثة بالظلمة ت�ست�سلم له ‪ ،‬وعندما يفرغ من‬
‫البيت الأمامي ويدير املفتاح يف القفل ثالثا‬ ‫تقليبها بني يديه و�شفتيه ين�سحب بطريقته‬
‫‪253‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫الكثيف النعومة‪.‬‬ ‫ويقبلها على وجنتيها قبل �أن تن�سحب �إىل غرفتها‬
‫يف القرية البعيدة‪ ،‬كان هناك �صبي مي�شي بحذر‬ ‫لتنام‪.‬‬
‫يف ظلمة ال�سكة املحفورة بني �أطراف �ضواحي‬ ‫كانت �أمها تزورها قبل �أن تذهب �إىل �رسيرها ‪،‬‬
‫النخيل وبيوت احلارة‪.‬‬ ‫حتكم لفها بالغطاء وتطفىء ال�ضوء �إذا ما ن�سيته‬
‫كان مي�شي مت�أبطا كتبه بحذر �شديد خ�شية التعرث‬ ‫ونامت وهي تقر�أ ‪.‬‬
‫بح�صاة �أو نتوء يف�سد عليه بيا�ض ثوبه الذي ت�رص‬ ‫يف ال�صباح كانت �أمها توقظها للذهاب �إىل‬
‫�أمه على غ�سله بعد كل يوم درا�سي‪.‬‬ ‫املدر�سة‪ ،‬وكانت هي تت�شبث بالعتمة‪ ،‬ت�سحب‬
‫كان يت�أبط كتبه‪ ،‬ويفكر يف ثوبه الأبي�ض ودرجته‬ ‫الغطاء مرة تلو الأخرى‪ ،‬حتى تهددها �أمها‬
‫الكاملة يف �شهادته عندما واجهته تلك العيون‬ ‫با�ستدعاء �أبيها‪ ،‬فتقفز من الفرا�ش ب�رسعة‪ ،‬وت�ستعد‬
‫الكثرية التي نبتت يف ظلمة ظل ال�سكة امليتة‪.‬‬ ‫ب�رسعة ‪ ،‬وحت�رض على طاولة الإفطار يف موعدها‪.‬‬
‫كانت عيون كثرية تلك التي حا�رصته‪ ،‬كانت �أياد‬ ‫على طاولة الإفطار كانوا يجتمعون‪ ،‬يتبادلون‬
‫كثرية تلك التي تقاذفته‪ ،‬كانت �أرجل كثرية تلك‬ ‫كالم ال�صباح الك�سول‪ ،‬ويذهبون كل يف اجتاهه‪.‬‬
‫التي تناوبت على رف�سه‪ ،‬كان هو وحده ملقيا على‬ ‫كانت حتب بيجامتها الزرقاء ذات الأرنب واجلزرة‬
‫تراب ال�سكة املظلمة‪ ،‬معفرا بالرتاب والف�ضيحة‪.‬‬ ‫لكنها تخلت عنها عندما بدء ج�سدها باال�ستدارة‬
‫يف احللم كان الأرنب ي�أتيها‪ ،‬يغريها بجزرته‬ ‫وا�ستبدلتها بناء على ن�صيحة �أمها بجالبية البيت‬
‫الربتقالية وبيا�ض �أ�سنانه‪ ،‬فتتبعه‪.‬‬ ‫الوا�سعة‪.‬‬
‫كان الأرنب ي�أخذها �إىل ال�سكة املظلمة بني �أطراف‬ ‫كانت حتب �أرنبها ال�صغري واجلزرة التي تتدىل من‬
‫ال�ضواحي و�أطراف البيوت‪ ،‬كانت تتل�ص�ص على‬ ‫بني �أ�سنانه الكبرية‪ ،‬وكانت �أحيانا تد�س البيجامة‬
‫الفتى الذي قام من عرثته‪ ،‬مت�سخ الثوب وخيط دم‬ ‫يف ثنايا فرا�شها‪ ،‬وعندما جتدها �أمها تلقي عليها‬
‫رفيع يتبع خطواته املنك�رسة �إىل البيت‪.‬‬ ‫نظرة عتاب �صغرية ثم تبت�سم‪.‬‬
‫كان الأرنب جبانا عندما تزداد العتمة‪ ،‬فيعود بها‬ ‫كانت حتب لون بيجامتها الأزرق ولون �أرنبها‬
‫�رسيعا �إىل البيت ويغلق الأبواب خلفها ب�إحكام‪.‬‬ ‫الأبي�ض ولون اجلزرة الربتقايل‪ ،‬لكنها مل تكن‬
‫يف العتمة يند�س الأرنب داخل جيب جالبيتها وال‬ ‫حتب كثريا ارتطام �أ�صابعها با�ستداراتها املباغتة‬
‫يخرج‪ ،‬يف العتمة يفتح الباب بهدوء �شديد ويند�س‬ ‫حتت اجلالبية الوا�سعة‪ ،‬ومل تكن حتب ملم�س‬
‫�صبي مرتع�ش يف ج�سدها‪.‬‬ ‫�شفتيها املمتلئتني‪ ،‬ومل تكن حتب �شعرها الأ�سود‬

‫‪254‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫الثالثة فجر ًا‬
‫هيفاء بيطار‬
‫كاتبة وطبيبة من �سورية‬

‫االكرتاث‪ ،‬وب�أنه ال يزال متوازن ًا وقوي ًا يف مواجهة‬ ‫مل ت�ستيقظ الع�صافري بعد ! ردد هذه العبارة مراراً‬
‫وطن ُيدمر‪ ،‬و�شعب ُيقتل ‪ ،‬وعقارب �ساعة ت�سحله من‬ ‫لنف�سه وهو ُيح�ضرّ القهوة ‪ ،‬جتاهل غيظه ب�سبب‬
‫الأمل لدرجة �آمن �أن كلمة عقارب ال�ساعة م�شتقة �أو‬ ‫ا�ستيقاظه املبكر جداً ‪ ،‬الثالثة فجراً‪ ...‬يا �إلهي‬
‫هي ذاتها العقارب ال�سامة التي تلدغ وتـُميت‪...‬‬ ‫ماذا �ستفعل بالزمن يا فواز! كيف �ستمرر �ساعات‬
‫حتول كيانه كله ووجوده �إىل كيان معلـّق بكارثة‬ ‫ّ‬ ‫يومك الثقيل ‪ ،‬ليتك ت�ستطيع متريرها كما لو �أنها‬
‫وطن ينزف منذ �سنتني وال �أحد يبايل ‪ ...‬ر�شف‬ ‫حبات م�سبحة تلهو بها ‪ ،‬هكذا كان يخاطب نف�سه‬
‫القهوة �شاعراً �أنه ي�رشبها لغاية وحيدة هي �أن ي�ؤكد‬ ‫م�ستن�سخ ًا من روحه �صديقاً‪.‬‬
‫لنف�سه �أنه حي ‪ ،‬لكنه مع كل ر�شفة كان �إح�سا�سه‬ ‫الثالثة فجراً ‪ ،‬ما الذي يوقظه يف هذه ال�ساعة!؟‬
‫بتعا�سته وي�أ�سه يتعاظم ‪ ،‬وما �أن انتهى من �رشب‬ ‫حتول‬‫وماذا �سيفعل بزمنه ! ماذا يفعل يف زمن ّ‬
‫حتولت �إىل‬
‫فنجانه الأول حتى �أح�س �أن تعا�سته ّ‬ ‫�إىل مقربة جماعية كبرية ‪ ،‬يت�ساقط فيها مئات‬
‫درع ثقيل يلب�سه‪...‬‬ ‫ال�سوريني كل يوم ؟! كان ي�شعر �أن الزمن يفرت�سه‬
‫مع فنجان قهوته الثاين �أخذ يقلب حمطات التلفاز ‪،‬‬ ‫مروع من عقارب ال�ساعة التي ت�سحله‬ ‫‪ ،‬ويح�س �أنه ّ‬
‫حاذر �سماع ن�رشات الأخبار �إذ مل ي�ستعد بعد ل�سماع‬ ‫‪ ،‬فيتخيل نف�سه مربوط ًا �إىل دبابة جتره يف �شوارع‬
‫الن�رشة اليومية لعدد القتلى يف �سوريا ‪ ،‬ومل ي�ستعد‬ ‫و�أزقة مدمرة ‪ ...‬ا�ستوطنت هذه ال�صورة خميلته‬
‫بعد لت�ستقبل عيناه �صور القتلى والدماء تنزف من‬ ‫و�أمعنت يف تعذيبه ‪ ،‬كما لو �أن هناك عدوا خمتبئ ًا‬
‫�أج�سادهم املخردقة بال�شظايا والر�صا�ص‪ .‬ا�ستوقفه‬ ‫يف روحه‪.‬‬
‫برنامج وثائقي عن الليايل البي�ضاء وتفرج مذهو ًال‬ ‫فمنذ بداية الأزمة يف وطنه احلبيب �سوريا بد�أ‬
‫على عظمة مدينة بطر�سبورغ ‪ ،‬لكن ال�شا�شة �رسعان‬ ‫يالحظ �أن ثمة هوة �سحيقة تف�صله عن نف�سه ‪ ،‬ثمة‬
‫ما انق�سمت �إىل ن�صفني ‪ ،‬عني تتابع �سحر تلك‬ ‫هوة تت�سع يوم ًا بعد يوم و�شهراً بعد �شهر بني ما‬
‫املدينة وعني تعر�ض له خمزون ذاكرته من �صور‬ ‫يتحول �إىل �إن�سان غريب ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كانه ‪ ،‬وما ي�صريه ‪� ،‬إنه‬
‫القتل والدمار يف وطنه احلبيب ‪ ،‬ثمة بث متوا�صل‬ ‫�إىل كائن ‪ ،‬قد ال يجوز �أن ي�سمى �إن�سان ًا ‪� ،‬إىل كائن‬
‫يف روحه ال يتوقف �أبداً‪...‬‬ ‫�أهم �صفاته �أنه يخ�شى الزمن وال يطيق الليل وال‬
‫كان الربنامج الوثائقي عن الليايل البي�ضاء �ساحراً‬ ‫النهار‪ ،‬وال ال�رشوق وال الغروب ‪ ،‬لأنه مل يعد من‬
‫و�شيق ًا لدرجة �أنه ابت�سم ‪ ،‬وتذكر �أن هناك حياة ‪،‬‬ ‫فرق بني ليل ونهار ‪ ،‬وبني برد وحر‪ ،‬اندجمت كل‬
‫�أذهله اكت�شافه �أنه يف مكان ما هناك حياة ‪،‬‬ ‫تلك املعاين املت�ضادة وان�صهرت يف كلمة واحدة ‪:‬‬
‫هناك ب�رش �سعداء ي�سافرون يف رحالت �سياحية‬ ‫القتل‪.‬‬
‫وي�ضحكون وي�شرتون هدايا لأحبتهم ‪ ...‬لكنه فج�أة‬ ‫حتنط على الأريكة ذاتها التي يجل�س عليها كل‬
‫جتهم وانقب�ضت مالحمه ومل يعد يتحمل ر�ؤية‬ ‫�صباح‪� ،‬سماها �أريكة ال�ساعة الثالثة فجراً‪ ،‬لأنه‬
‫ه�ؤالء الب�رش ال�سعداء ‪ ،‬وال�سياح الذين يتجولون‬ ‫ومنذ عمر انفجار �سوريا �صار ي�ستيقظ الثالثة فجراً‬
‫مبهورين بعظمة بطر�سبورغ وتعليقاتهم على‬ ‫ويجل�س على الأريكة �إياها‪ ،‬ير�شف قهوته ويعارك‬
‫الليايل البي�ضاء ‪� ،‬أح�س �أن ال�سعداء ثقيلوا الظل‪،‬‬ ‫زمن يفرت�سه ‪ ،‬حماو ًال �أن يح�صن نف�سه بعدم‬
‫‪255‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫حاول �أن يتخيل كيف تكون هيبة الدولة ‪ ،‬وكيف‬ ‫�أح�س �أنه ُمهان ومحُ قـّر بعي�شه الذليل وب�أن كلمة‬
‫مي�سها ؟! لكن خياله املعطوب مل‬ ‫ميكن لإن�سان �أن ّ‬ ‫ذل ال تكفي لو�صف حياته‪...‬‬
‫يفرز �سوى �صورة فتاة عذراء تلب�س ثياب ًا �شديدة‬ ‫مع فنجان قهوته ال�صباحية الثالث كان يقلب‬
‫االحت�شام و�شديدة الإحكام على ج�سدها ‪ ،‬ثياب‬ ‫مقاالت وتعليقات على الفي�س بوك‪ ،‬وثمة �س�ؤال‬
‫�أ�شبه بكفن ‪ ،‬وكل من ينظر �إليها �أو ميد �سبابته‬ ‫يت�شكل ببطء يف عقله ويهم�س ب�أذنه ‪� :‬إىل �أين‬
‫للم�سها يتهم �أنه مي�س هيبتها‪...‬‬ ‫مي�ضي عمرك يا فواز ؟! �أمكنه �أن يح�س ب�صوت‬
‫كان مزاجه قد بلغ حداً من احلزن لدرجة اخلر�س‬ ‫ٍحقيقي ودافىء قادم من عتمة روحه �أو عتمة الليل‬
‫‪� ،‬أخر�سه احلزن ‪ ،‬بل �صار يخ�شى يف الأ�سابيع‬ ‫ي�س�أله ‪� :‬إىل �أين مي�ضي عمرك يا فواز ؟!‬
‫املا�ضية �أن يفقد قدرته على الكالم ‪� ،‬أن ين�سى اللغة‬ ‫ارتفع من�سوب حزنه حتى �صار ير�شح من جلده‬
‫ومفرداتها ‪ ،‬فما قيمة كالم‪ ،‬و�سط لغة الر�صا�ص‬ ‫كالعرق ‪ ،‬و�أخذ يقر�أ‪ :‬احلرية للمعتقل فالن الفالين ‪،‬‬
‫والقتل ‪ ،‬وهل ي�ستطيع �أي كالم �أن يوا�سي �إن�سان‬ ‫كل يوم يقر�أ وي�سمع عن معتقلني ‪ ،‬فالن اعتقل لأنه‬
‫ي�شهد على تدمري البالد والعباد ب�شكل م�ستمر‬ ‫نا�شط على الفي�سبوك ‪ ،‬فالن اعتقل لأنه كتب مقا ًال‬
‫ومتوا�صل ومنذ عامني!‬ ‫ير�ض عنه ه�ؤالء ‪ ،‬ه�ؤالء الذين ال يعرفهم �أحد‬ ‫مل َ‬
‫�أجرب نف�سه �أن يتكلم ‪� ،‬أن يقول �أي �شيء ‪ ،‬مروع ًا‬ ‫لكنهم ميلكون كل ال�صالحيات لالعتقال‪...‬‬
‫من احتمال �أن ي�صاب بالبكم ‪� ،‬أن ين�سى اللغة ‪،‬‬ ‫�أح�س بوجع قا�س مل يعرف طبيعته ‪ ،‬هل هو وجع‬
‫�أن ين�سى �أن اللغة هي التي متيز الإن�سان ‪َ � ،‬أو لي�س‬ ‫ج�سدي �أم نف�سي ‪ ،‬ت�شو�شت عالقته بنف�سه لدرجة‬
‫الإن�سان حيوانا ناطقا‪ ...‬ولو فقد النطق �س ُيختزل‬ ‫ماعاد ب�إمكانه فهم حقيقة م�شاعره ‪ ،‬و�أين يكمن‬
‫�إىل حيوان‪...‬‬ ‫وجعه ‪� ،‬صار ي�شك �أنه �صار �أبله ًا ‪� ،‬إذ �صارت تلتب�س‬
‫تلعثم وبرطم بكلمات مل يفهمها هو ذاته ‪ ،‬لكنه‬ ‫�آالم روحه ب�آالم ج�سده ‪ ،‬فذات يوم وبعد �أن �صعق‬
‫متكن �أخرياً من �صياغة عبارة من الإجابة على‬ ‫من �صور جمزرة �أطفال احلولة ‪ ،‬وجد نف�سه ي�رسع‬
‫�س�ؤال ‪� :‬إىل �أين مي�ضي عمرك يا فواز‪...‬‬ ‫البتالع دواء م�ضاد لل�صداع ‪ ،‬رغم �أنه مل ي�شك �أبداً‬
‫طلع اجلواب من عمق �سحيق معتم يف روحه ‪:‬‬ ‫من �صداع لكنه اعتقد �أن هذا الدواء قد ُي�سكـّن �آالم‬
‫حياتي منتهية ال�صالحية‪...‬‬ ‫روحه‪...‬‬
‫افتنت باجلواب وهن�أ نف�سه على تلك الإجابة التي‬ ‫اعتقال‪ ....‬اعتقال ‪ ،‬هذا ما يوقظه الثالثة فجراً قبل‬
‫جعلت معنوياته ترتفع ‪ ،‬بل تقفز عالي ًا لأنه ت�أكد‬ ‫�أن ت�ستيقظ الع�صافري‪� ،‬أح�س براحة من يكت�شف حل‬
‫�أنه �إن�سان ‪ ،‬وب�أنه رغم حتطم معنوياته وي�أ�سه ال‬ ‫لغز ٍ طاملا � ّأرقه ‪...‬‬
‫يزال قادراً على التفكري واملحاكمة‪...‬‬ ‫هاجمته ذكريات طازجة كعا�صفة وانهمرت �أمامه‬
‫فكر وهو ي�سجل على ورقة بجانبه �أ�سماء املعتقلني‬ ‫كمطر من ر�صا�ص ‪ ،‬فاملطر يف �سوريا هو من‬
‫اجلدد ‪ ،‬عادة غريبة مل يتوقع �أنه �سيدمن عليها منذ‬ ‫مرت وجوه �رسيعة يف ذاكرته ‪ ،‬وجوه‬ ‫ر�صا�ص ‪ّ ،‬‬
‫اندالع الثورة يف �سوريا ‪ ،‬وهي �أن ي�سجل يف دفرت‬ ‫مدموغة بالذل واخلوف والأمل الالحمدود ‪ ،‬وجوه‬
‫�صغري �أ�سماء املعتقلني ‪ ،‬وعددهم‪...‬‬ ‫حتكي ق�ص�صا عن معتقلني ‪ ،‬كان ين�صت لهذه‬
‫مل يكن يدرك معنى تلك العادة ‪ ،‬مل يكن يدرك �أنه‬ ‫الق�ص�ص بعينني مبحلقتني كما لو �أنهما حتدقان‬
‫ينتظر اعتقاله هو‪ ،‬و�أن كل وجوده وكل زمنه �صار‬ ‫بالذعر النقي ال�صايف غري املغ�شو�ش‪ ...‬فالن اعتقل‬
‫جمرد انتظار لتلك اللحظة التي �سيتم اعتقاله‪...‬‬ ‫لأنه و�ضع على موبايله �أغنية يا حيف ل�سميح‬
‫لدرجة �ضاق ذرع ًا باالنتظار ‪ ،‬بل �صار يود لو‬ ‫�شقري‪ ...‬فالن اعتقل لأن ابن عمه التحق باجلي�ش‬
‫ي�رصخ يف ال�شارع وب�صوت عال ٍ‪ :‬ملاذا هذا الت�أخري‬ ‫احلر ‪ ...‬فالن اعتقل لأن �سلوكه مي�س بهيبة الدولة‪...‬‬
‫‪256‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫ياه يا للفعل املُ�سكر لتلك الكلمات ‪ ،‬كيف ميكن‬ ‫يف اعتقايل ‪ ،‬ماذا تنتظرون! ماذا تنتظرون‪ ،‬ال‬
‫للكلمات �أن حتمله على �أجنحة وا�سعة وتعرب به‬ ‫ترهقونني باالنتظار‪ ،‬اعتقلوين و�أريحوين‪...‬‬
‫حدوداً وحواجز‪ ،‬وتنقله �إىل عامل نقي ي�شع بالألوان‬ ‫�أ�صدرت حنجرته ح�رشجات جافة ‪ ،‬دمعت عيناه‬
‫‪ ،‬واللون الأحمر فيه هو لون الأزهار فقط ‪...‬‬ ‫وهو يفكر �أن هذه احل�رشجات هي �صوت �أحالمه‬
‫كم يرتاح حني يغم�ض عينيه ‪ ،‬ي�شعر �أنه يغلق نف�سه‬ ‫املحت�رضة ‪ ،‬و�أنه واع ٍ متام ًا حلقيقة عي�شه الذليل‬
‫عن العامل اخلارجي ‪ ،‬عامل القتل الوح�شي ‪ ،‬والتدمري‬ ‫واملعفر باخلوف واملوت والي�أ�س ‪ ،‬واع ٍ متام ًا �أنه‬ ‫ّ‬
‫الوح�شي ‪ ،‬يغلق نف�سه لريى قلبه ‪ ،‬قلبه الطافح‬ ‫واقع يف قب�ضة «اله�ؤالء» الذين يتحكمون بحياته‪،‬‬
‫باحلب والإميان باحلرية والكرامة‪ ...‬ياه يا فواز‬ ‫وميلكون �صالحية اعتقاله ‪ ،‬كما لو �أنه مربوط‬
‫واهلل يحق لك �أن تفخر بقلبك‪...‬‬ ‫بخيط خفي ب�أيديهم ‪...‬‬
‫�سمع زقزقة ناعمة تلتها زقزقات �أقوى ‪ ،‬لقد‬ ‫وطن يتحول �إىل ُمعتقل كبري‪ ،‬ومواطن يختزل‬ ‫ٌ‬
‫ا�ستيقظت الع�صافري‪...‬‬ ‫وجوده يف انتظار متوتر وملح للحظة اعتقاله‪...‬‬
‫�شعر– دون �أن يفتح عينيه – �أن ثمة نورا �أ�رشق‬ ‫�إنه ال ينتظر �شيئ ًا وال يتوقع م�ستقب ًال ‪ ،‬وال ابت�سامة ‪،‬‬
‫يف اخلارج وقلبه ‪ ،‬رغم العتمة الكثيفة‪...‬‬ ‫ال ينتظر �سوى �أن ُيعتقل‪ ...‬بل �أح�س �أن كل ما ين�شده‬
‫�سخر من م�شاعره وهو ي�س�أل نف�سه ‪ :‬فواز هل �سيتم‬ ‫يف وطن ينزف �أبناءه هو االعتقال‪.‬‬
‫اعتقالك اليوم بعد ن�رش هذه الق�صة ‪.‬‬ ‫تفجر يف روحه‬ ‫هل �أنت جمنون يا فواز ؟ �س�ؤال ّ‬
‫بطريقة مرحة ؟ هل ُيعقل �أن يكون قد ُجن ّ ؟! وهل‬
‫يلوم نف�سه �إذا جن �أو �صار معتوه ًا ؟! من يقدر‬
‫�أن يحافظ على قدراته العقلية ‪ ،‬و�أال ينهار نف�سي ًا‬
‫يف وطن حتول �إىل مقربة ‪ ،‬وبركة دماء ‪ ،‬ومقابر‬
‫جماعية‪ ،‬و�آالف �آالف النازحني ؟! من يقدر �أن‬
‫ي�صادق دبابة وطائرة وبندقية �صارت تناف�س‬
‫رغيف اخلبز‪ ،‬و�صارت ع�صب الال حياة ملاليني‬
‫ال�سوريني‪...‬‬
‫ما احلياة �إال عبء ال فائدة منه ‪ ،‬احلياة يف مكان‬
‫�آخر خارج احلدود ال�سورية ‪ ،‬هنا‪ ،‬هنا على الأرا�ضي‬
‫ال�سورية تعي�ش الال حياة‪...‬‬
‫م�سد وجهه براحتيه وكرر احلركة م�ستدفئ ًا باحلرارة‬ ‫ّ‬
‫التي يولدها اللم�س ‪ ،‬متنى لو �أن يداً حنونة مت�سح‬
‫وجهه وتطبطب على كتفه ‪ ،‬ولو �أن �صوت ًا ب�رشي ًا‬
‫حقيقي ًا يقول له‪ :‬ب�سيطة يا فواز‪� ،‬إن �شاء اهلل حمنة‬
‫وتزول ‪ ،‬وما بعد ال�ضيق �إال الفرج‪.‬‬
‫ال يزال الليل ثقي ًال ‪ ،‬ال تزال العتمة مع�ش�شة يف قلبه‪...‬‬
‫عاد �إىل �أريكة ال�ساعة الثالثة فجراً‪ ،‬ا�سرتخى عليها‬
‫و�أغم�ض عينيه‪ .‬كان يحاول خمل�ص ًا �أن يلملم �شتات‬
‫نف�سه بالت�أمل ال�صامت ‪ ،‬الت�أمل يف معاين كلمات‬
‫من �أعمال خمي�س املحاربي ‪ُ -‬عمان‬ ‫ي�ؤمن بها بكل ذرة من كيانه ‪ ،‬احلرية والكرامة ‪،‬‬
‫‪257‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫�شيطانيات‬
‫ليلى البلو�شي‬
‫قا�صة من ُعمان‬

‫عوملة‬ ‫�شيطان‬
‫ا�ست�أن�س بعر�شه ‪ ،‬خا�صة بعد �أن اطم�أن �إىل تعمق‬ ‫تعودت هي �أن تطرقع �أ�صابعها يف �أثناء ال�صلوات ‪،‬‬
‫جذور ات�صاالته ‪ ،‬ف�أعوانه متمددون يف بقاعات‬ ‫بينما كان هو فخورا جدا بنف�سه وب�إخال�صها له ‪!..‬‬
‫�شتى ‪ ،‬وها هو يف كل مرة يكت�سب فنونا جديدة يف‬
‫التوا�صل معهم ‪..‬‬ ‫منيمة‬
‫كانت تلقي بذوري كل �صباح يف بيوتات احلي ‪،‬‬
‫فتنة‬ ‫وتلتقطها �أخرى فتحر�ص على �سقيي جيدا ‪ ،‬وت�أتي‬
‫حني عقد قرانه عليها ‪� ،‬أجنبا من �صلبهما جيو�شا ؛‬ ‫يل‬
‫ثالثة فتتعهدين بعناية كبرية ‪ ،‬ورابعة ت�ضيف �إ ّ‬
‫يتنا�سلون حتى اليوم ب�أ�شكال وم�سميات عدة ‪..‬‬ ‫ي�شد عودي لأطول حياة ‪ ،‬والبقية الباقية من‬‫ما ّ‬
‫ثالثهما‬ ‫ن�سوة احلي يجنني ن�صيبهن مما ح�صدت ‪!..‬‬
‫هو وهي ‪ ،‬وكان يحر�ص دائما على ت�أكيد ح�ضوره‬
‫بينهما ‪!..‬‬ ‫ب�صاق‬
‫ب�سملة‬ ‫مذ �أخربتها معلمة الدين يف ال�صف الرابع عن‬
‫نواياه ال�سيئة عند �صالة الفجر حتديدا ‪ ،‬حر�صت‬
‫فر برعب‬
‫كلما تناهت �إىل �سمعه يف مكان ما ؛ ّ‬ ‫على تبديده عنها مبنبه من نوع قوي ‪ ..‬ولكن يف‬
‫خمتفيا ‪!..‬‬
‫الأيام التي يخذلها املنبه ذو ال�سماعات الكبرية يف‬
‫لقيط‬ ‫تبديده ‪ ،‬ال تن�س �أن تتقي�أ كل ما يف جوفها حتى ال‬
‫وهمت به ‪ ،‬ونتيجة �سقوطهما ك ّفال به‬ ‫هم بها‬ ‫تبقي له �أثرا ‪ ،‬عندئذ فقط ت�شعر بقليل من الراحة ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ال�شارع ‪!..‬‬ ‫�سقط �سهوا‬
‫فكرة �شيطانية‬ ‫يتوملون حول مائدة الطعام كل يوم ‪ ،‬بينما‬
‫كان لديه �أفكار جاهزة يقدمها للب�رشية عن خبث‬ ‫ي�شاركهم هو بنف�س ال�شهية يف الوجبات الثالث بال‬
‫ت�سمت تلك الأفكار با�سمه اعرتافا‬
‫خاطر ‪ ،‬مع الوقت ّ‬ ‫�إحم وال د�ستور ‪!..‬‬
‫بخبثه ‪!..‬‬
‫رم�ضان‬
‫توبة‬ ‫�ضاق به امللل ‪ ،‬كل الأبواب مقفلة يف وجهه ‪ ،‬لكن‬
‫طوال تلك ال�سنوات كانت تتمر�س الرق�ص والغناء يف‬ ‫حني تبقت �أيام قليلة ‪ ،‬بد�أ يعددها حتى نهاية ال�شهر‬
‫الكباريهات ‪ ،‬وحني غادر قلبها ‪ ،‬غادر معه الرق�ص‬ ‫بهمة عالية معدا مفاج�آت العيد ‪!..‬‬‫ّ‬
‫‪258‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫�شائبة ‪ ،‬ويف اليوم الذي يليه جترع ك�ؤو�سا من‬ ‫والغناء والكباريهات ‪..‬‬
‫ال�رشاب ؛ ولكن �سكرته تلك مل تفلح �سوى يف �إرهاق‬
‫عقله ‪ ،‬عندئذ ا�ست�شاط غ�ضبا ‪ ،‬ومل ير نف�سه �سوى‬
‫�شيطان �أخر�س‬
‫يهم بقراءة كلمات �سمعها مرة من �ساحر كبري ‪:‬‬ ‫ال�صمت املطبق من حواليه كان ي�ضاعف من �شعوره‬
‫«زعلق ‪ ..‬زحقل ‪� ..‬أحقل ‪ .. »...‬حلظتئذ تداعى �أمامه‬ ‫بالفخر حيال نف�سه ‪ ،‬وها هو يف كل مرة ي�سرتخي‬
‫على ل�سان جديد ‪!..‬‬
‫�شيطان عمالق ‪ ،‬وهو يقول له ب�صورة �آلية ‪�« :‬شبيك‬
‫لبيك �شيطانك بني يديك ‪.. »...‬‬ ‫مرائي‬
‫�سرتبيتيز‬ ‫كان من عادته �أن يوزع احل�سنات بيده اليمنى‬
‫الظاهرة �أمام �أكرب ح�شد من الأعيان ‪ ،‬وبعد �أن‬
‫ال تدري ماذا يحدث لها ‪ ..‬؟! غري �أنها يف كل ليلة‬ ‫يطمئن �إىل ر�ؤيتهم ؛ يعود ال�سرتدادها بيده الي�رسى‬
‫تقطع طريقها �إىل درب ملتو‪ ،‬هناك حيث جو متلبد‬ ‫ولكن بخفية ‪!..‬‬
‫باحلرارة ‪ ،‬تن�سى ج�سدها يف رق�صة مثقلة بالثياب‬
‫‪ ،‬لتنتهي كما ولدتها �أمها ‪ ..‬بينما روحها يتفرج مع‬ ‫هاروت وماروت‬
‫احلا�رضين معقود الده�شة ‪!..‬‬ ‫�رسعان ما �أعلن والءه لهما بعد �أن عرف الطريق‬
‫�إليهما ‪ ،‬فعرفا بدورهما جيدا كيف ي�ضاعفان من‬
‫�شيطان �صغري‬ ‫حجم والئه لهما ‪ ،‬فو�ضعوا الدنيا حتت يديه ‪ ،‬ف�أكل‬
‫يف يومه الأول حينما فتح عينيه على الدنيا �أطلق‬ ‫‪ ،‬وتهندم ‪ ،‬وغدت ثروته تت�ضاعف يوما بعد يوم ؛‬
‫�ضحكة مهولة زلزلت �أر�ض امل�شفى �إىل ن�صفني ‪،‬‬ ‫ولكن حني �ألقي القب�ض عليهما ‪� ،‬ضاعت الدنيا من‬
‫ويف يومه الثاين حني و�ضعت �أمه جزءا من ج�سدها‬ ‫يديه وعاد �إىل حيث كان �شحاذا ‪! ..‬‬
‫يف فمه مل يتوان عن قلعه بهمجية دامية ‪ ،‬ويف يومه‬ ‫باب ال�شيطان‬
‫الثالث بال على وجه والده حتى عميت �إحدى عينيه‬
‫مر من باب �أو�صد‬ ‫�ضاقت الدنيا يف عينيه ‪ ،‬كل ما ّ‬
‫‪ ،‬ويف يومه الرابع حمله �أخوه الكبري على كتفه‬ ‫يف وجهه ‪ ،‬ومل ميلك �سوى �أن يعرج �إىل طريق �آخر ‪،‬‬
‫فك�رس عظمه ‪ ،‬ويف اليوم اخلام�س عزم �أفراد عائلته‬ ‫فر�أى بابا مفتوحا �أمامه على م�رصاعيه ‪..‬‬
‫قذفه يف البحر بعد ن�صيحة �أحد م�شايخ الدين ‪ ،‬ويف‬
‫اليوم الذي يليه اندفعت موجات هائلة من البحر‬ ‫�شيطان ال�شعر‬
‫ف�أغرقت املدينة بكل ما فيها ‪!..‬‬ ‫ظل لأيام وهو يحاول جاهدا �أن يجر الفكرة من‬
‫دماغه جرا ولكنها ال تلني ‪ ..‬راح يف اليوم الأول من‬
‫احت�ضار‬ ‫هذه املجاهدة ي�شغل مو�سيقى هادئة ؛ علّه يغريها‬
‫احت�رض حبها يف قلبه ‪ ،‬حني مات �شيطانها فيه ‪! ..‬‬ ‫باملجيء ‪ ،‬ولكن بقيت ورقته بي�ضاء ال ت�شوبها‬

‫‪259‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫من �أعمال مازن العربي ‪ُ -‬عمان‬

‫ِب ْر َك ُة ماء‬
‫م ‪.‬ج حمادي‬
‫كاتب وت�شكيلي من العراق يقيم يف بلجيكا‬

‫أي�ضا معها‪ .‬حني نع�شق ما‬ ‫رجعت‪ .‬حريتي � ً‬‫ُ‬ ‫لكن ماذا؟‬ ‫هكذا‪..‬‬
‫الذي يحدث؟ يتغري اجل�سد‪ ..‬ب�رس من الأ�رسار العليا‪،‬‬ ‫م�ساحات �شا�سعةً‪ :‬رمل وحجارة‬
‫ٍ‬ ‫بعد �أن جتاوزنا‬
‫هابط ًا من عوامل �أخرى‪� ..‬آه‪� ..‬أهو هذا؟‪ ..‬لتكن الأ�شياء‬ ‫م�شتعلة يف �شعاع ال�شم�س الذي ال حتجزه �أي غيمة‪.‬‬
‫أخذت‬
‫رجعت‪ُ � ،‬‬
‫ُ‬ ‫كما هي‪ ..‬لتكن الأ�شياء كما هي‪..‬‬ ‫و�صلنا مناطق اجلبال ال�صفر‪ ،‬اخلاكية الباهتة‪،‬‬
‫�أمت َّع ُن الطريق‪� ،‬أفح�صه ‪ ،‬و�أرقب مهارة �سائقنا الذي‬ ‫واحلمراء امل�شتعلة ب�أوك�سيد احلديد‪.‬‬
‫لقب ناله بجدارة‪.‬‬‫لقبناه باجلبلي؛ ٌ‬ ‫�سائقنا يبت�سم‪ ،‬هكذا‪ ،‬ينتبه �إىل حُفَرِ الطريق‪ ،‬يبطئ‬
‫ي�ستمر يف‬
‫ُّ‬ ‫«يف يوم يف �شهر يف �سنة» �صوت املغني‪..‬‬ ‫و ُي�رسع‪ ،‬بني حجارة منت�رشة‪ ،‬رمبا من نيزك قد‬
‫�أنينه‪:‬‬ ‫انفجر قبل �ساعات قليلة؛ فك�أن املكان قد ا�شتوى‬
‫اجلراح‬
‫ْ‬ ‫«تهدا‬ ‫يف مِ قالة عمالقة‪ .‬الغبار خلفنا‪ ،‬عا�صفة من ال�صفرة‬
‫وينام جرحي �أنا‬
‫ْ‬ ‫امل�شعة ترق�ص فيها ذرات الرتاب والرمل‪ ،‬ومعادن‬
‫يوم يف �شهر يف �سنة»‪.‬‬ ‫يف ْ‬ ‫�أخرى رمبا من كواكب �أخرى‪ .‬مع ذلك؛ فالأر�ض‬
‫على الطريق العام مع �صوت املغني‪ُ ،‬منكئا للجراح‪،‬‬ ‫بركانية منذ ماليني ال�سنني‪.‬‬
‫يل اجلبلي وهو يزيد قوة ال�صوت‪« :‬حتب هذا‬ ‫نظر �إ َّ‬ ‫كنت يف نيويورك‬‫عمتي‪« :‬حني ُ‬ ‫يوما قال يل ابن َّ‬ ‫ً‬
‫حتا عينيه على‬ ‫حمادي؟» �س�ألني‪ ،‬فا ً‬ ‫املغني‪� ..‬س ِّيد َّ‬ ‫أح�س�ست وج ًع ًا يف عيني اليمنى؛ فذهبت �إىل الطبيب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫هام�سا �إىل نف�سي‪ :‬هذا الفتى الطيب!‪..‬‬
‫ً‬ ‫�سعتهما‪ .‬نظرت‪..‬‬ ‫بعد فح�ص بامليكرو�سكوب وجد فيها ذرة من ذهب؛‬
‫«م ْن ال يحب الغناء العاطفي؟»؛ �س�ؤايل‬ ‫ثم �أجبت‪َ :‬‬ ‫رمبا هنا �أي�ضاً‪ ،‬يف هذه الأر�ض الربكانية‪ ،‬تتطاير‬
‫دي مع ابت�سامة‪« .‬كلنا نحب الغناء العاطفي» ع َّقب‬ ‫ِج ٌّ‬ ‫�أمامنا يف �صفرتها ذرات ثمينة‪.‬‬
‫‪260‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫يقود اجلموع‪ ،‬ماع ًزا جبل ًّيا يعرف عالقته بال�صخور‪،‬‬ ‫مبت�سما‪ ،‬ثم نظر �إىل الطريق املُ�سفلت قبل �أن ينحرف‬ ‫ً‬
‫يقفز ب�سهولة كافية‪ ،‬مثرية‪.‬‬ ‫�إىل الطريق الرتابي الذي‪ ،‬ب�شكل مفاجئ ومزعج‪،‬‬
‫انعك�ست الأ�شعة من جانبي الوادي و�صخوره‪� ،‬أكرثها‬ ‫يبد�أ مبطب‪� .‬أدار وجهه فج�أة‪ .‬رفع يديه عن املقود‪،‬‬
‫مغطً ى بالكِل�س‪ ..‬هذه ال�صخور ال�شاخمة‪ .‬ك�أننا نطفو‬ ‫وبده�شة‪« :‬عجيب ملاذا و�ضعوا مط ًّبا كهذا قبل‬
‫خف وزنه‪ ،‬و�أمام بركة ماء‪،‬‬ ‫يف ال�ضوء‪ .‬ج�سدي َّ‬ ‫الدخول �إىل ال�صحراء؟» ثم �أكمل‪« :‬ها‪� ..‬أنه ال يقلق‬
‫ظهرت فج�أة حتت ال�صخور‪ ،‬توقفنا‪ .‬الحظت �أ�سماكً ا‬ ‫�سفينة ال�صحراء‪ ..‬اجلمل»‪� .‬ضحك‪� .‬شاركناه دعابته‪.‬‬
‫�صغرية تعوم؛ �أ�سماك ها هنا‪ ،‬هكذا!‬ ‫بعدها جتاوز االرتفاع‪ ،‬غري املعقول‪ ،‬بهدوء‪.‬‬
‫�سميها‬
‫قال �صديقي خمي�س قلم‪« :‬هذه الأ�سماك ُن ِّ‬ ‫� َّإن اختيار طريق ال�صحراء‪ ،‬الذي مل يكُ غريه‪ ،‬ع�س ٌ‬
‫ري‬
‫«ال�ص ّد» تظهر وقت ال�شتاء والأمطار‪ ،‬ومتوت باملئات‬ ‫َّ‬ ‫ماهرا يف دورانه‬
‫ً‬ ‫على �سيارتنا ال�صغرية؛ فكان �أحمد‬
‫وقت ال�صيف‪ ،‬حتفظ بيو�ضها يف الأعايل‪ ،‬قرب ينبوع‬ ‫حول �أحجار الطريق؛ اجتيازه مغامرة كاملة‪ ،‬مع‬
‫املاء لتعود من جديد وقت ال�شتاء والأمطار»‪.‬‬ ‫ال�شم�س‪ ..‬التي جعلت كل الكون حولنا‪ ،‬حتى الفراغ‬
‫خ�ضم ال�ضوء‪ ،‬والكل�س يحيط بنا من كل‬ ‫ِّ‬ ‫عاينته يف‬ ‫نارا‪ ،‬و�أنا م�شتعل‪� ،‬صدري‪ ،‬ر�أ�سي‪ ،‬وكل‬ ‫ي�شتعل ً‬
‫مكان‪ .‬ثم نظرت �إىل الربكة‪ ..‬حترك يف داخلي �شعور‬ ‫�أع�ضائي يف الداخل‪.‬‬
‫جديد‪� ،‬شعور البحث عن معجزة‪� ..‬أريد �أن تعي�ش هذه‬ ‫«يف يوم يف �شهر يف �سنة»‪ ..‬مرة �أخرى ال�صوت‬
‫الأ�سماك‪� ..‬أريد �أن �أحت َّدى‪ ..‬ملاذا تفنى حياة رقيقة؟‪..‬‬ ‫احلزين‪.‬‬
‫من املمكن �أن تطول‪� ،‬أن تغتنم �شي ًئا من الوقت‪..‬‬ ‫«تهد أ� اجلراح‬
‫فج�أة �أح�س�ست بحركة خلفي‪ ..‬كانت هي؛ �ضوء �سابح‬ ‫وينام جرحي‬
‫يل من بعيد‪ ..‬تقرتب‬ ‫يف �ضوء‪ ..‬رقيقة حنون‪ ..‬ت�شري �إ َّ‬ ‫عمري �أنا»‬
‫بخفة‪ ..‬ثم �أخذنا نت�أمل احلياة الكائنة �أمامنا‪ ،‬نراقب‬ ‫يف يوم‪ ..‬ملاذا نبحث عن هذا الإك�سري؟ ما هو‪ ..‬ي�سقطنا‬
‫هدوء حتركها ما بني منعطفات ال�صخور التي تر�سم‬ ‫ري �أن‬
‫ري �أن نقاوم‪ ..‬ع�س ٌ‬ ‫يف هوة عميقة‪ ..‬نغرق‪ ..‬ع�س ٌ‬
‫أم�سكت‬
‫ْ‬ ‫كل عاملها‪ ..‬عاملها الذي �سيتال�شى ويتبدد‪� ..‬‬ ‫نخرج بال جراح ترهق الروح‪ ..‬احلب عامل كائنات‬
‫يدي‪�« ..‬إنها تكت�شف عاملها الزائل هذه الأ�سماك‬ ‫علم‬
‫ما�ض‪ ،‬بال حا�رض‪ ،‬الزمان يتوقف �أمامه‪َ ..‬م ٌ‬ ‫بال ٍ‬
‫ال�صغرية»‪� .‬شدت على يدي‪ .‬نظرت �إىل عينيها‪ :‬هناك‬ ‫وا�ضح م�ش ٌّع‪ ..‬هو نف�سه َم ْع َل ُم احلب‪ .‬و�صلنا‬
‫ٌ‬ ‫واحد‪..‬‬
‫وجدت انعكا�سي‪ ..‬وقد ترقرق الدمع‪ ..‬فهفوت �أقبل‬ ‫اجلبال‪� ..‬سطوعها يحجب و�ضوح الر�ؤية‪ .‬ثم تخلينا‬
‫عيونها‪� ..‬أ�ضمها‪ ..‬كالنا ي�صبح �ضو ًءا‪ ..‬ها هو كل‬ ‫عن ال�سيارة فوق ح�صى م�سو ّد بعد �أن اقرتب اجلبلي‬
‫�شيء �أمامها‪� ..‬أ�سماك رمادية خمتلفة الأحجام ت�سبح‬ ‫�أحمد احلامتي من حافة وادٍ عميق‪.‬‬
‫عرب الربكة ال�ضحلة تكت�شف بقايا خفايا الزوايا حتت‬ ‫«ماذا تريد؟‪� ..‬أن تهبط �إىل الوادي؟»‪�« .‬أجاب ب�رسعة‪:‬‬
‫ال�صخور‪ ..‬رمبا مرت على كل �سنتيمرت مئات املرات‪..‬‬ ‫ال‪ .‬ال‪ .‬نتقرب �أكرث»‪ .‬على بعد �أمتار من ال�سيارة �أنهيت‬
‫�آالف املرات وها هي مت�ضي‪ ..‬تتحرك بهدوء‪ ..‬ت�شارك‬ ‫�رشب املاء من القنينة البال�ستيكية‪ ،‬فو�ضعتها على‬
‫موقفنا يف ال�ضوء‪ ..‬وج�سد احلبيبة يقرتب يزخ احلياة‬ ‫�أحد الأحجار لأخذها عقب انتهاء مغامرة البحث عن‬
‫أغم�ضت‬
‫ْ‬ ‫يف جوانحي‪ ..‬ف�أرجتف‪� ..‬إنها رغبة احلياة‪� ..‬‬ ‫ينبوع ماء ما بني اجلبال‪ .‬نظرت �إىل اخللف‪� :‬إنها‬
‫عيني‪ .‬ارتفعنا يف الهواء‪ ..‬فج�أة‬ ‫ّ‬ ‫عينيها‪� .‬أغم�ضت‬ ‫باقية يف مو�ضعها‪ ..‬الطبيعة مثرية للوح�شية يف كل‬
‫�سمعت �صو ًتا‪�« :‬أيها الفنان �أيها الفنان‪� ..‬أيها الفنان»‪.‬‬ ‫هذا احلر ال�شديد‪ .‬الحظت ذلك والقنينة البال�ستيكية‬
‫تنبهت؛ كان خمي�س يحاول �أن ي�أخذين بعي ًدا من‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫واقفة يف مكانها‪� ،‬شفافة زرقاء‪ .‬واحلجارة‪ ،‬املتفرقة‪،‬‬
‫«�إنها �ستموت يا حمادي‪ ..‬هذا هو قانون الطبيعة‬ ‫وك�أنها ُق َّد ْت ب�إزميل‪ :‬رمادية معتمة‪ ،‬تعك�س ال�ضياء‪.‬‬
‫من مئات ال�سنني يف هذه املنطقة الوعرة القا�سية‪..‬‬ ‫ونحن ننزل �إىل عمق الوادي كان �صديقنا اجلبلي‬
‫‪261‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‪ ..‬ن�صو�ص‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬
‫‪s‬‬

‫املحتم‪.‬‬ ‫تلفت‪ .‬حبي تال�شى يف‬ ‫قانون الطبيعة»‪ .‬نظرت �إليه‪ُّ .‬‬
‫بعد قليل من الوقت ارتدت الفتاة مالب�سها؛ تبدو‬ ‫تركت داخل قلبي عا�صفة ظهورها‪ ..‬تذكرين‬ ‫ْ‬ ‫الهواء‪..‬‬
‫مغربية‪� .‬أعدت الفكرة و�أنا �أالحظ خجلها من املفاج�أة‬ ‫بنف�سي‪ ..‬حياتي التي �أريد‪ ..‬و�أمتنى لكائنات �أجيء‬
‫يف هذه ال�صحراء ال�شا�سعة‪ ،‬والفتى ينتظر‪ ..‬ينظر‬ ‫رس حياتها‪ ..‬ولغز تكرر وجودها‬ ‫�إىل قربها‪� ..‬أرى � َّ‬
‫تب�سم‪� ،‬شعر‬ ‫وموتها‪� ..‬أرف�ض‪� ..‬أريدها �أن تعي�ش �أطول‪.‬‬
‫�إىل �شكلي الغريب‪ .‬جمة كثة و�ضفائر‪َّ .‬‬
‫بنظرتي‪ ..‬نظرة العا�شق‪ ..‬ال عداء هناك �سوى التهنئة‪،‬‬ ‫يل �صديقي بتمعن‪� ،‬أح�س ب�أين بعيد‪ ،‬م�رشوعي‪...‬‬ ‫نظر إ� َّ‬
‫لكن كيف يل �أنا �أن �أجلبها من الهواء؟ �أو �أقول لها �أي‬ ‫�رشحت له من بعد ذلك‪ :‬احلياة احللم‪� ..‬أركاديا‬
‫�شيء يف التلفون الذي ال ترد عليه ب�سبب االن�شغال‪،‬‬ ‫الالنهاية‪ ..‬والع�شاق مي�شون بت�ؤدة على �شاطئ البحر‪..‬‬
‫ر�ؤو�سهم مزخرفة ب�ألوان الورد‪ ..‬ال�صارخة‪ .‬لن �أكف‬
‫حياتها‪ ..‬و�أنا مهمتي املركزة‪ :‬العذاب‪ .‬غادر االثنان‪،‬‬
‫البدوي الذي يف داخلي قد فهمته‪ ..‬وجهته‬ ‫ُّ‬ ‫عن احلب‪..‬‬
‫و�أنا �أراقبهما من خالل ال�ضوء الباهر‪ :‬عا�شقان‪.‬‬
‫همه اللَّوحة‪ ..‬قطعة مو�سيقى‪..‬‬ ‫�إىل طريق �ضد الفناء‪ُّ ،‬‬
‫تب�سما‪.‬‬
‫حني غادرا يف �سيارة «الرنغ روڤر» نظرا �إيلَّ‪َّ ،‬‬ ‫النظرة‪ ..‬نظرة احلبيبة التي ال ُيحتمل فراقها‪.‬‬
‫مل �أ�ستطع ت�سلق ال�صخور العالية‪ ،‬من �أجل ر�ؤية‬ ‫�س�ألته‪« :‬وماذا بعد؟»‪� .‬أجابني بتمعن �شديد‪« :‬احلياة‬
‫�صوره بكامرية التلفون‪ ،‬ر�أيته‪ ،‬ثم‬ ‫النبع؛ خمي�س َّ‬ ‫ت�ستمر»‪.‬‬
‫اجلبلي يهبط ب�رسعة ك�أنه ماعز‪ -‬لقبه بحق‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ر�أيت‬ ‫كدت �أبكي‪.‬‬
‫يف اليوم الثاين طلبت منهما‪« :‬هل من املمكن �أن‬ ‫وحني حتركنا باجتاه النبع �سمعت �أ�صوا ًتا؛ هناك‬
‫تعمال �شي ًئا جمي ًال من �أجلي»؟ «�أه ًال و�سهالً‪ ..‬تف�ضل»‬ ‫�أنثى‪ ،‬يف هذا اجلو املحرتق حتتمي بظالل ال�صخور‬
‫�أجاب ال�صديقان بابت�سامة وا�ضحة وترحيب‪ .‬قلت‪:‬‬ ‫وماء النبع‪ .‬حني و�صلنا كانت هناك بركة ماء عميقة‬
‫«�أريد �أن حتمال �سطلني‪ ..‬كل واحد منكما ي�ضع خم�سة‬ ‫بع�ض ال�شيء‪ ..‬وعلى �ضفافها ال�ضيقة التي حتف‬
‫منها‪ ..‬مملوءة باملاء‪ ..‬من الربكة الكبرية حيث كان‬ ‫بها ال�صخور العالية ج ًّدا‪� :‬شاب و�شابة عمال �شواء‪.‬‬
‫ي�سبح العا�شقان‪ ..‬من �أجل �أن تعي�ش الأ�سماك»‪.‬‬ ‫الحظت ُع َّد َة ال�شواء‪ :‬ف�ضية المعة من ال�سيليفون‪.‬‬
‫متعن خمي�س‪�« :‬آه‪ ..‬تريد �أن ُتطيل حياتها ما بني‬ ‫فكرت‪ ،‬ثم الحظت‪� :‬أنهما‬ ‫ُ‬ ‫هذه البالد تجُ ِّهز كل �شيء‪،‬‬
‫�شهورا �أخرى»‪.‬‬ ‫ال�صخور‬ ‫يلب�سان مالب�س ال�سباحة الأوروبية‪ .‬طب ًعا نحن يف‬
‫ً‬
‫فانربى اجلبلي �أحمد‪ ،‬العارف بقوانني اجلبال‪« :‬يا‬ ‫ال�رشق‪ ،‬قانون املحافظة ميلي �رشوطه الداخلية‪.‬‬
‫�أيها الفنان العزيز من املمكن يف هذه الطبيعة‪..‬‬ ‫كانت الفتاة �سمراء‪� ،‬رشقية املالمح كلية‪ ،‬ممتلئة‬
‫بهدوء‪ ،‬ناهدة ال�صدر‪ ،‬حني ر�أتنا ارتبكت‪� ،‬أما الفتى‬
‫حني متوت هذه الأ�سماك‪ ،‬وهذا ما �سيحدث‪ ..‬يف‬
‫ف�أوروبي‪ ،‬طويل‪� ،‬أ�شقر حممر ال�شعر‪ ،‬يبدو رو�س ًّيا‪،‬‬
‫ال�شتاء القادم �سوف جتيء �إىل احلياة مرة �أخرى»‪.‬‬
‫ينظر حذرا‪ .‬تعجبت‪ :‬هما قرينان يل واحلبيبة‪� ،‬أنا ذو‬
‫علي �إدراك ذلك‪..‬‬
‫علي �إدراك ذلك‪َّ ..‬‬ ‫ت�أملتهما‪َّ ..‬‬ ‫�شعر �أ�سود‪� ،‬رشقي‪ ،‬وم�ؤججة نريان الليل وال�صباح‬
‫تلفت حويل‪..‬‬‫ُّ‬ ‫�أوروبية‪� ،‬شعرها م�شتعل بحمرة الغروب‪ .‬الب�رش‬
‫�أح�س�ست الدمع يرتقرق‪ ..‬بحزن‪� ..‬أح�س�ست �شفتيها‪..‬‬ ‫يتالقون‪ ..‬معها �أفقد كل �صفاتي الأر�ضية حني‬
‫�شفتي اجلَّافتني‪� ..‬أتنهد و�أحمل مذاق‬ ‫َّ‬ ‫مت�س‬‫أي�ضا‪ُّ ..‬‬‫� ً‬ ‫يل بتلك النظرة‪ :‬حنان ورقة‪� .‬صعد‬ ‫تقرتب �أو تنظر �إ َّ‬
‫لُعابها كل بقية امل�ساء‪ ،‬والليل‪� .‬آه الغناء‪:‬‬ ‫الأخوان �إىل �أعلى ال�صخور لر�ؤية النبع الذي يخرج‪،‬‬
‫«يف يوم يف �شهر يف �سنة‪ ..‬تهد�أ اجلراح‪ ..‬وينام‬ ‫كما قال خمي�س من بني �صخور �سوداء‪ ،‬لكنه ين�ساب‬
‫جرحي عمري �أنا‬ ‫هابطً ا �إىل اجتاهات خمتلفة‪ ،‬دون �أن ت�صل مياهه‬
‫يف يوم يف �شهر يف �سنة»‪.‬‬ ‫�إىل الربكة ال�ضحلة‪ ،‬حيث �أ�سماكي التي تنتظر املوت‬
‫‪262‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫هذيان‬
‫ح�سن علي البطران‬
‫قا�ص من ال�سعودية‬

‫�صحا من نومه باكراً ‪ ..‬ابت�سام ٌة متلأ وجهه ‪!.‬‬ ‫نهاية نب�ض‬


‫هذيان‬ ‫نب�ضات‬
‫ِ‬ ‫�شف عن نيتِه ‪ ..‬ازدا َد معدلِ‬‫كَ َ‬
‫قلبها ‪..‬‬
‫�أ�رشقت ال�شم�س ‪ ..‬تقاطر الندى ‪.‬‬ ‫�أراد �أن يطمئنها ‪ ..‬فَ�شلَ يف خطتِه ‪..‬‬
‫غنت الع�صافري ‪..‬‬ ‫دثر حتت نيةٍ جديدة ‪.‬‬
‫�صحا من نومه يهذي ‪� :‬أنا �أحبها ‪..‬‬ ‫َت َ‬
‫بالغ يف هذيانه ‪ ..‬انتف�ض ال�صبح بجمال هذيانه ‪!!..‬‬
‫ف�ضائية‬
‫انتهى من ع�شائه باكرا ‪.‬‬
‫اغت�سل ‪ ..‬واحت�سى قهوته ‪ ..‬قر�أ �صحفه وغادر منزله‬ ‫اتك�أ ي�شاهد فيلمه املف�ضل ‪..‬‬
‫�إىل مكتبه ‪..‬‬ ‫�أ�شارت �إليه ‪،‬‬
‫�أر�ض خاوية‬ ‫تظاهر �أنه ال يراها ‪!.‬‬
‫�أرخت طراوة ج�سدها فوق �رسيرها ‪ ..‬حينما انتهى‬
‫�أ�صوات تدغدغ خاليا ج�سمه ‪ ..‬يربت على كتف‬ ‫الفيلم جاءها فاغرا فاه ‪ ..‬تظاهرت بالنوم ‪.‬‬
‫زوجته مبتهج ًا ‪..‬‬ ‫حلظات ‪..‬‬
‫ت�س�أله‪ :‬ما هذه الأ�صوات ال�صادرة من منزل جارنا‪..‬؟‬ ‫واخرتقت وم�ضات الربق النافذة وت�ساقط املطر‬
‫ــ يحتفل مبرور عام على هجرانه علبة ال�سجائر ‪..‬‬ ‫على هيئة قطع ثلجية ‪.‬‬
‫تنتهي احلفلة وال�شم�س تر�سل خيوطها ‪..‬‬
‫�أر�ض منزله مليئة ببقايا �سجائر املدعوين ‪!!.‬‬ ‫وثب عال‬
‫�ألوان‬ ‫حتكي �أ�رسارها لأبنتها ال�صغرية ‪.‬‬
‫ــ البنت ‪ :‬مل حتك يل ما هي لذة قبلة �صاحب ال�شعر‬
‫�شا�شة تلفازه ملونة ‪ ..‬تبخرت �ألوانها فج أ� ًة ‪!.‬‬ ‫الطويل لك ‪..‬؟!‬
‫�أدار عنقه يبحث عنها ‪ ،‬فر�أى �ألوان ًا ت�شع من معطفها‬
‫الذي �أهداه لها قبل �سفره الأخري ‪..‬‬ ‫هروب بطعم املاء‬
‫ا�ستغنى عن التلفاز ‪..‬‬ ‫�سقطت خمدته من حتت‬
‫�أحت�ضنها واكتفى ب�سمع هم�سها والنظر يف عيونها ‪.‬‬ ‫ر�أ�سه ‪..‬‬
‫كفر عن ذنبه ب�أن �أهدى التلفاز للجريان ‪..‬‬ ‫نه�ض لأخذها ‪� ..‬سقط هو الآخر ‪ ..‬تكا�سل ‪،‬‬
‫فنام بجانب ال�رسير ‪..‬‬
‫‪263‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات ور�ؤى‬

‫من �أعمال يو�سف الناعبي ‪ُ -‬عمان‬

‫‪264‬‬
‫«�ألبوم اخل�سارة» لعبا�س بي�ضون‬
‫امل�شهدي واملتخيل يف لعبة احلكي‬
‫خالد البقايل القا�سمي‬
‫كاتب وناقد من املغرب‬

‫ك�أنه جمنون‪ ،‬ويوظف املبدع هذه املعطيات �ضمن‬ ‫يعترب مفهوم اخل�سارة مرادفا منا�سبا ملفهوم الربح‪،‬‬
‫متواليات �رسدية ق�ص�صية ق�صرية‪ ،‬تامة‪ ،‬ومعربة‪ ،‬عن‬ ‫وهما من املفاهيم ال�شائعة وكثرية اال�ستعمال �ضمن‬
‫طريق ا�ستعمال لغة واقعية وظيفية مفهومة تدل على‬ ‫الثقافة العربية ال�سائدة‪ ،‬حيث غالبا ما يقي�س العربي‬
‫املعنى بدون تعب �أو م�شقة مع االقت�صاد يف الكلمات‬ ‫عندنا كل �أمر يقدم عليه مبنطق الربح واخل�سارة‪،‬‬
‫امل�شكلة للجمل وجتنب التكرار‪.‬‬ ‫وذلك يف مقابل الإقدام على الفعل من باب املغامرة‬
‫يلج أ� املبدع �إىل توظيف الو�صف الدقيق لكل اجلزئيات‬ ‫والتجربة والإجناز التي تطبع الثقافة الغربية‪،‬‬
‫املحيطة باملو�ضوع عن طريق امل�سح ال�شامل لل�صورة‬ ‫«عبا�س بي�ضون» مل ي�شذ عن القاعدة‪ ،‬ومل يخرج عن‬
‫الروائية بكل دقة واهتمام‪ ،‬عرب �رسد بوا�سطة �ضمري‬ ‫ال�ضمري اجلمعي العربي عندما �أرخ ملفهوم اخل�سارة‬
‫املتكلم‪ ،‬وهو �رسد خطي واقعي مت�صل ي�سري نحو هدف‬ ‫�ضمن رواية جميلة و�شيقة‪.‬‬
‫معني‪ ،‬وير�سم معامل تعالق ال�شخ�صيات والأحداث‬ ‫�صدرت الرواية يف طبعتها الأوىل عن دار ال�ساقي �سنة‬
‫بالزمان واملكان‪ ،‬ولذلك ترى ال�سارد يعرب عن هبوطه‬ ‫‪ ،2012‬وتت�شكل من مائتني وخم�سة وخم�سني �صفحة‬
‫النف�سي احلاد ب�سبب الفراغ املحبط الذي يح�سه بعد‬ ‫من القطع املتو�سط‪ ،‬وقد اعتمد املبدع فيها على مدخل‬
‫بلوغه ال�ستني من عمره وبداية �رصاعه مع كل �شيء‬ ‫مثري يعمل فيه الزمن على �صعق م�ستعمليه وهو ينبه‬
‫حوله‪ ،‬وخ�صو�صا القط نينو الذي ي�سيطر على البيت‬ ‫اجلميع �إىل الغفلة التي حتدثها الأيام املتوالية على‬
‫بكل ثقة واعتداد بالنف�س‪ ،‬ويحاول ال�سارد التخفيف‬
‫حياة الأفراد‪ ،‬لقد مكنت هذه ال�صيغة الكاتب من فتح‬
‫عن نف�سيته �إحباطها وعزلتها عن طريق ا�ستح�ضار‬
‫حوار مع الزمن للتعرف على عوامل قوته و�سطوته‬
‫�صورة وتقا�سيم ابنته « بانة» امل�سافرة �إىل باري�س‪،‬‬
‫وجربوته‪ ،‬ووظف العالقة بني ال�سمع والزمن م�ستخل�صا‬
‫وميني نف�سه بقرب حلول الفرج عندما تعود « بانة‬
‫ب�صيغة عملية القاعدة الب�سيطة التي تدل على �أن التقدم‬
‫« من باري�س لكي تعيد الأمور يف البيت �إىل ن�صابها‪،‬‬
‫يف العمر ي�ساهم يف انخفا�ض ال�سمع‪ ،‬وبالتايل يقع‬
‫خ�صو�صا مع القط «نينو» الذي كانت �سببا يف دخوله‬
‫�إىل البيت عندما قررت كفالته وحمايته من �أخطار‬ ‫على امل�ستوى الفني يف البناء الروائي ت�صدع وخلط يف‬
‫ال�شارع‪ ،‬لقد كان قرب رجوع «بانة» من �سفرها ي�شكل‬ ‫العالقة بني الزمان واملكان‪ ،‬حيث تفقد ال�شخ�صيات‬
‫نوعا من العزاء لل�سارد الذي �أ�صبح يعاين م�شكلة‬ ‫الإح�سا�س بالزمن‪ ،‬وبالتايل يفقد املكان لديهم قيمته‬
‫وجودية حقيقية وحادة بطلها القط «نينو»‪ ،‬ويبدو �أن‬ ‫ورونقه‪ ،‬وفاعليته‪.‬‬
‫القط البطل هنا رمز لكل املمكنات‪ ،‬فقد يكون جالبا‬ ‫لقد توقف ال�سارد عند عالقته املثرية ذات البعد‬
‫للحظ كما هو يف ثقافة بع�ض الأمم‪ ،‬وقد يكون رمزا‬ ‫الوجودي ال�صاعق مع «نينو»‪ ،‬القط نينو ي�شرتك مع‬
‫لل�سحر الأ�سود وال�شعوذة وم�صدرا لل�رش كما هو لدى‬ ‫ال�سارد يف جميع تفا�صيل احلياة‪ ،‬فال�سارد �أ�ستاذ‬
‫ثقافة البع�ض الآخر‪ ،‬كما هو رمز لعدة امتدادات‬ ‫يف املدر�سة‪ ،‬والقط نينو �أ�ستاذ يف البيت وهو ي�شكل‬
‫ثقافية ح�سب معتقدات املجموعات الإن�سانية‬ ‫قلقا وجوديا حادا لل�سارد ي�صل به حلد حمادثة نف�سه‬
‫‪265‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫تبعات هذه املرحلة من حياته والتي يجد ذاته بعيدة‬ ‫املختلفة‪ ،‬يف اعتقاد ال�سارد ف�إن القط «نينو» يتعمد‬
‫عن حتقيق االن�سجام والتوازن معها‪ ،‬ثم هذا امل�شكل‬ ‫�إ�شعال غيظه وغ�ضبه بت�رصفاته املثرية للحنق عن‬
‫املزمن يف رعاية القط «نينو»‪ ،‬فامل�شكل الكبري هو‬ ‫طريق حت�سي�سه بغربته داخل بيته‪ ،‬كما لو �أنه متت‬
‫�صعوبة عي�ش الإن�سان واحليوان ندا لند دون �أية عالمة‬ ‫عملية تبادل الأدوار و�أ�صبح القط �سيدا ومالكا للبيت‬
‫على التنازل عن حق �أو واجب من �أي طرف منهما‪ ،‬ثم‬ ‫ومل يبق له �إال �أن ي�أمر بطرد ال�سارد والإلقاء به خارجا‬
‫لن تظل الأمور دائما عادية عندما ي�ستمر ال�سارد يف‬ ‫ب�سبب م�ضايقته للقط وحرمانه له من الت�رصف على‬
‫التفكري لنف�سه وللقط لأن رغبات هذا الأخري ال تفهم‬ ‫�سجيته وهواه ق�صد امتالك كل نا�صية داخل البيت‪،‬‬
‫نظرا للحالة ال�صحية املزرية التي �أ�صبح يعي�شها‬ ‫لقد �ساهم ال�سارد يف حتجيم م�ساحة ت�رصف وحرية‬
‫احليوان املقلق‪ ،‬و�أ�صبح ال�سارد يعترب معاقبة القط‬ ‫القط داخل البيت‪ ،‬فبات احليوان جريحا ب�سهمني‪،‬‬
‫«نينو» �شبيهة مبعاقبة ابنه له بحرمانه من ر�ؤيته‪،‬‬ ‫�سهم املر�ض القاتل الذي كان ينخر ج�سده ويفتك به‪،‬‬
‫والعي�ش معه‪ ،‬والتفكري فيه على الأقل من خالل‬ ‫و�سهم حرمانه من حريته يف الت�رصف داخل املجال‬
‫مكاملة هاتفية ب�سيطة وق�صرية‪ ،‬وت�سبب هذه العوامل‬ ‫خريا‬
‫الكامل للبيت‪ ،‬لقد قدم لنا ال�سارد القط باعتباره ّ‬
‫لل�سارد كثريا من امل�شاكل النف�سية امل�ؤملة حيث �أ�صبح‬ ‫مرة من خالل الإ�شفاق عليه ب�سبب مر�ضه اخلبيث‬
‫يعترب �أن حياة الإن�سان يف جميع مراحلها عبارة عن‬ ‫وامتناعه عن الذهاب به �إىل البيطري لكي ي�ضع حدا‬
‫�صفحات م�سودة باحلرب القامت وال وجود يف حياة‬ ‫حلياته رحمة به‪ ،‬وقدمه لنا �رشيرا مرة �أخرى عندما‬
‫هذا الإن�سان ل�صفحات بي�ضاء �أو �صور بريئة‪� ،‬إنها‬ ‫كان يعتقد ب�أن القط ينا�صبه العداء ويتعمد م�ضايقته‬
‫�صفحات ثقيلة ومملة‪� ،‬إنه �ألبوم �أ�سود ومتعب ومنفر‪،‬‬ ‫ويعتدي على زوايا البيت الأثرية لديه‪ ،‬لقد كان القط‬
‫ورغم ذلك فهو م�ضطر لتوثيق ذكرياته املا�ضية عرب‬ ‫فاعال يف مفهومي الزمان واملكان داخل البيت‪ ،‬دوره‬
‫البحث امل�ضني عن ذكرى ماجدة فيها العزاء والرتويح‬
‫كان حا�سما وطليعيا يف �صناعة وت�أثيث ف�صول‬
‫عن النف�س حتى يكون الألبوم نافعا ن�سبيا‪ ،‬لأنه حاليا‬
‫الرواية‪ ،‬فهل كان ال�سارد يغار من دوره الريادي هذا‬
‫ال يثري �إال حديث الأزمة وال يوثق �إال ذكريات احلياة‬
‫ففكر مرارا يف التخل�ص منه؟‬
‫واملوت واملر�ض والأمل‪ ...‬وبع�ضا من احلب‪.‬‬
‫عاد كثري من �أفراد عائلة ال�سارد �إىل بلدهم الأ�صلي‬
‫لقد �أكد ال�سارد بكل ثقة وت�صميم ب�أن جده كان‬
‫مثل ح�سن وجورج‪ ،‬و�إكرام احلبيبة التي جاءت من‬
‫يحفظ عن ظهر قلب تاريخ الطربي‪ ،‬كما كان يحفظ‬
‫�أبيدجان‪ ،‬ثم ها هو عبداللطيف يخرب مبوت زاهي‪،‬‬
‫�أ�شعار املتنبي وابن الرومي‪ ،‬واملق�صود هو �أن‬
‫الكتاب ال�سابقني قاموا ب�إثراء ع�رصهم والت�أريخ له‬ ‫زاهي الذي كان ميكن �أن يعي�ش لو مت �إيجاد اخليط‬
‫بنتاجاتهم الرثية‪ ،‬ومن هنا كان الألبوم كما �أراد له‬ ‫املفقود‪ ،‬لقد كان ميكن لهذا اخليط املفقود �أن ينقذ‬
‫�صاحبه رمزا جلميع مراحل احلياة رغم �شح وندرة‬ ‫حياة زاهي �إذ هو الرمز‪ ،‬وذلك من �أجل ا�ستكمال‬
‫م�ساهمات املحدثني القريبني يف الفكر والرتاث‬ ‫عنا�رص بناء الألبوم العائلي والع�شائري الذي‬
‫واملعرفة‪ ،‬وهذا عار على �أمة القراءة واملعرفة لأن‬ ‫يعتربه ال�سارد �ألبوما فا�شال بدون قيمة‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫«�أ�سرتيد» الفرن�سية تعرف جزئيات معمارنا العربي‬ ‫فهو م�ضطر للتعاي�ش معه وقبول �أفراده ب�صورهم‬
‫�أكرث مما نعرف نحن‪ ،‬وقد حز هذا الأمر كثريا يف نف�س‬ ‫احلقيقية �أو املن�سوخة‪ ،‬حيث جند �أن ال�سارد يرتبط‬
‫الكاتب حتى ا�ضطر للظهور يف الرواية يف ال�صفحة‬ ‫مع �إكرام بعالقة قرابة بعيدة‪ ،‬بينما يرتبط مع �آمال‬
‫«‪ ،»72‬بروز ا�سم «عبا�س بي�ضون» يف هذه ال�صفحة‬ ‫بق�صة حب‪.‬‬
‫�صيغة �رسدية م�شهدية‪ ،‬ودليل على حماولة ربط‬ ‫ي�صعب كثريا على ال�سارد �أن يتكيف مع �سن اخلام�سة‬
‫�أحداث الرواية بواقعية قدرية ال مهرب منها يف حياة‬ ‫وال�ستني حيث هو دائم ال�شكوى والتربم والقلق من‬
‫‪266‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫باخل�سارة واالنهيار عو�ض الربح والت�ألق‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫جميع املج�سدين يف الألبوم الذي احتوى على جميع‬
‫املنوال تظهر لنا اخلطوط العامة التي ق�صد بوا�سطتها‬ ‫�أنواع الذكريات التي عا�شها ال�سارد بطريقة واعية‬
‫ال�سارد تقدمي �ألبومه العائلي املوبوء انطالقا من‬ ‫وم�ضبوطة لأنه كان يخ�شى با�ستمرار من التهام‬
‫ف�صول م�شوقة خا�صة بت�رشيح جينيالوجي تعترب فيه‬ ‫جذوره لكي ال ي�صبح معزوال عن جماله وحميطه‬
‫الذكريات املا�ضية �سيدة املكان والزمان حيث ت�سطع‬ ‫�أو ي�صبح بطال من ورق‪� ،‬أو �أن الكاتب �أح�س بوهن‬
‫�صعودا ب�شدة وتوهج لتعود مرة �أخرى وتختفي متاما‬ ‫و�ضعف وي�أ�س �سارده ف�سارع للظهور يف جمرى‬
‫وت�ستحيل �إىل ذكريات ه�شة مري�ضة ومتال�شية‪ ،‬ومل‬ ‫ال�رسد كي ي�سنده‪ ،‬ويوجه ر�ؤيته‪ ،‬وي�صحح خطئه‪،‬‬
‫تفلح �أي من العنا�رص احلياتية التافهة يف الت�رسية‬ ‫ويدعم بطولته خوفا من �سقوطها‪ ،‬حيث ي�ؤكد ن�ص‬
‫عن ال�سارد وجعله ين�سى الوقع ال�شديد وال�صادم‬ ‫الرواية على �أن حفل �سقوط البطل ال يقل متعة وقيمة‬
‫لعنا�رص �ألبومه اخلا�رس‪ ،‬وحتى التجربة ال�سيا�سية‬ ‫عن حفل تن�صيبه وذلك انطالقا من الأفكار التي‬
‫التي خا�ضها مل تفلح يف اقتالعه من لوعته الوجودية‬ ‫يوظفها البطل يف تدبري �أحوال ال�شخ�صيات الروائية‬
‫القا�سية‪ ،‬فهو كان يعترب ال�سيا�سي رديفا للمغني‪،‬‬ ‫والتي يتقبلها كل واحد بطريقته اخلا�صة‪ ،‬وعلى‬
‫واملغني رغم ال�شهرة والنجاح يظل دائما �أ�سريا لذاته‬ ‫العموم ف�إن كل فكرة ميكن �أن تف�سد �شهيتنا‪.‬‬
‫الرنج�سية املتقلبة وقلقه املزمن خوفا من زوال‬ ‫رواية املبدع «عبا�س بي�ضون» حتتفي كثريا باملر�أة‬
‫النعمة‪ ،‬ورغم دخول ال�سارد ال�سجن ب�سبب وعيه‬ ‫وتهتم بها‪ ،‬فال�سارد يفرد وقتا طويال وكافيا للحديث‬
‫ون�ضاله ال�سيا�سيني ومعاناته الرهيبة يف املعتقل‬ ‫عن حبه و�شوقه البنته «بانة» �صاحبة القط القدري‬
‫الإ�رسائيلي ف�إنه كان م�ؤمنا كل الإميان‪ ،‬ومقتنعا‬ ‫«نينو»‪ ،‬ويفرد كالما كثريا للحديث عن طباع زوجة‬
‫كل القناعة ب�أن الن�شاط ال�سيا�سي يرتبط بالبطالة‪،‬‬ ‫خاله‪ ،‬ثم العالقة الوطيدة بني ال�سارد وحبيبته‬
‫فيكون وقت البطالة �إذا هو وقت احلزب والن�ضال‪،‬‬ ‫«�إكرام» التي يحب كثريا و�صالها وي�ستمتع به دون‬
‫�أما احلرب فقد �أ�صبحت هي الأخرى معمقة للخيبة‬ ‫التفكري يف جتاوز الأمر �إىل عالقة م�صريية‪ ،‬ورغم �أن‬
‫و�سقوط الأحالم‪ ،‬فهي �أعادت اجلميع �إىل البطالة‬ ‫«�إكرام» لب�ست احلجاب مع �أخواتها ف�إن ال�سارد اعترب‬
‫وال�س�أم‪ ،‬وتبقى مزيتها الوحيدة هي �أن م�ساهمتها يف‬ ‫ب�أن احلجاب لي�س عند «�إكرام» و�أخواتها فقط بل عند‬
‫البطالة جعلت �أحالم اجلميع تكرب‪ ،‬كما علمت اجلميع‬ ‫الكثريات هو عبارة عن م�صدر حلرية �إ�ضافية ال غري‪.‬‬
‫ال�سخرية من كل �شيء‪ ،‬ويف الأخري بقي لل�سارد القط‬ ‫�ألبوم املبدع غني ب�شخ�صياته املتنوعة التي طبعت‬
‫«نينو» فقط‪ ،‬هو وحده من �أ�سعفه يف التماثل معه‪� ،‬إن‬ ‫جمرى الأحداث يف الرواية‪ ،‬وقد اعتمد يف تقدمي‬
‫املحاكاة بينه وبني القط هي التي �صانت ذاته اله�شة‬ ‫�شخ�صيات الألبوم �أو �أفراد العائلة على الأدنى ثم‬
‫من ال�ضياع واالنهيار‪ ،‬وظل �صامدا بكربيائه �أمام‬ ‫انتقل �إىل الأعلى ف�أثار احلديث بنوع من ال�شموخ وعزة‬
‫احليوان ال يريد �أن ينهار �أمامه ويعلن ف�شله‪ ،‬كما ظل‬ ‫النف�س عن جده الذي يح�رض يف الرواية يف �صورة‬
‫القط �شاخما ومعتزا بذاته احليوانية �أمام الإن�سان‬ ‫غا�ضب كبري وجامح متمرد‪ ،‬ي�ؤكد ال�سارد ب�أن هذا‬
‫رغم مر�ضه املدمر‪ ،‬ومل يهتز �شموخه وال انفرط عقد‬ ‫اجلد العتيد للأب هو الذي �أورث �أفراد الألبوم العائلي‬
‫عزته حتى دخل يف مرحلة االحت�ضار‪ ،‬ثم نفق �أخريا‪،‬‬ ‫االكتئاب والك�آبة‪ ،‬بينما �أورث اجلد للأم عرتته‬
‫ف�أدرك ال�سارد ب�أن موت القط هو �إيذان مبوت �ألبومه‬ ‫اخلوف واجلنون‪ ،‬فاكتملت بذلك الأعرا�ض املر�ضية‬
‫املهرتىء‪ ،‬وب�أن املوت �سواء طال احليوان �أو الإن�سان‬ ‫النف�سية لدى �شخ�صيات الرواية حتى جتذرت وبات‬
‫هو رديف النتهاء ال�رسد‪ ،‬وانهيار الأحالم‪ ،‬وتال�شي‬ ‫من ال�صعب جدا مواجهتها بالعالج والتطهري‪ ،‬ف�أ�صبح‬
‫الألبوم‪.‬‬ ‫من قبيل امل�رشوعية الفنية والأدبية و�سم العمل‬
‫‪267‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫«نادي ال�صنوبر» لربيعة جلطي‬
‫كتابة املن�سي من التاريخ‬
‫اليامني بن تومي‬
‫كاتب وناقد من اجلزائر‬

‫للحرب‪ ،‬قنابل يف حالة الإرجاء‪ ،‬حيث الداللة تفي�ض‬ ‫لن �أن�سى �أبدا ياميناتا التي ال تعرف كيف تقبل‬
‫باملعنى ال من جهة اال�سهاب بل من جهة االقت�صاد‬ ‫موالي‪.‬‬
‫الذي جعل الرق�ص يعرب عن م�شهد �سينمائي غاية‬ ‫لن �أن�سى �أبدا موالي الذي علمها القبالت على طعم‬
‫يف الرتاجيدية‪ ،‬حني يتكلم الرتاجيدي فالق�صة‬ ‫جتديف يف �أقا�صي الندم‬
‫�أنثى واملنفذ �صوت ذكوري حمل كل خيبات‬ ‫‪،‬ياميناتاالرتقية‪ ،‬ابنة طا�سيلي �آجري‪ .‬موالي ابن‬
‫امل�ؤ�س�سة الر�سمية‪ ،‬تلك االنهيارات امل�ضاعفة �أنهكت‬ ‫ورقلة �أمري مفل�س»‬
‫احلكواتي‪� ،‬أقلقته جعلته يف حالة بني –بني‪ ،‬تلك‬ ‫مالك حداد‪� ،‬س�أهبك غزالة‪ ،‬ترجمة حممد �ساري‬
‫احلوارية املري�ضة حتمل داخلها ذكاء م�ضاعفا‬
‫وتقنينا رمزيا للمجتمع الأمو�سي‪ ،‬حيث املر�أة ‪/‬‬ ‫ال�شعراء وحدهم ميكنهم ت�أثيث القبحي الذي بات‬
‫الأنثي ‪/‬غادر �ساردة ا�ستلبت الرجل ل�سانه ليقدم لها‬ ‫ي�سكن اللغة ال�رسدية التي تعج بالنفايات كما يقول‬
‫اعرتافا تاريخيا واثنيا عن االخرتاق الذي ح�صل يف‬ ‫ناقدنا الكبري ال�سعيد بوطاجني‪ ،‬فال�شاعر وحده ميكن‬
‫الأر�ضيات التحتية ملجتمعنا اجلزائري‪.‬‬ ‫�أن يدمر وحدة اللغة‪� ،‬أن يفكر بها من الداخل لي�صنع‬
‫تتعانق الرواية يف �شكل حواري جذاب يعك�س �سلطة‬ ‫عاملا موازيا من االيهام والأطياف املرحتلة‪ ،‬يف‬
‫الأنثى التي تخرتق املذكر الذي دجن اخلطاب نظري‬ ‫النهاية هي �أطيافنا نحن يف ت�أثيليتنا الغريبة التي‬
‫تلك املركزية التي ا�ستلبها فقهيا‪ ،‬تلك املركزية‬ ‫ا�ستع�ضنا بها هوية م�صطنعة حتمل داخلها نزوعا‬
‫التي �أعلت من قيمة الفحولة املدجنة املغ�شو�شة‬ ‫تدمرييا وبعد تهدميها للعمران الذي ن�سكنه‪.‬‬
‫يف جمتمع العبيد‪ ،‬وب�أخالق العبيد‪ ،‬هذه املركزية‬ ‫لي�س من قبيل ال�صدفة �أن تكتب ال�شاعرة ربيعة‬
‫راق�صتها املتلفظة ‪/‬ال�ساردة يف �شكل حترير للأنثى‬ ‫جلطي رواية‪ ،‬فالرواية نبتت مع �ضلع حواء وتوردت‬
‫من �سلطة مفرغة‪ ،‬خاوية‪� ،‬إنها عودة فجائية لل�صوت‬ ‫على خدها نقطة حمراء يف �صحراء الطوارق التي‬
‫الهام�شي الذي ي�أتي من بعيد ليدمر وحدة الن�ص‬ ‫تغنى بها مالك حداد يف رائعته «�س�أهبك غزالة»‬
‫املتناهية يف ال�شكل‪.‬‬ ‫لكنها يف رواية «نادي ال�صنوبر» جتاوزت زمنية‬
‫الرواية متار�س �إغرابا تيماتيا للعامل وللف�ضاء‬ ‫ال�صورة اال�ست�رشاقية لتتحول ال�صحراء �إىل متحقق‬
‫عجت فيه الن�صو�ص بالدماء وازدحمت‬ ‫يف زمن َّ‬ ‫يف فعل الإدانة للحكاية‪ ،‬هنا تتداخل الق�صيدة‬
‫بالأ�صوات الغربية‪ ،‬و�صارت الأ�صوات �أ�شبه بفيلم‬ ‫املتزامنة يف الثقافة الكال�سيكية التي طاملا �شكلت‬
‫بولي�سي معروف النهاية‪ ،‬لكن رواية «نادي ال�صنوبر»‬ ‫مرجعا ايهاميا للذات لتعيد احلكاية ر�سم التمف�صالت‬
‫حملت معها ب�شارة �رسدية للمخلِّ�ص الذي �سيزرع‬ ‫الكربى لذلك امل�سخ والت�شويه‪ ،‬حالة االبتعاد عن‬
‫الأمل ويجدد الوهن يف ن�ص الت�سعينيات الدموي‪.‬‬ ‫طقو�سية» الإله الرتقي» ل�صالح �آخر �شمايل ا�ستح َّل‬
‫مع ما لهذا الن�ص من مكامن للقوة يف جوانب �أخرى‪.‬‬ ‫كل �شيء با�سم العر�ش‪ .‬ر�ؤية انطولوجية عميقة عن‬
‫�إنها �رسدية تتحدث عن الآخر املن�سي فينا‪ ،‬الآخر‬ ‫التناهي يف الإن�سية التي مل ن�صنع منها �إال قنابل‬
‫‪268‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫التداعي واحلركة‪ ،‬فهي ثقافة منقو�صة من احلب‪،‬‬ ‫الذي ي�سكن جغرافيتنا‪ ،‬وي�ضخ جيناتنا‪� ،‬إنه الأنا‬
‫ثقافة موجهة وم�أمورة‪ ،‬ثقافة من فوق‪ ،‬ولي�ست‬ ‫التي مل نفهمها ومل نح�سن تقديرها‪ ،‬ت�صورناها يف‬
‫متحركة مبنطق الت�شارك‪ ،‬القوة لي�ست يف الواحد‬ ‫بعد واحد و أَ� َح ْل َناها على �رسير بروك�ست كل من خرج‬
‫بل يف املتعدد‪ ،‬فهذه اللفظة جزائرية تعك�س الأبعاد‬ ‫عنه قطعنا رجليه �أو و�سطه‪ ،‬هذه الأنا املتورمة من‬
‫واملنظورات املختلفة للداللة الرمزية لل�صوت يف‬ ‫جهات ومنظورات خمتلفة‪ ،‬فالرواية هنا و�ضعتنا‬
‫الرواية‪ ،‬والداللة االثنية يف الواقع‪ .‬الكينونة هنا‬ ‫�أمام �أ�سئلة غاية يف اخلطورة والدقة تنم عن وعي‬
‫�أو هناك لي�س �س�ؤاال مبا�رشا فتلك ت�شكيالت الدازين‬ ‫عميق مب�س�ألة الكينونة وذلك ال�س�ؤال الذي ظننا‬
‫املتزمن �أو املتزامن‪.‬‬ ‫الإجابة عنه �سهلة وب�سيطة‪ . .‬من اجلزائري؟‬
‫الرواية حتيلك �إىل حالة التمثيل القوي العائم‬ ‫هل هو ذلك الت�صدير الأوحد ام انه املتعدد الذي‬
‫للت�أنيث العائم على ح�ساب �إخ�صاء للمذكر حيث‬ ‫ال �صورة له‪ ،‬حني يكرث املتعدد ت�ضيع الواجهة‬
‫ت�ستل الأنثى احلكاية غ�صبا نتيجة مركزية نابعة‬ ‫الر�سمية‪ ،‬ت�صبح �أوجه وت�ضمحل الثقافة الر�سمية‬
‫من جمتمع �أمو�سي‪/‬جمتمع الطوارق‪ ،‬فالتذكري هنا‬ ‫التي ر�سمت لها �سياجا طويال من الكرنفاليات‬
‫يعد تظهري ت�أثيثي فقط للف�ضاء ت�شتغل الأنتي على‬ ‫وروجت لبعد واحد للإن�سان ‪/‬الر�سمي‬ ‫وال�شعبويات َّ‬
‫�صورة ب�سيطة وتقعيدية لنموذج اال�شرتاكي الوطني‬
‫طول اخلطاب انطالقا من مف�صلني �أ�سا�سيني ‪:‬‬
‫امل�ؤمن ‪/‬ثالوث نحت له �شخ�صية فائ�ضة عن‬
‫‪-‬مف�صل ا�ستباقي؛ وهو واجهة �أولية للرواية حيث‬
‫احلاجة‪ ،‬هذه الأحادية يف ال�شكل واملرجع ما فتئت‬
‫توجه احلاجة «عذرا» الرتقية حكايتها ملجموعة من‬
‫تر�سخت دولة ما بعد اال�ستقالل لكن رواية «نادي‬
‫البنات يف �شكل ا�ستباق للدخول يف الق�صة‪.‬‬
‫ال�صنوبر» يف ت�صوري قو�ضت الأ�سا�سات اله�شة لذلك‬
‫‪-‬مف�صل ا�ستذكاري وهو احلكاية ذاتها‪ ،‬ال�سرية‬ ‫البناء‪ ،‬حيث حاولت حترير اجلزائراية من معجمية‬
‫الذاتية وتعتمد الرواية على تيمة غاية يف الدقة‬ ‫احلاكم ومن ا�ستخداماته الف�ضة التي �صارت �أقرب‬
‫هي تيمة «التموقع»حيث تتخذ ال�شخ�صية الفاعلة‬ ‫�إىل اللعب املر�سوم لأغرا�ض ال�سيا�سة تطم�س كل‬
‫احلقائق التاريخية‪ ،‬هذه الوحدة ال تعرب عن املتعدد‬
‫االثني وال�صوتي يف احلكاية‪ ،‬هنا فقط يقف اخلطاب‬
‫امل�ؤ�س�ساتي على �إفال�سه بل نلفيه خطابا جموفا من‬
‫الداخل مهزوز ومناق�ض لأ�شكال الرتاكب التاريخي‪،‬‬
‫الطوارق‪ ،‬القبائل‪ ،‬بني ميزاب‪ ،‬ال�شاوية‪ ،‬القبائل‪. . .‬‬
‫تلك امل�سكوت عنها التي كلما توحدت يف اخلطاب‬
‫الر�سمي �أفقدته �أنظمته ال�سيميائية املختلفة لأنها‬
‫ال متوائمة حيث يريد اخلطاب الر�سمي �أن يجعلها‬
‫�صوتا واحدا وممثال واحدا عن الثقافة‪.‬‬
‫وحدها الرواية التي خل�صت التمثيالت املختلفة‬
‫ملدلول جزائري لنجد �أنف�سنا يف ف�ضاء �أعمق ‪/‬‬
‫متالحق ‪/‬على حاالت الالجتان�س يف التظهري‬
‫ال�سيميائي لل�شخ�صية اجلزائرية من جهة الثقافة‪،‬‬
‫فالتنميط �أق�صى املتعدد الثقايف وجعله يقف‬
‫برجل واحد لكنها رجل م�صطنعة فاقدة ل�سمة‬
‫‪269‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫حيث الفيال فارغة من ال�سكان �إال من الزيارات‬ ‫جملة من الو�ضعيات ال�رسدية تنطلق من احلكاية‬
‫الظرفية التي تقودها احلاجة عذرا‪ ،‬يف حني �أن‬ ‫يف اجتاه خمتلف‪ ،‬وهي توليد لل�رضورة احلكواتية‬
‫احلاجة عذرا تف�ضل الإقامة داخل تناق�ضات احلياة‬ ‫نتيجة التحريك الذي تتخذه الفاعلة ‪/‬احلاجة عذرا‬
‫لتمار�س وظيفة الأمومية املوكلة �إليها يف التاريخ‬ ‫كل مرة وهي و�ضعيات تتموقع فيها احلاجة عذرا‬
‫نوع من حتيني التاريخي يف حلظة ال�سلطة املتكل�سة‪.‬‬ ‫للتمف�صل يف الرواية وفق ثالث تخارجات �رسدية‬
‫تعك�س الرواية بعدا �إنا�سيا لطاملا �أهمل يف املتخيل‬ ‫مهمة ‪:‬‬
‫الروائي اجلزائري �أو �إن �صح التعبري ال جند له‬ ‫‪ -‬اخلرجة ال�رسدية الأوىل طالق احلاجة عذرا و�إعداد‬
‫ح�ضورا قويا يف الرواية اجلزائرية‪ ،‬وهو البعد‬ ‫حفلة الطالق‪.‬‬
‫الإثني للأطراف املتعددة يف اجلزائر‪ ،‬فتقريبا الن�ص‬ ‫‪-‬اخلرجة ال�رسدية الثانية ذهاب احلاجة عذرا مع‬
‫الروائي اجلزائري منمط يف بعد واحد يحكي �صورة‬ ‫�أمريها للخليج‪.‬‬
‫وحيدة‪ ،‬وهي حكاية تابعة لن�سق �سيا�سي ‪/‬حكاية‬ ‫‪-‬اخلرجة ال�رسدية الثالثة عودة احلاجة عذرا �إىل‬
‫ال�سلطة �أو ن�صو�ص امل�ؤ�س�سة الر�سمية التي كانت‬ ‫العا�صمة‪.‬‬
‫ترى يف اجلزائري �صورة «العا�صمي»فقط �أو الريفي‬ ‫هذه اخلرجات تعطينا م�ؤ�رشا �رسديا مهما عن‬
‫القادم من جهة واحدة‪.‬‬ ‫التمف�صالت العامة للرواية التي خل�صناها يف‬
‫ما تزال الرواية عندنا تخفي الكثري من ال�شقوق‬ ‫ثالث وحدات �رسدية كربى‪ ،‬وكل وحدة تنطلق من‬
‫والبيا�ضات التي مل تكتب بعد‪ ،‬فجاءت رواية‬ ‫خالل عنا�رص �سميمية �صغرية ت�شكل توالد الذورة‬
‫«نادى ال�صنوبر» لتعيد كتابة املن�سي من تاريخنا‬ ‫و�سقوطها لتبد�أ ذروة �أخرى �إىل النقطة النووية‬
‫املجهول‪ .‬فحاولت الرواية �أن تلعب على تيمة متوقع‬ ‫لل�رسد التي حتكي حكاية احلاجة عذرا‪ .‬حيث تتزوج‬
‫الإثني �ضمن ف�ضاء ال�سلطة الذي يت�سم بالإق�صاء‬ ‫احلاجة عذرا من ال�شاب اخلليجي الو�سيم والرثي‬
‫والالت�سامح فتماوجت الرواية بني �أربعة تراكبات‬ ‫الذي وقع يف غرامها ولكنها مل ت�سطع البقاء معه‬
‫للف�ضاء ‪:‬‬ ‫حتت �سقف واحد فرجعت بعد مدة للجزائر وهناك‬
‫‪ -‬موقع �صحراء الطوارق ‪/‬ف�ضاء الأ�صل ‪/‬م�رسود‬ ‫ورثت احلاجة غدرا فيال مبنطقة نادي ال�صنوبر‬
‫�إثني م�سكوت عنه‪.‬‬ ‫ومن داخل الفيال ينطق �صوت ال�شاب «م�سعود»وهو‬
‫‪ -‬موقع �صحراء العرب‪/‬ف�ضاء االنتقال ‪/‬م�رسود‬ ‫�رسد نقي�ض �ضد فعل احلكاية الإطار ‪/‬حكاية‬
‫هووي ؛ ثقافة مرجعية من جهة البناء ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫احلاجة عذرا‪� ،‬إنها �إحالة �إىل كل �أ�صوات الهام�ش‬
‫‪ -‬موقع فيال نادي ال�صنوبر ‪/‬ف�ضاء امل�ؤ�س�سة �أو‬ ‫القابعة يف قلب املركز فالهام�ش ال يعني البيوت‬
‫ال�سلطة واملركز‪.‬‬ ‫الق�صديرية يف كل الأحوال و�إمنا الهام�ش املتمظهر‬
‫‪ -‬موقع ال�شقة‪ /‬ف�ضاء احلكي‪.‬‬ ‫يف �شخ�ص م�سعود‪ ،‬هام�ش من نوع خا�ص‪ ،‬هام�ش‬
‫حتمل الرواية هما �أنطولوجيا حيث تعمل على‬ ‫مركب ومعقد يف �آن هام�ش فوق هام�ش �أو هام�ش‬
‫حتليل عالقة ح�ضور الثقافة االثنية يف � ِّأ�س الثقافة‬ ‫دون هام�ش‪ .‬هام�ش متعلق بال�شخ�ص حممول فيه ال‬
‫العروبية فتتحاور الثقافات من خالل عالقة‬ ‫يتعلق بالف�ضاء لأن فيال احلاجة عذرا تقع يف عمق‬
‫امل�صاهرة‪/‬الزواج من كونها بيت احلوار االكرث‬ ‫املركز ‪/‬ال�سلطة ‪/‬امل�ؤ�س�سة الر�سمية‪� ،‬إن هذا االمر‬
‫فعالية بني الأجنا�س‪ ،‬فيعمل الت�رسيد على فك‬ ‫يعر�ض �أمرا �أو�سع و�أر�سخ ال يعر�ض لهام�شية م�سعود‬
‫تلك العالقة امللتب�سة يف م�شهد الثقافة ال�سلطانية‬ ‫الآنية واللحظوية بقدر ما حتمل داخلها امتدادا‬
‫تلك الثقافة العروبية التي �صنعت �سماء الواجهة‬ ‫ثقافيا للإهدار التاريخي الذي تعر�ض له الرجل يف‬
‫امل�شهدية لت�ستبعد الرتاكب التحتي للثقافات االثنية‬ ‫املجتمع الطوارقي‪ .‬هو نوع من اال�ستبعاد املجدد‬
‫‪270‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫‪ -‬ت�أزم الف�ضاء ؛ حيث جرت النو�ستاجليا �إىل املرجع‬ ‫احلقيقية للجزائر حيث ح�صل جذب خارجي بني‬
‫‪/‬ف�ضاء الطوارق ‪/‬مما �أدى بها �إىل فراق الثقافة‬ ‫الثقافة الذكورية ‪/‬الر�سمية والهام�شية ‪/‬الرتقية‪،‬‬
‫العربية املتمظهرة يف الت�شكيالت الرمزية ؛البلد‬ ‫من خالل تكري�س ثقايف مهم لل�شعر باعتباره ممثال‬
‫اخلليجي‪ ،‬الق�رص‪. . ،‬‬ ‫�سيميائيا دقيق لثقافة امل�ؤ�س�سة ‪/‬العربي‪ ،‬حيث مثل‬
‫‪ -‬ت�أزم ج�سدي نتيجة الت�رصيح بالطالق ؛وهو‬ ‫ال�شعر قيمة االلتقاء اجلمايل‪ ،‬وكيف متكن الإثني‬
‫طالق ينم عن ثورية ثقافية للمعنى املتوارى �أو‬ ‫من االنخراط يف ثقافة امل�ؤ�س�سة التي ا�ستعا�ضت‬
‫املغيب‪ ،‬وهو طالق مفعم بالوعيد مع ما يحمله من‬ ‫مناذجها التاريخية ب�أخرى نتيجة انت�شار �آلية‬
‫ت�سامح بني غادر الرتقية والأمري اخلليجي‪ ،‬ت�سامح‬ ‫االكت�ساح التي تفرزها الثقافة االمرباطورية عادة‪،‬‬
‫مفعم باحلب وهو تدليل عن البنية الرمزية للفا�صل‬ ‫ولأن الثقافة العروبية ب�أنظمتها املختلفة ت�شكل‬
‫الثقايف بني الثقافتني الرتقية والعربية وهو ت�سامح‬ ‫ف�ضاء امرباطوريا مهيمنا عملت عملت على ا�ستبعاد‬
‫حتتي يحمل غطر�سة داخلية من جهة الثقافة‬ ‫الثقافات الأ�صيلة يف اجلزائر‪ ،‬فالرواية ورغم �أنها‬
‫العروبية‪ ،‬فالت�سامح مفهوم متغطر�س يحمل داخله‬ ‫جتاهد يف تبيني القيمة اجلمالية لل�صحراء باملفهوم‬
‫�شلال يف الر�ؤية و�آخر يف البناء حيث وبرغم الإدانة‬ ‫العروبي من خالل ال�شعر �إال �أن الالجتان�س الرمزي‬
‫التي توجهها الرمزيات الرتقية للثقافة العروبية‬ ‫بني ثقافة اجل�سد االثنية وثقافة الغياب امل�ؤ�س�ساتية‬
‫�إال �أنها حاولت يف م�سارها حتمل عبء االنحراف‬ ‫انتهت �إىل فك االرتباط بني الثقافتني والتي عربت‬
‫الهووي ‪/‬املرجعي يف البناء التاريخي للإن�سان‬ ‫عنها �صورة الطالق بني «غادر» والأمري اخلليجي‪،‬‬
‫اجلزائري‪.‬‬ ‫فاحلكي يعرب عن عودة املكبوت وح�ضوره القوي يف‬
‫الرواية تعتمد تيمة موقعة االثنيات الهام�شية‬ ‫نقد املركز ب�أ�شكاله الثقافة وامل�ؤ�س�ساتية‪.‬‬
‫يف �صلب الثقافة املهيمنة حيث متوقعت «غادر»‬ ‫املالحظ �أن الرواية حتمل هما ثقافيا مركبا‪،‬‬
‫باعتبارها ممثال للثقافة االثنية يف �شكلني �أ�سا�سيني‬ ‫فال�سارد ميار�س الت�رسيد وهو يف و�ضعية ا�سرتاحة‬
‫هما ‪:‬‬ ‫حمارب ناقم على الواجهة املرجعية املتورطة يف‬
‫‪-‬موقعتها داخل الثقافة العروبية ‪/‬امل�ؤ�س�سة‬ ‫ا�صطناع هوية مدمرة ‪/‬قاتلة اكت�سحت الهويات‬
‫الر�سمية‪.‬‬ ‫املعلقة واملكبوتة والتي �أ�صبحت �شاهدا على دولة‬
‫‪-‬موقعتها داخل حميط امل�ؤ�س�سة الثقافية الر�سمية‬ ‫مابعد اال�ستقالل التي منطت الفرد وجعلته مم�سوخا‪.‬‬
‫�سيا�سيا‪.‬‬ ‫الرواية ت�ضغط ب�شدة على التجويف الذي �أ�صاب‬
‫جند �أن التموقع ا�شتغل فيما ي�شبه البنية القلقة حيث‬ ‫امل�ؤ�س�سة الر�سمية التي عجزت عن حتقيق تراكم‬
‫عرى الثقافة الر�سمية من الداخل‪ ،‬عرى تناق�ضاتها‬ ‫توا�صلي حقيقي بني االثنيات وجعلت ب�شكل �سيا�سي‬
‫من خالل ا�سرتاتيجية �رسدية مهمة وهي التظهري‬ ‫فج متوقع االثنيات من كونها عن�رصا مرجعيا �أو‬
‫الذي اعتمد عليه الت�رسيد حيث و�صف نادي‬ ‫داال ثقافيا يف احلقل امل�سطح للثقافة الر�سمية‪.‬‬
‫ال�صنوبر يف �شكل حممية طبيعية جموفة من الداخل‬ ‫مع «غادر» تكرث الإدانات التحتية للثقافة املهيمنة‬
‫ومنهارة نتيجة الت�أزم الذي �أ�صاب اخلطاب حيث‬ ‫التي اخرتقتها من الداخل‪ ،‬حيث ا�شتغلت املحايثة‬
‫يبد�أ التو�صيف من داخل البناء «لنادي ال�صنوبر‬ ‫من داخل الرتميزات الثقافية من خالل ا�ست�شهادها‬
‫« بل�سان «م�سعود» وهو تو�صيف لال�ضطراب الذي‬ ‫بعيون ال�شعر العربي وهو ترميز يحمل �إعجابا‬
‫ي�سكن حمميات ال�سلطة لأنها تراكبت يف ن�سق‬ ‫بالتظهري العالمي املميز للثقافة الر�سمية التي‬
‫تاريخي مغلق وه�ش‪.‬‬ ‫فارقتها «غادر» نتيجة ت�أزم مزدوج؛‬

‫‪271‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫«فـي الرتجمة» لعبدال�سالم بنعبد العايل‬
‫اخليانة النافعة‪ ..‬نزاهة اخليانات‬
‫علي ّ‬
‫البزاز‬
‫�شاعر وكاتب من العراق‬

‫�صميم ك ّل هجرة وتنقل يقطن اال�ستقرار والعمارة‪،‬‬ ‫الفكرية‬


‫ّ‬ ‫تفتقر املكتبة العربية �إىل ال ّدرا�سات‬
‫ويف قلب قوة التفريق وخلق التباعد هناك دوم ًا‬ ‫طبيقية التي تتناول الرتجمة‪ ،‬فقه ًا وتفكرياً فيها‬ ‫ّ‬ ‫ال ّت‬
‫ال�ضم‪ ،‬ويف قلب العمل اللغوي‪ ،‬هناك دوم ًا عمل‬
‫ّ‬ ‫قوة‬ ‫إبداعية‪ ،‬ا�سوة بال�شعر والرواية‬ ‫على �أ ّنها كتابة � ّ‬
‫فكري‪ ،‬ويف ثنايا مهمة الرتجمة تقبع مهمة الفكر‬ ‫دونية النظرة �إىل العمل الرتجمي‪،‬‬ ‫وامل�رسح‪ ،‬ب�سبب ّ‬
‫ليغ ُدوا العمل ذاته»‪.‬‬ ‫التي تر�سخ «الرتجمة خيانة»‪ ،‬و�إعتبار املرتجمني‬
‫ثانوية‪ ،‬ال ترقى �إىل منزلة الكاتب الأ�صيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫منزلة‬
‫ال يزال الكاتب عبد ال�سالم بنعبد العايل‪ ،‬يقرتن‬
‫الرتجمة لي�ست نقالً‪� ،‬إنمّ ا هي فعل حتويلي بني‬
‫بالأ�شياء من طريق تفكيك ارتباطاتها بالعامل‪ ،‬ثم‬
‫واملرتجمة اليها‪ ،‬قاب ٌل‬
‫َ‬ ‫املرتجمة منها‪،‬‬‫َ‬ ‫لغتني‪،‬‬
‫تفكيك �أوا�رصها التي جتمع بع�ضها البع�ض‪ ،‬مبعنى‬
‫للت�أويل‪ .‬يقول غوته‪« :‬الكيان الذي ال ي�شهد �أي‬
‫االنف�صال امتداداً‪ .‬كل قوة انف�صال غري خالية من‬
‫حتول ي�صري �إىل زوال»‪ ،‬وهذا املفهوم ي�شمل االبداع‬ ‫ّ‬
‫االت�صال‪ ،‬تنف�صل هنا‪ ،‬وتلتحم هناك مبعنى �آخر‪.‬‬
‫ب�أنواعه كلّها‪ ،‬مثلما ي�شمل الأن�سان‪ .‬فهو يتكيف‬
‫هذا العمل مراد التفكيك‪ ،‬الذي هو نظام م�صالح بني‬
‫التكيف هو الذي‬‫ّ‬ ‫اجتماعياً‪ ،‬بيئي ًا وبيولوجياً‪ ،‬هذا‬
‫املفاهيم‪ ،‬مثلما هو نظام تهدمي وخلخلة‪ .‬وبالتمعن‬
‫ُيبقي احلياة على الأر�ض بهذه احليوية املتنوعة‪.‬‬
‫عميق ًا بنظام امل�صالح الذي يبني العالقات؛ عالقة‬
‫التحول الذي يجب �أن ي�شمل‬ ‫ّ‬ ‫التكيف‪ ،‬يعني فعل‬
‫الفرد مع عامله‪ ،‬واملجتمع مع الدولة‪ ،‬وعالقات‬
‫التحول‪ ،‬متكيفة لي�س‬
‫ّ‬ ‫منطومة الأخالق‪ ،‬فهي تن�شد‬
‫املفاهيم مبحيطها‪ .‬نكت�شف � ّأن نظام امل�صالح هو‬
‫داخل بنية املفاهيم املتنوعة فح�سب‪� ،‬إنمّ ا �ضمن‬
‫�أ�سلوب تفكيك‪ ،‬عندما يحاول حتى بناء املفاهيم‬
‫التحول‪ ،‬االبداع‬
‫ّ‬ ‫يخ�ص مفهوم‬ ‫ّ‬ ‫املفهوم الواحد‪.‬‬
‫الآنفة الذكر‪ّ � .‬إن معرفة عالقة املفاهيم بع�ضها مع‬
‫ب�شكل عام‪ ،‬الذي هو كيان‪ ،‬والرتجمة خ�صو�صاً‪.‬‬
‫البع�ض الآخر‪ ،‬وارتباطاتها بالعامل‪ ،‬تتطلّب تفكيك‬
‫يخلّ�ص الكاتب عبدال�سالم بنعبد العايل يف كتابه‬
‫امل�صالح التي تنبني عليها يف تكوينها‪ ،‬والتي‬ ‫«يف الرتجمة»‪ ،‬دار «توبقال للن�رش»‪ ،‬الرتجمة من‬
‫ت�شكل قاعدة امل�صائر‪.‬‬ ‫تهمة اخليانة الكهنوتية‪ ،‬عندما يعترب الرتجمة عم ًال‬
‫يذكر الكاتب عبد الفتاح كيليطو يف مقدمة كتاب‬ ‫الن�ص؛ التنا�ص‪ ،‬خيانة الأ�صل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫�إبداعياً‪ ،‬له طبائع‬
‫«يف الرتجمة» ‪« :‬الآن وقد قر�أت «يف الرتجمة»‬ ‫فالن�ص متلب�س ب�آخرين‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ؤلفي �آخرين‪،‬‬
‫و�آثار م� نِ‬
‫لعبد ال�سالم بنعبد العايل‪� ،‬أجدين �أنظر �إىل الأمور‬ ‫�صاف‪ ،‬مثلما ال توجد هوية �صافية‪ ،‬بل‬ ‫ٍ‬ ‫ن�ص‬
‫يوجد ّ‬
‫مبنظار �آخر‪ .‬وهذا ما يحدث مع ال ّدرا�سات اجلادة‬ ‫النقي‪ ،‬يجلب الكارثة �إليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫بالعك�س‪� ،‬إن ا ّدعاء ّ‬
‫واملبدعة‪ ،‬فهي تغري نظرتنا �إىل الأ�شياء بطرحها‬ ‫النقية‪.‬‬
‫ن�ص ًا فا�ش ًال ممالً‪ ،‬كـالتبجح بالهوية ّ‬ ‫ويعلنه ّ‬
‫�أ�سئلة جديدة قد تكون خمالفة متام ًا مل�سلماتنا‬ ‫يقول الكاتب‪« :‬يف قلب االختالف ت�سكن الهوية‪ ،‬ويف‬
‫‪272‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫عن غري �أ�صله خيانة م�ضاعفة‪ ..‬انها انتقال من‬ ‫وملا تعودنا على اعتقاده‪ .‬الآن تبدو يل كل ترجمات‬
‫�أ�صل �إىل ن�سخ‪ ،‬ومن منوذح �إىل �أيقونات»‪ .‬ويت�ساءل‬ ‫الن�ص‬
‫تت�رصف يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫«�ألف ليلة وليلة» حتى تلك التي‬
‫الكاتب‪« :‬هل هناك وحدة حتى يف لغة ما بعينها‪..‬‬ ‫ب�صفة مقيتة‪� ،‬شيئ ًا ثمين ًا ال ي�ستغنى عنه‪� .‬إنها‬
‫كلنا يعي�ش لغات يف اللغة»‪ .‬وكما يرى عبد الفتاح‬ ‫ترثي الكتاب وت�ضيف �إليه دالالت ومعاين و�صوراً‬
‫كيليطو‪« :‬من ي�ستطيع �أن يرتجم �إىل الفرن�سية «� ّأما‬ ‫ال ترد يف �صيغتها الأ�صلية‪ .‬قد نت�صور ترجمة له‬
‫بعد»‪« ،‬وليت �شعري»؟‪ ،‬بل من ي�ستطيع �أن يرتجم‬ ‫تكون نهائية «ومن ذا الذي ال يتمناها؟»‪ .‬لكنها‬
‫«� ّأما بعد» �إىل العربية بالذات»‪� ،‬أي قريب يف اعتقادنا‬ ‫�ستكون حتم ًا عالمة انعدام الإهتمام به‪ ،‬و�إيذان ًا‬
‫أ�رشح من الب�سملة‬
‫من مقولة علي بن ابي طالب‪ُ �« ،‬‬ ‫ب�أفوله وموته»‪� .‬إذا‪ ،‬الرتجمة ت�أليف‪ ،‬واملرتجمون‬
‫يومياً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ما يعادل حملَ بعري»‪ ،‬امل�سلم يقر أ� الب�سملة‬ ‫م�ؤلفون‪ ،‬و�أحيان ًا نادرون‪ ،‬بح�سب موري�س بالن�شو‪:‬‬
‫جاع ًال �إياها فاحتة يومه و�أعماله‪ ،‬يتوكّ ل عليها‬ ‫«املرتجمون‪ ،‬ه�ؤالء الك ّتاب النادرون»‪.‬‬
‫ال�رش‪� ،‬أو جلب اخلري‪ ،‬لكن لعلي ابن �أبي‬ ‫بنية طرد ّ‬
‫ّ‬ ‫ينبغي طرد مفهوم اخليانة الكهنوتية عن الرتجمة‪،‬‬
‫طالب‪� ،‬آراء يف معاين «الب�سملة»‪ ،‬غري تلك امل�ألوفة‪.‬‬
‫والتماهي مع مقولة بورخي�س «خيانة الأ�صول»‪.‬‬
‫إ�سالمي ًا بالعربية‪ ،‬مرتجم ًا‬
‫ّ‬ ‫لذا‪ ،‬هو ي�رشح معانيها �‬
‫يو�سع بنعبد العايل مفهوم اخليانة �إىل امتداح‬
‫مقا�صدها العربية �إىل العربية‪ ،‬لأن جملة الب�سملة‪،‬‬
‫اخليانة‪ ،‬مناق�ش ًا اخليانة امل�ضاعفة واخليانة‬
‫ال�سعة‪ ،‬بحيت حتتاج �إىل فعل حتويلي‪ ،‬فعل‬ ‫لها من ّ‬ ‫املزدوجة‪ .‬اخليانة املزدوجة هي خلخلة اللغتني‬
‫ترجمي‪ ،‬ي�ستبطن ما جتود به‪.‬‬
‫معاً‪ ،‬حيث ت�ستفيد كلتا اللغتني من بلبلة ُنطمها‬
‫�إقناع تداويل‬ ‫الكتابية بالتناوب‪ ،‬فتتعرب‬ ‫ّ‬ ‫القواعدية و�أن�ساقها‬
‫يعتقد الكاتب‪ّ � ،‬إن ق�ضية الرتجمة «فل�سفية»‪ ،‬ال‬ ‫الفرن�سية مثال‪ ،‬وتتفرن�س العربية‪ ،‬درءاً للعيب‬
‫متت ب�صلة �إىل اخليانة الأخالقية الكهنوتية‪ ،‬لأن‬ ‫الرتجمي الذي ي�سجله الأملاين رودولف بانفيتز‪:‬‬ ‫ّ‬
‫الن�ص نف�سه مو�ضع نقا�ش وتداول‪ ،‬ت�أليف و�إعادة‬ ‫«� ّإن �أح�سن ترجماتنا تنطلق من مبد�أ خاطئ‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬
‫ن�ص له‬ ‫الن�ص‪ ،‬فكل ّ‬‫ّ‬ ‫الن�ص �إىل‬
‫ّ‬ ‫كتابة‪� ،‬إعادة زمن‬ ‫ين على ال�سن�سكريتية‬ ‫تزعم �إ�ضفاء الطابع الأملا ّ‬
‫زمانه‪ ،‬و�إعادة الكتابة تلك‪ ،‬تتطلّب زمن ًا �آخر‪ ،‬ال‬ ‫والإغريقية والإجنليزية بدل العك�س‪� ،‬أي �إعطاء‬
‫الن�ص الأول‪ ،‬فما فائدة الكتابة التي‬ ‫ّ‬ ‫ُي�شبه زمن‬ ‫الأملانية طابع ًا �سن�سكريتي َا و�إغريقي ًا و�إجنليزياً»‪.‬‬
‫للن�ص �أزمنتة املتغيرّ ة بح�سب‬
‫ّ‬ ‫ال تتغيرّ �أزمنتها؟‪.‬‬ ‫� ّأما اخليانة امل�ضاعفه فهي ترجمة الأدب عرب‬
‫احلركة التي يثريها داخل الزمان‪ ،‬وعليه‪ ،‬تتوطّ د‬ ‫لغة و�سيطة‪ ،‬ترجمات ال تنتج الأيقونة‪ ،‬و�إنمّ ا تولّد‬
‫الن�ص اجلامد‪ ،‬عدمي‬‫طردياً‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫عالقة الأ�سئلة بالزمان‬ ‫ال�سيموالكرات ‪« :‬ترجمات عربية عن كانط �أو هيغل‬
‫احلركة‪ ،‬وغري م ّت�صل مع الزمان إ� ّال قليالً‪ ،‬ويفقد‬ ‫�أو فرويد �أو نيت�شه‪� ،‬أو مارك�س �أو هايدغر‪ ...‬معظم ما‬
‫�صفة ال�س�ؤال بح�سب بالن�شو‪ ،‬فهو جواب‪ .‬ك ّل �إبداع‬ ‫لدينا من ن�صو�ص عربية له�ؤالء‪ ،‬مل ُينقل عن اللغة‬
‫هو حركة‪ ،‬هجرة ونزوح من الزمن العمودي؛ زمن‬ ‫الأ�صلية‪ ،‬و�إنمّ ا عن لغات �أخرى»‪ .‬ثم ت�أتي الحق ًا‬
‫الن�ص‪� ،‬إىل الزمن الأفقي‪ ،‬وهو الزمن الذي‬ ‫ّ‬ ‫كتابة‬ ‫ترجمة ت�شتغل على هذه النتاجات «املم�سوخة»‪،‬‬
‫للن�ص‪ ،‬الزمن امل�ؤول‪ .‬وهكذا‪ ،‬ي�ستمد‬‫ّ‬ ‫مينحه القارئ‬ ‫�أو هذه الرتجمات احلفيدة‪ ،‬فت�صبح ا�شتغا ًال على‬
‫الإبداع قوته‪ :‬من �إعادة �أن�ساق الزمن املختلف عن‬ ‫ا�شتغال‪ .‬فما هي قيمة هذه اال�شتغاالت‪ ،‬وهل هي‬
‫الن�ص الواحد‪ْ � ،‬إن‬
‫الأ�صل‪ ،‬ومن هجرة الأزمنة داخل ّ‬ ‫ن�ص‬‫خيانات مركبة؟ ثمة من يقول‪�« :‬إن ترجمة ّ‬
‫‪273‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫�أن يخ�ضعها للدفع العنيف الذي يت�أتى من اللغة‬ ‫فالن�ص‬


‫ّ‬ ‫مل يقرتح القارئ زمن ًا جديداً �أ�صي ًال منزاحاً‪.‬‬
‫الأجنبية ‪ ..‬فاملرتجم ال بد �أن يفجر الأطر املنخورة‬ ‫الن�ص هو الالزمن‪ .‬ي�ضع‬ ‫هو الزمن‪ ،‬وما يقع خارج ّ‬
‫للغته»‪ .‬يتعلق الأمر بتاريخ اللغة وفل�سفتها‪ ،‬فال بد‬ ‫ن�ص و�أنه‬
‫الن�ص‪ّ �« :‬إن العامل ّ‬
‫بالن�شو الزمن مب�ستوى ّ‬
‫نحو‬
‫من زحزحة اجلامد يف ذلك التاريخ‪ ،‬ثم التوجه َ‬ ‫حركة الكتابة ذاتها»‪.‬‬
‫زحزحة تاريخ الن�ص‪ .‬لي�س تاريخ الن�ص هو زمن‬ ‫يعاين جاك دريدا مفهوم «الأثر» ‪ ،‬يف الن�ص الواحد؛‬
‫كتابته‪� ،‬إنمّ ا هو زمن ت�أويله وهجرته‪ ،‬والرتجمة‬ ‫الن�ص‬
‫ن�ص هي ما ي�شكل‬ ‫�آثار الآخرين والرتبية العائلية واملجتمعية‪ّ .‬‬
‫تقوم بهذين العملني»‪ .‬ترجمات ّ‬ ‫جماعي‪.‬‬ ‫ن�ص‬
‫تاريخه»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الن�ص الفردي هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫نتاج ه�ؤالء معاً‪،‬‬
‫«الفن للمجتمع»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬تف�شل ت�أويلي ًا نظرية‬
‫ال يتوخى الكاتب عبد ال�سالم بنعبد العايل يف‬ ‫مندحرة جلهة نظرية «الفن للفن»‪ ،‬التي حتوز‬
‫الدفعي املبا�رش‪�.‬إذ ال‬
‫ّ‬ ‫كتابه» الرتجمة»‪ ،‬الإقناع‬ ‫مفهوم الإبداع من جوانبه كلّها؛ �إ ّنها حا�ضنة للأثر‬
‫لتحول الفتة‬
‫ّ‬ ‫الن�ص مبا�رشة �إىل الفهم‪ ،‬و إ�الّ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتجه‬ ‫مبا فيه املجتمع‪ ،‬ب�إعتبار الكاتب كائن ًا اجتماعي ًا‬
‫�شعارات‪ ،‬فالتخاطب املبا�رش‪ ،‬يعني التوجه �إىل‬ ‫«نحن نعي�ش الآن ع�رص التف�سري ال�س�سيولوجي‬
‫يتم �إلغاء‬
‫�شخ�ص حم ّدد‪ ،‬من �شخ�ص حم ّدد‪ ،‬وعليه‪ّ ،‬‬ ‫الن�ص قابل للزحزحة‪ ،‬التي‬ ‫ملنجزات الثقافة»‪ّ � .‬أن‬
‫ّ‬
‫الأثر الذي يق�صده دريدا‪ ،‬ملغي ًا بدوره كينونة الآخر‪،‬‬ ‫ت�ضمن انتقاله بالنهاية‪ ،‬ثم دميومته‪ .‬تكمن �سالمة‬
‫«الفن للمجتمع»‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫وهذا مكمن العيب يف نظرية‬ ‫الن�ص يف العدوى النافعة‪ ،‬لأن الن�صو�ص اجلامدة‬ ‫ّ‬
‫الت�ضحية بالآخر‪ ،‬على الرغم من توجهها ظاهري ًا‬ ‫ال تتنقل‪ ،‬هي وديعة �أمانة عند كاتبها‪� .‬أال يعني‬
‫�إىل املجتمع‪.‬‬ ‫الن�ص‪ ،‬خيانة للوديعة التي‬ ‫انتقال الن�ص‪ -‬عدوى‬
‫ّ‬
‫ي�سري الكاتب يف مناق�شاته �إىل الإقناع البطيء‪،‬‬ ‫مقيدة عند امل�ؤمتن؟ الوديعة تقابل‬ ‫يجب بقا�ؤها ّ‬
‫والق�رسية‪ ،‬ت�شفع‬
‫ّ‬ ‫يل بعيداً عن الإكراه‬
‫الإقناع التداو ّ‬ ‫الأ�صل‪� ،‬إذاً‪ ،‬خيانة الأ�صل‪ /‬خيانة الوديعة‪ ،‬هي التي‬
‫له �أحاطته الفل�سفية مبو�ضوع الرتجمة‪ ،‬ك�أنه يتداول‬ ‫حي ًا �ساملاً‪ .‬فالن�صو�ص ودائع‪ ،‬ال‬ ‫تكفل بقاء الن�ص ّ‬
‫مع القارئ الفكرة ونقي�ضها‪ ،‬الأ�صل ون�سخته‪ ،‬الوفاء‬ ‫ح�رصي ًا عليها‪ .‬هنا �إعادة النظر‬
‫ّ‬ ‫يوجد م�ؤمتن واحد‬
‫واخليانة‪ .‬وك�أن التناق�ضات لي�ست �أعداء التطابقات‪،‬‬ ‫مبفهوم العدوى‪ ،‬التي هي يف مفهوم املر�ض‪ ،‬تعني‬
‫�إن مل تكن هي رفيقة عمل ودليل فهم‪.‬‬ ‫املوت والنهاية‪ .‬جتعل العدوى املر�ض �سارياً‪� ،‬أي‬
‫لذا فهو يبتغي الإقناع ولي�س القناعة التي تنطوي‬ ‫ت�سببه العدوى �إىل‬‫يتحول الفناء الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫باقياً‪ .‬وهكذا‬
‫على �شيء من الت�سليم بالأمر الواقع فر�ضاً‪ ،‬بينما‬ ‫�سالمة يف حالة الإبداع‪ .‬النجاة من اال�ضمحالل‪ ،‬يف‬
‫الإقناع يحتوي التفاهم‪ ،‬وهو نتيجة هجرة تبد�أ من‬ ‫مقاربة املر�ض الزوال‪ ،‬والعدوى ال�شفاء‪.‬‬
‫الكاتب �إىل القارئ‪ .‬يحاول املبدع �إزاحة الت�شابه‬ ‫ت�ضمن هجرة الن�صو�ص مبتعدة عن �أ�صولها‪ ،‬حياة‬
‫بني الإقناع والقناعة‪.‬‬ ‫م�ستمرة‪ ،‬طاملا هي تتنقل من �شخ�ص‬
‫ّ‬ ‫ثانية لها‪،‬‬
‫ال تق�صد حماججات بنعبد العايل الغلَبة‪ ،‬فالعقل لي�س‬ ‫�إىل �آخر‪ ،‬كما يعطيها الت�أويل حياة جديدة‪ ،‬قد‬
‫التفوق‪ .‬الإنت�صار‬
‫مزهواً بالنتائج املفرو�ضة بحكم ّ‬ ‫تختلف كلي ًا عن حياتها الأ�صلية‪ ،‬وهكذا الرتجمة‪.‬‬
‫يل بني ال�صواب واخلط�أ‪ ،‬بني‬ ‫هو ثمرة �إقناع تداو ّ‬ ‫يقول فالرت بنيامني‪« :‬ان �أعظم الأخطاء التي ميكن‬
‫العدالة والظلم‪� ،‬أي اخلط أ� يناق�ش ال�صواب‪ ،‬بعيداً عن‬ ‫للمرتجم �أن يقع �ضحيتها‪ ،‬هي �أن يعمل على جتميد‬
‫واجلربية‪ .‬الكاتب بنعبد العايل ذو �شخ�صية‬
‫ّ‬ ‫الإكراه‬ ‫احلالة التي توجد عليها لغته بفعل ال�صدفة‪ .‬عو�ض‬
‫‪274‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫الرتجمة خيانة‪� ،‬إ�سوة باخليانات االجتماعية‪.‬‬ ‫بيداغوجية (�أ�ستاذ الفل�سفة)‪ ،‬لذا مينح الأفكار �شكل‬
‫ّ‬
‫فت�صبح اخليانة على هذا النحو �أ�سرتاتيجة‬ ‫ي�شعر بالقارئ رديف التلميذ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫و�سلوك الرتبية‪،‬‬
‫�أخالقيات‪ ،‬ينبغي عدم اخرتاقها‪ .‬يحتاج تفنيدها‬ ‫ي�سرت�سل معه‪ ،‬ك�أنهما يف در�س �صداقة حميم‪،‬‬
‫يل �إىل ح ّد ما‪ .‬ثم‬
‫اىل امل�سايرة مع القارئ ب�شكل تداو ّ‬ ‫منا طريقة‬ ‫ال �أق�صد العالقة الأ�ستاذية الرتبوية‪� ،‬إ ّ‬
‫االنقالب عليه‪ ،‬ال عن طريق الطعن مب�سلّماته فج�أة‪،‬‬ ‫الو�صول �إىل الإقناع من دون الت�صادم‪ ،‬وذلك لأن‬
‫تعود‬ ‫معية االثنني‪ ،‬الكاتب والقارئ معاً‪ ،‬مثلما‬ ‫العامل يف ّ‬
‫لأنه‪ ،‬عندئذٍ‪� ،‬سيث�أر ملنظومة الأخالق التي ّ‬
‫الأفكار هي نتاجهما‪ ،‬وهذا �شكل خمتلف للإقناع‪،‬‬
‫عليها‪ ،‬بل عن طريق الإتفاق معه حيلة على �إن فعل‬
‫تخلو منه الثقافة العربية املزدانة باخل�ضوع �إىل‬
‫الرتجمة خيانة‪ ،‬وهو ما يريده القارئ‪ ،‬و�صو ًال ملا‬
‫العربي نف�سه‬
‫ّ‬ ‫�أفكار القائد‪ .‬فغالب ًا ما يت�صور املثقف‬
‫يريده الكاتب‪ :‬الرتجمة فعل �إبداعي نزيه‪ ،‬يخلو من‬ ‫القراء مريدوه‪ ،‬واملقالة حكومته‪.‬‬‫زعيماً‪ّ .‬‬
‫اخليانة‪� ،‬أو هو خيانة اخليانات‪ ،‬كما هو خيانة ال‬
‫�أحد‪ .‬وهو املق�صود من فكرة عر�ض الأفكار ب�شكل‬ ‫ا�سرتاتيجية كتاب‬
‫بيداغوجي‪ .‬عمل كهذا‪ ،‬يطمح �إىل خلخلة قيعان‬ ‫ال يتجه كتاب «يف الرتجمة»‪� ،‬إىل �شكل الإقناع‬
‫الفهم‪ ،‬ال يحتاج �أ�سلوب ال�شذرات «جتميع وم�ضات‬ ‫لوحده‪ ،‬بل �إىل �شكل الكتابة �أي�ضاً‪ ،‬فهو يت�ضمن‬
‫فكرية»‪ ،‬بل ا�سرتاتيجية كتاب‪.‬‬ ‫ا�سرتاتيجية كتاب‪ ،‬بخالف م�ؤلفات الكاتب الأخرى‪،‬‬
‫املعتمدة �أ�سلوب ال�شذرات‪ ،‬يقول‪� « :‬س�أحاول يف هذه‬
‫ملاذا تظل الرتجمة عربي ًا «خيانة» �أخالقية‪،‬‬
‫العجالة تربير تلك املمار�سة الوقحة بع�ض ال�شيء‪،‬‬
‫يتم جتاوز الفعل الأخالقي يف الفكر الغربي‬ ‫بينما ّ‬ ‫التي د�أبت عليها منذ �أزيد من عقدين‪ ،‬والتي تتمثل‬
‫واملجتمع الغربي ؟‪ .‬يبدو �أن املجتمع العربي يرتاح‬ ‫يف نوع من االِبتعاد عن الكتابة الفل�سفية الر�صينة‪،‬‬
‫�إىل فكرة اخليانة‪ ،‬فهي حتاكي ازدواجيته الأخالقية‬ ‫وامليل اِىل جتميع وم�ضات فكرية‪ ،‬ال تخ�ضع لقواعد‬
‫وثقافته املبطنة‪ ،‬التي تفرح ب�صفات الت�سترّ‬ ‫الت�أليف املعهودة‪ ،‬وخ�صو�ص ًا الفل�سفي منه‪ ،‬بل انها‬
‫والتخفي‪ .‬فمثالً‪ ،‬نحن نخون �أخالقيا ومعنوي ًا‬ ‫تتخذ و�سائل ن�رش منابر‪ ،‬ما كانت الفل�سفة لرت�ضى‬
‫الإتفاق ال�شفوي بني متعاق َدين وال نعت ّد به‪ ،‬بينما‬ ‫بها حتى وقت غري بعيد»‪.‬‬
‫ين�ص على‬ ‫يف الغرب‪ ،‬هناك قانون يف املحاكم ّ‬ ‫تكمن خطورة عبارة «الرتجمة خيانة»‪ ،‬يف‬
‫� ّأن االتفاق ال�شفوي‪ ،‬عقد ُملزم‪ .‬فما الذي بقي �إذن‬ ‫حتري�ض املجتمع العربي �أخالقياً‪ .‬على ا�ستنفار‬
‫�أخالقي ًا وحرفي ًا من مفهوم «الرتجمة خيانة» ؟؟‪.‬‬ ‫املحرمات وجعلها �ض ّد الإبداع‪ ،‬عندما ُيعترب فعل‬

‫‪275‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫«الأيام ال�سبعة للوقت» لنوري اجلراح‬
‫الق�صيدة التي ‪ ..‬تذهب بال�شعر‬
‫نحو تخوم امل�أ�ساة‬
‫مفيد جنم‬
‫ناقد من �سوريا‬

‫للحوا�س‪ ،‬التي تربط بني عنا�رص ال�صورة ال�شعرية‬ ‫تقوم ق�صيدة احلداثة عند ال�شاعر ال�سوري نوري‬
‫اال�ستعارية‪ ،‬من خالل عالقات االنزياح القائمة‬ ‫اجلراح يف �إطار الر�ؤية اجلديدة التي تقدمها‬
‫على �أكرث من م�ستوى‪ ،‬على �صعيد البنية الرتكيبية‬ ‫للذات والعامل واللغة على قاعدتني �أ�سا�سيتني‪،‬‬
‫لل�صورة‪ ،‬واللغة امل�شحونة بكثافة ح�سية عالية‬ ‫�أولهما التفاعل مع املنجزات الأ�سا�سية التي‬
‫الداللة والرمز‪.‬‬ ‫حققتها التجربة ال�شعرية يف �أكرث ن�سخها �أهمية‪،‬‬
‫حتمل الق�صيدة عنوان الأيام ال�سبعة للوقت‪ ،‬وهو‬ ‫ال�سيما الأنا�شيد و�آليات التقنع يف الق�صائد‬
‫امللحمية وامل�رسح القدمي‪ ،‬وثانيهما �إعادة بناء‬
‫عنوان يت�ألف على م�ستوى بنيته النحوية من‬
‫اللغة وال�صورة ال�شعريتني على نحو مغاير‪،‬‬
‫جملة ا�سمية‪ ،‬م�ستمدة من داخل الن�ص‪ ،‬يحيل‬
‫يقوم على عالقات االنزياح التي تولدها خميلة‬
‫يف معناه على مرجعية خارجية‪ ،‬ي�ستمد منها‬
‫�شعرية منطلقة‪ ،‬وقد حتررت من معطيات التجربة‬
‫بع�ضا من دالاللته‪ ،‬وذلك بحكم موقعه يف �صدارة‬
‫احل�سية املبا�رشة‪ ،‬يف حماولة ثرية بلغتها‬
‫الق�صيدة‪ ،‬يف الوقت الذي يحيل فيه على الن�ص‬
‫وبالغتها لكتابة ق�صيدة جديدة تقوم على لغة‬
‫الذي يتوجه بحكم وظيفته ال�شعرية‪ ،‬فالأيام‬ ‫الرمز والإيحاء‪ ،‬وتهج�س ب�أ�سئلة الوجود العميقة‬
‫ال�سبعة للوقت تقيم تنا�صها مع حكاية اخللق‬ ‫والغائر يف عمق الوجدان الإن�ساين ويف تاريخ‬
‫التوراتية‪ ،‬التي تتحدث عن خلق اهلل للعامل يف‬ ‫كينونته‪ .‬يف ق�صيدته املطولة الأيام ال�سبعة‬
‫�ستة �أيام ويف اليوم ال�سابع ا�سرتاح‪ ،‬لكن تنا�صه‬ ‫للوقت‪ ،‬يحقق ال�شاعر نوري اجلراح انزياحا‬
‫مع الق�صيدة التي يحيل عليها بقدر ما هي حتيل‬ ‫وا�ضحا على م�ستوى تلك الكتابة ال�شعرية‪ ،‬يتجلى‬
‫عليه‪ ،‬يك�سبه معنى �إ�ضافيا جديدا نابعا من‬ ‫يف جملة من اخل�صائ�ص البنيوية والأ�سلوبية‬
‫طبيعة احلدث الذي حتاول الق�صيدة �أن تتمثل‬ ‫واجلمالية‪ ،‬التي ت�شكل خيارا حدائيا وا�ضحا‬
‫�أبعاده الإن�سانية ومعانيه ودالالته‪ ،‬كما جتلى يف‬ ‫لل�شاعر‪ ،‬ينتقل باللغة و�أدواتها التعبريية من‬
‫ظاهرة امل�سريات ال�سلمية التي كانت تنطلق كل‬ ‫م�ستوى التعبري املبا�رش �إىل امل�ستوى الرمزي‬
‫جمعة يف �أغلب الأرياف واملدن ال�سورية للمطالبة‬ ‫والإيحائي والتكثيف املركز‪ ،‬والعالقات العابرة‬
‫‪276‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫هذا التكرار يف نفي املطابقة بني �أنا القناع‪،‬‬ ‫باحلرية والكرامة‪ ،‬و�إ�سقاط نظام اال�ستبداد‪ ،‬حتى‬
‫التي تتوىل وظيفة الكالم يف هذا اخلطاب‪ ،‬و�أنا‬ ‫غدت احلدث الأيقونة‪ ،‬الذي بات يعرب عن احلراك‬
‫ال�شاعر التي يتوجه �إليها هذا اخلطاب‪ -‬الن�شيد‪،‬‬ ‫ال�سلمي ال�شعبي يف وجه البط�ش والعنف الأعمى‬
‫ف�إنه يتو�سل من خالل وظيفة التكرار حتقيق ب�ؤرة‬ ‫للنظام‪ .‬وكما كانت الأيام ال�سبعة للوقت مبثابة‬
‫توتر وت�شخي�ص درامي وغنائي‪ ،‬عرب تلك العالقة‬ ‫خلق جديد للعامل‪ ،‬ف�إن الثورة ال�سورية من خالل‬
‫اجلدلية القائمة بني �أنا القناع و�أنا ال�شاعر‪،‬‬ ‫هذه الرمزية الدالة تتقاطع مع هذا املعنى‪ ،‬من‬
‫بغية �إ�رشاك املتلقي منذ البداية يف تلك احلالة‬ ‫حيث كونها �إعادة خلق للحياة والإن�سان والواقع‬
‫ال�شعورية امل�سيطرة‪ ،‬التي تعمل على تكثيف‬ ‫احلر اجلديد‪� .‬إن �أهمية هذا العنوان تكمن يف كونه‬
‫مدلوالتها الرمزية واحل�سية‪ ،‬من خالل هذه‬ ‫مفتاحا ت�أويليا‪ ،‬يقوم مبهمة ربط القارئ بن�سيج‬
‫العالقة القائمة على التوحد بني الق�صيدة والدم‪،‬‬ ‫الن�ص الداخلي واخلارجي‪ ،‬كما يقول �إمربتو �إيكو‪،‬‬
‫�أو بني �أنا ال�شاعر و�أنا اجلماعة يف هذا الن�شيد‬ ‫وذلك من خالل وظيفته التي يقوم بها يف التعبري‬
‫العميق‪ ،‬الذي ي�سعى �إىل و�ضع املتلقي منذ البداية‬ ‫عن العمل رمزيا ودالليا‪.‬‬
‫يف �أفق التجربة الدامي‪ ،‬التي تتوحد لغة ال�شاعر‬ ‫ي�ستخدم ال�شاعر تقنية القناع‪ ،‬التي تظهر عرب‬
‫بها‪ ،‬دون �أن ت�سميها‪:‬‬ ‫انق�سام الذات على ذاتها‪ ،‬يف اخلطاب وت�شظيها‬
‫دم من هذا الذي يجري يف ق�صيدتك �أيها ال�شاعر ؟‬ ‫�إىل �شخ�صيتني اثنتني‪� ،‬شخ�صية القناع و�شخ�صية‬
‫و�إذا كان �صوت القناع الذي يفتتح الق�صيدة بهذا‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬الأمر الذي ينجم عنه قيام منولوج بني‬
‫الن�شيد‪ ،‬م�ستخدما تلك اللغة اال�ستعارية القائمة‬ ‫�شخ�صية القناع وال�شخ�صية الأخرى لل�شاعر‪،‬‬
‫على ت�شخي�ص املجرد‪ ،‬وعالقات انزياح ال�صفات‬ ‫والتي متثل الذات العميقة املكت�سبة ل�شخ�صية‬
‫عن مو�صوفاتها‪ ،‬ب�شكل مينحها تلك الكثافة‬ ‫القناع‪ ،‬بحيث ينتقل اخلطاب يف الق�صيدة‪ ،‬من‬
‫الداللية املوحية( ق�صيدتك عمياء‪ /‬و�صوتك‬ ‫امل�ستوى الذاتي �إىل امل�ستوى الآخر املو�ضوعي‪،‬‬
‫�أعمى)‪ ،‬ف�إن تلك امل�ساءلة واتهام الذات‪ ،‬الذي‬ ‫والكثافة الرمزية‪ ،‬التي حتاول �أن تنفي املطابقة‬
‫تت�ضمنه تلك العتبة‪� ،‬رسعان ما يربز امل�شهد‬ ‫بني ذات ال�شاعر و�أناه الأخرى‪ ،‬يف هذه الق�صيدة‪.‬‬
‫املقابل يف تلك الثنائية‪ ،‬بني ال�شاعر والواقع‬ ‫�إن هذا اخلطاب املقنع الذي ي�أتي يف م�ستهل‬
‫امل َُعرب عنه لالنتفا�ضة‪ ،‬عندما ينتقل خطاب‬ ‫�أغلب مقاطع الق�صيدة الطويلة‪ ،‬على غرار ما كان‬
‫القناع من م�ستوى اتهام الذات و�إدانتها( ق�صيدتك‬ ‫يحدث يف م�ستهل الق�صائد امللحمية الكربى‪،‬‬
‫عمياء‪� )...‬إىل م�شهد ب�رصي متحرك نقي�ض للأول‪،‬‬ ‫ينتقل بالق�صيدة من �أفقها الذاتي �إىل الأفق‬
‫تتوىل فيه عنا�رص الطبيعة‪ ،‬يف هذا اجلناز البالغ‬ ‫املو�ضوعي‪ ،‬ومن لغتها املطابقة للغة‪� ،‬إىل لغة‬
‫الداللة‪ ،‬من خالل متوالية ال�صور اال�ستعارية‬ ‫الإيحاء ذات الكثافة الرمزية‪ ،‬والبنية اال�ستعارية‬
‫املكثفة‪ ،‬وظيفة التعبري عن ق�سوة امل�شهد‬ ‫لل�صورة ال�شعرية القائمة على عالقات االنزياح‬
‫امل�أ�ساوي‪ ،‬ما يجعلها تتحول �إىل ب�ؤرة داللية‬ ‫بني عنا�رصها ومكوناتها املختلفة‪� ،‬سواء على‬
‫�شديدة الإيحاء‪ ،‬بو�صفها مكونا ا�ستعاريا ورمزيا‬ ‫م�ستوى ال�صفات‪� ،‬أو البنية النحوية‪� ،‬أو املعطيات‬
‫قائما على التج�سيد والت�شخي�ص‪ ،‬يك�سب اخلطاب‬ ‫احل�سية للتجربة ال�شعورية‪ .‬وبقدر ما تت�أكد وظيفة‬
‫‪277‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫وكثافتها الرمزية والداللية‪ ،‬ومتثلها اجلمايل‪،‬‬ ‫و�أدواته التعبريية قيمة جمالية بالغة التكثيف‬
‫لأبعاد االنتفا�ضة العظيمة �إن�سانيا وثقافيا‬ ‫والداللة واحليوية‪ ،‬التي تتولد عن ا�ستخدام‬
‫وتاريخيا ووجوديا‪ ،‬م�ستثمرا يف ذلك �صيغا‬ ‫ال�شاعر للأفعال امل�ضارعة‪ ،‬يف هذه املتوالية من‬
‫و�أدوات تعبري خمتلفة‪ ،‬بدءا من �آلية التقنع‪،‬‬ ‫ح�شد التو�صيف ‪:‬‬
‫وح�شد التو�صيف القائم على اال�ستخدام املكثف‬ ‫لكن الهواء يهدهد ال�سهل‪ ،‬والع�شب يهم�س للقتيل‪/‬‬
‫ل�صيغة الفعل امل�ضارع‪ ،‬وما ت�ضفيه من طابع‬ ‫القمح يتطاول‪ /‬لريى‪ /‬ارجتاف اله�ضبة‪.‬‬
‫احلركة واحليوية واحلرارة على امل�شهد ال�شعري‬ ‫�إن القناع الذي يقوم بنفي �شخ�صية ال�شاعر‪،‬‬
‫(املركبات تفح‪ /‬املركبات تعوي‪ /‬اجلنازير‬
‫�إمنا يقوم ب�إبراز الذات العميقة لها‪ ،‬جم�سدة يف‬
‫ال�ضخمة ترتك ب�صماتها على �إ�سفلت ال�شارع‪/‬‬
‫ال�شخ�صية املتنكرة �أو �شخ�صية القناع‪ ،‬وهنا‬
‫املركبات العمياء تر�سل احلمم �إىل �صور العائلة)‪،‬‬
‫نالحظ �أن �أنا هذه ال�شخ�صية تنتقل باخلطاب‬
‫و�صوال �إىل تقنية التكرار ووظائفها البنائية‬
‫من م�ستوى عالقة االلتحام بني اللغة والثورة‬
‫والإيقاعية والن�صية‪ ،‬وا�ستطراد التداعي (دم يف‬
‫ال�سورية‪� ،‬إىل م�ستوى االلتحام بني �أنا ال�شخ�صية‬
‫غفلة املنعطف‪ ،‬يف مم�شى ال�صبي‪ ،‬يف ابت�سامته‬
‫والثورة‪ ،‬حيث ينفتح �س�ؤال امل�أ�ساة ال�سورية يف‬
‫املدر�سية‪ /‬يف كتاب املعلم‪ /‬يف �س�ؤال ال�صباح‪/‬‬
‫�أبعادها الإن�سانية‪ ،‬وبلغة ال تت�ضمن �أية �إحالة‬
‫دم يف بحة املراهقة‪ ،‬دم يف ه�سي�س املاء‪ /‬دم‬
‫مبا�رشة‪� ،‬أو قرينة ما �إليها‪ ،‬ليكون �س�ؤال ال َّدم‬
‫على الأ�شجار ‪ ،)...‬والتنا�ص القائم على ا�ستدعاء‬
‫ال�صارخ مفتوح الداللة على ات�ساع تلك امل�أ�ساة‬
‫�شخ�صيات دينية‪ ،‬من خالل الوقائع التي ارتبطت‬
‫التي تتوحد معها �أنا القناع‪:‬‬
‫بها‪ ،‬وتنا�ص اخلفاء مع روح الأنا�شيد الدينية‬
‫والق�ص�ص الديني‪ ،‬حيث يجري امت�صا�ص احلكاية‬ ‫�شق الغروب‬ ‫ويف املتبقي من الزمن �شقيقي الذي ّ‬
‫وتذويبها يف الن�ص اجلديد‪ ،‬مع الإبقاء على عالمة‬ ‫ر�أ�سه‪ /‬دمه يقطر يف مالب�سي‪ /‬دم من هذا؟‪/‬‬
‫من عالماتها الدالة (وملا ت�ساقطت احلجب‪/‬‬ ‫تق�صف جهة الغروب يقطر حمرة‬ ‫وظهره الذي َّ‬
‫ر�أيت ما ر�أيت‪ ،‬دم ي�رصخ يف حنجرة م�شطورة‪/‬‬ ‫وغروبا‪ /‬دم من هذا؟‪ /‬دم من هذا؟‬
‫والغراب بجناحني متعاظمني يلطم ال�شقيق بدم‬ ‫تتوزع الق�صيدة على جمموعة من املقاطع‬
‫ال�شقيق‪� -‬أنا ال �أكتب ق�صيدة لكنني �أ�شم القمي�ص‬ ‫املكثفة‪ ،‬وامل�شاهد ذات البنية امل�ؤلفة من طيف‬
‫لأب�رص)‪� .‬إن ال�شاعر يحاول اال�ستفادة من كون‬ ‫وا�سع من ال�صوراال�ستعارية‪ ،‬القائمة على عالقات‬
‫تلك ال�شخ�صيات والق�ص�ص الديني تتمتع بح�ضور‬ ‫التباعد واالنزياح بني عنا�رصها‪ ،‬ب�صورة تتحرر‬
‫عميق مع دالالتها الإن�سانية والوجودية العميقة‬ ‫فيه ومعه لغة ال�شاعر من مدلوالتها املبا�رشة‬
‫يف املخيلة والوجدان اجلمعي‪ ،‬ما ي�سهم يف‬ ‫واملطابقة للغة‪ ،‬لكي يتم بناءها على م�ستوى‬
‫حتقيق تفاعل �أو�سع بني الق�صيدة واملتلقي‪.‬‬ ‫�أعلى ومغاير‪ ،‬تت�سم معه بطابعها الإيحائي‬

‫‪278‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫البنيوية التكوينية يف‬
‫النقد املوريتاين احلديث‬
‫حممد احل�سن ولد حممد امل�صطفى‬
‫ناقد واكادميي من موريتانيا‬

‫النقدي املوريتاين انطالقا من خ�صو�صيته ويف‬ ‫ميكن للباحث املت�أمل �أن يالحظ �أن معظم املقاربات‬
‫تعالقاته مع مرجعياته الفكرية النظرية والإجرائية‬ ‫النقدية املوريتانية التي تنطلق من الن�ص الأدبي �أو‬
‫يف ال�سياق العربي والغربي لنعرف كيف ا�ستطاع‬ ‫تطمح �إىل ذلك وجدت �صعوبة حقيقية يف اكت�شاف‬
‫الناقد امل��وري��ت��اين �أن يبني منهجه اخل��ا���ص به‪،‬‬ ‫الن�ص الأدب��ي ودرا�سة قوانينه مبعزل عن ال�سياق‬
‫وح��دود التزامه باملنهج النقدي «امل�صدر» وهو‬ ‫اخلارجي‪ ،‬ومن ثم فقد وجد معظمها نف�سه مدفوعا‬
‫ت�سا�ؤل �سي�ؤدي بنا �إىل �إعادة طرحه بطريقة �أخرى‬ ‫عن ق�صد �أو غري ق�صد �إىل اال�ستفادة مما يقدمه املنهج‬
‫لأ�سباب تتعلق بالثقافة العربية املعا�رصة �إجماال‬ ‫البنيوي التكويني من «و�سائل» ت�سعى �إىل ردم الهوة‬
‫– والنقد الأدبي جزء منها وهي كيف ا�ستقبل النقاد‬ ‫بني داخل الن�ص وخارجه �أو على الأقل تطمح �إىل‬
‫املوريتانيون البنيوية التكوينية ؟‬ ‫ربط ال�صلة بني هذين الوجهني امل�شكلني للظاهرة‬
‫الإبداعية الأدبية مبا هي ن�شاط لغوي خا�ص تفرت�ض‬
‫لو�سيان جولدمان ور�ؤيته العامل‬
‫منتجا ومتلقيا وحميطا اجتماعيا وواقعا اقت�صاديا‬
‫يلعب العمل الأدب���ي يف نظر لو�سيان جولدمان‬ ‫و�سيا�سيا وخلفية تاريخية‪.‬‬
‫و�أ�رضابه من البنيويني التكوينيني دورا حيويا يف‬ ‫ولي�س من طبيعة هذا البحث وال من دوافعه و�أهدافه‬
‫تكوين الواقع وت�شكيله عو�ض عك�سه ب�شكل �سكوين‪،‬‬ ‫�أن ينطلق م��ن البنيوية التكوينية كمنهج نقدي‬
‫وان��ط�لاق��ا م��ن التمييز ب�ين «امل��ع��رف��ة امل��ج��ردة»‬ ‫معروف يف الغرب ب�أ�س�سه و�أدواته و�إجراءاته ليبحث‬
‫و«امل��ع��رف��ة املح�سو�سة» مي��ك��ن �إدراك املفهوم‬ ‫عن «�إكلي�شيهات» موريتانية ت�صنف يف خانته‪ ،‬كما‬
‫اجلولدماين عن البنية الدالة �أي وحدة العمل ومعناه‪،‬‬ ‫لي�س الهدف �أي�ضا االنطالق من منهج نقدي موريتاين‬
‫وبالتايل طابعه اجلمايل اخلا�ص‪ ،‬ولي�س ذل��ك �إال‬ ‫بغر�ض البحث عن �سبيل لو�ضعه يف خانة عاملية‬
‫لإيجاد عالقة م�شرتكة لي�ست بني م�ضمون الوعي‬ ‫متكن من االعرتاف به وت�سويقه‪.‬‬
‫اجلمعي وم�ضمون العمل الأدب��ي‪ ،‬ولكن بني البنى‬ ‫�إن الغر�ض من هذه الدرا�سة هو حماولة حلظ ودرا�سة‬
‫الذهنية التي ت�شكل الوعي اجلمعي والبني ال�شكلية‬ ‫طبيعة هذا املنهج النقدي يف موريتانيا وت�صنيفه‬
‫واجلمالية التي ت�شكل العمل الأدبي‪.‬‬ ‫على نحو يتطلع �إىل قدر من املو�ضوعية‪ ،‬ودرجة‬
‫وهكذا اهتم جولدمان بدرا�سة «بنية» الن�ص الأدبي‬ ‫مقبولة من الدقة يف ر�صد وحتليل املنهج‪ .‬وحيث‬
‫درا�سة تك�شف الدرجة التي يج�سد بها الن�ص بنية‬ ‫�إن النقد العربي املوريتاين – كما النقد يف الإطار‬
‫الفكر �أو ر�ؤية العامل عند طبقة �أو جمموعة اجتماعية‬ ‫العربي الأعم – ا�ستثمر على نحو وا�سع ويكاد يكون‬
‫ينتمي �إليها الكاتب وعلى �أ�سا�س �أنه كلما اقرتب‬ ‫مقت�رصا على ذلك « تقنيات» املناهج النقدية الغربية‬
‫الن�ص اقرتابا دقيقا من التعبري الكامل املتجان�س عن‬ ‫وطرائقها يف التحليل والت�صنيف والرتكيب‪ ،‬واحلكم‬
‫ر�ؤية العامل عند طبقة اجتماعية كان �أعظم تالحما‬ ‫�أحيانا‪ ،‬ف�إنه ي�صبح م�رشوعا وطبيعيا درا�سة املنهج‬
‫‪279‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫والتجلي‪ ،‬درا�سات بنيوية يف ال�شعر ‪ 1979‬موا�صال‬ ‫يف �صفاته الفنية‪.‬‬


‫�أعماله يف هذا ال�سياق خالل العقود التالية‪.‬‬ ‫وال��ر�ؤي��ة للعامل �أ�شد ح�ضورا يف الأع��م��ال الأدبية‬
‫البنيوية التكوينية يف الوطن العربي‬ ‫والفل�سفية العظيمة �أي تلك التي تتميز بقيمة جمالية‬
‫�أو فكرية �أو بهما معا « �إن البنية الداخلية للأعمال‬
‫وقد تنوعت وت�شعبت التجارب البنيوية التكوينية يف‬ ‫الفل�سفية �أو الأدبية �أو الفنية العظمى �صادرة عن‬
‫املنطقة العربية‪ ،‬ورمبا كانت �أكرث متا�سكا يف وفائها‬ ‫كون هاته الأعمال تعرب يف م�ستوى يتمتع بان�سجام‬
‫ملنطلقاتها الفل�سفية واملنهجية من التيارات البنيوية‬ ‫كبري عن مواقف كلية يتخذها الإن�سان �أمام امل�شاكل‬
‫« اللغوية �أو ال�شكلية « كما ي�سميها البع�ض يف البالد‬ ‫الأ�سا�سية التي تطرحها العالقات فيما بني الب�رش‪،‬‬
‫العربية‪.‬‬ ‫والعالقة بني ه�ؤالء وبني الطبيعة»‪.‬‬
‫وقد عملت درا�سة �إدري�س ابلمليح «الر�ؤية البيانية عند‬ ‫والدرا�سة التي قام بها «جولدمان» لأفكار «با�سكال»‬
‫اجلاحظ» ‪ 1985‬على تطبيق مفهوم الر�ؤية للعامل‬ ‫وم�رسحيات «را�سني» يف كتابه « الإله املختفي»( ‪Le‬‬
‫كما حدده جولدمان على الرتاث النقدي‪.‬‬ ‫‪ )dieu caché‬ت�ؤكد الفكرة ال�سابقة فقيمة �أعمالهما‬
‫ويتحدث «�إدري�س ابلمليح» نف�سه عن طبيعة منهجه‬ ‫الفكرية واجلمالية لي�ست يف حاجة �إىل ت�أكيد وال‬
‫البنيوي التكويني وتطبيقه على �أعمال اجلاحظ‬ ‫ينفي جولدمان « الر�ؤية للعامل « عن الأعمال الأدبية‬
‫خا�صة مفهوم ر�ؤي��ة العامل باعتبارها بنية دالة‬ ‫والفل�سفية غري العظيمة‪ ،‬بل �إنه يرى �أن كل �أديب �أو‬
‫«ه��ذا اال�ستخدام ال��ذي �ساعدين على متثل فل�سفة‬ ‫فيل�سوف �إمنا يعرب يف كتاباته عن ر�ؤية معينة للعامل‬
‫بيانية كانت قاعدة لت�صور العامل من طرف اجلاحظ‬ ‫بغ�ض النظر عن قيمتها‪.‬‬
‫ت�صورا ميكن �أن نفهم يف �ضوئه جممل ما �ألف من‬ ‫ويو�ضح جولدمان ر�ؤيته �أكرث « �إن الر�ؤية للعامل هي‬
‫كتب ور�سائل‪� ،‬أو على الأقل �أهم ما ت�ضمنته البنية‬ ‫بالتحديد هذا املجموع من الطموحات‪ ،‬من امل�شاعر‬
‫يف �ضوء فل�سفة املعتزلة‪� ،‬أي بدجمها يف بنية �أ�شمل‬ ‫والأفكار التي ت�ضم �أع�ضاء جمموعة �أخرى‪� ،‬إنها بال‬
‫و�أو�سع هي االجت��اه العقائدي العام ال��ذي �آم��ن به‬ ‫�شك لي�ست خطاطة تعميمية للم�ؤرخ ولكنها تعميمية‬
‫اجلاحظ و�شكل حجر الزواية يف فكرة و�إبداعه‪.‬‬ ‫لتيار حقيقي لدى �أع�ضاء جمموعة يحققون جميعا‬
‫وقد كان كتاب «يف معرفة الن�ص» (‪ )1983‬حمطة‬ ‫هذا الوعي الطبقي بطريقة واعية ومن�سجمة �إىل حد‬
‫رئي�سة يف تطور املنهج النقدي عند مينى العيد حيث‬ ‫ما»‪.‬‬
‫حاولت �أن تكت�شف البنيوية التكوينية خارجة من‬ ‫وال �شك �أن جولدمان هنا قد حدد ما يريده بدقة يف‬
‫عباءتها املارك�سية ال�رصفة التي ظهرت من خالل‬ ‫منهجه ولكن الت�سا�ؤل �سيبقى م�رشوعا حول ما �إذا‬
‫معظم �أعمالها ال�سابقة خا�صة « الداللة االجتماعية‬ ‫كانت البنيوية التكوينية ج�سدت م�سعى جادا للخروج‬
‫حلركة الأدب الرومنطيقي يف لبنان»‪.‬‬ ‫من «�رشنقة» التحليل اللغوي «املغلق»‪� ،‬أم �أنها كانت‬
‫أ�م��ا «حممد بني�س» فتعد درا�سته «ظ��اه��رة ال�شعر‬ ‫حماولة خالقة « لرتقيع املارك�سية‪.‬‬
‫املعا�رص يف املغرب ‪-‬مقاربة بنيوية تكوينية»‬ ‫وقد �رشعت ال�ساحة النقدية العربية يف التعرف على‬
‫وعمله الكبري ال�شعر العربي احلديث بنياته و�إبداالتها‬ ‫البنيوية الغربية خا�صة يف �شقها التكويني وغريها‬
‫من �أب��رز الأعمال التي تطمح �إىل «ا�ستزراع» هذا‬ ‫من االجتاهات الن�صية منذ �أواخر ال�ستينات و�إن كان‬
‫املنهج يف املمار�سة النقدية العربية �إذ أ�ن��ه يقدم‬ ‫البع�ض يعود بذلك �إىل �أكرث من عقد من الزمن قبل‬
‫جوابا مركزيا «على منهج القراءة‪ ،‬حيث �أن كل قراءة‬ ‫ذلك‪.‬‬
‫علمية بنيوية تكوينية للن�ص الأدبي يجب �أن تتم من‬ ‫ففي �سنة ‪ 1974‬ن�رش كمال �أبوديب �أطروحته «جدلية‬
‫داخل املجتمع‪ ،‬ما دام الفكر والإبداع جزءا من احلياة‬ ‫الإيقاع يف ال�شعر العربي» ثم كتابه «جدلية اخلفاء‬
‫‪280‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫ال يفعل ذلك عن رغبة ف�ضولية يف التنقل‪� ،‬أو عن جهل‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وما دامت للن�ص الأدبي وظيفة حمددة‬
‫بحقيقة املناهج النقدية ودوره��ا يف بناء الن�ص‪،‬‬ ‫تاريخيا‪� ،‬إذ هو جواب فرد ينتمي بال�رضورة لفئة‬
‫و�إمن��ا حتركه الرغبة يف الو�صول �إىل منهج يحط‬ ‫اجتماعية حمددة تاريخيا‪ ،‬يهدف �إىل تغيري و�ضعيته‬
‫الباحث الرحال عنده وهو م�شبع باالطمئنان �إىل �أنه‬ ‫يف اجتاه يلبي طموحاته التي تلتقي مع طموحات‬
‫قد و�صل �إىل طريق �أو �آلية متكنه من مقاربة الظاهرة‬ ‫الفئة االجتماعية التي ينتمي �إليها‪.‬‬
‫الأدبية يف �أبعادها املختلفة‪ ،‬والتباينات املتنوعة‪،‬‬ ‫و�إذا كنا قد قمنا خالل التمهيد ال�سابق مبحاولة‬
‫بعيدا عن املنهج الذي يك�شف عن زاوية واحدة من‬ ‫خجولة لإ�ضاءة امل�سار البنيوي التكويني غربيا‬
‫ال�صورة ويرتك زواياها الأخرى عن ق�صد �أو عن غري‬ ‫وا�ستقباله عربيا ف���إن الت�سا�ؤل يبدو ملحا حول‬
‫ق�صد‪.‬‬ ‫طبيعة تلقي البنيوية التكوينية يف النقد املوريتاين‬
‫ويبدو يل �أن الناقد حممدو الناجي كان مو�ضوعيا‬ ‫املعا�رص‪.‬‬
‫يف عملية تنقله بني املناهج النقدية‪ ،‬فقد بد�أ مبنهج‬ ‫النقد البنيوي التكويني يف موريتانيا‪:‬‬
‫اجتماعي (خارجي) ثم عدل عنه �إىل منهج �أ�سلوبي‬ ‫ظهر �أول اهتمام بالبنيوية التكوينية يف موريتانيا‬
‫( داخلي) ثم عاد �إىل م�ستوى من م�ستويات الرتكيب‬ ‫منذ �أوائل الثمانينات من خالل جمموعة من املقاالت‬
‫بني املنهجني من خالل املنهج البنيوي التكويني‪.‬‬ ‫النقدية ال�صحفية التي ت�أثرت بها على نحو �أو اخر‪،‬‬
‫وتعد هذه املرحلة الرئي�سية يف عطاء هذا الناقد‪.‬‬ ‫كما �أن جممل املدونة النقدية التي ظهرت بعد ذلك‬
‫ويتحفظ الناقد يف بداية تقدميه لعمله «وا�سرتاتيجيته‬ ‫منذ �أو اخر الثمانينات ال ميكن ف�صلها �أو عزلها عزال‬
‫العامة من الت�رصيح مبنهجه‪ « :‬أ�م��ا نحن‪ ،‬وب�شيء‬ ‫كليا عن هذا االجتاه وامتداداته الوا�سعة يف ال�ساحة‬
‫من ال�صدق مع القارئ فقد انطلقنا من �أن املنهج‬ ‫النقدية يف املنطقة العربية عموما واملغاربية‬
‫الذي نتبعه هو منهج نحدده �سلفا‪ ،‬و�أن نعتمد مبد�أ‬ ‫خ�صو�صا غري �أن ثمة ثالثة نقاد موريتانيني ميكن‬
‫«الفائدة» يف مبا�رشة الن�ص‪ ،‬ونرتك للحظة النقدية‬ ‫ت�صنيفهم يف هذا االجت��اه ولكل منهم خ�صو�صيته‬
‫حرية التحكم يف حتديد االجت��اه �أث��ن��اء م�ساءلتنا‬ ‫يف اال�ستفادة من هذا املنهج‪ ،‬وحدود هذه اال�ستفادة‬
‫للن�ص‪ ،‬ولعل ذلك كان �أقرب �إىل املو�ضوعية ‪.‬‬ ‫وهم‪:‬‬
‫ولكن الناقد يعود ليتخفف مما قد يخيل للقارئ �أنه‬ ‫‪-1‬حممدو الناجي ولد حممد �أحمد ‪:‬‬
‫تو�سع يف املناهج �أو �سعى لإلغاء حدودها‪« ،‬ر�أينا �أن‬ ‫مار�س «حممدو الناجي» النقد الأدب��ي يف جانبه‬
‫حتليلنا للن�صو�ص قد ا�ستقر عليه ما ي�شبه توفيقية‬ ‫التطبيقي خا�صة يف مقاالته املن�شورة يف جريدة‬
‫جولدمان‪� ،‬أو ما يعرف بالبنيوية التكوينية التي‬ ‫«ال�شعب» حول ق�صيدة ال�سفني ‪ 1984‬والتي ات�ضح‬
‫جتمع البعد اخلارجي للن�ص �إىل البعد الداخلي له»‪.‬‬ ‫فيها ت�أثره بالنقد االجتماعي (الواقعي اال�شرتاكي)‪.‬‬
‫وك�أمنا يخ�شى الناقد من الوقوع ال�صارم يف دائرة‬ ‫ث��م م��ن خ�لال درا���س��ت��ه ال��ت��ي �أع��ده��ا �سنة ‪1987‬‬
‫الت�صنيف الدقيق فقد حر�ص على �إبداء بع�ض التحفظ‬ ‫وعنوانها‪« :‬معار�ضات ياليل ال�صب ‪-‬ال�سمات‬
‫مربرا �سببه‪« :‬ومع مقاربتنا هذه للمنهج امل�ستخدم‬ ‫امل�شرتكة واخل�صائ�ص املميزة « وذلك للح�صول على‬
‫يف الدرا�سة‪ ،‬ف�إننا مل نتحرج من ا�ستخدام �أية روافد‬ ‫دبلوم الدرا�سات املعمقة من اجلامعة التون�سية خالل‬
‫�أخرى نف�سية �أو تاريخية �أو �أيديولوجية‪ ،‬قد ت�ساعدنا‬ ‫فرتة �إقامته يف تون�س للعمل يف اجلامعة العربية‪،‬‬
‫على اكت�شاف الن�ص �أكرث ف�أكرث وت�سد من �أزرنا يف‬ ‫وحتول فيها الناقد نحو املنهج الأ�سلوبي م�ؤقتا‪ ،‬ثم‬
‫الو�صول �إىل �أف�ضل نتيجة ممكنة»‪.‬‬ ‫عدل عنه يف درا�سته اخل�صبة «مقومات ال�شعرية يف‬
‫وق��د اخ��ت��ار الناقد درا���س��ة �شعر حممود دروي�����ش‪،‬‬ ‫ديوان حممود دروي�ش»‪.‬‬
‫وتك�شف �أ�سباب اختياره عن مزيد من معامل منهجه‬ ‫والباحث وهو يتنقل بني االجتاهات النقدية املختلفة‬
‫‪281‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫�إىل حد معني املنهج البنيوي التكويني‪ ،‬ف�إنه قد فعل‬ ‫النقدي «االهتمام بالق�ضية الفل�سطينية التي ربط‬
‫ذلك فيما يبدو لنا من خالل جمموعة من الأدبيات‬ ‫دروي�ش نف�سه بها‪ ،‬واندمج فيها وجدانه ف�أ�صبح‬
‫الكربى واملقوالت الأ�سا�سية ولي�س من خالل ا�ستثمار‬ ‫خيطا من ن�سيجها وباتت عن�رصا قارا يف كيانه»‬
‫«تقنياته» الفنية اجلوهرية‪ ,‬وقد تو�سع يف بع�ض‬ ‫ويبقى الت�سا�ؤل امللح عند الناقد حممدو الناجي كيف‬
‫ف�صول درا�سته حتى اق�ترب كثريا من �أطروحات‬ ‫ا�ستطاع الن�سق الفني عند دروي�ش �أن يك�شف هذه‬
‫املارك�سية خا�صة يف ف�صل االلتزام يف �شعر دروي�ش‪.‬‬ ‫احلقيقة و�أن يربز تلك احلالة‪.‬‬
‫‪ -2‬بات بنت الرباء‪:‬‬ ‫ويعود لينت�رص لذلك التدرج‪ ،‬واحلكم الذي �أ�صدره‪ ،‬يقول‬
‫ت�برز امل�ساهمة النقدية لبات بنت ال�براء – وهي‬ ‫متحدثا عن حوار �شعري يف �أحد ن�صو�ص ال�شاعر‪�« ،‬إن‬
‫�شاعرة �أي�ضا – من خالل عملها الـذي ن�رشتـه �سنـة‬ ‫هذا احلوار الفاجع واملمتع يف الوقت نف�سه ال ميكن‬
‫‪ 1998‬وعنوانـه « ال�شعـر املوريتـاين احلديث ‪-1970‬‬ ‫�أن ينقل عرب ن�ص ق�صري يت�سم بالن�صاعة و�أحادية‬
‫‪.1995‬‬ ‫الر�ؤية‪ ،‬وهنا تكمن القيمة ال�شعرية لهذا النوع من‬
‫ولعل عمل بات بنت الرباء كان �أجر أ� حماولة لناقد‬ ‫البناء الطويل ذي الطابع الدرامي الذي تت�صارع فيه‬
‫موريتاين لال�ستفادة من هذا املنهج يف درا�سة ال�شعر‬ ‫�إرادات وم�شاعر خمتلفة وتطلعات متناق�ضة‬
‫ومل ي�صل بها الأمر �أن تدخل يف �رصامة تفا�صيل هذا‬ ‫�إن الناقد يركز على تر�صد �أرق ال�شاعر يف البحث عن‬
‫املنهج �أو ترتبط بجزئياته الإجرائية‪.‬‬ ‫الن�ص القادر على النفاذ �إىل العامل ب�شقيه الداخلي‬
‫ويح�رض يف حتليالتها على نحو �ضمني مفاهيم‬ ‫واخلارجي و�إعادة ت�شكيله من جديد على نحو يك�شف‬
‫من قبيل البنية الدالة‪ ،‬ور�ؤي��ة العامل وغريهما من‬ ‫حقيقته الأ�صلية التي ال ي�ستطيع �إعادة تركيبها وفك‬
‫«ميكانيزمات» هذا املنهج‪ ،‬كما عولت على معطيات‬ ‫�شفرتها �إال الناقدة �أو القارئ احلري�ص‪.‬‬
‫�صادرة من م�سارات بنيوية �أخ��رى و�إن على نحو‬ ‫ويالحظ الناقد ما �أ�سماه حتوالت الق�صيدة يف م�سرية‬
‫�أ�ضعف‪.‬‬ ‫دروي�ش ال�شعرية رابطا بينها وبني اخلارج ال�سيا�سي‪:‬‬
‫والناقدة كما يظهر ع��ادت �إىل املنهج يف �أ�صوله‬ ‫«يتطور دروي�ش وبا�ستمرار من مرحلة �إىل �أخرى من‬
‫الغربية ب�شكل حمدود‪ ،‬ويف تطبيقاته العربية على‬ ‫املبا�رشة �إىل الظهور �إىل اخلفاء ودروي�ش بحيويته‬
‫نحو وا�سع‪ ،‬ومن ثم ف�إنها وبغ�ض النظر عن قيمة‬ ‫ومعاي�شته للواقع املتغري ال ي�ستطيع �إال �أن يتغري‬
‫عملها م��ن الوجهة النقدية املعيارية ف�إنها قد‬ ‫ويتطور فيما بني �أ�سلوب و�آخر وقد ا�شتعلت الثورة‬
‫�أخذت بطريقة �أو �أخرى «عيوب» «ومزايا» حماوالت‬ ‫الفل�سطينية ووقعت هزمية ‪ 1967‬وتفجر كل �شيء يف‬
‫«تعريب» هذا املنهج‪.‬‬ ‫الداخل واخلارج يف احللم والق�صيدة‪ ،‬و�رشع حممود‬
‫وقد ق�سمت الناقدة الدرا�سة �إىل �ست بنيات �سرنكز‬ ‫دروي�ش يف �أ�سفاره الكربى بني الأمكنة والكلمات»‪.‬‬
‫هنا على البنية الداللية منها لأهميتها يف مو�ضوع‬ ‫ويبلغ الناقد ذروة اكت�شافه لن�سق ال�شاعر الإبداعي‬
‫بحثنا‪:‬‬ ‫يف ت�شابك الذاتي مع االجتماعي‪ ،‬الوطني والقومي‪،‬‬
‫ويالحظ �أنها و�ضعت م�صطلح «امل�ضامني ال�شعرية»‬ ‫والداخلي واخلارجي حني الحظ �أن حممود دروي�ش‬
‫مرادفا مناظرا لها‪ ،‬وك�أنها تريد �أن جتعلها يف منزلة‬ ‫�أظهر «بطرافة �صوره يف «رقتها»‪ ،‬ويف «عنفها» �أن‬
‫واحدة‪.‬‬ ‫الوجدان لي�س مق�صورا على الناحية الذاتية البحتة بل‬
‫وهي تقدم ت�صورا عن تطور ر�ؤية ال�شاعر املوريتاين‬ ‫قد مي�س الق�ضايا االجتماعية الكربى‪ ،‬فال�شعر احلديث‬
‫ل��ل��ع��امل اب��ت��داء م��ن ع��امل��ه امل��ح��ل��ي يف �أح�لام��ه‪،‬‬ ‫ويف ال��ذروة منه �شعر دروي�ش ميدان الأحا�سي�س‬
‫وانك�ساراته‪ ،‬ثم يت�صاعد هذا الوعي ليت�ضخم يف �شكل‬ ‫الوجدانية فردية كانت �أم اجتماعية» ‪.‬‬
‫ق�ضايا قومية كربى تنحفر بالطريقة نف�سها التي‬ ‫و�إذا كان حممدو الناجي ولد �أحمد قد حاول �أن يوظف‬
‫‪282‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫�أ�صبح مدعاة للقلق والت�شا�ؤم انطالقا من الواقع الذي‬ ‫انحفر بها عامله املحلي الأ�صغر‪.‬‬
‫ينبئ بذلك»‪.‬‬ ‫وترى الناقدة �أنه مبرور ال�سنوات الأوىل لال�ستقالل‬
‫وتتك�شف معامل منهج بات بنت ال�براء �أكرث عندما‬ ‫تبني �أن الوعي التاريخي والإبداع الفني يقت�ضيان‬
‫تعر�ض ملالحظاتها اخلتامية حول درا�ستها‪� « :‬إذا‬ ‫ام��ت�لاك منهج ف��ك��ري‪ ،‬ونظرية عامة ميكنان من‬
‫حاولنا التوليف بني الدرجة التي �شهدتها البنى‬ ‫�صياغة ر�ؤية �شاملة وق��ادرة على حتليل و�صياغة‬
‫االجتماعية والثقافية واالقت�صادية ب�سبب التمدن‬ ‫اختيارات تالئم متطلبات املرحلة اجلديدة‪.‬‬
‫واجلفاف ومدى ارتباطها بظهور هذه املدونة وقمنا‬ ‫ويربز هذا الوعي �أكرث ما يربز يف ق�ضية الوطن التي‬
‫بعملية �إ�سقاط على الواقع �أ�صبح ب�إمكاننا املواءمة‬ ‫كانت من �أبرز الق�ضايا التي �أرقت ال�شاعر املوريتاين‬
‫بني التحوالت ال�شعرية على م�ستوى البنية الداخلية‬ ‫«والوطن يف هذه الأ�شعار «املدونة» مفهوم جمرد‬
‫وبني مراحل التطور االجتماعية وال�سيا�سية وبالتايل‬ ‫متبلور يت�ضمن االن��ت��م��اء �إىل الأر����ض وال�شعب‪،‬‬
‫الثقايف والنف�سي‪ ،‬وه��و م��ا مكننا م��ن اكت�شاف‬ ‫ويتقم�ص جميع عالقات ال�شاعر – بو�صفه �إن�سانا‬
‫التفاعالت الثقافية والنف�سية واالجتماعية التي‬ ‫و�شاعرا – بحيثيات املا�ضي واحلا�رض وامل�ستقبل‬
‫�أقامتها البنية الداخلية للمنت مع املحيط عامة‪.‬‬ ‫فهو كنزه الغايل وتركة �أج��داده‪ ،‬هو �أمله وحياته‬
‫وهي هنا تربز وعيا وا�ضحا ب�أمناط الرتابط بني‬ ‫وم�صريه»‪.‬‬
‫التحوالت ال�شعرية والبنيوية عموما ودالالتها على‬ ‫وتك�شف الناقدة �صورة الوطن ‪ /‬الواقع بعد �أن عر�ضت‬
‫اللحظات احلياتية‪.‬‬ ‫للت�صور الذهني لـه يف ذهن �شعرائها «ويظل ال�رصاع‬
‫وميكن للدار�س �أخريا �أن يخرج باملالحظات التالية‬ ‫قائما بني االنتماء والرف�ض‪ :‬االنتماء �إىل الوطن‬
‫حول منهج الناقدة‪.‬‬ ‫(مفهوم الوطنية) ورف�ض ال�صورة امل�أ�ساوية (الظلم‬
‫‪ -1‬ان الناقدة حاولت �أن ت�ستفيد مما يقدمه املنهج‬ ‫واال�ضطهاد والتخلف) �إىل �أن يتم التالزم التعبريي‬
‫البنيوي التكويني من �أطروحات و�آليات تطبيقية‬ ‫بينهما يف البيت ال�شعري ال��واح��د‪ ،‬بل وحتى يف‬
‫�سعيا �إىل قراءة مدونة ال�شعر املوريتاين قراءة �أقرب‬ ‫اجلملة يتناوبان طريف الإ�سناد‪ . .‬هو االنتماء والوعي‬
‫�إىل التكامل منها �إىل النظرة الأحادية من خالل ربط‬ ‫بحقيقة امل�أ�ساة والرف�ض لكل �صورها املعرب عنها‬
‫داخل الن�ص بخارجه ربطا فنيا ولي�س ربطا غر�ضيا‬ ‫باجلرح والأ�رس والتمزق واملعاناة ‪:‬‬
‫ف�ضفا�ضا‪ ،‬وقد وفقت يف ذلك بع�ض التوفيق‪.‬‬ ‫بلدي جريح‬
‫‪ -2‬ان هذه اال�ستفادة مل ت�صل �إىل حد تقبل املنهج يف‬ ‫فكيف �أقبل �أن �أخون و�أن �أهون؟!‬
‫تفا�صيله كما مل مينعها من اال�ستفادة من التيارات‬ ‫وطني �أ�سري‬
‫البنيوية الأخرى‪.‬‬ ‫كيف �أطمع بال�سعادة يف حمى امل�ستعبدين؟‬
‫‪-3‬ع��ان��ت الناقدة من االرت��ب��اك يف فهم وتطبيق‬ ‫وتركز الناقدة على تطور ر�ؤية ال�شعراء فتقول «�إذا‬
‫املنهج البنيوي التكويني‪ ،‬وهو ال�شيء نف�سه الذي‬ ‫كانت ق�صائد املرحلة الثانية �شهدت انفتاح ال�شاعر‬
‫حدث لها عندما حاولت االنفتاح على مناهج �أخرى‬ ‫على الهم القومي واهتمامه بالق�ضايا القطرية‪ ،‬وهو‬
‫وا�ستثمارها يف درا�ستها كال�سيميائية والبنيوية‪،‬‬ ‫ما عرفته كذلك بع�ض الق�صائد يف الثمانينات ف�إن‬
‫وعانت من التيه �أحيانا واالنزالق �أحيانا �أخرى حول‬ ‫املرحلة الثالثة وما ات�سمت به من �ضبابية الر�ؤية‬
‫املناهج‪ . .‬ومل تكن يف عملها ذلك بدعا من كثري من‬ ‫وما عرفته من ظروف ا�ستثنائية وجفاف حاد جعلت‬
‫التطبيقات العربية للمناهج النقدية الغربية عموما‬ ‫ال�شاعر يراجع اخلريطة املحلية من جديد وينذر‬
‫واملناهج الن�صية منها خ�صو�صا‪.‬‬ ‫بخطورة امل�ستقبل‪ ،‬فلم يعد امل�ستقبل حمط الآمال‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫كما يف ق�صائد املرحلتني الأوىل والثانية و إ�من��ا‬
‫‪283‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫الذاكرة النباتية واملعدنية ‪:‬‬
‫م�ستقبل الكتب‬
‫ترجمة‪ :‬علي عبد الأمري �صالح‬ ‫امربتو �إيكو ‬
‫مرتجم وطبيب من العراق‬

‫على مر القرون‪� ،‬أهم و�سيلة حلفظ حكمتنا اجلمعية‪.‬‬ ‫�ضيفت مدينة الإ�سكندرية يف الأول من (نوفمرب)‬
‫كانت وال تزال نوع ًا من العقل الكوين حيث ميكننا �أن‬ ‫‪ 2003‬الروائي والعامل االيطايل ذائع ال�صيت‬
‫ن�سرتجع ما ن�سيناه وال نزال جنهله‪� .‬إذا �سمحتم يل‬ ‫امربتو �إيكو حيث �ألقى حما�رضة باللغة االجنليزية‪،‬‬
‫�أن �أ�ستخدم جمازاً كهذا‪ ،‬املكتبة هي �أف�ضل حماكاة‬ ‫حول �أنواع الذاكرة الأدبية واجلغرافية‪ ،‬يف مكتبة‬
‫ممكنة‪ ،‬من قبل الب�رش للعقل الإلهي حيث الكون كله مت‬ ‫الإ�سكندرية بجمهورية م�رص العربية‪.‬‬
‫فح�صه وفهمه يف الوقت ذاته‪ .‬الإن�سان قادر على �أن‬ ‫لدينا ثالثة �أنواع من الذاكرة ؛ الأوىل ‪ :‬هي الع�ضوية‬
‫يخزن يف ذاكرته املعرفة التي زودته بها مكتبة هائلة‬ ‫وامل�ؤلفة من اللحم والدم وهي التي يديرها دماغنا‪.‬‬
‫بكلمات‬
‫ٍ‬ ‫ت�ضاهي ب�شكل من الأ�شكال عقل الباري‪.‬‬ ‫الثانية ‪ :‬هي املعدنية (الالع�ضوية)‪ ،‬وبهذا املعنى‬
‫�أخرى‪ ،‬لقد اخرتعنا املكتبات لأننا نعرف �أننا ال منلك‬ ‫عرف اجلن�س الب�رشي نوعني من الذاكرة املعدنية ‪:‬‬
‫القدرات الإلهية‪ ،‬لكننا ن�سعى جاهدين �إىل �أن نقلدها‪.‬‬ ‫قبل �آالف ال�سنوات املن�رصمة‪ ،‬كانت الذاكرة ممثل ًة‬
‫�أن نبني‪� ،‬أو بالأحرى �أن نعيد بناء‪ ،‬اليوم‪ ،‬واحد ًة‬ ‫من خالل �ألواح الطني وامل�سالت‪ ،‬وهي معروفة‬
‫من �أكرب مكتبات العامل يبدو �رضب ًا من التحدي‪،‬‬ ‫جداً يف هذا البلد (يق�صد م�رص ‪ -‬م)‪� ،‬إذ نحت عليها‬
‫�أو التحري�ض‪ .‬يحدث يف مرات متكررة يف مقاالت‬ ‫النا�س ن�صو�صهم‪ .‬على �أية حال‪ ،‬هذا النوع الثاين‬
‫ال�صحف �أو الأوراق الأكادميية‪� ،‬أن يتكلم بع�ض‬ ‫هو �أي�ض ًا الذاكرة االلكرتونية حلوا�سيب يومنا هذا‪،‬‬
‫الكتاب‪ ،‬وهم يواجهون ع�رص احلا�سوب واالنرتنيت‬ ‫امل�ستندة �إىل ال�سليكون‪ .‬لقد عرفنا كذلك �رضب ًا‬
‫اجلديد‪ ،‬عن «موت الكتب» املحتمل‪ .‬على �أية حال‪،‬‬ ‫�آخر من الذاكرة �أال وهي النباتية‪ ،‬التي متثلت يف‬
‫�إذا قي�ض للكتب �أن تختفي‪ ،‬كما اختفت امل�سالت‬ ‫�أوراق الربدي الأوىل التي حملت كالم ًا مكتوباً‪،‬‬
‫والألواح الطينية يف احل�ضارات املوغلة يف القدم‪،‬‬ ‫وهي معروفة �أي�ض ًا يف هذا البلد‪ ،‬ومن ثم متثلت يف‬
‫لن يكون هذا مربراً جيداً لإلغاء املكتبات‪ .‬على‬ ‫الكتب امل�صنوعة من الورق‪ .‬دعوين �أ�ستثني احلقيقة‬
‫العك�س‪ ،‬يجب �أن تبقى املكتبات �ش�أنها �ش�أن‬ ‫القائلة �إنه يف حلظة معينة كان رق املخطوطات‬
‫املتاحف التي حتفظ لقى املا�ضي‪ ،‬بالطريقة نف�سها‬ ‫الأوىل من �أ�صل ع�ضوي‪ ،‬واحلقيقة التي مفادها‬
‫التي نحفظ فيها (حجر ر�شيد)(‪ )1‬لأننا مل نعتد على‬ ‫�أن الورق الأول كان ُي�صنع من الأ�سمال البالية‬
‫حفر وثائقنا على ال�سطوح املعدنية‪.‬‬ ‫ولي�س من اخل�شب‪ .‬كي �أب�سط الأمور دعوين �أتكلم عن‬
‫مع ذلك‪ ،‬مدحي للمكتبات �سيكون متفائ ًال �أكرث‪� .‬أنا‬ ‫الذاكرة النباتية كي ن�صنف الكتب‪.‬‬
‫�أنتمي لأنا�س مازالوا ي�ؤمنون ب�أن الكتب املطبوعة‬ ‫كان هذا املكان (مكتبة الإ�سكندرية ‪ -‬م‪ ) .‬يف‬
‫لها م�ستقبل و�أن كل املخاوف املتعلقة باختفائها‬ ‫املا�ضي و�سوف يكون يف امل�ستقبل مكر�س ًا حلفظ‬
‫هي فقط املثال الأخري ملخاوف �أخرى‪� ،‬أو لأنواع‬ ‫الكتب ؛ وبالتايل‪ ،‬هو الآن ويف امل�ستقبل �أي�ضا ً‬
‫�ألفية من الإرهاب تتعلق بنهاية �شي ٍء ما‪ ،‬وب�ضمنها‬ ‫�سيكون معبداً للذاكرة النباتية‪ .‬كانت املكتبات‪،‬‬
‫‪284‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫اخرتاعك هذا لن يكون النا�س مرغمني بعد الآن‬ ‫نهاية العامل‪.‬‬


‫على مترين ذاكرتهم‪� .‬سوف يتذكرون الأ�شياء لي�س‬ ‫كنت جمرباً على الإجابة‬ ‫خالل حوارات كثرية ُ‬
‫بوا�سطة جمهود داخلي‪ ،‬بل ح�رصاً بف�ضل و�سيلة‬ ‫عن �أ�سئلة من النوع الآتي ‪ « :‬هل �ستجعل و�سائل‬
‫خارجية»‪.‬‬ ‫الإعالم االلكرتونية اجلديدة الكتب عتيقة الطراز ؟‬
‫ميكننا �أن نفهم انهماك ثامو�س‪ .‬الكتابة‪ ،‬ك�أي‬ ‫هل �ستجعل �شبكة االنرتنيت الأدب قدمي الزي ؟ هل‬
‫جعلت القدرة الب�رشية‬ ‫ْ‬ ‫اخرتاع تقني جديد �آخر‪،‬‬ ‫�ستلغي احل�ضارة مفرطة الن�صية (‪ )2‬اجلديدة فكرة‬
‫بليد ًة‪ ،‬هذه القدرة التي تظاهرت بكونها تعو�ض‬ ‫الإبداع بعينها‪ .‬مثلما تفهمون‪� ،‬إذا كنتم متلكون‬
‫وتعزز‪ .‬كانت الكتابة خطرية لأنها قللت القدرات‬ ‫عق ًال طبيعي ًا متوازناً‪ ،‬تكون هذه �أ�سئلة خمتلفة و‪،‬‬
‫العقلية من خالل منح الب�رش روح ًا متحجرة‪� ،‬صور ًة‬ ‫�إذا ما �أخذنا بنظر االعتبار الطريقة القلقة التي يتم‬
‫كاريكاتوري ًة للعقل‪ ،‬ذاكر ًة معدنية‪.‬‬ ‫املحاور‬
‫ِ‬ ‫فيها طرحها‪ ،‬رمبا يدور يف ذهن املرء ب�أن‬
‫ن�ص �أفالطون �ساخر‪ ،‬بطبيعة احلال‪ .‬كان �أفالطون‬ ‫�سوف ي�شعر بالطم�أنينة حينما يكون جوابك ‪ « :‬كال‪،‬‬
‫يدون حجته �ضد الكتابة‪ .‬لكنه �أي�ضا كان يتظاهر‬ ‫ّ‬ ‫هدئ �أع�صابك‪ ،‬كل �شيء على ما يرام‪ » .‬خط�أ‪� .‬إذا‬
‫ب�أن حديثه منقول عن �سقراط الذي مل يكتب (طاملا‬ ‫قلت لأنا�س كه�ؤالء ب�أن الكتب‪ ،‬الأدب‪ ،‬الت�أليف لن‬
‫�أنه مل يطبع‪ ،‬فقد ُق�ضي عليه خالل �سياق النزاع‬ ‫تختفي‪� ،‬سيبدون يائ�سني‪� .‬أين هو النب�أ املثري‪� ،‬إذاً‬
‫الأكادميي)‪ .‬يف يومنا هذا‪ ،‬ما من �أحد يقا�سم‬ ‫؟ �إن ن�رش الأخبار املتعلقة مبوت حائز على جائزة‬
‫ثامو�س ان�شغاالته ل�سببني ب�سيطني جداً ‪� :‬أوالً‪ ،‬نعرف‬ ‫نوبل هو جزء من الأنباء ؛ �أن تقول �إنه ما يزال حي ًا‬
‫�أن الكتب لي�ست و�سائل جتعل �أي �شخ�ص �آخر يفكر‬ ‫وعلى ما يرام ف�إن هذا لن يخطف انتباه �أحد �إ ّال هو‪،‬‬
‫بد ًال منا‪ ،‬بل على العك�س‪� ،‬إنها و�سائل حتفز مزيداً‬ ‫على ما �أعتقد‪.‬‬
‫من الأفكار‪ .‬بعد اخرتاع الكتابة فقط �أ�صبح من‬ ‫ما �أريد �أن �أفعله اليوم هو �أن �أحاول حل خ�صلة‬
‫املمكن �أن نكتب حتف ًة من ذاكرة تلقائية على غرار‬ ‫من املخاوف املت�شابكة املتعلقة مب�سائل عدة‪� .‬إن‬
‫حتفة برو�ست املو�سومة (البحث عن الزمن ال�ضائع‬ ‫�إي�ضاح �آرائنا فيما يتعلق بهذه امل�سائل ميكن �أن‬
‫)‪ .‬ثاني ًا ‪� :‬إذا ح�صل ذات مرة �أن احتاج النا�س �إىل‬ ‫ي�ساعدنا كي نفهم ب�صورة �أف�ضل ما نعنيه عاد ًة‬
‫تدريب ذاكرتهم كي يتذكروا الأ�شياء‪ ،‬بعد اخرتاع‬ ‫بالكتب‪ ،‬الن�ص‪ ،‬الأدب‪ ،‬الت�أويل‪ ،‬وهلم جراً‪ .‬وبالتايل‬
‫الكتابة وجب عليهم كذلك �أن يدربوا ذاكرتهم كي‬ ‫�سوف ترون كيف �أنه من �س�ؤال �سخيف ميكن �أن‬
‫يتذكروا الكتب‪ .‬الكتب تتحدى الذاكرة وحت�سنها ؛‬ ‫تنتج �أجوبة حكيمة كثرية وهكذا هي‪ ،‬يف الأرجح‪،‬‬
‫�إنها ال تخدرها‪ .‬على �أية حال‪ ،‬كان فرعون يظهر‬ ‫الوظيفة الثقافية للحوارات ال�ساذجة‪.‬‬
‫للعيان خوف ًا �رسمدي ًا ‪ :‬اخلوف من �أن اجنازاً تقني ًا‬ ‫دعونا نبد�أ بق�صة م�رصية‪ ،‬حتى لو كانت مروية‬
‫جديداً �سوف يقتل �شيئ ًا ما نعده ثمين ًا ومثمراً‪.‬‬ ‫من قبل رجل �إغريقي‪ .‬بح�سب ما ذكره �أفالطون‬
‫ا�ستخدمت كلمة (يقتل) لأنه بعد نحو �أربعة ع�رش‬ ‫ُ‬ ‫يف كتابه (عن فيدرو�س) (‪ : )3‬حني ق ّدم هريمز‪،‬‬
‫قرن ًا روى فيكتور هوجو ق�صة الق�س كلود فرولو‬ ‫�أو ثيوت‪ ،‬املخرتع املزعوم للكتابة‪ ،‬ق ّدم اخرتاعه‬
‫(�شخ�صية متخيلة ‪ -‬م‪ ) .‬يف رائعته (�أحدب نوتردام‬ ‫للفرعون ثامو�س‪ ،‬مدح فرعون هذه التقنية غري‬
‫) وهو ينظر بحزن �إىل �أبراج كاتدرائيته‪.‬‬ ‫امل�سموع بها التي من املفرت�ض �أن تتيح للب�رش �أن‬
‫جتري �أحداث ق�صة (�أحدب نوتردام ) يف القرن‬ ‫يتذكروا‪ ،‬والتي لوالها (�أي تقنية الكتابة ) لأ�صابهم‬
‫اخلام�س ع�رش بعد اخرتاع الطباعة‪ .‬قبل ذلك‪ ،‬كانت‬ ‫الن�سيان‪� .‬إال �أن ثامو�س مل يكن �سعيداً متاماً‪� .‬إذ‬
‫املخطوطات تحُ فظ لنخبة حمدودة من الأ�شخا�ص‬ ‫قال ‪« :‬يا ثيوتي املاهر‪ ،‬الذاكرة هبة عظيمة ينبغي‬
‫املتعلمني‪ ،‬وال�شيء الوحيد الذي يتم بوا�سطته‬ ‫لنا �أن نبقيها حي ًة من خالل التمرين امل�ستمر‪ .‬مع‬
‫‪285‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫الكتابة والقراءة‪.‬‬ ‫تعليم اجلماهري ما يتعلق بق�ص�ص الإجنيل‪ ،‬حياة‬


‫هل ثمة اختالفات بني (جمرة غوتنربغ ) الأوىل‬ ‫ال�سيد امل�سيح والقدي�سني‪ ،‬املبادئ الأخالقية وحتى‬
‫والثانية ؟ نعم‪ ،‬اختالفات كثرية‪ .‬يف املقام الأول‪،‬‬ ‫م�آثر التاريخ القومي �أو الأفكار االبتدائية جداً‬
‫وفر معاجلو الكلمات الآثاريون يف مطلع عقد‬ ‫يف اجلغرافية والعلوم الطبيعية (طبيعة ال�شعوب‬
‫الثمانينيات من القرن املا�ضي نوع ًا من االت�صال‬ ‫املجهولة ومزايا الأع�شاب والأحجار )‪ ،‬هذا ال�شيء‬
‫املكتوب خطياً‪ .‬يف يومنا هذا‪ ،‬احلوا�سيب مل تع ْد‬ ‫هو ما توفره �صور الكاتدرائية‪ .‬كانت �أي كاتدرائية‬
‫خطية بقدر ما تعر�ض بني ًة مفرطة الن�صية‪ .‬ولد‬ ‫من كاتدرائيات القرون الو�سطى نوع ًا من برنامج‬
‫احلا�سوب‪ ،‬ب�صورة حمبة لال�ستطالع‪ ،‬ك�آلة تورينغ‬ ‫متحول من املفرت�ض �أن يقول‬ ‫ّ‬ ‫تلفازي ثابت وغري‬
‫(‪ )4‬قادراً على القيام بخطوةٍ واحدةٍ يف كل مرة‪،‬‬ ‫للنا�س كل �شيء ال غنى عنه يف حياتهم اليومية‪،‬‬
‫ويف احلقيقة‪ ،‬يف �أعماق اجلهاز‪ ،‬ال تزال اللغة تفعل‬ ‫وكذلك ال مفر منه خلال�صهم ال�رسمدي‪.‬‬
‫فعلها بهذه الطريقة‪ ،‬بوا�سطة منطق ثنائي‪ ،‬م�ؤلف‬ ‫الآن‪ ،‬على �أية حال‪ ،‬ميلك فرولو على طاولته كتاب ًا‬
‫من �صفر واحد‪� ،‬صفر واحد‪ .‬على �أية حال‪� ،‬إن نتاج‬ ‫مطبوع ًا ويهم�س قائال ً ‪:‬‬
‫اجلهاز مل يع ْد خطي ًا ‪� :‬إنه انفجار من الألعاب النارية‬ ‫‪� Ceci tuera cela‬أي هذا �سيقتل ذاك‪� ،‬أو‪ ،‬بكلمات‬
‫ال�سيميائية‪ .‬طرازه لي�س خط ًا م�ستقيم ًا بقدر ما هو‬ ‫�أخرى‪ ،‬الكتاب �سوف يقتل الكاتدرائية‪ ،‬الأبجدية‬
‫جمرة حقيقية حيث ي�ستطيع اجلميع �أن ير�سموا‬ ‫�ستقتل ال�صور‪ .‬الكتاب �سوف ي�رصف النا�س عن‬
‫يكونوا‬
‫ات�صاالت غري متوقعة بني جنوم خمتلفة كي ّ‬ ‫قيمهم اجلوهرية جداً‪ ،‬م�شجع ًا على املعرفة غري‬
‫�صوراً �سماوية ً جديدة ً يف نقطة �إبحار جديدة‪.‬‬ ‫ال�رضورية‪ ،‬على الت�أويل احلر للكتاب املقد�س‪ ،‬على‬
‫نعم يف هذه النقطة حتديداً يجب �أن يبد�أ ن�شاطنا‬ ‫حب اال�ستطالع اجلنوين‪.‬‬
‫املتعلق بحل اخليوط لأن ما نعنيه عاد ًة بالبنية‬ ‫دون‬ ‫خالل عقد ال�ستينيات من القرن املا�ضي‪ّ ،‬‬
‫متعالقة الن�ص ‪ hypertextual structure‬هما‬ ‫مار�شال مكلوهان كتابه املو�سم (جمرة غوتنربغ‬
‫ظاهرتان متباينتان جداً‪ .‬الأوىل‪� ،‬أن هنالك تعالقا‬ ‫) حيث �أعلن فيه �أن الطريقة اخلطية يف التفكري‬
‫ن�صيا ‪ .textual hypertext‬يف �أي كتاب تقليدي‬ ‫املعززة باخرتاع الطباعة كانت على و�شك �أن‬
‫يتعني على املرء �أن يقر أ� من الي�سار �إىل اليمن (�أو‬ ‫يتم ا�ستبدالها بطريقة كونية �أكرث للإدراك والفهم‬
‫من اليمني �إىل الي�سار �أو من الأعلى �إىل الأ�سفل‪،‬‬ ‫عرب �صور التلفاز �أو عرب �أنواع �أخرى من الأجهزة‬
‫على وفق الثقافات املختلفة )‪ ،‬بطريقة خطية‪ .‬من‬ ‫االلكرتونية‪ .‬لو مل يفعل مكلوهان ذلك‪� ،‬إذاً من امل�ؤكد‬
‫اجللي بو�سع املرء �أن يقفز عرب ال�صفحات‪ ،‬املرء‬ ‫عدد كبري من قرائه كانوا �سي�شريون ب�أ�صابعهم �أو ًال‬
‫حني ي�صل �إىل ال�صفحة ‪ 300‬ي�ستطيع �أن يرجع كي‬ ‫�إىل �شا�شة التلفاز ومن ثم �إىل كتاب مطبوع‪ ،‬قائلني‬
‫يعاين �أو يعيد قراءة �شيء ما يف �صفحة ‪10‬ـ �إال �أن‬ ‫‪« :‬هذا �سيقتل ذاك»‪ .‬مبا �أن مكلوهان ال يزال حا�رضاً‬
‫هذا يت�ضمن جمهوداً ج�سدياً‪ .‬باملقارنة مع هذا‪،‬‬ ‫بيننا‪ ،‬ينبغي له اليوم �أن يكون �أول من يكتب �شيئ ًا‬
‫الن�ص متعالق الن�صية ‪ hypertextual text‬هو �شبكة‬ ‫من مثل «غوتنربغ ي�شق طريقه عائداً»‪ .‬ال ريب �أن‬
‫متعددة الأبعاد �أو متاهة‪ ،‬كل نقطة �أو عقدة فيها من‬ ‫احلا�سوب �آلة ي�ستطيع املرء بوا�سطتها �أن ينتج‬
‫املحتمل �أن تكون مرتبطة ب�أي عقدة �أخرى‪ .‬هنالك‬ ‫ويحرر ال�صور‪ ،‬يقين ًا يتم تزويد التعليمات بوا�سطة‬
‫الإفراط الن�صي اجلهازي (املن�سوب �إىل جهاز )‪� .‬إن‬ ‫الأيقونات‪� ،‬إمنا هو �شيء م�ؤكد بالقدر نف�سه �أن‬
‫الـ ‪ www‬هي (الأم الكربى للن�صو�ص املفرطة‬ ‫احلا�سوب �أ�صبح يف املقام الأول �آلة مرتبة بح�سب‬
‫كلها)‪ ،‬مكتبة عاملية االنت�شار حيث ميكنك‪� ،‬أو �أنك‬ ‫تكر الكلمات وال�سطور‪ ،‬وكي‬ ‫الأبجدية‪ .‬على �شا�شته ّ‬
‫ت�ستطيع يف زمن ق�صري‪� ،‬أن تلتقط كل الكتب التي‬ ‫ت�ستخدم حا�سوب ًا ما عليك �أن تكون قادراً على‬
‫‪286‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫�صفحة �إىل �أخرى‪� ،‬ساعني �إىل عزل �صلة ممكنة بني‬ ‫تريدها‪ .‬ال�شبكة العنكبوتية هي املنظومة العامة‬
‫مقولة يف الف�صل الأول و�أخرى يف الف�صل اخلتامي‪.‬‬ ‫جلميع الن�صو�ص املفرطة املوجودة‪.‬‬
‫ميكنهم كذلك �أن يقرروا‪ ،‬لنقل مثالً‪ ،‬عدد املرات التي‬ ‫�إن اختالف ًا كهذا بني الن�ص واملنظومة جوهري‬
‫ترد فيها كلمتا « فكرة عامة « يف عمل معني‪ ،‬وهكذا‬ ‫ب�شكل هائل‪ ،‬ويجب �أن نعود �إليه‪ .‬يف هذه اللحظة‪،‬‬
‫يقفزون مئات ال�صفحات كي يركزوا انتباههم فقط‬ ‫دعوين �أ�ص ّفي ما هو �ساذج جداً بني الأ�سئلة التي يتم‬
‫على الفقرات التي تتعامل مع تلك الفكرة العامة‪.‬‬ ‫طرحها با�ستمرار‪ ،‬التي ال يكون فيها هذا االختالف‬
‫على كل حال‪ ،‬هذه طرائق قراءة يعدها ال�شخ�ص‬ ‫وا�ضح ًا حتى الآن‪� .‬إمنا يف الإجابة عن هذا ال�س�ؤال‬
‫العادي غري طبيعية‪.‬‬ ‫الأول �سنكون قادرين على �إي�ضاح هدفنا الأبعد‪.‬‬
‫من ثم هنالك الكتب التي ينبغي ا�ست�شارتها‪ ،‬من مثل‬ ‫ال�س�ؤال ال�ساذج هو ما يلي ‪« :‬هل �ستجعل الأقرا�ص‬
‫الكتيبات(�أدلة ال�سياحة) واملو�سوعات‪ .‬يتم توفري‬ ‫ال�صغرية متعالقة الن�صية‪ ،‬االنرتنيت‪� ،‬أنظمة الـ ملتي‬
‫املو�سوعات كي تتم ا�ست�شارتها ولي�س قراءتها من‬ ‫ميديا الكتب قدمية الطراز ؟ « بهذا ال�س�ؤال و�صلنا‬
‫ال�صفحة الأوىل حتى ال�صفحة الأخرية‪� .‬أن �شخ�ص ًا‬ ‫�إىل الف�صل الأخري من ق�صتنا (هذا �سيقتل ذاك)‪� .‬إمنا‬
‫يطالع (املو�سوعة الربيطانية) كل ليلة قبل النوم‪،‬‬ ‫م�شو�ش‪ ،‬مرتبك‪ ،‬طاملا‬ ‫حتى هذا ال�س�ؤال هو �س�ؤال ّ‬
‫من ال�صفحة الأوىل حتى ال�صفحة الأخرية‪� ،‬سيكون‬ ‫�أنه بامل�ستطاع �صياغته بطريقتني خمتلفتني ‪�( :‬أ)‬
‫�شخ�صي ًة م�ضحكةً‪ .‬عاد ًة‪ ،‬يلتقط املرء جملداً معين ًا‬ ‫أ�شياء مادية و (ب) هل‬
‫هل �ستختفي الكتب بو�صفها � ً‬
‫من �أي مو�سوعة كي يعرف �أو كي يتذكر متى تويف‬ ‫�ستزول الكتب بو�صفها �أ�شياء واقعي ًة ؟‬
‫نابليون‪� ،‬أو ما هي ال�صيغة الكيميائية حلام�ض‬ ‫دعوين �أو ًال �أجيب عن ال�س�ؤال الأول‪ .‬حتى بعد‬
‫الكربيتيك‪ .‬ي�ستخدم العلماء املو�سوعات بطريقة‬ ‫اخرتاع الطباعة‪ ،‬مل تكن الكتب هي الو�سيلة الوحيدة‬
‫�أكرث تعقيداً‪ .‬يف �سبيل املثال‪� ،‬إذا �أردت �أن اعرف ما‬ ‫الكت�ساب املعرفة‪ .‬كانت هنالك �أي�ض ًا الر�سوم‪،‬‬
‫علي �أن‬
‫�إذا كان ممكن ًا �أم ال �أن نابليون التقى كانط‪ّ ،‬‬ ‫ال�صور املطبوعة ال�شائعة‪ ،‬التعليم ال�شفاهي‪ ،‬وهلم‬
‫�أنتقي املجلد ‪ K‬واملجلد ‪ N‬من مو�سوعتي ‪� :‬أكت�شف‬ ‫جراً‪ .‬بب�ساطة‪ ،‬برهنت الكتب على �أنها �أن�سب الو�سائل‬
‫�أن نابليون ولد �سنة ‪ 1769‬ومات يف �سنة ‪،1821‬‬ ‫لنقل املعرفة‪ .‬هنالك نوعان من الكتب ‪ :‬تلك التي‬
‫وكانط ولد �سنة ‪ 1724‬وتويف �سنة ‪ ،1804‬حني‬ ‫يجب قراءتها وتلك التي ينبغي ا�ست�شارتها‪ .‬فيما‬
‫كان نابليون امرباطوراً‪ .‬من هنا لي�س م�ستحي ًال �أن‬ ‫يتعلق بالكتب التي يجب قراءتها‪ ،‬الطريقة الطبيعية‬
‫يكون االثنني قد التقيا‪ .‬كي �أتيقن من هذه املعلومة‬ ‫يف مطالعتها هي تلك الطريقة التي ميكنني �أن‬
‫رمبا �أحتاج �إىل ا�ست�شارة ال�سرية الذاتية لـ كانط‪� ،‬أو‬ ‫�أ�سميها « طريقة الق�صة البول�سية»‪ .‬تبد�أ من ال�صفحة‬
‫نابليون‪� ،‬إمنا يف �سرية ذاتية ق�صرية لـ‪ ،‬نابليون‬ ‫الأوىل‪ ،‬حيث يخربك امل�ؤلف �أن ثمة جرمي ًة مت‬
‫الذي التقى �أ�شخا�ص ًا كثريين يف حياته‪ ،‬ف�إن‬ ‫درب من دروب عملية التج�س�س‬ ‫اقرتافها‪ ،‬تتابع كل ٍ‬
‫لقاء حمتم ًال بـ كانط ميكن جتاهله‪� ،‬إمنا يف �سرية‬ ‫ً‬ ‫حتى النهاية‪ ،‬ويف اخلتام تكت�شف �أن اجلاين هو‬
‫لقاء بـ نابليون ميكن �أن ُي�سجل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إن‬
‫�‬ ‫ف‬ ‫الذاتية‬ ‫كانط‬ ‫كبري اخلدم‪ .‬ينتهي الكتاب وتنتهي جتربة القراءة‪.‬‬
‫باخت�صار‪ ،‬يلزمني �أن �أت�صفح كتب ًا كثرية م�صطفة‬ ‫الحظوا �أن ال�شيء نف�سه يحدث حتى �إذا تقر�أون‪ ،‬يف‬
‫على رفوف مكتبتي ؛ يلزمني �أن �آخذ مالحظات كي‬ ‫�سبيل املثال‪ ،‬بحثا فل�سفياً‪ .‬يريد امل�ؤلف منكم �أن‬
‫�أقارن فيما بعد كل املعلومات التي جمع ُتها‪ .‬هذا‬ ‫تفتحوا الكتاب عند �صفحته الأوىل‪ ،‬تتابعون �سل�سلة‬
‫كله �سوف يكلفني جمهوداً ج�سدي ًا موجعاً‪.‬‬ ‫امل�سائل التي يقرتحها‪ ،‬وترون كيف ي�صل �إىل‬
‫(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت)‬ ‫ا�ستنتاجات نهائية معينة‪ .‬ال ريب‪ .‬بو�سع العلماء‬
‫�أن يعيدوا قراءة كتاب كهذا من خالل القفز من‬
‫‪287‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫«بيت الديب» لعزت القمحاوي‬
‫رواية الذاكرة والتاريخ‬
‫لنا عبد الرحمن‬
‫كاتبة وناقدة من لبنان‬

‫املوجودة فيها‪ ،‬وامل�صاحبة حلالة من امل�ساواة يف‬ ‫يف عمله الروائي «بيت الديب» مي�ضي الكاتب‬
‫كل �شيء تقري ًبا‪ ،‬فالبيوت كلها مبنية من دور واحد‪،‬‬ ‫امل�رصي عزت القمحاوي يف م�سار خمتلف عن �أعماله‬
‫وم�ساحات احلقول مت�ساوية‪ ،‬والقرية لي�س فيها‬ ‫الإبداعية ال�سابقة‪ ،‬ولعل هذا امل�ضي يف م�سار جديد‬
‫حارات م�سدودة بل �شوارع كلها تف�ضي �إىل احلقول‪.‬‬ ‫مع كل عمل �إبداعي ُيعترب تيمة يف كتابة القمحاوي‬
‫يف هذا الف�ضاء اجلغرايف املت�صل واملنف�صل مع‬ ‫التي تنحو �إىل التجريب يف امل�ضمون وال�شكل الروائي‬
‫العامل‪ ،‬يت�شكل العامل الروائي‪ ،‬حيث يحيل عنوان «بيت‬ ‫والق�ص�صي؛ فال جند يف �أعماله �شخ�صيات مت�شابهة‪،‬‬
‫الديب» �إىل ف�ضاء مكاين م�صغر هو البيت‪ ،‬وهذا البيت‬ ‫�أو مناذج تعيد �إنتاج ذاتها‪ ،‬بل ميكن القول �أن كل‬
‫الذي يرمز للأمان واحلماية واحلياة‪ ،‬ينتمي لعائلة‬ ‫بناء م�ستقلاً عما �سبقها وال‬
‫رواية من �أعماله ت�شكل ً‬
‫«الديب» التي �سيتتبع القارئ �سريورة حياة �أبطالها‬ ‫ت�شرتك معها �سوى بالأ�سلوب ال�ساخر والفانتازي‪،‬‬
‫الكُرث‪ ،‬من جيل �إىل جيل‪ ،‬و�إذا كان اجليل الأول ظل‬ ‫مع كثافة لغوية‪ ،‬و�سال�سة حتمي ال�رسد من �أي زوائد‪،‬‬
‫حم�صورا يف غالبه يف قرية «الع�ش» �إال �أن اجليل‬ ‫ً‬ ‫وت�ضمن االحتفاظ بالقارئ حتى النهاية‪.‬‬
‫الرابع �سيهجر القرية‪ ،‬و�ستتقل�ص عالقته معها لت�صري‬ ‫ففي رواية «مدينة اللذة» التي بناها القمحاوي‬
‫مو�سمية‪ ،‬هكذا يتال�شى الف�ضاء املكاين امل�صغر‬ ‫على وجود مدينة مفرت�ضة‪ ،‬يح�رض عامل فانتازي‬
‫لبيت الديب‪ ،‬ليت�شعب يف �أماكن متعددة من م�رص‬ ‫متاما‪� ،‬أما يف «غرفة ترى النيل» فهناك عني‬
‫وعبثي ً‬
‫�إىل اليمن‪ ،‬وفل�سطني‪ ،‬والعراق‪ ،‬وك�أن بيت الديب هنا‬ ‫�ساردة تراقب املوت املت�سلل �إىل احلياة يف م�رص‪.‬‬
‫و�أفراده ميثلون النواة ال�صغرية التي �ستكرب وتنمو‬ ‫بينما يح�رض هاج�س القمع ب�شكل مبا�رش يف رواية‬
‫يف ف�ضاءات �أخرى بعيدة عن تربتها الأوىل‪ .‬هناك‬ ‫«احلار�س»‪ ،‬التي تخو�ض �أكرث يف البناء النف�سي‬
‫منت�رص الذي يفر من ظلم عمه‪ ،‬وال ُيعرف له م�ستقر‪،‬‬ ‫ل�شخ�صية البطل املتماهي مع ال�سلطة‪.‬‬
‫يحارب �ضد الإنكليز‪ ،‬ويف نهاية الرواية نعرف �أنه‬ ‫يف «بيت الديب»‪ ،‬يقف القارئ على عامل مت�شابك‬
‫تزوج وعنده �أحفاد‪� ،‬أي�ضا �سامل الديب و�إجنابه طفلني‬ ‫ووا�سع لعائلة م�رصية ريفية تعي�ش يف قرية «الع�ش»‬
‫من زوجته اليونانية‪ ،‬وهناك جنية التي تتزوج يف‬ ‫التي تقع يف حمافظة ال�رشقية يف دلتا م�رص‪ ،‬وعرب‬
‫فل�سطني‪ ،‬ثم تعود مع ابنتها زينة �إىل «الع�ش»‪ .‬لكن كل‬ ‫متابعة حياة �أربعة �أجيال على مدى �أكرث من مائة‬
‫أثريا‬
‫هذه الت�شعبات بعي ًدا عن الأر�ض‪� ،‬ستكون �أكرث ت� ً‬ ‫عاما‪ ،‬يكت�شف القارئ �أ�سباب ن�شوء القرية‬
‫وخم�سني ً‬
‫مع اجليلني الثالث والرابع الذين ينطلقون واح ًدا تلو‬ ‫وجتمع العائالت فيها‪ ،‬فال�سبب الرئي�س يف وجود‬
‫الآخر نحو العامل‪ ،‬بح ًثا عن درا�سة‪� ،‬أو وظيفة‪� ،‬أو عمل‪،‬‬ ‫قرية «الع�ش» هو التهرب من ال�رضائب؛ عدة �أفراد‬
‫«فالع�ش» مل تعد املكان القادر على تقدمي ما ميكن �أن‬ ‫انحدروا من �أماكن خمتلفة جتمعوا عند م�ستنقع‬
‫ُي�شبع حيواتهم‪.‬‬ ‫«�رشعوا يف جتفيفه وت�أ�سي�س قريتهم على �أر�ضه‬
‫تنفتح الرواية على اجلدة «مباركة» وقد �أ�صبحت‬ ‫ال�سبخة قليلة الرجاء» �صـ ‪ .22‬لكن ما قد يجعل تلك‬
‫طاعنة يف ال�سن‪ ،‬لكنها واعية وحا�رضة الذهن لكل‬ ‫القرية �أقرب �إىل التخيل منها للواقع هو حالة ال�سالم‬
‫‪288‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫كل هذا تكون مباركة متواطئة مع ما يحدث‪� .‬أما‬ ‫التغريات التي حتدث حولها‪ ،‬لذا نراها تطلب من �أحد‬
‫حني يكرب الأبناء ويتزوجون فرنى «مباركة» ت�سرتق‬ ‫�أحفادها وهو ينقر على جهاز الكمبيوتر ليتحدث مع‬
‫ال�سمع من خلف الأبواب وت�ستغرب كيف �أن ال�شباب‬ ‫رفاق له يف جانب �آخر من الأر�ض‪� ،‬أن يكتب ر�سالة‬
‫والبنات ال ي�رصخون عند ممار�سة احلب‪ ،‬لكنها تنتهي‬ ‫�إىل الرب يخربه فيها ب�أن حياتها طالت‪ ،‬خمافة‬
‫�إىل الت�سليم ب�أن الدنيا تغريت‪ ،‬و�أن ه�ؤالء امل�ساكني‬ ‫�أن تبدو «قليلة احلياء بعي�شها حتى هذه ال�سن»‬
‫�أتلفتهم املدار�س واحلروب‪.‬‬ ‫�صـ ‪ .5‬متثل مباركة الفويل خط ال�رسد الأول الذي‬
‫يتم ت�ضفريه مع خط �رسدي حموري �آخر هو عائلة‬
‫الذاكرة والتاريخ‬
‫الديب‪ ،‬حيث يتقاطع م�صري «مباركة» مع ثالثة من‬
‫راو عليم منذ البداية �إىل‬
‫مي�سك دفة ال�رسد يف «بيت الديب» ٍ‬ ‫�أفراد العائلة‪ :‬حبيبها منت�رص الديب‪ ،‬الذي ظلت تذكر‬
‫النهاية‪ ،‬بيد �أن التيمة الأ�سا�سية لهذا العمل هي الرجوع‬ ‫رائحته حتى بعد �أن تقدم بها العمر و�شحبت ذاكرتها‪،‬‬
‫للوراء‪� ،‬إم�ساك خيط الذاكرة الأول وااللتفاف حول التاريخ‬ ‫غدرا بعد �أن‬
‫الق�صي بغية ت�أطري احلكايات وحماولة الو�صول �إىل �أبعد‬ ‫ثم زوجها جماهد الديب الذي تزوجها ً‬
‫ذهب خلطبتها البن �أخيه منت�رص لكنه يطمع بها‬
‫نقطة فيها‪ ،‬وهذا يت�ضح مع �إ�رصار الكاتب على تقدمي تاريخ‬
‫لنف�سه‪ ،‬ثم ابن زوجها «ناجي» الذي ترتبط معه يف‬
‫القرية البعيد و�سبب وجودها‪ ،‬هكذا يتقاطع التاريخ الفردي‬
‫جلماعة من الأفراد الهاربني من ال�رضائب‪ ،‬مع التاريخ‬ ‫عالقة ج�سدية ‪ ،‬ثم يختفي يف م�صري جمهول‪ .‬لنقر�أ‪:‬‬
‫اجلمعي مل�رص لنقر�أ‪« :‬مل يت�صور �أحد �أن انتفا�ضة عمر مكرم‪،‬‬ ‫«عندما ظهرت على مباركة �أعرا�ض حمل جديد �أح�س‬
‫التي جنحت يف حترير م�رص من حكم العبيد‪ ،‬هي التي �ست�ؤدي‬ ‫جماهد بالت�شو�ش‪ ،‬وهو ي�سرتجع حتر�شاته الذليلة‬
‫�إىل احتالل الع�ش» �صـ‪.23‬‬ ‫بها‪ ..‬هل وجلها بني ال�صحو والنوم دون �أن يتذكر؟‬
‫هكذا يح�رض �إىل القرية با�شا تركي هو «متني �آغا» يبني‬ ‫هل هي خماوية اجلان ح ًّقا؟» �صـ ‪.104‬‬
‫�رسايا كبرية و�سط القرية‪ ،‬وميار�س ظلمه على الفالحني‪،‬‬ ‫متثل مباركة مزاوجة بني الف�ضائني الداخلي‬
‫لكن لن تلبث الأحداث �أن تدور لت�صري تلك ال�رسايا لأحد �أفراد‬ ‫واخلارجي‪� ،‬إنها حلقة الو�صل بني عامل القرية‬
‫عائلة الديب‪ ،‬ل�سالمة حتدي ًدا الذي ي�صري عمدة البلدة‪ ،‬وي�ضع‬ ‫واملدينة‪ ،‬هي التي ولدت و�شبت يف القرية‪ ،‬ثم انتقلت‬
‫يديه على ال�رسايا بعد �أن كانت مهجورة ومرتوكة للعفاريت‪،‬‬ ‫للمدينة لكنها حتمل يف فطرتها ال�سلوكية جر�أة‬
‫وميثل هذا احلدث داللة هامة يف انتقال عائلة الديب لتحيا‬ ‫ن�ساء املدن‪ ،‬تنت�رص مباركة جل�سدها‪ ،‬والختياراتها‬
‫يف تلك ال�رسايا‪ ،‬وك�أن الأمور عادت لن�صابها يف عودة‬ ‫ح�ضورا‪� ،‬سنجد داللة‬ ‫اجل�سدية‪ ،‬وترى �أن اجل�سد �أكرث‬
‫ً‬
‫ال�رسايا الدخيلة والتي بناها با�شا تركي‪ ،‬لتكون لأحد �أبناء‬ ‫هذا يف عالقتها مع ج�سدها حني تنتقل �إىل املدينة‪،‬‬
‫القرية‪.‬‬ ‫وت�سكن مع �أبنائها كي يكملوا درا�ستهم اجلامعية‪،‬‬
‫يح�رض تاريخ م�رص متوار ًيا خلف الأحداث الرئي�سة حليوات‬ ‫هناك تنظر �إىل ج�سدها يف املر�آة لأول مرة‪ ،‬تتفح�صه‬
‫الأبطال‪ .‬تر�صد الرواية واقع العالقات الإن�سانية يف القرية‬
‫بدقة‪ ،‬وتت�أمل تفا�صيله‪ .‬ولعل عالقة «مباركة»‬
‫امل�رصية‪ ،‬والتحوالت االجتماعية التي غزت القرية جيلاً‬
‫أبديا‬
‫عط�شا � ًّ‬
‫املبتورة مع «منت�رص»‪ ،‬تركت يف داخلها ً‬
‫بعد جيل‪ ،‬بد ًءا من التحول �إىل ال�صناعة بدلاً من الزراعة‪،‬‬
‫ثم انتقال �أفرادها �إىل املدينة‪ ،‬وما يتخلل هذا من �رصاعات‬ ‫للحب‪ ،‬و�صارت جتد يف حتقق احلب �أمامها نافذة‬
‫وتوترات �أ�رسية‪ .‬يعيد القمحاوي ر�صد الواقع بلغة متتاز‬ ‫لل�سعادة‪ ،‬هذا ما جنده يف موقفها من ابنها �سامل حني‬
‫باالحت�شاد‪ ،‬و�أجواء ميتزج فيها الواقع بال�سحري واملتخيل‪،‬‬ ‫يقع يف حب (خركيليا) اليونانية‪ ،‬توافق �رسي ًعا على‬
‫حيث يظل م�صري عدة �أبطال جمهولاً ‪ ،‬بحيث يتمكن القارئ‬ ‫زواجه منها‪� .‬أما ابنها الأ�صغر يو�سف‪ ،‬فحني يقيم‬
‫من امل�شاركة يف الت�أويل‪ ،‬وو�ضع فر�ضيات لنهاياتهم‪.‬‬ ‫عالقة غري �رشعية مع جارته املتزوجة من رجل‬
‫ورغم �أن التاريخ وما فيه من حتوالت انعك�س ب�شكل‬ ‫م�سافر‪ ،‬ويكون نتيجة العالقة طفلة يتم ت�سجيلها‬
‫مبا�رش على م�صائر الأبطال‪ ،‬وتقلبات �أحوالهم‪ ،‬وحتوالتهم‬ ‫با�سم ابنة املر�أة التي �أقامت عالقة مع يو�سف‪ ،‬ويف‬
‫‪289‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫املخلوقات وحيدة اخللية‪ ...‬ومل يعد هناك ما ميكن بيعه‬ ‫االجتماعية والنف�سية‪ ،‬لكنه ظل مثل �أر�ضية ثابتة يقف‬
‫لإعالة هذا العدد‪ ،‬فبدءوا يف البحث عن وظائف» �صـ‪.276‬‬ ‫الأبطال عليها مع امل�ضي للأمام من دون النظر �إىل �أ�سفل‪،‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬لنعود‬
‫تكون امل�شاهد الأخرية يف الرواية مع «مباركة» � ً‬ ‫ولعل ما ينبغي الإ�شارة �إليه يف احلديث عن التاريخ يف‬
‫يف �رسد دائري ممتع �إىل النقطة الأوىل‪ ،‬تلمح مباركة من‬ ‫رواية «بيت الديب» هي تلك احلرفية الفنية العالية يف حتقيق‬
‫بعيد وهي جال�سة عند دوار ال�رسايا �صورة رجل �شاب ترى‬ ‫النقالت الزمنية الطويلة املتوازية مع املنعطفات والتحوالت‬
‫فيه منت�رص‪ ،‬وللوهلة الأوىل نظن �أنها تتخيل‪� ،‬أو �أن مالك‬ ‫ال�سيا�سية الكربى‪ ،‬واالكتفاء بتقدميها عرب م�صائر الأبطال‬
‫املوت يو�شك على زيارتها‪ ،‬لكن يف احلقيقة كان ثمة رجل‬ ‫من دون الت�شعب يف تفا�صيلها‪ ،‬فمن ظلم ال�رضائب العثمانية‪،‬‬
‫يقرتب بالفعل‪ ،‬وحني يدنو منها وتتح�س�س وجهه تبد�أ برتديد‬ ‫�إىل الإقطاع‪� ،‬إىل قيام ثورة يوليو وحرب اليمن‪ ،‬ثم العبور‬
‫ا�سم «منت�رص» فريد عليها القادم‪« :‬ال �أنا حفيده يا جدة»‪.‬‬ ‫وحرب �أكتوبر‪� ،‬إىل جانب تقاطع هذه الأحداث التاريخية يف‬
‫وهكذا يف عودة احلفيد تكتمل �أ�سطورة «منت�رص» الغائب‬ ‫م�رص‪ ،‬مع �أحداث عربية كربى مثل وقائع تهجري الفل�سطينيني‬
‫احلا�رض‪.‬‬ ‫يف ‪ ،1948‬وغزو العراق للكويت‪ ،‬وحرب اخلليج‪ .‬لنقر أ� مثلاً ‪:‬‬
‫ميكن القول �أن «بيت الديب» بكونها رواية �أجيال مت�سل�سلة‪،‬‬ ‫«عاد �سالمة الديب من احلرب بعد �أربع �سنوات مل تدع �إال �أث ًرا‬
‫و�أبطال يتنا�سلون با�ستمرار‪ ،‬ميكن �أن تنطبق تفا�صيلها‬ ‫خفيفًا من املالمح تدل عليه»‪�.‬صـ ‪.117‬‬
‫و�أحداثها على �أي قرية �أخرى يف ريف م�رص‪ ،‬لقد متكن‬ ‫«تكفل الزمن بطي �صفحات مل يت�صور �أحد ب�أنها ميكن �أن‬
‫القمحاوي يف هذه الرواية من تقدمي �رشيحة اجتماعية‬ ‫تطوى‪ ،‬مثل ذكريات الطاعون والكولريا ودمار الفي�ضان»‪.‬‬
‫عري�ضة لأبناء قرية م�رصية‪ ،‬وما طر أ� من حتوالت بفعل‬ ‫�صـ ‪.87‬‬ ‫ ‬
‫«عندما عاد العقيد �سامل الديب من اليمن ملفوفًا يف علم‬
‫عوامل �شتى تركت �آثارها على الأماكن والأ�شخا�ص‪ .‬ولعل‬
‫�شارك يف تغيري لونه الأخ�رض �إىل �ألوان املوت‪� »...‬صـ ‪.292‬‬
‫من �ضمن �أهم مميزات هذا العمل هو غياب التيمات الثابتة‬
‫«ا�ستقبلوا بيان العبور بحذر‪ ،‬خوفًا من خديعة جديدة‪ .‬كان‬
‫يف احلديث عن القرية وعالقتها باملدينة‪ ،‬يف «بيت الديب»‬
‫الكذب يف الأيام الأوىل من النك�سة ماثلاً يف الأذهان»‬
‫حتدث التحوالت ب�سال�سة تامة‪ ،‬حني ينتقل الأفراد �إىل املدينة‬
‫�صـ ‪.296‬‬ ‫ ‬
‫ب�سبب الدرا�سة �أو العمل‪ ،‬من دون الرتكيز على بريق املدينة‬
‫«نزل ال�سادات �سلم الطائرة عائ ًدا من القد�س‪ ،‬وخلفه ع�رشة‬
‫الذي يخطف �أب�صار القرويني ال�سذج‪ ،‬ال يوجد مثل هذه‬ ‫من الأ�رسى كانوا يف عداد املفقودين» �صـ ‪.279‬‬
‫الأفكار‪ ،‬كما يغيب من الناحية النف�سية فكرة الثواب والعقاب‬ ‫متاما‪،‬‬
‫بيد �أن هذه الوقائع التاريخية املت�صلة بالواقع ً‬
‫بال�شكل املبا�رش‪ ،‬حيث هناك جتاوز للفكرة نحو متابعة �سري‬ ‫يظل ح�ضورها متوار ًيا خلف التخييل الروائي الذي يحيل‬
‫احلياة ككل‪ ،‬التي ال مت�ضي حت ًما وفق قواعد ثابتة؛ كما جند‬ ‫القارئ على فر�ضية ال�س�ؤال‪� ،‬إن كان هذا قد ح�صل بالفعل‪،‬‬
‫يف م�صري «ناجي» الأول الذي اختفى بال �أثر يدل على وجوده‬ ‫بداية مع وجود قرية «الع�ش» املفرت�ضة‪ ،‬ثم �شخ�صية البطلة‬
‫كما لو �أن اختفاءه نتيجة لعالقته اجل�سدية مع مباركة زوجة‬ ‫الرتاجيدية مباركة‪ ،‬وم�صريها الذي يتقاطع مع م�صائر باقي‬
‫�أبيه‪� ،‬أو نهاية «حفيظة» زوجة جماهد الأوىل‪ ،‬التي متوت‬ ‫هاما من الذاكرة احلية‪� ،‬إنها‬ ‫الأبطال‪ .‬مباركة هنا متثل جز ًءا ً‬
‫معلقة على �شجرة‪ ،‬كرد فعل على ال�رش الذي يغلف روحها‪.‬‬ ‫ما تبقى من اجليل القدمي‪ ،‬لكن املا�ضي البعيد الذي حمل‬
‫هناك ال منطقية �أو عبثية حتكم احلياة‪ ،‬وبالتايل جندها‬ ‫معه حبيبها منت�رص‪ ،‬مل يبقَ منه �شيء منذ حلظة �شق املوت‬
‫يف الرواية‪ ،‬فاملوت‪ ،‬واحلروب‪ ،‬عطب اجل�سد‪ ،‬غياب احلبيب‪،‬‬ ‫طريقه نحو �أفراد العائلة‪ ،‬و�صار يختطفهم واح ًدا تلو الآخر‪،‬‬
‫�أو فقدان �أحد الأبناء‪ ،‬كلها �أمور قدرية لي�س لالختيارات‬ ‫لذا نرى التعوي�ض عن الفقد بت�سمية الأوالد والأحفاد بذات‬
‫الفردية �سلطة عليها‪ .‬من هنا جاء م�صري الأبطال يف «بيت‬ ‫الأ�سماء‪ ،‬وهذه داللة مهمة ج ًّدا يف الرواية‪ ،‬تتكرر الأ�سماء‬
‫الديب» متوائ ًما مع هذا املعطى‪ ،‬و�إن كان ثمة م�صائر‬ ‫مع االختالفات يف الأزمنة والنتائج‪ ،‬لنقر�أ‪« :‬يف ثالث �سنوات‬
‫ميكن ربطها بقانون الفعل ونتيجته‪ ،‬ف�إنها ت�أتي بتلقائية‬ ‫امتلأت ال�رسايا والداران ب�أطفال لهم ال�سحنة نف�سها‪ ،‬ك�أنهم‬
‫�شديدة حاملة ت�أويالتها اخلا�صة ب�أ�سلوب يخلو من �أي‬ ‫خرجوا من خط �إنتاج مب�صنع واحد؛ لأنهم جاءوا مما �أ�سماه‬
‫مبا�رشة �أو ق�صدية‪.‬‬ ‫تزاوجا ذات ًيا‪ ،‬م�شب ًها التزاوج داخل العائلة بانق�سام‬
‫ً‬ ‫ناجي‬

‫‪290‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫«الأق�صى والأدنى» ل�شاكر لعيبي‬
‫تخ�صيب الدوال وتبئري املعاين‬
‫�شاكر جميد �سيفو‬
‫�شاعر وناقد من العراق‬

‫تت�رسب يف العتمة من �أفواه ال�سيدات املطيبات‬ ‫يرى قارىء ن�صو�ص (الأدنى والأق�صى ) * لل�شاعر‬
‫بالرياحني ) تت�شظى فعاليات الدال يف هذه املتوالية‬ ‫�شاكر لعيبي ت�شجريا لغويا ي�صوغ به ومنه وعليه‬
‫لتتفرد الذات ال�شاعرة مبقوالتها ال�شعرية بنف�س‬ ‫ّ‬ ‫نظاما مغايرا لال�شتعال اللغوي امل�ألوف‪ ،‬بغية ت�شييد‬
‫ويتب�أر‬
‫ّ‬ ‫الكل‬ ‫يف‬ ‫اجلزء‬ ‫يدخل‬ ‫أ‪،‬‬ ‫�‬ ‫جمتز‬ ‫ملحمي‬ ‫درامي‬ ‫�سرية �شعرية تتالحق حلقاتها يف �سرية حمورية‬
‫ن�صيه تت�صاعد‬ ‫الكل ليتخذ �أ�شكا ًال �أو هيئات لوحدات ّ‬ ‫الروية ال�شعرية وبها‬‫تتب�أر يف ْ‬
‫ودائرية وب�ؤرية فذة ّ‬
‫نرباتها ال�شعرية يف تخ�صيب الفعل ال�شعري‬ ‫للذات ال�شاعرة‪� ،‬سرية تتخ�صب يف كل لفظة وعبارة‬
‫با�ستعادته للتاريخ ال�شخ�صي وال�سريي للزمان‬ ‫وجملة تتبادل فيما بينها يف دائرة اخللق ال�شعري اذ‬
‫واملكان �إذ يذهب ال�شاعر �إىل �إعالن ك�شوفاته يف‬ ‫حتت�شد بال�صور ال�شعرية العميقة واملتموجة يف‬
‫ورقة امليتافيزيقيا وانفتاحها الوظيفي‪ ،‬بوظيفة‬ ‫مرياث اللغة املتخيلة يف وجدان ال�شاعر بهذه‬
‫اللغة ال�شعرية اجلديدة �إذ تتمخ�ض فعالية الن�ص عن‬ ‫متولها ر�ؤيا املكان والزمان‬‫احل�سا�سية العالية التي ّ‬
‫حكاية يبتدعها الكائن يف الن�ص بو�صفه دا ًّال والرائي‬ ‫واملزاج ال�شخ�صي التخيلي وال�سيميائي‪ ،‬اذ تراقب‬
‫ال�سارد الذي هو ال�شاعر‪ ،‬الرائي لأن�سنة الأ�شياء‬ ‫تتخ�صب‬ ‫احلوا�س م�شهدية ٍ العامل بكليانية متفوقة‬
‫ك�شف �أ�سلوبي ت�صويري جمايل � ّأخاذ يف‬ ‫ّ‬
‫والوجود يف ٍ‬ ‫وتلوع الذات بف�ضاء‬
‫ت�شخي�صه لطبيعة الر�ؤية والر�ؤيا مع ًا ‪ « :‬بعرثك‬ ‫يف عمق امل�شهد اليومي والكوين ّ‬
‫هذه امل�شهدية التي تر�شح بني طبقات الن�ص يف‬
‫�شبكة من العالمات الكثيفة وال�شديدة الت�شابك‬
‫ْ�شم رائحة‬
‫والنقاء والتاْمل وترا�سل احلوا�س بقوة ‪�( :‬سا ُّ‬
‫الزمان يف ال�ساعات املا�ضية دور ًة دور ًة على‬
‫مع�صمي‪� ،‬سابت�سم اْخريا بينما اْ�سقط وفمي على‬
‫البالط بلعابه ال�صايف ‪ :‬لالنهائي الذي تراه حدقتي‬
‫ال�سائلة على الأر�ض ‪ /‬للطائر الناه�ض من ع�ش ِه‬
‫مرفرف ًا يف هواء املكان ‪ /‬لفخامة ال�سقوط على‬
‫الأر�ض وجاللته‪ . .‬من ن�صه ( �أنت�صب يف املكان )‬
‫تكت�سب متوالية التكرار يف العنونات خا�صيتها‬
‫امل�شهدية يف ت�شكل وت�شاكل دائرة الن�ص و�أق�صد‬
‫الن�صية التي تت�شظى �إىل ن�صياّت تتحاور‬ ‫ّ‬ ‫الب�ؤرة‬
‫وتتداخل وتتخارج فيما بينها من العنونات‬
‫امل�ضارع «�أنت� ُرص» هي (�أنت�رص‬
‫ً‬ ‫املتنا�صة يف الفعل‬
‫لعزلتي �أنت�رص على نف�سي‪� /‬أنت�رص على ه�شا�شتي –‬
‫�أنت�رص للأر�ض – �أنت�رص لل�شعر – �أنت�رص للعر�س ‪/‬‬
‫يقول هنا ‪ :‬لن �أغلق النافذة ‪ /‬فما زالت �أغاين العر�س‬
‫‪291‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫ن�ص ال�شاعر حتوالت الدال اىل فواعل ن�صية تراوغ‬ ‫املوت خيط ًا خيط ًا يف الذكرى مثلما بعرثت الريح‬ ‫ُ‬
‫يف اقتنا�ص مدلوالتها �أو �صورها الأخرى املتمظهرة‬ ‫ال�رصاخ يف احلروب ‪ /‬خ ْذ بيد اليعازر يا �أبي لدارهِ‪،‬‬
‫يف املدلول �إذ تعود احلكاية ال�شعرية من الذاكرة‬ ‫وقم لتنظر ماذا �صنعنا من بعد ا�سمكَ الذي ظ ّل ُّ‬
‫يرن‬
‫اجلمعية اىل الذاكرة ال�شخ�صية بفعل �شعري بفاعلية‬ ‫يف �أح�شاء التفاحة ال�ساقطة عر�ض ًا من اجلنة‬
‫الأ�سطرة لر�ؤية الدال يف الفعل ال�شعري الأ�سطوري‬ ‫ال�صحراء‪ ( .‬من ن�صه ‪ :‬قيامة لعيبي )‪ .‬ت�شتغل ن�صو�ص‬
‫وتخ�ضع احلكاية اىل ا�شتغال فاعلية امللفوظ الن�صي‬ ‫ال�شاعر على مديات الف�ضاء ال�شعري يف ت�شكيالته‬
‫يف ظل ف�ضاء املتخيل الن�صي والذاكراتي‪ ،‬وت�ستعيد‬ ‫الب�رصية والداللية واجلمالية وتتجاور م�شهديته‬
‫هنا يف هذا الن�ص �شبكة الدوال الفاعلة يف طبيعة‬ ‫ال�شعرية مع الفنون االبداعية كالت�شكيل وامل�رسح‬
‫ن�سق التخييل املنزاح‪� ،‬إذ يعود ب�صوت احلكاية من‬ ‫وال�سينما والق�صة والأورك�سرتا‪ ،‬وتتفاعل وتت�ضافر‬
‫املا�ضي الذاكراتي اىل ح�ضور فعل التخيل ال�شخ�صي‬ ‫وتتداخل بني هذه الأجنا�س بقوة ت�شكلها وتوالدها‬
‫الن�صية ‪« :‬من الفحم الذي‬ ‫ّ‬ ‫البارع يف ار�ساليته‬ ‫املكتظ املتمظهر يف ح�شد ال�صور ال�شعرية يف �أرقى‬
‫ا�شرتيته من «باب الع�سل» نه�ضت الغربان‪ ،‬ثم نعقت‬ ‫درجاتها التخيلية ومتاهاتها وف�ضائها اجلمايل‬
‫عرو�س‬
‫ٌ‬ ‫قبل �أن تنح َّل يف �ضجة ال�سوق‪� .‬أ�صابع الفحاّم‬ ‫تقلبنا يف «برج العقرب»‬ ‫احل�سي والفكري واحللمي ‪ّ :‬‬
‫من الزجن مغمو�س ٌة يف اللذة العليا‪ .‬انحدرت مع ال�س ّك ِة‬ ‫املغت�سالت‬
‫ُ‬ ‫بني النجمات الثالث‪ .‬خططت ال�صبيات‬
‫تنبعث‪ ،‬يف ليلة العيد‬ ‫ُ‬ ‫متتبع ًا رائحة ال�شواء التي‬
‫ّ‬ ‫أقدامهن النا�صعة‪ .‬خطفنا نحن‬‫ّ‬ ‫عند النهري قلوبنا ب�‬
‫الكبري‪ ،‬من الزقاق امل�سدود‪ .‬الفحم اتحّ َد مع ظلمة‬ ‫أوراحهن مبج�ساتنا العقربية �أ�سفل البطن‪ ،‬بنقيع‬ ‫ّ‬ ‫�‬
‫ُجرابي حتت �ضوء امل�صباح الواقف عاريا بقبعته‬ ‫ن�صه « برج‬ ‫ال�سم اخلارج من �أفواهنا مع الأ�شعار‪ ،‬من ّ‬ ‫ّ‬
‫أقف‪ :‬م�ستن�شق ًا القليل من الهواء‬ ‫كنت � ُ‬
‫الفقرية‪ ،‬حيث ُ‬ ‫العقرب» ي�سعى ال�شاعر ويجتهد على �إعادة �إنتاج‬
‫الذي ي�سبق ال ُّدوار ‪ /‬الهواء‪ ،‬الهواء‪ ،‬الهواء ‪ /‬قلي ٌل من‬ ‫اللغة‪ ،‬لغته الثانية يف ك ّد فكري وتخيلي ور�ؤيوي من‬
‫ن�صه «قليل من الهواء يكفي» تكت�شف‬ ‫الهواء يكفي‪ّ . . .‬‬ ‫�ضخ هذا القدر العايل لل�شعري يف حدود الن�ص‬ ‫�أجل ّ‬
‫القراءة الدقيقة لن�صو�ص ال�شاعر منظومة من البنيات‬ ‫ن�ص مفتوح يتخلق‬ ‫وخارجه‪ ،‬على �أ�سا�س اجرتاع ّ‬
‫الداخلية التي تت�أ�س�س بفعل املعامل احلكائي‬ ‫بطبقات م�شحونة ومبتكرة بهذا اخللق ال�شعري اجلديد‬
‫وت�ضافر نظم العالمة واال�شارة وميكانزم اجلهاز‬ ‫فالن�ص يف‬
‫ّ‬ ‫املفتون بالإدها�ش والإمتاع وال�صدمة‪،‬‬
‫اللغوي الفعال يف ح�سا�سيته اللفظية اجلديدة‬ ‫طبقاته ي�شي برتاكم ب�ؤر بانورامية تتوالد يف ت�ضافر‬
‫وتعا�ضد حركة الدوال ودينامية املداليل وانفتاحها‬ ‫ومنو الفعل ال�شعري يف ح�ضور الفعل اللغوي الذي‬
‫على ح�شود املعاين وتوالدها يف ت�شظي احتماالت‬ ‫يرتك�س على البالغ ال�شخ�صي الأنوي الذي تتنكّبه‬
‫تعددية املعنى‪ ،‬وتتجلى هنا مهارة الذات ال�شاعرة‬ ‫وتنا�صاتها‬
‫ّ‬ ‫ظالل الن�ص مع ظالل احلكاية ال�شعرية‬
‫يف �إر�سال �شيفرة الدال وتوا�صله يف التدليل ملتون‬ ‫ومتوجات الذاكرة وح�ضورها الذي ينطوي على‬
‫احلكاية ال�شعرية وانفتاحها و�ش�ساعة ف�ضائها‬ ‫التوا�صل مع منتجات املخيلة وحدو�سها العميقة ‪:‬‬
‫وخ�صب جتلياتها و�شيفراتها يف ميادين البث‬ ‫«قال يل �إبن خلدون‪ :‬ا�ستمع ل�صوت النار حتت‬
‫والأر�سال «والق�ص�شعري» ‪« :‬ا�ستعرت من طفل‬ ‫احل�صى حيث ُي ِع ُّد البرَ بر الذبائح بقدورهم احلجرية‪.‬‬
‫أطلقت املاء على جتاعيد‬ ‫املا�ضي م�سد�س اللعب و� ُ‬ ‫احلي يف نذورهم ذات‬ ‫مازال يعلق �شيء من حيوية ّ‬
‫ا�ستعرت برج احلمام من ال�صورة الفوتوغرافية‬ ‫ُ‬ ‫وجهي‪.‬‬ ‫العيون الوا�سعة التي تنظر اىل ال�سماء‪ .‬لو نظرت �إىل‬
‫أطلقت هديال ال‬ ‫ت�شمم ُت ُجدران َه ‪ /‬و� ُ‬
‫ّ‬ ‫ودخلت عتمته ‪/‬‬
‫ُ‬ ‫اجلبانة امل�سواة مع الأر�ض‬‫الربية �سوف ترى قبور ّ‬
‫ُ‬
‫مثيل ل ُه‪ . . .‬ا�ستعرت من جارتي مطرق ًة ِلأعلِّقَ �أوهامي‬ ‫البحة‬‫وهي تناف�س بهجة الأفق‪ ،‬ا�ستمع �إذن جيدا‪ :‬اىل ّ‬
‫ن�ص ِه ‪ :‬ا�ستعارات»‬ ‫اجلديدة يف ال�شقة اجلديدة‪« .‬من ّ‬ ‫التي ت�شوب الأ�صوات بعد �صرُ اخ العر�س‪ /،‬اىل ربح‬
‫ن�صو�ص ال�شاعر تك�شف عن �سقوفها قبل الدخول يف‬ ‫املد ّقات التي تطحن العطر‪ /‬واىل احل�رشجات‬
‫عتباتها‪� ،‬إذ تختزل حركة احلياة‪ ،‬حياة الذات ال�شاعرة‬ ‫إبن خلدون »‪ . .‬يك�شف‬ ‫الباقية‪ « . . . .‬من ن�صه‪ :‬قال يل � ُ‬
‫‪292‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫ب�ؤر الن�ص املتداخلة‪�« .‬أ�سمع َعبرْ َ جدران البناي ِة �رشق‬ ‫ت�شع‬


‫وحياة املوجودات والأخر يف موجزات �صورية ّ‬
‫ال�صنابري باملاء العذب‪�/‬رصاخ الأطفال حديثي‬ ‫من داخل الف�ضاء ال�شعري ب�أدالّء احلكاية و�أدالّء‬
‫الوالدة �رصير الأريكة التي تنام املُطّ لق ُة‬ ‫الروي ال�شعري ومنو م�سل�سل الكتابة ال�شعرية يف‬
‫عليها‪،‬املو�سيقى الرديئة وال�شتائم اجليدة وت�صلني‬ ‫�سبيل حتقيق نوع من التوازن بني ف�ضاء احلكي‬
‫أت�سمع �صلوات الفجر‬‫روائح ال�شواء وحرائق احللوى‪ ،‬و� ّ‬ ‫و�شعرنته وف�ضاء التخييل واجرتاحه حلركة الدوال‬
‫عند حلول �أيرو�س يف ج�سدي‪� ،‬أ�سمع حوارالثمل مع‬ ‫ور�ؤية املداليل يف �سياق الت�شكيل ال�شعري وتراكماته‬
‫ظ ّل العمود ال�ساقط على خزانة ثيابه‪� ،‬شخري الأموات‬ ‫و�صياغاته اجلديدة‪ ،‬ومتثله للفكرة الب�رصية‬
‫خالل حياتي الق�صرية‪ ،‬ها �أنا ذا يف هذه العمارة‬ ‫وم�ضاعفة البنى الت�صويرية واحللمية ومتظهرات‬
‫أقمت بها وقتا طويال �أ�صغي ب�سبب �سه ِو‬ ‫التي � ُ‬ ‫املرئي للم�شهدية ال�شعرية التي تزخر بها ن�صو�ص‬
‫ثمة حائط مل يقيموه‬ ‫البنائني لل�صائت واملهمو�س‪ّ :‬‬ ‫ال�شاعر بقوة العالمة الل�سانية واال�شارة اللفظية‬
‫ثمة حائط طاملا‬ ‫ثمة حائط ممحو من الذاكرة ‪ّ /‬‬ ‫قطّ ‪ّ /‬‬ ‫احلامل ل�شعرية عالية‪« :‬ف�سرّ ُت البن �سريين �أحالمه‪.‬‬
‫‪«:‬ن�صه‪ :‬الب ّنا�ؤون» تتميز ن�صو�ص ال�شاعر بهذا‬ ‫�سقط ّ‬ ‫َح ْل َم ب�أنه كان مي�سك النعامة من رقبتها ويغم�س‬
‫الت�شكيل الأيقوين حيث تتعدد عالئق امللفوظات‬ ‫منقارها يف �شط العرب‪ ،‬ثم حلم ب� ّأن الب�رصة كانت‬
‫ن�صية متجاورة‬ ‫وتتداخل فيما بينها لت�شكل ب�ؤرات ّ‬ ‫تنه�ض بجناحني �صل�صاليني وتغط�س مع البا�شق‬
‫يت�شظى فيها اخلطاب ال�شعري اىل بلورات �شعرية‬ ‫املنق�ض للماء لت�صطاد قمر ال�صيف‪ .‬ثم حلم ب� ّأن‬
‫ر�ؤياوية تتقارب فيما بينها وتفرتق بدرجات‬ ‫م�سام‬
‫ّ‬ ‫النخيل كان يحت�ضن بع�ضه‪� ،‬سعف ًة �سعفة‪ ،‬و� ّأن‬
‫الرتميز‪ ،‬بهذا املعنى يحت�شد امل�شهد ال�شعري ب�صوره‬ ‫اجلّرة ذات العروتني تر�شح بالأوهام‪ .‬حلم ب�أنه �صار‬
‫اجلامعة وبتنا�صها بني الداخل واخلارج باني ًا نوع ًا‬ ‫واملاء �شيئ ًا واحداً‪ ،‬و� ّأن النخلة واجلّر َة ذابتا يف هيئة‬
‫من املفارقة احل�سية اللذيذة التي ترفل مبا هو �أليف‬ ‫واحدة ‪ :‬و� ّأن امل�ساء مغطّ ى بقما�ش من «ك�شمري» ‪ّ � /‬أن‬
‫وغرائبي يف اَن واحد‪ .‬تتمظهر حركة �أفعال الن�ص يف‬ ‫غ�صون ال�شجر ت�سيل مع املاء‪ / ،‬و� ّأن �رصخة البط‬
‫قدرتها الفائقة على الت�شكيل ال�سيمي الذي تغذيه‬ ‫قطنية»‬
‫ّ‬ ‫ن�صه الرائع‪� :‬أبراج‬ ‫تخمد على ل�سانهِ‪ّ »،‬‬
‫وظائف الرمز واال�ستعارة كما يف اللغة ال�سينمائية‬ ‫ن�صو�ص ال�شاعر تك�شف عن ان�شغالها احلميمي‬
‫كما ر�آها الناقد «مار�سيل مارتن» يف كيفية تالحم‬ ‫باحلياة فال�شاعر يكتب يف احلياة ولها وعنها‪،‬‬
‫ال�صور بو�ساطة التوليف اِذ تتداخل عنا�رص امل�شهد‬ ‫وتنبى عنونة ديوانه «الأدنى والأق�صى» عن هذين‬ ‫ُ‬
‫الذهنية والب�رصية‪ ،‬الأزمنة كلها ويلعب هنا احلد�س‬ ‫القطبني اللذين ميثالن قطبي احلياة يف �صورها‬
‫وفاعلية املوروث اللغوي والفكري واالب�ستمولوجي‬ ‫اليومية والكونية واملتيافيزيقية‪ ،‬تتجاذب تارة‬
‫دوره امل�ضيء يف جمان�سة الغمو�ض والأ�ستطيقيا‬ ‫وتتنافر تارة �أخرى لت�شكّل معادلة ثنائية قائمة على‬
‫من زوايا عديدة للر�ؤية والر�ؤيا‪ّ � ،‬إن ال�شاعر �شاكر‬ ‫الت�ضاد بغية ت�شكيل جتان�س بني البنية املكانية‬
‫لعيبي را ٍء كوين من طراز خا�ص ج ّداً‪ ،‬يتحرك باللغة‬ ‫والزمنية التي يتجوهر يف متنها ومنحنياتها جوهر‬
‫يف تثوير عنا�رص خطابه ال�شعري مثلما تتحرك‬ ‫اخلطاب ال�شعري‪ ،‬مما يعزز ر�ؤية قراءتنا بتعدد‬
‫خا�صية الفكرة بقوة التخييل يف م�شغله ال�شعري‪:‬‬ ‫م�ستويات اخلطاب ال�شعري والبنى الداللية التي‬
‫«ملعت ال�سنبلة ملعانا �شم�سيا ثم انفرطت بني يدي‬ ‫مكونة �أيقونات �شعرية ترفل‬ ‫ترتا�سل فيما بينها ّ‬
‫حار�س احلقل الذي انحنى اللتقاط احلباّت ال�ساقطة‬ ‫بالعنا�رص ال�رسدية واحلكائية والت�شكيل الب�رصي‬
‫قرب حذائه املطاطي‪ .‬هاهي ذي املروج املغ�سولة‬ ‫ال�سيمي وال�صوري املتعالق مع الر�سم والقناع وتعدد‬
‫باملطر متتد �أمام اخلنف�ساء اخلارجة للتجوال يف‬ ‫الأ�صوات‪ ،‬لذا تتب ّدى الن�صو�ص بهذه االِيقاعات‬
‫قب َل‬
‫املرج الأول‪ .‬هاهي ذي �شجرة الزيتون التي ّ‬ ‫احلياتية بلغتها الر�شيقة وال�شفافة تارة ولغتها‬
‫الفتاة حتت ظلها يف املرج الثاين‪ ،‬هاهو ذا الكوز‬ ‫املعقدة امللتفة على بع�ضها يف ن�سق من الغمو�ض‬
‫مرتجرج ًا بالزيتون يف املرج الثالث‪ .‬هاهي كرات‬ ‫املا�سي الذي ي�ضفي االِيقاع ال�سمفوين املتنوع يف‬
‫‪293‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫وحتبيكات �رسودها املوجزة ومتانة عمارتها اللغوية‬ ‫لتذكره ب�سخونة‬


‫ّ‬ ‫ال�شوك التي تطري من مرج ملرج‪:‬‬
‫وب�ؤرها االنفجارية املحت�شدة‪ .‬مب�ستويات داللية تقع‬ ‫الرتاب‪ /،‬ب ُعري الأقدام التي هبطت من اجلنة ‪/‬‬
‫على التوازي والرتابط والتماثل والتنامي والتفاعل‬ ‫ال�سري وحيداً ( من ن�صه‪ :‬املروج) ي�ستثمر‬
‫وباللذة يف ّ‬
‫« بني مزدوجني و�ضع الأ�ستاذ العا َمل على اللوح‬ ‫ال�شاعر منظومة من الأفعال التي تتحرك وفق ر�ؤيات‬
‫الأ�سود‪ ،‬ونف�ض بقايا الطب�شور من �أ�صابعهِ‪ ،‬داخال يف‬ ‫متعددة‪� ،‬أفعال ت�ؤ�س�س وتبني عمارة الن�ص وت�شكل‬
‫�سوى نظارته على عينيه لكي يت�أكد من‬ ‫قلب الهيكل‪ّ .‬‬ ‫�سحري � ّآخاذ تتجاور‬
‫ّ‬ ‫مبنى‬
‫ت�شابك عنا�رص خطابه يف ً‬
‫وت�صفحت‬
‫ّ‬ ‫�صالبة الوجود‪ ،‬من النافذة دخلت الريح‬ ‫يف قو�س احللم والك�شف والذكرى والطفولة ال�ضائعة‬
‫�أوراقَ كرا�ست ِه ‪ :‬دخلت الفرا�شات تباع ًا ‪ /‬وهي‬ ‫والتاريخ ال�رسي للأ�شياء والكينونات‪ ،‬فن�ص ال�شاعر‬
‫مربع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫متحو ب�رضبات �أجنحتها املكان ‪ /‬مربع ًا بعد‬ ‫ر�ؤياوي وب�رصي ينف�سح على م�شهديات متعددة‬
‫كر�سي‪ ،‬وحائط ًا بعد حائط‪ ( .‬ن�صه‪ :‬بني‬ ‫ّ‬ ‫وكر�سي ًا � َ‬
‫إثر‬ ‫ي�ستعيد يف �أن�ساقها حلظات املا�ضي وعقم احلا�رض‬
‫مزدوجني) ينهمك ال�شاعر يف توطيد بالت�شابك ال�شديد‬ ‫وغيبوبة الآتي‪ /‬وتعويذات الوجد وا َال�ستعانة‬
‫بني العنا�رص الداخلية للن�سيج الن�صي‪ ،‬عرب �شفرات‬ ‫بالبارانويا والت�شبث باجلوهر والقب�ض على ديالتيك‬
‫اخلطاب وح�سا�سيته ال�شديدة جتاه الأ�شياء والعنا�رص‬ ‫اللغة الثانية التي تك�شف عن عوامل غرائبية �سحرية‬
‫احلكائية التي ت�شكل ر�سالة الن�ص‪ ،‬وتربز من خاللها‬ ‫فرت الق�صيدة من‬ ‫مبدعة بقدرات التخييل ال�شخ�صي» ّ‬
‫�شيفرات اخلطاب التي تتمظهر �أحيان ًا يف �صيغ من‬ ‫حنجرة ال�شاعر‪ .‬خبطت اجنحتها جدران قف�صه‬
‫التجريد و�أخرى يف بنى التجريب الذي تدفعه منظومة‬ ‫ال�صدري ف�أيقظت اليمام الراقد يف باحة الدير‪ .‬عني‬
‫من بو�صالت الأزاحة للغة‪� ،‬إذ تتعقب الر�ؤية ال�شعرية‬ ‫ال�شاعر منتفخة‪ ،‬ويده مرتع�شة‪ ،‬و�شفتاه كال ّزبد‬
‫واملخيلة م�سار العملية ال�شعرية يف ميكانزمي الأنزياح‬ ‫البحري‪ ،‬كملح املبازل‪ ،‬كرذاذ الياقوت‪ ،‬كذرات‬
‫لتتحقق �أق�صى اال�ستعارة‪ ،‬وهذه هي ال�شعرية الناب�ضة‬ ‫املوت‪ ،‬ف ّزت الق�صيد ُة يف حنجرته القرمزية التي مل‬
‫املتدفقة املحت�شدة بالروح ال�شعري وبجوهر ال�شعر من‬ ‫يخفق بها �إال جناح مالك الدير ال�صغري قبل �أن ‪:‬‬
‫التفاعالت املتعالقة يف فكر ال�شاعر وخزينه املعريف‬ ‫ي�صعد يف الروح التي تتنف�س يف ال�شجر‪ /‬قبل �أن‬
‫واجلمايل واجلّواين الداخلي‪� ،‬إذ يحتفل ال�شاعر ويحتفي‬ ‫كالرطب الياب�س‪ /‬وقبل �أن‬ ‫ي�صطفق ناثراً الأوهام ّ‬
‫حوا�سه التي تتنازعها الفنت والرغبات واللذائذ‬ ‫ّ‬ ‫بكل‬ ‫قدم الطفل بها‪:‬‬ ‫ينام على العتبة التي ا�صطدمت ُ‬
‫والن�شيج والده�شة ومعاينة العامل والوجود‪« :‬لنحتفل‬ ‫(ن�صه �رصخة مونخ) تتماهى �أ�سطورة ال�شاعر مع‬ ‫ّ‬
‫بحوا�سنا‪ ،‬هذه ال�شعريات الدقيقة التي مت ُّد التويجات‬ ‫َّ‬ ‫�أ�ساطري العنا�رص احلكائية اذ يربط ال�شاعر الر�سالة‬
‫املج�سات التي قادت القدي�سني �إىل‬ ‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫باحلرارة‪.‬‬ ‫ال�شعرية بقوة املنحى احلكائي للأ�سطورة «بقدر‬
‫مقاطعات الغيوم‪� .‬أغاين احل�رشات غري املرئية التي‬ ‫ارتباط الأدب احلتمي بالأ�سطورة» ح�سب نورثروب‬
‫ترن يف الوادي‪ .‬لنحتفل مبلم�س الأ�شياء التي تتجاوز‬ ‫ّ‬ ‫فراي‪ ،‬حيث ي�صبح الأدب هو الأ�سطورة»‪ ،‬وربط‬
‫نف�سها‪ .‬ل َنع ْد لفهر�س التجارب التي ت�سجل اللدغات‬ ‫ّ‬ ‫روالن بارت الأ�سطورة ومبناها احلكائي �أو طريقة‬
‫اخلفيفة‪ ،‬لنحتفل بحوا�سنا التي تختفي يف حوا�س‬ ‫�صياغتها �أو قولها بقوله «�إن الأ�سطورة التتحدد عرب‬
‫الكون معابثنا ب�أجنحة المتناهية‪ :‬لنحتفل بالقُبلة‬ ‫ُ‬ ‫مو�ضوع ر�سالتها‪ ،‬وامنا عرب الطريقة التي تنطقه‬
‫التي هي ا�ستثارة للغيبوبة الكامنة فينا ‪ /‬بالقبلة‬ ‫بها» ح�سب كالم الناقد فا�ضل ثامر يف درا�سته‬
‫التي هي ذهاب روحينْ اىل العامل ال�سفلي ‪ /‬القبلة التي‬ ‫للبياتي �ص‪ 52‬من كتابه‪� :‬شعر احلداثة‪ :‬من بنية‬
‫ف�س لكي منحو ‪ ( :‬ن�صه لنحتفل‬ ‫ف�س‪ ،‬و ُت َرّ‬
‫متحو لكي ُت َرّ‬ ‫التما�سك اىل ف�ضاء الت�شظي �إ�صدارات دار املدى‪.‬‬
‫بحوا�سنا‪) . .‬‬ ‫� ّإن ن�صو�ص ال�شاعر تتجاور يف متف�صالتها البنائية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫وامتداد �أفق الكتابة ال�شعرية نحو �آفاق بعيدة‬
‫�صدر الكتاب عن دار الدو�رسي – البحرين ‪2011‬‬ ‫•‬ ‫متخيلة‪ ،‬تتجاور حتى يف مظاهرها اخلطية الب�رصية‬

‫‪294‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫يون�س البو�سعيدي‬
‫فـي «هاج�س املاء واملرايا»‬
‫�ضياء خ�ضري‬
‫�شاعر وناقد من العراق‬

‫املو�سيقي يورث �إح�سا�سا مقابال بالبنية اللغوية‬ ‫يون�س البو�سعيدي واحد من ال�شعراء الطاحمني‬
‫التي تولد الفكرة وال�صورة‪ ،‬وترتبط معهما برباط‬ ‫الحتالل مركز مرموق يف خارطة ال�شعر العماين‬
‫ال ينف�صم‪.‬‬ ‫ال�شاب يف هذه املرحلة‪ .‬وهو ميلك من احل�س‬
‫ونحن نقول ذلك مع �إح�سا�سنا ب�أن ال�شاعر ميتلك‪ ،‬يف‬ ‫املرهف والأدوات ال�شعرية ما ميكنه من ذلك‬
‫ق�صائد اخرى‪� ،‬أذنا مدربة و�إح�سا�سا مو�سيقيا جيدا‬ ‫حقا‪ ،‬خ�صو�صا �إذا ترك لنف�سة فر�صة �أكرب للت�أمل‬
‫وغنيا‪ ،‬حتى �إذا كان اخلطاب ال�شعري لديه مييل‬ ‫ّ‬ ‫وكتابة الق�صيدة لدواع نف�سية وفنية حقيقية‪ ،‬ولي�س‬
‫غالبا‪ ،‬كما يف الق�صيدة العمودية‪� ،‬إىل االرتفاع‪،‬‬ ‫لدواعي املنا�سبة العابرة �أو املو�ضوعات امل�شكوك‬
‫وما ي�ؤدي �إليه تراكم الكلمات على بع�ضها من‬ ‫يف �صدورها عن رغبة �أكيدة يف الكتابة والتعبري‬
‫�ضعف القدرة على تبينّ دالالتها بغري ال�صوت الدال‪،‬‬ ‫عن حاجة روحية و�إبداعية �ضاغطة‪ ،‬ور�ؤيا يفي�ض‬
‫والنغمة املو�سيقية املرافقة‪.‬‬ ‫فيها معنى العبارة و�إيحاءاتها املرافقة عن حجم‬
‫ومع �أن ديوان البو�سعيدي ( هاج�س املاء واملرايا )‬ ‫كلماتها‪.‬‬
‫ميثل نقلة وا�سعة يف التطور ال�شخ�صي لل�شاعر على‬ ‫ومع �إح�سا�سنا ب�أن لدى ال�شاعر ما يقوله حقا‪ ،‬فان‬
‫�صعيد بناء الق�صيدة ومو�ضوعها‪ ،‬ف�إن ما �سننتظره‬ ‫طغيان املظهر اللفظي‪ ،‬وعدم القدرة على �إعطاء‬
‫منه �سيبقى‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬هو الأهم والأكرث تعبريا‬ ‫ت�صور حمدد عن الق�صيدة مو�ضوعا وبناء‪ ،‬هو الذي‬
‫عن جوهر جتربته ال�شعرية‪.‬‬ ‫يقف �أحيانا بني ق�صيدته‪ ،‬وبني القارئ والناقد‬
‫ونحن نقول ذلك اعتمادا على ما ر�أيناه لل�شاعر‬ ‫املتطلع �إىل مزيد من التفاعل والتمثل للغة الق�صيدة‬
‫يف هذا الديوان من ق�صائد مفردة �أو مقاطع �شعرية‬ ‫واملكونات ال�شعرية الأ�سا�سية فيها‪.‬‬
‫معينة يف ق�صائد �أخرى‪.‬‬ ‫و�أول ما ينبغي مالحظته هنا هو �أن ق�صيدة‬
‫وحينما نقر�أ له مثل هذا املقطع ‪:‬‬ ‫البو�سعيدي‪ ،‬ال�سيما الطويلة منها‪ ،‬بحاجة �إىل مزيد‬
‫( �أفتح �أم�سي‬ ‫من ال�ضبط على �صعيد البنية الإيقاعية والداللية‪.‬‬
‫فبع�ض هذه الق�صائد تنطوي على مزج بني ال�شكل‬
‫روحي خ�رضاء‪ ،‬قلبي طفل‬
‫العمودي والق�صيدة احلرة‪ ،‬دون توفري قدر كاف‬
‫ن�صب‬
‫ُ‬ ‫وقلوب من ق�صب ال�سكر‪ ،‬ال تعب فيها ال‬
‫من التنا�سب بني ال�شكل املو�سيقي املتبع والداللة‬
‫وعيون ت�رشب قو�س قزح‬ ‫الرئي�سية �أو احلافة‪� .‬أعني �رضورة اختالف ال�صيغة‬
‫ُيطوى �أم�سي‪.‬‬ ‫اللغوية واملو�سيقية املقرتحة باختالف الأحا�سي�س‬
‫الكر�سي �أمامي‬
‫ّ‬ ‫و�أرى ظلي يقعد يف‬ ‫والدالالت املرافقة‪ .‬على اعتبار �أن الإح�سا�س‬
‫‪295‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫بني قرية (الفيقني) التي �أتى منها‪ ،‬و(م�سقط )‬ ‫ويحاورين‪ . . .‬ال يقنعني‬
‫املدينة التي يعي�ش فيها‪ ،‬ال ميتلك دائما مثل هذا‬ ‫ويناورين‪ ،‬اليقتلني )‬
‫ال�صوت املعرب عن دراما القلق الناجت عن حياة‬ ‫�أقول حينما نقر أ� هذا املقطع من ق�صيدة البو�سعيدي‬
‫من هذا النوع‪ .‬فهو ال ي�ستطيع �أن يتحرك دائما‬ ‫الطويلة (كوالج الغريب) ن�شعر بقدرة الفن الت�صويري‬
‫يف ق�صيدته‪ ،‬هكذا‪ ،‬متحررا من الأالعيب الذهنية‬ ‫يف هذا (الكوالج) على ت�سجيل بع�ض من �أ�شكال‬
‫والزخارف اللغوية اللفظية‪ .‬هذه الأالعيب التي من‬ ‫الغربة يف حياة ال�شاعر عرب هذا التقابل الدائم بني‬
‫�ش�أنها التفريط بقدرة الق�صيدة على الرتكيز‪ ،‬وخلق‬ ‫يكف عن‬
‫املا�ضي واحلا�رض‪ . .‬هذا احلا�رض الذي ال ّ‬
‫وت�صور حياة‬
‫ّ‬ ‫نواة �شعرية ميكن متابعتها وفهمها‪،‬‬ ‫�إظهار وجه ال�شاعر يف املر�آة مبظهر الغريب‪ ،‬وذلك‬
‫ال�شاعر ور�ؤيته ال�شعرية‪ ،‬بطريقة �أف�ضل‪ ،‬من خاللها‪.‬‬ ‫املا�ضي الذي يحا�رص بح�ضوره حياة ال�شاعر‬
‫نعم‪ ،‬هناك �صور وجمازات �شعرية كثرية تنطوي‬ ‫ويعيدها �إىل زمن الطفولة الأوىل‪ ،‬حيث اخلوف‬
‫عليها هذه الق�صيدة‪ ،‬ولكنها غالبا ما تبدو كما لو‬ ‫الدائم من فقدان الأم‪ ،‬واملطر الذي ي�أتي وال ي�أتي‪،‬‬
‫كانت مهارات ع�ضلية ال تعطي قارئها انطباعا‬ ‫والرجفة التي ت�أخذه �صوب املنفى‪ ،‬وغري ذلك من‬
‫كافيا ب�أن �صاحبها م�شغول ب�أزمة روحية �أو فكرية‪،‬‬ ‫حتول الطفل �إىل كهل‪ ،‬بنف�س الطريقة التي‬ ‫ذكريات ّ‬
‫وقلق وجودي حقيقي‪.‬‬ ‫حتول الكهل �إىل طفل ‪:‬‬
‫وامل�شكلة ال تت�صل فقط بعدم قدرة ال�شاعر على‬ ‫ناي غرغرة‪) . .‬‬ ‫ً‬
‫�إجراء امل�صاحلة بني جانبني يظالن متباعدين‬ ‫�صوتي و�صداي �أمامي‬
‫يف حياته و�شعره‪ . .‬التحليق عاليا يف ال�سماء من‬ ‫يتهدج كهل ينظر يف املر�آة‪ ،‬يخاف غريبا ينظر يف‬
‫جانب‪ ،‬والنزول �إىل القعر‪ ،‬يف اجلانب الآخر‪ ،‬على‬ ‫املر�آة �إليه‬
‫ما ينطوي عليه ذلك من مبالغة و�إمعان يف الرتدي‬ ‫بكى ‪� :‬أمي‪� . .‬أمي‪. .‬‬
‫يف الغواية اللفظية التي جتمع املتناق�ضات‪ ،‬التي‬
‫ي�ستنجد ‪� :‬أمي‪� . .‬أمي‪. .‬‬
‫يتقابل فيها (الويل) مع (البغي) داخل املدينة‪:‬‬
‫ي�ست�رصخ �أمي‪� . .‬أمي‪� . .‬أمي‪� . .‬أمي‪. .‬‬
‫( مب�سقط‪ ،‬يقهرين الرمل حتى �أكون وليا‬
‫يرتجى مطرا الي�أتي‬
‫ويقهرها الرمل يف م�سقط كي تكون بغيا ) !‬
‫ويخاف الرجفة ت�أخذه نحو املنفى‪.‬‬
‫�أقول �إن امل�شكلة ال تقف عند هذا احلد الذي تبدو فيه‬
‫اللحمة �إذا هي انعقدت بني بني افراد املجتمع وهما‬ ‫قلبي مي�شي فوق اجلمر كمنفي الأر�ض الأبدية‪.‬‬
‫يلتقيان بعيدا عن القرية يف غابة املدينة‪ ،‬دون �أن‬ ‫***‬
‫يجر�ؤ �أحدهما �أن يقول ل�صاحبه بعد ال�صالة الكلمة‬ ‫�أم�شى فوق املاء بغري هدى‪ ،‬بو�صلتي ُ‬
‫ريح‬
‫التي تقال بال�سواحلية يف مثل هذه احلاالت «�سالم‬ ‫بالأم�س تركت القلب الطفل على املهد‪ ،‬ومل يكرب‬
‫عليكم خباري نزوري» ‪:‬‬ ‫من ذاك الطفل الباكي ؟‬
‫( مب�سقط تنبت يقطينة فوق عري الغريب‬ ‫من ذاك الطفل الكهل ؟)‬
‫البلو�شي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫العربي‬
‫ُّ‬ ‫ففي م�سقط يجد‬ ‫غري �أن هذا ال�شاعر املثقل بكل هموم هذه الطفولة‪.‬‬
‫تعقد بينهما حلمة‪،‬‬ ‫‪� .‬أفراحها و�أتراحها‪ ،‬واملرتددة حياته كالبندول‪،‬‬
‫‪296‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫�أبيات هذه الق�صيدة ‪:‬‬ ‫فم�سقط �أم الغريب اليتيم‬


‫أبر ُئ نف�سي‪ ،‬حني �آمرها بال�شعر ت�أمرين باحلب‬
‫وما � ّ‬ ‫وقد ي�رشبان معا قهوة عند �سور اللواتيا‬
‫برهانا‬ ‫وقد مي�ضيان كما الغرباء‬
‫يتبينّ لنا �أن ال�شاعر يدرك‪ ،‬على نحو ما‪� ،‬أبعاد‬ ‫فال �أحد يقول جلاره بعد ال�صالة معا‪:‬‬
‫امل�شكلة التي تعاين منها كتابته ال�شعرية‪ .‬فهذه‬ ‫«�سالم عليكم خباري نزوري» )‪.‬‬
‫النف�س التي تطالب �صاحبها باحلب ( برهانا ) لكي‬
‫نعم‪ ،‬امل�شكلة ال تتمثل هنا يف �سعة ف�ضاء مدينة‬
‫تنطلق وجتود بخرياتها‪ ،‬تدرك هي الأخرى‪ ،‬فيما‬
‫مثل م�سقط‪ ،‬و(غربة) الإن�سان و(يتمه) فيها‪ ،‬بقدر‬
‫يبدو‪� ،‬أن هذا (احلب) الذي يجري احلديث عنه طوال‬
‫ما تتمثل يف �ضيق الأفق الثقايف والفكري الذي‬
‫الوقت‪ ،‬يحتاج �إىل (برهان) للخروج من نفق الذات‬
‫ي�رص ابن القرية املقيم يف هذه املدينة على‬ ‫ّ‬
‫التي ال حتب‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬غري ذاتها‪ ،‬وال ت�ستطيع‬
‫والتم�سك به على �صعيد الف�ضاء‬ ‫ّ‬ ‫االنطالق منه‪،‬‬
‫التوا�صل مع غريها‪.‬‬
‫املكاين واالجتماعي‪ ،‬وما يرافق ذلك ويخالطه من‬
‫وهكذا‪ ،‬فهذه الذات املت�ضخمة متثل الثيمة‬
‫ت�ضخم الأنا‪ ،‬وال�شعور مب�شاعر الذات امل�ستوحدة‬ ‫ّ‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬وهمزة الو�صل التي ال تكاد تخلو منها‬
‫وامل�ستوح�شة من خطاب الآخر‪ ،‬و�إجراء احلوار معه‬
‫�أية ق�صيدة من ق�صائد الديوان‪ .‬ومتظهرات هذه‬
‫داخل املدينة �أو خارجها‪.‬‬
‫املت�ضخمة ال تقت�رص على التعبري املبا�رش‬
‫ّ‬ ‫الذات‬
‫املتم ّثل يف �ضمري (الأنا) املحلقة يف ف�ضاء الق�صيدة‬ ‫وذلك يحدث حتى مع خطاب الآخر‪ ،‬واحلوار معه‬
‫امل�ؤثثة بالكربياء وتزاحم الكلمات وتقابل الأ�ضداد‪،‬‬ ‫�أو (معانقته) ‪:‬‬
‫�رض قلبك لو‬
‫يا �أنت‪� :‬أنت �أخي‪ ،‬يا �أنت‪� ،‬أنت �أناما ّ‬
‫عانقتك الآنا‬
‫وما يجعل مثل هذا احلوار مقطوعا �أوغري ممكن‪،‬‬
‫هو �صعوبة االت�صال مع ذات يت�صور �صاحبها �أنه‬
‫�سميه النبي (يون�س)‪ ،‬يف بطن احلوت‬ ‫يغو�ص‪ ،‬مثل ّ‬
‫ويجعل منه (وطنا) ‪:‬‬
‫يل �صورة يف مرايا املاء ت�س�ألنيهل �آثر ال�ضوء بطن‬
‫احلوت �أوطانا‬
‫وهذه العالقة بني ال�شاعر والنبي �أو ال�شاعر (ن�صف‬
‫النبي) لي�ست نادرة يف هذا الديوان‪ ،‬بل هي تتكرر‬
‫ب�ألوان و�أ�شكال خمتلفة‪ ،‬ومن خاللها يجري الت�أكيد‬
‫ومتيزها‬
‫متيز الذات واختالف الكتابة ال�شعرية‪ّ ،‬‬ ‫على ّ‬
‫تبعا لذلك‪:‬‬
‫ألقيت �ألواح مو�سى‪ ،‬ليت قبرّ تي مزمار داود‪ ،‬زريابا‬ ‫� ُ‬
‫ولقمانا‬
‫وحني ي�ضيف ال�شاعر �إىل ذلك هذا البيت الآخر من‬
‫‪297‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫املوجه �إىل �سمري‬


‫ّ‬ ‫وما يقوله ال�شاعر يف خطابه‬ ‫و�إمنا �أي�ضا يف حركة الأفعال واملواقف التي تبدو‬
‫القنطار ورفاقه يف الأ�رس يف ق�صيدته ( �إ�صباح‬ ‫للوهلة الأوىل بعيدة عن الإح�سا�س بكثافة هذه الأنا‬
‫بنكهة الذاكرة) ‪:‬‬ ‫التي ي�صدر عنها ويرجع �إليها كل �شيء يف معمار‬
‫( ال �شيء ج ّد‪. .‬‬ ‫هذه الق�صيدة وبنيتها الداخلية وداللتها املركزية‬
‫�أو احلافة‪.‬‬
‫�سوى احلياة بنب�ضها‪ ،‬وحي‬
‫لو طواين الردى‪ ،‬و�رصت حكايا فاقر�أوين يف وحي‬
‫له �صفة الر�سول يهيب بي ‪:‬‬
‫املبني‬
‫ٍ‬ ‫�شعري‬
‫مار�س حياتك‪� . . .‬أنت حر )‬
‫وهذا �آخر بيت يف ق�صيدة البو�سعيدي التي يخاطب‬
‫هذا اخلطاب الذي يدعو �إىل ممار�سة احلياة هكذا يف‬ ‫بها �شعره حتت عنوان ( يا قوايف )‪ ،‬وهي �آخر ق�صيدة‬
‫موجها �إىل �سمري‬ ‫عامل احلرية‪ ،‬ال ينبغي �أن يكون ّ‬ ‫يف الديوان‪� ،‬أي�ضا‪.‬‬
‫القنطار ورفاقه فقط‪ ،‬بل هو خطاب �صالح للتوجيه‬ ‫وال �أدري ملاذا ي�ستعجل ال�شاعر موته‪ ،‬ويتحدث عنه‬
‫�أي�ضا �إىل كل الأ�رسى‪ ،‬مبن فيهم �أولئك الذين يعانون‬ ‫كثريا بهذه الكيفية �أو بغريها‪ ،‬يف هذه الق�صيدة ويف‬
‫من �سجن الذات و�أخطاء الت�صورات الفردية ال�ضيقة‪،‬‬ ‫�سواها ؟ وملاذا يكون املوت ( فر�صتنا اللذيذة كي‬
‫ولي�س من �أ�رس ال�سجون املادية‪ ،‬فقط‪.‬‬ ‫نعي�ش كما ن�شاء ) ؟ كما يقول يف ق�صيدة اخرى‪.‬‬
‫نعم لي�س هناك (�سوى احلياة بنب�ضها )‪ ،‬حتى‬ ‫ملاذا يريد ال�شاعر �أن ينتهي قبل �أن يبد�أ‪� . .‬أن ميوت‬
‫�إذا جاءت الدعوة �إليها على ل�سان ال�شاعر‪ ،‬ولي�س‬ ‫قبل �أن يحيا‪ ،‬مع �أنه لي�س عاجزا عن بذل مزيد من‬
‫مواربة‪ ،‬على ل�سان (وحي له �صفة الر�سول)‪ ،‬ح�سب‬ ‫اجلهد الحتواء حياته وت�صفية لغته‪ ،‬وما تنطوي‬
‫عبارة ال�شاعر‪.‬‬ ‫عليه من قدرة و�آفاق �شعرية رحبة ؟‬
‫وكما قلت‪� ،‬ستكون القدرة على توحيد الر�ؤية على‬ ‫وحينما يقول ال�شاعر يف مطلع ق�صيدة �أخرى ( وغدا‬
‫�صعيد م�ضمون الكتابة ال�شعرية و�شكلها‪ ،‬وت�صفية‬ ‫�ست�س�ألني ال�سحابة‪: ) . .‬‬
‫لغة الق�صيدة من الزوائد والهوام�ش اللفظية‬ ‫( وغدا �ست�س�ألني ال�سحابة‪:‬‬
‫التي ال لزوم لها‪ ،‬هي التحدي الذي يواجه يون�س‬ ‫�أكتفيت من احلياة ؟ )‬
‫البو�سعيدي يف م�ستقبله ال�شعري وهو ي�ستمر يف‬ ‫�أقول حينما ي�ضع ال�شاعر هذا ال�س�ؤال الدال على‬
‫تلم�س طريقه بني لغة الواقع الإ�شارية من جهة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ل�سان هذه ال�سحابة‪ ،‬فهو يدرك �أي�ضا �أنه يف بداية‬
‫و�صورته ال�شعرية القائمة بني املاء واملرايا‪ ،‬من‬ ‫ال�شوط‪ ،‬ومل يكتف من احلياة‪ ،‬ولذلك ف�إن روحه‬
‫جهة �أخرى ؛ هذه املرايا التي ال يني نرج�س يرى‬ ‫التي مل (تلتفت �إىل قلق هذه ال�سحابة‪ ) . .‬كما يقول‪،‬‬
‫�صورته دون تو ّقف يف مياهها ال�صافية �أو املعتمة‪،‬‬ ‫ال تعرب عن حقيقة موقفه من احلياة ومن ال�شعر‪.‬‬
‫فيهج�س بالكلمات فرحا �أو ت�أملا مبا يراه‪� ،‬أو ما ال‬ ‫ف�صوت هذه ال�سحابة هو �صوته‪ ،‬و�س�ؤالها هو �س�ؤاله‪،‬‬
‫يراه‪ ،‬معتقدا �أنه يراه‪.‬‬ ‫وقلقها هو قلقه‪ ،‬حتى �إذا جاء مواربا وغري مبا�رش‪.‬‬

‫‪298‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫ال�شع ـ ـ ـ ــر ‪...‬‬
‫�أكبـ ـ ــر‬
‫عادل الكلباين‬
‫‪� ‬شاعر من ُعمان‬

‫ال �أملك �سواك ‪�-‬أيها ال�شعر ‪-‬حبا و�سالحا وعطاء‬ ‫(‪)1‬‬


‫�رشيعتي التي ارت�ضيتها و�إمياين الذي ال ي�ساورين‬
‫من �أين تنبج�س �أيها ال�شعر؟‬
‫فيه الريبة وال�شك ح�سبي بك عند ح�سن الظن حني‬
‫طازجا كالندى يتك�رس يف وجه الورد من �أين‬
‫ينبج�س من �أعماقي املقهورة باحلزن واخلطايا‬
‫يتفجر كل هذا اللهيب؟ امل�أخوذ من �سطوة الغياب‬
‫نبع رقراق ي�رشبه ال�صادي والعابرون‪.‬‬
‫يف �أعتى مراتب ا�ﻷ مل ‪ ،‬هذا ال�شعر ي�أتي عادة‬
‫(‪)5‬‬ ‫كاملطر ينهمر يف ب�ساتني الروح لتزهر م�رشقة‬
‫�آه منك ‪� ...‬أيها ال�شعر ‪�..‬أيها الوجع الذي �أه�ضمه‬ ‫بالبهاء وي�ستع�صي �أحيانا على الك�رس والت�شظي‬
‫بع�رس م�أواي الذي �أ�سكنه وي�سكنني ال �أتخلى عنه‬ ‫ك�صخرة ال يحركها الرياع‪.‬‬
‫ماحييت وال هو بتاركي �أذا �أدلهمت الغياهب‬
‫(‪)2‬‬
‫والطقو�س امل�ؤرق يف ذاكرة الطغاة والبازغ يف‬
‫اجل�سد والتفا�صيل ‪.‬‬ ‫منوت ويبقى ال�شعر متوهجا يف كل �سماء ي�ستظلها‬
‫العابرون من كل فج عميق ‪� ،‬إنه املبديء واملعيد‬
‫(‪)6‬‬
‫ل�شغاف القلب والروح‬
‫يغرقني يف بحر �أحالمه �أمل وراء �أمل وطموح‬
‫(‪)3‬‬
‫يت�ﻷ�ﻷ ويرحل‬
‫‪� ...‬أكتبه ‪-‬هذا ال�شعر ‪�-‬أ�شكال وزوايا �أحاديث‬ ‫من الطفولة يبد�أ ال�شعر و�ﻷ جلها يبعث يف احلياة‬
‫وذكريات دروب وزوايا مبعرثة وحمطمة �أدعوها‬ ‫حمركها ا�ﻷ ول ومنزلها ا�ﻷ ول وزمنها ا�ﻷ ول ‪..‬ال‬
‫بك �أيها ال�شعر فت�أتي �ساعية �إيل من غري حجاب‬ ‫ي�ستجد عطاء يف تفا�صيله احلارة التي ت�شبه‬
‫كحياة تتجلى فيها الرموز وا�ﻷ �ساطري‪.‬‬ ‫اجلمر و�أحايني ت�شبه القمر يف جتلياته ‪..‬حداء‬
‫(‪)7‬‬
‫امل�سافر يف زاد امل�سافة وتراويح ال�سامر بعد‬
‫الزوال وموال العا�شق يف وحدته وبهجة ال�ضوء‬
‫هذا ال�شعر مرة �أر�سمه على �شكل نخلة ومرة‬ ‫يف رواحه و�إيابه ‪ ،‬و�صالة الع�صافري كل فجر‬
‫ير�سمني على �شكل منجل مرة ي�ضحكني ويبكيني‬
‫وغ�سق قالدة الفقري يف �أحالمه يرتله املهاجر يف‬
‫�أكتبه نهارات ت�رشق وبحار تهدر ‪� ،‬أر�سمه كابو�سا‬
‫القفر البعيد خ�شية التيه رقية وتعاويذ‪.‬‬
‫تق�شعر منه ا�ﻷ بدان وبروازا يل �أحمله ‪ ..‬و�أرفعه ‪..‬‬
‫و�أ�ضمه ‪ ..‬و�ألثمه حتى يتوهج ال�شاعر وال�شعور‪،‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪299‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫مقرتبا منك يف تبتل وابتهال �أكتب ماميليه وحيك ‪،‬‬ ‫�أبت�سم له �إن �أ�رشقت منه وبه ربيعا خم�ضبا‬
‫لقد ت�ضمخت �ﻷ جلك بالعطر وبخرت غرفتك بالعود‬ ‫بالورود له �شجر ظله الف�سيح ير�شد ال�ضال �إىل‬
‫وال�صندل واللبان وفتحت بابك با�سم الرب تقد�ست‬ ‫منابعه الكربى والزاهد يقينا ور�ؤية ‪.‬‬
‫�سطورك البي�ض كالثلج يف �سقفك �سماء حتلق‬
‫(‪)8‬‬
‫حروف وكائنات �أنحتها با�ﻷ زميل على ج�سدك‬
‫�سينبج�س جنيع غزير �س�أراه يتدفق‪ -‬رغم املوت‬ ‫تبجل ا�سمك �أيها ال�شعر رمينا بك �أول ال�رشر‬
‫والغبار‪-‬وال �ألقي له باال ‪� ،‬س�أوا�صل النحت كحرب‬ ‫ف�أيقظ فينا �رضاوة الع�شق القدمي ‪ ،‬ت�أويلك جارح‬
‫�رضو�س �إذ ‪� ..‬أرو�ض حروفك تت�شكل بدم الكلمات‬ ‫ومن يتعاطى التف�سري ال تكتمل له ال�صورة فراغ‬
‫ظفرا نتوجه معا على عر�شك حتى ن�صبح رهن يديك‬ ‫وحاد عن الق�صد مفتونا مبالي�س فيك‪.‬‬
‫وال ت�ضل �شم�سك حني ت�رشق وقمرك �سيغمرك بنوره‬
‫(‪)9‬‬
‫قربان وطقو�س ‪..‬ال�ضياء �سفرك الذي �أطعمنا من‬
‫جوع و�آمنا من خوف‪ .‬يف ح�رضتك يقف العامل يف‬ ‫مراقيك �أيها ال�شعر�أجمل من حلل ا�ﻷ ر�ض ال ي�ضاهيك‬
‫خ�شوع ‪،‬كال ‪ ..‬يغرتف من معينك يحرثون تاريخهم‬ ‫عر�ش ح�سناء �أو حجر كرمي ‪.‬‬
‫ملجدا كما يدعون �أنت الفي�صل بينهم ‪ ...‬من يطفىء‬ ‫لطاملا �أ�صابوا من �ساروا على دربك حفاة يبتغون‬
‫النار وي�رضمها‪.‬‬ ‫وجهك ا�ﻷ على يبحثون عن رو�ضك املوغل يف غياهب‬
‫اجلرح وااليام احلبلى بالق�سوة واحلروب يحفرون‬
‫(‪)12‬‬
‫عميقا جدا يف النفو�س وامل�آقي ‪ ..‬رمبا تتجلى قطرات‬
‫�أيها ال�شاعر ‪...‬عذب نف�سك بوجع ي�شبه �أمل امليالد‬ ‫تبلل ظم�أهم العظيم �إليك في�صنعون من نبعك ‪�-‬إذا‬
‫يت�صدع يتزلزل ينهار ‪ ....‬دعها ‪ ..‬ت�سافر �رشقا ‪/‬غربا‬ ‫تفجر وهم يلهثون‪-‬حياة تغنيهم عن كل ق�صد‬
‫تلحق ب�أزمنة ولت و�أزمنة ت�أتي و�أمكنة كالأ�سطورة‬
‫تبعث من ذاكرتك ‪..‬ال ترحمها �أبدا ف�أنت تبني ماال‬ ‫(‪)10‬‬
‫عني ر�أيت وال �أذن �سمعت �أجمل ق�رصا �أ�س�سه احلرف‬ ‫تقدم �أيها ال�شعر فلي�س لنايف هذا املوكب اجلليل �إالك‬
‫�شاهقا يف ال�سماء ‪ ،‬قدم جوارحك كالقربان �أ�رشب‬ ‫‪ ،‬تقبلني �ضوء يخرتق النوافذ �ﻷ نري بك ديار الظﻻم‪.‬‬
‫فناجني القهوة و�أنفث �سجائرك و�أ�رسج ليلك وتبتل‬
‫(‪)11‬‬
‫تبتيال وانتظر ‪ ...‬وترقب عل ق�صيدة ت�أتي من رحم‬
‫هذا ال�سغب ‪/‬الظم�أ للحرف‪ .‬علها ت�أتي وتف�سح‬ ‫�سالما عليك �أيتها الورقة البي�ضاء قادم �إليك بالطهر‬
‫فرحا يف النف�س كبريا كي تكتبها وتريح خما�ضك‬ ‫وا�ﻷ عتذار �أقف لل�صالة بني يديك وقد اغت�سلت‬
‫باملكتوب ‪.‬‬ ‫باملاء والربد من الذنوب واخلطايا كي �أم�سك بالقلم‬

‫‪300‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫علي املعمري‬
‫كتابة �أوىل‪..‬‬
‫الت�أ�سي�س و�آخر الوداع‬
‫مزجت بني اليومي العابر و احلياتي املمتد ‪ ،‬وبني‬ ‫كل بداية مغامرة‪ ،‬خ�صو�صا‪� ،‬إذا كانت البداية مت�سعة‬
‫الواقعي واخليايل يف بوتقة لي�س من ال�سهل الإم�ساك‬ ‫االجتاهات ‪ ،‬عن �شخ�ص تتداخل كتاباته ذات النف�س‬
‫بها ‪.‬حتتاج �إىل قراءة غري التي هو املعتاد يف قراءة‬ ‫ال�رسدي بالبعدين الذاتي و املو�ضوعي كمذهب عي�ش‬
‫مريحة ‪ .‬خ�صو�صا ان القراءة يف مثل هذه الن�صو�ص‬ ‫وحياة ‪.‬‬
‫رشح الن�ص وتفتح مغاليقه نحو الت�أويل الكا�شف عن‬ ‫ت� ّ‬ ‫من جهة �أخ��رى‪ ،‬ظلت الأعمال ال�رسدية الأوىل لهذا‬
‫�أ�رسار الن�ص وحدود املعنى ‪.‬‬ ‫الكاتب مع �أهميتها‬
‫كيف ن�ضع قدم ال�سارد (علي املعمري) يف احلكاية‪،‬‬ ‫خ��ارج ال��ق��راءة القارئة والفاح�صة للن�ص‪ ،‬وذل��ك‬
‫يف الن�ص كمو�ضوع لعبارة قابلة للقراءة‪� ،‬ضمن‬ ‫ل�سيطرة القراءات الأحادية‪ ،‬والأ�سلوب التقليدي مع‬
‫�سياق عام ك�أي مو�ضوعة‪� .‬أو قابلة للت�أمل والت�أويل‬ ‫القارة ‪ .‬كذلك ميكن‬
‫هكذا ن�صو�ص خمتلفة مع ذائقتها ّ‬
‫�ضمن منظومة قراءة احلياة ‪ ..‬كقراءة الن�صو�ص ‪.‬‬ ‫القول – بداية – �أن الكاتب هو من �أوائل من �أ�س�سوا‬
‫هناك ‪ ،‬م�ستم�سك من بني ي��دي الراحل يف قب�ضة‬ ‫يف ُعمان الن�ص املفتوح (لي�س ن�صا �أو ن�صني) و�إمنا‬
‫احلياة ‪،‬حياته التي ال تفنى بفناء اجل�سد ‪ -‬مبثوثة يف‬ ‫هناك جماميع بعينها ‪� .‬أحيانا تكون خارج املمكنات‬
‫الكلمات ‪ ..‬التي ال متوت ‪.‬‬ ‫�أو الت�صنيفات النقدية االعتيادية ‪.‬‬
‫هل ‪ ،‬احلياة ماكرة �إىل هذا احلد ‪ .‬هل ‪ ،‬ما يهلكنا �إال‬ ‫�يرت» ال�شكل املعهود للقراءة الكال�سيكية‬ ‫كتابة «غ ّ‬
‫الدهر �أم �أ�شياء �أخرى‪ .‬نقف عاجزين �أحيانا كثرية‪.‬‬ ‫للن�ص يف جمتمع ال�رسد احلديث عليه جديد‪ ،‬م�ستحدثة‬
‫عاجزين �أمام الأ�سئلة الكربى‪ .‬عاجزين �أمام �س�ؤال‬ ‫ب�آفاقها املت�سعة و�سليقتها وعفويتها وفطريتها‬
‫كهذا ‪ ..‬كيف حدث ويحدث ‪ .‬نعرف امل��وت ونعرف‬ ‫وذلك بتداخالتها و ا�شتباكاتها مع ن�صو�ص �أخرى‬

‫‪301‬‬
‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫الق�ص�صية الأربع‪ .‬هناك ‪،‬خطاطات مل�رشوع رواية قيد‬ ‫قدرتنا كب�رش �أمام هكذا قدر ‪..‬لكن الغياب م�ؤمل و الفقد‬
‫اال�شتغال ‪.‬رحل قبل �أن يكملها وهي رواية عن مكان‬ ‫�أكرث �إيالما ‪.‬ف���إذا كانت مو�ضوعة ( ثيمة ) الغياب‬
‫الطفولة وال�صبا ‪ .‬رواية تت�شابك و تتقاطع فيها حيوات‬ ‫معروفة ‪ ،‬ف���إن قدرتنا على ه��ذه املعرفة ‪ -‬مهما‬
‫الراوي و هو ال�سارد العليم ممثال يف علي املعمري و‬ ‫عرفنا‪ -‬تظل حم��دودة أ�م��ام هول اللحظة و �صدمة‬
‫قد هي أ� نف�سه للكتابة واال�شتغال فيها ‪ ،‬كرواية �أقرب‬ ‫الغياب‪/‬الفقد املفاجئ ‪ ،‬وغري املتوقع يف �أن جتعلنا‬
‫�إىل نف�سه ‪،‬حتى العنوان قد انتقاه بني عناوين عدة و‬ ‫م�شلويل احلركة يف مواجهة حلظة غري مواتية و قا�سية‬
‫مرحلون‬
‫(املرحلون) هل ‪ ،‬ي�شي العنوان �إىل �أننا ّ‬
‫ّ‬ ‫هو‬ ‫املر‪ .‬ال ميكن احلديث عن الراحل‬ ‫ودامعة ح ّد البكاء ّ‬
‫من حياة �إىل �أخرى ‪ -‬اهلل الغالب على �أمره ‪ -‬هل‪،‬‬ ‫علي املعمري ‪� ..‬إال و احلديث عن اللحظات الفرائحية‬
‫العنوان ي�شري �إىل بع�ض من عتبات حياة ال�سارد‬ ‫يف حياته ‪،‬حياته فرح دائم ‪� ،‬إىل درجة غري متوقعة‬
‫العليم ‪ ،‬كعنوان مكتنز بدالالت وا�ضحة و غام�ضة ‪،‬‬ ‫يفر�شها كب�ساط (�أحمدي) بدون مقدمات ‪�،‬أينما يكون‬
‫وفناء اجل�سد وغياب املكان (مكان الوالدة والطفولة‬ ‫م�سبوق على ح�ساب �صحته‬ ‫بحب ا�ستثنائي وغري ْ‬
‫‪ -‬م�رسح الرواية‪ )-‬يتقاطعان يف م�ستوى من الأفقني‬ ‫وحياته و عمله ‪ .‬لقد راه��ن علي على حياته حتى‬
‫ال�شخ�صي و املكاين ‪.‬‬ ‫نهاية انطفاء ج�سده ‪.‬لقد عا�ش يف الن�ص كما عا�ش‬
‫ال يجب علينا نخاطب �أو نتخاطب مع املتويف ب�شعور‬ ‫يف الواقع‪ .‬من ال�صعب ف�صل احلياتني ‪ ..‬عا�ش كما‬
‫الغياب‪ ،‬بخروج الروح وفناء اجل�سد‪ ،‬ميكن للإن�سان �أن‬ ‫عا�ش الكُتاب احلقيقيون‪ .‬بكل تلك اخللطة من النظام‬
‫يحيا حينما يكون قد ترك �أثرا ‪ ،‬كالكتابة املبدعة يف‬ ‫و الفو�ضى ‪ ..‬حياة يف الن�ص و ن�ص يف احلياة ‪.‬‬
‫وجه ال�شم�س ‪ ...‬تقول �أنا موجود ‪.‬‬ ‫مل يرتك علي ‪� ..‬إال كتبه ‪ .‬رواياته الأربع وجمموعاته‬

‫«هم�س اجل�سور» الرواية التي تتحدث عن مرحلة مف�صل ّية يف‬ ‫«بن �سولع» الرواية التي دارت �أحداثها حول ت�ش ّكل خارطة املكان االقليمي‬
‫العماين واخلليجي املعا�رص‪.‬‬
‫التاريخ ُ‬ ‫والعُماين والتي حازت على جائزة اجلمعية العمانية للكتاب ‪.2011‬‬
‫‪302‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬
‫رحيل ورحلة‪..‬‬
‫ها هو علي املعمري‬
‫يحط رحاله �أخرياً يف‬
‫قريته حفيت‪ ،‬حيث انتقل‬
‫اىل رحمة اهلل بتاريخ‬
‫‪2013/1/14‬م بعد �أن‬
‫تنقل يف بقاع الأر�ض‬
‫وتنقل بني الإبداع الكتابي‬
‫مع الكاتب والروائي املغربي حممد �شكري‬ ‫ال�رسدي‪ :‬ق�صة ورواية‬
‫ومقاالت عديدة‪ ..‬تارك ًا يف‬
‫قلوب حمبيه و�أ�صدقائه من‬
‫الكتاب العمانيني �أو العرب‬
‫والأجانب وداً ال ينتهي‬
‫وحزن ًا عميق ًا م�ؤثراً ‪..‬‬

‫مع الروائي وال�شاعر الأمريكي بول بولز‬

‫‪303‬‬ ‫نزوى العدد ‪ / 74‬ابريل ‪2013‬‬


‫متابعات‪ ..‬متابعات‪ ..‬متابعات‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬
‫‪t‬‬

‫جمـلـة ف�صليــة ثقافيــة‬


‫‪A Cultural Quarterly in Arabic‬‬
‫‪Editor - in - Chief‬‬
‫‪Saif Al Rahbi‬‬
‫‪Email: saif@alrahbi. info‬‬
‫‪P. O. Box: 855, Postal Code: 117. Al-Wadi Al-Kabir‬‬
‫‪Sultanate of Oman. Tel: 24601608 Fax: 24694254‬‬

‫‪Managing Editor‬‬
‫‪Talib Al Mamari‬‬
‫‪Directed By‬‬
‫‪Khalaf Al Abri‬‬
‫‪Email: khalf301@hotmail. com‬‬

‫� إ�شـــــــارات‬
‫نتوجه � إىل ال أ�صدقاء الكتاب وال أدباء والفنانني ب� أن موادهم‬
‫يف حالة � إر�سالها بالربيد االلكرتوين(‪ )Email‬يكون على العناوين‪:‬‬
‫‪nizwa99@omantel. net. om‬‬
‫‪nizwa99@nizwa. com‬‬
‫‪ -‬املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل � إىل � أية جهة � أخرى للن�رش‬
‫و� إال �سنوقف ‪ � -‬آ�سفني ‪ -‬التعامل مع � أ�صحابها‬
‫املواد املر�سلة تطبع باحلا�سب ال آيل‪ ..‬ويف�ضـل � إر�سـالهـا بالربيـد االلكتــروين‬
‫‪ -‬ترتيب املواد يف �سياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال � أو غريه خا�ضع ل�رضورات‬
‫فنيـة و� إخراجية‪ -‬املواد التي ترد للمجلة ال ترد ل أ�صحابها �سواء ن�رشت � أو مل تن�رش‬
‫و� أحيانا تخ�ضع ملقيا�س زمني طويل ن�سبيا ب�سبب ف�صلية اال�صدار‪.‬‬
‫‪ -‬املواد الطويلة ن�سبيا ً �سوف ين�رش جزء منها بالعدد وتن�رش كاملة باملوقع االلكرتوين‪.‬‬
‫عنوان نزوى على �شبكة االنرتنت‬
‫‪www. nizwa. com‬‬
‫طبعت مبطابع‪ :‬م� ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة والن�رش واالعالن‬
‫�ص‪ .‬ب‪ 974 :‬م�سقط‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 100‬سلطنة عمان‬
‫هاتف البدالة‪ - 24649444 :‬فاك�س‪24649508 :‬‬
‫االعالنات‪ :‬العمانية لالعالن والعالقات العامة‬
‫‪24649411‬‬ ‫مبا�رش‪- 24649401 :‬‬
‫�ص‪ .‬ب‪ 3303 :‬روي‪ ،‬الرمز الربيدي ‪� 112‬سلطنة عمان‬
‫‪Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR‬‬
‫‪PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING‬‬
‫‪P. O. Box, 974. Postal Code: 100. Muscat. Sultanate of Oman‬‬
‫‪Tel:24649444 - Fax. : 24649508‬‬
‫‪Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS‬‬
‫‪Tell: 24649411, 24649401‬‬
‫‪P. O. Box 3303. P. C. 112 Ruwi Sultanate of Oman‬‬
‫العـــدد الرابع وال�سبعـــون‬
‫ابريل ‪ 2013‬م ‪ -‬جمادىالأوىل ‪ 1434‬هـ‬

‫‪304‬‬

You might also like