Professional Documents
Culture Documents
ف�صلية ثقافية
ت�صـــدر عــن:
م�ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة
والن�شر واالعالن
الرئي�س التنفيذي
د�.إبراهيم بن �أحمد الكندي
رئي�س التحرير
�ســـــيف الرحـــبي
مدير التحـرير
طــالب املعمـري
من�سق التحـرير
يحيى الناعبي
اال�شراف الفني واالخراج
خلف العربي
12 vكتابــات:
-دولة بني وجيه :عبدالرحمن ال�ساملي.
22 vملـــــــف:
-فاروق عبدالقادر :نفق معتم وم�صابيح قليلة
امل�شاركون :بهاء طاهر� -صــربي حــافـظ -عبداملنعم رم�ضان -
ماهر �شفيق فريد -جرج�س �شكري -ي�رسي عبداللـه.
24 vدرا�ســات:
� -إزرا باوند يف �إيطاليا :لو�سيانو ماجنيافيكو ترجمة� :أحمد
�شافعي� -رسكون بول�ص :حممد �آيت لعميم -الآ�شوريون وغزو
اليمن :فا�ضل الربيعي -املجتمع بو�صفه حقال لل�رصاع عند
مي�شال دو �سارتو :حممد �شوقي الزين -حتوالت املجتمع والدراما
املحتملة يف امل�رسح العربي :عبدالواحد ابن يا�رس � -إدمون عمران
املليح هجرة احلكاية واالختالف الثقايف :حممد بوعزة.
126 vملـــــــف:
الر َوا َية ال َي َم ِن َية:
-حول ّ
-امل�شاركونْ � :إبراهِ ْيم �أبو طَ الِب -حممد احلوثيَ -ع ْب َد الَع ِزي ِز
املَقالِح � -إبراهيم الهمداين-نبيلة خبزان� -أحمد زين -علي
املقري -حبيب ال�رسوري -وجدي الأهدل -نادية الكوكباين -
الغربي عمران -ملياء الإرياين � -صالح باعامر -رمزية عبا�س-
�سامي ال�شاطبي.
168 vحـــوارات:
-فا�ضل العزاوي :ماجدة حميد.
-حممد �شم�س الدين� :سهى �صباغ.
^ ^ تر�سل املقاالت با�سم رئيـ�س التحريــر ..و�أن ال تكون قد ن�رشت ورقي ًا �أو �إلكرتوني ًا
182 vمــعــمــــار:
-حممد مكية خطاب م�ؤثر ،ومنجز �شاخ�ص :علي ثويني.
194 vم�ســــــــرح:
-الكر�سي �أو الفرمانات ال�سبعة :نور الدين الها�شمي.
-طرق يون�س جبار يا�سني.
244 vن�صـــــو�ص:
�آراء ^ ^ املقاالت تعرب عن وجهات نظر كتابها ،واملجلة لي�ست بال�رضورة م�س�ؤولة عما يرد بها من
اجلبل الأخ�رض -ال�صورة نقال عن موقع «�ضوء ُعمان»
4
�صوت الفكر ،
j
الراه ــن والتاريـ ـ ـ ــخ
ذلك الأ�سبوع �أ�شبه مبجزرة موت طبيعي� ،أي من تتعدد
ّ يغيبهم املوت واحداً ،بعد �آخر تباع ًا ّ
اخللفية
ّ غري فعل قتل ب�رشي مبا�رش ،و�إن كمن يف وامل�سببات كما يقول ال�شاعر ،لكن
ِّ الأ�سباب
امل�أ�ساوية حلياة امل�رصيني والعرب ال�ساحقة الغياب النهائي واحد ،واملوت واحد.
على كل الأ�صعدة وامل�ستويات .لدرجة �أن والأمل الذي يعي�شه امليت يف حياته ،وما ينتج
الأحياء ،حني يتلون �سورة احلزن والأ�سى على عن غيابه ملحبيه وعائلته� ،إن كانت لديه عائلة،
يعرجوا على مفردات (ارتاح، الفقيد ،ال بد �أن ّ و�إال فالأ�صدقاء هم عائلته ومالذه �إن بقي �شيء
ارتاحوا من هذا املوت البطيء ،من هذه الكارثة من تلك القيم النبيلة على قلتها وا�ضمحاللها
التي نعي�ش) � .صار االحتفاء باملوت يناف�س امل�ستمرين..
احلزن والأمل اللذين يخلفهما الفقيد � .صار يغطي فاروق عبدالقادر ،مل تكن له عائلة مبعنى زوجة
على االحتفاء باحلياة وحلظات �أن�سها الزائل. و�أطفال ،كان يعي�ش مع �أخته التي �سبقته �إىل
وهي مع�ضلة ،فهذه النزعة التي ال ت�أتي من مقام حتمية امل�صري .وعا�ش جراح غيابها ب�شكل ّ
الزهد باحلياة،والت�صوف ،و�إمنا من باب القرف م�أ�ساوي..
وفقدان الأمل وطعم احلياة ولذتها التي ينتزعها احلميدية) بباب
ّ كان يجل�س يف مقهى (�سوق
الكائن من براثن الواقع والزمن .هذه النزعة اللوق ،و�سط البلد يف القاهرة .ي�أتيه الأ�صدقاء،
املازو�شية ،لها ما يربرها يقين ًا يف الربهة
ّ �شبه �شعراء وروائيون ،ممثلون و�سينمائيون يتحلقون
العربية التي و�صلت �أق�صى ّ الراهنة للحياة حوله يف املقهى امل�ستطيل ال�ضيق .فاروق
ف�سادها وانحاللها قيم ًا وجمتمعاتُ ،نخب ًا مبزاجه احلاد ونقده الالذع الذي ال ي�ساوم وال
و�أحالم ًا ،وقبل ذلك كله طبيعة ال�سلطات الفا�سدة مكر�س ًا يف الثقافة
يبغي حظوة من �أحد .كان ّ
واحلروب التي ترب�ض على جممل عنا�رص هذه ق�صيا وهام�شي ًا ،وتلك حالة
ّ امل�رصية كما كان
ّ
احلياة املهددة دوم ًا حتت هواج�س الرعب والقلق من حاالت الكثريين يف الثقافة امل�رصية
واجلمالية.
ّ االن�سانية
ّ الهوية
ّ حد التال�شي وفقدان
َّ والعربية..
ّ
بالأم�س حملت الأخبار وفاة الروائي اجلزائري غيب املوت ن�رص حامد �أبو يف الأ�سبوع نف�سه ّ
الطاهر وطار ..هناك من ال حتمل الأنباء �إ�شارة زيد .حممد عفيفي مطر وحممد العمري ،فكان
5 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�صـوت الفكـر ،الراهـن والتاريخ..
s
s
s
افالطون الذي يرتك العامل احل�سي ،الذي يحب�س �إىل رحيلهم نحو العامل الآخر ،فال نعرف عنهم
الذكاء يف حدود �ضيقة جداً فانه �سيجازف �إال بعد فرتة من الزمن ،وهناك من يتعفن داخل
ب�أجنحة الأفكار يف الف�ضاءات الفارغة من الفهم بيته وعزلته يف حالة كمال �سبتي و�آخرون.
املح�ض». وتبقى اخلال�صة واحدة الغياب والفقد والأ�سى
و(كافكا) «كيف ميكننا العثور على ال�سعادة يف العربية قامتة ومدلهمة.
ّ مهما كانت احلياة
هذا العامل �إن مل تكن جمرد متويه».. jhj
(جالل الدين الرومي) «الأفالك التي تدور يف
�أ�سرتخي يف رابية هذا اخلالء املظلم� ،أنظر �إىل
�سماواتها� ،إمنا حتركها �أمواج احلب ،ولوال احلب
املرتحلة
ّ ال�سماء ترعى قطعانها يف تخوم الأجنم
تتجمد».
ّ لكانت كاجلليد
الأ�ضواء وامل�سافات ،ثمة مياه جتري بن�شاط
ال�سحب املتدافعة يف الطبيعة
ُ وهكذا ..تتكاثف
واندفاع يف الأخاديد والتخوم..
والأفكار واخلياالت على حافة ،ويف �أعماق
�أ�ستح�رض «عندما يقرتب القطب ال�شمايل
النجود والهاويات..
حد التالم�س تقريب ًا،من القطب اجلنوبي �إىل ِّ
jhj
ف�سيختفي الكوكب حينئذ و�سيجد الإن�سان
�أ�صغي �إىل �صوت الأفكار ي�رسي مهما �شطت مدوخ مما يجعله ي�ست�سلم لإغواءنف�سه يف فراغ ّ
الأماكن والأزمان ،واىل التاريخ عبث التاريخ ال�سقوط»..
املتدافع يف الذاكرة واخليال ..الأحداث (كونديرا) ي�سوق هذا املقطع (الكوزمولوجي)
املدلهمة وال�شخ�صيات التي �صنعت املفا�صل
ّ الب�رشية (احلياة
ّ يف �سياق جتاور املتناق�ضات
والعالمات ،منها تلك التي اتخذت من مدينة واملوت)( ،ال�سعادة ،ال�شقاء)( ،اللعنة ،الرحمة)
(نزوى) التي تقبع يف �سهل اجلبل �أ�سطورة حد حمو الفروق واالندغام والتوحد يف �أعماق َّ
ومع َتقد يجعل من
قائمة بذاتها ،عا�صمة حكم ْ الكائن والوجود( ..اميانويل كانت).
متبنيه حامل ر�سالة �صعبة و�شاقة ،و�سط هيمنة وهذه العبارة الآ�رسة �إىل درجة الدوار ،و�أنت
االمرباطوريات املتعاقبة على حكم العامل، ت�رسح النظر يف ف�ضاء الأفكار وامل ُثل التي حتلق
ّ
العربي والإ�سالمي خا�صة .ذلك املعتقد الذي بخيال الفل�سفة وال�شعر� ،إىل �سماوات من اليمام
يرى يف ا�ستقالل البالد عن احلوا�رض الكربى والأثري ،ال حتدها �أي �أحزمة �أو تخوم« ...اليمامة
(دم�شق -بغداد) تلك التي تربطه بهما روابط اخلفيفة يف حتليقها احلر ت�شق الهواء الذي حت�س
جوهرية يف اللغة والدين والتاريخ ،يرى يفّ مبقاومته ،ميكننا �أن نتخيل ب�أنها حتلق بالفعل
وهوية روحية
ّ اال�ستقالل التام م�س�ألة عقيدة �أف�ضل �أي�ضا يف الفراغ ..على هذا النحو ف�إن
6 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�صـوت الفكـر ،الراهـن والتاريخ..
s
s
s
العربيتني
ّ �إحلاقها ب�إحدى االمرباطوريتني يجب الدفاع والت�ضحية يف �سبيلهما ..فقد كان
اللتني �سادتا الو�ضع والعامل حقبة من الزمن.. االبا�ضيون يرون يف ال�شورى (الدميقراطية)
�أما احلروب مع الفر�س ،فلم تكن غالبا تتجاوز أهلية ،بغ�ض النظر عن الن�سب حتى والكفاءة وال ّ
االحتالل املتبادل ل�سواحل البلدين ..كل املناطق لو كان ها�شمي ًا �أو قر�شيا من �آل البيت ،عنا�رص
العمانية ب�سواحلها و�سهولها ،كانت م�رسح ًا �صارمة يف وجه توريث اخلالفة واال�ستئثار بها
للمعارك وال�صدامات ،ومل يعرف التاريخ على طريقة الأمويني والعبا�سيني ،وعلى خالف
با�ستثناء (حرب اجلبل) الأخرية ذات ال�رشوط بالطبع مع املذاهب الأخرى..
التاريخية والتقنية اخلا�صة ،مل يعرف �أن اجلبل �إ�ضافة �إىل �رصاعات تقليدية مع اجلار الفار�سي،
الأخ�رض كان حلبة حلرب �أو �رصاع م�سلح مع وقرا�صنة املحيط الهندي� ،أولئك الذين ق�ضى
القادمني من اخلارج ،الذين جتتاح قواتهم كل على تهديدهم الإمام غ�سان بن عبداهلل ،كما
عمان «ما عدا املعقل اجلبلي ،حيث كانوا يف ق�ضى الإمامان نا�رص بن مر�شد وقيد الأر�ض
�أ�سفله يكافحون ويندفعون مثل موج غا�ضب اليعربيان على النفوذ الربتغايل و�سحقاه يف
�صخرية من دون جدوى»، ّ ي�رضب جزيرة العماين �إىل خارج ومدا النفوذ ُ املنطقة ب�أكملهاّ ،
ا�ستع�صى اجلبل الأخ�رض على الغزاة ب�سبب احلدود وما وراء البحار..
تكوينه اجليولوجي وبط�ش طبيعته ،ا�ستع�صى العمانيون من هذه املنطقة الوعرة النائية ،كان ُ
حتى على الغزاة الأكرث �رضاوة وبط�ش ًا مثل تلك بح�سم يف �أحداث العامل و�ش�ؤونه ْ ي�شاركون
الفرتة املت�أخرة من �إمامة (ال�صلت اخلرو�صي) والثقافية املختلفة..
ّ وال�سيا�سية
ّ التجارية
ّ
حيث� ،ضعفت قب�ضته على الدولة وبد�أت املركزية ،ت�ستيقظ
ّ ويف فرتات �ضعف الدولة
تدب يف �أو�صالها ،حتى ا�ستعان نفر من الفنت ّ الداخلية ،بني مين ونزار، ّ الفنت والع�صبيات
العمانيني بعد مقتل (مو�سى بن مو�سى) بوايل ُ والحقا الأكرث كارثية ،ومتزيق ًا ،تلك احلروب
اخلليفة على البحرين (حممد نور) الذي �سماه (الهناوية
ّ التي ُعرفت با�صطفافاتها الثنائية بني
العمانيون (حممد بور) ملا �أحلقه من خراب ُ والغافرية) والتي �أ�ضعفت لحُ مة البالد وهويتها ّ
وتدمري.. اجلامعة �إىل حد كبري ،وجعلتها �سهلة الك�سرْ �أمام
بعد مباركة اخلليفة يف بغداد ،احلملة على ُعمان، الغزاة من كل امل�شارب والأقوام..
وجناحها �إثر حروب بالغة الق�سوة يف �أماكن اخلارجية� ،سجا ًال بني
ّ العمانية،
كانت احلروب ُ
مانية ،حتى �أن هذا الوايل
الع ّ
كثرية على الأر�ض ُ املتحاربني ،فرتات تنعم فيها البالد بتحقيق
،قائد جي�ش اخلالفة ،مل يكتف بهزمية �أعدائه حلمها يف اال�ستقالل وال�سيادة ،و�أخرى يتم
7 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�صـوت الفكـر ،الراهـن والتاريخ..
s
s
s
�أ�شالء ومناطق نفوذ ،بني قادة اجلند وامللل من والتنكيل بهم ،بل عمد على �إتالف معامل احلياة
�شذاد الآفاق و�أمراء الأقاليم .يف الفرتة احلالكة وردميف تدمري املزارع والواحات والقرىْ ،
�إياها ،ظهر (البويهيون) م�ستحوذين على اجلزء الأفالج ،والعيون التي ت�سقي الب�رش والأر�ض..
الرئي�سي ،من قوة الدولة ال�ضاربة وبحكم قربهم فكانت ملحمة يف الهالك وال�ضغينة� ،أبعد من
من اخلليفة الذي ينخره ال�ضعف والت�شظي. رغبة الهزمية وال�سيطرة والنفوذ.
ا�ستولوا على بغداد التي حتولت من حا�رضة حتى دخلت هذه احلملة طور (الت�سحري) واخلرافة
العامل مبا لهذه العبارة من معاين القوة واجلمال كيفية ردم (عني
فريوى �أن (بور) حني احتار يف ّ
واملعرفة والنفوذ� ،إىل «م�رسح للفنت وتتابعت الك�سفة) يف الر�ستاق من فرط تدفقها وقوتها، ْ
على �أهلها املحن ،فخرب عمرانها وانتقل كانت راعية بغنمها تقف على مقربة ،ف�أ�شارت
قطانها» ..ح�سب �أحد �أبنائها وم�ؤرخيها اخلطيب عليه كي تنجو ب�أن يلجم مياهها وي�سدها،
البغدادي ،الذي كان يرى عز مدينته بغداد ينهار ب�صوف الأغنام ،فما كان من القائد (حممد نور)
�إذ ت�رسب �سلطانها احلقيقي �إىل الأعاجم الذين �إال �أن بد أ� بقطيعها يف ردم املنابع والعيون
تولوا الكثري من �أمرها ،ف�آلت �إىل ما �آلت �إليه من املتفجرة من باطن الأر�ض الواقعة على ال�سهل
تراجع ح�ضاري و�أفول.. ال�شمايل للجبل الأخ�رض ،ومت�ضي احلكاية ب�أنه
(البويهيون) جهزوا حملة مل ي�سبق لها مثيل على احلية ،ولي�س ب�صوفها
كان يردم املياه بالأغنام ّ
ُعمان ،م�ستفيدين من قوة اخلالفة املنهارة، فح�سب.
وكانت ُعمان يف تلك الفرتة يف واحدة من حلقات ا�ستع�صى اجلبل الأخ�رض حتى على مثل هذه
العمانيون حتت قيادة �ضعفها ،ورغم ذلك واجه ُ ووح�شية ،والتي مل
ّ احلمالت الأكرث ب�شاعة
الإمام املنتخب (ورد بن زياد ونائبه حف�ص يكتب لها النجاح� ،إال فرتات الوهن واالنق�سام
بن را�شد) ،الغزاة يف مواقع ومناطق كثرية يف والت�رشذم ولي�س يف فرتة اليعاربة الأقوياء
العمانية
ال�سهول والبلدات وقبلها على ال�سواحل ُ وما قبلهم من اجللندى بن م�سعود� ،أو فرتة
لكن غلبة العدد والعتاد للجي�ش الغازي كانا البحرية
ّ الإمام �أحمد بن �سعيد الذي بلغت قوته
حا�سمني يف �إنهاء املعركة ل�صاحله ،و�أي�ضا ذلك �إىل �شواطئ الب�رصة يف العراق ،وفك ح�صارها
احلقد الدفني املرتاكم عرب التاريخ يجد فر�صته املتمادي من الأعداء و�إنهائه..
ال�سانحة التي �ستمحو الذكريات امل�ؤملة للهزائم احلدث النوعي والرهيب الذي ي�سجل يف
ال�سابقة.. هذا ال�سياق ،ذلك املنبثق من فرتة انحدار
لأول مرة ي�سجل التاريخ بعد املواجهات الكثرية، العبا�سية وبدء �أفولها� ،إذ متزقت
ّ الإمرباطورية
8 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�صـوت الفكـر ،الراهـن والتاريخ..
s
s
s
هذه رواية القن�صل االجنليزي والرحالة (مايلز) وجلوء العمانيني �إىل اجلبل الأخ�رض ،كح�صن
العمانيني ،لكن هناك من امل�ؤرخني والفقهاء ُ منيع على الغزاة� ،صعود ه�ؤالء �إىل قمم اجلبل،
التب�ست
ْ من ينكر هذه الرواية ،ويذهب �إىل انها ووقوع املواجهة احلا�سمة هناك ،والتي خا�ضها
احلقيقية للمعركة التي دارتّ مع رواية الواقع العمانيون ،على �ضعفهم بب�سالة ق ّل نظريها، ُ
العماين بقيادة الإمام رحاها فعال بني اجلي�ش ُ لكن الن�رص مل يكن حليفهم فوقعت تلك املذبحة
العمانيني ال�شيخ مهنا الآنف ذكره ،من ه�ؤالء ُ التي ي�صفها (مايلز) كالتايل�« :أبحر الأ�سطول
بن خلفان اخلرو�صي ،الذي يقول �إن تلك املعركة �أوال �إىل �صحار وبعد ذلك �إىل قريات حيث ح�شد
احلا�سمة ،دارت مع (البويهيني) يف جبال العربية ،هناك على ال�سهلّ الإمام ورد القبائل
قريات و�صور، (احلرفان) الواقعة بني بلدتي ّ بني البحر وهوة ال�شيطان ،ن�شبت معركة عظيمة،
ولي�س يف اجلبل الأخ�رض ،والهزمية كانت من والعرب رغم �سوء حالهم مل يقهروا وتراجعوا
ن�صيب البويهيني الغزاة .وان الإمام ورد مل يقتل �إىل وادي الطائيني والحقهم العدو �إىل نزوى
يف املعركة ،و�إمنا انتهت �إمامته بانتهائها وفق حيث �صمدوا ثانية ،وكان القتال هذه املرة
املبد أ� الإبا�ضي حول حكم الأئمة ال�رشاة ،و�صار دموية من ال�سابق مما �أدى �إىل دمار القوة
ّ �أكرث
بعده الإمام اخلليل بن �شاذان. العمانيةُ ..ذبح الإمام ورد يف ميدان املعركة ُ
�أي �أن ال�شيخ مهنا يذهب على نقي�ض (مايلز) يف و�سقطت البالد حتت �أقدام املنت�رصين ،بقي
الوقائع والأماكن والأحداث� .إنها حماولة �أخرى اجلبل الأخ�رض وحده منيع ًا ،و�إىل املعقل اجلبلي،
لل�صعود �إىل اجلبل الأخ�رض ،يختلف عليها الروا ُة �أوى الناجون من املعركة ،مل يخاطر �أي م�ستعمر
والرحالة ،تنتهي على هذا املنعطف، ّ وامل�ؤرخون �سابق يف مهاجمة هذه املرتفعات اخلطرة
ملتب�سة مرتبكة حتت الغبار الكثيف لزوابع املتعذرة الو�صول ،تراجع العرب م�ستب�سلني يف
التاريخ واحلَجر. قتالهم لعدة �أيام ثم بلغوا القمة �أخرياً ..وكادت
ال يوازي حجم اجلبل الأخ�رض يف ارتفاعه املعركة �أن ت�أخذ �آخر مراحلها يف ميدان مفتوح،
وكثافته ورعبه (لكن بحطة ونذالة على عك�س كان الكفاح طويال وم�ستميت ًا ،لكن ب�شجاعة
علوه النبيل)� ،إال حقد ه�ؤالء الغزاة ،غزاة الداخل العمانيني اليائ�سة مل ت�ستطع �أن تتغلب على ُ
يف فرتات االنحطاط ،وغزاة اخلارج الذين �أ�سلحة خ�صومهم املتفوقة وتدريبهم العايل
�أتاحت لهم غفلة التاريخ العربي وانحداره مثل حيث قهروهم يف جمزرة رهيبة� ..صار ن�ساء
هذه الفر�صة ..ويبدو �أن الأيام يف م�سارها العرب و�أطفالهم بالطبع غنائم للمنت�رصين من
(م�شرتك) و�أثر مثلما ُتبقي الكا�سح ال ُتبقي على ُ الديلم �أو الفر�س».
9 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�صـوت الفكـر ،الراهـن والتاريخ..
s
s
s
وهم يوغلون يف جوف ال�صحراء وليل اجلبال. على روا�سب العداء ورغبات االنتقام يف ال وعي
jhj
الب�رشية النائمة ،مهما �شطت هذه
ّ اجلماعات
الأيام يف التقادم وامل�سار..
ذكريات املحارب حماو ًال �أن ي�ستعيد الوقائع
متد خمالبها �إىل
«الفتنة نائمة» لكن ها هي ُ
الع�صية ،وهي تهرب منه يف �أعماق الأخاديد ّ الأمام وتتثاءب ،لت�ستيقظ من بني الأنقا�ض
املليئة بالظلمة و�أزيز الزواحف واحل�رشات..
عنقاء الع�صور..
ُ والأ�شجار الهرِمة،
حني كان يهرب من هول ال َق�صف ،من �أخدود
�إىل كهف .يق�ضي الأيام والليايل مع رفاقه ،من
jhj
والروحية الأخرى،
ّ احل�ضارية
ّ املكت�سبات jhj
�أ�ستح�رض مقولة �أحد علماء البيولوجيا ،كون �شعوب احلجر والنبات والأ�شباح ،ت�سوق قطعانها
الإن�سان �أكرث الطفيليات املعدية خطراً على املحملة
ّ ال�سحب
دنو ُ
يف ظالم الظهرية ،يف ِّ
الأر�ض.. بالهواج�س وال�سيول.
كان االنتقال من «الطبيعة» لي�س �إال حتطيما لها َحرك ُة الهواء العا�صف فوق �أ�شجار ال�صنوبر
من غري الو�صول �إىل «احل�ضارة».. رفيف �أجنحة ل�صقور تخطف الب�رص ُ والبوت،
ي�ضمخ الآفاق بندىّ يعد ذلك ال�رشوق الذي مل ْ والب�صرية ،وهي تنقذف نحو الفري�سة.
بكاراته الأوىل..
jhj
تعد طيور الروح من حتليقها امل�ضني يف مل ْ
�سماء منافيها و�أ�شجارها العالية.. �أ�سمع مو�سيقى م�ستوحاة من ق�صائد (طاغور)
جبلية :ذلك
ّ مع حلظة االحتدام لغروب �شم�س
jhj
الورع واالبتهال �أمام الطبيعة والآلهة .غاباتَ
�أيها اجلبل اخل�رض البنغال بنمورها املر ّقطة ،ت�سفح دموع ًا� ،شالل
يا جبل الكور وجبل �شم�س نقية فوق تالل اجلبل الأخ�رض دموع خال�صة ّ
ال�شماء
ويا جبال ظفار ّ الالمعة يف حفل املغيب.
التي تتنا�سل يف �أح�شائها النمور
jhj
العمانية�أيتها اجلبال ُ
توائم الأحقاب مل تعد اجلبال وال الغابات وال�صحارى ،تخبئ
أزلية
وقرة عني ال ّ الوح�شية ،بهاء القيم الإن�سانية
ّ خلف ُحجبها
ّ
منذ �أزمان و�أزمان واجلمالية الأوىل ،تلك التي مل تتلوث مبكت�سبات
ّ
ونحن ن�صعد �إليك الوعي الب�رشي كما كان يحلم �أدباء وفال�سفة..
لكننا ال ن�صل! (املعومل) يف جوانبه
ْ بل غزتها قيم ذلك الوعي
النقية والقلب .
الأكرث تدمرياً لنزوعات الفطرة ّ
�سيف الرحبي غزتها نفايات وغازات حارقة ،من غري تلك
12
دولة بني وجيه يف ُعمان
وعالقات املهادنة والتوتر
بني املكونني الداخلي واخلارجي
عبدالرحمن ال�ساملي
باحث متخ�ص�ص يف الدرا�سات ال ُعمانية
13
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
�إىل بني �سامة ف�إذا كان االحتمال �صحيح ًا ف�إنه (ت.ق )287 .عندما �أ�صــدر �أوامره بــحــــــرق بيوت
كان عليه تقوية مركزه يف مدينة �إزكي حيث موطن الـقـــرامطـة �أو ممن تعاون معهم لئال يرجعوا �إليها
هذه القبيلة .و�أما االحتمال الآخر فهو �أنه كان من مت يف ما بني أمر من املحتملِ �أنه َّثانية ،وهذا ال ُ
العتيك حيث بداية ظهور العتيك بها ،ولذا جعل من 283-280هـ ،لكن حمالت القرامطة مل تتوقف بل
بهال مركزاً مناف�س ًا لنزوى ،وهذا ما ظل اال�ستمرار بدءا من �أبي �سعيد اجلنابي (-886/273 تتابعت ً
عليه حتى فيما بعد عند النباهنة ،ويزيد هذا )913/301ومن ثم �أبي القا�سم �سعيد بن �أبي �سعيد
االحتمال ب�أن �أحمد بن هالل كان من ال ُعمانيني اجلنابي ( ،)917/305-913/301تبعتها احلملة
الأزد يف الب�رصة �أو على �صلة بهم وهم يف الأغلب الكربى يف زمن �أبي طاهر �سليمان بن �أبي �سعيد
من العتيك ،حيث عمل يف بالط املقتدر باهلل كاتباً، ( )944/332-917/305الذي ا�ستطاع احتالل
�أو على �صلة به حيث مت تعيينه من قبل معزل
ٍ �أجزاء وا�سعة يف ُعمان بيد �أن �صحار ظلَّت يف
املقتدر ليكون نائب ًا عنه يف ُعمان ،ولذا �أهم االكت�شافات التو�سع القرمطي حيث ظ َّل واليها �أحمد بن هاللِ عن
ف�إن هذه الإ�شكالية �أدت �إىل اخللط فيما االركيولوجية الذي ذكرته امل�صادر التاريخية كـ«امل�سعودي»
بني امل�صادر ال ُعمانية وابن خلدون يف يف مروج الذهب ،وبزرك بن �شهريار يف «عجائب
�إي�ضاح مدى متكن عائلة بني �سامة يف �أف�صحت عن الهند» ب�أنه وايل �صحار الأ�شهر �آنذاك.
�سيطرتهم على الو�ضع الداخلي بعمان
وبني �أحمد بن هالل واجلمع بني ُ هذه وجود م�صكوكات �أما ال�صدام الواقع بني القبائل النزارية واليمانية
ا�ستفادت منه القوى الغازية امل�صادمة فقد �أح�ست
امل�صادر ي�ؤدي �إىل اال�ستنتاج ب�أن �أحمد نقدية لبني القبائل النزارية دوم ًا ب�إجحاف القبائل اليمانية,
بن هالل متت له ال�سيطرة على ُعمان من بينما كانت القبائل اليمانية داعي ًة للثوران �ض َّدهم
خالل القيادة القبلية حتت �سيطرة بني ال�صفار �ضربت
وذلك بدعم من الغزاة ،و�شكلت القبائل بقيادة الأزد
�سامة ،و�أن �أحمد بن خليل كان والي ًا على يف عمان ما بني ترابط ًا يف �إبقا ِء ُعمان موحد ًة ومتت لهم القيادة
متكن
ّ املناطق ال�شمالية من ُعمان بعدما بدعم من العلماء الإبا�ضية.
من طرد بني ال�ص ّفار ف�صك العملة با�سمه298 - 290( .هـ) ٍ
II
لكن ازدهار �صحار رفع من مركز �أحمد
بن هالل ال�سيا�سي وقوته يف �صدامه بهال/العتيك و�شخ�صية �أحمد بن هالل .
مع القرامطة الذين كانوا يبحثون عن �أحد املواين اكت�شفت قطع نقدية يف ُعمان �صكت يف �سنة
التجارية يف ن�شوة �صعودهم ال�سيا�سي� ،أما 300هـ و�سنة 305با�سم املقتدر باهلل (حكم
�رصاعهم يف داخلية ُعمان فكان ال يعدو عن بحثهم )932-907/320-295يف وجه ويف الوجه
من الدخل واخلراج كم�صدر ،لكنها تواجهت مع الآخر حملت �أ�سم �أحمد بن خليل والأخرى حتمل
القوة الإبا�ضية التي �شكلت �صدام ًا عنيف ًا وحتدي ًا ا�سم عبداحلامت بن �إبراهيم .بينما ت�شري امل�صادر
معهم يف مللمة �رشذمة القبائل ،وهذا الف�ضل يعو ُد ال ُعمانية ب�أن حممد بن نور عينّ احمد بن هالل من
فاعل يف �ص ِّدهم .بي َد
ٍ للعلما ِء الذين عملوا كمحركٍ بعده والذي اتخذ مركزه يف �صحار �أو بهال ،وكان
ني � َّأن القرامط َة مل ي�ستطيعوا �أن ُيقيموا
�أن احلقيق َة ُتب ِّ واليه على نزوى �شخ�ص يدعى «بحرية �أو بجرية»
مركزاً �سيا�سي ًا لهم يف ُعمان ب�شكل دائم ،حيث كانت الذي �رسعان ما قامت ثورة عليه وقتل يف �سنة
آخر للح�صول على املال حني ل َ
حمالتهم ت�أتي من ٍ ،895/282وا�ستطاع العلماء الإبا�ضية من ن�صب
حيث اتخذوا من مدينة توام الربميي مركز �إقامة حممد بن احل�سن اخلرو�صي ك�إمام لكنه اعتزل
لهم يف �شن تلك احلمالت ومن ثم يتحالفون مع وتوالت �أئمة عدة يف ُعمان .وهذا االحتمال يجعلنا
بع�ض القبائل خالل جبيهم لل�رضائب ،وقد �أوجد يف حرية ما �إذا كان �أحمد بن هالل ممن ينت�سبون
15 نزوى العدد / 74ابريل 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
ملرحلة جديدة يف الت�ضامن لي�س بني العلماء فقط هذا ال�صدام حتالفا قبليا �سيا�سيا لزعماء القبائل
بل حتى بني القبائل املتناحرة من بعد �رصاع امتد مع علماء الإبا�ضية يف �ص ِّد القرامطة مع نهاية
ملا يقارب 40عاماً. العقد الثاين للقرن ،10/4وهكذا ،فقد كانت �آنذاك
يف الوقت نف�سه مع نهاية العقد الثاين للقرن ثالث قوى بارزة يف ُعمان؛ الأوىل املتمركزة يف
الرابع الهجري برزت �شخ�صية مهمة تكاد �أن تكون �صحار وال�ساحل واملمتدة من جلفار وحتى قلهات،
ال�شخ�صية املحورية يف ُعمان �آنذاك وهو يو�سف بن والأخرى هي العلماء الإبا�ضية يف الداخل وخا�صة
وجيه ،وهو ال�شخ�صية التي ال تزال تثري الكثري من بني مدن �سل�سلة جبال احلجر الغربي ،والثالثة
الت�سا�ؤل حتى الآن ،من هو؟ و�إىل �أي جهة ينتمي؟ القرامطة الذين اتخذوا من توام مركزاً لهم.
و ملن ترجع �أ�صوله؟ ولعل هذه الإ�شكاليات هو ما خالل فرتة �أبي �سعيد اجلنابي يبدو �أن القرامطة
�أثار �شغف امل�ست�رشقني خالل قراءاتهم يف ا�ستق�صاء اجتاحوا املناطق الداخلية وو�صلوا �إىل نزوى لكنهم
تاريخ تلك املرحلة البحث عنه و �إثارة الفر�ضيات �رسعان ما تراجعوا عن ذلك نتيجة الثورات الداخلية،
حوله ،و لذا حاول مايلز بداية التخمني ب�أنه من وكانت حمالتهم �شبه ال�سنوية ال متلك ر�ؤية حمددة
جنود الرتك املبعوثني من قبل العبا�سيني ،بينما يف مطالبها ال�سيا�سية غري جباية الغرم (ال�رضائب)،
يعتقد ويلكن�سون ب�أنه له جذور مت�صلة بالقرامطة لكن اعقابه من بعده �أبو القا�سم و�أبو طاهر غريوا
وهذه التخمينات حثت الباحثني على حماولة نظرتهم اال�سرتاتيجية نحو التطلع �إىل جتارة اخلليج
ا�ستك�شاف هذه ال�شخ�صية وذلك ل�سببني : بال�سماح للقرامطة من قبل العبا�سيني با�ستخدام
– 1القطع النقدية الأثرية امل�ستك�شفة حديث ًا عنه ميناء �سرياف عام ،304ب�إ�رشاف الوزير علي
والتي �أثارت ف�ضولهم . بن عي�سى ،لكن ما �أن عزل الوزير علي بن عي�سى
– 2ما �أ�شار �إليه امل�ؤرخون الكال�سيكيون بـو�صفه باتهامه مبهادنة القرامطة حتى هاجم القرامطة
ونعوت �أخرى ودونت �أخباره ٌ «�صاحب ُعمان»
ُ الب�رصة عام 311/307و�أدعى �أبو طاهر �أن
الكتب الكال�سيكية ،ولذا ُيع ّد ال�شخ�صية الأبرز يف الب�رصة والأهواز ملك ًا له وتو�سعا لنفوذه الإقليمي.
التاريخ ال ُعماين خالل القرن .10/4 ومن جانب �آخر جنح �أحمد بن هالل يف �إحكام
فالتنوخي يف «ن�شوار املحا�رضة» يروي عن عالقة ال�سيطرة على �صحار وحتويلها �إىل ميناء
مهمة بني يو�سف بن وجيه و�أحمد بن هالل ،ويذكر الإمرباطورية الإ�سالمية و�إبعاده للقرامطة عنها وقد
ب�أن �أحمد بن هالل هو خال يو�سف بن وجيه، ا�ستمر هذا النجاح متوا�ص ًال �إىل عام ،927/315
وهذه الإ�شارة مهم ٌة يف تفنيد �شخ�صيته ،ولذا يغلب وهو العام الذي ميكن �أن نخمن فيه وفاة �أحمد بن
الظن ب�أن يو�سف بن وجيه كان من قبائل احل ّدان هالل حيث ال يذكر ا�سمه يف امل�صادر التاريخية،
ثم خلف املتحالفة مع النزارية ،وقد ن� أش� ببهال ،ومِ ن َّ وخل َف ُه من بعده عبداحلامت بن �إبراهيم ،ب�أمر منَ
�أحمد بن هالل يف �صحار ،والإثباتات الأثرية للقطع املقتدر باهلل العبا�سي بح�سب القطع النقدية التي
ابتداء من �سنة 317هـ حينما ً ري �إىل ذلك
النقدية ت�ش ُ اكت�شفت حتى الآن ،وبهذا العام 315هـ نهاية حقبة
�ساعدته جذوره القبلية و�سطوتها يف اال�ستيالء على بني �سامة �أو والية �أحمد بن هالل على ُعمان .
�صحار . �أما يف الداخل العماين فقد م َّثل النجاح للعلماء
فبح�سب ما و�صلنا من العمالت النقدية الأثرية الآتي : الإبا�ضيني والت�صالح بعد ال�رصاع ال�شديد بني
�أحمد بن خليل 912/300 علماء املدر�ستني الر�ستاقية والنزوانية برعاية
عبداحلامت بن �إبراهيم917/316 العامل املحايد نبهان بن عثمان بعد �أن عقد
و�أغلب الظن �أنهما كانا واليني للعبا�سيني على الإمامة لأبي القا�سم �سعيد بن عبداهلل الرحيلي عام
املناطق ال�شمالية بها ،ولعل مركزهم كان يف دبا �أو ،932/320والذي ذكره نورالدين ال�ساملي كبداية
16 نزوى العدد / 74ابريل 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
على �صحار تعني احلكم املطلق على عمان �أم على جلفار� .أما اال�ستنتاج الآخر الذي كان يعتمد �سابق ًا
�صحار وما حولها ،لقد ظلت حماوالت العلماء بح�سب امل�صكوكات ب�أن الرتتيب الزمني حلكم
الإبا�ضيني يف جعل املنطقة اجلبلية الداخلية ذات ُعمان هو كالآتي :
ا�ستقالل كلي ومبحاوالت متعددة وب�شكل متقطع �أحمد بن خليل 305-290
يف ال�سنوات ما بني 295-282ومل ي�ستطع العلماء �أحمد بن هالل316-306
خالل تلك الفرتة مللمة الت�شظي يف البالد ب�صورة عبد احلامت بن �إبراهيم317-316
كلية ،خ�صو�ص ًا عندما كانت املواجهة مع طرفني فامل�ؤرخون الذين حاولوا �س َّد الفجو ِة الزمنية يف
�صعبني ،فوالة العبا�سيني كانوا على ال�سواحل، الت�سل�سلِ التاريخي العماين اعتقدوا ب�أن �أحمد بن
وحمالت القرامطة ت�شن على الداخل من جهه توام، خليل هو �أحمد بن هالل ولكن هذا م�ستبعد ،ف�أحمد
و ال ميكن الإنكار �أن الذي جنح يف توحيد �صف بن خليل �أدرج يف هذا الت�سل�سل بح�سب امل�صكوكات
العمانيني �آنذاك هي االيديولوجيا الإبا�ضية من الأثرية املكت�شفة بينما �أحمد بن هالل ذكر يف
خالل العلماء ،فقد ظل جتمعهم وحتالفهم متوا�صال امل�صادر التاريخية ،وهو ما يحيلنا �إىل كيفية
نحو هدف واحد ي�صبون �إليه وهو اال�ستقالل ،ولذا �إمكان اجلمع بني هذين االجتاهني املت�ضادين،
فقد ظل العلماء �أ�شبه باملحرك الرئي�سي يف هذا فيمكن القول �أنه من املحتمل ب�أن كل حاكم
النهو�ض بالرغم من االنتكا�سات التي ح�صلت لديهم، منطقة يف عمان كان ي�صكُّ العملة با�سمه مما
حتى حني اعتنقت بع�ض القبائل الفكر القرمطي� ،أو �أحدث تنوع ًا يف امل�صكوكات املكت�شفة .وحاليا
�ساندت القرامطة يف حمالتهم �أو حني اعتنق �أحد مت الك�شف عن قطعـة نقديـة تـم �صكها يف ُعمان
الأئمة فكرهم وهو انت�ساب الإمام �أبو �سعيد احلداين، عـام 299هـ 912-911/حتمـل فـي وجههـا الأول
والذي عرف بعد ذلك ب�أبي �سعيد القرمطي مل يثنهم �أحمـد بن هـالل وفـي الوجـه الأخـر اخلليفـة العبا�سي
املقتـدر باهلل ،895/282وهذا الدرهم موجود يف
عن النهو�ض ،وحتالفوا مع زعماء القبائل ليحدثوا
املتحف الوطني بالدوحة/دولة قطر ،وهذه القطعة
رابط ًا وثيق ًا طوال التاريخ العماين.
تو�ضح � ًّأن الوال َة العبا�سيني يف ُعمان كانوا من بني
بيد �أن ظهور يو�سف بن وجيه �صاحبه عق ُد الإمام ِة
�سامة ،و كانوا ميثلون الدعامة القبلية يف التعاون
على �أبي القا�سم �سعيد بن عبداهلل بن حممد بن حمبوب
مع العبا�سيني �أي بني النزاريني �ضد اليمانيني.
الرحيلي ،حفيد �آخر قادة الإبا�ضية يف الب�رصة، فمبدئي ًا لفهم الت�سل�سل التاريخي لدولة بني وجيه
وكان عقد الإمامة عليه عام 320هـ 932/بح�سب من خالل امل�صكوكات الأثرية املكت�شفة ت�شري على
ا�ستنتاج نور الدين ال�ساملي ،وقد جنحت �إمامته النحو الآتي :
مل االفرتاق العماين يف الداخل و�إخراج الإمامة يف ّ اوال :يو�سف بن وجيه متتد الفرتة بني � 317إىل
332قطع متعددة .
ثانيا :حممد بن يو�سف333هـ و 335هـ قطعتني .
ثالثا :عمر بن يو�سف� 341إىل 350قطع متعددة .
هذه القطع النقدية بح�سب مدلولها يف الت�سل�سل
الأركيولوجي متكننا من تعيني بداية دولة بني
وجي َه يف عمان وهو عام ،929/317او قبلها حيث
متكن يو�سف بن وجيه من ا�ستالم ال�سلطة ب�صحار
بعدوفاة خاله �أحمد بن هالل ،والذي يثري االهتمام
والت�سا�ؤل عن تلك الفرتة �آنذاك ،هل كانت ال�سلطة
17 نزوى العدد / 74ابريل 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
اجلبلية ،ومل متتد �إىل ال�سواحل البحرية. ّ املناطق من النفوذ القبلي لأول مرة ،وكانت �أهمية الإمام
على �أثر ذلك حدثت مرا�سالت بني �أهل بهال ويو�سف �أبي القا�سم يف �إعادة �رشعية الإمامة و�سلطاتها
بن وجيه �ضد الإمام على الرغم من حماوالت وت�أثريها على ُعمان ،ولذا ي�ؤكد نور الدين ال�ساملي
الإمام �إثناء �أهلها عن ذلك �إال �أن �أهلها عزموا على �أن �أوىل ال�صدامات التي متت بني الطرفني بد�أت
التحالف مع يو�سف بن وجيه وقد ان�ضموا �إىل جي�ش من نزوى ولكن �رسعان ما امتدت �سلطات الإمام
يو�سف بن وجيه الذي انتقل من �صحار �إىل عربي لت�شمل مناطق جبال احلجر الغربي حيث ا�ستوىل
ثم اجته اجلي�شان �إىل نزوى ومنطقة الظاهرة ومن َّ على الر�ستاق واملناطق املحيطة بها و�أزاح يو�سف
وتذكر
ُ وفر الإمام بعد انهزام ُه
ومتكنوا من احتاللها َّ بن وجيه من �صحار ،لكن العالقة بقيت مهادنة بني
امل�صادر ب� َّأن يو�سف بن وجيه �أعطاه الأمان ،ولعل
ُ الطرفني ،وكما �أنها �أوجدت ر�ؤي ًة م�شرتك ًة ا�ستطاعت
ني زعما ِء القبائل مع يو�سف بن َ ب التحالف هذا �إزاحة القرامطة و�أبعدتهم �إىل املناطق احلدودية يف
�ضجت البال ُد من
مت ب�إرادة موحدة بعد �أن َّ وجيهَّ ، احلي ّز ال�صحراوي ،و�أوجدوا �صيغ ًة للتعاون امل�شرتك
التدخل القرمطي فر�أوا يف �شخ�صية ابن وجيه زعام ًة بينهما ،ف�أبو مالك غ�سان بن اخل�رض ال�صالين ،كان
موحد ًة لهم .وب�سقوط �إمامة را�شد بن الوليد و�صفت قا�ضي الإمام على �صحار ،ومن بعده توىل تالميذه
امل�صادر ال ُعمانية والعربية الكال�سيكية بنعت �سلطة الق�ضاء يف �صحار ودما يف واليتي �أحمد بن هالل
يو�سف بن وجيه �أنها املطلقة على ُعمان بل و�صف ثم يو�سف بن وجيه ،وهذا يدل على �أن كليهما من
�صاحب «ك�شف الغم ًة ب�أن البالد دانت له من (هجر) الو�سط العماين خالف ًا ملا يعتقده البع�ض ،ومن جهة
ما بعد (الأح�ساء) وحتى (جبال عوان) يف اجلنوب �أخرى �شهدت تلك الفرتة نهو�ض ًا علمي ًا بارزاً يف
من اجلزيرة العربية حتت �إمرته. عمان مع القطبني �أبي حممد عبداهلل بن بركة و�أبو
و�إذا ما �أردنا تعيني الأمر بدقة يف بداية نفوذ يو�سف �سعيد بن �سعيد الكدمي ،وكالهما كانا من منطقة
العثور حالي ًا على دره ِم ف�ضة يحمل ُ مت
بن وجيه َّ بهال .و�إن كان بح�سب ما يذكر نور الدين ال�ساملي � َّأن
مت �صكه عام 314هـ،926/ ا�سم يو�سف بن وجيه َّ كال الإمامني �أبو القا�سم ومن بعده را�شد بن الوليد
وهي يف جمموعة خا�صة يف �سوي�رسا ،وتتميز هذه كانا �إمامي دفاع ومل ي�صال �إىل �إمامة الظهور �أو
العملة بت�صميمها غري امل�ألوف ووزنها امل�ضاعف ال�رشاء .وكما �أ�رشنا �سابقا يبدو �أن العالقة بقيت
يجعلها متميزة عن العمالت امل�ألوفة يف ذلك احلني، مهادنة بني الإمام �أبي القا�سم ويو�سف بن وجيه
وتزيد يف فرتة حكمه املمتدة وزيادة على ما وجد ومل يذكر �أن معارك ذات �أهمية حدثت بني الطرفني
يف اال�ستك�شافات ال�سابقة توجد عمالت متعددة حتى نهاية �إمامة الإمام �أبي القا�سم يف معارك
ليو�سف بن وجيه يف فرتات خمتلفة ممتدة من قبلية لأجل �س ّد الفتنة يف الر�ستاق ا�ست�شهد فيها
عام 929/317وحتى 943/332وهذه العمالت الإمام عام .939/328
يف واقع الأمر توثق االمتداد الزمني للفرتة الوجيهية مت عق ُد الإمام ِة لرا�شد بن الوليد الكندي ومن ثم َّ
يف ُعمان .و�إن تكرار القطع النقدية يف فرتات زمنية والذي يبدو � َّأن املدر�سة الر�ستاقية كان لها الأثر
متداخلة يحدث �إرباكا يف التمييز بني فرتات احلكم الكبري يف دعمه ،لكن �رسعان ما حدث ال�صدام
ك ٌل على ح َدة ،وحدود نفوذه ،فقد ظهرت خالل فرتة بينه وبني يو�سف بن وجيه حينها ،و�أقام اجلمعات
يو�سف بن وجيه قطع نقدية البنيه حممد وعمر. حتت رايته يف نزوى ،وحاول الإمام بعد ذلك
فالأول ُوجدت له قطع نقدية �صكت با�سمه ابتداء اال�ستيالء على مدن �شمال احلجر الغربي وجنح يف
من �سنة .937/326وهذه القطع النقدية عبارة عن ذلك ،وتويف على �أثرها وزيره �أبو حممد عبداهلل بن
دراهم ف�ضة �صكت يف ُعمان كتب عليها« :يو�سف حممد بن �أبي امل�ؤثر بالر�ستاق يف معركة الغ�شب
بن وجيه/حممد بن يو�سف مع عبارة «الرا�ضي ورغم متكنه من ذلك لكن بقيت �سلطاته حمدودة يف
18 نزوى العدد / 74ابريل 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
�إ�شكاليات ال�صدام مع العلماء يف الداخل ،والتوجه باهلل» «اخلليفة العبا�سي حكم ،»933/322ثم
نحو ال�سيطرة التجارية يف املنطقة وحتى الآن مل وجدت بعد ذلك قطع نقدية �صكت يف الأعوام الآتية
يعب عن تلك احلقبة،
جند �أي �أثر تاريخي �أركيولوجي ِرّ 943-942-941/332-331-330وظهرت
والتدوين التاريخي.
ِ �إال العمالت التي �صكَّت يف زمنه تلك الأ�سماء مع ا�سم اخلليفة العبا�سي «املتقي باهلل
وقد كانت هنالك عالقتان متميزتان يف «.»944-940/333-329
فرتة حكمه ،الأوىل عالقته مع العبا�سيني �شهدت فرتة �أما عمر بن يو�سف فوجدت له قطع نقدية �صكت
و الأخرى مع القرامطة .و�سنو�ضح عالقته با�سمه ويظهر على الظهر الآخر ا�سم اخلليفة العبا�سي
يو�سف بن مع كال الطرفني: «املطيع باهلل» (حكم ،)945 /334وهذه القطع
وجيه يف النقدية من الدراهم �صكت يف ال�سنوات الآتية -341
-1العالقة الوجيهية مع القرامطة: دينار ،961-954-952/350-343كما اُكت�شف
لقد �أدرك ابن وجيه القوة املجاورة له ُعمان ازدهاراً ٌ
ُ�ص َّك عام 956/345حمفوظ لدى اجلمعية الأمريكية
وهي القرامطة ،وبد�أ مبرحلة التعاون اقت�صادي ًا للقطع النقدية ،لذلك يعتقد نور الدين ال�ساملي �أن
الوجيهي – القرمطي ،فيو�سف بن وجيه �إمامة را�شد بن الوليد انتهت يف عام 953/342
كان متوج�س ًا من خطر القرامطة� ،إذا وجتارياً بنا ًء على ما ذكر يف بيان ال�رشع �أن ُعمان �صارت
ما ا�ستولوا على �صحار وعلى املنطقة �إىل ُحكَّام اجلور ،وي�شري �إىل ذلك التاريخ بنهاية
ال�ساحلية ،خ�صو�ص ًا �أن فرتة نهو�ض ابن خ�صو�صا
الإمامة ،ويف اعتقادي �أن �إمامة الإمام را�شد بن
وجيه تزامنت مع �أوج النهو�ض القرمطي يف التجارة الوليد مل ت�ستمر طوي ًال بل يحتمل �أنها مل تتجاوز
يف عهد �أبي طاهر القرمطي (-917/305 ب�ضع �سنوات ،حيث �أنه �رسعان ما �أ�صيبت الإمامة
،)944/332وهذه امل�صاحلة مكنت ابن البحرية
بت�ضع�ضع مل ت�ستطع مقاومته بل ومن املحتمل �أنها
وجيه من ال�سيطرة على التجارة البحرية يف املحيط مل تتجاوز العام 332هـ ،943/حني متكن يو�سف
و�إزاحة القرامطة عنها بطريقة �سلمية، بن وجيه من �إنهاء الإمامة� ،أما العام 342هـ953/
حينها كانت جتارة اخلليج متقا�سمة بني الهندي مما فهو يف الواقع وفاة يو�سف بن وجيه ،ومث َلّت هذه
القرامطة يف �ضفتي اخلليج فالغربية وكان مكنه من النهاية فراغُ احلكم يف الدولة الوجيهية وبداية
ي�سيطر عليها جتار �سرياف يف فار�س ومن التدخل البويهي و�رصاعهم مع القرامطة ،وال�صدام
اجلانب ال�رشقي �صحار يف ُعمان ،وهذا ال�سيطرة مع القبائل ال ُعمانية ،و�سي�أتي ذكره الحقا.
التناف�س يف التجارة البحرية �آنذاك بني على ال�سواحل III
مدينتي �صحار و�سرياف �أحكم ال�سيطرة لقد �شهدت فرتة يو�سف بن وجيه يف ُعمان ازدهاراً
العمانية يف �إبقاء خطوط التجارة البحرية مبعدة ُ اقت�صادي ًا وجتاري ًا بل كانت تعبرّ عن مرحلة ازدهار
عن نفوذ القرامطة وهو ما �أ�ضعف القوة التجارة البحرية يف املحيط الهندي �آنذاك وقد
القرمطية بحيث بقيت قوة قبلية بدوية جعل متكنه من �صحار تقوية ل�سلطاته و�سيطرته
يف �صحارى اجلزيرة العربية مل ت�ستطع النفوذ �إىل على ال�سواحل ال ُعمانية� ،إ�ضافة �إىل م�ساندة القبائل
خارجها ،كما �أن �صدامهم مع الفاطميني �أبعدهم النزارية له ،امتداد لنفوذه بني جبال احل ّدان ال�شمالية
عن �أعوانهم الإ�سماعيليني من جهة �أخرى ،كما �أن وحتى واحات توام الربميي مما جعل املناطق
النهو�ض ال�شيعي يف فار�س على يد البويهيني �سحب الداخلية حم�صورة و�شبه معزولة لكنها كانت يف
ال�شطر الأخر من هذا ال�رصاع .فتمكن ابن وجيه من قب�ضته و�سلطته وبالرغم من ت�صدع القبائل اليمانية
ال�سيطرة على جبال ُعمان وو�سطها وا�ستطاع بحنكته وحتالفها مع العلماء يف الداخل �ضده من حني
ال�سيا�سية منع التدخل القرمطي ،كما �ساعده ذلك يف لآخر ،وكان ان�سحاب ًا �سيا�سي ًا ذكيا يف االبتعاد عن
19 نزوى العدد / 74ابريل 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
نفوذهم من اجلنوب العراقي حيث بقوا حم�صورين ا�ستقرار ال�ش�أن الداخلي فقويت �شوكته للم�صادمة
يف منطقة الأح�ساء. معهم وقد كان متمنع ًا يف كثري من الأحيان نتيجة
IV قوى العلماء املتحالفة مع زعماء القبائل وكانت
دائمة ال�صدام مع القرامطة.
�أما درا�سة العائلة الوجيهية بعد يو�سف بن وجيه
يف ت�سل�سلها التاريخي فمعرفة ذلك تكمن من خالل ب -العالقة مع العبا�سيني
امل�صكوكات النقدية التي مكنتنا من تتبع الت�سل�سل �أما عالقته مع العبا�سيني فيمكن اجلزم الأويل بح�سب
العائلي ،فمحمد بن يو�سف كان نائب ًا لوالده وقائم ًا فح�ص امل�صكوكات ال�سابقة ب�أن ابن وجيه ظ َّل حمتفظ ًا
على �أعماله يف حياته و�سمح له ب�صك العملة �صحيح ف�شهر ُته يف بوالئه للعبا�سيني ،بيد � َّأن العك�س
ٌ
ب�إ�سمه� ،إال �أنه فيما يبدو تويف ووالده ال يزال على امل�صادر التاريخية عرفت �أو ًال ببدء ال�صدام بينه وبني
قيد احلياة ،فلم ُيعرث ملحمد بن يو�سف بن وجيه �أية فهمالوزير العبا�سي علي بن مقلة حيث �أ َّدت �إىل �سو ِء ٍ
قطع نقديةٍ ُ�ص َكّت با�سمه بعد العام .946/335ٍ يف العالقة بينهما �إىل �أن تطو َّرت ب�شدة ،وبعدها رف�ض
ولذا توىل عمر بن يو�سف احلكم بعد والده حيث ظهر ابن وجيه االن�صياع للدول ِة املركزية واال�ستقالل التام،
ذلك يف امل�صكوكات بد ًءا من عام 952/341وهو ومن ث َّم ا�شتهر �أكرث من خالل احلادثني ال�شهريين ِ
عام وفاة يو�سف بن وجيه ،وقد �أ�شار �إىل ذلك �صاحب الأول يف حماولته الحتالل الب�رصة عام 942/331
بيان ال�رشع ب�أنه العام الذي بد أ� فيه اال�ضطراب يف حينما حاول الربيديون يف الب�رصة ا�ستغالل نفوذهم
ُعمان .فقد حدثت حتوالت �أثر وفاة يو�سف بن وجيه يف احتكار جتارة اخلليج فرفعوا الر�سوم وال�رضائب
حينما توىل عمر بن يو�سف 952/341وبد�أت �صفحة ف�شن عليهم ابن وجيه حرب ًا كادت تتكلل على ال�سلعَّ ،
�أخرى يف العالقة ال ُعمانية مع الدولة املركزية يف وح ِرقَ �أ�سطوله.
بالنجاح �إال �أنها ف�شلت يف النهاية ُ
بغداد ،فقد عني عمر بن يو�سف نافع ًا موال ُه وزيراً �أما الثاين فجاء بتحالفه مع القرامطة م�ضاد ًة
وقائداً جلي�شه ،وعلى �إثر ذلك ف�سخ عمر حتالفه مع فار�س وموانيها َ للبويهيني الذين ا�ستولوا على
القرامطة و�أعلن ان�ضمامه للبويهيني لكن ذلك مل يدم التجارية وبالأخ�ص �سرياف ف�سيطروا على جتارة
طوي ًال حيث �أن القرامطة حاولوا �س ّد الفراغ اثر وفاة اخلليج البحرية من جهة كما �أ�صبحت لهم ال�سيطرة
يو�سف بن وجيه وا�ستطاعوا احتالل عمان ،ويبدو �أن الأوىل يف مركز اخلالفة بغداد ،وكان ذلك يف
عمر بن يو�سف اغتاله خادمه نافع عام 962/352 عام ،952/341حيث اجته هو بالأ�سطول البحري
حيث مل يعرث على م�صكوكات له بعد عام.961/350 ولكن وزير ع�ضد الدولة َّ واجته القرامطة من الرب،
وعلى اثر ذلك �أر�سل معز الدولة وزيره �أبا حممد املعروف (�أبي حممد املهلبي) ا�ستوىل على الب�رصة
لكن الوزير
املهلبي عام 963/352الحتالل عمان َّ و�ص ّدهم عنها.وهذان احلادثان مهمان يف معرفة
الرابط التاريخي للتجارة البحرية الإ�سالمية
املبكرة املمتدة بني �صحار وحتى الب�رصة وامل�ؤث ِّر
االقت�صادي بني املوانئ البحرية والأ�سواق يف
املدن الكربى يف العامل الإ�سالمي.
وكان هذا احلادث هو النهاية ال�سيا�سية ليو�سف بن
وجيه وحلفائه القرامطة معاً ،حيث تويف يو�سف
بن وجيه على اثرها يف ُعمان� .أما القرامطة فكان
ظهور البويهيني يف فار�س كا�سح ًا لهم يف نهايتهم
التجارية يف اخلليج ،وفقدوا �سيطرتهم وتقل�ص
20 نزوى العدد / 74ابريل 2013
كتابات ..كتابات ..كتابات
s
s
s
مت �صكه يف ُعمان با�سم «علي بن �أحمد» ويف مر�ض يف البحر وتويف ومل تنجح احلملة .بيد �أن معز
الوجه الآخر «املطيع هلل/ال�سيد» ،وا�ستوىل �أحمد الدولة مل ينثن ف�أعاد احلملة بقيادة كردك النقيب
بن علي على البالد بالرغم من حماولة �أحد العلماء 965/354ومتكن خاللها من احتالل �صحار ،ومت
ال ُعمانيني مل ُيذكر ا�سمه يف دعم البويهيني وتعيني تعيني نافع نائب ًا و�أقام اخلطبة لهم ،ويذكر ابن الأثري
ثم انتخب ال ُعمانيون من بعدهابن طغان �إال �أنه ُقتِل َّ �صك العملة ب ُعمان با�سم معز الدولة منذ ذلك �أن نافع َّ
عبدالوهاب بن �أحمد بن مروان الذي حاول �إر�ساء احلني ،وبد�أ تداولها بالدرهم والدينار.
م�صاحلة بني الأطراف وعني علي بن �أحمد مندوب وهكذا ميكن تعيني عام 965/354ب�أنه �ش َكّل نهاية
القرامطة ليكون نائب ًا عنه �إال �أن علي بن �أحمد الدولة الوجيهية يف ُعمان وبداية ال�سيطرة البويهية
انقلب عليه باجلي�ش املكون من «الزجن» املدعمني على البالد ،بيد �أن ال�سيطرة البويهية مل تدم طوي ًال
من القرامطة� .إال �أن هذه التطورات ال�سيا�سية مل تدم حيث ثار النا�س على نافع وطردوه ،وتكللت هذه
طوي ًال و�رسعان ما تدخل معز الدولة حل�سم املوقف الثورة يف �صحار بالنجاح ،ويذكر ابن الأثري �إمنا مت
النهائي للدولة البويهية عام 965/355ب�إر�سال ذلك مب�ساعدة القرامطة الذين بقوا خارج املدينة ،ومت
أ�سطول بقيادة �أبو الفرج حممد بن عبا�س ومب�ساعدة ٍ � على �إثر ذلك تن�صيب �أحد التجار يف �صحار من ذوي
ع�ضد الدولة .ومتكن �أبو الفرج من اال�ستيالء عليها الغنى وكان ي�سمى النوكاين ملك ًا عليهم ،لكن الأمر
وبقي بها حتى وفاة معز الدولة (ت،)966/356 مل ي�ستمر طوي ًال حينما ه َّدد معز الدولة النوكاين ومل
عي نائب ًا عنه عمر بن نبهان الطائي� ،إال وفر
يلبث ال ُعمانيون �أن ثاروا عليه ،فخاف النوكاين ّ
حيث َنّ
هارب ًا من ُعمان �إىل بغداد فالقاه كردك النقيب يف
�أنه مل ي�ستمر طوي ًال حيث مت َكّن القرامطة من قتله
البحر و�أمر ب�إغراقه وا�ستوىل على �أمواله.
و�أعادوا �صحار حتت �سيطرتهم مبعونة جندهم من
مت
ويبدو �أن النوكاين كان متلكه على البالد َّ
«الزجن» ،وجعلوا لهم �أمرياً يعرف بابن حالج� .أما
مب�ساعدة القرامطة وحينما �أرادوا م�ساعدته بعثوا
ال ُعمانيون يف الداخل فقد جنحوا يف ن�صب الإمام ب�رسية ،لكن ال ُعمانيني اجتمعوا و�صدوهم ومتكنوا
حف�ص بن را�شد وبت�أييد من املدر�سة الر�ستاقية، ّ
من قتلِ الكثري من القرامطة و�أتباعهم ومن ثم
وكان عقد الإمامة عليه بالدفاع لأجل ا�ستقالل �أدى ذلك �إىل انك�سارهم .وهذه الفرتة كانت ميزة
الداخل� ،إال �أن ع�ضد الدولة �أمر جي�ش ًا من كرمان تاريخية لل ُعمانيني يف حتالفهم وبقاء وحدتهم
وق�سم
بقيادة �أبي حرب بن طغان عام ّ 972/362 ف�صادموا البويهيني من جهة والقرامطة من جهة
جي�شه ق�سمني فنزل ابن طغان بجلفار �أما �أ�سطوله فعا ًال بني علماء الدين �أخرى وهذا �شكّل تالحم ًا ّ
فلحقه �إىل �صحار وهزم القرامطة ثم الحقهم يف وقيادات القبائل و�شكلت �إحدى �أهم الدعائم يف
الربميي وهي �أهم معاقلهم وحمطة الربط بني الهوية ال ُعمانية.
ّ حراك التاريخ ال ُعماين وبلورة
وعمان ،ومتكن من الق�ضاء املطلق عليهم الإح�ساء ُ �أما ابن الأثري فيتتبع الق�ضية بتف�صيل �أكرث دقة عن
من ُعمان نهائيا .فال ُعمانيون يبدو �أنهم متكنوا بعد حوادث ،965/355حيث يبد أ� بذكر هروب نافع �إىل
ذلك من دحر البويهيني واال�ستيالء على ال�سواحل معز الدولة بينما يبدو �أن �صحار كانت يف �رصاع
كلها .ف�أر�سل ع�ضد الدولة جي�ش ًا بقيادة املطهر بن بني ال ُعمانيني الذين ان�شقوا بني م�ؤيد للقرامطة،
عبداهلل عام ،973/363مت َكّن من هزميتهم مما والقبائل الثائرة يف الداخل �ضدهم ،وبقايا اجلي�ش
ا�ضطر الإمام حف�ص اىل الهرب �إىل اليمن ،وبد�أت دعموا �أحدالبويهي .لكن الظفر كان للقرامطة حيث ّ
بعد مرحلة �أخرى يف ُعمان دامت ما يقارب القرن �أعوانهم من ذوي اجلاه وكانت �أمرة اجلي�ش بيده
وهي الفرتة البويهية واملكرمية. دينار قرمطيٍ ويعرف بـ علي بن �أحمد وقد ُعرث على
22
فاروق
الذي قال ال ...
بهاء طاهر
روائي من م�رص
تلك هي خال�صة حياته املعذبة :ال للقبح يف احلياة وال القبح يف الفن ،وال للم�ساومة على
املبادئ :مبادئه هو ،وال حتى ملا يعتربه البع�ض مرونة ال �رضر منها ،مل يقبل قا�ضيا
�إال نف�سه فظل ما �أ�صدره �ضمريه من الأحكام فريداً يف �صدقه وجماله ويف عنفه �أي�ضاً،
ولهذا فقد عا�ش غريبا ومات غريبا مثل كل �أ�سالفه الذين مل يقبلوا لغري �ضمريهم حكما.
فاروق عبدالقادر الذي مل يقدم يف حياته تنازال واحدا هو فخر جيلنا من الكتاب لتم�سكه
باملبد�أ ،ولنزاهة قلمه وهو �أي�ضا عارنا لأن غالبنا �آثر �أال يقب�ض مثله على جمر احلقيقة
طول الوقت ويف كل الظروف ولأننا تركناه وحيدا تع�صف به �أنواء احلياة حتى �آخر
العمر ،بل ملناه� ،أو المه بع�ضنا ،لأنه يف بع�ض الأحيان مل يكن يتحمل كل ما يعانيه
في�ست�سلم ل�ضعف �إن�ساين ال ي�رض �أحدا �سواه.
فاروق عبدالقادر �إن�سان فريد ولهذا فهو ناقد فريد �أي�ضا كتب �صفحات قليلة عن �سرية حياته يف مقدمة
uكان هو املبادر دائما �إىل تقدمي �أعمال الك ّتاب ،فهو الذي كان يتابع
�أوال ب�أول �أعمال حممد الب�ساطي و�إبراهيم �أ�صالن وعالء الديب
وجميل عطية �إبراهيم ويحيى الطاهر عبداللـه وحممد ناجي وكاتب
هذه ال�سطور وغرينا من الروائيني u
23
فاروق عبدالقادر
s
s
s
،19وت�رشب االبن منذ ال�صغري ذلك الهو�س الوطني لأحد كتبه (نفق معتم وم�صابيح قليلة) حدثنا فيها عن
ف�شارك مقاتال يف معركة ال�سوي�س على �ضفاف القتال تكوينه الفكري يف مرحلة الدرا�سة ،وكيف تعر�ض لأهم
يف عام 56وكان الأب م�سلما متدينا يرتل القر�آن التيارات الفكرية يف ع�رصنا ،ف�أخذ منها �أقنعة ورف�ض
ترتيال ب�صوت جميل يف �صالة الفجر وقبل الغروب ما �أقلقه ،لكنه على �أي حال در�س الفرويدية واملارك�سية
بالذات فيتابعه الإبن ويحفظ عنه ويقول يف �صفحات والوجودية ،وعلى �أهمية تلك املرحلة من عمره وما
�سريته الذاتية الثقافية امنا عن ترتيله هذا ب�شكل �أ�سا�سي �أفاد منها فما يعنيني من هذه ال�صفحات �أن �أ�ستخل�ص
وقر يف قلبي بالفعل ،ف�إين
حفظت معظم القر�آن والفقه ّ منها منهجه يف النقد الذي عرف به فيما بعد .يفيدنا
كثريا ما كنت �أقول له عن يقني �أنه رغم كل �شيء �صويف يف ذلك �أن نعرف �شيئا عن تكوينه قبل مرحلة الدرا�سة
متنكر .وتتجلى ثقافة فاروق الرتاثية العميقة فيما كتبه اجلامعية ،هي زودته مبفاتيح الثقافة الع�رصية .فهناك
عن الدرا�سات وال�شخ�صيات الإ�سالمية �ضمن ما كتب. منذ طفولته ما يجوز ت�سميته حجارة الأ�سا�س .من ذلك
تلك اللمحات عن خطى التكوين متهد لنا �أن نتعرف �أن ن�ش�أته كانت يف قرية هي على نحو من القاهرة
على امل�ؤثرات واملنهج يف عامل فاروق النقدي وهو وهي جزء منها يف الوقت نف�سه وكان التلميذ ال�صغري
يي�رس لنا معرفة هذا املنهج يف مقدمة كتابه (�أوراق ي�سري من القرية ال�صغرية �إىل قلب املدينة يف �شارع
�أخرى من الرماد واجلمر) حني يكتب عما يحبه وعما �شربا ليلحق مبدر�سته مع رفاقه من �أبناء الريف .كان
ويرف�ضه يف النقد املعا�رص .فهو ميقت الطنطنة ذلك نهاية الثالثينيات ويف الأربعينيات ،وذلك قبل
مب�صطلحات نقدية م�ستعارة من الغرب �أي من �سياق �أن تتعملق القاهرة وتت�شعب بعد ذلك فتبتلع القرى
ثقايف وتاريخي يختلف عن واقعنا ،يرى عن حق �أنه ال�صغرية من حولها يف جوف ما يعرف بالقاهرة
على الناقد �أن ي�ستعني ب�شتى الأدوات واملناهج التي الكربى في�صبح الريف ح�رضا وتفقد القاهرة حميطها
تقوم عليها العلوم االن�سانية ،و�إمنا ذلك كتمهيد ليقر�أ الأخ�رض ،ما يعني فاروق من ذلك وهو يتذكر ن�ش�أته �أنه
العمل ويتو�صل �إىل الر�سالة التي �أراد املبدع نقلها من عا�ش حياة �أهل القرية و�أهل املدينة على ال�سواء ،ومل
خالل عمله ،وعليه �أن يحكم على مدلول هذة الر�سالة ي�شعر بالغربة بني ه�ؤالء و�أولئك ،و�أ�ضيف �أنا �أنه كان
هل توحي �إىل �سبيل لتخطى الواقع نحو واقع �آخر �أكرث يكتب عن العاملني معا بنقد اخلبري العارف واملعاي�ش
عدال و�صدقا وجماال؟ وهل تتوافر يف العمل املتعة ال القارئ املتفرج ،وبعد هذا �أعزو حمبته للكتاب الذين
الفنية التي تغذى القارئ �أو املتلقي مبتابعة هذا العمل نفذوا �إىل جوهر احلياة الريفية (وحياة املدينة �أي�ضا)
وا�ستيعاب الر�سالة ،هل ترثي وجدان املتلقى �أم ت�أخذ مثل يو�سف �إدري�س القدير الذي خ�ص�ص له فاروق
عينة للحظة �أو حلظات ثم مت�ضي بغري �أثر؟ ثم �إن لغة واحدا من كتبه والرائد امل�رسحي الكبري حممود دياب
النقد يجب �أن تكون وا�ضحة ال حتتمل اللب�س الذي ي�شي والروائي املبدع عبداحلكيم قا�سم وغريهم ممن �أبدعوا
بعك�س �أفكار الناقد نف�سه ويجب �أن تكون اللغة مقت�صدة عن املخبوء من ريف م�رص وح�رضها.
ومركزة حتى اليتوه املعنى الذي يتبناه الناقد ب�سبب ويبدو �أننا يف تتبع �سرية فاروق نتجه با�ستمرار �إىل
التطويل والرثثرة ثم �إن هذه اللغة النقدية يجب �أن تكون اخللف للبحث عن جذور تكوينه ،فقبل املرحلة اجلامعية
جميلة الأ�سلوب وال�صياغة متتع القارئ للنقد �إذ ماالذي التي تفتح فيها وعيه الثقايف ،وقبل ال�صبا الذي تفتح
يغري �أي قارئ حكيم بقراءة نقد ثقيل الظل؟ فيه وجدانه على بيئة وطنه فا�ستوعبها يف تكاملها
ذلك كله وقبله جميعا اال�ستقامة والإخال�ص لأن الناقد ،هناك مرحلة الطفولة التي �شكلت فيها الأ�رسة �أهم
كما يقول فاروق ناقد للف�ساد والق�صور و�سوء النوايا الروافد فقد كان الأب وطنيا م�رصيا ينتمي جليل ثورة
24 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
على قدم امل�ساواة مع ما حققاه من ال�شهرة يف بلديهما وك�شف جتليات ذلك كله لأنه يطمح كمبدع �ش�أن �سائر
�إن مل يكن �أكرث. املبدعني �إىل �إ�صالح العامل.
يرادف ذلك جهده يف التعريف يف م�رص نف�سها �إقر�أ �إذن �أي كتاب لفاروق عبدالقادر� ،أو حتى �أي
بكتابها البعيدين عن الأ�ضواء .و�أظن �أنني مع جيلي مقال له ،ف�ستجد كيف اجتهد بكل �إخال�ص لتطبيق تلك
مدينون لفاروق عبدالقادر وق ّل وجود له من النقاد يف املعايري ال�صارمة فيما كتب ،فنقده وا�ضح جلي ،ولغته
ك�رسطوق التهمي�ش والإبعاد الذي كان معرو�ضا على عذبة �سل�سة بليغة تغريك بقراءة املقال �أو الكتاب كمتعة
كتابتنا فقد كان هو املبادر دائما �إىل تقدمي �أعمالنا �أدبية يف ذاتها ،وثقافتة الغزيرة تتبدى يف كل �سطور
بحما�س ،فهو الذي كان يتابع �أوال ب�أول �أعمال حممد كلماته ،وهو يجاهر ب�آرائه بكل ج�سارة غري مبال
الب�ساطي و�إبراهيم �أ�صالن وعالء الديب وجميل عطية ب�سخط البع�ض �أو بعداء �آخرين من ذوي النفوذ.
�إبراهيم ويحيى الطاهر عبداللـه وحممد ناجي ناقد مثل هذا كان جديرا ب�أن يحتل مكانا بارزا يف
وكاتب هذه ال�سطور وغرينا من الروائيني فاروق بني �صدارة امل�شهد الأدبي منذ البدء ،غري �أن ما لقيه منذ
الذين عرفوا بجيل ال�ستينيات يف النقد قلة من البدء كان اجلحود والإنكار ،منذ حرم من حقه يف
وال�شعر (وبالذات �أمل دنقل) و�أنا مدين له من�صب اكادميي كان ي�ستحقه بعد تخرجه يف اجلامعة
النقاد مل
ب�شكل خا�ص لأنه مل يرتك تقريبا �أي جمموعة بتقدير متفوق جدا ،وكانت حينها ميوله ال�سيا�سية
ق�ص�صية �أو روائية يل �إال وكتب عنها فور يعترب م�صر املتطرفة ،غري �أن حجج ًا �أخرى كانت جاهزة دوما
�صدورها .وقد كرمني و�رشفني كثريا حني هي م�ساحة ملطاردته و�إبعاده عن كل موقع ثقايف �أو �صحفي عمل
اختار يف ا�ستطالع �صحفي روايتي «احلب يف به ،حيث كان م�صريه يف كل مرة الإبعاد عن العمل فال
عمله النقدي
املنفى» واحدة من �أف�ضل ع�رش روايات عربية يجد له مالذا �إال �شوارع القاهرة مثلما كتب.
الوحيدة فهو يف القرن الع�رشين. ويف مواجهة هذا امل�صري كان من الطبيعي �أن يدفعه
و�أنا مدين بهذا الف�ضل لفاروق عبدالقادر كاتب عروبي االحباط والنكران �إىل العزوف عن العمل والتقوقع على
ومدين له ب�أنه تذكرين حني ن�سيني النا�س بامتياز الذات ،لكن رد فعل فاروق كان عك�س ذلك بال�ضبط ،فقد
وكتب عني يف �سنوات غربتي التي كدت �أ�صبح انغم�س يف العمل ،وخلف تراثا نقديا غزيرا من الكتب
فيها جمهوال يف م�رص فعل ذلك معي وفعله امل�ؤلفة واملرتجمة� ،أح�سبها �ستظل مرجعا لكل مهتم
مع غريي يف �سنوات ال�شتات ال�صعبة التي تعر�ض لها بدرا�سة الأدب العربي �إبداعا ونقدا مما �أثرى به فاروق
كتاب م�رص يف ال�سبعينيات والثمانينيات. املكتبة العربية على مدى ن�صف قرن من العمل الد�ؤب
وكم حز يف نف�سي بعد ذلك �أن الكثريين حتى ممن وقف و املثمر.
بجانبهم يف �أ�صعب الظروف قد جحدوه حيا وميتا ال وفاروق بني قلة من النقاد مل يعترب م�رص هي م�ساحة
�أظنه كان يريد من �أحد جزاء وال �شكورا وهو الذي اختار عمله النقدي الوحيدة فهو كاتب عروبي بامتياز ،وكان
كما قلت �أن يعي�ش وحيدا وميوت وحيدا ولكن العزاء �أن �سفري النقد امل�رصي لدى وطنه العربي ،فقدم بحما�سة
�أذكر كلمات �صديقه و�شاعره االثري �صالح عبدال�صبور واجتهاده املعروفني �أهم �أعالم الأدب العربي ويكفي
عن �أن للكلمات حياة ،و�أنها تعي�ش بعد �أن نفنى وما هنا �أن �أ�شري �إىل دوره البارز يف عر�ض �إنتاج الكاتب
�أجدر كلمات فاروق عبدالقادر ب�أن تعي�ش طويال وب�أن العربي الكبري عبدالرحمن منيف ومتابعة �أعمال
ت�ساعدنا كثريا. امل�رسحي ال�سوري البارز �سعد اللـه ونو�س اللذين
�أ�صبحا بنقل كتاباته جنمني يف �سماء الأدب يف م�رص
25 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر ..
�شهادة من قريب /بعيد
�صــربي حــافـظ
ناقد و�أكادميي من م�رص
uطوال حياته مل يهادن الف�ساد القائم مهما ت�سلح ب�سطوة ال�سلطة �أو
ال�شهرة الزائفة �أو بهما معا ،كما هو احلال يف �أغلب معاركه u
26
فاروق عبدالقادر
s
s
s
كربيات املجالت ال�شهرية امل�رصية من ناحية �أخرى. وكانت القاهرة يف تلك الأيام عامرة باملنابر الثقافية
ومل يكن بهاء طاهر قد بد�أ يكتب وقتها ق�ص�صه الق�صرية املختلفة �سواء �أكانت ن��دوات �أ�سبوعية �أو جمالت �أو
الالمعة التي جمعها مع مطلع عقد ال�سبعينيات اللعني جل�سات درد�شة �أدبية يف املقاهي (مقاهي �إيزافيت�ش،
يف جمموعته الأوىل الالفتة (اخلطوبة) ،والتي �أظن �أن وري�ش ،و�إنديانا) ،وكنت �أت��ردد عليها ب�شكل منتظم،
اال�ستقبال النقدي املتحم�س لها ،مع ت�صاريف حياتية و�ألتقي به يف بع�ضها ملاما .وكان للحركة الثقافية
�أخرى حرمته يف عقد ال�سبعينيات احلزين من �أن يبقى امل�رصية ،والعربية من ورائها ،حراكها اخل�صب الذي
يف برناجمه الثاين �أو بالقرب من امل�رسح الذي حر�ص يفرز �إىل جانب املبدعني يف خمتلف الأجنا�س الأدبية
على متابعته ،و�شتتت الكثريين يف املنايف العربية نقاده .وكانت بطبيعتها تركز على الراهن الأدب��ي
والأوروبية� ،شجعه على االن�رصاف عن النقد امل�رسحي، والثقايف وتتابع �أحدث ما ي�صدر عنهما من ن�صو�ص
وتكري�س جهده للق�صة الق�صرية وال��رواي��ة ف�أحتفنا و�أعمال و�إجنازات.
فيهما بالكثري من الأعمال املرموقة والباقية.
وكانت ال�صفحة الأدبية جلريدة (امل�ساء) والتي كان
لكن فاروق عبدالقادر ،ومعه �سامي خ�شبة �إىل حد ما، ي�رشف عليها الراحل الكبري عبدالفتاح اجلمل ،وهو
ا�ستمرا يف الرتكيز على امل�رسح نقدا وترجمة ،بينما باملنا�سبة كاتب موهوب كبري ذو ح�سا�سية مده�شة
وجهت �أنا اهتمامي للق�صة والرواية وال�شعر ،بالرغم للغة ،تتجلى يف �أعماله القليلة التي خلفها لنا ،وخا�صة
من درا�ستي للم�رسح و�إ�صدار �أول كتاب يل فيه (م�رسح (اخل��وف) و(حم��ب) ،لكنه كر�س معظم عقد ال�ستينيات
ت�شيخوف) عام .1973فقد كان عقد ال�ستينيات هو الكت�شاف مواهب الآخرين الأدب��ي��ة ،وال�شباب منهم
عقد ازده��ار امل�رسح امل�رصي قبل �سقوطه املمنهج خا�صة ،والدفع بها �إىل قلب احلياة الثقافية .وكانت
يف العقد التايل ،وهي امل�س�ألة التي �ست�صبح مع نهاية
ح�سا�سيته الأدب��ي��ة وق��درات��ه اال�ست�رشافية هي التي
هذا العقد ال�سبعيني التعي�س عنوانا لأول كتاب نقدي
مكنته من �أن يفتح �أبواب تلك ال�صفحة ملواهب ن�رش لها
له( :ازدهار و�سقوط امل�رسح امل�رصي) .1979وحاول
لأول مرة ،و�أ�صبح لها �ش�أن كبري فيما بعد ،من �أمثال
وقتها �أن يجد له موطئ قدم دائم ،لأنه كان قد تخلى
حممد الب�ساطي و�إبراهيم ا�صالن و�أمل دنقل وحممد
مبكرا عن الوظيفة احلكومية امل�ضمونة ،يف �أي من
عفيفي مطر ويحيى الطاهر عبداللـه وحممد حافظ
املنابر ال�صحفية التي كانت حتتفي بالنقد امل�رسحي
رجب وعبداحلكيم قا�سم وجميد طوبيا وجميل عطية
وقتها؛ حينما كان كل مو�سم م�رسحي ي�شهد عددا من
�إبراهيم وغريهم .و�أذك��ر� ،إن مل تخني الذاكرة وهي
الأعمال اجلديدة ملن �أ�صبحوا بعد ذلك عمد امل�رسح
بطبعها خ�ؤون� ،أن فاروق عبدالقادر بد�أ يف ن�رش بع�ض
امل�رصي :من يو�سف �إدري�س �إىل نعمان عا�شور و�ألفريد
فرج وعبدالرحمن ال�رشقاوي ولطفي اخلويل و�سعدالدين الرتجمات الق�صرية يف �صفحة «امل�ساء» الثقافية تلك،
وهبة ،ف�ضال عن �أعمال رائده الكبري توفيق احلكيم .ثم مع ناقد �آخر كان يجيد الرتجمة من �أبناء جيلنا رحل
بزغت فيه �أي�ضا �أعمال اجليل التايل الذي كان �أبرز مبكرا هو حممد عبداللـه ال�شفقي.
كتابه و�أكرثهم موهبة و�أعمقهم �إ�سهاما حممود دياب ثم بد�أ يكتب فيها عن امل�رسح امل�رصي يف وقت كان
وجنيب �رسور وميخائيل رومان و�صالح عبدال�صبور. جنم النقد امل�رسحي وقتها هو بهاء طاهر ،الذي كان
لكن فاروق عبدالقادر فيما يبدو مل ي�ستطع �أن يوفر يكرب فاروق بثالثة �أعوام ،وقد ر�سخ قبله قدمه كمخرج
لنف�سه هذه الوظيفة الدائمة ،وظل يتنقل من منرب لآخر. م�رسحي موهوب للم�رسحيات العاملية يف الربنامج
برغم حر�صه على الكتابة ال�صحفية اجلادة ،ولي�س على الثاين الذي كان من �أرقى املنابر الثقافية يف هذا العقد،
كتابة الدرا�سات الطويلة التي ت�صلح للمجالت ال�شهرية وكمقدم لربناجمه الأ�سبوعي عن امل�رسح وال�سينما من
�أكرث منها لل�صحف والدوريات الأ�سبوعية ،والتي ركزت ناحية ،وكناقد متميز للم�رسح امل�رصي يكتب عنه يف
27 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
الأدبية املختلفة من م�رسح وق�صة و�شعر ورواية تفرز منذ بداياتنا الباكرة ن�رشي فيها .وكان هناك فرق �آخر،
كتابها جيال بعد جيل ،كان كل جيل من هذه الأجيال �أدرك الآن و�أنا �أ�ستدعي الذكريات ،بيني وبينهما هو
يفرز هو الآخر نقاده ،الذين يواكبون �أعمال جمايليهم االهتمام بق�ضايا املنهج النقدي منذ �أن ن�رشت درا�سة
من الكتاب بح�سا�سية طالعة من نف�س البوتقة الثقافية طويلة بعنوان «البحث عن منهج يف نقد ال�شعر احلديث»
التي تبلورت فيها ح�سا�سيتهم ،و�صدرت عنها الأعمال يف ملحق جملة (الطليعة) الأدبي .ورمبا هذا االهتمام
التي ينقدونها. باملنهج هو الذي قادين للعمل باجلامعة بينما بقيا
و�أ�ستطيع القول وقد �أم�ضيت زهرة العمر ناقدا فاعال معا حتى رحيلهما يف وقت متقارب يعمالن يف احلياة
يف هذا احلراك الثقايف يف م�رص ويف ال�ساحة العربية الثقافية ،وين�أيان بنف�سيهما عن �أو�ساخها ،ويحر�صان
الوا�سعة من ورائها ،وتكونت ثقافيا يف �سياقهما ،قبل على البقاء بعيدا �إىل حد ما عن امل�ؤ�س�سة الثقافية
�أن تق�ضي ت�صاريف عقد ال�سبعينيات اللعني ب�أن �أم�ضي الر�سمية التي كانت ت�سوخ �أقدامها بوتائر مت�سارعة يف
بقيته يف قاعات الدر�س باجلامعة (وهي حل�سن احلظ وهاد الف�ساد والتبعية والرتدي والهوان.
اجلامعة الغربية يف �أبهى �صورها ،ولي�ست اجلامعة
امل�رصية يف ع�صور انحطاطها) �أن احلركة الأدبية احلركة الأدبية ..وركود اجلامعة وعقمها:
والثقافية �أكرث حيوية و�أ��سرع تفاعال مع الن�صو�ص �إذن فقد كنا ثالثتنا ،ف��اروق و�سامي و أ�ن��ا ،من نقاد
اجلديدة من احلركة اجلامعية .و�أنها �أحر�ص منها ه��ذا اجليل ال��ذي��ن خ��رج��وا م��ن ح��راك��ه الثقايف ومن
على التجديد والتجريب ،و�أ�شد منها عزوفا عن التكرار معمعة حركته الأدبية وهي تتخلق وتبلور ر�ؤاها ،ومل
والتلقني� .صحيح �أن الفجوة بني احلركتني �أقل منها يهبطوا عليه من قاعات الدر�س باجلامعة بقفازات
يف الغرب عما هي عندنا يف عاملنا العربي ،و�أن منهجية معقمة وعقيمة .وق��د ك��ان يف م�رص على
ا�ستقرار التقاليد يف الواقع الغربي ،وتعزز قيم احلرية مد م�سرية حراكها الثقايف احلديث فرق �شا�سع بني
فيه ،وا�ستقالل امل�ؤ�س�ستني الثقافية واجلامعية معا عن احلركة الثقافية التي تت�سم بحرية �أكرب ،و�إيقاع �أ�رسع
ال�سلطة ،يجعل احلراك فيهما متقاربا ومتناظرا ،على يف اال�ستجابة للن�صو�ص والأعمال اجلديدة ،وب�سقف
العك�س مما هو عليه يف عاملنا العربي ،الذي ت�سيطر فيه مطامح �أعلى ،وبني الدر�س اجلامعي للأدب والثقافة
امل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية كلية على اجلامعة ،وت�سعى لفر�ض يف قاعات املحا�رضات وال��ذي ك��ان مت�أخرا عنها
�سيطرتها على احلركة الثقافية بال�رشاء واالحتواء بعقود .فطوال عقد ال�ستينيات وال�سبعينيات مثال كانت
و�إدخ���ال املثقفني احل��ظ�يرة� .إال �أن غياب ا�ستقالل اجلامعة امل�رصية ال ت�سمح بدرا�سة �أعمال �أي كاتب �إال
اجلامعة يف م�رص ،ويف العامل العربي من ورائها ،هو بعد �أن يواريه الرثى .وكان اجليل ال�سابق علينا ،والذي
ما يربز الفارق الكبري بني احلركتني ويو�سع الهوة ميكن جمازا ت�سميته بجيل اخلم�سينيات قد �أفرز نقاده
بينهما؛ كما �أنه يتيح الفر�صة ملحدودي املوهبة للعمل هو الآخر ،وكان �أبرزهم رجاء النقا�ش ،وحمي الدين
يف اجلامعة ،بينما ال ي�ستطيع �أغلبهم ال�صمود لآليات حممد ،وف�ؤاد دوارة .وهو اجليل الذي ت�سلم الراية من
الفرز احليوية يف احلركة الثقافية .ولي�س �أدل على ذلك حممد مندور و�أنور املعداوي بعد �أن �أجربتهما الظروف
من �أنه بينما حتفل اجلامعات امل�رصية بالع�رشات من على ال�صمت والرحيل املبكر ،وعلي الراعي الذي �سافر
الذين يدر�سون الآداب املختلفة فيها ،ف�إن من ي�ستطيع للعمل يف اخلليج ،وحممود �أمني العامل وعبدالعظيم
منهم دخول معرتك احلياة الأدبية �أو الثقافية ،و�إثبات �أني�س اللذين اعتقال يف نهاية عقد اخلم�سينيات ،و�أم�ضيا
نف�سه فيها� ،أقل من القليل النادر .وهذا على عك�س ما يف املعتقل �سنوات غري قليلة .فقد كان للحركة النقدية
ن�شهده يف اجلامعات مثال ،ب�سبب متتعها با�ستقالل عنفوانها الذي ال يقل عن عنفوان احلركة الأدبية نف�سها،
ن�سبي من ناحية ،و�رصامة �آليات الفرز العلمي والبحثي باعتبارها جزءا ع�ضويا منها .فكما كانت الأجنا�س
28 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
الناقد الأدبي امل�رصي الوحيد ،من بني نقاد جيلي ،الذي فيها من ناحية �أخرى.
عا�ش طوال حياته من قلمه وحده ،ومل يعمل معه عمال ف�إذا كان ممكنا �أن يحافظ مثقف يف احلركة الأدبية
�آخر� ،سواء �أكان عمال حكوميا �أو �صحفيا منتظما كما على ا�ستقالله ،ب�شق الأنف�س كما فعل فاروق عبدالقادر،
كان احلال مع �سامي خ�شبة .كما �أنه كحفنة قليلة من و�أن ين�أى بنف�سه عن �أدرانها ،ويقاوم �إغراءات ال�رشاء
�أبناء هذا اجليل (مثل �صنع اللـه �إبراهيم وحممد الب�ساطي، واالحتواء ،ف�إن هذا ا ألم��ر يو�شك �أن يكون م�ستحيال
و�أمل دنقل وحممد عفيفي مطر) حافظ على ا�ستقالله عن يف اجلامعة .ولنا يف مثال العامل الكبري جمال حمدان
امل�ؤ�س�سة التي كانت تزداد مع مر الأيام رداءة وترديا، دليال على ا�ستحالة اجلمع بني االثنني :ا�ستقالل الفكر
وحر�ص على االبتعاد عنها .ب�صورة �أ�صبح معها ممثال والر�أي والعمل يف اجلامعة ،حيث ا�ضطر العامل الكبري
ل�ضمري احلركة الثقافية والأدب��ي��ة .يراكم با�ستقالله �إىل ت��رك اجلامعة ،وه��و يف �أوج العطاء ،كي يبدع
ومواقفه احلادة من تردي امل�ؤ�س�سة الثقافية ويحافظ على ا�ستقالله الفكري واملنهجي .هذا ف�ضال
حر�صه على
الر�سمية خا�صة ،ر�أ�سماله الرمزي ،ويكر�س عن �أن دوافع احلراك الثقايف واملهني تت�سم يف احلركة
مكانته يف الواقع الأدبي امل�رصي الذي كان ا�ستقالله الأدبية بقدر �أكرب من ال�صحية .فال جمال فيها للبحث
يزداد تهمي�شا وحما�رصة� ،أمام ت�صاعد معدالت الثقايف مكنه عن الرتقي باال�ستجابة ل�رشوط امل�ؤ�س�سة العقيمة ،و�إمنا
االحتواء .وخا�صة يف العقدين الأخريين من املجال مفتوح فيها للموهوبني القادرين على الإبداع
حياته حينما �أ�صبح جابر ع�صفور �أداة احتواء من �أن ي�صبح
والت�أثري ،والذين حتركهم دواف��ع حب ما يقومون به
املثقفني الفعالة ،و�إدخالهم كال�سوائم �إىل �أحد �أبرز و�إخال�صهم له ولأفكارهم ور�ؤاه��م حوله ،ولي�س فقط
رموز مقاومة حظرية وزيره فاروق ح�سني. دوافع العمل والرتقي .وال يعني هذا �أن احلركة الثقافية
وقد مكنه حر�صه على ا�ستقالله الثقايف من �أن تفتقر لآليات الفرز ومتحي�ص املكانات ،لأن حيازة
الف�ساد الثقايف ر�أ�س املال الثقايف� ،أو ر�أ�س املال الرمزي كما ي�سميه
ي�صبح �أحد �أبرز رموز مقاومة الف�ساد الثقايف
يف م�رص يف العقدين الأخ�يري��ن من حياته يف م�صر عامل االجتماع الفرن�سي الكبري ببري بورديو ،تخ�ضع
خا�صة ،و�أن يحقق مكانته الفريدة يف الواقع فيها ملعايري احلكم الثقايف املفتوح ،ولأحكام القراء
الثقايف امل�رصي ،ويف ال�ساحة العربية الوا�سعة والكتاب املتحققني منهم واملحتملني ،وهي قواعد �أكرث
من ورائ��ه ،فقد كان كجل �أبناء جيلي عربي الثقافة تعقيدا و�رصامة من قواعد الرتقي يف اجلامعة ،والتي
ولي�س م�رصيها فح�سب .يعي وح��دة الثقافة العربية تت�سم يف جل اجلامعات امل�رصية خا�صة بالكثري من
ويعزز تلك الوحدة بكتاباته واهتماماته .وقد ا�ستمر التخلف والف�ساد.
هذا الوعي واكت�سب �أبعادا �أعمق يف عقدي ال�سبعينيات �إذن ففاروق عبدالقادر ابن هذه احلركة الثقافية التي
والثمانينيات ،وبعد �أن باع ال�سادات الق�ضية العربية لقاء ق�ضى فيها عمره الأدب��ي ،ومل يغادرها �أو ي��زاوج بني
�سالمه املغ�شو�ش مع العدو ال�صهيوين ،والذي انتهك به العمل فيها والعمل يف امل�ؤ�س�سة ال�صحفية كما فعل
�سيادة م�رص على �أر�ضها .وقاطع العرب م�رص الر�سمية، �سامي خ�شبة �أو اجلامعية كما ح��دث يل .وال��واق��ع �أن
فكانت كتابات فاروق عبدالقادر العربية عن �سعداللـه بقاء فاروق عبدالقادر ناقدا �أدبيا فاعال يف م�رص طوال
ونو�س وعبدالرحمن منيف وحيدر حيدر وف�ؤاد التكريل حياته ،مل يخرج منها كما خرج كثري من املثقفني منها
وغريهم ،والتي ت�صدر من قلب م�رص وقت مقاطعة العرب �إبان املناخ الطارد ،جعله من �أهم الذين ميكن �أن نر�صد
لها ،ورف�ضهم لتوجهاتها اخلرقاء نحو �أعدائها ،عالمة من خالل �أعمالهم حراكها .حيث يو�شك �إنتاجه النقدي،
بارزة على �سالمة الثقافة امل�رصية ،حينما ينتاب اخللل �صعودا وهبوطا� ،أن يكون ترمومرت تلك احلركة ،ودليال
ال�سا�سة وال�سيا�سة. دامغا على الكثري مما جرى فيها� .إذ يو�شك �أن يكون
29 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
و�أذكر �أنني يف مطلع ال�سبعينيات ،وبعد جرمية �سهري فاروق عبدالقادر ..وبداية دور منتظم:
القلماوي يف �إزاحة الراحل الكبري يحيى حقي بطريقة قلت ان ف���اروق عبدالقادر ب��د�أ حياته النقدية يف
خ�سي�سة من جملة (املجلة) التي كنت �أعمل فيها معه، �ستينيات القرن املا�ضي بالرتكيز على النقد امل�رسحي،
و�إغ�ل�اق كل املجالت الأدب��ي��ة (الر�سالة ،والثقافة، يف واحدة من �أزهى فرتاته .وقد �ساعده يف الرتكيز على
والق�صة ،وال�شعر ،والفنون ال�شعبية ،وعامل الفكر ،وعامل النقد امل�رسحي �أمران� :أولهما �أن جملة (امل�رسح) التي
الكتب ،وامل����سرح ،وال�سينما)� ،أن طلبتني �أ�ستاذتي �أ�س�سها ر�شاد ر�شدي ،وبنى جمدها الأول على �أكتاف
الراحلة الكبرية لطيفة الزيات للعمل معها يف حترير تالميذه غري املوهوبني ممن كنا ندعوهم يف الواقع
امللحق الأدبي ملجلة (الطليعة) ال�شهرية الذي اقرتحته الثقايف امل�رصي وقتها بحملة حقيبة ر�شاد ر�شدي،
هي على لطفي اخلويل كي ي�سد الفراغ الذي �أحدثته تلك كانت قد �أُغ ِلقت ،قبيل �أو بعد �صدمة هزمية
الهجمة الظالمية ،وكانت ت�صدر عن م�ؤ�س�سة (الأهرام)،
يعرف اجلميع 1967امل�صمية التي �أ�صابت الواقع الثقايف
الأمر الذي حماها من خمططات الإ�سالميني بزعامة
كم كان عقد امل�رصي والعقل العربي من ورائه بالدوار.
حممد عثمان ا�سماعيل ال�ستئ�صال الثقافة والع�صف
وحينما �أعيد �إ�صدارها بعد النك�سة بعام �أو
باملثقفني .وبعد �أن عملت بهذا امللحق ،ال��ذي لعب
ال�سبعينيات عامني ،وتوىل رئا�سة حتريرها كل من �صالح
دورا مهما يف �إب��راز جيل ال�ستينيات اجلديد وقتها
يف م�صر رديئا عبدال�صبور و�سعدالدين وهبة ،اختارا فاروق
وت�سليط ال�ضوء على �أعماله ،ملدة عامني� ،أخذ املناخ
عبدالقادر �سكرتريا لتحريرها .مما وفر له
الطارد وقتها يع�صف تدريجيا ب�أع�ضاء جلنة حتريره، وع�صيبا على
فيغادرون م�رص واحدا بعد الآخر .حتى مل يبق منهم منربا ودورا يف متابعة ال��واق��ع امل�رسحي
�سواي .وفج�أة جاءتني فر�صة غري متوقعة لل�سفر �إىل الثقافة ب�شكل �شهري ا�ستمر لعامني �أو ثالثة .لكن
بريطانيا ،بف�ضل مبادرة كرمية من علم الدرا�سات الأمر مل يطل ،ف�رسعان ما ع�صفت بها �أوىل
العربية احلديثة فيها الدكتور حممد م�صطفي بدوي. �رضبات ال�سادات املبكرة للمثقفني ،بعد مظاهرات
وطلب مني لطفي اخلويل �أن �أر�شح له من يحل مكاين يف الطلبة ال�شهرية عام ،1972والتي خلدها �أمل دنقل يف
هذا امللحق ،وفاحتت فاروق عبدالقادر يف الأمر فرحب ق�صيدته ال�شهرية «الكعكة احلجرية» .وهي ال�رضبات
به ،ور�شحته للطفي اخلويل .وا�ستلم فاروق العمل يف التي هند�سها الإخواين البارز ،حممد عثمان ا�سماعيل،
ملحق الطليعة الأدبي مني يف مار�س عام ،1973وهو وبد�أت بها عملية تخليق مناخ طارد لكل ما هو عقالين
ال�شهر الذي غادرت م�رص يف نهايته ،ومل �أعد لها �إال وعلماين وي�ساري .جتلى يف ف�صل الكثري من املثقفني
بعد �ست �سنوات (عام )1979جرت خاللها مياه �آ�سنة من �أعمالهم ،وفتح املجال �أم��ام �أ�ساتذة اجلامعة
كثرية حتت اجل�رس .وكان هذا العمل الذي ا�ستمر لنحو العقالنيني ،والي�ساريني منهم خا�صة ،للخروج والعمل
ثالث �سنوات �أخرى ،بعد عمله يف حترير جملة (امل�رسح) يف اخلارج ،وا�ستخدام الإخوان واملت�أ�سلمني يف الق�ضاء
قبل �إغالقها ،هو �آخر عمل منتظم يقوم به فيما �أظن. على �أن ن�شاط طالبي عقالين �أو علماين يف اجلامعة،
خا�صة و�أن الأمر مل يدم لـ(الطليعة) �إال ل�سنوات قالئل وطرد املثقفني وكل النا�شطني ذوي امليول العقالنية
حيث ع�صف بها راح��ل �آخ��ر كان له مل��رارة املفارقة �أو القومية ناهيك عن الي�سارية ،و�إح�لال الإخ��وان
دور بارز يف الثقافة امل�رصية �إبان ازدهارها الكبري واملت�أ�سلمني حملهم يف ال�صحافة والثقافة واجلامعة.
يف �ستينيات القرن املا�ضي ،لكنه لعب دورا بارزا ،دفع وهي الإجراءات التي �أدت �إىل �إغالق ت�سع جمالت �أدبية
ثمنه حياته ،يف التحول الرديء لها يف الن�صف الثاين غبي واح��د ،و�إيقاف الن�رش يف هيئة وثقافية بقرار ّ
من �سبعينياته ،هو يو�سف ال�سباعي. الكتاب ،وحتويلها على يدي مديرها حممود ال�شنيطي
ويعرف اجلميع كم ك��ان عقد ال�سبعينيات يف م�رص �إىل مطابع جتارية.
30 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
�أواخر الثمانينيات .و�صاحب ذلك عامل �آخر هو ازدياد رديئا وع�صيبا على الثقافة ،مبعناها ال�ضيق الذي
معدالت الت�ضخم وارتفاع �أ�سعار كل �شيء ،وانخفا�ض ي�شمل كل الأن�شطة الأدبية والفنية وامل�رسحية (كان
م��ردود العمل الثقايف وت�ضا�ؤله امل�ستمر يف الوقت هذا هو عقد حرق امل�سارح يف ليلة افتتاح عرو�ضها
نف�سه .ب�صورة بدا معها وك���أن هناك عملية جهنمية اخلالفية) ،ومبعناها الوا�سع الذي ميتد �إىل منظومة
لتهمي�ش املثقف امل�ستقل والثقافة امل�ستقلة ،على القيم االجتماعية والأخالقية والفكرية .فقد كان العقد
ال�صعيدين االجتماعي واالقت�صادي معا .وهو الأمر الذي تنامى فيه زحف الظالم على م�رص ،وبد�أت فيه
الذي تزامن مع الهجمة ال�رش�سة على الطبقة الو�سطى عملية �إ���س��دال احلجاب املنظمة على وج��وه الن�ساء،
وقيمها التحديثية ،ل�صالح «�سعودة» م�رص والهجمة وعلى عقول الرجال معا .وهي العملية التي كان ر�أ�س
الظالمية الوهابية عليها .كما تزامن هذا الرتدي ثقافيا حربة عملية �سعودة� ،أو بالأحرى �سعدنة م�رص ،فيها
مع ا�ضطالع الهوام�ش النفطية بدور ثقايف حتل فيه هو حممد متويل ال�شعراوي بعطاياه ال�سخية لتحجيب
مكان املركز مبجالت �صقيلة خاوية ،رف�ض فاروق الفنانات .وما �صاحبها من ع�صف بدور م�رص كمركز
عبدالقادر �إغ��راءات اال�ستدراج للكتابة فيها ،بنف�س �أ�سا�سي للثقافة العربية ،ولقوة م�رص الناعمة .يف هذا
ال�رصامة التي رف�ض بها عمليات امل�ؤ�س�سة الثقافية العقد الع�صيب ،وخا�صة يف ن�صفه الأخري ،بد�أت م�شاكل
امل�رصية الحتوائه كالكثريين .و�إن در أ� عن نف�سه عوادي فاروق عبدالقادر يف التفاقم .فبعد �أن كان ي�سريا على
الزمن الرديء بالرتجمة. مثقف م�ستقل يف واقع ي�سود فيه مناخ يت�سم باحلد
وقد انفقت الق�سم الأكرب من عقد الثمانينيات بني م�رص الأدنى من العقالنية ،فلم يكن املناخ الثقايف يف عقد
واملنايف الغربية ،قبل �أن ي�ستقر بي املقام كلية يف ال�ستينيات مثاليا �إذ �شهد اعتقال الكثري من مثقفي
لندن ابتداء من عام .1987وكان ف��اروق يطلب مني م�رص ومبدعيها� ،أن يعي�ش حياة كرمية يقب�ض فيها
كلما �سافرت �أن �أجلب له كتبا ت�صلح للرتجمة ،وتتفق على ا�ستقالله ونزاهته كالقاب�ض على اجلمر� .أ�صبح هذا
مع توجهاته النقدية والفكرية .وقد ترجم بالفعل من الأمر �أ�شد �صعوبة يف الن�صف الثاين من ال�سبعينيات
بني ما جلبت له من كتب كثرية كتابي بيرت بروك (نقطة والن�صف الأول من الثمانينيات ،وقبل وفود فاروق
التحول� :أربعون عاما من ا�ستك�شاف امل�رسح) ،1990 ح�سني �إىل امل�شهد الثقايف وبداية عمله الن�شيط ،هو
ورميوند وليامز (�سيا�سات احلداثة) .1996ومع ذلك وتابعه الهمام جابر ع�صفور ،يف �إخ�صاء الثقافة
كان يعاين كثريا من احل�صار االقت�صادي اخلانق ،فهو و�إدخال املثقفني للحظرية ،ح�سب تعبري �شهري له.
مل يهتم باحل�صار الثقايف ،بل حارب معركته مع الف�ساد ومما زاد الأم��ر �صعوبة �أن هجرة املثقف بقلمه �إىل
الثقايف بب�سالة منقطعة النظري ،لكنني كنت �أدرك �أن الف�ضاء البريوتي احل��ر ال��ذي �شكل على مد �سنوات
احل�صار االقت�صادي �صعب .ولذلك ما �أن �أتيحت يل فر�صة ال�ستينيات ،وط��وال الن�صف الأول من ال�سبعينيات
للتحكيم يف جائزة �سلطان العوي�س ،وكان قد تقدم لها، متنف�سا للكثريين ،انتفت �أو �أ�صبحت �شبه م�ستحيلة
حتى حر�صت على �أن مينح هذه اجلائزة .فح�صل على بعد الع�صف ببريوت ،كمركز ث��انٍ للثقافة العربية
جائزة النقد منا�صفة مع الناقدة اللبنانية الكبرية مينى بعد القاهرة ومعها ،باندالع احلرب الأهلية اللبنانية
العيد عام ،1992لي�س فقط لأنه جدير بها ومبا تنطوي (� .)1990 – 1975صحيح �أن فاروق عبدالقادر هاجر
عليه من ر�أ�سمال رمزي ،ولكن �أي�ضا لأنه كان يف حاجة بقلمه كثريا ط��وال الثمانينيات ،وكتب يف ال�صحف
�إىل تعزيز ا�ستقالله االقت�صادي ،حتى يوا�صل الذود واملجالت البريوتية والقرب�صية بعد اجتياح بريوت،
عن ا�ستقالله الثقايف بج�سارة �أك�بر ،ودون �أي ح�ساب �إال �أن ما �ضاعف من حدة احل�صار ال��رديء حوله هو
للعائد املادي .لأنني من الذين يعتقدون �أن اال�ستقالل عملية ت�ضييق اخلناق على املثقف امل�ستقل يف م�رص،
االقت�صادي للمثقف هو الأ�سا�س املتني لأي ا�ستقالل والتي بد�أت منذ تويل فاروق ح�سني وزارة الثقافة يف
31 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
منذ �إزده��ارت��ه الكبرية يف ال�ستينيات ،وحتى �أف��ول فكري �أو ثقايف .لكن فاروق عبدالقادر مل يكن من الذين
جنمه كلية مع نهاية القرن الع�رشين .و�إذا ما �أ�ضفنا يقيمون العتبارات احلياة املادية �أي ح�ساب .فبدد مال
�إليهما كتابه الثالث (نافذة على م�رسح الغرب :درا�سات اجلائزة يف �أعوام قليلة ،بدال من ا�ستثماره فيما ي�ضمن
وجتارب) ،1987وكتابه ال�صغري عن م�رسح �سعداللـه له عائدا ي�سد احتياجاته املادية املتفاقمة مع ارتفاع
ونو�س (من �أوراق الت�سعينيات :كرا�سة �سعداللـه ونو�س الأ�سعار وت�ضا�ؤل مردود العمل الثقايف اجلاد.
و�أعمال أ�خ��رى) ،2000ف�ضال عن عدد من الف�صول، الناقد امل�رسحي ب�ين امل����سرح امل����صري والغربي:
�أو بالأحرى املقاالت عنه ،يف كتبه التالية� ،سنجد هم ف��اورق وغرامه النقدي كان بامل�رسح الذي لكن ّ
�أننا ب�إزاء �أعمال ناقد ر�صد حتوالت امل�رسح امل�رصي وجد فيه حتققه حينما بد أ� ممار�سة العمل النقدي .وكما
والعربي بح�سا�سية نقدية فائقة .تعي �أن امل�رسح ن�ص كان العامل يتهاوى من حوله يف ثمانينيات القرن
درام��ي يف الأ�سا�س ،ولكنها ال تهتم مع ذلك بالن�ص وي�ضيق اخلناق عليه ،كان امل�رسح امل�رصيّ املا�ضي
وحده ،بل توجه الكثري من عنايتها جلماليات العر�ض �أي�ضا يتداعى .بعدما �أ�صيب يف عقدي الثمانينيات
امل�رسحي ومكوناته املختلفة من ت�صميم للم�شهد والت�سعينيات بال�سكتة الأكادميية على يد كتاب غري
ومتثيل و�إخراج. موهوبني مثل �سمري �رسحان وف��وزي فهمي وحممد
فقد كان النقد امل�رسحي م�رشوعه الأ�سا�سي� ،إذا ما عناين وغريهم .در�سوا امل�رسح ،وح�صلوا على �شهادات
�أردنا �أن نتحدث عن م�رشوع نقدي له .اهتم بتحوالته فيه ،ولكنهم �أخفقوا يف تقدمي درام��ا واح��دة �سيبقى
يف م�رص �أ�سا�سا ،ورفدها ببع�ض اال�ستق�صاءات عن لها �أثر يف امل�رسح امل�رصي .وكانت خدماتهم اجلليلة
امل�رسح العربي ،وعن �أكرث كتابه موهبة ،وهو �سعداللـه للم�ؤ�س�سة الثقافية الر�سمية وال�سيا�سية معا هي �سبيل
ونو�س .ب�صورة ال يكاد يفلت منها �شيء ذا بال ،حيث ن�صو�صهم الركيكة خل�شبة «امل�رسح القومي»� ،أعرق
يكتب عن بدايته عند �أبو نظارة يعقوب �صنوع (1839 م�سارح م�رص .وكانت جوقة من نقاد امل�ؤ�س�سة اجلدد
– ،)1912وعند جنيب الريحاين ،وجتلياته اجلديدة تروج �أعمالهم ،ولكن فاروق كان ومنافقيها قد �أخذت ّ
عند حممد �صبحي ،وعن بع�ض �شخ�صياته املن�سية لدي لهم باملر�صاد .وك�شف عن تدين م�رسحهم وركاكته،
منا�ضلة م�رسحية �سيا�سية مثل �سناء امل�رصي (1958 كما ك�شف من قبل عن تردي م�رسح كبريهم الذي علمهم
– .)2000كما يكتب عن مهرجان امل�رسح التجريبي ال�سحر ،ر�شاد ر�شدي .ومن يقر�أ كتابته ،وكتابات ف�ؤاد
يف م�رص ،ومهرجان بغداد امل�رسحي ،وغريهما من دوارة عن امل�رسح امل�رصي التي زاملتها ،يجد فيهما
املهرجانات. متابعة دقيقة لآليات �سقوط امل�رسح وترديه .وللعالقة
ثم عزز هذا كله بعدد من الرتجمات لبع�ض الدرا�سات اجلدلية امل�ضمرة بني تردي الواقع الثقايف وال�سيا�سي
النقدية يف امل�رسح الغربي املعا�رص ،ككتاب جيم�س وتدهور امل�رسح الذي ي�صدر عنه ،لأن امل�رسح من �أكرث
رو�س �إيفانز( ،امل�رسح التجريبي من �ستان�سالفي�سكي �إىل الفنون جمعية ،و�أحوجها ملناخ نقدي عقلي وحر.
اليوم) .1979وبعدد من الرتجمات لبع�ض الن�صو�ص والواقع �أن �أول كتب ف��اروق عبدالقادر النقدية ،فقد
امل�رسحية املهمة لتيني�سي وليامز (ليلة ال�سحلية، مار�س العمل النقدي طويال قبل �أن ي�صدر كتابه الأول،
وفرتة توافق) ،1964و�أنطون ت�شيخوف (بالتونوف (ازده��ار و�سقوط امل�رسح امل�رصي) ،1979وكتابه
�أو ف�ضيحة يف الريف) ،1968و�آرت��ور �آدام��وف (لعبة التايل (م�ساحة لل�ضوء ..م�ساحة للظل� :أعمال يف النقد
البنج – بوجن) � .1969صحيح �أنك ال جتد خيطا يربط امل�رسحي ،1986 )1977 – 1967ير�صدان هذا
بني اختياراته لرتجمة الن�صو�ص ،اللهم �إال الرغبة يف االزدهار وي�ؤرخان لل�سقوط ،ويقدمان �إ�سهامه البارز
تو�سيع �أفق معرفته بتقنيات الكتابة امل�رسحية لدى يف نقد امل�رسح امل�رصي ،وتتبع م�ساره عرب عدة عقود،
32 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
من ف�ساد واعوجاج� ،أكرث مما يهمه التحليل الن�صي عدد من كتاب امل�رسح املجيدين� ،أو با�ستق�صاءات
�أو املنهجي والتنظري .ولذلك ف���إن جل كتبه هي يف التجريب اجلديدة فيه لدى عدد �آخر� ،أو ببع�ض الدرا�سات
حقيقة الأم��ر جتميع لتلك املقاالت .با�ستثناء كتاب النقدية فيه كما هو احلال يف كتاب �إيفانز.
وحيد ،هو كتابه ال�صغري (البحث عن اليقني املراوغ: لكن �إ�ضافة فاروق عبدالقادر للنقد امل�رسحي يف جمال
قراءة يف ق�ص�ص يو�سف �إدري�س) ،1998وهو الكتاب الرتجمة ،والتي متيز بها وح��ده ،ورفد عربها �أدوات��ه
الوحيد الذي ميكن القول �أنه كتبه كدرا�سة مطولة عن النقدية املتعلقة بدرا�سة العر�ض امل�رسحي ،و�آليات
�أحد جوانب العامل الإبداعي الرثي لعمالق الأق�صو�صة التفاعل بني العر�ض وامل�شاهدين ،وق��دم بها خدمة
امل�رصية ،يو�سف �إدري�س ( ،)1991 – 1927و�إن مل كبرية لنقاد امل�رسح ودار�سيه ،تتمثل يف اهتمامه
ي�ستف�ض فيه بال�صورة التي تكفي كي ت�شغل حيز كتاب ب�أعمال املخرج والدراماتورج امل�رسحي االجنليزي
�صغري ن�سبيا ككتاب الهالل (� 150صفحة من كان امل�سرح الكبري بيرت بروك .وهو املخرج الذي �أقام معمال لدرا�سة
القطع ال�صغري)� ،أو كي ت�ستوعب كل �إنتاجه �آليات العر�ض امل�رسحي وحركيته ،والتعامل مع الف�ضاء
الق�ص�صي وحتوالت بنية الق�صة ور�ؤاها فيه .هو مركز اخلايل املجرد وج�سد املمثل ،يف باري�س منذ عقود .فقد
ف�أ�ضطر حتى يكمله �أن ي�ضم له ع��ددا من الثقل يف ترجم فاروق درا�سته الرائدة والتي �شكلت فتحا نظريا
ق�ص�ص يو�سف �إدري�س يف نهايته كنماذج وا�ستق�صاء معرفيا ب��ارزا يف جم��ال ت�صور العر�ض
خمتارة هي (يف الليل ،حادثة �رشف� ،صاحب �إجناز فاروق ً
احلركي ،وبلورة ماهية الظاهرة امل�رسحية ،وقدمها يف
م�رص ،اجلرح ،والعملية الكربى) والتي حتتل عبدالقادر كتابه العالمة (امل�ساحة الفارغة) عام ،1986ثم كتابه
النقدي ن�صف عدد �صفحات هذا الكتاب تقريبا. الكبري الذي جمع فيه الكثري من درا�ساته التايل (نقطة
وينق�سم الكتاب �إىل ثالثة ف�صول� :أولها: التحول� :أربعون عاما من ا�ستك�شاف امل�رسح) .1990
«نهايات وب��داي��ات ج��دل الفرد واجلماعة» وكان قد ترجم قبلهما م�رسحيته الوحيدة ( usنحن �أو
وال��ث��اين «ع��ن امل���ر�أة واجلن�س يف القرية واملدينة» �أمريكا) عام .1971ب�صورة ت�شكل معها ترجماته �أكمل
والثالث «عن الواقع وحتوالته :من واقع ما قبل 1952 تغطية يف العربية لأعمال هذا امل�رسحي الذي يعد �أحد
�إىل واقع ما بعد .»1967ومع �أن الكتاب ينطلق من �أبرز �أعالم امل�رسح الغربي املعا�رص.
تقدير حقيقي ملوهبة يو�سف �إدري�س الإبداعية الكبرية،
وخا�صة يف فنه الأثري ،فن الأق�صو�صة؛ وي�سعى لر�صد معايري التقييم وبنية الأوراق النقدية:
بع�ض الق�ضايا الأ�سا�سية التي طرحها يف �أقا�صي�صه؛ و�إذا ك��ان امل�رسح هو مركز الثقل يف �إجن��از ف��اروق
�إال �أن الرغبة يف التقييم /والتقومي ال تتخلى عنه .فال عبدالقادر النقدي ،ف���إن متابعة الأع��م��ال الإبداعية
ين�سى يف هذا الكتاب ال�صغري الذي يحتفي بق�ص�ص اجليدة ،امل�رصية منها والعربية ،والوقوف �ضد الف�ساد
يو�سف �إدري�س الق�صرية� ،أن يندد يف ف�صله الأول ببع�ض الثقايف وتعرية اال�ستهانة بالقيم الأدبية والأخالقية
�سلوكيات يو�سف �إدري�س العامة ،ومواقفه التي تتناق�ض منها على ال�سواء ك��ان �شاغله الثاين ،كناقد يطمح
مع ر�ؤيته احلقيقية امل�ضمرة يف �أعماله الإبداعية للعب دور يف �إر�ساء القيم النقدية والعقلية ال�سليمة
الباقية .وهي ال��ر�ؤى التي يهتم الكتاب بالك�شف عن يف واقعه ،ويدافع عن نقائها و�أخالقياتها .ذلك لأن
تفا�صيلها �أك�ثر من اهتمامه بتحليل ا�سرتاتيجيات فاروق عبدالقادر كاتب مقال نقدي يف املحل الأول،
الكتابة التي بلورتها� ،أو البنى الن�صية التي تنطوي ومراقب ذكي خمل�ص للحركة الأدبية والفنية امل�رصية
عليها .ف�آخر ما يهتم به فاروق عبدالقادر هو تناول والعربية ،ي�سعى لأن يلعب دورا فعاال فيها .هو دور
ال�شكل من فرط ان�شغاله بامل�ضمون .ناهيك عن الوعي ال�ضمري النقدي الذي يهمه التو�صيف والتقييم ،و�أحيانا
ب�أن لل�شكل الفني الذي يتبدل ويتغري ،يف الأعمال اجليدة ميتد التقييم ك��ي ي�صبح تقوميا وتقريعا مل��ا ي��راه
33 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
احلري�ص على نزاهته يف واقع يهرول �صوب الرتدي كي يبلور امل�ضمون ،حمتواه الفكري وامل�ضموين.
وال��ه��وان ،كالقاب�ض على اجلمر .ثم مرحلة «الثورة قلت أ�ن��ه با�ستثناء ه��ذا الكتاب ال�صغري عن يو�سف
املحا�رصة» واالختيار املر بـ«الرف�ض او القبول» حيث �إدري�س ،وهو اال�ستثناء الذي ي�ؤكد القاعدة وال ينفيها،
كان الفرز قا�سيا ي�ست�أدي املثقف ثمن مواقفه ،وقد بد�أ ف�إن كتب ف��اروق عبدالقادر املن�شورة هي جتميعات
الواقع ي�سفر عن �أكرث جتلياته قبحا وف�سادا ،مع مرحلة خمتلفة ملقاالته ومتابعاته ملا يدور يف احلركة الأدبية
الدخول يف «نفق معتم» ،ت�ضيئه بالكاد «م�صابيح والثقافية .ابتداء بـ(�أوراق من الرماد واجلمر) ،1988
قليلة» ،و�صوال �إىل ان�سداد الأفق كلية بعد «غروب �شم�س وانتهاء بـ(من �أوراق نهاية القرن :غروب �شم�س احللم)
احللم» مع مطالع القرن اجلديد. ،2002مرورا بـ(ر�ؤى الواقع وهموم الثورة املحا�رصة)
الت�صور املنهجي التقييمي املغاير: ،1989و(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر :متابعات
م�رصية وعربية ،1990 )1989 – 1986و(من �أوراق
ولنت�أمل معا كيف تبلور مقدمة كتاب (�أوراق �أخرى
الرف�ض والقبول :وجوه و�أعمال) ،1992و(من �أوراق
من الرماد واجلمر :متابعات م�رصية وعربية 1986
الت�سعينيات :نفق مظلم وم�صابيح قليلة) .1996
– ،)1989القاهرة ،م�ؤ�س�سة العروبة للطباعة،1990 ،
ويالحظ من يت�أمل عناوين هذه الكتب جميعا �أنها
بع�ض مالمح �أوىل تلك املراحل .فبعد �أن ينعي جتاهل
ت�ؤكد على كونها «�أوراقا» ،وهي بالفعل �أوراق جتمعت
ال�صحافة الأدبية يف الزمن الرديء لكتابه ال�سابق يقول
ف�صارت كتبا .وهي �أي�ضا �أوراق لأن فاروق و�أغلب �أبناء
«واحلقيقة �أنني ال �أرى يف املوقف كله عجبا �أو غرابة.
ذلك �أن كلمة النقد قد �أ�صبحت يف واقعنا الثقايف هذا جيلي كانت الكتابة عندهم بالورقة والقلم ،ومل يدخل
املرتدي كلمة ملتب�سة املعني �أو �سيئة ال�سمعة .اختلط احلا�سوب يف �أ�سلوب �أو تقاليد الكتابة عندهم� ،إال مع
النقد ب�سواه ،وماعت احلدود :الأخبار امل�صورة �أ�صبحت عدد نادر منهم� .آخر ما ا�ستخدمه من �أدوات الثورة
نقدا ،وحم��ررو ال�صفحات الفنية �أ�صبحوا نقادا .وكل التقنية هو �آلة ت�صوير الوثائق ،حيث كان يحر�ص على
�صاحب دكتوراه يف �أي فرع من فروع املعارف الأدبية ت�صوير مقاالته ويحتفظ بن�سخة منها ،قبل �أن يبعث
قد �أ�صبح �أ�ستاذا ناقدا .و�أ�صبحنا نقر�أ يف نقد هذه بها �إىل منرب الن�رش ،وبعد �أن تخلى عن ا�ستخدام «ورق
ال�سنوات الأخ�يرة عجبا .ثمة من يعد النقد كهنوتا له الكاربون» القدمي ،والذي كنا ن�ستخدمه �أثناء تبيي�ض
طقو�س خا�صة ال يتم بغريها .ولكي يتجنب حدة الرف�ض املقال لالحتفاظ بن�سخة منه.
والقبول يلوذ بامل�صطلح الغربي ،ويحاول ق�رسا تطبيقه لكن الأوراق �أي�ضا يف العناوين عالمة على بنية لها
على �أعمال عربية �أو م�رصية يف حيادية م�شبوهة .وهذا حمتواها ،وهي �أننا ب�إزاء �أوراق �أو بالأحرى �شهادات
يعني �أن �أ�صحاب هذا النقد ال يب�رصون غري منوذج واحد متفرقة يحر�ص كاتبها على �أن تلعب دورا الحقا للدور
هو النموذج الغربي ،كما بلغهم ،ومن ثم يعتمد جناح الأ�سا�سي الذي لعبته كل ورقة منها يف حينها .وهو هنا
العمل عندهم على قدر احتذائه لهذا النموذج .وما يفوت دور ال�شهادة الأ�شمل والأو�سع على مرحلة بعينها .ولذلك
�أ�صحابنا كهان امل�صطلح �أنهم حني ينقلونه ال ينقلون ف�إنها تو�شك �أن تقدم تو�صيفاتها لطبيعة املراحل التي
معه ال�سياق الذي نبت فيه ،والذي يدل عليه .في�صبح مرت بها احلركة الثقافية امل�رصية يف العقود الأخرية
نبتة غريبة بغري جذور .انقطع ما بيننا وبني م�صطلح والتعي�سة من القرن املا�ضي ويف ال�سنوات الأوىل من
النقد العربي القدمي �أو كاد ،وم�صطلح النقد الغربي فقد هذا القرن ،والتي �أ�سفرت عن انفجارة الثورة امل�رصية
داللته اال�صطالحية ما دام غري متفق عليه بني الأطراف يف 25يناير .2011مرحلة الرماد واجلمر ،حينما
املختلفة التي ت�ستخدمه»(�أوراق �أخرى �ص.)6 ترمدت الأح�لام وامل�شاريع الكبرية ،وع�صفت �صدمة
فقد كان عقد الثمانينيات هو عقد ازدهار جملة (ف�صول) النك�سة الدامية بالكثري ،و�أ�صبح القاب�ض على مبادئه،
34 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
يقطعانها معا ،ولأن الرائد ال يكذب �أهله ،فقد وجب عليه وو�صول الثورة النقدية للقرن الع�رشين �إىل العامل العربي،
�أال يخدع قارئه� ،أو يدل�س عليه� ،أو يلقي �إليه بكلمات و�سعي عدد من نقاده لتطبيق مناهجها املتباينة من
مت�شابهات� ،أو يغرقه يف م�ستنقع مائع من التعبريات �أ�سلوبية وبنيوية ون�سوية و�سميولوجية وتفكيكية
والت�شبيهات وا إلح��االت دون جدوى� ،أو يتعاىل عليه. وغريها .وه��و التطبيق ال��ذي �شابه الكثري من العوار
ك�أن يد الناقد �أ�صبحت هي العليا ،ويد القارئ �أو املبدع والتب�سيط ،و�أحيانا التخبط والتخليط .ومع �أن فاروق
هي ال�سفلى! والتزام الناقد بتلك القيم لي�س �رضورة عبدالقادر مل يكن مغرما ب�أي من تلك املناهج ،ف�إنه
مهنية فقط ،لكنه التزام �أخالقي و�إن�ساين يف املقام مل ينكر حق الآخرين يف االهتمام بها� ،رشيطة وعيهم
الأول( ».غروب �شم�س احللم� :ص)6 ب�رشوط بداياتها من ناحية ،وب�آليات عمليات ارحتالها
كان �صادقا مع الثقايف التي قعد لها �إدوار �سعيد يف مقالتني بارزتني
و�سوف نعود يف الق�سم الأخري من هذه الدرا�سة
�إىل التزام الناقد الأخالقي والإن�ساين وجتلياته قارئه لأن ما من ناحية �أخرى .لأنه يقول يف مقدمة هذا الكتاب «�إن
من حق الناقد ،رمبا كان الأدق �أن �أقول من واجبه� ،أن
املختلفة يف �أعمال ف��اروق عبدالقادر وما يهمه هو �أن
جرته عليه من م�شاكل .ولكن البد قبل ذلك ي�ستعني مبختلف املناهج التي تقوم عليها علوم املجتمع
من الك�شف عن م��دى �أهمية �شهادته على يقدم �أوراقه والنف�س والإن�سان لتحقيق مزيد من الفهم للعمل الذي
مراحل ثقافتنا املعا�رصة وحتوالتها يف و�شهاداته على يت�صدى لنقده ،وللعالقة بينه وبني الواقع الذي �صدر
كل تلك الأوراق /الكتب .وتكمن �أهمية هذه عنه ليعود فيتوجه �إليه .ما دام قادرا على �صياغة نهج
ما انتاب من مت�سق العنا�رص ،ال يت�صادم �آخره ب�أوله ،لكن ما لي�س من
ال�شهادة يف �أنها ت�صدر عن �ضمري نقدي حر،
ال ي�ساوم على دوره التنويري �إزاء القارئ� ،أو حتوالت يف حقه �أن ينقل منهجا من تلك املناهج ،دون نقده ،و�أن
ي�سعى �إىل تطبيقه على �أعمال تنتمي لواقع غري الواقع
على م�س�ؤوليته يف فرز الغث من الثمني .لذلك زمن ا�ست�شرى
كان يويل عناية كبرية الختيار الن�صو�ص �أو الذي �صدر عنه هذا املنهج يف �أ�صله الأول ،فمثل هذا
الكتاب الذين يكتب عنهم �أوراق��ه بال�صورة فيه التدلي�س التطبيق لن يبلغه �إال نتائج خاطئة �أو قا�رصة �أو م�ضللة.
التي جتد معها ،و�أنت تقر�أ �أعماله الآن ب�أثر والتخليط ثم �أين هو هذا املنهج ال�صايف املتكامل كالبلورة؟»(�ص
رجعي ،و�أدعو �أن تقوم هيئة ثقافية بطبعها � 6أوراق �أخرى من الرماد واجلمر)
كاملة� ،أن��ه��ا مل تفلت عمال جيدا مل تكتب و�إذا كان املنهج ال�صايف املتكامل كالبلورة ال وجود له،
عنه .ومل ترتك ظاهرة �سلبية مل تتناولها بق�سوة جراح فال ب�أ�س من طرح كل �أ�سئلة املنهج وم�شاغلها النظرية
ي�ست�أ�صل الأورام اخلبيثة من ج�سد الواقع الثقايف .فقد وراء ظهره .وهذا ما فعله فاروق عبدالقادر؛ لأن ما يهمه
كتب عن �أبرز ما �صدر يف م�رص لكل كتابها املوهوبني حقيقة هو �أن يقدم �أوراق��ه �أو �شهاداته على ما انتاب
تقريبا :من توفيق احلكيم ويحيى حقي وجنيب حمفوظ الواقع من حتوالت .و�أن يكون �صادقا مع قارئه ،يف
ولوي�س عو�ض وعبدالرحمن ب��دوي وفتحي ر�ضوان زمن ا�ست�رشى فيه التدلي�س والتخليط ،و�أ�صبح القارئ
وح�سني ف��وزي وعلي الراعي وفتحي غ��امن ويو�سف نف�سه �ضحية هذا التدلي�س الذي تتخلق عربه مكانات
�إدري�����س و�ألفريد ف��رج وحممود العامل وعبدالعظيم وي�سوق فيه ر�أ�سمال رمزي مفربك وم�شبوه.ّ �أدبية مزيفة،
�أني�س ،وحممد �أني�س� ،إىل بهاء طاهر وحممود دياب لذلك يقول يف مقدمة كتابه الأخري (غروب �شم�س احللم)
وحممد الب�ساطي و�إبراهيم �أ�صالن وعالء الديب و�صنع «�إنني �أفهم �أن الناقد هو دليل القارئ واملتلقي ،هو عينه
اللـه �إبراهيم و�أب��و املعاطي �أب��و النجا ،وحتى حممد املدربة املثقفة املتفح�صة� .إنه لي�س �ضيفا ثقيال بينه
املخزجني ،وحممد املن�سي قنديل وحجاج �أدول وحممد وبني العمل الإبداعي ،لكنه �أقرب لأن يكون اجل�سم الذي
ناجي وجنوى �شعبان و�سحر املوجي وعزت القمحاوي، تتخلله �أ�شعة ال�ضوء ،وبقدر �شفافيته �أو عتامته تتحدد
وعبدالوهاب الأ���س��واين و�أ�سامة أ�ن��ور عكا�شة وهناء زوايا االنك�سار .ومن حيث �أنه دليل القارئ يف �أر�ض
35 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
والق�صور والعجز و�سوء الفهم ،وتخفي �سوء النوايا وراء وغربيال زكي ورفعت ال�سعيد وليلى عنان. عطيةُ ،
املزوقة ،طامح �إىل ك�شف �أ�شكال هذا كله ّ الواجهات و�إذا ما ت�أملنا قائمة الكتاب العرب الذين كتب عنهم
وجتلياته ومواجهتها ،ذلك �أنه يحمل بني جنبيه ،من �سنجد �أنها ال تقل طوال و�أهمية عن القائمة امل�رصية،
حيث هو مبدع ،تلك ال�شهوة القدمية املتجددة لإ�صالح �إذ ت�ضم الطاهر وط��ار وف����ؤاد التكريل وعبدالرحمن
الكون الفا�سد»(�ص � 8أوراق �أخ��رى) .ثم يت�ساءل يف منيف وج�ب�را �إب��راه��ي��م ج�برا وزك��ري��ا ت��ام��ر وخ�يري
تقدميه لكتابه الأخ�ير (م��ن �أوراق نهاية القرن) بعد الذهبي وحيدر حيدر والطيب �صالح وال�سوداين مروان
تو�صيف الواقع العربي الثقايف املظلم يف نهاية القرن حامد الر�شيد و�شوقي بغدادي وحممد �شكري ومليكة
املا�ضي ومطلع القرن احلايل «يف مثل هذا الواقع ،هل �أوفقري وحممد برادة وفاطمة املرني�سي وحممد خ�ضري
ثمة دور للعمل النقدي؟ اجلواب نعم! �رشط �أن يكون هذا وبثينة النا�رصي ووارد ال�سامل وغازي العبادي ولطفية
العمل مت�صديا وج�سورا .ال يتعرث بني التخفي واملكا�شفة. طوال الدليمي وعلي خيون وعبداخلالق الركابي
ال يلوذ مب�صطلح غام�ض يفتقد الو�ضوح واليقني .ال وعبدالوهاب البياتي ،وفي�صل احلوراين و�سحر
ي�ستدعي �رس الوجود من ال�صمت �إىل ال�صمت .بل يكون خليفة وحنان ال�شيخ� .صحيح �أنه يكتب عادة
حياته التي
العمل بينا مبينا ،غري ملتب�س ،ال يتحرج من الك�شف عن مل يهادن عن �أعمال مفردة ل��ه���ؤالء ،ون��ادرا ما يكتب
ر�سالة العمل الذي يت�صدى له ،وال يرتدد يف احلكم على فيها الف�ساد تقييما �شامال للكاتب� ،إال �إذا ما ت�صادف
ما حتمله هذه الر�سالة من فائدة و�صحة .لي�س ثمة عمل رحيله؛ �إال �أن احل�صيلة الكلية التي تخرج بها
جماين ،وقد �أ�سقطت املمار�سة كل دعاوى «العمل الفني القائم مهما من قراءة كتبه تقدم لك م�سحا �أدبيا �شامال ملا
هو ما هو» ،ودعاوى «الفن من حيث هو خال�ص فردي» ت�سلح تناوله كتاب كل مرحلة من ق�ضايا ،وملا يدور
وما �إليها من دع��اوٍ .هنا والآن ،ال ج��دوى يف عمل ال يف �ضمري الواقع الثقايف واالجتماعي ،بل
يعري قبح وف�ساد ما هو قائم ،وال يتطلع �إىل عامل �أكرث ب�سطوة وال�سيا�سي ،من هموم .تتكون فيه ال�صورة من
عدال و�أمنا وجماال .يفعل هذا ب�أدوات الفن ،ال ب�أدوات �أي ال�سلطة خالل تلك الف�سيف�ساء التي تتجاور فيها �أعمال
ن�شاط �إن�ساين �آخر» (غروب �شم�س احللم� :ص.)6 �أو ال�شهرة خمتلفة يف م�شارب �أ�صحابها ويف �أ�ساليب
وقد فعل ف��اروق عبدالقادر هذا طوال حياته التي مل كتابتها ،ويف مناهج ال�رسد �أو الدراما فيها،
يهادن فيها الف�ساد القائم مهما ت�سلح ب�سطوة ال�سلطة الزائفة �أو �إال �أنها تتكامل يف قدرتها على �أن تر�سم لنا
�أو ال�شهرة الزائفة �أو بهما معا ،كما هو احلال يف �أغلب بهما جدارية كبرية للمراحل املختلفة التي عا�شتها
معاركه .ودفع لذلك الثمن ،فما �أن كتب مثال عن حقيقة الثقافة العربية يف ن�صف القرن الأخري ،ولبنية
زيف كاتب ما كان ير�أ�س حترير جريدة �أ�سبوعية للأدب معا امل�شاعر التي �سادت ن�صو�صها اجليدة.
حتى �أ�صدر �أوامره مبنع ن�رش �أي من مقاالته �أو حتى
�أي خرب عنه .وله عدة معارك مع ر�شاد ر�شدي مرة، تقومي االعوجاج الثقايف وال�صرامة الأخالقية:
ومع تلميذه النجيب �سمري �رسحان الذي كتب فاروق وال يكتفي فاروق عبدالقادر يف جداريته العري�ضة تلك
عن كتابه (على مقهى احلياة) يف عنوان الفت «كل بتقدمي الأعمال اجليدة وحدها ،ولكنه يهتم �أي�ضا بر�صد
هذه الأكاذيب يف كتاب واحد» .وملا كان كل من ر�شاد الظواهر ال�سلبية ،وتعرية ال�شخ�صيات التي تطفو كالطفح
ر�شدي و�سمري �رسحان قد رحال مبا لهما �أو عليهما، على وجه الواقع الثقايف ت�ست�أثر لف�سادها مبكان فيه
ف�سوف �أتوقف هنا عند ما كتبه عمن بقي حيا من تلك ال ت�ستحقه ،وتخلق لنف�سها عرب هذا املكان مكانة ال
الفقاعات الثقافية� ،أال وهو جمال الغيطاين .يف كتابه تربرها موهبتها املحدودة �أو املعدومة .يقول فاروق
(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر) ف�صل بعنوان «ر�سالة عبدالقادر يف مقدمته لـ(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر)
يف ال�صبابة والوجد :قطع الأرابي�سك والتعبري الزائف «�إن الناقد الذي يعي دوره ومهمته �إمنا هو ناقد للف�ساد
36 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
الكاتب مل ي�ستكمل بعد – ورغم �آالف ال�صفحات التي عن التجربة» يك�شف فيها حقيقة تلك الأكذوبة امل�سماة
�سودها – معرفة �أدوات��ه ،الأم��ر الثاين ،ولعله �سيزيد بجمال الغيطاين والتي حتر�ص على ن�رش الدعاوى
و�ضوحا فيما يلي� ،أن تلك الركاكة �سمة مالزمة للغة الف�ضفا�ضة عن مكانها ومكانتها ،وت�سوق مبهارة لهما.
التي ي�ستلهمها .وال يقف الأمر ،بطبيعة التجربة ذاتها، حيث يبد�أ مقاله با�ستهجان تلك الدعايات الذاتية
عند حدود الكلمات ،بل يتجاوزها �إىل ا�ستخدام �صيغ املمجوجة التي يروجها الغيطاين عن نف�سه ،وت�ساهم
وتراكيب ت�شي ببالغة رثة ،ال جمال فيها ،وال قدرة على يف ترويج ب�ضاعته الفا�سدة .فقد ن�رشت روايته م�سل�سلة
الإف�صاح والإبانة�( ».ص )116 – 115 يف �صحيفة �أ�سبوعية ،ثم �صدرت عن دار ن�رش حكومية
ثم يختم درا�سته الكا�شفة تلك عن تهافت الن�ص لغة بعد �شهر« .وقبل �أن تتم «روز اليو�سف» ن�رش حلقاتها،
وبنية وجتربة ،بالقول« :لكن امل�س�ألة هي �أن الغيطاين �صدرت (ر�سالة يف ال�صبابة والوجد) جلمال الغيطاين
ال يعرف �سوى اللغة العربية يف ع�صور انحطاطها قدمتها «روايات الهالل» ب�سطور جاء فيها «تولو�ستوي
وعجمتها .وم��ن ال��ذي��ن كتبوا بها يف تلك الع�صور من م�رص :هذا هو الإ�سم الذي �أطلقته ال�صحافة الأدبية
يقوم ما بها من التواء،ي�ستوحي لغته .وهو دون �أن ّ العاملية! (عالمة تعجب من عندي) على جمال الغيطاين،
فيثبتها كما هي ،م�ستغلقا على عامة القارئني ،موحيا تعبريا عن مكانته يف الرواية العربية احلديثة .و�أرجو
لهم – يف الوقت ذاته – ب�أن وراء الأكمة ما وراءها. �أن توقف �سيل الأ�سئلة الذي ميكن �أن يتدافع :وملاذا
وما وراءها غري اخلواء� .أقرب و�صف عندي لهذا العمل تولو�ستوي؟ ..وه��ل م��ن ال�ل�ازم �أن يظهر يف م�رص
و�صياغته قطع ال�صدف املل�صقة بلوحة الأرابي�سك، تولو�ستوي؟ و�إذا كان مقدرا له �أن يظهر يف م�رص� ،أكان
انتظر حتى تت�ساقط تلك القطع ،فيبدو لك عري اخل�شب �سي�صبح هذا الذي نعرفه� ،أم �شيئا �آخر؟ �أقول لك هذه
وقبحه»���( .ص )117وي�ضيف« :وقد ت�س�أل �أخ�يرا عن �أ�سئلة غري جمدية ،والأمر كله �آفة قدمية مل نرب أ� منها
�رس احلفاوة التي يلقاها مثل هذا العمل ،فين�رش مرتني بعد ،لعلها ب��د�أت حينما و�صف اخلديوي �إ�سماعيل
خالل �شهرين اثنني هما اللذان انق�ضيا منذ فرغ منه يعقوب �صنوع ب�أنه موليري م�رص»(�ص.)115
�صاحبه (دع عنك الآن تلك الفكاهة عن تولو�ستوي ث��م ميح�ص ف���اروق عبدالقادر الن�ص ال��ذي ُو ِ�صف
م�رص) و�أن�صحك بالبحث عن الإجابة م�ستعينا بعلوم �صاحبه ب�أنه تول�ستوي م�رص ،فيجد �أنه يفتقر بداءة
�أخرى ،غري الإبداع الأدبي ،العالقات العامة والت�سويق ل�سالمة اللغة ،و�أن��ه مرتع بالأخطاء الإمالئية منها
و�إدارة الأعمال»�(.ص)117 والنحوية .فيقول�« :إن الأخطاء اللغوية التي يحفل
�أما يف كتابه (نفق معتم وم�صابيح قليلة) املركز امل�رصي بها العمل من حيث البنية والنحو وال�رصف جميعا،
العربي ،1996 ،ف���إن فيه مقاال آ�خ��ر عن نف�س ال�شخ�ص تكت�سب �أهمية م�ضاعفة ،من حيث �أن العمل كله يقوم
بعنوان «جمال الغيطاين يف (هاتف املغيب) :عمل حمدود على ا�صطناع لغة مغايرة ،بعبارة �أخ��رى لو جاز
القيمة ،فقري اخليال» ي�ستهله قائال« :قبل خم�س �سنوات التغا�ضي عن مثل هذه الأخطاء يف �سياق �آخ��ر ،فهو
كتبت عن عمل جلمال الغيطاين (انظر :ر�سالة يف ال�صبابة ال يجوز هنا �أبدا .فحني ت�صدم القارئ من ال�صفحات
والوجد – قطع الأرابي�سك والتعبري الزائف عن التجربة يف الأوىل �أخطاء فادحة يف �إعراب الكلمات �أو ا�ستخدامها،
(�أوراق �أخرى من الرماد واجلمر ،)1990ويف مقايل ذاك ف�إمنا ت�سقط ثقته يف ح�صة التجربة كلها»�(.ص )115
ت�ساءلت عن �رس احلفاوة التي لقيها هذا العمل حتى ن�رش ثم يقدم لنا مناذج كثرية من هذا الأخطاء يثبت بها
مرتني يف �شهريني متتاليني على ما فيه من زيف وركاكة، ما يقول .وي�ضيف «ومتابعة هذه الأخطاء �أمر م�ضجر
ون�صحت القارئ �أن يبحث عن �إجابة ال�س�ؤال يف جمال حقا -وما فات عليك منها يف ال�صفحات الأربع الأوىل
�أخر غري الإبداع الأدبي ،جمال العالقات العامة والت�سويق فقط – مناذج لبقيتها .هذا يعني �أمرين مرتبطني� :أن
37 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
ال�صحيحة حل�رضموت ،في�سميه احل�رضموتي) وطقو�س و�إدارة الأعمال .واليوم �أجدين �أكرث مت�سك ًا مبا قلته �آنذاك،
توليته حاكم ًا (لإقليم الطري) هي ذات طقو�س تولية �سالطني مل تزدين ال�سنوات اخلم�س �إال �إ�رصاراً على �صحة هذا القول،
املماليك ،وهم هناك ي�ستخدمون املرايا واحلمام املدرب و�أنا �أعر�ض لعمله الأخري (هاتف املغيب)» (نفق معتم� ،ص
لنقل الأخبار ،والعملة التي يرد ذكرها هي (الدينار الذهب )259
البندقي) واملدينة التي ي�صف جمال ابن عبداللـه �أعيادها ذلك لأن (هاتف املغيب) عمل رديء يت�سم بفقر التجربة
و�أفراحها (�ص 177وما بعدها) هي القاهرة اململوكية .. و�إم�ل�اق اخل��ي��ال وال��رك��اك��ة اللغوية معا .وي��ب��د�أ ف��اروق
�إلخ» ولي�ست ب�أي حال مدينة مغربية مقنعة. عبدالقادر مقالته عنه بحكاية ما يدور فيه من �رسد مرتبك
ثم ي�ضيف الناقد «وما دام الكاتب قد ا�ستعاد تلك الفرتة، للقارئ« :هذا جمال بن عبداللـه ،كاتب الغرب� ،أق�صى حدود
فقد ا�ستعاد معها �أ�سلوب الكتابة فيها ،لذا ت�سود يف الرواية الياب�سة املطلة على املحيط ي�أمره ال�سلطان بتدوين ما
الركاكة والتكرار وا�ستخدام املرتادفات وال�صيغ اجلاهزة ميليه عليه (الغريب) �أحمد بن عبداللـه امل�رصي ،ال�صعيدي،
والألفاظ احلو�شية وكلي�شهات ذلك الع�رص .خذ �أمثلة قليلة القاهري ،ال��ذي خ��رج من مدينته ا�ستجابة لأم��ر هاتف
وارج��ع بقية العمل (يف ليلة دع��وت �إىل اجتماع بغر�ض هتف به �أن يرحل ،ويتبع ال�شم�س �إىل مغيبها ...والرواية
��ضرب م�شورة ،ه��ذا ب��رج ل��ه حت��اوي��ط وترتيب ...هزته -بعد – هي ما �أماله �أحمد ،وما قاطع به جمال ،ولي�ست
املواجيد � ...إن الوجد الإن�ساين �أكري ال�شكل دائري) ومثل تلك �سوى حيلة �شكلية خال�صة ،فما يقطع به جمال بن
هذا كثري يف العمل كله ».وال يريد الناقد �أن يزبد قارئه عبداللـه (يهفو الكاتب مرة فيثبت ا�سمه هو :جمال بن �أحمد،
�إمالال فيختم مقالته« :هذا كل �شيء يف هاتف املغيب .عمل �ص )21ال يكاد ي�ضيف �شيئ ًا �سوى مزيد من �إرباك العمل
حمدود القيمة ،فقري اخليال ،ركيك ال�صناعة ،يفتقد الر�سالة و�إجهاد قارئه :حكايات و�أو�صاف مماثلة يف �أ�سلوب مماثل،
�أو املعني ،ال يخلو من �أخطاء يف اللغة والتعبري ،يطغى تنويعات �صغرية على ذات اللحن ،لذا ال نفاج�أ حني ينتهي
عليه ويتخلل �صفحاته (غرائب) �ساذجة و�شبق كظيم�( ».ص العمل بالتماهي �أو التوحد بني االثنني :الراوي والكاتب.
)264ثم ي�ضيف« :قلت �أنني �أكره �أن �أرى رج ًال يتخطى (يف ال�سطور الأخرية يقول الكاتب عن رحيل �أحمد :مل يكن
رقاب النا�س ،والغيطاين يتخطى رقاب الكتاب واملبدعني رحيله �إال رحيلي ،مدارجه مدارجي ...بعينيه �ألبى� ،أتطلع).
من جيله وغري جيله ،ال المتياز يف �أعماله ،ولكن لإتقانه ي�صبح ال�س�ؤال �إذن ،ماذا ر�أى �أحمد بن عبداللـه يف رحلته،
عمل العالقات العامة والت�سويق وعقد ال�صفقات ،ظاهرة منذ خروجه من القاهرة يف القافلة املتجهة �صوب الغرب،
وخفية .ثم �أنني قبل هذا كله وبعده �أكره �أن �أكون �شيطان ًا
ّ حتى اختفى من تلك املدينة الواقعة على املحيط؟»
�أخر�س»�(.ص )265 واجل���واب الب�سيط على ه��ذا ال�س�ؤال هو ال �شيء ي�ستحق
و�أقول :مل تكن �أبدا �شيطانا �أخر�س يا �صديقي العزيز ،يف االهتمام به ،اللـهم �إال ت�سويد املزيد من ال�صفحات بتلك اللغة
عامل كممت فيه امل�صالح الأف��واه ،وه��رول فيه الكثريون الركيكة املنقولة عن تاريخ ابن �إيا�س بال فهم �أو ح�سا�سية.
�إىل دخول احلظرية كال�سوائم ،وارتفعت فيه �أ�صوات الزيف والتي ال ت�ستطيع �أن ت�شيد عاملا ينتمي �إىل منطقة املغرب
والنفاق .بينما اعت�صمت فيه �أنت ب�رصامتك الأخالقية، العربي بتواريخها املغايرة ولغاتها الو�سيطة املختلفة.
تك�شف زيف امل ّدعني واملزيفني .ومل ت�ستوح�ش ،كما يقول ويزداد العمل ركاكة وارتباكا لأن الكاتب كما يقول فاروق
الإمام علي بن �أبي طالب كرم اللـه وجهه ،ال�سري يف طريق عبدالقادر« :ال يحدد زمن ًا لأح��داث روايته ،لكن ال�شواهد
احلق لقلة �سالكيه .لذلك �ستبقى �شهادتك النقدية ال�ساطعة ت�شري لأنه رجع بها �إىل ذلك الزمن الذي ال يكاد يعرف �سواه:
نربا�سا لكل من يريد �أن يعرف حقيقة هذه احلقبة املظلمة زمن �سالطني املماليك يف م�رص قبل الغزو العثماين ،فهي
وجنومها املزيفني ،والتي ثار عليها ال�شعب امل�رصي يف قد حدثت بعد انتهاء دولة الإ�سالم يف الأندل�س (1492م)
ثورته النبيلة يف 25يناير. وقافلة اجلمال يقودها ح�رضمي (ال يعرف الكاتب الن�سبة
كانت �أربعون �سنة على التقريب تف�صل بني عمرى وعمر �أبي ،وظلت هكذا �إىل �أن
مات ،وكانت ثالثون على الأقل تف�صلني عن �أمي ،وظلت الثالثون را�سخة كما
هي �إىل �أن ماتت ،وبعد موتهما ات�سعت الأزمنة ،وقبل �أن �أفتقدهما كنت قد بد�أت
ال�سري يف تلك الطرق ال�ضالة غري املو�صلة �إىل ال�شعر �إال بعد م�سافات و�أحايني،
و�أدركت �أنهما� ،أبي و�أمي ،ال ي�صلحان لل�سري معي ،و�أنني يف حاجة �إىل من ي�ؤيدون
خطتي ،ف�إن كان يحق ل�شخ�ص ما ان ين�شغل بالبحث عن رفاق �سبقوه و�ساروا
على هذا الطريق� ،أعتقد �أنني هو هذا ال�شخ�ص املق�صود ،هذا ما كان يخطر ببايل
�أيامها ،وملا كنت قد بد�أت االنتباه �إىل عدم ا�ستعدادي للتكيف مع امل�ؤ�س�سات كلها،
م�ؤ�س�سة اللغة ،وم�ؤ�س�سة الدين ،وم�ؤ�س�سة احللم ،وم�ؤ�س�سة الدولة ،وم�ؤ�س�سة الثقافة،
فقد تعلقت بغري املتكيفني..
� uأدركت �أنه ال يحب �أن يكتب عن �شيء مل يره متاما ،رمبا لهذا
ال�سبب مل ي�ش�أ �أن يكتب �سرية ج�سده ،فهناك �أجزاء منه ،من اجل�سد،
لن يتمكن �أبدا من ر�ؤيتها u
39
فاروق عبدالقادر
s
s
s
انتبهت �أي�ضا �إىل �أن فاروق ال يحب �أن ي�ضع ا�سمه القرن املا�ضي� ،أ��شرف ف��اروق عبدالقادر على
بجوار الأ�سماء الغفل �أو �أ�سماء املبتدئني� ،إنه يحب ملحق الأدب والفن ،ال��ذي كانت جملة الطليعة
الأع�لام ،ب�رشط �أن يكونوا �أعالم التحول� ،أعالم القاهرية ،طليعة لطفي اخلوىل ،حتتويه بداخلها،
تغيري امل�سارات والإ�شارات ،ولهذا ال�سبب بخ�سه وذلك بعد �أن تركه غاىل �شكري ،فانك�شف غطاء
�أع��دا�ؤه وقالوا عنه أ�ن��ه ال يكتب �إال عن الأدب��اء امللحق ب�سبب اختالف العهدين ،انك�شف عن براعة
العرب ،ليلتم�س منهم الربكة ،ون�سوا �أنه يكتب عن غ���ايل ووح�����ش��ي��ة ف����اروق ،وكلتاهما ال�براع��ة
جنيب حمفوظ ويو�سف �إدري�����س ويحيى حقي والوح�شية ظلت تالزم �صاحبها ،منذ تلك الأيام
وفتحي غامن واملازين والب�ساطي وحممود دياب و�أنا �أحاول �أن �أ�رسق من يد فاروق خامت العامل
وميخائيل روم���ان والفريد ف��رج وطه امل�صنوع من النور الأبي�ض بحواف م�صقولة
ح�سني ولوي�س عو�ض ،يكتب عن الأعالم كان ال يحب ناعمة ،اخلامت اليناله �سوى الباحثني عن النار،
امل�رصيني والعرب ،حممو ًال على فكرة �أن �أن ي�ضع يف احلقيقة كانت مقاالت فاروق تكاد ت�ساعدين
اللغة هي �أر���ض اللـه الوا�سعة� ،أر�ضه ا�سمه بجوار على ذلك النوال ،فيما كانت �أ�صابعي الأنحل من
اخل�صبة ،و�أنه يكتب عن �أدب اللغة العربية اخلامت تت�سبب يف فقدانه ،قر�أت يف امللحق رحالت
يف �أماكنها املختلفة ،وان�شغاله باللغة الأ�سماء الغفل فاروق �إىل ال�شام و�إىل بغداد ،ونطقت �أ�سماء �أبطاله
�رصفه �أحيان ًا �إىل مالحقة الك ّتاب الذين �أو �أ�سماء بطريقتي حتى تعرفت عليه فيما بعد ،و أ�ع��دت
ال يجيدونها وي�سيئون �إليها ،وك�أنهم املبتدئني� ،إنه نطقها بطريقته� :سعيد حورانية وعبدال�سالم
غربان الزرع يخد�شون عظمها ويهر�سون العجيلي وزكريا تامر و�شوقي بغدادي وحنا مينه
حلمها ،كان فاروق ال يحب الغربان ،كلنا يحب الأعالم، واجل��واه��ري والبياتي و�سعدي يو�سف وف���ؤاد
نذكر كيف فتح �صفحات رواي��ة وقائع ب�شرط �أن التكريل وغائب طعمه فرمان وحممد خ�ضري،
حارة الزعفراين جلمال الغيطاين� ،أعرتف يكونوا �أعالم كانت طريقة ف��اروق يف حفظ الأ�سماء ونطقها
دائما �أنني �أحبها ،كلنا نذكر كيف �أح�صى ت�ستمتع باحلر�ص على متام الأ�سماء ،ك�أن يقول
�أخطاءها دون كلل ،حتى ظهر لنا �أن التحول، �أب��و ف��رات حممد مهدي اجل��واه��ري ،حممد كامل
الكلمات ال�صواب �أقل عدداً من الكلمات �أعالم تغيري ال�����ش��ن��اوي ،حممد م���أم��ون ال�����ش��ن��اوي ،ابراهيم
اخل��ط���أ ،مل ي��ك��ن ف����اروق �آن����ذاك يكره امل�سارات عبدالقوي عبداملجيد� ،سعيد �سالمة الكفراوي،
الغيطاين ،بل كان يحب اللغة �أك�ثر من حممد �صالح الدين عبدال�صبور ،الفاروق عبدالقادر
حبه للغيطاين ،يف ملحق الطليعة ،وا�صل والإ�شارات ال�سيد ح�سني� ،أدوني�س على �أحمد �سعيد �أ�سرب ،قبل
فاروق عبدالقادر معركته مع امل�ؤ�س�سة تلك الأيام كنت قد اطلعت على جزء من فروة ر�أ�س
الثقافية الر�سمية يف كل �صورها ،وزارة الثقافة ب�يروت ،وب���د�أت مطاردتي املحمومة والأث�يرة
واحت��اد الكتاب وقوانني الن�رش وفوبيا اجلوائز، جلماعة �شعر ،ومالحقتها يف كل مظانها ،ويف
وترب�ص ك�أنه حمموم بكراهية امل�س�ؤول الثقايف ملحق فاروق ،ملحق الطليعة ،انتبهت �إىل ما كتبه
اخلا�ضع بال�رضورة لكتاب التعاليمّ � ،أي م�س�ؤول عن �أدوني�س ،كان يحاول تفكيك الن�سيج املت�شابك
ثقايف ،حتى لو ك��ان قادم ًا من خ��ارج الو�سط يف �أحد دواوينه ،ويرده �إىل خيوطه الأوىل ،ك�أنه
الثقايف �أو من خارج الثقافة ،حتى لو كان �أجوف، يريد لنا �أن نرى يد الن�ساج البارع ،ك�أنه يريد لنا
حتى لو كان �أ�ستاذ تاريخ �أو �أ�ستاذ فل�سفة �أو �أ�ستاذ �أن من�شي معه على حافة الأخدود� ،صحيح �أنني
41 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
ب�إبريق م��اء،و�أن تن�صت �إذا تكلم ،و�أن تتكلم �إذا باجنو ،كان �شعار الفاروق الذي التم�س منه جادة
�أن�صت ،و�رشط �أال تكون خمادعا �أو لئيما �أو نكدا، الر�ؤيا وجادة ال�صواب هو :ي�سقط امل�س�ؤول الثقايف
و�أال حت��اول تقليد �أح��د م��ن ه����ؤالء ،يف �أواخ��ر القادم ،ترب�ص بيو�سف ال�سباعي ور�شاد ر�شدي،
الثمانينيات ،كنا� ،أق�صد جماعة �أ���ص��وات ،قد و�أ�شبال ر�شاد ر�شدي الذين� ،أ�صبحوا قادة الثقافة
�أ�صدرنا العدد الأول الذي �أ�صبح العدد الوحيد من طوال الثمانينيات ،ترب�ص ب�سمري �رسحان وحممد
جملة الكتابة ال�سوداء ،ويف بهو �أتيلييه القاهرة، عناين وعبدالعزيز حمودة ونهاد �صليحة ،وملا
كان فاروق يجل�س مبفرده ،وبارتياح ،بارتياح تغريت القيادة وانتقلت �إىل فاروق ح�سني وجابر
كبري يف الواقع ،الآخرون يف البهو مل يكونوا معه، ع�صفور مل يتغري موقفه ،ترب�ص بهما لأنه ر�آهما
بالتحديق �إىل وجهه مل �أ�ستطع �أن �أخمن لون �أكرث من مرة وهما يختبئان داخل ف�ستان الهامن،
مزاجه ،كنا �أول الليل ،اقرتبت منه و�أعطيته ن�سخة ويغ�سالن �سوتيانها ،ويدلكان �أظافرها ،كانوا
من جملتنا ،وقلت له مبحبة ،ظننت �أنها وا�ضحة: جميعا يحيطونه بال�شبهات التي ت�سقط عنه �سقوط
نحن نبيعها بخم�سة جنيهات ،ولكنك �أن��ت ال��ورق ال��ذاب��ل ،وك��ان يحيطهم باحلقائق التي
وبو�ضعك اخل��ا���ص �ستدعمنا ب���أك�ثر م��ن ذل��ك، تلت�صق بهم الت�صاق العار� ،أ�شهد �أنه ر�آهم ،ميوتون
ففوجئت به ميط عنقه ك�أنه يقف ،ويقول بغ�ضب: وهم �أحياء فدفنهم ،و�أ�شهد �أننا ر�أيناه يحيا بعد �أن
�أنت تكلم فاروق عبدالقادر� ،أعقبتها كلمات �أخرى مات فجال�سناه ،يف �أوائ��ل الثمانينيات تعرفت
غري مفهومة ،يف تلك اللحظة �أح�س�ست وك�أنني عليه للمرة الأوىل ،كنا يف مقهى زهرة الب�ستان،
دون ق�صد �أدخلته غرفة مغلقة� ،أنا �أعرف �أنه يف وملا �أ�صبحت بجواره �س�ألني� :أين ن�رشت ق�صائدك،
حياة معظم النا�س توجد حجرات �أُغلقت ذات مرة قلت ل��ه يف جم�لات الطليعة الأدب��ي��ة والبيان
وال يتم الدخول �إليها �أب��دا ،لكنها مع ذلك تظل الكويتية والثقافة العراقية ،مل يعب�أ بالأوليني،
�ضاغطة على القلب مثل ه��واء ق��دمي ،مثل هواء و�س�ألني عن الأخ�يرة� :أيهما؟ قلت :التي ير�أ�س
�ساخن ،نظرت �إىل وجهه طويال ،كان عنقه قد حتريرها �صالح خال�ص� ،صمت قلي ًال ،ثم �أهملني،
انكم�ش وعاد �إىل طبيعته ،وعيناه ابتعدتا عني، عرفت فيما بعد� ،أنه كان �سي�صبح �أكرث �أهتماما لو
ان�رصفت يف �صمت ،فيما بعد �أر�سل يل ر�سالة �أنني ذكرت له املجلة الأخرى امل�سماة بالثقافة
�شفهية مع �أحدهم� ،أنه يريد �أن يقابلني ويعتذر، �أي�ضا ،جملة ال�شيوعيني العراقيني ،فهي هكذا
فقلت� :إننى �أنتظر لقاءه و�أ�ستعجله ،ولكنني ال �أحب جملة �أعالم ،ذلك اليوم بد�أت �أح�س وخزة بروحي،
لنف�سي �أن �أرى فاروق وهو يعتذر يل ،ثم التقينا، يدعونها وخزة املعرفة الأوىل ،وفطنت �إىل امل�شكلة
دع��اين �إىل كافيه ال�شاي الهندي ب�شارع طلعت بالن�سبة يل ،هي �أن فاروق عبدالقادر كان يعرف
حرب ،و�رشبنا الكابت�شينو ،حكى يل عن �أ�ستاذه كيف يبد�أ ،ثم كيف ي�سري ،فهو بطريقة غريبة تدعو
يو�سف م��راد ،ف�أحببت االثنني ف��اروق ويو�سف، �إىل الت�أمل ،كان يحمل حتت ق�رشة قلبه� ،صورة
حكى عن �صداقة يو�سف مراد وب�رش فار�س ،حكى كاملة ل�ل�آداب والفنون التي ينبغي �أن نحبها،
عن درا�سته بكلية الآداب ق�سم علم النف�س ،وحكى والتي ينبغي �أن نحيا من �أجلها ،وكان يحمل فوق
عن �شغفه املبكر مب�رسحيات تني�سي وليامز ،عند ل�سانه لهجة نا�صعة للدفاع عنها� ،رشط �أن جتل�س
ذاك ارتع�شت ،كنت ومازلت مدعوما مبحبة تني�سي معه مبفردك ،و�أن ت�شاركه ال�رشاب ،ك�أ�س نبيذ
وليامز ،حتى �أنني �أ�شتهيت �أن �أرى �أ�صول كتبه، بك�أ�س نبيذ ،وكوب برية بكوب برية ،و�إبريق ماء
42 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
ذاته ،مل يكن ينفق وقتا يف الكالم عن خ�صومه، و�أن �أردد �أ�سماءها ب�شغف ،قطة على �سطح من
كان مييل �أكرث �إىل هواه اخلا�ص� ،إىل هواج�سه يف �صفيح �ساخن ،عربة ا�سمها اللذة� ،صيف ودخان،
الإمتاع وامل�ؤان�سة ،لأنه ي�ؤمن بتمارين �إمتاع احليوانات الزجاجية ،هبوط �أورفيو�س ،الزوجة
احلوا�س ،حدثني مثال عن طقو�سه يف الطعام، العذراء ،فج�أة يف ال�صيف املا�ضي ،وتذكرت ما
�سواء الطقو�س التي تعلمها من الآخرين� ،أو التي كتبته غادة ال�سمان ،عن ظاهرة تني�سى الق�صرية
ابتكرها ،وكيف كان �أخوه الأك�بر ،الطبيب فيما العمر ،الظاهرة العابرة ،ف�أ�شاح بيده� ،س�ألته :ملاذا
�أظ��ن ،من أ�ج��ل بلوغ اللذة ،يبد�أ طعامه بالأكل ال تكمل ترجمة �أعماله ،قال :ال� ،إنها كانت تالئمني
املت�أين البطيء لقطعة �أو قطعتني من الكبدة ،واثقا �أيام ال�شباب� ،أيام فورة اجل�سد ،ثم �أوقفني ك�أنه
�أنها �ست�سد جتاويف الأ�سنان ،وتفتح ال�شهية ملا اكتفى من �سرية وليامز ،وكلمني عن رواية مدن
عداها ،كان فاروق مغرما يف كتابته بالك�شف عن امللح لعبد الرحمن منيف ،كان مفتونا بالرواية،
الثقوب يف الثوب الأ�سود ،ثوب الكتابة ،وباحلنني وظل يفك �شفرتها ،هذا في�صل الذي هو فرن يف
�إىل �سدها ،لكنه كان يخاف من ثقوب الذاكرة، الرواية ،وهذا �سعود ،وا�ستطرد يف اجتاه قراءة
وي�سعى وراءها ،نال فاروق جائزة العوي�س ،ومل تاريخية ،ت�ضع الفن يف عربة يجرها ح�صانان،
يتغطى
يكن قد تقدم �إليها ،كربيا�ؤه وخجله الذي ّ �أحد احل�صانني �أ�سود غطي�س مثل الواقعية ،والآخر
بغ�ضبه ،مينعانه من التقدم �إىل جائزة ،ولكنه �أحمر غطي�س مثل اال�شرتاكية ،والعربة تدو�س
(علي الراعي) هو الذي طلب منه �أن يفعل ،لأن احل�شائ�ش بالطريقة التي تدو�س بها احل�صى ،و�أنا
الراعي كان رئي�س جلنة التحكيم� ،أذكر �أنه بعد �أن �أ�سمعه �أح�س�ست �أنه يحب رائحة العرق النازف من
ح�صل على اجل��ائ��زة ،ذه��ب ومعه جمموعة من ج�سد احل�صانني ،الذي ي�شبه رائحة عرقه �شخ�صيا،
كا�سيتات عبداحلليم حافظ ،وجل�س يف زهرة عموما كنت �أخالفه الر�أي ،كنت �أخالفه ال�سبيل �إىل
الب�ستان ،وطلب من النادل �أن ي�ضع �رشيط كا�سيت الإعجاب ،ولي�س الإعجاب ،دون �أن �أنطق بكلمة
يف جهاز الت�سجيل ،و أ�ع��ط��اه خم�سة جنيهات، فاج�أين ب�إدراكه لذلك االختالف ،كان يناديني:
وحتى عندما كانت املو�سيقى فقط ولي�س �صوت يامنعم ،مثل �صديقني قدميني� ،أم��ي يف �أحيان
عبداحلليم ،هي ما ي�صدر عن اجلهاز ،عندما كانت قليلة كانت تناديني :يااحل�سن ،لأنها فاطمة بنت
ثورة احلنني والذكريات قادرة على رفع ر�أ�سها �إىل حممد ،هذا هو ا�سمها� ،أبي كان يناديني :يامنعم،
�أعلى ،قادرة على فرد جناحيها وعلى الطريان، يف امل��رات التالية حدثني عن عمله مع �صالح
كان فاروق يهتز ويطرب ،وبنهاية الوجه الأول عبدال�صبور يف جملة امل�رسح� ،أح�س�ست غرامه
لل�رشيط ،يطلب من النادل �أن يقلبه ومينحه خم�سة ب�صالح� ،أح�س�ست تفاديه لذكر �أحمد عبداملعطي
جنيهات ،وهكذا مع كل حركة تقليب ،وكان يروقه حجازي ،مل يخطر ببايل �أنه تفادى ذكر �أمل دنقل
ر�ؤية حما�سة الآخرين �إذا �شاركوه حما�سته ،يف �أو عفيفي مطر� ،أظ��ن �أنهما مل ي��ردا على باله،
تلك الفرتة مل يكن فاروق عجوزا ،بل �أنني �أكاد ك�أنهما يف مكان بعيد ،يف اللقاءات التالية �أهداين
�أزعم �أنني مل �أره عجوزا قط ،خا�صة عندما كان بع�ض كتبه ،نفق معتم وم�صابيح قليلة ،وخيوط
يكتب �آراءه من الأعماق التي ال ميكن الو�صول الزمن ،الكتاب الثاين �سرية لبيرت بروك ،والرتجمة
�إليها ،ر أ�ي��ت أ�ب��ي وهو يبلغ ال�شيخوخة وي�صبح ل
بقلم فاروق ،يف كل مرة قابلته فيها ،ر�أيته مي أ
طفال ع��ج��وزا ،وتعلمت منه �أن ج��زءا كبريا من حيزا �أكرب ف�أكرب من العامل ،ميلأه بقدر كبريمن
43 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
عبدالفتاح كيليطو ،قر�أ فاروق بحثه عن الرواية ، احلياة ،يعي�شه املرء وهو عجوز ،ثم تعلمت من
قر أ� مبو�ضوعية وحياد ،والتزم منهجه ور�ؤيته، ف��اروق ومن �شريين ونارميان ومها� ،أن جزءاً
هذه هي املرة الوحيدة التي �أراه فيها على من�صة، كبرياً من احلياة ،يعي�شه امل��رء وهو يرف�ض �أن
وامتلأت ثقة ب�أنه �أكرث جماال عندما ي�ضع �أمامنا يكون عجوزاً ،ظل ف��اروق ينتمي �إىل �أ�شخا�ص
�أوراقه املكتوبة ويختفي ،كانت املغرب �أيامها، اختارهم طواعية على م ّ��ر حياته ،لذلك كانت
وكنا مثلها ،نعطي لتيارات ما بعد احلداثة ال�ساعية �أحالمه يف �أثناء وجودهم باجل�سد �أو
على قدمني فرن�سيتني يف الغالب ،ما مل نعد نعطيه وجودهم بالروح ،تطلق روائ��ح البهجة
ظل ينتمي
ل�سواها ،لذلك عندما �رشع كيليطو يف �إن�شاد بحثه، �إىل �أ�شخا�ص امل�سكونة بروائح الفقدان� ،شاهدته هكذا،
ومتثيله� ،أج�برن��ا على مقاطعته �أك�ثر من مرة اختارهم مم�سك ًا بالقطبني ،قطب ال�رسور وقطب
بالت�صفيق ،كنا خمفورين ومغمورين يف كالمه ال�شجن ،ال�سيما عندما كان يجل�س �إىل
طواعية على مر
اجلديد ،خارج القاعة التففنا الكفراوي وحلمي ّ ج���وار ع��ب��دال��وه��اب ال��ب��ي��ات��ي و�شوقي
�سامل و�أنا حول كيليطو ،ن�رشب ال�شاي املغربي، حياته ،لذلك ب��غ��دادي ،يف �سنة 1995ذهبنا �إىل
ونلتذ ،ون�س�أله �إن كنا �سرناه ثانية ،وكان يجيبنا، كانت �أحالمه يف املغرب� ،صربي حافظ ور�ضوى عا�شور
بالت�أكيد �سرتوننى مع كل وليمة ع�شاء ،فن�ضحك وحلمي �سامل وابراهيم عبداملجيد و�سعيد
�أثناء وجودهم
لأن ج�سد عبدالفتاح وحليته ي�شبهان ج�سد �شيخ ال الكفراوي وف��اروق عبدالقادر ،وهناك
ي�أكل �إال مكرها ،مل نكن نعلم �أن هذه الندوة �ستكون باجل�سد �أو التقينا ب�آخرين بينهم البياتي وبغدادي،
ال�سبب يف تبديد متا�سك فاروق ،يف تبديد الت�صاقه بالروح ،تطلق كان ينادي البياتي بكنيته يا �أبا علي،
بنف�سه� ،أدرك��ت فيما بعد ،عندما اكت�شفت �أننا وي�سيل نزيف الذكريات ،وينادي �شوقي
روائح البهجة
نتعلق كثرياً مبا مل نره� ،أدركت �أن فاروق ال يحب با�سمه الظاهر ،يا �شوقي ،وي�سيل نزيف
�أن يكتب عن �شيء مل يره متاما ،رمبا لهذا ال�سبب والفقدان ،الذكريات� ،أما ابراهيم عبداملجيد و�سعيد
مل ي�ش�أ �أن يكتب �سرية ج�سده ،فهناك �أجزاء منه، ال�سيما عندما الكفراوي فقد كان يناديهما بالغائب من
من اجل�سد ،لن يتمكن �أبدا من ر�ؤيتها ،ورمبا لهذا ا�سميهما ،الأول يناديه يا عبدالقوي،
يجل�س �إىل جوار
ال�سبب �أي�ضا مل يحاول كما حاول اجلميع �أن يكتب والثاين يا�سالمة ،ثم يجمعهما مع ًا يف
رواية ،قبل ندوة كيليطو وفاروق ،كنا قد ذهبنا عبدالوهاب مان�شيت واحد ،عبدالقوي و�سالمة ،وكنا
�إىل م�سجد امللك احل�سن الثاين ،ور�أينا املي�ض�أة البياتي و�شوقي نحن امل�رصيني نتذكر معها �أيام الإذاعة
على الطريقة القدمية ،ور�أي��ن��ا ال�صحن العلوي بغدادي القدمية� ،أي��ام (موهوب و�سالمة) ،وهو
للن�ساء ،لكننا �أمام املحراب تلك�أنا ،ووقفت �إىل ا�سم مل�سل�سل هزيل �ستيني �أو �سبعيني،
جوار فاروق ،فرد �سبابته و�أ�شار �إىل �شجرة العائلة ونوقن �أن فاروق يلعب ويتنا�ص معها،
املالكة التي تزين املحراب ،وقر�أ ب�صوت م�سموع، يف الدار البي�ضاء ظل فاروق متما�سكا ،ميتنع عن
هو �صاحب اجلاللة �أمري امل�ؤمنني احل�سن الثاين ال����شراب ،وي��ت��ع��زى ،ب�صحبتنا ،ومي�شي م�شية
ول��د ع��ام 1929وت��وىل امللك ع��ام 1961ابن امل��ح��روم ،ويكرم�ش فمه و�شفتيه ،حتى أ�جن��ز
�صاحب اجلاللة حممد اخلام�س ولد 1909وتوىل حما�رضته التي كانت باجلامعة ،ذهبنا معه ،
امللك 1927وتويف 1961ابن يو�سف بن احل�سن وجل�سنا بني جمهور احل�ضور من الطلبة املغاربة،
الأول بن حممد بن عبدالرحمن بن ه�شام بن حممد على املن�صة �شاركه اخرون ال �أذكر منهم �سوى
44 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله ،ذات مرة بن عبداللـه بن ا�سماعيل بن علي ال�رشيف دفني
يت�رشب ج�سده
ّ �شعرت �أن لديه رغبة �شديدة يف �أن باب هيالنة من مراك�ش ابن حممد بن علي بن
بع�ض لعثمة �صالح عبدال�صبور ،التي ظهر �أولها يو�سف بن علي ال�رشيف دف�ين �سجلما�سة ابن
على طرف ل�سانه ،ثم خرجت مفعمة ب�آخر حدود احل�سن بن حممد بن ح�سن الداخل � ،أول داخل من
الي�أ�س ،ك�أنها نبوءة� ،أو ك�أنها الر�شفة الأخرية من الأ��سرة �إىل املغرب ع��ام ،664اب��ن القا�سم بن
ك�أ�س نبيذ ينتظره ،يف �أثناء ذلك مل �أره يتلجلج� ،أو حممد بن �أب��ي القا�سم بن حممد بن احل�سن بن
يرتدد ولو ملرة واحدة ،كنت �آن ذاك �أتخيل �صالح عبداللـه بن �أبي حممد بن عرفة بن احل�سن بن �أبي
عبدال�صبور يقرنه بت�شيكوف وي�سميه عدو التفاهة، بكر بن على بن احل�سن بن �أحمد بن ا�سماعيل بن
�أحيانا ،عندما �أتذكره� ،أجتا�رس و�أ�س�أل نف�سي ،هل قا�سم بن حممد النف�س الزكية بن عبداللـه الكامل
من املحتمل �أن حياته كانت �ستختلف لو �أ�صبحت بن احل�سن املثنى بن احل�سن ال�سبط بن الإمام علي
له زوجة �أو �أبناء ،ملاذا مل ت�سنح لنا فر�صة واحدة و�سيدتنا فاطمة الزهراء بنت �سيدنا حممد �صلى
لنتحدث معا حول احلقيقة الأكيدة ،حول املوت، اللـه عليه و�سلم ،عند ذاك �صمت ف��اروق و�أع��اد
عندما فقد متا�سكه يف الدار البي�ضاء ،عكف على القراءة يف �رسه� ،أدركت غرامه بالأ�سماء الكاملة،
ال�رشاب ،كنا حرا�سه� ،إال �أن �صربي حافظ كان �أم�سك ي��دي وغ��ادرن��ا امل��ح��راب وخرجنا جهة
حار�سه الأول ،وملا ذهبنا �إىل مراك�ش� ،ضاع منا، املحيط ،و�أمام املحيط قال :كان عر�شه على املاء،
وظللنا ليلة كاملة وعندما وجدناه مل جنر�ؤ على ملوك العرب ور�ؤ�سا�ؤهم املحدثون والقدامى،
لومه� ،أحيانا �أمت��ادى و�أق��ول لنف�سي� ،إن��ه كان زعموا دائما مثل هذا الن�سب ،زعمه فاروق م�رص
خائف ًا من النظر داخ��ل نف�سه ،خ�شية �أن يراها و���ص��دام ال��ع��راق ،ومل يكونا �صادقني ،الن�سب
خاوية ،كنت أ�ظ��ن �أن��ه ميتلئ ،ويكتب ليفرغ ما املكتوب على املحراب ن�سب �صحيح ت�ؤكده �صحف
بداخله ،ثم ميتلئ ،ويكتب ،وال تبقى غري الروا�سب، التاريخ ،وب���أط��راف �أ�صابع يده اليمنى� ،أم�سك
ثم ميتلئ وهكذا ،يف �سنواته الأخرية كان قد ا�ستقر ذراعي �أعلى الكوع ،ثم �أ�ضاف مل �أكن �أت�صور �أنه
على ا�ستقبال �أ�صدقائه ومريديه م�ساء كل يوم �سي�أتي اليوم الذي �أنحاز فيه �إىل مثل هذه ال�شجرة،
�أحد بكافيرتيا �سوق احلميدية� ،صاحبها �شامى يق�صد �شجرة العائلة ،كما �أنني مل �أكن �أت�صور �أنه
يتيح لفاروق ما ال يتيحه لغريه ،والكافيرتيا �سياتى اليوم الذي �أعلق فيه خ�شبة خال�صي على
مال�صقة تقريبا ملقهى احلرية ،الذي كان املازين �سفينة جماعة حما�س وح��زب اللـه ،فهما الآن
ي�سرتيح فيه �أحيانا،ملا ظهرت جماعة الديوان البندقية واملدفع وال�سالح الأبي�ض ،احلديث الودي
،العقاد واملازين ،وا�شتهرت بالهجوم على �أحمد مع فاروق يبدو دائما وك�أنه بداية ل�شيء ما ،كان
�شوقي وحافظ ابراهيم واملنفلوطي ،وكان العقاد يحدق �إىل وجهي مبا�رشة ،ويقوم ب�أدائه الالفت،
هو �صاحب الهراوة ال�ضخمة املخ�ص�صة ل�شوقي، وي�ستعر�ض قدرته على نب�ش الذاكرة ،وا�ستعادة
�آن ذاك قال �أحدهم ل�شوقي :يابك ،دعك من هذا ال�ضائع منها ،يف ك��ل م��رة تذكر فيها �صالح
الولد الطويل ،يق�صد العقاد ،فالق�صري ا ألع��رج، عبدال�صبور ،ا�سرتخت ع�ضالت وجهه ،وامتلأت
يق�صد املازين ،هو الذي يحر�ضه ،ميكنك �أن تدعوه بالب�شا�شة ،وحاول ل�سانه ا�ستعادة كل جملة وكل
للع�شاء يف ق�رصك و�سوف ينبهر ويخجل ويكف كلمة ،ف�إذا ردد الكلمة واجلملة ،كان �صوته يزداد
ل�سانه عنك ،ف�أجابه البك� :س�أنتظركما يوم كذا، عمقا بت�أثري املحبة ،هذا زمن احلق ال�ضائع ،ال
45 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
�أو طبق طعام ،لعله �أي�ضا يف الأيام الأخرية كان ويف املوعد املحدد ذهب املازين ب�صحبة الرجل
ي�أ�سف على عجزه عن منح حممود الورداين جائزة الذكي �إىل م�أدبة �شوقي ،وملا ان�رصفا معا ،قال
الرواية عندما كان رئي�سا للجنة التحكيم ،ولعله الرجل للمازنى �أر�أي��ت كيف عاملك� ،أر�أي��ت كيف
كان يبت�سم حينما يتذكر �أنه تنازل عن قراءة بيان وكيف وكيف ،هل مثل ه��ذا النبيل ي�ستحق �أن
اللجنة ،يبت�سم لأنه يعلم �أنه ال ي�ستطيع �أن يفعل تهاجماه ،فقال امل��ازين :نعم ر�أي��ت ،ويف اليوم
خالف ذلك ،يوم الأربعاء 2010/6/23توقف التايل خرجت ال�صحيفة مبقالة للمازين يحمل
فاروق عن �أن يكون �أجريا لأي �سيد ،كان قبلها قد فيها هراوته ويحاول �أن ي�شج بها متثال �شوقي،
تنقل بني عدة م�ست�شفيات عامة وجمانية ،ثم ميكننى الآن �أن �أت�لاع��ب باحلكاية و�أن �أب��دل
تويف ب�سالم يف م�ست�شفي القوات امل�سلحة ،مر�ضه الأ�سماء� ،أرف��ع ا�سم امل��ازين و�أ�ضع مكانه ا�سم
مل يكن طويال بالقدر امل��زع��ج ،وم��وت��ه مل يكن ف��اروق ،و�أرف��ع الرجل الذكي و�أ�ضع قائمة من
�سبب احلزن ال�شديد الأ�سماء تبتدئ بالغيطاين وتنتهي بجابر ع�صفور،
مفاجئا وال منتظرا ،ومع ذلك ّ
و�سبب ال�شماتة لطائفة ال و���س��وف التتغري احل��ك��اي��ة ،ف��االث��ن��ان ،امل��ازين
لطائفة من �أ�صدقائهّ ، أح�سا
�أحب �أن �أتخيل االبت�سامات التي �أخفوها ب�أكمام وفاروق ،و�ضعا �أقدامهما على ظهر العامل ،ف� ّ
قم�صانهم ،ثم االبت�سامات التي ملأوا بها وجوههم �أنه فج�أة بد�أ ي��زداد عمقا ،ويف الوقت ذات��ه ،بد�أ
يتغور ويتبلور ويتكور وي�صبح يف اخلامتة على
عندما �أ�رصوا على �أن مينحوه جائزة مل يقبلها يف
هيئة �سنبلة �أو بذرة من النقاء التام ،و�أن ال�سعادة
حياته ،ظانني �أنهم هكذا يقطفون زهوره احلمراء
�إذا جاز لها �أن حتدث� ،ستحدث هكذا ،ب�أن تنمو
والبي�ضاء والبنف�سجية ،تاركني له �شجرة ال�شوك،
قرب كر�سيه ،املازين �أو فاروق ،ونافذته وفرا�شه
ومثلما فعل ابن �أخيه الذي ب�سبب دوافعه الدينية
وعلى �أطراف يديه وحواف �شفتيه ،و�أنها ال ميكن
�أ�رص على �أال يرقد فاروق رقدته الطويلة يف مقربة
�أن ُت�رسق �أو ُتوهب من �أواين الآخرين ،التي قد ال
العائلة ،و�أجرب احلا�رضين على نقله ودفنه وحيدا تفي�ض �إال بالأذى ،يف اخلم�سني من عمره توقف
يف مقربة وحيدة بائ�سة ،ثم فتح يديه وجيوبه �أبي عن �أن يكون من �أج��راء احلكومة ،ويف عمر
وت�ضامن مع خ�صومه ،خ�صوم ف���اروق ،وقبل مبكر توقف املازين وفاروق عن �أن يكونا �أجريين
جائزتهم ،ودمر خمطوطات عمه ور�سائله لأنها للحكومة ،ي��وم الأرب��ع��اء 2010/6/23توقف
دن�س ورج�س ،لن �أخاف �إذا ختمت حياتي وجاءت فاروق عن �أن يكون �أجريا لأي �أحد ،توقف عن �أن
جنازتى مثل جنازته ،ومل يح�رضها �سوى النفر يكون �أجريا للدنيا ،كانت يده فيما قبل حتب �أن
القليل ،لأن هذا هو التتويج امللمو�س مل�رشوع ت�صل ب�سهولة �إىل مو�سوعته ال�ضخمة التي يحب
حياته ،م�رشوع �أال تهادن �أو تتواط�أ كان على �أحد الرجوع �إليها دائما ،الإن�سيكلوبيديا الربيطانية،
ما �أن يتذكر �أن الفاروق عبدالقادر ال�سيد ح�سني وكانت على بقية الأرفف كتبه الأثرية ،عبدالرحمن
ولد يوم الإثنني ، 1938/1/24كان على �أحد ما منيف وجربا ابراهيم جربا و�سعداللـه ونو�س و�إميل
�أن يتذكر �أن املوت هو املوت ،و�أن العدم للآخرين، حبيبي وحممود دياب والطيب �صالح وحممود
ك��ان على �أح��د ما �أن يتذكر �أن البحارة ذهبوا دروي�����ش ،ويف مكان منزو كانت ليلة ال�سحلية
وت��رك��وا لنا �سفينتهم و�أن �أع��را���س الربيع يف وفرتة التوافق ،لعله يف �أيامه الأخرية كان ي�ستعيد
الطرقات. �صوت خطوات �أخته ك�أنها حتمل اليه كوب �شاي
46 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
مرتجماً
ماهر �شفيق فريد
مرتجم وكاتب من م�رص
فاروق عبدالقادر (24يناير 23 -1938يناير )2010ناقد �أدبي وم�رسحي يف املحل
الأول ولي�س مرتجما حمرتفا .ولكن ترجماته مكملة لنقده ،خا�صة �أن �أغلبها قد ان�صب
على ن�صو�ص م�رسحية من الأدب الرو�سي يف القرن التا�سع ع�رش والأدب الأمريكي
يف القرن الع�رشين ،وعلى تنظريات م�رسحية للمخرج الربيطاين املعا�رص بيرت بروك،
وبع�ض كتابات يف العلوم الإن�سانية والدرا�سات الثقافية ،وكتاب واحد عن تاريخ العلم.
()1
كانت م�رسحية «فرتة التوافق» ( )1960للكاتب امل�رسحي الأمريكي تن�سى وليمز
(� )1983-1911أول ن�ص م�رسحي ينقله فاروق عبدالقادر �إىل اللغة العربية .ومتتاز
ترجمته -و�إن �شابها هنات قليلة يف فهم امل�صطلح العامي الأمريكي -با�ستخدام ما
�أحب �أن �أ�سميه :اجلملة الدرامية ،مبعنى اجلملة املنطوية على عنا�رص التوتر واجلدل
وال�رصاع ،ال�صاحلة لأن ت�ساق على �أل�سنة املمثلني فوق خ�شبة امل�رسح .وقد ظل هذا
احل�س الدرامي مالزما لفاروق عبدالقادر يف كل ما كتب وترجم.
uمل يكن فاروق مرتجما عظيما وال تارك عالمة ا�ستثنائية يف
جمال النقل من الإجنليزية �إىل العربية ،ولكنه مرتجم جيد �أخرج
نقوال �أمينة يف جمموعها متتاز بالطالقة وتفيد القارئ املتخ�ص�ص
والعام على ال�سواء u
47
فاروق عبدالقادر
s
s
s
ومالية ت�صاحله مع احلياة ،ولكن �شانون يرف�ض ذلك ومن خري املداخل �إىل هذه امل�رسحية مقالة للدكتورة
العر�ض بو�صفه ا�ست�سالما لف�ساد العامل :ترى حنه يف هدى حبي�شة – �أ�ستاذة الأدب الإجنليزي -عنوانها
كربيائه هذا غرور ال معنى له ،م�رصة على �أنه ميكن «فرتة الت�أقلم» يف جملة «املجلة» (يناير ()1963
للإن�سان �أن ينخرط يف معمعة احلياة. (�أعيد طبعها يف كتابها :على خ�شبة امل�رسح ،الهيئة
ويف كتابه ع��ن تني�سي وليامز (تن�سي وليامز، امل�رصية العامة للكتاب .)1987
النا�رش :ماكميالن ،لندن )1987ي�صف الناقد روجر تقول هدى حبي�شة « :امل�رسحية تعترب خطوة جديدة
بوك�سويل امل�رسحية ب�أنها مرثية درامية يخيم عليها يف فن تني�سي ويليامز فهي تختلف عن كل كتبه
جو خريفي. من قبل ،فهي �أوال كوميديا ولي�ست م�أ�ساة ،ثم �إنها
�إن لورن�س �شانون مدمن للخمر م�صاب بالنور�ستانيا ال تعالج املو�ضوع ال��ذي ك��اد تني�سي ويليامز �أن
و�سيم ،يف اخلام�سة والثالثني من عمره ،فقد �إميانه يتخ�ص�ص فيه – وهو مو�ضوع اجلن�س من وجهة
الديني و�أ�شتهر بانحرافه �إىل ال�شهوة ،يعمل الآن نظر فرويد .ويف ر�أيى �أن «فرتة الت�أقلم» – يف حدود
مر�شدا �سياحيا يف املك�سيك حيث ت��دور �أح��داث مقايي�س الكوميديا االجتماعية – تعترب من �أبدع ما
امل�رسحية� .أما حنه فهي فنانة يف منت�صف العمر كتبه هذا امل�ؤلف الكبري املذبذب املوهبة».
عا�شت حياة تنقل من فندق �إىل فندق مع جدها ()2
جوناثان كوفني (نونو) .وثمة �سحلية عمالقة قيدها «ليلة ال�سحلية» ( )1961م�رسحية �أخ��رى لتن�سي
�صبية مك�سيكيون حتت �رشفة الفندق لكي يعذبونها وليامز ي�صفها روبرت هاربر – يف مقدمة �أميل �إىل
ويقتلوها وي�أكلوها .وال يلبث �شانون (الذي ُرفت من ال�سطحية – ب�أنها «متثل �أح�سن ما كتب تني�سى وليامز
وظيقته لتورطه يف عالقات جن�سية مع مراهقات) �أن من م�رسحيات حتى الآن» ( .)1964وامل�رسحية يف
يطلق �رساح ال�سحلية ،هو الواقع بني مطرقة اجل�سد الأ�صل ق�صة ق�صرية لكاتبها حولها �إىل م�رسحية
و�سندان الروح. كاملة ،وقدمت لأول مرة يف برودواى ب�إخراج فرانك
()3 كور�سارو .ثم حتولت يف � 1964إىل فيلم من �إخراج
وم��ن الأدب الأم��ري��ك��ي ينتقل ف���اروق عبد القادر جون ه�ستون وبطولة رت�شارد بريتون و�أفا جاردنر
�إىل الأدب الرو�سي ينقل م�رسحية �أنطون ت�شيكوف وديبوراكري.
(« )1904 – 1860ف�ضيحة ريفية �أو بالتونوف». يقول الناقد جريالد م .بريكوتز يف كتابه «امل�رسحية
ويف مقدمته للم�رسحية يذكر املرتجم �أن ت�شيكوف الأمريكية يف القرن الع�رشين» (النا�رش :لوجنمان،
قد كتبها ح��وايل �سنة � 1881أي وهو يف احلادية لندن ونيويورك )1994عن م�رسحية وليامز� :إن
والع�رشين من عمره .و�إذا كان بع�ض النقاد الرو�س، احلبكة يف �أ�ضيق احل��دود ترمى �إىل تقدمي مناظرة
مثل �س.دانيلوف ،يرون �أن القيمة الوحيدة التي بقيت – تكاد تكون �شوئية (على ن�سق برنارد �شو) – بني
للم�رسحية هي �أنها متكننا من التعرف على �أ�صول ال�شخ�صيتني الرئي�سيتني :لورن�س �شانون وهوق�س
�أفكار و�شخ�صيات بعينها تطورت تطورا �شامال �إىل �سابق وحنه جلز القوية القادرة على التعامل مع
م�رسح ت�شيكوف بعد ذل��ك ،ف���إن ف��اروق عبدالقادر الواقع .ومو�ضوع املناظرة هو امل�س�ألة التي ت�شغل
يرى �أن هذا احلكم « يظلم جوانب جديرة بالنظر يف وليمز يف كل �أعماله تقريبا :كيف يت�سنى لل�شخ�ص
هذه امل�رسحية جتعل لها قيمتها اخلا�صة بالإ�ضافة احل�سا�س �أن يوا�صل البقاء يف وجه �أمل الوجود.
لقيمتها يف الك�شف عن بقية �أعمال ت�شيكوف .فهو تعر�ض ماك�سني فولك على �شانون �رشاكة جن�سية
48 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
فيتنام (ترتدد يف ت�ضاعيف امل�رسحية – مثل حلن يقدم فيها – للمرة الأوىل – حماولة للتعرف على
دال م�تردد (اليتموتيف) -عبارة «اروىل �أكاذيب القيم االجتماعية املت�صارعة لت�شكيل وجه املجتمع
عن فيتنام» يف �إ�شارة �إىل �أكاذيب �أجهزة الدعاية يف رو�سيا �أثناء العقدين الأخريين من القرن املا�ضي»
الأمريكية – املوجهة �إىل املواطن الأمريكي و�إىل (التا�سع ع�رش).
اخلارج على ال�سواء -يف عهد �إدارة الرئي�س لندون ()4
جون�سون) ويرتجم فاروق عبدالقادر ف�صال عن الكاتب امل�رسحي
ويطرح بيرتبروك ،يف تقدميه للم�رسحية ،الإ�شكالية قوقازي املولد ،فرن�سي اللغة �أرتور �أداموف (1908
التي يواجهها ه��ذا ال��ن��وع م��ن الن�صو�ص فيقول: – )1970من الكتاب العمدة ملارتن �إ�سلني «م�رسح
«كانت امل�شكلة هى :كيف ميكن للأحداث الدائرة العبث» ( .)1964ويغطي الف�صل �أه��م �أعمال هذا
اليوم �أن تدخل �إىل امل�رسح؟ وراء امل�شكلة يكمن الكتاب الذي انتقل من العبث والع�صاب واحللم �إىل
�س�ؤال :ملاذا يجب �أن تدخل هذه الأحداث �إىل امل�رسح؟ االلتزام ال�شيوعي الربختي� :سريته الذاتية امل�سماة
رف�ضنا عدة �إجابات :رف�ضنا �أن يكون امل�رسح فيلما «االعرتاف» وم�رسحياته :اخلدعة – الغزو – املناورة
ت�سجيليا يعر�ضه التلفزيون ،ورف�ضنا �أن يكون الكربى وال�صغرى – جتاه امل�سري – الأ�ستاذ تاران
قاعة حما�رضات ،ورف�ضنا �أن يكون مركب دعاية. – اجلميع �ضد اجلميع – كما كنا – الذين يتالقون
رف�ضناها جميعا ألن��ه من الفيلم التلفزيوين حتى – بنج بوجن – باولو باوىل – ربيع � ،71إىل جانب
قاعة الدرا�سة مرورا بال�صحف واملل�صقات والأغلفة عدد من اال�سكت�شات امل�رسحية الق�صرية ومتثيليات
كانت املهمة املطلوبة ت���ؤدى من خالل و�سائط مت �إذاعية .ويختم �إ�سلن ف�صله القيم بقوله« :لدنيا �إذن
تطويعها لأدائها» اثنان من �أرت��ور �أدام���وف� :أدام��وف كاتب الأح�لام
وب��دوره يقول ف��اروق عبدالقادر يف ختام تقدميه والع�صاب والأخفاق ،و�أدام��وف الربيختي الواقعي
للرتجمة «هذا منوذج للعر�ض ،وهو بالتايل ال يكت�سب امللحمي ،لكن االثنني لي�سا منف�صلني كما قد يبدو»
حياته �إال على امل�رسح ،لكنه من��وذج ملا ميكن �أن .وي�ضيف �إ�سلن« :امل�ستقبل فقط هو الذي ميكن �أن
ي�ؤديه امل�رسح اليوم ،دون �أن يتخلى عن لغته اخلا�صة يحدد �أي الرجلني هو الأكرث قيمة ،و�أيهما هو الذي
ودون �أن يقف عند حد الإقناع الفكر الهادئ� .إن بيرت �سيبقى له الأث��ر اخلالد» .وعندى – �إذا كان يل �أن
بروك يثري من الأ�سئلة �أكرث مما ي�ضع من �إجابات، �أبدي ر�أيا� -أن اداموف يف مرحلته الباكرة هو الأبقى
ولعل هذه التجربة تثري بع�ض الأ�سئلة يف حياتنا مبثل ما �أرى �أن برخت يف مرحلته التعبريية الباكرة
امل�رسحية املتعرثة ،الدائرة حول نف�سها يف حلقات – ورائعته «بعل» �أ�سطع مثال لها – �أبقى من برخت
مفرغة» الكاتب الي�ساري امللتزم.
وميثل عنوان امل�رسحية USم�شكلة �صغرية ففيه ()5
تورية ميكن �أن تعني« :نحن» وميكن �أن تعني « ُفنت فاروق عبدالقادر باملخرج الربيطاين املعا�رص
ال��والي��ات املتحدة الأمريكية» .وق��د �سعى ف��اروق بيرت بروك فنقل له «نحن والواليات املتحدة» وهي
عبدالقادر �إىلالتغلب على هذه امل�شكلة با�صطناع حل م�رسحية اعدها و�أخرجها بروك وا�شرتك يف �إعدادها
و�سط هو اجلمع بني املعنيني مع �إ�ضافة حرف عطف و�أدائ��ه��ا �أع�ضاء فرقة �شك�سبري امللكية .وعر�ضت
بينهما .ور�أي �أن هذا حل مقبول ال غبار عليه. لأول مرة على خ�شبة م�رسح الأولدفيك يف �شتاء عام
ويف ال�صفحة 138من الرتجمة خط�أ لغوى �شائع .1966وهي �رصخة احتجاج على حرب �أمريكا يف
49 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
رواية �أولد�س هك�سلى � Brave New Worldإىل يتكرر يف كتابات ف��اروق عبدالقادر وترجماته
«عامل جديد �شجاع» وللوهلة الأوىل يبدو ذلك نقال ال كما يتكرر عند كثري من الكتاب واملرتجمني ،وذلك
غبار عليه� ،إذ �أل�سنا نعرف جميعا �أن كلمة Brave حني يقول« :كلما زادت احلدة واخل�شونة التي يحتك
معناها «�شجاع»؟ لكن الأمر – وا�أ�سفا – لي�س كذلك. بها هذان الق�ضيبان معا ،كلما زادت ق�سوة ال�رصاع
فالعبارة قد اقتب�سها هك�سلي من م�رسحية �شك�سبري بينهما ،وال�صواب لغويا حذف «كلما» الثانية
«العا�صفة» ويف زم��ن �شك�سبري – �أواخ���ر القرن ()6
ال�ساد�س ع�رش ومطالع القرن ال�سابع ع�رش – كان «طرائق احلداثة� :ضد املتوائمني اجلدد « كتاب من
لكلمة Braveمعان �أخرى من بينها «جميل» وهذا ت�أليف الروائي الناقد الربيطاين الي�ساري رميوند
هو املق�صود هنا فال�صواب ترجمة العنوان :عامل وليمز (� )1988 – 1921صاحب «الثقافة واملجتمع)
جديد جميل. و «امل�رسحية من �إي�سن �إىل برخت» و «الثورة الطويلة»
�ص 18يكتب املرتجم ا�سم ال�شاعر والناقد الإجنليزى و«الرتاجيديا احلديثة» و«كلمات مفتاحية» و«الريف
ماثيو �أرنولد هكذا Mathew Arnoldبحرف t واملدينة» و«املارك�سية والأدب» وغ�يره��ا� .صدر
واحد وال�صواب حرفا . t الأ�صل الإجنليزي يف لندن ونيويورك عام 1989
����ص 63ير�سم امل�ترج��م ا���س��م ال��ك��ات��ب الإجن��ل��ي��زى و�صدرت ترجمته العربية بعد ذلك بع�رش �سنوات.
« George Grissingج��ورج جري�سنج» .وهذا ي�ؤخذ على الرتجمة الهفوات التالية:
خط�أ مزدوج يف العربية والإجنليزية ،ف�صواب اال�سم ���ص« :15ي��رى فيها ت���.س .إ�ل��ي��وت ()T.S.Eloit
Gissingب��دون حرف rيف الإجنليزية وبدون يف ع�شاء �سكرتريه من الفول املطبوخ يف «الأر�ض
حرف الراء يف العربية .وجورج جن�سنج (– 1857 اخلراب» (�« )The waste Landإنه يكفن الطعام
)1903روائ��ي بريطانى قدم �صورا واقعية للفقر يف علب ال�صفيح»� .أوال :ال�شخ�صية امل�شار �إليها يف
والب�ؤ�س والف�ساد يف عامل الطبقات الدنيا ويف عامل ق�صيدة �إليوت لي�ست �سكرتريا ذكرا ،و�إمنا �سكرترية
الأدب ،وذلك يف رواياته «عمال يف الفجر» و�شارع أ�ن��ث��ى� ،ضاربة على ا آلل���ة الكاتبة تنتظر و�صول
جرب اجلديد» وغريها. ع�شيقها ،ثانيا :لي�س يف ابيات الق�صيدة ما ي�شري �إىل
�ص 270يرتجم عبارة� The Brontesإىل «الأختني �أن الطعام املعلب «فول مطبوخ» ثالثا :عبارة «�إنه
برونتي» وال�صواب :ال�شقيقات برونتي ،فهن ثالثة ال يكفن الطعام يف علب �صفيح» ترجمة خاطئة للعبارة
اثنتان� :إميلي (�أعظمهن) م�ؤلفة «مرتفعات وذرجن»، الإجنليزية lays out food in tinsومعني
و�شارلوت م�ؤلفة «جني اير» و�آن م�ؤلفة «�ساكن وايلد اجلملة ،كما يكتب الدكتور لوي�س عو�ض يف ترجمته
هول « و «�آجن�س جراي» لق�صيدة �إليوت « :ت�ضع على املائدة الطعام املعلب»
()7 ،فلي�س يف الأمر �أكفان وال توابيت.
و�آخر ما �أخرجه فاروق عبدالقادر من ترجمات هو ���ص 17يكتب املرتجم «رواي��ة من�ش « Munch
كتاب «نهاية اليوتوبيا :ال�سيا�سة والثقافة يف زمن «ال�رصخة »The Screamو«ال�رصخة» ()1893
الالمباالة» مل�ؤلفه را�سل جاكوبي� ،أ�ستاذ التاريخ لي�ست زاوية و�إمنا لوحة للم�صور الرنويجي �إدوارد
بجامعة كاليفورنيا ،وقد �صدر كتابه يف نيويورك مون�ش تعد منوذجا للفن التعبريى الرمزي وت�ستخدم
عام .1999وفيه – على قدر ما �أرى -هفوتان : �ألوانا براقة وت�صميمات منحنية على نحو معذب.
يف �ص 140يكتب «مارلو» وال�صواب :مالرو الأديب ويف نف�س ال�صفحة يرتجم فاروق عبد القادر عنوان
50 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
قلمه .كتب عنه الدكتور على الراعي بعد دفاع عن الفرن�سي ووزير الثقافة يف عهد ديجول� ،أما مارلو
جنيب �رسور الذي ا�شتد فاروق عبدالقادر – حمقا – فكاتب م�رسحي �إجنليزى من الع�رص الإليزابيثي،
يف نقده« :النقد عند فاروق عبد القادر معركة وهو و�صاحب م�رسحية «ال��ت��اري��خ امل���أ���س��وي للدكتور
يف املعركة فار�س جوال من الطراز الذي ع ّتقه الزمن فاو�ست�س» ويف �ص 175يرتجم عنوان كتاب The
والذي كان يذرع البالد طوال وعر�ضا كي يدفع الظلم Great Chain of Beingمل�ؤلفه اال�ستاذ �آرثر
وينقذ الرباءة ويحمي اجلميالت من غيالن املتعدين « لفجوي �إىل «القيد العظيم على الوجود» وال�صواب
(الراعي ،بني الأدب وال�سيا�سة ،الهيئة العامة لق�صور «�سل�سلة الوجود العظمى» ‘�إذ هو كتاب يف تاريخ
الثقافة ���2004ص ،233مقالة «ف��اروق «النقد الأفكار يتتبع تراتب درجات الوجود من �أدناها �إىل
عبدالقادر وث�لاث��ة كتب مهمة يف النقد �أعالها.
التطبيقي» وقد ن�رشت املقالة الول مرة يف عند فاروق ويف �ضوء الأخطاء – و�أخرى مل �أحاول ا�ستق�صاءها
عبدالقادر جملة «امل�صور» يونيو .)1990 – يبدو من قبيل الغرور �أن يقول فاروق عبدالقادر،
معركة وهو يف ()9 يف �إ�شارة �إىل �أخطاء لوي�س عو�ض يف ترجمة ثالثية
مل يكن ف��اروق عبدالقادر مرتجما عظيما ا�سخولو�س «الأور�ستيا»« :تعلمت من ترجمات لوي�س
وال تارك عالمة ا�ستثنائية يف جمال النقل املعركة فار�س غري الدقيقة يف امل�رسح �رضورة التزام الدقة ومواءمة
من الإجنليزية �إىل العربية ،ولكنه مرتجم جوال من الرتجمة ملقت�ضيات فن امل�رسح «(من �أوراق الرف�ض
جيد �أخرج نقوال �أمينة يف جمموعها متتاز الطراز الذي والقبول :وجوه و�أعمال ،دار �رشقيات � ،1993ص
بالطالقة وتفيد القارئ املتخ�ص�ص والعام � .)92أفلح �إن �صدق ،فلوي�س عو�ض -مع ا إلق��راب
على ال�سواء .ويظل �إجن��ازه الأك�بر متمثال ع ّتقه الزمن ب�أخطائه – يظل قمة �شاخمة ال تطال.
يف كتاباته النقدية التي منت على �شجاعة والذي كان ()8
�أدب��ي��ة ون��زاه��ة فكرية وذائ��ق��ة رهيفة .لن يذرع البالد تتمتع كتابات فاروق عبدالقادر وترجماته مبيزة
ين�سى قارئه حمالته على م�رسح فاروق غري متكورة هي التمكن من اللغة العربية ،وطالقة
جويدة ونهاد جاد وجالل ال�رشقاوي وح�سن طوال وعر�ضا التعبري و�سال�سته .ويف ذلك يقول فاروق �شو�شة حتت
عابدين و�صالح ال�سقا �أو م�رسح الدكاترة كي يدفع عنوان «غروب �شم�س احللم» « :اللغة عند فاروق �رس
الأرب���ع���ة� :سمري ��سرح��ان وف���وزي فهمي الظلم وينقذ من �أ��سراره الكربى وكنوزه اخلبيئة ،هي بني يديه
وعبدالعزيز حمودة وحممد عناين .وهناك وعلى قلمه �سل�سة طيعة ذلول حتمله على جناحيها
م�ساجالته ،عرب ال�سنني ،مع �صالح عي�سى ،الرباءة �إىل حيث ي�شاء ،مبدعا كتابة نقدية هي يف جوهرها
وم��ع �إداور اخل���راط (اتهمه ف���اروق ب�أنه الإبداع املوازي للن�ص الأدبي الذي ،يتناوله ،ين�سكب
كان ي�سري يف ركاب جرنال الثقافة امل�رصية يو�سف عليها ماء �شاعرية رقراقة تتوهج يف مناطقاحللم
ال�سباعي وهي تهمة كاذبة يف حق اخلراط الذي مل والأمل وال��ذك��رى وال��ت��وج��ع ،وتنب�ض بح�س يقظ
يكتب حرفا واحد يف مدح كتابات ال�سباعي رئي�سه وج��ر�أة مقتحمة واق�تراب �شديد مما يخ�شاه النا�س
يف العمل مبنظمة الت�ضامن الأفرو – �أ�سيوى) ،ومع ويتحا�شونه» (�شو�شة ،الإغراء بالقراءة ،مكتبة الأ�رسة
الدكتور �سهيل �إدري�س الذي مثل ف��اروق -حمقا – )2003
مب�رسحيته الركيكة عن املقاومة الفل�سطينية «زهرة ميزة �أخ���رى يف كتاباته ه��ي �صالبته يف ال��ر�أي
من دم» على �صفحات جملة «امل�رسح» يف 1969 وا�ستقالل فكره ،وعزوفه عن املجامالت ،و�رصامة
51 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
-و�سوء النية ..هل هو �سمة تقدمية؟ (رد على �صالح عي�سى) جملة (�سعى �صالح عبدال�صبور ،رئي�س حترير املجلة �إىل
الطليعة دي�سمرب 1975
-ارتفاع و�سقوط امل�رسح امل�رصي ،جملة الطليعة ،فرباير 1977
حتقيق امل�صاحلة بني الرجلني يف عدد �أكتوبر 1969
-الفر�سان ال�صاعدون �إىل اخل�شبة املنهارة ،جملة الكرمل العدد ولكن دون جناح ملمو�س) .هناك نقده احلاد املربر
1984/14كتابات عن فاروق عبد القادر ناقدا ومرتجما لروايات القا�ص ال�سوري حنا مينه ،وذكرياته املمتعة
-د.فاطمة مو�سى حممود و�سمري عو�ض ،قامو�س امل�رسح ،اجلزء
الثالث ،الهيئة امل�رصية العامة للكتاب 1997-1996 عن لوي�س عو�ض املعادي لالجتاه العروبي« :ر�أيته
-بدون توقيع ،فرتة التوافق ،جملة الهالل �أكتوبر 1964 ليلة يف بهو امل�رسح القومي (القدمي) – ومل �أكن �أحب
-د� .سهيل �إدري�س ،منوذج للنقد ال�سطحي املغرور ،جملة الآداب �أن �أرى – وهو يفك رباط عنقه يف ع�صبية وا�ضحة،
(بريوت) �أغ�سط�س .1969
-د.هناء عبدالفتاح ،فاروق عبدالقادر �آخر الفر�سان الراحلني، ويقول ملن حوله� :س�أحتنق � ..إن هذا «الأرابي�سك»
جملة �إبداع �صيف .2010 يخنقني ! وقر�أت له ذات يوم – ومل �أكن �أحب �أن �أقر أ�
-د .ي�رسي خمي�س ،مع فاروق عبدالقادر وهو يت�أهب (ق�صيدة/ – �إح�سا�سه حني وط�أت قدماه �أر�ض �أوروبا لأول مرة
جملة �أدب ونقد� ،سبتمرب)2010
-د .حلمي �سامل ،ثالثة عيابات حا�رضة :ف��اروق عبدالقادر: ب�أنه �إح�سا�س الذي خطفه الغجر طفال و�أبعدوه عن
معار�ضة الر�شوة يف النقد ،جملة �أدب ونقد �أغ�سط�س .2010 �أهله �سنوات قبل �أن يعود �إليهم «(من �أوراق الرف�ض
-فاروق حلمي ،ردا على نقد (رد على مقال فاروق عبدالقادر عن والقبول� ،ص.)89
م�رسحية «برعي بعد التح�سينات») جملة امل�رسح مار�س .1969
� -صالح عبدال�صبور ،كلمة ال بد منها (حماولة للو�ساطة بني أقول له ال ُتن�سى من قبيلوتظل عالقة « بالذاكرة � ٌ
د�.سهيل �إدري�س وفاروق عبدالقادر) جملة امل�رسح �أكتوبر .1969 قوله�« :إن معرفة ال�سلم املو�سيقي ال ت�صنع م�ؤلفا و�إن
-حلمي النمنم ،يف وداع فاروق عبدالقادر ،جملة الهالل �سبتمرب
2010
ارتفاع ال�صوت وطواعية الع�ضالت ال يخلقان فنا»� .أو
-ب��دون توقيع� ،أوراق �أخ��رى من الرماد واجلمر ،جملة الهالل قوله عن الروائي الفل�سطيني �إميل حبيبي�« :إن عذوبة
�أغ�سط�س .1990 الكتابة جديرة بعذابها»� .أو قوله يف م�ساجلته مع
� -إدواراخلراط ،عن �إ�ضطراب الر�ؤية وجملة «جالريي ،»68جملة
�إبداع يناير .1992 الدكتور �سهيل �إدري�س« :حني يعجزك �أن جتد جدارا من
-عالية ممدوح ،حول احلرية والإبداع جليل ال�ستينات امل�رصي الفكر ت�ستند �إليه ا�ستندت �إىل �أقرب جدار ..وعادة ما
(م�شاركة يف ندوة) جملة الفكر املعا�رص (بريوت) ابريل1974 يكون مبنى �رشطة»� .أو قوله عن الدكتور ر�شاد ر�شدي
-بدون توقيع � ،أوراق من الرماد واجلمر ،جملة الثقافة اجلديدة
يناير .1991 وتالمذته وذلك حني كتب الدكتور �سمري �رسحان عن
-حممود حامد ،نهاية اليوتوبيا ،جملة املحيط الثقايف نوفمرب م�رسحية �أ�ستاذه الركيكة «حبيبتي �شامينا» مقالة
.2001 تن�ضح بالثناء املنافق« :ه�ؤالء النا�س جميعا � ..أما
-د.على الراعي ،فاروق عبدالقادر �شهيد الع�شق امل�رسحي ،يف
كتاب :هموم امل�رسح وهمومي ،كتاب الهالل يونيه .1994 يتعففون؟» .هذا ناقد مل يبع قلمه لأحد ،ومن ثم كان
-د.على الراعي ،فاروق عبدالقادر وثالثة كتب مهمة يف النقد جديرا باالحرتام ،بل هو جدير باملحبة.
التطبيقي ،يف كتاب :بني الأدب وال�سيا�سة ،الهيئة العامة لق�صور
الثقافة ( 2004ن�رشت لأول مرة يف جملة امل�صور يونيو .)1990 ببليوجرافيا خمتارة
-فاروق �شو�شة ،غروب �شم�س احللم ،يف كتاب :الإغراء بالقراءة، كتابات بقلم فاروق عبدالقادر:
مكتبة الأ�رسة 2003 -مع فتوح ن�شاطي ،جملة امل�رسح مار�س ( 1969مقابلة
� -صالح عي�سى� ،أيتها التقدمية :كم من ا آلث��ام با�سمك ترتكب، -زه��رة من دم وكل الكل�شيهات املرفو�ضة عن املقاومة (عن
جريدة اجلمهورية 21نوفمرب .1975 م�رسحية د�.سهيل �إدري�س) جملة امل�رسح مايو 1969
-جرج�س �شكري ،مقدمة :ازدهار و�سقوط امل�رسح امل�رصي ،الهيئة -تعقيب (رد على د�.سهيل �إدري�س) جملة امل�رسح يوليو 1969
العامة لق�صور الثقافة.2010 ، « -حبيبتي «�شامينا» وجه ر�شاد ر�شدي اجلديد ،جملة الطليعة
-حممود رم�ضان الطهطاوي2010 ،ع��ام قطاف ال��ورد ،جملة فرباير 1974
الثقافة اجلديدة يناير .2011 -نطرية نقدية �إىل املجل�س الأعلى للآدب والفنون ،جملة الطليعة
-ن�سيم جملي ،املعلم العا�رش ،جملة املحيط الثقايف ،يناير .2002 مار�س 1974
52 نزوى العدد / 74ابريل 2013
مقعد يف م�سرح
فاروق عبدالقادر
جرج�س �شكري
�شاعر وم�رسحي من م�رص
جاء مت�أخراً يف تلك الليلة على غري عادته ،دخل املقهى �صامت ًا ،مل تلمع عيناه ويبت�سم يف
ثقة كما كان يفعل دائم ًا ،تقدم ببطء وحاول �أن يكون هذه املرة ممث ًال ،فف�شل يف �أن يوهمنا
ب�أنه على ما يرام ،حني ت�ساقطت الكلمات من فمه غري مر ّتبة ناق�صة احلروف ،كان وا�ضح ًا
�أنه �أ�صيب بجلطة كادت �أعرا�ضها ت�رصخ يف وجوهنا :احملوا �صاحبكم �إىل �أقرب طبيب،
�أذكر يومها �أنه نهرنا جميع ًا بكلمات �سقطت �أغلب حروفها من فمه غري مكتملة ،م�ؤكداً �أنه
�سليم وال يحتاج �إىل طبيب ،غادر املقهى ،وال �أذكر َمن حمله �إىل بيته يف تلك الليلة ،وكانت
املرة الأخرية التي يجل�س يف لقائه الأ�سبوعي م�ساء كل �أحد ونلتف حوله يف مقهى �سوق
احلميدية يف ميدان باب اللوق ،يف ال�صباح هاتفته ف�أمطرين بوابل من العتاب وال�شكوى من
�أ�صدقاء الأم�س الذين حاولوا �إقناعه بالذهاب �إىل الطبيب ،وكانت كلماته مرتبكة تتعرث يف
فمه ،وتخرج بعد �أن تفقد بع�ض احلروف ،حاولت تهدئته ،وجنحنا بعد ذلك يف �إقناعه بزيارة
الطبيب ،الذي �أكد له �أنها جلطة ،يومها �أفزعني ت�صميم فاروق عبدالقادر على �إهمال املر�ض
وال�سخرية منه..
53
فاروق عبدالقادر
s
s
s
قبل االفتتاح ،لأنها ال تتوافق وم�صالح امل�ؤ�س�سة وتدهورت حالته ب�رسعة �شديدة ،وبد�أ رحلة ا�ستمرت
ال�سيا�سية يف تلك الفرتة ،وال تخدم �أهدافها ،بل تقف عام ًا تقريب ًا يعاين من املر�ض وه��و غائب عن
موقف ًا مناه�ض ًا لها ،وا�ستيقظ اجلميع على احلقيقة الوعي خارج الزمن الذي نعي�شه حتى رحل يف 23
القا�سية� ،إذ جاءت نتائج املمار�سات ال�سابقة نه�ض ًة يونيو ُ ،2010حمل فيها �إىل م�ست�شفيات جمانية
مزيف ًة جعلت من امل�رسح التجاري بكل �أ�ساليبه وخا�صة ودار م�سنني� ،إىل �أن لفظ �أنفا�سه الأخرية
الرخي�صة �صاحب الكلمة العليا ،وهنا �أطلق �رصخة يف م�ست�شفى القوات امل�سلحة باملعادي ،وعرفت
احتجاج مدوية من خالل هذا الكتاب ،جوهرها الأمل بعد وفاته �أنه مل يلتزم بالعالج ،بل كان م�صمم ًا
الذي يعت�رص قلبه حزن ًا على احللم املزعوم ،ليجل�س على ال�سخرية من املر�ض �إىل �أن �سقط ج�سده ،وغاب
ويعيد ق��راءة �أوراق���ه ويراجع ال�سنوات املا�ضية عقله عن الوعي ،ولأنني �أعرفه جيداً منذ ت�سعينات
ويكتب هذا الكتاب دفعة واحدة كما حكي يل فيما القرن املا�ضي ،و�أعرف من هو ..كنت على يقني �أنه
بعد ،و�أذك��ر �أنني حني قر�أته للمرة الأوىل َ�ش ُعرت قرر �أن يغادر عاملنا ،ويقيني �أنه �أ�صابه ما �أ�صابه
ب�أنه دفقة �شعورية �أنتجت ق�صيدة م�أ�ساوية كتبها بقرار منه ،فهو يرف�ض �أن يعي�ش يف هذا الزمن الذي
�ضمري حي م�ستيقظ دائم ًا ،ليبد أ� باملا�ضي والآباء �شعر �أنه غريب عنه ،فاختار �أن يعي�ش زمن ًا �آخر،
يف الف�صل الأول ،ثم املولد واالزدهار ،ويختتم هذه زمنه هو الذي كان و�أ�صبح جمرد ذكرى؟
ال�رصخة بالتعرث وال�سقوط ،ثالثة ف�صول هي قراءة
بانورامية وحتليلية يف �آنٍ ،ليطلق جملته ال�شهرية -1-
يف نهاية الكتاب «كما تكونون يكون م�رسحكم/ فاروق عبدالقادر �أحد �أهم نقاد جيل ال�ستينيات،
�إبداعكم». خا�صة يف امل�رسح� ،إذ جاء كتابه الأول عام 1979
كنت يف البداية �أ�س�أل نف�سي :ملاذا اعتزل فاروق «ازده��ار و�سقوط امل�رسح امل�رصي» حدث ًا مدوي ًا
عبدالقادر امل�رسح ،ملاذا ال ي�شارك ويقول ر�أيه، ي�رشح �أ�سباب االزده��ار وي�ؤكد �أ�سباب ال�سقوط،
فنحن يف حاجة �إليه ،ودائم ًا كان يقول يل� :إنها وللتاريخ داللة قوية ،حيث �أ�صبحت مالمح امل�رسح
مهزلة ولن �أ�شارك فيها ،فبالن�سبة يل ق�ضاء ليلة امل�رصي وا�ضحة ،بعد �أن �سقطت الأقنعة وو ّلت
يف هذا النوع من امل�رسح احلايل خ�سارة بعد �أن �سنوات االزده��ار املزعومة� ،إذ بد�أ قطار امل�رسح
�سقط يف كل �آفات امل�رسح التجاري ..وكلما حاولت ي�ضل طريقه وبقوة يف منت�صف ال�سبعينيات ،وك�أن
�أن �أقنعه بالذهاب �إىل امل�رسح ،كان ي�ؤكد يل �أنه �سنوات االزدهار املا�ضية مل تكن �سوى حلم �أو ُقل
ال فائدة ،فامل�رسح �سي�ستمر يف تراجعه ،فحتى «وهم» ،وفاروق عبدالقادر �أحد �شهود العيان على
يتغري امل�رسح ال بد من تغيري الواقع بكل مفرداته، تلك الفرتة واملخل�صني لها ،والتي ظن البع�ض �أنها
ال�سيا�سي والتجاري واالقت�صادي والثقايف ،ال بد �أن نه�ضة م�رسحية ولكن �رسعان ما اكت�شف اجلميع
تتغري كل الظروف. �أن نه�ضة ال�ستينات مل تكن �سوى طاقة بقيت من
وحني �أ�صدر بعد ع�رشين عام ًا كتابه «ر�ؤى الواقع وهج جيل الرواد ،وما �إن نفدت هذه الطاقة ،حتى
وهموم الثورة املحا�رصة» مل يكن �سعيداً وهو يرى بد�أ االنطفاء والذبول يف حقبة ال�سبعينيات ،بعد �أن
نبوءاته تتحقق ،وال �أظنه ك��ان يتمنى �أن يكون �أدى تدخل امل�ؤ�س�سة و�إحكام قب�ضتها على امل�رسح
ترييزيا�س العراف الإغريقي الذي قا�سى كل �شيء �إىل �ضعف �سلطان التقاليد امل�رسحية ،و�سادت روح
قبل �أن يحدث ،حني وقف عند جدران طيبة يتح�س�س البريوقراطية ،و�أ�صبحت الأولوية ل�سلطة الأجهزة
اجلثث وي�شاهد اخل���راب ويجني ثمرة نبوءاته، الإداري���ة على ح�ساب العملية الإب��داع��ي��ة ،ف�ض ًال
ليت�أمل من �أجلها ،ويقيني �أنه كان يتمنى �أن تخطئ عن م�صادرة ع��دد كبري من العرو�ض امل�رسحية
54 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
مقعده فارغ ًا ال �أجل�س عليه �أنا �أو غريي �إذا ت�أخر، نبوءاته وت�ضل طريقها ،ولكن ما حدث �أنها ت�أكدت
�سنوات وهو يداوم على هذا اللقاء ،ودائم ًا ما كان يف �صورة م�ؤملة حني تناول ما حدث يف كوالي�س
اللقاء عا�صف ًا نبد�أه مبا كتب ف��اروق عبدالقادر امل�رسح امل�رصي يف ال�سبعينيات والثمانينيات،
هذا الأ�سبوع ومعاركه التي ال تنتهى ،وال يخلو وعر�ض �صورة دقيقة لك ّتاب امل�رسح الذي دخلوا
اللقاء من حديث عن حقبة ال�ستينيات ،كنت �أ�شعر حلبة املناف�سة بعد جيل ال�ستينات الأكرث �شهرة،
�أن �صالح عبدال�صبور ،حممود دياب� ،ألفريد فرج، و�ضع لها عنوان ًا يحمل دالل��ة م�ؤملة «الفر�سان
جنيب �رسور ،نعمان عا�شور من احل�ضور الدائمني، ال�صاعدون �إىل خ�شبة امل�رسح املنهارة» وقد عانى
و�أحيانا مير �سعد وهبة ،وعبدالرحمن ال�رشقاوي، هذا الكتاب كثرياً جل��ر�أة �صاحبه يف تناول واقع
و�سعد يو�سف و�إميل حبيبي وعبدالرحمن منيف امل�رسح امل�رصي ب�صدق ومو�ضوعية بعيداً عن
والطيب �صالح و�سعداللـه ونو�س ،ف�إن مل ِ
يحك فاروق احل�سابات وامل�صالح ،ليغ�سل يديه �أمام اجلميع يف
عبدالقادر عن ه�ؤالء �أ�س�أل عنهم �أين ذهبوا؟ جنحت �إعالن �رصيح لتربئة نف�سه مما يحدث من جرائم يف
مع املخرج حممود �أبودومة يف �إقناعه بالذهاب حق املغفور له امل�رسح امل�رصي .وما بني ازدهار
�إىل الإ�سكندرية مل�شاهدة عر�ض م�رسحي ،وا�شرتط و�سقوط امل�رسح امل�رصي ،ور�ؤى ال��واق��ع ،هناك
�أن ن�سافر يف قطار الثامنة �صباح ًا وهناك قال عدة كتب هي «م�ساحة لل�ضوء م�ساحة للظالل»
يل� :سنعي�ش اليوم يف ال�ستينيات ..وقادين �إىل النب ( ،)1بالإ�ضافة �إىل «�أوراق بني الرماد واجلمر»،
الربازيلي ،وقال :هنا كان ي�أتي �صالح عبدال�صبور والتناق�ض هو القا�سم امل�شرتك يف هذه العناوين
ويحت�سي قهوته ،و�أي�ض ًا لوي�س عو�ض� ..أم�شى �إىل وله داللة وا�ضحة تعرب عن موقف الكاتب وت�ؤكده،
جواره في�شري ويتوقف قائ ًال :الأ�ستاذ جنيب كتب فاالزدهار يعقبه ال�سقوط ،وم�ساحة لل�ضوء جتاورها
هنا مريامار ،وينطلق يف حديث طويل عن جنيب م�ساحات �أخرى للظالل ،واجلمر ال يخلو من الرماد،
حمفوظ ،وبالفعل قادين �إىل كل الأماكن التي كان فالكاتب حذر والعناوين حتمل يف كلماتها القليلة
يرتادها �أدباء ال�ستينيات ،وعدت �إىل الوراء خم�سني امل�ضمون والر�ؤية ،وكان كتابه الأخري يف امل�رسح
عام ًا وكان هو �سعيداً يحكي عن املقاهي واحلانات «امل�رسح امل�رصي جتريب وتخريب» ثم توقف عن
و�أ�صدقائه ،ويف القاهرة كان ي�شري �إىل املقاهي كتابة النقد امل�رسحي ب�شكل نهائي وظل بالن�سبة له
واحلانات وال�شوارع مبن كان يرتادها من مثقفي جمرد ذكريات ،وراحت خطاه تتباعد عن امل�رسح
ال�ستينيات. قدر تباعد امل�رسح عن تلك الق�ضايا اجل��ادة التي
جذبته هو وغريه يف فرتة االزدهار.
-3- اعتزل امل�رسح ،وعلى الرغم من �أنه مار�س الكتابة
ثم جاء كتابه الثاين «م�ساحة لل�ضوء م�ساحات عرب النقد الأدب��ي يف ت�سعينيات القرن املا�ضي
للظالل -مقاالت متنوعة عن امل�رسح امل�رصي والعقد الأول من الألفية الثالثة ،ف�إن امل�رسح كان
يف القاهرة والأقاليم »1977 - 1967ون�رش عام ُغ َّ�صة مريرة يحملها �أينما ذهب ،فاعتزل وعا�ش
،1986وت�لاه كتاب «�أوراق من الرماد واجلمر» بني الكتب يقر�أها ويكتب عنها.
منحه عنوان ًا فرعي ًا «متابعات م�رصية وعربية»
و�صدر عام ،1988وك��ان ف��اروق عبدالقادر بد�أ -2-
يفقد �إميانه بامل�رسح الذي �شغل فقط ثلث الكتاب، اختار مقهى يف ميدان باب اللوق وطاولة يرى
لي�أتي بعد ذلك كتابه «ر�ؤى الواقع وهموم الثورة منها امليدان ،م�ساء الأحد ي�أتي يف موعده ال�ساعة
امل��ح��ا��صرة» الكتاب ال��ذي حتققت فيه نبوءاته ال�ساد�سة� ،أحيان ًا �أ�صل قبله بدقائق ،كنت �أترك
55 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
عن الكتابة للم�رسح ك�� ٌل بقدر» و�سوف تتقل�ص التي و�ضعها يف كتاب «ازده��ار و�سقوط امل�رسح
م�ساحة امل�رسح يف �أعمال فاروق عبدالقادر ،وفيما امل�رصي» ،حيث يتناول يف هذا الكتاب كوالي�س
عدا كتاب «امل�رسح امل�رصي جتريب وتخريب»، امل�رسح امل�رصي يف �سبعينيات وثمانينيات القرن
�سوف تخلو كتبه من امل�رسح �أو �ستت�ضمن جمموعة املا�ضي ،ويعر�ض �صورة بانورامية دقيقة لكتاب
من املقاالت املتفرقة لأن خطواته بد�أت ترتاجع عن امل�رسح الذين دخلوا حلبة املناف�سة بعد جيل
الذهاب �إىل امل�رسح ،بقدر تراجع امل�رسح عن طرح ال�ستينات الأكرث �شهرة ،يف درا�سة طويلة هي حمور
�أ�سئلة الواقع ،هكذا كان يقول دائم ًا. الكتاب وت�أخذ عنوان ًا فرعي ًا ال يخلو من داللة م�ؤملة
«الفر�سان ال�صاعدون �إىل خ�شبة امل�رسح املنهارة»
-4- مع ثالث درا�سات لثالثة من فر�سان الكلمة يف
�س�ألته قبل رحيله بعام يف :2009م��اذا يعني ال�ستينيات هم« :نعمان عا�شور ،ميخائيل رومان،
امل�رسح بالن�سبة لك الآن وماذا تتذكر منه الآن؟ وكنا جنيب �رسور» ،مع درا�ستني عن ال�شاعر وامل�رسحي
وحيدين يف املقهى قبل �أن ي�أتي رواد اللقاء ،كان الفل�سطيني معني ب�سي�سو ،و�أخ��رى يتناول فيها
كالنا ينظر �إىل امليدان ،و�أذكر �أنني �شعرت يف تلك �أعمال ال�سوري �سعداللـه ونو�س ،لي�أتي هذا الكتاب
اللحظة �أنه يجل�س يف مقعده متفرج ًا ي�شاهد امليدان الأكرث جر�أة يف تناول م�رسح ال�سبعينيات والذي
م�رسح ًا كبرياً� ،أ�سلم عينيه للمارة و�رسح بب�رصه هرب منه �أغلب النقاد وماطلوا وزيفوا �آراءه��م،
بعيداً وقال يل« :ما �أتذكره الآن املثل القائل ب�أن إر���ض��اء لأ�صحاب هذا
ً وب��اع��وا �أقالمهم خوف ًا و�
الدودة يف �أ�صل ال�شجرة ،واخليانة من امل�رسحيني امل�رسح ،وهذا ما ت�ؤكده الدرا�سة الرئي�سية يف هذا
�أنف�سهم ،فلو �أخل�ص امل�رسحيون ملهنتهم ملا حدث الكتاب «الفر�سان ال�صاعدون �إىل خ�شبة امل�رسح
ذلك ،وهنا �أتذكر و�أعني كرم مطاوع و�سعد �أرد�ش، املنهارة» ليمار�س عادته يف ال�سخرية املريرة مما
حني انحازا للمنا�صب وال�سلطة ،و�أ�صبحت مغازلة يحدث ،فهاهم الفر�سان ي�صعدون �إىل خ�شبة منهارة
ال�سلطة �أه��م م��ن امل����سرح ،والأول��وي��ة للمن�صب، ��ص�لا ،وكيف يرت�ضي فكيف يكونون فر�سان ًا �أ� ً
وكانت �أمام ه�ؤالء وغريهم الفر�صة لردم الهوة بني الفار�س لنف�سه �أن ي�صعد على الأنقا�ض �إال �إذا كان
اجلماهري وامل�رسح ،ولكنهم �ساعدوا على ات�ساعها، فار�س ًا مزيف ًا؟ والعنوان ال يحتاج �إىل تعليق ،حيث
حيث كانت هناك �أجنة جتارب م�رسحية بدءاً من يق�سم الكتاب ه�ؤالء الفر�سان يف حقبة ال�سبعينيات ّ
-ممغاطي�س -نعمان عا�شور وو�صو ًال لأعمال والثمانينات �إىل ق�سمني ،وكالهما من ُك ّتاب امل�رسح
حممود دي��اب ،ولكن خيانة امل�رسحيني �أ�صحاب وي�ضع يف الق�سم الأول «ي�رسي اجلندي� ،أبوالعال
املنا�صب �أجهدت هذا امل�رشوع. ال�سالموين ،ر�أف��ت الدويري» ويف الق�سم الثاين ما
يعمر -امل�رسح اجل��اد -طوي ًال ..فعلى مدى فلم ّ �سماه مب�رسح الدكاترة وهم «فوزي فهمي� ،سمري ّ
عقدين من منت�صف اخلم�سينيات حتى منت�صف �رسحان ،حممد عناين ،عبدالعزيز حمودة» حيث
ال�سبعينيات ،كانت هناك م�شاريع قابلة للتطور قر�أ �أعمالهم يف �إطار ر�ؤى الواقع وماذا طرحت من
ولكنها �أجه�ضت ،ف�رسعان ما �سقط امل�رسح حتت �أ�سئلة اللحظة الراهنة ،وخاف على الفار�سني اللذين
�ضغوط عوامل متعددة منها هزمية 67وحتوالت بد�أت بهما الدرا�سة وهما ي�رسي اجلندي وال�سالموين
ال��واق��ع وترب�ص ال��رق��اب��ة وخيانة امل�رسحيني، من �أن ي�ستدرجهما ما �أطلق عليه «امل�رسح الآمن»
و��سرع��ان م��ا رجحت كفة امل����سرح التجاري من ودوامات الثقافة املرتدية ..ويف �أمل يقول�« :صدقت
ناحية ،وامل�رسح الذي ميالئ ال�سلطة القائمة من النبوءات وحتققت التخوفات ،فكال الكاتبني من
الناحية الأخرى ،وفقد امل�رسح قدراته على نقد الواقع �أ�شهر كتاب امل�سل�سالت التليفزيونية و�إن مل يتوقفا
56 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
كل مراحله و�أدق تفا�صيل حياته ،ومل يكن فاروق وتطلعه نحو امل�ستقبل واهتمامه بجماهري النا�س،
عبدالقادر قا�سي ًا بقدر ما كان �رصيح ًا ليبد أ� من والعمل على رف��ع ق�ضاياهم �إىل خ�شبة امل�رسح،
عالقة امل��ازين الغريبة بالعقاد الذي كان يبدي و�أ�صبح ن�شاطه خا�ضع ًا لقاعدتني ..يف امل�رسح
الر�أي ال�رصيح اجلارح يف عمل املازين ،يف حني التجاري �شباك التذاكر ال يخطئ فهذا هو املعيار،
كان املازين يتناول �أعماله بالإعجاب والتقدير ويف م�رسح الدولة �رضب ما تبقى من احلرية با�سم
ويعامله معاملة الأ�ستاذ وك��ان يعتربه قرينه اجلدية ..و�صمت قلي ًال وهبط بب�رصه من امليدان �إىل
اجل�سور ،بالإ�ضافة �إىل �رسقات امل��ازين ،خا�صة الطاولة وقال يل :وهنا وجدت خطاي تتباعد عن
روايته «�إبراهيم الكاتب» و�أي�ض ًا �رسقاته ال�شعرية امل�رسح قدر تباعده عن تلك الق�ضايا اجلادة التي
حني كان عبدالرحمن �شكري ي�أتي له بالأ�صول جذبتنا نحوه من �أول ال�شباب» (.)2
الإجنليزية ل�شعره ،و�أي�ض ًا �رسقاته امل�رسحية.. رمبا توقفت خطاه عن الذهاب �إىل امل�رسح ولكنه
ويرى �أن املازين كان يتطلع �إىل اخللود ،ويت�ساءل مل يتوقف عن م�رسحة كل تفا�صيل حياته ،مل
يف نهاية الدرا�سة :ماذا تبقى منه؟ ويجيب فاروق يتوقف ع��ن ر�سم ���ص��ورة درام��ي��ة لل�شخ�صيات
عبدالقادر على �س�ؤاله قائ ًال :الإجابة وا�ضحة ،ما الأدبية التي يتناول �أعمالها ،ففي عام 1992
تبقى من املازين طريقته �أو �أ�سلوبه« ،حيث كانت �صدرت الطبعة الأوىل من كتاب «�أوراق الرف�ض
�سخريته مهرب ًا وم�لاذاً ،ولكنها مل تكن �سالح ًا والقبول» والذي �ضم ثالثة �أجزاء« ،وجوه و�أعمال،
ي�شهره �ضد واقع يريد له �أن يتغري .كانت تنفي�س ًا عن قا�صون ورائيون ،م�رسحيون وم�رسحيات» ورغم
كاتبها وامتاع ًا لقارئها» ويف مو�ضوع �آخر «ل�سنا �أن الكتاب يتعر�ض للم�رسح يف جزء �صغري ويحتل
جند يف عامله كله من جنا من �سخريته �سوى �أمه، النقد الأدب��ي ال�سواد الأعظم من الكتاب ،ف�إنني
التي �أبقاها داخل هالة مكتملة من التقدي�س ،تكاد اعتربت الكتاب ينحاز �إىل امل�رسح من الألف �إىل
تعزلها عن العامل» ( )4وال يختلف الأمر كثرياً مع الياء ،وعندى �أ�سبابي لذلك ،فقد ا�ستعان كاتبه
طه ح�سني فريى �أنه كتب «الأيام» �سريته الذاتية بكل خرباته امل�رسحية يف قراءة الأعمال الأدبية
بعد احلملة الظاملة التي تعر�ض لها بعد ن�رش كتاب لري�سم «بورتريه» درامي ًا لكل �شخ�صية تناولها
ال�شعر اجلاهلي «لقد هزته احلملة هزاً عنيف ًا ،و�أحيت يف هذا الكتاب ،ليتذكر القارئ ما فعله الإيطايل
يف نف�سه احل�سا�سة كل �آالم املا�ضي ومرارته ،فراح لويجي براندللو يف م�رسحه ح�ين أ�ط��ل��ق عليه
ميلي هذه الف�صول ،ي�شفي بها جراح نف�سه ،ويكيد «الأقنعة العارية» وكانت الأقنعة على مدى قرون
ملن كادوا له ،ويبدي ر�أيه -من خلف �ستار �شفيف طويلة متثل اجلوهر الأ�سا�سي للم�رسح الرومانى،
-يف طبيعة تلك القوى التي ناو�أته �صبي ًا ،وتكاد حيث كان املمثل ي�ؤدي ال�شخ�صية من خالل قناع،
الآن -يف رجولته � -أن حترمه كل �شيء» (،)5 فهناك قناع الل�ص ،الفار�س ،اخل��ائ��ن ..و�أ�سقط
وهكذا يف ال�شخ�صيات الأخرى ميار�س دوره كرجل براندللو هذه الأقنعة وقدم �شخ�صياته عارية ،وهذا
م�رسح ،حيث ي�ضع ال�شخ�صيات الأدبية على خ�شبة ما فعله ف��اروق عبدالقادر حني تناول جمموعة
امل�رسح من خالل بناء درامي حمكم ال من خالل من ال�شخ�صيات ومنهم :املازين ،طه ح�سني ،ر�شاد
نظرية �أدبية ،فال تخلو الدرا�سات لهذه ال�شخ�صيات ر�شدي ،جنيب حمفوظ ويو�سف �إدري�س ،ولنت�أمل
من ال�صفات التي تر�سم �صورة حمكمة لها ،فها هو ما كتبه عن املازين على �سبيل املثال ،حيث قدم
ي�صف لوي�س عو�ض «حليف ًا للتقدم �صديق ًا للحرية قراءة �شاملة يف �أعماله الأدبية وقراءة حتليلية يف
ال�سيا�سية وامل�ساواة االجتماعية ،داعية لإ�شاعة �سيكولوجية هذه ال�شخ�صية ،وبعد �أن ينتهي القارئ
الإميان بقيم العقل و�إعالء �ش�أنها». من درا�سة املازين ،ي�شعر �أنه التقى به وعا�رصه يف
57 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
غريه جائزة مبارك ( )12والتقديرية ،وهو دون الثورة� ،إال �أن تلك املرحلة مل تنحز له �أو تن�صفه،
�شك �أهم من كل ه�ؤالء ،فما قدمه للحياة الثقافية �صاغ م�رشوعه وفق هذا الزمن ،فخذله ،ومع هذا
�أك�بر من كل اجل��وائ��ز ،ورغ��م ح��زين لفقد �صديقي ظل يحن �إىل �أبطاله حتى رحيله ،مل يتخ َّل عن
و�أ�ستاذي ،ف�إنني كنت مرتاح ًا لرحيله يف تلك قناعته بدور الكاتب يف املجتمع ويقظة �ضمريه،
اللحظة بالتحديد ،وك�أنه ي�أبى �إال �أن يقول ر�أيه فدائم ًا ما كان يبحث عن عالقة الفنان باملجتمع
بحدة كما كان يفعل يف حياته ،وحتى يف الغيبوبة يف كل الأعمال التي كتب عنها «ب�إيجاز �شديد �أقول
التي كان يعي�ش فيها منذ �شهور ظل كما هو فاروق �إن امل�رسح كان ميثل اهتمام ًا ثقافي ًا جاداً ومهم ًا
عبدالقادر ،ولكن هذا لي�س غريب ًا بالن�سبة له �أو حتى منذ منت�صف اخلم�سينيات ،مع �صعود تلك املوجة
بالن�سبة ل��وزارة الثقافة لأنه مل يكن يوم ًا �ضمن اجلديدة من امل�ؤلفني واملخرجني ،وبدا للكثريين
رجالها �أو داخل حظريتها ،بل كان كاتب ًا حراً بكل �أن هذا الفن ميكن �أن يقوم بدور يف ردم الهوة التي
ما تعنيه الكلمة ،جل�س يف هذا املقعد وراح يت�أمل عمقتها مئات ال�سنني بني الثقافة اجلادة من ناحية،
هذه القطعة من ال�سماء واملارة يعربون حتتها ،ثم واجلماهري من الناحية الأخرى ،وحملت تلك املوجة
يقول ر�أيه كما ميليه عليه �ضمريه امل�ستيقظ دائم ًا من امل�رسحيني ر�سالة التط ّلع نحو امل�ستقبل ،وكانت
ويف كل يوم يخو�ض املعارك ويخ�رس الكثري ولكنه على جر�أة وج�سارة يف طرح ق�ضايا الواقع ،حتى
يربح نف�سه دائم ًا. اجلدل حول ال�ش�ؤون ال�سيا�سية املبا�رشة وجد طريقه
�إىل اخل�شبة ،ومن ثم فقد اجتذبت �أ�ضوا�ؤه عدداً كبرياً
الهوام�ش
ومدر�سي الأدب
ّ والقا�صني والروائيني
ّ من ال�شعراء
-1مت ن�رش هذه الكلمات يف �صورة ر�سالة من فاروق عبدالقادر �إىل يف اجلامعة و�سواهم» (.)10
امل�رسحيني (جملة الإذاعة والتليفزيون -16مايو)200 9
- 2يف عام � 1986صدر كتاب «م�ساحة لل�ضوء ،م�ساحات للظالل»
وهو جمموعة املقاالت التي كتبها ما بني �أعوام ،1977 ،1967وهي -7-
املادة التي اعتمد عليها يف كتابه الأول «ازده��ار و�سقوط امل�رسح مات فاروق عبدالقادر ،ويف العزاء جل�ست �أت�أمل
امل�رصي» الذي �صدر عام 1979
- 3من �أوراق الرف�ض والقبول م�صدق ،رمب��ا ع�رشةّ احل�ضور ال�ضئيل و�أن��ا غري
-4املرجع ال�سابق �أ�شخا�ص م��ن املثقفني ،قاعة ال��ع��زاء ف��ارغ��ة /
-5املرجع ال�سابق كم�رسح هجره املمثلون ،هل هذا عزاء الناقد الذي
-6من �أوراق الت�سعينات
-7ر�سالة فاروق عبدالقادر للم�رسحيني (جملة الإذاعة والتليفزيون)
ملأ الدنيا �صخب ًا ،بعد العزاء عدت �إىل املقهى()11
-8يق�صد مبنى الأهرام وجل�ست على كر�سيه �أت�أمل امليدان ،كانت قطعة
-9نفق معتم وم�صابيح قليلة �صغرية من ال�سماء تلوح يف الأفق على باب املقهى،
-10املرجع ال�سابق
وانتظرت �أن يدخل املقهى �ضاحك ًا واثق ًا �سعيداً
-11مقهى �سوق احلميدية �سالف الذكر ،وكان فاروق عبد القادر
يرتاد هذا املقهى منذ ثمانينيات القرن املا�ضي مع الكاتب امل�رسحي با�ستقالله عن امل�ؤ�س�سة الثقافية الفا�سدة كما كان
نعمان عا�شور والناقد امل�رسحي ف�ؤاد دوارة ،وكان لقاء الأحد يف هذا ي�صفها دائم ًا ،را�ضي ًا عن حياته ،قبل �أن ي�صيبه
املقهي قد �أ�س�سه الناقد امل�رسحي ف�ؤاد دواره وبعد رحيله يف منت�صف ال�س�أم فج�أة ،مات فاروق عبدالقادر يف نف�س اليوم
ت�سعينيات القرن املا�ضي � ،أ�صبح لقاء الأحد ،لقاء فاروق عبد القادر
باملثقفني .
الذي �أُعلن فيه عن منحه جائزة التفوق من وزارة
-12جائزة مبارك كانت الأكرب يف جوائز وزارة الثقافة ومت تغيري الثقافة ،وكان طبيعي ًا �أن ميوت �أو ُقل يحتج على
ا�سمها بعد اخلام�س 2011والع�رشين من يناير �إىل جائزة النيل. من منحه جائزة من الدرجة الثالثة ،يف حني مي َنح
ت�سعى هذه الدرا�سة �إىل ر�صد جتليات اخلطاب النقدي عند فاروق عبد القادر ،حماولة
الو�صول �إىل بنياته الأ�سا�سية ،ومالحمه املائزة التي دفعت به لأن ي�صبح ُمعربا -وبجالء-
عن جدارية امل�شهد الإبداعي امل�رصي ،والعربي ،يف حلظات دالة ،وفارقة من مراحله ،وحقبه
املختلفة ،متخذة من كتابه املركزي « :من �أوراق الت�سعينيات :نفق معتم وم�صابيح قليلة»
منوذجا للتطبيق ،ومو�ضوعا للدر�س النقدي ،والدرا�سة و�إن كانت ت�ستعني ب�آليات نقد النقد،
ف�إنها ت�سعى بدءا �إىل تفكيك ااخلطاب النقدي لدى فاروق عبد القادر� ،سعيا �إىل الو�صول �إىل
متايزاته اخلا�صة من جهة ،وو�ضعه يف �سياق امل�رشوع النقدي العربي من جهة ثانية ،ويف
�سبيلها �إىل ذلك تركز الدرا�سة على «نقد الرواية» عند فاروق عبدالقادر من خالل كتابه
امل�شار �إليه �آنفاً.
60
فاروق عبدالقادر
s
s
s
متابعات� /أع��م��ال �أوىل /غياب /مواجهات /نقد رمب��ا ي�صبح مناط اجل���دارة يف �صنيع ف��اروق عبد
ونقاد /مطالعات /من هناك /ثم يتبعهم مبلحق يحوي القادر النقدي ،ات�ساقه مع ذاته ،وقدرته على القب�ض-
ثبتا باملقاالت التي نوق�شت يف منت الكتاب .رمبا وبجدارة -على ما �أ�سميه بـ «ال�رصامة النقدية» ،التي
ينبىء الق�سم الأول (متابعات) عن اخليارات اجلمالية تتعاطى مع الناقد بو�صفه قا�ضيا نزيها ،وحمايدا ،ال
لفاروق عبد القادر ،وجميعها -وبال ا�ستثناء -حتوي يكذب ،وال يدل�س ،ولذا بدا خطاب عبد القادر النقدي
نزوعا خا�صا يف التكري�س للجمايل ،وتعبريا عن ذائقة حممال ب�شحنات فكرية ،وانفعالية ،متثلت يف لغته،
�شفيفة ،لها قدرة التقاط اجلوهري يف الن�ص ،والعامل، وطرائقه ،واختياراته الدالة للن�صو�ص.
وهذا مبتد�أ عمل الناقد احلقيقي ،ومن ثم �سنجد هنا ُيعرب (نفق معتم وم�صابيح قليلة) عن جممل الت�صورات
ح�ضورا لروائيني وقا�صني مثل( :عبد الرحمن منيف/ النقدية لعبد القادر ،وفيه ميكنك االق�تراب �أكرث من
بهاء طاهر /لطيفة الزيات /حممد الب�ساطي� /إبراهيم خياراته اجلمالية ،وعربها ميكن الك�شف عن ر�ؤية
�أ�صالن� /أبو املعاطي �أبو النجا /ف�ؤاد التكريل /فتحي العامل يف خطابه النقدي ،تلك التي ك��ان يتحراها
غامن /حممد �شكري� /أمني معلوف). ف��اروق عبدالقادر يف ن�صه ،دون �أن يحيل مثال �إىل
ويقدم حتت الفتة «�أعمال �أوىل» عددا من املبدعني املفكر لو�سيان جولدمان� ،أو ي�ؤ�صل لها نظريا ،فلم
امل����صري�ين ،ه��م« :حم��م��د ن��اج��ي ،ور���ض��ا البهات، يكن معنيا بامل�صطلح النقدي على �أية حال ،لكنه كان
وعبداحلكيم حيدر ،و�إبراهيم فهمي» ،ف�ضال عن القا�ص معنيا �أكرث بالك�شف عن جوهر الن�صو�ص املختارة،
ال�سوري �إبراهيم �صموئيل. وموقفها الر�ؤيوي من العامل� ،إنه ي�شري مثال �إىل عمل
ويعد نقد ال�شعر هام�شا يف منت امل�رشوع النقدي لفاروق عبدالرحمن منيف « �رشق املتو�سط» يف عبارة مفعمة
عبد القادر ،واحلق �أن معرفته بتحوالته تكاد تن�صب بالتقاط البنية العميقة Dominant Structure
على �أ�صحاب االنعطافات الفنية يف م�سريته ،فهو يف العمل« :ويف كل الأح��وال ،ف�إن البدء بخ�صو�صية
ي�شري مثال �إىل �شاعرين فقط ،يف ع�رش �صفحات� ،ضمن الواقع ،ال عمومية الت�صورات �أو الأفكار ،واالرتباط
منت كتابه ،الذي يتجاوز عدد �صفحاته اخلم�سمائة احلميم بالنا�س ،وممار�سة الدميقراطية ،و�إعمال قواعد
وع�رشين �صفحة ،فيكتب عن مهدي اجلواهري ،ال�شاعر النقد :نقد الذات ،والآخرين ،هي جميعا ما ميكن �أن
العراقي ابن الن�سق الكال�سيكي يف الق�صيد ،ومثوره، تكون �سبل التجاوز ،وهذا ما يهب املعني لكل ن�ضاالت
وعن ال�شاعر املجدد املائز حممود دروي�ش ،وبدت املنا�ضلني» من لقي نحبه ومن ينتظر ،»..ولكل ما
قراءة عبد القادر النقدية معنية بالأيديولوجي �أكرث لقوا من �أه��وال ،وما �أ�صاب الأج�ساد والأرواح من
من الفني ،ومل تعول كثريا على �آليات نقد ال�شعر ،وما وهن وجراح» .ويف معر�ض حتليله لعامل حيدر حيدر
�أكرثها!! وروايته «مرايا النار» يثبت ذلك « :هل انطف أ� كل �أمل
ب��دت الكتابات النقدية ح��ول امل�رسح ل��دى ف��اروق يف عامل حيدر حيدر� ،أال تربق يف �سمائه جنمة واحدة؟
عبد القادر هي الأكرث عمقا داخل م�رشوعه النقدي، ال ،لي�س الأمر كذلك ،ثمة �أمل ،لكنه �شعاع وانٍ يلوح يف
فامل�رسح فنه الأثري ،وحمرابه الذي تعبد فيه ،ف�صار نهاية نفق طويل معتم ،ال بد لبلوغه عن اجتياز النفق
�أيقونة من �أيقوناته ،ورمبا بدت نظراته عن امل�رسحي كله ،وهذا الف�ساد ال�شامل الذي مي أل الليل العربي يحمل
ال�سوري �سعد اللـه ون��و���س ،والتي �أف��رد لها كتابا بداخله نقي�ضه ،فمنه �سيتخلق ن�سل �آخر ،جديد �صلب
م�ستقال -من بعد� -أ�سماه « من �أوراق الت�سعينيات: والمع».
كرا�سة �سعد اللـه ونو�س و�أعمال �أخرى» ،مبثابة الدليل يق�سم ف��اروق عبد القادر كتابه �إىل �سبعة �أق�سام:
61 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
عن غياب املداخل اجلديدة يف النظر �إىل الن�ص الأدبي. الدامغ على وعي فاروق عبد القادر ب�آليات الكتابة
-2ثمة خ�صي�صة للنقد عند فاروق عبدالقادر ،تت�صل امل�رسحية ،وقراءة الن�ص الدرامي ،بل بالوعي احلاد
ب�أ�صل املاهية ،من حيث كون النقد متييزا ما بني بتلك ال�صيغة املفتقدة يف غالب الكتابات النقدية حول
اجليد ،وال��رديء ،لذا ت�شيع �أحكام القيمة يف كتابات امل�رسح ،والتي تتعاطى مع زاوية واحدة من زواياه
عبد القادر ،ورمبا قدرة ف��اروق عبد القادر على �أن املتعددة ،ففاروق عبد القادر كان يتعاطى مع امل�رسح
ي�صنع م�سارات خا�صة به ،تنطلق من قناعاته ب�أن بو�صفه فنا معرو�ضا ،يلتحم فيه الن�ص الدرامي مع
النقد خيار ر�ؤيوي -بالأ�سا�س -ومن ثم جنده مثال يف العر�ض امل�رسحي ،وع�بر متا�سهما� ،أو افرتاقهما،
كتابه (نفق معتم وم�صابيح قليلة) ي�صنع ق�سما حتت يت�شكل خطاب النقد امل�رسحي لديه ،م�سكونا بالنظر
عنوان (مواجهات) يحيل فيه �إىل جملة من معاركه العميق للم�رسح ن�صا ،وعر�ضا.
الفكرية والثقافية املتكئة على ت�صورات نقدية جتاه يف «غياب» ي�ستعيد عبد القادر قيم الثقافة العربية
عدد من الكتاب ،وهذا ما ميكن تلم�سه مثال يف حالة بتنويعاتها املختلفة ،ويف �أ�شد جتلياتها خلقا وابتكارا
الروائي جمال الغيطاين ،والذي يفرد له الناقد فاروق لدى جمال حمدان ،ويحيى حقي ،وعبد اللـه غيث،
عبد القادر مقالني مطولني داخل كتابه نازعا عنه وجربا �إبراهيم جربا ،وحممود دياب ،وحممد رومي�ش.
أ�ي��ة خ�صو�صية �أدبية ،لكن ثمة �إ�شكالية منهجية- ويف «نقد ونقاد» يحيل عبد القادر �إىل �أربعة من �أ�شهر
بالأ�سا�س � -إذ تبدو ت�صورات عبدالقادر بو�صفها النقاد امل�رصيني والعرب وهم� :شكري عياد ،وعلي
تقيميا؛ مع �أن الكاتب� -أي كاتب -قد
ً حكما �إطالقيا ال��راع��ي ،وج��ورج طرابي�شي ،وحممود �أم�ين العامل،
يعلو يف عمل ،مثلما قد يهبط يف عمل آ�خ��ر ،غري �أن على اختالف فيما بينهم يف زوايا التعاطي النقدي
ن�صاعة املوقف النقدي ،و إ�مي��ان ف��اروق عبدالقادر للن�صو�ص� ،أو الت�صور النقدي عن علم النقد ذاته.
مبا يكتبه ،وات�ساقه معه� ،أهم ما ميز عبد القادر هنا،
ماهية النقد عند فاروق عبدالقادر:
ويف الق�سم ذاته (مواجهات) يعرج �إىل مقالني كتبهما
رجاء النقا�ش ،يحويان قدرا من «التدلي�س الثقايف»� ،إذ -1رمبا ي�صبح املوقف الر�ؤيوي �أهم ما مييز عبد
يتحدث يف الأول عن �إجنازات مبارك الثقافية!! ،ويف القادر يف نقده ،ف�ضال عن �إدراك حركة ال�شخو�ص داخل
الثاين يبي�ض �صورة ال�شيخ املراغي ،ويطرحه بو�صفه الن�ص ،ووعي الكاتب ب�آليات بناء ال�شخ�صية بقواها
منوذجا للإ�سالم امل�ستنري ،متجاهال عالقاته الوطيدة الثالث ،غري �أنها تظل مع غريها من عنا�رص الزمان
بالإجنليز ،والق�رص ،وتفانيه يف خدمتهما!! ،فيقول واملكان الروائيني ،واحلوار ال�رسدي ،مبثابة عنا�رص
ف��اروق عبدالقادر عن رج��اء النقا�ش موظفا �آليات �أولية جتاوزتها النظرية النقدية مبباحثها اجلديدة،
التحليل النف�سي يف نهاية املقال« :يخيل �إيل �أنه يدافع و�إن بقى لعبد القادر قدرته على �أ�رس القارئ ،و�إ�رشاكه
دفاعا حارا لأنه ذو طابع نرج�سي -عن منهج بعينه يف معه يف العملية النقدية ،بو�صفه �أحيانا �رشيكا فاعال
الفكر وال�سلوك ،يريد �أن ي�ؤكد – ب�شواهد التاريخ� -أنه يف �إكمال الفراغات الن�صية .فالوعي النقدي لدى
الأكرث �صحة و�صوابا ،قوامه املالينة واالعتدال ،على فاروق عبدالقادر ينطلق من �أن النقد ج�رس بني الإبداع
نحو ما يفهمه� -أو على الأ�صح ي�سيء فهمه -هو ،ثم والتلقي ،ف�ضال عن كونه حماولة لت�رشيح العمل من
مهادنة احلاكم ،بالغا ما بلغ ف�ساده ،وال�سعي لالقرتاب الداخل ،مربزا موقف الكاتب من العامل ،غري �أنه فيما
منه ،بل وو�ضع الثقافة واخلربة واملعرفة واملن�صب يتعلق بنقد الرواية -مناط االهتمام يف الدرا�سة -لن
جميعا يف خدمته» ثم يختتم مقاله بال�س�ؤال /التحليل جند ح�ضورا لأدوات التحليل ال�رسدي اجلديد ،ف�ضال
62 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
وظيفة ت�ؤديها يف البناء الكلي للعمل ،فماذا ت�أخذ، « :فهل يدافع رجاء النقا�ش -حقا -عن ال�شيخ حممد
وماذا ترتك؟ ولكن ..ال بد من �إ�رشاك القارئ يف التعرف م�صطفى املراغي؟».
على الأعمدة الرئي�سية التي يقوم عليها بناء احلب يف ٭٭٭
املنفى» .والالفت هنا �أي�ضا توظيف عبدالقادر جلملة ثمة مالمح �أ�سا�سية للنقد عند فاروق عبدالقادر ،ميكن
�رسدية وردت يف منت الرواية حمل الدر�س النقدي، �إجمالها فيما يلي:
وت�صدير عنوان مقاله بها :بهاء طاهر يف «احلب يف
-1بنية العنوان و اال�ستهالل النقدي:
املنفى» :من يحتمل هذه الدنيا؟» ،ورمبا بدت عناوين
عبدالقادر – يف معظمها -ت�صدر با�سم الكاتب ون�صه، يبد أ� فاروق عبد القادر حتليله النقدي �أحيانا با�ست�شهاد
ثم ي�أتي العنوان داال على جوهر الن�ص واخلطاب معا، ن�صي من العمل الأدبي مو�ضوع الدرا�سة ،ومبا يتيح
يف متا�س مفعم بح�سا�سية االلتقاط ملا هو جوهري لقارئه الدخول يف �أجواء الن�ص مبا�رشة ،وهذا ما نراه
ودال يف الأعمال مو�ضوع النقد ،وهذا ما ميكن تلم�سه مثال يف حتليله النقدي لن�ص (�رشق املتو�سط) لعبد
يف العناوين التالية »:عبدالرحمن منيف يف «الآن الرحمن منيف� ،أو (احلب يف املنفى) لبهاء طاهر ،غري
هنا �أو�رشق املتو�سط مرة �أخرى» :ن�شيد طويل يتغنى �أنه �رسعان ما يبني على اال�ستهالل النقدي املتنا�ص
بعظمة الإن�سان�« /أوراق �شخ�صية» :لطيفة الزيات مع العمل الأدبي ،مدركا �أنه ُيعبد ج�رسا ما بني الن�ص
تنظر وراءه���ا ب�صدق /بهاء طاهر يف «احل��ب يف ومتلقيه ،فبعد �أن يوردا مقطعا من رواية بهاء طاهر
ال�شهرية «احلب يف املنفى»« :من يحتمل هذه الدنيا؟
من يحتمل غطر�سة املتكربين والطغاة والأمراء و�آالم
احلب املخذول ،واالنتظار الطويل وا�ستحالة العدل،
وهزمية الرقة �أم��ام الوح�شية ،وك��ل تلك الأنانية،
وكل ذلك الظلم ،من يحتمل هذه الدنيا؟» ثم يردف
عبدالقادر معلقا» هذا ما قالته بريجيت �شيفرز :املر�أة
النم�ساوية ال�صغرية اجلميلة ل�صاحبها الكهل امل�رصي
يف لقائهما الأخري .لكنها مل تكن البداية» ،ثم يدخل
�إىل جوهر خطابه النقدي م�صدرا �إياه بحكم قيمة �إزاء
الن�ص مفاده« :هي روايته الرابعة ،و�أكرثها تكامال
و�إحكاما وات�ساع مدى و�شمول ر�ؤية» ،ثم ي�رشع يف
الربهنة على �آرائه موظفا الدالئل الن�صية ،ومتكئا على
معرفة عميقة بالعوامل املحكي عنها .ومن ثم لن جند
عناء كبريا يف �أن نلمح تكرار عبارة (نوجز� /أوجز) يف
منت اخلطاب النقدي لعبد القادر ،والذي يتعاطى مع
النقد يف �صيغه الأولية ،بو�صفه َمعربا بني الإب��داع،
والتلقي ،ولذا نراه يعلن �أنه «كلما زاد �إحكام العمل
زادت �صعوبة �إيجازه ،هنا قد جتد لكل كلمة كتبت،
و�شخ�صية �أ�ضيفت ،وحادثة وقعت �أو متت ا�ستعادتها،
63 نزوى العدد / 74ابريل 2013
فاروق عبدالقادر
s
s
s
املركزية يف نتاجه ،مثل :االنطالق من جدل ال�سيا�سي املنفى» :من يحتمل هذه الدنيا؟ � /إبراهيم �أ�صالن:
مع الفني ،والوعي مبحيط الن�ص االجتماعي ،وحتليل املوت يف «وردي��ة ليل» /حممد الب�ساطي يف عملني
ال�رسد وفق ت�صور ي�ستدعي كثريا من ممار�سات النقد جديدين :الدمع الذي يف�ضح �صاحبه /حيدر حيدر يف
امل�رسحي ،واال�ستعانة با�صطالحات علم النف�س، «مرايا النار» :طائر متعب ،هارب من الع�شق والوطن/
ومناهج التحليل النف�سي يف النقد �أحيانا. ف�ؤاد التكريل يف «موعد النار» :من �أين �أتت كل هذه
وبعد ..ال من عباءة النظرية النقدية ،وال من رحم ال��ن�يران؟� /أب��و املعاطي اب��و النجا يف جمموعاته
مداخالت النقد اجلديدة خرج فاروق عبدالقادر ،كما الق�ص�صية :اجلدل الدائم بني الفرد واجلماعة........،
مل يبحث عن مداخل خمتلفة للخطاب النقدي ،وهذا وهكذا.
ما جعل خطابه مفتقدا الإحكام العلمي ،وال�رصامة -2الر�ؤية الكلية للإبداع :رمبا بدت ر�ؤي��ة فاروق
املنهجية ،لكن ثمة ��صرام��ة �أخ���رى ق��د الح��ت يف عبدالقادر للكتابة امل�رصية بو�صفها �إحدى تنويعات
الأفق� ،إنها �رصامة املوقف الفكري ،والنقدي ،والتي الكتابة العربية ،ولذا فثمة ح�ضور بارز ملبدعني من
�أبقت فاروق عبدالقادر يف الوجدان اجلمعي للثقافة �أقطار عربية غري م�رص يف كتابه حمل الدرا�سة ومبا
امل�رصية ،والعربية بو�صفه �أحد حرا�س ال�ضمري النقدي يوازي م�ساحة تقرتب من ن�صف املنت النقدي للكتاب،
فقد كان ينظر �إىل الإبداع العربي على امتداده ،لن�صبح
يف مراحل دالة وفارقة من عمر الكتابة الإبداعية.
– ومن ثم� -أمام ت�صور نقدي ينطلق من ر�ؤية كلية
وم��ن ال��وع��ي احل��اد بامل�شهد الإب��داع��ي امل�رصي،
للثقافة العربية ،تتعاطى مع الإب���داع بتنويعاته
والعربي ،وتعاطيه معه بو�صفه �سل�سلة من الرتاكمات
املختلفة ،م�رصيا ،وعربيا ،ومبا يعني �أن االنت�صار
املعرفية واجلمالية ،ومن انطالقه من» الآن /وهنا»
للجمايل ،والر�ؤيوي كان هاج�سا مركزيا لدى فاروق
بلغة امل�رسح الذي �أحبه �أكرث من غريه ،من خربات
عبد القادر.
احلياة وهمومها وعراكها امل�ستمر ،من �صخبها،
-3مل ي�أت فاروق عبد القادر من رحم النظرية النقدية
وعنفها ،ومكونها املحلي جاء ف��اروق عبدالقادر، مبداخالتها اجلديدة (الأ�سلوبية /ال�شكالنية /البنيوية
حامال معه ت�صورات نقدية �آتية من عالقة املارك�سية بتنويعاتها /التفكيكية� ...إل��خ) ،لكنه بدا قادما من
بالنقد الأدب��ي ،ومبا حتوية من جدلية العالقة بني مزيج من املناهج والت�صورات املختلفة (الفرويدية،
الأدب وال��واق��ع ،والتما�س ما بني ال��ذات وحميطها واملارك�سية) ،وبدا واعيا بالإن�سان /الفرد يف �سياقه
االجتماعي ،وجدل ال�سيا�سي /الأيديولوجي مع الفني/ االج��ت��م��اع��ي ،ويف عالقته باملجموع ،وبرغباته
اجلمايل ،من جهة ،وح�ضور الفرويدية يف الإب��داع ونوازعه الداخلية يف الآن نف�سه.
ك�شفا عن النوازع والرغبات املقموعة داخل الإن�سان/ -4ال�رصامة النقدية :يعول عبدالقادر كثريا على
الفرد من جهة ثانية ،ليبقى فاروق عبدالقادرمبنجزه املوقف النقدي ،وهذا ما يت�سق مع النظر �إىل الناقد
النقدي والفكري ناقدا �شاخما ،يف خندق اال�ستقالل، بو�صفه رائدا ال يكذب �أهلَه ،و�أن ح�ضور ال�ضمري النقدي
واحل��داث��ة ،والإب���داع امل�سكون بالنا�س ،وحيواتهم، القائم على املعرفة العميقة والنزاهة املطلقة هي من
و�أمانيهم ،وهواج�سهم ،من ال�شوق امل�ستمر �إىل احلرية مرتكزات العمل النقدي ،وبدهياته الأ�سا�سية.
بو�صفها فعل حياة ،والرف�ض املطلق للقمع ،والرجعية، -5ثمة خيط ينتظم التطبيق النقدي ل��دى ف��اروق
واال�ستبداد. عبدالقادر ،ميكن تلم�س مالحمه يف عدد من ال�سمات
66
حياة �إزرا باوند
يف �إيطاليا وما بعدها
ترجمة� :أحمد �شافعي لو�سيانو ماجنيافيكو
�شاعر ومرتجم من م�رص يقيم يف ُعمان
يف الرابع والع�رشين من مايو �سنة ،1945وجد ال�شاعر الأمريكي املرموق «�إزرا لومي�س باوند
« Ezra Loomis Poundنف�سه حبي�س زنزانة خا�صة بل هي قف�ص يف حقيقة الأمر يف املركز الع�سكري
الأمريكي للتدريب على االن�ضباط يف ميتاتو على بعد �أميال قليلة من بيزا يف �إيطاليا ..كان
مركز التدريب على االن�ضباط ذلك هو الذي ت�صفه ال�صحف بـ «م�ستودع نفايات جي�شنا القذرة
يف م�رسح ال�رشق الأو�سط» ،وكان ي�ستخدم يف احتجاز �أفراد اجلي�ش الأمريكي ممن يرتكبون
خمالفات جنائية خطرية فينتظرون فيه املحاكمة الع�سكرية �أو الرتحيل �إىل م�ؤ�س�سة عقابية
يف الواليات املتحدة� ،أو الإعدام .كان �أغلب ال�سجناء يقيمون يف خيام ،ولكن امل�شتبه يف ميلهم
�إىل االنتحار كانوا يعدون خطرا على غريهم ،وكذلك امل�شكوك يف �أنهم �سوف يحاولون الهروب،
واملحكوم عليهم بالإعدام ،فكان ه�ؤالء جميعا يو�ضعون فيما يقال له «زنازين املالحظة»
املعروفة بني ال�سجناء با�سم «زنازين املوت» .وكانت فرقة التدريب على االن�ضباط رقم 7103
بقيادة املقدم جون ل �ستيل خريج جامعة هارفرد هي امل�س�ؤولة عن �إدارة املع�سكر.
67
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
يثري جاره بهذا ال�شكل. باوند كان املدين الوحيد هناك .وكانت التعليمات
واحلرا�س كانوا يجهلون تفا�صيل �أ�سباب حب�س ال�صادرة من جهات عليا تق�ضي بالإبقاء عليه
باوند ال��ذي ك��ان يف ذل��ك الوقت على م�شارف حتت «رقابة دائمة وخا�صة ،ملنعه من الهرب �أو
ال�ستني حب�س عتاة املجرمني ،فكانوا حائرين يف االنتحار .وعدم االت�صال بال�صحافة .وعدم توفري
�أمره ،خا�صة و�أن �سلوكه على ما فيه �أحيانا من �أي معاملة ا�ستثنائية».
�شذوذ وخروج على امل�ألوف كان م�ساملا ونبيال كان احلرا�س امتثاال لهذه الأوام���ر ،و�ضع باوند يف
وغري منطو على �أي خطر. �إحدى زنازين املوت يف املع�سكر .وكانت
وبعد قرابة �أ�سبوعني يف هذا اجلو ،ويف ال�سابع يجهلون تلك الزنازين عبارة عن �أقفا�ص من احلديد
من يونيو تقريبا ،تعر�ض باوند فيما يبدو النهيار تفا�صيل ال�صلب ،على هيئة مربع طول �ضلعه �ستة
ع�صبي ،وال عجب وق��د تعر�ض حل��رارة النهار �أقدام ،وهي مو�ضوعة يف الهواء الطلق،
�أ�سباب حب�س
وكانت بني 75و 90درجة فهرنهايت يف يونيو ومك�شوفة من جوانبها الأربعة ،ومغطاة
بتو�سكاين ،وبرودة الليل الن�سبية ،والغبار ،وانعدام باوند وهو من �أعلى بلوح معدين ،وكانت �أ�ضواء
اخل�صو�صية ،والعزلة االجتماعية .وبعد ب�ضع على م�شارف امل�صابيح تبقى م�سلطة عليها طول الليل،
�سنوات ،ك�شف باوند عن فرتة اعتقاله يف بي�سا: ويبقى �سجنا�ؤها معزولني ،حمظورا على
«نعم ،كانوا يعتقدون �أنني �شخ�ص خطر ،ال ميكن ال�ستني حرا�سهم �أن يكلموهم .وكان قف�ص باوند
التنب�ؤ بت�رصفاته ،وكنت �أرى فعال �أنني �أ�سبب لهم وبرغم مدعما بحديد من الذي ي�ستخدم يف تبليط
الرعب .كنت �أحيانا �أالحظ �أن احلرا�س ينظرون يل مم���رات ال��ط��ي��ارات يف م��ي��ادي��ن احل��رب
نظرة الق�ضاة .كنت �أفهم من نظرتهم يل �أن ’’ابق حريتهم من امل�ؤقتة .وقيل فيما بعد �إن ال�سبب يف ذلك
يف مكانك �أيها الغوريال!’’ وحينما كانت تنتهي �سكونه اال هو منع الفا�شيني من حماولة تهريبه.
يف بده�شة. وردياتهم كانوا ي�أتون فيبحلقون ّ ول��ك��ي مينعوا ال�سجناء م��ن حماولة
وكانوا يف بع�ض الأحيان يرمون يل قطعة حلم �أنهم وجدوه االنتحار ،كانوا ال ي�سمحون لهم بحزام �أو
�أو حلوى ،متاما كاحليوان� .إز EZالعجوز وقد م�ساملا وغري برباط للحذاء �أو ب�رسير ،فكانوا ينامون
�أ�صبح فرجة». على خر�سانة الأر�ضية ال يف�صلهم عنها
منطو على
واحل��ق �أن��ه ك��ان حزينا ال خطريا .ك��ان من بني �إال بطانية .كانوا ي�أكلون مرة واحدة يف
ق�ضبان قف�صه ،يرى يف البعيد ،عرب الهواء ال�ساخن خطر اليوم ،وي�ستعملون علبة يف �أحد �أركان
امل�ضطرب ،تلك التالل املنخف�ضة القريبة من بيزا، املحب�س للتخل�ص من ف�ضالت �أج�سامهم.
وقد ك�ستها مظالت من �أ�شجار ال�صنوبر .وكان وكانوا ي�سمحون لباوند باخلروج من قف�صه مرة
باوند قد ر�أى تلك التالل يف عام ،1898عندما كل ثالثة �أيام ليذهب في�ستحم ،ويحرك ج�سمه
جاب �إيطاليا ب�صحبة �أبويه وهو يف الثالثة ع�رشة يف امل�سافة من حمب�سه وحتى حمام ال�سجناء.
من العمر ،ثم إ�ن��ه يف عام 1923مر باملنطقة مل يكن م�سموحا بالكتب وال ب�أية مواد �صاحلة
�أي�ضا ب�صحبة «�إرن�ست همنجواي» وزوجته، للقراءة� ،إال الإجنيل .وكان من بني جريان باوند
حيث ق�ضى الثالثة رحلة طويلة جابوا فيها �شبه جندي بدا �أنه حوكم و�أدين وحكم عليه بالإعدام ٌّ
اجلزيرة الإيطالية. فكان ال يكف من فرط ي�أ�سه عن اجلهر بال�سباب
غري �أن عزلته هذه املرة جعلت عينيه �أح َّد �إب�صارا وال�شتائم .وبالطبع مل يكن باوند يعرف ما الذي
68 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
معهم برقة .وكان يقول للأطباء �إن احلكومة لن للبيئة املحيطة ،و�أفقدته تفا�ؤله وخيالءه وثقته
تقدمه مطلقا للمحاكمة بتهمة اخليانة لأن لديه بنف�سه .وكذلك كتب يف �أحد �أنا�شيده :Cantos
«الكثري على العديد من النا�س يف وا�شنطن»، وحينما يت�أرجح العقل على ع�شبة
وفيما كانوا ينقلونه من املع�سكر �إىل روما متهيدا تنقذك ب�ساقها الأمامية منل ٌة
لرتحيله �إىل وا�شنطن ،و�ضع يديه حول عنقه، وتكون لورقة الرب�سيم رائحة زهرته ومذاقها.
م�شريا �إىل �أنه ذاهب �إىل الإعدام �شنقا. ومع ذلك ،وبرغم هذه الظروف القا�سية التي كان
بقي معتقال يف املع�سكر حتى اخلام�س ع�رش من يعي�شها ،بقي ال�شاعر يكتب ،مدونا على ورق
نوفمرب ،ويف ذلك اليوم �أقلته الطائرة من روما �إىل املرحا�ض بع�ض الق�صائد التي جمعت بعنوان
وا�شنطن ملواجهة تهمة اخليانة. «�أنا�شيد بيزا .« The Pisan Cantos
من كان ذلك الـ �إزرا باوند املجهول ،البعيد كل ظ��ل حمتجزا يف قف�صه احل��دي��دي ق��راب��ة ثالثة
البعد عن ال�شاعر املرموق الذي ن�صادفه اليوم �أ�سابيع �إىل �أن �أ�صبحت حالته املتدهورة وا�ضحة
يف الأنطولوجيات؟ وملاذا احتجز يف قف�ص يف ال �سبيل �إىل جتاهلها .كان قد �أ�صبح ال مباليا،
تو�سكاين ،ومل��اذا وجهت �إليه الواليات املتحدة ي�أكل ولكن �أقل القليل ،وال يكاد يقوم من فوق
تهمة اخليانة العظمى؟ البطانية.
jhj ويف ال��راب��ع ع�رش واخل��ام�����س ع�رش م��ن يونيو،
برغم زواجه �سنة 1914من دوروث��ي �شك�سبري، فح�صه طبيب املع�سكر النف�سي ،فوجد دالئ��ل
ظلت عينا باوند على الن�ساء ،وظل ال يرى فارقا فقدان للذاكرة ،واالكتئاب ،واالختالل العام يف
بني الإغ���واء والإب���داع الفني .وكانت دوروث��ي التوازن .ومل يكن باوند من قبل قد �أبدى اهتماما
ع��ل��ى ع��ل��م ب��غ��رام��ي��ات زوج��ه��ا ولكنها �آث���رت يذكر بالطب النف�سي ،بل وكان يطلق على منظِّ ره
جتاهلها .ويف خريف �سنة ،1922عندما كان الأكرب ا�سم «�سجموند الدجال» م�ضيفا يف مو�ضع
يف ال�ساد�سة والثالثني ،وقعت عيناه على عازفة �آخر �أنه «بف�ضل فرويد ودو�ستويف�سكي بات لدينا
الكمان الأمريكية «�أوجل��ا رودج» لتبد أ� من ذلك الآن جي�ش من املخنثني ،املتوترين ،القلقني حلد
ق�صة حب ا�ستمرت �إىل �أن م��ات �سنة .1972 املر�ض على حيواتهم العاطفية التافهة .»...ولكنه
كانت رودج عازفة معروفة تعمل يف الغالب مع بف�ضل الأطباء النف�سيني نقل �إىل خيمة هرمية (من
امل�ؤلف املو�سيقي الإيطايل «�إلدبراندو بيزيتي»
النوع الذي كان يحتجز فيه ال�ضباط املتهمون
وعازفة البيانو «ريناتا بورجاتي» .وقد كتب
باوند الذي كان يعمل ناقدا مو�سيقيا بني احلني بارتكاب جرائم) ،و�سمح له بالقراءة ،وا�ستقبال
والآخر مقالة عن �إحدى حفالتها ،ولكن االثنني زيارات من زوجته ،بل و�سمح له بني احلني والآخر
مل يلتقيا فعليا حتى عام 1923يف بيت الكاتبة با�ستخدام الآلة الكاتبة .وهكذا وا�صل يف اخليمة
امل�رسحية والروائية «ناتايل بارين» .وعلى الرغم كتابة «�أنا�شيد بيزا» وترجمة �أعمال كونف�شيو�س
من �أن باوند ورودج كانا يتحركان يف دائرتني من ال�صينية.
اجتماعيتني خمتلفتني ،فقد التقيا على الفور �أ�صبح باوند بطريقة ما جنم املع�سكر� .صار يخرتع
ثقافيا ،بل �إن رودج عزفت مو�سيقى �ألفها باوند. لنف�سه مترينات ريا�ضية ،فيحاكي املبارزة ولعب
يف ع��ام 1924ي�شعر �آل باوند بالتعا�سة يف التن�س م�ستخدما ع�صا مق�شة قدمية ،وكان مهذبا
باري�س فيقررون االنتقال �إىل �إيطاليا .ويف �أواخر وودودا مع احلر�س الذين كانوا يبادلونه رقته
69 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
و�أخريا فا�ض بدوروثي من �سلوك زوجها فرتكته � 1924أو مطلع 1925كانوا يف �صقلية ي�سافرون
ورحلت لفرتة طويلة ،ق�ضتها مع �أمها يف �سيينا، برفقة ال�شاعر الأيرلندي «دبليو بي يت�س» وزوجته
ويف م�رص التي عا�شت فيها بني دي�سمرب 1925 «جورجي هايدلي�س» ولكنهم اجتهوا بتو�صية من
ومار�س ،1926وال بد �أنها كانت على عالقة يف همنجواي �إىل ال�شمال حيث عا�شوا يف رابالو وهي
م�رص مب�رصي جمهول� ،إذ �أنها حبلت .ثم ذهبت �إىل بلدة تقع يف ريفيريا ليجواريا �إىل ال�رشق من جنوا.
باوند يف باري�س يف يونيو 1926حل�ضور �أوبرا كانت رابالو ب�سبب لطفها واعتدال جوها مق�صدا
Le Testament de Villonالتي كتبها، �أثريا لدى الكتاب والفنانني .فمن بني من عا�شوا
ولكنها بقيت يف باري�س بعدما رجع باوند �إىل هناك يف القرن الع�رشين ،نذكر همنجواي وييت�س
�إيطاليا .وحينما جاءها املخا�ض ،كان همنجواي و�إليوت وجريهارد هاوبتمان وماك�س بريبوم
هو الذي ا�صطحبها �إىل امل�ست�شفى الأمريكي يف وجام�س الفلني.
باري�س حيث �أجنبت «عمر �شك�سبري باوند» يف ولقد قال باوند الذي �سبق له �أن عا�ش يف �إيطاليا
�سبتمرب .والظاهر �أن دوروثي باوند �ش�أن �أوجلا لأحد �أ�صحابه �إن «�إيطاليا هي مكاين الذي �أبد أ�
رودج مل يكن لديها �صرب وجلد على الأمومة فيه الأ�شياء» .ب�رسعة ا�ست�أجر باوند �شقة يف �أعلى
فعهدت بالولد �إىل �أمها �أوليفيا يف اجنلرتا �إىل �أن باالت�سو باراتي وهي عمارة �شاهقة تطل على
بلغ من العمر ما يكفي لإحلاقه مبدر�سة داخلية. البحر (ك��ان املدخل �إىل �شقتهم يقع يف �شارع
يف الوقت نف�سه ،كانت �أوجلا رودج ال تزال على خلفي هو �شارع فيا مار�ساال) وعا�شا هنالك حتى
عالقتها بباوند ،وكانت تقيم يف فين�سيا يف بيت عام .1944وقد كتب ييت�س الذي انتقل �إىل رابالو
�صغري منحها �أبوها �إياه يف عام .1928وكان �سنة 1928يقول:
باوند يزورها هناك كلما �أمكنه ذلك ،فقد كانت «�إزرا باوند ...رجل كان ينبغي �أن �أت�شاجر معه
الرحلة من رابالو �إىل هناك بطول 168ميال ،وكان �أكرث مما ت�شاجرت مع �أي �شخ�ص �آخر لو مل توجد
يطلق على بيت فين�سيا ا�سم «الع�ش املخبوء» .ويف بيننا عاطفة ،ل��و مل نع�ش �سنوات يف �شقتني
عام 1930ا�ست�أجرت رودج �أي�ضا �شقة يف حي ت�شرتكان يف �سطح واحد مطل على البحر .وكنا
�سان �أمربوجيو الواقع على تل م�رشف على رابالو، جنل�س يف ال�سطح وهو �أي�ضا حديقة نتناق�ش يف
وهي ال�شقة التي �سميت بـ «كا�سا »60ن�سبة �إىل الق�صيدة الهائلة التي كان قد ن�رش منها �سبعة
رق��م ال�شارع ال��ذي كانت فيه .وهنالك عا�شت وع�رشين ن�شيدا».
رودج على فرتات متقطعة فيما بني 1930وحتى حلقت �أوجلا بباوند يف رابالو وا�ستمرت عالقتهما،
،1985و�أ�سكنت معها �إزرا ودوروث��ي يف الفرتة حيث كان باوند يزورها كثريا بينما يعي�ش مع
من � 1944إىل .1945كانت �شقتها يف الطابق زوجته دوروثي .و�رسعان ما حبلت �أوجلا و�أجنبت
الثالث ،وكانت يف الطابق الأول مع�رصة زيت يف التا�سع من يوليو �سنة 1925طفلة هي ماري
زيتون .ويف حني ميكن الو�صول اليوم �إىل البيت باوند (التي ت�سمت بعد ذلك مباري دو را�شفيلتز).
الذي �أ�صبح ملكية خا�صة باحلافلة العمومية، ولكي ت�ضع �رسا� ،سافرت �إىل بري�سانوين يف جنوب
ف�إن الو�صول �إليه �أيامها مل يكن ممكنا �إال بطلوع تريول وتركت الطفلة يف قرية جايي�س مع امر�أة
التل على القدمني عرب ممر �ضيق ،يف رحلة مرهقة تتكلم الأملانية كان املوت قد �سلبها ابنها .وافقت
ت�ستغرق ن�صف �ساعة من �ساحل رابالو .وكان املر�أة على رعاية الطفلة ماري يف مقابل مائتي
البيت خاليا من و�سائل الرفاهية الع�رصية ،حتى لرية يف ال�شهر ،فبقيت عندها حتى بلغت العا�رشة
�أن الكهرباء مل تكن و�صلت �إليه .وا�ستمرت �أوجلا تقريبا.
70 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
ظ��ل ب��اون��د ي�ضع عينه على مو�سوليني لوقت ��صراع م�ستمر ب�ين املنتجني وغ�ير املنتجني
طويل راجيا �أن يتخذ منه قناة لإ�شهار �أفكاره وم��ن يحاولون �أن يك�سبوا لقمة عي�شهم ب���أن
االقت�صادية ورمبا تبنيها .وبعد �شهر واحد من يح�رشوا نظاما حما�سبيا زائفا بني املنتجني
تويل مو�سوليني ال�سلطة يف الثالث والع�رشين من وحقهم العادل ...يتحرك املرابون عرب االحتيال
ابريل �سنة ،1923طلب باوند مقابلة الدوت�شي، والتزييف والتخريف وقوة املادة وحينما ال تنجح
فلم يلق طلبه �إال التجاهل. كل هذه املناهج ،يطلقون حربا� .إن كل �شيء يدور
ويف وق��ت الح��ق من فرباير �سنة 1927عزفت حول االحتكار ،واالحتكارات بالذات تدور حول
�أوجلا رودج يف حفل �أقيم مبقر �إقامة مو�سوليني. االحتكار النقدي الوهمي العظيم».
وم��ن املالحظ �أن الدوت�شي ك��ان ع��ازف كمان �أدان باوند التعاون بني احلكومة ورجال املال،
مناف�سا ،وك��ان ي�ستمتع باملو�سيقى .وق��د ذكر فذلك التعاون كان ي�سمح لهم فيما يرى باوند �أن
معا�رص للحدث من يوجن�ستناون ب�أوهايو التي يخدعوا اجلمهور ،من خالل «االحتكار النقدي».
ولدت فيها �أوجلا �أن «مو�سوليني �أثنى على الآن�سة ولي�س من املمكن �أن يوجد احتكار بغري دعم من
رودج وتكنيكها و�إح�سا�سها املو�سيقي قائال �إنه احلكومة ،واالحتكارات النقدية بالذات طفيلية
من النادر �أن يرى امل��رء هذا النربة من العمق للغاية ،فهي ال تنتج �سلعا ملمو�سة.
والدقة ’ال �سيما من امر�أة’» .ويف تلك اللحظة يف �أوروب�����ا ال��ث�لاث��ي��ن��ي��ات م��ن ال��ق��رن
واتت باوند فكرته العظيمة ب�إمكانية ا�ستمالة مل يكن امل��ا���ض��ي ،وم���ع وج���ود ط��اغ��ي��ت�ين يف
مو�سوليني لدعم الكتاب والفنانني الطليعيني. باوند فا�شيا �أملانيا ويف �إيطاليا ،الح��ظ باوند �أنه
يف دي�سمرب �سنة ،1932ح��اول م��رة �أخ��رى �أن يف ظل توجيه الدولة و�سيطرتها �شبه
يطلب مقابلته ،مرفقا مع طلب املقابلة ن�سخة �صريحا ،بل املبا�رشة على العمل امل�رصيف والأن�شطة
من �سيناريو فيلم كتبه عن ن�ش�أة الفا�شية ،فلم كان متعاطفا االقت�صادية ،تراجعت م�ستويات البطالة
يلق هذا الأ�سلوب �أي�ضا �إال التجاهل ،ولكن بعد والت�ضخم ،وازداد الإن��ف��اق ال��ع��ام يف
�أيام قليلة طلب باوند املقابلة ،منتويا �أن يعر�ض مع نظرياتها جم��االت التعليم وال�صحة وغريها من
على مو�سوليني مقالة كتبها ردا على �صحيفة اخلدمات االجتماعية.
�أمريكية انتقدت �أفكار مو�سوليني ،وهي مب�سوطة وع��ل��ى ال��رغ��م م��ن �أن ب��اون��د مل يكن
يف كتاب «�إمييل لودفيج» بعنوان «حماورات مع فا�شيا �رصيحا ،ك��ان متعاطفا مع نظرياتها
مو�سوليني» .ويف ه��ذه امل��رة جنح باوند ،ويف و�أغلب ممار�ساتها .وملا كان باوند قد در�س يف
ال�ساد�س ع�رش من فرباير �سنة 1933التقى ال�شاعر ع�رشينيات القرن الع�رشين النظريات الثقافية التي
والطاغية. قال بها عامل الإثنيات الأملاين «ليو فوربنيو�س»
عر�ض باوند على مو�سوليني بع�ض �أنا�شيده وفرح والذي كان يعتقد �أن الثقافة نتاج لأعراق معينة،
عندما ر�أى مو�سوليني �أن الق�صائد «م�سلية» ،بل فقد خل�ص باوند �إىل �أن مو�سوليني هو التج�سيد
�إنه يف واقع الأمر خلّد تعليق الدوت�شي العابر يف العبقري للثقافة الإيطالية :فهو الذي �أطاح بكبار
الن�شيد احلادي والأربعني حيث يقول: املالك اجل�شعني ،وجعل من ال�سيا�سة فنا ،و�ساند
ق��ال ال��زع��ي��م «ول��ك��ن ه���ذا» [ما كوي�ستو Ma �إحياء الثقافة .ولقد �أكد �أن «مو�سوليني قال ل�شعبه
questoيف الأ�صل] �إن ال�شعر ��ضرورة من ��ضرورات الدولة ،ف�أظهر
«هذا ظريف» [�إي ديفرتينتي ]é divertente بذلك ب�أن يف روما من احل�ضارة الرفيعة ما ال
هكذا التقط املغزى قبل �أن ي�صل �إليه علماء اجلمال يرقى �إليه ما يف لندن �أو وا�شنطن».
72 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الأربعينيات �أن �شخ�صيته قد انعطفت انعطافة تكلم باوند �أي�ضا عن درا�ساته ال�صينية ومفهوم
ح��ادة �إىل الأ���س��و�أ� .أ�صبح ال يت�سامح م��ع من كونف�شيو�س الذي يرى �أنه من �أجل و�صول املرء
يخالفونه الر�أي وباتت نرج�سيته غرورا ،فلم يعد �إىل ت�صحيح تعريفاته وتو�ضيح �أفكاره ،فال بد له
يرى �أن �شعره وح�سب هو اجلدير بلفت الأنظار، من «�صياغة النظام كالما» .ومل يفهم مو�سوليني
بل و�آراءه االقت�صادية وال�سيا�سية �أي�ضا .وظن ما قاله باوند ف�س�أله «وملاذا تود �أن ت�ضع نظاما
«جيم�س جوي�س» وغريه �أن باوند قد يكون �أ�صيب يف �أفكارك؟» فر�أى باوند يف الرد دقة ولطفا.
باجلنون ،فقد �أك��د ال�شاعر الربيطاين «روب��رت اقتحم الدوت�شي ب��اون��د ،وب�ين حني و�آخ��ر كان
فيتزجريالد» الذي كان يعرف كتابات باوند متام باوند ير�سل �إليه ن�سخا من كتاباته م�صحوبة
املعرفة يف تلك الفرتة �أن باوند «بات يبدو �شخ�صا باقرتاحات بتغيريات �سيا�سية �أو اقت�صادية .ويف
منف�صال ...وما كان يبدو لديه من بهجة رفيعة كتاب �صدر عام 1935بعنوان «جيفر�سن و�/أو
بل و�أوملبية بات يبدو طفوليا حائدا عن الهدف. مو�سوليني» قارن باوند بني الدوت�شي وتوما�س
وال ميكن �إال ملن يعمل يف عزلة متجاهال النقد جيفر�سن م�ؤكدا:
�أو غافال عنه �أن يعجز عن ر�ؤي��ة �ضعف احلجة «�إنني ال �أعتقد �أن �أي تقييم ملو�سوليني ي�صلح
وتهافتها». ما مل يبد أ� من حبه للبناء .عامِ لوه معاملة الفنان
يف ابريل من عام � ،1939أبحر باوند من �إجنلرتا فحينئذ ترون كل تف�صيلة وقد ا�ستقرت يف مكانها
ال��ت��ي ذه��ب �إليها حل�ضور ج��ن��ازة حماته �إىل املالئم ...لقد كانت الغاية من الثورة الفا�شية هي
نيويورك ،راجيا �أن يذهب �إىل وا�شنطن ويتكلم احلفاظ على حريات معينة ،وعلى ثقافة .»...
مع الرئي�س ليقتعه بالبقاء مبعزل عن التورط يف يوليو من عام � ،1935أر�سل باوند �إليه ن�سخة
يف احلرب املو�شكة يف �أوروبا .ويف وا�شنطن ،مل م��ن «جيفر�سن و�/أو مو�سوليني» م��ع مقرتح
ير الرئي�س لكن التقى ببع�ض �أع�ضاء الكوجنر�س بت�أ�سي�س ع�صبة جديدة ل�ل�أمم .فقام �سكرتري
وجمل�س ال�شيوخ ال��ذي��ن قابلوا �أف��ك��اره ب�شيء مو�سوليني برفع املقرتح �إىل الدوت�شي معلقا عليه
من ال�برود .ويف يونيو من عام ،1939عاد �إىل بقوله «�إنه مقرتح �شاذ تفتق عنه ذهن �ضبابي
�إيطاليا ووا�صل حملته ب��اذال كل ما يف و�سعه منبت ال�صلة متاما بالواقع .ومراعاة ملحبة باوند
للحيلولة دون تورط اجلي�ش الأمريكي يف ال�رصاع لإيطاليا ،واحلما�سة التي تدفعه ،يكفي �إخطاره �أن
املخيم على �أوروبا ،ذاهبا �إىل �أن رجال املال هم مقرتحه املثري لالهتمام قيد الدرا�سة».
امل�س�ؤولون عن احلرب الآتية و�أنه ال ي�ستفيد من �إحدى ر�ساالت باوند التي قر�أها الدوت�شي كانت
ال�رصاعات �إال امل�رصفيون الدوليون. م�ؤرخة يف العا�رش من مايو �سنة 1943وتكلمت
وبعد �شهور قليلة من دخول �إيطاليا احلرب العاملية عن الإ�صالحات النقدية التي كان ينا�رصها جيزيل
الثانية (يف يونيو ،)1940بد�أ باوند مبلء �إرادته ودوجال�س .طلب الدوت�شي من م�ساعديه �إيجاز ما
يكتب للإذاعة الإيطالية املوجهة �إىل الواليات يتكلم عنه باوند ،غري �أن الر�سالة مل تلق متابعة
املتحدة .كان موظفو وزارة الثقافة اجلماهريية كافية يف ظل ظروف احلرب الفو�ضوية .من الوا�ضح
الإيطالية يقر�أون كتاباته بالإجنليزية .وابتداء �أن الفا�شيني مل ي��روا يف باوند م�صدرا للأفكار
من يناير �سنة ،1941وعلى الرغم من معار�ضة الـ ال�سيا�سية ،بل �أداة بروباجندا نافعة �ضد �أعدائهم.
�سيم ( SIMجهاز املخابرات الع�سكرية الإيطايل) وبرغم �أن باوند كان ط��وال الوقت خارجا عن
الذي كان يظن �أن باوند جا�سو�س �أمريكي� ،سمح العادي وامل�ألوف ،الحظ �أ�صحابه القدامى الذين
لباوند بت�سجيل خطبه ب�صوته ،و�صارت تبث ك��ان��وا ي�ت�رددون عليه يف راب��ال��و يف منت�صف
73 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الدالالت الكثري� .أما �إذا �أدى بلهجات بن�سلفانيا مرتني يف الأ�سبوع ابتداء من احلادي والع�رشين
الوا�ضحة فهو هنا مهني ،وب��ذيء �إىل درج��ة ال من يناير �سنة 1941وحتى اخلام�س والع�رشين
ت�صدق من رجل يف مثل خلفيته وثقافته». من يوليو �سنة ،1943يوم �أطاح امللك مبو�سوليني
كان باوند يف �أحاديثه الإذاعية يثني ب�صفة عامة فزج به يف ال�سجن.
على مو�سوليني ،وينا�رص نظام ال َد ْين االجتماعي �إجماال� ،ألقى باوند مائة وخم�سة وع�رشين حديثا
النقدي ويكيل النقد لفرانكلني روزفلت وت�رش�شل �إذاعيا يرتاوح طول الواحد منها بني ع�رش دقائق
وبنك �إجنلرتا بل وامل�ؤلفني املو�سيقيني الذين وخم�س ع�رشة ،وكان يح�صل بح�سب �أ�سعار العملة
يكرههم مثل بوت�شيني وبيتهوفن. ال�سائدة يف ذلك الوقت على ما بني اثني ع�رش �إىل
كانت �أحاديث باوند التي ي�ستهلها بقوله «�أوربا ع�رشين دوالرا عن كل حديث .وكان ذلك هو م�صدر
تناديكم! �إزرا باوند يحدثكم!» جزءا من برنامج دخله الوحيد خالل تلك الفرتة �إذ تعذر �إر�سال
«ال�ساعة الأمريكية» الذي كان يخرجه املواطن عائدات كتبه �إليه يف �إيطاليا� ،سواء كتبه املن�شورة
الأمريكي املولود يف روم��ا «جيورجيو نيل�سن يف الواليات املتحدة �أو يف �إجنلرتا .كان باوند
بيج» الذي ينحدر من �أ�رسة مرموقة يف فرجينيا يكتب �أحاديثه ويتدرب على �إلقائها يف رابالو �أمام
كان من بني �أبنائها �أدمريال البحرية الكونفدرالية �أوجلا يف «كا�سا �ستني» .ثم ي�سافر �إىل روما مرة
«روبرت ل .يل» والكاتب وال�سفري الأمريكي لدى يف ال�شهر ليقيم هناك �أ�سبوعا ي�سجل فيه �أحاديثه
�إيطاليا «توما�س نيل�سن بيج» .كان �أبو جيورجيو على �أ�سطوانات يف ا�ستديوهات وزارة الثقافة
بيج موظفا كبريا يف بنك ب��روم��ا و أ�م���ه كانت اجلماهريية (وهي مغالطة يف الت�سمية ،فالوزارة
�إيطالية� .أما بيج نف�سه فقد تخلى عن جن�سيته كانت م�س�ؤولة عن الربوباجندا ورقابة ال�صحف)
الأمريكية �سنة 1933و�أ�صبح �أكرث فا�شية من يف �شارع فيا فينيتو � ،56أي على بعد خطوات من
الفا�شيني ،وت���درج يف املنا�صب حتى �أ�صبح املقر احلايل لل�سفارة الأمريكية .كانت �أحاديثه
امل�س�ؤول عن ال�صحفيني الأجانب يف �إيطاليا. تغطي العديد من املحاور :ال�سيا�سية واالقت�صادية
كانت وزارة الثقافة اجلماهريية حتب �أ�سلوب باوند والثقافية والتاريخية ،وتو�شيها جميعا ذكريات
الب�سيط الواثق الإيجابي �إذ ي�ؤكد �أن لدى الواليات �شخ�صية وا�ست�شهادات �شعرية .كان �إلقا�ؤه ب�سيطا
املتحدة كفايتها من امل�شكالت الداخلية وينبغي وعفويا ،ي�ستعني فيه بال�سكتات وتقليد الأ�صوات،
�أن تبقى بعيدا عن �شجارات �أوروبا .ولكن كثريا من فكان عر�ضا حقيقيا وفعاال ،على الرغم من �أن
�أ�صدقائه يف الواليات املتحدة وجدوا �أحاديثه هذه تدفق املوا�ضيع ك��ان كفيال ب���إرب��اك امل�ستمع
حمرية ،خطابية� ،شديدة الفظاظة �أحيانا ،ومقززة و�إ�صابته باحلرية.
بني احلني والآخ��ر .وكان غالبا ما يلي �أحاديث يكتب ت�شارلز نورمن وه��و ممن ترجموا حلياة
باوند بث للمو�سيقى الكال�سيكية .ومن املفارقات، باوند يقول �إن «باوند ا�ستغل موهبته يف تقليد
�أن املو�سيقى التي تلت واحدا من �أعنف �أحاديثه الأ����ص���وات ،وا�ستمتع ب���دور ال�����ش��ارح الهوائي
و�أ�شدها ثناء على نظريات هتلر العرقية يف الثامن وفيل�سوف ال�شوارع ،و�أدى كثريا من �أحاديثه بن�سخ
ع�رش من مايو �سنة 1942كانت م�أخوذة من �أوبرا م�رسحية من لهجات �أجزاء �أمريكا املختلفة ،ف�إذا
مف�ستوفيلي�س لـ �أريجو بويتو. �أدى لهجة اليانكي خرجت الأ�صوات �أنفية ب�صورة
بعد واقعة بريل هاربر و�إعالن �إيطاليا احلرب على مل حتدث من قبل يف بو�سطن ،و�إذا �أدى باللهجة
الواليات املتحدة (يف احلادي ع�رش من دي�سمرب الغربية فاق يف عاميته �أي �شيء �سمع يوما �إىل
�سنة )1941تغري و�ضع باوند القانوين بق�سوة ،فلم الغرب من امل�سي�سيبي ،وهو ما قد يكون له من
74 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الثانية والثمانني. يعد مواطنا فردا ميار�س حقه يف حرية التعبري ،بل
ويف حني �أن قليال جدا من الأمريكيني هم الذين �أمريكي يعي�ش يف بلد معاد ويحتمل �أنه ميد العدو
رمب��ا ك��ان��وا يهتمون ب��درد���ش��ات ب��اون��د ن�صف بالعون .وخالفا للأجانب من مواطني ال��دول
الأ�سبوعية ،كانت الهي�أة الأمريكية ملراقبة البث املعادية يف �إيطاليا ،مل يتعر�ض باوند للطرد
الأجنبي تن�صت ،وت�سجل ،وترتجم �أحاديثه، �أو االعتقال ،بل وا�صل حياته وروتينه ،منفقا
غري متحرية الدقة ط��ول ال��وق��ت .ويف اخلام�س ثالثة �أ�سابيع من كل �شهر يف رابالو و�أ�سبوعا يف
والع�رشين من يوليو �سنة ،1945وجهت روما ،م�سجال �أحاديثه وم�صاحبا �أمثال امل�ؤلف
هيئة املحلفني الفدرالية ال��ك�برى يف ت�شارلز نورمن: املو�سيقي جيانكارلو مينوتي والفيل�سوف جورج
وا�شنطن لإزرا باوند تهمة اخليانة .و�أكد «باوند ا�ستغل �سنتيانا ،و�أولفيا روزيتي �أجري�ستي ابنة ال�صحفي
االت��ه��ام على �أن باوند ق��ام «ع��ن علم، الإجنليزي وليم روزيتي وابنة �أخت ال�شاعر دانتي
وق�صد ،وع��زم ،ويف خمالفة للقانون ،موهبته يف جابرييل روزيتي ،وال�صحفي الأمريكي املتوهج
ويف خيانة �رشيرة �آثمة ،بااللتزام جتاه تقليد الأ�صوات، رينولد�س باكارد.
�أعداء للواليات املتحدة ،ونعني ،اململكة ومل يطر�أ على الأحاديث الإذاعية �إال تغري واحد
وا�ستمتع بدور الإيطالية». فيما بعد بريل هاربر ،وهو املقدمة التي ترد على
عرف باوند ب�أمر االتهام املوجه �إليه ال�شارح الهوائي ل�سان املذيع:
يف غ�ضون �أيام ،ويف الرابع من �أغ�سط�س «�إن الإذاعة االيطالية ،ات�ساقا منها مع ال�سيا�سة
�سنة 1943وجه �إىل النائب العام يف وفيل�سوف الفا�شية التي تق�ضي باحرتام حرية الفكر وحرية
ال��والي��ات املتحدة ر�سالة يزعم فيها ال�شوارع، التعبري عن ال��ر�أي لكل اجلديرين بهما ،واتباعا
براءته من التهمة املن�سوبة �إليه: لتقاليد ح�سن ال�ضيافة الإيطالية ،تقدم للدكتور
�إنني ال �أتكلم فيما يتعلق باحلرب ...و�أدى كثريا �إزرا ب��اون��د ميكروفونها مرتني يف الأ�سبوع.
ولكني �أحتج على نظام يخلق احلرب من �أحاديثه وبديهي �أن �أحدا لن يطلب منه �أن يقول �أي �شيء
تلو احلرب � ...إنني مل �أتوجه بكالمي �إىل يتعار�ض مع �ضمريه� ،أو �أي �شيء ال يت�سق مع
قوات اجلي�ش وال اقرتحت على القوات �أن بن�سخ م�سرحية واجباته بو�صفه مواطنا من مواطني الواليات
تتمرد �أو تثور ،و�إن فكرة حرية التعبري من لهجات املتحدة الأمريكية».
تغدو �أ�ضحوكة �إذا هي مل ت�شمل حق البث ظن باوند �أن تلك املقدمة حت�صنه من االتهام
�أجزاء �أمريكا الإذاعي». اجلنائي يف وطنه ،لكن خاب ظنه .وزعم �أي�ضا �أنه
ومل تلق الر�سالة ردا من النائب العام .املختلفة» حاول مرات عديدة مغادرة �إيطاليا والرجوع �إىل
يف الوقت نف�سه ،ويف اخلام�س والع�رشين الواليات املتحدة ولكن خابت حماوالته �إما ب�سبب
من يوليو �سنة � ،1943سقط مو�سوليني ال�سفارة الأمريكية �أو جهات �أخرى ،ومن ال�صعب
ومت اعتقاله ،ويف الثامن م��ن �سبتمرب غريت القطع مبا �إذا كانت هذه اجلهود حقيقية ،ولكن
�إيطاليا اجلانب الذي تنا�رصه يف احلرب .و�أقام رمبا بالفعل كان باوند حمموال على البقاء ب�ضغط
مو�سوليني ال��ذي ح��ررت��ه ق��وات هتلر اخلا�صة من وجود �أبويه امل�سنني يف رابالو وعدم قدرتهما
جمهورية ا�شرتاكية يف �شمال �إي��ط��ال��ي��ا ،هي على القيام برحلة �شاقة ،فكانا �سي�ضطران �إىل
اجلمهورية امل�شهورة بـ ريبوبليكا دي �سالو يف البقاء �إن هو قرر ال�سفر .كان �أبوه البالغ من العمر
مدينة �صغرية على �سواحل بحرية ج��اردا كان ثالثة وثمانني عاما يعاين من ك�رس يف الفخذ
فيها مكتب للدوت�شي ال�سابق. �ألزمه البيت مل يغادره ملدة �سنتني ،و�أمه كانت يف
75 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الواليات املتحدة. غ��ادر باوند روم��ا التي ك��ان موجودا فيها يف
يف اب��ري��ل ،نفذت ال��ق��وات الأمريكية �إن���زاال يف اخلام�س والع�رشين من يوليو وتوجه �إىل تريول
الريفريا الإيطالية ،ومل ينته ال�شهر �إال وهي ت�سيطر حيث كانت تعي�ش ابنته ال�صغرية م��اري .وبعد
على رابالو .ويف الثامن والع�رشين من ابريل، مقام ق�صري هناك ،رجع و�إياها �إىل رابالو وترك
حدث ملو�سوليني وحبيبته كالرا بيتات�شي وبع�ض هو ودوروثي �شقتهما يف املدينة وانتقال ليقيما
من خل�صائه وم��ن بينهم �صديق باوند الوزير مع احلبيبة �أوجلا يف كا�سا .60وبطبيعة احلال،
ميزا�سوما �أن لقوا م�رصعهم على �أي��دي الثوار، مل تن�سجم امل��ر�أت��ان ،ال��زوج��ة واحلبيبة ،ولكن
ويف الثاين من مايو وافق قائد القوات الأملانية دواعي احلرب مل ترتك لهما خيارا �إال اال�ستمرار.
يف �إيطاليا على اال�ست�سالم .وكان على باوند �أن كان باوند يعترب الذين �أطاحوا مبو�سوليني خونة،
ي�أ�سى على نهاية مو�سوليني يف الن�شيد الرابع ف�رسعان ما التزم بق�ضية حكومة مو�سوليني
وال�سبعني: اجلديدة ،ووا�صل بث �أحاديثه الإذاعية بني احلني
م�أ�ساة احللم الهائلة على كتفي الفالح والآخ���ر .بل �إن��ه كتب لغريه يف الإذاع���ة ،وكتب
املنحنيني مقاالت يف ال�صحف ،ومن�شورات دعائية ،وكان
هكذا هما بينتو وكالرا يف ميالنو يح�صل على راتب مقداره ثمانية �آالف لرية يف
كان باوند يعرف �أن عليه هو الآخر �أن ي�ست�سلم، ال�شهر .ومن بني هذه املن�شورات من�شور �صدر
فخرج من كا�سا 60يف �صباح الثاين من مايو بالإيطالية يف الرابع والع�رشين من مار�س �سنة
متوجها �إىل وحدة اجلي�ش الأمريكي يف رابالو 1944حتت عنوان «الواليات املتحدة ،وروزفلت،
بهدف ت�سليم نف�سه .ويف مكتب القائد ،مل يجد ثمة و�أ�سباب احلرب احلالية» .وكانت هناك ات�صاالت
من يعرفه �أو يبايل به ،فقفل راجعا� ،صاعدا التل متواترة بينه وب�ين وزي��ر الثقافة اجلماهريية
�إىل كا�سا .60 فرناندو ميزا�سوما ،الذي مل يكن ين�صحه فقط فيما
يف ال�صباح التايل ،وفيما كانت �أوجل��ا خارج يتعلق بالربوباجندا ،بل ويزعجه بطلب �إعادة طبع
البيت طلبا للطعام ،ودوروثي يف زيارة حلماتها، الكتب التي يحبها ،ومن بينها ترجماته اخلا�صة
�أقبل الثوار وقد ظنوا �أن هناك مكاف�أة مر�صودة للن�صو�ص الفل�سفية ال�صينية.
ملن يلقي القب�ض على باوند ،فاقتحموا كا�سا ،60 ويف الواليات املتحدة ،يف الرابع والع�رشين من
و�أخ��ذوا ال�شاعر معهم �إىل بلدة زوج��ايل القريبة يناير �سنة ،1945رفعت �إىل وزير احلرب هرني
التي كان فيها مكتب من مكاتب قيادة الثورة. ل� .ستيم�سن مذكرة مفادها �أن الواليات املتحدة
وملا قال لهم أ�ح��د ال�ضباط إ�ن��ه ما من مكاف�أة ال تزال مهتمة باعتقال باوند والتحقيق معه يف
مر�صودة العتقال باوند� ،أطلقوا �رساحه ،ولكنهم �ضوء اتهام املحلفني له .ويف التا�سع من فرباير،
عادوا فا�صطحبوه هو و�أوجلا التي ان�ضمت �إليه وجه �ستيم�سن ن�سخة من الر�سالة �إىل اجلرنال
�إىل القيادة الأمريكية يف بلدة الفاجنا القريبة. جاكوب ل ديفرز وك��ان �إذ ذاك رئي�سا لأرك��ان
وهناك مت التعرف على باوند حينما قال «هالو، م�رسح العمليات يف �شمال �أفريقيا .وبدوره وزع
�أنا �إزرا باوند� ،أعتقد �أنكم تبحثون عني» ،ويف ديفرز املعلومات على مر�ؤو�سيه و�أخطر وا�شنطن
هذه املرة مت احتجازه ثم ترحيله �إىل مكتب قوات بذلك ،لكن احللفاء يف ذلك الوقت كانوا يتقدمون
املخابرات الأمريكية امل�ضادة يف جنوة .وهنالك ب�صعوبة يف و�سط �شمال �إيطاليا حماربني الأملان
حقق معه عميل املباحث الفدرالية الأمريكية فرانك الذين ين�سحبون ببطء ،متلكئني يف كل خطوة،
ل �أمربين بعدما كلفه مدير املباحث الفدرالية فلم تكن م�س�ألة اعتقال باوند متثل �أولوية جلي�ش
76 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
باوند طبيا للمحاكمة .ولقد انتهت تقارير الأطباء جيه �إدجار هوفر بجمع الأدلة النهائية الالزمة
الأربعة �إىل عدم �صالحية باوند للمحاكمة ،فقام ملحاكمة باوند بتهمة اخليانة� .أما �أوجل��ا التي
القا�ضي بت�أجيل الإجراءات حموال باوند للحب�س مل يكن ثمة اتهام موجه �إليها فتم �إخالء �سبيلها
يف م�ست�شفى �سان �إليزابث للأمرا�ض العقلية. و�أعيدت �إىل كا�سا 60يف رابالو .يف اخلام�س من
ال �شك �أن اتهام �شخ�ص باخليانة يف ظل قانون مايو طلب باوند الإذن ب�إر�سال برقية �إىل الرئي�س
الواليات املتحدة م�س�ألة بالغة ال�صعوبة .فاخليانة هاري �س ترومان ليقدم له الن�صيحة وي�ساعده يف
هي اجلرمية الوحيدة امل�سجلة يف ن�ص يت�ضمنه مفاو�ضات ال�سالم اجلارية يف اليابان .وبالطبع
الد�ستور الأمريكي ،حيث ين�ص الق�سم الثالث من قوبل طلبه بالرف�ض.
املادة الثالثة على ما يلي: يف الثامن من مايو ،ق��ال باوند ل�صحفي من
«جرمية اخليانة بحق الواليات املتحدة ال تكون فيالدلفيا ري��ك��ورد ا�ستطاع الو�صول �إليه يف
�إال ب�شن حرب عليها� ،أو باالن�ضمام �إىل �أعدائها الوحدة الع�سكرية �إن هتلر «هو جان دارك ،هو
وتقدمي العون وامل�ساعدة لهم .وال يدان �أحد بتهمة قدي�س» و�إن مو�سوليني «�شخ�ص معيب فقد عقله».
اخليانة �إال ا�ستناداً �إىل �شهادة �شاهدين ي�شهدان وق��دم لأمربيني �إف���ادة م��ن �ست �صفحات عن
على وقوع نف�س العمل الوا�ضح النية� ،أو ا�ستناداً �أحاديثه الإذاعية خالل احلرب.
�إىل اع�تراف يف حمكمة علنية ...وللكوجنر�س يف الرابع والع�رشين من مايو� ،أقلت �سيارة جيب
�سلطة حتديد عقوبة جرمية اخليانة .ولكن ال يجوز باوند من جنوة �إىل مركز التدريب على االن�ضباط
االقت�صا�ص من ن�سل املتهم �أو �أقاربه �أو جتريده يف ميتاتو ،مغلل اليدين ط��وال الرحلة .ويف
من حقوقه املدنية �أو م�صادرة �أمواله وممتلكاته ال�ساد�س ع�رش من نوفمرب �سنة ،1945نقل �إىل
�إال �أثناء حياته» . روما وو�ضع على طائرة �إىل الواليات املتحدة
لقد عمد الآب��اء امل�ؤ�س�سون �إىل �أن تكون �إدان��ة لتبد أ� املحاكمة.
امرئ باخليانة أ�م��را يف غاية ال�صعوبة �ضمانا يف ال�ساد�س والع�رشين من يوليو �سنة ،1943
��ن احلكومة وت�سحق حريات املواطنني لئال تجُ َ َّ مت توجيه تهمة اخليانة لباوند و�سبعة مواطنني
وحتد من حرية التعبري من خالل �إخافة النا�س �آخرين كانوا يبثون من �أملانيا �أثناء احلرب .ومل
من االتهام واملقا�ضاة .وهذه ال�رشوط ال�صعبة يحدث �إال لثالثة فقط من املجموعة �أن حوكموا
�أتاحت للمحامي جوليان كورنل الذي كان يدافع و�أدينوا وق�ضوا عقوبة يف ال�سجن .ولأن �أن�شطة
عن باوند خيارات عديدة يقيم عليها دفاعه. باوند يف الفرتة من يوليو � 1943إىل مايو 1945
كان بو�سعه �أن يزعم �أن عبقرية باوند ال�شعرية اعتربت خيانة ،ولأن االتهامات القدمية مل تعد
ال ميكن �أن حتدها القوانني العادية ،وهو زعم ما منا�سبة لأن�شطته الإيطالية ،فقد ج��ددت وزارة
لأحد تقريبا �أن يقبل به� ،أو يزعم �أن �أفكار باوند العدل يف ال�ساد�س والع�رشين من نوفمرب �سنة
التي �أبداها يف �أحاديثه الإذاعية كانت �صحيحة 1945اتهاماتها باخليانة وجرائم �أخرى .حيث
و�أن اخلونة احلقيقيني هم كبار امل�س�ؤولني يف ر�أت الوزارة �أن التهم اجلديدة التف�صيلية �أقدر على
احلكومة الأمريكية الذين ركعوا �أمام رجال البنوك �إنهاء الق�ضية بنجاح.
ويقا�ضي احلرب وهو بدوره زعم كان ف�شله هو يف ال�سابع والع�رشين من نوفمرب ،مت ا�ستدعاء باوند
الأرجح .غري �أنه كان �سيلج أ� �إىل خيار �أف�ضل لو للمحاكمة ،ولكن مت ت�أجيل الإج��راءات �إىل حني
التزم باحلجة التي قدمها باوند نف�سه �إىل النائب عر�ض املتهم على �أربعة �أطباء نف�سيني و�إطالع
العام �سنة :1943وهي �أنه يف �أحاديثه العلنية القا�ضي بوليثا جيم�س لوز على مدى مالءمة
77 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
ولديه �إح�سا�س ب�أن لديه مفتاح �سالم العامل متمثال مل يزد على ممار�سة حقه الد�ستوري املكفول يف
يف كتابات كونف�شيو�س ...يعتقد �أنه �شخ�صيا كقائد التعديل الأول .وهذا قد يكون �صحيحا بالفعل،
ملجموعة من املثقفني قادر على و�ضع نظام للعامل ولكن حمامي باوند و�أ�صحابه خافوا �أن يغامروا
...وهو عقليا غري قادر على الإف��ادة الوا�ضحة �أو ب�أن ت�أتي جلنة حملفني وطنية متا�شيا مع احلالة
امل�شاركة ب�صورة منطقية يف الدفاع عن نف�سه� .أريد املزاجية ال�سائدة يف ذل��ك الوقت وت��راه مذنبا
بعبارة �أخرى �أن �أقول �إنه جمنون». فتحكم عليه بعقوبة حب�س طويلة �أو حتى بالإعدام.
بعد اال�ستماع �إىل هذه ال�شهادة وغريها من الأطباء لذلك كان القرار ب�أن عدم ال�سالمة العقلية والعجز
النف�سيني ،خل�صت جلنة املحلفني يف ثالث دقائق عن فهم �إجراءات املحاكمة ميثالن �أف�ضل دفاع
�إىل �أن باوند «غري �سليم العقل». ممكن عن باوند.
ت�أجلت الق�ضية ،و�أمر القا�ضي باحتجاز باوند يف ك��ان ر�أي �إرن�ست همنجواي رمب��ا دعما للدفع
م�ست�شفى �سان �إلزابث الفدرالية للأمرا�ض العقلية بجنون وت�أكيده �أن باوند «ينبغي �أن يو�ضع يف
يف وا�شنطن .و�أفلت باوند من املحاكمة الفورية م�ست�شفى املجانني ،وهو يقدرها ،وبو�سعكم �أن
والعقوبة الرادعة املحتملة .ولكن م�س�ألة ما �إذا كان ت�ضعوا �أيديكم يف �أنا�شيده على موا�ضع يبدي فيها
مذنبا �أم بريئا بقيت غري حم�سومة ،وظل من املمكن تقديره لها � ...إنه جدير بالعقاب والعار ،ولكن ما
حماكمته مرة �أخ��رى �إذا انتهت ال�سلطات الطبية ي�ستحقه بالفعل هو ال�سخرية».
املخولة �إىل �أنه ا�سرتد قدراته العقلية مكتملة. و�أ���ض��اف ال�شاعر و�أم�ي�ن مكتبة الكوجنر�س
ومنذ ذلك احلني وهناك تكهنات ب�أن الأمر كله �أرت�شيبولد مكلي�ش وهو لي�س من �أ�صدقاء باوند
كان خدعة من باوند ،فهو رمبا كان �شاذا وغريبا املقربني �أنه «من الوا�ضح متاما �أن باوند العجوز
ونافر الطباع و�شاعرا ب�أهميته ال�شخ�صية لكنه مل امل�سكني �شخ�ص لطيف هادئ ...واخليانة جرمية
يكن مري�ضا نف�سيا .ولكن احلكومة �أي�ضا كانت من �أ�رشف و�أ�شد جدية من �أن يو�صم بها رجل جعل من
جانبها غري قادرة على �إثبات �أن ما فعله باوند نف�سه �أ�ضحوكة ،ومل يجن من وراء ذلك الكثري».
يحقق ال�رشوط الد�ستورية للخيانة خا�صة و�أنه وق�ضى م�ست�شار الدفاع كورنيل ال��ذي كان قد
كان �أبعد ما يكون عن اخليانة الوا�ضحة بينديكت التقى بباوند للمرة الأوىل يف الع�رشين من
�أرنولد .مل يكن لدى احلكومة ال�شاهدان املطلوبان نوفمرب وقتا ب�سيطا يف �إع��داد دفاعه اجلنوين.
لإثبات جرمية اخليانة ،وعلى الرغم من �أن باوند فقد رجع الأطباء النف�سيون الأربعة بتقرير موحد
اع�ترف ب�أنه �أدىل ب�أحاديثه الإذاع��ي��ة� ،إال �أن يقطعون فيه ب�أن باوند يعي�ش يف الوهم .وكانت
خطوة النيابة التالية وكان ميثلها �إي�سايا متاالك
الوثائق التي �صودرت من بيته يف رابالو كانت
هي عقد جل�سة عامة للحكم على اجلنون �أمام
قد �صودرت بدون �أي �إذن بالتفتي�ش وهو �أمر كان
املحلفني .وعقدت اجلل�سة يف الثالث ع�رش من
�سيجعل �أي قا�ض ح�صيف يعدل عن النظر فيها
فرباير �سنة ،1946وا�ستمعت اللجنة �إىل �شهادة د.
من الأ�سا�س. وينفريد �أوفرهول�رس من هيئة الطب النف�سي ،الذي
بقي �إزرا باوند يف �سان �إليزابث منذ بداية �سنة 1946 قال �إن باوند:
وحتى �إطالق �رساحه يف 18ابريل �سنة .1958 « ...يتمتع بطموح مذهل ...ويعتقد �أنه املختار لإنقاذ
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) د�ستور الواليات املتحدة ل�شعب الواليات املتحدة ...
يعد ال�شاعر العراقي �رسكون بول�ص من اهم الأ�صوات ال�شعرية ،التي �سعت �إىل التفرد
بال�صوت اخلا�ص ،و�إىل التفرغ لل�شعر جتربة وكتابة ،وانفتاحا على التجارب ال�شعرية
العاملية ،والبحث عن �شجرة �أن�ساب متنوعة الفروع .انه بالفعل �صاحب جتربة وا�شتغال
على اللغة وعلى ر�ؤية خا�صة مكنته مبعية جمموعة من �شعراء كركوك �أن ي�ؤ�س�سوا لق�صيدة
النرث بالعراق يف ال�ستينيات من القرن الع�رشين.
�سنقارب جتربته ال�شعرية عرب املجاميع التي كتبها منذ خروجه من العراق .وهي على
التوايل :الو�صول �إىل مدينة �أين ( )1985احلياة قرب الأكربول )1988الأول والتايل
( ،)1992حامل الفانو�س يف ليل الذئاب (� .)1996إذا كنت نائما يف مركب نوح ،)1998
عظمة �أخرى لكلب القبيلة (.)2008
oكانت ال�صورة املكثفة لدى �سركون بول�ص هي جواز املرور �إىل عامل
الالوعي ،والتي تخدم احلالة �أو امل�شهد ال�شعري الداخلي ،فكانت �أحيانا
o
تت�سربل بلم�سة �سريالية
79
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
يخفي حقائق معينة ،ويحاول �أن يعطي بديال ال �أجد ولد ال�شاعر �رسكون بول�ص ذو الأ�صول الآ�شورية عام
له �أي �أ�سا�س لتلك احلقائق ،ومثله مثل �سامي مهدي ،1944يف احلبانية املعروفة ببحريتها وباحلياة
فهو منحاز منذ البداية �إىل طريقة م�سبقة لت�صوير الزاخرة ،عا�ش فيها ثالث ع�رشة �سنة ،ثم انتقل �إىل
جيل ال�ستينيات� ،أو �إىل �شكل م�سبق كان موجودا يف مدينة كركوك ،ويف هذه املدينة بد�أ كتابة ال�شعر ،يف
ذهنه قبل �أن يراجع احلقائق ،ويتكلم عن ال�شخ�صيات عام 1961ن�رش له يو�سف اخلال ق�صيدة يف �أحد �أعداد
التي كانت فعالة �آنذاك ب�شكل �صادق .م�شكلة �سامي جملة �شعر .ويف بريوت �سيعد ملفا ملجلة �شعر حول
مهدي �أنه منحاز كبعثي ،وكموظف م�س�ؤول يف ت�صنيع �أعمال كل من ال�شاعر الأمريكي �آلن غي�سنربغ وجاك
الثقافة العراقية ،ولكن م�شكلة فا�ضل �أنه �أنا مت�ضخمة كريواك ،مرتجما �أعمالهما ال�شعرية .ويف عام 1969
تريد �أن تهيمن على كل �شيء ،كتابه ين�ضح بنوع �سريحل نحو الواليات املتحدة ،و�سيلتقي يف
من التزييف اخلطري ،خ�صو�صا و�أنه غمط حق الكثري من �أهم مدينة �سان فران�سي�سكو بجماعة «البيتنيك�س»
من ال�شخ�صيات ،وله طريقة يف تتفيه مواقف معينة مميزات ويعقد معهم �صداقات.
ل�شخ�صيات معروفة �آنذاك ،وباملقابل ف�إنه كان ي�ضخم كي نلج عامله ال�شعري ،ال بد من التوقف عند
دوره ودور �شعراء غري مهمني على الإطالق لكي يغطي جماعة بع�ض املحطات الأ�سا�سية يف حياته ،و�أي�ضا
على ال�شعراء الآخرين « .ال مينع هذا النقد العميق كركوك يف الوقوف على �أثر الرتجمة يف �أعماله ال�شعرية،
والدقيق لكتاب الروح احلية من اال�ستفادة من بع�ض وانفتاحه على الإرث العراقي القدمي واملمثل
ال�ستينيات
ما جاء فيه خ�صو�صا فيما يتعلق بخ�صائ�ص الكتابة يف الأ�ساطري ،ويف ال�تراث ال�شعري العربي
ال�شعرية جليل ال�ستينيات يف العراق ولت�أثره بجيل هو اطالعها ال��ق��دمي ،وم��ن مت انفتاحه على جغرافيات
البتنيك�س .ي�ؤكد فا�ضل العزاوي على القرابة الروحية على املنجز مغايرة خ�صو�صا التجربة الأمريكية.
بني التيار التجديدي الي�ساري داخل حركة ال�ستينيات �رسكون بول�ص تفرغ طيلة حياته لكتابة ال�شعر،
العراقية ،وحركة البتنيك�س ( )Beatniksالأمريكية ال�شعري �إذ ق�ضى �أك�ثر من �أربعني �سنة يف كتابته،
التي مثلها كتاب و�شعراء من �أمثال جاك ك�يرواك، العاملي ومالزمة ه��ذا الهم اجلميل .ي��رى �أن ال�شاعر
و�آل��ن غي�سنرباج ،وغريغوري كور�سو وفريلنغيتي، كائن بدائي لديه معرفة عميقة بالأ�شياء مثله
وب��وب دي�لان« .لقد ظهرت حركة البتنيك�س لتعرب مثل احلكماء يف العهود ال�سالفة.
عن موقف ما �أطلق عليه ا�سم اجليل املهزوم Beat -1كركوك والتعرف على حركة البتنيك�س:
,Generationوهو اجليل الذي �شارك يف احلرب من �أهم مميزات جماعة كركوك يف ال�ستينيات هو
العاملية الثانية �أو حتمل �أوزارها التالية .كان م�صطلح اطالعها على املنجز ال�شعري العاملي ،وهي ت�ضم كال
اجليلقد ظهر �أول مرة يف عام 1952يف مقالة ن�رشها من ال�شعراء� :رسكون بول�ص ،فا�ضل العزاوي ،م�ؤيد
الناقد جون كللون هوملز يف جريدة «نيوروك تاميز». الراوي ،جان دمو� ،صالح فائق .ومعظم ه�ؤالء ال�شعراء
ومع ذلك فامل�صطلح ُيعزى �إىل جاك ك�يرواك الذي كانت لهم معرفة جيدة باللغة االجنليزية.
يفرت�ض �أنه ابتكره يف عام 1957عندما قال ذات حتدث فا�ضل العزاوي يف كتابه «الروح احلية جيل
مرة «�أنت تعرف �أن هذا اجليل مهزوم حقا» .قبل هذا ال�ستينيات يف العراق» عن هذه اجلماعة ،فتحدث عن
اجليل �سيظهر جيل اطلقت عليه جرترود �شتاين «اجليل مرجعيتها الفكرية وال�شعرية وخ�صائ�ص كتابتها.
ال�ضائع» ،وهم الكتاب االمريكيون الذين ن�شاوا او ورغ��م �أن �رسكون بول�ص يتحفظ على ه��ذا الكتاب
كتبوا انطالقا من جتربة احلرب العاملية االوىل ،منهم: قائال يف حقه «م�شكلة كتاب فا�ضل ال��ع��زاوي �أنه
80 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
رف�ضوا جنة الر�أ�سمالية و�سباق فئرانها يف الو�صول �سكوت فتزجريالد،عزرا باوند،ت�.س اليوت،ارن�ست
�إىل الرثوة ف�إن �ستينيي العراق كانوا قد رف�ضوا جنة همنغواي.على عك�س «جيل البيت» ،يذهب هوملز اىل
الديكتاتورية و�سباق جرناالتها يف �صنع الهزائم ان كلمة beatكانت ملتب�سة،كانت تعني يف اللغة
القومية ،ومثلهم �أي�ضا فقدوا الأمل بااليديولوجيات ال�شفوية االمريكية ال�شخ�ص املتعب،او الرث املنبوذ
العتيقة التي مل تقدم لهم �سوى الب�ؤ�س وال�شقاء». او الهام�شي،غري ان الداللة الفعلية للكلمة ال تتحقق
ويرى �رسكون بول�ص �أن االت�صال بهذه احلركة مت عرب اال با�ضافة املعنى امل�ضاد لل�صفات ال�سلبية،وهو»ما
بع�ض الأخبار يف ال�صحف واملجالت كانت عبارة عن اجن��زه جاك ك��رواك يف روايته «على الطريق»،حني
�شذرات ،وق�صائد متفرقة هنا وهناك .وقد قام �رسكون حول �شخ�صية «البيت» خ�صو�صا عرب بطل روايته
بول�ص حني ذهب �إىل بريوت برتجمة بع�ض ق�صائد دين موريارتي،التي يتمحور العمل حولها،اىل نوع
هذه احلركة وخ�ص�ص لها ملفا يف �أحد أ�ع��داد جملة من اال�سطورة اجلديدة ،اىل حامل ر�سالة مقد�سة ،واىل
«�شعر» .كما �سبق الذكر. بطل جديد من الغرب االمريكي ،فاحتا الطريق وا�سعة
ويبقى الن�ص القوي الذي �أنتجته احلركة ،هو ق�صيدة امام جيل جديد تواق اىل التعبري عن نف�سه ،الباحث
«ع���واء» ،لل�شاعر �آالن غي�سنبورغ ،ي�صف �رسكون عن هوية مغايرة ملا حت��اول امل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية
بول�ص هذه الق�صيدة ب�أنها ق�صيدة �صعبة وع�صية واالجتماعية والثقافية الر�سمية املحافظة ،ار�ساءه
على الرتجمة ،م�رصحا �أن��ه« :ك��ان علي �أن �أنتظر يف امريكا بعد احلرب العاملية الثانية وبدايات احلرب
�سنوات طوال حتى �أ�سرب �أغوارها جيدا .وهكذا ظلت الباردة ...يف املجال االدبي حتول املفهوم من الهزمية
الق�صيدة معلقة �إىل �أن وج��دت نف�سي يف اليونان، اىل االجناز ،ومن التعب اىل ال�صحوة ،ومن الهام�شية
وا�شتغلت عليها مدة طويلة ،فهي كما تعرف ق�صيدة اىل احل�ضور واالنت�شار ،وحتول اي�ضا من اال�شارة اىل
مليئة ب�أ�سماء الأماكن ،وال ميكن لك �أن تفهم هذه ال�شخ�ص املنبوذ واملحتقر اىل حال يرغب املرء ب�أن
الأ�شياء ما مل تذهب �إىل �سان فران�سي�سكو ..الق�صيدة يعي�شها» انظر ،مقدمة رواي��ة على الطريق ،ترجمة
حمت�شدة ب�أ�سماء ال�شوارع ،والأح��ي��اء ،والأ�شخا�ص �سامر ابو هوا�ش� ،ص .)6لقد �أ�س�س هذا اجليل ر�ؤيته
وغريها ...وعندما ذهبت �إىل �أمريكا وع�شت هناك، الفكرية وال�شعرية على �أ�سا�س «االعرتا�ض واالحتجاج
عرفت كيف �أترجم ق�صيدة عواء .وهي ق�صيدة مهمة �ضد �أ�سطورة «طريقة احلياة الأمريكية» التي واجهوها
ج��دا» ،ويت�ساءل �رسكون بول�ص حول عالقة العرب ب�أ�سطورة م�ضادة « وقد �أف�ضت �أفكار هذا اجليل �إىل
بهذه الق�صيدة واحلالة هذه �أنها مل ترتجم بكاملها، ظهور حركات متمردة من �أمثال «مالئكة اجلحيم»،
فقط التقى بها ال�شعراء من خالل �شذرات هنا وهناك. وظهور الهيبيني الذين كانوا مبثابة التج�سيد احلي
�إن هذه الق�صيدة «تركت ت�أثريا ذهنيا كبريا مذهال على للقيم الر�أ�سمالية ملجتمعاتهم ودعوا �إىل الوفاء للداخل
قرائها» .وهي ق�صيدة اغتنى بها نا�رشها فرلنغيتي الإن�ساين .وير�صد فا�ضل العزاوي نقاط االلتقاء مع
�صاحب مكتبه «�أ�ضواء املدينة» .فهذه الق�صيدة التي هذه احلركة وحركة جيل ال�ستينيات ،م�ؤكدا على �أن
�أحدث ن�رشها دويا كبريا يف امل�شهد الثقايف الأمريكي، العالقة بينهما لي�ست عالقة حماكاة ولي�س عالقة
وال تزال ت�صدر يف طبعات متوا�صلة ال تنقطع ذلك �أن �شكلية بل هي عالقة جوهرية فكالهما جيل مهزوم
اجليل اجلديد يف �أمريكا بد أ� يقر�أ هذه الق�صيدة ويحاول «ف�إذا كان البتنيك�س قد خرجوا من رماد احلرب ،ف�إن
�أن يجد فيها ،كما وجد فيها اجليل ال�ستيني رموزا ال�ستينيني يف العراق قد خرجوا من رماد االنقالبات
معينة تدفعه �إىل الإميان ب�شيء ما «. والديكتاتوريات الع�سكرية «،اذا كان البتنيك�س قد
81 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الق�صيدة املثقفة التي تتكئ على مرجعيات �شعرية �إن ق�صيدة عواء �سحرت قراءها مب�ضمونها اجلريء
عاملية� ،أ�سهمت يف تنويع كتابة ه��ذه الق�صيدة؛ وب�شكلها ال�صارم والغريب عن الأو�ساط الثقافية ،وعن
وفتحها على اال�سرتفاد من جتارب ال�شعراء �سواء كانوا املتداول يف الكتابة ال�شعرية ،فهي مرثية غنائية على
غربيني �أو عربا ،و�أ�صبح التفاعل مع الن�صو�ص القوية الطريقة الوتيمانية تف�ضح بلغة عارية وفجة علل
يف تاريخ ال�شعر �رضوريا لكتابة ق�صيدة النرث بغية وعاهات املجتمع الأمريكي يف مرحلة ما بعد احلرب
تنويع �أ�شكالها ورهاناتها. العاملية الثانية« .ه��ي �رصخة غ�ضب من فئة من
ويف حالة �رسكون بول�ص جند مكونني اثنني وراء ال�شباب الأمريكي اليائ�س ،الثائر� ،ضد جمتمع مدمر
جتربته ال�شعرية ،املكون الأول هو الرتحال الدائم وانتهازي « وتتكون الق�صيدة من ثالثة �أجزاء:
وال�سفر .واملكون الثاين ،هو العمق املعريف امل�سنود -1اجلزء الأول :ي�شري فيه �إىل حالة الي�أ�س التي خيمت
بت�أمل كبري يف تاريخية ال�شعر .ناهيك على �أن �رسكون ال�شعر يف نظر على نفو�س ال�شبان يف �أعقاب احلرب.
بول�ص يعترب ممار�سة ال�شعر ت�ضحية ،يقول« :هناك -2اجلزء الثاين :يلفت النظر �إىل دوافع ال�سخط
�شعراء يف هذا العامل �ضحوا من �أجل ال�شعر ب�أ�شياء �سركون «عامل الإن�ساين والإحباط العام لدى ال�شباب� .إذ
كثرية ال ت�صدق» .من �أمثال �سيزار فاييخو الذي مات له �أ�سرار ي�شخ�ص م�صادر ال�رش جميعها املتمثلة يف
يف باري�س جوعا .ومن �أمثال ناظم حكمت ،ونريودا، �إله املال العرباين «مولوخ» باعتباره حاكم
فه�ؤالء ال�شعراء «عرفوا منذ البداية حجم امل�س�ؤولية ال تنتهي ،الب�رشية ال�صارم الذي يدمر املعطيات الأكرث
امللقاة على عاتقهم ،لأن اختيار ال�شعر م�س�ألة غري وال�شاعر خريا و�أ�صالة يف الطبيعة الإن�سانية مالئا
هينة على الإط�لاق» ،فال�شعر يف نظر �رسكون «عامل الذات مب�شاعر اخلوف والقلق.
له �أ�رسار ال تنتهي ،ورهان خطري «؛ وال�شاعر احلقيقي احلقيقي الذي -3اجل���زء ال��ث��ال��ث :يحتفي فيه ال�شاعر
الذي ي�ؤمن بال�شعر ،ومل ي�أت �إليه عابثا من �أجل كتابة ي�ؤمن بال�شعر ،ب��ان��ت�����ص��اره ع��ل��ى «م���ول���وخ» وحت����رره من
ب�ضع ق�صائد عابرة ،ينبغي �أن يكر�س نف�سه وحياته �سيطرته.
لل�شعر ،ومعتربا نف�سه ذا مهمة كبرية يف التاريخ». ومل ي�أت �إليه لقد كان كاتب الق�صيدة غي�سنبورغ يت�سم
-2متخيل العبور والتيه عند �رسكون بول�ص: بلغة عفوية ،وبال�صعلكة يف احلياة والكتابة،
عابثا من
يحمل ال��دي��وان الأول ل�رسكون بول�ص عنوانا داال و�شعره «م���ر�آة ذات��ه وحميطه ،م���ر�آة ق��د ال
يخت�رص امل�سافات �إىل عامله ال�شعري الذي ت�أ�س�س منذ �أجل كتابة تعك�س اجلمال دائما� ،.إمنا احلقيقة الفجة،
البداية على مو�ضوعة العبور وال�سفر والتيه« .الو�صول العارية ،بال خجل �أو خزي ،جمع غي�سنبورغ
ب�ضع ق�صائد
�إىل مدينة �أي��ن» ،هي �أول جمموعة �شعرية ين�رشها بني �شعرية الذات مت�أثرا بويتمان ،و�شعرية
�رسكون بول�ص يف اليونان عام .1985 عابرة» الأ���س��ط��ورة مت�أثرا بباوند ،راف���دا �إياهما
تعك�س املجموعة احلياة البوهيمية التي عرفها ال�شاعر مبرجعيات جمالية وروح��ي��ة �أخ���رى ،من
يف بداية حياته وي���ؤرخ ملنعرجات التيه يف املدن، كتابات وليام باليك ،وول��ي��ام كارلو�س ،وليامز،
والأرياف ،وال�صحاري. وال�سورياليني الفرن�سيني� ،إ�ضافة �إىل تعاليم ا�ستقاها
يقول يف الق�صيدة الأوىل من املجموعة حتت عنوان من مدار�س دينية وفل�سفية مثل ،الغنو�صية والبوذية
«هناك رحالت». والهندو�سية وال�صوفية وال�شامانية وبع�ض �أنبياء
«�أ�صل �إىل وطني بعد �أن عربت اليهود « .وقد �سخر �شعره من �أجل قيم �إن�سانية كربى
نهرا يهبط فيه املنجمون ب�آالت فلكية �صدئة قوامها الت�سامح واملحبة ،وتقبل الآخر ،والتحرر من
مفت�شني عن النجوم. التابوهات االجتماعية والأدبية.
أَ� ْو لاَ�أ�صل �إىل وطني يظهر �أن ق�صيدة النرث مع �رسكون بول�ص �ستلج عامل
82 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
�سيحكي على غرار «�ألف ليلة وليلة» ،لكن ال�شاعر يتخذ بعد �أن عربت نهرا ال يهبط فيه �أحد.
من هذا العنوان ذي احلمولة الالنهائية ،والذخرية هناك رحالت
ال�رسدية ،ليفاجئ القارئ يف نهاية الق�صيدة بقوله: �أعود منها �ساهما.
وهكذا التقطت خيط الرحلة من الرتاب ب�أ�سناين نحيال كظل �إبرة».
وا�ستغرق و�صويل �إىل بيتي �ألف ليلة فالعبور ،والنهر ،والرحالت كلها مداخل تنري الطريق
وليلة. �أمامنا للإيغال يف عوامل �رسكون بول�ص ،الذي يحاول
يت�أ�س�س متخيل جتربة �رسكون يف هذه املجموعة ،على �أن ير�صد عرب هذا التيه حت��والت الكائن ،وم�صائر
الرغبة يف العودة �إىل حميمية املنزل ،بعد حلظة تيه، الب�رشية يف املدن الكبرية:
ومن ثم ف�إن ح�ضور اال�سطورة يعك�س هذه العالقة، �ألتقي بفالح جن يف املجاعات
فخيط �أَ ْر َيان ،املن ِق ُذ من �ضالل املتاهة ،هو ال�ضامن ي�شحذ يف م�ساء املدن الكبرية.
لهذه الرغبة الدفينة يف العودة �إىل الرحم و�إىل مكان وامر�أة ت�سري على �ضياء �شعرها الطويل.
والدة الأوىل ولكي نعمق اال�ستدالل على هذه الرغبة بني اخلرائب
يف العودة �إىل رحم الوالدة يقول �رسكون يف ق�صيدة �أطلق �رساح عيني و�أ�سافر .
«ال�ضيف البعيد» �ضيف امل�سافة. فم�صري ال�شاعر يف هذا التيه ،ويف هذه االلتقاءات
«طيلة �سنوات ،جترين اليقظة من ثيابي بكائنات منك�رسة رو�ضتها املجابهات ،وهربتها نحو
�إىل �أماكن مل يرها �أحد. املدن� ،أو فعل فيها الزمن فعلته ،ك�أن ت�ستهدي عجوز
�إال نائما �أو خممور ب�شعرها الطويل الذي �أبي�ض من امل�آ�سي ،هو م�صري
�أكتب باليد التي هجرتني «من يحمل قطرة ماء وحيدة عرب �صحراء» ،يتيه يف
ولكي �أرى هذا امل�صباح الذي وجدته �صحراء ال يقوده وال يهديه �سوى اللم�س ،هذا التائه
مليئا بالرمل يف �إحدى �أ�صعب رحالتي الأعمى ،توقظه كل �صيحة تنطلق من نافذة بعيدة
ي�ضيء حتى مرة واحدة فيتبعها.
علي �أن �أبني بلدة جديدة «كالأعمى الذي يغزو الهواء بيديه
�أعرف �أن علي �أن �أموت حيث ولدت نحو �أقطار عدوة
لكن قبل ذلك دعوين �أكمل والدتي. هربت �إليها عيناه وطولب باجلزية.
بالفا�س الراحلة خلف ثعبان �أ�سمع الريح ب�أظافري
بالغراب الذي يجربين و�أعرف �أين تختبئ عرو�سي
�أن �أطرده من ال�شجرة باحلجارة». تكاد جمموعة «الو�صول �إىل مدينة اي��ن» �أن تكون
هذا املقطع من الق�صيدة ي�شكل انزياحات جمازية معجما لال�سفار ،وللت�سكع يف امل���دن ،وعلى هذه
من حيث العالقة بني العالمات اللغوية؛ ويت�أ�س�س املو�ضوعة ينوع �رسكون بول�ص جمله ال�شعرية التي
من خالل �شبكة ترميزية عنا�رصها ال�صحو ،وال�ضوء، اعتمدت احلكي مبثابة ا�سرتاتيجية لبناء الق�صيدة،
واحل��ي��اة امل��ت��ج��ددة ،والرغبة يف بناء ع��امل جديد، وتهج�س �أغلب الق�صائد بالو�صول امل�ستحيل ملدينة
فالثعبان ي�شكل مع الغراب ثنائية �ضدية ،ف�إن كانت ال يعرفها .معتمدا على تقنية ترا�سل احلوا�س يف بناء
رمزية الثعبان توحي باحلياة املتجددة ،فالغراب �صوره ال�شعرية.
يهددها. يف ق�صيدة بعنوان «�ألف ليلة وليلة» الذي يفتح فيها
لأن رمزية الغراب املتعددة ت�شي يف بع�ض دالالتها �إىل ذهن القارئ على ا�سرتجاع الن�ص احلكائي ال�شهري،
«املبعوث الذي يقود الأرواح يف �سفرها الأخري»؛ وهذا يتالعب ال�شاعر ب�أفق التوقع ،ويوهم ال��ق��ارئ �أنه
83 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
بكربيت الوقائع اليومية احل�ضور لهذا الطائر الأ�سود اللون ي�ستدعي مبا�رشة
باحتقار الدخول �إال اقتحاما رمزية الطوفان التي يعتمد عليها �رسكون يف �أكرث من
من الأبواب املح�صنة». مرة يف �شعريته ،باعتبارها رمزية للوالدة الثانية،
فالعنقاء الطائر اخلرايف رمز امليالد اجلديد ،مل تعد ومن ثم فهذه الرمزية االنبعاثية تعترب خلفية م�ضمرة
يف هذا املقطع كما وظفت يف �شعر التموزيني بل هي يف توليد الداللة ال�شعرية عند �رسكون .فالغراب هذا
عنقاء يجددها اليومي ،فال�شعر ال يكتب من خالل الطائر املبعوث من قبل نوح كي يخربه بالياب�سة.
املتعايل بل هو انغما�س وا�شتباك مع الوقائع اليومية، وبذلك يكت�سي رمزية خرية بدل الرمزية التي �أحلقت به
هو اقتحام للأبواب املح�صنة .ال يعرف املهادنة. م�ؤخرا �أنه رمز ال�ش�ؤم .وتتواتر رمزية ع�شبة اخللود يف
حاولنا �أن نبني �أن جتربة �رسكون بول�ص يف ديوانه �أماكن عديدة من �شعر �رسكون ،يف �إحالة �إىل �أ�سطورة
الأول مرتبطة بالعبور والرتحال والتيه والو�صول بالد الرافدين� ،أ�سطورة جلجام�ش ال��ذي �ضيع نبتة
�إىل الالمكان .جتربة ي�صل فيها ال�شاعر ليذهب؛ ف�إذا اخللود يف طريق العودة ،والذي �رسقها هو الثعبان
ت�أملنا اجلملة الأوىل يف ال��دي��وان جندها كالتايل: الذي بدوره �أ�ضحى رمزية للخلود وا�ستمرارية احلياة
«�أ�صل �إىل وطني بعد �أن عربت» .واجلملة الأخرية فيه وجتددها.
«�أريد �أن �أ�شكر الغبار الذي �أحمله كالإرث �أينما ذهبت يف ق�صيدة «التوطئة» يقول:
« ،ن�سجل �أن ال�شاعر مل يقم بذلك اعتباطا ،فهذا الأمر «وقيل �إنك ع�شت يف الغابات واملدن.
ينم على �أن ال�شاعر ال يح�شد الن�صو�ص يف ديوانه وخالطت الربابرة� ،أ�صبحت �ضيف امل�سافة� :أ�ضواء
كما اتفق ،بل يهدف �إىل خلق نوع من الوحدة يف اجلو تدعوك.
العام للن�صو�ص ،وليعمق داللة املو�ضوعة التي انبنى يف كل زاوية� ،أجنبية ،يف مرماك ،راغبةُ ،تنال...هل
عليها الديوان منذ العنوان الذي يوحي بالو�صول �إىل وجدت نهر
الالمكان .فبني الو�صول والذهاب –هناك حركة دائمة، �آبائك؟
لي�س هناك توقف ،والديوان قد ر�صد هذه التنقالت. �أينما ا�ستدرت.
� -3رسكون بول�ص والإنهمام بال�شكل: والتقطت ع�شبة جمهولة عند �ضفافه.
من خالل تتبعنا للمجاميع ال�شعرية ل�رسكون بول�ص ق��دم ت�سعى
ف�أكلتها ،ال م��اء ف��ج���أة ،وال بيت� ،إمن��ا ُ
نالحظ� ،أنه كان من�شغال �أ�سا�سا ب�شكل ق�صيدة النرث، وطري ُقها؟
وكان حري�صا على تطويره من جتربة �إىل �أخرى ،وكان أ�صبحت قدما ال تعرف طريقها».
ُ �
ينوع ،من جتربة لأخرى ،يف طرائق الكتابة ال�شعرية، فهذه الع�شبة التي توحي �إىل ع�شبة جلجام�ش� ،أو ع�شبة
ففي التجربة الأوىل «الو�صول �إىل مدينة �أين» مار�س املياه اخلالدة يراها �رسكون بول�ص بطريقة �أخرى،
نوعا من الكتابة ات�سم بال�رشا�سة والعنف التخييلي، حيث مل تثمر الع�شبة حياة (م��اء) وال مالذا (البيت)
واعتمد على ال�صورة ال�شعرية �أداة يف الكتابة .وكتب �إمنا هي ع�شبة تعك�س بداخله ال�سفر امل�ستمر ،والرتحال
بنرث يومئ للهدف مبا�رشة ،بعيدا عن التهوميات الأبدي ،والتيه.
وعن الرتهل فكان بذلك ي�سعى �إىل القطع مع ال�سائد هكذا يتعامل �رسكون مع رمزية البعث ،فهي مل تعد
يف ال�شعر املعا�رص له وال�سابق .وقد كان �رصيحا يف لديه رمزية �أ�سطورية ذات بعد متعال ،وا�ستيهامي،
موقفه هذا معلنا ذلك يف �إحدى ق�صائده. و�إمنا هو بعث �أر�ضي ،مرتبط باليومي وباحلياة يف
�أقف بجانب نف�سي ،م�شجعا نف�سي جت�سيديتها .يقول:
على امل�ضي ،والليل والنهار «عندما اكت�شفوا عنقاء ال�شعر بال�صدفة
تو�أمان �سياميان تختبئ يف �رساديب �رسية و ُت ْ�ش ِعل نف�سها من حني حلني
84 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
وديكا �أحمر كان ي�صيح على قبة التنور ،عن ب�شائر يلعبان ال�شطرجن على �صدري
اللذة الأوىل يف وحتى يحركا بيدقا واحدا
عينيها الكبريتني . على النرث ان ين�شب خمالبه
ويف ق�صيدة «حدود» ،ا�ستح�ضار لقريته ،والتحوالت يف رقبة ال�شعر الهزيلة.
التي �أملت بها: فخيار ق�صيدة النرث – رغم حتفظه على امل�صطلح-
حيث كانت ال�شم�س ترق�ص على نوافذ قرية ،ماء يجري مرتبط �أ�سا�سا لديه بتجاوز الكتابة ال�سابقة؛ خ�صو�صا
يف الب�ساتني ما يدعوهم بجيل الرواد يف ق�صيدة التفعيلة .لقد انحاز
مل يعد �سوى نهر من الرمال املتخمة حتى االختالج. مبكنته �أن يالئم
لهذا ال�شكل يف الكتابة لأنه �شكل مطواع ُ
�سلطان املتاهة ،ال ينمو على �ضفافه طبيعة التجربة احلياتية التي عا�شها �رسكون بول�ص؛
�سوى الزمان ،هنا فالتيه ،والت�سكع ،والتجربة الأمريكية ،والرتحال؛
كان �سركون خلف احلدود . ُي ْ�س ِع ُف ُه يف ْ
ا�س ِت ْن َفاد كل الإمكانيات التخييلية حول هذه
ث��م ي�ستح�رض ���ص��داق��ات ت��ع��ود �إىل ف�ترة املو�ضوعة التي تعترب النواة املركزية التي تفرعت
من�شغال ب�شكل
ال�ستينيات بالعراق� ،أ�صدقاء عرفوا جتربة عنها ق�صائده .فهذه الطالقة يف تقليب املو�ضوعة
االعتقال و�أ�صبحت هذه التجربة لديهم رواية ق�صيدة النثـر، املركزية وتنويع تناولها برهنت عن متكن ال�شاعر من
مفتوحة يحكونها بال توقف يف املقاهي هذا ال�شكل املعقد ،وعلى ا�ستيعاب �آلياته الدقيقة.
وحري�صا على كتعوي�ض عن �إفال�سهم: ويف املجموعة الثانية «احلياة قرب الأكربول» الذي
ر�أيته ينزل الدرج امل�ؤدي �إىل غرفة «�سعاد» تطويرها من كتبه عن جتربته يف اليونان ا�ستبدل بال�صورة ال�شعرية
املمر�ضة التي تعطف على ال�شعراء املفل�سني وبالت�شبيهات ال�رس َد .فهذا الإبدال ينم عن وعي حاد
جتربة �إىل يف مقهاهم املتوا�ضع قريبا ب�صريورة التجربة ال�شعرية لديه ،ففي كل جمموعة
�أخرى من غرفتها ،حيث يجل�سون قبالة �ساقية يحاول �أن ي�ضيف جديدا لق�صيدة النرث ،ويطعمها
من الوحول جتري و�سط الزقاق . بتقنية مغايرة؛ فهو �إن كان �صارما جتاه التجارب
ويتذكر وجوها من احلياة العادية ،ففي ال�سابقة ،ف�إن هذه ال�رصامة ميار�سها على ذاته ،وعلى
ق�صيدة «حياة امليكانيك عبد الهادي من باب ال�شيخ ق�صيدته.
« رجل من ال�ستينيات ي�ضع له بورتريها ي�ؤثث عالقة هيمن ال�رسد يف جمموعة «احلياة قرب الأكربول»،
حميمية مع البندقية التي ال تفارقه يف الأح�لام و�صاحبته الذكرى كمو�ضوعة لكنها ذكرى غري مفرطة
واليقظة يف حالة ال�صحو وال�سكر ،وي�صور الف�ضاء الذي يف عاطفيتها ،فاحلنني ل��دى ال�شاعر لي�س حنينا
ي�شتغل فيه ،ف�ضاء مقرف تفوح منه رائحة الزيوت رومان�سيا مغلفا بتهوميات ومبالغات وبت�ضخيم
امليتة ،وبول اخليول العثمانية على �آالت الت�شحيم للحالة النف�سية �إنه احلنني كما هو؛ كما يح�سه ال�شاعر
املك�رشة يف الأركان ب�أ�سنانها البليدة .ير�صد �رسكون يعرب عنه.
يف هذه الق�صيدة حياة الب�ؤ�س ملكيانيك من ال�ستينيات ُن ْل ِفي يف �سل�سلة من الذكريات ثبتها �رسكون بول�ص
يف العراق. �شعريا ،ذكرى املع�شوقة:
«ب ْ�س َتان الآ�شوري املتقاعد» هناك �أي�ضا يف ق�صيدة ُ هناك تذكر ���س��ارة .تذكر �سارة التيمية و�أنفا�سها
ا�ستح�ضار للحظة مريرة لقلع �رض�س بخيط مثبت املبهورة هناك
ب�أكرة الباب .ولإي�صال وقع هذا الأمل الذي واجهه هذا يف ذلك ال�صباح املت�ألق برمله الذهبية بني فخديها
الأ�شوري املتقاعد ،ير�سم ال�شاعر لوحة مفزعة ومقززة على �إحدى �ضفاف
موطئا بها مل�شهد الأمل: الفرات
85 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
ب�أفواه جذىل و�صولهم . «النجوم تنطفئ فوق �سقوف كركوك وتلقي
وت�ستح�رض �شخ�صيات آ����ش��وري��ة ،م���ردوخ ،ع�شتار، الأفالك برماحها العمياء� ،إىل �آبار النفط امل�شتعلة
إيرا و�أ�شياء �أثرية ،بقايا
�سموقان� ،أنوناكي .املحارب � َ يف الهواء� ،إىل كلب ينبح يف الليل ،مقيدا �إىل املزراب،
من بوابة نركال ،واحلجارة القدمية. حزنا؟
واللحظة الثانية ت�شكلت عبرْ َ �إدانة �صارخة ،وح�رسة �أو رعبا �أو ندما ،و�ضفادع جتثم على �أعرا�شها الآ�سنة
لتغريب هذه املنحوتة عن �سياقها احلقيقي ،فهذه يف ب�ستان مهجور عندما
املنحوتة منزعجة ب�سبب ال�ضو�ضاء ،مل تعد لها ت�شق حجاب الليل �رصخة مقهورة .إ�ن��ه الآ���ش��وري
قيمتها احلقيقية يف بلدها الأ�صلي .فهي قد �سلبت املتقاعد يقلع �رض�سه».
دورها القد�سي ،ولطخت بدن�س «هذه الب�رشية الغريبة �إن خلق احلالة ال�شعرية مل يعد مرتبطا مع �رسكون
و�آالتها» .وانعك�ست هذه احل�رسة يف نهاية الق�صيدة: بول�ص ،ومع �شعراء ق�صيدة النرث ،بطبيعة املو�ضوع،
تبت
ماذا ر�أيت يا عيون ال�سومريني الكبرية� ،أي ل�ص ْ فاحلالة ال�شعرية ميكن �إحداثها لدى القارئ من خالل
يداه املو�ضوع املبتذل والعادي� .أو حتى من املو�ضوع
أ�ت��ى بك �إىل ه��ذه اجل��زي��رة .من �سيخ�شع لك يف هذا املقزز وامل�ؤمل كما هو احلال بالن�سبة لهذا الآ�شوري
ال�رسداب؟ املتقاعد.
�أي ل�ص يف �أي ليل بهيم� ،أتى بك �إىل هذا املكان؟ تناول هذا املو�ضوع ،بهذه الطريقة يخلق لدى القارئ
تعك�س هذه الق�صيدة بع�ضا من �صنعة �رسكون ال�شعرية، نوعا من التعاطف مع هذه احلالة الإن�سانية� .إذ �أمام
وتربز قدرته على النجوى والإح�سا�س ب�أ�شياء العامل، الأمل ت�صبح كل الإمكانيات واردة.
والغو�ص يف روح املادة ،وجعل املو�ضوع يتحدث �إليه مل تعد ال�����ص��ورة ال�شعرية ه��ي التي حت��دث احلالة
بدل �أن نتحدث عنه. ال�شعرية يف املجموعة الثانية ،و�إمنا ال�رسد هو الذي
لقد كانت معظم كتابات ��سرك��ون بول�ص منذ �أن �أ�صبح م�س�ؤوال على �إح��داث هذه احل��االت ال�شعرية،
غادر العراق حماولة بالغة اجلهد عرب مئات الق�صائد ور�سم ال�شخ�صيات� .رسد ان�سيابي يلتقط حلظات حنني
للتعامل فنيا مع مو�ضوعة احلنني ،وما كان يخ�شاه �أو حلظات �أمل �أو ح�يرة .وقد تتخذ الذكرى يف هذه
باعتباره �شاعرا هو ال�سقوط يف فخ الإ�رساف العاطفي، املجموعة طرقا اخرى مقنعة تف�سح املجال ال�ستح�ضار
وقد كان يحرت�س من الوقوع يف هذا البعد العاطفي ح�ضارة ب�أكملها من خالل حتفة فنية هربت �أو �رسقت
املبالغ فيه ،عرب اال�شتغال على الكون ال�شعري لديه، من بالد الرافدين.
وقد وجد يف اللغة العربية بغيته وحبل ال�رس الذي هذه اللوعة واحل�رسة والإدانة للعبث بذاكرة ح�ضارة
يربطه ب�شعبه وتاريخه ،وقد �رصح يف �أحد حواراته قدمية ج�سدتها ق�صيدة بعنوان «�أمام منحوتة يف ق�سم
ب�أن اللغة العربية« :هي الوطن احلقيقي الوحيد الذي الآ�شوريات باملتحف الربيطاين».
� ْأم ِلك»؛ ولكي يعالج هذا املو�ضوع املركزي –املنفى- فال�صوغ ال�شعري يف هذه الق�صيدة التي انبنت على
طور يف التقنية ال�شعرية عرب �سنوات طوال .فق�صائده خلفية فن النحت ،ت�شكل من خالل حلظتني :الأوىل متت
الأوىل كانت ق�صائد متفجرة ،وق�صائد حرية� ،إذ كانت عرب تفريغ حمتوى املنحوتة �شعريا ،وو�صف مكوناتها
لديه فكرة «الو�صول �إىل مدينة أ�ي��ن» ،حمتجزة بني ومو�ضوعاتها ،منحوتة تعك�س خدعة حربية:
كلمتي الو�صول والذهاب ،فالقارئ ما �إن ي�صل يف جندي يدحرج برحمه الطويل �سلما َي ْن ُغل بالأعداء
بداية املجموعة حتى يفاج أ� بالذهاب يف نهايتها؛ عن جدار القلعة البابلية� ،إىل النهر الهادئ يف الأ�سفل
وك�أن ال�شاعر ا�شتغل يف جمموعته على مقولة القدي�س حيث تنتظر
�أوغ�سطني «�إن��ه لي�س هناك مكان نحاول �أن نذهب الأ�سماك
86 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
مد�شنا جمموعته با�ست�شهاد دال من ملحمة جلجام�ش: وجنيء �إليه ،ولكن لي�س ثمة مكان».
«�إىل �أر�ض الأحياء ،تاق ال�سيد �إىل ال�سفر»؛ لتتنا�سل لقد حاول ال�شاعر �أن ي�ضم يف هذه املجموعة جوهر
امل��دن ،والأمكنة ،وال�����ش��وارع ،واحل��ان��ات ،واملواقع الأ�صوات املتعددة ،كتب الق�صائد املتفجرة ،مركزا على
التاريخية ،وال�شخ�صيات الرمزية ذات احلمولة الفكرية النرث ب�صورة تامة ،وعلى الق�صيدة ال�رش�سة ،وال�صوت
والأدبية وال�صوفية .واللقاءات ،والذكريات و�أحالم ال��ذي يواجه املو�ضوع مبا�رشة ،واعتمد التقطيع،
الطفولة .فمن فندق باحلي الالتيني �إىل بار النور�س واجلمل الطويلة ،وا�شتغل على الق�صيدة التوقيع مثل
يف �سان فران�سي�سكو ،من �ساحة يف �أثينا �إىل �أملرية ق�صيدة اجلالد:
يف الأندل�س ،من فا�س ذات الأ�سوار �إىل مكنا�س ،من �أيها اجلالد
باري�س �إىل ليل يف نيويورك. ُع ْد �إىل قريتك ال�صغرية
ال بد واحلالة هاته �أن تتداعى لدى قارئ هذه املجموعة لقد طردناك اليوم ،و�ألغينا هذه الوظيفة .
�صورة ال�سندباد ،هذا التوقع مل يخيبه ال�شاعر ،حيث بهذا التكثيف والرتكيز يدين القمع ،ويتخل�ص من
عنون �إحدى ق�صائد املجموعة «عقدة ال�سندباد»؛ الطاغية الذي مازال �شبحه يالحق ال�ضحايا �إىل الآن.
كان ال�سندباد ي�صل دائما فالقرية ال�صغرية هي ب�ؤرة املفارقة يف الن�ص ،قرية
�إىل تلك الدورة املو�سمية التي ت�أتي تنبت طاغية !
بتوقيت �أكيد كانت ال�صورة املكثفة لديه هي ج��واز امل��رور �إىل
ل َت ْج َر َ�ش دمه اخلامل من جديد عامل الالوعي؛ والتي تخدم احلالة �أو امل�شهد ال�شعري
ك�أن �ساحرا متحم�سا يدير عجلة امل�صائر يف اخلفاء !. الداخلي ،فكانت �أحيانا تت�رسبل بلم�سة �رسيالية .ويف
�صورة ال�سندباد تظهر يف جتربة �رسكون يف �أكرث التجربة الثانية ،بد أ� يتخل�ص من ال�صورة ويعو�ضها
من مو�ضع من ق�صائده .ففي جمموعته الرابعة يف بال�رسد ،الذي �أ�سعفه يف احلديث عن مدينة كركوك تلك
ق�صيدة بعنوان «مالحظات �إىل ال�سندباد من �شيخ املدينة الغريبة الرتكيب من حيث الأجواء االجتماعية،
البحر» .ي�ستوحي ق�صة ال�سندباد كما وردت يف «�ألف ومن حيث الأقوام التي ت�سكنها ،هي خليط عجيب من
ليلة وليلة»؛ و�إذا كان ال�سندباد قد تخل�ص من �شيخ عرب و�آ�شوريني و�أكراد و�أرمن و�صابئة .فكانت بذلك
البحر باحليلة يف احلكاية؛ ف���إن �سندباد الق�صيدة كركوك هي بداية الكتاب واملنبع واملكان .لت�ستمر
�سقط يف م�صيدة ال�شيخ لتتداخل هويتهما حتى ميكن يف احل�ضور يف جل كتبه ،ففي جتربته الثالثة «الأول
لأحدهما �أن يقول للآخر «يا �أنا»؛ كما جرت العادة يف والتايل» �سيتحدث عنها يف ق�صيدة «نهار يف كركوك».
املخاطبات ال�صوفية؛ ي�ستمر �رسكون يف هذه املجموعة يف تتبع بو�صلة
ال حتاول �أن تهرب مني التيه واالكت�شاف على طريقة يولي�س .مكتنزا باملعرفة
وان�س البحر ،قل وداعا للتجارة والتجارب احلياتية الهامة:
لقد قطعت اليوم حبل انتظاري ت�سبح نحو �شاطئ
ومنذ الآن يا�سندباد كلما اقرتبت منه� ،صار ين�أى
�سوف حتملني على ظهرك القوي كَ أَ� َن َنا واحد نحو �شيء ر�أيته
�أنا و�أنت ،أَ� ْن َت َنا ،أ� َن ْن َت يتقلب يف الظلمة كفانو�س َم ْركَ ب.
لن�ستك�شف هذه اجلزيرة . عابر ومثري.
يف هذه التجربة ،اعتمد �رسكون ،من الناحية ال�شكلية �أو ي�شتعل مثل ثقاب
على تنويع كتابة ق�صيدة النرث ب�أ�شكال متعددة ،فمرة يقاوم االنطفاء يف م�رسب الريح .
يعتمد ق�صيدة الكتلة (�أخطاء امل�لاك)؛ وم��رة يكتب ي�ست�أنف ال�شاعر حديثه عن ال�سفر ،والتيه ،واملكان،
87 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
ت�أ�سي�سا على ما �سبقت الإ�شارة �إليه ،نلمح كيف �أن الق�صيدة على هيئة فقرات (احلافة و�أ�رسارها) ،ومرة
ف�ضاء الق�صيدة املكثفة ي�ست�ضمر عاملا ب�أكمله، يكتب الق�صيدة يف هيئة الق�صيدة احلرة (مغامرة الفتى
وير�صد بلغة مكثفة تفا�صيل احلياة اليومية للرجل الهارب من القرية) ،ومرة يكتب الأ�سطر مثنى مثنى
العادي. (طرق خمتلفة �إىل روما).
� -4رسكون بول�ص و�أ�سالفه: وم��رة يكتب الق�صيدة ذات املقاطع (ال��ب��ادئ) ،وقد
يف مقالة كتبها بورخي�س حول «كافكا و�أ�سالفه»؛ زاوج يف جمموعته بني الق�صائد الطويلة ،والق�صيدة
ي�ؤكد ب�أن كل كاتب يخلق �أ�سالفه؛ مبعنى �أن الكاتب الوم�ضة .القريبة من ق�صائد الهايكو ومن النماذج
املعا�رص حينما ي�سلط ال�ضوء على كتاب �سابقني، للق�صيدة املركزة واملكثفة نورد ق�صيدته «حتوالت
ف�إنه يعيد خلقهم من جديد ،ويثري االنتباه لبع�ض من الرجل العادي»:
خ�صائ�صهم التي مل تكن مدركة من قبل. �أنا يف النهار رجل عادي
ونلم�س ل��دى �رسكون بول�ص ه��ذا االهتمام البالغ ي�ؤدي واجباته العادية دون �أن ي�شتكي
ب�أ�سالفه املتنوعني ،قدامى ومعا�رصين؛ مما يدل على ك�أي خروف يف القطيع ،لكنني يف الليل
�أن ال�شاعر يعترب �أن مملكة ال�شعراء واحدة ،و�أن لديهم ن�رس يعتلي اله�ضبة
دائرة جتمعهم .فحيوات ال�شعراء متداخلة ،وم�سرت�سلة، وفري�ستي ترتاح حتت خمالبي .
وم�صائرهم مت�شابهة ،وت�ضحياتهم من �أجل ال�شعر فهذا ال��ن��م��وذج ،ه��و �إمكانية م��ن �إمكانيات كتابة
قا�سية� .إ�ضافة لهذا امللمح ،ن�ست�شف �أي�ضا م�س�ألة هامة ق�صيدة النرث؛ امل�ؤ�س�سة على تكثيف ال��ع��امل ،بلغة
لدى �رسكون بول�ص ،وهي ارتباط ال�شعر لديه باملعرفة؛ عارية ،وباقت�صاد لغوي متوهج؛ فقد بنى ال�شاعر
فاكت�ساب التجارب الهامة يف احلياة لوحدها ال يكفي عامل الق�صيدة على تقابالت النهار /الليل ،اخلروف/
ما مل ت�سنده معرفة حقيقية بال�شعر وتعقداته .و�أعتقد �أن الن�رس .فزمن النهار زمن التعب و�أداء الواجب بنوع من
متيز ال�شاعر �رسكون بول�ص يكمن يف هذا التزاوج بني اال�ست�سالم .زمن تهيمن فيه عقلية القطيع ،واحل�شدي.
التجربة واملعرفة .ولذلك فالق�صيدة لديه ا�ست�ضافة، وغياب ال���ذات؛ ورم��زي��ة اخل��روف ذات دالل��ة بالغة
يكتبها باليد التي هجرته؛ يكتب ن�صه ال�شعري على من حيث �إحالته �إىل التبعية واالن�صياع للراعي،
خلفية طر�س �شفاف .يعيد من خالله �إع��ادة ت�شييد واالن�ضباط و�سط احل�شد والقطيع� .أما زمن الليل ،فهو
ع��وامل ال�شعر .هي ق�صيدة ت�ؤ�س�س للحوارية وتكتب زمن التحرر ،والعي�ش يف الأعايل ،وحتقيق رغبة الذات
بطريقة ا�صطفائية؛ تنم عن وعي عميق مبرياث ال�شعر؛ واجل�سد؛ ولذلك حققت رمزية الن�رس ،هذا التحول الذي
وذلك من خالل اقتنا�ص حلظات م�رشقة فيه؛ فال�شعراء يح�صل للرجل العادي بني زمنني الأول نهاري والثاين
لديه م�سكونون باالجداد والأ�شباح والأطياف ال�شعرية ليلي؛ فالن�رس باعتباره طائرا يتميز بال�شموخ وارتياد
والتاريخية .وال�شعر نوع من ال�سحر ،من املمكن �أن الأعايل ،والعزلة والتوحد ،ودقة النظر؛ والقوة الرهيبة
يغري حياة الفرد كاملة .و�أن ال�شاعر احلقيقي هو الذي على االفرتا�س� ،شكل يف الق�صيدة نقطة مف�صلية للداللة
ميار�س هواية ال�صيد يف الأعايل ويف املياه العميقة. على التحوالت� .إذ حتوالت الرجل العادي تبد أ� من نقطة
فال�شعر بحر ،وال�شاعر �صياد .وال�شاعر هو الذي يعي�ش االلتزام بالواجبات العادية اليومية التي ينتج عنها
دميومة البداية؛ وي�ستعري �رسكون بول�ص مقولة ذات نوع من االن�ضباط واخلوف ،لت�صل �إىل نقطة التحرر،
داللة فل�سفية عميقة لل�شاعر الإيطايل �سيزار بافي�س والتوحد ،و�إثبات الذات .فالإن�سان العادي امل�سحوق
من ديوانه «�سي�أتي امل��وت ويكون له عيناك»�« ،أن باليومي يحتاج �إىل جرعة من احلرية الليلية ،ليتقم�ص
نبد�أ هذا كل ما هناك» .وقد جعلها ا�ستهالال لق�صيدته دور الن�رس ال�شامخ ،ويعي�ش حلظات من اال�ستعالء
«البادئ « فال�شاعر بح�سب منظور �رسكون ،هو الذي واالرتفاع عن �أر�ضية الواقع.
88 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
�إىل �سافو �إىل اليونان� ،إىل ال�صني� ،إىل �شعراء الهايكو ما يفت�أ يبد�أ يف كل جتربة من البداية ،وهكذا ي�ضمن
خ�صو�صا با�شو� ،إىل �شك�سبري �إىل �شيلي و�شعراء احلركة ل�شعره نوعا من احليوية وال��دمي��وم��ة ،واالكت�شاف
الرومان�سية .وكلها مناذج خمتارة بدقة ،بحيث ي�ؤلف امل�ستمر ،فكل جتربة يكون فيها ال�شاعر طفال ينده�ش
هذا الكتاب حدثا �شعريا واحدا ،وك�أمنا ه�ؤالء ال�شعراء �أمام العامل .فم�صدر قوة التجربة ال�شعرية لدى �رسكون
كانوا على اتفاق فيما بينهم على �أن يقولوا �شيئا تكمن يف �أنه دائم البحث والتنقيب يقول�« :أنا مازلت
كبريا جدا .لذلك فالكتاب -يف النهاية -هو اهتم �سركون �أعرث على �أ�شياء كل يوم .االختبارية هي كلمة ال�رس،
نوع من الق�صيدة الواحدة ب�أ�صوات مئات �أي �أن احلقائق الالنهائية موجودة مبطنة يف اللغة
ال�شعراء» ،ف�رسكون مهتم ب�شعر العامل لأنه ب�أ�سالفه نف�سها « .فهو يجد �أن اللغة العربية عجيبة جتعله
يعرف �أننا جميعا يف القارب نف�سه .وهذه املتنوعني، مي�ضي �إىل أ�م��اك��ن جمهولة لي�ستك�شفها «نحن يف
الفكرة هي �صدى لفكرة مالرمي حول �سعي النهاية جمرد م�ستك�شفني .لي�س هناك �شيء نهائي،
العامل لكتابة كتاب واح��د ،وق��د عمق هذه قدامى رمبا كتبت ق�صيدة خمتلفة غدا� .أنا ال �أ�ؤمن بقوانني
الفكرة بورخي�س يف جل �أعماله حول كونية ومعا�صرين؛ معينة� .أ�ؤمن بال�صنعة كثريا ،ولكنني �أ�ؤمن �أي�ضا ب�أن
الأدب .الذي يكتب يف حوارية م�ستمرة بني �شعر اللغة العربية له �أ�صول عتيقة جدا « .والق�صيدة
مما يدل الن�صو�ص. لديه هي خريطة من العالئق بني الكلمات املوجودة
من ال�شعراء القالئل يف ق�صيدة النرث الذين على ال�صفحة ،هذه العالئق تكون يف النهاية عاملا
على �أنه
قاموا بحوار مفتوح مع جت��ارب ال�شعراء يكاد يكون كامال « .وكما �سلف ونبهنا �إىل �أن �رسكون
ال�سابقني يعد �رسكون بول�ص �أبرزهم؛ فال يعترب مملكة بول�ص يف ق�صيدته «حتوالت الرجل العادي» ي�ؤمن
تخلو جمموعة من جماميعه من الإ�شارة �إىل بقيمة الليل كمجال للحرية ،و�إثبات الذات ،و�إمكانية
�شاعر عربي قدمي �أو حديث �أو ن�ص �سومري ال�شعراء الت�أمل الهادئ يف ليل املعنى وليل الداخل ،فهو ي�رصح
«جلجام�ش»� ،أو �شاعر �أورب��ي �أو �أمريكي واحدة ،و�أن يف حواره �إىل هذا امللمح الذي ا�ستنتجناه من ق�صيدته
«بودلري»« ،بافي�س» ،فاييغو ...هذا امللمح الوم�ضة يقول�« :أنا �شخ�ص ليلي ،ليلي باملعنى الذي
ي�ؤكد �أن ق�صيدة النرث العربية مل يكن لديها لديهم دائرة يكف فيه الليل عن �أن يكون وقتا فقط� .إذ ثمة �أي�ضا
هاج�س االنقطاع ع��ن امل���وروث ال�شعري جتمعهم. الليل الباطني الذي �أ�صطاد فيه .وك�أي �صياد يف قارب
احلقيقي؛ فهي يف حالة �رسكون ،تقطع مع �أتيه �إىل �أن �أجد .ال�سمكة دوما توجد يف الأعماق ،لكن
ال�شعر ال��ذي مل يكن يحمل بداخله �رشوط مثل �سنتياغو «ال�شيخ والبحر» لهمنغواي ،عليك �أن
بقائه .فهو يقطع مع ال�شعر الذي انق�ضت �صالحيته، ت�صطاد ال�سمكة احلقيقية .ولي�س �أي �سمكة يف البحر،
ويحتفي بال�شعراء احلقيقيني الذين �أخل�صوا لل�شعر ال�سمكة التي هي جديرة باملجازفة وباملوت �أي�ضا «.
و�ضحوا من �أجله واكتووا بناره. �إ�ضافة لهذا املي�سم اال�ستك�شايف عند �رسكون بول�ص،
هناك العديد من الق�صائد لدى �رسكون انبنت بالأ�سا�س جند �أنه �أي�ضا دائم التوغل يف قراءة ال�شعر العاملي،
على حم��اورة مع �شاعر عربي ق��دمي .وق��د ك��ان هذا ال�شعر العربي ال��ق��دمي وال�شعر ال�صيني والياباين
اال�ستح�ضار ينم عن عالقة �رسية مع ه�ؤالء ال�شعراء؛ وال�سن�سكريتي ،وقد عك�س هذه ال��روح اال�ستجماعية
ويعك�س من ثمة تلك الأوا�رص التي يعتقدها �رسكون لإنتاج الب�رشية لل�شعر يف كتابه «رقائم لروح الكون»:
يف �أن م�صائر ال�شعراء م�شابهة و�أن حيواتهم متداخلة. «يبد�أ الكتاب من مرثية بقلم �شاعر م�شهور من جيكور
و�سنبني طبيعة هذا احلوار املفتوح مع ه�ؤالء ال�شعراء يف العراق .وهي عن خراب جيكور ،مرثية اعتربها
انطالقا من جمموعة من الق�صائد وردت موزعة يف مازالت �سارية على و�ضعنا الآن بكل �إن�سانية .بادئا
جماميعه .ميكن ت�سجيل �أن ظهور هذه الأوجه ال�شعرية من هناك ،مي�ضي الكتاب �شعريا �إىل الآن .من هناك
89 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
وحيث ترعى يف �أح�شائه باخرة �ضائعة؛ لي�صادف يف بد�أ منذ جمموعته الأوىل «الو�صول �إىل مدينة �أين»،
بريوت (مالب�س بودلري الداخلية يف طريقه) ،كل هذا حيث عنون �إحدى ق�صائده «�آالم بودلري و�صلت».
الأمل وال�ضياع كان يف (رحلة طويلة ال يعرف فيها �أحد ه��ذه الق�صيدة تعترب انعطافة حقيقية يف م�ساره
�أحدا)( .ال ي�رشب �أحد غري �أح�شاء �صديقه املخل�ص). ال�شعري؛ �إذ �رصح يف �أحد حواراته� ،أن هذه الق�صيدة
�أم��ا يف جمموعته الثانية ،ف�إنه يخ�ص�ص ق�صيدة هبطت عليه جملة ،ومل يتدخل بعد يف تنقيحها
ي�ستح�رض فيها �صورة ال�شاعر �أبي متام؛ ويعقد مع وتنقيتها من ال�شوائب ،على غري عادته ،ف�رسكون ميكن
ق�صيدته امل�شهورة يف مدح املعت�صم: اعتباره �شاعرا يحكك ق�صيدته ويتدخل فيها قبل �أن
ال�سيف �أ�صدق �أنباء من الكتب يف حده احلد بني اجلد ي�صدرها؛ لكن مع هذه الق�صيدة الأمر خمتلف؛ وهي
واللعب. قد كتبت يف قرية جبلية لبنانية ،قرية ال�شاعر اللبناين
ح��وارا خفيا ،ويكون م��دار الق�صيدة على مو�ضوعة بع ِ�ش ن�رس فوق اجلبل .كتبها
وديع �سعادة ،قرية �شبيهة ُ
احتبا�س و�إبطاء جميء ال�شعر .وحول هذه املو�ضوعة ليعك�س من خاللها حلظة حب حقيقي لفتاة درزية؛
تنت�سج ق�صيدة �رسكون ،من خالل ت�شابكات وتلميحات وهو يف �سنة الثامنة والع�رشين .كتبها ليتحدث عن
يكون فيها ن�ص �أبي متام بذرة انطالق لتتخذ الق�صيدة الأمل من و�سط الأح�شاء .ولذلك �إذا ت�أملنا الق�صيدة منذ
عند �رسكون م�سارات �أخرى تبتعد عن احلوار املبا�رش عنوانها الذي يعقد �صلة مع بودلري� ،صاحب «�أزهار
مع الن�ص الغائب .بل تذهب �إىل ممار�سة نوع من النقد الأمل» �سندرك �أن ح�ضور هذا ال�شاعر ح�ضور مزدوج،
املبطن لطبيعة العالقة بني ال�شعر وال�سلطة. فهو ال�شاعر الذي تعمق يف مو�ضوعة الأمل الداخلي؛
فال�شاعر كما �صورته الق�صيدة (بعد لأي� .أمثولة �أبي و�أي�ضا ه��و امل�ؤ�س�س الفعلي جلن�س ق�صيدة النرث
متام) هو ذلك الذي يبحث عن اخلامت يف بطن �سمكة، الفرن�سية ،وهو املرتجم الناجح لأعمال �أدغ��ار �آالن
ويف هذا �إحالة �إىل مو�ضوعة ال�شاعر ال�صياد امل�شار بو ،وقد كان ت�أثري هذه املرجعية االنكلو�سك�سونية يف
�إليها �آنفا؛ ت�أتيه الأبيات ال�شعرية بعد لأي (م�شدودة عوامل بودلري وا�ضحا .يقول �رسكون يف ق�صيدته مربزا
الأعناق �إىل غيابها) ،وحربه ال ت�شبه حرب ال�سلطان. احلدود الق�صوى لآالمه ومتزقات روحه.
�إنها احلرب وهو الذاهب �إليها. جننت من الإفال�س واملحبة.
لي�س �أقل يف �شجاعته من بطل� ،شديد احلمق انتهى. وذات ليلة حتول �إفال�سي �إىل طري
لتوه من �سبك �سالحه ،لكن بال تر�س لوقايته فهذه حرب وحمبتي �إىل جمرة.
خفية على العني ،وجراحها ال ميكن �أن تتقى . هرب الطري ،بقيت اجلمرة.
الكلمات لديه ال ت�ست�سيغ طعم ذلها؛ ما دام العر�ش يف اجلمرة دخلت �أخريا.
اخل�شبي �إذ يغرق ال يخلق �إال دوامة �ضئيلة ؛ وما دام نزلت �إىل �أح�شائها وحفرت جمالها.
(الرتاب ال يذكر �ألقاب اجلمجمة) . �أيقنت من عزلتها و�أنا �أدخل و�أتعرث بغيمة غ�ضبي.
�إن��ه �سلطان ال�شعر ال��ذي يهزم كل �سلطة .بعيدا عن لأن عزلتي كانت قوية جدا.
الل�صو�صية واال�ستجداء «كل بنك حم�صن يخلق جيال ودخلت .
جديدا من الل�صو�ص «. هي بالفعل حلظة ا�ستبطانية لآالم الداخل ،م�ؤثتة
فال�شاعر يف الق�صيدة ،بال طبول ،وال بيارق ،وال جمد مبعجم ينهل من اللوعة وال�ضياع ،واالنفالت ،واالكتواء
طاوو�سي� .إنه �صياد ،وداهية بجمرة الفقدان .حيث املا�ضي ال ميكن �صيده ،ينفلت
هذا ال�صياد الذي يريد �رشاكا با�ستمرار ،والهبوط �إىل اجلحيم الالنهائي( ،رجل
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) يحمل جمرة يف يده حتتوي رجال يحمل جمرة يف يده)،
90 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الآ�شوريون
وغزو اليمن
فا�ضل الربيعي
باحث من العراق
منحوتات �آ�شورية
91
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
حمجة جند فيه ُ ثمام وهو اجلليل. الوح�ش على ّ يطابق ر�سمه يف �صورة دوم��ة ،بينما نعلم �أن
بيد �أن الن�ص الآ�شوري ال ي�شري البتة �إىل املكان الواو الأخرية يف الأ�سماء حرف �صوتي ولي�ست
الذي انطلق منه �سنحاريب� ،صوب ما ُيفرت�ض من �أ�صل اال�سم ،كما يف لهجات العرب من �سكان
�أنه دومة اجلندل� ،أي ما اعتقد علماء الآثار �أنه ال�سواحل :مثل عبدو يف عبد ،و�أحمدو يف �أحمد..
.Adummatu -Adumuويبدو �أن خط�أ الخ .وا�ستنادا ً �إىل و�صف الهمداين ،فقد عرف
يف قراءة اال�سم ،قاد عاملا ً مرموقا ً من علماء العرب القدماء جبلني بهذا اال�سم ،احدهما �أدوم
الآثار هو مو�سل �إىل االفرتا�ض �أن املق�صود بهذا يف منطقة اجلليل (جليل اجلزيرة العربية ولي�س
اال�سم ،دومة اجلندل يف عمق اجلزيرة العربية، فل�سطني) و�أدوم �آخر يف اليمن.
بينما �سرنى تاليا �أن املق�صود به �أدم يف خمالف هاكم و�صف الهمداين يف �صفة جزيرة العرب(:)4
ال�سحول باليمن .ي�ؤكد لنا كل هذا� ،أن روايات
الإخباريني العرب عن احلمالت الآ�شورية يف وامل�ساكن من هذا املخالف ( خمالف ال�سحول)
خم�لاف ال�سحول� ،صحيحة متاما ،ما دامت جبل � ُأدم( )5و�أري��اب( )6مو�ضع ذي فائ�ش()7
النقو�ش تتحدث عن ا�ستيالئهم على جبل �أدومو ويعلق حمقق الكتاب ما يلي :و�أرياب يف ر�أ�س
وم�ساكن عريبي -العرب ،وهذه �أماكن وموا�ضع العلو وهو ر�أ���س �صيد -وادي ّ �أدم من يح�صب
يف خمالف ال�سحول. �صيد.)-
وم��ع ذل��ك فقد امتد نفوذ �سنحاريب بف�ضل لنالحظ �أن اال�سمني �أدم ووادي �صيد � -صيدا
(�صيدون يف ال��ت��وراة وه��ذا وزن ع�بري وبناء
حملته هذه يف اجلزيرة العربية ،لي�شمل منطقة
م���أل��وف للأ�سماء ب��زي��ادة ال��واو وال��ن��ون التي
وا�سعة متتد من قلب اجلزيرة �إىل حدود بابل.
تطورت بر�أينا �إىل �ألف ونون مثل عدن -عدنان)
�إن الن�ص ال��ذي تركه لنا �سنحاريب ،والقائل
هما من م�ساكن القبائل العربية ،وير�سمان
�أن العرب يف مملكة تلخونو (تل -هونو) كانوا يف �صورة �أدم وع��رب (وادي العرب) و�صيد-
�صيدا كما يف ال�سجالت الآ�شورية وامل�رصية
وعند الهمداين .ولعل اال�سم �أريبي الذي توهم
جواد علي �أنه (عريبي) وهو بر�أينا وادي العرب
ال�شهري مبحاليفه وقبائله( )8ي�ؤكد ان الف�ضاء
اجلغرايف املر�سوم ال ي�شري البتة �إىل فل�سطني.
�أما �أدم الآخر يف اجلزيرة العربية فهو �أدم يف
ديار بني ُمزينة يف قلب اجلزيرة العربية .وهناك
مو�ضع آ�خ��ر بالقرب من �سائر ه��ذه املوا�ضع
يدعى �أراب ح�سب و�صف الهمنداين (�صفة جزيرة
العرب��� ،ص )135 :يقع بال�ضبط يف الف�ضاء
اجلغرايف ملخالف ح�ضور يف وادي مور ال�شهري.
وه��ذا �أم��ر مثري بالفعل ،ويتطابق مع مزاعم
الإخباريني العرب القدماء عن م�سار احلملة.
يقول الهمداين (�صفة :)295 :و�أدم بديار ُمزينة
و�أدم بال�سحول ،جبالن ،وذو اجلليل من موا�ضع
93 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
ي�سكنها �ألهان بن مالك �أخو همدان وبطون من يبتاعون الطحني واملالب�س واملواد ال�رضورية
حمري وقراها كثرية -وي�ضيف حمقق الكتاب: الأخ��رى من بابل ،ي�ؤكد وجود رواب��ط متنوعة
وقد غلب اليوم خمالف �أن�س على ا�سم خمالف �سيا�سية وجتارية حقيقية .وبح�سب ن�ص النق�ش
الهان)( .) 9هذا يعني �أن الف�ضاء اجلغرايف الوا�سع فقد ا�شرتك العرب مع البابليني يف احلرب على
للوادي اخل�صب وادي العرب ،كان يغ ّلب ت�سمية املقاطعات الآ�شورية يف ب�لاد ال�شام� .أي �أن
امللك با�سمه ،فهو ملك تل -هون وملك وادي روابطهم القوية والوثيقة مع البابليني ،مكنتهم
العرب .ويف النهاية ا�ست�سلمت مملكة تلخونو- من لعب �أدوار حا�سمة يف ال�رصاعات الداخلية
تل هون للآ�شوريني ،فجرى نهب الأ�صنام واقتيد �ضد خ�صومهم الآ�شوريني .لكن ،وعندما متكن
الأعراب �أ�رسى �إىل نينوى عا�صمة الآ�شوريني، امللك الآ�شوري �سنحاريب من ب�سط �سلطانه على
كما �أخذت الأمرية تب�ؤة -ظبوة � Tabuaأ�سرية بابل يف �سنة 689ق .م ،قام ب�أعمال انتقامية
�إىل عا�صمة �آ�شور ،ولكن ليعاد تن�صيبها ثانية �ضد هذه اململكة ،وتعقب الأع��راب يف البادية
�أمرية على �أريبي� -أي على وادي العرب ،بعد �أن انتقاما ً منهم لوالئهم خل�صومه البابليني ،ومن
خ�ضعت �سيا�سيا ً لإرادة الإمرباطورية� .أما حزا الوا�ضح ان حملته بلغت �أدوم��و אדומ .ويظهر
ايلي (חזאל حزاءيل) فقد �أفلت مع �أتباعه عندما من الن�صو�ص الآ�شورية �أن خالفا ُ ن�شب داخل
اعت�صم يف ر�ؤو�س اجلبال( ،)10واحلال هذه ،فلم مملكة تلخونو ( تل -هونو) بني القبائل العربية
يكن مبقدور �سنحاريب املغامرة مبطاردته يف البدوية وامللك حزاء يل (خزا ايلي ح�سب النقو�ش
منطقة وعرة داخل الوادي (ويف التوراة ير�سم الآ�شورية ويف التوراة �سفر امللوك 2ير�سم اال�سم
اال�سم يف �صورة ها-عربة ה ערבה اي العرب). يف �صورة בנ חזאל بن -حز-ءل ) على خلفية
ثم تخربنا امل�صادر الآ�شورية �أن حزاءيل (خزا احلملة االنتقامية .وبر�أينا �أن ال�سبب الأه��م
ايلي) قام فور وفاة �سنحاريب وانتقال العر�ش فجر اخلالف ،جاء يف الواقع بعد �أن توىل الذي ّ
�إىل ابنه �أ�رسحدون ،وبعد زوال �أ�سباب العداء امللك بنف�سه قيادة اجلي�ش وتنظيم خطط الدفاع
بني الطرفني ،بزيارة العا�صمة الآ�شورية ليقدم فجرت الهزائم التي منيت بها ّ والهجوم .لقد
بنف�سه فرو�ض ال��والء والطاعة للعاهل اجلديد اململكة غ�ضب واحتجاج القبائل ،متهمة �إياه
ال��ذي �أع��اد �إليه الأ�صنام الأ�سرية ،ومنها عرت ب�سوء القيادة .وح�سب ن�ص النق�ش ال��ذي نقله
�سمني(( )11ع�شتار ال�سماوية) والإل��ه��ة ديه جواد علي عن مو�سل؛ ف�إن مملكة تل -هونو-
)12(Dajaونهيا( Nuhaia )13وابرييلو (�إبر خونو ( غ�ضبت على ح��زا ايلي ملك ارببي ) .
ءيل -ابريل(� )14أي اهلل البارئ Ebirilluوعرث �سمى الآ�شوريون حزا -ءيل ملك �أريبي، ّ فلماذا
قرمه Atar Kurumaiaويبدو �أن بع�ض وهو ملك تل -هونو ؟
هذه الأ�صنام �أ�صيبت �أثناء وجودها يف الأ�رس �إن العودة �إىل و�صف الهمداين ملنطقة الهون
بالتلف ،ف�أمر �أ�رسحدون ب�إ�صالحها و�إعادتها ووادي ال��ع��رب (ع��ري��ب��ي) ���س��وف تو�ضح هذا
�إىل ما كانت عليه ،ثم تلطف ف�أمر ب�إرجاعها االلتبا�س .تقع الهون -هونو -خونو �إىل ال�شمال
�إىل خزا ايلي بعد �أن ُ نق�شت عليها عبارة �إىل من حمافظة ذمار وتت�صل مبخالف ال�سحول،
ج��وار ا�سم امللك ،تفيد بتفوق �إل��ه آ����ش��ور على حيث جبل �أدم ويف �أع�لاه عزلة جبلية تدعى
الأ�صنام .فمن هو امللك حزا-ءيل ( خزا-ايلي) �أرياب يف الف�ضاء اجلغرايف لوادي العرب .يقول
يتعبد للإلهة دية ونهيه وعثرت �سمني الذي كان ّ الهمداين (خم�لاف الهون� -أي مملكة الهون-
وابرا-ءيل ( �إبريللو) ؟ تزودنا الرواية التوراتية خم�لاف وا���س��ع .وال��ه��ان يف ذات��ه��ا بلد وا�سع
94 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
�سلطان �آ�شور على �أه��م خماليف اليمن القدمي مبعلومات رائعة وتف�صيلية عن هذه احلملة ،مل
يف وادي العرب .وهو حلم حتقق ،ولكنه مل يدم تدونها ال�سجالت الآ�شورية ،من بينها التفا�صيل
طويال ً ،لأن العداء بني الآ�شوريني والقبائل اخلا�صة ب����صراع ح��زا-ءي��ل م��ع الآ���ش��وري�ين.
العربية كان عميقا ً ،وكانت طبيعة التناق�ضات و�سوف نبد�أ من ا�سم الإلهة نهيه .Nuhaiaلقد
واخلالفات �شائكة ومرتاكبة ،دينيا و�سيا�سيا تركت هذه الإلهة ا�سمها يف واد عظيم من وديان
ً .ومع ذلك ،فلم يكن �أمام �أ�رسحدون �سوى هذا اليمن وبال�صورة ذاتها ،متاما كما يف التوراة
الإج���راء لتثبيت �أ�س�س النفوذ الآ���ش��وري على נהיה .ولأن �أ�سماء الأ�صنام ،ترتبط مبنظومة
القبائل املتمردة .كما اعرتف �أ�رسحدون بحزا معتقدات دينية (طوطمية) و�أمناط حياة كذلك،
ايلي امللك املتمرد ،ملكا ً على قبيلة قيدار، فقد �أ�صبحت �ضمن �شجرة الأن�ساب الب�رشية،
ولكن مقابل �إتاوة قدرها خم�سة و�ستون جمال وبحيث �صار الإله ( املعبود) والطوطم جزء من
ً .فلما تويف حزا ايلي �سنة 675ق.م اعرتف �شجرة ن�سب الإن�سان ،وذلك ما ت�شهد عليه ظاهرة
ا�رسحدون بوريثه يف العر�ش وويل عهده ابنه الأن�ساب عند العرب القدماء ،حيث ي�صبح الإله
يتع -يثع Uaiteملكا ً جديدا ً على القيداريني، �أدد ( هـ-ءدد �أو هدد ،حدد הדד) مثال ً� ،أبا ً �أعلى
�رشط �أن يدفع �إتاوة �سنوية كبرية مقدارها �ألف لعدنان .يف هذا الإطار �سوف يبدو �أن ال�سم الإلهة
َمن )16( Minaeمن الذهب ،وامل��ن البابلي ْ نهيه �صلة با�سم مكان (مو�ضع) بعينه� ،أو بطوطم
وحدة وزن ت�ساوي ن�صف كيلو غرام .كما فر�ض جت�سد يف �صورة �صنم معبود ،وبحيث �أ�صبح داال
عليه �أن يدفع خلزانة الإمرباطورية جزية �سنوية ً على مكان �أو طعام والعك�س .ولأن الإخباريني
مقدارها �ألف حجر كرمي .والن�صو�ص الآ�شورية القدماء �سجلوا يف رواياتهم �أخبار حملة نبوخذ
تر�سم ا�سم قبيلة قيدار يف �صورة ِقدرو. Kidru ن�رص ،ومل يتحدثوا عن �أي حملة �أخرى لأي ملك
وهذا اال�سم ورد يف ن�صو�ص التوراة يف ال�صورة بابلي �أو �آ�شوري �آخر ،بينما ن�سبوا كل ما جرى
ذاتها קידר– قيدار .وهي قبيلة عربية قدمية من دمار وخراب خالل ت�سع حمالت جرت يف
عرفها اليونانيون و�سموها باال�سم نف�سه ع�صور خمتلفة �إىل ملك واح��د ،فقد بات علينا
م�ؤكدين على �أنها عربية� ،أي متاما ً ً كما يف القيام بعملية تفكيك �شاقة ،بهدف �إعادة بناء
التوراة – ق�صيدة حزقيال -و�أنها كانت تقيم يف الرواية التاريخية لكل حملة من هذه احلمالت،
الف�ضاء اجلغرايف نف�سه ململكة -خمالف ح�ضور باالعتماد على ال�سجالت والن�صو�ص الإخبارية.
(ح�صور يف التوراة חצור) التي هاجمها نبوخذ من الوا�ضح �أن حملة �سنحاريب (ت��ويف عام
ن�رص ودمرها ،وا�ستوىل على ممتلكاتها .واملثري 689ق.م) ا�ستهدفت القبائل املتمردة التي
لالهتمام �أن �سفر �أرميا ي�شري �إىل هذه احلادثة ج��رى مطاردتها يف عمق البادية ،و�أن ا�سم
التاريخية ،وي�سجلها بدقة .واملالحظ �أن اجلزية اململكة تل -هونو التي هاجمها تدعى بال�ضبط
الثقيلة التي ا�ضطر امللك �إىل تقدميها ،ت�ضمنت العربي تل -هون ( هان) مبا �أن الواو الأخرية
نحو خم�سني جمال ً �سنويا ً حمملة بكميات حرف �صوتي .ويف هذه احلالة يجب ان تكون
كبرية من البخور .وه��ذا دليل على �أن م�رسح من ممالك تهامة اليمن(� .)15أراد �أ�رسحدون
املعارك كان اليمن القدمي ال��ذي ي�شتهر حتى من وراء عملية �إعادة تن�صيب الأمرية الأ�سرية
اليوم بانتاج البخور ،بينما ال يوجد لدى الأعراب ظبوت -ظبوة -تب�ؤة Tabuaالتي تربت �آنئذ
يف البادية ممتلكات �ضخمة من البخور كما ٍ تربية مدنية �آ�شورية ،ومن جديد �أم�يرة على
يف ن�ص النق�ش .وقد وافق امللك اجلديد ب�سبب �أريبي� ،أن ي�ضمن و�إىل �أق�صى حد ممكن فر�ض
95 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
و�صف الهمداين م�ساكن �أكيل هذه على النحو ظروف تن�صيبه ال�صعبة� ،أن يدفع للآ�شوريني
التايل( �صفة :)225 ا�ضعاف ما كان يدفعه والده .غري �أن تقديراته
حقل �صعدة :وجتتمع مياه هذه الأودية من �أ�سفل للأز�ضاع الداخلية مل تكن دقيقة ،فقد ثارت
البطنة ثم �إىل همدان ثم �إىل جن��ران .و�صعدة عليه القبائل ،وق��ام زعيم قبلي �ساخط يدعى
�سكانها الأكيليون من �آل ربيعة �سعد الأكرب. �أوبو Uaboبثورة عارمة عامة للتخل�ص منه
ي�ؤكد لنا هذا التطابق بني النقو�ش الآ�شورية ومن �سلطان الآ�شوريني .وحيال هذه التطورات،
ون�صو�ص التوراة وو�صف الهمداين لليمن� ،أن �أ�رسع الآ�شوريون �إىل �إر�سال جي�ش �ضخم لإخماد
املعارك كانت تدور يف �صعدة.ولأن الآ�شوريني الثورة ،فتم �أ�رس �أوبو Uaboو�أخذ �إىل نينوى.
متكنوا من �أ�رس �أحد ملوك هذه القبائل ويدعى بيد �أن ظ��روف ال�رصاع وحالة الإمرباطورية
ملك بتع Budaو�آخ��ر يدعى ملك جب�أ ،فمن املنهكة يف ت�سيري احلمالت الع�سكرية �إىل �أ�صقاع
الهام للغاية مالحظة ما يلي� :أن بتع Buda بعيدة ومناطق وعرة و�صعبة ،والقتال ال�رش�س
هذا لي�س �شخ�صية من ن�سج خيال الآ�شوريني. الذي كان على القوات خو�ضه� ،أدى �إىل �إ�ضعاف
وال��ه��م��داين يعطي ن�سبه وا���س��م��ه على النحو قدرتها على �إخماد �أي مترد او ثورة داخلية من
التايل( :)18و�أوالد بتع امللك ابن زيد ،علهان هذا النوع .ولذلك ،قاد يثع Uaiteالثورة هذه
ال�صوار
ونهقان امللكني ،و�أمهما جميلة بنت ّ املرة بنف�سه �ضد الآ�شوريني وراح هو و�أتباعه،
بن عبد �شم�س .ويف �أخبار اليمن القدمية� ،أنه يطرقون �أبواب االمرباطورية ويهددون حدودها
ملا قحط القطر يف زمان يو�سف -ع -و�أحلت املحاذية للبادية ،فا�ضطر الآ�شوريون �إىل جتهيز
اجل��راد و���س��اءت أ�ح���وال اليمن واحل��ج��از لأنها حملة جديدة هاجمت م�ضاربه ،وا�ستولت على
�أر�ض مغلقة -مرتفعة -ال ي�سوح فيها� ،أمر بتع ممتلكاته مبا فيها الأ�صنام التي �أخ��ذت مع
ابنيه علهان ونهقان �أن يكتبا للنا�س �إىل خزنة الأ�رسى مرة �أخرى� .أما يثع فقد وجد نف�سه يف
امللك) .ويبدو �أن الهمداين قر�أ نق�شا ً بخط امل�سند خ�ضم املعركة وقد �أ�صبح مبفرده دون �أن�صار،
عرث عليه يف �صنعاء ( )9-269ما يلي :ويف ليفر �صوب البادية كما ورد يف الن�ص� .إثر ذلك،
م�سند ب�صنعاء على بع�ض احلجارة التي نقلت قام �أ�رسحدون عام 676ق.م بحملة �أخرى على
من ق�صور حمري وهمدان :علهان ونهقان �إبنا قبائل عربية تنزل �أر�ض بزو Bazuقتل خاللها
بتع لهم امللك قدميا ً كان .وزيادة يف التوثيق، كما يقول الن�ص ،ثمانية ملوك ،من بينهم ملك
ي�ؤكد الهمداين نقال ً عن حديث حممد بن �أحمد يدعى حازو -حزو ويف التوراة ءحاز .كما متكن
الأو�ساين (الإكليل � : 14-268أن الأخري قر�أ – العاهل الآ�شوري من �أ�رس ملكة يف�أ -يافع وملكة
بدوره -نق�شا ً بخط امل�سند يف منطقة عمران من با –ايلو ( باهلة) Ba›iluوملكة اخيلو� -أكيل-
البون دار همدان ما يلي :علهن ونهقن �إبنا بتع Ihiluو�أ�رس زعيما ً يدعى هابن عمرو -17بن
بن همدان �صحح -رمم -ح�صن وق�رص حدقان عمرو . Habanamruكما �أ�رس ملكا ً يدعى
بن زيد بن بنينا) .وكل هذه الإ�شارات ت�ؤكد �أن ملك بتع وملك جب�أ.
بتع كان من ملوك همدان بالفعل ،وكما و�صفته و�أري��د التوقف هنا أ�م��ام �أ�سماء هذه القبائل
النقو�ش الآ�شورية .واملثري لالهتمام �أن الهمداين القدمية� .إن قبيلة �أكيل - Ikiluمن بطون
ير�سم �صورة دقيقة لن�سب (قد يبدو لنا �أ�سطوري ًا). همدان العظيمة التي تقيم يف حقل �صعدة ،ومتتد
يقول .و�أولد بتع بن حا�شد ذي مرهب ءل .ف�أولد م�ضاربها حتى وادي بطنة (ال��ذي حري �أ�سمه
مرهب ءل ينوفا ً ذا باع القيل -امللك -وهو �أج ّل علماء الآثار ،وزعموا �أنه بدنة -مدنة �إلخ) .وقد
96 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
� Idaiأفلت من الأ�رس ،و�سوف ن�أتي على ذكر هذا من وفد على �سليمان – ع -من قيول� -أقيال-
الوادي تاليا ً ،علما ً �أننا حتدثنا عنه مطوال ً يف اليمن مع بلقي�س).
فل�سطني املتخيلة ،فهو الوادي ال�شهري الذي ورد كما ورد ا�سم بتع هذا يف ال�شعر اجلاهلي .قال
ذكره يف التوراة وال�شعر اجلاهلي ويف و�صف علقمة:
الهمداين بال�صيغة نف�سها .وللتدليل على منط قد مات يو�سف ذو نوا�س
الت�أويل اال�ست�رشاقي -التوراتي ال�سائد يف علم ومات ذو بتع ينوف
الآث��ار� ،سوف �أ�سوق املثال التايل عن النقا�ش ولذلك ،ن�ستنتج من كل هذه الإ�شارات� ،أن ا�سم
الذي جرى بني العلماء حول حتديد مو�ضع بزو بتع هو ينوف ،وان بتع لقبه .لكن ن�شوان بن
وحزو :ارت�أى كال�رس يف ت�أويله ال�سم بوز -بزو �سعيد احلمريي( )19يفاجئنا باملزاعم التالية :
الوارد يف ن�ص �سنحاريب� ،أنه مو�ضع يف العربية ويقال �أن بتع ا�سمه الأ�صلي بري ءل� ،أي �صنعة
ال�شمالية� .أي يف احلجاز� .أما مو�سل ،فارت�أى �أن اهلل -خلق اهلل .وذو بتع هذا زوج بلقي�س -زوجه
الو�صف ي�شري �إىل �أنها تقع يف بادية جمدبة لي�س ال�سد� ،سد بتع) .نخل�ص �سليمان وهو �صاحب ّ
فيها غري ال�شوك ونوع من حجر يعرف بـ (حجر فم م��ن ذل��ك �أن بتع ال��ذي ا�صطدم بالآ�شوريني
الغزال) ،و�أن هذه البادية وطبقا ً للن�ص الآ�شوري ح�سب النقو�ش ،وا�ستنادا ً �إىل طريقة ر�سم ا�سمه
تت�صل ب�سهل فيه الأفاعي والعقارب و�أنواع من بالإجنليزية من جانب علماء الآث��ار هو تبع
اجلراد مثل الزربابو .بينما ت�صور مو�سل مو�ضع (dbuaبتقدمي وت�أخري الباء) وهو لقب ميني
حزو ك�أر�ض جبلية .لكنه ،وبرغم هذا التحديد �شهري .ولعل نطقه يف �صورة بتع ناجم عن تقاليد
الدقيق ن�سبي ًا من حيث التو�صيف ،قام بو�ضع الإب���دال يف احل��روف عند القبائل التي كانت
بزو يف غرب ويف جنوب «تدمر ال�سورية ،ويف ت�ساعد الآ�شوريني يف ت�سجيل ونطق الأ�سماء.
وادي ال�رسحان على وجه التحديد ،و�أن امللوك واملثري �أن احلمريي يخربنا �أنه هو نف�سه �أبر-
الثمانية الذين قتلهم ا�رسحدون كانوا يقيمون ءل ( �إبريل) الذي �أ�رس الآ�شوريون �صنمه .وما
يف وادي ال�رسحان عند احلدود ال�رشقية حلوران، يدلل على ذلك� ،أن التباعيني – من تبع هم من
ويف الرحبة وقطة �إىل وادي القطامي . بطون همدان املقيمة يف �صعدة .وذلك ما ي�ؤكده
وه��ذا غري منطقي وغري مقبول جغرافي ًا ،لأن لنا الهمداين الذي يقول (�صفة )187يف و�صف
احلملة يف هذه احلالة تكون قد اجتهت �صوب خم�لاف ال�سحول :خم�لاف ال�سحول :و�ساكنه
ال�صحراء ال�سورية ولي�س �إىل �شمال اجلزيرة بطون من الكالع وهي بطون من حمري منها
العربية .وبكل يقني �سوف ت�صبح فل�سطني بعيدة ال�سحول وجب أ� ال��ذي ين�سب �إليه جب أ� املعافر
متاما ً .ومع �أن وادي ال�رسحان هذا ال يعرف والتباعيون من همدان.
بازو -بزوه وال حازو -حزوى ،وال توجد قطة ويف هذا الن�ص ما ي�ؤكد� ،أنه من همدان ،كما
وال الرحبة وال ال�رسحان ،فقد وا�صل العاملان يف امل�ساند التي عر�ضها الهمداين ك�أدلة قاطعة
الأث��ري��ان و�ضع الأم��اك��ن ال���واردة يف الن�ص على وجوده ملكا ً على التباعيني .وب�صدد ا�سم
الآ�شوري �ضمن خريطة فل�سطني ،بينما نرى، جب�أ ،ميكن اجلزم �أنه من اال�سماء ال�شهرية التي
وبخالف هذا التخبط� ،أن خط �سري احلملة احلربية تدل على خمالف وا�سع وخ�صب يف املعافر هو ّ
ي�شري �إىل اجلزيرة العربية ،ولي�س ثمة مو�ضع له خمالف جب�أ .فهل ميكن االفرتا�ض �أن ال�سبي
مثل هذه التو�صيفات املوح�شة �سوى مو�ضع البابلي ح��دث يف فل�سطني؟ يف ه��ذا ال�سياق،
حزوى �أ�سفل جنران .وهذا ما ي�ؤكده الهمداين يف ت�شري النقو�ش �إىل �أن �أحد ملوك وادي يد -يدي
97 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
اليمن()21؟ بكالم �آخر ،وقع العاملان يف تناق�ض و�صف هذه البادية(� -267 -266صفة) بقوله
�صارخ ،لأن بزو يف �أر�ض ال�شام ،بينما حازو يف (ومن �أ�سفل جنران ُحزوى كثيب منقطع وحده
البادية؟ ف�إىل �أين اجتهت احلملة �إىل ال�شمال �أم طويل) .وللدقة �أكرث يحدده الهمداين يف اليمامة
حده الأق�صى ،حني �إىل اجلنوب؟ ويبلغ التناق�ض ّ .قال ال�شاعر:
ي�ضطر كال�رس ومو�سل �إىل االعرتاف �أن املراد بـ عدية ُم�رشف ٍ
لقد ج�ش�أت نف�سي ّ
�أ�سي�س Aisetaiقد يكون اي�سايتاي-اي�سايته، ويوم لوى ُحزوى فقلت لها �صربا
وهو ا�سم مو�ضع ذكره اجلغرايف بطلميو�س يف والغريب� ،أن وادي يد -يدي هو يف الف�ضاء
بادية بالد العرب .وهذا �أمر غري مفهوم؛ ف�إذا اجلغرايف الذي و�صفته احلملة الآ�شورية .ولكن
كانت احلملة تتجه نحو تدمر ،فكيف ت�سنى لها املخيال اال�ست�رشاقي التوراتي ذهب �أبعد مما
الو�صول �إىل عمق اجلزيرة العربية؟ نت�صور ،فالكلمة ب��ر�أي مو�سل تعني اجلاف �أو
لقد ان�ساق جواد علي وهو ينقل ت�صورات كال�رس (الودي) وذلك ب�إبدال احلرف الأول من كلمة –
ومو�سل ،وراء هذه الأخطاء ،وهذا �أمر م�ؤ�سف يدي -بحرف الواو (ودي)؟ وامل�ؤ�سف �أن العامل
بالفعل .ولأن النقا�ش حول ب��زو -ب��ازو اتخذ اجلليل ج��واد علي ان�ساق خلف ه��ذه املزاعم،
طابع املطابقة مع ما ورد يف التوراة ،فقد عاد ور�أى احتمال �أن يكون مو�ضع الودي هو يدي
كل من كال�رس ومو�سل �إىل القول �أن بزو هي �أو يدىء �شمال تدمر ال�سورية .و�سوف نربهن �أن
جند؟ و�أن البادية التي حتدث عنها �أ�رسحدون وادي يدي هذا لي�س �سوى وادي �أيد الذي و�صفه
هي منطقة النفود .و�أما حازو ف�إنها الأح�ساء . الهمداين بدقة يف �أر���ض ال�رساة اليمنية على
والحظ جواد علي يف هذا ال�سياق� ،أن رولن�سن مقربة من بالد بارق� ،أي يف املكان نف�سه الذي
ذهب �إىل احتمال كون هذه املنطقة هي �أر�ض وقعت فيه الأحداث( )20وحيث توجد يف الف�ضاء
ملكة احل�يرة ،وم��ا يت�صل بها �إىل جبل �شمر، اجلغرايف الأماكن ذاتها التي ذكرها النق�ش؟
لأن الو�صف املذكور ينطبق -يف ر�أي��ه -على وح�سب مزاعم امل�ست�رشقني ،فقد �سلك اجلي�ش
هذا املكان؟ �أم��ا كال�رس فاقرتح مكانا ً �آخر، الآ�شوري الطريق التجارية املارة من احلافات
هو الأق�سام ال�رشقية واجلنوبية من اليمامة ال�رشقية حلوران �إىل دم�شق؟ وهكذا ت�صبح �أر�ض
(�ضواحي الريا�ض اليوم) .وهذا ر�أي هو االقرب بزو يف بالد ال�شام ال يف اجلزيرة العربية؟ �إن
�إىل ال�صواب من بني كل الآراء واملقرتحات . هذا اخللط اجلغرايف ،يبينّ على �أكمل وجه كيف
كما اقرتح �أن تعترب حاز هي ذاتها حزوى التي تالعب امل�ست�رشقون وعلماء الآث��ار من التيار
ت�سمى ال�سدو�سية لبني �سعد يف اليمامة ،لأن هذه التوراتي بحادث ال�سبي البابلي؟ لكن الأغرب
اللفظة قريبة جدا ً من حزو التوراة ومن خازو من كل هذا �أن العاملني كال�رس ومو�سل ،اتفقا
الن�ص الآ���ش��وري .وه��ذا ما نتفق معه متاما ً . تقريبا ً على �أن مو�ضع �أ�سي�س �أو �أر�ض �أو�سيت�س
ولكننا ،بف�ضل هذا الر�أي العلمي الر�صني� ،سنجد ال���وارد يف الن�ص الآ���ش��وري يف تو�صيف خط
�أنف�سنا من جديد يف قلب التناق�ض اجلغرايف� ،إذ احلملة احلربية،هو ا�سم يرد يف التوراة يف �صورة
على هذا الأ�سا�س �سوف ننتقل من تدمر ووادي אשיש. Ausitis -وهذا �صحيح ،ولكن �أ�سي�س
ال�رسحان �إىل جند ،بينما ت�صبح بزو يف اليمامة، هذه التي و�صفها ام��ر�ؤ القي�س يف �شعره ،هي
وهي �أر�ض ذات �آثار قدمية وعاديات وخرائب مو�ضع ميني ،وقد �أوردن��ا يف م�ساهمة �سابقة
تقع بني وادي ملهم ووادي حنيفة .ور�أى �آخرون ما يكفي من الأدلة التي ت�ؤكد ب�شكل قاطع �أنها
على خطى ت�صورات امل�ست�رشقني هذه� ،إن �أر�ض وردت يف �شعر ام��ر ؤ� القي�س يف و�صفه لأر�ض
98 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
من بدو حمري .ويف احلقيقة ال ُتعرف باهل اليوم ب��ازو هي ال�ساحل املقابل جلزر البحرين� ،أي
�إال با�سم باهلة ،وهما بر�أي الإيرياين ،باهلتان- جزيرة تلمون كما كانت تعرف عند القدامى.
مفرد باهلة �إحداهما مينية من �سعد الع�شرية و�أما حازو ،فهي الأح�ساء .وهكذا ،خرج جواد
وتقيم يف ال�رساة واخرى عدنانية .وهذا يعني علي باال�ستنتاج التايل :مبا �أننا نالحظ وجود
�أن النق�ش الآ�شوري �سجل واقعة �صحيحة تتعلق تقارب يف مبنى اللفظتني حازو و�أح�ساء ،فهذا
بال�صدام مع بدو اليمن.ولهذا ،ال يبدو �أن كال�رس يعني �أن املق�صود منها منطقة الأح�ساء؟
ومو�سل(وعلى خطاهما م�ؤرخون عرب) قر�أوا يف هذا الإط��ار طرح علماء الآث��ار وهم يقر�أون
النقو�ش بطريقة دقيقة. ال�����س��ج�لات ،ال�����س���ؤال ال��ت��ايل� :أي ط��ري��ق �سلك
فكيف ميكن لنا ،القيام بعملية تفكيك مثمرة �أ�رسحدون عند عودته من احلملة على الأح�ساء؟
وفعالة لهذه الفو�ضى اجلغرافية؟ �س�أعطي هذا اق�ترح البع�ض فكرة ان��ه �سلك طريقا ً موازيا
النموذج لغر�ض درا�سة منط التلفيق يف القراءة ً ل�ساحل اخلليج ،و�أنه يف هذه احلالة يكون قد
اال�ست�رشاقية حلملة �سنحاريب .ينقل جواد علي- اخرتق �أر�ض بازو و حازو -خا�سو �أي االح�ساء،
وهو يف حالة ا�ست�سالم تام لت�أويالت علماء ثم �سار �شماال ً �إىل بابل .وكان �أ�رسحدون قد �سلك
الآثار من التيار التوراتي -ما يلي: يف حملته الأوىل طريق ًا اخرتق منطقة النجد،
�سار� -سنحاريب� -إىل بالد ال�شام لإخ�ضاع فلما قرر العودة �سلك الطريق الثانية املوازية .
العمونيني وامل���ؤاب��ي�ين والأدوم��ي�ين والعرب لكن كال�رس انتهى يف ا�ستنتاجاته �إىل احتمال
والعربانيني ،فقد كان ه�ؤالء قد انتهزوا فر�صة وج��ود عالقة بني باهلة Bi-i-luوهو ا�سم
قيام البابليني وقبائل �إرم والعرب والعيالميني امللكة ،وبني ا�سم باهل القبيلة املعروفة التي
على الآ�شوريني للتخل�ص منهم ،ف�ألفوا حلفا ً تقع منازلها يف هذه املنطقة .وعنده �أن حملة
بينهم يف جنوب بالد ال�شام� ،أي يف فل�سطني �أ�رسحدون ا�ستهدفت اليمامة .وقد وجدت ُ يف
والأردن ،وانحدروا ملحاربة �سنحاريب .فلما امل�ساند احلمريية -اليمنية (نقو�ش جام()22
و�صل �إىل �ساحل البحر املتو�سط ،أ�خ��ذ جي�شه مث ًال) والتي �أعاد قراءتها مطهر الإرياين ما يلي:
ي�ستويل على امل��دن ،الفينيقية والفل�سطينية، �سعد ت�ألب-يتلف-بن-جدمن-كرب -أ�ع��رب-
وي��ت��ق��دم ن��ح��و اجل��ن��وب ح��ت��ى ب��ل��غ ع�سقالن ملك�-سب�أ-وكدت-ومذحجم-وحرمم-وبهلم-
Ashkelonومل��ا و�صل �إىل مو�ضع التقه وزدال -وكل� -أعرب� -سب�أ
،Eltenkeh Altenkeh-ا�صطدم بالعرب وهو ما يعني :
وبامل�رصيني ،غري انه تغلب عليهم وا�ستوىل على القائد� -سعد تالب بن يتلف اجلدين كبري �أعراب
التقه وعلى متنة -متنت-متنة Timnath ملك �سب�أ وكبري كندة ومذحج وحرام وباهل وزيد
وعقرون -عاقر .Ekron �إيل وكل اعراب �سب أ�
هذا الن�ص الذي ي�صدر عن عامل جليل مثل جواد ويف هذا النق�ش كما ُيالحظ ،انه �سجل احلمرييون
علي ،ي�ضاعف من درجة الفو�ضى يف اجلغرافيا. ا�سم القبيلة باهل باعتبارها من البدو (�أعراب
�إن حتديد املوا�ضع الواردة يف هذا الن�ص ،وبهذه �سب�أ) متام ًا كما يف ال�سجالت والنقو�ش الآ�شورية،
الطريقة التع�سفية التي يجري فيها ت�أويل وهو ما ي�ؤكد وجودها التاريخي ويدعم ت�صورنا
وتطويع اجلغرافيا ب�أكرب قدر من التالعب ،لت�صبح حلالتها ،فهي من اجلماعات البدوية التي كانت
موا�ضع يف فل�سطني والأردن� ،سوف ي���ؤدي ال جزءا من حتالف تقوده �سب�أ .كما ورد ا�سم باهل
حمالة �إىل فو�ضى عارمة .وهذا ما �سوف نبينه. يف النق�ش رقم 39بو�صفهم من �أعراب حمري� ،أي
99 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
�أحد الإبتكارات الأ�صيلة عند مي�شال دو �سارتو (مفكر وم� ّؤرخ فرن�سي -1925
)1986هو بلورته املفهومية لثنائية «الإ�سرتاتيجية» و«التكتيكية» يف قراءة
املجتمع املعا�رص .هذه الثنائية لي�ست جديدة لأ ّنها تركّ ب املعجم التقني للعمليات
احلربية واملناورات الع�سكرية .لكن الأ�صالة املفهومية التي حتلّى بها دو �سارتو
هي �إزاحة امل�صطلح من نظرة «حربية» �إىل نظرية «�إجتماعية» و«�سيا�سية» دون
التخلّي عن الداللة ال�رصاعية التي تنطوي عليها.
تت�ض ّمن الإ�سرتاتيجية يف بعدها اال�شتقاقي ما ي�س ّميه الإغريق «بوليمو�س» ()polemos
مبعنى ال�رصاع والذي كان يرى فيه هريقليط�س «�أب الأ�شياء جميع ًا» (polemos
)pantôn mèn paterومنه انحدر م�صطلح ال�سجال �أو اجلدال ()polémique
ملا يحتمله من �أخذ ور ّد ،الفعل ور ّد الفعل ،املناظرة� ،إلخ .فهو ال ينفكّ عن منط �رصاعي
يف التعامل �أو التداول.
101
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
يف املجتمع يواجهون �صعوبات �أو عوائق و� ّأن م�صريهم الر�صيد وال�صفقات :بني الن�سق وا�ستعماالته.
�أو م�ستقبلهم غري حم ّدد املعامل .في ّتخذون التدابري ي�شتمل البعد ال�رصاعي على الإ�سرتاتيجية والتكتيكية،
�أو الإجراءات املواتية ق�صد جت ّنب هذه املع�ضالت �أو الأوىل تنتظم ُوفق خمطّ طات �أو بيانات �أو قرارات هي
التقلّبات .فهم يختارون �أف�ضل الو�سائل من �أجل �أح�سن نتاج التخمني �أو التدبري �أو املداولة بني �أ�صحاب القرار
النتائج ،ويف االختيار تكمن ح�صافتهم �أو براعتهم يف تتدخل يف امليدان ح�سب الفر�ص ؛ والثانية ّ
تفادي العوائق والظفر بالنجاحات .فهم ميلكون الر�صيد الأفراد يف املتاحة والعمليات املعقّدة التي يت ّم �إدارتها.
(الطابع الإ�سرتاتيجي) ،أ� ّي ًا كانت طبيعته ،فكري �أو يدوي فالإ�سرتاتيجية هي نوع ًا ما «نخبوية» لأنها
�أو جمايل ،وميلكون ال�صفقات (الطابع التكتيكي) وهي املجتمع تتطلّب امل�شاورة والتفكري الدقيق واملداولة
اخلا�صة .بهذا املعنى
ّ العمليات التي يقودونها برباعتهم يواجهون وغريها من املمار�سات الفكرية التي تدوم
يختزل لوفيفر الفعل الب�رشي �إىل هذه الثنائية ،بني يف الزمن وتتطلّب الر�ؤية املع ّمقة ومعاجلة
ر�صيد و�صفقات� ،أو بني ر�أ�سمال ومعامالت� ،أو بني �إرث �صعوبات �أو كل ال�سيناريوهات املمكنة .بينما التكتيكية
وا�ستعماالت� ،أي بني �إ�سرتاتيجيات وتكتيكات .فهو ي�ضع جمرد تدابري ينبغي عوائق و�أنّ هي «�آنية» �أو عابرة لأ ّنها ّ
الإ�سرتاتيجية �إىل جانب التق ّدم �أو التح�ضرّ �أو العقالنية �أخذها يف امليدان ،خ�صو�ص ًا يف اللحظات
�أو الثورة ،بينما يعزو التكتيكية �إىل االنعزال �أو التقهقر �أو م�صريهم �أو املعقّدة وغري املتوقّعة مثل املعارك .ال �شكّ � ّأن
الأفول �أو الإغرتاب : ومف�صل كلّ م�ستقبلهم غري غا�ستون بوثول عالج ب�شكل دقيق
«� ّإن اللحظات التي ت�سود فيها الإ�سرتاتيجية هي هذه العمليات يف كتابه ر�سالة يف الدرا�سات
اللحظات التاريخية الكربى وحلظات الفوران .ت�ضفي حمدّ د املعامل .احلربية( )1وهو �أ ّول كتاب يعالج احلرب
الإ�سرتاتيجية املعنى على اجلماعات وعلى حياتهم. في ّتخذون كظاهرة معرفية ُتد َر�س ب�أدوات علمية .فهو
توجه �أو �إر�شاد �أو تعبري �أو هدف ولي�س تك ّهن ًا
املعنى هو ّ يعترب الدرا�سات احلربية كعلم يف ال�رصاع
املتخ�ص�ص
ّ هادئ ًا ينبغي احل�صول عليه فل�سفي ًا بف�ضل التدابري ق�صد حتديد الآليات والعمليات واملقا�صد
�أو الفيل�سوف .املعنى هو دراما ت� ّؤ�س�سه �إ�سرتاتيجية املواتية ق�صد والنتائج والآثار� ،أي �سريورة متما�سكة
اجلماعات �أو تبتكره.)3(» ومنطقية مبعزل عن القراءات الأخالقية �أو
والتكتيكية من هذا املنظور هي انغما�س الأفراد �أو جت ّنب هذه ال�سيا�سية التي ترى يف احلروب �أو العداءات
اجلماعات يف ما ي�س ّميه «تفاهات احلياة اليومية» .ال �شكّ املع�ضالت �أو ظواهر غري �إن�سانية وغري �أخالقية .ال �شكّ � ّأن
توجه ب�شكل ال �شعوري �أفكار لوفيفر � ّأن �أطياف مارك�س ّ الأمر هو كذلك ،خ�صو�صا يف النتائج املر ّوعة
عندما يجعل من الإ�سرتاتيجية حلظة الدراما �أو االحتدام التق ّلبات التي تعود بالوبال على الأفراد �أو اجلماعات �أو
�أي اللحظات الثورية ،بينما التكتيكية هي اللحظات املمتلكات .لكن م�س ّوغ الدرا�سات احلربية التي
الروتينية واالبتذالية حيث ميثّل املجتمع الإ�ستهالكي عمل غا�ستون بوثول على بلورتها وتنظريها لي�س هو
�إحدى جتل ّياتها .لكن ال يعزل لوفيفر الإ�سرتاتيجية عن نتائج ال�رصاع و�إنمّ ا مق ّدماته مبعنى دوافعه �أو حيثياته
التكتيكية ل ّأن الوعي الفردي �أو اجلماعي ال ينفكّ عن �أو �سلوكاته الواعية �أو غري الواعية� ،إلخ.
التح ّول واالرتقاء كما ت�ؤمن به املادية اجلدلية واملادية ينطلق دو �سارتو بال �شكّ من هذه الفكرة يف �إثراء
التاريخية يف اخلطاب املارك�سي .غري � ّأن لوفيفر ي�شكّ يف هذه الثنائية وقراءة املجتمع مبوجبها .واملالحظ
الغايات ال�رسمدية كما تبديها ك ّل فل�سفة جدلية بنفي � ّأن ال�سو�سيولوجي والفيل�سوف هرني لوفيفر كان قد
النقي�ض .فهو يتح ّدث عن حت ّوالت رجعية (�أو «رجئية» �إذا التوجه
ّ ا�ستثمر هذه الثنائية يف م�رشوعه ال�ضخم ،ذي
ا�ستعملنا م�صطلح ًا تفكيكي ًا) ال تنفكّ عن ال َع َود واالرتقاء املارك�سي ،نقد احلياة اليومية( )2وكان دو �سارتو قد
دون �إلغاء التناق�ضات .بني الإ�سرتاتيجية والتكتيكية ا�ستفاد من �أفكار لوفيفر .فهذا الأخري يعترب � ّأن الأفراد
102 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
اجلي�ش جتاه العد ّو ،احلا�رضة �أمام البادية ،امل�ؤ�س�سة هناك تناوب :بني �رضورة و�إمكان ،بني �رصامة وه�شا�شة،
العلمية مقارن ًة مع موا�ضيعها امل�ستع�صية (كما عالج ذلك بني ج ّد وهزل ،بني دراما وكوميديا� ،إلخ.
مي�شال فوكو :اجلنون ،املوت ،الآخر� ،إلخ) .يتعلّق الأمر �إذاً ي�ستثمر مي�شال دو �سارتو بذكاء هذه الثنائية كما
بهو ّية �أمام غريية ينبغي تطويعها �أو قهرها ق�صد التحكّم توجهه املارك�سي .فهو ي�ضفي عاجلها لوفيفر يف نطاق ّ
اخلا�ص هو
ّ فيها �أو درا�سة �أغوارها ومكامنها .فاملح ّل داللة �أخرى مغايرة متام ًا عن الت�ص ّور املارك�سي
املكان الذي تت�ضافر فيه القوى وتتو ّزع املها ّم و تن� أش� للوفيفر .لي�ست الإ�سرتاتيجية عنده جملة الأحداث الثورية
التداوالت ق�صد بناء خطاب “حقيقي” (عقالين �أو علمي الالمعة ولكن جت�سيداتها امل� ّؤ�س�ساتية يف ال�سيا�سة
�أو �سيا�سي �أو �إيديولوجي) حول موا�ضيع التي هي عر�ضة والدين واملعرفة العلمية .بتعبري �آخر ،الإ�سرتاتيجية هي
للإق�صاء �أو احلجز� .إ ّنه حم ّل التداول و �صناعة القرارات. «اجل�سد» امل� ّؤ�س�ساتي (منظومة ،ن�سق ،قالب) ل�سيا�سة �أو
اخلا�ص كمح ّل للعقالنية ّ ثالث ًا ،بالإ�شارة �إىل املكان �إيديولوجيا �أو خمترب علمي ملا ينطوي عليه من عالقات
والقرار العلمي �أو ال�سيا�سي ،يعترب دو �سارتو � ّأن يف الق ّوة وتعابري يف الت�صنيف والتقييد وتدابري يف
الإ�سرتاتيجية هي انت�صار املكان على الزمان .ل ّأن يف العزل والإق�صاء .ولي�ست التكتيكية اللحظات الهزلية �أو
املكان �أي يف امل� ّؤ�س�سة االن�ضباطية ،ال�سيا�سية منها اال�ستهالكية �أو الإبتذالية و�إنمّ ا القوى املبعرثة لأفراد �أو
والإقت�صادية والعلمية ،ميكن توزيع القوى واحلفاظ جماعات وهي قوى جتوب حقل الإ�سرتاتيجية النتهاز
عليها .وميكن �أي�ض ًا ،كما ذهب �إىل ذلك فوكو يف قراءته بح َيل �أو براعات ق�صد حتقيق هدف �أو مرمى. الفر�ص ِ
جلريميي بنثام� ،إن�شاء «البانوبتيكون» (�أو «العني «�أ�س ّمي �إ�سرتاتيجية ح�ساب العالقات يف الق ّوة الذي
احللولية»� ،أو املراقبة املع ّممة) ق�صد العزل �أو الرقابة. ي�صبح ممكن ًا عندما ُت ْع َزل «ذات لها �إرادة» عن بيئتها
يتعلّق الأمر �إذاً مبعرفة (منظومة �سيا�سية �أو علمية �أو (مهما كان �شكل هذه الذات� :رشكة �أو حا�رضة �أو م� ّؤ�س�سة
اقت�صادية) ذات غاية �سلطوية. خا�ص ت ّت�صل من خالله ّ علمية) .نح�صل �إذن على حم ّل
هذا ب�شكل موجز اخلا�ص ّيات الأ�سا�سية للإ�سرتاتيجية، القوى املح�سوبة باخلارج :يتعلّق الأمر باملوديل
فماذا عن التكتيكية؟ املكيافيلي الذي مي ّيز املكان عن الفعل .بنا ًء على هذا
«�أ�س ّمي باملقابل تكتيكية ح�ساب القوى التي تفتقر �إىل النمط الإ�سرتاتيجي �شُ ِّيدت العقالنية الر�سمية ،ال�سيا�سية
خا�ص و�إىل ح ّد مي ّيز الآخر ككل ّية مرئية �أو جل ّية.
ّ حم ّل والعلمية واالقت�صادية»(.)4
فلي�س للتكتيكية من مكان �سوى مكان الآخر .فهي يتطلّب هذا التعريف بع�ض الإي�ضاحات والتفكريات:
ت ؤ� ّدي �أدوارها داخل ن�ص �أو ن�سق الآخر .فهي تت�سلّل فيه �أ ّو ًال ،يف الإ�سرتاتيجية ي�ؤكّ د دو �سارتو على �أه ّمية
ب�شكل مت�شظّ دون �أن تقب�ض عليه متام ًا ،مبعنى دون �أن «احل�ساب» ل ّأن العقل هو �أ�سا�سا احل�ساب كما يوحيه �أحد
ت�ستبعده .فلي�س لها قواعد ميكن من خاللها �أن مت ّول ا�شتقاقاته� ،أي قدرته على �إدارة العمليات املعقّدة �أو
فوائدها .فهي تنح�رص يف اللحظة ،بينما الإ�سرتاتيجية ا�ستنباط النتائج من املق ّدمات ؛ وهو �أي�ض ًا عقل ت�صنيفي
هي دوم ًا انت�صار املكان على الزمان »(.)5 ب�إن�شاء اجلداول واملراتب وال�شبكات .هذه التقنيات
�أو ًال ،نفهم من هذا التحديد � ّأن التكتيكية تفتقر �إىل مكان (احل�ساب والت�صنيف) هي �إرادة يف الق ّوة �أو �سلطة ،تت�سلّح
خا�ص ،فلي�س لها مو�ضوع معزول ميكنها الإحاطة ّ بها الذات ق�صد عزل �أو ترتيب موا�ضيعها .والذات هنا هي
به ب�أدوات معرفية ذات غايات �سلطوية .فالتكتيكية «ذات جمعية» مبعنى م� ّؤ�س�سة �أو منظومة .يتعلّق الأمر
تخ�ضع �إىل القانون الذي يحكم الإ�سرتاتيجية .هي مبثابة ب�رشكة �أو جي�ش �أو مخُ ترب.
«الدخيل» �أو «املتطفّل» الذي يح ّل يف مكان لي�س مكانه، اخلا�ص»
ّ ثاني ًا ،يراهن دو �سارتو على �أهم ّية «املحل
ولكن ي�ستملكه �أو يجوبه على �سبيل التج ُّول دون الإقامة �أو املكان اخل�صو�صي الذي يجعل بينه وبني مو�ضوعه
فيه. اخلارجي م�سافة �رضورية لك ّل تعقّل �أوفهم �أو عزل :مث ًال
103 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
متنح لهذا اجل�سد متا�سكه الع�ضوي وبنيته ال�سلطوية. ثاني ًا ،يف التكتيكية تنعدم الر�ؤية البانوبتيكية ذات
لكن دو �سارتو يقوم مبقاربة �صورية بني ن�سق اللغة الأبعاد الرقابية وال�سلطوية .فهي حركة د�ؤوبة وخف ّية.
ون�سق الإ�سرتاتيجية ليبينّ كيف � ّأن اللغة هي ف�ضاء من ت�شتغل يف مواقع الظ ّل �أو الغياب .جتوب الأمكنة والأروقة.
العالمات ترت ّد �إىل خطاب بوجود عوامل مو�ضوعية ثالث ًا ،خالف ًا للإ�سرتاتيجية التي تنبني على املكان،
مثل املتكلّم ( )locuteurوال�سياق ()contexte تتحفّز التكتيكية بالزمان ،الزمان الهريقليطي الذي هو
والإ�ستعمال ( ،)usageوالإ�سرتاتيجية هي �أي�ض ًا هيكل �سيالن دائم �أو حركة متم ّوجة .فهي تربط عالقة وثيقة
خم�ص�صة لال�ستعمال والتداول. ّ من القوانني والقواعد بالفر�صة� ،أو «الكا ْيرو�س» ( )kaïrosكما ي�س ّميها
ففي الإ�ستعمال ( )usage, useيكمن الوجه العملي الإغريق .التكتيكية هي انتهاز الفر�ص املتاحة يف
للغة ،والبعد التكتيكي للإ�سرتاتيجية .ل ّأن الإ�ستعمال هو اللحظات املالئمة.
ا�ستعمال فردي يف �سياق معينّ ،مبعنى �سلوك فرداين الإ�سرتاتيجية الن�سق اللغوي ك َمثَل �إ�سرتاتيجي و تكتيكي
منعزل عن غريه من ال�سلوكات .وجملة ال�سلوكات داخل من املالحظ � ّأن هذه الثنائية لها عالقة وطيدة
وموجهة نحو �أغرا�ض �أو �أهداف ت� ّؤ�س�س َّ م� ّؤ�س�سة مع ّينة هامة على �صعيد ّ هي ن�سق واقعي بثنائيات لعبت �أدوارا
الإ�سرتاتيجية يف بعدها املعريف وال�سلطوي .ولكن لأ ّنها ج�سد العلوم الإن�سانية ،وخ�صو�ص ًا يف الأل�سنية،
�إذا كانت التكتيكية ت�شتغل ُخفي ًة يف املكان املر َّبع مثل املنطوق/فعل التعبري( (�énoncé/énon
واملراقَب للإ�سرتاتيجية ،كيف ميكن التفريق بني ما هو م� ّؤ�س�ساتي هو ،)ciationاللغة/الكالم ( .)langue/paroleمثلما
«�إ�سرتاتيجي» ونتاج �سلطة �أو عالقات يف الق ّوة ،وبني جملة القوانني � ّأن املنطوق هو ن�سق من العبارات ،ف� ّإن فعل
ما هو «تكتيكي» ح�صيلة �أفعال فردية برباعاتها الذاتية التعبري (�أو ما ي�س ّميه التداوليون يف اللغة
وا�شتغاالتها الآنية؟ والعالقات )speech actهو ممار�سة فعلية للمنطوق.
�إذا كان دو �سارتو ال يعزل الإ�سرتاتيجية عن التكتيكية، �أي�ض ًا اللغة هي ن�سق من العالمات ،والكالم
القوة التي
يف ّ
خا�ص �سوى املكان ّ ل ّأن هذه الأخرية لي�س لها من حم ّل هو ا�ستعمال فعلي �أو ممار�سة ف ّعالة للغة كما
الإ�سرتاتيجي ،فهو يعترب � ّأن الأفراد الذين َي ْن�ض ّمون �إىل متنح لهذا ذهب �إىل ذلك �إميل بنفوني�ست ()E. Benveniste
م� ّؤ�س�سة مع ّينة (�سيا�سية ،علمية ،اقت�صادية� ،أو املجتمع على خطى دو �سو�سري (.)F. De Saussure
اجل�سد متا�سكه
باخت�صار) ال يخ�ضعون بال�رضورة �إىل القوانني القهرية بالقيا�س ،الإ�سرتاتيجية هي �أي�ض ًا ن�سق من
لهذه امل� ّؤ�س�سة �سوى على �سبيل الإلتزام الظاهر .فهم الع�ضوي الأعراف �أو القواعد والتكتيكية هي ا�ستعمال
ي�شتغلون يف اخلفاء ل�صناعة �أمناط يف ال�سلوك مرنة فعلي من �ش�أنه �أن يزيح هذا الن�سق عن مرماه
وبنيته
ومفتوحة� ،أو لإزاحة هيكل الأعراف با�ستعماالتهم الذاتية. الأ�صلي .اللغة مث ًال هي قواعد �صورية �أو
ل ّأن الإ�ستعمال يف �سياق م� ّؤ�س�سة �أو جمتمع هو على غرار ال�سلطوية منظومة من الت�شكيالت اخلطابية ت ّتخذ داللتها
لن�ص معينّ (فل�سفي �أو ديني �أو �أدبي) ،مبعنى الت�أويل ّ يتدخل
ّ احلقيقية عندما ُت�ستع َمل �أي عندما
للن�ص.
ّ «داللة» فردية مبعزل عن «املعنى» املفرت�ض املتكلّم (�أو الذات الناطقة) يف التعبري عن �شيء
للن�ص معنى ثابت تدلّ عليه ماد ّيته اللغوية �أو «�شيئيته ّ ما .فال ت�صبح اللغة فعلية �سوى عندما ي�ستعملها الفرد
الن�ص ّية» كما ي�س ّميها بول ريكور ،والدالالت املتع ّددة يف مبادالته اليومية من �أقوال �أو �أفعال �أو �إجراءات �أو
�أو املت�ضاربة �أو املتناق�ضة هي نتاج ت�أويالت فردية �أداءات.
�أو ر�ؤى ذاتية مرتبطة بكل فرد على ِحده� ،أي بتاريخه لكن من املالحظ � ّأن ن�سق اللغة هو ن�سق افرتا�ضي �أو
ال�شخ�صي وب�سياقه التاريخي والثقايف وبحدو�سه �أو اعتباري ( )virtuelوال ي�صبح فعلي ًا �سوى عندما
للن�ص� ،أو ما �أ�س ّميه «الفاعل
�إدراكاته .فال يخ�ضع القارئ ّ يمُ ا َر�س .بينما الإ�سرتاتيجية هي ن�سق واقعي لأ ّنها ج�سد
الت�أويلي» ،و�إنمّ ا يزيحه تبع ًا لل�سياق والغر�ض والظرف. م� ّؤ�س�ساتي هو جملة القوانني والعالقات يف الق ّوة التي
104 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
وتتب ّدى هذه التجاويف �أو الرت�شّ حات �أو الت� ّرسبات فال تتطابق دالالته مع «املراد الداليل» للن�ص ،الختالف
التكتيكية يف طريقة «الإ�ستعمال»� ،أي يف �أمناط التعبري املعطيات وال�سياقات والأزمنة والإرادات.
�أو �أ�شكال التدبري التي هي لي�ست «تطبيقات» لقواعد و�إنمّ ا يتعامل دو �سارتو مع امل� ّؤ�س�سات املعرفية وال�سلطوية
ذكي �أو عملوموجهة ،نتاج مرا�س ّ َّ «�إ�ستعماالت» وجيهة باملنطق نف�سه .التكتيكية هي �إرادات الأفراد داخل
نبيه .فالأمر �إذاً هو �رصاع بني الإ�سرتاتيجيات املق َّننة الإ�سرتاتيجية وهي ،بال �شكّ � ،إرادات متع ّددة ومتناق�ضة،
وا ُمل َم�أْ�س�سة والتي تتب ّدى يف العقالنيات املعا�رصة، لها �سلوكات تختلف ح�سب الظروف �أو املعطيات
ال�سيا�سية منها والعلمية والإيديولوجية ،وبني التكتيكات �أو القرائن .وعلى غرار «الت�أويل» يف اللغة ،ي�صبح
املتوارية وال�شبيهة بدبيب النمل ،والتي ترتاءى يف «الإ�ستعمال» هو املعيار الأ�سا�سي يف الأفعال �أو
اال�ستعماالت اليومية ذات البعد اجلمايل �أو اخلالّق ك�سالح الأداءات الفردية .لكن �إذا كانت التكتيكية هي الإرادات
للمقاومة .فال �شكّ � ّأن ال�رصاع ،يف املعادلة الإجتماعية �أو الرغبات الفردية ،ف� ّإن دو �سارتو ال يختزل املجتمع
«الإ�سرتاتيجية-التكتيكية» ،هو القالب اجلوهري لك ّل �إىل جملة هذه الإرادات ،لأ ّنه َي ْعتَبرِ ،على غرار الدرا�سات
جمتمع معقّد ت�سوده م� ّؤ�س�سات معقّدة وعالقات مركّ بة الإجتماعية التي تعطي الأولوية للك ّل على اجلزء �أو الفرد
ومرتبكة .هذا ما ي�ؤكّ د عليه دو �سارتو يف جوابه على (ّ � ،)holismeأن العالقات هي يف جوهرها عالقات
�أ�سئلة لوي كريي: «�إجتماعية» ،فال ميكن الإعتداد مبا ُي�س ّمى «بالذر ّية
« ينبغي علينا �أن نعيد الإعتبار للمظهر «ال�رصاعي» الإجتماعية» ( .)atomisme socialفالعالقات
يف ك ّل حتليل ثقايف .عندما نعر�ض م�س�ألة املمار�سة الإجتماعية حت ّدد الأفراد ،ويف ك ّل فرد هناك عالقات �أو
– مبعنى العمليات – ف�إ ّننا ن�سلّط ال�ضوء على م�شكل تع ّدديات مت ّيزه والتي تربطه بهذه العالقات الإجتماعية.
ال�رصاع .هذا ما تب ّينه مثال الإب�ستمولوجيا يف نهاية فلي�ست امل�س�ألة ق�ض ّية «ذات» منعزلة �أو �شظ ّية فردانية،
القرن التا�سع ع�رش وبداية القرن الع�رشين مع مارك�س و�إنمّ ا �أمناط الفعل �أو �أ�شكال الأداء التي حت ّددها .وال ريب
بغ�ض
وفرو ْيد .فال ميكن �إقامة � ّأي حتليل (علمي �أو نقدي) ّ � ّأن هذه التحديدات تعك�س املجتمع بو�صفه حق ًال لل�رصاع
النظر عن ال�رصاع .فال�رصاع هو �أمر �أ�سا�سي مثل ال ُبعد �أو حلبة للنزاع ،ويف هذه اخلا�ص ّية «البوليمو�سية»
الإقت�صادي والأخالقي واجلمايل للممار�سات اليومية تكمن هوية ك ّل جمتمع ،مبعزل عن هو ّياته الثقافية
»(.)6 �أو التاريخية .فالأفراد يف �رصاع دائم لي�س فقط �ض ّد
طبع ًا ال يفهم دو �سارتو «ال�رصاع» يف داللته ال�ض ّيقة ذات بع�ضهم البع�ض تبع ًا للخيارات �أو الفوائد التي ي�سعى
احلكم الأخالقي والتي ترى فيه ال� ّرش �أو ال�شكل الال�إن�ساين كل فرد للذود عنها ،و�إنمّ ا �أي�ض ًا �ض ّد الن�سق الإ�سرتاتيجي
جمرد �صنف حم�صور للنزاع والنبذ .هذه الداللة هي ّ يتحرك فيه ه�ؤالء الأفراد .حركتهم هي ّ الذي ي�شتغل �أو
من نوع �أكرث �شمولية �أو كونية ،وهو �صنف ركّ ز عليه مبثابة ال�سلوك التكتيكي ،اخلفي �أو املتواري ،داخل
قرر «بحرب الك ّل �ض ّد توما�س هوب�س يف الت ّنني عندما ّ الرتبيع الرقابي للإ�سرتاتيجية.
الكلّ» (.)Bellum omnium contra omnes �أولوية ال�رصاع :هذا «الذكاء» الذي «يذكي» املمار�سات.
ال�رصاع الذي يعنيه دو �سارتو هو ما �أ�شارت �إليه �إذا كان دو �سارتو يوافق فوكو على الطابع «ا َ
جلبرَ وتي»
الفل�سفات ال�سابقة على �سقراط� ،أي ال�رصاع ك�إرادة �أو نار لتقنيات االن�ضباط واملعاقبة يف ك ّل جمتمع ت�سوده
ح ّية تن�ساب يف ك ّل كائن �أو تت�سلّل يف ك ّل حقيقة كونية: امل� ّؤ�س�سات البريوقراطية املعقّدة ،ف إ� ّنه ال يوافقه على
فال�رصاع� ،أب الأ�شياء كلّها ،مي ّيز �أي�ض ًا العامل احليواين رمته �إىل «�سجن» ُمغ َلق ومراقَب. اختزال املجتمع يف ّ
واملعدين والنباتي ،و�أي�ض ًا عامل الأفكار والت�ص ّورات ل ّأن هناك مداخل �أو خمارج �أو معارج ميكن للأفراد
والتمثّالت .يذهب اخلطاب العرفاين �إىل �أبعد من ذلك (ال ُبعد التكتيكي) ا ّتخاذها �أو العبور بها دون مغادرة
عندما يع ّمم ال�رصاع �أي�ض ًا على عامل الألوهية ،عندما حقل الإن�ضباط �أو اال�ستحكام (ال ُبعد الإ�سرتاتيجي).
105 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
دو �سارتو �إىل �أبعد من ذلك عندما يجعل من التكتيكية يتح ّدث ابن عربي عن «اخت�صام امللأ الأعلى» ،وعندما
القبلي ال�صوري للإ�سرتاتيجية ،مع � ّأن هذه الأخرية هي اخلراز ب أ� ّنه عرف احلقّ بجمعه بني ال�ض ّدينقال �سعيد ّ
حل َيل اخلالّقة
القبلي الواقعي �أو التاريخي للتكتيكية .ل ّأن ا ِ عندما تال الآية «هو الأ ّول والآخر ،والظاهر والباطن»
�أو الذكاءات �أو املهارات التي تت�سلّح بها الإ�سرتاتيجيات (احلديد ،الآية ،)3وهو ما قاله �أي�ض ًا القدي�س يوح ّنا
هي عريقة وكونية ،توجد يف ك ّل كائن تدفعه احلاجة �إىل ال�صليبي ( .)Saint Jean de la Croixفال�رصاع هو
الدفاع عن وجوده �أو الذود عن حياته .فهي تكتيكات �أ�صل الأ�شياء �أو البحر اجلامع الذي ت�سبح فيه احلقائق
دفينة يف كيفية تفادي املخاطر �أو الوقوع يف الأفخاخ. مهما تع ّددت �أو اختلفت �أو تخالفت.
هذه التكتيكات لها خا�ص ّية احليلة ( )ruseيف �إحباط ولكن دو �سارتو ال يبقى على �صعيد الت�ص ّور امليتافيزيقي
خماطر الوجود �أو اخلروج من عتمته مب�صابيح الذكاء. يتفح�ص جتل ّياته الإجتماعية كما تعبرّ لل�رصاع ،ولكن ّ
ل ّأن التكتيكية هي يف جوهرها حيلة �أو خديعة لي�س عنه الثنائية «الإ�سرتاتيجية-التفكيكية»،
باملعنى الأخالقي (ل ّأن هذا املعنى يحجب الداللة ويبحث عن �آثاره �أو ب�صماته يف االبتكارات
ال�صراع هو
الإب�ستمولوجية والنقدية) ولكن باملعنى الوجودي يف تق�صاه �أ�صل الأ�شياء اليومية �أو الإبداعات اجلمالية ،مثلما ّ
تفادي املخاطر �أو الأهوال� ،أو التفاين يف االبتكارات فرو ْيد يف الأغوار الال�شعورية :الرغبات
اجلمالية �أو ال�صناعات الفن ّية .فاحليلة تل ّبي حاجيات �أو البحر والهواج�س وال�ضغائن والأحالم والأوهام .بهذا
الكائن يف ال�رضورات الق�صوى التي تتطلّب القرار العاجل اجلامع الذي املعنى عمل دو �سارتو على ا�ستق�صاء �أوجه
واالنتباه الفوري ،خالف ًا للتعقّل الإ�سرتاتيجي الذي يتطلّب ال�رصاع يف احلقل الإجتماعي بنا ًء على هذه
التم ّعن الهادئ �أو التد ّبر الدقيق .ل ّأن هذا التعقّل ي�شتغل ت�سبح فيه الثنائية ويرى � ّأن هذه الأوجه تتجلّى يف طرائق
يف الفرتات ال�ساكنة �أو الهادئة ،بينما احليلة التكتيكية العي�ش التي تفلت من التنميطات الإ�شهارية
تفر من الزواجر احلقائق مهما
متا َر�س يف اللحظات امل�ضطربة �أو الهائجة .ال �شكّ � ّأن �أو يف الأذواق اجلمالية التي ّ
هذه الثنائية التي عمل دو �سارتو على تطويرها و�إعادة تعدّ دت �أو الإيديولوجية .فاملمار�سات اليومية تنطوي
فهمها تتطلّب قراءات مع ّمقة وتفكريات متع ّددة ،لأ ّنها على طاقة فاعلة �س ّماها الإغريق «امليتي�س»
ترتبط باملفاهيم الكربى التي ت�شكّل اليوم لحُ مة التفكري تخالفت (� )mètisأو احليلة اخلالّقة والدفينة( ،)7وهي
الغربي �سواء تعلّق الأمر بالل�سانيات (اللغة-اخلطاب) �أو نار فن ّية ( ،)pûr teknikonذهنية� ،أو
الأنرثوبولوجيا (الطبيعة-الثقافة) �أو الفل�سفة (العقل- ذكاء« ،يذكيها» الفاعل الإجتماعي لريى بها
الهوى) �أو النف�سانيات (ال�شعور-الال�شعور) وغريها من ويتفح�ص بف�ضلها ،على غرار امل�صباح يف العتمة احلالكة. ّ
املعارف �أو الفنون. وهذه النار الفن ّية والذك ّية التي نذكيها يف معامالتنا
و�سلوكاتنا هي ذات بعد تكتيكي يف مواجهة العقالنيات
الهوام�ش املركّبة والبريوقراطية ذات حمتوى �إ�سرتاتيجي.
.Gaston Bouthoul, Traité de polémologie, Payot, 1972 -1 �إذا كان دو �سارتو يع ّمم ال�رصاع ليجعل منه حقيقة كونية
Henri Lefebvre, Critique de la vie quotidienne, 1947 : -2
Critique de la vie quotidienne, II- Fondements d›une soc - قبل �أن يكون ظاهرة �إن�سانية ،فال �شكّ � ّأن الإ�سرتاتيجيات
ologie de la quotidienneté, 1961. Critique de la vie quotid - العقالنية ت�صبح بدورها تكتيكات ذك ّية يف مواجهة
.enne, III- De la modernité au modernisme, 1981
-3هرني لوفيفر ،نقد احلياة اليومية� -2 ،أ�س�س يف �سو�سيولوجيا ال َي ْومانية� ،ص138. �أعرا�ض الطبيعة �أو خماطر الوجود مثل الأمرا�ض والأوبئة
-4مي�شال دو �سارتو« ،ممار�سات يومية» ،الثقافات ال�شعبية ،حتت �إ�رشاف ج .بوجول
و ر .البوري ،تولوز� ،1979 ،ص 13 .؛ �إبتكار احلياة اليومية -1 ،فنون الأداء ،باري�س،
والت�صحر والعوامل املناخية وغريها من الظواهر ّ والفقر
غاليمار� ،ص59. التي ال نتحكّم فيها ولكن نتوقّى منها بتقنيات �أو ابتكارات
-5املرجع نف�سه� ،ص60 .
-6لوي كريي« ،العلوم الإجتماعية �أمام عقالنية املمار�سات اليومية� :أ�سئلة �إىل
�أو �سلوكات .فال ب ّد �إذاً من طوارئ �أو عوار�ض ق�صوى،
مي�شال دو �سارتو» ،امل�شكالت الإب�ستمولوجية للعلوم الإجتماعية ،باري�س ،من�شورات م�ستقلّة عن الإرادة الإن�سانية ،لكي تتح ّول الإ�سرتاتيجية
املركز الوطني للبحث العلمي� ،1983 ،ص86 .
� -7أنظر املق ّدمات من كتابنا :الإزاحة والإحتمال ،اجلزائر-بريوت ،من�شورات
�إىل تكتيكية� ،أو لنقل � ّأن املمار�سات املعرفية �أو ال�سلطوية
الإختالف والدار العربية للعلوم.2008 ، يف الأمكنة الإ�سرتاتيجية ت�صبح ذات نزوع تكتيكي .يذهب
106 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حتوالت املجتمع والدراما
املحتملة والغام�ضة
يف امل�سرح العربي
يا�ســر عبد الواحد ُ
ابن ِ
باحث و�أكادميي من املغرب
107
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
لكن قبل ذلك ،البد من الت�شديد هنا على �أن زمن * ي�أتي التمرد ( )révolteنتيجة الحتدام الوعي
الإبداع عموما وزمن امل�رسح حتديدا ،يختلف كثريا بالظلم واال�ضطهاد والالم�ساواة داخل جمتمع معني،
ع��ن زم��ن ال��ت��اري��خ ،لأن امل����سرح ه��و ف��ن القطائع وميكن �أن ي�ؤدي �إىل االنتفا�ضة �ضد النظام القائم،
( )rupturesواملـدد الطويلـة (les longues لكن فاعليته قد تكون �ضعيفة �إذا افتقد للتنظيم
،)duréesوال���ذي ارت��ب��ط��ت من��اذج��ه العظيمة وللم�رشوع ال�سيا�سي الوا�ضح واملحدد.وينبغي هنا
بتجارب اجتماعية وتاريخية ات�سمت بــ الغليان ا�ستبعاد النظرة الدونية للتمرد -كما يجري االعتقاد
اجلمعي وبا�ضطراب املعايري والقواعد االجتماعية �أحيانا – وع��دم خلطه بالتمرد مبعناه الفل�سفي
والتمثالت اجلمعيـة� ،أو ما ي�سميه عـامل االجتمـاع الوجودي كما هو الأمر عند (�ألبــرت كامــو) مثـال )
الفـرنـ�سي (دوركهـايـم) بـ « »L’anomieالتـــي (A. Camus « je me révolte donc nous
ال تعني الفو�ضى املبتذلة والغوغائية .و�إذا كان » sommes
تاريخ �أب الفنون ميتد على �أكرث من خم�سة وع�رشين * �أما الثورة ( )révolutionفهي تغيري جذري
قرنا من الزمن ،ف�إن ع�صور ازدهار امل�رسح وفرتات وع��م��ي��ق وع��ن��ي��ف ،يف �أغ��ل��ب الأح���ي���ان ،للنظام
تواتر الكتابات الدرامية العظيمة حمدودة كثريا يف االجتماعي القائم .وحت��دث عندما يتنامى وعي
هذا التاريخ الطويل :امل�رسح اليوناين والإليزابيتي الطبقات امل�ضطهدة باال�ستغالل ال��ذي تعانيه،
والدراما ال�شك�سبريية والقرن ال�سابع ع�رش الفرن�سي وتنظم نف�سها لال�ستيالء على ال�سلطة وحتقيق �أهداف
والإ�سباين ومع امل�رسح اجلديد يف �أوروبا� .أما على ومثل جديدة .وب�صفة عامة ،هناك الثورة ال�صناعية
م�ستوى امل�رسحيني الأف��راد ،فنجد ظاهرة مكرورة والثورة الثقافية والثورة الوطنية والثورة الدائمة
تتمثل يف �أن حلظات الت�ألق الإبداعي يف حياة ه�ؤالء، والثورة اجلن�سية...ويتقاطع مفهوم الثورة مبفهوم
تكون حمدودة وحمددة يف الزمن (�أمثلة �شك�سبري، التمرد دون �أن يت�ساوى معه �أو ي�ستنفد الثاين الأول.
را�سني وموليري). * و�أما التغري االجتماعي -الذي هو �أي�ضا مرادف
�أما بالن�سبة للعامل العربي ،ف�إن القطائع يف الوعي للتحول - mutation , changement :فيقوم
والوجدان ارتبطت دائما بالهزائم واالنتكا�سات، على �أربعة �أ�س�س ،وهي� :أ� -أنه ي�ؤدي �إىل خلق �أ�شكال
وميكن ا�ستح�ضارها كالتايل� :سقوط الأندل�س، تنظيم جديدة ؛ ب� -أن��ه يتحدد بعامل الزمن� ،أي
احلروب ال�صليبية والهجمة املغولية .ثالث هزائم بالنظر �إىل و�ضع �سابق عليه ،يف �شكل حتول يكون
توازيها ثالثة �أ�شكال فنية �أدبية ،ال مبعنى العالقة �أو ق�صري �أو متو�سط املدى؛ ج� -أنه م�ستمر ودائم؛ د-
التعالق االنعكا�سي ،و�إمنا من منظور عالقة الأ�شكال �أنه �أي�ضا و�أخريا ظاهرة اجتماعية.
بالتاريخ� ،أو باملعنى الهيكلي /اللوكات�شي الــذي لنرتك التحديد النظري �أو املفهومي واجلدال الذي
يــربط الأ�شكال بالروح (L’âme et les formes قد يثريه ،ال �سيما �أن الأحداث والوقائع وتداعياتها
) .وهذه الأ�شكال الفنية هي :املقــامة وخيـال الظـل الكثرية واملتنوعة ال تزال قيد الفعل والت�شكل ،كما
والأ�شكـال الب�سيطـة لـلأدب ال�شعـبـي (les formes �أنها ال تزال ت�صطبغ بطابع احلرارة والتوتر ال�شديدين،
:)simplesاحلكاية ال�شعبية ،امل��داح ،امللحون، وننتقل �إىل النظر يف عالئق التحول االجتماعي
امللوف... بتحوالت الإب��داع وامل�رسحي منه على اخل�صو�ص،
وت�شكل الظاهرة الكولونيالية حلظة تاريخية �شهدت ومدى وحقيقة انعكا�سات �أحداث «الربيع العربي»
ميالد امل�رسح العربي �ضمن ال�رشطية اال�ستعمارية على امل�رسح العربي وعلى مكوناته اجلمالية والفنية.
108 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
االجتماعية ،بروز م�سافة وتباعد بني القدمي واجلديد، التي �أدت �إىل ان�شطار ومتزق عميقني يف البنيات
دينيا وقانونيا و�أخالقيا ووجدانيا .وينبثق احل�س الثقافية والوجدانية ويف الوجود اجلمعي الأ�صلي
الدرامي – الرتاجيدي – بامل�س�ؤولية حني ينقطع للمجتمعات العربية .
املقد�س عن الدنيوي ،وي�صبحان متعار�ضني دون �أن وتعترب هزمية حزيران � 1967أهم حتول وارجتاج
ينف�صال متاما ونهائيا .ويحتد هذا الوعي يف اللحظة يف تاريخ الوطن العربي ما بعد الكولونيايل .حتول
التي ي�صبح فيها الفعل الإن�ساين مو�ضوعا �شكلت الظاهرة �أرخى بظالله على التفكري والوجدان ،بل لقد بلغت
للتفكري واحلوار ،لكن دون �أن يتخذ �أ�سا�سا �آثاره احلادة الإح�سا�س بالهوية نف�سها وزحزحتها،
م�ستقال ،ودون �أن يكتفي بذاته ب�شكل تام الكولونيالية باعتبارها البعد الأنطولوجي الأك�ث�ر �صميمية
حلظة تاريخية (.)3 وعمقا بالن�سبة للكائن العربي يف جوهره .و�إذا
ومن هذا املنظور ،ف�إن قوة اجلذب التي كانت الهزمية جمرد حدث �سيا�سي عر�ضي بالن�سبة
�شهدت ميالد
ميار�سها امل�رسح ،تن�ش�أ عن كونه يقدم لنا للأنظمة العربية ،طاملا �أنها مل ت�شكل تهديدا فعليا
حتديدا� ،شخو�صا غري مطابقني للقواعد امل�سرح العربي مل�صاحلها ،اللهم ما كان من هزمية �شنعاء وفقدان
املقبولة وللتجربة امل�شرتكة .وميكن القول �ضمن ال�شرطية نهائي مل�صداقيتها ،ف�إنها �شكلت حتوال كبريا يف
ب�أن العنا�رص املكونة للم�رسح يف ع�رص املنظور ال�سيا�سي اجلماهريي ،انعك�ست �آثاره العميقة
من ع�صور االنتقال� ،إمنا ت�ستجيب للظواهر اال�ستعمارية على كل �أ�شكال التعبري الفكري والفني والإبداعي
املت�صلة بالقطيعة التي حتدث يف التوازن التي �أدت �إىل ب�صفة عامة .وهكذا جاءت الأعمال الفنية والأدبية
االجتماعي (.)4 الكبرية يف جماالت الرواية وال�شعر والق�صة وامل�رسح
يت�أثر الفن امل�رسحي ،الرتباطه بالتجربة ان�شطار ومتزيق وال�سينما والت�شكيل واملقالة ،والتي تعترب اليوم
اجلمعية ،بالتحوالت االجتماعية والغليان يف البنيات روائع �إبداعية ت�ؤ�رش على الفرتة الذهبية للإبداع يف
اجلمعي ،وهذا ما تدل عليه حتوالت امل�رسح العامل العربي يف الع�رص احلديث.
الثقافية
مع الثورة الفرن�سية .فقد عرفت هذه الفرتة �إن ارتباط امل�رسح بالقطيعة التي ترادف بدورها
( )1789زخما م�رسحيا ا�ستثنائيا ،وظهرت والوجدانية اال�ضطراب وغياب القواعد وانهيارها ،يدل على
امل�رسحيات باملئات و�أي�ضا ما يعادلها من للمجتمعات �أن الإن�سان يف هذه املراحل واللحظات التاريخية،
امل�سارح ،وانعك�س هذا بو�ضوح يف الأعمال يعي�ش وفق قيم مل تعد �صاحلة ،يف حني يكون نظام
الدرامية ويف م�سار رجال امل�رسح �أنف�سهم العربية اجتماعي جديد قيد التكون بعيدا عن الأنظار (.)1
لهذه احلقبة .وقد قدم (مارفن كارل�سون وال يقت�رص اال�ضطراب وانهيار القواعد على اجلماعة
) درا�سة هامة عن م�رسح الثورة الفرن�سية ،ير�صد االجتماعية ،ب��ل يتعداه لينعك�س على الأف���راد.
فيها ب�شكل م�ستفي�ض �أبرز جتارب هذا امل�رسح �ضمن ولذلك ميكن اال�ستنتاج ب�أن االنتقال من التاريخ
التحوالت التاريخية واالجتماعية التي �أحدثتها �إىل امل�رسح ،يحدد فردية غري نظامية وم�ضطربة
الثورة ( .)5ولي�س غريبا �أن يكون (كارل�سون) نف�سه «� .)2( »anomiqueإن ارتباط امل�رسح بالقطيعة
هو �أحد منظري م�رسح ما بعد احلداثة� ،أي امل�رسح ت��دل عليه الأع��م��ال الدرامية الكبرية ،منذ قدماء
القائم على �أدوات وتقنيات وو�سائل ادائية جديدة، الإغريق �إلـــى م�شــارف الع�رص احلديث .لأن اللحظة
بو�صفه فرجة (� )Performanceأو فنا �أدائـيا الدرامية -ومن��وذج الرتاجيديا مثال �ساطع على
( ) art de performanceباملعنى امل�ستحدث ذلك – هي اللحظة التي يتم فيها ،يف قلب التجربة
109 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
�شكل �آخر ،وب�أن امل�رسح هو املكان الوحيد يف العامل يف الكتابات النظرية الأملانية والأجنلو�ساك�سونية
الذي ال تتكرر فيه احلركة مرتني (.)7 اجلديدة.
ي��ق��دم لنا م��ا ا�صطلحنا على ت�سميته مب�رسح غري �أنه �إذا كان امل�رسح يف جوهره ويف تاريخيته
التحوالت االجتماعية يف الغرب� ،أمثلة قوية على امل�سرح يف يرتبط بالقطائع والتوترات الناجتة عنها،
وظيفة امل�رسح اجلديدة وتغري �آليات ا�شتغاله يف وبالتمزق واالن�شطار يف الوعي اجلمعي
هذه الفرتات .وجند من تلك النماذج جتربة مـا ُ�سمي والفردي ،ف�إنه ال بد من الت�أكيد على �أن
تاريخه
بـــاالرجتال البـروليتاري فـي ثـالثينيات القـرن يرتبط اجلمهور املعا�رص مل يعد يدرك امل�رسح كما
املــا�ضي فــــي �أملانـيـا كان يفعل منذ مائة �سنة� ،أو كما ال يزال
بالقطائع
« ،»L’improvisation prolétarienne يفعل يف بع�ض التظاهرات التي جتامل
والـتي تنـدرج �ضـمن م�رسح ،L’Agit–Prop والتوترات الأذواق التقليدية (.)6
ويعود الف�ضل يف ظهورها مل�ؤ�س�سها (Maxim واالن�شطار يف وهنا ميكن �أن ن�ستح�رض �صيحة امل�رسحي
� )VALLENTINسنة ،1927وا�ستمرت �إىل الرائد (انتونان �أرطو) « :فلننته من الروائع»
غاية ،1934وك��ان من املمكن �أن حتتل مكانا الوعي اجلمعي كما لو �أنها �صدرت عنه للتو ،ولي�س قبل
مركزيا يف امل�رسح املعا�رص . والفردي� ،أك�ثر من �سبعة عقود من ال��زم��ن ،وبذلك
لقد �أحدثت هذه التجربة تغيريا يف طـُـرق الإنتاج يكون �أح��د �أك�بر منظري ما بعد احلداثة
امل�رسحي ال�سائدة يف تلك ال��ف�ترة ،وات��خ��ذ فيها ولكن اجلمهور الدرامية وما بعد الدرامية .يقول �أرطو يف
االرجتال موقعا مركزيا .وهكذا انقلبت مراحل الإنتاج املعا�صر مل يعد هذا الن�ص الباذخ :يجب �أن ننتهي من فكرة
ال��درام��ي من الن�ص �إىل الركح� ،أي من املخطوط الواقع املخ�ص�صة ل�صفوة مزعومة والتي
يدرك امل�سرح
�إىل العر�ض الأول؛ �إىل خمطط معكو�س يقت�ضي ال تفهمها اجلماهري العري�ضة .فروائع
االنتقال من االرجتال �إىل ت�سجيل الن�ص .وال يعني كما كان يفعل املا�ضي ،ت�صلح للما�ضي ،لكنها ال ت�صلح
هذا غياب ت�صميم حمدد ،فاالرجتال هنا يقوم على منذ مائة لنا .ومن حقنا �أن نقول ما قيل وحتى مامل
حم��اوالت الت�شخي�ص املراقبة من قبل املجموعة، ٌيـقل بطريقة خا�صة بنا ،طريقة مبا�رشة،
لكن هذه املنهجية مل يتم تقعيدها �أو توثيقها يف عام ،وال يزال تتفق مع طرق الإح�سا�س احلالية ،تلك التي
�أثر مدون،با�ستثناء بع�ض املقاالت املتفرقة يف عدد يفعل يف بع�ض ميكن �أن يفهمها اجلميع .ومن احلماقة
حمدود من املجالت ،ويظل العمل الأهم هو الدرا�سات �أن نعيب على اجلماهري ع��دم �إح�سا�سها
التي �أعدها املركز الوطني للبحث العلمي بفرن�سا التظاهرات بال�سمو ،عندما نخلط بني ال�سمو و أ�ح��د
عن م�رسح ( ) L’Agit-Propوجتربتـه مــا بـني التي جتامل مظاهره ال�شكلية ،وهي ميتة دائما .وعلى
1918و.)8( 1932 �سبيل املثال� ،إذا كانت اجلماهري احلالية
الأذواق
يعتمد االرجت��ال امل�رسحي يف هذه التجربة على ال تفهم « �أودي��ب ملكا» ،ف�أنا �أقول الذنب
«الأ�شكال ال�صغرية» كاخل�شبة ال�صغرية مثال� ،أو التقليدية ذن��ب تلك امل�رسحية ال ذن��ب اجلماهري .
امل�رسحية الثورية الق�صرية ،وهذه الأ�شكال قابلة لنعرتف ب�أن التعبري ال ُي�ستخدم مرتني ،وال
بطبيعتها للتداول من قبل اجلماهري ،بعيدا عن يحيا مرتني ،وب�أن كل كلمة منطوقة كلمة ميتة ال
منظومة امل�رسح امل�ؤ�س�س ،وق��ادرة على التكيف ت�ؤثر �إال يف اللحظة التي يتم النطق بها ،وب�أن ال�شكل
بح�سب رواجها ومتكنها من التعبري على خمتلف امل�ستخدم ال ُي�ستخدم وال يدعونا �إال �إىل البحث عن
110 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
املعا�رص ،فهو املت�صل باملُخرج الذي ظل يهيمن وتتلخ�ص �أط��روح��ة (م��اك ل��وه��ان) يف �أن الأمن��اط
على �صناعة الفرجة امل�رسحية �إىل غاية �سبعينيات التوا�صلية املتتابعة (الكلمة ،الكتابة ،الو�سائط
القرن املا�ضي ،قبل �أن َيحتل مكانه ويجرفه فاعل اجلماهريية) ت�ؤدي �إىل هيمنة �أحد احلوا�س (ال�سمع �أو
م�رسحي �آخر هو الدراماتورج .وما ي�سمى اليوم بــ الب�رص مثال) ،ومن ثم تن�ش�أ �أمناط خمتلفة من الثقافة
«امل�رسح ما بعد الدرامي» ي�ؤ�س�س لإ�ستيطيقا درامية واملجتمع .ويهمنا من كل ذلك ما يت�صل باملرحلة
جديدة ،وي�ؤ�رش على �أ�سلوب متكامل يف ممار�سة الإلكرتونية حيث تهيمن ك��ل احل��وا���س امل��ذك��ورة،
وم�ساءلةامل�رسح وتوجهاته ،وي�ضع مو�ضع نقا�ش ُ واعتبار (ماك لوهان) التلفزيون (ال�سمعي الب�رصي)
الأ�ساليب ال�سابقة (.)14 منط الو�سائطية الباردة التي ت���ؤدي �إىل االندماج
ومهما كان النمط امل�رسحي دراميا كال�سيكيا �أو ال�شخ�صي وامل�شاركة الكاملة ( .)11لن�ستح�رض هنا
حداثيا �أو م�رسحا ما بعد دراميا -ف�إنه توجد دائما ما فعلته الف�ضائيات بالأنظمة العربية وزعاماتها
عالقة متناق�ضة (تناق�ضية ) متوترة مع احلا�رض. املخلوعة حتى ك��ادت �أن تتحول �إىل �أداة حا�سمة
فامل�رسح لي�س فقط فنا حيا ،فنا ينتمي �إىل احلا�رض، يف �إ�شعاع هذه الأح��داث الكبرية ،بل ويف توجيهها
ترهينا لن�ص ،بل ميكن �أن يكون ،ولو بعد حني ،زبدة والت�أثري القوي على م�آلها .و�إىل جانب التلفزيون
هذا الن�ص وهالته .فامل�رسح هو ،يف الآن نف�سه ،دائم وبعده ،فقد ا�ستطاعت ال�سينما �أن متت�ص وت�ستوعب
وم�ؤقت ،دائم لأنه يبحث يف الن�ص ويف زمنه (ع�رصه) احلاجة �إىل االن�صهار والتماهي لدى امل�شاهد ،لأن
عن نقط التقاط ؛ وم�ؤقت لأنه لي�س هناك عر�ض �أو �سحر ال�سينما �أقوى و�أكرث �أثراً مبا ال يقا�س مع �سحر
�إخراج ،مهما كان غنيا ومتعدد املعنى ،ي�ستطيع �أن امل�رسح ،كما �أبرز ذلك (�إدغار موران ) (.)12
ي�ستنفذ الن�ص الدرامي .امل�رسح هو ،جوهريا ،عمل �إن احل�ضارة الإلكرتونية قد ت�ضعنا يف حالة من
تفكيكي (باملعنى الذي و�ضعه جاك دريدا)ُ ،م�ساءلة الفو�ضى �إذا مل نت�أقلم مع متطلباتها اجلديدة .و�إذا
وت���أزمي ،و�أي�ضا ت�أزمي حلا�رضه اخلا�ص .و�إذا كان كانت تدعونا �إىل الت�شكك يف الثقافة الكتابية الورقية،
للحا�رض م�ستقبل ،ف�إن للم�رسح م�ستقبال (.)15 فلأنها �أنتجت ثقافة �أخرى تفر�ض تبعية قوية �إزاء
ولأن امل�رسح يبدو اليوم عتيقا و�سط التكنولوجيا �أمناطها التعبريية .وهنا ال بد من الإ�شارة �إىل �أن هذا
احلديثة ،ولأن���ه ف��ن عتيق وغ�ير قابل لالحتواء التطور قد ي�ؤدي �إىل اخللط بني الواقعي والفرجوي،
واالختزال واال�ستن�ساخ ،ف�إن امل�رسح تنتظره �أيام و�إىل اختزال الفكر الذي ين�شد الكونية وال�شمولية �إىل
جميلة .لذلك يذهب (ج��اك �أت��ايل) �إىل �أن امل�رسح امللمو�س واملبا�رش .ومن ثمة تكون الإن�سانية مطالبة
و�إن كان ن�شاطية قدمية طقو�سية ،ف�إن التكنولوجيا ب�إيجاد و�سائل �إنقاذ القيم اجلوهرية ودجمها يف
اجلديدة �ستمكن من انت�شاره �أكرث ،بف�ضل و�سائل �إطار العالئق اجلديدة مع الواقع (.)13
البث والإر�سال املتوا�صلني للأعمال امل�رسحية ،عرب يكرث احل��دي��ث ،ال��ي��وم ،ع��ن �أزم���ة امل����سرح الغربي
قنوات خا�صة جتعل الأعمال الدرامية الكبرية يف (والعربي �أي�ضا) ،وكما هو معلوم فهي لي�ست �أزمة
متناول اجلمهور العري�ض (. )16 جديدة �أو طارئة ،بل �إن حياة امل�رسح نف�سها ال
باالرتباط مبا تقدم ،ن�شري �إىل �أهمية خلق انفتاحات تنف�صل عن حالة الأزمة هذه� .أما �أ�سباب ذلك ،فهي
جديدة يف م�سار امل�رسح العربي ،وم�ساءلة هويته اليوم ع��دي��دة ،وال يت�سع املقام هنا للخو�ض يف
الفنية التي �صارت عتيقة بفعل التقادم وتكرار جتلياتها .و�أما �أحد مظاهرها اجلديدة والتي ميكن
التجارب الدرامية نف�سها منذ عقود من الزمن .ومن اعتبارها م ؤ��شرِّ ً ا على هــ ّزة عميقة يف �رصح امل�رسح
112 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
يكون على التوايل م�ؤديا لن�ص ور�ساما وراق�صا. هذه االنفتاحات املمكنة ،ا�ست�رشاف الآف��اق التي
وبفعل الرتكيز على ح�ضوره اجل�سدي ،يظهر كراوٍ ميكن �أن تخلقها فنون الأداء �أمام امل�رسح العربي،
ل�سرية ذاتية على الركح ميتلك عالقة مبا�رشة مع خ�صو�صا �أنها تتنا�سب فنيا و�سيا�سيا مع التحوالت
الأ�شياء ومع و�ضعية التلفظ .وال يعتني فنان الأداء الراهنة التي يعي�شها العامل العربي .وهنا ال ب�أ�س
بو�ضع تعريف دقيق لعمله ،وال يهتم كثريا مبعنى من تقدمي فكرة ول��و خمت�رصة عن ه��ذه التجربة
امل�رسح وداللته املتداولتني ،و�إمنا يركز �أ�سا�سا على امل�رسحية يف �أ�صولها الغربية.
حيوية الفرجة و�أثرها� ،أكرث من التحديد النظري ملا ظـهـرت فنـون الأداء (la Performance, le
ينجزه وي�ؤديه (. )17 – ) Performance Artوترجمتها الفرن�سية
�إن جت��ارب امل�رسح العربي ال��ق��ادم واملفرت�ض «م�رسح الفنون الب�رصية» (Théâtre des arts
مطالبة ب�أن تكون �أكرث ات�صاال – على حد تعبري – )visuelsخالل �ستينيات القرن املا�ضي ،ومل
دوفينيو بخ�صو�ص �سياق ثقايف مغاير – بالتجارب تكن تختلف كثريا عن م�رسح ()Happening
الراهنة منها بالت�أثريات العتيقة التي تنحدر من �أو م�رسح الواقعة /الوقائع التمثيلية الذي يقدم
ما�ضي �أ�سطوري بعيد .وعلينا �أن نطلب من حا�رض عرو�ضا متثيلية جماهريية حتكمها جمموعة من
املجتمعات العربية ،وهو حا�رض يتجدد اليوم تبعا الأحداث غري املميزة ال�شكل ،والتي تهدف �إىل مزج
للأطر والبنيات� ،أن يو�ضح لنا القوى احلالية التي الدراما باحلياة ،لأن كل �أح��داث احلياة اليومية
ت�ؤثر يف اخللق الدرامي (. )18 يف ر�أي �أ�صحاب هذا امل�رسح ،ت�شكل مادة �صاحلة
وم���ع ذل���ك ،ن�ستطيع ال��ق��ول ب����أن �إره��ا���ص��ات للتمثيل تبحث عن �شكل يوائم بينها ويمُ �رسحها.
الدراماتورجيا اجلديدة يف امل�رسح العربي قد ظهرت وقد ت�أثرت هذه التجربة بالأعمال الفنية للمو�سيقار
منذ العقد الأخ�ير من القرن املا�ضي .وقد جاءت ( ،)John CAGEوف��ن��ان ال��رق�����ص والتعبري
مت�أثرة ب�شدة ب�آثار الثقافة الرقمية والو�سائطية اجل�سدي ( ،)Merce CUNNINGHAMوالنحات
التي انعك�ست يف كل م�ستويات العمل امل�رسحي، ( )Allan KAPROWالذي �أبدع الت�سمية يف
و�أدت �إىل جت��اوز مفهوم ال�رسد ال��درام��ي وبنــاء عر�ض م�رسحي كتبه و�أخرجه �سنة 1959بنيويورك
احلدث والفعل الدرامي ومفهـوم التمثيل التقليــدي حتت عنوان « ثماين ع�رشة واقعة يف �ستة �أجزاء»
ومتثــل العــر�ض ذاتــه (،)représentation .و�رسعان ما انتقل م�رسح الواقعة من �أمريكا �إىل
واال���س��ت��ن��اد �إىل الكتابة الركحية (écriture �إجنلرتا و�أملانيا وغريهما من بلدان �أوروب��ا .وقد
،) scéniqueواعتماد �سينوغرافيا ب�سيطة �أو تبلورت �صيغة فنون الأداء وبلغت قمة ن�ضجها يف
�أدن��وي��ة ( ،)minimalisteوالبحث عن لغات ثمانينات القرن الع�رشين.
درامية جديدة ومنظور جديد جل�سد املمثل بو�صفه متزج فنون الأداء ،دون فكرة �أو ت�صور قبلي ،الفنون
عالمـة ( ،)signeولي�س جمرد دال (.)signifiant الب�رصية وامل�رسح واملو�سيقى والرق�ص وال�سينما
ومن املعلوم �أن هذا املنظور يذكرنا بخطابات وال�شعر؛ ولي�س مكان عر�ضها هو امل�سارح� ،إمنا
(�أرطو) املذكورة �آنفا .ين�ضاف �إىل ذلك اللجوء �إىل املتاحف والأروقة .وهي تركز على الطابع العر�ضي
ا�ستخدام الو�سائط كال�سينما والت�شكيل والــفيديو وغ�ير الناجز ( )inachevéللإنتاج� ،أك�ثر من
وال�سمعي الب�رصي والربامج احلا�سوبية. اهتمامها بالعمل الفني املكتمل والنهائي .وامل�ؤدي
من بني التجارب امل�رسحية التي �أره�صت بهذه هنا ( )Performerلي�س ممثال يلعب دورا ،و�إمنا
113 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
يف امل�رسح املغربي مند ما يقارب الآن العقدين التحوالت يف امل�رسح العربي ،جند يف لبنان جتربة
من الزمن ،ومن الأمثلة البارزة على ذالك �أعمال الفنان (رب��ي��ع م���روة) م��ع رفيقته (لينا �صانع)،
(�إبراهيم الهنائي) التي ترتكز على الكتابة الركحيـــة وال��ت��ي �صنفت كـم�رسح م�ضاد يقطع حتى مع
وعلى اال�شتغال الن�سقي والر�صني بغاية ا�ستنبات تراكمات امل�رسح التجريبي نف�سه عندما حتول
كتابة درامية جديدة من خالل ن�صو�ص (كولتي�س) �إىل تقليد �سلطوي .وجند من عطاءات هذه التجربة:
و(جمال الغيطاين) و(?زينييك) وغريهم. «بيوغرافيا» ( )2002وه��ي عمل ي�ستع�صي على
ت�ستند الكتابة الدرامية عند (الهنائي) �إىل ا�سرتاجتية الت�صنيف ،وكذلك» ثالث مل�صقات»( )2004الذي هو
كتابية تو�ضح االنتقال من م�ستوى الن�ص �إىل عمل تركيبـي ت�سجيلي كان قــد و�ضعه (ربيع مروة)
م�ستوى الإخراج ،وهذا االنتقال ي�ؤدي بال�رضورة مب�شـاركة (�إليا�س خوري) �سنة ،2000وتتداخل فيه
�إىل �إح��داث ن��وع من االن��زي��اح عن دالالت الن�ص الفرجة باملحا�رضة .ين�ضاف �إىل ذلك عمالن �آخران
«الأ�صلية»،ال مبعنى حتويل خطابه عن ق�صديته �أو « :وجه أ� وجه ب» ( )2001و«من يخاف التمثيل ؟»
غايته ،و�إمنا توجيه خ�صائ�صه و�سماته يف اجتاه ( ،)2005وهي �أبرز املنارات يف هذه التجربة .
�إبرازها بح�سب التلقي املق�صود �أو امل�ستهدف .هكذا وي�شكل امل�رسح التون�سي اجلديد منوذجا للكتابة
حتدد القراءة الدراماتورجية اختيارات الإخ��راج الركحية – وللتذكري تعود الرتجمة �إىل امل�رسحيني
وتوجهاته� ،أي �أن التحليل الدراماتورجي يكون التون�سيني – وق��د كانت ال��ري��ادة يف ه��ذا الباب
جوابا على ال�س�ؤال/الأ�سئلة التي يثريها الن�ص �إىل امل�رسحي التون�سي (توفيق اجلبايل) وم�رسح
يف �سياق معني .ما ال��ذي يرويه الن�ص عن واقع ((El Theatroامل�ستقل الذي يرجع ت�أ�سي�سه �إىل
املتلقي ،وما الذي يتلقاه هذا الأخري من احلكاية .1987ويعترب عمل « كالم الليل :ل�صو�ص بغداد «
املعرو�ضة ؟ والأه��م من كل ذلك ما هو اخلطاب جتربة متميزة يف م�سار (اجلبايل) امل�رسحي .وقد
الذي ير�سله الإخراج انطالقا من الن�ص ؟ ...هذا ما �أ�صاب بع�ض الدار�سني يف اعتبار الكتابة الركحية
تربزه �أعمـــاله امل�رسحية – دراماتورجي ًا وخمرج ًا تراثا مرتاكما يف امل�رسح التون�سي ،بـد�أ مـع فرقة
– التي متتد على �أكرث من عقدين من الزمن� « :أخبار (الكاف) لـ (املن�صف ال�سوي�سـي) و(رجاء فرحات)،
بنوزبيبة»« ،ت�شيكو ي��ات»« ،فاطما»« ،املفت�ش»، ثم فرقة (امل�رسح اجلديد) يف بداية �سبعينيات القرن
«يف عزلة حقول القطن» وغريها. املا�ضي .وال يـزال (فا�ضل اجلعايبي) و(جليلة
�إن هذا اال�شتغال الر�صني والهادئ والعميق على بكار) يوا�صالن جهودهما يف الكتابة الركحية –
امل�سافات اجلامعة واملائزة يف نف�س االن ،بني ون�ضيف هنا امل�شهدية /الب�رصية /الت�شكيلية /
ن�ص امل���ؤل��ف ون�ص امل��خ��رج (ال��درام��ات��ورج��ي��ا)، املو�سيقية – �إىل اليوم .ثم �رسعان ما تربعمت تلك
وهذا الت�صور اجلديد الذي ي�ستند �إىل قراءة عا�شقة البدايات وتفرعت �إىل فرق متعددة خرج من رحمها
للن�صو�ص الدرامية اجلديدة املندرجة يف �سياق (امل�رسح الوطني التون�سي) بقيادة (حممد �إدري�س)
احلداثة الدرامية وما بعدها؛ هما ما يجعل من و(م�سـرح التياترو) املـذكـور و(م�رسح فـو) لـ(رجاء
جتربة (الهنائي) امل�رسحية جتربة متميزة يف م�سار بن عمار) و(م�رسح الأر�ض) لــ (نور الدين الورغي )
امل�رسح املغربي يف العقدين الأخريين ،يف توا�ضع وفرقة (امل�رسح الع�ضـوي) لـ (عز الدين قنون) (.)19
وبعيدا عن البهرجة واجلعجعة والنجومية اخلاوية كما تنبغي الإ�شارة ،هنا� ،إىل احل�سا�سية اجلديدة
التي يعج بها م�شهدنا امل�رسحي اليوم ... التي تتجلى يف الأعمال امل�رسحية جليل ال�شباب
114 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
واليوم يولد تيار جديد من امل�رسحيني ال�شباب كما جند (ف��وزي بن�سعيدي) يف م�رسحية «�إثني
الذين ي�صنعون اللحظة امل�رسحية اجلديدة ،حتت ع�رشة �أغنية وثالث وجبات وقبلة واحدة» ،و(يو�سف
�سطح احلياة الراكدة التي يعاين منها امل�رسح العربي الريحاين ) يف «عدوى بيكيت» ،وجتربة امل�رسحي
منذ فرتة .وي�شكل م�رسح ال�شباب يف م�رص مثال، ال�شاب (بو�سلهام ال�ضعيف) ،وجت��رب��ة املخرج
ف�صيال من ف�صائل �شباب املجتمع امل�رصي الذي وال�سينوغراف املبدع (عبداملجيد الهوا�س) وعلى
�أ�سقط النظام و�سعى �إىل تغيري الأو�ضاع الفا�سدة. ر�أ�سها م�رسحية (?يولون �سني)؛ وجتربة املمثلة
واملثري هنا بالن�سبة للمتتبع لهذا التيار ،ان االنفتاحات (لطيفة �أح���رار) يف �إخ��راج و�إع���ادة ق��راءة ركحية
�أنه ال يقت�رص على الكتاب واملخرجني ،بل لن�صو�ص (يا�سني عدنان) ،والتي �أثارت زوبعة من
وي�شمل جيال جديدا من النقاد النا�شئني .والإرها�صات اجلدال لفرتة بعد عر�ضها.
ُ
يحبل مترداً على كتابات التي كان ثم �إن هذا التيار ي�شكل َ تندرج �ضمن التوجه اجلديد الذي �سار فيه م�رسح
الأج��ي��ال ال�سابقة ،وي���ؤ��شر على نهاية ال�شباب العربي يف ظ��ل التحوالت االجتماعية
بها ج�سد ٍ
م�رسحية مبوا�صفاتها وتقاليدها، مرحلة وال�سيا�سية الـراهنة ،التـجربة اجلـديدة لفرقة (�إناء
مطلقة امل�سرح العربيٍ ٍ
قطيعة لكن دون �أن ي�ؤدي ذلك �إىل ال�سماء) مب�رص ،من خالل م�رسحية «�أنا كارمن»،
ونهائية معها .وهذه مناذج من الن�صو�ص اجلديد منذ وهي مونودراما تربز �أن هذه ال�صيغة الدرامية
اجل��دي��دة التي �أف��رزت��ه��ا حت��والت الربيع ما ت��زال ق��ادرة على ا�ستثمار الإمكانات الفنية
فرتة ،ازدادت العربي مب�رص : واجلمالية للم�رسح اجلديد يف جم��ال ا�شتغالها،
قوة وانت�شارا «حكاية �ضحى» :حامت حافظ. والتي تتجلى هنا يف توظيف فن الأوب��را توظيفا
«م�أ�ساة ديك اجلن» � :صفاء البيلي. حداثيا رائعا .ي�صور هذا العمل امل�رسحي املتميز
ب�سبب تفكك « �أر�ض امليعاد «:عي�سى جمال. حلظات �أو �أ�شطرا من احلياة اليومية للفتاة (كارمن)
مفهوم الدراما « املفروكة « :يا�رس عالم. يف حاالت ع�شقها و�آالمها و�إح�سا�سها الأليم بالهوية
« �شباك مك�سور» :ر�شا عبد املنعم. واالنتماء ،ومعاناتها ال�سيا�سية والوجودية .كما
نف�سه ومتثالته « قول يا مغنواتي» :بكري عبد احلميد. ت�شتغل امل�رسحية ب�إبداعية عالية على �صيغة
التقليدية، « الوردو�س»� :رشيف �صالح الدين. «امل�رسح داخل امل�رسح» ،وعلى اللغة التي جاءت،
«يف �صالون مدام �إميان» :ي�رسا ال�رشقاوي .وظهور منظورات ب�صورها و�إيحاءاتها وا�ستعاراتها ،لغة �شعرية
«وليمة عيد» :يو�سف م�سلم ()20 باذخة يف �شاعريتها الب�سيطة .
و�إىل جانب ذلك ما تزال الن�صو�ص القدمية يف جمال �صناعة غري �أن تلك االنفتاحات والإرها�صات التي كان
-عربية ت��راث��ي��ة وغ��رب��ي��ة -ت�ستهوي الفرجة يحبل بها ج�سد امل�رسح العربي اجلديد منذ فرتة، ُ
امل�رسحيني ال�شباب مب�رص ،لكن ب��ر�ؤى ازدادت قوة وانت�شارا ب�سبب تفكك مفهوم الدراما
�إخراجية جديدة وق��راءات خمتلفة تتالئم نف�سه ومت��ث�لات��ه التقليدية ،وظ��ه��ور منظورات
مع طبيعة التحوالت االجتماعية وحتوالت وممار�سات جديدة يف جمال �صناعة الفرجة .لكن
ال��درام��ا .وعلى �سبيل املثال نذكر م�رسحية «�أنا العامل احلا�سم يف هذه التحوالت يتحدد بتحوالت
الثورة» عن «مارا �صاد» لـبيرت فاي�س من �إخراج املجتمعات العربية نف�سها ،ال باملعنى االنعكا�سي
�أحمد ثابت ال�رشيف ،نادي م�رسح �أ�سيوط؛ و«جان الآيل ،ولكن يف �إطار ارتباط زمن امل�رسح بـزمن
دارك» لـربتولد بري�شت و�إخراج حممد فتح اهلل ،نادي التاريخ كما �أ�رشنا �إىل ذلك.
115 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
واحتلت الن�صو�ص ال�ضعيفة خ�شبة امل�رسح العربي. امل�رسحيني ،واج�ترار التقاليد والأ�ساليب الدرامية
ونتيجة ذلك غلبت ال�شكالنية الباهظة على العرو�ض العتيقة ،ملا َتكتنزه امل�سارح اجلامعية وال�شبابية من
امل�رسحية .و�إذا بال�سينوغرافيا ت�صبح املطلب طاقات و�إمكانات حية متجددة يف العطاء واالبتكار،
ت�ضعنا الرئي�سي للعرو�ض امل�رسحية (. )22 وقدرة دائمة على النقد واملراجعة والتخطي ..
و�أخ�يرا ،نريد �أن ن�سجل اال�ستخال�صات �إن هذه التجارب امل�رسحية العربية جليل ال�شباب
التحوالت الأولية التالية : – وهذه جمرد عينة حمدودة جدا من مناذجها –
* ينبغي �أن ي���أت��ي م����سرح ال��ت��ح��والت الراهنة �أو ت�ستحق درا�سات حتليلية دقيقة وعميقة ومت�أنية،
االجتماعية وال�سيا�سية الراهنة معربا عنها وب�إجرائيات منهجية خم�صو�صة ،يف �ضوء قراءة
ما ي�سمى
ومرتبطا بها وخارجا من رحمها،ولي�س وا�ستح�ضار ر�صينني ملنجز نظرية الدراما اجلديدة،
متهافتا الهثا وراء �آخر التقليعات النظرية بالربيع يف �إطار ما �أ�صبح ي�صطلح عليه منذ �سنوات ،يف
العربي� ،أمام والفنية الغربية. العاملني االملاين والأجنلو�ساك�سوين بـامل�رسح ما
* م���ن امل���ف���رو����ض �أن مت�����س حت���والت بعد الدرامي (Le théâtre postdramatique
امل����سرح ال��ع��رب��ي امل��م��ك��ن وامل��ف�تر���ض الآفاق املمكنة ( ،وال��ذي جند تو�صيفا نظريا لبع�ض �أ�س�سه يف
ك��ل م�ستويات الفرجة امل�رسحية ،ب���أن والغام�ضة كتابات ( )Richard Schechnerو(Erika
يتحول العر�ض نف�سه �إىل نوع من الأداء )Fischer-Lichteوغريهما (. )21
( ،)Performanceي�ستلهم بوعي عميق �سيا�سيا ت�ضعنا التحوالت الراهنة التي تعرفها املجتمعات
وتـــمثل من�سجم مع �رشطية اخل�صو�صيات واجتماعيا العربية� ،أو ما ي�سمى بالربيع العربي� ،أمام الآفاق
الثقافية – ولي�س اخل�صو�صانية – �إجنازات املمكنة والغام�ضة �سيا�سيا واجتماعيا وح�ضاريا
وح�ضاريا
ال�صيغ والأ�شكال امل�رسحية اجلديدة ،و�أن بالن�سبة لهذه املجتمعات ،وهي نف�س �آفاق امل�رسح
تنعك�س تلك التحوالت على الن�ص والإخراج لهذه يف اللحظة الراهنة .لكن ال ينبغي �أن تتجه بنا
وال�سينوغرافيا و�أداء املمثل ،وكلها �صارت املجتمعات، هذه االنفتاحات واالنزياحات يف م�سار امل�رسح
مفاهيم ذات حمولة تقليدية... العربي ويف �آفاقه املمكنة واالفرتا�ضية� ،إىل نوع
* وج���وب �إح���داث ث��غ��رات �أو ��ش�روخ يف وهي نف�س من التقهقر �أو العدمية جت��اه ال�تراث امل�رسحي
عالقتنا وت�صوراتنا للأ�ساليب الفنية �آفاق امل�سرح الكوين العريق �إبداعا وتنظريا ،وال��ذي يجعل من
التقليدية حتى يف �شكلها ال��ذي يظهر امل�رسح �أب الفنون؛ وحتى ال ننتهي �إىل اال�ستنتاج
ع�رصيا �أحيانا ،وذلك على م�ستوى الإخراج الراهنة املرير الذي انتهى �إليه ،يف زخم حتوالت امل�رسح
والتمثيل �أو الت�شخي�ص وال�سينوغرافيا العربي الراهنة ،واحد من كبار امل�رسحيني العرب
وغريها من مكونات العر�ض امل�رسحي. (فرحان بلبل ) ،قائال :مع ظهور امل�رسح التجريبي
* ��ضرورة �إع���ادة النظر يف كيفية تعاطينا مع احلديث يف بداية العقد الأخري من القرن الع�رشين،
الن�صو�ص الدرامية ذات الطابع الكال�سيكي �أو هجر املخرجون واملمثلون الن�ص امل�رسحي القوي
حتى ما بعد الكال�سيكي واحل��داث��ي ،و�إب��داع ن�ص ب�أركانه الدرامية .ومت هذا الهجران دفعة واحدة
درام���ي يت�شكل ب��امل��وازاة م��ع من��ط النــــ�صو�ص يف جميع �أنحاء العامل ويف الوطن العربي على
ال�رسدية وال�شعرية اجلديدة التي بد�أت يف الظهور اخل�صو�ص ..متزقت الن�صو�ص امل�رسحية القوية
(الكتابة ال�شذرية واملت�شظية ،تفجري �شكل ال�رسد التي ورثتها الب�رشية ،فلم يعد يظهر منها �إال ا�سمها،
117 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
� )9أنظر :مارفن كارل�سون :فن الأداء (مقدمة نظرية ) ،ترجمـة منى اخلطي،ا�ستثمار الن�ص الرقمي.)...
�ســالم ،ال�شارقة ،دائرة
الثقافة والإعالم ،د.ت .وهو ترجمة لكتاب : * البحث عن �شكل م�رسحي /فرجوي �/أدائ��ي
Performance . A critical introduction , London , جديد (وهي رحلة طويلة مكرورة عا�شها امل�رسح
1996,Routledge
(Mc LUHAN , Marchall : Pour comprendre 10 العربي منذ بداياته الأوىل !) ،ي�صنع العر�ض من كل
,les médias, Ed . Mame / Seuil املعطيات املتوافرة ،ومن �أب�سط العنا�رص املادية
25,p ,1968
(COLLECTIF : Sociologie des mutations ; 11 والدرامية والواقعية الدنيا ( )minimalisteالتي
sous la direction de Georges تتيحها احلياة اليومية املبا�رشة ،مبا يعني العودة
J ,1970 ,Balandier , Paris, Ed . Anthropos
.Cazeneuve :« communication
�إىل امل�رسح املعي�ش.
182– 173 : de masse et mutations culturelles », pp * القطع مع امل�رسح الأدبي القائم على الإن�شائية
)12.دوفينيو :املرجع نف�سه� ،ص 549و . 550وينظر �أي�ضا : اللفظية ،وعلى فخامة العبارة وتقعرها� ،أي بكلمة
MORIN,E : Le cinéma ou l’homme imaginaire,
1958,Paris .Ed. de Minuit واح���دة ال�ثرث��رة الكالمية التي كانت م��ن �آف��ات
(.13CAZENEUVE :Ibid امل�رسح الغربي من قبل ،والتي واجهت نقدا عنيفا
) ينظر يف املو�ضوع العدد الأخري من جملة 14 :
La mise en « .2011 novembre , 774 °Critique , n منذ كتابات �أرطو الرائدة .
» scène : mort ou mutation هذه ت�أمالت نعتربها جمرد �أفكار �أولية ت�ستلزم
,ATTALI , J : Le sens des choses ,Ed .R . Laffont)15
avec Stephanie( , 2009 التفكري العميق وامل��ت���أين وال��ه��ادئ يف �أو���ض��اع
166 . Bonvicini ), p امل�رسح العربي و�آفاقه ،يف ظل التحوالت العامة
( 16املرجع نف�سه� ،ص . 171 :
PAVIS , P. :Dictionnaire du théâtre , Paris, )17 التي ي�شهدها العامل العربي يف اللحظة الراهنة...
Ed.Sociales
) 18دوفينيو :املرجع نف�سه� ،ص .41 هوام ـ ــ�ش
� )19أنظر مثال � :صربي حافظ « :امل�رسح التون�سي بني البوليفـــونية DUVIGNAUD , J : Les ombres collectives , )1
والكتابة الركحية :جتربة توفيق اجلبالـي , sociologie du théâtre
منوذجا� « ،ضمن امللتقى الفكري :امل�رسح العربي بني عقدين ؟، . 192 p ,1973 et 1965 , Paris , P.U.F
ال�شارقة ،دائرة الثقافة (2املرجع نف�سه� ،ص . 186
والإعالم� ،2011 ،ص 36وما بعدها ( 3عبد الواحد ابن يا�رس :حياة الرتاجيديا ،يف فل�سفة اجلن�س الرتاجيدي
� ) 20.أبو العال ال�سالموين « :تيار جديد يف امل�رسح امل�رصي»� ،أ�سبوعية و�شعريته ،بريوت ،الدار
(م�رسحنا )، العربية للعلوم نا�رشون� ،2011 ،ص 49وما بعدها.
الهيئة العامة لق�صور الثقافة ،العدد � 224،31أكتوبر . 2011 )4جان دوفينيو :املرجع نف�سه� ،ص . 179
� ) 21أنظر يف املو�ضوع : CARLSON , M : Le théâtre de la révolution )5
SCHECHNER, Richard : - Essays on . 1970 , française , Paris , Gallimard
New ,1976 – 1970 , Performance Theory )6جان دوفينيو ،املرجع نف�سه� ،ص .549
1977 ,York, Drama Book Specialist / Publishers ARTAUD , A : Le théâtre et son double , Ed. )7
La représentation postmoderne . La fin de « - , 1964 ,Gallimard
» l’humanisme » coll . « Idées », « En finir avec les chefs – d’œuvre
51-35. pp , 1981 , )3( 20°Jeu, revue de théâtre n �أو ترجمته العربية :امل�رسح وقرينه� ،سامية �أ�سعد ،القاهرة ،دار النه�ضة
LEHMANN , Hans – Thies : Le théâtre العربية « ،1973،فلننته من الروائع «
.2002 ,postdramatique, Paris, L’Arche COLLECTIF : l’envers du théâtre , Revue )8
) 22فرحان بلبل « :الت�أليف امل�رسحي العربي املعا�رص ..كما �صار 2-1/1977 , d’Esthétique
�إليه « ،جملة (كوالي�س)، l’improvisation: 1930 « ; 1977 ; 18/10 ,Paris , UGE ,
يناير ،2010العدد � ،1ص 37و. 39 .Prolétarienne » par Philippe IVERNEL
�إدمون عمران املليح كاتب مغربي �أ�صيل ( )2010 -1917من �أ�صول �أمازيغية،
تعود �إىل منطقة ايت عمران ،جنوب الأطل�س املغربي ،على الرغم من كتابته
بالفرن�سية له مواقف �ضد الفرنكوفونية .هو اليهودي املن�شق على غرار «نعوم
ت�شوم�سكي» و«نورمان فنكل�ستني» ،عرف بعدائه لل�صهيونية ،مدافعا عن الق�ضية
الفل�سطينية ،انخرط يف م�سار الكفاح الوطني من �أجل ا�ستقالل املغرب ،وتعر�ض
لقمع قوى اال�ستعمار الفرن�سي� .سنة 1965يف ظروف �سيا�سية عنيفة ،يف �سياق ما
ي�سمى يف اخلطاب ال�سيا�سي املغربي ب�سنوات الر�صا�ص واجلمر� ،سيغادر املغرب
مهاجرا �إىل فرن�سا ،وي�شتغل بالتعليم وال�صحافة.
119
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
الدارجة ،العربية ،لهجات البحارة املختلطة برطانات ا�شتهر بكتاباته املتميزة ،فقد و�صفته �صحيفة
مغربية ،برتغالية ،ا�سبانية ،ته�شم عرب هذا االختالط الإندبنداتت الربيطانية ب�أنه «جيم�س جوي�س املغرب».
البارودي مركزية الذات لفائدة مواقع �رسدية متعددة. ر�سخ �إدمون عمران املليح مكانته �أوال ككاتب متميز،
يف ه��ذا املجرى ال����سردي احلفري تك�شف رواي��ات وثانيا كمثقف من�شق ،يجهر مبواقفه االن�شقاقية �ضد
�إدم���ون املليح ع��ن �صور االخ��ت�لاف ال��ث��ق��ايف ،من ال�سلطة .من �أهم �أعماله ال�رسدية والروائية� :سريته
قبيل حمكيات الهوية والبدايات ،وا�ستلهام املا�ضي الذاتية (املجرى الثابت ،)1980رواية (�أيالن �أو ليل
وتواريخ الكولونيالية (احلماية الفرن�سية والكفاح �ضد احلكي )1983ورواية (�ألف عام بيوم واحد )1986
اال�ستعمار) وما بعد الكولونيالية (�سنوات الر�صا�ص ورواي��ة (ع��ودة أ�ب��و احلكي )1990ورواي��ة (املقهى
واجلمر) ،ولذك يح�رض التخييل م�شتبكا ب�صور القوة، الأزرق .)1998بالإ�ضافة �إىل �أعمال فكرية وفل�سفية
التي تطبعه ب�صور االزدواج والهجنة الثقافية ونقدية حول جان جنيه والت�شكيل املغربي املعا�رص.
وجدليات القوة ،وديناميات الرغبة والوعي املهجري يف جممل هذه الأعمال ال�رسدية ير�سخ �إدمون عمران
و�شتات املنفى. املليح منظورا �رسديا ب�أ�صوات متعددة .فعلى الرغم
هذا التجاذب بني التخييل والقوة ي�سهم يف ته�شيم من هجرته احلقيقية واملجازية يف اللغة الفرن�سية ،مل
إ�ط���ار احلكاية ،ع�بر امل��زج العنيف ب�ين الأ���ص��وات يتنكر لأ�صوله املغربية� .إال �أنه مل يحول هذه الأ�صول
والأ�صداء واللغات واللهجات ،ت�سندها نربة تهكمية �إىل �أ�ساطري م�ؤ�س�سة لهوية مغلقة ،بل تعامل معها من
نقدية تفكيكية ل�صور القوة وال�سلطة . منظور تخيلي ،ميزج بني الذاكرة والتخيل ،ال�شعري
واملرجعي ،التذويت والتاريخ.
الكتابة �ضد الن�سيان يف �صريورة هذه ال�شفرة املزدوجة التي متيز اخلطاب
تت�شكل �إ�سرتاتيجية احلكي لدى �إدمون عمران املليح الروائي عند �إدمون املليح ،تنبثق من داخل طبقات
يف رواية (�آيالن �أو ليل احلكي )1كبحث حفري يف بقايا احلكاية �صور ذاك��رة ن�صية متجذرة يف اجلغرافية
تخييل من�سي ،لكن مفاعيله وندوبه ال تزال مرت�سبة الرمزية املغربية ،مبا مييزها من ف�سيف�ساء تعدد
وفاعلة يف ذاكرة ن�شطة (كان يحدث له �أن يكتب لأن و�أيقونات االختالف واالنزياحات.
دمه ينزف ب�شدة،لأن اجلرح الذي كان يحمله يف جنبه ذاكرة منقو�شة ب�سحر الطفولة ومكر التاريخ و�إغواء
ال يكف عن الإيعاز) (�ص.)48 الأ�سطورة ،منفتحة على ثقافات وتراثات متعددة،
ذاك��رة مو�شومة بحكايات ج��رح و�أمل ال تكف عن متحيزة لنب�ض الهام�ش املقموع و أ����ص��داء ال�صوت
ا�ستنزافها ،تظل خمرتقة ب�أ�صداء و�أ�صوات تهب من الآخ����ر� .سفر �إىل ال��داخ��ل� ،إىل ح��ك��اي��ات الأ���ص��ول
جهات املا�ضي البعيد .ويف �إط��ار ت�صور �أنطلوجي والبدايات،وهجرة �إىل اخلارج� ،إىل حكايات املنفى
للكتابة كفعل م��واج��ه��ة للموت ب�����ص��وره امل��ادي��ة واالختالف الثقايف ،حيث تت�شظى احلكاية بني عنف
والرمزية التي حتيل على جمازات الغياب وال�صمت الكتابة وعنف املتخيل يف �سريورة ازدواج بني الداخل
والن�سيان ،يتجه ال�رسد نحو ا�ستعادة هذا التخييل واخلارج ،بني الذات والآخر ،بني املا�ضي واحلا�رض.
املن�سي عرب خرائطية هجينة متعددة يف مرجعياتها وهذا ما يفر�ض على بالغة الن�ص حالة هجنة ن�صية
الثقافية والرمزية والتاريخية. وثقافية فاعلة يف دينامية ال�رسد ،تعرب عن نف�سها
تت�أ�س�س ا�ستعادة املحكي املن�سي على وعي ثقايف يف خطاب �رسدي تعددي ،منقو�ش ب�أل�سنة متناف�سة
ب����ضرورة �إع���ادة بنائه ومتثيله ،من منظور ذوات ولغات متعددة ،الفرن�سية ،العربية ،الأمازيغية،
120 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
هذه املواجهة الطباقية ،على �سيا�سات التمثيل �رصاع و�أ�صوات الهام�ش ،خارج �سيا�سات قانون القوة الذي
ب�ش�أن ما يقال ومن الذي يقول ما يقال ،ومن ميثل فر�ض ويفر�ض حالة التهمي�ش والكبت على �أ�صوات
من.)3(. ال�ضحايا( .الكفاح م��ن �أج��ل اال�ستقالل ،التاريخ
تنطلق دينامية ال�رسد �إذن من القوة االنتهاكية يختلط ب�أيام احلماية ،تلك الأي��ام من الأمل الناعم
الرمزية للتخييل املوازية لقانون القوة .قوة �سلطة ال�شفاف ،من الوعود امل�ستقبلية ،من ال�شدة القا�سية،
تعمل على حمو �آثار عنفها ،حيث ينه�ض ال�رسد على من الت�ضحيات ،من احلياة املطالبة بحرارة ،ذلك
مواجهة هذا املحو /الن�سيان عرب الغو�ص عميقا يف التاريخ ،على غرار التاريخ مبفهومه املطلق ،انطوى
التاريخ املن�سي لل�ضحايا املهم�شني .وعرب هذا ال�رسد على التجريد ،على الغائية املبتذلة ،على الالمباالة
احلفري يتم حترير الذاكرة من �إطار القوة ،وهذا ما املعدنية ،وتبقى حمنة ذلك الرجل ،الفرق ال�صغري
يتيح لل�رسد ا�ستح�ضار امل�سكوت عنه يف �رسد ال�سلطة. الذي ال يخلف �أي طية ،رجال ماتوا من ذلك اليوم
ا�ستح�ضار تخيلي ين� أش� عنه انبثاق حكايات ال�ضحايا يف الأحياء ال�شعبية ،من يتذكرهم ،من �سيتذكرهم)
من الغياب �إىل الوجود ،ومن الن�سيان �إىل الذاكرة، (�ص)109
ومن املا�ضي �إىل احلا�رض ،ومن املوت �إىل احلياة. �ضمن هذا الت�صور لفعل ال�رسد كقوة رمزية مقاومة
وميزة هذا ال�رسد احلفري �أنه يت�شكل داخل دينامية لقوة التاريخ ،تنفتح احلكاية على ذاك��رة النا�س
اخلطاب ال��روائ��ي ك�إ�سرتاتيجية خطابية م�ضادة الب�سطاء املهم�شني� ،ضحايا تاريخ القوة ،كنوع من
خل��ط��اب ال�سلطة ب��ه��دف تقوي�ض ه��ال��ة احلقيقة التحرير لهذه الذاكرة كي ال متوت يف املا�ضي (كان
املزعومة التي ت�سوغ بها �إ�سرتاتيجيتها يف العنف، بعيدا وراء ح��دود الغياب ،متحركا يف اللحظات
يقول عز الدين الناطق با�سم ال�سلطة يف ا�ستقباله املتباعدة ،النادرة التي يعود فيها �إىل نف�سه بوخز
لوفد ال�صحافة الأجنبية (�شوهت ال�صحافة الأجنبية رغبة� :أال ميوت مع ما�ضيه) (�ص)42
احلقيقة ،بالغت يف الأمور� ،ألي�س كذلك يا م�سرت جون احلكي من �أجل تفادي املوت ،موت الذاكرة ،ذاكرة
هاري�سون�...إننا ل�سنا وحو�شا ،بالدنا لي�ست دكتاتورية ال�ضحايا ،ذلك ما ي�شكل �سيا�سات ال�رسد يف الرواية.
من ديكتاتوريات �أمريكا اجلنوبية ،القانون والنظام و�أب��رز �صور موت الذاكرة يف الن�ص� ،صور ال�صمت
البد �أن يحرتما...ال ميكن �أن نرتك جماال للفو�ضى، والن�سيان والت�ضليل التي يفر�ضها قانون القوة على
للن�شاز ،،،عز الدين مزهو بوقع كالمه� ...أقولها لكم تاريخ من�سي للأ�صوات واجلماعات واخلطابات التي
ال تفرحوا لأع��داء الوطن ...ان�صتوا ب�رصاحة �إنكم ال تنتهك «نظام حقيقته» وخطوطه احلمراء.
تفهمون �شيئا يف و�ضع البالد� ،إنكم كلكم �أجانب ،ل�ستم يف حفرياته احلكائية يتجه ال����سرد �إىل �أب��ع��د من
على اطالع بخبايا الأمور ،عز الدين يختنق يف نقيقه، ت�شخي�ص املا�ضي ،حني ي�ستعيد حمكي ال�ضحايا
ا�سمعوا �إين �شخ�ص ي�ساري االجتاه ،يف �شبابي كنت طباقيا( )2يف مواجهة حكاية ال�سلطة ،بحيث يورط
�شيوعيا منا�ضال �أنظروا �إذن� ،أجل هناك دائما بع�ض حكاية ال�سلطة يف م�أزق مواجهة �ضحاياها ،يفر�ض
االن��زالق��ات كما يقال عندكم� ..إننا بلد دميقراطي، على �رسد ال�سلطة �أن يواجه تاريخه الأ�سود ،تاريخ
�شاهدوا البلد العربي الوحيد الذي ميلك حزبا �شيوعيا الر�صا�ص وال���دم كما ت��روي��ه �أ���ص��وات ال�ضحايا،
م�سموحا به �رشعيا..الناطق الر�سمي املحرتم ،املتنكر بو�صفه �رسدا بديال مت�شككا ،ولي�س كما ترويه الرواية
التائه يف دروب الطموح ،يطفو حائرا على �سطح الر�سمية ،التاريخ الأوحد احلقيقي .وبالتايل تكت�سب
�أقواله�( ).ص)25 �إ�سرتاتيجية ال�رسد ديناميتها يف خ�ضم �رصاع قوى
121 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
كلمات تندفع ،تت�صادم ،مل يكن يعرف �إن كانت ت�صدر عرب �إ�سرتاتيجية البارودية يتم هدم خطاب ال�سلطة،
عن ذاكرته �أم كان يتلفظ بها الآن لتوه)(�ص)31 بت�شخي�ص املفارقة ال�ساخرة بني اخلطاب وعنف
�أ���ص��داء و�أ���ص��وات جمهولة امل�����ص��در ،على �إي��ق��اع الواقع ورعبه ،بحيث يحلق اخلطاب مزهوا ب�أكاذيبه
الالمتوقع تقتحم الذاكرة ،فتتدفق �سيول احلكايات يف واق��ع ال يوجد �سوى يف خياالت الناطق با�سم
وال�صور ،متجاوزة حدود الأزمنة والأمكنة .ب�سبب ال�سلطة ،يف حالة �إنكار �ساخرة .ويف الوقت الذي ت�سعى
ذلك ،ال حت�رض الذاكرة يف الن�ص كمجرد م�صدر للحكي فيه حكاية ال�سلطة �إىل �إنكار روايات متعددة للتاريخ
بل كرافد للتخييل ،،ذلك �أن �شكل ا�شتغال الذاكرة يف و اال�ستحواذ بحق متثيل احلقيقة ،وتفعل ذلك من �أجل
الن�ص يخلق تخييال من درجة ثانية ،حيث تعتمد هذه ال�سلطة الهوياتية بتعبري �أدورنو( )4كالنظام والقانون
الذاكرة على خطاب الهذيان يف ت�شكيل �صورها ،وهذا وال��وط��ن ،ف���إن اال�ستنطاقات والتفكيكات
ما يجعل ال�رسد يت�شظى يف عنف اخلطاب الهذياين، يف خ�ضم اجلديدة املنبثقة يف حكايات ال�ضحايا،
ويتلون بال�سمات ال�شعرية االنتهاكية التدمريية املواجهة تخ�ضع هذه املزاعم واالفرتا�ضات جلدلية
خلطاب الهذيان ،وبذلك تتحول الذاكرة الهذيانية �إىل �سلبية تهكمية تقوم بتهجينها و�أ�سلبتها.
�آلية ا�ستطيقية خللخلة ن�سق احلكاية وتعتيم مرجعيتها ميكن قراءة يف خ�ضم هذه املواجهة ميكن قراءة حكايات
وتذويت اخلطاب. حكايات ال�ضحايا على �أنها ترخي�ص( )5لل�ضحايا
يف �سياق احلكي الهذياين يتدفق �إطار احلكاية �إىل ب�رسد تواريخها املن�سية� ،آن لها �أن تتكلم و�أن
ال�ضحايا
�أجزاء مت�شظية من ال�صور والأ�صوات تتدافع يف �إيقاع ت�سمع �أ�صواتها .وعرب هذا الرتخي�ص ين�شئ
عنيف ،منفلتة من قيود اخلطية .وبذلك يقوم اخلطاب على �أنها التخييل ذاكرة م�ضادة للذاكرة الر�سمية ،هي
ال��ه��ذي��اين بوظيفة تفكيك ن�سق احلكاية وتغريب ترخي�ص ذاكرة ال�ضحايا املهم�شني ،يف مقابل ذاكرة
�صورها ،حيث تتدفق على �إيقاع ارت��دادات داخلية اجلالد.
يخلخل �صالبتها (ارتدادات على �شكل �أ�صداء بعيدة) لل�ضحايا ذاكرة منبثقة من الهام�ش ت�ؤ�س�س تواريخ
(�ص.)38 ب�سرد جديدة ،بديلة لتاريخ القوة املنت�رصة ،هي
ال متثل الذاكرة الهذيانية� ،إذن ،مبد�أ منظما لوحدة تواريخ العدالة واحلقوق .ي�ؤ�س�س �إذن ،هذا
احلكاية ،بل �أداة تفكيك للإطار ،تقطع اخلطية ب�إحداث ال�صوت ال�صادر عن جماعة منبثقة على
تواريخها
انعطافات وفجوات المتوقعة يف م�سار احلكي .وهذا املن�سية هام�ش نظام القوة ،قوته االنتهاكية الرمزية
ما ينزع عن احلدث طابعه املرجعي ،بت�شظيته �إىل م��ن �إع���ادة بناء خطاب م�ضاد انتهاكي
�صور �شعرية ازدواجية دينامية (يتوقف احلكي على مت�شكك تهكمي يقو�ض مزاعم نظام احلقيقة
حافة الالمتوقع ،قريبا بعيدا ،م�سافة بال قيا�س ،عقد الذي حتتمي به ال�سلطة يف ت�سويغ عنفها.
خيوط مت�شابكة ،توافقات بال �آثار ،كريات مغلقة على
حفيف احلياة واملوت على املائدة) (�ص.)61 تفجري الذاكرة:
وبذلك ت�شتغل الذاكرة الهذيانية يف ن�ص (�أيالن �أو ت�رسد حكايات ال�ضحايا ،عرب حفريات ذاكرة مقتحمة
ليل احلكي) يف اجتاه �شعرية احلكي وتغريب املتخيل ب�أ�صوات و�أ�صداء الآخرين� .أ�صداء موغلة يف املجهول،
بتك�سري �إط��ار ال�صورة ،حيث تت�شظى احلكاية �إىل تنبثق من �أعماق الالوعي املجهول (ر�أ���س��ه يطن،
�أ�صوات و�أ�صداء متداخلة يف بوتقة زمن داخلي جواين مل يكن يعرف �إن كان حلما� ،أم ال� ،أ�صوات تتحدث
ا�ستبطاين يجرد احلكاية من مركزيتها�( .أ�صوات ب�صوت خفي�ض ..هل كان يحلم ،هو �أم �شخ�ص �آخر...،
122 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
(يفتح حقيبته بت�أن ويخرج منها كنا�شه ال�صيني، متداخلة من هنا وهناك ،تتمازج خارج �أي مركز).
يفتحه على ال�صفحة التي كانت الفو�ضى ،والغليان، (�ص)13
واال�ضطرابات ،والتواءات الكتابة قد زعزعت بيا�ضها �إن ت�شكيل الذاكرة بهذا املنحى التخييلي يف �سياق
الهادئ .كان قد اخرتع كتابة املنحول ،كان يعتقد ا�ستطيقي ين�صهر فيه ال����سرد بالهذيان واحللم
هذا ،ما يتمناه ،كان يريد حمو الآثار ،قلب الثوابت، واال�ستيهام ،يخلق �صورا حكائية دينامية ملتب�سة،
التلذذ بقلب امل�سافر الغريب ،ال�ضياع و�سط ذلك التيه حتتفي با�ستعارات ال�سدمي والتيه ،وتنزاح بال�رسد
الهائل ،ال�ضخم الالمتوقع� ،سيالن غريب حلكي ال نحو التبا�سات الغرابة ،بحيث يرتتب عنه على م�ستوى
ت�ستوعبه الذاكرة�( ).ص)138 الرتكيب ال�رسدي هيمنة ال�صورة ال�رسدية املت�شظية
ما من ن�سق ي�ستوعب تدفق الهذيان .يتعلق الأمر �إذن التفكيكية على اخلطية ال�رسدية الكرونولوجية .وال
بذاكرة هذيانية يف حالة (انفجار من الداخل) تتحرك ميكن �أن يف�رس هذا الت�شكيل �إال يف �إطار ت�صور ملفهوم
يف اجتاه �أفق الالمتوقع ،ال متلك حنكة امل���ؤرخ يف الكتابة لدى امل�ؤلف عمران املليح يعترب (التخريب
التوثيق .فاخلطاب الهذياين يف الن�ص ،على نقي�ض يكمن يف حركة الكتابة ذاتها ،حركة املوت .لي�ست
�أوه��ام «املو�ضوعية التاريخانية» التي يتقنع بها الكتابة م��ر�آة� .إنها مواجهة وج��ه جمهول) .وميثل
امل����ؤرخ ،يه�شم وح��دة احلكاية ،ويخلخل �إط��اره��ا الهذيان حالة ق�صوى لفعل التخريب ،ذلك �أنه يورط
املرجعي ،لأنه ي�ستبدل الت�أريخ باال�ستبطان الذي الذاكرة يف حالة انفجار من الداخل .وت�أكيدا على
يعمل على جتريد احلكاية من زمنيتها اخلارجية ،عرب املنحى الكارثي لفعل الكتابة ،يفتتح امل�ؤلف الن�ص
اال�ستغراق يف جوانية ال�شخو�ص ،وي�شظيها �إىل �صور بعتبة حتتفي بجماليات الهذيان (الهذيان هو املك�سب
�شعرية م�ضيئة للكينونة ولي�ست «عالمات للواقع» امل�شرتك لكل الب�رش ،كل ميكنه �أن ينهل منه بدون �إكراه
(حكي يتخذ �شكله يف جمال مل�ؤه الق�سوة وامل�أ�ساة. جلميع ما يعتربه مفيدا .وال ينبغي لنا �أن ن�أ�سف على
كان يلم به توتر كبري وهو ير�سم كتابته املت�شنجة انعدام وحدة ظاهرة يف عمل من هذا القبيل :فالوحدة
على �صفحات دفرته الأحمر ،وحده اال�ستبطان قادر العميقة حلياة ما تبقى دوما م�ستع�صية على الإدراك،
على جتريد ما يعتربه املرء عالمات للواقع ،م�ؤ�رشات وهي يف الواقع �أجنع كلما بدت حمتجبة�( ).ص)7
ظاهرية للبداهة واحلقيقة ،م�سعى فريد :الكتابة موت توظف الرواية �إذن ،اخلطاب الهذياين ك�إ�سرتاتيجية
مطلق وتام لكل �شيء خارجها ،موجة تنطفئ على تخريب ملنطق الوحدة و�شعرية امل��ر�آة ،يتيح لل�رسد
حافة احلياة عندما يدفع بها اليم العاتي املقبل من االن��زي��اح ع��ن �سطوة الوثائقي والأت��وب��ي��وغ��رايف،
الأفق ،نور ال يفنى�()....ص)14 والت�شكل كتوليف (كوالج) ل�شبكة من ال�صور ال�شذرية
هكذا ما �إن يقتحم الهذيان الذاكرة ،حتى يتفكك �إطار والأ�صوات الدينامية خارج �أي مركز ،تقتحم �إطار
احلكاية ،وتتال�شى عالمتها املرجعية يف �سيل ال�صور ال�رسد مه�شمة له �إىل �صور مت�شظية ،يتداخل فيها
املت�شظية للحكي الهذياين ،بحيث ميكن �أن نقرر ب�أن التخييلي ب��ال��واق��ع��ي ،وال��ت��اري��خ��ي ب��الأ���س��ط��وري،
ما مييز احلكي يف �سياق اخلطاب الهذياين هو «ذوبان واحلكائي بال�شعري.
ال�صالبة( .»)6الن�سق يتفكك ،واحلدود تتال�شى .كل ما يحقق اخلطاب الهذياين هذه االرجتاجات والت�صدعات
هو �صلب يذوب (نراك تطلق العنان لهذيان غريب، يف ن�سق ال�رسد عرب نظام انزياحات ،تفجري احلكاية من
تهيم يف هالة القدرة على الر�ؤيا و�أنت وحدك الذي الداخل لتحل الالخطية حمل اخلطية ،وال�شذري حمل
تن�سب هذه القدرة لذاتك ،فالأفكار ال تعني مثل �صخور املت�صل ،والغرابة حمل الألفة ،والكاو�س حمل النظام
123 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
مع كل �شخ�صية تظل احلكاية عر�ضة الحتماالت غري جرانتيكية� ،أنهار ،جبال ،نباتات� ،أو م�آثر متوارية
متوقعة يف الت�شعب �إىل م�سارات متداخلة ،تنبثق عنها حتت الرمال ،ثم تتعمد خلط كل �شيء ،كما تفعل ،حبة
م�سارات �أخرى ،وهكذا �ضمن دوامة دائرية ت�ستنزف حقيقية� ،أو تت�سبب علم النباتات واحلفريات يف �أكرب
الذاكرة .ت�شعب ال�صريورة �إذن هو ما مييز احلكي يف فو�ضى ذهنية)(�ص.)48
«�أيالن �أو ليل احلكي» ولي�س وحدة النموذج وانغالق
الن�سق .وكما و�ضحنا ،متثل الذاكرة يف الن�ص ب�ؤرة �شعاب احلكاية:
تفكيك ،ولي�ست نقطة �إر���س��اء مرجعي ،بحكم �أنها بفعل الطبيعة الالخطية لذاكرة الن�ص التي تخلخل
ت�شخ�ص يف حالة انفجار ي�ستدعيها اخلطاب الهذياين. وح���دة احل��ك��اي��ة وجتان�سها ،ال ينمو احل��ك��ي وفق
يف �سياق ه��ذه املتاهة كل �شخ�صية هي م�رشوع من���وذج ع�ضوي ،متمحور ح��ول حكاية مركزية.
حكاية مت�شعبة ،لأن كل حكاية ت�شخ�ص يف �سياق ففي تدفق �صور الذاكرة تنطلق احلكاية ،ثم تت�شعب
الهذيان تتفكك �إىل �أ�صوات و�أ�صداء متداخلة خارج بفعل االنزياحات احلكائية املفاجئة التي يتيحها
�أي مركز ،تتقاطع وتفرتق بانبثاق حكايات �أخرى االنبثاق الالمتوقع للهذيان ،حيث ينتقل ال�رسد من
يف دوامة الهذيان .وبذلك يحول الت�شعب املفرط حد �شخ�صية �إىل �أخرى ،مد�شنة حكاية جديدة منبثقة من
املتاهة الهذيانية ،دون �إقامة �أي مركز ن�صي �سياق احلكاية الأوىل .وينتقل املنظور من �شخ�صية
(يتكلم ،يكلمه� ،صوته يتمدد �أ�صداء �سيول ،هاويات �إىل �أخ��رى ،ومن زمن �إىل آ�خ��ر ،وغالبا ما تتداخل
تنفرج فج�أة...يتفكك الإط��ار ،تفلت اللوحة طليقة، الأ�صوات ،تتقاطع ثم تنف�صل ،يف �صريورة ت�شعبات
تت�ضاعف ،تتعدد ،لعبة مرايا تتفرق� ،صور تهوي مثل متولدة �ضمن حركة دائرية ال تنتهي (�أ�صوات .حياة
�أ�سهم يف ليل الأزمنة ،ليل �صور جنمية ،نقطة التما�س، حتكي ذاتها ،وترددها .ت�ستدير الأحداث مثل حماجر
الك�رس�( ).ص. )61 العمي .ال �شيء ينتهي ،ال �شيء يتوقف �أبدا�().ص.)38
والنتيجة �إطالق �صريورة حكائية دينامية تتزاحم ب�سبب هذه الدوامة الدائرية ،غالبا ما تتعقد بنية
فيها احلكايات وتنتهك احل��دود ،متقاطعة ،مولدة الت�شعب �إىل حدود التيه وال�سدمي ..يف الف�صل الأول
ف�ضاء بينيا ،هو الف�ضاء الثالث بتعبري هومي ،ف�ضاء يبد أ� احلكي ب�رسد حكاية عبد الكرمي حول مغامرة بناء
حدودي يتمف�صل فيما بني ال�شفرات والتخوم ،ي�صبح مركب .ثم تت�شعب عن حكايته حكاية امللقب (�سبع
�سريورة من التفاعل الرمزي بني الهويات ،والتواريخ، �صولدي) .ثم يتولد عن هذا الت�شعب الأول ت�شعب ثان
بني الذاكرة واحلا�رض .وميزة هذا الف�ضاء الثالث، تنبثق عنه حكاية البحار (دون فريناندو) ،وتت�شعب
أ�ن��ه يرتجم جغرافية تخييلية منفتحة على تالقح عن هذه احلكاية املنبثقة حكاية �أخرى هي حكاية
العوامل والهويات املختلطة ،تر�سخها �صريورة الرحيل �أحمد الريفي ،وت�ستمر مطرقة الت�شعب يف احلفر لتنبثق
والهجرة التي حتكم م�صائر ال�شخ�صيات ،وهو ما حكاية مغايرة متاما ،هي حكاية القرد �شيتا ،ثم ينتقل
ي�سمح بتفادي جغرافيات الهويات القاتلة ،لفائدة احلكي �إىل حكاية احلاج امل�شعوذ� .صريورة ت�شعبات
هويات خمتلطة وتواريخ متوا�شجة. حكائية م�صحوبة بانبثاقات وانتقاالت فجائية
هذا املجاز اخلا�ص ب�صور االختالف الثقايف جت�سده حتطم �إطار احلكاية وتفتح ال�رسد على منعطفات غري
يف الن�ص ���ص��ور اجل��م��اع��ات االن��زي��اح��ي��ة�،أي تلك متوقعة ،والتواءات عر�ضية حتطم قانون اخلطية.
اجلماعات التي تت�شكل هويتها «بينيا»على احلدود هذه ال�صريورة املعقدة،هي ما ي�سوغ لنا القول ب�أن
ويف طرق الهجرة ويف زمنية الهجنة الثقافية ،ولي�س املتاهة ال�رسدية يف الن�ص هي نتاج الت�شعب املفرط .
124 نزوى العدد / 74ابريل 2013
درا�سات ..درا�سات ..درا�سات
s
s
s
هكذا ينق�ش الن�ص عند عمران املليح عالماته يف يف ب�ؤر الأ�صول الثابتة ،تتكلم لغة خليطة( ،عبدالكرمي
الذاكرة ويف ال�سياق الثقايف عرب ت�شفري مزدوج ،بحيث ك��ان يتكلم لغة خليطة) هي مزيج من اال�سبانية
ال يكتفي با�ستعادة املرجعيات ،بل يتدخل عرب هذه ولهجة البحارة (�ص ،)9تنتهك اللغة املعيار (اللكنة،
اللعبة املزدوجة ،ليفر�ض �إ�سرتاتيجية ال�رسد ك�أ�سا�س النطق املعدي ،العربية تنطق من خالل تلك الفرن�سية
ال�شتغال املتخيل .وميزة هذه الإ�سرتاتيجية �أنها تقوم امل�ستعارة ،تعريها بنربات ال تقلد،من العامل الآخر).
على تقوي�ض خطية ال�رسد ،حيث يبنى ال�رسد على خط هذه اجلماعات االنزياحية ت�شخ�صها �أي�ضا �صورة
املواجهة مع ذات ا�ستيهامية ،تنت�شي بفعل التخريب املهاجر الغريب يف الن�ص ،و�صور البحارة العابرين
باملعنى التفكيكي ،حني جتعل من حمكي الهذيان للحدود ،يف حياة م�ؤقتة على املوانئ ،متحررة من
�إ�سرتاتيجية خطابية لتقوي�ض منطق احلكاية، ثقل الإقامة الدائمة الذي تفر�ضه حياة اال�ستقرار،
والتعتيم على �أ�صولها .فالأمر يتعلق يف ن�ص « �أيالن وجغرافيات الهجنة الثقافية التي تتعاي�ش فيها
�أول ليل احلكي» ب�صريورة حكائية مه�شمة،تتدفق من ال�سالالت والأعراق (مغاربة ،ا�سبانيون ،برتغاليون،
ذاكرة هذيانية متفجرة بالأ�صداء والأ�صوات املرت�سبة فرن�سيون ،م�سلمون ،م�سيحيون ،ي��ه��ود) .هويات
من ما�ض بعيد ومن �أعماق جمهولة .ولذلك ي�سم فعل منفتحة ومتفاعلة يف زمنية العي�ش امل�شرتك
الت�شوي�ش ذاكرة ال�رسد بانزياحاته وفجواته .فما من والتواريخ امل�شرتكة ،تتعاي�ش بطقو�سها وتراثاتها
حدث ي�ستعاد يف خطيته �أو �شفافيته ،يف �سياق �صورة وثقافاتها و�أ�ساطريها (��شرج��ام��وج ،غورديو�س،
الكاو�س املطلقة التي ت�شظي زمنية ال�رسد. مردو�شي ،املجذوب ،احلالج) ون�صو�صها الت�أ�سي�سية
(ال��ق��ر�آن ،الن�ص املقد�س) وعاداتها و�أعيادها يف
الهوام�ش زمنية االختالف ،حيث تخترب الذات الزمن كـ«حلظة
� - 1إدمون عمران املليح� :آيالن �أو ليل احلكي ،ترجمة علي تيزلكاد،
مونادية» بتعبري فالرت بنيامني (منتزعة من م�سار
دار توبقال للن�رش.1987 ،
-2نحيل هنا على مفهوم القراءة الطباقية عند �إدوار �سعيد ،الثاقفة التاريخ املتجان�س ،و«�إقامة ت�صور للزمن على �أنه
والإمربيالية ،ترجمة كمال �أبو ديب ،دار الآداب� ،1997،ص.101: زم��ن «الآن»(( ))7الأ�شخا�ص ،الأ�شياء هم اللحظة،
-3هومي.ك .بابا :موقع الثقافة ،ترجمة ثائر ديب ،املركز الثقايف وال�شيء غري هذا�( ).ص.)9
العربي� ،2006 ،ص.41:
� -4إدوارد �سعيد :الثقافة والإمربيالية� ،ص.319:
بقوة االنتهاك الرمزي لفعل ال�رسد ،تهاجر احلكاية
ن�ص املداخلة التي قدمت يف الندوة الدولية (�أدب الديا�سبورا املغربي) يف زمنية االختالف الثقايف ،عابرة للحدود بني
�ضمن مهرجان فا�س املتو�سطي للكتاب .2012/04/24 الثقافات وامل��رج��ع��ي��ات ،لتعي�ش حياة م��زدوج��ة،
Gyatri Chakravorty Sspivak: Can the Subaltern Speak, -5
ولتخترب انزياحات ا�ستطيقية وثقافية ،من الذاكرة
in The postcolonial studiers reader,Routledge,1995, Lo -
.don and New York, p:25 �إىل الكتابة ،ومن الأ�صل �إىل الهجنة ،ومن الإقامة �إىل
-6مارجريت روز :ما بعد احلداثة ،ترجمة �أحمد ال�شامي ،الهيئة الهجرة .ويف �صريورة هذه االنزياحات عرب الثقافية
امل�رصية العامة للكتاب� ،1994،ص.103: تخلخل �سلطة املركز ،وتتحرر من �سيا�سات الهويات
-7هومي .ك .بابا :موقع الثقافة ،ترجمة ثائر ديب ،املركز الثقايف
العربي ،الطبعة الأوىل� ،2006 ،ص.43:
القاتلة (يعرب الن�ص حيث كان يحاول حب�سه ،انف�ساخ
التمركز ،هجرة �إىل �أجواء �أخرى) (�ص)46
عن جتربة الروائيني والروائيات يف ي�صادف هذا العام 2013م مرور ()86
كتابة الرواية ،وارحتال يف ق�صة حياة عام ًا على �إ�صدار �أول نتاج �رسدي
الروائي اليمني ال�شهري حممد عبد الويل يتمثل يف رواية «فتاة قاروت» عام
بني ثالث دول وتفا�صيل مل تن�رش 1927م للكاتب �أحمد ال�سقاف ...وخالل
�سابق ًا عن حياته ورواياته ،و�أخرياً الـ 86عام ًا املا�ضية �صدرت العديد من
ببلوجرافيا بالإ�صدارات الروائية� ،إىل الروايات اليمنية حتى تعدت �سقف
ت�ضاري�س و�أروقة هذا امللف: الـ( )136رواية.
127
ال ّت َب ِا�ش ُري الأَ ْو َ
ىل
زَخَ ُم ال ّروَايَة ال َي َم ِنيَة و�إ�شكَالِياتهَا
راه ْيم �أبو َط ِالب
�إ ْب ِ
�شاعر واكادميي من اليمن
تت�صدر الرواية يف امل�شهد العربي اهتمامات الك َّتاب والباحثني ملا لها من ح�ضور
يتفق مع تغريات املجتمع العربي وما مير به من حتوالت كربى على امل�ستوى
ال�سيا�سي والثقايف واليومي ،وتغدو الرواية �أكرث الأ�شكال الإبداعية مقدر ًة على
ذلك الر�صد واملتابعة والتمثيل ملا لها من �إمكانات وا�سعة يف ا�ستيعاب العنا�رص
ال�رسدية والر�ؤى الفكرية ومرونة التعامل مع اللغة بكافة م�ستوياتها الداللية
زخم حادث ومتحقق ير�صده واملعجمية وال�شعرية ،ومن هنا ف�إن احلديث عن ٍ
هذا اجلن�س الأدبي يف ركن من �أركان الوطن العربي ،وهو اليمن ،وما يعتمل ذلك
الزخم من �إ�شكاالت و�أ�سئلة جوهرية وعميقة هو ما ت�سعى �إىل تقدميه هذه القراءة
املوجزة وال�رسيعة ،ولك َّنها ت�سعى �إىل التكثيف والإملاح �أكرث من حر�صها على
التف�صيل والإطناب ملا قد يقت�ضيه املقام ويدل عليه هذا العر�ض..
128
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
اهتمام الك َّتاب ،ولكنها متثل مرحلة مهمة يف طريق عبده ،وهي ُمدد زمنية متفاوتة – كما تالحظ –
الت�أ�سي�س لهذا الفن الروائي ،والذي تبدو خطوة حممد ـقد ُم هذا الفن على فتور وتباعد ،وتعالج من حيث
ُت ِّ
عبد الويل وجتربته الروائية هي الأكرث قدرة ومت ّكن ًا امل�ضمون ق�ضايا �إ�صالحية ،واجتماعية عالية
يف هذه املرحلة ملا ميتلكه هذا القا�ص من �أدوات النربة من حيث املبا�رشة وال�سطحية.
خا�صة وموهبة حقيقية جعلته يعالج مو�ضوع ًا
الت�أ�سي�س:
اجتماعيا يف غاية اخلطورة يف حياة اليمني هو
مو�ضوع الهجرة واملو َّلدين – الذين يكونون من تبد أ� هذه املحطة زمني ًا مع بداية 1960م ،ومتتد
�أب ميني و�أم حب�شية حتديداً -يف روايته « ميوتون حتى �أوائل ال�سبعينيات ،وهي حمطة مهمة جداً
غرباء «(1971،)11م ،ويقدم روايته يف �شكل فني مر
على امل�ستوى الوطني ،ملا احتوته من �أحداث َّ
حمكم ور�صني ،ميثل بالفعل ال�شكل وامل�ستوى الأكرث بها ال�شعب اليمني �أبرزها قيام الثورة املجيدة
ن�ضـجا وت�أ�سي�س ًا للخطاب الروائي يف هذه املرحلة. يف ال�شمال 1962م ،واال�ستقالل عن امل�ستعمر
يف اجلنوب 1967م ،وتثبيت قواعد ولبنات
التجني�س: اجلمهورية ،وهذه املحطة على م�ستوى اخلطاب
امتدت خالل الفرتة(1970م1980-م) حيث الروائي كان فيها حماولة الت�أ�سي�س لهذا الفن
ا�ستقرت فيها الر�ؤية الفنية – نوعا ما – وثبتت الأدبي املهم ،و�إن كانت ثمرة ذلك مل ت� َؤت ب�شكل
كجن�س �أدبي قائم بذاته يف وعي ك ّتاب املرحلة وا�ضح �إال يف ال�سبعينيات .لكن تظل حماولة حممد
القا�صني من هذا الفن الروائي
ّ وممار�ستهم ،ومتكن حممود الزبريي (�أبو الأحرار� ،شـاعر الثورة الكبري،
من خالل تكرار التجربة ،والقراءات ،واملعارف تويف 1965م) يف روايته «م�أ�ساة واق الواق»()6
العامة ،واملتابعة ،واالنفتاح على الرواية العربية 1960م ذات �أثر وا�ضح يف �إيجاد فن روائي ،و�إن
والعاملية ،وظهرت �أ�سماء �أخل�صت لهذا الفن كان ال يزال مت�أثراً – �إىل حد كـبري – باملوروث
وطورته نذكر من ذلك مثال :حممد عبدالويل ،عبد العربي الديني ،وبخا�صة ق�صة الإ�رساء واملعراج،
الكرمي املرت�ضى ،حممد حنيرب ،ح�سني م�سيبلي ،عبد ور�سالة الغفران للمعري ،وحمم ًال بالق�ضية الوطنية
الوهاب ال�ضوراين ،ح�سني �سامل با�صديق ،حممود ورموزها وم�شكالتها ،ويربز فيها امل�ضمون
�صغريي ،عبد اهلل �سامل باوزير ،زيد مطيع دماج ال�سيا�سي بنربة �صارخة يغلب �أحيـان ًا كثرية على
(وروايته الرهينة منوذج نا�ضج للرواية اليمنية، الفن والبناء الروائي لكنها تظل حماولة للت�أ�سي�س.
وقد قدمت �ضمن �أف�ضل مائة رواية عربية ،ون�رشت تتبعها رواية «مذكرات عامل»(1966 )7م لعلي
يف م�رشوع «كتاب يف جريدة» الذي �أ�رشفت عليه حممد عبده مبا حتمله هذه الرواية من م�ضمون
اليون�سكو) ،حممد مثنى� ،سلوى ال�رصحي ،عبد الطبقة العاملة وهـمومها ،وا�ستغالل الأغنياء
املجيد قا�ضي ،يحيى على الإرياين� ،سعيد عولقي جلهود الكادحني ،وي�أتي امل�ضمون االجتماعي �أكرث
وغريهم ،ا�ستمر بع�ضهم وتوقف البع�ض الآخر مما و�ضوح ًا يف روايتي « :القات يقـتلنا «(1969 )8م،
خ�رس ب�سببه امل�شهد الروائي �أقالم ًا كانت قد بد�أت و»�ضحية اجل�شع «(1970 )9م لرمزية عبا�س
يف الطريق ال�صحيح فني ًا. الإرياين ،ورواية «م�صارعة املوت»(1970)10م
لعبد الرحيم ال�سبالين ،وتبدو فيها �صورة املجتمع
التجديد: وق�ضايا املر�أة امل�ستلبة ،والزواج غري املتكافئ،
وهي حمطة الت�سعينيات وما بعدها حتى نهاية والث�أر وغريها من امل�ضامني �أغلب من حيث
130 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
لدى كتاب ميتد ح�ضورهم -عي�ش ًا وكتاب ًة – �إىل العقد الأول من القرن احلادي والع�رشين ،و�إن
�أجيال �سابقة لكن ق�ص�صهم مل تخرج �إال يف هذه كان التجديد -يف هذه املحطة – حم�سوب ًا
املرحلة. وحمدوداً يف بع�ض حماوالت القا�صني ال�شباب،
ومل يتحول �إىل ظاهرة غالبة – حتى نكون �أكرث
ثاني ًا :امل�ضامني العامة للخطاب الروائي:
دقة يف هذا الت�صنيف ،وذلك فيما تربزه بع�ض
امل�ضامني الإ�صالحية: كتابات نبيلة الزبري يف روايتها «�إنه ج�سدي»()12
ذات �أداء مبا�رش ونربة خطابية عالية كما يف 2000م ،ووجـدي الأهدل يف «قوارب جبلية
رواية»�سعيد» للقمان ،ورواية «م�صارعة املوت» «( ،)13و«الوم�ضات الأخرية يف �سب�أ»()14
لل�سبالين ،ورواية «�ضحية اجل�شع» لرمزية عبا�س 2002م ،و«فيل�سوف الكرنتينة»2007م ،و«بالد
الإرياين – كما �سبقت الإ�شارة. بال �سماء»2008،م ،وحبيب عبد الرب �رسوري
يف رواياته« :امللكة املغدورة»(1999)15م،
امل�ضمون ال�سيا�سي و«دمالن»(2002)16م ،و«طائر اخلراب» 2005م،
تزامن بع�ضـه مع حركة التحرر الوطني من الإمامة وهند هيثم يف « ملوك ل�سماء الأحالم والأماين
يف ال�شمال ،كما يف رواية م�أ�ساة واق الواق 1960م «( )17و«حرب اخل�شب»(2003 )18م ،وعبد النا�رص
للزبريي� ،أو تلك الروايات التي كتبت فيما بعد لكنها جملي يف «رجال الثلج»(2000 )19م ،و�سامي
تعالج نف�س امل�ضمون ال�سيا�سي كما يف رواية ال�شاطبي يف «كائنات خربة»( ،)20و«للأمل موا�سم
«�صنعاء مدينة مفتوحة»(1978 )22م ملحمد �أخرى»(2003 )21م ،وكذلك �أعمال �أحمد زين يف
عبد الويل ،و« قرية البـتول «(1979 )23م ملحمـد «ت�صحيح و�ضع»2004م ،و«قهوة �أمريكية» ،ونادية
حنيـرب ،و«الرهينة»(1984 )24م لزيد مطيع دماج، «حب لي�س �إال» ،و«عقيالت» ،وب�سام
الكوكباين ،يف ٌّ
ورواية «زهرة النب»(1998 )25م لعلي حممد �شم�س الدين ،يف «الدائرة املقد�سة» و«هفوة» ،وعلي
زيد ،ورواية «�صنعاء الوجه الآخر»( )26لإبراهيم املقري ،يف «طعم �أ�سود ..رائحة �سوداء» ،و«اليهودي
�إ�سحاق ،وكذلك ما كان منها يعالج ق�ضية اال�ستقالل احلايل» ،وحممد الغربي عمران يف «�صحف �أحمر»،
من اال�ستعمار الربيطاين و�سطوة ال�سالطني يف و«ظلمة يائيل» ،وغريها.
جنوب اليمن ،كما يف رواية «مرتفعات ردفان»()27 وجاءت حماوالت التجديد هذه على م�ستوى اللغة،
1976م حل�سني �صالح م�سيبلي ،ورواية «طريق واالن�شغاالت بال�شكل وامل�ضمون يف حماولة
الغيوم»(1977 )28م حل�سني �سامل با�صديق اخلروج عن الرتاتبية املوروثة من بداية وو�سط
وغريها ،وتظهر املرحلة الفا�صلة يف حياة اليمنيني ونهاية ،ومن عقدة وحل ...الخ من تلك التقنيات،
�أثناء ح�صار ال�سبعني يوم ًا على �صنعاء يف عدد من وت�أتي حماوالتهم يف التجريب على ال�رسد والر�ؤيا
الروايات ،ولكنها ت�أخذ طابع ًا مركزاً وجوهري ًا يف والت�شكيل اللغوي لهذا اجلن�س الأدبي العميق .ومع
رواية «نهايات قمحية»(2003 )29م ملحمد عبد ذلك فثمة كتابات كثرية يف هذه املحطة متعلقة
الوكيل جازم ،وي�أتي الرتميز والفن يف عناقهما باملحطة ال�سابقة «حمطة التجني�س» �إن مل نقل
حول املو�ضوع ال�سيا�سي يف �أعمال الروائي وجدي بردها �إىل حمطات تقليدية موغلة ،من خالل عدم
الأهدل ،كما راوية «قوارب جبلية»(2002 )30م تطوير البع�ض لكتاباتهم و�آلياتهم ،وجنوح البع�ض
الرواية التي ُمنعت وجعلته مطارداً خارج الوطن الأخر �إىل الكتابة املال�صقة للواقع مال�صقة مر�آوية
لفرتة ،ورواية «حمار بني الأغاين»(2004 )31م، بعيدة عن الفن� ،أو اللجوء �إىل الكتابة ال�سريذاتية
131 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
وزهر»(1988 )40م ليحيى علي الإرياين تبني ورواية «فيل�سوف الكرنتينة»(2007 ،)32م،
�رصاع القيم بني املدينة والريف ،كما يتجلى فيها ورواية «بالد بال �سماء»(2008 )33م ،وجميعها
�صعود مناذج من الطبقة الو�سطى وتبلورها ،ويف تتعامل بذكاء �شديد ،وبتقنيات عالية مع املو�ضوع
«هموم اجلد قو�سم»(1988 )41م لأحمد مثنى ال�سيا�سي مبا ي�صل به �إىل الرمز ولكن لي�س على
�رصاع القدمي واجلديد وبيان الثوابت اجلميلة لدى ح�ساب الفنية التي تبدو عالي ًة يف كتاباته.
املجتمع التهامي حتديداً ،ويف «ال�صم�صام»()42
امل�ضمون االجتماعي
1993م ل�صالح باعامر تت�ضح خ�صو�صية
جمتمع ال�صيادين وهمومهم و�أفكارهم ،ويف عاجلت فرتات خمتلفة من الزمن يف اليمن احلديث
روايات�« :أحالم ..نبيلة»(1997 )43م ،و«�أركنها وق�ضايا �أبنائه وهمومهم ،وقد ظهرت هذه الروايات
الفقيه»(1998 )44م ،و«طيف والية»(1998 )45م حني ا�ستقرت الق�ضية الوطنية وثبتت قواعد الدولة
لعزيزة عبد اهلل معاجلات مل�شاكل املر�أة وعذاباتها احلديثة ،وبد�أ الإن�سان اليمني يبني حياته على
وهي تبدو ك�ضحية للحاجة واملجتمع القا�سي يف طريق اال�ستقرار وال�سالم ،ومن ذلك مث ًال عدد من
الأوىل ،وللجهل والتغرير بها من الرجل يف الثانية، الروايات التي تهتم ب�رشائح معينة من املجتمع
وت�أتي رواية «جمعة»( )46ليا�سني �سعيد نعمان، وتلتفت �إىل ق�ضاياهم امل�صريية كرواية «جممع
التي تتكون من ف�صلني اثنني حتكي ق�صة امر�أة ال�شحاذين»(1976 )34م لعبد الوهاب ال�ضوراين،
ا�سمها هو عنوان الرواية يف واقع اجتماعي ي�سوده وق�ضية الطبقة املثقفة ،والبحث عن فر�ص العمل
التخلف والنظرة الدونية للمر�أة. كـرواية «�سفيـنة نوح»(1981)35م لعبد اهلل باوزير،
وهموم جمتمع القرية كرواية «الإبحار على منت
امل�ضمون التاريخي ح�سناء»(1984 )36م حل�سني با�صديق ،وق�ضية
للرواية ذات امل�ضمون التاريخي ح�ضور �أي�ض ًا يف الهجرة وغربة اليمني على اختالف الزمن كروايات:
ثالث روايات هي« :ليلة ظهور �أ�سعد الكامل»()47 «ميوتون غرباء» ملحمد عبد الويل(-،وتعالج
1992م لأحمد قائد بركات( ،حوارية بني الراوي الغربة يف احلب�شة ،وق�ضية املولدين يف فرتة ما
و�أحد ملوك ِحمري القدماء بوحي من املكان حني قبل الثورة ،ومتثل عند جيل ال�شباب هذه الق�ضية
يزور الكاتب م�أرب ،ويقف �أمام �سدها ال�شهري، ملمح ًا ملح ًا يتناولها �سامي ال�شاطبي بر�ؤية نف�سية
وفيها ربط بني املا�ضي واحلا�رض) ،ورواية «ر�ؤيا تركز على الداخل لل�شخ�صية واملحيط االجتماعي
�شمر يرع�ش»(1997 )48م لأنور حممد خالد يف روايته «مذكرات مو َّلد طيب» 2006م)37(،
(وهي الرواية التاريخية التي تعالج تلك الفرتة ورواية «نحو ال�شم�س �رشق ًا»(1998 )38م ليحيى
ال�سحـيقة من تاريخ اليمن) ،ومثلها رواية «طريق علي الإرياين (وتعالج الغربة ال�سيا�سية مع ق�ضايا
البخور»( )49ملنري طالل( ،وهي تتحدث عن احلملة حديثة ملا بعد الوحدة) ،ورواية «رجال الثلج»
الرومانية على اليمن) ،ورواية «دار ال�سلطنة»()50 2000م لعبد النا�رص جملي (وتعالج غربة اليمني
1998م لرمزية عبا�س الإرياين( ،وهي تقدم تاريخ احلديثة يف �أمريكا من وجهة نظر عملية ،وجتربة
ال�سيدة بنت �أحمد ال�صليحي ملكة اليمن يف التاريخ كاتبها الفعلية).
الو�سيط و�إن كانت تخاطب النا�شئة) ،وت�أتي روايات و�أما رواية «�شارع ال�شاحنات»(1985 )39م
متعلقة بتاريخ اليمن يف حقباته القريبة ،وحياة ملحمد �سعيد �سيف فهي ت�صور �ضغوط املدينة
النا�س فيه يف روايات عبد اهلل عبا�س الإرياين الذي على املثقف وجفافها يف وجهه ،ورواية «ركام
132 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
املجتمع وتغرياته ،وي�صور حركة الفرد وعامله ي�شتغل على تيمة �إبراز التاريخ يف الفن والفن يف
الداخلي واخلارجي يف �إطار ذلك املجتمع املتحرك، التاريخ كما يف رواية «ال�صعود �إىل نافع»()51
وبنظرة ببليوجرافية(�)55رسيعة للإنتاج الروائي 2007م املعربة عن مرحلة حكم الإمام ون�ضال
خالل هذه الفرتة يت�أكد للناظر ما نذهب �إليه ب�أن الأحرار ،ورواية «الغرم»(2008 )52م ،ورواية
الرواية تعي�ش يف الت�سعينيات وما تالها حتى «مائة عام من الفو�ضى»(2009 )53م ،ورواية
اليوم �أخ�صب ع�صورها من حيث الكم والكيف مع ًا، «�سم الأتراك(2012 »)54م ،والتي يق�صد بال�سم
ونختلف مع ما يذهب �إليه بع�ض الدار�سني( )56ب�أن فيها (اجلنبية) اخلنجر اليماين الذي كان �سالح
الرواية يف هذه الفرتة نائمة بالقيا�س �إىل جن�س اليمنيني يف مواجهة هذه الدولة الكربى ويف ق�ض
�أدبي �آخر – له خ�صو�صيته ن�رشاً و�إبداعا من حيث م�ضاجعها عرب تواجدها القلق يف اليمن والذي
ال�سهولة والقدرة على الن�رش ال�رسيع والتعبري عن تناولته الرواية عرب �شخ�صيات الوالة وتناوبهم
روح الفرد �أكرث من روح املجتمع – ونعني به الق�صة يف �إدارة اليمن واحلمالت التي و�صلت �إليها وهي
الق�صرية ،والدليل على ما نذهب �إليه يت�ضح يف �أن وثيقة تاريخية مهمة حتتوي على قدر من الر�صد
�أكرث من ن�صف الإنتاج الروائي اليمني خالل عقد التاريخي والأحداث املعتمدة على �أر�ضية تاريخية
الت�سعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة قد بلغ واقعية.
�أكرث من ( )115رواية ،وهذا العدد ي�سجل ك ّفة راجحة
مت �إنتاجه خالل ن�صف قرن �أو يزيد .وفيها �إىل امل�ضمون العاطفي
ملا ّ
جوار ا�ستمرار امل�ضامني ال�سابقة من اجتماعية جاءت الروايات ذات امل�ضمون العاطفي عر�ض ًا يف
وعاطفية وغريها –كما �أ�سلفنا -يربز م�ضمون مهم اهتمام الروائي اليمني ،وقد نلمح الكثري من تلك
يتعلق بالتعاي�ش بني الأديان والثقافات ،و�إعادة امل�ضامني العاطفية تدور يف بناء عدد من الروايات،
النظر يف قراءة التاريخ وا�ستنطاق ق�ضاياه الأكرث لكن نادراً ما جند رواي ًة حتمل ذلك امل�ضمون عن
غرائبية كما يف رواية« :اليهودي احلايل»()57 كر ُ�س من �أجله بحيث يقوم بنا�ؤها وفكرتها
ق�صد �أو ُت ّ
2009م -احلائزة على جائزة البوكر العربية- وغايتها وقف ًا على امل�ضمون العاطفي ،ولعل ذلك
لعلي املقري ،ورواية «هفوة»(2011)58م لب�سام يرجع �إىل ت�صور لدى الكتاب –وذلك بال �شك ت�صور
�شم�س الدين ،والتي كانت �أكرث تركيزاً على مو�ضوع خاطئ– مفاده �أن َّ
احلب هو �آخر ما ميكن �أن يقف
العالقة بني م�سلمي اليمن ويهودها ،و�أدق �إ�شباع ًا لديه الإن�سان يف �سلم ال�رضوريات.
لتفا�صيله ال�صغرية يف ربط بني املخيال والتاريخ
ثالث ًا :عقود اخل�صوبة:
القريب ،وروايتي« :م�صحف �أحمر» 2009م(،)59
و»ظلمة يائيل»(2012 )60م – احلائزة على جائزة بعد قيام الوحدة اليمنية عام 1990م توافر للأدب
الطيب �صالح العاملية -ملحمد الغربي عمران ،ويف مناخ �إبداعي له خ�صو�صية متميزة من حيث احلرية،ٌ
هذه الروايات تعدد يف تناول مو�ضوع اليهود يف واالنت�شار ،و�إمكانية الن�رش ب�شكل �أو�سع ،وتنامي
اليمن ك�أقلية دينية ،وق�ضايا التعامل معهم ،ونظرة امل�ؤ�س�سات الثقافية املهتمة باحلراك الثقايف
املجتمع �إليهم ،وفيها يتحاور املخيال التاريخي والإبداعي ،هذا بالإ�ضافة �إىل املناخ ال�سيا�سي
والروائي �أكرث من الواقع ،ولع ّل هذا امللمح يف نظر واالجتماعي احلافل بالأحداث واملتغريات املختلفة
كتاب الرواية الأحدث يف اليمن يتعلق مبا �شاع يف والذي حتتاج �إليه الرواية -عاد ًة – لر�صد �أبعاده
ع�رص العوملة من مفاهيم حوار احل�ضارات ،وق�ضايا فن ير�صد �أزماتور�ؤاه ،فهي من حيث طبيعتها ٌّ
133 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
يف حتقيق كتابة �سريية بطريقة روائية ولكنها غدت التعاي�ش والتقارب بني الديانات –الأقليات منها
�أكرث عمق ًا وا�شتغاال على اللغة واملمنوع واملده�ش حتديداً -وحماولة اخلروج بهذه الق�ضية �إىل �أفق
بال قي ٍد �سوى قيد املوهبة وبال حدود �سوى حدود العاملية وبخا�صة فيما يتعلق ب�رشيحة كانت تعي�ش
الأفق املفتوح ،حيث غدت �شغال �شاغال لك َّتابها يف اليمن وما زالت ،ولها احرتامها يف ممار�سة
وا�شتغا ًال حقيقي ًا بتفرغ وا�سع لتحقيق املناف�سة حياتها وطقو�سها ب�شكل حمدد ،ولع ّل �أهم ملمح
احلقيقية للنماذج العاملية والعربية بتقنياتها عاجلته تلك الروايات هو املتمثل بق�ضية الزواج من
للو�صول بها �إىل ف�ضاءات �أعلى من حيث احل�ضور يهودية والعك�س ،وكيف رف�ضته العادات ،القبلية
والتم ّثل واملعاجلات الروائية ال�رسدية والفنية والدينية ،وكذلك يف املقابل العادات الدينية عند
واللغوية ناجتة عن الكثري من املثاقفة ووعي اليهود اليمنيني ،التي حترمه وجتعله يف حكم الزنا،
امل�شاركات اخلارجية والقراءات الوا�سعة يف املدونة كما تناولته روايات« :اليهودي احلايل» ،و«هفوة»،
الروائية برتاثها القدمي والقريب ،ومن هنا قد تتمثل و«ظلمة يائيل» والأخرية تتميز �إ�ضافة �إىل ذلك
�إ�شكاالتها هنا يف �أبرز مالحمها الآنية التي تتمثل ب�أنها تعالج فرتة مهمة من تاريخ جمتمع جنوب
يف �إ�شكالية �س�ؤال احلداثة ور�ؤية العامل وفق زمن �شبه اجلزيرة العربية ،منت�صف القرن اخلام�س
احل�ضارات املت�صارعة والثقافات املت�سارعة، الهجري ،حيث ا�ستدعى كاتبها التاريخ ،مركزا على
و�إ�شكالية التداخل بني ال�سرية الذاتية والعمل ال�رصاع الديني بني املذاهب ،ليدور �رصاع عنيف
املو�ضوعي الفني اخلال�ص واملقرتب �إىل ح ٍد ما من لل�سيطرة على املجتمع بني ثالثة مذاهب �إ�سالمية
الفنية املطلقة �أو املجردة ،وثنائية اجلدل بني طرائق هي :املذهب الإ�سماعيلي ،ومركزه حراز ،وكان
العر�ض يف �أ�شكالها التقليدية وطرائق ا�ستخدامات امتدادا للدولة الفاطمية يف القاهرة ،واملذهب ال�سني
التقنيات احلداثية ب�ضمائرها ال�رسدية ومزجها، االمتداد ملذهب العبا�سيني يف بغداد ،واملذهب
وتك�سريات الزمن وخطيته ،وعنا�رص ال�شخ�صية الثالث هو املذهب الزيدي املنت�رش يف �أكرث مناطق
بني �سيطرتها املطلقة وبطولتها وجتاهلها التام اليمن.
وحتويلها ملجرد �ضمري فقط.
رابع ًا� :إ�شكاليات الرواية اليمنية:
اخرياً ٍ
خال�صة حول �إ�شكاليات الرواية وهنا نقف عند
تلك هي �أبرز حمددات زخم الرواية اليمنية اليوم اليمنية التي ينبثق بع�ضها عما ف�صلناه يف
يظهر ُه واقعها الآين عند �أجيالها
ُ و�إ�شكالياتها كما حتقيبها الزمني وم�ضموناتها ،وي�أتي الآخر من
املتعاقبة وعند جيلها الأحدث الذي ي�سعى بها �س�ؤال احلداثة الذي ي�سعى �إليه جيلها الأحدث يف
�إىل م�صاف التح ُّققِ املنتج ،واملناف�سة الوا�سعة اليمن والأقدر على متثيلها بوعي وحر�ص �شديدين
لتمثيل ح�ضور ميني فاعل يف م�شهد الرواية العربية لأنها بالن�سبة �إليهم عمل مق�صود ومدرو�س مل تعد
احلديثة. قائمة على الهواية �أو الفكرة العابرة �أو حتى الرغبة
135
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
و�إن كان �صادق ًا �أو فيه تهكم جتاه الآخر الذي مل يعد وي�ضيف ،ولو اعتمدنا ما ذهب �إليه -بع�ض الباحثني
فرداً بل انعكا�س ذلك �أو �إ�سقاطه على اجلمعي ،وبوعي – يف هذا املقيا�س لكان �أوىل �أن تعد روايات /علي
و�إدراك ،ورغم وجود بع�ض الروايات والرواة مثل �أحمد باكثري من الروايات اليمنية(.)6
(�صوت من املا�ضي � /أبو �أمنار ،العودة �إىل النهاية -ولكي ال يتم اخللط بني الرواية والق�صة اليمنية
/عبدالرحمن بجا�ش ،جممع ال�شحاذين /عبدالوهاب احلديثة من جانب ،وبني امل�سميات من جانب �آخر،
ال�ضوراين ،غرباء يف �أوطانهم� /أحمد حممد العليمي، ي�ستح�سن الإ�شارة اىل وجود ق�صتني يتم اللب�س بينهما
اخلامت املجهول /عبدالكرمي املرت�ضى ،مرتفعات وبني رواية «�سعيد» ال�سابق ذكرها وهما :
ردفان /ح�سني �صالح م�سيبلي ،طريق الغيوم /ح�سني «�أنا �سعيد» للكاتب� /أحمد الرباق� ،صحيفة الإميان،
�سامل با�صديق ،امليناء القدمي /حممود �صغريي ،قرية نوفمرب1940م�« .سعيد املدر�س» للكاتب /حممد �سعيد
البتول /حممد حنيرب) �إال �أن رواية «ميوتون غرباء» م�سواط� ،صحيفة النه�ضة� ،سبتمرب 1950م،
ال�صادرة عام 1971م للكاتب الأديب /حممد �أحمد عقد ال�سبعينيات واملتغري التحويل يف م�سار الرواية
عبدالويل ت�صدرت امل�شهد الثقايف اليمني ،وما زالت اليمنية مو�ضوع ًا و�أ�سلوباً:
حا�رضة من خالل الدرا�سات واالحتفاء بال�رسد اليمني منذ �صدور �أول رواية حتى مطلع ال�سبعينيات من
اىل جوار ما �أنتجه من ق�ص�ص وروايات ،ملا فيها من القرن املن�رصم كان ر�صيد اليمن مل يتجاوز ع�رش
الن�ضوج من حيث املو�ضوعات والأ�ساليب الفنية التي روايات ،وكانت تربز مو�ضوعات الوعظ ،واحلكمية،
تنتمي اىل الواقعية ،ويرجع ذلك �إىل ثقافته وتنوع والتقريرية ب�أ�سلوب مبا�رش وتلج�أ �أحيان ًا اىل اخلطابة،
جتربته وموهبته الغنية التي �صقلها بدرا�سة فن وت�ستخدم الأ�ساطري ال�سحرية ،واعتمدت على البنية
الق�صة ،م�ستفيداً ومت�أثراً ب�أدب «جوركي ،وت�شيخوف» احلبكية القدمية (البداية ،الو�سط ،النهاية) واحلدث
وهما ميثالن املذهب الواقعي ،واقت�رص منهج /حممد اخلارجي املبا�رش ،وميكن ا�ستخال�ص ذلك من خالل
مقابلة ال�شكل باملو�ضوع واملحتوى ،ومتثيل الواقع
االجتماعي لتلك الروايات.
وبح�سب درا�سات الباحثني املتخ�ص�صني يف جمال
ال�رسد ب�أ�شكاله املختلفة يوجد �شبه �إجماع �أن عقد
ال�سبعينيات �شهد تغرياً حتولي ًا يف امل�سار ال�رسدي
عامة ،والرواية خا�صة ،وتزامن هذا التغري مع التغريات
احلديثة يف املجاالت الأخرى ،ال�سيا�سي واالجتماعي
واالقت�صادي ،وانتقل الأدب – الرواية -اىل و�ضع
غري م�ألوف ويف نف�س اللحظة االنتماء �إىل الواقعية،
وا�ستفاد الأدباء من الكتابات اخلارجية واالحتكاك
بها واعتمدوا التقنيات اجلديدة املغايرة ل�سابقتها،
و�أهمها حتطيم البنية احلبكية ال�سابقة ،واال�شتغال
على ن�سقها الداخلي و�إدخال الرمز عليها بد ًال من
املبا�رشة ،واالبتعاد عن النهايات املغلقة ،ومن جانب
�آخر يت�ضح التغري باالجتاه نحو اجلزئيات والهام�ش
عند كتاب هذا اجليل ،وبروز اال�شتغال على امل�سكوت
عنه (اجلن�س ،ال�سيا�سة ،الأيديولوجيا) واملهاجر
ويومياته ،والغربة واالغرتاب و�إخراج الأعمال
ال�رسدية يف �أ�شكال �أدبية تربط بني الواقع واملتخيل،
137 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
املنظومة اال�شرتاكية وتفكك الكتلة ال�رشقية ،واجتياح عبدالويل على ت�صوير الأ�شياء مبا يعني التحري�ض
الدميقراطية يف موجتها الثالثة لكثري من الدول، �ضدها ،وهو نقده للواقع وتعريته وافتقاره للميزة
و�سيادة قيمها ب�صورها املتعددة وبن�سب خمتلفة. الأخرى وهي التب�شري بامل�ستقبل ..الخ ،وتتميز جتربته
التغري التكنولوجي ال�سيما يف قطاع االت�صاالت باملواكبة الفعلية للق�صة العربية والعاملية من حيث
ف�أ�صبح العامل �شبه قرية من حيث التوا�صل مع الآخر ال�شكل وامل�ضمون(.)7
وان�سياب املعلومات �صوت ًا و�صورة �إ�ضافة اىل التغري ويح�سب لهذا العقد الزمني ظهور �أول رواية بقلم ن�سائي
يف البنية االقت�صادية ،وتوجه كثري من الدول نحو �إذ �أنه �شهد �صدور روايتني للكاتبة الأديبة /رمزية
حرية ال�سوق ،الذي انعك�س على البنية االجتماعية. عبا�س الإرياين هما (القات يقتلنا 1969م� ،ضحية
فتبدلت العالقات و�أ�ساليب التفكري ،فان�شغلت اجل�شع 1970م .و�سينقطع القلم الن�سائي حتى اجليل
مو�ضوعات الن�ص الت�سعيني– �شعراً و�رسداً – على الت�سعيني� ،إال من وم�ضات ثمانينية حمدودة ،كروايات
الهام�ش واليومي ،وبكل جراءة فجر مكبوتات احل�سي الكاتبة الأديبة� /سلوى حممد ال�رصحي «و�أ�رشقت
وال�سيا�سي والديني دون احلاجة اىل تغليف خطابه ال�شم�س� ،رصاع مع احلياة ،ويبقى الأمل».
باملحموالت الرمزية ال�صارخة ،و�أ�صبحت الروايات وامتد �أدب ال�سبعينيات اىل عقد الثمانينيات م�ؤثراً فيه
حتتفي باملعريف �أكرث من الواقعي ،مبعنى �أنها وم�ضيف ًا �إليه جتربة جديدة ،فات�سم باملزاج ال�صاخب
حاولت العمل على ت�أ�سي�س قول جديد مغامر ومعاير، لبع�ض مغايرات ال�سبعينيني والبناء على خال�صاته
بالرتكيز على جتارب الذات و�أزماتها ،لأن ما �أحدثته النا�ضجة ] ...[ ،ويبد أ� ال�رسد يف �إدخال عنا�رص احلداثة
التغريات ال�سابق ذكرها �أثرت على الكاتب الأديب الذي مثل التكثيف لل�صور واملعاين والأحداث ،وخلق حالة
وجد نف�سه دون اختياره يعي�ش يف �أزمة ذاتية وغربة توازي باللغة ال�شعرية ال�سل�سة ،واالقرتاب من الذات
داخلية رغم امليدان املتاح له للتعبري عن كل ما يريده، باعتبارها حمور الكتابة( ،)8ورغم وجود �أ�صوات
ور�أى د/ال�شجاع �أن اجلن�س هو املحرك الرئي�سي عند متعددة �إال �أن ظاهرة ال�صوت الواحد �ستظل م�سيطرة
جميع الكتاب الت�سعينيني .لذلك فقد اقت�رص ال�رسد على على امل�شهد الروائي ،ك�صوت الكاتب /زيد مطيع دماج
اجلن�س الذي يظهر من خالل املفاهيم ال�شائعة والتي وحتديداً يف روايته «الرهينة» التي ت�صنف �ضمن
تعرب عن نف�سها ب�شكل وا�ضح( ،)9كما هو يف رواية»�إنه رواية ال�سرية الذاتية والتهكم ال�سيا�سي واالجتماعي.
ج�سدي» للكاتبة /نبيلة الزبري ،روايات /علي املقري ومن حيث عدد الروايات فلم يبتعد كثرياً عن عقد
–و�إن جاءت مت�أخرة -اليهودي احلايل ،حرمة .كذلك/ ال�سبعينيات �إذ مل يتجاوز الع�رشين �إ�صداراً ،منها
رواية عقيالت للكاتبة /نادية الكوكباين ...الخ. «�سفينة نوح ،وعذراء اجلبل/عبد اهلل �سامل باوزير،
ومعظم النتاج الروائي الت�سعيني يوظف لل�سرية الذاتية ربيع اخليال ،ومدينة ال�صعود/حممد مثنى ،الإبحار
ب�شكل مبا�رش من خالل �شخو�ص الروايات� ،أو من خالل على منت ح�سناء/ح�سن �سامل با�صديق ،روايات/
الراوي /ال�سارد نف�سه .ونتيجة الت�سام العقد الت�سعيني �سلوى ال�رصحي ال�سابق ذكرها ،هموم اجلد قو�سم/
بالفو�ضى والت�شظي والتناق�ض والالتناغم ،فقد جاءت �أحمد مثنى ،القرية التي حتلم�/أحمد عبد اهلل فدعق،
الروايات معربة عن هذه الفو�ضى والالتناغم واالنفالت ال�سمار الثالثة�/سعيد عولقي ،ركام وزهر/يحي علي
من الواقع ،والعالقة غري املرتابطة كعالقات النفي الإرياين ..الخ».
واالنف�صال ،والتداخل يف م�ستويات التقنية ال�رسدية
ارتفاع ًا وانخفا�ضاً ،وهو تعبري عن ال�سياق املجتمعي الت�سعينيون ذوات متجاورة:
وال�سيا�سي واالقت�صادي الذي يعاي�شه الراوي ،وللبحث �شهد عقد الت�سعينيات تغرياً حتولي ًا �إ�ضافة اىل �إجناز
عن الهوية ن�صيب يف امل�شهد الت�سعيني. العقود ال�سابقة يف م�سار الرواية اليمنية احلديثة،
وقد �أثار امل�سمى «اجليل الت�سعيني» ب�أ�شكاله و�أنواعه، على امل�ستويني الكمي والنوعي ،ويرجع ذلك اىل
و�أ�صنافه ،و�أجنا�سه جد ًال وا�سعاً ،وخالف ًا كبرياً بني عدد من العوامل والتغريات الأخرى� ،أهمها انهيار
138 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
ا�ست�أثر ال�شعر فيها بامل�شهد الإبداعي كام ًال،وجعل «م�صحف �أحمر» ،هو العمل الأول للكاتب حممد
من كل كتابة �أخرى �أقل اهتمام ًا ومتابعة .ولي�س الغربي عمران يف جمال الرواية .ويف وقت ق�صري
غريب ًا �أن يحدث ذلك يف بالدنا ،فقد �أحدث مثله �أخذت لنف�سها مكان ًا متقدم ًا يف قائمة الروايات
يف عدد من الأقطار العربية ،قبل �أن جترتح الرواية العربية التي �صدرت يف العام املن�رصم ،وكان
مالحمها الكاملة ،وتتحدد عالماتها الفارقة .ففي مو�ضوعها ،كما هو �أ�سلوبها �أي�ض ًا؛ حمل اهتمام
م�رص -على �سبيل املثل -كان الروائيون يف بداية القراء والنقاد الذين �أمطروها ب�سيل من الإعجاب،
ظهوره ما يو�صفون باحلكواتيني ،وهو الأمر الذي و�أرى �أنها جديرة به .وكما انطلق كبار ك َّتاب
جعل واحداً من �أهم رواد ك َّتاب الرواية ،وهو الدكتور الرواية يف الوطن العربي من الق�صة الق�صرية،
حممد ح�سني هيكل ،يرتدد يف و�ضع ا�سمه على كذلك فعل �صاحب «م�صحف �أحمر» ،و�إن كان قد
روايته الأوىل «زينب» ،فو�ضع بد ًال منه ا�سم ًا �آخر �أطال الإقامة يف �أح�ضان امل�رسودات الق�صرية (5
هو «فالح م�رصي» .وكان من الوا�ضح بالن�سبة الينا جماميع ق�ص�صية) ،حتى لقد بدا ل�سنوات ،وك�أنه
يف هذه البالد �أن كتابة الق�صة الق�صرية �أو الرواية غري معني بالكتابة الروائية ،مع �أن مناذج من
غري مرغوب بها� ،أو على الأقل ال جتد لها قراء من �أي ق�ص�صه تتحرك يف اجتاه الرواية ،وبع�ضها ي�شكّل
نوع؛ يف بلد يتغلب فيه ال�شعر على كل ما عداه من مادة لروايات �أجه�ضها اال�ستعجال واالكتفاء
الكتابات .وعندما بد�أ القا�ص والروائي زيد مطيع بكتابة الق�صة الق�صرية مبوا�صفاتها احلديثة.
دماج يكتب �أول �أعماله الق�ص�صية ،وكنت وقتذاك حتول
ومن هنا ،فقد جاءت الرواية الأوىل مبثابة ِّ
يف القاهرة ،حدثني �أنه ي�شعر باالرتباك جتاه والده كبري يف تاريخ هذا املبدع ،الذي كابد كثرياً ،وعانى
الذي يحب ال�شعر ،ويحفظ الكثري منه ،و�أنه يخ�شى �أن �إىل �أن و�صل �إىل مثل هذا احل�ضور ،لي�س على ال�ساحة
يفاجئه باختياره كتابة الق�صة ،لكنه على رغم ذلك اليمنية فح�سب ،و�إمنا يف رحاب ال�ساحة العربية
ذهب يف م�رشوعه الق�ص�صي والروائي �إىل �أق�صى �أي�ضاً ،والرواية تعك�س يف بنيتها الداللية والفنية
حدود طاقته ،غري مبالٍ مبا يقال ،وكذلك كان حال حالة متميزة يف الكتابة الروائية يف هذه البالد التي
141 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
يحدث يف الواقع املحلي والواقع العربي،وقد جتلى حممد عبد الويل ،وغريه من رواد هذا الفن ال�رسدي.
الواقع الأخري من خالل ر�سائل الأم �إىل ابنها ،بعد �أن ويعد القا�ص والروائي حممد الغربي عمران ،من
ذهب للدرا�سة يف بغداد ،و�شهد بعينيه فظائع الغزو اجليل الثالث يف م�سرية الكتابة ال�رسدية يف اليمن،
الأمريكي ،وما رافق ذلك الغزو من دمار وموبقات. وقد �أفاد كثرياً من كتابة الق�صة الق�صرية ،قبل �أن
�إذا كان يف و�سعنا �أن نختزل وقائع رواية «م�صحف يتجه �إىل كتابة الرواية ،ويف جتويد لغته والإم�ساك
�أحمر» ،وما تعك�سه من �أحداث حقيقية على امل�ستوى بخيوط مو�ضوعاته،و�إدراك �أبعاد امل�سافة بني
املحلي والعربي ،ف�إننا �سنعجز حتم ًا �إذا ما حاولنا الواقع واخليال .و�إذا كان الواقع هو امل�صدر الأ�سا�س
اختزال اجلانب املهم فيها ،وهو ذلك الذي يعتمد على الذي ينهل منه الروائيون مادة �أعمالهم ال�رسدية،
�أ�سطورة البحث عن «امل�صحف الأحمر» ،وما فر�ضه ف�إن عدداً منهم ال يعدم م�صادر خيالية �أخرى،
ذلك البحث امل�ضني على بطلة الرواية ،وما تعر�ضت له ت�أخذ الروائي والقا�ص �أي�ض ًا �إىل �أفق جديد؛ بعيداً
من حماوالت موت حمتم ،على رغم كل االحتياطات من الواقع �أو بالقرب منه ،كما هو احلال مع الغربي
والتخفي واخلروج ب�أعجوبة من م�أزق بعد الآخر. عمران ،الذي قدم يف «م�صحف �أحمر» الأ�سطورة
ولعل هذا اجلانب ،هو الذي حرك وجدان القارئ التي �صنعها بخياله ،لكي تتوازى مع الواقع الذي
ب�أحداثه ال�سحرية ومتاهيه بني الرتاثي واملقد�س، مل يكن �أقل غرائبية عن �أ�سطورته .وبقدر ما اعتمدت
والدور الذي يقوم به من تخفيف وط�أة املتابعة روايته على وقائع وحكايات ال يزال بع�ضها يرتدد
ل�سل�سلة الأحداث التي تقع يف الريف ،امل�شحونة يف �أو�ساط ال�شعب ،ويف عدد من املناطق التي �شهدت
بالتحدي والرتقب ملن يفوز يف معركة متكافئة �أحداثها ،وكانت م�رسح ًا ل�رصاع ع�سكري ،دارت
القوى ،والتي كانت يف كثري من احلاالت ت�أخذ معاركه على مدى �سنوات بني (الأخوة الأعداء)،
�شكل حرب الع�صابات القائمة على قاعدة (الهجوم فقد اعتمدت يف �شكل �أعمق على �أ�سطورية امل�صحف
والتخفي) .ومبا �أنه قد �أ�صبح للفن الروائي �أ�سلوبه الأحمر ،ذلك امل�صحف الذي ا�ستوعب ،يف زمن ما،
وقواعده ،ورمبا لغته وطريقة التعامل مع �شخو�صه جوهر الديانات ال�سماوية الثالث يف ر�ؤية ال يخفى
الرئي�سة منها والثانوية ،ف�إننا قد نت�ساءل عن هدفها الإن�ساين .ويف وقت يتعاىل �رصاع املتطرفني
�شخو�ص هذه الرواية ،و�أيهما الرئي�س والثانوي فيها، من �أبناء هذه الديانات ،ترافقه نظريات م�سمومة عن
وهل ميكن القول ب�أن ال�شخ�صيات الأربع املمثلة يف �رصاع الثقافات و�رصاع الأديان ،يف حماولة لإعادة
«العطوي» اجلد ،و«تبعه» االبن ،و«�سمربية» الزوجة، �أجواء احلروب ال�صليبية بكل ما حفلت به -يومذاك
و«حنظلة» احلفيد ،هي الرئي�سي وبقية ال�شخ�صيات -من �إزهاق للأرواح و�إ�سالة �أنهار من الدماء .وجتدر
ثانوية ،على رغم ح�ضورها و�أهميتها يف ال�سياق الإ�شارة هنا� ،إىل �أن رواية «م�صحف �أحمر» لي�ست
الروائي؟ وهل كان من باب الإن�صاف للمر�أة و�ضع تعبرياً عن رغبة قا�ص متمر�س يف كتابة الق�صة
«�سمربية» يف مركز احلدث الرئي�س ك�شخ�صية الق�صرية� ،إىل االنتقال �إىل العامل الروائي فح�سب،
حمورية� ،أو �أن ذلك كان دورها املحوري الواقعي و�إمنا هي تعبري عن ر�ؤية وموقف ،ينبعان يف الظاهر
والرمزي ،و�أقول الرمزي لأنني ال �أ�ستبعد �أن تكون من حدث جمتمعي� ،شغل املواطنني اليمنيني �أكرث من
رمزاً للثورة ال�سبتمربية ،و�أن ا�سمها القريب من ا�سم ثالثة عقود ،ودفع خالله كثري من ال�شباب �أرواحهم،
الثورة يوحي بذلك ،بل يكاد ي�ؤكده ،وي�أتي «تبعه» كما هي نابعة كذلك من رغبة يف ابتداع �أ�سطورة
ك�شخ�صية روائية يف امل�ستوى الثاين نتيجة لن�شاطه غاية يف الإمتاع والت�شويق واالرحتال يف هذا
ال�سيا�سي ،ودوره يف حتريك الأحداث يف املناطق املدى اخليايل ،الذي تقطعه بني حني و�آخر �أحداث
امل�شتعلة بالثورة ،ويف العا�صمة حيث كان ينظم ا�ستجد يف
ّ الواقع ،ومتابعة م�سرية �أبطال الرواية وما
اخلاليا ويتابع ما يجري �أو ًال ب�أول؟ الأ�سئلة كثرية حياتهم ،ثم ما ت�صوراتهم �أو مواقفهم من هذا الذي
142 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
�س�ؤال ...ال يوجد لدى خيار� - .أعلم �أن بالدنا م�شطرة. وحمرية ،تلك التي تطرحها فكرة ت�صنيف ال�شخو�ص
-كيف؟ -اليمن ق�سمان ...ق�سم عا�صمته عدن ،والآخر الروائية ،وو�ضعها يف مكانها ال�صحيح من املناق�شة
�صنعاء -ملاذا؟ -لإ�ضعافها ...وعلينا �أن ننا�ضل والتف�سري ،و�أية �إجابة -من وجهة نظري � -ستظل غري
من �أجل �إعادة قوتها .ومن �سخرية القدر �أن ن�ضال وا�ضحة ،وال مقنعة لوجود �شخو�ص غام�ضة تلعب
الأم�س حتول اليوم لدى البع�ض �إىل ن�ضال معكو�س �أدوراً ال تقل �أهمية عن �شخ�صية اجلد واالبن واحلفيد.
من �أجل �إعادة الت�شطري ،ال من �أجل الت�صحيح وبناء يف بع�ض الروايات ومنها هذه الرواية ،ميكننا �أن
الدولة احلديثة الواحدة .وبهذا تكون الرواية يف اليمن نكت�شف �أكرث من �شخ�صية ثانوية جديرة ب�أن تكون
قد متكنت من اخلروج عن �إطار حمليتها ،وحققت قدراً �ضمن ال�شخ�صيات املحورية� ،أو جديرة ب�أن تن�ضم
وا�ضح ًا من االنت�شار يف حميطها العربي من خالل على الأقل �إىل م�ستوى ال�شخ�صيات الرئي�سة ،ومنها
«�صنعاء مدينة مفتوحة»للروائي حممد عبدالويل، �شخ�صية «موالنا» الذي قام على رغم غرابة �أطواره
و«الرهينة» للروائي زيد مطيع دماج ،ومن خالل بدور املر�شد الثوري ،وهو الذي يقول عنه «تبعه»« :مل
الروائي حبيب �رسوري ،والأعمال الإبداعية للدكتور �أعد �أمامه جمرد ولد ...غيرَّ ت تعاملي معه� ...أ�ضحى
�أحمد ال�صياد ،وعلي حممد زيد ،وحممد عبدالوكيل يتحدث باقت�ضاب يعرفني ب�أ�سماء القرى املحيطة...
جازم و�آخرين ...ولن مير وقت طويل قبل �أن يحقق ي�ستعر�ض يل �أ�سماء رجال ا�شتهروا مبقارعة الت�سلط
اجليل اجلديد من الروائيني يف هذا البلد؛ طموحهم يقربوالظلم ...ي�رشح يل مبادئ احلرية والن�ضالِّ ...
�إىل ذهني �أ�س�س حتقيق العدالة وامل�ساواة� ...شارح ًا
امل�رشوع يف االنت�شار الأو�سع .و�إذا كنت قد �أ�رشت
ماهية قوى ال�رش وماهية قوى اخلري والتقدم.
�سابق ًا يف هذه القراءة �إىل �أن الغربي عمران قد �أفاد
عرفت منه خالل �أيامي الأخرية معه �أ�س�س املبادئ
من ممار�سته الطويلة يف كتابة الق�صة الق�صرية ،يف
وعرفني كيف �أواجه احلياة» (�ص.)116 الوطنيةّ ...
تكوين لغة روائية بعيدة من الرتهل والإطناب ،ف�إنني و�إىل موالنا هذا يعود الف�ضل يف الإعداد الفكري
ال بد من �أن �أ�شري هنا �إىل �أن جتربته تلك� ،أفادته والتنظيمي للتمردات ال�سيا�سية التي �شهدتها بع�ض
�أي�ض ًا يف ر�سم مالمح ال�شخ�صيات وا�ستنطاقها ،ويف املناطق يف �شمال الوطن ،ال �سيما املنطقة الو�سطى،
�ضبط ر�سم الأمكنة والأزمنة ،ريفية كانت �أو مدينية. والتي قدمتها لنا الرواية بو�صفها مقاومة للأو�ضاع
ومن ح�سن حظه �أنه مل يبد�أ كتابة الرواية �إ َّال بعد �أن االجتماعية املقلوبة �أكرث منها مقاومة �سيا�سية ،فقد
تخل�صت من �إغراءات الت�شويق الرومان�سي ،و�سيطرة متادى الإقطاع يف ظلم الفالحني ونهب �أرا�ضيهم،
البعد احلكائي ،ودخلت يف جمال املو�ضوعات ذات وحتويلهم �إىل �أجراء ،فكان ال بد ملثل هذه الأو�ضاع
امل�ضمون الفكري ،التي تحُ دث بالرواية حتو ًال جذرياً، من تنفجر حاالت التمرد يف �أو�ساط ال�شباب ،و�أن
من منطق احلكاية �إىل ق�ضايا ذات �صلة باحلياة ي�ستمدوا العون من النظام ال�سيا�سي املناف�س الذي
والنا�س ،لي�س يف حماولة لتوثيق ما جرى ويجرى، يحكم �شطراً من البالد ،وبذلك فقد �أحرزت هذه
و�إمنا لتف�سري هذا الذي جرى ويجري تعليله� .أخرياً ،ال الرواية ق�صب ال�سبق يف تناولها تلك الأحداث ،من
�أن�سى الإ�شارة �إىل �أن بالدنا ،هذا البلد العربي العامر منظور �أدبي وبقدر كبري من اجلر�أة واملو�ضوعية.
ب�أغنى ما يختزنه املكنون الب�رشي من ميثولوجيا، وموالنا كما حددت الرواية مهمته جتهيز ال�شباب
تنتظر من يجيد ا�ستثمار هذا املخزون ،وفك رموزه، و�إعدادهم للتدريب،واال�ستعداد للعمل الوحدوي
يف �أعمال �إبداعية �أكرث �إدها�ش ًا وبهاء. العظيم - :هل �س�ألت نف�سك ملاذا تتدرب؟ -دون
يتكون عنوان هذه القراءة من �شقني ،لكل منهما ُبعد يحكم ويحدد م�سارها؛ فال�شق الأول:
التعدد يعنى بجانب املمار�سة الن�صية القرائية ،الهادفة �إىل النظر يف مكوناته ومتظهراته،
ابتداء من الر�ؤية /الراوي وانتهاء باللغة ،وهذا البعد ميثل م�سار
املاثلة يف عنا�رص ال�رسدً ،
القراءة وخط توجهها بو�ضوح.
�أما ال�شق الثاين :جماليات التفكيك ،فيعنى باجلانب النظري �أو املنهج املتبع يف هذه القراءة
– املنهج التفكيكي – بو�صفه و�سيلة ن�ستطيع بوا�سطة �آلياته اكت�شاف �أبعاد املفارقات
التعددية ،وتو�ضيح العالقات القائمة بينها ،و�إ�ضفاء �سمة املو�ضوعية والدقة – �أو االقرتاب
منها – على القراءة يف ُبعديها الن�صي واملنهجي ،بعيدا عن التبجيل املطلق والآراء العابرة،
�إذ ال يخدم �أي منهما الن�ص الإبداعي يف �شيء.
144
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
�ضد التعقيد والتقنني �أوالً ،والختالف النزعات باختالف بقيت جزئية من العنوان ال بد من النظر فيها ،وهي
كل �أديب وباختالف كل عمل �أدبي»( ). املفارقة ،التي تعني يف �أب�سط و�أقرب معانيها �إىل الذهن،
وقد ن�ش�أت يف ظل اهتزاز الثوابت وتفتت القيم« ،ومتزق «توتر الأ�ضداد»� ،أو «تباين بني احلقيقة واملظهر» ،مع
املبادئ واملقوالت ،وت�شتت الذات اجلماعية ،وحرية الذات الت�أكيد �أن العالقة بينهما لي�ست عالقة ت�شابه �أو ال ت�شابه،
الفردية ،وغمو�ض الزمن الراهن والآتي ،وت�شظي املنطق �أو ت�ساوي /متاثل ،بل هي عالقة «ت�ضاد �أو تعار�ض �أو
امل�ألوف واملعتاد» ،وميكن تلخي�ص الأ�س�س واملرتكزات تناق�ض �أو تنافر �أو عدم ات�ساق» ،مما يعني �أن للمفارقة
الفل�سفية واحل�ضارية وال�سيا�سية ،التي قامت عليها رواية �صورة مزدوجة مركبة ،وهي من ناحية �أ�سلوبية نوع من
الأ�صوات ،يف النقاط الآتية-: الت�أنق ،تهدف �إىل «�إحداث الأثر ب�أقل الو�سائل تبذيرا»،
-1امل�ؤثرات الأجنبية واالنفتاح على الرتاث الق�ص�صي خا�ضعة ملبد�أي االقت�صاد والتكثيف ،ومبد أ� ثالث هو عدم
القدمي. التوقع و�إثارة الده�شة والت�أمل ،وهذا اجلانب �أكرث ارتباطا
-2هزمية حزيران 1967م ،التي كانت – وال تزال – بطبيعة القراءة� ،أما املفارقة من الناحية الفل�سفية ،فهي
حجر زاوية يف كل ما جرى ويجري حتى الآن. «جتاور املتنافرات الذي ُيعد جزءاً من بنية الوجود»،
-3اهتزاز الثوابت الوطنية والتاريخية بعد انكفاء جتربة �إذ ال توجد حياة ب�رشية حقيقية ممكنة ،دون �أن تكون
الكفاح امل�سلح. املفارقة عماد ُبناها.
-4تف�سخ الأحزاب وترهل العمل اجلماعي املنظم. وبهذا تت�ضح الر�ؤية يف طبيعة العالقة بني مفردات
-5تفتت الأيديولوجيات وتراجعها وتخبطها ،وا�ستفحال العنوان (املفارقة والتعدد والتفكيك) ،وم�ستوى الربط
�أزمة الدميقراطية ،وغياب املثل وفقدان النموذج القيادي. بينهما ،القائم على رف�ض الواحدية مطلقا ،وانتهاج
-6ات�ساع هوة التفاوت االقت�صادي وما يولده من البنى ذات املكونات التعدد واالختالف ،وتفكيك ُ
حرمان و�أمل. املزدوجة املركبة ،ومهما ا�ستمرت عملية تفكيكها،
وقد قام بناء الرواية اجلديدة على مبد�أ الرف�ض لقانون فلن تق�ضي على مفارقاتها املتعددة ،فهاتان ال�سمتان
العلية �أو ال�سببية املتحكمة يف بناء الأحداث ،وعدم متالزمتان للوجود وكامنتان فيه.
الربط بني الظواهر ،والتمرد عل جماليات وحدة املعنى رواية الأ�صوات-:
والتما�سك الداليل والنمو الع�ضوي ،جت�سيداً لفو�ضى العامل مييز النقاد بني ثالث مراحل �أو حمطات تاريخية مرت
وغمو�ضه وارتباكه« ،لأن ظواهره املتجاورة واملتباعدة بها التجربة الروائية العربية ،نتج عنها ثالثة �أنواع
ع�صية على الفهم �أو التعليل» ،َّ واملتنافرة واملتوازية، للرواية هي :التقليدية واحلديثة واجلديدة ،وبعد ذكر
�إذن فالرواية اجلديدة �صورة من التمرد الدائم ،الذي ي�صل �سمات ومرتكزات التي قامت عليها كل منها ،تبينَّ �أن
�إىل مترد الذات على نف�سها ،وب�ؤرتها املتمثلة يف التعدد رواية (بالد بال �سماء) تدخل يف �إطار الرواية اجلديدة/
والتنوع ،وتهدف �إىل �إثارة الأ�سئلة الفنية وال�شكوك ،التي رواية الأ�صوات ،التي تهدف �إىل التمرد على امل�ألوف
وتولد يف نف�سه
ت�صدم املتلقي �أكرث مما جتذبه ،وتهزه ّ والنظم ال�سائدة ،واالختالف واجلنوح �إىل املغايرة،
اال�ضطراب وال�شك ،وتزعزع يقينه ،ومتلأ عينيه ب�صورة البنى املنتظمة ،وتعرية االختالالت يف كافة وتفتيت ُ
الفو�ضى وتفكك هذا العامل ،مما يعك�س ت�شظي الأبنية مناحي احلياة املعي�شة ،وهذه الر�ؤية تتداخل ومتتزج
املجتمعية ،وفقدان الإن�سان وحدته مع ذاته ،وعند كثريا مع فل�سفة التفكيك.
ذلك احلال ي�ستند الفرد «�إىل جماليات التفكك ،بد ًال من هناك ت�سميات كثرية أُ�طلقت على هذا اللون من الفن
جماليات الوحدة والتناغم» ،لأن ِح َّدة الأزمات امل�صريية الروائي ،الذي جاء مغايراً للرواية احلديثة معنى ومبنى،
التي يواجهها الإن�سان� ،إ�ضافة �إىل الغمو�ض الذي يعرتي ومن تلك الت�سميات :رواية الالرواية ،والرواية الطليعية،
حركة الواقع وجمرى احلياة ،يو ّلدان يف الذات الإن�سانية وال�شيئية ،واجلديدة ،والتجريبية ،ورواية الأ�صوات،
�شعوراً بال�ضياع احلاد ،والذوبان والتال�شي يف جماهيل وغريها .وذلك ناجت عن «طبيعتها البنائية وفل�سفتها
العامل ،لت�صبح الرواية اجلديدة – يف �صورتها الأخرية وهدفها يف [التمرد] �ضد التحديد �أو الت�صنيف [ .....وهي]
145 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
امل�ستويات ،الأيديولوجية والثقافية واالجتماعية – «بنية فنية دالة على االحتجاج العنيف والرف�ض
وال�سيا�سية وغريها� ،ضمن �سياقاته املتعددة. لكل ما هو متداول وم�ألوف ،وهي جت�سيد لر�ؤية ال
يقينية للعامل» ،وهي بطبيعتها تهدف �إىل بلبلة القارئ،
الر�ؤية العامة يف رواية «بالد بال �سماء». ودفعه عن االندماج بعامل الرواية� ،إىل التفكري يف كل
يقوم العمل الروائي يف (بالد بال �سماء) بهدم الأن�ساق ما يقر�أ« ،والت�أمل يف مغزى التجاور والتنافر والتوازي
االجتماعية والفكرية والثقافية واملعرفية ،ويقوم �أي�ض ًا واالنحرافات» ،من خالل تقنيات وانزياحات �رسدية،
بهدم املركز القائم يف عامل الن�ص الروائي ،لكنه ال يقدم تظهر ب�شكل متكرر يف بنية الرواية ،وهي عماد بنائها،
متركزاً �أو متركزات و�أن�ساق بديلة� ،إذ يلج�أ �إىل تو�سيع كاالنتقال من حدث �إىل حدث �أو من مكان �إىل �آخر �أومن
مدار الفانتازيا الن�صية ،وخلخلة االتزان الداليل ،تارك ًا �شخ�صية لأخرى ،وغاية هذه االنزياحات ك�رس وخلخلة
ف�ضاءات الن�ص تعج بالهدم والهدم الآخر (هدم الهدم)، الت�سل�سل الزمني ،فتتداخل الأزمنة ويمُ َّوه املكان �أو يتعدد.
وبالتعدد الداليل الالنهائي. �إن هذا البناء الروائي الذي يتجلى يف الرواية اجلديدة
هذا يقود �إىل حقيقة �أن هذا الن�ص الروائي قام �أ�سا�س ًا عامة – ورواية (بالد بال �سماء) مو�ضوع هذه القراءة على
على فكر ما بعد احلداثة ،متبني ًا م�رشوع ًا فل�سفي ًا غاية يف وجه اخل�صو�ص – قائم على اال�ضطراب وال�شك والتمرد،
اخلطورة ،نظراً لتعقيده و�إ�شكاليات مفاهيمه وغمو�ض واالنفتاح الدائم على الأ�سئلة الالنهائية ،وهذا هو ذات
وت�شتت م�صطلحاته ودالالته ،واملالحظ من خالل ما �سبق املنهل الذي تنهل منه فل�سفة التفكيك ،التي ثارت على
�أن جمتمعاتنا بكل مكوناتها ،تت�صارع فيما بينها على الواقع ،و�أطلقت العبثية والفو�ضى ،ومتردت على كل القيم
�أ�سا�س من ذلك الفكر ،بو�صفها جت�سيداً منطقي ًا جلدلية تلك واملبادئ ال�سائدة ،نظراً الختالل املنظومة املجتمعية
الفل�سفة – �أو جزءا منها – القائمة على العبثية وال�رصاع والقيمية والأيديولوجية وال�سيا�سية وغريها ،وحاولت
الثنائي امل�ستمر ،وحماوالت الإق�صاء والتهمي�ش املتبادل �أن تخلق من الفو�ضى ،حالة م�ستمرة من الهدم والبناء
بالتناوب بني الثنائيات ال�ضدية ،التي حتيلنا بقوة �إىل املتكرر ،وجتدر الإ�شارة �إىل �أن املنهج التفكيكي – املُتبع
ال�رصاع الدائم والعنف والعنف امل�ضاد ،و�صو ًال �إىل نهاية – لي�س منهج ًا �صارماً ،كالإح�صائي الأ�سلوبي �أو غريه،
التاريخ والعودة �إىل نقطة البداية ،ورغم قيام الفل�سفة و�إمنا يتمتع مبرونة عالية �إذ تت�سع �آلياته و�إجراءاته
والفكر املابعد حداثي ،على ن�سف املركز وتغييبه ،مقابل وتتقل�ص ح�سب ما يقت�ضيه الن�ص وتفر�ضه طبيعته.
َمركزة �أو التمركز حول الهام�ش ،والإعالء من �ش�أنه،
�إ َّال �أن ذلك مل ي� ِؤت ثماره ،كما هو م�أمول على ال�صعيد التفكيك واللغة-:
احلياتي املعي�ش ،فمحاوالت ن�سف املركز (الرجل) يحاول التفكيك التمرد على جمموعة القواعد والقوانني
املتمثل يف الت�سلط الذكوري اجتماعياً ،وهيمنة القطب والنظم املجتمعية واملعرفية ،و�إثبات فاعلية �سلطته من
الواحد �سيا�سيا ،مل ترتك �سوى العديد من االختالالت خالل حتطيم اللغة ،ولذلك ي�ضع تريي �إيغلتون «التفكيك
والفجوات والفراغات ،التي تنتظر البديل املفقود� ،إ�ضافة يف عداد التعابري الناجتة من مزيج االبتهاج وخيبة
�إىل �ضعف الهام�ش ،وعجزه عن القيام بدور املركز �أو الأمل والتحرر والتبدد والكرنفال والكارثة ،يف �إثر حركة
التمركز ،و�إذا �سلمنا بقيام متركزات عدة على �أنقا�ض الطالب الفرن�سية (مايو 1968م)» ،وهو يرى �أن حتطيم
مركز ما ،وقد جنحت – �إىل حد ما – لكنها ما لبثت �أن بنيات اللغة� ،إمنا م َّثل تعوي�ض ًا رمزي ًا عن العجز ،الذي
حتولت �إىل مراكز �صغرى متعددة ،قابلة للتفتيت والهدم، حال دون حتطيم بنيات �سلطة الدولة ،لأن «الكتابة� ،أو
لتن�ش أ� على �أنقا�ضها مثيالتها تكوين ًا وم�صرياً ،ومن القراءة – بو�صفها كتابة – هي �آخر مالذ غري م�ستعمر،
ذلك ت�ستمد عملية الهدم الالنهائية ا�ستمراريتها ،وتبقى ومغ ِف ًال
ميكن للمثقف �أن يلعب فيه ،متذوق ًا ترف الدالُ ،
جدلية �رصاع الثنائيات املتناق�ضة يف تنا�سلها امل�ستمر متام ًا ما قد يجري يف ق�رص الإليزيه� ،أو م�صانع �رشكة
وحركتها الدائمة ،وكل ما قيل �سابق ًا ينعك�س بحذافريه رينو»� .إذن التفكيك لي�س اغت�صاب ًا �أو انتهاك ًا للن�ص،
على الن�ص الروائي مو�ضوع البحث ،الذي يتمثل تنا�سل �إمنا هو �إقامة عالقات حوارية مفتوحة معه على كافة
146 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
-2ثنائية اال�ستبدال بني حريف الـ (ب) والـ (ال) الهدم والتعدد الداليل والتالعب املتبادل بني �ضدي
املعنى يف حقل االختالف وغري ذلك ،بطريقة فنية تتميز
مبغايرتها للواقع ،وابتعادها عن اخليالُ ،م َ�ش ِّكلَة عامل ًا
خا�صاً ،تكت�سب مكوناته الن�صية دميومتها وحيويتها،
من خالل ال�رصاع الالمتناهي بني ثنائيتها وجزئياتها
املتعددة ،و�صو ًال �إىل جزئيات احلذف الداليل والكتابي،
وا�ستنطاق الغائب الن�صي ،وتهمي�ش احلا�رض فيه ،وتفعيل
عامل يف الرتكيب �سلطة القارئ ،و�إلغاء �سلطة الن�ص ومرجعياته.
على حمور التوا�صلعامل يف املعنى مفارقات العنوان-:
زائد يف املعنى�أ�صلي يف الرتكيب واملعنى
ت�سا�ؤالت العنوان.
وتربط عالقة التزامن التخالفي /املتخالف بني طريف هذه من الت�سا�ؤالت التي يلقيها هذا العنوان :ملاذا وقع االختيار
امن (مبعنى ترافق) ت�صنيفهما احلريف مع الثنائية� ،إذ َت َز َ على كلمة (بالد) ،دون غريها من مثيالتها كوطن �أو �أر�ض
حماولة ا�ستبدال معنى وعمل �أحدهما بالآخر� ،أو دجمهما �أو مكان �أو ما �شابه؟ وما داللة كلمة «بالد» التي توحي
للح�صول على معنى واحد – وهذا ما مت تبع ًا لال�ستعمال باجلمع العام املبهم؟ ،وملاذا مل تكن «بلدان» مثالً؟ ما
التداويل – وعمل واحد ،وهذا فيه نظر لأن كليهما عامالن �أو داللة التناظر /التجان�س الكتابي وال�صوتي يف «بالد،
يجب �أن يعمال ،وقد قامت تلك العالقة على حمور التوا�صل، بال»؟ ،هل توحي داللة القطع ال�صوتي والكتابي يف «بال»
بهدف خلق �أن�ساق لغوية وتركيبية جديدة ،وفتح �آفاق بثبوت النفي وقطعيته؟ وما داللة اجتماع /اقرتان حرفني
اال�ستعمال اللغوي. (باء اجلر ،وال النفي) يف مركب نطقي واحد؟ ماذا لو كانت
«�سماء بال بالد» ،و�أيهما �أ�شد افتقاراً للأخرى؟ و�إذا كانت
العنوان :عبثية الرتكيب ومراوغة الداللة. ومعرفة،
َّ (�سماء) – بو�صفها حيزاً ف�ضائي ًا – متعينة
يقوم العنوان على �أ�سا�س تفكيكي متمثل يف وجهني: لداللة معناها العام وتداولها عليها ،فكيف يت�سنى لنا
الوجه الأول :التمرد على الداللة وا�ستحالة القب�ض على معنى معرفة (بالد)؟ �أال يعد اجلمع بني النكرة واملعرفة – يف
معني ،وحتقيق ذلك عرب االنتقال الداليل� ،إذ ينتقل الدال �إىل هذا الرتكيب – اخرتاق ًا �إ�ضافي ًا لقواعد اللغة؟
دالٍ �آخر ،با�ستمرار دون الوقوف على �صورة واحدة لدال معني ميكن القول �إن الرتكيب /جملة العنوان قائم على
يحيلنا �إىل مدلوله الأخري ،ويتمثل هذا التمرد الداليل على ثنائيتني تربط كل منها عالقة خا�صة ،ميكن تو�ضيحها
حمورين: يف الرت�سيمة الآتية:
-1حمور الرغبة بني مراوغة املعنى ولعب الدالالت ،عرب -1ثنائية الت�ضاد /التقابل بني (بالد� ،سماء)
عالقة التوازي ،التي جتمع بينهما وي�سري كل منهما يف خط
مواز للآخر ،دون �أن يلتقيا �أو ي�صال �إىل نقطة نهائية ،نتيجة
لال�ستبدال امل�ستمر للدوال.
-2حمور ال�رصاع بني �سلطة احل�ضور (الدال) وثورة الغياب
(الدال امل�ضاد) ،نظراً لعالقة التجاور النقي�ض /املتعار�ض،
�إذ �أن وجود الدال �أ يقت�ضي بال�رضورة وجود الدال �أَ وذلك ما
تو�ضحه الرت�سيمتان التاليتان: يرتبط طريف هذه الثنائية بعالقة التوازي املتنافر،
املتمثلة يف حماولة ك�رس م�ألوف وخرق القاعدة اللغوية،
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) وانتهاك الرتكيب ،على حمور الرغبة يف توليف قاعدة
جديدة ،و�إعادة �إنتاج اال�ستعمال اللغوي مرة �أخرى �أو �أكرث.
147 نزوى العدد / 74ابريل 2013
«حرب اخل�شب»
وجدلية الثنائيات املتناق�ضة
نبيلة خبزان
كاتبة وباحثة من اليمن
ميكن القول �إن هذه الرواية تنتمي �إىل املرحلة الواقعية ،التي م َّثلتها الروايات التقليدية
الهادفة �إىل التعليم والوعظ والإر�شاد ،ونقل �صورة املجتمع �إىل القارئ بكل �سلبياتها
ومظاهرها ،وهذا النوع من الروايات هام بدالالته رغم فقر بنائه وحمتواه ،والروايات
التقليدية عموم ًا – وهذه الرواية خ�صو�ص ًا ً -تعد جت�سيداً لقي ٍم فني ٍة تنقل ر�ؤية الإن�سان
والفن والعامل ،وهذه الرواية مهيمنة بر�ؤيتها و�أ�سلوبها ووظيفتها االجتماعية والتاريخية،
�أو اعرتا�ضها املنزاح فني ًا �إىل التاريخ ،وكذلك تهيمن الفكرة فيها على �صوت التجربة
املتكاملة ،وتتميز ب�أحداثها املرتاكمة التي ترتبط فيما بينها بو�سائل عدة ،مثل:
امل�صادفات �أو الق�ضاء والقدر �أو تدخالت ال�سارد املبا�رشة،
148
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
يف �صورتها العميقة طبيعة ال�رصاع بني الآباء والأبناء� ،أو وت�أتي تلك الو�سائل والتدخالت ،نتيجة كرثة اال�ستطرادات
ما ي�سمى (�رصاع الأجيال) يف �صورته العامة؛ هذا ال�رصاع واالنحرافات ال�رسدية والقفزات املتكررة عرب الأزمنة
الذي ين�شب بني طرفني غري متكافئني ،ي�ستخدم فيه الطرف املختلفة� ،إ�ضافة �إىل تويل الراوي العليم بكل �شيء مهمة
الأول �أب�شع الو�سائل و�أقذرها �ضد الطرف الثاين ،فالآباء �رسد الأحداث ،ونتيجة لتدخالته املتكررة بالتعليق وال�رشح
حني يقودون �أبناءهم خلو�ض معارك الث�أر تلك ،ينتقمون من والتف�سري وغريه ،ف�إنه يقع يف مزالق عدة يف بنية ال�رسد
�أبنائهم – بتعري�ضهم للقتل – قبل �أن ينتقموا من �أعدائهم، عامة؛ كما يتجلى يف بنائها – �أي�ض ًا – االهتمام بالرتاث
مما ي�صيب املجتمع بالعقم الفكري والثقايف ،ويفقد االنتماء ال�شعبي واحلر�ص على ت�ضمني خمتارات معينة منه يف
معناه ،وتتولد رغبة عميقة يف النفو�س باالنتقام ال�شامل الرواية ،وخا�صة الأمثال ال�شعبية ،ليدل ذلك على �صدق
والتدمري. التجربة وعمقها من جانب ،وجعلها �أكرث الت�صاقا بالواقع
الذي انطلقت منه ،و�أكرث قدرة على التعبري عنه من جانب
الراوي ( الر�ؤية) :بناء الر�ؤية �أو اجلهة ()Aspect �آخر.
ميكن من خالل درا�سة الر�ؤية وحتديدها ،معرفة الطريقة و�سنكتفي يف هذه امل�ساحة بن�رش املبحث الأول من الدرا�سة،
التي يتمثل من خاللها الراوي احلكاية ،ونالحظ �أن الر�ؤية الذي يتناول حتت عنوان «الراوي ،الر�ؤية» داللة العنوان
يف رواية ( حرب اخل�شب) لي�ست واحدة ،و�إمنا هي مزيج على م�ضمون الرواية ،ثم �أمناط الراوي املتعدد يف الرواية،
من الر�ؤية الداخلية واخلارجية -ح�سب ثنائية �ستيفان وتعدد الر�ؤية �أو زاوية الر�ؤية ،ومدى داللة كل ذلك على جدلية
تودوروف -وبذلك ميتزج �أ�سلوب ال�رسد الذاتي واملو�ضوعي، الثنائيات املتناق�ضة ،وطبيعة ال�رصاع الكائن فيما بينها ،وقد
وميكن القول -وفقا لذلك� -إن الر�ؤية هنا هي ر�ؤية مزدوجة، تبني �أن الراوي مت َّثل يف ثالثة �أمناط :راو عليم ،وراو م�شارك،
«متتزج بها الر�ؤيتان :الداخلية واخلارجية يف بنية الرواية وراو �شاهد ،وهو يف كل منط ينظر من زاوية خمتلفة.
الواحدة» ،ففي الر�ؤية اخلارجية« :يظهر الراوي العليم بكل
�شيء ،منطلقا من �أ�سلوب ال�رسد املو�ضوعي ،ويف الر�ؤية العنوان:
الداخلية يظهر الراوي حمدود العلم �أو الراوي امل�شارك الذي �إن العنوان (حرب اخل�شب) يجمع بني نقي�ضني متغايرين،
تت�ساوى معرفته مبعرفة ال�شخ�صيات الروائية» ،وهذه الرواية فاحلرب تدل على التدمري واخلراب والهدم ،بينما يدل اخل�شب
تنطلق من �أ�سلوب ال�رسد املو�ضوعي املنفتح على جميع بالنظر �إىل م�صدره – الأ�شجار – على احلياة ،وبالنظر �إىل
ال�ضمائر ،فريوي مرة ب�ضمري املتكلم (الأنا) ،و�أخرى ب�ضمري حالته الراهنة -بو�صفه خ�شبا -ي�ستفاد منه يف �أغرا�ض
الغائب (الهو) ،وثالثة يلج أ� �إىل احلوار ،وهكذا ينتقل بني جميع حياتية خمتلفة ،ليدل على البناء والتعمري ،وهنا يتجلى
ال�ضمائر و�أنواع ال�رسود ،والراوي � -ش�أنه �ش�أن ال�شخ�صيات امل�ستوى الأول لل�رصاع بني البناء والهدم ،و�إذا كانت احلرب
الروائية -لي�س �إ َال �شخ�صية من ورق -ح�سب بارت -ميكن تدل على القوة ،ف�إن اخل�شب مما ال ي�صمد �أمامها ،فهو يحمل
النظر �إليه بو�صفه «و�سيلة �أو �أداة تقنية ي�ستخدمها الروائي بني جنباته ال�ضعف واالحرتاق واال�ست�سالم لنريانها ،دون
ليك�شف بها عن عامل روايته» ،وهو املُختار لتقدمي الأحداث �أي مقاومة تذكر� ،إذن فاخل�شب رمز اله�شا�شة وال�ضعف،
وال�شخ�صيات وعامل الرواية ب�أكمله ،ويف هذه الرواية واحلرب رمز القوة والبط�ش والتدمري حتى بنف�سها« ،فالنار
(حرب اخل�شب) جند راويا واحدا هو الذي يهيمن على عامل ت�أكل نف�سها� ...إن مل جتد ما ت�أكله» ،و�إذا قمنا ب�إ�سقاط
الرواية /ال�رسد ،في�صف وي�رسد ويقدم وي�ؤخر ،ويعلق ويربر العنوان داللي ًا على م�ضمون الرواية ،وجدنا احلرب تطابق
وينقل نقال حمايدا وغري ذلك ،متنقال بني الر�ؤيتني الداخلية ق�ضية الث�أر واالنتقام ونزعة ال�سيطرة والبط�ش ،املتمثلة يف
واخلارجية ،و�أمناط الراوي املختلفة� ،إذ جنده يبد أ� الرواية عملية ال�رسد املتتايل للأحداث والوقائع امل�أ�ساوية الدامية،
من ر�ؤية داخلية ،يكون فيها راويا م�شاركا يف �صنع الأحداث �أما اخل�شب فيمثل �أولئك ال�ضحايا الأبرياء الذين ُيزج بهم يف
وحا�رضا فيها« ،دفعت �أمي بي وب�أختي زهرة �إىل ال�سيارة �أتون املعركة ،فُيقتلون دون �أن يعلموا ملاذا ُقتلوا �أو ما الذنب
ال�صغرية ب�رسعة» ،ثم يتخذ موقعا �آخر ،وزاوية ر�ؤية جديدة، الذي ارتكبوه؟ وملاذا يقاتلون؟ ومن هنا جند �أن احلرب تقابل
فينطلق من الر�ؤية اخلارجية لي�صبح راويا عليما« ،مل �ألتفت الث�أر ،واخل�شب يقابل ال�ضحايا (الأبناء) ،وهذه احلرب متثل
149 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
ت�رسيحة على املو�ضة ،مل يعجبه ال�شكل ،عاد �إىل امل�شط وفرق �إىل الوراء �أبدا لكنني �أعرف �أن �أمي بقيت ت�شيع ال�سيارة
�شعره من الو�سط ثم من اجلانبني ،مل ي�ستقر على الت�رسيحة بنظراتها� ،إىل �أن غابت متاما يف الطريق الطويلة �إىل عدن،
التي �سيظهر بها اليوم ،كان يتباهى ب�شعره اجلميل الأ�سود، بعد �أن غاب ولداها عن عينيها ،دخلت البيت و�أغلقت الباب
وبو�سامته ،لكنه كان يتباهى �أكرث بذكائه ال�شديد واجتهاده، وراءها ،انهارت على الأر�ض تبكي ب�صمت» ،الراوي هنا
وبكونه الولد الأثري لدى كل �أفراد عائلته الكبرية» ،وبافرتا�ض ي�رسد لنا �أحداث ًا ومواقف وقعت خارج نطاق ر�ؤيته وحتكمه،
�أن هذا امل�شهد ُيعر�ض �أمامنا على �شا�شة ال�سينما ،فنحن- ولكن ميكن القول �إنه رمبا تخيلها �أو اعتربها نتيجة طبيعية
حينئذ� -سرنى و�سامة ال�شخ�صية (عبداهلل) و�شعره اجلميل، معتادة ملوقف كهذا ،ومن موقع �آخر نرى الراوي العليم
وقد نعرف من خالل تدليله ل�شعره وعنايته الفائقة به، يروي لل�شخ�صيات الأخرى ،بينما هو خارج تلك الأحداث،
�أنه مكمن زهوه وافتخاره وتباهيه على من حوله ،لكننا وال ي�شارك يف �صنعها �أو تعيني م�سارها ،وبذلك يتحول �إىل
مل نكن لنعلم �أو حتى نت�صور -جمرد ت�صور� -أنه «كان راو �شاهد ،وذلك ما جنده -يف الف�صل الثاين -حني يتحدث ٍ
يتباهي �أكرث بذكائه ال�شديد واجتهاده ،وبكونه الولد الأثري الراوي ال�شاهد عن ال�شخ�صية (عبداهلل) ،منطلقا من �أ�سلوب
لدى كل �أفراد عائلته الكبرية» ،لوال وجود الراوي ال�شاهد، ال�رسد املو�ضوعي ،ويكون الراوي هنا «مبثابة الكامريا
الذي �أ�ضاف لنا هذه املعلومة التي انفرد مبعرفتها من ال�سينمائية التي تلتقط ال�صور والأ�شياء التقاطا حمايدا،
خالل معاي�شته لل�شخ�صية (عبداهلل) ومعرفته به ،ورمبا قد �آليا ،خارجيا ،حمايدا ،» ...تنقل الأحداث واملواقف وت�صور
يكون م�صدرها غري ذلك ،وال يقف الراوي ال�شاهد عند الأمور ال�شخ�صيات دون تدخل ٌيذكر ،من خالل الر�ؤية اخلارجية،
اخلارجية املتعلقة بال�شخ�صية (عبداهلل) ،والتي قد يعرفها وا�ستخدام �ضمري (الــ هو) للمروي عنه ،ويبد�أ الراوي ال�شاهد
هو� -أي الراوي ال�شاهد� -أو غريه ممن لهم ات�صال مبا�رش �رسده من �صباح ذات يوم عندما «وقف عبداهلل �أمام املر�آة
�أو غري مبا�رش بحياة تلك ال�شخ�صية ،بل يعمد �إىل ا�ستبطان مي�شط �شعره ،ابت�سم لنف�سه م�ستعر�ضا �أ�سنانه البي�ضاء
املنتظمة ،هذا دليل �صحة جيدة» ،بعد حدث الوقوف وما
ال�شخ�صية ،م�ستعر�ضا �أحوالها وم�شاعرها الداخلية ،كالقلق
�صاحبه ،يتنحى الراوي ال�شاهد مف�سحا املجال لل�صورة
واخلوف واالرتباك ،الناجت عن الفرحة الزائدة بتحقيق حلم
التي تظهر �أمامنا وبداخلها ال�شخ�صية (عبداهلل) مت�سائال:
ما� ،أو الو�صول �إىل غاية معينة ،ويتو�صل الراوي ال�شاهد
«والآن ماذا يا عبداهلل الو�سيم؟» ،يف حوار داخلي (منولوج)
�إىل كل ذلك من خالل حركات ال�شخ�صية (عبداهلل) ،الذي «مل
هو مبثابة التمهيد لبداية امل�شهد املليء بحركات ومواقف
ي�ستقر على ت�رسيحة معينة ،اليوم مميز ،وينبغي �أن يظهر فيه
ال�شخ�صية (عبداهلل) ،وتعليقات و�رشوحات الراوي ال�شاهد،
ب�شكل خمتلف ،و�ضع امل�شط على حافة املر�آة ،وذهب ليفت�ش
وك�أنه م�شهد �صامت يقوم املتلقي برتجمته ونقل احلركة
يف دوالبه عن �شيء ما ،عاد يحمل م�ش َّدة و�أمام املر�آة وقف ال�صامتة �إىل كالم و�ألفاظ ،م�ستندا على تعابري و�إمياءات
يلفها حول ر�أ�سه كما ر�أى �أباه و�أعمامه يلفونها من قبل»، ال�شخ�صية الأوىل وما توحي به ،وقد قام الراوي ال�شاهد بهذا
وبينما هو� -أي ال�شخ�صية (عبداهلل) -يقوم بذلك العمل العمل وك�أنه يعلًق على (ريبورتاج) ،تقوم فيه ال�شخ�صية
�أمام املر�آة ،ي�ستغل الراوي ال�شاهد املدة الزمنية – املطلوبة (عبداهلل) مبختلف احلركات واملواقف ال�صامتة ،بينما الراوي
الجناز ذلك – ب�إيراد �أ�سباب ومربرات عدم ارتداء ال�شخ�صية ال�شاهد يتدخل بالتعليق وال�رشح حني يتطلب الأمر ذلك،
(عبداهلل) امل�ش ّدة �أبداً ،ويف املقابل مربرات ارتدائه الآن لها، خا�صة ما يتعلق ب�إي�ضاح الأحا�سي�س الداخلية واجلانب
ورغبته الغام�ضة – التي ال يعلمها هو وال الراوي – يف ذلك، ال�شعوري (�إعجاب ،ده�شة ،قلق ...الخ) ،وربطه باملوقف �أو
ويعلل الراوي ال�شاهد تلك الرغبة الغام�ضة ،بكون امل�ش ّدة ُ احلركة املنا�سبة ،لتحقيق �أكرب قدر من الإبانة والإي�ضاح،
هدية من عم ال�شخ�صية (عبداهلل) – فهي مرتبطة �إىل حد ما وهذا ما �سنالحظه يف امل�شهد الآتي الذي يبد�أ -باحلركات
مبهديها – و�إ�ضافة �إىل �إعجاب ال�شخ�صية (عبداهلل) ب�ألوانها ال�صامتة التي تظهر يف ثناياها تعليقات الراوي ال�شاهد
«الأحمر والأبي�ض ،خطوطها ممتازة� ،شماغ �إجنليزي من من حني الآخر -دون �أن يكون هناك انف�صال بينهما ،بل
ال�صنف املمتاز كما يقول اخلليجيون... يبدو الأمر برمته ك�أنه ك ٌّل متكامل ،فبعد وقوف ال�شخ�صية
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) (عبداهلل) وما �صاحبه من حركات ..« ،نك�ش �شعره قليال،
جتارب و�شهادات
التعبري ،التي ت�رص امل�ؤ�س�سة الر�سمية� ،أنها من نتائج • �أحمد زين
الوحدة «املباركة»� .إذ مبعاينة ب�سيطة لهذه احلرية،
�سنجد �أنها جمرد خطاب واحد �إمنا بتلويناته عدة ،وكلها رهان الرواية
ت�صب يف م�صلحة امل�ؤ�س�سة الر�سمية ،التي �شجعت ودفعت لعله ي�صعب الكالم حول جتربة مل تكتمل ،وال تزال تبحث
عن اكتمالها ،الذي �سيبقى ناق�صا ،بيد �أن يف هذا النق�صان
ال�صحفيني للتعبري عن �آرائهم عرب ال�شتم وال�سب ،خالقة
ما يحفز على امل�ضي ،والكتابة تلو الكتابة .لعل واحدا من
ما ي�شبه الفو�ضى� .إن كثريا من ممتهني ال�صحافة يف
م�شاغلي الروائية االن�شغال بالتاريخ اليومي ،ليمن ما بعد
اليمن ينجرفون �إىل ممار�سة ما يحاربونه علناً ،يف�ضحون
الوحدة ،تلك الوحدة التي حتققت يف الورق ،وظلت الطريق
ظواهر اجتماعية و�سيا�سية �سلبية ،ويف املقابل يقب�ضون
�إىل الواقع .يف رواياتي الثالث «ت�صحيح و�ضع» و«قهوة
ثمن متويل �صحفهم من �شخ�صيات فا�سدة� .أو جتد �أن
�أمريكية» و«حرب حتت اجللد» يل رهاين اجلمايل والفني.
ال�صحفي يغري من انتمائه ويبدل والءاته با�ستمرار .كان
�إذ �أفيد من التحقيق ال�صحفي ،وال�سيناريو وكذلك تقنية
على قي�س ،ال�شخ�صية الرئي�سية يف «حرب حتت اجللد» الرواية داخل الرواية� .أي حماولة يف �أن يتحقق املو�ضوع
�أن يكون �صحفي ًا لنقف على ال�صعوبة يف التحرر من يف �أ�شكال عدة .وكل ذلك جزء من ا�سرتاتيجية ن�صية،
ا�ستحواذ امل�ؤ�س�سة الر�سمية ومنط تفكريها ،وكيف تغذي �أحاول التعبري من خاللها ،ومتثل طريقتي يف ر�ؤية الواقع
يف �أفرادها وتنمي طريقة معينة يف النظر �إىل الأمور والعامل وكيف �أتعاطى معهما.
وال�سبيل �إىل التعاطي معها. كيف �أكتب روايتي؟ �س�ؤال �أ�سا�سي ي�شغلني با�ستمرار،
لعل امل�سافة التي �أتاحتها يل �إقامتي خارج اليمن، قبل بد�أ العمل وخالل الكتابة وعقب االنتهاء منه .وكان
مكنتني من ر�ؤية الواقع من زوايا خمتلفة ،وبعني �أخرى، �أمرا مهم جدا بالن�سبة يل �أن تلفت م�شاغلي الفنية نقاد
ما جعلني �أتوغل يف تفا�صيل الن�سيج االجتماعي ،و�أب�رص كبار يف الوطن العربي واليمن .من ناحية �أخرى الرواية
غري املرئي يف املرئي من وجوه املجتمع ومالحمه ،ويف يف اليمن يف حاجة ما�سة �إىل مقرتحات �رسدية جديدة،
عالقات النا�س يف ما بينها .كل هذه الأمور كانت تقرتح نظرا �إىل �أن غالبية ما �أجنز من روايات ،منذ الأربعينيات
علي مقاربة فنية جديدة. امليالدية و�إىل الآن ،ال يزال بعيد عن متثل عنا�رص الرواية
ال تزال الرواية اليمنية يف بداياتها الفعلية ،على رغم احلديثة �أو احلداثية .كما حتتاج الرواية لدينا �إىل �صيغ
�أن �أول رواية ي�ؤرخ لها بعام .1939فالروائيون الذين فنية خمتلفة ،تنطلق من �آخر ما حتقق للرواية يف الوطن
�أ�صدروا روايات يف ال�ستينات وال�سبعينيات ورمبا العربي ،وت�أخذ يف االعتبار التطورات والطفرات التي
الثمانينيات كفوا عن الكتابة ،مل يعد �أحد من �أولئك، عا�شتها وتعي�شها الرواية يف العامل.
�أق�صد الأحياء منهم ،يكتب الرواية .فقط جمموعة قليلة �أحب الرواية التي تعالج مو�ضوعها من خالل بنية مركبة
من الأ�سماء تنتمي �إىل جيلي الثمانينيات والت�سعينيات، وذات م�ستويات وطبقات ،انطالق ًا من موقف جمايل،
هي من حتاول الكتابة اليوم .هذا يعني �أن هناك و�أكره �أن تتحول �إىل عمل منفلت بال معايري ت�ضبط �سيولة
حتوالت حدثت ،وهناك �أي�ضا كثرياً من املوا�ضيع املهمة ال�رسد وحتكم ت�شعب الأحداث ،وت�ؤ�رش �إىل غياب الر�ؤية.
واحل�سا�سة ،تفر�ض نف�سها �أكرث من �سواها ،ويف حاجة �إىل تبدو الرواية لدى وهي ت�سلك هذا الطريق ،ك�أمنا تت�أمل
تناولها روائياً. جمتمع �أحادي وراكد ،من منظور متعدد امل�ستويات .وهي
لذلك �أرى �أن الذهاب �إىل هموم خا�صة جداً �أو ذاتية ،يف تنطوي على حماولة الكتابة يف �أن تتقدم على �رشوطها
املعنى ال�ضيق للذاتية ،بعيداً من الق�ضايا املف�صلية التي االجتماعية ،وال تبقى �أ�سرية ملجتمع طاملا �أخفق يف
يعانيها املجتمع يف حلظته الراهنة ،ومت�س ع�صب احلياة توليد �رشوط الكتابة الروائية.
وتربك �أحوال النا�س �سيبدو ،لي�س �صعب ًا فح�سب� ،إمنا حاولت يف «حرب حتت اجللد» �آخر رواياتي� ،ضمن ما
�أي�ض ًا نوع من الرتف ،يف حال ح�صل .لكن من جانب �آخر، حاولته من �أمور ،الت�شكيك و�إثارة الأ�سئلة حول حرية
151 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
وال�رسدية ،و�إيقاعها اللغوي ،ف�إ ّنه �سيم�ضي �إىل التبينّ لعل يف مقاربة «العام» فر�صة لك�شف ما تعي�شه الذات
والك�شف بد ًال من الت�صنيف واحلكم. من هواج�س داخلية و�شكوك وخماوف يف مقابل هيمنة
يف «طعم �أ�سود رائحة �سوداء» مل �أهتم ب�شكل الكتاب رجال القبيلة وامل�ؤ�س�سة الر�سمية يف كل ما تعنيه من
وتو�صيفه ،حني بد�أت �أكتب �سطوره الأوىل� .أردته كعامل مزيف
�سلطة ومنطية يف التفكري ،تدفعها �إىل ابتكار واقع ّ
الأخدام ،يتنا�سل من �رسديات �شتى ،تاريخية واجتماعية و�إحالله بدي ًال عن الواقع احلقيقي .الأمر الذي يف غاية
ليكون �إيقاعه اخلا�ص .مل �أ�سمح ّ ومتخيلة،
ّ وواقعية يل كيف جتري مقاربة هذه الهموم؟ الأهمية بالن�سبة إ� ّ
مبرجعيات النظم ال�رسدية التعليمية �أن تتدخل يف حتديد �أي انطالق ًا من ر�ؤية روائية حتتكم �إىل �رشوط جمالية
م�سار الكتابة ،ف�إذ �أردت �أن يقرتب الكتاب من هذا العامل وا�سرتاتيجية فنية� .أي لئن هيمن العام على كل �شيء،
املتمرد ف�إنني مل �أعب�أ بتفا�صيل م�شهدية يظ ّنها الن ّقاد ف�إنه يف مقدور الروائي �أن يقرتح «خا�صة» ،عرب ر�ؤية
�رضورية ،و�أعتربها زائدة .حاولت �أن �أكون �أقرب �إىل جديدة ،تعبرّ عن نف�سها من خالل التقنيات وزاويا النظر
عامل الأخدام معاينة ومعاي�شة ،فر�أيت �أن ال�شخ�صيات �إىل الأحداث وت�شابكاتها.
امل�رسودة ال ميكن لها �أن تتطور �أو تنمو يف �أحداث
متتالية ،و�إ ّال لكانت بعيدة عن هذا العامل الذي يعي�ش فيه • علي املقري
(حمويني) م�ؤقتني ،ولي�سوا �س ّكان ًا م�ستقرين. ّ الأخدام كـ التجريب كبناء يف الن�ص
ال�شخ�صيات امل�رسودة عابرة ،تظهر فج�أة ّ ولهذا تبدو مل يبتعد هاج�س التجريب لدي عن منحى الكتابة بكل
حيناً ،وتختفي وتغيب فج�أة� ،أي�ضاً ،يف �أحايني كثرية ،بل متف�صالتها ال�رسدية ،ابتداء من ا�ستخدام املفردة �إىل
�إن املحتوى نف�سه يف ع�ش�شه وتاريخيته الهام�شية يواجه تركيب العبارة ون�سق الفقرة ،ومل يخرج هذا الهاج�س عن
يف النهاية �س�ؤال االختفاء املفاجئ ،بل واالنقرا�ض ،حيث تخوفات �شتى ،ال �سيما �أثناء ا�ستعرا�ض القراءات النقدية
اجلرافات تزحف نحوه ،خم ّلفة ال �شيء. م�ضت ّ التي ال ت�ستطيع �أن تقوم بعمل متفح�ص للن�ص ،على كل
هكذا ،اكت�شفت و�أنا �أم�ضي مع التدفق ال�رسدي غري امل�ستويات ،وو�صوال �إىل م�شتغل الرتجمة ونا�رشها الذي
املحدود ،يف جمل و�صفية خاطفة وتقريرية ت�ستدعي يحبذ مغامرة فنية تتجاوز امل�ستقر وامل�ألوف.
ال ّ
التوثيق والتاريخ ،دون �أن ت�ؤكدهما� ،أنني �أتكئ على �أ�ستذكر هنا ر�أيا لروجر �ألن �أحد �أبرز مرتجمي الأدب
مرجعتني يف ال�رسد ي�شكالن �أبرز قراءتي :طريقة �أو العربي �إىل الإجنليزية ،يـت�أ�سف فيه على �أن قراء الن�صو�ص
احلوليات يف التاريخ العربي ،بحيث يبد أ� ّ �أ�سلوب كتابة العربية «املن�شورة يف اللغة الإجنليزية يف�ضلون كثرياً
احلديث عن ال�شخو�ص وحياتهم انطالق ًا من خرب وفاتهم قراءة الن�صو�ص املرتجمة التي ت�ؤكد توقعاتهم فيما
الوفيات ،وهو ما ّ يف ال�سنة امل�ؤطِّ رة للأحداث و�أخبار يخ�ص القيم الثقافية والبيئية» .ويف املنطق نف�سه «ال
ميكن مالحظته يف حتديد ال�سنوات امل�رسودة (-1975 يريد ه�ؤالء القراء �أن يقر�أوا ن�صو�صا تعر�ض لهم �أمثلة
)1982مع عدم تراتبية الزمن اململ� ،إذ ي�صبح يف م�ساره الختالفات عنيفة عن قيمه الثقافية وتتحدى و�سائله
الظاهر هكذا: العادية يف قراءة الن�ص ال�رسدي اخليايل .ف�أحب القراء
(-1979-1978-1977-1976-1975-1981 للغة الإجنليزية (ثالثية) حمفوظ مثال لأنها مل تتطلب منه
)1982-1980مع تداخل �أزمنة �أخرى ،يف الزمان مواجهة غري املعلوم وغري القابل للفهم يف جمال الت�سل�سل
املحدد ،بع�ضها قدمية ،وبع�ضها معا�شة ّ � .أما املرجعية التاريخي لل�رسد وت�صوير ال�شخ�صيات الخ».
الثانية ،التي �أظن �أنني قد ا�ستفدت منها كثرياً ،فهي �أ�سلوب مع هذا القول لآلن ،ال يبدو يل �أن قراءة مبعايري م�سبقة
ال�رسد احلديث مبا يتيحه من لعب يف بناء الفقرة وتركيب ميكن �أن تنفذ للن�ص ،ف�إذا كان املحرر الأدبي يف دور
اجلملة ،بل ويف منطوق املفردة اللغوية وموقعها و�شكل الن�رش [الناقد� ،أي�ضاً] يقوم ،عادة ،مبهام مراجعة الن�ص
كتابتها� .إىل جانب امل�شهدية الرابطة ل�سياق الأحداث وفق قوانني ومقت�ضيات فنية ،ف�إنه �سيبدو له ،كما �أظن،
مقيدة يف �إطار وال�شخو�ص يف حركة مفتوحة غري ّ � ّأن رواياتي ال تلبي� ،رشوط ال�رسدية التقليدية �أو احلديثة
ن�صي مغلق ،حيث ي�صري من املمكن ا�ستدعاء التاريخي ّ [املكر�سة] ،املتعارف عليها ،يف كتابة الروايةّ � .أما �إذا
ّ
املتخيل،
ّ الن�ص داخل إدراجهما �و ال�سيا�سي والتوثيقي قر�أ الن�صو�ص من منطلق �أن لها خ�صو�صيتها الثقافية
152 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
الن�ص وتتنبه �إىل تعامله بحذر وقلق مع كلمات وحروف: ال للتوكيد على م�صداقيتهما ،و�إنمّ ا لتفكيك مرجعيتهما.
قال� ،أ�ضاف ،الذي ،التي ،لكن ،لن ،مل� ،إن� ،أن ،ذلك� ،آل فبدا الأ�شخا�ص مت�شابهني حيناً ،وخمتلفني حينا �آخر؛
التعريف� ،إلخ ..فال يوجد ح�شو �أو تو�ضيح ،و�أحيان ًا بل تتعدد ذواتهم نف�سها ،حتى ي�صري من ال�صعب القول
يتطلب البناء ال�رسدي من القارئ �أن يقوم هو برتتيب مبحمول �أيديولوجي ما .فزمن ال�رسد امل�ستذكر يف
البناء� ،أو اكت�شاف الغواية .الأمر نف�سه يف جوانب الرتقيم، �صفحات قليلة منه لزمن احلراك ال�سيا�سي الذي حاول
وبناء الفقرة[ .يف �ص 102مثالً] �ستجد فقرتني ،الأوىل االلتفات �إىل الأخدام يعطي لعباراتهم �شبه الفكرية مربراً
مقت�ضبة بعبارات متقطعة وق�صرية ،والثانية تبدو طويلة، متمردة وغري حمددة ّ يف ال�رسد ،لكنها عبارات تبقى
يف �سياق مت�صل ،يتالءم ما �سياق البناء ككل .هذا البناء �أيديولوجيا ،فالأيديولوجية ترد كمتناول �رسدي ،ولي�س
�صار حم ّفزا على االبتعاد عن �رسد التفا�صيل املعتادة منطلق ًا وغاية� ،إذ �أن �أي هدف �أيديولوجي لبناء �رسدي
وامل�ضي عرب �آلية �رسد مقت�ضبة كحال �شخ�صية رواية لن يتوافق مع عامل الأخدام الاليقيني غري املحدود ثقافة
مرتبة
تتذكر حياتها املعا�شة يف �أزمنة غري ّ«حرمة» وهي ّ وحياة.
وتبع ًا لإيقاع الأغنية التي ت�سمعها. يف هذا املنحى من احل�سا�سية ،كان التعامل مع خمتلف
مقت�ضيات ال�رسد الأخرى.
• حبيب عبدالرب �سروري وقد ت�ساءلت ،و�أنا �أتلقى عرو�ض ترجمة رواية «اليهودي
جتربتي الكتابية كيف �سيبدو حال (و)ّ � ،أول حرف يف الن�ص بعد �أن ُينقل �أو
املراحل الهامة لتجربتي الأدبية: ُيرتجم �إىل لغات خمتلفة؟
)1مرحلة الطفولة حتى �سن الرابعة ع�رش ،عام 1970 «ودخلت �سنة ، »....يبد أ� الن�ص هكذا يف بنائية ت�ستذكر
(� َّأود �أن �أ�سميها :مرحلة ال�شغف اجلذري!): أحتدث هنا كقارئ] ،من خالل �سارد �إ�شارات �شتى [� ّ
امل�رسح العام لهذه ال�سنوات :عدن عا�صمة جنوب اليمن (�سامل /اليهودي احلايل) ،له خلفيات زمنية ومكانية يف
ين
�آنذاك .مدينة كو�سموبوليتية ج ّذابة .مركز �إ�شعاع مد ّ معينة (يهودية� /إ�سالمية-عربية /عربية)، �أجواء ثقافية ّ
يف املنطقة .م�ستعمرة �إجنليزية .ثورة م�سلحة .ا�ستقالل، مقيدة ،ت�ش ّكلت مع
�إىل جانب خلفيات �أخرى مفتوحة وغري ّ
تلت ُه حربان �أهليتان .و�صول «الي�سار اال�شرتاكي العلمي» الن�ص ،من هواج�س الكتابة .التي و�إن م�ضت يف اكت�شاف
لل�سلطة يف ...1969 مزايا �رسدية عربية /عربية يف املرجعيات الثقافية
ثمة �إن�سان (بكل �إ�رشاقاته و«قتامته») ملأ حياتي القدمية امل�شرتكة ،ف�إنها حاولت ،يف م�ستوى من الن�ص،
الثقافية خالل هذه املرحلة� :أبي! مقيد �أو ملزم ملحدداتن�ص ،غري ّ �أن مت�ضي �إىل ت�شكيل ّ
وبف�ضل والدي جت َّذ َر ْت عالقتي باللغة العربية وبالأدب تقاليد اللغة القدمية يف بالغيتها التعبريية وبنائيتها
مي�سم يف الأح�شاء...
ٍ حتول َْت �إىل
العربي ب�شكل مب ّكرَّ ، الداللية ،الظاهرة يف �صياغة املفردة ،ك�أن ي�ستغنى عن
)2مرحلة ال�سبعينات اليمنية ،من �سن الرابعة ع�رشة، (و) الف�ضفا�ضة امل�ستخدمة بكرثة ،يف الكتابة العربية:
عام ،1970حتى ال�سفر للدرا�سة يف فرن�سا عام 1976 الأدب وال�صحافة.
التمرد الهادئ والكامل على ثقافة الطفولة): (مرحلة ّ أحتدث عن (واوين)( :و) لها خلفيتها يت�ضح هنا �أنني � ّ
«مد
الظروف العامة� :سنوات غريبة ،مثرية ،عا�صفةّ : ال�رسدية [ل�ست هنا يف جمال لأحتدث عن مكانة (و) يف
ريفيون ذووا
يوجهه يف الغالب ّ متخلف ٍّ ثوري» يف بلد الثقافة اليهودية ،التي هي جزء من مكونات ال�سارد� ،أو
كثري منهم �أن�صاف �أميني ...اجلو الثقايف ثقافة قبليةٌ ، عن جمالية بنائيتها يف �رسديات كتب احلوليات العربية
مملوء ب�شعارات وممار�سات ال عهد لأحد بها: القدمية] وتت�شكل يف الن�ص �ضمن �سياقات جمالية،
حتدد م�سار احلياة يف العبارة-املفتاح التي كانت ِّ و(و) حمذوفة ،بتق�صد يحاول جتاوز الت�شكل الكتابي
جنوب اليمن« :اال�شرتاكية العلمية» (�صيغة «�سوفت» الف�ضفا�ض يف �صياغة اجلملة العربية� ،إىل مقاربة ال تبدو
خمتارة بعناية كبديل للعبارات ال�صادمة :املارك�سية فيها الـ (و) �إ ّال � ...إذا تطلب موقعها ال�صوتي من ال�سارد �أو
اللينينة ،ال�شيوعية)... القائل يف الن�ص.
لتلك العبارة تبعات واختيارات �سيا�سية وثقافية يف هذا امل�ستوى ،من البنائية ،ميكن لقراءة �أن تتفح�ص
153 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
يف معهد لغة راق :الكافيالم� .ضمن برامج درا�سته حا�سمة منها :ت�سمية املرحلة ال�سيا�سية ب«مرحلة الثورة
زيارات ترفيهية وثقافية �أ�سبوعية لذيذة ملدنٍ ومعامل الوطنية الدميقراطية» واعتبارها ج�رساً نحو اال�شرتاكية،
�شيقة .يتجدد طالبه الآتون من كل �أنحاء العامل ٍ
باهرة ِّ يقودها حزب ثوري ،حزب العمال والفالحينّ ،ير�سي
متجددة .تعتقد �أنك ِّ غنية ممتعة يوميا .تعي�ش �صداقات ّ «ثقافة جديدة» (عبار ٌة كثيف ٌة هي الأخرى ،حتمل نتائج
يف حلم!... وتبعات كثرية)...
تكت�شف لغ ًة وثقاف ًة جديدة .تنده�ش :ال�صحف (مبا فيها لن �أدخل يف جدل حول جتربة «املد الثوري اليمني»
حرة بدون �صيغ �سيا�سية اللومانيتيه) ت�ستخدم لغة ّ بكل �إيجابياتها و�سلبياتها .هي يف ك ِّل الأحوال هامة
خ�شبية �أو دينية عتيقة ...اجلو مرتع باحلرية الفردية. داخلي ًا يف �سنوات الدرا�سة
ّ جداً لأنها جعلتني �أعي�ش جد ًال
كوكب �أعي�ش؟...
ٍ تت�ساءل :يف �أي الثانوية� :أفكار جديدة تت�صارع مع ثوابت �أفكار الطفولة
كتيار كهربائي، بع�ض جتارب احلياة اليومية تعربك ّ يفواقع ثقا ٍّ
(امل�أ�ساة تكمن عندما ال يعي�ش الإن�سان يف ٍ
ُتغيرِّ نظرتك للحياة .االندها�ش وال�صدمات ال تتوقف. يتحجر ّ تعددي ،وال ت�صل ُه �إال ر�ؤية �أحادية للكون واحلياة.
ُّ
تع�شق الريا�ضيات ُ لي�ست �أق ّلها ال�صدمة الدرا�سية� :أنت الدماغ حينها ،يتقوقع يف ق�ضبان الثقافة املكت�سبة،
لكنك مل تدر�س (مثل الطلبة املغاربة) الريا�ضيات أحادي ِة اجلانب ،بال�رضورة)...
ثقافة «القبيل ِة» ال ّ
احلديثة يف منهجك الدرا�سي اليمني الذي عفى عليه خا�ص ًة تركَ ْت هذه ال�سنوات
على ال�صعيد الثقايف والأدبي ّ
الزمن .عليك �أن تتع ّلم �أ�شياء كثرية �إذن لتواكب هذا العامل �آثاراً رئي�سة يف تكويني.
اجلديد... وثقافي ًا
ّ (لغوي ًا
ّ كخال�صة� ،أحتفظ جلديد هذه املرحلة
ثم تبد�أ من التمكن تدر�س ،تناق�ش ،تتفاعل مع اجلميعّ ... وفكرياً) بامتنان خال�ص.
ّ
من اللغة الفرن�سية .تدغدغك حينها الرغبة يف القراءة
الأدبية. كتاباتي يف هذه املرحلة:
أدبي �شبه �صنف � ٌّ ٌ تبحث عن الق�صة الق�صرية .ال جتدها! ن�رشت � ّأول ق�صيدة يف جملة «احلكمة» اليمنية و�أنا يف ُ
ت�سائل �أ�صدقاءك« :ملاذا ُ غري معروف ...ت�ستغرب كثرياً!... الرابعة ع�رشة من العمر ...جل� ُأت ،مثل مو�ضة تلك الأيام،
ال يقر أ� النا�س هنا ال�شعر �أو الق�صة الق�صرية؟»... نوع من الغمو�ض. الت�شبث بالرمز واالجنراف نحو ٍ ّ �إىل
التجدد،
ّ كلي النهائي مل ٌّ باخت�صار �شديد ،الرواية عا ٌ الق�صائد �صعب َة الفهم قرب ال�سابعة ع�رشة ،لأن َ مللت
ثم ُ ّ
تلتقي فيه ك ّل الأمزجة ،ك ّل التيارات القدمية واحلديثة، هبّ من لذلك أ �يلج مفهوم. غري ً ا �شعر يكتب �صار اجلميع
دون قوانني �أو تر�سيمات وحدود... ودب ،ومل تعد هناك �إمكانية لتمييز ق�صائد هذا عن ذاك...
تالحظ �أن اجلن�س الروائي الأنبل والأكرث �أهمية هو دون يلهث وراء �صناعة ال�صيغ حاولت كتاب َة �شع ٍر ال ُ ُ بعد ذلك
التخيل»! هو الأ�صعب بال�رضورة ،ال�سيما ّ �شك« :جن�س وجدتُ املعنى. وغمو�ض ف ثّ املك والرمز دة ق
ّ املع اللغوية
تف�ضل املحاكاة �شخ�ص �ص َن َع ْت ُه ثقاف ُة طفولتك التي ّ ِل ٍ ن�ص بهذه املوا�صفة! َق َّل ْت ب�شكلٍ �صعوب ًة يف كتابة ٍّ
والتقليد على االخرتاع واحلرية ...يبدو لك بعد تفك ٍري �رصت قادراً على كتابتها! ُ خميف عدد الق�صائد التي
جتارب
َ خرتع من اجلذر رواية َت ُ ٍ طويل �أن م�رشوع كتابة أتذك ُر منها ق�صيدة يف الثامنة ع�رشة بعنوان« :لأمي � َّ
جتارب ب� ِرش الواقع َ �إن�سانية وعوامل تخيلية جديدة ُت�ش ِب ُه وهي متحو �أميتها» من وحي جتربتي يف تعليم � ّأمي
إبداعي �شدي ُدٌّ فكرية رهيبة ،عم ٌل � ّ وعوامله ،مغامر ٌة أمية خ�ضم حملة حمو ال ّ ِّ القراءة والكتابة يف املنزل يف
ال�صعوبة والإعجاز... يف منت�صف �سبعينات جنوب اليمن.
تقدم قراءاتك �أن الرواية احلديثة معم ٌل يت�أكد لك مع ُّ )3مرحلة فرن�سا ،منذ 1976حتى ( 1992مرحلة
تفج ِر الذات ،لإعادة ف�ضاء ِل ُّ ٌ ين للخيال قبل كل �شيء، كو ٌّ الده�شة والوالدة اجلديدة).
خلق و�صياغة التجربة الإن�سانية. عندما ت�صل من ال�شيخ عثمان �إىل فرن�سا ،ل ّأول مرة يف
أهم
ال�سنوات الع�رش ،من 1983حتى ُ ،1992ت�ش ِّك ُل � َّ ب�صدمة ح�ضارية .التاك�سي يعرب ٍ ت�صاب
ُ عام ،1976
وتنوع ًا وده�شة. �سنوات حياتك العلمية و�أكرثها كثاف ًة ّ معامل باري�س �صوب «حمطة قطارات ليون» باجتاه
بد� َأت فيها بدرا�سة املاج�ستري يف جامعة باري�س ،6 في�شي .مدينة �أر�ستقراطية هادئة .تدر�س اللغة الفرن�سية
154 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
دو ٍ
امة تراوح يف َّ
ُ أم�ست
بها والت�أثري يف �سريورتها التي � ْ بحث دقيقٍ ملا ين�سجم مع رغباتك العلميةّ .
ثم بعد ٍ
�صنع التخلف والعجز عن مواكبة
ِ من اجلمود و�إعادة الدكتوراه يف 1987و�أطروحة الت�أهيل ِلقيادة الأبحاث
الع�رص... جامعي.
ّ بالتحولِ �إىل بروفي�سورٍ ُّ ت�سمح
ُ يف 1992التي
ع�شت فيها اللحظات التكوينية َ جداً�سنوات كثيفة ّ
• وجدي الأهدل عت خاللها بظروف رغدة لثورة الكمبيوتر و�أنرتنت ،مت ّت َ
قررت ان �أبيع نف�سي للأدب.. خمترب علوم الكمبيوتر ُ و�إمكانيات كبرية وهبها لأبحاثكَ
يف �سنوات املراهقة� ،أحببت فتاة يف مثل عمري .وهذا النظرية والتطبيقية (يف جامعة باري�س 6و ،7الذي
احلب العذري ،بدل حياتي تبديال ،و�أثر على �شخ�صيتي، ي�ضم فريق جامعة روان)� ،أكرب و�أهم خمتربات �أبحاث ُّ
فتحولت من ولد اله ٍ عابث� ،إىل �شاب جاد يفكر ويت�أمل فرن�سا يف علوم الكمبيوتر.
يف م�ستقبله ،ويخطط لتحقيق حياة م�ستقرة .وبالطبع )4فرن�سا ،منذ :1992
كانت تلك احلبيبة ،ت�شغل حجر الزاوية يف جميع يومي تلك العطلة خام ًال ممُ ّدداً على الفرا�ش ،ك�أنك يت َ ق�ض ََّ
الأحالم الوردية التي ر�سمتها يف خميلتي. وحيد كان مي أل ٌ ؤالٌ س� � أ�شهر! � وب�ضعة ا
ً عام 35 منذ تنم مل
كنت �أمام خيارين : جديد ،غري َ علمياً :ال
دماغك« :ماذا �أري ُد عمل ُه الآن؟»ّ ...
الأول العمل يف التجارة ،والثاين �إنفاق الوقت يف كتابة موا�صلة م�شاريع الأبحاث وقيادة �أطروحات الدكتوراه
الأدب. اجلامعي� .أدبياً :كل �شيء ّ يف املخترب وا�ستمرار التدري�س
لقد كان نداء الأدب ي�صعد من روحي قوي ًا وا�ضح ًا، لتحرر من قمقمها ثمة موا�ضيع �سجينة ترنو ِل ّ تقريباً! ّ
لكنني مدرك �أي�ض ًا �أن الأدب ال يجلب ماالً ،وال يحقق والرق�ص على الورق ...ال ح َّل �إذن �إال احلياة املزدوجة،
للمرء حياة رغيدة .تفكريي �آنذاك كان من�صب ًا على تعامدين� ،إن�شطار الكينونة :ممار�سة الت�س ُّكع يف ُبعدين ُم ِ
توفري املال ،لأمتكن من االقرتان بن�صفي الآخر ،قبل �شغ َفني ،زم ٌن لهذا وزم ٌن لذاك...
اب �آخرون كانوا يحومون حولها .كنت �أن يخطفها ُخ ّط ٌ اليوم املوعود وت�سا�ؤالته ِ بد� َأت بعد �شهرين من ذلك
�أعرف �أن بنت ًا يف مثل جمالها الطاغي لن تتخطاها االن�شطارية ،بكتابة � ّأول رواياتك« :امللكة ّ الوجودية
ّ
العيون ،و�أنني ل�ست وحدي املتيم املفتون .هكذا غ ّلبت املغدورة» بالفرن�سية التي كانت لغة قراءتك الوحيدة
�صوت القلب على نداء الروح ،فدخلت يف م�شاريع جتارية خالل �سنوات ...ما �إن �أكملتها وقر� َأت ترجم َتها بالعربية
دون خربة تذكر ،ففتحت مكتبة لبيع الكتب والقرطا�سية الذي كتبها الأ�ستاذ الروائي البديع املبدع علي حممد
وخ�رست ،وفتحت بقالة �أكلت روحي و�أحلقت بي خ�سارة �شغف القراءة والكتابة بالعربية ،لغة ُ زيد حتى ا�ستيقظ
فادحة ،واجتهت �إىل �أعمال �أخرى بق�صد الك�سب ال�رسيع، ثقافتك الأوىل ،بجانب الفرن�سية ،وعادت مئات الكلمات
كبيع ال�ساعات وقطع غيارها ،ولكنها جميع ًا انتهت كتبت بعدها بالعربية: َ املن�سي ِة دفع ًة واحدة... َّ العربية
بي �إىل الف�شل الذريع والإفال�س التام� .أي عمل جتاري احلب» ،املجموعة الق�ص�صية: ّ «�شيء ما ي�شبه ٌ ديوان
كنت �أدخل فيه ي�صاب بالنح�س ،ويت�سلط عليه الك�ساد، �شعرت بعد ذلك َ حرى من مملكة املوتى». «هم�سات ّ
فال �أجنو من الديون واجلرجرة �إىل ال�سجون �إال بالكاد. ب�إمكانية الدخول يف مغامرة كتاب ِة رواي ِة بالعربي ِة التي
وعقب كل مغامرة جتارية فا�شلة ،كنت �أجد نف�سي �أعود كتبت ثالثيتك الروائية َ عادت الآن كلماتها ال�ضائعة.
�صاغراً ذلي ًال �إىل بالط الأدب وخ�صو�صا الرواية ،ولي�س ي�ضم جمموعة ُّ كتاب ٌ الأوىل بالعربية« :دمالن» .تالها
لدي ما ي�سرت عورتي �سوى الورقة والقلم .ت�سببت هذه ظهر منها وما مقاالت حديثة ،بعنوان «عن اليمن ،ما َ
اخل�سائر املالية املروعة يف �إ�صابتي بالي�أ�س من الفوز ثم رواية «طائر اخلراب» ،و�أخرياً اجلزء الأول من بطَ ن»ّ ،
باحلبيبة ودفع مهرها ،و�شعرت ب�أنني كائن فائ�ض «عرق الآلهة»... رواية َ
عن حاجة الوجود ،وفكرت جدي ًا يف التخل�ص من مل تتو َّقف طوال هذه ال�سنوات من االن�صهار بهموم
عار البقاء حي ًا و�أنا مثقل بكل هذا الكم من الهزائم.. اليومي مع �أهلها ،من ّ احلياة يف اليمن ،من التوا�صل
يف الليلة التي اتخذت فيها القرار بوعي كامل ،فكرت ال�شوق وال�سفر �إليها و�إىل كثري من الدول العربية...
�أن �أقوم بجولة �أخرية �أودع فيها العامل .خرجت �إىل ت�شدكَ للت�أ ُّثر
ثقاف ُتك العربية الأوىل ت�سكنكَ حيث ما كنتُّ .
155 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
واقع
وبينك ال تكفي .ما حتتاجينه هو حتويل الإجابة �إىل ٍ ِ ال�شارع بعد منت�صف الليل ،وكانت املدينة كلها نائمة،
حياتك بني ِ ير�ضيك ويحقق التوازن الذي تن�شدينه يف ِ وعندما نظرت �إىل ال�سماء وت�أملت النجوم ،انفتح �شيء
ألت نف�سك يفِ التخ�ص�ص العلمي والهواية الأدبية!� ...س� ِ يف داخلي ،فراغ ي�شبه البئر� ،أو مغارة �رسية تغري
املرة الأوىل بعد االنتهاء من درا�سة الهند�سة املعمارية: بدخولها ..وهكذا تو�صلت �إىل ت�سوية معقولة ،فقررت
�سرت�ضيك الإجابة ب�رضورة العودة للكتابة، ِ ماذا بعد؟ بد ًال من م�صافحة املوت� ،أن �أبيع نف�سي للأدب .منذ تلك
ِ
ل�شغفك الوحيد الذي جتدين فيه ذاتك .للبوح مبكنونات ِ الليلة احلا�سمة يف حياتي� ،أ�صبحت مدين ًا بحياتي لقوة
حولك� .ستفعلني و�ستقررين ِ ِ
وبتفاعلك مع من ِ
ذاتك غري مرئية ا�سمها «الأدب» .وخا�صة الرواية ..لقد �أخذت
ا�سمك يف ِ ن�رش ما تكتبني بقوة العودة وب�إ�رصار نحت عهداً على نف�سي برتك العمل التجاري نهائي ًا ،و�أن
أ�سمك الذي ف�ضلتيه يف ال�سابق عامل الق�صة الق�صريةِ � . �أهب عمري كله للكتابة� .أعتقد �أن هذا كان �أ�صعب قرار
م�ستعاراً ،ال بد �أن يجاهر بحقه يف الظهور وبقوة هذه اتخذته يف حياتي ،لأنه كان يعني �أي�ض ًا التخلي عن
طريقك م�ؤ�رشات تقول ان اال�ستمرار ِ املرة� .ستوم�ض يف احلبيبة ،وتركها مل�صريها .بعد �سنوات قليلة ،تزوجت
يحتاج �إخال�ص ًا �أكرث ،فجائزة عربية «�سعاد ال�صباح فتاة �أحالمي ،و�صار لها بيت وذرية ،وعلمت �أنها حتيا
ثم جائزة حملية «رئي�س اجلمهورية حياة عائلية �سعيدة .و�أما �أنا فكنت ما �أزال �أتخبط
»2001ومن َّ يف بداياتي الأدبية ،ومل �أمتكن من ن�رش �أية ق�صة .منذ
»2002ت�شجعان على التفاين لال�ستمرار وحتقيق جناح
ِ البداية �أدركت �أن الإخال�ص التام للأدب وتكري�س حياة
�ستحا�رصك بعد �إثبات الذات الءات كثرية �أكرث و�أكرث...
ب�أكملها لأجله ،يعني ال�صرب على الفاقة ،وجترع مرارة
روحكِ من حولك ،وحماذير جمتمعية قبلية دينية ،تقيد
الفقر .ولذلك اتخذت �أ�سلوب ًا متق�شف ًا يف احلياة ،ي�ساعدين
املنطلقة للأدب ،و�شغفك الالمتناهي لال�ستمرار .بعد يف احلفاظ على ا�ستقالليتي قدر الإمكان� .إن �أ�سو�أ �شيء
معارك �إثبات الذات� ،ستبد أ� معارك تثبيت الذات يف هذا يتعر�ض له الكاتب �أينما كان ،هو ا�ضطراره حتت �ضغط
حولك� .ستجدين �أن احلل ال يتطلب ِ الثالوث املخيف من احلاجة �إىل بيع روحه..
وحتمل تبعات هذا احلل ّ �أكرث من �إ�رصارٍ على اال�ستمرار، لقد جربت كتابة الق�صة الق�صرية والن�ص امل�رسحي
من �أمل وحزن و�شعور قاتل بالوحدة والظلم. وال�سيناريو الأدبي ،والحظت �أن كتابة الرواية ت�ساعدين
عليك ال�س�ؤال بعد ثالث جمموعات ق�ص�صية ِ �سيلح على �أن �أقدم �أف�ضل ما عندي .فن الرواية ي�سمح للكاتب
«زفرة يا�سمني « »2000دحرجات « »2002تق�رش ب�أن ي�رسد ب�صورة ر�أ�سية ويحفر عميق ًا للبحث عن
غيم ،»2004ورغبة ملحة يف الغو�ص يف �أعماق الذات اجلذور .الذين يكتبون الرواية ب�صورة م�سطحة هم الذين
فيك �ساكنٍ و�أعماق املجتمع .يف نب�ش كل ما يحرك ِ يح�سبون �أن الفارق بني الق�صة الق�صرية والرواية يكمن
ويتما�س �أو يتقاطع مع كل من حولك ،يف ا�سرت�سال يف عدد ال�صفحات :التمدد الأفقي على الورق!
حلمت به، ِ البوح ويف مزج الواقع بالتخييل الذي اليوم وبعد مرور ع�رشين عام ًا على قبويل عبوديتي
ولتطلقي لروحك العنان للتحليق يف كل اجتاه. املختارة لل�سيد امل�سمى «الأدب»� ،أرى �أن قراري كان
ماذا بعد الق�صة الق�صرية؟ كلمة رواية كانت مرعبة �صائب ًا ،كما �أنني ل�ست نادم ًا على تركي عامل التجارة
ج�سدك مراراً! كيف ِ وخميفة� ،أرجتف ملرور كتابتها املتوح�ش .رفاقي الذين اختاروا طريق التجارة ،رمبا
نف�سك يف ِ �ستلجني هذا العامل املده�ش؟ وكيف �ستثبتني حققوا مكا�سب مالية ،لكنهم يعي�شون حياتهم يف قلق،
زمن �أ�صبح هو بالفعل زمن الرواية؟ تتجلى يف �أعماقك لأن املال ذو طبيعة فانية ،من املمكن �أن يتبخر يف
أنك عا ٍمل عبارة «�أو�سكار وايلد :كن نف�سك! لتوقني �أكرث ب� ِ �أية حلظة م�ش�ؤومة .لكن بالن�سبة للأدب ،ف�إن الو�ضع
مبحيط بكر ،وما يحتاجه هو رغبة حقيقية ٍ ملي ٍء وزاخ ٍر خمتلف جداً ،لأن ر�أ�سماله املعنوي ينمو بهدوء يف خط
يف االكت�شاف! و�أن مواده اخلام ثروة �أدبية تبحث عن �صاعد ،حمقق ًا ل�صاحبه ال�سرت واحلظوة واخللود.
�إدراك حقيقي لقيمتها .ماذا تكتبني؟ �س�ؤال كان البد
ِ ِ
• نادية الكوكباين
بذاتك فال ميكن لك من الإجابة عليه ب�صدق� .ستبدئني
أنت بحاجة للتخل�ص من تراكمات لك �أن تتخطيهاِ � . ِ كلمة رواية مرعبة وخميفة!
طفولة نقية ومراهقة ملوعة باالكت�شاف ،واحلاجة �أي�ض ًا حياتك! الإجابة عليه ِ
بينك ِ يتكرر مرور ذات ال�س�ؤال يف
156 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
يقولون عنها او اللغة التي ابهرتهم او املوا�ضيع التي للتخل�ص من ممار�سات ثقافية وجمتمعية منطية ،مل
مت تناولها بطريقة خمتلفة. ترتك لك واحديتها حرية االختيار �أو البحث عن التعدد
لت�أتي التجربة الروائية الثالثة («�صنعائي» حتت الذي �ستكت�شفينه الحقا يف العامل ويف الذوات الب�رشية.
الطبع )»2013لت�شعري � ِ
أنك تكتبني بوعي �أكرب ومبزاج �ستبدئني الكتابة بخوف البداية وخجل االرتباك...
عالٍ يف ان تكوين النموذج الأوحد لذاتك فقط ذاتك يف �سيظهر يف حياتك من ي�شجعك متاما كما �سيظهر من
الكتابة ويف احلياة. يثبط من عزميتك ويح ّقر بدايتك ...ال يهم �ستكونني نف�سك ّ
كما قال او�سكار وايلد� .ستفعلني ما ترينه �صحيح ًا وما
• الغربي عمران أنك تتفاعلني مع يقنع ذاتك .يوم ًا عن يوم �ستوقنني ب� ِ
بناء العمل الروائي. أعماقك ومع حميطك بقدر تفاعل الآخرين من حولك مع ِ �
مل �أكن �أعلم ب�أين �أمام عمل له روح مراوغة� ..أو هكذا أنت عليه يف الواقع ن�صو�صك� ...ستجدين ان التميز هو ما � ِ
�أح�س�ست ب�أين �أمام كائن له روح متمردة .تلك هي متيزك ولتعتربيِ �أو يف عامل التخييل الذي تن�شديه لترثي
يدي. ِ
نف�سك النموذج الأوحد الذي لن يتكرر.
الرواية التي ما زالت بني َّ
فبعد �أن فرغت من رواية (ظلمة اهلل) �أو كما عدلت �أ�سمها �ستمر التجربة الأوىل يف رواية «حب لي�س �إال .»2006
بـ (ظلمة يائيل) ..فكرت بكتابة عمل جديد ..عمل كانت نف�سك يف نهايتهاِ ِ
وجدت مل تكن �سهلة ومل تكن �صعبة.
علي �أثناء ان�شغايل بكتابة الظلمة ،حني أنت كتبت الرواية فعلت؟ من كتب من؟ � ِ غري مدركة ماذا ِ
فكرته قد طر�أت َّ ذاتك كما فعل كتبتك؟ �ستتل�ص�صني على ِ ِ �أم هي التي
تبادر �إىل ذهني �س�ؤال ( من هم الذين قاموا بالثورة �ضد
الإمامة الزيدية يف اليمن عام 1962؟) كنت قد قر�أت ال ُقراء! �س ُتحا�رصين بالأ�سئلة من كل جانب� .سيكررون
�سابق ًا بع�ض الكتب التي ت�شري �إىل جمموعة من الطلبة ما يرتدد يف �أعماقك بطرق خمتلفة :من كتب من؟
من عدة مدار�س للجي�ش هم من خططوا ونفذوا الثورة، �ستهربني وتقولني �أنا من كتبت لكن ما ُكتب ل�ست �أنا!!!
لكن طلبة مدار�س الأيتام كانوا �أ�سا�س تلك املجموعة.. �ستجدين نف�سك بني مطرقة املجتمع و�سندان الذات
�أخذت �أبحث يف نظام تلك املدار�س ..وركزت �أكرث على الراغبة يف اال�ستمرار والغري قادرة على املواجهة �أو
مدر�سة الأيتام حيث تتم تن�شئة الطلبة يف نظامها الإجابة على كل تلك الت�سا�ؤالت �أو حل كل تلك امل�شاكل.
الداخلي ..وكذلك ذهبت للبحث يف نظام الرهائن الذي �آ�آ�آ�آ�آه من تلك امل�شاكل!!!
كان يتبع الأئمة يف اليمن ..كتب �أ�شارت �إىل دور �أولئك �ستمر التجربة الثانية رواية «عقيالت »2009بردود فعل
الرهائن يف الثورة الذين ي�أخذهم الإمام وهم �صبيان خمتلفة� ،صادمة وحمرية يف بع�ضها ،لكنها مر�ضية يف
من �آبائهم م�شايخ القبائل ل�ضمان والئهم ..حيث جانبها الآخر ويف تفاعل املتلقني واملتذوقني للعمل...
ي�ستخدم �صغار ال�سن منهم كخدم يف الق�صور ..ومن لكنك بها �ستتحررين من �شعور ان ينال العمل ر�ضا
جتاوز �سن البلوغ ير�سل لل�سجون. وا�ستح�سان كل من قر�أه و�أي�ضا التحرر الأكرب من واجب
وما �شغلني يف الأمر هي طبيعة تكوين �أولئك الثوار الكتابة يف مو�ضوع �سبب لك امل ًا غائراً لن يخبو مع الزمن.
�سواء يف مدار�س الأيتام �أو يف ق�صور الإمام و�سيوف لك الن�شوة و�صول الروايتني للطبعة الثالثة ي�سبب ِ
الإ�سالم �أو يف ال�سجون. ويحفزك على اال�ستمرار .وخالل تلك الفرتة تلتقطني
قر�أت عدة مذكرات لبع�ض �أولئك الثوار ..وكتب ًا �أخرى ق�صة هنا وق�صة هناك .تتفاعلني مع ما يدور حولك
فتكتبني م�سودة لق�صة �أو فكرة ت�ستحق االجناز .تكت�شفي
حول حياة الق�صور ..ونظام ال�سجون ..لأكت�شف ب�أن
يخب يف داخلك رغم متعة ان حب الق�صة وكتابتها مل ُ
اجلميع كانوا قد ن�ش�أوا يف و�سط مت�شابه ..حيث ال�سكن كتابة الرواية لتكون املجموعة الق�ص�صية الرابعة
الداخلي وال�سجن الداخلي ..ال يوجد �سوى ذكور ويف «عادة لي�ست �رسية »2012عمال مغايراً ومتقدما
الق�صور لهم حياة مرتفة ت�سودها حياة الغلمان ..وهنا على م�ستوى اللغة واملو�ضوع وهذا ما �سمعتيه من
ا�ستنتجت �أن معظمهم قد يتعر�ضون لالعتداء اجلن�سي.. الآخرين وما انتابهم من �شعور اثناء القراءة اما انت
�سواء يف الق�صور امللكية� ..أو ال�سجون� ..أو يف حياة فهي املمار�سة والرتاكم الذي احدث تلك النقلة التي
157 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
خ�صائ�ص ال�شخ�صية يقود �إىل تغيري �شامل يف بناء ال�سكن الداخلي ملدار�س الأيتام ثم مدار�س اجلي�ش ،التي
م�رشوع العمل الروائي. كان بها �سكن داخلي للطلبة ..و�أجزم يف كل احلاالت �أن
كنت قد بد�أت �أ�شك يف �أن لهذا العمل غمو�ضه� ..إذ �أن �أولئك الطلبة مبجرد �أن يتحولوا �إىل معلمني وموظفني
�أعادة ال�صياغة من جديد �أخذت مني وقتا وجهدا يتحولوا من مفعول به �إىل فاعل وقد ي�ستمر بني بني..
م�ضاعفني عن ال�صياغة الأوىل� ..سهرت عدة �أ�شهر حتى بحثت حول معرفة الأئمة مبا يدور خلف تلك اجلدران..
�أجنزت مائة وثمانني �صفحة ..احلقيقة كنت �سعيدا وهل تلك كانت �سيا�سة �أم �أنها جاءت بظروفها كون تلك
ورا�ضي ًا مبا �أجنزت ..فقد جاءت �إعادة �صياغة امل�رشوع الفئة من الطلبة والرهائن يف �أعمار �صغرية؟ �إ�ضافة
بعمل �أكرث متا�سكا كما تعددت فيه املعاجلات� ..إ�ضافة �إىل وجودهم مع �أقران لهم يف مكان هو الأقرب �إىل
�إىل ا�ستخدامي لأ�ساليب فنية فيها نوع من الت�شويق نظام ال�سجون ..مل �أجد جواب ًا.
والإغواء ..وكنت قد حددت فرتة زمنية لإجناز بقية هذه م�س�ألة �شغلتني ..وظل �س�ؤال يرتدد بداخلي (ما
الرواية حتى نهايتها ب�ستة �أ�شهر لتدخل يف مرحلة طبيعة تكوين من قاموا بالثورة ..وما هي خلفيتهم
املراجعة والتنقيح عدة �أ�شهر �أخرى� ..إذ �أين �أف�ضل بعد الرتبوية؟) لتقودين مطالعاتي يف عدة كتب �إىل معرفة
�إجناز �أي عمل ان �أ�ست�شري بعد �أكرث من قارئ جيد قبل �أكرث ات�ساعا ب�أو�ضاع املجتمع يف ذلك الوقت ..من
�إر�سالها للطبع. الناحية الدينية واالجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية..
لكن طارئ ًا جديداً حدث وفقدت هذه املرة ما مت كتابته ليرت�سخ يف ذهني مو�ضوع �أ�شمل لكتابة عمل روائي
بالكامل ..فحني كنت وال�صديق الروائي وامل�رسحي جديد حموره الثورة اليمنية .وظروف املجتمع �آنذاك
منري طالل نقوم بواجب العزاء لوزير الثقافة يف �صنعاء وحياة الق�صور ..وطبيعة الثورة� ..إ�ضافة �إىل �أثر
د .عبداهلل عوبل بوفاة والده ..تركت حقيبتي يف ال�سيارة ال�رصاع العربي العربي عليها وكذلك ال�رصاع العاملي
ودخلنا قاعة العزاء لنعود بعد ن�صف �ساعة وقد تبخرت بني الكتلتني الر�أ�س مالية واال�شرتاكية.
احلقيبة من داخل ال�سيارة ..كان جهاز احلا�سوب كنت �سعيدا بتبلور ذلك املو�ضوع يف ذهني ..وبعد �أن
الـمحمول الذي �أجمع فيه الرواية بداخل احلقيبة ..مل فرغت من قراءاتي ..بد�أت بو�ضع خمطط زمني للعمل
�أحزن على فقدان رخ�صة ال�سيارة �أو بطاقتي ال�شخ�صية الروائي ..كتبت ت�صورا للبداية ثم �سري الأحداث ..طبيعة
وبطائق ع�ضوية لعدة منظمات ..وال على �صور كثرية �شخ�صيات العمل عالقاتهم ..ثقافاتهم ..امل�ساحة
وموا�ضيع �أخزنها بداخله ..كل ذلك ال يهم ..فقط ما جعل اجلغرافية للأحداث ..ثم بد�أت بال�صياغة الروائية..
ج�سدي يتعرق ب�شكل غريب وكدت (�أبرجل) �إح�سا�سي كان يف ذهني �أن ي�صل العمل �إىل الـ(� )400صفحة ..ما
بفقد ما �أجنزته للمرة الثانية من م�رشوع الرواية.. يقارب عقد ما قبل الثورة وعقد بعد الثورة.
جل�ست �أ�ستجمع قواي� ..أفكر و�أمتنى �أن يكون الل�ص ذكيا خالل ع�رشة �أ�شهر من بدء الكتابة اليومية امل�ستمرة
ويتوا�صل معي ليفاو�ضني على قيمة ن�سخة الكرتونية �أجنزت ما يقارب املائتني �صفحة� ..شعور ب�سال�سة
من م�رشوع الرواية لدفعت له ما �أ�ستطيع دفعه ..على و�سهولة ال�صياغة رافقني ..لكني فج�أة توقفت� ..أخذت
�أن ي�أخذ بقية غنيمته ..فقط ي�سحب يل املادة يف فال�ش �أبحث عن �أ�سباب تلك ال�سهولة ..ويف حلظة اكت�شفت �أن
تكرمه بذلك ..ظل الأمل يراودين ..ن�رشت و�أدفع ثمن ّ قلة �شخ�صيات الرواية هي ال�سبب ..وفكرت يف ا�ضيف
اخلرب على �صفحتي (الفي�سبوك) وعلى بع�ض ال�صحف �شخ�صيات حيوية ..وكذلك تغيري بع�ض خ�صائ�ص
ع ّله يقر أ� ذلك ..لكني اكت�شفت �أن الل�صو�ص دوما �أغبياء.. ال�شخ�صية الرئي�سية كتيمة معينة ..مثله مثل �أبطال
ابتعت حا�سوبا �آخر واحتطت ب�رشاء فال�شني �أحدهم رواياتي ال�سابقات ..حيث �أل�صق بال�شخ�صية خ�صي�صة
ب�سعة كبرية حتى �أخزن فيه ما �أكتب �أوال ب�أول.. غريبة يتميز بها ..وكانت الرائحة ..نعم الرائحة التي
جل�ست �إىل نف�سي و�أنا �أرى �أن �أمامي �أكرث من �سنة تنبعث من ج�سده يف حلظات اخلوف والفرح هي
�س�أق�ضيها يف �إعادة جمع مادة الرواية ..كدت �أمتزق اخل�صي�صة ..ا�ستح�سنت الفكرة لأعود من بداية العمل
غيظ ًا ..ما كان ي�رض الل�ص لو قام ب�سحب املادة باملراجعة ..وهناك مل �أجد منا�ص ًا من �إعادة كتابة
وتوا�صل معي برقم هاتفي امل�سجل على �أجندة كانت الرواية من �أول �سطر ..اذ �أن �أي تغيري يف حدث �أو
158 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
�أن الن�سيان �أ�صعب من احلفظ ..بل وم�ستحيل �أن يح�صل بداخل احلقيبة امل�رسوقة� ..أو �أن يبعث بر�سالة على
�إال ب�شكل ن�سبي وبدون �إرادة� .أو �أن �أترك كتابتها عدة �صفحتي بـ (الفي�سبوك) �أو يبعث بر�سالة على عنواين ..كل
�سنوات ..عندها قد �أن�سى وقد.... تلك املواقع والعناوين مفتوحة يف جهازي امل�رسوق..
جت�سدت يل هذه الرواية ك�صخرة �سيزيف ..و�أنا ذلك يخربين ب�أنه و�ضع املادة على عنوان (� )...أو يبعث بها
ال�شقي الذي يحملها بني كفيه ليعيدها �إىل قمة اجلبل على �إمييلي ..ما �رضه لو �أنه تخل�ص من غبائه و�أ�سدى
مرارا. لل�صو�ص تغيري مكرمة و�صفهم بالأغبياء؟
كنت متهيبا ..وكنت م�صمما على �إعادة كتابتها لو بالفعل ما كان �أق�ساها من حلظات و�أنا �أجل�س �أمام
�أ�ستدعى الأمر �أن �أكرر �سنوات عمري� ..أ�س�أل نف�سي ماذا اجلهاز اجلديد كطالب �ألزمه املدر�س �أن يكرر كتابة
لو انتهيت منها يف �صياغتها الأوىل؟ �ألن �أبد أ� ب�صياغة الكلمات عدة مرات ..عدت من نقطة ال�صفر .يف البدء
فكرة جديدة ومغايرة؟ �إذا علي �أن �أجنزها. حمدت ذاكرتي حني �أخذت �أ�ستعر�ض خط �سري ما كنت
�أخذت �أكتب ما ا�ستطعت ..لأتقدم يوما بعد يوم وك�أين قد �أجنزته ..فوجدته حمفوظ ًا ..دونت ذلك على الورق
�أكتب رواية لأول مرة ..كنت فرحا ..حتى اكت�شفت �أين على �شكل خط �سري للأحداث.
و�صلت ال�صفحة اخلم�سني ..حينها �شعرت بال�سعادة بد�أت ال�صياغة من �أول كلمة ..كنت �أعتقد �أين �س�أدون
كوين جتاوزت ال�صياغة ال�سابقة ،لكنه خوف ي�سكنني.. الرواية كما �صغتها �آخر مرة� ..أخذت �أتذكر تلك اجلمل
خوف �أن �أفقد ب�شكل �أو ب�آخر ما مت �صياغته للمرة التي كنت قد �أجنزتها حتى ي�سهل علي الأمر ..حاولت �أن
الثالثة ..عقلي يتوقع �أن تختفي تلك ال�صفحات يف �أي �أجد ما �أن�سخه مما حتفظه ذاكرتي ..مل �أجد ف�صوال وال
وطنت حلظة� ..أن حتدث م�شكلة و�أفقد ما كتبت ..كنت قد ّ �صفحات �أو فقرات ..مل �أجد اجلمل التي كنت قد �صغتها
نف�سي على �إن �أظل �أعيد كتابتها كلما فقدتها �أو طر�أ وال املفردات ..فقط هي خطوط عري�ضة للمو�ضوع
طارئ. حتتفظ بها ذاكرتي� ..شبيهة بتلك اخليوط املعلقة على
ان�شغل بالتفكري يف �صياغة التفا�صيل ال�صغرية وعقلي فروع �شجرة حتركها الريح ..خيوط باهتة ..ما �أ�سو أ� ما
يفكر هناك يف البعيد ..يف م�سار الرواية بعد ال�صفحة �أنا فيه ..وعليه تركت ذاكرتي وما ع�شمتني به ..و�أخذت
املائة وما بعد املائة يف �أت�ساق الأحداث وترابطها. �أ�صيغ جملي معتمدا على نف�سي ..جملة تلو الأخرى.
يف العالقة بني ما �أ�صيغه من تفا�صيل يف ال�صفحات عدت �أبحث عن مفرداتي ..ومل يكن ما بداخل دماغي
الأوىل وما �س�أكتبه يف ال�صفحات التالية من �أحداث. من ال�صياغة ال�سابقة �إىل �صدى �صوت يربكني فتارة
وهكذا هي ال�شخ�صيات املتعددة و�أثرها على الأحداث �أعتقد �أن تلك الفقرة قد �أجنزت يف ال�صفحات ال�سابقة
علي
وعالقة كل �شخ�صية بال�شخ�صيات الأخرى ..كان ّ من �صياغتي اجلديدة ..لأقلب بني ال�سطور حتى �أت�أكد
�أثناء كتابة كل كلمة وجملة وفقرة �أن �أفكر بكل �شيء. لأكت�شف ب�أنها غري موجودة ..وتارة �أعتقد �أن تلك
يف تفا�صيل ما �أجنزته وفيما تبقى علي من مراحل الفكرة مل تدون ف�أ�صوغها لأكت�شف ب�أين �أكرر تدوينها
الراوية ..وعالقاته ببع�ضها البع�ض ..ولذلك من ال�صعب و�أن ذاكرتي تخلط بني ما كان وما �أجنزه الآن.
�إجناز عمل مقبول �إن مل يظل الكاتب على �صلة قوية وكان علي �أن �أحاول طم�س ما علق بذاكرتي� ..أن �أن�سى
ب�شكل يومي ..يفكر ويكتب وي�ضع املالحظات ..كنا�سج الفقرات واجلمل ال�سابقة التي ترتدد بداخلي ..و�أن ال
�سجادة بر�سوم متداخلة. �أتركها خمزنة حتى ال تهطل علي يف غري مواقعها..
تتبا�سط وت�سهل علي الكتابة بع�ض الأوقات� ..أ�سارع وكان ذلك الأمر ع�صي ًا ..تذكرت �أبا نوا�س حني جاءه
مغتنما لتلك ال�سانحة منكبا على �أزرار اجلهاز �أ�ضغط �أحدهم طالبا منه �أن يعلمه كيف يكون �شاعراً ..فقال له
واحدا بعد الأخر� ..أجنز اجلمل تلو الفقرات .لأكت�شف بعد اذهب فاحفظ �ألف بيت ثم عد �إيل ..وحني عاد ..قال له
�صفحات باين و�صلت �إىل زاوية دون منفذ ..كمن �أغراه اذهب و�أن�س ما حفظت ..وبعدها �ستكون �شاعرا .لكنه مل
ال�سري يف �شارع �أو زقاق �أ�سري و�أ�سري حتى اكت�شف نف�سي ي�ستطع طم�س ما حفظ.
يف نفق م�سدود وال �أملك �إال �أن �أعود �أدراجي لأبحث عن وبدوري حاولت مراراً �أن �أطم�س ذاكرتي حتى ال
منفذ �أوا�صل ال�سري منه. يلتب�س علي الأمر بالتكرار ..لكني ف�شلت فقد اكت�شفت
159 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
بع�ض ال�شخ�صيات ..فال�شخ�صية الرئي�سية والذي تتكرر ال�شوارع امل�سدودة لأقف مفكرا ومت�أمال تلك
ا�ستمرت دون ا�سم و�إن ا�ستعرت لها �صفات كامللثم.. ال�صياغات التي �أو�صلتني �إىل ذلك ..لأكت�شف ب�أن
ظل ب�سذاجة الريفي ..والدويدار حاولت �أن يظل بتلك الكتابة دون تفكري م�سبق ودون ت�صور ملا يلي كل حدث
الطبيعة املراوغة ..ولذلك ..كنت �أتوقف كثريا لأعمل قبل كتابته ت�ؤدي �إىل تلك النتائج ..و�أن التفكري يف �سري
اخليال يف البحث عن �أالعيب تخ�ص الدويدار ..حتى يظل وتطور الأحداث وتنامي ال�شخ�صيات �شيء مهم لكتابة
بتخابثه املعتاد و�أ�ساليبه امللتوية ..ولذلك اكت�شفت �أن عمل مرتابط ومتما�سك و�شيق.
علي قبل الإقدام بكتابة �أي حدث �أن �أر�سم خط ال�سري ان اعتماد الكاتب على الو�صف والإكثار منه يجعل من
للكتابة مرحليا ..وهكذا وجدت نف�سي �أتبع �أ�سلوب جديد العمل الروائي عمال ممال ..و�أن احلوارات �إذا ما جاءت
فحواه �أن �أفكر كثريا و�أر�سم كثريا �أحاجي ذهنية .فرتاين مقت�ضبة ومركزة قد تن ّفر القارئ .ولذلك حني اقرتبت
م�شغوال دوما مبا �ستقدم عليه تلك ال�شخ�صية .وب�صياغة يف الكتابة الثالثة من ال�صفحة املائة كنت قد ركنت
احلوارات ..واختيار الأحداث ون�سجها ذهنيا ..و�أم�سيت والتخيل كثرياً� ..أدون ما �أتو�صل �إليه يف
ّ �إىل التفكري
�أعي�ش ب�شكل متوا�صل مع عامل ال يراه �أحد غريي ..يف مذكرة �شخ�صية وال �أوا�صل الكتابة �إال بعد �أن تكون عدة
الوقت الذي كنت �أرى ب�أين ال �أجنز ما هو مطلوب ..فقد �أحداث قد تخيلت العالقة فيما بينها وتلك ال�شخ�صيات
مير �شهر دون �أن �أجنز ع�رش �صفحات ..وقد �أجنز عدة و�أدوارها ..حتى ال �أ�صل �إىل طريق م�سدود �أ�ضطر �إىل
�صفحات ثم �أعيد النظر لألغي تلك ال�صفحات و�أبد�أ من �إلغاء ما كتبته بحثا عن منفذ ملا يلي.
جديد .لكن ال�صفحات املائة ال �أعود �أبدا لنق�ض �أي �شيء �أعاود قراءة ما كتبت� ..أكت�شف �أن هناك خيطا �أفلت
مما غزلت فيهن ..فقط هو هام�ش ما بعد املائة �صفحة. مني ..مل تعد تلك املتاهات �أو بالأ�صح الأحاجي
كان علي قبل �أن �أكتب �أن �أفكر متخيال �سري الأحداث أتوه بها القارئ ..تنق�ص كتابتي الروح.. ال�صغرية التي � ّ
وعالقتها مبا علي فعله بعد ذلك و�أي حدث منا�سب �أعود لأفكر بابتكار لعبات حمدودة �أطعم بها الف�صول
لأحداث م�ستقبليه ..العمل الفكري والتخييل كان �أكرث و�أجزاء الرواية ..هي �أ�شياء حت�س�س القارئ ب�رضورة
�شغلي ..ال يروق يل �أن �أكتب دون تخييل م�سبق ور�سم امل�شاركة يف البحث عن خمارج وحلول ..وامل�شاركة
م�سار وتطور الأحداث وتنامي ال�شخ�صيات .ولذلك كنت يف التفكري مع �شخ�صية من �شخ�صيات العمل فيما هو
�أتخيل ما �سيحدث بعد ع�رشين �صفحة و�صلتها مبا فيه� ..أو قد يتخيل �أ�شاء م�ستقبلية وقد يجد نقي�ضها..
بعدها. متاهات و�أحاجي تن�شط قدرات القارئ ..وتدخل الكاتب
بعد جتاوزي املائة �صفحة �أخذت �أكتب و�أطم�س لدرجة مع ُقراءة يف حلظات ا�ستغماية لطيفة.
�أين اكت�شفت �أين �أطم�س �أكرث مما اكتب ,ما بعث يف وهذا �أنا �أقرتب من ال�صفحة املائة للمرة الثالثة..
القلق� ..أريد �أن �أتقدم �أن �أجنز ..ال �أريد �أن �أرى نف�سي و�س�أو�صل بعد �أن فقدت الأمل يف ذكاء ذلك الل�ص
�أعود القهقري .جل�ست �أفكر ..فوجدت �أن العودة �إىل الظريف الذي �رسق حقيبتي وبداخلها جهاز الالب تب
الوراء �إجناز ..و�أن الهرولة يف الكتابة هرجلة ..و�أن وبداخله رواياتي التي جمعتها به للمرة الثانية� .إ�ضافة
الرواية هي �أن تكتب لتتوقف وترى �صلة ما كتبت مبا �إىل دفرت مذكرتي وبطائقي ودفرت ال�سيارة ..و�أ�شياء
قبله ..و�صلة ما هو مكتوب مبا �سي�أتي وما قبله هي ال يهم لدي �ضياعها �أخرى ..وكان الأمل قائما �أن
روح الرواية� ..أي �أن ت�صنع روحا غري جمز�أة. يتوا�صل معي ب�شكل وب�آخر ليفاو�ضني على دفع مبلغ
وما �أعاود طم�سه وكتابته يف العادة تكون تلك الكتابة مقابل ا�ستعادة ما جمعته من روايتي بداخل اجلهاز..
التي ت�أتي دون تفكري وترتيب م�سبق ..فالإجناز الروائي وا�ستعادة البطاقات التي قد ال ي�ستفيد منها �أما اجلهاز
لي�س اجللو�س والكتابة دون تفكري م�سبقز ..بل هو تفكري وبقية الأ�شياء فلن �أطالبه بهن.
م�سبق وتخيل لأحداث وو�صف �أمكنة ..وحوارات ..هو �أن حني جتاوزت ال�صفحة املائة ..احتفيت بنف�سي .وتركت
تفكر و�أنت وا�ضعا ر�أ�سك على خمدة النوم ما �ستكتبة الكتابة ل�سبعة �أيام ..كنت قد و�صلت يف �أحداث الرواية
عندما ت�ستيق�ض� ..أن تتخيل م�شاعر ال�شخ�صيات وت�أثري �إىل مرحلة مل يعد بعدها �إىل ن�سج ال�صالت احلا�رض
كل ما يجري على مزاجها� ..أن تفكر يف العالقة مبا باملا�ضي ..ولذلك كان علي �أن �أحافظ على �سمات
160 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
ومغازلة احلروف لتتبلور يف جماز نبتغيه لي�صور ما �ستكتبه الحقا مبجريات عام الرواية �أو بعمودها
يدور يف الذات ،والرواية هي الفن الأحدث يف مد ج�سور الفقري� ..أو بالر�سالة التي تقدمها ..او بالق�ضية التي من
التوا�صل الإن�ساين مع الآخرين عرب اللغة الإن�سانية �أجلها تكتب تلك الرواية� ..إذا يجب �أن ي�سبق �أي كتابة
اجلميلة والغنية. تفكري وتفكري ..و�أعني بالتفكري الذي لي�س �أثناء الكتابة
كتابة الرواية بالن�سبة يل كانت نوعا من املغامرة التي بل� ..أن تفرد من نهارك وليلك م�ساحة و�أنت بعيد عن
�شعرت �أين بحاجة �إىل خو�ضها يف جتربتي الأدبية الكتابة ..بعيد عن �أزرار اجلهز ..او الورق والقلم لتفكر
الق�صرية وغري االحرتافية كنوع من التحدي للذات وترتب .ويف�ضل �أن يكون وقت التفكري قبيل النوم �أو بعد
وكنتاج لإحلاح داخلي يفر�ض نف�سه ،مغامرة اخلو�ض ال�صحيان منه بعيدا عن �أي م�شاغل.
يف حقل جديد كان دائما يخيفني ويلوح يل براية �إذن كتابة الرواية حياة ومتعة ..حني اقرتبت من
خطر االقرتاب ،خا�صة يف ظل وجود �أقالم مينية رائعة ال�صفحة ع�رشين ومائة ..حينها كنت �أترك التلفزيون.
ومبدعة ومده�شة فعال.. �أترك ما حويل .القراءة .و�أذهب حامال جهازي املحمول
ولكن لكتابة الرواية لذة ا�ستثنائية تغريك باالقرتاب، لأ�ضعه يف ح�ضني و�أعي�ش ..نعم �أ�ستمتع بالكتابة..
فهي مليئة بالعاطفة ومعارك مواجهة الكلمات، �أخلق عواملي ..ال �أحد جواري يقول �أفعل وال تفعل..
واخلو�ض يف تفا�صيل وعوامل حياة قد ال تكون لك وال �أحد يرى ما �أ�صنعه ب�شخو�صي ..هو عقلي الذي
بها �أي �صلة �أو ت�شابه يف رحلة هي الأجمل يف تاريخ يقودين جانبا لأت�أمل �إىل �أين و�صلت �شخ�صياتي
اللغات ..وهي �إعادة �أن�سنة الأفكار واخلواطر والقيم ب�أعمارها وم�شاعرها وبعالقاتها .ثم فج�أة �أتوقف عن
واجلمال. الكتابة� ..أجدين عاجزا �أمام حدث وعالقاته بامل�ستقبل
وقد ت�سكعت يف روايتي الأوىل (امر�أة ولكن ) ..يف وبالأحداث القادمة وبعمود �أو تيمة الرواية ..وكان
دهاليز و�أروقة بعيدة و�شاقة على مدار عامني ون�صف، ذلك م�ؤملا بالن�سبة يل �أن �أتوقف عن الكتابة يف الوقت
كنت كلما �شعرت ب�أين �أ�ضعت امل�سار و�أنه قد يكون من الذي عندي رغبة ملحة ومتعة ما بعدها متعة ..لأ�س�أل
الأ�سلم يل �أن ال �أتعمق �أكرث يف ثرثرة قد تقودين �إىل من الذي يوقفني عن الكتابة ..ومن الذي يطالبني
نهايات م�سدودة توجعني ب�أمل الف�شل يف حماولتي با�ستمرارية الكتابة ..بل ويطلب �أن �أمنحه متعته.
الأوىل اخلجولة ،كنت حينها �أ�ستح�رض مالمح �أبي كان ذلك حني قفز تخل�صا من مطارديه ..قفز من �شفة
(رحمه اهلل) يف كل مرة ينتهي فيها من قراءة ن�ص يل... هاوية �إىل املجهول ليجد نف�سه يف بركة جتمع مياه
بديييييع ،ف�أتقدم خطوة �أخرى – على ذمة كلمته تلك - ال�شالل ..و�أن ما يحيطه �أر�ض منب�سطة ال جبال عدا ذلك
لت�صبح كلماتي �رصخة نيابة عن حناجر املتعبني من احليد الذي قفز منه وال طريق للعودة �إىل �أعاليه ..هنا
وجع الإعاقة ..كل �أنواع الإعاقة �سوى اجل�سدية منها �أو وجدت نف�سي �أبحث عن خمارج لهذه ال�شخ�صية� ..أو �أين
االجتماعية �أو االقت�صادية �أو الثقافية ..وبالت�أكيد ف�إن �أفكر بعقله يف الطريق التي �سي�سلكها ..و�أفكر بعقلي يف
املر�أة لها احل�صة الأكرب من كل تلك الإعاقات. عالقة ما �سي�أتي ب�أحداث الرواية ب�شكل عام ..وعالقته
اللحظة الأ�صعب هي حال �أ�ضع قلمي على احلرف بروح الرواية .ال�شخو�ص الذين �سيظهرون من جديد..
الأخري يف �صفحتي الأخرية من روايتي ،فهنا يبد�أ كنت منطقة مهمة ومل �أف�ضل العودة �إىل الوراء كنت
التحدي ،وعلى هذه ال�سطور �أن ترى النور الذي كتب �أرى ب�أن ال�شخ�صية و�صلت �إىل منطقة جاذبة وعلي
لها ..و�أعرتف باين كنت مرهقة من �شدة القلق ،وكانت م�ساعدته يف �إجناز �أحداث العودة �إىل �صنعاء.
امل�سافة من بيتي �إىل مكتب الدكتور القدير /عبد العزيز ال زلت �أوا�صل الكتابة وخوف ي�سكنني من �أن �أفقد ما
�سيقيم روايتي هي الأطول هذه املرة.. املقالح الذي �أجنزته للمرة الثالثة.
ّ
هذا الرجل الذي يجربك على االنحناء �أمام كل حرف
يكتبه و�أنت مبهور ومنده�ش لروعة ما ميلك من موهبة
• ملياء الإرياين
وثقافة ،فهو الهرم الرابع يف تاريخ الب�رشية ،هرم الكتابة مغامرة
الأدب والثقافة. عندما نكتب فنحن نبذل جهدا يف نحت الكلمات
161 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
ومع مرور الوقت قر�أت لغري ه�ؤالء الكثري ثم تنقلت كانت روايتي (امر�أة ولكن ) ..هي جتربتي الأوىل ،وقد
بني يو�سف �أدري�س وفتحي غامن .وعند عودتي �إىل ح�صدت جائزة الدكتور عبد العزيز املقالح للرواية
الوطن تعرفت على حممد عبدالويل وعبداهلل �سامل يف العام 2011م ،و�سط زوبعة من ده�شتي وفرحتي
باوزير وحنا مينه والطيب �صالح وجمال الغيطاين وحما�ستي واعتزازي ..كانت هي الزوبعة الأجمل
وح�سني با�صديق .كل هذه القراءات نقلتني �إىل طور والأروع بالن�سبة يل ،و�إن كان توقيتها يف وقت
�آخر يف نظري كان هو الأعلى وهو حماولة كتابة ا�ستثنائي يف تاريخ الوطن فقد زاد ذلك من قيمتها
بدء بكتابة احلكاية واخلاطرة .و�أولالق�صة الق�صرية ً بالن�سبة يل.
حماولة ق�ص�صية تن�رش يل هي ق�صة انتظار يف و�أنا منعكفة اليوم يف كتابة روايتي الثانية التي �أمتنى
�صحيفة (ال�رشارة) احل�رضمية تلتها عدة حماوالت �إىل لها ن�صيبا من النجاح البكر الذي يبقى يف الذاكرة يف
�أن متكنت من �إ�صدار �أول جمموعة ق�ص�صية هي (حلم الرف الذي ي�ستحقه.
الأم ميني) عن وزارة الثقافة بعدن 1983م ثم (دهوم
امل�شقا�صي) عام 1993م عن وزارة الثقافة ب�صنعاء، • �صالح باعامر
دفعني ذلك �إىل �أن �أهج�س بكتابة الرواية وبعد ت�شكلت �رسديا بني البحر واجلبل..
حماوالت �شطب ومتزيق �أ�صدرت رواية (ال�صم�صام) قراءاتي للق�صة الق�صرية والرواية منذ البدء كانت حجر
بعمان.
1993م عن دار الكوبرا َّ الأ�سا�س الذي ابتنيت فوقه ثقافتي الأدبية عموم ًا
�صارت الرواية فيما بعد هي الأقرب �إىل نف�سي و�إن مل وال�رسدية خ�صو�ص ًا .فلقد �شغفت حب ًا بهما .منذ �أن
�أهجر الق�صة الق�صرية التي �أخذت تالحقني .ويف الوقت وقعت يدي على رواية احلرب وال�سالم للكاتب الرو�سي
الذي كنت فيه �أكتب رواية جديدة كنت �أعد جمموعة تول�ستوى عن دار الهالل يف �أواخر اخلم�سينيات من
ق�ص�صية جديدة (احتماالت املغايرة) ق�ص�ص عن نادي القرن الع�رشين جلبها يل والدي من املكتبة الوطنية
الق�صة (املقه) 2002ويف � 2004إبان �إعالن �صنعاء ل�صاحبها �أحمد �سعيد حداد باملكال لكن عالقتي
عا�صمة للثقافة العربية �أ�صدرت رواية املكال عن احتاد بالرواية مل تتوطد وتتطور �إال يف الكويت عندما كنت
الأدباء والكتاب اليمنيني .ثم جمموعتني ق�ص�صيتني �أعمل فيها متنق ًال بني �أعما ًال خمتلفة ويف الوقت نف�سه
هما (حني نطق الق�رص) و(بعيداً عن الربوتوكول ) ُ�ضمت �أدر�س ال�صحافة باملرا�سلة يف معهد ال�صحافة بالقاهرة
�ضمن �أعمايل الكاملة � 2005آخر �أعمايل هي رواية ( والتي توجت بالعمل يف جملة الطليعة الكويتية بعد
�إنه البحر) ال�صادرة عن (طوى) للثقافة والن�رش بلندن نيلي دبلوم ًا يف ال�صحافة 1962م.
والتي يديرها الروائي عادل حو�شان. كانت الكويت �أنذاك مبثابة العا�صمة الثقافية العربية
مل �أد ِر كيف كتبت الرواية� ،إذ �أن حلمي كان ال يتعدى �إذ �أنها كانت منفتحة على كل الأفكار والثقافات
كتابه الق�صة الق�صيدة بالرغم من �أنني يف وقت ما والأطياف ..وقد �أ�ستفدت �أنا وبع�ض الزمالء من �أبناء
وجدت �أن الق�صة الق�صرية مل تعد تت�سع لكل هواج�سي وطني من الأجواء القومية والليربالية �إذ �أين انكببت
ودون ان ادري كيف حدث هذا حني وجدتني �ألوذ �إىل على كل ما ين�رش يف ال�صحف واملجالت وعلى كل
الإ�سهاب يف الكتابة �إىل �أن ترا�صت �أمامي الع�رشات من الأجنا�س الأدبية ال�سيما ال�رسديات باللغة العربية
ال�صفحات. كانت �أو مرتجمة .ومن الدوريات التي اهتممت بها هي
جملة الق�صة التي كان يديرها نادي الق�صة يف القاهرة
رواية ال�صم�صام -: والتي يتوىل م�سئوليتها الكاتب يحيى حقى.
ففي ليلة من ليايل املكال البهيجة احتد فيه البحر من �أوىل الروايات التي اطلعت عليها يف الكويت هي
واجلبل و�ضوء القمر غادرت مرقدي م�ست�شعراً الأرق رواية ( الأم ) ملك�سيم حوركي وبداية ونهاية لنجيب
بعد �أن انتابتني الهواج�س وغمرين القلق والتوتر �أ�ض�أت حمفوظ وال �أنام لإح�سان عبد القدو�س .مت تعرفت على
م�صباح غرفة نومي وانتحيت جانب ًا و�أم�سكت القلم الكاتب اليوناين كانتزاكي من خالل روايته ال�شهرية
والورقة وكتبت �إىل �أن �شع�شع �ضوء اليوم التايل ف�إذا الأخوة الأعداء وال�شيخ والبحر لآرن�ست همنجواي
162 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
املكال لأن ابن اجلنوب ال�سيما ابن ح�رضموت وعدن ال بتلك الأوراق ت�ضاحكني تركتها وا�ست�أنفت نومي .يف
ي�ستطيعا �أن يواكبا ما يحدث لأن القبلية امنحت متام ًا، م�ساء اليوم التايل ويف نف�س الوقت الذي غادرت فيه
فاالعتماد كان على الدولة والقانون والنظام الذي هو مرقدي م�ساء اليوم املن�رصم اجتهت �إىل نف�س املكان
ال�سند الوحيد للمواطن كبرياً كان �أو �صغرياً .اترك دكانك الذي ترقد فيه تلك الأوراق ..تفقدت ما كتبت ف�أ�شار يل
مفتوح ًا و�أذهب لل�صالة وعد ف�ستجده كما كان ال �أحد ال�سحيم وح�سناء مت�ضاحكني وغمزت يل الزين و�سويلم
يعبث ب�أي �شيء فيه� ،أترك �سيارتك مفتوحة فال �أحد وك�رش يف وجهي ال�ساري وغري ذلك من �شخ�صيات
ي�ستطيع ال�سطو عليها. ال�صم�صام التي تتخا�صم تارة وتت�صالح تارة �أخرى ثم
يف ظل هذه الأجواء التي ال تقرها الوحدة وال يتباعدون ويتقاربون يبت�سمون ويعب�سون.
الدميقراطية وال التعددية وال �رشع وال قانون افتحمتني عدت من جديد �أدقق يف الوجوه ويف ال�سحنات و�أ�سرب
رواية املكال التي �أعتنت بف�ضاءات اجلنوب الذي عانى �أغوار الطباع فوجدت �أن ما كتبته م�رشوع رواية بعد
من ال�رصاعات ال�سيا�سية التي مل تنتج �شيئ ًا �سوى �أن ر�أيت �سفينة (الفرج) تتنطر من يدفع بها �إىل البحر
التعجيل بالوحدة دون و�ضع ال�رشوط املو�ضوعية التي ملعانقة عوامل ومدن وموانئ وحيوات �أكرث حيوية
تكفل جناحها وا�ستمرارها �سيا�سي ًا واجتماعيا. وانطالق تلك احليوات التي �ستنقل عدواها �إىل بر
رواية املكال هي عبارة عن مقاربة بني احلالة العرب ،فباخلربات التي �سي�أتي بها البحارة من �أفريقيا
ال�سيا�سية والأمنية التي �شهدها اجلنوب قبل الوحدة �ستنتع�ش احلياة مادي ًا وروحي ًا و�سيحدث تالقح ًا ثقافي ًا
1990م ومعاناة مرحلة االنفالت والتوق �إىل الإم�ساك وفكري ًا و�سيا�سي ًا و�ستنت�رش رياح التغري.
بزمن ال�ضوء املفقود تختلف تقني ًا عن رواية ال�صم�صام للمكال املدينة ف�ضل كبري يف خلق ف�ضاءات �أمامي
التي جنحت من حيث تطويع تقنية اال�سرتجاع «الفال�ش �ألهمتني �إبداع ًا �رسدي ًا جتلى يف �إ�صدار املجاميع
باك» �أما رواية املكال اتخذت الفال�ش باك املجز�أ بني الق�ص�صية الأنفة الذكر ورواية ال�صم�صام والتعرف على
الأحداث و�سيلة لذكر ال�شيء بال�شيء �إذ �أنها تالعبت بع�ض �أ�رسار وخباي ًا ال�رسد واحليل الفنية ال�رضورية
بالزمن واملونتاج واملقاربات وتوظيف الغناء وال�شعر التي من ال�سمات الأ�سا�سية لأي كاتب وان كانت
كتقنية نادراً ما ت�ستخدم يف ال�رسد العربي. هذه اخلبايا واحليل تختلف من كاتب لآخر فرواية
تبتدي رواية املكال بو�صف البحر وهو ينح�رس �أمام ال�صم�صام تبتدي ب�إعداد ال�سفن للإبحار �إذ �أن الياب�سة
الردم الذي يتم دون رحمة فوق ال�شاطئ حتت �شعار ت�شهد حركت ن�شطة تتمحور يف جتديد ال�سفن وترميمها
تو�سعه ال�شوارع مما افقد املدينة الكثري من �سماتها حتى ت�صبح مكتملة ال�رشوط التي ت�ؤهلها للإيجار
اجلمالية .ف�سامل ال�شخ�صية الرئي�سية يف الرواية اعتاد ومواجهة الأمواج والرياح وم�صارعة كبار الأ�سماك
الذهاب �إىل ال�شاطىء ال�صطياد ال�سمكات القريبة ،يبكر وما �أن يتم الإبحار تنتهي مرحلة لتبد أ� مرحلة تدور
�صباح ًا لريتقي كعادته ال�صخرة التي اعتاد الوقوف �أحداثها فوق البحر.
فوقها لريمي �صنارته يف البحر فيجد �أن �صخرته قد
غمرتها الرمال والأحجار املجلوبة في�صاب باخليبة رواية املكال :
في�شكو حاله ،فيعاتب البحر على خ�ضوعه وللجبل بعد الوحدة 1990م برزت حياة جديدة ف�إذا كانت
الذي مل يزل �شاخم ًا رغم �أن هناك من ينخر حتته احلياة يف اجلنوب قبل عام 1990م منغلقة �إال �أن
لي�أخذ الأحجار الكبرية وينقلها �إىل ال�شاطئ ل�صنع حياة اال�ستقرار كانت نعمة ال ي�شعر بها �إال من افتقدها،
جبل م�صطنع جبل بال �أرجل ،بال �أقدام ،بال �أ�سنان.. فبعد الوحدة ويف �أجواء الدميقراطية التي مل تفهم فهم ًا
تتغري معامل املكال وتظهر عالقات غريبة بني النا�س حقيقي ًا ويف ظل التعددية �أ�سيء ا�ستخدام هذه الأجواء..
في�ست�رشي �أ�سلوب نهب الأرا�ضي واختطاف �أ�صحاب فالدميقراطية مور�ست بع�شوائية فاملرء من حقه �أن
الر�أي من �أجل االبتزاز ،يهرب �سامل من املكان الذي يعمل كل �شيء دون رادع يطلق النار يقتل الأبرياء
�أودع فيه بعد اختطافه ليهاجر لكنه يفاج أ� بحب النا�س يخطف ينهب .ميتلك ال�سالح الذي ال ت�ستطيع �أن متتلكه
له فيعدل عن ال�سفر. الدولة لذا وجدتني �أعرب عن هذه الأ�شياء يف رواية
163 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
معها �إىل العامل الأخر وان يع�شن جميعا هناك حيث رواية انه البحر:
احلرية من حتكم الآباء والأمهات بل وي�ستف�رسن هل ( �إنه البحر) ال�صادرة قبل �أ�سابيع عن م�ؤ�س�سة ( طوى )
هناك بنات �صغريات فقط ام ان العامل االخر ي�شمل �آباء للثقافة والن�رش والإعالم بلندن التي يديرها الروائي عادل
و�أمهات وترد بفخر هناك عاملنا وال يوجد �إ ّال فتيات حو�شان تتوا�صل مع رواية ال�صم�صام من حيث اعتنائها
حولهن �أ�شجار مزهرة و�أ�شجار حممله بفواكه ن�أكل بالبحارة وال�سفينة والبحر وان اختلفت عنها تقني ًا
منها ما ن�شاء دون ان يعرت�ضنا احد ثم ت�ستدرك بان ولغوي ًا وف�ضائياً� ،إنها حتكي معاناة البحارة فوق البحر
�أبوابها قد �أغلقت ولن ي�سمح باجتيازها وتوعدهن بان ومواجهتهم الأمواج والرياح العاتية والأ�سماك العمالقة
ت�أخذهن عندما تفتح الأبواب ...وت�ستمر على هذا احلال والغو�ص يف مدن �أكرب و�أحدث كاملكال وعدن وزجنبار
كل يوم تروي لهن حكايتها مع العامل الآخر وبدون ملل والطواف مبوانئ عمانية وافريقية وانغما�س ال�شباب يف
وبنف�س الوقت توعدهن وتخلف وعدها... مدينة زجنبار و�إبراز دور العرب يف هذه املدينة ال�سيما
وي�أتي ال�صيف بطقو�سه البديعة ففي ال�صباح تذهب احل�ضارم والعمانيني كون العرب يحكمون زجنبار من
�إىل الوادي مع رفيقاتها لتجني الفول وتقطف �أزهار خالل حاكمها ال�سلطان العماين �آنذاك.
الربية وما �أكرثها وتغرد فتيات القرية من الروابي
واملدرجات ب�أغاين «العالن» و«اخلري» والتي ال ي�شدين • رمزية عبا�س
بها ا ّال يف ذلك املو�سم ..وقد ير�سل الغداء لهن �إىل الوادي اعتربوين خارجه عن الأعراف االجتماعية.
فيجل�سن حتت ال�شجرة الوارفة وتتخيل �أنهن ي�سكن بيت ًا يف قريتها املرتبعة على ربوة يخالها امل�شاهد على بعد
من البيوت التي بنتها بخيالها وتخرج الدمى التي بانها زهرة لعباد ال�شم�س عند �رشوقها تطل القرية على
�أح�رضتها معها وتر�صهن بجانبها لي�شاركنها القيلولة مدرجات زراعية منت على �أطرافها نباتات �شيطانيه
وك�أنهن من �سكان ذلك العامل ..ويف امل�ساء ت�أتي عجوز و�أغ�صان «عرثب» �أحاطتها من كل جانب يف تلك القرية
من القرية لت�سمر وتت�سامر مع والدتها ومعها ورفيقاتها بد�أت طفولتها ..كانت قبل الأ�صيل ترتقي ال�سطح لرتقب
ويحلقن حولها لي�سمعن روايتها عن اجلن وال�شياطني مغيب ال�شم�س وامتزاج ال�شفق الأرجواين الرائع مع بداية
و�صياد الذي لديها رجل حمار ورجل �إن�سان. حلول الظالم علها تعرث على املالئكة التي حتكي لها
وعن بنت ال�سلطان التي اختطفها ابن �أمري اجلن و... والدتها ب�أنهم ي�سكنون ال�سموات العلياء ...ويت�أملون ما
الخ تلك الروايات مل تكن تفزعها بقدر ما تنمي خيالها يعمله الب�رش على الأر�ض.
فكانت تعيد روايتها بطريقة اخرى لرفيقاتها ...تلك تر ى متازج ال�سحب وتراكمها وت�شكيالتها ال�ضبابية
كانت بدايتها مع الق�صة والأق�صو�صة. املتعددة وتخالها �شعوب ًا و�أمم ًا ت�سكن كواكب �أخرى
علمتها والدتها يف �سن اخلام�سة ...القر�آن ثم قراءة فتغم�ض عينيها لرتحل عرب خيالها �إىل عاملها لتعي�ش
الق�ص�ص امل�صورة و�أجربتها ان جتل�س يف مكتبة مع �أفراحهم ..و�أتراحهم ومتد يديها علها تالم�سها
والدها وتقر�أ وتكتب �صفحات من ق�ص�ص العرب ومن وتتمتم بنداءات طفولية لدعوتهم للهبوط �إىل عاملها
كتب جرجي زيدان وكتب اخرى دون فهمها وتكتب لتلعب معهم الروابي وليحكوا لها ما يدور بعاملهم
بخط غري مفهوم لرت�ضي والدتها. ولت�س�ألهم عن �أنواع اللعب التي يلعبون بها ...ثم تغم�ض
ويف ال�سابعة من عمرها انتقلت مع �أ�رستها �إىل تعز عينيها لتتعمق وت�رسح �إىل عاملهم وك�أنها تعاي�شهم..
ودخلت املدر�سة لت�سجل يف ال�صف الثالث بعد امتحانها وما يلبث خيالها ان يعود �إىل واقعها ...وترحل �أحالمها
بالعملية احل�سابية الب�سيطة وبالقراءة التي در�ستها بتبديد ال�سحب وان�سحاب اخليوط الذهبية لأ�شعة ال�شم�س
والدتها. خلف اجلبال املحيطة بالقرية باجتاه املجهول..
�أح�ست بالتغريب النف�سي وبانها يف عامل غري عاملها وبحلول الظالم تعود �إىل زاويتها املف�ضلة وتن�سج ق�صة
احلامل وال�ساحر وافتقدت رفيقات طفوالتها ..و�أول ما خيالية م�ستوحاة من ما ر�سمته من �سحر تراكمات
بد�أت �أناملها مت�سك القلم لتخط على دفاترها املدر�سية ال�سحب ...لتحكيها يف �صباح اليوم التايل لأترابها..
كانت حتاول ان تر�سم روايتها اخليالية وعند ما و�صلت كن ي�ستمعن بده�شة و�إعجاب وي�س�ألنها ان ت�أخذهن
164 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
عند الأطفال ومن ثم كتاب رائدات مينيات خالدات �إىل ال�صف ال�ساد�س االبتدائي بد�أت تكتب خواطر
طبعتها منظمة الرتبية والثقافة والعلوم �أما املجموعة ب�سيطة ركيكة وتعر�ضها على مدر�سة اللغة العربية التي
الق�ص�صية ال�سماء متطر قطنا فهي املجموعة الوحيدة �شجعتها على الكتابة وت�رص عليها ان تقرا تلك الأ�سطر
التي كتبتها وهي خارج اليمن فمن الغريب �أنها ال على زميالتها يف الف�صل .عندما تخطت االبتدائية
ت�ستطيع �أن تكتب وهي خارج الوطن قد يكون اح�سا�سها بد�أت تن�رش ق�ص�ص ًا ق�صرية يف ال�صحف ومقاالت
الذاتي بانها غريبة عن بيئتها االجتماعي وباختالف متنوعة ...هاجمها الكثري من القراء واعتربوها خارجة
النمط احلياتي والبيئي وال�شعور بالغربة لكل ما يحيط عن الأعراف االجتماعية وخا�صة عندما كتبت بان
بها فكتابة الق�صة لي�ست ككتابة املقالة قد جتربي ال�رش�شف عثماين ولي�س من الإ�سالم ب�شيء
القلم ليجري على الورق ليخرج ما يريدّ � ..أما الق�صة وعن �رضورة دخول البنات املدر�سة ..الخ فهددوها
فتبد أ� مبوقف وبفكره و�أحا�سي�س داخلية جترب القلم بال�رضب بل وبالقتل ..ومل يتخيل احد بانها الزالت
على الكتابة الال �إرادية وتولد �شعوراً �آني ًا خارج نطاق تعترب طفله مل تتجاوز الثانية ع�رش.
الزمان واملكان. يف زمن �شيخوخة الطفولة ..تطوعت مع زميالتها بعد
عندما حتط رحالها يف �صنعاء وتطل على حاراتها االبتدائية يف جمعية املر�أة اليمنية النا�شئة ملحو �أمية
ومنازلها تتخيل ما يدور يف داخلها من �أحداث الفتيات والأمهات ...و�رسدت من الدار�سات حكايات
وحكايات ..عندما تتنامى على طاولة حياتها اليومية م�ؤملة وم�شاكل اجتماعية عديدة ت�أثرت بها وحرمت
واقعة اجتماعية تتفاعل معها وتر�صد نتائجها عليها �أحالم طفولتها� ،أ�ضافة �إىل �أن والدها كان رئي�س
و�أولياتها على الرغم من مرور حلظات بالإح�سا�س حمكمة وكان بيتهم مفتوح ًا لكل �شاكية مما حتم عليها
باالغرتاب وهناك فرق بني الغربة واالغرتاب ...يف اال�ستماع �إىل �شكوى العديد من الن�ساء املغلوب على
خارج الوطن ال�صدمة بالإح�سا�س بال�صمت واال�صطدام �أمرهن وت�أثرت بق�ضاياهن العديدة وامل�ؤملة وكان
بجدار الغربة عن كل �شيء ويجلد ومي�سح اخليال جلها من الزواج املبكر والقات وتعدد الزوجات وغريها
ويتوقف القلم عن الكتابة. من امل�شاكل االجتماعية فكتبت م�رسحيات مت عر�ضها
اختريت �ضمن �أف�ضل كتاب الق�صة الق�صرية يف يف مدر�ستها ون�رشت رواية بعنوان القات ي�سمم حياتنا
اخلليج واجلزيرة العربية يف كتاب ن�رشته جامعة وهي يف بداية املرحلة الإعدادية ثم رواية �ضحية
وار�سو للدرا�سات ال�رشقية يف بولندا اختريت ق�ص�صها اجل�شع..
( الزفه -وحادثه يف زقاق – وويل العهد ) ملادة يف جامعة القاهرة كانت تكتب ق�ص�صا ق�صرية وتن�رشها
بحثيه يف جامعة نيويورك لدرا�سة املجتمع العربي يف �صحيفة اجلامعة بعد عر�ضها على الدكتورة �سهري
من خاللها كانت ق�صتها الرهينة وق�ص�ص �آخرى بحث القلماوي والتي كانت تدر�س الأدب العربي حينذاك.
ر�سالة الدكتورة للدكتورة ابت�سام املتوكل ..وقيل عند وبعد عودتها من جامعة القاهرة كتبت مواقف
�إ�صدار رواية «الرهينة» لزيد مطيع دماج بعد رهينتها ق�ص�صية للإذاعة قدمت يف برنامج مع ربات البيوت
بعام بان التالقي الفكري جعل رهينة كاتبتنا البداية يف عام 1979وم�رسحيات مثلتها طالبات معهد �سامل
ورهينة دماج مكملة لها. ال�صباح على م�رسح اجلامعة.
كرمت كقا�صة عربية متميزة من مكتبة الكوجنر�س يف يف �صنعاء �سكنت يف منزل يقع على ركن حارة بني
وا�شنطن ومن جامعة وار�سو يف بولندا ومن جامعة بيوتها زقاق �ضيق تتناجي الن�ساء من نوافذ منازلهن
نيويورك ق�سم الدرا�سات ال�رشقية وجائزة الإبداع الأدبي ليحكني م�شاكلهن لبع�ضهن البع�ض فت�أثرت وكتبت
من بيت ال�شعر ومن منتدى الق�صة و�شهادة تكرمي �أدبي حادثه يف زقاق وخيال بعد القات والزفة وق�ص�ص ًا
من م�ؤ�س�سة العفيف ومن احتاد الكتاب يف تون�س عن �أخرى �ضمنتهن يف جمموعتها الق�ص�صية عله يعود
ق�صتها ابني يلب�س خامتا ف�ضي ًا. وقد فازت بطباعتها وزارة الثقافة عام 1980ثم
لها كتاب املر�أة يف ظل ال�رشيعة والقانون. جمموعة ق�ص�صية بعنوان القانون عرو�س تلتهما رواية
جمموعة ق�ص�ص للأطفال بعنوان «تبارك الذي بيده بعنوان دار ال�سلطنة ،وكتيب بعنوان اخليال الإبداعي
165 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
الهجرة واالغرتاب كعادة كاتبها املهاجر والذي عانى امللك» جمموعة املاجل امل�سحور وجمموعة �أخرى
الأمرين من متييز املجتمع له وو�صفه بـ«املو ّلد» برغم بعنوان �شجرة التولق.
ان هذا الو�صف ناجت عن خط أ� لغوي. �سل�سلة �أفالم كرتون بعنوان( العدالة خارج قريتنا )
لقد �سعيت لإيجاد مقاربة بني �أعمال عبد الويل ال�رسدية •ق�ص�ص مل تن�رش :
و�سريته الذاتية التي كتبها بخط يده ،واخلروج بخال�صة •احلب حمرم يف مدينتنا
�أرجو ان ال تقودنا �إىل فخ ،وذلك من خالل اال�ستفادة •والع�صافري متوت يف �أع�شا�شها
من الآتي: •وجمموعة ق�ص�صية بعنوان �سلمى تنتظر املعجزة
-1نتاجاته ال�رسدية( .روايات ،ق�ص�ص) عندما تفتح نافذة واحتها الأدبية وتعود �إىل قلمها
-2زياراتي املتكررة لبلد مولده (�أثيوبيا) واملدر�سة �ستن�رش ما مل تن�رشه
التي در�س بها و�أي�ض ًا الأماكن واجلهات التي عا�ش �رسدت ما متكنت ان تعرث عليه يف ذاكرة الكاتبة رمزية
فيها يف كل من القاهرة واليمن. عبا�س
�-3شهادات و�أ�شتات من �شهادات ..مقابالت �صحفية
من �أدي�س �أبابا �إىل القاهرة �إىل �صنعاء النهاية
له.
-4وثائق خا�صة مبحمد عبد الويل. �س .ال�شاطبي
فكيف ت�ش ّكلت ال�سرية الكاملة لعبد الويل من خالل
حتليل كل �أعماله ال�رسدية وايجاد املقاربة بني �سرية ال�سرية والرواية :
حياته املقت�ضبة؟ وما اجلدوى من جتميع �سرية م�شتته (اليمن ..لقد ن�سيتها ،انني انتظر املوت فقط ..لن يعرفني
بني ال�صفحات والأماكن؟ ونتاجه ال�رسدي يقدم حلو ًال �أحد هناك �إذا عدت ..ال �أحد بقي معي هناك ..لن �أعود..
لق�ضايا جمتمعية �شائكة هو �أول من عانى منها مثل قد يعود �أبنائي يوم ًا ما �إذا ما عرفوا ان �أباهم كان
االغرتاب والتمييز وال�سجن ..وهل حق ًا يوجد من�صب غريب ًا ..وقد ال يعودون ..قد يظلون مثلي غرباء )
�رشيف ا�سمه نائب لكاتب ال�سرية؟! مقتطف من رواية «ميوتون غرباء» ملحمد عبد الويل
�أ�سئلة م�شتتة لكني �س�أحاول الإجابة عنها بتلقائية ال رائد الرواية اليمنية ذي العمر الق�صري حممد عبد
تخلو من احلذاقة التي امقتها! �ضمن بع�ض �أعماله �صوراً الويل مل يكتب �سريته ،لكنه ّ
وخطوط ًا عامة ا�ستطيع ت�سميتها بالإر�شادية ل�سريته
بدايات: الذاتية ،وال�سبب من عدم متكن كاتب موهوب ومبدع
لقد ُكتب الكثري عن نتاج الأ�ستاذ عبد الويل كاتب مثل حممد �أحمد عبد الويل العب�سي من كتابة �سريته
«ميوتون غرباء» و»�شيء ا�سمه احلنني» و»�صنعاء الذاتية ون�رشها يف كتاب م�ستقل حادثة �سقوط الطائرة
مدينة مفتوحة» و�أعمال �أخرى كثري منها ترجم لعدد النفاثة التي ا�ستقلها مع جمموعة من الدبلوما�سيني
من اللغات ،لكن قراءتي لنتاج هذا الأديب والتي قابلتها �صبيحة يوم /4/30من العام 1973م والتي �أدت �إىل
زيارتي للحي الذي ولد فيه يف �أر�ض املهجر �أثيوبيا اغتياله قاطعة بذلك اخليط الرفيع الذي كان من املمكن
واملدر�سة التي در�س فيها يف �أدي�س �أبابا واحلي الذي ان يربط الفائدة الأدبية العظيمة التي كانت �سترتكها
تلقى يف مدر�سته تعليمه الثانوي يف القاهرة والأماكن �سرية عبد الويل يف الأجيال القادم ّة!!
التي ارتادها وزارها هنا يف اليمن و�سريته املقت�ضبة احلادثة مل متكنه من كتابة ون�رش �سريته ،لكن عدة
التي كتبها بخط يده فتحت يل الباب لأنهل من هذه �أعمال له� ،أكرث من رائعة و�سرية م�شتتة �أنتجت ولو
املعاي�شات وامل�شاهدات والقراءات ما �ش ّكل �صورة بطريقة مده�شة �سرية كاملة له ..ك�أن عبد الويل �شخ�صي ًا
�أو�ضح لي�س عن �سرية هذا املبدع املوجعة وكتاباته قد ا�ست�شعر بانه �سيق�ضي نحبه مبكراً وعلى غري عادة
امل ّغلفة بالأمل فقط بل ،عن �سرية وطن ا�سمه اليمن.. �ضمن رواياته وق�ص�صه الب�رش ولن يكتب �سريته ،لذلك ّ
وطن جترع نا�سه الكثري من االحداث �سواء ال�سيا�سية او نفحات من �سريته املغ ّلفة باحلزن� ..أعمال عبد الويل
االجتماعية وخا�صة خالل الفرتة التي عا�ش فيها عبد لي�ست �سرية لكنها ق�ص�ص وروايات م�سكونة بهم
166 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الرواية اليمنية ..الرواية اليمنية
s
s
s
تدهور بناها االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية الويل ..وطن �شهد هجرة مئات االالف من ابناءه هربا
و�أوجدت احللول ..ملاذا بب�ساطة لكي ال يتغرب اليمني من الفقر والظلم يف خال�صة ال ي�سعني امامها �سوى
كرواية «�صنعاء مدينة مفتوحة» البدء-:
االنتقال �إىل �أدي�س �أبابا �أوال امليالد:
مل تذكر ال�سرية مالب�سات و�أ�سباب انتقاله من مدينة
«دبربرهان» هو ووالده و�أمه �إىل العا�صمة �أدي�س �أبابا، ذكرت ال�سرية التي كتبها بخط يده انه:
�أو حتى احلي الذي ن�ش أ� فيه وتو�ضيحا عا�ش عبد الويل -من مواليد 12نوفمرب 1939م مبدينة دبربرهان
طفولته يف منطقة (�سد�س كيلو) وهي كلمتان �أمهريتان (�أثيوبيا ) والده ميني و�أمه �أثيوبية)
تعني (كيلو �ستة) وهو حي �شهري تقع ال�سفارة اليمنية ما عدا ذلك لي�س ثمة ما ي�ضع الأ�صبع على اجلرح
حاليا بقربه. ويت�ساءل ..ماذا يعني ان يولد الإن�سان يف غري موطنه؟
لقد و�صف عبد الويل احلي وال�شارع يف بداية روايته وان يكون �أبوه من بلد و�أمه من بلد يف جمتمع بع�ضه
«ميوتون غرباء» كما ر�أيتها �إذ جاء (كان كل ما يعرفه يجيد لغة التمييز واملناطقية؟ ..يعني ان يعي�ش متذبذب ًا
– �سكان « �سد�ست كيلو» عنه هو �أنه –يق�صد عبده �سعيد يعاين يف حياته بني انتماء مت�أ�صل يف دواخله للوطن
اليمني املغرتب وبطل الرواية-قد فتح دكانه ال�صغري الذي دفع بوالده لهجره حتت وط�أة اجلوع والفقر
منذ �أكرث من ع�رشة �أعوام� .أما هو فقد كان يعرف كل ال�شديدين وبني وطن �آخر ولد فيه.
�شيء عن �أهايل احلي الذي ي�سكنه .خا�صة عن ذلك بالن�سبة للإن�سان العادي اليمني املهاجر جتلت حالة
اجلانب من احلي حيث املنازل ال�صغرية واحلارات التي ال�شعور الفظيعة بالالوطن والرغبة يف م�ساعدة املجتمع
متتلئ �شوارعها بالطني دائم ًا �أثر ت�ساقط الأمطار ) فهل ب�أهمية الإح�سا�س برتبة الوطن وفوائد االنتماء �إليه
خطاء كان عبد الويل يتحدث عن نف�سه كهجني ينعت على �شكل ت�أوهات وحنني وجروح ونتوء كارثتها
ً
بـ(املو ّلد) �أم عن كل الهجناء!؟ �س�ؤال �أجاب عنه الأ�ستاذ افتقارها وب�شدة �إىل عن�رص توظفيها كر�سالة �إن�سانية..
عمر اجلاوي بالقول« :متثل طفولة حممد �رصاع ًا حاداً لقد خ�رست اليمن الآالف نتيجة متييز البع�ض لأبناء
�سيا�سي ًا واجتماعي ًا وخلقي ًا بني ما هو قائم يف اليمن املهاجرين (الأب ميني والأم �أجنبية) خ�رست طاقات
من التزمت احلاد وبني ما ميثله املجتمع احلب�شي من كبرية كانت �ست�ساهم وبقوة يف �إجناح حركات التحرر
انفتاح �أخالقي ،خا�صة بني الذكر والأنثى». وخا�صة حركة 48م والنهو�ض بالوطن.
تفتحت عيناه على تزمت ديني يف البيت وف�ساد ودعارة بالن�سبة ملحمد عبد الويل ذلك الكاتب الرائع الرائق
ال حدود لها يف �أقرب ال�شوارع والأحياء �إىل �سكنه ،ومل املت�شكك من �أرقى �صنف كانت على غري عادة املهاجر
ي�ستطع يف طفولته �أن ي�ستوعب هذا التناق�ض احلاد. اليمني املولود يف �أر�ض املهجر ..كانت ن�صو�ص ًا..
ولكنه حفظ الكثري من امل�شاهد واختزنها يف ذاكرته ق�ص�ص ًا ..روايات ..حت�س�ست مو�ضع الأمل الذي ت�سببه
لتكون ق�ص�صه الأوىل عن الهجرة واملهاجرين .و�ش ّكلت الهجرة واالغرتاب كق�ص�ص ( الأر�ض يا �سلمى) و(�شيء
فرتة ميالده و�صباه يف ذاكرته كنزاً هائ ًال من اخلياالت ا�سمه احلنني ) ..ك�شفت عن الكثري من االختالالت
وال�صور االجتماعية وال�سيا�سية .ذلك لأن �أباه كان الناجتة عن هجرة الإن�سان لأر�ضه ووطنه واغرتابه
من حركة الأحرار اليمنيني ،طليعة املعار�ضة للحكم كق�ص�ص (ليته مل يعد) ..قدمت �صورة دقيقة حلالة
الأمامي خارج الوطن». الغربة الداخلية �إىل جانب الغربة املتعارف عليها التي
�شخ�صت يعي�شها �أبناء املغرتبني كق�ص�ص (�أبو ريبة)ّ .
(بقية امللف مبوقع املجلة على االنرتنت) وب�صدقية تبعث على الده�شة واقع البالد وف ّندت �أ�سباب
168
فا�ضل العزاوي ي�شعل النار فـي
ثياب الدينا�صورات ال�شعرية
حاورته :ماجدة حميد
كاتبة من العراق
منذ ال�ستينيات يجوب يف فيايف الن�ص غائرا يف �أعماقه باحث ًا يف خلجات النف�س
عن جذوة الق�صيدة للولوج اىل �أ�رسارها وخمابئها واخلروج ب�رسياليتها ملواجهة
�رسيالية الواقع وتناق�ضاته ..رغم ان�شغاالته يف الكثري من احلقول املعرفية كال�شعر
والرواية والق�صة والنقد واملقال والرتجمة والن�صو�ص النرثية ،لكن ال�شعر يبقى
واملعب احلقيقي عن اجلانب الروحي امل�ضيء �إذ جند ان ذلكرّ هو الأل�صق به واليه،
الوهج ال�شعري ينبثق من بني كل نتاجاته االخرى ،بخ�صو�صية متفردة يف الر�ؤية
والر�ؤى ..كان �ضمن جماعة كركوك ومن �أبرزهم و�أغزرهم نتاج ًا �ساهم يف �أغناء
احلركة الثقافية يف العراق منذ ال�ستينيات وال يزال �ضاج ًا بعطاءاته.
يف منفاه االوروبي يتطلع العزاوي من خالل نافذته باجتاه الوطن البعيد القريب،
�ساكب ًا همومه وتطلعاته و�أفكاره على �أدمي الورق حامل ًا بالفجر واحلرية وبعامل
م�سكون بال�شعر.
169
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
كعرب �أننا ال نكاد ن�شعر بذلك. �شاعر مثل فا�ضل العزاوي كيف ميكنني ان �أب��د�أ
حماولة التفرد؟ ماذا يعني ذلك؟ كل كاتب حقيقي احلوار معه وثمة تاريخ جيل كامل يتالطم ب�أمواجه
هو متفرد بطريقة ما والكاتب الذي يعجز عن ان على الطاولة التي يجل�س �أمامها .ثمة بروق من
يكون متفرداً ي�صبح جزءاً من الركام امل�ضاف اىل علي
الكتب واملنايف واملعارك الأدبية والأ�صدقاءّ ،
ركام التاريخ الكثري .التفرد هو �صنو الأ�صالة� ،أي ان �أخت�رصها �أمامكم بب�ضعة �أ�سئلة بد�أتها هكذا:
ان يكون املرء نف�سه و�أن يحمل تلك الدمغة التي rعرف عن فا�ضل العزاوي م�شاك�ساته داخل الن�ص
متيزه عن �سواه ،من امل�ؤكد اننا نحمل داخلنا تراث بدءا من خملوقاته على �صعيد املنجز ال�شعري وحتى
الب�رشية كلها ونت�أثر ببع�ضنا ونعر�ض �أفكارنا «الروح احلية» على �صعيد الكتابة عن التجربة .هل
ومفاهيمنا لوهج �أفكار الآخرين ومفاهيمهم بيد هذه امل�شاك�سة حماولة للتفرد و�سط ركام الن�صو�ص
�أن كل واحد منا يظل يحمل وجها خا�صا به و�شك ًال �أم انها ثورة الروح داخل قوالب احلداثة؟
ال يتكرر قط رغ��م كل ه��ذه املليارات من الب�رش،
nال �أع��رف ما ميكن �أن تعنيه امل�شاك�سة داخل
�إنها حكمة الطبيعة التي �أهدتنا هذا التفرد� ،صانع
الن�ص .رمبا كنت تق�صدين بها �أمراً �آخر .فامل�شاك�سة
الأ�صالة ،الذي به وحده تعزف احلياة �سيمفونية
أنت تعرفني به ،ومع تعني �أن ثمة من هو على حق و� ِ
�أ�صواتها املتعددة الهائلة فندرك كرمها وغناها.
ذلك تعار�ضينه �أو تدخلني يف �رصاع معه بدون
rمن املالحظ �أنك ع�شت فرتة من ال�صمت بعد مغادرتك اهتمام باحلقيقة ،رمبا للتفرد �أو لأي غاية �أنانية
العراق ،فما بني العام 1976الذي ن�رشت فيه عمليك �أخرى ،وهو �أمر ال ينتمي اىل الأدب على �أي حال,
ال�شعريني «ال�شجرة ال�رشقية» و«�أ�سفار» والعام �أما �إذا كنت تق�صدين بامل�شاك�سة� ،أن ميزق الكاتب
1989الذي ن�رشت فيه جمموعتك الق�ص�صية «الهبوط �أو ال�شاعر بن�صه اجل��دي��د الأك��اذي��ب واخل��راف��ات
اىل الأبدية بحبل» وروايتك «مدينة من رماد» مل ي�صدر والأ���س��اط�ير الأدب��ي��ة املن�سوجة يف ظ��ل تخلف
لك �سوى عمل واحد هو «الدينا�صور الأخري» يف عام املجتمعات العربية� ،سيا�سي ًا واقت�صادي ًا وفكري ًا
1980ملاذا هذا التوقف وهذا الإنقطاع؟ وجمالي ًا ،حول هذه الق�ضية �أو تلك� ،أن يهدم جمد
� nأنني �أ�ستمتع بالعمل يف احلقيقة وحينما ال يكون الأوثان اجلاهلية التي حتر�س باب املعبد� ،أن مي�س
ثمة ما �أفعله �أ�شعر ب�أنني معلق من ر�أ�سي يف الفراغ الن�سغ احلقيقي ال��ذي ي�رسي داخ��ل �شجرة احلياة
و�أقلق كثرياً� ،شاعراً بدنو �أجلي ،مثل هذا الأمر حدث و�أن يجعلنا نواجه م�صرينا ب�أ�سئلة زماننا فهذا هو
يل يف املا�ضي ،لكنه انتهى منذ �سنوات� ،إنني اعي�ش بالذات ما مينح الكتابة تلك اللم�سة ال�سحرية التي
الآن يف احلقيقة من �أجل كتابتي وحدها ،بدون تربر لنا عبء عر�ض �أنف�سنا على الآخرين.
ذلك ال �أجد معنى حلياتي بعد �أن ع�شت فيما م�ضى هناك كتابة ميتة ،هي ركام من الن�صو�ص بالفعل
لغري الكتابة �أي�ض ًا ،حيث �أهدرت �سنوات من عمري أنت .كل ن�ص ي�شبه �أباه وحواء تنحدر كما ا�سميتها � ِ
حتت وط�أة الأمل مبا ال �أمل فيه حينا والي�أ�س من دائم ًا من �ضلع �آدم .هو ذا العقل العربي الذي ال ي�ؤمن
الأمل حين ًا �آخر ،مثلما كدحت طوال حياتي لأظل اال بالأحادية ويكرر نف�سه اىل الأبد يقف هاتف ًا يف
على قيد احلياة ،بدون عون من �أي كائن يف العامل. الربية «�أنا ال�شم�س وال جديد حتتي»� .صورة �أخرى،
فحينما �إنهار الو�ضع ال�سيا�سي يف العراق يف نهاية يف الأدب هذه املرة ،لطابور الدكتاتوريني العرب
ال�سبعينات وك�شفت الدكتاتورية عن وجهها الدموي الذين ال يقبل الواحد منهم �أن يكون �أقل من �إله.
ال�سافر يف حماولة منها لفر�ض ثقافتها الأحادية حالة �سايكولوجية ت�ستحق الرثاء ،ومن �سوء حظنا
170 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
الكتابة وانتهيت� ،ألي�س كذلك؟ البدائية على املجتمع و�صياغته على �شاكلتها فقدت
يف عام 1987ا�ستعدت نف�سي ثانية وبد�أت كتابة كل �أمل يف جناة العراق من الكارثة التي تنتظره
رواية «�آخر املالئكة» التي رمبا كانت �أف�ضل �أعمايل وتنب�أت بها يف العديد من ن�صو�صي ،وبالفعل
مثلما كتبت جمموعتي ال�شعرية «رجل يرمي �أحجاراً مل يطل الأم��ر كثرياً حتى ن�شبت احل��رب العراقية
يف بئر» ون�رشت العديد من الدرا�سات واملقاالت االيرانية التي ا�ستمرت ثمانية �أعوام ،وبعد �أقل من
التي �أعتز بها يف جملة «الناقد» ،لقد عملت طوي ًال عامني غزت �إ�رسائيل لبنان وحا�رصت بريوت .لقد
فيما م�ضى يف ال�صحافة التي مل تكن بالن�سبة �شلني الأمل يف منفاي الأملاين و�أنا �أ�شهد موت �أجمل
يل �سوى و�سيلة للعي�ش .ولو جمعت ما ن�رشته يف �أحالمنا و�آمالنا التي عك�سناها دائم ًا يف كتاباتنا.
ال�صحافة يف حياتي ل�شكل جملدات ميكن �أن �أناف�س حينذاك فقدت الثقة حتى بجدوى الكتابة ،ماذا
بها جملدات الأع��م��ال الكاملة ملارك�س يعني �أن تكتب ق�صيدة حيث الآالف يقتلون
واجنلز ،وهو �أمر قد �أفعله ذات يوم �إذا ما ق�صيدة وي�ستباحون كل ي��وم؟ م��اذا يعني �أن تتحدث عن
ا�سعفني الوقت .ثم تخليت منذ ما يقرب من النثـر هي احلداثة واحلرية واحلقيقة يف عامل يحكمه املوت
والكذب والغباء؟ فقدت القدرة على الأمل والكتابة
ع�رشة �أعوام عن �أي عمل �صحفي ،مكر�سا الأ�سهل منا ً
ال معا ،وج��دت انني �أه�ين ال�ضحايا حينما �أم�سك
حياتي كلها للكتابة الإبداعية والثقافية
وحدها ،حيث ن�رشت خالل هذه الأع��وام و�شخ�صانية القلم بيدي ،ط��وال اكرث من ع�رشة �أع��وام مل ان�رش
الع�رشة وح��ده��ا 15كتاب ًا يف ال��رواي��ة �سوى كتاب واح��د «الدينا�صور االخ�ير» ال��ذي هو
من كل يف احلقيقة اع���ادة كتابة لـ«خملوقات فا�ضل
وال�شعر والنقد والدرا�سة والرتجمة .كما
�أنني �أو�شك على االنتهاء من كتابة رواية الأجنا�س ال��ع��زاوي اجلميلة» وانتابتني رغبة جارفة ب�أن
ين�ساين اجلميع يف العراق .مل يكن م�سموح ًا بذكر
كبرية جديدة وثمة ديوان جديد قد ين�رش الأدبية �إ�سمي ولو �ضمن �شتيمة ،حلذيف من الذاكرة نهائي ًا،
هذا العام ،ف�ض ًال عن الكثري من الدرا�سات
الأخرى التي ميكن �أن تظهر يف كتب �أي�ض ًا. ويف الوطن العربي ك��ان معظم النا�رشين الذين
لقد تعلمت من جتربة الثمانينات املريرة يقب�ضون �أرزاقهم من خزانة الدكتاتورية يتطريون
من �أي ا�سم خارج قافلة البالبل املغردة .وكانت
�إن على الكاتب� ،إذ يكون �شاهداً على زمنه
كل ال�صحف واملجالت العربية تقريب ًا ،وهي يف
�أن يرتك لنف�سه م�سافة �شخ�صية تف�صله عن �أحداثه
حم�أة حما�ساتها لبطل القاد�سية وحامي البوابة
و�أن يتعلم �أن يكتب من �أجل نف�سه قبل �أن يكتب
ال�رشقية قد �سجلت منذ البداية �أ�سماءنا يف قائمة
من �أجل �أي �أحد �آخر يف العامل ،فنحن منلك فر�صة
ال�شيطان ،حينذاك �أي�ض ًا رمبا كتعوي�ض عن خ�سائر
واحدة للحياة ،ال تتكرر �أب��داً ،وعلينا ا�ستثمارها،
ثقافتي القومية ،وجدت الكثري من ال�سلوى يف قراءة
مهما كانت مريرة ،حتى حافتها الق�صوى.
الفل�سفة والأدب باللغة الأملانية وبد�أت حماوالتي
rتنوعت �أعمالك الإبداعية بني ال�شعر والق�صة والرواية الأوىل للكتابة بها ،ومهما بدا الأمر فكاهي ًا يل الآن
والكتابة النرثية وال�صحافة والرتجمة والكتابة باللغة فانني كنت غا�ضب ًا على الأمة العربية كلها :كال،
الأملانية التي ا�صدرت بها الآن ديوان ًا كبرياً ( 90ق�صيدة) لن �أكتب ملثل ه�ؤالء الأغبياء! و�شعرت ب�سعادة �أن
بعنوان «يف حفلة �سحرية»� ،أين يجد العزاوي ذاته �أكرث �أكون غائب ًا عن حفلة اجلهلة والدجالني� ،أذكر �أنني
يف زحمة كل هذه الفنون الأدبية وكيف �أمكن لك حتقيق التقيت ال�صديق ال�شاعر ممدوح عدوان يف تلك الأيام
كل هذا التداخل؟ وما دام لكل �شاعر م�رشوعه ال�شعري فقال يل مداعب ًا ،وهو يكاد ي�صدق نف�سه :لقد تركت
171 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
زمن مثل زمننا .وهو ال ميكن �أن يعني بالت�أكيد املغاير ،فما هي مميزات م�رشوع العزاوي ال�شعري؟
الدعوة لقتل ال�شعر و�إمنا لبعث الروح فيه وتخلي�صه � nإنني �شاعر قبل كل �شيء ،ولكنني �أفهم ذلك
من ثقل الدم الذي يعاين منه ليكون �أكرث جاذبية مبعنى جديد يخيل ايل �إنه �سي�شكل ب�ؤرة تطور الأدب
و�إمتاع ًا �ضمن فهم جديد لل�شعرية ،هذا الفهم هو يف امل�ستقبل ،ال�شاعر مبعناه القدمي� ،أي ذلك يولد
الذي جعلني �أكتب منذ البداية الق�صيدة بكل حرية فطري ًا ك�شاعر وال يجيد �سوى �صناعة ال�شعر ،يو�شك
الكتابة وبدون �أي و�صفة م�سبقة لها ،كما لو انني على االنقرا�ض ،كان ذلك مقبو ًال يف املا�ضي ،قبل
�أبتكر ال�شعر لأول مرة ،لذلك ميكن لبع�ض ق�صائدي �أزمنة احل��داث��ة ،حيث تت�ضمن الق�صيدة معارف
ان يقرتب من الق�صة الق�صرية �أو �أن يت�ضمنها ،مثلما القوم وتعك�س ع�صبيتهم بدون الإخالل بوظيفتها
ميكن تلم�س اخلط الروائي يف جمموعتي ال�شعرية الإجتماعية �أو اجلمالية� ،أم��ا الآن فقد انح�رست
«ال�شجرة ال�رشقية» مث ًال .كما ميكن للمرء �أن يقر�أ وظيفة الق�صيدة اىل احلد الذي ي�صعب فيه التعرف
«خملوقات فا�ضل العزاوي اجلميلة» و«الدينا�صور عليها ،و�إذا كانت ال ت��زال ثمة ق�صائد تتو�سل
الأخري» و«كوميديا الأ�شباح» مرة كرواية و�أخرى عواطفنا اله�شة فانها تعتا�ش يف الأغلب على بقايا
ك�شعر .ويف ال��وق��ت ذات��ه ق��د �أدم���ج يف الق�صيدة فهمنا الرومان�سي للعامل الذي نعي�ش فيه وت�ستغل
الواحدة ال�شعر املوزون بالنرث مثلما ا�ستخدم بحورا ذلك بكل ج�شع� .أم��ا ق�صائد ال��ر�أي الآيديولوجية
عدة ،بل ورمبا جل�أت يف بع�ض �أجزائها اىل الق�صيدة فغالبا ما تت�صنع املعرفة النبوية يف زمن مل يعد
العمودية �أي�ض ًا �أو حتى اىل الر�سم. فيه مكان للأنبياء .ولذلك راح ال�شعر منذ نهاية
�إنني ال �أريد بذلك بالطبع �إلغاء الأجنا�س الأدبية. ال�ستينيات ب�صورة خا�صة – �إنني �أحتدث هنا عن
فالق�صيدة تظل عندي ق�صيدة وال��رواي��ة رواي��ة حركة ال�شعر يف العامل – مييل اىل �أن يكون �شعرا
والق�صة الق�صرية ق�صة ق�صرية واملقالة مقالة، م�شاع ًا ،يكاد ميار�سه اجلميع ،كل تالميذ املدار�س
ولكن حيلتها تقوم على �أن تكون نف�سها ،كجن�س مث ًال يتدربون على كتابة ال�شعر ،وهم يكتبونه بنف�س
�أدب���ي ،و�أك�ثر من نف�سها يف �آن ،مثل كائن حي الطريقة التي يكتبون بها مذكراتهم وخواطرهم
ي�صعب حت��دي��ده يف بعد واح���د �أو معنى حم��دد. للتعبري عن انف�سهم وعواطفهم ،وال �شك �أن الق�صيدة،
ويف الطريق اىل ذلك ال �أهتم بال�شعر وحده و�إمنا وخا�صة ما �رصنا نطلق عليه يف اللغة العربية ا�سم
�أي�ض ًا بالرواية والنقد والق�صة الق�صرية وامل�رسح ق�صيدة النرث ،هي الأ�سهل منا ًال و�شخ�صانية من
وال�سينما والفل�سفة والإقت�صاد والتاريخ وال�سيا�سة كل الأجنا�س الأدبية الأخرى .ويف مقابل ذلك يقل
وعلم اجلمال وعلم النف�س والر�سم وال�صحافة ..الخ،.. اليوم بعد الآخ��ر عدد الذين يقر�أون ال�شعر� ،ضمن
ولكن �أي�ض ًا بالعلوم الطبيعية ،وب�صورة خا�صة ال�شعور املتزايد لي�س بعدم جدواه وفائدته ولعجزه
الفيزياء الفلكية التي تبهرين ب�أ�سئلتها التي تقرتب عن ال�صعود اىل م�ستوى الأجنا�س الأدبية الأخرى
من �أ�سئلة ال�شعر .كل املعرفة الب�رشية هي منطادي الأك�ثر �إث��ارة وجاذبية ،ولكن �أي�ض ًا الفتقاره يف
الذي ا�صعد به اىل ال�شعر� .إنني �أنظر اىل نف�سي يف الأغلب اىل ال�سحرية التي ميزته يف املا�ضي.
ال�ضوء املنبثق من كل ذلك و�أ�شعر مبتعة وغنى لي�س هذا يف احلقيقة حجة �ضد ال�شعر ،و�إمنا �ضد
املادة التي �أتعامل معها يف كتاباتي. التكرار النمطي الذي ا�ستهلك نف�سه يف اعتيادية
ي�صعب علي هنا �أن �أحتدث عن م�رشوعي ال�شعري �أقواله وموا�ضيعه و�أ�شكاله املكررة, ،و�إ�شارة يف
الذي هو يف الوقت ذاته جزء من م�رشوعي الأدبي الوقت ذاته اىل �رضورة اخلروج من مفهوم ال�شعر
واحلياتي ،لكي ال �أبدو مبت�رساً ولكن ميكن ملن يهمه ب�شكله ال�سائد اىل �شكل جديد قادر على احلياة يف
172 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
حتى الآن� .إن ما ن�رشته من دواوين وروايات وكتب ذلك �أن يعود اىل قراءة «البيان ال�شعري» ال�صادر
نقدية ي�شكل جزءاً من م�شهد روحي ،ال امل�شهد كله كتابي النقديني «بعيداً داخل
ّ يف عام 1969واىل
�ضمن جتربتي التي تقوم �أ�سا�س ًا على تعدد الأ�شكال الغابة – البيان النقدي للحداثة العربية» و»الروح
والر�ؤى .هناك الكثري الذي مل �أقله بعد .و�إذا ما حالفني احلية -جيل ال�ستينات يف العراق».
احلظ وع�شت ب�ضع �سنوات �أخرى ف�سوف �أن�رش العديد rكيف تتفتح زهرة الق�صيدة يف حديقة العزاوي؟
من الكتب اجلديدة التي �أ�ستكمل بها امل�شهد كله. كيف تنمو وتكرب؟ ما هي ركيزتك الروحية يف بناء
rبد�أ م�شهد اجليل ال�ستيني وا�سع ًا ومت�شعب ًا ومل تبق ن�صو�صك؟ هل ترتكها للعفوية �أم تخ�ضعها لتحليالت
منه اليوم اال �أ�صوات معدودة .ترى كيف تنظر الآن اىل خمتربك النقدي؟
عموم امل�شهد ،وجذوره و�أ�شجاره و�شتاته؟ ومن هي nهناك ق�صائد ميتة وق�صائد حية ،كثري من ق�صائد
الأ�سماء الإبداعية التي ت�ستوقفك جتاربها؟ حاولت يف احل��داث��ة تقوم على ال�سيالن اللغوي الف�ضفا�ض
nق��ب��ل ك��ل ���ش��يء ان��ن��ي �أك����ره ال��ف��ك��رة �أو املناجيات العاطفية الرومان�سية وتفتقر يف
ال�صبيانية ال�شائعة يف الأدب العربي ن�صو�صي �أن الأغلب اىل �أي فكرة جوهرية وتعجز عن التما�س مع
عن الأج��ي��ال التي تتبع التقومي العقدي �أ�ضع يدي على احلقيقي يف احلياة� ،أننا قد جند فيها جملة جيدة
امليالدي .و�إذا كنت �أنا نف�سي قد �أ�صدرت هنا و�أخرى هناك ،ولكن �أبياتها �أو �سطورها تتكد�س
كتاب ًا عن جيل ال�ستينات يف العراق فذلك نب�ض احلياة فوق بع�ضها يف الأغلب ،بحيث لن ي�صعب علينا �أن
لكي �أ�شري به اىل ظاهرة �إ�ستثنائية خا�صة احلقيقية و�أن ننقل مقاطع من هذه الق�صيدة لن�ضيفها �إىل تلك
ج��داً على امل�ستويات العاملية والعربية فال يتغري الأمر كثرياً ،متام ًا كما هو عليه الأمر يف
والعراقية ،وبالت�أكيد لي�س �ضمن املفهوم �أعك�س روح الق�صيدة العمودية التقليدية التي ميكنك �أن حت�شوها
العقدي ال�سائد ،فال�ستينات العراقية متتد زمني ك�شاهد بكل �شيء مثل جراب ال�شحاذ ،كما قلت ذات مرة.
يف نظري من العام 1964وحتى العام ركيزة كل �شاعر بالت�أكيد هي ر�ؤي���اه الداخلية
عليه الروحية وخم��زون وعيه للعامل ال��ذي يعي�ش فيه
،1973وقد �أو�ضحت معنى ذلك يف كتابي
«ال��روح احلية» لقد انتهت ال�ستينات منذ وح�سا�سيته ومعارفه وجتاربه ال�شخ�صية .وهنا
فرتة طويلة ،ولكن الكتاب وال�شعراء الذين �أ�سهموا يدخل احل�س النقدي يف اختيار مادته التي يتعامل
يف �إغناء تلك التجربة الطليعية ووا�صلوا �إبداعهم معها و�أه��م��ي��ة قولها .طريقة كتابة الق�صيدة
بعدها هم حتى اليوم الأكرث ح�ضوراً و�إبداع ًا .ال �أريد وتنفيذها على الورق تختلف من �شاعر اىل �آخر وثمة
هنا �أن �أذكر �أي �أ�سم لأن ذلك قد يلحق احليف مبن تقنيات قد يحتفظ ال�شاعر ب�أ�رسارها لنف�سه .يف ما
ميكن �أن �أن�ساهم ويثري احل�سا�سية والبغ�ضاء يف يتعلق بي تفر�ض الق�صيدة نف�سها طريقة تنفيذها،
جو م�شحون �أ�سا�س ًا بالتوتر واالنتقا�ص من قيمة وهي تخ�ضع دائم ًا اىل مراجعات نقدية �صارمة جداً
الآخ��ري��ن ،وهو �أم��ر م�ألوف على �أي حال يف كل ومتكررة ،حتى الفارزة �أو النقطة تكون مدرو�سة.
جتارب املنفى الأخرى �أي�ض ًا ،فحينما يفقد املرء �إنني �أخ�ضع كل �شيء يف الق�صيدة حل�ساب ع�سري،
الأمل ويجد نف�سه وحيداً ومعزو ًال ال معني له ،ورمبا ويف النهاية يهمني �أن �أجعل كل ذلك يبدو عفوي ًا.
خائب ًا �أي�ض ًا يدافع عن حياته باللجوء �إىل الوهم rكيف ترى الآن جتربتك بعد ما يقارب �أكرث من ربع
ويفقد احل�س بالواقع واحلقيقة. قرن على �صدور جمموعتك ال�شعرية الأوىل؟
� rإن جيلك ،و�أنت �أبرزهم ،عانى �أكرث من �أي جيل �آخر � nأ�شعر �أنني مل �أ�ستكمل جتربتي ال�شعرية والأدبية
173 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
يعني الكثري يف النهاية هو� :أن يكون �شعراً حقيقي ًا. ال�سجن واملنفى والت�رشد ،كيف �أثر كل ذلك على ن�صك؟
فعندما يكون ال�شعر حقيقي ًا مينحنا تلك احل�سا�سية nلقد حاولت يف ن�صو�صي دائم ًا �أن �أ�ضع يدي
التي ت�صعد بنا اىل م�ستوى �آخر من الإن�سانية التي على نب�ض احلياة احلقيقية التي ع�شتها و�أن �أعك�س
تتحد فيها غايات ال�شعر النهائية مع م�سعى كل روح زمني ،ك�شاهد عليه ،و�إذا ما كان علي هنا �أن
الفنون والعلوم الأخرى التي تريد �أن جتعل كوكبنا �أعرتف بف�ضل القمع علي ككاتب و�شاعر فانه قدم
الأر�ضي �آمنا وجميال وقادراً على موا�صلة احلياة. يل يف فرتة مبكرة من حياتي معرفة هائلة بال�رشط
rهل تعتقد �أن النقد ا�ستطاع �أن يتوغل يف عامل الإن�ساين يف التاريخ و�أ�ضفى على ن�صي ح�سا�سيته
العزاوي و�أ�ضاء خفاياه ورموزه �أم �أن هناك م�ساحات اخلا�صة به .كل ما تعلمته يف حياتي تالي ًا كان
مل تكت�شف بعد؟ تعميق ًا لهذه اخلربات الأوىل مع الب�رش ،مع ال�ضحايا
nالنقد؟ ال �أعرف �إن كان ثمة ما ميكن ت�سميته بالنقد واجلالدين �سوية ،وهو تق�سيم �سيظل ي�شطر املجتمع
يف الأدب العربي ،هناك كتاب مقاالت �صحفية عابرة الب�رشي طوي ًال ،لي�س يف ال�سيا�سة وحدها.
يعر�ضون فيها الكتب �أحيان ًا ويبدون �آراءه��م فيها rحيث ترزح الب�رشية الآن يف �أغاللها حتت وط�أة الظلم
بالقليل من الثقافة التي ميلكونها ،ال �أعتقد �أن ثمة والدكتاتوريات وتناق�ضات احلياة و�أحداثها املت�سارعة
�أحدا در�س �أعمايل بطريقة جادة ،والكثري من النقاد ما الذي ي�ستطيع �أن يفعله ال�شعر �إزاء كل هذا؟
يتجنبونني ،رمبا لأنهم ال يعرفون كيف يدخلون اىل nال متلك الق�صيدة التي تنتمي �إىل ال�شعر احلقيقي
عاملي املغلق �أمامهم ،ب�أدواتهم النقدية العتيقة، بندقية تقاتل بها ،وحتى �إذا امتلكتها ف�إنها �سرتمي
�أو رمبا لأنهم كما قال يل ال�صديق ال�شاعر حممود بها يف النار �أو النهر ،لأنها �ضد بربرية التاريخ
دروي�ش ذات مرة ممازحاً�« :إنهم يخ�شونك فيتجنبون دائم ًا .لكن ثمة ق�صائد رديئة تفعل ذلك .ال�س�ؤال
�رشك» ومع ذلك �أود �أن �أ�شري هنا �إىل درا�سة جادة الأهم هو� :أي �شعر يحتاجه زماننا؟ ذات مرة قر�أت
ومثرية قدمها عن �شعري مع �شعراء �آخرين د� .رسور على ج��دار معتقل ما يف العراق بيت ًا من ال�شعر
عبد الرحمن �ضمن ر�سالة دكتوراه� ،سوف تن�رش قريباً، جعلني �أفكر كيف ميكن لل�شعر نف�سه �أن يكون و�سيلة
داف��ع عنها يف جامعة بغداد يف العام ( 1996يا للحقد والدمار:
للعجب!) بعنوان «املحاوالت الرائدة يف ق�صيدة النرث �أنا بعث �إن م�سني جنح �ضيم
العربية» ور�سالة ماج�ستري قدمت يف ال�سبعينيات �أحرق الأر�ض وال�سما والوجودا
اىل جامعة القاهرة عن رواية «القلعة اخلام�سة» مع حينما �أتذكر الآن كل تلك الق�صائد التي ن�رشت
روايتني �آخريني� ،أعد الأ�ستاذ �أحمد خري�س يف جامعة يف العراق وغري العراق لتمجيد الدكتاتورية تارة
الريموك يف الأردن ر�سالة دكتوراه عن مفهوم امليتا
واحلرب تارة �أخرى �أدرك كيف ميكن لل�شعر نف�سه �أن
– ق�ص Metafictionيف رواياتي.
يكون خائن ًا للحلم الإن�ساين ،رمبا �سيقول �أحد ما �إن
rبني احلداثة والرتاث ،بني قراءة ال�شعر العربي هذا لي�س �شعراً .كال� ،أنه �شعر �أي�ض ًا ن�رش عنه النقاد
والعاملي �أين يقف العزاوي؟ العباقرة الكتب ومنحت لر�سله اجلوائز التقديرية
� nأقف على �أر�ضي اخلا�صة بي و�أنظر مبر�صادي لي�س يف العراق وحده ،وبع�ضهم ال يخجل حتى من
�إىل ال�سماء فوقي� .إنني ال �أ�ضع فا�ص ًال بني احلداثة التطاول على ال�شعراء الذين �ضحوا بكل �شيء من
والرتاث ،لإنني �أفهم الرتاث بعني احلداثة مثلما �أفهم �أجل �أن يظلوا �أوفياء ل�شعرهم.
احلداثة كتتويج للرتاث الإن�ساين كله� .إن خ�صو�صية ومع ذلك ي�ستطيع ال�شعر �أن يفعل �شيئ ًا واحداً �سوف
174 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
rاحتاد الأدباء يف العراق؟ ثقافتي العربية ال متنعني من �أن �أرى �أفق احل�ضارة
nال بد �إنه ي�شعر بيتم عميق� .أعتقد �إنه ينتظرنا الإن�سانية املوحدة اجلديدة التي �أنتمي �إليها �أي�ض ًا.
جميع ًا ليكون جديراً با�سمه. لقد انتهى الزمن الذي كانت فيه الثقافات القومية
مغلقة على نف�سها ومتناثرة مثل جزر يف بحر .كلنا
� rساملة �صالح؟
ننتمي الآن اىل كوكب واحد انهدمت فيه احلدود
� nصبية كانت ترتدي ثوب ًا مقلم ًا عندما التقيتها بني ال�شعوب والنا�س ونعي�ش يف الأ�سا�س امل�شاكل
لأول مرة يف جملة القنديل يف العام 1965وتقول ذاتها� ،ساعني اىل �إلغاء الفجوات احل�ضارية التي ال
«�أي نعم!» كلما وجدت الآخر �صامت ًا ،لتحثه �أو حتث تزال قائمة بني القارات وال�شعوب.
نف�سها على الكالم.
rو�أنت تقف على برج كتابك الع�رشين كيف تنظر �إىل:
� rأدوني�س؟
� nإنه �أحد ال�شعراء العرب املهمني الذين �أ�سهموا يف rبغداد؟
�إغناء حركة ال�شعر العربي احلديث. nبعيدة وقريبة ،حا�رضة ومن�سية ،لكنها معي
دائم ًا كخنجر يف اجلرح.
rق�صيدة �ضاعت؟
nمل ت�ضع مني ق�صيدة واحدة فح�سب و�إمنا ق�صائد rكتاب الأغاين؟
كثرية �أتلفت بع�ضها بنف�سي وبع�ض منها اختفى يف nذاكرة عربية للإبداع
ا�ضابري مديرية الأمن العامة التي �صادرتها مني. rمقهى يف برلني؟
ويف العام � 1963ضاع مني ديوان كامل كبري ،كنت nمقهى ال��ـ Reisebüroيف �ساحة �ألك�سندر
قد �أودعته عند �أحد الأ�صدقاء ليحتفظ يل به يف بيته. بالرتز ،لكنه انتهى وحتول �إىل مكتب لل�سفريات
rو�أخرى مل ت�ستطع كتابتها؟ مثلما انتهيت �أن��ا �أي�ض ًا من �إدم��ان اجللو�س يف
nق�صائد ون�صو�ص كثرية مل ا�ستطع كتابتها يف املقاهي و�إن مل �أفقد احلنني �إليها.
البداية ،ثم كتبتها فيما بعد او اهملتها نهائياً� .أذكر rمقهى الربملان يف بغداد؟
انني حاولت ان اكتب رواية «�آخر املالئكة» قبل ع�رشين nكنت �ألعب فيه ال�شطرجن �أحيان ًا ،و�أنا �أتلفت ميين ًا
عام ًا من كتابتها فعجزت ،كانت تنق�صني حينذاك وي�ساراً ،باحث ًا عن الر�صايف �أو الزهاوي اللذين
عاطفة و�شفافية احل�س الذي ين� أش� من العالقة املتوترة كانا من رواده الثابتني .ذات مرة حتديت فيه �أحد
بني الغياب عن املكان وذكراه ،بني حنني الروح �إىل العبي ال�شطرجن اجليدين مقامراً فخ�رست ع�رشين
البدايات وا�ستحالة العودة اىل ما ال عودة اليه ،وهو ديناراً ،وهو مبلغ كان يعني ثروة حينذاك.
�أمر ما كان ممكن ًا بدون جتربة املنفى الطويلة.
� rسوق ال�رساي؟
rو�أخرى ندمت عليها؟
nكنت ال �أزال يف الإبتدائية عندما دخلته �صدفة
nملاذا ينبغي علي ان �أندم على �أي ق�صيدة؟ كل ما لأول م��رة خ�لال زي��ارة يل مع وال��دي �إىل بغداد
كتبته ينتمي ايل وميثلني وا�شعر ب�سعادة انني كنت فا�شرتيت م��ن بائع كتب على الأر����ض ق�صيدة
نف�سي دائم ًا يف كل كلمة كلمة دونتها على الورق. الأ�سلحة والأطفال لل�سياب بخم�سني فل�س ًا.
وخطه ٍ
بخط ّ و�شعرية �أدخل ال�شعر �إىل الألوان والأ�شكال ّ أدبية
خلفية � ّّ هو �آت من
لي�شد �إىل لوحته بذكاء جمهور ثقافته الكلمة ،فيتعبه بالبحث عنها يف غري مفهوم ّ
الت�شكيلية.
ّ �شعرية غري مقروءة ليهرب منها �إىل ف�ضاء ا ّللوحة ّ �أبيات
الدين مي�شي يف �شارع احلمرا متخ ّفي ًا وراء حليته وعينيه احلاملتني حممد �شم�س ّ
باملعري ودانتي ليقر�أهما وي�صل �إىل ّ ي�شك املرء ب�أ ّنه هادئ ُك ّل ّي ًا .يلتقي
وهدوء ّ
اجلنوبية اخل�رضاء
ّ ماراً بالرباق ،عاد �إىل قريته
العامل الآخر م�شاهداً اجل ّنة والنار ّ
املائية على الكرتون ّ ومير ب�ألوانه
ّ ليط ّل من حمرتفه على املدى و�شجرة الغار
جلية ونور بعيد وبذاكرته تلك اجل ّنة وتلك ال ّنار. القطني مب�ساحات وا�سعة ّ
176
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
الفن التجريدي ب�شكل كبري وكنت خمطئ ًا والأ�سباب عن ّ «مائيات يف عني ال�شم�س» الّذي �أرفقه ّ يقول يف كتابه
واالنطباعية ورف�ض كل ما
ّ الواقعية
ّ هي الهروب من مع معر�ضه الأخ�ير ،كنت �أرنو عزلة طويلة بعيداً عن
التجريدية الّتي �أو�صلتني �إىل مكان
ّ هو واقع فاخرتت املعري ودانتي رفيقي �ضجيج العامل و�إذ بي �صدفة بني ّ
م�سدود يف عملي� .أح�س�ست ب�أ ّنني �أريد التعبري واخلروج املعري � :أوتظ ّنني
ّ يف تلك العزلة الّتي فقدت عزلتها.
ال�ضيق الذي و�ضعت نف�سي به.من ذلك املكان ّ �أعمى وال �أب�رص
rما كانت النتيجة ؟ �صحيح �أ ّنني مل �أر الأر�ض ولك ّنني
ر�أيت كفايتي يف الأعايل. .
بالفن بل بامل�رشوع فقد
ّ � nأ�صبت ببع�ض الف�شل لي�س
دانتي � :أجل قر�أتك ولكن ا�ستعرت « �آلة ال�شكّ » لأ�صعد
عربية منها الأردن والكويت و�سوريا عر�ضت بع ّدة بلدان ّ �إىل حيث �صعدت �أنت و�أرى ما ر�أيته .لك ّنني ما التقيتك
وفل�سطني وطبع ًا لبنان الّذي هو الأ�سهل� .أح�س�ست ب�أن
ال يف اجلحيم وال يف الفردو�س .ربمّ ا ما زلت يف املطهر
علي.
الفكرة مل ت�صل مل يفهموا ّ أل ّنك االلتبا�س بح ّد عينه� .ساحمك اهلل. . .
rماذا تق�صد بـ مل يفهموا عليك ،رغم أ� ّن الفن التجريدي �شم�س ال ّدين :بعد انتظاري املم ّل ملو�سم املطر ،تركتهما
مرغوب يف الثقافة اخلليج ّية والعرب ّية �أكرث من غريه مع ًا يف ظ ّل �شجرة الغار ودخلت حمرتيف لأنظر يف �أمري
من االتجّ اهات الفن ّية ؟ القطنية البي�ضاء.
ّ ر�سمت يداي على امل�سطّ حات وما ّ
nنعم لكن ف ّني التجريدي �أدخلت عليه الكتابة والكتابة حممد ونحن بدورنا دخلنا �إىل حمرتف الف ّنان الت�شكيلي ّ
مبعنى ال�شكل الكتابي كت�شكيل ولي�س كتخطيط ففُهم �شم�س ال ّدين لندرد�ش يف الفن و�أم��وره الغائبة �أغلب
على �أ ّن��ه خ��طّ .مل �أح� ّ�ب ذل��ك ف�أنا �أكتب ب�شكل عفوي ونتعمق مبا �آلت �إليه ظروف الفن ّ الأحيان عن النا�س
وع�شوائي� .أحب اخلرب�شة و�إدخالها على لوحتي كما والف ّنان بعاملنا العربي والعامل.
هي بطفولتها وهذه رغبة وعادة لدي منذ الطفولة ح ّتى دمر العامل ويعيد �صياغته اختار الر�سم التجريدي ُلي ّ
�أن �أحد الأ�ساتذة يل حني كنت �أتابع درا�ستي يف فرن�سا ف ُهزم هو وجيله الداعي للتغيري وعاد �أدراجه للواقع ف ّن ًا
وقد �شاهدين �أكتب ،قال يل �أنت تظن نف�سك تكتب لكن املرة فدار بلوحته ي�شحذ لقمة العي�ش علّه ي�صيب هذه ّ
ولك ّنه �أ�صبح �أ�ستاذ.
rالفنّان حممد �شم�س ال ّدين� ،أين �أنت من الفو�ضى
العارمة املخ ّيمة على الف ّن بالعامل فكل املدار�س
والت ّيارات الفن ّية �أ�صبحت متداخلة بع�ضها البع�ض؟
فن بت�رصّ فاتي و�أكلي nالفن �أنا �أعي�شه فحياتي كلّها ّ
وم�رشبي ،عالقاتي مع الآخرين من زوجتي و�أوالدي
أكادميي ًا
ّ و�أ�صدقائي ومن حويل وكل �شيء� .أنا ل�ست رج ًال �
تيار ف ّني وح ّتى �سيا�سي ف�أنا وال �أ�ستطيع االرتباط ب� ّأي ّ
بحياتي مل �أنتم �إىل حزب �سيا�سي على �سبيل املثال مع
يحجمني متطرف .مل �أرتبط لأن االرتباط ّ ّ �أ ّنني ي�ساري
أيدولوجية
ّ ويجعلني جم�براً على ال� ّدف��اع عن �أفكار �
بالفن مل �أ�ستطع ذلك فقد �سبق ودافعت ّ حم ّددة ،ح ّتى
177 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
املر�أة �أر�سمها بطريقة وك أ� ّنني �أكتبها� ،أر�سم ك�أ ّنني �أكتب باحلقيقة �أن تر�سم من خالل احلرف ون�صحني �أن �أتابع
فتاريخي ًا عائلتي
ّ جملة �أو ق�صيدة ،هذه هي ثقافتي ذلك.
�شم�س ال ّدين هي عائلة �شعراء .منذ طفولتي وعيت على rت�أكيداً على أ�نّك ت�ستعمل الكتابة كعن�رص من عنا�رص
مكتبتنا الّتي هي مكتبة �أدب و�شعر وتاريخ وفقه ،هذا لوحتك ،ف�أنت تكتب �أحيان ًا �أ�شياء غري مفهومة وتعطيها
ما هي عليه مكتبة الأب واجل� ّد والعائلة ب�أكملها .ال مكانها املك ّمل للعمل الت�شكيلي وهذا ما بدا وا�ضح �أكرث
هويتي ثقافتي وكما قلت �أ�ستطيع اخلروج منها هي ّ يف معر�ضك الأخري� .ألي�س كذلك ؟
لك �سابق ّا هذا ما ن�صحني به �أ�ستاذي الفرن�سي الّذي ال
nبال�ضبط هذا ما �أري��ده هو �شكل اخلطّ ولي�س معنى
العربية فحني ر�أى خطّ ي ر�آه ر�سما ولي�س كتابة ّ ي ّتقن
ون�صحني �أن �أر�سم بهذه الطريقة. العاملية
ّ الكلمات وهذا �شيء موجود الآن يف الّلوحة
�أبحث عن مفتاح لأجذب املتل ّقي فهناك من يدخل الكتابة واخلرب�شات يف عمله وال
يل
وب�صمة ت�شري �إ ّ يطلقوا عليها فن التخطيط �أو الكتابة ،بينما يف عاملنا
ي�رصون على تلك الت�سمية ويخطر على ّ العربي ال يزالون
rط ّيب «حم ّمد �شم�س ال ّدين» بكل الأحوال حني تر�سم العراقية الّتي �أُدخل �إليها بالهم مقارنة لوحتي بالّلوحة
ّ
وت�ضع بع�ض الكتابات بلوحتك ب�شكلها الت�شكيلي اخلطّ ب�شكل �أ�سا�سي ويعتربون لوحة اخلطّ قد انتهت
ورغم �أنّك تن�سبها ل�شاعر �أو كاتب معينّ فاملُ�شاهد و�أ�صبحت مو�ضة قدمية وهم يريدون ما هو حديث ومن
ربا
ال يفهم هذه الكتابة فلم الإ�شارة �إىل الكاتب �أو مّ يتكلّم بهذا ال�شكل ال يفهم من احلداثة �شيئاً.
الق�صيدة غري املفهومة ؟
علي و�ضع مفتاح ما كي �أجذب � nأ�شعر حني �أر�سم �أن ّ
املخزون �أدب و�شعر
املتل ّقي واملفتاح هو الكتابة .يقف امل�شاهد �أمام الّلوحة rحممد �شم�س ال ّدين �أنت �آت من خلف ّية ثقاف ّية �أدب ّية
ويحاول قراءة ما كُ تب فال يفلح بذلك كونها ُجمل غري ُ �أال جتد ح ّبك وتعلّقك بالكتابة � ٍآت من هذا املكان .كيف
ُربع املكتوب فال يفهم �شيئ ًا وذلك وا�ضحة ينظر �إىل امل ّ توظّ ف �أو تربّر ذلك ت�شكيل ّي ًا ؟
عما �أق�صده ،حني ال يجد جواب يلج أ� �إىليجعله يت�ساءل ّ
الّلوحة باحث ًا عنه( .يبت�سم) إ� ّنه مفتاح ذكي لأ�ش ّد من nطبع ًا �أنا �آت من املكان الأدبي و إ� ّنني �أي�ض ًا قارئ
خالله امل�شاهد املتعلّق بالّلغة فيدخل حينها �إىل الّلون ج� ّ�ي��د .ت�شغلني الفكرة وال �أع���رف الر�سم دون فكرة
وال�رشقية هي ثقافة العربية ونحن كلّنا نعلم �أن الثقافة حتركني وجتعلني �أدخل �إىل الّلوحة .يف معر�ضي الأخري ّ
ّ ّ
لغة ولي�ست ثقافة عني ولون. املعري ودانتي ودخلت بحالتهما. ركّزت بقراءاتي على ّ
rهل هي ب�صمتك الف ّن ّية ،يعرفها املتلقّي يف لوحتك � rأين وب�أي معنى دخلت بحالة املعرّي ودانتي ؟
قبل �أن يقر�أ توقيعك ؟ nيف ال ّنهاية هناك ن�صّ جميل ي��أث��رك ،مث ًال حني
nنعم هي كذلك. �أدخلوين �إىل العامل الآخ��ر ،اجل ّنة واجلحيم واملطهر.
متخيل.
ّ هناك من �رشح جميل لعامل
�أحالم انك�سرت وامر�أة عارية rلكن هذا الكالم هو كتابة وتخ ّيل .كيف يط ّبق
� rأنت بعد �أن كنت جتريد ّي َا جئت �إىل الو�ضوح بلوحتك ت�شكيلي ًا؟
فر�سمت الطبيعة بواقع ّية .ما الّذي خطر ببالك ؟ تتحول ر�سم ًا �إىل
ت�شكيلي ًا ربمّ ا و�أنا �أكتب كلمة الرب ّ
ّ n
nع��دت �إىل الو�ضوح لأ ّن��ن��ي تخلّ�صت من قناعاتي �شجرة �إىل ع�صفور .وغري ذلك ح ّتى حينما �أقوم بر�سم
178 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
نر�سم لوحة متح ّفية ولي�س هناك من ال�سيا�سية القدمية الّتي انهزمت .انهزمنا و�ضاعت ّ
متحف الي�ساريني �أت��ب��اع تروت�سكي
ّ �أح�لام��ن��ا نحن جيل
عما هو تقني ،كيف تختار املا ّدة الّتي وال�رسيالية الّتي مت ّثلت بال�شاعر بروتون وغريه . .كان
ّ
-لنتكلّم قليال ّ
الزيتية ومن ثم ت�ستعملها فبعد �أن ر�سمت بالألوان حلمنا هو تدمري العامل مبعنى تدمري التقليد وما هو
ّ
املائية ؟ الأكريليك انتقلت �إىل الألوان متحفي .كل ه�ؤالء الثوريني ما عاد لهم من مكان بهذا
ّ
nاملا ّدة نختارها ح�سب حاجتنا �إليها فال�شعور ربمّ ا العاملّ � ،أما �أنا فكنت �أعتقد ب�أن التجريد جزء من هذه
يكون بالر�سم على القما�ش �أو الكرتون القطني �أو غريه الأفكار.
كما �أن رائحة الألوان املعتاد عليها تلعب دور ،وهناك -لكن هناك ر�أي مخُ الف يقول ب�أن الفن التجريدي هو
�صحي ًا كما ّدة الزيت فامتنعت بع�ض املواد التي ت�ؤذي ملن ال يريد �أن يقول �شيء �أ�ص ًال ؟
ّ
من قبل الطبيب عن ا�ستعمالها ال �أعرف �أختار ما ي�ش ّدين. nقلت لك انهزمنا والآن بع�رص الإنرتنت �أ�صبح العامل
مفتوحا على بع�ضه و�أ�صبحت الكلمة الّتي نكتبها ت�صل
rالطاغي على الفن حال ّي ًا هو التقن ّيات �أكرث من الفكرة �رسيع ًا مل يعد هناك من �أفكار مغلقة ومل نعد بالفن
�أو حتّى الت�أليف ب�شكل عام .ما ر�أيك ؟ املهم �إي�صال ن�ستطيع االنتماء �إىل مدر�سة حم � ّددة،
ّ
متحفية بالعمل الف ّني ف�أي لوحة ّ nمل يعد هناك من الفكرة ب�شكل �أو ب�آخر ربمّ ا باملنظر الطبيعي �أو باخلطّ
ت�ستطيعني �إجنازها وطبعها ون�رشها �أينما كان .هناك أعب عن الثورة ب�أن�أو ب� ّأي �شيء �آخر� .أنا عرب الإنرتنت � رّ
تقنيات كثرية ممكن �أن تخرب بعد � ّأيام �أم من ي�ستعمل ّ �أر�سم
ب�ضع �سنوات �أو �أ�شهر مل يعد ذلك مهما . �إمر�أة عارية.
rح�سن ًا ما �أهم ّية ذلك ؟ -ما دخل العري بالثورة ؟
بامل�شهدية املبا�رشة ،مثل العمل ال�سينوغرايف أهميتها واحلرية بال�سيا�سة .ما هي �إ ّال خدعة، ّ � nأربط العري
ّ ّ �n
امل�رسحي ا ّل��ذي كان يل جتربة معه ،فهو ينتهي مع لعبة.
انتهاء العمل امل�رسحي وال يبقى �سوى ال�صور .هو عمل -لكن �أ�صبح ذلك ُي�شبه املو�ضة فكل من �أراد التعبري عن
ف ّني �أي�ضاً. �أي موقف فال يجد بطريقه �إ ّال العري واملر�أة .هذا �شيء
لي�س مقنع ًا كربط ؟
� nأنا �أقدم العري دون جن�س.
-وهل �أنت مت�أكّد ب�أن هذه هي الثورة ؟
nال ،ولكن �أحيان ًا لي�س بامكانك قول �شيء �آخر ولك ّنني
ال �أكتفي بذلك ،ربمّ ا �أر�سم ع�صفورا �أو رجال �أو �أي �شيء.
الواقعية يف التعبري. .
ّ � .أق�صد
�-أال جتد ذلك� ،إفراطا يف املبا�رشة والتف�سري وح ّتى
االبتذال؟
nهذا فقط يف الأنرتنت كطريقة يف تقريب الأمور مث ًال
كق�ص�ص كليلة و ُدمنة �أو �ألف ليلة وليلة� . .أنت ت�ستعني
ب�أفكار �أخرى لتمرير موقف �سيا�سي �أو حتى جمايل.
179 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
لدى بع�ض املافيات من �أ�صحاب �صاالت العر�ض الّذين � rأنت يف حوايل �آخر خم�سة معار�ض لك تُدخل يف
ي�شرتون جمموعة �أعمال لف ّنانني مبتدئني ب�أ�سعار معر�ضك �إىل جانب الّلوحة عم ًال تركيب ّي ًا والآن يف
بخ�سة ويعملون على ت�سويقها ويرفعون �أ�سعارها العامل �أ�صبح هذا الفن هو الطّاغي ،ما ر�أيك بذلك ؟
يبخ�سون
فريبحون الأموال الطائلة ،ويف الوقت نف�سه ّ متحفية ،انتهت.
ّ nقلت مل يعد هناك من لوحة
ب�أعمالنا الّتي لو بيعت ب�أ�سعار مرتفعة فالفائدة لن
rولكن هناك �آراء تقول العك�س وب�أن الّلوحة لن متوت
لنيتهم
تعود عليهم بل على �آخرين وهكذا .بالإ�ضافة ّ وما يجري الآن ما هو �إالّ �رصعة و�ستنتهي ؟
الفنية ،فالّلوحة تعترب وثيقة للبلد
ّ بتخريب الوثائق
nكيف ذلك قويل يل ويف بلدي لبنان لي�س هناك من
معينة،
فنية يف فرتة ّ
طلُعت يف وقت معينّ حتكي مرحلة ّ طيب �أنا
العربية �أي�ضاًّ .
ّ متحف واحد للفن ومعظم الدول
يريدون تخريب الوثائق.
�أر�سم الّلوحة �أين �سيكون م�صريها يف فرن�سا �أو اليابان
rمن يحمي الف ّن والفنّان ؟ مث ًال ؟
nنحن غري حمميني ،مث ًال حني جاء الرئي�س احلريري
rولكن العمل الرتكيبي زائل �أي�ضاّ ؟
�إىل لبنان وبعيداً عن املوقف ال�سيا�سي� ،ض ّد �أو مع ،لكن
nنعم و�أنا ل�ست �ض ّد الّلوحة ولكن ربمّ ا �سيكون م�صريها
حني �أعاد �إعمار و�سط املدينة مل ُين�شئ �أي �رصح ثقايف
كم�صري باقي الفنون كامل�رسح وال�سينما ال ي��زاالن
�أو ح ّتى �صالة عر�ض واحدة مع العلم �أنه قبل ذلك كان
موجودان لكن ما هي ن�سبة امل�شاهدين الّذين ُيتابعون
هناك ع ّدة �صاالت عر�ض ن�شيطة ت�شرتي الأعمال من
ويهتمون بهذه الفنون ومنهم الفن الت�شكيلي.ّ
الف ّنانني.
لوحتي يف متحف بريطاين لغر�ض خبيث
rولكن بع�ض هذه ال�صاالت ما زالت موجودة ؟ يريدون تخريب الوثائق
تغي ومل يعد با�ستطاعتهم �رشاء �سوى nلكن الو�ضع رّ الفنية من �أقا�صي
ّ �سيا�سيو بالدنا ي�شرتون الأعمال
عدد حمدود ج ّداً من الأعمال ومل �أعد �أ�ستطيع الدخول ال العامل با�ستثناء بالدنا
�أنا وال غريي من الف ّنانني ،بينما حني ُر مّم فندق فيني�سيا rماذا تقول عن البور�صة العامل ّية والأموال الّتي ما
ا�شرتى رئي�س احلكومة نف�سه لوحات من �إيطاليا بخم�سة زالت تدفع على �رشاء الّلوحة ؟
ماليني دوالر ومل ي�شرت لوحة واحدة من ف ّنان لبناين �أو
nكل هذا هدفه تبيي�ض الأموال طاملا هناك �رضائب
ح ّتى عربي ،وال لوحة واحدة.
مفرو�ضة على �أ�صحاب الأموال فهم ُيف ضّ� لون �رشاء عمل
�سيا�سي ًا
ّ فيما بعد �أتى �إىل لبنان من هو �ض ّد ذاك الرئي�س
ف ّني ت�ستثمر فيه �أموالهم بد ًال من دفعها على ال�رضائب.
وافتتح فندق �آخر ( املوفن بيك) فا�شرتى من ال�صّ ني
تب ًا لهم فلي�شرتوا �إن �أرادوا جزءا
لوحات مبليوين دوالرّ . . rكيف تُ�صنّف الأعمال الّتي تنزل بالبور�صة علم ًا �أن
من اخلارج وليخ�صّ �صوا اجلزء الآخر من املبلغ ل�رشاء خا�صة حني تكون هناك �أحيان ًا تقديرات غري منطق ّية ّ
�أعمال من فنانني حملّيني� .أهذا �صعب �إىل هذه الدرجة الأعمال للمبتدئني باملجال الفنّي ؟
؟!. . � nس�أقول لك حادثة جرت معي منذ فرتة .علمت �أن
nبكل الأحوال هو قانون متعارف عليه ببالد العامل، هناك لوحتني يل موجودتان يف �أحد املتاحف يف لندن،
� ّأي دعم الف ّنانني املحلّيني بالفر�ض على امل� ّؤ�س�سات فرحت لذلك ولكن بعد فرتة من البحث والتدقيق ع ِلمت
واحلكومية �رشاء الأعمال الف ّن ّية لدعم الف ّنان
ّ الكبرية ب�أ ّنها ال ُتباع فقد ُعر�ضت مببلغ رخي�ص ج ّداً وب�أق ّل
وللإعالء من �ش�أن الفن يف البالد .كذلك بال ّن�سبة للفنون من �سعري املعروف وذلك ل�رضب لوحتي غري املتو ّفرة
180 نزوى العدد / 74ابريل 2013
حـــوار ..حـــوار ..حـــوار
s
s
s
� nأنا �أتوا�صل مع ف ّنانني كرث يف العامل ومع �أ�صدقاء. وامل�رسحيات وغريه.
ّ الأخرى ك�إنتاج الأفالم
�أق��وم بعر�ض �أعمايل وبعت البع�ض منها من خالل � nأتعلمي� ،أنا �ض ّد النظام ال�سوري لكن ما من ف ّنان
جيدة لالنت�شار� .أحيان ًا �أعيد
االنرتنت وهي طريقة ّ مادية �إ ّال و�أخذ لوحتني من �سوري كان ُيعاين من �أزمة ّ
�صياغة بع�ض �أعمايل بطريقة خمتلفة بالفوتو �شوب �أعماله �إىل نقابة الف ّنانني ُليخربهم بو�ضعه في ّت�صل
أحب
كما �أين �آتي ب�صور �أركّبها و�ألعب بها كما �أرغبّ � . ويعلمهم �أ ّنه
النقيب بدوره �إىل � ّأية وزارة من الوزارات ُ
تو�صيل �أفكاري عن طريق (الفاي�س بوك) ولكن لي�س �سيبعث لهم بلوحتني لي�شرتوهما ،وه��ذا ما يتح ّقق،
حرية.
بطريقة مبا�رشة �أقول ما �أنا عليه بكل ّ �أر�أيت رغم �أ ّننا ننتقده كنظام وكذلك نه�ض بالدراما
rيف النّهاية ،هناك فنّانون كبار يف لبنان حني رحلوا ال�سورية وغريها من �أمور.
ّ
اندثرت �أعمالهم واختفت طبع ًا بغياب املتحف ،كيف rهل هذا الو�ضع له عالقة بحجم الّلوحة ؟
�ستحفظ لوحتك من االندثار ؟ nطبع ًا ففي �سوريا والعراق ُعرف ف ّنانيها بر�سم الّلوحة
nيف كتاب وهذا ما بد�أ يقوم به عدد من الف ّنانني يف تتحمل �رشاءهاّ � .أما يف ّ كبرية احلجم لأن امل� ّؤ�س�سات
لبنان ،حفظ �أعمالهم بالكتب والكتالوجات وكما قلت لبنان فالّلوحة �صغرية �إ ّنها لوحة ال�صالون يقتنيها من
لك عن طريق الإنرتنت ،ولتندثر الأعمال ف�أنا �أمتتع ي�ستطيع �رشاءها � ّأما لوحة الف ّنان العراقي «جواد �سليم «
بالر�سم الآن. فكان قيا�سها يرتاوح بني الع�رشة والع�رشين مرتا .ملاذا،
rما ر�أيك بالناقد الفنّي يف لبنان هل ُي�ساعد بتقريب تتحمله ال ّدولة وامل� ّؤ�س�سات الكبرية.
لأن هذا القيا�س ّ
الفنّان من املتلقّي ؟ يف لبنان هناك �سعر حم � ّدد ومتوا�ضع ل�رشاء لوحة
من قبل الدولة وعلى الف ّنان دفع ال�رضيبة .وهناك
nالناقد الت�شكيلي يف لبنان غري موجود ف��إن كان
�شيء خطري يجري يف لبنان ،فالّلوحات الّتي بحوزة
بالفن ي�رشح ما يراه للف ّنان وحني يكتب ،يكتب ّ يعرف
الدولة �أ�صبح ن�صفها مفقودا وم�رسوقا والباقي يف
أحب
وي�شخ�صن الأمور� ،إن � ّ متجرد ُ
ّ ما ينا�سبه فهو غري
امل�ستودعات ُمه ّدد بال ّتلف.
حبه ي�شتمه وهناك �آخر مي أل فراغا الف ّنان ميدحه و�إن مل ّي ّ
مهنيا ويف �أبعد تقدير يقت�رص دوره بتغطية املعر�ض وال الفن متعة ول�ست نادماً
ّ
الت�شكيلية.
ّ التعمق بال�رشح الفتقاره �إىل الثقافةيعرف ّ
rحم ّمد �شم�س ال ّدين ،كيف تد ّبر �أمورك وهل �أنت نادم
الختيارك الف ّن ؟
nال ل�ست بنادم ،حياتي هي الفن ّ .كنت �أعي�ش ب�ضيق
كال�شحاذ كي
ّ �شديد لدرجة �أن �أحمل لوحتي و�أدور بها
�أبيعها لأعي�ش كما �أ ّنني ا�شتغلت بت�صميم الكتب ،لكن
منذ �سنتني مت تفريغي ك�أ�ستاذ جامعي فارحتت من هذه
م�ضطراً ب�أن �أبيع لوحتي .الآن �أنا �أر�سم
ّ املعاناة ومل �أعد
مبتعة مطلقة وبقناعة.
rنحن نعلم ب�أنّك ن�شيط على موقع التوا�صل االجتماعي
(الفاي�س بوك) تعر�ض �أعمالك و�أحيان ًا تعيد �صياغتها
عن طريق الرتكيب والتل�صيق و�أ�شياء �أخرى� .أخربنا ؟
181 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار
182
حممد مكية
خطاب م�ؤثر ،ومنجز �شاخ�ص
علـــي ثوينــي
معماري عراقي مقيم يف �ستوكهومل
183
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
تتداخل مع م�صلحة مدينتهم .ومن هنا جاءت فكرة فبعد رحلة طويلة من احلل والرتحال ،عاد مكية
ن�رش كتاب توعوي مت توزيعه على جميع بيوت املنطقة �أدراجه اىل لندن التي كانت قد ا�ستقبلته �أول مرة
املراد �إعادة ت�أهيلها .وذلك ( ليعرف كل منهم حدوده العام ،1935حينما كان مبعوثا للدرا�سة يف �أول
وما ينبغي �أن يعمله يف داره وما قيمة االلتزام لهذا بعثة مو�سعة للدولة العراقية لربيطانيا.ثم عودته
الربنامج الذاتي الذي مت �ضبط �آلياته مبجموعة من منها عام ،1946حيث عمل يف دوائر الدولة
الت�رشيعات التي �ألزمت التقيد بها) ..وهذا يفيد يف العراقية ،ثم �أ�س�س كلية العمارة يف جامعة بغداد عام
الف�صل بني العام واخلا�ص ور�سم احلدود بينهما ،1959و�شارك يف �إر�ساء خطاب عمراين ومعماري
من خالل �آلية ت�رشيعية .وقد تكون لتلك الت�رشيعات حملي واقعي� ،أحبط تباعا ،حينما تقاذفته �رصاعات
نتائج باهرة عندما توفر بالنتيجة �أرا�ضي يف�ضل يف االنقالبات وهم�شته مناخات ال�سيا�سة ،فا�ضطر
عدم الإ�ستثمار بها ،ووجد ذلك يف بع�ض مدن اخلليج مكره ًا اىل ترك العمل الأكادميي ب�سبب الت�سيي�س
واجلزيرة التي ميكن ا�ستثمارها ب�إر�ساء م�شاريع البنية لهذا املجال احليوي عام � ، 1971ضمن نخبه كبرية
التحتية كامل�ساحات اخل�رضاء واملتاحف واملراكز من الفاعلني امل�ؤثرين يف الثقافة العراقية .فهاجر
الثقافية واملكتبات وامل�شاريع النفعية التي ت�صب اىل اخلليج وبريوت ثم لندن.
بالنتيجة يف ال�صالح العام بعد ما يتم احلث على و�أهم حمطات مكية وجتاربه اخلارجية ،كانت مدينة
ذلك ب�إلغاء ال�رضيبة عليها و�إعطاء بع�ض االمتيازات م�سقط التي عمل فيها م�ست�شارا جلاللة ال�سلطان
لأ�صحابها .ويلعب الإعالم دوراً جوهري ًا يف حيثيات قابو�س بن �سعيد املعظم يف بداية عقد ال�سبعينات،
مل ّكيه جتربة غنية يف م�سقط حينما �شهد ذلك امل�سعى .و َ بعدما كانت املفا�ضلة حم�صورة بينة وبني امل�رصي
التح�ضري لثالثة جتمعات �سكنية �شعبية التقى خاللها املرحوم ح�سن فتحي( ،)1989-1899ويبدو �أن لذلك
ب�أهايل املدينة ومت خاللها حث اجلميع وت�شجيعهم الأمر دالالته يف املنحى الرتاثي الذي خطته ال�سلطنة
على التفكري بحا�رض وم�ستقبل مدينتهم التي تهمهم منذ بدايات م�رشوعها املر�سوم بعناية ومبنظور
وتهم �أجيالهم ال�صاعدة .وتلك الظاهرة تعك�س احل�س واقعي وخطى را�سخة ،كون كال املر�شحني نحيا
احل�ضاري حينما يتداخل فيها احل�س اجلماعي وت�سخر نحو املحافظة و�آثرا الرتاث على احلداثة (ب�سماتها
معطيات الدرا�سات النف�سية التي جتعل اجلميع يفكر الغربية) .وهكذا �شارك يف �أ�س�س تلك النه�ضة التي
يف اجلميع ،وتتداخل م�صلحة الفرد مع اجلماعة . �أثمرت تباعا،وجعلت من امل�رشوع العمراين واملعماري
وبالرغم من النجاح العام و�أحيانا ال�شكلي لبع�ض العماين دالة للكيا�سة واحلكمة�.أما احلداثة املنفلته
امل�شاريع العمرانية واملعمارية ،ف�إن َم ّكيه ي�شكو دائما التي توج�ست ال�سلطنة منها ،هي ما دعيت (النموذج
من عدم حتقيقه لكل ما متناه (رمبا ب�سبب طبيعته ال�سنغافوري) اخلال�سي ،الذي جت�سد يف مدائن اخلليج
احلدية �أو موقف بع�ض الإداريني) ،ففي م�سقط مثال عموما ،وال�سيما يف منوذج مدينة دبي .ورغم تنائي
يقول ب�أنه ا�ستطاع ان ينقذ بع�ض االبنية التي كانت ال�سنني و�سطوة ال�شيخوخة والعزلة ،لكن الدكتور مكية
�آيلة للزوال يف املدينة .وي�رصح�( :إن املعماري مل يكن مازال متوقد الذاكرة واحل�س النقدي ،ويحتفظ بالكثري
حراً فيما يعمله ب�صورة كاملة ،ومل تكن لديه احلرية من الذكريات والأفكار وال�صور عن م�سقط وال�سلطنة
بالقرار ،وهكذا مل يكن لدي �إمكانية حتقيق م�رشوع �إبان بواكري نه�ضتها.
كامل) .وعادة ما يكرر مكية ب�أن املعماري يجب مل ّكيه خالل م�شاركته يف م�رشوع تنظيم مدينةت�سنى َ
�أن يكون متوا�شجا مع جمتمعه والوعي مبتطلبات م�سقط يف بواكريه� ،أن يطبق فكرة البناء الذاتي التي
الإن�سان واملجتمع �إحدى متممات الدرا�سة الأكادميية تقوم على �أكتاف �أهل املدينة ممن يجدون م�صلحتهم
184 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
و�إنتمائه الكوين وتفاعله وم�ساهمته املتميزة يف والتقنية ،وهذه الآ�رصة ت�شكل جوهر ت�سيري الت�صميم،
(املعمورة) كما �أوردها الفارابي.وب�سبب تقارب �أن�ساق وتتحكم يف واقعيته بتكري�س القيم .وهذا يعني �أن
التوا�صل و�إنتقال املعلومة ال�رسيع و�سال�سة الإقتبا�س انعزال املعمار يف «�صومعة» املكتب هي مثلبة عليه،
والإقتناء ،جعل من مدنيتنا احلديثة تقت�ضي تفهم لكل ولن�أخذ العربة من (�أ�ساطني�-أ�سطوات) حرفة البناء يف
تلك املعطيات من �أجل �إن�شاء مدينة حديثة مبميزات البد للمعمار
الرتاث وكيا�ستهم االجتماعية .وغري ذلك ّ
حركية (دينامية) متماهية مع الإن�سان واملكان. من حجة علمية مقنعة ول�سان حق عند احلوارات
�إن القيم الزمانية موجودة فينا ونتح�س�سها بعواطفنا للدفاع عن �سال�سة الفكرة و �سالمة التنفيذ ،ناهيكم عن
ورمبا نرف�ضها تارة او نتقبلها تار ًة �أخرى ،و�إن تهذيب رقة يف التعامل ورف�ض الأنانية والرنج�سية واملزاجية
هذه العواطف هو �رس كيان احل�ضارة امل�ستمرة املنبعثة والف�ضا�ضة والغال�ضة والطمع والتع�سف.والبد من
من وحي الزمان واملكان� .إن من اخلط�أ االقت�صار على تطوير احل�س النقدي لدى املعمار من �أجل ان يكون
ر�ؤية الدنيا من خالل ما نراه يف احلداثة ،مبا يلغي �شاهد حق على الزوغان والتزوير الذي يقرتفه الأفراد
«ب�صفاقة» اخلو�ض يف غمار الت�أريخ والرتاث ،الذي واجلماعات يف العملية املعمارية.
يعده «املتفذلكون» م�ضيعة للوقت واجلهد ،وهذا وال بد للمعماري ان يكون مطلع ًا ومرتبط ًا بالبيئة
ق�رص نظر �رصيح� .إن درا�سة الرتاث لي�س الإطالع على الطبيعية لي�ؤكد جتذره يف املكان ،وهو ما يكر�س
ق�ص�ص وحكايا (كان ياماكان)� ،إمنا تنمية وتعزيز متاهيه يف ت�صميماته مع معطياتها ،والذي يتداعى اىل
وت�أكيد لبنى الإن�سان وطاقته ،ناهيكم عن �إظهاره نتائج ح�ضارية مق�صودة بكل م�ساعي الب�رش لالرتقاء
مدى مقا�صده للخري .وبذلك فان الرتاث ميثل �سمات باحلياة ،وهذا هو �رس بناء احل�ضارات املحلية وما
الأخالق يف كنف الت�أريخ .و�إن التعلم والتثاقف و�سعة التفا�ضل بينها �إال من خالل قربها من التفهم واملواءمة
الأفق حرية يكت�سبها الإن�سان وحري الت�شبث بها، مع البيئة الطبيعية ،التي تعد امل�رسح الواقعي ملحك
العمارة ،فبقاء امل�رسح ثابت ًا
َ
مع تغري العرو�ض والروايات
املعرو�ضة ،ي�ؤكد على ر�صانة
وجوده وحقيقتها .فاحل�ضارة
لي�ست مدعاة للخيالء والتباهي،
و�إمنا فل�سفة تتعلق بالقيم
الإن�سانية ومقا�صد لت�سهيل
حياة الإن�سان و�إ�ضفاء ال�سعادة
عليها ،وهي لي�ست كيانا ثابتا
و�رسمديا ،حتى لو بقي امل�رسح
الطبيعي نف�سه ،لكن خطها
التطوري وقابليتها يف املواءمة
مع امل�ستجدات ب�شكل ع�ضوي
ي�ضمن لها البقاء حلقب �أطول.
وهكذا فق�صة احل�ضارة هي ق�صة
الإن�سان ذاته ،بفطنته وموهبته
185 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
العمارة�إن التخلف احلقيقي هو ذلك الذي ن�شاهده يف َ وهي تعاك�س احلب�س الذي يفر�ضه اجلهل عليه .وهكذا
العربية املعا�رصة ب�صورة عامة ،وال�سيما الأبنية ف�إن التح�ضري حلرية الإن�سان تقت�ضي تثقيفه وتعليمه
«ال�شعبوية» ،وخا�صة يف منطقة اخلليج ب�سبب وجود وتو�سيع مداركه و�إطالعه على الثقافات وحركة الفكر
جموع العمالة الأجنبية الرخي�صة والوفرية� .إن اخلليج يف العامل،كما قال الإمام علي (كرم اهلل وجهه)( :املرء
باعتباره ي�شكل �أطراف اجلزيرة العربية والبيئة عدو مايجهل).
ال�ساحلية ،قد ن�ش�أت فيه كيانات وقرى لها طابعها ال بد ان تكون هواج�س املعماري مت�صلة باحلدث
وهويتها ،برغم ب�ساطتها،لكنها نابعة من تقاليد وتراث العاملي ومبجريات احلياة يف بيئته التي ت�ضم يف
قدمي من�سجم مع الطبيعة وح�س املناخ واالو�ضاع جنباتها ال�سمات الروحية والرتاكمات الت�أريخية.
الإجتماعية ب�صورة فذة .وهذا هو «كما يعتقد َم ّكيه»، فتداخل الرتاث واحلداثة الميكن ان يبنى من فراغ،
الأ�سا�س للمقومات اال�صيلة لهذا التعاطف بالن�سبة �أو على �أ�س�س مقتب�سة من ثقافات �أخرى خمتلفة يف
للأبنية و�إ�ستعمال موادها وارتباطها العقائدي «ان بيئاتها طبيعي ًا وب�رشياً ،و�سبق لها �أن جربت حتى
�صح التعبري» ،ذلك لأن الرتاث اال�سالمي قدم وجهة و�صلت اىل احلالة املثلى .والميكن اال�ستغراب ب�أن
نظر عميقة ،ومل يفر�ض �شك ًال معيناً .فالرتاث اال�سالمي النتائج من ذلك امل�سعى �ستكون �سطحية وهام�شية،
حركي (ديناميكي) وتوا�ؤمي ،لذا نرى �إختالف دون ريب� .إن �أي تغيري يف ال�شكل للمدينة الإ�سالمية
االبنية ب�إختالف مواقعها :يف جدة ،و�صنعاء ،وجند، التي هي �آخر منتج لعاملنا الوارث لرثاء ال�رشق القدمي
والبحرين ،ويف دبي ..حيث نرى اختالفات ،ولكن ،الميكن ان يكون دون امل�سا�س بامل�ضمون املديني
�ضمن ايقاعية موحدة� .صحيح انها �إختالفات مهمة، بجانبيه الروحي واملادي ،وهكذا فان �صنع اال�شكال
ولكنها ال تخرج على وحدتها املتكاملة(.)1 لغر�ض الإبهار و�إظهار ال�شكالنية � ،سوف ميكث بعيدا
يقول مكية�« :إن العمران هو قبل كل �شيء انتماء اىل عن حقيقة املبتغى لالرتقاء باحل�س املديني.
املكان .والواقع اجلغرايف هو امل�رسح الطبيعي للبيئة، �صحيح ان املدينة جلبت الكثري من اخلريات ،ولكن
وهو �أهم من التاريخ ،فالتاريخ ت�صنعه اجلغرافيا الثمن كان باهظ ًا جداً يف بع�ض االحيان ،وان املكا�سب
واملعمار يحدد ت�ضاري�س بيئته .لقد �أخرتت لدرا�ستي كانت دون اخل�سارة .فاملدينة مل ت�ؤد اىل نه�ضة
ح�ضارة البحر املتو�سط لأننا نقع جنوبه يف خط ح�ضارية على النطاق املعماري ،ومل تتعد امل�س�ألة �أكرث
اال�ستواء الأفقي من �أطل�س العامل ،خلفيتنا حتدها من كونها غزواً فكرياً .الذنب «طبعاً» ذنبنا ،ولي�س ذنب
ال�صحراء والبوادي ،يف حني حتدنا اجلبال يف ال�شمال امل�ست�شارين العامليني الذين يبيعون لنا الب�ضاعة التي
وال�رشق .وهذا النوع من الت�ضاد والتفاعل �أثرا على يجيدون �صنعها� ،إنك ال ت�ستطيع �أن تطلب من م�ست�شار
نوع ال�سلطة يف احل�ضارات القدمية منذ ال�سومريني عاملي �أن يعطيك �أح�سن ما لديه ،و ال ت�ستطيع �أن تطلب
والبابليني والآ�شوريني ،فهناك مركزية لنوع هذا من معماري تخرج من معهد معماري �أجنبي ،اال ان
النظام وعقيدته ،بعدما اتخذت �أبعاداً جديدة تختلف يعطيك الفكرة التي تعلمها يف املعهد املذكور .لال�سف،
عن ا�ستخدام اخلطوط والتزيني عند ال�سومريني ،و�إن مل تتح الفر�صة �أمام االخت�صا�صي املحلي �أن ين�ش أ�
كانت قريبة منها (.)2 على معطيات بيئته ويه�ضم عنا�رصها يف ذات الوقت
يذهب َم ّكيه اىل �أن العمران يعني التمكن من املوازنة الذي يعرف كيف ي�ستفيد من التكنولوجيا العاملية
واملالقحة الفذة بني �أربعة معطيات وحاجات هي املعا�رصة التي يف متناول يده .لو حدث ذلك لكان
البيئية والروحية واالجتماعية واالقت�صادية ،والميكن لنا �إنتاجنا املت�سم بخ�صائ�ص ومميزات م�ستوحاة من
الت�ضحية بواحدة من �أجل �أخرى ،التخطيط العمراين البيئة.
186 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
ويطالب َم ّكيه دائما بو�ضع مقايي�س وخطط تنظيمية هو حاجة �إن�سانية وهدف �سعت له الأديان والفل�سفات
للحفاظ على هوية املدينة دون تعنيف �أو ت�شويه الأخالقية ،فهو اليخ�ص قوما بعينهم بقدر كونه
لفطرتها الأوىل ،وذلك من خالل �آليات قانونية .ونادى نتاجا �إن�سانيا عاما وع�ضويا .وبالرغم من �شموليته
َم ّكيه بعدم بناء ناطحات �سحاب يف و�سط مدينة جدة فان لذلك حدود تتعلق بالذاتية الثقافية ،و�إن ما
ال�سعودية مثال ،لت�شويه جماليات بيوتها القدمية ،ويف يوائم جتمع ب�رشيا وبيئيا بعينه الينا�سب �أخرى،
مدينة م�سقط حاول َم ّكيه جاهداً �أن الت�شيد مبان �شاهقة فهو جمع لتحليالت مو�ضعية �إجتماعية و�إقت�صادية
ت�شوه طبيعتها اجلبلية الوادعة ،وان ال تتعدى املباين وبيئية و�سيا�سية .لذا ت�ستوجب الواقعية يف الطرق
امل�شادة فيها عن الثالثة طوابق .بيد �أن تلك الإقرتاحات وحتا�شى التطور امل�صطنع (التورم) للمدن ،ور�سم
كان ت�أثريها حمدودا ورمبا �آنيا ،حيث يلعب املعماري خطى واقعية وع�ضوية مرتاتبة ،تتعلق بطرائق العي�ش
املنظم والإداري دورا جوهريا يف اتخاذ القرار بح�سب والرزق امل�ستقطب للب�رش .ويتج�سد ذلك يف العمليات
قناعات ،وجند الكثري من املواقف ال�سلبية التي تقرتف اال�ستمالكية بغر�ض االحتفاظ مبنطقة معينة من
تن�أى عن احل�س الرتاثي والثقايف ،حينما يت�رصف املدينة ،وعدم اخرتاق التطور احلداثي جلنباتها
،وهذا يدعو اىل خلق حمفزات وحالة جذب جتعل
املعمار كم�أجور �أو رمبا مرتزق ل�صاحب العقار او
من الإن�سان ي�ستغني عن �أماكن بعينها لالنتقال �إىل
الأر�ض ،في�صمم مباين �ضخمة و�شاهقة على رقعة
�أخرى ،وت�ضحيته هذه التكون �إال مبقابل وامتياز �أن
�أر�ض �صغرية مثال ،وذلك تبع ًا المالء وقرار مالكها ،
يقوم املخطط العمراين باكت�شافها وتكري�سها .وهذا
مبا ميكن ان يعود ت�شويها للبنية العمرانية ،التي تبقى
يتطلب تنظيما جماعيا اقت�صاديا و�إداريا يتنا�سب مع
�أمانة بعنق املعماري يف الن�صح والتربير والتوجيه. اهدافها ،ومن �ضمنها امل�ؤ�س�سات املالية وامل�صارف
لدرء الإ�ستغالل االحتكاري الذي يرد طبيعي ًا من �أنانية
البع�ض ،والذي ميكن ان يقو�ض االهداف املرجتاة.وها
نحن اليوم غارقون يف هذا امل�ستنقع ،حينما غابت
الآليات العلمية ال�ضابطة ،والنا�س امل�ؤهلني �أخالقيا
ووظيفياً.
لقد دعا َم ّكيه اىل ما ا�سماه (التوافق احل�رضي) الذي
اليعك�س عاطفة للمكان الرتاثي فح�سب ،بل ي�أتي
من خالل التطوير العقالين الذي يرتق الفجوة التي
اوجدتها التطورات الأخرية يف و�سائل الإنتاج ،والتي
غريت �سجية املدن امل�سرت�سلة منذ االزمنة الت�أريخية.
وهذا التوافق الي�ؤمن بطراز بعينه ،بل ي�ستجمع اخلزين
الرتاثي وي�صبه يف قالب متماه مع ع�رصه .وهذا
يقودنا اىل �رضورة املحافظة على الن�سيج العمراين
الرتاثي الذي يختلف عن احلفاظ على الآثار ،بحيث
يبقى نب�ض احلياة يدب يف جنباتها ،وال ن�صنع منها
متحف ًا جامداً حمنطا ً يخدم ال�سياحة ،بل جعلها جزءا
من ن�سيج املدينة الأو�سع.
187 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
ربوة ،توحي لنا وك�أنها عرو�س قابعة تر�صد البحر وجند الت�شويه قد �شاع و�أ�صبح قاعدة حينما جند مبنى
املفتوح على الأفق .وهذا �أهم ما متناه مكية ،حينما ت�أريخي ًا وادعاً ،وبجانبه عمارة عالية ملت�صقه الغية
وجد تلك املمار�سة البيئية التي تهاجنت مع اجلمال ملقيا�سه امل�ألوف وم�رشفة عليه ،بل خانقة جلمالياته،
يف مدائن البحر املتو�سط الذي اخت�ص به .فالأبي�ض كما يف م�سجد جديد ي�شاد على ربوة يف اخلوير ،حيث
عاك�س للحرارة وموح بالنقاء ومن�سجم مع زرقة البحر �سمح ببناء عمارات عالية متنع عنه الر�ؤية وتقلل من
من جهة �أو داكن اجلبال التي ت�شكل خلفيته وهندامه. قيمة كونه �شاخ�صا ح�رضيا land markوهنا
وهكذا �أم�ست تلك �سمة وتفردا مل�سقط عن مدائن اخلليج يطفح اىل ال�سطح الذوق غري اجلمايل ،وي�شيع الإبتذال،
التي متادت بزوارقها ،و�أم�ست تعاين اليوم من تلوث وهو ما ينعك�س تباعا على �سلوك النا�س كمنتج منهم
ب�رصي حاد ،يتعلق باالن�سجام والتماه اللوين مع يعود وبا ًال عليهم.
البيئة ال�سماوية واجلغرافية. ن�رضب مثال :جتربة �شهدنا عليها ،وطبقت يف �ضواحي
يتذكر مكية النقا�شات التي دارت ب�صدد م�رشوع �شمال لندن الكربى ،يف (لوتن ، )Lutonحيث
تو�سعة مدينة م�سقط خالل عقد ال�سبعينات،حينما اختريت �أماكن خربة ي�ؤمها الكحوليون واملدمنون
احتدم اخلالف فيه ،حيث كان يف نية بع�ض امل�س�ؤولني ومتعاطو املخدرات والدعارة يف ثنايا املدينة ،ومت
العمانيني �أن يخططوا لطريق حموري ميكن ت�سميته تنفيذ خطة لتهيئتها عمرانيا بحيث ي�ضفى عليها
«وريدي )arterialي�صل مدينة م�سقط ب�شمالها حتى العمارة
تنظيم ونظافة وجمالية من خالل مفردات َ
الإمارات العربية ،وذلك بعر�ض 60مرتا على كنف احلدائقية ( )landscapeوت�شجر بعناية وت�شذب
�شاطئ البحر الذي ينح�رص ويت�سع بينه وبني �سل�سلة وتزود بالنافورات والأرائك والأثاث املديني
اجلبل املتاخمة .وقد كان اعرتا�ض مكية بان هذا والإ�ضاءة ،مبا يغري جممل معاملها .وبعد الإفتتاح عاد
الطريق �سيكون حمل انتحار مثايل ملن يروم الو�صول �إليها روادها الأوائل من ال�سكريين ،فوجدوا �أن ب�ؤرتهم
اىل ال�شاطئ و�سوف يقتل الر�ؤية واالمتداد الب�رصي ومكان عبثهم ،قد �أم�سى ح�ضاري ًا ونظيفاً ،ومل يعد
والتوا�صل الطبيعي املتناغم بني اجلبل والبحر الذي ينا�سب �صعلكتهم وعربدتهم ويحوي �أزبالهم ،وهكذا
ميكن �أن يكون م�صدر خ�صو�صية جمالية ترفد منظور خف تواردهم �إىل �أن تواروا عن الأنظار تدريجياً،
اجلذب ال�سياحي للمنطقة .ورمبا حدث الأمر عينه ليجدوا لهم مكانا مت�سخا �آخر ي�ؤمهم .وك�أنهم يطبقوا
عندما �أن�شئ كورني�ش القرم ،الذي قطع �أو�صال ال�شاطئ الهاج�س الفطري ب�أن (ال�شيطان ي�سكن يف اخلرائب)،
مع الغابة الطبيعية املتاخمة. كما كنا ن�سمعها ونحن �صغارا ،و�إن الفراغ مدعاة
لقد اقرتح مكية حينها �أن يق�سم الطريق اىل �شعبتني �سكن ال�شيطان ،مبا جعلهم يرتعوا البيبان زخرفا،
�إحداهما ترد اىل املدينة والأخرى تخرج منها بحيث خ�شية من �أن يكون الفراغ يف ملم�سها مدعاة ل�سكن
تكون �إحداهما متاخمة لل�شاطئ والأخرى ظهريا ال�شيطان يف عتبة وموئل الزرق وباب الرحمة وح�سن
ل�سل�سلة اجلبل املحاذي لها بحيث ي�ستغنى عن العر�ض الطالع .وهكذا ميكن تطبيق هذا املبد أ� الوارد من كنف
املفرط لل�شارع ويتم بذلك تكري�س حالة من اجلمالية الرتاث ال�شعبي يف حداثة املدن ،ويبدو �إن احل�ضارة
بعدم قتل العالقة بني ال�شاطئ واجلبل وكذلك تنويع تفتح ر�أ�س الإن�سان على تلقف اخلري مثلما الغابة التي
املناظر الطبيعية لرواد الطريق من خالل اخرتاقهم جتتذب الغيوم يف عنان ال�سماء ،على عك�س التخلف
ل�شارعني يكتنفان بيئتني جماليتني خمتلفتني .وقد واخلراب واملكان املجدب الذي ينفره الغيم اجلالب
رام مكية ربط جامع ال�سلطان قابو�س الذي كان من للغيث ،ويجور ثم يبور.
�ضمن تخطيط املدينة التو�سعي ب�شاطئ البحر وذلك ميكن �أن يكون لون م�سقط الأبي�ض الذي ن�شاهده من
188 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
يجعل الكل يح�س ويعي بالكل .وهكذا رام دمج �أق�سام بت�سقيف جزئي لبع�ض الأجزاء و�إن�شاء ر�صيف بحري
الهند�سة املختلفة فال ي�شرتط مبهند�س الطرق �أن م�سطح (، )Deckوتوازي ًا مع ذلك يخف�ض م�ستوى
ين�شئ طرق م�ستقيمة لت�سهيل مرور ال�سيارات متوخي ًا ال�شارع وي�ستعمل حل «امل�ستوى الن�صفي» الذي
�رسعة و�صولها .وعندما يلتقي �شارعان لديه ي�ضع يجعل الإت�صال يخرتق ب�ساتني النخيل التي تطرز هذا
يف تقاطعها دوار (فلكة) يف العادة ،وملاذا ال ي�شكالن الفراغ من الأر�ض ،ويهب املكان �سحر وجمالية .ويتم
�ساحة لها بوابة وامتداد مثال ،وحتف بها الأ�شجار �إ�ستغالل امل�ساحات املح�صورة بني اجتاهات ال�شوارع
والنخيل .لقد �أهتم مكية مبداخل املدن وكان راغبا الذاهبة والآيبة لتكون م�ساحات خ�رضاء مو�شحه
ب�أن تكون مل�سقط بواباتها التي جت�سدت بعد حني بالنخيل ت�ستقبل زائر املدينة باخل�رضة النظرة
من على بعد 20كلم قبل الدخول اىل املدينة الذي
وهي اليوم �سمة لها .ويقودنا الأمر اىل حتليل ال�سبب
يلجها تباعا اىل منطقة ال�رشايني التي تتوزع مو�صلة
واجلدوى يف ح�ضور كل عن�رص معماري وكل مفردة،
اىل املدينة .وميكن ت�سمية اخلطوط تلك باحلمراء
و�إنتفا�ؤه حينما تتغري الأ�سباب واملعطيات ،لذا حاول
واخل�رضاء وجعل العالقة بينهما وتعاملها ب�شكل
َم ّكيه تفكيك «�إن �صح التعبري» العنا�رص من �سياقاتها
ع�ضوي بحت(. )Organic
املولدة وتداولها كمفردات ميكن توظيفها جمالي ًا يذهب مكية �إىل �أن الن�سيج احل�رضي للمدن القدمية بديع
يف عمائر حداثية مثل العقد (القو�س) ،بعد ان حلت وميكن تطويره ب�إيجاد �أماكن فارغة تهيئ اىل �ساحات
اخلر�سانة حمل الطني والآجر امل�ؤ�س�س لهذا العن�رص، يف هذا الن�سيج لغر�ض التطوير و�إعطائها روحية
وحرر هذا العن�رص من اجلدار الذي تعامل معه ككتلة جديدة� .أما البناية الرتاثية فيمكن �إ�ضفاء جمالية
عليها من خالل ت�سقيفها و�إرفاق بوابة لها ،وخلق
ر�ؤية جمالية الغر�ض منها تطوير احل�س الب�رصي ،دون
الإ�رضار بعني الناظر وجت�سيد التنا�زش .ف�إعطاء قيمة
الف�ضاءات املعمارية والب�رصية والت�أثريات املناخية
وتوفري لعبة ال�ضوء والظالل ،تلعب كلها الدور املبا�رش
يف �إظهار تلك اجلمالية وتكري�سها� ،إميان ًا ب�أن احل�س
اجلمايل لدى الإن�سان را�سخ خام يف منجم خواجلة،
يتطور مع تطوره القابل للتهذيب والت�شذيب.
مقت مكية ال�شوارع العري�ضة (ال�رسيعة) ،ويبدو �أنه
حمل قراءة م�ستقبلية للأمر ،حيث بد�أت مدن �أوروبية
تلغي تلك الطرق اليوم ومنها باري�س مثال ،كونها مل
حتل م�شكلة ال�سري ،بل فاقمت م�شاكل البيئات .فقد حبذ
مكية �أن تكون ال�شوارع املدينية مب�رسبني � ،أحدهما
للذهاب والآخر للإياب ،دون تعنيف ملعطياتها
الأوىل وطبيعتها الت�ضاري�سية .ويف هذا ال�سياق رف�ض
َم ّكيه حدود االخت�صا�ص الهند�سي ،حيث ان مهند�س
والعمارة يجهل الفن واجلمال العمارة َ
الطرق يجهل َ
والأدب..الخ .فهو يدعو �إىل انفتاح �أن�ساق املعرفة ،مبا
189 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
ومواد البناء ال�صاعدة ،دون �أن يلغي تداوله للخامة وج�سم ولي�س كخط فا�صل ،وهو ما جت�سد يف م�سجد
املتوفرة يف كل �إقليم معماري ،فثمة بون يف امللكات اخللفاء ببغداد �أو جامع ال�سلطان قابو�س مب�سقط �أو
بني الآجر يف بغداد واحلجر يف م�سقط .وقد �أكد هذا جامع الدولة الكبري يف الكويت ب�شكل مثايل حينما
التوجه ولده املعماري كنعان َم ّكيه يف كتابه عن حرر ال�سقف من اجلدار ،و تداول عن�رص البوابة ،الذي
�أبيه(مابعد الكال�سيكية الإ�سالمية) ذاكراً� :إن امل�صدر �أم�ست عرفا ت�صميميا (.)3
الأ�صيل الذي ا�ستلهم منه حممد َم ّكيه فنه هو طراز ومن تداعيات تلك اجلدليات الفكرية ،نلم�س يف مباين
الريازة العبا�سية التي اتخذت �سماتها التقليدية يف َم ّكيه خا�صية ال�رصاحة الوظيفية والو�ضوح الإن�شائي
القرن الثامن الهجري (الرابع ع�رش امليالدي) .ولو �أن واملعماري ،والتجلي الفني ،وميكن قراءتها من
كنعان قد خلط التواريخ هنا ،رمبا ب�سبب عدم �إطالعه اخلارج ب�سهولة كما هو جامع ال�سلطان قابو�س الذي
العميق على حيثيات الت�أريخ املعماري الإ�سالمي،من ين�ساب مع الطريق ال�رسيع يف منطقة العذيبة ،متهاديا
جراء �سطوة الت�صانيف الغربية على تنظرياته.وهذا مع طبيعة ال�سهل ال�ساحلي املحيط ،دون تعقيد �أو
ما وقع به حتى بع�ض العمانيني نا�سبني الطراز اىل افتعال ومتظهر يف �رصحية واختيال �أو اختيار �أ�شكال
(الإيراين) لعدم اطالعهم على اال�صل العبا�سي الذي مبهرة وجمردة من املربر.حتى �أنه �إقرتح مثال عدم
�سبق املنتج الإيراين وال�سيما ال�صفوي املت�أخر(القرن رفع اجلامع على من�صة (م�صطبة) ،كي الينحى نحو
ال�ساد�س ع�رش امليالدي). ال�رصحية املفتعلة ،بالرغم من �أن ثمة �رضورة لذلك
لقد حاول َم ّكيه �إحياء بع�ض العنا�رص املعمارية واد متاخم له ،و�شكل جارف املاء خطرا ب�سبب وجود ٍ
الإ�سالمية وفق ًا ملوهبته ال�شخ�صية بت�أثري من �إدراك داهما ودائما عليه .وباملقارنة ف�إن هذا احلل الفكري
جمايل فطري مرتاكب مع الت�أثري الب�رصي للمدر�سة جترد منه جامع ال�سلطان قابو�س يف روي حيث
الإجنليزية ،التي تعتني يف العادة باخلطوط املتعامدة، التنا�رش ال�رصيح بني تقبيل اجلامع و�إ�سقاطه مع هيئة
وتكاد �أن تظهر من خالله �رصامة الهيكل املتكون من ال�ساحة العمومية التي خططت قبله ،وعلى العموم
�أعمدة �أو �أكتاف �أو حيطان حاملة �أو مزجهما من خالل تبقى حلول امل�ساجد عر�ضة للنقد ب�سبب مواقعها،
عوار�ض وا�صله بينها بتق�سيمات حتددها احلبكة حينما حتجزها ال�شوارع عن التوا�صل مع احلي ال�سكني
الوظيفية وي�أخذ باحل�سبان عملها الإن�شائي ليفر�ض املحيط ،الذي ير�سم مالمح التوا�صل املفرت�ض والقيمة
عليها �شكلها امل�ستطيل باجتاه البحور الأو�سع يف الوظيفية املتعارف عليها يف الرتاث.
حبكة الهياكل .ويف العادة ف�إن َم ّكيه يتداول هياكل وهنا نلم�س �أن مكية مل يبتعد يف ت�صميمه املعماري
الأطر (عمود-ا�سكفه او ج�رس) �أكرث من احليطان احلاملة جلامع ال�سلطان قابو�س عن مفهوم امل�سجد العراقي
( )bearing wallsالتي هي �سنة �إن�شائية عراقية، وال�سيما على الطراز العبا�سي ،من خالل �إ�ضفائه
متا�شيا مع احلداثة التي اقتن�صت فكرة (ليكوربوزييه عنا�رص هيكلية ومعمارية متتد حتى الريازة ،وال�سيما
)1965-1887مبفهوم املبنى املقام على �أعمدة، القباب والعقود واللم�سات الفنية الزخرفية التي متت
و�أثر يف كل التوجهات املعمارية العاملية .بيد �أن ثمة لذلك الطراز .ورمبا تكون جتربة مكية قد ن�ضجت من
مل ّكيه كان يرغب يف جل مبانيه �أن يظهر من ممار�سة َ جتاربه ال�سابقة يف بغداد(اخللفاء والدولة الكبري) ثم
خاللها هيبة الهيكل الإن�شائي للعيان ،موحيا بقوة الكويت و�إ�سالم �آباد وغريها .ويف اجلانب الفني ن�ضج
املبنى كما يف املباين ال�سكنية احلكومية يف املنامة لديه منذ بواكري �ستينات القرن الع�رشين منحى �إحياء
عام .1971وخامة الإن�شاء هنا اخلر�سانة امل�سلحة تداول اخلط العربي،مبلكات وخامات جديدة ،حينما
امل�صبوبة يف املوقع يف �أكرث احلاالت وح�سب امل�رشوع جعل غر�ضه اال�ستفادة الق�صوى من التقنيات احلديثة
190 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
بك�شف تلك اخلر�سانة �أحيانا ،و�أخرى يغطيها بلبا�س (�أو �سابقة ال�صب �أو اجلاهز ، ))prefabricatedوقد
وق�رشة طابوقية ،وال�سيما (اجلف قيم �أكرث من الدرز) تن�أى تلك اخلامة عن �سياقات الرتاث املحلي،ولكنها
�أو يغ�شيها ببالط ج�صي �أو �إ�سمنتي ،حمو ًال املعادلة متكث احلل الهيكلي الأمثل ،وال�سيما �أنه جلب �أعرافها
يف احل�س امللم�سي ،مبا يدلل على اتزان ذوقي بعيدا من �أهلها خمرتعي اال�سمنت البورتالندي.وهنا ن�شري
عن املغامرة .وقد حاول جاهداً �أن يترب�أ من الت�أثري اىل �أن ت�صميم العمود عند مكية متكرر �سواء الذي طبقه
الأكادميي املفرط �،ضمن �سياقات مترده على كثري من اخل�شب يف ال�سدة التي بناها داخل ديوان الكوفة،
من املفاهيم الفكرية واجلمالية من خلفيته التعليمية �أو اعمدة جامع ال�سلطان قابو�س يف م�سقط ،والتي
الإجنليزية. يبقيها مربعة ال�شكل بالرغم من �أن الهيئة املدورة،
وقد بث مكية بع�ض اال�شكال احلداثية يف �سياقات �أجدى و�أكرث ان�سجاما نف�سيا ووظيفيا مع مايحيطها
العمارة من فراغ ،ومعاجلته تكون من خالل �إظهار زواياه
تقا�سيمه ،وهي�أ لها �سياقا مع �أ�ساليب َ
التقليدية مثل البوائك وكا�رسات ال�شم�س ،مبا ميكن �أن و�ضمور و�سطه الذي ي�شكل كما ال�ساقية ،الذي يعالج
ينا�سب جماليات الع�رص وين�سجم مع النزعة اىل �إيجاد بخامة وملم�س و�شكل ولون �آخر يف العادة ،ينرب من
مل�سات تفرتق عن الرتاث،ورمبا جاءت من �سماتها هيئة العمود و�سط الفراغ.
ت�صميم طابق علوي ،ي�شبه القبعة فوق املبنى.ويبدو وحاول َم ّكيه �أن يلتزم معيارية (نورم) موحد مل�ساقطه،
�أنها �سنة اتبعها جل جيل َم ّكيه ،وبثت يف �أكرث العمائر رمبا ب�سبب جمايل و�إيقاعي ناظم وارد من عقلية مرتبة
وال�سيما (الر�سمية منها) ،و�أم�ست عرفا (proto ومنظمة� ،أو من خربته يف املقاوالت التي حتبذ توحيد
، )typeمبا يوحي مبجملها وك�أن املبنى كله يحاكي املقا�سات التي ت�سهل التكرار يف التنفيذ .والي�شرتط يف
كل املقا�سات والتق�سيمات امل�سقطية �أو الواجهات �أن
العمود و�أم�ست القبعة تاجا له ،ومور�ست بالعراق
تخ�ضع ل�ضوابط ون�سب (املقطع الذهبي) التي اقتفاها
الغربيون وجعلوا منها معيارية «مقد�سة» ،من خالل
�إيجاد ن�سب مقبولة ب�رصيا .لقد حاول مكية �إ�ضفاء
بع�ض املعاجلات البيئية على ت�صاميمه ،ك�أن تطغى
على الواجهات ال�رشقية والغربية عنا�رص �شاقولية
�أطول من عر�ضها وحمفوفة بعنا�رص ناتئة �أكرث من
التقا�سيم الأفقية�،أو حتى من خالل (دخالت وخرجات)
العمارة ،))Recesses & Buttressesكما يف َ
العراقية القدمية التي جاءت لأغرا�ض �إن�شائية ملقاومة
ُ
احليطان ال�صفيقة ،وخ�شية من ظاهرة الإنبعاج.
وحدث العك�س يف عالجه للواجهات اجلنوبية ،التي
تعاين من فرط الت�شمي�س ،ف�أ�ضفى ما ميكن ان يكون
بوائك �أو �رشفات مظالت �أفقية.وهذه النتوءات من
جبهة البناء التي دعيت (كا�رسات ال�شم�س) �شاعت بعد
اخلم�سينات ،وقلدها القوم بعد م�رشوع جامعة بغداد
للأملاين (الباوهاو�سي) فالرت كروبيو�س ،التي مار�سها
مكية يف ت�صميمه جلامعة الكوفة .ومل يتورع َم ّكيه
191 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
واملرافق الآخرى مثل مكتبة وقاعة املحا�رضات بكرثة لكننا مل جندها منت�رشة يف مدار�س معمارية
واملرافق الإدارية ،وهي تطوق بالأروقة وتنعت �أركان �أخرى .والأ�شكال هنا تغلف حمتوى وظيفيا يكون
املبنى ،وذلك من خالل �أربع منائر �إرتفاع الواحدة �أقرب للحداثة ،ويف الغالب يت�ضمن نظام املمرات �أو
منها 45,5م .ومن �أجل �إ�ضفاء حمور ثان يخرتق املجاز (كوليدور ، )Corridorsوتوزيع احلجرات
الكتلتني الوظيفيتني ،وخلق مداخل مرتادفة ومتمحورة على جنبيها.وهذا احلل كر�س الكتلة املت�ضامة للمبنى،
و�رصحية ،فقد مثلت املنارة اخلام�سة والرئي�سية و�ألغى عن�رص احلو�ش واملناور التي تلعب دور الرئة
نهايتها ونعتت نهاية منظورها بارتفاع 90م .وهي يف تنف�س املبنى وتدوير الهواء يف �أرجائه ،بينما
ألعراقية مع بع�ض التطوير على العموم حتاكي املنائر � ُ احلل احلداثي اعتمد على تربيد الهواء الآيل يف موا�سم
الت�صميمي ،وتعد من ال�شواخ�ص الب�رصية املميزة القي�ض.
للعا�صمة .وهنا جدير �أن ن�شري اىل �أن الرتاث العماين عاد مكية بعد عقدين اىل م�سقط لرياها وقد تبدلت
خال من عن�رص املنارة. و�أم�ست من اجمل العوا�صم ،بل رمبا �أجمل عا�صمة
وامل�صلى الرئي�سي مربع ال�شكل طول �ضلعه 74.4مرت عربية قاطبة( .)4وكانت بوابته هذه املرة م�رشوع
ويمُ ْ ِك ُنه ا�ستيعاب �أكرث من ُ 6,500م�ص ّل بينما م�ص ّلى جامع ال�سلطان قابو�س عام ، 1992الذي بد أ� العمل
ال ِن�ساء يمُ ْ ِك ُن �أَ ْن يحتمل ُ 750م�ص ّل .والأر�ض امل َُع ّبدة يف ور�شته عام 1995وا�ستمر بناءه �ست �سنوات،
اخلارجية يمُ ْ ِك ُن �أَ ْن ت�ستوعب ُ 8،000م�ص ّل وهناك فتتح يف الرابع من �شهر مايو عام حتى اكتمل ثم �أُ َ
ات َج ْعل واملمر ِ
َّ الداخلي
ِ ف�ضاء �إ�ضايف متوف ِر يف الفنا ِء .2001و�إ�شرتك فيه مكتب حممد �صالح َم ّكيه مع كواد
الكلية تط أ� حدود ُ 20,000م�ص ّل .وم�صلى ّ القدرة ديزين Quad Designومركزهم لندن وم�سقط.،
للن�ساء يقع خلف امل�صلى الرئي�س عرب ال�صحن الداخلي ويعد هذا املعلم من �أكرث �شواخ�ص العا�صمة ،حيث
وي�شكل امتدداً له ،وهو جمهز ب�شا�شة عر�ض مل�شاهدة مرب َع وميتد
رت ّ حتل 416الف م َُب ِنى على موقع َي ُّ
خطبة اجلمعة واملحا�رضات املنقولة من امل�صلى البناء ل َت ْغطية منطق َة ِم ْن 40الف م ِرت ّ
مرب ِع .وهو
الرئي�سي. جممع �رصحي متعدد الوظائف ،وميكن �أن يكون هذا
وهيكل امل�صلى الرئي�سي �أطر خر�سانية حميطة ت�شكل امل�رشوع الأكرث جناحا للدكتور َم ّكيه لقيمته ورمزيته
عنا�رص �شاقولية جمالية ،مع معاجلة جميلة لزوايا وموقعه وو�سعه،وبذخ ملكاته من خالل تداول نفي�س
الكتلة ،وذلك من خالل كوة مرهفة املعاجلة .ويرتفع املواد والتجهيزات مثل الرثيات وال�سجاد و�أعمال
�سقف امل�صلى على �أربعة �أعمدة �ضخمة (قوائم الزخرفة املنفذة على خامات احلجر واخل�شب واخلزف
الفيل) تتو�سط الف�ضاء وترفع فوقها قبة مركزية �إىل الكربالئي .ومل ي�شذ عن تربيعات وحمورية وجتديد
خم�سني م ِرتاً فوق الأر�ضية ،وبذلك فهو مل يبتعد عن تراثي �ضمن ت�صاميم َم ّكيه املنمقة واملعتنى مبلكاتها
ت�صاميمه الآخرى يف الكويت وبغداد و�إ�سالم �أباد. ،والتي ان�سجمت مع توجه ر�سمي عماين يف اقتفاء
ماعدا �أن القبة جاءت هنا ب�شكل مغاير ورمبا م�رشئبة الو�سطية واملحافظة العاقلة دون مغامرات حداثية،
اىل الرتاث من خالل تكونها من مزدوج �إن�شائي حتى ليبدو املجمع مع حدائقه landscapeوك�أنه
�أي من طبقتني �إحداهما داخلية ،تتبع املقيا�س جممع تاج حمل ،لكنه تابع للقرن الواحد والع�رشين.
الإن�ساين والثاين خارجية ،تنفع للمقيا�س ال�رصحي �إن حمور البناء الرئي�س باجتاه القبلة املوازي ملحور
ألعراقية ، العمارة � ُ
املديني ،وهذه املعاجلة طبقت يف َ الطريق ال�رسيع املتاخم،وهذا املحور ينعت يف نهايته
وجت�سدت يف العتبات املقد�سة ،والغر�ض منها �إن�شائي الأبعد كتلة البناء الأثقل والأهم وهي امل�صلى الكبري.
ووظيفي ،حينما تداول خامة الطابوق و�سياقاتها، ويف املحور الرئي�سي املدبر للقبلة تتوزع الباحات
192 نزوى العدد / 74ابريل 2013
معمار ..معمار ..معمار..
s
s
s
واحلجر امل�رصي ،و�إ�ستخدمت يف بناءه خمتلف لتكون م�سارات العزوم املن�سابة من الداخلية
و�أرقى اخلامات من اخل�شب والرخام والزجاج املع�شق واخلارجية تلتقي وتتعادل وتن�ساب برفق يف الرقبة
والنحا�س واملعادن ,وتوج ذروة البناء �رشفات ثم اىل العنا�رص ال�شاقولية ،وذلك من جراء دوران
وم�سننات توحي وك�أنها مزاغل القالع ،مبا يوحي العزوم حول الإنتفاخة الب�صلية التي تكتنف الق�رشة
ب�أنها م�ستلهمة من هيئة القالع العمانية .ومت �إ�ستيحاء اخلارجية .بيد �أن الأمر هنا خمتلف حيث �أن الهيكل
العمارة العمانية يف العنا�رص الزخرفية �أ�شكال َ اخلر�ساين امل�سلح غيرّ ذلك املفهوم ،وو ّفر على البناء
والهند�سية امل�ستخدمة يف ت�صميم اجلدران وال�سقوف حيلة الإنتقالة املرهفة باحلنايا واملثلثات الكروية
وال�شم�سيات املغ�شاة بالزجاج امللون .ومنها �أُ�سلوب ، Sequences and pendativeو�ألغى التحول
الزخارف اجل�صية التقليدية واملحفورة يف كوات �سقف ال�شكلي من مربع الأكتاف اىل مثمن رقبة القبة .ويكمن
قاعة املحا�رضات .وكان امليل اىل تركيز الزخارف الإ�ستثناء والفذلكة يف تلك التفا�صيل ،هو تقطيع القبة
الهند�سية يف املكتبة ،والنباتية او املورقة يف قاعة اخلارجية وجعلها بهيئة خمرمة مت�شابكة بعروق
املحا�رضات .و�صنعت الأبواب وال�سواتر املتحركة من �أ�سا�سية للهيكل ،حيث ت�ضاء من داخلها يف امل�ساء ،
خ�شب �شجرة القبقب ال�صلد ،املغلف بق�رشة تزيينية. لتكت�سي جمالية حاملة .ولذلك التخرمي ت�شابك منمق
وي�ضفي لون اخل�شب املائل اىل الع�سلي ت�أثريا جماليا تتخلله خطوط ذهبية وتتجلى من خالل �شفافية هيكل
على ن�صاعة اجلدران البي�ضاء .وهنا ن�شري اىل �أن القبة الثانية املك�سوة بق�رشة من �أحجار الف�سيف�ساء
َم ّكيه جنح يف �إ�ضفاء �صفة حملية على البناء وكذلك الذهبية .والقبة من الداخل حماطة بت�صميمات جم�سمة
يف �إختيار الألوان الباهتة بنوعيها الأبي�ض والبني لها �شكل مثلثات هند�سية �ضمن هيكل من الأ�ضالع
الفاحت ،التي تن�سجم �أميا �إن�سجام مع اخللفية الطبيعية والأعمدة الرخامية املتقاطعة ب�أقوا�س مدببة مر�صعة
التي متثلها اجلبال الداكنة يف ظهري مدينة م�سقط. بجميع عنا�رصها ،ب�ألواح من اخلزف امل�صقول وت�أخذ
وميكن �أن تكون تلك امل�ساهمة امل�سقطية ملعمار الأ�ضالع الرخامية املقو�سة واملعقودة هيكل القبة
مكية،منا�سبة لالحتفاء بقرن على والدة هذا املعماري الكروي املزينة بالزجاج امللون ويلف القبة �رشيط
املخل�ص لثقافته و�إن�سانيته وحرفته. من الزخارف الكتابية يت�ضمن �آيات قر�آنية بخط الثلث
وب�ألوان جذابة.
الهوام�ش
واملعاجلات الفنية جاءت منوعة وثرية والتنتمي اىل
1كامران قرداغي -مقال :حممد مكية يتحدث عن اال�س�س االخالقية مدر�سة معمارية بذاتها ،ورمبا هذا ما �أغا�ض َم ّكيه،
للعمارة العربية -جريدة املدى بغداد –العدد -1559ال�سنة الذي كان يروم الإ�رشاف على املعاجلات التي تنا�سب
ال�ساد�سة-اخلمي�س 16متوز .2009 الطراز «بر�أيه» ،ولكن التوجه الر�سمي كان مربره �أن
2فاطمة املح�سن :مقابلة مع مكية – جريدة الريا�ض الريا�ض-
يكون املعلم �سجال لكل فنون الإ�سالم وطرزها يف
اخلمي�س 07ربيع الثاين 1422العدد 12057ال�سنة .37
مدار�سه الإقليمية املحلية والإقليمية واملتنائية،
3جاء ذلك يف لقاء مع جريدة ال�رشق الأو�سط-لندن ،حتاور معه معد
ولي�س حكرا على �إحداها .فنجد جداريات وكوات
فيا�ض-العدد 7555اخلمي�س .1999\8\5
وحنايا مفعمة بفنون الزليج املغربي واجلداريات
4كان ذلك راي ال�شاعر العراقي املغرتب يف لندن فوزي كرمي وكتب
العراقي املغولية والهندية والفار�سية والكربالئي ُ
عنها بعد �أن زار م�سقط يف بداية العام .2013
vال�شخ�صيات:
.19فرحان :جر�سون .10بر�شان :رئي�س الأطباء .1الزعيم� :شماخ
.20ابو عدنان:عجوز فقد ولديه يف احلرب .11فرهود :قائد الفروع الع�رشة .2بلبول�:شبح مهرج الزعيم
واالختطاف .12لقمان :م�رشف الإعالم .3خطّ ار :ابن الزعيم
.21ابنة ابو عدنان� :صبية تعمل يف الق�رص.. .13ح ّداف :اجللاّ د .4زبرجد :زوجة الزعيم الأخرية
.22هاين :و�صياد.. .14زهران:فلكي وم� ّؤرخ .5مع�صوم :ابن زبرجد
ع�ساف :رقيب يف الأمن من زمل فرهود ّ .23 .15ابراهيم ال�سكران.. .6ني�شان :قائد جي�ش امليمنة
.24مِ قدام :عريف يف الأمن من زمل فرهود .16املهرج بلبول( ..ال يراه �إال الزعيم) � .7شجاع :قائد جي�ش املي�رسة
.25م�صباح� :أ�ستاذ مدر�سة .17عزرون :ملك املوت .8الآن�سة �أفراح :مديرة الت�رشيفات..
� .18أبو جميل� :صاحب مقهى �شعبي .9ابو الذهب :مدير اخلزينة
194
الكر�سي
�أو
الفرمانات ال�سبعة
نور الدين الها�شمي
كاتب م�رسحي وتلفزيوين من �سورية
ني�شان.. م�رص على �أن ال�شم�س مازالت يف برج ٌّ ني�شان� :أنا
ني�شان( :يرك�ض نحوه) �أنا يف خدمتكم يا زعيم. .. العقرب..
(يتو�سل) �أت�ستطيع منع ال�شم�س من الغروب ّ الزعيم: زهران :الال ..يف برج الثور..
يا ني�شان..؟ الزعيم( :ي�رصخ) �أخ كم �أمتنى �أن يلدغك ويلدغه
ني�شان( :يتلعثم) ..منع ال�شم�س من ال��غ��روب؟!.. �سامة ..اخر�سوا و�أفهموين ,كم عقرب بع�رش �إبر ّ
ميكن �صعب. .. بقي الآن على غروب ال�شم�س؟
مرة قلت يل� ..أنا م�ستعدالزعيم� :صعب !� ..أخ كم ّ زهران :ثالثون دقيقة..
�أن افعل امل�ستحيل من �أجلك يا موالي ..اقرتب . .. ني�شان :ال ..ت�سع ع�رشة دقيقة ون�صف
اقرتب (ينتزع له ني�شانا من على �صدره). بلبول�( :ساخراً) ثالثون �أوت�سع ع�رشة دقيقة ..
أتو�سل �إليك يا زعيم..
ني�شان( :يكاد يبكي حزنا ً) � ّ املهم � ّأن ال�شم�س �ستغيب و�سوف ي�صبح عمرك
�شي �إ ّال النيا�شني روح��ي معلقة بهم خ��ذ � َّأي ْ ياموالنا �ستني �سنة بالتمام والكمال( ..يغني) ..
ياموالي.. وابن ال�سنني �صار جاهزاً لل�سكني ..وابن ال�سنني
الزعيم� :آخ لو �أنني �أع��رف مباذا �أخ��ذت كل هذه �صار جاهزاً لل�سكني ..وابن ال�سنني �صار جاهزاً
النيا�شني؟ (يلتفت �إىل �شجاع) و�أن��ت يا جرنال لل�سكني..
�شجاع ..هل ت�ستطيع �أن متنع ال�شم�س من الغروب.. الزعيم (بغ�ضب وخوف) اخر�س ..
.؟
بلبول :ملن هذه الإخر�س؟ تكلَّم..
�شجاع( :يرتبك) ماذا تقول يا�سيدي� ..أمنعها من
(خالل حماورة الزعيم مع بلبول الذي ال يراه �سوى
الغروب؟! . ..ه�أ ..ه�أ ..ه�أ..
الزعيم ..ينظر اجلميع بده�شة �إىل الزعيم).
الزعيم :ولكني ر�أيتك ال�شهر املا�ضي من �رشفة
الزعيم :لك . ..نعم لك يا بلبول. ..
الق�رص �أثناء امل�سرية .كنت تهتف وت�رصخ ب�أعلى
�صوتك وت��ق��ول :ي��ا زعيمنا وي��ا غ��ايل �شو بدك زه��ران :هل ن�ستطيع �أن نعرف مع من تتكلَّمون
ل�ساوي� . ..صح �أم ال..؟ يازعيم؟
�شجاع� :صح �سيدي.. جتر�أ وقل لهم �إنك تتكلّم معي ..لعلّهم هيا ّ بلبولّ :
هيا �أوقف يحرونك �إىل م�ست�شفى املجانني مثل جدك ال�سلطان ُّ
الزعيم� :إذن ال��ذي يب�صق اليلح�س َّ ..
هيا عندماجن يف �سن ال�ستنيَّ (ممدوح)
ال�شم�س عن الغروبّ ..
�شجاع :لكن هذا �أمر �صعب ياموالي.. الزعيم :ك ّذاب..
الزعيم� :صعب ..تعال �إىل هنا تعال ( ..يقرتب بلبول� :أحت ّداك..
�شجاع وهو يحمي نيا�شينه) اقرتب ..اقرتب.. ال��زع��ي��م :ب�سيطة� ..أن���ا م�شغول الآن (يخاطب
أتو�سل �إليك يا�سيدي ..خذ روحي وال ت�أخذ �شجاعّ � : احلا�شية)� ..أ ف ّهموين كم بقي على مغيب ال�شم�س؟
ني�شان ًا واحد�أ.. �أفراح كم تريدون يازعيم؟
الزعيم (ينتزع منه ني�شانا ً) حتى ال تتفل�سف مرة الزعيم� :أنا ال �أريدها �أن تغيب �أبداً ( ..ينادي) يا
196 نزوى العدد / 74ابريل 2013
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
s
s
زبرجد :م�ساء اخلري حبيبي.. ثانية وتقول .يازعيمنا يا غايل �شو بدك لن�ساوي..
الزعيم :م�ساء اخلري� ..أين �أنت؟ (ي�رصخ يف البقية) من ي�ستطيع منكم �أن مينع
زبرجد� :أنا يف جزر الكناري حبيبي ..يا لطيف ما ال�شم�س عن املغيب ..؟ �أخ �سوف ي�صبح عمري
�أحالها ..وما �أحلى هواها� ..أنا م�رسورة جداً �ستني� ..ستني� . ..أين زهران؟
الزعيم ( :ب�شك)من معك؟ بلبول( :ي�شري �إىل حيث توارى زهران) هاهو ..ها
هو
زبرجد :ابنكم (مع�صوم) فقط ..وهوبي�سلم عليك
الزعيم :تعال يازهران يا حبيبي ..تعال( ..يقرتب
كثرياً حبيبي� ..سلّم على البابا يا مع�صوم..
زهران مرتبكاً) تعال� ..أت�ستطيع منع ال�شم�س من
مع�صوم( :يظهر على ال�شا�شة طفل مدلّل و�سمني) املغيب؟..
�شماخ� ..أنا �أحبك وم�شتاق �إليك م�ساء اخلري بابا ّ تدور الأر�ض ُدور ًة حول
زهران( :يرتبك ويت ّهرب) ُ
كثري ..كثري ..يا بابا
نف�سها ك َّل �أربع وع�رشين �ساعة ..كما تدور حول
يحبك؟
زبرجد� :أر�أيت كم ّ ال�شم�س مر ًة واحدة كل �سنة � ْأي يف ثالثمائة و�أربعة
الزعيم( :غري مقتنع) ر�أيت.. القمر حول الأر�ض..
و�ستني يوما ً وربع ..كما يدور ُ
زبرجد :مربوك حبيبي على بلوغك ال�ستني وعقبال دوخك �إبلي�س� ..أت�ستطيع �أم ال؟الزعيم :دوختنيّ . ..
مية �سنة �إن �شاء اهلل.. احتب �أن �أقر أ� لك برجك يا موالي؟)يتهرب) ُّ ّ زهران
الزعيم� :شكراً (يح ّدث نف�سه)� ..أن��ا مت�أكّ د �أنها ..
�شمتانة بي.. الزعيم :قر�أته..
زبرجد :هل غابت ال�شم�س عندكم حبيبي؟ زهران
الزعيم :ال مل تغب بعد.. الزعيم
زبرجد :لقد غابت ع ّنا هنا منذ �ساعتني ..يالطيف زهران :برج الغد؟
ك��م ك��ان منظرها جمي ًال �آه ليتك كنت معي قر�أته
ياحبيبي� ..آه ن�سيت �أن �أ�س�ألكم متى �ستقيم حفلة بعد غد؟
عيد امليالد يا روحي؟..
الزعيم :اخر�س . ..كم �أمت َّنى �أن تقر أ� ال�شياطني على
الزعيم :ال �أع��رف ال �أع��رف ..ورمب��ا لن �أقيم �أية احليات الزرق
قربك ..الأف�ضل �أن �أرميك يف بري ّ
حفلة.. .. و�أتخلّ�ص من ثرثرتك
زبرجد :ال يجوز ياحبيبي ال يجوز .يجب �أن نفرح زهران:ال� ..أرجوك يا �سيدي..
بك ( ..ت�سال �أفراد احلا�شية) �صح �أم ال� ..أجيبوا؟ (يرن جر�س الهاتف ..يرد على املكاملة فرهود
�شجاع :طبعا ً �صح يا مدام زبرجد .. رئي�س فروع الأمن).
�أفراح الرعية حتب �أن تفرح بزعيمها �أي�ضاً.. فرهود� :ألو� . ..أهال مدام( ..للزعيم) املدام زبرجد
زبرجد :ربمّ ا لن �أ�ستطيع املجيء ..لك ِّني �س�أر�سل على الهاتف (تظهر على ال�شا�شة �أو يف �إطار الزوجة
حتبون �أن �أر�سل لكم حبيبي هدية ظريفة .ماذا ّ لكم ّ الأخرية اجلميلة(زبرجد) وقربها طفل �صغري).
197 نزوى العدد / 74ابريل 2013
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
s
s
يرفع الأربعة .يعني يديه ورجليه �إىل ال�سماء قبل امللك لإبنه يعني جلدكم �شماخ ال�سابع ..وان�رصف
�أن يكمل زبدية الرز بحليب ..وجدكم �شماخ ال�سابع للعبادة و�أعمال الرب والتقوى..
�أي�ض ًا حني و�صل �إىل ال�ستني ُج َّن متام ًا و�صار الزعيم :ال ..الهذه مل تعجبني �أب��د�أً ..قال تنازل
ينام ك َّل ليلة يف خزانة املال ويبقى يع ّد النقود �إىل قال ..وهل هناك �إن�سان يف الدنيا يتخلّى عن هذا
الذهبية .ويف �إحدى ّ ويتمرغ فوق اللريات ّ ال�صباح الكر�سي بعد �أن ي�صل �إليه؟!! ( ..يعانقه) �أي جمنون
الليايل وقعت فوقه �أكيا�س اليورو والنب وقتلوه.. �أحمق يفارق ه��ذا احلبيب؟!� ..أري��دك �أن حتذف
بالعربي الف�صيح عيلتكم �أعوذ باهلل عندها لعنة م�س�ألة هذا التنازل من كتب التاريخ يف احلال.
ا�سمها لعنة ال�ستني.. بلبول :نحذفها ..هذا �أمر ب�سيط ّ � ..إن كل �شيء ت�سمع
الزعيم( :ي�رصخ خائفا ً ) يكفي .يكفي� .أنت مثل يف الأ�سا�س هوكذب يف كذب ..
البومة الأرملة لي�س لديك �سوى �أخبار النح�س.. (يغلق الزعيم فم بلبول).
(ال�شم�س الآن تغيب وتختفي متاما ً من النافذتني.. زهران� :سنغيرّ ما ت�شا�ؤون ياموالي� ..أوامركم هي
يبدو احلزن والقلق على الزعيمُ ..تنزل �أفراح �ستائر التاريخ احلقيقي ..
تغطي النوافذ وعليها �صورة �شم�س).
الزعيم� :أكمل� ..أكمل ..و أ� �سمعني تاريخ �أ�ساليف. ..
�أفراد احلا�شية( :يغنون مع رق�ص تعبريي).
�شماخ ال�سابع ..ملا �صار عمره زه��ران :وجدكم ّ
�شم�سك �شم�سك مابتغيب يا زعيمنا يا حبيب �ستني �سنة و ّزع خزينة املال كلها عالفقراء ..ومل
�شم�سك �شم�سك بالعايل يا زعيمنا يا غايل يبق فقري واحد بالبلد .ومل تعد مهمة املخابرات
�شم�سك �شم�سك �شع�شاعة وجي�ش الأعدا ف ّزاع ْة البحث عن امل�شاغبني و�أعداء احلكم الذين هم �أعداء
�شم�سك �شم�سك ���ص��ارت ف���وق وم��ل��ك الأع����داء الوطن .بل �صارت مهمة رجال الأمن الأ�شاو�س
عاخلازوق البحث عن الفقراء والأيتام وامل�ساكني والقب�ض
(ينه�ض الزعيم). عليهم وجلبهم �إىل جدكم ح ّتى يكرمهم ولو كانوا
حتت �سابع �أر�ض.
فرهود� :إىل �أين �أيها الزعيم. ..؟
الزعيم( :منت�شيا) ..يا�سالم..
الزعيم� :أنا نع�سان� ..أريد �أن انام..
بلبول( :ي�رصخ) يكفي ..يكفي� ..س�أموت ثانية
�أف��راح :مازال الوقت باكراً يازعيم .جئنا لن�سهر
من هذا الكذب والبهتان .ا�سمع احلقيقة �إذن يا
معك
�شماخ :جدك العا�رش حني و�صل ال�ستني خرف َّ
الزعيم�:أنا �أ�شعربال�ضيق وامللل( ..يتجه نحو باب متام ًا و�صار ي�أكل �ستائر الق�رص و�أ�رشطة الأحذية.
اخلروج ..يلحق به بلبول) �إىل �أين تتبعني؟ و�شن حرب على وجدكم �شماخ التا�سع ُج َّن �أي�ض ًا ّ
بلبول�:أنا وراءك �أينما ذهبت (يغ ِّني) وراك وراك ال�سلطان �أبو جراد ..وانهزم �رش هزمية وخ�رسنا
مطرح ما تروح.. اجلزر ال�سبع و�أ�رسوا �ستك مرجانة ..وجدك �شماخ
(يغادرالزعيم واملهرج يلحق به كظلّه). د�س له ابنه
الثامن حني �صار عمره �ستني �سنة ّ
(يتبع البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) – يعني جدكم – ال�سم ب�صحن الرز بحليب وجعله
مدخـــــــــــل
(وفقا الخباري التوراة فان ق�صة يون�س كتبت ،على اكرث تقدير ،بحدود القرن
اخلام�س �أو الرابع قبل امليالد � .سفر يون�س واحد من �أق�رص اال�سفار التوراتية
والأكرثها غرابة .يحكي ال�سفر كيف �أن يون�س تلقى �أمر الرب بامل�ضي لهداية
النا�س يف نينوى ،الذين و�صلت اخبار معا�صيهم عنان ال�سماء .لكن يون�س يرف�ض
لأنه يعرف ان اهل نينوى تائبون ال حمالة ،لبع�ض الوقت ،و�أن الرب �سيغفر لهم
خطاياهم .ولكي يهرب من االمر الرباين فان يون�س يركب اول �سفينة ت�صادفه
ما�ضية �إىل مدينة تر�شي�ش .يف البحر تهب عا�صفة هوجاء وي�أخذ اخلوف بتالبيب
البحارة لكن يون�س يعرف يف قرارة نف�سه� ،أن هذه العا�صفة تهب عليهم ب�سببه،
لأنه ع�صى �أمر الرب بالذهاب اىل نينوى.حينئذ يلتم�س من البحارة �أن يرموه يف
البحر لكي تهد�أ العا�صفة .يطيعه البحارة ويقذفون به يف جلة املوج في�سكن البحر
.لكن حوتا� ،أر�سله الرب ،يبتلع يون�س .
201
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
s
s
الليل ،فتحت هذه ال�شم�س الميكن لأحد ان يرى نور يون�س :اين كنا قبل هذه احلرب؟
امل�صباح حتى لو كان مالكا . جربائيل� :أي حرب؟
جربائيل� :أت�سلي نف�سك برتهات مثل هذه وترف�ض يون�س :حرب النوار�س وال�سمكة .
العودة لنينوى من اجلها . جربائيل :افزعتني ،انت تبالغ دائما .هذه لي�ست
يون�س «�صارخا» :وماذا تريدين ان افعل؟ لن حرب ،انها طريقة العي�ش .لكي يكون هناك اقوياء
ي�سمعني احد هناك . البد من �ضعفاء.غني فقري ،ذكي غبي ،كل هذا لكي
جربائيل :اذا ذهبت لهم ب�شعرك هذا فبالت�أكيد لن ن�ستطيع ان نقارن و نكت�شف انف�سنا
ي�سمعك احد� ،سي�ضحكون عليك «جانبيا» حتى لو يون�س :والعدالة؟ اين مكانها؟ونحن اين كنا؟
كان امل�صباح يف ليل الذئاب عنوان ق�صيدتك . جربائيل :يف مكاننا هذا .مل نغري مكاننا منذ �ساعات
يون�س :هذا مافعلوه معي رغم اين كنت احتدث معهم وانت هنا مل تغري مكانك منذ ان هربت من نينوى .
بكلماتك ،بالعبارات التي لقنتني اياها طوال ذلك يون�س :انت اي�ضا �رصت تلعب بالكلمات «يتوقف»
الفجر. نعم اتذكر الآن .
جربائيل :كان عليك ان ت�صرب ،ان تكرر مالقنته لك . جربائيل :احلمد هلل
التكرار يعلم احلمار. يون�س :كنا عند ال�شعر.
يون�س «حمتجا» :وهل تريدين ان اق�ضي حياتي بني جربائيل :اذا احببت ذلك .انت حر.
احلمري؟ يون�س «�زشرا» :حر؟ مل اعد ادري
جربائيل :كال .انه مثل .لقد �رضبت لك مثال. جربائيل :كال�شعر الذي كنت تغنيه .حر لكن بال
يون�س :كان االف�ضل لك ان ت�رضبني بدل �رضب معنى .
املثل . يون�س :مل ترتكني اوا�صل حديثي ،انتم تتقنون فن
جربائيل :امل�شكلة ،ال حلول و�سطية معك . املراوغة وتغيري جمرى الكالم .انها موهبة .
يون�س :واين انا الآن ،ال�ست يف الو�سط ،بني البحر جربائيل :وماذا بعد؟
ونينوى ،اتلظى حتت هذه ال�شم�س وال اعرف اين يون�س :ال �شيء .
�س�أم�ضي؟ جربائيل :كل هذا وال�شيء .
جربائيل :انه ذنبك فقد تركت الطريق املر�سوم لك «مي�ضي يون�س وينطرح على ظهره فوق الرمل و�سط
عند اول عرثة .لكل واحد منا طريقه وعليك ال�سري امل�رسح ،م�سندا جذعه على �ساعديه»
فيه حتى النهاية . يون�س :تتذكر يا ن�صيب الكلمات .تلك العبارة
يون�س� :أي طريق واي نهاية؟ يف املا�ضي ،يف ايام اتذكرها ...
الطفولة وال�شباب كان يل طريق واحالم ،كان يل جربائيل «مقاطعا» :وردة �صفراء حقل يف ال�شم�س
بيت وام واخوة وجريان و مروج من الذهب وبالبل بعيد امل�صباح قمة جبل.
تغرد يف ال�صباح .كان عليك ان جتئ وجتربين يون�س :متاما «ميط �شفته بقوة ويهز ر�أ�سه» ذاكرتك
على النهو�ض لأقول احلقيقة املدوخة لأهل نينوى قوية
لريموين ،كجيفة ،خارج ا�سوار مدينتهم .ا�سمع لقد جربائيل :ذاكرة مالك عنيد ،ت�ؤدي مهمتها فح�سب
تعبت . يون�س :اترك االمر «بطريقة �شعرية» :وردة �صفراء
جربائيل :من منا مل يذق التعب؟ يف حقل بعيد ا�سفل قمة جبل .
يون�س :انت . جربائيل :.رائع ،رائع ،وامل�صباح؟
جربائيل :تظلمني بكلمة واحدة . يون�س «�ضاحكا» :نرتكه لبيت �شعري �آخر يف
205 نزوى العدد / 74ابريل 2013
م�ســرح ..م�ســرح ..م�ســرح
s
s
s
208
حنة و�أخواتها
(تتمة العدد ال�سابق)
قال �أحد النقاد «حنة و�أخواتها» ( )1986بعد كل ما قيل وح�صل هو فيلم «وودي �آلن»
املف�ضل لدي .وهو حتم ًا �أحد الأمثلة القائلة ب�أن املجموع �أهم من الأجزاء .فاللقطات
الرائعة ملدينة نيويورك (خا�صة معمار املدينة) ،واملواقف العظيمة واحلفالت الغنية
واملو�سيقى الرائعة ،كل هذا �أجزاء تتما�سك يف عمل فني رائع.
ومن بني ال�شخ�صيات التي تقطن مانهاتن ،مايكل كاين ،املتزوج من حنة (ميافارو)
ولكنه �شبق مبالحقته ل�شقيقتها (باربار هري�شي) التي ت�سكن مع فنان معذب (ماك�س
فان �سيدو) .وزوج حنة ال�سابق (وودي �آلن) يبد�أ يف مواعدة �شقيقتها الأخرى (ديان
وي�ست) التي تريد بدورها مواعدة �سام واتر�سون بالرغم من �أنه يف�ضل مواعدة �صديقتها
(كاري في�رش).
209
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
نورمان (خماطب ًا كارول ،وم�شرياً بفنجانه) لقد اتتنا هذه ب�إمكانك تب ّني واحد...
الفكرة اثناء رحلتنا �إىل باري�س. حنة (مقاطعة) ح�سناً ،ما ر�أيك يف التخ�صيب ال�صناعي؟
كارول (تط�أطئ ر�أ�سها) �صحيح. (يعب باحلركة) عن ماذا تتكلمني؟ ميكي رّ
نورمان (يبت�سم) هممم؟ أخ�صب عن طريق حنة (مقاطعة) هل تعلم ،حيث �أنا – �أنا � ّ
كارول (خماطب ًا حنة خارج الإطار) هل تذكرين ذلك متربع.
ال�صيف يف فرن�سا؟ حنة ،لقد ا�صبت بدوار الطائرة ملدة ميكي (بردة فعل) ماذا ،من قبل غـ ..غريب؟
�ستة �أ�سابيع. اثناء انهماكهما باملحادثة يقطعان �شارع ًا حت ّده الأ�شجار
ي�ضحك نورمان بخفية. على اجلانبني .ميران مبنزل خ�شبي �أ�صفر حماطٌ ب�سياج
ميكي (يتنهد ،ويكاد يتمتم) نعم ،ولكنه كان ،كما تعلم، من احلديد امل�شغول.
اعتقد �أننا كنا �سعداء عندما كنا هناك وكما تعلمني ،انه حنة (ت�شري بيديها) جمـ ..؟ تريد طف ًال مج ..جممداً هل هذه
فقط� ،أنا ... هي فكرتك؟
نورمان (مقاطع ًا ،ومط�أطئا ر�أ�سه) ممم همم. حنة (مقاطعة ،تنفخ من �أنفها) فكر به فقط .هذا كل ما
ت�سري حنة باجتاه املجموعة وهي حتمل ابريق ًا من القهوة. �أطلبه.
وبو�ضح تتجاوز ميكي لت�سكب قهوة �إىل نورمان وكارول. ي�سريان خارج الإطار ويقطع الفيلم نحو غرفة معي�شة
حنة (خماطبة ميكي) �آ�سفة( .خماطبة نورمان وكارول) حنة وميكي .الغرفة م�ضاءة ب�شكل م�شع؛ مليئة بالطناف�س
قهوة؟ ا�سمعوا� ،أيها االخوان ،لقد كنا ...هل تريدان املزيد؟ والنباتات .نورمان وزوجته كارول يجل�سان على الكنبة
نورمان (يحمل فنجانه عالياً) مممم. ي�رشبان القهوة.
حنة (تعيد ملء فنجان نورمان) نحن ..نحن ..ح�صل لنا كارول (ت�ضع فنجانها جانباً) اوه ،لقد كان ذلك عر�ض ًا
رائعاً .اعتقد انه اف�ضل عر�ض كتبتموه.
�شيء نحن ..نحن حقيقة نريد بحثه معكم.
نورمان (يحمل فنجانه ،وي�شري مو�ضحاً) كال �إن اكرث
ميكي (مقاطعاً ،ي�سعل) نعم ...
عر�ض م�ضحك كتبته انا وميكي كان ذلك الذي فزنا به
تعيد حنة ملء فنجان كارول .ت�ضع وعاء القهوة على
بجائزة �إميي.
طاولة القهوة وجتل�س مبحاذاة ميكي.
ي�سري ميكي من املطبخ نحو غرفة املعي�شة ،يحمل الن�صف
ميكي (يقف وي�شري بيديه) جيز ،هذا �شيء ،هذا �شيء ،هذا
املتبقي من كعكة ال�شوكوالته على طبق ال�ضيافة .تتدفق
�شيء دقيق جداً و – و انا اتكلم عنه بني اال�صدقاء فقط،
ال�شم�س خالل النوافذ التي مير بها .ترى حنة لفرتة وجيزة
كما تعلمون.
يف اخللفية وهي حت�رض املزيد من القهوة يف املطبخ.
ميكي :نعم ...انا – �أنا اعتقد �أنه� ،أنا اعتقد انه بالن�سبة
لل�ضحك ،كما تعلم ،فقد كان هذا رمبا اف�ضل �شيء قمنا به.
ي�ضع ميكي الكعكة على طاولة القهوة ،والتي هي مزدحمة
بالنباتات و�صينية من الق�صب عليها �أوعية ونورمان
(موافق ًا ) مم ..هم.
كارول (مقاطعة ،يديها على ركبها املتعاك�سة وتط�أطئ
ر�أ�سها) نعم ،كانت م�ضحكة ،كانت م�ضحكة جداً .ولكن العر�ض
كان حول الرجلني الفرن�سيني ،والآن هذا م�ضحكا ودافئ.
يتنهد ميكي ويرمي نف�سه على مقعد جماور .ويفرك
جبهته.
211 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
ح�سناً ...ردة فعلي بعد ال�صدمة الأوىل هي� ،أوه� ،إعتزاز يبد�أ يف ال�سري ب�ضع خطوات .تنظر حنة ويداها على
بالنف�س لطلبكم مني ذلك( .ي�ضحك بخفية وع�صبية) وجنتيها نظرة �رسيعة �إىل كارول..
حتدق كارول بنورمان. ميكي (ي�ستدير نحو املجموعة وهو يخطو خلف الكنبة) انا
ميكي (م�شرياً �إىل نف�سه) نعم .ح�سناً� ،سوف �أكون �أنا الأب . �أعني (مزجمراً) � ،أوه ..هذا ال يجوز ان يتخطى هذه الغرفة.
(م�شرياً �إىل نورمان) مطلوب منك فقط �أن تقذف يف فنجان نورمان (ير�شف قهوته) كلي �آذان �صاغية.
�صغري. تتنهد حنة .يتوقف ميكي لربهة من الزمن ،ي�ستجمع
نورمان (يرفع كتفيه) با�ستطاعتي ت�أمني ذلك. افكاره.
حنة (تقرتب �أكرث من كارول ونورمان على الكنبة ،م�شرية ميكي (ي�شري بيديه ويخطو) حنة و�أنا ...ال ميكن �أن يكون
بيديها) ومن الوا�ضح �أننا لن نقوم باجلماع. لنا �أطفال من �صلبنا .والآن �أنا – �أنا – �أنا ال �أريد ان ابحث
ت�ضحك بع�صبية. يف خط�أ من هذا ( ..م�شرياً بيديه) انه خطئي �أننا ال ن�ستطيع
كارول (خماطبة حنة� ،ضاحكة بع�صبية �ضحكة مقت�ضبة) و ..و ..و التفا�صيل �شديدة االحراج لكي ......
(حتف منخارها) يجب ان اخربك باحلقيقة ّ جو�ش ا�سمعي. حنة (مقاطعة وت�شد ا�صابعها بع�صبية) نحن ..نحن قررنا
هنا. بعد مناق�شات اننا �سوف جنرب التخ�صيب ال�صناعي.
انا ل�ست مرتاحة لهذا. يتوقف ميكي عن امل�شي وينظر نحو املجموعة.
حنة (ت�ضع يدها على كتف كارول) كارول ،هذا �شيء كثري ميكي (ي�ضع يديه على خا�رصتيه) نعم ،انت ل�ست واثق ًا
لأطلبه منك. من �أنني ،من �أنني �أحب تلك الفكرة �أنا نف�سي ،على �أي حال
(تعب باحلركة) ح�سنا � ...أ�شعر معك �أنا فع ًال كذلك كارول رّ ...
� .أنا � ...أنا �سوف ابكي ،تريدين �أن يكون لزوجي ولد منك؟ يبد�أ يف اخلطو خلف الكنبة جمدداً.
حنة (م�شرية) نعم ...ال ال ال جتيبي الآن .فقط كما تعلمني حنة (مقاطعة) �أوم� ،أنا – �أنا مل �أكن حق ًا �أرغب ،كما تعلم،
خذي املو�ضوع �إىل البيت فكري به لفرتة من الزمن. �أن �أذهب �إىل م�رصف احليوانات املنوية �أو �شيء من هذا
نورمان (يحمل فنجان قهوته ويفكر) لقد اعطيت دم ًا قبل القبيل� ،أح�صل على بع�ض جمهويل الهوية من الواهبني.
الآن ،و �أوه ثياب للفقراء. (ت�شري �إىل نورمان وكارول) انا – �أنا فقط كما تعلمان،
كارول (خماطبة نورمان ،وهي حتك �أذنها) انا – انا – انا مل �أكن لأريد ذلك.
ح�سن ًا يا نورمان� ،أ�سمع ،يف احلقيقة �أريد �أن اتكلم عن هذا ميكي (يخطو) حقاً .لقد �شعرنا انه فيما �إذا قررنا اتخاذ
يف املنزل (تهز ر�أ�سها بينما تنظر حنة نظرة خاطفة خارج هذا الإجراء ،ف�إننا نحب �أن يكون ال�شخ�ص من نعرفه ومن
الإطار نحو ميكي) اعتقد �أن هذا مو�ضوع لطبيبك النف�سي نحبه ومن كان دافئ ًا وذكي ًا و...
...وكذلك طبيبي. نورمان وكارول يلزمان ال�صمت.
نورمان (م�ؤكداً) ورمبا حمامي. حنة :وب�إمكانكما ان تقوال ال ..كما تعلمان.
ي�أخذ ر�شفة من القهوة. ا�شعرا بحرية قول ال ..ن ..نحره ندرك �أن املو�ضوع له
حنة (ت�شري بيديها) كما تعلم ،نحن – نحن نفهم متام ًا العديد من الإيحاءات.
�إذا ،كما تعلم� ،إذا كنت ت�شعر �أنك تف�ضل �أن ال تفعل ذلك. يتوقف ميكي عن ال�سري وينحني على املد خلف نورمان.
أخرب هذه الأم�سية (تفرك (ت�ضحك بع�صبية) مل �أق�صد �أن � ّ ميكي :نعم ،ولكن النقطة التي ،اوه ،التي نثريها هنا هي
يديها) اننا نحتاج بع�ض احليوانات املنوية.
والآن دعونا ننتقل �إىل مو�ضوع �آخر. يحك ميكي يديه على ركبه ،ويحني ظهره �إىل اخللف على
تقرتب حنة من الكعكة بينما يتبادل نورمان وكارول احلائط ..تعود نورمان وكارول �إىل بع�ضهما البع�ض ،بردة
النظرات كردة فعل لذلك. فعل نورمان (متنهداً) جيي( .ي�ضحك �ضحكة خفية).
212 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
يل (تهز يد دو�ستي) مرحباً ،دو�ستي. تنتهي العودة �إىل املا�ضي .يعود ميكي �إىل احلا�رض يف
دو�ستي :مرحباً. غرفة معي�شته املظلمة ،وقد �أ�ضيئت بربيق من النافذة
ت�ضحك يل �ضحكة خفيفة وهي تنظر �إليه� ،إنه يلب�س نظارة خلف الكنبة .طاولة قهوة قابعة �أمام الكنبة� .أوراق مبعرثة
�شم�س وقمي�صا �أحمر مطبوع ،ومعطفا وا�سع ت�ستدير وت�سري على الأر�ض .ينه�ض ميكي من على الكنبة حيث كان
مع فريدريك واليوت ،ودو�ستي الأبعد �إىل ال�رشفة ،ويداها يجل�س يخطو ذهاب ًا و�إياب ًا وهو يتكلم على ال�شا�شة.
مقفلتان خلف ظهرها. ميكي (�صوت خارجي) وهكذا ح�صلت على التو�أمني
�إليوت (وهو ي�سري) :لقد ا�شرتى دو�ستي بيت ًا يف �سوثمبتون من �رشيكي ال�سابق .رمبا �سبب هذا بع�ض امل�شاكل ولكن
وهو على �أهبة تن�سيقه. (يتنهد).
دو�ستي :نعم� .إنه نوع من الأماكن الغريبة يف الواقع اعتقد اننا كنا نبتعد عن بع�ض تدريجي ًا على �أي حال
م�ساحات من احليطان (ي�ضحك خفية). والآن بد ًال من رجل وزوجته �أ�صبحنا �أ�صدقاء طيبني .يا
يل :اوه. �أخي ،احلب �شي ٌء ال ميكن التلهي به.
ي�سريان نحو غرفة املعي�شة يف ال�رشفة حيث يقف فريدريك قطع �إىل:
ويداه يف جيوبه ،يلب�س �صدرية �صوفية وقمي�صا �أبي�ض داخلي – اوبرا مرتوبوليتان – لي ًال
ويقف منتظراً. «قانون لي�سكوت» تعر�ض على امل�رسح وعلى خ�شبة
دو�ستي (خماطب ًا فردريك وم�صافح ًا له وهو يحرك �أردافه) امل�رسح تغني ال�سوبرانو يف الدور الرئي�سي اغنية حزينة
كيف �أحوالك ،يا رجل؟ وهي تركع �أمام بقايا عربة حمطمة .اخللفية مظلمة.
اليوت (خماطب ًا فردريك الذي ال يبدو متحم�ساً) اخربته والفيلم يتحرك نحو علب اللوج اخلا�صة يف اللوج العايل.
عن عملك ،وهو متحم�س جداً. ن�ستطيع �أن نرى عن بعد دايفيد وهويل يجل�سان يف �إحدى
العلب .يرمقها دايفيد بنظراته ويتناول زجاجة من النبيذ.
عمل من �أعمال �أندي وارهول.دو�ستي :نعم ،ح�صلت على ٍ
يقطع الفيلم ب�رسعة عائداً �إىل خ�شبة امل�رسح .املغنية
وكذلك واحد لفرانك �ستيال� ،أي�ض ًا اوه انه جميل جداً.
ال�سوبرانو تنحني على دوالب عربة؛ و�صوتها يحلق .ثم
(ي�شري بيديه) كبري ،غريب ..كما تعلم.
يعود �إىل نظرة مقربة من هويل ودايفيد يف العلبة .تتابع
(ي�ضحك وهو ي�صلّب يديه على �صدره) �إذا ما ح ّدقت طوي ًال
الأغنية بينما يناول دايفيد ك�أ�س ًا لهويل املبت�سمة .ينزع
يف لوحة �ستيال ،ترى الألوان تطفو� .إنه �شيء غريب.
الفلينة عن النبيذ وي�سكب بع�ضه يف ك�أ�سيهما .تر�سل
يغطي فريدريك وجهه يخفي �إزدراءه.
هويل بفمها عبارة �شك ٍر له ،وهي تنظر حولها .ينظران �إىل
يل (ت�ضحك بخبث وذراعاها م�صلبتان) هل �أنت متحم�س
بع�ضهما البع�ض ويرفعان ك�أ�سيهما بنخب.
قطع �إىل:
ا�شرتى دو�ستي هذا البيت الكبري يف �سوثامبتون.
ت�سمع �صوت جمهور الأوبرا حميياً ،مهل ًال و�صارخ ًا
«برافو».
يتوقف الت�صفيق بينما يقطع الفيلم نحو �رشفة فريدريك.
�إنه النهار .تلب�س يل جينزو قمي�صا وا�سعا تفتح الباب
لأيليوت وزبونه جنم الروك الغني دو�ستي فراي.
اليوت (يقود الطريق نحو ال�رشفة وهو ي�شري بيديه) :يل،
فريدريك ...قولو مرحب ًا لدو�ستي فراي.
تغلق يل الباب خلف الرجال وت�سري نحو دو�ستي.
213 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
باللوحة العارية بينما ت�سمع �أ�صوات خطوات فردريك كونك �ست�صبح من جامعي اللوحات؟
ودو�ستي وهما يغادران ال�رشفة .ي�ستدير ويبت�سم ب�رسعة دو�ستي :نعم.
�إىل يل املوجودة خارج الإطار. يل( :تومىء بر�أ�سها) �ألي�س كذلك؟
اليوت (ي�ضحك ب�سال�سة) كيف حال كل �شيء؟ دو�ستي( :يرفع �أكتافه) ومع ذلك علي �أن �أتعلم الكثري .يف
يل ( :تتحرك داخل الإطار باجتاه اليوت). الواقع مل �أكن قد دخلت عامل الفن عندما كنت غالماً.
�أوه ،ملعلوماتك فقد تكلمت مع حنة هذا ال�صباح على يل (تط�أطئ ر�أ�سها) �أوه – هوه.
الهاتف وقد �أخربتني �أنكما �أنتما االثنان �ستذهبان �إىل فريدريك (يخاطب دو�ستي ولكنه ال ينظر �إليه) هل تق ّدر
الريف يف عطلة نهاية الأ�سبوع. اللوحات؟
اليوت :نعم ،انها حتب االنطالق يف الغابات. دو�ستي (يرفع �أكتافه) نعم.
يل (تومئ بر�أ�سها وذراعيها مت�شابكتني حول �صدرها) (ي�ضحك بخفية – وهو يالحظ وي�شري �إىل بع�ض اللوحات،
اوه ،نعم. خارج الإطار والتي قد و�ضعها فريدريك) اوه! هيي! واو!
اليوت (ي�ضحك خفية) ولكنني �أ�صاب – باحلنان – �إنها (ي�شري �إىل لوحة عارية خارج الإطار) �إنها جميلة .ولكن
حبكة من االختالفات. اوه ،حق ًا ،انا – انا انا – انا بحاجة �إىل �شيء ...انا ابحث
ت�ضحك يل ،مرتبكة ،وتنظر �إىل �أ�سفل. عن �شيء كبري.
يل :على �أن �أقوم بتنظيف �أ�سناين هذا الأ�سبوع. وبينا يتكلم دو�ستي ،تتبع الكامريا �إليوت ،الذي ي�سري
اليوت� :أوه ،هذا �شيء لطيف. متقدم ًا الآخرين ليتفح�ص اللوحات عن قرب �أكرث .
متر برهة من ال�سكون الغريب. لوحتان مو�ضوعتان ب�إطارين تقفان على �أحد الأعمدة
اليوت (يقطع ال�سكون وي�شري باجتاه الباب) تخيلت انني يحدق �إليوت معجب ًا باللوحتني ثم ينظر بخفية �إىل يل
�س�أجمع فردريك بدو�ستي. معجب ًا بج�سدها وهي تتحدث خارج الإطار مع دو�ستي
معبة باحلركة) �أوه ،حقاً ،هذا يل (تنظر بنف�س الإجتاه رّ وفريدريك.
�شيء لطيف منك. يل (تنظر �إىل فريدريك خارج الإطار وهي ت�شري بيديها)
اليوت :نعم .هذا ال�شاب قد ربح تريليون دوالراً. كبرية يا فريدريك دعه يرى الزيتيات.
يل (تط�أطئ ر�أ�سها ،وتلف ذراعيها حول �صدرها مرة فردريك (خارج الإطار) �إنها يف الطابق ال�سفلي.
ثانية) �أوه. ترتك الكامريا �إليوت لتتبع يل املتحم�سة وهي تقود
اليوت :لقد حاز على ما يقارب ال�ستة �أرقام قيا�سية ذهبية. دو�ستي من ذراعه وتبد�أ تقوده نحو الباب .فردريك يتبع
يل (ت�شري بيديها وقد ارتاحت لأنها وجدت ما تقوله) عن بعد.
�أوه! �إذا ما تكلمنا عن الأرقام القيا�سية ...لقد ا�شرتيت يل (خماطبة دو�ستي) لقد قام فردريك بر�سم هذه املجموعة
علي ب�رشائها.
ثالثية موزارت التي �أ�رشت ّ اجلديدة والتي انا مت�أكدة �أنك �سوف حتبها.
تتبع الكامريا يل وهي ت�سري ب�رسعة نحو ال�سرتيو وتخرج دو�ستي (مقاطعاً ،يدمدم) ح�سناً ،هل هي ...كبرية؟
ا�سطوانة من على الرف. يل ..نعم .بع�ضها ...نعم ..بع�ضها كبري جداً.
يل (متابعاً) ...وقد عر�ض علي الرجل الذي يعمل يف دو�ستي :لأنه لدي م�ساحات كبرية هناك.
خمزن اال�سطوانات واحدة �أخرى اعتقد �أنك �ستحبها� .إنها .. (ي�ضحك خفية)
واحدة �أخرى لباخ ،احلركة الثانية. فردريك (يقف بغ�ضب يف وجه م�سريته) انا ال �أبيع �أعمايل
تخرج الأ�سطوانة من كي�سها وت�ضعها على قاعدة الدوران. باليارده!
اليوت (خارج الإطار) �أوه ،هل �أنت – �أنت متلكني هذه يل (ت�ضحك بخبث ،متفاعلة) اوه ،يا فريدريك!
الأ�سطوانة؟ تتحرك الكامريا الآن عائدة �إىل �إليوت وهو ما زال يح ّدق
214 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
�إليوت (�صوت خارجي) �أرغب ب�ش ّدة ان �أق ّبلها .لي�س هنا، يل (تقوم بالعمل �أمام ال�سرتيو ،وتدير ر�أ�سها نحو اليوت)
�أيها الغبي .عليك �أن تقابلها لوحدها يف مكان ما. نعم.
وبينما ت�سمع افكار اليوت فوق امل�شهد ،حتدق يل مبا يف اليوت (خارج الإطار) �أوه� ،أحب كثرياً �أن �أ�سمعها.
ال�رشفة ،ثم تبد�أ يف ال�سري بعيداً ،تتبعها الكامريا وهي ميلأ كون�رشتو باخ للهارب�سيكورد الغرفة.
تتجه مارة باللوحات العارية ،التي ت�صبح مركز الإهتمام يل( :ت�ضع غطاء قاعدة الدوران يف مكانة ) �أوه ،وهويل
بينما ت�سري يل خارج الإطار. تعرفت على رجل رائع يحب الأوبرا .مهند�س معماري.
اليوت (�صوت خارجي) ولكن على االبتداء بحذر .هذا اليوت (خارج الإطار) �أوه ،هذا �شيء لطيف .امتنى �أن اراها
موقف دقيق جداً .ح�سناً� ،آه ..لأ�س�ألها �إذا ما كنت ا�ستطيع قد ا�ستقرت �أخرياً� .إنها �إن�سانة متوترة (ي�ضحك خفية).
ر�ؤيتها على الغذاء �أو لتناول ال�رشاب غداً. الأ�سطوانة يف مكانها .ت�ستدير يل وت�سند ظهرها �إىل
تعود يل لل�سري �إىل داخل ال�شا�شة نحو رف الكتب خلف وحدة ال�سترييو .ت�سمع املو�سيقى وعيناها مغم�ضتان.
اللوحات .تتناول كتاب �إي �إي كومينجز من على الرف تعزف الأ�سطوانة ب�ضع دقائق يف الغرفة الهادئة بينما
وتت�صفحه وهي ت�سري عائدة نحو �إليوت الذي ما زال ي�سري �إليوت باجتاه يل وينحني م�ستنداً �إىل الرف الذي
منحني ًا عند ال�سرتيو وما زال يت�أمل. مبحاذاتها.
اليوت (�صوت خارجي) و�أ�ستعد لت�ستخف مبا تقرتحه �إذا يل (م�ؤكدة) �ألي�س هذا �شيء جميل؟
ما وجدتها غري متجاوبة .هذا يجب �أن ميار�س مبهارة �إليوت (ينظر نحو يل ويداه م�شبوكتان �أمامه) اعرف هذه
ودبلوما�سية. باخ .كون�رشتو المينور� .إنه من اال�شياء التي �أحبها
يل (تعر�ض على اليوت ق�صيدة من كتابها) هل قر�أت هذه تبت�سم يل وتتابع اال�ستماع �إىل املو�سيقى ،ر�أ�سها �إىل
�سابقاً؟ ا�سفل؛ و�إليوت يح ّدق بها.
�إليوت (بعد توقف) �أوه ..هل اطلعت على �إي �إي كومينجز؟
يقفز �إليوت ومي�سك بلي ويقبلها ب�شغف .تفاجئ يل وتدفعه
يل (تطوي ذراعيها على �صدرها وتنظر بعيداً عن �أليوت
بعيداً.
لربهة من الزمن) نعم� ،أنه �شديد الروعة.
يل� :إليوت! ال تفعل ذلك!
يهز �إليوت ر�أ�سه.
اليوت :يل! يل! يل �أنا �أحبك.
يل (بو�ضوح) لديهم زبائن كثريون مثليون ،كما تعلم ،يف
يقبل يل مرة ثانية .ي�ستدير بغباء؛ فتتجم ّد هي عند ال�سرتيو
املكان الذي انظف به �أ�سناين .. ,جميع العاملني يف جمال
وبينما تندفع يل بعيداً ت�صطدم بالقاعدة املتحركة .حيث
ال�صحة الآن يلب�سون الأكف لأنهم يخافون من مر�ض
عال فت�ضطرب يل وتلهث .وتتحرك تخد�ش الأبرة ب�صوت ٍ الإيدز.
�إليوت (ي�أخذ نف�ساً) �أوه� ،صحيح.
دقيقة �أخرى من ال�صمت .يح ّدق �إليوت بلي التي
تتابع النظر �إىل �أ�سفل وذراعاها حول �صدرها .يتابع
الهارب�سيكورد العزف.
اليوت (بنعومة) هل �صدف �أن مررت بالق�صيدة على
�صفحة مائة و�أثني ع�رشة؟
يل :نعم ،لقد �أبكتني (تنظر �إىل �إليوت نظرة حائرة) لقد
كانت جميلة جداً ...ورومانتيكية جداً.
تنظر يل مرة ثانية �إىل ا�سفل ،املو�سيقى تعزف بلطف ،و
يتابع اليوت التحديق بها ،وهو يفكر.
215 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
وي�سريان نحو �سيارة دو�ستي الليموزين .يحك اليوت اال�سطوانة نحو جزء �آخر من الكون�رشتو ،والآن تعزف
جبهته مكروباً. «فوج» الأكرث تعقيداً والأ�رسع.
دو�ستي (يدخل غا�ضب ًا �إىل ال�سيارة) يا له من �شخ�ص �إليوت (يتنف�س ب�صعوبة) �أوه !
غريب هذا الرجل �إ �إنه م�صاب بجنون العظمة (يالحظ وجه يل (تلهث) ماذا تفعل؟
اليوت املكروب) ما بالك؟ اليوت (بع�صبية) �أنا � ...أنا – انا – انا �آ�سف .يجب �أن
اليوت (يعرب بحركة يديه) انظر انا – انا – �أنا �سوف �أكلمك لأن لدي الكثري �أريد البوح به.
�أ�صبح جيداً � .سوف ا�صبح جيداً. حتملق يل باليوت من هول ال�صدمة.
دو�ستي (مقاطعاً) �إنها لي�ست م�س�ألة كبرية .فقط مل ت�صب يل (ما زالت تلهث) �إليوت!
ما نريد. اليوت (يعرب بالإ�شارة عن ي�أ�سه) لقد احببتك لفرتة طويلة.
اليوت (معرباً باحلركة) الآن �أنظر ،انت – انت – انت تابع ا�صوات فردريك ودو�ستي غري الوا�ضحة ترتفع باجلدل
م�سريتك. وت�سمع فج�أة .ي�ستدير �إليوت ب�رسعة بعيداً عن يل .حتاول
تتعرق.
دو�ستي :هل انت بخري؟ تبدو ...انت ّ هي �أن ت�ستجمع نف�سها ويقطع الفيلم نحو مدخل ممر
اليوت (مقاطعاً ،بع�صبية) نعم .نعم ،انا فقط – فقط احتاج ال�رشفة.
�إىل قليل – قليل من الهواء النقي .قد يكون ب�سبب �شيء يدخل فردريك �إىل ال�رشفة �أو ًال يتبعه دو�ستي امل�ضطرب
�أكلته .انا �سوف – انا �سوف �أ�سري .و�أنت تابع �سريك. يخطوان على ال�رشفة متجاوزين يل التي تقف بالقرب من
ي�ستقر دو�ستي يف املقعد اخللفي ويغلق الباب .ينحني ال�سرتيو.
اليوت على �شباك ال�سائق م�شرياً له ان يبد�أ يف الإنطالق. اليوت يقف بجانب اللوحات العارية .ويقلّب �صفحات
اليوت (متابعاً ،وم�شرياً بع�صبية) :انت اذهب ،تق ّدم �إذهب. كتاب.
تنطلق �سيارة الليموزين �إىل الأمام .يرك�ض �إليوت نحو فردريك (غا�ضباً) رجا ًء ان�س ذلك! لي�س لدي �أية رغبة يف
ك�شك هاتف عرب ال�شارع .يلتقط الهاتف ويطلب النمرة. بيع �أي �شيء!
يقطع الفيلم نحو فردريك يف �رشفته ،يقف بالقرب من دو�ستي (يعرب باحلركة) �أنا اطلب منك �إذا ماكان لديك
الهاتف. �شيء به �أحمر داكن ،عليك �أن تطري بعيداً عن امل�ألوف.
يرن جر�س الهاتف .يلتقطه فردريك. يل (ب�صوت �أعلى نربة من ال�سابق) ما امل�شكلة؟
فردريك (متكلم ًا يف الهاتف) هللو؟ هللو؟ هللو؟ فردريك (يرفع لوحاته العارية عن العامود بغ�ضب) �أنا
عندما ال يجيب �أحد ينفعل فردريك ويعلق الهاتف .يتحرك غري مهتم مبا تفكر به مهند�سة الديكور التي تعمل معها،
الفيلم نحو اخلارج �إىل ك�شك الهاتف حيث يكون �إليوت ح�سناً؟!
و�سماعة الهاتف على �أذنه ،ي�ستمع برهة من الزمن ،ثم دو�ستي (مقاطع ًا وم�شرياً) ح�سن ًا ال �أ�ستطيع االلتزام ب�أي
يعلق الهاتف .ي�سري �إىل خارج الك�شك ،منف�ص ًال ثم يخطو �شيء ما مل ا�ست�رشها �أو ًال .لذلك �أنا �أعمل معها .ح�سناً؟
نحو املمر اجلانبي حيث ي�صطدم بلي الع�صبية وهي تدور فردريك (يحمل اللوحات بعيداً) هذا �شيء مهني!
حول الزاوية. انت ال ت�شرتي اللوحات لتتنا�سب مع كنبتك!
يل (ت�شري بيديها وقد ا�سرتاحت) �أوه ،ها �أنت هنا! ينظر �إىل فريدريك) �إنها لي�ست كنبة انها مقعد عثماين!
يتمتم �إليوت ،م�سرتيح ًا وم�ضطرباً. (يلم�س جبهته وي�ستدير نحو �إليوت) يا الهي ان�س
يل :كنت �أبحث عنك. املو�ضوع!
اليوت (م�شرياً بيديه) انا ،يجب ان اعتذر .انا – �أنا – �أنا دعنا نخرج من هنا ،يا �إليوت.
�آ�سف .انا م�شو�ش جداً. �إليوت (ي�ضع الكتاب جانباً) �سوف نذهب.
يل (م�شرية بيديها) ح�سناً ،كيف تتوقع �أن تكون ردة فعلي يتحرك الفيلم خارج بناية ال�رشفة .يخرج دو�ستي و�إليوت
216 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
حنة قد �أدارت ظهرها .كانت منهمكة يف اعمال املطبخ خارجي .زاوية �شارع خارج مبنى حيث �شقة �أيفان
بينما كان ايفان يتكلم� .أخذت بع�ض احلبوب من اخلزانة ونورما – نهاراً
واعطتها لوالدتها مع ك�أ�س من املاء. يدور تاك�سي حول زاوية �شارع احلي الغربي ويقف امام
ايفان (متابعاً) ...وكانت والدتك ترمي نف�سها عليه مبنى ايفان ونورما املزخرف بظلة من املعدن� .إنه يوم
بطريقة مقرفة وعندما وجدت انها كبرية جداً على �إغوائه، مل ّب ٌد بالغيوم.
وانه كان خج ًال من ت�رصفاتها... �سيارة �ستاي�شن على اجلانب املقابل من ال�شارع تنطلق
نورما (تقاطع بغ�ضب وتدير ر�أ�سها) كذاب ! كذاب ! بعيداً بينما تخرج حنة من التاك�سي وقد تطاير و�شاحها
تتحرك الكامريا نحو �إيفان ،الذي يتابع رواية ق�صته، احلريري االبي�ض من على اكتافها .ترك�ض نحو البناية
متجاه ًال انفجار زوجته بينما ي�سري بعيداً عن ممر املطبخ بينما يبتعد التاك�سي.
نحو حجرته. تعزف البيانو «امل�أخوذ» على ال�شا�شة.
ايفان :ثم عند الع�شاء ا�صبحت اكرث �سكراً (ت�رصخ من على قطع �إىل:
كتفه) واخريا ا�صبحت جوان كولينز ! داخلي �شقة �إيفان ونورما – نهاراً.
ي�سري ايفان نحو البيانو حيث ت�ستقر جمموعة من �صور ي�سري �إيفان وظهره نحو الكامريا نحو الباب الأمامي
العائلة امل�ؤطرة مو�ضوعة يف �صف واحد على ظهرها ويفتحه لتدخل حنة.
يلتقط واحدة من ال�صور بينما تتكلم نورما خارج الإطار حنة (م�ضطربة) مرحباً .كيف حالها؟
يف املطبخ. ايفان (مقاطعاً) انا �سعيد لر�ؤيتك.
نورما (خارج الإطار) لقد ق�ضيت كل حياتي اتقبل تنزع حنة عنها �شنطة الكتب ومعطفها بينما يتجاوزها
الإهانات ... والدها الغا�ضب باجتاه املطبخ .مير �أمام حائط عليه مر�آه
تتحرك الكامريا عائدة �إىل املطبخ بينما تتكلم نورما .ما مزخرفة وبع�ض ال�صور امل�ؤطرة.
زالت تتحلق نحو املمر خارج الإطار حيث وقف ايفان منذ ايفان� :إنها يف املطبخ هناك� .إنه نف�س ال�شيء .نف�س
برهة من الزمن .حتمل ك�أ�س املاء وحبوب الدواء. ال�شيء .تعد وتعد (ي�شري بيديه) ولكنه اكاذيب برمته.
نورما (متابعة ،ب�أ�سلوب م�رسحي ...من هذا الالان�سان ، نرى نورا عرب املمر جتل�س على كر�سي يف املطبخ .تلب�س
هذا هـ -هـ -هذا املق�صو�ص ال�شعر الذي ميكن �أن نعتربه ثوب ًا فوق مالب�س داخلية خفيفة وكل�سات ،انها ت�رشب.
رجالً( ،ت�ستدير لتنظر �إىل حنة خارج الإطار) مل يتمكن من يقف �إيفان يف املمر ينظر �إليها ،وال يدخل.
�إعالتنا ...من نعم اهلل �أن ابنتنا كانت موهوبة! حنة (خارج الإطار ،ب�صرب) ال تزيد الأمور �سوءاً ،يا والدي.
عاد �إيفان �إىل املمر ،ي�ستمع �إىل نورما ،يزداد غ�ضب ًا �شيئ ًا ايفان (مقاطعاً) دائماً.
ف�شيئاً ،وبينما يجيب بنف�س احلدة ،يبد�أ بال�سري عائداً �إىل تتجاوز حنة والدها ب�رسعة وتدخل �إىل املطبخ ،تر�شف
غرفته والبيانو اخلا�ص به. والدتها ر�شفة من �رشابها.
�إيفان :كنت �أمتنى �أن تكون مني .يف الوقت الذي انت فيه حنة :مرحباً ،والدتي .كيف حالك؟ ا�سمعيني ،دعيني
�أمها (ي�شري باحلركة غا�ضباً ،و�صوته يعلو) والدها ميكن �أعطيك بع�ض القهوة .يكفي ما ت�رشبينه من هذا.
ان يكون اي واحد من جمموعة املمثلني! فجر
(ت�أخذ م�رشوب �أمها ،خماطبة �إيفان) ما الذي ّ
نورما� :إنها موهوبة ..ولذلك فمن امل�ستبعد ان تكون منك! املو�ضوع
(ت�رشب ر�شفة من املاء). ايفان (معرباً باحلركة بينما تدير نورما ر�أ�سها وتراقبه).
حنة (ت�سري نحو املمر لتخاطب �إيفان ،الذي �أخذ يدخن يف كنا نقوم بربنامج جتارى عند مكتب املحافظ وكان
غرفته) والدي ،هل ب�إمكانك من ف�ضلك �أن تبقى يف الغرفة هناك بائع� ،شاب ح�سن املظهر...
الأخرى ودعني �أعتني بها؟ تنفعل نورما وت�ستدير نحو ابنتها .على �أي حال كانت
218 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
والآمال التي مل تتحقق. تعود حنة لنورما ،ت�أخذ ك�أ�س املاء بعيداً.
ترتك الكامريا وجه حنة وهي تتابع ت�أمالتها ،تتحرك �إيفان (خارج الإطار وقد اختار اهمال اقرتاح حنة):
نحو الغرفة ال�صغرية ،و�إىل �صف ال�صور العائلية امل�صفوف لي�س ب�إمكانك ان تعلمي ابدا متى �ستقع من العربة وتهني
على البيانو .واحدة حديثة لإيفان ونورما و�صوراً �أخرى اجلميع.
حيث كانت نورما و�إيفان يف �شبابهما ،جميالن وكلهما حنة ،وقد قررت اهمال تعليقات ايفان ،تعطي والدتها
�أمل ،تتابع املو�سيقى العزف. فنجان ًا من القهوة ،وت�ضع يدي والدتها على القدح.
حنة (�صوت خارجي) وال�شجار واخليانات املتبادلة حنة� :إليك ،يا �أماه ا�رشبي هذا (منحنية على �أحد ن�ضد
لإثبات نف�سهما ...ولوم بع�ضهما البع�ض كان �شيئ ًا حـ - املطبخ) هل تعلمني ،انت رهيبة .رمبا كنت تعبثني.
حزيناً .اعجبهما فكرة ان يكون لهما �أوالد .ولكن تن�شئة نورما (تر�شف قهوتها) كال ! �أنا احب املزاح مع من حويل
ه�ؤالء الأوالد مل تهمهما كثرياً .ولكن من امل�ستحيل �أن وا�ستمتع ،وهو يغ�ضب لأنني اكون مركز االهتمام .لقد
تعتربها موقف ًا �ضدهم .مل يكونوا ليعرفوا �شيئ ًا �آخر . �أ�صبح اكرث مرارة كلما ا�صبح �أكرب ،وقد حاولت �أن �أحافظ
يقطع الفيلم عائداً �إىل املطبخ .تقف نورما؛ ت�أخذ حنة على �شبابي� ...شباب القلب.
فنجان القهوة اخلا�ص بها وت�ضعه على الن�ضد. حنة :لقد وعدتي ان تبقى على العربة.
نورما :هل تعرفني ،من بيننا جميع ًا يف العائلة ،كنت �أنت نورما (تهز ر�أ�سها) الت�ضحيات التي قمت بها من �أجل هذا
املباركة باملوهبة احلقيقية. الرجل( ،ت�أخذ نف�س ًا عميقاً) لقد حطمني ب�أنانيتة وبـ ...
ت�ضع ذراعها حول كتف حنة .ت�سري الأم والإبنة خارج ت�شري بيديها) بـ ..بـ ..ب�ض�آلة موهبته!
املطبخ. حنة :ح�سناً ،توقفي عن متثيلك.
حنة (مت�سك باليد التي و�ضعتها والدتها على كتفها) �أووه، نورما (ت�رصخ نحو �إيفان املوجود خارج الإطار) �إنه هو
الذي جعل من كل فتاة �ساذجة �شيئ ًا عدمي القيمة.
موهبتي احلقيقية هي احلظ ،يا والدتي.
حنة (بهدوء) ح�سناً ،ح�سناً.
ت�ضحك نورما �ضحكة خافتة.
نورما (مت�سك بذراع حنة متنهدة) انـ ..انهم كانوا
حنة (مقاطعة) �إن حظي كان وفرياً فقط .منذ ا�ستعرا�ضي
يريدونني �أن �أقوم بتجربة �سينمائية.
الأول كما تعرفني؟ لقد كنت دائم ًا اعتقد ان يل كان مق ّدرا
حنة (ب�صرب) نعم� ،أعرف ،يا �أمي.
لها �أن حت�صل على الأ�شياء العظيمة.
نورما (ت�شري بيديها) ولكنني كنت اعلم انه �سوف يذهب
نورما :نعم ،انها رائعة ،ولكنها ال متلك بريقك (ت�شري
�إىل هناك وي�سري متعرثاً بق�صة �شعره املكلفة وت�رسيحة
بيديها وت�ضحك �ضحكة خافتة) هي تعرف ذلك انها
�شعره وثيابه� .أنه حمب للمظاهر!
(مت�سك بذراع حنة مرة ثانية ثم مت�سك ب�صدرها)
والآن كيف ميكنك �أن متثلني عندما ال يكون لديك �شيئ ًا يف
الداخل ليخرج �إىل اخلارج؟!
تر�شف نورما قهوتها وهي تت�أوه برقة ..تنفعل حنة
وت�سري بعيداً عن الن�ضد و ،تغلق زجاجة احلبوب ،وت�ضعها
يف اخلزانة .يعزف �إيفان على البيانو خارج الإطار .تتحرك
الكامريا �إىل الداخل على وجه حنة وهي تفكر و�صوتها
م�سموع على ال�شا�شة.
حنة (�صوت خارجي) لقد كانت جميلة جداً يف يوم من
الأيام .وكانه هو حمطم للآمال .كالهما ملئ بالوعود
219 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
الآخر يقف قريب ًا ينظر من ميكي �إىل �شا�شة احلا�سوب. تعبدك .ال تتجر�أ ان ت�صعد �إىل خ�شبة امل�رسح.
ثم يقطع الفيلم ب�رسعة نحو �شا�شة احلا�سوب .تظهر �صورة حنة (تنظر �إىل والدتها) الآن ،هويل لي�ست خجولة
جلمجمة ميكي .ت�ضيء اخليوط ال�شعاعية فوق اجلمجمة. يقفان على مدخل الغرفة ال�صغرية .نرى ايفان يعزف
تتحرك الكامريا �إىل �أعلى من على ال�شا�شة لتظهر ميكي البيانو بينما يتابعان هما حمادثتهما.
مرة ثانية ،كما نراه عرب ال�شباك� ،ساكناً� ،صارم ًا حتت نورما :كال هويل تريد �أن جترب �أي �شيء .هويل مثلي.
وحدة القيا�س. حنة :حقاً.
يتحرك الفيلم من ميكي الذي ي�ستلقي على �صدره �إىل نورما (تهز ر�أ�سها) كنت �س�أ�صبح مدمنة خمدرات.
التقنيان كما نراهما عرب النافذة يف غرفة الت�صوير ت�ضحك نورما جذلة .حنة ت�ضحك وتلم�س والدتها
املحوري يتفح�صان �شا�شة احلا�سوب ويتكلمان كالم ًا ي�سريان �سوي ًا نحو ايفان اجلال�س �إىل البيانو.
غري وا�ضح مع بع�ضهما .احد الرجلني يهز ر�أ�سه وي�ضع ايفان (ينظر �إىل �أعلى) تذكري هذا يا حنة؟
معلومات اكرث يف احلا�سوب. يعزف ايفان ب�ضعة �أجزاء من «انت جميلة �إىل درجة
وبينما هما يدر�سان �صورة اجلهاز تقطع الكامريا �إىل كبرية»
م�شهد خلفي مليكي حتت وحدة القيا�س. بينما تدير الأم واالبنة ظهريهما �إىل الكامريا وهما
هذا امل�شهد يعطيني اح�سا�س ًا وك�أنه م�شهد من رواية ت�ستمعان.
علمية ،وك�أن ميكي ي�ستلقي يف منت�صف دائرة م�ستقبلية تنحني نورما فوق البيانو ،وحنة تنظر بعيداً وهي
كبرية وبي�ضاء. م�أخوذة يف التفكري.
تتحرك النقالة التي حتمل ميكي ببطء خارج وحدة ت�ستمر مو�سيقى البيانو يف اخللفية بينما يقطع الفيلم �إىل:
القيا�س. يل وهي ت�سري على ر�صيف املرف�أ .الهواء يطيرّ �شعرها؟
قطع �إىل: تعانق كتاب �أ�.أ.كومينجز .وهي �أي�ض ًا غارقة يف افكارها.
داخلي .مكتب دكتور بروك – نهاراً تقف على حافة الر�صيف؛ تتابع الكامريا حتركها ،مارة
يحمل دكتور بروك �صور الأ�شعة اخلا�صة مبيكي وي�سري مبجموعة �أكوام من الأخ�شاب بالقرب منها؟ .ترتطم بها
ماراً ب�صف من ارفف الكتب متجه ًا نحو لوحة الإ�ضاءة املياه برفق.
اخلا�صة به .ي�ضع �صور الأ�شعة �إىل داخلها. قطع �إىل:
دكتور بروك�س� :سيد �ساك�س (يتنهد) انا خائف من �أن الهاوية
تكون الأنباء غري جيدة. تنتهي معزوفة البيانو وي�سكن الفيلم.
ي�ستدير دكتور بروك�س نحو ميكي البعيد عن ال�شا�شة. قطع �إىل:
دكتور بروك�س (متابعاً ،خمرج ًا قلم ر�صا�ص من جيبه) لو داخلي .م�ست�شفى – غرفة ال�شعاع املقطعي – نهاراً
كنت �أ�ستطيع �أن �أريك �أين يوجد الورم متام ًا وملاذا ن�شعر ي�ستمر ال�سكون بينما يقطع الفيلم للقطة مقربة لغرفة
ان اجلراحة لن جتدي نفعاً. دائرية كبرية حيث جهاز وحدة قيا�س ال�شعاع املقطعي
مقربة لوجه ميكي .وقد يقطع الفيلم مبا�رشة �إىل لقطة ّ يف غرفة معقمة يف امل�ست�شفى .تتحرك النقالة ببطء حتمل
ظهرت عليه ردة فعل يائ�سة .يغلق عينيه ،ويغطي وجهة فوقها ج�سد ميكي العاري املنبطح وتبد�أ يف الدخول �إىل
بيديه. الفتحة الدائرية لنفق وحدة القيا�س.
ميكي (�صوت خارجي) لقد انتهى الأمر .وانا وجه ًا لوجه بينما تبتعد الكامريا �إىل الوراء بعيداً عن ميكي ور�أ�سه
مع الأبديه. الداخل يف جهاز القيا�س ،نرى عامالن تقنيان من خالل
دكتور بروك�س (خارج الإطار) ...كربت كثرياً دون �أن النافذة التي تف�صل جهاز الت�صوير عن غرفة التحكم .واحد
نكت�شفها... منهما يجل�س لينقل املعلومات �إىل حا�سوب بينما التقني
220 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
يقف ميكي خلف مكتبة ،ظهره نحو الكامريا ،وما زال (يتحرك بعيداً بال هدف بينما يتابع ميكي تعليقاته
يلب�س معطفه ،ينظر �إىل اخلارج نحو خط ال�سماء يف امل�ضطربة)
مانهاتن. ميكي (�صوت خارجي) لي�س فيما بعد ،ولكن الآن� ..أنا
ميكي :هل تدركني �أي خيط نحن معلقون به؟ خائف جداً ال �أ�ستطيع احلراك �أو الكالم �أو التنف�س.
جايل (خارج الإطار) ميكي ،لقد خرجت من ال�سنارة. وعندما ينتهي ميكي من خطابه ،يظهر دكتور بروك�س
واجب عليك �أن حتتفل؟ احلقيقي ي�سري نحو املكتب .امل�شهد ال�سابق كان عبارة عن
ميكي (ي�سري حول املكان متجه ًا �إىل مكتبة ،معرباً
جزء من تخيالت ميكي .كوابي�س وتهيئات لي�س �إالّ.
بالإ�شارات)
ي�سري دكتور بروك�س وهو يحمل �صور �أ�شعة ميكي ويتجه
هل تفهمني كم ان كل �شيء بال معنى؟ كل �شيء!
انا �أتكلم عن حـ حـ حـ . .ياتنا ،العر�ض . .العامل كله، ماراً بنف�س �صفوف الكتب نحو لوحة الإ�ضاءة.
انه بال معنى؟ دكتور بروك�س :ح�سناً� ،أنت جيد فعالً .لي�س هنالك هنا
جايل (تعرب بيديها) نعم ..ولكنك لن متوت الآن! �شيئ على الإطالق .وكافة فحو�صك ممتازة.
ميكي :كال� ،أنا لن �أموت الآن ،ولكن ،لكن (ي�شري بيديه) (ي�ضيء اللوحة وي�ضع ال�صور ال�شعاعية) يجب �أن
كما تعلمني ،عندما خرجت راك�ض ًا من امل�ست�شفى ،كنت �أعرتف لقد كنت م�شغول البال ب�سبب الأعرا�ض التي
�شديد البهجة لأنهم قالوا يل انني �سوف �أكون بحالة عانيتها (ي�ستدير لينظر �إىل ميكي خارج ال�شا�شة) ما
جيدة .وبينما كنت �أرك�ض يف ال�شارع ،فج�أة توقفت، الذي ت�سبب يف فقدان ال�سمع يف �أذن واحدة .اعتقد �أننا
لأن فكرة ما طر�أت على بايل ،ح�سناً ،كما تعلمني ،لن لن نعرف ال�سبب ب�شكل م�ؤكد .ولكن مهما كان ال�سبب
�أغادر اليوم .انا بحالة جيدة .لن �أغادر غداً. ف�إنه حتم ًا لي�س �شيئ ًا ج ّدي ًا �إطالقاً.
(م�شرياً) (يهز ر�أ�سه)
ولكن البد و�أن �أكون يف هذا الو�ضع. انا مرتاح متاماً.
تنه�ض جايل من على كر�سيها .ت�سري متجاوزة ميكي قطع �إىل:
نحو خزانة قريبة تفتح �أحد الأودراج باحثة عن �شيء خارجي – م�ست�شفى جيل �سيناء – نهاراً
ما .تتبعها الكامريا تاركة ميكي لفرتة ق�صرية. يظهر ميكي مرة ثانية وهو يرتك املبنى ،ولكن هذه
لتوك؟
جايل� :أنت ادركت هذا الآن ّ املرة يقفز على ال�سالم من فرط ال�سعادة.
ميكي (خارج الإطار) ح�سناً ،انا مل �أدركه الآن ،انا يرك�ض مرتاق�ص ًا على ال�شارع ،ي�صفق بيديه� ،سعيداً
اعرفه كل الوقت ،ولكن .ا�ستطعت ان ال�صقه يف خلفية بهدوء باله – �رضبات عالية �رسيعة ومو�سيقى جاز يف
عقلى ..بينما يتابع ميكي الكالم خارج الإطار ،تغلق اخللفية.
متر �سيارات عديدة بينما يرك�ض ميكي ب�سعادة .فج�أة
يتوقف ،يده على فمه ،يفكر.
قطع �إىل :
داخلي .مكتب ميكي – نهاراً
جتل�س جايل على كر�سي �أمام رف من الكتب� ،أريكة
وطاولة قهوة عليها دوريات .ومن�ضدة ملت�صقة
باحلائط عليها �ضوء جانبي مما يكمل اللوحة .يدا
جايل معقودتني على حجرها.
جايل :ماذا تعني ب�أنك �سترتك؟
ملاذا؟ الأخبار جيدة! انت ل�ست م�صاب ًا بالـ. .
ال�شيء.
221 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
تذهب �إىل بيت للموم�سات! كال؟ جايل الأدراك وت�سري �إىل خزانة ملفات خلف مكتب
ميكي (يهز ر�أ�سه ويده على �صدره) ال ا�ستطيع البقاء يف ميكي.
هذا العر�ض .يجب ان اح�صل على �إجابات .و�إال (يتوقف ميكي ..-:لأن هذا �شيء مريع ان ..تفكري به!
وي�سند ر�أ�سه) انا اقول لك� ،سوف �أقوم ب�شيء �سيء. تفتح جايل خزانة امللفات وتتناول منها علبة لبان.
قطع �إىل: تغلقها بعنف وهي م�شتتة الأفكار فتقفل.
املدخل �إىل فندق �سان ريجيه ،انيق وم�ضاء ا�ضاءة جايل (تتمتم) نعم .ماذا؟
دافئة .ليالً .مير امل�شاة .مو�سيقى البيانو الوتري ميكي (ي�ستدير نحو جايل) هل ا�ستطيع ان اخربك �شيئاً؟
الباروك تعزف كخلفية للم�شهد ترتفع الكامريا �إىل �أعلى هل ا�ستطيع �أن �أخربك �رساً؟
نحو واجهة املبنى مارة بالأعالم املرحبة والنوافذ جايل (ت�أط أ� ر�أ�سها متململ بينما ت�سري حول املكتب)
املزخرفة لب�ضعة طوابق وبينما يتابع البيان الوتري نعم .من ف�ضلك.
العزف ،يتحرك الفيلم �إىل الداخل� ،إىل �أحد غرف الفندق. ميكي (م�شرياً) منذ ا�سبوع ا�شرتيت بندقية.
يفتح �إليوت الباب �إىل يل وظهره �إىل الكامريا .يغلق جايل (جتل�س على ذراع الكر�سي بالقرب من ميكي)
�إليوت خلفها وهي تدخل .يقفان متقاربني جداً .يحيط كال.
بهما كالإطار الباب والعف�ش القليل وغطاء احلائط من ميكي (مقاطعاً ،مط�أطئا ر�أ�سه وم�شرياً بيديه) ذهبت
الورق املقلم. �إىل �أحد املخازن .ا�شرتيت بندقية .كنت اريد �أن . .كما
�إليوت (ينظر برتكيز �إىل يل ،ويداه يف جيوبه) ظننت تعلمني�،إذا ما قالوا يل انه لديك ورم .كنت على و�شك
انك لن ت�أتني. �أن اقتل نف�سي . .ال�شيء الوحيد الذي كان ميكن ان يقف
يل :كدت �أن ال �آتي. يدمروا .كنت م�ضطراً يف وجهي ،هو اهلي ،الذين قد ّ
اليوت (وا�ضع ًا يديه على �أكتافها يريد تقبيلها) يل.. لأن اطلق النار عليهم �أي�ض ًا قبل ذلك .واي�ض ًا لدي عمة
�أوه.. وعم كان علي ان ..كما تعرفني ،كان �سيف�ضي الأمر �إىل
يل :مل امن طوال الليل. حمام دم جايل( .ترفع �أكتافها ،وتفتح عامود لبان)
اليوت (يرفع يده بعيداً ،م�شرياً �إىل الغرفة) كال ،كال – ت�شى ،ح�سن ًا كما تعلم يف النهاية ،انها �ستحدث لنا
كال – كال ،انا مت�أكد. جميعاً.
ي�سريان باجتاه الكامريا مبتعدين �إىل داخل الغرفة. يخرب هذا كل �شيء لك؟ ميكي :نعم ،ولكن اال ّ
ي�ضع اليوت ذراعه حول يل. هذا يفعل كل �شيء..
يل :ماذا نحن نفعل ،نلتقي بغرفة فندق؟ هذا �شيء تتنهد جايل .تدخل قطعة لبان يف فمها بينما يتابع
مريع ،الي�س كذلك؟ ميكي الكالم.
تتوقف املو�سيقى .تتبع الكامريا يل وهي ت�سري باجتاه ميكي (متابعاً) ..تعرفينها� ،إنها تقتلع امل�رسة من كل
النوافذ املغطاة بال�ستائر ،عابرة من امام مدف�أة ومر�آة، �شيء (معرباً بيديه وم�شرياً).
بع�ض ال�صور العادية ومن�ضدة رقيقة حتمل �ضوء� ،ساق اعني ،انك �ستموتني وانا �س�أموت ،اجلمهور �سوف ميوت
ال�رسير. ال�شبكة �سوف متوت . .الراعي .كل �شيء!
اليوت (خارج الإطار) انا – �أنا ال ا�ستطيع التفكري �أين جايل (مت�ضع) �أعرف ،اعرف وكذلك جرذك.
�أدعوك دون �أن �أتعر�ض للمخاطر. ميكي (يط�أط�أ ر�أ�سه م�ؤكداً) نعم !
يل :لقد وعدت نف�سي �أن ال �أترك هذا يحدث حتى ت�صبح جايل (مت�ضغ وت�شري �إىل ميكي) ا�سمع ،يا بني ،اعتقد
مقيم ًا مبفردك .مت ّزقت �إىل حد كبري عندما ات�صلت. �أنك فقدت عقلك.
تفتح جزءاً من ال�ستائر ،وتنظر خارج النافذة ،وت�ستدير يتنهد ميكي.
عندما يتكلم اليوت. عال) رمبا حتتاج �إىل جايل (تتابع امل�ضغ ب�صوت ٍ
اليوت (خارج الإطار) �أردت �أن ات�صل بك كل يوم منذ ب�ضعة �أ�سابيع يف برمودا ،او �شيء من هذا القبيل� .أو �أن
222 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
الر�أ�س .ال�شوارع مظلمة ،متر �سيارة بقربها ومير �أحد اللحظة التي اخربتك بها عن �شعوري.
امل�شاة يحمل مظلة ،متر يل �أمام مطعم ح�سن الإ�ضاءة ي�سري نحو يل امام النوافذ املغطاة بال�ستائر.
من الداخل حيث توجد ملبات معلقة .تتابع مو�سيقى اليوت :قاومت مراراً (يتوقف) ال تفكري انني �سيء.
الباروك وهي تدخل �إىل ال�رشفة وقد تبلل ر�أ�سها .تغلق ي�أخذ يل بني ذراعيه.
الباب وهي مت�سك ب�شعرها املبلل. اليوت :هذا لي�س موقف ًا �سهالً.
فردريك (خارج الإطار) انت مت�أخرة. يل( ب�صوت خافت) اعرف انه لي�س كذلك.
ت�سري يل عرب غرفة املعي�شة وهي تفك حزام معطفها، يقبالن بع�ضهما ،يظهر �شكالهما ب�صورة ظلية يف
متجهة �إىل احلمام .متر من امام فردريك الذي يجل�س اللمعان الدافئ للغرفة .يخلع �إليوت املعطف عن يل
�إىل مائدة يف منطقة املطبخ ،ي�رشب فنجان ًا من القهوة دون �أن يحطم القبلة .يتعانقان .يقبالن بع�ضهما بخفة،
ويقر�أ ال�صحيفة امامه طبق به ن�صف �شطرية مل ت�ؤكل ثم بقوة واكرث هيام ًا وعناقهما اكرث الت�صاقاً .وبعد
بعد .تتوقف املو�سيقى. �ساعات من نف�س الليلة تبد�أ مو�سيقى البيان الوتري
يل (تفتح باب احلمام) تكلمت انا ولو�سي كثرياً ومل يف العزف مرة ثانية بينما تتحرك الكامريا فوق غطاء
ادرك كم ا�صبح الوقت مت�أخراً. ال�رسير لتظهر يل ،م�ستلقية ب�سعادة حتت املالءات.
فردريك (بالكاد ينظر �إىل �أعلى من �صحيفته) لقد فاتك �شعرها مفرو�ش ًا كاملروحة على املخدة وذراع بالقرب
برنامج بليد عن او�شويتز .واجزاء رهيبة من افالم. .. من ر�أ�سها.
ومفكرين يعرتفون مبدى �إرتباكهم حول القتل اجلماعي يل :كان هذا رائعاً .لقد دمرتني فلم اعد ا�صلح لأحد
املنظم للماليني. �آخر.
وبينما هو يتكلم نرى يل وقد ا�شعلت نور احلمام. اليوت (خارج الإطار) ال اريد ان ي�أخذك �أي واحد �آخر
تخلع معطفها وتعلقه على �شماعة ثم تبد�أ بتجفيف اطالقاً.
�شعرها بالفوطة. يل (متنهدة) كنت م�ضطربة ان ال �أقارن بحنة.
فردريك (يدير ر�أ�سه قلي ًال باجتاه يل م�شرياً بيديه) اليوت (خارج الإطار ،ي�ضحك) اوه ،يا الهي.
ال�سبب وراء عدم ا�ستطاعتهم الإجابة على �س�ؤال «كيف يدخل �إىل الإطار ،ويجل�س على حافة ال�رسير بالقرب
ميكن ان يحدث هذا؟» هو لأنه ال�س�ؤال اخلط�أ. من يل .يحمل �سيجارة.
فلو �أخذنا ما هم النا�س عليه كفر�ضية لوجدنا (بلع اليوت :انت حق ًا لديك مثل هذه الأفكار الي�س كذلك؟
ريقه) «ملاذا ال يحدث هذا اكرث؟» طبع ًا انه يحدث يل (ت�ضحك ومت�سك ذراع اليوت) اوه ،كل الوقت .ي�ضحك
با�شكال �أقوى من ذلك. اليوت ومي�سكان يديهما.
ي�أخذ فريدريك ق�ضمه من �شطريته ور�شفة �أخرى من يل� :أعرف انها �إن�سانة عاطفية حقاً.
اليوت (ينظر �إىل يديهما امل�شتبكتان) نعم ،انها ،انها
دافئة جداً ،ولكن ،ولكن انه انه انا الذي يريد ان يعطيك
انا – انا – انا اريد ان افعل ا�شياء من �أجلك . .حنة ال
حتتاجني بنف�س القوة( .يقهقه بينما ت�ضحك يل) انا
افرت�ض هذا ولي�س لأنك بحاجة �إىل.
يل (تهز ر�أ�سها) اريدك �أن تهتم بي ..و�أحب اللحظة التي
تفعل بها �شيئ ًا يل.
ينحني اليوت نحو يل ،يبد�أن يف تبادل القبل ب�شغف.
قطع �إىل:
خارجي� .شارع خارج �رشفة فريدريك .لي ًال
ت�سري يل على املمر اجلانبي حتت املطر� ،إنها عارية
223 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
فردريك (يجل�س �إىل جانب ال�رسير) عندما ترتكني قهوته بينما ت�سري يل خارج احلمام ،ناف�ضة املن�شفة
الع�ش فعليك ان تكوين م�ستعدة ملواجهة العامل احلقيقي. �إىل ا�سفل على الن�ضد .يل (حترك ا�صابعها عرب �شعرها
ي�شد يل �إىل �أ�سفل بجانبه على ال�رسير. املبلل) انا م�صابة ب�أمل يف الر�أ�س ب�سبب هذا الطق�س.
يل (ت�ضع يدها على �ساق فردريك) فردريك ،علينا ان ت�أخذ �إبريق ًا ومتلأه باملاء.
جنري بع�ض التغريات. فردريك (يخرج �صوت ًا من �أنفه وير�شف قهوته) لقد
تتنهد مرت ع�صور منذ ان جل�ست �أمام التلفزيون . .اب ّدل واغري ّ
فردريك (ينظر ب�رسعة نحو يل ،مذعوراً) مثل ماذا؟ يف الأقنية لأجد �شيئ ًا ما.
يل :اوه ،تعرف ماذا .انا خمتنقة! بينما يتابع فردريك حديثه ،تبدو يل م�شغولة يف
فردريك (يبتعد ويداه م�شبوكتان �أمامه) اخللفية ،ت�شعل عود الثقاب وت�ضئ �أحد �شعالت املوقد
اوه ! هل �سنعيد هذه املحادثة مرة �أخرى؟ من �أجل الأبريق ،تتناول ك�أ�س ًا من اخلزانة وت�سري نحو
يل :نعم� ،سوف نعيد هذه املحادثة مرة ثانية .انا� . .أنا احلمام لتناول بع�ض احلبوب ،متلأ الك�أ�س باملاء من
يجب ان �أترك .انا يجب �أن �أترك املكان. املطبخ وتتناول حبوبها.
فردريك (يهز يديه املت�شابكتني بعنف) ملاذا؟ فردريك :تتابعني كل ما يف الثقافة ..النازيون ،مزيل
يل (تتنهد) لأنني يجب �أن �أفعل! العرق ،البائع املتجول ،امل�صارعون . .مباريات اجلمال،
فردريك (بعاطفية) ماذا �ستفعلني جلني املال؟ برامج احلوار.
يل :ال �أدري .فكرت رمبا �س�أ�سكن مع �أهلي لفرتة من هل تتخيلني م�ستوى العقل الذي ي�شاهد امل�صارعة؟
الزمن. (يعب باحلركة)
رّ
فردريك :ت�ش ،اوه .دائم ًا كنت اقول لك انك �سترتكينني همم؟ ولكن الأ�سو�أ هم الأ�صوليون من املب�رشين..
(ينظر �إىل يل) ولكن . .هل من ال�رضوري ان يكون الآن؟ رجال خ ّداعون من الدرجة الثالثة .يخاطبون م�صا�صي
يل( :حت�ضن ذراعها بيدها الأخرى) ح�سناً ،رمبا يكون الفقراء الذين ي�شاهدونهم بانهم ناطقون با�سم امل�سيح..
هذا ترتيب ًا م�ؤقتاً ،ولكن انا علـ� ..أنا علي �أن �أحاول و�أن ير�سلوا لهم الأموال.
فردريك (ي�أخذ ر�أ�س يل بني يديه وينظر �إليها) اوه ..يل، (يلتقط �شطريته) املال ،املال ،املال ! لو عاد امل�سيح
انت كل عاملي (يتوقف) يا الهي الرحيم! هل قبلك �أحد ور�أى ما الذي يجري با�سمه فلن يتوقف عن التقي�ؤ.
الليلة؟! يقطع لقمة من �شطريته وير�شف قهوة .ت�ضع يل ك�أ�سها
يل (تنفعل ،تدفع يدا فردريك من على وجهها) كال. على ن�ضد املطبخ وت�سري باجتاه منطقة غرفة النوم.
فردريك (منفعالً) اوه ،نعم لقد فعلت ! يل (ناقدة �صربه ويداها يف �شعرها) اوه ،يا الهي
يل (تنه�ض ب�رسعة ،مدافعة عن نف�سها) كال. فريدريك هل ب�إمكانك التخفيف من هذا؟ ! �أنا ل�ست
فردريك (يرفع �صوته) كنت مع �أحدهم! بحالة نف�سية لأ�ستمع �إىل ن�رشة عن املجتمع املعا�رص
يل (مقاطعة ،راك�ضة بعيداً عن ال�رسير) توقف عن مرة ثانية.
توجيه الإتهامات يل! تبد�أ يف خلع ثيابها املبتلة بالقرب من ال�رسير.
ترك�ض يل نحو املطبخ ويداها مطبقتان على �صدرها. يخلع فردريك نظارته .ي�ستدير وينظر �إىل يل فتفاجئ
فردريك (خارج الإطار) انا ذكي جداً يا يل لن ت�ستطيع فريدريك (يقف من على املائدة) هل تعلمني ،لقد كنت
خداعي .لقد �أ�صبحت حمراء اللون! ع�صبية جداً يف الفرتة الأخرية.
و�ضعت يل املمتلئة عاطفة يديها املمدودتني على باب يل (تتنهد) مل �أعد ا�ستحمل هذا بتاتاً.
الثالثجة ،ثم ا�ستدارت حولها وا�ستندت �إليها ،معانقة فريدريك (ي�سري نحو ال�رسير) انا فقط احاول متابعة
نف�سها وقمي�صها ما زال غري مزرر ،و�شعرها ما زال تعليم كنت قد بد�أت ممار�سته عليك منذ خم�س �سنوات.
مبل ًال ومو�سخ ًا بالوحل. يل (تفك ازرار قمي�صها) انا ل�ست تلميذتك( .متنهدة،
يل :اتركني لوحدي! ويداها على جنباها) كنت ،ولكنني مل �أعد.
224 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�ســينما� ..ســينما� ..ســينما
s
s
s
ي�ضع يده على جبينه ،ثم ي�ستدير نحو يل خارج الإطار. يدخل فردريك املطبخ ويتكئ على الن�ضد.
علي �أن اتزوجك منذ �سنوات فريدريك :يا الهي! كان ّ فردريك (غا�ضباً) �أوه ،يا الهي! ما بالك؟!
علي �أن �أوافق.
عندما كنت تريدين ذلك! كان ّ يل (متك�أة على الثالجة ،تتنهد) انا �آ�سفة.
ي�سري باجتاه يل يف منطقة �أخرى من املطبخ. فردريك� :أوه ،اال ت�ستطيعني قول �شيء؟
يل (تتنهد) اوه ،يا الهي ،امل تكن تعرف ان هذا مل يكن هل كان عليك ان تت�سللي خلف ظهري!
لينجح؟ يل (مقاطعة ،و�صوتها مرتفع عاطفياً) انا اقولها الآن!
ي�ستدير فريدريك بعيداً عن يل .يبد�أ يف اخلطو بالقرب فردريك� :إذا قابلت �شخ�ص ًا �آخر؟
من الن�ضد. يل (تتنهد ،مط�أطئة ر�أ�سها) نعم.
فريدريك :قلت لك ،يوما ما �سترتكينني.. ينفعل فريدريك ويتملق .ي�ضع يده على جبهته :يتنهد.
(يتكئ على الن�ضد) من �أجل رجل �أ�صغر �سناً .انا.. يل (ت�سري نحو احلمام) :ولكن انت ،يا الهي كنت تدرك
يبد�أ ب�رضب قب�ضته على الن�ضد يائ�س ًا ومكبوتاً .ثم ان هذا كان �سيحدث �رسيع ًا ام بعد حني .انا ال ا�ستطيع
يغطي عينيه بيديه حزيناً. العي�ش هكذا!
قطع �إىل: فردريك (ي�ستدير ليواجه يل يف احلمام وذراعاه
داخلي .غرفة نوم حنة – لي ًال م�شبوكتان) من هو؟
جتل�س حنة يف ال�رسير وهي تلب�س قمي�ص ًا مربع النق�ش، يل (ت�ضع حاجياتها بع�صبية يف حمفظتها وحت ّدق يف
وكتاب مو�ضوع على ركبتيها .وخزانة بها حتف �صغرية فريدريك)
ترتفع خلف من�ضدة النوم ،التي حتمل �ضوءاً �صغرياً، ما الفرق ؟! �أنه واحد التقيته!
اي�ض ًا دافئ الإ�شعاع وبع�ض ال�صور الفوتوغرافية .تقلب فردريك :ولكن من هو؟ �أين التقيته؟
ال�صفحة بينما يدخل اليوت يلب�س بيجاما ورداء حمام علي �أن �أغادر!يل :هذا ال ي�شكل فرقاً؟ ّ
حريري .تتابع قراءة كتابها بينما يجل�س هو على حافة فردريك :انت ،انت �صلة و�صلي الوحيدة �إىل العامل!
ال�رسير ي�أخذه التفكري� .صوته م�سموع فوق ال�شا�شة. ي�ستدير يل وتواجه فردريك يف ممر احلمام.
اليوت (�صوت خارجي) – يا لها من عاطفة حارة مع (تعب بحركة يديها بعاطفية) اوه ،يا الهي ،هذه يل رّ
يل� .إنها بركان .لقد كانت جتربة ممتلئة غنية ..متام ًا علي .هذا لي�س عدالً� .أريد حياة اقل م�س�ؤولية كبرية ّ
كما حلمت ب�أنها �ستكون (يط�أطئ ر�أ�سه قلي ًال وهو يخلع تعقيداً ،يا فردريك .اريد زوج ًا ورمبا طف ًال قبل ان يفوت
خفة) هذا ما كانت عليه .كانت كمن عا�ش حلماً . .حلم ًا الوقت.
عظيماً( .يخلع رداء احلمام). فردريك (كردة فعل يغطي وجهة بيديه) يا الهي ..يا
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) الهي!
يل (حترك بيديها وتتحرك مقرتبة من فردريك) اوه ،يا
الهي ،انا حتى ال �أعرف ماذا �أريد.
فريدريك (يتنهد من اعماقه ،متجاوباً) �أوه..
يل (حتك كتف فردريك بحنو) ت�ش� ،أوه ،ما الذي حت�صل
عليه مني ،على اي حال؟ �أعنى..
(تلقي ر�أ�سها على كتفه .تنهد بعمق) مل يعد جن�س ًا بعد
تتميز
الآن .وهو حتم ًا لي�س ق�ضية فكرية� .أعني� ،أنت ّ
عني بكل الطرق حتى. .
يدفع فردريك يل بعيد�أً بغ�ضب .ي�رضب قب�ضته يف �أحد
اخلزن .تتنهد يل ،تتحرك بعيداً.
فردريك :من ف�ضلك ،ال تعامليني ك�سيد!
225 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�شعـر
226
()j
يعود لي�صرخ يف الغيابة
�إدريـــ�س عيـــ�سى
� شاعر من املغرب
227
�شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
s
فوقنا� .أكانت ُم ّرانة �أم �أُلمْ َ ة �أم روبانية؟ فلذ ُْت من كي ينزل ،ثم تقب�ضها« .مفتاح عاج للطائر .امر�أة
«كامبري» كانت معي فلذة و�أعطيت املر�أة ُجبنة مَ ْ حاملة� .إغواء غرميني .مباهاة الكائن بال�ضوء الذي
�إياها� .شكرت ممتنة ببحتها التائهة وو�ضعتها اختزنه .الأر�ض �أ�ضيق من الأطياف ،والظهرية يل.
بيني وبينها حيث بقي ل�سان من الفراغ .بع�ض الظهرية مائدتي ،والروح �ضيفي» .ـ فكرت.
الطيور حتم�ست وحطت على قبعتها املطوية _ «Ooh! L’voyou! Oooh! L’malin! T’va c’q’ fait? Reyarde
احلافة ،ال َود َِكة ،و�صار لها تاج من الطيور والري�ش. » ! - le. Reyarde jj
ُدهِ �شْ ُت من امللكة التي ال يراها �أحد على الركح، ت�أكل لغتها .ل�سانها كان ف�أرة النجار تق�رش بها
هنا .مملكتها �ش�ساعة قلبها وفقر يديها ،و�سريها مع �سطح العبارات فتتطاير من فمها نُ�شَ ارة لغوية.
ظلها يف اجلهات الأخرى؛ حيث يكرب الظل ،ويقدر �أن�صت و�أبت�سم� .آخذ املر�أة ملفوفة يف لغتها املنتهكة.
ال�سائر �أن يكلم نف�سه جهرا �إن �شاء ،وال يخاف �أن ِا�س َت ْد َن ْتني بقولها فتدانيت .وكانت تغويني بالطائر
يتكلم. الذي هو طائرها ،وباملرح يف �صوتها ،وبالبحة
جل ْت يدا يف جراب بني قدميها ،وح َفنَت انحنت� .أو َ الطفيفة التائهة التي هي �أثر من الكحول والتبغ
منه ُب ّرا ق�سمته بني الكفني .ومن فوقنا ر�أيت �سحابة وال�سري ـ يف كمال الوحدة ،وحدها ـ يف اجلهات
الطيور تهب على املر�أة .احلمام والدوري ماجا فوق املنك�شفة .دنوت �أكرث وحاذيتها حتى �شممت رائحة
�شخ�صها �إذ ب�سطت كفيها كلتيهما فوق ركبتيها الوح�شة يف لبا�سها م�ضفورة يف حبل من رائحة مع
و�أغم�ضت عينيها ك�أمنا ُت�ش ِّيع بهما وتبارك �رشاعا بقايا ثمل بنبيذ �أحمر .نقرتان مت�سارعتان .ثالثة
مير بعيدا يف مدى ،ثم ازدحمت الطيور تتنازع هِ بة ذكية غائرة .والطائر ينب�ض فوق الر�سغ حمتفزا
يديها .وكنت �أغبطها على الفعل ،وعلى ذهابها ونار يف ج�سمه املقذوف من نار .وكنت �أنظر �إىل
بعينيها �إىل عزلة يولد فيها ال�ضوء ،و�أ�ضحك من عينيه ،و�إىل عيني املر�أة وفمها الأهتم.
�سحابتها ؛ �صني ِعها الذي تدبره وحدها بقلب �صاف، خفي�ض ُخ َّل ٌب
ٌ ثم َت َن َّزل احلمام .عند �أقدامنا هدر �أفق
الط ْعم. وفم �أهتم ،وكف مقبو�ضة على ُّ من اجلوع واملباهاة والري�ش .ذكور احلمام مل تكن
�أنا قاتل الطيور يف الغابة املنك�سفة� ،سحابة املر�أة تكرتث للمكيدة يف كف املر�أة .كانت زواب َع �صغري َة
�صارت �سحابتي منذئذ .متنيت لو�أن يل احلجر تتهي�أ يف الري�ش� .رصت يف زاوية من مثلث الإغواء
اخلفي الذي متلكه ،وتقدر مبغناطي�سه �أن جتذب الذي كان أ� َلق ًا ُم ْعديا يرتدد جارفا بني عيني املر�أة
الطيور .فكرت حينما ا�ست�أذنت وان�رصفت« :كم �أنا عيني.
وعيني الدوري ،و�أ�صاب ّ
فقري ،يا اهلل ! �أي طريق �أ�سلكه ف�أ�صري الطريق؟». ركْ ٌح م ِر ٌح عليه ثالثة �أطياف يف ظهرية .والظهرية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يل .كنت �أبع َد من رحابة امليدان.
jمن جمموعة �« :أرى ،كل ما هناك يراين». حينما خل�س الطائر الغنيمة من نقرة الكف املقعرة
j jعبارة فرن�سية م�صحفة وم�شوهة تعني� :أوه ! يا للداعر ! �أوه ! يا للئيم !
�أترى ما يفعله؟ انظر �إليه .انظر ! التي انفتحت له ،فز �إىل �أعلى ع�سلوج من ال�شجرة
ري
وطن ود�سات َ �صارت حدودا بال ٍ بحلم
وجناين يبوح ٍ َ
ليت دمائي ت�صري ح�ساما يراودين من زمان ال�صحارى
بروق
ٌ وليت جناحي املهي�ض امل�صاب يوم
عباءة جلدي �ستخذلني ذات ٍ
وليت �رصاخي احلزين رعو ُد و�أ�صبح وحدي طريح الندى
م�شيت اىل حلمي فوجدت ُ �أيا امر�أ ًة كم من �شمو�س العراء �أ�شي ُد
اخلناجر عند حدود الرمو�ش مغاين للفقراء ومن يولدون
�أو ال�شوك يف م�شتل الغيم منزرعا خما�ضِ بال طلقةٍ �أو
ال�سماء وتخ�شى الورو ُد ُ فتخاف لقائي ومن يقهرون ل ُ
أنهم
�رصاخ ي�سامرينٍ ففي ج�سدي جدولٌ من قد �أحبوا بال َد ُ
هم
ال�رسمدي تكاثر من ي�شمتون ّ وعلى جرحي خل�س ًة �أو بعيدا من ال�سلطات
ك� ّأن ذبابا يف ّت�ش عن مو�سم قبل �أن يدهم الربد خيام
ٍ على كتفي كم�ش ٌة من
خيمته مم ّزقة و�رصاخي �شتيت ال�صدى
تلعق الريح �أ�رشعتي قبل �أن ت�شتهي املخر �أو كعويل الرياح
متعب
ٌ مركب
ٌ �أن يغادر فر�ضته على ق�سوة ال�صخر
ر�سو قدمي من ّ كئ
م ّت ٌ
فم ّل البقاء كف ّزاعة احلقل ال أ�سي امل�ستباح ر� َ
خوف منها وال له�شا�شتها ل�سيدة الق� ِرص
قيم ٌة ووجو ُد ال قوت يف جعبتي ال �سالح
�أيا امر�أ ًة كيف ف ّتت قلبي و�شظيت الروح وال لنخيلي مدى وجري ُد
م�صاب
ٍ ر�ضيع
ٍ �صارت مرايا مبعرثة �أو �شفاه �أنا نهدة ال�صبح غنوة ط ٍري
بحرقة جوع ك� ّأن �إناء احلليب ا�ستحال �شعب
حكايا بطوالت ٍ
�صيف
ٍ بعيدا كغيمة رواها اجلدو ُد
تفر من البحر حني �أتاه الفِطام ّ حاكم ال يعي غري قتلي ٌ فكيف يجردين
وجف الوري ُد ّ من االنتماء ويجعلني عاريا
�شياطني �ساومت �آلهتها عند يف بالدي ويجعلني �ساغبا
تخوم �صالتي احلزين ْه يف بالد احلقول وعند جماري دموعي
ق�صور
ٌ خرائب روحي َ ك�أن يقام احتفالٌ وعي ُد
�شوارع مهجورة َ مه�شم ٌة �أو بقاياّ ري و�ساما دمي يف الق�صور ي�ص ُ
�أو مدين ْه.. لكر�سيه لعرو�ش اجلماجم ّ
غديري يغادر ينبوعه مرغما ري
قدح يف مواخ َ
للنفط ين�ساب نخبا يف ٍ
فهنالك رف من اليا�سمني ..و�صف من الأقحوان أكتب ..دون �أن �أذكرك -هكذا � ..س� ُ
وهنالك ..يف خ�صالت �شعرك املرتامية الألوان .. عن الآ�س ..لأن دموعك مل تعد ملونة
نرج�س عالق بني عطره و�ألوانه تذرف انت�سابها للأنامل ُ عن الوردة ..وهي
وقد �أغمي على الن�سائم يعاتب الأفالك ..واملجرات .. ُ عن الليل ..حني
حتى التعبث به والنجوم ..وامل�شاهري
هنالك � -أي�ضا – يف �سياق �أحلى – دموع فوق وتراق�ص
ُ تراقب ا�ستف�سارها ..
ُ عن الأ�سئلة ..وهي
قمر �شفتيك عالمات الإ�ستفهام
و�أنت مطرزة يف روحي مثل وردة عن ده�شة قمر بات بعيدا عن متناول البهجة
تنفرط النجوم فوقها وتر�سم
ُ هناك ..حيث تطرز النجوم معامل القمر ..
عرب مدى معطر ب�أمنية الغيوم �أوقاتا ملونة
يقرتح �شذا �آخر
ُ و�رشيط الندى الهيمان على لوحة ع�شب ممطر
لدروب وحدائق �شتى حدائق يبتكرها ع�شاق �أبديون بري�شة م�صنوعة من وعد مبلل .
ع�شاق عاهدوا املحبة على الو�صال jhj
وعاهدوا اخل�صام على الإندحار ري كالنجوم ..يف بهجة ق�صوى � -أنا الآن � ..أط ُ
وعاهدوا املواعيد الغرامية على م�ساء بهيج . رب ..كذلك ..م�ساء ك�سوال
�أعرب نهرا من العطر ..و�أع ُ
jhj يجر وراء ُه النجوم والأ�شجار والأحالم و�شعرك ُُ
-يف الليل .. حيث يتعرى الليلُ فيه
�ضيقتم على اخليالِ و�أو�صدمتمذ ّ ات ت�صهلُ باملطر. وغر ٌالظّ ُّن عليلٌّ ،
املدافن على القلق� ،ضاقت بكم �أ�سئلتي.
َ �صميم الكاهن،
ُ �صميم الليلِ ،
ُ
�أعو ُذ بكم من تيجانكم والأقنعة، واجلثث املط َّل ُة علىُ
وهذر اخلرافة.
َ ال�شمع،
ِ يا �أباطرة ال�س�ؤال ،جثثي.
م�رضج ٌة بالوحلِ ، اخليول يف الوادي، رث تخميناتي منكوب ًا بكم ،ان ُ
ّ
وما من جمزرةٍ تطوي انتظارها املديد. على �أ�رضحتكم يا �أويل
الريح، الوجع العميم. ِ
اخليول يف الوادي ،ح ّنطتها ّ
كاو يكوي حوافرها،
وما من ٍ
�ض مرو ُ �سالفكمَ ،خ َلفَي ،و�سائ�سكم ِّ
�أخيل َة �أنيني.
عدمياً� ،أه ُّد ال�سواتر على �سدنتها،
قرار �أكي ِد املنتهى. نا�شداً َ
عبدين حريتي �إليكم ،ويك�رسين ُت ّ
قلقي الذي يع ُبدين.
�أ�شجاري النامي ُة يف
�صدوركم ،ت�رس ُد
�سري َة غيبتي.
ها انا ذا� ،ألقي �رسوجي وجلامي
وا�شق خلوتي جاري ًا ُّ يف نا ِر املعبدِ،
كنه ٍر ي�صهلُ بالفناء.
أحن عليك ِم ب�شذ ِر احلكايةِ، � ُّ
�إذ يرويني الوادي �رصاخ ًا قادح ًا
يزكم الأفق بالعويل. مريراًُ ،
حمن ُة النه ِر �أنه ال ميكنه العود ُة
من �أعمال دليلة احلارثيةُ -عمان
بي و�آالمي. ملنبعهِ ،وحمنتي جهلكم ّ
239 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�شعـــر� ..شعـــر� ..شعـــر
s
s
s
�ضـجـــر
طالب املعمري
ت�سمعون �ضجر
اقر أ� اخلوف هل اليباب قدر
يف الفرات والأطل�س ملن القفار
اقر�أ خمالب ال�ضجر وال�سماوات
يف الب�رش مت�سرْ ح احلياة
�أحمل الوقت
كل العبارات التي يقذفها
جمرة يف يدي
مالك املوت -هنا -
وكلمات ال�صحراء
م�شجب حياة
تع ّفر دربي
افر�شوا الطريق هل ،يتنكر
بالعواء الرتاب جللدي
هل لكم� ،أن تروا �أنا منه وهو مني
املكان هل «الليلة الظلماء»
ككنز �أو قمامة لن تنجلي
ولكي ن�ألف بنور م�صباح
�ضجرنا وجنم �سهيل
كعلة ومعلول جنم متلألئ بحريته
«�سن�ست�أن�س ب�صوت الذئب ميزق ال�صمت
اذا عوى».. و�أنتم يف الكهف
243 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص
244
ر�سالة من �سجن
روزا لوك�سمربغ
الرتجمة عن الأملانية :ن�شوان حم�سن دماج
قا�ص ومرتجم من اليمن
حني و�صلت تلك احليوانات كانت قد �أو�سعت عاي�شت �آالم ًا رهيب ًة هنا!
ُ �آه زونت�شكا! َلك َْم
�رضب ًا وب�شكل همجي .وها هي ذي قد ح�صلت عاد ًة ما كانت تتقاطر على احلديقة ،التي ي�سمح
على ع�شب بائ�س وزهيد. عربات يل بالتجول فيها كل يوم ملدة �ساعة،
ُ
كب ًة على
كانت ت�ستغل بال هوادة وال رحمة ،م ْن ّ اجلند حممل ًة باملِخال �أو ببزات اجلند املهرتئة
وجهها ،حاملة �أثقالها ،وذاهبة معها حثيث ًا نحو وقم�صانهم ،التي كثرياً ما يكون عليها بقع من
الهاوية. دم .تو�ضع هذه الأ�شياء هنا ،توزع �إىل الزنازن،
ِمت واحد ٌة من تلك العربات قبل عدة �أيام قد ْ ُتخاط ،ومن ثم حُتمل ثانية ل ُت�سلّم للجند.
حمملة باملخال ومتجهة نحو الداخل .كانت ومنذ وقت قريب جاءت �إحدى تلك العربات
احلمولة متكد�سة ب�شكل كبري نحو الأعلى ،بحيث جترها جوامي�س ذات بنية �أقوى و�أ�ضخم من
مل تتمكن اجلوامي�س من اجتياز مدخل البوابة �أبقارنا .كانت تلك هي املرة الأوىل التي �أرى
�إال بالكاد ،فانهال عليها اجلندي املناوب ،وهو حيوانات كتلك .لقد كان �أ�صلها
ٍ فيها عن قرب
�شخ�ص مل�ؤه الدموية� ،رضب ًا بامل�ؤخرة الغليظة يعود �إىل رومانيا ،ولذا فهي هنا رمز االنت�صار
لبندقيته ،لدرجة �أن امل�رشفة نهرته بكالم حانق، يف احلرب.
فرد عليها مبت�سماً:
يقول اجلنود ،الذين كانوا يقودون العربة� ،إن
-الن�سبة لنا -بني الب�رش -لي�س ثمة بيننا من ا�صطياد هذا النوع من احليوانات الربية �أمر
يرحم. غاية يف ال�صعوبة .غري �أن ال�صعوبة الأكرب هي
وراح ي�رضب وي�رضب ب�شكل �أقوى ،فتململت تروي�ض تلك اجلوامي�س ،التي اعتادت احلرية،
احليوانات وا�ستطاعت �أخرياً �أن تلج البوابة. على حمل الأثقال.
245
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
الرحمة. غري �أن واحداً منها كان َيدمي� .آه زونت�شكا! كان
هنا :ال�رضبات املنهالة ،الدم ال�صاعد من �آهٍ و�س ْمكه بح�سب
جلد اجلامو�س ،بالرغم من َجلَده ُ
للتو ،جامو�سي امل�سكني� ،أخي احلبيب. املثل ،قد متزق.
منبعثةٍ ّ
هنا ،ها نحن ،االثنان معاً ،نقف متبل َد ْين ال وقفت تلك احليوانات يف مكان التفريغ ،يف جو
حول لنا! اثنان نعم؛ لكننا واحد يف العذاب ،يف مل�ؤه ال�صمت ،منهكة القوى .وراح ذلك احليوان
الغ�شيان ويف ال�شوق. املُدمى يتطلع �إىل نف�سه ،ويف عينيه تعبري ما؛
طفل باكٍ عوقب عقاب ًا �شديداً ،ال يدري ري ٍ تعب ُ
كان ال�سجناء خاللها يجيئون ويروحون بحيوية
ملاذا وال يف �سبيل �أي �شيء.
تامة من و�إىل العربةُ ،ينزلون الأكيا�س الثقيلة
ويحملونها �إىل مبنى ال�سجن .بينما ذلك اجلندي كنت واقفة �أمامه وهو يحنو علي بنظراته،
يتجول بخطى وا�سعة حول احلديقة ،خمفي ًا يديه فراحت الدموع تت�ساقط مني �أنا� ،إمنا مل تكن
ي�صف ُِر برتنيمته
يف جي َب ْي بنطاله ،ومبت�سم ًا ْ �سوى دموعه هو.
الهادئة: لي�س بو�سع �أحد �أن يت�أمل لأخيه الأقرب �إىل قلبه
-و�أتت على كل �شيء هذه احلرب ال�شعواء! �آالم ًا �أكرب من �آالمي ،و�أنا عاجزة عن فعل �أي
�شيء لهذا احليوان.
اكتبي يل �رسيع ًا
َلك َْم هي بعيد ٌة وم�ستحيل ُة املنال ومفقود ٌة �شجر ُة
روزا لوك�سمربغ
ال�صف�صاف احلرة املثمرة هناك ،يف رومانيا!
..
والرياح
ُ ال�شم�س هناك حني ت�رشق،
ُ كم هي �أخرى
زونيوتا حبيبتي: ألوان ري�ش الطيور
حني تهب! لكم هي �أخرى � ُ
كوين هادئة البال ومن�رشح ًة رغم كل �شيء! و�أنا�شي ُد الرعاة!
فبقدر ما تكون عليه احلياة ،بقدر ما يتوجب �أما هنا ،يف هذه املدينة الغريبة الراعبة ،هذه
على املرء �أن يتلقاها بب�سالة ورباطة ج�أ�ش، احلظرية الرطبة ،هذا الع�شب الذاوي املتعفن
و�ضاحك ًا رغم كل �شيء! الذي يثري التقزز والقرف ،ه�ؤالء الغرباء عدميي
�إطار �صورة
�شربل داغر
�شاعر واكادميي من لبنان
متكلمة : 3ماذا نفعل بالإطار الفارغ؟ (الف�سحة بي�ضاء ،م�ضاءة بكاملها ،يح ُّدها من اجلهة
�صوت (يف العتمة) :متكلمون بالت�ساوي ...هذه اخللفية جدار �أبي�ض بدوره ،ما خال بقعة يف و�سطه
�إ�شارة �أوىل. م�ستطيلة طولياً ،ما ي�شبه احليز الذي كانت ت�شغله
متكلم ( 2مرتداً �إىل اخللف) :من يكون؟ �صورة �أو لوحة ،معلقة منذ زمن بعيد.
متكلم : 1لعله يعمل يف امل�ستودع. متكلمون خمتلفون ،بني رجال ون�ساء ،من دون
متكلم : 2لعله عامل تنظيفات. متييز بينهم :ينهمكون – ما �أن ت�ضاء الف�سحة –
متكلمة : 3كلنا عمال تنظيفات... بالعودة من جديد �إىل �أمام الإطار ال�شاغر ،بعد �أن
متكلمة ( 1مقاطعة) ... :لإعداد منظر... قاموا – على ما ميكن ترجيحه – بنزع ال�صورة �أو
متكلمة ( 3مقاطعة) ... :لإعداد جملة. اللوحة من مكانها):
(متكلم 1ي�شد �ساعد املتكلم ،3ويتهام�سان فيما متكلم � : 1أووف! �أووف!
يخرجان من احللقة). متكلم : 2هذه لي�ست من الف�صحى!
(عتمة). متكلم : 3قلْ :تنف�سوا ال�صعداء� ،أخرياً!
�صوت (يف العتمة) � :إطار ال�صورة �شاغر. متكلمة ( 1متوجهة �إىل املتكلمة : )2قلْ .ال تقلْ...
�صوت �آخر (يف العتمة) :ال� ،إطار ال�صورة فاغر. يلتهون باملناكفة كالعادة� ،أال ترين؟
�صوت ثالث (يف العتمة) :ال� ،إطار ال�صورة �شاعر. متكلمة ( 2وهي تن�سحب) :على حالهم! على حالهم!
247 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
متكلمة : 1هذا يذكرين مبا كان يفعله البع�ض يف (ت�ضاء الف�سحة �إذ يدخل �إليها متكلمون ومتكلمات،
املتاحف... كما لو �أنهم يبحثون عن م�صدر الأ�صوات ...ثم
عم تتحدثني؟
متكلم َّ : 1 يخرجون خائبني).
متكلمة : 1يف املتاحف مقاعد جلدية مثل هذه، (عتمة).
يجل�س عليها الزوار امل�سنون طلب ًا لال�سرتاحة� ،أو (عتمة ما خال البقعة التي َتظهر فيها �شا�شة
غريهم للت�أمل املزيد يف لوحة. �إلكرتونية ،تتواىل فوق �صفحتها امل�ضيئة اجلمل
عرفت عما تتحدثني عنه ...قويل يل :ملاذا ُ متكلم : 1 التالية):
يختار خمرجون وروائيون عديدون هذه املتاحف، القطار بعد �ص ّفارته
َ �أيجوز �أن ت�ستقل الق�صيد ُة
وهذه املقاعد ،لكي يجمعوا بني �شخ�صيات تخطط الثالثة؟
لعملية قتل؟ �أيجوز �أن تمُ �سك اجلملة عن الطريان لكي تتمهل يف
متكلم � : 1أال يكون مثرياً اجلمع بني املوت والفن؟ م�شيها وراء طابور نحل ...لكي تعاين ما يقع بني
متكلمة � : 1أهذا ما يجمعنا؟ الغبار وحافته ،بني ال�صوت واملتكلم؟
(عتمة). �أيجوز �أن ت�ستعري احلروف عكازات وم�سامري
متكلمة ( 3واقفة �أمام البقعة ال�شاغرة ،مم�سكة وف�سحات لكي ت�ستقيم خطواتها �صوب ال�رشفة،
مبم�سحة تنظيف) :حل�سن احلظ مل ي�ؤنبني �أحد... �صوب اللقاء؟
مل ي�ؤنبني بعد! ما كنت �أنظفه كل يوم من الغبار �أيجوز �أن ت�ستعري الكلمات حركات و�أفعا ًال وتعبريات
ك�شف الو�سخ
َ طار من مكانه ،وما بقي على احلائط وجه لكي تزدهي يف حلتها قبل احتفاالت؟
الرا�سخ. �أيجوز �أن َتظهر كلماتي من دون هيئتي؟ و�صفحتي
(وهي تخف�ض ر�أ�سها) هذا ما مل �أكن �أح�سن االنتباه املرئية من دون �أ�صابعي؟
�إليه. �أيجوز تدبري املواعيد يف العلن ملن كان يرود يف
(وهي تن�سحب �إىل العتمة) يبدو �أن ما كانت جتلوه العتمة؟
ال�صورة مل يبدد ما كان يرتاكم حولها. �أيجوز� ،أيجوز� ،أيجوز ...فيما ت�ستوي اجلمل مثل
متكلم ( 1داخالً ،رافع ًا ع�صا التهديد) � :إطار ال�صورة من�صة كالم ،مثل تدافع �أرجل ور�ؤو�س بني ال�ضيق
مل يذهب معها :بقي يف اجلدار. واخليبة؟
متكلم ( 2داخالً ،رافع ًا معو ًال ورف�شاً) :لو نحطم بلى ،يجوز يل ما ال يجوز لغريي .ب�رضبة من
اجلدار ...لو نبني جداراً جديداً. �إ�صبعي� ،أنهي جوق ًا عن الإن�شاد� ،أو �أطلقه فوق
متكلم � : 1ألن نحتاج حينها �إىل �صورة �أخرى؟ منحدرات الوح�شة...
متكلمة ( 3تعود من جديد ،مم�سكة مبم�سحة تنظيف، (متكلمون ومتكلمات َيظهرون تباع ًا يف عتمة
وترفعها مثل علم ُت ِّلوح به ،ثم تقفل عائدة �إىل خفيفة ،فتختفي ال�شا�شة الإلكرتونية ،وين�سحبون
العتمة). خائبني).
(عتمة). (عتمة).
(�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة ،والتي تخلو (مقعد جلدي ي�صلح لثالثة جال�سني ،من دون
له وحده). م�ساند جانبية وال خلفية :متكلم ومتكلمة جال�سان
�صوت (يف العتمة) :له ال�صدى واملدى. وينظران �إىل البقعة اخلالية):
248 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
وكلما قتلوا �أو اعتقلوا �أحدهم �شطبوه بالقلم. �صوت (يف العتمة) :له الهواء والهباء.
متكلم : 2هل قتلت �أحدهم؟ علقت معطفاً...
علقت لوحةًُ ، �صوت (يف العتمة) ُ :
با�رشت به؛ �شطبت �أكرث من واحد ُ متكلم : 3هذا ما تركت لغريي ،وخلفي... ُ علقت� ،أي:
ُ
منهم ،ا�سم ًا ا�سماً ،كلمة بعد كلمة. تخليت عما كان يل... ُ علقت� ،أي
ُ
(عتمة) خ�رست بر�ضاي.
ُ علقت� ،أي: ُ
(متكلمان مي�شيان يف اجتاهني خمتلفني). (عتمة).
متكلم � : 2أتعرف؟ احلفيد ي�صنع اجلد. متكلم ( 1متحدث ًا �أمام البقعة مع �إحدى املتكلمات)
متكلم ( 1ي�ستمر يف امل�شي). � :أتالحظني �أن البقعة خالية ،بي�ضاء ،نظيفة ،فيما
متكلم � : 2أتعرف؟ املتفرج ي�صنع ال�صورة. يحيط بها الو�سخ؟
متكلم ( 1ي�ستمر يف امل�شي). متكلمة ( 1تقرتب ب�أنفها من البقعة ،وتبتعد) ... :
متكلم � : 2أتعرف؟ اخلطوة ت�صنع احلذاء. ف�ض ًال عن العفونة.
متكلم � : 1أتعرف؟ �إذ �أم�شي� ،أخط �سطراً� .إذ �أت�رسى متكلم : 1مثلنا متاماً� .أما كنا نحيط بها فيما �سبق؟
يف الهواء� ،أفتح غيمة ذات دفتني ،و�أقل ُِّب وردة من (مي�سك بذراعها ويخرجان �سوي ًا �صوب العتمة).
�صفحات مطوية... متكلم ( 1يتقدم من �أحدهم ،املط�أطىء الر�أ�س) :ما
�أتعرف؟ �إذ �أم�شي ،ال �أفكر �إال يف الطريان. لك؟
(عتمة). متكلم ( 2يرفع ر�أ�سه ،ف�إذا به يبكي).
متكلم ( 1يخاطب �أحدهم من دون �أن يكون ظاهراً) : متكلم : 1ما لك؟
حم َلَه
احلمال ،الذي َّ �أتعرف؟ �أنت جتعلني يف مو�ضع َّ متكلم � : 2أبكي.
�أحدهم الكثري ،من دون �أن ي�س�أله عن طاقته على متكلم : 1ملاذا؟
احلمالن ،وملا وقع �أر�ضاً� ،س�أله :ما جرى؟ ف�أجابه: متكلم : 2كنت �أبكي �سابق ًا يف �صمتي� ،أما الآن
حملني ...ال تكرتث للأمر ...من قال لك ال يهم الآنِّ ، ف�أبكي علناً.
ب�أنني �س�أنه�ض؟ متكلم � : 1أهو الفارق؟
متكلمة (تنزع حجابها من �أن جتل�س على كر�سيها، �شئت
متكلم : 2ميكنك �أن تقي�س على هذه احلالة� ،إن َ
وتخاطب �أحدهم من دون �أن يكون ظاهراً) :هذا كلُّ �أن تفهم� ....أنا يعنيني �أن �أبكي لي�س �إال.
علي!
جنحت فيه� :أن ت�ستقوي َّ َ ما (عتمة).
(عتمة). (متكلمان متقابالن على كر�سيني).
وعدت نف�سي بكثري من الآمال... ُ متكلم � : 1أتع ِر ُف؟ متكلم : 3ال يكفي نزع ال�صورة ...ال يكفي تبديل
(متوقفاً). ال َعلم ...ال يكفي ا�ستعمال الكالم نف�سه يف وجهات
متكلم : 2والآن؟ جديدة...
متكلم � : 1أمتنى النجاة بنف�سي. متكلم ( 2ينظر �إليه ب�شيء من الده�شة من دون �أن
متكلم : 2والآمال؟ ي�شارك يف احلوار).
متكلم : 1ترك ُتها لغريي. جمعت �صورهم واحداً واحداً يف غرفتي. ُ متكلم : 3
(عتمة). علقتهم على احلائط بدبابي�س ،كما يفعل حمققو
(�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة ،و التي ال�رشطة يف الأفالم ،يف مكاتبهم ،لتعقب املجرمني...
249 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
�ألن ت�ضجرا �إن �أخربتكم مبا ح�صل يل عند زيارة تخلو له وحده).
�إهرامات اجليزة؟ انتهيت �إىل فهم ما يجري!
ُ متكلم : 1و�أخرياً :لقد
(ي�أتي متكلم ومتكلمة بكر�سيني ،ويتابعان ما ا�ستيقظت من كابو�س ...وها �أنت َ متكلم : 2ال ،لقد
يجري .ينتظر املتكلم � 1إجابة من دون �أن ت�أتي. تتح�س�س ما �أ�صابك.
ُ
يتابع) : متكلم : 1وهذه الفرحة التي تغمرين؟
�أخربنا الدليل ،بعد الدخول �إىل جوف الهرم الكبري، متكلم : 2حبة زيتون فوق مائدة فارغة.
عن وجود تابوت الفرعون يف العايل... (عتمة).
(ي�أتي متكلم ومتكلمة بكر�سيني ،ويتابعان ما (الف�سحة معتمة متاماً ،يف البقعة اخلالية �صور
يجري). تلفزيونية متتابعة عن م�شاهد احتفاالت وتظاهرات
مل نرتدد يف التوجه �صوب التابوت ،ال �أنا وال َتظهر م�شاركات احل�شود فيها).
جمموعة من ال�سياح ،فيما اجته غرينا �صوب �صوت (يف العتمة) � :أهم �أنف�سهم؟ ...لعلهم �أنف�سهم.
الغرف ذات الر�سوم احلائطية .وجدتني �أرتقي فوق �صوت �آخر (يف العتمة) :لعلهم غريهم ،ولكن
مو�ضوع لهذه الغاية.
ٍ �سلم
درجات �سلم معدينٍّ ، بالطريقة نف�سها.
كانت الدع�سات �ضيقة ،وال ت�سع الواحدة منها غري �صوت ثالث (يف العتمة) :ما يزعجك يف الأمر؟
�صاعد واحد ،فيما كنا نت�شوف �إىل ر�ؤية الفرعون �صوت رابع (يف العتمة) :ال�شهيد يقود التظاهرة.
الذي كان يقع تابوته يف منتهى ال�سلم ،على ما كنا �صوت خام�س (يف العتمة) :ال�شهيد بدل عن �ضائع...
نخمن .طال �صعودنا ،كما زادت الدع�سات ،على ما �صوت �ساد�س (يف العتمة ،مقاطعاً) ... :ال ،عن
قال جاري الذي �أمامي ل�صديقه الذي ي�صعد خلفي. موجود.
�شئت –
بركبتيي ت�ؤملانني ،وال �أقوى – لو ُ َّ و�إذا (عتمة).
العودة �إىل اخللف ...كفاين �أنني نظرت �إىل خلف، (متكلمون ومتكلمات �أمام البقعة امل�ضاءة وحدها).
و�إذا بنظرات تزجرين كما لو كنت �أعيق تقدمها� ،أو متكلم : 1ال يجوز �أن تبقى �شاغرة.
�أ�ؤخر و�صولها. متكلم : 2هي �صفحة بي�ضاء...
تنف�ست ال�صعداء ،وقد بلغت مع ُ عند و�صويل، متكلمة ( 1مقاطعة) :ال� ،شا�شة عر�ض...
الوا�صلني ف�سحة ت�سع لأكرث من ع�رشين �شخ�صاً، متكلمة ( 2مقاطعة) :ال ،جدار �شعارات...
أ�رسعت بعد جاري �إىل التابوت� .ألقيت نظري على ُ و� متكلم ( 3مقاطعاً) :ال ،ف�سحة انتظار.
داخل التابوت املفتوح مثل من يرجو ر�ؤية وجه متكلمة ( 3مقاطعة) :ال ،هي ما نفعله بها ،ولنا.
نفرتيتي نف�سها� ،أو �أجنيلينا جويل ،وجه ًا لوجه، (عتمة).
و�إذا بي �أجد التابوت فارغ ًا �إال من عتمة فراغه. (متكلمان على كر�سيني متقابلني):
متكلمة : 1فراغ مثل هذا (وهي تدل �إىل البقعة متكلم : 1مل جند ح ًَال بعد؛ و�أ�صابني امللل.
الفارغة �أمامهم)؟ مل وخيبة.متكلم : 2هو �أكرث من ملل :أ� ٌ
متكلمة : 3لعله رمى �إىل �أكرث من ذلك ،وهو �أن (متكلم ثالث ي�أتي بكر�سيه ويتو�سطهما) :نزعنا
ال�سيا�سة هي الفراغ... ال�صورة ،ووجدنا الفراغ املحيط بها.
متكلم ( 2مقاطعاً) ... :البكاء �صامتني يف الزنزانات... متكلم ( 1مقاطعاً) :ال ،لقد وجدنا الفراغ الذي انبنت
حتى املوتى ما كان َيحق لنا البكاء عليهم �إال يف عليه.
250 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
متكلم : 2فعالً .لكن �أمل تقر أ� مثلي على ال�شا�شة ال�صمت! ما كان ن�أمل حتى بزيارة مقابرهم ،عدا
الإلكرتونية �أن اجلمل حتتاج �إىل التجول بدورها؟ �أنهم قربوا يف مقابر جماعية �أو خفية.
متكلم : 1ال ،مل �أقر�أ .ماذا قر� َأت �أي�ضاً؟ الفراغ رمبا� ،أي من دوننا!
متكلم : 2قر� ُأت �أن الداخل ال يعرف طرق ًا متعرجة متكلم � : 1أحتدث عن فراغ �آخر ...عن التوهم بوجود
وال معبدة للو�صول �إىل الق�صيدة ...لها نوافذ وح�سب، قوة.
قد يحتاج الداخل �إليها �إىل فتحها. متكلم � : 3أهي الهيبة؟
متكلم : 1هل تعرف؟ �أنت ال تكتفي بالأ�سئلة ،كما متكلم : 2هي خوفنا منه ...الهيبة هي �سحره البادي
قلت.
َ يف عيوننا.
متكلم � : 2أحياناً. متكلم � : 3سبق �أن قر� ُأت عن اخلنجر الذي يرهب
متكلم : 1كيف ذلك؟ النا�س ،من دون �أن نرى ال مقب�ضه ،وال ن�صله.
متكلم � : 2أنا مثله �أعدو ...فالكالم ال ي�صل بل ي�سري؛ متكلم � : 2أهو ملعان اخلفي؟
ال يتقدم ،بل مييل... متكلم � : 3أهو ملعان ب�سمة عبلة فوق �سيف عنرتة
متكلم � : 1سبق �أن قر� ُأت هذا. يف العراك؟
متكلم : 2ها �أنت تعرتف ب�أنك قارىء ،ولك ذاكرة. متكلم ( 1رافع ًا اليدين �إىل �أعلى يف نوع من التذمر)
متكلم : 1يحلو يل �أن �أعي�ش يف كتاب� :أكرث حرية � :أوه! �أوه! كنت �أود التخفيف عنكم ،لي�س �إال.
ومتعة وطم�أنينة. (ين�سحب املتكلمون مع كرا�سيهم ،فيما يقف املتكلم
متكلم : 2لكنها عابرة ...ما تفعل �إذ تنق�ضي اللحظة 1مت�سائ ًَال بحركاته عما ح�صل له معهم).
هذه؟ (عتمة).
متكلم � : 1أعود �إىل كتاب �آخر ...يف انتظار �أن �أم�شي (�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة ،فيما يراقبه
من دون عيون مذعورة من جاري قبل البعيد عني. متكلمان واقفان على مبعدة منه).
(عتمة). متكلم � : 1أراه للمرة الثالثة يف �أقل من حلظة� .أتعرف
(متكلمون �أمام البقعة امل�ضاءة وحدها). من هو؟ �أتعرف ماذا يريد؟
وجدت حالً.ُ متكلمة : 1 متكلم : 2لعله يتمرن...
(املتكلمون الآخرون ينظرون �إليها واجمني). متكلم ( 1ال يجيب).
متكلمة ( 1متذمرة) :مل �أق ْل بع ُد �شيئاً. متكلم : 2لعله يهرب من ...لعله يتعقب �أحدهم...
(املتكلمون الآخرون واجمون). متكلم ( 1ال يجيب).
لندعها بي�ضاء ...خالية ...مثل �أمل ْ متكلمة : 1 متكلم : 2لعله يبحث عن ملج�أ ...عن طائرة ...عن
مفتوح ...مثل �رشفة. م�صور «بث مبا�رش»...
(عتمة). أنت
(ينتظر �إجابة ال ت�أتي) :ق ْل يل .ماذا جرى؟ � َ
(الف�سحة م�ضاءة بالكامل� .أحدهم يجر ولداً حام ًال �س�ألتني عنه! ماذا جرى!؟
�شنطة مدر�سية على ظهره ،و�أخرى ت�سوي حجابها متكلم : 1يكفيني ال�س�ؤال.
وتتعجل يف و�ضع �أحمر �شفاهها ،وثالث يراق�ص متكلم : 2كيف ذلك؟
حا�سوبه على �أنغام «تانغو» ،ورابع ينتقل مع متكلم � : 1أال ترى �أن الف�سحة متاحة لأكرث من عابر
نارجيلته وينفث دخانها مبتعة بادية.)... �سبيل؟
251 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
يتظاهر ب�أن له عكازين ،فيما يعدو ،ويعدو ،ويعدو... �صوت (يف العتمة) :ما �أطلقوا عليه« :الربيع» بد�أ يف
(عتمة). ال�شتاء واقعاً.
(عتمة ما خال البقعة ،التي َتظهر فيها �شا�شة (يختفون على عجل ،يف اجتاهات خمتلفة).
�إلكرتونية ،تتواىل فوق �صفحتها امل�ضيئة اجلمل �صوت (يف العتمة) :مرة ثانية� ،أتكفل وحدي مبا
التالية): يقال ،وما ال يقال ،مبا يظهر يف ال�شارع ،وما ال
ال ي�سع الق�صيدة ال�سكوت. يظهر خ�صو�صاً...
ال ي�سع الق�صيدة ال�رصاخ ،طاملا �أن بكاء ال�صابرة متكلم ( 3يتعقب ما ال يجده يف الف�سحة امل�ضاءة) :
يبقى �أ�شد بالغة من اخلن�ساء. لعله ت�سجيل قدمي.
�صوت (يف العتمة) � :ألهذا ا�ستعانت الق�صيدة �صوت (يف العتمة) :مرة ثانية ،ينفرد �صوتي مثل
بوجوههم وحركاتهم؟ نبتة ت�رشئب وحدها من �صقيعها ،مع �أنني ل�ست
(فوق ال�شا�شة) الدمعة تنق�ضي ،لكن ندى الألفاظ ال مواطناً ،وال متفرجاً� .أنا �صوت وح�سب� ...صوت
يجف. منفرد� .صوت �ضاج و�صامت يف الوقت عينه.
الق�صيدة – كما املدف�أة امل�شتعلة – تنتظر من يرمي (عتمة).
فيها احلطب لكي تبقى منرية ،مثل دمعة �سقطت (متكلمان مي�شيان يف اجتاهني خمتلفني).
للتو فوق خد قارئة. متكلم � : 1أتعرف؟ ما نقول ،هو واقع ًا ما ن�ستعيد
(عتمة). قوله.
(متكلمون ومتكلمات �أمام البقعة اخلالية ،املنارة متكلم ( 2ي�ستمر يف امل�شي).
وحدها): نتحاب �أو نتنابذ.
ُّ متكلم � : 1أتعرف؟ حني نتحاور:
متكلم : 1ما العمل؟ متكلم ( 2ي�ستمر يف امل�شي).
امل�صور اللتقاط
ِّ متكلمة : 1ملاذا ال نقف �أمام متكلم � : 1أتعرف ،القارىء هو الذي ي�صنع الكتاب؟
�صورة لنا؟ �أتعرف� ،إذ يتهالك الكاتب ينام يف الكتاب؟
متكلم : 2وماذا نفعل بالإطار؟ (عتمة).
ري كل �شيء :تغري الإطار؛ متكلمة ( 2من�رصفة) :تغ َ (�أحدهم يرك�ض عابراً الف�سحة امل�ضاءة ،فيما يراقبه
تغريت ال�صورة. متكلم ومتكلمة واقفان على مبعدة منه).
متكلم ( 3من�رصفاً) :املهم �أن نرى ب�شكل خمتلف. متكلمة : 2ر�أيته للتو...
كنت عليه. متكلمة � : 3أي ًا كان الأمر ،لن �أعود �إىل ما ُ متكلم :2ر�أيتِ غريه.
متكلم ( 1من�رصفاً) :ملاذا �أنتِ متفائلة �إىل هذا احلد؟ متكلمة : 2ال ،ال .هو ،هو.
متكلمة ( 3من�رصفة) :ال� ،أنا م�صممة فقط. متكلم : 2حتى حني نرى قد ال نعرف ماذا يجري.
متكلم ( 2من�رصفاً) :يجب �أن نخرج من اجلدار. متكلمة : 2لكنه قال لنا ب�أنه يحتاج �إىل ال�صورة
متكلمة ( 1من�رصفة) � :أنا ترك ُتها فارغة لغريي... لكي يعو�ض عما ال تقوله الكلمات.
متكلم ( 2مقاطِ عة ،وهي تن�رصف) ... :يف عهدة متكلم � : 2أت�صدقني فع ًال ما يقوله لنا؟
الغائب. متكلمة ( 2تن�سحب �إىل العتمة).
(عتمة). متكلم ( 2وهو يلحق بها) � :إنه يلعب� .إنه يلعب...
انتهاك
ب�شرى خلفان
قا�صة من ُعمان
ال�شبحية ذاتها ،مل يكن الباب يحدث �ضجة وهو ب�رسعة يقفز الأرنب ويختبىء...
يغلقه خلفه ،ومل تكن الظلمة ت�شي به ،يغادرها مغم�ضة العينني ،ت�ستمع بحذر �شديد للخطوات
وك�أنه مل يكن ،يغادرها وك�أن �شيئا ما مل يحدث.
الباهتة التي تباغت ظلمة غرفتها.
بعد رجوعه من �صالة الع�شاء يف امل�سجد املجاور
تت�ساءل �أحيانا من �أين يدخل ،وكيف يفتح الباب
لبيتهم كان �أبوها يغلق باب احلو�ش ،ثم يتناولون
دون �أن يحدث الباب �ضجة ،كيف حل�ضوره �أن
الع�شاء وي�رشبون �شاي الزهورات وي�شاهدون
يكون �شبحيا ومباغتا هكذا يف كل مرة.
الأخبار معا .ي�س�ألها عن الدرا�سة واملدر�سة،
ت�ستعر�ض يومها معه ،تريه دفاترها وعالماتها كانت ت�شحذ �أذنيها يف ظلمة الغرفة،لكنه كان
الكاملة ،يفرحه تفوقها ومي�سح على ر�أ�سها بحنان. يباغتها وي�أخذها دائما قبل �أن تفتح عينيها.
بعد �شاي الزهورات كان �أبوها يحكم �إغالق باب مت�شبثة بالظلمة ت�ست�سلم له ،وعندما يفرغ من
البيت الأمامي ويدير املفتاح يف القفل ثالثا تقليبها بني يديه و�شفتيه ين�سحب بطريقته
253 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
الكثيف النعومة. ويقبلها على وجنتيها قبل �أن تن�سحب �إىل غرفتها
يف القرية البعيدة ،كان هناك �صبي مي�شي بحذر لتنام.
يف ظلمة ال�سكة املحفورة بني �أطراف �ضواحي كانت �أمها تزورها قبل �أن تذهب �إىل �رسيرها ،
النخيل وبيوت احلارة. حتكم لفها بالغطاء وتطفىء ال�ضوء �إذا ما ن�سيته
كان مي�شي مت�أبطا كتبه بحذر �شديد خ�شية التعرث ونامت وهي تقر�أ .
بح�صاة �أو نتوء يف�سد عليه بيا�ض ثوبه الذي ت�رص يف ال�صباح كانت �أمها توقظها للذهاب �إىل
�أمه على غ�سله بعد كل يوم درا�سي. املدر�سة ،وكانت هي تت�شبث بالعتمة ،ت�سحب
كان يت�أبط كتبه ،ويفكر يف ثوبه الأبي�ض ودرجته الغطاء مرة تلو الأخرى ،حتى تهددها �أمها
الكاملة يف �شهادته عندما واجهته تلك العيون با�ستدعاء �أبيها ،فتقفز من الفرا�ش ب�رسعة ،وت�ستعد
الكثرية التي نبتت يف ظلمة ظل ال�سكة امليتة. ب�رسعة ،وحت�رض على طاولة الإفطار يف موعدها.
كانت عيون كثرية تلك التي حا�رصته ،كانت �أياد على طاولة الإفطار كانوا يجتمعون ،يتبادلون
كثرية تلك التي تقاذفته ،كانت �أرجل كثرية تلك كالم ال�صباح الك�سول ،ويذهبون كل يف اجتاهه.
التي تناوبت على رف�سه ،كان هو وحده ملقيا على كانت حتب بيجامتها الزرقاء ذات الأرنب واجلزرة
تراب ال�سكة املظلمة ،معفرا بالرتاب والف�ضيحة. لكنها تخلت عنها عندما بدء ج�سدها باال�ستدارة
يف احللم كان الأرنب ي�أتيها ،يغريها بجزرته وا�ستبدلتها بناء على ن�صيحة �أمها بجالبية البيت
الربتقالية وبيا�ض �أ�سنانه ،فتتبعه. الوا�سعة.
كان الأرنب ي�أخذها �إىل ال�سكة املظلمة بني �أطراف كانت حتب �أرنبها ال�صغري واجلزرة التي تتدىل من
ال�ضواحي و�أطراف البيوت ،كانت تتل�ص�ص على بني �أ�سنانه الكبرية ،وكانت �أحيانا تد�س البيجامة
الفتى الذي قام من عرثته ،مت�سخ الثوب وخيط دم يف ثنايا فرا�شها ،وعندما جتدها �أمها تلقي عليها
رفيع يتبع خطواته املنك�رسة �إىل البيت. نظرة عتاب �صغرية ثم تبت�سم.
كان الأرنب جبانا عندما تزداد العتمة ،فيعود بها كانت حتب لون بيجامتها الأزرق ولون �أرنبها
�رسيعا �إىل البيت ويغلق الأبواب خلفها ب�إحكام. الأبي�ض ولون اجلزرة الربتقايل ،لكنها مل تكن
يف العتمة يند�س الأرنب داخل جيب جالبيتها وال حتب كثريا ارتطام �أ�صابعها با�ستداراتها املباغتة
يخرج ،يف العتمة يفتح الباب بهدوء �شديد ويند�س حتت اجلالبية الوا�سعة ،ومل تكن حتب ملم�س
�صبي مرتع�ش يف ج�سدها. �شفتيها املمتلئتني ،ومل تكن حتب �شعرها الأ�سود
االكرتاث ،وب�أنه ال يزال متوازن ًا وقوي ًا يف مواجهة مل ت�ستيقظ الع�صافري بعد ! ردد هذه العبارة مراراً
وطن ُيدمر ،و�شعب ُيقتل ،وعقارب �ساعة ت�سحله من لنف�سه وهو ُيح�ضرّ القهوة ،جتاهل غيظه ب�سبب
الأمل لدرجة �آمن �أن كلمة عقارب ال�ساعة م�شتقة �أو ا�ستيقاظه املبكر جداً ،الثالثة فجراً ...يا �إلهي
هي ذاتها العقارب ال�سامة التي تلدغ وتـُميت... ماذا �ستفعل بالزمن يا فواز! كيف �ستمرر �ساعات
حتول كيانه كله ووجوده �إىل كيان معلـّق بكارثة ّ يومك الثقيل ،ليتك ت�ستطيع متريرها كما لو �أنها
وطن ينزف منذ �سنتني وال �أحد يبايل ...ر�شف حبات م�سبحة تلهو بها ،هكذا كان يخاطب نف�سه
القهوة �شاعراً �أنه ي�رشبها لغاية وحيدة هي �أن ي�ؤكد م�ستن�سخ ًا من روحه �صديقاً.
لنف�سه �أنه حي ،لكنه مع كل ر�شفة كان �إح�سا�سه الثالثة فجراً ،ما الذي يوقظه يف هذه ال�ساعة!؟
بتعا�سته وي�أ�سه يتعاظم ،وما �أن انتهى من �رشب حتولوماذا �سيفعل بزمنه ! ماذا يفعل يف زمن ّ
حتولت �إىل
فنجانه الأول حتى �أح�س �أن تعا�سته ّ �إىل مقربة جماعية كبرية ،يت�ساقط فيها مئات
درع ثقيل يلب�سه... ال�سوريني كل يوم ؟! كان ي�شعر �أن الزمن يفرت�سه
مع فنجان قهوته الثاين �أخذ يقلب حمطات التلفاز ، مروع من عقارب ال�ساعة التي ت�سحله ،ويح�س �أنه ّ
حاذر �سماع ن�رشات الأخبار �إذ مل ي�ستعد بعد ل�سماع ،فيتخيل نف�سه مربوط ًا �إىل دبابة جتره يف �شوارع
الن�رشة اليومية لعدد القتلى يف �سوريا ،ومل ي�ستعد و�أزقة مدمرة ...ا�ستوطنت هذه ال�صورة خميلته
بعد لت�ستقبل عيناه �صور القتلى والدماء تنزف من و�أمعنت يف تعذيبه ،كما لو �أن هناك عدوا خمتبئ ًا
�أج�سادهم املخردقة بال�شظايا والر�صا�ص .ا�ستوقفه يف روحه.
برنامج وثائقي عن الليايل البي�ضاء وتفرج مذهو ًال فمنذ بداية الأزمة يف وطنه احلبيب �سوريا بد�أ
على عظمة مدينة بطر�سبورغ ،لكن ال�شا�شة �رسعان يالحظ �أن ثمة هوة �سحيقة تف�صله عن نف�سه ،ثمة
ما انق�سمت �إىل ن�صفني ،عني تتابع �سحر تلك هوة تت�سع يوم ًا بعد يوم و�شهراً بعد �شهر بني ما
املدينة وعني تعر�ض له خمزون ذاكرته من �صور يتحول �إىل �إن�سان غريب ،
ّ كانه ،وما ي�صريه � ،إنه
القتل والدمار يف وطنه احلبيب ،ثمة بث متوا�صل �إىل كائن ،قد ال يجوز �أن ي�سمى �إن�سان ًا � ،إىل كائن
يف روحه ال يتوقف �أبداً... �أهم �صفاته �أنه يخ�شى الزمن وال يطيق الليل وال
كان الربنامج الوثائقي عن الليايل البي�ضاء �ساحراً النهار ،وال ال�رشوق وال الغروب ،لأنه مل يعد من
و�شيق ًا لدرجة �أنه ابت�سم ،وتذكر �أن هناك حياة ، فرق بني ليل ونهار ،وبني برد وحر ،اندجمت كل
�أذهله اكت�شافه �أنه يف مكان ما هناك حياة ، تلك املعاين املت�ضادة وان�صهرت يف كلمة واحدة :
هناك ب�رش �سعداء ي�سافرون يف رحالت �سياحية القتل.
وي�ضحكون وي�شرتون هدايا لأحبتهم ...لكنه فج�أة حتنط على الأريكة ذاتها التي يجل�س عليها كل
جتهم وانقب�ضت مالحمه ومل يعد يتحمل ر�ؤية �صباح� ،سماها �أريكة ال�ساعة الثالثة فجراً ،لأنه
ه�ؤالء الب�رش ال�سعداء ،وال�سياح الذين يتجولون ومنذ عمر انفجار �سوريا �صار ي�ستيقظ الثالثة فجراً
مبهورين بعظمة بطر�سبورغ وتعليقاتهم على ويجل�س على الأريكة �إياها ،ير�شف قهوته ويعارك
الليايل البي�ضاء � ،أح�س �أن ال�سعداء ثقيلوا الظل، زمن يفرت�سه ،حماو ًال �أن يح�صن نف�سه بعدم
255 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
حاول �أن يتخيل كيف تكون هيبة الدولة ،وكيف �أح�س �أنه ُمهان ومحُ قـّر بعي�شه الذليل وب�أن كلمة
مي�سها ؟! لكن خياله املعطوب مل ميكن لإن�سان �أن ّ ذل ال تكفي لو�صف حياته...
يفرز �سوى �صورة فتاة عذراء تلب�س ثياب ًا �شديدة مع فنجان قهوته ال�صباحية الثالث كان يقلب
االحت�شام و�شديدة الإحكام على ج�سدها ،ثياب مقاالت وتعليقات على الفي�س بوك ،وثمة �س�ؤال
�أ�شبه بكفن ،وكل من ينظر �إليها �أو ميد �سبابته يت�شكل ببطء يف عقله ويهم�س ب�أذنه � :إىل �أين
للم�سها يتهم �أنه مي�س هيبتها... مي�ضي عمرك يا فواز ؟! �أمكنه �أن يح�س ب�صوت
كان مزاجه قد بلغ حداً من احلزن لدرجة اخلر�س ٍحقيقي ودافىء قادم من عتمة روحه �أو عتمة الليل
� ،أخر�سه احلزن ،بل �صار يخ�شى يف الأ�سابيع ي�س�أله � :إىل �أين مي�ضي عمرك يا فواز ؟!
املا�ضية �أن يفقد قدرته على الكالم � ،أن ين�سى اللغة ارتفع من�سوب حزنه حتى �صار ير�شح من جلده
ومفرداتها ،فما قيمة كالم ،و�سط لغة الر�صا�ص كالعرق ،و�أخذ يقر�أ :احلرية للمعتقل فالن الفالين ،
والقتل ،وهل ي�ستطيع �أي كالم �أن يوا�سي �إن�سان كل يوم يقر�أ وي�سمع عن معتقلني ،فالن اعتقل لأنه
ي�شهد على تدمري البالد والعباد ب�شكل م�ستمر نا�شط على الفي�سبوك ،فالن اعتقل لأنه كتب مقا ًال
ومتوا�صل ومنذ عامني! ير�ض عنه ه�ؤالء ،ه�ؤالء الذين ال يعرفهم �أحد مل َ
�أجرب نف�سه �أن يتكلم � ،أن يقول �أي �شيء ،مروع ًا لكنهم ميلكون كل ال�صالحيات لالعتقال...
من احتمال �أن ي�صاب بالبكم � ،أن ين�سى اللغة ، �أح�س بوجع قا�س مل يعرف طبيعته ،هل هو وجع
�أن ين�سى �أن اللغة هي التي متيز الإن�سان َ � ،أو لي�س ج�سدي �أم نف�سي ،ت�شو�شت عالقته بنف�سه لدرجة
الإن�سان حيوانا ناطقا ...ولو فقد النطق �س ُيختزل ماعاد ب�إمكانه فهم حقيقة م�شاعره ،و�أين يكمن
�إىل حيوان... وجعه � ،صار ي�شك �أنه �صار �أبله ًا � ،إذ �صارت تلتب�س
تلعثم وبرطم بكلمات مل يفهمها هو ذاته ،لكنه �آالم روحه ب�آالم ج�سده ،فذات يوم وبعد �أن �صعق
متكن �أخرياً من �صياغة عبارة من الإجابة على من �صور جمزرة �أطفال احلولة ،وجد نف�سه ي�رسع
�س�ؤال � :إىل �أين مي�ضي عمرك يا فواز... البتالع دواء م�ضاد لل�صداع ،رغم �أنه مل ي�شك �أبداً
طلع اجلواب من عمق �سحيق معتم يف روحه : من �صداع لكنه اعتقد �أن هذا الدواء قد ُي�سكـّن �آالم
حياتي منتهية ال�صالحية... روحه...
افتنت باجلواب وهن�أ نف�سه على تلك الإجابة التي اعتقال ....اعتقال ،هذا ما يوقظه الثالثة فجراً قبل
جعلت معنوياته ترتفع ،بل تقفز عالي ًا لأنه ت�أكد �أن ت�ستيقظ الع�صافري� ،أح�س براحة من يكت�شف حل
�أنه �إن�سان ،وب�أنه رغم حتطم معنوياته وي�أ�سه ال لغز ٍ طاملا � ّأرقه ...
يزال قادراً على التفكري واملحاكمة... هاجمته ذكريات طازجة كعا�صفة وانهمرت �أمامه
فكر وهو ي�سجل على ورقة بجانبه �أ�سماء املعتقلني كمطر من ر�صا�ص ،فاملطر يف �سوريا هو من
اجلدد ،عادة غريبة مل يتوقع �أنه �سيدمن عليها منذ مرت وجوه �رسيعة يف ذاكرته ،وجوه ر�صا�ص ّ ،
اندالع الثورة يف �سوريا ،وهي �أن ي�سجل يف دفرت مدموغة بالذل واخلوف والأمل الالحمدود ،وجوه
�صغري �أ�سماء املعتقلني ،وعددهم... حتكي ق�ص�صا عن معتقلني ،كان ين�صت لهذه
مل يكن يدرك معنى تلك العادة ،مل يكن يدرك �أنه الق�ص�ص بعينني مبحلقتني كما لو �أنهما حتدقان
ينتظر اعتقاله هو ،و�أن كل وجوده وكل زمنه �صار بالذعر النقي ال�صايف غري املغ�شو�ش ...فالن اعتقل
جمرد انتظار لتلك اللحظة التي �سيتم اعتقاله... لأنه و�ضع على موبايله �أغنية يا حيف ل�سميح
لدرجة �ضاق ذرع ًا باالنتظار ،بل �صار يود لو �شقري ...فالن اعتقل لأن ابن عمه التحق باجلي�ش
ي�رصخ يف ال�شارع وب�صوت عال ٍ :ملاذا هذا الت�أخري احلر ...فالن اعتقل لأن �سلوكه مي�س بهيبة الدولة...
256 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
ياه يا للفعل املُ�سكر لتلك الكلمات ،كيف ميكن يف اعتقايل ،ماذا تنتظرون! ماذا تنتظرون ،ال
للكلمات �أن حتمله على �أجنحة وا�سعة وتعرب به ترهقونني باالنتظار ،اعتقلوين و�أريحوين...
حدوداً وحواجز ،وتنقله �إىل عامل نقي ي�شع بالألوان �أ�صدرت حنجرته ح�رشجات جافة ،دمعت عيناه
،واللون الأحمر فيه هو لون الأزهار فقط ... وهو يفكر �أن هذه احل�رشجات هي �صوت �أحالمه
كم يرتاح حني يغم�ض عينيه ،ي�شعر �أنه يغلق نف�سه املحت�رضة ،و�أنه واع ٍ متام ًا حلقيقة عي�شه الذليل
عن العامل اخلارجي ،عامل القتل الوح�شي ،والتدمري واملعفر باخلوف واملوت والي�أ�س ،واع ٍ متام ًا �أنه ّ
الوح�شي ،يغلق نف�سه لريى قلبه ،قلبه الطافح واقع يف قب�ضة «اله�ؤالء» الذين يتحكمون بحياته،
باحلب والإميان باحلرية والكرامة ...ياه يا فواز وميلكون �صالحية اعتقاله ،كما لو �أنه مربوط
واهلل يحق لك �أن تفخر بقلبك... بخيط خفي ب�أيديهم ...
�سمع زقزقة ناعمة تلتها زقزقات �أقوى ،لقد وطن يتحول �إىل ُمعتقل كبري ،ومواطن يختزل ٌ
ا�ستيقظت الع�صافري... وجوده يف انتظار متوتر وملح للحظة اعتقاله...
�شعر– دون �أن يفتح عينيه – �أن ثمة نورا �أ�رشق �إنه ال ينتظر �شيئ ًا وال يتوقع م�ستقب ًال ،وال ابت�سامة ،
يف اخلارج وقلبه ،رغم العتمة الكثيفة... ال ينتظر �سوى �أن ُيعتقل ...بل �أح�س �أن كل ما ين�شده
�سخر من م�شاعره وهو ي�س�أل نف�سه :فواز هل �سيتم يف وطن ينزف �أبناءه هو االعتقال.
اعتقالك اليوم بعد ن�رش هذه الق�صة . تفجر يف روحه هل �أنت جمنون يا فواز ؟ �س�ؤال ّ
بطريقة مرحة ؟ هل ُيعقل �أن يكون قد ُجن ّ ؟! وهل
يلوم نف�سه �إذا جن �أو �صار معتوه ًا ؟! من يقدر
�أن يحافظ على قدراته العقلية ،و�أال ينهار نف�سي ًا
يف وطن حتول �إىل مقربة ،وبركة دماء ،ومقابر
جماعية ،و�آالف �آالف النازحني ؟! من يقدر �أن
ي�صادق دبابة وطائرة وبندقية �صارت تناف�س
رغيف اخلبز ،و�صارت ع�صب الال حياة ملاليني
ال�سوريني...
ما احلياة �إال عبء ال فائدة منه ،احلياة يف مكان
�آخر خارج احلدود ال�سورية ،هنا ،هنا على الأرا�ضي
ال�سورية تعي�ش الال حياة...
م�سد وجهه براحتيه وكرر احلركة م�ستدفئ ًا باحلرارة ّ
التي يولدها اللم�س ،متنى لو �أن يداً حنونة مت�سح
وجهه وتطبطب على كتفه ،ولو �أن �صوت ًا ب�رشي ًا
حقيقي ًا يقول له :ب�سيطة يا فواز� ،إن �شاء اهلل حمنة
وتزول ،وما بعد ال�ضيق �إال الفرج.
ال يزال الليل ثقي ًال ،ال تزال العتمة مع�ش�شة يف قلبه...
عاد �إىل �أريكة ال�ساعة الثالثة فجراً ،ا�سرتخى عليها
و�أغم�ض عينيه .كان يحاول خمل�ص ًا �أن يلملم �شتات
نف�سه بالت�أمل ال�صامت ،الت�أمل يف معاين كلمات
من �أعمال خمي�س املحاربي ُ -عمان ي�ؤمن بها بكل ذرة من كيانه ،احلرية والكرامة ،
257 نزوى العدد / 74ابريل 2013
�شيطانيات
ليلى البلو�شي
قا�صة من ُعمان
عوملة �شيطان
ا�ست�أن�س بعر�شه ،خا�صة بعد �أن اطم�أن �إىل تعمق تعودت هي �أن تطرقع �أ�صابعها يف �أثناء ال�صلوات ،
جذور ات�صاالته ،ف�أعوانه متمددون يف بقاعات بينما كان هو فخورا جدا بنف�سه وب�إخال�صها له !..
�شتى ،وها هو يف كل مرة يكت�سب فنونا جديدة يف
التوا�صل معهم .. منيمة
كانت تلقي بذوري كل �صباح يف بيوتات احلي ،
فتنة وتلتقطها �أخرى فتحر�ص على �سقيي جيدا ،وت�أتي
حني عقد قرانه عليها � ،أجنبا من �صلبهما جيو�شا ؛ يل
ثالثة فتتعهدين بعناية كبرية ،ورابعة ت�ضيف �إ ّ
يتنا�سلون حتى اليوم ب�أ�شكال وم�سميات عدة .. ي�شد عودي لأطول حياة ،والبقية الباقية منما ّ
ثالثهما ن�سوة احلي يجنني ن�صيبهن مما ح�صدت !..
هو وهي ،وكان يحر�ص دائما على ت�أكيد ح�ضوره
بينهما !.. ب�صاق
ب�سملة مذ �أخربتها معلمة الدين يف ال�صف الرابع عن
نواياه ال�سيئة عند �صالة الفجر حتديدا ،حر�صت
فر برعب
كلما تناهت �إىل �سمعه يف مكان ما ؛ ّ على تبديده عنها مبنبه من نوع قوي ..ولكن يف
خمتفيا !..
الأيام التي يخذلها املنبه ذو ال�سماعات الكبرية يف
لقيط تبديده ،ال تن�س �أن تتقي�أ كل ما يف جوفها حتى ال
وهمت به ،ونتيجة �سقوطهما ك ّفال به هم بها تبقي له �أثرا ،عندئذ فقط ت�شعر بقليل من الراحة ..
ّ ّ
ال�شارع !.. �سقط �سهوا
فكرة �شيطانية يتوملون حول مائدة الطعام كل يوم ،بينما
كان لديه �أفكار جاهزة يقدمها للب�رشية عن خبث ي�شاركهم هو بنف�س ال�شهية يف الوجبات الثالث بال
ت�سمت تلك الأفكار با�سمه اعرتافا
خاطر ،مع الوقت ّ �إحم وال د�ستور !..
بخبثه !..
رم�ضان
توبة �ضاق به امللل ،كل الأبواب مقفلة يف وجهه ،لكن
طوال تلك ال�سنوات كانت تتمر�س الرق�ص والغناء يف حني تبقت �أيام قليلة ،بد�أ يعددها حتى نهاية ال�شهر
الكباريهات ،وحني غادر قلبها ،غادر معه الرق�ص بهمة عالية معدا مفاج�آت العيد !..ّ
258 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
�شائبة ،ويف اليوم الذي يليه جترع ك�ؤو�سا من والغناء والكباريهات ..
ال�رشاب ؛ ولكن �سكرته تلك مل تفلح �سوى يف �إرهاق
عقله ،عندئذ ا�ست�شاط غ�ضبا ،ومل ير نف�سه �سوى
�شيطان �أخر�س
يهم بقراءة كلمات �سمعها مرة من �ساحر كبري : ال�صمت املطبق من حواليه كان ي�ضاعف من �شعوره
«زعلق ..زحقل � ..أحقل .. »...حلظتئذ تداعى �أمامه بالفخر حيال نف�سه ،وها هو يف كل مرة ي�سرتخي
على ل�سان جديد !..
�شيطان عمالق ،وهو يقول له ب�صورة �آلية �« :شبيك
لبيك �شيطانك بني يديك .. »... مرائي
�سرتبيتيز كان من عادته �أن يوزع احل�سنات بيده اليمنى
الظاهرة �أمام �أكرب ح�شد من الأعيان ،وبعد �أن
ال تدري ماذا يحدث لها ..؟! غري �أنها يف كل ليلة يطمئن �إىل ر�ؤيتهم ؛ يعود ال�سرتدادها بيده الي�رسى
تقطع طريقها �إىل درب ملتو ،هناك حيث جو متلبد ولكن بخفية !..
باحلرارة ،تن�سى ج�سدها يف رق�صة مثقلة بالثياب
،لتنتهي كما ولدتها �أمها ..بينما روحها يتفرج مع هاروت وماروت
احلا�رضين معقود الده�شة !.. �رسعان ما �أعلن والءه لهما بعد �أن عرف الطريق
�إليهما ،فعرفا بدورهما جيدا كيف ي�ضاعفان من
�شيطان �صغري حجم والئه لهما ،فو�ضعوا الدنيا حتت يديه ،ف�أكل
يف يومه الأول حينما فتح عينيه على الدنيا �أطلق ،وتهندم ،وغدت ثروته تت�ضاعف يوما بعد يوم ؛
�ضحكة مهولة زلزلت �أر�ض امل�شفى �إىل ن�صفني ، ولكن حني �ألقي القب�ض عليهما � ،ضاعت الدنيا من
ويف يومه الثاين حني و�ضعت �أمه جزءا من ج�سدها يديه وعاد �إىل حيث كان �شحاذا ! ..
يف فمه مل يتوان عن قلعه بهمجية دامية ،ويف يومه باب ال�شيطان
الثالث بال على وجه والده حتى عميت �إحدى عينيه
مر من باب �أو�صد �ضاقت الدنيا يف عينيه ،كل ما ّ
،ويف يومه الرابع حمله �أخوه الكبري على كتفه يف وجهه ،ومل ميلك �سوى �أن يعرج �إىل طريق �آخر ،
فك�رس عظمه ،ويف اليوم اخلام�س عزم �أفراد عائلته فر�أى بابا مفتوحا �أمامه على م�رصاعيه ..
قذفه يف البحر بعد ن�صيحة �أحد م�شايخ الدين ،ويف
اليوم الذي يليه اندفعت موجات هائلة من البحر �شيطان ال�شعر
ف�أغرقت املدينة بكل ما فيها !.. ظل لأيام وهو يحاول جاهدا �أن يجر الفكرة من
دماغه جرا ولكنها ال تلني ..راح يف اليوم الأول من
احت�ضار هذه املجاهدة ي�شغل مو�سيقى هادئة ؛ علّه يغريها
احت�رض حبها يف قلبه ،حني مات �شيطانها فيه ! .. باملجيء ،ولكن بقيت ورقته بي�ضاء ال ت�شوبها
ِب ْر َك ُة ماء
م .ج حمادي
كاتب وت�شكيلي من العراق يقيم يف بلجيكا
أي�ضا معها .حني نع�شق ما رجعت .حريتي � ًُ لكن ماذا؟ هكذا..
الذي يحدث؟ يتغري اجل�سد ..ب�رس من الأ�رسار العليا، م�ساحات �شا�سعةً :رمل وحجارة
ٍ بعد �أن جتاوزنا
هابط ًا من عوامل �أخرى� ..آه� ..أهو هذا؟ ..لتكن الأ�شياء م�شتعلة يف �شعاع ال�شم�س الذي ال حتجزه �أي غيمة.
أخذت
رجعتُ � ،
ُ كما هي ..لتكن الأ�شياء كما هي.. و�صلنا مناطق اجلبال ال�صفر ،اخلاكية الباهتة،
�أمت َّع ُن الطريق� ،أفح�صه ،و�أرقب مهارة �سائقنا الذي واحلمراء امل�شتعلة ب�أوك�سيد احلديد.
لقب ناله بجدارة.لقبناه باجلبلي؛ ٌ �سائقنا يبت�سم ،هكذا ،ينتبه �إىل حُفَرِ الطريق ،يبطئ
ي�ستمر يف
ُّ «يف يوم يف �شهر يف �سنة» �صوت املغني.. و ُي�رسع ،بني حجارة منت�رشة ،رمبا من نيزك قد
�أنينه: انفجر قبل �ساعات قليلة؛ فك�أن املكان قد ا�شتوى
اجلراح
ْ «تهدا يف مِ قالة عمالقة .الغبار خلفنا ،عا�صفة من ال�صفرة
وينام جرحي �أنا
ْ امل�شعة ترق�ص فيها ذرات الرتاب والرمل ،ومعادن
يوم يف �شهر يف �سنة». يف ْ �أخرى رمبا من كواكب �أخرى .مع ذلك؛ فالأر�ض
على الطريق العام مع �صوت املغنيُ ،منكئا للجراح، بركانية منذ ماليني ال�سنني.
يل اجلبلي وهو يزيد قوة ال�صوت« :حتب هذا نظر �إ َّ كنت يف نيويوركعمتي« :حني ُ يوما قال يل ابن َّ ً
حتا عينيه على حمادي؟» �س�ألني ،فا ً املغني� ..س ِّيد َّ أح�س�ست وج ًع ًا يف عيني اليمنى؛ فذهبت �إىل الطبيب.
ُ �
هام�سا �إىل نف�سي :هذا الفتى الطيب!..
ً �سعتهما .نظرت.. بعد فح�ص بامليكرو�سكوب وجد فيها ذرة من ذهب؛
«م ْن ال يحب الغناء العاطفي؟»؛ �س�ؤايل ثم �أجبتَ : رمبا هنا �أي�ضاً ،يف هذه الأر�ض الربكانية ،تتطاير
دي مع ابت�سامة« .كلنا نحب الغناء العاطفي» ع َّقب ِج ٌّ �أمامنا يف �صفرتها ذرات ثمينة.
260 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
يقود اجلموع ،ماع ًزا جبل ًّيا يعرف عالقته بال�صخور، مبت�سما ،ثم نظر �إىل الطريق املُ�سفلت قبل �أن ينحرف ً
يقفز ب�سهولة كافية ،مثرية. �إىل الطريق الرتابي الذي ،ب�شكل مفاجئ ومزعج،
انعك�ست الأ�شعة من جانبي الوادي و�صخوره� ،أكرثها يبد�أ مبطب� .أدار وجهه فج�أة .رفع يديه عن املقود،
مغطً ى بالكِل�س ..هذه ال�صخور ال�شاخمة .ك�أننا نطفو وبده�شة« :عجيب ملاذا و�ضعوا مط ًّبا كهذا قبل
خف وزنه ،و�أمام بركة ماء، يف ال�ضوء .ج�سدي َّ الدخول �إىل ال�صحراء؟» ثم �أكمل« :ها� ..أنه ال يقلق
ظهرت فج�أة حتت ال�صخور ،توقفنا .الحظت �أ�سماكً ا �سفينة ال�صحراء ..اجلمل»� .ضحك� .شاركناه دعابته.
�صغرية تعوم؛ �أ�سماك ها هنا ،هكذا! بعدها جتاوز االرتفاع ،غري املعقول ،بهدوء.
�سميها
قال �صديقي خمي�س قلم« :هذه الأ�سماك ُن ِّ � َّإن اختيار طريق ال�صحراء ،الذي مل يكُ غريه ،ع�س ٌ
ري
«ال�ص ّد» تظهر وقت ال�شتاء والأمطار ،ومتوت باملئات َّ ماهرا يف دورانه
ً على �سيارتنا ال�صغرية؛ فكان �أحمد
وقت ال�صيف ،حتفظ بيو�ضها يف الأعايل ،قرب ينبوع حول �أحجار الطريق؛ اجتيازه مغامرة كاملة ،مع
املاء لتعود من جديد وقت ال�شتاء والأمطار». ال�شم�س ..التي جعلت كل الكون حولنا ،حتى الفراغ
خ�ضم ال�ضوء ،والكل�س يحيط بنا من كل ِّ عاينته يف نارا ،و�أنا م�شتعل� ،صدري ،ر�أ�سي ،وكل ي�شتعل ً
مكان .ثم نظرت �إىل الربكة ..حترك يف داخلي �شعور �أع�ضائي يف الداخل.
جديد� ،شعور البحث عن معجزة� ..أريد �أن تعي�ش هذه «يف يوم يف �شهر يف �سنة» ..مرة �أخرى ال�صوت
الأ�سماك� ..أريد �أن �أحت َّدى ..ملاذا تفنى حياة رقيقة؟.. احلزين.
من املمكن �أن تطول� ،أن تغتنم �شي ًئا من الوقت.. «تهد أ� اجلراح
فج�أة �أح�س�ست بحركة خلفي ..كانت هي؛ �ضوء �سابح وينام جرحي
يل من بعيد ..تقرتب يف �ضوء ..رقيقة حنون ..ت�شري �إ َّ عمري �أنا»
بخفة ..ثم �أخذنا نت�أمل احلياة الكائنة �أمامنا ،نراقب يف يوم ..ملاذا نبحث عن هذا الإك�سري؟ ما هو ..ي�سقطنا
هدوء حتركها ما بني منعطفات ال�صخور التي تر�سم ري �أن
ري �أن نقاوم ..ع�س ٌ يف هوة عميقة ..نغرق ..ع�س ٌ
أم�سكت
ْ كل عاملها ..عاملها الذي �سيتال�شى ويتبدد� .. نخرج بال جراح ترهق الروح ..احلب عامل كائنات
يدي�« ..إنها تكت�شف عاملها الزائل هذه الأ�سماك علم
ما�ض ،بال حا�رض ،الزمان يتوقف �أمامهَ ..م ٌ بال ٍ
ال�صغرية»� .شدت على يدي .نظرت �إىل عينيها :هناك وا�ضح م�ش ٌّع ..هو نف�سه َم ْع َل ُم احلب .و�صلنا
ٌ واحد..
وجدت انعكا�سي ..وقد ترقرق الدمع ..فهفوت �أقبل اجلبال� ..سطوعها يحجب و�ضوح الر�ؤية .ثم تخلينا
عيونها� ..أ�ضمها ..كالنا ي�صبح �ضو ًءا ..ها هو كل عن ال�سيارة فوق ح�صى م�سو ّد بعد �أن اقرتب اجلبلي
�شيء �أمامها� ..أ�سماك رمادية خمتلفة الأحجام ت�سبح �أحمد احلامتي من حافة وادٍ عميق.
عرب الربكة ال�ضحلة تكت�شف بقايا خفايا الزوايا حتت «ماذا تريد؟� ..أن تهبط �إىل الوادي؟»�« .أجاب ب�رسعة:
ال�صخور ..رمبا مرت على كل �سنتيمرت مئات املرات.. ال .ال .نتقرب �أكرث» .على بعد �أمتار من ال�سيارة �أنهيت
�آالف املرات وها هي مت�ضي ..تتحرك بهدوء ..ت�شارك �رشب املاء من القنينة البال�ستيكية ،فو�ضعتها على
موقفنا يف ال�ضوء ..وج�سد احلبيبة يقرتب يزخ احلياة �أحد الأحجار لأخذها عقب انتهاء مغامرة البحث عن
أغم�ضت
ْ يف جوانحي ..ف�أرجتف� ..إنها رغبة احلياة� .. ينبوع ماء ما بني اجلبال .نظرت �إىل اخللف� :إنها
عيني .ارتفعنا يف الهواء ..فج�أة ّ عينيها� .أغم�ضت باقية يف مو�ضعها ..الطبيعة مثرية للوح�شية يف كل
�سمعت �صو ًتا�« :أيها الفنان �أيها الفنان� ..أيها الفنان». هذا احلر ال�شديد .الحظت ذلك والقنينة البال�ستيكية
تنبهت؛ كان خمي�س يحاول �أن ي�أخذين بعي ًدا من.. ُ واقفة يف مكانها� ،شفافة زرقاء .واحلجارة ،املتفرقة،
«�إنها �ستموت يا حمادي ..هذا هو قانون الطبيعة وك�أنها ُق َّد ْت ب�إزميل :رمادية معتمة ،تعك�س ال�ضياء.
من مئات ال�سنني يف هذه املنطقة الوعرة القا�سية.. ونحن ننزل �إىل عمق الوادي كان �صديقنا اجلبلي
261 نزوى العدد / 74ابريل 2013
ن�صو�ص ..ن�صو�ص ..ن�صو�ص
s
s
s
املحتم. تلفت .حبي تال�شى يف قانون الطبيعة» .نظرت �إليهُّ .
بعد قليل من الوقت ارتدت الفتاة مالب�سها؛ تبدو تركت داخل قلبي عا�صفة ظهورها ..تذكرين ْ الهواء..
مغربية� .أعدت الفكرة و�أنا �أالحظ خجلها من املفاج�أة بنف�سي ..حياتي التي �أريد ..و�أمتنى لكائنات �أجيء
يف هذه ال�صحراء ال�شا�سعة ،والفتى ينتظر ..ينظر رس حياتها ..ولغز تكرر وجودها �إىل قربها� ..أرى � َّ
تب�سم� ،شعر وموتها� ..أرف�ض� ..أريدها �أن تعي�ش �أطول.
�إىل �شكلي الغريب .جمة كثة و�ضفائرَّ .
بنظرتي ..نظرة العا�شق ..ال عداء هناك �سوى التهنئة، يل �صديقي بتمعن� ،أح�س ب�أين بعيد ،م�رشوعي... نظر إ� َّ
لكن كيف يل �أنا �أن �أجلبها من الهواء؟ �أو �أقول لها �أي �رشحت له من بعد ذلك :احلياة احللم� ..أركاديا
�شيء يف التلفون الذي ال ترد عليه ب�سبب االن�شغال، الالنهاية ..والع�شاق مي�شون بت�ؤدة على �شاطئ البحر..
ر�ؤو�سهم مزخرفة ب�ألوان الورد ..ال�صارخة .لن �أكف
حياتها ..و�أنا مهمتي املركزة :العذاب .غادر االثنان،
البدوي الذي يف داخلي قد فهمته ..وجهته ُّ عن احلب..
و�أنا �أراقبهما من خالل ال�ضوء الباهر :عا�شقان.
همه اللَّوحة ..قطعة مو�سيقى.. �إىل طريق �ضد الفناءُّ ،
تب�سما.
حني غادرا يف �سيارة «الرنغ روڤر» نظرا �إيلََّّ ، النظرة ..نظرة احلبيبة التي ال ُيحتمل فراقها.
مل �أ�ستطع ت�سلق ال�صخور العالية ،من �أجل ر�ؤية �س�ألته« :وماذا بعد؟»� .أجابني بتمعن �شديد« :احلياة
�صوره بكامرية التلفون ،ر�أيته ،ثم النبع؛ خمي�س َّ ت�ستمر».
اجلبلي يهبط ب�رسعة ك�أنه ماعز -لقبه بحق. َّ ر�أيت كدت �أبكي.
يف اليوم الثاين طلبت منهما« :هل من املمكن �أن وحني حتركنا باجتاه النبع �سمعت �أ�صوا ًتا؛ هناك
تعمال �شي ًئا جمي ًال من �أجلي»؟ «�أه ًال و�سهالً ..تف�ضل» �أنثى ،يف هذا اجلو املحرتق حتتمي بظالل ال�صخور
�أجاب ال�صديقان بابت�سامة وا�ضحة وترحيب .قلت: وماء النبع .حني و�صلنا كانت هناك بركة ماء عميقة
«�أريد �أن حتمال �سطلني ..كل واحد منكما ي�ضع خم�سة بع�ض ال�شيء ..وعلى �ضفافها ال�ضيقة التي حتف
منها ..مملوءة باملاء ..من الربكة الكبرية حيث كان بها ال�صخور العالية ج ًّدا� :شاب و�شابة عمال �شواء.
ي�سبح العا�شقان ..من �أجل �أن تعي�ش الأ�سماك». الحظت ُع َّد َة ال�شواء :ف�ضية المعة من ال�سيليفون.
متعن خمي�س�« :آه ..تريد �أن ُتطيل حياتها ما بني فكرت ،ثم الحظت� :أنهما ُ هذه البالد تجُ ِّهز كل �شيء،
�شهورا �أخرى». ال�صخور يلب�سان مالب�س ال�سباحة الأوروبية .طب ًعا نحن يف
ً
فانربى اجلبلي �أحمد ،العارف بقوانني اجلبال« :يا ال�رشق ،قانون املحافظة ميلي �رشوطه الداخلية.
�أيها الفنان العزيز من املمكن يف هذه الطبيعة.. كانت الفتاة �سمراء� ،رشقية املالمح كلية ،ممتلئة
بهدوء ،ناهدة ال�صدر ،حني ر�أتنا ارتبكت� ،أما الفتى
حني متوت هذه الأ�سماك ،وهذا ما �سيحدث ..يف
ف�أوروبي ،طويل� ،أ�شقر حممر ال�شعر ،يبدو رو�س ًّيا،
ال�شتاء القادم �سوف جتيء �إىل احلياة مرة �أخرى».
ينظر حذرا .تعجبت :هما قرينان يل واحلبيبة� ،أنا ذو
علي �إدراك ذلك..
علي �إدراك ذلكَّ .. ت�أملتهماَّ .. �شعر �أ�سود� ،رشقي ،وم�ؤججة نريان الليل وال�صباح
تلفت حويل..ُّ �أوروبية� ،شعرها م�شتعل بحمرة الغروب .الب�رش
�أح�س�ست الدمع يرتقرق ..بحزن� ..أح�س�ست �شفتيها.. يتالقون ..معها �أفقد كل �صفاتي الأر�ضية حني
�شفتي اجلَّافتني� ..أتنهد و�أحمل مذاق َّ مت�سأي�ضاُّ ..� ً يل بتلك النظرة :حنان ورقة� .صعد تقرتب �أو تنظر �إ َّ
لُعابها كل بقية امل�ساء ،والليل� .آه الغناء: الأخوان �إىل �أعلى ال�صخور لر�ؤية النبع الذي يخرج،
«يف يوم يف �شهر يف �سنة ..تهد�أ اجلراح ..وينام كما قال خمي�س من بني �صخور �سوداء ،لكنه ين�ساب
جرحي عمري �أنا هابطً ا �إىل اجتاهات خمتلفة ،دون �أن ت�صل مياهه
يف يوم يف �شهر يف �سنة». �إىل الربكة ال�ضحلة ،حيث �أ�سماكي التي تنتظر املوت
262 نزوى العدد / 74ابريل 2013
هذيان
ح�سن علي البطران
قا�ص من ال�سعودية
264
«�ألبوم اخل�سارة» لعبا�س بي�ضون
امل�شهدي واملتخيل يف لعبة احلكي
خالد البقايل القا�سمي
كاتب وناقد من املغرب
ك�أنه جمنون ،ويوظف املبدع هذه املعطيات �ضمن يعترب مفهوم اخل�سارة مرادفا منا�سبا ملفهوم الربح،
متواليات �رسدية ق�ص�صية ق�صرية ،تامة ،ومعربة ،عن وهما من املفاهيم ال�شائعة وكثرية اال�ستعمال �ضمن
طريق ا�ستعمال لغة واقعية وظيفية مفهومة تدل على الثقافة العربية ال�سائدة ،حيث غالبا ما يقي�س العربي
املعنى بدون تعب �أو م�شقة مع االقت�صاد يف الكلمات عندنا كل �أمر يقدم عليه مبنطق الربح واخل�سارة،
امل�شكلة للجمل وجتنب التكرار. وذلك يف مقابل الإقدام على الفعل من باب املغامرة
يلج أ� املبدع �إىل توظيف الو�صف الدقيق لكل اجلزئيات والتجربة والإجناز التي تطبع الثقافة الغربية،
املحيطة باملو�ضوع عن طريق امل�سح ال�شامل لل�صورة «عبا�س بي�ضون» مل ي�شذ عن القاعدة ،ومل يخرج عن
الروائية بكل دقة واهتمام ،عرب �رسد بوا�سطة �ضمري ال�ضمري اجلمعي العربي عندما �أرخ ملفهوم اخل�سارة
املتكلم ،وهو �رسد خطي واقعي مت�صل ي�سري نحو هدف �ضمن رواية جميلة و�شيقة.
معني ،وير�سم معامل تعالق ال�شخ�صيات والأحداث �صدرت الرواية يف طبعتها الأوىل عن دار ال�ساقي �سنة
بالزمان واملكان ،ولذلك ترى ال�سارد يعرب عن هبوطه ،2012وتت�شكل من مائتني وخم�سة وخم�سني �صفحة
النف�سي احلاد ب�سبب الفراغ املحبط الذي يح�سه بعد من القطع املتو�سط ،وقد اعتمد املبدع فيها على مدخل
بلوغه ال�ستني من عمره وبداية �رصاعه مع كل �شيء مثري يعمل فيه الزمن على �صعق م�ستعمليه وهو ينبه
حوله ،وخ�صو�صا القط نينو الذي ي�سيطر على البيت اجلميع �إىل الغفلة التي حتدثها الأيام املتوالية على
بكل ثقة واعتداد بالنف�س ،ويحاول ال�سارد التخفيف
حياة الأفراد ،لقد مكنت هذه ال�صيغة الكاتب من فتح
عن نف�سيته �إحباطها وعزلتها عن طريق ا�ستح�ضار
حوار مع الزمن للتعرف على عوامل قوته و�سطوته
�صورة وتقا�سيم ابنته « بانة» امل�سافرة �إىل باري�س،
وجربوته ،ووظف العالقة بني ال�سمع والزمن م�ستخل�صا
وميني نف�سه بقرب حلول الفرج عندما تعود « بانة
ب�صيغة عملية القاعدة الب�سيطة التي تدل على �أن التقدم
« من باري�س لكي تعيد الأمور يف البيت �إىل ن�صابها،
يف العمر ي�ساهم يف انخفا�ض ال�سمع ،وبالتايل يقع
خ�صو�صا مع القط «نينو» الذي كانت �سببا يف دخوله
�إىل البيت عندما قررت كفالته وحمايته من �أخطار على امل�ستوى الفني يف البناء الروائي ت�صدع وخلط يف
ال�شارع ،لقد كان قرب رجوع «بانة» من �سفرها ي�شكل العالقة بني الزمان واملكان ،حيث تفقد ال�شخ�صيات
نوعا من العزاء لل�سارد الذي �أ�صبح يعاين م�شكلة الإح�سا�س بالزمن ،وبالتايل يفقد املكان لديهم قيمته
وجودية حقيقية وحادة بطلها القط «نينو» ،ويبدو �أن ورونقه ،وفاعليته.
القط البطل هنا رمز لكل املمكنات ،فقد يكون جالبا لقد توقف ال�سارد عند عالقته املثرية ذات البعد
للحظ كما هو يف ثقافة بع�ض الأمم ،وقد يكون رمزا الوجودي ال�صاعق مع «نينو» ،القط نينو ي�شرتك مع
لل�سحر الأ�سود وال�شعوذة وم�صدرا لل�رش كما هو لدى ال�سارد يف جميع تفا�صيل احلياة ،فال�سارد �أ�ستاذ
ثقافة البع�ض الآخر ،كما هو رمز لعدة امتدادات يف املدر�سة ،والقط نينو �أ�ستاذ يف البيت وهو ي�شكل
ثقافية ح�سب معتقدات املجموعات الإن�سانية قلقا وجوديا حادا لل�سارد ي�صل به حلد حمادثة نف�سه
265
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
تبعات هذه املرحلة من حياته والتي يجد ذاته بعيدة املختلفة ،يف اعتقاد ال�سارد ف�إن القط «نينو» يتعمد
عن حتقيق االن�سجام والتوازن معها ،ثم هذا امل�شكل �إ�شعال غيظه وغ�ضبه بت�رصفاته املثرية للحنق عن
املزمن يف رعاية القط «نينو» ،فامل�شكل الكبري هو طريق حت�سي�سه بغربته داخل بيته ،كما لو �أنه متت
�صعوبة عي�ش الإن�سان واحليوان ندا لند دون �أية عالمة عملية تبادل الأدوار و�أ�صبح القط �سيدا ومالكا للبيت
على التنازل عن حق �أو واجب من �أي طرف منهما ،ثم ومل يبق له �إال �أن ي�أمر بطرد ال�سارد والإلقاء به خارجا
لن تظل الأمور دائما عادية عندما ي�ستمر ال�سارد يف ب�سبب م�ضايقته للقط وحرمانه له من الت�رصف على
التفكري لنف�سه وللقط لأن رغبات هذا الأخري ال تفهم �سجيته وهواه ق�صد امتالك كل نا�صية داخل البيت،
نظرا للحالة ال�صحية املزرية التي �أ�صبح يعي�شها لقد �ساهم ال�سارد يف حتجيم م�ساحة ت�رصف وحرية
احليوان املقلق ،و�أ�صبح ال�سارد يعترب معاقبة القط القط داخل البيت ،فبات احليوان جريحا ب�سهمني،
«نينو» �شبيهة مبعاقبة ابنه له بحرمانه من ر�ؤيته، �سهم املر�ض القاتل الذي كان ينخر ج�سده ويفتك به،
والعي�ش معه ،والتفكري فيه على الأقل من خالل و�سهم حرمانه من حريته يف الت�رصف داخل املجال
مكاملة هاتفية ب�سيطة وق�صرية ،وت�سبب هذه العوامل خريا
الكامل للبيت ،لقد قدم لنا ال�سارد القط باعتباره ّ
لل�سارد كثريا من امل�شاكل النف�سية امل�ؤملة حيث �أ�صبح مرة من خالل الإ�شفاق عليه ب�سبب مر�ضه اخلبيث
يعترب �أن حياة الإن�سان يف جميع مراحلها عبارة عن وامتناعه عن الذهاب به �إىل البيطري لكي ي�ضع حدا
�صفحات م�سودة باحلرب القامت وال وجود يف حياة حلياته رحمة به ،وقدمه لنا �رشيرا مرة �أخرى عندما
هذا الإن�سان ل�صفحات بي�ضاء �أو �صور بريئة� ،إنها كان يعتقد ب�أن القط ينا�صبه العداء ويتعمد م�ضايقته
�صفحات ثقيلة ومملة� ،إنه �ألبوم �أ�سود ومتعب ومنفر، ويعتدي على زوايا البيت الأثرية لديه ،لقد كان القط
ورغم ذلك فهو م�ضطر لتوثيق ذكرياته املا�ضية عرب فاعال يف مفهومي الزمان واملكان داخل البيت ،دوره
البحث امل�ضني عن ذكرى ماجدة فيها العزاء والرتويح
كان حا�سما وطليعيا يف �صناعة وت�أثيث ف�صول
عن النف�س حتى يكون الألبوم نافعا ن�سبيا ،لأنه حاليا
الرواية ،فهل كان ال�سارد يغار من دوره الريادي هذا
ال يثري �إال حديث الأزمة وال يوثق �إال ذكريات احلياة
ففكر مرارا يف التخل�ص منه؟
واملوت واملر�ض والأمل ...وبع�ضا من احلب.
عاد كثري من �أفراد عائلة ال�سارد �إىل بلدهم الأ�صلي
لقد �أكد ال�سارد بكل ثقة وت�صميم ب�أن جده كان
مثل ح�سن وجورج ،و�إكرام احلبيبة التي جاءت من
يحفظ عن ظهر قلب تاريخ الطربي ،كما كان يحفظ
�أبيدجان ،ثم ها هو عبداللطيف يخرب مبوت زاهي،
�أ�شعار املتنبي وابن الرومي ،واملق�صود هو �أن
الكتاب ال�سابقني قاموا ب�إثراء ع�رصهم والت�أريخ له زاهي الذي كان ميكن �أن يعي�ش لو مت �إيجاد اخليط
بنتاجاتهم الرثية ،ومن هنا كان الألبوم كما �أراد له املفقود ،لقد كان ميكن لهذا اخليط املفقود �أن ينقذ
�صاحبه رمزا جلميع مراحل احلياة رغم �شح وندرة حياة زاهي �إذ هو الرمز ،وذلك من �أجل ا�ستكمال
م�ساهمات املحدثني القريبني يف الفكر والرتاث عنا�رص بناء الألبوم العائلي والع�شائري الذي
واملعرفة ،وهذا عار على �أمة القراءة واملعرفة لأن يعتربه ال�سارد �ألبوما فا�شال بدون قيمة ،ورغم ذلك
«�أ�سرتيد» الفرن�سية تعرف جزئيات معمارنا العربي فهو م�ضطر للتعاي�ش معه وقبول �أفراده ب�صورهم
�أكرث مما نعرف نحن ،وقد حز هذا الأمر كثريا يف نف�س احلقيقية �أو املن�سوخة ،حيث جند �أن ال�سارد يرتبط
الكاتب حتى ا�ضطر للظهور يف الرواية يف ال�صفحة مع �إكرام بعالقة قرابة بعيدة ،بينما يرتبط مع �آمال
« ،»72بروز ا�سم «عبا�س بي�ضون» يف هذه ال�صفحة بق�صة حب.
�صيغة �رسدية م�شهدية ،ودليل على حماولة ربط ي�صعب كثريا على ال�سارد �أن يتكيف مع �سن اخلام�سة
�أحداث الرواية بواقعية قدرية ال مهرب منها يف حياة وال�ستني حيث هو دائم ال�شكوى والتربم والقلق من
266 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
باخل�سارة واالنهيار عو�ض الربح والت�ألق ،وعلى هذا جميع املج�سدين يف الألبوم الذي احتوى على جميع
املنوال تظهر لنا اخلطوط العامة التي ق�صد بوا�سطتها �أنواع الذكريات التي عا�شها ال�سارد بطريقة واعية
ال�سارد تقدمي �ألبومه العائلي املوبوء انطالقا من وم�ضبوطة لأنه كان يخ�شى با�ستمرار من التهام
ف�صول م�شوقة خا�صة بت�رشيح جينيالوجي تعترب فيه جذوره لكي ال ي�صبح معزوال عن جماله وحميطه
الذكريات املا�ضية �سيدة املكان والزمان حيث ت�سطع �أو ي�صبح بطال من ورق� ،أو �أن الكاتب �أح�س بوهن
�صعودا ب�شدة وتوهج لتعود مرة �أخرى وتختفي متاما و�ضعف وي�أ�س �سارده ف�سارع للظهور يف جمرى
وت�ستحيل �إىل ذكريات ه�شة مري�ضة ومتال�شية ،ومل ال�رسد كي ي�سنده ،ويوجه ر�ؤيته ،وي�صحح خطئه،
تفلح �أي من العنا�رص احلياتية التافهة يف الت�رسية ويدعم بطولته خوفا من �سقوطها ،حيث ي�ؤكد ن�ص
عن ال�سارد وجعله ين�سى الوقع ال�شديد وال�صادم الرواية على �أن حفل �سقوط البطل ال يقل متعة وقيمة
لعنا�رص �ألبومه اخلا�رس ،وحتى التجربة ال�سيا�سية عن حفل تن�صيبه وذلك انطالقا من الأفكار التي
التي خا�ضها مل تفلح يف اقتالعه من لوعته الوجودية يوظفها البطل يف تدبري �أحوال ال�شخ�صيات الروائية
القا�سية ،فهو كان يعترب ال�سيا�سي رديفا للمغني، والتي يتقبلها كل واحد بطريقته اخلا�صة ،وعلى
واملغني رغم ال�شهرة والنجاح يظل دائما �أ�سريا لذاته العموم ف�إن كل فكرة ميكن �أن تف�سد �شهيتنا.
الرنج�سية املتقلبة وقلقه املزمن خوفا من زوال رواية املبدع «عبا�س بي�ضون» حتتفي كثريا باملر�أة
النعمة ،ورغم دخول ال�سارد ال�سجن ب�سبب وعيه وتهتم بها ،فال�سارد يفرد وقتا طويال وكافيا للحديث
ون�ضاله ال�سيا�سيني ومعاناته الرهيبة يف املعتقل عن حبه و�شوقه البنته «بانة» �صاحبة القط القدري
الإ�رسائيلي ف�إنه كان م�ؤمنا كل الإميان ،ومقتنعا «نينو» ،ويفرد كالما كثريا للحديث عن طباع زوجة
كل القناعة ب�أن الن�شاط ال�سيا�سي يرتبط بالبطالة، خاله ،ثم العالقة الوطيدة بني ال�سارد وحبيبته
فيكون وقت البطالة �إذا هو وقت احلزب والن�ضال، «�إكرام» التي يحب كثريا و�صالها وي�ستمتع به دون
�أما احلرب فقد �أ�صبحت هي الأخرى معمقة للخيبة التفكري يف جتاوز الأمر �إىل عالقة م�صريية ،ورغم �أن
و�سقوط الأحالم ،فهي �أعادت اجلميع �إىل البطالة «�إكرام» لب�ست احلجاب مع �أخواتها ف�إن ال�سارد اعترب
وال�س�أم ،وتبقى مزيتها الوحيدة هي �أن م�ساهمتها يف ب�أن احلجاب لي�س عند «�إكرام» و�أخواتها فقط بل عند
البطالة جعلت �أحالم اجلميع تكرب ،كما علمت اجلميع الكثريات هو عبارة عن م�صدر حلرية �إ�ضافية ال غري.
ال�سخرية من كل �شيء ،ويف الأخري بقي لل�سارد القط �ألبوم املبدع غني ب�شخ�صياته املتنوعة التي طبعت
«نينو» فقط ،هو وحده من �أ�سعفه يف التماثل معه� ،إن جمرى الأحداث يف الرواية ،وقد اعتمد يف تقدمي
املحاكاة بينه وبني القط هي التي �صانت ذاته اله�شة �شخ�صيات الألبوم �أو �أفراد العائلة على الأدنى ثم
من ال�ضياع واالنهيار ،وظل �صامدا بكربيائه �أمام انتقل �إىل الأعلى ف�أثار احلديث بنوع من ال�شموخ وعزة
احليوان ال يريد �أن ينهار �أمامه ويعلن ف�شله ،كما ظل النف�س عن جده الذي يح�رض يف الرواية يف �صورة
القط �شاخما ومعتزا بذاته احليوانية �أمام الإن�سان غا�ضب كبري وجامح متمرد ،ي�ؤكد ال�سارد ب�أن هذا
رغم مر�ضه املدمر ،ومل يهتز �شموخه وال انفرط عقد اجلد العتيد للأب هو الذي �أورث �أفراد الألبوم العائلي
عزته حتى دخل يف مرحلة االحت�ضار ،ثم نفق �أخريا، االكتئاب والك�آبة ،بينما �أورث اجلد للأم عرتته
ف�أدرك ال�سارد ب�أن موت القط هو �إيذان مبوت �ألبومه اخلوف واجلنون ،فاكتملت بذلك الأعرا�ض املر�ضية
املهرتىء ،وب�أن املوت �سواء طال احليوان �أو الإن�سان النف�سية لدى �شخ�صيات الرواية حتى جتذرت وبات
هو رديف النتهاء ال�رسد ،وانهيار الأحالم ،وتال�شي من ال�صعب جدا مواجهتها بالعالج والتطهري ،ف�أ�صبح
الألبوم. من قبيل امل�رشوعية الفنية والأدبية و�سم العمل
267 نزوى العدد / 74ابريل 2013
«نادي ال�صنوبر» لربيعة جلطي
كتابة املن�سي من التاريخ
اليامني بن تومي
كاتب وناقد من اجلزائر
للحرب ،قنابل يف حالة الإرجاء ،حيث الداللة تفي�ض لن �أن�سى �أبدا ياميناتا التي ال تعرف كيف تقبل
باملعنى ال من جهة اال�سهاب بل من جهة االقت�صاد موالي.
الذي جعل الرق�ص يعرب عن م�شهد �سينمائي غاية لن �أن�سى �أبدا موالي الذي علمها القبالت على طعم
يف الرتاجيدية ،حني يتكلم الرتاجيدي فالق�صة جتديف يف �أقا�صي الندم
�أنثى واملنفذ �صوت ذكوري حمل كل خيبات ،ياميناتاالرتقية ،ابنة طا�سيلي �آجري .موالي ابن
امل�ؤ�س�سة الر�سمية ،تلك االنهيارات امل�ضاعفة �أنهكت ورقلة �أمري مفل�س»
احلكواتي� ،أقلقته جعلته يف حالة بني –بني ،تلك مالك حداد� ،س�أهبك غزالة ،ترجمة حممد �ساري
احلوارية املري�ضة حتمل داخلها ذكاء م�ضاعفا
وتقنينا رمزيا للمجتمع الأمو�سي ،حيث املر�أة / ال�شعراء وحدهم ميكنهم ت�أثيث القبحي الذي بات
الأنثي /غادر �ساردة ا�ستلبت الرجل ل�سانه ليقدم لها ي�سكن اللغة ال�رسدية التي تعج بالنفايات كما يقول
اعرتافا تاريخيا واثنيا عن االخرتاق الذي ح�صل يف ناقدنا الكبري ال�سعيد بوطاجني ،فال�شاعر وحده ميكن
الأر�ضيات التحتية ملجتمعنا اجلزائري. �أن يدمر وحدة اللغة� ،أن يفكر بها من الداخل لي�صنع
تتعانق الرواية يف �شكل حواري جذاب يعك�س �سلطة عاملا موازيا من االيهام والأطياف املرحتلة ،يف
الأنثى التي تخرتق املذكر الذي دجن اخلطاب نظري النهاية هي �أطيافنا نحن يف ت�أثيليتنا الغريبة التي
تلك املركزية التي ا�ستلبها فقهيا ،تلك املركزية ا�ستع�ضنا بها هوية م�صطنعة حتمل داخلها نزوعا
التي �أعلت من قيمة الفحولة املدجنة املغ�شو�شة تدمرييا وبعد تهدميها للعمران الذي ن�سكنه.
يف جمتمع العبيد ،وب�أخالق العبيد ،هذه املركزية لي�س من قبيل ال�صدفة �أن تكتب ال�شاعرة ربيعة
راق�صتها املتلفظة /ال�ساردة يف �شكل حترير للأنثى جلطي رواية ،فالرواية نبتت مع �ضلع حواء وتوردت
من �سلطة مفرغة ،خاوية� ،إنها عودة فجائية لل�صوت على خدها نقطة حمراء يف �صحراء الطوارق التي
الهام�شي الذي ي�أتي من بعيد ليدمر وحدة الن�ص تغنى بها مالك حداد يف رائعته «�س�أهبك غزالة»
املتناهية يف ال�شكل. لكنها يف رواية «نادي ال�صنوبر» جتاوزت زمنية
الرواية متار�س �إغرابا تيماتيا للعامل وللف�ضاء ال�صورة اال�ست�رشاقية لتتحول ال�صحراء �إىل متحقق
عجت فيه الن�صو�ص بالدماء وازدحمت يف زمن َّ يف فعل الإدانة للحكاية ،هنا تتداخل الق�صيدة
بالأ�صوات الغربية ،و�صارت الأ�صوات �أ�شبه بفيلم املتزامنة يف الثقافة الكال�سيكية التي طاملا �شكلت
بولي�سي معروف النهاية ،لكن رواية «نادي ال�صنوبر» مرجعا ايهاميا للذات لتعيد احلكاية ر�سم التمف�صالت
حملت معها ب�شارة �رسدية للمخلِّ�ص الذي �سيزرع الكربى لذلك امل�سخ والت�شويه ،حالة االبتعاد عن
الأمل ويجدد الوهن يف ن�ص الت�سعينيات الدموي. طقو�سية» الإله الرتقي» ل�صالح �آخر �شمايل ا�ستح َّل
مع ما لهذا الن�ص من مكامن للقوة يف جوانب �أخرى. كل �شيء با�سم العر�ش .ر�ؤية انطولوجية عميقة عن
�إنها �رسدية تتحدث عن الآخر املن�سي فينا ،الآخر التناهي يف الإن�سية التي مل ن�صنع منها �إال قنابل
268 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
التداعي واحلركة ،فهي ثقافة منقو�صة من احلب، الذي ي�سكن جغرافيتنا ،وي�ضخ جيناتنا� ،إنه الأنا
ثقافة موجهة وم�أمورة ،ثقافة من فوق ،ولي�ست التي مل نفهمها ومل نح�سن تقديرها ،ت�صورناها يف
متحركة مبنطق الت�شارك ،القوة لي�ست يف الواحد بعد واحد و أَ� َح ْل َناها على �رسير بروك�ست كل من خرج
بل يف املتعدد ،فهذه اللفظة جزائرية تعك�س الأبعاد عنه قطعنا رجليه �أو و�سطه ،هذه الأنا املتورمة من
واملنظورات املختلفة للداللة الرمزية لل�صوت يف جهات ومنظورات خمتلفة ،فالرواية هنا و�ضعتنا
الرواية ،والداللة االثنية يف الواقع .الكينونة هنا �أمام �أ�سئلة غاية يف اخلطورة والدقة تنم عن وعي
�أو هناك لي�س �س�ؤاال مبا�رشا فتلك ت�شكيالت الدازين عميق مب�س�ألة الكينونة وذلك ال�س�ؤال الذي ظننا
املتزمن �أو املتزامن. الإجابة عنه �سهلة وب�سيطة . .من اجلزائري؟
الرواية حتيلك �إىل حالة التمثيل القوي العائم هل هو ذلك الت�صدير الأوحد ام انه املتعدد الذي
للت�أنيث العائم على ح�ساب �إخ�صاء للمذكر حيث ال �صورة له ،حني يكرث املتعدد ت�ضيع الواجهة
ت�ستل الأنثى احلكاية غ�صبا نتيجة مركزية نابعة الر�سمية ،ت�صبح �أوجه وت�ضمحل الثقافة الر�سمية
من جمتمع �أمو�سي/جمتمع الطوارق ،فالتذكري هنا التي ر�سمت لها �سياجا طويال من الكرنفاليات
يعد تظهري ت�أثيثي فقط للف�ضاء ت�شتغل الأنتي على وروجت لبعد واحد للإن�سان /الر�سمي وال�شعبويات َّ
�صورة ب�سيطة وتقعيدية لنموذج اال�شرتاكي الوطني
طول اخلطاب انطالقا من مف�صلني �أ�سا�سيني :
امل�ؤمن /ثالوث نحت له �شخ�صية فائ�ضة عن
-مف�صل ا�ستباقي؛ وهو واجهة �أولية للرواية حيث
احلاجة ،هذه الأحادية يف ال�شكل واملرجع ما فتئت
توجه احلاجة «عذرا» الرتقية حكايتها ملجموعة من
تر�سخت دولة ما بعد اال�ستقالل لكن رواية «نادي
البنات يف �شكل ا�ستباق للدخول يف الق�صة.
ال�صنوبر» يف ت�صوري قو�ضت الأ�سا�سات اله�شة لذلك
-مف�صل ا�ستذكاري وهو احلكاية ذاتها ،ال�سرية البناء ،حيث حاولت حترير اجلزائراية من معجمية
الذاتية وتعتمد الرواية على تيمة غاية يف الدقة احلاكم ومن ا�ستخداماته الف�ضة التي �صارت �أقرب
هي تيمة «التموقع»حيث تتخذ ال�شخ�صية الفاعلة �إىل اللعب املر�سوم لأغرا�ض ال�سيا�سة تطم�س كل
احلقائق التاريخية ،هذه الوحدة ال تعرب عن املتعدد
االثني وال�صوتي يف احلكاية ،هنا فقط يقف اخلطاب
امل�ؤ�س�ساتي على �إفال�سه بل نلفيه خطابا جموفا من
الداخل مهزوز ومناق�ض لأ�شكال الرتاكب التاريخي،
الطوارق ،القبائل ،بني ميزاب ،ال�شاوية ،القبائل. . .
تلك امل�سكوت عنها التي كلما توحدت يف اخلطاب
الر�سمي �أفقدته �أنظمته ال�سيميائية املختلفة لأنها
ال متوائمة حيث يريد اخلطاب الر�سمي �أن يجعلها
�صوتا واحدا وممثال واحدا عن الثقافة.
وحدها الرواية التي خل�صت التمثيالت املختلفة
ملدلول جزائري لنجد �أنف�سنا يف ف�ضاء �أعمق /
متالحق /على حاالت الالجتان�س يف التظهري
ال�سيميائي لل�شخ�صية اجلزائرية من جهة الثقافة،
فالتنميط �أق�صى املتعدد الثقايف وجعله يقف
برجل واحد لكنها رجل م�صطنعة فاقدة ل�سمة
269 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
حيث الفيال فارغة من ال�سكان �إال من الزيارات جملة من الو�ضعيات ال�رسدية تنطلق من احلكاية
الظرفية التي تقودها احلاجة عذرا ،يف حني �أن يف اجتاه خمتلف ،وهي توليد لل�رضورة احلكواتية
احلاجة عذرا تف�ضل الإقامة داخل تناق�ضات احلياة نتيجة التحريك الذي تتخذه الفاعلة /احلاجة عذرا
لتمار�س وظيفة الأمومية املوكلة �إليها يف التاريخ كل مرة وهي و�ضعيات تتموقع فيها احلاجة عذرا
نوع من حتيني التاريخي يف حلظة ال�سلطة املتكل�سة. للتمف�صل يف الرواية وفق ثالث تخارجات �رسدية
تعك�س الرواية بعدا �إنا�سيا لطاملا �أهمل يف املتخيل مهمة :
الروائي اجلزائري �أو �إن �صح التعبري ال جند له -اخلرجة ال�رسدية الأوىل طالق احلاجة عذرا و�إعداد
ح�ضورا قويا يف الرواية اجلزائرية ،وهو البعد حفلة الطالق.
الإثني للأطراف املتعددة يف اجلزائر ،فتقريبا الن�ص -اخلرجة ال�رسدية الثانية ذهاب احلاجة عذرا مع
الروائي اجلزائري منمط يف بعد واحد يحكي �صورة �أمريها للخليج.
وحيدة ،وهي حكاية تابعة لن�سق �سيا�سي /حكاية -اخلرجة ال�رسدية الثالثة عودة احلاجة عذرا �إىل
ال�سلطة �أو ن�صو�ص امل�ؤ�س�سة الر�سمية التي كانت العا�صمة.
ترى يف اجلزائري �صورة «العا�صمي»فقط �أو الريفي هذه اخلرجات تعطينا م�ؤ�رشا �رسديا مهما عن
القادم من جهة واحدة. التمف�صالت العامة للرواية التي خل�صناها يف
ما تزال الرواية عندنا تخفي الكثري من ال�شقوق ثالث وحدات �رسدية كربى ،وكل وحدة تنطلق من
والبيا�ضات التي مل تكتب بعد ،فجاءت رواية خالل عنا�رص �سميمية �صغرية ت�شكل توالد الذورة
«نادى ال�صنوبر» لتعيد كتابة املن�سي من تاريخنا و�سقوطها لتبد�أ ذروة �أخرى �إىل النقطة النووية
املجهول .فحاولت الرواية �أن تلعب على تيمة متوقع لل�رسد التي حتكي حكاية احلاجة عذرا .حيث تتزوج
الإثني �ضمن ف�ضاء ال�سلطة الذي يت�سم بالإق�صاء احلاجة عذرا من ال�شاب اخلليجي الو�سيم والرثي
والالت�سامح فتماوجت الرواية بني �أربعة تراكبات الذي وقع يف غرامها ولكنها مل ت�سطع البقاء معه
للف�ضاء : حتت �سقف واحد فرجعت بعد مدة للجزائر وهناك
-موقع �صحراء الطوارق /ف�ضاء الأ�صل /م�رسود ورثت احلاجة غدرا فيال مبنطقة نادي ال�صنوبر
�إثني م�سكوت عنه. ومن داخل الفيال ينطق �صوت ال�شاب «م�سعود»وهو
-موقع �صحراء العرب/ف�ضاء االنتقال /م�رسود �رسد نقي�ض �ضد فعل احلكاية الإطار /حكاية
هووي ؛ ثقافة مرجعية من جهة البناء ال�سيا�سي. احلاجة عذرا� ،إنها �إحالة �إىل كل �أ�صوات الهام�ش
-موقع فيال نادي ال�صنوبر /ف�ضاء امل�ؤ�س�سة �أو القابعة يف قلب املركز فالهام�ش ال يعني البيوت
ال�سلطة واملركز. الق�صديرية يف كل الأحوال و�إمنا الهام�ش املتمظهر
-موقع ال�شقة /ف�ضاء احلكي. يف �شخ�ص م�سعود ،هام�ش من نوع خا�ص ،هام�ش
حتمل الرواية هما �أنطولوجيا حيث تعمل على مركب ومعقد يف �آن هام�ش فوق هام�ش �أو هام�ش
حتليل عالقة ح�ضور الثقافة االثنية يف � ِّأ�س الثقافة دون هام�ش .هام�ش متعلق بال�شخ�ص حممول فيه ال
العروبية فتتحاور الثقافات من خالل عالقة يتعلق بالف�ضاء لأن فيال احلاجة عذرا تقع يف عمق
امل�صاهرة/الزواج من كونها بيت احلوار االكرث املركز /ال�سلطة /امل�ؤ�س�سة الر�سمية� ،إن هذا االمر
فعالية بني الأجنا�س ،فيعمل الت�رسيد على فك يعر�ض �أمرا �أو�سع و�أر�سخ ال يعر�ض لهام�شية م�سعود
تلك العالقة امللتب�سة يف م�شهد الثقافة ال�سلطانية الآنية واللحظوية بقدر ما حتمل داخلها امتدادا
تلك الثقافة العروبية التي �صنعت �سماء الواجهة ثقافيا للإهدار التاريخي الذي تعر�ض له الرجل يف
امل�شهدية لت�ستبعد الرتاكب التحتي للثقافات االثنية املجتمع الطوارقي .هو نوع من اال�ستبعاد املجدد
270 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
-ت�أزم الف�ضاء ؛ حيث جرت النو�ستاجليا �إىل املرجع احلقيقية للجزائر حيث ح�صل جذب خارجي بني
/ف�ضاء الطوارق /مما �أدى بها �إىل فراق الثقافة الثقافة الذكورية /الر�سمية والهام�شية /الرتقية،
العربية املتمظهرة يف الت�شكيالت الرمزية ؛البلد من خالل تكري�س ثقايف مهم لل�شعر باعتباره ممثال
اخلليجي ،الق�رص. . ، �سيميائيا دقيق لثقافة امل�ؤ�س�سة /العربي ،حيث مثل
-ت�أزم ج�سدي نتيجة الت�رصيح بالطالق ؛وهو ال�شعر قيمة االلتقاء اجلمايل ،وكيف متكن الإثني
طالق ينم عن ثورية ثقافية للمعنى املتوارى �أو من االنخراط يف ثقافة امل�ؤ�س�سة التي ا�ستعا�ضت
املغيب ،وهو طالق مفعم بالوعيد مع ما يحمله من مناذجها التاريخية ب�أخرى نتيجة انت�شار �آلية
ت�سامح بني غادر الرتقية والأمري اخلليجي ،ت�سامح االكت�ساح التي تفرزها الثقافة االمرباطورية عادة،
مفعم باحلب وهو تدليل عن البنية الرمزية للفا�صل ولأن الثقافة العروبية ب�أنظمتها املختلفة ت�شكل
الثقايف بني الثقافتني الرتقية والعربية وهو ت�سامح ف�ضاء امرباطوريا مهيمنا عملت عملت على ا�ستبعاد
حتتي يحمل غطر�سة داخلية من جهة الثقافة الثقافات الأ�صيلة يف اجلزائر ،فالرواية ورغم �أنها
العروبية ،فالت�سامح مفهوم متغطر�س يحمل داخله جتاهد يف تبيني القيمة اجلمالية لل�صحراء باملفهوم
�شلال يف الر�ؤية و�آخر يف البناء حيث وبرغم الإدانة العروبي من خالل ال�شعر �إال �أن الالجتان�س الرمزي
التي توجهها الرمزيات الرتقية للثقافة العروبية بني ثقافة اجل�سد االثنية وثقافة الغياب امل�ؤ�س�ساتية
�إال �أنها حاولت يف م�سارها حتمل عبء االنحراف انتهت �إىل فك االرتباط بني الثقافتني والتي عربت
الهووي /املرجعي يف البناء التاريخي للإن�سان عنها �صورة الطالق بني «غادر» والأمري اخلليجي،
اجلزائري. فاحلكي يعرب عن عودة املكبوت وح�ضوره القوي يف
الرواية تعتمد تيمة موقعة االثنيات الهام�شية نقد املركز ب�أ�شكاله الثقافة وامل�ؤ�س�ساتية.
يف �صلب الثقافة املهيمنة حيث متوقعت «غادر» املالحظ �أن الرواية حتمل هما ثقافيا مركبا،
باعتبارها ممثال للثقافة االثنية يف �شكلني �أ�سا�سيني فال�سارد ميار�س الت�رسيد وهو يف و�ضعية ا�سرتاحة
هما : حمارب ناقم على الواجهة املرجعية املتورطة يف
-موقعتها داخل الثقافة العروبية /امل�ؤ�س�سة ا�صطناع هوية مدمرة /قاتلة اكت�سحت الهويات
الر�سمية. املعلقة واملكبوتة والتي �أ�صبحت �شاهدا على دولة
-موقعتها داخل حميط امل�ؤ�س�سة الثقافية الر�سمية مابعد اال�ستقالل التي منطت الفرد وجعلته مم�سوخا.
�سيا�سيا. الرواية ت�ضغط ب�شدة على التجويف الذي �أ�صاب
جند �أن التموقع ا�شتغل فيما ي�شبه البنية القلقة حيث امل�ؤ�س�سة الر�سمية التي عجزت عن حتقيق تراكم
عرى الثقافة الر�سمية من الداخل ،عرى تناق�ضاتها توا�صلي حقيقي بني االثنيات وجعلت ب�شكل �سيا�سي
من خالل ا�سرتاتيجية �رسدية مهمة وهي التظهري فج متوقع االثنيات من كونها عن�رصا مرجعيا �أو
الذي اعتمد عليه الت�رسيد حيث و�صف نادي داال ثقافيا يف احلقل امل�سطح للثقافة الر�سمية.
ال�صنوبر يف �شكل حممية طبيعية جموفة من الداخل مع «غادر» تكرث الإدانات التحتية للثقافة املهيمنة
ومنهارة نتيجة الت�أزم الذي �أ�صاب اخلطاب حيث التي اخرتقتها من الداخل ،حيث ا�شتغلت املحايثة
يبد�أ التو�صيف من داخل البناء «لنادي ال�صنوبر من داخل الرتميزات الثقافية من خالل ا�ست�شهادها
« بل�سان «م�سعود» وهو تو�صيف لال�ضطراب الذي بعيون ال�شعر العربي وهو ترميز يحمل �إعجابا
ي�سكن حمميات ال�سلطة لأنها تراكبت يف ن�سق بالتظهري العالمي املميز للثقافة الر�سمية التي
تاريخي مغلق وه�ش. فارقتها «غادر» نتيجة ت�أزم مزدوج؛
عن غري �أ�صله خيانة م�ضاعفة ..انها انتقال من وملا تعودنا على اعتقاده .الآن تبدو يل كل ترجمات
�أ�صل �إىل ن�سخ ،ومن منوذح �إىل �أيقونات» .ويت�ساءل الن�ص
تت�رصف يف ّ ّ «�ألف ليلة وليلة» حتى تلك التي
الكاتب« :هل هناك وحدة حتى يف لغة ما بعينها.. ب�صفة مقيتة� ،شيئ ًا ثمين ًا ال ي�ستغنى عنه� .إنها
كلنا يعي�ش لغات يف اللغة» .وكما يرى عبد الفتاح ترثي الكتاب وت�ضيف �إليه دالالت ومعاين و�صوراً
كيليطو« :من ي�ستطيع �أن يرتجم �إىل الفرن�سية «� ّأما ال ترد يف �صيغتها الأ�صلية .قد نت�صور ترجمة له
بعد»« ،وليت �شعري»؟ ،بل من ي�ستطيع �أن يرتجم تكون نهائية «ومن ذا الذي ال يتمناها؟» .لكنها
«� ّأما بعد» �إىل العربية بالذات»� ،أي قريب يف اعتقادنا �ستكون حتم ًا عالمة انعدام الإهتمام به ،و�إيذان ًا
أ�رشح من الب�سملة
من مقولة علي بن ابي طالبُ �« ، ب�أفوله وموته»� .إذا ،الرتجمة ت�أليف ،واملرتجمون
يومياً،
ّ ما يعادل حملَ بعري» ،امل�سلم يقر أ� الب�سملة م�ؤلفون ،و�أحيان ًا نادرون ،بح�سب موري�س بالن�شو:
جاع ًال �إياها فاحتة يومه و�أعماله ،يتوكّ ل عليها «املرتجمون ،ه�ؤالء الك ّتاب النادرون».
ال�رش� ،أو جلب اخلري ،لكن لعلي ابن �أبي بنية طرد ّ
ّ ينبغي طرد مفهوم اخليانة الكهنوتية عن الرتجمة،
طالب� ،آراء يف معاين «الب�سملة» ،غري تلك امل�ألوفة.
والتماهي مع مقولة بورخي�س «خيانة الأ�صول».
إ�سالمي ًا بالعربية ،مرتجم ًا
ّ لذا ،هو ي�رشح معانيها �
يو�سع بنعبد العايل مفهوم اخليانة �إىل امتداح
مقا�صدها العربية �إىل العربية ،لأن جملة الب�سملة،
اخليانة ،مناق�ش ًا اخليانة امل�ضاعفة واخليانة
ال�سعة ،بحيت حتتاج �إىل فعل حتويلي ،فعل لها من ّ املزدوجة .اخليانة املزدوجة هي خلخلة اللغتني
ترجمي ،ي�ستبطن ما جتود به.
معاً ،حيث ت�ستفيد كلتا اللغتني من بلبلة ُنطمها
�إقناع تداويل الكتابية بالتناوب ،فتتعرب ّ القواعدية و�أن�ساقها
يعتقد الكاتبّ � ،إن ق�ضية الرتجمة «فل�سفية» ،ال الفرن�سية مثال ،وتتفرن�س العربية ،درءاً للعيب
متت ب�صلة �إىل اخليانة الأخالقية الكهنوتية ،لأن الرتجمي الذي ي�سجله الأملاين رودولف بانفيتز: ّ
الن�ص نف�سه مو�ضع نقا�ش وتداول ،ت�أليف و�إعادة «� ّإن �أح�سن ترجماتنا تنطلق من مبد�أ خاطئ ،وهي
ّ
ن�ص له الن�ص ،فكل ّّ الن�ص �إىل
ّ كتابة� ،إعادة زمن ين على ال�سن�سكريتية تزعم �إ�ضفاء الطابع الأملا ّ
زمانه ،و�إعادة الكتابة تلك ،تتطلّب زمن ًا �آخر ،ال والإغريقية والإجنليزية بدل العك�س� ،أي �إعطاء
الن�ص الأول ،فما فائدة الكتابة التي ّ ُي�شبه زمن الأملانية طابع ًا �سن�سكريتي َا و�إغريقي ًا و�إجنليزياً».
للن�ص �أزمنتة املتغيرّ ة بح�سب
ّ ال تتغيرّ �أزمنتها؟. � ّأما اخليانة امل�ضاعفه فهي ترجمة الأدب عرب
احلركة التي يثريها داخل الزمان ،وعليه ،تتوطّ د لغة و�سيطة ،ترجمات ال تنتج الأيقونة ،و�إنمّ ا تولّد
الن�ص اجلامد ،عدميطردياًّ .
ّ عالقة الأ�سئلة بالزمان ال�سيموالكرات « :ترجمات عربية عن كانط �أو هيغل
احلركة ،وغري م ّت�صل مع الزمان إ� ّال قليالً ،ويفقد �أو فرويد �أو نيت�شه� ،أو مارك�س �أو هايدغر ...معظم ما
�صفة ال�س�ؤال بح�سب بالن�شو ،فهو جواب .ك ّل �إبداع لدينا من ن�صو�ص عربية له�ؤالء ،مل ُينقل عن اللغة
هو حركة ،هجرة ونزوح من الزمن العمودي؛ زمن الأ�صلية ،و�إنمّ ا عن لغات �أخرى» .ثم ت�أتي الحق ًا
الن�ص� ،إىل الزمن الأفقي ،وهو الزمن الذي ّ كتابة ترجمة ت�شتغل على هذه النتاجات «املم�سوخة»،
للن�ص ،الزمن امل�ؤول .وهكذا ،ي�ستمدّ مينحه القارئ �أو هذه الرتجمات احلفيدة ،فت�صبح ا�شتغا ًال على
الإبداع قوته :من �إعادة �أن�ساق الزمن املختلف عن ا�شتغال .فما هي قيمة هذه اال�شتغاالت ،وهل هي
الن�ص الواحدْ � ،إن
الأ�صل ،ومن هجرة الأزمنة داخل ّ ن�صخيانات مركبة؟ ثمة من يقول�« :إن ترجمة ّ
273 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
الرتجمة خيانة� ،إ�سوة باخليانات االجتماعية. بيداغوجية (�أ�ستاذ الفل�سفة) ،لذا مينح الأفكار �شكل
ّ
فت�صبح اخليانة على هذا النحو �أ�سرتاتيجة ي�شعر بالقارئ رديف التلميذ، ُ و�سلوك الرتبية،
�أخالقيات ،ينبغي عدم اخرتاقها .يحتاج تفنيدها ي�سرت�سل معه ،ك�أنهما يف در�س �صداقة حميم،
يل �إىل ح ّد ما .ثم
اىل امل�سايرة مع القارئ ب�شكل تداو ّ منا طريقة ال �أق�صد العالقة الأ�ستاذية الرتبوية� ،إ ّ
االنقالب عليه ،ال عن طريق الطعن مب�سلّماته فج�أة، الو�صول �إىل الإقناع من دون الت�صادم ،وذلك لأن
تعود معية االثنني ،الكاتب والقارئ معاً ،مثلما العامل يف ّ
لأنه ،عندئذٍ� ،سيث�أر ملنظومة الأخالق التي ّ
الأفكار هي نتاجهما ،وهذا �شكل خمتلف للإقناع،
عليها ،بل عن طريق الإتفاق معه حيلة على �إن فعل
تخلو منه الثقافة العربية املزدانة باخل�ضوع �إىل
الرتجمة خيانة ،وهو ما يريده القارئ ،و�صو ًال ملا
العربي نف�سه
ّ �أفكار القائد .فغالب ًا ما يت�صور املثقف
يريده الكاتب :الرتجمة فعل �إبداعي نزيه ،يخلو من القراء مريدوه ،واملقالة حكومته.زعيماًّ .
اخليانة� ،أو هو خيانة اخليانات ،كما هو خيانة ال
�أحد .وهو املق�صود من فكرة عر�ض الأفكار ب�شكل ا�سرتاتيجية كتاب
بيداغوجي .عمل كهذا ،يطمح �إىل خلخلة قيعان ال يتجه كتاب «يف الرتجمة»� ،إىل �شكل الإقناع
الفهم ،ال يحتاج �أ�سلوب ال�شذرات «جتميع وم�ضات لوحده ،بل �إىل �شكل الكتابة �أي�ضاً ،فهو يت�ضمن
فكرية» ،بل ا�سرتاتيجية كتاب. ا�سرتاتيجية كتاب ،بخالف م�ؤلفات الكاتب الأخرى،
املعتمدة �أ�سلوب ال�شذرات ،يقول� « :س�أحاول يف هذه
ملاذا تظل الرتجمة عربي ًا «خيانة» �أخالقية،
العجالة تربير تلك املمار�سة الوقحة بع�ض ال�شيء،
يتم جتاوز الفعل الأخالقي يف الفكر الغربي بينما ّ التي د�أبت عليها منذ �أزيد من عقدين ،والتي تتمثل
واملجتمع الغربي ؟ .يبدو �أن املجتمع العربي يرتاح يف نوع من االِبتعاد عن الكتابة الفل�سفية الر�صينة،
�إىل فكرة اخليانة ،فهي حتاكي ازدواجيته الأخالقية وامليل اِىل جتميع وم�ضات فكرية ،ال تخ�ضع لقواعد
وثقافته املبطنة ،التي تفرح ب�صفات الت�سترّ الت�أليف املعهودة ،وخ�صو�ص ًا الفل�سفي منه ،بل انها
والتخفي .فمثالً ،نحن نخون �أخالقيا ومعنوي ًا تتخذ و�سائل ن�رش منابر ،ما كانت الفل�سفة لرت�ضى
الإتفاق ال�شفوي بني متعاق َدين وال نعت ّد به ،بينما بها حتى وقت غري بعيد».
ين�ص على يف الغرب ،هناك قانون يف املحاكم ّ تكمن خطورة عبارة «الرتجمة خيانة» ،يف
� ّأن االتفاق ال�شفوي ،عقد ُملزم .فما الذي بقي �إذن حتري�ض املجتمع العربي �أخالقياً .على ا�ستنفار
�أخالقي ًا وحرفي ًا من مفهوم «الرتجمة خيانة» ؟؟. املحرمات وجعلها �ض ّد الإبداع ،عندما ُيعترب فعل
للحوا�س ،التي تربط بني عنا�رص ال�صورة ال�شعرية تقوم ق�صيدة احلداثة عند ال�شاعر ال�سوري نوري
اال�ستعارية ،من خالل عالقات االنزياح القائمة اجلراح يف �إطار الر�ؤية اجلديدة التي تقدمها
على �أكرث من م�ستوى ،على �صعيد البنية الرتكيبية للذات والعامل واللغة على قاعدتني �أ�سا�سيتني،
لل�صورة ،واللغة امل�شحونة بكثافة ح�سية عالية �أولهما التفاعل مع املنجزات الأ�سا�سية التي
الداللة والرمز. حققتها التجربة ال�شعرية يف �أكرث ن�سخها �أهمية،
حتمل الق�صيدة عنوان الأيام ال�سبعة للوقت ،وهو ال�سيما الأنا�شيد و�آليات التقنع يف الق�صائد
امللحمية وامل�رسح القدمي ،وثانيهما �إعادة بناء
عنوان يت�ألف على م�ستوى بنيته النحوية من
اللغة وال�صورة ال�شعريتني على نحو مغاير،
جملة ا�سمية ،م�ستمدة من داخل الن�ص ،يحيل
يقوم على عالقات االنزياح التي تولدها خميلة
يف معناه على مرجعية خارجية ،ي�ستمد منها
�شعرية منطلقة ،وقد حتررت من معطيات التجربة
بع�ضا من دالاللته ،وذلك بحكم موقعه يف �صدارة
احل�سية املبا�رشة ،يف حماولة ثرية بلغتها
الق�صيدة ،يف الوقت الذي يحيل فيه على الن�ص
وبالغتها لكتابة ق�صيدة جديدة تقوم على لغة
الذي يتوجه بحكم وظيفته ال�شعرية ،فالأيام الرمز والإيحاء ،وتهج�س ب�أ�سئلة الوجود العميقة
ال�سبعة للوقت تقيم تنا�صها مع حكاية اخللق والغائر يف عمق الوجدان الإن�ساين ويف تاريخ
التوراتية ،التي تتحدث عن خلق اهلل للعامل يف كينونته .يف ق�صيدته املطولة الأيام ال�سبعة
�ستة �أيام ويف اليوم ال�سابع ا�سرتاح ،لكن تنا�صه للوقت ،يحقق ال�شاعر نوري اجلراح انزياحا
مع الق�صيدة التي يحيل عليها بقدر ما هي حتيل وا�ضحا على م�ستوى تلك الكتابة ال�شعرية ،يتجلى
عليه ،يك�سبه معنى �إ�ضافيا جديدا نابعا من يف جملة من اخل�صائ�ص البنيوية والأ�سلوبية
طبيعة احلدث الذي حتاول الق�صيدة �أن تتمثل واجلمالية ،التي ت�شكل خيارا حدائيا وا�ضحا
�أبعاده الإن�سانية ومعانيه ودالالته ،كما جتلى يف لل�شاعر ،ينتقل باللغة و�أدواتها التعبريية من
ظاهرة امل�سريات ال�سلمية التي كانت تنطلق كل م�ستوى التعبري املبا�رش �إىل امل�ستوى الرمزي
جمعة يف �أغلب الأرياف واملدن ال�سورية للمطالبة والإيحائي والتكثيف املركز ،والعالقات العابرة
276 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
هذا التكرار يف نفي املطابقة بني �أنا القناع، باحلرية والكرامة ،و�إ�سقاط نظام اال�ستبداد ،حتى
التي تتوىل وظيفة الكالم يف هذا اخلطاب ،و�أنا غدت احلدث الأيقونة ،الذي بات يعرب عن احلراك
ال�شاعر التي يتوجه �إليها هذا اخلطاب -الن�شيد، ال�سلمي ال�شعبي يف وجه البط�ش والعنف الأعمى
ف�إنه يتو�سل من خالل وظيفة التكرار حتقيق ب�ؤرة للنظام .وكما كانت الأيام ال�سبعة للوقت مبثابة
توتر وت�شخي�ص درامي وغنائي ،عرب تلك العالقة خلق جديد للعامل ،ف�إن الثورة ال�سورية من خالل
اجلدلية القائمة بني �أنا القناع و�أنا ال�شاعر، هذه الرمزية الدالة تتقاطع مع هذا املعنى ،من
بغية �إ�رشاك املتلقي منذ البداية يف تلك احلالة حيث كونها �إعادة خلق للحياة والإن�سان والواقع
ال�شعورية امل�سيطرة ،التي تعمل على تكثيف احلر اجلديد� .إن �أهمية هذا العنوان تكمن يف كونه
مدلوالتها الرمزية واحل�سية ،من خالل هذه مفتاحا ت�أويليا ،يقوم مبهمة ربط القارئ بن�سيج
العالقة القائمة على التوحد بني الق�صيدة والدم، الن�ص الداخلي واخلارجي ،كما يقول �إمربتو �إيكو،
�أو بني �أنا ال�شاعر و�أنا اجلماعة يف هذا الن�شيد وذلك من خالل وظيفته التي يقوم بها يف التعبري
العميق ،الذي ي�سعى �إىل و�ضع املتلقي منذ البداية عن العمل رمزيا ودالليا.
يف �أفق التجربة الدامي ،التي تتوحد لغة ال�شاعر ي�ستخدم ال�شاعر تقنية القناع ،التي تظهر عرب
بها ،دون �أن ت�سميها: انق�سام الذات على ذاتها ،يف اخلطاب وت�شظيها
دم من هذا الذي يجري يف ق�صيدتك �أيها ال�شاعر ؟ �إىل �شخ�صيتني اثنتني� ،شخ�صية القناع و�شخ�صية
و�إذا كان �صوت القناع الذي يفتتح الق�صيدة بهذا ال�شاعر ،الأمر الذي ينجم عنه قيام منولوج بني
الن�شيد ،م�ستخدما تلك اللغة اال�ستعارية القائمة �شخ�صية القناع وال�شخ�صية الأخرى لل�شاعر،
على ت�شخي�ص املجرد ،وعالقات انزياح ال�صفات والتي متثل الذات العميقة املكت�سبة ل�شخ�صية
عن مو�صوفاتها ،ب�شكل مينحها تلك الكثافة القناع ،بحيث ينتقل اخلطاب يف الق�صيدة ،من
الداللية املوحية( ق�صيدتك عمياء /و�صوتك امل�ستوى الذاتي �إىل امل�ستوى الآخر املو�ضوعي،
�أعمى) ،ف�إن تلك امل�ساءلة واتهام الذات ،الذي والكثافة الرمزية ،التي حتاول �أن تنفي املطابقة
تت�ضمنه تلك العتبة� ،رسعان ما يربز امل�شهد بني ذات ال�شاعر و�أناه الأخرى ،يف هذه الق�صيدة.
املقابل يف تلك الثنائية ،بني ال�شاعر والواقع �إن هذا اخلطاب املقنع الذي ي�أتي يف م�ستهل
امل َُعرب عنه لالنتفا�ضة ،عندما ينتقل خطاب �أغلب مقاطع الق�صيدة الطويلة ،على غرار ما كان
القناع من م�ستوى اتهام الذات و�إدانتها( ق�صيدتك يحدث يف م�ستهل الق�صائد امللحمية الكربى،
عمياء� )...إىل م�شهد ب�رصي متحرك نقي�ض للأول، ينتقل بالق�صيدة من �أفقها الذاتي �إىل الأفق
تتوىل فيه عنا�رص الطبيعة ،يف هذا اجلناز البالغ املو�ضوعي ،ومن لغتها املطابقة للغة� ،إىل لغة
الداللة ،من خالل متوالية ال�صور اال�ستعارية الإيحاء ذات الكثافة الرمزية ،والبنية اال�ستعارية
املكثفة ،وظيفة التعبري عن ق�سوة امل�شهد لل�صورة ال�شعرية القائمة على عالقات االنزياح
امل�أ�ساوي ،ما يجعلها تتحول �إىل ب�ؤرة داللية بني عنا�رصها ومكوناتها املختلفة� ،سواء على
�شديدة الإيحاء ،بو�صفها مكونا ا�ستعاريا ورمزيا م�ستوى ال�صفات� ،أو البنية النحوية� ،أو املعطيات
قائما على التج�سيد والت�شخي�ص ،يك�سب اخلطاب احل�سية للتجربة ال�شعورية .وبقدر ما تت�أكد وظيفة
277 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
وكثافتها الرمزية والداللية ،ومتثلها اجلمايل، و�أدواته التعبريية قيمة جمالية بالغة التكثيف
لأبعاد االنتفا�ضة العظيمة �إن�سانيا وثقافيا والداللة واحليوية ،التي تتولد عن ا�ستخدام
وتاريخيا ووجوديا ،م�ستثمرا يف ذلك �صيغا ال�شاعر للأفعال امل�ضارعة ،يف هذه املتوالية من
و�أدوات تعبري خمتلفة ،بدءا من �آلية التقنع، ح�شد التو�صيف :
وح�شد التو�صيف القائم على اال�ستخدام املكثف لكن الهواء يهدهد ال�سهل ،والع�شب يهم�س للقتيل/
ل�صيغة الفعل امل�ضارع ،وما ت�ضفيه من طابع القمح يتطاول /لريى /ارجتاف اله�ضبة.
احلركة واحليوية واحلرارة على امل�شهد ال�شعري �إن القناع الذي يقوم بنفي �شخ�صية ال�شاعر،
(املركبات تفح /املركبات تعوي /اجلنازير
�إمنا يقوم ب�إبراز الذات العميقة لها ،جم�سدة يف
ال�ضخمة ترتك ب�صماتها على �إ�سفلت ال�شارع/
ال�شخ�صية املتنكرة �أو �شخ�صية القناع ،وهنا
املركبات العمياء تر�سل احلمم �إىل �صور العائلة)،
نالحظ �أن �أنا هذه ال�شخ�صية تنتقل باخلطاب
و�صوال �إىل تقنية التكرار ووظائفها البنائية
من م�ستوى عالقة االلتحام بني اللغة والثورة
والإيقاعية والن�صية ،وا�ستطراد التداعي (دم يف
ال�سورية� ،إىل م�ستوى االلتحام بني �أنا ال�شخ�صية
غفلة املنعطف ،يف مم�شى ال�صبي ،يف ابت�سامته
والثورة ،حيث ينفتح �س�ؤال امل�أ�ساة ال�سورية يف
املدر�سية /يف كتاب املعلم /يف �س�ؤال ال�صباح/
�أبعادها الإن�سانية ،وبلغة ال تت�ضمن �أية �إحالة
دم يف بحة املراهقة ،دم يف ه�سي�س املاء /دم
مبا�رشة� ،أو قرينة ما �إليها ،ليكون �س�ؤال ال َّدم
على الأ�شجار ،)...والتنا�ص القائم على ا�ستدعاء
ال�صارخ مفتوح الداللة على ات�ساع تلك امل�أ�ساة
�شخ�صيات دينية ،من خالل الوقائع التي ارتبطت
التي تتوحد معها �أنا القناع:
بها ،وتنا�ص اخلفاء مع روح الأنا�شيد الدينية
والق�ص�ص الديني ،حيث يجري امت�صا�ص احلكاية �شق الغروب ويف املتبقي من الزمن �شقيقي الذي ّ
وتذويبها يف الن�ص اجلديد ،مع الإبقاء على عالمة ر�أ�سه /دمه يقطر يف مالب�سي /دم من هذا؟/
من عالماتها الدالة (وملا ت�ساقطت احلجب/ تق�صف جهة الغروب يقطر حمرة وظهره الذي َّ
ر�أيت ما ر�أيت ،دم ي�رصخ يف حنجرة م�شطورة/ وغروبا /دم من هذا؟ /دم من هذا؟
والغراب بجناحني متعاظمني يلطم ال�شقيق بدم تتوزع الق�صيدة على جمموعة من املقاطع
ال�شقيق� -أنا ال �أكتب ق�صيدة لكنني �أ�شم القمي�ص املكثفة ،وامل�شاهد ذات البنية امل�ؤلفة من طيف
لأب�رص)� .إن ال�شاعر يحاول اال�ستفادة من كون وا�سع من ال�صوراال�ستعارية ،القائمة على عالقات
تلك ال�شخ�صيات والق�ص�ص الديني تتمتع بح�ضور التباعد واالنزياح بني عنا�رصها ،ب�صورة تتحرر
عميق مع دالالتها الإن�سانية والوجودية العميقة فيه ومعه لغة ال�شاعر من مدلوالتها املبا�رشة
يف املخيلة والوجدان اجلمعي ،ما ي�سهم يف واملطابقة للغة ،لكي يتم بناءها على م�ستوى
حتقيق تفاعل �أو�سع بني الق�صيدة واملتلقي. �أعلى ومغاير ،تت�سم معه بطابعها الإيحائي
النقدي املوريتاين انطالقا من خ�صو�صيته ويف ميكن للباحث املت�أمل �أن يالحظ �أن معظم املقاربات
تعالقاته مع مرجعياته الفكرية النظرية والإجرائية النقدية املوريتانية التي تنطلق من الن�ص الأدبي �أو
يف ال�سياق العربي والغربي لنعرف كيف ا�ستطاع تطمح �إىل ذلك وجدت �صعوبة حقيقية يف اكت�شاف
الناقد امل��وري��ت��اين �أن يبني منهجه اخل��ا���ص به، الن�ص الأدب��ي ودرا�سة قوانينه مبعزل عن ال�سياق
وح��دود التزامه باملنهج النقدي «امل�صدر» وهو اخلارجي ،ومن ثم فقد وجد معظمها نف�سه مدفوعا
ت�سا�ؤل �سي�ؤدي بنا �إىل �إعادة طرحه بطريقة �أخرى عن ق�صد �أو غري ق�صد �إىل اال�ستفادة مما يقدمه املنهج
لأ�سباب تتعلق بالثقافة العربية املعا�رصة �إجماال البنيوي التكويني من «و�سائل» ت�سعى �إىل ردم الهوة
– والنقد الأدبي جزء منها وهي كيف ا�ستقبل النقاد بني داخل الن�ص وخارجه �أو على الأقل تطمح �إىل
املوريتانيون البنيوية التكوينية ؟ ربط ال�صلة بني هذين الوجهني امل�شكلني للظاهرة
الإبداعية الأدبية مبا هي ن�شاط لغوي خا�ص تفرت�ض
لو�سيان جولدمان ور�ؤيته العامل
منتجا ومتلقيا وحميطا اجتماعيا وواقعا اقت�صاديا
يلعب العمل الأدب���ي يف نظر لو�سيان جولدمان و�سيا�سيا وخلفية تاريخية.
و�أ�رضابه من البنيويني التكوينيني دورا حيويا يف ولي�س من طبيعة هذا البحث وال من دوافعه و�أهدافه
تكوين الواقع وت�شكيله عو�ض عك�سه ب�شكل �سكوين، �أن ينطلق م��ن البنيوية التكوينية كمنهج نقدي
وان��ط�لاق��ا م��ن التمييز ب�ين «امل��ع��رف��ة امل��ج��ردة» معروف يف الغرب ب�أ�س�سه و�أدواته و�إجراءاته ليبحث
و«امل��ع��رف��ة املح�سو�سة» مي��ك��ن �إدراك املفهوم عن «�إكلي�شيهات» موريتانية ت�صنف يف خانته ،كما
اجلولدماين عن البنية الدالة �أي وحدة العمل ومعناه، لي�س الهدف �أي�ضا االنطالق من منهج نقدي موريتاين
وبالتايل طابعه اجلمايل اخلا�ص ،ولي�س ذل��ك �إال بغر�ض البحث عن �سبيل لو�ضعه يف خانة عاملية
لإيجاد عالقة م�شرتكة لي�ست بني م�ضمون الوعي متكن من االعرتاف به وت�سويقه.
اجلمعي وم�ضمون العمل الأدب��ي ،ولكن بني البنى �إن الغر�ض من هذه الدرا�سة هو حماولة حلظ ودرا�سة
الذهنية التي ت�شكل الوعي اجلمعي والبني ال�شكلية طبيعة هذا املنهج النقدي يف موريتانيا وت�صنيفه
واجلمالية التي ت�شكل العمل الأدبي. على نحو يتطلع �إىل قدر من املو�ضوعية ،ودرجة
وهكذا اهتم جولدمان بدرا�سة «بنية» الن�ص الأدبي مقبولة من الدقة يف ر�صد وحتليل املنهج .وحيث
درا�سة تك�شف الدرجة التي يج�سد بها الن�ص بنية �إن النقد العربي املوريتاين – كما النقد يف الإطار
الفكر �أو ر�ؤية العامل عند طبقة �أو جمموعة اجتماعية العربي الأعم – ا�ستثمر على نحو وا�سع ويكاد يكون
ينتمي �إليها الكاتب وعلى �أ�سا�س �أنه كلما اقرتب مقت�رصا على ذلك « تقنيات» املناهج النقدية الغربية
الن�ص اقرتابا دقيقا من التعبري الكامل املتجان�س عن وطرائقها يف التحليل والت�صنيف والرتكيب ،واحلكم
ر�ؤية العامل عند طبقة اجتماعية كان �أعظم تالحما �أحيانا ،ف�إنه ي�صبح م�رشوعا وطبيعيا درا�سة املنهج
279 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
ال يفعل ذلك عن رغبة ف�ضولية يف التنقل� ،أو عن جهل االجتماعية ،وما دامت للن�ص الأدبي وظيفة حمددة
بحقيقة املناهج النقدية ودوره��ا يف بناء الن�ص، تاريخيا� ،إذ هو جواب فرد ينتمي بال�رضورة لفئة
و�إمن��ا حتركه الرغبة يف الو�صول �إىل منهج يحط اجتماعية حمددة تاريخيا ،يهدف �إىل تغيري و�ضعيته
الباحث الرحال عنده وهو م�شبع باالطمئنان �إىل �أنه يف اجتاه يلبي طموحاته التي تلتقي مع طموحات
قد و�صل �إىل طريق �أو �آلية متكنه من مقاربة الظاهرة الفئة االجتماعية التي ينتمي �إليها.
الأدبية يف �أبعادها املختلفة ،والتباينات املتنوعة، و�إذا كنا قد قمنا خالل التمهيد ال�سابق مبحاولة
بعيدا عن املنهج الذي يك�شف عن زاوية واحدة من خجولة لإ�ضاءة امل�سار البنيوي التكويني غربيا
ال�صورة ويرتك زواياها الأخرى عن ق�صد �أو عن غري وا�ستقباله عربيا ف���إن الت�سا�ؤل يبدو ملحا حول
ق�صد. طبيعة تلقي البنيوية التكوينية يف النقد املوريتاين
ويبدو يل �أن الناقد حممدو الناجي كان مو�ضوعيا املعا�رص.
يف عملية تنقله بني املناهج النقدية ،فقد بد�أ مبنهج النقد البنيوي التكويني يف موريتانيا:
اجتماعي (خارجي) ثم عدل عنه �إىل منهج �أ�سلوبي ظهر �أول اهتمام بالبنيوية التكوينية يف موريتانيا
( داخلي) ثم عاد �إىل م�ستوى من م�ستويات الرتكيب منذ �أوائل الثمانينات من خالل جمموعة من املقاالت
بني املنهجني من خالل املنهج البنيوي التكويني. النقدية ال�صحفية التي ت�أثرت بها على نحو �أو اخر،
وتعد هذه املرحلة الرئي�سية يف عطاء هذا الناقد. كما �أن جممل املدونة النقدية التي ظهرت بعد ذلك
ويتحفظ الناقد يف بداية تقدميه لعمله «وا�سرتاتيجيته منذ �أو اخر الثمانينات ال ميكن ف�صلها �أو عزلها عزال
العامة من الت�رصيح مبنهجه « :أ�م��ا نحن ،وب�شيء كليا عن هذا االجتاه وامتداداته الوا�سعة يف ال�ساحة
من ال�صدق مع القارئ فقد انطلقنا من �أن املنهج النقدية يف املنطقة العربية عموما واملغاربية
الذي نتبعه هو منهج نحدده �سلفا ،و�أن نعتمد مبد�أ خ�صو�صا غري �أن ثمة ثالثة نقاد موريتانيني ميكن
«الفائدة» يف مبا�رشة الن�ص ،ونرتك للحظة النقدية ت�صنيفهم يف هذا االجت��اه ولكل منهم خ�صو�صيته
حرية التحكم يف حتديد االجت��اه �أث��ن��اء م�ساءلتنا يف اال�ستفادة من هذا املنهج ،وحدود هذه اال�ستفادة
للن�ص ،ولعل ذلك كان �أقرب �إىل املو�ضوعية . وهم:
ولكن الناقد يعود ليتخفف مما قد يخيل للقارئ �أنه -1حممدو الناجي ولد حممد �أحمد :
تو�سع يف املناهج �أو �سعى لإلغاء حدودها« ،ر�أينا �أن مار�س «حممدو الناجي» النقد الأدب��ي يف جانبه
حتليلنا للن�صو�ص قد ا�ستقر عليه ما ي�شبه توفيقية التطبيقي خا�صة يف مقاالته املن�شورة يف جريدة
جولدمان� ،أو ما يعرف بالبنيوية التكوينية التي «ال�شعب» حول ق�صيدة ال�سفني 1984والتي ات�ضح
جتمع البعد اخلارجي للن�ص �إىل البعد الداخلي له». فيها ت�أثره بالنقد االجتماعي (الواقعي اال�شرتاكي).
وك�أمنا يخ�شى الناقد من الوقوع ال�صارم يف دائرة ث��م م��ن خ�لال درا���س��ت��ه ال��ت��ي �أع��ده��ا �سنة 1987
الت�صنيف الدقيق فقد حر�ص على �إبداء بع�ض التحفظ وعنوانها« :معار�ضات ياليل ال�صب -ال�سمات
مربرا �سببه« :ومع مقاربتنا هذه للمنهج امل�ستخدم امل�شرتكة واخل�صائ�ص املميزة « وذلك للح�صول على
يف الدرا�سة ،ف�إننا مل نتحرج من ا�ستخدام �أية روافد دبلوم الدرا�سات املعمقة من اجلامعة التون�سية خالل
�أخرى نف�سية �أو تاريخية �أو �أيديولوجية ،قد ت�ساعدنا فرتة �إقامته يف تون�س للعمل يف اجلامعة العربية،
على اكت�شاف الن�ص �أكرث ف�أكرث وت�سد من �أزرنا يف وحتول فيها الناقد نحو املنهج الأ�سلوبي م�ؤقتا ،ثم
الو�صول �إىل �أف�ضل نتيجة ممكنة». عدل عنه يف درا�سته اخل�صبة «مقومات ال�شعرية يف
وق��د اخ��ت��ار الناقد درا���س��ة �شعر حممود دروي�����ش، ديوان حممود دروي�ش».
وتك�شف �أ�سباب اختياره عن مزيد من معامل منهجه والباحث وهو يتنقل بني االجتاهات النقدية املختلفة
281 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
�إىل حد معني املنهج البنيوي التكويني ،ف�إنه قد فعل النقدي «االهتمام بالق�ضية الفل�سطينية التي ربط
ذلك فيما يبدو لنا من خالل جمموعة من الأدبيات دروي�ش نف�سه بها ،واندمج فيها وجدانه ف�أ�صبح
الكربى واملقوالت الأ�سا�سية ولي�س من خالل ا�ستثمار خيطا من ن�سيجها وباتت عن�رصا قارا يف كيانه»
«تقنياته» الفنية اجلوهرية ,وقد تو�سع يف بع�ض ويبقى الت�سا�ؤل امللح عند الناقد حممدو الناجي كيف
ف�صول درا�سته حتى اق�ترب كثريا من �أطروحات ا�ستطاع الن�سق الفني عند دروي�ش �أن يك�شف هذه
املارك�سية خا�صة يف ف�صل االلتزام يف �شعر دروي�ش. احلقيقة و�أن يربز تلك احلالة.
-2بات بنت الرباء: ويعود لينت�رص لذلك التدرج ،واحلكم الذي �أ�صدره ،يقول
ت�برز امل�ساهمة النقدية لبات بنت ال�براء – وهي متحدثا عن حوار �شعري يف �أحد ن�صو�ص ال�شاعر�« ،إن
�شاعرة �أي�ضا – من خالل عملها الـذي ن�رشتـه �سنـة هذا احلوار الفاجع واملمتع يف الوقت نف�سه ال ميكن
1998وعنوانـه « ال�شعـر املوريتـاين احلديث -1970 �أن ينقل عرب ن�ص ق�صري يت�سم بالن�صاعة و�أحادية
.1995 الر�ؤية ،وهنا تكمن القيمة ال�شعرية لهذا النوع من
ولعل عمل بات بنت الرباء كان �أجر أ� حماولة لناقد البناء الطويل ذي الطابع الدرامي الذي تت�صارع فيه
موريتاين لال�ستفادة من هذا املنهج يف درا�سة ال�شعر �إرادات وم�شاعر خمتلفة وتطلعات متناق�ضة
ومل ي�صل بها الأمر �أن تدخل يف �رصامة تفا�صيل هذا �إن الناقد يركز على تر�صد �أرق ال�شاعر يف البحث عن
املنهج �أو ترتبط بجزئياته الإجرائية. الن�ص القادر على النفاذ �إىل العامل ب�شقيه الداخلي
ويح�رض يف حتليالتها على نحو �ضمني مفاهيم واخلارجي و�إعادة ت�شكيله من جديد على نحو يك�شف
من قبيل البنية الدالة ،ور�ؤي��ة العامل وغريهما من حقيقته الأ�صلية التي ال ي�ستطيع �إعادة تركيبها وفك
«ميكانيزمات» هذا املنهج ،كما عولت على معطيات �شفرتها �إال الناقدة �أو القارئ احلري�ص.
�صادرة من م�سارات بنيوية �أخ��رى و�إن على نحو ويالحظ الناقد ما �أ�سماه حتوالت الق�صيدة يف م�سرية
�أ�ضعف. دروي�ش ال�شعرية رابطا بينها وبني اخلارج ال�سيا�سي:
والناقدة كما يظهر ع��ادت �إىل املنهج يف �أ�صوله «يتطور دروي�ش وبا�ستمرار من مرحلة �إىل �أخرى من
الغربية ب�شكل حمدود ،ويف تطبيقاته العربية على املبا�رشة �إىل الظهور �إىل اخلفاء ودروي�ش بحيويته
نحو وا�سع ،ومن ثم ف�إنها وبغ�ض النظر عن قيمة ومعاي�شته للواقع املتغري ال ي�ستطيع �إال �أن يتغري
عملها م��ن الوجهة النقدية املعيارية ف�إنها قد ويتطور فيما بني �أ�سلوب و�آخر وقد ا�شتعلت الثورة
�أخذت بطريقة �أو �أخرى «عيوب» «ومزايا» حماوالت الفل�سطينية ووقعت هزمية 1967وتفجر كل �شيء يف
«تعريب» هذا املنهج. الداخل واخلارج يف احللم والق�صيدة ،و�رشع حممود
وقد ق�سمت الناقدة الدرا�سة �إىل �ست بنيات �سرنكز دروي�ش يف �أ�سفاره الكربى بني الأمكنة والكلمات».
هنا على البنية الداللية منها لأهميتها يف مو�ضوع ويبلغ الناقد ذروة اكت�شافه لن�سق ال�شاعر الإبداعي
بحثنا: يف ت�شابك الذاتي مع االجتماعي ،الوطني والقومي،
ويالحظ �أنها و�ضعت م�صطلح «امل�ضامني ال�شعرية» والداخلي واخلارجي حني الحظ �أن حممود دروي�ش
مرادفا مناظرا لها ،وك�أنها تريد �أن جتعلها يف منزلة �أظهر «بطرافة �صوره يف «رقتها» ،ويف «عنفها» �أن
واحدة. الوجدان لي�س مق�صورا على الناحية الذاتية البحتة بل
وهي تقدم ت�صورا عن تطور ر�ؤية ال�شاعر املوريتاين قد مي�س الق�ضايا االجتماعية الكربى ،فال�شعر احلديث
ل��ل��ع��امل اب��ت��داء م��ن ع��امل��ه امل��ح��ل��ي يف �أح�لام��ه، ويف ال��ذروة منه �شعر دروي�ش ميدان الأحا�سي�س
وانك�ساراته ،ثم يت�صاعد هذا الوعي ليت�ضخم يف �شكل الوجدانية فردية كانت �أم اجتماعية» .
ق�ضايا قومية كربى تنحفر بالطريقة نف�سها التي و�إذا كان حممدو الناجي ولد �أحمد قد حاول �أن يوظف
282 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
�أ�صبح مدعاة للقلق والت�شا�ؤم انطالقا من الواقع الذي انحفر بها عامله املحلي الأ�صغر.
ينبئ بذلك». وترى الناقدة �أنه مبرور ال�سنوات الأوىل لال�ستقالل
وتتك�شف معامل منهج بات بنت ال�براء �أكرث عندما تبني �أن الوعي التاريخي والإبداع الفني يقت�ضيان
تعر�ض ملالحظاتها اخلتامية حول درا�ستها� « :إذا ام��ت�لاك منهج ف��ك��ري ،ونظرية عامة ميكنان من
حاولنا التوليف بني الدرجة التي �شهدتها البنى �صياغة ر�ؤية �شاملة وق��ادرة على حتليل و�صياغة
االجتماعية والثقافية واالقت�صادية ب�سبب التمدن اختيارات تالئم متطلبات املرحلة اجلديدة.
واجلفاف ومدى ارتباطها بظهور هذه املدونة وقمنا ويربز هذا الوعي �أكرث ما يربز يف ق�ضية الوطن التي
بعملية �إ�سقاط على الواقع �أ�صبح ب�إمكاننا املواءمة كانت من �أبرز الق�ضايا التي �أرقت ال�شاعر املوريتاين
بني التحوالت ال�شعرية على م�ستوى البنية الداخلية «والوطن يف هذه الأ�شعار «املدونة» مفهوم جمرد
وبني مراحل التطور االجتماعية وال�سيا�سية وبالتايل متبلور يت�ضمن االن��ت��م��اء �إىل الأر����ض وال�شعب،
الثقايف والنف�سي ،وه��و م��ا مكننا م��ن اكت�شاف ويتقم�ص جميع عالقات ال�شاعر – بو�صفه �إن�سانا
التفاعالت الثقافية والنف�سية واالجتماعية التي و�شاعرا – بحيثيات املا�ضي واحلا�رض وامل�ستقبل
�أقامتها البنية الداخلية للمنت مع املحيط عامة. فهو كنزه الغايل وتركة �أج��داده ،هو �أمله وحياته
وهي هنا تربز وعيا وا�ضحا ب�أمناط الرتابط بني وم�صريه».
التحوالت ال�شعرية والبنيوية عموما ودالالتها على وتك�شف الناقدة �صورة الوطن /الواقع بعد �أن عر�ضت
اللحظات احلياتية. للت�صور الذهني لـه يف ذهن �شعرائها «ويظل ال�رصاع
وميكن للدار�س �أخريا �أن يخرج باملالحظات التالية قائما بني االنتماء والرف�ض :االنتماء �إىل الوطن
حول منهج الناقدة. (مفهوم الوطنية) ورف�ض ال�صورة امل�أ�ساوية (الظلم
-1ان الناقدة حاولت �أن ت�ستفيد مما يقدمه املنهج واال�ضطهاد والتخلف) �إىل �أن يتم التالزم التعبريي
البنيوي التكويني من �أطروحات و�آليات تطبيقية بينهما يف البيت ال�شعري ال��واح��د ،بل وحتى يف
�سعيا �إىل قراءة مدونة ال�شعر املوريتاين قراءة �أقرب اجلملة يتناوبان طريف الإ�سناد . .هو االنتماء والوعي
�إىل التكامل منها �إىل النظرة الأحادية من خالل ربط بحقيقة امل�أ�ساة والرف�ض لكل �صورها املعرب عنها
داخل الن�ص بخارجه ربطا فنيا ولي�س ربطا غر�ضيا باجلرح والأ�رس والتمزق واملعاناة :
ف�ضفا�ضا ،وقد وفقت يف ذلك بع�ض التوفيق. بلدي جريح
-2ان هذه اال�ستفادة مل ت�صل �إىل حد تقبل املنهج يف فكيف �أقبل �أن �أخون و�أن �أهون؟!
تفا�صيله كما مل مينعها من اال�ستفادة من التيارات وطني �أ�سري
البنيوية الأخرى. كيف �أطمع بال�سعادة يف حمى امل�ستعبدين؟
-3ع��ان��ت الناقدة من االرت��ب��اك يف فهم وتطبيق وتركز الناقدة على تطور ر�ؤية ال�شعراء فتقول «�إذا
املنهج البنيوي التكويني ،وهو ال�شيء نف�سه الذي كانت ق�صائد املرحلة الثانية �شهدت انفتاح ال�شاعر
حدث لها عندما حاولت االنفتاح على مناهج �أخرى على الهم القومي واهتمامه بالق�ضايا القطرية ،وهو
وا�ستثمارها يف درا�ستها كال�سيميائية والبنيوية، ما عرفته كذلك بع�ض الق�صائد يف الثمانينات ف�إن
وعانت من التيه �أحيانا واالنزالق �أحيانا �أخرى حول املرحلة الثالثة وما ات�سمت به من �ضبابية الر�ؤية
املناهج . .ومل تكن يف عملها ذلك بدعا من كثري من وما عرفته من ظروف ا�ستثنائية وجفاف حاد جعلت
التطبيقات العربية للمناهج النقدية الغربية عموما ال�شاعر يراجع اخلريطة املحلية من جديد وينذر
واملناهج الن�صية منها خ�صو�صا. بخطورة امل�ستقبل ،فلم يعد امل�ستقبل حمط الآمال
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) كما يف ق�صائد املرحلتني الأوىل والثانية و إ�من��ا
283 نزوى العدد / 74ابريل 2013
الذاكرة النباتية واملعدنية :
م�ستقبل الكتب
ترجمة :علي عبد الأمري �صالح امربتو �إيكو
مرتجم وطبيب من العراق
على مر القرون� ،أهم و�سيلة حلفظ حكمتنا اجلمعية. �ضيفت مدينة الإ�سكندرية يف الأول من (نوفمرب)
كانت وال تزال نوع ًا من العقل الكوين حيث ميكننا �أن 2003الروائي والعامل االيطايل ذائع ال�صيت
ن�سرتجع ما ن�سيناه وال نزال جنهله� .إذا �سمحتم يل امربتو �إيكو حيث �ألقى حما�رضة باللغة االجنليزية،
�أن �أ�ستخدم جمازاً كهذا ،املكتبة هي �أف�ضل حماكاة حول �أنواع الذاكرة الأدبية واجلغرافية ،يف مكتبة
ممكنة ،من قبل الب�رش للعقل الإلهي حيث الكون كله مت الإ�سكندرية بجمهورية م�رص العربية.
فح�صه وفهمه يف الوقت ذاته .الإن�سان قادر على �أن لدينا ثالثة �أنواع من الذاكرة ؛ الأوىل :هي الع�ضوية
يخزن يف ذاكرته املعرفة التي زودته بها مكتبة هائلة وامل�ؤلفة من اللحم والدم وهي التي يديرها دماغنا.
بكلمات
ٍ ت�ضاهي ب�شكل من الأ�شكال عقل الباري. الثانية :هي املعدنية (الالع�ضوية) ،وبهذا املعنى
�أخرى ،لقد اخرتعنا املكتبات لأننا نعرف �أننا ال منلك عرف اجلن�س الب�رشي نوعني من الذاكرة املعدنية :
القدرات الإلهية ،لكننا ن�سعى جاهدين �إىل �أن نقلدها. قبل �آالف ال�سنوات املن�رصمة ،كانت الذاكرة ممثل ًة
�أن نبني� ،أو بالأحرى �أن نعيد بناء ،اليوم ،واحد ًة من خالل �ألواح الطني وامل�سالت ،وهي معروفة
من �أكرب مكتبات العامل يبدو �رضب ًا من التحدي، جداً يف هذا البلد (يق�صد م�رص -م)� ،إذ نحت عليها
�أو التحري�ض .يحدث يف مرات متكررة يف مقاالت النا�س ن�صو�صهم .على �أية حال ،هذا النوع الثاين
ال�صحف �أو الأوراق الأكادميية� ،أن يتكلم بع�ض هو �أي�ض ًا الذاكرة االلكرتونية حلوا�سيب يومنا هذا،
الكتاب ،وهم يواجهون ع�رص احلا�سوب واالنرتنيت امل�ستندة �إىل ال�سليكون .لقد عرفنا كذلك �رضب ًا
اجلديد ،عن «موت الكتب» املحتمل .على �أية حال، �آخر من الذاكرة �أال وهي النباتية ،التي متثلت يف
�إذا قي�ض للكتب �أن تختفي ،كما اختفت امل�سالت �أوراق الربدي الأوىل التي حملت كالم ًا مكتوباً،
والألواح الطينية يف احل�ضارات املوغلة يف القدم، وهي معروفة �أي�ض ًا يف هذا البلد ،ومن ثم متثلت يف
لن يكون هذا مربراً جيداً لإلغاء املكتبات .على الكتب امل�صنوعة من الورق .دعوين �أ�ستثني احلقيقة
العك�س ،يجب �أن تبقى املكتبات �ش�أنها �ش�أن القائلة �إنه يف حلظة معينة كان رق املخطوطات
املتاحف التي حتفظ لقى املا�ضي ،بالطريقة نف�سها الأوىل من �أ�صل ع�ضوي ،واحلقيقة التي مفادها
التي نحفظ فيها (حجر ر�شيد)( )1لأننا مل نعتد على �أن الورق الأول كان ُي�صنع من الأ�سمال البالية
حفر وثائقنا على ال�سطوح املعدنية. ولي�س من اخل�شب .كي �أب�سط الأمور دعوين �أتكلم عن
مع ذلك ،مدحي للمكتبات �سيكون متفائ ًال �أكرث� .أنا الذاكرة النباتية كي ن�صنف الكتب.
�أنتمي لأنا�س مازالوا ي�ؤمنون ب�أن الكتب املطبوعة كان هذا املكان (مكتبة الإ�سكندرية -م ) .يف
لها م�ستقبل و�أن كل املخاوف املتعلقة باختفائها املا�ضي و�سوف يكون يف امل�ستقبل مكر�س ًا حلفظ
هي فقط املثال الأخري ملخاوف �أخرى� ،أو لأنواع الكتب ؛ وبالتايل ،هو الآن ويف امل�ستقبل �أي�ضا ً
�ألفية من الإرهاب تتعلق بنهاية �شي ٍء ما ،وب�ضمنها �سيكون معبداً للذاكرة النباتية .كانت املكتبات،
284 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
�صفحة �إىل �أخرى� ،ساعني �إىل عزل �صلة ممكنة بني تريدها .ال�شبكة العنكبوتية هي املنظومة العامة
مقولة يف الف�صل الأول و�أخرى يف الف�صل اخلتامي. جلميع الن�صو�ص املفرطة املوجودة.
ميكنهم كذلك �أن يقرروا ،لنقل مثالً ،عدد املرات التي �إن اختالف ًا كهذا بني الن�ص واملنظومة جوهري
ترد فيها كلمتا « فكرة عامة « يف عمل معني ،وهكذا ب�شكل هائل ،ويجب �أن نعود �إليه .يف هذه اللحظة،
يقفزون مئات ال�صفحات كي يركزوا انتباههم فقط دعوين �أ�ص ّفي ما هو �ساذج جداً بني الأ�سئلة التي يتم
على الفقرات التي تتعامل مع تلك الفكرة العامة. طرحها با�ستمرار ،التي ال يكون فيها هذا االختالف
على كل حال ،هذه طرائق قراءة يعدها ال�شخ�ص وا�ضح ًا حتى الآن� .إمنا يف الإجابة عن هذا ال�س�ؤال
العادي غري طبيعية. الأول �سنكون قادرين على �إي�ضاح هدفنا الأبعد.
من ثم هنالك الكتب التي ينبغي ا�ست�شارتها ،من مثل ال�س�ؤال ال�ساذج هو ما يلي « :هل �ستجعل الأقرا�ص
الكتيبات(�أدلة ال�سياحة) واملو�سوعات .يتم توفري ال�صغرية متعالقة الن�صية ،االنرتنيت� ،أنظمة الـ ملتي
املو�سوعات كي تتم ا�ست�شارتها ولي�س قراءتها من ميديا الكتب قدمية الطراز ؟ « بهذا ال�س�ؤال و�صلنا
ال�صفحة الأوىل حتى ال�صفحة الأخرية� .أن �شخ�ص ًا �إىل الف�صل الأخري من ق�صتنا (هذا �سيقتل ذاك)� .إمنا
يطالع (املو�سوعة الربيطانية) كل ليلة قبل النوم، م�شو�ش ،مرتبك ،طاملا حتى هذا ال�س�ؤال هو �س�ؤال ّ
من ال�صفحة الأوىل حتى ال�صفحة الأخرية� ،سيكون �أنه بامل�ستطاع �صياغته بطريقتني خمتلفتني �( :أ)
�شخ�صي ًة م�ضحكةً .عاد ًة ،يلتقط املرء جملداً معين ًا أ�شياء مادية و (ب) هل
هل �ستختفي الكتب بو�صفها � ً
من �أي مو�سوعة كي يعرف �أو كي يتذكر متى تويف �ستزول الكتب بو�صفها �أ�شياء واقعي ًة ؟
نابليون� ،أو ما هي ال�صيغة الكيميائية حلام�ض دعوين �أو ًال �أجيب عن ال�س�ؤال الأول .حتى بعد
الكربيتيك .ي�ستخدم العلماء املو�سوعات بطريقة اخرتاع الطباعة ،مل تكن الكتب هي الو�سيلة الوحيدة
�أكرث تعقيداً .يف �سبيل املثال� ،إذا �أردت �أن اعرف ما الكت�ساب املعرفة .كانت هنالك �أي�ض ًا الر�سوم،
علي �أن
�إذا كان ممكن ًا �أم ال �أن نابليون التقى كانطّ ، ال�صور املطبوعة ال�شائعة ،التعليم ال�شفاهي ،وهلم
�أنتقي املجلد Kواملجلد Nمن مو�سوعتي � :أكت�شف جراً .بب�ساطة ،برهنت الكتب على �أنها �أن�سب الو�سائل
�أن نابليون ولد �سنة 1769ومات يف �سنة ،1821 لنقل املعرفة .هنالك نوعان من الكتب :تلك التي
وكانط ولد �سنة 1724وتويف �سنة ،1804حني يجب قراءتها وتلك التي ينبغي ا�ست�شارتها .فيما
كان نابليون امرباطوراً .من هنا لي�س م�ستحي ًال �أن يتعلق بالكتب التي يجب قراءتها ،الطريقة الطبيعية
يكون االثنني قد التقيا .كي �أتيقن من هذه املعلومة يف مطالعتها هي تلك الطريقة التي ميكنني �أن
رمبا �أحتاج �إىل ا�ست�شارة ال�سرية الذاتية لـ كانط� ،أو �أ�سميها « طريقة الق�صة البول�سية» .تبد�أ من ال�صفحة
نابليون� ،إمنا يف �سرية ذاتية ق�صرية لـ ،نابليون الأوىل ،حيث يخربك امل�ؤلف �أن ثمة جرمي ًة مت
الذي التقى �أ�شخا�ص ًا كثريين يف حياته ،ف�إن درب من دروب عملية التج�س�س اقرتافها ،تتابع كل ٍ
لقاء حمتم ًال بـ كانط ميكن جتاهله� ،إمنا يف �سرية ً حتى النهاية ،ويف اخلتام تكت�شف �أن اجلاين هو
لقاء بـ نابليون ميكن �أن ُي�سجل. ً إن
� ف الذاتية كانط كبري اخلدم .ينتهي الكتاب وتنتهي جتربة القراءة.
باخت�صار ،يلزمني �أن �أت�صفح كتب ًا كثرية م�صطفة الحظوا �أن ال�شيء نف�سه يحدث حتى �إذا تقر�أون ،يف
على رفوف مكتبتي ؛ يلزمني �أن �آخذ مالحظات كي �سبيل املثال ،بحثا فل�سفياً .يريد امل�ؤلف منكم �أن
�أقارن فيما بعد كل املعلومات التي جمع ُتها .هذا تفتحوا الكتاب عند �صفحته الأوىل ،تتابعون �سل�سلة
كله �سوف يكلفني جمهوداً ج�سدي ًا موجعاً. امل�سائل التي يقرتحها ،وترون كيف ي�صل �إىل
(البقية مبوقع املجلة على االنرتنت) ا�ستنتاجات نهائية معينة .ال ريب .بو�سع العلماء
�أن يعيدوا قراءة كتاب كهذا من خالل القفز من
287 نزوى العدد / 74ابريل 2013
«بيت الديب» لعزت القمحاوي
رواية الذاكرة والتاريخ
لنا عبد الرحمن
كاتبة وناقدة من لبنان
املوجودة فيها ،وامل�صاحبة حلالة من امل�ساواة يف يف عمله الروائي «بيت الديب» مي�ضي الكاتب
كل �شيء تقري ًبا ،فالبيوت كلها مبنية من دور واحد، امل�رصي عزت القمحاوي يف م�سار خمتلف عن �أعماله
وم�ساحات احلقول مت�ساوية ،والقرية لي�س فيها الإبداعية ال�سابقة ،ولعل هذا امل�ضي يف م�سار جديد
حارات م�سدودة بل �شوارع كلها تف�ضي �إىل احلقول. مع كل عمل �إبداعي ُيعترب تيمة يف كتابة القمحاوي
يف هذا الف�ضاء اجلغرايف املت�صل واملنف�صل مع التي تنحو �إىل التجريب يف امل�ضمون وال�شكل الروائي
العامل ،يت�شكل العامل الروائي ،حيث يحيل عنوان «بيت والق�ص�صي؛ فال جند يف �أعماله �شخ�صيات مت�شابهة،
الديب» �إىل ف�ضاء مكاين م�صغر هو البيت ،وهذا البيت �أو مناذج تعيد �إنتاج ذاتها ،بل ميكن القول �أن كل
الذي يرمز للأمان واحلماية واحلياة ،ينتمي لعائلة بناء م�ستقلاً عما �سبقها وال
رواية من �أعماله ت�شكل ً
«الديب» التي �سيتتبع القارئ �سريورة حياة �أبطالها ت�شرتك معها �سوى بالأ�سلوب ال�ساخر والفانتازي،
الكُرث ،من جيل �إىل جيل ،و�إذا كان اجليل الأول ظل مع كثافة لغوية ،و�سال�سة حتمي ال�رسد من �أي زوائد،
حم�صورا يف غالبه يف قرية «الع�ش» �إال �أن اجليل ً وت�ضمن االحتفاظ بالقارئ حتى النهاية.
الرابع �سيهجر القرية ،و�ستتقل�ص عالقته معها لت�صري ففي رواية «مدينة اللذة» التي بناها القمحاوي
مو�سمية ،هكذا يتال�شى الف�ضاء املكاين امل�صغر على وجود مدينة مفرت�ضة ،يح�رض عامل فانتازي
لبيت الديب ،ليت�شعب يف �أماكن متعددة من م�رص متاما� ،أما يف «غرفة ترى النيل» فهناك عني
وعبثي ً
�إىل اليمن ،وفل�سطني ،والعراق ،وك�أن بيت الديب هنا �ساردة تراقب املوت املت�سلل �إىل احلياة يف م�رص.
و�أفراده ميثلون النواة ال�صغرية التي �ستكرب وتنمو بينما يح�رض هاج�س القمع ب�شكل مبا�رش يف رواية
يف ف�ضاءات �أخرى بعيدة عن تربتها الأوىل .هناك «احلار�س» ،التي تخو�ض �أكرث يف البناء النف�سي
منت�رص الذي يفر من ظلم عمه ،وال ُيعرف له م�ستقر، ل�شخ�صية البطل املتماهي مع ال�سلطة.
يحارب �ضد الإنكليز ،ويف نهاية الرواية نعرف �أنه يف «بيت الديب» ،يقف القارئ على عامل مت�شابك
تزوج وعنده �أحفاد� ،أي�ضا �سامل الديب و�إجنابه طفلني ووا�سع لعائلة م�رصية ريفية تعي�ش يف قرية «الع�ش»
من زوجته اليونانية ،وهناك جنية التي تتزوج يف التي تقع يف حمافظة ال�رشقية يف دلتا م�رص ،وعرب
فل�سطني ،ثم تعود مع ابنتها زينة �إىل «الع�ش» .لكن كل متابعة حياة �أربعة �أجيال على مدى �أكرث من مائة
أثريا
هذه الت�شعبات بعي ًدا عن الأر�ض� ،ستكون �أكرث ت� ً عاما ،يكت�شف القارئ �أ�سباب ن�شوء القرية
وخم�سني ً
مع اجليلني الثالث والرابع الذين ينطلقون واح ًدا تلو وجتمع العائالت فيها ،فال�سبب الرئي�س يف وجود
الآخر نحو العامل ،بح ًثا عن درا�سة� ،أو وظيفة� ،أو عمل، قرية «الع�ش» هو التهرب من ال�رضائب؛ عدة �أفراد
«فالع�ش» مل تعد املكان القادر على تقدمي ما ميكن �أن انحدروا من �أماكن خمتلفة جتمعوا عند م�ستنقع
ُي�شبع حيواتهم. «�رشعوا يف جتفيفه وت�أ�سي�س قريتهم على �أر�ضه
تنفتح الرواية على اجلدة «مباركة» وقد �أ�صبحت ال�سبخة قليلة الرجاء» �صـ .22لكن ما قد يجعل تلك
طاعنة يف ال�سن ،لكنها واعية وحا�رضة الذهن لكل القرية �أقرب �إىل التخيل منها للواقع هو حالة ال�سالم
288 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
كل هذا تكون مباركة متواطئة مع ما يحدث� .أما التغريات التي حتدث حولها ،لذا نراها تطلب من �أحد
حني يكرب الأبناء ويتزوجون فرنى «مباركة» ت�سرتق �أحفادها وهو ينقر على جهاز الكمبيوتر ليتحدث مع
ال�سمع من خلف الأبواب وت�ستغرب كيف �أن ال�شباب رفاق له يف جانب �آخر من الأر�ض� ،أن يكتب ر�سالة
والبنات ال ي�رصخون عند ممار�سة احلب ،لكنها تنتهي �إىل الرب يخربه فيها ب�أن حياتها طالت ،خمافة
�إىل الت�سليم ب�أن الدنيا تغريت ،و�أن ه�ؤالء امل�ساكني �أن تبدو «قليلة احلياء بعي�شها حتى هذه ال�سن»
�أتلفتهم املدار�س واحلروب. �صـ .5متثل مباركة الفويل خط ال�رسد الأول الذي
يتم ت�ضفريه مع خط �رسدي حموري �آخر هو عائلة
الذاكرة والتاريخ
الديب ،حيث يتقاطع م�صري «مباركة» مع ثالثة من
راو عليم منذ البداية �إىل
مي�سك دفة ال�رسد يف «بيت الديب» ٍ �أفراد العائلة :حبيبها منت�رص الديب ،الذي ظلت تذكر
النهاية ،بيد �أن التيمة الأ�سا�سية لهذا العمل هي الرجوع رائحته حتى بعد �أن تقدم بها العمر و�شحبت ذاكرتها،
للوراء� ،إم�ساك خيط الذاكرة الأول وااللتفاف حول التاريخ غدرا بعد �أن
الق�صي بغية ت�أطري احلكايات وحماولة الو�صول �إىل �أبعد ثم زوجها جماهد الديب الذي تزوجها ً
ذهب خلطبتها البن �أخيه منت�رص لكنه يطمع بها
نقطة فيها ،وهذا يت�ضح مع �إ�رصار الكاتب على تقدمي تاريخ
لنف�سه ،ثم ابن زوجها «ناجي» الذي ترتبط معه يف
القرية البعيد و�سبب وجودها ،هكذا يتقاطع التاريخ الفردي
جلماعة من الأفراد الهاربني من ال�رضائب ،مع التاريخ عالقة ج�سدية ،ثم يختفي يف م�صري جمهول .لنقر�أ:
اجلمعي مل�رص لنقر�أ« :مل يت�صور �أحد �أن انتفا�ضة عمر مكرم، «عندما ظهرت على مباركة �أعرا�ض حمل جديد �أح�س
التي جنحت يف حترير م�رص من حكم العبيد ،هي التي �ست�ؤدي جماهد بالت�شو�ش ،وهو ي�سرتجع حتر�شاته الذليلة
�إىل احتالل الع�ش» �صـ.23 بها ..هل وجلها بني ال�صحو والنوم دون �أن يتذكر؟
هكذا يح�رض �إىل القرية با�شا تركي هو «متني �آغا» يبني هل هي خماوية اجلان ح ًّقا؟» �صـ .104
�رسايا كبرية و�سط القرية ،وميار�س ظلمه على الفالحني، متثل مباركة مزاوجة بني الف�ضائني الداخلي
لكن لن تلبث الأحداث �أن تدور لت�صري تلك ال�رسايا لأحد �أفراد واخلارجي� ،إنها حلقة الو�صل بني عامل القرية
عائلة الديب ،ل�سالمة حتدي ًدا الذي ي�صري عمدة البلدة ،وي�ضع واملدينة ،هي التي ولدت و�شبت يف القرية ،ثم انتقلت
يديه على ال�رسايا بعد �أن كانت مهجورة ومرتوكة للعفاريت، للمدينة لكنها حتمل يف فطرتها ال�سلوكية جر�أة
وميثل هذا احلدث داللة هامة يف انتقال عائلة الديب لتحيا ن�ساء املدن ،تنت�رص مباركة جل�سدها ،والختياراتها
يف تلك ال�رسايا ،وك�أن الأمور عادت لن�صابها يف عودة ح�ضورا� ،سنجد داللة اجل�سدية ،وترى �أن اجل�سد �أكرث
ً
ال�رسايا الدخيلة والتي بناها با�شا تركي ،لتكون لأحد �أبناء هذا يف عالقتها مع ج�سدها حني تنتقل �إىل املدينة،
القرية. وت�سكن مع �أبنائها كي يكملوا درا�ستهم اجلامعية،
يح�رض تاريخ م�رص متوار ًيا خلف الأحداث الرئي�سة حليوات هناك تنظر �إىل ج�سدها يف املر�آة لأول مرة ،تتفح�صه
الأبطال .تر�صد الرواية واقع العالقات الإن�سانية يف القرية
بدقة ،وتت�أمل تفا�صيله .ولعل عالقة «مباركة»
امل�رصية ،والتحوالت االجتماعية التي غزت القرية جيلاً
أبديا
عط�شا � ًّ
املبتورة مع «منت�رص» ،تركت يف داخلها ً
بعد جيل ،بد ًءا من التحول �إىل ال�صناعة بدلاً من الزراعة،
ثم انتقال �أفرادها �إىل املدينة ،وما يتخلل هذا من �رصاعات للحب ،و�صارت جتد يف حتقق احلب �أمامها نافذة
وتوترات �أ�رسية .يعيد القمحاوي ر�صد الواقع بلغة متتاز لل�سعادة ،هذا ما جنده يف موقفها من ابنها �سامل حني
باالحت�شاد ،و�أجواء ميتزج فيها الواقع بال�سحري واملتخيل، يقع يف حب (خركيليا) اليونانية ،توافق �رسي ًعا على
حيث يظل م�صري عدة �أبطال جمهولاً ،بحيث يتمكن القارئ زواجه منها� .أما ابنها الأ�صغر يو�سف ،فحني يقيم
من امل�شاركة يف الت�أويل ،وو�ضع فر�ضيات لنهاياتهم. عالقة غري �رشعية مع جارته املتزوجة من رجل
ورغم �أن التاريخ وما فيه من حتوالت انعك�س ب�شكل م�سافر ،ويكون نتيجة العالقة طفلة يتم ت�سجيلها
مبا�رش على م�صائر الأبطال ،وتقلبات �أحوالهم ،وحتوالتهم با�سم ابنة املر�أة التي �أقامت عالقة مع يو�سف ،ويف
289 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
املخلوقات وحيدة اخللية ...ومل يعد هناك ما ميكن بيعه االجتماعية والنف�سية ،لكنه ظل مثل �أر�ضية ثابتة يقف
لإعالة هذا العدد ،فبدءوا يف البحث عن وظائف» �صـ.276 الأبطال عليها مع امل�ضي للأمام من دون النظر �إىل �أ�سفل،
أي�ضا ،لنعود
تكون امل�شاهد الأخرية يف الرواية مع «مباركة» � ً ولعل ما ينبغي الإ�شارة �إليه يف احلديث عن التاريخ يف
يف �رسد دائري ممتع �إىل النقطة الأوىل ،تلمح مباركة من رواية «بيت الديب» هي تلك احلرفية الفنية العالية يف حتقيق
بعيد وهي جال�سة عند دوار ال�رسايا �صورة رجل �شاب ترى النقالت الزمنية الطويلة املتوازية مع املنعطفات والتحوالت
فيه منت�رص ،وللوهلة الأوىل نظن �أنها تتخيل� ،أو �أن مالك ال�سيا�سية الكربى ،واالكتفاء بتقدميها عرب م�صائر الأبطال
املوت يو�شك على زيارتها ،لكن يف احلقيقة كان ثمة رجل من دون الت�شعب يف تفا�صيلها ،فمن ظلم ال�رضائب العثمانية،
يقرتب بالفعل ،وحني يدنو منها وتتح�س�س وجهه تبد�أ برتديد �إىل الإقطاع� ،إىل قيام ثورة يوليو وحرب اليمن ،ثم العبور
ا�سم «منت�رص» فريد عليها القادم« :ال �أنا حفيده يا جدة». وحرب �أكتوبر� ،إىل جانب تقاطع هذه الأحداث التاريخية يف
وهكذا يف عودة احلفيد تكتمل �أ�سطورة «منت�رص» الغائب م�رص ،مع �أحداث عربية كربى مثل وقائع تهجري الفل�سطينيني
احلا�رض. يف ،1948وغزو العراق للكويت ،وحرب اخلليج .لنقر أ� مثلاً :
ميكن القول �أن «بيت الديب» بكونها رواية �أجيال مت�سل�سلة، «عاد �سالمة الديب من احلرب بعد �أربع �سنوات مل تدع �إال �أث ًرا
و�أبطال يتنا�سلون با�ستمرار ،ميكن �أن تنطبق تفا�صيلها خفيفًا من املالمح تدل عليه»�.صـ .117
و�أحداثها على �أي قرية �أخرى يف ريف م�رص ،لقد متكن «تكفل الزمن بطي �صفحات مل يت�صور �أحد ب�أنها ميكن �أن
القمحاوي يف هذه الرواية من تقدمي �رشيحة اجتماعية تطوى ،مثل ذكريات الطاعون والكولريا ودمار الفي�ضان».
عري�ضة لأبناء قرية م�رصية ،وما طر أ� من حتوالت بفعل �صـ .87
«عندما عاد العقيد �سامل الديب من اليمن ملفوفًا يف علم
عوامل �شتى تركت �آثارها على الأماكن والأ�شخا�ص .ولعل
�شارك يف تغيري لونه الأخ�رض �إىل �ألوان املوت� »...صـ .292
من �ضمن �أهم مميزات هذا العمل هو غياب التيمات الثابتة
«ا�ستقبلوا بيان العبور بحذر ،خوفًا من خديعة جديدة .كان
يف احلديث عن القرية وعالقتها باملدينة ،يف «بيت الديب»
الكذب يف الأيام الأوىل من النك�سة ماثلاً يف الأذهان»
حتدث التحوالت ب�سال�سة تامة ،حني ينتقل الأفراد �إىل املدينة
�صـ .296
ب�سبب الدرا�سة �أو العمل ،من دون الرتكيز على بريق املدينة
«نزل ال�سادات �سلم الطائرة عائ ًدا من القد�س ،وخلفه ع�رشة
الذي يخطف �أب�صار القرويني ال�سذج ،ال يوجد مثل هذه من الأ�رسى كانوا يف عداد املفقودين» �صـ .279
الأفكار ،كما يغيب من الناحية النف�سية فكرة الثواب والعقاب متاما،
بيد �أن هذه الوقائع التاريخية املت�صلة بالواقع ً
بال�شكل املبا�رش ،حيث هناك جتاوز للفكرة نحو متابعة �سري يظل ح�ضورها متوار ًيا خلف التخييل الروائي الذي يحيل
احلياة ككل ،التي ال مت�ضي حت ًما وفق قواعد ثابتة؛ كما جند القارئ على فر�ضية ال�س�ؤال� ،إن كان هذا قد ح�صل بالفعل،
يف م�صري «ناجي» الأول الذي اختفى بال �أثر يدل على وجوده بداية مع وجود قرية «الع�ش» املفرت�ضة ،ثم �شخ�صية البطلة
كما لو �أن اختفاءه نتيجة لعالقته اجل�سدية مع مباركة زوجة الرتاجيدية مباركة ،وم�صريها الذي يتقاطع مع م�صائر باقي
�أبيه� ،أو نهاية «حفيظة» زوجة جماهد الأوىل ،التي متوت هاما من الذاكرة احلية� ،إنها الأبطال .مباركة هنا متثل جز ًءا ً
معلقة على �شجرة ،كرد فعل على ال�رش الذي يغلف روحها. ما تبقى من اجليل القدمي ،لكن املا�ضي البعيد الذي حمل
هناك ال منطقية �أو عبثية حتكم احلياة ،وبالتايل جندها معه حبيبها منت�رص ،مل يبقَ منه �شيء منذ حلظة �شق املوت
يف الرواية ،فاملوت ،واحلروب ،عطب اجل�سد ،غياب احلبيب، طريقه نحو �أفراد العائلة ،و�صار يختطفهم واح ًدا تلو الآخر،
�أو فقدان �أحد الأبناء ،كلها �أمور قدرية لي�س لالختيارات لذا نرى التعوي�ض عن الفقد بت�سمية الأوالد والأحفاد بذات
الفردية �سلطة عليها .من هنا جاء م�صري الأبطال يف «بيت الأ�سماء ،وهذه داللة مهمة ج ًّدا يف الرواية ،تتكرر الأ�سماء
الديب» متوائ ًما مع هذا املعطى ،و�إن كان ثمة م�صائر مع االختالفات يف الأزمنة والنتائج ،لنقر�أ« :يف ثالث �سنوات
ميكن ربطها بقانون الفعل ونتيجته ،ف�إنها ت�أتي بتلقائية امتلأت ال�رسايا والداران ب�أطفال لهم ال�سحنة نف�سها ،ك�أنهم
�شديدة حاملة ت�أويالتها اخلا�صة ب�أ�سلوب يخلو من �أي خرجوا من خط �إنتاج مب�صنع واحد؛ لأنهم جاءوا مما �أ�سماه
مبا�رشة �أو ق�صدية. تزاوجا ذات ًيا ،م�شب ًها التزاوج داخل العائلة بانق�سام
ً ناجي
تت�رسب يف العتمة من �أفواه ال�سيدات املطيبات يرى قارىء ن�صو�ص (الأدنى والأق�صى ) * لل�شاعر
بالرياحني ) تت�شظى فعاليات الدال يف هذه املتوالية �شاكر لعيبي ت�شجريا لغويا ي�صوغ به ومنه وعليه
لتتفرد الذات ال�شاعرة مبقوالتها ال�شعرية بنف�س ّ نظاما مغايرا لال�شتعال اللغوي امل�ألوف ،بغية ت�شييد
ويتب�أر
ّ الكل يف اجلزء يدخل أ، � جمتز ملحمي درامي �سرية �شعرية تتالحق حلقاتها يف �سرية حمورية
ن�صيه تت�صاعد الكل ليتخذ �أ�شكا ًال �أو هيئات لوحدات ّ الروية ال�شعرية وبهاتتب�أر يف ْ
ودائرية وب�ؤرية فذة ّ
نرباتها ال�شعرية يف تخ�صيب الفعل ال�شعري للذات ال�شاعرة� ،سرية تتخ�صب يف كل لفظة وعبارة
با�ستعادته للتاريخ ال�شخ�صي وال�سريي للزمان وجملة تتبادل فيما بينها يف دائرة اخللق ال�شعري اذ
واملكان �إذ يذهب ال�شاعر �إىل �إعالن ك�شوفاته يف حتت�شد بال�صور ال�شعرية العميقة واملتموجة يف
ورقة امليتافيزيقيا وانفتاحها الوظيفي ،بوظيفة مرياث اللغة املتخيلة يف وجدان ال�شاعر بهذه
اللغة ال�شعرية اجلديدة �إذ تتمخ�ض فعالية الن�ص عن متولها ر�ؤيا املكان والزماناحل�سا�سية العالية التي ّ
حكاية يبتدعها الكائن يف الن�ص بو�صفه دا ًّال والرائي واملزاج ال�شخ�صي التخيلي وال�سيميائي ،اذ تراقب
ال�سارد الذي هو ال�شاعر ،الرائي لأن�سنة الأ�شياء تتخ�صب احلوا�س م�شهدية ٍ العامل بكليانية متفوقة
ك�شف �أ�سلوبي ت�صويري جمايل � ّأخاذ يف ّ
والوجود يف ٍ وتلوع الذات بف�ضاء
ت�شخي�صه لطبيعة الر�ؤية والر�ؤيا مع ًا « :بعرثك يف عمق امل�شهد اليومي والكوين ّ
هذه امل�شهدية التي تر�شح بني طبقات الن�ص يف
�شبكة من العالمات الكثيفة وال�شديدة الت�شابك
ْ�شم رائحة
والنقاء والتاْمل وترا�سل احلوا�س بقوة �( :سا ُّ
الزمان يف ال�ساعات املا�ضية دور ًة دور ًة على
مع�صمي� ،سابت�سم اْخريا بينما اْ�سقط وفمي على
البالط بلعابه ال�صايف :لالنهائي الذي تراه حدقتي
ال�سائلة على الأر�ض /للطائر الناه�ض من ع�ش ِه
مرفرف ًا يف هواء املكان /لفخامة ال�سقوط على
الأر�ض وجاللته . .من ن�صه ( �أنت�صب يف املكان )
تكت�سب متوالية التكرار يف العنونات خا�صيتها
امل�شهدية يف ت�شكل وت�شاكل دائرة الن�ص و�أق�صد
الن�صية التي تت�شظى �إىل ن�صياّت تتحاور ّ الب�ؤرة
وتتداخل وتتخارج فيما بينها من العنونات
امل�ضارع «�أنت� ُرص» هي (�أنت�رص
ً املتنا�صة يف الفعل
لعزلتي �أنت�رص على نف�سي� /أنت�رص على ه�شا�شتي –
�أنت�رص للأر�ض – �أنت�رص لل�شعر – �أنت�رص للعر�س /
يقول هنا :لن �أغلق النافذة /فما زالت �أغاين العر�س
291 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
ن�ص ال�شاعر حتوالت الدال اىل فواعل ن�صية تراوغ املوت خيط ًا خيط ًا يف الذكرى مثلما بعرثت الريح ُ
يف اقتنا�ص مدلوالتها �أو �صورها الأخرى املتمظهرة ال�رصاخ يف احلروب /خ ْذ بيد اليعازر يا �أبي لدارهِ،
يف املدلول �إذ تعود احلكاية ال�شعرية من الذاكرة وقم لتنظر ماذا �صنعنا من بعد ا�سمكَ الذي ظ ّل ُّ
يرن
اجلمعية اىل الذاكرة ال�شخ�صية بفعل �شعري بفاعلية يف �أح�شاء التفاحة ال�ساقطة عر�ض ًا من اجلنة
الأ�سطرة لر�ؤية الدال يف الفعل ال�شعري الأ�سطوري ال�صحراء ( .من ن�صه :قيامة لعيبي ) .ت�شتغل ن�صو�ص
وتخ�ضع احلكاية اىل ا�شتغال فاعلية امللفوظ الن�صي ال�شاعر على مديات الف�ضاء ال�شعري يف ت�شكيالته
يف ظل ف�ضاء املتخيل الن�صي والذاكراتي ،وت�ستعيد الب�رصية والداللية واجلمالية وتتجاور م�شهديته
هنا يف هذا الن�ص �شبكة الدوال الفاعلة يف طبيعة ال�شعرية مع الفنون االبداعية كالت�شكيل وامل�رسح
ن�سق التخييل املنزاح� ،إذ يعود ب�صوت احلكاية من وال�سينما والق�صة والأورك�سرتا ،وتتفاعل وتت�ضافر
املا�ضي الذاكراتي اىل ح�ضور فعل التخيل ال�شخ�صي وتتداخل بني هذه الأجنا�س بقوة ت�شكلها وتوالدها
الن�صية « :من الفحم الذي ّ البارع يف ار�ساليته املكتظ املتمظهر يف ح�شد ال�صور ال�شعرية يف �أرقى
ا�شرتيته من «باب الع�سل» نه�ضت الغربان ،ثم نعقت درجاتها التخيلية ومتاهاتها وف�ضائها اجلمايل
عرو�س
ٌ قبل �أن تنح َّل يف �ضجة ال�سوق� .أ�صابع الفحاّم تقلبنا يف «برج العقرب» احل�سي والفكري واحللمي ّ :
من الزجن مغمو�س ٌة يف اللذة العليا .انحدرت مع ال�س ّك ِة املغت�سالت
ُ بني النجمات الثالث .خططت ال�صبيات
تنبعث ،يف ليلة العيد ُ متتبع ًا رائحة ال�شواء التي
ّ أقدامهن النا�صعة .خطفنا نحنّ عند النهري قلوبنا ب�
الكبري ،من الزقاق امل�سدود .الفحم اتحّ َد مع ظلمة أوراحهن مبج�ساتنا العقربية �أ�سفل البطن ،بنقيع ّ �
ُجرابي حتت �ضوء امل�صباح الواقف عاريا بقبعته ن�صه « برج ال�سم اخلارج من �أفواهنا مع الأ�شعار ،من ّ ّ
أقف :م�ستن�شق ًا القليل من الهواء كنت � ُ
الفقرية ،حيث ُ العقرب» ي�سعى ال�شاعر ويجتهد على �إعادة �إنتاج
الذي ي�سبق ال ُّدوار /الهواء ،الهواء ،الهواء /قلي ٌل من اللغة ،لغته الثانية يف ك ّد فكري وتخيلي ور�ؤيوي من
ن�صه «قليل من الهواء يكفي» تكت�شف الهواء يكفيّ . . . �ضخ هذا القدر العايل لل�شعري يف حدود الن�ص �أجل ّ
القراءة الدقيقة لن�صو�ص ال�شاعر منظومة من البنيات ن�ص مفتوح يتخلق وخارجه ،على �أ�سا�س اجرتاع ّ
الداخلية التي تت�أ�س�س بفعل املعامل احلكائي بطبقات م�شحونة ومبتكرة بهذا اخللق ال�شعري اجلديد
وت�ضافر نظم العالمة واال�شارة وميكانزم اجلهاز فالن�ص يف
ّ املفتون بالإدها�ش والإمتاع وال�صدمة،
اللغوي الفعال يف ح�سا�سيته اللفظية اجلديدة طبقاته ي�شي برتاكم ب�ؤر بانورامية تتوالد يف ت�ضافر
وتعا�ضد حركة الدوال ودينامية املداليل وانفتاحها ومنو الفعل ال�شعري يف ح�ضور الفعل اللغوي الذي
على ح�شود املعاين وتوالدها يف ت�شظي احتماالت يرتك�س على البالغ ال�شخ�صي الأنوي الذي تتنكّبه
تعددية املعنى ،وتتجلى هنا مهارة الذات ال�شاعرة وتنا�صاتها
ّ ظالل الن�ص مع ظالل احلكاية ال�شعرية
يف �إر�سال �شيفرة الدال وتوا�صله يف التدليل ملتون ومتوجات الذاكرة وح�ضورها الذي ينطوي على
احلكاية ال�شعرية وانفتاحها و�ش�ساعة ف�ضائها التوا�صل مع منتجات املخيلة وحدو�سها العميقة :
وخ�صب جتلياتها و�شيفراتها يف ميادين البث «قال يل �إبن خلدون :ا�ستمع ل�صوت النار حتت
والأر�سال «والق�ص�شعري» « :ا�ستعرت من طفل احل�صى حيث ُي ِع ُّد البرَ بر الذبائح بقدورهم احلجرية.
أطلقت املاء على جتاعيد املا�ضي م�سد�س اللعب و� ُ احلي يف نذورهم ذات مازال يعلق �شيء من حيوية ّ
ا�ستعرت برج احلمام من ال�صورة الفوتوغرافية ُ وجهي. العيون الوا�سعة التي تنظر اىل ال�سماء .لو نظرت �إىل
أطلقت هديال ال ت�شمم ُت ُجدران َه /و� ُ
ّ ودخلت عتمته /
ُ اجلبانة امل�سواة مع الأر�ضالربية �سوف ترى قبور ّ
ُ
مثيل ل ُه . . .ا�ستعرت من جارتي مطرق ًة ِلأعلِّقَ �أوهامي البحةوهي تناف�س بهجة الأفق ،ا�ستمع �إذن جيدا :اىل ّ
ن�ص ِه :ا�ستعارات» اجلديدة يف ال�شقة اجلديدة« .من ّ التي ت�شوب الأ�صوات بعد �صرُ اخ العر�س /،اىل ربح
ن�صو�ص ال�شاعر تك�شف عن �سقوفها قبل الدخول يف املد ّقات التي تطحن العطر /واىل احل�رشجات
عتباتها� ،إذ تختزل حركة احلياة ،حياة الذات ال�شاعرة إبن خلدون » . .يك�شف الباقية « . . . .من ن�صه :قال يل � ُ
292 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
املو�سيقي يورث �إح�سا�سا مقابال بالبنية اللغوية يون�س البو�سعيدي واحد من ال�شعراء الطاحمني
التي تولد الفكرة وال�صورة ،وترتبط معهما برباط الحتالل مركز مرموق يف خارطة ال�شعر العماين
ال ينف�صم. ال�شاب يف هذه املرحلة .وهو ميلك من احل�س
ونحن نقول ذلك مع �إح�سا�سنا ب�أن ال�شاعر ميتلك ،يف املرهف والأدوات ال�شعرية ما ميكنه من ذلك
ق�صائد اخرى� ،أذنا مدربة و�إح�سا�سا مو�سيقيا جيدا حقا ،خ�صو�صا �إذا ترك لنف�سة فر�صة �أكرب للت�أمل
وغنيا ،حتى �إذا كان اخلطاب ال�شعري لديه مييل ّ وكتابة الق�صيدة لدواع نف�سية وفنية حقيقية ،ولي�س
غالبا ،كما يف الق�صيدة العمودية� ،إىل االرتفاع، لدواعي املنا�سبة العابرة �أو املو�ضوعات امل�شكوك
وما ي�ؤدي �إليه تراكم الكلمات على بع�ضها من يف �صدورها عن رغبة �أكيدة يف الكتابة والتعبري
�ضعف القدرة على تبينّ دالالتها بغري ال�صوت الدال، عن حاجة روحية و�إبداعية �ضاغطة ،ور�ؤيا يفي�ض
والنغمة املو�سيقية املرافقة. فيها معنى العبارة و�إيحاءاتها املرافقة عن حجم
ومع �أن ديوان البو�سعيدي ( هاج�س املاء واملرايا ) كلماتها.
ميثل نقلة وا�سعة يف التطور ال�شخ�صي لل�شاعر على ومع �إح�سا�سنا ب�أن لدى ال�شاعر ما يقوله حقا ،فان
�صعيد بناء الق�صيدة ومو�ضوعها ،ف�إن ما �سننتظره طغيان املظهر اللفظي ،وعدم القدرة على �إعطاء
منه �سيبقى ،يف تقديري ،هو الأهم والأكرث تعبريا ت�صور حمدد عن الق�صيدة مو�ضوعا وبناء ،هو الذي
عن جوهر جتربته ال�شعرية. يقف �أحيانا بني ق�صيدته ،وبني القارئ والناقد
ونحن نقول ذلك اعتمادا على ما ر�أيناه لل�شاعر املتطلع �إىل مزيد من التفاعل والتمثل للغة الق�صيدة
يف هذا الديوان من ق�صائد مفردة �أو مقاطع �شعرية واملكونات ال�شعرية الأ�سا�سية فيها.
معينة يف ق�صائد �أخرى. و�أول ما ينبغي مالحظته هنا هو �أن ق�صيدة
وحينما نقر�أ له مثل هذا املقطع : البو�سعيدي ،ال�سيما الطويلة منها ،بحاجة �إىل مزيد
( �أفتح �أم�سي من ال�ضبط على �صعيد البنية الإيقاعية والداللية.
فبع�ض هذه الق�صائد تنطوي على مزج بني ال�شكل
روحي خ�رضاء ،قلبي طفل
العمودي والق�صيدة احلرة ،دون توفري قدر كاف
ن�صب
ُ وقلوب من ق�صب ال�سكر ،ال تعب فيها ال
من التنا�سب بني ال�شكل املو�سيقي املتبع والداللة
وعيون ت�رشب قو�س قزح الرئي�سية �أو احلافة� .أعني �رضورة اختالف ال�صيغة
ُيطوى �أم�سي. اللغوية واملو�سيقية املقرتحة باختالف الأحا�سي�س
الكر�سي �أمامي
ّ و�أرى ظلي يقعد يف والدالالت املرافقة .على اعتبار �أن الإح�سا�س
295 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
بني قرية (الفيقني) التي �أتى منها ،و(م�سقط ) ويحاورين . . .ال يقنعني
املدينة التي يعي�ش فيها ،ال ميتلك دائما مثل هذا ويناورين ،اليقتلني )
ال�صوت املعرب عن دراما القلق الناجت عن حياة �أقول حينما نقر أ� هذا املقطع من ق�صيدة البو�سعيدي
من هذا النوع .فهو ال ي�ستطيع �أن يتحرك دائما الطويلة (كوالج الغريب) ن�شعر بقدرة الفن الت�صويري
يف ق�صيدته ،هكذا ،متحررا من الأالعيب الذهنية يف هذا (الكوالج) على ت�سجيل بع�ض من �أ�شكال
والزخارف اللغوية اللفظية .هذه الأالعيب التي من الغربة يف حياة ال�شاعر عرب هذا التقابل الدائم بني
�ش�أنها التفريط بقدرة الق�صيدة على الرتكيز ،وخلق يكف عن
املا�ضي واحلا�رض . .هذا احلا�رض الذي ال ّ
وت�صور حياة
ّ نواة �شعرية ميكن متابعتها وفهمها، �إظهار وجه ال�شاعر يف املر�آة مبظهر الغريب ،وذلك
ال�شاعر ور�ؤيته ال�شعرية ،بطريقة �أف�ضل ،من خاللها. املا�ضي الذي يحا�رص بح�ضوره حياة ال�شاعر
نعم ،هناك �صور وجمازات �شعرية كثرية تنطوي ويعيدها �إىل زمن الطفولة الأوىل ،حيث اخلوف
عليها هذه الق�صيدة ،ولكنها غالبا ما تبدو كما لو الدائم من فقدان الأم ،واملطر الذي ي�أتي وال ي�أتي،
كانت مهارات ع�ضلية ال تعطي قارئها انطباعا والرجفة التي ت�أخذه �صوب املنفى ،وغري ذلك من
كافيا ب�أن �صاحبها م�شغول ب�أزمة روحية �أو فكرية، حتول الطفل �إىل كهل ،بنف�س الطريقة التي ذكريات ّ
وقلق وجودي حقيقي. حتول الكهل �إىل طفل :
وامل�شكلة ال تت�صل فقط بعدم قدرة ال�شاعر على ناي غرغرة) . . ً
�إجراء امل�صاحلة بني جانبني يظالن متباعدين �صوتي و�صداي �أمامي
يف حياته و�شعره . .التحليق عاليا يف ال�سماء من يتهدج كهل ينظر يف املر�آة ،يخاف غريبا ينظر يف
جانب ،والنزول �إىل القعر ،يف اجلانب الآخر ،على املر�آة �إليه
ما ينطوي عليه ذلك من مبالغة و�إمعان يف الرتدي بكى � :أمي� . .أمي. .
يف الغواية اللفظية التي جتمع املتناق�ضات ،التي
ي�ستنجد � :أمي� . .أمي. .
يتقابل فيها (الويل) مع (البغي) داخل املدينة:
ي�ست�رصخ �أمي� . .أمي� . .أمي� . .أمي. .
( مب�سقط ،يقهرين الرمل حتى �أكون وليا
يرتجى مطرا الي�أتي
ويقهرها الرمل يف م�سقط كي تكون بغيا ) !
ويخاف الرجفة ت�أخذه نحو املنفى.
�أقول �إن امل�شكلة ال تقف عند هذا احلد الذي تبدو فيه
اللحمة �إذا هي انعقدت بني بني افراد املجتمع وهما قلبي مي�شي فوق اجلمر كمنفي الأر�ض الأبدية.
يلتقيان بعيدا عن القرية يف غابة املدينة ،دون �أن ***
يجر�ؤ �أحدهما �أن يقول ل�صاحبه بعد ال�صالة الكلمة �أم�شى فوق املاء بغري هدى ،بو�صلتي ُ
ريح
التي تقال بال�سواحلية يف مثل هذه احلاالت «�سالم بالأم�س تركت القلب الطفل على املهد ،ومل يكرب
عليكم خباري نزوري» : من ذاك الطفل الباكي ؟
( مب�سقط تنبت يقطينة فوق عري الغريب من ذاك الطفل الكهل ؟)
البلو�شي،
َّ العربي
ُّ ففي م�سقط يجد غري �أن هذا ال�شاعر املثقل بكل هموم هذه الطفولة.
تعقد بينهما حلمة، � .أفراحها و�أتراحها ،واملرتددة حياته كالبندول،
296 نزوى العدد / 74ابريل 2013
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
مقرتبا منك يف تبتل وابتهال �أكتب ماميليه وحيك ، �أبت�سم له �إن �أ�رشقت منه وبه ربيعا خم�ضبا
لقد ت�ضمخت �ﻷ جلك بالعطر وبخرت غرفتك بالعود بالورود له �شجر ظله الف�سيح ير�شد ال�ضال �إىل
وال�صندل واللبان وفتحت بابك با�سم الرب تقد�ست منابعه الكربى والزاهد يقينا ور�ؤية .
�سطورك البي�ض كالثلج يف �سقفك �سماء حتلق
()8
حروف وكائنات �أنحتها با�ﻷ زميل على ج�سدك
�سينبج�س جنيع غزير �س�أراه يتدفق -رغم املوت تبجل ا�سمك �أيها ال�شعر رمينا بك �أول ال�رشر
والغبار-وال �ألقي له باال � ،س�أوا�صل النحت كحرب ف�أيقظ فينا �رضاوة الع�شق القدمي ،ت�أويلك جارح
�رضو�س �إذ � ..أرو�ض حروفك تت�شكل بدم الكلمات ومن يتعاطى التف�سري ال تكتمل له ال�صورة فراغ
ظفرا نتوجه معا على عر�شك حتى ن�صبح رهن يديك وحاد عن الق�صد مفتونا مبالي�س فيك.
وال ت�ضل �شم�سك حني ت�رشق وقمرك �سيغمرك بنوره
()9
قربان وطقو�س ..ال�ضياء �سفرك الذي �أطعمنا من
جوع و�آمنا من خوف .يف ح�رضتك يقف العامل يف مراقيك �أيها ال�شعر�أجمل من حلل ا�ﻷ ر�ض ال ي�ضاهيك
خ�شوع ،كال ..يغرتف من معينك يحرثون تاريخهم عر�ش ح�سناء �أو حجر كرمي .
ملجدا كما يدعون �أنت الفي�صل بينهم ...من يطفىء لطاملا �أ�صابوا من �ساروا على دربك حفاة يبتغون
النار وي�رضمها. وجهك ا�ﻷ على يبحثون عن رو�ضك املوغل يف غياهب
اجلرح وااليام احلبلى بالق�سوة واحلروب يحفرون
()12
عميقا جدا يف النفو�س وامل�آقي ..رمبا تتجلى قطرات
�أيها ال�شاعر ...عذب نف�سك بوجع ي�شبه �أمل امليالد تبلل ظم�أهم العظيم �إليك في�صنعون من نبعك �-إذا
يت�صدع يتزلزل ينهار ....دعها ..ت�سافر �رشقا /غربا تفجر وهم يلهثون-حياة تغنيهم عن كل ق�صد
تلحق ب�أزمنة ولت و�أزمنة ت�أتي و�أمكنة كالأ�سطورة
تبعث من ذاكرتك ..ال ترحمها �أبدا ف�أنت تبني ماال ()10
عني ر�أيت وال �أذن �سمعت �أجمل ق�رصا �أ�س�سه احلرف تقدم �أيها ال�شعر فلي�س لنايف هذا املوكب اجلليل �إالك
�شاهقا يف ال�سماء ،قدم جوارحك كالقربان �أ�رشب ،تقبلني �ضوء يخرتق النوافذ �ﻷ نري بك ديار الظﻻم.
فناجني القهوة و�أنفث �سجائرك و�أ�رسج ليلك وتبتل
()11
تبتيال وانتظر ...وترقب عل ق�صيدة ت�أتي من رحم
هذا ال�سغب /الظم�أ للحرف .علها ت�أتي وتف�سح �سالما عليك �أيتها الورقة البي�ضاء قادم �إليك بالطهر
فرحا يف النف�س كبريا كي تكتبها وتريح خما�ضك وا�ﻷ عتذار �أقف لل�صالة بني يديك وقد اغت�سلت
باملكتوب . باملاء والربد من الذنوب واخلطايا كي �أم�سك بالقلم
301
متابعات ..متابعات ..متابعات
t
t
t
t
الق�ص�صية الأربع .هناك ،خطاطات مل�رشوع رواية قيد قدرتنا كب�رش �أمام هكذا قدر ..لكن الغياب م�ؤمل و الفقد
اال�شتغال .رحل قبل �أن يكملها وهي رواية عن مكان �أكرث �إيالما .ف���إذا كانت مو�ضوعة ( ثيمة ) الغياب
الطفولة وال�صبا .رواية تت�شابك و تتقاطع فيها حيوات معروفة ،ف���إن قدرتنا على ه��ذه املعرفة -مهما
الراوي و هو ال�سارد العليم ممثال يف علي املعمري و عرفنا -تظل حم��دودة أ�م��ام هول اللحظة و �صدمة
قد هي أ� نف�سه للكتابة واال�شتغال فيها ،كرواية �أقرب الغياب/الفقد املفاجئ ،وغري املتوقع يف �أن جتعلنا
�إىل نف�سه ،حتى العنوان قد انتقاه بني عناوين عدة و م�شلويل احلركة يف مواجهة حلظة غري مواتية و قا�سية
مرحلون
(املرحلون) هل ،ي�شي العنوان �إىل �أننا ّ
ّ هو املر .ال ميكن احلديث عن الراحل ودامعة ح ّد البكاء ّ
من حياة �إىل �أخرى -اهلل الغالب على �أمره -هل، علي املعمري � ..إال و احلديث عن اللحظات الفرائحية
العنوان ي�شري �إىل بع�ض من عتبات حياة ال�سارد يف حياته ،حياته فرح دائم � ،إىل درجة غري متوقعة
العليم ،كعنوان مكتنز بدالالت وا�ضحة و غام�ضة ، يفر�شها كب�ساط (�أحمدي) بدون مقدمات �،أينما يكون
وفناء اجل�سد وغياب املكان (مكان الوالدة والطفولة م�سبوق على ح�ساب �صحته بحب ا�ستثنائي وغري ْ
-م�رسح الرواية )-يتقاطعان يف م�ستوى من الأفقني وحياته و عمله .لقد راه��ن علي على حياته حتى
ال�شخ�صي و املكاين . نهاية انطفاء ج�سده .لقد عا�ش يف الن�ص كما عا�ش
ال يجب علينا نخاطب �أو نتخاطب مع املتويف ب�شعور يف الواقع .من ال�صعب ف�صل احلياتني ..عا�ش كما
الغياب ،بخروج الروح وفناء اجل�سد ،ميكن للإن�سان �أن عا�ش الكُتاب احلقيقيون .بكل تلك اخللطة من النظام
يحيا حينما يكون قد ترك �أثرا ،كالكتابة املبدعة يف و الفو�ضى ..حياة يف الن�ص و ن�ص يف احلياة .
وجه ال�شم�س ...تقول �أنا موجود . مل يرتك علي � ..إال كتبه .رواياته الأربع وجمموعاته
«هم�س اجل�سور» الرواية التي تتحدث عن مرحلة مف�صل ّية يف «بن �سولع» الرواية التي دارت �أحداثها حول ت�ش ّكل خارطة املكان االقليمي
العماين واخلليجي املعا�رص.
التاريخ ُ والعُماين والتي حازت على جائزة اجلمعية العمانية للكتاب .2011
302 نزوى العدد / 74ابريل 2013
رحيل ورحلة..
ها هو علي املعمري
يحط رحاله �أخرياً يف
قريته حفيت ،حيث انتقل
اىل رحمة اهلل بتاريخ
2013/1/14م بعد �أن
تنقل يف بقاع الأر�ض
وتنقل بني الإبداع الكتابي
مع الكاتب والروائي املغربي حممد �شكري ال�رسدي :ق�صة ورواية
ومقاالت عديدة ..تارك ًا يف
قلوب حمبيه و�أ�صدقائه من
الكتاب العمانيني �أو العرب
والأجانب وداً ال ينتهي
وحزن ًا عميق ًا م�ؤثراً ..
Managing Editor
Talib Al Mamari
Directed By
Khalaf Al Abri
Email: khalf301@hotmail. com
� إ�شـــــــارات
نتوجه � إىل ال أ�صدقاء الكتاب وال أدباء والفنانني ب� أن موادهم
يف حالة � إر�سالها بالربيد االلكرتوين( )Emailيكون على العناوين:
nizwa99@omantel. net. om
nizwa99@nizwa. com
-املواد املر�سلة للمجلة ال تر�سل � إىل � أية جهة � أخرى للن�رش
و� إال �سنوقف � -آ�سفني -التعامل مع � أ�صحابها
املواد املر�سلة تطبع باحلا�سب ال آيل ..ويف�ضـل � إر�سـالهـا بالربيـد االلكتــروين
-ترتيب املواد يف �سياقها املقروء يف املجلة على هذا احلال � أو غريه خا�ضع ل�رضورات
فنيـة و� إخراجية -املواد التي ترد للمجلة ال ترد ل أ�صحابها �سواء ن�رشت � أو مل تن�رش
و� أحيانا تخ�ضع ملقيا�س زمني طويل ن�سبيا ب�سبب ف�صلية اال�صدار.
-املواد الطويلة ن�سبيا ً �سوف ين�رش جزء منها بالعدد وتن�رش كاملة باملوقع االلكرتوين.
عنوان نزوى على �شبكة االنرتنت
www. nizwa. com
طبعت مبطابع :م� ؤ�س�سة ُعمان لل�صحافة والن�رش واالعالن
�ص .ب 974 :م�سقط ،الرمز الربيدي � 100سلطنة عمان
هاتف البدالة - 24649444 :فاك�س24649508 :
االعالنات :العمانية لالعالن والعالقات العامة
24649411 مبا�رش- 24649401 :
�ص .ب 3303 :روي ،الرمز الربيدي � 112سلطنة عمان
Printers and Publishers: OMAN ESTABLISHMENT FOR
PRESS, PUBLICATION AND ADVERTISING
P. O. Box, 974. Postal Code: 100. Muscat. Sultanate of Oman
Tel:24649444 - Fax. : 24649508
Advertising: Al-OMANEYA ADVERTISING & PUBLIC RELATIONS
Tell: 24649411, 24649401
P. O. Box 3303. P. C. 112 Ruwi Sultanate of Oman
العـــدد الرابع وال�سبعـــون
ابريل 2013م -جمادىالأوىل 1434هـ
304